بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله رب العالمين نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يَهدِهِ الله فلا مضلَّ له، من يُضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا الله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
(ياأيها الذين آمَنوا اتَّقُوا اللهَ حقَّ تُقاتِه ولا تَموتُنَّ إلا وأنتم مسلمون) (آل عمران:104) (ياأيها الناس اتَّقُوا ربَّكم الذي خلَقكم من نفسٍ واحدةٍ وخلَق منها زوجَها وبَثَّ منهما رجالًا كثيرًا ونساءً واتَّقُوا اللهَ الذي تَسَاءلون به والأرحامَ إن اللهَ كان عليكم رقيبًا) (النساء:1) (ياأيها الذين آمَنوا اتَّقُوا اللهَ وقولوا قولًا سديدًا. يُصلِحْ لكم أعمالَكم ويَغفرْ لكم ذنوبَكم ومن يُطع اللهَ ورسولَه فقد فاز فوزًا عظيمًا) (الأحزاب: 70 ـ71).
أما بعد، فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هديُ محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وشر الأمور مُحدَثاتُها، وكل مُحدَثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فقد جُمعَت مادة هذا الكتاب النافع بعناية من بطون كتب الشيخ وفتاواه المنشورة في الصحف والمجلات، وتم ترتيبُها وتبويبُها ووضعُ عناوينَ مناسبةٍ لها، وضبطُ الآيات والأحاديث، وشرحُ ما يُشكل من عبارات وألفاظ، وتخريج أحاديثها والتعليق عليها.
وحرصًا منّا على توثيق الفتاوى قمنا بالربط بين فقه الإمام الشعراويّ والأعلام الذين سبقوه عن طريق هوامشَ أُنشئَت خصيصًا لذلك مع إثبات مصادرها، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العلماء ورثة الأنبياء" فهو ـ رضي الله تعالى عنه وأنزَلَه منازل الصِّدِّيقين والأبرار ـ طَوْدٌ شامخ في سلسة ذهبية ممتدة في أغوار التاريخ تستمد نورها من مشكاة النبوة.(1/1)
فاللهم يا من ألهَمتَه النظرَ في عجيب صنعك، وأوضحتَ له حجتك، ودلَلتَه على مفاتيح كنوز كتابك العظيم، وعرَّفتَه ما جاء به رسولك صلى الله عليه وسلم، ياذا المَنّ والطَّول والآلاء والسعة، يا من وَسِعْتَ كلَّ شيء رحمةً وعلمًا، يا عمادَ من لا عمادَ له، ويا ذُخْرَ من لا ذُخْرَ له، ويا سَنَدَ من لا سَنَدَ له، يا عظيم الرجاء، يا مجيب المضطرين أنزِلْ على قبره الضياء والنور والفسحة والسرور، وعامله بالفضل لا بالعدل، وبالإحسان لا بالميزان.
وصلِّ اللهم وسلِّم وبارِكْ على عبدك ونبيِّك وحبيبك المصطفى، وعلى آله وصحبه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وكتبه عبد الله حجاج
19من صفر 1421 هـ 23 من مايو 2000 م(1/2)
نُبذة مختَصَرة عن فضيلة الشيخ الشعراويّ
* وُلد فضيلة الإمام الداعية "محمد متولي الشعراويّ" في 16من أبريل عام 1911 بقرية دقادوس ـ مركز ميت غمر ـ بمحافظة الدقهلية (دقادوس قرية قديمة تقع شرق النيل، فرع دمياط، وكانت تَتبَع الشرقية، واسمها في العصر الفرعونيّ "أتاوكاتوس" وفي العصر القبطيّ "تاكادوس" والعربيّ "تقدوس، ودقادوس" وهي الآن تابعة لمدينة ميت غمر ـ محافظة الدقهلية.
اشتهرت قديمًا بصناعة تجليد الكتب وصناعة الحصير الريفيّ، وتشتهر إحدى عائلاتها بتجبير وعلاج كسور العظام.
وتضم مساجد عديدة لشيوخ أجلّاء، بعضهم من آل بيت النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ منها مسجد محمد شمس الدين الباز، ومسجد عبد الله الأنصاريّ، ومسجد سيدي أبي بكر السطوحيّ ـ تلميذ السيد البدويّ ـ ومسجد محمد نصر الدين الأربعين.
تناقلت الصحف أخبار دقادوس في عام 1930م عندما حدثت اضطرابات بها لامتناع أهلها عن التصويت في الانتخابات المزوّرة ضد حزب الوفد، والتي قام بها إسماعيل صدقي باشا، وسقط شهداء، وقُتل فيها ضابط، وظلت تحت حصار قوات الهجّانة طويلة، وحُظر التجول فيها من الغروب حتى الصباح).
* أتم حفظ القرآن الكريم بكُتّاب القرية وعمرُه أحد عشر عامًا، وألحقه والده ـ رحمة الله تعالى عليه ـ بالمعهد الابتدائيّ الأزهريّ بالزقازيق عام 1926م ثم التحق بالقسم الثانويّ وحصل على شهادة الثانوية الأزهرية عام 1936م ثم التحق بكلية اللغة العربية عام 1937م وحصل على عالية اللغة العربية عام 1941م ثم حصل على العالمية وإجازة التدريس عام 1943م.
* بدأ حياته العلمية مدرّسًا بمعهد طنطا الأزهريّ، ثم معهد الإسكندرية، ثم معهد الزقازيق، ثم معهد طنطا مرة أخرى.
* عمل مدرسًا للتفسير والحديث بكلية الشريعة بجامعة الملك عبد العزيز بمكة المكرمة عام 1951م.
* وبعد عودته من المملكة العربية السعودية عُين فضيلته وكيلًا لمعهد طنطا الأزهريّ.(1/3)
* تولى منصب مدير الدعوة الإسلامية بوزارة الأوقاف عام 1961م بمحافظة الغربية.
* عُين مفتشًا للعلوم العربية بالأزهر الشريف عام 1962م.
* اختاره فضيلة الأمام الأكبر الشيخ "حسن مأمون" شيخ الأزهر مديرًا لمكتبه عام 1964م.
* اختير رئيسًا لبعثة الأزهر الشريف في الجزائر عام 1966م وأشرف خلال بعثته على وضع مناهج دراسية للغة العربية هناك.
* في عام 1970م عُين أستاذًا زائرًا بكلية الشريعة بجامعة الملك عبد العزيز بمكة المكرمة، ثم رئيسًا لقسم الدراسات العليا بها في عام 1972م.
* سطع نور فضيلة الشيخ الإمام "محمد متولي الشعراويّ" كداعية إسلاميّ من طراز فريد عام 1973م في التلفزيون المصريّ ثم العربيّ، فكان نورًا هدى الله به الخلق الكثير والجمّ الغفير، وكانت إطلالته يوم الجمعة على محبِّيه ومريديه يومَ عيد تتنزل فيه الرحمات ويباهي به الله تعالى ملائكته.
* اختاره السيد "ممدوح سالم" رئيس مجلس وزراء مصر الأسبق وزيرًا للأوقاف عام 1976م.
* منحه الرئيس "محمد أنور السادات" وسام الاستحقاق عام 1976م.
* وأعيد اختياره وزيرًا للأوقاف ووزيرَ دولة لشئون الأزهر في التشكيل الجديد لوزارة السيد "ممدوح سالم" عام 1977م.
* وبعد أن قدم الكثير والكثير لبلده ولأمته رأى فضيلته أن الأفضل له ولدعوته أن يكون حرًّا في البلاغ عن ربه، فقدم استقالته من مهامّ الوزارة في 15/10/1978م.(1/4)
* بعد أن تحرر من قيود الوزارة انطلق إلى مشارق الأرض ومغاربها داعيًا إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، وموضِّحًا سماحة الإسلام ووسَطيَّتَه، مفنِّدًا ما يحاول البعض أن يُلصقه بالإسلام من مفاهيمَ ضالّةٍ، فقام بزيارة الهند عام 1977م وباكستان عام 1978م والمملكة المتحدة عام 1977م والولايات المتحدة الأمريكية وكندا عام 1983م وكثيرًا من البلاد الأوربية والآسيوية حاملًا في قلبه كتابَ الله وسنةَ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مؤديًا واجبَ البلاغ عن ربه تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم .
* عُين عضوًا بمَجمَع البحوث الإسلامية عام 1980م.
* اختير عضوًا بمَجمَع اللغة العربية بالقاهرة عام 1987م.
* منحه الرئيس "محمد حسني مبارك" وسام الجمهورية من الطبقة الأولى عام 1988م في الاحتفال بيوم الدعاة.
* حصل على جائزة الدولة التقديرية عام 1988م.
* حصل على جائزة دُبَيّ الدولية لخدمة القرآن الكريم عام 1997م.
* انتقل إلى رحمة الله تعالى فجر يوم الأربعاء 23 من صفر 1419هـ الموافق 17/6/1998م في منزله العامر بالهرم، ودُفن بمسقط رأسه في "دقادوس" وكان يومًا مشهودًا اتسعت فيه القرية لاحتصان ما يقرب من مليونَي شخص يودّعون شيخهم إلى مثواه الأخير، وقد قام الأزهر الشريف بعمل سرادق عظيم بجوار بيته بالحسين لتلقّي العزاء فيه، وقد أمَّ السرادقَ العديدُ من الوفود العربية والإسلامية والشعبية والرسمية، وشارك الشعب المصريّ بكل طوائفه في تلقّي العزاء، فكان الكلّ يعزّي الكلّ في مُصاب الأمة الفادح.
* بعد انتقاله إلى رحمه الله تعالى منَح السيد "محمد حسنى مبارك" رئيس جمهورية مصر العربية عام 1998م لاسم فضيلته قلادةَ الجمهورية رفيعة المستوى.
* مُنح وسام الشيخ زايد من المرتبة الرفيعة.(1/5)
* ومن خير ما قدمه فضيلة الشيخ الإمام "محمد متولي الشعراويّ" لأمته العربية والإسلامية خواطرُه حول القرآن الكريم التي تذاع في جميع أنحاء العالم مرئية ومسموعة ومقروءة وعلى أقراص CD.
* تَذخَر المكتبة الإسلامية بالعديد من كتب فضيلته في فروع العلم والمعرفة كافة، حيث يَنهَل معظمها من المورد الصافي والمعين الذي لا يَنضِب، ألا هو تفسير الشعراويّ. وإذا كان التفسير قد ألقيَ في شكل دروس وحلقات وطُبع مسلسلًا حسب ترتيب القرآن العظيم فإن الكتب الأخرى هي تفسير موضوعيّ لآيات جُمعَت بعناية فائقة ورُتبَت ترتيبًا جيدًا ورُوجعَت مراجعة علمية دقيقة.
ويجدر التنويه إلى أن فضيلة الإمام في رحيله لم يَعهَد إلا لمكتبة التراث الإسلاميّ ودار أخبار اليوم بطباعة كتبه، وأقرَّ ذلك ورثتُه بعد رحيله ووافقوا عليه، لذا فإن الكتب التي تصدر عن غير مكتبة التراث الإسلاميّ ودار أخبار اليوم هي كتب غير صحيحة النسبة للشيخ، أو على حدّ تعبير فضيلته: إن أصابوا في شيء فقد أخطأوا في أشياء.
فاللهم يا مَن لا يُرجَى إلا فضلُه، ولا يُخاف إلا عذابُه، ولا يُسأل إلا عفوُه، ولا يدوم إلا مُلكُه، أنزِلْ على قبره الضياء والنور والفسحة والسرور، وجازِهِ بالإحسان إحسانًا وبالسيئات عفوًا وغفرانًا، حتى يكون في بطون الألحاد من المطمئنِّين، وعند قيام الأشهاد من الآمنين، وبجُودك ورضوانك من الواثقين، وإلى أعلى درجاتك من السابقين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
وصلِّ اللهم وبارِكْ على سيدنا محمد وآله وصحبه. والحمد لله رب العالمين.
إعداد مركز التراث لخدمة الكتاب والسنة(1/6)
مساواة الرجل بالمرأة
السؤال: كيف نردّ على المطالِبين بمساواة المرأة بالرجل؟
الجواب: ما دام الجنس الواحد قد انقسم لنوعين فكل نوع له مهمة، والذكورة والأنوثة هما نوعان لجنس البشر، فالذكر والأنثى يشتركان في مطلوبات الجنس وبعد ذلك ينفردان في مطلوبات النوع وبعد ذلك كل نوع ينقسم إلى أفراد، والأفراد أيضا ليسوا مكرَّرين، بل فيه قدر مشترك يجمع كل الأفراد، وبعد ذلك كل واحد له موهبة وله ريادة وله تفوق في مجال كذا وكذا، وبذلك يتكامل أفراد الجنس البشريّ.
وما دام الجنس البشريّ قد انقسم إلى نوعين فيكون للرجال خصوصية وللنساء خصوصية. وربُّنا ـ سبحانه وتعالى ـ لا يأتي حتى في البنية العامة ليجعل الجنسين مستويَين في خصائص البنية، صحيح أن البنية واحدة، رأس وجذع وأرجل، إنما يميِّز بنيةَ كلِّ نوع بشيء، الرجل له شكل مميز، والمرأة لها شكل مميز، ولذلك فالذين يقولون: نسوِّي الرجل بالمرأة أو المرأة بالرجل. نقول لهم: المرأة لها تكوينها الخاصّ والرجل له تكوينه الخاصّ، فإذا سوَّيتَ المرأة بالرجل أعطيتَ لها مجالات، وبَقيَت مجالاتها التي لا يمكن للرجل أن يشاركها فيها معطلةً لا يقوم بها أحد، إذًا فأنت حمَّلتها فوق ما تطيق، وأنت مخطئ؛ لأنك تأتيها بمتاعب أخرى.
إن الحق ـ سبحانه وتعالى ـ ساعة يخلق جنسًا ويقسم الجنس إلى نوعين يبيِّن: تنبَّهوا إلى أن كل نوع له مهمة وفيه شيء مشترك.
ما هو المشترك بين الأنوثة والذكورة؟
إن هذا إنسان وذلك إنسان، وكلاهما من ناحية الإيمان مطالَب أن يكون له عقيدة إيمانية، ولا أحد يسيطر على الآخر في عقيدته الإيمانية، الاثنان متساويان فيها ولا يفرضها واحد على الآخر.(1/7)
وضرب الله ـ سبحانه وتعالى ـ لنا مثلًا على تشخيص الذكورة وتشخيص الأنوثة في الأمر الأوَّليّ للإيمان، فهذان رسولان ومع ذلك لم يستطيعا إقناع زوجتَيهما بالتوحيد، إذًا فكل إنسان له حرية العقيدة والتعقل ولا أحد تابع للآخر في هذه المسألة أبدًا، يقول الحق سبحانه: (ضرَب اللهُ مثلًا للذين كفروا امرأةَ نوحٍ وامرأةَ لوطٍ كانتَا تحت عبدَين من عبادِنا صالحَين فخانتاهما فلم يُغنيَا عنهما من اللهِ شيئًا وقيل ادخُلَا النارَ مع الداخلين) (التحريم:10) ويقول تعالى: (وضرَب اللهُ مثلًا للذين آمَنوا امرأةَ فرعونَ إذ قالت ربِّ ابنِ لي عندك بيتًا في الجنةِ ونَجِّني من فرعونَ وعملِه ونَجِّني من القوم الظالمين) (التحريم: 11).
فرعون الذي ادَّعى الألوهية لم يقدر أن يُرغم امرأته على أن تكفر، والحق سبحانه وتعالى قال فيها: (إذ قالت ربِّ ابنِ لي عندك بيتًا في الجنةِ ونَجِّني من فرعونَ وعملِه ونَجِّني من القوم الظالمين) إذًا ففي مسألة العقيدة الكل فيها سواء، الذكورة والأنوثة، فيها عقل وفيها تفكير. ولعل المرأة تشير برأي قد يعزّ على كثير من الرجال، ولنا المثل من زوج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمِّ سلمة وموقفها في صلح الحديبية (إشارة إلى مشورتها رضي الله تعالى عنها على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالحلق في قصة الحديبية بعد أن أحزنه عدم امتثالهم بالتحلل، فلما تحلل بناءً على مشورتها تبعه الجميع).(1/8)
كيف تتحقق هذه المساواة
السؤال: بعض الناس ينادُون بمساواة المرأة بالرجل في كل شيء، فهل يمكن أن تتحقق هذه المساواة؟
الجواب: من العجيب أن نطلب المساواة بين نوعين قالبُهما مختلف وتكوينُهما متباين، لا أقول معنويًّا فحسب ولكنه تباين عضويّ وموضوعيّ، حتى في تكوين ذرات جسمَيهما وفي الظواهر التكوينية لمرأى كل منهما. والذين ينادُون بمساواة المرأة بالرجل لم لا يقولون بمساواة الرجل بالمرأة ويطلبون من المرأة أن تقوم بعمل الرجل! فكان من الواجب أيضًا أن يطلبوا من الرجل القيام بعمل المرأة إلا أنهم جاروا على مبدأ المساواة التي يطلبونها. فإذا قامت المرأة بالعمل المطلوب من الرجل ظلت هي بعملها الخاص الذي لا يؤدَّى إلا من جهتها، ومعنى ذلك إلقاء حمل جديد على المرأة وهكذا، فهم لا يطلبون مساواتها ولكن يطلبون غَبْنَها وظلمها، فلو أنصفَت المرأةُ نفسَها لرأت الذين يطلبون مساواتها بالرجل فيما تجنح إليه فكرة المساواة خصومًا لها.(1/9)
الأم أحق الناس بحسن الصحبة
السؤال: يقول المسشرقون: إن الله فضّل الأمّ على الأب بدليل أنه ذكرها وحدها في القرآن الكريم. مع أنه أوصى بالوالدين معًا، فكيف نرد عليهم؟
الجواب: إن الله سبحانه وتعالى في توصيته بالأم قد اختصّها لأنها تقوم بالجزء غير المنظور في حياة الابن أو غير المُدْرَك عقلًا، بمعنى أن الطفل وهو صغير في الرضاعة وفي الحمل والولادة، وحتى يبلغ ويعقل، الأم هي التي تقدم له كل شيء، هي التي تسهر لترضعه وهي التي تحمل وهي التي تلد، فإذا كبر الطفل وعقَل من الذي يجده أمامه؟ يجد أباه؛ إذا أراد شيئًا فإن أباه هو الذي يحققه له، وإذا أراد أن يشتريَ لُعبة جديدة وملابس جديدة، وإذا أراد مالًا.. الخ، كل هذا يقوم به الأب، إذًا فضلُ الأب ظاهر أمامه أما فضل الأم فمستتر؛ ولذلك جاءت التوصية بالأم أكثر من الأب، لماذا؟ لأن الطفل حينما يحقق له أبوه كل رغباته يحُسّ بفضل أبيه عليه، ولكن نادرًا ما يقدّر التعب الذي تعبته أمه، وهو يزيد أضعاف أضعاف ما يقدمه له أبوه، من هنا جاءت التوصية بالأم، حتى أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "أمك.. أمك .. أمك.. ثم أبوك" (يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاريّ 5971 ومسلم 2548/1 وابن ماجه 3658 وأبو داود 5139 والترمذيّ 1898 ولفظه عند البخاريّ: عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: يا رسول الله من أحقُّ بحسن صحابتي؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "أمك" قال ثم من؟ قال: "ثم أبوك").
ولكن ما هو الهدف من هذا التذكر إذا كان الإنسان لا يَعقل هذه الفترة ولا يتذكرها من حياته مطلقًا؟(1/10)
الهدف هو أن ينظر إلى الأمهات ليرى كيف يَتعَبنَ، كيف يعانِينَ ويقاسِينَ، وكيف يَسهَرنَ على أطفالهنَّ، وماذا يَتحمَّلنَ من مشقة، وعندما يراه على غيره يدرك أن هذا الهدف قد حدث له ويحسّ به؛ ولذلك يردّ لهنَّ الجميل. فالله ـ سبحانه وتعالى ـ يريد أن يذكّرنا بتعب الأم ويريد أن يوصيَنا بالاثنين معًا، الأبِ والأمِّ، ولكنه يوصينا بالأم ويخصّها بالذكر أكثر لأن تعبها كان والطفلُ صغير لم يُدرك بعدُ، بينما ما يفعله الأبُ واضح وظاهر أمام الابن بعد أن كبر واشتد عوده.(1/11)
الجنة تحت أقدام الأمهات
السؤال: ما معنى حديث: "الجنة تحت أقدام الأمهات"؟
الجواب: يقال: إن فلانًا بين يدَي فلان. يعنى أمامه، ويقال: إن فلانًا تحت أقدام فلان. وهذه كناية، مثلما تقول: إن فلانًا طوع يدي. وإن لم تُمسكه يداك، فكأنك قبضت عليه بيدك توجهه كيف تشاء فتذوب إرادته، كما لا يخرج المقبوض عليه من يد قابضه.
فإذا قلنا: إن "الجنة تحت أقدام الأمهات" فليس معناه الإخبارَ عن مكان الجنة هنا، إنما معناه: من أراد الجنة فليَلزَم قَدَمَ أمه. بمعنى أن يكون في الموطن الذي يظنّه الناس مُهِينًا مع سواها. وبذلك يكون معنى "الجنة تحت أقدام الأمهات": يا من أراد الجنة الزَمِ الذلةَ والخضوع. كما قال الله عز وجل: (واخفِضْ لهما جَنَاحَ الذّلّ من الرحمة) (الإسراء: 24).
وعندما أوصى ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالوالدين جعل الوصية الغالبة للأم؛ لأن الأب له من الكدح في الحياة ما قد يغنيه، ولأنه إن تعرض للحاجة وإلى السؤال فلا غبار عليه، أما إذا وصلت الأم إلى هذا الحد من الحاجة فذلك مهانة لها يجب أن تَحفظَها وتُجَنِّبَها إياها.
وعندما سئل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أحق الناس بالصحبة؟ قال: "أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك" فأوصى بالأم ثلاث مرات قبل أن يوصيَ بالأب؛ لأن الأم تمثل الجانب الضعيف، وهي تمثل الحنان والستر، فأراد الله صيانتها.
وعندما قال الله تعالى: (وقل ربِّ ارحَمْها كما ربَّياني صغيرًا) (الإسراء: 24) طلب العليُّ القديرُ من الابن الدعاءَ للأبوَين كليهما بالرحمة، وأرجَعَ التربية إلى كل من الأم والأب، فالأم تعطي الحنان والرعاية، وللأب جانب الكفاح وراء الرزق، فكلاهما مشترك في التربية.(1/12)
وأوصى كذلك القرآن الكريم بالوالدَين (ووصَّينا الإنسان بوالدَيه إحسانًا) (الأحقاف: 15) فقد أوصى بالوالدين معًا، وفي الآية الأخرى قال: (وقل ربِّ ارحَمْها كما ربَّياني صغيرًا) (الإسراء: 24) إذًا فقد أوصى الله تعالى الأبناء بالوالدين معًا، ولكننا نجده في آية أخرى يقول: (ووصَّينا الإنسانَ بوالدَيه إحسانًا حمَلَته أمُّه كُرهًا ووضَعَته كُرهًا) (الأحقاف: 15) ومرة أخرى يقول: (حمَلَته أمُّه وَهْنًا على وَهْنٍ) (لقمان:14) فأتَى في الآيتَين الكريمتَين بأسباب وحيثيات التوصية لجانب الأم، فهو جل شأنه أوصى بالوالدين معًا ثم أتى بالسبب للأم؛ وذلك لأن الأشياء التي يصنعها الأب للابن أشياء واضحة له، فعندما ينفتح ذهن الابن يجد أن كل شيء مردّه إلى الأب، فهو الذي يأتي بالأموال التي يشتري بها طلباته، وبذلك حين تتفتح عقلية الابن وينظر إلى مصادر النفع له يجد أن مردّها إلى الأب، فالابن هنا لا يحتاج إلى لفت نظره إلى دور الأب لأنه أدرك بنضجه العقليّ ما يفعله أبوه له.(1/13)
أما متاعب الأم بالنسبة للولد فقد حدثت في مرحلة لم يبلغ فيها الابن بعدُ مسألةَ الإدراك لما يحدث، فهو لا يستطيع أن يدرك المتاعب التي تتكبدها الأم في فترة الحمل والرضاعة، وما تبذله من جهد عظيم لرعايته في مرحلة طفولته المبكرة، وبذلك فإن متاعب الأم غير مُدرَكة للولد الذي يوجّه له النصيحة، ولكن عندما ينصحه يكون قد بلغ من النضج والمقدرة على الفهم فيقدّر ما يفعله له أبوه في الوقت الحاضر، أما ما فعلته أمه قديمًا فهو لا يدركه في نفسه مع إمكان إدراكه في غيره، فأتى الله سبحانه وتعالى ليذكّره بذلك (حديث "إن الجنة تحت أقدام الأمهات" رواه أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه عن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما في مسند الشهاب 1/12/119 وذكره ابن عَديّ في الضعفاء 6/347/1829 عن ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ وفيه زيادة: "مَن شِئْنَ أدخَلْنَ ومن شِئْنَ أخرَجْنَ" وقال: هذا حديث منكَر. وفي كتاب الآحاد والمثاني 3/58/1371 عن معاوية بن جاهمة السلميّ أن جاهمة رضي الله تعالى عنه أتى النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: إني أردت أن أغزوَ معك وجئت أستشيرك. فقال: "ألَكَ والدة؟" قال: نعم. قال: "فاذهَب فالزَمها؛ فإن الجنة تحت رِجلها").(1/14)
عمل المرأة من منظور إسلاميّ
السؤال: متى يباح للمرأة العمل من منظور إسلاميّ؟
الجواب: إن عمل المرأة في الإسلام بيَّنه لنا القرآن الكريم في قصة شعيب وموسى عليهما السلام، وتعالَوا نتأملْ القصة ونتدبرْ فيها، يقول الحق سبحانه وتعالى: (ولما ورَد ماءَ مَديَنَ وجَد عليه أُمّةً من الناس يَسقُون ووجَد من دونِهمُ امرأتَين تَذُودان) (القصص:23) إن موسى عليه السلام قد خرج من مصر خائفًا لأنهم تآمروا على قتله بعد أن ضرب واحدًا فقتله خطأ، وفي هذا يروي لنا الحق سبحانه وتعالى: (وجاء رجلٌ من أقصى المدينةِ يَسعَى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرُجْ إني لك من الناصحين. فخرج منها خائفًا يترقبُ قال ربِّ نَجِّني من القوم الظالمين) (القصص:20ـ21) خرج موسى عليه السلام من مصر إلى فلسطين، وبعد أن عبر صحراء سيناء ووصل إلى بئر مَديَنَ وجد جمعًا من الناس يَسقُون ماشيتهم، كلٌّ يزاحم ليَسقيَ ماشيته أولًا، لاحظ موسى عليه السلام أنه يقف بعيدًا عنهم امرأتان تريدان السُّقيا ولا تستطيعان، تَمنَعان ماشيتَهما من أن تذهب إلى البئر لتَرتويَ، ولفَت هذا المنظرُ انتباهَ موسى: كيف أن هاتين الفتاتين جاءتا لتَسقيَا الماشية؟ وكيف أنهما تَمنَعان ماشيتَهما من الذهاب إلى الماء والارتواء؟ وتَقدَّمَ إليهما ليسألهما ما حكايتهما، ويروي لنا القرآن الكريم هذه القصة في قوله تعالى: (قال ما خطبُكما قالتَا لا نَسقي حتى يُصدِرَ الرِّعَاءُ وأبونا شيخٌ كبيرٌ) (القصص:23) عندما سألهما موسى عليه السلام: ما هي حكايتكما؟ اتضحت له الضرورة التي دفعت بهما للخروج من البيت والاختلاط بالرجال عند البئر، فأبوهما شيخ كبير لا يستطيع أن يسوق الماشية إلى البئر لتَرتويَ، وهما يقومان بهذا العمل، فكأنهما لا عائل لهما يستطيع أن يتولَّى السُّقيا عنهما، ولذلك اضطُّرَّتَا إلى أن تقومَا بالسُّقيا بأنفسهما.(1/15)
ولكن انظر إلى الضمانات التي يجب أن تتوافر عندما تُضطَّرُّ المرأة للخروج لعمل ضروريّ:
أولًا: خرجت الفتاتان معًا ولم تخرج واحدة منهما بمفردها فقط مع أن أباهما شيخ كبير، إن المنطق يقضي بأن تخرج واحدة منهما وتبقى الثانية مع أبيها كبير السن لتخدمه وتلبيَ طلباته في البيت، ولكنهما خرَجتَا معًا لتراقب كلٌّ منهما الأخرى، حتى لا تخرج واحدة بمفردها وتذهب إلى أيّ مكان ثم تعود وتقول: كنت أسقي الماشية. ورغم أن الفتاتين ابنتا نبيّ الله شعيب إلا أن ذلك لم يشفع لهما في الثقة الزائدة التي تفتح الباب لإغواء الشيطان، ولذلك خرجتا معًا ـ كما قلنا ـ لتكون كل منهما في رقابة الأخرى.
ثانيًا: أنهما عندما اضطُّرَّتَا إلى الخروج لعملٍ لم تزاحمَا الرجال بل وقَفَتَا بعيدًا تَمنَعان ماشيَتَهما من السُّقيا حتى ينصرف الرِّعَاء، وهذا يعطينا المبدأ الثانيَ وهو أنه إذا اضطُّرَّت المرأة للخروج للعمل فلا يجب أن تزاحم الرجال، بل تبقى حتى ينصرفوا ولا تكون هناك مزاحمة، وهكذا نعرف أن ضرورة العمل لا يجب أن تجعل المرأة تزاحم وتختلط.(1/16)
خروج المرأة إلى العمل
السؤال: متى تخرج المرأة إلى العمل؟ وماذا عليها من واجبات وما لها من حقوق إذا خرجت؟
الجواب: المرأة عندما تخرج من البيت للعمل تعود مرهَقة، وتستقبل في المنزل زوجًا مرهَقًا وأطفالًا مشتَّتِين، فتعاني من عذابات كثيرة، عذابات الاغتراب، وعدم الانسجام مع الزوج، وعدم القدرة على تربية الأبناء بالقدر الكافي من الحنان.
إن ثبات الحقيقة العلمية التي أوردها القرآن الكريم أن رضاعة الطفل من أمه هي تنمية له واستثمار في صحة المجتمع نفسه بتنشئة أطفال مشبَعِين بالحنان وبالموادّ التي تبني أجسامَهم بصحة وعافية، هذه الحقيقة العلمية التي اكتشفوها أخيرًا هي التي دَعَت الحكومات إلى منح النساء إجازاتٍ لرعاية الأبناء.
وثبات الحقيقة العلمية التي تؤكد زيادة نسبة اضطرب المرأة عصبيًّا عندما لا تجد من يرعَى ابنها في حضانة تمنحه مثلما تمنحه الأم، ثبات تلك الحقيقة يؤكد أن رعاية الأم تفوق بالتأكيد أية رعاية أخرى، وهذه الرعاية ليست أمرًا مفروضًا على الأمّ بل هو أمر غريزيّ ترتوي به الأم عطاءً لأبنائها كما يرتوي الأبناء به أخذًا.
وثبات الحقيقة العلمية أن حنان الأم يعطي الأبناء ثقة بالنفس، وصحبة الآباء تجعل الأبناء ينشؤون على محبة الأسرة، تلك الحقيقة ثبتت في النظام الأسريّ للإسلام وافتقدها الغرب في هذه الأيام عندما رأى زيادة في أعداد المنحرفين بين شبابه.
وليس معنى ذلك أن الإسلام يحرم عمل المرأة على إطلاقه، ولكن يضع الأسس التي تسير عليها حياة الأفراد بانسجام واطمئنان مع شرع الله تعالى، فإذا اضطُّرَّت المرأة للخروج فقد اشترط عليها الإسلام أن تكون في سَمْت معين ولباسٍ معين لا يَشفّ ولا يَصفُ عورتها ساترٍ لبدنها (في كتاب "جلباب المرأة المسلمة في كتاب والسنة" ص37 ذكر الشيخ الألبانيّ الشروط الواجب توافرُها في جلباب المرأة إذا خرجت من بيتها وهي:
1ـ استيعاب الثوب جميعَ البدن إلا ما استُثنيَ.(1/17)
وهذه المسأله فيها خلاف بين العلماء فلتراجع في مظانّها.
2ـ ألّا يكون زينة في نفسه.
3ـ أن يكون صفيقًا لا يَشفّ.
4ـ أن يكون فَضفاضًا غير ضيق
5ـ ألّا يكون مبخَّرًا مطيَّبًا.
6ـ ألّا يشبه لباس الرجل.
7ـ ألّا يشبه لباس الكافرات.
8ـ ألّا يكون لباس شهرة)
ثم عليها أن تحذر الاختلاط بالرجال في غير ضرورة ملحة، والضرورة تقدر بقدرها، وتحاول جهدها أن يكون مجال عملها مع بني جنسها، وعلى المجتمع أن يوفر كل الضمانات التي تحقق لها عملًا آمنًا يصون كرامتها ويحفظ هيبتها ويوافق تكوينها.(1/18)
جهاد المرأة في سبيل الله
السؤال: هل للمرأة أن تشارك الرجل في الجهاد؟
الجواب: عندما يكون الإنسان مجاهدًا في سبيل الله لابد أن يسقط القتلى والجرحى والمصابون في ميدان المعركة، وهنا مجال العمل يتطلب وجود المرأة؛ لأن هذا الظرف لا يَدَعُ للعاطفة مجالًا للانحراف، من ذا الذي يرى رجلًا قُتل في سبيل الله أو تسيل دماؤه أو مقطَّعة أوصالُه ثم يفكر في المسائل الأخرى بين الرجل والمرأة! لذلك ما كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يغزو إلا ومعه نساء. ولا يخفى على أحد قصة السيدة أُميّة بنت قيس بن أبي الصلت الغِفَارية التي أبلَت بلاءً عظيمًا يوم خيبر، وبعد ذلك قلَّدها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قلادة ظلت تلبسها طوال حياتها، فلما ماتت أوصَت وأمرَت أن تُدفَن معها (قال ابن سعد في الطبقات الكبرى 8/293: هي أُمية بنت قيس بن أبي الصلت الغِفَارية، أسلَمَت وبايَعَت بعد الهجرة وشَهدَت مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم خيبر، أخبرنا محمد بن عمر حدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة عن سليمان بن سحيم عن أمّ عليّ بنت أبي الحكم عن أُمية بنت قيس أبي الصلت الغِفَارية قالت: جئت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في نسوة من بني غفار فقلنا: إنا نريد يا رسول الله أن نخرج معك إلى وجهك هذا ـ تعنى خيبر ـ فنداويَ الجرحى ونعينَ المسلمين بما استطعنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "على بركة الله" قالت: فخرجنا معه، وكنت جارية حديثًا سنّي فأردَفَني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حقيبة رحله، فنزل إلى الصبح فأناخ، وإذا أنا بالحقيبة عليها أثر دم منّي، وكانت أول حيضة حِضتُها، فتقبضتُ إلى الناقة واستحيَيت، فلما رأى رسول الله ما بي ورأى الدم قال: "لعلك نَفِسْتِ" قلت: نعم. قال: "فأصلِحي من نفسك ثم خذي إناء من ماء، ثم اطرَحي فيه ملحًا، ثم اغسلي ما أصاب الحقيبة من الدم، ثم عودي" ففعلت، فلما فتح الله لنا خيبر رَضَخَ(1/19)
لنا من الفيء ولم يُسهم لنا، وأخذ هذه القلادة التي تَرَين في عنقي فأعطانيها وعلَّقها بيده في عنقي، فوالله لا تفارقني أبدًا. فكانت في عنقها حتى ماتت وأوصت أن تُدفَنَ معها، وكانت لا تَطَهَّرُ إلا جعَلَت في طُهرها ملحًا، وأوصَت أن يُجعل في غُسلها ملحٌ حين غُسِّلَت) إذًا هذه المسألة ذات مَظهَرَين، في الحج وفي الجهاد في سبيل الله، في الحج مَظهَر أناس في بيت الله يناجون ربهم وقلوبهم تَرجُفُ من هول ذنوبهم الماضية، فلا أظن واحدًا يفكر في هذه الأفكار الساقطة أو يتحرك تلك الحركة الوضيعة.
وفي الجهاد في سبيل الله، والمعركة دائرة الرحى، والدم يسيل، والأشلَاء ممزَّقة، والنفوس وَلِهَة مُلتاعة، فمن الذي يفكر في شيء من هذا! (ومن هؤلاء المجاهدات ما ذكره ابن حجر في الإصابة 6/265 أمُّ عمارة نُسيبة بنت كعب بن عمرو بن عوف بن مبذول بن عمرو بن غُنم، من بني مازن بن النَّجَّار، الأنصاريَّة النَّجَّارية، والدة عبد الله وحبيب من بني زيد بن عاصم، قال أبو عمر: شَهِدَت بيعةَ العقبة وشَهِدَت أُحُدًا مع زوجها وولدها منه، في قول ابن إسحاق، وشَهِدَت بيعة الرضوان، ثم شَهِدَت قتال مسيلمة باليمامة وجُرِحَت يومئذ اثنتَي عشرةَ جِرَاحةً وقُطعت يدها وقُتل ولدُها حبيب. روت عن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحاديث. روى عنها ابنها عباد بن تميم بن زيد والحارث بن عبد الله بن كعب وعكرمة وليلى مولاةٌ لهم. روى حديثَها الترمذيّ والنسائيّ وابن ماجه من طريق شعبة عن حبيب بن زيد عن مولاةٍ لهم يقال لها "ليلى" عن جدته أم عمارة بنت كعب أن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ دخل عليها فقدَّمَت إليه طعامًا فقال: "كُلي" فقالت: إني صائمة. فقال: "إن الصائم إذا أُكل عنده صلَّت عليه الملائكة".(1/20)
وأخرج أبو داود من طريق شعبة عن حبيب الأنصاريّ: سمعت عباد بن تميم يحدث فيقول: عن عمَّتي ـ وهي أم عمارة ـ أن النبيّ صلى الله عليه وسلم توضأ فأُتيَ بإناء قدر ثُلُثَي المُدّ.. الحديث.
وأخرج ابن مَنْدَهْ بسند فيه الواقديّ إلى الحارث بن عبد الله بن كعب عن أم عمارة بنت كعب قالت: أنا أنظر إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يَنحَر بَدَنة قيامًا بالحربة.. الحديث.
قال ابن سعد: هي أخت عبد الله بن كعب، وقد شهد بدرًا، وأخت أبي ليلى بن كعب واسمه عبد الرحمن، وكان أحد البَكّائين. قال: وخلَف عليها بعد زيد بن عاصمٍ غُزيّةُ بن عمرو فولَدَت له تميمًا وخَولَة، وشَهدَت العقبة وبايَعَت ليلتئذ، ثم شهدت أُحُدًا والحديبية وخيبر والقضية والفتح وحُنينًا واليمامة.
وأسند الواقديّ من طريق ابن أبي صعصعة: قالت أم عمارة: كانت الرجال تصفّق على يدَي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليلة العقبة والعباسُ آخذٌ بيد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلما بَقيتُ أنا وأمُّ سبيع نادَى زوجى غُزَيّةُ بن عمرو: يا رسول الله، هاتان امرأتان حضرتَا معنا يبايعنَك. فقال: "قد بايعتُهما على ما بايعتُكم عليه؛ أنى لا أصافح النساء".
وبه قال: كانت أم سعيد بنت سعد بن الربيع تقول: دخلت عليها فقلت: حدِّثيني خبرك يوم أحد. فقالت: خرجت أول النهار ومعي سِقَاء فيه ماء، فانتهيت إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو في أصحابه، والريحُ والدولةُ للمسلمين، فلما انهزم المسلمون انحزتُ إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فجعلت أباشر القتال وأذُبّ عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالسيف وأرمي بالقوس، حتى خَلَصَت إليّ الجراحة. قالت: فرأيت على عاتقها جرحًا له غَوْرٌ أَجْوَفَ.. فذكر قصة ابن قميئة.
وأخرج بسند آخر إلى عمارة بن غُزية أنها قتَلَت يومئذ فارسًا من المشركين.(1/21)
ومن وجه آخر عن عمر قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "ما التفَتُّ يوم أحد يمينًا ولا شمالًا إلا وأراها تقاتل دوني").(1/22)
هل يجوز عمل المرأة في الشرطة والجيش
السؤال: شاع في هذه الأيام ظاهرة تجنيد المرأة في الشرطة والجيش وما يستتبع ذلك من المبيت خارج المنزل والسفر إلى أماكن بعيدة، فما رأيُ الدين؟
الجواب: إذا كنتَ أنت بنفسك قد قلت الحيثيات فهل يرضيك أن البنت تخرج خارج البلاد أو أن تَبيت بعيدًا عن البيت! أنت بنفسك لستَ راضيًا عن ذلك، لهجة سؤلك وطريقة عرضك دلَّت على رأيك في ذلك! (أخرج البخاريّ 5233 ومسلم 1341/ 424 عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "لا يَخلُوَنَّ رجل بامرأة إلا ومعها ذو مَحرَم، ولا تسافر المرأةُ إلا مع ذى مَحرَم" فقام رجل فقال: يا رسول الله إن امرأتي خرَجَت حاجَّة، وإني اكتُتِبْتُ في غزوة كذا وكذا. قال: "انطلِقْ فحُجَّ مع امرأتك").(1/23)
مسئولية الآباء والأمهات عن عقوق الأبناء
السؤال: إن ظاهرة عقوق الأبناء للآباء وإن كانت قديمة إلا أن الإسلام لا شك قد جاء بعلاج لها، فما رأيُ فضيلتكم في علاج العقوق؟
الجواب: إن كثيرًا من الآباء والأمهات يشكُون من عقوق الأبناء أو من سلوك الأبناء، وينسى الآباء والأمهات أن فرصة التربية قد ضاعت منهم إما في زجر الأبناء في وقت لا يستدعي الأمر إلى زجر، أو في التقليل من شأن الأبناء في وقت يحتاج الابن فيه إلى من يعتني به ويرعاه. ومضت السنوات والأبُ غافل عن ابنه، إما بالتجاهل لحياة ابنه وما يَلزَمها في كل مرحلة، أو بالغرق في نمط من الحياة بعيدًا عن ضرورة رعاية الأبناء.
والأم كذلك لاهية عن الابنة في أمور أَنْسَتْهَا مهمتَها الأساسية في الحياة، فلا تأخذ الابنة من أمها حنانًا وقت الاحتياج إلى الحنان، ولا تَلقَى الابنة حزمًا وقتما تحتاج إلى حزم، ولا تنال الابنة حق الصداقة والفهم وقت أن احتاجت البنت إلى صداقة الأم، فسادَ التنافرُ جوَّ الأسرة باسم الحياة المعاصرة.
والعجيب أننا لو تأملنا المجتمعات التي يقال عنها "معاصرة" لوجدنا علماء تلك المجتمعات يعودون إلى منهج الإسلام ليأخذوا منه قواعد التربية الصحيحة للأبناء ـ كما قلنا ـ لا كَدِينٍ من عندنا يجب عليهم اتباعُه ولكن كناحية اجتماعية تضمن لهم سلامة حياتهم الاجتماعية.(1/24)
فمنها الحنان والاحترام والمودة بين الزوجين فينشأ الطفل متمتعًا بالوجدان الصافي لتلقّي مسئوليات الحياة. ومنها الحزم واحترام ذاتية الطفل وتعليمه منهج الدين من السابعة إلى الرابعة عشر ليعرف أن المؤمن هو الإنسان الذي يتقن عمله حتى تصلح حياته بهذا العمل، وأن يُعطَى من الجهد والتعليم ما يجعله متدربًا على تحمل المسئولية ومعرفة فنّ الحياة وَفْقَ منهج الله تعالى. ومنها صداقة وفهم في ضوء الإيمان ليكون الشاب متقبلًا للحياة المؤمنة مخلصًا في أداء عمله واعيًا بمسئولياته، فيقوم المجتمع على أفراد منسجمين بالإيمان مع أنفسهم ومع الكون الذي خلقه الله.
وإذا كان الحق سبحانه أوصى الآباء بالأبناء فيجب أن نلتفت إلى أنه سبحانه أوصى الأبناء بالآباء، وكأن ما يزرعه الأب والأم في صغيرهما ينفعهما في كبرهما، قال تعالى: (وقضَى ربُّك ألّا تَعبدوا إلّا إياه وبالوالدَين إحسانًا. إمّا يَبلُغنَّ عندك الكبَرَ أحدُهما أو كلاهما فلا تقُلْ لهما أُفٍّ ولا تَنهَرْهما وقل لهما قولًا كريمًا. واخفِضْ لهما جَناحَ الذّلّ من الرحمةِ وقل ربِّ ارحمهما كما ربَّياني صغيرًا) حتى لا يوجد إنسان في المجتمع وهو لا يتحمل مسئوليةَ من أحسنوا تربيته ومسئوليةَ الأبناء الذين تقع عليهم مسئولية حسن تربيتهم، وذلك حتى يتحقق للمجتمع الراحة والأمان والانسجام (في شرح هذه الآية قال القرطبيّ: فيه ست عشرة مسألة:(1/25)
الأولى: "وقضى" أي أمَر وألزَم وأوجَب، قال ابن عباس والحسن وقتادة: ليس هذا قضاءُ حُكْم بل هو قضاءُ أمْرٍ. وفي مصحف ابن مسعود "ووصَّى" وهي قراءة أصحابه وقراءة ابن عباس أيضا وعليّ وغيرهما، وكذلك عند أُبيّ بن كعب. قال ابن عباس: إنما هو "ووصَّى ربك" فالتصقت إحدى الواوَين فقُرئَت "وقضى ربك" إذ لو كان على القضاء ما عصَى اللهَ أحدٌ. وقال الضحاك: تصحَّفت على قوم "وصَّى بقَضَى" حين اختلَطَت الواو بالصاد وقت كَتْبِ المصحف. وذكر أبو حاتم عن ابن عباس مثل قول الضحاك. وقال عن ميمون بن مهران أنه قال: إن على مقال ابن عباس لَنورًا، قال الله تعالى: (شرَع لكم من الدين ما وصَّى به نوحًا والذي أوحينا إليك) (الشورى: 13) ثم أبَى أبو حاتم أن يكون ابن عباس قال ذلك، قال: ولو قلنا هذا لَطَعَنَ الزنادقة في مصحفنا. ثم قال علماؤنا المتكلمون وغيرهم: القضاء يستعمل في اللغة على وجوه: فالقضاء بمعنى الأمر، كقوله تعالى: (وقضَى ربُّك ألّا تعبدوا إلا إيّاه) (الإسراء: 23) معناه: أمَرَ. والقضاء بمعنى الخلق، كقوله: (فقضاهنَّ سبع سموات في يومين) فصلت: 12) يعني: خلَقهنَّ. والقضاء بمعنى الحكم، كقوله تعالى: (فاقْضِ ما أنت قاضٍ) (طه: 72) يعني: احكُم ما أنت تحكُمُ. والقضاء بمعنى الفراغ، كقوله: (قُضيَ الأمرُ الذي فيه تَستفتيان) (يوسف: 41) أي: فُرغ منه. ومنه قوله تعالى: (فإذا قَضَيتُم مناسكَكم) (البقرة: 200) وقوله تعالى: (فاذا قَضَيتم الصلاةَ) (الجمعة:10) والقضاء بمعنى الإرادة، كقوله تعالى: (إذا قضَى أمرًا فإنما يكون له كن فيكون) (مريم: 35) والقضاء بمعنى العهد، كقوله تعالى: (وما كنتَ بجانب الغربيّ إذ قَضَينا إلى موسى الأمرَ) ( القصص: 44).(1/26)
فإذا كان القضاء يحتمل هذه المعانيَ فلا يجوز إطلاق القول بأن المعاصيَ بقضاء الله؛ لأنه إن أريد به الأمر فلا خلاف أنه يجوز ذلك، لأن الله تعالى لم يأمر به فإنه لا يأمر بالفحشاء، وقال زكريا بن سلام: جاء رجل إلى الحسن فقال إنه طلق امرأته ثلاثًا، فقال: إنك قد عصَيتَ ربك وبانت منك. فقال الرجل: قضَى الله ذلك عليّ! فقال الحسن وكان فصيحًا: ما قَضَى الله ذلك. أي ما أمَر الله به، وقرأ هذه الآية: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه).
الثانية: أمر الله سبحانه بعبادته وتوحيده وجعل برَّ الوالدين مقرونًا بذلك، كما قرَن شُكرَهما بشكره، فقال: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانًا) وقال: (أنِ اشكُرْ لى ولوالدَيك إليّ المصيرُ) (لقمان: 14) وفي صحيح البخاري 2782عن عبد الله قال: سألت النبيّ صلى الله عليه وسلم: أيّ العمل أحب إلى الله عز وجل؟ قال: "الصلاة على وقتها" قال: ثم أيّ؟ قال: "ثم بر الوالدين" قال: ثم أيّ؟ قال: "الجهاد في سبيل الله" فأخبر ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن بر الوالدين أفضل الأعمال بعد الصلاة التي هي أعظم دعائم الإسلام، ورتب ذلك بـ"ثم" التي تعطي الترتيب والمهلة.
الثالثة: من البر بهما والإحسان إليهما ألا يتعرض لسبِّهما ولا يَعُقَّهما؛ فإن ذلك من الكبائر بلا خلاف، وبذلك وردت السنة الثابتة، ففي صحيح مسلم 90/146 عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "إن من الكبائر شَتْمَ الرجل والدَيه" قالوا: يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والدَيه؟ قال: "نعم، يَسُبّ الرجلُ أبا الرجل فيَسُبّ أباه، ويَسُبّ أمَّه فيَسُبّ أمَّه".(1/27)
الرابعة: عقوق الوالدين مخالفتهما في أغراضهما الجائزة لهما، كما أن برَّهما موافقتهما على أغراضهما. وعلى هذا إذا أمَرَا أو أحدُهما ولَدَهما بأمر وجَبَت طاعتهما فيه إذا لم يكن ذلك الأمر معصية، وإن كان ذلك المأمور به من قبيل المباح في أصله، كذلك إذا كان من قبيل المندوب. وقد ذهب بعض الناس إلى أن أمرهما بالمباح يصيِّره في حق الولد مندوبًا إليه، وأمرهما بالمندوب يزيده تأكيدًا في نَدْبِيَّته.
الخامسة: روى الترمذيّ عن ابن عمر قال: كانت تحتي امرأة أحبها وكان أبي يكرهها فأمرني أن أطلقها فأبيت، فذكرت ذلك للنبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: "يا عبد الله بن عمر طلق امرأتك". هذا حديث صحيح، رواه الترمذي 1189 وأبو داود 5138 وصححه الألبانيّ في صحيح أبي داود 4284.
السادسة: رُويَ في الصحيح عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "ثم أبوك" أخرجه البخاريّ 5971 ومسلم 2548. فهذا الحديث يدل على أن محبة الأم والشفقة عليها ينبغي أن تكون ثلاثةَ أمثال محبة الأب؛ لذكر النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأمَّ ثلاث مرات وذكر الأب في الرابعة فقط. وإذا توصل هذا المعنى شهد له العيان؛ وذلك أن صعوبة الحمل وصعوبة الوضع وصعوبة الرضاع والتربية تنفرد بها الأم دون الأب، فهذه ثلاث منازل يخلو منها الأب.(1/28)
ورُويَ عن مالك أن رجلًا قال له: إن أبي في بلد السودان، وقد كتب إليّ أن أفد عليه، وأمي تمنعني من ذلك! فقال له: أطِعْ أباك ولا تَعْصِ أمَّك. فدل قول مالك هذا أن برَّهما متساوٍ عنده، وقد سئل الليث عن هذه المسألة فأمره بطاعة الأم وزعم أن لها ثلثَي البر. وحديث أبي هريرة يدل على أن لها ثلاثة أرباع البر، وهو الحجة على من خالف. وقد زعم المحاسبيّ في كتاب "الرعاية" له أنه لا خلاف بين العلماء أن للأم ثلاثةَ أرباع البر وللأب الربعَ، على مقتضى حديث أبى هريرة رضي الله عنه. والله أعلم.
السابعة: لا يَختص برّ الوالدَين بأن يكونَا مسلمَين، بل إن كانا كافرَين يَبَرُّهما ويُحسن إليهما إذا كان لهما عهد، قال الله تعالى: (لا يَنهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يُخرجوكم من ديارِكم أن تَبَرُّوهم وتُقسطوا إليهم إن الله يحب المُقسطين) (الممتحنة:8) وفي صحيح البخاريّ 5978 عن أسماء قالت: قَدِمَت أمي وهي مشركة في عهد قريش ومدَّتهم إذ عاهدوا النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقلت: إن أمي قَدِمَت وهي راغبة، أفأصِلُها؟ قال: "نعم صِلِي أمَّك". وروَى أيضا عن أسماء قالت: أتَتني أمي راغبةً في عهد النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فسألت النبيّ صلى الله عليه وسلم: أأصلُها؟ قال: "نعم" قال ابن عيينة: فأنزل الله عز وجل فيها (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين).(1/29)
الثامنة: من الإحسان إليهما والبرّ بهما إذا لم يتعين الجهادُ ألّا يجاهدَ إلا بإذنهما. ففي صحيح مسلم 2549/5 عن عبد الله بن عمرو قال: جاء رجل إلى النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستأذنه في الجهاد فقال: "أحَيٌّ والداك؟" قال: نعم. قال: "ففيهما فجاهِدْ". وفي غير الصحيح قال: نعم، وتركتُهما يبكيان. قال: "اذهَب فأضحِكْهما كما أبكَيتَهما". رواه أبو داود 2528 وصححه الألبانيّ في صحيح أبي داود 2205. وفي خبر آخر أنه قال: "نومك مع أبوَيك على فراشهما يضاحكانِكَ ويلاعبانِكَ أفضل لك من الجهاد معي". ذكره ابن خُوَيز مَنْداد. وعن عبد الله بن عمرو قال: جاء رجل إلى النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يبايعه على الهجرة، وترَك أبوَيه يبكيان، فقال: "ارجِعْ إليهما فأضحِكْهما كما أبكَيتَهما". أخرجه البخاريّ في الأدب المفرد 13 وصححه الألبانيّ في صحيح الأدب المفرد 10.
قال ابن المنذر: في هذا الحديث النهيُ عن الخروج بغير إذن الأبوين ما لم يقع النفير، فإذا وقَع وجَب الخروج على الجميع، وذلك بيِّن في حديث أبي قتادة أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعث بجيش الأمراء.. فذكر قصة زيد عن حارثة وجعفر بن أبي طالب وابن رواحة، وأن مناديَ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نادى بعد ذلك أن الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أيها الناس، اخرُجوا فأمِدُّوا إخوانكم ولا يَتخلَّفَنَّ أحد" فخرج الناس مشاةً وركبانًا في حرّ شديد. فدل قوله: "اخرجوا فأمدوا إخوانكم" أن العذر في التخلف عن الجهاد إنما هو ما لم يقع النفير؛ مع قوله عليه السلام: "فإذا استُنفرتُم فانفِروا".
قلت: وفي هذه الأحاديث دليل على أن الفروض أو المندوبات متى اجتمعت قُدِّم الأهم منها، وقد استوفَى هذا المحاسبيُّ في كتاب "الرعاية".(1/30)
التاسعة: واختلَفوا في الوالدَين المشركَين؛ هل يَخرج بإذنهما إذا كان الجهاد من فروض الكفاية؟ فكان الثوريّ يقول: لا يغزو إلا بإذنهما. وقال الشافعي: له أن يغزوَ بغير إذنهما. قال ابن المنذر: والأجداد آباء والجَدّات أمهات، فلا يغزو المرء إلا بإذنهم؛ ولا أعلم دلالة توجب ذلك لغيرهم من الأُخُوّة وسائر القرابات، وكان طاووس يرى السَّعْيَ على الأَخَوَات أفضَلَ من الجهاد في سبيل الله عز وجل.
العاشرة: من تمام بِرِّهما صلةُ أهل وُدِّهما، ففي صحيح مسلم 2552/12 عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "إن من أبرّ البرّ صِلَةَ الرجل أهلَ وُدّ أبيه بعد أن يولِّيَ". وروَى أبو أسيد، وكان بدريًّا قال: كنت مع النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ جالسًا فجاءه رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله، هل بقيَ من برّ والدَيّ من بعد موتهما شيءٌ أبَرُّهما به؟ قال: "نعم، الصلاةُ عليهما، والاستغفارُ لهما، وإنفاذُ عهدِهما بعدَهما، وإكرامُ صديقهما، وصلةُ الرحم التي لا رحم لك إلا من قِبَلِهما، فهذا الذي بَقيَ عليك" أخرجه البخاريّ في الأدب المفرد 35 وأبو داود 5142 وضعفه الألبانيّ في ضعيف أبي داود 1101. وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَهدي لصدائق خديجة برًّا بها ووفاءً لها وهي زوجته، فما ظنُّك بالوالدين.
الحادية عشرة: قوله تعالى (إما يَبلُغنَّ عندك الكبَرَ أحدُهما أو كلَاهما) خَصّ حالة الكِبَرِ لأنها الحالة التي يحتاجان فيها إلى برِّه لتغير الحال عليهما بالضعف والكِبَرِ؛ فألزَمَ في هذه الحالة من مراعاة أحوالها أكثَرَ مما ألزَمَه من قبل لأنهما في هذه الحالة قد صارَا كَلًّا عليه، فيحتاجان أن يَلِيَ منهما في الكِبَرِ ما كان يحتاج في صغره أن يَليَا منه؛ فلذلك خصّ هذه الحالة بالذكر.(1/31)
وأيضًا فطول المُكث للمرء يوجب الاستثقالَ للمرء عادةً ويحصّل المَلَلَ ويُكثر الضَّجَرَ فيَظهَر غضبُه على أبوَيه وتنتفخ لهما أوداجه ويَستطيل عليهما بدالّة البنوّة وقلة الديانة، وأقلّ المكروه ما يُظهره بتنفّسه المتردّد من الضجر، وقد أُمر أن يقابلهما بالقول الموصوف بالكرامة، وهو السالم عن كل عيب، فقال: (فلا تقُل لهما أُفٍّ ولا تَنْهَرْهما وقلْ لها قولًا كريمًا) روى مسلم 2551/10 عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رغم أنفه، رغم أنفه، رغم أنفه" قيل: من يا رسول الله؟ قال: "من أدرَكَ والدَيهِ عند الكبَرِ أحَدَهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة".
وروى البخاريّ في الأدب المفرد 21 أبي هريرة عن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "رَغِمَ أنفُ رجل ذُكِرتُ عنده فلم يُصَلِّ عليَّ، رَغِمَ أنفُ رجل أدرَكَ أبوَيه عند الكبَر أو أحدَهما فلم يُدخلَاه الجنة، رَغِمَ أنفُ رجل دخَل عليه رمضان ثم انسلَخ قبل أن يُغفَر له". وصححه الألبانيّ في صحيح الأدب المفرد 16.
وعن كعب بن عُجْرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أحضروا المنبر" فلما خرج رَقيَ إلى المنبر، فرَقيَ في أول درجة منه فقال: "آمين" ثم رَقيَ الثانية فقال: "آمين" ثم لما رَقيَ الثالثة فقال: "آمين" فلما فرغ ونزل من المنبر قلنا: يا رسول الله، لقد سمعنا منك اليوم شيئًا ما كنّا نسمعه منك! قال: "وسَمعتموه؟" قلنا: نعم. قال: "إن جبريل عليه السلام اعترض، قال: بَعُدَ من أدرَكَ رمضانَ ولم يُغفَر له. فقلت: آمين. فلما رَقيتُ في الثانية قال: بَعُدَ من ذُكِرتَ عنده فلم يُصَلِّ عليك. فقلت: آمين. فلما رَقيتُ الثالثة قال: بَعُدَ من أدرَكَ عنده أبواه الكبَرَ فلم يُدخلَاه الجنةَ. قلت: آمين". أخرجه الطبرانيّ في الكبير 19/144.(1/32)
وعن أنس رضي الله عنه قال: ارتقى رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على المنبر درجة فقال: "آمين" ثم ارتقى درجة فقال: "آمين" ثم ارتقى درجة فقال: "آمين" ثم ارتقى الثالثة فقال: "آمين" ثم استوى وجلس، فقال أصحابه: يا رسول الله، علامَ أمَّنتَ؟ قال: "أتاني جبريل فقال: رَغِمَ أنفُ مَن ذُكرتَ عنده فلم يصَلِّ عليك. فقلت: آمين. ورَغِمَ أنفُ من أدرَكَ أبوَيه أو أحدَهما فلم يَدخل الجنة. فقلت: آمين" أخرجه القاضي إسماعيل في فضل الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم 15.
فالسعيد الذي يبادر اغتنام فرصة برِّهما لئلَّا تفوتَه بموتهما فيَندمَ على ذلك، والشقيُّ من عَقَّهما لا سيما مَن بلَغه الأمرُ ببرِّهما.(1/33)
الثانية عشرة: قوله تعالى (فلا تقُل لهما أُفٍّ) أي: لا تقل لهما ما يكون فيه أدنى تبرّم. وعن أبي رجاء العُطارديّ قال: الأفّ الكلام القَذيع الرديء الخفيّ. قال مجاهد: معناه إذا رأيت منهما في حال الشيخِ الغائطَ والبولَ الذي رأيَاه منك في الصغر فلا تَقْذَرْهما وتقول: أفّ. والآية أعم من هذا. والأفّ والنَّفّ: وَسَخُ الأظفار. ويقال لكل ما يُضجِر ويُستثقَل: أفٍّ له. قال الأزهريّ: والنَّفّ أيضا الشيء الحقير، وقُرئ (أُفٍّ) منونًا مخفوضًا كما تُخفض الأصوات وتُنوّن، تقول: صَهٍ ومَهٍ. وفيه عشر لغات: أفِ، أفٍ، أفَ، أفًا، وأفُ، أفٌ، إِفٍّ لك بكسر الهمزة، وأُفْ أفُ بضم وتسكين الفاء، وأفَا مخففة الفاء. وفي الحديث: "فألقى طرف ثوبه على أنفه ثم قال: أفْ أفْ" (النهاية لابن الأثير 1/55) وقال أبو بكر: معناه استقذار لما شُمّ. وقال بعضهم: معنى أفّ الاحتقار والاستقلال، أُخذ من الأَفَف وهو القليل. وقال القُتبيّ: أصله نفخُك الشيءَ يَسقط عليك من رماد وتراب وغير ذلك، وللمكان تريد إماطة شيء لتقعد فيه، فقيلت هذه الكلمة لكلّ مُستَثقَل. وقال أبو عمرو بن العلاء: الأفّ وَسَخٌ بين الأظفار، والتُّفّ قُلَامتها. وقال الزجّاج: معنى أفّ النتن. وقال الأصمعيّ: الأفّ وسخ الأذن والتُّفّ وسخ الأظفار؛ فكثر استعماله حتى ذُكر في كل ما يُتأذّى به. ورُويَ من حديث عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو علم الله من القول شيئا أردَأ من أفّ لذَكَرَه، فليعمل البارّ ما شاء أن يعمل فلن يدخل النار، وليعمل العاقّ ما شاء أن يعمل فلن يدخل الجنة".
قال علماؤنا: إنما صارت قولة "أف" للأبوين أردأ شيء لأنه رَفَضَهما رَفْضَ كفر النعمة وجَحَدَ التربيةَ ورَدَّ الوصيةَ التي أوصاه في التنزيل.(1/34)
و"أفّ" كلمة مقولة لكل شيء مرفوض، ولذلك قال إبراهيم لقومه: (أُفٍّ لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون) (الأنبياء: 67) أي: رفضٌ لكم ولهذه الأصنام معكم.
الثالثة عشرة: قوله تعالى (ولا تَنهَرْهما) النهر: الزجر والغلظة (وقل لهما قولًا كريمًا) أي ليّنًا لطيفًا، مثل: يا أبتاه ويا أماه، من غير أن يسميَهما أو يكنيَهما. قاله عطاء. وقال أبو البداح التجيبيّ: قلت لسعيد بن المسيب: كل ما في القرآن من بر الوالدين قد عرفتُه إلا قوله: (وقل لهما قولًا كريمًا) ما هذا القول الكريم؟ قال ابن المسيب: قول العبد المذنب للسيد الفظ الغليظ.
الرابعة: قوله تعالى (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة) هذه استعارة في الشفقة والرحمة بهما والتذلل لهما تذلل الرعية للأمير والعبيد للسادة، كما أشار إليه سعيد بن المسيب. وضرَب خَفْضَ الجناح ونَصْبَه مثلًا لجناح الطائر حين ينتصب بجناحه لولده، والذل هو اللين، وقراءة الجمهور بضم الذال، مِن: ذلّ يَذِلّ ذلًّا و ذلّة ومذلّة، فهو ذالّ وذليل، وقرأ سعيد بن جبير وابن عباس وعروة بن الزبير "الذِلّ" بكسر الذال، ورُويَت عن عاصم، من قولهم: دابة ذلول؛ بينة الذِلّ، والذِلّ في الدواب: المنقاد السهل دون الصعب. فينبغي بحكم هذه الآية أن يَجعل الإنسان نفسَه مع أبوَيه في خير ذلة، في أقواله وسكناته ونظره، ولا يَحِدّ إليهما بصره، فإن تلك هي نظرة الغاضب.(1/35)
الخامسة عشرة: الخطاب في هذه الآية للنبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ والمرادُ به أمته؛ إذ لم يكن له ـ عليه السلام ـ في ذلك الوقت أبوان. ولم يذكر الذّلّ في قوله تعالى: (واخفِضْ جناحَكَ لمَن اتَّبَعَك من المؤمنين) (الشعراء: 215) وذكَره هنا بحسب عظم الحق وتأكيده. و"مِن" في قوله: (من الرحمة) لبيان الجنس، أي إن هذا الخفض يكون من الرحمة المستكنّة في النفس لا بأن يكون ذلك استعمالًا. ويصح أن يكون لانتهاء الغاية. ثم أمر تعالى عباده بالترحُّم على آبائهم والدعاء لهم، وأن تَرحَمَهما كما رَحماك، وتَرفُقَ بهما كما رَفَقَا بك؛ إذ وَلِيَاكَ صغيرًا جاهلًا محتاجًا فآثراك على أنفسهما وأسهَرَا ليلَهما، وجاعَا وأشبعاك، وتَعَرَّيَا وكَسَوَاك، فلا تَجزيها إلا أن يَبلُغَا من الكبَر الحدَّ الذي كنت فيه من الصغر فتَلِيَ منهما ما وَلِيَا منك، ويكونُ لهما حينئذ فضلُ التقدم، قال صلى الله عليه وسلم: "لا يَجزي ولدٌ والدًا إلا أن يجده مملوكًا فيشتريَه فيُعتقَه" أخرجه مسلم 1510/25.(1/36)
السادسة عشرة: قوله تعالى (كما ربياني) خصّ التربية بالذكر ليتذكر العبد شفقة الأبوَين وتَعَبَهما في التربية فيزيدَه ذلك إشفاقًا لهما وحنانًا عليهما. وهذا كله في الأبوَين المؤمنَين. وقد نهى القرآن عن الاستغفار للمشركين الأموات ولو كانوا أولي قربى، كما تقدم. وذُكر عن ابن عباس وقتادة أن هذا كله منسوخ بقوله: (ما كان للنبيِّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين...) إلى قوله: (... أصحابُ الجحيم) (التوبة: 113) فإذا كان والدَا المسلم ذِمِّيَّين استَعمَلَ معهما ما أمَره الله به هاهنا، إلا الترحم لهما بعد موتهما على الكفر؛ لأن هذا وحده نُسخ بالآية المذكورة. وقيل: ليس هذا موضع نسخ، فهو دعاء بالرحمة الدنيوية للأبوَين المشركَين ما دامَا حيَّين، كما تقدم. أو يكون عموم هذه الآية خص بتلك لا رحمة الآخرة، لا سيما وقد قيل إن قوله (وقل رب ارحمها) نزلت في سعد بن أبي وقاص، فإنه أسلَمَ فألقَت أمه نفسَها في الرمضاء متجردة، فذُكر ذلك لسعد فقال: لِتَمُتْ. فنزلت الآية. وقيل: الآية خاصة في الدعاء للأبوَين المسلمَين. والصواب أن ذلك عموم كما ذكرنا. وقال ابن عباس: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "من أمسَى مُرضيًا لوالدَيه وأصبَحَ، أمسَى وأصبَحَ وله بابان مفتوحان من الجنة، وإن واحدًا فواحدٌ، ومَن أمسَى وأصبَحَ مُسخطًا لوالدَيه أمسَى وأصبَحَ وله بابان مفتوحان إلى النار، وإن واحدًا فواحدٌ" فقال رجل: يا رسول الله وإن ظَلَمَاه؟ قال: "وإن ظَلَمَاه وإن ظَلَمَاه وإن ظَلَمَاه". ذكره الشجَريّ في أماليه 2/120. وقد رُوِّينا بالإسناد المتصل عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: جاء رجل إلى النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: يا رسول الله، إن أبي أخذ مالي. فقال النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ للرجل: "فأتني بأبيك" فنزل جبريل عليه السلام على النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: إن الله عز وجل يقرئك السلام ويقول لك: إذا(1/37)
جاءك الشيخ فاسأله عن شيء قاله في نفسه ما سَمِعَته أُذُناه. فلما جاء الشيخ قال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: "ما بالُ ابنك يشكوك؟ أتريد أن تأخذ ماله؟" فقال: سَلْهُ يا رسول الله، هل أُنفقُه إلا على إحدى عماته أو خالاته أو على نفسي! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إيه، دَعْنَا من هذا، أخبِرني عن شيء قلتَه في نفسك ما سَمِعَته أُذُناك" فقال الشيخ: والله يا رسول الله ما زال الله عز وجل يَزيدنا بك يقينًا، لقد قلتُ في نفسي شيئًا ما سَمِعَته أُذُناي. قال: "قل وأنا أسمع" قال: قلت:
غَذَوتُك مولودًا ومُنْتُك يافعًا تَعِلُّ بما أَجني عليك وتَنهَل
إذا ليلة ضافتك بالسُّقم لم أَبِتْ لسُقمك إلا ساهرًا أتململ
كأني أنا المطروق دونك بالذي طُرِقتَ به دوني فعينيَ تَهْمِل
تَخاف الرَّدَى نفسي عليك وإنها لتعلم أن الموت وقت مؤجل
فلما بلغتَ السنَّ والغايةَ التي إليها مدَى ما كنتُ فيك أؤمِّل
جعَلتَ جزائي غلظةً وفظاظةً كأنك أنت المُنعِمُ المتفضل
فليتَك إذ لم تَرْعَ حقَّ أبوَّتي فعلتَ كما الجارُ المُصاقِبُ يفعل
فأولَيتَني حقَّ الجوار ولم تكن عليَّ بمال دون مالك تَبخَل
قال: فحينئذ أخذ النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بتلابيب ابنه وقال: "أنت ومالُك لأبيك".(1/38)
رعاية الطفل ورضاعته
السؤال: كيف اهتم الإسلام برعاية الطفل ورضاعته؟
الجواب: قرر القرآن الكريم أن صاحب الحق في رَضاع الولد وحضانته هو الأم، فقال: (والوالدتُ يُرضِعْنَ أولادَهنَّ حولَين كاملَين) (البقرة: 233) ودلت الدراسات النفسية والطبية على أن ذلك هو الزمن الضروريّ حتى يتغذى الطفل من لبن أمه هذه المدة.
ويحرص الإسلام على أن تكون الأم هي المرضعة، حتى ولو كان هناك انفصال بين الأم والأب، وألزَمَ الأبَ بأن يدفع للأم مقابل الرَّضاع والحضانة في هذه الحالة.
كما حرَص على أن تكون الحاضنة بعد الرضاع هي الأم؛ لأن الطفل في صغَره ليس محتاجًا إلى العقل الحازم الجازم ولكنه يحتاج إلى الحنان وإلى العاطفة الرقيقة التي تناسب طبيعة تكوين الأم.
والوليد لا يذهب إلى المعلم إلا بعد فترة طويلة، وهذه الفترة الطويلة ليس معناها أنه ليس أهلًا للتربية ولا موضعًا لها، ولكنه أهل للتربية في موضع لا يصلُح فيه إلا الأم، ولا يحسُن فيه إلا الأب، ولا يحسُن فيه إلا القرابة المحيطة به؛ لأن الحقائق التي تتواجد الطفل إنما توجد منذ أن تتفتح عينه لترى وأذنه لتسمع، وحين يرى التصرفات من حوله فتنطبع في نفسه مقوِّمات تنطبع انطباعًا وإن كان بطيئًا، ولذلك يحرص الإسلام على أن ينميَ في الناس عواطفهم نحو أبنائهم الصغار حتى لا يصابوا بشذوذ ولا انحراف ولا بمركّب نقص.(1/39)
الرضاع المحرِّم
السؤال: ما القول الصحيح في عدد الرضعات المحرِّمات؟
الجواب: الرضاع المحرِّم على مذهب الإمام الشافعيِّ، وهو الأصح للفتوى، خمس رضعات مُشبِعات متفرِّقات معلومات بيقين في مدة هذه الرضاع، وهي سنتان، فإذا تحققت الشروط أصبحت المرأة أختًا للرجل من الرضاع، سواء كان رضاعها قبله أو معه، وصار جميع أولادِها أولادَ أخته، ويَحرُم بالرضاع ما يَحرُم بالنسب (أخرج البخاريّ 2646/1 عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "إن الرضاعة تحرّم ما تحرّم الولادة". وفي رواية لمسلم 1444/2: "يحرُم من الرضاعة ما يحرُم من الولادة ". ولما طلب عليّ من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يتزوج بابنة حمزة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها لا تحلّ لي؛ إنها ابنة أخي من الرضاعة". مسلم 1446/11
لذا فيجب إشهار أمر الرضاعة والإشهاد عليها عندما تتم، ولا ينبغي للمرأة المسلمة أن تُرضع غيرَ ولدِها عبثًا وعن غفلة دون إعلام وضرورة، قال الشيخ أحمد طاحون في رسالته "مِن حِكَمِ التحريم بالرضاعة وأحكامه":(1/40)
قد يسأل بعض الناس عن سبب التحريم بالإرضاع وعلته، وإن أهل الإيمان يجب عليهم أولًا أن يطيعوا أمر ربهم ويَمتثلوا ويُذعِنوا موقِنِين أن الخير فيما أحلّه الله لهم وأن الشرّ والضّرّ فيما حرّمه عليهم؛ إذ في التحريم إبعادُهم عما يضرّهم وعما فيه الفسادُ للنفس أو للذوق أو للعقل أو للبدن أو للذرية، فالصلاح في طاعة الله ورسوله، ولنسمعْ ربنا عز وجل يقول لعباده: (إنما كان قولَ المؤمنين إذا دُعُوا إلى اللهِ ورسولِه ليحكُمَ بينهم أن يقولوا سَمِعنَا وأطَعنَا وأولئك هم المُفلِحون) (النور: 51) إن التهاون في أمر الإرضاع لغير أولاد المُرْضِع أمر عظيم الخطر سيئ العواقب، وينبغي أن يكون معلومًا أن المُرضِع حين تغذِّي الرضيع بلبنها إنما تبني هيكله وتنمّي بِنيَتَه، وأن أعضاء الطفل إنما تنمو بلبن مُرضِعَتِه، ولذا صارت المرضعة أُمًّا له بعد أمه التي ولدته وصار أولادها إخوةً له وأخوات، فهل من الذوق السليم والطبع المستقيم أو من الاحترام الواجب أن تكون أمُّ المرء أو خالتُه أو عمتُه أو أختُه زوجًا له؟ إن الارتباط بين الرضيع وأهل مرضعته قويّ شديد، فالتحريم فيه الصلاح؛ إذ يترتب على الزواج بالمحرَّمات من الرضاع مفاسد وشرور. إن كل ما يَحرُم من النسب يَحرُم من الرضاع نظيرُه، فيَحرُم على الرجل أن يتزوج أمهاته من الرضاعة وإن عَلَونَ، وبناتِه من الرضاعة وإن سَفَلنَ، وأخواتِه من الرضاعة، وبناتِ أخواتِه من الرضاعة، كما يحرُم عليه عماتُه وخالاتُه من الرضاعة وإن عَلَونَ، دون بناتهنَّ.(1/41)
إن المرأة إذا أرضعت طفلًا الرضاعَ المعتَبَر في المدة المعتَبَرة صارت أمًّا له بنص كتاب الله، قال سبحانه وتعالى: (وأمهاتُكم اللاتي أرضَعْنَكُم وأخواتُكم من الرَّضاعة) (النساء: 23) فتحرُم عليه هذه الأم هي وأمهاتُها وإن عَلَونَ، من نَسَب أو رَضَاع، وتصير بناتُها كلُّهنَّ أخواتٍ له من الرضاعة، فيَحرُمنَ عليه بنص القرآن. وإن بقية التحريم بالرضاعة استُفيد من السنة، كما استُفيد من السنة أيضًا أن تحريم الجمع لا يَختصّ بالأختين، كما جاء في آية سورة النساء، بل التحريم يشمل الجمعَ بين المرأة وعمتها وخالتها، إذ العلة موجودة أيضًا؛ وهي أن هذا الجمع يوقع العداوة بين الأقارب ويُفضي إلى قطيعة الرحم، لمنزلة الخالة والعمة، وفي هذا جاءت الأحاديث الصحيحة، فعن ابن عباس قال: نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن تُزوَّجَ المرأةُ على عمتها أو خالتها. رواه الترمذيّ 1125 وأبو داود 2067 وأحمد في المسند 1/217 وابن حبان في صحيحه 4116 وحسنه الأرناؤوط. وروى البخاريّ 1408 ومسلم 1408/33 أن جابرًا قال: نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن تُنكَحَ المرأةُ على عمتها أو خالتها.
ويَحرُم على المرتَضِع بناتُ إخوته من الرضاع، وأخواتُ مُرضِعته لأنهنَّ خالاتُه، وينتشر التحريم أيضًا إلى صاحب اللبن الذي ارتَضَع منه الطفل، فيصير الطفل ابنًا له ويصير أبًا للطفل، ويصير أولاد الرجل كلُّهم من المُرضِعة أو من غيرها من نسب أو رَضاع إخوةً للمُرتَضِع، ويصير إخوةُ هذا الرجل وأخواتُه أعمامًا للطفل المرتضع وعماتٍ، وهذا قول الجمهور من السلف وعليه الأئمة الأربعة والفتوى به.(1/42)
وقد سُئل ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ عن رجل له امرأتان أرضَعَت إحداهما جاريةً والأخرى غلامًا، أيحلّ للغلام أن ينكح الجارية؟ قال: لا، لأن اللقاح واحد. واللقاح هو ماء الفحل. وقد أذن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعائشة بدخول أخي زوج مُرْضِعَتِها والسلامِ عليها، وقال لها: "ائذَني له؛ فإنه عمُّك". أخرجه البخاريّ 5103 ومسلم 1445/3 والدارقطنيّ في سننه 4/177/20 واللفظ له. وجاء عن عائشة وغيرها: "يَحرُم من الرضاعة ما يَحرُم من النسب" أخرجه البخاريّ 5103 ومسلم 1445/3. وفي لفظ عن عائشة: حَرِّموا من الرضاعة ما تُحرِّمون من النسب. أخرجه مسلم 1445/5.
وهذا التحريم ينتشر بالرضاع إلى ما حُرِّم بالنسب مع الصهر، إما من جهة نسب الرجل كامرأة أبيه وابنه، أو من جهة نسب الزوجة كأمها وابنتها، وإلى ما حُرِّم جمعُه لأجل نسب المرأة أيضًا كالجمع بين الأختين، والمرأة وعمتها أو خالتها، فيَحرُم ذلك كله من الرضاع كما يَحرُم من النسب؛ لدخوله في قوله صلى الله عليه وسلم: "يَحرُم من الرَّضاع ما يَحرُم من النسب".
تنبيه
وهذا التحريم يختص بالمرتَضِع نفسِه وأولادِه ويَنتشر إلى أولاده، ولا يَنتشر التحريم إلى مَن هم في درجة المرتَضِع من إخوته وأخواته، ولا إلى مَن هم أعلى منه من آبائه وأمهاته وأعمامه وعماته وأخواله وخالاته.
الرد على وهم
إن التحريم بالرضاع لا يتوقف ـ كما يتوهم كثير من الناس ـ على اتحاد زمن الرضاعة، فإذا رضَع صبيّ من غير أمه صار أخًا لبنتها، سواء كان رَضَاعُه معها أم قبلها أم بعدها.
المدة المعتَبَرة في الرضاعة(1/43)
والرَّضاع الذي يتحقق به التحريم هو الذي يكون قبل فطام المرتَضِع على الصحيح، فعن أم سلمة رضي الله تعالى عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَحرُم من الرضاع إلا ما فَتَقَ الأمعاءَ في الثدي وكان قبل الفطام". رواه الترمذيّ 1152 وابن حبان في صحيحه 4224 وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح. وبذلك أفتى ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ فقال عن الرضاعة المعتَبَر: ما كان في الحولَين. وهما مدة الرضاع في قوله تعالى في سورة البقرة: (والوالدتُ يُرضعنَ أولادَهنَّ حولَين كاملَين).
وعلى هذا فإن الرضاع لا يحرِّم إذا وقع بعد انتهاء مدة الرضاع؛ إذ في هذه المدة يتغذى الطفل بالفعل بلبن مُرضِعَتِه وبه ينمو عظمه ولحمه، حتى يُفطَم ويستقلَّ في غذائه مستغنيًا عن لبن أمه.
واعتبَر أبو حنيفة بعد الحولَين ستة أشهر، واعتبَر مالك شهرًا ونحوه، وقال زُفَرُ من أصحاب أبي حنيفة: مادم الطفل يجتزئ بلبن الأم ولم يُفطم فهو رَضاع وإن زادت المدة عن حولَين، يقول ابن مسعود: إنما يُحرّم من الرضاع ما يُنبت اللحم والعظم.
عدد الرضعات المعتبَرة في التحريم
اختلف أهل العلم في عدد الرضعات ولهم آراء وتفسيرات، فقال الليث بن سعد: إن قليل الرضاع وكثيره يحرّم في المهد. وقد خرّج مالك عن ابن عباس: ما كان في الحولَين وإن كان مَصّة واحدة فهو يحرّم.
ونظر بعضهم في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحرّم المَصّة أو المَصّتان" أخرجه مسلم1450/17 فمنهم من قال: إن المَصّة تعني أخذ اليسير من الشيء. وعلى هذا فالمَصّة والمَصّتان لا تحرّم؛ لأن ذلك دون الرضعة ولا تأثير لها في الغذاء، واعتبروا لذلك الرضعة الواحدة الكاملة، وهي أن يأخذ الصبيّ الثديَ ويمتصّ اللبن منه ولا يتركه إلا طائعًا من غير عارض يعرض له.(1/44)
ومنهم من فسر ذلك بأن التحريم يكون بثلاث رضعات فأكثر؛ لأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين أن المَصّة والمَصّتَين والإملاجة والإملاجتَين لا أثر لها في الحريم. أخرجه مسلم 1451/18 وهذا صريح في نفي التحريم بما دون الثلاث.
وقال المحققون من أهل العلم: إن التحريم يكون بخمس رضعات فأكثر، فقد خرج الستة إلا البخاريّ عن عائشة قالت: كان فيما نزل من القرآن "عشر رضعات معلومات يُحرِّمنَ" ثم نُسخنَ بخمس معلومات. وأشارت السيدة عائشة أن ذلك مما كان يُقرأ من القرآن حتى تُوُفِّيَ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أي إنه نُسخ لفظه وبقيَ حُكمه، وبهذا يُفتي كثير من أهل العلم. من حِكَمِ التحريم بالرضاعة ص9ـ 20).(1/45)
تفضيل الذكور على الإناث
السؤال: هل الذكور أفضل من الإناث؟
الجواب: كلمة "ذرية" تطلق على الواحد وعلى الاثنين وعلى الثلاثة أو أكثر، والذرية هنا بالنسبة لمريم عليها السلام هي عيسى عليه السلام، وتنتهي المسألة. وبعد دعاء امرأة عمران: (وإني أعيذُها بك وذريتَها من الشيطان الرجيم) (آل عمران: 36) يجيء قول الحق سبحانه: (فتقَبَّلَها ربُّها بقَبولٍ حسنٍ وأنبَتَها نباتًا حسنًا وكفَّلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحرابَ وجَد عندها رزقًا قال يا مريم أنَّى لكِ هذا قالت هو من عند اللهِ إن اللهَ يرزقُ من يشاءُ بغير حساب) (آل عمران: 37).(1/46)
وكلمة "آدم" حينما تتكلم بها تجدها في اللغة مذكرة، والمذكر يقابله المؤنث، وقد خلق الحق الأعلى سبحانه الذكورة والأنوثة، لأنه من تزاوجهما سيخرج النسل، إذًا فكان لابد من التمييز بين النوعين للجنس الواحد، فالذكر والأنثى هما بنو آدم ومنهما ينشأ التكاثر، لكن العجيب أن الله تعالى حين سمَّى "آدم" ونطقناه اسمًا مذكرًا وسمَّى "حواء" ونطقناه اسمًا مؤنثًا، وجعل سبحانه الاسم الأصيل الذي وُجد الخلق هو "نفس" لقد قال الحق سبحانه: (يا أيها الناس اتقوا ربَّكم الذي خلَقكم من نفسٍ واحدةٍ وخلَق منها زوجَها وبَثَّ منهما رجالًا كثيرًا ونساءً واتقوا اللهَ الذي تَسَاءلون به والأرحامَ إن الله كان عليكم رقيبًا) (قال ابن كثير: يقول تعالى آمرًا خلقَه بتقواه وهي عبادته وحده لا شريك له ومنبِّهًا لهم على قدرته التي خلقهم بها "من نفس واحدة" وهي آدم عليه السلام "وخلق منها زوجها" وهي حواء عليها السلام، خُلقَت من ضِلَعِه الأيسر. عمدة التفسير7/ 97 ـ 98) لقد سمَّى الحق سبحانه "آدم" بكلمة "نفس" وهي مؤنثة، إذًا فليس معنى التأنيث أنه أقل من معنى التذكير، لكن "التذكير" هو فقط علامة لتضع الأشياء في مسمياتها الحقيقة وكذلك التأنيث. إن الحق سبحانه يطلق على كل إنسان منّا (نفس) وهي كلمة مؤنثة، وحينما تكلم الحق سبحانه كلامًا آخر عن الخلق قال: (يا أيها الناس إنا خلَقناكم من ذَكَرٍ وأنثَى وجعَلناكم شعوبًا وقبائلَ لِتَعارَفوا إن أكرَمَكم عند اللهِ أتقاكم إن اللهَ عليمٌ خبير) (الحجرات:13) وكلمة "أناس" تَعني مجموع الإنسان. وهكذا نعرف أن كلمة "إنسان" تطلق مرة على المذكر ومرة أخرى على المؤنث. إذًا فالحق سبحانه قد أورده مرة لفظًا مذكرًا ومرة أخرى أطلَق لفظًا مؤنثًا، وذلك حتى لا تقول: إن المذكر أفضل وأحسن من المؤنث. ولكن ذلك وسيلة للتفاهم فقط، وبذلك يبين لنا الحق سبحانه أنه قد وضع الأسماء لمسمياتها لنتعارف بها (وجعَلناكم شعوبًا(1/47)
وقبائلَ لِتَعارَفوا) ومعنى "لِتَعارَفوا" أي أن يكون لكل منّا اسم يُعرف به عند الآخرين، وفي حياتنا العادية ـ ولله المثل الأعلى ـ نجد رجلًا عنده أولاد كثيرون، لذلك يُطلق على كل ابنٍ اسمًا ليعرفه المجتمع به. والعجيب في هذه الآية الكريمة (وجعَلناكم شعوبًا وقبائلَ لِتَعارَفوا) أننا نجد كلمة "شعوبًا" مذكرة وكلمة "قبائل" مؤنثة، فلا تمايز بالأحسن، ولكن الكلمات هنا مسميات للتعارف. والحق الأعلى سبحانه يقول: (والعصر. إن الإنسان لَفي خُسر. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحت وتَوَاصَوا بالحق وتَوَاصَوا بالصبر).
إذًا فما وضع النساء اللاتى آمَنَّ؟
إنهن يَدخُلنَ ضمنَ "الذين آمنوا".
ولماذا أدخل الله المؤنث في المذكر؟
لأن المذكر هو الأصل، والمؤنث جاء منه فرعًا، إذًا فالمؤنث هو الذي يدخل مع المذكر في الأمور المشتركة في الجنس. ويقول الحق سبحانه: (يا أيها الناس اعبدوا ربَّكم الذي خلَقَكم والذين مِن قبلِكم لعلكم تتقون) (البقرة: 21) وهذا يعني أن "المؤنث" عليه أن يدخل في تكليف العبودية لله. والمعنى العام يحدد أن المطلوب منه العبادة هو الإنسان كجنس، وبنوعَيه الذكر والأنثى، وفي الأمر الخاص بالمرأة يحدد الله تعالى المرأة بذاتيتها، فالحق سبحانه وتعالى يقول: (وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضَى اللهُ ورسولُه أمرًا أن يكون لهم الخِيَرة من أمرِهم ومَن يَعص اللهَ ورسولَه فقد ضلَّ ضلالًا مبينًا) (الأحزاب: 36).
لماذا؟
إن المسألة هنا تشمل نوعين من الجنس الواحد، الرجل والمرأة، زوج وزوجة، فمثلًا نجد زوجًا يريد تطليق زوجته، فيأتي الحق سبحانه بتفصيل يوضح لك، وإذا كان هناك أمر خاص بالمرأة فالحق سبحانه وتعالى يحدد، فها هو ذا قوله الحكيم: (يا نساءَ النبيّ لَستُنَّ كأحدٍ من النساء إن اتَّقيتُنَّ فلا تَخضَعنَ بالقولِ فيَطمَعَ الذى في قلبِه مرضٌ وقُلنَ قولًا معروفًا) (الأحزاب: 32).(1/48)
واقع المرأة المسلمة
السؤال: لماذا حاول البعض أن يَبُثّ أفكارًا مسمومة حول الإسلام في نظرته للمرأة؟
الجواب: إذا استقرأنا الواقع في التاريخ الحديث فلا نجد منزلة أسمى من المنزلة التي وضع الله فيها المرأة المسلمة، ولكن المرأة المسلمة كانت وما زالت هدفًا لأعداء الإسلام، بمحاولة زرع أفكار فاسدة وأفكار هدامة في عقلها، وتحاول هذه الأفكار المسمومة أن تشوّه الإسلام في نظر المرأة.
لماذا؟
لشيء في نفوسهم، لأنهم يَرَونَ أن المرأة هي أداةُ تحوُّل، وإذا ما أرادوا هدم مبدأ من المبادئ يُخرجونها إلى الشارع ليفسُد المجتمع، وما دام المجتمع فسَد وتَحلَّلَ تكون المناعة الدينية بذلك قد انتهت، وما دامت المناعة الدينية قد انتهت يكون كل شيء يتأتَّى (قال السيد محمد رشيد رضا: قبل البعثة النبوية كان جميع نساء البشر مرهَقات بظلم الرجال في البدو والحضر، لا فرق فيه بين الأمِّيِّين والمتعلِّمين ولا بين الوثنيِّين والكتابيِّين، كانت المرأة تُشترَى وتُباع كالبهيمة والمتاع، وكانت تُكرَه على الزواج وعلى البِغَاء، وكانت تُورَث، وكانت تُملَك ولا تَملِك، وكان أكثرُ الذين يَملكونها يَحجُرون عليها التصرفَ فيما تَملِكه بدون إذن الرجل، وكانوا يَرَونَ للزوج الحقَّ في التصرف بمالها من دونها.
وقد اختلف الرجال في بعض البلاد في كونها إنسانًا ذا نفس وروح خالدة تدخل الجنة أو الملكوت في الآخرة أم لا! فقرر أحد المجامع في روميَّة أنها نجس لا روح له ولا خلود، ولكن يجب عليها العبادة والخدمة، وأن يكمَّم فمُها كالبعير والكلب العقور لمنعها من الضحك والكلام؛ لأنها أُحبُولة الشيطان.(1/49)
وكانت أعظم الشرائع تُبيح للوالد بيعَ ابنته، وكان بعض العرب يَرَونَ أن للأب الحقَّ في قتل بنته بل وفي وأدها ـ دفنها حية ـ أيضًا. وكان منهم من يرى أنه لا قصاص على الرجل في قتل المرأة ولا دِيَةَ. وكان أهَمَّ إنصافٍ للمرأة منَحَها إياه الشعب الفرنسيّ في أوروبا ـ بعد ميلاد محمد صلى الله عليه وسلم وقبل بعثته ـ بعد خلاف وجدال أن المرأة إنسان إلا أنها خُلقَت لخدمة الرجال. حقوق المرأة في الإسلام 4 ـ 5).
إذًا فالمرأة المسلمة عليها أن تكون يقظة وأن تكون واعية، وأن تعلم أن الإسلام أعطاها من الحقوق والمزايا ما حفظ لها كرامةَ إنسانيتها وما وحَّد مسؤوليتَها مع مسؤوليات الرجل، وأعطاها من التصرفات المرئية ما لم تُعطها كل القوانين، وأوجَب عليها حق التعليم.
وبعد ذلك إذا كان قد تكلم في التعدد فأيضًا لمصلحة المرأة وليس لمصلحة الرجل، وإلا فقولوا لي أين يذهب الفائض؟ هذا فائض جُعل له عملية امتصاص.
وأيضًا في مسألة الطلاق، فليس من مصلحة المرأة ولا من مصلحة الرجل ولا من مصلحة الأسرة ولا من مصلحة المجتمع أن يوجد اثنان محكومان بحكم القانون وليس بحكم المودة ولا بحكم الرحمة، فإذا ما جَدَّ للمرأة أنها لا ترغب في الزوج أو جَدّ للزوج أنه لا يرغب في زوجته (وإن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلًّا من سَعَتِه) (النساء: 103) وهذه يعوّض الله عليها بشيء وهذا يعوّض الله عليه، وإلا نشأت أسرة شرسة، أسرة متعاندة، أسرة متعارضة، وبعد ذلك ينشأ الجيل ليرى البغض من الأب ومن الأم ومن الرجل ومن المرأة، فيوجد هذا البغض في نفوس الأسرة كلها، وبذلك تكون الأسرة كلها خلية فاسدة لا يصحّ أن تُبنَى منها أمة.(1/50)
حجاب المرأة المسلمة
السؤال: قضية الحجاب من القضايا التي يجب معالجتها في بلاد الإسلام، وما زالت بعض فتيات المسلمين يرتدين "البانطلون" بحجة أنه يستر الجسم، فما رأيكم في تلك القضية وكيفية حسمها ومعالجتها معالجة إسلامية؟
الجواب: في تلك القضية خاطب الله تعالى المؤمنين والمؤمنات، فقال تعالى: (يا أيها النبيّ قُل لأزواجِك وبناتِك ونساءِ المؤمنين يُدنِينَ عليهنَّ مِن جلابِيبِهنَّ) (الأحزاب: 59)
ما معنى (يُدنِينَ)؟
الإدناء: تقريب شيء من شيء. وهنا يقول: (يُدنِينَ عليهنَّ)
فماذا يُدنِينَ؟
(مِن جلابِيبِهنَّ)
يُدنِينَها من ماذا؟
قالوا: يُدنِينَها من الأرض، كما قال سبحانه وتعالى: (قُطُوفُها دانيةٌ) (الحاقة: 23) أي: قُطُوف العنب دانية، يعني: قريبة حتى تكون سهلة الجَنَى.
إذًا (يُدنِينَ عليهنَّ مِن جلابِيبِهنَّ) أي يُقرِّبنَ الجلابيب من الأرض.
لماذا؟
لأجل ستر الجسم، وما دام (عليهنَّ) إذًا فكلها تكون مستورة الجسد.
ما هو الجلباب؟
اختلفوا فيه، الجلباب: هو الثوب الذي يُلبس فوق الثوب الداخليّ. فأحدنا يلبس قميصًا وسروالًا، ثم الجلباب أو الجلابية، فالجلابية تكون سابغة، ويصح أن يكون القميص قصيرًا، أما الجلابية فتكون سابغة وقريبة من الأرض.
أو أصل الجلباب: الخمار الذي يغطي الرأس ثم يضربونه على جيوبهنَّ.
لكن هذا صحيح قد يكون غير كاشف إنما المرأة لها أشياء عورة؛ جسم يكشف وجسم يُوصَف وجسم يُلتفَت إليه، فيشترط في الحجاب بالنسبة للمرأة ألاَّ يكون كاشفًا، أي لا يُظهر أيَّ جزء من جسمها. لكن قد يكون اللباس أو الجلباب غير كاشف لكنه لضيقه الشديد يصف تفاصيل الجسم ومع ذلك فهو طويل ويسمونه "مكسي" فهو غير كاشف إلا أنه واصف، والواصف عادة يكون على ثلاثة "الصدر والخصر والردفَين" فساعةَ ألّا يكون اللباس كاشفًا لكنه يحدد هذه الأجزاء فهو غير كاشف إلا أنه واصف.(1/51)
وقيل: الخمار ليس لتغطية الرأس وفتحة الرقبة وهي "الجيوب" فحسب بل يتعداها لينزل ويستر هذا الأجزاء. وهي مبالغة في التستر. فاللباس الشرعيّ للمرأة لا يكون كاشفًا ولا يكون واصفًا.
بَقيَ شيء آخر وهو ألّا يكون لافتًا، ولذلك هناك بعض تعابير أدبية قالها بعض الناس، قالوا: مبالغة المرأة في تبرُّجها إلحاح منها في عرض نفسها على الرجل كأنها تدعوه للنظر إليها. فلو كانت بنتًا فهذا ربما كان معقولًا حتى تتزوج، لكن المتزوجات لماذا يفعلن ذلك؟
وقال تعالى في حيثية أمره: (ذلك أدنَى أن يُعرَفنَ فلا يُؤذَينَ) (الأحزاب: 59)
فلم نساءُ النبيّ وبناتُه ونساءُ المؤمنين يَلبَسنَ الثياب الطويلة؟
ليُعلَم أنهَّن لَسْنَ من هؤلاء فلا يَتعرض لهنَّ أحد، إنما لو كان غير ذلك لَعَلِمَ الجميع أنهنَّ لَسْنَ منهنَّ، وهنَّ يَعرِضنَ أنفسَهنَّ.
(ذلك أدنَى أن يُعرَفنَ) بأنهنَّ لَسْنَ ممَّن يَعرِضنَ أنفسهنَّ عرضًا مهيِّجًا لافتًا. وما دُمنَ يُعرَفنَ فلن يَنالهنَّ إيذاء ولو بكلمة (ذلك أدنَى أن يُعرَفنَ فلا يُؤذَينَ وكان اللهُ غفورًا رحيمًا).
ولماذا جاء في الآية هنا قوله تعالى: (وكان اللهُ غفورًا رحيمًا)؟
ذلك حتى إن كان قد حدث شيء من هذا قبل ذلك يغفره الله تعالى؛ لأنه ليس لدينا عقوبات سابقة للمفعول.
وأيضًا فإن الحق ـ سبحانه وتعالى ـ حينما طلب من المرأة ستر مفاتنها أراد أن يؤمن حياتها.
كيف؟ ما معنى تأمين الحياة؟
عندما يأخذون منّا قسط تأمين ونحن موظفون لكي يُعطونا فيما بعد، إذًا أخَذَ منك وأنت واجدٌ ليُعطيَك وأنت غيرُ واجد، فالله سبحانه أمَرَك بالستر في سنٍّ تَفتن فيها ليَحميَك في شيخوختك ممن تُفتَن عنه، هذا هو تأمين الحياة (ذلك أدنَى أن يُعرَفنَ فلا يُؤذَينَ) ولو بالقول (وكان اللهُ غفورًا رحيمًا).(1/52)
تحريم النظرة
السؤال: لماذا حُرِّمت النظرة بين الرجل والمرأة ولم تُحرَّم بالنسبة لباقي مخلوقات الكون؟
الجواب: لأن النظرة هي بداية النزوع بالنسبة للرجل والمرأة، وما دامت النظرة قد بدأت فأنت لا تستطيع أن تتحكم في نفسك بالنسبة لما يمكن أن يحدث بعد ذلك، فالنظرة قد أوجَدَت تغييرًا يقودك إلى المعصية، ولذلك نجد مثلًا عندما حرّم الله ـ سبحانه وتعالى ـ على آدم وحواء أن يأكلَا من الشجرة المحرّمة في الجنة لم يقل لهما: لا تأكلَا من هذه الشجرة. بل قال جل جلاله: (ولا تَقرَبَا هذه الشجرةَ فتَكونَا من الظالمين) (البقرة: 35).
لماذا لم يقل الله سبحانه وتعالى: لا تأكلَا من هذه الشجرة؟(1/53)
لأنه أراد أن يَحميَهما من إغراء المعصية، فلو أنه قال لهما: لا تأكلَا من هذه الشجرة. ربما جلَسَا إلى جوارها فأغراهما لونُ ثمارها أو شكلُ هذه الثمار أو الرائحةُ المنبعثة منها، ولذلك قال لهما سبحانه: (ولا تَقرَبَا هذه الشجرةَ فتَكونَا من الظالمين) ليَقيَهما الإغراءَ الذي يمكن أن يوقعَهما في المعصية، وكما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فمن حام حول الحِمَى أوشك أن يقع فيه" (أخرج البخاريّ 52 ومسلم 1599/ 107 واللفظ له، عن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "إن الحلال بيّن وإن الحرام بيّن وبينهما مشتبِهات لا يَعلمُهنَّ كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحِمَى يوشك أن يَرتَع فيه، ألَا وإن لكل ملكٍ حِمًى، ألَا وإن حِمَى الله محارمه، ألَا وإن في الجسد مُضغةً إذا صلَحَت صلَح الجسد كله وإذا فسَدَت فسَد الجسد كله، ألَا وهي القلب") وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: "إن الله حَدَّ حدودًا فلا تَعتَدُوها، وفرَض لكم فرائضَ فلا تضيِّعوها، وحرَّم أشياء فلا تَنتهكوها" (رواه الحاكم في المستدرك 4/129/7114 وسكت عنه، ووافقه الذهبيّ) إذًا فتحريم النظر بين الرجل والمرأة حمايةٌ لهما كلَيهما. وقالت أم سلمة: كنت عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعنده ميمونة، فأقبَل ابنُ أم مكتوم رضي الله تعالى عنه وكان أعمَى، وذلك بعد أن أُمرنا بالحجاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احتَجِبَا منه" فقلنا: يا رسول الله، أليس أعمَى لا يُبصرنا ولا يَعرفنا؟ فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "أفَعَميَاوَانِ أنتما؟ ألستُما تُبصِرَانِه؟" (رواه أبو داود 4112 وضعفه الألبانيّ في ضعيف أبي داود 887 والأرناؤوط في ابن حبان 5576. وقال أبو داود: هذا لأزواج النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ خاصةً، ألا ترى(1/54)
إلى اعتداد فاطمة بنت قيس عند ابن أم مكتوم، قد قال النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ لفاطمة بنت قيس: "اعتَدِّي عند ابن أم مكتوم؛ فإنه رجل أعمى تَضَعِينَ ثيابك عنده". أخرجه مسلم 1480/36 وأبو داود 2284 وهو خاصّ بفاطمة بنت قيس وليس لأزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم) والله جل جلاله يقول: (وإذا سألتموهنَّ متاعًا فاسألوهنَّ من وراء حجاب ذلكم أطهرُ لقلوبِكم وقلوبِهنَّ) (الأحزاب: 53).
على أننا لا بد أن نلتفت إلى حقيقة هامة، هي أن الله سبحانه وتعالى يريد أن تعتدل الموازين في كونه، ويريد للعقل الذي ميَّز الله به الإنسان أن يُعطَى حريةَ الاختيار دون أية مؤثرات حتى تستقيم الأمور في الكون، وإظهارُ المرأة لمفاتنها يجعل الميزان يختلّ.
لماذا؟
لأن المرأة إذا تعمّدت إغراء رجل غريب بزينتها والكشف عن جسدها تتدخل في عمل العقل، لأنه في هذه الحالة قد يتخذ قرارًا ويعلم أنه باطل لينال من هذه المرأة أو يُرضيَها، وكلّنا يعلم تأثير النساء في الصفقات التي تحدث في العالم كله، وكيف أنهنَّ يُتَّخَذنَ كوسيلة للإغراء ليقضيَ الإنسان بغير الحق ويختلّ ميزان الحكم.(1/55)
الطبيب النفسيّ والخَلوة بالمرأة
السؤال: إنه قد ترتب على سوء معاملة والدي ـ الذي تُوُفِّيَ ـ لي ولوالدتي مشاكل نفسية عانيتُ منها طويلًا، ولذلك اضطُّرِرتُ أن أعالَجَ عند طبيب نفسيّ، وأُضطَّرُّ أن أذكر له المعاملة السيئة التي لقيتُها من والدي، وهذا يؤلم ضميري، وكذلك العلاج يقتضي بقائي مع الطبيب فترة في خَلوة، وهو طبيب مسلم مؤتَمَن الجانب، فهل هذا حلال أم حرام؟
الجواب: أولًا: ما معنى العلاج؟
إنها كلمة تؤدي معنى المحاولة، فنحن إذا أردنا أن نخلع مسمارًا مثلًا فإننا نحركه أمامًا وخلفًا ويمينًا ويسارًا، ونكرر هذه الحركة لمحاولة الخلع أو معالجة الخلع. إذًا فالعلاج هو المحاولة للوصول إلى هدف بأسباب. والطب يعالج ولا يَشفي، فهو يحاول أن يأتيَ بالأسباب لعل سببًا يصيب الداءَ فيَشفَى المريض.
وعندما عجز الطب عن إدراك سببٍ عضويٍّ للمرض قالوا عنه: إنه مرض نفسيّ. أي إن السبب في هذا المرض مجهول لنا. وتبين لنا بعد ذلك أن كثيرًا من الأمراض النفسية تتسبب عن اختلال في أجهزة الجسم، لكننا لا نعرفها، مثل غدّة صغير جدًّا في حجم حبّة السمسم، وعندما يحدث اختلال في إفرازها تُسبِّب اكتئابًا نفسيًّا أو أيَّ مرض آخر. وقديمًا لم يكن العلم قد توصل إلى أن كلَّ انفعال أو إدراك في الحياة البشرية إنما يترك أثرًا عضويًّا على جسم الإنسان، ولكننا لا نعرف تمامًا هذا الأثر؛ لأن في الإنسان أجهزةً بلَغَت من الدقة حدًّا لا نكاد معه أن نتبينها، وإذا اختل توازنها انقلبت الموازين، فعندما يتعرض الإنسان لصدمة تتأثر تلك الأجهزة فتنقبض، فإذا استطاع الطبيب أن يتحدث مع المريض ليكشف سبب الصدمة ويوضح له وَهَمَه انبسَط الجزء المنقبِض مرة أخرى.
إذًا فإن كل تأثير على الكائن الحيّ يفيد شيئًا في كيميائيته، وقد لا ندرك ذلك في حينه إلا أنه يُحدث فيه اختلالًا، ولا ضرر في أن أعالج هذا الاختلال مطلقًا.(1/56)
ثانيًا: إن ذِكْرَ ما أصاب السائلةَ من سوء معاملة الوالد المتوفَّى للطبيب لا ضير منه ما دامت تعتقد بذلك معاونةَ الطبيب على تشخيص المرض، والمنهيُّ عنه هو قصدُ التشفِّي أو تبرير عدم البرِّ بالوالد، وفي هذا المجال أحب أن أذكر أن الله تعالى عندما أوصى بالبر بالوالدين ذكَر سَبَبَين:
أولهما: أنهما الوالدان. أي أنهما سبب في الوجود، قال تعالى: (وبالوالدَين إحسانًا) (الإسراء: 23) فحق الوالدَين يَظَلّ لهما وإن لم يُرَبِّيَا.
والثاني: التربية. قال تعالى: (وقل ربِّ ارحَمهما كما ربَّياني صغيرًا) وبذلك فإن حق التربية ينتقل لكل من ربَّى وإن لم يكن والدًا، وأما من اجتمعت له الصفتان فيصبح له حقُّ الوالدية وحقُّ التربية.
ثالثًا: بالنسبة للبقاء فترة طويلة مع الطبيب المعالج فلا شيء فيه ما دام الطبيب مسلمًا مؤتَمَنًا، وما دام العلاج يقتضي ذلك.(1/57)
طبيب النساء
السؤال: أنا سيدة حامل وأُعالَج عند طبيب مشهور أستريح له في علاجي، إلا أنه غير متدين، فهل هذا حلال أم حرام؟ مع العلم أني حاولت أن أعالج نفسي لدى طبيبة ولكني لم أسترح لعلاجها.
الجواب: ما دُمتِ محتاطةً لدينك ـ وإن لم يكن قد جعل اللهُ شفاءك عند الطبيبة التي تذكُرينها ـ فلا مانع أن تسألي عن طبيب مسلم معروفٍ عنه خشيتُه لله، فإذا لم يكن بعد استفراغك للجهد قَدْرَ الطاقة فلا مانع من أن تستمرّي لدى طبيبك المعالج إن لم يكن بالبلدة طبيب حاذق غيره، وأنتِ أدرى بدِينِه منّا، وعليكِ أن تحفظي نفسَكِ ودينَكِ. والله أعلم (أخرج البخاريّ 2882 عن الرُّبَيِّع بنت معوِّذ رضي الله تعالى عنها قالت: كنا نغزو مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نَسقي ونداوي الجرحى ونردّ القتلى إلى المدينة. وأخرج مسلم في صحيحه1810/ 135 عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يغزو بأم سُليم ونسوةٍ من الأنصار معه إذا غزا، فيَسقينَ الماءَ ويُداوينَ الجرحى.
قال الحافظ في الفتح 6/174: فيه جوازُ معالجة المرأة الأجنبيةِ الرجلَ الأجنبيَّ للضرورة. قال ابن بطّال: ويَختصّ ذلك بذوات المحارم ثم بالمُتَجَالّات منهنَّ؛ لأن موضع الجرح لا يُلتذّ بلمسه بل يَقشعرّ منه الجلد، فإن دعت الضرورة لغير المُتَجَالّات فليكن بغير مباشرة ولا مَسٍّ، ويدلُّك على ذلك اتفاقُهم على أن المرأة إذا ماتت ولم توجد امرأة تغسّلها أن الرجل لا يباشر غُسلَها بالمَسّ بل يغسِّلها من وراء حائل في قول بعضهم كالزهريّ، وفي قول الأكثر تُيَمَّم، وقال الأوزاعيّ: تُدفن كما هي. قال ابن المنيِّر: الفرق بين حال المداواة وغُسل الميت أن الغُسل عبادة، والمداواة ضرورة، والضرورات تبيح المحظورات اهـ.(1/58)
وقال الحافظ في موضع آخر من الفتح 11/280: وأما حكم المسألة، فتجوز مداواة الأجانب عند الضرورة، وتقدر بقدرها فيما يتعلق بالنظر والجَسّ باليد وغير ذلك).(1/59)
عورة المرأة
السؤال: ما حدود عورة المرأة؟
الجواب: إن ستر الجسم أمر شرعيّ لا جدال فيه، والعلماء قد اتفقوا على أن جسم المرأة كله عورة. ومنهم من قال: ما عدا كفَّيها ووجهَها. وقد زاد أبو حنيفة: ورجلَيها حتى الكعبَين. إذًا فلا يجوز شرعًا للمرأة أن تكشف إلّا عما قال به العلماء، وهذا هو المفهوم من قوله تعالى: (يا أيها النبيّ قُل لأزواجِك وبناتِك ونساءِ المؤمنين يُدنِينَ عليهنَّ من جلابِيبِهنَّ ذلك أدنَى أن يُعرَفنَ فلا يُؤذَينَ وكان اللهُ غفورًا رحيمًا) (الأحزاب: 59) وفي الحديث أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لأسماء بنت أبي بكر: "يا أسماء، إن المرأة إذا بلَغَت المَحيضَ لا يجوز لها أن تُظهر إلا كفَّيها ووجهَها" (روى أبو داود 4104 عن عائشة رضي الله تعالى عنه أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما دخلت على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال: "يا أسماء، إن المرأة إذا بلَغَت المَحيضَ لم يصلُح أن يُرى منها إلا هذا وهذا" وأشار إلى وجهه وكفَّيه. وصححه الألبانيّ في صحيح أبي داود 3458).(1/60)
نظر المرأة إلى عورة المرأة
السؤال: هل يجوز للمرأة أن ترى عورة المرأة؟
الجواب: نظرة المرأة إلى عورة المرأة والرجل إلى عورة الرجل حرام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "احفَظ عورَتَك إلا من زوجتِك أو ما ملَكَت يمينُك". وكذا المرأةُ تَحفظ عورتَها إلا عن زوجها فقط (روى أبو داود 4017 والترمذيّ 2794 عن بَهز بن حكيم عن أبيه عن جده ـ رضي الله تعالى عنهم ـ قال: قلت: يا رسول الله، عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: "احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك" قال: قلت: يا رسول الله، إذا كان القوم بعضهم في بعض؟ قال: "إن استطعت ألّا يَرَيَنَّها أحدٌ فلا يَرَيَنَّها" قال: قلت: يا رسول الله، إذا كان أحدنا خاليًا؟ قال: "الله أحق أن يُستحيَى منه من الناس". وحسنه الألبانيّ في صحيح أبي داود 3391).(1/61)
العروس وخلع الحجاب ليلة الزفاف
السؤال: هل يَحرُم على العروس أن تخلع حجابها ليلة العرس؟
الجواب: إن كان الزفاف وسط جمع من النساء المؤمنات فمباح أن تفعل هذا، أما الزفاف الذي نراه الآن من اختلاط الرجال بالنساء فيَحرُم أن تَخلع العروس حجابها (ذلك إشارة إلى ما تقدم من كشف العورات وإظهار الزينة لغير المحارم، نسأل الله العفو والعافية).(1/62)
الطاعة في غير ما أحلّ الله
السؤال: لقد هداني الله أن ألتزم بالزيّ الإسلاميّ، ولكن والدتي لا تحب ذلك وتمنعني من ارتدائه، وأنا أعلم جيدًا أن طاعة والدتي فرضٌ عليَّ، فكيف أوفِّق بين الطاعتَين؟
الجواب: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" والحجاب مفروض على نساء جميع المؤمنين، وهو واجب شرعيّ محتَّم للتعفف والتستر والاحتشام، فلا تعودي إلى الفتنة بعد إذ نجّاك الله منها، وحاولي أن تُقنعي والدتك بأنك تُنفّذين أمر الله وتَصُونين نفسك، وعن طريق المناقشة الهادئة يمكنك أن تكسبي رضاء والدتك، ولا تخرجي عن طاعتها إلا إذا أصرّت على رأيها (أخرج مسلم 1839/ 39 والترمذيّ 1707 عن ابن عمر ـ رضي الله تعالى عنهما ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "على المرء المسلم السمعُ والطاعةُ فيما أحَبّ وكَرِهَ إلا أن يؤمَر بمعصية، فإن أُمِرَ بمعصية فلا سَمعَ ولا طاعةَ". وفي رواية عند البخاريّ 2796: "السمع والطاعة حقٌّ ما لم يؤمَر بالمعصية، فإذا أُمر بمعصية فلا سَمعَ ولا طاعةَ").(1/63)
أهل الزوج وحجاب المرأة
السؤال: هل مباح للمرأة المتزوجة أن تكشف الحجاب أمام أهل زوجها؟
الجواب: يمكننا بإيجاز توضيحُ من لا يصحّ له رؤيةُ المرأة بدون حجاب بأنه: كل رجل أجنبيّ عنها كان يصحّ له الزواج بها. وهذا لا يعني أن زواج المرأة يُبيح لها التحلُّل من الحجاب أمام غير محارمها بل يجب أن تلتزم بالحجاب من سنّ البلوغ، ويظل الحجاب واجبًا عليها حتى تصبح في سنٍّ لا يُرجَى زواجُها أو طلبُها، وهنَّ من جاء ذكرهنَّ في القرآن الكريم بقوله تعالى: (والقواعدُ من النساء اللاتي لا يَرجُون نكاحًا) (النور:60) ولا تظن المرأة أن الزواج يُحصِّنها من أعين الرجال، فمن لا يخاف الله ولا يخشاه لا يختلف عنده الأمر ولا يفرق بين المرأة المتزوجة أو غير المتزوجة (أخرج البخاريّ 5232 ومسلم 2172/20 عن عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "إياكم والدخولَ على النساء" فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أفرأيتَ الحَمْوَ؟ قال: "الحَمْوُ: الموت").(1/64)
النساء والتبعية للغرب
السؤال: هل سلب الإسلام حقوق المرأة كما يزعم البعض؟
وبماذا نقول للذين تأثروا بالمدنية الغربية؟
الجواب: المدنية الغربية تُفقد المرأةَ خواصَّها، فما هي الخواصُّ الأولى للإنسان؟
هي شكلُه وسَمْتُه ثم اسمُه. فحينما تتزوج المرأة في أوربا تُنسب إلى زوجها فيقولون "مدام فلان" وليس من حقها أن تحتفظ حتى باسمها واسم أبيها أو اسم أمها. وعندما جاء المقلِّدون في البلاد العربية والإسلامية في أوائل النهضة الحديثة ووجدوا هذا التقليد شائعًا عزَّ عليهنَّ أن يَنسَينَ اسمَهنَّ وقَبِلنَ أن يَنسَينَ أسماءَ آبائهنَّ وأسماءَ عائلاتهنَّ، واستمرت المرأة تحتفظ باسمها فقط، قالوا "هدى شعراوي" أخَذَت اسمها "هدى" ونسبته إلى زوجها "علي باشا شعراوي" لم يَهُنْ عليها أن تترك اسمها، ولكن في أوربا وأمريكا تترك اسمها واسم أبيها واسم أسرتها وتتسمّى باسم زوجها! فأيُّ حق وأيّة مساواة للمرأة بعد أن تُسلَب اسمَها؟
ولكن في الإسلام زوجات الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو أشرف الخلق وتتشرف بالنسبة إليه أية امرأة، لم يقولوا "مدام محمد بن عبد الله" لم يقولوا "زوجة محمد" ولكنهم قالوا "عائشة بت أبي بكر. حفصة بنت عمر. زينب بنت جحش" رضي الله تعالى عنهنَّ أجمعين، احتَفَظْنَ بأسمائهنَّ وأسماء آبائهنَّ.
وبعد ذلك يأتي المفتونون ويقولون: نريد أن نكون مثل الغرب!(1/65)
والغرب لم يُعط المرأةَ حقًّا لا في اسمها ولا في مالها، ولكن الحرية التي أخذتها المرأة كانت بسبب الحرب؛ عندما جنَّدوا الذكور للحرب احتاجوا إلى المرأة لتحُلَّ محلَّهم في العمل المدنيّ، فأعطَوها بعضَ الحقوق ليحصلوا على إنتاج من عملها (قال السيد محمد رشيد رضا في ختام ندائه إلى الجنس اللطيف: ألا يا معشر الجنس اللطيف، هاأنتُنَّ أُولاءِ قد عَلِمتُنَّ من هذه الرسالة الوجيزة أن محمدًا رسول الله وخاتم النبيِّين قد جاء بدين قويم وشرع حكيم رحيم، رفَع حَيْفَ الرجال عنكنَّ وامتهانَهم لكنَّ في جميع الأمم القديمة والحديثة وأتباع الملل السماوية والقوانين الوضعية، وأن الاهتداء بما جاء به يُذهب بما بَقيَ من الظلم لبنات جنسكنَّ في بلاد الحضارة المادية التي يشكو أخَواتُكنَّ من مصائبها وأرزائها ولا يَهتدينَ إلى النجاة منها سبيلًا، وشرُّها عليهنَّ وعلى الإنسانية إباحةُ البِغَاء والتسرِّي الباطل باتخاذ الأخدان والاتجار بأبضاع النساء بسَوْقِهنَّ كالشاء والخنازير من قُطر إلى قُطر وقذفهنَّ من حضن إلى حضن، فيا حسرة الإنسانية عليهنَّ ويالَمُصاب الفضيلة بهنَّ.(1/66)
إن الإصلاح الإسلاميّ المحمديّ يقضي بأن يكون لكل امرأة كافلٌ شرعيّ يكفيها كلَّ ما يَهُمّها لتكون بنتًا مكرَّمة فزوجًا صالحة فأمًّا مربِّية فجَدّةً معظَّمة، ومن حُرِمَت الزوجيةَ أو الأمومةَ لم تُحرَم الكفالةَ والكرامةَ. ولو نُفذ شرعُه في أوروبا والبلاد المرزوءة بسيطرتها لزال منها البِغَاء الرسميّ والتسرِّي العُهريّ، ولَمَا وُجد في أوربا عشراتُ الملايين من الأيامى المحرومات الحياة الزوجية، ومنهنَّ من يُنفِقنَ على أنفسهنَّ وعلى أولادٍ لهنَّ شرعيِّين وغير شرعيِّين، فمصائبُ النساء ورَزَاياهنَّ في تلك البلاد بالنسبة إلى مجموعهنَّ أعظمُ من رَزَاياهنَّ في البلاد التي فُتن نساؤها بتقليدهنَّ في الخلاعة والإباحة وطلب مساواة الرجال، وأولئك لم يَطلُبنَ هذه المساواةَ بالرجال في كل شيء إلا لأن الرجال قد حرَموهنَّ حقوقهنَّ الإنسانية التي قررها الإسلام.
لو علم نساءُ الإفرنج في العالَمَين القديمَ والجديدَ أحكامَ الشريعة وآدابَها، ودُوِّنَت لهنَّ بصورة قانون تَظهَر به مزاياها لَأَلَّفْنَ الأحزابَ والجمعيات للمطالبة بها وإنقاذ الحضارة من فتنة في الأرض وفساد كبير بيَّنَّاه في هذه الرسالة.
فهل للمتعلمات من المسلمات في مصر وغيرها أن يَدرُسنَ هذا الموضوع ويَسبِقنَ إلى الدعوة إلى هذا المشروع، فهو خير لهنَّ ولأُمَّتهنَّ وللإنسانية من افتتانهنَّ بتقليد نساء الإفرنج فيما يَطلُبنَ من إعطائهنَّ حقَّ مساواة الرجال في كل أسباب الكسب والتصرف في الأموال، والدفاع عن الأوطان، ومجالس التشريع، ودواوين الإدارة، وأخاديع السياسة، وكذا حقوق الزواج والطلاق والحمل والرضاع، حتى إذا أَبَينَ وظائفَ الحبل والولادة لا يُكْرَهنَ عليها.(1/67)
لا خير للجنس اللطيف في مساواة الرجال ومشاركتهنَّ لهم فيما يصدُّهنَّ عن حق الإنسانية عليهنَّ في بقائها بالتناسل وتربية الأطفال التي يرتقي بها البشر، وقيامُ النساء بهذه الوظائف يتوقف في هذا العصر على علوم وفنون كثيرة، روحُها جميعِها الإصلاحُ الإسلاميّ.
أيتها النسوة المسلمات المتعلمات، دَعْنَ فتنةَ السياسة واخلَعْنَ تقاليد الخلاعة، وطالِبنَ أمَّتَكنَّ وحكومَتَكنَّ ـ بعد مطالبة أنفسكنَّ ـ بتربية البنات والبنين على هداية الدين المبين والإصلاح المحمديّ العظيم، طالِبنَ الحكومة والأمة بإلزام طلبة المدارس من الذكور والإناث أداءَ الصلاة والصيام والتوسع في دروس الدين الإسلاميّ وآدابه وتاريخه ووجه تفضيله على جميع الشرائع والأديان، على الطريقة التي تَرَينَها في هذه الرسالة. طالِبنَ الحكومة بإبطال البِغَاء الجهريّ والسرّيّ وتحريم معاقرة الخمر ومنع تهتك النساء واختلاطهنَّ بالرجال في المراقص والملاهي والسباحة معهم في الحمامات البحرية. عُدْنَ إلى ما كان عليه خيرُ جَدَّاتِكنَّ في صدر الإسلام، من حضور صلاة الجماعة في المساجد، وسماع ما يُلقَى فيها من الخطب والمواعظ، وتلقِّي علم القرآن والسنة، ومساعدة الرجال في الإصلاح الحق الذي ينهض بالأمة ليظهر لسائر الأمم ولا سيما نسائها ما امتاز به الإسلام من الإصلاح العام للإنسانية، حتى يَعلَمنَ أن نبيَّها محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو مصلح النساء الأعظم، وأنه لو لم يكن رسولَ الله وخاتمَ النبيِّين الذي جاء بإكمال دين الله الذي شرَعه على ألسنة مَن سبَقه من المرسَلين لَمَا جاء للإنسانية بخير مما جاءوا به كلهم أجمعون، فتَكُنَّ بذلك شريكاتٍ لإخوانِكنَّ المجدِّدين لهداية الإسلام. وصلى الله وسلم على محمد وآله وعلى سائر النبيِّين، والحمد لله رب العالمين. حقوق النساء في الإسلام ص 148ـ 150).(1/68)
ناقصات عقل ودين
السؤال: ورد حديث عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوضح فيه أن المرأة ناقصة عقل ودين، البعض أخذ هذا الحديث لإهانة المرأة والحطِّ من كرامتها ومنزلتها في المجتمع واتهامها بالنقصان في العقل والدين!
فكيف يمكن الردّ؟
وما هو المعنى الحقيقيّ لمقاصد الحديث الشريف؟
الجواب: هكذا نرى أن وَصْفَ رسولِ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ النساءَ بأنهنَّ ناقصات عقل معناه أن المرأة تفعل أشياء بعاطفتها يقف العقل عندها.
أما مسألة الدين فهي بحكم طبيعة خَلقها تمر عليها أيام في الدنيا لا تؤدي فيها صلاة ولا صيامًا، وهذا ليس عيبًا؛ لأن الله خلقها هكذا، فهذه طبيعتها لتؤديَ مهمتها في الحياة.
إذًا فالمسألة شرح لطبيعة المرأة وليست محاولةً للانتقاص منها، وإلا ما كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أخذ برأي أمِّ سلمة في صلح الحديبية.(1/69)
إن من يحاول تفسير هذا الحديث النبويّ الشريف على أنه طعن في المرأة يكون قد جانبه التوفيق ولم يفهم معنى الحديث ولا المقصود بالنقص في العقل والدين. إن الله سبحانه وتعالى قد جعل لكل من الرجل والمرأة مهمته في الحياة وتم الخلق ليناسب هذه المهمة، فالرجل لأنه يسعى في سبيل الرزق محتاج لأن يحكّم عقله وحده دون عاطفته حتى يستطيع أن يحصل على الرزق ويوفر للأسرة احتياجاتها. والمرأة لأنها هي التي تحنُو وتربّي وهي السكن فلا بد أن تكون عاطفتها أقوى لتؤديَ مهمتَها، ومن تمام الخلق أن يكون كل مخلوق ميسرًا لما خُلق من أجله (أخرج البخاريّ 304 عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنه، ومسلم 79/132 عن عبد الله بن عمر ـ رضي الله تعالى عنهما ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر النساء، تَصدَّقنَ وأكثِرْنَ الاستغفارَ؛ فإني رأيتكنَّ أكثرَ أهل النار" فقالت امرأةٌ منهنَّ جَزْلَةٌ: وما لَنَا يا رسول الله أكثَرَ أهل النار؟ قال: "تُكثِرْنَ اللعنَ وتَكفُرنَ العشيرَ. ما رأيت من ناقصاتِ عقلٍ ودينٍ أغلَبَ لِذي لُبٍّ منكنَّ" قالت: يا رسول الله، وما نُقصان العقل والدين؟ قال: "أما نقصان العقل فشهادة امرأتَين تَعدل شهادةَ رجل، فهذا نُقصان العقل. وتَمكث اللياليَ ما تُصلي، وتُفطر في رمضان، فهذا نُقصان الدين".(1/70)
قال الحافظ في الفتح 1/541: ليس المقصودُ بذكر النقص في النساء لَوْمَهنَّ على ذلك؛ لأنه من أصل الخلقة، لكن التنبيهَ على ذلك تحذيرًا من الافتتان بهنَّ، ولهذا رتَّب العذابَ على ما ذكَر من الكفران وغيره لا على النقص، وليس نقصُ الدين منحصرًا فيما يَحصُل به الإثم بل في أعمَّ من ذلك ـ قاله النوويّ ـ لأنه أمر نسبيٌّ، فالكامل مثلًا ناقص عن الأكمل، ومن ذلك الحائضُ لا تأثم بترك الصلاة زمن الحيض لكنها ناقصةٌ عن المصلِّي. وهل تُثاب على هذا الترك لكونها مكلَّفةً به كما يُثاب المريض على النوافل التي كان يعملها في صحته وشُغل بالمرض عنها؟ قال النوويّ: الظاهر أنها لا تثاب، والفرق بينها وبين المريض أنه كان يفعلها بنية الدوام عليها مع أهليته، والحائض ليست كذلك. وعندي في كون هذا الفرق مستلزِمًا لكونها لا تُثاب وقفةٌ. وفي الحديث أيضًا مراجعةُ المتعلم لمعلمه والتابع لمتبوعه فيما لا يَظهر له معناه، وفيه ما كان عليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الخلق العظيم والصفح الجميل والرفق والرأفة زاده الله تشريفًا وتكريمًا وتعظيمًا).(1/71)
التشكيك في الزواج الإسلاميّ
بعض أعداء الإسلام يشكّكون في الزواج الإسلاميّ، فهل الإسلام يأمر أن يتزوج الرجل بأكثر من زوجة أم أنه يبيح له ذلك فقط؟
الجواب: طبعًا الأصل في التشريع هو الإباحة وليس الوجوب، أي إن الإسلام لا يوجب على الرجل أن يتزوج بأكثر من واحدة، ولكنه يبيح له ذلك إذا رأى أن حياته محتاجة إلى ذلك، وفرق كبير بين الوجوب والإباحة. إن الإسلام لا يفرض تعدد الزوجات، أي لا يفرض على الرجل أن يتزوج أكثر من امرأة ولكنه يسمح له بذلك إذا احتاج إليه.
وإذا رجعنا إلى المنطق نجده يقول: لا تعدد لشيء على شيء إلا بفائض.
فإذا دخلنا حجرة مثلًا ونحن خمسة أشخاص ووجدنا فيها خمسة مقاعد، كل منا سيجلس على مقعد، فإذا وجدنا فيه عشرة مقاعد، جلس كل منّا على مقعد وأخذ مقعدًا يستند عليه أو يريح قدمَيه فوقه أو يضع يديه عليه. إذًا لا تعدد إلا إذا كان هناك زيادة في العدد.
والمقصود بتعدد الزوجات ألاّ تبقى امرأة في المجتمع بلا زوج؛ حتى لا تحدث انحرافات وينتشر الحرام. هذه الزوجة أي الزوجة الثانية لا يمكن أن تقبل مثل هذا الزواج إلا لأنها لم تجد فرصة إلا أن تكون زوجة ثانية، فإذا كان هناك في المجتمع من يقول لها: لا تقبلي هذا الزواج. نقول له: يَسِّرْ لها أن تكون زوجة أولى. فهي اختارت أحسن الفرص بالنسبة لها وقَبِلَت أن تكون زوجة ثانية، إنها امرأة رأت من الخير أن تكون زوجة ثانية أفضل من أن تبقى بلا زواج، فما تدخُّل المجتمع في هذا!
نقطة ثانية: بالنسبة للزوجة الأولى لقد رأت أنه من الأفضل لها أن تبقى مع زوجها عن أن يطلقها، فهل من الخير أن تَبقَى في بيتها مَصُونة مكرَّمة أو أن تفقد زوجها وتعيش بلا زوج!(1/72)
إن التعدد في كثير من الأحيان يكون حافظًا للزوجة الأولى وحافظًا للزوجة الثانية، فلماذا لم تَشترط ساعةَ زواجها ألّا يتزوجَ زوجها بامرأة أخرى؟ إن من حقها أن تشترط في عقد الزواج ما تشاء، ومع ذلك لم نسمع عن امرأة واحدة اشتَرَطَت ذلك، فإن وُجدَت فذلك حقُّها.
إننا إذا أخذنا إحصائيات الحياة ثم فرضنا أن عدد الإناث وعدد الذكور متساويان، فإن أحداث الحياة تأخذ من الرجال أكثر مما تأخذ من النساء، فالمعارك والحروب يتحملها الرجال، وحياة الرجل وسعيُه للرزق يجعله يتعرض لمخاطر أكثر من المرأة. ولو تساوى عدد الرجال والنساء ثم تعرض الرجال لمخاطر الحروب للعجز أو للموت فأين تذهب الباقيات؟ ماذا يفعلن؟ إلا إذا أردنا أن يكون المجتمع مجتمعًا منحَلًّا.
وإذا أخذنا كل الأجناس التي فيها تكاثر نجد عادة أن الذكور أقل من الإناث، إذا قمنا بتفريخ مائة بيضة نجد أن عدد الديوك أقلّ بكثير من عدد الدجاجات، لماذا؟ لأنها هي التي تعطينا البيض الذي نحتاجه للإنتاج الجديد وللطعام.
وإذا غرسنا مائة نخلة، كم نخلةً ذكرًا وكم نخلةً أنثى؟ طبعا عدد النخيل الأنثى أكثر، لماذا؟ لأنه هو الذي يعطينا الثمر، يعطينا البلح ويعطينا البذور لإنتاج النخيل جديد.
وهكذا الأنثى في كل الأنواع، هي التي تعطي، والذكر مهمته التخصيب، وذكر واحد في أيّ نوع يمكن أن يقوم بعملية التخصيب هذه بالنسبة لعدد من الإناث.
ثم يأتي سؤال هامّ للذين يَشكُون من تعدد الزوجات في الإسلام:
هل ألزَمَنا الله سبحانه وتعالى أن نعدد زوجاتنا وأن نتزوج أكثر من امرأة؟
الله سبحانه لم يُلزمنا بذلك، لقد أباح سبحانه وتعالى لنا التعدد فقط، ولنا أن نأخذ بالمباح أو لا نأخذ، فلا إثم علينا إذا لم نأخذ.(1/73)
والخطأ في الضجة الحادثة حول إباحة التعدد ليس على النساء ولكن على الرجال، إنهم هم الذين قاموا بهذه الضجة، ولم يأخذوا مع إباحة الله للتعدد حَتميَّتَه في العدالة، ولو أخذوا حَتميَّة العدالة ولم تتأثر الزوجة الأولى في معيشتها وحياتها وأولادها ما كانت هناك مشكلة.(1/74)
لماذا التعدد للرجال لا للنساء؟
السؤال: يتساءل بعض الناس: لماذا أُبِيح للرجل تعدد الزوجات ولم يُبَحْ للمرأة تعدد الأزواج؟
الجواب: إن الله سبحانه وتعالى حين لم يُعْطِ المرأة حقَّ التعدد في الصنف المقابل لها إنما هو تكريم وإعزاز للمرأة؛ لأنه لم يجعلها نهبًا لكل فَحل يريد أن يطأها.
إننا في هذه الدنيا نجد في النساء من تَسمو نفوسهنَّ ويأبى حياء الواحدة منهنَّ أن تتزوج بعد وفاة زوجها رعايةً لأولادها، وحتى لا ينكشف عليها رجل آخر ولو بما أحلَّ الله لها.
إذًا فقول هذا الكلام من أهل الاستشراق إنما هو محاولة لزراعة نوع من الشهوة الهَلُوك في كيان المرأة، ويريدون أن يُدخلوا في رُوعها أن الله قد حرَمها ذلك، ونَسَوا أن الله سبحانه وتعالى قد كرم المرأة كرامة تشهد لها بأنها عفيفة وعزيزة ولا تحب أن يتعدد عليها الرجال.
وقلت مرة لمن سألني ونحن في أمريكا عن سبب حرمان المرأة من التعدد مع أنه أُحلَّ للرجل، قلت لمن سألني ذلك السؤال: سألتك بالله أعندكم في بلادكم إباحة للبِغَاء؟
قال الرجل: نعم في بعض الولايات إباحة للبِغَاء.
سألت الرجل: كيف تحتاط حكومات تلك الولايات لصحة المرأة التي تَمتَهنُ هذه المهنة؟
قال الرجل: بالكشف الصحيّ الدوريّ مرتين كل أسبوع، ومع ذلك تفاجأ المستشفيات بما لا حصر له ولا عدد من حالات الأمراض التناسلية الشديدة الفتك بالإنسان رجلًا كان أم امرأة، والكشف الدوريّ مرتين في الأسبوع حمايةٌ للرجل وللمرأة معًا.
قلت للرجل: كلامك يؤيد ما أراده الإسلام صيانةً لصحة المرأة وكرامتها، لذلك أسألك: هل هناك كشف دوريّ على المرأة المتزوجة مرة في الأسبوع أو كل شهر؟
قال الرجل: لا، لأن المتزوجة لا تتعرض لميكروب خبيث أبدًا، وإذا تعرضت له فلا بد أن زوجها قد جاء به من فعل جنسيّ خارج البيت؛ ذلك أن الميكروب لا ينتقل إلا بتعدد المرأة على عدد من الرجال وقد ينتقل من رجل فعَل فاحشة إلى زوجته.(1/75)
إذًا فقد صدَق الله خَلْقَه حين أباح للرجل أن يعدد بشروط العدالة، والتي منها كفالة المرأة ورعايتها وحفظ كرامتها، إلى آخر ما اشترَط الشرع عليه من العدل بين الزوجات، ولم يُبِحْ الإسلام التعدد للمرأة لأن فيه مهانةً لها وأمراضًا لا نهاية لها تصيب المجتمع.
يقول الحق سبحانه وتعالى: (فانكِحُوا ما طاب لكم من النساءِ مَثنَى وثُلاثَ ورُبَاعَ فإن خفتم ألّا تَعدِلوا فواحدةً) (النساء: 3) (هذا نص في إباحة التعدد، فللرجل في شريعة الإسلام أن يتزوج واحدة أو اثنتَين أو ثلاثًا أو أربعًا، يعني أن يكون له في وقت واحد هذا العدد من الزوجات، إلا أن هذه الإباحة مقصورة على الجمع بين أربع زوجات كحدّ أقصى للجمع ولا يجوز له الزيادة على الأربع، وبهذا قال المفسرون والفقهاء وأجمع عليه المسلمون ولا خلاف فيه. ولهذا كان من أسلَم في عهد النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعنده أكثر من أربع زوجات يأمره النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بإمساك أربع زوجات ويفارق الباقيات.
ولكن هل الاقتصار على زوجة واحدة أولى من التعدد؟
قال الحنابلة: ويستحب ألّا يزيد على واحدة إن حصَل بها الإعفاف؛ لما فيه من التعرض إلى المحرّم، قال تعالى: (ولن تستطيعوا أن تَعدِلوا بين النساء ولو حرَصتم) (النساء: 129) وقال صلى الله عليه وسلم: "من كان له امرأتان فمال إلى أحدهما جاء يوم القيامة وشِقُّه مائل". المفصل في أحكام المرأة والبيت والأسرة 6/286 ـ 287 كشاف القناع 3/4 والحديث رواه أبو داود 2133 والترمذيّ 1141 والنسائيّ في المجتبَى 3942 وابن ماجه 1969 وأحمد في مسنده 2/347 والدارميّ 2/143 وصححه الألبانيّ في صحيح ابن ماجه 1603).(1/76)
المتأمل لشرع الله تعالى يجد بعض الأحكام يشرعها سبحانه إما حلالًا وإما حرامًا أو مسكوتًا عنها، وفي هذه الآية لم يفرض الله سبحانه على الرجل التعدد ولكنه أحلَّه له، فمن شاء عدَّد ومن شاء اقتصر على واحدة وكلٌّ حسب قدرته ورغبته، وتحليل الله تعالى للتعدد له شروط وضوابط عرضها القرآن الكريم حتى لا يكون الأمر فوضى تختل به موازين الأسرة، هناك فرق بين أن يُلزمك الله أن تفعل وأن يُحلّ لك أن تفعل أو لا تفعل، وحين يُحلّ لك الله تعالى أن تفعل أو لا تفعل ما المرجع في فعلك؟ إنه رغبتك، هكذا يظن البعض، ولكن الحقيقة هي أنك إذا أخذت الحكم فخُذه من كل جوانبه، فلا تأخذ الحكم بالتعدد ثم تتغاضى عن الحكم بالعدالة، إذا حدث هذا فسينشأ الفساد في الأرض، وأول هذا الفساد هو تشكّك الناس في دين الله، لماذا؟ لأنك أخذت التعدد وتركت العدالة، فأنت تكون قد أخذت شقًّا من الحكم ولم تأخذ الشق الآخر وهو العدل.
الناس تَجنَح أمام التعدد، لماذا؟ لأن الناس شَقُوا كثيرًا بالتعدد، أخذوا حكم الله في التعدد وتركوا حكم الله في العدالة، والمنهج الإلهيّ يجب أن يؤخذ كله.
لماذا تكره الزوجة أن يعدد الزوج؟
لأنها وجدت أن الزوج إذا ما تزوج واحدة عليها التفت عنها كُلِّيَّة بخيره وببسمته وبحنانه إلى الزوجة الجديدة، حينئذ لا بد للمرأة أن تَكرَهَ زواج الرجل عليها بامرأة أخرى.
إن الذين يأخذون حكم الله في التعدد يجب أن يُلزموا أنفسَهم بحكم الله أيضًا في العدالة، فإن لم يفعلوا ذلك فهم يُشيعون التمرد على حكم الله، وسيجد الناس حيثيات لهذا التمرد، سيقال: انظر إلى فلان تزوج بأخرى وأهمَل الأُولى، أو ترَك أولاده دون رعاية واتجه إلى الزوجة الجديدة. فكيف تأخذ إباحة الله في شيء ولا تأخذ إلزامه سبحانه في ضوابط ذلك الشيء! إن من يفعل ذلك فهو يشكك الناس في دين الله ويجعل الناس تتمرد على شرع الله.(1/77)
إذًا فآفة الأحكام أن يؤخذ حكم جزئيّ دون مراعاة الظروف كلها، والذي يأخذ حكمًا عن الله لا بد أن يأخذ كل منهج الله.
وبالنظر إلى إنسان عدَل في العشرة وفي النفقة وفي المعيشة وفي المكان وفي الزمان، ولم يجد هناك مبررًا لأن يرجّح واحدة على أخرى، فالزوجة الأولى إن رفضت ذلك فهي لن تجد حيثية لها أمام الناس. أما عندما يكون الأمر غير ذي عدل فإنها سوف تجد الحيثية للاعتراض.
إذًا فالصراخ الذي نسمعه هذه الأيام إنما نشأ من أن البعض الذي أخذ بالتعدد أعرَض عن العدالة، والعدالة إنما تكون في الأمور التي للرجل فيها خيار، أما الأمور التي لا خيار فيها للرجل فلم يطالبه الله بها.
والكارهون للتعدد والذين في قلوبهم مرض يقولون: إن الله قال "اعدلوا" ثم حكم أننا لا نستطيع أن نعدل!
لهؤلاء نقول: هذا من سوء فهمكم للآية الكريمة؛ فالآية أحلَّت التعدد بشرط العدالة ومن لا يستطيع العدالة فلا حق له في التعدد، فهؤلاء أخذوا قوله سبحانه وتعالى: (ولن تستطيعوا أن تَعدِلوا بين النساءِ ولو حرَصتم) وتركوا قوله سبحانه: (فلا تَميلوا كلَّ المَيلِ فتَذَروها كالمعَلَّقة وإن تُصلِحوا وتَتقوا فإن اللهَ كان غفورًا رحيمًا) (النساء:129) فالله سبحانه وتعالى قد ألمح إلى عدم الاستطاعة في العدل المطلق عند البعض، ولكنه سبحانه قد أبقى الحكم ولم يُلْغِهِ لأن هناك من يستطيع أن يعدل.
ولنا أسوة حسنة في الرعيل الأول من صحابة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ والتابعين ومَن بعدهم، عدَّدوا وعدَلوا، ولا تزال طائفة من هذه الأمة على ما كان عليه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه، وحكم الله تعالى قائمٌ وباقٍ إلى يوم القيامة، قال تعالى: (فانكِحوا ما طاب لكم من النساءِ مَثنَى وثُلاثَ وربَاعَ).(1/78)
وأما تكملة الآية في قوله تعالى: (فإن خفتم ألّا تَعدلوا فواحدةً أو ما ملَكَت أيمانُكم ذلك أدنى ألّا تَعُولوا) فشرطُ مَرجِعِه شخصُ المكلَّف، بمعنى أنه إذا خاف ألّا يَعدلَ فعليه أن يَقتصر على زوجة واحدة، وإن استطاع العدل بينهم بالسوية كما أشرنا سابقًا فقد أحل الله له التعدد (وعن شروط إباحة تعدد الزوجات يقول الدكتور عبد الكريم زيدان:
الشرط الأول: العدل. قال تعالى: (فإن خفتم ألّا تَعدلوا فواحدةً) أفادت هذه الآية الكريمة أن العدل شرط لإباحة التعدد، فإذا خاف الرجل من عدم العدل بين زوجاته إذا تزوج أكثر من واحدة كان محظورًا عليه الزواجُ بأكثر من واحدة.
ولا يُشترط اليقين من عدم العدل لحرمة الزواج بالثانية بل يكفي غلبة الظن، فإذا كان غالب ظنه أنه إذا تزوج زوجة أخرى مع زوجته لم يستطع العدل بينهما حَرُمَ عليه هذا الزواج.
والمقصود بالعدل المطلوبِ من الرجل لإباحة التعدد له هو التسويةُ بين زوجاته في النفقة والكسوة والمبيت ونحو ذلك من الأمور المادية مما يكون في مقدوره واستطاعته.
أما التسوية بين زوجاته في المحبة وميل القلب ونحو ذلك من الأحاسيس فهذه الأمور غير مكلَّفٍ بها ولا مطالَبٍ بالعدل فيها بين زوجاته لأنه لا يستطيعها، وهذا هو معنى قوله تعالى: (ولن تستطيعوا أن تَعدلوا بين النساء ولو حرَصتم) ولهذا كان يقول: "اللهم هذا قَسْمي فيما أَملِك فلا تؤاخذني فيما تَملِك ولا أَملِك" أي في المحبة لبعض أزواجه أكثر من البعض الآخر. رواه أبو داود 2134 والترمذيّ 1140 والنسائيّ في المجتَبَى 3943 وابن ماجه 1917 وأحمد في المسند 6/144 وضعفه الألبانيّ في ضعيف ابن ماجه 427.(1/79)
فالعدل الذي هو شرطٌ لإباحة التعدد في قوله تعالى: (فإن خفتم ألّا تَعدلوا فواحدةً) هو العدل في الأمور المادية المستطاعة والمقدور عليها كالنفقة والكسوة والمبيت، أما العدل غير المستطاع بين الزوجات والمشار إليه في قوله تعالى: (ولن تستطيعوا أن تَعدلوا بين النساء ولو حرَصتم) فهو العدل في المحبة وميل القلب، وبهذا قال المفسرون.
والشرط الثاني لإباحة التعدد: القدرة على الإنفاق على الزوجات. أي القدرة على الإنفاق على زوجته القديمة وزوجته الجديدة. والواقع أن شرط الإنفاق على الزوجة هو شرط لزواج الرجل سواء كان هذا الزواج بالزوجة الأولى أو بالثانية، ويبقى هذا الالتزام ثابتًا في ذمة الرجل نحو زوجته ما دامت زوجتَه، ولا يسقط عنه بزواجه بأخرى بل يَزيد التزامَه التزامًا آخر بالنفقة على زوجته الثانية، فإذا كان عاجزًا عن الإنفاق على زوجته الثانية مع الأولى حرُم عليه الزواج بالثانية، وقد دل على هذا الشرط، شرط الإنفاق، قوله تعالى: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لا يَجدون نكاحًا حتى يُغنيَهم اللهُ من فضله) (النور: 33) فقد أمر الله تعالى بهذه الآية الكريمة من يَقدر على النكاح ولا يَجده بأيّ وجه وتعذَّر أن يستعفف، ومن وجوه تعذر النكاح من لا يَجد ما يَنكِح به مِن مَهر ولا قدرةَ له على الإنفاق على زوجته.(1/80)
وكذلك يُستدل على شرط الإنفاق بقوله تعالى: (فإن خفتم ألّا تَعدلوا فواحدةً أو ما ملَكَت أيمانُكم ذلك أدنَى ألّا تَعولوا) فقد رُوي عن الإمام الشافعيّ أنه قال في معنى (ألّا تَعولوا) أي ألّا يَكثُرَ عيالكم. تفسير الفخر الرازيّ 9/177 وفي هذا إشارة إلى شرط الإنفاق؛ لأن الخوف من كثرة العيال لما تؤدي إليه هذه الكثرة من ضرورة كثرة الإنفاق التي قد يَعجِز عنها من يريد الزواج بأكثر من واحدة، فيُفهم من ذلك أن القدرة على الإنفاق على الزوجات عند إرادة التعدد شرطٌ لإباحة هذا التعدد، كذلك يُستدل على شرط القدرة على الإنفاق بالحديث الصحيح عن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو قوله: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغَضّ للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وِجَاء" أخرجه البخاريّ 5066 ومسلم 1400/1 عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
فإذا لم يستطع على مؤونة الزواج لم يجُز له الزواج وإن كان هو زواجَه الأولَ، فمن باب أولَى ألّا يُباح له الزواج بالثانية وعنده زوجة إذا كان عاجزًا عن الإنفاق على الثانية مع إنفاقه على الأولى.
ثم إن الإقدام على الزيجة الثانية مع علمه بعجزه عن الإنفاق عليها مع الأُولى عملٌ يَتَّسم بعدم المبالاة بأداء حقوق الغير، ويُعتَبَر من أنواع الظلم، والظلم لا يجوز في شرعة الإسلام.
وبناءً على جميع ما تقدم يُعتبر من الظلم المحظور أن يُقدِمَ الرجل على الزواج بأخرى مع وجود زوجة عنده وعلمه بعجزه عن الإنفاق على زوجته الجديدة والقديمة. المفصل في أحكام النساء 6/287 ـ 289).(1/81)
قلنا: إن المؤمن يجب ألّا يجعل منهج الله في حركة حياته عِضِينَ، بمعنى أنه يأخذ حكمًا في صالحة ويترك حكمًا عليه، فمنهج الله يجب أن يؤخذ جملة من كل الناس؛ لأن أيّ انحراف في فرد من أفراد الأمة الإسلامية يصيب المجموع بضرر، فكل حق لك أيها المسلم واجب عند غيرك، فإن أردت أن تأخذ حقك فأَدِّ واجبَك (يقول الدكتور عبد الكريم زيدان: والحكمة من تعدد الزوجات بعد توافر شروطه، هذه الحكمة ظاهرة جلية بالنسبة للرجل والمرأة وبالنسبة للمجتمع، ونذكر فيما يلي بعض وجوه هذه الحكمة:
أولًا: قد تكون الزوجة عقيمًا أو لا تصلح للحياة الزوجية لمرضها، والزوج يتطلع إلى الذرية، وهو تطلع مشروع، ولا سبيل لذلك إلا بالزواج بأخرى.
ثانيًا: وقد لا يكفي الرجلَ زوجةٌ واحدةٌ لنشاطه الجنسيّ، والمرأة عادةً تكون معطَّلة وعاجزة عن مشاركته هذا النشاط.
ثالثًا: وقد تكون المرأة من أقارب الرجل ولا عائل لها، وهي غير متزوجة أو أرملة مات زوجها، ويرى هذا الرجل أن من أحسن الإحسان لها أن يضمَّها إلى بيته زوجةً مع زوجته الأولى، فيجمع لها الإعفاف والإنفاق عليها.
رابعًا: وقد تكون المرأة قد مات زوجها شهيدًا، وهي لا تزال شابة أو بحاجة إلى زوج، فمن الخير والصيانة لها أن تكون زوجة ثانية لزوج يرغب في نكاحها وترغب في نكاحه.
خامسًا: قد يكون في زمان معيَّن أو مكان معيَّن عددُ النساء أكثرَ من عدد الرجال، ولا سبيل إلى تصريف الزائد من عدد النساء إلا عن طريق تعدد الزوجات.
سادسًا: هناك مصالح مشروعة تدعو إلى الأخذ بالتعدد، كالحاجة إلى توثيق روابط بين عائلتَين، أو توثيق الروابط بين رئيس وبعض أفراد رعيته أو جماعته.(1/82)
سابعًا: وفي أعقاب الحروب تظهر عادةً مشكلةُ كثرةِ النساء وقلةِ الرجال بسبب فقد الأزواج والرجال، وما ينتج عن ذلك من كثرة الأرامل والنساء الأبكار مع قلة الرجال، وهذه مشكلة خطيرة جدًّا وتُلقي بثقلها على المجتمع المبتَلَى بها، ولا سبيل لحلها إلا بالتعدد.
ثامنًا: وفي التعدد كثرةُ النسل وكثرةُ الأيدي العاملة، وفي هذه الكثرةِ قوةٌ للأمة وزيادةٌ في إنتاجها ومصلحةٌ مؤكَّدة لأفراد العائلة.
اعتراض
قد يعترض البعض ويقول: إن في تعدد الزوجات وجودَ الضرائر في البيت الواحد، وما ينشأ عن ذلك أو يترتب عليه من منافسات وعداوات بين الضرائر تنعكس على مَن في البيت مِن زوج وأولاد وغيرهم، وهذا ضرر، والضرر يزال، ولا سبيل إلى منعه إلا بمنع تعدد الزوجات.
دفع الاعتراض
والجواب: أن النزاع في العائلة قد يقع بوجود زوجة واحدة، وقد لا يقع مع وجود أكثر من زوجة واحدة كما هو المشاهَد. وحتى لو سلَّمنا باحتمال النزاع والخصام على نحو أكثرَ مما قد يحصل مع الزوجة الواحدة فهذا النزاع حتى لو اعتبرناه ضررًا وشرًّا إلا أنه ضرر مغمور في خير كثير، وليس في الحياة شرٌّ محضٌ ولا خيرٌ محضٌ، والمطلوب دائمًا تغليبُ ما كثُر خيرُه وترجيحُه على ما كثُر شرُّه، وهذا القانون هو المأخوذ والملاحَظ في إباحة تعدد الزوجات.
اعتراض آخر
وقد يقال أيضًا: إن الأخذ بإباحة التعدد يهدم قاعدة المساواة بين الرجل والمرأة؛ لأن المرأة ممنوعة من تعدد الأزواج بينما يباح للرجل تعدد الزوجات، ولا سبيل إلى رفع هذا الحَيف إلا بمنع التعدد.
دفع هذا الاعتراض
والجواب: أن المساواة في الحقوق لا تعني المساواة بينهما في كل ما يُعطاه الرجل وفي كل ما تُعطاه المرأة، وإنما المساواة أن يُعطَى كل منهما ما يَستحق إعطاءه. المفصل في أحكام المرأة والبيت المسلم 6/289 ـ 291 بتصرف).(1/83)
والذين يأخذون حكم الله في إباحة التعدد عليهم أن يأخذوا حكم الله أيضًا في العدل، وإلّا فقد أعطَوا خصومَ الدين حججًا قوية في الصدّ عن سبيل الله ويُجرّئونهم على تغيير ما شرع الله بحجة ما يَرَونه من آثارِ أخْذِ حكم وإهمالِ حكم آخر.
والعدل المراد في التعدد: هو القسمة بالسوية في المكان أي أن لكل واحدة من المتعددات مكانًا يساوي مكان الأخرى وفي الزمان أي يقسم بينهنَّ في المبيت ويُعطي كلَّ واحدة حقَّها من الوقت وفي متاع المكان وفيما يخصّ الرجل من متاع نفسه. فليس له أن يجعل شيئًا له قيمة عند واحدة وشيئًا لا قيمة له عند واحدة أخرى، لا ، لا بد من المساواة، لا في متاعها فقط بل متاعك أنت أيها المسلم الذي تتمتع به عندها، حتى إن بعض المسلمين الأوائل كان يساوي بينهنَّ في النعال التي يَلبَسها في بيته، فيأتي بها من لون واحد وشكل واحد وصنف واحد؛ وذلك حتى لا تفاخر واحدة منهنَّ على الأخرى قائلة: إن زوجي يكون عندي في أحسن هندام منه عندك.
والعدالة المطلوبة هي العدالة فيما يدخل في اختيارك، لأن العدالة التي لا تدخل في اختيارك لا يكلِّف الله بها، فأنت عدَلتَ في المكان وفي الزمان وفي المتاع لكل واحدة ولكنك لا تستطيع أن تَعدل بمَيل قلبك وحب نفسك لأن ذلك ليس في قدرتك، والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "اللهم هذا قَسمي فيما أملِك، فلا تَلُمْني فيما تملِك ولا أملِك" (رواه أبو داود 2134 عن عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود 467).(1/84)
إذًا معنى قول الحق سبحانه: (ولن تَستطيعوا أن تَعدِلوا بين النساءِ ولو حرَصتم فلا تَميلوا كلَّ المَيل فتَذَروها كالمعَلَّقة وإن تُصلحوا وتَتَّقوا فإن اللهَ كان غفورًا رحيمًا) أن هناك أشياءَ لا تدخل في قدرتك ولا تدخل في اختيارك، مثال ذلك أن ترتاح نفسيًّا عند واحدة ولا ترتاح نفسيًّا عند أخرى، لكن الأمر الظاهر للكلّ يجب أن تكون فيه القسمة بالسوية حتى لا تفضِّل واحدة على الأخرى، وحتى لا تُعطيَ الكارهين لدين الله ثغرةً ينفُذون منها إلى شرع الله تعالى (قال العلامة أحمد شاكر: نبتت في عصرنا هذا الذي نحيا فيه نابتة إفرنجية العقل نصرانية العاطفة، رباهم الإفرنج في ديارنا وديارهم، وأرضعوهم عقائدهم صريحة تارة وممزوجة تارات، حتى لبَّسوا عليهم تفكيرهم وغلَبوهم على فطرتهم الإسلامية، فصار هِجِّيراهم ودَيدَنُهم أن يُنكروا تعدد الزوجات وأن يَرَوه عملًا بشعًا غيرَ مستساغ في نظرهم! فمنهم من يصرّح ومنهم من يُجَمجِم، وجاراهم في ذلك بعضُ من ينتسب إلى العلم من أهل الأزهر المنتسِبِين للدين، والذين كان من واجبهم أن يَدفعوا عنه وأن يعرِّفوا الجاهلين حقائق الشريعة.
فقام من علماء الأزهر من يمهِّد لهؤلاء الإفرنجِيِّي العقيدة والتربية للحدِّ من تعدد الزوجات ـ زَعَموا ـ ولم يدرك هؤلاء العلماءُ أن الذين يحاولون استرضاءهم لا يريدون إلا أن يُزيلوا كلَّ أثر لتعدد الزوجات في بلاد الإسلام، وأنهم لا يَرضَون عنهم إلا إن جارَوهم في تحريمه ومنعِه جملةً وتفصيلًا، وأنهم يأبَون أن يوجَد على أيّ وجه من الوجوه؛ لأنه منكَر بشع في نظر سادتهم الخواجات!
وزاد الأمر وطَمَّ حتى سمعنا أن حكومة من الحكومات التي تنتسب للإسلام وضَعَت في بلادها قانونًا منَعَت فيه تعددَ الزوجات جملةً، بل صرَّحَت تلك الحكومة باللفظ المنكَر أن تعدد الزوجات عندهم صار حرامًا!(1/85)
ولم يعرف رجال تلك الحكومة أنهم بهذا اللفظ الجريء المجرم صاروا مرتدِّين خارجين من دين الإسلام، تجري عليهم وعلى من يَرضَى عن عملهم كلُّ أحكام الردة المعروفة التي يعرفها كل مسلم، بل لعلهم يَعرفون ويدخلون في الكفر والردة عامِدِين عالِمِين.
بل إن أحد الرجال الذين ابتُليَ الأزهر بانتسابهم إلى علمائه تَجَرَّأَ مرة وكتب بالقول الصريح أن الإسلام يحرّم تعدد الزوجات، جرأةً على الله وافتراءً على دينه. واجتَرَأَ بعض من يعرف القراءة والكتابة من الرجال والنسوان فجعلوا أنفسهم مجتهدين في الدين! يَستنبطون الأحكام ويُفتون في الحلال والحرام، ويسبُّون علماء الإسلام إذا أرادوا أن يعلِّموهم ويوقفوهم عند حدهم! وأكثر هؤلاء الأجْرِيَاء من الرجال والنساء لا يعرفون كيف يتوضؤون ولا كيف يصلُّون بل لا يعرفون كيف يتطهرون، ولكنهم في مسألة تعدد الزوجات مجتهدون! بل لقد رأينا بعض من يخوض منهم فيما لا يعلم يستدل بآيات القرآن بالمعنى لأنه لا يعرف اللفظ القرآنيّ!
وعن صنيعهم هذا الإجراميّ وعن جرأتهم هذه المنكَرة وعن كفرهم البَوَاح دخَل في الأمر غيرُ المسلمين وكتبوا آراءهم مجتهدين كسابقيهم، يستنبطون من القرآن وهم لا يؤمنون به؛ ليخدعوا المسلمين ويُضلُّوهم عن دينهم، حتى إن أحد الكتاب غير المسلمين كتب في إحدى الصحف اليومية التي ظاهِرُ أَمْرِها أن أصحابها مسلمون كتب مقالًا بعنوان "تعدد الزوجات وَصمة" فشتَم بهذه الجرأة الشريعة الإسلامية وشتَم جميعَ المسلمين من بدء الإسلام إلى الآن! ولم نجد أحدًا حرّك في ذلك ساكنًا، مع أن اليقين أنْ لو كان العكسُ وأنْ لو تجرَّأ كاتب مسلم على شتم شريعة ذلك الكاتب لقامت الدنيا وقعدت، ولكن المسلمين مؤدَّبون!(1/86)
وبعد، فإن أول ما اصطَنَعوا من ذلك أنِ اصطَنَعوا الشفقة على الأسرة وعلى الأبناء خاصة وزعموا أن تعدد الزوجات سبب لكثرة المتشردين من الأطفال؛ بأن أكثر هؤلاء من آباءٍ فقراءَ تزوجوا أكثَرَ من واحدة! وهم في ذلك كاذبون، والإحصاءات التي يستندون إليها هي التي تكذِّبهم، فأرادوا أن يشرِّعوا قانونًا يحرِّم تعدد الزوجات على الفقير ويأذنون به للغنيِّ القادر! فكان هذا سَوأةَ السَّوآت؛ أن يجعلوا هذا التشريع الإسلاميَّ الساميَّ وقفًا على الأغنياء!
ثم لم ينفع هذا ولم يستطيعوا إصداره فاتجهوا وجهة أخرى يتلاعبون فيها بالقرآن، فزعموا أن إباحة التعدد مشروطة بشرط العدل، وأن الله سبحانه أخبر بأن العدل غير مستطاع، فهذه أمارة تحريمه عندهم! إذ قصَروا استدلالَهم على بعض الآية وترَكوا باقيَها (ولن تستطيعوا أن تَعدلوا بين النساء ولو حرَصتم) وترَكوا باقيَها (فلا تَميلوا كلَّ المَيل فتَذَروها كالمعلَّقة) فكانوا كالذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض!
ثم ذهبوا يتلاعبون بالألفاظ وببعض القواعد الأصولية، فسمَّوا تعدد الزوجات "مباحًا" وأن لوليِّ الأمر أن يقيِّد بعض المباحات بما يرى من القيود للمصلحة!
وهم يعلمون أنهم في هذا كله ضالُّون مضلُّون، فما كان تعدد الزوجات مما يُطلق عليه لفظ "المباح" بالمعنى العلميّ الدقيق، أي المسكوت عنه الذي لم يَرِدْ نصّ بتحليله أو تحريمه، وهو الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: "الحلال ما أحلَّ الله في كتابه، والحرام ما حرَّم الله في كتابه، وما سكَت عنه فهو مما عفَا عنه" (رواه الترمذيّ 1726 وابن ماجه 3367 وحسنه الألبانيّ في صحيح ابن ماجه 2715) بل إن القرآن نصّ صراحة على تحليله، بل جاء إحلاله بصيغة الأمر التي أصلها للوجوب (فانكِحُوا ما طاب لكم من النساء) وإنما انصرَفَ فيها الأمر من الوجوب إلى التحليل بقوله: (ما طاب لكم).(1/87)
ثم هم يعلمون علم اليقين أنه حلال بكل معنى كلمة "حلال" بنص القرآن وبالعمل المتواتر الواضح الذي لا شك فيه منذ عهد النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه إلى اليوم، ولكنهم قوم يَفترون!
وشرط العدل في هذه الآية (فإن خفتم ألّا تَعدلوا فواحدةً) شرط شخصيّ لا تشريعيّ، أعني أنه شرطٌ مَرجِعُه لشخص المكلَّف، لا يدخل تحت سلطان التشريع والقضاء، فإن الله قد أذن للرجل ـ بصيغة الأمر ـ أن يتزوج ما طاب له من النساء دون قيد بإذن القاضي أو بإذن القانون أو بإذن وليّ الأمر أو غيره، وأمره أنه إذا خاف في نفسه ألّا يَعدل بين الزوجات أن يَقتصر على واحدة، وبالبداهة أنْ ليس لأحد سلطانٌ على قلب المُريدِ الزواجَ حتى يستطيع أن يعرف ما في دَخيلة نفسه من خوف الجَور أو عدم خوفه، بل ترَك الله ذلك لتقديره في ضميره وحده. ثم علَّمه الله سبحانه أنه على الحقيقة لا يستطيع إقامة ميزان العدل بين الزوجات إقامة تامة لا يدخلها مَيل، فأمَرَه ألّا يَميل كلَّ المَيل فيَذَرَ بعضَ زوجاته كالمعلَّقة، فاكتفَى ربه منه في طاعة أمره بالعدل أن يَعمل منه بما استطاع ورَفَعَ عنه ما لم يستطع.(1/88)
وهذا العدل المأمور به مما يَتغير بتغير الظروف ومما يذهب ويجيء بما يدخل في نفس المكلَّف، ولذلك لا يُعقل أن يكون شرطًا في صحة العقد، بل هو شرط نفسيّ متعلق بنفس المكلَّف وبتصرفه في كل وقت بحسَبه. فرُبَّ رجل عزم على الزواج المتعدد وهو مُصِرُّ في قلبه على عدم العدل ثم لم ينفِّذ ما كان مصرًّا عليه وعدَل بين أزواجه، فهذا لا يستطيع أحد يَعقل الشرائعَ أن يدَّعيَ أنه خالَفَ أمرَ ربه؛ إذ إنه أطاع اللهَ بالعدل، وعزيمتُه في قلبه من قبلُ لا أثر لها في صحة العقد أو بطلانه بداهةً، خصوصًا أن النصوص كلها صريحة في أن الله لا يؤاخذ العبد بما حدَّث به نفسَه ما لم يعمل به أو يتكلم (أخرجه البخاريّ 2528 ومسلم 127/201 واللفظ له، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوَزَ لأمتي ما حدَّثَت به أنفسَها ما لم يتكلموا أو يَعملوا به").
ورُبَّ رجل تزوج زوجة أخرى عازمًا في نفسه على العدل ثم لم يفعل، فهذا قد ارتكَب الإثم بترك العدل ومخالفة أمر ربه، ولكن لا يستطيع أحد يَعقل الشرائعَ أن يَدَّعيَ أن هذا الجَور المحرَّم منه قد أثَّر على أصل العقد بالزوجة الأخرى فنقَلَه من الحلِّ والجواز إلى الحرمة والبطلان، إنما إثمه على نفسه فيما لم يَعدل، ويجب عليه طاعة ربه في إقامة العدل. وهذا شيء بَدَهيّ لا يخالف فيه من يفقه الدين والتشريع.
والقوم أصحاب هوًى رَكِبَ عقولَهم لا أصحاب علم ولا أصحاب استدلال، يحرّفون الكلم عن مواضعه ويلعبون بالدلائل الشرعية من الكتاب والسنة ما وسعهم اللعب.(1/89)
فمن ألاعيبهم أن يستدلوا بقصة عليّ بن أبي طالب حين خطَب بنتَ أبي جهل في حياة فاطمة بنت الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استُؤذِنَ في ذلك قال: "فلا آذَنُ لهم، ثم لا آذَنُ لهم، ثم لا آذَنُ لهم، إلا أن يحبَّ ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي ويَنكح ابنتَهم، فإنما ابنتي بِضعةٌ منّي، يَرِيبني ما رابَها ويؤذيني ما آذاها" ولم يسوقوا لفظ الحديث، إنما لخصوا القصة تلخيصًا مُريبًا ليستدلوا بها على أن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يمنع تعدد الزوجات! بل صرّح بعضهم بالاستدلال بهذه القصة على ما يزعم من التحريم، لعبًا بالدين وافتراءً على الله ورسوله، ثم تركوا باقيَ القصة الذي يَدمَغ افتراءهم، ولا أقول استدلالهم، وهو قول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الحادثة نفسها: "وإني لست أحرِّم حلالًا ولا أُحلّ حرامًا، ولكنْ والله لا تَجتمع بنتُ رسول الله وبنتُ عدوِّ الله مكانًا واحدًا أبدًا" واللفظان الكريمان رواهما الشيخان البخاريّ ومسلم (أخرجه البخاريّ3110، 5230 ومسلم 2449/93 من حديث المِسوَر بن مَخرَمة رضي الله تعالى عنه) فهذا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المبلِّغ عن الله والذي كلمتُه الفصلُ في بيان الحلال والحرام يصرِّح باللفظ العربيّ المُبين في أدقّ حادث يَمَسّ أحبَّ الناس إليه، وهي ابنته الكريمة السيدة الزهراء، بأنه لا يُحلّ حراما ولا يحرّم حلالًا ولكنه يستنكر أن تجتمع بنتُ رسول الله وبنتُ عدوِّ الله في عصمة رجل واحد.(1/90)
وعندي وفي فَهمي أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يمنع عليًّا من الجمع بين بنته وبنت أبي جهل بوصفه رسولًا مبلِّغًا عن ربه حكمًا تشريعيًّا، بدلالة تصريحه بأنه لا يحرّم حلالًا ولا يحلّ حرامًا، وإنما منَعه منعًا شخصيًّا بوصفه رئيسَ الأسرة التي منها عليٌّ ابن عمه وفاطمةُ ابنتُه، بدلالة أن أسرة بنت أبي جهل هي التي جاءت تستأذنه فيما طلب إليهم عليٌّ ـ رضي الله تعالى عنه ـ وكلمةُ رئيس الأسرة مطاعة من غير شك خصوصًا إذا كان ذلك الرئيس هو سيدَ قريش وسيدَ العرب وسيدَ الخلق أجمعين صلى الله عليه وسلم.
وليس بالقوم استدلالٌ أو تَحَرٍّ لما يدل عليه الكتاب والسنة، ولا هم من أهل ذلك ولا يستطيعونه، إنما بِهِم الهوى إلى شيء معين يتلَّمسون له العلل التي قد تدخل على الجاهل والغافل.(1/91)
بل إن في فلتات أقلامهم ما يكشف عن خَبيئتهم ويفضح ما يُكنّون في ضمائرهم، ومن أمثله ذلك أن موظفًا كبيرًا في إحدى وزاراتنا كتب مذكرة أضفَى عليها الصفة الرسمية ونُشرت في الصحف منذ بضع سنين، وضَع نفسَه فيها موضع المجتهدين، لا في التشريع الإسلاميّ وحده بل في جميع الشرائع والقوانين، فاجترأ على أن يعقد موازنة بين الدين الإسلاميّ في إحلاله تعددَ الزوجات وبين الأديان الأخرى ـ زعَم ـ وبين قوانين الأمم حتى الوثنية منها! ولم يجد في وجهه من الحياء ما يمنعه من الإيحاء بتفضيل النصرانية التي تحرّم تعدد الزوجات ومِن ورائها التشريعاتُ الأخرى التي تسايرها، بل يكاد قوله الصريح يُنْبِئُ عن هذا التفضيل! ونَسيَ أنه بذلك خرج من الإسلام بالكفر البَوَاح، على الرغم من أن اسمه يدل على أنه وُلد على فراش رجل مسلم. إلى ما يدل عليه كلامه من جهله بدين النصارى حتى اعتقد هذه المفاضلة! فإن اليقين الذي لا شك فيه أن سيدنا عيسى عليه السلام لم يحرّم تعدد الزوجات الحلالَ في التوراة التي جاء هو مصدِّقًا لها بنصّ القرآن الكريم، وإنما حرّمه بعض البابوات بعد عصر سيدنا عيسى بأكثر من ثمانمائة سنة على اليقين، بما جعل هؤلاء لأنفسهم من حق التحليل والتحريم الذي نعاه الله عليهم في الكتاب الكريم (اتَّخَذوا أحبارَهم ورهبانَهم أربابًا من دون الله) (التوبة: 31) والذي فسّره الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين استفسر منه عديّ بن حاتم الطائيّ الذي كان نصرانيًّا وأسلم، إذ سمع هذه الآية فقال: إنهم لم يعبدوهم! فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "بلى، إنهم حرَّموا عليهم الحلال وأحلُّوا لهم الحرام، فاتَّبَعوهم، فذلك عبادتُهم إياهم" (رواه الترمذيّ 3095 بلفظ: "أمَا إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلُّوا لهم شيئًا استحلُّوه، وإذا حرَّموا عليهم شيئًا حرَّموه" وصححه الألباني في صحيح الترمذيّ 2471).(1/92)
فيا أيها المسلمون، لا يَستدرجنَّكم الشيطان ولا يَخدعنَّكم أتباعُه وأتباعُ عابديه فتَستخِفُّوا بهذه الفاحشة التي يريدون أن يذيعوها فيكم، وبهذا الكفر الصريح الذي يريدون أن يوقعوكم فيه، فليست المسألة مسألةَ تقييدِ مباح أو مَنْعِه كما يريدون أن يوهموكم، وإنما هي مسألة في صميم العقيدة: أتُصرّون على إسلامكم وعلى التشريع الذي أنزله الله إليكم وأمَرَكم بطاعته في شأنكم كله أم تُعرِضون عنهما ـ والعياذ بالله ـ فتَتَرَدَّوا في حَمأة الكفر وتَتعرضوا لسخط الله ورسوله؟ هذا هو الأمر على حقيقته.
إن هؤلاء القوم الذين يَدْعُونكم إلى منع تعدد الزوجات لا يتورع أكثرهم عن اتخاذ العدد الجَمّ من العشيقات والأخدان، وأمرهم معروف مشهور، بل إن بعضهم لا يستحي من إذاعة مَبَاذِلِه وقاذوراته في الصحف والكتب ثم يرفع عَلَمَ الاجتهاد في الشريعة والدين ويُزرِي بالإسلام والمسلمين!
إن الله حين أحلَّ تعدد الزوجات بالنص الصريح في القرآن أحلَّه في شريعته الباقية على الدهر وفي كل زمان وكل عصر، وهو سبحانه يعلم ما كان وما سيكون، فلم يَعزُب عن علمه ـ عز وجل ـ ما وقع من الأحداث في هذا العصر ولا ما سيقع فيما يكون في العصور القادمة، ولو كان هذا الحكم مما يتغيَّر بتغيُّر الزمان كما يزعم الملحِدون الهدامون لَنَصَّ على ذلك في كتابه أو في سنة رسوله (قل أتُعلِّمون اللهَ بدينكم واللهُ يَعلم ما في السمواتِ وما في الأرضِ واللهُ بكلِّ شيءٍ عليمٌ) (سورة الحجرات: 16).(1/93)
والإسلام بريء من الرهبانية وبريء من الكهنوت، فلا يَملِك أحد أن يَنسَخ حكمًا أحكَمَه الله في كتابه أو في سُنّة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا يَملِك أحد أن يحرّم شيئًا أحلّه الله ولا أن يُحلّ شيئًا حرّمه الله، لا يملك ذلك خليفة ولا مَلِك ولا أمير ولا وزير، بل لا يَملِك ذلك جمهور الأمة، سواءٌ بإجماع أم بأكثرية، الواجب عليهم جميعًا الخضوعُ لحكم الله والسمعُ والطاعة، اسمعوا قول الله: (ولا تقولوا لِمَا تَصفُ ألسنتُكم الكذبَ هذا حلالٌ وهذا حرامٌ لِتَفتروا على اللهِ الكذبَ إن الذين يَفترون على الله الكذبَ لا يُفلحون. متاعٌ قليلٌ ولهم عذابٌ أليمٌ) (النحل:116 ـ 117) وقوله سبحانه: (قل أرأيتم ما أنزَلَ اللهُ لكم من رزقٍ فجعلتم منه حرامًا وحلالًا قل آللهُ أَذِنَ لكم أم على اللهِ تَفتَرون) (يونس: 59).
ألَا فَلَتَعلَمُنَّ أن كلَّ مَن حاوَلَ تحريمَ تعددِ الزوجات أو مَنْعَه أو تقييدَه بقيود لم تَرِدْ في الكتاب ولا في السنة فإنما يَفتري على الله الكذبَ.
ألَا فَلَتَعلَمُنَّ أن "كلَّ امرئٍ حَسيبُ نفسه" فليَنظُرِ امرُؤٌ لنفسه أنَّى يصدُر وأنَّى يَرِدُ.
وقد أبلَغتُ، والحمد لله رب العالمين. عمدة التفسير 3/102ـ 109)(1/94)
قِوامة الرجال على النساء
السؤال: قال تعالى: (الرجالُ قوّامون على النساء بما فضّل اللهُ) ماذا تعني كلمة القِوامة للرجال على النساء؟ وهل هذه القِوامة تفضيل من الله للرجال على النساء؟
الجواب: إذا قيل: إن فلانًا قائم على أمر فلان. فما معنى ذلك؟ هذا يوحي بأن هناك شخصًا جالسًا والآخر قائم، فمعنى (قوّامون على النساء) أنهم مكلَّفون برعايتهنَّ والسعي من أجلهنَّ وخدمتهنَّ، إلى كل ما تفرض القوامة من تكليفات، إذًا فالقوامة تكليف للرجل.
ومعنى (بما فضّل اللهُ بعضَهم على بعض) ليس تفضيلًا من الله ـ عز وجل ـ للرجل على المرأة كما يعتقد الناس، ولو أراد الله هذا لقال: بما فضّل الله الرجال على النساء. ولكنه قال (بما فضّل اللهُ بعضَهم على بعض) فأتى بـ "بعض" مبهَمة هنا وهناك، وهذا معناه أن القِوامة تحتاج إلى فضل مجهود وحركة وكدح من جانب الرجل ليأتيَ بالأموال، يقابلها فضل من ناحية أخرى، وهو أن المرأة لها مهمة لا يقدر عليها الرجل فهي مفضَّلة عليه فيها، فالرجل لا يحمل ولا يلد ولا يُرضع ولا يحيض، ولذلك قال تعالى في آية أخرى: (ولا تتمنَّوا ما فضَّل اللهُ به بعضَكم على بعض) (النساء: 32) لمن الخطاب هنا؟ إنه للجميع، وأتى بكلمة "بعض" أيضًا لكي يكون البعض مفضَّلًا في ناحية ومفضولًا عليه في ناحية أخرى، ولا يمكن أن نقيم مقارنة بين فردين لكل منهما مهمة تختلف عن الآخر، ولكن إذا نظرنا إلى كلٍّ من المهمتَين معًا فسنجد أنهما متكاملتان، فللرجل فضلُ القِوامة بالسعي والكدح، أما الحنان والرعاية والعطف فهي ناحية مفقودة عند الرجل لانشغاله بمتطلبات القِوامة، ولذلك فإن الله عز وجل يحفظ المرأة لتقوم بمهمتها ولا يحمِّلها القِوامة بتكليفاتها لكي تفرِّغ وقتها للعمل الشاقِّ الآخر الذي خُلقَت من أجله.(1/95)
ولكن الشارع أثبت لنا أن الرجل عليه أن يساعد المرأة، فقد كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا دخل البيت ووجد أهله منشغلات بعمل يساعدهنَّ فيه، مما يدل على أن مهمة المرأة مهمة كبرى، وعلى الرجل أن يعاونها (روى الترمذيّ 3895 وابن ماجه 1977 وابن حبان في صحيحه 4177 عن عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي. وإذا مات صاحبكم فَدَعُوه". وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح) إن المرأة تتعامل مع أرقى الأجناس على الإطلاق وهو الإنسان، فهي تربِّي سيد الوجود، بينما يتعامل الرجل مع الجماد والتراب ومع النبات والحجر والحيوان.(1/96)
ضرب المرأة بين الأمر والإباحة!
السؤال: بعض المستشرقين وأعداء الإسلام يأخذون على الإسلام ضرب المرأة بأنه نوع من الوحشية، فكيف يأمر الله به؟
الجواب: نقول لمن غابت عنه الحكمة الإلهية في الآية الكريمة: إن الله تبارك وتعالى لم يأمر بضرب النساء ولكن أباحه، وفرق كبير ـ كما قلنا ـ بين الأمر والإباحة، لقد جعله مرحلة ثالثة بعد الوعظ والتذكير بشرع الله وبعد الهجر في الفراش، مما يؤكد لنا أن المرأة هنا تكون مصرّة على فعل ما يَكرهه زوجها، وأن الموعظة معها لم تُجْدِ والهجرَ في الفراش لم ينفع وكلَّ الوسائل لم تأت بنتيجة.
والشرع هنا يشترط أن يكون الضرب غير مبرِّح، أي مجرد إيلام خفيف، بعد أن فشلت كل الطرق في إصلاحها وردها إلى الصواب.
فالله سبحانه وتعالى أوجب على المرأة طاعة زوجها؛ لما يبذله من الجهد وما يتحمله من المشقة ولما يتعرض لكثير من المضايقات، بحيث يعود إلى بيته متعَبًا منهَكًا لا يتحمل مزيدًا من المتاعب والعناد.
إن من واجب الزوجة في هذه الحالة أن تكون سكنًا لزوجها تُزيل عنه إرهاق الحياة ومتاعبها لا أن تَزيد متاعبه وتعانده؛ فإن ذلك يجعل الحياة بالنسبة له مستحيلة ويؤثر على عمله ورزقه.
والضرب ليس معناه الكراهية، ولكن معناه إظهارُ عدم الرضا عن شيء يَحدُث يُسبِّب ألمًا نفسيًّا للرجل يُقابَل بألم بدنيّ خفيف للمرأة.
قد يقول بعض الناس: إن ضرب الزوج لزوجته معناه الكراهية.
ونقول لهؤلاء: ألَا يضرب الأبُ ابنَه! أيَكرَه الأبُ ابنَه الذي هو قطعة منه!
بالطبع لا، بل إنه لا يحب شيئًا في الدنيا أكثر من ابنه، ولكنه يريد مصلحته، وقد يُسبب له ألمًا خفيفًا لِيَقيَه آلامًا كثيرة سيتعرض لها لو استمر في الطريق الخاطئ الذي يسير فيه.(1/97)
إن المجتمعات الإسلامية هي أقل المجتمعات إيذاءً للنساء، لأن الشرع الحنيف يَحُضّ الأب والزوج على الترفّق بهنَّ لضعفهنَّ وقلة حيلتهنَّ (أخرج البخاريّ 5204 عن عبد الله بن زَمْعَة رضي الله تعالى عنه عن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "لا يَجلدُ أحدكم امرأتَه جَلْدَ العبد ثم يجامعها في آخر اليوم". وقد ترجم له إمام المحدِّثين محمد بن إسماعيل البخاريّ بقوله: باب: ما يُكره من ضرب النساء، وقول الله تعالى (واضربوهنَّ) أي: ضربًا غير مبرِّح.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباريّ 1/379 ـ 380: وفي الحديث جواز تأديب الرقيق بالضرب الشديد، والإيماءُ إلى جواز ضرب النساء دون ذلك، وإليه أشار المصنف بقوله: "غير مبرِّح" وفي سياقه استبعادُ وقوع الأمرَين من العاقل؛ أن يبالغ في ضرب امرأته ثم يجامعها من بقية يومه أو ليلته، والمجامعة أو المضاجعة إنما تُستحسَن مع ميل النفس والرغبة في العشرة، والمجلود غالبًا يَنفِر ممّن جلده، فوقعت الإشارة إلى ذمّ ذلك، وأنه إن كان لا بد فليكن التأديب بالضرب اليسير بحيث لا يحصل منه النفور التام، فلا يفرّط في الضرب ولا يفرّط في التأديب.
قال المهلَّب: بيَّن ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله "جَلْدَ العبد" أن ضرب الرقيق فوق ضرب الحرِّ لِتَبايُن حالتَيهما، ولأن ضرب المرأة إنما أُبيح من أجل عصيانها زوجَها فيما يجب من حقه عليها اهـ.(1/98)
وقد جاء النهيُ عن ضرب النساء مطلقًا، فعند أحمد وأبي داود والنسائيّ، وصححه ابن حبان والحاكم، من حديث إياس بن عبد الله بن أبي ذُبَاب، بضم المعجَمة وبموحَّدَتَين الأولى خفيفة: "لا تَضرِبوا إماءَ الله" فجاء عمر فقال: قد ذَئِرْنَ النساءُ على أزواجهنَّ. فأَذِنَ لهم فضرَبوهنَّ، فأطاف بآل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نساءٌ كثير، فقال: "لقد أطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعون امرأة كلُّهنَّ يَشكينَ أزواجَهنَّ، ولا تَجدون أولئك خيارَكم". رواه أبو داود 2146 والدارميّ 2/198/ 2219 وصححه الألبانيّ في صحيح أبي داود 1879. وله شاهد من حديث ابن عباس في صحيح ابن حبان، وآخر مرسل من حديث أم كلثوم بنت أبي بكر عند البيهقيّ.
وقوله: "ذَئِرَ" بفتح المعجَمة وكسر الهمزة بعدها راء، أي نَشَز، بنون ومعجَمة وزاي. وقيل: معناه :غضب واستَبّ.
قال الشافعيّ: يَحتمل أن يكون النهيُ على الاختيار والإذنُ فيه على الإباحة، ويَحتمل أن يكون قبل نزول الآية بضربهنَّ ثم أذن بعد نزولها فيه.(1/99)
وفي قوله: "لن يَضرب خيارُكم" دلالة على أن ضربهنَّ مباح في الجملة، ومحلُّ ذلك أن يضربها تأديبًا إذا رأى منها ما يكره فيما يجب عليها فيه طاعتُه، فإن اكتفى بالتهديد ونحوه كان أفضل، ومهما أمكَنَ الوصولُ إلى الغرض بالإيهام لا يَعدل إلى الفعل، لما في وقوع ذلك من النفرة المضادة لحسن المعاشرة المطلوبة في الزوجية، إلا إذا كان في أمر يتعلق بمعصية الله. وقد أخرج النسائيّ في الباب حديث عائشة: ما ضرَب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ امرأةً له ولا خادمًا قط، ولا ضرَب بيده شيئًا قطّ إلا في سبيل الله، أو تُنتَهَكَ حُرُمات الله فيَنتَقمَ لله) رواه النسائيّ في الكبرى 5/370/ 9164 والحديث في مسلم 2328/ 79 ولفظه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ما ضرَب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ شيئًا قطّ بيده ولا امرأةً ولا خادمًا إلا أن يجاهد في سبيل الله. وما نيل منه شيءٌ قط فيَنتَقمَ من صاحبه، إلا أن يُنتَهكَ شيءٌ من محارم الله فيَنتَقمَ لله عز وجل.(1/100)
الزواج
السؤال: لماذا نتزوج؟
الجواب: إن الزواج هو أساس المجتمع، وأية حركة في الحياة وفي المجتمع تستند في الأساس على مسألة الزواج. ويريد الحق سبحانه وتعالى أن يضمن الاستقرار والسعادة للكائن الذي كرّمه واستخلفه في الأرض وجعل كل الأجناس مسخَّرة لخدمته.
يريد الحق سبحانه أن يصدُر ذلك الكائن عن ينبوع منهجيّ واحد؛ لأن الأهواء المتضاربة هي التي تُفسد حركة الحياة، فأراد أن يصدُر المجموع الإنسانيُّ كله عن ينبوع عَقَديّ واحد، وأراد أن يحميَ ذلك الينبوع من أن يتعثر بتعدد النزعات والأهواء، ولذلك ينبهنا سبحانه إلى هذا الموقف. وهو عز وجل يريد سلامة الوعاء الذي سيُوجِدُ ذلك الإنسانَ بعد الزواج، فبالزواج ينجب الإنسان وتستمر الحياة بالتكاثر، ولذلك لابد من الدقة في اختيار الينبوع الذي يأتي منه النسل، ومن هنا تأتي أهمية اختيار الرجل للزوجة المؤمنة الصالحة، وكذلك اختيار المرأة للزوج المؤمن الصالح.
إن للإنسان عمرًا محدودًا في الحياة وسينتهي؛ لذلك يجب أن يستبقيَ الإنسانُ النوعَ في غيره. كيف؟(1/101)
نحن نتزوج كي يرزقنا الله بالذرية والبنين والحفدة وتستمر الحلقات، وهذا استبقاء للنوع الإنسانيّ، والحق سبحانه يريد أن يكون الاستبقاء للنوع كريمًا؛ لذلك يأمرنا الحق سبحانه أن نستبقيَ النوع بأن نختار له الوعاء الطاهر، فإياك أن تستبقيَ نوعًا من وعاء نجس اختلَط فيه ماءُ أناس متعددين فلا يدري أحد لمن يُنسَب الولد فيصيرَ مضيَّعًا في الكون مجهول النسب، فأوضح الله للإنسان أن يختار لنفسه الوعاء النظيف ليستبقيَ النوع بكرامة. والحصول على المرأة النظيفة إنما يكون بما شرعه الله، أي بالزواج فقط (وقد حفَل القرآن الكريم والسنة النبوية بالآيات والأحاديث التي ترغب في الزواج، منها (وخلَق منها زوجَها وبَثَّ منهما رجالًا كثيرًا ونساءً) (النساء: 1) وقوله: (فانكِحوا ما طاب لكم من النساءِ مَثنَى وثُلاثَ ورُبَاعَ) (النساء: 3) وقوله: (وأَنكِحوا الأيَامَى منكم والصالحين من عبَادِكم وإمَائكم) (النور: 32) وقوله: (ومن آياته أن خلَق لكم من أنفسِكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعَل بينكم مودةً ورحمةً) (الروم: 21).
ومن السنة المطهرة، أخرج البخاريّ 5065 ومسلم 1400/1 عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغضّ للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وِجاء".
وروى ابن ماجه 1862 عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه سمع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "من أراد أن يَلقَى الله طاهرًا مطهَّرًا فليتزوَّجْ الحرائرَ". وضعفه الألبانيّ في ضعيف ابن ماجه 410.
وروى الترمذيّ 1080 عن أبي أيوب ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربع من سنن المرسلين: الحياء، والتعطر، والسواك، والنكاح". وضعفه الألبانيّ في ضعيف الترمذيّ 184.(1/102)
وأخرج مسلم 1467/ 59 عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة".
وروى ابن ماجه 1857 عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه عن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه كان يقول: "ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله عز وجل خيرًا له من زوجة صالحة إن أمَرَها أطاعته، وإن نظَر إليها سرَّته، وإن أقسَم عليها أبَرَّته، وإن غاب عنها نصَحَته في نفسها وماله". وضعفه الألبانيّ في ضعيف ابن ماجه 408.
وروى ابن ماجه 1856 عن ثوبان ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: لما نزل في الفضة والذهب ما نزل قالوا: فأيَّ المال نَتَّخذ؟ قال عمر: فأنا أعلم لكم ذلك. فأوضَعَ على بعيره فأدرَك النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأنا في أثَره، فقال: يا رسول الله، أيَّ المال نَتَّخذ؟ فقال: "ليتَّخذْ أحدُكم قلبًا شاكرًا، ولسانًا ذاكرًا، وزوجةً مؤمنةً تُعين أحدكم على أمر الآخرة". وصححه الألبانيّ في صحيح ابن ماجه 1505.
وروى الطبرانيّ 11/134/11257عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "أربعٌ من أُعطِيهُنَّ فقد أُعطيَ خيرَ الدنيا والآخرة: قلبًا شاكرًا، ولسانًا ذاكرًا، وبدنًا على البلاء صابرًا، وزوجةً لا تَبغيه حَوبًا في نفسها وماله". قال الهيثميّ في مجمع الزوائد: رواه الطبرانيّ في الكبير والأوسط، وإسناد أحدهما جيد.
الحَوب ـ بفتح الحاء المهمَلة وتُضَمّ ـ هو الإثم.(1/103)
وروى أحمد في المسند 1/168 عن سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سعادة ابن آدم ثلاثةٌ ومن شقاوة ابن آدم ثلاثةٌ؛ من سعادة ابن آدم المرأةُ الصالحةُ والمسكنُ الصالحُ والمركبُ الصالحُ، ومن شقاوة ابن آدم المرأةُ السوءُ والمسكنُ السوءُ والمركبُ السوءُ". ورواه الحاكم 2/157/ 2640 وصححه، إلا أنه قال: "والمسكن الضيق". وابن حبان في صحيحه 4032 إلا أنه قال: "أربع من السعادة: المرأةُ الصالحةُ، والمسكنُ الواسعُ، والجارُ الصالحُ، والمركبُ الهَنيءُ، وأربع من الشقاء: الجارُ السوءُ، والمرأةُ السوءُ، والمركبُ السوءُ، والمسكنُ الضيقُ". وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط البخاريّ.
وروى الحاكم في المستدرك 2/175/ 2681 والطبرانيّ في الأوسط 1/522/ 976 عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "من رزقه الله امرأة صالحةً فقد أعانه على شطر دينه فليتَّق اللهَ في الشطر الباقي". وقال الحاكم: صحيح الإسناد.
وروى الترمذيّ 1655 وابن حبان في صحيحه 4030 عن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة حقٌّ على الله عونُهم: المجاهد في سبيل الله ، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف". وقال الأرناؤوط: إسناده حسن.
وروى البيهقيّ 7/78/ 13233 والطبرانيّ في الكبير 22/366/ 920 عن أبي نَجيح رضي الله تعالى عنه أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "من كان مُوسِرًا لأن يَنكِحَ ثم لم يَنكِحْ فليس مني". قال المنذريّ: رواه الطبرانيّ بإسناد حسن والبيهقيّ، وهو مرسل، واسم أبي نجيح يَسار، بالياء المثانة تحت، وهو والد عبد الله بن أبي نَجيح المكيّ.(1/104)
وأخرج البخاريّ 5063 عن أنس بن مالك ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يسألون عن عبادة النبيّ صلى الله عليه وسلم فلما أُخبِروا كأنهم تَقَالُّوها، فقالوا: وأين نحن من النبيّ صلى الله عليه وسلم! قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال أحدهم: أما أنا فأنا أصلي الليل أبدًا. وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا. فجاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: "أنتم الذين قلتم كذا كذا؟ أمَا والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رَغب عن سنَّتي فليس منّي".
وروى أحمد في المسند 3/80 عن أبي سعيد الخدريّ ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تُنكَح المرأة على إحدى خصال ثلاث: تُنكَح المرأة على مالها، وتُنكَح المرأة على جمالها، وتُنكَح المرأة على دينها، فخُذ ذاتَ الدين والخُلُق تَرِبَت يمينك".
وأخرج البخاريّ 5090 ومسلم 1466/53 عن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "تُنكَح المرأة لأربع: لمالها ولحَسَبها ولجمالها ولِدِينها، فاظفَر بذات الدين تَرِبَت يداك".
قال المنذريّ: "تَرِبَت يداك" كلمة معناها الحث والتحريض. وقيل: هي هنا دعاء عليه بالفقر. وقيل: بكثرة الماء. واللفظ مشترك بينهما قابل لكل منهما، والآخر هنا أظهر. ومعناه: اظفَرْ بذات الدين ولا تلتفت إلى المال، أكثَرَ اللهُ مالَك. ورُوي الأول عن الزهريّ، وأن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنما قال له ذلك لأنه رأى الفقر خيرًا له من الغنى. والله أعلم بمراد نبيه صلى الله عليه وسلم.(1/105)
وفي مسند الشاميِّين 1/29/11 عن أنس ـ رضي الله تعالى عنه ـ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "من تزوَّج امرأة لعزِّها لم يَزِدْه الله إلا ذُلًّا، ومن تزوَّجها لمالها لم يَزِدْه الله إلا فقرًا، ومن تزوَّجها لحُسنها لم يَزِدْه الله إلا دناءة، ومن تزوَّجها لم يتزوَّجها إلا ليَغُضَّ بصرَه ويُحصِّنَ فَرْجَه أو يَصِلَ رَحِمَه بارَكَ الله له فيها وبارَكَ لها فيه".
وروى ابن ماجه 1859 عن عبد الله بن عمرو ـ رضي الله تعالى عنهما ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تَزوَّجوا النساءَ لِحُسنهنَّ فعسى حُسنُهنَّ أن يُرْدِيَهنَّ، ولا تزوَّجوهنَّ لأموالهنَّ فعسى أموالُهنَّ أن تُطغيَهنَّ، ولكن تزوَّجوهنَّ على الدين، ولَأَمَةٌ خَرمَاءُ سوداءُ ذاتُ دينٍ أفضلُ". وقال الألبانيّ في ضعيف ابن ماجه 409: ضعيف جدًّا.
وروى أبو داود 2050 عن معقل بن يسار ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: جاء رجل إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: يا رسول الله، إني أصبت امرأةً ذاتَ حسَب وجمال، وإنها لا تلد، أفأتزوجها؟ قال: "لا" ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثة فقال: "تزوَّجوا الوَدودَ الوَلودَ؛ فإني مُكاثرٌ بكم الأممَ". وقال الألبانيّ: حسن صحيح. صحيح أبي داود 1805).(1/106)
الزوجة الصالحة
السؤال: ما صفات المرأة الصالحة؟
الجواب: الزوجة الصالحة هي المرأة المؤمنة العابدة، التي تحفظ نفسها، وتحفظ زوجها في نفسه وعرضه، وتحفظه في ماله وولده، وهي التي تُحسن معاملة زوجها وأهلها وجيرانها، وتُحسن إدارة بيتها الذي هو مملكتها الخاصة التي جعلها الله سبحانه وتعالى ملكة متوَّجة عليه. فالزوج قد يقضي في منزله ساعات قليلة في اليوم لكن المرأة تقضي معظم وقتها في بيتها، فإن كانت صالحة صلَح البيت كله وإن كانت فاسدة فسَد البيت كله. ولم لا وهي بمثابة القلب للإنسان، فإن صلَح القلب صلَح الجسد كله وإن فسَد القلب فسَد الجسد كله وضاع صاحبه!
إن المرأة الصالحة لها عمل عظيم في حياتها وبيتها لا يَقلّ إن لم يَزِدْ عن عمل الرجل وكَدِّه في الحياة لتوفير المال، فالمرأة سكن لزوجها وحضن لأطفالها ووزيرة اقتصاد لشؤون بيتها، تعامل زوجَها ـ كما أمَرَ ربها سبحانه وتعالى ـ بالمودة والرحمة والطاعة التامة في غير معصية، وتربّي أولادها تربية إسلامية صحيحة رشيدة، فتَغرس فيهم مبادئَ الإسلام العظيم منذ الصغر فينشأون صالحين في المجتمع.
الزوجة الصالحة تقوم على شأنه، وتُعينه على طاعة ربه، وتحفظه في حضوره وغيابه، وتنصحه وتشير عليه، وتُخفّف عنه ولا تُثقل عليه، إذا نظَر إليها سرَّته، وإن دعاها أجابته، وإذا غاب عنها حفظته.(1/107)
ولذلك يجب على المسلم عند الزواج أن يختار الزوجة الصالحة المتدينة؛ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "فاظفَر بذات الدين تَرِبَت يداك" أي: امتلأت يداك بالخير وقلبك بالسعادة (أخرجه البخاريّ 5090 ومسلم 1466/53 عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "تُنكح المرأة لأربع، لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها، فاظفَر بذات الدين تَرِبَت يداك") وكذلك على المرأة ووليِّها أن يختارَا الزوجَ الصالح وإن كان فقيرًا؛ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إذا جاءكم مَن تَرضَون دينَه فزوِّجوه" (روى الترمذيّ 1084 وابن ماجه 1967 عن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا خطَب إليكم مَن تَرضَون دينَه وخُلُقَه فزوِّجوه، إلّا تفعلوا تكُنْ فتنةٌ في الأرض وفسادٌ عريض". وقال الألبانيّ في صحيح ابن ماجه 1601: حسن) فالرجل المؤمن الصالح إن أحب زوجته حَفِظها وإن كَرِهَها لم يَبخَسها حقَّها (أخرج مسلم 1496/ 11 وأحمد في المسند 2/329 عن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَفرَك مؤمنٌ مؤمنةً؛ إن كَرِهَ منها خُلُقًا رَضِيَ منها آخَرَ").(1/108)
خضراء الدِّمَن
السؤال: ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "إياكم وخضراءَ الدِّمَن"؟
الجواب: يُروَى عن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: "إياكم وخضراءَ الدِّمَن" فقيل: وما خضراء الدِّمَن؟ قال: "المرأة الحسناء في مَنبَت السُّوء" (قال ابن حجر في "تلخيص الحبير" 3/145: ذكره الرامَهُرْمُزيّ، والعسكريّ في "الأمثال" وابن عَديّ في "الكامل في الضعفاء" كلهم عن طريق الواقديّ عن يحيى بن سعيد بن دينار عن أبي وَجزة يزيد بن عبيد عن عطاء ابن يسار عن أبي سعيد الخدريّ، وقال الدارقطنيّ: لا يصح من وجه. وانظر: "سلسلة الأحاديث الضعيفة" للألبانيّ 14) وسواءٌ صح الحديث أو لم يصح فهو يعني فساد النسب إذا كان الأصل غير سليم. والدِّمَن هي آثار الإبل والغنم وأبوالها وأبعارها، فربما نبَت فيها نبات فيكون منظره حسنًا أنيقًا ومَنبَته فاسد. والمراد التحذير من الزواج بذوات المنظر الحسن والجمال الفاتن بغير دين أو خلق، فهذا يُنتج ذرية غير صالحة. فعلى المؤمن أن يبحث عن ذات الدين التي إن أمرها أطاعته وإذا نظر إليها سَّرَّته وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله (رواه ابن ماجه 1857عن أبي أمامة ـ رضي الله تعالى عنه ـ وضعفه الألبانيّ في "ضعيف ابن ماجه" 408 وروى النسائيّ في المجتَبَى 3231 عن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه: ".... والتي تَسُرُّه إذا نظر وتُطيعه إذا أمَر" وصححه الألبانيّ في صحيح النسائيّ 3030).(1/109)
زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم
السؤال: قضية شغَلَت بال كثير من أعداء الإسلام والمستشرقين، وهي زواج النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بتسع زوجات رغم أن الإسلام أباح أربع زوجات، تارة قالوا: إنه مزواج. وتارة أخرى قالوا: أباح لنفسه دون غيره من المسلمين ذلك.
فكيف يمكن الرد على تلك المزاعم؟
الجواب: الله تعالى هو الذي يزوّج رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويختار له بحكمته العليّة، والرسول ما عليه إلا أن ينفّذ أمر ربه سبحانه، فالمسألة تتعلق بالله تعالى وحكمته. ولو افترضنا جدلًا أن محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ فعَلَها فما العيب فيها! التعدد كان موجودًا قبل الإسلام ولم يُنشئه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بل كان موجودًا عند الأنبياء والرسل السابقين عليهم السلام وعند العرب أيضًا.
وإذا كان أعداء الإسلام يقولون: إن الشرع قد قصَر الزواج على أربع فقط بينما كان عند رسول الله تسع نساء، بدليل أنه أمَر مَن كان من المسلمين متزوجًا بأكثرَ من أربع أن يُمسك أربعًا ويفارقَ الباقيَ. ويقولون: لماذا لم يفعل الرسول ذلك مع نفسه؟
نقول لهم: الله حكَم بأن زوجاتِ الرسول أمهاتُ المؤمنين (وذلك إشارة لقوله تعالى: "وأزواجُه أمهاتُهم" الأحزاب: 6) وما دام الأمر كذلك فلن يستطيع أحد أن يتزوجهنَّ، إذًا فمن يطلّقها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لن تتزوج، في حين أن التي يطلّقها غيرُه ستتزوج، فهل من العدل أن تُطلَّق امرأةٌ من رسول الله لتظل بدون زواج طول عمرها!
شيء آخر، قد يظن بعض الناس أن الله وسّع لنبيّه في الزواج أو أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسّع لنفسه، وهذا خطأ؛ لأن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ضُيِّق عليه في هذا الأمر.
لماذا؟(1/110)
لأن الله تعالى أباح لكل واحد من أمته أن يتزوَّج أربعًا، وإذا مِتْنَ يأتي بغيرهنَّ، وإذا طلَّق إحداهنَّ تزوَّج غيرها، فيدور معه العدد إلى ما لا نهاية، ولكن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال له ربه: (لا يَحِلّ لك النساءُ من بعدُ ولا أن تَبدَّلَ بهنَّ من أزواج ولو أعجَبَك حُسنُهنَّ إلا ما ملَكَت يمينُك وكان اللهُ على كلِّ شيءٍ رقيبًا) (الأحزاب: 52) إذًا الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ضُيِّق عليه في هذا الأمر.
فيا قوم تنبَّهوا إلى الفرق في الاستثناء في العدد والمعدود، فهناك استثناء في العدد واستثناء في المعدود، فهل استثنَى اللهُ تعالى نبيَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أربع إلى تسع في العدد؟ لا، فقد استثناه في المعدود لا في العدد؛ لأنه لو كان استثناه في العدد لكان إذا طلَّق واحدةً جاء بأخرى مكانها ولو ماتت إحدى زوجاته تزوَّج غيرها، ولكنه ممنوع من الزواج بعد ذلك مطلقًا. إذًا الحق سبحانه استثناه في هذا المعدود بذاته بحيث لو ماتوا جميعًا ما صح لمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يتزوج.
هنا الآية تبيّن الحكمة من كل هذه القصة في قول الله تعالى: (لكي لا يكونَ على المؤمنين حَرَجٌ في أزواج أدعيائهم إذا قَضَوا منهنَّ وَطَرًا وكان أمرُ الله مفعولًا) (الأحزاب: 37) فكان لابد من حدوث هذا الأمر حتى يُنهيَ اللهُ التبنيَ وما يترتب عليه من أحكام وعادات الجاهلية.
ثم نقول: هَبْ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان له اختيارٌ في هذه العملية ولم تكن مسبقةً أو أراد الله بها شيئًا وقد حدث فرضًا، فهل نزع الله منه الرسالة أم جعله رسولًا كما هو؟
ظل رسولًا لله يتنزّل عليه وحيُه، إذًا فلا شيء فيها.
وهذا مثل الذين يقولون عن سيدنا يوسف عليه السلام: كيف همَّت به وهمَّ بها وهو نبيّ وابن نبيّ؟
كأنهم يغارون أكثر من الله، مع أنهم لو عرفوا ملابسات الموقف لما قالوا هذا لأن هذا فضول لا أصل له!(1/111)
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: (ما كان على النبيّ من حَرَج فيما فرَض اللهُ له سُنّةَ اللهِ في الذين خَلَوا من قبلُ وكان أمرُ اللهِ قدرًا مقدورًا) (الأحزاب: 38) ما دام الله هو الذي فرَضها فمن أين يأتي الحرج؟ ما دام الله فرَض فلا حَرَجَ، فالله فرَض فرضًا ونفّذه رسوله لأنه مأمور بتنفيذ أوامر الله، فلا شيء عليه.
وهذه مثل مسألة الإسراء تمامًا حينما قالوا: أتدَّعي يا محمد أنك أتيت بيت المقدس في ليلة ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهرًا؟
وهذا غباء منهم، لكنه نفَعَنا نحن الآن؛ لأن قولهم هذا أفادنا نحن الآن، إذا ناقشنا الكلام نجد أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يقل: إني سَرَيت إلى بيت المقدس في ليلة. وإنما قال: أُسرِيَ بي.
ومن الذي أسرَى به؟
الله سبحانه وتعالى.
إذًا المسألة محسومة لأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليس له دخل بالموضوع وفِعْلَه لا علاقة له بالقضية؛ لأن الفاعل هو الله، فما دام الله تعالى هو الذي أسرَى فما ذنب محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ذلك؟
ومع ذلك فهذه القضية نفَعَتنا الآن ليُعلَمَ أن الغباء يؤدي بصاحبه إلى عكس ما قصده من غبائه، فهم حين قالوا: أتدَّعي أنك أتيتَ بيت المقدس في ليلة ونحن نضرب إليها أكباد الإبل في شهر؟ بالله عليكم لو أن الرسول كان قد قال لهم إنه رأى بيت المقدس في المنام هل كانوا سيكذّبونه أو يردّون عليه هذا الرد!
إذًا هم فَهِموا وعرفوا أنه ذهب إلى بيت المقدس بشحمه ولحمه، بجسده وروحه، بدليل أنهم قارَنوا بين سفره وسفرهم الذي يظل شهرًا وهو لم يستغرق ليلة واحدة، فهذه نفَعَتنا في الرد على الذين يقولون إن الإسراء كان بالرؤيا أو بالروح دون الجسد!(1/112)
ومعنى (ما كان على النبيّ من حَرَج) أي من إثم أو مَلامة (فيما فرَض اللهُ له سُنّةَ اللهِ في الذين خَلَوا من قبل) والذين خَلَوا من قبلُ هم إخوانه من الرسل، كان عندهم كذا وكذا، أو فيما قبل الإسلام كان التعدد شائعًا ويملأ الدنيا، فلم يكن ـ صلى الله عليه وسلم ـ بِدْعًا من الرسل.
وهنا نلاحظ كلمة (فيما فرَض اللهُ له) ولم يقل: فرَض اللهُ عليه. أي: فرضُ اللهِ له في صالحه.(1/113)
من مناقب السيدة خديجة رضي الله تعالى عنها
السؤال: لقد ساندَت السيدة خديجةُ رضي الله تعالى عنها رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بداية الدعوة وآمنت به وكانت خير مُعين بعد الله تعالى له، فهل تذكُر لنا فضيلتكم شيئًا من ذلك؟
الجواب: خديجة بنت خويلد ـ رضي الله تعالى عنها ـ هي أول من آمن برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانت ـ رضي الله تعالى عنها ـ تمتلك من الفقه الإيمانيّ ما يجعلها تدرك بفطرتها أن زوجها إنما هو رسول كريم، فعندما نزل الوحي عليه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأول مرة في غار حِرَاء جاءها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو في حالة رَوع ويقول: "زمِّلوني زمِّلوني" ولما ذهبت عنه حالة الرَّوع قال لها: "لقد خشيتُ على نفسي". وكان خشية الرسول من ألّا يكون ما نزَل عليه وحيًا من السماء، لكن خديجة ـ رضي الله عنها ـ بفطرة الإيمان قالت: إنك لَتَصِلُ الرحم، وتَحمل الكَلَّ، وتُكسب المعدومَ، وتَقرِي الضيف، وتُعين على نوائب الحق، واللهِ ما يُخزيك الله أبدًا (جزء من حديث أخرجه البخاريّ 3) كان هذا استنباطًا وقياسًا.
ولو سألنا: من أين أتت خديجة ـ رضي الله عنها ـ بهذا الاستنباط والقياس؟
لقد كان لها من ذكائها ونضجها ما يجعلها تملك الحواسّ التي تجعلها تطمئنّ لصدق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما قال. أقول ذلك حتى نفهم أن زواج الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ منها وهي في سن الأربعين بينما كان عمره خمسة وعشرين عامًا إنما كان ذلك من مشيئة الرحمن سبحانه في الإعداد الإلهيّ لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم. إن الرجل العاديّ في عمر الخامسة والعشرين لا يمكن أن يفكر إلا في الزواج بمن تصغره بسنوات، لكن الله يهيئ من الظروف حتى يتم زواج خديجة بنت خويلد من محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.(1/114)
خديجة ـ رضي الله عنها ـ هي أول زوجة لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأن الرسول عندما بلغ الأربعين من عمره وتلقَّى الرسالة كان يحتاج إلى من تفهم وتقدر العبء المُلقَى على عاتقه، كان يحتاج إلى حنان المرأة الناضجة التي تجيد الفهم والقياس. لأن الله أراد لرسوله الكريم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ظروفًا تجعل من أقرب المحيطين به من هم أكثر فهمًا له. هكذا كانت خديجة رضي الله تعالى عنها.
ذلك أننا لو افترضنا أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد تزوج في بداية حياته بمن تصغره في العمر وجاءه الوحي لكان استقبالها للحدث الإيمانيّ مختلفًا. فالحدث الإيمانيّ الجليل كان لا بد أن يجد فيه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مشقة وأن يجد في ذات الوقت حنانًا ممثَّلًا في حنان زوجته الأولى السيدة خديجة رضي الله تعالى عنها وأرضاها.
نتأمل حسن استقبالها واستنباطها عندما يخبرها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمجيء الوحي وبما يقوله الملَك جبريل، فتقول له: إذا جاءك الوحي أتستطيع أن تخبرني؟
فيرد رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم.
وعندما جاء الوحي قال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لخديجة رضي الله عنها: وهل تَرَين الوحيَ؟
فأخذت خديجة رسول الله في حجرها وقالت له: هل ترى الوحيَ؟
ويرد الرسول: نعم أراه.
فأزاحت خديجة ـ رضي الله عنها ـ الخمار الذي تغطي بها رأسها وسألت النبيّ الكريم صلى الله عليه وسلم: أما زلت ترى الوحي؟
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: لا.
فتقول خديجة رضي الله تعالى عنها: اطمئن يا رسول الله، ليس ما يجيء إليك بشيطان إنما هو ملَك من عند الله.
لماذا؟
لأن خديجة ـ رضي الله عنها ـ أزاحت الخمار عن رأسها، والشيطان لا يختفي لمثل هذا التصرف، أما الملَك جبريل فهو حَييّ كريم لا ينظر إلى السافرات.
أية امرأة كانت تستطيع أن تستنبط مثل هذا الاستنباط من مثل هذا الموقف!(1/115)
أية امرأة كانت تستطيع أن تمتلك هذا القدر من الفهم والحكمة!
وتأخذ خديجة رسول الله إلى ورقة بن نوفل فيخبرهما ورقة بعد أن سمع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد حكى له ما رآه في الغار بأن هذا هو الناموس الذي كان يأتي موسى عليه السلام، وبشّره ورقة ـ رضي الله تعالى عنه ـ بأنه رسول الله هذه الأمة وشد على يده وقال له: يا ليتني فيها جَذَع، ليتني أكون حيًّا إذ يُخرجك قومك (راجع قصة زواج النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالسيدة خديجة رضي الله تعالى عنها وبدء الوحي، وذلك في كتاب "السيرة النبوية" للشيخ الإمام محمد متولي الشعراوي 101 ـ 120 وهو من إصدارات مكتبة التراث الإسلاميّ).(1/116)
شروط الخِطبة والزواج
السؤال: ما شروط الزواج والخِطبة وما آثارهما؟
الجواب: الزواج عقد لا يتم إلا بالإيجاب والقبول بشروطهما الشرعية، الإسلام يعتبر الزواج ميثاقًا عُقد على أساس التفاهم المتبادَل بين الطرفين الرجل والمرأة، وأركانه الإيجاب والقبول والشهود والإعلان، فلو أن خاطبًا ومخطوبته أعلَنَا إرادتهما بتراضيهما في الاقتران، وأشهَدَا شاهدَين معتبَرَين شرعًا، ولم يكن ثَمّةَ مانعٌ من زواجهما، تَمَّ عُقد الزواج بينهما، سواء أكان ذلك أمام مأذون أو قاض، فالزواج في هذا يعتَبَر صحيحًا من الوجهة الدينية.
ويمكن إجمال شروط الزواج والخطبة كالآتي:
1 ـ طلب الرجل امرأةً معينة للتزوج بها والتقدم إليها وإلى ذويها، والأفضل أن يرى الخاطب مخطوبته وترى المخطوبة خاطبها حتى تأتلف القلوب ولا تندم بعد فوات الوقت، فهي ليست بعقد فما زالت مخطوبة.
2 ـ ومن حق الخاطب أن ينظر إليها، أي إلى المخطوبة، مع مَحرَم لها، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اذهب فانظُر إليها فإنه أحرَى أن يؤدَم بينكما" (جزء من حديث رواه ابن ماجه 1865 والترمذيّ 1093 عن أنس بن مالك ـ رضي الله تعالى عنه ـ وصححه الألبانيّ في صحيح ابن ماجه 1511).
3 ـ لكل من الخاطب والمخطوبة العدولُ عن الخِطبة، وإذا عدَل الخاطب عن خِطبته أو رَدّت المخطوبة خاطبَها فإن الهدايا كالحُلِيّ وغيرها تُرَدّ إلى مُهديها إن كانت قائمة، أما إذا استُهلكَت كالأطعمة والعطور فلا يُرَدّ بدلها شيء.
4 ـ إن ما يدفعه الخاطب لمخطوبته على أنه من المهر ومات قبل العقد الشرعيّ يكون بوفاته حقًّا لورثته ولا شيء منه للمخطوبة شرعًا.
5 ـ إذا صارت الشبكة جزءًا من المهر اتفاقًا أو عُرفًا أخذت حُكمَه، وكان من حق ورثة الخاطب استردادُها إن كانت قائمةً، ومِثْلِها أو قِيمتِها إن كانت هالكةً أو مستَهلَكة، ما دام العقد لم يتم.(1/117)
6 ـ إذا لم تكن الشبكة جزءًا من المهر بالاتفاق أو العرف في هذه الحالة تكون هدية وهبة يمتنع الرجوع فيها بموت الواهب أو الموهوب له.(1/118)
حكم خِطبة المسلم على خِطبة أخيه
السؤال: ما رأي فضيلتكم فيمن يتقدم لخِطبة امرأة مخطوبة لآخر؟
وإذا عقد عليها الثاني هل يصح عقده؟
الجواب: رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ منَع أن يخطب الإنسان على خطبة أخيه. أمّا أن يُرفَض الخاطب الأول ثم يُعقَد الزواج برجل آخر فلا شيء فيه (روى ابن ماجه 1867 عن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنهما ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يخطب الرجل على خِطبة أخيه". وصححه الألبانيّ في صحيح ابن ماجه 1513).
ولكن يجب تحديد الخِطبة أولًا؛ لأن الناس لا تعرف حدود الخِطبة ونجدهم وقد اتفق وليّ الفتاة مع الشاب الذي يريد خِطبتها على تزويجه لها، ويتفقان على المهر مع وجود الناس كشهود، وبعد ذلك يعتقدون أن هذه خِطبة لأن المأذون الشرعيّ لم يعقد القِران على ورق موثَّق. والحقيقة أن ما تم ليس بخطبة ولكنه عقد توافرت فيه كل شروط العقد، وبعد ذلك إن اختلفَا تجدهما ينفصلان بدون طلاق، رغم أنه يجب الطلاق؛ لأن ما قد تم كان عقدًا وليس خطبة، ولذلك فإن الانفصال يجب أن يكون بطلاق وليس بأن يفسخ الخطبة. وهذا من الأخطاء الشائعة.
وهناك نوع آخر من الخطأ، وهو أن تكون الخِطبة خِطبة وليست عقدًا؛ أي أن يتفق وليّ الفتاة مع من يريد زواجها على أن يتزوجها بعد وقت يتعارفان عليه، ولكننا نجدهم يرتّبون على هذه الخِطبة ما يترتب على العقد، من الخَلوة بها والخروج معها، وغير ذلك.
وفي كلَيهما فساد عظيم في الأولى والثانية، ولا يراعَى حكم الله في كل منهما.
والخِطبة الصحيحة هي إظهار نية الزواج، وهنا لا بد من وضع حدود للعلاقة لأن الخاطب أجنبيّ عن مخطوبته لا يحق له الخَلوة بها، وما نراه من فساد هو من هذا الاختلاط.
وكذلك إذا أخذ الاتفاقُ شكلَ العقد، فإذا اختلف الطرفان ولم يتم زواجهما فلا بد للرجل أن يطلق؛ لأن الاتفاق كان عقدًا وليس خطبة.(1/119)
نظر الرجل لمن يريد الزواج منها
السؤال: أنا شاب والدي متوفًّى، وقد جاءني رجل ليخطب أختي، وكان قد رآها مرة واحدة، وطلب مني أن يجلس ليتحدث إليها وينظر إليها، فهل يجوز النظر لمن يريد الزواج منها أم لا؟
الجواب: سئل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من المغيرة بن شعبة عن امرأة خطَبها فقال: "اذهب فانظُر إليها فإنه أجدَر أن يؤدَم بينكما" (روى ابن ماجه 1866عن المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه قال: أتيت النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فذكرت له امرأة أخطبها فقال: "اذهب فانظُر إليها فإنه أجدَر أن يؤدَم بينكما" فأتيت امرأة من الأنصار فخطبتها إلى أبوَيها بقول النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكأنهما كَرِهَا ذلك، فسَمِعَتْ ذلك وهي في خِدْرِها فقالت: إن كان رسول الله قد أمَرَكَ أن تنظر فانظر وإلا فأُنشُدُك. كأنها أعظَمَت ذلك. قال: فنظرتُ إليها فتزوجتُها. فذكَر من موافقتها. وصححه الألبانيّ في صحيح ابن ماجه 1512) وإذا لم يتمكن من النظر إليها لسبب أو لآخر فعليه أن يبعث امرأة يثق بها تنظر إليها وتخبره.(1/120)
خروج المخطوبة مع خطيبها
السؤال: هل يجوز للفتاة التي وعدها شاب بالزواج، وهو على خلق، ولكن ظروفه تمنعه من التقدم لخِطبتها في وقته الحاضر، فهل يجوز لها أن تخرج معه إلى الأماكن العامة أو محادثته تليفونيًّا للتعرف عليه؟
الجواب: كل هذا لا يجوز، لا محادثته ولا الخروج معه ولا الخَلوة في بيتها بغير مَحرَم حتى ولو كان خاطبًا لها، وليس له إلا أن ينظر إليها مرة واحدة بمَحضَر من أهلها. لقد أسرَف الناس في أمور الخِطبة وحوّلوها عِشرة، وبالرغم من أن الأحداث أثبتت لهم سوء هذا النظام الذي ابتدعوه بفشل كثير من الخِطبات بعد أن يدخل الخاطب بيت مخطوبته ويخرج معها وبعد ذلك يتركها لتَجترَّ الآلام وحدها (روى أحمد في المسند 3/339 عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله تعالى عنهما ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "... ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يَخلُوَنَّ بامرأة ليس معها ذو مَحرَم منها؛ فإن الشيطان ثالثهما". وأخرج البخاريّ 5233 ومسلم 1341/424 عن ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ قال: سمعت النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يخطب يقول: "لا يَخلُوَنَّ رجل بامرأة إلا ومعها ذو مَحرَم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذى مَحرَم" فقام رجل فقال: يا رسول الله، إن امرأتي خرجت حاجَّةً، وإنى اكتُتِبتُ في غزوة كذا وكذا. قال: "انطلق فحُجَّ مع امرأتك").(1/121)
دق الطبول وإطلاق الزغاريد في الأفراح
السؤال: ما رأي الدين فيما يفعله الناس من دق الطبول وإطلاق الزغاريد وتعليق الأنوار على البيوت وما شابهها في الزواج؟
الجواب: إن الإصرار على ألّا يَعلم أحد بالزواج يجعل الزواج باطلًا، فالإعلام شرط لحماية أعراض الناس من الناس. وكل ما نراه من مظاهرة مختلفة في الأفراح، من دق الطبول وإطلاق الزغاريد ووضع الزينات والأنوار على البيوت، كل ذلك إعلام من الزواج لنحميَ أعراض الناس من ألسنة الناس. ويجب أن نعرف أن الإعلام شيء والكتابة شيء آخر، فالكتابة لحماية المصالح المدنية، من مؤخر الصداق والنفقة وما شابه ذلك أمام القضاء (روى أحمد في المسند 4/5 عن عبد الله بن الزبير ـ رضي الله تعالى عنهما ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعلِنوا النكاح" وقال الأرناؤوط 16130: حسن لغيره. ومعنى "أعلِنوا النكاح" إذاعتُه بين الناس. والإشهادُ يقوم مقام الإعلان. وقال المالكية: الإعلان فرض ولا يغني عن الإشهاد. وروى الترمذيّ 1089 عن عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعلِنوا النكاح، واجعلوه في المساجد، واضرِبوا عليه بالدفوف". وفي رواية لابن ماجه 1895: "واضرِبوا عليه بالغربال" وقال الألبانيّ في صحيح ابن ماجه 1537: ضعيف دون الشطر الأول فهو حسن. وروى النسائيّ 3316 وابن ماجه 1896 عن محمد بن خاطب ـ رضي الله تعالى عنهما ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فصلُ ما بين الحلال والحرام الدفُّ والصوتُ في النكاح" وحسّنه الألبانيّ في صحيح النسائيّ 3154).(1/122)
هل يجوز تحكُّم الآباء في تزويج البنات؟
السؤال: والدي طلَّق والدتي قبل ولادتي، وأنا أعيش مع أبي، وهو رجل متشكك للغاية، حتى إنه يمنعني من فتح النافذة ومن الخروج من البيت إلا نادرًا ويمنعني من زيارة أمي، ولقد تقدم لخِطبتي شاب ممتاز على خلق ودين انشَرَح له صدري، غير أن أبي رَفَضَه لمجرد أنه قريب والدتي، فهل إذا تزوجته في بيت أمي وبدون رضَا أبي أكون قد أغضبت الله عز وجل؟
الجواب: ليس للأب أن يتحكم ويعترض على هذا الشاب ما دامت مقاييس الإيمان موجودة فيه لمجرد أنه قريب للمرأة التي طلقها، قال الله تعالى: (ولا يَجرِمَنَّكم شَنَآنُ قومٍ على ألّا تَعدِلوا اعدِلوا هو أقربُ للتقوى) (المائدة: 8) فالإثم على الأب فقط. وللفتاة أن تجد وليًّا آخر يزوجها من هذا الشاب، خاصة أنها قد بلغت الرشد (روى النسائيّ 3217 عن عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ أن فتاة دخلت عليها فقالت: إن أبي زوَّجنى من ابن أخيه ليرفع بي خَسيسته، وأنا كارهة! قالت: اجلسي حتى يأتيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأخبرته فأرسل إلى أبيها فدعاه، فجعل الأمر إليها، فقالت: يا رسول الله، قد أجَزتُ ما صنَع أبي، ولكن أردت ان أُعلِمَ النساء أنْ ليس للآباء من الأمر شيء.
وقال الألبانيّ في ضعيف ابن ماجه 208: ضعيف شاذّ.
وأخرج البخاريّ 6546 وأبو داود 2101 وابن ماجه 1873 من حديث الخنساء أن أباها زوَّجها وهي ثيِّب، فكرهت ذلك، فأتت النبيَّ فرَدَّ نكاحها.
وأخرج مسلم 1421/66 عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "الأيِّمُ أحقُّ بنفسها من وليِّها، والبكر تُستأذن في نفسها، وإذنُها صُماتُها".(1/123)
وروى أبو داود 2099 عن ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الثيِّب أحق بنفسها من وليِّها، والبكر يَستأمرها أبوها". قال أبو داود: "أبوها" ليس بمحفوظ. وقال الألبانيّ في صحيح أبي داود 1847: صحيح بلفظ "تُستأمر" دون ذكر "أبوها".
وروى أبو داود 2100 عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "ليس للوليِّ مع الثيِّب أمر، واليتيمة تُستأمر، وصمتُها إقرارها". وقال الألبانيّ في صحيح أبي داود 1848: صحيح.
وروى أبو داود 2092 عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه إن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "لا تُنكح الثيِّب حتى تُستأمر، ولا البكر إلا بإذنها" قالوا: يا رسول الله، وما إذنها؟ قال: "أن تسكت". وقال الألبانيّ في صحيح أبي داود 1842: صحيح.
وروى أبو داود 2093 عن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تُستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكَتَت فهو إذنها وإن أبَت فلا جوازَ عليها". وقال الألبانيّ في صحيح أبي داود 1843: حسن صحيح).(1/124)
زواج المؤمن بمشركة
السؤال: لماذا اشترط الله سبحانه النكاح بين المؤمنين والمؤمنات؟
الجواب: يريد الحق ـ سبحانه وتعالى ـ أن يَضمن وَحدة العقيدة بدون مؤثِّر يؤثِّر فيها، فشَرَط في بناء اللَّبِنة الأولى للأسرة ألّا يَنكح مؤمنٌ مشركةً؛ لأن المشركة في مثل هذه الحالة ستتولى حضانة الطفل لمدة طويلة هي أطول أعمار الطفولة في الكائن الحيّ. ولو كان الأبُ مؤمنًا والأم مشركة فالأب سيكون مشغولًا بحركة الحياة فتتأصل عن طريق الأمّ معظم القيم التي تتناقص مع الإيمان.(1/125)
وأراد الحق ـ سبحانه وتعالى ـ أيضًا ألّا تتزوج المؤمنة مشركًا لأنها بحكم زواجها من مشرك ستنتقل إليه وإلى أسرته وسينشأ طفلها الوليد في بيئة شركية، فتتأصل فيه الأشياء التي تناقض الإيمان. ويريد الحق سبحانه وتعالى بهذه الصيانة ـ أي بعدم زواج المؤمن من مشركة وبعدم زواج المؤمنة من مشرِك ـ أن يحميَ الحاضنَ الأول للطفولة، وحين يحمي الحاضن الأول للطفولة يكون الينبوع الأول الذي يصدُر عنه تربيةُ عقيدةِ الطفل ينبوعًا واحدًا، فلا يتذبذب بين عقائد متعددة، لذلك جاء قوله الحق سبحانه: (ولا تَنكِحوا المشركاتِ حتى يُؤمِنَّ ولأمَةٌ مؤمنةٌ خيرٌ من مشركةٍ ولو أعجبتكم ولا تُنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبدٌ مؤمنٌ خيرٌ من مشركٍ ولو أعجبكم أولئك يَدْعُون إلى النار واللهُ يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آيته للناس لعلهم يتذكَّرون) (البقرة: 221) كل ذلك حتى يَصون الحقُّ سبحانه البيئةَ التي ينشأ فيها الوليد الجديد (قال ابن كثير في عمدة التفسير 2/92: "ولا تَنكِحوا المشركاتِ حتى يُؤمِنَّ ولأمَةٌ مؤمنةٌ خيرٌ من مشركةٍ ولو أعجبتكم ولا تُنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبدٌ مؤمنٌ خيرٌ من مشركٍ ولو أعجبكم أولئك يَدْعُون إلى النار واللهُ يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آيته للناس لعلهم يتذكَّرون) هذا تحريم من الله عز وجل على المؤمنين أن يتزوجوا المشركات من عبدة الأوثان. ثم إن كان عمومها مرادًا وأنه يدخل فيها كل مشركة من كتابية ووثنية فقد خصَّ من ذلك نساء أهل الكتاب بقوله: "والمُحصَناتُ من الذين أوتوا الكتب من قبلكم إذا آتيتموهنَّ أجورَهنَّ مُحصنِين غيرَ مسافحِين" قال ابن عباس: استُثنيَ من ذلك نساءُ أهل الكتاب. وهكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وغيرهم. وقيل: بل المراد بذلك المشركون من عبدة الأوثان ولم يُرِدْ أهلَ الكتاب بالكلِّيَّة. والمعنى قريب من الأول. والله أعلم.(1/126)
فأما ما رواه ابن جرير عن عبد الله بن عباس قال: نهى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن أصناف النساء إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات وحرَّم كلَّ ذاتِ دين غير الإسلام، قال الله عز وجل: (ومن يكفُرْ بالإيمان فقد حَبِطَ عملُه) فهو حديث غريب جدًّا ـ قال الشيخ أحمد شاكر: رواه الطبريّ 2/377 وإسناده صحيح، ولكن هذا المتن غريب جدًّا شاذّ يخالف سائر الدلائل ـ قال أبو جعفر ابن جرير رحمه الله بعد حكايته الإجماعَ على إباحة تزويج الكتابيات: وإنما كَرِهَ عمر ذلك لئلّا يَزهَد الناس في المسلمات أو لغير ذلك من المعاني. ثم روى عن شقيق قال: تزوج حذيفة يهودية، فكتب إليه عمر: خلِّ سبيلها. فكتب إليه: أتزعم أنها حرام فأخلِّيَ سبيلَها؟ فقال: لا أزعم أنها حرام، لكني أخاف أن تَعَاطَوا المومسات منهنَّ. وإسناده صحيح ـ قال الشيخ شاكر: رواه الطبريّ 2/378 وشقيق هو ابن سلمة أبو وائل التابعيّ الكبير. وكلمة "المومسات" حُرِّفَت في الطبريّ طبعة بولاق ومطبوعة ابن كثير والدّرّ المنثور "المؤمنات" وهو تحريف قبيح، وثبت على الصواب في المخطوطة الأزهرية والبيهقيّ 13984 والجصاص 1/455 والقرطبيّ 3/68 ـ وروى ابن جرير عن عمر بن الخطاب قال: المسلم يتزوج النصرانية ولا يتزوج النصرانيُّ المسلمة. قال: وهذا أصحّ إسنادًا من الأول. رواه الطبريّ 2/378 وإسناده صحيح متصل، والبيهقيّ في السنن الكبرى 13985. ورَوَى عن الحسن عن جابر بن عبد الله قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "نتزوج نساء أهل الكتاب ولا يتزوجون نساءنا" ثم قال: وهذا الخبر وإن كان في إسناده ما فيه فالقول به لإجماع الجميع من الأمة على صحة القول به. كذا قال ابن جرير. رواه الطبريّ 2/378 وقال الشيخ شاكر: حديث جابر هذا لم أجده في شيء من المراجع غير رواية الطبريّ هذه، وإسناده صحيح على الرغم من قول ابن جرير "وإن كان في إسناده ما فيه" لعله يشير إلى زَعْمِ مَن زعَم أن الحسن لم يسمع(1/127)
من جابر، والمعاصرة كافية، وقد رجح أيضًا أنه سمع منه وروَى ابن أبي حاتم عن ابن عمر أنه كَرِهَ نكاح أهل الكتاب وتأول (ولا تَنكِحوا المشركاتِ حتى يؤمِنَّ). قال البخاريّ: وقال ابن عمر: لا أعلم شركًا أعظم من أن تقول ربُّها عيسى. وقوله: (ولأمَةٌ مؤمنةٌ خيرٌ من مشركة ولو أعجبتكم) روى عبد بن حُميد عن عبد الله بن عمرو عن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "لا تَنكِحوا النساءَ لِحُسنهنَّ فعسى حُسنُهنَّ أن يُرْديَهنَّ، ولا تَنكِحوهنَّ على أموالهنَّ فعسى أموالُهنَّ أن تُطغيَهنَّ، وانكِحوهنَّ على الدين، فلأمَةٌ سوداءُ خَرْماءُ ذاتُ دين أفضلُ" والإفريقيّ ضعيف قال الشيخ شاكر: إسناده صحيح، والإفريقيّ الذي في إسناده هو عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، وهو ثقة، وقد أخطأ من ضعفه، وقد بيَّنَّا القول في توثيقه في تخريجات الطبريّ 2195 والحديث رواه ابن ماجه 1859 وزاد السيوطيّ في الدر المنثور 1/ 616 نسبته لسعيد بن منصور والبيهقيّ. وذكر البوصيريّ في زوائد ابن ماجه أنه رواه أيضًا ابن حبان في صحيحه بإسناد آخر. وضعفه الألبانيّ في ضعيف ابن ماجه 409 و"الخَرماء" المثقوبة الأُذُن. ووقع في المطبوعة "جَرداء" وهو خطأ وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "تُنكح المرأة لأربع، لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها، فاظفَر بذات الدين تَرِبَت يداك" ولمسلم عن جابر مثله أخرجه البخاريّ 5090 ومسلم 1466/53 وله عن ابن عمرٍو أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة" أخرجه مسلم 1467/59 ورواه أحمد في المسند 2/168 والنسائيّ في المجتبَى 3232 وابن ماجه 1855 وقال الشيخ شاكر: والصحابيّ راوِيهِ هو عبد الله بن عمرو العاص، ووقع هنا في المخطوطة والمطبوعة "ابن عمر" وهو خطأ من الناسخين وقوله: (ولا تُنكحوا المشركين حتى يؤمنوا) أي لا تُزوِّجوا الرجال المشركين النساءَ(1/128)
المؤمناتِ، كما قال تعالى: (لا هنَّ حِلٌّ لهم ولا هم يَحِلُّون لهنَّ) ثم قال تعالى: (ولعبدٌ مؤمنٌ خيرٌ من مشركٍ ولو أعجبكم) أي ولَرَجل مؤمن ولو كان عبدًا حبشيًّا خير من مشرك وإن كان رئيسًا سَرِيًّا (أولئك يَدْعُون إلى النار) أي معاشرتهم ومخالطتهم تبعث على حب الدنيا واقتنائها وإيثارها على الدار الآخرة، وعاقبة ذلك وخيمة (والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه) أي بشرعه وما أمَرَ به وما نهَى عنه (ويبيّن آياته للناس لعلهم يتذكّرون).(1/129)
محاذير نكاح غير المسلمة
السؤال: ما هي المحاذير التي يراها فضيلة الشيخ الإمام من زواج المسلم بغير المسلمة؟
الجواب: يقول الحق سبحانه وتعالى: (وإذا بلَغ الأطفالُ منكم الحُلُمَ فليَستأذنوا كما استأذَن الذين من قبلِهم كذلك يبيّن اللهُ لكم آيتِه واللهُ عليمٌ حكيم) (النور: 59) فكأن الطفل يظل طفلًا حتى يبلغ الحلم، فكم سَنَةً إذًا ستمر على الطفل؟ وكم سَنَةً سوف يتغذى هذا الطفل من ينابيع الشرك إن كانت أمُّه مشركة؟
إنها فترة طويلة لا يمكن بعد ذلك أن يكون مؤمنًا غير مضطرب المَلَكات، وإن صلَح مثل هذا الإنسان أن يكون مؤمنًا فسيقوم إيمانه على القصر والقسر والولاية للأب، وسيكون مثل هذا الإيمان عملية شكلية ليست مرتكِزة ولا معتمِدة على أساس صادق.
إذًا الثمرات التي يَنعم الناس بأكلها لا يكون نضجها إلا حين تَنضَج البذور التي تتكون منها أشجار جديدة، وقبل ذلك تكون مجرد فاكهةٍ فِجَّةٍ ليس لها طعم. وقد أراد الحق ـ سبحانه وتعالى ـ أن ينبهنا إلى هذا الأمر ليحرص الإنسان على استبقاء الثمرة حتى تَنضَج ويصبح لها بذور. والمرأة لا تكون ثمرة طيبة إلا إذا أنجبت مثلُها ولدًا صالحًا نافعًا.
إذًا فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يكون النشء غير مضطرب الإيمان، ولذلك يقول: (ولا تَنكحوا المشركات حتى يُؤمِنَّ) أي إياكم أن تنخدعوا بالمعايير الهابطة الفاسدة وعلى كل منكم أن يأخذ حكم الله تعالى.(1/130)
زواج المسلمة من الكتابيّ
السؤال: لماذا أباح الله عز وجل زواج المسلم من الكتابية ولم يُبِحْ زواج المسلمة من الكتابيّ؟
الجواب: إن الرجل بالفرض الطبيعيّ في كل مجتمع هو القيِّم المهيمن على شؤون الأسرة، وإذا كان مسلمًا فإنه يتعامل في إطار دين يُحتّم عليه إن أحبَّ امرأته أن يُكرمها وإذا كَرِهَها لا يظلمها، فهو مأمون عليها أمانة تجعل الحياة بينهما حياة هادئة رتيبة.
ثم الزوج الذي ائتُمِنَ على الكتابية يؤمن برسولها ولكنها على العكس ولا تؤمن برسول، وعلى هذا فلَأَن تكون المرأة تحت من يؤمن برسولها خير من أن تكون المرأة تحت من لا يؤمن برسولها. وقد رُخّص للمؤمنين في أن يَنكحوا نساء أهل الكتاب، قال الله تعالى: (اليومَ أُحِلَّ لكم الطيباتُ وطعامُ الذين أوتُوا الكتابَ حلٌّ لكم وطعامُكم حلٌّ لهم والمُحصَناتُ من المؤمناتِ والمُحصَناتُ من الذين أوتُوا الكتابَ مِن قبلِكم إذا آتيتُموهنَّ أجورَهنَّ مُحصِنِين غيرَ مُسافِحين ولا مُتَّخذِي أخدانٍ ومن يكفُرْ بالإيمان فقد حَبِطَ عملُه وهو في الآخرة من الخاسرين) (المائدة: 5).
لما كانت رسالة الإسلام هي الخاتمة والمتمِّمة لكل ما سبقها من رسالات، ولما كان من أركان الإيمانِ الإيمانُ برسل الله تعالى السابقين على رسولنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقد رخَّص الله تعالى للمؤمنين الزواجَ من أهل الكتاب، لكن لا يجوز زواجهم من بناتنا لأنهم لا يؤمنون برسولنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ لهذا وقف العلماء في مسألة ترخيص الحق سبحانه للمؤمنين في أن يتزوجوا من أهل الكتاب موقفين:
الموقف الأول: الاحتراز والاحتياط والحفاظ على الأبناء في الاعتقاد.(1/131)
الموقف الثاني: أجاز بعض العلماء أن يتزوج الإنسان من كتابية، ولا يجب عليه أن يسألها أهي تَدِينُ بأُلوهية أحد البشر أم تَدِين بإله واحد لا إله إلا هو، فإن كانت تَدِين بإله واحد فيجوز وإن كان غير ذلك فلا (قال العلامة ابن كثير: قوله "والمُحصَنات من المؤمنات" أي وأُحلَّ لكم نكاح الحرائر العفائف من النساء. وذُكر هذا توطئةً لما بعده، وهو قوله: (والمحصناتُ من الذين أوتوا الكتب من قبلكم) فقيل: أراد بالمحصناتِ الحرائرَ دون الإماء. حكاه ابن جرير عن مجاهد، وإنما قال مجاهد: المحصنات الحرائر. فيَحتمل أن يكون أراد ما حكاه عنه، ويَحتمل أن يكون أراد بالحرةِ العفيفةَ، كما قال في الرواية الأخرى عنه، وهو قول الجمهور ههنا، وهو الأشبه، لئلّا يَجتمع فيها أن تكون ذِمِّيَّة وهي مع ذلك غير عفيفة فيفسد حالها بالكُلِّيَّة ويتحصل زوجها على ما قيل في المثل "حَشَفًا وسُوء كَيلة" والظاهر من الآية أن المراد بالمحصناتِ العفيفاتُ عن الزنا، كما قال في الآية الأخرى: (مُحصَناتٍ غيرَ مُسافحاتٍ ولا مُتَّخِذات أخدانً).(1/132)
ثم اختلف المفسرون والعلماء في قوله: (والمُحصَناتُ من الذين أوتُوا الكتابَ مِن قبلِكم) هل يعمّ كلَّ كتابية عفيفة سواء كانت حرة أو أمَة؟ حكاه ابن جرير عن طائفة من السلف ممَّن فسَّر المُحصَنة بالعفيفة. وقيل: المراد بأهل الكتاب ههنا الإسرائيلياتُ. وهو مذهب الشافعيّ. وقيل: المراد بذلك الذميات دون الحربيات، لقوله: (قاتِلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرِّمون ما حرَّم اللهُ ورسولُه ولا يَدينون دينَ الحقِّ من الذين أوتُوا الكتابَ حتى يُعطُوا الجزيةَ عن يدٍ وهم صاغرون) (التوبة: 29) وقد كان عبد الله بن عمر لا يرى التزويج بالنصرانية ويقول: لا أعلم شركًا أعظم من أن تقول إن ربَّها عيسى، وقد قال الله تعالى: (ولا تَنكِحوا المشرِكاتِ حتى يُؤمِنَّ) قال: فحجز الناس عنهنَّ حتى نزلت الآية التي بعدها (والمُحصَناتُ من الذين أوتُوا الكتابَ مِن قبلِكم) فنكح الناس نساء أهل الكتاب. وقد تزوج جماعة من الصحابة من نساء النصارى ولم يَرَوا بذلك بأسًا أخذًا بهذه الآية الكريمة (والمُحصَناتُ من الذين أوتُوا الكتابَ مِن قبلِكم) فجعلوا هذه مخصِّصة للتي في سورة البقرة (ولا تَنكِحوا المشرِكاتِ حتى يُؤمِنَّ) إن قيل بدخول الكتابيات في عمومها، وإلا فلا معارضة بينها وبينها لأن أهل الكتاب قد انفصلوا في ذكرهم عن المشركين في غير موضع، كقوله تعالى: (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين مُنفَكِّين حتى تأتيَهم البينةُ) وكقوله: (وقل للذين أوتُوا الكتابَ والأُمِّيِّين أأسلمتم فإن أسلَموا فقد اهتدَوا...) الآية، وقوله: (إذا آتيتموهنَّ أجورهنَّ) أي مُهورَهنَّ، أي كما هنَّ محصَنات عفائف فابذلوا لهنَّ المُهور عن طيب نفس. وقد أفتى جابر بن عبد الله والشعبيّ والنخعيّ والحسن البصريّ بأن الرجل إذا نكَح امرأة فزَنَت قبل دخوله بها أنه يفرَّق بينهما وتَرُدُّ عليه ما بذل لها من المهر. رواه ابن جرير عنهم.(1/133)
وقوله: (مُحصِنِين غيرَ مُسافِحِين ولا متَّخِذِي أخدان) فكما شرَط الإحصانَ في النساء وهي العفة عن الزنا، كذلك شرَطها في الرجال وهو أن يكون الرجل مُحصَنًا عفيفًا، ولهذا قال: (غيرَ مُسافِحِين) وهم الزناة الذين لا يَرتدعون عن معصية ولا يردّون أنفسهم عمَّن جاءهم (ولا متَّخِذِي أخدان) أي ذوي العشيقات الذين لا يفعلون إلا معهنَّ، كما تقدم في سورة النساء.
ولهذا ذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله إلى أنه لا يصح نكاح المرأة البَغِيِّ حتى تتوب، وما دامت كذلك لا يصح تزويجها من رجل عفيف، وكذلك لا يصح عنده عقد الرجل الفاجر على عفيفة حتى يتوب ويُقلع عما هو فيه من الزنا، لهذه الآية وللحديث: "لا يَنكح الزاني المجلودُ إلا مثلَه" رواه أبو داود 2025 وصححه الألبانيّ في صحيح أبي داود 1807 عمدة التفسير 4/87 ـ 89) واحتياط المؤمن في اختيار الزوجة أمر واجب؛ لأن الحق أراد بعدم زواج المؤمن من مشركة وعدم زواج المشركة من مؤمن أن يحميَ الحاضنَ الأولَ للطفولة، وحين يحمي الحق سبحانه الحاضن الأول للطفولة فذلك حماية للينبوع الذى تصدُر عنه تربية عقيدة الطفل. والحق سبحانه يريد أن يكون ينبوع الطفل ينبوعًا واحدًا فلا يتذبذب الطفل بين عقائد متعددة. لذلك فالمؤمنة تكون مأمونة على ولدها.
وإذا كان للرجل ولايةٌ ليتزوج كتابية فإن عليه أن ينقلها إلى بيته هو؛ وذلك حتى تكون البيئة المؤثرة في تربية الطفل واحدة مع وجود الولاية للأب ووجود البيئة المؤمنة، وهي أسرة المؤمن ومجتمعه، وفي ذلك لون من الحماية لعقيدة الطفل.
ولذلك فعلى المؤمن أن يتيقظ وأن يتنبه في اختيار الزوجة؛ لأن هناك بعضًا من المسالك تتلطف في المداخل عندما يكون فيها التعب والعنت أثناء الحياة على هذه المسالك، ولذلك فمن الحياة أن تبتعد عن الزواج بغير المسلمة.(1/134)
المحرَّمات من النساء
السؤال: مَن النسوة اللاتي يحرُم على المسلم الزواج بإحداهنَّ؟
الجواب: قال الله سبحانه وتعالى: (ولا تَنكِحوا ما نكَح آباؤُكم من النساءِ إلا ما قد سلَف إنه كان فاحشةً ومقتًا وساء سبيلًا. حُرِّمَت عليكم أمهاتُكم وبناتُكم وأخواتُكم وعماتُكم وخالاتُكم وبناتُ الأخ وبناتُ الأخت وأمهاتُكم التي أرضَعنَكم وأخواتُكم من الرَّضاعةِ وأمهاتُ نسائكم ورَبَائبُكم اللاتي في حُجُورِكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهنَّ فإن لم تكونوا دخلتم بهنَّ فلا جُناحَ عليكم وحَلائلُ أبنائكم الذين من أصلابِكم وأن تَجمعوا بين الأختَين إلا ما قد سلَف إن اللهَ كان غفورًا رحيمًا. والمُحصَنات من النساءِ إلا ما ملَكت أيمانُكم كتابَ اللهِ عليكم وأُحِلَّ لكم ما وراءَ ذلكم أن تَبتغوا بأموالِكم مُحصِنِين غيرَ مُسافِحِين فما استمتعتم به منهنَّ فآتوهنَّ أجورَهنَّ فريضةً ولا جُناحَ عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن اللهَ كان عليمًا حكيمًا) [النساء: 22 ـ 24] (روى الطبريّ في التفسير 4/ 318 عن ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ قال: كان أهل الجاهلية يحرِّمون ما يَحرُم إلا امرأةَ الأب والجمعَ بين الأختَين. قال: فأنزل الله عز وجل "ولا تَنكِحوا ما نكَح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلَف" و"وأن تَجمَعوا بين الأختَين". وقال العلامة ابن كثير: قوله تعالى "ولا تَنكِحوا ما نكَح آباؤكم من النساء..." الآيةِ، يحرِّم الله تعالى زوجات الآباء تكرمةً لهم وإعظامًا واحترامًا أن تُوطَأ من بعده، حتى إنها لَتَحرُم على الابن بمجرد العقد عليها، وهذا أمر مجمع عليه تفسير الطبريّ 4/318
عقوبة من نكح امرأة أبيه(1/135)
عن البراء قال: لقيت عمي ومعه راية، فقلت له: أين تريد؟ قال: بعثني الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى رجل نكَح امرأةَ أبيه، فأمَرَني أن أضرب عنقه وآخُذَ ماله تفسير ابن كثير 1/443 والحديث صحيح لشواهده، رواه الدارميّ 2236 والحاكم في المستدرك 4/357 والبيهقيّ في السنن الكبرى 12459 وعبد الرزاق في المصنف 10804 والنسائيّ في الكبرى 5489/2)
عندما يأتي في القرآن مبنيّ للمجهول فيُصرف الفاعل إلى الفاعل الحقيقيّ وهو الله، فالله سبحانه هو الذي يحرّم، إذ يقول: (حُرِّمَت عليكم أمهاتُكم) ولكن حين توجد غفلة عن الدين فإننا نجد أن التحريم موجود بالفطرة التي فطر الله الناس عليها. والمنهج جاء لإعلاء فطرة الله الذي جعل التحريم والتحليل لطهارة المجتمع من الدنس. ومنهج السماء من قديم أنزله الله يوم أنزَل آدمَ للحياة على هذه الأرض، قال تعالى: (قال اهبِطَا منها جميعًا بعضُكم لبعضٍ عدوٌّ فإما يأتينَّكم منّي هدًى فمن اتَّبَعَ هُدَايَ فلا يَضلُّ ولا يَشقَى) (طه: 123) وهو منهج مستوفٍ لمطالب الواقع والأعراف والقوانين.
والعلوم الحديثة أعانتنا في فهم كثير من أحكام الله؛ لأنهم وجدوا أن كل تكاثُر سواء أكان في النبات أو في الحيوان بالاستقراء نجده في الإنسان أيضًا، هذا التكاثر كلما ابتعد النوعان الذكر والأنثى يجيء النسل وهو ثمرةُ التكاثر قويًّا في صفاته. العلم الحديث وجد أن الذكورة والأنوثة من أيّ كائن نبات أو حيوان أو إنسان إن وُجدَت بينهما قرابة فإن النسل يكون ضعيفًا، ولذلك نجد في الزراعة وعلوم الحيوان اصطلاحًا اسمه "التهجين" أي يأتون للأنوثة بذكورة بعيدة عنها، وكان الشاعر العربيّ يعرف ذلك قبل مجيء الإسلام فقال:
أنصَحُ من كان بعيدَ الهَمّ تزويجَ أبناء بناتِ العم
فليس ينجُو من ضَوًى وسَقَم(1/136)
لأن الزواج من الأقارب يعني الهُزال وضعف بنية الأبناء وانتشار الأمراض الوراثية. وبالاستقراء في العائلات التي جعَلَت من سنتها في الحياة ألّا تُنكح أبناؤُها إلا منها نجد هذه العائلات تأتى عليهم فترة ينشأ فيهم ضعف عقليّ وجسمانيّ وانفعاليّ، ولذلك يُروَى عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: "أغرِبوا لا تَضْوَوا" أي: فإن أردتم ألّا تَضْوَوا فابتعدوا عن القرابات (قال الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير 3/146 : حديث "لا تَنكِحوا القرابة القريبة؛ فإن الولد يُخلَق ضاويًا" هذا الحديث تبع في إيراده إمام الحرمين هو والقاضي حسين، وقال ابن الصلاح: لم أجد له أصلًا معتمَدًا. انتهى. وقد وقع في "غريب الحديث" لابن قتيبة قال: جاء في الحديث "أَغرِبوا لا تَضوَوا" وفسَّر فقال: هو من الضاوي وهو النحيف الجسم، يقال: أضْوَت المرأة إذا أتت بولد ضاوٍ. والمراد: أَنكِحوا في الغرباء ولا تَنكِحوا في القريبة. وروَى ابن يونس في "تاريخ الغرباء" في ترجمة الشافعيّ عن شيخ له عن المزنيّ عن الشافعيّ قال: أيُّما أهل بيت لم تخرُج نساؤهم إلى رجال غيرهم كان في أولادهم حُمْق. وروَى إبراهيم الحربيّ في "غريب الحديث" عن عبد الله بن المؤمِّل عن ابن أبي مليكة قال: قال عمر لآل السائب: قد أضوأتم فأَنكِحوا في النوابغ. قال الحربيّ: يعني تزوجوا الغرائب) هذا القول يحث المسلمين على ألّا يتزوج الرجل من قريبته لأن كثيرًا من زيجات الأقارب تأتي بنسل ضعيف. "وضَوِيَ" بمعنى هزَل، ولذلك عندما يأتي قوم لمدح رجل يقولون:
فتًى لم تَلِدْه بنتُ عمٍّ قريبةٍ فيَضوَى وقد يَضوَى سَليل الأقارب(1/137)
إذًا فالمسألة معروفة، ففي النبات نجد هذا الأمر واضحًا، فالذي يزرع ذُرة في محافظة الغريبة يحاول أن يأتيَ بالتقاوي من الشرقية، وفي البطيخ نجد البطيخ الذي تُستورَد بذوره من بلاد بعيدة يأتي بمحصول وفير حلو المذاق، وبعض الناس من الزراع قد يَكسَل فيأخذ من البذور القديمة أو ناتجها فتكون الثمارُ قليلةَ الحلاوة والإنتاجُ شديدَ الضعف، لكن لو ظل الزراع يأتون بالتقاوي لمحصول من أرض بعيدة مهما غلا الثمن فإنهم ينالون ثمارًا طيبة، وكذلك في الحيوانات، وكذلك الإنسان كلما ابتعد عن العصب قَوِيَ الأبناء.
إن قول الحق سبحانه وتعالى بالتحريم له جانب أدبيّ وجانب عضويّ (حُرِّمَت عليكم أمهاتُكم وبناتُكم) لماذا؟(1/138)
لأن هذه الصلة بالأم صلة بالأصل، والصلة بالبنت صلة فرع، ويقول الحق: (وأخَواتُكم) إنها صلة الأُخُوّة (وعماتُكم وخالاتُكم وبناتُ الأخِ وبناتُ الأختِ وأمهاتُكم التي أرْضَعْنَكم وأخواتُكم من الرَّضاعة) (سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن المحرَّمات في النكاح نسبًا فأجاب بقوله: الحمد لله رب العالمين، أما المحرَّمات بالنسب فالضابط فيه أن جميع أقارب الرجل من النسب حرام عليه إلا بناتِ أعمامه وأخواله وعماته وخالاته، وهذه الأصناف الأربعة هنَّ اللاتي أحلَّهنَّ الله لرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله: "يا أيها النبيّ إنا أحْلَلْنَا لك أزواجَك اللاتي آتيتَ أجورَهنَّ وما ملَكَت يمينُك مما أفاء اللهُ عليك وبناتِ عمِّك وبناتِ عماتِك وبناتِ خالِك وبناتِ خالاتِك اللاتي هاجَرنَ معك وامرأةً مؤمنةً إن وَهَبَت نفسَها للنبيّ إن أراد النبيّ أن يَستَنكحَها خالصةً لك من دون المؤمنين" [الأحزاب: 50] فأحلَّ سبحانه لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ من النساء أجناسًا أربعة، ولم يجعل خالصًا له من دون المؤمنين إلا الموهوبةَ التي تَهَبُ نفسَها للنبيّ، فجعل هذه من خصائصهّ، له أن يتزوج الموهوبة بلا مهر وليس هذا لغيره باتفاق المسلمين، بل ليس لغيره أن يَستحلَّ بُضْعَ امرأة إلا مع وجوب مهر، كما قال تعالى: "وأُحِلَّ لكم ما وراءَ ذلكم أن تَبتَغوا بأموالِكم مُحصِنِين غيرَ مُسافِحِين" [النساء: 24] واتفق العلماء على أن من تزوج امرأة ولم يَقدُرْ لها مهرًا صحَّ النكاح ووجب لها المهرُ إذا دخل بها، وإن طلَّقها قبل الدخول فليس لها مهر بل لها المتعة بنص القرآن، وإن مات عنها ففيها قولان، وهي مسألة بَرْوَعَ بنتِ واشِق التي استُفتِيَ عنها ابنُ مسعود شهرًا ثم قال: أقول فيها برأيي فإن يَكُنْ صوابًا فمن الله، وإن يَكُنْ خطأً فمنّي ومن الشيطان، واللهُ ورسولُه بريئان منه، لها مهرُ نسائها لا وَكْسَ ولا شَطَطَ وعليها العدةُ ولها الميراثُ.(1/139)
فقام رجال من أشجع فقالوا: نشهد أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَضَى في بَروَعَ بنتِ واشِق بمثل ما قضَيتَ به في هذه. قال علقمة: فما رأيت عبد الله فرح بشيء كفرحه بذلك. وهذا الذي أجاب به ابن مسعود هو قول فقهاء الكوفة كأبي حنيفة وغيره، وفقهاء الحديث كأحمد وغيره، وهو أحد قولَي الشافعيّ. والقول الآخر له، وهو مذهب مالك، أنه لا مهر لها. وهو مَرْوِيّ عن عليّ وزيد وغيرهما من الصحابة.
ثم قال رحمه الله: والمقصود هنا أن الله تعالى لم يخصّ رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا بنكاح الموهوبة بقوله: "وامرأةً مؤمنةً إن وَهَبَت نفسَها للنبيّ إن أراد النبيّ أن يَستَنكحَها خالصةً لك من دون المؤمنين" فدل ذلك على أن سائر ما أحلَّه لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ حلالٌ لأمته، وقد دل على ذلك قوله: "فلما قَضَى زيد منها وَطَرًا زوَّجنَاكها لكي لا يكونَ على المؤمنين حَرَجٌ في أزواج أدعيائهم إذا قَضَوا منهنَّ وَطَرًا" [الأحزاب: 37] فلما أحَلَّ امرأةَ المتبَنَّى ـ لا سيما للنبيّ صلى الله عليه وسلم ليكون ذلك إحلالًا للمؤمنين ـ دل ذلك على أن الإحلال له إحلالٌ لأمته. وقد أباح له من أقاربه بناتِ العم والعمات وبناتِ الخال والخالات، وتخصيصُهنَّ بالذكر يدل على تحريم ما سواهنَّ، لا سيما وقد قال بعد ذلك: "لا يَحلُّ لك النساءُ من بعدُ ولا أن تَبدَّلَ بهنَّ من أزواج" [الأحزاب: 52] أي: من بعد هؤلاء اللاتي أحلَلْنَاهنَّ لك، وهنَّ المذكورات في قوله تعالى: "حُرِّمَت عليكم أمهاتُكم وبناتُكم وأخواتُكم وعماتُكم وخالاتُكم وبناتُ الأخ وبناتُ الأخت" فدخل في الأمهاتِ أمُّ أبيه وأمُّ أمه وإن عَلَت، بلا نزاع أعلمه بين العلماء. وكذلك دخل في البناتِ بنتُ ابنه وبنتُ ابن ابنته وإن سَفَلَت، بلا نزاع أعلمه. وكذلك دخل في الأخواتِ الأختُ من الأبوَين والأبِ والأمِّ. ودخل في العمات والخالاتِ عماتُ الأبوَين وخالاتُ الأبوَين. وفي بنات الأخ(1/140)
والأختِ ولدُ الإخوة وإن سَفَلنَ. فإذًا حرُم عليه أصولُه وفروعُه وفروعُ أصوله البعيدة، دون بنات العم والعمات وبنات الخال والخالات (مجموع الفتاوى 32/62-65)
وسئل رحمه الله عن المحرَّمات بالصِّهر فقال: كل نساء الصِّهر حلال له إلا أربعة أصناف، بخلاف الأقارب، فأقارب الإنسان كلهنَّ حرام إلا أربعة أصناف، وأقارب الزوجين كلهنَّ حلال إلا أربعة أصناف، وهنَّ حلائلُ الآباءِ والأبناءِ وأمهاتُ النساءِ وبناتُهنَّ، فيحرُم على كل من الزوجين أصولُ الآخر وفروعُه.
يحرُم على الرجل أمُّ امرأته وأمُّ أمها وأبيها وإن عَلَت.
وتحرُم عليه بنتُ امرأته، وهي الرَّبيبة، وبنتُ بنتها وإن سَفَلَت، وبنتُ الرَّبيب أيضًا حرام كما نصَّ عليه الأئمة المشهورون، الشافعيّ وأحمد وغيرهما، ولا أعلم فيه نزاعًا.
ويحرُم عليه أن يتزوج بامرأةِ أبيه وإن عَلَا، وامرأةِ ابنه وإن سَفَل.
فهؤلاء الأربعة هنَّ المحرَّمات بالمصاهرة في كتاب الله.
وكل من الزوجين يكون أقاربُ الآخر أصهارًا له، وأقاربُ الرجل أحماءُ المرأة، وأقاربُ المرأة أختانُ الرجل.
وهؤلاء الأصناف الأربعة يَحرُمنَ بالعقد إلا الربيبةَ فإنها لا تَحرُم حتى يدخل بأمها، فإن الله لم يجعل هذا الشرط إلا في الربيبة، والبواقي أطلَقَ فيهنَّ التحريم، فلهذا قال الصحابة: أَبهِمُوا ما أبهَمَ اللهُ. وعلى هذا الأئمة الأربعة وجماهير العلماء.(1/141)
وأما بناتُ هاتَين وأمهاتُهما فلا يَحرُمنَ، فيجوز له أن يتزوج بنتَ امرأةِ أبيه وابنِه باتفاق العلماء؛ فإن هذه ليست من حلائل الآباء والأبناء، فإن الحليلة هي الزوجة، وبنتُ الزوجة وأمُّها ليست زوجة، بخلاف الربيبة؛ فإن ولد الرَّبيب رَبِيب كما أن وَلَدَ الوَلَدِ وَلَدٌ. وكذلك أمُّ أمِّ الزوجة أمٌّ للزوجة. وبنتُ أمِّ الزوجة لم تحرُم؛ فإنها ليست أمًّا، فلهذا قال من قال من الفقهاء: بناتُ المحرَّماتِ محرَّماتٌ إلا بناتِ العمات والخالات وأمهاتِ النساء وحلائلَ الآباء والأبناء. فجعَل بنتَ الربيبة محرَّمة دون بنات الثلاث، وهذا مما لا أعلم فيه نزاعًا مجموع الفتاوى 32/62ـ 65)
إذًا فالتحريم في القرابة القريبة من حكمته أن الله تعالى يحب لعباده أن تكون ذريتهم أقوياء في البنية كما يحب أن يكونوا أقوياء في الإيمان، والمؤمن القويّ أحب إلى الله تعالى من المؤمن الضعيف وإن كان في كل خير.
وشيء آخر، هو أن العلاقة الزوجية دائمًا عُرضة للأغيار النفسية، فالرجل يتزوج المرأة وبعد ذلك قد تتغير نفسية الرجل تجاه المرأة، مثلما قلنا عندما يريد الرجل استبدال زوجة مكان زوجة أو أن يكره الرجل الزوجة أو العكس، فكيف تكون العلاقة بين الابن والأم إذا حدث شيء من هذا! والمفروض أن تكون للابن صلة بالأم تحتم عليه احترامها، ما الذي يحدث لو حدث مثل ذلك الأمر مع الابنة أو الأخت أو العمة أو الخالة!
لقد أبعد الحقُّ هذه المسألةَ عن مجال الشقاق، لذلك نجد أن الإسلام يقول لنا إياكم أن تُدخلوا المسائلَ في مقابَلات بحيث إذا حدث الخلاف في شيء حدث ضرورة في مقابِلِه وإن كان الوفاق سائدًا.(1/142)
كما أن الإسلام نهى عن الجمع بين الأختين حتى لا تكون الأخت ضَرَّةً للأخت الأخرى؛ لأن الأختين صلتهما معا صلة رحم ومودة وتعاطف، فلو جمَع واحدٌ بين الأختين لنشأ بينهما صراع وكراهية، وهذا تفكيك لأواصر الأسرة وتفتيت لها. إن من لطف الله تعالى بعباده أن حرَّم عليهم ذلك حتى لا تفسد العلاقات الاجتماعية.
وقال تعالى: (حُرِّمَت عليكم أمهاتُكم وبناتُكم) ومن المسلَّم به أن تحريم الأمهات إلى العلوّ، بمعنى أن الجَدّة أيضًا محرَّمة، سواء كانت جدّةً لأب أو جدّةً لأم. وتحريمُ الزواج بالابنة أيضًا يَشمل تحريمَ الزواج بابنة الابن أو ابنة الابنة. فكلُّ من بين الرجل وبينها بُنُوُّةٌ حتى لو كانت من زنًا تكون محرَّمة عليه (سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن رجل تزوج ابنته من الزنا فأجاب: الحمد لله، مذهب الجمهور من العلماء أنه لا يجوز التزوج بها، وهو الصواب المقطوع به، حتى تنازع الجمهور: هل يُقتل مَن فعَل ذلك؟ على قولين، والمنقول عن أحمد أنه يُقتل مَن فعَل ذلك. فقد يقال هذا إذا لم يكن متأوِّلًا وأما المتأوِّل فلا يُقتل وإن كان مخطئًا. وقد يقال هذا مطلقًا كما قال الجمهور إنه يُجلد من شرب النبيذ المختلَف فيه متأوِّلًا، وإن كان مع ذلك لا يفسُق عند الشافعيّ وأحمد في إحدى الروايتين، وفسَّقه مالك وأحمد في الرواية الأخرى. والصحيح أن المتأوِّل المعذور لا يفسَّق، بل ولا يأثم، وأحمد لم يبلغه أن في هذه المسألة خلافًا، فإن الخلاف فيها إنما ظهر في زمنه ولم يظهر في زمن السلف فلهذا لم يعرفه.
والذين سوَّغوا نكاح البنت من الزنا حجتُهم في ذلك أن قالوا: ليست هذه بنتًا في الشرع بدليل أنهما لا يتوارثان ولا تجب نفقتها ولا يَلي نكاحَها ولا تَعتق عليه بالمِلك ونحو ذلك من أحكام النسب، وإذا لم تكن بنتًا في الشرع لم تدخل في آية التحريم فتبقى داخلةً في قوله: "وأُحِلَّ لكم ما وراء ذلكم".(1/143)
وأما حجة الجمهور فهو أن يقال: قول الله تعالى "حُرِّمَت عليكم أمهاتُكم وبناتُكم..." الآيةِ، هو متناوِل لكل من شمله هذا اللفظُ، سواء كان حقيقةً أو مجازًا، وسواء ثبت في حقه التوارث وغيره من الأحكام أم لم يثبت إلا بالتحريم خاصة ليس العموم في آية التحريم كالعموم في آية الفرائض ونحوها كقوله تعالى: "يوصيكم اللهُ في أولادِكم للذكرِ مثلُ حظِّ الأنثَيَين" [النساء: 11]
وبيان ذلك من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن آية التحريم تتناول البنتَ وبنتَ الابن وبنتَ البنت، كما يتناول لفظُ العمّةِ عمّةَ الأب والأم والجدّ، وكذلك بنتُ الأخت وبنتُ ابن الأخت وبنتُ بنت الأخت، ومثل هذا العموم لا يثبت لا في آية الفرائض ولا نحوها من الآيات والنصوص التي عُلّق فيها الأحكام بالأنساب.
الثاني: أن تحريم النكاح يثبت بمجرد الرضاعة، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "يحرُم من الرضاعة ما يحرُم من الولادة" وفي لفظ: "ما يحرُم من النسب" وهذا حديث متفق على صحته وعمل الأئمة به، فقد حرَّم الله على المرأة أن تتزوج بطفل غَذَتْهُ من لبنها أو أن تَنكِحَ أولادَه، وحرَّم على أمهاتها وعماتها وخالاتها بل حرَّم على الطفلة المُرتَضِعة من امرأة أن تتزوج بالفحل صاحب اللبن وهو الذي وَطِئَ المرأةَ حتى دَرَّ اللبنُ بوَطئه، فإذا كان يحرُم على الرجل أن يَنكِح بنتَه من الرضاع، ولا يثبُت في حقها شيء من أحكام النسب سوى التحريم وما يَتبعها من الحرمة، فكيف يباح له نكاحُ بنتٍ خُلقَت من مائه! وأين المخلوقة من مائه من المتغذية بلبنٍ دَرَّ بوَطئه! فهذا يبين التحريم من جهة عموم الخطاب ومن جهة التنبيه والفحوى وقياس الأَوْلَى.(1/144)
الثالث: أن الله تعالى قال: "وحلائلُ أبنائكم الذين من أصلابكم" قال العلماء: احترازٌ عن ابنه الذي تبنَّاه، كما قال: "لكي لا يكونَ على المؤمنين حَرَجٌ في أزواج أدعيائهم إذا قَضَوا منهنَّ وَطَرًا" ومعلوم أنهم في الجاهلية كانوا يَستلحِقون ولد الزنا أعظمَ مما يَستلحِقون وَلَدَ المتبنَّى، فإذا كان الله تعالى قيَّد ذلك بقوله: "من أصلابكم" عُلم أن لفظ البنات ونحوها يشمل كل من كان في لغتهم داخلًا في الاسم.
وأما قول القائل: إنه لا يثبُت في حقها الميراثُ ونحوُه.
فجوابه أن النسب تتبعَّض أحكامه، فقد ثبت بعض أحكام النسب دون بعض، كما وافق أكثر المنازِعين في ولد الملاعَنة على أنه يحرُم على المُلاعِن ولا يَرِثُه. واختلف العلماء في استلحاق ولد الزنا إذا لم يكن فراشًا على قولين. كما ثبت عن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه ألحَقَ ابنَ وليدة زَمعة بن الأسود، وكان قد أحبَلَها عتبةُ بن أبي وقاص فاختَصَم فيه سعد وعبدُ بن زَمعة، فقال سعد: ابنُ أخي عَهد إليَّ أن ابنَ وليدة زَمعة هذا ابني. فقال عبد: أخي وابنُ وليدة أبي وُلد على فراش أبي. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش وللعاهر الحَجَر، احتجِبِي منه يا سودة" لمّا رأى من شَبَهِه البيِّن بعتبة، فجعله أخاها في الميراث دون الحرمة.
وقد تنازع العلماء في ولد الزنا: هل يَعتِق بالمِلك؟ على قولين في مذهب أبي حنيفة وأحمد، وهذه المسألة لها بسط لا تسعه هذه الورقة، ومثل هذه المسألة الضعيفة ليس لأحد أن يَحكيَها عن إمام من أئمة المسلمين، لا على وجه القدح فيه ولا على وجه المتابعة له فيها، فإن في ذلك ضربًا من الطعن في الأئمة واتباعَ الأقوال الضعيفة، وبمثل ذلك صار وزير التَّتَر يُلقي الفتنة بين مذاهب أهل السنة حتى يَدْعُوهم إلى الخروج عن السنة والجماعة ويوقِعَهم في مذاهب الرافضة وأهل الإلحاد. والله أعلم مجموع الفتاوى 32/134 ـ 137).(1/145)
وقوله تعالى: (وأخواتُكم وعماتُكم وخالاتُكم وبناتُ الأخ وبناتُ الأخت وأمهاتُكم اللاتي أرضَعنَكم) قد يقول قائل: لماذا جاء الحق بتحريم زواج الابن من الأم؟
لأن الأم بالإرضاع كوَّنَت خلايَا فيمَن أرضعته، وما دام قد كوَّنَت فيما أرضَعَته خلايَا ففيه بِضعٌ منها، وما دام قد وُجد في الابن بِضعٌ من الأم التي أرضَعَته فلهذا البِضعِ حرمةُ الأمومة، والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "إنه يحرُم من الرضاعة ما يحرُم من النسب" (جزء من حديث رواه أحمد في المسند عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما 1/290 وصححه الشيخ شاكر 2633 وأصله في البخاريّ 5099 ومسلم 1444، 1445.
وقال ابن قدامة: كل امرأة حَرُمَت من النسب حَرُم مثلها من الرَّضاع، وهنَّ الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت، على الوجه الذي شرحناه في النسب، لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "الرضاعة تحرِّم ما تحرِّم الولادة" وقال النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ في دُرّة بنت أبي سلمة: "إنها لو لم تكن رَبِيبَتي في حَجْري ما حلَّت لي، إنها ابنة أخي من الرضاعة، أرضَعَتْني وأباها ثُوَيبةُ" متفق عليه. لأن الأمهات والأخوات منصوص عليهنَّ، والباقيات يدخُلن في عموم سائر المحرَّمات، ولا نعلم في هذا خلافًا.
جامع أحكام النساء 3/49
عدد الرضعات المحرِّمات
ذهب جمهور العلماء إلى أن الرضعة الواحدة تحرِّم ويثبُت بها حكم الرضاعة، مستدِلِّين بالعمومات الواردة في الباب، كقوله تعالى: "وأمهاتُكم اللاتي أرضَعنَكم وأخواتُكم من الرضاعة" فلم يُذكر عدد، وكذلك عموم قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إنما الرضاعة من المجاعة" فلم يُذكر عدد.
وذهب فريق من أهل العلم إلى أن الذي يحرِّم هو ثلاث رضعات فما فوقها، لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا تحرِّم المَصَّة والمَصَّتان" فقالوا: ما زاد على ذلك فهو يحرِّم.(1/146)
وذهب فريق من أهل العلم إلى أن الذي يحرِّم خمسُ رضعات، لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها: كان فيما أُنزل من القرآن: "عشرُ رضعات معلومات يُحرِّمن" ثم نُسخ بخمس معلومات، فتُوُفِّيَ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهنَّ فيما يُقرأ من القرآن.
جامع أحكام النساء 3/57ـ 58.
زمن الرَّضاعة
ذهب جمهور أهل العلم إلى أن الرَّضاع الذي يحرِّم هو ما كان في الصغر قبل الحولين، لقول الله تبارك وتعالى: "والوالداتُ يُرضِعنَ أولادَهنَّ حولَين كاملَين لمن أراد أن يُتمَّ الرَّضاعة" [البقرة: 233] ولقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إنما الرضاعة من المجاعة" ولقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا يحرِّم من الرضاعة إلا ما فَتَقَ الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام".
بينما ذهب بعض أهل العلم ـ منهم عائشة رضي الله تعالى عنها وأبو محمد ابن حزم رحمه الله ـ إلى أن الرضاع كله يحرِّم، سواء كان في الصغر أو كان في الكبر، وذلك لحديث عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ في قصة سهلة مع سالم مولى أبي حذيفة وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أرضعيه" قالت: وكيف أرضعه وهو رجل كبير؟ فتبسم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال: "قد علمت أنه رجل كبير". واستدلوا أيضًا بعموم قول الله تبارك وتعالى: "وأمهاتُكم اللاتي أرضَعنَكم".
أما جمهور العلماء فأجابوا على قصة سهلة مع سالم بأنها خاصة بسهلة مع سالم، ومنهم من قال إنها منسوخة.
ويتأيد لديّ رأيُ الجمهور بقول النبيّ: "وكان قبل الفطام". والله أعلم.
حامع أحكام النساء 3/68-69.
صفة الرضاع المحرِّم(1/147)
ذهب جمهور أهل العلم إلى أن لبن المرضع يحرِّم، سواء تناوله الطفل من ثديها أو حُلب له في إناء وشربه من الإناء. بينما ذهب أبو محمد ابن حزم ومعه بعض العلماء إلى أن الذي يحرِّم هو ما ارتُضع من الثدي فقط، متمسِّكين بالمعنى اللغويِّ للإرضاع. ولا شك أن رأي الجمهور أرجح؛ لأنه لبن امرأة سُدَّت به المجاعة وفُتِقَت به الأمعاء. والله تعالى أعلم.
قال الحافظ ابن حجر: واستُدل به على أن التغذية بلبن المرضِعة يحرِّم، سواء كان بشربٍ أم أكلٍ بأيّة صفة كان، حتى الوَجُور والسَّعُوط والثَّرد والطبخ وغير ذلك، إذا وقع بالشرط المذكور من العدد؛ لأن ذلك يطرد الجوع وهو موجود في جميع ما ذكر، فيوافق الخبر والمعنى، وبهذا قال الجمهور، لكن استثنَى الحنفيةُ الحقنةَ، وخالَف في ذلك الليثُ وأهلُ الظاهر فقالوا: إن الرضاعة المحرِّمة إنما تكون بالتقام الثدي ومَصِّ اللبن منه.
وقال الشافعيّ: والوَجُور كالرضاع، وكذلك السَّعُوط؛ لأن الرأس جوف.
وقال الكاسانيّ: ويستوي في تحريم الرَّضاعِ الارتضاعُ من الثدي والإسعاطُ والإيجارُ، لأن المؤثِّر في التحريم هو حصولُ الغذاء باللبن وإنباتُ اللحم وإنشارُ العظم وسدُّ المجاعة، وذلك يحصل بالإسعاط والإيجار، لأن السَّعُوط يصل إلى الدماغ وإلى الحلق فيغذّي ويسدّ الجوع، والوَجُور يصل إلى الجوف فيغذّي. جامع أحكام النساء 3/80ـ 81).
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: (وربائبُكم اللاتي في حُجُورِكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهنَّ) والرَّبيبة هي بنت المرأة من غير زوجها الجديد. بمعنى أن تكون المرأة قد تزوجت وأنجبت بنتًا ثم طلقها زوجها أو مات عنها وبعد ذلك تزوجت المرأة رجلًا آخر، ومعها ابنتها، فتكون ربيبة؛ لأن الزوج الجديد يأخذها في حمايته ورعايته ويكون في مقام الأب، حيث إنه الذي يقوم بتربيتها، فتأخذ حكم البنوّة.(1/148)
والشرط الذي يحرّمها عليه هنا أن يكون الرجل قد دخل بالمرأة الأم، فإن انتفى هذا الشرط كانت البنت حِلًّا للرجل ما دام لم يدخل بأمها؛ لأنه لم توجد بينهما معيشة ولا صلة بالبنوّة (الربيبة محرَّمة بشرطين ذُكِرَا في الآية:
1 ـ أن تكون في الحِجْر.
2 ـ أن يكون الرجل دخل بأمها.
وإلى هذا ذهب بعض أهل العلم، ودليلهم أن مالك بن أوس بن الحَدَثان النصريّ قال: كانت عندي امرأة قد ولَدَت لي، فتُوفِّيَت، فوجدت عليها، فلقيت عليَّ بن أبي طالب فقال: ما لك؟ فقلت: تُوفِّيَت المرأة. فقال: ألَهَا ابنة؟ قلت: نعم. قال: كانت في حِجْرك؟ قلت: لا، هي في الطائف. قال: فانكِحْها. قال: قلت: فأين قوله (وربائبُكم اللاتي في حُجُورِكم)؟ قال: إنها لم تكن في حِجْرك، وإنما ذلك إذا كانت في حِجْرك.
وما رُوي عن ابن عباس: الدخولُ والتغشِّي والإفضاءُ والمباشرةُ والرفَثُ واللمسُ، هذا الجماع، غير أن الله حَييّ كريم يَكنِي بما شاء عما شاء.
وما رواه ابن طاووس عن أبيه أنه كان يقول: الدخول واللمس والمسيس، الجماع، والرفث في الصيام الجماع، والرفث في الحج الإغراء به.
قال ابن جُريج: وقال عمرو بن دينار: الدخول الجماع.
وما رُوي عن عطاء "وربائبُكم اللاتي في حُجُورِكم" ما الدخول بهنَّ؟ قال: أن تُهدَى إليه فيَكشف ويَجلس بين رجلَيها. قلت: إن فعل ذلك بها في بيت أهلها؟ قال: حسبُه، قد حرَّم ذلك عليه بناتِها. قلت له: نعم، ولم يكشف؟ قال: لا تحرَّم عليه الربيبة إن فعل ذلك بأمها.(1/149)
وقال القرطبيّ في تأويل قوله تعالى "وربائبُكم اللاتي في حُجُورِكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهنَّ": هذا مستقلّ بنفسه، ولا يرجع قوله "من نسائكم اللاتي دخلتم بهنَّ" إلى الفريق الأول بل هو راجع إلى الربائب إذ هو أقرب مذكور كما تقدم. والربيبة بنت امرأة الرجل من غيره، سُمِّيَت بذلك لأنه يربِّيها في حِجره، فهي مربوبة، فَعيلة بمعنى مفعولة. واتفق الفقهاء على أن الربيبة تحرُم على زوج أمها إذا دخل بالأم وإن لم تكن الربيبة في حِجره.
وشذ بعض المتقدمين وأهل الظاهر فقالوا: لا تحرُم عليه الربيبة إلا أن تكون في حجر المتزوج بأمها، فلو كانت في بلد آخر وفارَقَ الأمَّ بعد الدخول فله أن يتزوج بها.
واحتجوا بالآية فقالوا: حرم الله تعالى الربيبة بشرطين:
أحدهما: أن تكون في حجر المتزوج بأمها.
والثاني: الدخول بالأم.
فإذا عُدم أحد الشرطين لم يوجد التحريم.
واحتجوا بقوله عليه السلام: "لو لم تكن رَبيبتي في حَجري ما حَلَّت لي، إنها ابنة أخي من الرضاعة" فشَرَطَ الحِجْرَ. ورَوَوا عن عليّ بن أبي طالب إجازة ذلك، قال ابن المنذر والطحاويّ: أما الحديث عن عليّ فلا يثبت؛ لأنه من رواية إبراهيم بن عبيد عن مالك بن أوس عن عليّ، وإبراهيم هذا لا يُعرف، وأكثر أهل العلم قد تلقَّوه بالدفع والخلاف. قال أبو عبيد: ويدفعه قوله: "فلا تَعرِضنَ عليَّ بناتكنَّ ولا أخواتكنَّ" فعَمَّ ولم يقل: اللائي في حجري. ولكنه سوَّى بينهنَّ في التحريم. قال الطحاويّ: وإضافتهنَّ إلى الحجور إنما ذلك على الأغلب مما يكون عليه الربائب لا أنهنَّ لا يَحرُمنَ إذا لم يَكُنَّ كذلك.(1/150)
وقال العلامة ابن كثير: وأما قوله تعالى "وربائبُكم اللاتي في حُجُورِكم" فالجمهور على أن الربيبة حرام، سواء كانت في حجر الرجل أو لم تكن في حجره، قالوا: وهذا الخطاب خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له، كقوله تعالى: "ولا تُكرِهوا فتياتِكم على البِغَاءِ إن أرَدنَ تَحَصُّنًا" وفي الصحيحَين أن أم حبيبة قالت: يا رسول الله، انكِحْ أختي بنت أبي سفيان. وفي لفظ لمسلم: عزة بنت أبي سفيان. قال: "أو تُحبّين ذلك؟" قالت: نعم، لست بك بمُخْليَةٍ، وأحبُّ مَن شَرَكني في خيرٍ أختي. قال: "فإن ذلك لا يحلُّ لي" قالت: فإنا نتحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة. قال: "بنت أبي سلمة؟" قالت: نعم. قال: "إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلَّت لي، إنها ابنة أخي من الرضاعة، أرضَعَتْني وأبا سلمة ثُوَيبةُ، فلا تَعرِضنَ عليَّ بناتكنَّ ولا أخواتكنَّ" وفي رواية للبخاريّ: "إني لو لم أتزوَّج أم سلمة ما حلَّت لي" فجعل المناط في التحريم مجرَّد تزوُّجِه أمَّ سلمة وحكَم بالتحريم بذلك، وهذا هو مذهب الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة وجمهور الخلف والسلف.
وقال ابن حزم: أما من تزوَّج امرأةً ولها ابنةٌ أو ملَكها وله ابنةٌ، فإن كانت الابنة في حجره ودخل بالأم مع ذلك، وَطِئَ أو لم يَطَأ لكن خَلَا بها بالتلذذ، لم تَحلَّ له ابنتُها أبدًا، فإن دخل بالأم ولم تكن الابنةُ في حجره أو كانت الابنةُ في حجره ولم يدخل بالأم فزواجُ الابنة له حلال. ثم قال رحمه الله: برهان ذلك قوله الله تعالى "وربائبُكم اللاتي في حُجُورِكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهنَّ فإن لم تكونوا دخلتم بهنَّ فلا جناح عليكم" فلم يحرِّم الله عز وجل الربيبةَ بنتَ الزوجة أو الأمة إلا بالدخول بها وأن تكون هي في حجره، فلا تحرم إلا بالأمرين معًا لقوله تعالى بعد أن ذكر ما حُرِّم من النساء: "وأُحِلَّ لكم ما وراء ذلكم" وما كان ربُّك نسيًّا.
وكونها في حجره ينقسم قسمين:(1/151)
أحدهما: سكناها معه في منزله وكونه كافلًا لها.
والثاني: نظره إلى أمورها نحو الولاية لا بمعنى الوكالة.
فكل واحد من هذين الوجهين يقع بها عليها كونها في حجره.
وأما أمُّها فيحرِّمها عليه بالعقد جملةً قولُ الله تعالى: "وأمهاتُ نسائكم" فأجمَلَها عز وجل فلا يجوز تخصيصها. جامع أحكام النساء 3/92-99 بتصرف).
ومن بعد ذلك يحرِّم الحق سبحانه الزواج بزوجة الابن (وحلائلُ أبنائكم الذين من أصلابِكم) أي أن زوجة الابن محرَّمة. وقوله (الذين من أصلابِكم) دليل على أن كلمة الأبناء كانت تطلق على أناس لم يكونوا من الأصلاب، فلو أن كلمة الأبناء اقتصرت في الاستعمال على أولاد الرجل من صلبه لما قال الله (وحلائلُ أبنائكم الذين من أصلابِكم) إذًا قول الله سبحانه وتعالى (وحلائلُ أبنائكم الذين من أصلابِكم) يدل على أن حلائل الأبناء المُتَبَنَّينَ حلٌّ للمؤمنين، ونفهم من ذلك أن العرب كانوا يحرمون حلائل الأبناء بالتبنِّي، ولذلك نص الله تعالى على تحريم حلائل الأبناء الذين من الأصلاب (رُويَ عن ابن جُريج قال: قلت لعطاء: "وحلائلُ أبنائكم" الرجل يَنكِح المرأةَ لا يراها حتى يطلقَها، أتَحِلّ لأبيه؟ قال: هي مرسَلة يعني أن الآية لم تقيِّد حليلة الابن بقيد من القيود، فعلى ذلك حليلةُ الابن محرَّمة، سواء دخل بها الابن أو لم يدخل وقال ابن جرير الطبريّ: وأما قوله "وحلائلُ أبنائكم الذين من أصلابِكم" فإنه يعني: وأزواج أبنائكم الذين من أصلابِكم.(1/152)
وقال العلامة ابن كثير: وقوله تعالى "وحلائلُ أبنائكم الذين من أصلابِكم" أي: وحرِّمت عليكم زوجاتُ أبنائكم الذين وَلَدتُموهم من أصلابكم. يَحترز بذلك عن الأدعياء الذين كانوا يَتَبَنَّونَهم في الجاهلية، كما قال تعالى: "فلما قَضَى زيدٌ منها وَطَرًا زوَّجنَاكها لكي لا يكونَ على المؤمنين حَرَجٌ في أزواج أدعيائهم". ونقل الاتفاق على أن حليلة الابن تحرُم على الأب بمجرد العقد عليها، سواء دخل بها الابن أو لم يدخل.
وقال ابن قدامة: وجملة ذلك أن المرأة إذا عقد الرجل عقد النكاح عليها حرِّمت على أبيه بمجرد العقد عليها لقول الله تعالى: "وحلائل أبنائكم" وهذه من حلائل أبنائه.
وقال أبو محمد بن حزم: وكذلك لا يحلّ للرجل زواجُ امرأة ولا وطؤُها بملك اليمين إذا كانت المرأة ممَّن حلَّ لولده وطؤُها أو التلذذُ منها بزواج أو بملك يمين أصلًا، والجدُّ في كل ما ذكرنا وإن علَا من قِبَلِ الأب أو الأم كالابن ولا فرق، وابنُ الابن وابنُ الابنة وإن سَفَلَا كالابن في كل ما ذكرنا ولا فرق.
وقال: أما من عقد فيها الرجل زواجًا فلا خلاف في تحريمها في الأبد على أبيه وأجداده وعلى بنيه وعلى مَن تناسَلَ من بنيه وبناته أبدًا.
وكذلك حلائل الأبناء من الرَّضاع يَحرُمنَ، قال ابن جرير الطبريّ: فإن قال قائل: فما أنت قائل في حلائل الأبناء من الرضاع؟ فإن الله تعالى إنما حرَّم حلائل أبنائنا من أصلابنا.
قيل: إن حلائل الأبناء من الرضاع وحلائل الأبناء من الأصلاب سواء في التحريم، وإنما قال: "وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم" لأن معناه: وحلائل أبنائكم الذين وَلَدتُموهم دون حلائل أبنائكم الذين تَبَنَّيتموهم.
وقال الحافظ ابن كثير: فإن قيل: فمن أين تحرُم امرأةُ ابنه من الرضاعة ـ كما هو قول الجمهور، ومن الناس من يحكيه إجماعًا ـ وليس من صلبه؟(1/153)
فالجواب: من قوله صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب". جامع أحكام النساء 3/100ـ 102 بتصرف).
وتأتي بقية المحرمات في قوله: (وأن تَجمعوا بين الأختَين) ذلك أن الأختَين رَحِمٌ يجب أن تظل معه المودة والرحمة والصفاء، لكن إذا كانت الأختان تحت رجل واحد فالشقاق هو الذي يحدث، لذلك حرم الله الجمع بين الأختين (إلا ما قد سلَف إن اللهَ كان غفورًا رحيمًا).
وقد اجتهد العلماء حول الجمع بين الأختين فقال البعض: إن الله قد استثنَى دائمًا ما مَلَكَت الأيمان، فَهَبْ أن الأختَين مملوكتان مِلْكَ يمين! ومعلوم أن ملك اليمين ليس بينها وبين الرجل عقد، كما أن ملك اليمين لا يوجب على السيد أن يجعلها أم الأولاد. فقال قوم: ما دامت الأختان ملك اليمين فلا مانع أن يجمع بينهما في العشرة. وآخرون أخذوا بالتحريم لقول الحق سبحانه: (وأن تَجمعوا بين الأختين) (عن أم حبيبة بنت أبي سفيان قالت: يا رسول الله، انكِحْ أختي بنت أبي سفيان. قال: "أو تُحبّين ذلك؟" قالت: نعم، لست بك بمُخْليَةٍ، وأحبُّ مَن شَرَكني في خيرٍ أختي. قال: "فإن ذلك لا يحلُّ لي" قالت: فإنا نتحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة. قال: "بنت أبي سلمة؟" قالت: نعم. قال: "إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلَّت لي، إنها لَابنةُ أخي من الرضاعة، أرضَعَتْني وأبا سلمة ثُوَيبةُ، فلا تَعرِضنَ عليَّ بناتكنَّ ولا أخواتكنَّ" قال عروة: وثُوَيبةُ مولاةٌ لأبي لهب، وكان أبو لهب أعتَقَها فأرضَعَت النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلما مات أبو لهب أُرِيهِ بعضُ أهله بشرِّ حِيبةٍ، قال له: ماذا لَقيتَ؟ قال أبو لهب: لم ألقَ بعدكم، غير أني سُقيتُ في هذه بعَتَاقتي ثُوَيبةَ أخرجه البخاريّ [5101]
أقوال أهل العلم في الباب(1/154)
قال الحافظ ابن حجر: والجمع بين الأختين في التزويج حرام بالإجماع، سواء كانتَا شقيقتَين أم من أب أو من أم، وسواء النسب أو الرضاع، واختُلف فيما إذا كانتَا بملك اليمين فأجازه بعض السلف، وهو رواية عن أحمد، والجمهورُ وفقهاءُ الأمصار على المنع.
قال الشافعيّ: ولا يُجمع بين أختَين أبدًا بنكاح ولا وطء ملك، وكل ما حرُم من الحرائر بالنسب والرضاع حرُم من الإماء مثلُه إلا العدد، والعدد ليس من النسب والرضاع بسبيل، فإذا نكح امرأة ثم نكح أختها فنكاح الآخرة باطل ونكاح الأولى ثابت، وسواء دخل بها أو لم يدخل بها، ويفرّق بينه وبين الآخرة. وإذا كانت عنده أمة يطؤها لم يكن له وطء الأخت إلا بأن يحرُم عليه فرجُ التي كان يطأها بأن يبيعها أو يزوجها أو يكاتبها أو يعتقها.
وقال ابن جرير الطبريّ: وأما قوله (وأن تجمعوا بين الأختين) فإن معناه: وحرِّم عليكم أن تجمعوا بين الأختين عندكم بنكاح، فـ "أن" في موضع رفع، كأنه قيل: والجمعُ بين الأختين (إلا ما قد سلَف) لكن ما قد مضَى منكم (إن اللهَ كان غفورًا) لذنوب عباده إذا تابوا إليه منها (رحيمًا) بهم فيما كلَّفهم من الفرائض وخفَّف عنهم فلم يحمِّلهم فوق طاقتهم. يخبر بذلك جل ثناؤه أنه غفور لمن كان جمَع بين الأختين بنكاح في جاهليته وقبل تحريمه ذلك إذا اتقى الله تبارك وتعالى بعد تحريمه ذلك عليه فأطاعه باجتنابه، رحيم به وبغيره من أهل طاعته من خلقه.(1/155)
وقال العلامة ابن كثير: وقوله تعالى "وأن تَجمعوا بين الأختَين إلا ما قد سلَف..." الآيةِ، أي: وحرِّم عليكم الجمع بين الأختين معًا في التزويج وكذا في ملك اليمين، إلا ما كان منكم في جاهليتكم فقد عفونا عنه وغفرناه، فدل على أنه لا مَثنويَّة فيما يَستقبل لأنه استثنى ما سلف، كما قال تعالى: "لا يَذوقون فيها الموتَ إلا الموتةَ الأُولَى" [الدخان: 56] فدل على أنهم لا يذوقون فيها الموت أبدًا. وقد أجمع العلماء من الصحابة والتابعين والأئمة قديمًا وحديثًا على أنه يحرُم الجمعُ بين الأختَين في النكاح.
وقال أيضًا: وأما الجمع بين الأختَين في ملك اليمين فحرام أيضًا لعموم الآية. ثم قال: وهذا هو المشهور عن الجمهور والأئمة الأربعة وغيرهم، وإن كان بعض السلف قد توقف في ذلك.
وقال ابن قدامة: والمذكور في الكتاب الجمعُ بين الأختَين، سواء كانتَا من نسب أو رضاع، حرتَين كانتَا أو أَمَتَين، أو حرة وأَمَة، من أبوَين كانتَا أو من أب أو أم، وسواء في هذا ما قبل الدخول أو بعده لعموم الآية. فإن تزوَّجهما في عقد واحد فسَد؛ لأنه لا مَزِيَّة لإحداهما على الآخرة، وسواء علم بذلك حال العقد أو بعده. فإن تزوج إحداهما بعد الأخرى فنكاح الأولى صحيح لأنه لم يحصل فيه جمع، ونكاح الثانية باطل لأنه به يحصل الجمع. وليس في هذا بحمد الله اختلاف، وليس عليه تفريع.
والجمع بين الأختين في التزويج إذا كانتَا بملك اليمين حرام أيضًا، لعموم قوله تعالى: "وأن تجمعوا بين الأختين".(1/156)
قال العلامة ابن القيم: وحرَّم سبحانه الجمع بين الأختين، وهذا يتناول الجمعَ بينهما في عقد النكاح وملك اليمين كسائر محرمات الآية، وهذا قول جمهور الصحابة ومن بعدهم، وهو الصواب. وتوقفت طائفة في تحريمه بملك اليمين لمعارضة هذا العموم بعموم قوله سبحانه: "والذين هم لفروجِهم حافظون. إلا على أزواجِهم أو ما ملَكَت أيمانُهم فإنهم غيرُ مَلُومِين" [المؤمنون: 5 ـ 6] ولهذا قال أمير المؤمنين عثمان رضي الله تعالى عنه: أحلَّتهما آية وحرَّمتهما آية. وقال الإمام أحمد في رواية عنه: لا أقول هو حرام ولكن ننهى عنه. فمِن أصحابه من جعل القول بإباحته روايةً عنه، والصحيح أنه لم يُبِحْهُ لكن تأدَّب مع الصحابة أن يُطلق لفظ الحرام على أمر توقَّف فيه عثمان، بل قال: نَنهَى عنه.
والذين جزموا بتحريمه رجَّحوا آية التحريم من وجوه:
أحدها: أن سائر ما ذُكر فيها من المحرَّمات عامّ في النكاح وملك اليمين، فما بال هذا وحده حتى يخرج منها! فإن كانت آية الإباحة مقتضيةً لِحِلِّ الجمع بالملك فلتكنْ مقتضيةً لِحِلِّ أُمِّ مَوطوءته بالمِلك ولِمَوطوءة أبيه وابنِه بالمِلك؛ إذ لا فرق بينهما ألبتة، ولا يُعلم بهذا قائل.
الثاني: أن آية الإباحة بمِلك اليمين مخصوصة قطعًا بصور عديدة لا يختلف فيها اثنان، كأمه وابنته وأخته وعمته وخالته من الرضاعة، بل كأخته وعمته وخالته من النسب عند من لا يرى عِتقَهنَّ بالمِلك كمالك والشافعيّ، ولم يكن عموم قوله "إلا ما مَلَكَت أيمانُكم" معارضًا لعموم تحريمهنَّ بالعقد والمِلك. فهذا حكم الأختين سواء.(1/157)
الثالث: أن حِلَّ المِلك ليس فيه أكثرُ من بيان جهة الحِلِّ وسببِه ولا تعرُّض فيه لشروط الحِلِّ ولا لموانعه، وآية التحريم فيها بيان موانع الحِلِّ من النسب والرضاع والصِّهر وغيره، فلا تعارض بينهما ألبتة، وإلا كان كل موضع ذُكر فيه شرطُ الحِلِّ وموانعُه معارِضًا لمقتضَى الحِلِّ، وهذا باطل قطعًا، بل هو بيان لما سكَت عنه دليلُ الحِلِّ من الشروط والموانع.
الرابع: أنه لو جاز الجمع بين الأختَين المملوكتَين في الوطء جاز الجمع بين الأم وابنتها المملوكتَين؛ فإن نَصَّ التحريم شامل للصورتَين شمولًا واحدًا، وإن إباحة المملوكات إن عمَّت الأختَين عمَّت الأمَّ وابنتَها.
الخامس: أن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجمع ماءه في رحم أختين". ولا ريب أن جمع الماء كما يكون بعقد النكاح يكون بملك اليمين، والإيمان يمنع منه. جامع أحكام النساء 3/102ـ 107).(1/158)
ومن بعد ذلك قال الحق: (إلا ما قد سلَف إن اللهَ كان غفورًا رحيمًا) إن من غفران الله ورحمته أنه لم يأخذ المؤمنين بالأثر الرجعيّ، لأن من عظمة الإسلام أنه لا تحريم إلا بنَصّ ولا عقوبة إلا بتحريم (ومن المحرَّمات حرمة مؤقتة، كالجمعِ بين الأختَين، الجمعُ بين المرأة وعمتها والجمعُ بين المرأة وخالتها، روَى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "لا يُجمَعُ بين المرأة وعمَّتها، ولا بين المرأة وخالتها" أخرجه البخاريّ [5109] ومسلم [1408] وأحمد في المسند [2/462، 465، 516] والنسائيّ [3288] وفي رواية أخرى: نهى أن يُجمَعَ بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها رواه النسائيّ في المجتبَى [3289] وأحمد في المسند [2/ 401، 518] وأبو داود [2066] وصححه الألبانيّ في صحيح النسائيّ [3082] والحكمة الشرعية في ذلك عدمُ القطيعة بين الأرحام، فتقطع البنتُ عمتَها وتَقطع العمةُ أولادَ أخيها. قال ابن المنذر: لست أعلم في منع ذلك اختلافًا اليوم، وإنما قال بالجواز فرقة من الخوارج، وإذا ثبت الحكم بالسنة واتفق أهل العلم على القول به لم يضرَّه خلاف من خالفه. ونقل الإجماعَ ابنُ عبد البر وابنُ حزم والقرطبيّ والنوويّ [فتح الباريّ 10/202] وقال الإمام النوويّ: احتج الجمهور بهذه الأحاديث وخصّوا بها عموم القرآن في قوله تعالى: "وأُحِلَّ لكم ما وراء ذلكم" وقد ذهب الجمهور إلى جواز تخصيص عموم القرآن بخبر الآحاد لأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ مبيِّن للناس ما أُنزل إليهم من كتاب الله [شرح النوويّ على صحيح مسلم 5/207 بتصرف].
وجملة القول: المحرَّماتُ في كتاب الله عز وجل أربعَ عشرةَ، سوى من يَحرُم الجمعُ بينهنَّ، سبع بالنسب وسبع بالسبب، منهنَّ اثنتان بالرضاع وأربع بالمصاهرة، والسابعةُ المُحصَنةُ، وهي ذاتُ الزوج).(1/159)
معاشرة النساء
السؤال: ما المفهوم الصحيح لقول الحق سبحانه وتعالى: (نساؤُكم حَرْثٌ لكم فأتُوا حَرْثَكم أنَّى شئتم)؟ (البقرة: 223).
الجواب: إن الحق سبحانه وتعالى يُفسح المجال لتمتع الرجل بالمرأة على أيّ وجه من الأوجه شريطةَ أن يَتمَّ الإتيان في محل الإنبات، وقد جاء الحق بكلمة (حرث) هنا ليبين أن الحرث يكون في مكان الإنبات. وقوله تعالى: (فأتُوا حرثَكم) الحرث هو مكان استنبات النبات، قال تعالى: (ويُهلك الحرثَ والنسلَ) (البقرة: 205).
فأمر سبحانه الرجالَ أن يأتوا النساءَ في مكان الزرع، زرع الولد، أما المكان الذي لا يُنبَت منه الولد فلا تَقرَبوه. وبعض الناس فهموا خطأ أن قوله (فأتوا حرثكم أنَّى شئتم) معناه إتيان المرأة في أيّ مكان، وذلك خطأ؛ لأن قوله سبحانه (نساؤكم حرث لكم) يعني مَحلَّ استنبات الزرع، والزرع بالنسبة للمرأة والرجل هو الولد، فَأْتِها في المكان الذي ينجب الولد على أية جهة شئت (قوله: "نساؤكم حرث لكم" أخرج البخاريّ [4528] ومسلم [1435/ 117] عن جابر رضي الله تعالى عنه: كانت اليهود تقول: إذا أتَى الرجلُ امرأتَه من دبُرها في قبُلها كان الولد أحول. فنزلت: "نساؤكم حرث لكم فأتُوا حرثَكم أنَّى شئتم".
قال الواحديّ النيسابوريّ في تأويل قول الله تعالى "نساؤكم حرث لكم": أي مَزرَع ومَنبَت للولد. قال أهل المعاني: معناه: ذواتُ حرث لكم، فيهنَّ تَحرُثون الولد. فحذَف المضاف. وقال الأزهريّ: حرث الرجل امرأته. وأنشد المبرِّد:
إذا أكَل الجرادُ حروثَ قوم فحَرثي همُّه أكلُ الجراد
البيت في اللسان "حرث" منسوب للمبرد، والبحر [3/170](1/160)
وقوله: "فأتُوا حرثكم أنَّى شئتم" أي ائتُوا مواضع حرثكم كيف شئتم مقبِلةً ومدبِرةً، بعد أن يكون في صمام واحد. قال ابن عباس في هذه الآية: ائتِها كيف شئتَ في الفرج "وقدِّموا لأنفسكم" قال عطاء عن ابن عباس: يريد العملَ لله بما يحب ويرضى "واتقوا الله" فيما حَدَّ لكم من الجماع وأمر الحيض "واعلموا أنكم مُلَاقُوه" راجعون إليه، والمعنى: ملاقُو جزائه إن ثوابًا وإن عقابًا "وبشِّر المؤمنين" الذين خافوا وحَذِروا معصيتَه. الوسيط في تفسير القرآن 1/328 ـ 329).(1/161)
الزواج العرفيّ
السؤال: ما الزواج العرفيّ؟ وما رأيُ فضيلتكم فيه؟
الجواب: الزواج العرفيّ الصحيح هو الزواج الذي يشهده الشهود ويتم بإيجاب وقبول وإعلان، ولكنه لا يُكتب في الوثيقة الرسمية التي حددها القانون. وهو عقد صحيح مستكمل الأركان والشروط ولا حُرمة فيه من الناحية الشرعية، لكن ينقصه الإثبات الرسميّ أمام المحاكم حفظًا للأسر وصيانةً للحياة الزوجية، فكثير من الناس يفقدون ضمائرهم وينكرون هذا الزواج وتَعجِز الزوجة عن إثباته فتضيع حقوقها، وقد يضيع نسب الأولاد (قال الإمام الشافعيّ رضي الله تعالى عنه: النكاح لا يثبت إلا بأربعة أشياء: الوليّ، ورضا المنكوحة، ورضا الناكح، وشاهدَي عدل الأم للشافعيّ [2/169] إذًا فلا زواج بدون رضا الزوج والزوجة.
أما الوليّ فقد ذهب جمهور أهل العلم إلى اشتراط الوليّ في النكاح وقالوا: لا تزوِّج المرأةُ نفسَها. بينما ذهب بعض أهل العلم كأبي حنيفة رحمه الله تعالى إلى جواز ذلك.
وأما الشهود فقال ابن حزم الظاهريّ: لا يتم النكاح إلا بإشهاد عدلَين فصاعدًا أو بإعلان عامّ، فإن استُكتِمَ الشاهدان لم يَضرَّ ذلك [المحلَّى لابن حزم 9/465]
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: لا ريب في أن النكاح مع الإعلان يصحّ وإن لم يشهد شاهدان، وأما مع الكتمان والإشهاد فهذا مما يُنظَر فيه، وإذا اجتمع الإشهاد والإعلان فهذا لا نزاع في صحته، وإذا انتفَى الإشهاد والإعلان فهو باطل عند عامة العلماء [الاختيارات الفقهية 177]
وقال رحمه الله تعالى: وإذا كان الناس مما يَجهل بعضُهم حالَ بعض ولا يَعرف من عنده هل هي امرأته أو خَدينة، مثل الأماكن التي يكثُر فيها الناس المجاهيل، فهذا قد يقال: يجب الإشهاد هنا [جامع أحكام النساء 3/345](1/162)
وقد أورد الإمام الشافعيّ حديث الحسن البصريّ أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "لا نكاح إلا بوليّ وشاهدَي عدل" وقال: هذا وإن كان منقطعًا دون النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإن أكثر أهل العلم يقولون به ويقول: الفرقُ بين النكاحِ والسفاحِ الشهودُ [الأم للشافعيّ 2/168]).(1/163)
الحياة الزوجية في الجنة
السؤال: نود أن نعرف على قدر الإمكان كيف تكون الحياة الزوجية في الجنة وخاصة أن المؤمنين سيزوِّجهم الله بالحور العين.
الجواب: عندما نتأمل قول الحق: (ولهم فيها أزواجٌ مطهَّرةٌ وهم فيها خالدون) (البقرة: 25) لنا أن نعرف أن الأزواج المطهَّرة تعني الحياة الزوجية بما فيها من متعة تختلف عن مُتَع الزواج في الدنيا، فقد يقول قائل: إن الزواج في الحياة يحمل بعض المنغِّصات سواء من الرجل أو من المرأة، فالبعض قد يعاني من سلاطة اللسان أو ضيق الخلق أو متاعب الحياة على اختلاف ألوانها، لكن الأزواج المطهَّرة في الجنة أمرها مختلف، إنها مطهَّرة بأمر الحق الرحمن مَبنًى ومَعنًى، فلا يمكن أن يكون في جنة الآخرة شيء من سلوك كَرِهتَه في الحياة، إن كل شيء طاهر ومطهَّر بأمر الله (قال ابن القيم: قال تعالى "إن المتَّقين في مقامٍ أمين. في جناتٍ وعيونٍ. يَلبَسون من سندُسٍ وإستبرَقٍ متقابِلِين. كذلك وزوَّجناهم بحُورٍ عينٍ. يَدْعُون فيها بكلِّ فاكهةٍ آمنين. لا يذوقون فيها الموتَ إلا الموتةَ الأُولَى ووقَاهم عذابَ الجحيم" [الدخان: 51 ـ 56] فجمع لهم بين حُسنِ المنزل، وحصولِ الأمن فيه من كل مكروه، واشتمالِه على الثمار والأنهار وحسن اللباس وكمال العشرة لمقابلة بعضهم بعضًا، وتمام اللذة بالحور العين، ودعائهم بجميع أنواع الفاكهة مع أمنهم من انقطاعها ومضرَّتها وغائلتها الغائلة هي الشر أو المصيبة وختامُ ذلك أعلَمَهم بأنهم لا يذوقون فيها هناك موتًا.
والحُور جمع حَوراء، وهي المرأة الشابة الحسناء الجميلة البيضاء شديدة سواد العين. وقال الحسن: الحَوراء شديدةُ بياضِ العين شديدةُ سوادِ العين.(1/164)
واختُلف في اشتقاق هذه اللفظة، فقال ابن عباس: الحُور في كلام العرب البِيض. وكذلك قال قتادة: الحُور البِيض. وقال مقاتل: الحُور البِيض الوجوه. وأصل الحَوَر البياض، والتحوير التبييض. والصحيح أن الحُور مأخوذ من الحَوَر في العين، وهو شدة بياضها مع قوة سوادها، فهو يتضمن الأمرين.
وفي الصحاح: الحَوَر شدة بياض العين في شدة سوادها، امرأة حَوراء بَيِّنة الحَوَر. والحَوَر في العين معنًى يَلتئم من حسن البياض والسواد وتناسبِهما واكتسابِ كلِّ واحد منهما الحُسنَ من الآخر، عينٌ حَوراء إذا اشتد بياضُ أبْيَضِها وسوادُ أسْوَدِها، ولا تُسمَّى المرأةُ حَوراءَ حتى يكون مع حَوَر عينها بياضُ لونِ الجسد. والعِينُ جمع عَيناءَ، وهي العظيمة العين من النساء، ورجل أعيَنُ إذا كان ضخم العين، وامرأة عَيناء، والجمع عِينٌ. والصحيح أن العِينَ: اللاتي جَمَعَت أعينُهنَّ صفاتِ الحُسن والمَلَاحَة. قال مقاتل: العِينُ حسانُ الأعيُن.
ومن محاسن المرأة اتساعُ عينها في طُول. وضيقُ العين في المرأة من العيوب. ويُستحبّ السعة منها في أربعة مواضع: وجهها، وصدرها، وكاهلها وهو ما بين كتفَيها، وجبهتها. ويُستحسن البياض منها في أربعة مواضع: لونها، وفَرقها، وثَغرها، وبياض عينها. ويُستحبّ السواد منها في أربعة مواضع: عينها، وحاجبها، وهُدْبها، وشعرها.(1/165)
وقوله تعالى: "وزوَّجناهم بحُورٍ عينٍ" قال أبو عبيدة: جعلناهم أزواجًا، جعلناهم اثنَين اثنَين. وقال يونس: قَرَنَّاهم بهنَّ، وليس من عقد التزويج. قال: والعرب لا تقول: تزوَّجت بها. وإنما تقول: تزوَّجتها. قال ابن نصر: هذا، والتنزيل يدل على ما قاله يونس، وذلك قوله تعالى: "فلما قَضَى زيدٌ منها وَطَرًا زوَّجنَاكَها" [الأحزاب: 37] ولو كان قال: تزوَّجت بها. لقال: زوَّجناك بها. وقال الأزهريّ: تقول العرب: زوَّجته امرأة وتزوَّجت امرأة. وليس من كلامهم: تزوَّجت بامرأة. وقوله تعالى: "وزوَّجناهم بحور عين" أي قَرَنَّاهم.
قال الواحديّ: وقول أبي عبيدة في هذا أحسن؛ لأنه جعله من التزويج الذي هو بمعنى جَعْلِ الشيءِ زوجًا لا بمعنى عقد النكاح، ومن هذا يجوز أن يقال: كان فردًا فزوَّجته بآخر. كما يقال: شَفَعتُه بآخر.
قلت: ولا يمتنع أن يُراد الأمران معًا، فلفظ التزويج يدل على النكاح، كما قال مجاهد: أنْكَحْنَاهم الحُورَ. ولفظ الباء تدل على الاقتران والضم، وهذا أبلغ من حذفها. والله أعلم.
وقال تعالى: "فيهنَّ قاصراتُ الطَّرفِ لم يَطمِثْهُنَّ إنسٌ قبلَهم ولا جانٌّ. فبأيِّ آلاءِ ربِّكما تُكذِّبان. كأنَّهنَّ الياقوتُ والمَرجانُ" [الرحمن: 56 ـ 58] وصَفَهنَّ سبحانه بقِصَرِ الطرف في ثلاثة مواضع:
أحدها هذا.
والثاني قوله تعالى في الصافات: "وعندهم قاصراتُ الطرفِ عينٌ" [الصافات: 48]
والثالث قوله تعالى في ص: "وعندهم قاصراتُ الطرفِ أترابٌ" [ص: 52]
والمفسرون كلهم على أن المعنى: قَصَرْنَ طَرْفَهنَّ على أزواجهنَّ فلا يَطمَحْنَ إلى غيرهم.(1/166)
عن مجاهد في قوله: "قاصرات الطرف" قال: يقول قاصرات الطرف على أزواجهنَّ فلا يَبغِينَ غير أزواجهنَّ. وعن الحسن قال: قَصَرنَ طَرْفَهنَّ على أزواجهنَّ فلا يُرِدنَ غيرهم، والله ما هنَّ متبرِّجات ولا متطلِّعات. وعن مجاهد: قَصَرنَ أبصارَهنَّ وقلوبَهنَّ وأنفسَهنَّ على أزواجهنَّ فلا يُرِدنَ غيرهم.
وأما الأتراب فجمع تِرْب، وهو لِدَةُ الإنسان.
قال أبو عبيدة وأبو إسحاق: أقران، أسنانُهنَّ واحدة. قال ابن عباس وسائر المفسرين: مُستوِيات على سنٍّ واحدة وميلاد واحد، بنات ثلاث وثلاثين سنة. وقال مجاهد: (أتراب) أمثال. قال أبو إسحاق: هنَّ في غاية الشباب والحسن. وسُمِّيَ سنُّ الإنسان وقِرْنُه تِرْبَه لأنه مسَّ تراب الأرض معه في وقت واحد.
والمعنى من الإخبار باستواء أسنانهنَّ أنهنَّ ليس فيهنَّ عجائزُ قد فات حسنُهنَّ ولا ولائدُ لا يُطِقنَ الوطء، بخلاف الذكور فإن فيهم الولدانَ، وهم الخَدَم.
وقوله تعالى: "لم يَطمِثْهنَّ إنسٌ قبلهم ولا جانٌّ" [الرحمن: 56].
قال أبو عبيدة: لم يَمَسَّهنَّ. يقال: ما طَمَثَ هذا البعيرَ حبلٌ قط. أي ما مسَّه.
وقال الفراء: الطمثُ الافتِضاض، وهو النكاح بالتدمية.
قال المفسرون: لم يَطأهنَّ ولم يَغشَهُنَّ ولم يجامعهنَّ.
قلت: ظاهر القرآن أن هؤلاء النسوة لَسْنَ من نساء الدنيا وإنما هنَّ من الحور العين، وأما نساء الدنيا فقد طَمَثَهنَّ الإنس، ونساء الجن قد طَمَثَهنَّ الجنّ، والآية تدل على ذلك.
قال أبو إسحق: وفي هذه الآية دليل على أن الجنّ يَغشَى كما أن الإنسان يَغشَى.
ويدل على أنهنَّ الحور اللاتي خُلقنَ في الجنة أنه سبحانه جعَلَهنَّ مما أعده الله في الجنة لأهلها من الفواكه والثمار والأنهار والملابس وغيرها، ويدل عليه أيضًا الآيةُ التي بعدها وهي قوله تعالى: "حُورٌ مقصوراتٌ في الخيام" [الرحمن: 72].
ثم قال: "لم يَطمِثْهنَّ إنسٌ قبلهم ولا جانٌّ" [الرحمن: 74].(1/167)
قال الإمام أحمد: والحور العين لا يَمُتنَ عند النفخة للصور لأنهنَّ خُلقنَ للبقاء.
وفي الآية دليل لما ذهب إليه الجمهور أن مؤمن الجنّ في الجنة كما أن كافرهم في النار، وبوَّب عليه البخاريّ في صحيحه فقال: باب ثواب الجنّ وعقابهم هكذا ذكره البخاريّ في بدء الخلق: باب ذكر الجنّ وثوابهم وعقابهم. فتح الباري [6/359] ونصّ عليه غير واحد من السلف، قال ضمرة بن حبيب وقد سئل: هل للجنّ ثواب؟ فقال: نعم. وقرأ هذه الآية ثم قال: الإنسيات للإنس والجنِّيات للجنِّ.
وقوله: "كأنَّهنَّ الياقوتُ والمَرجانُ".
قال الحسن وعامة المفسرين: أراد صفاء الياقوت في بياض المرجان، شبَّهَهنَّ في صفاء اللون وبياضه بالياقوت والمرجان.
ويدل عليه ما قاله عبد الله: إن المرأة من نساء أهل الجنة لَتَلبَس عليها سبعين حُلّة من حرير فيُرَى بياض ساقَيها من ورائهنَّ، ذلك بأن الله يقول: "كأنهنَّ الياقوتُ والمَرجانُ" ألَا وإن الياقوت حجر لو جَعَلتَ فيه سلكًا ثم استَصفَيتَه نَظَرتَ إلى السلك من وراء الحجر رواه الترمذيّ [2533، 2534 و583، 584] وبنحوه عند ابن حبان [2632 موارد] وقال الألبانيّ في الصحيحة [1736]: وللحُلَلِ السبعين شاهدان من حديث أبي سعيد الخدريّ وعبد الله بن مسعود مرفوعًا أخرجهما ابن حبان [2631، 2632] بإسنادين يُستشهَد بهما اهـ وضعَّف الحديث في ضعيف الجامع الصغير [1776] وقال محقق صفة الجنة لأبي نعيم [3379/ 222]: والخلاصة أن الحديث حسن إن شاء الله تعالى. ولا يضره وقف من أوقفه اهـ.
فصل
قَصْرُ الحور العين في الخيام
وقال تعالى في وصفهنَّ: "حُورٌ مقصوراتٌ في الخيام" المقصورات: المحبوسات. قال أبو عبيدة: خَدَرْنَ في الخيام. وكذلك قال مقاتل.(1/168)
وفيه معنى آخر، وهو أن يكون المراد أنهنَّ محبوسات على أزواجهنَّ لا يَرَونَ غيرَهم وهنَّ في الخيام. وهذا معنى قول من قال: قَصَرْنَ على أزواجهنَّ فلا يُرِدنَ غيرَهم ولا يَطمَحنَ إلى من سواهم. وذكره الفَرّاء.
قلت: وهذا معنى "قاصراتُ الطرف" لكن أولئك قاصرات بأنفسهنَّ وهؤلاء مقصورات، وقد تقدم وصف النسوةِ الأُوَلِ بكونهنَّ قاصراتِ الطرف وهؤلاء بكونهنَّ مقصورات، والوصفان لِكِلَا النوعين، فإنهما صفات كمال، فتلك الصفة قَصْرُ الطرفِ عن طموحه إلى غير الأزواج وهذه الصفة قَصْرُ الرجل على التبرج والبروز والظهور للرجال.
فصل
اجتماع صفات الخير والحُسن في نساء الجنة
وقال تعالى: "فيهنَّ خيراتٌ حِسانٌ" [الرحمن: 70]
فالخيرات جمع خَيْرة، وهي مخفَّفة من خيِّرة، كسيِّدة وليِّنة، وحِسان جمع حسنة، فهنَّ خيرات الصفات والأخلاق والشيم، حِسان الوجوه.
فصل
خلق وإنشاء الحور العين(1/169)
وقال تعالى: "إنّا أنشأناهنَّ إنشاءً. فجعلناهنَّ أبكارًا. عُرُبًا أترابًا. لأصحاب اليمين" [الواقعة: 35 ـ 38] أعاد الضمير إلى النساء ولم يَجْرِ لهنَّ ذكر؛ لأن الفُرُش دلَّت عليهنَّ، إذ هي محلُّهنَّ. قال قتادة وسعيد بن جبير: خلقناهنَّ خلقًا جديدًا. وقال ابن عباس: يريد نساء الآدميات. وقال الكلبيّ ومقاتل: يعني نساء أهل الدنيا العُجُز الشُّمْط الشُّمط جمع شَمْطاء، وهي المرأة التي شاب بعض رأسها يقول تعالى خلقناهنَّ بعد الكِبَر والهَرَم الهَرَم: أقصى الكِبَر بعد الخلق الأول في الدنيا ويؤيد هذا التفسيرَ حديثُ أنس المرفوع "هنَّ عجائزكم العُمْشُ العُمْش جمع عَمْشاء، وهي الضعيفة البصر مع جريان الدمع الرُّمْصُ" الرُّمْص جمع رَمْصاء، وهي التي يخرج من أطراف عينيها وسخ أبيض، العماص. رواه الترمذيّ [3296] والطبريّ في تفسيره [27/185، 186] وضعفه الألبانيّ في ضعيف الترمذيّ [650] وعن عائشة أن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أتته عجوز من الأنصار فقالت: يا رسول الله، ادعُ اللهَ أن يدخلَني الجنة. فقال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم: "إن الجنة لا يدخلها عجوز" فذهب نبيّ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فصلّى ثم رجع إلى عائشة، فقالت عائشة: لقد لَقِيَتْ من كلمتك مشقة وشدة. فقال صلى الله عليه وسلم: "إن ذلك كذلك؟ إن الله تعالى إذا أدخلَهنَّ الجنة حوَّلهنَّ أبكارًا" عزاه ابن القيم رحمه الله لابن أبي شيبة، وقال الهيثميّ في مجمع الزوائد [10/419]: رواه الطبرانيّ في الأوسط اهـ وعزاه ابن كثير في تفسيره [8/9] لعبدِ بن حُميد والترمذيِّ في الشمائل. وقال العراقيّ في تخريج الإحياء [2628]: رواه الترمذيّ في الشمائل مرسلًا، وأسنده ابن الجوزيّ في الوفاء من حديث أنس بسند ضعيف اهـ وحسّنه الألبانيّ في مختصر الشمائل المحمدية للترمذيّ [205] وكذلك في غاية المرام [375] لشواهده عند عبد بن حُميد والترمذيّ في الشمائل وابن المنذر(1/170)
والبيهقيّ في البعث وفي الشُّعَب والطبرانيّ والبغويّ وذكر مقاتل قولًا آخر، وهو اختيار الزجاج، أنهنَّ الحور العين التي ذكرهنَّ. قيل: أنشأهنَّ الله عز وجل لأوليائه، لم يقع عليهنَّ ولادة.
والظاهر أن المراد: أنشأهنَّ الله تعالى في الجنة إنشاء. ويدل عليه وجوه:
أحدها: أنه قد قال في حق السابقين: "يَطُوف عليهم وِلدانٌ مخلَّدون. بأكوابٍ..." إلى قوله: "...كأمثال اللؤلؤ المكنون" [الواقعة: 17 ـ 23] فذكَر سُرُرَهم وآنيتَهم وشرابَهم وفاكهتَهم وطعامَهم وأزواجَهم من الحور العين، ثم ذكَر أصحابَ الميمنة وطعامَهم وشرابَهم وفُرُشَهم ونساءهم، والظاهر أنهنَّ مثلُ نساءِ مَن قبلَهم خُلقنَ في الجنة.
الثاني: أنه سبحانه قال: "إنَّا أنشأناهنَّ إنشاء" وهذا ظاهر أنه إنشاء أولُ لا ثانٍ؛ لأنه سبحانه حيث يريد الإنشاء الثانيَ يقيده بذلك كقوله: "وأن عليه النشأةَ الأخرى" [النجم: 7] وقوله: "ولقد عَلمتم النشأةَ الأولى" [الواقعة: 62]
الثالث: أن الخطاب بقوله: "وكنتم أزواجًا ثلاثة" [الواقعة: 7] إلى آخره للذكور والإناث، والنشأة الثانية أيضًا عامة للنوعين كقوله: "إنَّا أنشأنهنَّ إنشاء" ظاهره اختصاصهنَّ بهذا الإنشاء، وتأمَّل تأكيده بالمصدر.
والحديث لا يدل على اختصاص العجائز المذكورات بهذا الوصف، بل يدل على مشاركتهنَّ للحور العين في هذه الصفات المذكورة، فلا يُتوهَّمُ انفرادُ الحور العين عنهنَّ بما ذُكر من الصفات، بل هي أحق به منهنَّ، فالإنشاء واقع على الصنفين. والله أعلم.(1/171)
وقوله: "عُرُبًا" جمع عَرُوب، وهنَّ المتحبِّبات إلى أزواجهنَّ. قال ابن الأعرابيّ: العَرُوب من النساء المطيعة لزوجها المتحبِّبة إليه. وقال أبو عبيدة: العَرُوب الحَسَنة التبعل التبعُّل: مطاوعة المرأة لزوجها وتزُّينُها له قلت: يريد حسن مواقعتها وملاطفتها لزوجها عند الجماع. وقال المبرِّد: هي العاشقة لزوجها. وذكر المفسِّرون في تفسير العُرُب أنهنَّ العواشق المتحبِّبات والغَنِجات الشَّكِلات المتعشِّقات الغَلِمات الغَلِمات: جمع غَلِمة وهي التي تتوق وتشتاق إلى زوجها بشدة، أو التي غلبت شهوة إلى زوجها المغنوجات، كلُّ ذلك من ألفاظهم.
وقال البخاريّ في صحيحه: "عُرُبًا" مثقّلة، واحدها عَرُوب، مثل صَبُور وصُبُر، تُسمّيها أهلُ مكة العَرِبةَ، وأهلُ المدينة الغَنِجةَ، وأهلُ العراق الشكِلَةَ. والعُرُبُ: المتحبِّباتُ إلى أزواجهنَّ. هكذا ذكره في كتاب بدء الخلق هكذا ذكره البخاريّ في بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة، فتح الباريّ [6/365] قلت: فجمع سبحانه بين حسن صورتها وحسن عشرتها، وهذا غاية ما يُطلب من النساء وبه تكمُل لذة الرجل بهنَّ.
وفي قوله: "لم يَطْمِثْهُنَّ إنسٌ قبلَهم ولا جانٌّ" [الرحمن: 56] إعلام بكمال اللذَّة بهنَّ، فإن لذة الرجل بالمرأة التي لم يَطَأْها سواه لها فضلٌ على لذَّته بغيرها، وكذلك هي أيضًا.
فصل
من تمام جمال وحسن نساء الجنة
وقال تعالى: "إن للمتقين مَفَازًا. حدائقَ وأعنابًا. وكَواعِبَ أترابًا" [النبأ: 31 ـ 33] فالكواعب جمع كاعب، وهي الناهد. قال قتادة ومجاهد والمفسرون: قال الكلبيّ: هي الفالكات اللاتي تَكعَّب ثَديُهنَّ وتَفَلَّكَ. وأصل اللفظة من الاستدارة، والمراد أن ثُدِيَّهُنَّ نواهدُ كالرمّان ليست متدلِّية إلى أسفل، ويُسمَّينَ نَوَاعِدَ وكَوَاعِبَ.
فصل
حسن صفات نساء الجنة وتنعُّم أزواجهنَّ بهنَّ(1/172)
روى البخاريّ في صحيحه عن أنس بن مالك أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "لَغَدوة في سبل الله أو رَوحة خير من الدنيا وما فيها، ولَقَاب قوس أحدكم أو موضع قِيدِه ـ يعني سَوطَه ـ من الجنة خير من الدنيا وما فيها، ولو اطَّلَعَت امرأة من نساء أهل الجنة إلى الأرض لملأت ما بينهما ريحًا ولأضاءت ما بينهما، ولَنَصيفُها على رأسها خير من الدنيا وما فيها" أخرجه البخاريّ [2796] ولفظه: "لَرَوحة في سبيل الله أو غَدوة خير من الدنيا وما فيها، ولَقَاب قوس أحدكم من الجنة أو موضعُ قِيدِه ـ يعني سَوطَه ـ خير من الدنيا وما فيها، ولو أن امرأة من أهل الجنة اطَّلَعَت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما ولملأته ريحًا، ولَنَصيفُها على رأسها خير من الدنيا وما فيها".(1/173)
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "إن أول زُمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والتي تليها على أضوأ كوكب دُرّيّ من السماء، ولكل امرئٍ منهم زوجتان يُرَى مُخُّ سُوقِهما من وراء اللحم، وما في الجنة أعزَبُ" أخرجه البخاريّ [3246] ومسلم [2834/ 14] واللفظ له وعن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "للرجل من أهل الجنة زوجتان من الحور العين، على كل واحدة سبعون حُلَّةً، يُرَى مُخُّ ساقها من وراء الثياب" رواه أحمد في المسند [2/345] وقال الأرناؤط [8542]: إسناده صحيح على شرط مسلم وعن أبي سعيد الخدريّ عن النبيّ ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ في قوله تعالى: "كأنهنَّ الياقوتُ والمَرجانُ" قال: "ينظُر إلى وجهه في خدِّها أصفَى من المرآة، وإن أدنَى لؤلؤةٍ عليها لَتُضيء ما بين المشرق والمغرب، وإنه لَيكونُ عليها سبعون ثوبًا يَنفُذُها بصرُه حتى يَرَى مُخَّ ساقها من وراء ذلك" رواه أحمد [3/75] وعزاه ابن كثير في تفسيره [4/280] لابن أبي حاتم، وذكره الهيثميّ في المجمع [10/419] وقال: رواه أحمد وأبو يعلى وإسنادهما حسن وعن أبي هريرة قال: قيل: يا رسول الله، هل نصل إلى نسائنا في الجنة؟ فقال: "إن الرجل لَيَصلُ في اليوم إلى مائة عذراء" قال الهيثميّ في مجمع الزوائد [10/417]: رواه البزار في رواية عنده، وعند الطبرانيّ في الصغير والأوسط بنحوه، ورجال هذه الرواية الثانية رجال الصحيح، غير محمد بن ثواب، وهو ثقة اهـ ونقل ابن كثير في نهاية البداية والنهاية [2/341] قول الحافظ الضياء: هذا عندي على شرط الصحيح. وكذلك نقل ابن القيم قول الضياء بلفظ: ورجال هذا الحديث عندي على شرط الصحيح. وصححه الألبانيّ في الصحيحة [367]
فصل
عدد أزواج أهل الجنة(1/174)
والأحاديث الصحيحة إنما فيها أن لكل منهم زوجتَين، وليس في الصحيح زيادةٌ على ذلك، فإن كانت هذه الأحاديث محفوظةً فإما أن يراد بها ما لكلِّ واحدٍ من السَّرَاريِّ زيادةً على الزوجتَين ويكونون في ذلك على حسَب منازلهم في القلة والكثرة كالخدم والولدان، وإما أن يراد أنه يُعطَى قوةَ من يجامع هذا العدد، ويكون هذا هو المحفوظَ، فرواه بعض هؤلاء بالمعنى فقال: له كذا وكذا زوجةً.
وقد روى الترمذيّ في جامعه من حديث أنس عن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "يُعطَى المؤمنُ في الجنة قوةَ كذا وكذا من الجماع" قيل: يا رسول الله أوَ يُطيق ذلك؟ قال: "يُعطَى قوةَ مائة" رواه الترمذيّ [2536] وقال: هذا حديث صحيح غريب. وصححه الألبانيّ في صحيح الترمذيّ [2059] هذا حديث صحيح، فلعل مَن رواه: "يُفضي إلى مائةِ عذراءَ" رواه بالمعنى، أو يكون تَفاوُتُهم في عدد النساء بحسب تفاوُتِهم في الدرجات والله أعلم. ولا ريب أن للمؤمن في الجنة أكثرَ من اثنتَين، لما في الصحيحين من حديث أبي بكر بن عبد الله ابن قيس عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن للعبد المؤمن في الجنة لَخيمةً من لؤلؤة مجوَّفة طولُها ستون ميلًا، للعبد المؤمن فيها أهلُون، فيَطُوف عليهم لا يَرَى بعضُهم بعضًا" أخرجه البخاريّ [3243] ومسلم [2838/ 23] ولفظه: "إن للمؤمن في الجنة لَخيمةً من لؤلؤة مجوَّفة طولُها ستون ميلًا، للمؤمن فيها أهلُون، يَطُوف عليهم المؤمن فلا يَرَى بعضُهم بعضًا"
فصل
في ذكر المادة التي خُلق منها الحور العين
وما ذُكر فيها من الآثار
وذِكرِ صفاتهنَّ ومعرفتهنَّ اليوم بأزواجهنَّ(1/175)
فأما المادة التي خلق منها الحور العين، قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: إن لوليّ الله في الجنة عروسًا لم يَلِدْها آدم ولا حواء ولكن خُلقَت من زعفران. وهذا مرويّ عن صحابيَّين وهما ابن عباس وأنس، وعن تابعيَّين وهما أبو سلمة ومجاهد. وبكل حال فهي من المنشآت في الجنة، ليست مولوداتٍ بين الآباء والأمهات. والله أعلم.
وإذا كانت هذه الخِلقة الآدمية التي هي من أحسنِ الصور وأجملِها مادَّتُها من تراب وجاءت الصور من أحسن الصور، فما الظن بصورة مخلوقة من مادة الزعفران الذي هناك! فالله المستعان.(1/176)
وقد رُوي في مادة خَلقهنَّ صفة أخرى، عن الزهريّ أن ابن عباس قال: إن في الجنة نهرًا يقال له "البَيذَخ" عليه قِبَاب من ياقوت، تحته حُورٌ ناشئات، يقول أهل الجنة: انطلِقوا بنا إلى البَيذَخ. فيجيئون فيتصفَّحون تلك الجواريَ، فإذا أعجَبَ رجلًا منهم جاريةٌ مَسَّ مِعصَمَها فتَتبَعُه رواه أبو نُعيم في الحلية [2/173] والبَيذَخ في اللغة تعني العظيم أو البادن السمين وعن ابن عباس قال: كنا جلوسًا مع كعب يومًا فقال: لو أن يدًا من الحور دُلِّيَت من السماء لأضاءت لها الأرضُ كما تُضيء الشمسُ لأهل الدنيا. ثم قال: إنما قلتُ "يدها" فكيف بالوجه وبياضه وحسنه وجماله! رواه نُعيم بن حماد في زياداته على "الزهد" لابن المبارك [256] وفي مسند الإمام أحمد من حديث معاذ بن جبل عن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "لا تؤذي امرأةٌ زوجَها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين: لا تؤذيه قاتَلَكِ اللهُ؛ فإنما هو عندك دَخيل الدَّخيل هو من دخَل في القوم وليس منهم. والمقصود هنا الغريب يوشك أن يفارقَكِ إلينا" رواه أحمد في المسند [5/242] وابن ماجه [2014] وصححه الألبانيّ في صحيح ابن ماجه [1637] وانظر الصحيحة [173] وقال ربيعة بن كلثوم: نظر إلينا الحسن ونحن حوله شباب فقال: يا معشر الشباب أما تشتاقون إلى الحور العين؟ وقال لي أي لربيعة بن كلثوم: ابن أبي الحواريّ حدثني الحضرميّ قال: نمت أنا وأبو حمزة على سطح، فجعلت أنظر إليه يتقلب على فرشه إلى الصباح، فقلت: يا أبا حمزة ما رَقَدْتَ الليلة؟ فقال: إني لما اضطَّجَعتُ تمَثَّلَتْ لي حَوراء، حتى كأني أحسست بجلدها وقد مَسَّ جلدي. فحدثتُ به أبا سليمان فقال: هذا رجل كان مشتاقًا. وعن يحيى بن أبي كثير: إن الحور العين يَتلَقَّينَ أزواجَهنَّ عند أبواب الجنة فيَقُلنَ: طالما انتظرناكم، فنحن الراضيات فلا نَسخط، والمقيمات فلا نَظعَنُ، والخالدات فلا نموت. بأحسن أصوات سَمِعتَ، وتقول: أنت(1/177)
حِبّي وأنا حِبُّك، ليس دونك تقصيرٌ ولا وراءك مَعدِلٌ في الزهد "مَعدًى" والمقصود: ليس بعدك غاية تُطلَب. رواه ابن المبارك في "الزهد" من رواية نعيم [435]
فصل
في ذكر نكاح أهل الجنة ووَطْئِهنَّ والتذاذِهم بذلك أكملَ لذّةٍ
ونزاهةِ ذلك عن المَذي والمنيِّ والضعف وأنه لا يوجب غسلًا
قد تقدم حديث أبي هريرة: قيل: يا رسول الله أنُفضي إلى نسائنا في الجنة؟ فقال: "إن الرجل لَيَصلُ في اليوم إلى مائة عذراء" وأن إسناده صحيح قال الهيثميّ في مجمع الزوائد [10/417]: رواه البزار في رواية عنده، وعند الطبرانيّ في الأوسط بنحوه، ورجال هذه الرواية الثانية رجال الصحيح غير محمد بن ثواب، وهو ثقة وتقدم حديث أبي موسى المتفق على صحته: "إن للمؤمن في الجنة خيمةً من لؤلؤة واحدة مجوَّفة طولها ستون ميلًا، له فيها أهلُون يطُوف عليهم" سبق تخريجه وحديث أنس: "يُعطَى المؤمنُ في الجنة قوةَ كذا وكذا من النساء" وصححه الترمذيّ سبق تخريجه وروى الطبرانيّ وعبد الله بن أحمد وغيرهما من حديث لَقيط بن عامر أنه قال: يا رسول الله علامَ يَطَّلِعُ من الجنة؟ قال: "على أنهار من عسل مُصفًّى، وأنهار من كأس ما بها صداع ولا ندامة، وأنهار من لبن لم يتغيَّر طعمه، وماءٍ غيرِ آسِنٍ، وفاكهةٍ لَعَمْرُ إلهِك ما تَعلَمون، وخيرٍ من مثله، وأزواجٍ مطهَّرة" قلت: يا رسول الله أوَ لَنَا فيها أزواج مصلَحات؟ قال: "الصالحات للصالحين، تَلَذُّون بهنَّ مثل لذَّاتكم في الدنيا ويَلْذَذْنَ بكم، غير أنْ لا تَوَالُدَ" رواه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند [4/13] والحاكم في المستدرك [4/560] وعن عبد الله بن مسعود في قوله: "إن أصحاب الجنة اليوم في شُغُلٍ فاكهون" قال: شُغلُهم افتضاضُ العَذَارَى رواه الطبريّ [23/17،18] وأبو نعيم في الحلية [3/215، 216] وعن الأوزاعيّ في قوله تعالى: "إن أصحاب الجنة اليوم في شُغُلٍ فاكهون" قال: شُغلُهم افتضاضُ الأبكار. قال مقاتل:(1/178)
شُغلوا بافتضاض العذارَى عن أهل النار، فلا يذكرونهم ولا يهتمون لهم. وقال أبو الأحوص: شُغلوا بافتضاض الأبكار على السرر في الحِجال. وعن أبي مِجلَزٍ: قلت لابن عباس عن قول الله تعالى: "إن أصحاب الجنة اليوم في شُغُلٍ فاكهون" ما شُغلُهم؟ قال: افتضاضُ الأبكار. وعن سعيد بن جبير: إن شهوته لَتجري في جسده سبعين عامًا يجد اللذة عزاه الزَّبيديّ في تخريج الإحياء [4217] لابن أبي شيبة من كلام سعيد بن جبير إلا أن لفظه: وإن شهوته لَتجري في جسدها سبعين عامًا تجد اللذة ولا يَلحَقهم بذلك جَنابةٌ فيحتاجوا إلى التطهيرِ، ولا ضعفٌ ولا انحلالُ قوة، بل وَطْؤُهم وَطْءُ التذاذٍ ونعيمٍ لا آفةَ فيه بوجه من الوجوه. وأكملُ الناس فيه أصوَنُهم لنفسه في هذه الدار عن الحرام، فكما أن من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة، ومن لبس الحرير في الدنيا لم يَلبَسه في الآخرة، ومن أكل من صِحَاف الذهب والفضة في الدنيا لم يأكل فيها في الآخرة، كما قال النبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة" أخرجه البخاريّ [5425] ومسلم [2067/ 4] فمن استوفى طيباته ولذَّاته وأذهَبَها في هذه الدار حُرِمَها هناك، كما نَعَى سبحانه على من أذهَب طيباته في الدنيا واستمتَعَ بها، ولهذا كان الصحابة ومَن تَبِعَهم يَخافون من ذلك أشد الخوف، ذكَر الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله أنه رآه عمر ومعه لحم قد اشتراه لأهله بدرهم فقال: ما هذا؟ قال: لحمٌ اشتريته لأهلي بدرهم. فقال: أوَ كلما اشتَهَى أحدُكم شيئًا اشتراه! أما سمعتَ الله تعالى يقول: (أَذْهَبْتُم طيباتِكم في حياتِكم الدنيا واستَمتَعتُم بها) [الأحقاف: 20] رواه أحمد في الزهد [ 153] وقال الحسن: قدم وفد أهل البصرة مع أبي موسى على عمر، فكنا ندخل عليه كل يوم وله خبز ثلاثة، وربما وافقناها مأدومة بالسمن، وربما وافقناها مأدومة بالزيت، وربما وافقناها مأدومة باللبن، وربما(1/179)
وافقناها القدائد اليابسة القدائد: قطع لحم يابسة قد دُقَّت ثم أُغليَ بها، وربما وافقناها اللحم الغَريض الغَريض: الطازج وهو قليل، فقال ذات يوم: إني والله قد أرى تَعذيرَكم تَعذيرَكم: تَقصيرَكم في الأكل وكراهيتَكم لطعامي، إني والله لو شئتُ لكنتُ أطيَبَكم طعامًا وأرَقَّكم عيشًا، ولكني سمعتُ اللهَ عيَّر قومًا بأمر فعَلوه فقال: "أذْهَبْتُم طيباتِكم في حياتِكم الدنيا واستمتعتم بها" رواه ابن المبارك [204، 205] رقم [579] بنحوه، ورواه عبد الله بن أحمد في زوائده على "الزهد" لأحمد بن حنبل من طريق الحسن عن الأحنف باختصار شديد [142] وعزاه الحافظ ابن حجر في "الكافي الشافي في تخريج أحاديث الكشاف" [398] لابن المبارك في الزهد وأبي عبيدة في الغريب وابن سعد وأحمد في "الزهد" وأبي نُعيم في الحلية. وعزاه الآلوسيّ في تفسيره [26/ 23] لابن المبارك وابن سعد وأحمد في الزهد وعبد بن حميد وأبي نعيم في الحلية فمن ترك اللذَّة المحرَّمة لله استوفاها يوم القيامة أكمَلَ ما تكون، ومن استوفاها هنا حُرِمَها هناك أو نُقِصَ كمالَها، فلا يجعلُ اللهُ لذةَ من أوضَعَ في معاصيه ومحارمه كَلَذَّة من ترَكَ شهوتَه لله أبدًا. والله أعلم.
فصل
في ذكر اختلاف الناس؛ هل في الجنة حمل وولادة أم لا؟
قال الترمذيّ في جامعه... عن أبي سعيد الخدريّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن إذا اشتهَى الولد في الجنة كان حملُه ووضعُه وسنُّه سنُّه: شبابُه وكِبَرُه في ساعة كما يَشتهي" قال: هذا حديث حسن غريب رواه الترمذيّ [2563] وأحمد في المسند [3/9] وابن ماجه في الزهد [4838] وصححه الألبانيّ في صحيح الترمذيّ [2077] وفي صحيح ابن ماجه [3500] وقد صحّح ابن القيم إسناد الحديث على شرط الصحيح، ونقل ابن كثير في نهاية البداية والنهاية [2/344] قول المقدسيّ: هذا عندي على شرط مسلم.(1/180)
وقد اختلف أهل العلم في هذا، فقال بعضهم: في الجنة جماع ولا يكون ولد. هكذا رُوي عن طاووس ومجاهد وإبراهيم النخعيّ. وقال محمد يعني البخاريّ: قال إسحاق بن إبراهيم في حديث النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إذا اشتهى المؤمن الولد في الجنة كان في ساعة كما يشتهي" ولكن لا يَشتهي جملة "ولكن لا يَشتهي" هي قول إسحاق، وقال الألبانيّ في تخريج المشكاة [5648]: وقول إسحاق ليس من الحديث، ثم هو مما لا دليل عليه في السنة الصحيحة وظاهر الحديث يرده. وقال ابن كثير في نهاية البداية والنهاية [2/344]: ونُقل عن جماعة من التابعين كطاووس ومجاهد وإبراهيم النخعيّ وغيرهم أن الجنة لا يولد فيها. ثم قال: وهذا صحيح؛ وذلك أن جماعهم لا يَقتضي ولدًا كما هو الواقع في الدنيا، فإن الدنيا دار يُراد منها النسل لتَعمُرَ، أما الجنة فالمراد بقاء الملك، ولهذا لا يكون في جماعهم مَنِيٌّ يَقطع لذة الجماع، ولكن إذا أحب أحدهم الولد يقع كما يريد، قال الله تعالى: "لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين" [الزمر: 34] قال محمد: وقد رُوي عن أبي رَزين العُقيليّ عن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "إن أهل الجنة لا يكون لهم فيها ولد".
وتأويل إسحاق فيه نظر؛ فإنه قال: "إذا اشتهى المؤمن الولد" و"إذا" للمتحقِّق الوقوع، ولو أريد ما ذكره من المعنى لقال: لو اشتهى المؤمن الولد لكان حملُه في ساعة. فإن ما لا يكون أحقُّ بأداة "لو" كما أن المتحقِّق الوقوع أحقُّ بأداة "إذا".
وأما حديث أبي رَزين الذي أشار إليه البخاريّ فهو حديثه الطويل، ونحن نسوقه بطوله نجمِّل به كتابنا، فعليه من الجلالة والمهابة ونور النبوة ما ينادي على صحته:(1/181)
عن دَلهَم بن الأسود بن عبد الله بن حاجب بن عامر بن المنتَفِق العُقيليّ عن أبيه عن عمه لَقيط ابن عامر. قال دَلهَم: وحدثنيه أبو الأسود عن عاصم بن لَقيط أن لَقيطًا خرج وافدًا إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ومعه صاحب له يقال له: نَهيك بن عاصم بن مالك ابن المنتَفِق. قال لَقيط: فخرجت أنا وصاحبي حتى قدمنا على رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ حين انصرف من صلاة الغداة، فقام في الناس خطيبًا فقال: "ألا أيها الناس إني قد خبّأت لكم صوتي منذ أربعة أيام، ألَا لَأُسمِعنَّكم، ألَا فهل من امرئ بعَثه قومُه فقالوا له: اعلَم لنا ما يقول رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟ ألَا ثم لعله أن يُلهيَه حديثُ نفسه أو حديثُ صاحبه أو يُلهيَه الضُّلَّالُ، ألَا إني مسؤول، ألَا هل بلّغتُ، ألَا اسمعوا تعيشوا، ألَا اجلسوا، ألَا اجلسوا" قال: فجلس الناس وقمت أنا وصاحبي حتى إذا فرَغ لنا فؤادُه وبصرُه قلت: يا رسول الله، ما عندك من علم الغيب؟ فضحك لَعَمرُ الله وهَزّ رأسه وعَلم أني أبتغي سَقَطَه، فقال: "ضَنَّ ربُّك بمفاتيحِ خمسٍ من الغيب لا يَعلمهنَّ إلا الله" وأشار بيده، قلت: وما هي؟ قال: "علمُ المَنيَّة المنية: الموت قد عَلِمَ متى مَنيَّة أحدكم ولا تعلمونه، وعَلِمَ المَنيَّ حين يكون في الرحم قد عَلِمَه ولا تعلمون، وعَلِمَ ما في غدٍ ما أنت طاعمٌ غدًا ولا تعلمونه، وعَلِمَ يوم البعث يوم يُشرِف عليكم أَزِلِين آزِلِين: أصابكم الأَزْلُ وهو الشدة مُشفِقِين فيظلّ يضحك، قد عَلِمَ أن غَيْرَكم إلى قريب غيركم: تحوُّلُكم. والمقصود تحوُّلُكم من الشدة إلى الرخاء قال لَقيط: قلت: لن نَعدَم من رب يضحك خيرًا "وعَلِمَ يوم الساعة" قلت: يا رسول الله علِّمنا مما تُعلِّم الناس وما تَعلَم، فإنّا من قَبيل لا يصدّقون تصديقَنا أحد، من مَذحِج التي تَربو علينا تربو: تزيد وخَثعَم التي تُوالينا مَذحِج وخَثعَم:(1/182)
قبيلتان من العرب اليمانية وعشيرتنا التي نحن منها. قال: "تَلبَثون ما لَبِثتم ثم يُتوفَّى نبيُّكم، ثم تَلبَثون ما لَبثتم، ثم تُبعث الصائحة الصائحة: نفخة الصور التي يموت معها أهل الأرض جميعًا لَعَمرُ إلهِك لَعَمرُ إلهِك: قسمٌ ببقاء الله وحياته، وفيه دليل على جواز الإقسام بصفات الله عز وجل لا تَدَعُ على ظهرها شيئًا إلا مات، والملائكة الذين مع ربك عز وجل، فأصبح ربك يطوف في الأرَضين وخلَت عليه البلاد، فأرسل ربك السماءَ تَهضِب تَهضِب: تُمطر من عند العرش، فلَعَمرُ إلهِك ما تَدَعُ على ظهرها من مصرع قتيل ولا مَدفِن ميت إلا شقّت القبر عنه حتى يخلقه من عند رأسه، فيستوي جالسًا، فيقول ربك: مَهْيَمْ؟ مَهْيَمْ: ما شأنك وما أمرُك وفيم كنت لِمَا كان فيه، يقول: يا ربِّ أمسِ اليومَ أمسِ اليومَ: يتردد ويستقلّ فترة مُكثه في الأرض ويظنّ أنه فارق أهله حديثًا ولِعهدِه بالحياة عشيةً تَحسَبه حديثًا بأهله" فقلت: يا رسول الله، كيف يجمعنا بعد ما تُمزقنا الرياح والبِلَى والسباع؟ فقال: "أنبّئك بمثل ذلك في آلاء الله، الأرضُ أشرَفتَ عليها وهي مَدَرَة بالية مَدَرَة: قطعة من الطين اليابس. وهو حال الأرض بدون الماء فقلتَ: لا تَحيَا أبدًا. ثم أرسل ربك عليها السماء فلم تَلبَث عليك إلا أيامًا حتى أشرَفتَ عليها وهي شَرْيَة واحدة الشَرْيَة: الحَنظَلة، وهي ذات لون أخضر. فالمعنى أن الأرض بعد يُبْسها قد اخضرَّت ولَعَمرُ إلهِك لهو أقدَرُ على أن يجمعهم من الماء على أن يجمع نبات المطر، فيخرجون من الأَصْواء الأَصْواء: القبور ومن مصارعهم، فتنظرون إليه وينظر إليكم" قال: قلت: يا رسول الله فكيف ونحن ملء الأرض وهو شخص واحد ينظر إلينا وننظر إليه؟ قال: "أنبّئك بمثل ذلك في آلاء الله، الشمسُ والقمرُ آية منه صغيرة تَرَونَهما ويَرَيَانِكم ساعةً واحدة لا تُضارُّون في رؤيتهما، ولَعَمرُ إلهِك لهو أقدَرُ على أن يَرَاكم وتَرَوه من أن(1/183)
تَرَوهما ويَرَيَاكم لا تُضارُّون في رؤيتهما" قلت: يا رسول الله، فما يفعل بنا ربنا إذا لَقيناه؟ قال: "تُعرَضون عليه باديةً له صفحاتُكم لا تَخفَى عليه منكم خافية، فيأخذ ربك عز وجل بيده غَرفة من الماء فيَنضَح قَبيلَكم بها، فلَعَمرُ إلهِك ما يخطئ وجهَ أحد منكم منها قطرةٌ، فأما المسلم فتدعُ وجهه مثل الرَّيطة البيضاء الرَّيطة: المُلَاءة وأما الكافر فتَخطِم وجهَه بمثل الحُمَم الأسود الحُمَم: جمع حُمَمَة وهو الفحم ألَا ثم ينصرف نبيُّكم رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ويَفرَق يَفرَق: يَفزَع ويُسرع على أثَرِه الصالحون، فيَسلُكون جسرًا من النار فيَطأ أحدُكم الجمرةَ فيقول: حَسّ. فيقول: ربك: أوَ أنّه قال ابن قتيبة: فيه قولان؛ أحدهما أن يكون "أنه" بمعنى "نعم" والآخر أن يكون الخبر محذوفًا كأنه قال: أنتم كذلك أو أنّه على ما يقول فيطَّلِعون على حوض الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أظمَأِ واللهِ ناهلةٍ عليها قطّ ما رأيتُها أظمأ ناهلة: الناهلة هم العطاش الذي يأتون الماء ليشربوا، والمعنى أنهم يأتون لحوض النبيّ ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وهم أعطَشُ ما يكون وأشدُّ حاجةً للماء فلَعَمرُ ربِّك ما يبسُط واحد منكم يده إلا وقع عليها قدح تُطهّره من الطَّوْف الطوف: الغائط والبول والأذى، وتُحبس الشمس والقمر فلا تَرَونَ منهما واحدًا" قال: قلت: يا رسول الله، فبم نُبصر؟ قال: "بمثل بصرك ساعتك هذه، وذلك مع طلوع الشمس في يوم أشرَقَته الأرض ثم واجَهَته الجبال" قال: قلت: يا رسول الله فبِمَ نُجزَى من حسناتنا وسيئاتنا؟ قال: "الحسنة بعشرة أمثالها والسيئة بمثلها إلا أن يعفو" قال: قلت: يا رسول الله إما الجنة إما النار؟ قال: "لَعَمرُ إلهِك إن للنار سبعةَ أبوابٍ ما منهنَّ بابان إلا يسير الراكب بينهما سبعين عامًا، وإن للجنة ثمانيةَ أبواب ما منهنَّ بابان إلا يسير الراكب بينهما سبعين عامًا" قال: قلت: يا(1/184)
رسول الله فعلام نطَّلع من الجنة؟ قال: "على أنهار من عسل مصفًّى، وأنهار من كأس كأس: خمر ما بها من صداع ولا ندامة، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وماء غير آسِنٍ، وبفاكهة لَعَمرُ إلهِك ما تعلَمون، وخيرٍ من مثله معه، وأزواج مطهَّرة" قلت: يا رسول الله، ولنا فيها أزواج؟ أوَ منهنَّ صالحات؟ قال: "الصالحات للصالحين تَلَذُّون بهنَّ مثل لذَّاتكم في الدنيا ويَلْذَذْنَ بكم، غير أنْ لا توالد" قال: لَقيط فقلت: أقصى ما نحن بالغون ومنتهون إليه؟ [أقصى ما نحن بالغون ومنتَهون إليه] يَحتمل مَعنَيَين؛ الأول: أقصى مدة الدنيا ونهايتها. الثاني: ماذا بعد دخول الجنة أو النار. وفي كلٍّ لا توجد إجابة، ولذلك لم يُجِبْه النبيّ ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ فهذا من الغيب فلم يُجِبْه النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقلت: يا رسول الله علام أبايعك؟ فبسط النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يده وقال: "على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وزِيَال المشرك جملة "زِيَال المشرك" كانت ساقطة من حادي الأرواح، والإصلاح من المسند وزاد المعاد وغيرها، ومعناها: مفارقة المشرك ومعاداته فلا يجاوره ولا يواليه. ولاحِظْ أن هذا الأمر كان في بيعة النبيّ ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ لأعراب يدخلون الإسلام حديثًا مما يدل أبلغ الدلالة على أهميته وألّا تشرك بالله إلهًا غيره" قال: قلت: وإن لنا ما بين المشرق والمغرب؟ فقبض النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبسط أصابعه وظنَّ أني مشترط شيئًا لا يُعطينيه. قال: قلت: نَحُلُّ منها حيث شئنا نَحُلُّ: نقيم وننزل ولا يَجني على امرئٍ إلا نفسُه؟ لا يَجني على امرئ إلا نفسُه: لا يُعاقَب الإنسانُ إلا بعمله فبسط يده وقال: "ذلك لك، تَحُلُّ حيث شئت ولا يَجني عليك إلا نفسُك" قال: فانصرفنا وقال: "ها إنّ ذَينِ ها إنّ ذَينِ، لَعَمرُ إلهِك، إن حدَّثتُ إلا أنهما من أتقى الناس في الأولى والآخرة" فقال له كعب بن الخُدْريّة أخو(1/185)
بني بكر بن كلاب: من هم يا رسول الله؟ قال: "بنو المنتَفِق أهل ذلك" قال: فانصرفنا وأقبلتُ عليه فقلت: يا رسول الله، هل لأحد مما مضى من خير في جاهليتهم؟ قال: قال: "رجل من عُرْضِ قريش عُرْض قريش: عامة قريش وليس من أشرافهم واللهِ إن أباك المنتَفِق لفي النار" قال: فكأنه قد وقع حرٌّ بين جلدي ووجهي ولحمي مما قاله لأبي على رءوس الناس وقع حرٌّ بين جلدي ووجهي ولحمي: تشبيه يراد به بيان الغيظ والغضب والحرج فهَمَمت أن أقول: وأبوك يا رسول الله؟ ثم إذَا الأخرى أجمَل فقلت: يا رسول الله وأهلُك؟ قال: "وأهلي لَعَمرُ اللهِ، ما أتَيتَ عليه من قبر عامريّ أو قرشيّ من مشرك فقل: أرسلَني إليك محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأبشِّرك بما يَسُوءُك، تُجَرُّ على وجهك وبطنك في النار" قال: قلت: يا رسول الله ما فعل الله بهم ذلك وقد كانوا على عمل لا يُحسنون إلا إياه وكانوا يَحسَبون أنهم مصلِحون؟ قال: "ذلك بأن الله عز وجل بعث في آخر كل سبع أممٍ نبيًّا، فمن عصى نبيَّه كان من الضالِّين ومن أطاع نبيَّه كان من المهتدين" رواه عبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائد المسند [4/13] وفي كتاب "السنة" له [2/485 رقم 1120] ورواه ابن أبي عاصم في "السنة" [1/ 231 رقم 636] وابن خزيمة في "التوحيد" [ 186 ـ 190] والحاكم في المستدرك [4/560 ـ 564] وقال: صحيح الإسناد كلهم مدنيون، ولم يخرجاه. وأخرج أبو داود منه جملة واحدة في الأيمان والنذور [3/577، 578 رقم 3266] وقال الهيثميّ في مجمع الزوائد [10/340]: رواه عبد الله والطبرانيّ بنحوه، وأحدُ طريقَي عبد الله إسنادها متصل ورجالها ثقات، والإسناد الآخر وإسناد الطبرانيّ مرسل عن عاصم بن لَقيط. وعزاه ابن كثير في البداية والنهاية [5/72 ـ 74] للبيهقيّ في البعث والنشور وعبد الحق الأشبيليّ في العاقبة والقرطبيّ في التذكرة. وقال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد [3/677، 678] وفي حادي الأرواح [ 241] ما ملخصه:(1/186)
رواه عبد الله بن أحمد بن حنبل وابن أبي عاصم والطبرانيّ وأبو الشيخ وابن مَندَهْ وابن مَرْدَوَيْهِ والعسال وأبو نُعيم الأصبهانيّ وغيرهم. ونقل عن ابن مَنْدَهْ قوله: رواه بالعراق بمجمع العلماء وأهل الدين جماعةٌ من الأئمة، منهم أبو زُرعة الرازيّ وأبو حاتم وأبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاريّ، ولم ينكره أحد ولم يتكلم في إسناده، بل رَوَوه على سبيل القبول والتسليم، ولا ينكر هذا الحديث إلا جاحد أو جاهل أو مخالف للكتاب والسنة. وقال أبو الخير بن حمدان: هذا حديث كبير ثابت مشهور. وقال المِزّيّ عنه: عليه جلال النبوة اهـ.
وقد ترجم ابن حبان في الثقات لجميع رجال عبد الله بن أحمد بن حنبل، وقال الحافظ ابن حجر في الإصابة [3/295] في ترجمة نَهيك بن عاصم: وسند الحديث حسن.
وقال نُفاةُ الإيلاد: فهذا حديث صريح في انتفاء الولادة. وقوله: "إذا اشتهى" معلَّق بالشرط، ولا يلزم من التعليق وقوعُ المعلق ولا المعلق به. و"إذا" وإن كانت ظاهرة في المحقّق فقد تستعمل لمجرد التعليق الأعم من المحقّق وغيره.
قالوا: وفي هذا الموضع يتعين ذلك لوجوه:
أحدها: حديث أبي رَزين.
الثاني: قوله تعالى: "ولهم فيها أزواج مطهَّرة" [البقرة: 25] وهنَّ اللاتي طَهُرْنَ من الحيض والنفاس والأذى. عن مجاهد: مطهَّرة من الحيض والغائط والبول والنُّخام والبصاق والمَنِيِّ والولد. وعن عطاء "أزواج مطهَّرة" قال: من الولد والحيض والغائط والبول.
الثالث: قوله: "غير أنه لا مَنِيَّ ولا منيَّة" وقد تقدم، والولد إنما يُخلق من ماء الرجل، فإذا لم يكن هناك منيٌّ ولا مذيٌ ولا نفخ في الفرج لم يكن هناك إيلاد.(1/187)
الرابع: أنه قد ثبت في الصحيح عن النبيّ ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ أنه قال: "يَبقَى في الجنة فضل، فيُنشئ الله لها خلقًا يُسكنُهم إياها" أخرجه مسلم [2848/ 39] ولفظه عن أنس رضي الله تعالى عنه: قال صلى الله عليه وسلم: "يَبقَى من الجنة ما شاء الله أن يَبقَى، ثم يُنشئ الله تعالى لها خلقًا مما يشاء" ولو كان في الجنة إيلاد لكان الفضل لأولادهم وكانوا أحقَّ به من غيرهم.
الخامس: أن الله سبحانه جعل الحمل والولادة مع الحيض والمنيّ، فلو كانت النساء يَحبَلنَ في الجنة لم يَنقطع عنهنَّ الحيض والإنزال.
السادس: أن الله سبحانه قدّر التناسل في الدنيا لأنه قدّر الموت، وأخرَجَهم إلى هذه الدنيا قرنًا بعد قرن وجعل لهم أمَدًا يَنتهون إليه، فلولا التناسل لبَطَلَ النوع الإنسانيّ، ولهذا الملائكة لا تتناسل، فإنهم لا يموتون كما تموت الإنس والجن، فإذا كان يوم القيامة أخرج الله سبحانه الناسَ كلهم من الأرض وأنشأهم للبقاء لا للموت، فلا يحتاجون إلى تناسل النوع الإنسانيّ، إذ هو مُنشَأٌ للبقاء والدوام، فلا أهل الجنة يتناسلون ولا أهل النار.
السابع: أنه سبحانه وتعالى قال: "والذين آمَنوا واتَّبَعَتهم ذُرِّيَّتُهم بإيمانٍ ألْحَقْنَا بهم ذُرِّيتَهم" [الطور: 21] فأخبر سبحانه أنه يُكرمهم بإلحاق ذرياتهم الذين كانوا لهم في الدنيا، ولو كان يَنشأ لهم في الجنة ذرية أخرى لَذَكَرهم كما ذَكَر ذرياتهم الذين كانوا في الدنيا، لأن قرة أعينهم كانت تكون بهم كما هي بذرياتهم من أهل الدنيا.
الثامن: أنه إما أن يقال باستمرار التناسل فيها لا إلى غاية، أو إلى غاية ثم ينقطع، وكلاهما مما لا سبيل إلى القول به؛ لاستلزام الأول اجتماعَ أشخاص لا تَتناهَى، واستلزام الثاني انقطاعَ نوع من لذة أهل الجنة وسرورهم، وهو محال، ولا يمكن أن يقال بتناسلٍ يموت معه نسلٌ ويَخلُفه نسل؛ إذ لا موت هناك.(1/188)
التاسع: أن الجنة لا ينمو فيها الإنسان كما ينمو في الدنيا، فلا ولدان أهلها يَنمُون ويَكبَرون ولا الرجال يَنمُون كما تقدم، بل هؤلاء ولدان صغار لا يتغيرون وهؤلاء أبناء ثلاث وثلاثين لا يتغيرون، فلو كان في الجنة ولادة لكان المولود ينمو ضرورة حتى يصير رجلًا، ومعلوم أن من مات من الأطفال يُرَدُّون أبناءَ ثلاث وثلاثين من غير نموّ.
الوجه العاشر: أن الله سبحانه وتعالى ينشئ أهل الجنة نشأة الملائكة أو أكمل من نشأتهم، بحيث لا يبولون ولا يتغوطون ولا ينامون، ويُلهَمُون التسبيحَ، ولا يَهرَمُون على تطاول الأحقاب ولا تنمو أبدانهم، بل القَدْرُ الذي جُعلوا عليه لازم لهم أبدًا. والله أعلم، فهذا ما في المسألة.
فأما قول بعضهم: إن القدرة صالحة والكل ممكن. وقول آخرين: إن الجنة دار المكلَّفين التي يستحقونها بالعمل. وأمثال هذه المباحث فرخيصة، وهي في كتب الناس، وبالله التوفيق.
قال الحاكم: قال الأستاذ أبو سهل: أهل الزيغ يُنكرون هذا الحديث ـ يعني حديث الولادة في الجنة ـ وقد رُوي فيه غير إسناد، وسئل النبيّ ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ عن ذلك فقال يكون ذلك، على نحو مما روينا، والله سبحانه وتعالى يقول: "وفيها ما تَشتَهيه الأنفسُ وتَلَذُّ الأعيُنُ" وليس بالمستحيل أن يشتهيَ المؤمنُ الممكَّنُ من شهواته المصفَّى المقرَّبُ المسلَّطُ على لذاته قرةَ عينٍ وثمرةَ فؤادٍ من الذين أنعم الله عليهم بأزواج مطهرة.
فإن قيل: ففي الحديث أنهنَّ لا يَحِضْنَ ولا يَنفَسْنَ، فأين يكون الولد؟(1/189)
قلت: الحيض سبب الولادة الممتد مدة بالحمل على الكثرة والوضع عليه، كما أن جميع تِلَاد الدنيا معنى التلاد: المال أو الأنعام الأصلية القديمة عند الإنسان من المشارب والمطاعم والملابس على ما عُرف من التعب والنصب وما يَعقُبُه كل منهما مما يُحذر منه ويُخاف من عواقبه، وهذه خمرة الدنيا المحرمة المستولية على كل بلية قد أعدَّها الله تعالى لأهل الجنة منزوعة البليَّة موفَّرة اللذة، فلم لا يجوز أن يكون على مثله الولد! انتهى كلامه.
قلت: النافون للولادة في الجنة لم يَنفَوها لِزَيغ قلوبهم ولكن لحديث أبي رَزين "غير أنْ لا توالد" وقد حكينا من قول عطاء وغيره أنهنَّ مطهَّرات من الحيض والولد. وقد حكى الترمذيّ عن أهل العلم من السلف والخلف في ذلك قولين، وحكى قولَ إسحاق بإنكاره، وقال أبو أمامة في حديثه: "غير أن لا منيَّ ولا منية" والجنة ليست دار تناسُل بل دار بقاء وخُلد لا يموت من فيها فيقوم نسلُه مقامه.
وحديث أبي سعيد هذا أجود أسانيده إسناد الترمذيّ، وقد حكم بغرابته وأنه لا يعرف إلا من حديث أبي الصديق الناجيّ، وقد اضطرب لفظه، فتارةً يَروِي عنه "إذا اشتهى الولد" وتارة "إنه ليشتهي الولد" وتارة "إن الرجل من أهل الجنة ليولد له" فالله أعلم. فإن كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد قاله فهو الحق الذي لا شك فيه، وهذه الألفاظ لا تَنَافيَ بينها ولا تناقض، وحديث أبي رَزين "غير أن لا توالد" إذ ذاك نفيٌ للتوالد المعهود في الدنيا، ولا ينفي ولادة حمل الولد فيها ووضعه وسنه وشبابه في ساعة واحدة. فهذا ما انتهى إليه علمنا القاصر في هذه المسألة وقد أتينا فيها بما لا تجده في غير هذا الكتاب. والله أعلم.
فصل
في ذكر سماع الجنة وغناء الحور العين وما فيه من الطرب واللذة(1/190)
قال تعالى: "ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون. فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يُحبَرُون" [الروم: 14 ـ 15] قال يحيى بن أبي كثير عن قوله عز وجل "فهم في روضة يُحبَرُون" قال: الحبرة اللذة والسماع. عن يحيى بن أبي كثير في قوله "يُحبَرُون" قال: السماع في الجنة. ولا يخالف هذا قول ابن عباس: يكرّمون. وقال مجاهد وقتادة: يَنعَمون. فَلَذّةُ الأذن بالسماع من الحبرة والنعيم.
عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "إن الحور العين يغنِّين في الجنة، يَقُلنَ: نحن الحُورُ الحسانُ، خُلِقنَ لأزواج كرام" رواه أبو نُعيم في "صفة الجنة" [3/280] وعزاه ابن القيم لابن أبي الدنيا، وقال المنذريّ في الترغيب والترهيب [4/997]: رواه ابن أبي الدنيا والطبرانيّ واللفظ له، وإسناده مقارب. وصححه الألبانيّ في صحيح الجامع الصغير [1602] ولكن من طريق سَمّوَيْهِ فقط وعن أبي أمامة أن رسول الله قال: "ما من عبد يدخُل الجنة إلا ويَجلس عند رأسه وعند رجلَيه اثنتان من الحور العين، يُغنِّيانِه بأحسن صوت سمعه الإنس والجن، وليس بمزامير الشيطان مزامير الشيطان: أصوات الشياطين. والمقصود ما يزيِّنونه لبني آدم من الملاهي والمعازف وآلات الطرب، ويُطلق على صوت الغناء وعلى الآلة نفسها التي يُعزف بها، وإضافتها للشيطان من ناحية أنها تلهي الإنسان عن ذكر ربه، وهو المقصود الأعظم للشيطان في هذه الدنيا. قال المنذريّ في الترغيب والترهيب [4/997]: رواه الطبرانيّ في الكبير والأوسط ورجالهما رجال الصحيح. وقال العراقيّ في تخريج الإحياء [4222]: رواه الطبرانيّ بإسناد حسن وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أزواج أهل الجنة لَيُغنِّينَ أزواجَهنَّ بأحسن أصوات ما سمعها أحد قطّ، إن مما يُغنِّينَ به: نحن الخيرات الحسان، أزواج قوم كرام، ينظرون بقُرّة أعيُن. وإن مما يُغنِّينَ به: نحن الخالدات فلا نَمُتنَهْ، نحن(1/191)
الآمنات فلا نَخَفنَهْ، نحن المقيمات فلا نَظْعَنّهْ" قال الهيثميّ في مجمع الزوائد [10/419]: رواه الطبرانيّ في الصغير والأوسط، ورجاله رجال الصحيح. وصححه الألبانيّ في صحيح الجامع الصغير [1561] من طريق الأوسط فقط وقال يحيى بن أبي كثير: إن الحور العين يَتلَقَّينَ أزواجَهنَّ عند أبواب الجنة فيَقُلنَ: طالما انتظرناكم، فنحن الراضيات فلا نسخط، والمقيمات فلا نَظعَنُ، والخالدات فلا نموت. بأحسن أصوات سُمِعَت، وتقول: أنت حِبِّي وأنا حِبُّك، ليس دونك مَقصِر ولا وراءك مَعدِل رواه ابن المبارك في الزهد [ص31 رقم 435].
فصل
ولهم سماع أعلى من هذا
وعن محمد بن المنكدر قال: إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: أين الذين كانوا ينزِّهون أسماعهم وأنفسَهم عن مجالس اللهو ومزامير الشيطان؟ أسكِنُوهم رياض المسك. ثم يقول للملائكة: أسمعوهم تمجيدي وتحميدي رواه نُعيم بن حماد في زياداته على "الزهد" لابن المبارك [43/12] وعن ابن عباس قال: في الجنة شجرة على ساقٍ، قَدْرُ ما يسير الراكب في ظلها مائة عام، فيتحدثون في ظلها، فيشتهي بعضهم فيذكر لهو الدنيا، فيرسل الله ريحًا من الجنة فتحرِّك تلك الشجرة بكل لهو كان في الدنيا قال المنذريّ في الترغيب والترهيب [4/966]: رواه ابن أبي الدنيا موقوفًا من طريق زَمعة بن صالح عن سلمة وَهرام. وقد صحّحها الحاكم وابن خزيمة وحسّنها الترمذيّ.
فصل
سماع أهل الجنة لكلام الله وخطابه لهم(1/192)
ولهم سماع أعلى من هذا يَضمحلّ دونه كلُّ سماع، وذلك حين يسمعون كلام الرب جل جلاله وخطابَه وسلامَه عليهم ومحاضرتَه لهم ويقرأ عليه كلامه، فإذا سمعوه منه فكأنهم لم يسمعوه قبل ذلك. وسيمُرُّ بك أيها السُّنّيُّ من الأحاديث الصحاح والحسان في ذلك ما هو من أحبِّ سماعٍ لك في الدنيا وألَذّ لأُذنك وأقَرّ لعينك، إذ ليس في الجنة لذة أعظم من النظر إلى وجه الرب تعالى وسماع كلامه منه، ولا يُعطَى أهلُ الجنة شيئًا أحبَّ إليهم من ذلك. صحيح حادي الأرواح 204 ـ 236).(1/193)
هل في الجنة أزواج مطهرة؟
السؤال: ما معنى أن في الجنة أزواجًا مطهَّرة؟ وهل يحدث التناسل هناك؟
الجواب: نعم، الجنة فيها أزواج مطهَّرة من الحيض والنفاس والولادة ومن كل سوء وتعب، والأزواج نوعان: الزوجات اللاتي كُنَّ في الدنيا ويكرمهنَّ الله بدخول الجنة، قال الله تعالى: (جناتُ عدنٍ يدخلُونها ومَن صلَح من آبائهم وأزواجِهم وذرياتِهم والملائكةُ يدخلُون عليهم من كل باب) (الرعد: 23) والحور العين اللاتي يزوِّجهنَّ الله لأهل الجنة، أي يكرم بهنَّ عباده ليتمتعوا بهنَّ تمتع الزوجات.
ولم يثبت أنه سيكون هناك تناسل، ولماذا يكون ولا حاجةَ إليه للمساعدة في الأعمال والاستكثار بالعشيرة؟ فالجنة دار ثواب وراحة لا دار عمل وتعب ولا دار غلّ ولا تنافس ولا تفاخر.
والأطفال الذين كتب الله لهم دخول الجنة سيكونون على ما دخلوها يَمرَحون ويتمتعون بأنواع النعيم الكثيرة دون تطلُّع إلى الناحية الجنسية التي لم يذوقوها في الدنيا ولا حاجة بهم إليها.(1/194)
المرأة مع أيّ أزواجها في الجنة
السؤال: المرأة مع أيّ أزواجها في الدنيا تكون في الجنة؟
الجواب: سُئل هذا السؤال رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: "تُخيَّرُ، فتكون مع أحسنهم خُلُقًا" وقيل: تكون لآخر أزواجها في الدنيا (ذكر القرطبيّ في التذكرة [2/314،315] عن ابن وهب عن مالك أن أسماء بنت أبي بكر الصديق امرأة الزبير بن العوام ـ رضي الله تعالى عنهم ـ كانت تخرج عليه حتى عُوتِبَ في ذلك. قال: وغضب عليها وعلى ضَرَّتها، فعقَد شعرَ واحدة بالأخرى ثم ضربهما ضربًا شديدًا، وكانت الضَّرَّة أحسَنَ اتقاءً وكانت أسماء لا تَتَّقي، فكان الضرب بها أكثر، فشَكَت إلى أبيها أبي بكر فقال لها: أي بنيةُ اصبري، فإن الزبير رجل صالح، ولعله أن يكون زوجَكِ في الآخرة، ولقد بلغني أن الرجل إذا ابتكر بالمرأة تزوجها في الجنة. قال أبو بكر ابن العربيّ: هذا حديث غريب. ذكره في "أحكام القرآن" له. فإن كانت المرأة ذات أزواج فقيل: إن من مات عنها من الأزواج آخرًا هي له. قال حذيفة لامرأته: إن سرَّكِ أن تكوني زوجتي في الجنة إن جَمَعَنَا الله فيها لا تتزوجي من بعدي؛ فإن المرأة لآخر أزواجها في الدنيا إسناده ضعيف. أخرجه البيهقيّ [7/69ـ 70] في سننه الكبرى، وفيه عنعنة أبي إسحاق، وهو مدلِّس وخطب معاوية بن أبي سفيان أمَّ الدرداء فأبت وقالت: سمعت أبا الدرداء يحدث عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: "المرأة لآخر أزواجها في الجنة" وقال لي: إن أردتِ أن تكوني زوجتي في الجنة فلا تتزوجي من بعدي حديث صحيح، رواه أبو يَعلَى والطبرانيّ في الكبير والأوسط كما في المطالب [1673] والمجمع [4/270] وابن عساكر في تاريخه [ص424 ـ 426] في تراجم النساء من طرق عديدة عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه. وأخرجه الخطيب في تاريخه عن عائشة رضي الله تعالى عنها [9/328] وابن حبيب في أدب النساء [218، 219] عن أبي الدرداء وأبي بكر وابن المسيب رضي الله(1/195)
تعالى عنهم. وانظر الكلام على أسانيده في الصحيحة [1281] وذكر أبو بكر النَّجَّاد قال: حدثنا جعفر بن محمد بن شاكر حدثنا عبيد بن إسحاق العطار حدثنا سنان ابن هارون عن حميد عن أنس رضي الله تعالى عنه أن أم حبيبة زوج النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قالت: يا رسول الله، المرأة يكون لها زوجان في الدنيا، ثم يموتون ويجتمعون في الجنة، لأيهما تكون للأول أو للآخِر؟ قال: "لأحسنِهما خُلُقًا كان معها، يا أم حبيبة ذهب حُسنُ الخُلُق بخير الدنيا والآخرة" هذا حديث ضعيف جدًّا إن لم يكن موضوعًا، أخرجه الطبرانيّ في الكبير [23/ 222] والبزار كما في المجمع [8/24] وقال الهيثميّ: فيه عبيد بن إسحاق، وهو متروك، وقد رَضيَه أبو حاتم، وهو أسوأُ أهل الإسناد حالًا. وقال أبو حاتم في العلل [1552]: هذا حديث موضوع لا أصل له. وعزاه السيوطيّ في البدور [ص: 450] إلى الخرائطيّ في "مكارم الأخلاق" من هذا الطريق. ومن حديث أم سلمة ـ رضي الله تعالى عنها ـ أخرجه ابن جرير في تفسيره [23/ 57] والطبرانيّ في الكبير [23/ 367ـ 368] والخطيب في تاريخه [6/172] وابن الجوزيّ في العلل المتناهية [1077] وابن مَرْدَوَيْهِ كما في الدّرّ [6/150] قلت: في سنده ابن أبي كريمة، قال ابن عديّ: عامّة أحاديثه مناكير. وضعفه أبو حاتم وابن حبان، وفي روايته عن الحسن وعطاء مقال؛ لأنه قيل: كان يرسل عنهما) وقيل: إنها تخيَّر إذا كانت ذاتَ أزواج).(1/196)
صفات الحور العين
السؤال: ما هي صفات الحور العين؟
الجواب: (وحُورٌ) بِيضٌ (عينٌ) ضخام العيون. ويقولون: شَعر الحَوراء بمنزلة جناح النسر. يقول الله عز وجل: (كأمثال اللؤلؤ المكنون) (الواقعة: 23) أي صفاؤهنَّ الدّرّ الذي في الأصداف الذي لم تَمَسَّه الأيدي. وقوله تعالى: (فيهنَّ خيراتٌ حسانٌ) (الرحمن: 70) أي خيرات الأخلاق حسان الوجوه. وقوله عز وجل: (كأنهنَّ بَيضٌ مَكنونٌ) (الصافات: 49) أي رِقَّتُهنَّ كرِقّة الجلد الذي رأيت داخل البيضة مما يلي القشرة. وقوله تعالى: (عُرُبًا أترابًا) (الواقعة: 37) أي: هنَّ اللواتي قُبِضنَ في الدار الدنيا عجائزَ رُمْصًا شُمْطًا، خلَقهنَّ الله بعد الكبَرِ فجعَلَهنَّ الله عذَارَى (عُرُبًا) متعشِّقات متحبِّبات (أترابًا) على ميلاد واحد.(1/197)
الطلاق
السؤال: لماذا أباح الإسلام الطلاق؟
الجواب: قد يُبنَى الزواج على الاستلطاف المزاجيّ، أي رآها فأعجَبَته وهو أعجَبَها، ثم بعد ذلك قد تَجِدُّ أمور تجعله يُبغضها أو تجعلها تُبغضه.
أيكون من الحكمة أن نُرغم اثنَين على أن يَعيشَا معًا وأحدُهما كارِهٌ للآخر؟
أية حياة هذه وأية سكينة توجد في بيت تعيش المرأة فيه قهرًا عن الرجل ويعيش الرجل فيه قهرًا عن المرأة؟
والزواج سكينة واطمئنان ومودة ورحمة، ولذلك نجد أن الفاتيكان حيث مقر البابا أعلنت الكنيسة هناك إباحة الطلاق!
لماذا؟
لأنهم وجدوا الفساد بتحريم الطلاق أكثر من الفساد بوجود الطلاق، إذًا هم عندما يرغِّبون في الارتقاء بتشريعاتهم يَخطُون خطوة نحو مبادئ الإسلام، فنحن يجب أن نعتز بإسلامنا، هذا الإسلام الذي يجب أن نعتز به لأنه من صنع الله، وليس من وضع واحد منّا حتى نقول: عقلُه ناقص أو تفكيرُه ناقص أو له هوًى. ولكن اللهَ لا هَوَى له في شيء، الله إنما يشرّع لنا ما يراه في صالحنا، وإذا شرّع لنا سبحانه ما في صالحنا فليس لنا أن نتمرد عليه.
وكل الصور التي تبغِّض الناس في التعدد أسبابها أن الناس لا ينفِّذون حكم الله في العدل بين الأزواج، يعدِّد الرجل فيأخذ واحدة ويترك الأخرى يهجرها هي وأولادها، فنقول له: لا، الشرع لم يقل ذلك، لا تعمل حساب الانفلات من القانون على حساب الإسلام كله، بل خذ الإسلام كله في كل جزئية من جزئيات الحياة.(1/198)
من أسباب الطلاق
السؤال: ما الأسباب الداعية إلى الطلاق؟ ولماذا تتفكك بعض الأسر؟
الجواب: لو نظرنا بإنصاف إلى الأسباب الداعية إلى الطلاق لوجدنا أن ذلك راجع لمخالفة المتزوجين لمقاييس الإسلام، ولو أن طالب الزواج دخل على الزواج بمطلوبات الله تعالى فيه (والتي وردت في قول الله تعالى: "والطيبون للطيبات.." [النور: 26] الآية، وقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "تُنكَحُ المرأة لأربع، لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها، فاظفَر بذات الدين تَرِبَت يداك" أخرجه البخاريّ [5090] عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه) لَمَا تفشَّت ظاهرة الطلاق التي نراها اليوم.
وليس ذلك خاصًّا بالزوجين فقط لكنه يتعلق أيضًا بوليّ أمر الزوجة حين يقبل زوجًا لمن هي في ولايته على غير مقاييس الله ومطلوبات الدين، عليه أن يرفضه، أما إذا قَبِلَه بغير مقياس الدين فمن العدل أن يحدث له كثير من المتاعب (روى الترمذيّ [1085] عن أبي حاتم المُزَنيّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا جاءكم مَن تَرضَون دينَه وخُلُقَه فأَنكِحوه، إلّا تفعلوه تكنْ فتنةٌ في الأرض وفسادٌ" قالوا: يا رسول الله وإن كان فيه؟ قال: "إذا جاءكم مَن تَرضَون دينَه وخُلُقَه فأَنكِحوه" ثلاث مرات. وقال الترمذي: حسن صحيح. وصححه الألبانيّ في صحيح الترمذيّ 866) ولو لم تحدث المتاعب لكان ذلك مخالفًا لمنهج الله ولَشَكَكنا في هذه التعاليم، فالمُنصِف يرى أن متاعب الطلاق اليوم شهادةٌ للدين لا عليه.(1/199)
حق المرأة في التطليق
السؤال: هل يجوز للمرأة طلب التطليق بحكم قضائيّ؟
الجواب: يجوز للمرأة طلب التطليق في حالات، منها:
1 ـ نشوز الزوج
يقول الحق تعالى: (وإن امرأةٌ خافت مِن بعلِها نشوزًا أو إعراضًا فلا جُناحَ عليهما أن يُصلِحَا بينهما صُلحًا والصلحُ خيرٌ وأُحضِرَت الأنفسُ الشُّحَّ وإن تُحسنوا وتتَّقوا فإن اللهَ كان بما تعملون خبيرًا) (النساء: 128)
قوله تعالى: (وإن امرأةٌ خافت مِن بعلِها نشوزًا) فما المقصود بالخوف؟
الخوف هو توقُّعُ أمر مُحزن أو مُسيء وإن لم يحدث بعدُ، ولكن الإنسان ينتظر هذا الأمر، إن الإنسان حين يخاف فهو يتوقع حدوث الأمر السيئ، فقول الحق سبحانه: (وإن امرأةٌ خافت مِن بعلِها نشوزًا) أي إن النشوز لم يحدث ولكن المرأة تخاف أن يحدث. لقد رتَّب الحقُّ الحكمَ على مجرد الخوف من النشوز لا بحدوث النشوز بالفعل، وهذه لفتة لكل منّا ألّا يترك المسائل حتى تقع بل عليه أن يتلافَى أسبابها قبل أن تقع، لأنها إن وقَعَت ربما استَعصَى على الإنسان أن يَتداركها.(1/200)
وقد مر بنا آنفًا نشوزُ الزوجة وكيف عالجه الله تعالى الخبير بخلقه العليم بما يُصلحهم، وفي هذا الفصل يعلّم الله تعالى المرأةَ كيفيةَ التصرف حيالَ إصلاح ذلك النشوز كما علّم الرجلَ فيما سبق (قال العلامة ابن كثير: يقول تعالى مخبِرًا ومشرِّعًا عن الزوجين، تارة في حال نفور الرجل عن المرأة، وتارة في حالة اتفاقه معها، وتارة في حالة فراقه لها، فالحالة الأولى ما إذا خافت المرأة من زوجها أن يَنفِرَ عنها أو يُعرِض عنها فلها أن تُسقِط عنه حقَّها أو بعضَه، من نفقة أو كسوة أو مبيت أو غير ذلك من الحقوق عليه، وله أن يَقبل ذلك منها، فلا جناح عليها في بذلها ذلك له ولا عليه في قبوله منها، ولهذا قال تعالى: "فلا جُناحَ عليهما أن يُصلِحَا بينهما صُلحًا" يُصلِحَا، بضم الياء وسكون الصاد، وهي قراء الكوفيِّين، وأثبتنا ما ثبت في المخطوطَتَين، وهي قراءة باقي القراء السبعة، لأنها هي التي أثبتها ابن كثير في تفسيره، والمراد فيهما واحد ثم قال: "والصلح خير" أي: من الفراق الشح: حرص النفس على ما مَلَكَت وبخلها به، ومنه "المُشَاحّة" وهي: تنازع الخصم على أمر يبادر كلٌّ منهم إليه ويَحرص عليه حَذَرَ فَوتِه. ولكن تفسير ابن كثير لهذه الآية: "وأُحضرَت الأنفُسُ الشُّحَّ" ليس تفسيرًا لمعنى الجملة بل هو نتيجة لسياق الكلام، والمعنى الصحيح هو ما ذكره الطبريّ [9/279]: وأُحضرَت أنفُسُ النساءِ الشُّحَّ على أنصبائهنَّ من أنفس أزواجهنَّ وأموالهم. ثم قال [9/ 282]: والشح الإفراط في الحرص على الشيء، وهو في هذا الموضع إفراط حرص المرأة على نصيبها من أيامها من زوجها ونفقتها ولهذا لما كَبِرَت سَودة بنت زَمعة عزَم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ على فراقها، فصالحته على أن يُمسكها وتتركَ يومها لعائشة، فقَبِلَ ذلك منها وأبقاها على ذلك، فقد روى الطيالسيّ عن ابن عباس قال: خَشيَت سَودة أن يطلقها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت: يا رسول(1/201)
الله، لا تطلقني واجعل يومي لعائشة. ففعل، ونزلت هذه الآية. قال ابن عباس: فما اصطَلَحَا عليه من شيء فهو جائز. رواه الترمذيّ وقال: حسن غريب رواه الطيالسيّ [2683] واللفظ له، والترمذيّ [3040] وقال: حديث حسن غريب. وصححه الألبانيّ في صحيح الترمذيّ [2434] وفي الصحيحين عن عائشة قالت: لما كَبِرَت سَودة بنت زَمعة وهَبَت يومها لعائشة فكان النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقسم لها بيوم سَودة أخرجه البخاريّ [5212] ومسلم [1463/ 47] وروى الحاكم عن عروة عن عائشة أنها قالت له: يا بن أختي، كان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يفضِّل بعضَنا على بعض في مُكثه عندنا، وكان قلَّ يوم إلا وهو يطوف علينا، فيدنو من كل امرأة من غير مَسيس، حتى يبلُغ إلى من هو يومُها فيَبيت عندها، ولقد قالت سَودة بنت زَمعة حين أسَنَّت وفَرِقَت أن يفارقها الرسول صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، يومي لعائشة. فقبل ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم. قالت عائشة: ففي ذلك أنزل الله: "وإن امرأةٌ خافت من بعلِها نشوزًا أو إعراضًا". ورواه أبو داود وابن مَرْدَوَيْهِ نحوه، قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرِّجاه رواه الحاكم في المستدرك [2/186] وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبيّ. وأبو داود [2135] وقال الألبانيّ في صحيح أبي داود [1868]: حسن صحيح وروى البخاريّ عن عائشة "وإن امرأةٌ خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا" قالت: الرجل تكون عنده المرأة ليس بمُستكثِرٍ منها يريد أن يفارقها، فتقول: أجعَلُك من شأني في حِلٍّ. فنزلت هذه الآية أخرجه البخاريّ [5206] بنحوه ورواه الطبريّ في التفسير بنحوه [5/197] وروى ابن أبي حاتم عن خالد بن عَرعَرة قال: جاء رجل إلى عليّ بن أبي طالب فسأله عن قول الله عز وجل: "وإن امرأةٌ خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا" قال عليٌّ: يكون الرجل عنده المرأة فتَنبُو عيناه عنها، من دمامتها أو كِبَرِها أو سوء خُلُقها أو قذذها،(1/202)
فتَكرَه فراقَه، فإن وضَعَت له من مهرها شيئًا حَلَّ له، وإن جعَلَت له من أيامها فلا حَرَج. ورواه أبو داود الطيالسيّ وابن جرير رواه الطبريّ في التفسير [5/196ـ 197] وقال الشيخ شاكر: أسانيده صحاح وكذا فسّرها ابن عباس وعَبِيدة السلمانيّ ومجاهد والشعبيّ وسعيد بن جبير وقتادة وغير واحد من السلف والأئمة، ولا أعلم في ذلك خلافًا أن المراد بهذه الآية هذا. والله أعلم. وروى الشافعيّ عن ابن المسيب أن بنت محمد بن مسلم كانت عند رافع بن خَديج، فكَرِهَ منها أمرًا، إما كِبَرًا أو غيره، فأراد طلاقها فقالت: لا تطلقني واقسم لي ما بدا لك. فأنزل الله عز وجل "وإن امرأةٌ خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا.." الآية. وقد رواه الحاكم بأطول من هذا السياق رواه الشافعيّ في مسنده [2/28] وظاهره الإرسال، والحاكم في المستدرك [2/308ـ 309] مطولًا موصولًا، وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبيّ.
وقوله: "والصلح خير" قال ابن عباس: يعني التخيير، أن تخيير الزوج لها بين الإقامة والفراق خير من تمادي الزوج على أَثَرَةِ غيرِها عليها. والظاهر من الآية أن صُلحَهما على ترك بعض حقها للزوج وقبولَ الزوج ذلك خيرٌ من المفارقة بالكلية، كما أمسك النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ سَودة بنت زَمعة على أن ترَكت يومها لعائشة ولم يفارقها، بل ترَكها من جملة نسائه، وفعله ذلك لتتأسَّى به أُمَّتُه في مشروعية ذلك وجوازه، فهو أفضل في حقه عليه الصلاة والسلام.
لما كان الوفاق أحبَّ إلى الله من الفراق قال: "والصلح خير" بل الطلاق بغيض إليه سبحانه وتعالى، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أبو داود وابن ماجه عن عبد الله بن عمرو قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق" رواه أبو داود [2178] وابن ماجه [2018] وضعّفه الألبانيّ في ضعيف أبي داود [472].(1/203)
وقوله: "وإن تُحسنوا وتَتَّقوا فإن اللهَ كان بما تعملون خبيرًا" وإن تتجشَّموا مشقة الصبر على ما تكرهون منهنَّ وتَقسموا لهنَّ أُسوةَ أمثالهنَّ فإن الله عالم بذلك، سيَجزيكم على ذلك أوفر الجزاء. عمدة التفسير4/7 ـ 9).
ما هو النشوز؟
سبق وقلنا إن الأصل فيه مأخوذ من النَّشْز، وهو الارتفاع من الأرض، والمفروض فيها أن تكون منبَسِطة، فإن وجدنا فيها نُتوءًا فهذا نسميه نشوزًا.
إن الرجل أخَذ المرأة سكنًا له وبات بينهما مودة ورحمة، فقد أفضَى إليها وأفضَت إليه، فإن خافت أن يَستعليَ عليها زوجها بالنفقة أو بالاحتكار أو ضاعت منها مودته أو رحمته فهذا كله نشوز، فهو قد استعلى عن المستوى الذي يجمع الزوجين. وقبل حدوث ذلك فعلى الزوجة أن تكون زكية وتَلحَظ أن ملامح الزوج فيها الاستعلاء فتعالج المسألة قبل أن تقع، فإذا كانت الأسباب من جهتها فعليها أن تعالج هذه الأسباب وترجع إلى نفسها وتصلح الأمر.
وقوله تعالى: (أو إعراضًا) الإعراض هو أنه لا يؤانس الزوجة ولا يحدّثها ولا يلاطفها رغم أنه يعطيها كل حقوقها، هنا على المرأة أن تعالج هذه المسألة أيضًا، إنها قضية بين اثنين قال الله تعالى عنهما: (وقد أفضَى بعضُكم إلى بعض).
وقال سبحانه: (هنَّ لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهنَّ) (البقرة: 187) أي أن الرجل ساتر للمرأة والمرأة ساترة للرجل. ونحن نعرف أن الفتاة حتى ولو كانت عندها جرأة إن دخل عليها أبوها أو أخوها فهي تستر عنهما أيَّ جزء ظاهر من جسدها، أما عندما يدخل عليها زوجها فهي لا تداري عنه شيئًا، ولذلك فليَعرفْ كلُّ رجل متزوج وكل امرأة متزوجة أن بينهما إفضاءً متبادَلًا، فقد أباح الله للرجل من زوجته ما لم يُبِحْه لأحد غيره.(1/204)
إن على المرأة أن تبحث عن سبب النشوز وسبب الإعراض، فقد تكون قد كَبِرَت في العمر وأصبحت لا تقيم لحياتها الخاصة معه أهميةً وما زال في الرجل بقيةٌ من الميل إلى النساء، وقد يصح أن تكون امرأة أخرى قد استمالته، أو أيّ سبب من الأسباب، هنا على المرأة أن تعالج المسألة علاج العقلاء، فإن كان السبب من إهمالها لحقوقه عليها فتحاول أن توفِّيَه حقَّه وتهيئَ له السكن والرحمة والمودة التي ألَّفَت بين قلبَيهما في بدء الحياة، وإذا كانت كَبِرَت في السن وأصابتها الشيخوخة بما لم تستطع معها القيام بواجباته فلتسمحْ له بالزواج من أخرى، بل وتتنازل عن شيء من قسمتها للزوجة الجديدة، هنا سيتمسك بها الرجل ولا يظلمها.
وقوله تعالى: (فلا جُناحَ عليهما أن يُصلحَا بينهما صُلحًا) إن الصلح هنا مهمة الرجل ومهمة المرأة معًا، أي أن يحلَّ الاثنان المشكلة معًا، لذلك فكلُّ مشكلة لا تتعدى الرجلَ والمرأةَ حلُّها يسير، فالذي يجعل المشاكل صعبة هم هؤلاء الذين يدخلون في المشاكل التي بين الرجل والمرأة وليس بينهم ما بين المرأة والرجل. إن الرجل قد يختلف مع المرأة ويخرج من المنزل ويهدأ ويعود إلى منزله فتلاطفه الزوجة بكلام تُنهي به الخلاف، لكن لو تدخل أحد من الأقارب فإن المشكلة قد تتفاقم من جرّاء تدخُّل من لا يَملك سببًا أو دافعًا لحل المشكلة، لذلك يجب أن نتنبه إلى قول الحق: (فلا جُناحَ عليهما أن يُصلحَا بينهما صُلحًا) إن الصلح في أول درجاته مسألة بين الرجل والمرأة، وليتذكر الاثنان قول الحق سبحانه: (وعسى أن تَكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم) وكذلك قولَ الحق سبحانه وتعالى: (فإن كَرِهتموهنَّ فعسى أن تَكرَهوا شيئًا ويَجعلَ اللهُ فيه خيرًا كثيرًا) (النساء: 189)(1/205)
إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يبنيَ الأسرة على الاستقرار فيقول لنا ما معناه: لا تنتظر أيها الرجل ولا تنتظري أيتها المرأة إلى أن يقع الخلاف، فما أن تبدوَ البوادر فعليكم بحلّ المشكلات بأنفسكم، فليس هناك أحد قادر على حلّ المشكلات مثلكم؛ لأنه لا يوجد أحد بينه وبينكم مثلُ ما بين الرجل وزوجته، ولذلك فالزوجان أولَى بحل المشكلات، لذلك قال سبحانه وتعالى: (فلا جُناحَ عليهما أن يُصلحَا بينهما صُلحًا).
لماذا جاء الحق بـ (يُصلحَا بينهما صُلحًا)؟
لأننا في بعض الأحيان نحب الصلح بأخذ شكلية الصلح، أما موضوع الصلح وهو إنهاء الجفوة والمواجيد النفسية فقد لا يوجد، فتقول المرأة بعضًا من الأمور التي لا تقولها المرأة الراضية بأعماقها عن زوجها، وكذلك الرجل.(1/206)
إن هناك شكلية للصلح وهناك موضوعية للصلح، والذي يعرقل الصلح هو أننا نقوم بالصلح في الشكلية، أما الأسباب الحقيقية فهي مدفونة في النفوس فتتسرب إلى موضوعات أخرى، إن الصلح يجب أن يكون بحقيقة قول الله تعالى: (أن يُصلحَا بينهما صُلحًا والصلحُ خيرٌ) إن الخير يعُمّ على الزوجين وعلى المجتمع عندما تتراضى النفوس (قال العلامة محمد رشيد رضا: "والصلحُ خيرٌ" من التسريح والفراق وإن كان بإحسانٍ وأداءِ المهر والمتعة وحفظِ الكرامة كما هو الواجب على المطلِّق، لأن رابطة الزوجية من أعظم الروابط وأحقِّها بالحفظ، وميثاقُها من أغلظ المواثيق وأجدَرِها بالوفاء. وعروضُ الخلاف والكراهةِ وما يترتب عليها، من النشوز والإعراض وسوء المعاشرة لِمَن يقف عند حدود الله، من الأمور الطبيعية التي لا يمكن زوالها من بين البشر، والشريعةُ العادلة الرحيمة هي التي تُراعَى فيها السننُ الطبيعية والوقائعُ الفعلية بين الناس، ولا يُتصور في ذلك أكملُ مما جاء به الإسلام؛ فإنه جعل القاعدةَ الأساسية هي المساواةَ بين الزوجين في كل شيء، إلا القيامَ برياسة الأسرة والقيامَ على مصالحها؛ لأنه أقوى بدنًا وعقلًا وأقدرُ على الكسب وعليه النفقةُ، قال: "ولهنَّ مثلُ الذي عليهنَّ بالمعروفِ وللرجالِ عليهنَّ درجةٌ واللهُ عزيزٌ حكيمٌ" [البقرة: 228] وهذه الدرجة هي التي بيَّنها بقول الله عز وجل: "الرجالُ قوَّامون على النساءِ بما فضَّل اللهُ بعضَهم على بعضٍ وبما أنفَقوا من أموالِهم" [النساء: 34] وفرَض عليهم العدلَ والإحسانَ في هذه الرياسة، فيجب على الرجل وراء النفقة على امرأته أن يعاشرها بالمعروف وأن يُحصِّنَها ويُعِفَّها ويُحصِّنَ نفسَه ويُعِفَّها بها، ولا يجوز له أن يجعلَ لها ضَرَّةً شريكةً في ذلك إلا إذا وَثِقَ من نفسه بالعدل بينهما، وإنما أُبيح له ذلك بشرطه لأنه من ضرورات الاجتماع، ولا سيما في أزمنة الحروب التي يقلّ فيها الرجال ويكثر النساء.(1/207)
فإن أراد ذلك أو فعَله أو وقَع بينهما النفور بسبب آخر فيجب على كل منهما أن يتحرَّى العدل والمعروف، فإن خافَا ألَّا يُقيمَا حدود الله فعَلَى الذي يريد منهما أن يَخلُصَ من الآخر أن يَستَرضيَه. وكما جعل الله الطلاقَ للرجل لأنه أحرَصُ على عصمة الزوجية لِمَا تَكلَّفَه من النفقة، ولأنه أبعَدُ عن طاعة الانفعال العارض، جعَل للمرأة حقَّ الفسخ إذا لم يَفِ بحقوقها من النفقة والإحصان. وقيل: إن كلمة "خير" ليست للتفضيل وإنما هي لبيان خيرية الصلح في نفسه. تفسير المنار5/364).(1/208)
ويقول الحق من بعد ذلك: (وأُحضرَتِ الأنفُسُ الشُّحَّ وإن تُحسنوا وتَتَّقوا فإن اللهَ كان بما تعملون خبيرًا) كأن الحق يقول: إنني عندما أطلب من المرأة أن تتنازل عن شيء من نفقتها أو أن تتنازل له عن ليلتها لينام عند الزوجة الأخرى أعلم أن هذا طلب قد يصعب على النفس. وكذلك تنازُلُ الرجل عن مقاييسه. والحق يحذِّرنا: إياكم أن يستوليَ الشحُّ على تصرفاتكم بالسنبة لبعضكم البعض (قال العلامة محمد رشيد رضا: "وأُحضرَتِ الأنفُسُ الشُّحَّ" بيَّن لنا سبحانه وتعالى في هذه الحكمةِ السببَ الذي قد يحُول بين الزوجين وبين الصلح الذي فيه الخيرُ وحسمُ مادة الخلاف والشقاق لأجل أن نَتَّقيَه ونجاهدَ أنفسَنا في ذلك، وهو الشحُّ، ومعناه: البخل الناشئ عن الحرص. ومعنى إحضارِه الأنفُسَ أنها عُرضةٌ له فإذا جاء مقتَضَى البذل ألَمَّ بها ونهَاها أن تبذُل ما ينبغي بذلُه لأجل الصلح وإقامة المصلحة، فالنساء حريصاتٌ على حقوقهنَّ في القَسْم والنفقة وحسن المعاشرة شحيحاتٌ بها، والرجال أيضًا حريصون على أموالهم أَشِحَّةٌ بها، فينبغي لكل منهما أن يتذكر أن هذا من ضعف النفس الذي يضرّه ولا ينفعه، وأن يعالجَه فلا يَبخَلَ بما ينبغي بذلُه والتسامحُ فيه لأجل المصلحة، فإن من أقبَحِ البخل أن يَبخَلَ أحد الزوجين في سبيل مرضاة الآخر بعد أن أفضَى بعضهما إلى بعض وارتَبَطَا بذلك الميثاق العظيم، بل ينبغي أن يكون التسامح بينهما أوسَعَ من ذلك، وهو ما تشير إليه الآية الآتية: (وإن تُحسنوا وتَتَّقوا فإن اللهَ كان بما تعملون خبيرًا) أي وإن تُحسنوا العشرة فيما بينكم، فتَتراحموا وتَتعاطفوا، ويَعذِرَ بعضُكم بعضًا، وتتقوا النشوز والإعراض وما يترتب عليهما من منع الحقوق أو الشقاق، فإن الله كان بما تعملونه من ذلك خبيرًا، لا يَخفَى عليه شيء من دقائقه وخفاياه ولا مِن قَصْدِكم فيه، فيجزي الذين أحسَنوا منكم بالحسنى والذين اتَّقَوا بالعاقبة الفُضلَى. قال(1/209)
بعض المفسرين: المراد بهذه الجملة حثُّ الرجال على الحرص على نسائهم وعدم النشوز والإعراض عنهنَّ وإن كَرِهوهنَّ لكِبَرِهنَّ أو دَمَامتهنَّ، كما قال في آية أخرى: "فإن كَرهتموهنَّ فعسى أن تَكرَهوا شيئًا ويَجعلَ اللهُ فيه خيرًا كثيرًا" [النساء: 19] تفسير المنار5/365).
إن هناك فرقًا بين الحقوق التي قد يتمسك بها أحد الزوجين وبين الإحسان الذي يَتطوع به، فإلى جانب العدل الذي هو إعطاء الحق فقط يوجد الفضل وهو أن يتنازل الإنسان عن حقه بالتراضي لأخيه، قال تعالى: (وإن تُحسنوا وتَتَّقوا فإن اللهَ كان بما تعملون خبيرًا) ولْتَحذَرِ النساء أن تُكلِّفنَ أزواجَهنَّ ما لا يُطيقون فيُوقِعنَهم في غضب الله ومعصيته، وأذكِّرُهنَّ بقول الله تعالى: (احشُروا الذين ظلَموا وأزواجَهم وما كانوا يَعبدون) (الصافات: 22) فإن تقديم الزوجات على الأزواج يدلّ على أن الزوجات هنَّ اللاتي قُمنَ بإغراء الأزواج بالمَطالب ودَفْعِهم إلى الشر والاختلاس لتلبية مطالبهنَّ، أو الوقوعِ في الحرام واتخاذِ الأخدان والإعراضِ عن شرع الله خشيةَ تَعَرُّضهم لما يُسمُّونه بالقوانين الجديدة التي تضيِّق على الرجال ما وسَّعه الله عليهم.(1/210)
2 ـ الخلع
يقول سبحانه وتعالى: (ولا يَحِلُّ لكم أن تأخذوا مما آتيتموهنَّ شيئًا إلَّا أن يَخَافَا ألَّا يُقيمَا حدودَ اللهِ فإن خفتم ألَّا يُقيمَا حدودَ الله فلا جناحَ عليهما فيما افتَدَت به) [البقرة: 229] (قال العلامة ابن كثير: فأما إذا لم يكن لها عذر وسألت الافتداء به فقد روى الإمام أحمد عن ثوبان قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "أيُّما امرأةٍ سألت زوجَها الطلاقَ في غير ما بأس فحرامٌ عليها رائحةُ الجنة". وهكذا رواه أبو داود وابن ماجه وابن جرير رواه أحمد في المسند [5/283] وأبو داود [2226] وابن ماجه [2055] والطبريّ في التفسير [2/285] والحاكم في المستدرك [2/200] وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبيّ. والبيهقيّ في السنن الكبرى [14860، 14861] وصححه الألبانيّ في صحيح ابن ماجه [1672] وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة عن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "المختَلِعات والمنتَزِعات هنَّ المنافقات" رواه أحمد في المسند [2/414] والنسائيّ في المجتبَى [3461] بلفظ: "المنتَزِعات والمختَلِعات هنَّ المنافقات" وصححه الألبانيّ في صحيح النسائيّ [3238] ثم قد قال طائفة كثيرة من السلف وأئمة الخلف إنه لا يجوز الخلع إلا أن يكونَ الشقاق والنشوز من جانب المرأة فيجوزَ للرجل حينئذ قبولُ الفدية، واحتجوا بقوله تعالى: "ولا يَحِلُّ لكم أن تأخذوا مما آتيتموهنَّ شيئًا إلَّا أن يَخَافَا ألَّا يُقيمَا حدودَ اللهِ" قالوا: فلم يُشرَع الخلع إلا في هذه الحالة، فلا يجوز في غيرها إلا بدليل، والأصل عدمه.
وممن ذهب إلى هذا ابنُ عباس وطاووس وإبراهيم وعطاء والحسن والجمهور، حتى قال مالك والأوزاعيّ: لو أخَذ منها شيئًا وهو مضارٌّ لها وجب ردُّه إليها وكان الطلاق رجعيًّا. قال مالك: وهو الأمر الذي أدركتُ الناس عليه.(1/211)
وذهب الشافعي رحمه الله إلى أنه يجوز الخلع في حال الشقاق وعند الاتفاق بطريق الأولى والأحرى. وهذا قول جميع أصحابه قاطبةً.
وقد ذكر ابن جرير أن هذه الآية نزلت في شأن ثابت بن قيس بن شماس وامرأته حبيبة بنت عبد الله بن أُبَيّ ابن سلول قال الشيخ أحمد شاكر: هكذا قال الحافظ ابن كثيرًا هنا، وأخشى أن يكون وهمًا منه؛ فإن الروايات فيها "حبيبة بنت سهل الأنصاريّ" و "جميلة بنت عبد الله بن أُبَيّ ابن سلول ولنذكر طرق حديثها واختلاف ألفاظه:(1/212)
روى الإمام مالك عن حبيبة بنت سهل الأنصاريّ أنها كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس، وأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ خرج إلى الصبح فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه في الغَلَس، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "من هذه؟" قالت: أنا حبيبة بنت سهل. فقال: "ما شأنك؟" فقالت: لا أنا ولا ثابت بن قيس. لِزوجِها، فلما جاء زوجها ثابت بن قيس قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: "هذه حبيبة بنت سهل قد ذكَرَت ما شاء الله أن تذكُر" فقالت حبيبة: يا رسول الله، كلُّ ما أعطاني عندي. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "خذْ منها" فأخَذ منها وجلسَت في أهلها. ورواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائيّ من طريق مالك رواه مالك في الموطأ [ص564] وأحمد في المسند [6/433ـ 434] والطبريّ في التفسير [2/280ـ 281] والنسائيّ [3408] وأبو داود [2227] وصححه الألبانيّ في صحيح أبي داود [1948] وروى البخاريّ عن ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس أتت النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت: يا رسول الله، ما أَعِيب عليه في خُلُق ولا دِين، ولكني أكرَه الكفر في الإسلام. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "أترُدِّين عليه حديقته؟" قالت: نعم. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "اقبَل الحديقة، وطلِّقها تطليقة". ورواه النسائيّ، وهكذا رواه البخاريّ من طرق عن ابن عباس، وفي بعضها أنها قالت: لا أطيقه. يعني بُغضًا. وهذا الحديث من أفراد البخاريّ من هذا الوجه أخرجه البخاريّ [9/349ـ 354] ونصّ الحافظ في الفتح [9/436] على أنه من أفراده دون مسلم وروى أبو القاسم البغويّ عن عكرمة عن ابن عباس أن جميلة بنت سلول أتت النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت: والله ما أَعتِب على ثابت بن قيس في دِين ولا خُلُق، ولكني أكره الكفر في الإسلام، لا أُطيقه بُغضًا. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "تَرُدّين عليه حديقته؟" قالت: نعم. فأمره النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يأخذ ما ساق ولا(1/213)
يزداد. وقد رواه ابن مَرْدَوَيْهِ وابن ماجه، وإسناده جيد مستقيم رواه ابن ماجه [2056] بلفظه، والطبريّ في التفسير [2/281] بمعناه، وصححه الألبانيّ في صحيح ابن ماجه [1673] وروى ابن ماجه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كانت حبيبة بنت سهل تحت ثابت بن قيس بن شماس، وكان رجلًا دميمًا، فقالت: يا رسول الله، والله لولا مخافةُ الله إذا دخَل عليَّ بَسَقتُ في وجهه بَسَق: لغةٌ في بَصَق. لسان العرب [10/20] فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "أَترُدِّين عليه حديقته؟" قالت: نعم. فرَدَّت عليه حديقته. قال: ففرّق بينهما الرسول صلى الله عليه وسلم رواه ابن ماجه [2057] وأحمد في المسند [4/3] من طريق حجاج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو، ومن طريق الحجاج عن محمد بن سليمان بن أبي حثمة عن عمه سهل بن أبي حثمة، فذكر الحديث وزاد في آخره: قال: فكان ذلك أول خلع كان في الإسلام. وذكره الهيثميّ في الزوائد [5/4ـ 5] وقال: رواه أحمد والبزار والطبرانيّ، وفيه الحجاج بن أرطأة، وهو مدلِّس. وضعّفه الألبانيّ في ضعيف ابن ماجه [466] وانظر الإرواء [7/103] وقولها "بَسَقَت" هكذا ثبت بالسين في الأزهرية، وفي المطبوعة "بَصَقَت" بالصاد، وفي المسند "بَزَقَت" بالزاي، وكلُّ ذلك صحيح لغةً وقد اختلف الأئمة رحمهم الله في أنه: هل يجوز للرجل أن يفاديَها بأكثر مما أعطاها؟ فذهب الجمهور إلى جواز ذلك لعموم قوله تعالى: "فلا جُناحَ عليهما فيما افتَدَت به" وروى ابن جرير عن كثير مولى سمرة أن عمر أُتيَ بامرأة ناشز، فأمَر بها إلى بيت كثير الزِّبْل، ثم دعا بها فقال: كيف وجدتِ؟ فقالت: ما وجدتُ راحة منذ كنت عنده إلا هذه اللياليَ التي حبَستَني! فقال لزوجها: اخلَعها ولو من قُرْطِها. ورواه عبد الرزاق مثله وزاد: فحَبَسَها له ثلاثة أيام رواه الطبريّ في التفسير [2/287] والبيهقيّ في السنن الكبرى [14852] وهو أثر منقطع؛ لأن كثير بن أبي كثير مولى(1/214)
سمرة تابعيّ يَروي عن صغار الصحابة، وروايتُه عن عمر مرسَلة، كما في التهذيب وقال البخاريّ: وأجاز عثمان الخُلعَ دون عِقَاص رأسها. وروى عبد الرزاق عن الرُّبَيِّع بن مُعوِّذ بن عَفراء قالت: كان لي زوج يُقِلُّ عليَّ الخير إذا حَضَرني ويَحرمني إذا غاب عني. قالت: فكانت منّي زلَّةٌ يومًا، فقلت: أختلع منك بكل شيء أملكه! قال: نعم. قالت: ففعلتُ. قالت: فخاصَمَ عمّي معاذُ بن عَفراء إلى عثمان بن عفان فأجاز الخلع وأمره أن يأخذ عِقَاص رأسي فما دونه. أو قالت: ما دون عِقَاص الرأس رواه الطبريّ في التفسير [2/287] من طريق عبد الرزاق، وإسناده صحيح. وابن سعد في الطبقات الكبرى [8/328] بإسنادين صحيحين ومعنى هذا أنه يجوز أن يأخذ منها كلَّ ما بيدها من قليل وكثير ولا يترك لها عقاص شعرها، وبه يقول ابن عمر وابن عباس ومجاهد وغيرهم، وهذا مذهب مالك والليث والشافعيّ وأبي ثور، واختاره ابن جرير.
وقال أصحاب أبي حنيفة: إن كان الإضرار من قِبَلِها جاز أن يأخذ منها ما أعطاها ولا تجوز الزيادة عليه، فإن ازداد جاز في القضاء، وإن كان الإضرار من جهته لم يَجُزْ أن يأخذ منها شيئًا، فإن أخذ جاز في القضاء.
وقال الإمام أحمد وأبو عُبيد وإسحاق: لا يجوز أن يأخذ أكثر مما أعطاها. وهذا قول سعيد بن المسيب وعطاء والزهريّ وغيرهم. عمدة التفسير 2/113ـ 116).
الحق سبحانه أراد أن يجعل للمرأة مخرجًا إن أُرِيدَ بها الضررُ وهي لا تَقبل هذا الضرر، فيأتي الشرع ويقرر بأنهما إذا خافَا ألّا يقيمَا حدود الله فللمرأة أن تفتديَ نفسَها بشيء من المال شريطةَ ألّا يَزيد على المهر.(1/215)
وفي ذلك تَروي جميلة أختُ عبد الله بن أُبَيّ، وكانت زوجةَ ثابت بن قيس، أنها ذهبت إلى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقالت له: أنا لا أتَّهم ثابتًا في دينه ولا في خُلُقه، ولكني لا أحب الكفر في الإسلام. لقد عاشت معه وهي تُبغضه وتشعر أنها لن تؤديَ حقه، ولا تريد أن تكفُر بعشرة رجل كان المفروض لو أنها أحبَّته أن تعطيَه من نفسها المودةَ والرحمةَ وصِدْقَ العاطفة، وأراد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يَعلم منها ذلك فقالت: لقد رفعتُ الخِبَاء فوجدتُه في عدة الرجال هو أشدَّهم سوادًا وأقصَرَهم قامةً وأكثَرَهم دَمَامةً، وأريد أن أُفلِتَ منه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتَرُدِّين عليه حديقته؟" قالت: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقبَل الحديقة وطلِّقها تطليقة" ورَدَّت المرأة الحديقة، وبذلك خلَعَت نفسَها من زوجها لأنها تخاف ألّا تؤديَ له حقًّا من حقوق الزوجية، وافتَدَت نفسَها بما قدَّمه لها من مهر (قال ابن رشد: واسم الخلع والفدية والصلح والمبارأة، كلها تَؤول إلى معنًى واحد، وهو بذلُ المرأة العِوَضَ على طلاقها، إلا أن اسم الخلع يَختصّ ببذلها له جميعَ ما أعطاها، والصلح ببعضه، والفدية بأكثره، والمبارأة بإسقاطها عنه حقًّا لها عليه، على ما زعَم الفقهاء. بداية المجتهد [3/129].
وأخرج البخاريّ [2576] عن ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ قال: جاءت امرأة ثابت بن قيس بن شماس إلى النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت: يا رسول الله، ما أَنقِم على ثابت في دين ولا خُلُق، إلا أني أخاف الكفر. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "فتَرُدِّين عليه حديقته؟" فقالت: نعم. فرَدَّت عليه وأمَرَه ففارَقَها.(1/216)
أي لا أريد مفارقته لسوء خُلُقه ولا لنقصان دينه ولكني لا أُطيقه بُغضًا، وهذا ظاهره أنه لم يصنع بها شيئًا يقتضي الشكوى منه بسببه، لكن تقدم من رواية النسائيّ أنه كسَر يدها، فيُحمل على أنها أرادت أنه سيِّئ الخلق لكنها ما تَعيبه بذلك بل بشيء آخر، بل وقع التصريح بسبب آخر وهو أنه كان دميم الخِلْقة، ففي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند ابن ماجه: كانت حبيبة بنت سهل عند ثابت بن قيس، وكان رجلًا دميمًا، فقالت: والله لولا مخافة الله إذا دخل عليَّ لَبَصَقت في وجهه. وأخرج عبد الرزاق عن معمر قال: بلغني أنها قالت: يا رسول الله بي من الجمال ما ترى، وثابت رجل دميم. وفي رواية معتمر بن سليمان عن فضيل عن أبي جرير عن عكرمة عن ابن عباس: أول خلع كان في الإسلام امرأة ثابت بن قيس، أتت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت: يا رسول الله، لا يجتمع رأسي ورأس ثابت أبدًا، إني رَفَعتُ جانب الخِبَاء فرأيته أقبَلَ في عدة، فإذا هو أشدُّهم سوادًا وأقصرُهم قامةً وأقبحُهم وجهًا. فقال: "أترُدِّين عليه حديقته؟" قالت: نعم، وإن شاء زدته. ففرَّق بينهما.
قوله: ولكني أكره الكفر في الإسلام. وكأنها أشارت إلى أنها قد تَحملها شدةُ كراهتها له على إظهار الكفر لينفسخ نكاحها منه، وهي كانت تعرف أن ذلك حرام لكن خَشيَتْ أن تَحملَها شدةُ البغض على الوقوع فيه. ويَحتمل أن تريد بالكفر كفرانَ العشير، إذ هو تقصير المرأة في حق الزوج. وقال الطِّيبيّ: المعنى: أخاف على نفسي في الإسلام ما ينافي حُكمَه، من نشوزٍ وفَرْكٍ وغيره مما يُتوقَّع من الشابة الجميلة المُبغِضة لزوجها إذا كان بالضدّ منها، فأطلَقَت على ما ينافي مقتَضَى الإسلامِ الكفرَ. ويَحتمل أن يكون في كلامها إضمارٌ، أي: أكره لوازم الكفر من المعاداة والشقاق والخصومة. فتح الباري 10/496 ـ 502 بتصرف.(1/217)
قال الحافظ في الفتح: "باب الخلع" بضم المعجمة وسكون اللام، وهو في اللغة فراق الزوجة على مال، مأخوذ من خلع الثوب، لأن المرأة لباسُ الرجل معنًى، وضُمَّ مصدرُه تفرقةً بين الحسّيّ والمعنويّ. وذكر أبو بكر بن دُريد في أماليه أن أولُ خُلع كان في الدنيا أن عامر بن الظَّرِب ـ بفتح المعجَمة وكسر الراء ثم موحَّدة ـ زوَّج ابنتَه من ابن أخيه عامر بن الحارث ابن الظرب، فلما دخَلَت عليه نَفَرَت منه، فشكا إلى أبيها، فقال: لا أجمع عليك فراقَ أهلِك ومالِك، وقد خلعتُها منك بما أعطَيتَها. قال: فزعم العلماء أن هذا كان أولَ خلع في العرب اهـ
ويسمَّى أيضًا فدية وافتداء. وأجمع العلماء على مشروعيته، إلا بكرَ بن عبد الله المُزَنيّ التابعيّ المشهورَ فإنه قال: لا يَحِلّ للرجل أن يأخذ من امرأته في مقابل فراقها شيئًا لقوله تعالى: "فلا تأخذوا منه شيئًا" فأورَدوا عليه "فلا جناحَ عليهما فيما افتَدَت به" [البقرة: 229] فادَّعَى نَسْخَها بآية النساء. أخرجه ابن أبي شيبة وغيره عنه، وتُعُقِّب مع شذوذه بقوله تعالى في النساء أيضًا: "فإن طِبْنَ لكم عن شيءٍ منه نفسًا فكُلُوه.." [النساء: 4] وبقوله فيها: "فلا جناحَ عليهما أن يُصلِحَا.." [النساء: 128] الآيةِ، وبالحديث. وكأنه لم يثبُت عنده أو لم يبلُغه. وانعقد الإجماع بعده على اعتباره، وأن آية النساء مخصوصة بآية البقرة وبآيتَي النساء الأُخرَيَين. وضابطُه شرعًا: فراقُ الرجل زوجتَه ببذلٍ قابلٍ للعِوَض يحصُل لجهة الزوج. وهو مكروه إلا في حال مخافةَ ألّا يُقيمَا أو واحدٌ منهما ما أُمِرَ به. وقد ينشأ ذلك عن كراهة العشرة إما لسوء خُلُق أو خَلْق. وكذا تُرفع الكراهة إذا احتاجَا إليه خشيةَ حنثٍ يَؤول إلى البينونة الكبرى.(1/218)
قوله: "وكيف الطلاق فيه" أي هل يقع الطلاق بمجرده أو لا يقع حتى يُذكَر الطلاق إما باللفظ وإما بالنية؟ وللعلماء فيما إذا وقع الخلع مجردًا عن الطلاق لفظًا ونيةً ثلاثةُ آراء، وهي أقوال للشافعيّ:
أحدُها: ما نَصّ عليه في أكثر كتبه الجديدة أن الخلع طلاق. وهو قول الجمهور. فإذا وقع بلفظ الخلع وما تَصَرّفَ منه نَقَصَ العدد، وكذا إن وقع بغير لفظه مقرونًا بنيته. وقد نص الشافعيّ في "الإملاء" على أنه من صرائح الطلاق. وحجة الجمهور أنه لفظ لا يملكه إلا الزوج فكان طلاقًا، ولو كان فسخًا لما جاز على غير الصداق كالإقالة، لكن الجمهور على جوازه بما قلَّ وكثُر فدلَّ على أنه طلاق.
الثاني: وهو قول الشافعيّ في القديم، ذكره في "أحكام القرآن" من الجديد، أنه فسخ وليس بطلاق. وصح ذلك عن ابن عباس، أخرجه عبد الرزاق، وعن ابن الزبير. ورُوي عن عثمان وعليّ وعكرمة وطاوس. وهو مشهور مذهب أحمد... وقد استشكله إسماعيل القاضي بالاتفاق على أن من جعَل أمَر المرأة بيدها ونوَى الطلاق فطلَّقَت نفسَها طَلَقَت. وتُعُقِّب بأن محلَّ الخلاف ما إذا لم يقع لفظُ طلاقٍ ولا نيةٌ وإنما وقع لفظ الخلع صريحًا أو ما قام مقامه من الألفاظ مع النية، فإنه لا يكون فسخًا تقع به الفرقة ولا يقع به طلاق.
واختلف الشافعية فيما إذا نوَى بالخلع الطلاقَ وفرَّعنا على أنه فسخ، هل يقع الطلاق أم لا؟ ورجّح الإمام عدم الوقوع واحتَجّ بأنه صريح في بابه وجَد نَفَاذًا في محلّه فلا ينصرف بالنية إلى غيره. وصرح أبو حامد والأكثر بوقوع الطلاق، ونقله الخُوَارَزميّ عن نصّ القديم، قال: هو فسخ لا ينقُص عددَ الطلاق إلا أن يَنويَا به الطلاقَ. ويُخدَش فيما اختاره الإمام أن الطحاويّ نقَل الإجماعَ على أنه إذا نوَى بالخلع الطلاقَ وقَع الطلاقُ، وأن محلّ الخلاف فيما إذا لم يصرّح بالطلاق ولم يَنْوِهِ.(1/219)
الثالث: إذا لم يَنْوِ الطلاق لا يقع به فرقة أصلًا. ونَصّ عليه في "الأم" وقوّاه السبكيّ من المتأخرين، وذكر محمد بن نصر المروزيّ في كتاب "اختلاف العلماء" أنه آخر قولَي الشافعيّ.
فتح الباري [10/496: 502] بتصرف، وانظر في الموضوع "الفقه الإسلاميّ وأدلته" [7/480 ـ 508] "المفصل في أحكام المرأة والبيت المسلم" [8/133 ـ 230] و"بداية المجتهد" [3/129 ـ 142]).
وعندما نتأمل قول الحق سبحانه وتعالى: (فإن خفتم ألّا يُقيمَا حدودَ الله فلا جُناحَ عليهما فيما افتَدَت به تلك حدودُ اللهِ فلا تَعتَدُوها ومن يَتعَدَّ حدودَ اللهِ فأولئك هم الظالمون) (البقرة: 229) نجد أن الحق سبحانه يأمر وليَّ الأمر أن يتدخل إن خافَا ألّا يُقيمَا حدود الله، وبذلك يعطي للحاكمِ المسلم أو وليِّ الأمر أن يتدخل لتفتديَ المرأة نفسَها بقدرٍ من المال لا يزيد على قيمة مهرها، ونحن نعرف أن الحق سبحانه وتعالى قد وضع بعضًا من الحدود ومنَع التعدِّيَ عليها، ووضَع الحقُّ حدودًا ومنَع الاقتراب منها. وحدود الله كما نعرف هي ما شرَعه الله لعباده مبيِّنًا الحدَّ الفاصل بين الحلال والحرام، وحدودُ الله تَرِدُ في آيات القرآن الكريم على نحوَين:
الأول: هو أن يأتيَ قول الحق: (تلك حدودُ اللهِ فلا تَعتَدُوها ومن يَتعَدَّ حدودَ اللهِ فأولئك هم الظالمون) والمقصود بذلك أن يطبق المؤمن الأوامر التي أنزلها الله، وليس من حق أحد أن يعتديَ على حدود قد وضعها الله أو يتعدّاها إلى غيرها.(1/220)
الثاني: وهو قوله سبحانه وتعالى: (تلك حدودُ الله فلا تَقرَبوها) (البقرة: 187) والمقصود بذلك أن الحق يريد أن يحصّن النفس البشرية من تأثير المحرَّمات عليها، وحتى لا تُلِحَّ هذه المحرَّمات على النفس أن تفعل أو تقبل ما حرّمه الله، فإذا ما كان المؤمن بعيدًا عن دائرة المحرَّمات ولا يَقترب منها فإنه بذلك يضمن لنفسه السلامة من الوقوع في الخطأ (وقوله: "تلك حدودُ اللهِ فلا تَعتَدُوها ومن يَتعَدَّ حدودَ اللهِ فأولئك هم الظالمون" أي هذه الشرائع التي شَرَعها لكم هي حدوده فلا تتجاوزوها، كما ثبت في الحديث الصحيح: "إن اللهَ حَدَّ حدودًا فلا تَعتَدُوها، وفرَض فرائضَ فلا تضيِّعوها، وحرَّم مَحارمَ فلا تَنتهِكوها، وسكَت عن أشياءَ رحمةً لكم غيرَ نسيان فلا تَسألوا عنها" رواه الحاكم في المستدرك [4/115] من حديث أبي ثعلبة الخُشَنيّ ـ رضي الله عنه ـ وسكت عنه عمدة التفسير 2/116ـ 117).
إذًا فحدود الله تشتمل على نَوَاهٍ أمَر الله تعالى بالابتعاد عنها وتشتمل على أوامرَ من الله تعالى أمَر بالتزامها. إن الحق سبحانه وتعالى يريد بأوامره أن تظل في مجالها من الفعل بـ "افعل" ويريد بالنواهي أن تظل في مجالها من عدم الفعل بـ "لا تفعل" لأن الإنسان إن غيَّر نظام "لا تفعل" إلى "افعل" أو نقَل نظام "افعل" إلى "لا تفعل" إنما يكون ذلك سببًا في اختلال نظام الحياة، وإن اختلَّ نظام الحياة فسوف يقع الظلم.
والظلم إن كان من معانيه أن تأخذ حقًّا من صاحبه وتعطيَه لمن لا حقَّ له فإن من معانيه أيضًا أن ينقُل الإنسان أمرًا من دائرة "افعل" إلى دائرة "لا تفعل" أو أن ينقُل الإنسان أمرًا من دائرة "لا تفعل" إلى دائرة "افعل".(1/221)
وتشريع الطلاق بالأسس والأوامر والنواهي التي وضعها الله يجب أن يطبَّق بنصوص ونوايَا الإيمان، وإن حاوَل أحد بالتشريع البشريّ ولو بحسن نية أن يتدخل في هذه الحدود فإنه يُفسد على الزوجين حياتهما ويُحيلها إلى بركان من المشاكل والصعاب بعد أن كانت وَفْقَ شرع الله تعالى إما عشرةً بالمعروف أو تسريحًا بإحسان، وفي ذلك ظلم للنفس وظلم للمجتمع.(1/222)
3 ـ الإيلاء
يقول الحق سبحانه وتعالى: (لِلَّذين يُؤْلُون مِن نسائهم تَربُّصُ أربعةِ أشهرٍ فإن فاءُوا فإن اللهَ غفورٌ رحيمٌ. وإن عزَموا الطلاقَ فإن اللهَ سميعٌ عليمٌ) (البقرة: 226 ـ 227).
هذا تشريع للذين يُقسمون ألّا يجامعوا نساءهم عقابًا وأدبًا لهنَّ، والعقاب فترة زمنية أقصاها أربعة أشهر، لكن أكثر من ذلك فهو أمر مرفوض.
لماذا؟
إن الرجل قد يعاقب زوجته بالجماع دون يمين، ولكنه قد يضعُف، لذلك يشدّد على نفسه باليمين. وكان الرجل قديمًا يَعضُل المرأةَ ويُشعرها بالذنب ولا يَقرَب المرأةَ فترة، ثم يكرر القَسَمَ مرة أخرى لفترة أخرى، والمرأة قد تستغل دلالها على الزوج بجمالها فتُذلّه بأن تمنعه من الاقتراب منها، لذلك شرَع الحق مدةَ أربعة أشهر وبعدها يكون أمر آخر، إن الله سبحانه وتعالى قد حدّد مدةَ عدمِ الاقتراب بيمين هي أربعة أشهر، لك أيها الزوج أن تَحلف ألّا تَقرَب امرأتَك أربعة أشهر للتأديب، ولكن إن زاد الأمر على أربعة أشهر فذلك ضرر وإذلال لا يرضاه الله (قال العلامة ابن كثير: الإيلاء الحَلِف، فإذا حلف الرجل ألّا يجامع زوجته مدةً فلا يخلو إما أن يكون أقلَّ من أربعة أشهر أو أكثرَ منها، فإن كانت أقلَّ فله أن ينتظر انقضاء المدة ثم يجامع امرأته، وعليها أن تصبر، وليس لها مطالبتُه بالفَيئة في هذه المدة، وهذا كما ثبت في الصحيحين عن عائشة أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ آلَى من نسائه شهرًا، فنزَل لتسع وعشرين وقال: "الشهر تسع وعشرون" أخرجه البخاريّ [2468] مطولًا ومسلم [1475/ 35] بنحوه ولهما عن عمر بن الخطاب نحوه أخرجه البخاريّ [5203] ومسلم [1479/ 30] مطولًا فأما إن زادت المدة على أربعة أشهر فللزوجة مطالبةُ الزوج عند انقضاء أربعة أشهر إما أن يَفيءَ ـ أي يجامع ـ وإما أن يطلِّق، فيُجبِرُه الحاكم على هذا أو هذا لئلَّا يَضرَّ بها، ولهذا قال تعالى: "لِلَّذين يُؤلُون من نسائهم" أي يَحلفون على ترك(1/223)
الجماع من نسائهم. فيه دلالة على أن الإيلاء يَختصّ بالزوجات دون الإماء كما هو مذهب الجمهور "تَرَبُّصُ أربعة أشهر" أي ينتظر الزوج أربعة أشهر من حين الحلف ثم يُوقَف ويُطالَب بالفَيئة أو الطلاق. ولهذا قال: "فإن فاءُوا" أي رجعوا إلى ما كانوا عليه. وهو كناية عن الجماع. قاله ابن عباس وغير واحد، منهم ابن جرير رحمه الله "فإن الله غفور رحيم" لِمَا سلَف من التقصير في حقهنَّ بسبب اليمين.
وقوله: (فإن الله غفور رحيم) فيه دلالة لأحد قولَي العلماء، وهو القديم عن الشافعيّ، أن المُوليَ إذا فاء بعد الأربعة الأشهر أنه لا كفارة عليه، ويَعتضد بما تقدم في الحديث عند الآية التي قبلها عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "مَن حلَف على يمين فرأى غيرَها خيرًا منها فتَرْكُها كفارتُها" رواه أحمد في المسند [2/185] وقال الشيخ شاكر [3736]: إسناد صحيح كما رواه أحمد وأبو داود والترمذيّ.
والذي عليه الجمهور، وهو الجديد من مذهب الشافعيّ، أن عليه التكفيرَ لعموم وجوب التكفير على كل حالف، كما تقدم أيضًا في الأحاديث الصحاح والله أعلم. عمدة التفسير 2/106).
والذي يدلنا على أن الحق سبحانه وتعالى وهو خالق الغرائز والميول والعواطف قد قنَّن لها التقنين السليم، هو ما رُوي أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله تعالى عنه ـ كان يمرّ ليلًا يتفقد أحوال رعيته، فسمع امرأة في جوف الليل، حيث لا ضجة ولا ضجيج وإنما سكون يخلو فيه كل إنسان إلى خِلِّه وشوقه، تقول المرأة:
تَطاوَلَ هذا الليلُ واسوَدَّ جانبُه وأرَّقَني أنْ لا خليلٌ أُلَاعبُه
فواللهِ لولا اللهُ أنِّي أراقبُه لَحُرِّكَ من هذا السرير جوانبُه(1/224)
إن هذه المرأة امتدَّ بها الأرق واستبدَّ بها الشوق إلى الرجل ولكن تقوى الله التي منَعَتها، ويذهب عمر بن الخطاب ـ رضي الله تعالى عنه ـ بفطرته السلمية وأَلْمَعيَّتِه المفرطة إلى ابنته حفصة ويقول لها: يا حفصة، كم تصبر المرأة على بُعد الرجل عنها؟ فتقول حفصة بوضوح: يا أبت، من ستة أشهر لأربعة. فأخذ عمر بن الخطاب على نفسه ألّا يظلَّ جنديّ من جنود المسلمين بعيدًا عن أهله أكثر من ذلك (قال العلامة ابن كثير: وقد ذكر الفقهاء وغيرهم في مناسبة تأجيل المُولِي بأربعة أشهر الأثرَ الذي رواه الإمام مالك بن أنس في الموطأ عن عبد الله بن دينار، قال: خرج عمر بن الخطاب من الليل فسمع امرأة تقول:
تَطاوَلَ هذا الليلُ واسوَدَّ جانبُه وأرَّقَني أنْ لا خليلٌ أُلَاعبُه
فواللهِ لولا اللهُ أنِّي أراقبُه لَحُرِّكَ من هذا السرير جوانبُه(1/225)
فسأل عمر ابنته حفصة: كم أكثر ما تصبر المرأة عن زوجها؟ فقالت: ستة أشهر أو أربعة أشهر. فقال عمر: لا أحبس أحدًا من الجيش أكثر من ذلك. وقد رُوي هذا من طرق، وهو من المشهورات. عمدة التفسير 2/107) إذًا فقول الحق سبحانه وتعالى: (لِلَّذين يُؤْلُون مِن نسائهم تَربُّصُ أربعةِ أشهرٍ فإن فاءُوا فإن اللهَ غفورٌ رحيمٌ) لقد سبق الحقُّ عمرَ، وبعد ذلك يترك الحق لواقع الحياة أن يُظهر ما أنزله الله من أمر، إن عمر بن الخطاب يستنبط حكمًا فلا يجعل جنديًّا يبعد عن بيته أكثر من أربعة أشهر، والحق حين قرر أن للرجل أن يقسم ويحلف ألّا يَقرَب امرأتَه حدَّد ذلك بأربعة أشهر، وإن شاء الرجل أن يقترب من زوجته قبل أربعة أشهر فليكفر عن اليمين وتنتهي المسألة ويصير من حقه الاقترابُ والامتزاجُ بزوجته، أما إن زاد الزمن على أربعة أشهر فهنا من حق الزوجة أن تطلب منه الطلاق، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى بعد هذه الآية: (وإن عزَموا الطلاقَ فإن اللهَ سميعٌ عليمٌ) [البقرة: 227] (قوله: "وإن عزَموا الطلاقَ" فيه دلالة على أن الطلاق لا يقع بمجرد مُضيّ الأربعة أشهر، كقول الجمهور. وذهب آخرون إلى أنه يقع بمُضيّ أربعة أشهر تطليقةٌ. وهو مرويّ بأسانيد صحيحة عن عمر وعثمان وعليّ وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وزيد بن ثابت، وبه يقول ابن سيرين ومسروق والقاسم وسالم وغيرهم من التابعين.
ثم قيل: إنها تَطلُق بمُضيّ الأربعة أشهر طلقةً رجعيةً. قاله سعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ومكحول وربيعة وغيرهم. وقيل: إنها تَطلُق طلقةً بائنة.(1/226)
والذي عليه الجمهور أن يُوقَف فيُطالَب إما بهذا أو بهذا ولا يقع عليها بمجرد مُضيِّها طلاقٌ. وروى مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه قال: إذا آلَى الرجل من امرأته لم يقَع عليه طلاق وإن مَضَت أربعة أشهر، حتى يُوقَف، فإما أن يطلِّق وإما أن يَفيء. وأخرجه البخاريّ. وروَى الشافعيّ عن سليمان بن يسار قال: أدركت بضعة عشر من أصحاب النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كلهم يُوقِفُ المُولِيَ. وروى ابن جرير عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه قال: سألت اثنَي عشرَ رجلًا من الصحابة عن الرجل يُولِي من امرأته فكلهم يقول: ليس عليه شيء حتى تَمضيَ الأربعة الأشهر، فيُوقَف، فإن فاء وإلا طلَّق رواه الطبريّ في التفسير [4642 شاكر] ورواه الدارقطنيّ رواه الدارقطنيّ في سننه [3995] وهو مذهب مالك والشافعيّ وأحمد ابن حنبل وأصحابهم. وهو اختيار ابن جرير أيضًا. وهو قول الليث وإسحاق بن راهَوَيه وأبي عبيد وأبي ثور وداود. عمدة التفسير 2/107) هذا هو الحد الفاصل للتأديب، أربعة أشهر من عدم التواصل في الفراش. إن المرأة من خلق الله، والرجل من خلق الله، والله لا يحب أن يُظلم أحدٌ من خلقه، فإذا ما بالَغَ الرجل في عقاب زوجته للتأديب كان لابد للحق أن يحميَ المرأة من الرجل حتى لو كان ذلك بأبغض الحلال إليه سبحانه "الطلاق" وقد اختلف العلماء في كيفية حدوث هذا الطلاق، أبو حنيفة يقول: إن الطلاق يقع بمُضيّ هذه المدة. والشافعيّ يقول: إن حق المرأة أن ترفع أمر الزواج إلى القاضي فإما أن يأمر الزوج بالفَيئة ـ أي العودة إلى سابق عهده معها ـ أو الطلاق.
(حكم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الإيلاء(1/227)
ثبت في صحيح البخاريّ عن أنس قال: آلَى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من نسائه، وكانت انفكَّت رجله فأقام في مَشْرُبة له تسعًا وعشرين ليلة، ثم نزل، فقالوا: يا رسول الله آلَيتَ شهرًا! فقال: "إن الشهر يكون تسعًا وعشرين" أخرجه البخاريّ [5289،5201] بلفظ: "الشهر تسع وعشرون" وقد قال سبحانه: "لِلَّذين يُؤْلُون مِن نسائهم تَربُّصُ أربعةِ أشهرٍ فإن فاءُوا فإن اللهَ غفورٌ رحيمٌ. وإن عزَموا الطلاقَ فإن اللهَ سميعٌ عليم" الإيلاء لغةً: الامتناع باليمين. وخُصَّ في عرف الشرع بالامتناع باليمين من وطء الزوجة، ولهذا عُدِّيَ فعلُه بأداة "مِن" تضمينًا له معنى "يَمتنعون من نسائهم" وهو أحسن من إقامة "من" مقام "على".
وجعل سبحانه للأزواج مدة أربعة أشهر يَمتنعون فيها من وطء نسائهم بالإيلاء، فإذا مضت فإما أن يَفيءَ وإما أن يطلِّق، وقد اشتهر عن عليّ وابن عباس أن الإيلاء إنما يكون في حال الغضب دون الرضا، كما وقع للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع نسائه. وظاهرُ القرآن مع الجمهور. وقد تناظر في هذه المسألة محمد بن سيرين ورجل آخر، فاحتَجَّ على محمد بقول عليٍّ، فاحتَجَّ عليه محمد بالآية فسكت.
وقد دلت الآية على أحكامٍ منها هذا.
ومنها أن من حلف على ترك الوطء أقلَّ من أربعة أشهر لم يكن مُؤلِيًا، وهذا قول الجمهور، وفيه قول شاذّ أنه مُؤْلٍ.
ومنها أنه لا يثبُت له حكمُ الإيلاء حتى يحلف على أكثر من أربعة أشهر، فإن كانت مدة الامتناع أربعة أشهر لم يثبُت له حكم الإيلاء؛ لأن الله جعل لهم مدة أربعة أشهر وبعد انقضائها إما أن يطلِّقوا وإما أن يَفيؤوا. وهذا قول الجمهور، ومنهم أحمد والشافعيّ ومالك. وجعله أبو حنيفة مُؤْلِيًا بأربعة أشهر سواء، وهذا بناءً على أصله أن المدة المضروبة أجلٌ لوقوع الطلاق بانقضائها، والجمهور يجعلون المدة أجلًا لاستحقاق المطالَبة.(1/228)
وهذا موضع اختَلَف فيه السلف من الصحابة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ والتابعين ومَن بعدهم، فقال الشافعيّ: حدثنا سفيان عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار قال: أدركت بضعة عشر رجلًا من الصحابة كلُّهم يُوقِفُ المُؤْلِيَ. يعني بعد أربعة أشهر رواه الشافعيّ في مسنده [139] وإسناده صحيح وروَى سهيل بن أبي صالح عن أبيه قال: سألت اثنَي عشر رجلًا من أصحاب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن المُؤْلِي فقالوا: ليس عليه شيء حتى تَمضيَ أربعة أشهر رواه الدارقطنيّ [3995] وإسناده قويّ وهذا قول الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. وقال عبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت: إذا مضت أربعة أشهر ولم يَفِئْ فيها طَلَقَت منه بمُضيِّها رواه البيهقيّ في السنن الكبرى [15227] عن ابن مسعود، وإسناده صحيح وهذا قول جماعة من التابعين وقول أبي حنيفة وأصحابه، فعند هؤلاء يستحق المطالبة قبل مُضيّ الأربعة الأشهر، فإن فاء وإلا طَلَقَت بمُضيِّها. وعند الجمهور لا يستحق المطالبة حتى تمضيَ الأربعة الأشهر، فحينئذ يقال: إما أن تفيء وإما أن تطلِّق. وإن لم يَفِئْ أُخذ بإيقاع الطلاق، إما بالحاكم وإما بحبسه حتى يطلِّق.
قال المُوقِعون للطلاق بمُضيّ المدة: آية الإيلاء تدل على ذلك من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن عبد الله بن مسعود قرأ: "فإن فاءُوا فإن اللهَ غفورٌ رحيمٌ" فإضافة الفَيئة إلى المدة تدل على استحقاق الفَيئة فيها، وهذه القراءة إما أن تَجريَ مَجرَى خبر الواحد فتوجب العمل وإن لم توجب كونَها من القرآن، وإما أن تكون قرآنًا نُسخ لفظُه وبقيَ حكمُه، لا يجوز فيها غير هذا ألبتة.
الثاني: أن الله سبحانه جعل مدة الإيلاء أربعة أشهر، فلو كانت الفيئة بعدها لزادت على مدة النص، وذلك غير جائز.
الثالث: أنه لو وطئها في مدة الإيلاء لوقعت الفيئة موقعها، فدل على استحقاق الفَيئة فيها.(1/229)
قالوا: ولأن الله سبحانه وتعالى جعل لهم تربص أربعة أشهر ثم قال: "فإن فاءُوا فإن اللهَ غفورٌ رحيمٌ. وإن عزَموا الطلاقَ" وظاهر هذا أن هذا التقسيم في المدة التي لهم فيها التربص، كما إذا قال لغريمه: أصبر عليك بدَيني أربعة أشهر، فإن وفَّيتَني وإلا حبستك. ولا يفهم من هذا إلّا: إن وفَّيتَني في هذه المدة. ولا يفهم منه: إن وفَّيتَني بعدها، وإلا كانت مدة الصبر أكثر من أربعة أشهر. وقراءة ابن مسعود صريحة في تفسير الفيئة بأنها في المدة، وأقل مراتبها أن تكون تفسيرًا. قالوا: ولأنه أجل مضروب للفرقة فتَعقُبُه الفرقة كالعدة، وكالأجل الذي ضُرب لوقوع الطلاق، كقوله: إذا مضت أربعة أشهر فأنت طالق.
قال الجمهور: لنا من آية الإيلاء عشرة أدلة:
أحدها: أنه أضاف مدة الإيلاء إلى الأزواج وجعلها لهم ولم يجعلها عليهم، فوجب ألّا يستحق المطالبة فيها بل بعدها، كأجل الدَّين، ومن أوجب المطالبة فيها لم يكن عنده أجلٌ لهم، ولا يَعقل كونَها أجلًا لهم، ويَستحق عليهم فيها المطالبة.
الثاني: قوله "فإن فاءُوا فإن اللهَ غفورٌ رحيمٌ" فذكر الفَيئة بعد المدة بفاء التعقيب، وهذا يقتضي أن يكون بعد المدة، ونظيره قوله سبحانه: "الطلاقُ مرتان فإمساكٌ بمعروف أو تسريحٌ بإحسان" وهذا بعد الطلاق قطعًا.
فإن قيل: فاء التعقيب توجب أن يكون بعد الإيلاء لا بعد المدة.
قيل: قد تقدم في الآية ذكر الإيلاء ثم تلاه ذكر المدة ثم أعقبها بذكر الفيئة، فإذا أوجبت الفاء التعقيب بعد ما تقدم ذكره لم يَجُزْ أن يعود إلى أبعد المذكورَين ووجب عودُها إليهما أو إلى أقربِهما.
الثالث: قوله "وإن عزموا الطلاق" وإنما العزم ما عزَم العازم على فعله، كقوله تعالى: "ولا تَعزِموا عقدةَ النكاح حتى يَبلُغَ الكتابُ أجَلَه".
فإن قيل: فتركُ الفَيئة عزمٌ على الطلاق؟(1/230)
قيل: العزم هو إرادة جازمة لفعل المعزوم عليه أو تركه، وأنتم تُوقِعون الطلاق بمجرد مُضيّ المدة وإن لم يكن منه عزمٌ لا على وطء ولا على تركه، بل لو عزم على الفيئة ولم يجامع طلَّقتم عليه بمضيّ المدة، ولم يَعزم الطلاق، فكيفما قدَّرتم فالآية حجة عليكم.
الرابع: أن الله سبحانه خيَّره في الآية بين أمرين، الفيئة أو الطلاق، والتخيير بين أمرين لا يكون إلا في حالة واحدة كالكفارات، ولو كان في حالتَين لكان ترتيبًا لا تخييرًا، وإذا تقرر هذا فالفيئةُ عندكم في نفس المدة، وعزمُ الطلاق بانقضاء المدة، فلم يقع التخيير في حالة واحدة.
فإن قيل: هو مخيَّر بين أن يفيءَ في المدة وبين أن يترك الفيئة، فيكون عازمًا للطلاق بمضيّ المدة.
قيل: ترك الفيئة لا يكون عزمًا للطلاق وإنما يكون عزمًا عندكم إذا انقضت المدة، فلا يتأتى التخيير بين عزم الطلاق وبين الفيئة ألبتة؛ فإنه بمضيّ المدة يقع الطلاق عندكم فلا يمكنه الفيئةُ، ولم يحضُر وقتُ عزم الطلاق الذي هو مضيّ المدة، وحينئذ فهذا دليل خامس مستقلّ.
السادس: أن التخيير بين أمرين يقتضي أن يكون فعلهما إليه، وصح منه اختيارُ فعلِ كلٍّ منهما وتركِه، وإلا لبَطَل حكمُ خياره، ومُضيُّ المدة ليس إليه.
السابع: أنه سبحانه قال: "وإن عزَموا الطلاقَ فإن اللهَ سميعٌ عليمٌ" فاقتضى أن يكون الطلاق قولًا يُسمَع؛ لِيَحسُنَ ختمُ الآية بصفة السمع.
الثامن: أنه لو قال لغريمه: لك أجلُ أربعة أشهر، فإن وفَّيتَني قَبِلتُ منك وإن لم تُوَفِّني حبستُك. كان مقتضاه أن الوفاء والحبس بعد المدة لا فيها، ولا يَعقل المخاطَب غير هذا.
فإن قيل: ما نحن فيه نظير قوله: لك الخيار ثلاثةَ أيام، فإن فسَختَ البيعَ وإلا لَزِمَكَ. ومعلوم أن الفسخ إنما يقع في الثلاث لا بعدها.(1/231)
قيل: هذا من أقوى حُججنا عليكم، فإن موجَبَ العقدِ اللزومُ، فجعَل له الخيارَ في مدة ثلاثة أيام فإذا انقضت ولم يَفسَخ عاد العقد إلى حكمه وهو اللزوم، وهكذا الزوجة لها حقّ على الزوج في الوطء كما له حقّ عليها، قال تعالى: "ولهنَّ مثلُ الذي عليهنَّ بالمعروف" [البقرة: 228] فجعَل له الشارعُ امتناعَ أربعة أشهر لا حقَّ لها فيهنَّ، فإذا انقضت المدة عادت على حقها بموجَبِ العقد، وهو المطالَبةُ لا وقوعُ الطلاق، وحينئذ فهذا دليل تاسع مستقلّ.
العاشر: أنه سبحانه جعل للمُؤلِينَ شيئًا، وعليهم شيئَين، فالذي لهم تربُّصُ المدة المذكورة، والذي عليهم إما الفيئة وإما الطلاق، وعندكم ليس عليهم إلا الفيئةُ فقط وأما الطلاقُ فليس عليهم بل ولا إليهم، وإنما هو إليه سبحانه عند انقضاء المدة فيُحكَمُ بطلاقها عقيب انقضاء المدة شاء أو أبَى، ومعلوم أن هذا ليس إلى المُؤلِي ولا عليه، وهو خلاف ظاهر النص.
قالوا: ولأنها يمين بالله تعالى توجب الكفارة فلم يقع بها الطلاق كسائر الأيمان، ولأنها مدة قدَّرها الشرع لم تتقدَّمها الفرقة فلا يقع بها بينونة كأجَلِ العِنِّين، ولأنه لفظ لا يصح أن يقع به الطلاق المعجَّل فلم يقع به المؤجَّل كالظهار، ولأن الإيلاء كان طلاقًا في الجاهلية فنُسخ، كالظهار، فلا يجوز أن يقع به الطلاق؛ لأنه استيفاء للحكم المنسوخ ولِمَا كان عليه أهل الجاهلية، قال الشافعيّ: كانت الفِرَقُ الجاهلية تحلف بثلاثة أشياء، بالطلاق والظهار والإيلاء، فنقَل الله سبحانه وتعالى الإيلاءَ والظهارَ عما كان عليه في الجاهلية من إيقاع الفرقة على الزوجة إلى ما استقرَّ عليه حكمهما في الشرع، وبَقيَ حكم الطلاق على ما كان عليه. هذا لفظه الأم للشافعيّ [5/277] بنحوه.(1/232)
قالوا: ولأن الطلاق إنما يقع بالصريح والكناية، وليس الإيلاء واحدًا منهما، إذ لو كان صريحًا لوقع معجَّلًا إن أطلَقَه أو إلى أجلٍ مسمًّى إن قيَّده، ولو كان كنايةً لرجع فيه إلى نيته. ولا يَرِدُ على هذا اللعانُ؛ فإنه يوجب الفسخ دون الطلاق، والفسخ يقع بغير قول، والطلاق لا يقع إلا بالقول.
قالوا: وأما قراءة ابن مسعود فغايتها أن تدل على جواز الفيئة في مدة التربص لا على استحقاق المطالبة بها في المدة. وهذا حقّ لا ننكره.
وأما قولكم: جواز الفَيئة في المدة دليل على استحقاقها فيها. فهو باطل بالدَّين المؤجَّل.
وأما قولكم: إنه لو كانت الفيئة بعد المدة لزادت على أربعة أشهر. فليس بصحيح؛ لأن الأربعة الأشهر مدةٌ لزمن الصبر الذي لا يستحق فيه المطالبة، فبمجرد انقضائها يستحق عليه الحق، فلها أن تعجّل المطالبة به وإما أن تُنظره. وهذا كسائر الحقوق المعلقة بآجال معدودة إنما تستحق عند انقضاء آجالها. ولا يقال: إن ذلك يستلزم الزيادةَ على الأجل، فكذا أجلُ الإيلاء سواء.
ودلت الآية على أن كل من صح منه الإيلاء بأيّ يمين حلف فهو مُؤْلٍ حتى يَبَرَّ، إما أن يَفيء وإما أن يطلِّق، فكان في هذا حجة لِمَا ذهَب إليه مَن يقول من السلف والخلف: إن المُؤلِيَ باليمين بالطلاق إما أن يَفيء وإما أن يطلق.(1/233)
ومن يُلزمه الطلاقَ على كل حال لم يُمكنه إدخالُ هذا اليمين في حكم الإيلاء، فإنه إذا قال: إن وطئتُك إلى سنة فأنتِ طالق ثلاثًا. فإذا مضت أربعة أشهر لا يقولون له: إما أن تطأ وإما أن تطلِّق. بل يقولون له: إن وطئتَها طَلَقَت، وإن لم تَطَأها طلَّقنا عليك. وأكثرهم لا يمكِّنه من الإيلاج لوقوع النزع الذي هو جزء الوطء في أجنبية. ولا جواب عن هذا إلا أن يقال بأنه غير مُؤْلٍ، وحينئذٍ يقال: فلا تُوقِفُوه بعد مضيّ الأربعة الأشهر وقولوا إن له أن يمتنع من وطئها بيمين الطلاق دائمًا. فإن ضربتم له الأجل أثبتُّم له حكم الإيلاء من غير يمين، وإن جعلتموه مُؤليًا ولم تجيزوه خالفتم حكم الإيلاء وموجَب النص. فهذا بعض حجج هؤلاء على منازعيهم.
فإن قيل: فما حكم هذه المسألة، وهي إذا قال: إن وطئتُكِ فأنت طالق ثلاثًا؟
قيل: اختلف الفقهاء فيها: هل يكون مُؤليًا أم لا؟ على قولين، وهما روايتان عن أحمد وقولان للشافعيّ في الجديد، أنه يكون مُؤليًا، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك. وعلى القولين فهل يمكَّن من الإيلاج؟ فيه وجهان لأصحاب أحمد والشافعيّ:
أحدهما: أنه لا يمكَّن منه بل يحرَّم عليه، لأنها بالإيلاج تَطلُقُ عندهم ثلاثًا، فيصير ما بعد الإيلاج محرمًا فيكون الإيلاج محرَّمًا. وهذا كالصائم إذا تيقن أنه لم يَبقَ إلى طلوع الفجر إلا قدرُ إيلاج الذكر دون إخراجه حرُم عليه الإيلاجُ وإن كان في زمن الإباحة، لوجود الإخراج في زمن الحظر، كذلك ها هنا يحرُم عليه الإيلاجُ وإن كان قبل الطلاق لوجود الإخراج بعده.(1/234)
والثاني: أنه لا يحرُم عليه الإيلاج. قال الماورديّ: وهو قول سائر أصحابنا. لأنها زوجته. ولا يحرُم عليه الإخراجُ لأنه تركٌ وإن طَلَقَت بالإيلاج، ويكون المحرَّمُ بهذا الوطءِ استدامةَ الإيلاج لا الابتداء والنزع. وهذا ظاهر نص الشافعيّ، فإنه قال: لو طلع الفجر على الصائم وهو مجامع وأخرَجَه مكانه كان على صومه، فإن مكث بغير إخراجه أفطر ويكفّر. وقال في كتاب الإيلاء: ولو قال: إن وطئتُكِ فأنت طالق ثلاثًا. وُقف، فإن فاء، فإذا غيَّب الحشفة طَلَقَت منه ثلاثًا، فإن أخرَجَه ثم أدخَلَه فعليه مهرُ مثلها.
قال هؤلاء: ويدل على الجواز أن رجلًا لو قال لرجل: ادخُل داري ولا تقُم. استباح الدخولَ لوجوده عن إذن، ووجب عليه الخروج لمنعه من المقام، ويكون الخروج وإن كان في زمن الحظرِ مباحًا لأنه تركٌ. كذلك هذا المُؤلِي يستبِيح أن يُولِجَ ويَستبيح أن يَنزِع، ويحرُم عليه استدامةُ الإيلاج. والخلافُ في الإيلاج قبل الفجر والنزعِ بعده للصائم كالخلاف في المُؤلِي. وقيل: يحرم على الصائم الإيلاجُ قبل الفجر ولا يحرم على المُؤلِي، والفرق أن التحريم قد يطرأ على الصائم بغير الإيلاج فجاز أن يحرُم عليه الإيلاجُ، والمُؤلِي لا يطرأ عليه التحريم بغير الإيلاج فافتَرَقَا.
وقالت طائفة ثالثة: لا يحرُم عليه الوطء ولا تَطلُقُ عليه الزوجة، بل يوقَف ويقال له ما أمَرَ اللهُ؛ إما أن تَفيءَ وإما أن تطلِّق.
قالوا: وكيف يكون مُؤلِيًا ولا يمكَّن من الفيئة بل يُلزَم بالطلاق، وإن مُكِّن منها وقع به الطلاق، فالطلاق واقع به على التقديرين مع كونه مُؤلِيًا؟ فهذا خلاف ظاهر القرآن، بل يقال لهذا: إن فاء لم يقع به الطلاق، وإن لم يَفِئْ أُلزِمَ بالطلاق. وهذا مذهب من يرى اليمين بالطلاق لا يوجب طلاقًا وإنما يجزئه كفارةُ يمين. وهو قول أهل الظاهر وطاووس وعكرمة وجماعة من أهل الحديث واختيارُ شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه. زاد المعاد 5/324 ـ 353).(1/235)
4 ـ الظهار
قال الله تعالى: (قد سَمِعَ اللهُ قولَ التي تجادلُك في زوجِها وتشتكي إلى اللهِ واللهُ يَسمعُ تَحَاوُرَكما إن اللهَ سميعٌ بصيرٌ. الذين يُظاهرون منكم من نسائِهم ما هُنَّ أمَّهاتِهم إنْ أمَّهاتُهم إلّا اللائي وَلَدْنَهم وإنهم لَيَقولون مُنكَرًا من القولِ وزُورًا وإن اللهَ لَعفوٌّ غفورٌ. والذين يُظاهرون مِن نسائِهم ثم يعودون لِمَا قالوا فتحريرُ رقبةٍ مِن قبلِ أن يَتَماسَّا ذلكم تُوعَظون به واللهُ بما تعملون خبيرٌ. فمن لم يَجِدْ فصيامُ شهرَين متتابعَين مِن قبلِ أن يَتَماسَّا فمن لم يَستطعْ فإطعامُ ستين مسكينًا ذلك لتؤمنوا باللهِ ورسولِه وتلك حدودُ اللهِ وللكافرين عذابٌ أليمٌ) (المجادلة: 1ـ 4).(1/236)
المجادلة هي خَولة بنت ثعلبة، وكانت زوجةً لرجل من الأنصار اسمه أوس بن الصامت، ذهبت تشتكي إلى الله تعالى زوجَها وتقول للرسول صلى الله عليه وسلم: أكَلَ مالي وأفنَى شبابي ونَثَرتُ له بطني، حتى إذا كَبِرَت سنّي وانقَطَع ولدي ظاهَرَ منّي وقال: أنتِ عليَّ كَظَهْرِ أمي. ثم خرج فجلس في نادي قومه ساعةً ثم دخل عليَّ يريدني عن نفسي، قلت: كَلّا، لا تَخلُصُ إليَّ حتى يحكم الله تعالى ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فينا بحكمه. فأنزل الله تعالى: (قد سَمِعَ اللهُ قولَ التي تجادلُك في زوجِها وتشتكي إلى اللهِ واللهُ يَسمعُ تَحَاوُرَكما) أي سَمِعَ الله تعالى تَخَاطُبَكما فيما بينكما (قال العلامة ابن القيم: ثبت في السنن والمسانيد أن أوس ابن الصامت ظاهَرَ من زوجته خَولة بنت مالك بن ثعلبة وهي التي جادَلَت فيه الرسولَ ـ صلى الله عليه وسلم ـ واشتَكَت إلى الله وسَمعَ الله شكواها من فوق سبع سموات، فقالت: يا رسول الله، إن أوس بن الصامت تزوجني وأنا شابة مرغوب فيَّ، فلما خَلَا سنّي ونَثَرتُ له بطني جعلَني كأمه عنده. فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: "ما عندي في أمرِكِ شيء" فقالت: اللهم إني أشكو إليك رواه ابن ماجه [2063] وصححه الألبانيّ في صحيح ابن ماجه [1678] والحاكم في المستدرك [2/481] وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرّجاه. والبيهقيّ في السنن الكبرى [15243] ورجاله ثقات ورُويَ أنها قالت: إن لي صبيةً صغارًا، إن ضَمَّهم إليه ضاعوا، وإن ضَمَمَتُهم إليَّ جاعوا! فنزل القرآن. وقالت عائشة: الحمد لله الذي وَسِعَ سمعُه الأصواتِ، لقد جاءت خَولة بنت ثعلبة تشكو إلى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأنا في كِسْرِ البيت يَخفَى عليَّ بعض كلامها، فأنزل الله عز وجل: "قد سَمِعَ اللهُ قولَ التي تجادلُك في زوجِها وتشتكي إلى اللهِ واللهُ يَسمعُ تَحَاوُرَكما إن اللهَ سميعٌ بصيرٌ" رواه النسائيّ في المجتَبَى [3460] وأحمد في(1/237)
المسند [6/46] وصححه الألبانيّ في صحيح النسائيّ [3237] فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لِيُعتِقْ رقبة" قالت: لا يجد. قال: "فيصوم شهرَين متتابعَين" قالت: يا رسول الله، إنه شيخ كبير ما به من صيام. قال: "فليُطعِمْ ستين مسكينًا" قالت: ما عنده من شيء يَتصدق به. قالت: فأتى ساعتَئذٍ بعِرْق من تمر، قلت: يا رسول الله، فإني أُعينه بعِرْق آخر. قال: "أحسَنتِ، فأطعِمِي عنه ستين مسكينًا وارجِعِي إلى ابن عمك" رواه أبو داود [2214] وحسّنه الألبانيّ في صحيح أبي داود [1934] وابنُ حبان [4279] بنحوه، وابنُ جرير [28/5] والبيهقيّ في السنن الكبرى [15274، 15288] وفي السنن أن سلمة بن صخر البَيَاضيّ ظاهَرَ من امرأته مدةَ شهر رمضان ثم واقَعَها ليلةً قبل انسلاخه، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أنتَ بذاكَ يا سلمة؟" قال: قلت: أنا بذاكَ يا رسول الله ـ مرتين ـ وأنا صابر لأمر الله، فاحكم فيَّ بما أراك الله. قال: "حرِّر رقبة" قلت: والذي بعثك بالحق نبيًّا ما أَملِك رقبةً غيرها! وضربتُ صفحة رقبتي، قال: "فصُمْ شهرَين متتابعَين" قال: وهل أصبتُ الذي أصبتُ إلا في الصيام! قال: "فأَطعِمْ وَسْقًا مِن تمر بين ستين مسكينًا" قلت: والذي بعثك بالحق لقد بِتْنَا وَحْشَين ما لنا طعام! قال: "فانطَلِقْ إلى صاحب صدقة بني زُريق فليَدفعْها إليك، فأطعِمْ ستين مسكينًا وَسْقًا من تمر، وكُلْ أنت وعيالُك بقيَّتَها" قال: فرُحتُ إلى قومي فقلتُ: وجدتُ عندكم الضيقَ وسُوءَ الرأي ووجدتُ عند الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ السَّعةَ وحُسنَ الرأي، وقد أمَرَ لي بصدقتكم رواه أحمد في المسند [5/436] وأبو داود [2213] والترمذيّ [1200] وقال: هذا حديث حسن. وابن ماجه [2062] والبيهقيّ في السنن الكبرى [15257] وصحّحه الحاكم [2/203] وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرّجاه. وحسّنه الألبانيّ في صحيح أبي داود [1933] وفي جامع الترمذيّ عن ابن عباس أن(1/238)
رجلًا أتى النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد ظاهَرَ من امرأته فوقَعَ عليها، فقال: يا رسول الله إني ظاهَرتُ من امرأتي فوقعت عليها قبل أن أكفّر! قال: "وما حَمَلَكَ على ذلك يرحمك الله؟" قال: رأيت خَلخَالَها في ضوء القمر. قال: "فلا تَقرَبْها حتى تفعل ما أمَرَك الله". قال: هذا حديث حسن غريب صحيح رواه الترمذيّ [1199] وأبو داود [2223] والنسائيّ في المجتبَى [3457] وحسّنه الألبانيّ في صحيح الترمذيّ [958] وفيه أيضًا عن سلمة بن صخر عن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ في المظاهِرِ يواقِع قبل أن يكفّر فقال: "كفارة واحدة". وقال: حسن غريب رواه الترمذيّ [1198] وابن ماجه [2064] وصحّحه الألبانيّ في صحيح الترمذيّ [957] وفي مسند البزار عن إسماعيل بن مسلم عن عمرو بن دينار عن طاووس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال: أتى رجل إلى النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: إني ظاهرت من امرأتي ثم وقعت عليها قبل أن أكفّر! فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "ألم يقُل الله "من قبل أن يَتَماسّا"؟ فقال: أعجَبَتني. فقال: "أمسِكْ عنها حتى تكفّر" رواه البيهقيّ في السنن الكبرى [7/386] قال البزار: لا نعلمه بإسناد أحسن من هذا، على أن إسماعيل بن مسلم قد تُكُلِّم فيه، وروى عنه جماعة كثيرة من أهل العلم.(1/239)
فتضمنت هذه الأحكام أمورًا، أحدها إبطال ما كانوا عليه في الجاهلية وفي صدر الإسلام من كون الظهارِ طلاقًا، ولو صرَّح بنيَّته له فقال: أنتِ عليَّ كظهر أمي، أعني به الطلاق. لم يكن طلاقًا وكان ظهارًا، وهذا بالاتفاق، إلا ما عساه من خلاف شاذّ، وقد نصّ عليه أحمد والشافعيّ وغيرهما. قال الشافعيّ: ولو ظاهَرَ يريد طلاقًا كان ظهارًا، أو طلَّق يريد ظهارًا كان طلاقًا. هذا لفظه فلا يجوز أن يُنسب إلى مذهبه خلافُ هذا. ونص أحمد على أنه إذا قال: أنتِ عليَّ كظهر أمي، أعني به الطلاق. أنه ظهار ولا تَطلُقُ به. وهذا لأن الظهار كان طلاقًا في الجاهلية فنُسخ فلم يَجُزْ أن يُعاد إلى الحكم المنسوخ. وأيضًا فأوسُ بن الصامت إنما نوَى به الطلاقَ على ما كان عليه، وأُجرِيَ عليه حكمُ الظهار دون الطلاق. وأيضًا فإنه صريح في حكمه فلم يَجُزْ جعلُه كنايةً في الحكم الذي أبطله عز وجل بشرعه، وقضاءُ الله أحق وحكمُ الله أوجَبُ.
ومنها أن الظهار حرام لا يجوز الإقدام عليه لأنه كما أخبر الله عنه "منكَرًا من القول وزُورًا" وكلاهما حرام. والفرق بين جهة كونه منكَرًا وجهة كونه زورًا أن قوله: أنتِ عليَّ كظهر أمي. يتضمن إخبارَه عنها بذلك وإنشاءه تحريمَها، فهو يتضمن إخبارًا وإنشاءً، فهو خبر زور وإنشاء منكر، فإن الزور هو الباطل خلاف الحق الثابت، والمنكَر خلاف المعروف. وختَمَ سبحانه الآية بقوله تعالى: "وإن اللهَ لَعفوٌّ غفورٌ" وفيه إشعار بقيام سبب الإثم الذي لولا عفو الله ومغفرته لأخَذَ به.(1/240)
ومنها أن الكفارة لا تجب بنفس الظهار وإنما تجب بالعَود. وهذا قول الجمهور. وروَى الثوريّ عن ابن أبي نَجيح عن طاووس قال: إذا تكلَّم بالظهار فقد لَزِمَه. وهذه رواية ابن أبي نَجيح عنه. وروَى مَعمَر عن طاووس عن أبيه في قوله تعالى: "ثم يعودون لما قالوا" قال: جعَلَها عليه كظهر أمه ثم يعود فيَطَؤُها، فتحريرُ رقبة. وحكى الناس عن مجاهد أنه تجب الكفارة بنفس الظهار. وحكاه ابن حزم عن الثوريّ وعثمان البَتّيّ. وهؤلاء لم يَخْفَ عليهم أن العَوْدَ شرط في الكفارة، ولكن العَوْدَ عندهم هو العَوْدُ إلى ما كانوا عليه في الجاهلية من التظاهر، كقوله تعالى في جزاء الصيد: "ومن عاد فينتقم الله منه" [المائدة: 95] أي: عاد إلى الاصطياد بعد نزول تحريمه، ولهذا قال: "عفا الله عما سلف" قالوا: ولأن الكفارة إنما وجبت في مقابلة ما تكلم به من المنكر والزور، وهو الظهارُ دون الوطء أو العزمُ عليه. قالوا: ولأن الله سبحانه لما حرم الظهار ونهى عنه كان العَوْدُ هو فعلَ المنهيِّ عنه كما قال تعالى: "عسى ربُّكم أن يَرحَمَكم وإن عدتُّم عُدنَا" [الإسراء: 8] أي: إن عدتُّم إلى الذنب عُدنَا إلى العقوبة. العَوْدُ هنا نفس فعل المنهيِّ عنه. قالوا: ولأن الظهار كان طلاقًا في الجاهلية فنُقل حكمُه من الطلاق إلى الظهار ورُتِّب عليه التكفير وتحريمُ الزوجة حتى يكفّر، وهذا يقتضي أن يكون حكمه معتَبَرًا بلفظه كالطلاق.
ونازعهم الجمهور في ذلك وقالوا: إن العَوْدَ أمر وراء مجرد لفظ الظهار، ولا يصح حمل الآية على العود إليه في الإسلام لثلاثة أوجه:
أحدها: أن هذه الآية بيان لحكم من يظاهر في الإسلام، ولهذا أتى فيها بلفظ الفعل مستقبَلًا فقال: "يظاهرون" وإذا كان هذا بيانًا لحكم ظهار الإسلام فهو عندكم نفس العَود، فكيف يقول بعده: "ثم يعودون" وإن معنى هذا العَود غير الظهار عندكم؟(1/241)
الثاني: أنه لو كان العَود ما ذكرتم وكان المضارع بمعنى الماضي كان تقديره: والذين ظاهَروا من نسائهم ثم عادوا في الإسلام. ولَمَا وجَبَت الكفارة إلا على من ظاهر في الجاهلية ثم عاد في الإسلام، فمن أين توجبونها على من ابتدأ الظهار في الإسلام غير عائد؟
فإن هنا أمرين، ظهارٌ سابقٌ وعَودٌ إليه، وذلك يُبطل حكم الظهار الآن بالكلية، إلّا أن تجعلوا "يظاهرون" لفرقة و"يعودون" لفرقة، ولفظَ المضارع نائبًا عن لفظ الماضي، وذلك مخالف للنَّظم ومُخرِج عن الفصاحة.
الثالث: أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمَرَ أوس بن الصامت وسلمة بن صخر بالكفارة ولم يسألهما هل تَظاهَرَا في الجاهلية أم لا.
فإن قلتم: ولم يسألهما عن العَود الذي تجعلونه شرطًا، ولو كان شرطًا لَسَألَهما عنه.
قيل: أما من يجعل العَود نفسَ الإمساك بعد الظهار زمنًا يمكن وقوعُ الطلاق فيه فهذا جارٍ على قوله وهو نفس حجته، ومن جعل العود هو الوطء والعزم قال: سياق القصة بيِّن في أن المتظاهرين كان قَصدُهم الوَطْءَ، وإنما أمسكوا له. وسيأتي تقرير ذلك إن شاء الله تعالى.
وأما كون الظهار منكَرًا من القول وزورًا فنعم هو كذلك، ولكن الله عز وجل إنما أوجب الكفارة في هذا المنكَر والزور بأمرَين، به وبالعَود، كما أن حكم الإيلاء إنما يترتب عليه وعلى الوطء لا على أحدهما.
وقال الجمهور: لا تجب الكفارة إلا بالعَود بعد الظهار. ثم اختلفوا في معنى العَود: هل هو إعادة لفظ الظهار بعينه أو أمر وراءه؟ على قولين، فقال أهل الظاهر كلهم: هو إعادة لفظ الظهار. ولم يَحكُوا هذا عن أحد من السلف ألبتة، وهو قول لم يُسبَقوا إليه، وإن كانت هذه الشَّكَاةُ لا يكاد مذهب من المذاهب يخلو عنها.
قالوا: فلم يوجب الله سبحانه الكفارة إلا بالظهار المُعاد لا المبتدأ.
قالوا: والاستدلال بالآية من ثلاثة وجوه:(1/242)
أحدها: أن العرب لا يُعقل في لغاتها العودُ إلى الشيء إلا فِعْلَ مثله مرة ثانية. قالوا: وهذا كتاب الله وكلام رسوله وكلام العرب بيننا وبينكم، قال تعالى: "ولو رُدُّوا لعادُوا لِمَا نُهُوا عنه" [الأنعام: 28] فهذا نظير الآية سواءٌ في أنه عدَّى فعل العود باللام، وهو إتيانهم مرة ثانية بمثل ما أتَوا به أولًا. وقال تعالى: "وإن عُدتم عُدنَا" [الإسراء: 8] إن كرَّرتم الذنب كرَّرنا العقوبة. ومنه قوله تعالى: "ألم تَرَ إلى الذين نُهُوا عن النجوى ثم يعودون لِمَا نُهُوا عنه" [المجادلة: 8] وهذا في سورة الظهار نفسها، وهو يبين المراد من العود فيه، فإنه نظيره فعلًا وإرادةً، والعهد قريب بذكره. قالوا: وأيضا فالذي قالوه هو لفظ الظهار، فالعود إلى القول هو الإتيان به مرة ثانية، لا تَعقل العرب غير هذا. قالوا: وأيضًا فيما عدا تكرار اللفظ إما إمساك وإما عزم وإما فعل، وليس واحد منها بقول، فلا يكون الإتيان بها عودًا لا لفظًا ولا معنًى، ولأن العزم والوطء والإمساك ليس ظهارًا فيكون الإتيان بها عودًا إلى الظهار. قالوا: ولو أريد بالعَود الرجوعُ في الشيء الذي منع منه نفسه ـ كما يقال: عاد في الهبة ـ لقال: ثم يعودون فيما قالوا. كما في الحديث: "العائد في هبته كالعائد في قَيئه" أخرجه البخاريّ [2621] ومسلم [1622/7] عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما واحتج أبو محمد ابن حزم بحديث عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ بأن أوس بن الصامت كان به لَمَمٌ فكان إذا اشتد به لَمَمُه ظاهَرَ من زوجته، فأنزل الله عز وجل فيه كفارة الظهار رواه أبو داود [2219] وصحّحه الألبانيّ في صحيح أبي داود [1939] فقال: هذا يقتضي التكرار ولا بد. قال: ولا يصح في الظهار إلا هذا الخبر وحده. قال: وأما تشنيعكم علينا بأن هذا القول لم يقُل به أحد من الصحابة فأَرُونَا مَن مِن الصحابة قال إن العود هو الوطء أو العزم أو الإمساك أو هو العود إلى الظهار في الجاهلية، ولو(1/243)
عن رجل واحد من الصحابة، فلا تكونون أسعَدَ بأصحاب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ منّا أبدًا.
ونازعهم الجمهور في ذلك وقالوا: ليس معنى العَود إعادةَ اللفظ الأول؛ لأن ذلك لو كان هو العَودَ لقال: ثم يُعيدون ما قالوا. لأنه يقال: أعاد كلامه بعينه. وأما "عاد" فإنما هو في الأفعال، كما يقال: عاد في فعله وفي هبته. فهذا استعماله بـ "في". ويقال: عاد إلى عمله وإلى ولايته وإلى حاله وإلى إحسانه وإساءته. ونحو ذلك، و: عاد له أيضًا. وأما القول فإنما يقال: أعاده. كما قال ضِمَاد بن ثعلبة للنبيّ صلى الله عليه وسلم: "أَعِدْ عليَّ كلماتك" وكما قال أبو سعيد: "أَعِدْها عليَّ يا رسول الله" وهذا ليس بلازم، فإنه يقال: أعاد مقالته وعاد لمقالته. وفي الحديث: "فعاد لمقالته" بمعنى أعادها سواء. وأفسَدُ من هذا رَدُّ من رَدَّ عليهم بأن إعادة القول مُحال كإعادة أمس. قال: لأنه لا يتهيأ اجتماع زمانَين. وهذا في غاية الفساد، فإن إعادة القول من جنس إعادة الفعل، وهي الإتيان بمثل الأول لا بعينه. والعجب من متعصب يقول: لا يُعتد بخلاف الظاهرية. ويبحث معهم بمثل هذه البحوث ويردّ عليهم بمثل هذا الردّ. وكذلك رَدُّ من رَدَّ عليهم بمثل "العائد في هبته" فإنه ليس نظير الآية، وإنما نظيرها "ألم تَرَ إلى الذين نُهُوا عن النجوى ثم يعودون لِمَا نُهُوا عنه" ومع هذا فهذه الآية تبين المراد من آية الظهار، فإن عودهم لما نُهُوا عنه هو رجوعهم إلى نفس المنهيّ عنه، وهو النجوى، وليس المراد به إعادةَ تلك النجوى بعينها بل رجوعهم إلى المنهيّ عنه. وكذلك قوله تعالى في الظهار: "ثم يعودون لِمَا قالوا" أي لقولهم. فهو مصدر بمعنى المفعول، وهو تحريم الزوجة بتشبيهها بالمحرَّمة، فالعود إلى المحرَّم هو العود إليه وهو فعله، فهذا مأخذ من قال إنه الوطء.(1/244)
ونكتة المسألة أن القول في معنى المقول، والمقول هو التحريم، والعود له هو العود إليه، وهو استباحته عائدًا إليه بعد تحريمه، وهذا جارٍ على قواعد اللغة العربية واستعمالها، وهذا الذي عليه جمهور السلف والخلف، كما قال قتادة وطاووس والحسن والزهريّ ومالك وغيرهم، ولا يُعرف عن أحد من السلف أنه فسّر الآية بإعادة اللفظ ألبتة، لا من الصحابة ولا من التابعين ولا من بعدهم. وها هنا أمر خفيَ على من جعَله إعادةَ اللفظ، وهو أن العَودَ إلى الفعل يَستلزم مفارقةَ الحالة التي هو عليها الآن وعَودَه إلى الحال التي كان عليها أولًا، كما قال تعالى: "وإن عُدتم عُدنَا" ألا ترى أن عَودَهم مفارقةُ ما هم عليه من الإحسان وعَودُهم إلى الإساءة، وكقول الشاعر:
وإن عاد للإحسان فالعَودُ أحمدُ
والحال التي هو عليها الآن التحريم بالظهار، والتي كان عليها إباحةُ الوطء بالنكاح الموجِب للحلّ، فعودُ المظاهر عودٌ إلى حلٍّ كان عليه قبل الظهار، وذلك هو الموجِب للكفارة، فتأمَّلْهُ. فالعَودُ يقتضي أمرًا يعود إليه بعد مفارقته. وظهَر سرّ الفرق بين العود في الهبة وبين العود لما قال المظاهر، فإن الهبة بمعنى الموهوب، وهو عينٌ يتضمن عودُه فيه إدخالَه في مِلكه وتصرفَه فيه كما كان أولًا، بخلاف المظاهر فإنه بالتحريم قد خرج عن الزوجية، وبالعود قد طلب الرجوع إلى الحال التي كان عليها معها قبل التحريم، فكان الأليَقُ أن يقال: عاد لكذا. يعني: عاد إليه. وفي الهبة: عاد إليها. وقد أمر النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أوس بن الصامت وسلمة بن صخر بكفارة الظهار، ولم يَتلفَّظَا به مرتَين، فإنهما لم يُخبِرَا بذلك عن أنفسهما ولا أخبَر به أزواجُهما عنهما ولا أحد من الصحابة، ولا سألهما النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم: هل قلتما ذلك مرة أو مرتين؟ ومثل هذا لو كان شرطًا لَمَا أُهمِل بيانُه.(1/245)
وسر المسألة أن العود يتضمن أمرين، أمرًا يعود إليه وأمرًا يعود عنه، ولا بد منهما، فالذي يعود عنه يَتضمن نَقضَه وإبطالَه والذي يعود إليه يَتضمن إيثارَه وإرادتَه، فعَودُ المظاهر يَقتضي نَقْضَ الظهار وإبطالَه وإيثارَ ضدِّه وإرادتَه، وهذا عين فهم السلف من الآية، فبعضهم يقول: إن العود هو الإصابة. وبعضهم يقول: الوطء. وبعضهم يقول: اللمس. وبعضهم يقول: العزم.
وأما قولكم: إنه إنما أوجب الكفارة في الظهار المُعاد. إن أردتم به المُعاد لفظُه فدعوى بحسَب ما فهمتموه، وإن أردتم به الظهار المُعاد فيه لِما قال المظاهِر لم يَستلزم ذلك إعادةَ اللفظ الأول. وأما حديث عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ في ظهار أوس بن الصامت فما أصحَّه وما أبعَدَ دلالتَه على مذهبكم.
ثم الذين جعلوا العود أمرًا غيرَ إعادة اللفظ اختلفوا فيه: هل هو مجرد إمساكها بعد الظهار أو أمر غيره؟ على قولين، فقالت طائفة: هو إمساكها زمنًا يتسع لقوله "أنتِ طالق" فمتى لم يصلْ الطلاقَ بالظهار لَزِمَته الكفارة. وهو قول الشافعيّ. قال منازعوه: وهو في المعنى قول مجاهد والثوريّ، فإن هذا النفَس الواحد لا يُخرج الظهار عن كونه موجِبَ الكفارة، ففي الحقيقة لم يوجب الكفارةَ إلا لفظُ الظهار، وزمنُ قوله "أنت طالق" لا تأثير له في الحكم إيجابًا ولا نفيًا، فتعليق الإيجاب به ممتنع، ولا تسمَّى تلك اللحظة والنفَس الواحد من الأنفاس عودًا، لا في لغة العرب ولا في عرف الشارع، وأيّ شيء في هذا الجزء اليسير جدًّا من الزمان من معنى العود أو حقيقته؟(1/246)
قالوا: وهذا ليس بأقوى من قول من قال: هو إعادة اللفظ بعينه. فإن ذلك قول معقول يفهم منه العود لغة وحقيقة، وأما هذا الجزء من الزمان فلا يفهم من الإنسان فيه العود ألبتة. قالوا: ونحن نطالبكم بما طالبتم به الظاهرية؛ من قال هذا القول قبل الشافعيّ؟ قالوا: والله سبحانه أوجب الكفارة بالعود بحرف "ثم" الدالة على التراخي عن الظهار، فلا بد أن يكون بين العود وبين الظهار مدة متراخية، وهذا ممتنع عندكم، وبمجرد انقضاء قوله "أنتِ عليَّ كظهر أمي" صار عائدًا ما لم يَصِلْهُ بقوله "أنت طالق" فأين التراخي والمهلة بين العود والظهار؟ والشافعيّ لم ينقُل هذا عن أحد من الصحابة والتابعين وإنما أخبر أنه أولَى المعاني بالآية، فقال: الذي عقَلتُ مما سمعت في "يعودون لما قالوا" أنه إذا أتت على المظاهِرِ مدةٌ بعد القول بالظهار لم يحرِّمها بالطلاق الذي يحرّم به وجبت عليه الكفارة، كأنهم يذهبون إلى أنه إذا أمسك ما حرَّم على نفسه أنه حلال فقد عاد لما قال فخالَفَه فأحَلَّ ماحرَّم، ولا أعلم له معنًى أولى به من هذا الأم للشافعيّ [5/279] ومختصر المُزَنيّ [203، 204] والذين جعلوه أمرًا وراء الإمساك اختلفوا فيه، فقال مالك في إحدى الروايات الأربع عنه، وأبو عبيد: هو العزم على الوطء. وهذا قول القاضي أبي يَعلَى وأصحابه. وأنكره الإمام أحمد. وقال مالك: يقول: إذا أجمَع لَزِمَته الكفارة، فكيف يكون هذا لو طلقها بعد ما يجمع، أكان عليه كفارة؟ إلا أن يكون يذهب إلى قول طاووس: إذا تكلم بالظهار لزمه مثل الطلاق!(1/247)
ثم اختلف أرباب هذا القول فيما لو مات أحدهما أو طلّق بعد العزم وقبل الوطء، هل تستقر عليه الكفارة؟ فقال مالك وأبو الخطاب: تستقر الكفارة. وقال القاضي وعامة أصحابه: لا تستقر. وعن مالك رواية ثانية أنه العزم على الإمساك وحده. ورواية الموطأ خلاف هذا كله أنه العزم على الإمساك والوطء معًا. وعنه رواية رابعة أنه الوطء نفسه. وهذا قول أبي حنيفة وأحمد، وقد قال أحمد في قوله تعالى "ثم يعودون لما قالوا" قال: الغشيان، إذا أراد أن يَغشَى كفّر. وليس هذا باختلاف رواية بل مذهبُه الذي لا يُعرف عنه غيرُه أنه الوطءُ ويَلزَمه إخراجُها قبله عند العزم عليه.(1/248)
واحتج أرباب هذا القول بأن الله سبحانه قال في الكفارة: "من قبل أن يَتماسّا" فأوجب الكفارة بعد العود وقبل التَّمَاسّ، وهذا صريح في أن العود غير التَّمَاسّ وأن ما يحرم قبل الكفارة لا يجوز كونه متقدمًا عليها. قالوا: ولأنه قصَد بالظهار تحريمَها، والعزمُ على وطئها عودٌ فيما قصده. قالوا: ولأن الظهار تحريم، فإذا أراد استباحتها فقد رجع في ذلك التحريم فكان عائدًا. قال الذين جعلوه الوطءَ: لا ريب أن العَودَ فعلُ ضدِّ قولِه، كما تقدم تقريره، والعائد فيما نُهيَ عنه وإليه وله هو فاعلُه لا مريدُه، كما قال تعالى: "ثم يعودون لِما نُهُوا عنه" فهذا فعل المنهيّ عنه نفسه لا إرادته. ولا يَلزَمُ أربابَ هذا القول ما ألزَمَهم به أصحاب العزم، فإن قولهم: إن العود يتقدم التكفيرَ والوطءُ متأخر عنه. فهم يقولون: إن قوله تعالى "ثم يعودون لما قالوا" أي يريدون العود. كما قال تعالى: "فإذا قرأتَ القرآنَ فاستعِذْ بالله" [النحل: 98] وكقوله تعالى: "إذا قمتُم إلى الصلاةِ فاغسِلوا وجوهَكم" [المائدة: 6] ونظائرِه، مما يُطلق الفعل فيه على إرادته لوقوعه بها. قالوا: وهذا أولَى من تفسير العَود بنفس اللفظ الأول، وبالإمساك نَفَسًا واحدًا بعد الظهار، وبتكرار لفظ الظهار، وبالعزم المجرد لو طلّق بعده، فإن هذه الأقوال كلها قد تبيَّن ضعفُها، فأقرب الأقوال إلى دلالة اللفظ وقواعد الشريعة وأقوال المفسرين هو هذا، وبالله التوفيق.(1/249)
ومنها أن من عجز عن الكفارة لم تسقط عنه، فإن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أعان أوس ابن الصامت بعِرْق من تمر وأعانته امرأته بمثله حتى كفّر، وأمَر سلمةَ بن صخر أن يأخذ صدقة قومه فيكفّر بها عن نفسه، ولو سقَطَت بالعجز لَمَا أمَرهما بإخراجها، بل تَبقَى في ذمته دَينًا عليه، هذا قول الشافعيّ وأحد الروايتَين عن أحمد. وذهبت طائفة إلى سقوطها بالعجز كما تسقط الواجبات بعجزه عنها وعن إبدالها. وذهبت طائفة أن كفارة رمضان لا تَبقَى في ذمته بل تسقط، وغيرها من الكفارات لا تسقط، وهذا الذي صحّحه أبو البركات ابن تيمية.
واحتج من أسقطها بأنها لو وجبت مع العجز لما صُرفت إليه، فإن الرجل لا يكون مَصرِفًا لكفارته كما لا يكون مَصرِفًا لزكاته. وأرباب القول الأول يقولون: إذا عجز عنها وكفّر الغير عنه جاز أن يَصرِفَها إليه كما صرَف النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كفارةَ مَن جامَع في رمضان إليه وإلى أهله، وكما أباح لسلمة بن صخر أن يأكل هو وأهله من كفارته التي أخرجها عنه من صدقة قومه. وهذا مذهب أحمد روايةً واحدةً عنه في كفارة من وَطِئَ أهلَه في رمضان، وعنه في سائر الكفارات روايتان. والسُّنة تدل على أنه إذا أعسر بالكفارة وكفّر عنه غيره جاز صرف كفارته إليه وإلى أهله.
فإن قيل: فهل يجوز له إذا كان فقيرًا له عيال وعليه زكاة يحتاج إليها أن يصرفها إلى نفسه وعياله؟
قيل: لا يجوز ذلك لعدم الإخراج المستحَقِّ عليه، ولكن للإمام أو الساعي أن يدفع زكاته إليه بعد قبضها منه، في أصح الروايتين عن أحمد.
فإن قيل: فهل له أن يسقطها عنه؟
قيل: لا. نَصّ عليه، والفرق بينهما واضح.
فإن قيل: فإذا أذِن السيد لعبده في التكفير بالعتق فهل له أن يُعتق نفسه؟
قيل: اختلفت الرواية فيما إذا أذِن له في التكفير بالمال هل له أن ينتقل عن الصيام إليه؟ على روايتين:
إحداهما: أنه ليس له ذلك وفرضُه الصيامُ.(1/250)
والثانية: له الانتقال إليه ولا يلزمه؛ لأن المنع لحقّ السيد وقد أذِن له فيه.
فإذا قلنا: له ذلك. فهل له العتق؟ اختلفت الرواية فيه عن أحمد، فعنه في ذلك روايتان. ووجه المنع أنه ليس من أهل الولاءِ، والعتقُ يعتمد الولاء. واختار أبو بكر وغيره أن له الإعتاق. فعلى هذا هل له عتقُ نفسه؟ فيه قولان في المذهب، ووجه الجواز إطلاقُ الإذن، ووجه المنع أن الإذن في الإعتاق ينصرف إلى إعتاق غيره، كما لو أَذِنَ له في الصدقة انصرَف الإذنُ إلى الصدقة على غيره.
ومنها أنه لا يجوز وطءُ المظاهَرِ منها قبل التكفير. وقد اختُلف ها هنا في موضعين:
أحدهما: هل له مباشرتها دون الفرج قبل التكفير أم لا؟
والثاني: أنه إذا كانت كفارته الإطعامَ فهل له الوطء قبله أم لا؟
وفي المسألتين قولان للفقهاء، وهما روايتان عن أحمد وقولان للشافعيّ. ووجه منع الاستمتاع بغير الوطء ظاهرُ قوله تعالى: "من قبلِ أن يَتماسّا" ولأنه شبَّهها بمن يحرُم وطؤُها ودواعيه. ووجه الجواز أن التَّماسَّ كناية عن الجماع، ولا يَلزم من تحريم الجماع دواعيه، فإن الحائض يحرُم جماعُها دون دواعيه، والصائم يحرُم منه الوطءُ دون دواعيه، والمَسبِيَّةُ يحرُم وطؤُها دون دواعيه. وهذا قول أبي حنيفة.(1/251)
وأما المسألة الثانية وهي وطؤها قبل التكفير إذا كان الإطعامُ، فوجه الجواز أن الله سبحانه قيّد التكفير بكونه قبل المسيس في العتق والصيام وأطلقه في الإطعام، ولكل منهما حكمة، فلو أراد التقييد في الإطعام لَذَكَره كما ذكَره في العتق والصيام، وهو سبحانه لم يقيّد هذا ويُطلِق هذا عبثًا، بل لفائدة مقصودة، ولا فائدة إلا تقييدُ ما قيّده وإطلاقُ ما أطلقه. ووجهُ المنعِ استفادةُ حكمِ ما أطلَقَه مما قيّده، إما بيانًا على الصحيح، وإما قياسًا قد أُلغيَ فيه الفارق بين الصورتَين، وهو سبحانه لا يفرّق بين المتماثلَين، وقد ذكَر "من قبلِ أن يَتماسّا" مرتَين، فلو أعاده ثالثًا لطال به الكلام، ونبّه بذكره مرتَين على تكرُّر حُكمه في الكفارات، ولو ذكَره في آخر الكلام مرةً واحدةً لأوهَمَ اختصاصَه بالكفارة الأخيرة، ولو ذكَره في أول مرة لأوهَمَ اختصاصَه بالأولى، وإعادتُه في كل كفارة تطويلٌ، وكان أفصح الكلام وأبلغه وأوجزه ما وقع. وأيضًا فإنه نبّه بالتكفير قبل المسيس بالصوم مع تطاوُل زمنه وشدةِ الحاجة إلى مسيس الزوجة على أن اشتراط تقدُّمه في الإطعام الذي لا يطول زمنُه أولَى.
ومنها أنه سبحانه أمر بالصيام قبل المسيس، وذلك يعَمُّ المسيس ليلًا ونهارًا، ولا خلاف بين الأئمة في تحريم وطئها في زمن الصوم ليلًا ونهارًا، وإنما اختلفوا: هل يبطُل التتابعُ به ؟ فيه قولان:
أحدهما: يبطل. وهو قول مالك وأبي حنيفة وأحمد في ظاهر مذهبه.
والثاني: لا يبطل. وهو قول الشافعيّ وأحمد في رواية أخرى عنه.
والذين أبطَلوا التتابعَ معهم ظاهرُ القرآن، فإنه سبحانه أمَر بشهرَين متتابعَين قبل المسيس ولم يوجَد، ولأن ذلك يتضمن النهيَ عن المسيس قبل إكمال الصيام وتحريمه، وهو يوجب عدمَ الاعتداد بالصوم؛ لأنه عمل ليس عليه أمر الرسول ـ صلى الله عليهوسلم ـ فيكون ردًّا. وسر المسألة أنه سبحانه أوجب أمرين:
أحدهما: تتابع الشهرين.(1/252)
والثاني: وقوع صيامهما قبل التَّماسِّ.
فلا يكون قد أتَى بما أُمر به إلا بمجموع الأمرَين.
ومنها أنه سبحانه وتعالى أطلَق إطعام المساكين ولم يقيّده بقدر ولا تتابع، وذلك يقتضي أنه لو أطعمهم فغدّاهم وعشّاهم من غير تمليك حَبٍّ أو تمرٍ، جاز وكان ممتثلًا لأمر الله. وهذا قول الجمهور ومالك وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وسواء أطعمهم جملةً أو متفرِّقين.
ومنها أنه لا بد من استيفاء عدد السِّتِّين، فلو أطعم واحدًا ستِّين يومًا لم يُجْزِهِ إلا عن واحد. هذا قول الجمهور، مالك والشافعيّ وأحمد في إحدى الروايتين عنه.
والثانية: أن الواجب إطعام ستين مسكينًا ولو لواحد. وهو مذهب أبي حنيفة.
والثالثة: إن وجَد غيرَه لم يُجْزِه وإلا أجزأه. وهو ظاهر مذهبه، وهي أصح الأقوال.
ومنها أنه لا يجزئه دفع الكفارة إلا إلى المساكين، ويدخل فيهم الفقراء كما يدخل المساكين في لفظ الفقراء عند الإطلاق. وعمّم أصحابنا وغيرهم الحكم في كل مَن يأخذ من الزكاة لحاجته، وهم أربعة، الفقراء والمساكين وابن السبيل والغارم لمصلحته والمكاتب. وظاهر القرآن اختصاصُها بالمساكين فلا يتعداهم.
ومنها أن الله سبحانه أطلق الرقبة ها هنا ولم يقيّدها بالإيمان وقيّدها في كفارة القتل بالإيمان، فاختلف الفقهاء في اشتراط الإيمان في غير كفارة القتل على قولين، فشرَطه الشافعيّ ومالك وأحمد في ظاهر مذهبه، ولم يشترطه أبو حنيفة ولا أهل الظاهر. والذين لم يشترطوا الإيمان قالوا: لو كان شرطًا لبيَّنه الله سبحانه كما بيَّنه في كفارة القتل، بل يُطلَق ما أطلَقه ويُقيَّد ما قيّده، فيُعمَل بالمطلَق والمقيّد. وزادت الحنيفة أن اشتراط الإيمان زيادة على النص، وهو نسخ، والقرآن لا يُنسخ إلا بالقرآن أو خبر متواتر.(1/253)
قال الآخرون، واللفظ للشافعيّ: شرَط الله سبحانه في رقبة القتل مؤمنة، كما شرَط العدل في الشهادة وأطلَق الشهود في مواضع، فاستدللنا به على أن ما أطلَق من الشهادات على مثل معنَى ما شرَط، وإنما رَدَّ الله أموال المسلمين على المسلمين لا على المشركين، وفرَض الله الصدقات فلم تَجُزْ إلا للمؤمنين، فكذلك ما فرَض من الرقاب لايجوز إلا للمؤمنين الأم للشافعيّ [5/280] مختصر المُزَنيّ [204] فاستدل الشافعيّ بأن لسان العرب يقتضي حَمْلَ المطلَق على المقيّد إذا كان من جنسه، فحَمَل عُرفَ الشرع على مقتَضَى لسانهم.
وهنا هنا أمران:
أحدهما: أن حمل المطلق على المقيد بيان لا قياس.
والثاني: إنه إنما يُحمل عليه بشرطين:
أحدهما اتحاد الحكم.
والثاني ألّا يكون للمطلق إلا أصل واحد، فإن كان بين أصلَين مختلفَين لم يُحمل إطلاقُه على أحدهما إلا بدليل يعيّنه.
قال الشافعيّ: ولو نذَر رقبة مطلَقة لم يُجْزِه إلا مؤمنة. وهذا بناءً على هذا الأصل وأن النذر محمول على واجب الشرع، وواجبُ العتق لا يتأدَّى إلا بعتق المسلم، ومما يدل على هذا أن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لِمَن استفتَى في عتق رقبة منذورة: "ائتِني بها" فسألها: "أين الله؟" قالت: في السماء. قال: "من أنا؟" قالت: أنت رسول الله. قال: "أَعتِقْها؛ فإنها مؤمنة" أخرجه مسلم [537/33] بلفظ: "ائتِني بها" فأتيته بها فقال لها: "أين الله؟" قالت: في السماء. قال: "من أنا؟" قالت: أنت رسول الله. قال: "أَعتِقْها؛ فإنها مؤمنة" قال الشافعيّ: فلما وصفت الإيمان أمر بعتقها. وهذا ظاهر جدًّا أن العتق المأمور به شرعًا لا يُجزئ إلا في رقبة مؤمنة، وإلا لم يكن للتعليل بالإيمان فائدة، فإن الأعمَّ متى كان علةً للحكم كان الأخصُّ عديمَ التأثير.(1/254)
وأيضًا فإن المقصود من إعتاق المسلم تفريغُه لعبادة ربه وتخليصُه من عبودية المخلوق إلى عبودية الخالق، ولا ريب أن هذا أمر مقصود للشارع محبوب له فلا يجوز إلغاؤه، وكيف يستوي عند الله ورسوله تفريغُ العبد لعبادته وحده وتفريغُه لعبادة الصليب أو الشمس والقمر والنار! وقد بيّن سبحانه اشتراط الإيمان في كفارة القتل وأحال ما سكت عنه على بيانه، كما بيّن اشتراط العدالة في الشاهدَين وأحال ما أطلقه وسكت عنه على ما بيّنه، وكذلك غالبُ مطلَقات كلامه سبحانه ومقيّداته لمن تأمّلها، وهي أكثر من أن تُذكر، فمنها قوله تعالى فيمن أمَر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس: "ومَن يَفعلْ ذلك ابتغاءَ مرضاتِ اللهِ فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا" [النساء: 114] وفي موضع آخر بل مواضعَ يعلّق الأجر بنفس العمل اكتفاءً بالشرط المذكور في موضعه، وكذلك قوله تعالى: "فمَن يَعملْ من الصالحات وهو مؤمنٌ فلا كُفرانَ لِسَعيه" [الأنبياء: 94] وفي موضع يعلّق الجزاء بنفس الأعمال الصالحة اكتفاءً بما عُلم من شرط الإيمان، وهذا غالب في نصوص الوعد والوعيد.
ومنها أنه لو أعتق نصفَي رقبتَين لم يكن معتقًا لرقبة. وفي هذا ثلاثة أقوال للناس، وهي روايات عن أحمد، ثانيها الإجزاءُ، وثالثُها وهو أصحُّها أنه إن تكملت الحرية في الرقبتَين أجزأه وإلا فلا، فإنه يصدُق عليه أنه حرّر رقبة، أي جعلها حرّة، بخلاف ما إذا لم تكمُل الحرية.
ومنها أن الكفارة لا تسقط بالوطء قبل التكفير ولا تتضاعف بل هي بحالها كفارة واحدة، كما دل عليه حكم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي تقدم. قال الصلت بين دينار: سألت عشرة من الفقهاء عن المظاهر يجامع قبل أن يكفّر، فقالوا: كفارة واحدة. قال: وهم الحسن وابن سيرين ومسروق وبكر وقتادة وعطاء وطاووس ومجاهد وعكرمة. قال: والعاشر أُراه نافعًا. وهذا قول الأئمة الأربعة.(1/255)
وصح عن ابن عمر وعمرو بن العاص أن عليه كفارتَين. وذكَر سعيد بن منصور عن الحسن وإبراهيم في الذي يظاهر ثم يَطأُها قبل أن يكفّر: عليه ثلاث كفارات. وذكَر عن الزهريّ وسعيد بن جبير وأبي يوسف أن الكفارة تسقط. ووجه هذا أنه فات وقتها ولم يَبقَ له سبيل إلى إخراجها قبل المَسيس. وجوابُ هذا أن فوات الأداء لا يُسقط الواجب في الذمة، كالصلاة والصيام وسائر العبادات. ووجه وجوب الكفارتين أن إحداهما للظهار الذي اقترن به العَودُ، والثانية للوطء المحرّم، كالوطء في نهار رمضان وكوطء المُحرِم. ولا يُعلم لإيجاب الثلاث وجه إلا أن يكون عقوبةً على إقدامه على الحرام. وحكمُ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يدل على خلاف هذه الأقوال. والله أعلم).
وإياك أن يَخطِرَ ببالك عندما تقرأ قول الله تعالى: (واللهُ يَسمعُ تَحَاوُرَكما إن اللهَ سميعٌ بصيرٌ) أن السمع والبصر من الله تعالى كاستماع المخلوقين أو رؤيتهم، عزَّ ربنا عن أن يُشبهه شيء من خلقه، وجلَّ عن أن يكون فعلُ أحد من خلقه شبيهًا بفعله، وقد كانت أم المؤمنين عائشة في البيت قريبةً من المجادِلة وهي تشتكي إلى الله وتَقُصّ على رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حكايتها، فسمعت شيئًا وخَفيَ عليها أشياء، فلما أنزل الله تعالى الآية حَمِدَت اللهَ تعالى وسبّحته ونزّهته أن يكون له مثيل أو شبيه، فقالت رضي الله تعالى عنها: سبحان من وَسِعَ سمعُه الأصواتِ.(1/256)
وقوله تعالى: (واللهُ يَسمعُ تَحَاوُرَكما إن اللهَ سميعٌ بصيرٌ) إشارةٌ إلى أن الله سيزيل شكواها وبَلواها، ولهذا ذكَر حُكمَها وحُكمَ غيرها على وجه العموم، فكانت هذه الشكوى رحمة للمؤمنين أبطل الله تعالى بها طلاق الجاهلية وشرَع للأمة ما يَحفظ به حياةَ الأسرة المسلمة، كما أنه سبحانه حرّم الأمومة للرجل الذي يجعل امرأته كأمِّه، كما حرَّم من قبلُ عادة التبنِّي وجعل الأسوة في النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم أنزل سبحانه: (ادعوهم لآبائهم هو أقسطُ عند الله فإن لم تَعلموا آباءهم فإخوانُكم في الدين ومَواليكم) [الأحزاب: 5] فعاد زيد بن حارثة ـ رضي الله تعالى عنه ـ إلى اسم أبيه بدلًا من: زيد بن محمد.
وقوله تعالى: (والذين يُظاهرون مِن نسائِهم ثم يعودون لِمَا قالوا فتحريرُ رقبةٍ مِن قبلِ أن يَتَماسَّا ذلكم تُوعَظون به واللهُ بما تعملون خبيرٌ. فمن لم يَجِدْ فصيامُ شهرَين متتابعَين مِن قبلِ أن يَتَماسَّا فمن لم يَستطعْ فإطعامُ ستين مسكينًا ذلك لتؤمنوا باللهِ ورسولِه وتلك حدودُ اللهِ وللكافرين عذابٌ أليمٌ) (المجادلة: 3 ـ 4).
الله تبارك وتعالى شرَع العقوبة في حالة الرغبة في العودة، لأن خَولة المجادِلة كانت ترغب في العودة إلى زوجها أوس بن الصامت، يدلّ على ذلك أنها قالت للنبيّ صلى الله عليه وسلم: "إن لي صبيةً صغارًا، إن ضمَّهم إليه ضاعوا، وإن ضَمَمتهم إليَّ جاعوا" لذلك شرَع ربنا الرحمن الرحيم العودةَ وجعَل لها كفارةً قبل التَّماسِّ هي تحرير رقبة، فإم لم يَجِدْ فصيامُ شهرَين متتابعَين، فإن لم يَجِدْ فإطعامُ ستين مسكينًا.
والسؤال: إذا لم يكن الرجل يستطيع ذلك؟(1/257)
على الناس أن تُعينَه، وأولَى الناس به زوجتُه إن كان في استطاعتها فلتتصدقْ عليه، أو يُتصدَّقُ عليه من أموال الصدقة (عن سلمة بن صخر الأنصاري قال: كنت امرَأً قد أُوتِيتُ من جماع النساء ما لم يُؤتَ غيري، فلما دخل رمضان تظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ رمضان؛ فَرَقًا من أن أصيب في ليلى شيئًا فأتتابَعَ في ذلك إلى أن يدركني النهار وأنا لا أقدرُ أن أنزِعَ، فبينما هي تخدمني من الليل إذ تكشَّف لي منها شيء فوثبت عليها، فلما أصبحتُ غدوتُ على قومي فأخبرتُهم خبري وقلت: انطلقوا معي إلى النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأُخبرَه بأمري. فقالوا: لا، والله لا نفعل؛ نَتخوّف أن يَنزل فينَا أو يقول فينَا رسول الله مقالة يَبقَى علينا عارُها، ولكن اذهب أنت فاصنع ما بدا لك. قال: فخرجت حتى أتيتُ النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأخبرته خبري فقال لي: "أنتَ بذاك؟" فقلت: أنا بذاك. قال: "أنت بذاك؟" قلت: أنا بذاك. قال: "أنت بذاك؟" قلت: أنا بذاك، وها أنذَا فأَمْضِ فيَّ حُكمَ الله عز وجل، فإني صابر له. قال: "أعتِقْ رقبة" قال: فضربت رقبتي بيدي وقلت: لا، والذي بعثك بالحق ما أصبحت أملِك غيرها. قال: "فصُمْ شهرَين متتابعَين" قلت: يا رسول الله، وهل أصابني ما أصابني إلا في الصيام. قال" فأَطعِمْ ستين مسكينًا" فقلت: والذي بعثك بالحق لقد بِتْنَا ليلتنا هذه وَحشَى ما لَنَا عَشاء. قال: "اذهَب إلى صاحب صدقة بني زُريق فقل له فَلْيَدْفَعْها إليك، فأطعم عنك منها وَسْقًا من تمر ستين مسكينًا، ثم استعِنْ بسائره عليك وعلى عيالك" قال: فرجعت إلى قومي فقلت: وجدتُ عندكم الضيق وسُوءَ الرأي ووجدتُ عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ السَّعةَ والبركةَ، قد أمَر لي بصدقتكم فادْفَعوها إليَّ. فدَفَعوها إليَّ رواه أحمد في المسند [5/37، 436] وأبو داود [2213] والترمذيّ [1198، 1200] وابن ماجه [2062] وصححه الألبانيّ في صحيح أبي داود [1933]).(1/258)
5 ـ اللعان
قال الله تعالى: (والذين يَرمُون أزواجَهم ولم يكن لهم شهداءُ إلا أنفسُهم فشهادةُ أحدِهم أربعُ شهاداتٍ بالله إنه لَمن الصادقين. والخامسةُ أن لعنةَ اللهِ عليه إن كان من الكاذبين. ويَدرأُ عنها العذابَ أن تَشهدَ أربعَ شهاداتٍ باللهِ إنه لَمن الكاذبين. والخامسةَ أن غَضَبَ اللهِ عليها إن كان من الصادقين) (النور: 6 ـ 9).
رُوي في سبب نزول هذه الآيات الكريمات أن رجلًا جاء إلى النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال له: يا رسول الله، لو أن رجلًا وجد مع امرأته رجلًا فتكلَّم جلدتموه أو قتَل قتلتموه أو سكَت سكَت على غيظ! فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "اللهم افتَحْ" أي بيِّن لنا الحكم في هذا (قال العلامة ابن القيم: ثبت في الصحيحين من حديث سهل بن سعد أن عُوَيمِرًا العَجلانيّ قال لعاصم بن عديّ: أرأيت لو أن رجلًا وجد مع امرأته رجلًا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل؟ فسَلْ لي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسأل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكَرِهَ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المسائلَ وعابَها، حتى كَبُرَ على عاصم ما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم إن عُوَيمِرًا سأل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ذلك فقال: "قد نزَل فيك وفي صاحبتك، فاذهب فَأْتِ بها" فتَلَاعَنَا عند الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلما فَرَغَا قال: كذبتُ عليها يا رسول الله إن أمسكتُها. فطلَّقَها ثلاثًا قبل أن يأمره الرسول صلى الله عليه وسلم. قال الزهريّ: فكانت تلك سُنّةَ المتلاعنَين. قال سهل: وكانت حاملًا، وكان ابنها يُنسب إلى أمّه، ثم جرت السُّنة أن يَرِثَها وتَرِثَ منه ما فرَض الله لها. وفي لفظ: فتَلَاعَنَا في المسجد، ففارَقَها عند النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "ذاكُمُ التفريقُ بين كل متلاعنَين" أخرجه البخاريّ [5308] ومسلم [1492/4] وقول سهل: وكانت حاملًا.. إلى آخره، هو عند(1/259)
البخاريّ من قول الزهريّ. وللبخاريّ: ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "انظُروا، فإن جاءت به أسحَمَ أدعَجَ العينَين عظيمَ الألْيَتَيْن خَدَلَّجَ الساقَين فلا أحسَب عُوَيمِرًا إلا قد صدَق عليها، وإن جاءت به أحيمِرَ كأنه وَحَرَةٌ فلا أحسَب عُوَيمِرًا إلا قد كذَب عليها" فجاءت به على النعت الذي نعت به الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من تصديق عويمر. وفي لفظ: وكانت حاملًا فأنكَرَ حَمْلَها أخرجه البخاريّ [4746] وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر أن فلان بن فلان قال: يا رسول الله، أرأيتَ لو وجَد أحدنا امرأتَه على فاحشة كيف يصنع؟ إن تكلَّم تكلَّم بأمر عظيم وإن سكَت سكَت على مثل ذلك! قال: فسكت النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلم يُجِبْه، فلما كان بعد ذلك أتاه فقال: إن الذي سألتُك عنه قد ابتُلِيتُ به. فأنزل الله عز وجل هؤلاء الآيات في سورة النور "والذين يَرمُون أزواجَهم.." فتلاهنَّ عليه ووعَظه وذكَّره وأخبره أن عذاب الدنيا أهونُ عليه من عذاب الآخرة، قال: لا، والذي بعثك بالحق ما كذبتُ عليها. ثم دعاها فوعَظها وذكَّرها وأخبرها أن عذاب الدنيا أهونُ من عذاب الآخرة، قالت: لا، والذي بعثك بالحق إنه لكاذب. فبدأ بالرجل فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسةُ أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم ثنَّى بالمرأة فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسةَ أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، ثم فرَّق بينهما أخرجه مسلم [1493/4] وفي الصحيحين عنه قال الرسول صلى الله عليه وسلم للمتلاعنَين: "حسابُكما على الله، أحدُكما كاذب، لا سبيلَ لك عليها" قال: يا رسول الله، مالي؟ قال: لا مال لك؛ إن كنت صَدَقتَ عليها فهو بما استَحلَلتَ من فرجها، وإن كنت كَذَبتَ عليها فهو أبعدُ لك منها". وفي لفظ لهما: فرَّق الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين المتلاعنَين وقال: "والله إن أحدَكما كاذب، فهل منكما تائبٌ؟" أخرجه(1/260)
البخاريّ [5311] ومسلم [1493/6] وفيهما عنه أن رجلًا لاعَنَ على عهد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ففرق الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بينهما وألحَقَ الولدَ بأمه أخرجه البخاريّ [5315] ومسلم [1494/8] وفي صحيح مسلم من حديث ابن مسعود ـ رضي الله تعالى عنه ـ في قصة المتلاعنَين: فشهد الرجل أربع شهادات بالله إنه لَمن الصادقين، ثم لَعَنَ الخامسةَ أن لعنةَ الله عليه إن كان من الكاذبين، فذهبت لتَلعَنَ فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: "مَهْ" فأبَتْ فلَعَنَتْ، فلما أدبَرَا قال: "لعلها أن تجيءَ به أسودَ جَعْدًا" فجاءت به أسودَ جَعْدًا أخرجه مسلم [1495/10] وفي صحيح مسلم من حديث أنس بن مالك أن هلال بن أمية قذَف امرأتَه بشَريك بن سَحمَاء، وكان أخَا البَرَاء بن مالك لأمّه، وكان أولَ رجل لاعَنَ في الإسلام، فقال النبيّ: "أَبصرُوها فإن جاءت به أبيَضَ سَبْطًا قَضيءَ العينَين فهو لهلال بن أمية، وإن جاءت به أكحَلَ جَعْدًا حَمْشَ الساقَين فهو لشَريك بن سَحماء" قال: فأُنبئتُ أنها جاءت به أكحَلَ جَعْدًا حَمْشَ الساقَين أخرجه مسلم [1496/11] وفي الصحيحين من حديث ابن عباس نحو هذه القصة، فقال له رجل: أهي التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو رَجَمتُ أحدًا بغير بيّنة لَرَجمتُ هذه"؟ فقال ابن عباس: لا، تلك امرأة كانت تُظهر في الإسلام السُّوءَ أخرجه البخاريّ [5310] ومسلم [1497/12] ولأبي داود في هذا الحديث عن ابن عباس: ففرّق الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بينهما وقضى ألّا يُدعَى ولدها لأبٍ، ولا تُرمَى ولا يُرمَى ولدُها، ومَن رمَاها أو رمَى ولَدَها فعليه الحدّ، وقَضَى ألّا بيتَ لها عليه ولا قُوتَ؛ من أجل أنهما يتفرقان من غير طلاق ولا متوفًّى عنها رواه أبو داود [2256] وأحمد في مسنده [1/239] والطيالسيّ [2667] والطبريّ [9/83] وضعفه الألبانيّ في ضعيف أبي داود [496] وفي القصة قال عكرمة: فكان بعد ذلك أميرًا على(1/261)
مصر، وما يُدعَى لأبٍ. وذكر البخاريّ أن هلال بن أمية قذَف امرأتَه عند الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بشَريك بن سَحماء فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "البينةَ أو حدٌّ في ظهرك" فقال: يا رسول الله، إذا رأى أحدُنا على امرأته رجلًا يَنطلق يَلتمس البينة؟ فجعل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "البينةَ وإلا حدٌّ في ظهرك" فقال: والذي بعثك بالحق إني لَصادق، ولَيَنُزِلَنَّ اللهُ ما يبرِّئ ظهري من الحدِّ. فنزل جبريل ـ عليه السلام ـ وأنزل عليه: "والذين يَرمُون أزواجَهم..." الآيات، فانصرف النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إليها، فجاء هلال فشهد والنبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "إن اللهَ يَعلم أن أحدَكما كاذبٌ، فهل منكما تائبٌ؟" فشَهِدَت، فلما كانت عند الخامسة وقَفوها وقالوا: إنها موجِبة. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: فتلَكّأتْ ونَكَصَتْ حتى ظَننّا أنها ترجع، ثم قالت: لا أَفضَح قومي سائرَ اليوم. فمَضَت، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أبصِروها، فإن جاءت به أكحَلَ العينَين سابغَ الأَلْيَتَيْن خَدَلَّجَ الساقَين فهو لشَريك بن سَحماء" فجاءت به كذلك، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لولا ما مَضَى من كتاب الله كان لي ولها شأن" "أخرجه البخاريّ [5307] بلفظ: أن هلال بن أمية قذف امرأته فجاء فشهد والنبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "إن الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟" ثم قامت فشَهِدَت وفي الصحيحين أن سعد بن عبادة قال: يا رسول الله، أرأيت الرجل يجد مع امرأته رجلًا أيقتله؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا" فقال سعد: بلى، والذي بعثك بالحق. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "اسمَعوا إلى ما يقول سيدكم" وفي لفظ آخر: يا رسول الله، إن وجدت مع امرأتي رجلًا أُمهِلُه حتى آتيَ بأربعة شهداء؟ قال: "نعم" وفي لفظ آخر: لو وجدت مع أهلي رجلًا لم أَهِجْهُ حتى آتيَ بأربعة شهداء؟ قال الرسول صلى(1/262)
الله عليه وسلم: "نعم" قال: كلّا، والذي بعثك بالحق نبيًّا إن كنتُ لَأَعاجِلُه بالسيف قبل ذلك. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "اسمَعوا إلى ما يقول سيّدكم، إنه لَغَيور، وأنا أغيَرُ منه، واللهُ أغيَرُ منّي" وفي لفظ: لو رأيتُ مع امرأتي رجلًا لَضَربتُه بالسيف غيرَ مُصفِّح. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أتعجَبون من غَيرة سعد، فوالله لأنَا أغيَرُ منه، واللهُ أغيَرُ مني، ومن أجل ذلك حرَّم الفواحش ما ظهَر منها وما بطَن، ولا شخصَ أغيَرُ من الله، ولا شخصَ أحبُّ إليه العذرُ من الله، من أجل ذلك بعَث اللهُ المرسَلين مبشِّرين ومنذِرِين، ولا شخصَ أحبُّ إليه المِدْحةُ من الله، من أجل ذلك وعَد الله الجنةَ" أخرجه البخاريّ [7416] بلفظ: "تَعجبون من غَيرة سعد؟ واللهِ لَأَنَا أغيَرُ منه، واللهُ أغيَرُ مني، ومن أجل غَيرةِ اللهِ حرَّم الفواحشَ ما ظهَر منها وما بطَن، ولا أحدَ أحبُّ إليه العذرُ من الله، ومن أجل ذلك بعَث المبشِّرين والمنذِرِين، ولا أحدَ أحبُّ إليه المدحَةُ من الله، ومن أجل ذلك وعَد اللهُ الجنةَ" ومسلم [1498/14 ـ 16 و1499/17] زاد المعاد 5/353 ـ 358).(1/263)
إن الله يترك لِأَقْضيةِ الكون حاجة التشريع، فلا يُنزل التشريع مرة واحدة، ونضرب على ذلك مثلًا، ولله المثل الأعلى: لو أن أحدًا أتاك بزجاجة ماء بارد وأنت في غير حاجة إلى هذا الماء، أيكون قد فعل لك فعلًا مَرْضيًّا تنتفع به! ولكن لو جاءك بهذا الماء المثلج وأنت في حالة ظمأ شديد، حينئذ يكون قد أسدَى إليك معروفًا عظيمًا؛ لأن الماء في هذه الحالة يكون له قيمة كبيرة عندك، لأنه سينقذ حياتك من الهلاك. كذلك إذا لم يكن ثَمّةَ حكمٌ في مسألة من المسائل فنَستَشرِف إلى حكم كأننا نريد حكمًا من الله تعالى، وحينما يأتي الحكم في هذا الوقت يكون أثبَتَ. وحين سأل الرجلُ الرسولَ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنزل الله تعالى آية "اللعان" لأنه توجد أشياء الزوج يلاحظها، وقد يَضع يده عليها ولكنه لا يستطيع أن يأتيَ بأربعة شهود، فماذا يفعل؟ لقد وضع ربنا سبحانه وتعالى حكمًا لهذه الحالة بهذه الآية.
وقول الله تعالى: (فشهادةُ أحدِهم أربعةُ شهاداتٍ باللهِ إنه لَمن الصادقين) يقول له: أأنت تَرمي زوجتك بكذا؟ فيقول: نعم. فيقول له: فاشهَدْ أربعَ شهادات، قل: أُشهد اللهَ أنني صادق فيما رَمَيتُ به امرأتي. ويشهد شهادة خامسة: أن لعنةَ الله عليَّ إن كنتُ كاذبًا. ثم يؤتَى بها ويقال لها: زوجُك يدَّعي عليك بكذا وكذا. فإن أنكَرَت ذلك يقال لها: اشهَدي أربعَ شهادات أنه كاذب، قولي: أُشهد اللهَ أنه كاذب. والخامسة: أن غَضَبَ الله عليَّ إن كان من الصادقين.
والسؤال: وإن حلَف الاثنان؟ يقال لهما: أنتما لا تصلُحان معًا، فلا تحلُّ لك أبدًا. ويفرَّق بينهما.(1/264)
وقوله تعالى: (لَمن الصادقين) أي فيما رمَى به زوجتَه. وقوله تعالى: (ويَدرأُ عنها العذابَ) أي يَدفع عنها العذابَ (أن تَشهدَ أربعَ شهاداتٍ باللهِ إنه لَمن الكاذبين. والخامسةَ أن غَضَبَ اللهِ عليها إن كان من الصادقين) هذا التشريع فضل من الله تعالى؛ لأنه أنهَى المسائلَ على خيرِ ما تَنتهي عليه، ولذلك يقول ربنا جل شأنه: (ولولا فضلُ اللهِ عليكم ورحمتُه وأن اللهَ توابٌ حكيمٌ) (النور: 10) لكنتم فُضِحْتُم، فعَصَمَكم فضلُ الله تعالى في تشريع الحُكم المناسب لكل حالة.
ولنلحظ فضل الله في التشريع:
أولًا: حكم الزاني. قال تعالى: (الزانيةُ والزاني فاجلِدُوا كلَّ واحدٍ منهما مائةَ جلدةٍ ولا تأخُذْكم بهما رأفةٌ في دينِ اللهِ إن كنتم تؤمنون باللهِ واليومِ الآخِرِ وَلْيَشهَدْ عذابَهما طائفةٌ من المؤمنين) (النور: 2).
ثانيًا: نكاح الزانية والزاني. قال تعالى: (الزاني لا يَنكِحُ إلا زانيةً أو مُشرِكةً والزانيةُ لا يَنكِحُها إلا زانٍ أو مُشرِكٌ وحُرِّمَ ذلك على المؤمنين).
ثالثًا: حكم من يَرمي المحصنَةَ البعيدة. قال سبحانه: (والذين يَرمُون المُحصَنَاتِ ثم لم يَأتُوا بأربعةِ شهداءَ فاجلِدُوهم ثمانين جَلدةً ولا تَقبلُوا لهم شهادةً أبدًا وأولئك هم الفاسقون) (النور: 4).
رابعًا: حكم من يَرمي زوجته. قال تعالى: (والذين يَرمُون أزواجَهم ولم يكن لهم شهداءُ إلا أنفسُهم فشهادةُ أحدِهم أربعُ شهاداتٍ بالله إنه لَمن الصادقين. والخامسةُ أن لعنةَ اللهِ عليه إن كان من الكاذبين. ويَدرأُ عنها العذابَ أن تَشهدَ أربعَ شهاداتٍ باللهِ إنه لَمن الكاذبين. والخامسةَ أن غَضَبَ اللهِ عليها إن كان من الصادقين. ولولا فضلُ اللهِ عليكم ورحمتُه وأن اللهَ توابٌ حكيمٌ).(1/265)
ثم البلاء العظيم: الذي يَرمي غيرَ زوجته، بل مَن تكون في مرتبة الأم، والأدهَى أنها ليست أمَّ واحدٍ بل أمّ المؤمنين جميعًا، التي هي أمُّنا وسيدتنا عائشة الصِّدِّيقة بنت الصِّدِّيق رضي الله تعالى عنهما (وهي قول الله تعالى: "إن الذين جاءُوا بالإفكِ عصبةٌ منكم لا تَحسَبوه شرًّا لكم بل هو خيرٌ لكم لكلِّ امرئٍ منهم ما اكتَسَب من الإثمِ والذي تَولَّى كِبْرَه منهم له عذابٌ عظيمٌ. لولا إذ سمعتموه ظَنَّ المؤمنون والمؤمناتُ بأنفسهم خيرًا وقالوا هذا إفكٌ مُبِينٌ. لولا جاءُوا عليه بأربعةِ شهداءَ فإذ لم يأتوا بالشهداءِ فأولئك عند اللهِ هم الكاذبون. ولولا فضلُ الله عليكم ورحمتُه في الدنيا والآخرة لَمَسَّكم في ما أَفَضتُّم فيه عذابٌ عظيمٌ. إذ تَلقَّونَه بألسنتِكم وتقولون بأفواهِكم ما ليس لكم به علمٌ وتَحسَبونه هَيِّنًا وهو عند اللهِ عظيمٌ. ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكونُ لنا أن نتكلَّمَ بهذا سبحانك هذا بهتانٌ عظيمٌ. يَعِظُكُم اللهُ أن تَعودوا لِمثلِه أبدًا إن كنتم مؤمنين. ويُبيِّنُ اللهُ لكم الآياتِ واللهُ عليمٌ حكيمٌ. إن الذين يحبُّون أن تَشيعَ الفاحشةُ في الذين آمنوا لهم عذابٌ أليمٌ في الدنيا والآخرةِ واللهُ يَعلمُ وأنتم لا تَعلمون. ولولا فضلُ اللهِ عليكم ورحمتُه وأن اللهَ رءوفٌ رحيمٌ" النور: 11 ـ 20) فجاءت المناسبة في أن يذكر الله تعالى هذه الحادثة هنا.
لماذا؟
لأن الله سبحانه يريد أن يعطيَ الأُسوة في بيت النبوة، بمعنى: إذا كانت هناك امرأة شريفة عفيفة اتُّهِمَت من خصومٍ لها بالباطل، فيقال لها: اصبِري واحتَسِبِي ولا تَحزَني؛ فقد قيل ذلك لمن هي أفضل منك. فيكون ذلك من باب التسلية (راجِع "حديث الإفك" ضمن أحداث غزوة بني المصطَلِق في كتاب "غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم" للشيخ الإمام محمد متولّي الشعراويّ، وهو من منشورات مكتبة التراث الإسلاميّ.(1/266)
6 ـ التفريق للضرر
جاء في "لسان العرب": الضُّرّ والضَّرّ بفتح الضاد أو ضمّها، ضد النفع، وكل ما كان من سُوء حال وفقر وشدة في بدن فهو ضرّ لسان العرب لابن منظور [4/482] والضّرّ يعني أيضًا الضيق. ولم يعرِّف الفقهاء الضرر في الاصطلاح الشرعيّ، وكأنهم تركوه لمعناه اللغويّ، وأن هذا المعنى هو المراد من الضرر شرعًا. ويمكن أن نعرِّف الضرر الذي يَلحَق الزوجةَ ويُبيح لها طلبَ التفريق بسببه بأنه: كلّ ما يُلحق الأذى أو الألَمَ ببدن الزوجة أو نفسها أو يعرِّضها للهلاك.
ويمكن تقسيم الضرر المبرِّر للتفريق بين الزوجين والذي يصدُر من الزوج ضد زوجته إلى قسمين أو نوعين:
الأول: ضرر مادّيّ. وهو كل ما يُلحق الأذى ببدن المرأة، ومنه ضربُها باليد أو بآلة وبإحداث جرح في بدنها أو كدمة أو كسر ونحو ذلك. ومن الضرر المادّيّ إلحاقُ الأذى ببدن المرأة بغير الضرب والجرح، كإلقاء الماء الحارّ عليها ونحو ذلك مما لا يجوز فعله شرعًا ويُلحق الأذى ببدن المرأة.
والثاني: ضرر معنويّ أو نفسيّ. وهو كل ما يُلحق الألمَ في نفس الزوجة، ومنه إسماعُها الكلامَ القبيحَ من سبٍّ وشتمٍ لها ولوالدَيها، أو تشبيهُها بما يُعتبَر شتمًا لها مثلُ تشبيهِها بالكلب أو الحمار أو تشبيهِ والدَيها بذلك. ومن الضرر المعنويّ أيضًا تركُ الكلام معها أو تركُ المبيت في فراشها دون وجه حقّ، وهو ما يسمَّى بالهجر. ومنه أيضًا تركُ وطئها دون مبرّر شرعيّ مثل مرضه. ومن الضرر المعنويّ ما يكون بمظهر الزوج، مثل إظهار العبوس لها وتقطيب الحاجبَين في مواجهتها، ورفع الصوت عليها، وعدم الإصغاء لحديثها معه كأن يتشاغل عنها بشيء ما أو يتركها تتكلم ويَمضي.
والضرر بنوعَيه هل يبرر للزوجة طلب التفريق أم لا؟
والجواب: صرح المالكية بجواز التفريق للضرر، كما ذكر غيرهم جوازَ طلب التفريق لبعض أنواع الضرر، ونذكر فيما يلي أقوالهم، علمًا بأن المالكية أكثر الفقهاء أخذًا بالتفريق للضرر.(1/267)
أولًا: جاء في الشرح الكبير للدردير: "ولها ـ أي للزوجة ـ التطليق على الزوج بالضرر، وهو ما لا يجوز شرعًا، كهجرها بلا موجِب شرعيّ، وضربها كذلك، وسبِّها وسبِّ أبيها نحو: يا بنت الكلب، يا بنت الكافر، يا بنت الملعون. كما يقع كثيرًا من رعاع الناس، ويؤدَّب على ذلك زيادةً على التطليق، وكوطئها في دبرها الشرح الكبير للدردير [7/345]
ثانيًا: وقالوا: ولها التطليق بالضرر. قال ابن فرحون: من الضرر قطعُ كلامه عنها وتحويلُ وجهه في الفراش عنها، وإيثارُ امرأةٍ عليها، وضربُها ضربًا مؤلمًا مواهب الجليل شرح مختصر خليل للحطاب [4/17]
ترك الوطء ضرر بالزوجة يبرّر طلبَها التفريقَ(1/268)
وترك الوطء ضرر بالزوجة يبرّر طلبَها التفريقَ من زوجها، وبهذا صرح المالكية، فقد جاء في "التاج والإكليل" للمّوّاق في فقه المالكية: قال مالك: من يريد العبادة أو ترك الجماع لغير ضرر ولا علة قيل له: إمّا وَطِئتَ أو طَلَّقتَ التاج والإكليل للمَوّاق [4/17] بل إن شيخ الإسلام يجعل تَرْكَ الوطءِ مبرِّرًا لفسخ النكاح في كل حال حتى لو لم يَقصد الزوج الإضرارَ بزوجته، فقد قال رحمه الله تعالى: وحصولُ الضرر لزوجة بترك الوطء مقتَضٍ للفسخ بكل حال، سواء كان بقصد من الزوج أو بغير قصد، ولو مع قدرته وعجزه، كالنفقة وأَوْلَى الاختيارات الفقهية من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية [247] وإذا ثبت إضرارُ الزوج بزوجته بالبينة المعتبَرة فلا يُشترط إثباتُ تكراره لطلب التفريق، بل يكفي إثباتُ حصوله مرة واحدة، فقد جاء في "مختصر خليل" وشرحه للدردير: ولها ـ أي للزوجة ـ التطليق على الزوج بالضرر ولو لم تَشهَدْ البينة ـ الشهود ـ بتكرُّره. وقال الدسوقيُّ في "حاشيته" تعليقًا على هذا القول: قوله: ولم لم تَشهَد البينة بتكرُّره، بل شَهِدَت بأنه حصَل لها مرة واحدة فلها التطليق بها على المشهور الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقيّ [2/345] والواقع بالتفريق للضرر طلقةٌ بائنةٌ، فقد جاء في "حاشية الدسوقي" على "الشرح الكبير" للدردير: قوله: ولها التطليق بالضرر، أي لها التطليق طلقةً واحدةً وتكون بائنةً الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقيّ [2/345] وذلك بأن يأمر الحاكم بطلاقها، فإن امتَنَع طلَّق عليه القاضي الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقيّ [2/345](1/269)
7 ـ زوجة المفقود
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: والصواب في امرأة المفقود مذهبُ عمر بن الخطاب ـ رضي الله تعالى عنه ـ وغيرِه من الصحابة، وهو أنها تتربص أربع سنين ثم تَعتدّ للوفاة، ويجوز لها أن تتزوج بعد ذلك، وهي زوجة الثاني ظاهرًا وباطنًا. وعلى الأصحّ لا يُعتبَر الحاكم، فلو مَضَت المدة والعدة تَزَوَّجَت بلا حاكم الاختيارات الفقهية من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية [281] وقال الدكتور عبد الكريم زيدان: أرجِّح لزومَ رفعِ الزوجة أَمْرَها إلى الحاكم لطلب التفريق إذا رَغِبَتْ فيه، ولا يكفي تربُّصُها مدةَ الأجل من تلقاء نفسها دون مراجعةِ الحاكم وتقديرِه هذا الأجلَ، كما ذهب إلى ذلك الحنابلة، إذ قالوا: ولا تَفتقر في ذلك التربص إلى حُكم حاكم لِضربِ المدةِ وعدةِ الوفاة. كشاف القناع [3/266] ووجه هذا الترجيح أن التفريق لفقد الزوج مختلَف في جوازه عند الفقهاء، وما اختلفوا فيه لا يَرتفع ويَستقرّ على رأي مُلزِم بالنسبة لذوي الشأن والعلاقة فيه إلا بحكم الحاكم؛ لأن حكم الحاكم يرفع الخلاف فيما حكَم فيه بالنسبة لذوي الشأن كما هو معروف.
ولكن ما حكم هذا التفريق من جهة بقائه وترتُّبِ كامل آثاره أو بطلانه وزوال آثاره إذا عاد الزوج المفقود؟
يجيب الدكتور عبد الكريم زيدان: قد يختلف الحكم باختلاف الأحوال، فقد يعود المفقودُ وزوجتُه لم تتزوج بعدُ، أو تزوَّجَت ولم يَدخل بها الزوج الثاني، أو تزوَّجَت وقد دخَل بها الزوج الثاني، ولكلّ حالة من هذه الحالات حكمُها من جهة بطلان حكم التفريق أو عدم بطلانه، كما نوضح فيما يلي:
الحالة الأولى: إذا عاد المفقود حيًّا وزوجته لم تتزوج، بالرغم من الحكم بالتفريق بينها وبينه، فهي زوجته بنكاحها الأول معه، أي لا تحتاج إلى تجديد عقد النكاح معه.(1/270)
الحالة الثانية: وإن عاد الزوج المفقود بعد أن تزوَّجَت، فإن كانت عودته قبل دخول الثاني بها فهي زوجة المفقود، تُرَدُّ إليه بنكاحها الأول كما لو لم تتزوج. قال الإمام أحمد: أما قبل الدخول فهي امرأته.
الحالة الثالثة: وإن قَدِمَ الزوج المفقود بعد زواج زوجته ودخولِ الزوج الثاني بها فالحكم أن يُخيَّر زوجها الأول، المفقودُ الذي عاد، بين أَخْذِها فتكون زوجتَه بالعقد الأول وبين أَخْذِ صداقها ـ مهرِها ـ وتكون زوجةً للثاني).(1/271)
الترغيب في عدم الطلاق
السؤال: ما الأمور التي وضعها الشرع لصيانة الأسرة وعدم الوقوع في الطلاق؟
الجواب: بالنسبة للزوج رغّب الشرع في عدم الطلاق بأمور، يقول الحق سبحانه وتعالى: (وإن خفتم شقاقَ بينِهما فابعَثوا حَكَمًا من أهلِه وحَكَمًا من أهلِها إن يُريدَا إصلاحًا يُوفِّقْ اللهُ بينهما إن اللهَ كان عليمًا خبيرًا) (النساء: 35) ذلك الخطاب لكل المحيطين بالزوجين بالانتباه واليقظة تخوفًا من حدوث الشقاق.
ولكن ما هو الشقاق؟
الشقاق مأخوذ من مادة "الشّقّ" وشّقّ يعني إبعاد شيء عن شيء آخر، مثل النجار حين يشق لوح الخشب. وكلمة (شقاقَ بينِهما) تدل على أنهما بالزواج التحما وصارَا شيئًا واحدًا، فأيّ شيء يُبعد الاثنين عن بعضهما يسمَّى شقاقًا، ذلك الالتحام الذي قال عنه الله سبحانه وتعالى: (وقد أفضَى بعضُكم إلى بعضٍ وأخَذْنَ منكم ميثاقًا غليظًا) (النساء: 21) ويتأكد هذا المعنى أيضًا من قول الحق سبحانه وتعالى: (هنَّ لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهنَّ) (البقرة: 187) وهذا يعني أن المرأة مظروفة في زوجها وزوجها مظروف فيها، والرجل ساتر على زوجته وزوجته ساترة عليه.
وقول الحق سبحانه: (وإن خفتم شقاقَ بينِهما) من الذي يخاف؛ أهو وليّ الأمر أم هم أهل الزوج وأقرباؤه؟
إن القرآن يلفتنا إلى أن نتنبّه دائمًا إلى الحالات النفسية التي تعتري الأسرة، فإن كان أبًا أو أخًا أو قريبًا من الأسرة فعليه أن يكون متتبعًا لأمور الأسرة. إن قول الحق سبحانه: (وإن خفتم شقاقَ بينِهما) يعني أن الشقاق لم يحدث، ولذلك يجب ألّا تترك الجماعةُ المؤمنة خلافاتِ الزوجين إلى أن تؤديَ إلى الشقاق.
وماذا يكون التصرف حين ذاك؟(1/272)
قال تعالى: (فابعَثوا حَكَمًا من أهله وحَكَمًا من أهلها) هذا أمر قد يكون لوليّ الأمر العامّ أو إلى البارزين من أهل الزوج وأهل الزوجة أن يلاحظوا الخط البيانيّ للزوجين، وعندما يرى هؤلاء البارزون من أهل الأسرة اقترابَ الشقاق يمكنهم أخذُ حَكَمٍ من عائلة الزوج وحَكَمٍ من عائلة الزوجة، وليَبحَثَا المسألة التي تُؤذِن بقدوم عاصفة على الزواج، هكذا تنتقل المصلحة من الزوجين إلى واحد من أهل الزوج وواحد من أهل الزوجة، يحدث ذلك قبل حدوث الشقاق بين الزوجين، وقد يكون بينهما بعض مقدمات المشاكل. والحَكَمُ الذي من أهل الزوج وأهل الزوجة ليس بينهما خلافات، بل صدرُ كلٍّ منهما طاهرٌ نقيٌّ، وما دام كل منهما سيَلِي الحكم فهما يتفقان على ضرورة ما يجب أن يحدث، وأن ينزل الزوجان على حكم الحَكَمَين، بحيث إذا رأى الحكمان بأنْ لا إصلاح إلا أن يَتمَّ الطلاق فليَتمَّ الطلاق (قال العلامة ابن كثير في تأويل قول الله تعالى "وإن خفتم شقاقَ بينِهما فابعَثوا حَكَمًا من أهلِه وحَكَمًا من أهلِها إن يُريدَا إصلاحًا يُوفِّقْ اللهُ بينهما إن اللهَ كان عليمًا خبيرًا": ذَكَرَ الحالَ الأول وهو إذا كان النفور والنشوز من الزوجة، ثم ذَكَرَ الحالَ الثانيَ وهو إذا كان النفور من الزوجين، فقال تعالى: "وإن خفتم شقاقَ بينِهما فابعَثوا حَكَمًا من أهلِه وحَكَمًا من أهلِها" وقال الفقهاء: إذا وقع الشقاق بين الزوجين أسكَنَهما الحاكم إلى جنب ثقة ينظر في أمرهما ويمنع الظالمَ منهما من الظلم، فإن تَفاقَمَ أمرهما وطالت خصومتهما بعث الحاكم ثقةً من أهل المرأة وثقةً من قوم الرجل ليجتمعَا وينظرَا في أمرهما ويفعلَا ما فيه المصلحة فيما يَرَيَانِه من التفريق أو التوفيق، وتَشَوَّفَ الشارع إلى التوفيق ولهذا قال: "إن يُريدَا إصلاحًا يُوفِّقْ اللهُ بينهما" وقال ابن عباس: أمَرَ الله عز وجل أن يبعثوا رجلًا صالحًا من أهل الرجل ورجلًا مثله من أهل المرأة(1/273)
فيَنظُرَا: أيّهما المسيءُ؟ فإن كان الرجل هو المسيءَ حَجَبوا عنه امرأته وقَصَروه على النفقة، وإن كانت المرأة هي المسيئة قَصَروها على زوجها ومَنَعوها النفقة. فإن اجتمع رأيهما على أن يفرّقا أو يَجمَعَا فأمرُهما جائز. فإن رأيَا أن يَجمعَا فرَضيَ أحد الزوجين وكَرِهَ الآخر، ثم مات أحدهما، فإن الذي رَضيَ يَرِث الذي كَرِهَ، ولا يَرِث الكارِهُ الراضيَ. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير رواه الطبريّ [9418 شاكر] وقوله: "قَصَروه" بالصاد، أي: ألزَموه إياه قهرًا. وأصلها من "القَسر" بالسين، وهما تتبادلان كثيرًا وروى عبد الرزاق أن عقيل بن أبي طالب تزوَّج فاطمةَ بنت عتبة بن ربيعة، فقالت: تَصير لي وأُنفق عليك. فكان إذا دخل عليها قالت: أين عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة؟ قال: على يساركِ في النار إذا دخلتِ! فشدَّت عليها ثيابها فجاءت عثمان فذكرت له ذلك، فضحك، فأرسل ابنَ عباس ومعاويةَ، فقال ابن عباس: لأُفرِّقَنَّ بينهما. فقال معاوية: ما كنتُ لِأُفرِّقَ بين شيخَين من بني عبد مناف. فأتَيَاهما فوجداهما قد أغلقَا أبوابَهما، فرجَعَا رواه البيهقيّ في السنن الكبرى [14786] ورواه الطبريّ [9427 شاكر] بنحوه مختصرًا وروَى أيضًا عن عبيدة قال: شهدتُ عليًّا جاءته امرأةٌ وزوجها، مع كل واحد منهما فِئامٌ من الناس، فأخرَج هؤلاء حَكَمًا وهؤلاء حَكَمًا، فقال عليّ للحَكَمَين: أتَدرِيَان ما عليكما؟ إنّ عليكما إنْ رأيتما أن تُفرِّقا فرَّقتما وإن رأيتما أن تَجمَعَا جمَعتما. فقالت المرأة: رضيتُ اللهَ لي وعليَّ. وقال الزوج: أما الفرقة فلَا. فقال عليّ: كذَبتَ، واللهِ لا تَبرَحُ حتى ترضى بكتاب الله عز وجل لك وعليك. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير مثله رواه الطبريّ [9407ـ 9409 شاكر] والبيهقيّ في السنن الكبرى [14782] وقال الشافعيّ في الأم [5/178]: حديث عليٍّ ثابت عندنا وهذا مذهب جمهور العلماء أن الحَكَمَين إليهما الجمعُ والتفرقةُ، حتى(1/274)
قال إبراهيم النخعيّ: إن شاء الحكمان أن يفرِّقا بينهما بطلقة أو بطلقتين أو ثلاث، فَعَلَا. وهو رواية عن مالك. وقال الحسن البصريّ: الحكمان يُحكَّمان في الجمع ولا يُحكَّمان في التفريق. وكذا قال قتادة وزيد بن أسلم، وبه قال أحمد بن حنبل وأبو ثور وداود، ومأخذُهم قولُ تعالى: "إن يريدَا إصلاحًا يوفِّقْ اللهُ بينهما" ولم يذكُرْ التفريق. وأما إذا كانَا وكيلَين من جهة الزوجين فإنه ينفُذ حُكمُهما في الجمع والتفرقة بلا خلاف.
وقد اختلف الأئمة في الحَكَمَين: هل هما منصوبان من عند الحاكم فيَحكُمان وإن لم يَرضَ الزوجان أو هما وكيلان من جهة الزوجين؟ على قولين، فالجمهور على الأول لقوله تعالى: "فابعثوا حَكَمًا من أهله وحَكَمًا من أهلها" فسمَّاهما حَكَمَين، ومن شأن الحَكَم أن يَحكمَ بغير رضا المحكوم عليه. وهذا ظاهر الآية، والجديدُ من مذهب الشافعيّ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه. الثاني منهما: بقول عليٍّ للزوج حين قال: أما الفرقة فلَا. فقال: كذَبتَ حتى تُقرَّ بما أقرَّت به. قالوا: فلو كانا حَكَمَين لَمَا افتقَرَ إلى إقرار الزوج. والله أعلم.(1/275)
قال الشيخ أبو عمر بن عبد البر: وأجمع العلماء على أن الحَكَمَين إذا اختلف قولُهما فلا عبرة بقول الآخر، وأجمَعوا على أن قولهما نافذ في الجمع وإن لم يوكلهما الزوجان. واختلفوا: هل ينفُذ قولُهما في التفرقة؟ ثم حكَى عن الجمهور أنه ينفُذ قولُهما فيها أيضًا. عمدة التفسير 3/167ـ 168) والناس قد تخطئ في فهم معنى الحَكَم، فلا ينزل الزوجان على أمر الحَكَمَين بل يظل الشقاق بينهما، والواجب هو أن ينزل الزوجان على ما يحكم به الحكمان، والحقُّ سبحانه وتعالى حصَر هذه المهمةَ في الحَكَمَين وحددها بالآتي: (إن يريدَا إصلاحًا يوفِّقْ اللهُ بينهما) فإن لم يوفٍّقْ اللهُ بينهما فكأن ذلك يعني أن كُلًّا من الحَكَمَين قد دَخَلَا بنية عدم الإصلاح، وفي هذا لفت واضح لكل حَكَم بأن يتنبّه إلى جلال المهمة المُوكَلَة إليه وليحاول أن يصلح.
إن قول الحق (إن يريدَا إصلاحًا يوفِّقْ اللهُ بينهما) تنبيه لنا: إياكم أن تَغتَرّوا بحجم الحَكَمَين أو ذكائهما؛ لأن الحجم والذكاء مجرد أسباب، والحق يحذرنا دائمًا من أن نَغتَرَّ بهذه الأسباب لأن كل شيء بتوفيق الله تعالى خالق الأسباب. ولنا أن نَلحَظ ذلك في قول الحق: (يوفِّقْ اللهُ بينهما) إن الإصلاح مهمة موكولة إلى الحَكَمَين، لكن القادر على الإصلاح هو الله.
ويقول الحق من بعد ذلك: (إن اللهَ كان عليمًا خبيرًا) أي أنه سبحانه عليم بأحوال الزوج وأحوال الزوجة وأحوال الحَكَم من أهل الزوج وأحوال الحَكَم من أهل الزوجة، إنهم جميعًا مُحاطُون بعلم الله، وعلى كل واحد منهم أن يحرص على أن يكون تصرفه في ضوء منهج الله.
لماذا؟
لأن كل واحد منهم مسؤول عن طريق حركة من الحركات التي تكتنف هذه القضية، فالحق سبحانه عليم خبير.(1/276)
الطلاق بدون شهود
السؤال: تزوجت من شاب طيّب إلا أنه طلّقني ثلاث مرات، يندم كل مرة ويعود، وهو الآن نادم أشدّ الندم عما فعل ويريد العودة إليَّ، والطلقاتُ الثلاث كانت تتمّ بدون حضور شهود بيننا، نرجو بيان شيء من أحكام الطلاق.
لا جدوى للندم في مثل هذه الحالة، فلقد أعطى الله للزوج ثلاثَ فرص للرجوع ولكنه لم يحافظ عليها. وأما من ناحية الشهود فإن الطلاق لا يُشترط فيه وجود الشهود. وكان الأَولَى بهذا الزوج أو الأب أن يراجع نفسه ويسيطر عليها قبل أن يتصرف هذا التصرف الأحمق، أمَا وقد وقع التصرف الأحمق بالفعل فلا يحقّ له أن يعود إليكِ مرة أخرى إلا إذا تزوجتِ رجلًا غيره وطُلِّقتِ منه (وقال طائفة من العلماء بوجوب الإشهاد على الطلاق والرجعة لِمَا روى أبو داود [2186] وابن ماجه [2025] عن عمران بن حصين ـ رضي الله تعالى عنه ـ أنه سئل عن الرجل يطلق امرأته ثم يقع بها ولم يُشهد على طلاقها ولا رجعتها، فقال: طُلِّقَت لغير سُنّة ورَجَعَت لغير سُنّة، أَشهِدْ على طلاقها وعلى رجعتها ولا تَعُدْ. وصححه الألبانيّ في صحيح أبي داود [1915] وقال ابن جريج: كان ابن عطاء يقول: "وأَشهِدوا ذَوَي عدلٍ منكم" [الطلاق: 2] لا يجوز في نكاح ولا طلاق ولا إرجاع إلا شاهِدَا عدلٍ كما قال الله عز وجل، إلا أن يكون من عذر. تفسير ابن كثير، تفسير سورة الطلاق).(1/277)
أما عن أحكام الطلاق فقد قال الحق سبحانه وتعالى: (الطلاقُ مرّتانِ فإمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسانٍ ولا يَحِلّ لكم أن تأخذوا مما آتيتموهنَّ شيئًا إلَّا أن يَخافَا ألَّا يُقيمَا حدودَ اللهِ فإن خفتم ألَّا يُقيمَا حدودَ اللهِ فلا جناحَ عليهما فيما افتَدَت به تلك حدودُ اللهِ فلا تَعتَدُوها ومن يَتَعَدَّ حدودَ اللهِ فأولئك هم الظالمون) (البقرة: 229) الطلاق مأخوذ من التحرر والانطلاق، فكأن الطلاق حَلَّ عقدة كانت موجودة وهي عقدة النكاح، ونحن نعلم أن عقدة النكاح هي العقدة التي جعلها الله عقدًا مغلَّظًا أو ميثاقًا غليظًا (سبب نزول الآية، قال القرطبيّ [3/126]: ثبت أن أهل الجاهلية لم يكن عندهم للطلاق عدد، وكانت عندهم العدة معلومة مقدرة، وكان هذا في أول الإسلام بُرهةً؛ يطلِّق الرجل امرأته ما شاء من الطلاق فإذا كادت تَحلُّ من طلاقه راجَعَها ما شاء، فقال رجل لامرأته على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم: لا آوِيكِ ولا أدَعُكِ تَحلِّينَ. قالت: وكيف؟ قال: أطلِّقكِ فإذا دنَا مُضيُّ عدَّتكِ راجعتُكِ. فشَكَت المرأة ذلك إلى عائشة، فذكرت ذلك للنبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأنزل الله تعالى هذه الآية بيانًا لعَدد الطلاق الذي للمرء فيه أن يَرتجع دون تجديد مهر ووليّ، ونسَخ ما كانوا عليه. قال معناه عروة بن الزبير وقتادة وابن زيد وغيرهم. وقال ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وغيرهم: المراد بالآية التعريف بسُنّة الطلاق؛ أي من طلَّق اثنَتَين فليَتَّق الله في الثالثة، فإما ترَكها غيرَ مظلومة شيئًا من حقِّها وإما أمسَكَها مُحسنًا عشرتَها. والآية تَتضمن هذَين المعنَيَين.
تعريف الطلاق(1/278)
قال في الفتح [10/435]: الطلاق في اللغة: حلّ الوثاق. مشتقّ من الإطلاق، وهو الإرسال والترك. وقال إمام الحرمين: هو لفظ جاهليّ ورَد الشرع بتقريره. وقال القرطبيّ [3/126]: الطلاق هو حلّ العصمة المنعقدة بين الأزواج بألفاظ مخصوصة. وقال الشيخ سيد سابق في فقه السنة [2/278]: هو حلّ رابطة الزواج وإنهاء العلاقة الزوجية.
حُكمه
منه ما هو محرّم بالكتاب والسنة والإجماع ومنه ما ليس بمحرّم، فالطلاق المباح باتفاق العلماء هو أن يطلّق الرجل امرأته طلقة واحدة إذا طهُرت من حيضتها بعد أن تغتسل وقبل أن يطأها، ثم يَدَعَها فلا يطلقَها حتى تَنقضيَ عدَّتُها، وهذا الطلاق يسمَّى طلاق السُّنَّة.
فإن أراد أن يَرتجعها في العدة فله ذلك بدون رضاها ولا رضا وليِّها ولا مهر جديد.
وإن تركها حتى تقضيَ العدة فعليه أن يسرِّحها بإحسان فقد بانت منه.
فإن أراد أن يتزوجها بعد انقضاء العدة جاز له ذلك، لكن يكون بعقد، كما لو تزوجها ابتداءً.
وإن كانت المرأة ممَّن لا يَحِضْنَ لصِغَرِها أو كِبَرِها فإنه يطلّقها متى شاء، سواء كان يَطَأُها أو لم يكن يَطَأُها، فإن هذه عدتها ثلاثة أشهر.
الطلاق المحرَّم باتفاق العلماء هو أن يطلِّق الرجل امرأته في الحيض أو بعد أن وَطِئَها وقبل أن يتبيَّن حملُها، فهذا الطلاق محرَّم، ويُسمَّى "طلاقَ البدعة" وهو حرام بالكتاب والسنة والإجماع.
وإن طلَّقها ثلاثًا في طُهر واحد بكلمة واحدة أو كلمات، مثل أن يقول "أنتِ طالق ثلاثًا" أو "أنتِ طالق أنتِ طالق أنتِ طالق" ونحو ذلك من العبارات، فهذا للعلماء فيه ثلاثة أقوال، ورابع محدَث مبتَدَع:
الأول: أنه طلاق مباح لازم. وهو قول الشافعيّ وأحمد في الرواية القديمة عنه.
الثاني: أنه طلاق محرَّم لازم. وهو قول مالك وأبي حنيفة وأحمد في الرواية المتأخرة عنه، اختارها أكثر أصحابه، وهذا القول منقول عن كثير من السلف.(1/279)
الثالث: أنه محرَّم ولا يلزم منه إلا طلقة واحدة. وهذا القول منقول عن طائفة من السلف والخلف.
الرابع: أنه لا يلزمه شيء. وهو الذي قاله بعض المعتزلة والشيعة، ولا يُعرف عن أحد من السلف لمزيد من التفصيل راجع فتاوى ابن تيمية [33/5ـ 9]
الألفاظ التي يقع بها الطلاق
قال ابن حزم: لا يقع طلاق إلا بلفظ من أحد ثلاثة ألفاظ، إما الطلاق وإما السَّراح وإما الفراق، مثل أن يقول "أنت طالق" أو يقول "مطلَّقة" أو "قد طلَّقتك" أو "أنت طالقة" أو "أنت الطلاق" أو "أنت مسرَّحة" أو "قد سرَّحتك" أو "أنت السَّرَاح" أو "أنت مفارَقة" أو "قد فارقتك" أو "أنت الفراق" هذا كله إذا نوَى به الطلاق، برهان ذلك قوله عز وجل: "ثم طَلَّقتُموهنَّ" [الأحزاب: 49] وقوله تعالى: "فطَلِّقُوهنَّ" [الطلاق: 1] وقوله تعالى: "وللمطلَّقات متاعٌ" [البقرة: 241] وقوله تعالى: "وسرِّحوهنَّ سراحًا جميلًا" [الأحزاب: 49] وقوله تعالى: "فإمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسانٍ" [البقرة: 229] وقوله تعالى: "فأمسِكوهنَّ بمعروفٍ أو فارِقوهنَّ بمعروفٍ" [الطلاق: 2] وقوله تعالى: "وإن يَتفرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلًّا من سَعَتِه" [النساء: 130] لم يذكر الله تعالى حِلَّ الزوج للزوجة إلا بهذه الألفاظ، فلا يجوز حلُّ عقدة عُقدَت بكلمة الله عز وجل وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا بما نصّ الله عز وجل عليه "ومن يَتعدَّ حدودَ الله فقد ظلَم نفسَه" [الطلاق: 1].
وأما قولنا: إن نوى مع ذلك الطلاق. فلقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى".(1/280)
وأما ألفاظ "السراح والفراق" فإنها تقع في اللغة التي بها خاطبنا الله عز وجل في شرائعه على حلِّ عقد النكاح، وعلى معانٍ أُخَرَ وقوعًا مستويًا، ليس معنًى من تلك المعاني أحقَّ بتلك اللفظة من سائر تلك المعاني، فيكون "أنت مسرَّحة" أي: أنت مسرَّحة للخروج إذا شئت. وبقوله "قد فارقتك، وأنت مفارَقة" في شيء مما بينهما ما لم توافقه فيه؛ فلما كان ذلك كذلك لم يجُز أن يُحكم بحلّ عقد صحيح بكلمة الله عز وجل بغير يقين ما يوجب حلَّها، وبالله تعالى التوفيق.
المحلَّى [11/ 493، 494 مسألة 1960]
وقال الدكتور عبد الكريم زيدان: إن الصيغة الصريحة في الطلاق تكون باللفظ الصريح الدال عليه أو بما يقوم مقامه في هذه الدلالة.
فما هو اللفظ الصريح في الطلاق؟
قال صاحب "مغني المحتاج": وهو ما لا يَحتمل ظاهرُه غيرَ الطلاق مغني المحتاج في فقه الشافعيّ [3/279] وقال صاحب "كشاف القناع" في تعريفه الصريحَ في الطلاق هو: ما لا يَحتمل غيرَه بحسَب الوضع العرفيّ كشاف القناع في فقه الحنابلة [3/147] ومثله في شرح الأزهار في فقه الزيدية [2/381] وفي "الهداية" في فقه الحنفية في تعريف اللفظ الصريح في الطلاق: هو الذي يستعمل في الطلاق ولا يستعمل في غيره الهداية [3/44] ويوضح ذلك الإمام علاء الدين الكاسانيّ بقوله: الألفاظ التي يقع بها الطلاق في الشرع نوعان، صريح وكناية، أما الصريح فهو اللفظ الذي لا يستعمل إلا في حلِّ قيد النكاح، وسُمِّيَ هذا النوع صريحًا لأن الصريح في اللغة اسم لما هو ظاهر المراد مكشوف المعنى عند السامع البدائع للكاسانيّ [3/101] وفي ضوء ما ذكرنا من تعاريفَ لِلَّفظ الصريح في الطلاق يمكن القول بأن اللفظ الصريح في الطلاق هو: اللفظ الذي لا يُستعمل إلا في حلِّ عقدة النكاح في عرف من نطَق به والسامع له والموجَّه إليه، بناء على الوضع اللغويّ لهذا اللفظ، أو بناء على العرف العام عند الناس في استعمال هذا اللفظ في هذا المعنى.(1/281)
طلاق السنة وطلاق البدعة
الطلاق منه طلاق سُنّة أباحه الله تعالى وطلاق بدعة حرَّمه الله، فطلاق السنة أن يطلِّقها طلقة واحدة إذا طهُرت من الحيض قبل أن يجامعها أو يطلقها حاملًا قد تبيّن حملها.
فإن طلَّقها وهي حائض أو وَطِئَها وطلَّقها بعد الوطء قبل أن يتبيَّن حملها فهذا طلاق محرَّم بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين.
وتنازع العلماء: هل يَلزَم أو لا يَلزَم؟ على قولين، والأظهر أنه لا يلزم.
وإن طلَّقها ثلاثًا بكلمة أو بكلمات في طُهر واحد قبل أن يراجعها، مثل أن يقول: أنت طالق ثلاثًا، وأنت طالق ألف طلقة، أو أنتِ طالق أنتِ طالق أنتِ طالق. ونحو ذلك من الكلام فهذا حرام عند جمهور العلماء من السلف والخلف، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد في ظاهر مذهبه. وكذلك لو طلَّقها ثلاثًا قبل أن تنقضيَ عدتها فهو أيضًا حرام عند الأكثرين، وهو مذهب مالك وأحمد في ظاهر مذهبه.
وأما "السُّنَّة": إذا طلَّقها طلقة واحدة لم يطلِّقها الثانية حتى يراجعها في العدة أو يتزوجها بعقد جديد بعد العدة، فحينئذ له أن يطلقها الثانية، وكذلك الثالثة، فإذا طلقها الثالثة كما أمر الله ورسوله حرُمت عليه حتى تنكح زوجًا غيره.
وأما لو طلقها "الثلاث" طلاقًا محرَّمًا مثل أن يقول لها: أنتِ طالق ثلاثًا. جملةً واحدة فهذا فيه قولان للعلماء:
أحدهما: يَلزمه الثلاث.
والثاني: لا يَلزمه إلا طلقة واحدة، وله أن يرتجعها في العدة ويَنكِحَها بعقد جديد بعد العدة.(1/282)
وهذا قول كثير من السلف والخلف، وهو قول طائفة من أصحاب مالك وأبى حنيفة وأحمد بن حنبل، وهذا أظهر القولين لدلائل كثيرة، منها ما ثبت في الصحيح عن ابن عباس قال: كان الطلاق الثلاث على عهد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبي بكر وصدرًا من خلافة عمر، واحدةً أخرجه مسلم [1472/ 15 ـ 17] ومنها ما رواه الإمام أحمد وغيره بإسناد جيد عن ابن عباس أن رُكانة بن عبد يزيد طلَّق امرأته ثلاثًا في مجلس واحد، وجاء إلى النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: "إنما هي واحدة" ورَدَّها عليه. وهذا الحديث قد ثبَّته أحمد بن حنبل وغيره رواه أحمد في المسند [1/265] وقال الشيخ شاكر [2387]: إسناده صحيح. ورواه أبو داود [2208] وابن ماجه [2051] وضعفه الألبانيّ في ضعيف أبي داود [481] وانظر الإرواء [7/139] وسبب ذلك أن الأصل في الطلاق الحظرُ وإنما أُبيح منه قدرُ الحاجة، كما ثبت في الصحيح عن جابر عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلةً أعظمُهم فتنةً، يجيء أحدهم فيقول: فعلتُ كذا وكذا. فيقول: ما صنعتَ شيئًا. قال: ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركتُه حتى فرّقتُ بينه وبين امرأته" قال: "فيُدنيه منه ويقول: نَعَم أنت" أخرجه مسلم [2813/ 67] وقد قال تعالى في ذم السحر: "فيَتعلَّمون منهما ما يُفرِّقون به بين المرءِ وزوجِه". وفي السنن عن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "إن المختلِعات والمنتزِعات هنَّ المنافقات" رواه أحمد في المسند [2/414] والنسائيّ في المجتبَى [3461] عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. وصححه الألبانيّ في صحيح النسائيّ [3238] ورواه الطبريّ في التفسير [2/467] والطبرانيّ في الكبير [17/935] عن عقبة بن عامر الجُهَنيّ رضي الله تعالى عنه. وذكره الهيثميّ في الزوائد [5/8] وقال: رواه الطبرانيّ، وفيه قيس بن الربيع، وثَّقه الثوريّ وشعبة، وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح وفي السنن(1/283)
أيضًا عن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: "أيُّما امرأة سألت زوجَها الطلاقَ من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة" رواه أحمد في المسند [5/277، 283] وأبو داود [2226] والترمذيّ [1187] وابن ماجه [2055] وابن الجارود في المنتقى [748] وابن حبان [4184] وقال الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم. والبيهقيّ في السنن الكبرى [14860] من حديث ثوبان مرفوعًا بلفظ: "أيُّما امرأة سألت زوجَها طلاقًا في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة" وهذا لفظ أبي داود. وصحّحه الألبانيّ في صحيح سنن أبي داود [1947] ولهذا لم يُبَحْ إلا ثلاث مرات، وحرُمت عليه المرأة بعد الثالثة حتى تنكح زوجًا غيره، وإذا كان إنما أُبِيحَ للحاجة فالحاجة تندفع بواحدة، فما زاد فهو باقٍ على الحظر.
طلاق البدعة هل يقع؟
الطلاق المحرَّم الذي يسمَّى "طلاق البدعة" إذا أوقعه الإنسان هل يقع أم لا؟ فيه نزاع بين السلف والخلف، والأكثرون يقولون بوقوعه مع القول بتحريمه. وقال آخرون: لا يقع. مثل طاووس وعكرمة وخلاس بن عمرو ومحمد بن إسحاق وحجاج بن أرطأة وأهل الظاهر كداود وأصحابه وطائفة من أصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد ويروى عن أبي جعفر الباقر وجعفر ابن محمد الصادق وغيرهما من أهل البيت وقع في الأصل: "وخلاس وعمر" والصواب المُثبَت، وهو من رجال الستة، ثقة وكان يُرسِل. التقريب [1780] المحلَّى [مسألة 1953] زاد المعاد [5/221ـ 241] والذين لا يَرَونَ الطلاق المحرَّم لازمًا يقولون: هذا هو الأصل الذي عليه أئمة الفقهاء، كمالك والشافعيّ وأحمد وغيرهم، وهو أن إيقاعات العقود المحرَّمة لا تقع لازمة، كالبيع المحرم والنكاح المحرم والكتابة المحرمة، ولهذا أبطلوا نكاح الشغار ونكاح المحلّل، وأبطل مالك وأحمد البيع يوم الجمعة عند النداء.(1/284)
وهذا بخلاف الظهار المحرَّم فإن ذلك نفسه محرَّم، كما يحرم القذف وشهادة الزور واليمين الغموس وسائر الأقوال التي هي في نفسها محرَّمة، فهذا لا يمكن أن ينقسم إلى صحيح وغير صحيح، بل صاحبها يستحق العقوبة بكل حال، فعُوقبَ المظاهِرُ بالكفارة ولم يحصل ما قصده به من الطلاق، فإنهم كانوا يقصدون به الطلاق، وهو موجَب لفظه، فأبطل الشارع ذلك لأنه قول محرَّم وأوجَبَ فيه الكفارة.
أما الطلاق فجنسه مشروع، كالنكاح والبيع، فهو يَحلّ تارة ويحرم تارة، فينقسم إلى صحيح وفاسد، كما ينقسم البيع والنكاح. والنهيُ في هذا الجنس يَقتضي فسادَ المنهيّ عنه، ولما كان أهل الجاهلية يطلِّقون بالظهار فأبطل الشارع ذلك لأنه قول محرَّم كان مقتَضَى ذلك أن كل قول محرَّم لا يقع به الطلاق، وإلا فهم كانوا يقصدون الطلاق بلفظ الظهار كلفظ الحرام. وهذا قياس أصل الأئمة، مالك والشافعيّ وأحمد، ولكن الذين خالفوا قياس أصولهم في الطلاق خالفوه لما بلغهم من الآثار، فلما ثبت عندهم عن ابن عمر أنه اعتدَّ بتلك التطليقة التي طلَّق امرأته وهي حائض قالوا: هو أعلم بقصته. فاتَّبَعوه في ذلك. ومن نازَعَهم يقول: ما زال ابن عمر وغيره يَروُون أحاديثَ ولا تأخذ العلماء بما فَهموه منها، فإن الاعتبار بما رَوَوه لا بما رأوه وفَهِموه. وقد ترك جمهور العلماء قولَ ابن عمر الذي فسَّر به قوله: "فاقدِرُوا له" جزء من حديث أخرجه البخاريّ [1906] من حديث ابن عمر ـ رضي الله تعالى عنهما ـ مرفوعًا بلفظ: "لا تصوموا حتى تَرَوا الهلال، ولا تُفطروا حتى تَرَوه، فإن غُمَّ عليكم فاقدِرُوا له". ومسلم [1080/ 3] وترك مالك وأبو حنيفة وغيرهما تفسيره لحديث "البَيِّعان بالخيار" جزء من حديث أخرجه البخاريّ [2079] من حديث ابن عمر ـ رضي الله تعالى عنهما ـ مرفوعًا بلفظ: "البَيِّعان بالخيار ما لم يَتفرَّقا" أو قال: "حتى يَتفرَّقا، فإن صَدَقَا وبَيَّنَا بُورِكَ لهما في بيعهما، وإن(1/285)
كَتَمَا وكَذَبَا مُحِقَت بركةُ بَيعهما" ومسلم [1531/ 43] مع أن قوله هو ظاهر الحديث. وترك جمهور العلماء تفسيره لقوله: "فَأْتُوا حَرْثَكم أنَّى شئتم" وقوله: نزلت هذه الآية في كذا. وكذلك إذا خالف الراوي ما رواه، كما ترك الأئمة الأربعة وغيرُهم قولَ ابن عباس أن بَيعَ الأَمَةِ طلاقُها، مع أنه روَى حديث بَرِيرة وأن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ خيَّرها بعد أن بِيعَت وعَتِقَت جزء من حديث أخرجه البخاريّ [5283] فإن الاعتبار بما رَوَوه لا ما رأوه وفَهِموه.
الطلاق الذي يقع
والطلاق الذي يقع بلا ريب هو الطلاق الذي أذِن الله فيه وأباحه، وهو أن يطلِّقها في الطُّهر قبل أن يَطأها أو بعد ما يَبِينُ حملُها طلقةً واحدة يجدر الإشارة إلى أن فضيلة الشيخ الإمام محمد متولي الشعراويّ حفظه الله تعالى يأخذ برأي الجمهور في هذه المسألة ويقول بوقوعه مع القول بتحريمه فأما الطلاق المحرَّم، مثل أن يطلِّقها في الحيض أو يطلِّقها بعد أن يَطأها وقبل أن يَبِينَ حملُها، فهذا الطلاق محرَّم باتفاق العلماء. وكذلك إذا طلَّقها ثلاثًا بكلمة أو كلمات في طُهر واحد فهو محرَّم عند جمهور العلماء.
وتنازعوا فيما يقع بها، فقيل: يقع بها الثلاث. وقيل: لا يقع بها إلا طلقة واحدة. وهذا هو الأظهر الذي يدل عليه الكتاب والسنة، كما قد بُسط في موضعه.(1/286)
وكذلك الطلاق المحرَّم في الحيض وبعد الوطء: هل يلزم؟ فيه قولان للعلماء، والأظهر أنه لا يَلزم كما لا يَلزم النكاح المحرَّم والبيع المحرَّم. وقد ثبت في الصحيح عن ابن عباس قال: كان الطلاق على عهد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبي بكر وصدرًا من خلافة عمر، طلاق الثلاث واحدة أخرجه مسلم [1472/ 15ـ 17] بلفظ: كان الطلاق على عهد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبي بكر وسنتَين من خلافة عمر، طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر ابن الخطاب: إن الناس قد استعجَلوا في أمر قد كانت لهم فيه أنَاةٌ، فلو أمضَيناه عليهم! فأمضاه عليهم وثبت أيضًا في مسند أحمد أن رُكانة بن عبد يزيد طلَّق امرأته ثلاثًا في مجلس واحد، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "هي واحدة" رواه أحمد في المسند [1/265] وقال الشيخ شاكر [2387]: إسناده صحيح. وأبو داود [2208] وضعّفه الألبانيّ في ضعيف أبي داود [481] وانظر: الإرواء [2063] ولم يثبت عن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ خلاف هذه السنة، بل ما يخالفها إما أنه ضعيف بل مرجوح، وإما أنه صحيح لا يدل على خلاف ذلك، كما قد بُسط ذلك في موضعه. والله أعلم. فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، كتاب الطلاق 33/ 70 ـ 71.
طلاق الحائض
ومَنشَأ النزاع فيه أن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لعمر بن الخطاب لما أخبره أن عبد الله بن عمر طلق امرأته وهي حائض: "مُره فليُراجِعْها، حتى تحيض، ثم تطهُر، ثم تحيض، ثم تطهُر" فمن العلماء من فَهِم من قوله "فليُراجِعْها" أنها رجعة المطلقة وبَنَوا على هذا أن المطلقة في الحيض يؤمَر برجعتها مع وقوع الطلاق.
وهل هو أمر استحباب أو أمر إيجاب؟ على قولين، هما روايتان عن أحمد. والاستحباب مذهب أبي حنيفة والشافعيّ، والوجوب مذهب مالك.
وهل يطلِّقها في الطهر الأول الذي يَلي حيضة الطلاق أو لا يطلِّقها إلا في طهر من حيضة ثانية؟ على قولين أيضًا، هما روايتان عن أحمد، ووجهان في قول أبي حنيفة.(1/287)
وهل عليه أن يطأها قبل الطلاق الثاني؟ جمهورهم لا يوجبه، ومنهم من يوجبه، وهو وجه في مذهب أحمد، وهو قويّ على قياس قول من يوقع الطلاق، لكنه ضعيف في الدليل.
وتنازعوا في علة منع طلاق الحائض، هل هو تطويل العدة كما يقول أصحاب مالك والشافعيّ وأكثر أصحاب أحمد؟ أو لكونه حالَ الزهد في وطئها فلا تطلق إلا في حال رغبة في الوطء لكون الطلاق ممنوعًا لا يباح إلا لحاجة، كما يقول أصحاب أبي حنيفة وأبو الخطاب من أصحاب أحمد؟ أو هو تعبد لا يُعقل معناه كما يقوله بعض المالكية؟ على ثلاثة أقوال.
وفي الصحيح عن عمران بن حصين أن رجلًا أعتق ستة مملوكين فجزّأهم النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثلاثة أجزاء، فأعتَقَ اثنَين ورَدَّ أربعة للرِّقِّ أخرجه مسلم [1668/ 56] بلفظ أن رجلًا أعتق ستة مملوكين له عند موته لم يكن له مال غيرهم، فدعا بهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فجزّأهم أثلاثًا ثم أقرَع بينهم، فأعتَقَ اثنَين وأرَقَّ أربعة، وقال له قولًا سديدًا وفي السنن عن ابن عباس أن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ردَّ زينبَ على زوجها أبي العاص بالنكاح الأول رواه أبو داود [2240] بلفظ: رَدَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ابنتَه زينبَ على أبي العاص بالنكاح الأول، لم يُحدِثْ شيئًا. وصححه الألبانيّ في صحيح أبي داود [1957] فهذا رَدٌّ لها. وأمَرَ عليَّ بن أبي طالب أن يردَّ الغلام الذي باعه دون أخيه، وأمَرَ بَشيرًا أن يردَّ الغلام الذي وهَبه لابنه، ونظائر هذا كثيرة.(1/288)
ومن العلماء من قال: قوله "مُرْهُ فليُراجِعْها" لا يستلزم وقوع الطلاق، بل لما طلَّقها طلاقًا محرَّمًا حصل منه إعراض عنها ومجانبة لها لظنِّه وقوعَ الطلاق فأمَرَه أن يردَّها إلى ما كانت، كما قال في الحديث الصحيح لمن باع صاعًا بصاعَين: "هذا هو الربا، فرُدُّوه" أخرجه مسلم [1594/ 97] من حديث أبي سعيد الخدريّ ـ رضي الله تعالى عنه ـ وفيه: "هذا الربا فرُدُّوه" ولفظ "المراجعة" تدل على العود إلى الحال الأول. ثم قد يكون ذلك بعقد جديد كما في قوله تعالى: "فإن طلَّقها فلا جناحَ عليهما أن يَتراجَعَا" [البقرة: 230] وقد يكون برجوع بدن كلٍّ منهما إلى صاحبه وإن لم يحصل هناك طلاق، كما إذا أخرَجَ الزوجةَ أو الأمَةَ من داره فقيل له: راجعها. فأرجَعَها كما في حديث عليّ حين راجَعَ الأمرَ بالمعروف، وفي كتاب عمر لأبي موسى: وأن تراجع الحق فإن الحق قديم.(1/289)
واستعمال لفظ "المراجعة" يقتضي المفاعلة، والرجعة من الطلاق يَستقلّ بها الزوج بمجرد كلامه فلا يكاد يُستعمل فيها لفظ المراجعة، بخلاف ما إذا ردَّ بَدَنَ المرأة إليه فرجَعَت باختيارها فإنهما قد تَراجَعَا كما يَتراجعان بالعقد باختيارهما بعد أن تَنكح زوجًا غيره. وألفاظ الرجعة من الطلاق هي الرد والإمساك، وتُستعمل في استدامة النكاح كقوله تعالى: "وإذ تقولُ لِلَّذي أنعَمَ اللهُ عليه وأنعَمتَ عليه أَمسِكْ عليك زوجَكَ" [الأحزاب: 27] ولم يكن هناك طلاق، وقال تعالى: "الطلاقُ مرتان فإمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسانٍ" [البقرة: 229] والمراد به الرجعة بعد الطلاق. والرجعة يَستقلّ بها الزوج ويؤمر فيها بالإشهاد، والنبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يأمر ابنَ عمر بالإشهاد وقال: "مُرْهُ فليُراجِعْها" ولم يقل: ليَرتَجِعْها. وأيضًا فلو كان الطلاق قد وقع كان ارتجاعُها ليطلقها في الطُّهر الأول أو الثاني زيادةً وضررًا عليها وزيادةً في الطلاق المكروه، فليس في ذلك مصلحةٌ لا له ولا لها، بل فيه إن كان الطلاق قد وقع بارتجاعه ليطلق مرة ثانية زيادةُ ضرر. وهو لم يمنعه عن الطلاق بل أباحه له في استقبال الطهر مع كونه مُريدًا له، فعُلم أنه إنما أمَرَه أن يمسكها وأن يؤخر الطلاق إلى الوقت الذي يباح فيه، كما يؤمر من فعل شيئًا قبل وقته أن يرُد ما فعل ويفعله إن شاء في وقته، لقوله صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردّ" أخرجه مسلم [1718/ 18] واتفقا على إخراجه بلفظ: "من أحدَثَ في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ" البخاريّ [2697] ومسلم [1718/ 17] والطلاق المحرَّم ليس عليه أمر الله ورسوله فهو مردود، وأمَرَه بتأخير الطلاق إلى الطهر الثاني ليتمكن من الوطء في الطهر الأول، فإنه لو طلَّقَها فيه لم يجُز أن يطلقها إلا قبل الوطء، فلم يكن في أمره بإمساكها إليه إلا زيادةُ ضرر عليها إذا طلقها في الطهر الأول. وأيضًا فإن ذلك(1/290)
معاقبة له على أن يعمل ما أحله الله، فعوقب بنقيض قصده. وبسط الكلام في هذه المسألة واستيفاء كلام الطائفتين له موضع آخر، وإنما المقصود هنا التنبيه على الأقوال ومأخذها.
لا ريب أن الأصل بقاء النكاح، ولا يقوم دليل شرعيّ على زواله بالطلاق المحرَّم، بل النصوص والأصول تقتضي خلاف ذلك. والله أعلم. فتاوى ابن تيمية، كتاب الطلاق [33/ 98ـ 101] وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: في الصحيح والسنن والمسانيد عن عبد الله بن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض فذكر عمر للنبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فتغيظ عليه النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال: "مُرهُ فليُراجِعْها حتى تحيض ثم تطهُر، ثم إن شاء بعدُ أمسكها وإن شاء طلقها قبل أن يجامعها، فتلك العدةُ التي أمَر اللهُ أن يُطلَّقَ لها النساءُ" أخرج البخاريّ [4908] ومسلم [1471/4] وأحمد في المسند [2/61، 81] وأبو داود [2182] والنسائيّ في المجتبَى [3391] والبيهقيّ في السنن الكبرى [14910] أن عبد الله بن عمر قال: طلقت امرأتي وهي حائض فذكر عمر للنبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فتغيظ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم قال: "مُرهُ فليُرجِعْها حتى تحيض حيضة أخرى مستقبَلَة سوى حيضتها التي طلقها فيه، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرًا من حيضتها قبل أن يَمَسَّها، فذلك الطلاقُ للعدة كما أمر اللهُ" وهذا لفظ مسلم وفي رواية في الصحيح أنه أمَرَه أن يطلقها طاهرًا أو حاملًا أخرجه مسلم [1471/ 5] وفي رواية في الصحيح: قرأ النبيّ صلى الله عليه وسلم: "يا أيها النبيّ إذا طلَّقتم النساءَ فطلِّقوهنَّ لِعدَّتِهنَّ" أخرجه مسلم [1471/ 14] وأبو داود [2185] والبيهقيّ في السنن الكبرى [14929] وعبد الرزاق في المصنف [10960] وعن ابن عباس وغيره من الصحابة: الطلاق على أربعة أوجه، وجهان حلال ووجهان حرام، فأما اللذان هما حلال فأن يطلق امرأته طاهرًا في غير جماع أو يطلقها حاملًا قد استبان حملُها، وأما اللذان هما(1/291)
حرام فأن يطلقها حائضًا أو يطلقها بعد الجماع لا يَدري أشتَمَلَ الرحمُ على ولد أم لا. رواه الدارقطنيّ وغيره رواه عبد الرزاق في المصنف [10950] ومن طريقه الدارقطنيّ في سننه [3845] بلفظ "على أربعة وجوه" وفيه أيضًا "فأما الحلال" بدلًا من "فأما اللذان هما حلال" وفيهما أيضًا "وأما الحرام" بدلًا من "فأما اللذان هما حرام" وقد بيَّن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه لا يَحلّ له أن يطلّقها إلا إذا طهُرت من الحيض قبل أن يجامعها، وهذا هو الطلاق للعدة، أي لاستقبال العدة، فإن ذلك الطهر أو العدة. فإن طلَّقها قبل العدَّة يكون قد طلقها قبل الوقت الذي أذن الله فيه ويكون قد طوَّل عليها التربّص وطلَّقها من غير حاجة به إلى طلاقها. والطلاق في الأصل مما يُبغضه الله، وهو أبغض الحلال إلى الله، وإنما أباح منه ما يَحتاج إليه الناس كما تُباح المحرَّمات للحاجة، فلهذا حرَّمها بعد الطلقة الثالثة حتى تَنكح زوجًا غيره عقوبةً له لينتهيَ الإنسان عن إكثار الطلاق. فإذا طلَّقها لم تَزَلْ في العدة متربِّصةً ثلاثةَ قروء، وهو مالكٌ لها يَرِثها وتَرِثه، وليس له فائدة في تعجيل الطلاق قبل وقته، كما لا فائدة في مسابقة الإمام، ولهذا لا يُعتدّ له بما فعله قبل الإمام بل تبطُل صلاته إذا تعمّد ذلك في أحد قولَي العلماء، وهو لا يزال معه في الصلاة حتى يسلّم. ولهذا جوّز أكثر العلماء الخلع في الحيض لأنه على قول فقهاء الحديث ليس بطلاق بل فرقة بائنة، وهو في أحد قولَيهم تُستبرأ بحيضة لا عدةَ عليها، وهذه إحدى الروايتين عند أحمد. ولأنها تملك نفسها بالإخلاع فلهما فائدة في تعجيل الإبانة لرفع الشرّ الذي بينهما؛ بخلاف الطلاق الرجعيّ فإنه لا فائدة في تعجيله قبل وقته بل ذلك شرّ بلا خير. وقد قيل: إنه طلاق في وقت لا يُرغب فيها وقد لا يكون محتاجًا إليه، بخلاف الطلاق وقت الرغبة فإنه لا يكون إلا عن حاجة.(1/292)
وقول النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ لابن عمر: "مُرْهُ فليُراجِعْها" مما تنازع العلماء فيه في مراد النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ففَهِمَ منه طائفة من العلماء أن الطلاق قد لَزِمَه فأمَرَه أن يَرتجعها ثم يطلقها في الطهر إن شاء.
وتنازع هؤلاء: هل الارتجاع واجب أو مستحبّ؟ وهل له أن يطلقها في الطهر الأول أو الثاني؟ وفي حكمة هذا النهي أقوال ذَكَرناها وذَكَرنا مأخَذَها في غير هذا الموضع.
وفَهِمَ طائفة أخرى أن الطلاق لم يقع ولكنه لما فارَقَها ببدنه، كما جرت العادة من الرجل إذا طلق امرأته اعتزلها ببدنه واعتزلته ببدنها، فقال لعمر: "مره فليراجعها" ولم يقل: فليرتجعها. "والمراجعة" مفاعلة من الجانبين، أي ترجع إليه ببدنها فيجتمعان كما كانَا، لأن الطلاق لم يَلزَمه، فإذا جاء الوقت الذي أباح الله فيه الطلاق طلقها حينئذ إن شاء.(1/293)
قال هؤلاء: ولو كان الطلاق قد لَزِمَ لم يكن في الأمر بالرجعة ليطلقها طلقةً ثانيةً فائدةٌ بل فيه مَضَرّةٌ عليهما، فإن له أن يطلقها بعد الرجعة بالنص والإجماع، وحينئذ يكون في الطلاق مع الأول تكثيرُ الطلاق وتطويلُ العدة وتعذيبُ الزوجين جميعًا، فإن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يوجب عليه أن يَطأها قبل الطلاق بل إذا وَطِئَها لم يَحلَّ له أن يطلقها حتى يَتبيَّن حملُها أو تَطهُرَ الطُّهرَ الثانيَ. وقد يكون زاهدًا فيها يَكره أن يطأها فتَعلَقَ منه، فكيف يجب عليه وطؤها! ولهذا لم يوجب الوطءَ أحدٌ من الأئمة الأربعة وأمثالِهم من أئمة المسلمين، ولكن أخّر الطلاق إلى الطهر الثاني. ولولا أنه طلقها أولًا لكان له أن يطلقها في الطهر الأول؛ لأنه لو أبيح له الطلاق في الطهر الأول لم يكن في إمساكها فائدةٌ مقصودةٌ بالنكاح إذا كان لا يُمسكها إلا لأجل الطلاق، فإنه لو أراد أن يطلقها في الطهر الأول لم يحصل إلا زيادةُ ضرر عليهما، والشارع لا يأمر بذلك، فإذا كان ممتنعًا من طلاقها في الطهر الأول ليكون متمكنًا من الوطء الذي لا يعقُبُه طلاق، فإن لم يَطأْها أو وَطِئَها أو حاضت بعد ذلك فله أن يطلقها، ولأنه إذا امتنع من وطئها في ذلك الطهر ثم طلقها في الطهر الثاني دل على أنه محتاج إلى طلاقها لأنه لا رغبة فيها، إذ لو كانت له فيها رغبة لَجَامَعَها في الطهر الأول.(1/294)
قالوا: لأنه لم يأمر ابنَ عمر بالإشهاد على الرجعة كما أمَرَ الله ورسوله، ولو كان الطلاق قد وقع وهو يَرتجعها لأمَرَ بالإشهاد؛ ولأن الله تعالى لما ذكَر الطلاق في غير آية لم يأمر أحدًا بالرجعة عقيب الطلاق، بل قال: "فإذا بلَغنَ أجلَهنَّ فأمسِكوهنَّ بمعروف أو فارِقوهنَّ بمعروف" فخيَّر الزوجَ إذا قارَب انقضاءُ العدة بين أن يُمسكها بمعروف وهو الرجعة وبين أن يفارقها فيُخلِّيَ سبيلها إذا انقضت العدة ولا يحبسها بعد انقضاء العدة كما كانت محبوسة عليه في العدة، قال الله تعالى: "لا تُخرِجوهنَّ من بيوتِهنَّ ولا يَخرُجنَ إلا أن يَأتينَ بفاحشةٍ مبيِّنةٍ" وأيضًا فلو كان الطلاق المحرَّم قد لَزم لكان حصَل الفساد الذي كَرِهه الله ورسوله، وذلك الفساد لا يرتفع برجعة يُباح له الطلاق بعدها، والأمرُ برجعة لا فائدة فيها مما تَنَزَّهَ عنه الله ورسوله، فإنه إن كان راغبًا في المرأة فله أن يرتجعها، وإن كان راغبًا عنها فليس له أن يرتجعها، فليس في أمره برجعتها مع لزوم الطلاق له مصلحةٌ شرعيةٌ بل زيادة مفسدة، ويجب تنزيهُ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الأمر بما يستلزم زيادةَ الفساد، واللهُ ورسوله إنما نهَى عن الطلاق البدعيّ لمنع الفساد، فكيف يأمر بما يَستلزم زيادةَ الفساد!(1/295)
وقول الطائفة الثانية أشبه بالأصول والنصوص، فإن هذا القول متناقض؛ إذ الأصل الذي عليه السلف والفقهاء أن العبادات والعقود المحرمة إذا فُعلت على الوجه المحرَّم لم تكن لازمة صحيحة، وهذا وإن كان نازَعَ فيه طائفة من أهل الكلام فالصواب مع السلف وأئمة الفقهاء؛ لأن الصحابة والتابعين لهم بإحسان كانوا يستدلون على فساد العبادات والعقوبة بتحريم الشارع لها، وهذا متواتر عنهم. وأيضًا فإن لم يكن ذلك دليلًا على فسادها لم يكن عن الشارع ما يبيِّن الصحيح من الفاسد، فإن الذين قالوا: النهي لا يقتضي الفساد. قالوا: نعلم صحة العبادات والعقود وفسادها بجعل الشارع هذا شرطًا أو مانعًا ونحو ذلك، وقوله: هذا صحيح، وليس بصحيح، من خطاب الوضع والإخبار، ومعلوم أنه ليس في كلام الله ورسوله.
وهذه العبارات مثل قوله: الطهارة شرط في الصلاة، والكفر مانع من صحة الصلاة، وهذا العقد وهذه العبادة لا تصحّ. ونحو ذلك، بل إنما في كلامه الأمرُ والنهيُ والتحليلُ والتحريمُ، وفي نفي القبول والصلاح، كقوله: "لا يقبل الله صلاة بغير طُهور ولا صدقة من غُلول" رواه النسائيّ في المجتبَى [139] من حديث أسامة بن عُمير، وصححه الألبانيّ في صحيح النسائيّ [135] وأخرجه مسلم [224] بنحوه، وأحمد في المسند [2/20] والترمذيّ [1] من حديث ابن عمر وقوله: هذا لا يصلُح جزء من حديث أخرجه مسلم [1624/ 19] من حديث جابر رضي الله عنه، وفيه "فليس يصلُح هذا، وإني لا أَشهَد إلا على حق" وفي كلامه: "إن الله يَكره كذا" جزء من حديث أخرجه البخاريّ [1477] من حديث المغيرة بن شعبة ـ رضي الله تعالى عنه ـ وفيه: "إن الله كره لكم ثلاثًا، قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال" وفي كلامه الوعدُ ونحو ذلك من العبارات، فلم نستفد الصحة والفساد إلا بما ذكره، وهو لا يلزم أن يكون الشارع بيَّن ذلك، وهذا مما يُعلم فساده قطعًا.(1/296)
وأيضًا فالشارع يحرِّم الشيء لما فيه من المفسدة الخالصة أو الراجحة ومقصودُه بالتحريم المنعُ من ذلك الفساد وجعلُه معدومًا، فلو كان مع التحريم يترتب عليه من الأحكام ما يترتب على الحلال فيجعله لازمًا نافذًا كالحلال لكان ذلك إلزامًا منه بالفساد الذي قَصَدَ عَدَمَه، فيَلزَم أن يكون ذلك الفساد قد أراد عَدَمَه مع أنه ألزَمَ الناسَ به، وهذا تناقُض يُنزَّه عنه الشارع صلى الله عليه وسلم.
وقد قال بعض هؤلاء: إنه إنما حرَّم الطلاق الثلاث لئلَّا يندم المطلق، دل على لزوم الندم له إذا فعله، وهذا يقتضي صحته.
فيقال له: هذا يتضمن أن كل ما نهى الله عنه يكون صحيحًا، كالجمع بين المرأة وعمتها، لئلَّا يُفضي إلى قطيعة الرحم.(1/297)
فيقال: إن كان ما قاله هذا صحيحًا هنا دليل على صحة العقد؛ إذ لو كان فاسدًا لم تحصل القطيعة، وهذا جهل؛ وذلك أن الشارع بيَّن حكمته في منعه مما نهى عنه، وأنه لو أباحه للزم الفساد، فقوله تعالى: "لا تَدري لعل اللهَ يُحدثُ بعد ذلك أمرًا" وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تُنكح المرأةُ على عمتها ولا خالتها؛ فإنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم" رواه ابن حبان في صحيحه [4116] وحسّنه الأرنؤوط. والطبرانيّ في الكبير [11/11931] عن ابن عباس بلفظ: نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن تُزوَّج المرأةُ على العمة والخالة، قال: "إنكم إذا فعلتم قطعتنَّ أرحامكنَّ" ورواية الطبرانيّ: "إنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم" ونحو ذلك بيَّن أن الفعل لو أُبيح لحصل به الفساد فحرِّم منعًا من هذا الفساد. ثم الفساد ينشأ من إباحته ومن فعله إذا اعتقد الفاعل أنه مباح أو أنه صحيح، فأما مع اعتقاد أنه محرَّم باطل والتزام أمر الله ورسوله فلا تحصل المفسدة، وإنما تحصل المفسدة من مخالفة أمر الله ورسوله، والمفاسد فيها فتنة وعذاب، قال الله تعالى: "فلْيَحذَرْ الذين يُخالِفون عن أمرِه أن تُصيبَهم فتنةٌ أو يُصيبَهم عذابٌ أليمٌ" [النور: 63].
وقول القائل: لو كان الطلاق غيرَ لازم لم يحصل الفساد.
فيقال: هذا هو مقصود الشارع، فنهَى عنه وحكَم ببطلانه ليزول الفساد، ولولا ذلك لفعَلَه الناس واعتقَدوا صحته فيَلزَم الفساد.
وهذا نظير قول من يقول: النهيُ عن الشيء يدل على أنه مقصود وأنه شرعيّ، وأنه يسمَّى بيعًا ونكاحًا وصومًا. كما يقولون في نهيه عن نكاح الشغار ولعنه المحلِّلَ والمحلَّلَ له ونهيه عن بيع الثمار قبل أن يبدوَ صلاحها، ونهيه عن صوم يوم العيدين، ونحو ذلك.(1/298)
فيقال: أما تصوره حسًّا فلا ريب فيه، وهذا كنهيه عن نكاح الأمهات والبنات وعن بيع الخمر والميتة ولحم الخنزير والأصنام، كما في الصحيحين عن جابر أن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "إن الله حرَّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام" فقيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة، فإنه يُطلَى بها السفن ويُدهن بها الجلود ويَستصبِح بها الناس. فقال: "لا، هو حرام" ثم قال: "قاتَلَ الله اليهودَ، حُرِّمت عليهم الشحوم فجمَّلوها وباعوها وأكلوا أثمانها" أخرجه البخاريّ [2236] ومسلم [1581/ 71] من حديث جابر ـ رضي الله تعالى عنه ـ مرفوعًا بلفظ: "إن الله ورسوله حرَّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام" قيل: يا رسول الله، أرأيت شحوم الميتة...إلى أن قال: "قاتل الله اليهودَ؛ إن اللهَ لمّا حرَّم شحومَها أجمَلوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه" هذا هو لفظهما. وجمَّل الشحم: أذابه. المعجم الوسيط [1/126] فتسميته لهذا نكاحًا وبيعًا لم يمنع أن يكون فاسدًا باطلًا بل دلّ على إمكانه حسًّا.
وقول القائل: إنه شرعيّ. إن أراد أنه يسمَّى بما أسماه به الشارع فهذا صحيح، وإن أراد أن الله أَذِنَ فيه فهذا خلاف النص والإجماع، وإن أراد أنه رتَّب عليه حُكمَه وجعَلَه يحصِّل المقصود ويَلزَم الناسَ حُكمُه كما في المباح فهذا باطل بالإجماع في أكثر الصور التي هي من موارد النزاع، ولا يمكنه أن يدعيَ ذلك في صورة مُجمَع عليها، فإن أكثر ما يَحتج به هؤلاء بنهيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الطلاق في الحيض ونحو ذلك مما هو من موارد النزاع، فليس معهم صورة قد ثبت فيها مقصودهم لا بنصّ ولا إجماع. وكذلك "المحلِّل" المعلون وردت فيه أحاديث منها:(1/299)
1ـ عن ابن مسعود رضي الله عنه: لعن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المحلِّل والمحلَّل له". رواه الترمذيّ [1120] واللفظ له، والنسائيّ في المجتبَى [3416] وأحمد في المسند [1/448، 462] وقال الشيخ شاكر [4283، 4403]: إسناده صحيح. والبيهقيّ في السنن الكبرى [14185] وصححه الألبانيّ في صحيح الترمذيّ [894] وقال الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير [1530]: وصححه ابن القطان وابن دقيق العيد على شرط البخاريّ.
2 ـ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، بنفس لفظ ابن مسعود. رواه أحمد في المسند [2/323] وقال الشيخ شاكر [8270]: إسناده صحيح. وابن الجارود في المنتقى [684] والبيهقيّ في السنن الكبرى [14186] وسنده حسن.
3 ـ عن عليّ رضي الله تعالى عنه: "لعن الله المحلِّل والمحلَّل له". رواه أبو داود [2076] واللفظ له، والترمذيّ [1119] وابن ماجه [1935] وأحمد في المسند [1/83، 87، 88] وقال الشيخ شاكر [635]: إسناده ضعيف. والبيهقيّ في السنن الكبرى [14183] وسنده ضعيف لضعف الحارث الأعور، انظر: التقريب [1036] وصححه الألبانيّ لشواهده في صحيح أبي داود [1827] وانظر: الإرواء [1897].
4 ـ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما باللفظ السابق. رواه ابن ماجه [1934] بسند ضعيف، فيه زمعة بن صالح، ضعيف، انظر: التقريب [2046] وللحديث شواهد؛ لذلك صححه الألبانيّ في صحيح ابن ماجه [1570] وانظر الإرواء [6/308، 309].(1/300)
5 ـ حديث عقبة بن عامر رضي الله تعالى عنه: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "ألَا أخبرك بالتيس المستعار؟" قال: بلى يا رسول الله. قال: "هو المحلِّل، ولعن الله المحلِّل والمحلَّل له". رواه ابن ماجه [1936] والحاكم في المستدرك [2/199] وصححه ووافقه الذهبيّ. والبيهقيّ في السنن الكبرى [14187] وصححه الألبانيّ في صحيح ابن ماجه [1572] وانظر: الإرواء [1897] لعَنَه لأنه قَصَد التحليلَ للأول بعقده لا لأنه أحلَّها في نفس الأمر، فإنه لو تزوَّجها بنكاح رغبة لكان قد أحلَّها بالإجماع، وهذا غير ملعون بالإجماع، فعُلم أن اللعنة لمن قصد التحليل، وعُلم أن الملعون لم يحلِّلها في نفس الأمر، ودلَّت اللعنة على تحريم فعله، والمنازِعُ يقول: فعله مباح. فتَبيَّنَ أنه لا حجة معهم، بل الصواب مع السلف وأئمة الفقهاء، ومن خرَج عن هذا الأصل من العلماء المشهورين في بعض المواضع فإنه لم يكن له جواب صحيح وإلا فقد تَنَاقَضَ كما تَنَاقَضَ في مواضع غيره هذه.(1/301)
والأصول التي لا تناقُض فيها ما أُثبت بنص أو بإجماع، وما سوى ذلك فالتناقُض موجود فيه، وليس هو حجة على أحد. والقياس الصحيح الذي لا يتناقض هو موافق للنص والإجماع، بل لا بد أن يكون النصّ قد دلّ على الحكم، كما قد بسط في موضع آخر، وهذا معنى العصمة، فإن كلام المعصوم لا يَتناقض، ولا نزاع بين المسلمين أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ معصوم فيما بلَّغه عن الله تعالى، فهو معصوم فيما شرَّعه للأمة بإجماع المسلمين، وكذلك الأمة أيضًا معصومة أن تجتمع على ضلالة، بخلاف ما سوى ذلك، ولهذا كان مذهب أئمة الدين أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويُترك إلا الرسول صلى الله عليه وسلم رواه أبو نُعيم في الحلية [3/300] وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" [1762ـ 1765] بسند صحيح عن مجاهد أنه قال: ليس أحد بعد النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا يؤخذ من قوله ويترك، إلا النبيَّ صلى الله عليه وسلم فإنه الذي فَرض اللهُ على جميع الخلائق الإيمانَ به وطاعتَه وتحليلَ ما حلَّله وتحريمَ ما حرَّمه، وهو الذي فرَّق الله به بين المؤمن والكافر، وأهل الجنة وأهل النار، والهدى والضلال، والغيّ والرشاد، فالمؤمنون أهل الجنة، وأهل الهدى والرشاد هم متَّبِعوه، والكفار أهل النار، وأهل الغيّ والضلال هم الذين لم يتَّبعوه، ومن آمَن به باطنًا وظاهرًا واجتَهَد في متابعته فهو من المؤمنين السعداء وإن كان قد أخطأ وغَلِطَ في بعض ما جاء به فلم يَبلُغْه أو لم يَفهَمْه، قال الله تعالى عن المؤمنين: "ربَّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا.." [البقرة: 286] وقد ثبت في الصحيح عن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن الله قال: "قد فعلتُ" أخرجه مسلم [200/ 126] والترمذيّ [2992] والطبريّ في تفسيره [6457 شاكر] والحاكم في المستدرك [2/286] من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وفي السنن عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: "العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم(1/302)
يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا وإنما ورَّثوا العلم، فمن أخَذ به أخَذ بحظّ وافر" رواه أبو داود [3641ـ 3642] وابن ماجه [223] وابن حبان [88] وحسنه الأرنؤوط، من حديث أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه. وصححه الألبانيّ في صحيح أبي داود [3096] وقد قال سبحانه وتعالى: "وداودَ وسليمانَ إذ يَحكُمان في الحَرثِ إذ نَفَشَت فيه غنمُ القومِ وكنّا لحُكمهم شاهِدِين. ففَهَّمنَاها سليمانَ وكُلًّا آتينا حكمًا وعلمًا" [الأنبياء: 78 ـ 79] فقد خَصَّ أحدَ النبيَّين الكريمَين بالتفهيم مع ثنائه على كل منهما بأنه أوتيَ علمًا وحكمًا، فهكذا إذا خَصّ الله أحدَ العالِمِين بعلمِ أمرٍ وفهمِه لم يوجب ذلك ذمَّ من لم يحصُل له ذلك من العلماء، بل كل من اتقى الله ما استطاع فهو من أولياء الله المتقين وإن كان قد خَفيَ عليه من الدين ما فَهِمَه غيره، وقد قال واثلة بن الأسقع، وبعضُهم يرفعُه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم: من طلَب علمًا فأدرَكَه فله أجران، ومن طلَب علمًا فلم يُدرِكْه فله أجرٌ رواه الدارميّ [340] والطبرانيّ في الكبير [22/165] من طريق يزيد بن ربيعة: حدثنا ربيعة بن يزيد عن واثلة مرفوعًا بلفظ: "من طلَب العلمَ فأدرَكَه كان له كِفلَان من الأجر، فإن لم يدركه كان له كِفل من الأجر" لفظ الدارميّ، وسنده ضعيف جدًّا، فيه يزيد بن ربيعة، متروك الحديث. لسان الميزان [6/371] وقال الألبانيّ في المشكاة [253]: وسنده ضعيف جدًّا. وأعلَّه بيزيد هذا وهذا يوافق ما في الصحيح عن عمرو بن العاص وعن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر" أخرجه مسلم [1716/ 15] بلفظ: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر" وهذه الأصول لِبَسطِها موضع آخر، وإنما المقصود هنا التنبيه على هذا؛ لأن الطلاق المحرَّم مما يقول فيه كثير من الناس إنه لازم، والسلف(1/303)
أئمة الفقهاء والجمهور يسلِّمون أن النهيَ يقتضي الفساد ولا يذكرون في الاعتذار عن هذه الصورة فرقًا صحيحًا، وهذا مما تسلَّط به عليهم من نازعوهم في أن النهيَ يقتضي الفساد واحتجَّ بما سلَّموه له من الصور، وهذه حجة جدلية لا تفيد العلم بصحة قوله، وإنما تفيد أن منازعيه أخطأوا إما في صور النقض وإما في محل النزاع، وخطأُهم في إحداهما لا يوجب أن يكون الخطأ في محل النزاع، بل هذا الأصل أصل عظيم عليه مدار كثير من الأحكام الشرعية، فلا يمكن نقضه بقول بعض العلماء الذين ليس معهم نص ولا إجماع، بل الأصول والنصوص لا توافق بل تناقض قولهم. فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية كتاب "الطلاق" [33/ 20 ـ 30] بتصرف).
والحق سبحانه وتعالى وصف الزواج بأنه ميثاق غليظ، وذلك في قوله سبحانه: (وإن أردتُّم استبدالَ زوجٍ مكانَ زوجٍ وآتيتم إحداهنَّ قنطارًا فلا تأخذوا منه شيئًا أتأخذونه بهتانًا وإثمًا مُبِينًا. وكيف تأخذونه وقد أفضَى بعضُكم إلى بعض وأَخَذْنَ منكم ميثاقًا غليظًا) (النساء: 20 ـ 21) إن استرداد المهر بعد الدخول بالزوجة إثم وبهتان واضح، وكيف يستحلّ الرجل لنفسه ذلك بعد أن أباح الله للرجل والمرأة عورات كل منهما للآخر!(1/304)
إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يضع القواعد التي تنظم العلاقات الزوجية بما لا يُظلم معها أحد وأن تُحَلَّ المشاكل بأيسر الطرق، إن حلَّ عقدة النكاح يكون بكلمة واحدة، هي الطلاق، ولكن لها تَبِعَات، ورباطُ عقدة النكاح بكلمة واحدة لها تَبِعَات أيضًا، والرجل حين يدخل الزواج بكلمة فإنه لا يدخل إلى دنيا الزواج إلا بعد أن تكون كل أموره مدروسة وأعدَّ عدَّته لذلك، لكن الطلاق حين يتم فالإنسان لا يملك أغيار نفسه، فيشاء الحق سبحانه وتعالى أن يجعل حلَّ العصمة المنعقدة بين الزوجين بأنَاة ورَوِيَّة وصبر واحتمال لعل النفوس تَهدأ ثم تَرضَى، فقال سبحانه وتعالى: (الطلاقُ مرتان فإمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسانٍ) (البقرة: 229).
والناس قد تتصور أن حلف الرجل على زوجته بقوله: أنت طالق بالثلاثة. يعني أنه طلَّقها الطلاق النهائيَّ، لا، لأن الحق يقول: (الطلاقُ مرتان) أي مرة مرة، ثم بعد ذلك (فإمساكٌ بمعروفٍ أو تسريحٌ بإحسانٍ) أي أن للرجل مجالَ اختيار في طلقتَين للمرأة، وأما الطلقة الثالثة فهي حَلٌّ كامل لعقدة النكاح.
لماذا؟
لأن المرأة تَبِين بينونة كبرى.
ويحدد الله سبحانه المسألة في أمرين: الأمر الأول (فإمساكٌ بمعروفٍ) الأمر الثاني (أو تسريحٌ بإحسانٍ) إذًا فالحق سبحانه وتعالى وضع مسافة زمنية بين كل طلقة، فلا يحق للرجل أن يقول للزوجة: أنت طالق بالثلاثة. وتكون بائنةً منه بينونةً كبرى، وإنما له المراجعة بنفسه ما دامت في العدة، فإن تأخر في المراجعة حتى انقضت عدتها فله مراجعتُها بعقد جديد ومهر جديد، وإن وقع طلاق ثالث فقد بانت منه ولا تحلُّ له من بعدُ حتى تَنكِح زوجًا غيره.(1/305)
ولقد أراد عمر بن الخطاب ـ رضي الله تعالى عنه ـ أن يجعل من الطلاق بالثلاثة أمرًا واقعًا ليمنع المسلمين من الاستعجال والعجلة لعلهم يَكُفُّون، لكن الناس لم تَكُفَّ، لذلك فالطلاق مرتان؛ مرة تصح بعدها العودة، ومرة ثانية تصح بعدها العودة ثم على الرجل إما أن يمسك بمعروف أو أن يسرِّح زوجته بإحسان.
الأولى: الطلاق الرجعيّ. واضح من نفس اللفظ، أي أن الزوج له الحق في أن يراجع نفسه ويتراجع عما أتى ويُرجِعَ إليه زوجته إذا لم تَنتهِ شهور العدة.
الثانية: البائن بينونة صغرى. فمعنى ذلك أنه لابد أن يعقد عليها عقدًا جديدًا بمهر جديد، وهذا في حالة انقضاء شهور العدة إذا كان الطلاق رجعيًّا، وكذلك يكون الطلاق بائنًا بينونةً صغرى إذا كان قبل الدخول، وسيأتي الحديث عنه.
الثالثة: وهي البينونة الكبرى ذات الثلاث طلقات. فلا تحلّ له أبدًا حتى تَنكِح زوجًا غيره، بمعنى إذا تزوجت المرأة من غيره زواجًا شرعيًّا دون اتفاق على تحليل وغيره ثم إذا طلقها الثاني حينئذ يمكنها الزواج من الزوج الأول.
الرابعة: وإذا تمرد الرجل على السكن وخرج عن القواعد الشرعية لمراعاة حق الله في المرأة، فإن الحق يضع العقاب الذي يهدّ كبرياء هذا الرجل الذي أساء استخدام الحقوق التي وضعها له الله سبحانه وتعالى. والحق سبحانه وتعالى بذلك يشرع ألَّا تَحلَّ المطلقة ثلاث طلقات لزوجها إلَّا بعد أن ينكحها زوج آخر وأن تذوق عُسيلته ويذوق عُسيلتها، كما أوضح الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، إن في هذا زجرًا ونهيًا عن الطلاق ثلاثًا لمن له رغبة في زوجته؛ لأن الرجل يكره أن يحدُث ذلك مع امرأة يحبها ويرغبها، فإذا طلقها الزوج الثاني فلا بأس أن تقضيَ العدة وتعودَ إلى زوجها الأول إن كان في ظنِّ كلٍّ مهما أن العشرة بالمعروف سوف تتحقق وتعود بينهما.(1/306)
الطلاق قبل الدخول
يقول الحق سبحانه وتعالى: (لا جُناحَ عليكم إن طلَّقتم النساءَ ما لم تَمَسُّوهنَّ أو تَفرِضوا لهنَّ فريضةً ومَتِّعوهنَّ على المُوسِعِ قَدَرُه وعلى المُقتِرِ قَدَرُه متاعًا بالمعروفِ حقًّا على المحسنين) (البقرة: 236).
المرأة غير المدخول بها نوعان؛ فإما أن تكون لم يَدخل بها زوجها ولم يَفرض لها صداقًا، وإما أن يكون الزوج لم يَدخل بها وقد فرَض لها صداقًا، وهذه الآية تعالج اللون الثانيَ، فالزوج قد يطلِّق الزوجة قبل الدخول بها أو قد يَتوفَّاه الله قبل الدخول بها، وهذه الأمور لها أحكام واضحة.
قبل الدخول بالمرأة له حُكمان: إما أن يكون الرجل قد فرَض لها فريضةً، أي قدَّم لها الصداق، أو لم يقدِّم لها صداقًا، وهكذا نعلم أن فَرْضَ الصداق ليس شرطًا في النكاح، فإذا تزوج الرجل بامرأة ولم يَفرض لها صداقًا فإن الذي يَثبُت للزوجة هو مهرُ المِثل، والدليل على ذلك قول الحق سبحانه وتعالى: (لا جناحَ عليكم إن طلَّقتم النساءَ) إن هناك امرأةً قد صارت مطلَّقةً بعد أن كانت في حكم الزوجة. أما قول الحق: (ما لم تَمَسُّوهنَّ أو تَفرِضوا لهنَّ فريضةً) فمعنى ذلك أن عدم الدخول بالزوجة لا يَعُوق أن يَفرِض لها الزوج فريضة، لذلك فإن لم يَفرِض لها فلها مهرُ المِثل.
وإذا تأملنا قول الحق: (ما لم تَمَسُّوهنَّ) فقد نسأل: ما المَسُّ؟
إن المعنى يؤدي إلى اللمس ويؤدي إلى الملامسة، والمَسّ حين تسمعه فقد تسمعه من رجل مَسَّ شيئًا فلا يتأثر هذا الرجل بالشيء الممسوس، فحين يُطلَق فلا بد من الإحساس. أما الملامسة فهي تعني حدوث تداخُل، بمعنى المعاشرة الزوجية. هنا نجد ثلاث مراحل هي:
المرحلة الأولى: وهي المس.
المرحلة الثانية: وهي اللمس.
المرحلة الثالثة: وهي الملامسة.(1/307)
وكلمة "المس" في هذه الآية الكريمة تعني الدخول بالزوجة والوطءَ. ولقد ذكر الحق سبحانه وتعالى الكلمة التي تدل على أخف أنواع اللمس ولم يستخدم كلمة مثل "باشرتم".
ولنا أن نعرف أن هناك سياقًا قرآنيًّا في مكان آخر هو إيضاح لمعنًى يجب أن نفهمه ونحن نتناول هذه الآية بالشرح، ولنفهم كلمة "المس" في هذا القول الكريم (ما لم تَمَسُّوهنَّ أو تَفرِضوا لهنَّ فريضةً) على ضوء ما جاء به القرآن في قصة السيدة مريم (قالت أنَّى يكونُ لي غلامٌ ولم يَمْسَسْني بَشَرٌ ولم أَكُ بَغيًّا) (مريم: 20) إن القرآن الكريم يوضح على لسان السيدة مريم أن أحدًا من البشر لم يتصل بها الاتصال الذي ينشأ عنه غلام، والتعبير في منتهى الدقة، لماذا؟ لأن النص يتعرض لأمر يَخُصّ عورة، فجاء الحق سبحانه بأخف لفظ يدل على هذه الكلمة، فالحق سبحانه وتعالى أراد أن يُثبت للسيدة مريم العفافَ حتى في اللفظ، فلم يقُل على لسانها "لم يُباشرني أحد" أو "لم يُلامسني بشر" لكن المقصود هو المباشرة. وكذلك هنا نجد الأدب القرآنيّ يرتفع بكرامة المرأة فيتناول المسألة التي تَخُصّ العورة بلفظ يؤدي نهاية المفهوم عنه بأخف تعبير.
ويقول الحق سبحانه وتعالى: (وإن طلَّقتموهنَّ من قبلِ أن تَمَسُّوهنَّ وقد فرَضتم لهنَّ فريضةً فنصفُ ما فرَضتم) [البقرة: 237] (أباح تبارك وتعالى طلاق المرأة بعد العقد عليها وقبل الدخول بها، قال ابن عباس وغيره: المسّ النكاح. بل ويجوز أن يطلقها قبل الدخولِ بها والفرضِ لها إن كانت مفوِّضة، وإن كان في هذا انكسار لقلبها، ولهذا أمر تعالى بإمتاعها، وهو تعويضُها عما فاتها بشيء تُعطاه من زوجها بحسب حاله "على المُوسِعِ قَدَرُه وعلى المُقتِرِ قَدَرُه" وقال ابن عباس: متعةُ الطلاق أعلاه الخادمُ، ودون ذلك الوَرِقُ، ودون ذلك الكسوةُ. ومتَّع الحسنُ بن عليٍّ بعشرة آلاف، ويُروَى أن المرأة قالت: متاعٌ قليلٌ من حبيبٍ مفارِقٍ.(1/308)
وقد اختلف العلماء أيضًا: هل تجب المتعة لكل مطلَّقة أو إنما تجب المتعة لغير المدخول بها التي لم يُفرَض لها؟ على أقوال:
أحدها: أنه تجب المتعة لكل مطلقة، لعموم قوله تعالى: "وللمطلَّقاتِ متاعٌ بالمعروفِ حقًّا على المتَّقين" [البقرة: 241] ولقوله تعالى: "يا أيها النبيّ قل لأزواجِك إن كُنتنَّ تُرِدْنَ الحياةَ الدنيا وزينتَها فتَعَالَينَ أُمتِّعْكنَّ وأُسرِّحْكنَّ سَرَاحًا جميلًا" [الأحزاب: 28] وقد كُنَّ مفروضًا لهنَّ ومدخولًا بهنَّ. وهذا قول سعيد بن جبير والحسن البصريّ وهو أحد قولَي الشافعيّ. ومنهم من جعله الجديد الصحيح. فالله أعلم.
الثاني: أنه تجب للمطلَّقة إذا طُلِّقَت قبل المَسيس وإن كانت مفروضًا لها، لقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إذا نكَحتم المؤمناتِ ثم طلَّقتموهنَّ من قبلِ أن تَمَسُّوهنَّ فما لكم عليهنَّ من عدَّةٍ تَعتَدُّونها فمَتِّعوهنَّ وسَرِّحوهنَّ سَرَاحًا جميلًا" [الأحزاب: 49] قال سعيد بن المسيب: نسَخَت هذه الآيةُ التي في الأحزاب التي في البقرة. وقد روى البخاريّ في صحيحه عن سهل بن سعد وأبي أُسَيد أنهما قالا: تزوج الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أُميمة بنت شَراحيل، فلما أُدخلَت عليه بسَط يده إليها، فكأنما كَرِهَت ذلك، فأمَرَ أبا أُسَيد أن يجهِّزها ويَكسُوَها ثوبَين رازِقيَّين أخرجه البخاريّ [5256، 5257]
الثالث: أن المتعة إنما تجب للمطلَّقة إذا لم يَدخُل بها ولم يَفرِض لها، فإن كان قد دخَل بها وجَب لها مهرُ مِثْلِها إذا كانت مفوِّضة، وإن كان قد فرَض لها وطلَّقها قبل الدخول وجَب لها عليه شطرُه، فإن دخَل بها استقرَّ الجميعُ وكان ذلك عوضًا لها عن المتعة، وإنما المُصابة التي لم يُفرَض لها ولم يُدخَل بها فهذه التي دلّت هذه الآية الكريمة على وجوب متعتها، وهذا قول ابن عمر ومجاهد.(1/309)
ومن العلماء من استحبّها لكل مطلَّقة ممَّن عدا المفوِّضة المفارَقة قبل الدخول، وهذا ليس بمنكور، وعليه تُحمل آيةُ التخيير في الأحزاب، ولهذا قال تعالى: "على المُوسِعِ قَدَرُه وعلى المُقتِرِ قَدَرُه متاعًا بالمعروفِ حقًّا على المحسنين" "وللمطلَّقات متاعٌ بالمعروفِ حقًّا على المتقين" ومن العلماء من يقول: إنها مستحَبة مطلقًا. وروَى ابن أبي حاتم عن أبي إسحاق عن الشعبيّ، قال: ذكَروا له المتعة؛ أيُحبَس فيها؟ فقرأ: "على المُوسِعِ قَدَرُه وعلى المُقتِرِ قَدَرُه" قال الشعبيّ: واللهِ ما رأيت أحدًا حبَس فيها، واللهِ لو كانت واجبةً لحبَس فيها القُضاة. عمدة التفسير 2/132: 133).
هناك فرق بين مجرد إجراء عقد الزواج وبين الدخول بالزوجة بعد إجراء العقد، فما دام الزوج لم يتمتع بزوجته ولم يدخل بها فليس لها حق في أن تأخذ المهر كله، وإنما تأخذ فقط نصف المهر تعويضًا عما قد يَلحَق بها من ضرر نتيجةَ عقد القِران وعدمِ إتمام الزواج. ويجب على القوم أن يقرِّروا نصف مهر المِثلِ لمن لم يُسَمَّ لها مهر، إنه متعة مقرَّرة من الحق سبحانه وتعالى للمطلَّقة التي لم يُسَمَّ لها مهر، أما المرأة التي فرَض الرجل لها مهرًا فلها نصف ذلك المهر.
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه: (إلّا أن يَعفُونَ أو يَعفوَ الذي بيدِه عقدةُ النكاحِ وأن تَعفُوا أقربُ للتقوى ولا تَنسَوا الفضلَ بينكم إن اللهَ بما تعملون بصيرٌ) (البقرة: 237).(1/310)
إن العفو هنا يكون بيد المرأة أو بيد الرجل، إن بعض الجهلة يقولون، والعياذ بالله: إن القرآن الكريم فيه لحن. وظنوا أن الصحيح في اللغة أن يأتيَ القول "إلّا أن يَعفوَ" بدلًا من "إلّا أن يَعفُونَ" ولكن هذا اللون من الجهل لا يفرّق بين "واو" الفعل و "واو" الجمع، إنها هنا "واو" الفعل، ولم تسقط النون هنا لأنها ضمير وليست علامة إعراب، فقول الحق: "إلّا أن يَعفُونَ" مأخوذة من الفعل "عفا يعفو" والعفوُ المقصود هنا هو أن تعفوَ المرأة عن النصف المقرَّر لها. ولْنُلاحظْ أن وليَّ المرأة ليس له أن يعفوَ في مسألة مهر المرأة.
لماذا؟
لأن مهر المرأة هو حقها الخالص، إنه مال حلال تمامًا. إن الرزق الحلال تمامًا في حياة الناس هو ثمنُ البُضع، أي المهر، ولذلك يُروَى أن بعض الصالحين حين يتمّ فرضُ صَداق لامرأة منهم فإنهم لا يتصرفون في هذا المهر بل يدخرونه بحيث إذا مرض واحد منهم فإنهم يشترون له الدواء من هذا الصداق؛ لأن هذا هو الرزق الحلال الذي ليس فيه تدليس ولا غش، لذلك تحلّ البركة به. والمرأة المؤمنة التي وهبها الله سعة من الرزق هي وأهلَها إنما تَحتفظ بهذا المهر لتعطيَ منه البركةَ لمن يقَع في ضيق أو مرض.
ولكن لماذا قال الحق: (أو يَعفوَ الذي بيدِه عقدةُ النكاح)؟(1/311)
إن المقصود به هو الزوج، فلا يجعل الأَرْيَحيّة للمرأة فقط ولكن يقرِّرها للرجل أيضًا، فلَا عزمَ على المرأة ولا عزمَ على الرجل، إنما هو الفضل الذي يجب أن يسود العلاقة بين الاثنين إذا حدث طلاق لأيّ سبب، إنه فضل يزرع التراضيَ النفسيَّ والاجتماعيَّ. والفضلُ كما نعرف هو فوق العدل (لذلك كان من دعاء فضيلة الشيخ الإمام: اللهم عامِلْنا بالإحسان لا بالميزان، وبالفضل لا بالعدل، وبالجبر لا بالحساب) والحق سبحانه وتعالى قد وضع في هذه الآيات الحكم بقانون العدل، ولكنه يطلب أن ننظر إلى الأمور بحكم الفضل. وقد ذهب اثنان إلى قاضٍ وقالَا له: احكُم بيننا بالعدل. فقال القاضي: أتريدان أن أحكُم بينكما بالعدل أم بما هو خير من العدل؟ فسأل الرجلان القاضيَ: وهل يوجد خير من العدل؟ قال القاضي: نعم، إنه الفضل. إن العدل يُعطي لكل ذي حق حقَّه، لكن الفضل يجعل صاحبَ الحق يتنازل عن حقه.
إذًا فالتشريع الإلهيّ حينما يضع موازين العدل لا يريد أن يحرم المجتمع الإيمانيَّ من أَرْيَحيّة العدل، لذلك يقول الحق سبحانه: (وأن تَعفُوا أقربُ للتقوى ولا تَنسَوا الفضلَ بينكم إن اللهَ بما تعملون بصيرٌ).
لماذا؟
لأن عملية إقامة العدل وحدها قد تَستبقي المشاحنةَ في النفوس، لكن إقامة الفضل جديرة بأن تُزيل المشاحنة من النفوس تمامًا. إن أيَّ طرفين يقَعان في خلافٍ ما فإن كُلًّا منهما يظن أنه صاحب الحق، ومن الجائز أن يكون لكل منهما ظروف تزيِّن هذا التصور بأنه صاحب الحق، لذلك فحين يتمسك كل منهما بإقامة العدل فقد يصلان إلى هذا العدل، ولكن لن يصل أيٌّ منهما إلى مبلغ التراضي النفسيّ والاجتماعيّ، أما إذا ما قَبِلَ الطرفان إقامةَ الفضل فإن كُلًّا منهما يصل إلى درجة التراضي النفسيّ والاجتماعيّ.(1/312)
لذلك فسياق الآيات يجعلنا نفهم أن على المؤمنين ألّا يَنسَوا الفضل بينهم، وأن يتقابل الرجل والمرأة في العفو، فإن عَفَت المرأة عن النصف الذي لها أو عفَا الرجل عن النصف الذي له كان ذلك أقربَ إلى التقوى، ولذلك يقول الحق عز وجل: (وأن تَعفُوا أقربُ للتقوى ولا تَنسَوا الفضلَ بينكم إن اللهَ بما تعملون بصيرٌ).
لماذا؟
إنه من الجائز جدًّا أن يَظنّ طرف أنه ظالم أو مظلوم ولو أخَذ النصفَ المقرَّرَ له، ولهذا فإن الحق سبحانه وتعالى يقرر أنه من الأسلمِ والأقربِ للتقوى ألّا يأخذ أحدٌ شيئًا من هذا المال. إننا هنا نجد أن الحق يوصي بالفضل في مقام الاختلاف الذي يؤدي إلى أن يفترق رجل عن امرأة لم يدخل بها. الحق سبحانه وتعالى يأمر ألّا نجعل من هذه المواقف إشعالًا لفتنة الحقد أو الكراهية. ولْنَعلَمْ أن بعض الأحداث كالطلاق مثلًا إنما يُقرُّها الحق سبحانه وتعالى كأسباب لمقدور لم يَعلمه البشر، وهذا النوع من التسليم لله هو الذي يحمى الإنسانَ من الوقوع في الاعتقاد الخاطئ بأن أسبابَ الإنسان هي الفاعلة، إنما الأسبابُ كلُّها يُجريها الله سبحانه وتعالى.(1/313)
ويقول الحق سبحانه وتعالى: (ومَتِّعوهنَّ على المُوسِعِ قَدَرُه وعلى المُقتِرِ قَدَرُه متاعًا بالمعروفِ حقًّا على المحسنين) إن الحق يأمر بأحقية المرأة في المتعة إن حدث طلاق قبل الدخول بها أو قبل فرض الصداق (قال العلامة ابن كثير في تأويل قول الله تعالى "وإن طلَّقتموهنَّ من قبلِ أن تَمَسُّوهنَّ.." الآيةِ: هذه الآية الكريمة مما يدل على اختصاص المتعة بما دلّت عليه الآية الأولى، حيث إنما أوجَبَ في هذه الآية نصفَ المهر المفروض إذا طلَّق الزوج قبل الدخول، فإنه لو كان ثَمَّ واجبٌ آخر من متعةٍ لَبَيَّنَها، لا سيما وقد قَرَنها بما قبلها من اختصاص المتعة بتلك الآية، والله أعلم. وتشطيرُ الصداق والحالةُ هذه أمر مُجمَع عليه بين العلماء لا خلاف بينهم في ذلك، فإنه متى كان قد سمَّى لها صداقًا ثم فارَقَها قبل دخوله بها فإنه يجب نصفُ ما سمَّى من الصداق، إلا أن عند الثلاثة أنه يجب جميعُ الصداق إذا خَلَا بها الزوج وإن لم يدخل بها، وهو مذهب الشافعيّ في القديم وبه حكَم الخلفاء الراشدون، لكن روَى الشافعيّ عن ابن عباس أنه قال في الرجل يتزوج المرأة فيخلُو بها ولا يَمَسُّها ثم يطلِّقُها: ليس لها إلا نصفُ الصداق؛ لأن الله يقول: (وإن طلَّقتموهنَّ من قبلِ أن تَمَسُّوهنَّ وقد فرَضتم لهنَّ فريضةً فنصفُ ما فرَضتم) قال الشافعيّ: بهذا أقول، وهو ظاهر الكتاب.
وقوله: (إلّا أن يَعفُونَ) أي النساء عما وجَب لها على زوجها، فلا يجب لها عليه شيء. قال ابن عباس: إلا أن تَعفوَ الثيِّب فتَدَعَ حقَّها. ورُوي عن شُريح وسعيد بن المسيب وعكرمة ومجاهد وقتادة وغيرهم نحوُ ذلك.(1/314)
وقوله: (أو يَعفُوَ الذي بيده عقدةُ النكاح) قال ابن أبي حاتم: ذُكر عن ابن لَهِيعة: حدثني عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده عن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "وليُّ عقدة النكاح الزوجُ". وهكذا أسنده ابن مَرْدَوَيْهِ من حديث عبد الله بن لَهِيعة به. وقد أسنده ابن جرير عن ابن لَهِيعة عن عمرو بن شعيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فذكره ولم يقل "عن أبيه عن جده" فالله أعلم وهكذا ذكَر البيهقيّ في السنن الكبرى [14454] رواية ابن لَهِيعة معلَّقة كما صنع ابن أبي حاتم، ورواية الطبريّ [5355 شاكر] منقطعة. فهو حديث ضعيف على كل حال ثم روَى ابن أبي حاتم عن شُريح قال: سألني عليُّ بن أبي طالب عن الذي بيده عقدةُ النكاح فقلت له: هو وليُّ المرأة. فقال عليٌّ: لا، بل هو الزوج رواه البيهقيّ في السنن الكبرى [14445] والطبريّ في التفسير [5315] ثم نقَل عن سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير ومجاهد والشعبيّ وغيرهم أنه الزوج. قلت: وهذا هو الجديد من قولَي الشافعيّ، ومذهبُ أبي حنيفة وأصحابه والثوريّ، واختاره ابن جرير. ومأخَذُ هذا القول أن الذي بيده عقدةُ النكاح حقيقةً الزوجُ، فإن بيده عَقْدَها وإبرامَها ونَقضَها وانهدامَها، وكما أنه لا يجوز للوليِّ أن يَهَبَ شيئًا من مال المُوَلِّيَةِ للغير فكذلك في الصداق.(1/315)
وقوله: "وأن تَعفُوا أقربُ للتقوى" قال ابن جرير: قال بعضهم: خُوطب به الرجالُ والنساءُ. ورُوي عن ابن عباس قال: أقربُهما للتقوى الذي يعفُو. وكذا رُوي عن الشعبيّ وغيره. وقال مجاهد والنخعيّ والضحاك وغيرهم: الفضلُ هاهنا أن تَعفُوَ المرأة عن شطرها أو إتمامُ الرجلِ الصداقَ لها، ولهذا قال: "ولا تَنسَوا الفضلَ بينكم" أي: الإحسان. قاله سعيد. وقال الضحاك وقتادة والسُّدِّيُّ: المعروف. يعني: لا تُهملوه بينكم. وروَى ابن مَرْدَوَيْهِ عن عليّ بن أبي طالب قال: "لَيَأتيَنَّ على الناسِ زمانٌ عَضُوضٌ، يَعَضُّ الموسِرُ على ما في يده ويَنسَى الفضلَ، وقد قال الله تعالى: "ولا تَنسَوا الفضلَ بينكم" شرارٌ يبايعون كل مضطَّرٍّ، وقد نهى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن بيع المضطَّرٍّ وعن بيع الغَرَر، فإن كان عندك خيرٌ فَعُدْ به على أخيك ولا تَزِدْهُ هلاكًا إلى هلاكه، فإن المسلم أخو المسلم لا يَحزُنُه ولا يَحرِمُه" رواه أحمد في المسند [1/116] وقال الشيخ شاكر [937]: إسناده ضعيف. وأبو داود [3382] بإسناد آخر عن شيخ من بني تميم قال: خطبنا عليٌّ.. فذكر معناه، وضعَّفه الألبانيّ في ضعيف أبي داود [731] عمدة التفسير 2/133 ـ 135) والمتعة هي نصف مهر المثل في هذه الحالة، والمتعة إنما تكون بما يناسب حال الزوج، فالموسِعُ ـ أي الذي وسَّع الله عليه ـ يجب أن يوسِّع في المتعة للزوجة المطلَّقة تطييبًا لخاطرها وجبرًا لوحشة الفِراق، فالموسِعُ هو من أفاض الله عليه في الرزق. وهذه الكلمة من الألفاظ المُوحيَة التي إن نظر الإنسان إليها بدقة فسوف يجد فيها أن الحق يطلب من الإنسان أن يوسِّع حركته في الحياة، وعلى قدر حركتك يكون عطاء الله لك. والقرآن الكريم يقول للإنسان: لقد خلق الله سبحانه لك الأسباب فخُذْ منها ما يوسِّع لك.
وهل رأيتم واحدًا أخَذ بالأسباب ثم أفشَلَه الله؟(1/316)
لا، لا بد أن يُعطيَ اللهُ مَن يأخذ بالأسباب، لكن قد نجد إنسانًا يجتهد وتأتي الأمور كما لا يَشتهي، ورغم ذلك فالقاعدة أن الله تعالى يُعطي على قدر العمل. وقد نجد في بعض الأحيان أن الحق قد يُعطي بلا حساب ليعرف الخلقُ أن للحق طلاقةَ قدرة لا تحكمها الأسباب، ويكون هذا العطاء بلا حسابٍ اختبارًا لمن أعطاه الله هذا الرزق الوفير، وهل يتعامل الإنسان مع هذا الرزق الوفير بما يُرضي اللهَ أم لا، إنه امتحان من الحق للخلق، وذلك آية للخلق في أن يَعرفوا طلاقةَ قدرة الخلاق الأكرم.
إذًا فعلى الموسِعِ أن يُعطيَ متعةً للمطلقة التي لم يدخُل بها على قدر سعة رزقه، والمُقتِرُ عليه أن يُعطيَ متعةً للمطلقة على قدر طاقته. إذًا فنصفُ مهر المثل في حالة الاحتكام إلى العدل أو القضاء، أما في حالة الاحتكام إلى الفضل امتثالًا لأمر الحق "ولا تَنسَوا الفضلَ بينكم" فالمتعةُ على قدر الوُسع والطاقة. إن الحق سبحانه وتعالى حين يطلب حكمًا تكليفيًّا لا يطلب إنفاذ الحكم على المطلوب منه فقط ولكنه يوزع المسؤولية في الحق الإيمانيّ العام، يقول سبحانه: (لا جُناحَ عليكم إن طلَّقتم النساءَ ما لم تَمَسُّوهنَّ أو تَفرِضوا لهنَّ فريضةً ومَتِّعوهنَّ على المُوسِعِ قَدَرُه وعلى المُقتِرِ قَدَرُه متاعًا بالمعروفِ حقًّا على المحسنين) ومعنى ذلك أن المجتمع المؤمن مسؤول عن تنفيذ هذا الحكم الإيمانيّ، ولا بد أن يتكاتف المؤمنون بالله على تنفيذ أمر الله في أن يمتِّع أيُّ رجل زوجتَه التي طلَّقها قبل أن يدخل بها. لقد جاء الأمر بشأن الإمتاع بصيغة الجمع كدليل على ضرورة تكاتف الأمة المؤمنة في إنفاذ أحكام الله، فالمُوسِعُ عليه إمتاعُ الزوجة المطلَّقة التي لم يدخل بها على قدره.(1/317)
وقوله: "المُقتِر" إننا نسمع في بعض الأحيان عن إنسان يمر بشارع فيه محلّ لشواء اللحم، وهذا الإنسان يشمّ رائحة اللحم المشويّ ولا يقدر على أن يشتريَها، وهذه الرائحة هي التي تُسمَّى "قُتَار" لأنه غير قادر على شراء اللحم المشويّ، إذًا فكلمة "مُقتِر" مأخوذة من العجز والقلة (قتَر ـُ قَتْرًا: ضاق عيشه. وعلى عياله: ضيَّق عليهم في النفقة. وفي التنزيل العزيز "والذين إذا أنفَقُوا لم يُسْرِفوا ولم يَقْتُروا" [الفرقان: 67] واللحمُ: انتشر قُتَارُه. وللأسد: وضع له في المصيدة لحمًا يجد قُتَارَه. والشيءَ والأمرَ: لَزِمَه. والشيءَ: ألقاه على قُتْرِه؛ جانبه. و ـ ضَمَّ بعضَه إلى بعض. والدرعَ: جعل لها قَتيرًا؛ مسمارًا.
قَتِرَ البخورُ واللحمُ وغيره قَتَرًا: انتشر قُتَارُه.
أقتَرَ الرجل: ضاق عيشه. وفي التنزيل العزيز "وعلى المُقتِرِ قَدَرُه" والمرأةُ: أحرقَت العود وتبخرَت به. والصائدُ أو الصيدُ: دخل القُتْرة. واللهُ رِزقَ فلان: ضيَّقه. والنارَ: جعلها تدخِّن.
قتَّر على عياله: بَخِلَ وضيَّق عليهم في النفقة. والشواءُ: انتشَر قُتَارُه. ويقال: قتَّر الرجل الشواء: هيَّج قُتَارُه. والصيادُ للأسد: قتَر. والأشياءَ وبَيْنَها: قارَبَ بينها وهيّأها للاستعمال. وفي الحديث عن أنس أن أبا طلحة كان يرمي والنبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقتِّر بين يديه؛ يسوِّي له النصال ويجمع له السهام. وفلانًا: صرَعه على قُتْرِه.
أقتَر الصائد في قُترته: استتر فيها.
تَقاتَرَ القوم: تَخاتَلوا.
تقتَّر فلان: غضب وتهيَّأ للمخاصمة. وللصيدِ: استتر في القُترة ليخدعه ويصيده. وعنه: تنحَّى. وفلانًا: حاول خداعه عن غفلة.
القاتر: الضعيف.
القُتَارُ: دخان ذو رائحة خاصة ينبعث من الطبيخ أو الشواء أو العظم المحروق أو البَخور. المعجم الوسيط 2/741)(1/318)
الطلاق الرجعيّ ليس للإضرار
يقول الحق سبحانه وتعالى: (وإذا طلَّقتم النساءَ فبَلَغْنَ أجَلَهنَّ فأمسِكوهنَّ بمعروفٍ أو سَرِّحوهنَّ بمعروف ولا تُمسِكُوهنَّ ضِرارًا لِتَعتَدُوا ومن يَفعلْ ذلك فقد ظلَم نفسَه ولا تتَّخذوا آياتِ اللهِ هُزُوًا واذكروا نعمةَ اللهِ عليكم وما أنزَلَ عليكم من الكتابِ والحكمةِ يَعِظُكم به واتَّقوا اللهَ واعلَموا أن اللهَ بكل شيءٍ عليمٌ) (البقرة: 231).
معنى هذا أن على الرجل الذي طلّق امرأته وقَرُبَت المرأة من انقضاء فترة عدتها أن يراجع زوجته دون إضرار بها أو أذًى أو أن يتركها فتَنقضيَ عدتُها ويقدر الله لها ما شاء. ولا يجوز للمسلم أن يمسك المرأة فلا يطلقها إلا بعد مرور وقت طويل فيصيبَها الضرر من جرّاء ذلك، فالله سبحانه وتعالى يعطي الرجل الفرصة إما أن يمسك زوجته بمعروف أو يطلقها بإحسان. إن الحق يريد للإنسان أن يتمسك بأمر إبقاء الزواج إلى آخر لحظة؛ لأن الحق يريد أن ينبه إلى أنه يجب أن يتمسك المؤمن باستبقاء الحياة الزوجية إلى آخر فرصة تتسع للإمساك.(1/319)
والحق تبارك وتعالى يقول: (ولا تُمسِكُوهنَّ ضِرارًا لِتَعتَدُوا ومن يَفعلْ ذلك فقد ظلَم نفسَه) يأمر الله الرجلَ بأن يصدُق النية في الاختيار بين إمساك الزوجة أو تسريحها بمعروف، فلا يصح لمسلم أن يعيد زوجته بنية الإضرار بها وطلاقها مرة أخرى لإطالة فترة العدة. وفي ذلك زجر لما كان عليه الناس في الجاهلية حيث كان الزوج يترك زوجته المطلقة حتى تقارب فترة انتهاء العدة فيراجعها ثم يطلقها ثانية للإضرار بها؛ وذلك ليطوِّل عليها فترة العدة لا رغبةً فيها ولكن لإلحاق الضرر بها. إن من يُمسك زوجته للإضرار بها أو ليُكرِهَها على الافتداء فقد ظلم نفسه؛ لأنه يعرِّض نفسه لعذاب الله (قال العلامة ابن كثير في تأويل قول الله تعالى "وإذا طلَّقتم النساءَ فبَلَغنَ أجَلَهنَّ..." الآيةِ: هذا أمر من الله عز وجل للرجال إذا طلق أحدهم المرأة طلاقًا له عليها فيه رجعةٌ أن يُحسن في أمرها إذا انقضت عدتُها ولم يَبقَ منها إلا مقدارُ ما يُمكنه فيه رجعتُها، فإما أن يُمسكها، أي يرتجعها إلى عصمة نكاحه بمعروف، وهو أن يُشهد على رجعتها ويَنويَ عشرتَها بالمعروف، أو يسرِّحَها، أي يتركها حتى تنقضيَ عدتها ويخرجها من منزله بالتي هي أحسن من غير شقاق ولا مخاصمة ولا تقابُح. قال الله تعالى: "ولا تُمسكوهنَّ ضرارًا لِتَعتدُوا" قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وغير واحد: كان الرجل يطلق المرأة فإذا قاربت انقضاءَ العدة راجَعَها ضرارًا لئلَّا تذهب إلى غيره، ثم يطلقها، فتَعتدُّ، فإذا شارفت على انقضاء العدة طلَّق؛ لتطولَ عليها العدة، فنهاهم الله عن ذلك وتوعَّدهم عليه فقال: "ومن يَفعَلْ ذلك فقد ظلَم نفسَه" أي بمخالفته أمر الله تعالى.(1/320)
وقوله تعالى: "ولا تتَّخذوا آياتِ اللهِ هُزُوًا" روَى ابن جرير عن أبي موسى أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ غضب على الأشعريِّين، فأتاه أبو موسى فقال: يا رسول الله، أغَضِبْتَ على الأشعريِّين؟ فقال: "يقول أحدكم: قد طلَّقتُ! قد راجعتُ! ليس هذا طلاقَ المسلمين، طلِّقوا المرأةَ في قُبُل عدَّتها" وفي هذا المعنى ما رواه الطبريّ في التفسير [4925، 4926 شاكر] وابن ماجه [2017] ولفظه: "ما بالُ أقوام يلعبون بحدود الله؟ يقول أحدهم: قد طلقتُكِ! قد راجعتُكِ! قد طلقتُكِ!" وضعّفه الألبانيّ في ضعيف ابن ماجه [440] وقال مسروق: هو الذي يطلق في غير كُنهه ويُضارُّ امرأته بطلاقها وارتجاعها لتطول عليها العدة. وقال الحسن وقتادة وغيرهما: هو الرجل يطلق ويقول: كنت لاعبًا! أو يُعتِقُ أو يَنكِحُ ويقول: كنت لاعبًا! فأنزل الله: "ولا تتَّخذوا آياتِ اللهِ هُزُوًا" فألزَمَ اللهُ بذلك. وروَى ابن أبي حاتم عن عبادة بن الصامت قال: كان الرجل على عهد النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول للرجل: زوجتُك ابنتي. ثم يقول: كنت لاعبًا! ويقول: قد أعتقتُ. ويقول: كنت لاعبًا! فأنزل الله: "ولا تتَّخذوا آياتِ اللهِ هُزُوًا" فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "ثلاثٌ من قالهنَّ لاعبًا أو غير لاعب فهنَّ جائزاتٌ عليه: الطلاق والعَتاق والنكاح" رواه أيضًا ابن المنذر، انظر: الدر المنثور [1/186] ونصب الراية [3/294] والمشهور في هذا الحديث الذي رواه أبو داود والترمذيّ وابن ماجه عن أبي هريرة قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "ثلاثٌ جِدُّهنَّ جِدٌّ وهزلُهنَّ جِدٌّ: النكاح والطلاق والرجعة" وقال الترمذيّ: حسن غريب رواه أبو داود [2194] والترمذيّ [1184] وابن ماجه [2039] من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. وحسنه الألبانيّ في صحيح أبي داود [1920] وانظر الإرواء [1826] وقوله: "واذكُروا نعمةَ الله عليكم" أي في إرساله الرسول بالهدى والبينات إليكم "وما(1/321)
أنزَل عليكم من الكتاب والحكمة" أي السنة "يَعِظُكم به" أي يأمركم وينهاكم ويتوعدكم على ارتكاب المحارم "واتقوا الله" أي فيما تأتون وفيما تَذَرُون "واعلَموا أن اللهَ بكلِّ شيءٍ عليمٌ" أي فلا يخفى عليه شيء من أموركم السرية والجهرية، وسيجازيكم على ذلك. عمدة التفسير 2/121 ـ 122).
إن الحق سبحانه وتعالى يضع أمانة الزواج واستمراره في عنق الرجل، والحق يريد أن يجعل المسائل بين الزوج والزوجة لا تتعدى إلى غير الزوج والزوجة.
لماذا؟
لأن هناك من الأسباب المتواصلة بين الزوج والزوجة ما قد يجعل الواحدَ منهما يَلين جانبُه للآخر، وإن دخل طرف آخر بين الزوجين فقد يحاول هذا الطرف أن يقويَ نزعات الفرقة ولا ينميَ أسباب الوفاق، فالأم إن تدخلت في حياة ابنتها أو ابنها فقد تُصرّ على أن يتمّ الطلاق لأن الأم بظروف حياتها تجهل أية سعادة خفيّة ولو من سبب واحد.
إن الزوج قد يَلين لزوجته لسبب أو لأسباب لا يعرفها أهله، والزوجة قد تَلين لزوجها لسبب أو لأسباب لا يعرفها أهلها؛ لذلك فلا يجب أن يسارع أهل الزوج أو أهل الزوجة في التدخل في الخلاف الزوجيّ لأنه في بعض الأحيان قد يتدخل الأهل وهم غير مدرِكين لِمَا بين الزوجين من علاقات خافية فيحكمون بالتفريق بغير علم.
إن السيولة العاطفية بين الرجل والمرأة قد تتحول إلى نزوع وشوق فيتمّ الصلح، لذلك حرّم الله طلاق المرأة وهي حائض.
لماذا؟
لأن الرجل قد ينظر إلى الحائض على أنها غير مرغوب فيها، لذا كان طلاق السنة أن يطلق الرجل زوجته وهي في طُهر لم يجامعها فيه.
لماذا؟
لأن الرجل إن لم ترغب نفسُه إلى زوجته وهي طاهرة فمعنى ذلك أن بعضًا من أسباب المودة قد انتفى.(1/322)
الحق سبحانه وتعالى يريد أن يحفظ الخلافات بين الزوج والزوجة في إطار علاقة الاثنين بعضهما البعض؛ لأن تدخل طرف من الأطراف الأخرى قد يفسد السيولة العاطفية. ويحرّم الحق أيضًا أن يُمسك الرجل زوجته ابتغاء إحداث الضرر بها أو إذلالها. المرأة هي من خلق الله، واللهُ يحب لخلقه الصيانة، وأنت أيها الرجل مخلوق لله، فإن أعطاك الله الولاية على خلق من خلقه وهي المرأة، فعليك أن تصونها وتحافظ عليها وتطيع الله فيها؛ لذلك يقول الحق: (ولا تُمسِكُوهنَّ ضرارًا لِتَعتَدُوا ومن يَفعلْ ذلك فقد ظلَم نفسَه) ومعنى الضرر أن تصنع شيئًا في ظاهره أنك تريد الخير وفي باطنه أنت تُضمر الشر. ولننظرْ في المثال الذي ضربه لنا الحق سبحانه وتعالى في مسجد الضرار الذي أقامه المنافقون رغبة في التفريق بين المسلمين، هذا المسجد الذي نزل في شأنه قول الحق سبحانه: "والذين اتَّخَذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا وتفريقًا بين المؤمنين وإرصادًا لمن حارَبَ اللهَ ورسولَه من قبلُ ولَيَحلِفُنَّ إن أرَدْنَا إلا الحسنَى واللهُ يَشهَدُ إنهم لكاذبون" (التوبة: 107) فعندما أشرق نور الرسالة المحمدية أعلن أبو عامر الراهب عداءه للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال للرسول صلى الله عليه وسلم: لا أجد قومًا يقاتلونك إلا قاتلناك معهم. وسماه النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أبا عامر الفاسق (سيرة ابن هشام 2/232) وخرج هذا الرجل إلى الشام وأرسل إلى المنافقين ليبنوا مسجدًا، وحاول أبو عامر الفاسق أن يذهب إلى قيصر الروم ليأتيَ بجند لمحاربة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ووجَّهوا الدعوة للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليقيم الصلاة في هذا المسجد وليهزموه فيه، ونزل القرآن الكريم موضحًا حقيقة هذا المسجد، إنه مسجد ضرار، ظاهره العمل الصالح ولكن باطن الهدف هو إنزال الهزيمة برسالة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولذلك أمر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعضًا من أتباعه أن يهدموه،(1/323)
وكان المنافقون قد أقسموا أنهم أقاموا هذا المسجد للخير والإحسان بينما هم أرادوه للمكيدة بالرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه وتفريقًا لكلمة المسلمين (تفسير ابن كثير 2/370 ـ 372) هكذا يكون الضرار.
والاستنباط يؤدي إلى أن البغيَ على الزوجة وإمساكَها رغبة في الإضرار بها إنما هو اعتداء على خلق من خلق الله بزعم الخير، ولكن الباطن شرّ يعاقِب عليه الحقُّ سبحانه وتعالى.
لماذا؟
لأن الذي يفعل ذلك إنما ينطبق عليه أنه يتخذ آيات الله هُزُوًا، والحق سبحانه وتعالى يقول: (ولا تتَّخذوا آياتِ اللهِ هُزُوًا) إن منهج الله هو المنهج الوحيد الذي يحكم حركة الحياة بلا مراوغة ولا مهادنة ولا تجريح ولا تكبُّر ولا افتراء.(1/324)
الرجعة ومن أحق بها
يقول الحق سبحانه وتعالى: (وبُعُولتُهنَّ أحقُّ برَدِّهنَّ في ذلك إن أرادوا إصلاحًا) والبعل هو السيد أو المالك أو الزوج، وكلمة "أحقّ" تفيد شرطية الرّدّ؛ أي أن الله سبحانه هو الذي قرّر أن للرجل المطلِّق أن يُرجِعَ مطلَّقَتَه إلى عصمته ما دامت في عدتها، وليس للزوجة أن تقول لا، وليس لوليّ الزوجة أن يقول لا، فحق الزوج أن يرد زوجته دون اعتراض منها أو من وليِّها إن كان مرادُه بردها الإصلاحَ والخيرَ. لقد جاءت "أحقّ" هنا على غير قياس في أفعال التفضيل؛ لأن الله سبحانه وتعالى يريد أن يمنح الرجلَ المطلِّقَ فرصةَ التفكير والتراجع أثناء العدة. أما إذا انتهت العدة وأراد المطلِّقُ أن يستعيد زوجته فلا بد من عقد زواج جديد ومهر جديد، ولا بد أن يكون للمرأة رأيٌ في ذلك، ولا بد أن يكون لوليِّها أيضًا رأيٌ، ويكون الرأيُ فيه تقدير للظروف.(1/325)
ويقول الحق سبحانه وتعالى: (إن أرادوا إصلاحًا) ذلك لأن إرادة الإصلاح عمل غيبيّ يعتمد على النية، فكأنها تتضمن تهديدًا للرجل والمرأة معًا، إن التشريع يُجيز لهما العودة ولكن بشرط الإصلاح، والإصلاح مسألة خفية محلّها النية، ولذلك فلا بد أن تكون النية هي الإصلاحَ إن أراد الرجل أن يرُدَّ زوجته إلى عصمته، ومن لم يُرِدِ الإصلاح وأراد الضرر فقد استحق عقاب الله وحرَم نفسَه سعادةَ الحياة الزوجية وجعَل أمورَ الأسرة سخريةً واستهزاءً، لذلك يجب أن يأخذ الإنسان هذه الأمور بجدية تَليق بأحكام الله، أما إذا أراد التلاعب قضائيًّا فليَعْلَمْ هذا الإنسان أنه لا ينبغي أن يَستغلَّ القضاء في مسألة تُوقع الضررَ بامرأة هي مخلوقة لله ولا يحب الله الضرر لخلقه، كما أن الإضمار بالضرر فيه خيانة الأمانة، أمانة الله والنفس والإنسان (وقوله: "وبُعُولتُهنَّ أحقُّ برَدِّهنَّ في ذلك إن أرادوا إصلاحًا" أي وزوجها الذي طلقها أحقُّ بردّها ما دامت في عدتها إذا كان مرادُه بردها الإصلاحَ والخير. وهذا في الرجعيات. فأما المطلقات البوائن فلم يكن حال نزول هذه الآية مطلقةٌ بائنٌ، وإنما كان ذلك لما حُصروا في الطلقات الثلاث. فأما حال نزول هذه الآية فكان الرجل أحقَّ برجعة امرأته وإن طلَّقها مائة مرة، فلما قُصروا في الآية التي بعدها على ثلاث طلقات صار للناس مطلقةٌ بائنٌ وغيرُ بائن. وإذا تأملتَ هذا تَبيَّنَ لك ضعفُ ما سلكه بعض الأصوليِّين من استشهادهم على مسألة عود الضمير: هل يكون مخصِّصًا لما تقدمه من لفظ العموم أم لا؟ بهذه الآية الكريمة، فإن التمثيل بها غير مطابق لما ذكروه. والله أعلم. عمدة التفسير 2/110 ـ 111).(1/326)
عَضلُ النساء وتحريمُ ذلك
يقول الحق سبحانه وتعالى: (وإذا طلَّقتم النساءَ فبَلَغْنَ أجَلَهنَّ فلا تَعْضُلوهنَّ أن يَنكِحْنَ أزواجَهنَّ إذا تَراضَوا بينهم بالمعروفِ ذلك يُوعَظُ به من كان منكم يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ ذلكم أزكَى لكم وأطهَرُ واللهُ يَعلمُ وأنتم لا تَعلمون) (البقرة: 232).
قوله: (فبَلَغْنَ أجَلَهنَّ) أي انتهت العدة ولم يَستنفد الزوج مراتِ الطلاق ولم يعُد للزوج حقٌّ في أن يراجعها إلا بعقد جديد ومهر جديد، وفي هذه الحالة قد يتدخل أهل اللَّدَدِ والخصومة من الأقارب ويقفون في وجه إتمام الزواج، والزوجان ربما كان كل منهما يميل إلى الآخر وبينهما سيال عاطفيّ ونفسيّ لا يعلمه أحد، لكن الذين دخلوا في الخصومة من الأهل يقفون في وجه عودة الأمور إلى مجاريها خوفًا من تكرار ما حدث أو لأسباب أخرى. ونقول لهؤلاء: ما دام الزوجان قد تَراضيَا على العودة فلا يصح أن يقف أحد في طريق عودة الأمور إلى ما كانت عليه.
وقوله تعالى: (فلا تَعضُلُوهنَّ) والكلام للأهل والأقارب وكل من تَهُمّه مصلحةُ الطرفين من أهل المشورة الحسنة، والعَضلُ: المَنعُ (أن يَنكِحْنَ أزواجَهنَّ) أي الذين طلَّقوهنَّ أولًا، والمعنى: لا تمنعوا الأزواج أن يعيدوا إلى عصمتهم زوجاتهم اللائي طلَّقوهنَّ من قبلُ. وليعلم الأهل الذين يُصرّون على منع بناتهم من العودة لأزواجهنَّ أنهم بالتمادي في الخصومة يمنعون فائدة التدرّج في الطلاق التي شرعها الله سبحانه وتعالى، إن حكمة التشريع في جعل الطلاق مرةً ومرتين هي أن من لم يصلُح في المرة الأولى قد يصلُح في المرة الثانية، وإذا كان الله العليم بنفوس البشر قد شرَع لهم أن يطلِّقوا مرة ومرتين وأعطَى فسحةً من الوقت لمن أخطأ في المرة الأولى ألَّا يخطئ في الثانية لذلك فلا يصح أن يقف أحد حَجَرَ عَثرةٍ أمام إعادة الحياة الزوجية من جديد.(1/327)
وقوله سبحانه: (أن يَنكِحنَ أزواجَهنَّ) ونَلحَظ هنا أن الحق سبحانه وتعالى ينسُب النكاح للنسوة، فقال: (يَنكِحنَ) وهذا يقتضي رضاء المرأة عن العودة للزوج، فلا يمكن أن يطلقها أولًا ثم لا يكون لها رأيٌ في العودة إليه.
وقوله سبحانه: (إذا تَراضَوا بينهم بالمعروف) وما داموا تَراضَوا ورأَوا أن عودة كلٍّ منهما للآخر أفضلُ فليبتَعِدْ أهل السوء الذين يقفون في وجه رضا الطرفين وليتركوا الحلال يعود إلى مجاريه.
وقوله سبحانه: (ذلك يُوعَظُ به من كان منكم يؤمنُ باللهِ واليوم الآخرِ ذلكم أزكَى لكم وأطهَرُ) إن هذا تشريع ربِّكم، وهو موعظة لكم يا من تؤمنون بالله ربًّا حكيمًا مشرِّعًا وعالمًا بنوازع الخير في نفوس البشر.
وقوله سبحانه: (وأطهَرُ) يَلفتنا إلى حرمة الوقوف في وجه المرأة التي تريد أن ترجع لزوجها الذي طلَّقها وانتهت عدَّتُها ثم أراد هو أن يتزوجها من جديد.
وقوله سبحانه: (واللهُ يَعلمُ وأنتم لا تَعلمون) أي إن الله يَعلم أن في عودة الأمور لمجاريها بين الزوجين أزكَى وأطهَرَ وأنتم لا تَعلمون.
وقد جاء في الخبر أن الصحابيّ الجليل مَعقِل بن يسار كانت له أخت تزوَّجها رجل من المسلمين، ودبّ الخلاف بين الزوجين، فطلَّقها الرجل وعادت أخت مَعقِل إلى بيت أخيها، ومرت فترة العدة دون أن يراجعها زوجها، وأراد الزوج أن يسترجع زوجته وأرادت المطلقة أن تعود إلى زوجها، ودقّ الزوج بابَ معقل بن يسار يخطب زوجته المطلقة منه من جديد، لكن أخاها معقل قال للزوج: يا لُكَعُ يا لَئيمُ، أكرمتُك وزوَّجتُك فطلَّقتَها، واللهِ لا تَرجِعُ إليك أبدًا.(1/328)
وكان الحق سبحانه يعلم شوقَ الرجل لمطلَّقته ورغبةَ المرأة في العودة إلى بيتها وزوجها، فنزل قول الحق: (وإذا طلَّقتم النساءَ فبَلَغنَ أجَلَهنَّ فلا تَعضُلُوهنَّ أن يَنكِحنَ أزواجَهنَّ إذا تَراضَوا بينهم بالمعروفِ) (قال العلامة ابن كثير: قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في الرجل يطلق امرأته طلقة أو طلقتين، فتنقضيَ عدتُها، ثم يبدو له أن يتزوجها وأن يراجعها وتريد المرأة ذلك، فيمنعها أولياؤها من ذلك، فنهى الله أن يمنعوها. وكذا قال مسروق وإبراهيم النخعيّ والزهريّ والضحاك إنها أنزلت في ذلك. وهذا الذي قالوه ظاهر من الآية، وفيها دلالة على أن المرأة لا تملك أن تزوج نفسَها، وأنه لا بد في النكاح من وليّ، كما قاله الترمذيّ وابن جرير عند هذه الآية، كما جاء في الحديث: "لا تزوِّج المرأةُ المرأةَ، ولا تزوِّج المرأةُ نفسَها، فإن الزانية هي التي تزوِّج نفسَها" رواه ابن ماجه [1882] وضعفه البوصيريّ في الزوائد [672] من أجل جميل بن الحسن العتكيّ شيخ ابن ماجه. قال الشيخ شاكر: والحق أنه ثقة، وقد أخطأ من تكلم فيه. ووثّقه ابن حبان وابن خزيمة وغيرهما. وأخرج له ابن خزيمة هذا الحديث كما في نصب الراية [3/188] وكذلك رواه الدارقطنيّ [3499، 3500، 3501] من طريقه. ثم هو لم ينفرد به، فقد رواه الدارقطنيّ أيضًا من طريق صحيح مرفوعًا ومن طرق أخرى موقوفًا، والموقوف يُثبت صحة المرفوع ويؤيده. وكذلك رواه البيهقيّ في السنن الكبرى [13632، 13633، 13634، 13635] من طرق، ومنها طريق ابن خزيمة. وصححه الألبانيّ في صحيح ابن ماجه [1527] دون جملة "الزانية" وانظر الإرواء [1841] وفي الأثر الآخر: "لا نكاح إلا بوليٍّ مُرشدٍ وشاهدَيْ عدل" رواه البيهقيّ في السنن الكبرى [13725] من رواية الإمام الشافعيّ، وروَى معناه قبل ذلك من وجه آخر [13716] وفي هذه المسألة نزاع بين العلماء محرَّر في موضعه من كتب الفروع.(1/329)
وقد رُويَ أن هذه الآية نزلت في مَعقِل بن يسار المُزَنيّ وأخته، فروَى الترمذيّ عن مَعقِل بن يسار أنه زوَّج أخته رجلًا من المسلمين على عهد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكانت عنده ما كانت، ثم طلقها تطليقة، لم يراجعها حتى انقضت العدة، فهَوِيَها وهَوِيَتْه، ثم خطبها مع الخطاب، فقال له: يا لُكَعُ! أكرمتُك بها وزوجتُكها فطلَّقتَها، واللهِ لا تَرجِعُ إليك أبدًا آخرَ ما عليك. قال: فعَلِمَ اللهُ حاجته إليها وحاجتَها إلى بعلها فأنزل الله: "وإذا طلَّقتم النساءَ فبَلَغْنَ أجَلَهنَّ فلا تَعْضُلوهنَّ أن يَنكِحْنَ أزواجَهنَّ إذا تَراضَوا بينهم بالمعروفِ ذلك يُوعَظُ به من كان منكم يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ ذلكم أزكَى لكم وأطهَرُ واللهُ يَعلمُ وأنتم لا تَعلمون" فلما سمعها معقل قال: سَمْعٌ لربي وطاعةٌ. ثم دعاه فقال: أزوِّجُك وأُكرِمُك. زاد ابن مَردَوَيْهِ: وكفَّرتُ عن يميني رواه الترمذيّ [2981] وقال: حديث حسن صحيح. وصحّحه الألبانيّ في صحيح الترمذيّ [2382] وزيادة ابن مَرْدَوَيْهِ روَى البيهقيّ معناها في روايته [13596]: فكفَّرتُ عن يميني فأنكحتها. والحديث أخرجه البخاريّ أيضًا مطولًا ومختصرًا [4529، 5130، 5331] وذكره الحافظ ابن كثير هنا من الرواية المختصرة مع إشارته لإسنادَيه، ثم ذكر أنه رواه أبو داود وابن ماجه وابن أبي حاتم وابن جرير. وقال الترمذيّ بعد روايته: وفي هذا الحديث دلالة على أنه لا يجوز النكاح بغير وليّ؛ لأن أخت معقل بن يسار كانت ثيّبًا، فلو كان الأمر إليها دون وليِّها لزوَّجَت نفسَها ولم تَحتَجْ إلى وليِّها معقل بن يسار، وإنما خاطب اللهُ في هذه الآية الأولياءَ فقال: "فلا تَعضُلُوهنَّ أن يَنكِحنَ أزواجَهنَّ" ففي هذه الآية دلالة على أن الأمر إلى الأولياء في التزويج مع رضاهنَّ. وقال الطبريّ في تفسيره [2/488]: وفي هذه الآية الدلالة الواضحة على صحة قول من قال: لا نكاح إلا بوليٍّ من(1/330)
العَصَبة. وذلك أن الله تعالى ذِكْرُه منَع الوليَّ من عَضلِ المرأة إن أرادت النكاح ونهاه عن ذلك، فلو كان للمرأة إنكاحُ نفسها بغير إنكاح وليِّها إياها أو كان لها تَولِيةُ من أرادت تَولِيتَه في إنكاحها لم يكن لنهي وليِّها عن عَضلِها معنًى مفهومٌ، إذ كان لا سبيل له إلى عَضلِها؛ وذلك أنها إن كانت متى أرادت النكاح جاز لها إنكاحُ نفسها أو إنكاحُ من تُوكِّله بإنكاحها فلا عَضْلَ هنالك لها من أحد فيَنهَى عاضلَها عن عضلها.
قال الشيخ أحمد شاكر: وهذا الذي قاله الترمذيّ وابن جرير بَدَهيّ واضح من معنى الآية وفقهها، لا يخالف في ذلك إلا جاهل أو ذو هوًى وعصبيةٍ جامحة. ثم الذي لا يشُكّ فيه أحد من أهل العلم بالحديث أن حديث "لا نكاح إلا بوليٍّ" حديث صحيح ثابت بأسانيد تكاد تبلُغ مبلَغَ التواتر المعنويّ الموجِبِ للقطع بمعناه، وهو قول الكافة من أهل العلم الذي يؤيده الفقه في القرآن، ولم يخالف في ذلك ـ فيما نعلم ـ إلا فقهاءُ الحنفية ومَن تابَعَهم وقلَّدهم، وقد كان لمتقدِّميهم بعضُ العذر، لعله لم يَصِلْ إليهم إذ ذاك بإسناد صحيح، أما متأخروهم فقد ركبوا رءوسهم وجَرَفَتهم العصبية فذهبوا يذهبون كل مذهب في تضعيف الروايات أو تأويلها دون حجة أو دون إنصاف. وها نحن أُولاءِ ـ في كثير من بلاد الإسلام التي أخَذَت بمذهب الحنفية في هذه المسألة ـ نرى آثار تدمير ما أخَذوا به للأخلاق والآداب والأعراض، مما جعل أكثر أنكحة النساء اللاتي يَنكِحنَ دون أوليائهنَّ أو على الرغم منهم أنكحةً باطلةً شرعًا تضيع معها الأنساب الصحيحة.(1/331)
وأنا أُهيب بعلماء الإسلام وزعمائه في كل بلد وكل قطر أن يعيدوا النظر في هذه المسألة الخطيرة، وأن يرجعوا إلى ما أمر الله به ورسوله، من شرط الوليِّ المُرشِد في النكاح، حتى نتفادى كثيرًا من الأخطار الخُلُقية والأدبية التي يتعرض لها النساء بجهلِهِنَّ وتَهَوُّرِهنَّ، وباصطناعهنَّ الحرية الكاذبة، وباتباعهنَّ للأهواء، وخاصة الطبقة المنهارة منهنَّ، طبقة المتعلمات، مما يملأ القلب أسفًا وحزنًا، هدانا الله لشرعة الإسلام ووقانا سوء المنقلب انظر: فصل "الولاية في الزواج" من كتاب "أحكام الأسرة والبيت المسلم" لفضيلة الشيخ الإمام، وهو من منشورات مكتبة التراث الإسلاميّ وهكذا ذكر غير واحد من السلف أن هذه الآية نزلت في معقل بن يسار وأخته. وقال السُّدِّيُّ: نزلت في جابر بن عبد الله وابنة عمٍّ له. والصحيح الأول والله أعلم.
قوله: "ذلك يُوعَظُ به" أي هذا الذي نهيناكم عنه من منع الولايَا أن يَتزوَّجنَ أزواجَهنَّ إذا تَراضَوا بينهم بالمعروف يأتمر به ويَتَّعظُ به ويَنفعلُ له "من كان منكم" أيها الناس "يؤمنُ بالله واليوم الآخر" أي يؤمن بشرع الله ويخاف وعيد الله وعذابه في الدار الآخرة وما فيها من الجزاء "ذلكم" أي اتِّباعكم شرع الله في ردِّ المُوَلِّيَات إلى أزواجهنِّ وتركِ الحميَّة في ذلك "أزكى لكم وأطهرُ" لقلوبكم "واللهُ يعلمُ" أي من المصالح فيما يأمر به ويَنهَى عنه "وأنتم لا تعلمون" أي الخِيَرة فيما تأتون ولا فيما تَذَرُون. عمدة التفسير 2/ 122 ـ 125) إن الحق سبحانه أراد بهذا القول الحكيم ألّا يَعضُلَ أحدٌ من أهل الزوجةِ أو الزوجِ أمرَ الزواج واستمراريتَه بعد حدوث الطلقة الأولى أو الثانية رغم نهاية فترة العدة. وعندما سمع معقل بن يسار هذا القول الحكيم قال لزوج أخته: سمعًا لربي وطاعةً، أزوِّجُك وأكرِمُك. ودعا زوجَ أخته يَسترجعها ويَعقد عقدًا جديدًا.(1/332)
إن الحق سبحانه وتعالى يأمر أهل الزوجة ألّا يمنعوا المطلَّقات من العودة لأزواجهنَّ إذا صلَحَت الأحوال بين الزوجَين، وظهَرَت أمَارات الندم، ورَضيَ كلٌّ منهما بالعودة لصاحبه والسيرِ بما يُرضي اللهَ سبحانه وتعالى. ومن رحمة الحق أن جعَل الطلاقَ مراحلَ. وليس لأحد أن يتدخل في الخصومة بين الزوجين أو أن يُصرَّ على موقفٍ أراد المطلِّق أو المطلَّقة أن يَرجِعَا فيه، فالحق سبحانه وتعالى هو الذي يعلم أن الطلاق ليس تهذيبًا للزوجة فقط ولكن هو تأديب للرجل أيضًا، فمن يتأدب ويَحُسّ بفراغ حياته بعد أول طلاق له الحقُّ أن يعود إلى زوجته في فترة العدة أو بعد انتهائها بالشروط الواضحة، ومن يتأدب بالطلاق الثاني ويرغب رغبة أكيدة في العودة إلى زوجته وأن تعود له زوجته فيجب ألَّا يُعضَلَ بمَنع أهلها من هذه العودة.(1/333)
عدّة النساء
السؤال: ما المقصود بالعدّة؟ وما أحكامها؟ وما الحكمة منها؟ وما أنواعها؟
الجواب: يقول الحق سبحانه وتعالى: (والمطلَّقاتُ يَتربَّصنَ بأنفسِهنَّ ثلاثةَ قُرُوءٍ ولا يَحِلُّ لهنَّ أن يَكتُمْنَ ما خلَق اللهُ في أرحامِهنَّ إن كُنَّ يُؤمِنَّ باللهِ واليومِ الآخرِ) (البقرة: 228) هذه الآية الكريمة تبدأ بحكم تكليفيّ، وإن لم يَرِدْ هذا الحكم التكليفيّ بصيغة الأمر ولكن جاء في صيغة الخبر، إذ يقول سبحانه وتعالى: (والمطلَّقاتُ يَتربَّصنَ بأنفسِهنَّ ثلاثةَ قُرُوءٍ) والحق تبارك وتعالى حين يريد حكمًا لازمًا لا يأتي له بصيغة الأمر الإنشائيّ، إنما يورد الله الحكم بصيغة الخبر، هذا آكَدُ وأوثَقُ للأمر. كيف؟(1/334)
الحق سبحانه وتعالى حين يأمر فالأمر يصادف من المؤمنين بالله امتثالًا، ويطبَّق الامتثال في كل الجزئيات حتى لا تَشِذّ عنه حالة من الحالات، فصار واقعًا يُحكَى وليس تكليفًا يُطلَب، وما دام قد أصبح الأمر واقعًا يُحكَى فكأن المسألة أصبحت تاريخًا يُروَى، هو (والمطلَّقاتُ يَتربَّصنَ بأنفسِهنَّ ثلاثةَ قُرُوءٍ) ويجوز أن نأخذ الآية على معنًى آخرَ هو أن الله تعالى قد قال: (والمطلَّقاتُ يَتربَّصنَ بأنفسِهنَّ) فيكون كلامًا خبريًّا. وانظر إلى قول الحق سبحانه: (الخبيثاتُ للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيِّباتُ للطيِّبين والطيِّبون للطيِّبات أولئك مبرَّؤون مما يقولون لهم مغفرةٌ ورزقٌ كريمٌ) (النور: 26) إن هذا وإن كان كلامًا خبريًّا لكنه تشريع إنشائيّ، يَحتمل أن تُطيعَ وأن تَعصيَ، ولكن الله يطلب منّا أن تكون القضية هكذا (الخبيثات للخبيثين) يعني أن ربكم يريد أن تكون الخبيثات للخبيثين وأن تكون الطيبات للطيبين، وليس معنى ذلك أن الواقع لا بد أن يكون كما جاء في الآية، إنما الواقع يكون كذلك لو نفّذنا كلام الله، وسيختلف إذا عصينا الله وتمرّدنا على شرعه. هذا الواقع الخبريّ فيه أيضًا تكليف إيمانيّ، إنه تكليف بأن يتجه الإنسان إلى الإيمان، فهذا طيّب يتزوج على منهج الله من طيّبة، وإن كان الإنسان عاصيًا لله فهو يتجه إلى مثله. إن الواقع الخبريّ يتضمن تكليفًا إيمانيًّا، وهكذا نجد أن الحق حين قال: (والمطلَّقاتُ يَتربَّصنَ بأنفسِهنَّ ثلاثةَ قُرُوءٍ) فهذا الخبر هو واقع تكليفيّ، والتربّص يعني الانتظار، واستخدم الحق كلمة "التربص" بما فيها من صراع وانتباه ولم يقل الحق سبحانه "يَنتَظرْنَ" لأن الانتظار قد لا يحمل هذه القوة من الصراع.(1/335)
إن المطلقة تَحُسّ بشكل أو بآخر أنها مزهود فيها، ويريد لها الحق أن تتربص أيام العدة حتى تنتهيَ هذه الأيام ويأتيَ لها من يرغب فيها فيتزوجَها، فتستردَّ كبرياءها الذي أهدره رجل من قبلُ، وحتى يشعر الرجل المطلِّق أن المرأة ليست مزهودًا فيها كما تخيَّل ولكنها مرغوبة أيضًا. والتربص يعني أيضًا أن النفس الواعية المكلَّفة بأوامر الله تدخل في صراع مع النفس الأمَّارة بالسوء، ولا بد أن تنتصر المرأةُ المؤمنةُ المطلَّقةُ لنفسها الواعيةُ على النفس الأمَّارة بالسوء لتنال ثواب طاعة الله وليَجزيَها الله خيرًا مما سبق.
وحين يأمر الله سبحانه أن تتربص المطلَّقة ثلاثة قُروء فمعنى ذلك أن تتربص بنفسها زمانًا هو ثلاثة أطهار متوالية. وقُرُوء جمع قُرْء، والمقصود به المسافة بين الحيضة والحيضة، والعلة في ذلك هو إبراء الرحم، وأيضًا إعطاء مهلة نفسية للرجل والمرأة، فمن الممكن أن تحدث المراجعة. إنها معرفة الخالق بالخلق التي تجلَّت في أن تكون العدة لثلاثة أطهار وذلك لإعطاء الفرصة للمراجعة بين الزوجين ولاستبراء الرحم في حالة عدم المراجعة وصيرورة الطلاق بائنًا؛ ذلك أن الحمل لا يكون مؤكدًا إلا بعد ثلاث حيضات، والحامل لا تحيض عادةً، وإن حاضت فإن ذلك يكون مرة أو مرتين لا أكثر، والعلم لا يتيقن من الحمل إلا في الشهر الثالث عندما يثبُت أن هناك جنينًا قد بدأ يملأ تجويف الرحم بما يمنع الحيض (قال العلامة ابن كثير في تأويل قول الله سبحانه وتعالى "والمطلَّقاتُ يَترَبَّصنَ بأنفسِهنَّ.." الآيةِ: هذا أمر من الله سبحانه وتعالى للمطلقات المدخولِ بهنَّ من ذواتِ الأقراء بأن يَترَبَّصنَ بأنفسهنَّ ثلاثةَ قُرُوء، أي بأن تمكُث إحداهنَّ بعد طلاق زوجها لها ثلاثةَ قُروء ثم تتزوجَ إن شاءت.(1/336)
وقد أخرج الأئمة الأربعة من هذا العمومِ الأمَةَ إذا طُلِّقَت فإنها تَعتدُّ عندهم بقُرْأَينِ؛ لأنها على النصف من الحرة، والقُرء لا يَتبعَّض، فكُمِّل لها قُرْآنِ. وهكذا رُويَ عن عمر بن الخطاب، قالوا: ولم يُعرف بين الصحابة خلاف. وقال بعض السلف: بل عدَّتُها كعدَّة الحرَّة، لعموم الآية، ولأن هذا أمر جِبِليٍّ، فكان الحرائر والإماء في هذا سواءً. حكى هذا القولَ الشيخُ أبو عمر بن عبد البر عن محمد بن سيرين وبعض أهل الظاهر وضعَّفه.
وقد اختلف السلف والخلف والأئمة في المراد بالأقراء؛ ما هو؟ على قولين:
أحدهما: أن المراد بها الأطهار. وقال مالك في الموطأ عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أنها انتقلت حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر حين دخلت في الدم من الحيضة الثالثة. قال الزهريّ: فذكرتُ ذلك لعَمرة بنت عبد الرحمن فقالت: صدق عروة، وقد جادَلَها في ذلك ناس فقالوا: إن الله تعالى يقول في كتابه (ثلاثةَ قُرُوء) فقالت عائشة: صدقتم، وتَدْرُون ما الأقراء؟ إنما الأقراءُ الأطهارُ. وقال مالك عن ابن شهاب: سمعت أبا بكر بن عبد الرحمن يقول: ما أدركت أحدًا من فقهائنا إلا وهو يقول ذلك. يريد قول عائشة. وقال مالك عن نافع عن عبد الله ابن عمر أنه كان يقول: إذا طلق الرجل امرأته فدخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد بَرِئَت منه وبَرِئَ منها. وقال مالك: وهو الأمر عندنا. ورُويَ مثلُه عن ابن عباس وزيد بن ثابت وسالم والقاسم وعروة وأبي بكر بن عبد الرحمن وقتادة والزهريّ وبقية الفقهاء السبعة وغيرهم. وهو مذهب مالك والشافعيّ وغير واحد، وداود وأبي ثور. وهو رواية عن أحمد.(1/337)
والثاني: أن المراد بالأقراء الحيضُ، فلا تَنقضي العدة حتى تَطهُرَ من الحيضة الثالثة. زاد آخرون: وتَغتسل منها. قال الثوريّ عن منصور عن إبراهيم عن علقمة قال: كنا عند عمر بن الخطاب فجاءته امرأة فقالت: إن زوجي فارَقَني بواحدة أو اثنتَين، فجاءني وقد نزعتُ ثيابي وأغلقتُ بابي! فقال عمر لعبد الله، يعني ابن مسعود: أُراها امرأتَه ما دون أن تَحِلَّ لها الصلاة. قال: وأنا أرى ذلك. وهكذا رُويَ عن أبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعليّ وأبي الدرداء وعبادة بن الصامت وأنس بن مالك وابن مسعود ومعاذ وأُبَيّ بن كعب وأبي موسى الأشعريّ، وسعيد بن المسيب وعلقمة والأسود وإبراهيم ومجاهد وعطاء وطاووس وسعيد بن جبير وعكرمة ومحمد بن سيرين والحسن وقتادة والشعبيّ وغيرهم ـ أنهم قالوا: الأقراء الحيض. وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه، وأصحّ الروايتَين عن الإمام أحمد بن حنبل، وحكَى عنه الأثرم أنه قال: الأكابر من أصحاب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقولون: الأقراء الحيض. وهو مذهب الثوريّ والأوزاعيّ وابن أبي ليلى وابن شُبرُمة والحسن بن صالح وأبي عبيد وإسحاق بن راهَوَيه. ويؤيد هذا ما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود والنسائيّ من طريق المنذر بن المغيرة عن عروة بن الزبير عن فاطمة بنت أبي حُبيش أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لها: "دَعِي الصلاة أيامَ أقرائك" فهذا لو صَحَّ لكان صريحًا في أن القُرْءَ هو الحيض، ولكن المنذر هذا قال فيه أبو حاتم: مجهول ليس بمشهور. وذكره ابن حبان في الثقات هكذا قال أبو حاتم في المنذر بن المغيرة، كما روَى عنه ابنُه في الجرح والتعديل [4/1/242] ولكن ذكره ابن حبان في الثقات كما قال الحافظ ابن كثير [1/256] وأَزِيدُ على ذلك أن البخاريّ ترجم له في الكبير [4/1/357] فلم يذكر فيه جرحًا، فهو عنده معروف وثقة، وهذا كافٍ في قبول روايته وصحتها وقال ابن جرير: أصل القُرْءِ في كلام العربِ الوقتُ لمجيء الشيءِ(1/338)
المعتادِ مجيئُه في وقت معلوم ولإدبار الشيءِ المعتادِ إدبارُه لوقت معلوم. وهذه العبارة تقتضي أن يكون مشتركًا بين هذا وهذا، وقد ذهب إليه بعض الأصوليِّين. والله أعلم.
وهذا قول الأصمعيِّ؛ أن القُرْءَ هو الوقت. وقال أبو عمرو بن العلاء: العرب تسمِّي الحيضَ قُرْءًا، وتسمِّي الطُّهرَ قُرْءًا، وتسمِّي الطُّهر والحيض جميعًا قُرْءًا. وقال الشيخ أبو عمر بن عبد البر: لا يختلف أهل العلم بلسان العرب والفقهاء أن القُرْءَ يراد به الحيضُ ويراد به الطُّهرُ، وإنما اختلفوا في المراد من الآية؛ ما هو؟ على قولين.
وقوله: (ولا يَحِلُّ لهنَّ أن يَكتُمْنَ ما خلَق اللهُ في أرحامِهنَّ) أي من حَبَلٍ أو حيض. قاله ابن عباس وابن عمر ومجاهد وغير واحد.
وقوله: (إن كُنَّ يُؤمِنَّ باللهِ واليومِ الآخرِ) تهديد لهنَّ على قولِ خلافِ الحق، ودل هذا على أن المرجع في هذا إليهنَّ، لأنه أمر لا يُعلم إلّا من جهتهنَّ ويتعذر إقامة البينة غالبًا على ذلك، فرَدَّ الأمرَ إليهنَّ، وتُوُعِّدْنَّ فيه لئلَّا تُخبِرنَ بغير الحق، إما استعجالًا منها لانقضاء العدة أو رغبةً منها في تطويلها لما لها في ذلك من المقاصد، فأُمِرَت أن تُخبر بالحق في ذلك من غير زيادة ولا نقصان. عمدة التفسير 2/ 108 ـ 110).(1/339)
عدة الحامل
لكن إذا كانت المرأة غير المتوفَّى عنها زوجُها حاملًا فعدتُها بعد وضع المولود ولو بلحظة، لماذا؟ لأن العدة في هذه الحالة مرتبطة باستبراء الرحم فقط. أما المرأة الحامل المتوفَّى عنها زوجُها فعدتُها أبعدُ الأجلَين؛ فإن كان الأجلُ الأبعدُ هو أربعةَ أشهر وعشرًا فتلك عدتُها، وإن كان الأجلُ الأبعدُ هو الحملَ فعدتُها أن ينتهيَ الحمل (وقوله تعالى: "وأُولاتُ الأحمالِ أجلُهنَّ أن يَضَعنَ حَملَهنَّ" يقول تعالى: ومن كانت حاملًا فعدتها بوضعه ولو كان بعد الطلاق أو الموت بفَوَاق ناقة. في قول جمهور العلماء من السلف والخلف، كما هو نص هذه الآية الكريمة وكما وردت به السنة النبوية، وقد رُوي عن عليّ وابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ أنهما ذهَبَا في المتوفَّى عنها زوجها أنها تَعتدُّ بأبعد الأجلَين من الوضع أو الأشهر عملًا بهذه الآية والتي في سورة البقرة. وروى البخاريّ [4909] عن يحيى قال: أخبرني أبو سلمة قال: جاء رجل إلى ابن عباس، وأبو هريرة جالس، فقال: أَفتِني في امرأة وَلَدَت بعد موت زوجها بأربعين ليلة. فقال ابن عباس: آخرُ الأجلَين. قلت أنا: "وأُولاتُ الأحمالِ أجلُهنَّ أن يَضَعنَ حَملَهنَّ" قال أبو هريرة: أنا مع ابن أخي. يعني أبا سلمة، فأرسل ابن عباس غلامه كُرَيبًا إلى أم سلمة يسألها فقالت: قُتل زوجُ سُبَيعة الأسلمية وهي حُبلَى، فوَضَعَت بعد موته بأربعين ليلة، فخُطِبَت، فأنكَحَها الرسولُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكان أبو السنابل فيمن خَطَبها. هكذا أورد البخاريّ هذا الحديث ههنا مختصرًا، وقد رواه هو ومسلم وأصحاب الكتب مطولًا من وجوه أُخَرَ. وروى الإمام أحمد في المسند [4/327] وقال الأرناؤوط [18918]: إسناده صحيح على شرط الشيخين عن المِسْوَر بن مَخرَمة أن سُبيعة الأسلمية تُوفِّيَ عنها زوجُها وهي حامل، فلم يمكُث إلا لياليَ حتى وضَعَت، فلما تَعَلَّت من نِفاسها خُطِبَت فاستأذنَت الرسولَ ـ صلى(1/340)
الله عليه وسلم ـ في النكاح فأَذِنَ لها أن تَنكِحَ فنَكَحَت. ورواه البخاريّ في صحيحه ومسلم وأبو داود والنسائيّ وابن ماجه من طرق عنها. وروى مسلم عن عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة أن أباه كتب إلى عمر بن عبد الله بن الأرقم الزهريّ يأمره أن يدخل على سُبيعة بنت الحارث الأسلمية فيسألها عن حديثها وعما قال لها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين استَفْتَتْهُ، فكتب عمر بن عبد الله يخبره أن سُبيعة أخبرته أنها كانت تحت سعد بن خَولة، وكان ممن شهد بدرًا، فتُوفِّيَ عنها في حجة الوداع وهي حامل، فلم تَنشَبْ أن وَضَعَت حَملَها بعد وفاته، فلما تَعَلَّت من نِفاسها تجَمَّلَت للخُطَّاب، فدخل عليها أبو السنابل بن بَعْكَك فقال لها: ما لي أراكِ متجمِّلةً؟ لعلك تَرجِينَ النكاح؟ إنك والله ما أنتِ بناكح حتى تمرّ عليك أربعةُ أشهر وعشر. قالت سُبيعة: فلما قال لي ذلك جمعتُ عليَّ ثيابي حين أمسيتُ فأتيتُ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فسألته عن ذلك فأفتاني بأني قد حَلَلْتُ حين وضعتُ حملي، وأمرني بالتزويج إن بدا لي. هذا لفظ مسلم أخرجه البخاريّ [5319] ومسلم [1484/ 56] والنسائيّ في المجتبَى [6/195] وأبو داود [2306] وابن ماجه [2028] ورواه البخاريّ مختصرًا ثم قال البخاريّ [4910] بعد روايته الحديث الأول عند هذه الآية أن محمد بن سيرين قال: كنت في حلقة فيها عبد الرحمن بن أبي ليلى، وكان أصحابه يعظمونه، فذكَر آخرَ الأجلَين، فحدثتُ بحديث سُبيعة بنت الحارث عن عبد الله بن عتبة، قال: فضَمَرَ لي بعضُ أصحابه. قال محمد: ففَطِنتُ له فقلت: إني لَجَريءٌ أن أكذبَ على عبد الله وهو في ناحية الكوفة. قال: فاستحيا وقال: لكنَّ عمَّه لم يقُل ذلك. فلقيتُ أبا عطية مالكَ بن عامر فسألته فذهب يحدثني حديث سُبيعة، فقلت: هل سمعت عن عبد الله فيها شيئًا؟ فقال: كنا عند عبد الله فقال: أتجعلون عليها التغليظ ولا تجعلون عليها الرخصة؟ نزلت سورة النساء(1/341)
القُصرَى بعد الطُّولَى "وأُولاتُ الأحمالِ أجلُهنَّ أن يَضَعنَ حَملَهنَّ". تفسير ابن كثير 4/381 ـ 382).(1/342)
عدَّة المتوفَّى عنها زوجُها
يقول الحق سبحانه وتعالى: (والذين يُتَوَفَّونَ منكم ويَذَرُون أزواجًا يَتَرَبَّصنَ بأنفسِهنَّ أربعةَ أشهرٍ وعشرًا) (البقرة: 234) والعدة هي الفترة الزمنية التي شرعها الله بعد زواجٍ انتهى بطلاق أو بوفاة الزوج. والعدة إما أن تكون بعد طلاق وإما بعد وفاة زوج، فإن كانت العدة بعد طلاق فمدتُها ثلاثة قُروء، والقُرء ـ كما عرفنا ـ هو الحيضة أو الطُّهر. فإن كانت المطلقة صغيرة لم تَحِضْ بعدُ أو كانت تَعَدَّت سنَّ الحيض فالعدةُ تنقلب من القُروء إلى الأشهر وتصبح ثلاثة أشهر. والمتوفَّى عنها زوجُها اختصّها الله تعالى بأربعة أشهر وعشرًا وفاءً لِحقِّ زوجها عليها وإكرامًا لحياتهما الزوجية.
إذًا فالله عز وجل جعل المتوفَّى عنها زوجُها تتربص أقصى مدة يمكن أن تصبر عليها المرأة.
وقد يسأل سائل: لماذا تقلّ مدة العدة في المطلّقة عن الأرملة؟
والإجابة هي: أن الحق سبحانه وتعالى أراد لفضيلة الوفاء أن تكون موجودة في الزوجية التي انكسرت بالجبر لا بالاختيار. إن طول مدة العدة بعد وفاة الزوج إنما هو وفاء للحياة الزوجية، أما إذا كانت المرأة حاملًا وتُوفِّيَ عنها زوجها فعدتُها تُحسب بأبعد الأجلَين، فإن وَضَعَت المرأة مثلًا بعد وفاة الزوج بشهر تكون عدتُها هي أربعةَ أشهر وعشرًا من بعد وفاة الزوج، وإن وَضَعَت المرأة بعد وفاة الزوج بسبعة أشهر مثلًا تكون عدتُها هي الفترةَ الطويلة نسبيًّا وهي بعد الوضع، إذًا فعدة الأرملة هي أبعد الأجلَين.
والمقصود بأبعد الأجلَين هو الآتي:
إن كان أبعدُ الأجلَين هو الوضعَ فعدتُها تنتهي بعد الوضع.
وإن كان أبعدُ الأجلَين هو أربعةَ أشهر وعشرَ ليال فعدتُها تنتهي عند مرور ذلك الوقت.
لماذا؟(1/343)
لأنه من الجائز أن تفقد زوجَها بالموت وهي حامل في الشهر التاسع وتَضَعَ مولودها قبل أربعة أشهر وعشرًا، وعندئذ لا تنتهي عدتها إلا بمرور أربعة أشهر وعشرًا، ويتم حساب العدة من يوم الوفاة (قال العلامة ابن كثير في تأويل قول الله تعالى "والذين يُتَوَفَّونَ منكم ويَذَرُون أزواجًا.." الآيةِ: هذا أمر من الله للنساء اللاتي يُتوفَّى عنهنَّ أزواجُهنَّ أن يَعْتَدِدْنَ أربعة أشهر وعشرَ ليال، وهذا الحكم يشمل الزوجاتِ المدخولَ بهنَّ وغيرَ المدخول بهنَّ بالإجماع، ومستَنَدُه في غير المدخول بهنَّ عمومُ الآية الكريمة وهذا الحديثُ الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن وصححه الترمذيّ أن ابن مسعود سئل عن رجل تزوّج امرأة فمات عنها ولم يدخل بها ولم يَفرِضْ لها، فتردّدوا إليه مرارًا في ذلك فقال: أقول فيها برأيي فإن يَكُ صوابًا فمن الله وإن يَكُ خطأً فمنّي ومن الشيطانِ، واللهُ ورسولُه بريئان منه: لها الصداق كاملًا. وفي لفظ: لها صَداقُ مِثلِها لا وَكْسَ ولا شَطَطَ، وعليها العدة، ولها الميراث. فقام مَعقِل بن سِنان الأشجعيّ فقال: سمعت الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَضَى به في بَروَعَ بنت واشق. ففرح عبد الله بذلك فرحًا شديدًا جاء هذا الحديث بروايات كثيرة، والمعنى واحد، فرواه أحمد في المسند [1/431، 447، 448] وقال الشيخ شاكر [4099، 4100، 4276، 4278]: إسناده صحيح. ورواه أبو داود [2114، 2116] والترمذيّ [1145] والنسائيّ في السنن الكبرى [5515، 5516، 5518] وابن ماجه [1891] والحاكم في المستدرك [2/180] مطولًا، وصححه على شرط مسلم، ومختصرًا وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبيّ. وصححه الألبانيّ في صحيح سنن أبي داود [1857] ولا يخرج من ذلك إلا المتوفَّى عنها زوجها وهي حامل فإن عدتها بوضع الحمل، ولو لم تمكث بعده سوى لحظة، لعموم قوله: "وأُولاتُ الأحمالِ أجَلُهنَّ أن يَضَعنَ حَملَهنَّ" وكان ابن عباس يرى أن عليها أن تتربص(1/344)
بأبعد الأجلَين، من الوضع أو أربعة أشهر وعشرًا، للجمع بين الآيتين، وهذا مأخذ جيد ومسلك قويّ لولا ما ثبتت به السنة في حديث سُبيعة الأسلمية المخرّج في الصحيحين من غير وجه.
وقوله: "فإذا بَلَغْنَ أجَلَهنَّ فلا جناحَ عليكم فيما فعَلْنَ في أنفسِهنَّ بالمعروف واللهُ بما تعملون خبيرٌ" يستفاد من هذا وجوبُ الإحداد على المتوفَّى عنها زوجها مدةَ عدتِها لما ثبت في الصحيحين عن أم حبيبة وزينب بنت جحش أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "لا يَحِلّ لامرأةٍ تؤمنُ بالله واليوم الآخر أن تَحِدَّ على ميّت فوق ثلاث، إلا على زوجٍ أربعةَ أشهر وعشرًا" أخرجه البخاريّ [5334، 5335] ومسلم [1486/ 62] وفي الصحيحين أيضًا عن أم سلمة أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن ابنتي تُوفِّيَ عنها زوجها، وقد اشتَكَت عينها، أفأُنكِحُها؟ فقال: "لا" كلَّ ذلك يقول: "لا" مرَّتين أو ثلاثًا، ثم قال: "إنما هي أربعة أشهر وعشرًا، وقد كانت إحداكنَّ في الجاهلية تمكث سنةً" أخرجه البخاريّ [5336] ومسلم [1488] ومن ههنا ذهب كثير من العلماء إلى أن هذه الآية ناسخة للآية التي بعدها وهي قوله: "والذين يُتَوَفَّونَ منكم ويَذَرُون أزواجًا وصيةً لأزواجِهم مَتاعًا إلى الحولِ غيرَ إخراجٍ" كما قاله ابن عباس وغيره، وفي هذا نظر… والغرض أن الإحداد هو عبارة عن تَرْكِ الزينة من الطِّيب ولُبْسِ ما يدعوها إلى الأزواج من ثياب وحُلِيٍّ وغير ذلك. وهو واجب في عدة الوفاة قولًا واحدًا، ولا يجب في عدة الرجعية قولًا واحدًا. وهل يجب في عدة البائن؟ فيه قولان. ويجب الإحداد على جميع الزوجات المتوفَّى عنهنَّ أزواجهنَّ، سواء في ذلك الصغيرة والآيسة والحرة والأمَة والمسلمة والكافرة، لعموم الآية. وقال الثوريّ وأبو حنيفة وأصحابه: لا إحداد على الكافرة. عمدة التفسير 2/128 ـ 130).(1/345)
وعندما يقول الحق سبحانه: (والذين يُتَوَفَّونَ منكم ويَذَرُون أزواجًا وصيةً لأزواجِهم مَتاعًا إلى الحولِ غيرَ إخراجٍ فإن خَرَجْنَ فلا جناحَ عليكم في مافَعَلْنَ في أنفسِهنَّ من معروفٍ واللهُ عزيزٌ حكيمٌ) (البقرة: 240) فذلك يعني أن للزوج حين تَحضُره الوفاة أو أسبابها أو مقدِّماتها أن يَنصحَ ويوصيَ بأن تظلَّ الزوجة في بيته حولًا كاملًا لا تهجُره، ويتم الإنفاق عليها من تَرِكَة الزوج، ولا تخرج الزوجة من مسكن زوجها. لكن إن شاءت المرأة أن تنفّذ هذه الوصية فالأمر لها، وإن لم تشأ صار من حقها أن تلتزم فقط بالحكم الأول وهو التربص بالنفس مدة أربعة أشهر وعشر ليال. وهذا للجمع بين الآيتين، خلافًا للقائلين بنسخ الآية الثانية بالأولى، حيث إن هذه الآية الثانية تقرر حكمًا جديدًا؛ وهو إذا أوصى الزوج بأن تظل الزوجة في بيته حولًا كاملًا بعد وفاته ووافقت الزوجة على إنفاذ وصية زوجها المتوفَّى فإن لها النفقةَ خلال هذا الحول من التَّرِكة، وإن لم تشأ إنفاذَ الوصية يَلزَمْها الحكمُ الأول بالتربص بالنفس مدة أربعة أشهر وعشر ليال.
إن استبراء الرحم أمر مطلوب، ويضاف إليه عدم الاجتراء بالزواج الجديد على قداسة وحرمة الزواج الأول، وذلك احترامًا ووفاءً للزوج الأول المتوفَّى، إن الحق يريد بذلك أن يعطيَ قداسة للزوج الأول، لذلك لا ترتبط المسألة هنا فقط باستبراء الرحم.(1/346)
عدة اليائس والصغيرة
أما المرأة المطلقة التي لا تحيض لأنها بلغت سنَّ عدم الحيض ففي عدتها يأتي قول الله محدِّدًا لمن بلَغَت سنَّ عدم الحيض أو للصغيرة التي لم تَحِضْ بعدُ: (واللائى يَئِسْنَ من المَحِيضِ من نسائِكم إنِ ارتَبتم فعدَّتُهنَّ ثلاثةُ أشهرٍ واللائى لم يَحِضْنَ وأولاتُ الأحمالِ أجَلُهنَّ أن يَضَعْنَ حَملَهنَّ ومَن يَتَّق اللهَ يَجعلْ له مِن أمرِه يُسرًا) [الطلاق: 4] (يقول تعالى مبينًا لعدة الآيسة، وهي التي قد انقطع عنها المَحيض لكبَرها، أنها ثلاثة أشهر عِوَضًا عن الثلاثة القُروء في حق مَن تَحيض، وكذا الصغارُ اللائي لم يَبلُغنَ سنَّ الحيض أن عِدَّتَهنَّ كعدَّة الآيسة ثلاثةُ أشهر، ولهذا قال تعالى: "واللائي لم يَحِضنَ". وقوله تعالى: "إنِ ارتبتُم" فيه قولان:
أحدهما، وهو قول طائفة من السلف كمجاهد والزهريّ وابن زيد: أي إن رأيتم دمًا وشَكَكتم في كونه حيضًا أو استحاضةً وارتبتُم فيه.
الثاني: إنِ ارتبتُم في حكم عدَّتهنَّ ولم تعرفوه فهو ثلاثة أشهر. وهذا مرويّ عن سعيد بن جبير، وهو اختيار ابن جرير، وهو أظهر في المعنى، واحتجّ عليه بما رواه ابن أبي حاتم عن أُبَيّ بن كعب قال: قلت للرسول صلى الله عليه وسلم: إن ناسًا من أهل المدينة لما أُنزلَت هذه الآية التي في البقرة في عدّة النساء قالوا: لقد بَقيَ من عدّة النساء لم يُذكَرنَ في القرآن؛ الصغارُ والكبارُ واللائي قد انقطع منهنَّ الحيضُ وذواتُ الحَمل! قال: فأُنزلَت الآية التي في النساء القُصرى "واللائى يَئِسْنَ من المَحِيضِ من نسائِكم إنِ ارتَبتم فعدَّتُهنَّ ثلاثةُ أشهرٍ واللائى لم يَحِضْنَ". تفسير ابن كثير 4/381).(1/347)
العدة والوفاء للزوج المتوفَّى
حين يُتوفَّى الزوج عن امرأته فهي لا تخرج من بيته ولا تتزين ولا تَلقَى أحدًا.
لماذا؟
ليكون في ذلك السلوك صفةُ الوفاء للزوج الأول.
أما إذا بلغ الأجلُ نهايتَه فالحق سبحانه وتعالى يقول: (فإذا بَلَغنَ أجَلَهنَّ فلا جناحَ عليكم فيما فَعَلنَ في أنفسِهنَّ بالمعروفِ واللهُ بما تعملون خبيرٌ) إذًا فمن حق المرأة بعد فترة العدة وفاءً للزوج أن تتصرف في أمور حياتها بالحقوق الطبيعية لها وفي إطار الشريعة والالتزام بأوامر الله، ومن حق المرأة أن تخرج من بيت الزوج المتوفَّى لزيارة أهلها أو لقضاء حاجتها، ومن حق المرأة أن تتزين داخل بيتها وفي إطار المحارم المصرَّح لها رؤيتُهم سافرةً، ومن حق المرأة أن تلتقيَ بالخاطبِين لها في حضور آخرِين من ذَوِيها أو أقاربها. أي أن من حقها كلَّ الأمور المتعارَفِ عليها في ضوء أحكام الدين.
والحق تبارك وتعالى يقول: (فإذا بَلَغنَ أجَلَهنَّ فلا جناحَ عليكم فيما فَعَلنَ في أنفسِهنَّ بالمعروفِ) والمقصود هنا ببلوغ الأجل هو إتمام الميعاد المقرر للحكم وهو أربعة أشهر وعشر ليال. ولكن الحق يورد بلوغ الأجل في موقع سابق بمعنًى آخر غيرِ تمام الأجل، بل بمعنى اقتراب الأجل، فيقول الحق الأعلى: (وإذا طلَّقتم النساءَ فبَلَغنَ أجَلَهنَّ فأمسِكوهنَّ بمعروفٍ أو سرِّحوهنَّ بمعروفٍ ولا تُمسِكوهنَّ ضرارًا لِتعتدوا) (البقرة: 231) إن بلوغ الأجل في هذه الآية الكريمة إنما جاء بمعنى "قارَبْنَ" أي: أيها المؤمنون بالله، إن طلَّقتم النساء وقارَبْنَ بلوغَ نهاية العدة فإما أن يتراجعَ الرجل منكم عن الطلاق ويتمسكَ ببقاء زوجته في عصمته، أو أن يترك الرجل مطلَّقَتَه لِتتمَّ عدتها بإحسان ودون تطويل العدة بنية الإضرار بها. هكذا يأتي اللفظ الواحد في مجالَين مختلفَين ويؤدي نفسُ اللفظ معنًى مغايرًا.(1/348)
وبعد ذلك تأتي لفتة تشريعية إيمانية تدل على استغراق كل حكم شرعيّ لجميع المكلَّفين وإن لم يكن الحكم ماسًّا بهم.
كيف؟
هيا بنا نرى هذا الأمر واقعًا، إن المرأة المتوفَّى عنها زوجُها يجب عليها أن تتربص بنفسها أربعة أشهر ولياليَ عشرًا، وحكَم الله على المرأة في هذه الفترة ألّا تتزين وألّا تكتحل وألّا تخرج من البيت وفاءً لحق الزوج الأول. فإذا ما بلَغَت الأجَلَ واكتمَلَت العدة فالحق سبحانه وتعالى يُصدر الأمر شاملًا لكل المؤمنين قائلًا: (فإذا بَلَغنَ أجَلَهنَّ فلا جناحَ عليكم فيما فَعَلنَ في أنفسِهنَّ بالمعروفِ) هذا القول الحكيم مُلزِم لكل مؤمن أن يتدخلَ وينبّهَ الأرملةَ إن هي ارتَكَبَت أيَّ فعل مخالفٍ، كالزينة أو الخروج من المنزل أو استقبال الخطاب.
وليس لأحد أن يقول: ما دخلي أنا؟(1/349)
إن كل مؤمن له ولايةٌ على أخيه المؤمن بالنصيحة الخالصة لله، فإذا رأى أيُّ إنسان أرملةً تخرج عن الشرع في فترة العدة فله الحق أن يَعِظَ المرأة بأن تَتبع منهج الله، حتى لو لم يكن هذا الإنسان من أقارب الزوج أو أقارب الزوجة، إن قول الحق: (فإذا بَلَغنَ أجَلَهنَّ فلا جناحَ عليكم فيما فَعَلنَ في أنفسِهنَّ بالمعروفِ) هذا القول يعمّم فيه الله الأمرَ للمخاطَبين، لذلك فليس من حق أحد أن يقول: أنا لست مسؤولًا عن هذه الأرملة وليس لي بها علاقة قرابة. ليس من حق أحد من المؤمنين أن يدير ظهره لنصح هذه المرأة؛ لأن هناك أُخُوةً إيمانيةً تربطه بها، ذلك هو الحكم الإيمانيّ المستغرِق لكل المؤمنين وعلى كل المؤمنين، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: (والعصرِ. إن الإنسانَ لَفي خُسرٍ. إلّا الذين آمنوا وعملوا الصالحاتِ وتَوَاصَوا بالحق وتَوَاصَوا بالصبر) الحق سبحانه يُقسم بالزمان لكثرة ما انطوى عليه من عجائب، وعبَّر عن أن الإنسان قد يقع في لون من الخسران إن غَلَبَته الأهواء والشهوات، إلا الذين آمنوا بالله وعملوا الصالحات وأوصى بعضهم بعضًا بالتمسك بالحق اعتقادًا وقولًا وعملًا، وأوصى بعضهم البعضَ بالصبر على المَشَاقّ التي تَعترض من يتمسك بتعاليم الدين، إن هؤلاء هم الناجون من الخسران في الدنيا والآخرة.
الحق سبحانه وتعالى لم يَحصُر أمر التواصي في قوم دون غيرهم، لا، إن كل مؤمن مطالَب بالنصيحة لأخيه، فإذا رأى مؤمن ضعفًا في أخيه المؤمن في أية ناحية من نواحي أحكام الله فعليه أن يوصيَ أخاه وينصحه، وهكذا يتبادل المؤمنون التواصي والنصيحة.
لماذا يريد الحق ذلك؟
لقد أراد الحق سبحانه التواصيَ بين المؤمنين لأنه يَعلم أن البشر تَنتابهم الأغيار، فأنت أيها المؤمن في فترة ضعف أخيك المؤمن رقيبٌ عليه فتُوصيه، وأخوك المؤمن في فترة ضعفك رقيبٌ عليك فيُوصيك، وهنا يُصلح المجتمعُ بعضُه بعضًا.(1/350)
إن قول الحق سبحانه وتعالى: (فلا جناحَ عليكم) إنما هو أمر يشمل كل المؤمنين، ولم يَختص الأمر بحدود المرأة نفسها أو في حدود أولياء أمورها، إن الحق أصدر الحكم لكل المؤمنين، لذلك فليس من حق أحد أن يقول في مثل هذا الموقف: ما لي أنا بهذا الأمر؟
إن سلوك المرأة تجاه نفسها وأثناء عدتها من الزوج المتوفَّى عنها هو أمر يخصّ كلَّ مؤمن. ويخبرنا الحق سبحانه: (واللهُ بما تعملون خبيرٌ) والحق سبحانه وتعالى يوضح لنا وللمرأة التى في مثل هذا الموقف أنها إن فعلت أيَّ شيء فيه خروج عن أحكام الله، حتى إن لم يَرَها أحد، فإن الله هو المطَّلِع العليم على كل خافية في الصدور والسلوك والكون.
ولنا أن نَلحَظ أن الحق سبحانه قد حمَى حقَّ الزوج حتى تنتهيَ العدة، كما حمَى وفاءَ المتوفَّى عنها زوجُها في فترة عدتها، وجعل الله سبحانه وتعالى المرأةَ أثناء عدتها حَرَمًا لا يقترب منها أحد، حتى لا يَخدِشَ إنسانٌ ما كرامةَ المرأة في أيٍّ من الموقفَين، موقف الطلاق أو موقف الحداد على الزوج، ونحن نعرف أن المرأة المطلقة قد تعاني من الرغبة في الثأر لنفسها أو لكرامتها، وربما تَعَجَّلَت الزواجَ من رجل آخر، بل وربما كانت مسائل الافتراق أو الخلاف ناشئةً عن تدخُّلٍ أو اندساسِ شيءٍ لرغبة راغب فيها، لذلك فإن كان الأمر هكذا فإن المرأة بمجرد أن يتم طلاقها فقد تسوِّل له نفسها، أو يَحُوم أحد حولها، أو تَستشرف آفاقَ المستقبل لتختار بديلًا لمطلِّقِها؛ لذلك حرّم الحق سبحانه وتعالى أيَّ اقترابٍ أو حَوْمٍ حول المرأة في هذه الفترة ليوفر لها الحماية الموضوعية وليست مجرد الحماية الشكلية، إن العدة جعلها الله تعالى منطقة محرَّمةً حفاظًا على كرامة المرأة.(1/351)
حكم الخِطبة في زمن العدة
إن العدة منطقة محرَّمة، ولأن التشريع من إله رحيم فالتشريع لا يُهدر عواطف النفس البشرية، لا يُهدر التشريع عواطفَ الإنسان الذي يرغب في الزواج من امرأة مطلقة أو مات عنها زوجها، ولا يُهدر عواطف المرأة في فترة عدتها، لذلك يعالج الحق هذا الأمرَ بدقة وحزم فيقول سبحانه وتعالى: (ولا جُناحَ عليكم فيما عرَّضتم به من خِطبةِ النساءِ أو أكنَنتُم في أنفُسِكم عَلم اللهُ أنكم ستَذكرُونهنَّ ولكن لا تُواعدوهنَّ سرًّا إلا أن تقولوا قولًا معروفًا ولا تَعزِموا عقدةَ النكاحِ حتى يَبلُغَ الكتابُ أجَلَه واعلَموا أن اللهَ يَعلمُ ما في أنفسِكم فاحذَرُوه واعلَموا أن اللهَ غفورٌ حليمٌ) (البقرة: 235) وهنا نعرف أن هناك أسلوبًا في التعبير اسمه "التعريض" وهو أن تَدُلّ على شيء لا بما يؤديه نصًّا ولكن بالتلميح إليه. الحق سبحانه وتعالى أراد أن يجعل للعواطف الإنسانية تنفيسًا من هذه الناحية، وهذا اللون من التنفيس ليس مجردَ تبرير للعاطفة إنما هو أيضًا رعاية للمصلحة.
لماذا؟(1/352)
لأنه من الجائز لو حرَّم الله هذا اللونَ من التنفيس عن العاطفة ولم يسمح بالتعريض ـ أي التمليح لا التصريح ـ فإن في ذلك تفويتًا لفرصة قد تكون سانحة للمرأة أن تتزوج، أو تضييعَ فرصةٍ على إنسان مؤمن أن يطلب الزواج من امرأة مؤمنة في مثل هذه الحالة (قال العلامة ابن كثير في تأويل قول الله تعالى "ولا جُناحَ عليكم فيما عرَّضتم به.." الآيةِ: لا جناح عليكم أن تُعرِّضوا بخِطبة النساء في عدَّتهنَّ من وفاة أزواجهنَّ من غير تصريح. قال ابن عباس: التعريض أن يقول: إني أريد التزويج، وإني أحب امرأة من أمرها ومن أمرها. يعرِّض لها بالقول بالمعروف. وفي رواية: إني لا أريد أن أتزوج غيركِ إن شاء الله، ولَوَدِدتُ أني وجدت امرأة صالحة. ولا يَنصِبُ لها ما دامت في عدتها. وهكذا قال مجاهد وطاوس وعكرمة وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف والأئمة، في التعريض أنه يجوز للمتوفَّى عنها زوجُها من غير تصريح لها بالخطبة. وهكذا حكمُ المطلقة المبتوتة يجوز التعريض لها كما قال النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ لفاطمة بنت قيس حين طلقها زوجها أبو عمرو بن حفص آخرَ ثلاث تطليقات، فأمَرَها أن تَعتَدَّ في بيت ابن أم مكتوم وقال لها: "فإذا حَلَلتِ فآذِنِيني" فلما حلَّت خطَب عليها أسامة بن زيد مولاه فزوجها إياه.
فأما المطلقة الرجعية فلا خلاف في أنه لا يجوز لغير زوجها التصريحُ بخِطبتها ولا التعريضُ لها. والله أعلم.(1/353)
وقوله: "أو أكنَنتُم في أنفسِكم" أي: أضمرتم في أنفسِكم من خِطبتِهنَّ. وهذا كقوله تعالى: "وربُّك يعلمُ ما تُكِنُّ صدورُهم وما يُعلِنون" [القصص: 69] وكقوله: "وأنا أعلمُ بما أَخفَيتم وما أَعلَنتم" [الممتحنة:1] ولهذا قال: "عَلم اللهُ أنكم ستَذكُرونهنَّ" أي: في أنفسكم فرفَع الحرجَ عنكم في ذلك. ثم قال: "ولكن لا تُواعدوهنَّ سرًّا" قال الحسن البصريّ والنخعيّ وقتادة والضحاك وغيرهم: يعني الزنا. وهو معنى رواية العَوفيّ عن ابن عباس. واختاره ابن جرير. وقال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس: لا تقل لها: إني عاشق وعاهِدِيني ألَّا تتزوَّجي غيري! ونحو هذا. وكذا رُوي عن سعيد بن جبير والشعبيّ ومجاهد وغيرهم: هو أن يأخذ ميثاقها ألَّا تتزوج غيره. وقال ابن زيد: هو أن يتزوجها في العدة سرًّا فإذا حَلَّت أظهَرَ ذلك. وقد يَحتمل أن تكون الآية عامةً في جميع ذلك، ولهذا قال: "إلَّا أن تقولوا قولًا معروفًا" قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير: يعني به ما تقدم من إباحة التعريض، كقوله: إني فيكِ لَرَاغبٌ. ونحو ذلك. عمدة التفسير 2/ 130 ـ 131) لذلك يريد الحق سبحانه وتعالى من المؤمن أن يدخل إلى هذا الأمر بآداب الاحتياط. لقد أمر الله سبحانه وتعالى ألَّا يخطب رجل امرأة في فترة العدة خِطبة صريحة مباشرة، لكن ليس هناك مانع من أن يَمَسَّ الإنسان هذا الأمرَ بالتلميح من بعيد، كأن يقول المؤمن للمؤمنة: إنكِ امرأة طيبة يتمناها الرجل لحسن خلقها وأدبها ولا بد أن يَسعد بها من يتزوجها بإذن الله. أو أن يقول لها: وَدِدتُ أن ييسر ليَ الله امرأة صالحة. هذا هو التعريض. وفائدة التعريض أنه يعطي فرصة للرجل المؤمن أن يعبر عن نفسه فلا يسبقه أحد إلى هذه المرأة، ويعطي التعريض للمرأة أيضًا فرصة التفكير بالقبول أو الرفض.(1/354)
الرحمة من الحق سبحانه أن جَعَلَ العدةَ منطقة محرَّمة لها حمايتها بنص التشريع وجعَل للعواطف الإنسانية فرصة بالتلميح والتنفيس، لذلك قال الحق سبحانه: (ولا جناحَ عليكم فيما عرَّضتم به من خِطبةِ النساءِ) إذًا فالتلميح مباح.
ولكن ما أمر الخطبة نفسها؟
لنا الآن أن ندقق جيدًا في مادة الخاء والطاء والباء، نحن نجد أن كلمة "خَطْب" تعني أمرًا عظيمًا تَجري معالجته، فالخَطْب أمر عظيم بهذا الكيان. والخُطبة ـ بضم الخاء ـ لا تتم إلا في أمر خطير يحتاج الناس فيه إلى إيضاح وبيان. والخِطبة ـ بكسر الخاء ـ هي أمر فاصل بين حياتَين، حياة المسؤولية عن النفس وحدها وحياة التقيّد بمسؤولية بناء الأسرة، فالخِطبة تعني أمرًا فاصلًا وذا بال وأهمية، والحق عندما يقول: (ولا جناحَ عليكم فيما عرَّضتم به من خِطبة النساءِ أو أكنَنتُم في أنفسِكم) فإن الحق سبحانه يصرح للرجل بالتلميح للمرأة أثناء عدتها بالأمر العظيم، وهو الرغبة في الارتباط بها، ولا يعاقب الحق إنسانًا وضع في باله أن يخطب تلك المرأة.(1/355)
إن الحق الخبير العليم بخبايا الصدور يقول: (عَلِمَ اللهُ أنكم ستَذكُرونهنَّ) إنه سبحانه وتعالى الذي خلق كل الكون ويعلم ما فيه ومن فيه، يعلم أن هذه المرأة سوف تكون لها مكانة في قلب الرجل الذي يرغب في الزواج بها بعد انتهاء العدة، والله لم يضيّق على الرجل المؤمن أمر التلميح أو التفكير في أمر خِطبة امرأة حتى لا يعُوق عواطفه، لكن الحق سبحانه وتعالى لم يترك المسألة دون ضوابطَ حتى لا يُهدر أحدٌ الوفاءَ أو يقعَ في المحظور، قال تعالى: (ولكن لا تُواعدوهنَّ سرًّا إلا أن تقولوا قولًا معروفًا) ولقد أباح الحق التلميح بأمر الخِطبة لا التصريح بها في فترة العدة لأن الحق عليم بخفايا الصدور، وأن المرأة في فترة عدتها قد تكون ذاتَ مكانة في قلب الرجل الذي يرغب أن يتزوجها، لذلك أباح التلميح ونهَى عن التواعد سرًّا، وإن تمَّ اللقاء بين رجل وامرأة مؤمنة في فترة عدتها فيجب أن يكون الحوار في إطار الأدب الإيمانيّ، وإن تمَّ التلميح فلنا أن نعرف أن المرأة في مثل هذه المواقف تلتقط بأحاسيسها أيَّة رسالة من القول بالمعروف.
وبعد ذلك يأمر الحق (ولا تَعزِموا عقدةَ النكاحِ حتى يَبلُغَ الكتابُ أجَلَه) إن مجرد العزم الأكيد منهيّ عنه، والعزم مقدَّم على الفعل، فإذا نهَى عنه كان النهيُ عن الفعل أقوى وأشدَّ، فلك أن تنويَ الزواج منها ولكن لا تُقدِمْ على إتمامه إلا بعد نهاية فترة العدة.
وقد يسأل سائل: ولماذا يَنهَى الله عن مثل هذا العزم؟
إن الحق سبحانه يَنهَى عن مثل هذا العزم لتأكيد حرمة زمن العدة، وحتى يمنع الرجل من أن يحوم حول حِمَى المرأة في هذه الفترة. إن أمر النكاح إنما يُقدِم له الإنسان بالمشيئة ولا يَعزِم عليه كأمر مبتوت فيه إلا بعد انتهاء العدة، وقد حدد الحقُّ الميعاد المناسب لعزم النكاح وهو أن يَبلُغَ الكتابُ أجَلَه، أي بعد أن تنتهيَ فترة العدة، فكأن عقدة النكاح لها مراحل:(1/356)
المرحلة الأولى: التعريض. أي التلميح لا التصريح.
المرحلة الثانية: العزم الذي يجب ألَّا يَتمَّ إلَّا بعد انتهاء فترة العدة.
المرحلة الثالثة: العقد الشرعيّ (قال العلامة ابن كثير: وقوله "ولا تَعزِموا عقدةَ النكاح حتى يَبلغَ الكتابُ أجَلَه" يعني: ولا تَعقِدوا العقد بالنكاح حتى تنقضيَ العدة. قاله ابن عباس ومجاهد والشعبيّ وقتادة وغيرهم. وقد أجمع العلماء على أنه لا يصح العقد في مدة العدة. عمدة التفسير [2/131] وفي كتاب "المفصل في أحكام المرأة والبيت المسلم" للأستاذ الدكتور عبد الكريم زيدان في مبحث خاص عن الخطبة، جاء ما يلي:
تعريف الخِطبة
يقال: خطَب الرجل فلانة خَطْبًا وخِطبةً؛ أي طلبها للزواج، فهو خاطب. والخِطْبُ الذي يخطب المرأة، وهي المخطوبة.
فالخِطبة في اللغة: طلب الرجل امرأةً للزواج.
أما في الاصطلاح الفقهيّ فقد عرفها المالكية بأنها: التماسُ نكاح المرأة.
وقال الشافعيّة: الخطبة التماسُ الخاطب النكاحَ من جهة المخطوبة.
حكم الخِطبة
قال الإمام الشافعيّ: إنها مستحبة.
حكمة تشريعها
إعطاء فرصة كافية للمرأة وأهلها وأوليائها للسؤال عن الخاطب والتعرف على ما يهُمّ المرأةَ وأهلَها وأولياءها معرفتُه من خصال الخاطب، مثل تدينه وأخلاقه وسيرته ونحو ذلك، كما أن في التمهيد لعقد النكاح الخطبة إظهارًا وإعلانًا لأهمية هذا العقد وإشراكَ أهلِ المرأة فيه على نحوٍ ما، مثل إبداء رأيهم بعد التحرِّي عن الخاطب.
المشورة في الخطبة
إن من حكمة تشريع الخِطبةِ السؤالَ والبحثَ والتحرِّيَ عن حال الخاطب من قِبَلِ المرأة وأهلها وأوليائها، ومن جملة سبل التعرف على ما يهُمّ الطرفَين ـ الخاطب من جهة والمرأة من جهة أخرى ـ معرفتُه عن الطرف الآخر، الاستشارةُ، فيَستشير كل طرف أهل المعرفة بالطرف الآخر في موضوع الإقدام على الزواج.(1/357)
وعلى المستشار واجب دينيّ يتلخص بوجوب بيان ما يعرفه عن المسؤول عنه، الخاطب وأهله أو المرأة وأهلها، وإن كان في جواب المستشار ذكرُ مساوئَ وعيوبِ المسؤول عنه، ولا يعتبَر ذلك من الغيبة المحرمة وإنما يعتبَر من النصيحة الواجبة. وفي الحديث النبويّ الشريف: "الدين النصيحة" ويدل على ذلك حديث فاطمة بنت قيس وقد استشارت النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بشأن معاوية بن أبي سفيان وأبي جَهْم، وكانا قد خَطَبَاها، فقال صلى الله عليه وسلم: "أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، انكِحِي أسامة بن زيد" أخرجه مسلم في صحيحه [1480/ 36] وقال الإمام النوويّ في باب ما يباح من الغيبة: ومنها المشاورة في مصاهرة إنسان، ويجب على المشاوَرِ ألَّا يُخفيَ حالَه، بل يذكر المساوئَ التي فيه بنية النصيحة دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين، لابن عَلّان الصِّدِّيقيِّ، وهو شرح لرياض الصالحين للنوويِّ [8/21]
الاستخارة في الخطبة
أخرج الإمام البيهقيّ في سننه بسنده عن أبي أيوب الأنصاري أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "اكتُم الخِطبةَ، ثم توضَّأْ فأحسِنْ وضوءك، ثم صَلِّ ما كتَب الله لك، ثم احمَدْ ربَّك ومَجِّدْه، ثم قل: اللهم إنك تَقدِر ولا أقدِر، وتَعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، فإن رأيتَ لي فلانة ـ وتُسمّيها باسمها ـ خيرًا لي في ديني ودنياي وآخرتي فاقدِرْها لي، وإن كان غيرُها خيرًا لي في ديني ودنياي وآخرتي فاقدِرْها لي" رواه البيهقيّ في السنن الكبرى [13837] وقال النوويّ في شرحه لهذا الحديث: وفيه استحباب صلاة الاستخارة لمن هَمَّ بأمر، سواء كان ذلك الأمر ظاهر الخير أم لا شرح النوويّ على صحيح مسلم [9/228]
كيفية الاستخارة(1/358)
عن جابر بن عبد الله قال: كان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: "إذا هَمَّ أحدكم بالأمر فليَركَعْ ركعتَين من غير الفريضة ثم ليقُلْ: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تَقدِر ولا أقدِر، وتَعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر" يسمّيه ويذكره "خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري" أو قال: "عاجِلِ أمري وآجِلِه فاقدِرْه لي ويَسِّرْه لي ثم بارِكْ لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شرّ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري" أو قال: "في عاجِلِ أمري وآجِلِه فاصرِفْه عني واصرِفْني عنه واقدِرْ ليَ الخير حيث كان ثم أرضِني به" قال: ويسمِّي حاجته أخرجه البخاريّ [1162]
من تَحِلّ خِطبتُها
يشترط فيمن تَحِلّ خطبتُها شرطان:
الأول: ألَّا تكون محرَّمة على الخاطب وقت الخطبة.
والثاني: ألَّا تكون مخطوبة من قِبَلِ الغير.
حكم نظر المرأة إلى خاطبها
1 ـ قال صاحب "المهذَّب" في فقه الشافعيّة: يجوز للمرأة إذا أرادت أن تتزوج برجل أن تنظر إليه؛ لأنه يُعجبها من الرجل ما يُعجب الرجلَ منها، ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: لا تُزوِّجوا بناتِكم من الرجل الدميم؛ فإنه يُعجبُهنَّ منهم ما يُعجبُهم منهنَّ المهذب وشرحه المجموع [15/289]
2 ـ وقال الحنابلة: وتنظر المرأة إلى الرجل إذا عزَمَت على نكاحه؛ لأنه يعجبها منه ما يعجبه منها كشاف القناع في فقه الحنابلة [3/5]
وقال الفقيه المالكيّ الحطّاب رحمه الله في مسألة نظر المرأة المخطوبة إلى خاطبها: هل يُستحبّ للمرأة نظرُ الرجل؟ لم أرَ فيه نصًّا للمالكية، والظاهر استحبابُه وفاقًا للشافعية مواهب الجليل بشرح مختصر خليل للحطّاب [3/105]
حكم الخَلوة بالمخطوبة(1/359)
مجرد الخِطبة لا يجعل المخطوبة زوجة للخاطب، بل تبقى أجنبية منه بالرغم من رضاها بخِطبته وعدم رفضها، وبالتالي فتُعامَل معاملة الأجنبية، وعلى ذلك يحرُم عليه وعليها شرعًا الخَلوة بينهما.
قال ابن قدامة: ولا يجوز له الخَلوة بها؛ لأنها محرَّمة عليه، ولم يَرِدْ الشرع بغير النظر، فبَقيَت على التحريم، ولأنه لا يؤمَن مع الخَلوة مواقعةُ المحظور، فإن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "لا يَخلُوَنَّ رجلٌ بامرأة؛ فإن ثالثَهما الشيطانُ" المغني [6/553] وفي رواية للحديث: "لا يَخلُوَنَّ أحدُكم بامرأة إلا مع ذي مَحرَم" أخرجه البخاريّ [5233] ومما ذكرناه يظهر جليًّا أن ما اعتاده أكثر الناس أو بعضهم من موافقته على خَلوة الخاطب بابنتهم المخطوبة وموافقتهم على خروجهما سويًّا إلى الأسواق وغيرها بحجة أنهما خطيبان، هذا الاعتياد باطل ولا قيمة له ولا يغيِّر حكمَ الشرع في تحريم الخَلوة بينهما؛ لأنهما لا يزالان أجنبيَّين، لأن الخطبة وعد بالزواج وليست عقدًا للزواج، ولأن تعامل الناس أو اعتيادهم شيئًا ما إنما يكون مقبولًا إذا لم يخالف الشرع، فإذا خالفه كان باطلًا ولا اعتبار له ولا يجوز الأخذ به، قال الإمام السَّرخَسيّ بشأن تعامل الناس المخالف للشرع: لأن التعامل بخلاف النص لا يعتبَر، وإنما يعتبَر ما لا نَصَّ فيه المبسوط للإمام السَّرخَسيّ [10/146] وحيث إن النص الشرعيّ وهو حديث رسول الله جاء بتحريم الخَلوة بين الرجل والأجنبية منه، وأن المخطوبة تَبقَى أجنبية من خاطبها، فلا تجوز الخَلوة بينهما إلا إذا كان معها أحد من محارمها. وإذا أراد الخاطب لقاء مخطوبته فيمكن أن يكون بحضور أهلها وأحد من أوليائها. وإذا تعذر على الخاطب أن يرى من يريد خطبتها فله أن يرسل امرأة ثقة أمينة لتنظر إليها وتخبره بما تراه منها من محاسنَ ومعايبَ، فقد روى الإمام البيهقيّ عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أراد أن(1/360)
يتزوج امرأة فبعث بامرأة تنظر إليها، وقال لها: "شمِّي عوارضها، وانظري إلى عُرقُوبَيها". وقال البيهقيّ بعد أن روى هذا الحديث: كذا رواه شيخنا في المستدرك وأبو داود في المراسيل رواه البيهقيّ في السنن الكبرى [13501] والحاكم في المستدرك [2/166] وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبيّ. والمقصود بعارضها جانبُ الوجه وصفحةُ الخد المفصل في أحكام المرأة والبيت المسلم [6/58 ـ 73] وكل قسم متى كان معه شهوة كان حرامًا بلا ريب، سواء كانت شهوةَ تمتُّع بنظر أو نظر لشهوة وطء. واللمس كالنظر وأولى. وتحرم الخلوة بغير محرم، ولو بحيوان يَشتهي المرأة وتَشتهيه كالقرد. وذكره ابن عقيل الاختيارات الفقهية، كتاب النكاح 170، 171) والمقصود بهذه المراحل أن يأخذ كل طرف فرصته للتفكير العميق والمشورة والتحرّي في هذا الأمر الجادّ، فإن شرح الله صدره فليَتحرَّ موعد انتهاء العدة ليعقد عليها، وإن صرف الله قلبه عنها فليحمد الله تعالى ويبتعد.
ونحن نعرف بطبيعة الحال أنّ للمرأة أن تَقبَل أو ترفض مثلما هو حقّ الرجل أن يلمِّح، وبعد ذلك يَعزم الأمر على النكاح، بشرط انتهاء العدة ثم يعقد بعد ذلك عقدة النكاح.
إذًا فلا زواج بدون أرضية العزم؛ لأن الدخول إلى النكاح معناه الدخول إلى عالم مليء بالمسؤولية، ولا بد لمن يدخل هذا العالم المليء بالمسؤولية من أن يتدبر أمره جيدًا، وأن يمتلك إرادة العزم، وأن يُقبل على الزواج بإرادة جادة، وأن يعرف أن الزواج علاقة لها قدسيتها وليس مجرد شهوة طارئة لا تملك أرضية من المروءة (فإذا عزَمتَ فتَوكَّلْ على اللهِ) (آل عمران: 159).(1/361)
لا يحلُّ للنساء كتمُ ما في أرحامهنَّ
يقول الحق سبحانه وتعالى: (ولا يَحِلُّ لهنَّ أن يَكتُمْنَ ما خلَق اللهُ في أرحامِهنَّ إن كنَّ يُؤمِنَّ باللهِ واليومِ الآخرِ) (البقرة: 228) هذا القول يدل على أن المرأة لها شهادتها لنفسها في الأمر الذي يخصها ولا يطَّلع عليه سواها، وهي التي تقرر المسألة بنفسها، فتقول: أنا حامل. أو: لا. وعليها ألَّا تكتُمَ ذلك.
وقد يقول قائل: ولماذا تكتم المرأة ما خلق الله في رحمها؟
وتكون الإجابة: قد يجوز أن تكتم الحمل وبعد ذلك تقتل ما في رحمها، أي تُجهض نفسها حتى لا تنتظر الوضع (يعرِّف الأستاذ الدكتور رؤوف عبيد الإجهاض بأنه هو: استعمال وسيلة صناعية تؤدي إلى طرد الجنين قبل موعد الولادة. إذا تم بقصد إحداث هذه النتيجة جرائم الاعتداء على الأشخاص والأموال [28] ويعرّفه العلامة جارو بأنه: الطرد المُبتَسَر الواقع إراديًّا على متحصّل الحمل Garraud Traite the Qrigue ET Pratigue Du Droit Penal Frawcais 2 M ET Meed ويعرّفه الأستاذ الدكتور حسن المرصفاويّ بأنه: إخراج الحمل من الرحم في غير موعده الطبيعيّ عمدًا وبلا ضرورة وبأية وسيلة من الوسائل الإجهاض في نظر الشرع الجنائيّ، المجلة الجنائية القومية، نوفمبر 1958 وعن موقف المذاهب الأربعة من جريمة إسقاط الحوامل يقول الدكتور مصطفى عبد الفتاح:
مذهب الشافعيّة(1/362)
يضع أصحاب هذا المذهب بداية التخلق بالنسبة للجنين كحد فاصل بين الحرمة والإباحة، ويَرَون أن بداية تخلق الجنين تكون بعد اثنتَين وأربعين ليلةً من التلقيح، وسندهم في ذلك ما رواه مسلم عن حذيفة بن أسيد الغفاريّ قال: سمعت الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "إذا مرّ بالنطفة اثنتان وأربعون ليلةً بعَث الله إليها مَلَكًا فصوَّرَها وخلَق سَمعَها وبصَرَها وجلدَها ولحمَها وعظامَها ثم يقول: أي ربِّ ذكرٌ أم أنثى؟" أخرجه مسلم [2645/4] وفي هذا الصدد يقول إمام هذا المذهب وصاحب المدرسة أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعيّ: إن أقلَّ ما يكون الشيء به جنينًا أن يَتبيَّن منه شيءٌ من خلق آدميّ، كأصبَع أو ظفر أو عين أو ما إلى ذلك، وإن هذا لا يكون إلا بعد مرور اثنتَين وأربعين ليلة ودخول النطفة في أول أطوار التخلق.
ومن ثم فإن الرأيَ السائد في فقه الشافعيّة أن الإجهاض إذا تم خلال أربعين يومًا من بدء العلوق، وكان برضًا من الزوجين، وبوسيلة قال عنها طبيبان عدلان إنها لا تُعقب ضررًا يصيب الحامل ـ كان ذلك مباحًا عند البعض ومكروهًا كراهة تنزيهية عند البعض الآخر، ولكنه لا يكون محرمًا. فإذا مر على بدء الحمل أربعون يومًا كان إسقاطه حرامًا مطلقًا، وبغض النظر عن أن الجنين يتحرك أم لا، وبغض النظر أيضًا عن أن الروح قد حَلَّت به، أي قد نُفخت فيه، أم لا. والفيصل هنا في فقه الشافعيّة هو بداية التخلق بالنسبة للنطفة، فالإسقاط جائز ما لم تبدأ النطفة في التخلق، فإذا دخلت دور التخلق حرُم الإسقاط.
مذهب الحنفية
توجد ثلاثة آراء في هذا المذهب:
أولها يرى جواز إسقاط الحمل خلال الأربعين يومًا الأولى من بدء الحمل، أي قبل التخلق وتشريحه بعد ذلك. وهذا يتفق مع ما ذهب إليه الشافعيّة.(1/363)
والرأي الثاني يتجه إلى إباحة إسقاط الحمل قبل نهاية الشهر الرابع، وسواء كان هناك عذر أم لا، باعتبار أن الروح تُنفخ في الجنين بعد مرور مائة وعشرين يومًا، وأنه قبل هذه المدة نكون أمام جسد مادّيّ لا روح فيه، وبالتالي فإسقاط هذا الجسد الخالي من الروح جائز ولو كان هذا الفعل بلا عذر أو ضرورة، ويكون الإسقاط حرامًا بعد هذه المدة.
والرأي الثالث في ذلك المذهب يرى أن إسقاط الحمل قبل نهاية الشهر الرابع وإن لم يَصِلْ إلى مرتبة الحرام، إلا أنه يكون مكروهًا إذا كان بغير عذر، ويكون مباحًا إذا كان بعذر.
مذهب الحنابلة
اتفق فقهاء الحنابلة على تحريم الإسقاط بعد مرور مائة وعشرين يومًا من بدء الحمل، وهي المدة التي يُنفخ الروحُ بعدها في الجنين. واختلفوا في حكم إسقاط الحمل قبل مرور فترة المائة والعشرين يومًا من بدء الحمل إلى اتجاهين:
الاتجاه الأول يرى أن الإسقاط جائز قبل التخلق وقتَ علمنا أن المساحة الزمنية لتلك الفترة أربعون يومًا. وذلك أن النطفة لا تبدأ في التخلق إلا بعد انقضاء هذه الفترة، فإذا تجاوز الحمل أربعين يومًا كان الإسقاط حرامًا.
الاتجاه الثاني يرى أن الإسقاط جائز إلى أن تنقضيَ أربعة أشهر من بدء الحمل. أو بمعنًى آخر جواز الإسقاط إلى أن تُنفخ الروح في الجنين، ويكون ذلك بعد مرور مائة وعشرين يومًا من بدء الحمل، ويكون حرامًا بعد ذلك.
مذهب المالكية
أما المالكية فإنهم أكثر الأطراف تشددًا؛ إذ منعوا الإجهاض ولو قبل الأربعين يومًا، فبعضهم قال بتحريم الإسقاط ولو لم يمر على الحمل أربعون يومًا، فالتحريم يبدأ مع بداية الحمل، وهم هنا يلتقون مع الإمام الغزاليّ في رأيه.
وبعض فقهاء هذا المذهب أفتى بأن الإجهاض مكروهٌ إتيانُه خلال فترة الأربعين يومًا الأولى من بداية الحمل ويكون حرامًا بعد ذلك.(1/364)
جاء في شرح الدردير: لا يجوز إخراج المنيّ المسكون في الرحم ولو قبل الأربعين يومًا، وإذا نُفخت فيه الروح حرُم إجماعًا.
وعلّق الشيخ الدسوقيّ على ذلك فقال: هذا هو المعتَمَد. وقيل: يُكرَه إخراجه قبل الأربعين.
وجاء في القوانين الفقهية لابن جُزِيّ: وإذا قبَض الرحمُ المنيَّ لم يجُز التعرضُ له، وأشدُّ من ذلك إذا تخلَّق، وأشدُّ من ذلك إذا نُفخ فيه الروح؛ فإنه قتلٌ للنفس إجماعًا.
ومن هذا العرض السابق لحكم الإسقاط في المذاهب الأربعة نستطيع أن نستخلص النتائج التالية:
أولًا: إسقاط الحمل محرَّم اتفاقًا بين كل الاتجاهات والمذاهب بعد نفخ الروح، وقد اعتبَر علماء الإسلام أن الروح تُنفخ في الجنين بعد انقضاء الأربعة الأشهر الأولى من بدء الحمل، أي بعد مرور 120 يومًا من بدء الحمل.
ثانيًا: لا يباح الإسقاط بعد نفخ الروح إلا لعذر يقتضيه.
ثالثًا: هناك من يرى إباحة الإجهاض "إسقاط الحمل" مطلقًا قبل نفخ الروح، أي قبل انقضاء أربعة أشهر على بدء الحمل، ويَرَون أن الإسقاط في هذه الفترة مباح حتى لو تمَّ بغير عذر أو مقتَضًى، وهو رأيُ بعض الحنفية وبعض الشافعيّة.
رابعًا: أفتى بعض فقهاء الحنفية وبعض فقهاء الشافعيّة بجواز إسقاط الحمل خلال الأربعة الأشهر الأولى في بدء الحمل، أي قبل نفخ الروح، ولكن بشرط وجود عذر، فإذا تم إسقاط الحمل بدون عذر كنا بصدد فعل مكروه.
خامسًا: أفتى بعض فقهاء المالكية بأن إسقاط الحمل خلال الفترة السابقة لنفخ الروح يُعَدُّ عملًا مكروهًا كراهة مطلقة.
سادسًا: أفتى أكثر فقهاء المالكية وفقهاء مذهب الظاهرية والزيدية بأن إسقاط الحمل حرام ولو كان ذلك مع بداية الحمل، إلا أنهم تدرَّجوا في مدى الحرمة واعتبَروا أنها تشتد وتزداد المعصية كلما تطور الحمل واقترب من التخلق الكامل، وتصل الحرمة إلى أقصى درجة لها بعد نفخ الروح، أي بعد مرور مائة وعشرين يومًا من بدء الحمل.(1/365)
سابعًا: اتجه الرأي في فقه الشافعيّة إلى السماح بإسقاط الحمل إذا تم ذلك قبل تخلق الجنين، أي خلال أربعين يومًا من بدء الحمل.
دواعي الإجهاض والأسباب الدافعة إليه
أولًا: الإجهاض لدواعٍ طبيةٍ خاصة بالأم
هذه الدواعي تمثل ثلاثة فروض:
الفرض الأول أن تتيقن الحامل أو يَغلب على ظنها أن استمرار الحمل سيكون له أثر سيِّئ على صحتها، كأن يصيبها بالهُزال والضعف والنقص في اللياقة الصحية، أو يضطرها إلى ولادة غير طبيعية.
يوجد في تلك المسألة وجهتَا نظر:
الأولى: يرى أصحاب ذلك الرأي أن الهُزال الذي سيترتب على بقاء الحمل إلى تمام الولادة ليس أعظم خطرًا من إسقاط الجنين.
وأما وجهة النظر الثانية فيرى أصحابها أن شعور الحامل بالهزال والضعف نتيجة للحمل يكفي عذرًا مسوِّغًا للإسقاط.
الفرض الثاني يتمثل في أن استمرار الحمل لابد أن يؤديَ إلى عاهة ظاهرة في جسم الأم، ويؤكد ذلك أهل الاختصاص من الأطباء، وأنه لا سبيل إلى تجنب حدوث ذلك إلا بإسقاط الحمل.
انتهى الفقهاء إلى جواز إسقاط الحمل إذا كان الجنين في مرحلة ما قبل نفخ الروح استنادًا للضرورة، وعدم جواز ذلك إذا كان الجنين في مرحلة ما بعد نفخ الروح.
الفرض الثالث يضعنا أمام امرأة حامل، والحمل لا يهدد صحتها فحسب بل يهدد حياتها ذاتها بالخطر إن لم تلجأ إلى الإجهاض.
هناك اتفاق بين جميع العلماء على أن قيمة الحياة واحدة وأن حرمتها لا تتفاوت ما بين فرد وآخر ما لم يكن مُهدَرَ الدمِ لعارض ما، وأننا لا نستطيع أن نجيز قتل إنسان في سبيل المحافظة على إنسان آخر. أما إذا كان الطبيب أمام مصلحتَين متساويتَين وحياتَين متساويتَين، وإنقاذ أحدهما يترتب عليه هلاك الآخر، فعليه أن يختار إنقاذ الأم ويرجح مصلحتها؛ لأن الأم هي الأصل.
موقف المشرع المصريّ من الإجهاض لدواعٍ طبيةٍ(1/366)
لا يوجد في التشريع المصريّ نص صريح يبيح الإجهاض لإنقاذ حياة الحامل أو صحتها البدنية والنفسية من خطر جسيم كما هو الحال في أغلب الشرائع المعاصرة. وقد اتجه غالبية الفقه إلى امتناع مسؤولية الفاعل في الإجهاض إذا توافرت شروط حالة الضرورة، كما وردت بنص المادة [61 عقوبات] والتي جاء بها:
لا عقاب على من ارتكب جريمةً ألجأته إلى ارتكابها ضرورةُ وقاية نفسه أو غيره من خطر جسيم على النفس على وشك الوقوع به أو بغيره، ولم يكن لإرادته دخلٌ في حلوله ولا في قدرته منعُه بطريقة أخرى.
فإذا كان الحمل يتضمن خطرًا يتهدد الأم في حياتها أو صحتها تهديدًا جسيمًا، وكان الإسقاط هو الطريقة الوحيدة لدفع هذا الخطر، ولم يكن للجاني دخل في حلوله، فهنا تمتنع مسؤولية الفاعل طبقًا للقواعد العامة أ. د/ رؤوف عبيد. جرائم الاعتداء على الأشخاص والأموال [230] دار الفكر العربيّ
ثانيًا: الإجهاض لدواع جنينية
والفرض هنا أننا بصدد جنين سيولد مشوَّهًا أو ناقص الخلقة، فهل نعتبر ذلك ضرورة تبيح لنا إسقاط الحمل؟
أجاب أغلب الفقهاء على ذلك بأن شروط الضرورة غير متوافرة في ذلك الفرض، وبالتالي لا يجوز الإجهاض، وسندهم في ذلك أنه لا يستطيع أحد أن يجزم بأن الجنين سيولد مشوَّهًا، وبالتالي فإن مسألة تشوُّهِ الجنين تدخل في منطقة الظن والاحتمال وتخرج من منطقة اليقين والجزم، ومن شروط حالة الضرورة أن يكون الخطر يقينًا لا يقبل الشك، ومن ثَمَّ أقام الفقهاء حكمهم بأنه لا يجوز إسقاط الحمل بعد مرور أربعين يومًا من بدء الحمل بدعوى أنه مشوَّهٌ.
موقف المشرع المصريّ من الإجهاض لدواع جنينية
لا يوجد في التشريع المصريّ نص يسمح بإسقاط الحمل إذا أصاب الجنين أيُّ تشوُّهٍ أو قام احتمال كبير بإصابته بآفة عقلية أو بدنية.
ثالثًا: الإجهاض للتخلص من حمل سفاح(1/367)
أي: نكاحٍ غير صحيح. وله أحكام خاصة تتمثل في أنه في حالة الحمل الناشئ من زنًا لا يجوز للحامل أن تتخلص من حملها أيًّا كان ميقاتُ الحمل، وسواء نُفخت فيه الروح أم لم تُنفخ فيه. والأدلة على ذلك:
الدليل الأول: قوله تعالى "ولا تَزِرُ وازرةٌ وِزْرَ أخرى" [الإسراء: 15] ومعنى ذلك أنه لا تتحمل نفسٌ وِزْرَ غيرها وخطأ غيرها، ومن ثَمَّ لا يجوز أن يَتحمل الجنين خطأ الحامل فيَذهبَ ضحيةً لذنب لا شأن له به.
الدليل الثاني: حديث المرأة الغامدية التي جاءت الرسولَ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت: يا رسول الله إني قد زنَيتُ فطهِّرني. فردَّها، فلما كان الغد قالت: يا رسول الله لم تَرُدَّني؟ لعلك أن تَرُدَّني كما رَدَدتَ ماعزًا؟ فوالله إني لَحُبلَى. قال: "إمّا لا فاذهبي حتى تَلِدِي" قال: فلما ولدت أتته بالصبيّ في خرقة قالت: هذا قد ولدته. قال: "اذهبي فأرضعيه حتى تَفطِمِيه" فلما فطَمَته أتته بالصبيّ في يده كِسرة خبز فقالت: هذا يا رسول الله قد فَطَمته وقد أكَل الطعام. فدفَع الصبيَّ إلى رجل من المسلمين ثم أمَرَ بها فحُفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها، فيُقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فنضح الدم على وجه خالد فسَبَّها، فسمع النبيّ سَبَّه لها فقال: "مهلًا يا خالد، فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مَكْسٍ لغُفر له" أخرجه مسلم [1695/ 23] من حديث بريدة رضي الله تعالى عنه ويستفاد من تلك القصة أنه لو كان يجوز للزانية أن تستفيد من الأحكام الخاصة بإسقاط الحمل الناشئ من نكاح صحيح لأمرها الرسول بذلك، فقد جاءته المرأة عقب ارتكابها لفعل الزنا وقبل أن يمر على الحمل الفترة اللازمة لنفخ الروح وقبل أن يصل الحمل أيضًا لمرحة التخلق.(1/368)
الدليل الثالث: أن الحكم بجواز الإسقاط خلال الأربعين يومًا الأولى من بدء الحمل أي قبل التخلق هو رخصة، والقاعدة أنه "لا تُناط الرُّخَص بالمعاصي" أي أن العاصيَ لا يستفيد من الرخص، فالمعروف أن المسافر تكون له مجموعة من الرخص، مثل الإفطار في شهر الصيام وتقصير الصلاة، ولكن ذلك بشرط أن يكون سفره لغرض مشروع كتجارة أو زيارة الأهل، أما إذا كان السفر لارتكاب معصية مثل السرقة أو تجارة غير مشروعة فإن المسافر هنا لا يستفيد من الرخص.
الدليل الرابع: أنه في حالة الحمل المتكوِّن من زنًا لا يكون هناك أبٌ للجنين، فالأب هنا مفقود لأنه زانٍ ولا تربطه بالجنين أية أُبُوّة شرعية، عملًا بالحديث: "الولد للفِراش وللعاهر الحَجَر" وحيث إن الأب ليست له ولاية على الجنين فإن الوليَّ هنا هو الحاكم، وسلطان الحاكم على الجنين ليس كسلطان الأب، فسلطان الحاكم أضعف، ومن ثم إذا كان الأب يملك التقرير بإنهاء الحمل قبل مرور أربعين يومًا من بدايته فإن الحاكم لا يملك هذا الحق، إذ عليه أن يتلمس مصلحة الجنين، ومصلحة الجنين هنا أن يستمر نموه.
الدليل الخامس: أنه بمقتضى قاعدة "سد الذرائع" التي من شأنها عدمُ السماح بإتيان الأفعال التي تؤدي إلى المفاسد، فإنه يتحتم علينا وضعُ العراقيل أمام المرأة الزانية ومنعُها من الاستفادة من الأحكام الخاصة بإسقاط الحمل.
موقف المشرّع المصريّ من الإجهاض للتخلص من حمل سفاح
واضح من استقراء نصوص الإجهاض أن المشرّع المصريّ يرفض السماح بإنهاء الحمل للتخلص من حمل سفاح، كما يرفض اعتباره عذرًا مخففًا.
رابعًا: الإجهاض لدواع اقتصادية خاصة بالأسرة والمجتمع(1/369)
الفرض هنا أن الأم أو الأب أو هما معا يَبغيان إسقاط الحمل لوجود متاعب اقتصادية تعاني منها الأسرة، كأن يتصور الأب أن أحواله المالية لن تطيق تحمل مسؤولية تنشئة هذا الجنين، أو أن لديه العددَ الكافيَ من الأولاد ولن يستطيع استقبال المزيد منهم بسبب ظروفه الاقتصادية، فهل يجوز والحالة هذه إسقاطُ الحمل؟ وهل تُعتبر تلك الصورة إحدى حالات الضرورة التي تُجيز إسقاط الحمل؟
والإجابة: اتفق الفقهاء إلى أن أمر القدرة على استئجار المرضع والقدرة على الإنفاق عمومًا أو عدم القدرة على ذلك هي من الأمور التي تندرج تحت بند التخوف من المجهولّ، وتفتقر إلى الدليل اليقينيّ، بل إن الدليل يناقض ذلك؛ لأنهم يؤمنون بأن رزق المولود معه، ومن ثَمَّ يرفض الفقهاءُ اعتبارَ الفقر أو الدواعي الاقتصادية عمومًا إحدى حالات الضرورة التي تبرِّر إسقاط الحمل.
موقف المشرّع المصريّ من الإجهاض لدواع اقتصادية واجتماعية
رغم حملات بعض الجهات للدعوة إلى إباحة الإجهاض كوسيلة فعالة لمواجهة أخطار التضخم السكاني وزيادة النسل إلا أن المشرّع المصريّ لم يَستجِبْ لذلك. جريمة إجهاض الحوامل 248 ـ 301).
ولماذا لا تنتظر الوضع؟
وتكون الإجابة: إنها قد تتزوج بعد أن تُجهض نفسها وبذلك ترتكب إثم إجهاض النفس التي أمر الحق سبحانه ألّا تُقتل، وقد تفوّت على نفسها فرصة للإصلاح بينها وبين مطلِّقها إن أجهضت نفسها. وقد تكتُم المرأة ما في بطنها لأنها ترغب في الزواج بآخر فتتزوج وهي حامل. والمولود يأتي عادةً ابنَ تسعة أشهر في بطن أمه، وأحيانًا يكون المولود ابن سبعة أشهر في بطن أمه، لذلك فأيُّ كتمان يكون فيه ضياع لنسب طفل عندما يولد. وقد تكون حمَلَت فيه ليلةَ طلاقها وتكتُم نبأ الحمل وتتزوج وتقول: إنه ابن سبعة أشهر (قال القرطبيّ: قول الله تعالى "ولا يَحِلُّ لهنَّ أن يَكتُمنَ ما خلَق اللهُ في أرحامِهنَّ" فيه مسألتان:(1/370)
الأولى: قوله تعالى "ولا يَحِلُّ لهنَّ أن يَكتُمنَ ما خلَق اللهُ في أرحامِهنَّ" أي: من الحيض. قاله عكرمة والزهريّ والنخعيّ. وقيل: الحمل. قاله عمر وابن عباس. وقال مجاهد: الحيض والحمل معًا. وهذا على أن الحامل تَحيض. والمعنى المقصود من الآية أنه لما دار أمر العدة على الحيض والأطهار ولا اطِّلاعَ عليهما إلا من جهة النساء جعَل القولَ قولَها إذا ادَّعَت انقضاءَ العدة أو عَدَمَها، وجَعَلَهنَّ مؤتَمَناتٍ على ذلك، وهو مقتَضَى قوله تعالى: "ولا يَحِلُّ لهنَّ أن يَكتُمنَ ما خلَق اللهُ في أرحامِهنَّ". وقال سليمان بن يسار: ولم نؤمر أن نفتح النساء فننظرَ إلى فروجهنَّ، ولكن نَكِلُ ذلك إليهنَّ إذ كُنَّ مؤتَمَناتٍ. ومعنى النهي عن الكتمان النهيُ عن الإضرار بالزوج وإذهابِ حقه، فإذا قالت المطلقة: حِضتُ. وهي لم تَحِضْ، ذهَبَت بحقه من الارتجاع، وإذا قالت: لم أَحِضْ. وهي قد حاضت ألزَمَته من النفقة ما لم يَلزَمْه فأضَرَّت به. أو تَقصد بكذبها في نفي الحيض ألّا ترتجعَ حتى تنقضيَ العدة ويَقطعَ الشرعُ حقَّه، وكذلك الحامل تكتُم الحمل لتقطع حقَّه من الارتجاع. قال قتادة: كانت عادتهنَّ في الجاهلية أن يَكتُمنَ الحمل ليُلحِقنَ الولد بالزوج الجديد، ففي ذلك نزلت الآية. وحُكيَ أن رجلًا من أشجَعَ أتى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: يا رسول الله، إني طلقت امرأتي وهي حُبلَى، ولست آمَنُ أن تتزوج فيصيرَ ولدي لغيري! فأنزل الله الآية، ورُدَّت امرأة الأشجعيّ عليه.(1/371)
الثانية: قال ابن المنذر: وقال كل من حَفِظتُ عنه من أهل العلم: إذا قالت المرأة في عشرة أيام: قد حضتُ ثلاثَ حيَض وانقَضَت عدتي. إنها لا تُصدَّق ولا يُقبَل ذلك منها، إلا أن تقول: قد أسقَطتُ سُقْطًا قد استبان خَلقُه. واختلفوا في المدة التي تصدَّق فيها المرأة، فقال مالك: إذا قالت: انقَضَت عدتي. في أمَدٍ تَنقَضي في مثله العدةُ قُبِل قولُها. فإن أخبَرَت بانقضاء العدة في مدة تقع نادرًا فقولان. قال في المدوَّنة: إذا قالت: حضتُ ثلاثَ حيَض في شهر. صُدِّقَت إذا صَدَّقَها النساء. وبه قال شُريح، وقال له عليّ بن أبي طالب: قالون! أي أصَبتَ وأحسَنتَ. وقال في كتاب محمد: لا تُصدَّقُ إلا في شهر ونصف. ونحوُه قولُ أبي ثور: أقل ما يكون ذلك في سبعة وأربعين يومًا؛ وذلك أن أقل الطهر خمسة عشر يومًا، وأقل الحيض يوم. وقال النعمان: لا تُصدَّقُ في أقل من ستين يومًا. وقال به الشافعيّ. تفسير القرطبيّ 3/118ـ 119) ونحن نعرف أن أقل الحمل هو ستة أشهر مصداقًا لقوله تعالى: (وحَملُه وفِصَالُه ثلاثون شهرًا) فإذا قرأنا قوله تعالى: (والوالداتُ يُرضِعْنَ أولادَهنَّ حولَين كاملَين) لكان الناتج لنا أن مدة الحمل قد تكون ستة أشهر. وتروي لنا كتب التفسير أنه حدث في خلافة عثمان بن عفان ـ رضي الله تعالى عنه ـ أن امرأة من جُهينة وَلَدَت تمامًا لستة أشهر فأمَرَ عثمان رضي الله تعالى عنه برجمها، فلما بلغ عليًّا رضي الله تعالى عنه ذلك قال له: أما سمعتَ قولَ الله تعالى: (وحَملُه وفِصَالُه ثلاثون شهرًا) وقولَه تعالى: (حولَين كاملَين)؟ فقال عثمان رضي الله تعالى عنه: والله ما فَطِنتُ لهذا، عليَّ بالمرأة. فوجدوها قد فُرِغَ منها (قال العلامة ابن كثير: وقد استدل عليّ ـ رضي الله تعالى عنه ـ بهذه الآية مع التي في لقمان "وفِصَالُه في عامَين" [لقمان: 14] وقوله تبارك وتعالى: "والوالداتُ يُرضِعْنَ أولادَهنَّ حولَين كاملَين لمَن أراد أن(1/372)
يُتمَّ الرضاعةَ" [البقرة: 233] على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر. وهو استنباط قويّ صحيح، ووافقه عليه عثمان وجماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم. قال محمد بن إسحاق بن يسار: عن يزيد بن عبد الله بن قُسيط عن معمر بن عبد الله الجُهَنيّ قال: تزوج رجل منّا امرأة من جهينة فوَلَدَت له لتمام ستة أشهر، فانطلق زوجها إلى عثمان ـ رضي الله تعالى عنه ـ فذكَر ذلك له فبَعَث إليها، فلما قامت لتَلبَس ثيابَها بَكَت أختها، فقالت: وما يُبكيكِ؟ فواللهِ ما التَبَس بي أحد من خلق الله تعالى غيره قط، فيَقضي الله سبحانه وتعالى فيَّ ما شاء. فلما أُتِيَ بها عثمان رضي الله تعالى عنه أمَرَ برجمها فبَلَغَ ذلك عليًّا رضي الله تعالى عنه فأتاه فقال له: ما تصنع؟ قال: وَلَدَت تمامًا لستة أشهر، وهل يكون ذلك؟ فقال له عليّ رضي الله تعالى عنه: أما تقرأ القرآن؟ قال: بلى. قال: أما سمعتَ الله عز وجل يقول: "وحَملُه وفِصَالُه ثلاثون شهرًا" وقال: "حولَين كاملَين" فلم نجده بَقيَ إلا ستةُ أشهر. قال: فقال عثمان رضي الله تعالى عنه: والله ما فَطِنتُ بهذا، عليَّ بالمرأة. فوجدوها قد فُرِغ منها. قال: فقال مَعمَر: فوالله ما الغراب بالغراب ولا البيضة بالبيضة بأشبَهَ منه بأبيه. فلما رآه أبوه قال: ابني والله لا أشكّ فيه. قال: وابتلاه الله تعالى بهذه القَرحة بوجهه، الآكِلة، ما زالت تأكله حتى مات. تفسير ابن كثير 4/159 ـ 160).(1/373)
والحديث رواه ابن أبي حاتم [18566] وفيه: وابتلاه الله بهذه القَرحة الآكِلة. والسيوطيّ في الدر المنثور [7/441] وفيه: فرأيت الرجل بعدُ يتساقط عضوًا عضوًا على فراشه. وقال السيوطيّ: أخرج عبد الرزاق وعبد بن حُميد وابن المنذر من طريق قتادة عن أبي حرب بن أبي الأسود الدُّؤَليّ قال: رُفع إلى عمر رضي الله تعالى عنه امرأةٌ وَلَدَت لستة أشهر، فسأل عنها أصحابَ النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال عليّ رضي الله تعالى عنه: لا رَجْمَ عليها؛ ألَا ترى أنه يقول: "وحَملُه وفِصَالُه ثلاثون شهرًا" وقال: "وفِصَالُه في عامَين" وكان الحَمل ها هنا ستةَ أشهر؟ فترَكها عمر رضي الله تعالى عنه. قال: ثم بلَغَنا أنها وَلَدَت آخَرَ لستة أشهر. وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن نافع بن جبير أن ابن عباس أخبره قال: إني لَصاحبُ المرأة التي أُتيَ بها عمرُ وَضَعَت لستة أشهر فأنكَرَ الناس ذلك، فقلت لعمر: لا تَظلم. قال: كيف؟ قلت: اقرأ "وحَملُه وفِصَالُه ثلاثون شهرًا" "والوالداتُ يُرضِعنَ أولادَهنَّ حولَين كاملَين" كم الحول؟ قال: سنة. قلت: كم السنة؟ قال: اثنا عشر شهرًا. قلت: فأربعة وعشرون شهرًا حولان كاملان، ويؤخّر الله من الحمل ما شاء ويقدّم. قال: فاستراح عمر رضي الله تعالى عنه إلى قولي. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن أبي عبيدة مولى عبد الرحمن ابن عوف قال: رُفعَت امرأة إلى عثمان ـ رضي الله تعالى عنه ـ وَلَدَت لستة أشهر فقال عثمان: إنه قد رُفعَت إليَّ امرأة ما أُراها إلا جاءت بشرٍّ. فقال ابن عباس: إذا كملت الرضاعة كان الحمل ستة أشهر؟ وقرأ "وحَملُه وفِصَالُه ثلاثون شهرًا" فدَرَأ عثمانُ عنها. الدر المنثور 7/ 441 ـ 442) إذًا فالعلة في أمر الحق بعدم كتمان ما في الرحم حتى لا تتزوج المرأة قبل براءة الرحم؛ لأنها لو تزوجت فسوف يصير من في بطنها ابنًا للزوج الجديد، ويترتب على ذلك اختلال في الأنساب والمواريث بل في الكيان(1/374)
الأُسَريّ كله. إذًا فعندما يحرِّم الله سبحانه وتعالى أن تكتُم المرأة ما خلق الله في رحمها فذلك من أجل طُهر الأنساب ونزاهتها ووضع الأمور في مكانها، وحتى لا تَظلمَ نفسَها إن ادَّعَت أنها حامل.
قول الحق سبحانه وتعالى: (ولا يَحِلُّ لهنَّ أن يَكتُمنَ ما خلَق اللهُ في أرحامِهنَّ إن كُنَّ يُؤمِنَّ باللهِ واليومِ الآخِرِ) فما علاقة الإيمان هنا بالحكم الشرعيّ؟
إنها علاقة وثيقة؛ لأن الحمل أو الحيض مسائل خفية لا يحكمها قانون ظاهر، إنما الذي يحكمها هو عملية الإيمان.(1/375)
الحالات التي يُمنع فيها الرجلُ من الزواج
السؤال: ما الحالات التي يُمنع فيها الرجلُ من الزواج فترة معينة كالمرأة المعتدَّة؟
الجواب: معلوم أن العدة أجل مضروب لانقضاء ما بَقيَ من آثار الزواج الأول، أما الرجل فلا ينتظر؛ لأن له أن يتزوج وهي معه فأولَى أن يتزوجَ وامرأتُه السابقة في العدة. غير أنه إن كانت المطلقة هي الزوجةَ الرابعةَ فليس له أن يتزوجَ إلا بعد انتهاء عدتها، فإنه لا يجوز له أن يَجمع أكثَرَ من أربع في نكاح ولا في عدة. وهذه حالة أولى. والحالة الثانية أن يريد الرجل الزواج بمن لا يَحِلُّ له الجمعُ بينهما وقد طلَّق إحداهما، كالأخت ليتزوج أختها، فلا يصح له زواجها إلا بعد انتهاء عدة الأخت المطلقة.(1/376)
ميراث المرأة كَرْهًا
السؤال: ما معنى قول الله سبحانه وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا يَحِلُّ لكم أن تَرِثُوا النساءَ كَرْهًا ولا تَعضُلُوهنَّ)؟
الجواب: يقول الحق سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا لا يَحِلُّ لكم أن تَرِثُوا النساءَ كَرْهًا ولا تَعضُلُوهنَّ لتَذهَبوا ببعضِ ما آتيتموهنَّ إلا أن يأتينَ بفاحشةٍ مبيِّنةٍ وعاشرُوهنَّ بالمعروفِ فإن كَرِهتموهنَّ فعسى أن تَكرَهوا شيئًا ويَجعلَ اللهُ فيه خيرًا كثيرًا) (النساء: 19).
ساعة ينادي الحق سبحانه وتعالى عباده الذين آمنوا به يقول سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا) فمعناها: يا من آمَنتم بي بمَحض اختياركم وآمَنتم بي إلهًا له كلُّ صفات العلم والقدرة والحكمة والقيُّومية، ما دمتم قد آمنتم بهذا الإله اسمَعوا من الإلهِ الأحكامَ التي يَطلبها منكم.(1/377)
إذًا فهو لم ينادِ أيَّ مؤمن وإنما نادَى مَن آمَن باختياره وبترجيح عقله، فالحق سبحانه وتعالى يقول: (لا إكراهَ في الدينِ قد تَبيَّنَ الرُّشدُ من الغَيِّ فمن يكفُرْ بالطاغوتِ ويُؤمِنْ بالله فقد استَمسَكَ بالعُروةِ الوُثقَى لا انفصامَ لها واللهُ سميعٌ عليمٌ) (البقرة: 256) يريد الحق سبحانه وتعالى أن يعالج قضية تتعلق بالنساء باستضعافهنَّ، لقد جاء الإسلام والنساء في الجاهلية في غَبْن وظلم عليهنَّ، فقال الحق سبحانه: (لا يَحِلُّ لكم أن تَرِثُوا النساءَ كَرْهًا) وكلمة "ورث" تدل على أن واحدًا قد تُوُفِّيَ وله وارث، وهناك شيء قد ترَكه الميت ولا يصح أن يَرِثَه أحد بعده، لأنه عندما يقول: (لا يَحِلُّ لكم أن تَرِثُوا) فقد مات مورِّث ويخاطب وارثًا. إذًا فالكلام في الموروث، لكن الموروث مرة يكون حلالًا ولذلك شرَع الله تقسيمه، وآخر يكون حرامًا فلا يصح ويجب تركه، والكلام هنا في متروك لا يصح أن يكون موروثًا، فقال سبحانه: (لا يَحِلُّ لكم أن تَرِثُوا النساءَ كَرْهًا) فهل المقصود ألّا يَرثَ الوارث من مورِّثه إمَاءً تَرَكَهنَّ؟
لا، إن الوارث يَرث من مورِّثه الإمَاءَ اللاتي تَرَكَهنَّ، ولكن عندما تنصرف كلمة "النساء" تكون لأشرف مواقعها، أي للحرائر، لأن الإمَاء تُعتبَر الواحدة منهنَّ ملكَ يمين (لا يَحِلُّ لكم أن تَرِثُوا النساءَ كَرْهًا) وهل يوجد ميراث للنساء برضًا؟ وكيف تورث المرأة؟(1/378)
ننبّه هنا إلى قوله سبحانه وتعالى: (كَرْهًا) وكان الواقع في الجاهلية أن الرجل إذا مات وعنده امرأة جاء وليّه ويُلقي ثوبه على امرأته فتصير ملكًا له، وإن لم تقبَل فإنه يَرثها كَرْهًا، أو إن لم يكن له هوًى فيها فهو يحبسها عنده حتى تموت ويَرِثَها، أو يأتيَ واحد ويزوجَها له ويأخذ مهرها لنفسه، كأنه يتصرف فيها تصرف المالك، لذلك جاء القول الفصل: (لا يَحِلُّ لكم أن تَرِثُوا النساءَ كَرْهًا) والعَضْلُ في الأصل هو المنع، ويقال: عَضَلَت المرأة بولدها. ذلك أصل الاشتقاق بالضبط، فالمرأة ساعة تَلِدُ فمن فضل الله عليها أن لها عضلات تنقبض وتنبسط، تنبسط فيتسع مكان خروج الولد (أخرج البخاريّ [4579] وأبو داود [6089] والنسائيّ في الكبرى [11094] عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما "يا أيها الذين آمنوا لا يَحِلُّ لكم أن تَرِثُوا النساءَ كَرْهًا" قال: كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، وإن شاء بعضهم تزوَّجها وإن شاءوا زوَّجوها وإن شاءوا لم يزوِّجوها، فهم أحق بها من أهلها، فنزلت هذه الآية في ذلك. وروى أبو داود [2090] عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: "لا يَحِلُّ لكم أن تَرِثُوا النساءَ كَرْهًا ولا تَعضُلُوهنَّ لتَذهَبوا ببعضِ ما آتيتموهنَّ إلا أن يأتينَ بفاحشةٍ مبيِّنةٍ" وذلك أن الرجل كان يرث امرأةَ ذي قرابته فيَعضُلُها حتى تموت أو تَرُدَّ إليه صَدَاقَها، فأحكَمَ الله تعالى عن ذلك. أي نهَى عن ذلك. وروَى عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله "يا أيها الذين آمنوا لا يَحِلُّ لكم أن تَرِثُوا النساءَ كَرْهًا" قال: كان الرجل إذا مات وترك جارية ألقَى عليها حميمة ثوبه فمنَعَها من الناس، فإن كانت جميلة تزوَّجها، وإن كانت دميمة حبَسها حتى تموتَ فيَرثَها. وقال مجاهد: كان الرجل إذا تُوُفِّيَ كان ابنه أحقَّ بامرأته، يَنكِحها إن شاء إذا لم يكن ابنَها أو يُنكحها من شاء أخاه أو ابنَ أخيه. وقال عكرمة: نزلت في كبيشة(1/379)
بنت معن ابن عاص بن الأوس، تُوُفِّيَ عنها أبو قيس بن الأسلت فجنَح عليها ابنه فجاءت رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت: يا رسول الله، لا أنا وَرِثْتُ زوجي ولا أنا تُرِكْتُ فأَنكَحَ! فنزلت هذه الآية. قال ابن كثير: فالآية تعُمّ ما كان يفعله أهل الجاهلية، وما ذكره مجاهد ومن وافَقَه وكل ما كان فيه نوع من ذلك. والله تعالى أعلم).(1/380)
الميراث، ولماذا يأخذ الرجل أكثر من المرأة؟
بعض الناس يتساءل: لماذا يأخذ الرجل ضعف المرأة في الميراث؟
ولماذا شهادة الرجل بشهادة امرأتين؟
أليس هذا تمييزًا للرجل على المرأة؟
هذا القضية أخذت وما زالت تأخذ جدلًا كبيرًا، والذي جادل فيها ـ كما قلنا ـ هم من غير المؤمنين، هم الذين يملأون الدنيا بالأكاذيب عن الإسلام، وعن المرأة في الإسلام، وكيف تعامل المرأة المسلمة معاملة الرقيق، وأنها بلا حقوق، وغير ذلك من الافتراءات والأكاذيب المختلَقَة التي يُشيعونها بهدف الطعن في الإسلام.
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: (يوصيكم اللهُ في أولادِكم للذَّكَرِ مثلُ حظِّ الأُنثَيَين) (النساء: 11) ويقول تبارك وتعالى في محكم التنزيل: (وإن كانوا إخوةً رجالًا ونساءً فللذَّكَرِ مثلُ حظِّ الأُنثَيَين يُبيِّنُ اللهُ لكم أن تَضِلُّوا واللهُ بكلِّ شيءٍ عليمٌ) (النساء: 176) ونحن لن نتحدث عن تلك الأنظمة غير الإسلامية التي تَحرِم المرأةَ من الميراث أو تعطيَ الميراثَ للأخ الأكبر وحده، إلى غير ذلك؛ لأننا لسنا محتاجين لأن نستعرض كل هذا، فالله سبحانه وتعالى هو الذي خلَق، وهو جل جلاله حكَم، ونحن كمؤمنين نطيع ما أمر به الله. إن علة الطاعة ليست في الأمر ولكن في الآمِرِ به، فما دام الله قد قال فقد لَزِمَ، فهو تبارك وتعالى المُطاع في كل أمر، والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز: (وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضَى اللهُ ورسولُه أمرًا أن يكونَ لهم الخِيَرةُ من أمرِهم ومن يَعْصِ اللهَ ورسولَه فقد ضَلَّ ضلالًا مبينًا) (الأحزاب: 36).(1/381)
فالمرأة تعيش حياتها كلها في كنَف رجل مكفولةٍ منه مسؤولٍ هو عنها، فإن كانت فتاةً فالذي ينفق عليها هو والدها، وإذا فقدت والدها أنفَق عليها أخوها أو عمها أو خالها، ولذلك فهي مكفولة من رجل دائمًا، فإذا تزوَّجَت فهي مسؤولة من زوجها، هو الذي ينفق عليها ويوفر لها مقوِّمات حياتها، وعلى أسوأ الأحوال فهي مسؤولة عن نفسها فقط، وهي ليست مسؤولة شرعًا أن تنفق على إنسان آخر مهما كانت درجة قرابته. لكن الرجل له وضع مختلف، إنه مسؤول عن غيره، فهو مسؤول شرعًا عن أمه وإخوته، وعندما يتزوج يصبح مسؤولًا عن زوجته. أما المرأة فيَعُولها وليُّها قبل أن تتزوج ويَعُولها زوجها بعد الزواج ثم يعولها أولادها بعد ذلك.
ولنفرض أن الأب يملك ستة أفدنة، وليس له سوى ابن وابنة، الابن يحصل على أربعة أفدنة والابنة تأخذ فدانَين.
في أقسى الظروف الابنةُ قد تُضطر أن تعُول نفسها فقط، ويكفيها الفدانان، وعندما تتزوج يعُولها زوجُها وتوفر الفدانين لما قد تحتاجه زيادةً عما ينفق عليها زوجها.
أما الابن الذي أخذ أربعة أفدنة فسيتزوج امرأة ويعُولها، وتصبح الأفدنة الأربعة لتوفير الحياة لاثنين وليس لفرد واحد، فمن عنده أكثر من الآخر؟ المرأة طبعًا؛ لأنها غير مسؤولة عن أن تعُول أحدًا.(1/382)
وإذا أخذنا المسألة بالمتقابلات أقول لك مثلًا: أنا عندي بنت وولد، وأنت عندك بنت وولد، كل من الابنتَين أخَذَت ثلثَ الميراث، وكل من الولدين أخَذَ ثلثَي الميراث، ابنتي تزوَّجَت ابنك وابنتك تزوَّجَت ابني، يصبح لكل عائلة ميراث كامل وتكون المسألة قد تساوت (قال العلامة السيد محمد رشيد رضا: وحكمةُ جَعلِ نصيبِ المرأة نصفَ نصيب الرجل أن الشرع الإسلاميّ أوجب أن يُنفق الرجل على المرأة، فبهذا يكون نصيب المرأة مساويًا لنصيب الرجل تارةً وزائدًا عليه تارةً أخرى باختلاف الأحوال؛ إذا مات رجل عن ولَدَين، ذكر وأنثى، وترَك لها ثلاثةَ آلاف دينار مثلًا، كان للذكر ألفان ولأخته ألف، فإذا تزوّج هو فإن عليه أن يعطيَ امرأتَه مهرًا وأن يُعِدَّ لها مسكنًا وأن ينفق عليها من ماله، سواء أكانت فقيرة أم غنية، ففي هذه الحالة تكون الألفان له ولزوجه، فيكون نصيبه بالفعل مساويًا لنصيب أخته أو أقلَّ منه، ثم إذا وُلد له أولاد يكون عليه نفقتُهم وليس على أمهم منها شيء، وفي هذه الحالة يكون مالُه الموروثُ دون مال أخته؛ فإنها إذا تزوجت، كما هو الغالب، فإنها تأخذ مهرًا من زوجها وتكون نفقتُها عليه، فيمكنها أن تَستغلّ ما وَرِثَته من أبيها وتنمِّيه لنفسها وحدها. فلو لم يكن للوارثين إلّا ما يَرِثُونه من أمواتهم لكانت أموالُ النساء دائمًا أكثَرَ من أموال الرجال إذا اتّحَدَت وسائل الاستغلال، فيكون إعطاؤهنَّ نصفَ الميراث تفضيلًا لهنَّ عليهم في أكثر الأحوال، إلا أن سببه أن المرأة أضعف من الرجل عن الكسب، ولها من شواغل الزوجية وما يتصل بها من حمل وولادة ثم من شواغل الأمومة ما يَصرِفها عن الكسب الذي تقدر عليه، وهو دون ما يقدر عليه الرجل في الغالب، فمن ثَمّ لم يكن فرضُ نفقة الزوجية والدار والأولاد على الرجل ظلمًا له وتفضيلًا للمرأة عليه في المعيشة. ووجهُ إعطاء المرأة ما تُعطَى من الميراث أن يكون لها مال تُنفق منه على نفسها إذا لم(1/383)
يُتَحْ لها الزواج أو مات زوجها ولم يترك لها ما يقوم بأَوَدِها، فهو من قبيل المال الاحتياطيّ لها وللأسرة [حقوق النساء في الإسلام 16] قال ابن كثير في تفسير قول الله تعالى "يوصيكم اللهُ في أولادِكم للذَّكَرِ مثلُ حَظِّ الأُنثَيَين فإن كُنَّ نساءً فوقَ اثنَتَين فلهنَّ ثُلُثَا ما تَرَكَ وإن كانت واحدةً فلها النصفُ ولِأَبَوَيه لكلِّ واحدٍ منهما السُّدُسُ مما تَرَكَ إن كان له ولدٌ فإن لم يكُن له ولدٌ ووَرِثَه أبَوَاه فلِأُمِّه الثُّلُثُ فإن كان له إخوةٌ فلِأُمِّه السُّدُسُ من بعدِ وصيةٍ يُوصِي بها أو دَينٍ آباؤُكم وأبناؤُكم لا تَدرُون أيُّهم أقرَبُ لكم نفعًا فريضةً من اللهِ إن اللهَ كان عليمًا حكيمًا": هذه الآية الكريمة والتي بعدها والآية التي هي خاتمة هذه السورة هُنَّ آيات علم الفرائض، وهو مستَنبَط من هذه الآيات الثلاث ومن الأحاديث الواردة في ذلك مما هي كالتفسير لذلك، ولنذكر منها ما هو متعلق بتفسير ذلك، وأما تقرير المسائل ونصب الخلاف والأدلة والحجاج بين الأئمة فموضعه كتب الأحكام، والله المستعان. وقد ورد الترغيب في تعلم الفرائض، وهذه الفرائض الخاصة من أهم ذلك، وقد روى أبو داود وابن ماجه عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا: "العلم ثلاثة وما سوى ذلك فهو فضلٌ: آية محكَمة، أو سنة قائمة، أو فريضة عادلة" رواه أبو داود [2885] وابن ماجه [54] ورواه أيضًا الحاكم [4/332] ولم يتكلم عليه وضعفه الذهبيّ. والألبانيّ في ضعيف ابن ماجه [7] وروى البخاريّ عن جابر بن عبد الله قال: عادَني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبو بكر في بني سلمة ماشيَيْنِ، فوجدني النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا أعقِل، فدعا بماء فتوضأ ثم رشّ عليَّ فأفَقتُ، فقلت: ما تأمرني أن أصنع في مالي يا رسول الله؟ فنزلت "يوصيكم اللهُ في أولادِكم للذَّكَرِ مثلُ حَظِّ الأُنثَيَين". رواه الجماعة كلهم أخرجه البخاريّ [6723] ومسلم [1616/6] واللفظ له(1/384)
وروى الإمام أحمد عن جابر قال: جاءت امرأة سعد ابن الربيع إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت: يا رسول الله، هاتان ابنتا سعد ابن الربيع، قُتل أبوهما معك في أُحُد شهيدًا، وإن عمَّهما أخَذ مالَهما فلم يَدَعْ لهما مالًا، ولا يُنكَحان إلا ولهما مال! قال: فقال: "يَقضي الله في ذلك" قال: فنزلت آية الميراث فأرسل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى عمهما فقال: "أَعْطِ ابنَتَيْ سعدٍ الثُّلُثَين وأُمَّهما الثُّمُنَ، وما بَقيَ فهو لك". وقد رواه أبو داود والترمذيّ وابن ماجه رواه أحمد في المسند [3/352] والترمذيّ [2090] وابن ماجه [2720] وأبو داود [2891] وصححه الألبانيّ في صحيح الترمذيّ [1701] والظاهر أن حديث جابر الأول إنما نزَل بسببه الآيةُ الأخيرة من هذه السورة، كما سيأتي، فإنه إنما كان له إذ ذاك أخَواتٌ ولم يكن له بناتٌ، وإنما كان يُورَث كَلالةً، ولكن ذكرنا الحديث ههنا تبعًا للبخاريّ فإنه ذكَره ههنا، والحديث الثاني عن جابر أشبَهُ بنزول هذه الآية. والله أعلم قال الشيخ شاكر: هذا هو الصحيح الذي يُفهم من مجموع الروايات، وإن حاول الحافظ في الفتح الجمع بينها بشيء من التكلف فقوله تعالى: "يوصيكم اللهُ في أولادِكم للذَّكَرِ مثلُ حَظِّ الأُنثَيَين" أي يأمركم بالعدل فيهم. فإن أهل الجاهلية كانوا يجعلون جميع الميراث للذكور دون الإناث، فأمر الله تعالى بالتسوية بينهم في أصل الميراث، وفاوَتَ بين الصنفَين فجعَل للذكر مثل حظ الأنثَيَين؛ وذلك لاحتياج الرجل إلى مُؤنة النفقة والكُّلْفة ومعاناة التجارة والتكسب وتجشُّم المشقة، فناسَبَ أن يُعطَى ضعفَي ما تأخذه الأنثى. وقد استنبط بعض الأذكاء من قوله تعالى: "يوصيكم اللهُ في أولادِكم للذَّكَرِ مثلُ حَظِّ الأُنثَيَين" أنه تعالى أرحَمُ بخلقه من الوالد بولده حيث وصَّى الوالدين بأولادهم، فعُلم أنه أرحمُ بهم منهم، كما جاء في الحديث الصحيح: وقد رأى امرأة من(1/385)
السَّبْي تدور على ولدها فلما وجَدَته أخذته فألصَقَته بصدرها وأرضَعَته، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأصحابه: "أتُرَونَ هذه طارحةً ولدها في النار وهي تقدر على ذلك؟" قلنا: لا والله، وهي تقدر على أن تطرحه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "للهُ أرحمُ بعباده من هذه بولدها" أخرج البخاريّ [5999] ومسلم [2754/ 22] عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ واللفظ لمسلم وروى البخاريّ عن ابن عباس قال: كان المال للولد وكانت الوصية للوالدَين، فنسَخ الله من ذلك ما أحَبَّ، فجعَل للذكر مثلَ حظّ الأنثَيَين، وجعَل للأبَوَين لكل واحد منهما السدسَ والثلثَ، وجعَل للزوجة الثمنَ والربعَ، وللزوج الشطرَ والربعَ أخرجه البخاريّ [2596 البغا] وقوله: "فإن كُنَّ نساءً فوق اثنَتَين فلهنَّ ثُلُثَا ما ترَك" قال بعض الناس: قوله "فوق" زائدة، وتقديره: فإن كُنَّ نساءً اثنَتَين، كما في قوله: "فاضرِبوا فوق الأعناق" [الأنفال: 12] وهذا غير مسلَّم لا هنا ولا هناك، فإنه ليس في القرآن شيء زائدٌ لا فائدة فيه، وهذا ممتنع. ثم قوله: "فلهنَّ ثُلُثَا ما ترَك" لو كان المراد ما قالوه لقال: فلهما ثُلُثَا ما ترك. وإنما استُفيد كونُ الثُّلُثَين للبنتَين من حكم الأختَين في الآية الأخيرة، فإنه تعالى حكَم فيها للأختَين بالثُّلُثَين، وإذا وَرِث الأختان الثُّلُثَين فلَأَن يَرِثَ البنتان الثُّلُثَين بطريق الأولى والأحرى، وقد تقدم في حديث جابر أن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ حكَم لابنتَي سعد بن الربيع بالثُّلُثَين، فدل الكتاب والسنة على ذلك. وأيضًا فإنه قال: "وإن كانت واحدةً فلها النصفُ" فلو كان للبنتَين النصفُ أيضًا لنَصَّ عليه، فلما حكَم به للواحدة على انفرادها دَلّ على أن البنتَين في حكم الثلاث. والله تعالى أعلم. وقوله: "ولِأبَوَيه لكلِّ واحدٍ منهما السُّدُسُ.." إلى آخره، الأبَوَان لهما في الإرث أحوال:(1/386)
أحدها: أن يَجتمعَا مع الأولاد فيُفرَض لكل واحد منهما السدسُ. فإن لم يكن للميت إلا بنت واحدة، فُرض لها النصف، وللأبوين لكل واحد منهما السدسُ، وأخَذ الأب السدسَ الآخَرَ بالتعصيب، فيُجمع له والحالةُ هذه بين الفرض والتعصيب.
الحال الثاني: أن يَنفرد الأبوان بالميراث فيُفرَض للأم الثلثُ والحالةُ هذه، ويأخذ الأبُ الباقيَ بالتعصيب المحض، ويكون قد أخَذ ضعفَي ما فُرض للأم، وهو الثلثان. فلو كان معهما زوج أو زوجة أخَذ الزوجُ النصفَ والزوجةُ الربعَ.
ثم اختلف العلماء: ماذا تأخذ الأم بعد ذلك؟ على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها تأخذ ثلث الباقي في المسألتَين؛ لأن الباقيَ كأنه جميع الميراث بالنسبة إليها، وقد جعل الله لها نصف ماجعل للأب، فتأخذُ ثلثَ الباقي، ويأخذُ الباقيَ ثُلُثَيه. وهو قول عمر وعثمان، وأصح الروايتين عن عليّ، وبه يقول ابن مسعود وزيد بن ثابت، وهو قول الفقهاء السبعة والأئمة الأربعة وجمهور العلماء.
والثاني: أنها تأخذ ثلث جميع المال؛ لعموم قوله: "فإن لم يكن له ولدٌ ووَرِثَه أبَوَاه فلِأُمِّه الثُّلُثُ" فإن الآية أعمّ من أن يكون معها زوج أو زوجة أو لا. وهو قول ابن عباس. ورُويَ عن عليّ ومعاذ بن جبل نحوُه. وبه يقول شُريح وداود الظاهريّ. واختاره أبو الحسين محمد بن عبد لله ابن اللبان البصريّ في كتابه "الإيجاز في علم الفرائض". وهذا فيه نظر بل هو ضعيف؛ لأن ظاهر الآية إنما هو إذا استَبَدَّا بجميع التركة فأما في هذه المسألة فيأخذ الزوج أو الزوجة الفرضَ ويَبقَى الباقي كأنه جميع التركة فتأخذ ثُلُثَه.(1/387)
القول الثالث: أنها تأخذ ثلث جميع المال في مسألة الزوجة، فإنها تأخذ الربع وهو ثلاثة من اثنَيْ عشر، وتأخذ الأم الثلث وهو أربعة، فيبقى خمسة للأب. وأما في مسألة الزوج فتأخذ ثلث الباقي، فلا تأخذ أكثر من الأب لو أخَذَت ثلث المال، فتكون المسألة من ستة: للزوج النصف ثلاثة، وللأم ثلث ما بقي وهو سهم، وللأب الباقي بعد ذلك وهو سهمان! ويُحكَى هذا عن ابن سيرين. وهو قولٌ مركَّب من القولَين الأوَّلَين موافقٌ كُلًّا منهما في صورة! وهو ضعيف، والصحيح الأول. والله أعلم.
الحال الثالث من أحوال الأبوين: وهو اجتماعهما مع الإخوة، سواء كانوا من الأبوين أو من الأب أو من الأم، فإنهم لا يَرِثون مع الأب شيئًا، ولكنهم مع ذلك يحجُبون الأمَّ عن الثلث إلى السدس، فيُفرَضُ لها مع وجودِهم السدسُ، فإن لم يكن وراثٌ سواها وسوى الأب أخَذ الأبُ الباقيَ. وحكمُ الأخَوَين فيما ذكرناه كحُكم الإخوة عند الجمهور.
وقوله: "فإن كان له إخوةٌ فلِأُمِّه السُّدُسُ" أضَرُّوا بالأم ولا يَرِثون. ولا يحجُبها الأخ الواحد عن الثلث ويحجُبها ما فوق ذلك. وكان أهل العلم يَرَون أنهم إنما حجَبوا أمَّهم عن الثلث أن أباهم يَلي إنكاحَهم، ونفقتُه عليهم دون أمهم. وهذا كلام حسن، لكن رُويَ عن ابن عباس بإسناد صحيح أنه كان يرى أن السدس الذي حجَبوه عن أمهم يكون لهم. وهذا قول شاذّ، رواه ابن جرير ثم قال: وهذا قول مخالف لجميع الأمة.(1/388)
وقوله: "من بعد وصيةٍ يُوصِي بها أو دَينٍ" أجمع العلماء سلفًا وخلفًا أن الدَّين مقدَّم على الوصية، وذلك عند إمعان النظر يُفهم من فحوى الآية الكريمة. وقد روى أحمد والترمذيّ وابن ماجه وأصحاب التفاسير عن عليّ بن أبي طالب قال: إنكم تقرأون "من بعد وصيةٍ يُوصِي بها أو دَينٍ" وإن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قضَى بالدَّين قبل الوصية، وإن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العَلَّات، يَرِث الرجلُ أخاه لأبيه وأمِّه دونَ أخيه لأبيه. ثم قال الترمذيّ: لا نعرفه إلا من حديث الحارث، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم، قلت: لكن كان حافظًا للفرائض معتنيًا بها وبالحساب، والله تعالى أعلم قال الشيخ شاكر: الحارث هذا هو ابن عبد الله الأعور، وهو تابعيّ ضعيف الحديث. وانظر المسند [595، 1091، 1221] وقوله: "آباؤُكم وأبناؤُكم لا تَدرُون أيُّهم أقرَبُ لكم نفعًا" أي: إنما فرَضنا للآباء وللأبناء وساوَينَا بين الكل في أصل الميراث على خلاف ما كان عليه الأمر في الجاهلية ـ على خلاف ما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام من كون المال للولد وللأبَوَين الوصية، كما تقدم عن ابن عباس ـ إنما نسَخ الله ذلك إلى هذا ففرَض لهؤلاء ولهؤلاء بحسَبهم، لأن الإنسان قد يأتيه النفع الدنيويّ أو الأخرويّ أو هُمَا من أبيه ما لا يأيته من ابنه، وقد يكون بالعكس، فلهذا قال: "آباؤُكم وأبناؤُكم لا تَدرُون أيُّهم أقرَبُ لكم نفعًا" أي: إن النفع متوقَّع ومرجوٌّ من هذا كما هو متوقَّع ومرجوٌّ من الآخر، فلهذا فرَضنا لهذا ولهذا وساوَينَا بين القسمَين في أصل الميراث. والله تعالى أعلم.
وقوله: "فريضةً من الله" أي: هذا الذي ذكرناه ـ من تفضيلِ الميراث وإعطاءِ بعضِ الورثة أكثَرَ من بعض ـ هو فرضٌ من الله، اللهُ حكَم به وقَضَاه، وهو العليم الحكيم الذي يضع الأشياء في محالِّها ويُعطي كُلًّا ما يستحقه بحسبه. ولهذا قال: "إن اللهَ كان عليمًا حكيمًا".(1/389)
وقوله تعالى: "ولكم نصفُ ما ترَك أزواجُكم إن لم يَكُنْ لهُنَّ ولدٌ فإن كان لهُنَّ ولدٌ فلكُمُ الرُّبُعُ مما تَرَكْنَ من بعدِ وصيةٍ يُوصِينَ بها أو دَيْنٍ ولهُنَّ الرُّبُعُ مما تَرَكتُم إن لم يَكُنْ لكم ولدٌ فإن كان لكم ولدٌ فلهُنَّ الثُّمُنُ مما تَرَكتُم من بعدِ وصيةٍ تُوصُون بها أو دَيْنٍ وإن كان رجلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أو امرأةٌ وله أخٌ أو أُختٌ فلكلِّ واحدٍ منهما السُّدُسُ فإن كانوا أكثَرَ من ذلك فهم شُرَكاءُ في الثُّلُثِ من بعدِ وصيةٍ يُوصَى بها أو دَيْنٍ غيرَ مُضَارٍّ وصيةً من اللهِ واللهُ عليمٌ حليمٌ" [النساء: 12](1/390)
يقول تعالى: "ولكم" أيها الرجال "نصفُ ما ترَك أزواجُكم" إذا مِتْنَ عن غير ولد "فإن كان لهُنَّ ولدٌ فلكُمُ الرُّبُعُ مما تَرَكْنَ من بعدِ وصيةٍ يُوصِينَ بها أو دَيْنٍ" وقد تقدم أن الدَّين مقدَّم على الوصية، وبعده الوصية ثم الميراث، وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء. وحكمُ أولاد البنين وإن سَفَلوا حكمُ أولاد الصلب. ثم قال: "ولهُنَّ الرُّبُعُ مما تَرَكتُم.." إلى آخره، وسواءٌ في الربعِ أو الثمنِ الزوجةُ والزوجتان والثلاثُ والأربعُ، يَشتَرِكنَ فيه. وقوله: "من بعد وصية.." إلخ، الكلام عليه كما تقدم. وقوله: "وإن كان رجلٌ يُورَثُ كَلَالَةً" الكَلَالَة مشتقة من الإكليل، وهو الذي يحيط بالرأس من جوانبه، والمراد هنا من يَرِثُه من حواشيه لا أصوله ولا فروعه، كما روَى الشعبيّ عن أبي بكر الصديق أنه سئل عن الكَلَالَة فقال: أقول فيها برأيي، فإن يَكُنْ صوابًا فمن الله وإن يَكُنْ خطأً فمنّي ومن الشيطان، واللهُ ورسولُه بريئان منه، الكَلَالَة من لا ولد له ولا والد، فلما وَلِيَ عمرُ قال: إني لَأَستحي أن أخالف أبا بكر في رأي رآه. رواه ابن جرير وغيره. وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كنت آخرَ الناس عهدًا بعمر، فسمعته يقول: القولُ ما قلتُ. قلتُ: وما قلتَ؟ قال: الكَلَالَة من لا ولد له ولا والد قال الشيخ شاكر: إسناد ابن أبي حاتم إسناده صحيح، وهذا الأثر رواه الطبريّ في التفسير [8767] ولكن سقط منه من آخره قولُه: "ولا والد" وعندي أن هذا خطأ من ناسخي الطبريّ؛ لأنه ذكَره ضمن الروايات التي رواها عمّن يقول: "من لا ولد له ولا والد" ورواه البيهقيّ أيضًا [6/225] ناقصًا كرواية الطبريّ، ولكنه وقع له هكذا، ثم عقّب عليه بما يدل على إنكاره! فهو معذور في إنكاره، إذ وقعت له الرواية الناقصة ولم تقع له الرواية التامة وهكذا قال عليّ وابن مسعود، وصحّ من غير وجه عن ابن عباس وزيد بن ثابت، وبه يقول الشعبيّ والنخعيّ، وبه يقول(1/391)
أهل المدينة والكوفة والبصرة، وهو قول الفقهاء السبعة والأئمة الأربعة وجمهور السلف والخلف، بل جميعُهم، وقد حكَى الإجماعَ عليه غيرُ واحد، وورد فيه حديث مرفوع. قال ابن اللبان: وقد رُوي عن ابن عباس ما يخالف ذلك، وهو أنه: من لا ولد له. والصحيح عنه الأول، ولعل الراويَ ما فَهِمَ عنه ما أراد.
وقوله: "وله أخٌ أو أختٌ" أي: من أمٍّ. كذا فسرها أبو بكر الصديق فيما رواه قتادة عنه "فلكلِّ واحدٍ منهما السُّدُسُ فإن كانوا أكثَرَ من ذلك فهم شُرَكاءُ في الثُّلُثِ" إخوة الأم يخالفون بقية الورثة من وجوه:
أحدها: أنهم يَرِثُون مع مَن أَدْلَوا به، وهي الأم.
الثاني: أن ذَكَرَهم وأُنثَاهم سواء.
الثالث: أنهم لا يَرِثُون إلا إذا كان ميِّتُهم يُورَثُ كلالةً، فلا يَرِثُون مع أبٍ ولا جدٍّ ولا ولدٍ ولا ولدِ ابن.
الرابع: أنهم لا يُزادون على الثلث وإن كثُر ذكورُهم وإناثُهم.
واختلف العلماء في المسألة المشرَّكة، وهي زوجٌ وأمٌّ أو جدةٌ واثنان من ولدِ الأم وواحدٌ أو أكثرُ من ولد الأبوَين، فعلى قول الجمهور للزوج النصفُ، وللأمّ أو الجدّة السدسُ، ولولد الأمّ الثلثُ، ويشاركهم فيه ولدُ الأب والأمّ بما بينهم من القدر المشترك، وهو أُخُوّةُ الأم.
وقد وقعت هذه المسألة في زمن أمير المؤمنين عمر فأعطَى الزوجَ النصفَ والأمَّ السدسَ وجعَل الثلثَ لأولاد الأم، فقال له أولاد الأبَوَين: يا أمير المؤمنين، هَبْ أن أبانَا كان حمارًا! ألَسْنَا من أم واحدة؟ فشرَّك بينهم. صح التشريك عنه وعن أمير المؤمنين عثمان. وهو إحدى الروايتين عن ابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عباس. وبه يقول سعيد بن المسيب وشريح القاضي وعمر بن عبد العزيز والثوريّ وغيرهم. وهو مذهب مالك والشافعيّ وإسحاق بن راهويه.(1/392)
وكان عليّ بن أبي طالب لا يشرِّك بينهم بل يجعل الثلثَ لأولاد الأم ولا شيءَ لأولاد الأبَوَين والحالة هذه، لأنهم عَصَبة. وهذا قول أُبَيّ بن كعب وأبي موسى الأشعريّ. وهو المشهور عن ابن عباس. وهو مذهب الشعبيّ وابن أبي ليلى وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد والإمام أحمد ويحيى بن آدم وداود بن عليّ الظاهريّ وغيرهم. واختاره ابن اللبان الفَرَضيّ في كتابه "الإيجاز".
وقوله: "من بعدِ وصيةٍ يُوصَى بها أو دَيْنٍ غيرَ مُضارٍّ" أي: لتكُنْ وصيته على العدل لا على الإضرار والجَور والحَيف بأن يَحرِمَ بعضَ الورثة أو يَنقُصَه أو يَزيدَه على ما قدّر الله له من الفريضة، فمتى سعى في ذلك كان كمن ضادّ اللهَ في حكمه وقسمته. وروى الطبريّ عن ابن عباس موقوفًا: "الضِّرارُ في الوصية من الكبائر". وكذا رواه النسائيّ وابن أبي حاتم عن ابن عباس موقوفًا قال الشيخ شاكر: رواه الطبريّ [8783 ـ 8787] وكذلك رواه البيهقيّ [6/271] ورواه الطبريّ [8788] والبيهقيّ وابن أبي حاتم ـ فيما نقله عنه ابن كثير هنا ـ مرفوعًا، وإسناده ضعيف جدًّا، والصحيح أنه موقوف على ابن عباس ولكنه موقوف لفظًا، وهو عندنا مرفوع حكمًا؛ إذ لا يقول هذا ابن عباس ولا يَجزم بأنه من الكبائر من قِبَلِ نفسه ولهذا اختلف الأئمة في الإقرار للوارث: هل هو صحيح أم لا؟ على قولين:(1/393)
أحدهما: لا يصحّ؛ لأنه مَظِنَّة التهمة. وقد ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "إن اللهَ قد أعطَى كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، فلا وصيةَ لوارث" رواه أبو داود [2870] عن أبي أمامة رضي الله تعالى عنه. وصححه الألبانيّ في صحيح أبي داود [2494] وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل والقول القديم للشافعيّ. وذهب في الجديد إلى أنه يصح الإقرار. وهو مذهب طاووس وعطاء والحسن وعمر بن عبد العزيز. وهو اختيار أبي عبد الله البخاريّ في صحيحه، واحتج بأن رافع بن خَديج أوصَى ألَّا تَكشفَ الفزاريةُ عما أُغلق عليه بابُها. قال: وقال بعض الناس: لا يجوز إقراره؛ لسوء الظنِّ بالورثة، وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظنَّ، فإن الظنَّ أكذبُ الحديث" جزء من حديث أخرجه البخاريّ [6066] ومسلم [2563/ 28] وقال الله تعالى: "إن اللهَ يأمُرُكم أن تُؤَدُّوا الأماناتِ إلى أهلِها" [النساء: 58] فلم يَخُصَّ وارثًا ولا غيره. انتهى ما ذكره.
فمتى كان الإقرار صحيحًا مطابِقًا لما في نفس الأمر جرَى فيه هذا الخلاف، ومتى كان حيلةً ووسيلةً إلى زيادة بعض الورثة ونقصان بعضهم فهو حرام بالإجماع وبنص هذه الآية الكريمة: "غيرَ مُضَارٍّ وصيةً من اللهِ واللهُ عليمٌ حليمٌ".(1/394)
قوله تعالى: "تلك حدودُ اللهِ ومن يُطِعِ اللهَ ورسولَه يُدخِلْه جناتٍ تَجري مِن تحتِها الأنهارُ خالدين فيها وذلك الفوزُ العظيمُ. ومن يَعْصِ اللهَ ورسولَه ويَتَعَدَّ حدودَه يُدخِلْه نارًا خالدًا فيها وله عذابٌ مُهينٌ" [النساء: 13 ـ 14] أي هذه الفرائض والمقادير التي جعلها الله للورثة بحسب قربهم من الميت واحتياجهم إليه وفقدهم له عند عدمه ـ هي حدود الله فلا تَعتَدُوها ولا تَجَاوَزُوها، ولهذا قال: "ومن يُطِعِ اللهَ ورسولَه" أي: فيها، فلم يَزِدْ بعضَ الورثة ولم يَنقُصْ بعضًا بحيلة ووسيلة، بل تركهم على حكم الله وفريضته وقسمته "يُدخِلْه جناتٍ تَجري مِن تحتِها الأنهارُ خالدين فيها وذلك الفوزُ العظيمُ. ومن يَعْصِ اللهَ ورسولَه ويَتَعَدَّ حدودَه يُدخِلْه نارًا خالدًا فيها وله عذابٌ مُهينٌ" أي: غيَّر ما حكَم اللهُ به وضادَّ اللهَ في حكمه قال الشيخ شاكر: هذا الوعيد الشديد هو لمن تعدَّى حدود الله في الوصية والميراث وإعطاءِ كل ذي حق حقَّه، وخالَفَ عن أمر ربه وظنَّ أنه يعمل ما يراه ـ بعقله القاصر أو بهواه ـ ما فيه مصلحة لورثته. أعني أن هذا في المخالفة العملية التي لا تتصل بالعقيدة كما هو ظاهر من سياق الآيات الربانية، أما الخارجون على شريعة الله وحدوده الذين يطالبون بمساواة المرأة بالرجل في الميراث ـ من الجمعيات النسائيّة الفاجرة المتهتكة، ومن الرجال أو أشباه الرجال الذين يروِّجون لهذه الدعوة ويتملَّقون النسوة فيما يَصدُرُون ويَرِدُون ـ فإنما هم خارجون من الإسلام خروج المرتدين؛ لاتصال ذلك بأصل العقيدة وإنكار التشريع الإسلاميّ، فيجب على كل مسلم أن يقاومهم ما استطاع وأن يدفع شرَّهم عن دينه وعن أمته وهذا إنما يصدُر عن عدم الرضا بما قسَم الله وحكَم به، ولهذا يجازيه بالإهانة في العذاب الأليم المقيم، روى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل يعمل بعمل أهل الخير(1/395)
سبعين سنة، فإذا أوصَى حاف في وصيَّته فيُختم له بشرِّ عمله فيَدخل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشرِّ سبعين سنة، فيَعدل في وصيَّته فيُختم له بخير عمله فيَدخل الجنة" قال: ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: "تلك حدود الله.." إلى قوله: "..عذابٌ مُهينٌ" ورواه أبو داود والترمذيّ وابن ماجه بنحوه، وسياق الإمام أحمد أتم وأكمل رواه ابن ماجه [2704] وأبو داود [2867] وضعفه الألبانيّ في ضعيف أبي داود [614] وأحمد في المسند [2/278] وقال الشيخ شاكر في المسند [7728]: إسناده صحيح عمدة التفسير 3/117 ـ 125).(1/396)
الوصية
السؤال: قريبة لي أوصَت قبل وفاتها بتوريثي كلَّ تركتها وكلَّ ما تملك، فهل هذا التوريث يجوز شرعًا؟
الجواب: أخشى ما أخشاه أن تكون الوصية لأحد الأقارب فرارًا من أن يأخذ الوارثون حقوقَهم المشروعة، فإن ذلك يدخل في باب الكراهية، وإلا فما الداعي لأن تَحرِم فردًا كتَب الله له ميراثًا، فما دام الله قد كتب له ذلك فهو أقرب لها من غيره، والإنسان لا يمكن أن يوصيَ إلا بثلث ماله، وأما الثلثان فهو حق الله يتصرف فيهما بقوانين التوريث كما أراد. والله يقول في ذلك: (آباؤُكم وأبناؤُكم لا تَدْرُون أيُّهم أقرَبُ لكم نفعًا فريضةً من اللهِ) (النساء: 11) فأنا لا أترك ثروتي لمن أحب ولكن أتركها لمن شرع الله أن يأخذها، وما دام الإنسان قد دخل دنياه وليس معه شيء فإن لله يخرجه أيضًا وليس معه شيء، وليس له أن يتصرف إلا في الثلث، ويترك الباقيَ لأصحاب الحقوق. كما يجب أن يكون الثلث الذي يتصرف فيه لغير وارث، فإن كان لوارث فلا بد من موافقة جميع الورثة، قال الله تعالى: (كُتب عليكم إذا حضَر أحدَكم الموتُ إن ترَك خيرًا الوصيةُ للوالدَين والأقربِين بالمعروف حقًّا على المتقين) [البقرة: 180] (قال القرطبيّ في قوله تعالى "كُتب عليكم إذا حضَر أحدَكم الموتُ إن ترَك خيرًا الوصيةُ للوالدَين والأقربِين بالمعروف حقًّا على المتقين": فيه إحدى وعشرون مسألة:(1/397)
الأولى: قوله تعالى "كُتب عليكم" هذه آية الوصية، وليس في القرآن ذكر للوصية إلا في هذه الآية، وفي النساء "من بعد وصية" وفي المائدة "حين الوصية" والتي في البقرة أتمُّها وأكملُها، ونزلت قبل نزول الفرائض والمواريث، على ما يأتي بيانه. وفي الكلام تقديرُ واو العطف، أي: وكُتب عليكم. فلما طال الكلام أُسقطت الواو. ومثله في بعض الأقوال "لا يَصْلَاها إلا الأشقَى. الذي كذَّب وتولَّى" [الليل: 15 ـ 16] أي: والذي. فحُذف. وقيل: لما ذكَر أن لوليِّ الدم أن يَقتصَّ، فهذا الذي أشرف على أن يقتص منه وهو سبب الموت فكأنما حضره الموت، فهذا أوان الوصية؛ فالآية مرتبطة بما قبلها ومتصلة بها فلذلك سقطت واو العطف. و"كُتب" معناه فُرض وأُثبت. وحضورُ الموت أسبابُه، ومتى حضر السبب كَنَّت به العرب عن المسبِّب، قال شاعرهم:
يا أيها الراكبُ المُزْجِى مَطيَّتَه سائلْ بني أسدٍ ما هذه الصوتُ
الصوت مذكر، وإنما أنثه هاهنا لأنه أراد به الضوضاء والجلبة، على معنى الصيحة
وقُل لهم بادِروا بالعُذر والتَمِسوا قولًا يبرِّئكم إني أنا الموتُ
وقال عنترة:
وإن الموتَ طَوْعُ يدي إذا ما وصلت بنانها بالهندوان
وقال جرير في مهاجاة الفرزدق:
أنا الموت الذي حُدِّثتَ عنه فليس لهارب منّي نَجَاءٌ
الثانية: إن قيل: لم قال "كُتب" ولم يقل "كُتبَت" والوصيةُ مؤنثة؟
قيل له: إنما ذلك لأنه أراد بالوصية الإيصاء. وقيل: لأنه تخلَّل فاصل، فكأن الفاصل كالعوض من تاء التأنيث، تقول العرب: حضَر القاضيَ اليوم امرأةٌ. وقد حكى سيبويه: قام امرأة. ولكن حسنُ ذلك إنما هو مع طول الحائل.
الثالثة: قوله تعالى "إن ترَك خيرًا" إن شرط، وفي جوابه لأبي الحسن الأخفش قولان؛ قال الأخفش: التقدير "فالوصية" ثم حُذفت الفاء، كما قال الشاعر:(1/398)
من يَفعلِ الحسناتِ اللهُ يَشكُرها والشرُّ بالشرِّ عند اللهِ مِثلَانِ
والجواب الآخر: أن الماضيَ يجوز أن يكون جوابه قبلَه وبعدَه، فيكون التقدير "الوصيةُ للوالدَين والأقربِين إن ترَك خيرًا" فإن قدَّرتَ الفاء فالوصية رفع بالابتداء، وإن لم تقدِّر الفاء جاز أن ترفعها بالابتداء وأن ترفعها على ما لم يُسَمَّ فاعله؛ أي كُتب عليكم الوصية. ولا يصح عند جمهور النحاة أن تعمل "الوصية" في "إذا" لأنها في حكم الصلة للمصدر الذي هو الوصية وقد تقدمت، فلا يجوز أن تعمل فيها متقدمةً. ويجوز أن يكون العامل في إذا "كُتب" والمعنى: توجَّه إيجاب الله إليكم ومقتضى كتابه إذا حضر. فعبّر عن توجّه الإيجاب بـ "كُتب" لينتظم إلى هذا المعنى أنه مكتوب في الأزل. ويجوز أن يكون العاملُ في "إذا" الإيصاءَ، يكون مقدَّرًا دلَّ على الوصية المعنى: كُتب عليكم الإيصاء إذَا..(1/399)
الرابعة: قوله تعالى "خيرًا" الخير هنا المال من غير خلاف، واختلفوا في مقداره، فقيل: المال الكثير. رُويَ ذلك عن عليّ وعائشة وابن عباس. وقالوا في سبعمائة دينار إنه قليل. قتادة عن الحسن: الخير ألف دينار فما فوقها. الشعبيّ: ما بين خمسمائة دينار إلى ألف. والوصية عبارة عن كل شيء يؤمر بفعله ويُعهد به في الحياة وبعد الموت. وخصّصها العرف بما يُعهد بفعله وتنفيذه بعد الموت. والجمع وصايَا كالقضايَا جمع قضية. والوصيُّ يكون المُوصِي والمُوصَى إليه، وأصله من وَصَى مخففًا. وتَواصَى النبت تواصيًا إذا اتصل. وأرض واصية: متصلة النبات. وأوصيت له بشيء وأوصيت إليه، إذا جعلتَه وصيَّك. والاسم الوَصاية والوِصاية، بالكسر والفتح. وأوصيته ووصَّيته أيصا توصية بمعنًى، والاسمُ الوَصاة. وتَواصَى القوم أوصَى بعضهم بعضًا، وفي الحديث: "استوصُوا بالنساء خيرًا؛ فإنهنَّ عَوَانٍ عندكم" عوان جمع عانية، وهي الأسيرة. يقول: إنما هنَّ عندكم بمنزلة الأسرى. وهو جزء من حديث أخرجه الترمذيّ [1163] وقال: حديث حسن صحيح. وابن ماجه [1851] وحسنه الألبانيّ في صحيح ابن ماجه [1501] وانظر الإوراء [1997] ووصيت الشيء بكذا إذا وصلته به.(1/400)
الخامسة: اختلف العلماء في وجوب الوصية على من خلّف مالًا، بعد إجماعهم على أنها واجبة على مَن قِبَلَه ودائعُ وعليه ديونٌ، وأكثر العلماء على أن الوصية غير واجبة على من ليس قِبَلَه شيء من ذلك، وهو قول مالك والشافعيّ والثوريّ، موسِرًا كان المُوصِي أو فقيرًا. وقالت طائفة: الوصية واجبة على ظاهر القرآن. قاله الزهريّ وأبو مِجْلَز، قليلًا كان المال أو كثيرًا. وقال أبو ثور: ليست الوصية واجبة إلّا على رجل عليه دَين أو عنده مال لقوم فواجب عليه أن يكتب وصيته ويُخبِرَ بما عليه، فأما من لا دَين عليه ولا وديعةَ عنده فليست بواجبة عليه إلا أن يشاء. قال ابن المنذر: وهذا حسن؛ لأن الله فرَض أداءَ الأمانات إلى أهلها، ومَن لا حقَّ عليه ولا أمانةَ قِبَلَه فليس واجب عليه أن يُوصيَ. احتج الأوَّلون بما رواه الأئمة عن ابن عمر أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "ما حقُّ امرئٍ مسلمٍ له شيء يريد أن يوصيَ فيه يَبيت ليلَتَين إلا ووصيتُه مكتوبةٌ عنده" أخرجه البخاريّ [2738] ومسلم [1627/ 1] واللفظ له. وأبو داود [2862] والترمذيّ [2118] والنسائيّ في المجتبَى [6/239] وابن ماجه [2699] وفي رواية "يَبيت ثلاث ليال" وفيها قال عبد الله بن عمر: ما مرت عليَّ ليلة منذ سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال ذلك إلا وعندي وصيتي أخرجه مسلم [1627/4] احتج من لم يوجبها بأن قال: لو كانت واجبة لم يَجعلها إلى إرادة المُوصِي ولكان ذلك لازمًا على كل حال، ثم لو سلِّم أن ظاهره الوجوب فالقول بالموجَب يردُّه، وذلك فيمَن كانت عليه حقوق للناس يَخاف ضياعَها عليهم، كما قال أبو ثور، وكذلك إن كانت له حقوق عند الناس يَخاف تَلَفَها على الورثة فهذا يجب عليه الوصية ولا يُختلف فيه. فإن قيل: فقد قال الله تعالى "كُتب عليكم" وكُتب بمعنى فُرض، فدَلَّ على وجوب الوصية. قيل لهم: قد تقدم الجواب عنه في الآية قبلُ، والمعنى: إذا أردتم الوصية. والله(1/401)
أعلم، وقال النخعيّ: مات رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم يُوصِ وقد أوصَى أبو بكر، فإن أوصَى فحَسَنٌ وإن لم يُوصِ فلا شيء عليه.
السادسة: لم يبيّن الله تعالى في كتابه مقدار ما يوصي به من المال، وإنما قال: "إن ترَك خيرًا" والخير: المال. كقوله تعالى: "وما تنفقوا من خير" "وإنه لِحُبِّ الخير" فاختلف العلماء في مقدار ذلك، فرُويَ عن أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ أنه أوصى بالخمس. وقال عليّ رضي الله عنه: من غنائم المسلمين بالخمس. وقال معمر عن قتادة: أوصَى عمر بالربع. وذكره البخاريّ عن ابن عباس. ورُويَ عن عليّ ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: لَأَن أُوصِيَ بالخمس أحبُّ إليَّ من أن أُوصِيَ بالربع، ولَأَن أُوصِيَ بالربع أحبُّ إليَّ من أن أُوصِيَ بالثلث أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف [7/307] واختار جماعة لمن مالُه قليل وله ورثةٌ تَرْكَ الوصية؛ رُويَ ذلك عن عليّ وابن عباس وعائشة رضوان الله عليهم أجمعين. روَى ابن أبي شيبة من حديث ابن أبي مُليكة عن عائشة قال لها: إني أريد أن أوصيَ! قالت: وكم مالُك؟ قال: ثلاثة آلاف. قالت: فكم عيالُك؟ قال: أربعة. قالت: إن الله تعالى يقول: "إن ترَك خيرًا" وهذا شيء يسيرٌ، فدَعْهُ لعيالك فإنه أفضل لك أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف [7/307](1/402)
السابعة: ذهب الجمهور من العلماء إلى أنه لا يجوز لأحد أن يوصيَ بأكثر من الثلث، إلا أبا حنيفة وأصحابه فإنهم قالوا: إن لم يترك المُوصِي ورثةً جاز له أن يوصيَ بماله كله. وقالوا: إن الاقتصار على الثلث في الوصية إنما كان من أجل أن يَدَعَ ورثتَه أغنياءَ، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنك أن تَذَرَ ورَثَتَكَ أغنياءَ خيرٌ من أن تَذَرَهم عالةً يَتكفَّفون الناسَ" الحديث رواه الأئمة جزء من حديث أخرجه البخاريّ [4409] ومسلم [1628/5] وأبو داود [2864] والترمذيّ [2116] وابن ماجه [2708] ومن لا وراث له فليس ممّن عُني بالحديث. رُويَ هذا القول عن ابن عباس، وبه قال أبو عبيدة ومسروق، وإليه ذهب إسحاق ومالك في أحد قولَيه، ورُويَ عن عليّ. وسبب الخلاف مع ما ذكرنا الخلافُ في بيت المال: هل هو وارث أو حافظ لما يُجعل؟ فيه قولان.
الثامنة: أجمع العلماء على أن من مات وله ورثة فليس له أن يوصيَ بجميع ماله. ورُويَ عن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ أنه قال حين حضرته الوفاة لابنه عبد الله: إني قد أردت أن أوصيَ. فقال له: أَوْصِ ومالُك في مالي. فدعا كاتبًا فأملَى، فقال عبد الله: فقلت له: ما أُراك إلا قد أتَيتَ على مالي ومالك، ولو دَعَوتَ إخوتي فاستَحلَلتَهم!(1/403)
التاسعة: وأجمعوا أن للإنسان أن يغير وصيته ويرجع فيما شاء منها. إلا أنهم اختلفوا من ذلك في المدبَّر، فقال مالك رحمه الله: الأمر المجمع عليه عندنا أن الموصيَ إذا أوصَى في صحته أو مرضه بوصية فيها عَتَاقة رَقيق من رَقيقه أو غير ذلك فإنه يغيّر من ذلك ما بدا له ويَصنع من ذلك ما شاء حتى يموت، وإن أحَبَّ أن يَطرَحَ تلك الوصية ويُسقطَها فَعَلَ، إلا أن يُدبِّرَ، فإن دَبَّرَ مملوكًا فلا سبيلَ له إلى تغيير ما دَبَّرَ؛ وذلك أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "ما حقُّ امرئٍ مسلمٍ له شيءٌ يوصي فيه يَبيت ليلَتَين إلا ووصيتُه مكتوبةٌ عنده" قال أبو الفرج المالكيّ: المدبِّر في القياس كالمُعتِق إلى شهر؛ لأنه أجلٌ آتٍ لا محالة. وأجمَعوا ألَّا يرجعَ في اليمين بالعتق، والعتق إلى أجل، فكذلك المدبِّر. وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعيّ وأحمد وإسحاق: هو وصية. لإجماعهم أنه في الثلث كسائر الوصايا. وفي إجازتهم وَطْءَ المدبَّرة ما ينقُض قياسَهم المدبِّرَ على العتق إلى أجل، وقد ثبت أن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ باع مدبَّرًا، وأن عائشة دبَّرَت جارية لها ثم باعتها. وهو قول جماعة من التابعين. وقالت طائفة: يغيّر الرجل من وصيته ما شاء إلا العَتاقة. وكذلك قال الشعبيّ وابن سيرين وابن شُبرُمة والنخعيّ. وهو قول سفيان الثوريّ.(1/404)
العاشرة: واختلفوا في الرجل يقول لعبده: أنت حر بعد موتي. وأراد الوصية، فله الرجوع عند مالك في ذلك. وإن قال: فلان مدبَّر بعد موتي. لم يكن له الرجوع فيه. وإن أراد التدبير بقوله الأول لم يَرجع أيضًا عند أكثر أصحاب مالك. وأما الشافعيّ وأحمد وإسحاق وأبو ثور فكلُّ هذا عندهم وصية؛ لأنه في الثلث، وكل ما كان في الثلث فهو وصية. إلا أن الشافعيّ قال: لا يكون الرجوع في المدبَّر إلا بأن يُخرجه عن ملكه ببيع أو هبة، وليس قوله: "قد رجعت" رجوعًا، وإن لم يُخرِجْ المدبَّرَ عن مِلكه حتى يموت فإنه يَعتِق بموته. وقال في القديم: يرجع في المدبَّر كما يرجع في الوصية. واختاره المُزَنيّ قياسًا على إجماعهم على الرجوع فيمَن أوصى بعتقه. وقال أبو ثور: إذا قال: قد رجعت في مدبَّري. فقد بطل التدبير، فإن مات لم يَعتِق. واختلف ابن القاسم وأشهب فيمن قال: عبدي حر بعد موتي. ولم يُرِدْ الوصية ولا التدبير، فقال ابن القاسم: هو وصية. وقال أشهب: هو مدبَّر وإن لم يُرِدْ الوصية.(1/405)
الحادية عشرة: اختلف العلماء في هذه الآية: هل هي منسوخة أو محكَمة؟ فقيل: هي محكَمة، ظاهرها العموم ومعناها الخصوص في الوالدَين اللذَين لا يَرثان كالكافرَين والعبدَين، وفي القرابةِ غير الورثة. قاله الضحاك وطاووس والحسن، واختاره الطبريّ. وعن الزهريّ أن الوصية واجبة فيما قل أو كثر. وقال ابن المنذر: أجمع كل من يُحفظ عنه من أهل العلم على أن الوصية للوالدَين اللذَين لا يَرثان والأقرباءِ الذين لا يَرثون جائزة. وقال ابن عباس والحسن أيضًا وقتادة: الآية عامة، وتَقرَّرَ الحكم بها بُرهةً من الدهر ونُسخ منها كلُّ من كان يرث بآية الفرائض. وقد قيل: إن آية الفرائض لم تَستقلّ بنسخها بل بضَميمة أخرى، وهي قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله قد أعطَى لكلِّ ذي حقٍّ حقَّه فلا وصيةَ لوارث" رواه أبو أمامة، أخرجه الترمذيّ وقال: هذا حديث حسن صحيح جزء من حديث رواه الترمذيّ [2120] وصححه الألبانيّ في صحيح الترمذيّ [1721] ورواه ابن ماجه مختصرا [2714] فنسخُ الآية إنما كان بالسنة الثابتة لا بالإرث على الصحيح من أقوال العلماء، ولولا هذا الحديث لأمكَنَ الجمعُ بين الآيتَين؛ بأن يأخذوا المالَ عن المورِّث بالوصية وبالميراث إن لم يُوصِ أو ما بَقيَ بعد الوصية، لكن منَع من ذلك هذا الحديثُ والإجماع. والشافعيّ وأبو الفرج وإن كانَا منَعَا من نسخ الكتاب بالسنة فالصحيح جوازه، بدليل أن الكلَّ حكمُ الله تبارك وتعالى ومِن عندِه وإن اختلفت الأسماء. وقد تقدم هذا المعنى. ونحن وإن كان هذا الخبر بلَغَنَا آحادًا لكن قد انضم إليه إجماع المسلمين أنه لا تجوز وصية لوارث، فقد ظهر أن وجوب الوصية للأقربِين الوارِثين منسوخ بالسنة وأنها مستَنَد المُجْمِعِين. والله أعلم. وقال ابن عباس والحسن: نُسخت الوصية للوالدَين بالفرض في سورة النساء، وثَبَتَت للأقرَبِين الذين لا يَرثون. وهو مذهب الشافعيّ وأكثر المالكيِّين وجماعة من أهل العلم. وفي(1/406)
البخاريّ عن ابن عباس قال: كان المال للولد وكانت الوصية للوالدين، فنَسَخَ من ذلك ما أحَبَّ، فجعَل للذكر مثلَ حظِّ الأنثَيَين، وجعَل للأبَوَين لكل واحد منهما السدسَ؛ وجعَل للمرأة الثمنَ والربعَ، وللزوج الشطرَ والربعَ. وقال ابن عمر وابن عباس وابن زيد: الآية كلها منسوخة، وبَقيَت الوصية ندبًا. ونحو هذا قول مالك رحمه الله، وذكره النحاس عن الشعبيّ والنخعيّ. وقال الربيع بن خُثيم: لا وصية. قال عروة بن ثابت: قلت للربيع بن خُثيم: أَوْصِ لي بمصحفك. فنظر إلى ولده وقرأ: "وأولوا الأرحام بعضُهم أَوْلَى ببعضٍ في كتابِ الله" [الأنفال: 75] ونحوَ هذا صنَع ابن عمر رضي الله عنه.
الثانية عشرة: قوله تعالى "والأقرَبِين" الأقرَبون جمع أقرَب. فقال قوم: الوصية للأقرَبِين أَوْلَى من الأجانب؛ لِنصّ الله تعالى عليهم. حتى قال الضحاك: إن أوصَى لغير قرابته فقد ختَم عمله بمعصية. ورُويَ عن ابن عمر أنه أوصَى لأمهات أولاده لكل واحدة بأربعة آلاف. ورُويَ أن عائشة وصَّت لمولَاةٍ لها بأثاث البيت. ورُويَ عن سالم بن عبد الله بمثل ذلك. وقال الحسن: إن أوصَى لغير الأقرَبين رُدَّت الوصية للأقرَبين؛ فإن كانت لأجنبيّ فمعهم، ولا تجوز لغيرهم مع تركهم. وقال الناس حين مات أبو العالية: عجبًا له؛ أعتَقَته امرأة من رِيَاح وأوصَى بماله لبني هاشم! وقال الشعبيّ: لم يكن له ذلك ولا كرامة. وقال طاووس: إذا أوصَى لغير قرابته رُدَّت الوصية إلى قرابته ونُقض فعله. وقاله جابر بن زيد. وقد رُويَ مثل هذا عن الحسن أيضًا، وبه قال إسحاق بن راهويه. وقال مالك والشافعيّ وأبو حنيفة وأصحابهم والأوزاعيّ وأحمد بن حنبل: من أوصى لغير قرابته وترك قرابته محتاجين فبئسما صنع! وفعله مع ذلك جائز ماضٍ لكل مَن أوصَى له من غنيٍّ وفقير، قريب وبعيد، مسلم وكافر. وهو معنى ما رُوي عن ابن عمر وعائشة، وهو قول ابن عمر وابن عباس.(1/407)
قلت: القول الأول أحسن، وأما أبو العالية فلعله نظَر إلى أن بني هاشم أَوْلَى من مُعتِقَتِه؛ لصحبته ابنَ عباس وتعليمِه إياه وإلحاقِه بدرجة العلماء في الدنيا والأخرى. وهذه الأُبُوّةُ وإن كانت معنوية فهي الحقيقية، ومُعتِقَتُه غايتُها أن ألحَقَته بالأحرار في الدنيا فحسبُها ثوابُ عِتقها. والله أعلم.
الثالثة عشرة: ذهب الجمهور من العلماء إلى أن المريض يُحجر عليه في ماله. وشذَّ أهل الظاهر فقالوا: لا يُحجر عليه وهو كالصحيح. والحديث والمعنى يردّ عليهم. قال سعد: عادَني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حجة الوداع من وجَع أشفَيتُ منه على الموت أَشْفَى على الشيء: أشرَفَ عليه فقلت: يا رسول الله، بلَغ بي ما ترَى، وأنا ذو مال ولا يَرِثُني إلا بنت واحدة، أفأتصدق بثلثَي مال؟ قال: "لا" قلت: أفأتصدق بشطره؟ قال: "لا، الثلثُ والثلثُ كثير، إنك أن تَذَرَ وَرَثَتَكَ أغنياءَ خير من أن تَذَرَهم عالةً يَتكفَّفون الناس.." الحديث. ومنَع أهل الظاهر أيضًا الوصيةَ بأكثر من الثلث وإن أجازها الورثة، وأجاز ذلك الكافةُ إذا أجازها الورثة، وهو الصحيح؛ لأن المريض إنما مُنع من الوصية بزيادة على الثلث لِحَقِّ الوارث فإذا أسقَطَ الورثة حقَّهم كان ذلك جائزًا صحيحًا، وكالهبة من عندهم. وروَى الدارقطنيّ عن ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تجوز الوصية لوارث إلا أن يشاء الورثة" أخرجه الدارقطني في سننه [4251] وروَى عن عمرو بن خارجة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا وصية لوارث إلا أن تُجيز الورثة" "أخرجه الدارقطني في سننه [4252](1/408)
الرابعة عشرة: واختلفوا في رجوع المُجِيزِين للوصية للوارث في حياة الموصِي بعد وفاته، فقالت طائفة: ذلك جائز عليهم وليس لهم الرجوع فيه. هذا قول عطاء بن أبي رباح وطاووس والحسن وابن سيرين وابن أبي ليلى والزهريّ وربيعة والأوزاعيّ. وقالت طائفة: لهم الرجوع في ذلك إن أحبُّوا. هذا قول ابن مسعود وشُريح والحكم وطاووس والثوريّ والحسن ابن صالح وأبي حنيفة والشافعيّ وأحمد وأبي ثور، واختاره ابن المنذر. وفرَّق مالك فقال: إذا أَذِنُوا في صحته فلهم أن يرجعوا، وإن أَذِنُوا له في مرضه حين يُحجب عن ماله فذلك جائز عليهم. وهو قول إسحاق.
احتج أهل المقالة الأولى بأن المنع إنما وقع من أجل الورثة فإذا أجازوه جاز. وقد اتفقوا أنه إذا أوصى بأكثر من ثلثه لأجنبيّ جاز بإجازتهم فكذلك هاهنا.
واحتج أهل القول الثاني بأنهم أجازوا شيئًا لم يَملكوه في ذلك الوقت، وإنما يُملك المال بعد وفاته، وقد يموت الوارث المستأذن قبله ولا يكون وارثًا وقد يرثه غيره؛ فقد أجاز من لا حق له فيه فلا يلزمه شيء.
واحتج مالك بأن قال: إن الرجل إذا كان صحيحًا فهو أحق بماله كله يصنع فيه ما شاء، فإذا أَذِنُوا له في صحته فقد تركوا شيئًا لم يجب لهم، وإذا أَذِنُوا له في مرضه فقد تركوا ما وجب لهم من الحق فليس لهم أن يرجعوا فيه إذا كان قد أنفَذَه لأنه قد فات.
الخامسة عشرة: فإن لم يُنفذ المريض ذلك كان للوارث الرجوعُ فيه؛ لأنه لم يَفُتْ بالتنفيذ. قاله الأبهَريّ. وذكَر ابن المنذر عن إسحاق بن راهويه أن قول مالك في هذه المسألة أشبه بالسُّنّة من غيره. قال ابن المنذر: واتفق قول مالك والثوريّ والكوفيين والشافعيّ وأبي ثور أنهم إذا أجازوا ذلك بعد وفاته لَزِمَهم.(1/409)
السادسة عشرة: واختلفوا في الرجل يوصي لبعض ورثته بمال ويقول في وصيته: إن أجازها الورثة فهي له وإن لم يجيزوه فهو في سبيل الله. فلم يُجيزوه. فقال مالك: إن لم تُجِزْ الورثة ذلك رجع إليهم. وفي قول الشافعيّ وأبي حنيفة ومعمر صاحب عبد الرزاق: يُمضَى في سبيل الله.
السابعة عشرة: لا خلاف في وصية البالغ العاقل غير المحجور عليه، واختُلف في غيره فقال مالك: الأمر المُجمَع عليه عندنا أن الضعيف في عقله والسفيه والمصاب الذي يُفيق أحيانًا تجوز وصاياهم إذا كان معهم من عقولهم ما يَعرفون ما يُوصون به، وكذلك الصبيّ الصغير إذا كان يَعقل ما أوصَى به ولم يأتِ بمنكَر من القول فوصيته جائزة ماضية. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا تجوز وصية الصبيّ. وقال المُزَنيّ: وهو قياس قول الشافعيّ. ولم أجد للشافعيّ في ذلك شيئًا ذكَره ونَصّ عليه. واختلف أصحابه على قولين: أحدهما كقول مالك، والثاني كقول أبي حنيفة. وحجتهم أنه لا يجوز طلاقه ولا عَتاقه ولا يُقتَصّ منه في جناية ولا يُحَدّ في قذف، فليس كالبالغ المحجور عليه، فكذلك وصيته. قال أبو عمر: قد اتفق هؤلاء على أن وصية البالغ المحجور عليه جائزة، ومعلوم أن مَن يَعقل من الصبيان ما يُوصِي به فحالُه حالُ المحجور عليه في ماله، وعلةُ الحجر تبذيرُ المال وإتلافُه، وتلك علة مرتفعة عنه بالموت، وهو بالمحجور عليه في ماله أشبَهُ منه بالمجنون الذي لا يَعقل، فوجب أن تجوز وصيته مع الأمر الذي جاء فيه عن عمر رضي الله عنه. وقال مالك إنه الأمر المُجمَع عليه عندهم بالمدينة. وبالله التوفيق. وقال محمد بن شُريح: مَن أوصَى من صغير أو كبير فأصاب الحقَّ فاللهُ قضاه على لسانه، ليس للحقِّ مَدفَعٌ.(1/410)
الثامنة عشرة: قوله تعالى "بالمعروف" يعني: بالعدل لا وَكْسَ فيه ولا شَطَطَ. وكان هذا موكولًا إلى اجتهاد الميت ونظرِ المُوصِي، ثم تولَّى الله سبحانه تقدير ذلك على لسان نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال صلى الله عليه وسلم: "الثلثُ، والثلثُ كثير" وقد تقدم ما للعلماء في هذا. وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله تَصدَّقَ عليكم بثلُث أموالكم عند وفاتكم زيادةً لكم في حسناتكم ليجعلها لكم زكاة" أخرجه الدارقطني [4245] عن أبي أمامة عن معاذ بن جبل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقال الحسن: لا تجوز وصية إلا في الثلث. وإليه ذهب البخاريّ واحتج بقوله تعالى: "وأنِ احكُمْ بينهم بما أنزَلَ اللهُ" [المائدة: 49] وحُكمُ النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن "الثلُث كثير" هو الحُكمُ بما أنزل الله فمن تجاوز ما حدّه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وزاد على الثلث فقد أتَى ما نهَى النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عنه وكان بفعله ذلك عاصيًا إذا كان بحكم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عالمًا. وقال الشافعيّ: وقوله صلى الله عليه وسلم: "الثلث كثير" يريد أنه غير قليل.
التاسعة عشرة: قوله تعالى "حقًّا" يعني ثابتًا ثبوتَ نظَرٍ وتحصينٍ لا ثبوتَ فرضٍ ووجوبٍ، بدليل قوله تعالى: "على المتقين" وهذا يدل على كونه ندبًا؛ لأنه لو كان فرضًا لكان على جميع المسلمين، فلما خَصَّ اللهُ مَن يَتَّقي، أي يَخاف تقصيرًا، دلّ على أنه غير لازِم إلا فيما يُتوقَّع تَلَفُه إن مات فيَلزَمه فرضًا المبادرةُ بكتبه والوصية به؛ لأنه إن سكَت عنه كان تضييعًا له وتقصيرًا منه. وقد تقدم هذا المعنى. وانتَصَب "حقًّا" على المصدر المؤكد، ويجوز في غير القرآن "حقٌّ" بمعنى: ذلك حقٌّ.(1/411)
الموفّية عشرين: قال العلماء: المبادرة بكتب الوصية ليست مأخوذة من هذه الآية وإنما هي من حديث ابن عمر، وفائدتها المبالغةُ في زيادة الاستيثاق وكونُها مكتوبةً مشهودًا بها، وهي الوصية المتفق على العمل بها، فلو أشهَدَ العدولَ وقاموا بتلك الشهادة لفظًا لَعُمل بها وإن لم تُكتب خَطًّا، فلو كتبها بيده ولم يُشهد فلم يَختلف قول مالك أنه لا يُعمل بها إلا فيما يكون فيها من إقرارٍ بحقٍّ لمن لا يُتَّهَم عليه فيَلزَمه تنفيذه.
الحادية والعشرون: روى الدارقطنيّ عن أنس بن مالك قال: كانوا يكتبون في صدور وصاياهم: هذا ما أوصَى به فلان بن فلان، أنه يَشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور، وأوصَى مَن ترَك بعده مِن أهله بتقوى الله حق تقاته وأن يُصلحوا ذاتَ بينهم ويطيعوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين، وأوصاهم بما وصّى به إبراهيمُ بنيه ويعقوبُ "يا بَنِيَّ إن اللهَ اصطَفَى لكم الدينَ فلا تَموتُنَّ إلا وأنتم مسلمون" أخرجه الدارقطني في سننه [4258] تفسير القرطبيّ 2/257 ـ 268) الله سبحانه لا يكلف إلا من آمَن به وأحبَّه وآمَن بكل صفات الجلال والكمال فيه، ولذلك فالتكليف الإيمانيّ شرف خَصَّ الله به المؤمنين، ولو فَطِنَ الكفار إلى أن الله تعالى أهمَلَهم لأنهم لم يؤمنوا به لَسارَعوا إلى الإيمان. إن المؤمن يلتزم بالتكليف خضوعًا لمشيئة الله تعالى، والخضوع لمشيئته سبحانه هو الطاعة والتسليم لأمره سبحانه. إن التكليف مرتبة تأتي بعد الإيمان، وهي عزّ للعبد؛ لأن الذي خلقه هو الذي يكلّفه، ويكلّفه بشيء لصالحه هو، فالله تعالى لا ينتفع بأعمالنا.(1/412)
قوله تعالى: (كُتب عليكم) الكتابة هنا أمر مشترك بين الحق الذي أنزَل التكليفَ وبين العبد الذي آمَن والتزَم بالتكليف، هذا الأمر هو (إذا حضَر أحدَكم الموتُ إن ترَك خيرًا الوصيةُ للوالدَين والأقرَبِين بالمعروف حقًّا على المتقين) وهنا نجد شرطين:
الشرط الأول يبدأ بـ (إذا) وهي للأمر المتحقق وهو حدوث الفعل، و(الموت) أمر حتميّ بالنسبة لكل عبد، لذلك جاء الحق بهذا الأمر بشرطٍ هو (إذا) فهي أداة لشرط وظرف لِحدث، و(الموت) هو أمر محقق إلا أن أحدًا لا يعرف ميعاده (إشارة إلى قول الله تعالى: "وما تَدري نفسٌ بأيِّ أرضٍ تموت" [لقمان: 34] وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "مفاتيح الغيب خمسٌ لا يعلمها إلا اللهُ: لا يعلم ما في غدٍ إلا اللهُ، ولا يعلم ما تَغيض الأرحام إلا اللهُ، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا اللهُ، ولا تدري نفس بأيِّ أرض تموت، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا اللهُ" أخرجه البخاريّ [4697] ومسلم 9/5،7) والشرط الثاني يبدأ بـ (إن) وهي أداة شرط نقولها في الأمر الذي يَحتمل الشك، فقد يترك الإنسان بعد الموت ثروة وقد لا يترك شيئًا، ولذلك فإن الحق يأمر العبد بالوصية خيرًا له. لماذ؟(1/413)
لأن الحق سبحانه يشرّع للمجتمع ككُلّ، إذًا الحق سبحانه يأمر عباده بأن يضربوا في الحياة ضربًا يوسّع رزقهم ليتسع لهم ويَفيض عن حاجتهم، فهذا الفائض هو الخير، والخير في هذا المجال يختلف من إنسان لآخر ومن زمن لآخر، فعندما كان يترك العبد عشرة جنيهات في الزمن القديم كان لهذا المبلغ قيمة، أما عندما يترك عبد آخر ألفَ جنيه في هذه الأيام فقد تكون محسوبة عند البعض بأنها قليل من الخير، إذًا فالخير يقدَّر في كل أمر بزمانه، ولذلك لم يحدده الله برقم. إننا في مصر مثلًا كنا نصرف الجنيه الورقيّ بجنيه من الذهب ويَفيض منه قرشان ونصف قرش، أما الآن فالجنيه الذهبيّ يساوي أكثر من مائتين وخمسين جنيهًا؛ لأن رصيد الجنيه المصريّ في الزمن القديم كان مرتفعًا أما الآن فالنقد المتداوَل قد فاق الرصيد الذهبيّ، لذلك صار الجنيه الذهبيّ أغلي بكثير جدًّا من الجنيه الورقيّ.
ولأن الله يريد بالناس الخير لم يحدِّد قدر الخير أو قيمته، وعندما يحضر الموتُ الإنسانَ الذي عنده فائض من الخير لا بد أن يوصيَ من هذا الخير. وعلينا أن نعلم أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد نهَى عن انتظار لحظة الموت ليقول الإنسان وصيته أو ليبلغ أسرته بالديون التي عليه (أخرج البخاريّ [2738] عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "ما حقُّ امرئٍ مسلمٍ له شيءٌ يوصي فيه يَبيت ليلَتَين إلا ووصيتُه مكتوبةٌ عنده") لأن الإنسان لحظة الموت قد لا يفكر في مثل هذه الأمور. ولذلك فعلينا أن نفهم أن الحق ينبهنا إلى أن يكتب الإنسان ما له وما عليه أثناء حياته، فيقول ويكتب وصيته التي تُنفَّذ من بعد حياته، يقول المؤمن: إذا حضَرَني الموت فلِوالِدِي كذا وللأقرَبِين كذا. أي أن المؤمن مأمور بأن يكتب وصيته وهو صحيح، ولا ينتظر وقت حدوث الموت ليقول هذه الوصية.
والحق يوصي بالخير لمن؟(1/414)
(للوالدَين والأقرَبِين بالمعروف حقًّا على المتقين) الحق سبحانه يعلم عن عباده أنهم يلتفتون إلى أبنائهم وقد يُهملون الوالدَين؛ لأن الناس تنظر إلى الآباء والأمهات كمُودِّعِين للحياة على الرغم من أن الوالدَين هما سبب إيجاد الأبناء في الحياة، لذلك يوصي الحق عباده المؤمنين بأن يخصصوا نصيبًا من الخير للآباء والأمهات وأيضًا للأقارب. وهو سبحانه يريد أن يحميَ ضعيفَين، هما الوالدان والأقرباء.
وقد جاء هذا الحكم قبل تشريع الميراث، فالناس قبل تشريع الميراث كانوا يُعطُون كلَّ ما يملكون لأولادهم، فأراد الله أن يلفتهم إلى عدم حرمان الوالدَين والأقرَبِين، وقد حدد الله من بعد ذلك نصيب الوالدين في الميراث (قال تعالى: "يوصيكم اللهُ في أولادِكم للذَّكَرِ مثلُ حَظِّ الأُنثَيَين فإن كُنَّ نساءً فوقَ اثنَتَين فلهنَّ ثُلُثَا ما تَرَكَ وإن كانت واحدةً فلها النصفُ ولِأَبَوَيه لكلِّ واحدٍ منهما السُّدُسُ مما تَرَكَ إن كان له ولدٌ فإن لم يكُن له ولدٌ ووَرِثَه أبَوَاه فلِأُمِّه الثُّلُثُ فإن كان له إخوةٌ فلِأُمِّه السُّدُسُ من بعدِ وصيةٍ يُوصِي بها أو دَينٍ آباؤُكم وأبناؤُكم لا تَدرُون أيُّهم أقرَبُ لكم نفعًا فريضةً من اللهِ إن اللهَ كان عليمًا حكيمًا" [النساء: 11] وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: كان المال للولد وكانت الوصية للوالدَين، فنسَخ الله من ذلك ما أحَبَّ، فجعَل للذكر مثلَ حظِّ الأنثَيَين، وجعَل للأبَوَين لكل واحد منهما السدسَ، وجعَل للمرأة الثمنَ والربعَ، وللزوج الشطرَ والربعَ. أخرجه البخاريّ [2747، 4578، 6739] وقال الحافظ في الفتح: قوله "وجعَل للأبَوَين لكل واحد منهما السدسَ" أفاد السهيليّ أن الحكمة في إعطاء الوالدَين ذلك والتسوية بينهما ليستمرَّا فيه فلا يُجحف بهما إن كثُرت الأولاد مثلًا، وسوَّى بينهما في ذلك مع وجود الولد أو الإخوة لما يستحقه كل منهما على الميت من التربية ونحوها، وفضَّل(1/415)
الأب على الأم عند عدم الولد والإخوة لما للأب من الامتياز بالإنفاق والنصرة ونحو ذلك، وعُوِّضَت الأم عن ذلك بأمر الولد بتفضيلها على الأب في البر في حال حياة الولد. انتهى ملخصًا. وأخرج عبد بن حميد من طريق قتادة عن بعض أهل العلم أن الأب حجَب الإخوة وأخَذ سهامَهم لأنه يتولَّى إنكاحهم والإنفاقَ عليهم دون الأم. فتح الباري 13/510) أما الأقربون فقد ترك الحق لعباده تقرير أمرهم في الوصية. وقد يكون الوالدان من الكفار؛ لذلك لا يَرِثَان من الابن (عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "لا يَرِث المسلمُ الكافرَ ولا الكافرُ المسلمَ" أخرجه البخاريّ [6764] ومسلم 1614) ولكن الحق يقول: (وإن جاهَدَاك على أن تُشرِكَ بي ما ليس لك به علمٌ فلَا تُطِعْهما وصاحِبْهما في الدنيا معروفًا واتَّبِعْ سبيلَ من أناب إليَّ ثم إليَّ مَرجعُكم فأنبِّئُكم بما كنتم تعملون) (لقمان: 15) إن الحق يذكّر عباده بفضله عليهم وأيضًا بفضل الوالدين، ولكن إن كان الوالدان مشركَين بالله فلا طاعة لهما في هذا الشرك، ولكن هناك الأمر بمصاحبتهما في الحياة بالمعروف، لذلك فالإنسان يستطيع أن يوصيَ بشيء من الخير في وصيته للأبَوَين حتى ولو كانَا من الكافرين، ونحن نعرف أن حدود الوصية هي ثلث ما يملكه الإنسان والباقي للميراث الشرعيّ، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: جاء النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعُودُني وأنا بمكة، وكان ذلك في حجة الوداع وهو يكره أن يموت بالأرض التي هاجر منها، قال: "يرحم الله ابن عَفراء" قلت: يا رسول الله، أُوصي بمالي كله؟ قال: "لا" قلت: فالشطر؟ قال: "لا". قلت: الثلث؟ قال: "فالثلث، والثلث كثير، إنك أن تَدَعَ وَرَثَتَكَ أغنياءَ خيرٌ من أن تَدَعَهم عالةً يَتكفَّفون الناسَ ما في أيديهم، وإنك مهما أنفَقتَ من نفقةٍ فإنها صدقةٌ، حتى اللقمةُ تَرفعُها إلى فيِّ امرأتك، وعسى اللهُ أن يَرفعَك(1/416)
فيَنتفعَ بك ناسٌ ويُضَرَّ بك آخرون" ولم يكن له يومئذ إلا ابنة (أخرجه البخاريّ [2742] ومسلم [1628/ 8] قال الحافظ في الفتح: قوله "يتكفَّفون الناس" أي يسألون الناس بأكفِّهم، يقال: تكفَّف الناس واستكفَّ؛ إذا بسط كفه للسؤال، أو سأل ما يَكُفّ عنه الجوع، أو سأل كفًّا كفًّا من طعام.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "في أيديهم" أي بأيديهم، أو سألوا بأكفهم وَضْعَ المسؤول في أيديهم. وقع في رواية الزهريّ أن سعدًا قال: "وأنا ذو مال" ونحوه في رواية عائشة بنت سعد في الطب، وهذا اللفظ يؤذِن بمال كثير، وذو المال إذا تصدق بثلثه أو بشطره وأبقى ثلثه بين ابنته وغيرها لا يصيرون عالة، لكن الجواب أن ذلك خرج على التقدير؛ لأن بقاء المال الكثير إنما هو على سبيل التقدير، وإلا فلو تصدق المريض بثُلُثَيه مثلًا ثم طالت حياته ونقَص وفَنِيَ المال فقد تُجحف الوصية بالورثة، فردّ الشارع الأمر إلى شيء معتدل وهو الثلث.
قوله صلى الله عليه وسلم: "وإنك مهما أنفَقتَ من نفقة فإنها صدقة" هو معطوف على قوله: "إنك أن تَدَعَ" وهو علة للنهي عن الوصية بأكثر من الثلث، كأنه قيل: لا تفعل؛ لأنك إن مت تركتَ ورثتك أغنياءَ وإن عشتَ تصدقتَ وأنفقتَ، فالأجر حاصل لك في الحالين.
وقوله: "فإنها صدقة" كذا أطلق في هذه الرواية، وفي رواية الزهريّ "وإنك لن تُنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجِرتَ بها" مقيّدة بابتغاء وجه الله، وعلّق حصول الأجر بذلك، وهو المعتبَر، ويستفاد منه أن أجر الواجب يزداد بالنية؛ لأن الإنفاق على الزوجة واجب وفي فعله الأجر، فإذا نوى به ابتغاء وجه الله ازداد أجره بذلك. قاله ابن أبي جمرة، قال: ونبَّه بالنفقة على غيرها من وجوه البر والإحسان. فتح الباري [6/17](1/417)
وقال في موضع آخر أن من لا وارث له تجوز له الوصية بأكثر من الثلث لقوله صلى الله عليه وسلم: "أن تَذَرَ ورَثَتَك أغنياءَ" فمفهومه أن من لا وارث له لا يبالي بالوصية بما زاد؛ لأنه لا يترك ورثة يَخشَى عليهم الفقرَ. وتُعُقِّبَ بأنه ليس تعليلًا محضًا وإنما فيه تنبيه على الأحظِّ الأنفع، ولو كان تعليلًا محضًا لاقتَضَى جوازَ الوصية بأكثر من الثلث لمن كانت ورثته أغنياء ولَنَفَذَ ذلك عليهم بغير إجازتهم، ولا قائل بذلك. وعلى تقدير أن يكون تعليلًا محضًا فهو للنقص عن الثلث لا للزيادة عليه، فكأنه لما شرع الإيصاء بالثلث وأنه لا يُعترض به على المُوصِي إلا أن الانحطاط عنه أولى ولا سيما لمن يترك ورثة غير أغنياء، فنبَّه سعدًا على ذلك.(1/418)
وفيه سد الذريعة، لقوله صلى الله عليه وسلم: "ولا تَرُدَّهم على أعقابهم" لئلَّا يتذرَّع بالمرض أحد لأجل حب الوطن. قاله ابن عبد البر. وفيه تقييد مطلَق القرآن بالسنة؛ لأنه قال سبحانه وتعالى: "من بعد وصية يوصي بها أو دَين" (النساء: 11] فأطلَقَ وقيَّدَت السنةُ الوصيةَ بالثلث. وأن من ترك شيئًا لله لا ينبغي له الرجوع فيه ولا في شيء منه مختارًا. وفيه التأسف على فَوت ما يحصِّل الثواب. وفيه حديث "من ساءته سيئته" وأن من فاته ذلك بادَرَ إلى جبره بغير ذلك. وفيه تسليةُ من فاته أمر من الأمور بتحصيل ما هو أعلى منه، لما أشار ـ صلى الله عليه وسلم ـ لسعد من عمله الصالح بعد ذلك. وفيه جواز التصدق بجميع المال لمن عُرف بالصبر ولم يكن له من تَلزَمه نفقتُه. وفيه الاستفسار عن المحتمل إذا احتَمَل وجهًا، لأن سعدًا لما مُنع من الوصية بجميع المال احتَمَلَ عنده المنعَ فيما دونه والجوازَ، فاستَفسَرَ عما دون ذلك. وفيه النظر في مصالح الورثة، وأن خطاب الشارع للواحد يعمّ من كان بصفته من المكلَّفين؛ لإطباق العلماء على الاحتجاج بحديث سعد هذا، وإن كان الخطاب إنما وقع له بصيغة الإفراد. ولقد أبعَدَ من قال: إن ذلك يَختص بسعد ومَن كان في مثل حاله ممَّن يخلِّف وارثًا ضعيفًا أو كان ما يخلفِّه قليلًا. لأن البنت من شأنها أن يُطمع فيها، وإن كانت بغير مال لم يرغب فيها. وفيه أن من ترك مالًا قليلًا فالاختيار له تركُ الوصية وإبقاءُ المال للورثة، واختلف السلف في ذلك القليل. واستدل به التيميّ لفضل الغنيّ على الفقير، وفيه نظر. وفيه مراعاة العدل بين الورثة ومراعاة العدل في الوصية. وفيه أن الثلث في حد الكثرة. فتح الباري [6/19].(1/419)
وقال الإمام النوويّ: في هذا الحديث مراعاة العدل بين الورثة والوصية، قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: إن كانت الورثة أغنياءَ استُحِبَّ أن يوصيَ بالثلث تبرعًا، وإن كانوا فقراء استُحِبَّ أن ينقُص من الثلث. وأجمع العلماء في هذه الأعصار على أن من له وارث لا تنفُذ وصيتُه بزيادة على الثلث إلا بإجازته، وأجمعوا على نفوذها في جميع المال. وأما من لا وارث له فمذهبنا ومذهب الجمهور أنه لا تصح وصيته فيما زاد على الثلث، وجوَّزه أبو حنيفة وأصحابه وإسحاق وأحمد في إحدى الروايتين عنه، ورُوي عن عليّ وابن مسعود رضي الله عنهما.(1/420)
وأما قوله: "أفأتصدق بثلثَي مالي؟" يَحتمل أنه أراد بالصدقة الوصيةَ، ويحتمل أنه أراد الصدقة المنجَّزة، وهما عندنا وعند العلماء كافة سواءٌ، لا ينفُذ ما زاد على الثلث إلا برضا الوارث. وخالف أهل الظاهر فقالوا: للمريض مَرَضَ الموت أن يتصدق بكل ماله ويتبرع به كالصحيح. ودليل الجمهور ظاهر الحديث: "الثلث كثير" شرح النوويّ على مسلم [6/89 ـ 90] وعن ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ قال: ولو غَضَّ الناس إلى الربع؛ لأن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "الثلث والثلث كثير" أخرجه البخاريّ [2743] ومسلم [1629] وقال الإمام النوويّ: قوله: "غَضّوا" بالغين والضاد المعجمتين، أي نقَصوا. وفيه استحباب النقص عن الثلث، وبه قال جمهور العلماء مطلقًا، ومذهبنا أنه إن كان ورثته أغنياء استُحِبَّ الإيصاء بالثلث، وإلا فيُستحبُّ النقص منه، وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه أوصى بالخمس، وعن عليّ رضي الله عنه نحوه. وعن ابن عمر وإسحاق بالربع. وقال آخرون بالسدس. وآخرون بدونه. وقال آخرون بالعشر. وقال إبراهيم النخعيّ رحمه الله تعالى: كانوا يَكرهون الوصية بمثل نصيب أحد الورثة. ورُويَ عن عليّ وابن عباس وعائشة وغيرهم ـ رضي الله عنهم ـ أنه يستحب لمن له ورثةٌ ومالُه قليل تَرْكُ الوصية. شرح النوويّ على مسلم 6/93) أما إذا كانَا من المؤمنين ففي الحديث: "لا وصية لوارث" (رواه الترمذيّ [2121] وقال: حديث حسن صحيح. وصححه الألبانيّ في صحيح الترمذيّ 1722) وفي الوصية يدخل الأقرباء والضعفاء غير الوارثين. والحق حين ينبه عباده إلى الوصية في أثناء الحياة بالأقربين الضعفاء يريد أن يدرك العبادُ أن عليهم مسؤوليةً تجاه هؤلاء، ومن الخير أن يعمل الإنسان في الحياة ويضرب في الأرض ويسعى للرزق الحلال ويترك ورثته أغنياء بدلًا من أن يكونوا عالة على أحد، وإذا رزَق الله الإنسانَ من عمله خيرًا كثيرًا فعليه ألَّا يَقصُرَ هذا الخيرَ على من يرثه.(1/421)
لماذا؟
لأنك إن قَصَرتَ شيئًا على من يَرثك فقد تصادف في حياتك من لا يَرث وله حق القربى منك وهو في حاجة إلى من يساعده على أمر معاشه، فإذا لم تساعده يحقد عليك وعلى كل نعمة وهبها الله لك، ولكن حين يعلم هذا القريب أن النعمة التي وهبها الله لك قد يناله منها شيء ـ ولو بالوصية ـ يملأه الفرح بالنعمة التي وهبها الله لك، ولذلك قال الحق: (والأقرَبِين بالمعروف حقًّا على المتقين).
إن الحق يريد أن يَلفت العبادَ إلى الأقرباء غير الوارثين بعد أن أدخَلَ الآباءَ والأمهاتِ في الميراث، إن الإنسان حين يكون قريبًا لميت ترَك خيرًا وخَصّ الميتُ هذا القريبَ ببعض من الخير في الوصية، هذا القريب تمتلئ بالخير نفسه فيتعلم ألَّا يمنع الخير عن الضعفاء، وهكذا يستطرق الحب وتعلو وشائج المودة. والحق ـ وهو الأعلم بنفوس عباده ـ يعلم أنه في بعض الأحيان أن الموصيَ قد لا يكون على حق والوارث قد يكون على حق، لذلك احتاط التشريع لهذه الحالة؛ لأن الموصيَ حين يأخذ حظه من الوصية سينقُص من نصيب الوارث، ولذلك يريد الحق سبحانه وتعالى أن يعصم الاطراف كلها، إنه سبحانه يَحمى الذي وصَّى والمُوصَى له والوارثَ، يقول تعالى: (فمن بدَّله بعدما سَمعَه فإما إثمُه على الذين يبدِّلونه إن اللهَ سميعٌ عليمٌ) (البقرة: 181) ونحن نعرف أنه في زمن نزول القرآن كانت الوصية شفاهة ولم تكن الكتابة منتشرة؛ ولذلك أتى الحق بالجانب المشترك في الموصِي والموصَى له والوارث، وهو جانب القول، فقد كان القول هو الأداة الواضحة في ذلك الوقت ولم تكن هناك وسائل لتوثيق مثل هذه الوصايا أو الأقوال كما هو منتشر عندنا الآن، لذلك كان تبديل وصية الميت إثمًا على الذي يبدل فيها. إن الموصِي قد بَرِئَت ذمته، أما ذمة الموصَى له والوارث فهي التي تستحق أن تنتبه إلى أن الله يعلم خفايا الصدور وهو السميع العليم. ويريد الحق أن يصلح العلاقة بين الوارث والموصى له؛ لذلك يقول الحق:(1/422)
(فمَن خاف من مُوصٍ جَنَفًا أو إثمًا فأصلَحَ بينهم فلا إثمَ عليه إن اللهَ غفورٌ رحيمٌ) إن الحق يريد العدل للجميع، فإذا كانت الوصية زائغة عن العدل وعن الصراط المستقيم وكان فيها حرمان للفقير وزيادة في ثراء الغني أو تركٌ للأقرَبِين، فهذا ضياع للاستطراق الذي أراده الله، فإذا جاء من يسعى في سبيل الخير ليرد الوصية للصواب فلا إثم عليه في التغيير الذي يُحدثه في الوصية طالما أنه يبدِّلها على الوجه الصحيح لها الذي يُرضي اللهَ سبحانه وتعالى. وقد يخاف الإنسان من صاحب الوصية أن يكون جَنِفًا، والجَنَف يفسَّر بأنه الحَيف والجَور (قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في قوله تعالى: "فمن خاف من مُوصٍ جَنَفًا أو إثمًا فأصلَحَ بينهم فلا إثمَ عليه إن اللهَ غفورٌ رحيمٌ" تفريع على الحكم الذي تقدَّمه وهو تحريم التبديل، فكما تفرَّع عن الأمر بالعدل في الوصية وعيدُ المبدِّل لها، وتفرَّع عن وعيد المبدِّل الإذنُ في تبديلٍ هو من المعروف، وهو تبديل الوصية التي فيها جَور وحَيف بطريقة الإصلاح بين الموصَى لهم وبين من ناله الحَيف من تلك الوصية، بأن كان جديرًا بالإيصاء إليه فترَكه الموصِي، أو كان جديرًا بمقدار فأجحَفَ به المُوصِي؛ لأن آية الوصية حصَرت قسمة تَرِكة الميت في اتباع وصيته وجعلت ذلك موكولًا إلى أمانته بالمعروف، فإذا خاف حَيفًا واضحًا وجنَف عن المعروف أمَرَ ولاةُ الأمور بالصلح.
ومعنى "خاف" هنا: الظن والتوقع؛ لأن ظنَّ المكروه خوفٌ، فأطلق الخوف على لازِمِه وهو الظن والتوقع، إشارة إلى أن ما توقَّعه المتوقِّع من قبيل المكروه، والقرينةُ هي أن الجَنَفَ والإثم لا يُخيفان أحدًا، ولا سيما من ليس من أهل الوصية وهو المصلِحُ بين أهلها، ومن إطلاق الخوف في مثل هذا قول أبي مِحجَنِ الثقفيّ:
أخاف إذا ما متّ ألَّا أذوقَها
أي أظن وأعلم شيئًا مكروهًا، ولذا قال قبله:
تُروِّي عظامي بعد موتي عروقُها(1/423)
والجَنَف: الحَيف والمَيل والجَور، وفعله كفَرِحَ، والإثم والمعصية. فالمراد من الجَنَف هنا تفضيل من لا يَستحق التفضيل على غيره من القرابة المساوي له أو الأحق، فيشمل ما كان من ذلك عن غير قصد، ولكنه في الواقع حَيف في الحق، والمراد بالإثم ما كان قصد الموصِي به حرمانَ من يستحق أو تفضيلَ غيره عليه.
والإصلاح جعل الشيء صالحًا، يقال: أصلحه. أي جعله صالحًا، ولذلك يطلق على الدخول بين الخَصمين بالمراضاة؛ لأنه يجعلهم صالحين بعد أن فسَدوا. ويقال: أصلَح بينهم. لتضمينه معنى "دخل" والضمير المجرور بـ "بين" في الآية عائد إلى الموصِي والموصَى لهم المفهومين من قوله تعالى "مُوصٍ" إذ يقتضي مُوصًى لهم. ومعنى "فلا إثم عليه" أنه لا يَلحقه حرج من تغيير الوصية؛ لأنه تغيير إلى ما فيه خير. والمعنى أن من وجد في وصية الموصِي إضرارًا ببعض أقربائه ـ بأن حرَمه من وصيته، أو قدَّم عليه من هو أبعد نسبًا، أو أوصَى إلى غنيّ من أقربائه وترك فقيرهم ـ فسعى في إصلاح ذلك وطلب من الموصِي تبديلَ وصيته فلا إثم عليه في ذلك؛ لأنه سعى في إصلاح بينهم. أو حدَث شقاق بين الأقرَبِين بعد موتى الموصِي لأنه آثَرَ بعضهم، ولذلك عقَّبه بقوله: "إن الله غفور رحيم" وفيه تنويه بالمحافظة على تنفيذ وصايا الموصِين، حتى جعل تغيير جورهم محتاجًا للإذن من الله تعالى والتنصيص على أنه مغفور. وقرأ الجمهور "مُوصٍ" على أنه اسم فاعل "أوصى" وقرأه أبو بكر عن عاصم، وحمزة والكسائيّ ويعقوب وخلف "مُوَصٍّ" بفتح الواو وتشديد الصاد على أنه اسم فاعل "وصَّى" المضاعف. التحرير والتنوير 2/153ـ 154) وقد يخلق الله الإنسان بجَنَف، أي على هيئة يكون جانب منه أقلَّ طولًا من الجانب الآخر، ونحن نعرف من علماء التشريح أن كل نصف في الإنسان مختلف عن النصف الآخر، وقد يكون ذلك واضحًا في بعض الناس وقد لا يكون واضحا إلا للمدقق الفاحص، والإنسان قد لا يكون له خيار في أن يكون شقُّه(1/424)
الأيمن أعلى من الأيسر والعكس مثلًا؛ لأن الله تعالى خلقه هكذا، ولكن الإثم باختيار الإنسان، أي أن يعلم الإنسان الذنب ومع ذلك يرتكبه.
إذًا فمن خاف من مُوصٍ حَيفًا وظلمًا من غير تعمد فهذا أمر لا خيار للموصي فيه، فإصلاح ذلك الحيف والظلم فيه خير للموصي. أما إذا كان صاحب الوصية قد تعمد ألَّا يكون آثمًا فإصلاح ذلك الإثم أمر واجب.
والحق عالج قضية التشريع للبشر في أمر القصاص باستثارة كل مَلَكَات الخير في الإنسان حين قال: (فمن عُفيَ له من أخيه شيءٌ فاتباعٌ بالمعروف) إنه ليس تشريعًا جافًّا كتشريع البشر، إنه تشريع من الخالق الرحيم العليم بخبايا البشر. ويستثير الحق في كلِّ البشر كلَّ نوازع الخير، ويعالج كذلك قضية تبديل الوصية التي وصَّى بها الميت بنفسه، فمن خالف الوصية التي أقيمت على عدالة فعليه عقاب تلك المخالفة. أما الذي يتدخل لإصلاح أمر الوصية بما يحقق النجاة للميت من الحيف غير المقصود ولكنه يسبب ألمًا، أو يُصلح من أمر وصية فيها إثم، فهذا أمر يحبه الله ولا إثم فيه ويمنح الله به المغفرة والرحمة. وهكذا يعلمنا الحق أن الذي يسمع أو يقرأ وصية فلا بد أن يقيسها على تشريع الله ومنهجه سبحانه، فإن كان فيها مخالفة فلابد أن يراجع صاحبها.(1/425)
ولنا أن نلحظ أن الله سبحانه قد أشار إلى إحساس الإنسان بالخوف من وقوع الظلم بقصد أو بغير قصد حين قال تعالى: (فمن خاف من مُوصٍ جَنَفًا أو إثمًا فأصلَحَ بينهم فلا إثمَ عليه إن اللهَ غفورٌ رحيمٌ) إن كلمة "خاف" عندما تأتي في هذا الموضع تدل على الوحدة الإيمانية في نفوس المسلمين، إن المؤمن الذي يتصدى لإصلاح من هذا النوع قد يكون غير وارث ولا هو من الموصَى لهم ولا هو الموصِي، إنما هو مجرد شاهد، وهذه الشهادة تجعله يسعى إلى التكافل الإيمانيّ، فكل قضية تمس كل المؤمنين، فإن حدث حَيف وظلم فهذا يثير الخوف في المؤمن؛ لأن نتيجته قد تصيب غيره من المؤمنين ولو بغير قصد، وهكذا نرى الوحدة الإيمانية. إن الإيمان يمزج بعضهم ببعض حتى يصيروا كالجسد الواحد إن اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى (عن النعمان بن بشير ـ رضي الله تعالى عنهما ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" أخرجه مسلم 2586/66) ولهذا فعندما يتدخل المؤمن الذي لا مصلحة مباشرة له في أمر الإرث أو الوصية ليصلح من هذا الأمر فإن الحق يثيبه خير الجزاء.(1/426)
والحق سبحانه قال: (فمن خاف من مُوصٍ جَنَفًا أو إثمًا فأصلَحَ بينهم فلا إثمَ عليه إن اللهَ غفورٌ رحيمٌ) هذا القول يلفتنا إلى أن الإنسان إذا ما عزم على اتخاذ أمر في مسألة الوصية فعليه أن يستشير من حوله وأن يستقبل كل مشورة من أهل العلم والحكمة؛ وذلك حتى لا تنشأ الضغائن بعد أن يُبرم أمر الوصية إبرامًا نهائيًّا، أي بعد وفاته. والحق قد وضع الضوابط اللازمة لإصلاح أمر الوصية إن جاء بها ما يورث المشاكل؛ لأن الحق يريد أن يتكاتف المؤمنون في وحدة إيمانية، لذلك فلا بد من معالجة الانحراف بالوقاية منه وقبل أن يقع. ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثلُ القائمِ على حدودِ اللهِ والواقعِ فيها كمثلِ قومٍ استَهَموا على سفينةٍ، فأصاب بعضُهم أعلاها وبعضُهم أسفَلَها، فكان الذين في أسفلِها إذا استَقَوا من الماء مرُّوا على مَن فوقَهم فقالوا: لو أننا خَرَقنا في نصيبِنا خَرقًا ولم نُؤذِ مَن فوقَنا! فإن يَتركوهم وما أرادوا هلَكَوا جميعًا، وإن أخَذوا على أيديهم نَجَوا ونَجَوا جميعًا" (أخرجه البخاريّ [2493] عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما) والحديث الشريف يضرب المثل على ضرورة التآزر والتواصي بين المؤمنين حماية لهم، فهؤلاء قوم اقتسموا سفينة بالقرعة، والاستهام هو قرعة لا هَوَى لها، وسكَن بعضهم أسفلَ السفينة حسَب ما جاء من نتيجة الاستهام وسكَن بعضهم أعلى السفينة، لكن الذين سكَنوا أسفلَ السفينة أرادوا بعضًا من الماء، واقترح بعضهم أن يَخرقوا السفينة للحصول على الماء، وبرّروا ذلك بأن مثل هذا الأمر لن يؤذيَ من يسكُنون في النصف العلويّ من السفينة، ولو أنهم فعلوا ذلك ولم يمنعهم الذين يسكُنون في النصف العلويّ من السفينة لَغَرِقوا وغَرِقوا جميعًا، فلا يقولنَّ أحد: إن ما يحدث من الآخرين لا شأن لي به. لأن أمر المسلمين يهُمّ كل مسلم، ولذلك جاء في الأثر: "هناك آية تقرأونها على غير وجهها" أي تفهمونها على غير(1/427)
معناها. والآية هي قول الحق: (واتقوا فتنةً لا تُصيبَنَّ الذين ظلَموا منكم خاصةً واعلَموا أن اللهَ شديدُ العقاب) [الأنفال: 25] (عن الضحاك رضي الله عنه في قوله تعالى "واتقوا فتنةً لا تُصيبَنَّ الذين ظلَموا منكم خاصةً " قال: تُصيب الظالم والصالح عامة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: "واتقوا فتنةً.." الآيةِ، قال: أمَر الله المؤمنين ألَّا يُقِرّوا المنكر بين أظهرهم فيَعمَّهم الله بالعذاب. تفسير ابن أبي حاتم [5/1682] وانظر المنثور 4/46، 47) لذلك علينا أن نحذر ابتلاء الله في المحن التى تنزل بنا والتي تعُمّ المسيءَ وغيره، كالبلاء والقحط والغلاء وتسلط الجبابرة وغير ذلك، والمراد التحذير من الذنوب التي هي أسباب البلاء، كإقرار المنكرات والبدع والرضا بها، والمداهنة في الأمر بالمعروف، وافتراق الكلمة في الحق، وتعطيل الحدود وانتشار المعاصي ونحو ذلك. وفي الحديث: "ويل للعرب من شرق قد اقترب، فُتح اليوم من رَدْمِ يأجوج ومأجوج مثل هذه" وعقد سفيان تسعين أو مائة، قيل: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم؛ إذا كثُر الخبثُ" (أخرجه البخاريّ [3346] ومسلم [2880/1] عن زينب بن جحش رضي الله عنها. قال الحافظ في الفتح: قوله "باب قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: ويل للعرب من شر قد اقترب" إنما خَصَّ العرب بالذكر لأنهم أول من دخل في الإسلام، وللإنذار بأن الفتن إذا وقعت كان الهلاك أسرع إليهم. فتح الباري [14/502] وقال الإمام النوويّ: قوله "أنهلك وفينا الصالحون؟" قال: "إذا كثر الخَبَث" هو بفتح الخاء والباء، وفسره الجمهور بالفسوق والفجور، وقيل: المراد الزنا خاصة. وقيل: أولاد الزنا. والظاهر أنه المعاصي مطلقًا. و"نهلك" بكسر اللام على اللغة الفصيحة المشهور، وحُكيَ فتحها، وهو ضعيف أو فاسد. ومعنى الحديث أن الخبث إذا كثر فقد يحصل الهلاك العام وإن كان هناك صالحون. شرح النوويّ على مسلم 9/231) إذًا فلا يعتقد أنه غير مسؤول(1/428)
عن الفساد الذي يستشري في المجتمع، بل عليه أن يحذر وأن ينبه. ولذلك نجد أن الحق سبحانه قد فرض الدية على العاقلة، أي على أهل القاتل، لأنهم قد يَرَون هذا القاتل وهو يمارس الفاسد ابتداءً فلم يَردَعه أحد منهم، لكنهم لو ضرَبوا على يده من البداية لما جاءهم الغرم بدفع الدية، لذلك فعندما تسمع قول الله عز وجل: (فمن خاف من مُوصٍ جَنَفًا) إياك أن تقول: لا شأن لي بهذا الأمر. لا، إن الأمر يخصّك، وعليك أن تحاول الإصلاح بين الموصَى له وبين الورثة.
وقول الحق سبحانه: (فلا إثم عليه) يعني عدم إدخاله في دائرة الذين يبدلون القول، بل له ثواب على تدخُّله، فهو لم يبدِّل حقًّا بباطل بل زَحزَح باطلًا ليؤسس حقًّا، وبذلك تسلِّي الوارثَ على ما نقَص منه وتسخِّي نفسه ليقبل الوصية بعد تعديلها بما يُرضي الله، وتقيم ميزان العدل بالنصيحة. إن الله يريد إقامة ميزان العدل وأن يتأكد الاستطراق الصفائيّ بين المؤمنين فلَا تُورِثُ الوصيةُ شرورًا.(1/429)
نصف الشهادة
السؤال: لقد ثار جدل حول شهادة المرأة وكيف أنها تعدل نصف شهادة الرجل!
الجواب: يقول الله سبحانه وتعالى: (واستَشهِدوا شهيدَين من رجالِكم فإن لم يَكونَا رجلَينِ فرجلٌ وامرأتان ممن تَرضَون من الشهداءِ أن تَضِلَّ إحداهما فتذكِّرَ إحداهما الأخرى) (البقرة: 282) لقد ثار جدل كبير حول هذه الآية حتى أن بعض المشتغلات بالإعلام كتَبنَ: كيف لا تساوي شهادةُ امرأة حاصلة على الماجستير أو الدكتوراه شهادةَ بواب العمارة التي تسكن فيها وربما يكون أُمِّيًّا لا يقرأ ولا يكتب! وكيف أن شهادة حاملة الدكتوراه تساوي نصف شهادة بواب العمارة الأُمِّيٍّ!
ولقد وجد هذا المنطق الخاطئ رواجًا بين الناس حتى أن بعضهم أخذ يردده ترديدًا أعمى وهو غير فاهم لحكم الله، وكأنه يريد أن يعدل الحكم على الله سبحانه وتعالى، مع أنه لا يفهم معنى ما يقوله. إن ذلك المنطق الكاذب يجد كثيرًا من الآذان التي تستمع إليه دون أن تَعِيَه وتردده دون أن تفهم معناه، وإذا كنا نريد أن نضع المعانيَ في إطارها الصحيح السليم فلا بد أن نفهم معنى كلمة شهادة. كلمة شهادة مأخوذة من "مشهد" أيْ شيء تراه بعينَيك وتراه واقعًا أمامك، وهذا المشهد أو الشيء المشهود ليس محتاجًا إلى علم ولا إلى درجات علمية ولا إلى عقل درَس حتى درجة الدكتوراه، ولكنه محتاج إلى عين تَشهد وإلى كلمة صدق تقال، أما غير ذلك فلا. ومن هنا فإن الملاحظة التي أُبديَت غير ذات موضوع ولا تنطبق على الشهادة؛ لأنه ليس هناك أبحاث علمية تجري ولا تجارب معملية تَتمّ ولا غير ذلك مما يَقتضي ثقافة معينة لا بد أن تتوافر وعلمًا سابقًا لا بد أن يكون موجودًا، ومن هنا يتساوى خلقُ الله الذين حصلوا على أعلى درجات العلم والذين لم يقرأوا حرفًا في حياتهم، فمنطق الثقافة لا يُعتَدّ به هنا. المسالة إذًا ليست رجاحة عقل ولكنها صدقٌ وأمانة نقل.(1/430)
وإذا نظرنا إلى طبيعة المرأة نجد أنها مخلوقة على الستر، فهي ممنوعة من مخالطة الرجال. وأنا أريد كلمة حق من المرأة:
هل إذا حدثت مشاجرة في الطريق العام، هل يسُوغ المرأة أن تُسرع إلى الدخول فيها لمعرفة ما يحدث أم أنها تبتعد عنها تمامًا اتقاءً للأذى حتى لا تصاب بسوء؟
بالطبع هي تبتعد عنها.
لماذا؟
أولًا: لأنها مخلوق ضعيف لا قدرة لها على المنازلة أو المشاجرة.
ثانيًا: لأنها مخلوق عاطفيّ، ستصاب بأذى في نفسيتها من مظاهر العنف والضرب في هذه المشاجرة.
ثالثًا: لأن تَعرُّضَها لمثل هذا الحدث يوجد احتكاكًا عنيفًا بينها وبين الرجال مما يعرِّضها لخدش كرامتها وحيائها. إنها تبتعد عن المشاجرة حتى ولو كان المتشاجر زوجها أو أخاها وتستغيث بالرجال.
إن عاطفة المرأة هي رصيد الحنان للأسرة والمجتمع، وتحكُّم العاطفة على العقل فيه تضحية، وقد يكون له سلبيات غير ضارّة، لكن الحكمة تقتضي أن تكون طاقة العاطفة عند المرأة أقوى منها عند الرجل ليكون التعادلُ والتكاملُ في المجتمع.(1/431)
تغليب النزعات الشخصية على شرع الله
السؤال: بعض السيدات تسأل عن قول الله سبحانه وتعالى: (إن من أزواجِكم وأولادِكم عدوًّا لكم) [التغابن: 14] وتقول: أليس في الآية الكريمة تعارضٌ مع دعوة الإسلام إلى رعاية الزوج والأولاد؟ وكيف أعلم أن زوجي ومِن بين أولادي مَن هو عدوٌّ لي فأحذَرَه؟
الجواب: لم يقل الله سبحانه في الآية الكريمة: إن أزواجكم وأولادكم عدوّ لكم. ولكن قال سبحانه وتعالى: (إن من أزواجِكم وأولادِكم عدوًّا لكم) (قال ابن كثير: يقول تعالى مخبِرًا عن الأزواج والأولاد أن منهم مَن هو عدوّ الزوج والوالد، بمعنى أنه يَلتهي به عن العمل الصالح، كقوله: "يا أيها الذين آمنوا لا تُلْهِكم أموالُكم ولا أولادُكم عن ذكرِ اللهِ ومن يَفعلْ ذلك فأولئك هم الخاسرون" [المنافقون: 9] ولهذا قال هاهنا "فاحذَروهم". قال ابن زيد: يعني على دينكم. وقال مجاهد "إن من أزواجِكم وأولادِكم عدوًّا لكم" قال: يَحمل الرجلَ على قطيعة الرحم أو معصية ربه فلا يستطيع الرجل مع حبه إلا أن يُطيعه. وروى الترمذيّ [3317] عن ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ وسأله رجل عن هذه الآية "يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجِكم وأولادِكم عدوًّا لكم فاحذروهم" قال: فهؤلاء رجال أسلَموا من مكة فأرادوا أن يأتوا رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأبَى أزواجهم وأولادهم أن يَدَعُوهم، فلما أتَوا رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رأوا الناسَ قد فَقِهُوا في الدين، فهَمُّوا أن يعاقبوهم، فأنزل الله هذه الآية "وإن تَعفُوا وتَصفَحوا وتَغفِروا فإن اللهَ غفورٌ رحيمٌ") وهنا فرق كبير، فهو سبحانه جل شأنه قال لنا: إن بعض الأزواج وبعض الأولاد يكونون من الأعداء، وهم من يُحمِّلون أزواجَهم فوق طاقاتهم مما قد يدفع الأزواج إلى اللجوء إلى ما لم يُحِلَّ الله لهم حتى يُوفُوا بطلباتهم، وكذلك بعض الأبناء.(1/432)
إذًا فيجب أن نكون حريصين وحَذِرِين في ألَّا نغلِّب عواطفنا نحو أزواجنا ونحو أولادنا فنتعدَّى حدود الحلال والحرام التي حدَّدها لنا الحق تبارك وتعالى؛ لأن بعض الأزواج ـ ولا نقول كلُّهم، وكذلك بعض الأبناء لا كلُّهم ـ تَغلبهم أنانيتهم وتكون طلباتهم فوق الطاقة، وقد يكون بالأزواج والآباء والأمهات ضعفٌ نحو تلبية طلباتهم مما قد يدفعهم إلى معصية الله ورسوله.(1/433)
حكم الوضوء للمرأة مع وجود إفرازات
السؤال: هل تتوضأ المسلمة لكل صلاة إذا كانت تخرج منها إفرازات؟
الجواب: إن لم يكن العلاج لهذه الحالة طبيًّا متوافرًا، وإلى أن يَتمَّ العلاج فيمكن للمرأة أن تصليَ مع وجود الإفرازات، على أن تتوضأ لكل صلاة وضوءًا خاصًّا، فلا تصلّي الظهر والعصر بوضوء واحد ولو لم يَنتقض وضوؤها الأول، ولكن يجب أن تتوضأ لكل فرض وضوءًا خاصًّا، وتصلّي وتتم صلاتها حتى مع نزول الإفرازات، على أن تحتاط الاحتياط اللازم لمثل هذه الحالات.(1/434)
هل المانيكير يبطل الوضوء؟
السؤال: هل طلاء الأظفار "المانيكير" يبطل الوضوء ولذلك تجب إزالته عند كل وضوء؟
الجواب: ما دمت قلت إنه "طلاء" إذًا فهو طبقة يمكن إزالتها، وما دام طلاء الأظفار يكوِّن طبقة فهو شيء عازل يعزل ما تحته عن أن تصيبه الطهارة عند الوضوء، فوجوده لا يحقق الوضوء أصلًا.
والذين زيَّنوا للمرأة مثل هذا، الذي يقولون إن "المانيكير" ليس له تأثير في الوضوء، أرادوا أن يجعلوه صِبْغًا. ونقول: لو كان صِبْغًا لما أمكن إزالته، مثل الحنّاء. كذلك يروج البعض أن الظفر جزء ميت لا إحساس فيه. ونقول: لو أنه ميت ما كان ينمو ولما اضطُّرَّت إلى أن تَقُصَّه من حين لآخر. والذين حللوا طلاء الأظفار بـ "المانيكير" خلَطوا بين "الصبغ" الذي هو "الحناء" وبين الطلاء المعروف، والفرق بين الاثنين كبير، بدليل أن المرأة تستخدم عند إزالة الطلاء مادة تعرف "بالأسيتون" والحناء لا يُفلح في إزالتها "الأستيون". وباقي المساحيق كلها حرام، أما الكحل فهو حلال وهو للشفاء والزينة (روى أبو داود [3873] عن ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير أكحالكم الإثْمِدُ؛ يَجلو البصر ويُنبت الشعر". وصححه الألبانيّ في صحيح أبي داود 3284) فالزينة منه جاءت تبعًا. والأصل فيه وقاية للعين وعلاجها. ولو عَلمَت المرأة ضررَ هذه المساحيق على بشرتها لابتعدت عنها.(1/435)
هل صلاة الجمعة واجبة على النساء؟
السؤال: هل صلاة الجمعة واجبة على النساء؟ وما الحكم لو حضرت الخطبة والصلاة؟
الجواب: صلاة الجمعة غير واجبة على الأنثى، لكن إذا حضرَت وأدَّتها أجزأتها عن الظهر، وإن صلَّت في المنزل فلتُصلِّ أربع ركعات ظهرًا.
ومن قال من العلماء بكراهة خروج الجميلة للجمعة خوفَ الفتنة، أو حرمةِ خروجها، أو قالوا بأفضلية صلاتها في البيت مطلقًا فإنما قالوا ذلك حينما كانت صفوف النساء في الصلاة لا يَفصلها شيءٌ عن صفوف الرجال، أما الآن وقد خصِّص في بعض المساجد مكان محجوب للنساء حتى يَتعلَّمنَ أمور الدين فلا حرج من حضور الجمعة مع الاحتشام، وفي الحديث: "لا تَمنَعوا إمَاءَ الله مساجدَ الله" (روى أبو داود [565] عن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "لا تَمنَعوا إمَاءَ الله مساجدَ الله، ولكن لِيَخرُجنَ وهنَّ تَفِلَات". و"تَفِلَات" أي غير متطيِّبات لئلَّا يُحرِّكنَ الرجالَ بِطِيبِهنَّ. وقال الألبانيّ في صحيح أبي داود [529]: حسن صحيح. قال الخطابيّ: التَّفَلُ سوءُ الرائحة. يقال امرأة تَفِلَة؛ إذا لم تتطيب، ونساء تَفِلَات. وقد استدل بعض أهل العلم بعموم قوله "لا تَمنَعوا إمَاءَ الله مساجدَ الله" على أنه ليس للزوج منعُ زوجته من الحج؛ لأن المسجد الحرام الذي يخرج إليه الناس للحج والطواف أشهرُ المساجد وأعظمُها حرمة فلا يجوز للزوج أن يمنعها من الخروج إليه.(1/436)
وروَى أبو داود [567] عن ابن عمر ـ رضي الله تعالى عنهما ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تَمنَعوا نساءَكم المساجدَ، وبيوتُهنَّ خير لهنَّ". وأخرج مسلم [442/ 138] والترمذيّ [570] وأبو داود [568] عن ابن عمر ـ رضي الله تعالى عنهما ـ قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "ائذَنوا للنساء إلى المساجد بالليل" فقال ابنٌ له: واللهِ لا نأذنُ لهنَّ فيَتَّخِذنَه دَغَلًا، واللهِ لا نأذَن لهنَّ. قال، أي مجاهد: فسبَّه وغضب وقال: أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ائذنوا لهنَّ وتقول: لا نأذَن لهنَّ!
وقوله: "فيَتَّخِذنَه دَغَلًا" هو الفساد والخداع والريبة. قال الحافظ في الفتح: أصله الشجر الملتَفّ، ثم استُعمل في المخادعة لكون المخادِع يَلُفّ في نفسه أمرًا ويُظهر غيره، وكأنه قال ذلك لما رأى من فساد بعض النساء في ذلك الوقت وحمَلَته على ذلك الغَيرة.
وقال النوويّ في شرح مسلم: لا تُمنع المرأة من الخروج للمسجد، لكن بشروط ذكرها العلماء مأخوذة من الأحاديث، وهي ألَّا تكونَ متطيِّبة ولا متزيِّنة، ولا ذاتَ خَلَاخلَ يُسمع صوتُها، ولا مختلطة بالرجال، وألَّا يكونَ في الطريق ما يُخاف به مفسَدة.. إلخ).(1/437)
كشف ذراع المرأة عفوًا في الصلاة
السؤال: إذا انكشف ذراع المرأة عفوًا في الصلاة بفعل الريح مثلًا فماذا تفعل؟ وما حكم من تصلي في ملابس شفافة؟
الجواب: إذا انكشفت ذراع المرأة عفوًا في أثناء الصلاة فبحركة سريعة تغطّي نفسها، على أن تحتاط بعد ذلك قبل الصلاة بأن ترتديَ من الملابس ما يستُرها تحت الطرحة فلا تَتعرضَ لمثل هذه الظروف. ونحن نرى بعض النساء الفُضلَيَات وقد صَمَّمنَ زِيًّا للصلاة بحيث يجعل المرأة تصلي في هدوء وهي مطمئنة لِسَتْرِ كل ما طُلب سترُه، فلا ينشغل بالها بلفِّ الطرحة حولها لِتُسترَ ما قد يبدو منها، وبذلك لا تَشغَل بالَها في أثناء الصلاة إلا بوقوفها بين يدَي ربها عز وجل فتؤديَ بذلك الصلاة خاشعة مطمئنة (قال صاحب المغني: لا يختلف المذهب في أنه يجوز للمرأة كشفُ وجهِها في الصلاة، وأنه ليس لها كشفُ ما عدا وَجهَها وكفَّيها. وأجمَع أهل العلم على أن للمرأة أن تخمِّر رأسها إذا صلِّت، وعلى أنها إذا صلَّت وجميعُ رأسها مكشوفٌ أن عليها الإعادةَ. والمستَحبُّ أن تصليَ المرأة في دِرْعٍ ـ قال: والدِّرْعُ يشبه القميص لكنه سابغٌ يغطي قدمَيها ـ وخمارٍ يغطي رأسها وعنقها، وجلبابٍ تَلتحف به من فوق الدِّرْع، رُويَ ذلك عن عمر وابنه وعائشة وعَبِيدة السَّلمانيّ وعطاء، وهو قول الشافعيّ، قال: قد اتفق عامتهم على الدرع والخمار، وما زاد فهو خير وأستر. وإذا كان عليها جلباب فإنها تُجافيه راكعة وساجدة لئلَّا تَصِفَها ثيابُها فتُبيِّنَ عَجِيزَتَها ومواضعَ عورتها. وعن أم سلمة ـ رضي الله تعالى عنها زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم ـ أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتصلّي المرأة في دِرع وخمار ليس عليها إزار؟ قال: "إذا كان الدِّرع سابغًا يغطي ظهورَ قَدَمَيها" رواه أبو داود [640] وشرح السنة [2/435] ضعفه الألبانيّ في ضعيف أبي داود [126] قال الخطابي: واختلف الناس فيما يجب على المرأة الحرة أن تغطيَ من(1/438)
بدنها إذا صلَّت، فقال الأوزاعيّ والشافعيّ: تغطي جميع بدنها إلا وجهَها وكفَّيها. ورُويَ ذلك عن ابن عباس وعطاء. وقال أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام: كل شيء من المرأة عورة حتى ظفرها. وقال مالك بن أنس: إذا صلَّت المرأة وقد انكشف شعرُها أو صدورُ قَدَمَيها تعيدُ ما دامت في الوقت. وقال أصحاب الرأي في المرأة تصلّي وربعُ شعرها أو ثلثُه مكشوفٌ، أو ربعُ فخذها أو ثلثُه مكشوفٌ، أو ربعُ بطنها أو ثلثُه مكشوفٌ، فإن صلاتها تَنتقض. وإن انكشَف أقلُّ من ذلك لم تَنتقص. وبينهم اختلاف في تحديده. وفي الخبر دليل على صحة قول من لم يُجِزْ صلاتَها إذا انكشَف من بدنها شيءٌ، ألَا تُراه يقول: "إذا كان سابغًا يغطي ظهورَ قَدَمَيها"؟ فجعَل من شرطِ جوازِ صلاتِها ألَّا يَظهَرَ من أعضائها شيء. قال ابن الجوزيّ: متى انكشف من المرأة الحرة شيء في الصلاة سوى وجهِها أعادت الصلاة المغني لابن قدامة وينبغي أن تكون ثياب المرأة لا تَصِفُ البشرة على الدوام، خصوصًا في الصلاة المغني لابن قدامة [1/413] وقد رُويَ عن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن الكاسيات العاريات لا يَدخُلنَ الجنة أخرجه مسلم [2128/ 125] وأحمد في المسند [2/355 ،440] عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وهنَّ اللواتي يَلبَسنَ رقاقَ الثياب؛ لأنها لا تَستُرهنَّ).(1/439)
حكم أذان المرأة للصلاة
السؤال: هل يصح للمرأة أن تؤذّن للصلاة إن لم يوجد غيرها لأداء الأذان؟
الجواب: من شرط المؤذّن أن يكون رجلًا؛ لأنه منصب من مناصب الرجال كالإمامة والقضاء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يؤمُّكم أقرؤُكم، ويؤذِّنُ لكم خيارُكم". وأذان المرأة غير جائز؛ لأنها إذا رفعت صوتها ارتكبَت معصية، وإن خفَضَته فقد ترَكَت سُنّة الجهر. وأذان النساء لم يكن في السلف. ولو أذَّنَت جاز لكنه غير مستحب (ليس على النساء أذان ولا إقامة، كذلك قال ابن عمرٍو وأنس وسعيد بن المسيب والحسن وابن سيرين والنخعيّ والثوريّ ومالك وأبو ثور وأصحاب الرأي. وقال صاحب المغني: ولا أعلم فيه خلافًا. وقال ابن حزم رحمه الله: لا أذان على النساء ولا إقامة، فإن أذَّنَّ وأقَمنَ فحَسَنٌ، برهان ذلك أن أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالأذان إنما هو لمن افتَرَضَ عليهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في جماعة بقوله عليه الصلاة والسلام: "فليُؤذِّنْ لكم أحدُكم ولْيَؤمَّكم أكبرُكم" وليس النساء ممَّن أُمِرْنَ بذلك. أخرجه البخاريّ [685] ومسلم 674/292).(1/440)
استعمال حبوب منع الحيض من أجل الصيام
السؤال: هل يجوز للمرأة أن تستعمل حبوب منع الحيض من أجل ألَّا تُحرَمَ من صوم بعض الأيام في رمضان؟
الجواب: هذا رفض للرخصة التي أعطاها الله للمرأة وتغيير للتكوين الطبيعيّ للنفس البشرية، ومثل ذلك لا يُرتكب وبخاصةٍ في شهر رمضان، والبديل قضاءٌ قد شرَعه الله في قوله تعالى: (فمَن كان منكم مريضًا أو على سَفَرٍ فعِدّةٌ من أيامٍ أُخَرَ) فالمرتكِبُ لذلك مخالِف لأمر الله تعالى (وقد عُرض هذا السؤال على اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية تحت رقم [1216] فأجابت: يجوز أن تستعمل المرأة أدوية في رمضان لمنع الحيض إذا قرر أهل الخبرة الأمناء من الدكاترة ومن في حُكمهم أن ذلك لا يضرُّها ولا يؤثر على جهاز حملها. وخيرٌ لها أن تَكُفَّ عن ذلك، وقد جعَل الله لها رخصة في الفطر إذا جاءها الحيض في رمضان، وشرَع لها قضاءَ الأيام التي أفطَرَتها ورَضيَ لها بذلك دينًا).(1/441)
الحيض والنافس في الحج والعمرة
السؤال: ما أحكام الحُيَّض والنُّفَساء في الحج؟
الجواب: يُباح لهنَّ كلُّ أعمال الحج عدا الطواف، ويسقط عنها طواف الوداع، ورُويَ عن طائفة من العلماء أنها تَبقَى حتى تَطهُرَ وتَطوفَ طواف الوداع (قال ابن رشد في بداية المجتهد [1/57]: يحرُم الطواف على المرأة في حيضها، وعليه اتفاق الأئمة، ولا يصح منها الطواف لقول النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعائشة رضي الله تعالى عنها لما حاضت: "افعَلي ما يفعل الحاجّ غيرَ أنْ لا تَطوفي بالبيت حتى تَطهُري" اهـ وعن ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ قال: أُمر الناسُ أن يكون آخرُ عهدهم بالبيت، إلا أنه خُفِّف عن المرأة الحائض. قال النوويّ في شرح مسلم [3/462]: هذا دليل على وجوب طواف الوداع على غير الحائض وسقوطِه عنها، ولا يَلزَمها بتركِه دمٌ، هذا مذهب الشافعيّ ومالك وأبي حنيفة وأحمد والعلماء كافةً، إلا ما حكاه ابن المنذر عن عمر وابن عمر وزيد بن ثابت ـ رضي الله تعالى عنهم ـ أنهم أمَروها بالمقام لطواف الوداع).(1/442)
الحكمة في اجتناب النساء أثناء الحيض
السؤال: لماذا أمرنا الله سبحانه وتعالى باجتناب النساء أثناء الحيض؟
الجواب: لما سأل المؤمنون رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الحيض نزلت الآية الكريمة: (ويسألونك عن المَحِيضِ قل هو أذًى فاعتَزِلوا النساءَ في المَحِيضِ ولا تَقرَبُوهنَّ حتى يَطهُرنَ فإذا تَطَهَّرنَ فَأْتُوهنَّ من حيثُ أمَرَكم اللهُ إن اللهَ يحبُّ التوَّابين ويحبُّ المتطهِّرين) (البقرة: 222) وسؤال المؤمنين عن المَحيض هو رغبة في معرفة هل من الحلال معاشرة الزوجة أثناء فترة المحيض. وعندما نتأمل هذا القول الحكيم فإننا نجد أن الحق سبحانه قد قسم قضية الحيض إلى مقدمات تتبعها نتائج، فعندما سأل البعضُ، بعض المؤمنين، عن المَحيض قال الحق: (قل هو أذًى) وحين تسمع كلمة (أذًى) فمعنى ذلك أن الحق قد أعطَى الحكم، والحق هو الخالق الأعلم بأسرار خلقه، والمَحيض يُطلق على المكان وزمان الحيض، وحين يقول الحق عن المَحيض أنه أذًى فمعنى ذلك أنه يهيئ الذهن إلى أن هناك حكمًا يترتب على قوله (هو أذًى) والحكم هو الحظر (قال العلامة ابن كثير: روى الإمام أحمد عن أنس أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوها في البيوت، فسأل أصحابُ النبيّ صلى الله عليه وسلم النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأنزل الله عز وجل: "ويسألونك عن المَحِيضِ قل هو أذًى فاعتَزِلوا النساءَ في المَحِيضِ ولا تَقرَبُوهنَّ حتى يَطهُرنَ" حتى فرغ من الآية، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح" فبلغ ذلك اليهودَ فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يَدَعَ من أمرنا شيئًا إلا خالَفَنا فيه! فجاء أُسيد بن حضير وعبّاد ابن بشر فقالا: يا رسول الله، إن اليهود قالت كذا وكذا، أفلا نجامعهنَّ؟ فتغير وجه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى ظنَنَّا أن قد وجَد عليهما، فخرَجَا، فاستقبَلَهما هديةٌ من لبن إلى الرسول ـ صلى الله عليه(1/443)
وسلم ـ فأرسَلَ في آثارهما فسقَاهما، فعَرَفَا أن لم يَجِدْ عليهما أخرجه مسلم [302/ 16] وأحمد في المسند [3/133] عن أنس رضي الله تعالى عنه. وأبو داود [2165] وابن ماجه [644] عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما فقوله: "فاعتَزِلوا النساءَ في المَحيض" يعني: الفرج. لقوله صلى الله عليه وسلم: "اصنعوا كل شيء إلا النكاح" ولهذا ذهب كثير من العلماء أو أكثرهم إلى أنه تجوز مباشرة الحائض فيما عدا الفرج. روى أبو داود عن عكرمة عن بعض أزواج النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان إذا أراد من الحائض شيئًا ألقَى على فرجها ثوبًا رواه أبو داود [272] وصححه الألبانيّ في صحيح أبي داود [242] وروى ابن جرير أن مسروقًا ركب إلى عائشة فقال: السلام على النبيّ وعلى أهل بيته. فقالت عائشة: أبو عائشة، مرحبًا، فَائذَنُوا له. فدخل، فقال: إني أريد أن أسألكِ عن شيء وأنا أستحي. فقالت: إنما أنا أمك وأنت ابني. فقال: ما للرجل من امرأته وهي حائض؟ فقالت: له كل شيء إلا فرجَها رواه الطبريّ [4245] وقال الشيخ شاكر: وإسناده صحيح، وروَى معناه عن عائشة قبلَه وبعدَه بأسانيد صحاح. وهذا وإن إن كان موقوفا لفظًا فهو مرفوع في المعنى؛ لأن الصحابيّ إذا حكَى عما يَحلّ ويحرُم فالثقةُ به ألَّا يحكيَ ذلك إلا عمّن يؤخذ عنه الحلال والحرام، وهو معلِّم الخير ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا أن تدل دلائل على أن الصحابيَّ يقوله من عند نفسه اجتهادًا. ثم الرواية عن عائشة هنا قرائنها تدل على الرفع، فلم يكن مسروق لِيَتجشَّمَ سؤالها في أدقّ شؤون النساء ـ مما يستحي الرجل أن يواجه به المرأة، وخاصة بالنسبة لأمهات المؤمنين ـ إلا أن يكون ذلك ليعرف الحكم عن مصدر التحليل والتحريم لا ليعرف رأيَها الخاصَّ واجتهادَها والصحابةُ إذا ذاك كثيرون متوافرون وهذا قول ابن عباس ومجاهد والحسن وعكرمة. قلت: وتَحِلُّ مضاجعتها ومؤاكلتها بلا(1/444)
خلاف. قالت عائشة: كان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يأمرني فأغسل رأسه وأنا حائض أخرجه البخاريّ [301] ومسلم [297/8] بلفظ: وكان يُخرج رأسه إليَّ وهو معتكف فأغسله وأنا حائض وكان يتكئ في حجري وأنا حائض فيقرأ القرآن أخرجه البخاريّ [297] ومسلم [301/15] وفي الصحيح عنها قالت: كنت أتعرَّقُ العَرْقَ وأنا حائض فأعطيه النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيضعُ فمه في الموضع الذي وضعتُ فمي فيه، وأشرب الشراب فأناوله فيضع فمه في الموضع الذي كنت أشرب أخرجه مسلم [300/14] وأبو داود [259] واللفظ له. والعَرْقُ ـ بفتح العين وسكون الراء ـ العظم إذا أُخذ عنه معظم اللحم وبَقيَت عليه بقية وقال آخرون: إنما تحلّ له مباشرتها فيما عدا ما تحت الإزار، كما ثبت في الصحيحين عن ميمونة بنت الحارث الهلالية قالت: كان النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه أمَرَها فَأْتَزَرَت وهي حائض. وهذا لفظ البخاريّ أخرجه البخاريّ [303] ومسلم [294/3] ولهما عن عائشة نحوه أخرجه البخاريّ [300، 302] ومسلم [293/3] فهذه الأحاديث وما شابهها حجة من ذهب إلى أنه يحلّ له ما فوق الإزار منها. وهو أحد القولين في مذهب الشافعيّ رحمه الله الذي رجّحه كثير من العراقيين وغيرهم، ومأخذهم أنه حَريم الفرج، فهو حرام؛ لئلَّا يتوصل إلى تعاطي ما حرم الله عز وجل الذي أجمع العلماء على تحريمه وهو المباشرة في الفرج.
ثم من فعل ذلك فقد أثم، فيستغفر الله ويتوب إليه، وهل يلزمه مع ذلك كفارة أم لا؟ فيه قولان:(1/445)
أحدهما: نعم. لما رواه الإمام أحمد وأهل السنن عن ابن عباس عن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الذي يأتي امرأته وهي حائض: "يتصدق بدينار أو نصف دينار" رواه أحمد في المسند [1/286] وقال الشيخ شاكر [2595]: إسناد صحيح. والنسائيّ في المجتبَى بنحوه [289] وأبو داود [264] وصححه الألبانيّ في صحيح أبي داود [237] وفي لفظ الترمذيّ: "إذا كان دمًا أحمرَ فدينارٌ، وإذا كان دمًا أصفرَ فنصفُ دينار" رواه الترمذيّ [137] وقال الألبانيّ في صحيح الترمذيّ [118]: الصحيح عنه بهذا التفصيل موقوف وللإمام أحمد أيضًا عنه أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ جعل في الحائض تُصاب دينار، فإن أصابها وقد أدبر الدم عنها ولم تغتسل فنصفُ دينار رواه أحمد في المسند [1/367] وقال الشيخ شاكر [3473]: إسناد صحيح. وأبو داود [2169] بنحوه. وقال الألبانيّ في صحيح أبي داود [1901]: صحيح موقوف.
والثاني، وهو الصحيح الجديد من مذهب الشافعيّ وقول الجمهور، أنه لا شيء في ذلك بل يستغفر الله عز وجل. لأنه لم يصح عندهم رفع هذا الحديث، فإنه قد رُويَ مرفوعًا كما تقدم، وموقوفًا وهو الصحيح عند كثير من أئمة الحديث. فقوله تعالى: "ولا تَقرَبُوهنَّ حتى يَطهُرنَ" تفسير لقوله: "فاعتَزِلوا النساءَ في المَحيض" ونهيٌ عن قُربانِهنَّ بالجماع ما دام الحيض موجودًا، ومفهومه حلُّه إذا انقطَع. عمدة التفسير 2/94 ـ 96) إن عملية الحيض هي عملية كيانية ضرورية للمرأة، والذي يحدث هو أن الحق قد خلق رحم المرأة وفي مِبْيَضها عددٌ محدود من البويضات معروف له وحده سبحانه وتعالى، وعندما يفرز أحدُ المِبْيَضَين البويضةَ فقد لا يتم تلقيح البويضة؛ لأن بطانة الرحم المكوَّنة من أنسجة دموية تقلُّ فيها نسبة الهرمومات التي كان تثبِّت بطانة الرحم، وعندما تقل نسبة الهرومات يحدث الحيض.(1/446)
الحيض هو دم يحتوي على أنسجة غير حية، ويصبح المهبل والرحم في حالة تهيج، وهذا الدم المحتوي على أنسجة غير حية يجعل هذه المنطقة حساسة جدًّا لنمو الميكروبات ومسبِّبًا للالتهابات، سواء للمرأة أو للرجل لو جامع الرجل زوجته في فترة الحيض، كما أن مناعة جسم المرأة في فترة الحيض تقل، لذلك نجد أن الحق سبحانه شرَع للمرأة في فترة الحيض أن تُفطر إن كانت صائمة وألَّا تصليَ. إن جسد المرأة تضعف مقاومته للأمراض في هذه الفترة، ولذلك فإن الجماع بين الرجل والمرأة في هذه الفترة هو أذًى للطرفين للمرأة وللرجل أيضًا، فلو اقترب الرجل من زوجته بالجماع في فترة الحيض فهناك احتمال انتقال ميكروب من المهبل إلى جسم الزوج مما يسبب التهابات وأضرارًا سواء للزوجة أو للزوج، ولذلك جاء الحكم بالتعميم على أن المَحيض أذًى للطرفين.
ولنا أن نَلحَظ أن من أسرار الخلق أن المشيمة تكون من الأنسجة التي تبطِّن جدار الرحم، والمشيمة كما نعرف هي التي تختص بنقل الغذاء من الأم إلى الجنين، ولذلك فعندما لا يتم تلقيح البويضة تنزل هذه الأنسجة مع دم الحيض، ولذلك جاء قول الحق: (ويسألونك عن المَحِيضِ قل هو أذًى فاعتَزِلوا النساءَ في المَحِيضِ ولا تَقرَبوهنَّ) حمايةً للرجل والمرأة معًا (قال الدكتور عليّ مطاوع: ما من حكم ربانيّ إلا وله من الحكم والفوائد والثمرات ما لا يعلمه إلا الله تعالى، وما ذاك بغريب ولا بعجيب؛ لأن الذي شرع هو الحكيم الخبير العليم القدير.(1/447)
يقول الحق تبارك وتعالى: "ويسألونك عن المَحِيضِ قل هو أذًى فاعتَزِلوا النساءَ في المَحِيضِ ولا تَقرَبوهنَّ حتى يَطْهُرْنَ فإذا تَطهَّرنَ فَأْتُوهنَّ من حيثُ أمرَكم اللهُ إن اللهَ يحبُّ التوَّابين ويحبُّ المتطهِّرين" فذكر عز وجل العلة لوجوب الاعتزال كونُ دم الحيض أذًى، والأذى في اللغة: ما يُكره من كل شيء. وقال عطاء وقتادة والسُّدِّيُّ: "أذًى" أي قذر. وهنا نتساءل: أليس دمُ الحيض كريهَ الرائحة؟ فهو أذًى إذًا. أليس دمُ الحيض متعِبًا للمرأة ومنفِّرًا للرجل؟ فهو أذًى إذًا. أليس دم الحيض يَحتدِم؟ احتَدَم الدم، إذا اشتدَّت حُمرته حتى يَسوَدَّ. لسان العرب [12/118] فهو أذًى إذًا. قوله تعالى: "قل هو أذًى" هو شيء تتأذى به المرأة وغيرها، أي برائحة دم الحيض. والأذى كناية عن القذر على الجملة، ويُطلق على القول المكروه.
لكن ماذا قال الطب الحديث؟
يحدثنا الطب الحديث أنه في أثناء العادة الشهرية للمرأة ونزول دم الحيض فإن الجسم يفتِّت الغشاء المبطِّن للرحم ويقذف به كاملًا مع الدم، وبفحص دم الحيض تحت المجهر وُجد أنه به قِطَعٌ من الغشاء المبطِّن للرحم، ومن ثَمَّ فإن الرحم يكون ملتهبًا جدًّا متقرحًا، أو يكون أشبَهَ بالمنطقة التي سُلخ جلدها، فتقلّ مقاومته لعدوان الميكروبات التي قد تغزوه ويكون بيئة صالحة ومناسبة جدًّا لتكاثر ونموِّ هذه الميكروبات، لأن الدم كما هو معلوم أفضل بيئة لذلك، فمن أجل ذلك يُمنع الوطء أثناء الحيض؛ إنه يسمح بدخول الميكروبات إلى الرحم الضعيف، وتكون المقاومة للغزو الجرثوميّ في أضعف وأدنى حالاتها، كما تقل المواد المطهِّرة أثناء الحيض، أي أن أجهزة المقاومة التي تعمل في الحالات المعتادة تتوقف أثناء الحيض فتنمو الميكروبات وتتكاثر ويكون الأذى الذي نهانا الخالق الحكيم عنه.(1/448)
ليس هذا فحسب، بل قد تمتد الالتهابات إلى قناتَي الرحم فتَسُدُّها، أو تؤثر على شعيراتهما التي تدفع البويضة بدورها من المِبْيَض إلى الرحم، وانسداد قناتَي الرحم باب واسع إلى الإصابة بالعقم أو إلى الحمل خارج الرحم، وهو من أشد أنواع الأذى؛ لأنه قد يؤدي إلى انفجار هذه القناة فتسيل الدماء في أقتاب البطن فتحدث الوفاة.
وقد يمتد الالتهاب إلى القناة البولية، وبالتالي إلى الجهاز البوليّ، الذي يلتهم بدوره عنق الرحم. هذا النسبة للنساء.
وبالنسبة للرجال فإنه الأذى المحقَّق؛ حيث إن ذلك يؤدي إلى تكاثر الميكروبات والتهاب قناة مجرى البول ونمو الميكروبات السبحية والعنقودية فيها. وهو أذًى كذلك؛ لأنه ليس فيه مراعاة لحالة المرأة النفسية والجسمية.
فالمحيض أذًى للمرأة كما نص عليه القرآن العزيز وكما أثبت الطب الحديث فيما بعد وكما يُرى في الواقع.
وقد يسبب الحيض صداعًا نصفيًّا وفقرًا في الدم، فضلًا عما يسببه من إزعاجات نفسية وشعورية ومزاجية وآلام وأوجاع، فتصاب المرأة بشيء من الكسل والفتور وانخفاض في ضغط الدم، ويصحب ذلك عزوف جنسيّ لا محالة من ذلك، ولهذا وغيره نهى الإسلام عن إتيانها أثناء الحيض.(1/449)
وتقول آخر الأبحاث الطبية عن أذى المحيض: إن السبب في أذى المحيض يرجع إلى مادة "البروستاجلاندين" في منيّ الرجل، وهذه المادة إذا امتُصَّت ووصلت إلى الدورة الدموية فإنها تسبب نقص المناعة، فإن إفرازات الرحم تحتوي على مادة مضادة لمادة "البروستاجلاندين" الموجودة في منيّ الرجل، فإذا وُضع المنيّ في مهبل المرأة فإن مادة "البروستاجلاندين" لن تصل إلى الدورة الدموية، لأنها سوف تتعادل مع المادة المضادة الموجودة في إفرازات الرحم. ووجود هذه المادة في المنيّ يفسر السبب في اعتزال النساء في أثناء الحيض؛ لأنه أثناء الحيض يسقط الغشاء المخاطيّ للرحم ليُستبدَل بآخر جديد، وفي أثناء ذلك لا توجد المادة المضادة "للبروستاجلاندين" الموجودة في المنيّ، وبهذا يكون هناك خطورة من امتصاص "البروستاجلاندين" وحصول مرض نقص المناعة المكتسب، ولهذا أمر الله جل شأنه باعتزال النساء في المحيض. ولمزيد من التفصيل يمكن الرجوع إلى "المحيض بين إشارات القرآن والطب الحديث" للدكتور محمد الشرقاويّ) إذًا فالمحرّم الاقترابُ من المرأة في زمان الحيض هو مكان الحيض، أما الاقتراب من المرأة فوق السّرّة فجائز. إذًا فللمرأة رعاية وصيانة، فلا تُطرد من المنزل أثناء الحيض ولا حرمة لتناول الطعام معها كما كان يفعل اليهود!
وهكذا نجد أن الجاهلية ارتضت لنفسها وضعًا غير طبيعيّ في السلوك الإنسانيّ، وهو جماع المرأة وقت الحيض، إلى حد الطرد من المنزل وعدم مشاركتها الطعام، وذلك إهدار لكرامة المرأة. أما الإسلام فقد أبان أن الاقتراب من مكان المحيض في زمان الحيض هو الأذى، ولكن للمرأة مكانتها في بيت الزوج أو الأب. هكذا ارتقى الإسلام بالمرأة صيانةً واحترامًا بكرامة، فلا إفراطَ جاهلياًّ ولا إهدارَ بعدم الوجود معها في المنزل.(1/450)
يقول الحق سبحانه: (ولا تَقرَبوهنَّ حتى يَطْهُرْنَ فإذا تَطهَّرنَ فَأْتُوهنَّ من حيثُ أمرَكم اللهُ إن اللهَ يحبُّ التوَّابين ويحبُّ المتطهِّرين) ودقة القرآن الكريم تتجلى في استخدام لفظ "الطُّهر" والتطهير والطُّهر معناه انتهاء الحيض، والتطهير هو الاغتسال والاستحمام بعد انتهاء الحيض.
وقد يقول قائل: هل بمجرد انتهاء الحيض يمكن أن يباشر الرجل المرأة، أم من الضروريّ ومن الأفضل ومن المحتَّم أن تَستحمَّ؟
إن العلماء أخذوا ضرورة التطهير، أي انتهاء الحيض والاغتسال، فذلك أفضل وأطهر وأنقى لنفس الرجل ولنفس المرأة، ولذلك فنحن نستنبط الحكم من مادة كلمة "طهر". وعندما نقرأ قول الحق سبحانه: (إنه لقرآنٌ كريمٌ. في كتابٍ مكنونٍ. لا يَمَسُّه إلا المطهَّرون) (الواقعة: 77ـ 79) بعض العلماء قالوا: المقصود بقوله تعالى (لا يَمَسُّه إلا المطهَّرون) هم الملائكة. على أساس أنه الكتاب الذي في السماء. ونحن نقول إن الحق سبحانه هو الذي طهَّر الملائكة خَلْقًا، والحق سبحانه هو الذي طهَّر الإنسان تشريعًا (قال الماورديّ: "لا يَمَسُّه إلا المطهَّرون" تأويله يختلف باختلاف الكتاب، فإن قيل: إنه كتاب في السماء. ففي تأويله قولان:
أحدهما: لا يَمَسُّه في السماء إلا الملائكة المطهَّرون. قاله ابن عباس وسعيد بن جبير.
والثاني: لا يُنزِله إلا الرسلُ من الملائكة إلى الرسل من الأنبياء. قاله زيد بن أسلم.
وإن قيل: إنه المصحف الذي في أيدينا. ففي تأويله ستة أقاويل:
أحدها: لا يمسه بيده إلا المطهرون من الشرك. قاله الكلبيّ.
الثاني: إلا المطهرون من الذنوب والخطايا. قاله الربيع بن أنس.
الثالث: إلا المطهرون من الأحداث والأنجاس. قاله قتادة.
الرابع: لا يجد طعم نفعه إلا المطهرون أي المؤمنون بالقرآن. حكاه الفراء.
الخامس: لا يمس ثوابه إلا المؤمنون. رواه معاذ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.(1/451)
السادس: لا يلتمسه إلا المؤمنون. قاله ابن بحر. النكت والعيون 5/464) وهكذا نستطيع أن نأخذ الآية على إطلاقها، بمعنى أن الاقتراب لا يتمّ إلا بالطُّهر، أي بعد انتهاء الحيض، والتطهر هو الاغتسال والاستحمام (قال العلامة ابن كثير: وقوله "فإذا تَطَهَّرنَ فَأْتُوهنَّ من حيث أمَرَكم اللهُ" فيه ندب وإرشاد إلى غشياهنَّ بعد الاغتسال، وذهب ابن حزم إلى وجوب الجماع بعد كل حيضة لقوله: "فإذا تَطَهَّرنَ فَأْتُوهنَّ من حيث أمَرَكم اللهُ" وليس له في ذلك سند؛ لأن هذا أمر بعد الحظر.
وفيه أقوال لعلماء الأصول: منهم من يقول إنه للوجوب كالمطلق، وهؤلاء يحتاجون إلى جواب ابن حزم. ومنهم من يقول إنه للإباحة ويجعلون تقدُّمَ النهي قرينةً صارفةً له عن الوجوب. وفيه نظر. والذي ينهض عليه الدليل أنه يُرَدُّ الحكم إلى ما كان عليه الأمر قبل النهي، فإن كان واجبًا فواجب، كقوله: "فإذا انسلَخَ الأشهرُ الحرُمُ فاقتُلوا المشرِكين" [التوبة: 5] أو مباحًا فمباح، كقوله: "وإذا حَلَلتُم فاصطادوا" [المائدة: 2] وقوله: "فإذا قُضيَتِ الصلاةُ فانتَشِروا في الأرض" [الجمعة: 10] وعلى هذا القول تجتمع الأدلة وهو الصحيح.
وقد اتفق العلماء على أن المرأة إذا انقطع حيضها لا تَحِلّ حتى تغتسل بالماء أو تتيمم إن تَعذَّرَ ذلك عليها بشرطه. إلَّا أن أبا حنيفة يقول فيما إذا انقطع دمها لأكثر الحيض، وهو عشرة أيام عنده، أنها تَحِلّ بمجرد الانقطاع ولا تفتقر إلى غسل. والله أعلم.(1/452)
وقال ابن عباس: "حتى يَطهُرنَ" أي من الدم "فإذا تَطَهَّرنَ" أي بالماء. وكذا قول مجاهد وعكرمة والحسن وغيرهم. وقوله: "من حيثُ أمَرَكم اللهُ" قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد: يعني الفرج. وفيه دلالة حينئذٍ على تحريم الوطء في الدبر.. وقال ابن رَزين وعكرمة والضحاك وغير واحد: "فَأتُوهنَّ من حيثُ أمَرَكم اللهُ" يعني طاهرات غير حُيَّض. ولهذا قال "إن اللهَ يحبُّ التوَّابين" أي من الذنب وإن تكرَّر غشيانه "ويحبُّ المتطهِّرين" أي المتنزِّهين عن الأقذار والأذى، وهو ما نُهُوا عنه من إتيان الحائض أو في غير المَأتَى. عمدة التفسير 2/96 ـ 97) وهكذا يكون التطهُّر بفعل إنسانيّ، وهو بأمر من الحق سبحانه وتعالى الذي طهَّر الإنسان بالتشريع. وهكذا نجد أن التطهُّر والطُّهر متساويان، ولا يكون الجماع إلا من حيث أمر الله، وشرطُه أن يتم بعد الحيض والطُّهر، أي انتهاء الحيض والتطهر. إن الحق سبحانه وتعالى أراد أن يُدخل عليك أيها المؤمن النعمةَ فطلَب منك أن تتطهر ماديًّا بالاغتسال والاستحمام وطلب منك أيضًا أن تتطهر معنويًّا بالتوبة.(1/453)
نحن نعلم أن الحق قد حرَّم إتيان المرأة في الدبر؛ لأن في ذلك فُحشًا كفُحش قوم لوط، وقد كان اليهود يُثيرون أن الرجل إذا أتَى امرأتَه من خلفٍ ولو في قُبُلها جاء الولد أحوَلَ، كما كان يفعل قوم لوط، وكان هذا الإشكال الذي آثاره اليهود لا أساس له من الصحة، فقد أراد الحق أن يردّ على هذه المسألة فقال: (نساؤُكم حَرْثٌ لكم فأتُوا حَرْثَكم أنَّى شئتم وقدِّموا لأنفسِكم واتقوا اللهَ واعلَموا أنكم مُلَاقُوه وبشِّرِ المؤمنين) [البقرة: 223] الحق سبحانه وتعالى يبيح مجال التمتع للرجل والمرأة على أيّ وجه من الأوجه شريطةَ أن يتمّ الإتيان في محل الإنبات. وقد ذكر الحق كلمة (حرث) هنا ليوضح أن الحرث يكون في مكان إتيان الإنبات، أي مكان رزع الولد، فمحلّ استنبات الولد هو قُبُل المرأة لا دُبُرها. وللرجل أن يأتيَ المرأة بأيّ وضع يشاء وترضاه المرأة بشرط أن يكون الحرث في القُبُل وهو مكان الإنبات (قال العلامة ابن كثير وقوله: "نساؤُكم حَرْثٌ لكم" قال ابن عباس: الحرث موضع الولد "فأتُوا حَرْثَكم أنَّى شئتم" أي كيف شئتم، مُقبِلةً ومُدبِرةً في صمام واحد، كما ثبتت بذلك الأحاديث، وروى البخاريّ عن جابر قال: كانت اليهود تقول: إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول. فنزلت "نساؤُكم حَرْثٌ لكم فأتُوا حَرْثَكم أنَّى شئتم" ورواه مسلم وأبو داود أخرجه البخاريّ [4528] ومسلم [1435/5] وأبو داود [2163] وفي حديث معاوية بن حَيدة القشيريّ أنه قال: يا رسول الله، نساؤنا ما نأتي منها وما نَذَر؟ قال: "حَرْثُك، ائت حَرْثَك أنَّى شئتَ، غير ألَّا تضرب الوجه ولا تقبِّح ولا تهجر إلا في البيت" الحديث رواه أحمد وأهل السنن رواه أحمد في المسند [5/3] وأبو داود [2143] وقال الألبانيّ في صحيح أبي داود [1876]: حسن صحيح وروى الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن سابط قال: دخلت على حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر فقلت: إني سائلُكِ عن أمر وأنا أستحي أن أسألكِ.(1/454)
قالت: فلا تستحي يا بن أخي. قال: عن إتيان النساء في أدبارهنَّ. قلت: حدثتني أم سلمة أن الأنصار كانوا لا يُجِبُّون النساء التَّجبِية: أن يقوم الإنسان قيام الراكع. مختار الصحاح [57] وكانت اليهود تقول: إنه من جبَّى امرأتَه كان ولده أحوَلَ. فلما قدم المهاجرون المدينة نكحوا في نساء الأنصار فجبَّوْهُنَّ، فأبت امرأة أن تطيع زوجها وقالت: لن تفعل ذلك حتى آتيَ الرسول صلى الله عليه وسلم. فدخلت على أم سلمة فذكرت لها ذلك فقالت: اجلسي حتى يأتيَ رسول الله. فلما جاء الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ استحيَت الأنصارية أن تسأله فخرَجَت، فحدَّثَت أمُّ سلمة الرسولَ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: "ادعِي الأنصارية" فدُعيَت فتلَا عليها هذه الآية "نساؤُكم حَرْثٌ لكم فأتُوا حَرْثَكم أنَّى شئتم" صمامًا واحدًا. ورواه الترمذيّ وقال: حسن رواه أحمد في المسند [6/305] وقال الشيخ شاكر في عمدة التفسير: إسناده صحيح. والترمذيّ [2979] مختصرًا جدًّا. وصححه الألبانيّ في صحيح الترمذيّ [2380] وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: جاء عمر بن الخطاب إلى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: يا رسول الله، هَلَكتُ؟ قال: "وما الذي أهلَكَكَ؟" قال: حولتُ رحلي البارحة. قال: فلم يردَّ عليه شيئًا. قال: فأوحى الله إلى رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذه الآية "نساؤُكم حَرْثٌ لكم فأتُوا حَرْثَكم أنَّى شئتم" "أَقبِلْ وأَدبِرْ، واتَّق الدُّبُر والحيضة" ورواه الترمذيّ وقال: حسن غريب رواه أحمد في المسند [1/297] وقال الشيخ شاكر [2703]: إسناده صحيح. والترمذيّ [2980] وحسنه الألبانيّ في صحيح الترمذيّ [2381] وروى أبو داود عن ابن عباس قال: إن ابن عمر ـ والله يغفر له ـ أوهَمَ، إنما كان هذا الحيّ من الانصار وهم أهل وثنٍ مع هذا الحيّ من يهود وهم أهل كتابٍ، وكانوا يَرَون لهم فضلًا عليهم في العلم فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم، وكان من أمر أهل الكتاب لا(1/455)
يأتون النساء إلا على حَرف، وذلك أسترُ ما تكون المرأة، فكان هذا الحيّ من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم، وكان هذا الحيّ من قريش يَشرَحون النساء شرحًا منكرًا شرَح جاريته: إذا وَطِئَها نائمة على قفاها. لسان العرب [2/498] ويتلذّذون بهنَّ مُقبِلَات ومُدبِرات ومستلقِيات، فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار، فذهب يصنع بها ذلك فأنكَرَته عليه وقالت: إنما كنا نؤتَى على حرف، فاصنَع ذلك وإلا فاجتَنِبْني. فسرَى أمرهما، فبلَغ الرسولَ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأنزل الله "نساؤُكم حَرْثٌ لكم فأتُوا حَرْثَكم أنَّى شئتم" أي مُقبِلَات ومُدبِرات ومستلقِيات. يعني بذلك موضع الولد. تفرد به أبو داود رواه أبو داود [2164] وحسنه الألبانيّ في صحيح أبي داود [1896] ويشهد له بالصحة ما تقدم من الأحاديث، ولا سيما رواية أم سلمة فإنها مشابهة لهذا السياق. وقول ابن عباس "إن ابن عمر ـ والله يغفر له ـ أوهَمَ" كأنه يشير إلى ما رواه البخاريّ عن نافع قال: كان ابن عمر إذا قرأ القرآن لم يتكلم حتى يفرغ منه، فأخذت عليه يومًا، فقرأ سورة البقرة حتى انتهى إلى مكان، قال: أتدري فيم أُنزلَت؟ قلت: لا. قال: أُنزلَت في كذا وكذا. ثم مضى أخرجه البخاريّ [4526] وروى ابن جرير عن نافع قال: قرأت ذات يوم "نساؤُكم حَرْثٌ لكم فأتُوا حَرْثَكم أنَّى شئتم" فقال ابن عمر: أتدري فيم نزلت؟ قلت: لا. قال: نزلت في إتيان النساء في أدبارهنَّ رواه الطبريّ في تفسيره [2/394] وقال الشيخ شاكر [326]: وهذا الإسناد صحيح جدًّا وهذا محمول على ما تقدم، وهو أنه يأتيها في قُبُلها من دُبُرها، لما رواه النسائيّ عن أبي النضر أنه قال لنافع مولى ابن عمر: إنه قد أكثر عليك القول أنك تقول عن ابن عمر أنه أفتى أن يؤتَى النساءُ في أدبارهنَّ! قال: كذَبوا عليَّ، ولكن سأحدثك كيف كان الأمر، إن ابن عمر عرض المصحف يومًا وأنا عنده، حتى بلغ "نساؤُكم حَرْثٌ لكم(1/456)
فأتُوا حَرْثَكم أنَّى شئتم" فقال: يا نافع، هل تعلم من أمر هذه الآية؟ قلت: لا. قال: إنا كنا ـ معشرَ قريش ـ نُجبِّي النساء، فلما دخلنا المدينة ونكَحنَا نساءَ الأنصار أردنَا منهنَّ مثل ما كنا نريد فإذا هنَّ قد كَرِهنَ ذلك وأعظَمنَه، وكانت نساء الأنصار قد أخَذنَ بحال اليهود، إنما يؤتَينَ على جنوبِهنَّ، فأنزل الله "نساؤُكم حَرْثٌ لكم فأتُوا حَرْثَكم أنَّى شئتم". وإسناده صحيح. ورواه ابن مَردَوَيهِ. وقد رُوِّينا عن ابن عمر خلاف ذلك صريحًا وأنه لا يباح ولا يحلّ.. وإن كان قد نُسب هذا القول إلى طائفة من فقهاء المدينة وغيرهم وعزاه بعضهم إلى الإمام مالك في كتاب "السر" وأكثر الناس ينكر أن يصح ذلك عن الإمام مالك رحمه الله. وقد وردت الأحاديث المروية من طرق متعددة بالزجر عن فعله وتعاطيه، فروى الحسن بن عرفة عن جابر قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "استحيُوا فإن الله لا يستحيي من الحق، لا يَحلّ أن تأتوا النساء في حُشُوشهنَّ" قال الشيخ شاكر: إسناد صحيح. وقد رواه الدارقطني أيضًا في سننه [3708] من طريق الحسن بن عرفة، وقد ذكره الحافظ ابن حجر في التلخيص [3/181] عن الدارقطني وابن شاهين. وفي مجمع الزوائد [4/302] عن جابر بن عبد الله أن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهى عن مَحَاشّ النساء. رواه الطبرانيّ ورجاله ثقات. والحشوش والمَحَاشّ: الأدبار. وأصل الحُشّ بضم الحاء وفتحها: النخل المجتمع. وكذلك المَحَشّ. وكانوا يقضون حاجتهم في تلك المواضع، فكنَّى بالمَحَاشِّ والحشوش عن الأدبار؛ لأنها مجتمع الغائط وروى أحمد عن خزيمة بن ثابت الخطميّ أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "لا يستحي الله من الحق، لا يستحيي الله من الحق" ثلاثًا "لا تأتوا النساء في أعجازهنَّ" ورواه النسائيّ وابن ماجه من طرق عن خزيمة بن ثابت، وفي إسناده اختلاف كثير رواه أحمد في المسند [5/215] وابن ماجه [1924] وصححه الألبانيّ في صحيح ابن(1/457)
ماجه [1561] وروى الترمذيّ والنسائيّ عن ابن عباس قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلًا أو امرأةً في الدبر". ثم قال: هذا حديث حسن غريب رواه الترمذيّ [1165] وحسنه الألبانيّ في صحيح الترمذيّ [930] وهكذا أخرجه ابن حبان في صحيحه، وصححه ابن حزم أيضًا، ولكن رواه النسائيّ أيضًا موقوفًا. وروى عبد بن حميد عن طاووس أن رجلًا سأل ابن عباس عن إتيان المرأة في دبرها فقال: تسألني عن الكفر! إسناده صحيح. وكذا رواه النسائيّ نحوه. وروى الإمام أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "الذي يأتي امرأته في دبرها هي اللوطية الصغرى" رواه أحمد في المسند [2/182،210] وقال الشيخ شاكر [6706، 6967، 6968]: إسناد صحيح وعن أبي الدرداء قال: وهل يفعل ذلك إلا كافر! رواه أحمد في المسند [2/210] وقال الشيخ شاكر [6968م]: إسناد صحيح، وهذا وإن كان موقوفًا لفظًا إلا أنه مرفوع حكمًا؛ لأن الصحابيَّ لا يَحكم على عمل بأنه كفر إلا أن يكون قد علمه من المعصوم المبلِّغ الرسالة عن ربه، فمثلُ هذا مما لا يقال بالرأي ولا القياس وقد رُويَ حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو موقوفًا من قوله قال الشيخ شاكر: هكذا أعلَّ الحافظ ابن كثير الحديثَ المرفوع بالرواية الموقوفة، وتبعه في ذلك الحافظ ابن حجر في التلخيص [3/181] وهذا منهما ترجيح للموقوف على المرفوع دون دليل، والرفع زيادة من ثقة، بل من ثقات، فهو مقبول صحيح وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة عن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "إن الذي يأتي امرأته في دبرها لا ينظر الله إليه" رواه أحمد في المسند [2/272،344] وقال الشيخ شاكر [7670، 8513]: أسانيده صحاح وفي لفظ له: "ملعون من أتى امرأته في دبرها" ورواه أبو داود والنسائيّ وابن ماجه بنحوه رواه أحمد في المسند [2/444، 479] وأبو داود [2162] وحسنه الألبانيّ في صحيح أبي داود(1/458)
[1894] وروى الإمام أحمد وأهل السنن عن أبي هريرة أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "من أتى حائضًا أو امرأةً في دبرها أو كاهنًا فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد" رواه أحمد في المسند [2/408] والترمذيّ [135] وصححه الألبانيّ في صحيح الترمذيّ [113] وقال الشيخ شاكر: وكذلك رواه البخاريّ في التاريخ الكبير [2/1/16] من طريق حكيم الأثرم، ثم قال: هذا حديث لا يُتابع عليه، ولا يُعرف لأبي تميمة سماع من أبي هريرة وقال الترمذيّ: ضعّف البخاريّ هذا الحديث. والذي قاله البخاريّ في حديث حكيم الأثرم عن أبي تميمة: لا يُتابع في حديثه. وروى النسائيّ عن أبي هريرة قال: إتيان الرجال والنساء في أدبارهنَّ كفر. هكذا رواه النسائيّ عن أبي هريرة موقوفًا قال الشيخ شاكر: هذا وإن كان موقوفًا لفظًا فهو مرفوع حكمًا، كما بيّنّا في حديث أبي الدرداء آنفًا، وقد جاء مرفوعًا أيضًا، ففي الزوائد [4/302] عن أبي هريرة قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "من أتى النساء في أعجازهنَّ فقد كفر" رواه الطبرانيّ ورجاله ثقات. وقد أشار الحافظ ابن كثير إلى رواية أخرى مرفوعة وقال: والموقوف أصح وقد ثبت عن ابن مسعود وأبي الدرداء وأبي هريرة وابن عباس وعبد الله بن عمرو تحريمُ ذلك، وهو الثابت بلا شك عن عبد الله بن عمر أنه يحرِّمه. روى الدارميّ عن سعيد بن يسار أبي الحباب قال: قلت لابن عمر: ما تقول في الجواري، أنحمِّض لهنَّ؟ قال: وما التحميض؟ فذكر الدبر، فقال: وهل يفعل ذلك أحد من المسلمين! وإسناده صحيح الدارميّ [1142] وهو نص صريح منه بتحريم ذلك، فكل ما ورد عنه مما يَحتمل ويَحتمل فهو مردود إلى هذا الحكم. وروى معن بن عيسى عن مالك أن ذلك حرام. وروى أبو بكر النيسابوريّ عن مالك بن أنس أنه سئل: ما تقول في إتيان النساء في أدبارهنَّ؟ قال: ما أنتم قوم عرب! هل يكون الحرث إلا موضع الزرع! لا تَعْدُ الفرج. قلت: يا أبا عبد الله، إنهم يقولون إنك تقول(1/459)
ذلك؟ قال: يكذبون عليَّ، يكذبون عليَّ. فهذا هو الثابت عنه. وهو قول أبي حنيفة والشافعيّ وأحمد بن حنبل وأصحابهم قاطبة. وهو قول سعيد بن المسيب وأبي سلمة وعكرمة وطاووس وعطاء وسعيد بن جبير وعروة بن الزبير ومجاهد بن جبر والحسن وغيرهم من السلف ـ أنهم أنكروا ذلك أشد الإنكار، ومنهم من يطلق على فعله الكفر. وهو مذهب جمهور العلماء. عمدة التفسير 2/97 ـ 102).
ومعنى قول الحق سبحانه: (وقدِّموا لأنفسكم) أنك أيها المؤمن لا يجب أن تأخذ المسألة على أنها جنس فحسب، فإن المتاع الجنسيّ والشهوة واللذة التي جعلها الله في هذه المسألة قد تعقُبها متاعبُ ومسؤوليات نتيجةَ ما ينشأ عنها من الذرية، لأن الذرية تحمل الإنسان إلى السعي في الحياة وزيادة الحركة ليحصل الإنسان على رزقه الذي قسمه الله له، ومعه رزق من يعُول. والمرأة تتحمل بعد هذه اللذة متاعب الحمل والولادة. ولولا أن الله خلق اللذة في اللقاء الجنسيّ لزهد الناس في مثل هذا اللقاء، لذلك شاء الحق سبحانه وتعالى أن يربط الكدح والمشقة والأولاد والعمل باللذة حتى يضمن بقاء النوع.
فإياك أيها المؤمن أن تأخذ اللقاء الجنسيَّ على أنه متعة فقط، ولكن يجب أن تقدِّم لنفسك بالعمل الذي ينفعك بعد المتعة. إنك ـ أيها المؤمن ـ لا يجب أن تنظر إلى هذه المسألة على أن اللذة وحدها هي الغاية، لا يجب أن تقلب الوسيلة إلى غاية، إن الأصل في اللقاء بين الرجل والمرأة هو الإنجاب، ولذلك فعليك ـ أيها المؤمن ـ ألَّا تأخذ هذا الاستمتاع اللحظيِّ العاجل على أنه الغاية، بل عليك أن تمتلك بصيرةَ تحمُّلِ المسؤولية حتى لا تَشقَيَا ننتيجة اللقاء الجنسيّ.(1/460)
الحيض وطواف الركن
السؤال: إذا حاضت المرأة قبل أداء طواف الركن من الحج واضطرت إلى مغادرة مكة قبل الطهر لارتباطها بالفوج الذي تحج معه، فماذا تفعل؟
الجواب: تصنع احتياطًا بحيث لا يسيل منها دم، ثم تتوجه مباشرة إلى الحرم وتطوف (عُرض على اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية مثل ذلك السؤال تحت رقم [4543] فأجابت: يجوز للمرأة أن تتناول ما يؤخر العادة عنها من أجل مناسبة حج أو عمرة أو صيام رمضان، إذا لم يترتب عليها ضرر بسبب ذلك اهـ
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ في فتاويه [1/176 ـ 177]: الأصل في هذا الجواز ولا نعلم دليلًا يخالف هذا الأصل. وكونُ المرأة تصلّي والحيض محتَبِس بسبب تعاطي الحبوب لا أثر له في صحة العبادة؛ فإن أحكامه لا تثبُت إلا بعد ثبوت خروجه على حسب ما جرت به العادة، وتركُه على سبيل الاحتياط إذا لم تدعُ إليه ضرورة. هذا إذا لم يكن له تأثير على منع الحمل بسبب امتناع الحيض مطلقًا، فإن كان فلا بد من إذن الزوج).(1/461)
حج المرأة عن أمها
السؤال: هل تحج المرأة عن أمها؟
الجواب: سألته ـ صلى الله عليه وسلم ـ امرأة فقالت: إن أمي ماتت ولم تحج أفأحج عنها؟ قال: "نعم حُجِّي عنها" (أخرج البخاريّ [1754 البغا] عن ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ قال: إن امرأة من جهينة جاءت إلى النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: "نعم، حُجِّي عنها، أرأيتِ لو كان على أمكِ دَينٌ أكنتِ قاضيَتِهِ؟ اقضُوا اللهَ؛ فاللهُ أحقُّ بالوفاء". وأخرج البخاريّ [1513] ومسلم [1334/ 407] عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان الفضل بن عباس رضي الله تعالى عنهما رَديف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فجاءت امرأة من خَثعَم فجعَل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، وجعل النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، فقالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج أدرَكَت أبي شيخًا كبيرًا لا يثبُت على الراحلة، أفأحُجُّ عنه؟ قال: "نعم" وذلك في حجة الوداع) كما أفتى رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رجلًا سمعه يقول: لبيك عن شُبرُمة. قريبٍ له، فقال صلى الله عليه وسلم: "أحَجَجتَ عن نفسك؟" قال: لا. قال: "حُجَّ عن نفسك ثم حُجَّ عن شُبرُمة" (روى أبو داود [1811] وابن ماجه [2903] وابن حبان في صحيحه [3988] عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ سمع رجلًا يقول: لبيك عن شُبرُمة. قال: "من شُبرُمة" قال: أخ لي. أو: قريب لي. فقال: "حَجَجتَ عن نفسك"؟ فقال: لا. قال: "حُجَّ عن نفسك ثم حُجَّ عن شُبرُمة". وقال الأرناؤوط: صحيح على شرط مسلم).(1/462)
الحج بالقرعة
السؤال: ما حكم من تقدم لأداء فريضة الحج ولم يخرج اسمه في القرعة ثم مات؟
الجواب: مجرد تقديمك الطلب إن خرج اسمك في القرعة أو لم يخرج تكون قد أخَذتَ ثواب الحج في هذه السنة في هذه الحالة، فإن عاش فعليه أن يكرر الطلب كل عام لتبرأ ذمته أمام الله، وفي هذه الحالة يكون قد خرج مما ولايتُه فيه على نفسه إلى ما الولايةُ فيه لوليِّ الأمر (أخرج البخاريّ [54] ومسلم [1907/ 155] عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرتُه إلى الله ورسوله فهجرتُه إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرتُه لدنيا يُصيبها أو امرأةٍ يَنكِحُها فهجرتُه إلى ما هاجر إليه".
ورُوي عن الإمام الشافعيّ رضي الله تعالى عنه: هذا الحديث ثلث العلم، ويدخل في سبعين بابًا من الفقه. وعن الإمام أحمد ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: أصول الإسلام على ثلاثة أحاديث: حديث عمر "إنما الأعمال بالنيات" وحديث عائشة "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" وحديث النعمان بن بشير "الحلال بين والحرام بين".
وقد اختلفوا في تقدير قوله "الأعمال بالنيات" فكثير من المتأخرين يزعم أن تقديره: الأعمال صحيحة أو معتَبَرة ومقبولة بالنيات. وعلى هذا فالأعمال إنما أُريدَ بها الأعمال الشرعية المفتقِرة إلى النية، فأما ما لا يفتقر إلى نية ـ كالعادات من الأكل والشرب واللبس وغيرها، أو مثل رد الأمانات والمضمونات كالودائع والغصوب ـ فلا يحتاج شيء من ذلك إلى نية، فيٌخَصّ هذا كلُّه من عموم الأعمال المذكورة ههنا.(1/463)
وقال آخرون: بل الأعمال ههنا على عمومها لا يختص منها شيء. وحكاه بعضهم عن الجمهور، كأنه يريد به جمهور المتقدمين. وقد وقع ذلك في كلام ابن جرير الطبريّ وأبى طالب المكيّ وغيرهما من المتقدمين، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد، قال في رواية حنبل: أُحب لكل من عمل عملًا من صلاة أو صيام أو صدقة أو نوع من أنواع البر أن تكون النية متقدمة في ذلك قبل الفعل، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "الأعمال بالنيات" فهذا يأتي على كل أمر من الأمور. وقال الفضل بن زياد: سألت أبا عبد الله ـ يعني أحمد ـ عن النية في العمل، قلت: كيف النية؟ قال: يعالج نفسه، إذا أراد عملًا لا يريد به الناس. وقال أحمد بن داود الحربيّ: حدَّث يزيد بن هارون بحديث عمر "الأعمال بالنيات" وأحمد جالس، فقال أحمد ليزيد: يا أبا خالد هذا الخِنَاقُ.
وعلى هذا القول فقيل: تقدير الكلام: الأعمال واقعة أو حاصلة بالنيات. فيكون إخبارًا عن الأعمال الاختيارية أنها لا تقع إلا عن قصدٍ من العامل هو سببُ عملها ووجودها، ويكون قوله بعد ذلك "وإنما لكل امرئ ما نوى" إخبارًا عن حكم الشرع، وهو أن حظَّ العامل من عمله نيتُه، فإن كانت صالحةً فعملُه صالح فله أجرُه، وإن كانت فاسدةً فعملُه فاسد فعليه وزرُه. ويَحتمل أن يكون التقدير في قوله "الأعمال بالنيات": صالحة أو فاسدة، أو مقبولة أو مردودة، أو مُثابًا عليها أو غيرَ مُثَاب عليها بالنيات. فيكون خبرًا عن الحكم الشرعيّ هو أن صلاحها وفسادها بحسب صلاح النية وفسادها، كقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالخواتيم" جزء من حديث أخرجه البخاريّ [6233 البغا] عن سهل رضي الله تعالى عنه أي أن صلاحها وفسادها وقبولها وعدمها بحسب الخاتمة.(1/464)
وقوله بعد ذلك: "إنما لكل امرئ ما نوى" إخبار أنه لا يحصُل له من عمله إلا ما نواه به، فإن نوى خيرًا حصل له خير وإن نوى شرًّا حصل له شر. وليس هذا تكريرًا محضًا للجملة الأولى، فإن الجملة الأولى دلّت على أن صلاح العمل وفساده بحسب النية المقتضية لإيجاده، والجملة الثانية دلت على أن ثواب العامل على عمله بحسب نيته الصالحة وأن عقابه عليه بحسب النية الفاسدة.
وقد تكون نيته مباحةً فيكون العمل مباحًا فلا يحصل له ثواب ولا عقاب، فالعمل في نفسه صلاحُه وفسادُه وإباحتُه بحسب نيته الحاملة عليه المقتضية لوجوده، وثواب العامل وعقابه وسلامته بحسب النية التي صار بها العمل صالحًا أو فاسدًا أو مباحًا.
واعلم أن النية في اللغة نوع من القصد والإرادة، وإن كان قد فُرِّق بين هذه الألفاظ بما ليس هذا موضع ذكره. والنية في كلام العلماء تقع بمعنَيَين:
المعنى الأول: بمعنى تمييز العبادات بعضها عن بعض ـ كتمييز صلاة الظهر من صلاة العصر مثلًا، وتمييز صيام رمضان من صيام غيره ـ أو تمييز العبادات من العادات، كتمييز الغسل من الجنابة من غسل التبرد والتنظف ونحو ذلك. وهذه النية هي التي توجد كثيرًا في كلام الفقهاء في كتبهم.
والمعنى الثاني: بمعنى تمييز المقصود بالعمل وهل هو لله وحده لا شريك له أم لله وغيره. وهذه هي النية التي يتكلم فيها العارفون في كتبهم على الإخلاص وتوابعه، وهي التي توجد كثيرًا في كلام السلف المتقدمين.
وقد صنف أبو بكر بن أبي الدنيا مصنفًا سماه "كتاب الإخلاص والنية" وإنما أراد هذه النية، وهي النية التي يتكرر ذكرها في كلام النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ تارةً بلفظ النية وتارةً بلفظ الإرادة وتارةً بفلظ مقارِب لذلك، وقد جاء ذكرها كثيرًا في كتاب الله عز وجل بغير لفظ النية أيضًا من الألفاظ المقارِبة لها.(1/465)
وإنما فرَّق من فرَّق بين النية والإرادة والقصد ونحوها لظنِّهم اختصاصَ النية بالمعنى الأول الذي يذكره الفقهاء. فمنهم من قال: النيةُ تختص بفعل الناوي والإرادةُ لا تختص بذلك، كما يريد الإنسان من الله أن يغفر له ولا ينوي ذلك. جامع العلوم والحكم 19ـ21).(1/466)
حج المرأة بغير إذن زوجها
السؤال: هل يجوز حج المرأة بغير إذن زوجها؟
الجواب: على المرأة أن تستأذن زوجها في الخروج إلى الحج الفرض، وعليه أن يأذن لها ولا يمنعها إذا كانت مع رفقة مأمونة، وله أن يسافر معها. ولها أن تعجِّل بالحج إن كانت مستطيعة لتبرئ ذمتها، تمامًا كما لها أن تصليَ أول الوقت، وأما حج التطوع فله منعها منه (أخرج البخاريّ [5233] ومسلم [1341/424] عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يخطب يقول: "لا يَخلُوَنَّ رجل بامرأة" أي أجنبية، لقوله: "إلا ومعها ذو مَحرَم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي مَحرَم" فقام رجل ـ قال المصنف: لم أقف على تسميته ـ فقال: يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجةً، وإني اكتُتِبْتُ في غزوة كذا وكذا. فقال: "انطلق فحُجَّ مع امرأتك". وقد دل الحديث على تحريم الخَلوة الأجنبية، وهو إجماع. وقد ورد في حديث: "فإن ثالثهما الشيطان" جزء من حديث رواه الترمذيّ [1171] عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله تعالى عنه ـ وفيه: "ألَا لا يَخلُوَنَّ رجل بامرأة إلا كان ثالثُهما الشيطانَ". وقال الأرناؤوط في المسند [114]: إسناده صحيح رجاله ثقات وهل يقوم غيرُ المَحرَم مقامَه في هذا بأن يكون معهما مَن يزيل معنى الخَلوة؟ الظاهر أنه يقوم؛ لأن المعنى المناسب للنهي إنما هو خشية أن يوقع بينهما الشيطانُ الفتنةَ. وقال القفّال: لا بد من المَحرَم عملًا بلفظ الحديث. ودلّ أيضًا على تحريم سفر المرأة من غير مَحرَم، وهو مطلَق في قليل السفر وكثيره، وقد وردت أحاديث مقيِّدة لهذا الإطلاق إلا أنها اختَلَفَت ألفاظها أخرجها كلها مسلم في صحيحه كتاب [15] الحج باب [74] سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره ففي لفظ "لا تسافر المرأة مسيرة ليلة إلا مع ذي محرم" وفي آخر "فوق ثلاث" وفي آخر "مسيرة يومين" وفي آخر "ثلاثة أميال" وفي لفظ "بَريد" وفي آخر "ثلاثة أيام".(1/467)
قال النوويّ: ليس المراد من التحديد ظاهرَه، بل كل ما يسمَّى سفرًا فالمرأة منهيَّة عنه إلا بالمَحرَم، وإنما وقع التحديد عن أمر واقع فلا يُعمل بمفهومه. وللعلماء تفصيل في ذلك، قالوا: ويجوز سفر المرأة وحدها في الهجرةِ من دار الحرب والمخافةَ على نفسها ولقضاء الدَّين وردِّ الوديعة والرجوعِ من النشوز، وهذا مجمع عليه. واختلفوا في سفر الحج الواجب، فذهب الجمهور إلى أنه لا يجوز للشابّة إلا مع محرم، ونُقل قول عن الشافعيّ أنها تسافر وحدها إذا كان الطريق آمنًا. ولم ينهض دليله على ذلك. قال ابن دقيق العيد: إن قوله تعالى "ولله على الناس حِجُّ البيت" [آل عمران: 97] عموم شامل للرجال والنساء، وقوله: "لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم" عموم لكل أنواع السفر، فتعارض العمومان. ويجاب بأن أحاديث لا تسافر للحج إلا مع ذي محرم مخصِّص لعموم الآية، ثم الحديث عام للشابَّة والعجوز. وقال جماعة من الأئمة: يجوز للعجوز السفر من غير محرم. وكأنهم نظروا إلى المعنى فخصَّصوا به العموم. وقيل: لا يخصص، بل العجوز كالشابة.
وهل تقوم النساء الثقات مقام المحرم للمرأة؟
فأجازه البعض مستدلًّا بأفعال الصحابة، ولا تنهض حجةً على ذلك لأنه ليس بإجماع. وقيل: يجوز لها السفر إذا كانت ذات حَشَم. والأدلة لا تدل على ذلك.
وأما أمره ـ صلى الله عليه وسلم ـ له بالخروج مع امرأته فإنه أخَذ منه أحمد أنه يجب خروج الزوج مع زوجته إلى الحج إذا لم يكن معها غيره. وغير أحمد قال: لا يجب عليه. وحمَل الأمرَ على الندب. قال: وإن كان لا يُحمل على الندب إلا لقرينة عليه، فالقرينة عليه ما عُلم من قواعد الدين أنه لا يجب على أحد بذلُ منافع نفسه لتحصيل غيره ما يجب عليه.(1/468)
وأخذ من الحديث أنه ليس للرجل منعُ امرأته من حج الفريضة؛ لأنها عبادة قد وجبت عليها، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، سواء قلنا إنه على الفور أو التراخي، أما الأول فظاهر. قيل: وعلى الثاني أيضًا، فإن لها أن تسارع إلى براءة ذمتها كما أن لها أن تصليَ أول الوقت وليس له منعها. وأما ما أخرجه الدارقطنيّ من حديث ابن عمر مرفوعًا في امرأة لها زوج ولها مال ولا يؤذن لها في الحج: "ليس لها أن تنطلق إلا بإذن زوجها" فإنه محمول على حج التطوع جمعًا بين الحديثين، على أنه ليس في حديث الكتاب ما يدل أنها خرَجَت من دون إذن زوجها. وقال ابن تيمية: إنه يصح الحج من المرأة بغير مَحرَم ومن غير المستطيع، وحاصله أن من لم يجب عليه لعدم الاستطاعة مثل المريض والفقير والمعضوب والمقطوع طريقه والمرأة بغير محرم وغير ذلك إذا تكلَّفوا شهودَ المَشَاهِدِ أجزأهم الحج، ثم منهم من هو مُحسن في ذلك كالذي يحج ماشيًا، ومنهم من هو مسيء في ذلك كالذي يحج بالمسألة والمرأةِ تحج بغير مَحرَم، وإنما أجزأهم لأن الأهلية تامة، والمعصية إن وقَعَت فهي في الطريق لا في نفس المقصود. سبل السلام 2/701 ـ 702).(1/469)
احتلام المرأة يوجب الغسل
السؤال: هل على المرأة أن تغتسل إذا احتلَمَت؟
الجواب: نعم، "إنما الماء من الماء" في الاحتلام (رواه الترمذيّ [112] عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وفيه شَريك، وهو ضعيف عند التفرد، وقد تفرد به، وهو أثر صحيح بدون قوله "في الاحتلام" رواه أبو داود [215] عن أُبَيّ بن كعب أن الفُتيا التي كان يُفتُون أن "الماء من الماء" كانت رخصة رخصها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بدء الإسلام، ثم أمر بالاغتسال بعدُ. وصححه الألبانيّ في صحيح أبي داود 199) وقد سألت أمُّ سُليم النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحيي من الحق، فهل على المرأة من غسل إذا هي احتلَمَت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم إذا رأت الماء" فقالت أمُّ سلمة: يا رسول الله وتحتلم المرأة؟ قال: "تَرِبَت يداك، فبِمَ يُشبِهُها ولدُها؟" (أخرجه البخاريّ [130] ومسلم [313/ 32] عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها. قال النوويّ: اعلم أن المرأة إذا خرج منها المنيّ وجب عليها الغسل كما يجب على الرجل بخروجه، وقد أجمع المسلمون على وجوب الغسل على الرجل والمرأة بخروج المنيّ أو إيلاج الذكر في الفرج. وأجمعوا على وجوبه عليها بالحيض والنفاس. واختلفوا في وجوبه على من ولَدَت ولم تَرَ دمًا أصلًا، والأصحّ عند أصحابنا وجوب الغسل. وكذا الخلاف فيما إذا ألقَت مُضغة أو عَلَقة، والأصح وجوب الغسل، ومن لا يوجب الغسلَ يوجب الوضوءَ. والله تعالى أعلم. ثم إن مذهبنا أنه يجب الغسل بخروج المنيّ، سواء كان بشهوة ودَفْق أم بنظر أم في النوم أم في اليقظة، وسواء أحَسَّ بخروجه أم لا، وسواء من العاقل أم من المجنون.(1/470)
ثم إن المراد بخروج المنيّ أن يخرج إلى الظاهر أما ما لم يخرج فلا يجب الغسل، وذلك بأن يرى النائم أنه يجامع وأنه قد أنزَل ثم يستيقظ فلا يرى شيئًا فلا غسل عليه بإجماع المسلمين. وكذا لو اضطَّرَبَ بدنه لمبادئ خروج المنيّ فلم يخرج، وكذا لو نزَل إلى أصل الذكر ثم لم يخرج فلا غسل، وكذا لو صار المنيّ في وسط الذكر وهو في صلاة فأمسَكَ بيده على ذَكَره فوق حائل فلم يخرج المنيّ حتى سلَّم من صلاته صحَّت صلاته؛ فإنه ما زال متطهرًا حتى خرج. والمرأةُ كالرجل في هذا، إلا أنها إذا كانت ثيبًا فنزل المنيّ إلى فرجها ووصل الموضعَ الذي يجب عليها غَسلُه في الجنابة والاستنجاء، وهو الذى يظهر حال قعودها لقضاء الحاجة، وجب عليها الغسل بوصول المنيّ إلى ذلك الموضع؛ لأنه في حكم الظاهر. وإن كانت بكرًا لم يَلزَمها ما لم يخرج من فرجها؛ لأن داخل فرجها كداخل إحليل الرجل. والله تعالى أعلم. شرح النوويّ على مسلم 2/226 ـ 227).(1/471)
الاستحاضة وأحكامها
السؤال: ما هي أحكام الاستحاضة؟
الجواب: الاستحاضة هي عبارة عن استمرار نزول الدم في غير أوانه. والمستحاضة إذا كانت مدة الحيض معروفةً لها قبل الاستحاضة فإنها تَعتبِر هذه المدةَ المعروفةَ مدةَ الحيض، فلا تصلّي فيها ولا تصوم، والباقي استحاضة، لما رُويَ عن أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ أنها استَفتَت النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ في امرأة تُهَرَاقُ الدمَ فقال: "لتَنتَظرْ قَدْرَ الليالي والأيام التي كان تَحيضُهنَّ وقَدْرَها من الشهر، فتَدَعُ الصلاة، ثم تغتسل ولْتَستَثْفِرْ ثم تصلّي" (رواه أحمد في المسند 6/293) وأما إذا كانت أيام الحيض غيرَ معروفة لها أو نَسيَتها ولا تستطيع تمييزَ دم الحيض فإنها في هذه الحالة يكون لحيضها ستة أيام أو سبعة على غالب عادة النساء، وما زاد على غيره تَعمل بالتمييز، لما رُويَ عن فاطمة بنت أبي حُبيش أنها كانت تُستحاض فقال لها النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إنما ذلك عِرْق وليس بالحَيضة، فإذا أقبَلَت الحَيضة فدَعِي الصلاة، وإذا أدبَرَت فاغسلي عنك الدمَ وصلِّي" (أخرجه مسلم [333/62] وابن ماجه [621] عن عائشة رضي الله تعالى عنها. وفي رواية عنها عند مسلم [334/63] وابن ماجه [626] أنها قالت: استَفتَت أمُّ حبيبة بنت جحش رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت: إني أُستَحَاض! فقال: "إنما ذلك عِرْقٌ، فاغتسلي ثم صلِّي" فكانت تغتسل عند كل صلاة).
وللمُستحاضة أحكام تتلخص فيما يأتي:
1 ـ عليها أن تصوم.
2 ـ يجب عليها الوضوء لكل صلاة.
3 ـ لا تتوضأ قبل دخول وقت الصلاة.
4 ـ أن تغسل فرجها قبل الوضوء من غير مبالغة، وتَحشُوَه بخرقة أو قطنة.(1/472)
5 ـ يباح لزوجها أن يطأها إذا شاء في غير وقت الصيام لما رُويَ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: المُستَحَاضة يأتيها زوجها (قال النوويّ: فاعلم أن المستحاضة لها حكم الطاهرات في معظم الأحكام، فيجوز لزوجها وطؤها في حال جريان الدم، عندنا وعند جمهور العلماء، حكاه ابن المنذر في "الإشراق" عن ابن عباس وابن المسيب والحسن البصريّ وعطاء وسعيد ابن جبير وقتادة وحماد بن أبي سليمان وبكر بن عبد الله المُزَنيّ والأوزاعيّ والثوريّ ومالك وإسحاق وأبي ثور. قال ابن المنذر: وبه أقول. قال: ورُوِّينا عن عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ أنها قالت: لا يأتيها زوجها. وبه قال النخعيّ والحكم، وكرهه ابن سيرين. وقال أحمد: لا يأتيها إلا أن يطول ذلك بها. وفي رواية عنه رحمه الله تعالى، أنه لا يجوز وطؤها إلا أن يَخافَ زوجُها العَنَتَ. والمختار ما قدمناه عن الجمهور، والدليل عليه ما روَى عكرمة عن حمنة بنت جحش ـ رضي الله تعالى عنها ـ أنها كانت مستحاضة، وكان زوجها يجامعها. رواه أبو داود والبيهقيّ وغيرهما بهذا اللفظ بإسناد حسن. قال البخاريّ في صحيحه: قال ابن عباس: المستحاضة يأتيها زوجها إذا صلَّت. الصلاة أعظم. ولأن المستحاضة كالطاهرة في الصلاة والصوم وغيرهما فكذا في الجماع، ولأن التحريم إنما يثبُت بالشرع ولم يَرِدْ الشرع بتحريمه. والله تعالى أعلم. وأما الصلاة والصيام والاعتكاف وقراءة القرآن ومس المصحف وحمله وسجود التلاوة وسجود الشكر ووجوب العبادات عليها، فهي في كل ذلك كالطاهرة، وهذا مجمع عليه. وإذا أرادت المستحاضة الصلاة فإنها تؤمر بالاحتياط في طهارة الحدث وطهارة النجس، فتغسل فرجها قبل الوضوءِ والتيممِ إن كانت تتيمم وتحشُو فرجها بقطنة أو خرقة رفعًا للنجاسة أو تقليلًا لها، فإن كان دمها قليلًا يندفع بذلك وحده فلا شيء عليها غيره، وإن لم يَندفع شَدَّت مع ذلك على فرجها وتَلَجَّمَت؛ وهو أن تشُدَّ على وسطها خرقة أو خيطًا أو(1/473)
نحوَه على صورة التِّكّة، وتأخذَ خرقةً أخرى مشقوقةَ الطرَفَين فتُدخلَها بين فَخِذَيها وأَلْيَتَيها، وتشُدَّ الطرَفَين بالخرقة التي في وسطها، أحدهما قدامها عند سُرَّتها والآخر خلفها، وتُحكِم ذلك الشدَّ، وتُلصق هذه الخرقةَ المشدودة بين الفَخِذَين بالقطنة التي على الفرج إلصاقًا جيدًا. وهذا الفعل يُسمَّى تلجُّمًا واستثفارًا وتعصيبًا. قال أصحابنا: وهذا الشَّدُّ والتلجُّم واجب إلا في موضعين:
أحدهما: أن يتأذَّى بالشد ويحرقها اجتماع الدم؛ فلا يلزمها لما فيه من الضرر.
والثاني: أن تكون صائمة، فتترك الحشو في النهار وتقتصر على الشد.
ويجب تقديم الشدّ والتلجُّم على الوضوء، وتتوضأ عقيب الشدّ من غير إمهال، فإن شَدَّت وتلَجَّمَت وأخَّرَت الوضوء وتطاوَلَ الزمان ففي صحة وضوئها وجهان، الأصحّ أنه لا يصحّ. وإذا استَوثَقَت بالشدّ على الصفة التي ذكرناها ثم خرج منها دم من غير تفريط لم تبطل طهارتها ولا صلاتها، ولها أن تصليَ بعد فرضها ما شاءت من النوافل، لعدم تفريطها ولِتعذُّرِ الاحتراز عن ذلك. أما إذا خرج الدم لتقصيرها في الشد، أو زالت العصابة عن موضعها لضعف الشد فزاد خروج الدم بسببه فإنه يبطُل طُهرها. فإن كان ذلك في أثناء صلاة بَطَلَت، وإن كان بعد فريضة لم تَستَبِحْ النافلةَ؛ لتقصيرها. وأما تجديدُ غسل الفرج وحشوُه وشدُّه لكل فريضة فيُنظر فيه، إن زالت العصابة عن موضعها زوالًا له تأثير أو ظهر الدم على جوانب العصابة وجب التجديد، وإن لم تَزُلْ عن موضعها ولا ظهر الدم ففيه وجهان لأصحابنا، أصحهما وجوب التجديد، كما يجب تجديد الوضوء.
ثم اعلم أن مذهبنا أن المستحاضة لا تصلّي بطهارة واحدة أكثر من فريضة واحدة مؤدَّاةً كانت أو مقضيةً، وتستبيح معها ما شاءت من النوافل قبل الفريضة وبعدها. ولنا وجه؛ أنها لا تَستبيح معها أصلًا لعدم الضرورة إلى النافلة. والصواب الأول.(1/474)
وحُكيَ مثلُ مذهبنا عن عروة بن الزبير وسفيان الثوريّ وأحمد وأبي ثور. وقال أبو حنيفة: طهارتها مقدرة بالوقت، فتصلي في الوقت بطهارتها الواحدة ما شاءت من الفرائض الفائتة. وقال ربيعة ومالك وداود: دم الاستحاضة لا ينقُض الوضوء، فإذا تطهَّرَت فلها أن تصلّيَ بطهارتها ما شاءت من الفرائض إلى أن تُحدث بغير الاستحاضة. والله تعالى أعلم.
وقال أصحابنا: ولا يصح وضوء المستحاضة لفريضة قبل دخول وقتها. وقال أبو حنيفة: يجوز. ودليلنا أنها طهارةُ ضرورةٍ فلا تجوز قبل وقت الحاجة.
قال أصحابنا: وإذا توضَّأَتْ بادَرَتْ إلى الصلاة عقب طهارتها، فإن أخَّرَت بأن توضَّأتْ في أول الوقت وصلَّت في وسطه نُظر؛ إن كان التأخير للاشتغال بسبب من أسباب الصلاة، كستر العورة والأذان والإقامة والاجتهاد في القبلة، والذهاب إلى المسجد الأعظم والمواضع الشريفة، والسعي في تحصيل سترة تصلّي إليها، وانتظار الجمعة والجماعة وما أشبه ذلك ـ جاز على المذهب الصحيح المشهور. ولنا وجه؛ أنه لا يجوز. وليس بشيء. وأما إذا أخَّرَت بغير سبب من هذه الأسباب وما في معناها ففيه ثلاثة أوجه:
أصحها: لا يجوز وتبطل طهارتها.
والثاني: يجوز ولا تبطل طهارتها ولها أن تصليَ بها ولو بعد خروج الوقت.
والثالث: لها التأخير ما لم يخرج وقت الفريضة. فإن خرج الوقت فليس لها أن تصلّيَ بتلك الطهارة، فإذا قلنا بالأصح وأنها إذا أخَّرَت لا تَستبيح الفريضة، فبادَرَت فصَلَّت الفريضة فلها أن تصليَ النوافل ما دام وقت الفريضة باقيًا، فإذا خرج وقت الفريضة فليس لها أن تصلّيَ بعد ذلك النوافل بتك الطهارة على أصح الوجهين. والله تعالى أعلم.(1/475)
قال أصحابنا: وكيفية نية المستحاضة في وضوئها أن تنويَ استباحة الصلاة ولا تقتصر على نية رفع الحدث. ولنا وجه؛ أنه يُجزئها الاقتصار على نية رفع الحدث. ووجه ثالث؛ أنه يجب عليها الجمع بين نية استباحة الصلاة ورفع الحدث. والصحيح الأول. فإذا توضأت المستحاضة استباحت الصلاة. وهل يقال: ارتفع حدثها؟ فيه أوجه لأصحابنا، الأصح أنه لا يرتفع شيء من حدثها، بل تستبيح الصلاة بهذه الطهارة مع وجود الحدث، كالمتيمم، فإنه مُحدِث عندنا. والثاني: يرتفع حدثها السابق والمقارِن للطهارة دون المستقبل. والثالث: يرتفع الماضي وحده. واعلم أنه لا يجب على المستحاضة الغسل لشيء من الصلاة ولا في وقت من الأوقات إلا مرة واحدة في وقت انقطاع حيضها، وبهذا قال جمهور العلماء من السلف والخلف، وهو مرويّ عن عليّ وابن مسعود وابن عباس وعائشة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ وهو قول عروة بن الزبير وأبي سلمة بن عبد الرحمن ومالك وأبي حنيفة وأحمد. ورُويَ عن ابن عمر وابن الزبير وعطاء بن أبي رباح أنهم قالوا: يجب عليها أن تغتسل لكل صلاة. ورُويَ هذا أيضًا عن عليّ وابن عباس. ورُويَ عن عائشة أنها قالت: تغتسل كل يوم غسلًا واحدًا. وعن المسيب والحسن قالَا: تغتسل من صلاة الظهر إلى صلاة الظهر دائمًا. والله تعالى أعلم.(1/476)
ودليل الجمهور أن الأصل عدم الوجوب فلا يجب إلا ما ورد الشرع بإيجابه، ولم يصحّ عن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه أمرها بالغسل إلا مرة واحدة عند انقطاع حيضها، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أقبَلَت الحَيضة فدَعِي الصلاة، وإذا أدبَرَت فاغتسلي" وليس في هذا ما يقتضي تكرار الغسل. وأما الأحاديث الواردة في سنن أبي داود والبيهقيّ وغيرهما أن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمرها بالغسل فليس فيها شيء ثابت، وقد بين البيهقيّ ومَن قَبْلَه ضَعْفَها، وإنما صحّ في هذا ما رواه البخاريّ ومسلم في صحيحيهما أن أم حبيبة بنت جحش ـ رضي الله تعالى عنها ـ استُحيضَت فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما ذلك عِرْق، فاغتَسلي ثم صلِّي" فكانت تغتسل عند كل صلاة. قال الشافعيّ رحمه الله تعالى: إنما أمرها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن تغتسل وتصليَ وليس فيه أنه أمَرَها أن تغتسل لكل صلاة. قال: ولا شك ـ إن شاء الله تعالى ـ أن غُسلَها كان تطوعًا غير ما أُمِرَت به، وذلك واسع لها. هذا كلام الشافعيّ بلفظه، وكذا قال شيخه سفيان بن عيينة والليث بن سعد وغيرهما، وعباراتهم متقاربة، والله تعالى أعلم.
واعلم أن المستحاضة على ضربين:
أحدهما: أن تكون ترى دمًا ليس بحيض ولا يُخلط بالحيض، كما إذا رأت دون يوم وليلة.
والضرب الثاني: أن ترى دمًا بعضُه حيض وبعضُه ليس بحيض، بأن كانت ترى دمًا متصلًا دائمًا أو مجاوزًا لأكثر الحيض.
وهذه لها ثلاثة أحوال:
أحدها: أن تكون مبتَدَأة. وهي التي لم تَرَ الدم قبل ذلك. وفي هذا قولان للشافعيّ، أصحهما تُرَدّ إلى يوم وليلة، والثاني إلى ستّ أو سبع.
والحال الثاني: أن تكون معتادة فتُرَدّ إلى قدر عادتها في الشهر الذي قبل شهر استحاضتها.(1/477)
والثالث: أن تكون مميِّزة ترى بعضَ الأيام دمًا قويًّا وبعضَها دمًا ضعيفًا كالدم الأسود والأحمر، فيكون حيضها أيامَ الأسود، بشرط ألَّا ينقُص الأسود عن يوم وليلة ولا يزيد على خمسة عشر يومًا ولا ينقص الأحمر عن خمسة عشر. ولهذا كله تفاصيل معروفة لا نرى الإطناب فيها هنا لكون هذا الكتاب ليس موضوعًا لهذا، فهذا أحرُفُ من أصول مسائل المستحاضة أشرت إليها، وقد بسطتها بشواهدها وما يتعلق بها من الفروع الكثيرة في شرح المهذب. والله أعلم. شرح النوويّ على مسلم 2/255 ـ 258).
6 ـ لها حكم الطاهرات؛ تعتكف وتقرأ القرآن وتَمَسَّ المصحف وتحمله وتفعل كل العبادات على اختلاف أنواعها.(1/478)
قراءة الحائض للقرآن
هل يجوز للمرأة الحائض أن تقرأ القرآن ولو سرًّا؟
الجواب: إمرار آيات القرآن على ذهن المرأة الحائض مباح، أما قراءتها للقرآن بأية صورة فممنوع؛ وذلك لإيجاد قداسة للقرآن، فلا يجوز أن يُقبل الإنسان على القرآن إلا وهو متطهِّر. ولقد أعفى الله الحائض من الصلاة والصوم، فهل تصلى وتصوم برغم إعفائها هذا؟
إن امتثال أوامر الله في ذلك عبادة، فكما أن قراءة القرآن في الطُّهر عبادة فكذلك عدم قراءته عند الحيض عبادة. ونجد أيضًا أن الإنسان حرّ في أن يصوم في أيّ يوم من السنة، ولكن فطره في يوم العيد واجب لأنه عبادة كذلك، فإن عبادة الصيام لا يزيد فضلها بتطويل مدة الصيام بعد المغرب، ولكن تعجيل الإفطار عند أذان المغرب والامتثال لذلك عبادة مثل صوم النهار تمامًا (روى الترمذيّ [131] وابن ماجه [595] عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "لا تقرأ الحائضُ ولا الجنبُ شيئًا من القرآن". قال الترمذيّ: وهو قول أكثر أهل العلم من أصحاب النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ والتابعين ومَن بعدهم، مثل سفيان الثوريّ وابن المبارك والشافعيّ وأحمد وإسحاق، قالوا: لا تقرأ الحائض ولا الجنب من القرآن شيئًا إلا طَرْفَ الآية والحرفَ ونحو ذلك، ورخَّصوا للجنب والحائض في التسبيح والتهليل. والحديث ضعَّفه الألبانيّ في ضعيف الترمذيّ [18] وقال: إن حديث "لا تقرأ الحائض" حديث ضعيف، وعليه فهذه مسألة عليها نزاع. وقال ابن عُثَيمِين في الدماء الطبيعية [21]: والذي ينبغي بعد أن عرَفنا نزاع أهل العلم أن يقال: الأَوْلَى للحائض ألَّا تقرأ نطقًا باللسان إلا عند الحاجة لذلك، مثل أن تكون معلِّمة فتحتاجَ إلى تلقين المتعلمات).(1/479)
الإجهاض وأحكامه الشرعية
السؤال: هل يجوز لمن أَجهَضَت أن تصليَ وتصومَ أم تنتظر أربعين يومًا كالنفساء؟ وهل يجوز لها أن تطهوَ الطعام أو تستمع إلى القرآن في مثل هذه الظروف؟
الجواب: يَقترن الامتناع عن أداء العبادات من صلاة وصوم وقراءة قرآن وغيره مما يُشترط لأدائه الطُّهرُ في حالات الولادة أو الإجهاض، يَقترن ذلك بنزول الدم، فتستطيع المرأة إذا انقطع عنها الدم أربعين يومًا أن تتطهر وتمارس عبادتها بشكل طبيعيّ. أما إذا نزل الدم أكثر من أربعين يومًا فعليها أن تتطهر بعد الأربعين وتمارس عبادتها بعد ذلك؛ لأن هذا الدم ليس طبيعيًّا فلا يفسد صلاتها ولا صومها. أما عن طهو الطعام وهي على غير طهارة فهذا لا شيء فيه وتستطيع أن تؤديَ كل واجباتها اليومية بلا أيّ حرج؛ لأن الإنسان المؤمن لا ينجس أبدًا. وأما الاستماع إلى القرآن فيمكنك ذلك، ولكن الممنوع هو إمساك المصحف الشريف أو قراءة القرآن (الإجهاض هو السقط، وفي اللغة العربية: هو الولد الخارج من بطن أمه لغير تمام. ويقال: أسقطته أمه فهي مُسقِط. القاموس المحيط [2/378] ويعرف شرعًا بأنه الذي يَسقط من بطن أمه ميتًا. وقد تُسقط المرأة ما في بطنها بائنًا بعضُ خلقه أو لم يتبين شيء من خلقه، فما رأي الشرع في السُّقط؟ وهل يَتْبعه نِفاس أم لا؟ ذهب الأحناف إلى أن السُّقط الذي تبيَّن بعضُ خلقه تصير به المرأة نُفساء، كأن تَظهر له يد أو رجل أو أصبع أو ظفر، وكذلك كل ما يدل على تشكيل فيه أو تخطيط. وإذا لم يظهر به شيء فلا تصير به المرأة نُفساء ويكون حيضًا إن دام ثلاثة وتَقدَّمَه طُهرٌ تام، وإلا فهو استحاضة الاختيار لتعليل المختار [1/34] شرح الدر المختار [1/63] وقال الشافعيّة: إن الدم الخارج عقيب الولادة نِفاس حتى ولو كان المُلقَى علقة أو مضغة قليوبي وعُميرة [1/109] البرماويّ على الغاية للغُزّيّ [46] وذهب الحنابلة إلى أنها إذا رأت الدم بعد وضع شيء تبيَّن خلقُه بعضًا أو(1/480)
كُلًّا فهو نفاس، وإن رأته بعد إلقاء نطفة أو علقة فليس بنفاس، وإن كان المُلقَى مضغة وتبيَّن فيه شيء من خلق الإنسان فهو نفاس، وإن لم يتبين فيه وجهان المغني لابن قدامة [1/349] وفي السّقط ـ يقال له الطرح عند عامة النساء ـ نصل إلى أنه ما كان نطفة أو علقة وحال الجنين في هاتين المرحلتين ليس فيه شيء من تخطيط أو تشكيل لا يترتب عليه نفاس. وما كان في المرحلة الثالثة بأن فيه شيئًا من خلق الإنسان كيد أو رجل يترتب عليه نفاس فيما تعقبه من دم. أما إن لم يَبِنْ شيء من خلقه فلا يعتبر الدم دم نفاس، وإنما يُنظر؛ تقدَّمَه طهر تام وبلغ الدم ثلاثة أيام عند الأحناف أم لا؟ فإن كان بعد طهر تام وبلغ الدم ثلاثة أيام هو دم حيض، وإلا فهو استحاضة. فقه النساء، الكتاب الأول 71ـ 73).(1/481)
كفارة من أتى حائضًا
السؤال: ما هي كفارة من أتى حائضًا؟ وما هي الأضرار الجسمانية بالنسبة لهم؟
الجواب: الوطء أثناء الحيض يسبب تعفن الرحم، فضلًا عن أنه قد يسبب العقم، فهو من أشد الأمراض إيلامًا للمرأة، حيث تقاسي منه آلامًا في الحوض لا تُطاق وارتفاعًا في درجة الحرارة والمضاعفات الأخرى الخطرة التي تكون نتيجة ذلك التعفن. هذا بالنسبة للمرأة. أما بالنسبة للأضرار التي تصيب الرجل فمن أهمها التهابات حادة تصيب أعضاءه التناسلية، إذ تمتد الجراثيم داخل القناة البولية، بل قد تصيب الإحليل وغدة كوبر والبروستاتا والحوصلة المنوية والخُصيَتَين والبربخ.(1/482)
أما بالنسبة للكفارة، فعن ابن عباس عن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "إن الذي يأتي زوجته وهي حائض يتصدق بدينار أو بنصف دينار". والحديث يدل على وجوب الكفارة على من وَطِئَ امرأته وهي حائض (رواه أبو داود [264] والترمذيّ [136] وقال: حديث الكفارة في إتيان الحائض قد رُويَ عن ابن عباس موقوفًا ومرفوعًا، وهو قول بعض أهل العلم، وبه يقول أحمد وإسحاق. وقال ابن المبارك: يَستغفر ربه ولا كفارة عليه. وقد رُويَ نحوُ قول ابن المبارك عن بعض التابعين، منهم سعيد بن جبير وإبراهيم النخعيّ، وهو قول عامة علماء الأنصار. قلت: والحديث ضعيف، ضعفه الألبانيّ في ضعيف أبو داود [50] وأخرج مسلم [302/16] وأبو داود [852] والترمذيّ [2977] وابن ماجه [644] عن أنس بن مالك ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: إن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوهنَّ في البيوت. فسأل أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأنزل الله تعالى: "ويسألونك عن المَحيض قل هو أذًى فاعتَزِلوا النساءَ في المَحيض" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اصنَعوا كل شيء إلا النكاح" فبلَغَ ذلك اليهودَ فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يَدَعَ من أمرنا شيئًا إلا خالَفَنَا فيه! فجاء أُسَيد بن حُضَير وعبّاد بن بشر فقالا: يا رسول الله إن اليهود تقول كذا وكذا، أفلا نجامعهنَّ؟ فتغيَّر وجه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى ظننَّا أن قد وجَد عليهما، فخرجا، فاستقبَلَهما هدية من لبن إلى النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأرسَل في أثرهما فسقاهما، فعَرَفَا أن لم يَجِدْ عليهما. قال الشوكانيّ: والحديث يدل على حكمين:
1 ـ تحريم النكاح 2 ـ جواز ما سواه(1/483)
أما الأول فبإجماع المسلمين وبنص القرآن العزيز والسنة الصريحة، ومُستَحِلُّه كافر. وغير المُستَحِلّ إن كان ناسيًا أو جاهلًا لوجود الحيض أو جاهلًا لتحريمه، مختارٌ، فقد ارتكب معصية كبيرة، نص على كبرها الشافعيّ، ويجب عليه التوبة.
وأما الثاني فهو قسمان:
القسم الأول: المباشرة فيما فوق السرة وتحت الركبة بالذكَر أو القبلة أو المعانقة أو اللمس أو غير ذلك. وذلك حلال باتفاق العلماء، وقد نقل الإجماع على الجواز جماعة.
القسم الثاني: فيما بين السرة والركبة في غير القُبُل والدُّبُر. وفيها ثلاثة وجوه لأصحاب الشافعيّ، الأشهر منها التحريم، والثاني عدم التحريم مع الكراهية، والثالث: إن كان المباشر يضبط نفسه عن الفرج إما لشدة ورع أو لضعف شهوة جاز وإلا لم يَجُزْ. وقد ذهب إلى الوجه الأول مالك وأبو جنيفة، وهو قول أكثر العلماء، منهم سعيد بن المسيب وشريح وطاووس وعطاء وسليمان بن يسار وقتادة. وممن ذهب إلى الجواز عكرمة ومجاهد والشعبيّ والنخعيّ والحاكم والثوريّ والأوزاعيّ وأحمد بن حنبل ومحمد بن الحسن وأصبغ وإسحاق بن راهَوَيه وأبو ثور وابن المنذر وداود. وقال ابن كثير رحمه الله عمدة التفسير [2/96] في الذي يطأ الحائض في فرجها: من فعل ذلك فقد أثم، فيستغفر الله ويتوب لله. وهل يلزمه مع ذاك كفارة أم لا؟ فيه قولان:
أحدهما: نعم. لما رواه الإمام أحمد وأهل السنن عن ابن عباس عن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الذي يأتي امرأة وهي حائض: "يتصدق بدينار أو نصف دينار" وفي لفظ الترمذيّ: "إذا كان دمًا أحمر فدينار وإن كان دمًا أصفر فنصف دينار". وللإمام أحمد أيضًا عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل في الحائض نصاب دينار، فإن أصابها وقد أدبر الدم عنها ولم تغتسل فنصف دينار.(1/484)
والقول الثاني، وهو الصحيح الجديد من مذهب الشافعيّ وقول الجمهور، أنه لا شيء في ذلك بل يستغفر الله عز وجل لأنه لم يصح عندهم رفع هذا الحديث. وقال النوويّ شرح النوويّ على مسلم [3/204ـ205]: مباشرة الحائض بالجماع في الفرج حرام بإجماع المسلمين بنص القرآن العزيز والسنة الصحيحة، قال أصحابنا: ولو اعتقد المسلم حلَّ جماع الحائض في فرجها صار كافرًا مرتدًّا. ولو فعله إنسان غير معتقد حِلَّه؛ فإن كان ناسيًا أو جاهلًا بوجود الحيض أو جاهلًا بتحريمه أو مُكرَهًا فلا إثم عليه ولا كفارة، وإن وَطِئَها عامدًا عالمًا بالحيض والتحريم مختارًا فقد ارتكب معصية كبيرة، نصّ الشافعيّ على أنها كبيرة، وتجب عليه التوبة.
وفي وجوب الكفارة قولان للشافعيّ:
أصحهما، وهو الجديد وقول مالك وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين وجماهير السلف، أنه لا كفارة عليه. وممن ذهب إليه من السلف عطاءٌ وابن أبي مُليكة والشعبيّ والنخعيّ ومكحول والزهريّ وأبو الزناد وربيعة وحماد بن أبي سليمان وأيوب السختيانيّ وسفيان الثوريّ والليث ابن سعد، رحمهم الله تعالى أجمعين.
والقول الثاني، وهو القديم الضعيف، أنه يجب عليه الكفارة. وهو مَرويّ عن ابن عباس والحسن البصريّ وسعيد بن جبير وقتادة والأوزاعيّ وإسحاق وأحمد في الرواية الثانية عنه. واختلف هؤلاء في الكفارة، فقال الحسن وسعيد: عتق رقبة. وقال الباقون: دينار أو نصف دينار. على اختلاف منهم في الحال الذي يجب فيه الدينار ونصف الدينار؛ هل الدينار في أول الدم ونصفه في آخره أو الدينار في زمن الدم ونصفه بعد انقطاعه؟ وتعلقوا بحديث ابن عباس المرفوع: "من أتى امرأته وهي حائض فليتصدق بدينار أو نصف دينار" وهو حديث ضعيف باتفاق الحفاظ، فالصواب أنْ لا كفارة. والله تعالى أعلم. فقه النساء، الكتاب الأول [43ـ46].(1/485)
إتيان المرأة في دبرها
السؤال: ما حكم إتيان المرأة في دبرها؟
الجواب: سألته ـ صلى الله عليه وسلم ـ امرأةٌ من الأنصار عن التَّجْبِيَة، وهي وطءُ المرأة في قُبُلها من ناحية دُبُرها، فتلَا عليها قوله سبحانه وتعالى: (نساؤُكم حَرْثٌ لكم فَأْتُوا حَرْثَكم أنَّى شئتم) وجاء عمر رضي الله تعالى عنه إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال: يا رسول الله، هلكتُ! قال: "وما أهلَكَك؟" قال: حوَّلتُ رحلي الليلة. فلم يردّ عليه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ شيئًا. قال: فأوحى الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نساؤُكم حَرْثٌ لكم فَأْتُوا حَرْثَكم أنَّى شئتم) "أَقبِلْ وأَدبِرْ، واتَّق الدُّبُرَ والحَيضةَ" (رواه الترمذيّ [2980] وأحمد في المسند [1/297] عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وصححه الألبانيّ في صحيح الترمذيّ 2381) وهذا الذي أباحه الله ورسوله من الوطء من الدبر وليس في الدبر، وهو القائل صلى الله عليه وسلم: "ملعون من أتى امرأته في دبرها" (رواه أبو داود [2162] عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. وصححه الألبانيّ في صحيح أبي داود 1894) وقال صلى الله عليه وسلم: "من أتى حائضًا أو امرأةً في دُبُرها أو كاهنًا فصدَّقه فقد كفر بما أُنزل على محمد" (رواه ابن ماجه [639] وأحمد في المسند [2/476] عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه. وصححه الألبانيّ في صحيح ابن ماجه [522] قال العلامة ابن كثير: وقوله "نساؤُكم حَرْثٌ لكم" قال ابن عباس: الحرث موضع الولد "فأتُوا حَرْثَكم أنَّى شئتم" أي كيف شئتم، مُقبِلةً ومُدبِرةً في صمام واحد، كما ثبتت بذلك الأحاديث، وروى البخاريّ عن جابر قال: كانت اليهود تقول: إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول. فنزلت "نساؤُكم حَرْثٌ لكم فأتُوا حَرْثَكم أنَّى شئتم" ورواه مسلم وأبو داود أخرجه البخاريّ [4528] ومسلم [1435/5] وأبو داود [2163] وفي حديث معاوية بن حَيدة القشيريّ أنه قال: يا رسول(1/486)
الله، نساؤنا ما نأتي منها وما نَذَر؟ قال: "حَرْثُك، ائت حَرْثَك أنَّى شئتَ، غير ألَّا تضرب الوجه ولا تقبِّح ولا تهجر إلا في البيت" الحديث رواه أحمد وأهل السنن رواه أحمد في المسند [5/3] وأبو داود [2143] وقال الألبانيّ في صحيح أبي داود [1876]: حسن صحيح وروى الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن سابط قال: دخلت على حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر فقلت: إني سائلُكِ عن أمر وأنا أستحي أن أسألكِ. قالت: فلا تستحي يا بن أخي. قال: عن إتيان النساء في أدبارهنَّ. قلت: حدثتني أم سلمة أن الأنصار كانوا لا يُجِبُّون النساء التَّجبِية: أن يقوم الإنسان قيام الراكع. مختار الصحاح [57] وكانت اليهود تقول: إنه من جبَّى امرأتَه كان ولده أحوَلَ. فلما قدم المهاجرون المدينة نكحوا في نساء الأنصار فجبَّوْهُنَّ، فأبت امرأة أن تطيع زوجها وقالت: لن تفعل ذلك حتى آتيَ الرسول صلى الله عليه وسلم. فدخلت على أم سلمة فذكرت لها ذلك فقالت: اجلسي حتى يأتيَ رسول الله. فلما جاء الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ استحيَت الأنصارية أن تسأله فخرَجَت، فحدثت أم سلمة الرسولَ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: "ادعِي الأنصارية" فدُعيَت فتلَا عليها هذه الآية "نساؤُكم حَرْثٌ لكم فأتُوا حَرْثَكم أنَّى شئتم" صمامًا واحدًا. ورواه الترمذيّ وقال: حسن رواه أحمد في المسند [6/305] وقال الشيخ شاكر في عمدة التفسير: إسناده صحيح. والترمذيّ [2979] مختصرًا جدًّا. وصححه الألبانيّ في صحيح الترمذيّ [2380] وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: جاء عمر بن الخطاب إلى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: يا رسول الله، هَلَكتُ؟ قال: "وما الذي أهلَكَكَ؟" قال: حولتُ رحلي البارحة. قال: فلم يردَّ عليه شيئًا. قال: فأوحى الله إلى رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذه الآية "نساؤُكم حَرْثٌ لكم فأتُوا حَرْثَكم أنَّى شئتم" "أَقبِلْ وأَدبِرْ، واتَّق الدُّبُر والحيضة" ورواه الترمذيّ وقال:(1/487)
حسن غريب رواه أحمد في المسند [1/297] وقال الشيخ شاكر [2703]: إسناده صحيح. والترمذيّ [2980] وحسنه الألبانيّ في صحيح الترمذيّ [2381] وروى أبو داود عن ابن عباس قال: إن ابن عمر ـ والله يغفر له ـ أوهَمَ، إنما كان هذا الحيّ من الانصار وهم أهل وثنٍ مع هذا الحيّ من يهود وهم أهل كتابٍ، وكانوا يَرَون لهم فضلًا عليهم في العلم فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم، وكان من أمر أهل الكتاب لا يأتون النساء إلا على حَرف، وذلك أسترُ ما تكون المرأة، فكان هذا الحيّ من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم، وكان هذا الحيّ من قريش يَشرَحون النساء شرحًا منكرًا شرَح جاريته: إذا وَطِئَها نائمة على قفاها. لسان العرب [2/498] ويتلذّذون بهنَّ مُقبِلَات ومُدبِرات ومستلقِيات، فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امرأة من الأنصار، فذهب يصنع بها ذلك فأنكرته عليه وقالت: إنما كنا نؤتَى على حرف، فاصنَع ذلك وإلا فاجتَنِبْني. فسرَى أمرهما، فبلَغ الرسولَ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأنزل الله "نساؤُكم حَرْثٌ لكم فأتُوا حَرْثَكم أنَّى شئتم" أي مُقبِلَات ومُدبِرات ومستلقِيات. يعني بذلك موضع الولد. تفرد به أبو داود رواه أبو داود [2164] وحسنه الألبانيّ في صحيح أبي داود [1896] ويشهد له بالصحة ما تقدم من الأحاديث، ولا سيما رواية أم سلمة فإنها مشابهة لهذا السياق. وقول ابن عباس "إن ابن عمر ـ والله يغفر له ـ أوهَمَ" كأنه يشير إلى ما رواه البخاريّ عن نافع قال: كان ابن عمر إذا قرأ القرآن لم يتكلم حتى يفرغ منه، فأخذت عليه يومًا، فقرأ سورة البقرة حتى انتهى إلى مكان، قال: أتدري فيم أُنزلَت؟ قلت: لا. قال: أُنزلَت في كذا وكذا. ثم مضى أخرجه البخاريّ [4526] وروى ابن جرير عن نافع قال: قرأت ذات يوم "نساؤُكم حَرْثٌ لكم فأتُوا حَرْثَكم أنَّى شئتم" فقال ابن عمر: أتدري فيم نزلت؟ قلت: لا. قال: نزلت في إتيان النساء في أدبارهنَّ رواه الطبريّ في تفسيره(1/488)
[2/394] وقال الشيخ شاكر [326]: وهذا الإسناد صحيح جدًّا وهذا محمول على ما تقدم، وهو أنه يأتيها في قُبُلها من دُبُرها، لما رواه النسائيّ عن أبي النضر أنه قال لنافع مولى ابن عمر: إنه قد أكثر عليك القول أنك تقول عن ابن عمر أنه أفتى أن يؤتَى النساءُ في أدبارهنَّ! قال: كذَبوا عليَّ، ولكن سأحدثك كيف كان الأمر، إن ابن عمر عرض المصحف يومًا وأنا عنده، حتى بلغ "نساؤُكم حَرْثٌ لكم فأتُوا حَرْثَكم أنَّى شئتم" فقال: يا نافع، هل تعلم من أمر هذه الآية؟ قلت: لا. قال: إنا كنا ـ معشرَ قريش ـ نُجبِّي النساء، فلما دخلنا المدينة ونكَحنَا نساءَ الأنصار أردنَا منهنَّ مثل ما كنا نريد فإذا هنَّ قد كَرِهنَ ذلك وأعظَمنَه، وكانت نساء الأنصار قد أخَذنَ بحال اليهود، إنما يؤتَينَ على جنوبِهنَّ، فأنزل الله "نساؤُكم حَرْثٌ لكم فأتُوا حَرْثَكم أنَّى شئتم" وإسناده صحيح. ورواه ابن مَردَوَيهِ. وقد رُوِّينا عن ابن عمر خلاف ذلك صريحًا وأنه لا يباح ولا يحلّ.. وإن كان قد نُسب هذا القول إلى طائفة من فقهاء المدينة وغيرهم وعزاه بعضهم إلى الإمام مالك في كتاب "السر" وأكثر الناس ينكر أن يصح ذلك عن الإمام مالك رحمه الله. وقد وردت الأحاديث المروية من طرق متعددة بالزجر عن فعله وتعاطيه، فروى الحسن بن عرفة عن جابر قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "استحيُوا فإن الله لا يستحيي من الحق، لا يَحلّ أن تأتوا النساء في حُشُوشهنَّ" قال الشيخ شاكر: إسناد صحيح. وقد رواه الدارقطني أيضًا في سننه [3708] من طريق الحسن بن عرفة، وقد ذكره الحافظ ابن حجر في التلخيص [3/181] عن الدارقطني وابن شاهين. وفي مجمع الزوائد [4/302] عن جابر بن عبد الله أن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهى عن مَحَاشّ النساء. رواه الطبرانيّ ورجاله ثقات. والحشوش والمَحَاشّ: الأدبار. وأصل الحُشّ بضم الحاء وفتحها: النخل المجتمع. وكذلك المَحَشّ. وكانوا يقضون حاجتهم في تلك(1/489)
المواضع، فكنَّى بالمَحَاشِّ والحشوش عن الأدبار؛ لأنها مجتمع الغائط وروى أحمد عن خزيمة بن ثابت الخطميّ أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "لا يستحي الله من الحق، لا يستحيي الله من الحق" ثلاثًا "لا تأتوا النساء في أعجازهنَّ" ورواه النسائيّ وابن ماجه من طرق عن خزيمة بن ثابت، وفي إسناده اختلاف كثير رواه أحمد في المسند [5/215] وابن ماجه [1924] وصححه الألبانيّ في صحيح ابن ماجه [1561] وروى الترمذيّ والنسائيّ عن ابن عباس قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلًا أو امرأةً في الدبر". ثم قال: هذا حديث حسن غريب رواه الترمذيّ [1165] وحسنه الألبانيّ في صحيح الترمذيّ [930] وهكذا أخرجه ابن حبان في صحيحه، وصححه ابن حزم أيضًا، ولكن رواه النسائيّ أيضًا موقوفًا. وروى عبد بن حميد عن طاووس أن رجلًا سأل ابن عباس عن إتيان المرأة في دبرها فقال: تسألني عن الكفر! إسناده صحيح. وكذا رواه النسائيّ نحوه. وروى الإمام أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "الذي يأتي امرأته في دبرها هي اللوطية الصغرى" رواه أحمد في المسند [2/182،210] وقال الشيخ شاكر [6706، 6967، 6968]: إسناد صحيح وعن أبي الدرداء قال: وهل يفعل ذلك إلا كافر! رواه أحمد في المسند [2/210] وقال الشيخ شاكر [6968م]: إسناد صحيح، وهذا وإن كان موقوفًا لفظًا إلا أنه مرفوع حكمًا؛ لأن الصحابيَّ لا يَحكم على عمل بأنه كفر إلا أن يكون قد علمه من المعصوم المبلِّغ الرسالة عن ربه، فمثلُ هذا مما لا يقال بالرأي ولا القياس وقد رُويَ حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو موقوفًا من قوله قال الشيخ شاكر: هكذا أعلَّ الحافظ ابن كثير الحديثَ المرفوع بالرواية الموقوفة، وتبعه في ذلك الحافظ ابن حجر في التلخيص [3/181] وهذا منهما ترجيح للموقوف على المرفوع دون دليل، والرفع زيادة من ثقة، بل من ثقات، فهو(1/490)
مقبول صحيح وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة عن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "إن الذي يأتي امرأته في دبرها لا ينظر الله إليه" رواه أحمد في المسند [2/272،344] وقال الشيخ شاكر [7670، 8513]: أسانيده صحاح وفي لفظ له: "ملعون من أتى امرأته في دبرها" ورواه أبو داود والنسائيّ وابن ماجه بنحوه رواه أحمد في المسند [2/444، 479] وأبو داود [2162] وحسنه الألبانيّ في صحيح أبي داود [1894] وروى الإمام أحمد وأهل السنن عن أبي هريرة أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "من أتى حائضًا أو امرأةً في دبرها أو كاهنًا فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد" رواه أحمد في المسند [2/408] والترمذيّ [135] وصححه الألبانيّ في صحيح الترمذيّ [113] وقال الشيخ شاكر: وكذلك رواه البخاريّ في التاريخ الكبير [2/1/16] من طريق حكيم الأثرم، ثم قال: هذا حديث لا يُتابع عليه، ولا يُعرف لأبي تميمة سماع من أبي هريرة وقال الترمذيّ: ضعّف البخاريّ هذا الحديث. والذي قاله البخاريّ في حديث حكيم الأثرم عن أبي تميمة: لا يُتابع في حديثه. وروى النسائيّ عن أبي هريرة قال: إتيان الرجال والنساء في أدبارهنَّ كفر. هكذا رواه النسائيّ عن أبي هريرة موقوفًا قال الشيخ شاكر: هذا وإن كان موقوفًا لفظًا فهو مرفوع حكمًا، كما بيّنّا في حديث أبي الدرداء آنفًا، وقد جاء مرفوعًا أيضًا، ففي الزوائد [4/302] عن أبي هريرة قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "من أتى النساء في أعجازهنَّ فقد كفر" رواه الطبرانيّ ورجاله ثقات. وقد أشار الحافظ ابن كثير إلى رواية أخرى مرفوعة وقال: والموقوف أصح وقد ثبت عن ابن مسعود وأبي الدرداء وأبي هريرة وابن عباس وعبد الله بن عمرو تحريمُ ذلك، وهو الثابت بلا شك عن عبد الله بن عمر أنه يحرِّمه. روى الدارميّ عن سعيد بن يسار أبي الحباب قال: قلت لابن عمر: ما تقول في الجواري، أنحمِّض لهنَّ؟ قال: وما التحميض؟ فذكر الدبر، فقال: وهل يفعل ذلك(1/491)
أحد من المسلمين! وإسناده صحيح الدارميّ [1142] وهو نص صريح منه بتحريم ذلك، فكل ما ورد عنه مما يَحتمل ويَحتمل فهو مردود إلى هذا الحكم. وروى معن بن عيسى عن مالك أن ذلك حرام. وروى أبو بكر النيسابوريّ عن مالك بن أنس أنه سئل: ما تقول في إتيان النساء في أدبارهنَّ؟ قال: ما أنتم قوم عرب! هل يكون الحرث إلا موضع الزرع! لا تَعْدُ الفرج. قلت: يا أبا عبد الله، إنهم يقولون إنك تقول ذلك؟ قال: يكذبون عليَّ، يكذبون عليَّ. فهذا هو الثابت عنه. وهو قول أبي حنيفة والشافعيّ وأحمد بن حنبل وأصحابهم قاطبة. وهو قول سعيد بن المسيب وأبي سلمة وعكرمة وطاووس وعطاء وسعيد بن جبير وعروة بن الزبير ومجاهد بن جبر والحسن وغيرهم من السلف ـ أنهم أنكروا ذلك أشد الإنكار، ومنهم من يطلق على فعله الكفر. وهو مذهب جمهور العلماء. عمدة التفسير 2/97 ـ 102).(1/492)
غسل أحد الزوجين للآخر المتوفَّى
السؤل: هل يجوز أن تغسِّل المرأة زوجها الميت؟
الجواب: عن عائشة رضى الله تعالى عنها قالت: رجع إليَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من جنازة وأنا أجد صداعًا في رأسي وأقول: وارأساه، فقال: "بل أنا وارأساه، ما ضرَّكِ لو متِّ قبلي فغسَّلتُكِ وكفَّنتُكِ وصلَّيتُ عليكِ ودفنتُكِ؟" والحديث يدل على أن المرأة يغسِّلها زوجها إذا ماتت، وهي تغسِّله قياسًا. وقد ثبت أن أسماء غسَّلَت أبا بكر وأن عليًّا غسَّل فاطمة، ولم يقع من سائر الصحابة إنكار على أسماء وعليّ، رضى الله تعالى عنهما، فكان إجماعًا (رواه ابن ماجه [1465] وأحمد في المسند [6/228] عن عائشة رضي الله تعالى عنها. وصححه الألبانيّ في صحيح ابن ماجه [1197] وعنها رضي الله تعالى عنها عند ابن ماجه [1464] وصححه الألبانيّ [1196] قال: لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ ما غسَّل النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ غيرُ نسائه. إذًا يجوز لكل من الزوجين أن يتولَّى غسل الآخر، إذ لا دليل يمنع منه، والأصل الجواز، ولا سيما وهو مؤيَّد بالحديثَين أعلاه).(1/493)
إصابة الثوب من دم الحيض
السؤال: إذا أصاب دم الحيض الثوبَ فماذا تفعل المرأة؟
الجواب: قال عليه الصلاة والسلام: "تَحُتُّه، ثم تَقرُصُه بالماء، ثم تَنضَحُه، ثم تصلّي فيه" وتَحُتُّه: أي تَحُكّه. ثم تَقرُصُه: أي تدلُكُه بأطراف الأصابع والأظفار مع صبّ الماء عليه حتى يذهب أثره. ثم تَنضَحُه: أي تغسله (أخرجه البخاريّ [307] ومسلم [291/110] واللفظ لمسلم. قال النوويّ: وفي هذا الحديث وجوب غسل النجاسة بالماء، ويؤخذ منه أنه من غسل بالخل أو غير المائعات لم يجزئه؛ لأنه ترك المأمور به. وأن الدم نجس وهو بإجماع المسلمين. وفيه أن إزالة النجاسة لا يُشترط فيها العدد بل يكفي فيها الإنقاء. وفيه غير ذلك من الفوائد).(1/494)
الإعجاز في أحكام الحيض
السؤال: ما هو الإعجاز في أحكام الحيض؟
الجواب: يقول الحق سبحانه وتعالى: (ويسألونك عن المَحيضِ قل هو أذًى فاعتَزِلوا النساءَ في المَحيضِ ولا تَقرَبُوهنَّ حتى يَطهُرنَ فإذا تَطَهَّرنَ فَأتُوهنَّ من حيثُ أمَرَكم اللهُ إن اللهَ يحبُّ التوابين ويحبُّ المتطهِّرين) (البقرة: 222) حين تقرأ (هو أذًى) فقد أخَذتَ الحكمَ ممن يؤمَنُ على الأحكام ولا تناقش المسألة، ومهما قال الطب من تفسيرات وتعليلات وأسباب نَقُلْ له: لا، الذي خلق قال: (هو أذًى). والمَحيض يطلق على الدم، ويراد به أيضًا زمان الحيض.
وقول الحق سبحانه عن المحيض إنه (أذًى) يهيّئ الذهن لأن يتلقّى حكمًا في هذا الأذى، وبذلك يستعد الذهن للحظر الذي سيأتي به الحكم، وقد جاء الحكم بالحظر والمنع بعد أن سبقت حيثيته.
إن الحق سبحانه وتعالى وهو الخالق أراد أن تكون عملية الحيض في المرأة عملية كيماوية ضرورية لحياتها وحياة الإنجاب، وأمَرَ الرجال أن يعتزلوا النساء وهنَّ حوائض؛ لأن المحيض أذًى لهم. لكن هل دم الحيض أذًى للرجال أم للنساء؟ إنه للرجال والنساء معًا، لأن الآية أطلقت الأذى ولم تحدد من المقصود به، والذي يدل على ذلك أن الحيض يعطي قذارة للرجال في مكان حساس هو موضع الإنزال عنده، فإذا وصلت إليه الميكروبات تصيبه بأمراض خطيرة، والحيض هو دم يحتوي على أنسجة حية، وتصبح منطقة المهبل والرحم في حالة تهيُّج، لأن منطقة المهبل والرحم حساسة جدًّا لنمو الميكروبات المسبِّبة للالتهابات سواء للمرأة أو للرجل إن جامع زوجته في زمن الحيض، والحيض يصيب المرأة بأذًى في قوتها وجسدها؛ بدليل أن الله سبحانه رخّص لها ألَّا تصوم وألَّا تصليَ في هذه الحالة، إذًا فالمسألة مُنهِكة ومُتعِبة لها فلا يجوز أن يُرهقها الرجل بأكثر مما هي عليه.(1/495)
إذًا فقوله تعالى: (هو أذًى) تعميم بأن الأذى يصيب الرجل والمرأة. وبعد ذلك بيَّن الحق الأعلى سبحانه أن كلمة (أذًى) حيثية تتطلب حكمًا يأتي، إما بالإجابة وإما بالحظر، ما دام (هو أذًى) فلا بد من أن يكون حظرٌ. يقول الحق عز وجل: (فاعتَزِلوا النساءَ في المَحيضِ ولا تَقرَبُوهنَّ) والذي يقول إن المَحيض هو مكان الحيض يَبني قوله بأن المحرّم هو المباشرة الجنسية، ولكن ما فوق السرة وما فوق الملابس فهو مباح، فيقول الحق سبحانه: (ولا تَقرَبُوهنَّ) أي ولا تأتوهنَّ في المكان الذي يأتي منه الأذى وهو دم الحيض (حتى يَطهُرنَ فإذا تَطَهَّرنَ فأتُوهنَّ من حيث أمَرَكم اللهُ). و(حتى يَطهُرنَ) من الطهور.(1/496)
العقم وعدم القدرة على الإنجاب
السؤال: ماذا نفعل تجاه مشكلة العقم والقدرة على الإنجاب؟
وهل الصبر بقضاء الله له تأثير عليها؟
الجواب: قال الله سبحانه وتعالى: (للهِ ملكُ السمواتِ والأرضِ يَخلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَن يشاءُ إناثًا ويَهَبُ لِمَن يشاءُ الذكورَ. أو يُزَوِّجُهم ذُكرانًا وإناثًا ويَجعلُ مَن يشاءُ عقيمًا إنه عليمٌ قديرٌ) (الشورى:49 ـ 50) إذًا فالأولاد هبة من الله تعالى، والعقم هو أن الله سبحانه وتعالى لم يقدِّر للإنسان أن يُنجب. ويجب على الإنسان أن يَقنَع بقدرة الله، فلم نَرَ ولدًا أمسك بنعش أبيه وقال: لا، أبي لن يموت! ولم نَرَ ولدًا يمسك بنعش أبيه ويقول: لا، أبي لن يُدفن في التراب!
قد يصاب الإنسان بالدهشة من حكاية الذرية وحكاية العزوة التي ينادُون بها، ألَا نرى أن الأولاد في أحوال كثيرة شقاءٌ لآبائهم! ولو أن الإنسان رضي بنصيبه وقَدَرِ الله سبحانه وتعالى له لكان له شأن كبير.(1/497)
وسوف أروى قصة حدثت في الحياة وعاصرتها بنفسي، قد جاءني ذات يوم أحد أصدقائي، وكان مستشارًا كبيرًا، وقال لي: زوجتي أنجبت أربع بنات، وهي الآن حامل وتخشى أن تنجب بنتًا خامسة وتريد أن تنجب ولدًا! فقلت له: "هي عايزه ولد؟ دول بيقولوا البنت زي الولد" هذا في حد ذاته شهادة ضدهم، فالمرأة التي تندم على أنها لم تنجب ذكرًا فهذا في حد ذاته دليل على أن هذا له تقييم وذاك لهم تقييم آخر طبقًا لمسئوليات الحياة. وقلت لها: اسمعي، ارضي بالبنات علشان ربنا يكافئك مكافأة كبيرة. فقالوا لي: ومكافأة زي إيه؟ فقلت له: لن أقول عليها الآن! وبالفعل أنجبت هذه السيدة البنت الخامسة، وسبَّب لهم هذا مشكلة كبيرة! فذهبتُ إليهم في الفيلا وجلست معهم بالساعات أحاول أن أهدِّئ من رَوعهم وأخفِّف عنهم مشكلتهم التي هي أساسًا ليست بمشكلة، وقلت لهم: إن رضيتم بقسمة الله في البنات فأنا أقول لكم وأنا جالس بينكم الآن إن الله سوف يرسل لكم خمسة صبيان يتزوجون من البنات ولن تُعانوا من شيء على الإطلاق في تربيتهم، ويصبحون أطوَعَ لكم من أولادكم. وقد كان، وهذا هو الذي حدث بالفعل، فقد تَزوَّجنَ خمسة رجال من خير الرجال، وكانوا أطوع لهذا المستشار وزوجته من أولادهم.
فأنت لا بد أن تحترم قدر الله لكي ترى كرم الله عز وجل.(1/498)
زواج غير القادر على الإنجاب
السؤال: شاب مسلم ملتزم وله رغبة في الزواج ولديه القدرة على نفقاته، غير أن الأطباء قالوا له: إنك غير قادر على الإنجاب. فهل يحق له الزواج؟
الجواب: الزواج يقوم أساسًا على العشرة الحسنة، والحياة السعيدة والأولاد شيء طبيعيّ في الزواج، فالأولاد زينة الحياة الدنيا، وهم حلم كل زوجين، فإن كانت لك قدرة على الزواج إلَّا أنك لا تستطيع الإنجاب فواجِهْ مَن تتقدم إلى الزواج منها بذلك قبل العقد، فقد تَقبَل أن تعيش معك على هذا الأساس، وهناك أُسَرٌ كثيرة تعيش بلا أولاد في سعادة وهناء، فهذه إرادة الله ولا دخل لهم في ذلك.(1/499)
التعقيم لعدم الإنجاب
السؤال: ما الحكم في التعقيم؟
الجواب: حرام حرام حرام بالإجماع لأيّ سبب، حتى ولو خاف الجرّاح انفجار الرحم؛ ذلك لأن علم الطبيب غير علم الله، والمرأة ليست آلة أو ميكانيكا، والأطباء لا يعرفون متى سيرزقها الله العافية، والذي يجترئ عليها سيُحوِجُه الله إليهم إلى النسل ويزيل الله كل من معه فيحتاج للنسل مرة أخرى.(1/500)
طفل الأنابيب
السؤال: أصبحت الآن قضية طفل الأنابيب من القضايا التي تَشغَل بال كثير من الناس، وأصبحت العملية ميسورة لمن حُرم من الأولاد. نرجو توضيح الحكم في ذلك، وهل هذا يتعارض مع قوله تعالى: (ويَجعلُ من يشاءُ عقيمًا إنه عليمٌ قديرٌ)؟
الجواب: إن للإنسان أن يتعجب من فعل الإنسان، عندما توصل الإنسان إلى التدخل لإسعاد بعض البشر الذين لا يُنجبون، بأن وضعوا العلم في خدمة إنجاب أطفال عن طريق الأنابيب، فلنا أن نعرف أن عملية التلقيح عن طريق الأنابيب لم تكن لِتَصلح لولا أن خضَع الإنسان لإرادة الله فوضَع البويضةَ المأخوذة من المرأة لِتُلقَّح بواسطة الحيوان المنويّ للرجل، والخضوع الإنسانيّ هو في إعادة البويضة خلال عدد من الساعات في رحم المرأة المأخوذ منها البويضة، وذلك لأن الإنسان لا يستطيع أن يخلُق رحمًا أو "وسطًا" صالحًا لحماية الجنين أثناء مرحلة نموه كالرحم، قد يكون في ذلك انتصار علميّ في حدود إلغاء فشل المرأة في الإنجاب لانسداد قناة التوصيل للبويضة أو للحيوان المنويّ، لكن هذا الانتصار ظل معلَّقًا على ضرورة أن يكون الرحم واحدًا، لأن الانسجام والوظيفة التي خلقها الله للرحم تظل فوق طاقة البشر.
ولنا أن نندهش من البشرية، تدفع مئات الآلاف من الجنيهات لتُهديَ أسرةً ما طفلًا بينما تتجه إرادة العلم إلى تعقيم أو منع أو تحديد النسل في بلاد أخرى.
لماذا؟
لأن حركة الإنسان على الأرض تدخلت في إفساد سيطرة الإنسان على الكون وأصبح الإنسان عدوًّا للإنسان، فتهلك شعوب من الجوع وتهلك شعوب من الرفاهية المادية، تلك الشعوب نفسها هي التي تمتلئ بمجاعة روحية، إنهم جوعى إلى اليقين الإيمانيّ.(1/501)
خيانة الزوج وغفران الزوجة
السؤال: هل من الأفضل أن تغفر الزوجة خيانة زوجها؟
الجواب: يجب أن تعرفي أنك لا تَملِكِين المغفرة، فقبل أن يخون الزوج زوجته فإنه يخون الله، فهذه مسألة بين الإنسان وربه ولا شأن للعاطفة فيها. وإذا حدث ما تقولين فإن إشاعة ما حدث من الخيانة إثم في ذاته، فلو أن الزوجة أشاعت ما حدث من زوجها بين الناس أو بين الأسرة تكون آثمة لذلك، خاصة أنها لا تملك نصابَ إقامة الحد، كما أنها تعطي القدوة السيئة لمن يَسمَع بها، وعليها أن تصمُتَ وتتركَ حساب الرجل إلى ربه أو تفارقَه (قال الله تعالى: "والذين يَرمُون أزواجَهم ولم يكن لهم شهداءُ إلا أنفسُهم فشهادةُ أحدِهم أربعُ شهاداتٍ بالله إنه لَمن الصادقين. والخامسةُ أن لعنةَ اللهِ عليه إن كان من الكاذبين. ويَدرأُ عنها العذابَ أن تَشهدَ أربعَ شهاداتٍ باللهِ إنه لَمن الكاذبين. والخامسةَ أن غَضَبَ اللهِ عليها إن كان من الصادقين" [النور: 6 ـ 9] وأخرج البخاريّ [4745] عن سهل بن سعد أن عُوَيمِرًا أتى عاصم بن عديّ، وكان سيد بني عجلان، فقال: كيف تقولون في رجل وجد مع امرأته رجلًا أيقتله فتقتلونه أم كيف يصنع؟ سَلْ لي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ذلك. فأتى عاصم النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: يا رسول الله. فكَرِهَ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المسائلَ وعابَها. قال عويمر: واللهِ، لا أنتهي حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجاء عُوَيمِر فقال: يا رسول الله، رجل وجد مع امرأته رجلًا أيقتله فتقتلونه أم كيف يصنع؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد أنزَل الله القرآن فيك وفي صاحبتك" فأمرها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالملاعنة بما سمَّى الله في كتابه، فلاعَنَها ثم قال: يا رسول الله، إن حبستُها فقد ظلمتُها. فطلَّقَها، فكانت سُنّة لمن كان بعدهما في المتلاعنَين، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انظُروا، فإن جاءت به(1/502)
أسحَمَ أدعَجَ العينَين عظيمَ الألْيَتَيْن خَدَلَّجَ الساقَين فلا أحسَب عُوَيمِرًا إلا قد صدَق عليها، وإن جاءت به أحيمِرَ كأنه وَحَرَةٌ فلا أحسَب عُوَيمِرًا إلا قد كذَب عليها" فجاءت به على النعت الذي نعت به الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من تصديق عويمر فكان بعدُ يُنسب إلى أمه. وفي رواية عنه رضي الله تعالى عنه عند البخاريّ (4746) أن رجلًا أتى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: يا رسول الله، أرأيت رجلًا رأى مع امرأته رجلًا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل؟ فأنزل الله فيهما في القرآن من التلاعن، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد قُضيَ فيك وفي امرأتك" فتَلَاعَنَا وأنا شاهد عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ففَارقها، فكانت سُنّة أن يُفرَّق بين المتلاعنَين، وكانت حاملًا فأنكَر حَمْلَها، وكان ابنها يُدعَى إلى أمّه، ثم جرت السُّنة في الميراث أن يَرِثَها وتَرِثَ منه ما فرَض الله لها. وأخرج البخاريّ عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما [4747] أن هلال بن أمية قذَف امرأتَه عند الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بشَريك ابن سَحماء فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "البينةَ أو حدٌّ في ظهرك" فقال: يا رسول الله، إذا رأى أحدُنا على امرأته رجلًا يَنطلق يَلتمس البينة؟ فجعل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "البينةَ وإلا حدٌّ في ظهرك" فقال: والذي بعثك بالحق إني لَصادق، فلَيَنُزِلَنَّ اللهُ ما يبرِّئ ظهري من الحدِّ. فنزل جبريل وأنزل عليه: "والذين يَرمُون أزواجَهم" فقرأ حتى بلغ "إن كان من الصادقين" فانصرف النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأرسل إليها، فجاء هلال فشهد والنبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "إن اللهَ يَعلم أن أحدَكما كاذبٌ، فهل منكما تائبٌ؟" فشَهِدَت، فلما كانت عند الخامسة وقَفوها وقالوا: إنها موجِبة. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: فتلَكّأتْ ونَكَصَتْ حتى ظَننّا أنها ترجع، ثم قالت:(1/503)
لا أَفضَح قومي سائرَ اليوم. فمَضَت، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أبصِروها، فإن جاءت به أكحَلَ العينَين سابغَ الأَلْيَتَيْن خَدَلَّجَ الساقَين فهو لشَريك بن سَحماء" فجاءت به كذلك، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لولا ما مَضَى من كتاب الله كان لي ولها شأن" البخاريّ 9/380 ـ 381).(1/504)
امرأة ترتكب جريمة الزنا وهي متزوجة
السؤال: امرأة ارتكبت الزنا وهي متزوجة، فماذا تفعل؟
الجواب: طالما لم ينفضح أمرها ولم يعلم بها الزوج ولم تَصِلْ الأمور إلى وليّ الأمر المَنُوط به تنفيذُ حدِّ الله فيها، فعليها أن تتوب إلى الله من هذه الزلة العظيمة وتُكثر من فعل الطاعات وتندم على ما أسلفت، ولْتَعلَمْ أن باب التوبة مفتوح لكل مخطئ ولكل مذنب مهما بلَغ ذنبُه، ما عدا الشرك، قال الله تعالى: (إن اللهَ لا يَغفرُ أن يُشرَكَ به ويَغفرُ ما دون ذلك لِمَن يشاءُ) (النساء: 48) وقال سبحانه وتعالى: (لا تَقنَطوا من رحمةِ اللهِ إن اللهَ يَغفرُ الذنوبَ جميعًا) (الزمر: 53) وفي هذه الآية الأخيرة جميع شروط التوبة المقبولة، وهي عليها أن تبحث عن سبب حدوث مثل هذه الجريمة، فقد يكون ذلك راجعًا إلى إهمال الزوج لزوجته وعدم إشباع حاجتها نظرًا لعدم اهتمامها بنفسها وعدم الاعتناء بزوجها، فلتحاولْ أن تغيِّر من طريقة حياتها وترغِّب زوجها فيها وتتقرَّب وتتودَّد إليه ليعود إلى سيرته الأولى معها. وعلى كل الأحوال لا يجوز لها مطلقًا حتى لو أهمَلَها زوجها إلقاءُ نفسها في هذا المستنقَع القذر.(1/505)
هل تفكير الزوجة في غيرها حلال أم حرام؟
السؤال: تزوجت شابًّا مسلمًا صالحًا يحبني، ولكنني قلقة نحوه ودائمة المقارنة بينه وبين غيره من الشباب، فأنا في حَيرة من أمري ولذلك أحتقر نفسي، فماذا تنصحني أفادكم الله؟
الجواب: كفاكِ عذابًا أنكِ تَحتقرين نفسَكِ، وقد حكَمتِ أنتِ بذلك على تصرفكِ الخاطئ، ولو قلنا نحن ذلك وحكمنا عليكِ بما حكَمتِ به على نفسكِ لكان حكمًا من الغير عليك تَتذمَّرين منه، ولكن كونكِ حكَمتِ أنتِ بنفسكِ على نفسكِ فإنك حينئذٍ لستِ في حاجة لحكم الغير على هذا التصرف المَشين. وليست هذه المسألة مجرد قبح دينيّ، فحتى لو لم يكن للإنسان دِينٌ لكان هذا تصرف قبيحًا. ويجب أن تتنبَّهي إلى أمر هامّ، وهو أنكِ لم تحبِّي زوجكِ؛ فإن الحب بين الناس نسبيّ ولا تَقنِينَ له، ولكن عليكِ أن تفرِّقي بين الحب والاحترام، فالمطلوب منكِ إن لم يكن قلبكِ مع زوجكِ عاطفيًّا أن تحترميه في العقد الذي أحلَّكِ له، فإن لم تقدري على ذلك فمن اليقين الإيمانيّ أن تطلبي منه أن يسرِّحكِ بدلًا من أن تعيشي معه مزدوجة العواطف.(1/506)
حكم لمس المرأة
السؤال: هل لمس المرأة ينقُض الوضوء؟
الجواب: اختلف العلماء في نقض الوضوء لمصافحة الرجل للمرأة الأجنبية، وذلك بسبب اختلافهم في قول تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تَقرَبوا الصلاةَ وأنتم سُكَارَى حتى تَعلموا ما تقولون ولا جُنُبًا إلا عابرِي سبيلٍ حتى تَغتسلوا وإن كنتم مَرضَى أو على سفرٍ أو جاء أحدٌ منكم من الغائطِ أو لامَستم النساءَ فلم تَجِدوا ماءً فتَيمَّموا صعيدًا طيبًا فامسَحوا بوجوهِكم وأيديكم إن اللهَ كان عفوًّا غفورًا) (النساء: 43) في آية الوضوء والتيمم، فقال فقهاء الحنفية في الآية: هو الجماع، وأما اللمس وهو لمس الرجل المرأةَ الأجنبية فلا ينقُض الوضوء، لأنه لا يدخل في المعنى المراد من الملامسة. وقالوا: إن الرجل لو لمس بيده إلى امرأته أو حتى قبَّلها لم يُنقض وضوؤه. واستدلوا بما رُويَ عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبَّل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة فلم يتوضأ.
وقال فقهاء المالكية: إذا لمَس بلذة انتقَض الوضوء، وإن لمَس بلا شهوة لم يُنقض الوضوء. وبهذا قال أحمد بن حنبل رحمة الله. والله تعالى أعلم (قال ابن كثير: قوله "أو لامَستم النساءَ" فقرئ "لَمَستم" و"لا مَستم" واختلف المفسرون والأئمة في معنى ذلك على قولين:(1/507)
أحدهما: أن ذلك كناية من الجماع، لقوله تعالى: "وإن طلَّقتموهنَّ من قبلِ أن تَمَسُّوهنَّ وقد فرَضتم لهنَّ فريضةً فنصفُ ما فرَضتم" [البقرة: 237] وقال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إذا نكَحتم المؤمناتِ ثم طلَّقتموهنَّ من قبلِ أن تَمَسُّوهنَّ فما لكم عليهنَّ من عدَّةٍ تَعتدُّونها" [الأحزاب: 49] روى ابن أبي حاتم عن عباس في قوله "أو لامستم النساء" قال: الجماع قال الشيخ شاكر: إسناد ابن أبي حاتم إسناد صحيح وروَى عن عليّ وأُبَيّ بن كعب والشعبيّ وقتادة وغيرهم نحو ذلك. وروى ابن جرير عن سعيد بن جبير قال: ذكروا اللمس فقال ناس من الموالي: ليس بالجماع. وقال ناس من العرب: اللمس الجماع. قال: فلقيت ابن عباس فقلت له: إن ناسًا من الموالي والعرب اختلفوا في اللمس، فقالت الموالي: ليس بالجماع. وقالت العرب: الجماع. قال: فمن أيّ الفريقين كنتَ؟ قلت: من الموالي. قال غُلب فريق الموالي؛ إن اللمسَ والمباشرةَ الجماعُ، ولكن الله يكنّي ما شاء بما شاء رواه الطبريّ [9581،9582] بإسنادين صحيحين ثم رواه ابن حجر عن بعض مَن حكاه ابن أبي حاتم عنهم، ثم قال ابن جرير: وقال آخرون: عنَى الله تعالى بذلك كلَّ لمَس بيد أو بغيرها من أعضاء الإنسان، وأوجَب الوضوءَ على كل مَن مَسَّ بشيء من جسده شيئًا من جسدها مُفضيًا إليه. ثم روى عن عبد الله بن مسعود قال: اللمس ما دون الجماع رواه الطبريّ [9608] وإسناده صحيح وقد روَى من طرق متعددة عن ابن مسعود مثله. قال ابن أبي حاتم: ورُويَ عن ابن عمر وعَبيدة وأبي عثمان النهديّ وأبي عبيدة ـ يعني ابن عبد الله بن مسعود ـ والشعبيّ وغيرهم نحو ذلك. وروى ابن جرير أن ابن عمر كان يتوضأ من قُبلة المرأة ويرى فيها الوضوء ويقول: هي من اللماس رواه الطبريّ [9617] وإسناده صحيح قلت: وروَى مالك عن الزهريّ عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه أنه كان يقول: قُبلة الرجلِ امرأتَه وجسُّه بيده من الملامسة، فمن قبَّل(1/508)
امرأته أو جسَّها بيده فعليه الوضوء رواه مالك في الموطأ [43] وهو من أصح الأسانيد والقول بوجوب الوضوء من المسّ هو قول الشافعيّ وأصحابه ومالك، والمشهور عن أحمد بن حنبل. قال ناصروه: قد قُرئ في الآية "لا مَستم" أو "لَمَستم" واللمس يطلق في الشرع على الجس باليد، قال تعالى: "ولو نزَّلنا عليك كتابًا في قرطاسٍ فلَمَسوه بأيديهم" [الأنعام: 7] أي: جسُّوه. وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ لِماعِزٍ حين أقرَّ بالزنا، يعرِّض له بالرجوع عن الإقرار: "لعلَّك قبَّلتَ أو لَمَستَ؟" وفي الحديث الصحيح: "واليد زناها اللمس" وقالت عائشة: ما من يوم إلا ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يطوف علينا فيقبِّل ويلمس. ومنه ما ثبت في الصحيحين أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهى عن بيع الملامسة. وهو يرجع إلى الجس باليد على كِلَا التفسيرين. قالوا: ويطلق في اللغة على الجس باليد كما يطلق على الجماع، واستأنسوا أيضًا بالحديث الذي رواه أحمد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ قال: أتَى رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رجل فقال: يا رسول الله، ما تقول في رجل لَقيَ امرأةً لا يعرفها، فليس يأتي الرجل من امرأته شيئًا إلا أتاه منها غير أنه لم يجامعها؟ قال: فأنزل الله عز وجل هذه الآية "وأَقِمِ الصلاةَ طَرَفَي النهارِ وزُلَفًا من الليلِ إن الحسناتِ يُذهِبنَ السيئاتِ ذلك ذكرَى للذاكرين" [هود: 114] قال: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "توضأْ ثم صلِّ" قال معاذ: فقلت: يا رسول الله، أله خاصةً أم للمؤمنين عامةً؟ فقال: "بل للمؤمنين عامة". ورواه الترمذيّ وقال: ليس بمتصل. ورواه النسائيّ عن عبد الرحمن بن أبي ليلى مرسلًا. قالوا: فأمره بالوضوء لأنه لَمَسَ ولم يجامعها. وأجيب بأنه منقطع بين ابن أبي ليلى ومعاذ؛ فإنه لم يَلْقَهُ، ثم يحتمل أنه إنما أمره بالوضوء والصلاة للتوبة، كما تقدم في حديث الصديق: "ما من عبد يذنب ذنبًا فيتوضأ ويصلي(1/509)
ركعتين إلا غفر الله له" الحديثِ رواه أحمد في المسند [1/2] وهو في مسلم [227/5] عن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه ثم قال ابن جرير: وأَوْلَى القولين في ذلك بالصواب قولُ مَن قال: عنَى الله بقوله "أو لامَستم النساءَ" الجماعَ. دون غيره من معاني اللمس؛ لصحة الخبر عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قبَّل بعض نسائه ثم صلَّى ولم يتوضأ. ثم روَى عن عائشة قالت: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتوضأ ثم يقبِّل ثم يصلي ولا يتوضأ. ثم روَى عن عروة عن عائشة أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبَّل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ. قلت: من هي إلا أنت؟ فضَحِكَت. وهكذا رواه أبو داود والترمذيّ وابن ماجه. قال أبو داود: رُويَ عن الثوريّ أنه قال: ما حدثنا حبيب إلا عن عروة المُزَنيّ. وقال يحيى القطان لرجل: احْكِ عنِّي أن هذا الحديث شبهُ لا شيء. وقال الترمذيّ: سمعت البخاريّ يضعّف هذا الحديث وقال: حبيب بن أبي ثابت لم يسمع عن عروة. وقد وقع في رواية ابن ماجه: عن حبيب بن ثابت عن عروة بن الزبير عن عائشة. وأبلغ من ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، وهذا نص في كونه عروةَ بن الزبير، ويشهد له قوله: من هي إلا أنت؟ فضَحِكَت رواه أبو داود [179] والترمذيّ [86] وصحّحه الألبانيّ في صحيح أبو داود [165] عمدة التفسير 3/183ـ 186).(1/510)
النساء والسلاسل الذهبية
السؤال: هل يجوز للنساء استخدام السلاسل الذهبية التي عليها آيات قرآنية؟
الجواب: التزين بالسلاسل الذهبية التي كُتب عليها بعض الآيات القرآنية أو عليها لفظ الجلالة لا شيء فيه، ولكن على المرأة أن تحتاط لذلك عند دخول دورات المياه تنزيهًا للقرآن الكريم ولفظ الجلالة.(1/511)
تخفيف الحواجب للمرأة
السؤال: هل يجوز للمرأة أن تخفف من حواجبها؟
الجواب: لا يجوز للمرأة تخفيف الحواجب لقوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله النامصة والمتنمِّصة". والنامصة هي التي تخفف حواجب النساء، والمتنمِّصة هي التي تطلب النامصة لتصنع لها ذلك، أما رفع الشعر الزائد من الوجه فلا شيء فيه (أخرج البخاريّ [5931] عن عبد الله: لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمِّصات والمتفلِّجات للحُسن المغيِّرات خَلْقَ الله تعالى، ما لي لا ألعَنُ مَن لعَنَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله "وما آتاكم الرسولُ فخُذُوه وما نهاكم عنه فانتَهُوا" [الحشر: 7] وعنده [5936] عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما قالت: لعن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ الواصلة والمستوصلة. قال الحافظ في الفتح [10/372 السلفية] قوله: "المتفلِّجات للحُسن" أي لأجل الحُسن. والمتفلِّجات جمع متفلِّجة، وهي التي تَطلب الفَلَج أو تَصنَعُه. والفَلَج بالفاء واللام والجيم: انفراج ما بين الثَّنِيَّتَين. والتفلُّج أن يفرِّج بين المتلاصقَين بالمِبْرَد ونحوه. والمستوشمات جمع مستوشمة: وهي التي تطلب الوشم. وقوله: "المغيِّرات خَلْقَ الله" هي صفة لازمة لمن يضع الوَشْم والنَّمْص والفَلَج، وكذا الوصل على إحدى الروايات. وقال [10/ 377]: قوله "المتنمِّصات" جمع متنمِّصة، والمتنمِّصة: التي تطلب النّماص. والنامصة التي تفعله، والنماص إزالة شعر الوجه بالمنقاش، ويسمَّى المنقاش مِنْمَاصًا، لذلك يقال: إن النماص يَختص بإزالة شعر الحاجبين لترفيعهما أو تسويتهما. وقال النوويّ: يستثنَى من النماص ما إذا نبت للمرأة لحية أو شارب أو عَنفَقة فلا يحرُم عليها إزالتُها بل يستحب.(1/512)
تطويل الأظفار حلال أم حرام؟
السؤال: هل تطويل الأظفار حلال أم حرام؟
الجواب: الإنسان كائن حيّ مستوي القامة مقلَّم الأظفار، لأن الأظفار جُعلت للتوحُّش، وحيث ارتَقَيتَ فلا أظفارَ، كأية آلة من الآلات لا أستعملها إلا وقت الحاجة إليها أمنع الدافع القَسْرِيّ، وقد رُويَ أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد قال: "خمس من الفطرة: الاختتان والاستحداد ـ وفي رواية: حلق العانة ـ وقص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط (أخرجه مسلم [257/ 49] عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه) قال أنس رضي الله تعالى عنه: وُقِّتَ لنا في قصِّ الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة، ألَّا تُترك أكثر من أربعين ليلة (أخرجه مسلم [258/1] وأبو داود [4200] والترمذيّ [2758] وابن ماجه [295] والنسائيّ [14] عن أنس رضي الله تعالى عنه.
قال الإمام النوويّ: وأما الفطرة فقد اختُلف في المراد بها هنا، فقال أبو سلمان الخطابيّ: ذهب أكثر العلماء إلى أنها السنة. وكذا ذكره جماعة غير الخطابيّ، قالوا: ومعناه أنها من سنن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم. وقيل: هي الدين. ثم إن معظم هذه الخصال ليست بواجبة عند العلماء وفي بعضها خلاف في وجوبه كالختان والمضمضة والاستنشاق، ولا يمتنع قرن الواجب بغيره كما قال الله تعالى: "كُلُوا مِن ثمرِه إذا أثمَرَ وآتُوا حقَّه يوم حَصَاده" [الأنعام: 141] والإيتاء واجب والأكل ليس بواجب. والله تعالى أعلم.(1/513)
أما تفصيلها، فالختان واجب عند الشافعيّ وكثير من العلماء، وسنة عند مالك وأكثر العلماء، وهو عند الشافعيّ واجب على الرجال والنساء جميعًا. ثم إن الواجب في الرجل أن يقطع جميع الجلدة التي تغطي الحَشَفة حتى ينكشف جميع الحَشَفة، وفي المرأة يجب قطع أدنى جزء من الجلدة التي في أعلى الفرج. والصحيح من مذهبنا الذي عليه جمهور أصحابنا أن الختان جائز في حال الصغر ليس بواجب. ولنا وجه؛ أن يجب على الوليّ أن يَختِنَ الصغير قبل بلوغه. ووجه؛ أنه يحرُم ختانه قبل عشر سنين. وإذا قلنا بالصحيح استُحبَّ أن يُختن في اليوم السابع من ولادته. وهل يُحسب يوم الولادة من السبع أم تكون سبعةٌ سواه؟ فيه وجهان، أظهرهما: يُحسب. واختلف أصحابنا في الخنثَى المُشكِل، فقيل: يجب ختانه في فَرْجَيه بعد البلوغ. وقيل: لا يجوز حتى يَتبيَّن. وهو الأظهر. وأما من له ذكَرانِ فإن كانَا عاملَينِ وجَب ختانُهما، وإن كان أحدهما عاملًا دون الآخر خُتن العامل. وفيما يُعتبَر العمل به وجهان: أحدهما بالبول، والآخر بالجماع. ولو مات إنسان غير مختون ففيه ثلاثة أوجه لأصحابنا، الصحيح المشهور أنه لا يُختن صغيرًا كان أو كبيرًا. والثاني: يُختن الكبير دون الصغير. والله تعالى أعلم.(1/514)
وأما "الاستحداد" فهو حلق العانة، سمِّي استحدادًا لاستعمال الحديدة وهي المُوسَى. وهو سُنّة، والمراد به نظافة ذلك الموضع. والأفضل فيه الحلق، ويجوز بالقص والنتف والنُّورة، والمراد بالعانة: الشعر الذي فوق ذكر الرجل وحوالَيه، وكذلك الشعر الذي حوالَي فرج المرأة. ونُقل عن أبي العباس بن سُريج أنه الشعر النابت حول حلقة الدبر. فيحصُل من مجموع هذا استحبابُ حلق جميع ما على القُبُل والدُّبُر وحولهما. وأما وقت حلقه فالمختار أنه يُضبط بالحاجة وطوله، فإذا طال حلق، وكذلك الضبط في قص الشارب ونتف الإبط وتقليم الأظفار. وأما حديث أنس المذكور في الكتاب "وُقِّت لنا في قص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة لا يُترك أكثر من أربعين ليلة" فمعناه لا يترك تركًا يتجاوز به أربعين لا أنهم وُقِّت لهم الترك أربعين ليلة. والله تعالى أعلم.
وأما تقليم الأظفار فسنة ليس بواجب، وهو تفعيل من القلم وهو القطع، ويستحب أن يبدأ باليدين قبل الرجلين، فيبدأ بمسبِّحة يده اليمنى ثم الوسطى ثم البِنصر ثم الخِنصر ثم الإبهام، ثم يعود إلى اليسرى فيبدأ بخِنصرها ببِنصرها إلى آخرها، ثم يعود إلى الرجلين اليمنى فيبدأ بخنصرها ويختم بخنصر اليسرى. والله تعالى أعلم.
أما "نتف الإبط" فسنة باتفاق، والأفضل فيه النتف لمن قَوِيَ عليه، ويحصل أيضا بالحلق وبالنُّورة. وحُكيَ عن يونس بن عبد الأعلى قال: دخلت على الشافعيّ رحمه الله تعالى وعنده المُزَيِّن يحلق إبطه، فقال الشافعيّ: علمتُ أن السُّنّة النتفُ ولكن لا أقوَى على الوجع. ويستحب أن يبدأ بالإبط الأيمن.(1/515)
وأما قص الشارب فسُنّة أيضًا، ويستحب أن يبدأ بالجانب الأيمن. وهو مخيَّر بين القَصِّ بنفسه وبين أن يولِّيَ ذلك غيرَه؛ لحصول المقصود من غير هتك مروءة ولا حرمة، بخلاف الإبط والعانة. وأما حدُّ ما يقصُّه فالمختار أنه يقصُّ حتى يبدوَ طرف الشفة، ولا يَحِفُّه من أصله. وأما روايات "أَحفُوا الشوارب" فمعناه: أَحفُوا ما طال على الشفتَين. والله تعالى أعلم. وأما إعفاء اللحية فمعناه توفيرها، وهو معنى "أَوفُوا اللِّحَى" في الرواية الأخرى، وكان من عادة الفرس قصُّ اللحية فنهَى الشرع عن ذلك.
وقد ذكر العلماء في اللحية عشر خصال مكروهة، بعضُها أشدُّ قبحًا من بعض:
إحداها: خضابها بالسواد لا لغرض الجهاد.
الثانية: خضابها بالصُّفرة تشبيهًا بالصالحين لا لاتِّباع السنة.
الثالثة: تبييضها بالكبريت أو غيره استعجالًا للشيخوخة لأجل الرياسة والتعظيم وإيهام أنه من المشايخ.
الرابعة: نتفها أو حلقها إيثارًا للمرودة وحسن الصورة.
الخامسة: نتف الشيب.
السادسة: تصفيفها طاقةً فوق طاقة تصنعًا ليستحسنه النساء وغيرهنَّ.
السابعة: الزيادة فيها والنقص منها بالزيادة في شعر العِذَار من الصُّدغَين، أو أخذ بعض العِذَار في حلق الرأس ونتف جانبَي العَنفَقة وغير ذلك.
الثامنة: تسريحها تصنعًا لأجل الناس.
التاسعة: تركها شعثةً ملبَّدةً إظهارًا للزهادة وقلة المبالاة بنفسه.
العاشرة: النظر إلى سوادها وبياضها إعجابًا وخُيَلاءَ وغرّةً بالشباب وفخرًا بالمشيب وتطاولًا على الشباب.
الحادية عشرة: عقدها وضفرها.
الثانية عشرة: حلقها. إلا إذا نبت للمرأة فيستحب لها حلقها. والله تعالى أعلم.
مسلم بشرح النوويّ 1/150 ـ 152).(1/516)
هل صوت المرأة عورة؟
السؤال: هل صوت المرأة حرام؟
الجواب: نعم، إذا كان فيه خضوع أو ما يثير الغرائز، لقول الله سبحانه وتعالى: (فلا تَخْضَعنَ بالقولِ فيَطمَعَ الذي في قلبِه مرضٌ وقُلنَ قولًا معروفًا) (الأحزاب: 32) وهذا يعني أن المرأة إذا اضطُّرَّت إلى أن تتكلم مع الرجال فيجب أن يكون الكلام خاليًا من الميوعة والليونة والتكسر والنعومة وكل ما يثير الشهوات؛ وذلك حتى لا يطمع فيهنَّ الذي في قلبه مرض. وليس معنى ذلك أن تتكلم بصوت خشن فظّ غليظ، ولكن عليهنَّ أن يَقُلنَ قولًا معروفًا، وهذا رحمة من الله بهنَّ حتى لا يتجرأ عليهنَّ فاجر لا يخاف الله تعالى.(1/517)
حلاقة المرأة لشعرها حلال أم حرام؟
السؤال: ما رأي الإسلام في ظهور المرأة حليقةَ الشعر أو يكون شعرها في طول شعر الرجال؟ وهل يختلف الأمر بالنسبة للمرأة التي تحلق شعرها لسبب مرضيّ لظهور تقرحات مثلًا في رأسها؟
الجواب: أولًا أن تتشبه المرأة بالرجل فهذا حرام حرام، وأن تحلق المرأة رأسها من غير علة فهذا حرام؛ لأن ذلك تشبُّهٌ بالرجال، وقد نهى الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ذلك فقال صلى الله عليه وسلم: "لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء، ولعن الله المتشبهات من النساء بالرجال" (أخرجه البخاريّ [5546 البغا] عن ابن عباس رضى الله تبارك وتعالى عنهما، وفي رواية [5547 البغا] لعن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ المخنَّثين من الرجال والمترجِّلات من النساء، وقال: "أَخرِجوهم من بيوتكم" فأخرَج النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلانًا وأخرَج عمر فلانًا) ثم إن حلق المرأة لشعرها هو في الحقيقة خروج على طبيعة المرأة ذاتها، بل يجعل الرجال يَفرَقون منها، فهو مَظهَرٌ ولا شك رديء يدعو إلى النفور. أما إذا كان حلق الشعر لسبب يحتّم ذلك، مثل ظهور تقرُّحات في فروة الرأس مثلًا أو غير ذلك من الأمور الجلدية، فتلك ضرورة تُبيح الحلق. وقد سئل الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه عن المرأة التي تَعجِز عن معالجة شعرها، أي العناية به ورعايته: أتأخذه؟ بمعنى تُقصِّره أو تَحلقه، فقال: لأيّ شيء تأخذ؟ فقيل له: لا تقدر على الدهن وما يصلح الشعر. فقال: إذا كان لضرورة فأرجو ألَّا يكون به بأس. والأصل أن حلق المرأة لشعرها حرام إلا لضرورة تبيح ذلك مع ضرورة الالتزام بتغطية شعرها. وإذا كان الأمر قصّه كالتسريحات الجديدة في هذه الأيام لحُسن المظهر فلا شيء فيه ما دامت تتزين به لزوجها ولا تَظهَر به على غير محارمها، وعلى أن يكون الذي يتولى عملية قَصِّه امرأةً مسلمة.(1/518)
اختلاط الفتيات بالشبان
السؤال: ما حكم الدين في اختلاط الفتيات بالفتيان؟
الجواب: مسألة الاختلاط بين الفتاة والشابّ ليست منطقية ولا طبيعية، وقد سبق أن عالجت هذا الأمر حينما تكلمت عن قصة موسى مع شعيب (راجع قصص الأنبياء لفضيلة الشيخ الإمام، وهو من مطبوعات مكتبة التراث الإسلاميّ) وقلت: إن خروج الفتاة إلى عمل في غير مجال أسرتها أمر تحدده الضرورة المحضة، ودلَّلتُ على ذلك بقول الله تعالى: (ولمّا ورَد ماءَ مَديَنَ وجَد عليه أُمّةً من الناسِ يَسقُون ووجَد من دونِهم امرأتَينِ تَذُودانِ قال ما خَطْبُكما قالَتَا لا نَسقِي حتى يُصدِرَ الرِّعاءُ وأبونا شيخٌ كبيرٌ) (القصص: 23) وكلمة (وأبونا شيخ كبير) حدَّدت الضرورة، والضرورة التي أخرَجَت الفتاة إلى مجال الاحتكاك والاختلاط تؤخذ بقدرها. ثم تكلم عن دور المجتمع فقال: (فسَقَى لهما) يعني حين يرى الرجل امرأة خرجت لتكافح في الحياة عن ضرورة اقتضت ذلك فيجب عليه أن يَقضيَ لها ضرورتها حتى تذهب إلى حال سبيلها، ويجب على الفتاة أو المرأة التي تضطرها هذه الضرورة أن تَلتمس الخروجَ من هذه الضرورة. وقالت بنتُ نبيِّ الله شعيب عليه السلام: (قالت إحداهما يا أبَتِ استأجِرْهُ إن خيرَ من استأجَرْتَ القويُّ الأمينُ) (القصص: 26) وهي التي بحثت عن حلّ يُريحها من هذه المهمة. ونحن لا نمنع المرأة من العمل، لكن تخرج إلى العمل إن كان في محيط أسرتها، وإن استدعى أن تخرج إلى المجتمع لكن في حشمتها وفي وقارها وفي اتزانها، ولا تجعل هذه الضرورة تبيح لها أن تختلط بالشباب ما شاء لها الاختلاط. هَبُوا أن الضرورة اقتضت أن تخرج المرأة إلى المجتمع للعمل ولا رجولة خاصة في مجال القوى، ولا رجولة عامة في المجتمع، وتُركَت المرأة لحال سبيلها تكافح الحياة، ما هو الرابط بين ذلك وبين أن تتبرج لتخرج على أبهى زينتها وأكمل حليتها؟ ما العلاقة بين هذا وهذا؟(1/519)
والفتاة التي تخرج لتتعلم إنما قلنا إنها ضرورة اضطرتها للاختلاط، فما ضرورة أن يكون ميدان الجامعة ميدان تبرج؟ تلبس أحسن الأزياء! ولقد قلت سابقًا: هل العلم لا يُسمع إلا من بين الصدور؟ الثديُ يكون ظاهرًا! هل العلم لا يُستقبل إلا بالسيقان المكشوفة؟ هل العلم لا يؤتَى إلا باللباس الكاشف؟ والفتاة في تبرجها خارج منزلها تعبر عن إلحاح في عرض نفسها على الرجل تمامًا، ومعنى ذلك أنها تقول له: انظر أنا هنا. والشباب الآن يحتاج إلى مبرٍّدات وليس مهيٍّجات. فرِّقوا يا قوم بين الحركة العمل في الحياة وبين إغراءات الحياة.(1/520)
العادة السرية
السؤال: هل ممارسة العادة السرية حلال أم حرام؟
وهل صحيح أنها تصيب الشاب أو الفتاة بالسلّ كما يقولون؟
وهل للإفراط في الممارسة آثار جانبية ضارّة على باقي أعضاء الجسم؟
الجواب: العادة السرية سلوك غير قويم يلُوذ به ويلجأ إليه بعض الشبان والشابات المراهقون في فترات الحُلُمِ التي عادةً ما تَخضَع لتأثير الهرمونات الجنسية التي ينشط إفرازها في الجسم من الغدد الصماء. ولعل زيادةَ الرغبة الجنسية لازدياد نسبة هذه الهرمونات من جانب وعَدَمَ السماح من المجتمع الدينيّ الملتزِم بالتفريج غير الشرعيّ لهذه الشحنات والطاقات الجبارة يؤديان إلى مرض الاكتئاب النفسيّ، وهو الشائع عادةّ، وقد يعاني المراهق أو المراهقة من "النيوروزس" Neurosis أي التوتر العصبيّ الفائق الذي يطغى على كل تصرفاته وحركاته حيال حركة الحياة.
ولأمانة العلم نقول: إنه ليس ثَمّةَ آثارٌ عضويةٌ للعادة السرية، إنما هي عادة سيئة مستهجَنة، وأغلب الظن أن الذي يسوق الناس إليها أوقات الفراغ وعدم المسئولية واللامبالاة. وليس صحيحًا أن ممارِسَ هذه العادة يَمرَض بالسلّ أو العَمَى، إنما تلك مبالغة. والتحرر من هذه العادة المستهجَنة البذيئة يكون بشغل الوقت بالعمل المتصل الدائم والصوم وقراءة القرآن إلى أن تَسنَح الظروف بالزواج؛ ويكون هو العلاج الطبيعيّ لهذه المشكلة.(1/521)
ويجب أن يُعلم أن الاستمناء باليد حرام لقوله تعالى: (والذين هم لِفروجِهم حافِظون. إلا على أزواجِهم أو ما ملَكَت أيمانُهم فإنهم غيرُ مَلُومِين. فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادُون) (المؤمنون: 5 ـ 7) والاستمناء باليد ابتغاءٌ لما وراء ما ذكَره الله في القرآن، ولكن إذا وقف الإنسان أمام جريمة الزنا وأصبح على وشك الوقوع فيها، وجميع أسبابها مهيأة، وأصبح لا مفرَّ له من الزنا إلا الاستمناء باليد، فهو ارتكاب لأخفِّ الضرَرَين، ونرجو أن يكون هروبه من الزنا جابرًا لحرمة الاستمناء إن شاء الله.
ولكنى أعود وأكرر أن علاج هذا الأمر هو إيقافُ المهيِّجات من وسائل الإعلام المختلفة، والحدُّ أو المنعُ تمامًا من اختلاف الشباب والشابات في هذه السنون الخطرة من العمر وزيادة الوازع الدينيّ لديهم. كما أنصح كل شاب وشابة بضرورة الخوف من الله في هذه المسألة والاعتصام بالصيام، فقد رُويَ عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: "يا معشرَ الشباب، من استطاع منكم الباءةَ فليَتَزوَّجْ، ومن لم يَستطِعْ فعليه بالصومِ فإنه له وِجَاءٌ" (أخرجه البخاريّ [5065] ومسلم [1400/1] عن عبد الله رضي الله تعالى عنه).(1/522)
وظيفة السكرتيرة
السؤال: سيدة متزوجة ومواظبة على أداء الفرائض، غير أنها تعمل في وظيفة سكرتيرة مدير إحدى الهيئات، وطبيعة عملها تقتضي أن تَعرِضَ الأوراق عليه والباب مغلَق، فهل يعتبَر هذا العمل بهذا الوصف حرامًا شرعًا؟
الجواب: حدد القرآن الكريم عمل المرأة في قصة ابنتَيْ شعيب بالضرورة، وأن تكون الضرورة بقدرها، فإذا زالت الضرورة زالت الإباحة. وقد حذرنا الإسلام من الخَلوة بين الرجل والمرأة، فما اجتَمَعَا على انفراد إلا كان الشيطان ثالثَها (جزء من حديث رواه الترمذيّ [1171] وأحمد في المسند 1/ 18) وعمل المرأة مع أجنبيّ عنها إذا كان لا يمكن التحرزُ من الخَلوة بينهما فهو حرام، واجتماع المرأة مع الرجل في مكان مغلق يعتبَر خَلوة دون أيّ اعتبار لعمل أو لغيره.
ومن الأفضل للمرأة إذا كان لابدّ لها من العمل أن تبحث عن موقع عمل مناسب لا يكون فيه خَلوة. أما إذا كانت مضطرة إلى ذلك العمل للإنفاق على نفسها أو على من تَعُول وليس لها من تَلزَمه نفقتُها من زوج أو قريب فعليها أن تكون محتشمة، وألَّا تَدَعَ باب الحجرة مغلَقًا بحيث يمنع الداخل إلى حجرة، والأَوْلَى أن تَعرِضَ الأوراق في حضور زميل أو زميلة.(1/523)