بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى
أما بعد، فالفقه في الدين عطاء إلهيّ يَمنحه الله تعالى للمصطَفَين من خلقه، وهذا الفقه له دلالتان:
الأولى: الفقه العام الذي يَعني الفَهمَ الصافيَ لكتاب الله تعالى وسنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عقيدةً وشريعةً، مقاصدَ وغاياتٍ. وهذا هو المراد من قول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الحديث المتفق عليه: "من يُرِدْ اللهُ به خيرًا يُفقِّهْهُ في الدين".
الثانية: الفقه الخاصّ الذي يَعني معرفة الحلال والحرام من أمور التشريع. وهو المراد عند الإطلاق في إطار مجموعة العلوم الإسلامية.
وهو ينقسم ـ في اصطلاح الفقهاء ـ إلى عبادات ومعاملات.
وتشمل العباداتُ الصلاةَ والزكاة والصوم والحج.
وتشمل المعاملاتُ البيوعَ والأَنكِحَة والأَقضيَة والشهادات والأيمان والنذور والجهاد.
وتتعدد المذاهب الفقهية حول الأحكام العملية، فهناك فقه سنّيّ وفقه شيعيّ، وأشهر مذاهب الفقه السنّيّ:
مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت (80 ـ 150هـ)
ومذهب الإمام مالك بن أنس (93 ـ 179هـ)
ومذهب الإمام محمد بن إدريس الشافعيّ (150 ـ 204هـ)
ومذهب الإمام أحمد بن حنبل (164 ـ 241هـ)
وهذا الكتاب الذي نقدمه اليوم بعنوان "العبادات في الإسلام ـ بحوث وفتاوى" يَنتسب إلى الفقه الخاصّ بمعرفة الحلال والحرام في الصلاة والزكاة والصوم والحج. وهو كتاب يتوخَّى مقاصد الشريعة، ويَحرص على بيان حكمة التشريع، ويقدم أهم المسائل الفقهية من خلال النصوص الشرعية، ويهتم بالآراء الفقهية الميسِّرة، ويُبرز الأحكام التي تلبّي حاجة الناس وسلوكيات البشر.
والكتاب قائم على أربعة أبواب وثمانية فصول:
الباب الأول: الصلاة، بحوث وفتاوى.(1/1)
وتكلمنا فيه عن طهارة المسلم، وفرضية الصلاة، ومشروعية الأذان، وصلاة الجمعة، ونوافل الصلاة التابعة للفرائض أو المستقلة عنها، وصلاة الجنازة والعيدَين والكسوفَين والاستسقاء. ثم أوردنا فتاوى الصلاة التي تلبّي حاجة المسلم اليومية كي تصحَّ عبادته ويؤديَ الصلاة كما أداها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الباب الثاني: الزكاة، بحوث وفتاوى.
أبرزنا دور الزكاة في الاقتصاد الإسلاميّ، وفلسفة الميراث في الإسلام، ودور العقيدة والأخلاق في محاربة الفساد الاقتصاديّ، ثم سُقنا فتاوى تتعلق بالزكاة والأموال.
الباب الثالث: الصيام، بحوث وفتاوى.
تحدثنا عن منهج التربية في الصيام، والجهاد في رمضان، والآثار النفسية للاعتكاف، وتفسير سورة القدر، والبعد الروحيّ للأعياد، وأثر صلاة العيد في الصحة النفسية. وعقب ذلك جاءت فتاوى الصيام وآدابه.
الباب الرابع: الحج، بحوث وفتاوى.
تكلمنا عن الحج في فضائله النفسية، ودلالته على عزة المسلمين، وأثره في تنمية الوعي، وتأكيده لقوة الرُّحَماء، وحكمة الحج في ميقاته وأركانه وشعائره، وفضل زيارة المسجد النبويّ الشريف، ونفحات الله تعالى في عشر ذي الحجة، وفضل يوم عرفة، وثواب الأضاحي. وخُتم الباب بفتاوى تُنير السبيل لضيوف الرحمن.
واللهَ نسأل حُسنَ العمل، وحُسنَ القبول، وحُسنَ العاقبة.
(قل إني أُمِرتُ أن أعبدَ اللهَ مُخلصًا له الدينَ. وأُمِرتُ لأن أكونَ أولَ المسلمين) (الزمر:11ـ 12).
القاهرة في 4 من شوال سنة 1421هـ 30 من ديسمبر 2000م
أبو حذيفة
د/ محمد سيد أحمد المسيَّر
أستاذ العقيدة والفلسفة ـ كلية أصول الدين
جامعة الأزهر(1/2)
الغُرُّ المُحَجَّلون
الوضوء سلاح المؤمن، وحياة المسلم قائمة على طهارة الاعتقاد والسلوك ونظافة الظاهر والباطن، كما قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ في الحديث الصحيح: "الطُّهور شطر الإيمان".
وكان من معالم التربية والإعداد الإلهيّ لسيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الطهارةُ وإقامة الصلاة، قال تعالى: (يا أيها المدثِّرُ. قُم فأَنذِرْ. وربَّك فكبِّرْ. وثيابَك فطهِّرْ. والرُّجزَ فاهجُرْ) (المدثر: 1ـ 5).
وللوضوء بوجه خاصّ منزلة سامية وثواب عظيم في الدنيا والآخرة، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "إذا توضأ العبدُ المسلمُ أو المؤمنُ، فغسَل وجهَه، خرَج من وجهه كلُّ خطيئة نظَر إليها بعينَيه مع الماء أو مع آخر قَطر الماء، فإذا غسَل يدَيه خرَج من يدَيه كلُّ خطيئة كان بطَشَتها يداه مع الماء أو مع آخر قَطر الماء، فإذا غسَل رجلَيه خرَجَت كلُّ خطيئة مَشَتها رجلَاه مع الماء أو مع آخر قَطر الماء، حتى يخرج نقيًّا من الذنوب".
وفي رواية أن عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ توضأ ثم قال: رأيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ توضأ مثل وضوئي هذا ثم قال: "من توضأ هكذا غُفر له ما تقدم من ذنبه، وكانت صلاتُه ومشيُه إلى المسجد نافلة".(2/1)
وهناك أحاديث صحيحة تصور نعمة الله تعالى على المتطهرين يوم البعث والنشور، منها: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أتى المقبرة فقال: "السلام عليكم دارَ قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وَدِدتُ أن قد رأينا إخوانَنا" قالوا: أوَ لَسنَا إخوانَك يا رسول الله؟ قال: "أنتم أصحابي، وإخوانُنا الذين لم يأتوا بعدُ" قالوا: كيف تعرف من لم يأت بعدُ من أُمّتك يا رسول الله؟ فقال: "أرأيتم لو أن رجلًا له خيل غير محجَّلة بين ظهرَي خيل دُهْمٍ بُهْمٍ (الدُّهْم البُهْم: الشديدة السواد) ألَا يَعرف خيلَه؟" قالوا: بلى يا رسول الله؟ قال: "فإنهم يأتون غُرًّا مُحجَّلين من الوضوء، وأنا لَفَرَطُهم (أي سابقهم ومنتظرهم) على الحوض". والغُرّة بياض في وجه الفرس، والتحجيل بياض في قوائمه، وذلك مما يُكسب الفرس جمالًا وحُسنًا، فشبّه النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ النور الذي يكون يوم القيامة في أعضاء الوضوء بالغُرّة والتحجيل للفرس ليُفهَمَ أن هذا البياض في أعضاء المسلم مما يزيده حسنُا ويزيده جمالًا وليس ناشئًا عن مرض جلديّ.
وفي حديث آخر متفق عليه يقول عليه الصلاة والسلام: "إن أُمّتي يُدْعَون يوم القيامة غُرًّا محجَّلين من آثار الوضوء، فمن استطاع أن يُطيل غُرَّته فليفعَلْ". وفي حديث آخر لمسلم: "تبلُغُ الحلية من المؤمن حيث يبلُغُ الوضوء". والحلية ما يُحلَّى به أهل الجنة من الأساور وغيرها.
ففي هذه الأحاديث وغيرها تنويه بعظم شأن هذه الأمة المسلمة وفضل الله عليها في هذا اليوم المشهود والمجموع له الناس، فإن أمة الإسلام تمتاز عن أهل المحشر بالنور الساطع المتلألئ في أعضاء الوضوء، وهنا يعرف الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أُمَّتَه التي أجابت دعوته وصدَّقَت رسالته وجاهَدَت في الله حق جهاده.(2/2)
ولقد منح الرسولُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أتباعَه الذين لم يشاهدوه في الدنيا لقبَ الإخوة وتمنَّى لقاءهم، وهذا الشرف مما يُحمّل المسلمين أمانةً عظمى في الاستمساك بدين سيدنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتبليغه للعالَمين. وليست هذه الخصائص مَدعَاةً للكسل والتراخي وترك الدنيا وهجرة الحياة، وإنما هي دوافع قوية لعمل صالح وجهاد متواصل حبًّا لله ولرسوله وعمارةً للكون وزادًا للآخرة.
والوضوء واجب للصلاة، وهو يستوعب أعضاء الجسم الظاهرة، وقد حددها القرآن المجيد في قوله: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاةِ فاغسِلوا وجوهَكم وأيديَكم إلى المرافق وامسَحوا برؤوسِكم وأرجلَكم إلى الكعبَين" (المائدة: 6) وحث الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الحفاظ عليه وأدائه بإتقان مهما كانت موانعُ النفس، من كسل أو مغالبة نُعاس وموانع الطقس والمناخ من شدة برد أو حرّ، فقال عليه الصلاة والسلام: "ألا أدلُّكم على ما يَمحو الله به الخطايا ويَرفع الدرجات؟" قالوا: بلى يا رسول الله. قل: "إسباغُ الوضوء على المَكارِهِ، وكثرةُ الخُطَا إلى المساجد، وانتظارُ الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباطُ" رواه مسلم.
ومعنى قوله "فذلكم الرباط" أي أن ذلك لون من ألوان الجهاد في سبيل الله والاستعداد له، فإن جهاد النفس هو الجهاد الأكبر، وهو مقدمة ضرورية لجهاد الأعداء.
وأوجب الإسلام ـ كمقدمات للصلاة ـ ما هو معروف في الفقه الإسلاميّ بالاستنجاء، وهو إزالة أثر الفضلات الخارجة من القبل والدبر، الأمر الذى يرتفع بالإنسان عن مستوى الجمادات.
ولقد نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ كما يقول سلمان الفارسيّ وأخرجه مسلم ـ أن نستقبل القبلة بغائط أو بول، أو أن نستنجيَ باليمين، أو أن نستنجيَ بأقلَّ من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجيَ برَجِيع (الرجيع هو الرَّوَث فهو نجس فلا تزال به النجاسة) أو بعَظم.(2/3)
قال العلماء: ويُلحق بالحجر كلُّ جامد طاهر مُزيل للعين ليس له حرمة ولا هو جزء من حيوان، كما تُجزئ الخِرَق والمناديل المُعَدّة لذلك متى تحققت بها الإزالة.
والرأي الذي نختاره للفتوى في استقبال القبلة بغائط أو بول أنه لا يجوز في الخلاء ولا يحرُم في البنيان المُعَدّ لقضاء الحاجة.
والجمع بين الماء والأحجار في الاستنجاء أفضل، وعند الاقتصار على أحدهما فالماء أولى لأنه يزيل العين والأثر.
ويجوز البول قائمًا وقاعدًا، ونقل الإمام النوويّ عن ابن المنذر قوله: البول جالسًا أحب إليَّ، وقائمًا مباح (شرح النوويّ على صحيح مسلم 3 /166).
ومن السنة أن يقول المسلم عند دخول مكان قضاء الحاجة: "بسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخُبث والخبائث" (الخُبث، بضم الأول والثاني: جمع خبيث. والخبائث: جمع خبيثة. والمراد الاستعاذة بالله من الشياطين ذكورًا وإناثًا).
وللسواك موقع مهمّ في الآداب الإسلامية المتعلقة بالطهارة والنظافة، فهو سنة مستحبة في جميع الأوقات، لكنه في خمسة أوقات أشد استحبابًا: عند الوضوء، وعند الصلاة، وعند قراءة القرآن، وعند الاستيقاظ من النوم، وعند تغير رائحة الفم.
وتحصُل السُّنَّة بكل مُزيل للصُّفرة من الأسنان، سواء كان عودًا من شجر الأراك ونحوِه، أو كان فرشاةً كما هو منتشر اليوم، وفي الحديث الصحيح أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "لولا أن أشُقَّ على أمَّتي لأمرتُهم بالسواك عند كل صلاة" وقالت السيدة عائشة رضي الله عنها: إن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان إذ دخل بيته بدأ بالسواك. وعن حذيفة رضي الله عنه أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان إذا قام من الليل يَشُوصُ فاه بالسواك. أي يَدلُكُ أسنانه بالسواك.(2/4)
طهارة الاغتسال
حرصًا من الإسلام على شأن الطهارة والنظافة أوجَبَ الغسلَ إيجابًا تامًّا في مواضعَ خاصةٍ وحالات معينة تتكرر كثيرًا، وربَط بالغسل صحةَ العبادات بحيث يتوقف أداؤها على تمام الغسل واستيعابِه لكافة أجزاء الجسم.
من هذه الحالات مباشرةُ الرجل لزوجته، أو عقب انتهاء الدورة الشهرية، أو عند انقطاع أثر الولادة حيث يَعتري الجسمَ من الفتور نتيجة إفرازات الغدد ما لا معاودة منه إلى النشاط والحيوية إلا بالغسل وتعميم الجسد بالماء وتدليك الأعضاء.
ولأهمية هذا الجانب في حياة المسلمين لم يَمتنع النساء على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من السؤال عنه، وتَحكي كتب الصِّحاح أن امرأة سألت النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن غسل المَحيض فقال: "تأخذ إحداكنَّ ماءها وسِدرَتَها فتَطَّهَّرُ فتُحسن الطهور، ثم تصُبُّ على رأسها فتدلُكُه دلكًا شديدًا حتى تبلُغَ شؤونَ رأسها، ثم تصُبُّ عليها الماء، ثم تأخذ فِرْصَة مُمَسَّكة فتَطَّهَّرُ بها" قالت المرأة: وكيف تَطَّهَّرُ بها؟ فقال الرسول الكريم: "سبحان الله تَطَهَّري بها" قالت أم المؤمنين عائشة: فاجتذبتُها إليَّ وعرفتُ ما أراد النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقلت: تَتبَّعي بها أثَرَ الدم. ثم تقول عائشة: نعم النساءُ نساءُ الأنصار؛ لم يكُنْ يَمنَعُهنَّ الحياءُ أن يَتفقَّهنَ في الدين.
وانطلاقًا من هذا المعنى قَدِمَت أمّ سُليم إلى الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ تسأل عن شيء خاصّ جدًّا ومهَّدَت لذلك بقولها: يا رسول الله، إن الله لا يستحيي من الحق. ثم سألت: هل على المرأة من غُسل إذا احتلَمَت؟ فقالت عائشة، وكانت جالسة مع الرسول الكريم: يا أمَّ سُليم فَضَحتِ النساءَ، تَرِبَت يمينُك! فقال الرسول لعائشة: "بل أنت فتَرِبَت يمينك، نعم فلتَغتسلْ ـ يا أم سليم ـ إذا رأت ذلك".(3/1)
ويوم الجمعة خير يوم طلعت فيه الشمس، وفيه اجتماع أسبوعيّ للمسلمين على سبيل الفريضة العينية للرجال البالغين العقلاء المقيمين. ومن تكريم هذا اليوم ما جاء في صحيح الحديث أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الأول فالأول، فإذا جلس الإمام طَوَوا الصحفَ وجاءوا يستمعون الذكر".
وشأن المسلم أن يتهيأ لهذا الاجتماع المشهود بأفضل هيئة وأطيب رائحة، فعن أبي سعيد الخدريّ أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "غُسل يوم الجمعة على كل محتلِمٍ أي بالِغٍ وسواك ويَمَسّ من الطِّيب ما قدَر عليه". وتحكي أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ كما في صحيح مسلم أن الناس كانوا ينتابون الجمعة أي يأتونها من منازلهم من العوالي، وهي قرًى حول المدينة، فيأتون في العَبَاء ويُصيبهم الغُبار فتخرج منهم الريح، أي تكون لهم رائحة كريهة، فكان النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول لهم: "لو أنكم تَطهَّرتم ليومكم هذا".
كريهة سواء في ذلك المساجد وحلقات العلم والولائم العامة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من أكل ثومًا أو بصلًا فلْيَعتَزلْنا أو ليَعتَزلْ مسجدَنا وليقعُدْ في بيته".
والمسلم الذي يحرص على هذه الآداب العامة ليوم الجمعة ثم يسعى للصلاة في سكينة ووقار ثم يُحسن الاستماع إلى الخطبة ـ يَحظَى برضوان من الله أكبر، وفي الحديث الصحيح قال عليه الصلاة والسلام: "من توضأ فأحسَنَ الوضوءَ ثم أتى الجمعةَ وأنصَتَ غُفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادةُ ثلاثة أيام". وذلك لأن الحسنة بعشرة أمثالها، والله ذو الفضل العظيم.(3/2)
فرضية الصلاة
1 ـ دعاء الأنبياء
الصلاة فريضة مكتوبة في رسالات الله إلى البشر، دعا إليها الأنبياءُ وأوصى اللهُ بها عبادَه على مدى الأجيال، فسيدنا إبراهيم الخليل يجعل الغايةَ من سُكنَى إسماعيل بجوار البيت الحرام هو إقامةَ الصلاة، فقال: (ربَّنا لِيُقيموا الصلاةَ) (إبراهيم: 37) وختَم دعاءه العامَّ الشامل بالتأكيد على تلك الشعيرة فقال: (ربِّ اجعلني مُقيمَ الصلاةِ ومن ذريَّتي ربَّنا وتَقبَّلْ دعاءِ) (إبراهيم:40) وأوحى الله بها إلى موسى فقال: (وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تَبَوَّآ لقومِكما بمصرَ بيوتًا واجعَلوا بيوتَكم قبلةً وأَقِيموا الصلاةَ) (يونس: 87) وأخذ الله عليها الميثاق من بني إسرائيل فقال: (ولقد أخذ اللهُ ميثاقَ بني إسرائيلَ وبَعَثنَا منهم اثنَيْ عشَرَ نقيبًا وقال اللهُ إني معكم لئنْ أقمتم الصلاةَ وآتيتم الزكاةَ..) (المائدة: 12) وتكلم عيسى في المهد مؤكدًا تلك الفريضةَ فقال: (وجعَلَني مبارَكًا أينما كنتُ وأوصاني بالصلاةِ والزكاة) (مريم: 31).
وقد فُرضَت الصلاة على المسلمين ليلة الإسراء والمعراج خمسًا في الفعل وخمسين في الأجر والثواب. وكان المسلمون يصلُّون من مبدأ الدعوة الإسلامية في مكة صلاةً بالغداة وصلاةً بالعَشيّ، ويشهد لذلك قوله تعالى: (وسبِّحْ بحمدِ ربِّك بالعَشيِّ والإبكارِ) (غافر: 55).
2 ـ المناجاة العلوية(4/1)
فُرضَت الصلاة على الأمة الإسلامية ليلة الإسراء والمعراج من خلال مناجاة علوية ناجَى فيها الرسول ربَّه تبارك وتعالى واشترك فيها موسى عليه السلام. وتخيَّلْ معي حديثًا مع الله، هو الصدق كله، والصفاء كله، والنور كله. وتتقاصر الكلمات عن وصف هذه المناجاة، ونكتفي بما يقرِّبها، وهو النص الصحيح كما ورد عن المعصوم ـ صلى الله عليه وسلم ـ ففي صحيح مسلم من رواية ثابت البُنانيّ عن أنس: "ثم ذُهب بي إلى سدرة المنتهى، وإذا ورقُها كآذانِ الفِيَلة وإذا ثمرُها كالقِلال" قال: "فلما غَشِيَها من أمر الله ما غَشِيَ تَغيَّرَت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن يَنعَتها من حُسنها، فأوحَى الله إليَّ ما أوحَى، ففرَض عليَّ خمسين صلاةً في كل يوم وليلة، فنزلت إلى موسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: ما فرَض ربُّك على أمتك؟ قلت: خمسين صلاة. قال: ارجِع إلى ربك فاسأله التخفيف؛ فإن أمتك لا يُطيقون ذلك، فإني قد بَلَوتُ بني إسرائيل وخَبَرتُهم" قال: "فرجعتُ إلى ربي فقلت: يا ربِّ خفِّف على أمتي. فحَطَّ عني خمسًا، فرجعت إلى موسى فقلت: حَطَّ عني خمسًا. قال: إن أمتك لا يُطيقون ذلك، فارجع إلى ربك فاسأله فليُخفِّف" قال: "فلم أزل أرجع بين ربي تبارك وتعالى وبين موسى ـ عليه السلام ـ حتى قال: يا محمد، إنهنَّ خمس صلوات كل يوم وليلة، لكل صلاة عشر، فذلك خمسون، ومن هَمَّ بحسنة فلم يَعملها كُتبَت له حسنة فإن عملها كُتبَت له عشرًا، ومن هَمَّ بسيئة فلم يَعملها لم تُكتب شيئًا فإن عملها كُتبَت سيئة واحدة. قال: فنزلتُ حتى انتهيتُ إلى موسى ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأخبرته فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فقلت: قد رجعتُ إلى ربي حتى استحييتُ منه".
وننبه القارئ الكريم إلى بعض ملاحظات:(4/2)
1 ـ جاء في بعض الروايات أن المناجاة كانت بعد مرحلة سَمِعَ فيها صَرِيف الأقلام، وهو صوت ما تكتبه الملائكة من أَقضيَة الله تعالى ووحيه وما يَنسَخونه من اللوح المحفوظ أو ما شاء الله تعالى من ذلك أن يُكتب. وجاء في بعض الروايات أن الوصول إلى سدرة المنتهى كان بعد المناجاة. وسدرة المنتهى أو السدرة المنتهى سُمِّيَت بذلك لكونها ينتهي إليها ما يَهبط من فوقها وما يَصعد من تحتها، ولم يجاوزها أحد إلا الرسول صلى الله عليه وسلم. وعلى كلٍّ فالمنجاة وقعت في موقع علويٍّ روحيٍّ وَضَّاء. وليكن معلومًا أن محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ في تلك المناجاة لم يكن أقرَبَ إلى الله مكانًا من موسى وهو في طور سيناء، وإن كان أقرَبَ إلى الله مكانةً ومنزلة ورفعة.
2 ـ جاء في بعض الروايات قال: "فراجعتُ ربي فوضع شطرها" قال: "فرجعت إلى موسى ـ عليه السلام ـ فأخبرته، قال: ارجع ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك" قال: "فراجعت ربي فقال: هي خمس وهي خمسون، لا يُبدَّل القول لديَّ". وفي رواية: فوضع عنه عشر صلوات ثم رجع إلى موسى فاحتَبَسه فلم يَزَل يردِّدُه موسى حتى صارت إلى خمس صلوات. ولعل الرواية التى فيها الحَطُّ خمسًا هي الأصل وباقي الروايات اختَصَرَت وأوجَزَت المراجعات.
3 ـ لعل اختصاص موسى ـ عليه السلام ـ بالمراجعة في أمر الصلاة باعتباره صاحب الشريعة السابقة، فإن التوراة هي الأصل الذي توارد عليه أنبياء بني إسرائيل، حتى إن الجن أنفسهم تفطنوا لهذا المعنى وقالوا: (إنا سمعنا كتابًا أُنزِل من بعد موسى) (الأحقاف:30) ومن جهة أخرى فإن موسى هو كليم الله وصاحب المناجاة في الوادي المقدس طُوًى، فشأنُ أصحاب المقامات المتشابهة أن يَتلاقَوا.
3 ـ مواقيت الصلاة(4/3)
وفي غداة الليلة المباركة التى وقع فيها الإسراء والمعراج بدأت تجربة عملية لتحديد مواقيت الصلاة بدءًا أو نهايةً، ففي صحيح مسلم عن أبي مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "نزل جبريل عليه السلام فأمَّني فصلَّيت معه، ثم صلَّيت معه، ثم صلَّيت معه، ثم صلَّيت معه، ثم صلَّيت معه" يحسب بأصابعه خمس صلوات.
وثبت في الحديث في سنن أبي داود والترمذيّ وغيرهما من رواية ابن عباس وغيره في إمامة جبريل أنه صلَّى الصلوات الخمس مرتَين في يومَين، فصلَّى الخمس في اليوم الأول في أول الوقت، وفي اليوم الثاني في آخر وقت الاختيار.
ونص الحديث كما رواه الترمذيّ عن ابن عباس: "أمَّني جبريل ـ عليه السلام ـ عند البيت مرتين، فصلى الظهر في الأولى منهما حين كان الفَيء مثل الشِّرَاك، ثم صلى العصر حين كان كل شيء مثلَ ظلِّه، ثم صلى المغرب حين وجبت الشمس وأفطر الصائم، ثم صلى العشاء حين غاب الشفق، ثم صلى الفجر حين برَق الفجر وحرُم الطعام على الصائم. وصلى المرة الثانية الظهر حين كان ظلُّ كل شيء مثلَه لوقت العصر بالأمس، ثم صلى العصر حين كان ظلَّ كل شيء مثلَيه، ثم صلى المغرب لوقته الأول، ثم صلى العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل، ثم صلى الصبح حين أسفرت الأرض. ثم التفت إليَّ جبريل فقال: يا محمد هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت فيما بين هذين الوقتين".
وبمطالعة شرح هذا الحديث (تحفة الأحوذيّ شرح الترمذيّ 1/ 464 تحقيق د/ عبد الوهاب عبد اللطيف) نلتقط هذه العبارات:
ـ في رواية في الأمّ للشافعيّ: عند باب الكعبة.
ـ في رواية لابن إسحاق: فأمَر فَصِيحَ بأصحابه "الصلاة جامعة" فاجتمعوا فصلى به جبريل، وصلى النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالناس.(4/4)
ـ وقال ابن الأثير: قدرُه ههنا ليس على معنى التحديد، ولكن زوال الشمس لا يَبِين إلا بأقلّ ما يُرى من الظل، وكان حينئذ بمكة هذا القدر. والظل يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، وإنما يتبين ذلك في مثل مكة من البلاد التي يقل فيها الظل، فإذا كان طول النهار واستوت الشمس فوق الكعبة لم يُرَ بشيء من جوانبها ظِلّ، فكل بلد يكون أقرب إلى خطِّ الاستواء ومعدل النهار يكون الظل فيه أقصر، وكل ما بعُد عنها إلى جهة الشمال يكون الظل أطول.
ـ قوله "هذا وقت الأنبياء مِن قبلك" قال ابن العربيّ في عارضة الأحوذيّ: ظاهره يوهم أن هذه الصلوات في هذه الأوقات كانت مشروعة لمن قبلهم من الأنبياء، وليس كذلك، وإنما معناه أن هذا وقتك المشروع لك، يعني الوقت الموسَّع والممدود الطرفَين الأول والآخر.
وقوله: "وقت الأنبياء من قبلك" يعني: ومثله وقت الأنبياء قبلك. أي صلاتهم كانت واسعة الوقت ذات الطرفين، وإلا فلم تكن هذه الصلوات على هذا الميقات إلا لهذه الأمة خاصة اهـ.
4 ـ قِبلة الصلاة
واختلف العلماء في قِبلة المسلمين في الصلاة أثناء العهد المكيّ على قولين:
الأول: إلى بيت المقدس واستمرت بعد الهجرة إلى أن صَرَفَهم الله إلى الكعبة.
الثاني: إلى الكعبة ثم لما وقعت الهجرة صلى المسلمون إلى بيت المقدس.
وأيًّا ما كان فإن المسلمين قد استقبلوا بيت المقدس في أوائل العهد المدنيّ ستة عشر أو سبعة عشر شهرًا حتى نزلت الآية الكريمة (وحيثما كنتم فَوَلُّوا وجوهَكم شَطْرَه) (قال أبو حاتم البُستيّ، كما نقل القرطبيّ: صلى المسلمون إلى بيت المقدس سبعة عشر شهرًا وثلاثة أيام سواء، وذلك أن قدوم الرسول المدينةَ كان يوم الإثنين لاثنتَيْ عشرة ليلة خَلَت من شهر ربيع الأول وأمَرَه الله عز وجل باستقبال الكعبة يوم الثلاثاء للنصف من شعبان).
وهذا الاتجاه إلى بيت المقدس كان تعبيرًا عن معانٍ ساميةٍ، منها:(4/5)
1 ـ محاولة البعد عن شاشة الوثنية. فالكعبة حينئذ كانت مُحَاطة بأصنام تُعَدّ بالمئات، وأيضًا لمنع الاشتراك مع المشركين في الاتجاه.
2 ـ تهدئة الصراع النفسيّ لدى المسلمين الذين أُخرِجوا من ديارهم وأموالهم بغير حق إلا أن يقولوا: ربنا الله.
3 ـ تأليف اليهود وجذبُهم للدين الجديد بتعظيم بيت المقدس الذي بارك الله حوله، وبيان أن رسالات الله تلتقي في أصولها العامة. وتلك القضية ـ قضية تأليف اليهود ـ اهتم الرسول الكريم بها. ومن مظاهرها الأخرى المعاهدةُ التي وقَّعها مع اليهود والتى تضمَّنَت حُسنَ الجوار والتعاون التام والدفاع المشترك، وكلك صيام عاشوراء وأمر المسلمين به وقوله صلى الله عليه وسلم: "نحن أحقُّ بموسى منكم".
ولكن إذا ما أحسَّ المسلمون بوَحدة صفوفهم وقوة إيمانهم واتخَذوا موقف الدفاع وأُذِنَ لهم بالقتال فليتجهوا إذًا إلى البيت الحرام بمكة ليحيا في وجدانهم حتى يطهِّروه من رجس الوثنية. ثم إن البيت هو بناء إبراهيم الجَدّ الأكبر للعرب واليهود معًا، وهو أول بيت وضع للناس، ولذا كان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يكثر الدعاء إلى الله تعالى أن يجعل قبلته إلى البيت الحرام بمكة، وهنا نزل قوله تعالى: (قد نَرَى تَقَلُّبَ وجهِك في السماءِ فلَنُوَلِّيَنَّك قبلةً تَرضَاها فَوَلِّ وَجهَك شَطْرَ المسجدِ الحرامِ وحيثما كنتم فَوَلُّوا وجوهَكم شَطْرَه) (البقرة: 144).
قال الإمام النوويّ (شرح النوويّ على صحيح مسلم 5 /9):
واختلف أصحابنا وغيرهم من العلماء ـ رحمهم الله تعالى ـ في أن استقبال بيت المقدس: هل كان ثابتًا بالقرآن أم باجتهاد النبيّ صلى الله عليه وسلم؟(4/6)
فحكى الماورديّ في "الحاويّ" وجهين في ذلك لأصحابنا، قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: الذي ذهب إليه أكثر العلماء أنه كان بسُنّة لا بقرآن، فعلى هذا يكون فيه دليل لقول من قال: إن القرآن ينسخ السنة. وهو قول أكثر الأصوليِّين المتأخِّرين، وهو أحد قولَي الشافعيّ رحمه الله تعالى. والقول الثاني له، وبه قال طائفة: لا يجوز؛ لأن السنة مبيِّنة للكتاب فكيف ينسخها. وهؤلاء يقولون: لم يكن استقبال بيت المقدس بسُنّة بل كان بوحي، قال الله تعالى: (وما جعَلنَا القبلةَ التي كنتَ عليها..) الآيةِ.
وقد تعددت الروايات في الصلاة الأولى التي وقعت للكعبة بعد الهجرة، ويسوق الإمام القرطبيّ منها (أحكام القرآن 2/ 148): في رواية مالك أنها صلاة الصبح. وقيل: نزل ذلك على النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مسجد بني سلمة وهو في صلاة الظهر بعد ركعتين منها، فتحوَّل في الصلاة، فسُمِّيَ ذلك المسجد مسجد القبلتين. وقيل: إن الآية نزلت في غير صلاة. وهو الأكثر، وكان أول صلاة إلى الكعبة صلاة العصر، وثبت ذلك في صحيح البخاريّ، ولم يبلغ هذا الخبر إلى بعض المسلمين إلا في فجر اليوم التالي، جاء في الصحيحين عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذا جاءهم آت فقال: إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أُنزِل عليه الليلة قرآن، وقد أُمِر أن يستقبل الكعبة، فاستقبِلوها. وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة.
5 ـ السفهاء من الناس(4/7)
هذا، وقد أحدث تحويل المسلمين إلى الكعبة في الصلاة حملة تشكيك تولَّى كبرَها السفهاءُ من أهل الكتاب وقالوا: أخبِرونا عن صلاتكم إلى بيت المقدس، إن كانت على هدًى فقد تحولتم عنه، وإن كانت على ضلالة فقد عبدتم الله بها مدة! وتساءل البعض عن حكم من مات قبل أن يدرك تحويل القبلة، هنا نزل القرآن العظيم كاشفًا خفايا صدور المنافقين واليهود ومصححًا لمفهوم العبادة فقال: (سيقولُ السفهاءُ من الناسِ ما وَلَّاهم عن قبلتِهم التي كانوا عليها قل للهِ المشرقُ والمغربُ يَهدي من يشاءُ إلى صراطٍ مستقيمٍ. وكذلك جعلناكم أُمّةً وَسَطًا لتكونوا شهداءَ على الناسِ ويكونَ الرسولُ عليكم شهيدًا وما جعَلنَا القبلةَ التي كنتَ عليها إلا لِنَعلمَ من يَتَّبِعُ الرسولَ ممن يَنقلبُ على عَقبَيه وإن كانت لَكبيرةً إلا على الذين هدَى اللهُ وما كان اللهُ لِيُضيعَ إيمانَكم إن اللهَ بالناسِ لرؤوفٌ رحيمٌ) (البقرة: 142 ـ 143) فالعبادة إنما هي الامتثال الضارع لأمر الله الحكيم الخبير، وطالما امتثل الإنسان أمر خالقه وبارئه فهو في محلّ الرضا منه سبحانه، فمن صلى إلى القبلة الأولى ومات قبل أن يدرك القبلة الثانية فقد قَبِلَ اللهُ صلاته لأنه امتثل وأطاع، وليس الهُدَى في اتباع موطن خاصّ أو التوجه إلى مكان معيَّن وإنما الهُدَى هُدَى الله، والكون كله خاضع لمشيئته وسلطانه.(4/8)
الأذان
في اللغة، الأذان هو الإعلام، قال تعالى: (وأذِّنْ في الناسِ بالحجِّ) (الحج: 27) أي أَعلِمْهم. وقال جل شأنه: (وأذانٌ من اللهِ ورسولِه إلى الناسِ يومَ الحجِّ الأكبر) (التوبة: 3) أي إعلام وإعلان. وأَذِنَ له بمعنى استَمَع. قال الله تعالى: (وأَذِنَت لِربِّها وحُقَّت) (الانشقاق: 2) أي استَمَعَت. وآذَنَه بالشيء أي أعلَمَه.
بدء المشروعية
شُرع الأذان بالمدينة بعد الهجرة؛ لأنها موطن عزّ الإسلام وأهله وفيها قامت دولة الحق، وأصبح للمسلمين قوة يردّون بها العدوان ويعبدون الله آمنين ويُعلنون عقيدتهم بلا تخوف. وتشاور المسلمون في كيفية الإعلان بالصلاة المكتوبة (لا يُشرع الأذان في النوافل مطلقًا سواء كانت تؤدَّى فُرَادَى أو جماعات، فلا أذان لصلاة الليل ولا للعيدَين ولا للكسوفَين ولا في فرض الكفاية كصلاة الجنازة ولا في المنذورة) ودعوة الناس إلى الجماعة، واقتَرَحوا اقتراحات، منها: أن يوقدوا نارًا، أو يضربوا ناقوسًا، أو يتَّخذوا بوقًا، ورُفضت هذه المقترحات لشبهها بملل الكفر؛ فالنار للمجوس، والناقوس للنصارى، والبوق لليهود. وشاء الله أن يرى الأذان أحدُ الصحابة، هو عبد الله بن زيد بن عبد ربه، كما في سنن أبي داود والترمذيّ وغيرهما، فأخبر النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما رأى فجاء عمر بن الخطاب فقال: والذي بعثك بالحق لقد رأيتُ مثلَ الذي رأى. فقال عليه الصلاة والسلام: "إنها لرؤيَا حقّ إن شاء الله".
قال الإمام النوويّ: فشرَعه (أي الأذان) النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد ذلك إما بوحي وإما باجتهاده صلى الله عليه وسلم. على مذهب الجمهور في جواز الاجتهاد له ـ صلى الله عليه سلم ـ وليس هو عملًا بمجرد المنام، هذا مما لا شك فيه بلا خلاف. والله أعلم (صحيح مسلم بشرح النوويّ).(5/1)
وساق الإمام ابن حجر أن ابن المنذر جزم بأنه ـ صلى الله عليه سلم ـ كان يصلي بغير أذان منذ فُرضَت الصلاة بمكة إلى أن هاجر إلى المدينة، وإلى أن وقع التشاور في ذلك (فتح الباري بشرح صحيح البخاريّ 2 / 79)
وفي صحيح البخاريّ بسنده أن ابن عمر كان يقول: كان المسلمون حين قَدِمُوا المدينة يجتمعون فيتحيَّنون الصلاة؛ ليس يُنادَى بها، فتكلَّموا يومًا في ذلك فقال بعضهم: اتَّخِذوا ناقوسًا مثل النصارى. وقال بعضهم: بل بوقًا مثل قرن اليهود. فقال عمر: أوَلَا تَبعَثون رجلًا ينادي بالصلاة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا بلال قُم فنَادِ بالصلاة". وفي رواية عن أنس: ذكَروا النارَ والناقوسَ، فذكَروا اليهودَ والنصارى.
ألفاظ الأذان
أمر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بلالًا أن يَشفَع الأذان؛ أي أن يأتيَ بالأذان مَثنَى مَثنَى (أي غالبًا لأن التكبير عند الجمهور أربع في أول الأذان، وكلمة التوحيد في آخره واحدة. ثم إن لفظ الشفع يشمل التثنية والتربيع) وكلمات الأذان عند أبي حنيفة والشافعيّ وأحمد وجمهور العلماء هكذا:
الله أكبر الله أكبر
الله أكبر الله أكبر
أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله
أشهد أن محمدًا رسول الله أشهد أن محمدًا رسول الله
حيَّ على الصلاة حيَّ على الصلاة
حيَّ على الفلاح حيَّ على الفلاح
الله أكبر الله أكبر
لا إله إلا الله
لكن الإمام مالك يرى أن الأذان بالتثنية في أوله وليس بالتربيع، أي أنه يكتفي بتكبيرين في أول الأذان هكذا:
الله أكبر الله أكبر
واختلف العلماء في الترجيع؛ وهو ترديد الشهادتين بصوت خفيض قبل رفع الصوت بهما، فيرى بعضهم أن الترجيع ركن لا يصح الأذان بدونه، ويرى آخرون أنه سنة لو تركه صح الأذان مع فوات كمال الفضيلة.
ويُزاد في أذان الصبح بعد الحَيعَلَتَين (الحيعلتان هما: حيَّ على الصلاة حيَّ على الفلاح): "الصلاة خير من النوم" مرتين.(5/2)
وفي الموطأ عن مالك أنه بلغه أن المؤذِّن جاء إلى عمر بن الخطاب يؤذِنُه لصلاة الصبح، فوجده نائمًا فقال: الصلاة خير من النوم. فأمَرَه أن يجعلها في نداء الصبح.
وفي هامش الموطأ نقَل المحقِّق عن ابن عبد البر قوله: لا أعلم أحدًا روَى هذا عن عمر من وجه يُحتجّ به، وكان ذلك ـ أي الصلاة خير من النوم ـ في الأذان منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (موطأ الإمام مالك برواية يحيى بن يحيى الليثيّ، إعداد أحمد راتب عرموش ص 59 طـ رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء بالسعودية سنة 1404هـ وتُسمَّى هذه الجملة في الأذان تثويبًا، من "ثاب" إذا رجَع، فالتثويب هو العَود إلى الإعلام بعد الإعلام. فقول المؤذن "الصلاة خير من النوم" لا يخلو من ذلك).
ويضيف الشيعة عقب الشهادتين في الأذان: أشهد أن عليًّا وليُّ الله. مرتين، وعقب الحَيعَلَتَين: حيَّ على خير العمل. مرتين، ويجعلون كلمة التوحيد في آخر الأذان مرتين.
وبالنسبة للإقامة فقد أمر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بلالًا أن يُوتِرَها أي أن يأتيَ بألفاظها مرة واحدة، إلا قول "قد قامت الصلاة" فإنه يكرَّر، فتكون الإقامة هكذا:
الله أكبر الله أكبر
أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدًا رسول الله
حيَّ على الصلاة حيَّ على الفلاح
قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة
الله أكبر الله أكبر
لا إله إلا الله
ولا يُعترَض بأن التكبير مكرَّر مرتين في أول الإقامة وآخرها، لأنه بالنسبة للأذان كأنه وتر، فالتكبير في الأذان ـ عند الجمهور ـ أربع مرات في أوله، ولذا يُستحبّ للمؤذن أن يقولهما بنفَس واحد. والمشهور عن الإمام مالك أن الإقامة عشر كلمات، فلم يُثَنِّ لفظ الإقامة.
ونقَل الإمام ابن حجر عن ابن عبد البر قوله:(5/3)
ذهب أحمد وإسحاق وداود وابن جرير إلى أن ذلك من الاختلاف المباح، فإن ربَّع التكبير الأول في الأذان أو ثنَّاه، أو رجَّع في التشهد أو لم يرجِّع، أو ثنَّى الإقامة، أو أفردها كلها، أو إلا "قد قامت الصلاة" ـ فالجميع جائز.
أدب الأذان
من السنة أن يؤدَّى الأذان بصوت نَدِيٍّ مرتفع وتؤدَّى الإقامة بصوت أخفض، لأن الأذان تجميع لغائبِين والإقامة تجميع لحاضرِين، ويكون الأذان في أول الوقت حتى يُعلم الأداء والقضاء في الصلاة المكتوبة وحتى يُمسك الصائم أو يُفطر، قال تعالى: (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا) (النساء: 103) وقال جل شأنه: (وكُلُوا واشرَبوا حتى يَتبيَّنَ لكم الخيطُ الأبيضُ من الخيطِ الأسودِ من الفجرِ ثم أَتِمُّوا الصيامَ إلى الليل) (البقرة: 187) وساق الإمام البخاريّ في صحيحه بابا بعنوان: هل يَتتبَّعُ المؤذِّن فاه من ههنا وههنا؟ وهل يلتفت في الأذان؟ ويُذكر عن بلال أنه جعل إصبَعَيه في أذنَيه، وكان ابن عمر لا يجعل إصبَعَيه في أذنَيه. وقال إبراهيم النخعيّ: لا باس أن يؤذِّن على غير وضوء، وقال عطاء: الوضوء حق وسنة. وقالت عائشة: كان النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يذكر الله على كل أحواله.
فهذا العنوان على طوله يُفهم منه أن هذه الأمور ليست شرطًا للأذان ولا ركنًا فيه، وإنما هي آداب وهيئات قد تُفعل وقد تُترك. والالتفات بالفم والوجه وليس بالبدن. ويكون عند قول "حيّ على الصلاة، حي على الفلاح".
ويرى الإمام مالك أن الأذان من جملة الأذكار لا يشترط فيه ما يشترط في الصلاة من الطهارة واستقبال القبلة.(5/4)
ومن السنة أن يردد المستمع كلمات الأذان خلف المؤذن، فإذا وصل إلى قوله "حيَّ على الصلاة" و"حيَّ على الفلاح" قال: "لا حول ولا قوة إلا بالله". وعند التثويب في صلاة الصبح يقول: صدَقتَ وبرَرتَ. فإذا فرَغ المؤذِّن صلَّى المستمعُ والمؤذِّنُ على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسألوا الله له الوسيلة، وفي صحيح البخاريّ بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آتِ محمدًا الوسيلةَ والفضيلةَ وابعَثْهُ مقامًا محمودًا الذي وَعَدتَه. حَلَّت له شفاعتي يوم القيامة". وفي صحيح مسلم قال عليه الصلاة والسلام: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلُّوا عليَّ؛ فإنه من صلَّى عليَّ صلاة صلَّى الله عليه عشرًا، ثم سَلُوا الله ليَ الوسيلة". وفي حديث آخر يفسر الوسيلة يقول عليه الصلاة والسلام: "فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو".
المؤذنون
المؤذن الأول في الإسلام هو بلال الحبشيّ، أمره الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالنداء للصلاة لأنه أندَى صوتًا أي أرفع وأطيب. واتخذ الرسول مؤذنًا آخر هو ابن أم مكتوم الأعمى، فكان بلال يؤذن قبل صلاة الفجر ليوقظ النائم وكان ابن أم مكثوم يؤذن عند طلوع الفجر. وفي صحيح البخاريّ بسنده عن عائشة رضي الله عنها عن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: "إن بلالًا يؤذِّن بليل فكُلُوا واشربوا حتى يؤذِّن ابنُ أم مكتوم".
وقد اتخذ العلماء من ذلك دليلًا على تعدد المؤذِّنين في المسجد الواحد عند كثرة الناس واتساع المسجد، بحيث يقف كل مؤذن في جانب من المسجد ليُعلم مَن خلفه، ولم توجد يومئذ مكبّرات للصوت. أما الآن فلسنا في حاجة إلى هذا التعدد، ويكفي أذان واحد لكل مسجد ليجتمع الناس فيه لأداء الصلاة.(5/5)
والمؤذنون أطول الناس أعناقًا يوم القيامة لشرفهم وعظم ثواب عملهم، وهم يَحظَون بشفاعة كل مَن يسمعهم. وفي صحيح البخاريّ بسنده عن المازنيّ عن أبيه أنه أخبره أن أبا سعيد الخدريّ قال له: "إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنتَ في غنمك أو باديَتك فأذَّنتَ بالصلاة فارفَع صوتك بالنداء؛ فإنه لا يسمع مَدَى صوت المؤذن جنٌّ ولا إنسٌ ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة" قال أبو سعيد: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومعلوم أن الشهادة يوم القيامة نوعان، شهادة تفضح وشهادة ترفع، فشهادة الفضوح كما في قوله تعالى: (ويومَ يُحشَرُ أعداءُ اللهِ إلى النارِ فهم يُوزَعون حتى إذا ما جاءوها شَهِدَ عليهم سمعُهم وأبصارُهم وجلودُهم بما كانوا يَعملون. وقالوا لجلودِهم لم شَهِدتم علينا قالوا أنطَقَنا اللهُ الذي أنطَقَ كلَّ شيءٍ وهو خلَقَكم أولَ مرةٍ وإليه تُرجَعون) (فصلت: 19ـ 20) وشهادة الرفعة والتكريم كشهادة القرآن لأهله والصيام للصائمين والأذان للمؤذنين.
ولِعظَمِ ثواب الأذان كان الأذان بابًا من أبواب التنافس الشريف يحرص عليه المؤمن ويسعى إليه، وقد صوَّر هذا المعنى قولُ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما في صحيح البخاريّ: "لو يَعلمُ الناسُ ما في النداءِ والصفِّ الأولِ ثم لم يَجِدوا إلا أن يَستَهِموا عليه لاستَهَموا، ولو يَعلمون ما في التهجير لاستَبَقوا إليه، ولو يَعلمون ما في العَتَمة والصبح لأتَوهما ولو حَبوًا".
والتهجير هو التبكير إلى الصلاة، أو المراد به الإتيان إلى صلاة الظهر في أول وقتها رغم شدة الحر الذي هو الهَجِير. والعَتَمة هي صلاة العشاء.
فالنداء والصف الأول والتبكير في الذهاب إلى المساجد وانتظار الصلاة والحرص على الجماعة في العشاء والصبح، أبواب من الخير تَفتح على المسلم خزائنَ رحمة الله.(5/6)
صلاة الجمعة
يوم الجمعة
إن يوم الجمعة خير يوم طلعت فيه الشمس، وفيه اجتماع أسبوعيّ للمسلمين على سبيل الفريضة للرجال البالغين العقلاء المقيمين. وكان هذا اليوم يسمَّى في الجاهلية يوم العَروبة (بفتح العين المهملة وضم الراء) أي البيِّن المعظَّم. ولم يُصلِّ المسلمون جمعة إلا في المدينة المنورة بعد الهجرة حيث الاستقرار والنصرة والتمكين.
وخطبة الجمعة تجديد لشباب الإسلام وتبصير بدعوة الحق وربط لحياة المسلمين بآفاق الدين السامية، ولذا كان يتولاها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بنفسه، وأداها الخلفاء الراشدون من بعده، وقام بها كل والٍ من وُلاة المسلمين في العهود الزاهرة.
يوم الجمعة مكرَّم بتكريم الله تعالى له، فهو يوم مشهود في الأرض وفي السماء، وقد جاء في صحيح مسلم أن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الأول فالأول، فإذا جلس الإمام طَوَوا الصحف وجاءوا يستمعون الذكر". فالمسلم حين يفقه هذا القول الكريم ويدرك أن الملائكة ـ وهم عباد الله المكرَّمون ـ يستقبلونه وهو ذاهب إلى المسجد ويجلسون معه حين يستمع الخطبة، لا شك أنه يستشعر في قرارة فؤاده غِبْطَة لا يَعدلها شيء.
وكان من فضل الله تعالى على هذه الأمة المحمدية أن خصَّها بهذا اليوم المبارك السعيد وهداها إليه، وفي الحديث الصحيح قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "أضلَّ الله عن الجمعة مَن كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت وكان للنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا فهدانا الله ليوم الجمعة". وفي رواية للشيخين قال صلى الله عليه وسلم: "نحن الآخِرُون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أُوتُوا الكتاب مِن قبلِنا وأُوتِينَاه من بعدهم، وهذا يومُهم الذي فرَض عليهم فاختلَفوا فيه، فهدانا الله له، فهم لنا فيه تَبَعٌ".(6/1)
فالأمة الإسلامية متأخرة في الزمن متقدمة في الفضل والثواب والمنزلة، وقد هداها الله تعالى إلى تعظيم يوم الجمعة، فيه خُلق آدم وفيه دخَل الجنة وفيه أُخرج منها، كما ورد بذلك الحديث في صحيح مسلم. وقد ضلّ عنه اليهود والنصارى فاتّخَذ اليهود يوم السبت عيدًا لهم واتّخَذ النصارى يوم الأحد عيدًا لهم.
وللعلماء توجيهات في كيفية ضلال أهل الكتاب عن يوم الجمعة منها:
1 ـ أن الله تعالى فرَض عليهم يومًا في الأسبوع، وُكِلَ إلى اختيارهم، فاختلَفوا في تعيينه ولم يَهتدوا ليوم الجمعة.
2 ـ أن الله تعالى أمَرَهم بتعظيم يوم الجمعة فاختلَفوا؛ هل يَلزَم تعيينُه أو يسوغ إبداله بيوم آخر؟ فاجتهدوا في ذلك وأخطأوا.
3 ـ أن الله تعالى أمَرَهم بتعظيم يوم الجمعة بعينه فغلَبَهم طبعهم وقالوا: سمعنا وعَصَينا. وأَبَوا الالتزامَ به (راجع فتح الباري 2/ 255).
التبكير
وصلاة الجمعة ركعتان في جماعة يسبقهما خطبتان، ووقتها وقت صلاة الظهر، وهي بدل عن ظهر يومها لكل من أداها سواء كانت الجمعة واجبة عليه كالرجال المقيمين، أو تصح منهم كالنساء والمرضى والمسافرين، فهي وإن كانت غير واجبة على هؤلاء فإن صلاة الجمعة تصح منهم، ومتى أدَّوها سقَط عنهم فرض صلاة الظهر.
والتبكير للذهاب إلى المسجد له ثواب كبير عبَّر عنه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في صحيح البخاريّ بقوله: "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح أي في الساعة الأولى فكأنما قرَّب بَدَنَة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرَّب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرَّب كبشًا أقرَنَ، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرَّب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرَّب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر". فهذا الحديث يبين مراتب الناس في الثواب لدى سعيهم إلى المساجد لأداء صلاة الجمعة.(6/2)
وقد تعددت آراء العلماء في معنى التبكير لصلاة الجمعة، فقيل: إن أول التبكير من ارتفاع الشمس وقت الضحى. وقيل: من طلوع الشمس. وقيل: من طلوع الفجر. ورأى بعض المالكية والشافعية أن الساعات الخمس لحظات طفيفة أولها زوال الشمس عند الظهيرة وآخرها قعود الخطيب على المنبر، فالساعة جزء من الزمن غير محدد (راجع فتح الباري 2/ 368).
الأذان
وكان للجمعة أذان واحد على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عندما يصعد الخطيب المنبر في أول دخول الوقت، وظل الأمر كذلك على عهد الخليفة الأول أبي بكر والخليفة الثاني عمر، فلما كثر الناس على عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ وانتشر الناس في الأسواق ولم تكن لديهم الساعات المعروفة اليوم ولا وسائل الإعلام الحديثة أحدَثَ عثمان بتأييد الصحابة وموافقتِهم أذَانًا على دار في السوق يقال لها "الزَّوراء" قبل دخول الوقت ليَعلم الناس أن الجمعة حان وقتها.
ويطلق على هذا الأذان أنه الأذان الأول، وقد يقال عنه الأذان الثاني، وقد يوصف بأنه الأذان الثالث. فهو أول باعتبار كونه مقدَّمًا على الأذان بين يدَي الخطيب فهو أولٌ زمنيًّا. وهو ثانٍ باعتبار مشروعيته وإحداثه، فهو وُجد على عهد عثمان ـ رضي الله عنه ـ ولم يكن موجودًا من قبل. وهو ثالث إذا سَمَّينا الأذان والإقامة أذانَين تغليبًا أو لاشتراكهما في الإعلام، فيكون السابق على عهد عثمان أذانَين، هما الأذان بين يدَي الخطيب والإقامة عقب الخطبة، وقد أمَر عثمان بثالث على الزَّوراء. وفي صحيح البخاريّ بسنده عن السائب بن يزيد قال: كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ فلما كان عثمان رضي الله عنه وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء.
المنبر(6/3)
وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يخطب على جِذْع نخلة قائمًا ثم يقعد ثم يقوم، فلما كثر الناس وشقّ عليه الوقوف على الجذع اتخَذ منبرًا بثلاث درجات، وظل الوضع هكذا حتى زاده مروان في خلافة معاوية ستَّ درجات من أسفله.
وفي صحيح البخاريّ بسنده عن أبي حازم بن دينار أن رجالًا أتَوا سهل بن سعد الساعديّ وقد امتَرَوا في المنبر: مِمَّ عُودُه؟ فسألوه عن ذلك فقال: والله إني لأعرف مِمَّ هو، ولقد رأيته أولَ يوم وُضع وأولَ يوم جلَس عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. أرسل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى فلانة امرأة قد سمَّاها: "مُرِي غلامك النجار أن يعمل لي أعوادًا أجلس عليهنَّ إذا كلَّمتُ الناس" فأمَرَته فعملها من طَرفَاء الغابة، ثم جاء بها فأرسلَت إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأمَرَ بها فوُضعَت ههنا.
هذا، وقد حدثت معجزة باهرة عندما انتقل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الجذع إلى المنبر، فقد سُمع للجذع بكاءٌ وصياح حزنًا على مفارقة الرسول له، وظل الجذع يبكي حتى استلمه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ووضَع يدَه عليه فسَكَن. وأخرج البخاريّ في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يخطب إلى جذع، فلما اتَّخَذ المنبر تَحوَّل إليه، فحَنَّ الجذع، فأتاه فمسح عليه. وفي رواية: فصاحت النخلة صياح الصبيّ. وفي رواية: فسمعنا لذلك الجذع صوتًا كصوت العِشَار (العِشَار: الحوامل من الإبل التي قاربت الولادة أو أتى على حملها عشرة أشهر. ويقال ناقة عُشَراء ونُوقٌ عِشَارٌ).
ويقال: كان الحسن إذا حدَّث بهذا الحديث يقول: يا معشر المسلمين، الخشبة تَحِنُّ إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ شوقًا إلى لقائه! فأنتم أحقُّ أن تشتاقوا إليه.
الإنصات(6/4)
والإنصات للخطبة واجب، ويحرُم التشاغل عن سماع الخطيب، ومن دخل المسجد يوم الجمعة والخطيب على المنبر صلَّى ركعتَين خفيفتَين ثم يجلس. وفي صحيح البخاريّ بسنده عن أبي هريرة أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: أَنصِتْ. والإمام يخطب فقد لَغَوت". واللغو هو الإثم، كقوله تعالى: (وإذا مَرُّوا باللَّغوِ مَرُّوا كِرَامًا).
واستُثنيَ من ذلك الأمرُ العارض الذي فيه مصلحة كتحذير ضرير من بئر، أو أمر واجب كرَدِّ السلام، أو طلب شيء من الخطيب كدعاء في نازلة، أو فتح عليه في آية. وفي صحيح البخاريّ بسنده عن أنس قال: أتى رجل أعرابيّ من أهل البدو إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم الجمعة فقال: يا رسول الله، هلَكَت الماشية، هلَك العيال، هلَك الناس! فرفع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يدَيه يدعو ورفَع الناس أيديَهم معه يَدعُون. قال: فما خرجنا من المسجد حتى مُطرنا، فمازلنا نُمطر حتى كانت الجمعة الأخرى، فأتى الرجل إلى نبيّ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: يا رسول الله بَشِقَ المسافر (بَشِقَ: ضعُف وعجز عن السفر لصعوبة السير في الوحل) ومُنع الطريق. وفي رواية: فرفع رسول الله يدَيه وقال: "اللهم حَوَالَينا لا علينا".
خطبة الجمعة
جاء في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله قال: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا خطب احمرَّت عيناه وعلَا صوته واشتد غضبه، حتى كأنه مُنذِر جيش يقول: صبَّحكم ومسَّاكم. ويقول: "بُعثتُ أنا والساعة كهاتَين" ويَقرِن بين أصبعَيه السبابه والوسطى، ويقول: "أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هديُ محمد، وشرّ الأمور مُحدَثَاتها، وكل بدعة ضلالة" ثم يقول: "أنا أولَى بكل مؤمن من نفسه، ومن ترَك مالًا فلأهله، ومن ترَك دَينًا أو ضَيَاعًا فإلَيَّ وعلَيَّ".(6/5)
هذا الحديث الشريف يبين لنا حرص سيدنا رسول الله على أمته، فعند الخطبة المتعلقة بأمر عظيم ينفعل انفعالًا يتناسب مع الموقف، وقد سجل القرآن المجيد هذا المعنى عندما قال: (لقد جاءكم رسولٌ من أنفسِكم عزيزٌ عليه ما عَنِتُّم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رؤوفٌ رحيمٌ) لكن هذا الانفعال لا يخرج عن حدوده المعقولة ولا ينقلب إلى حركة هَوجَاء، وأخرج مسلم في صحيحه أن عمارة بن رُؤَيبة رأى بِشرَ بن مروان على المنبر رافعًا يدَيه فقال: قبَّح الله هاتَين اليدَين، لقد رأيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما يَزيد على أن يقول بيده هكذا. وأشار بأصبعه المسبِّحة.
ولم تكن خطبة رسول الله طويلة مُمِلّة بل كانت صلاته قصدًا وخطبته قصدًا، وليست القضية متعلقة بالكَمّ الذي يقال وإنما هي أساسًا متعلقة بصدق العبادة وإخلاص القصد وحكمة التوجيه ومراعاة مقتَضَى الحال.
ولا بأس بتصحيح أوضاع طارئة أثناء الخطبة، فإن ارتباط الحكم بسبب يجعله أوقَعَ وأثبَتَ، وتَحكي كتب الصحاح أن سُلَيكًا الغَطَفانيّ جاء يوم الجمعة ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يخطب، فجلس، فقال له: "يا سُلَيك، قُم فاركَع ركعتَين وتَجوَّزْ فيهما" ثم قال إذا: "جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فلْيَركَعْ ركعتَين ولْيتَجوَّزْ فيهما".
ويَحكي أبو رفاعة فيقول: انتهيت إلى النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو يخطب فقلت: يا رسول الله، رجل غريب جاء يسأل عن دينه ولا يدري ما دينه. قال: فأقبَل عليه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وترَك خُطبته حتى انتهى إليَّ، فأُتيَ بكرسيّ حسبتُ قوائمه حديدًا، فقعد عليه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجعل يعلّمني مما علّمه الله، ثم أتى خطبته فأتمّ آخرها.(6/6)
قال الإمام النوويّ: وفي هذا الحديث استحباب تلطف السائل في عبارته وسؤاله العالم. وفيه تواضع النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورفقُه بالمسلمين وشفقتُه عليهم وخفضُ جناحه لهم. وفيه المبادرةُ إلى جواب المستفتي وتقديمُ أهمّ الأمور فأهمّها. ولعله كان سأل عن الإيمان وقواعده المهمة، وقد اتفق العلماء على أن من جاء يسأل عن الإيمان وكيفية الدخول في الإسلام وجب إجابته وتعليمه على الفور. وقعودُه ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الكرسيّ ليسمع الباقون كلامَه ويَرَوا شخصَه الكريم. ويحتمل أن هذه الخطبة التي كان النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيها خُطبةُ أمرٍ غير الجمعة ولهذا قَطَعها بهذا الفصل الطويل، ويَحتمل أنها كانت الجمعة واستأنَفَها، ويَحتمل أنه لم يَحصل فصلٌ طويل، ويَحتمل أن كلامه لهذا الغريب كان متعلقًا بالخطبة فيكونَ منها ولا يضرّ المشيُ في أثنائها.
هذا، وإن خُطبة الجمعة لَوَثيقةُ الصلاة بحياة المسلمين أفرادًا وجماعات، فمعرفة سبيل الرشاد والنواصي، وتوثيق عُرَى الأواصر الاجتماعية، والإبقاءُ على نقاء العقيدة وطُهرة السلوك، وتحديدُ ملامح المجتمع الإسلاميّ سياسيًّا واقتصاديًّا وحضاريًّا ـ كل ذلك مرتبط بخطبة الجمعة. وإن مصير المسلمين يتحدد دائمًا من فوق المنبر، فقد بدأ تاريخهم السياسيّ من فوق منبر الرسول في المدينة، وتوالى بعده منبر دمشق ومنبر بغداد ومنبر الأزهر ومنابر المساجد في مشارق الأرض ومغاربها.
إن المنبر وسيلة وغاية، فهو وسيلة لدعوة الناس إلى الله قد يصاحبه فيها أجهزة أخرى، ولكنها جميعًا تسعى لغاية واحدة هي العودة بالناس إلى المسجد ليكون المنبر وحده هو مصدر الصوت الإلهيّ المقدس (وأن المساجدَ لله فلا تَدعُوا مع الله أحدًا).
وقت الجمعة(6/7)
جاء في الصحيح عن جابر بن عبد الله أن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يخطب قائمًا يوم الجمعة، فجاءت عير من الشام فانفتَلَ الناس إليها، حتى لم يَبقَ إلا اثنَا عشرَ رجلًا، فنزلت هذه الآية في الجمعة (وإذا رأوا تجارةً أو لهوًا انفَضُّوا إليها وترَكوك قائمًا).
هنا موقف يجب التأمل فيه واتخاذ العبرة منه، إن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان خطيبًا في الناس يوم الجمعة فأقبلَت عير لأحد التجار عليها طعام وبضاعة وأحدَثَت جَلَبة في المكان، فانصرف الناس عن سماع الخطبة وخرجوا يَلتمسون الشراء أو يَستطلعون الخبر، ولم يبق مع الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في المسجد إلا اثنا عشر رجلًا، منهم أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وجابر بن عبد الله.
وذكر أبو داود في "مراسيله" أن خطبة النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذه التي انفَضُّوا عنها إنما كانت بعد صلاة الجمعة وظنُّوا أنه لا شيء عليهم في الانفضاض عن الخطبة، وأنه قبل هذه القضية إنما كان يصلّي قبل الجمعة.
وأيًّا ما كان فإن الوحي الإلهيّ قد نزل مبيِّنًا أدب المسلمين وقت الخطبة والصلاة، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا نُوديَ للصلاة من يوم الجمعة فاسعَوا إلى ذكر الله وذَرُوا البيعَ ذلكم خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون) فعند النداء لصلاة الجمعة يجب السعي إليها، والمراد به الاهتمام بها وعقد القلب عليها والذهاب إلى المسجد في وقار وسكينة. وليس المراد بالسعي المشيَ السريعَ، فهذا منهيّ عنه، ففي الصحيح أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "إذا أتيتم الصلاة فامشُوا وعليكم السكينةُ، فما أدركتم فصلُّوا وما فاتكم فأتِمُّوا".
وشأن المسلمين ألَّا يحصل بينهم بيع وشراء أو معاملة أثناء نداء الجمعة، فإن اتفاق العلماء على حرمة ذلك. واختلفوا: هل يصح العقد أم لا؟ والظاهر بطلان العقد.(6/8)
وعلى هذا لا يصح شرعًا مباشرةُ أيّ عمل ممّن تجب عليه الجمعة وقت النداء؛ لأنه تعطيل لتلك الشعيرة الخالدة، وقد قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ كما في صحيح مسلم: "لَيَنتَهِيَنَّ أقوامٌ عن وَدْعِهم الجُمعاتِ أو لَيَختِمَنَّ اللهُ على قلوبِهم ثم لَيكونَنَّ من الغافلين" ثم قالت الآية التالية: (فإذا قُضيَت الصلاةُ فانتَشِروا في الأرض وابتَغُوا من فضل الله واذكروا اللهَ كثيرًا لعلكم تُفلحون).
فالمسألة ليس تعطيلًا عن الإنتاج أو إعاقةً لسير العمل، وإنما هي في الحقيقة تزوُّد بخير الزاد وهو التقوى، وامتلاء القلب بالإيمان وانشراح الصدر بتقوى الله حتى يستطيع المسلم مواصلة الحياة الجادة الطاهرة، ولذا كان هذا الامر الإلهيّ بالانتشار في الأرض وعمارة الكون وابتغاء فضل الله في الرزق الحلال. ويُروَى أن عِرَاك بن مالك ـ رضي الله عنه ـ كان إذ صلّى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال: اللهم إني أجبتُ دعوتَك وصلَّيتُ فريضتَك وانتشرتُ كما أمَرتَني فارزُقني من فضلك وأنت خيرُ الرازقين.
ثم كانت الآية الثالثة: (وإذا رأوا تجارةً أو لهوًا انفضُّوا إليها وترَكوك قائمًا قل ما عند الله خيرٌ من اللهوِ ومن التجارة واللهُ خيرُ الرازقين) فيجب ألَّا تَشغَلَنا أهلُونا وأموالُنا عن مبادئ الدين وقِيَم الحياة المُثلى، فليست الحياة مجرد مآكلَ ومشاربَ وشهوةٍ، وإلا فالحيوان الأعجم أوفرُ حظًّا منَّا، وإنما الحياة في حقيقتها قبل ذلك وبعده هي مِنّة من الله الذي يهدي للتي هي أقوَمُ.(6/9)
نوافل الصلاة
شرع الله تعالى الصلاة فريضة على المؤمنين والمؤمنات خمسًا في اليوم والليلة، حتى يتعود الإنسان دوام الاتصال بالله تعالى والمراقبة لحدوده.
ثم شرع الله تعالى بعض النوافل قبل الفريضة أو بعدها لحِكَم جليلة، منها التمهيد للفريضة كي يتهيأ العقل لمناجاة الله ويتفرغ القلب للسكينة والخشية، ثم لكي تجبُرَ ما قد حصَل في الفريضة من قصور، وفي كلَا الحالين يكتسب المرء حسنات تقربه إلى الملأ الأعلى وتسوقه إلى الفردوس والنعيم المقيم.
ومرتبة النوافل بعد الفرائض، فلا تُقبل النافلة حتى تؤدَّى الفريضة، وليس متصوَّرًا شرعًا أن يصليَ إنسان نافلة الظهر ويَدَعَ الظهرَ نفسَه، أو يقومَ متهجدًا بالأسحار ويتركَ الأوقات الخمسة. وفي صحيح البخاريّ بسنده عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى قال: من عادَى لي وليًّا فقد آذَنتُه بالحرب، وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحبَّ إليَّ مما افترضتُه عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببتُه كنت سَمْعَه الذي يَسمع به، وبصرَه الذي يُبصر به، ويَدَه التي يَبطش بها، ورجلَه التي يمشي بها، ولئن سألني لأُعطيَنَّه ولئن استعاذَني لأُعيذَنَّه".
ونوافل الصلاة المرتبطة بالفرائض موزعة هكذا:
ركعتان قبل الصبح. وتقول السيدة عائشة رضي الله عنها: إن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن على شيء من النوافل أشدَّ معاهدةً منه على ركعتين قبل الصبح. وتروي أيضًا كما في صحيح مسلم أن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "لَهُمَا أحبُّ إليَّ من الدنيا جميعًا".(7/1)
وبالنسبة لصلاة الظهر يروي ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلَّى قبل الظهر ركعتين وبعده ركعتين. وفي رواية صحيحة عن أم حبيبة ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها حرَّمه الله على النار". وفي صحيح البخاريّ عن عائشة أن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان لا يَدَع أربعًا قبل الظهر وركعتَين قبل الغداة.
وبالنسبة لصلاة العصر فهناك أربع ركعات قبله، استنادًا إلى ما رواه أبو داود والترمذيّ: "رحم اللهُ امرأً صلّى قبل العصر أربعًا".
وبالنسبة لصلاة المغرب فهناك ركعتان قبل الصلاة غير مؤكَّدتَين وركعتان بعدها مؤكَّدتان، ففي صحيح البخاريّ باب بعنوان: الصلاة قبل المغرب. وساق حديثَين:
الأول: قال فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم: "صلُّوا قبل صلاة المغرب" قال في الثالثة: "لمن شاء" كراهة أن يتخذها الناس سنة. أي طريقة وشريعة لازمة.
والثاني: قول عقبة بن عامر الجُهَنيّ: إنا كنا نفعله على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما سئل: فما يمنعك الآن؟ قال: الشغل.
وبالنسبة لصلاة العشاء فهناك ركعتان مؤكَّدتان بعدها، وفي صحيح البخاريّ بسنده عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: حفظت من النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عشر ركعات: ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته، وركعتين قبل صلاة الصبح.
فهذه هي النوافل المؤكدة التابعة للفرائض.(7/2)
أما النوافل غير التابعة للفرائض فهي كثيرة، منها صلاة الضحى. وتؤدَّى بعد طلوع الشمس وارتفاعها إلى الزوال وقت الظهيرة. وأقلها ركعتان وأكثرها ثمان، وأوصَلَها بعضهم إلى اثنَتَي عشرة ركعة. والأحاديث في ذلك متعددة ومتعارضة، ففي صحيح البخاريّ أن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ سئل: أتصلي الضحى؟ قال: لا. قيل له: فعمر؟ قال: لا. قيل له: فأبو بكر؟ قال: لا. قيل له: فالنبيّ صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا إخَالُه. أي لا أظنه. وساق البخاريّ عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قوله: ما حدّثَنا أحد أنه رأى النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصلي الضحى غير أم هانئ، فإنها قالت: إن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ دخل بيتها يوم فتح مكة فاغتسل وصلَّى ثمانيَ ركعات، فلم أَرَ صلاة قطّ أخفَّ منها، غير أنه يتم الركوع والسجود. وقد حمل بعض العلماء هذه الصلاة يوم الفتح على أنها صلاة شكر لله تعالى.
ونقل البخاريّ عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قولها: ما رأيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سبَّح سُبحة الضحى، وإني لأسبِّحُها.
والسُّبحة النافلة، وأصلها من التسبيح، وخُصَّت النافلة بذلك لأن التسبيح الذي في الفريضة نافلة، فقيل لصلاة النافلة "سُبحة" لأنها كالتسبيح في الفريضة.
وقولها "إني لأسبحها" جاء في رواية أخرى "إني لأستحبها" وحمَل العلماء قولها "ما رأيته سَبَّحَها" على الدوام، أي لم يداوم عليها. وقولها: "إني لأسبِّحُها" أي أداوم عليها.
وأخبر أبو هريرة أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أوصاه بصلاة الضحى، ففي صحيح البخاريّ: أوصاني خليلي بثلاث لا أدَعُهنَّ حتى أموت: صوم ثلاثة أيام من كل شهر، وصلاة الضحى، ونوم على وتر.
ولهذا جمع الإمام ابن القيم أقوال العلماء في حكم صلاة الضحى فبلغت ستة هي:(7/3)
الأول: أنها مستحبة. الثاني: لا تُشرع إلا لسبب. الثالث: لا تُستحب أصلًا. الرابع: يُستحب فعلُها تارة وتركُها أخرى، بحيث لا يواظب عليها. الخامس: تُستحب صلاتها والمواظبة عليها في البيوت. السادس: أنها بدعة (نقلًا عن فتح الباري لابن حجر 3/ 55).
ومن الصلوات ذات الثواب العظيم قيامُ الليل أو التهجدُ، قال تعالى: (يا أيها المزمِّلُ. قُمِ الليلَ إلا قليلًا) (المزمل: 1، 2) وقال جل شأنه في وصف عباده المحسنين: (كانوا قليلًا من الليل ما يَهجَعون. وبالأسحار هم يَستغفرون) (الذاريات: 17 ـ 18) وهذه الصلاة تؤدَّى بعد نومٍ، مَثنَى مَثنَى، وتُختَم بركعة واحدة تُسمَّى وترًا، فإن كان الإنسان غير معتاد لقيام الليل ختَم صلاته بعد العشاء وسُنَّتِها بركعة يوتر بها.
ويُراعَى في هذه الصلاة طولُ القيام والسجود، حتى لقد ورد أن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ تَفطَّرَت قدماه وتَشقَّقَت، وكان يسجد السجدة قَدْرَ ما يقرأ أحدنا خمسين آية.
ويمكن للمسلم أن يصليَ ما شاء من عدد الركعات: إحدى عشرة ركعة، أو ثلاث عشرة ركعة، أو خمس عشر ركعة، أو سبع عشرة ركعة، المهم أن يكون العدد وترًا. والمسألة متروكة لنشاط المرء وهمَّته ومدى فراغه أو شغله، وقد قال أنس رضي الله عنه، كما في صحيح البخاريّ: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُفطر من الشهر حتى نظنَّ ألَّا يصوم، ويصومُ حتى نظنَّ ألَّا يُفطر منه شيئًا، وكان لا تشاء أن تراه من الليل مُصليًا إلا رأيتَه، ولا نائمًا إلا رأيتَه. وهذا هو التطبيق العملي لقول الله تعالى: (..فاقرأوا ما تَيسَّرَ من القرآن عَلِمَ أن سيكونُ منكم مَرضَى وآخرون يَضربون في الأرض يَبتغون من فضلِ الله وآخرون يقاتِلون في سبيل الله فاقرأوا ما تَيسَّرَ منه) (المزمل: 20).(7/4)
ومن الدعاء المأثور لقيام الليل ما رواه البخاريّ عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: كان النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا قام من الليل يتهجد قال: "اللهم لك الحمد، أنت قيِّم السموات والأرض، ولك الحمد، لك مُلْكُ السموات والأرض ومن فيهنَّ، ولك الحمد، أنت نور السموات والأرض، ولك الحمد، أنت مَلِكُ السموات والأرض، ولك الحمد، أنت الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك حق، وقولك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيّون حق، ومحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ حق، والساعة حق. اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنَبْتُ، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدِّم وأنت المؤخِّر، لا إله إلا أنت" أو "لا إله غيرك، ولا حول ولا قوة إلا بالله".(7/5)
الصلاة جامعة
هناك صلوات تؤدَّى في جماعة على سبيل السنة أو فرض الكفاية ولا يسبقها أذان أو إقامة، وإنما ينادى لها "الصلاةَ جامعةً" بفتح الكلمة الأولى على الإغراء ونصب الثانية على الحال. وهذه الصلوات هي صلاة الجنازة وصلاة العيدين وصلاة الكسوف أو الخسوف.(8/1)
صلاة الجنازة
(الجنازة، بفتح الجيم وكسرها لغتان، وقيل: الكسر أفصح. وقيل: بالكسر للنعش، وبالفتح للميت. ولا يقال نعش إلا إذا كان عليه الميت) متى تُوفِّيَ مسلم وجب غسله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه، ويراعى الترتيب بين هذه الأمور الأربعة.
وفي كيفية الغسل جاءت مجموعة أحاديث، منها ما أخرجه البخاريّ في صحيحه بسنده عن أم عطية الأنصارية ـ رضي الله عنها ـ قالت: دخل علينا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين تُوفِّيَت ابنته فقال: "اغسِلْنَها ثلاثًا أو خمسًا أو أكثرَ من ذلك إن رأيتُنَّ ذلك بماء وسِدْر، واجعَلْنَ في الآخرة كافورًا أو شيئًا من كافور، فإذا فرَغتُنَّ فآذِنَّني" فلما فرَغنا آذنّاه، فأعطانا حَقْوَه فقال: "أَشْعِرْنَها إياه" يعني إزاره.
والسِّدْر شجر النَّبْق، يخلط بالماء من أجل النظافة، أو يوضع على الجسد ثم يُصَبّ عليه الماء، وهو أشبه بالصابون. والكافور لون من الطيب قويّ الرائحة. وقد يقال: حنَّط الميت، أي طيَّبه بالحَنُوط، وهو كل شيء يُخلط من الطِّيب للميت خاصةً.
ومن الأفضل أن تكون الغسلات بالماء والكافور، ثم يجفَّف بدن الميت، ثم يجعل على بدنه وكفنه الحنوط حتى تظل رائحته نفاذة.
وغسل الميت يبدأ بالميامن ومواضع الوضوء، ويُراعَى نقضُ شعر الرأس الطويل بلطف ليبلغ الماء إلى البشرة، فإن تناثر منه شيء ضُمَّ إلى الميت في كفنه، ويُجعل الشعر الطويل ثلاثة قرون، شعر الناصية وشعر الجانبين، وتُلقَى هذه الثلاث خلف الظهر.(9/1)
وإذا كان الميت مُحرِمًا بالحج أو العمرة يُغسل بماء وسِدْر، ولا يُجعل في غسله حَنُوطًا أو طيبًا، ويكفَّن ويُكشَف رأسه؛ فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبِّيًا، وفي صحيح البخاريّ عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: بينما رجل واقف مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعرفة إذا وقع من راحلته فأقصَعَته أو أقعَصَته أو أوقَصَته (كسَرَت عنقه) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اغسلوه بماء وسدر وكفِّنوه في ثوبَين ولا تحنِّطوه ولا تخمِّروا رأسه (الخمار غطاء الرأس) فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبِّيًا".
وشهيد المعركة لا يغسَّل ولا يصلَّى عليه ويدفن بثياب المعركة عند جمهور العلماء، وفي صحيح البخاريّ بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَجمع بين الرجلين من قتلَى أحد في ثوب واحد ثم يقول: "أيُّهم أكثر أخذًا للقرآن؟" فإذا أُشير له إلى أحدهما قدَّمه في اللَّحد، وقال: "أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة" وأمر بدفنهم في دمائهم ولم يغسَّلوا ولم يُصَلِّ عليهم.
قال ابن حجر: ولا فرق في ذلك بين المرأة والرجل، صغيرًا أو كبيرًا، أو عبدًا، صالحًا أو غير صالح، وخرج بقوله "المعركة" من جُرح في القتال وعاش بعد ذلك حياة مستقرة. وخرج بحرب الكفار من مات بقتال المسلمين كأهل البغي. وخرج بجميع ذلك من سُمِّيَ شهيدًا بسبب غير السبب المذكور، وإنما يقال له "شهيد" بمعنى ثواب الآخرة، وهذا كله على الصحيح من مذاهب العلماء.(9/2)
والخلاف في الصلاة على قتيل معركة الكفار مشهور، قال بعضهم: يصلَّى على الشهيد. وهو قول الكوفيِّين وإسحاق. وقال بعضهم: لا يصلَّى عليه. وهو قول المدنيِّين والشافعيِّ وأحمد، وقال الشافعيّ في الأم: جاءت الأخبار كأنها عيان من وجوه متواترة أن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يُصَلِّ على قتلى أحد، وما رُويَ أنه صلَّى عليهم وكبَّر على حمزة سبعين تكبيرةً، لا يصح (فتح الباري بشرح صحيح البخاريّ 3/ 209 ـ 210).
والتكفين إنما يكون بعد الغسل، والكفنُ من جنس ما يَلبَس حيًّا، فلا يجوز تكفين الرجال في الحرير لأنه محرَّم عليهم حال الحياة، بل كره الإمام مالك وعامة الفقهاء التكفين في الحرير مطلقًا للرجال والنساء. وأقلُّ الكفن ثوب واحد يستر جميع البدن. والسنة أن يكون ثلاثة أثواب بيض، وقد يُزاد قميص ثم عمامة للرجل، وخمار للمرأة. وثمن الكفن من تركة الميت، فإن لم تكن له تركة فعلى من تلزمه نفقته، وإلا فمن بيت مال المسلمين. والمغالاة في الكفن منهيّ عنها شرعًا؛ لأن الكفن للتراب، بل ذهب بعض العلماء إلى أن المغسول من الثياب أفضل من الجديد منعًا للإسراف. وفي صحيح البخاريّ بسنده عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: دخلت على أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ فقال: في كم كفَّنتم النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ قالت: في ثلاثة أثواب بيض سَحُوليّة ليس فيها قميص ولا عمامة. وقال لها: في أيّ يوم تُوُفِّيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: يوم الإثنين. قال: فأيّ يوم هذا؟ قالت: يوم الإثنين. قال: أرجو فيما بيني وبين الليل. فنظر إلى ثوب عليه كان يمرَّض فيه، به ردع من زعفران (لطخ أي قطعة عليها زعفران) فقال: اغسلوا ثوبي هذا وزيدوا عليه ثوبين فكفِّنوني فيهما. قلت: إن هذا خَلَق. قال: إن الحيّ أحق بالجديد من الميت، إنما هو للمُهلة. فلم يُتوفَّى حتى أمسى من ليلة الثلاثاء ودُفن قبل أن يصبح.(9/3)
والسحول بالضم أو الفتح، قيل: هو القطن النقيّ. وقيل: نسبة إلى بلدة يمنية تسمى بهذا الاسم.
وقولها "ليس فيها قميص ولا عمامة" يَحتمل نفيَ وجودهما جملة، ويَحتمل نفيَ دخولهما في العدد، أي أن القميص والعمامة زائدان على الثلاثة.
وقوله "إنما هو للمُهلة" بضم الميم وفتحها وكسرها، وقيل: هو بالكسر الصديد، وبالفتح التمهل، وبالضم عكر الزيت. والمراد هنا الصديد، أي أن الكفن للصديد فلا ينبغي المغالاة فيه.
وصلاة الجنازة ليس فيها ركوع ولا سجود حتى لا يتوهم الجهلاء أنها عبادة للميت. وتحتاج إلى طهارة كاملة لأن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ افتتحها بالتكبير واختتمها بالتسليم وجعلها صفوفًا.
وصلاة الجنازة أربع تكبيرات يرفع يدَيه فيها جميعًا. واختار الثوريّ وأبو حنيفة الرفع في التكبيرة الأولى فقط. ويقرأ المصلّي الفاتحة عقب التكبيرة الأولى ويصلّي على النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عقب الثانية، ويدعو للميت عقب الثالثة، ويقول في الرابعة: اللهم لا تَحرمنا أجره ولا تَفتِنَّا بعده واغفر لنا وله. ثم يسلم تسليمة واحدة عند جمهور العلماء، وتسليمتين عند الثوريّ وأبي حنيفة والشافعيّ وجماعة من السلف.
والاقتصار على أربع تكبيرات هو الذي عليه أكثر أهل العلم.
وقد اختلف السلف في عدد تكبيرات صلاة الجنازة، ونقَل الإمام ابن حجر في ذلك ما يلي:(9/4)
روى مسلم عن زيد بن أرقم أنه يكبّر خمسًا، ورفَع ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم. وروى ابن المنذر عن ابن مسعود أنه صلّى على جنازة رجل من بني أسد فكبّر خمسًا. وروى ابن المنذر وغيره عن عليّ أنه كان يكبّر على أهل بدر ستًّا وعلى الصحابة خمسًا وعلى سائر الناس أربعًا. وروى أيضًا بإسناد صحيح عن أبي معبد قال: صلّيت خلف ابن عباس على جنازة فكبّر ثلاثًا. وذهب بكر بن عبد الله المُزَنيّ إلى أنه لا ينقُص من ثلاث ولا يزاد على سبع. وقال أحمد مثله، لكن قال: لا ينقُص من أربع. وروى البيهقيّ بإسناد حسن إلى أبي وائل قال: كانوا يكبّرون على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سبعًا وستًّا وخمسًا وأربعًا، فجمع عمر الناس على أربع كأطول الصلاة (فتح الباري 3/ 202).
ومن الدعاء الذي يقال للميت عند الصلاة ما جاء في صحيح مسلم بسنده عن عوف بن مالك قال: صلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على جنازة فحفظت من دعائه وهو يقول: "اللهم اغفرْ له وارحَمْه، وعافِهِ واعفُ عنه، وأكرِمْ نُزُله ووسِّعْ مُدخَله، واغسِلْه بالماء والثلج والبَرَد، ونقِّه من الخطايا كما نقَّيت (وفي رواية: كما ينقَّى) الثوب الأبيض من الدنَس، وأبدِلْه دارًا خيرًا من داره وأهلًا خيرًا من أهله وزوجًا غير من زوجه، وأدخله الجنة وأَعِذْه من عذاب القبر أو من عذاب النار" قال عوف بن مالك: حتى تمنيت أن أكون أنا ذلك الميت.(9/5)
ويلاحظ أن الضمائر يراعَى فيها حال الميت ذكرًا كان أو أنثى (وإن قصَد الشخصَ الميتَ فيمكن استخدام الدعاء للذكر والأنثى بضمير المذكر، وإن قصَد الجنازةَ جاز له تأنيث الضمائر كلها) مفردًا أو جمعًا. ولا يقال في المرأة "زوجًا خيرًا من زوجه" لأن المرأة لا يجوز لها تعدد الأزواج. وعند صلاة على الطفل يكون الدعاء للوالدَين بالأجر والمثوبة والعافية والرحمة. وفي صحيح البخاريّ: قال الحسن: يقرأ على الطفل بفاتحة الكتاب ويقول: اللهم اجعَلْه لنا فَرَطًا (أي سابقًا إلى الحوض شافعًا لوالدَيه) وسَلَفًا وأجرًا.
ويجوز للنساء والصبيان أداء صلاة الجنازة، ويمكن للصبية أن يقفوا مع الرجال في صفوفهم أما النساء فيَكُنَّ خلف الرجال. وفي صحيح البخاريّ باب بعنوان: صلاة الصبيان مع الناس على الجنائز، ويقف الإمام عند وسط المرأة ورأس الرجل للاتباع في ذلك. وفي صحيح مسلم عن سمرة بن جندب قال: صليت وراء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على امرأة ماتت في نفاسها فقام عليها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الصلاة وسطها.
ويرى بعض العلماء أن ذلك كان قبل اتخاذ النعش للنساء لسترهنَّ، أما بعد اتخاذه فقد حصل الستر فلا فرق بين الرجل والمرأة ويقف الإمام حيث شاء.
واختلف العلماء في الأحق بالإمامة في صلاة الجنازة، ونقل الإمام ابن حجر أن جماعة من أهل العلم قالوا: إن إمام الحيّ أحق. وقال آخرون: الوالي أحق من الوليّ. وقال الشافعيّ: الوليّ أحق من الوالي (فتح الباري 3/191).
ومن السنة أن يقف الناس صفوفًا خلف الجنازة حتى ولو كانوا قليلًا، وفي صحيح البخاريّ بسنده عن جابر بن عبد الله أن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلى على النجاشيّ فكنت في الصف الثاني أو الثالث. وفي رواية: فصَفَفنَا وصلّى النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليه ونحن صفوف.(9/6)
ومن فاتته الصلاة على الميت يمكن أن يؤديَها في أيّ مكان آخر ولو على قبره، وفي صحيح مسلم بسنده عن أبي هريرة أن امرأة سوداء كانت تَقُمّ (أي تزيل القمامة من المسجد وتنظفه) المسجد أو شابًّا ففقدها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فسأل عنها أو عنه فقالوا: مات. قال: "أفلا كنتم آذَنتموني!" قال: فكأنهم صغّروا أمرها أو أمره، فقال عليه الصلاة والسلام: "دلُّوني على قبره" فدلُّوه فصلّى عليها ثم قال: "إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها وإن الله ـ عز وجل ـ ينورها لهم بصلاتي عليهم".
وقد حث الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ على شهود الجنائز وتشييع الموتى والصلاة عليهم لما يناله الحيّ من الثواب وما يناله الميت من الشفاعة. وفي صحيح مسلم بسنده أن أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شهد الجنازة حتى يصلَّى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تُدفن فله قيراطان" قيل: وما القيراطان؟ قال: "مثل الجبلين العظيمين". وفي رواية: "أصغرهما مثل أُحُد". وكان ابن عمر يصلي على الجنازة ثم ينصرف، فلما بلغه حديث أبي هريرة قال: لقد ضيَّعنا قراريط كثيرة! وفي صحيح مسلم بسنده عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: "ما من ميّت تصلّي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يَشفَعون له إلا شُفِّعوا فيه". وفي رواية عن ابن عباس: "ما من مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلًا لا يشركون بالله شيئًا إلا شفَّعهم الله فيه". وفي رواية خرَّجها البخاريّ: "أيّما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة" فقلنا: وثلاثة؟ قال: "وثلاثة" فقلنا: واثنان؟ قال: "واثنان" ثم لم نسأله عن الواحد.(9/7)
والمعتبَر في ذلك شهادةُ أهل الفضل والصدق بما هو مطابق للواقع مما يَعلمون، وما خَفيَ فمَرَدُّه إلى الله عز وجل، وإذا كان الميت مشهورًا بالفسق فلعل دعاء الصالحين يلحقه فإن الأعمال داخلة تحت المشيئة الإلهية كما قال جل شأنه: (إن اللهَ لا يَغفرُ أن يُشرَكَ به ويَغفرُ ما دونَ ذلك لمن يشاءُ ومن يُشرِكْ بالله فقد ضَلَّ ضلالًا بعيدًا) (النساء: 116).(9/8)
صلاة العيد
لدى المسلمين عيدان سنويان يرتبطان بركنين من أركان الإسلام، هما عيد الفطر في غِرّة شوال عقب صيام شهر رمضان، وعيد الأضحى في اليوم العاشر من ذي الحجة عقب الوقوف بعرفة الذي هو أعظم أركان الحج.
وتؤدَّى صلاة العيد بعد شروق الشمس وارتفاعها، وهي ركعتان، يكبّر في الأولى سبعًا غير تكبيرة الإحرام وفي الثانية خمسًا غير تكبيرة القيام، كما هو مذهب الشافعيّ. وقال مالك وأحمد: التكبيرات سبع في الأولى، إحداهنَّ تكبيرة الإحرام. وقال الثوريّ وأبو حنيفة: أربع في الأولى غير تكبيرة الإحرام، وثلاث في الثانية غير تكبيرة القيام.
وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقرأ في الركعة الأولى بسورة (ق والقرآن المجيد) وفي الركعة الثانية بسورة (اقتربت الساعة وانشق القمر). ففي صحيح مسلم بسنده أن عمر بن الخطاب سأل أبا واقد الليثيّ: ما كان يقرأ به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الأضحى والفطر؟ فقال: كان يقرأ فيهما بـ (ق والقرآن المجيد) و(اقتربت الساعة وانشق القمر). ولا شك أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ كان يعلم ذلك لكنه أراد التثبت أو إعلام الناس بهذا الهدي النبويّ.
وعقب انتهاء الصلاة يقوم الإمام بأداء خطبتين يذكّر الناس فيهما بمعالم الإسلام وشعائر الدين ويحثّهم على الصدقة ومكارم الأخلاق.
ويندب افتتاح الخطبة الأولى بتكبيرات تسع وافتتاح الخطبة الثانية بتكبيرات سبع، كما هو مذهب الشافعي.
ولا سنة لصلاة العيد قبلها ولا بعدها.(10/1)
ويحضر الصلاة جميع المسلمين رجالًا ونساءً وصبيةً، حتى لو لم يُؤَدِّ بعض النساء الصلاة لعذر شرعيّ، فإن هذا اللقاء الطيب المبارك يعمق الإخاء والحب والمودة. وفي صحيح مسلم بسنده عن أم عطية قالت: كنا نؤمَر بالخروج في العيدين والمخبّأة والبكر. قالت: والحُيَّض يَخرُجنَ فيَكُنَّ خلف الناس يكبّرون. وفي رواية: أمرنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن نخرجهنَّ في الفطر والأضحى، العواتق والحُيَّض وذوات الخدور (العواتق جمع عاتق، وهي البالغة التي لم تتزوج. والمخبّأة بمعنى ذات الخدر، أي المنزل، والمراد بها المتزوجة المَصُونة في بيتها) فأما الحُيَّض فيعتَزِلنَ الصلاة ويَشهَدنَ الخيرَ ودعوةَ المسلمين. قلت: يا رسول الله، إحدانا لا يكون لها جلباب؟ قال: "لِتُلْبِسْها أختُها من جلبابها".
ولهذا يستحب صلاة العيد في الخلاء والصحراء وفي مكان خارج المسجد يتسع لهذا الجمع الحاشد ولا يأخذ حكمَ المسجد في حرمة تواجد أصحاب الأعذار الشرعية (أهل مكة يؤدون صلاة العيد في المسجد الحرام لشرفه واتساعه. ويرى الإمام الشافعيّ أن صلاة العيد في المسجد أفضل إذا كان متسعًا).
ومن فاتته صلاة العيد مع الإمام جاز له قضاؤها في بيته، وقد جاء في صحيح البخاريّ باب بعنوان: إذا فاته العيد يصلي ركعتين، وكذلك النساء ومن كان في البيوت والقرى، لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "هذا عيدنا أهل الإسلام" وأمَرَ أنسُ بن مالك مولاهم ابنَ أبي عتبة بالزاوية فجمع أهله وبنيه وصلى كصلاة أهل المصر وتكبيرهم. وقال عكرمة: أهل السواد يجتمعون في العيد يصلون ركعتين كما يصنع الإمام. وقال عطاء: إذا فاته العيد صلى ركعتين.(10/2)
ويقصد البخاريّ من سوق حديث "هذا عيدنا" عمومَ حكم صلاة العيد لكل المسلمين رجالًا أو نساء، مقيمين أو مسافرين، في الأمصار أو البوادي، والمراد بالزاوية موضع كان لأنس بن مالك يقيم فيه مع أهله قريبًا من البصرة. والمراد بالسواد أهل القرى والبوادي. وكلُّ ذلك ساقه البخاريّ ليؤكد عموم حكم صلاة العيد. ويرى بعض الفقهاء أن من فاتته صلاة العيد أدَّى أربع ركعات.
ويصف لنا جابر بن عبد الله رضي الله عنهما صلاة العيد مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيقول كما في صحيح مسلم: شهدتُ مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الصلاة يوم العيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة، ثم قام متوكئًا على بلال، فأمر بتقوى الله وحَثّ على طاعته ووعظ الناس وذكّرهم، ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهنَّ وذكَّرهنَّ فقال: "تصدَّقن فإن أكثرَكنَّ حطب جهنم" فقامت امرأة من واسطة النساء (واسطة النساء من خيارهنَّ، والوسط العدل، أي جالسة في وسط النساء) سَعفاء الخدَّين (سَعفاء الخدَّين، فيهما تغير وسواد) فقالت: لم يا رسول الله؟ قال: "لأنكنَّ تُكثِرنَ الشَّكاة وتَكفُرنَ العشير" فجعل النساء يَتصدَّقنَ من حُلِيِّهنَّ، يلقين في ثوب بلال من أقراطهنَّ وخواتمهنَّ.(10/3)
وقد كانت الصلاة قبل الخطبة زمنَ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبي بكر وعمر، فلما تولى الخلافة عثمان رأى أن الناس قد لا يدركون الصلاة فبدأ بالخطبة قبل الصلاة ليفسح المجال لهؤلاء القادمين من الآفاق ومن أماكن بعيدة. وفي عهد معاوية تقدمت الخطبة كي يَحبِسوا الناس لسماع الخطبة وينتظروا الصلاة. وفي صحيح البخاريّ بسنده عن أبي سعيد الخدريّ قال: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلّى، فأول شيء يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس، والناس جلوس على صفوفهم، فيَعِظُهم ويوصيهم ويأمرهم، فإن كان يريد أن يقطع بعثًا قطعه، أو يأمر بشيء أمر به، ثم ينصرف. قال أبو سعيد: فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان ـ وهو أمير المؤمنين ـ في أضحى أو فطر، فلما أتينا المصلَّى إذا منبر بَنَاه كثيرُ بن الصلت، فإذا مروان يريد أن يَرتقيَه قبل أن يصليَ، فجَبَذت بثوبه فجَبَذني، فارتفع فخطب قبل الصلاة، فقلت له: غيرتم والله. فقال: أبا سعيد قد ذهب ما تعلم. فقلت: ما أعلم واللهِ خيرٌ مما لا أعلم. فقال: إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة فجعلتها قبل الصلاة.(10/4)
وساق الإمام ابن حجر أن أول من خطب قبل الصلاة عثمان، صلى بالناس ثم خطبهم ـ يعني على العادة ـ فرأى ناسًا لم يدركوا الصلاة ففعل ذلك، أي صار يخطب قبل الصلاة. وهذه العلة غير التي اعتلّ بها مروان؛ لأن عثمان رأى مصلحة الجماعة في إدراكهم الصلاة، وأما مروان فراعَى مصلحتهم في إسماعهم الخطبة. وقيل: إنهم كانوا في زمن مروان يتعمدون ترك سماع الخطبة لما فيها مِن سبّ مَن لا يستحق السّبّ، والإفراط في مدح بعض الناس، فعلى هذا إنما راعى مصلحة نفسه. ويحتمل أن عثمان فعل ذلك أحيانًا بخلاف مروان فواظب عليه فلذلك نُسب إليه. وجاءت روايات تفيد أن أول من أحدث الخطبة قبل الصلاة في العيد معاويةُ، فهذا يشير إلى أن مروان فعل ذلك تبعًا لمعاوية لأنه كان أمير المدينة من جهته. وموقف أبي سعيد الخدريّ مع مروان يؤخذ منه إنكار العلماء على الأمراء إذا صنعوا ما يخالف السنة. وفيه أيضًا حلف العالم على صدق ما يخبر به، وجواز عمل العالم بخلاف الأَوْلَى إذا لم يوافقه الحاكم، لأن أبا سعيد حضر الخطبة ولم ينصرف. ويستدل بذلك على أن البداءة بالصلاة في العيد ليست بشرط في صحتها (فتح الباري 2/450 ـ 452 بتصرف).(10/5)
صلاة الاستسقاء
حياة الكائنات مرتبطة بالماء، وقد قال الله تعالى: (وجعلنا من الماء كلَّ شيءٍ حيٍّ) (الأنبياء: 30) واقتضت رحمة الله أن الماء ينزل من السماء ويخرج من الأرض ويفيض بقدر حاجة البشر، قال الله تعالى: (وأنزلنا من السماء ماء بقَدَرٍ فأسكَنَّاه في الأرض وإنّا على ذَهابٍ به لقادرون) (المؤمنون: 18) فإذا جف الماء أو تأخر المطر هلك الحرث والنسل، ولا نجد غير الله نلجأ إليه، قال تعالى: (قل أرأيتم إن أصبَحَ ماؤكم غَوْرًا فمن يأتيكم بماءٍ مَعِينٍ) (الملك: 30) وطلب الماء من الله عز وجل هو المسمَّى "الاستسقاء" وهذا اللجوء إلى الله سبحانه له ثلاثة صور:
الأولى: الدعاء مطلقًا. بحيث يَجأر الإنسان إلى الله في ليله أو نهاره مع انفراد أو في تجمع، رجالًا أو نساء، ويُلحّ المرء في الدعاء حتى يستجيب الله له، فقد أمَرَنا الله بالدعاء ووعَدَنا بالإجابة، فقال جل شأنه: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريبٌ أُجيبُ دعوةَ الداعِ إذا دَعَانِ فليَستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشُدون) (البقرة: 186).(11/1)
الثانية: الدعاء أثناء إحدى الصلوات الخمس أو عقبها أو في خطبة الجمعة. وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك أن رجلًا دخل المسجد يوم الجمعة من باب كان نحو دار القضاء (هي دار لعمر بن الخطاب بِيعَت بعد وفاته قضاءً لِدَين كان عليه، وكان يقال لها "دار قضاء دَين عمر" ثم اقتصروا في الكلام فقالوا: دار القضاء) ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قائم يخطب فاستقبل رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قائمًا ثم قال: يا رسول الله، هلكت الأموال وانقطعت السبل فادعُ الله يُغِثْنَا. قال: فرفع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يديه ثم قال: "اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا" قال أنس: ولا والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قَزَعة، وما بيننا وبين سَلْع من بيت ولا دار (القَزَعة، بفتح القاف والزاي: القطعة من السحاب. وسَلْع، بفتح السين وسكون اللام: جبل قرب المدينة. والمراد أنهم لم يجدوا سببًا ظاهرًا ولا باطنًا لسقوط الأمطار، فالجو صحو والشمس ساطعة) قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت. قال: فلا والله ما رأينا الشمس سَبْتًا (السبت: القطع. أي فترة من الزمن هي سبعة أيام متصلة يتواصل فيه المطر) قال: ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قائم يخطب فاستقبله قائمًا فقال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يُمسِكْها عنها. قال: فرفع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يديه ثم قال: "اللهم حولنا (في رواية حوالَينا) ولا علينا، اللهم على الآكام والظِّراب وبطون الأودية ومنابت الشجر (الأكام جمع أكَمة: وهي دون الجبل. والظراب جمع ظَرْب، بفتح فسكون: وهي الروابي الصغيرة. والملاحظ أن الرسول لم يَدْعُ بانقطاع المطر كلّيّة وإنما دعا بتحوله إلى أماكن الانتفاع به) فانقلعت وخرجنا نمشي في الشمس.(11/2)
الثالثة: صلاة ركعتين واداء خطبتين. وهذه هي الصورة المُثلَى للاستسقاء. وفي صحيح مسلم مجموعة روايات نسوق منها: خرج النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى المصلَّى فاستسقى واستقبل القبلة وقلب رداءه وصلى ركعتين. خرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يومًا فاستسقى فجعل إلى الناس ظهرَه يدعو الله واستقبل القبلة وحوّل رداءه ثم صلى ركعتين. عن أنس قال: رأيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يرفع يدَيه في الدعاء حتى يُرى بياضُ إبطَيه. عن أنس أن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ استسقى فأشار بظهر كفَّيه إلى السماء.
وفي شرح هذه الأحاديث نلتقط من الإمام النوويّ (مسلم بشرح النوويّ 6/ 187) ما يلي:
1 ـ استحباب الخروج للاستسقاء إلى الصحراء؛ لأنه أبلغ في الافتقار والتواضع، ولأنها أوسع للناس.
2 ـ استحباب تحويل الرداء (تحويل الرداء بجعل يمينه يسارًا وعكسه ويجعل أعلاه أسفله، والرداء ما يغطي أعلى الجسم، ويقابله الإزار وهو ما يغطي أسفل الجسم) في أثناء خطبة الاستسقاء، قيل: في ثلث الخطبة الثانية. وقيل: حين يستقبل القبلة. وشُرع التحويل تفاؤلًا بتغير الحال من القحط إلى الغيث، ويكون التحويل من الإمام والمأمومين.
3 ـ اختلف العلماء: هل الخطبة قبل الصلاة أو بعدها؟ فذهب الشافعيّ والجماهير إلى أن الصلاة قبل الخطبة، وقال الليث: الصلاة بعد الخطبة. فكل ذلك جائز والأفضل تقديم الصلاة.
4 ـ اختلف العلماء: هل يكبر تكبيرات زائدة في أول الصلاة كما يكبر في العيد؟ فقال به الشافعيّ وابن جرير، وقال الجمهور: لا يكبر.
5 ـ أجمع العلماء على استحباب الجهر بالقراءة في الصلاة، وأجمعوا على أنه لا يؤذَّن لصلاة الاستسقاء ولا يقام، ولكن يقال: الصلاة جامعة.
6 ـ رفع اليدين في الدعاء من هَدْي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لكن الرفع في صلاة الاستسقاء يكون بليغًا بحيث يُرى بياض الإبْط (الإبْط بسكون الباء: ما تحت الجناح).(11/3)
7 ـ السنة في كل دعاء لرفع بلاء أن يرفع يديه ويجعل ظهر كفيه إلى السماء، وإذا دعا لسؤال شيء وتحصيله جعل بطن كفيه إلى السماء.
هذا، ويحرص الإمام في خطبته على حث الناس على التوبة والصدقة ورد الحقوق لأصحابها وترك الشحناء والبغضاء والمبادرة إلى الصيام وكثرة الذكر، فالله تعالى يقول على لسان سيدنا نوح عليه السلام: (فقلت استغفِروا ربَّكم إنه كان غفَّارًا. يُرسلِ السماءَ عليكم مِدْرارًا. ويُمدِدْكم بأموالٍ وبنينَ ويَجعلْ لكم جناتٍ ويَجعلْ لكم أنهارًا) (نوح: 10 ـ 12).
وتُكرر الصلاة مع الخطبة يومًا بعد يوم حتى يستجيب الله تعالى الدعاء وينزل الغيث.
ويمكن للمسلمين الذين لم يُصبْهم القحط أن يُصلّوا من أجل فريق منهم أصابهم القحط في مكان آخر، فإن المسلمين إخوة كالجسد الواحد والبنيان المرصوص.
ومن أعجب ما قرأت أنه لا يُمنع أهل الذمة من حضور الصلاة وسماع الخطبة؛ لأنهم مُسترزِقُون، وفضل الله واسع، وقد يجيبهم استدراجًا لهم ("الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع" للشيخ محمد الشربينيّ الخطيب 1/ 166 ط المطبعة الأزهرية المصرية سنة 1329هـ).
ومن الدعاء الذي أسنده الشافعيّ:(11/4)
"اللهم سُقيَا رحمة ولا سُقيَا عذاب ولا مَحق ولا بلاء ولا هَدْم، اللهم على الظِّراب والآكام ومنابت الشجر وبطون الأودية، اللهم حوالَينا لا علينا، اللهم اسقنا غيثًا مُغيثًا هنيئًا مريئًا مَرِيعًا غَدَقًا مجلّلًا سَحًّا طَبَقًا دائمًا (المَرِيع بفتح الميم وكسر الراء: ذا رَيع أي نماء. والغَدَق: الكثير. والمجلّل بكسر اللام أي: يعُمّ الأرض ويكسوها بالنبات. ويقال: سَحّ الماء. إذا سال. والطَّبَق بفتح الطاء والباء: أي يستوعب الأرض. والضرع: اللبن) اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم إن بالعباد والبلاد من الجهد والجوع والضنك ما لا نشكو إلا إليك، اللهم أَنبِتْ لنا الزرع وأَدِرَّ لنا الضرع، وأنزل علينا من بركات السماء، وأَنبِتْ لنا من بركات الأرض، واكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه غيرك، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارًا.(11/5)
صلاة الكسوفين
الكسوفان للشمس والقمر، وقد يختص الكسوفُ بالشمس والخسوفُ بالقمر، قال الله تعالى: (وخسَف القمرُ) (القيامة: 8) والمراد بالكسوف والخسوف ذهابُ ضوء الشمس والقمر كلّيًّا أو جزئيًّا. وصلاة الكسوفين سنة، وهي ركعتان، في كل ركعة قيامان وقراءتان وركوعان.
ويرى جمهور العلماء أنهما ركعتان كسائر النوافل، يقرأ الفاتحة في كل قيام (يرى بعض العلماء أن الفاتحة في القيام الأول فقط من كل ركعة) ويطيل القراءة والركوع والسجود (ذهب بعض العلماء إلى أن السجود لا يطوَّل بل يكون كالسجود المعتاد في كل صلاة) وتكون القراءة جهرًا، وجمهور العلماء على أنه يُسِرّ في كسوف الشمس ويَجهَر في خسوف القمر. ويُستحب بعدها خطبتان (قال مالك وأبو حنيفة: لا خطبة لصلاة الكسوفين) وتؤدَّى هذه الصلاة في المسجد، ويحضرها الرجال والنساء وكل من تصح منه الصلاة (يجوز أن تؤدَّى فُرَادَى) ووقتها هو وقت الكسوف أو الخسوف في أيّ وقت من ليل أو نهار، لكن بعض الفقهاء منع أداءها في الأوقات المنهيّ عنها، وجعل مكانها تسبيحًا (راجع كتاب "الإفصاح عن معاني الصحاح" لابن أبي هبيرة 1/ 187 ـ 188 ط المنشورات السعيدية بالرياض).(12/1)
وفي صحيح مسلم بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: خسَفَت الشمس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصلّي فأطال القيام جدًّا، ثم ركع فأطال الركوع جدًّا، ثم رفع رأسه فأطال القيام جدًّا، وهو دون القيام الأول، ثم ركع فأطال الركوع جدًّا، وهو دون الركوع الأول، ثم سجد، ثم قام فأطال القيام، وهو دون القيام الأول، ثم ركع فأطال الركوع، وهو دون الركوع الأول، ثم رفع رأسه فقام، فأطال القيام، وهو دون القيام الأول، ثم ركع فأطال الركوع، وهو دون الركوع الأول، ثم سجد، ثم انصرف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقد تجلَّت الشمس، فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "إن الشمس والقمر من آيات الله وإنهما لا يَنخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فكبِّروا وادعُوا الله وصلُّوا وتصدَّقوا. يا أمة محمد، إنْ مِن أحدٍ أغيرُ من الله أن يَزنيَ عبده أو تَزنيَ أَمَتُه. يا أمة محمد، والله لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرًا ولضحكتم قليلًا، ألَا هل بلَّغتُ".
وإنما ذكَر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن الشمس والقمر لا يَنخسفان لموت أحد ولا لحياته ليُبطل قول المنجِّمين الذين يَربطون مواقع النجوم بسعادة البشر أو شقاوتهم وحياتهم أو موتهم. وقد صحح الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عقيدة التوحيد الخالص لأن الكسوف يومئذٍ كان في اليوم الذي مات فيه إبراهيم ابن الرسول الكريم من ماريّة القبطية، وتحدث الناس قائلين: إنما انكسفت الشمس لموت إبراهيم. وبمجرد أن سمع الرسول مقالة الناس هذه حتى خرج مسرعًا يجرّ رداءه وبعَث مناديًا يقول: الصلاة جامعة. وتسامى الرسول فوق حزنه الشديد لفراق إبراهيم وصلَّى بالناس صلاة الكسوف وذكَّرهم بعقيدة التوحيد ودعاهم إلى التوبة والدعاء والصدقة والتكبير والذكر.(12/2)
1 ـ الثوب الطويل
بعض الشباب يشمّر رجل البنطلون أو السروال أثناء الصلاة، والبعض يلبس ثوبًا إلى منتصف الساق، ويقولون: إن الصلاة لا تُقبل من مُسبِل الإزار وأن ما زاد عن الكعبين فهو في النار. فما مدى صحة هذا الأقوال؟
القاعدة الشرعية في المأكل والملبس ما قاله ابن عباس رضي الله عنهما: كُلْ ما شئتَ والبَسْ ما شئتَ ما أخطَأتْكَ اثنتان، سَرَف أو مَخِيلة.
ومسألة إسبال الثوب أو عدم إسباله مرتبطة بالرجال فقط ولا تتعلق بالنساء، فإن المرأة مطالَبة شرعًا بستر جميع بدنها ما عدا الوجه والكفين بالصورة الطبيعية من غير افتعال في لفت النظر إليها.
والأحاديث في موضوع الإسبال منها المطلق كقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ في صحيح البخاريّ: "ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار". هذا الحديث وأمثاله مطلَق فيُحمل على المقيَّد في مثل قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في صحيح البخاريّ: "من جَرَّ ثوبه خُيَلَاءَ لم ينظر الله إليه يوم القيامة". وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جَرَّ إزاره بَطَرًا". وقوله صلى الله عليه وسلم: "بينما رجل يمشي في حُلّة تُعجبه نفسُه مرجِّل جُمَّتَه أي مسرِّح شعره المسترسل إذ خسَف الله به، فهو يَتجلجَل إلى يوم القيامة".
فالصلاة في أيّ ثوب ساتر للعورة صلاة صحيحة، وخشوع الصلاة مطلب شرعيّ، وأيّ تقصير في الخشوع فهو يُخلّ بثواب الصلاة ويمنع قبولها. وهناك فرق بين صحة الصلاة وقبولها، فقد تكون الصلاة صحيحة من حيث الأركان والشروط ولا ثواب فيها لصاحبها لإخلاله بالخشوع.
وإسبال الثوب أو عدم إسباله مرتبط بعادات الشعوب، والمهمّ شرعًا هو الابتعاد بالملبس عن الشهرة والخُيَلَاء. والله أعلم(13/1)
موضع النظر في الصلاة
أين ينظر المصلِّي أثناء صلاة؟ هل ينظر أمامه أو ينظر إلى موضع سجوده؟
يجب على المسلم أن يخشع في صلاته بحيث يستحضر عظمة الله وجلاله ويطمئن في ركوعه وسجوده وتسكن جوارحه ويقشعر بدنه، قال تعالى في وصف المؤمنين المفلحين: (الذين هم في صلاتهم خاشعون).
ولا يجوز شرعًا رفع النظر إلى السماء أثناء الصلاة لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما في صحيح البخاريّ: "ما بال أقوام يَرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم!" فاشتد قوله في ذلك حتى قال: "لَيَنتَهُنَّ عن ذلك أو لَتُخطَفَنَّ أبصارُهم".
ويرى المالكية أن المصليَ ينظر أمامه، استدلالًا بقوله تعالى: (قد نرى تقلُّب وَجهَك في السماء فلَنُوَلِّيَنَّك قبلةً تَرضَاها فَوَلِّ وَجهَك شَطرَ المسجد الحرام وحيث ما كنتم فوَلُّوا وجوهَكم شَطْرَه) فالنظر إنما يكون إلى الكعبة المشرفة، عينِها أو جهتِها. كما استدلوا بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما في صحيح البخاريّ من رواية أنس بن مالك قال: صلى لنا النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم رَقيَ المنبر فأشار بيديه قِبَلَ قبلة المسجد ثم قال: "لقد رأيت الآن ـ منذ صليت لكم الصلاة ـ الجنة والنار متمثِّلَين في قبلة هذا الجدار، فلم أرَ كاليوم في الخير والشر" ثلاثًا. فهذا الحديث يدل على أن الرسول كان ينظر أمامه.
وذهب الشافعية والحنابلة والأحناف إلى أن المصليَ ينظر إلى موضع سجوده لأنه أقرب إلى الخشوع.
وفصَّل بعضهم فقال: ينظر المصلي في قيامه إلى صدره، وفي ركوعه إلى موضع قدميه، وفي حال سجوده إلى موضع أنفه، وفي حال قعوده إلى حجره.
وأيًّا ما كان فالمدار على الخشوع واستجماع الفكر وتوجه القلب إلى الله عز وجل.(14/1)
السُّيَّاح في المساجد
يدخل السُّيَّاح المساجد رجالًا ونساء وقد يكونون في أوضاع غير مناسبة، فما حكم الدين في ذلك؟
فروع الشريعة إنما يخاطَب بها المؤمنون؛ لأن الأصل في قبول العمل هو الإيمان والتصديق، فالمَدخَل إلى فروع الدين هو العقيدة، وأحكامُ المساجد في مثل قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تَقرَبوا الصلاةَ وأنتم سُكَارَى حتى تَعلموا ما تقولون ولا جُنُبًا إلا عابرِي سبيل حتى تَغتسلوا) (النساء: 43) موجَّهة إلى المؤمنين، أما غير المسلم فلا يُقبل منه عمل صالح حتى يؤمن إيمانًا جازمًا بأركان الإسلام وعقيدة التوحيد ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم. وبالتالي فإن دخول غير المسلم إلى المساجد لزيارة أو سماع محاضرة أو مشاهدة أثر من الأمور الجائزة التي أقرّتها الشريعة بنصوص القرآن والسنة ما دام دخولهم في أدب ووقار واحترام وبما يتناسب مع القيم الإسلامية في السلوك، قال الله تعالى: (وإنْ أحدٌ من المشرِكين استجارك فأَجِرْه حتى يَسمعَ كلامَ الله ثم أَبْلِغْه مأمَنَه ذلك بأنهم قوم لا يَعلمون) (التوبة: 6) فسماع كلام الله تعالى قد يكون في المسجد وقد يكون خارج المسجد والآية عامة.(15/1)
وفي صحيح البخاريّ باب بعنوان "دخول المشرك المسجد" وساق حديثًا عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول: بعث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خيلًا قِبَلَ نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثُمَامة بن أَثَال، فربطوه بسارية من سواريّ المسجد. وجاء في هذا الحديث في باب المغازيّ أنه ظل ثلاثة أيام في المسجد ثم أطلقه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلما خرَج استشعَر عظمة الإسلام فاغتسَل وعاد إلى المسجد وأعلن الشهادتين وحسُن إسلامه وقال: يا محمد، والله ما كان على الأرض وجهٌ أبغَضُ إليَّ من وجهك فقد أصبح وجهك أحبَّ الوجوه إليَّ، والله ما كان من دين أبغَضُ إليَّ من دينك فأصبح دينك أحبَّ الدين إليَّ، والله ما كان من بلد أبغَضُ إليَّ من بلدك فأصبح بلدك أحبَّ البلاد إليَّ.
وهكذا فالواجب أن نُحسن إلى هؤلاء السياح ونقدم لهم سماحة الخلق الإسلاميّ عسى الله أن يؤلف قلوبهم ويجمعهم على الهدى.(15/2)
حكم السواك
ما حكم استعمال السواك؟ وهل هو ضروريّ عند الصلاة؟
من آداب الإسلام اليومية استعمال السواك، وهو سنة مستحبة في جميع الأوقات، ولكنه في خمسة أوقات أشدّ استحبابًا: عند الصلاة، وعند الوضوء، وعند قراءة القرآن، وعند الاستيقاظ من النوم، وعند تغير رائحة الفم.
وتحصُل السنة بكل مُزيل للصُّفرة من الأسنان سواء كان عودًا من شجر الأراك ونحوه أو الفرشاة المعروفة حاليًا.
قال العلماء: والمستحب أن يَستاك عرضًا ولا يَستاك طُولًا لئلَّا يُدميَ لحم أسنانه. ويستحب أن يُمِرَّ السواك أيضًا على أطراف أسنانه وأضراسه وسقف حلقه إمرارًا لطيفًا. ويستحب أن يبدأ في سواكه بالجانب الأيمن.
وقد صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتُهم بالسواك عند كل صلاة". وذلك لأن الإسلام حريص على نظافة المسلم وطهارته، وخاصة عند الصلاة التي يناجي فيها ربه وتحضرها الملائكة، ويجتمع فيها مع إخوانه المؤمنين. وفي صحيح مسلم أن عائشة ـ رضي الله عنها ـ سئلت: بأيّ شيء كان يبدأ النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا دخل بيته؟ قالت: كان إذا دخل بيته بدأ بالسواك. وعن حذيفة رضي الله عنه قال: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا قام ليتهجد يَشُوص فاه بالسواك. أي يَدلُك أسنانه بالسواك.
وهذا كله إرشاد نبويّ كريم حتى يظل المسلم طيب الرائحة كريم النفس سليم البدن، فالطهارة شطر الإيمان. هذا وبالله التوفيق(16/1)
الدورة الشهرية
تأتي إليَّ الدورة الشهرية في الأسبوع الأول بشكل عاديّ، والأسبوع الثاني أقل منهّ، ثم بعد ذلك يستمر أثر الدورة بشكل ضعيف جدًّا حتى آخر الشهر، فماذا أفعل بالنسبة للصلاة؟
المعروف شرعًا وعادةً أن أقل الدورة الشهرية يومًا وليلةً، ومتوسطها ستّ أو سبعٌ، وأكثرها خمسة عشر يومًا بليالها، تَدَعُ المرأة خلالها الصلاة والصيام، ولا قضاء عليها بالنسبة للصلاة لتكررها اليوميّ ومشقة ذلك على المرأة، أما الصيام فيُقضَى لأنه أيام معدودات، وفي صحيح البخاريّ عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: كان يُصيبنا ذلك تَعني الحيض فنؤمَر بقضاء الصيام ولا نؤمَر بقضاء الصلاة.
إذا جاوزت الدورة الشهرية أقصى حدٍّ معروف لها فتسمَّى في عرف الفقه الإسلاميّ "استحاضة" وجاء في صحيح الحديث أن امرأة قالت: يا رسول الله، إني امرأة أُستحاض فلا أطهُرُ أفأدَعُ الصلاة؟ فقال: "لا، إنما ذلك عرق وليس بالحيضة، فإذا أقبَلَت الحيضة فدَعي الصلاة وإذا أدبَرَت فاغسلي عنك الدم وصلي". فالمُستحاضة كالطاهرة في جميع الأحكام وعليها أن تحسب قدر عادتها إن كانت معروفة سابقًا إذا استطاعة أن تميز بين دم الحيض والدم الزائد، فإن لم تتمكن من ذلك اعتبَرَت دورتَها خمسة عشر يومًا.
والأخت السائلة من هذا القبيل؛ لأن الدورة تأتيها أسبوعَين بشكل عاديّ أو قريب منها، فتَدَعُ خلالها الصلاة، وتتعلق بها سائر أحكام الحيض، ثم بعد ذلك تغتسل الغسل الواجب وتتمتع بكل أحكام المرأة الطاهرة، من صلاة وقراءة القرآن ومكث في المساجد وغير ذلك، إلان أنها تؤمَر بالاحتياط عند الطهارة من حيث التنظف والحيلولة دون اندفاع الدم إلى الخارج، ثم الموالاة بين ذلك والوضوء والصلاة، وتجدد وضوءها لكل فريضة مكتوبة، أما النوافل فتصلي ما تشاء. ويَلحَق بذلك الحكمِ المرأةُ التي تُصاب بنزيف لا علاقة له بنفاس أو حيض فإنها تحتاط وتصلي. والله أعلم.(17/1)
لحم الإبل
س: هل صحيح أن من أكل لحم الإبل وجب عليه أن يعيد وضوءه؟
جمهور العلماء سلفًا وخلفًا على أنه لا يجب الوضوء من مأكول أو مشروب مَسَّته النار أم لا، وسواء كان لحم إبل أو غيرها، وقد استقر الشرع على أن المأكول مطلقًا ليس من نواقض الوضوء.
لكن للمسألة أصل دار حوله كلام للعلماء، فقد وردت أحاديث صحيحة بالأمر بالوضوء عقب أَكْلِ ما مَسَّته النار أو أَكْلِ لحوم الإبل، وقد حملها جمهور العلماء على بادئ الأمر وأول التشريع ثم اعتراها النسخ، فقد ثبت في الصحيح عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أكل عرقًا أو لحمًا ثم صلى ولم يتوضأ ولم يَمَسَّ ماء.
وهناك من العلماء من حمل أحاديث الوضوء مما مسَّت النار أو من لحوم الإبل على الوضوء اللغويّ، وهو النظافة، بغسل الفم والكفين بعد الأكل وقبل الصلاة لئلَّا تبقى في الفم بقايَا يَبتلعها حال الصلاة، وإلى هذا الإشارة بحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ شرب لبنًا ثم دعا بماء فتمضمض وقال: "إن له دَسَمًا".
ومن العلماء من حمل أحاديث الوضوء مما مسَّت النار أو من لحوم الإبل على الندب؛ بمعنى أنه من الأفضل بعد تناول الطعام المطهوِّ الوضوءُ للصلاة.
هذا وقد قال بنقض الوضوءِ الإمامُ أحمد بن حنبل وبعضُ علماء الحديث. والله أعلم(18/1)
التيمم
إذا احتاج الإنسان إلى التيمم بدلًا من الوضوء فهل يتيمم قبل دخول الوقت أم بعده؟
الأصل في الطهارة هو الوضوء أو الغسل، ولا ينتقل إلى التيمم إلا عند العجز عن استعمال الماء أو فقده. وحيث إن التيمم طهارة ضعيفة اشترَطَ جمهور الفقهاء دخولَ الوقت للصلاة المكتوبة. ولا يؤدي المتيمم إلا فرضًا واحدًا وما شاء من النوافل، لكن فقهاء الظاهر وبعض الأئمة أجازوا التيمم قبل دخول وقت الصلاة. ولكل وجهة في فهم الآية الكريمة: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاةِ فاغسلوا وجوهَكم وأيديَكم إلى المَرافق وامسَحوا برؤوسِكم وأرجلَكم إلى الكعبَين وإن كنتم جُنُبًا فاطَّهَّروا وإن كنتم مَرضَى أو على سفرٍ أو جاء أحدٌ منكم من الغائطِ أو لامَستُم النساءَ فلم تَجدوا ماءً فتَيَمَّموا صَعيدًا طيبًا) (المائدة: 6) فهل المراد: إذا أردتم القيام سواء دخل الوقت أم لم يدخل؟ أو المراد: إذا وجب القيام إلى الصلاة بدخول الوقت؟ وفي المسألة كلام طويل للأصوليِّين. والله أعلم(19/1)
سَلَس البول
أجرَيتُ عملية جراحية ترتَّب عليها نزول البول باستمرار، فماذا أفعل في طهارتي وصلاتي؟
شرعه الله تعالى مَنُوط بوُسع الإنسان، قال تعالى: (لا يكلِّفُ اللهُ نفسًا إلا وُسعَها) (البقرة: 286) وقال جل شأنه: (وما جعَل عليكم في الدين من حَرَج) (الحج: 78) فليس هناك فريضة شرعية إلا ويُراعَى فيها أصحابُ الأعذار، فهذا الإنسان الذي يخرج منه ناقض للوضوء باستمرار له وضع شرعيّ عليه أن يتبعه لإتمام طهارته التي يترتب عليها قبول صلاته، وهذا الوضع الخاص هو أن يبدأ استعداده للصلاة بعد دخول وقتها وليس قبله، وأن يستنجيَ ويتحفظ على موضع خروج الناقض للوضوء بوضع قطن وعصابة أو ما شاكلها، ثم يوالي الإنسان بين استنجائه ووضوئه وصلاته، ولا يصلي بهذا الوضوء إلا فرضًا واحدًا وما شاء من النوافل، وعليه أن يجدد وضوءه وطهارته لكل صلاة مفروضة.
ويُعفَى عما يُصيب الإنسانَ المريض في جسده أو ثوبه من النجاسات التي يَعسَر إزالتها أو يشُقّ على الإنسان ملاحقتها.
ومن الأحاديث الصحيحة الواردة في مثل هذه الحالات أن فاطمة بنت حُبيش جاءت إلى النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت: يا رسول الله، إني امرأة أُستحاض فلا أطهُرُ (أي ينزل عليها الدم باستمرار) أفأَدَعُ الصلاة؟ فقال: "لا إنما ذلك عِرْق وليس بحيضة، فإذا أقبَلَت الحَيضة فدَعي الصلاة، وإذا أدبَرَت فاغسلي عنك الدم وصلي".
على أن هذه المرأة التي بنزل عليها الدم باستمرار تَحسب مدة حيضها وعادتها الشهرية، فإذا انتهت اغتسلت الغسل الواجب واستأنفت حياتها العادية في العلاقة الزوجية والصلاة بالكيفية التي أسلفناها. وهكذا كل إنسان مريض بسَلَس من بول أو دم أو غير ذلك. والله أعلم.(20/1)
الوضوء في دورات المياه
يقوم بعض الناس بالوضوء في داخل دورات المياه، فما رأي الدين في ذلك؟
أجمعت الأمة الإسلامية على لزوم الطهارة للصلاة وأنها شرط من شروط صحتها، فمن صلى من غير طهارة فصلاته باطلة سواء في ذلك الفريضة والنافلة، وفي صحيح مسلم عن ابن عمر قال سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "لا تُقبل صلاة بغير طُهور". وفي فضل الوضوء يحدثنا عثمان بن عفان رضي الله عنه فيقول سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "لا يتوضأ رجل مسلم فيُحسن الوضوء فيصلي صلاة إلا غفَر الله له ما بينه وبين الصلاة التي تليها".
والوضوء مذكور في القرآن المجيد في قوله جل شأنه: (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهَكم وأيديَكم إلى المرافق وامسَحوا برؤوسكم وأرجلَكم إلى الكعبَين) فمتى قام المسلم بالوضوء على الوجه المشروع صح الوضوء أيًّا كان الموقعُ الذي يَتوضأ فيه، فالمدار على طهارة الماء واستيعاب أعضاء الوضوء، وهذا المعنى متحقِّق في دورة المياه أو خارجها. لكن التساؤل الوارد قد يكون بالنسبة لأذكار الوضوء ودعائه، وهنا نقول: إن النية محلّها القلب، ويُكره للشخص المشتغل بقضاء الحاجة أو الواقف في محلّ قضائها أن يذكر الله تعالى بلسانه، فلا يسبح ولا يردّ السلام ولا يشمّت العاطس ولا يقول مثل ما يقول المؤذّن، ويكون ذكره لله تعالى في هذا الموقف بقلبه وفي نفسه من غير تحريك لسانه.(21/1)
أما الدعاء الوارد عقب الوضوء مثل ما جاء متفقًا عليه: "أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله" وما يضاف إليه مما رواه الترمذيّ: "اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين" وما يُضمّ إليه مما رواه النسائيّ: "سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك" فيمكن للمتوضئ أن يقوله مستقبِلًا للقبلة بعد خروجه من هذا المكان. بقي تنبيه خاصّ، وهو أن يَحذَر الإنسان عن أن يصيبه شيء من رشَاش الماء أثناء وضوئه. والله وليّ التوفيق(21/2)
طهارة العائدين من الجنازة
هل صحيح أن الإنسان إذا رجع من دفن الميت عليه أن يغتسل وإلا مات أحد أفراد بيته؟
من الأغسال المسنونة أن يغتسل الإنسان الذي غسّل ميتًا وأن يتوضأ من حمل الجنازة سواء كان الميت مسلمًا أم لا، وسواء كان الغاسل طاهرًا أم لا؛ لأن هذا الغسل أو الوضوء للنظافة ولمعنًى تعبديّ آخر وليس لرفع حدث أو غيره. وقد استُدل على ذلك بما رواه أبو هريرة رضي الله عنه وأخرجه الترمذيّ وحسّنه أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "من غسَّل ميتًا فليغتسل ومن حمله فليتوضأ". وهذا الأمر للندب بقرينة حديث ابن عمر: كنا نغسِّل الميت فمنَّا من يغتسل ومنَّا من لا يغتسل" ولأن المسلم لا ينجُس حيًّا ولا ميتًا، وقد يُستعاض عن الغسل أو الوضوء بغسل اليدين لأنهما المباشرتان لبدن الميت، وقد ورد بذلك أثر يقول: "فحسبُكم أن تَغسلوا أيديَكم".
هذا، وأما القول بأن الإنسان إذا لم يغتسل من دفن الميت فإن أحد أفراد بيته يموت، هذا القول تشاؤم لا يُقرّه الإسلام، والآجال كلها بيد الله لا تقدِّم ولا تؤخِّر، قال الله تعالى: (وما كان لنفسٍ أن تموتَ إلا بإذنِ الله كتابًا مؤجَّلًا) (آل عمران: 145) وعلى المسلم أن يصحح اعتقاده في الله ـ عز وجل ـ ويعلم أن ما أصابه لم يكن لِيُخطئَه وما أخطأه لم يكن لِيُصيبَه، قال سبحانه: (ما أصاب من مصيبةٍ في الأرض ولا في أنفسِكم إلا في كتابٍ من قبلِ أن نَبْرَأها إن ذلك على الله يسيرٌ) (الحديد: 22) هذا وبالله التوفيق.(22/1)
الخشوع في الصلاة
كيف يتخلص الإنسان من الشواغل حتى يؤديَ الصلاة في خشوع؟
شأن المسلم إذا أراد الصلاة أن يستحضر عظمة الله جل شأنه ويذهب إلى مُصَلَّاه بوقار وسكينة من غير تسرّع في المشي أو استعجال في النفس، وفي الحديث الصحيح أن أبا هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تَسعَون، وائتُوها وأنتم تَمشُون وعليكم بالسكينة، فما أدركتم فصَلُّوا وما فاتكم فأتِمُّوا".
من الأدب الإسلاميّ أن يؤذَّن للصلاة وأن يقام، سواء كنا نصلّي فرَادَى أو في جماعة، فإن الشيطان يدبر عند سماعهما وقد أخبرنا بذلك الصادق المصدوق سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم. كذلك علمنا الإسلام أن نتهيأ للفريضة بأداء السنة قبلها حتى تسكن النفس وتطمئن. ونهانا الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الصلاة بحضرة الطعام لما فيه من اشتغال القلب به وذهاب كمال الخشوع، فقال كما في صحيح مسلم: "إذا قُرّب العشاء وحضرت الصلاة فابدأوا به قبل أن تصلوا صلاة المغرب ولا تعجلوا عن عشائكم". كذلك نهانا المصطفى عن الصلاة مع مدافعة البول والغائط، فقالت عائشة سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "لا صلاة بحضرة الطعام ولا وهو يدافعه الأخبثان".
وإذا دخل المسلم في الصلاة استفتح قبل القراءة ودعا بالدعاء الوارد: "اللهم باعد بيني وبين خطايايَ كما باعدتَ بين المشرق والمغرب، اللهم نقِّني من خطايايَ كما ينقَّى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطايايَ بالثلج والماء والبَرَد" ثم يتأمل ما يقرأ من القرآن، ويركع ويسجد بطمأنينة وخشية، ويعبد الله كأنه يراه، وبذلك يؤدي الصلاة كاملة غير منقوصة. والله وليّ التوفيق.(23/1)
الالتفات في الصلاة
هل الالتفات في الصلاة يبطلها؟
شأن المسلم أن يخشع في صلاته وتطمئن جوارحه ويستحضر عظمة الله الكبير المتعال، قال الله تعالى: (قد أفلح المؤمنون. الذين هم في صلاتهم خاشعون) (المؤمنون: 1 ـ 2) والالتفات في الصلاة يتنافى مع الخشوع المطلوب فيها، وهو من المكروهات التي تفوِّت على المصلِّي جانبًا من ثواب الله عز وجل. وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاريّ عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الالتفات في الصلاة فقال: "هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد". وفي حديث أخرجه أحمد وابن ماجه من حديث أبي ذر رضي الله عنه: "لا يزال الله مُقبِلًا على العبد في صلاته ما لم يلتفت فإذا صرَف وَجهَه انصرَف".
وقد يكون الالتفات مُبطِلًا للصلاة إذا استدبَرَ المصلِّي القبلة بصدره أو انحرف عنها انحرافًا كبيرًا. وقد يُتجاوز عن الالتفات إذا كان لحاجة ضرورية لإنقاذ طفل صغير أو ما شاكل ذلك.
ومما يتنافى مع الخشوع في الصلاة رفعُ البصر إلى السماء، ففي صحيح الحديث أن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم" فاشتد قوله في ذلك حتى قال: "لَيَنتَهُنَّ عن ذلك أو لَتُخطَفَنَّ أبصارُهم". وكان صحابة رسول الله يستحبون ألَّا يجاوزَ بصرُ أحدهم موضعَ سجوده.(24/1)
الشك في الصلاة
هل شرود الذهن أثناء الصلاة يبطلها؟ وماذا أفعل عندما أشك في ركن من أركان الصلاة؟
أمر الله تعالى بالخشوع في الصلاة وخضوع القلب له جل شأنه فقال: (وقوموا لله قانتين) (البقرة: 238) وقال: (قد أفلح المؤمنون. الذين هم في صلاتهم خاشعون) (المؤمنون: 1 ـ 2) وحرص الإسلام على كل ما يوفِّر للمصلِّي اتصال القلب بالله، فأمر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالذهاب إلى الصلاة في سكينة ووقار، ونهى عن الصلاة في حضرة الطعام أو مدافعة الأخبَثَين، ونهى عن رفع البصر إلى السماء والالتفات وغير ذلك حتى تسكن الجوارح ويخشع القلب ويصفو العقل للمناجاة والتدبر.
فعلى المصلِّي أن يجاهد نفسه لكي يؤديَ الصلاة على الوجه المشروع الأكمل، وليس له من ثواب صلاته إلا ما عقَل منها.
وشرود الذهن أثناء الصلاة يتنافى مع الخشوع المطلوب للصلاة ولكنه لا يبطل الصلاة ما لم يأتِ بأمر يُبطلها.
وعندما يشك المصلِّي في ركن من أركان الصلاة فلا بد من الإتيان به، وما بعد الشك لغوٌ في ركعته، بمعنى أنه لو شك وهو ساجد أنه ترك الركوع فعليه أن يأتيَ بالركوع ثم السجود ويواليَ صلاته. ولو شك وهو في آخر صلاته أنه ترك ركوع الركعة الأولى أتى بركعة جديدة ثم الركعة التي ترك فيها الركن.
في كِلَا الحالَين يسجد ندبًا للسهو سجدتَين، ومحلّه بعد التشهد الأخير وقبل السلام عند جمهور العلماء.(25/1)
وقد سَهَا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في صلاته تعليمًا لأمته، وتعددت الأحاديث والمواقف، منها ما رواه ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ وخرَّجه الشيخان، قال: صلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إحدى إحدى الرباعيات خمسًا، فلما سلم قيل: يا رسول الله، أحدَثَ في الصلاة شيء؟ قال: "وما ذاك؟" قالوا: صليتَ كذا وكذا. فثنَى رجلَيه واستقبَل القبلة فسجَد سجدتَين ثم سلَّم ثم أقبَل على الناس بوجهه فقال: "إنه لو حدَث في الصلاة شيء أنبأتكم به، ولكن إنما أنا بشر مثلكم أنسَى كما تَنسَون، فإذا نسيتُ فذكِّروني، وإذا شك أحدكم في صلاته فليَتحَرَّ الصواب فليُتمَّ عليه ثم ليسجد سجدتين".(25/2)
نشأة المساجد
في قصة أهل الكهف نقرأ قول الله تعالى: (قال الذين غلَبوا على أمرِهم لَنَتَّخِذَنَّ عليهم مسجدًا) (الكهف: 21) فهل كانت هناك مساجد قبل الرسول صلى الله عليه وسلم؟
الصلاة نداء الله الخالد في كل الرسالات الإلهية، ولقد بنى إبراهيم ـ عليه السلام ـ الكعبة للطائفين والعاكفين والركع السجود، وقد أطلق القرآن المجيد لفظ المسجد على الكعبة وبيت المقدس فقال: (سبحان الذي أسرَى بعبده ليلًا من المسجدِ الحرامِ إلى المسجدِ الأقصَى الذي بارَكْنَا حوله) (الإسراء: 1)
والمسجد هو مكان السجود، وطالما كان هناك صلاة وسجود فهناك مسجد، فهو البقعة الطاهرة التي تُتَّخذ مكانًا للصلاة، وعلى هذا فكلمة المسجد تعُمّ سائر أماكن العبادة في كل رسالات الله إلى البشر.
لكن الكلمة قد تُنقل إلى معنًى خاصّ، فأصبحت كلمة المسجد الآن مخصوصة بالمسلمين، فأماكن عبادة المسلمين هي التي تسمّى المساجد، وأُطلقَت ألفاظ أخرى لغير المسلمين كالصوامع والبِيَع والكنائس وغير ذلك، قال تعالى: (ولولا دفعُ اللهِ الناسَ بعضَهم ببعضٍ لَهُدِّمَت صَوَامعُ وبِيَعٌ وصلواتٌ ومساجدُ يُذكَرُ فيها اسمُ اللهِ كثيرًا) (الحج: 40).
ومقالة الناس في قصة أهل الكهف (لَنَتَّخِذَنَّ عليهم مسجدًا) محلّ نظر وبحث:
أولاً: مَن القائل؟ هل هم المؤمنون أو المشركون؟
ثانيًا: هل هم محمودون في مقالتهم هذه أو لا؟
والذي عليه أهل العلم أن اتخاذ المساجد على القبور حرام ولا يجوز، وقد نهى النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ذلك أشد النهي ولعَن أصحابَ الأديان الذين يعبدون مَن في القبور وقال: "اشتدَّ غضبُ الله على قوم اتَّخَذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجدَ" وقال: "إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بَنَوا على قبره مسجدًا وصوَّروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله تعالى يوم القيامة".(26/1)
رئاسة المرأة للحكومة
س: عندما تتولى امرأة رئاسة الحكومة في دولة إسلامية، هل تصح إقامة صلاة الجمعة والأعياد في هذه الدولة؟
جـ هذا السؤال له شقان، الأول يتعلق برئاسة الدولة الإسلامية: هل تجوز للمرأة؟ والثاني يتعلق بإقامة صلاة الجمعة في بلد لا حاكم له أو له حاكم امرأة.
وتقول وبالله التوفيق: إن الإمامة الكبرى وهي رئاسة الدولة لا تكون إلا للرجال؛ لأنها نيابة عن صاحب الشريعة في حفظ الدين وسياسة الدنيا، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أفلَح قوم أسنَدوا أمرَهم إلى امرأة". وبالقياس على إمامة الصلاة في الجماعة والجمعة فلا تجوز باتفاق العلماء للنساء، كما أن المرأة تتحمل رسالة التبليغ عن الله تعالى، قال عز وجل: (وما أرسلنا قبلَكَ إلا رجالًا نوحي إليهم) (الأنبياء: آية 7) وقد جعل الله قيادة الأسرة للرجل فكيف تكون قيادة الأمة للنساء؟ قال الله تعالى: (الرجالُ قوَّامون على النساءِ بما فضَّل اللهُ بعضَهم على بعض وبما أنفَقوا من أموالهم) (النساء: 34).
ثم إن الإمامة تقتضي مباشرةَ أمور يضعُف عنها النساء كقيادة الجيش وتدبير أمور الجهاد، وقد تَستدعي مواقفَ تُحظر على النساء كالخَلوة مع الأجنبيّ والسفر الطويل في صحبة الرجال وغير ذلك.
وبالنسبة للقضاء فقد اختلف الفقهاء في اشتراط الذكورة، فقال الجمهور: هي شرط في صحة الحكم. أو قال أبو حنيفة: يجوز أن تكون المرأة قاضيًا في الأموال. وقال الطبريّ: يجوز أن تكون المرأة قاضيًا على الإطلاق في كل شيء.
ويأتي هذا الخلاف في مسألة الوزارة، لكن رأي الجمهور هو المعتمَد الذي تسانده نصوص الشرع ويؤيده الواقع.
ولا يَقدح هذا في كرامة المرأة التي أكّدها الدين وأعلَى قدرها، وإنما المسألة راجعة إلى مراعاة طبائع الأشياء ومصالح العباد، وليس كل رجل مؤهَّلًا للإمامة والقضاء، بل لا بد من شروط خاصة هي العلم والعدالة والكفاءة وسلامة الحواسّ والأعضاء.. الخ.(27/1)
أما موضوع صلاة الجمعة فالشروط العامة لصلاة الأوقات الخمسة هي شروط في صلاة الجمعة، لكن الجمعة تَختص بشروط أخرى هي محلّ خلاف بين الفقهاء، مثل الإمام العامّ، أي الحاكم، والمسجد الجامع والمِصْر، أي المدينة الكبيرة، والعدد الذي يؤدي الصلاة.
فيرى فريق من العلماء أن وجوب الجمعة مرتبط بوجود حاكم يقيم الحدود، ولا بد أن تؤدَّى في مسجد جامع وسط مدينة كبيرة.
ولم يشترط فريق آخر هذه الشروط، فأبو حنيفة اشترط الإمام والمِصْرَ ولم يشترط العدد. واشترط مالك المسجد الجامع وترَك اشتراط المدينة والسلطان. واشترط الشافعيّ المسجد الجامع والعدد أربعين رجلًا. وذهب الإباضية إلى القول بالإمام أو نائبه والمسجد الجامع والمصر.
لكن يبقى تساؤل: هل هذا الخلاف في الوجوب أو الصحة؟
بمعنى أن صلاة الجمعة قد لا تجب ولكنها تصح، فالمسافر أو المرأة مثلًا لا يجب عليهما صلاة الجمعة لكن تصح منهما. فهل الإمام بمعنى الحاكم العامّ شرط لصحة صلاة الجمعة؟
جمهور العلماء على أن الحاكم العامّ ليس شرطًا لصحة الجمعة، فتصح صلاة الجمعة مع وجود الحاكم العادل والجائر، وتصح الجمعة بدون وجود حاكم مطلقًا طالما التقى الناس في جماعة وأمَّهم مسلم تصح منه الصلاة فخطبَهم وصلَّى بهم.
وبالتالي فعندما تتولى امرأة رئاسة الحكومة في دولة إسلامية يجب أن تظل الجمعة قائمة والمناسبات الدينية واضحة المعالم حتى لا نفرط في ديننا، وحتى لا تضيع معالم التوجيه الإسلاميّ الذي يصحح للناس كل أسبوع مسيرة حياتهم.
ولنعلَمْ أن دوام الحال من المُحَال، وسُنّة الله جارية بالتغيير، وما على المؤمنين الصادقين إلا توحيد الكلمة وجمع الصف ومواصلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى يقضيَ الله أمرًا كان مفعولًا، قال الله تعالى: (إن اللهَ لا يغيِّرُ ما بقومٍ حتى يغيِّروا ما بأنفسِهم) (الرعد: 11).(27/2)
الصلاة أثناء العمل المتواصل
ظروف عملي تجعلني أقضي اليوم كله خارج البيت وتضيع عليَّ الصلاة فأشار عليَّ بعض الناس إن أؤديَ الصلاة قبل خروجي إلى العمل ركعتين ركعتين، أما الآن فأصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء قصرًا في البيت قبل الذهاب إلى العمل، فما رأيُ الدين في ذلك؟
شرع الله تعالى الصلاة على المؤمنين كتابًا موقوتًا وجعل لكل وقت بدءًا ونهايةً، ولتوزيعها على اليوم والليلة حِكَمٌ جليلة، فهي تربط المسلم بربه وتجعله دائم اليقظة فلا يتعدى حدود الله، قال سبحانه: (اتلُ ما أُوحيَ إليك من الكتابِ وأقِمِ الصلاةَ إن الصلاةَ تَنهَى عن الفحشاءِ والمُنكَرِ ولَذِكرُ اللهِ أكبرُ واللهُ يَعلمُ ما تَصنعون) (العنكبوت: 45) فشأن العبادات أنها توقيفية تُتلقَّى من الوحي المعصوم، وليس لنا أن نقدم فيها أو نؤخر، ولم يَرِدْ في شرع الله قصرٌ للصلاة أو جمع إلا في السفر بشروط خاصة وبكيفيات معينة، بحيث يصلَّى الظهر والعصر معًا أو المغرب والعشاء معًا تقديمًا أو تأخيرًا، وليس هناك صورة مشروعة جُمع فيها بين العصر والمغرب مثلًا. كما أن قصر الصلاة بمعنى أدائها ركعتين إنما هو للصلاة الرباعية فقط، وهي الظهر والعصر والعشاء، أما صلاة المغرب فتؤدَّى سفرًا وحضرًا ثلاث ركعات.
وعلى هذا فإن ما تفعله الأخت السائلة ليس له أصل مشروع في الدين بل هو باطل، وأدؤاها للصلاة في غير مواقيتها ليس جائزًا شرعًا، والواجب عليها قضاء كل الصلوات التي أدَّتها بالطريقة التي أشارت إليها لأنها باطلة لم يُعتَدّ بها، وعليها بعد ذلك أن تحافظ على الصلاة في مواقيتها المحددة شرعًا سواء كانت في البيت أو في مكان العمل. وما دامت المرأة المسلمة ملتزمة بزيِّها الإسلاميِّ في حدود الأدب العفيف فيمكنها أداء الصلاة حيث أدركتها في أيّ مكان، ولتحرص على طاعة الله ومرضاته. والله وليّ التوفيق(28/1)
الصلاة قبل رحلة الإسراء
نعرف أن الصلاة فرضها الله علينا أثناء رحلة الإسراء والمعراج لسيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهل كان المسلمون يصلُّون قبل هذه الرحلة؟ وما شكل هذه الصلاة؟ وما عدد ركعاتها؟
فرض الله الصلاة في شريعة كل نبيّ، ويكفي أن نعلم أن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام رفَعَا قواعد البيت الحرام بمكة ليكون مسجدًا للصلاة، قال تعالى: (وعَهِدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طَهِّرَا بيتيَ للطائفين والعاكفين والرُّكَّع السجود) وتضرَّع إبراهيم إلى ربه جل جلاله أن يوفق ذريته لأداء الصلاة فقال: (ربِّ اجعلني مُقيمَ الصلاةِ ومِن ذريتي).
وكانت الصلاة فريضة في شريعة موسى ـ عليه السلام ـ قال تعالى: (وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تَبَوَّآ لقومكما بمصرَ بيوتًا واجعَلوا بيوتَكم قبلةً وأقيموا الصلاةَ وبشِّر المؤمنين).
وهكذا فريضة الصيام والزكاة والحج شُرعت على لسان الأنبياء، إلا أن كيفيات هذه الصلاة وتلك العبادات تختلف من شريعة لأخرى، كما قال تعالى: (لكلٍّ جعلنا منكم شِرْعةً ومنهاجًا).(29/1)
وكان سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بدء الدعوة الإسلامية يصلّي منفردًا ويصلي بأهله ويصلي بالمسلمين. وذكر العلماء أن الصلاة قبل الإسراء كانت صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، استئناسًا بقوله تعالى: (وسبِّح بحمد ربك بالعَشِيِّ والإبكار) وقوله جل شأنه: (..وسبِّح بحمد ربِّك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب. ومن الليل فسبِّحه وأدبارَ السجود) ثم كان قيام الليل واجبًا على النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعلى أمته حولًا كاملًا ثم نُسخ وجوبه في حق الأمة وبَقيَ واجبًا في حق الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما يشير إلى ذلك صدر سورة المزمِّل (يا أيها المزمِّل. قم الليل إلا قليلًا) وخاتمتها (فاقرأوا ما تيسَّر من القرآن) وعندما فُرضت الصلاة ليلة الإسراء والمعراج قبيل الهجرة وكانت خمس صلوات، بدأت مرحلة جديدة من التشريع نسَخَت المراحل السابقة كلها، ثم لَحِقَها تخفيف في حال السفر، وهو القصر، بأن تؤدَّى الصلاة الرباعية مَثنَى، ففي الصحيح عن عائشة قالت: فُرِضَت الصلاة ركعتين ركعتين في الحضر والسفر، فأُقِرَّت صلاة السفر وزِيدَ في صلاة الحضر.(29/2)
الصلاة خلف المذياع
نظرًا لفقد بصري وكبَر سنّي وعدم مقدرتي على الذهاب إلى المسجد أؤدّي الصلاة جماعة خلف المذياع، فهل هذه الصلاة صحيحة؟
قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما في صحيح البخاريّ: "صلاة الرجل في الجماعة تضاعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسة وعشرين ضعفًا؛ وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يُخرجه إلا الصلاة، لم يَخْطُ خطوة إلا رُفعَت له بها درجة وحُطَّ عنه بها خطيئة، وإذا صلَّى لم تزل الملائكة تصلِّي عليه تدعو له ما دام في مُصَلَّاه: اللهم صلِّ عليه اللهم ارحمه. ولا يزال أحدكم في الصلاة ما انتظر الصلاة". وعلى هذا نقول للمستمعة الكريمة: إن حالتكِ هذه من الأعذار المبيحة للصلاة في البيت، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، ويمكنها أن تحظى بصلاة الجماعة إذا صلت في البيت مع أيّ رجل يقيم معها أو أية امرأة تلازمها. أما الصلاة خلف المذياع فهي غير صحيحة؛ لأن من شروط الجماعةِ اجتماعَ الإمام والمأموم في مكان واحد، وعَدَمَ تقدم المأموم على الإمام، وإمكانَ الوصول إلى الإمام، وهي كلها منتفية في الصلاة خلف المذياع فلا تصح الصلاة، وعليها إعادة الأوقات التي صلتها خلف المذياع، فإن كانت كثيرة لا تعلم عددها بالتحديد فلتُصلِّ حتى يغلب على ظنها أنها قد وفَّت ما عليها. والله وليّ التوفيق.(30/1)
إمامة الشاب غير المتزوج
هل تجوز شرعًا خِطبة الجمعة وإمامة الصلاة من الشاب غير المتزوِّج؟
هناك حديث شريف يبين فيه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأحق بالإمامة، فيقول: "يؤمُّ القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواءً فأعلمُهم بالسُّنَّة، فإن كانوا في السُّنَّة سواءً فأقدمُهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواءً فأقدمُهم سلمًا" وفي رواية "فأقدُمهم سِنًّا".
من هنا يتبين أن المدار على قراءة القرآن وفقه أحكام الشريعة، فمن حازهما فهو المقدَّم ولو صغيرًا، وقد جاء في حديث عمرو بن سلمة أنه كان يؤمُّ قومه وهو صبيٌّ.
ويضاف إلى حسن القراءة وفقه الأحكام عدالةُ الإمام، بمعنى ألَّا يقترف كبيرة ولا يُصِرَّ على صغيرة، فمتى ثبتت العدالة لشخص سواء كان شابًّا أو كهلًا، وسواء كان متزوجًا أو غير متزوج، فهو أهل للإمامة، فالزواج في حد ذاته ليس من مرجِّحات الإمامة، اللهم إلا عند التساوي في كل شيء فيقدَّم المتزوج على غير المتزوج.
ولا ننسى أن الشاب الذي اعتاد الخطابة ويؤمُّ الناس في المساجد هو شاب نشأ في عبادة ربه، وهو من السبعة الذين يُظلُّهم الله في ظلِّ عرشه يوم القيامة. والله ولي التوفيق(31/1)
تحية المسجد
الصلاة بين العصر والمغرب إذا كانت تحيةً للمسجد هل هي مكروهة أم محرّمة؟ وما حكم الدين فيمن يصلّيها؟
الصلاة المفروضة لها ميقات معين يجب على المسلم أن يلتزم به، امتثالًا لقوله تعالى: (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا) وهناك سنن تابعة للفرائض تؤدَّى قبلها أو بعدها، ومتى التزمنا بالميقات الشرعيّ صحّت منّا الصلاة فريضة ونافلة، ولا خلاف في ذلك.
وهناك أوقات ورد نهيٌ عن الصلاة فيها، فقد أخرج مسلم أن عقبة بن عامر الجُهَنيّ قال: ثلاث ساعات كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ينهانا أن نصليَ فيها وأن نَقبُرَ فيها موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين تقوم قائمة الظهيرة حتى تميل، وحين تَضيَّفُ الشمس للغروب حتى تغرب. وأخرج البخاريّ ومسلم عن أبي هريرة قال: إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وعن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس.
واختلف العلماء في الصلاة المنهيّ عنها في هذه الأوقات، فذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنها لا تجوز في هذه الأوقات صلاة بإطلاق، لا فريضة ولا نافلة، إلا عصرَ يومه.
وذهب الشافعيّ إلى أن الصلاة المنهيّ عنها هي صلاة النوافل التي لا سبب لها، وهي النفل المطلَق، فتُكرَهُ في هذه الأوقات، أما الفرائض أداءً وقضاءً والنوافل المرتبطة بسبب فإنها تؤدَّى في جميع الأوقات بلا حرج، فتحية المسجد وسنة الوضوء وصلاة الجنازة كلها صلاة لها سبب متقدم أو مقارِن فتجوز في كل وقت. والله أعلم.(32/1)
النافلة قبل المغرب
ما حكم صلاة ركعتين قبل فريضة المغرب؟
من العلماء من يرى عدم أداء ركعتين قبل صلاة المغرب؛ لأن وقت المغرب قصير وأداؤها يؤدي إلى تأخير صلاة المغرب عن أول الوقت.
لكن المختار هو استحباب أدائها في زمن يسير لا تتأخر به الصلاة، لثبوت ذلك في الأحاديث الصحيحة وفعل كبار الصحابة لها، ففي الصحيح عن أنس بن مالك قال: كنّا بالمدينة إذا أذّن المؤذّن لصلاة المغرب ابتَدَروا السواريَ، فيركعون ركعتين ركعتين، حتى إن الرجل الغريب ليدخلُ المسجد فيحسب أن الصلاة قد صُلِّيَت من كثرة من يصلِّيهما. وفي حديث آخر عن عبد الله المُزَنيّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بين كل أذانَين صلاة" قالها ثلاثًا، وقال في الثالثة: "لمن شاء".(33/1)
الصلاة من أجل الموتى
أصلي ركعتين عقب كل فريضة وأَهَبُ ثوابهما لوالدَيَّ اللَّذَين تُوُفِّيَا، فهل هذا العمل مقبول شرعًا؟
العبادات أمور توفيقية، بمعنى أنها تتوقف على ما ثبت عن صاحب الشريعة، وقد جاءت النصوص بجواز الحج عن الميت والصيام عنه، ففي الحديث الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة أتت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت: إن أمي ماتت وعليها صوم شهر! فقال: "أرأيتِ لو كان عليها دَينٌ أكنتِ تَقضِينَه؟ قالت: نعم. قال: "فدَينُ الله أحق بالقضاء". وفي حجة الوداع جاءت امرأة تَستفتي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت: إن فريضة الله على عباده في الحج أدرَكَت أبي شيخًا كبيرًا لا يستطيع أن يَثبُت على الراحلة، أفأحُجُّ عنه؟ قال: "نعم".
ولم يَرِدْ نص صحيح في جواز الصلاة عن الميت لا فرضًا ولا نفلًا، لكنّ الدعاء للميت والصدقة عنه يُغنيان عن ذلك، وفي الحديث الصحيح أن رجلًا قال: يا رسول الله إن أمي افتُلِتَت نفسُها أي ماتت فجأة ولم تُوصِ، وأظنها لو تكلَّمَت تصدَّقَت، أفَلَهَا أجر إن تصدقتُ عنها؟ قال: "نعم".
وعلى العموم فإن البر بالوالدَين ليس وقفًا على حياتهما فحسب بل يمتد أثره إلى ما بعد رحيلهما عن هذه الدنيا، وفي حديث رواه أحمد وأبو داود أن رجلًا من الأنصار قال: يا رسول الله، هل بَقيَ عليَّ مِن بِرِّ أبوَيَّ شيء بعد موتهما أبَرُّهما به؟ قال: "نعم، خصال أربع: الصلاة عليهما والاستغفار لهما ومعنى الصلاة هنا الدعاء وإنفاذ عهدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا رحم إلا مِن قِبَلِهما، فهو الذي بَقيَ عليك من بِرِّهما بعد موتهما".
فعلى الأخ السائل أن يترك صلاة الركعتين ويكتفيَ بما أشار إليه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الدعاء والاستغفار لهما والصدقة عليهما والحج أو العمرة عنهما إن استطاع وصلة ذَوِي رحمه.(34/1)
إسقاط الصلاة عن الموتى
أوصتني أختي قبل وفاتها بعمل إسقاط للصلاة التي فاتتها في حياتها، وأنا الآن حائر: كيف أُسقط عنها الصلاة؟
اتفقت كلمة العلماء على أمور تتعلق بالميت منها:
1 ـ ديون الميت التي عليها تخرج من تركته قبل توزيعها، قال تعالى: (من بعد وصية يوصِي بها أو دَين) ويلحق بذلك من مات وعليه زكاة وجب إخراجها من التركة قبل التوزيع، فإن الالتزامات المالية لمن مات لا تسقط عنه، وقد ثبت أن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "روح المؤمن مرهونة بدَينه حتى يُقضَى عنه".
2 ـ من مات وعليه صيام أو حجّ جاز الصيام عنه والحجّ، وقد وردت الأحاديث الصحيحة في ذلك، فقد قدمت امرأة إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت: إني تصدقت على أمي بجارية أي أهديتها لها وإنها ماتت! فقال عليه الصلاة والسلام: "وجب أجرُكِ، ورَدَّها عليكِ الميراث" قالت: يا رسول الله، إنه كان عليها صوم شهر، أفاصوم عنها؟ قال: "صومي عنها" قالت: إنها لم تحج قط، أفأحج عنها؟ قال: "حُجي عنها". وفي رواية أن رجلًا سأل مثل ذلك فقال له عليه الصلاة والسلام: "لو كان على أمكَ دَين أكنتَ قاضِيَهُ عنها؟" قال: نعم. قال: "فدَين الله أحق أن يُقضَى".
3 ـ المدار في العبادات على التوقيف والثبوت عن صاحب الشريعة، ولم يَرِدْ نص صريح في جواز الصلاة عمن مات، فمن مات وعليه صلاة فأمره مفوَّض إلى الله، وليس هناك شيء خاص يُسقط عنه الصلاة، وكل ما هنالك الأمر العامّ بالدعاء والاستغفار له والتصدق عليه.
وعلى هذا فالسائل الكريم يَعتبر وصيتَها له بإسقاط الصلاة وصيةً بالتصدق عليها، فليتصدق عليها وليستغفرْ لها عسى اللهُ أن يرحمها. والله أعلم(35/1)
دَوْر الزكاة في الاقتصاد الإسلامي:
الزكاة فريضة إسلامية وركن من أركان الدين، قال تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصلِّ عليهم إن صلاتك سكَن لهم والله سميع عليم. ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم) (سورة التوبة الآية 103 ـ 104).
والأموال تشمل:
1 ـ الأنعام: وهي الإبل والبقر والغنم.
2 ـ الذهب والفضة.
3 ـ الزروع والثِّمار.
4 ـ عروض التجارة.
ولكل منهما شروط وجوب تعمها هي:
الإسلام والحرية والنِّصاب.
وأول نصاب الإبل خمس، وفيه شاة.
وأول نصاب البقرة ثلاثون، ويجب فيه تَبِيع وهو ابن سنة، سمِّي بذلك لأنه يتبع أمه في الرعي.
وأول نصاب الغنم أربعون، وفيها شاة: جذعة من الضأن لها سنة أو ثنية من المعز لها سنتان.
ونصاب الذهب عشرون مثقالاً (المثقال يساوي الآن 2/7 4 جرام) وفيها ربع العشر.
ونصاب الفضة مائتا درهم (الدرهم يساوي الآن 3 جرامات). وفيها ربع العشر.
ونِصاب الزروع والثمار خمسة أوسق وفيها العُشر إن سُقِيَت بلا تكلفة أو نصف العشر إن سقيت بتكلفة ومئونة.
وتقوم عروض التجارة بالذهب والفضة وتأخذ حكمها في النصاب ومقدار الزكاة. وتختص الأنعام بشرط آخر وهو السَّوْم بأن تكون سائمةً لا يتكلف صاحبها مُؤْنة رعيها بل ترعى في حشائش الأرض والكلأ المباح. ويشترط الحول في هذه الأموال جميعًا ما عدا الزروع والثمار فزكاتها يوم حصادها. وعلى تفصيل في الذهب والفضة.
وللفقهاء رأيان في مفهوم الزروع والثمار:
1 ـ ما يُقتات ويُدَّخر وثمرات النخيل والأعناب.
2 ـ كل ما أنبتت الأرض.
ويشمل الذهب والفضة وما كان مضروبًا وغير مضروب، وما كان معدِنًا مستخرَجًا وما كان رِكازًا.
فالذهب والفضة المضروبان وهما الدنانير والدراهم وغير المضروبين فيهما ربع العشر متى بلغا نصابًا وحالَ عليهما الحول.(36/1)
والمَعدِن منهما المستخرَج من أرض مباحة أو مملوكة له فيه ربع العشر في الحال متى بلغ نصابًا ولا يُشتَرط مُضِي الحول، وهو يشبه الزروع والثمار في ذلك لأن الحول إنما يُعتَبر لأجل تكامل النماء، والمستخرج من المعدن أو النبات نماء في نفسه.
والركاز من الذهب والفضة هو دَفِين الجاهلية وفيه الخمس متى بلغ نصابًا.
والدولة الإسلامية مكلَّفة بجمع الزكاة، وقد تكفل بذلك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والخلفاء الراشدون من بعده، وقاتَل عليها الصدِّيق أبو بكر ـ رضي الله عنه.
وتلتزم الدولة بوضع أموال الزكاة في مصارفها الشرعية التي حددتها الآية الكريمة: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلَّفة قلوبُهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضةً من الله والله عليم حكيم) (التوبة: الآية 60).
ولا يجوز شرعًا ضم أموال الزكاة للميزانية العامة للدولة دون مراعاة لتلك المصارف الشرعية بل لا بد أن تخصص موردًا ومصرفًا.
وأموال الزكاة في حقيقتها تستوعب مرافق عدة في جوانب الدولة وتشمل أبوابًا عديدة في ميزانية الحكومة تغطي ما نسميه الآن الشئون الاجتماعية والتعليم والصحة والدفاع والأمن.
والأصناف الثمانية هم:
الفقراء:
وهم الذين لا مالَ لهم ولا كسب يليق بهم، وهم أحوج من غيرهم على المشهور عند أهل العلم ولذا ذكرتهم الآية أولاً.
ويرى أبو حنيفة أن المسكين أسوأ حالاً من الفقير.
المساكين:
وهم الذين يملكون أموالاً غير كافِيَة لحوائجهم، ونقل ابن كثير في تفسيره أن عكرمة قال: "لا تقولوا لفقراء المسلمين مساكين، إنما المساكين أهل الكتاب" (تفسير القرآن العظيم جـ2 ص 364).
وجمهور العلماء على أن الزكاة تُؤخَذ من أغنياء المسلمين وتُرَدُّ على فقرائهم ولا تُعطَى لكافر إلا بوصف آخر كالمؤلَّفة قلوبهم، ويمكن إعطاؤه من الصدقات الأخرى.
العاملون عليها:(36/2)
وهم الذين يجمعون الزكاة من أصحابها ويوزعونها على مستَحِقِّيها بأمر الإمام، فيُعْطَوْن ولو كانوا أغنياء.
المؤلفة قلوبهم:
وهم الذين تتألَّفهم الدولة وتستمليهم ترغيبًا في الإسلام أو مَعُونة للمسلمين. و هم على قسمين: مسلم وكافر.
فالمسلم المؤلَّف هو مَن أسلم ونيتَه ضعيفة فيُعطَى ليقوَى إيمانُه أو مَن أسلم ونيته قوية في الإسلام، ولكن له شرَف في قومه يُتَوَقَّع بعطائه إسلام غيره.
والكافر المؤلَّف هو من يتعاون مع المسلمين، ويكف عنهم شر قومه الكافرين، ويكون إعطاؤه أهون علينا من جيش نبعثه إليهم.
وجاءت مواقف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قدوة لنا في ذلك، قال صفوان بن أمية: أعطاني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم حنين وإنه لأبغض الناس إليَّ فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليَّ".
وأعطى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ جماعة من صناديد قريش الطُّلَقاء يوم حنين مائة من الإبل، مما جعل الأنصار يتهامسون فقال ـ عليه الصلاة والسلام: "إني لأعطي الرجل وغيرُه أحبُّ إليَّ منه خشيةَ أن يكبَّه الله على وجهه في نار جهنم".
وهل تُعطى المؤلَّفة قلوبهم بعد النبي ـ صلى الله عليه وسلم؟
قال ابن كثير:
فيه خلاف فرُوي عن عمر وعامر والشعبي وجماعة أنهم لا يُعطَوْن بعده لأن الله قد أعز الإسلام وأهله ومكَّن لهم في البلاد وأذلَّ لهم رقاب العباد.
وقال آخرون: بل يُعطَوْن لأنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ قد أعطاهم بعد فتح مكة وكسر هوازن، وهذا أمر قد يُحتاج إليه فيصرف إليهم" (تفسير القرآن العظيم جـ 2 ص 365).
في الرقاب:
وهم العبيد والرقيق يسعى الإسلام لتحريرهم، وذلك على صورتين:
1 ـ المكاتَبَة وهي أن يتفق العبد مع سيده على تقديم مبلغ من المال إليه نظير عتقه فيُعطَى العبد من الزكاة لسَداد قيمة هذه المكاتبة.
3 ـ رصْد سهم من الزكاة لشراء العبيد وإعتاقهم تحقيقًا لقوله تعالى: (فك رقبة) (سورة البلد: الآية 13).(36/3)
الغارمون: المَدِينون، وهم قسمان:
قسم استدان في مصالح نفسه وأعسر فيأخذ من الزكاة ما بقي بديونه.
وقسم استدان في مصالح المسلمين فيُعطَى من الزكاة قَدْر دَيْنه ولو كان غنيًّا ترغيبًا في مكارم الأخلاق.
وجاء في بعض كتب الفقه ما يلي:
الغارم ثلاثة:
1 ـ مَن تدايَن لنفسه في مُباح، طاعةً كان أو لا، وإن صرفه في معصية. أو في غير مباح كخمر، وتاب وظُنَّ صدقه، أو صرفه في مباح فيُعطى مع الحاجة بأن يحل الدين ولا يقدِر على وفائه، بخلاف ما لو تدايَن لمعصية وصرفه فيها ولم يتُب فلا يُعطَى.
2 ـ أو تدايَن لإصلاح ذات البَيْن أي الحال بين القوم كأن خاف فتنة بين قبيلتين تنازعتا في قتيل لم يظهر قاتلُه فتَحمَّل الدِّيَة تسكينًا للفتنة فيُعطَى ولو غنيًّا ترغيبًا في هذه المكرمة.
3 ـ أو تدايَن لضمان فيُعطَى إن أعسر مع الأصيل، أو أعسر وحدَه وكان متبرعًا بالضمان، بخلاف ما إذا ضمن بالإذن" (الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع للشربيني الخطيب).
هذا، وقد قال قَبِيصة بن مخارق الهلالي: تحملتُ حمالة فأتيتُ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أسأله فيها فقال: أقِم حتى تأتينا الصدقة فنأمرَ لك بها، ثم قال: يا قبيصة، إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة:
ـ رجل تحمل حِمالة فحلَّت له المسألة حتى يُصيبَها ثم يُمسك.
ـ ورجل أصابتْه جائحة اجتاحت ماله فحلَّت له المسألة حتى يصيب قِوامًا من عيش ـ أو قال سِدادًا من عيش.
ـ ورجل أصابتْه فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحِجا من قرابة قومِه فيقولون: لقد أصابت فلانًا فاقة، فحلَّت له المسألة حتى يصيب قِوامًا من عيش ـ أو قال سدادًا من عيش.
فما سواهِنَّ من المسألة سُحت يأكلها صاحبها سُحْتًا.
في سبيل الله:(36/4)
وهم المُجاهِدون الذين يُدافِعُون عن الحِمَى والحرُمات، وقد توسَّع بعض الفقهاء في هذا السهم فجعله يشمل المصالح العامة للدولة كبناء المدارس والمستشفيات والمساجد. وساق ابن كثير أن الإمام أحمد والحسن وإسحق يَرَوْن الحج من سبيل الله (تفسير القرآن العظيم جـ 2 ص 366).
ابن السبيل:
هم المسافرون لا يَجِدون نفقة سفرهم، وفي مذهب الشافعي أن منشئ السفر من بلد الزكاة والمجتاز به في سفره يُعطَى إن احتاج ولا معصية في سفره.
وفي مذهب الحنابلة أن الزكاة تُدفَع إلى المُجتاز دون المنشئ المبتدئ بالسفر.
والقدْر المُعطَى في الزكاة يكون بحيث يقضي على الفاقة والحاجة، وبحيث يخرج كل عام من أصناف المحتاجين أفرادًا يستعفون عن الصدقات.
فليست الزكاة نوعًا استهلاكيًّا لوقت معين أو أيام مخصوصة وإلا فسيتضاعف أعداد المحتاجين العاطلين عامًا بعد عام. وهذا ما يرفضه الإسلام الذي يقرر أن اليد العليا خير من اليد السفلى.
وقد قرأت في بعض كتب الفقه هذه العبارة التي تُوزَن بماء الذهب: ويُعطَى فقير ومسكين كفايةَ عمرٍ غالب، فيشتريَان بما يعطيانه عقارًا يستغلانه. وللإمام أن يشتري له ذلك.
هذا فيمَن لا يُحسن الكسب بحرفة ولا تجارة، أما فيمن يُحسن الكسب بحرفة فيُعطَى ما يشتري به آلاتِها، أو بتجارة فيُعطَى ما يشتري به ما يُحسن التجارة فيه، وما يفي ربحه بكفايته غالبًا.
ويُعطى مُكاتَب وغارِم لغير إصلاح ذات البَيْن ما عجزا عنه من وفاء دَيْنهما.
ويُعطَى ابن السبيل ما يوصله مقصده أو ماله إن كان له في مال في طريقه.
ويُعطَى غازٍ حاجتَه في غزوه ذهابًا وإيابًا وإقامةً له ولعياله، ويملكه فلا يسترد منه، ويهيأ له مركوب إن لم يَطِق المشي أو طال سفره، وما يحمل زاده ومتاعه إن لم يَعتَدْ مثله حملهما كابن السبيل.
والمؤلَّفة يعطيها الإمام أو المالك ما يراه.
والعامل يُعطَي أجرة مِثله.(36/5)
ومَن فيه صفتا استحقاقٍ كفقير وغارم يأخذ بإحداهما" (الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع الشربيني الخطيب).
إن الزكاة عصَب الحياة الاقتصادية الإسلامية ويجب أن تقوم بها الدولة، ولو تُركِت للأفراد ضاعت أهدافها وفقدت أهميتها وتلاشت حكمة مشروعيتها، فعطاء الأفراد قليل مهما كانت أموالهم وقد جُبِلَت النفوس على الشُّحِّ.(36/6)
فلسفة الميراث في الإسلام:
الميراث في الجاهلية:
جاء في أسباب النزول أن أوس بن ثابت الأنصاري تُوفِّي وترك امرأة وثلاث بنات له منها، فقام رجلان هما ابنا عم الميت ووَصِيَّاه يقال لهما سويد وعرفجة فأخذا ماله ولم يعطيَا امرأته شيئًا ولا بناته.
وكانوا في الجاهلية لا يُورِّثون النساء ولا الصغير وإن كان ذكرًا، وإنما يورثون الرجال الكبار، وكانوا يقولون: لا يُعطَى إلا مَن قاتل على ظهور الخيل وحاز الغنيمة. فجاءت هذه المرأة إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت: يا رسول الله، إن أوس بن ثابت مات وترك عليَّ بنات، وأنا امرأة، وليس عندي ما أُنفق عليهن، وقد ترك أبوهما مالاً حسنًا، وهو عند سويد وعرفجة، لم يُعطياني لأبنائِه من المال شيئًا، وهن في حجري ولا يطعماني ولا يسقياني ولا يرفعان لهن رأسًا.
فدعاهما رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالا: "يا رسول الله، ولدها لا يركب فرسًا ولا يحمل كلًّا ولا ينكى عدوًّا.
فقال رسول الله: انصرفوا حتى أنظُر ما يحدِّث الله لي فيهن، فأنزل الله تعالى هذه الآية: (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب ما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبًا مفروضًا). (النساء:7).
وفي واقعة أخرى رواها جابر بن عبد الله قال: جاءت امرأة بابنتين لها فقالت: يا رسول الله هاتان بنتا ثابت بن قيس أو قالت سعد بن الربيع قُتِل معك يوم أحد، وقد استفاء عمهما مالهما وميراثهما، فما ترى يا رسول الله؟ فوالله ما يُنكحان أبدًا إلا ولهما مال.
فقال ـ عليه الصلاة والسلام: "يقضي الله في ذلك" فنزلت سورة النساء وفيها: (يُوصيكم الله في أولادكم للذكَر مثل حظ الأنثيين فإن كنَّ نساءً فوق اثنتينِ فلهما ثلُثا ما ترك وإن كانت واحدةً فلها النصف...). (النساء:11).
فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: ادعُ لي المرأة وصاحبَها، فقال لعمهما: أعطهما الثلُثين وأعطِ أمهما الثمُن وما بقي فلكَ.(37/1)
وهكذا كان هذا موقفًا من الموافقات للوحي، بدأت به المرأة المسلمة في محاولة لكسر أغلال الجاهلية وآثارها الفاسدة.
تعليق على هذه الوقائع الجاهلية:
لقد كان الناس في الجاهلية لا يورِّثون النساء ولا الصبية بحجة أن الوارث لا يكون إلا مَن قاتَل على ظهور الخيل وحاز الغنيمة.
ونسي هؤلاء أن الرجل إنما يجمع ثروته لنفسه وولده، وأن كدح المرء إنما هو لأجل أبنائه، ولا يسعد الإنسان العاقل إلا أن يكف أبناءه عن المسألة ويكفيَهم مُؤْنة الحياة ومشاقَّها بقدر الإمكان وفي حدود المُتاح وفي إطار القيَم الشريفة.
نظرة على موقف العالم قديمًا وحديثًا من الميراث:
لم يكن الناس في الجاهلية يعرفون نظامًا عادلاً للميراث بل لا يكاد العالم قديمًا ولا حديثًا يعرف نظامًا لتوزيع التركة يقوم على العدل المطلَق.
إن توزيع التركة اليوم موكول لأهواء البشر، فقد يوصي الشخص بماله كله لعشيقته ويترك زوجته وأولاده، أو قد يوصي لأحد أبنائه ويدَع الباقين للحسرة والحقد والضغينة، أو قد يجعله وقفًا على حيوان أليف ويترك ذوي قُرْباه يقاسون آلام الحياة.
وقامت نظُم ترفض أن يكون الميراث من أسباب المِلْكية.
ويتلفت الناس يمنةً ويسرةً، وتبحث العقائد والنظُم شرقًا وغربًا ولا يُوجَد غير الإسلام يقدِّم نظامًا للميراث يقوم على العدل المطلَق ويتضمن الحقوق ويصُون الحريات، ويتلاءم مع طبائع النفوس السوية.
وقد جمع القرآن المجيد نظام الميراث الإسلامي في ثلاث آيات محكَمات، آيتان منها متواليتان في سورة النساء هما قوله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم للذكَر مثل حظ الأنثيين) إلى قوله تعالى: (من بعد وصية يُوصَى بها أو دَيْن غير مضارٍّ وصيةً من الله والله عليم حليم).(37/2)
والآية التالية في آخر سورة النساء وهي: (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يَرِثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوةً رجالاً ونساءً فللذكر مثل حظ الأنثيين يبيِّن الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم). (النساء: 176).
الميراث في القرآن:
فصَّل القرآن المجيد نظام الميراث تفصيلاً دقيقًا، جمع فيه كل أطرافه، ويكاد يكون هذا التفصيل وقفًا على الميراث، فلا نجد عبادة من العبادات ولا لونًا من المعاملات حظي بهذه المكانة، فلم ينص القرآن على عدد ركعات الصلاة ولا مقادير الزكاة ولا كيفية الطواف والسعي، وأُحِيل كثير منها إلى البيان النبوي، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي، وقال: "خذوا عني مناسككم" وهكذا.
وكما قلنا سابقًا فإن أحكام الميراث قد جُمِعت في ثلاث آيات من سورة النساء، آيتان منها متواليتان هما: قوله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين...) إلى قوله تعالى: (من بعد وصية يوصَى بها أو دَيْن غير مضارٍّ وصية من الله والله عليم حليم) والآية الثالثة الأخيرة من سورة النساء.
والإرث المُجمَع عليه نوعان:
1 ـ إرث بالفرض، والفروض المقدَّرة في كتاب الله ستة هي النصف والربُع والثمُن والثلثان والثلُث والسدُس. وصاحب الفرض لا يسقط أبدًا.
2 ـ إرث بالتعصيب وهو مؤخَّر عن أصحاب الفروض، وهو يأخذ ما بقي بعد الفروض أو يحوز المال كله إذا انفرد، وقد يسقط عند استغراق التركة.
وقد اجتهد العلماء في تفضيلات لهذه الجوانب أخذًا من وقائع الحياة وأحكام العهد النبوي فتكلموا عن ميراث الحمل والمطلقة والخنثى المشكِل والغرقى ومَن في حكمهم والمفقودين.. الخ.(37/3)
بل هناك موقف قد لا يخطر على البال كثيرًا وهو أن يتعجل وارث موت مورِّثه فيقتُله. فقد أجمع العلماء على أن القاتل عمدًا ظلمًا لا يَرِث من مقتوله معاملةً بنقيض قَصدِه.
وإذا مات إنسان ولا وارث له من ذي فرض ولا تعصيب ولا رَحِم فإن تَرِكته لبيت مال المسلمين.
ولكل هذه الجوانب وغيرها تفصيلات دقيقة يمكن مراجعتُها في كتب الفقه الإسلامي.
حكمة اهتمام القرآن بالميراث:
الميراث في الإسلام مرتبط ارتباطًا وثيقًا بحياة المسلم الدينية والدنيوية فالاعتداء على الأموال من أكبر جرائم الإثم، والمال الحرام لا يُقبَل معه عمل، ولا يُرفَع معه دعاء، ولا تنفع منه صدقة.
قال ـ صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبًا".
وذكر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: الرجل أشعثَ أغبرَ يمُدُّ يديه إلى السماء، يا رب يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام، وقد غذي بالحرام فأنَّى يُستَجاب لذلك.
وكانت وصية رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأمته في حجة الوداع: إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا...".
ومن هنا كان الوعيد شديدًا في مخالفة نظام الميراث الإسلامي بقدر ما كان الفوز عظيمًا في تطبيقه والالتزام به، فقال جل شأنه عقب آيتي الميراث: (تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخلْه جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم. ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارًا خالدًا فيها وله عذاب مهين). (النساء:13).
وإذا كان الميراث نظامًا ماليًّا فإن الجانب الأخلاقي والاجتماعي فيه جِدُّ خطير فهو يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالرحم والنسب، مما يؤكد حرص الإسلام الكبير على وشائج القربى وشرف العرض وسلامة الأسرة.(37/4)
فمن أسباب الميراث المجمَع عليها في الإسلام النكاح، وهو عقد الزوجية الصحيح، ويرث به الزوجان، وكذلك النسب وهو القرابة والرحم، ويرث به الأبوان ومن أولى بهما، والأولاد ومن أولى بهم.
إن نظام الميراث في الإسلام دقيق وحكيم وله مزايا اجتماعية وأخلاقية.
الوارثون والوارثات:
الوارثون من الرجال عشرة هم: الابن وابن الابن وإن نزل، والأب والجد أبو الأب وإن علا، والأخ سواء كان شقيقًا أو لأب أو لأم، وابن الأخ الشقيق أو ابن الأخ لأب، والعم الشقيق ولأب، وابن العم، والزوج والمُعتَق.
والوارثات من النساء سبع هن: البنت وبنت الابن، والأم والجدة والأخت سواء كانت شقيقة أو لأب أو لأم، والزوجة والمعتَقة.
فهؤلاء يَرِثون في حال ويُحجَبُون في حال أخرى حجب نقصان أو حجب إسقاط، ومتى اجتمع الرجال كلهم لم يرث منهم إلا ثلاثة، وهم:
الابن والأب والزوج.
فللزوج الربُع وللأب السدُس والباقي للابن.
ومتى اجتمع النساء كلهن لم يرِث منهن إلا خمس وهن: البنت وبنت الابن والأم والزوجة والأخت الشقيقة.
للبنت النصف، ولبنت الابن السدس، وللأم السدس وللزوجة الثمن وللأخت الشقيقة الباقي.
ولو اجتمع كل الذكور والنساء ومات أحد الزوجين ورث خمسة وهم:
الأب والأم والزوج أو الزوجة والابن والبنت. فللأب السدس وللأم السدس، وللزوج الربع وإن كانت الزوجة هي الموجودة فلها الثمُن، وللابن والبنت باقي التركة للذكر مثل حظ الأنثيين.
حكمة قوله تعالى: (للذكر مثل حظ الأنثيين):(37/5)
إن هذه المسألة لها في منهج الإسلام فلسفة وحكمة، ذلك أن الرجل وحده هو المسئول عن نفقات الأسرة، ولا تُكلَّف المرأة شيئًا من تلك النفقات إلا أن تتطوع. قال الله تعالى: (أسكنوهن من حيث سكنتم من وُجدكم ولا تضارُّوهن لتضيِّقوا عليهن وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهُنَّ فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وائتمروا بينكم بمعروف وإن تعاسرتُم فسترضع له أخرى لِينفِقْ ذو سَعة من سَعته ومن قُدِر عليه رزقُه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسًا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرًا). (الطلاق:6).
كذلك فإن الرجل في الإسلام مُطالَب بتقديم صداق للمرأة يعبِّر عن حبه لها ورغبته في الزواج منها ولا تقدِّم المرأة شيئًا.. قال الله تعالى: (وآتوا النساء صدقاتهن نحلةً فإن طبن لكم عن شيء منه نفسًا فكلوه هنيئًا مريئًا). (النساء:4).
لهذا كان من الإنصاف والعدل أن يكون للرجل في الميراث ضعف ما للمرأة، وإلا فسيصبح الرجل مظلومًا، ثم يكون ما نقص من ميراث المرأة يُرَدُّ إليها في المهر والنفقة.
ثم إنه ليس كل امرأة تَرِث نصف ما يرثه الرجل، بل هناك صور من الميراث يتساوى فيها الرجل والمرأة مثل الأب والأم إذا كان للميت ولد، قال الله تعالى: (ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد).
أحيانًا تأخذ المرأة أكثر مما يأخذ الرجل، فالبنت تأخذ نصف التركة وحدها والبنتان تأخذان الثلثين إذا لم يكن للميت ولد ذكر. وفي هذه الصورة يأخذ الرجل وهو أبو الميت السدس فقط، قال الله تعالى: (فإن كن نساءً فوق اثنتين فلهن ثلُثا ما ترك وإن كانت واحدةً فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد).
فالميراث في الإسلام مبني على الحكمة والعدل المطلق.
ميراث المطلقة:(37/6)
المطلقة طلاقًا رجعيًّا ومات زوجها وهي ما زالت في العدة تَلحَق بالزوجة التي في العصمة فترث زوجها المتوفَّى ولها الثمُن إن كان له ولد أو الربع إن لم يكن له ولد، وهو يرثها أيضًا في هذه الحال لو ماتت أثناء العِدَّة.
أما المطلقة التي انتهت عدتها وطلقها زوجها في حال صحته ثم مات فلا توارُث بينهما بإجماع علماء الشريعة فإن عقد الزوجية قد انتهى ولا علاقة تربط بينهما.
فإن كانت هذه المرأة قد طلِّقت في مرض الموت فإن الرجل لا يرثها لو ماتت قبله.
أما لو مات هو قبلها فقد اختلف العلماء في هذه الصورة فذهب الشافعي إلى أن المطلقة طلاقًا بائنًا لا ترث من مطلقها سواء طلقها في صحته أو في مرضه، وقال الأحناف: إنها ترثه ما لم تَنقَضِ عدَّتُها. وقال الحنابلة: إنها ترثه ولو انقضت عدتها ما لم تتزوج غيره، ومذهب المالكية أنها ترثه ولو انقضت عدتها وتزوجت غيره معاملةً له بنقيض قَصدِه لاحتمال أنه طلقها في مرض موته حتى لا تَرِثه.(37/7)
الوصية في الإسلام:
الوصية تبرع بحق مُضاف إلى ما بعد الموت، فالمسلم يقتطع جزءًا من ماله لينفق بعد موته في وجوه الخير المشروعة.
وقد قال ـ صلى الله عليه وسلم: "ما حق امرئ مسلم له شيء يوصِي فيه يبيت ثلاث ليالٍ إلا ووصيته عنده مكتوبة.
وقد جعل الله الوصية مقدَّمة على توزيع التركة قال الله تعالى: (من بعد وصية يوصي بها أو دَيْن)، فالدَّيْن حق العبد، والوصية حق الله وكلاهما مقدَّم على توزيع التركة.
والوصية لها ضوابط شرعية، فهي في حدود الثلُث حتى لا يحصل ظلم للوَرَثة، والوصية تكون لغير وارث؛ حتى يعم الانتفاع، فإن فقدت الوصية أحد هذين الشرطين أو كلَيْهما توقفت على إجازة الورثة، فمن أوصى بما زاد على الثلُث لا ينفذ منها إلا الثلث ويُستَأْذَن الورثة في الباقي فإن أجازوه فبها ونعمت وإلا فلا.
ومَن أوصى بأي شيء ولو قلَّ لوارث تَوَقَّف التنفيذ على رأيهم.
فالإسلام جعل للمسلم ثلُث ماله يتصرف فيه عند الموت بما يحقق النفع العام والخاص ويصلح شأن المسلمين كافةً أو ذوي قُرْباه غير الوارثين.
وفي صحيح مسلم بسنده عن عامر بن سعد عن أبيه قال: عادَني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حجة الوداع من وجَع أشفيتُ منه على الموت فقلت: يا رسول الله، بلغني ما ترى من الوجع وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنةٌ لي واحدة أفأتصدق بثُلُثَيْ مالي؟ قال: لا، قلت أفأتصدق بشطره؟ قال:لا، الثلُث والثلُث كثير، إنك إن تذرْ ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالةً يتكففون الناس، ولست تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجِرْتَ عليها حتى اللقمة تضعها في في امرأتك.
الفرق بين الوصية والتبرع:
الوصية غير التبرع في حال الحياة والصحة، فهذا جانب وذاك جانب آخر، فالمقصود من الوصية هو نقل المِلْكية بعد موت صاحبها لمَن يُحدِّده.(38/1)
أما أن يجود الإنسان في صحته وحياته ولو بماله كله فذلك اتجاه آخر قد يُحمَد منه ما يحمد وقد يُذَم منه ما يذم تبعًا للنية والهدف وظروف المتبرِّع وملابسات الموقف ومُقتَضى الحال.
وفي الصحيح عن أنس قال: كان أبو طلحة ـ رضي الله عنه ـ أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلةً المسجد، وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، فلما نزلت هذه الآية: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) قام أبو طلحة إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: يا رسول الله إن الله تبارك وتعالى يقول: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) وإن أحب أموالي إليَّ بيرحاء، وإنها صدقة لله أرجو برَّها وذخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: بخٍ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلتَ وإني أرى أن تجعلها في الأقربين، فقسَّمها أبو طلحة في أقاربه وبنى عمه.
تفضيل بعض الأبناء في العطايا والهدايا:
الأولاد في كفالة آبائهم أمانة، يجب تنشئتهم على منهج التربية الإسلامية حتى يجمع الأسرة كلها شعور المحبة والصفاء، وعلى الآباء والأمهات أن يغرسوا في بَنِيهم كل ما يؤدي إلى الألفة والتعاون.
وإذا كان للرجل أبناء من زوجة أخرى فيجب أن يُوزِّع حبه على أولاده جميعًا وأن يسوي بينهم في العطاء حتى لا يدع مجالاً للحقد والشحناء، وإذا كان بعض الأبناء عاقًّا فليس هذا بمسوِّغ للحِرْمان من التركة والميراث، فإن الميراث ليس في مقابل البِرِّ للآباء، ولا شك أن العقوق كبيرة من كبائر الإثم والفجور، لكن الحرمان من الميراث ليس علاجًا، فالأولى الدعاء للابن العاقِّ بالهداية، والعمل على إزالة أسباب العقوق، ورحم الله والدًا أعان ولده على بِرِّه.(38/2)
وفي صحيح الحديث عن النعمان بن بشير قال: تصدق عليَّ أبي ببعض ماله فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تُشهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فانطلق أبي إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليُشهِدَه على صدقتي فقال له ـ صلى الله عليه وسلم: وصلت هذا بولدك كلهم؟ قال لا، قال: اتقوا الله واعدلوا في أولادكم، فرجع أبي فردَّ تلك الصدقة.
وقد استثنى العلماء من هذا الحكم ما إذا كان لبعض الأولاد وضع خاص كمرض مُقعِد أو صِغَر فلا بأس بتفضيل صاحب العُذْر.(38/3)
دَوْر العقيدة والأخلاق في مُحاربة الفساد الاقتصادي:
أ ـ بناء الإنسان:
بناء الإنسان في الإسلام له مجموعة أركان هي:
1 ـ جانب تربوي قائم على الترغيب والترهيب، وتأصيل حب الخير في النفس، ومراقبة الله عز وجل، مراقبة تنبع من داخل النفس الإنسانية حتى يتحقق معنى قوله تعالى: (ألم يعلم بأن الله يرى) (العلق: 14).
2 ـ دعوة المرء إلى التوبة والاستغفار، بالندم على ما فرط منه في جنب الله تعالى، والإقلاع عن المعصية فلا يقيم عليها، والعزم على عدم العودة إلى ما يغضب الله سبحانه، ورد الحقوق لأصحابها إن كانت المعصية متعلقة بحقوق العباد، والإكثار من العمل الصالح وطيبات السلوك. قال تعالى: (وتوبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون) (النور: 31).
3 ـ مطاردة شواذِّ المجتمع عن طريق الحدود والتعزيرات، فمن سرق قُطعت يده، ومن زنا جُلد مائة جلدة إن كان غير محصن، أو رُجِم إن كان محصنًا، ومَن قَتل بغير حق اقتُصَّ منه، ومن قطع الطريق وروَّع الآمنينَ قُتِل أو صُلِب أو قُطِعت يدُه ورجله من خلاف أو نُفِي من الأرض... وهكذا.
والحدود زواجر تمنع انتشار الجريمة وتستأصل بُذروها الفاسدة ثم هي كفارات تجبُر الذنب وتصلِح حال النفس، والله تعالى أكرم من أن يضاعف العقوبة على عبده في الآخرة.
ب ـ عقيدة البعث والجزاء:
الإنسان في غيبة الإيمان بالوحي يعيش في هموم المادة وشطَحات الخيال، وتحاصره فتنة الغرائز والشهوات، وينتابه القلَق من كل جانب ويُصبح قانون الغاب هو الحكَم لحياة البشر.
لكن الوحي الإلهي يقدم حلاًّ منصفًا وإصلاحًا جذريًّا لما آلَتْ إليه، أحوال البشري في ظل عقيدة البعث والجزاء.
وكان هذا التنبيه على هذا الأصل العقدي مبكرًا في العهد البشري وفي أول بيان للوحي الإلهي من أجل بناء الحياة على هذا الأرض.(39/1)
قال تعالى: (قال اهبطا منها جميعًا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى. ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكًا ونحشره يوم القيامة أعمى. قال رب لِمَ حشرتني أعمى وقد كنت بصيرًا قال كذلك أتتْك آياتُنا فنَسِيتها وكذلك اليوم تُنسَى) (طه: 123 ـ 126).
فالكفر بالسعادة والتكذيب بلقاء الله هو الشقاء للفرد والمجتمع، وهو الإفساد في الأرض والحياة، وهو الاستبداد السياسي والانحراف الخلُقي.
وإن إنسانًا يعيش بلا عقيدة اليوم الآخر هو إنسان استجمع أسباب الانحراف بأجمعه، وهذا ما أعلنَه موسى ـ عليه السلام ـ أمام فرعون وقومِه في قوله: (إني عذتُ بربي وربكم من كل متكبرٍ لا يؤمن بيوم الحساب) (غافر: 27).
فإذا أغفل الإنسان حقيقة الإيمان باليوم الآخر واستشعر بسطة جسم وقوة فقد استكمل أسباب الظلم والجبروت.
ومهما شرع الناس لأنفسهم من قوانين بعيدًا عن الوحي الإلهي فلن يحققوا الأمن ولن يصلوا إلى السعادة، ومهما حاولوا محاربة الفساد والإفساد في الأرض بعيدًا عن عقيدة البعث والجزاء الأخروي فلن يجدي ذلك فتيلاً.
قال تعالى لسيدنا موسى عليه السلام: (وأنا اخترتُك فاستَمِعْ لما يُوحَى. إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري. إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى. فلا يصدُنَّك عنها مَن لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى) (طه: 13 ـ 16).(39/2)
اهتمام الإسلام بالجانب الاقتصادي:
يهتم الإسلام اهتمامًا كبيرًا بالجانب الاقتصادي، وللزراعة والصناعة والتجارة، أهمية في نصوص القرآن المجيد والسنة المطهَّرة، بما يتناسب مع أثرها في الحياة الإنسانية.
لقد أمرنا الله تعالى بالتأمل الواعي في الطعام الذي نتناوله لنُدرك سر إنباته وتيسيره للانتفاع به، فقال جل شأنه: (فلينظُر الإنسان إلى طعامه أنَّا صببنا الماء صبًّا. ثم شققنا الأرض شقًّا. فأنبتنا فيها حبَّا وعنبًا وقضبًا. وزيتونًا ونخلاً. وحدائق غلبًا. وفاكهة وأبَّا. متاعًا لكم ولأنعامكم) (عبس: 24 ـ 32).
وفي أهمية الزراعة ومنافعها يقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعها فيأكل منه طير أو إنسان إلا كان له به صدقة" متفق عليه.
وجعل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ شق الأنهار والمصارف من الصدقات الجارية التي ينتفع بها المسلم في حياته وبعد مماته، ثوابًا مضاعفًا من الله عز وجل، وفي حديث رواه أبو داود وابن حبان والحاكم أن سعد بن عبادة ـ رضي الله عنه ـ قال: قلت يا رسول الله، إن أمي ماتت فأي الصدقة أفضل، قال: الماء فحفر بئرًا وقال: هذه لأم سعد.
ولقد جاء ذِكْر الصناعة في القرآن المجيد مرتبطةً بأنبياء عِظام، فإبراهيم الخليل عَمِل في بناء الكعبة مع ولده إسماعيل ـ عليهما السلام ـ وعلم الله تعالى داود ـ عليه السلام ـ صناعة الدروع، وأشار القرآن إلى صناعة الجلود وهندسة المباني والنسيج فقال: (والله جعل لكم من بيوتكم سكنًا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتًا تستخفونها يوم ظعنِكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثًا ومتاعًا إلى حين والله جعل لكم مما خلق ظلالاً وجعل لكم من الجبال أكنانًا وجعل لكم سرابيلَ تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يُتم نعمته عليكم لعلكم تسلمونَ) (النحل: 80 ـ 81).(40/1)
وأشار القرآن إلى صناعة الحديد والصلب فقال: (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله مَن ينصره ورسلَه بالغيب إن الله قوي عزيز) (الحديد: 25).
وجعل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ تعليم الصنعة لمَن لا يحسنها حتى يُتقنها بابًا من أبواب الخير، وعملاً صالحًا من أفضل الأعمال، ففي صحيح البخاري أن أبا ذر ـ رضي الله عنه ـ سأل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله وجهاد في سبيله، قال: فأي الرِّقاب أفضل: قال أعلاها ثمنًا وأنفسها عند أهلها، قال: فإن لم أفعل؟ قال: تُعين صانعًا أو تصنع لأخرق فقال: فإن لم أفعل؟ قال: تدَع الناس من الشر فإنها صدقة تصدق بها على نفسك".
ومعنى إعانة الصانع أن تمنحه أو تُقرضه مبلغًا من المال ليُقيم به صناعتَه، ومعنى الصناعة لأخرق أن تعلم صنعتَك لمَن ليس في يده صنعة.
ومن خلال الزراعة والصناعة ووفرة الإنتاج تتحقق التجارة وتتقدم لتفي بحاجات الناس ومطالبهم، وقد تحدث القرآن عن رحلات التجارة وتأمين طرُقها، وجعل ذلك من نِعَم الله على الناس فقال: (لإيلاف قريش إيلافهم. رحلة الشتاء والصيف. فليعبدوا رب هذا البيت. الذي أطعمهم من جوع وآمنَهم من خوف). (سورة قريش).
وامتدح الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ التاجر الأمين وبشَّره بمقام صدق في الفردوس، فقال، كما رواه الترمذي: "التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصدِّيقين والشهداء".
ودعا الرسول الكريم إلى السماحة في البيع والشراء فقال ـ كما رواه البخاري: "رحم الله رجلًا سمحًا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى".
وهذا الاهتمام بالجانب الاقتصادي له دخْل كبير في محاربة الفساد الاقتصادي على أساس إدراك المرء لهذه الحقائق:
1 ـ الجانب الاقتصادي في الزراعة والصناعة والتجارة يمثل آية من آيات الله في الإبداع الكوني، فإذا نظر المسلم بهذا المعيار فإنه ينأى بنفسه عن الإفساد في الكون.(40/2)
2 ـ ربط الجانب الاقتصادي بالأنبياء عليهم السلام يجعل المسلم يحرص على هذا الشرف فلا يدَنِّسه بالإفساد في الأرض وأكل أموال الناس بالباطل.
3 ـ استشعار النعمة الإلهية في الجانب الاقتصادي يدفع المسلم إلى حسن الانتفاع بمجالات الاقتصاد المتعددة لنفسه ولغيره، فإن نِعَم الله لا تُستَخدم في معصية الله عند العقَلاء.
4 ـ اعتبار الجانب الاقتصادي مجالاً رحبًا للثواب والصدقة الجاريَة واكتساب الحسنة يجعل المسلم أقرب إلى الخشية من الله تعالى فلا يضيع ثواب الله في سبيل مادة رخيصة أو ربح حرام أو كسب خبيث.(40/3)
معالم الاقتصاد الإسلامي:
إذا أردنا الحد من مشكلة الفساد الاقتصادي فيجب إبراز معالم الحياة الاقتصادية في الإسلام.
إن للمال في الإسلام قانونين يرتبطان ارتباطًا وثيقًا بالعقيدة والأخلاق الإسلامية، هما:
1 ـ الحلال في المورِد فلا يُجمع المال إلا من طرُق مشروعية أقرَّها الدَّين. قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كُلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون) (البقرة: 172).
وقال جل شأنه: (وكلوا مما رزقكم الله حلالًا طيبًا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون) (المائدة: 88).
2 ـ البر في المصرَف بحيث يوضَع المال في خدمة الفرد والمجتمع حتى تتحقق العدالة الاجتماعية ونحافظ على الكرامة الإنسانية.
قال الله تعالى: (ليس البر أن تولُّوا وجوهكم قِبَل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون) (البقرة: 177).
ويترتب على هذين القانونين قواعد أساسية في مسيرة الحياة الاقتصادية أهمها:
1 ـ لا كسب من حرام، وكل جسم نبت من حرام فالنار أولى به، فلا تثبت الملكية بالربا والسرقة والرشوة والاختلاس والغصب والسلب وأكل أموال الناس بالباطل.
قال الله تعالى في شأن الربا: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذَرُوا ما بقِيَ من الربا إن كنتم مؤمنين. فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتُم فلكُم رءوس أموالكم لا تَظلِمون ولا تُظلَمون) (البقرة: 278 ـ 279).
ونلاحظ أن الآية الكريمة بدأت بخطاب المؤمنين، وعلَّقت الاستجابة على الإيمان وهددت بعقاب الله عند التمرد على الحكم الشرعي.(41/1)
2 ـ العمل فريضة إسلامية لكسب الرزق، وبذل العرق وتوفير الإنتاج من أعظم القرُبات إلى الله تعالى. قال جل شأنه: (هو الذي جعلَ لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور) (الملك: 15).
وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في صحيح الحديث: "ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود ـ عليه السلام ـ كان يأكل من عمل يده".
3 ـ الرضا، والاطمئنان النفسي، والسعي بغير هلَع ولا أرَق ولا قلَق، أهم ما يميز السلوك الإسلامي في الحياة. قال تعالى: (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقُها ويعلم مستقرَّها ومستودعها كلٌّ في كتاب مبين) (هود: 6).
وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في صحيح الحديث: "ليس الغِنَى عن كثرة العرَض وإنما الغِنَى غنى النفس".
4 ـ السعي للرزق الحلال يتوسط العبادات ويتكامل معها ولا ينفصل عنها، فالفرائض لا تتعارض.. قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا نُودي للصلاة من يوم الجمُعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون. فإذا قُضِيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرًا لعلكم تفلحون) (الجمعة: 9 ـ 10).
5 ـ التسول جريمة يجب مُطاردتها؛ لأن فقراء المسلمين متعففون لا يسألون الناس إلحافًا، وأغنياء المسلمين كرَماء يشعرون بحاجتهم إلى ثواب الله أكثر من حاجة الفقراء إلى أموالهم.
قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في صحيح الحديث: "مَن سأل الناس أموالهم تكثرًا فإنما يسأل جمرًا فليستَقِلَّ أو ليستكثر".(41/2)
وفي تفصيل دقيق لهذه المسألة جاء هذا الموقف عن قبيصة بن مخارق الهلالي قال ـ كما في الصحيح: "تحملتُ حمالة فأتيتُ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أسألَهُ فيها فقال: أقم حتى تأتيَنا الصدقة فنأمرَ لك بها، ثم قال: يا قبيصة، إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلَّتْ له المسألة حتى يُصيبَها ثم يمسك، ورجل أصابتْه حائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قِوامًا من عيش، أو قال: سَدادًا من عيش، ورجل أصابتْه فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجى من قرابة قومه فيقولون: لقد أصابت فلانًا فاقة، فحلت له المسألة، حتى يصيب قوامًا من عيش أو قال: سدادًا من عيش، فما سواهنَّ من المسألة سُحت يأكلها صاحبها سحتًا".
6 ـ الفقر قد يكون معصية يعاقَب عليها المرء إذا نشأ عن إسراف أو تكاسُل قال تعالى: (ولا تجعل يدك مغلولةً إلى عنُقك ولا تبسطْها كل البسط فتقعد ملومًا محسورًا) (الإسراء: 29).
وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الصحيح: "اليد العليا خير من اليد السفلى".(41/3)
المواجهة الأخلاقية للفساد الاقتصادي:
للعقيدة والأخلاق دَوْر مهم وأساسي في محاربة الفساد الاقتصادي والحد من انتشاره، ومحاصرة آثاره، ويتجلى ذلك من عدة جوانب:
1 ـ التكافل:
إن مساعدة الآخرين والقيام بشئون ذوي الحاجات فريضة إسلامية، وحق من حقوق المسلم على المسلم، وقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في صحيح الحديث: "من نفَّس عن مسلم كربة من كرَب الدنيا نفَّس الله عنه كربة من كرَب يوم القيامة، ومَن يسَّر على مُعسِر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستَر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه".
وتعدد مظاهر التكافل الإسلامي بما يشمل جوانب العجز كلها مادية كانت أو معنوية.
واستشعار هذا الحق يمنع الإنسان من الفساد الاقتصادي، ويَحجِزه عن ظلم الآخرين وأكل أموالهم بالباطل. وليس هذا وحدَه بل إنه يدفع المسلم إلى أن يَجُود بما معه ويعطي مما يملك ويُؤثِر على نفسه، وقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في صحيح الحديث: "مَن كان معه فضل ظهر فليهدِ به من لا ظهر له، ومن كان له فضل من زادٍ فليَعُد به على من لا زاد له، قال الراوي أبو سعيد الخدري: فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل".
2 ـ الأمانة:
التجارة أمانة، وشعارها الصدق في المعاملة، والتاجر الأمين له منزلة رفيعة في الدين، وقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: "التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصدِّيقين والشهداء".
وإن من علامات الساعة ضيَاع الأمانة، فيُصبح الناس يتبايعون ـ كما قال النبي الكريم ـ لا يكاد أحد يؤدي الأمانة، حتى يقال: إن في بني فلان رجلاً أمينًا، حتى يقال للرجل: ما أجلده، ما أظرفه، ما أعقله، وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان.(42/1)
وقال حذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنه: ولقد أتى عليَّ زمان وما أبالي أيكم بايعتُ، لئن كان مسلمًا ليَرُدَّنَّه عليَّ دينُه، ولئن كان نصرانيًّا أو يهوديًّا ليَرُدَّنَّه عليَّ ساعِيه، وأما اليوم فما كنت لأُبايع منكم إلا فلانًا وفلانًا" رواه مسلم.
3 ـ القناعة:
المسلم ليس نَهِمًا ويرضي بما قسم الله له، ويقنع بالربح الحلال ولو كان يسيرًا، ويساعد على الرواج الاقتصادي ولا يحتكر سلعة انتظارًا لغلاء سعرها.
فالمحتكر على خلُق ذميم وشُح قاتل، وهو يفرح عند حزن الناس، ويحزن عند فرحهم، وليس هذا من أخلاق المؤمنين، وقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحُمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعَى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
وقد وعد رسول الله بالرزق والبركة لكل مستورِد يجلب السلع ويغمر بها السوق وييسر التعامل فيها، وأوعد المحتكرين بنقيض قصدهم وهو الإفلاس من كل جانب وفِرار الناس منهم، حتى لا يجدوا متنفسًا لسلعهم، فقال ـ عليه الصلاة والسلام: "الجالب (المستودر) مرزوق، والمحتكر محروم، ومَن احتكر على المسلمين طعامَهم ضربَه الله بالجُذام والإفلاس".
4 ـ الإيثار:
يسمو المسلم في الأخلاق حتى يعفو عمن ظلمَه ويُعطي من حرمه ويصل من قطعه، ويسمو في المعاملات الاقتصادية حتى يؤثِر على نفسه ولو كان به خصاصة.
وهذا موقف لا يُعرَف على جهة العظمة والاستمرار إلا من خلال العقيدة والثقة بوعد الله والمرغِّبة في الفردوس الأعلى.
وعندما وصل المهاجرون إلى المدينة المنورة استقبلهم الأنصار وقاسموهم ديارهم وأموالهم عن طِيب خاطر، وفيهم نزل قوله تعالى: (والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجةً مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يُوقَ شحَّ نفسه فأولئك هم المفلحون) (الحشر: 9).(42/2)
وأخرج أحمد عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: "بينما عائشة ـ رضي الله عنها ـ في بيتها إذ سمعت صوتًا في المدِينة فقالت: ما هذا؟ قالوا: عير لعبد الرحمن بن عوف قدمت من الشام تحمل من كل شيء، قال: وكانت سبعمائة بعير، قال: فارتجَّتِ المدينة من الصوت، فقالت: عائشة ـ رضي الله عنها: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: قد رأيت عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوًا، فبلغ ذلك عبد الرحمن بن عوف، فقال: لئن استطعت لأدخلنها قائمًا، فجعلها بأقتابها وأحمالها في سبيل الله عز وجل.(42/3)
نبي يعالج الفساد الاقتصادي:
بعث الله تعالى الأنبياء ليقوم الناس بالقسط، وليعيش الناس عباد الله إخوانًا وقد التقت الرسالات على أصول ثابتة من التوحيد والعبادات ومكارم الأخلاق.
قال تعالى: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانًا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنًا وأقيموا الصلاةَ وآتوا الزكاة...) (البقرة: 83).
وكان لكل نبي تخصُّص يعالِج به ما انتشر في قومه من فساد، لأن كل نبي بُعِث إلى قومه خاصة، ولم يتحقق عموم الرسالة زمانًا ومكانًا إلا لسيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهو صاحب الرسالة العامة الخالدة.
قال تعالى: (إنا أرسلناك بالحق بشيرًا ونذيرًا وإِنْ من أمة إلا خلا فيها نذير) (فاطر: 24).
لقد بعث الله تعالى لوطًا ليُعالج الفساد الأخلاقي والاجتماعي فنهاهم عن فاحشة سادت فيهم وهي إتيان الذُّكران وهجر النساء.
قال تعالى: (ولوطًا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون أئِنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون) (النمل: 55).
وبعث الله تعالى موسى ليعالج الفساد السياسي ممثلاً في الملك الطاغية وبطانة السوء ورأس المال المستغل.
قال تعالى: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين. إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب...) (غافر: 23 ـ 24).
ومن خلال تاريخ الأنبياء عليهم السلام نجد شعيبًا عليه السلام قد تخصص في العلاج الاقتصادي.
لقد بدأ دعوته ببيان عقيدة التوحيد الخالص لله رب العالمين ثم جدَّد خطوات الإصلاح الاقتصادي في أربعة اتجاهات هي:
1 ـ النهي عن نقص الكيل والميزان عند البيع والعطاء.
2 ـ الأمر بالوفاء بالكيل والميزان عند البيع والشراء.
3 ـ النهي عن البخس في الحقوق المالية والمعاملات الاقتصادية.
4 ـ النهي عن الإفساد في الأرض بأكل الأموال أو انتهاك الأعراض أو الاعتداء على الأنفس.(43/1)
وربط سيدنا شعيب عليه السلام ذلك كله بعقيدة البعث والجزاء، فإن من أيقن بالحساب بعد الموت، والسؤال بين يدي الله عز وجل، والثواب والعقاب في الآخرة ـ عمل جاهدًا على حسن الاستجابة للأمر الإلهي ونأى بنفسه عن المعصية لله، وحقَّق الترابط الأخوي بين بني البشر.
قال تعالى: (وإلى مدين أخاهم شعيبًا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط. ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين. بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ) (هود: 84 ـ 86).
ورفض أهل مدين هذا النداء الطاهر، وآثروا عبادة الأصنام، ورفضوا تحكيم شرع الله، وأصرُّوا على الإفساد الاقتصادي، وتعالَوْا على نبيهم واستهزءوا به.
قال تعالى: (قالوا يا شعيب أصلاتُك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك لأنت الحليم الرشيد) (هود: 87).
وظل شعيب ـ عليه السلام ـ يجادلهم بالحسنى ويشرح لهم حقيقة موقفه الإصلاحي وبيَّن لهم التزامه الأمين بما يدعو إليه، وينصحهم بالتخلي عن العداوة والبغضاء لأن الموقف جِدُّ خطير، وأن الله تعالى يُمهل ولا يُهمل، وأن عبرة التاريخ تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن المتمردين على دعوة الحق الخارجين على قيَم الأخلاق لا بد أن يلحقهم عدل الله، ومع ذلك فإن باب التوبة مفتوح، ورحمة الله قريب من المحسنين.
قال تعالى: (قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقًا حسنًا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب. ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثلُ ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد. واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود) (هود: 88 ـ 90).(43/2)
ورفض القوم النصيحة وأعلنوا المواجهة: (قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرًا مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفًا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز) (هود:91).
وقام خطيب الأنبياء ينذرهم الإنذار الأخير: (قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريًّا إن ربي بما تعملون محيط. ويا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل سوف تعلمون. من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب وارتقبوا إني معكم رقيب) (هود:92 ـ 93).
وصدق الله وعده وأنزل بأسه وجاءت لحظة العدل الإلهي فأخذتهم الصيحة وجاءتهم الرجفة، واجتاحهم عذاب يوم الظُّلة، وأمطرتهم السماء كسفًا فأصبحوا هالكين قال تعالى: (ولما جاء أمرنا نجينا شعيبًا والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين. كأن لم يغنَوْا فيها ألا بعدًا لمدين كما بعدت ثمود) (هود: 94 ـ 95).
وهكذا وقف نبي الله شعيب ـ عليه السلام ـ في وجه الفساد الاقتصادي وتحمل عبء الدعوة إلى الإصلاح، وظل حريصًا على هداية قومه، يقلِّب لهم الوجوه، ويوضِّح لهم الحقيقة، ويشرح لهم المشكلة ويقدِّم لهم الحل، ويناشدهم الاستجابة، حتى كانت اللحظة الحاسمة والإرادة الإلهية النافذة بنجاة شعيب ومن آمَن معه، وهلاك الملأ المستكبرين الطغاة.(43/3)
تأمين المسيرة الاقتصادية:
الناس لا يصلحون إلا بشيئين اثنين لا ثالث لهما:
الإيمان وسلطة الدولة:
وليس كل إنسان ينزجر لما يخشاه في الآخرة، ومن هنا كان الإسلام حكيمًا في معالجة الفساد الاقتصادي بالترغيب والترهيب، ثم بالقوة وسلطان القانون بما شرعه الله من الحدود والتعزيرات، وهناك حدان شرعيان يتعلقان بالمسيرة الاقتصادية هما:
1 ـ حد السرقة:
والسرقة هي أخذ المال من حِرْز مثله مما لا شبهة للسارق فيه، والحد هو قطع اليد اليمنى من مَفصِل الكوع، فإن سرق ثانيةً بعد إقامة الحدِّ عليه قُطِعَت رِجْله اليسرى من مَفصِل الكعب، فإن سرق ثالثة قُطِعت يده اليسرى، فإن سرق رابعةً قُطِعت رجله اليمنى.
واختلف الفقهاء في النصاب المسروق، وتعددت الآراء ما بين ربع دينار أو أربعة دنانير أو ثلاثة دراهم أو عشرة أو أربعين.. وقال أهل الظاهر: لا يُشتَرط نصاب بل يُقطَع في القليل والكثير.. ولكلٍّ وجهه.
قال الله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم) (المائدة: 38).
وفي صحيح مسلم بسنَدِه عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: وأيمُ الله لو أن فاطمةَ بنتَ محمدٍ سرقَتْ لقطَعَتْ يدَها.
2 ـ حد الحِرابَة:
الحِرابة هي تربُّص طائفة من أهل الشر بطرُق الناس يرهبونهم ويسلبون أموالهم ويشيعون الرعب في المجتمع بحملهم السلاح وقتلهم المارَّة.
قال الله تعالى: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعَوْن في الأرض فسادًا أن يُقتَّلوا أو يصلَّبوا أو تُقطَّع أيدِيهم وأرجلُهم من خِلافٍ أو يُنفَوْا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم) (المائدة: 33).
وللفقهاء ثلاثة مذاهب في فهم هذه الآية الكريمة:(44/1)
أ ـ قول سعيد بن المسيب ومجاهد وعطاء وإبراهيم النخعي أن الإمام مُخيَّر بين أن يقتلهم، أو يقتلهم ويصلبهم، أو يقطِّع أيديَهم وأرجلَهم من خلاف، أو ينفيَهم من الأرض، يفعل من ذلك ما ينفع الناس ويُردع المفسدين.
ب ـ قول مالك وطائفة من فقهاء المدينة أن الأحكام مرتَّبة باختلاف صفاتهم، فمن كان منهم ذا رأي وتدبير قتَله الإمام ولم يَعفُ عنه ومن كان ذا بطش وقوة قُطِعت يده ورجله من خلاف، ومن لم يكن ذا رأي ولا بطش عُزِّر وحُبِس.
جـ ـ قول ابن عباس والحسن وقتادة والشافعي وأحمد أن الأحكام مرتَّبة باختلاف أفعالهم، فمن قتل وأخذ المال قُتِل وصُلِب، ومن قتل ولم يأخذ المال قُتِل ولم يُصلَب، ومن أخذ المال ولم يقتل قُطعت يدُه ورجلُه من خلاف، ومن أظهر السلاح ولم يأخذ المال ولم يقتل عُزِّر بنفيه من بلده إلى بلد آخر.
والحدود في غايتِها الكبرى هي تأكيد لسلطان العقيدة والأخلاق لأن المسلم إذا زلَّت قدمه ودفعته النفس الأمَّارة بالسوء إلى الانحراف فإنه يستشعِر قدرة الله وجلاله وكماله فيسعى باختياره إلى المصالَحة مع الله وتعالى والتوبة النصوح، ويَقبل إقامة الحد عليه بنفس مطمئنة موقنًا أن عقاب الدنيا أهون من عقاب الآخرة، وأن متاع الدنيا قليل، وثواب الله خير.
هذا، وإذا كان الإفساد الاقتصادي لا يندرج تحت حد من حدود الله تعالى فإن لولي الأمر بمشورة أهل الاجتهاد أن يضع من العقوبات ما يُحقِّق أمن المجتمع وسلامته. وهو ما يسمى التعزير، وللفقهاء رأيان في عقوبة التعزير:
1 ـ أن لا يصل بالعقوبة إلى أدنى الحدود وهو الجلد أربعين أو ثمانين جلدة في حد الخمر.
2 ـ أن يصل بالعقوبة إلى أقصى الحدود وهو القتل.
وأيًّا ما كان فالتدرج في التعزير مطلوب. وهو يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال والأوقات، فما يصلح لزمن قد لا يستمر لآخر، وما ينزجِر به شخص قد لا ينزجر به آخر.(44/2)
لكن تظل العقوبة الأساسية في التعزيرات هي الجلد لأنه إيلام شخصي ويترك أثرًا مباشرًا على الجاني نفسه، فهو أردع للجريمة وأنفى للمعصية. وقد شرع الله تعالى الجلد في حدود القذف والزنا والخمر.(44/3)
ما الفرق بين زكاة المال وزكاة الفطر؟
شأن المسلم أن يشكر نعمة الله عليه، ويعيش مع الناس، يحس بإحساسهم ويتجاوب مع مشاعرهم فيؤدي الزكاة ويقرض المحتاج ويتعاون في مشروعات البِر والخير، حتى لا يلحقه الوعيد الإلهي في قوله تعالى: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشِّرْهم بعذاب أليم. يوم يحمَى عليها في نار جهنم فتُكوى بها جباههم وجيوبُهم وظهورُهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون) (التوبة: 35).
وهناك فروق جوهرية بين زكاة المال وزكاة الفطر:
فزكاة المال تتعلق ـ كما هو ظاهر التسمية ـ بالأموال المدَّخرة. أما زكاة الفطر فتتعلق بالأبدان أي الأشخاص الذين يُنفق عليهم الإنسان.
وأيضًا زكاة المال لا تجب إلا عند بُلوغ النصاب وهو المبلغ المحدد شرعًا بعشرين مثقالاً من الذهب أو مائتي درهم من الفضة، أما زكاة الفطر فلا يُشتَرط فيها نصاب معيَّن بل تجب على مَن يملِك قوت يوم العيد وليلته له ولمَن تلزمه نفقته.
كذلك فإن زكاة المال ليس لها وقت معَيَّن تخرج فيه بل هي مرتبطة بمُضِي حول كامل على النصاب، أما زكاة الفطر فهي خاصة بمَن أدرك جزءًا من رمضان وجزءًا من شوال.
ومن جهة أخرى فإن مقدار زكاة المال هو ربع العشر أي 2.5%.
أما زكاة الفطر فمقدارها قدحان من أرز أو قمح أو غيرهما مما يقتَاتُه الناس. ويجوز إخراج القيمة.
والأصل في ذلك كله ما جاء في الصحيحين عن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فرض زكاة الفطر من رمضان على الناس صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير على كل حر أو عبد ذكَر أو أنثى من المسلمين".
وفي حديث آخر صحيح أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر بإخراج زكاة الفطر، وأن تؤدَّى قبل خروج الناس إلى الصلاة أي صلاة العيد؛ وذلك حتى يتحقق للمسلمين جميعًا السرور والبهجة.
والله ولي التوفيق.(45/1)
2 ـ إخراج الزكاة في شهر رمضان:
لديَّ زكاة واجبة على الأموال فأحاول أن أخرجها خلال شهر رمضان فهل في تأخيرها حرمة؟
زكاة الأموال تجب بانقضاء عام هجري كامل على بدء بلوغ النصاب المعتبر شرعًا. وقد رُوي مرفوعًا من حديث ابن عمر عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول".
وهذا مجمع عليه عند الفقهاء.
وتاريخ بَدء النصاب يختلف من شخص لآخر فربَّ إنسان يبلغ نصابُه في المحرم وآخر في صفر وثالث في ربيع وهكذا. ويترتَّب على ذلك أن يظل توزيع الزكاة على مدار العام فينتفع الفقراء وذوو الحاجات طوالَ السنة وهذه حكمة إلهية سامِيَة.
وعلى هذا فليس شهر رمضان بذاته يتحتم بَدء أو نهاية للزكاة، بل هو بالنسبة للزكاة كسائر شهور العام الهجري.
لكن من المعروف أن للحسنة في شهر رمضان منزلة خاصة فقد قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ كما رواه ابن خزيمة وابن حبان: "مَن تقرب فيه بخَصلةٍ من الخير كان كمَن أدَّى فريضة فيما سواه، ومن أدى فريضة فيه كان كمن أدى سبعين فيما سواه".
وعلى هذا فيُمكن عند بعض الفقهاء تعجيل إخراج الزكاة قبل الحَوْل حتى تصير في رمضان فمَن ينته حوله في شوال أو في ذي القعدة أو في ذي الحجة ثم أخرج زكاته في رمضان لعِظَم الثواب تَقبَّل الله منه وأجزأه عن زكاته.
أما من ينتهي حوله قبل رمضان فيحرُم عليه تأخيرها؛ لأن الأصل إبراء الذمة وأداء الحقوق لأصحابها.(46/1)
زكاة الفطر:
ما هي زكاة الفطر؟ وعلى مَن تجب؟ وما مقدارها؟
زكاة الفطر سميت بذلك لأن وجوبها يتحقق بالفطر من آخر يوم من رمضان؟ وتسمى زكاة الفطر التي هي الخِلْقة المُرادَة بقوله تعالى: (فطرةَ اللهِ التي فطرَ الناس عليها) (الروم: 30) والمعنى أنها وجبت على الخِلْقة تزكيةً للنفس وتطهيرًا لها وتنميةً لعملها؟
وزكاة الفطر لشهر رمضان كسجدة السهو للصلاة، تجبر نُقصان الصوم كما يجبر السجود نقصان الصلاة.
وقد جاء في الحديث المشهور أنها "طُهرة للصائم من اللهو والرفث". وهي أيضًا: "طُعمة للمساكين في يوم العيد حتى يعم المسلمين جميعًا شعور الغِبْطة والسرور والسعادة".
وعن مقدار صدقة الفطر ووقت أدائها يحدثنا ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ كما في صحيح البخاري ـ قال: فرض رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ زكاة الفطر صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير على العبد والحر، والذكر والأنثى والصغير والكبير، من المسلمين وأمر بها أن تؤدَّى قبل خروج الناس إلى الصلاة.
فهذه الزكاة تجب بغروب الشمس من آخر يوم من رمضان فكل مَن أدرك جزءًا من رمضان وجزءًا من شوال تجب عنه الزكاة فتخرجها عمَّن وُلِد قبل غروب الشمس من آخر يوم من رمضان، وكذلك نخرجها عمن مات بعد الغروب لكن من وُلِد بعد الغروب فلا زكاة عنه لأنه لم يدرك جزءًا من رمضان.
ويزكي الإنسان عن نفسه وعمَّن تلزمه نفقته من المسلمين كزوجته وأولاده الذين ينفق عليهم والخادم الذي يعمل بأجر وشرط نفقته على المستأجر. وكذلك يزكي عن أبويه إن كانوا في كفالته ولا مال لهم.
ولا يشترط في هذه الزكاة نصاب معين بل يجب على مَن يجد زيادةً عن قوته وقوت من تلزمه نفقته يوم العيد وليلته وما يليق بهم.
ومقدار هذه الفريضة ـ على نختاره ـ قدحان من قمح أو شعير أو أرز أو غير ذلك مما يُقتَات.(47/1)
وتجوز القيمة وهي خمسة وعشرون قرشًا تقريبًا، وإخراجها قبل صلاة العيد مندوب، وتأخيرها إلى ما بعدها خلاف الأولى فإن أخَّرها عن يوم العيد بلا عُذر حرم ووجب قضاؤها فورًا، ويجوز إخراجها من أول رمضان.
والله أعلى وأعلم.(47/2)
حُلِي المرأة والأواني الذهبية:
هل في حلي المرأة زكاة؟
الرأي المختار للفتوى أنه ليس في الحلي المباح زكاة، بمعنى أن ما تتخذه المرأة من الذهب للزينة، ويكون في حدود العرف العام لا زكاة فيه.
فإن تحوَّل الحلي عن غرضه الأساسي وهو الزينة وأصبح يُقتَنى للادِّخار كما يفعل بعض الناس من شراء الذهَب كنوع من حفظ المال أصبحت الزكاة واجبةً فيه كذلك إن كانت هناك مُبالَغة في الزينة بحيث تخرُج عن المألوف، ولا يتناسب مع الوضع المالي للأسرة وجبَتْ فيه الزكاة أيضًا.
والمقدار الذي تجب فيه الزكاة عشرون مثقالاً من الذهب ويُقدَّر حاليًا بحوالي ستة وتسعين جرامًا تقريبًا، فالذين يحتفظون بالذهب كنوع من الادِّخار، ويبلغ هذا الذهب ستة وتسعين جرامًا وجب عليهم إخراج الزكاة وقدرها 2.5% فنقوِّم هذه الجرامات بالسعر الحالي ثم نخرج عن كل جنية خمس تعريفات.
الأواني الذهبية والفضية:
في البداية نقول: إن استعمال الذهب والفضة لا يجوز للمسلم أو المسلمة سواء في الأكل أو الشرب، وسواء كان ذلك عن طريق الأواني أو الملاعق، ففي صحيح الحديث: "مَن شَرِب في إناء من ذهب أو فضة فإنما يُجرجر في بطنه نارًا من جهنم".
وفي رواية: "فإنه مَن شَرِب فيها في الدنيا لم يشربها فيها في الآخرة".
وهكذا يعلمنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن نكون إنسانيين نُبَلاء فلا يجوز أن يأكل البعض في أواني الذهب والفضة والمجتمع لا يخلو من المحتاجين وذوي العاهات الذين يتطلعون إلى لقمة الخبز.
ومن هنا فالذين يملكون النصاب من الذهب وهو عشرون مثقالاً أي ستة وتسعون جرامًا أو من الفضة وهو مائتان من الدراهم وجب عليهم إخراج 2.5% وتبقى الحرمة عليهم ما داموا يستعملون أواني الذهب أو الفضة.
والله أعلى وأعلم.(48/1)
الصدقة من مال حرام:
أنا في حاجة إلى قبول الصدقات، لكن بعض الناس يتصدقون عليَّ وهم أصحاب أموال جمعوها من المغالاة في الأرباح واستغلال حاجة الناس للسلع.
فهل أقبل الصدقة منهم؟!
هذا السؤال طريف جدًّا؛ لأنه جاء من الطرَف الأضعف وهو الفقير حيث يحرِص على أن يكون مال الصدقة حلالاً، وقد تعودنا أن نتلقَّى السؤال من أصحاب الأموال في كيفية تصريف أموالهم.
فنشكر للسائل هِمَّته وحرصه على دينه وتعفُّفه عن الشبهة، ونطمئنه بأنه لا حرج عليه في أخذ الصدقة ما دام محتاجًا، وليس له أن يسأل عن مصدرها، وقضية قبول الصدقة وعدم قبولها فذلك مرجعه إلى الله عز وجل، فإن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبًا، بمعنى أنه جل شأنه يعطي الثواب الجزيل للمتصدق من مال حلال، ولا يمنح ثوابه للمتصدق من مال حرام.
قال تعالى: (ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم) (التوبة: 104).
وقد نبَّه السائل إلى مسألة تهم المجتمع ككل، وهي أن هناك طائفة من التجار لا يرقبون في مؤمن إِلًّا ولا ذمة، ويستغلون حاجة الناس إلى السلعة ويغالون في أثمانها.
وهؤلاء يجمعون حرامًا، ويأكلون سحتًا، ويظلمون الناس ويبغون في الأرض فسادًا، قال تعالى: (ويل للمطففين. الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون. وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون. ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون. ليوم عظيم. يوم يقوم الناس لرب العالمين) (المطففين:1ـ 6).
وقد دعا الإسلام إلى السماحة في البيع والشراء، واليسر في التعامل، ففي صحيح البخاري عن جابر ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "رَحِم الله رجلاً سمحًا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى".(49/1)
إعطاء الزكاة للأولاد:
هل يجوز إعطاء الزكاة لبنت المزكي المتزوجة من رجل فقير؟!
الزكاة أحد أركان الإسلام وهي واجبة الأداء عند الحصاد بالنسبة للزرع والثمار، وعند حلول الحول بالنسبة للأموال المدَّخرة وعروض التجارة، وقد شدَّد الإسلام في عقوبة تارك الزكاة حتى قال تعالى: (فبشِّرْهم بعذاب أليم. يوم يُحمَى عليها في نار جهنم فتُكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتُم لأنفسكم فذُوقوا ما كنتم تكنزون) (التوبة: 35).
وقد حدد الله سبحانه مصارف الزكاة في قوله سبحانه: (إنما الصدَقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلَّفة قلوبُهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضةً من الله والله عليم حكيم) (التوبة: 60).
وإذا تحققت هذه الأوصاف الموجِبة لاستحقاق الزكاة في شخص قريب لا تجب على المزكي نفقته كان هو أولى بالزكاة من غيره وتُعتَبر صدقة وصِلة فالأقربون أولى بالمعروف.
والبنت المتزوجة لا تجب نفقتها على أبيها؛ لأنها في عصمة رجل ونفقتها لازمة على زوجها.. فإذا كان الزوج فقيرًا مستحقًّا للزكاة كان لأبيها المزكي أن يعطيَها بعض زكاته وله ثواب الصدقة وصلة الرحِم.
وحدثتنا كتب الصحاح أنه لما نزل قوله تعالى: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) (آل عمران: 92) قام أبو طلحة إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال: إن أحب أموالي إلي بَيْرَحَىْ أي حديقة، وإنها صدقة لله أرجو بِرَّها وذُخْرها عند الله فضعها يا رسول الله، حيث شئت فقال ـ عليه الصلاة والسلام: ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، قد سمعت ما قلت فيها وإني أرى أن تجعلها في الأقربين، فقسَّمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه.
وذات يوم ذكرتْ ميمونة بنت الحارث لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنها أعتقت وليدة فقال: لو أعطيتها أخوالكِ وفي رواية أختك ـ كان أعظم لأجرك.
هذا وبالله التوفيق.(50/1)
إعطاء الزكاة للإخوة:
هل يجوز شرعًا إعطاء الزكاة للأخت التي مات عنها زوجها؟
حدد الله تعالى مصارف الزكاة في قوله تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلَّفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضةً من الله والله عليم حكيم) (التوبة: 60).
وإذا تحقَّقت هذه الأوصاف الموجِبة لاستحقاق الزكاة في شخص قريب لا يجب على المزكِّي نفقته، كان هو أَوْلى بالزكاة من غيره، وتعتبر صدقة وصلة، فالأقربون أولى بالمعروف.
وأخت المزكي التي مات عنها زوجها، لا تجب نفقتها على أخيها؛ لأن النفقة إنما تجب للأصل وللفرع فقط أي للآباء ومن في حكمهم والأبناء ومن في حكمهم بشروط خاصة.
فهذه الأخت الأرملة إذا كانت في حاجة وليس عندها ما يكفيها فهي أحق بالزكاة والصدقة.
وذات يوم ذكرت ميمونة بنت الحارث لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنها أعتقت وليدةَ فقال ـ عليه الصلاة والسلام: "لو أعطيتها أخوالكِ كان أعظم لأجرك" وفي رواية في الموطأ "لو أعطيتِها أختكِ كان أعظم لأجرك".
وعندما نزلت الآية الكريمة: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) قام أبو طلحة إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: "إن أحب أموالي إلى بَيْرحَي (أي حديقة) وإنها صدقة لله أرجو بِرَّها وذخرها عند الله فضعْها يا رسول الله حيث شئت، فقال ـ عليه الصلاة والسلام: "بخ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، قد سمعت ما قلت فيها، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين، فقسَّمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه".
والله ولي التوفيق.(51/1)
إعطاء الزكاة للزوج:
زوجي مريض واستنفد ثروته في العلاج، وأنا أملك ثروة خاصة فهل يجوز أن أعطيَه زكاة مالي؟
من تجب على الإنسان نفقته لا تجوز عليه الزكاة، فالإنسان ملزم شرعًا بالإنفاق على أصله لأبيه وأمه، وعلى فرعه لأبنائه وبناته وعلى زوجته، فهؤلاء لا يجوز إخراج الزكاة لهم، والمرأة لا تُكلَّف شرعًا بالإنفاق على زوجها. فإن تطوَّعت فهو خير.
ومن هنا فيجوز للمرأة أن تخرج زكاة أموالها إلى زوجها الفقير المحتاج متى كان ممن يستحقون الزكاة.
وهناك موقف مُشابه تَحكِيه كتب السنة الصحيحة عن زينب الثقفية امرأة عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنها ـ قالت: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: تصدقنَ يا معشر النساء ولو من حليكنَّ، قالت: فرجعت إلى عبد الله بن مسعود فقلت له: إنك رجل خفيف ذات اليد (أي فقير لا تملك) وإن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أمرنا بالصدقة فأته فاسأله، وإن كان ذلك يجزئ عني وإلا صرفتُها إلى غيركم، فقال عبد الله: بل ائتِه أنت، فانطلقت فإذا امرأة من الأنصار بباب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حاجتي حاجتُها، وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أُلقِيَتْ عليه المهابة فخرج علينا بلال فقلنا له: ائتِ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأخبِرْه أن امرأتين بالباب تسألانِك:َ أتجزئ الصدقة على أزواجهما وعلى أيتام في حجورهما؟ ولا تخبِرْه مَن نحن، فدخل بلال على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فسأله فقال رسول الله: مَن هما؟ قال: امرأة من الأنصار وزينب فقال رسول الله: أي الزيانب هي؟ قال: امرأة عبد الله.
فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: لهما أجران، أجر القرابة وأجر الصدقة.(52/1)
إعطاء الزكاة للعُصاة:
هل يجوز إعطاء الصدقة لمَن لا يلتزم بحدود الله؟
في البداية يجب أن نعلم أن المسلم لا يكفَّر بمعصية ما دام غير مستَحِلٍٍّ لها وما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة، وإن زنى وإن سرق كما ورد بذلك صحيح الحديث. غاية ما في الأمر أن ذلك متروك لمشيئة الله العليا إن شاء عذَّبه بقَدْر معصيته وإن شاء عفا عنه.
استقراء الأحاديث الصحيحة يُرشد إلى ثُبوت أجر المتصدِّق وإن وقعت الصدقة في يد فاسق، وفي حديث رواه مسلم: "قال رجل لأتصدقَنَّ الليلةَ بصدقة فخرج بصدقتِه فوضعها في يد زانِيَة فأصبحوا يتحدثون: تحدث الليلة على زانية، قال: اللهم لك الحمد على زانيَة، لأتصدقن بصدقة فخرج بصدقته فوضعها في يد غني فأصبحوا يتحدثون: تصدق على غني، قال: اللهم لك الحمد على غني، لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق، فأصبحوا يتحدثون: تصدق على سارق، قال: اللهم لك الحمد على زانٍ وعلى غني وعلى سارق، فأُتِي فقيل له: أما صدقتُك فقد قُبِلَت، أما الزانية فلعلَّها تستَعِفُّ بها عن زناها، ولعل الغنيَّ يعتبر فينفق مما أعطاه الله، ولعل السارق يستَعِفُّ عن سرقته".
وإن مما لا يَغِيب عن البال أن من الأصناف الذين ذكرهم القرآن في مصارف الزكاة صنف المؤلَّفة قلوبُهم، وهم غير المسلمين ليُسلموا وضعاف الإيمان ليقوى إيمانهم أو أهل الجهالة والقسوة مدارةً لهم.
ذاتَ يوم قسَم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَسْمًا فقال له عمر: والله يا رسول الله لَغَيْرُ هؤلاءِ كان أحقَّ به منهم؟ فقال في صحيح مسلم: إنهم خيَّروني أن يسألوني بالفحش" أو يُبَخِّلوني فليست بباخل" أي أن هؤلاء قوم سُفَهاء أَلَحُّوا في المسألة فأعطاهم إياه لهم، ومما يؤكد هذا المعنى حديث البخاري: إني لأعطي الرجل وأدَع الرجل، والذي أدَع أحب إليَّ من الذي أُعطي".
هذا، وبالله التوفيق.(53/1)
رزق الإنسان:
هل الرزق في الدنيا يُساق للإنسان على قدْر عمله؟
القاعدة العامة أن رزق الله يُساق للإنسان في هذه الدنيا على ما قدَّره الله تعالى أزلاً، وعلى مُقتَضى حكمته سبحانه في نظام هذه الدنيا، قال تعالى: (نحنُ قَسَمْنا بينهم معيشتَهم في الحياةِ الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجاتٍ ليتخذَ بعضُهم بعضًا سخريًّا ورحمة ربك خير مما يجمعون). (الزخرف:32).
والتسخير هنا هو تبادل المنافع واحتياج كل إنسان للآخر، مهما كان وضعه، وليست كثرة المال أو قلته دليلاً على محبة الله لعبده أو بُغْضه؛ فإن الدنيا ليست جزاء المؤمن.
وشواهد ذلك من القرآن والسنة كثيرة، قال تعالى : (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمَن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقُفًا من فضة ومعارج عليها يظهرون. ولبيوتهم أبوابًا وسُرُرًا عليها يتكئون. وزخرفًا وإن كل ذلك لَمَّا متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين). (الزخرف:33ـ 35).
وجاء في صحيح الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا أحد أصبرَ على أذًى يسمعه من الله عز وجل، إنه يُشرَك به، ويُجعل له الولد، ثم هو يعافيهم ويرزقهم".
وروى الترمذي حديثًا حسنًا صحيحًا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: لو كانت الدنيا تَزِن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافرًا شَربة ماء أبدًا".
والذي يجب أن يعلمه الناس أن كثرة المال أو قلته إنما هي امتحان من الله لعبده ليشكر أو يصبر قال تعالى: (فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعَّمه فيقول ربي أكرمنِ وأما إذا ما ابتلاه فقدَر عليه رزقَه فيقول ربي أهاننِ) (الفجر:15ـ17).
ومحبة الله لعبده إنما تكمُن في بركة الرزق المُساق إليه وليس في كثرته أو قلته.
ولهذا كان وعيد الله في هذه الحياة الدنيا للمُعرِضين عن شرعه هو ما حكاه القرآن المجيد في قوله: (ومَن أعرض عن ذِكْري فإن له معيشة ضنكًا) (طه: 124).(54/1)
قال العلماء: الضنك في الدنيا هو الذي لا طمأنينة له ولا انشراح لصدره، وإن تنعَّم ظاهره ولبس ما يشاء وأكل ما يشاء وسكن حيث يشاء، فإن قلبه ما لم يخلُص إلى اليقين والهدى فهو في قلق وحَيرة وشك.
هذا، وبالله التوفيق.(54/2)
معصية الفقر:
هل يكون الفقر معصية يُحاسَب عليها الإنسان؟
القرآن المجيد يأمرنا بالسعي والتماس الرزق. قال تعالى: (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور) (الملك: 15).
وقد علَّم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصحابه أن العمل شرف وأن أطيب الكسب عمل الرجل بيده فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ كما في صحيح الحديث: "لَأن يغدوَ أحدُكم فيحطِب على ظهره فيتصدق به ويستغني به عن الناس خير له من أن يَسأل رجلاً أعطاه أو منعه فإن اليد العليا أفضل من اليد السفلى".
وعلى ضَوْء هذا نستطيع أن نقول: إن الفقر الذي ينشأ عن التكاسل وترك السعي هو فقر معصية يُحاسَب عليه الإنسان، وإن الفقر الذي ينجم عن التبذير والإسراف هو فقر معصية، يُسأل عنه المرء يوم القيامة قال تعالى: (ولا تجعل يدَكَ مغلولةً إلى عنُقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملومًا مسحورًا) (الإسراء: 29).
وقد شدد الإسلام النهي عن المسألة والتسوُّل فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ كما في صحيح مسلم: "من سأل الناس أموالهم تكثرًا فإنما يسأل جمرًا فليستقل أو ليستَكثِر" وفي حديث آخر صحيح: "لا تزال المسألةُ بأحدِكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مُزْعَة لحم" أي قطعة لحم، والمعنى أنه يأتي يوم القيامة دليلاً لإكرامه له.
هذا فإن بذل الإنسان جهده والتمس الرزق الحلال من طرُقه المشروعة فلا عليه بعد ذلك أن كان غنيًّا أو فقيرًا فإن لله حكمة ونظام الكون خاضع لمشيئة الله العليا قال تعالى: (إن ربك يبسط الرزق لمَن يشاء ويَقدِر إنه كان بعباده خبيرًا بصيرًا) (الإسراء: 30).(55/1)
الهدية للمُوَظِّفين:
أنا موظفة أقوم بعمل حركة الترقيات في الميعاد القانوني وبحسب الأقدمية، وفي حدود الضوابط المحددة، وهناك موظَّف ممَّن يستحق الترقية قال لي: إنه عند صدور قرار الترقية سوف أُحضِر لك هدية، فهل قبول هذه الهدية يدخل في باب الرشوة؟
يتضح من خطاب الأخت السائلة أنها تؤدي عملها بإتقان وتقوم بحركة الترقيات بأمانة وتراعي الضوابط المحدَّدة قانونًا ولا تظلم أحدًا، وهذا شيء نَحمَدُه لها ونشكرها عليه، فكل إنسان في عمله مسئول أمام الله ـ عز وجل ـ أحسنَ أم ضيَّع، وسيلقى كل عامل جزاء عمله إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر.
وقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الحديث المتفق عليه: "كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته".
وحيث إن هناك موظفًا يَعِدها بهدية عند صدور قرار الترقية وهي لم تُقدِّم له شيئًا يتعارض مع القانون، وإنما عملت ما يمليه عليها النظام وقامت بإعطاء كل ذي حق حقه فإن هذه الهدية لا تعد رشوة، وإنما هي تعبير عن فرحة هذا الموظف بالترقية فيسعى لإكرام زملائه بسببها والهدية تُقابَل بمثلها، وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقبل الهدية ويُكافِئ عليها.
والرشوة في مهدها الشرعي هي ما يُقدَّم لاقتِطاع حق الآخرين، والاستئثار بما لا يستحقه الراشي، فهذا أكل لأموال الناس بالباطل، والمُساعدة على ذلك من كبائر الإثم والفجور، والمال الذي يأتي عن طريق الرشوة هو سحت وحرام. قال تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتُدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقًا من أموال الناس بالإثم وأننتم تعلمون) (البقرة: 188).(56/1)
سيارة العمل:
أعمل سائقًا في إحدى الشركات، وأثناء سَيْري بالأتوبيس أسمح بركوب الناس معي نظير مبلغ زهيد. فما رأي الدين؟
السائق لا يملِك الأتوبيس، وهو أمين في استعماله، فيجب أن يلتزم بما تسمح به اللوائح والقوانين في الشركة، فالحِلُّ والحُرْمة مرتبطان بذلك.
وقد جاء في صحيح الحديث عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: "ألا كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راعٍ وهو مسئول عن رعيته، والرجل راعٍ على أهل بيته وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسئولة عنهم، والعبد راعٍ على مال سيده وهو مسئول عنه، ألا فكلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته".
وما يأخذه السائق نتيجةَ هذا العمل المخالِف للقوانين يعد سحتًا وحرامًا، لا يجوز أخذه ولا الانتفاع به، ويجب إيداعه باسم الشركة التي يعمل بها وتسليمه للمسئول عنها. حتى تبرأ الذمة.(57/1)
توبة السارق:
سرق شخص مالاً من أحد أقاربه، وحتى الآن لم يعلم هذا القريب بسرقة ماله، وقد ندم السارق ندمًا شديدًا. فماذا يفعل حتى يتوب الله عليه؟
إننا في حاجة ماسَّة إلى أن نعيش بالقِيَم والأخلاق، وأن نتعامل بالحسنى والأدب، وأن نصون حرُمات الناس في أموالهم وأعراضهم، وإذا كان هذا مطلوبًا على المستوى العام فإنه على المستوى الخاص أكثر طلبًا وأقوى تأكيدًا، فلذوي القربى مكانة خاصة فهم أحق بالمعروف والبر والصلة، وقد جاء في صحيح مسلم بسنده عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رجل: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن الصحبة؟ قال: أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أبوك، ثم أدناك، أدناك".
فإذا تحوَّل الإنسان إلى سارق لأموال ذوي قُرْباه فهو إنسان خائن للأمانات كلها ومُضيِّع للحقوق بأجمعها، ولا يُوثق به مطلقًا.
والسارق والمرتشي ومن أخذ أموال الناس بغير حق لا توبة له حتى يردَّ الحقوق لأصحابها أو يستسمحهم فيها، وقد أخرج البخاري في صحيحه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "مَن كانت عنده مظلمة لأخيه من عِرْضه أو من شيء فلْيَتَحَلَّله منه اليومَ قبل أن لا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أُخِذ منه بقَدْر مظلمته، وإن لم تكن له حسَنات أُخِذ من سيئات صاحبه فحُمِل عليه".
وعلى السارق أن يُبادر برد المال لصاحبه بأية صورة من الصور، فإذا كان المسروق منه لم يعلم حتى الآن بسرقة ماله ـ كما يقول السائل ـ فليضع المال من حيث أخذه دون أن يشعر به أحد، فإن لم يتيسَّر له ذلك فيمكن أن يقدِّم لصاحب المال هدية أو منحة بما يساوي المال المسروق، ويظل يقدِّم له المعروف والبر حتى يضمن رضاءه عنه.(58/1)
فالمهم أن يرجع المال لصاحبه مهما كانت الأوضاع وبأية صورة كانت، وعلى السارق بعد ذلك أن يندَم ويبكي على خطيئته ويكثر من العمل الصالح عسى الله أن يتوب عليه، وصدق الله العظيم حيث يقول: (وإني لغفَّار لمَن تاب وآمَن وعمل صالحًا ثم اهتدى) (طه: 82).(58/2)
بيع المسروقات:
إذا ابتاع أحد أشياء مسروقة وهو يعلم بذلك فهل يجوز شرعًا له شراؤها واستخدامها؟
شرط صحة البيع أن يكون البائع مالكًا لما يبيع، والمسروق لا يُملَك لأنه حق الغير، وإذا علم المشتري بسرقة الشيء المَبِيع بطل العقد، وبالتالي فلا يجوز شرعًا ترويج بضاعة مسروقة ولا الاتِّجار فيها، وهذا من أكل أموال الناس بالباطل، وقد قال الله تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) (البقرة: 188).
وقال ـ صلى الله عليه وسلم: "كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه".
ويجب أن نحاصر الجريمة ونمنع المجرم من الانتفاع بآثار جريمته، ويجب رد الحقوق لأصحابها. وكل من شارك في ضياع حقوق المسلم سرقةً أو إيواءً أو اتجارًا له نصيب من غضب الله عز وجل.
وشأن مجتمع المسلمين أن يعيشوا عباد الله إخوانًا، وأن يأمن الناس فيه على الحرماتِ، وأن تظل الأمانة بمعناها العام عنوانه الشريف وواقعه المُعاش.
جزاء السارق:
ما جزاء مَن تثبُت عليه تهمة السرقة في المرة الثالثة والرابعة، وما هو الحد الذي يُقام عليه بعد أن تُقطَع يداه؟
حددت الشريعة الإسلامية ألوانًا من العقوبات تُطارد بها شوارد المجتمع البشري كي يتحقق الأمن ويشعر الناس بالطمأنينة. ولا أحد يعلم ما يُصلح النفس البشرية غير خالقها: (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) (الملك: 14).
من هذه الحدود حد السرقة، وهو ثابت بالقرآن والسنة وإجماع العلماء قال تعالى: (والسارق والسارقةُ فاقطعوا أيديَهما جزاءً بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم) (المائدة: 38).
وعندما أهمَّ قريشًا شأنُ المرأة المخزومية التي سرقت كلَّموا أسامةَ بن زيد أن يشفع عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فغَضِب الرسول وقام خطيبًا فقال: "أيها الناس، إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقتْ لقُطعت يدها".(59/1)
وإذا ثبتت السرقة بضوابطها الشرعية فإن الحد أن تُقطَع يده اليمنى فقط، ولو تعددت السرقة قبل القطع، فإن ثبتت السرقة عليه مرة أخرى بعد قطع يُمناه، فأكثر العلماء على قطع رجله اليسرى؛ لئلا يفوت جنس المنفعة عليه، فتُترك يدُه اليُسرى ينتفع بها، فإن سرق الثالثة وتأصَّلت الجريمة في عُروقه قُطِعت يده اليُسرى فإن سرق الرابعةَ قُطِعت رجله اليمنى.
وما نظن إنسان بعد ذلك يُمكنه أن تُحدِّثه نفسُه بالسرقة، حتى وإن حدَّثته فإنه لا يستطيع تنفيذها.
وعلى فرض وقوع السرقة ذلك فليس هناك في حقه حد يُقام، وإنما يُعزَّر بما يراه الإمام في حقه من حبسه أو ضربه أو ما شابَه ذلك.
وما ورد من آثار تفيد قتل السارق في الخامسة فليس فيها حديث صحيح وهي مُنكَرة لا أصل لها. وكفى بالسارق نكالًا أن تُقطَع يده ورجلاه.
ومن ذلك نتبَيَّن مدى حرص الإسلام على المِلْكية الخاصة. وقيامه على أمن المجتمع وطهارته.
والله ولي التوفيق.(59/2)
جزاء السارق:
ما جزاء مَن تثبُت عليه تهمة السرقة في المرة الثالثة والرابعة، وما هو الحد الذي يُقام عليه بعد أن تُقطَع يداه؟
حددت الشريعة الإسلامية ألوانًا من العقوبات تُطارد بها شوارد المجتمع البشري كي يتحقق الأمن ويشعر الناس بالطمأنينة. ولا أحد يعلم ما يُصلح النفس البشرية غير خالقها: (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) (الملك: 14).
من هذه الحدود حد السرقة، وهو ثابت بالقرآن والسنة وإجماع العلماء قال تعالى: (والسارق والسارقةُ فاقطعوا أيديَهما جزاءً بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم) (المائدة: 38).
وعندما أهمَّ قريشًا شأنُ المرأة المخزومية التي سرقت كلَّموا أسامةَ بن زيد أن يشفع عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فغَضِب الرسول وقام خطيبًا فقال: "أيها الناس، إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقتْ لقُطعت يدها".
وإذا ثبتت السرقة بضوابطها الشرعية فإن الحد أن تُقطَع يده اليمنى فقط، ولو تعددت السرقة قبل القطع، فإن ثبتت السرقة عليه مرة أخرى بعد قطع يُمناه، فأكثر العلماء على قطع رجله اليسرى؛ لئلا يفوت جنس المنفعة عليه، فتُترك يدُه اليُسرى ينتفع بها، فإن سرق الثالثة وتأصَّلت الجريمة في عُروقه قُطِعت يده اليُسرى فإن سرق الرابعةَ قُطِعت رجله اليمنى.
وما نظن إنسان بعد ذلك يُمكنه أن تُحدِّثه نفسُه بالسرقة، حتى وإن حدَّثته فإنه لا يستطيع تنفيذها.
وعلى فرض وقوع السرقة ذلك فليس هناك في حقه حد يُقام، وإنما يُعزَّر بما يراه الإمام في حقه من حبسه أو ضربه أو ما شابَه ذلك.
وما ورد من آثار تفيد قتل السارق في الخامسة فليس فيها حديث صحيح وهي مُنكَرة لا أصل لها. وكفى بالسارق نكالًا أن تُقطَع يده ورجلاه.
ومن ذلك نتبَيَّن مدى حرص الإسلام على المِلْكية الخاصة. وقيامه على أمن المجتمع وطهارته.(60/1)
والله ولي التوفيق.(60/2)
التسول:
نشاهد أطفالاً ونساء يحترفون التسول في المواصلات العامة، و يقومون بتوزيع مطبوعات تتضمن سورًا وآياتٍ قرآنيةً، فما حكم الدين في هذه الظاهرة؟
وهل من الأفضل أن نمتنع عن مساعدتهم؟
التسول ظاهرة يرفُضها الإسلام، والذين يُمارسون هذه العادة يجمعون أموالاً من السحت الحرام، وهؤلاء يتظاهرون بالحاجة والمرض ويتفننون في ذلك وهم أغنياء أو قادرون على العمل.
وقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما في الصحيح: "مَن سأل الناس أموالهم تكثرًا فإنما يسأل جمرًا فليستَقِلَّ أو ليستكثر".
أي أن مال التسول شؤم على صاحبه، يتحول إلى جمر يُكوَى به يوم القيامة.
وفي حديث آخر صحيح يقول ـ عليه الصلاة والسلام: "لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مُزْعة لحم" أي قطعة لحم، ومعناه أنه يأتي يوم القيامة ذليلاً لا كرامةَ له عند الله.
فإذا أضفنا إلى ذلك ما قد يُصاحب ظاهرة التسول من توزيع مطبوعات تحمل سورًا وآيات قرآنية تعاظَم الإثم وتضاعفت الجريمة؛ فإن هذا الصنيع امتهان للمصحف الشريف واستخفاف بكلمات الله، فقد تقع هذه المطبوعات القرآنية في يد حائض أو نُفَساء، أو جيَف أو غير مسلم بل قد يتقاذَفُها الناس وتسقط على الأرض. وهذا كله ذنْب كبير وإثم عظيم.
ومن الخير أن نمتنع عن مساعدة هؤلاء الذين يتسوَّلون ويمتهنون بالمصحف الشريف، وعلى المسئولين أن يتعقَّبوا هؤلاءِ ويُلحقوهم بأعمال شريفة تتناسب معهم يكتسبون منها الرزق الحلال.
والله أعلم.(61/1)
العمل الإضافي:
هل البحث عن عمل إضافي لزيادة الدخْل يدل على عدم رضا الإنسان برزق الله؟
السعي على المعاش فريضة بعد الفريضة، والعاقل هو مَن يعمل ليكتسب الرزق الحلال، وقد قال الله تعالى: (هو الذي جعلَ لكمُ الأرضَ ذلولاً فامشُوا في مناكبِها وكُلوا من رزقه وإليه النشور) (الملك:15).
وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: "ما أكل أحدٌ طعامًا قطُّ خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود ـ عليه السلام ـ كان يأكل من عمل يده".
فالبحث عن عمل إضافي لزيادة الدخل جائز شرعًا بل مُسْتَحَبٌّ كلما كان ذلك بضوابطه الشرعية، وهي:
أولاً: لا يكون على حساب عمله الأصلي، فلا يقصِّر فيه ولا يتوانَى عن أداء الواجبات المنوطة به وإلا كان آثمًا.
ثانيًا: أن يكون العمل الإضافي مشروعًا فلا يعمل في محرَّم ولا يشارك في خبيث ولا يساعد على منكَر.
ثالثًا: أن يتوافر له بعد ذلك وقت يقضيه بين أهله وولده يرعاهم ويشرف على سلوكهم ويأنَسُون به، ولا قيمة للحياة المادية في غَيبة السكَن الأسري والطمأنينة الزوجية والكفالة الروحية للأولاد.
رابعًا: أن يكون لدى العامل اقتناع وقناعة:
اقتناع بأن الله قسم الأرزاق ولم ينس أحدًا وأن آلاء الله ونِعَمه على الإنسان لا تُعَدُّ ولا تُحصَى.
وقناعة نفسية بما يملك حتى لا يُصاب بالهلَع والجزَع وسوء التفكير وأمراض النفس.
وقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: "ليس الغِنَى عن كثرة العرَض، ولكن الغنى غنى النفس".(62/1)
بيع السَّلَم:
س: رجل اشترى من آخر قنطارَ قطنٍ على موعد معيَّن بمبلغ مائة وخمسين جنيهًا، وعند حلول الأجل لم يكن عند البائع قطن، فقدم بدل القطن مبلغًا قدره مائة وسبعون جنيهًا على حساب السعر الجديد للقطن فهل هذا حلال؟
هذه الصورة تسمَّى في الفقه الإسلامي سلَمًا أو سلفًا، وهو من صور البيوع الجائزة شرعًا، طالما استوفى شروطه.
وقد جاء في الصحيحين أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "مَن أسلفَ في شيء فليسلِفْ في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم".
والواجب على البائع أن يسلِّم المشتري قنطارَ القطن في الموعد المحدَّد بالمواصفات المتَّفَق عليها.
لكن أن يَرُدَّ إليه مبلغًا أكثر مما أخذ فهذا حرام شرعًا. ويدخل في عموم القرض الذي جرَّ نفعًا فيكون ربًا.
والالتزام بالوعد من شيَم المؤمنين الصادِقين، وخلف الوعد من صفات المنافقين قال ـ عليه الصلاة والسلام: "أربع مَن كنَّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خَصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدَعها: إذا ائتُمِن خانَ، وإذا حدَّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر".(63/1)
المُضاربة:
اقترض تاجر مبلغًا من المال استعان به في تجارته التي ربِحت فهل عند سداد الدين يَرُد المبلغ فقط أم يرد المبلغ مع ربحه؟
المُداينة من ضرورات الحياة الاجتماعية، فأحوال الناس متباينة، وقد أوصانا الله تعالى بالتعاون فقال: (وتعاونوا على البِرِّ والتقوى) وحثنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على التراحم والمودة فقال: "من نفَّس عن مؤمن كُربةً من كُرَب الدنيا نفَّس الله عنه كربةً من كُرَب يوم القيامة، ومن يسَّر على مُعسِر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومَن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه".
وإذا اقترض الإنسان أيًّا كان عمله فلا يُلزَم شرعًا إلا برد مثل ما اقترض، وأية زيادة مشروطة تكون ربًا، والربا حرام تحريمًا مؤكدًا. قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا اللهَ وذَروا ما بَقِي من الربا إن كنتم مؤمنين. فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تَظلِمون ولا تُظلمون) (البقرة: 278 ـ 279).
لكن إذا كان هذا التاجر قد أخذ المبلغ على سبيل المُضارَبة، بمعنى أن يتفق مع صاحب المال على الاتِّجار بماله وتوزيع الربح بينهما بنسبة معينة، فذلك جائز شرعًا ويسمى في الفقه الإسلامي عقد القراض أو المُضارَبة، وهو عقد جائز من الطرَفين؛ لأن أوله وكالة، وقد وكل صاحب المال العامل في اتِّجاره، وبعد ظهور الربح شركة بمعنى أن الربح يُقسَّم بينهما تبعًا للاتفاق نصفًا أو ربعًا أو ثلثًا.. الخ.
وعلى هذا فالسؤال الوارد في هذه الحلقة يُرجَع فيه إلى نية الطرفين إن كانت مدايَنةً صِرْفة فليس إلا رد المبلغ فقط، وإن كانت مُضارَبة فله المبلغ مع ربحه.
والله أعلم.(64/1)
رد القرض:
اقترضت من زميل لي مبلغًا من المال أنقذني من موقف صعب ولما يسَّر الله رددتُ إليه الدَّيْن وشكرتُه وقدمتُ إليه هدية بسيطة فرفضها بدعوى أنها من الربا فهل تقديم هذه الهدية عرفانًا بالجميل حرام؟
في البداية نشكر كلاًّ من الدائن والمَدِين على مشاعرهما الطيبة، فالدائن قدم المعروف وأنقذ زميله من موقف صعب، "ومَن يسَّر على معسِر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة". والمدين معتَرِف بجميل صاحبه: "ومَن لا يشكر الناسَ لا يشكر الله".
فجزاهما الله خيرًا.
وما أحوجنا إلى هذه الروح في معاملاتنا حتى نكون عباد الله إخوانًا.
أما تقديم الهدية من المدين عرفانًا بالجميل ووفاءً فليس من الربا المحرم في شيء بل هي من حسن الأداء، وتحكي كتب الصحاح أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ استلف من رجل بكرًا، فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره، فرجع إليه أبو رافع فقال: "لم أجد فيها إلا خيارًا رباعيًّا فقال: أعطه إياه فإن خيار الناس أحسنُهم قضاءً".
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يستقرض دَينًا، والدَّين هنا كان بكرًا من الإبل صغيرًا، وعندما حان موعد الرد أعطى الدائن رباعيًّا، وهو من الإبل: ما استكمل ست سنين ودخل في السابعة، أي أنه زاده أكثر من حقه، وقال توجيهًا لعامة المسلمين: إن خيار الناس أحسنهم قضاءً".
قال الإمام النووي في شرحه لهذا الحديث: "يُستَحب لمَن عليه دَيْن من قرض وغيره أن يرد أجود من الذي عليه، وهذا من السنة ومكارم الأخلاق، وليس هو من قرضٍ جرَّ منفعة فإنه منهي عنه؛ لأن المنهي عنه ما كان مشروطًا في عقد القرض، ومذهبنا أنه يُستَحَبُّ الزيادة في الأداء عما عليه، ويجوز للمقرض أخذها سواء زاد في الصفة أو في العدد".
وعلى هذا فالمسألة راجعة إلى النية: "وإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى".(65/1)
الربا:
أشتري لبعض الناس أشياء بأموالي الخاصة على أن يكون لي فائدة 20% وأن يُسَدَّد المبلغ كاملاً بالتقسيط على سنة فهل هذه الصورة جائزة شرعًا؟
هذه الصورة من صور الربا الذي حرَّمه الله ورسوله قال تعالى: (وأحل الله البيع وحرم الربا) (البقرة:275)، ولقد لعن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ آكِل الربا وموكِّله وكاتبه وشاهديه وقال هم سواء.
وقد توعد الله أكلة الربا بالمَحْق في الدنيا والعذاب في الآخرة فقال: (يمحق الله الربا ويربي الصدقات) (البقرة:276) وقال: (فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله) (البقرة:279).
وشأن المسلم الصادق أن يكون متعاونًا مع الناس على البر والتقوى يُقرض المحتاج وينظر المعسِر ويتجاوز عن المضطَرِّ ويعرف حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: "مَن نفَّس عن مؤمن كربةً من كرَب الدنيا نفَّس الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة، ومن يسَّر على معسر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة.. والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه". وإذا كان السائل لديه فائض من المال فإن أبواب الحلال كثيرة.
وإن طرُق استثمار المال على الوجه المشروع متعددة.
ويُمكن له أن يشتري الأشياء لحسابه الخاص ثم يبيعها للناس بالسعر المناسب سواء كانت حالَّة أو مؤجَّلة، والحلال بَيِّن والحرام بين.
والمال الحرام لا تُقبل منه صدقة ولا يُرفع معه دعاء؛ فإن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبًا وقد ذكر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "الرجل يُطيل السفر أشعثَ أغبرَ يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغُذِّي بالحرام فأنى يُستجاب له".
أي أن الرجل يجتهد في العبادات ويتحمَّل المشاقَّ في أداء الطاعات ولكنه لا يتورع عن الكسب الحرام فلا تُقبل له دعوة.(66/1)
وقد حدد الله طريق التوبة للكسب الحرام فقال: (وإن تبتُم فلكم رءوس أموالكم لا تَظلِمون ولا تُظلَمون) فالتخلص من المال الحرام واجب أوَّلِي لمَن أراد التوبة النصوح ولنتذكر قوله تعالى في ختام آيات الربا: (واتقوا يومًا تُرجعون فيه إلى الله ثم توفَّى كل نفس ما كسبت وهم لا يُظلمون). (البقرة:281).
وقد روي أن هذه الآية آخر آية نزلت من القرآن العظيم، وعاش بعدها النبي ـ صلى الله عليه وسلم أحدًا وعشرين يومًا، والآية وعظ لجميع الناس وأمر يخص كل إنسان.(66/2)
أموال من دخل الإسلام حديثًا:
أسلمت وعندي مال كثير جمعته من أوجه متعددة لا يرضى عنها الإسلام فما رأي الدين في هذا المال الآن؟!
من الأصول المقررة شرعًا أن إسلام المرء يعتَبر بداية عهد جديد وحياة شريفة مُثلَى، وأن ما مضى من حياة المرء قبل إسلامه في عفو الله سبحانه وتعالى لا يُؤاخَذ بشيء فيها سواءً كان متعلقًا بحقوق الله أو بحقوق العباد.
قال الله تعالى: (قل للذين كفروا إن ينتَهُوا يُغفَر لهم ما قد سلف) (الأنفال: 38).
وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الصحيح: "الإسلام يَجُبُّ ما قبله".
وقد أسلم أناس كثيرون على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكانوا قد قتلوا رجالاً من المسلمين، ومع ذلك لم يُطالَب أحد منهم بقصاص ولا دِيَة وكفارة.
وعلى سبيل المثال وَحْشِيٌّ قاتِل سيدنا حمزة أسلم وحسُن إسلامه وجاهد في صفوف المسلمين.
ومن المعروف أن المسلمين هاجروا من مكة وتركوا ديارهم وأموالهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، واستولى عليها المشركون، وعندما جاء نصر الله والفتح وعاد المسلمون إلى مكة لم يردّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أحد منهم داره أو ماله، بل قيل للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم الفتح: ألا تنزل في دارك؟ فقال: وهل ترك لنا عَقِيل من دار؟
ذلك أن عقيل بن أبي طالب بعد الهجرة استولى على دار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وديار إخوته المسلمين وباعها.
كذلك في خطبة الوداع وضع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كل دم أصيب في الجاهلية وكل ربا في الجاهلية، ولم يأمر برد ما كان قُبِض.
وهذا هو معنى قوله تعالى: (اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين) (البقرة:278). فأمرهم بترك ما بقي في ذِمَم الناس ولم يأمرهم برد ما فقدوه.(67/1)
على هذا فإن الكافر إذا عقد عقدًا فاسدًا من ربا أو بيع خمر أو خنزير أو نحو ذلك وأسلم بعد قبض العِوَض لم يَحرُم ما بيده، ولا يجب عليه رده، وعليه أن يستأنف حياة شريفة في ظلال المنهج الإلهي الراشد.
هذا وبالله التوفيق.(67/2)
النذور:
ما النذر وما الأحكام المتعلقة به؟
النذر هو أن يُلزم الإنسان نفسَه بطاعة ليست واجبةً عليه في الأصل، وذلك كأن ينذر صلاة أو صيامًا أو صدقة أو قراءة قرآن أو عددًا معينًا من التسبيحات إلى غير ذلك.. فالشرط أن يكون من جنس طاعة مشروعة، وهو واجب الوفاء قال تعالى: (وَلْيُوفوا نذورَهم) وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما في صحيح البخاري: "مَن نذَر أن يُطيع الله فليطعْه، ومَن نذر أن يعصي الله فلا يعصه".
والنذر قسمان: نذر معلَّق وهو الشائع مثل أن يقول الإنسان: إن شفى الله مريضي أو نجح ولدي أو قَدِم غائبي فعليَّ أن أتصدق بعشرة جنيهات أو أصوم يومين من كل شهر مثلاً، فعلى الإنسان متى تحقق المعلَّق عليه وشُفِي المريض أو نجح الولد أن يفي بما التزم به من الطاعة.
لكن هنا تنبيه وهو أن هذه الصورة إن كانت جائزة شرعًا إلا أنه يجب أن نتسامَى ونعرف جلال الله وكماله؛ فالنذر لا يُغَيِّر من قضاء الله شيئًا. وإنما يُستَخرَج به من مال البخيل كما قال ـ عليه الصلاة والسلام.
والأولى بالمسلم أن يقدِّم الطاعة قبل الدعاء فنتصدق وندعو الله حتى يُشفَى المريض، ونصلي ونقرأ القرآن وندعو الله حتى ننجح، وهكذا نقدم الطاعة بين يدي الرجاء كما قال ـ صلى الله عليه وسلم: "داوُوا مرضاكم بالصدقة".
ولنعلم أن آلاءَ الله ونِعَمه لا تُعَدُّ ولا تُحصَى، ومظاهر الجود والكرم الإلهي تُحيط بالإنسان من كل جانب فكيف يُؤخِّر طاعة الله حتى يُلبِّي الله رغبة الإنسان، فمِن غير اللائق أن يقول الإنسان: إن نجحت في الامتحان صليت كذا أو صمت كذا، بل عليه أن يُبادر بالطاعات والتقرب إلى الله بشتى ألوان العبادة حتى يُيَسِّر الله له النجاح.
النوع الثاني من النذر أن يقول الإنسان ابتداءً: عليَّ لله أن أصوم كذا أو أصلي كذا من غير تعليق، وهذا هو أسمى أنواع النذر.
مَن مات وعليه نذر؟(68/1)
نفس هذا السؤال ورد على لسان الصحابة إلى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقد جاء سعد بن عبادة ـ رضي الله عنه ـ يَستَفتِي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في نذر كان على أمه فتُوفِّيت قبل أن تقضيَه فأفتاه أن يقضيه عنها.. ويُؤخَذ من الحديث أن قضاء الوارث ما على الميت مطلوب شرعًا فالنذر المالي يجب إخراجه من التركة قبل توزيعها، أما النذر غير المالي كالصيام والحج مثلاً فمن الوفاء للميت أن يقوم وليُّه بقضائه عنه؛ ففي صحيح الحديث: أن امرأة جاءت إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحجَّ حتى ماتت أفأحجُّ عنها؟ قال: نعم، حُجِّي عنها، أرأيتِ لو كان على أمك أكنتِ قاضيةً، اقضوا الله فالله أحق بالوفاء".
هذا والله أعلى وأعلم.(68/2)
ظلم المستأجر:
أزرع في ستة أفدنة، منها أربعة عشر قيراطًا بالإيجار، وعندما أراد صاحب الأرض المستأجرة بيعها ساومتْه عليها حتى اشتريتُها منه بنصف الثمن المعتاد فما رأي الدين في هذه المساومة؟ وما حكم هذا البيع؟
الدِّين المعاملة، وحسن الخلق شيمة المؤمن، والعقود أمانة، فعقد الإجارة لون من التعامل بين الناس يحفظ لكل من المالك والمستأجر حقه فلا يطغَى أحدهما على الآخر.
والإجارة لا تُعطِي للمستأجر حق الملك ولا شُبهته ولا تمنحه حق التسلط على المالك في حرية التصرف في ملكه، وبالتالي فمساومة المستأجر للمالك، في ثمن الأرض بحيث يبخسها ويستولي عليها بنصف الثمن الذي جرى به العرف، هذا لون من السُّحت والنصب والاحتيال وأكل أموال الناس بالباطل. قال الله تعالى: (ولا تأكلوا أموالَكم بينكم بالباطل وتُدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقًا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون). (البقرة:188)
وهناك أحاديث شريفة خاصة بالنهي عن الاستيلاء على أرض الغير بلا حق ففي الصحيح عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: "من أخذ من الأرض شيئًا بغير حقه خُسِف به يوم القيامة إلى سبع أرَضين".
وفي الصحيح أيضًا قال ـ عليه الصلاة والسلام: "من اقتطع أرضًا ظالمًا لقي الله وهو عليه غضبانُ".
فعلى السائل ـ إن كان حريصًا على دينه ـ أن يسترضي المالك وأن يرُدَّ إليه باقي حقه ولا يبخس منه شيئًا، وليحفظ العهد، فإذا كان المالك قد أجر لك أرضه فهذا معروف أسداه إليك فقابل معروفه بمعروف وأحسِن إليه كما أحسن إليك: (هل جزاءُ الإحسانِ إلا الإحسانُ) (الرحمن: 60).(69/1)
خِلو الرِّجْل:
مالك المنزل الذي أُقيم فيه عرض عليَّ "خلو رِجْل" في مقابل تركي المكان الذي أستأجره منه.. فما رأي الدين؟
الدين المعاملة، وحسن الخلق شيمة المؤمن، والعقود أمانة يجب الحِفاظ عليها، والوفاء بها.
وعقد الإجارة لون من التعامل بين الناس، ويحفظ لكل من المالك والمستأجر حقه فلا يطغى أحدهما على الآخر، والإجارة لا يُعطي المستأجر حق الملك ولا شبهته، ولا تمنحه حق التسلط على المالك في حرية التصرف في ملكه، وليس في الإسلام عقد إجارة مؤبد، بل هو مرهون برضا الطرفين، ولكلٍّ منهما حق الفسخ متى أراد.
ومن نُكران الجميل وخيانة الأمانة وجحود المعروف أن يطلُب المستأجر من المالك ما يُسَمَّى ـ خلو الرجل ـ كي يدع للمالك حقه في منزله الخاص، فهذا لون من السحت والغَصْب والاحتيال وأكل أموال الناس بالباطل. قال تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتُدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقًا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون) (البقرة: 188).
وهناك أحاديث شريفة تنهى عن الاستيلاء على أرض الغَيْر بلا حق، ففي الصحيحين عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: "مَن أخذ من الأرض شيئًا بغير حقه خُسِف به يوم القيامة إلى سبع أرضين".
وقال ـ صلى الله عليه وسلم: "مَن اقتطع أرضًا ظالمًا لقي الله وهو عليه غضبانُ".
وهذه الأحاديث نُهديها إلى كل مَن استأجر أرضًا أو مسكنًا ويريد أن يطغى على المالك ويسلبه حقه في التصرف فيما يملك، ونسأل الله الهداية والتوفيق.(70/1)
دَيْن المتوفَّى:
سمعتُ أن مَن مات وعليه دَيْن لا يُصلَّى عليه فهل هذا صحيح؟!
شأن المسلم أن يسعى إلى إبراء ذمتِه وأن يُؤدِّي الحقوق إلى أهلها، وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ كثيرًا ما يستعيذ بالله من غلَبة الدَّيْن؛ لأنه هم بالليل ومذَلَّة بالنهار.
وفي صحيح البخاري أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "مَن أخذ أموال الناس يريد أداءها أدَّى الله عنه، ومَن أخذها يريد إتلافَها أتلفَه الله".
وهناك ما هو أبعد من ذلك فقد ثبت أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "روح المؤمن مرهونة بدَيْنه حتى يُقضَى عنه" أي محبوسة عن النعيم الذي لها حتى يُقضَى ما على صاحبها من دَيْن.
وفي إطار هذا الحِرْص على إعطاء كل ذي حق حقَّه كان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في صدر الإسلام لا يُصلِّي على مَن مات وعليه دَيْن زجرًا للناس عن التساهل في الاستدانة وعن إهمال وفاء الدُّيون ولكنه أمر الصحابة بالصلاة عليه.
فلما فتح الله على نبيِّه البلاد وجاءت الغنائم الكثيرة صار يصلي عليهم ويقضي دَيْن مَن لم يخلف وفاءً، وجاء في الصحيحين قوله ـ عليه الصلاة والسلام: "ما من مؤمن إلا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة، اقرأوا إن شئتم: "النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأيما مؤمنٍ مات وترك مالاً فلْيَرِثُه عصبَته مَن كانوا، ومَن ترك دَيْنًا أو ضَياعًا ـ أي عيالاً محتاجين ـ فليأتني فأنا مولاه".
وهذا الحديث الشريف يرشد إلى كفالة الدولة وبيت مال المسلمين للمحتاجين والعجَزة ومَن لا عائل لهم.
هذا، وبالله التوفيق.(71/1)
التنازل عن الميراث:
إخوة زوجتي يقاطعونها؛ لأنها ترفض التنازل لهم عن ميراثها، فهل تتنازل عن حقها حتى لا تقطع الرحِم؟
الميراث في الإسلام مرتبط ارتباطًا وثيقًا بحياة المسلم الدينية والدنيوية، وقد حدد الله لكل وارث نصيبَه واهتمَّ القرآن كثيرًا بهذا التحديد حتى كان الوعيد شديدًا في مُخالَفة هذا النظام بقَدْر ما كان الفوز عظيمًا في تطبيقه والالتزام به.. قال تعالى عقب آيتي الميراث في سورة النساء: (تلك حدودُ الله ومَن يطع الله ورسوله يدخلْه جناتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم. ومن يعص الله ورسوله ويتعدَّ حدوده يدخله نارًا خالدًا فيها وله عذاب مهين) (النساء: 13 ـ 14).
فالاعتداء على الأموال من أكبر جرائم الإثم، والمال الحرام لا يُقبَل معه عمل صالح ولا يُرفَع معه دعاء ولا تنفع منه صدقة.
ومن هنا فإن مقاطعة هؤلاء الإخوة لأختهم حتى تتنازل عن ميراثها هي مقاطعة آثِمَة وفيها فُجور، وهؤلاء الإخوة لا يزالون يعيشون بعقلية جاهلية ترفض توريث البنات، وقد قال الله تعالى: (للرجال نصيبٌ مما ترك الوالدانِ والأقربونَ وللنساء نصيبٌ مما ترك الوالدان والأقربون مما قلَّ منه أو كثُر نصيبًا مفروضًا) (النساء: 7).
يتحمل هؤلاء الإخوة إثم قطيعة الرحِم، وليس للأخت أن تتنازل عن حقها في الميراث كله أو بعضه إلا عن طِيب خاطر ولمصلحة تراها.
وعليها من جانبها أن تصل إخوتها وإن تَباعَدُوا حتى تحظَى بثواب الله ومَزِيد فضله، وقد جاء رجل إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قائلاً: إن لي قرابة أصِلُهم ويقطعوني وأُحسِن إليهم ويُسِيئون إليَّ، وأحلُم عنهم ويجهلون عليَّ فقال له الرسول الكريم: إن كنت كما تقول فكأنما تُسِفُّهم المَلَّ (أي التراب الحار) ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمتَ على ذلك".(72/1)
الميراث من العمة:
ماتت عمتي وليس لها إلا بنت واحدة فهل لي حق في ميراثها؟
الميراث في الإسلام يرتبط ارتباطًا وثيقًا بحياة المسلم الدينية والدنيوية، فهو نظام مالي يتعلق بتوزيع تركة المتوفَّى، كذلك فهو يتصل بالجانب الأخلاقي والاجتماعي لقيامه على روابط الرحم وعلائق النسَب.
والإرث المُجمَع عليه نوعان:
إرث بالفرض، والفروض المقدرة في كتاب الله تعالى هي: النصف، والربع، والثمن، والثلثان، والثلث، والسدس.
وصاحب الفرض لا يسقط أبدًا.
وإرث بالتعصيب وهو مؤخَّر عن أصحاب الفروض، وهو يأخذ ما بقي بعد الفروض أو يحوز المال كله إذا انفرد، وقد يسقط عند استغراق التركة.
والمسألة التي أمامنا الآن قائمة على أن امرأة ماتت وتركت بنتًا وابن أخ شقيق، وليس لها أقارب غيرهما.
وعلى هذا فالبنت لها النصف فرضًا بنص قوله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كنَّ نساءً فوق اثنتينِ فلهن ثلُثَا ما ترك وإن كانت واحدةً فلها النصف) (النساء: 11).
والباقي بعد ذلك يكون من نصيب ابن الأخ الشقيق تعصيبًا حيث لا يُوجَد غيره، لقوله ـ صلى الله عليه وسلم: "ألْحِقُوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر".
ويجب أن نحرص على إعطاء كل ذي حق حقه، فالاعتداء على الأموال من أكبر جرائم الإثم، والمال الحرام منزوع البركة فلا ينفع صاحبه في الدنيا ويقوده في الآخرة إلى جهنم وبئس المصير.
نسأل الله العفو والعافية.(73/1)
ميراث الجد
س: مات شاب وليس له والدان أحياء ولكن له جد وجدة فهل يرثان فيه؟
نظام الميراث في الإسلام له أهمية قصوى، وقد اهتم به القرآن المجيد، وفصَّله، وقد جاء نظام الميراث في ثلاث آيات من سورة النساء: آيتان متواليتان هما قوله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) إلى قوله تعالى: (من بعد وصيةٍ يُوصَى بها أو دَيْن غير مضارٍّ وصيةً من الله والله عليم حليم) (الآيتان: 11 ـ 12).
والآية الثالثة هي الآية الأخيرة من سورة النساء.
وقد وضحت السنة النبوية كثيرًا من الأحكام المتعلقة بالميراث.
والسؤال المطروح: إذا كان الميت لا وارث له من الأبناء، لا من الذكور ولا من الإناث، وليس له أب ولا أم على قَيْد الحياة، وانحصر ورثتُه في الجد والجدة، وكان الجد هو والد أبيه وكانت الجدة هي والدة أبيه فالميراث هكذا:
للجدة السدُس وللجد الباقي من التركة تعصيبًا.
والدليل على ذلك ما رُوِي أن الجدة جاءت إلى أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ فسألتُه ميراثها فقال أبو بكر: ليس لكِ في كتاب الله شيء، وما علمتُ لكِ في سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ شيئًا، فارجعي حتى أسأل الناسَ، فسأل عنها، فقال المغيرة بن شعبة: حضرت الجدةُ إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأعطاها السدُس، فقال أبو بكر: هل معك غيرُك؟ فقام محمد بن سلمة الأنصاري فقال مثل ما قال المغيرة، فأنفذه لها أبو بكر".
وهذا هو رأي جمهور العلماء.
وهناك رأي ضعيف يذهب إلى أن الجدة أم أبي الميت تقوم مقام الأم فتأخذ الثلث حيث لا يكون للميت فرع وارث ولا إخوة لقوله تعالى: (فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث).
وعلى هذا الرأي الأخير يكون للجدة الثلُث وللجد الباقي تعصيبًا.
والله أعلم.(74/1)
31ـ الوصية للبنات:
لي عم له ثلاث بنات، وليس له ولد، ويمتلك قطعة أرض ومنزلًا، كتب كل ما يملك لبناته، ووضع العقود أمانة عندي لتسليمها لبناته بعد وفاته، ولكن أقاربَه الذين يرثونه غضبوا وطلبوا مني تمزيق العقود وعدم تسليمها لبناته.. فما رأي الدين؟
هذا السؤال له مجموعة جوانب تحتاج إلى رأي الدين:
فأولاً: يجب أن نعي أن كيفية توزيع الميراث حق الله عز وجل الذي حدد لنا الأنصبة وقسمها بين أصحابها، ولله الحكمة البالغة، ولا يعرف العالَم قديمًا أو حديثًا نظامًا لتوزيع التركة يقوم على العدل المطلق كما يوجد في الإسلام، ولهذا نجد في ختام آيات المواريث في سورة السناء هذا التزييل البديع: (فريضةً من الله إن الله كان عليمًا حكيمًا) (النساء: 11) (وصيةً من الله والله عليم حليم) (النساء:12) (يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم) (النساء:176).
ثانيًا: إن الآجال بيد الله عز وجل، ولا أحد يضمن أن يعيش إنسان بعينه بعد إنسان آخر أو أن يموت قبله: (وما تدري نفس ماذا تكسب غدًا وما تدري نفس بأي أرض تموت) (لقمان:34).
فتوزيع الميراث من المورِّث أو طلبه من الورثة قبل موت الإنسان موقف شائن دينًا، ويتنافى مع الإيمان بالله والتوكل عليه والثقة به.
ثالثًا: إن كتابة الملكية لبعض الورَثَة دون بعض اعتداء على حكم الله، ورفض لقضائه العادل حكيم، وقد قال الله تعالى: (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارًا خالدًا فيها وله عذاب مهين). (النساء:14).
ثم إن مَن يحرص على توريث أولاده المال لا يملك أن يمنحهم السعادة والغِنَى فكم من إنسان ورث أموالاً وعاش فقيرًا، وكم من إنسان لم يرث شيئًا وأتتْه الدنيا راغمة.
فالمؤمن العاقل يأخذ بالأسباب المشروعة ويدَع العواقب لله عز وجل.(75/1)
رابعًا: إن السائل الذي استودعه عمه العقود لا يجوز له أن يفرط فيها أو ينكرها بل عليه الوفاء بما استُحفظ عليه، وإذا كان متبرِّمًا بما فعله عمه فكان يجب عليه أن ينصحه ابتداءً ولا يقبل منه العقود، أما أن يخدعه فذلك مرفوض شرعًا، وإذا كان العم ما زال حيًّا فيمكن للسائل أن يرد إليه ودائِعَه، أما إذا كان قد مات فليسلم العقود إلى بناته، وهم يتحملون المسئولية مع أبيهم.
وبالله التوفيق.(75/2)
الوصية الواجبة:
أنجب أبي ولدًا وبنتين، توفِّيت إحداهما قبل أبيها بمدة طويلة ولها أولاد، فهل لأولاد البنت ميراث في جدهم هذا علمًا بأنه قد وصى لهم قبل وفاته بعشرين قيراطًا؟
جمهور العلماء على أن أبناء الأولاد لا يرثون فرضًا ولا تعصيبًا مع وجود الأبناء الذكور الذين يحجبونهم لأنهم أقرب صلة بالميت.
وشرع الإسلام الوصية لغير الوارث، وكان من الإنصاف أن يوصي الأجداد والجدات لأحفادهم غير الوارثين ما يُعينهم على أمر حياتهم. ولكن بعض الناس لا يفعلون ذلك فاستحدث القانون المصري الوصية الواجبة بحيث يُفرَض للأحفاد في ميراث أجدادهم وجداتهم وصية بقَدْر ما كان يَرِثُه الابن أو البنت لو فرض حيًّا، بما لا يَزِيد على ثلُث التركة وبشرط أن لا يكون الجد أو الجدة قد أعطاهم بغير عِوَض من طريق تصرف آخر ما يجب لهم.
وعلى هذا فإن أولاد البنت المتوفَّاة لهم في ميراث جدهم وصية واجبة بما كانت تستحقه أمهم وهو في هذه المسألة التي معنا الربع، وبما أن الجد وصى لأحفاده هنا بعشرين قيراطًا فينظر، إن كان هذا القدر يساوي ربع التركة فلا شيء لهم بعد ذلك؛ لأنهم أخذوا وصيتهم الواجبة كاملة، وإن كان هذا القدر أقل من الربع فيُزاد عليه ما يصل به إلى الربع فقط.. ولا يستحقون شيئًا بعد الربع.(76/1)
الوصية بالمسجد:
أوصى أحد الأثرياء بقطعة أرض يمتلكها لبناء مسجد، وعندما توفي أخذ الورثة هذه القطعة وضموها إلى الميراث واقتسموها بينهم. فما رأي الدين؟
الوصية تكون في حدود ثلُث التركة حتى لا تدَع الورثة يتكفَّفون الناس، وهي لغير وارث حتى يعم الانتفاع.
فإذا فقدت الوصية أحد الشرطين أو كليهما توقفت على إجازة الورثة، فمَن أوصى بما زاد على الثلُث لا ينفَّذ منها إلا بالثلث، ويُستَأْذَن الورثة في الباقي فإن أجازوه فبها ونعمت وإلا فلا.
ومَن أوصى بأي شيء ولو قلَّ لوارث توقَّف التنفيذ على رأي باقي الورَثة.
وهذه القطعة من الأرض التي أوصى بها صاحبها لبناء مسجد إن كانت في حدود ثلث التركة وجب تنفيذها شرعًا، ويكون الاعتداء عليها جريمة يتحمل وزرها الورثة، وإن كانت أكثر من الثلث أخذ الورثة الزيادة وتركوا الباقي لبناء المسجد.
قال الله تعالى في شأن توزيع الميراث: (مِن بعد وصيةٍ يُوصَى بها أو دَين) (النساء: 11).
في صحيح مسلم عن عامر بن سعد عن أبيه قال: عادني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حجة الوداع من وجَع أشفيتُ منه على الموت فقلت: يا رسول الله، بلَغني ما ترى من الوجع وأنا ذو مال ولا يَرِثني إلا ابنة لي واحدة أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا، قلت أفأتصدق بشطره؟ قال: لا، الثلُث والثلث كثير، إنك إن تذَرْ ورثتَك أغنياءَ خير من أن تذرهم عالةً يتكففون الناس، ولستَ تنفق نفقةً تبتغي بها وجه الله إلا أُجِرْتَ عليها حتى اللقمةَ تضعها في في امرأتك.
هذا وبالله التوفيق.(77/1)
حرمان بعض الورثة:
أوصتْ أمي قبل وفاتها بأن يكون عقدُها الذهبي من نصيب أولادها البنات فقط، فما رأي الدين في هذه الوصية؟
قسم الله تعالى الميراث في كتابه العزيز، وفصَّله تفصيلاً، واعتبر مَن يقضي بغير هذه الحدود مرتكبًا جريمة شنعاء، فقال تعالى في ختام آية المواريث: (ومن يعصِ الله ورسوله ويتعدَّ حدوده يدخلْه نارًا خالدًا فيها وله عذاب مهين) (النساء: 14).
ونظام الميراث الإسلامي مما يفخر به المسلمون فليس له مَثِيل في نظُم العالَم أجمع، والوصية في الإسلام إنما تكون لغير الوارث، ولمن يكون محتاجًا كنوع من الصدقة وهي في حدود الثلث؛ ففي الحديث المتفق عليه أن سعد بن أبي وقاص قال: يا رسول الله، أنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنةٌ لي واحدة أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا، قلتُ: أفأتصدق بشطره؟ قال: لا، قلت أفأتصدق بثلثه؟ قال: الثلث والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياءَ خير من أن تذرهم عالةً يتكففون الناس".
أما الوصية لبعض الورثة دون البعض الآخر فغير جائزة في أصل مشروعيتها ولكن إذا وقعت من المورث فتنفيذها موقوف على إجازة باقي الورثة؛ فعن أبي أمامة الباهلي ـ رضي الله عنه ـ قال سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "إن الله قد أعطى لكل ذي حق حقه فلا وصية لوارث".
رواه أحمد والنسائي وحسنه، ورواه الدارقطني من حديث ابن عباس وزاد في اخره: "إلا إن يشاء الورثة".
ومن هنا نعلم أنه لا عِبْرة بموافقة الورثة حالَ حياة الموصي أو الاستحقاق لهم قبل موته، وإنما تُعتَبَر الموافقة بعد وفاة الموصي.
وإذا كان في الورثة صغير أو مجنون فلا تصح منه إجازة الوصية؛ لأنه ليس أصلاً للتصرف، ولا مَن وَلِيَه لأنه تنازُل عن حق ولا يملكه.
هذا وبالله التوفيق.(78/1)
مال اليتامى:
هل يجوز للوصي أن ينتفع بمال اليتيم عند الحاجة؟
الأصل في رعاية اليتيم هو الاحتساب فإن المؤمن يبتغي وجه الله والدار الآخرة على حد قوله تعالى: (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورًا) (الإنسان:9).
وقد جعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ القائم على رعاية اليتيم قرينًا له في الجنة فقال كما في الصحيحين: "أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة، وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى".
والقانون الذي يحكم علاقة الوصي بمال اليتيم هو قوله تعالى: (ومَن كان غنيًّا فليستعْفِف ومن كان فقيرًا فليأكل بالمعروف) (النساء:6).
والاستعفاف أبلغ من العفاف فإنه طلب لزيادة العفة فعلى الوصي الغني أن يمتنع بشدة عن الانتفاع بأى شيء من مال اليتيم، أما إذا كان فقيرًا فإن له أن يأخذ بالمعروف.
وقد فسر العلماء هذا المعروف بأمور، منها أن يأخذ أحد الأمرين: أجرة مثله في قيامه بأمر المال والإشراف عليه، أو قدر حاجته.
وقال عامر الشعبي: لا يأكل منه إلا أن يضطر إليه كما يضطر إلى المَيْتة.
وجاءت بعض الأحاديث توضِّح ذلك؛ فقد أخرج أحمد في مسنده "أن رجلًا سأل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: ليس لي مال ولي يتيم، أي له مال، فقال عليه الصلاة والسلام: "كُل من مال يتيمك غير مسرفٍ ولا مبذِّر ولا متأثِّل مالاً ومن غير أن تفي مالك".
واختلف الفقهاء: هل يرد الوصي بعد ذلك ما انتفع به إذا أيسرَ؟
والذي نختاره أن الانتفاع إذا كان بأصل المال من ذهب أو فضة أو عقار وجب عليه ردُّه إذا أيسر فهو أشبه بالانتفاع بمال الغير عند الحاجة فيكون فرضًا.
أما الانتفاع بما بذَرَه المال كألبان الماشية وركوب الدواب واستعمال الأواني والآلات من غير إسراف، وفي حدود العرف فلا يرد من ذلك شيئًا.
ولنتذكر جيدًا قوله جل جلاله: (والله يعلَمُ المُفسِدَ من المصلحِ) (البقرة:220).
هذا وبالله التوفيق.(79/1)
صدقة السر:
أيهما أفضل صدقة السر أم العلانية؟
قال تعالى: (إن تبدوا الصدقات فنِعِمَّا هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير) (البقرة: 271).
فإخفاء الصدقة أفضل من إظهارها؛ لأنه أبعد عن الرياء وأكرم للفقير إلا أن يترتَّب على الإظهار مصلحة راجحة من اقتداء الناس به، فيكون أفضل من هذه الحيثية، فمثلاً لو أ ن سيدة فاضلة تعرف أسرةً منكوبةً أو ربما لا عائل لها ودَعَتْ جيرانَها للمُساهمة معها في إعانة هذه الأسرة، وقالت لهم: إني تصدقت بكذا فلا شيء في ذلك بل هو نَوْع من حفز الهِمَم للمساهمة في الخير.. وكل إنسان مُطالَب بأن يتصدق ويؤثر غيره بالصدقة.
وقد توسع الإسلام في مفهوم الصدقة فجعلها عامةً لكل ألوان البِرِّ، فقال ـ عليه الصلاة والسلام: "تعدِل بين الاثنين صدقة، وتُعين الرجل في دابته فتَحمِله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوةٍ تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتُميط الأذى عن الطريق صدقة".(80/1)
الضرائب:
هل تقوم الضرائب مَقام الزكاة؟
الضرائب من المصالح التي يُقدِّرها ولي الأمر باجتهاده وتمثل جزءًا من ميزانية الدولة ويُصرَف منها على الخدمات والمرافق العامة.
أما الزكاة فهي فريضة دينية حدَّد الله تعالى مصارفَها في قوله جل شأنه: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم) (التوبة: 60). وللزكاة نصاب معين ومقدار خاص وأنواع محدَّدة لا يجوز الخروج عليها.
وبالتالي فلا تقوم الضرائب مقام الزكاة، بل تجب الالتزام بكل منهما في الحدود المقرَّرة قانونًا وشرعًا.
ومبلغ علمي أن بعض الحكومات الإسلامية تخصم من الضرائب نسبةً معينة في مقابل تقديم ما يُثبت إخراج الزكاة.(81/1)
الصدقة الجارية:
ما تفسير قول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتَفَع به، أو ولد صالح يدعو له"؟!
وما مقدار الصدقة الجاريَة؟ وهل تتكرر كل سنة؟
من فضل الله تعالى على عباده أن جعل لهم من الأعمال الصالحة، ما يتواصل ثوابُها ويتعاظَم أجرها ويمتد جزاؤها إلى ما بعد الممات.
من هذه الأعمال الصالحة: الصدقة الجارية التي تظل موجودةً يُنتَفع بها مدة من الزمن، فيجعل الله لها من الثواب ما يصل إلى صاحبها حيًّا كان أو ميتًا، وفي صحيح البخاري أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "ما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة".
ومُقتَضى الحديث ـ كما ذكر العلماء ـ أن ثواب ذلك مستمر ما دام الغرس أو الزرع مأكولاً منه ولو مات غارسه أو زارعه، ولو انتقل ملكه إلى غيره، وجاءت آثار كثيرة تبين ألوانًا من الصدقة الجارية مثل توريث المصحف وبناء المساجد والمدارس والمستشفيات وشق الترع والقنوات وإقامة المضخَّات المائية، وسواء عَمِلها الإنسان في حياته أو عُمِلت باسمه بعد مماته من أهله وأقربائه فإن الثواب يصل إلى الحي والميت.
أما العلم الذي يُنتَفَع به فهو على العموم ما يتصل بالعقيدة والعبادة والمعاملة والحياة فكل مَن دعا إلى هدى وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر أو عَلَّم الناس صنعةً ينتفعون بها أو اكتشف علاجًا لمرض أو نظرية علمية تُيَسِّر للناس سُبَل معيشتهم، وهو مؤمن مسلم فإن ثواب علمه يتواصل له بعد مماته وكذلك نشر الكتب وطباعتها.
أما الولد الصالح فهو نعمة لأبيه في الدنيا والآخرة، ودعاء الآباء لأبنائهم أو دعاء الأبناء لآبائهم هو من الدعاء المُستَجاب لأنه أنقى الدعاء وأصفاه وأخلصَه.(82/1)
فمَن مات له عزيز فلْيَدْعُ له وليتصدَّق عليه ولْيَتَحَرَّ الصدقات التي يمتد نفعها وتبقى زمنًا طويلاً حتى يتعاظم الثواب، وليس للصدقة مقدار معين أو زمن خاص. وكل إنسان يُقدِّم ما يستطيعه قلَّ أو كثر، وقد قال الرسول الكريم: "فاتقوا النارَ ولو بشق تمرة".(82/2)
زكاة الزروع:
أملك فدانين ولي أسرة كبيرة مُعسِرة فهل يجوز لي الاحتفاظ بزكاة الزروع وعدم إخراجها لحاجتي إليها؟
حدَّد الله تعالى على لسان رسوله أنصبةَ الزكاة ومقدارها في الزروع والثمار والماشية وعروض التجارة والأموال المدَّخرة. وجعلها نماءً للمال وطُهرة للنفس قال تعالى: (خُذ من أموالهم صدقةً تطهرُهم وتُزَكِّيهم بها وصلِّ عليهم إن صلاتَك سكَن لهم والله سميع عليم) (التوبة:103).
والصدقة تقع في يد الله قبل أن تقع في يد الفقير قال جل شأنه: (ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم) (التوبة:104).
ولا يبلغ العبد كمالَ الإيمان حتى يرى نفسه أحوجَ إلى ثواب الصدقة من الفقير إلى صدقته.
وفي صحيح الحديث أن النبي ذكر النار فتعوَّذ منها وأشاحَ بوجهه ثلاث مرات ثم قال: "اتقوا النار ولو بشق تمرة فمَن لم يجد فبكلمة طيبة".
وعلى هذا فمَن يملك نصابًا من الزرع مما يُدَّخَر ويُقتَات وجب عليه شرعًا شكر النعمة التي ساقَها الله إليه بأن يُخرج زكاتَها فورًا تصديقًا لقوله تعالى: (وآتُوا حقَّه يومَ حصادِه) (الأنعام: 141).
وإلا فقد عرَّض نفسه لسخط الله وعرَّض النعمة لزوالها؛ فإن الزكاة ما خالطت مالاً إلا أفسدته.
وقد حذرنا الرسول أن نبخل بالصدقة، فقال عندما سُئِل أي الصدقة أعظم؟ قال: أن تتصدق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر وتأمل الغِنَى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان.
ولنتأدب بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يستعفف يُعِفَّه الله ومَن يَستغن يُغنِه الله ومن يصبر يصبره، وما أعطي أحد من عطاء خيرًا وأوسع من الصبر".(83/1)
زكاة أموال اليتامى:
أنا وصية على أولادي الصِّغار، ولهم أموال مُودَعة في البنك تَزِيد على النِّصاب الشرعي، فهل أخرج الزكاة عن أموالهم هذه؟
اليتيم في كفالة وَلِيِّه يجب له حسن الرعاية والتربية، وحفظ ماله وتنميته، وقد أمر الله تعالى الأوصياء أن يستثمروا أموال اليتامى حتى تنمو وتتكاثر فقال: (وارزقوهم فيها واكسوهم) (النساء: 5) أي اجعلوا أموالهم سببًا لرزقهم وكسوتهم بأن تتَّجِروا فيها وتستثمروها حتى تكون نفقاتهم من الأرباح وليس من رأس المال.
وبالنسبة لزكاة أموال اليتامى فقد حكى الإمام ابن رشد أقوال العلماء في ذلك، فذهب علي وابن عمر وجابر وعائشة من الصحابة، ومالك والشافعي والثوري وأحمد وإسحق وأبو ثور وغيرهم من فقهاء الأمصار إلى أن الزكاة تجب في أموال اليتامَى.
وذهب النخعي والحسن وسعيد بن جبير من التابعين إلى أنه لا زكاة في أموال اليتامى مطلقًا.
وفرَّق أبو حنيفة وأصحابه بين ما تُخرجه الأرض وبين ما لا تخرجه، فقالوا بوجوب الزكاة فيما أخرجته الأرض من الزروع والثمار، ولا زكاة فيما عدا ذلك من الأموال المدَّخرة وعروض التجارة والماشية.
وسبب اختلافهم في حكم الزكاة على أموال اليتامى هو اختلافهم في مفهوم الزكاة الشرعية، فمَن عدَّ الزكاة عبادةً قال بعدم وجوبها على اليتيم؛ لأنه صغير لم يبلغ، والبلوغ شرط التكليف، ومَن عدَّ الزكاة حقًّا للفقراء على الأغنياء قال بوجوب الزكاة في أموال اليتامى لأنهم أغنياء.
ونحن نرى عدم إخراج الزكاة من أموال اليتامى حتى لا نفتح الباب أمام بعض الأوصياء أن يعبثوا بأموال اليتامى، وعندما يبلغ اليتيم ويؤول إليه ماله يمكن أن يتصدق بما شاء تطهيرًا لماله وقربى إلى الله عز وجل.
والله أعلم.(84/1)
الكفارات المالية:
هل يجوز شرعًا وضع كفارة اليمين المالية في بناء المساجد؟
علينا أن نفرق بين نوعين من الصدقات الواجبة على المسلم.
صدقة هي زكاة الأموال والزروع والثمار وعروض التجارة، ولها مصارف شرعية حددتها الآية الكريمة: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضةً من الله والله عليم حكيم) (التوبة: 60).
وللعلماء في تفسير قوله تعالى: (وفي سبيل الله) رأيان، قيل: مراد به الجهاد، وقيل: مراد به ما هو أعم بما يشمل كل خير للمسلمين كالمساجد والمدارس والمستشفيات والملاجئ وغير ذلك.
وعلى هذا فيجوز إخراج جزء من زكاة الأموال في مصالح المسلمين العامة.
أما النوع الثاني من الصدقات الواجبة فيشمل زكاة الفطر وكفارات الفطر في رمضان والأيمان والظهار وهَدي الحج، فهذه الصدقات لا تُصرَف إلا للفقراء والمساكين ولا يجوز وضعها في مشروعات البناء لأن الله تعالى حدد مصارف هذه الكفارات في نصوص شرعية لا يجوز الخروج عنها.
قال تعالى في كفارة الفطر من رمضان: (وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعامُ مسكينٍ) (البقرة:184).
وقال جل شأنه في كفارة الأيمان: (فكفارته إطعام عشَرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم) (المائدة: 89).
وقال سبحانه في هدي الحج: (فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير) (الحج: 28).
وقال عز من قائل في كفارة الظهار: (فمَن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا) (المجادلة: 4).
وأشار الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى حكمة زكاة الفطر فقال كما رواه أبو داود وابن ماجة وصححه الحاكم: "زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفَث وطُعمة للمساكين".(85/1)
وعلى هذا فكفارات الأيمان والظهار والفطر بل الكفارات عمومًا لابد أن تصل إلى الفقراء والمساكين لتحسين أوضاعهم الاقتصادية ورفع مستوى معيشتهم، ولا يجوز وضعها في المرافق العامة.(85/2)
الاستخدام الشخصي للمال العام:
ما حكم استخدام الإمكانات في جهة العمل استخدامًا شخصيًّا مثل التليفون والسيارة وأدوات الكتابة وغير ذلك؟
الاستخدام الشخصي لإمكانات العمل مرهون باللوائح والقوانين، فما سمحت به فهو حلال وما منعت منه فهو حرام.
والمال العام له حُرمة كبيرة، ويجب على المسلم صيانته والحفاظ عليه وتنميته وعدم المساس به.
وقد ثبت في الصحيح أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "إني لأنقلب إلى أهلي فأجد الثمرة ساقطةً على فراشي ثم أرفعها لآكُلها ثم أخشى أن تكون صدقةً فألقيها".
فهذا رسول الله يجد الثمرة وهي شيء يسير، ويجدها على فراشه، وله رغبة في تناولها أو حاجة إليها ولكنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ما يكاد يرفعها إلى فمه حتى يخشى أن تكون من زكاة المسلمين وأموالهم العامة فيلقيها فورًا ولا يتناولها.
بل إن نصوص الشريعة تجعل حرمة المال العام أشد من حرمة المال الخاص ففي صحيح مسلم بسنده عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال: "لما كان يوم خيبر أقبل نفر من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالوا: فلان شهيد، وفلان شهيد حتى مروا على رجل فقالوا: فلان شهيد، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم: كلا إني رأيته في النار في بردة غلَّها أو عباءة.
أي أنه أخذ شيئًا من الغنائم قبل تسليمها لولي الأمر وتوزيعها التوزيع الشرعي.
وكل إنسان أخذ شيئًا من الغنائم وبالتالي من المال العام دون وجه استحقاق سيفضحه الله تعالى على رءوس الأشهاد يوم القيامة، وسيأتي يحمله على عنقه مهما كان صغيرًا أو كبيرًا. قال تعالى: (وما كان لنبي أن يغُلَّ ومن يغلل يأتِ بما غَلَّ يوم القيامة ثم توفَّى كل نفس ما كسبت وهم لا يُظلَمون). (آل عمران:161).(86/1)
الصوم منهج تربية:
العبادات في الإسلام مناهج للتربية تُصَحِّح العقيدةَ وتُطَهِّر الأخلاق وتُقَوِّم السلوك، والمسلم في صلاته وصيامه وزكاته وحجه يجمع بين الروح والبدن، ويربط بين القلب والقالب، ويرقى في معارج القدس ومنازل المصطفين الأخيار.
والصوم منهج عظيم للتربية يرتكز على الإخلاص، والخشية من الله، والحب لله، والإيثار لمرضاته سبحانه. فهو عبادة بعيدة عن الرياء ولا يطَّلع عليها إلا علام الغيوب، وهو عبادة تترفَّع بالإنسان عن مطالِب الشهوة، وتجعل الإنسان يمتَلِك الإرادة الطاهرة، وتؤهِّله لتقلبات الزمان ومواجهة مصاعب الحياة، وتمنحه صفاء العقل ونور البصيرة.
فإن الترف قاتل، وإن المُترَفين لا يبنون مجتمعًا، وإن الحرص على المادة لا يمنح السعادة.
ولنتأمل قول رسول الله ـ صلى لله عليه وسلم: "كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة عشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، قال الله عز وجل: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزى به، يدَع شهوته وطعامه من أجلى، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولَخَلُوف فيه أطيب عند الله من ريح المسك".
والملاحَظ أن التعبير القرآني جعل غاية الصوم هي التقوى في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كُتِب عليكم الصيامُ كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) (البقرة:183).
والتقوى هي جِماع الخير كله.
وما ذاك إلا لأن سلوك الصائم سلوك رشيد في الكلمة والفعل، وفي ذلك يقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يومُ صومِ أحدِكم فلا يَرفُث ولا يَصخَب فإن سابَّه أحد أو قاتَلَه فليقُلْ إني امرؤ صائم".
وفي تعبير جامع يؤكد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن التزام القيَم والولاء للحق هو الغاية القُصْوَى للصوم فيقول: "مَن لم يَدَع قول الزور والعملَ به فليس لله حاجة في أن يدَع طعامَه وشرابَه".
فقول الزور والعمل به يعني المعاصي كلها، وترك ذلك يعني الطاعات بأجمعها".(87/1)
وهذا ما يؤكد أهمية أن نتناصح جميعًا رجالاً ونساءً، ونؤدي الصوم إيمانًا واحتسابًا، ونسعى جاهدين لطهارة الفرد والمجتمع.(87/2)
التقوى بين القرآن والسنة:
ارتبط رمضان بأعظم حدَث وأكبر معجزة وأخلَد رسالة، قال الله تعالى: (شهر رمضان الذي أُنزِل فيه القرآن هدًى وبيِّناتٍ من الهدى والفرقان). (البقرة:185).
والملاحَظ في البيان القرآني أن الله تعالى جعل القرآن في هذه الآية هدًى للناس، وفي صدر السورة التي تنتسب إليها هذه الآية، وهي سورة البقرة جعل الله تعالى القرآن هدى للمتقين فقال: (آلم. ذلك الكتاب لا ريب فيه هدًى للمتقين) (البقرة:1ـ2) فكأن المتقين هم الناس، ومَن لا تقوى عنده لا إنسانية له.
وقد جاء لفظ التقوى في القرآن معبرًا عن أكثر من معنًى، فالتقوى بمعنى الخشية كما في قوله تعالى: (واتقوا يومًا تُرجَعُون فيه إلى الله ثم تُوفَّى كل نفسٍ ما كسبتْ وهم لا يُظلَمُونَ). (البقرة:281).
والتقوى بمعنى الإيمان كما في قوله تعالى: (فأنزلَ اللهُ سكينتَهُ على رسولِه وعلى المؤمنينَ وألزمَهم كلمةَ التقوى وكانوا أحقَّ بها وأهلَها وكان اللهُ بكل شيء عليمًا) (الفتح:26).
فكلمة التقوى هي كلمة التوحيد التي كانت وسامًا رفيعًا لأصحاب بيعة الرِّضوان الذين رضي الله عنهم.
وتأتي التقوى بمعنى الإخلاص كما في قوله تعالى: (ذلك ومَن يعظِّم شعائرَ الله فإنها من تقوى القلوبِ) (الحج:32)، وتقوى القلوب هو إخلاصها وهو مقام شريف.
وتأتي التقوى بمعنى الطاعة كما في قوله تعالى: (يُنَزِّلُ الملائكةَ بالروحِ من أمرِه على مَن يشاءُ من عبادِه أن أنذِرُوا أنه لا إله إلا أنا فاتقونِ) (النحل:2).
وقد حظي المتقون بشرف المَعِيَّة الإلهية، معية الحفظ والرعاية والعناية فقال جل شأنه: (إن الله معَ الذين اتَّقَوْا والذين هم مُحسِنُونَ) (النحل:128).
ومَن كان في مَعِيَّة الله فهو الأعز.. فعزُّه الله، وهو الأكرم فتكريمه من الله، وهو الأسعد.. فسعادته منحة من الله. قال تعالى: (إن أكرمَكم عند الله أتقاكم) (الحجرات:13)..(88/1)
وهنا يأتي الصوم ليؤكد حقيقة التقوى وليدفع الناس إلى رحابها ويربيهم في ظلالها فينعَمُوا بثمراتها الطيبة المبارَكَة: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون). (البقرة:183).(88/2)
الجهاد في رمضان:
الجهاد في سبيل الله قمة العبادات وأعظم القرُبات إلى الله عز وجل، وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحث أصحابه كثيرًا على الجهاد والثبات والتضحية والاستشهاد حتى تعلو راية الحق وتُصان الحرُمات ويأمَن الناس على دمائهم وأموالهم وأعراضهم.
وفي صحيح الحديث: "مثَل المُجاهِد في سبيل الله كمثَل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتُر من صلاة ولا صيام حتى يرجِع المجاهد في سبيل الله".
وقد وقعت في رمضان غزوتان على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ غزوة بدر الكبرى في العام الثاني للهجرة، وفتح مكة في العام الثامن للهجرة.
لقد جعل الله النصر يومَ بدر آيةً وعبرةً وسنة جاريةً فقتال: (قل للذين كفروا ستُغلَبُون وتُحشَرُون إلى جهنم وبئس المهادُ. قد كان لكم آيةٌ في فئتين التقتا فئةٌ تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يَرَوْنَهم مِثْلَيْهِم رأيَ العين والله يؤيِّد بنصره مَن يشاء إن في ذلك لعبرةً لأولي الأبصار) (آل عمران:12ـ13)..
وكان فتح مكة نصرًا مبينًا به تمَّت النعمة، وعليه قامت الخلافة الإسلامية، وانتشرت كتائب الرحمن تحمل نور الله في الآفاق.
قال تعالى: (إذا جاء نصر الله والفتح. ورأيتَ الناس يدخلون في دين الله أفواجًا. فسبِّح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابًا). (سورة النصر).
وسار رمضان في تاريخ المسلمين يدفعهم إلى العمل والجهاد ويُحقِّق الله فيه النصر تِلْوَ النصر.. حتى كان العاشر من رمضان سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة وألف لهجرة المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ واقتحَم جنود مصر الأبطال أكبر عائق مائي في وضَح النهار وحطَّموا أضخم خط دفاعي وعبَرُوا إلى سيناء مهلِّلين مكبِّرين صائمين.
إن نصر الله دائمًا حليف للمؤمنين الصادقين، وعندما ننصر دين الله يمكِّن الله لنا في الدنيا، ويفتح علينا من بركات السماء والأرض.(89/1)
فالله هو الحق، وقوله الحق، ووعده الحق، قال تعالى: (ولينصرنَّ الله مَن ينصره إن الله لَقوي عزيز. الذين إن مكَّناهم في الأرض أقاموا الصلاةَ وآتَوُا الزكاةَ وأمروا بالمعروف ونَهَوْا عن المنكر ولله عاقبة الأمور).
(الحج:40ـ41).(89/2)
الآثار النفسية للاعتكاف:
للنفس إشراقات وأنوار تتجلَّى في شهر رمضان من خلال سنَّة الاعتكاف التي هي مشروعة في كل أوقات السنة، وتتأكد خلال الشهر الكريم، وقد أحياها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعرفتْها الرسالات السابقة. وقد أشار القرآن المجيد إلى أن الاعتكاف عبادة قديمة في مثل قوله تعالى: (وعَهِدْنا إلى إبراهيمَ وإسماعيلَ أن طَهِّرا بيتيَ للطائفين والعاكفين والركَّع السجود) (البقرة: 125).
والاعتكاف هو المُكث في المسجد بنية، وهو سنَّة مؤكدة في كل وقت، وقد يجب بالنذر، وفي صحيح الحديث عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: "كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفَّاه الله عز وجل ثم اعتكف أزواجُه من بعده".
وفي صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال: يا رسول الله، إني نذرتُ في الجاهلية أن أعتَكِف ليلةً في المسجد الحرام، فقال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم: أوفِ نذرك، فاعتكف ليلةً".
وثبت أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ اعتكف العشر الأُوَل من شوال.
ومما يعمِّق صفاء النفس ويشرح الصدر ويمنح الإنسان السكينةَ أن الاعتكاف لا يكون إلا في مسجد، وللمسجد آثاره المبارَكة، فالمساجد بيوت الله في الأرض تحفها الملائكة وتتنزل فيها الرحمة وتجمع من معالم الخير والرشد ومجالس العلم والتربية ما يجعل المسلم أصفى روحًا وأنقى نفسًا وأخلص قلبًا.
وجاءت آراء للعلماء تخصِّص المسجد:
فقال الشافعي ومالك: يصح الاعتكاف في كل مسجد.
وقال أحمد: يختص بمسجد تقام الجماعة الراتبة فيه.
وقال أبو حنيفة: يختص بمسجد تُصَلَّى فيه الصلوات كلها.
وقال الزهري وآخرون: يختص بالجامع الذي تُقام فيه الجمُعة.
ونقلوا عن حذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنه ـ اختصاص الاعتكاف بالمساجد الثلاثة: المسجد الحرام ومسجد المدينة والأقصى.(90/1)
إن للاعتكاف آثارًا نفسية مُبارَكة فالرجل والمرأة على سواء في استشراف هذه الآثار.
فالاعتكاف سنَّة للرجال والنِّساء إلا أن أبا حنيفة صحَّح اعتكاف المرأة في مسجد بيتها.
وقد حدثت السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ كما في صحيح مسلم ـ قالت: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا أراد أن يعتَكِف صلى الفجر ثم دخل مُعْتَكَفَه، وإنه أمر بخبائه فَضُرِب، أراد الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان، فأمرت زينب بخبائها فضُرِب، وأمر غيرها من أزواج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بخبائها فضُرِب، فلما صلى رسول الله الفجر نظر فإذا الأخبِيَة فقال: آلِبِرَّ تُرِدْنَ؟ فأمر بخبائه فقُوِّض وترك الاعتكاف في شهر رمضان حتى اعتكف في العشر الأُوَل من شوال.
وفي فهم هذه الواقعة ساق الإمام النووي ما يلي:
قال القاضي: قال رسول الله هذا الكلام إنكارًا لفعلهنَّ، وقد كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ أذن لبعضهن في ذلك كما رواه البخاري، قال: وسبب إنكاره: أنه خاف أن يكنَّ غير مخلِصات في الاعتكاف بل أردنَ القربَ منه لغَيْرَتِهِنَّ عليه أو لغَيْرَتِه عليهن، فكَرِه ملازمَتَهُنَّ المسجد، مع أنه يجتمع الناس ويَحضُره الأعراب والمُنافِقُون، وهنَّ مُحتاجات إلى الخروج والدخول لِمَا يَعرِض لهن فيُبْتَذَلْنَ لذلك، أو لأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ رآهن عنده في المسجد وهو في المسجد، فصار كأنه في منزله بحضوره مع أزواجه، وذهب المهمُّ من مقصود الاعتكاف، وهو التخلِّي عن الأزواج ومتعلقات الدنيا وشبيه ذلك، أو لأنهن ضيقْنَ المسجد بأبنيتهن.
وفي هذا الحديث دليل لصحة اعتكاف النساء؛ لأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان أذن لهنَّ، وإنما منعهُنَّ بعد ذلك لعارِض.
وفيه أن للرجل منع زوجته من الاعتكاف بغير إذنه، وبه قال العلماء كافة، فلو أذِن لها فهل له منعها بعد ذلك؟
فيه خلاف للعلماء.(90/2)
حول ليلة القدر:
مفهوم القدر:
القدْر ـ على ما نَختارُه ـ هو الشرَف والمنزِلة السامية والمكانة الرفيعة، ومفهوم الشرَف تابع للمراد بالليلة.
ونحن نرى أن ليلة القدر ليلتان:
1 ـ ليلة غار حراء التي التقى فيها جبريل برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونزل فيها قوله تعالى: (اقرأ باسم ربك الذي خلق...) (سورة العلق:1).
ويمكن أن نسميها ليلة القرآن أو ليلة الغار، وهي بحق ليلة قَدْر، نزل فيها ملك ذو قدر هو جبريل الأمين، بكتاب ذي قدْر هو القرآن المجيد، على نبي ذي قَدْر هو محمد سيد ولد آدم، لأمة ذات قَدْر، هي أمة الإسلام، خير أمة أخرجت للناس.
2 ـ ليلة العبادة التي تفضَّل الله بها على أمة الإسلام، فجعل العبادة فيها تَعدِل ثواب العبادة في ألف شهر، وحفَّها بمزيد التكريم فكانت سلامًا عامًّا، تتنزل فيها الملائكة يلقون السلام ويُشِيعون البركة على كل مسلم يذكر الله جل جلاله.
الفرق بين الليلتين:
ليلة القرآن أو ليلة الغار معلومة على وجه اليقين أو الظن الغالب، فهي الليلة التي كان سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ متحنثًا في غار حراء حتى فجَأَه الوحي وضمه جبريل وقال له: اقرأ، ورجع الرسول إلى زوجه السيدة خديجة، يقول لها: زملوني.. زملوني..
فهي ليلة لها من الملابسات والآثار النفسية والاجتماعية والتاريخية ما يجعلها في بؤرة الشعور دائمًا ولا يُعقَل نسيانها أو خفاؤها.
وهذه الليلة عند المحقِّقين هي ليلة السابع عشر من شهر رمضان في السنة الحادية والأربعين لميلاد المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ الموافق السادس من شهر أغسطس للعام العاشر بعد المائة السادسة لميلاد المسيح عليه السلام.
فهي ليلة تاريخية لا تتبدل ولا تنتقل ولا تدور.
أما ليلة العبادة فهي ليلة كافأ الله بها أمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخصَّها بمزيد الثواب، وهي التي جاءت الآثار بالتماسها وتَحَرِّيها، وهي التي دار حولها الخلاف بين العلماء.(91/1)
دلائل الفرق بين الليلتين:
1 ـ جاء في أسباب النزول روايات، منها:
قول الإمام مالك في الموطأ: "بلغني أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أُرِيَ أعمار الناس قبله أو ما شاء الله من ذلك فكأنه تقاصَر أعمار أمتِه أن لا يبلغوا من العمل مثلَ الذي بلغ غيرُهم في طول العمر فأعطاه الله ليلةَ القدرِ خير من ألف شهر".
وأخرج ابن أبي حاتم والواحدي عن مجاهد: أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذكر رجلاً من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر فعَجِب المسلمون من ذلك فأنزل الله: (إنا أنزلناه في ليلة القدر. وما أدراك ما ليلة القدر. ليلة القدر خير من ألف شهر) (القدر:1ـ3). أي التي لبس ذلك الرجل السلاح فيها في سبيل الله.
فدل سبب النزول على أن ليلة العبادة منحة إلهية وعطاء لاحق حدث بعد ليلة الغار.
2 ـ إن الأحاديث النبوية الواردة في شأن ليلة القدْر كلها في ليلة العبادة وليس في ليلة الغار.
ففي صحيح البخاري: "تَحَرَّوْا ليلةَ القدْر في الوِتْر من العشر الأواخر من رمضان".
"وقد رأيتُ هذه الليلة ثم أُنْسِيتُها فالتمسوها في العشر الأواخر".
"مَن كان مُتَحَرِّيها فلْيَتَحَرَّها في السبع الأواخر".
وفي صحيح مسلم: "إني اعتكفت العَشْر الأوَّل ألتمس فيها هذه الليلة ثم اعتكفتُ العَشْر الأوسط ثم أوتيتُ فقيل لي: إنها في العشر الأواخر، فمَن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف، فاعتكف الناس معه".
فالتحري والالتماس والاعتكاف ليس بحثًا عن ليلة الغار، وليس محاولةً لمعرفة متى كانت، وإنما يُعقَل التحرِّي والالتماس والاعتكاف لليلة جديدة أخفاها الله تعالى، هي ليلة العبادة.
فإن السبيل لمعرفة ليلة الغار والقرآن أن يسأل أهل بيته ومَن آمَن معه من السابقين في الإسلام.
3 ـ ساق البخاري في صحيحه في كتاب الصوم بابًا بعنوان: "تَحَرِّي ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر".(91/2)
وقال شارحه ابن حجر: في هذه الترجمة إشارة إلى رُجْحان كون ليلة القدر منحصرة في رمضان ثم في العَشر الأخير منه، ثم في أوتاره، لا في ليلة بعينها، وهذا هو الذي يدل عليه مجموع الأخبار الواردة فيها. ثم ساق البخاري بابًا آخر بعنوان: "رفع معرفة ليلة القدر لتلاحي الناس".
واستدل بالحديث الشريف: "خرج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليخبرَنا بليلة القدر فتلاحَى رجلان من المسلمين فقال: خرجتُ لأخبرَكم بليلة القَدْر فتلاحى فلان وفلان فرُفِعَتْ، وعسى أن تكون خيرًا لكم فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة".
فهذا يؤكد الفرق بين ليلة الغار والقرآن، وبين ليلة العبادة، فإن ليلة الغار ليلة بعينها، محدَّدة بوقت خاص لا يزول ولا يَحُول؛ لأنه حدث ارتبط بزمن فلا يُرفَع.
أما ليلة العبادة فهي التي قد تخفى، وقد يعلمها الرسول برؤيا منامية فإذا استيقظ نَسِيَها لصارف شغله كما حدث من الشِّجار بين الخصمين المذكورين في الحديث.
4 ـ ذكر الإمام ابن حجر في شرحه لصحيح البخاري أن للعلماء أكثر من أربعين رأيًا في ليلة القدر.
منها أنها ممكنة في جميع السنة، ومنها أنها مختصة برمضان ممكنة في جمع لياليه، وما من ليلة من ليالي رمضان إلا وقال بها بعض العلماء، وذهب ابن العربي إلى أنها لا تُعلَم.
ودخلت المسألة مدخلاً غير صحيح شرعًا، فنسب إلى ابن عباس أنها ليلة سبع وعشرين اعتمادًا على أن كلمة "هي" في سورة القدر سابع كلمة بعد العشرين، وقيل: إن ذلك مِن مُلَح التفسير، وليس من يَقِين العلم.
وأقول: إن هذا ليس دليلاً يعتد به شرعًا ثم إنه خطأ من حيث اللغة، لقد عد "إنَّا"، كلمة مع أنها كلمتان: إن والضمير، وعدَّ أنزلناه كلمة مع أنها ثلاث كلمات: الفعل الماضي: أنزل. والفاعل ضمير المتكلم، والمفعول ضمير الغائب.
ثم أتساءل: هل خلاف العلماء هنا حول ليلة القدر، وهذه الكثرة من الآراء كانت تبحث عن معرفة ليلة الغار وتحديد ليلة القرآن؟!(91/3)
لا أظن أحدًا من العلماء يقول بذلك، وإن الذي لم يتنبه إليه الباحثون قديمًا ولا حديثًا هو أن الخلاف حول ليلة القدر إنما هو خلاف حول ليلة العبادة التي امتنَّ الله بها على أمة الإسلام.
أما ليلة القرآن والغار فقد وقع فيها حدَث عظيم وارتبطت بمواقف لا تُنسَى، واجتمع لها من الأسباب ما يجعلها محلَّ الحفظ والتذكر دائمًا.
حكمة إخفاء ليلة العبادة:
لعل في إخفاء ليلة العبادة ودوَرانها ما يُحَفِّز المسلم إلى دوام اليقظة والمراقبة لحدود الله، واتصال القلب بالملأ الأعلى.
وقد أخفى الله أشياء في أشياء لحكمة، فأخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة ليعُمَّ الدعاء اليوم كله، وأخفى الصلاة الوُسطَى في الصلوات لتؤدى كلها، وأخفى لحظة الموت لتعمُر الحياة كلها بالتوبة والعمل الصالح. وهكذا فلسنا مكلَّفين بمعرفة وتحديد ليلة القدر، فهذا تدقيق ليس وراءه تحقيق، وبحث لا يصل إلى يقين، وجهد لا يؤدي إلى فائدة.
علامات ليلة العبادة:
ورد لليلة القدر علامات أكثرُها لا تظهر إلا بعد أن تمضي، منها في صحيح مسلم أن الشمس تطلع في صبيحتها لا شعاعَ لها.
وقيل: إن لها أنوارًا معينة أو أن المسلم يسمع سلامًا أو خطابًا من الملائكة.. وهذا لا نُعَوِّل عليه كثيرًا والعبرة بالاستقامة والطهر والنقاء، والله يختص برحمته مَن يشاء.
إحياء ليلة القدر:
المسلم مُطالَب شرعا بتحري ليلة القدر والتماسها اقتداءً برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويكون ذلك بالاعتكاف والمحافظة على الجماعة في الصلوات الخمس، وتلاوة القرآن وقيام الليل وكثرة الاستغفار والابتهال إلى الله تعالى بخيرَي الدنيا والآخرة.(91/4)
تفسير سورة القدر:
انتهينا في مقال سابق إلى أن هناك ليلتين للقدر، هما: ليلة القدر والغار وليلة العبادة والطاعة.. وهنا يرد تساؤل: كيف نفهم سورة القدر، وهي السورة السابعة والتسعون في ترتيب المصحف الشريف؟ وعن أي الليلتين تتحدث هذه السورة الكريمة؟
ونحن بدورنا نطرَح سؤالًا آخر، وهو: هل سورة القدْر مكية أو مدَنية؟ لقد ذكر الإمام البيضاوي في تفسيره أن سورة القدْر مختَلَف فيها، وساق الشيخ "زادَهْ" في حاشيته على تفسير البيضاوي أنه قيل: إن سورة القَدْر أول سورة نزلت بالمدينة، ولم يذكر الشيخ "هبة الله" في كتابه: "الناسخ والمنسوخ" إلا أن سورة القدْر مدنية وليس فيه ناسخ ولا منسوخ.. وعلى هذا فنحن نستطيع ـ بتوفيق الله تعالى ـ أن نفسر سورة القدر على أحد اتجاهين:
الاتجاه الأول:
لو سلمنا أن سورة القدر مكية وأدركنا أن الصوم لم يُفرَض في العهد المكي، وأن السنة النبوية لم تتحدث عن التماس ليلة القدر وتَحَرِّيها في ذلك العهد فإن سورة القدر المكية تكون خالصةً لليلة القرآن والغار، ولا علاقة لها بليلة العبادة والطاعة.. وتبدأ السورة الكريمة بقوله تعالى: (إنَّا أنزلناه في ليلة القَدْرِ).
بمعنى أن القرآن العظيم بدأ في هذه الليلة العظيمة عندما فجَأ الوحيُ سيدنا محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو في غار حراء وقام جبريل الأمين بضم الصادق الأمين أكثر من مرة ثم قال له: (اقرأ باسم ربك الذي خلقَ. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علَّم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم).
وقد ذكر بعض العلماء أن للقرآن تنزُّلَيْن جملةً واحدةً قبل بدء نزوله على قلب سيدنا محمد ـ صلى الله عليه وسلم:
الأول: التنزل إلى اللوح المحفوظ، واستدلوا بقوله تعالى: (بل هو قرآن مجيد. في لوح محفوظ) (البروج: 21 ـ 22).(92/1)
الثاني: التنزُّل إلى بيت العزة في السماء الدنيا، واستدلوا بأحاديث موقوفة على ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ منها قوله: "فُصِل القرآنُ من الذِّكْر فوُضِع في بيت العزة من السماء الدنيا فجعل جبريل ينزل به على النبي ـ صلى الله عليه وسلم.
وفي الحق فإن التنزل الأول لا يخص القرآن وحده، وشأنه في ذلك شأن سائر ما علمه الله تعالى وسجَّله في اللوح المحفوظ، وأشارت إليه الآية الكريمة: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير) (الحديد: 22).
والآية الأخرى: (لا يعزُب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا في أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين) (سبأ: 3).
أما التنزل الثاني إلى بيت العزة فليس فيه حديث مرفوع إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحقائق الغيب لا يكفي فيها مثل هذه الموقوفات.
وهذه الليلة التي تلقَّى فيها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أولى إشرافات الوحي هي خير من ألف شهر، وهذا العدد مُراد به التكثير والتفخيم، فإن ليلةً بدأ فيها نور الإسلام، وتنزَّل فيها منهج الحياة المُثلَى، وتحمل فيها سيدنا محمد رسالة إلى العالمين تخرجهم من الظلمات إلى النور لَهِي ليلة عظيمة الشأن خير من الدنيا بأسرها.
وقوله تعالى: (تَنَزَّل الملائكة والروح فيها) تعبير بالفعل المضارع بدلاً من الماضي لاستحضار الصورة الروحانية التي تجلَّت في ليلة الغار، حيث نزل جبريل الأمين بالوحي القرآني التي تجلت في ليلة الغار، حيث نزل جبريل الأمين بالوحي القرآني مصحوبًا بكوكبة من الملائكة تحرس الوحي المنزَّل حتى يَصِل إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مصونًا من تلبيس إبليس، كما قال الله تعالى: (عالِمُ الغيبِ فلا يُظهرُ على غيبه أحدًا. إلا مَن ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدًا. ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددًا) (الجن: 26 ـ 28).(92/2)
وقوله تعالى: (من كل أمر) يعني أن القرآن العظيم تفصيل كل شيء يرقى بالإنسان ويصون المجتمع ويؤسس الحضارة.
وقوله تعالى: (سلام هي حتى مطلع الفجر) يؤكد أن هذا اللقاء الفريد بين ملك الوحي والرسول المصطفى في ليلة الغار هو لقاء مبارَك وقع في ليلة السلام والإسلام، وهي ليلة يستمر أثرها ويعمُق تأثيرها في الحياة والأحياء حتى يَعُمَّ نور الله الآفاق، ويطلع هذا الدين على ما يطلع عليه الفجر.
الاتجاه الثاني:
هذا الاتجاه يقوم على أن سورة القدْر مدنية، وهو الأقوى والذي نرجحه؛ لأن سبب النزول المروي يؤكده، وهو ما ذكره الإمام مالك في الموطأ أنه سمع مَن يثق به من أهل العلم يقول: إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أُرِي أعمار الناس قبله أو ما شاء الله من ذلك، فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل مثل الذي بلغ غيرُهم في طول العمر، فأعطاه الله ليلة القدر خيرًا من ألف شهر".
ثم إن الصيام وقيام رمضان والتحري لليلة القدر إنما كان في العهد المدني فتكون هذه السورة تنبيهًا على عطية الله تعالى لأمة الإسلام، لقد منحها الله تعالى ليلةً عظيمة القدر يتضاعف فيها ثواب العمل ويكثر فضل الله على عباده، ويعم الناس نور هذه الليلة وسناؤها.
والضمير المنصوب في قوله (أنزلناه) يعود إلى النص القرآني المنزل في سورة القدر نفسها، فهو نزل في شأن ليلة القدر التي هي ليلة العبادة والطاعة على غرار ما جاء في مُفتَتَح سورة النور: (سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آياتٍ بيناتٍ لعلكم تذكرون).
فالمراد بالسورة التي أنزلها الله هي سورة النور نفسُها وليس كل سور القرآن المجيد.
وهذه الليلة الممنوحة من الله تعالى لأمة الإسلام هي خير في ثواب الطاعة والعبادة من ألف شهر، أي خير من الحياة كلها إذا خلت هذه الحياة من تلك الليلة المباركة.(92/3)
وتتنزل الملائكة في ليلة هذه يتقدمهم جبريل الأمين، ينتشرون في أرض الله، يلتمسون مجالس العِلْم والذِّكْر والدعاء، يُسلِّمون على كل عبد قائم أو قاعد في خشية من الله وضراعة إلى المولى سبحانه وتعالى.
وتظل هذه المنحة الإلهية حتى مطلع فجر تلك الليلة.. وقد يكون لتلك الليلة علامة يراها المؤمنون، وقد جاء في صحيح مسلم أن الشمس تطلع يومئذ لا شعاع لها، وفي العام الذي أخبر الرسول الكريم بالتماسها في العشر الأواخر ذكر أن من علامتها نزول المطر وسجوده ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ماء وطِينٍ لكثرة المطر في أرض المسجد النبوي، وتحقق ذلك. ولا مانع أن تتراءى الملائكة بأنوارها لبعض القائمين والركَّع السجود.
وحكى الإمام ابن حجر في فتح الباري أن الإمام الطبري اختار أن جميع ذلك غير لازم، وأنه لا يشترط لحصولها رؤية شيء ولا سماعه.
ونعود فنؤكد أن ليلة القدر ليلتان:
ليلة القرآن والغار وهي ليلة غير متكررة ولا تُلتَمس ولا يتحرَّاها أحد، وقد ارتبطت بحدث عظيم هو بَدْء نزول القرآن المجيد.
ليلة العبادة والطاعة وهي ليلة تتكرر كل عام في شهر رمضان يتضاعف فيها ثواب الله على الطائعين، ونحن مُطالَبون بالتماسها وإحياء ليلها.. على نحو ما فصلناه في المقال السابق.
والله ولي التوفيق.(92/4)
البعد الروحي للأعياد:
ارتبطت الأعياد في الإسلام بمواقف مشهودة وعبادات جليلة، فعيد الفطر يرتبط بصيام شهر رمضان، وعيد الأضحى يرتبط بمناسك الحج، وهناك يوم أسبوعي يشبه العيد يلتقي فيه المسلمون على صلاة جامعة هو يوم الجمعة، وقد أخرج أبو داود والنسائي بإسناد صحيح عن أنس قال: قَدِم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال: قد أبدلكم الله بهما خيرًا منهما: يوم الأضحى ويوم الفطر.
وهكذا يتسامى المسلمون بالأعياد ويربطونها بأمجاد قُدْسية ويتحقَّق فيها البُعد الروحي العميق ويكون لها من العموم والشمول ما يجعل الناس جميعًا يشاركون في تحقيقها ويستشعرون آثارها المباركة ويعيشون أحداثها كلما دار الزمن وتجدَّد العيد.
فليست الأعياد في الإسلام ذكريات مَضَتْ أو مواقف خاصة لكُبَراء وزُعَماء، بل كل مسلم له بالعيد صلة ودوافع متجدِّدة على مدى الحياة.
ويختص العيد في الإسلام بالتكبير من كل المسلمين رجالاً ونساء وأطفالاً من ليلة العيد إلى أن يدخل الإمام في الصلاة، وسواء في ذلك المساجد والمنازل والأسواق وغيرها، وإليه الإشارة بقوله تعالى في آيات الصيام: (ولتُكملوا العدةَ ولتكبروا الله على ما هداكم) (البقرة:185).
وبقوله جل شأنه في آيات الحج: (كذلك سخَّرها لكم لتُكَبِّروا الله على ما هداكم) (الحج:37)..
وذهب بعض الفقهاء إلى أن تكبيرات عيد الأضحى تستمر عَقِب الصلوات الفرائض إلى عصر اليوم الثالث من أيام التشريق.
ولأهمية هذا التكبير كان من هَدْي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يذهب لصلاة العيد من طريق ويرجع من آخر حتى تتردَّد بين جنَبات الكون تكبيرات المسلمين ويعمق في نفس المسلم الشعور بعظَمَة المولى وجلال سلطانه.
كل ذلك يمنح المسلم البعد الروحي الذي يهب الطمأنينة والصحة النفسية ويحفظ الحياة الأسرية والاجتماعية.(93/1)
أثر صلاة العيد في الصحة النفسية:
من هدي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يشارك المسلمون جميعًا في حضور صلاة العيد، حتى ولو لم يؤدِ البعض الصلاة لعُذْر شرعي.
وتُحَدِّثنا أم عطية كما في الصحيح فتقول: أمرنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن نخرجهن في الفطر والأضحى: العواتق والحُيَّض وذوات الخُدور، فأما الحُيَّض فيعتزلن الصلاةَ ويشهدْنَ الخير ودعوةَ المسلمين.
والعواتق: جمع عاتق، وهي الفتاة التي لم تتزوج، وذوات الخدور: هن السيدات المتزوجات.
ويصف لنا جابر بن عبد الله صلاة العيد مع الرسول الكريم فيقول كما في صحيح مسلم: شهدت مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم العيد فبدأ بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة، ثم قام متوكئًا على بلال فأمر بتقوى الله وحث على طاعته، ووعظ الناس وذكَّرهم، ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهُنَّ وذكَّرهن فقال: تصدقْنَ فإن أكثركنَّ حطب جهنم، فقامت امرأة من واسطة النساء سفعاء الخدين فقالت: لِمَ يا رسول الله؟ قال: لأنكنَّ تُكثِرن الشَّكاةَ وتَكُفرنَ العَشِير، فجعلن يتصدقْنَ من حُلِيهن يُلقِين في ثوب بلال من أقراطهنَّ وخواتمهنَّ.
إن الصورة الجماعية لصلاة العيد تمنح المسلم الهدوء النفسي في التعامل مع بني جنسه وتجعله يستشعر الرابطة المقدَّسة التي تجمعه ببني الإنسان، والتي تحمله على التعارُف والتعاون والتناصح، فيتفاعل المسلم مع مجتمعه تفاعلاً بالخير وللخير.
ثم إن خروج العواتق وهن الفتيات غير المتزوجات في هذه المناسبة الطيبة المباركة يجعل الفتاة على ورع وتقوى ونقاء؛ لأنها لم تخرج متبرِّجةً ولا سافرةً ولا عاصيةً ولا مثيرة للفتنة ولا لغرض مشبوه، وإنما خرجت مرضاةً لله عز وجل وطلبًا للصفاء الروحي، الأمر الذي يجعل بناتنا ونساءنا في غِبْطة روحية واستقامة سلوك وطهارة عِرْض.(94/1)
ولعل في خروج الفتاة بهذا الوضع الكريم ولهذه الغاية النبيلة ـ فرصة للتعارف الأسري، ومطالعة رغبات النفس في العفاف الشريف من أجل الزواج باسم الله وكلمته وأمانته.
ثم إن هذه التجمعات وهذه اللقاءات إنما تَتِمُّ في بقعة مقدسة هي المسجد أو في مصلَّى العيد وتتم في إطار كلمة الخير والنصيحة المخلِصة، التي يؤديها خطيب العيد في خطبتيه اللتين يوجههما إلى جماهير المسلمين والمسلمات في هذا التجمع الحاشد.
فالنفوس مهيأة لقبول الحق والمكان يُغرِي بحُسْن الاستماع والزمان مليء بالفرح والغبطة لأداء فريضة الصيام، وقد قال ـ عليه الصلاة والسلام: للصائم فرحتان: فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه، فالفرحة عند الفطر هي فرحة التوفيق لأداء هذه الفريضة والإعانة عليها والفرحة عند لقاء الله تعالى لكثرة الثواب الذي يتفضل الله تعالى به على عباده الصائمين مما لا عين رأتْ ولا أذن سمعتْ ولا خطَر على قلب بشر.
ووسط هذه الأجواء الرُّوحية العميقة تنطلق الألسنة معبرةً عن خلجات النفس المؤمنة بالدعاء الضارع إلى الله عز وجل بخيري الدنيا والآخرة.
والدعاء هو لون من الأمل الذي تحيا به النفوس، بل هو عند النفس المؤمنة انتصار على كل المعوِّقات المادِّية، والتجاء إلى مَن بيده ملَكُوت كل شيء، وهو الله الكبير المتعال الذي لا تنفَد خزائنه ولا يُعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
قال تعالى: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعِ إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون) (البقرة: 186).(94/2)
صيام المريض:
زوجته مُصابَة بارتفاع ضغط الدم والتهاب مُزمِن في الكليتين ومع ذلك تُصر على الصيام رغم نصيحة الأطباء لها بالفطر.. فما رأي الدين في ذلك؟
دين الله يسر، وشرع الله منوط بمصلحة الإنسان والتكاليف الإلهية مرتَبِطة بوُسْع الإنسان.. قال تعالى: (لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها..) (البقرة: 286) وقال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتُكم به فأتوا منه ما استطعتم".
وليس من حكمة الصوم العسر على الناس والعنَت بهم، ولو قرأنا آيات الصيام من سورة البقرة لوجدنا هذا المعنى واضحًا جليًّا تمامًا، قال تعالى: (يريدُ الله بكم اليسرَ ولا يريد بكم العسر) (البقرة:185).
وطالما أن هذه السيدة قد نصحها الطبيب المسلم الثقة بالفطر؛ لأنها تعاني أثناء صيامها وتصل إلى درجة الغيبوبة كما ذكر السائل في خطابه فإننا ننصح هذه السيدة بالتخلِّي عن الصيام، وبضرورة الفطر حتى لا تقع تحت طائلة هذه الآية: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) (البقرة:195).
وأمامها أحد أمرين:
إن كان يُرجَى شفاؤها قبل حلول رمضان التالي، فلتَصُم عند الشفاء قضاء عما فاتها من أيام.
وإن كان المرض ملازمًا لها فعليها أن تخرج فدية طعام مِسكين وهي نصف قدح من غالب قوت البلد عن كل يوم، أو قيمة ذلك نقدًا، ولتعلم السيدة الفاضلة أن نية المؤمن أبلغ من عمله، فلها ثواب نيتها وندعو الله لها بالشفاء.(95/1)
الوِصال في الصوم:
سمعت جماعة من الشباب يتحدثون عن الوصال في الصوم، ولم أفهم ما يقصدون، فماذا يعني الوصال في الصوم؟ وما حكمه؟
شرع الله تعالى الصوم نهارًا من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وأباح الفطر ليلًا، وكان هدي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تعجيل الفطر وتأخير السحور، ليكون ذلك عونًا للصائم، وأقوى له على أداء عبادة الصوم بنشاط، وحتى تتواصَل مسيرة الحياة كسبًا للرزق وضربًا في الأرض وابتغاء لفضل الله.
ومن هنا كان النهي الشرعي عن الوِصال بمعنى صوم يومين فأكثر من غير أكل وشرب بينهما.
ولكن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ واصَل في بعض صيامه فاقتدى به الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ فنهاهم المصطفى الكريم عن الاقتداء به في الوصال؛ لأنه مقام يصعب الالتزام به ويشق على الناس، وكان رسول الله رفيقًا بأمته رحيمًا بهم.
فجاء في صحيح الحديث عن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهى عن الوِصال قالوا: إنك تواصل، قال: إني لستُ كهيئتكم، إني أُطعَم وأُسْقَى، وفي رواية: "وأيكم مثلي، إني أبيت يُطعمني ربي ويسقيني".
والمعنى أن الله تعالى يجعل له قوة ومَقدِرة على الوِصال كقوة الطاعم الشارب، وليس على ظاهره من أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يأكل ويشرب وإلا ما كان مواصلًا. ولما لم يتراجع المسلمون نهاهم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بتجربة عمَلِية.. ففي صحيح الحديث: "فلما أبَوْا أن ينتهوا عن الوِصال، واصَل بهم يومًا ثم يومًا ثم رأوا الهلال فقال: لو تأخر الهلال لزدتُكم كالمُنَكِّل لهم حين أبَوْا أن ينتهوا".
والمعنى أن الرسول الكريم واصَل بهم يومين في آخر الشهر ثم ظهر الهلال وانتهى صوم رمضان فأخبرهم المصطفى أنه أراد أن يثبت لهم عمليًّا المَفسدَةَ المترتِّبة على الوِصال وهي الملَل من العبادة والتعرُّض للتقصير في بعض المأمورات الشرعية والواجبات الاجتماعية.(96/1)
فالعبادة إنما تكون على قَدْر وسع الإنسان وفي حدود المستطاع ومن غير إرهاق يعقبه الملَل. وخير الأعمال أدوَمُها وإن قلَّ.(96/2)
الإفطار قبل الغروب:
سمعت أذان المغرب من الإذاعة فتناولت طعام الإفطار ثم علمت أنه من إذاعة أجنبية، ولم يكن الوقت قد حان في القاهرة فما رأي الدين؟
يتحقق الصوم بالإمساك عن المُفطِرات بنية التعبُّد من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، قال الله تعالى: (فالآنَ باشروهنَّ وابتغوا ما كتب الله لكم وكُلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل) (البقرة: 187).
وفي صحيح الحديث عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: "إذا أقبل الليل وأدبر النهار وغابت الشمس فقد أفطر الصائم".
وعلى المسلم أن يتحرى معرفة طرفي النهار يقينًا أو ظنًّا غالبًا حتى تصح عبادته فمن أفطر ظانًّا أن النهار قد انقضى وأن غروب الشمس قد تحقَّق ثم ظهر له خلاف ذلك وجب عليه أن يقضي يوم آخر عِوَضًا عنه بعد شهر رمضان.
فالسائل الكريم الذي سمع أذانًا للمغرب من الإذاعة، وحَسِبه أذان التوقيت المحلي للقاهرة فأفطر ثم علِم أنه أذان لدولة أخرى فقد فسَد صومُه؛ لأنه تناول مفطرًا قبل غروب الشمس وعليه قضاء يوم آخر، ولا إثم عليه.
كذلك فإن من تسحَّر ظانًّا بقاء الليل ثم تبيَّن له طلُوع الفجر وأن سحوره وقع نهارًا وجب عليه أن يقضي يومًا آخر لفساد صوم يومه من رمضان وعليه أن يظل ممتنعًا عن المُفطِرات بقية يومه لأن لشهر رمضان حرمة خاصة فلا يجوز انتهاكُها.
وهذا كله بخلاف الناسي الذي أكل أو شَرِب ناسيًا في نهار رمضان فإن صومه صحيح ولا قضاء عليه لقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: "مَن نَسِي وهو صائم فأكل أو شَرِب فليُتِمَّ صومه فإنما أطعمه الله وسقاه".(97/1)
صوم يوم العيد:
هل يجوز صوم يوم العيد؟
للمسلمين عِيدان: عيد الفطر وهو أول أيام شهر شوال، ويعقُب فريضة الصيام في شهر رمضان، وعيد الأضحى وهو العاشر من ذي الحجة.
وقد جاء في صحيح مسلم أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ جاء يوم العيد فصلى ثم انصرف فخطب الناس فقال: إن هذينِ يومان نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن صيامهما، يوم فطرِكم من صياكم، والآخر يوم تأكلون فيه من نُسُكِكم".
فيحرم صيام يوم عيد الفطر ليناسب انقضاء الفريضة، ولهذا كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا خرج لصلاة عيد الفطر أكل تمرات قبل أن يخرج ليقطع أثر الصوم.
كذلك يحرُم صيام يوم النحر؛ لأن فيه نسكًا وهو الأضحية فناسب أن يأكل الناس ويتصدقوا ولهذا امتدَّ التحريم من يوم النحر إلى أيام التشريق الثلاثة بعده، وجاء في صحيح مسلم عن كعب بن مالك أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعثه وأوس بن الحدثان أيامَ التشريق فنادَى أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن، وأيام منى أيام أكل وشرب..".
وسميت هذه الأيام بأيام التشريق؛ لأن الناس كانا ينشرون اللحم في الشمس لتقديدها حتى يطُول الانتفاع بها.
والتقرب إلى الله تعالى يكون بما شرع وليس للإنسان أن يخترع في العبادات وطالما ورد النهي عن الصيام يومي العيدين فيلزم الامتناع عن الصيام، ومَن أراد أن يتقرب إلى الله عز وجل فأبواب القرب كثيرة من ذكر وقراءة قرآن وصلاة وصدقة وغير ذلك.
وقد قال ـ عليه الصلاة والسلام: "إن بكل تسبيحة صدقة، وبكل تكبيرة صدقة، وبكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بُضْع أحدكم صدقة، قال: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر".(98/1)
بركة السحور:
ما هي بركة السحور التي أشار إليها الحديث الشريف: "تسحَّروا فإن في السحور بركة"؟
السُّحور ـ بالضم ـ اسم للفعل أي الإعداد والحركة وتهيئة الطعام في وقت السحر، والسَّحور ـ بالفتح ـ الطعام المأكول ذاته في هذا الوقت.
والحديث الشريف رواه مسلم في صحيحه عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: "تسحَّروا فإن في السحور بركة، ويُقرَأ بالروايتين" فعلى رواية الضم يكون المعنى أن وقت السحر وهو ما يقع قبل طلوع الفجر، وقت بركة تتجلى فيه رحمة الله تعالى على عباده ويكون المسلم متهيئًا لقبول هذه النفحات بالذكر والصلاة والدعاء والاستغفار.. قال تعالى: (وبالأسحار هم يستغفرون) (سورة الذاريات:18).
وعلى رواية الفتح يكون المعنى أن الطعام الذي يتناوله المسلم في هذا الوقت من الليل يُساعده على النشاط خلال يوم صيامه فيَقِلُّ شعوره بالجوع والعطش فيكون ذلك أقوى له.
ومن هنا جاء قول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الصحيح: "إن بلالاً يؤذن بليل فكُلوا واشربوا حتى تسمعوا تأذِين ابن أم مكتوم".
فكان على عهد رسول الله مؤذنان: أحدهما بلال يُنَبِّه الناس قبل طلوع الفجر إلى قرب الوقت، فإذا جاء الوقت أذن ابن أم مكتوم، وكان الناس يعرفون الصوتين ويميِّزون بينهما.
وجاء في بعض الروايات: "ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا".
ولا يعني هذا النص أنه لم يكن بينهما فرق زمني وإلا ما صح قول رسول الله: "فكلوا واشربوا".
ولكن المراد أن بلالًا ـ رضي الله عنه ـ كان يؤذن قبل الفجر ثم يظل يراقب طلوع الفجر في موضعه حتى يَحِين فينزل فيُخبر ابن أم مكتوم ـ رضي الله عنه ـ فيتأهَّب بالطهارة ثم يرقى ويَشرَع في الأذان مع أول طلوع الفجر.
وقد جاء في فضل السحور قوله ـ صلى الله عليه وسلم: "فضل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر".(99/1)
وتأخير طعام السحر مندوب إليه شرعًا، فعن زيد بن ثابت ـ رضي الله عنه ـ قال: تسحَّرنا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم قمنا إلى الصلاة، قلت: "كم كان قَدْر ما بينهما، قال: خمسين آيةً".(99/2)
مكياج المرأة في رمضان:
ما رأي في استعمال المساحيق وأدوات التجميل للمرأة في نهار رمضان؟
شهر رمضان فترة زمنية يتمتَّع فيها المسلم بالصفاء الرُّوحي والتشبُّه بالملأ الأعلى ويتجرَّد فيها أو يتخفَّف من مطالبِه المادية، فهو يُمسك عن الطعام والشراب والمباشَرة الزوجية من طلوع الفجر إلى غروب الشمس احتسابًا لوجه الله العظيم.
قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ في صحيح الحديث: "كل عمل ابن آدم يُضاعَف، الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله عز وجل: إلا الصوم؛ فإنه لي، وأنا أجزي به، يدَع شهوتَه وطعامه من أجلي".
وهذا التجرد أو التخفُّف من الماديات ومطالب الشهوة مطلب شرعي مقصود.
وقد أقسم أبو القاسم ـ عليه الصلاة والسلام ـ على أن تغيُّر رائحة فم الصائم تكون نكهته في الآخرة أطيبُ من المسك، فقال: "والذي نفس محمد بيده لَخَلُوف فمِ الصائم أطيب عند الله من ريح المسك".
وعلى هذا فإن المرأةَ المُسلِمة التي تَدَع ضروريات الحياة من مأكل ومَشرَب فترة زمنية امتثالاً للأمر الإلهي لا تجد حرجًا أو ضيقًا نفسيًّا في أن تهجُر المغالاة في التجمُّل أو استعمال المساحيق مراعاةً لأدب الصيام وحرمة الوقت واستشعارًا لجلال الفريضة.
إلا أن التنبيهَ الذي يجب أن يكون معلومًا للجميع هو أن تجمُّل المرأة إنما يكون خاصًّا لزوجها وأمام المحارم فقط.. فإن هي خالفَتْ وأظهرَتْ زينتَها أمام الرجال الأجانب فقد ارتكبت معصيةً ومخالفة لأمر الله وتتضاعف هذه المخالفة إذا كان في شهر رمضان المعظَّم.. ومن هنا نفهم حديثًا لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قوله: "مَن لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدَع طعامه وشرابه".
فالزور قولاً وعملاً يشمل المعاصي كلها، والمسلم حريص على اغتنام الفرَص والنفَحات الإلهية ليسعد في الأولى والآخرة.
والله ولي التوفيق.(100/1)
القُبلة للصائم:
ما حكم القبلة للصائم؟
ثبت في صحيح الحديث أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يُقبِّل إحدى نسائه وهو صائم، ولا خلاف بين العلماء في أنها لا تُبطل الصوم ما لم يُنزِل. واحتجوا لذلك بحديث مشهور في السنَن وهو قوله ـ عليه الصلاة والسلام: "أرأيتَ لو تمضمضتَ".
ومعنى الحديث أن المضمضة مقدِّمة الشرب، وهي لا تُفطِر، فكذلك القُبلة مقدِّمة للجِماع وهي لا تفطر.
وقد جاء في روايات عائشة ـ رضي الله عنها: "وأيُّكم يملك أَرَبَه كما كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يملك أرَبَه".
وقد فهم العلماء من معنى كلام أمِّ المؤمنين عائشة أنه ينبغي الاحتراز عن القُبْلة لأن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يملك نفسه ويأمن الوقوع في قبلة يتولد منها إنزال أو شهوة أو هيَجان نفس، ونحن لا نأمن ذلك ومن هنا فالقُبلة جائزة للشاب وللشيخ الكبير ما لم تُحرِّك ساكنًا كأن تكون قبل وَداع أو استقبال أو شفقة، فإن أثَّرت في النفس وأثارت، فقد دخلت في المحظورات.
وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "مَن حامَ حول الحِمَى يوشك أن يقع فيه".
فإن صحِبَها إنزال فقد بطل الصوم.. وعليه أن يمسك بقية يومه لحرمة الوقت ثم يقضي يومًا آخر بعد شهر رمضان".
وشأن المسلم الصادق أن يُتِمَّ عبادته ولا يُحبط عمله وإن إفطار يوم من رمضان لا يعوضه صيام الدهر.. والصيام جُنَّة أي وقاية تقي المسلم من خطَرات السوء ونزغات الإثم.
والله هو الهادي إلى سواء الصراط.(101/1)
حبس الشياطين في رمضان:
هل صحيح أنه في رمضان تُحبَس الشياطين؟ ولماذا تقع المعاصي إذن خلال هذا الشهر الكريم؟
شهر رمضان عظَّمَه الله ورسوله، فقال جل شأنه: (شهرُ رمضانَ الذي أنزل فيه القرآن هدًى للناس وبينات من الهدى والفرقان) (البقرة:185).
وجاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "إذا جاء رمضانُ فتِّحت أبواب الجنة وغلِّقت أبواب النار وصفِّدت الشياطين".
ومعنى هذا الحديث أنه خلال هذا الشهر الكريم يفتَح الله تعالى على عباده من الطاعات والخيرات ما يكثر خيرها ويعم ثوابها حتى يدخل الصائمون القائمون الجنة ويَنعَمُوا بفضل الله عليهم.
ويكف الناس عن كثير من المُخالَفات، وتتربَّى فيهم ملَكة الإرادة المؤمنة والمراقبة لحدود الله عز وجل فلا يقعون في المعاصي التي تقُودهم إلى النار، فالمسألة مرتَبِطة بفضل الزمان في شهر رمضان، ومضاعَفة الثواب للعمل الصالح، واتجاه كثير من المؤمنين إلى الإقلاع عن المخالفات.
ومما يؤكد أن المراد بتفتيح أبواب الجنة هو المعنى المجازي ما جاء في رواية أخرى صحيحة: "إذا جاء رمضان فتِّحت أبواب الرحمة".
وتصفيد الشياطين أو وضعهم في سلاسل قد نفهمه على المعنى المجازي الذي أشرنا إليه بمعنى انكفاف الناس عن المعاصي، وقد نفهمه على حقيقته ولكن ليس مرادًا به جميع الشياطين. بدليل الرواية الأخرى: "صفِّدت مرَدَة الشياطين" أي المتمردون منهم.(102/1)
وما ينبغي ذكره أن الإنسان مسئول عن سلوكه مسئولية كاملة، وأن عوامل المعصية ترجع إلى الإنسان والبيئة الفاسدة، أما الشيطان فهو عامل إغراء فقط وليس هو كل أسباب المعصية، وسيتبرأ الشيطان من الإنسان يوم القيامة ويتحمل الإنسان مسئوليته وحده.. قال الله تعالى: (وقال الشيطانُ لما قُضِي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتُكم فأخلفتُكم وما كان ليَ عليكم من سلطان إلا أن دعوتُكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولومُوا أنفسَكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخيَّ إني كفرتُ بما أشركتموني من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم) (إبراهيم: 22).(102/2)
غسل الجنابة:
إذا أصبح الإنسان جنُبًا وأراد أن يصوم فهل يصح صومه؟ علمًا بأني قد سمعتُ حديثين متعارِضَيْنِ في ذلك؟
هذا السؤال وقع بشأنه جدل في ولاية مروان على المدينة في خلافة معاوية، خلاصته أن أبا هريرة كان يحدِّث: "من أدركه الفجر جنبًا فلا يَصُم" فأُنكِر عليه يومئذ، وذهبوا إلى السيدة عائشة والسيدة أم سلمة ـ رضي الله عنهما ـ فكلتاهما قالت: كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصبح جنبًا من غير حلم ثم يصوم".
فرجع أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن التحديث بذلك.
فالصيام في مفهومه الشرعي هو الامتناع عن شهوتي البطن والفرج من طلوع الفجر إلى غروب الشمس بنية التعبد لله عز وجل، ولا يُشتَرط له الطهارة.
وقد أباح الله تعالى الأكل والشرب والمُعاشرة الزوجية إلى طلوع الفجر، فقال: (فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) (البقرة:187).
ومعلوم أنه إذا جاز الجماع إلى طُلوع الفجر لزم منه أن يصبح الإنسان جنبًا ويصح صومه لقوله تعالى: (ثم أتموا الصيامَ إلى الليل) (البقرة:187).
وفي الصحيح عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن رجلاً جاء إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستفتيه وهي تسمع من وراء الباب، فقال: يا رسول الله، تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم فقال ـ عليه الصلاة والسلام: "وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم، فقال الرجل: لستَ مثلنا يا رسول الله قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال ـ صلى الله عليه وسلم: "والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمك بما أتَّقِي".
وقد وجه العلماء موقف أبي هريرة السابق في فتواه بعدم صحة الصيام لمَن أصبح جنبًا بأنه محمول على مَن أدركه الفجر معاشرًا لزوجته فاستمر بعد طلوع الفجر. فإنه يُفطِر ولا يصح صومه لأنه فعل مفطرًا في وقت يجب الإمساك عنه.(103/1)
أو أن هذه الفتوى كانت في صدر الإسلام عندما كان الطعام والشراب محرمًا بعد النوم مطلقًا طلع الفجر أو لم يطلع ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) (البقرة:187). فكان أبو هريرة يفتي بما علمه حتى بلغه الناسخ فرجع إليه.
والله أعلم.(103/2)
السحور بعد الفجر:
قمت لتناول طعام السحور فلما انتهيتُ أدركتُ أنه وقع بعد طلوع الفجر فما رأي الدين؟
شأن المسلم أن يتحرى معرفة طرفي النهار يقينًا أو ظنًّا غالبًا حتى تصح عبادته لأن الله تعالى قد جعل للصوم بدءًا ونهاية فهو من طلوع الفجر إلى غروب الشمس قال سبحانه: (فالآنَ باشِرُوهُنَّ وابتغوا ما كتب الله لكم وكُلوا واشربوا حتى يتبَيَّن لكم الخيطُ الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل) (البقرة: 187).
والمراد من الخيط الأبيض ضوء الصباح والمراد بالخيط الأسود سواد الليل، وعلى هذا فمن تسحَّر ظانًّا بقاء الليل ثم تبين له طلوع الفجر وأن سحوره وقع نهارًا وجب عليه أن يقضي يومًا آخر بعد رمضان، وعليه أن يمسك بقية يومه ولا يحل له تناول الطعام خلال النهار لحرمة الشهر، وأيضًا من أفطر ظانًّا أن النهار قد انقضى وأن غروب الشمس قد تحقق ثم ظهر له خلاف ذلك وجب عليه أن يقضي يومًا آخر بعد شهر رمضان.
وذلك كله لأنه لم يتحرَّ الدقة الكاملة لعبادته.
والله أعلى وأعلم.(104/1)
فرضية الصيام:
هل كان صيام للمسلمين قبل فرض صيام رمضان؟
الصيام عبادة قديمة عرفتْها معظم شعوب الأرض ونقلتها رسالات الوحي الإلهي إلى البشر قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) (البقرة:183).
والتشبيه إما واقع على الفرضية أو الوقف أو الكيفية أو المقدار.. وأجمع المسلمون على أن صيام شهر رمضان لم يُفرَض على المسلمين إلا في العام الثاني للهجرة.
وقبل ذلك كان المسلمون يصومون أيامًا متفرقة مثل ثلاثة أيام في كل شهر ويوم عاشوراء وهو العاشر من المحرم. وقد ذهب بعض العلماء إلا أن صيامه كان واجبًا في أول الأمر فلما فُرِض صيام شهر رمضان أصبح صيام عاشوراء سنة ومستحبًّا.
وقد جاء في صحيح مسلم أن السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: كانت قريش تصوم عاشوراء في الجاهلية، وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلما هاجر إلى المدينة صامَه وأمر بصيامه فلما فُرِض شهر رمضان.
قال: مَن شاءَ صامَه ومَن شاء تركَه وقد اهتمَّ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بصيام عاشوراء؛ فعن جابر بن سمرة ـ رضي الله عنه ـ قال: "كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يأمرنا بصيام عاشوراء ويحثنا عليه ويتعاهدنا عنده".
بل بلغ من حرص الرسول الكريم على هذا اليوم أن أرسل غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة من يقول لهم: من كان أصبح صائمًا فليتمَّ صومَه ومَن كان أصبح مفطرًا فليتم بقية يومه".
وذلك كله لأن الصوم عبادة خالصة لله لا يشوبُها رياء ولا يطلع عليها إلا علام الغيوب، وفيها تشبُّه بالملأ الأعلى.
ولهذا حظي الصوم بمضاعفة الثواب مُضاعفة لا يعلمها إلا الله.
قال المصطفى الأمين: كل عمل ابن آدم يُضاعف الحسنةُ عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف. قال الله عز وجل: "إلا الصوم؛ فإنه لي وأنا أجزي به، يدَع شهوته وطعامه من أجلي".
هذا وبالله التوفيق.(105/1)
أصحاب الأعمال الشاقة:
ما حكم الصيام بالنسبة للذين تقتضيهم ظروف العمل الوقوف أمام الأفران المرتفعة الحرارة؟!
قال الله تعالى: (ما جعَلَ عليكم في الدين من حرج).
وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما في صحيح الحديث: "ما نهيتُكم عنه فاجتنبوه وما أمرتُكم به فأتوا منه ما استطعتُم".
وقد قال العلماء: إن مَن غلبَه الجوع والعطَش له حكم المريض في جواز الفطر أو وجوبه تبعًا للحالة التي هو فيها.
وليس مَن مقصود الصيام العسر على الناس والمشقة، بل هو مدرسة للتهذيب والأخلاق وحرمان مشروع لمعانٍ سامِيَة نبيلة.
ولهذا ثبت في صحيح الحديث أن الناس شق عليهم الصيام عامَ فتح مكة فأتى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه ثم شَرِب، فقيل له بعد ذلك أن بعض الناس قد صام فقال: أولئك العُصاة، أولئك العصاة.
وفي صحيح مسلم عن أنس قال: كنَّا مع النبي في السفر فمنَّا الصائم ومنَّا المُفطِر، قال: فنزلنا منزلاً في يوم حارٍّ، أكثرنا ظلًّا صاحب الكساء منَّا، ومنا من يتقي الشمس بيده قال: فسقط الصوَّام وقام المفطرون فضربوا الأبنية وسقَوا الرِّكاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذهب المفطرون اليوم بالأجر".
من هذا المنطلق الإنساني النبيل نقول: إن الذين تلزمهم ظروف العمل الوُقوف أمام الأفران الشديدة الحرارة أو يعملون أعمالًا لا يمكن أداؤها وهم صائمون ولا يمكن تأجيلها أو تخفيفها لمصلحة عامة أو خاصة، جاز لهم الفطر وعليهم القضاء من أيام أُخَر ولا تسقط عنهم الفريضة، بل عليهم أن يتخيروا الوقت المناسب لإبراء ذمتهم من هذا الدَّين الإلهي مثل حلول رمضان التالي، وكل إنسان أدرى بمصلحته وبما ينفعه في دينه ودنياه، وكل إنسان لديه حاسة يمكن بها أن يتعرف عذره.
والله لا تخفى عليه خافية.(106/1)
المتوفَّى وعليه صيام:
كان زوجي مريضًا خلال شهر رمضان ثم توفَّاه الله، فماذا أفعل له عن الأيام التي أفطرها من رمضان؟
شرع الله تعالى منُوط بوُسْع الإنسان، كما قال جل شأنه: (لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها) (البقرة:286).
والصوم مرتبط بالقدرة على الإمساك عن الطعام والشراب، فالمريض الذي يحتاج إلى تناول الأدوية بانتظام في مواعيد محدَّدة، أو يشُقُّ عليه الصوم يجوز له الفطر وعليه قضاء أيام بعد رمضان بقدر ما أفطر. قال الله تعالى: (ومَن كان مريضًا أو على سفَر فعِدَّة من أيام أُخَر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسرَ). (البقرة:84ا).
والزوج الذي كان مريضًا خلال شهر رمضان مرضًا يمنعه من الصيام لا إثم عليه حين أفطر، وحيث إنه قد توفَّاه الله تعالى قبل قضاء ما عليه فيمكن لزوجته أن تصوم عنه بعدد الأيام التي أفطرَها، ولها أن تُخرج بدل الصيام إطعام مسكين عن كل يوم، يقَدَّر بنصف قدح من غالب قوت البلد، أو قيمة ذلك نقدًا. ومسألة الصيام عن الميت جاء فيها أحاديث كثيرة، منها ما خرَّجه مسلم في صحيحه عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "مَن مات وعليه صيام صامَ عنه وليُّه".
والمراد بالولي القريب سواءً كان وارثًا أو غير وارث، ولو صام عنه أجنبي صحَّ بإذن الولي وإلا فلا يجزئ.
وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن امرأة أتت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالت: إن أمي ماتتْ وعليها صوم شهر، وفي رواية صوم نَذْر، أفأصوم عنها؟ فقال ـ عليه الصلاة والسلام: أرأيتِ لو كان على أمكِ دَيْن أكنتِ تقضينه؟ قالت: نعم، قال: فدَيْن الله أحق بالقضاء، وفي رواية قال: فصومي عن أمك".(107/1)
نية الصوم:
لم أعلم ثبوت رؤية هلال رمضان إلا بعد الفجر فنويتُ الصيام لليوم الأول من الشهر فهل صيام هذا اليوم صحيح؟
صيام رمضان أحد أركان الإسلام، والصيام عبادة يُشتَرط فيها النية للتمييز بين الفرض والنفل وبين الأداء والقضاء. وقد قال عليه الصلاة والسلام: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى".
والمسلم الذي فوجئ بثبوت رؤية هلال رمضان بعد الفجر ثم نوى الصيام لا ينعقد صومُه عند جمهور العلماء؛ لأنهم يَشتَرِطون تبييت النية من الليل.
والواجب عليه أن يمسك عن الطعام والشراب وسائر المُفطِرات طوال اليوم لحرمة الوقت؛ فلشهر رمضان حرمة خاصة ثم يقضي هذا اليوم بعد انتهاء رمضان.
وهذا الحكم لليوم الأول من شهر رمضان يختلف عن حكم مَن استيقظ أثناء الشهر بعد طلوع الفجر فإنه يكون صائمًا وصيامه صحيح لأن له سابق عهد بالصيام، ونيته معقودة على إكمال الشهر، وقد يكون هذا متناولاً طعامَ سُحوره ثم غلبَه النوم فذلك لا يُؤثِّر على عقد نيته وصومه صحيح.. ولا إعادة عليه.
والله أعلى وأعلم.(108/1)
صيام يوم عرفة
ما فضل صيام يوم عرفة؟
من الأيام التي أفردها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالصيام صيام يوم عرفة وهو اليوم التاسع من ذي الحجة، وفي فضله جاء الحديث الشريف ـ كما في صحيح مسلم: صيام يوم عرفة، أحتَسِب على الله أن يكفِّر السنة التي قبله والسنة التي بعده، وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفِّر السنة التي قبله".
والمراد بتكفير الذنوب هي الصغائر، أما الكبائر فلابد من التوبة منها، وأما حقوق العباد فلا بد من ردها أو مسامحتهم.
وصيام يوم عرفة يُستَحَبُّ على وجه التأكيد لغير الحاجِّ ليكون الجميع وُقوفًا على باب الرحمة والمغفرة هذا بحَجِّه، وذاك بصومِه.
ولا يُستَحب صيام هذا اليوم للحاج فالأولى له الفطر؛ لأنه أرفق به في آداب الوقوف ومهمات المناسك.
وتحكي أم الفضل بنت الحارث امرأة العباس بن عبد المطلب أن ناسًا تمارَوْا عندها يوم عرفة في صيام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال بعضهم: هو صائم، وقال بعضهم: ليس بصائم فأرسلت إليه بقدح لبن، وهو واقف على بعيرِه بعرفة فشَرِبَه.
وفي رواية: "فشَرِب منه، والناس ينظرون إليه".
وليكن معلومًا أن الأيام العشر الأوائل من ذي الحجة فترة زمنية مُبارَكة يُستَحب فيها الإكثار من الطاعات والخيرات، وقد قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ كما رواه البخاري: "ما من أيام العمل الصالح فيها أفضل منه في هذه العشر ـ يعني العشر الأوائل من ذي الحجة ـ قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء".(109/1)
الصيام في غير رمضان:
هل ورد حديث صحيح بشأن صيام ثلاثة أيام من كل شهر عربي؟ وما حِكمة ذلك الصيام في غير رمضان؟
الصيام عبادة فيها نُبل إنساني وتشبيه بالملأ الأعلى، والصوم يُرَبِّي الإرادة الطاهرة ويغرس في النفس شعور المراقبة لحدود الله؛ فالصوم جُنَّة أي وِقاية تَقِي الناسَ مهالك الشرور والشهَوات.
وقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يكثر من الصيام مطلقًا بلا تقيُّد بزمن معين حتى قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ كما في صحيح مسلم: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصوم حتى نقول: لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم.
فالمسألة راجعة إلى انشراح الصدر للعبادة والإقبال على الطاعة بلا ملَل أو فُتور.
وقد دار حوار طريف بين الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعبد الله بن عمرو بن العاص وأخرجه مسلم في صحيحه قال: "أُخبِر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن عبد الله بن عمرو يقول: لأقومن الليلَ ولأصومن النهارَ ما عشتُ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: أنت الذي تقول ذلك؟ قال عبد الله بن عمرو: قد قلتُه يا رسول الله.
فقال رسول الله: فإنك لا تستطيع ذلك، فصُم وأفطر، ونَم وقُم، وصُم من الشهر ثلاثة أيام فإن الحسنة بعشر أمثالها وذلك مثل صيام الدهر.
قال ابن عمرو: فإني أطيق أفضل من ذلك، قال الرسول الكريم، صم يومًا وأفطر يومين، قال ابن عمرو: فإني أطيق أفضل من ذلك يا رسول الله، قال ـ عليه الصلاة والسلام: صُم يومًا وأفطر يومًا وذلك صيام داود عليه السلام، وهو أعدل الصيام، قال عبد الله: فإني أطيق أفضل من ذلك قال ـ عليه الصلاة والسلام: لا أفضلَ من ذلك.
وتدور الأيام ويَطُول عُمر عبد الله ويَعجَز عن المحافظة على ما التزمه به فيقول: لأن أكون قَبِلت الثلاثة أيام التي قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحب إليَّ من أهلي ومالي". وفي رواية: "ودِدْتُ أني كنتُ قبلتُ رخصة نبي الله".(110/1)
الصيام في رجب وشعبان:
هل يُستَحَبُّ الإكثار من الصيام في شهر رجب وفي شهر شعبان؟
الصومُ عبادة رُوحية ترقَى بالإنسانِ إلى مستَوى الملأ الأعلى، حيث يَمتَنِع عن الطعام والشراب والشهوة من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
فالصيام مطلوب على وجه العموم بحيث يجعل المسلم من أيام دهره أوقاتًا للصيام يتجرد فيها من المادة، ويُقَوِّي عزيمته، وتصفو نفسه وتتألق روحه.
أما الصيام في شهر رجب بعينه فقد قال الإمام النووي: لم يثبت في صومه نهي ولا ندب لعينه، ولكن أصل الصوم مندوب إليه، وفي سنن أبي داود أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ندب إلى الصوم من الأشهر الحرم ورجب أحدها.
أما شهر شعبان فقد صح في صيامه أحاديث، منها ما جاء في صحيح مسلم عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وما رأيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ استكمل صيام شهر قط إلا رمضان، وما رأيتُه في شهر أكثر منه صيامًا في شعبان".
ومعنى الحديث أن الرسول الكريم لم يصم شهرًا كاملاً إلا رمضان، وكان يصوم في شعبان كثيرًا حتى قالت عائشة في بعض الروايات: "كان يَصُوم شعبانَ كله، كان يَصُوم شعبانَ إلا قليلًا".
وما عدا هذين الشهرين كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحيانًا يصوم حتى يظن الناس أنه لا يفطر، وأحيانا يفطر أياما متوالية حتى يظن الناس أنه لا يصوم.
فالمسألة واجبة إلى انشراح الصدر والإقبال على الطاعة بلا ملَل أو فتور ولهذا قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ في صحيح الحديث: "خذوا من الأعمال ما تُطِيقون؛ فإن الله لن يَمَلَّ حتى تَمَلوا، وكان يقول: أَحَبُّ العملِ إلى الله ما دام عليه صاحبُه وإن قلَّ".(111/1)
صيام يوم عاشوراء:
ما حكم صيام عاشوراء؟
عاشوراء هو اليوم العاشر من المحرَّم، وصيام عاشوراء معروف في الجاهلية والإسلام، ففي صحيح الحديث أن السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: كانت قريش تصوم عاشوراء في الجاهلية، وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَصُومه فلما هاجر إلى المدينة صامَه وأمر بصيامِه فلما فُرِض رمضان قال: مَن شاء صامَه ومَن شاء تركه".
ففي هذا الحديث تخبرنا أم المؤمنين عائشة بأن الرسول صام هذا اليوم قبل البعثة وبعدها إلى أن هاجر إلى المدينة فوجد اليهود فيها صائمين فسألهم ـ كما في حديث آخر صحيح ـ عن سبب صيامهم فقالوا: هذا يوم عظيم أنجَى الله فيه موسى وقومَه وغَرَّق فرعون وقومه فصامه موسى شكرًا، فنحن نصومه، فقال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم: فنحن أحق وأولى بموسى منكم، وأمر بصيامه.
وقد اهتم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بصيام عاشوراء؛ فعن جابر بن سمره ـ رضي الله عنه ـ قال: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يأمرنا بصيام يوم عاشوراء ويحثنا عليه ويتعاهدنا عنده".
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن صيام عاشوراء كان واجبًا في أول الأمر فلما فُرِض شهر رمضان في العام الثاني للهجرة أصبح صيامَه سنَّةً ومستحبًّا.
هل يُكتَفَى بصيام يوم واحد هو عاشوراء؟
صيام اليوم العاشر من المحرَّم هو الذي فعله الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولكن لما تحرَّج المسلمون من مُشارَكة ومُشابَهة أهل الكتاب في صيام هذا اليوم قال ـ عليه الصلاة والسلام: "فإن كان العام المقبل إن شاء الله صُمنا اليوم التاسع فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم".
ولهذا قال العلماء: يُستَحَب صيام التاسع والعاشر معًا لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ صام العاشر ونوى صيام التاسع. وقد قال ـ عليه الصلاة والسلام: "أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم".
هذا، وبالله التوفيق.(112/1)
أعذار الفطر:
ما هي الأعذار المبيحة للفطر في رمضان؟
شرْع الله منوط بمصلحة الإنسان، ودِين الله يُسر، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها.
والأعذار المبيحة للفطر أنواع:
منها أعذار شرعية لا يَصِح معها صوم، ولا ينعقد. وذلك بالنسبة للحائض والنفَسَاء فيحرم عليها الصيام ويجب عليها عدة من أيام أُخَر بعد انقضاء شهر رمضان قالت عائشة ـ رضي الله عنها: "كان يُصيبنا ذلك ـ أي الحيض ـ فنُؤمَر بقضاء الصوم ولا نُؤمَر بقضاء الصلاة".
وهناك أعذار متروكة لدين الشخص وخشيته من الله وهي العجز عن الصيام لمرض أو حمل أو رضاع، فهؤلاء إن خافوا الضرَر وتحققوا من المشقة الشديدة التي تلحقهم وأخبرهم بذلك طبيب عدل ثقة جاز لهم الفطر وعليهم قضاء أيام أخر بعد شفائهم وانقطاع الأعذار التي أباحت لهم الفطر.
أما بالنسبة لكبار السنِّ الذين أرهقتْهم الشيخوخة والمرض بمرض ملازِم لا يُرجَى شفاؤه فيجوز لهم الفطر ولا قضاء عليهم نصف قدح من الأرز أو القمح أو الشعير أو غيره وتجوز القيمة بأن يُدفَع له خمسة عشر قرشًا عن كل يوم أفطره.
أما المسافر فقد رخَّص الله له في الفطر ما دام السفر طويلاً مباحًا. وفي صحيح الحديث عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: "سافرنا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيصوم الصائم ويُفطر المُفطِر فلا يعيب بعضهم على بعض".
والله سبحانه بعباده رحمن رحيم.
وهو أهل التقوى وأهل المغفرة.(113/1)
قضاء رمضان مع الأيام الستة:
أفطرت ستة أيام من رمضان لعُذر شرعي ثم صمت الأيام الستة من شوال، فهل تُغني هذه الأيام البيض عن أيام رمضان التي أفطرتها؟
قضاء صيام رمضان يجب أن يتم قبل حلول شهر رمضان التالي، ولا يُشتَرط في قضائه التتابع، وكل ما في الأمر هو أن يُحدِّد الإنسان نيته في اليوم الذي يريد صيامه بأنه قضاء عما فاته من شهر رمضان.
فالنية ركن من أركان العبادة لقوله ـ صلى الله عليه وسلم : "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى".
وتمايز العبادات لا بد أن يصحبه تمايز النيات، بحيث يقصد الإنسان بقلبه ما يفعل فرضًا أو نفلًا، صلاة أو صيامًا وهكذا.
لكن يجوز التشريك في النية إذا اتَّحد العمل، بأن يؤدي الإنسان فعلًا واحدًا بنيتين، فمن اغتسل يوم الجمعة جنبًا يجوز له أن ينوي رفع الجنابة وسنة غسل الجمعة، ومَن دخل المسجد وصلى ركعتين سنَّة للفريضة يجوز له أن ينوي سنة صلاة الفريضة وسنة تحية المسجد معًا، كذلك مَن تصوم الأيام الستة من شوال وعليها صوم واجب من رمضان يمكن لها أن تنوي قضاءَ ما فاتَها من رمضانَ وأداء هذه الأيام المسنونة من شوال، والشرط أن تنوي الفريضة أولًا ولا تلحقها بنية النافلة.
لكن لو أن السائلة الكريمة أفردت أيامَ شوال بالنية ولم تنو بها قضاءَ ما عليها فلا يحصل إلا صوم النافلة، وعليها أيام أخَر يجب صيامها عما فاتَها من رمضان.
إذا اعتادت امرأة أن تصوم الأيام الستة من شوال ثم وقع لها عذر شرعي فهل تقضي هذه الأيام؟
صيام ستة أيام من شوال من السنّة؛ لقوله ـ صلى الله عليه وسلم: "مَن صام رمضان ثم أتبعه ستًّا من شوال كان كصيام الدهر".
ولا يُشتَرط أن تقع هذه الأيام ثاني أيام العيد مباشرةً، بل يمكن صيامها خلال شهر شوال كله، ولا يُشتَرط فيها التتابُع بل لو فرَّقَها الإنسان أثناءَ شهر شوال أجزأه ذلك.(114/1)
وعلى هذا فالسيدة التي اعتادت صيام ستة من شوال فوقع لها عذر شرعي تستأنف بعد انتهاء العذر الأيام التي بَقِيَت عليها ولها ثواب ولا حرج عليها شرعًا".
والله أعلم.(114/2)
نية الصيام في النهار:
عزمت من يوم الأحد على صيام يوم الخميس يوم الخميس لم أتذكر إلا قُبَيل الظهر فهل يجوز إكمال الصوم؟
النية ركن في العبادات حتى تتميَّز عن العادات، وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات".
وتبييت النية في الصوم من الليل واجب في صوم الفريضة سواء كان أداءً أو قضاءً.
لكن الأمر يختلف في النافلة، وقد كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا أصبح فلم يجد طعام مُهَيَّأ نوى الصيام ذلك اليوم، وأحيانًا يصبح صائمًا ثم يجد طعام شهيًّا فيأكل منه ويقطع صوم النافلة.
وتحدثنا أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ فتقول ـ كما في صحيح مسلم ـ: دخل عليَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذات يوم فقال: هل عندكم شيء؟ فقلنا لا، قال فإني إذن صائم، ثم أتانا يومًا آخر فقلنا: يا رسول الله، أهدي لنا حَيْس (وهو ثريد من أخلاط أو تمر مع السمن والأقط) فقال: أرينيه فلقد أصبحت صائمًا فأكل.
ومن هنا أخذ الفقهاء أن صوم النافلة يجوز بنية في النهار قبل الزوال ما لم يسبقه شيء من المفطرات.
أما عزم يوم الأحد على صيام يوم الخميس فلا يُعَدُّ نية.(115/1)
النسيان في الصوم:
نذرتُ صيام عدة أيام، وأثناء صومي في أحد هذه الأيام نَسِيت وشربت جرعة كبيرة من الماء فما رأي الدين؟
شرْع الله منوط بوُسع الإنسان (ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها) (البقرة: 286) والله تعالى تجاوز لأمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن النسيان والإكراه فقال ـ عليه الصلاة والسلام: "رُفِع عن أمتي الخطأ والنِّسيان وما استُكرِهُوا عليه".
والصائم فرضًا أو نفلاً إذا نَسِي وتناول مفطرًا فلا إثم عليه وصومه صحيح ولا إعادة عليه عند جمهور العلماء لقوله ـ عليه الصلاة والسلام، كما في الصحيح: "مَن نَسِي وهو صائم فأكل أو شرب فلْيُتِمَّ صومَه فإنما أطعمَه الله وسقاه".
وقد أخرج أحمد عن مولاة لبعض الصحابة: أنها كانت عند النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأتى بقصعة من ثريد فأكلتْ منها ثم تذكَّرت أنها كانت صائمةً، فقال لها ذو اليدين: الآنَ بعدما شبعتِ فقال لها النبي ـ صلى الله عليه وسلم: "أتِمِّي صومَك فإنما هو رزق ساقَه الله إليك".
فهذه النصوص صريحة في صحة الصوم وعدم قضائه واحتفاظه بثوابه.
وما ذهب إليه البعض من أنه يُفطِر وعليه القضاء وأن الإمساك لحرمة الوقت فلا دليل عليه وقياسه على الصلاة قياس فاسد؛ لأنه في مُقابلة النص. وقد قال الله تعالى في آيات الصيام: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) (البقرة: 185).(116/1)
الإفطار وصلاة المغرب:
أيهما يُقَدَّم الإفطار أم صلاة المغرب؟ وهل يَكفِي قطع الصوم بأي شيء بعد غروب الشمس أو يمكن تناول الطعام كاملًا؟
من أدب الاقتداء برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تعجيل الفطر عقب تحقُّق غروب الشمس، وفي حديث رواه الترمذي والنسائي عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يُفطِر على رطبات قبل أن يُصلي، فإن لم يكن فعلى تمَرات فإن لم يكن حسا حسوات من ماء" وورد في عدد التمرات أنها ثلاث.
وهذا الأدب النبوي لحكمة، فهو أنشط للصائم؛ لأن الإنسان بعد أداء صيام اليوم قد يعتريه فُتور لا يتناسب معه أداء صلاة المغرب على المخمصة، وأيضًا فإن استشعار المسلم بأداء الصوم يقتضي أن يعلم بانتهاء الوقت المحدَّد وأن يخرج من الصوم لكي يَفرَح بتوفيق الله له، وهذا الخروج من الصوم لا يتحقق إلا بتناول الطعام الذي كان محظورًا عليه.
ويتحقق تعجيل الفطر بتناول أي شيء يقطع الصوم كتمرات أو بعض ماء ثم يصلي المغرب وبعدها يتناول طعامه كاملاً.
لكن إذا كان الإنسان في حاجة إلى الطعام ويشق عليه إحسان الصلاة مع انتظار الطعام فلا باس أن يُتم الإنسان فطره كاملاً ثم يصلي المغرب، بل إن الأولى في مثل هذه الحال تناول الطعام.
وهذا هو فقه حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الصحيحين: "إذا قرُب العشاء وحضرت الصلاة فابدأوا به قبل أن تصلوا صلاة المغرب ولا تعجلوا عن عشائكم".
وروت السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: "لا صلاةَ بحضرة الطعام".(117/1)
صوم النافلة للزوجة:
هل يجوز للمرأة أن تصوم نفلًا وهي متزَوِّجة؟
يحرص الإسلام على الاستقرار العاطفي بين الزوجين. قال تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآياتٍ لقوم يتفكرون) (الروم: 21).
كما يسعى الإسلام إلى أن يتسامى بالغريزة الجنسية بحيث تُمارَس في ظل النهج الإلهي بقدر ما يتحقق للنفس السكينة والطمأنينة.
قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ كما في صحيح البخاري: "يا معشر الشباب، مَن استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغضُّ للبصر وأحصن للفرج ومَن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وُجاء".
ومن هنا فإن من حق الرجل الاستمتاع بزوجة في أي وقت شاء؛ ففي صحيح البخاري أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "إذا دعا الرجلُ المرأةَ إلى فراشه فأبت أن تجيء لعنتْها الملائكة حتى تُصبح" وذلك لأن الإعفاف إذا لم يتحقق بين الرجل وزوجه كان ذلك مَدْعاةً للفساد والانحلال.
واعترافًا بهذا الحق رفض الإسلام صوم المرأة نفلاً أو واجبًا على التراخي إلا بإذن زوجها حتى لا يقطع عليها عبادتها إن تاقَتْ نفسه، فإن صامت بغير إذنه فله الاستمتاع بها وإفساد صومها من غير كراهةٍ، ودليل ذلك ما جاء في صحيح البخاري أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "لا يَحِل للمرأة أن تصوم وزوجُها شاهد إلا بإذنه".
ومعنى "شاهد أي حاضر. قال العلماء: فلو كان زوجها مريضًا بحيث لا يستطيع الجِماع أو مسافرًا جاز لها الصيام ولو بغير إذنه.
وننبِّه إلى أن هذا الحق للزوج لا يتعلق بأداء فريضة الصيام في شهر رمضان؛ فإن هذا الوقت بالذات مقصود من الشارع ويتحتَّم الصيام فيه على القادرين جميعًا رجالاً ونساءً فلا تحتاج المرأة إلى إذن زوجها فيه.
هذا وبالله التوفيق.(118/1)
ليلة القدر وكروية الأرض:
يلتمس المسلمون ليلة القدر في السابع والعشرين من رمضان، ومعلوم أن الليل في نصف الكرة الأرضية يقابله نهار في النصف الآخر، فهل يعني ذلك أن ليلة القدر قد تكون في جزء من الأرض فقط أم أنها تنتقل إلى النصف الآخر عندما يَجن فيه الليل؟
أمر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ المسلمين بالتماس ليلة القدر وإحيائها كي يحظى المسلم بالثواب الجزيل الذي أعده الله تعالى لعباده الصائمين القائمين؛ ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدم من ذنبه". وجاءت روايات عند النسائي وأحمد تزيد: "وما تأخر".
وقد التمس الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليلة القدر في العشر الأول من رمضان فلم يصادفها ثم التمسها في العشر الأوسط فلم يصادفها، وأخيرًا بلَّغ أصحابه بوقوعها في العشر الأخير بل حددها لهم بأنها في الوِتْر من العشر الأخير، وفي صحيح البخاري عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "تَحَرَّوْا ليلة القدر في الوتر من العَشْر الأواخر من رمضان".
والقول بأن ليلة القدر هي ليلة السابع والعشرين من رمضان هو قول اجتهادي لا ينفي أقوالاً أخرى، ولعل في إخفاء هذه الليلة ما يُحفِّز المسلم إلى دوام المراقبة واليقظة الدينية.
وكون الليل يتكرر على مستوى الكرة الأرضية لا يعني أن ليلة القدر تكون في جهة دون أخرى، كما أن النهار يتكرر على مستوى الكرة الأرضية، وكل مسلم مُطالَب بصيام نهار رمضان عندما يَحِل عليه ذلك النهار دون ارتباط بوُجود النهار في بقعة أخرى من الأرض.(119/1)
فالمسلم مطالَب شرعًا بتحري هذه الليلة المباركة والتماسها على ضوء الواقع الجغرافي لمنطقته، ويكون هذا التحرِّي بالاعتكاف في المساجد والمحافظة على الجماعة في الصلوات المكتوبات، وتلاوة القرآن والدعاء إلى الله والتهجد ليلاً..
والمسألة ابتداءً وانتهاءَ هي ثواب الله يتفضل به على عباده المؤمنين الأصفياء ويمنحه لمن يشاء ليلاً أو نهارًا، ولا حرج على فضل الله، قال تعالى: (وهو الذي جعل الليل والنهار خِلْفَةً لمن أراد أن يذكَّر أو أراد شكورًا) (الفرقان: 62).(119/2)
صلاة التراويح:
بعض الناس يُصلُّون التراويح في رمضان ثماني ركعات، وبعضهم يصلونها عشرين ركعة، فما هو الأفضل في ذلك؟
من الأمور التي كثُر خِلاف الناس فيها صلاة التراويح في شهر رمضان.
والذي نريد أن يفقَهَه الناس أن من صلاة النوافل في الإسلام التهجد وهو قيام بالليل بعد نوم وأداء بعض الركعات. وإليها الإشارة بقوله تعالى: (تتجافَى جنوبُهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفًا وطمعًا) (السجدة:16) وبقوله سبحانه: (وبالأسحار هم يستغفرون) (الذاريات:18).
هذه الصلاة شُرعت مثنى، مثنى ثم تُختَم بواحدة تُسمَّى وِتْرًا.
وقد اختلفت الروايات في العدد الذي كان يؤديه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في رمضان غير ما بين إحدى عشرة ركعة وثلاث عشرة ركعة، وخمس عشرة ركعة. وقيل في توجيهها أن ذلك بحسب ما كان يحصل من اتساع الوقت أو ضيقه أو تبعًا للأحوال من عذر مرضي أو غيره أو تبعًا للأوقات من كُهولة أو كِبَر سِنٍّ وشيخوخة إلى غير ذلك.
كما حدَّثت الروايات الصحيحة أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ صلى في المسجد ذاتَ ليلة فصلى بصلاته ناس ثم صلى من النافلة فكثُر الناس ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلما أصبح قال: قد رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيتُ أن تُفرَض عليكم.
قال الراوي وذلك في رمضان".
وتوفي رسول الله والأمر على ذلك ثم كان الأمر كذلك أيضًا في خلافة أبي بكر وصدرًا من خلافة عمر إلى أن استحسن جمع المسلمين رجالاً على أبَيِّ بن كعب ونساء على سليمان بن أبي جثمة وصلى بهم عشرين ركعةً.(120/1)
وخلاصة الوارد في هذا المجال والذي نختاره أن صلاة الليل أو ما نسميه التراويح ليس لها حد لا يُزاد عليه ولا يُنقَص منه وتُؤدَّى فرادي وجماعات، فليؤدِّ المسلم العدد الذي تنشط له همته ويتأمل قراءته، ويستجمع فيه فكرَه نحو جلال الله وكماله امتثالاً لقول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: "مَن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفِر له ما تقدم من ذنبه".
والله أعلى وأعلم.(120/2)
عدة شهر رمضان:
سمعت أن هناك حديثًا يفيد أن شهر رمضان لا ينقُص عن ثلاثين يومًا، فهل هذا صحيح؟
الصيام في رمضان والفطر منه مرتَبِطان برؤية الهلال، والمسلمون مُطالَبون شرعًا باستطلاع الهلال عقب تسع وعشرين ليلة من كل شهر قمري، فإن شهدوا الهلال كان ذلك بدءًا للشهر التالي وإلا أتموا الشهرَ الذي هم فيه ثلاثين، ولا يمكن أن يَزِيد الشهر القمري عن الثلاثين.
ففي صحيح مسلم عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم: "الشهر تسع وعشرون فإذا رأيتُم الهلالَ فصُوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غُمَّ عليكم فاقدروا له"، وفي رواية: "فاقدروا ثلاثين".
ومن هنا فلا يُعقَل أن شهر رمضان لا ينقُص عن ثلاثين، فهذا غير وارد ولا صحيح بل المسألة مرتبطة بالرؤية فمتى تحققت دخل الشهر سواءً كان بعد تسع وعشرين أو ثلاثين.
لكن جاء حديث شريف في صحيح مسلم نصه هكذا عن أبي بكرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "شهرَا عيدٍ لا ينقصان: رمضان وذو الحجة".
والمعنى أن الأجر والثواب المرتَّب على الطاعة في هذين الشهرين من الصيام والحج لا ينقص سواءً كان الشهر ثلاثين ليلة، وكان الآخر تسعًا وعشرين فليس مرادًا من الحديث الشريف، وقد يكون واقعًا في بعض السنوات".
ونحن كمسلمين في حاجة ضرورية إلى تحرِّي رؤية الهلال واستطلاعه بدقة؛ لأن كثيرًا من الأحكام الشرعية متوقِّفة على ذلك، فالحج أشهر معلومات هي شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، والصيام يقع في شهر رمضان، والزكاة تجب بانقضاء الحول القمرين كما تتعلق بالأهلة عدة النساء في الطلاق والوفاة إلى غير ذلك من الأحكام الفقهية.
ولهذا كان من السنة أن يقول المسلم عند رؤية الهلال في أول الشهر: الله أكبر، اللهم أهِلَّه علينا بالأمن والأمان والإيمان، والسلامة والإسلام، والتوفيق لما تُحبُّ وترضى، ربُّنا وربُّك الله".(121/1)
الحج كمال الإيمان وقمة الفضائل النفسية:
الإيمان والإسلام يبدآن بكلمة التوحيد الخالص: لا إله إلا الله، تلك الكلمة التي جاهد عليها الأنبياء جميعًا، فقد قالوا لأقوامهم: اعبدوا الله ما لكم من إله غيره. وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: "أفضل ما قلتُه أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله".
وعندما يستقر التوحيد في أعماق النفس الإنسانية تتبدى سلوكيات راقيَة وأقوال حكيمة وأفعال خَيِّرة، وتتوالى أركان الإسلام بأنوارِها من الصلاة والصيام والزكاة، ويأتي الحج ليمثِّل قمة هذا الإيمان والإسلام تشريعًا وواقعًا.. قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: "بُنِي الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمَن استطاع إليه سبيلاً".
فالحج فريضة العمر وتسبقه ضرورةً الأركان اليومية والسنوية، فالصلاة فُرِضت في بَدْءِ الإسلام مرتين: صلاة بالغداة وصلاة بالعشي، ثم فُرِضت خمسًا في الفعل وخمسين في الأجر والثواب ليلةَ الإسراء والمعرج قبيل الهجرة.
وفي حقها يقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم: "أرأيتُم لو أن نهرًا بباب أحدكم يَغتَسِل منه كل يوم خمس مرات: هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء. قال: فكذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا".
وعندما يستقيم المسلم على صلاته اليومية يأتي الصوم في شهر رمضان من كل عام ليُواصل مع المسلم مسيرة النقاء النفسي والخلقي، وقد شُرِع الصوم في العام الثاني للهجرة.(122/1)
وفي فضائل الصوم وثوابه يقول ـ عليه الصلاة والسلام: "قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جُنَّة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفُث ولا يصخَب فإن سابَّه أحد أو قاتَله فليقل إني صائم، والذي نفس محمد بيده لخَلُوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح بفطر وإذا لقي ربه فرح بصومه".
وإذا كان المسلم يملك نصابًا ماليًّا أخرج الزكاة كلما حال عليه الحول، وقد فرضت الزكاة في العام الثاني للهجرة بعد فرضية الصيام. وهي طُهْرة للمسلم من الشُّحِّ والبُخْل ونقاء للنفس والسريرة.
وهكذا تتكامل أركان الإسلام ليصل المسلم إلى قمتها بأداء فريضة الحج التي فُرِضت في العام السادس للهجرة.
ومن هنا فإن المسلم الحاج يُفتَرَض فيه أنه التزم بأركان الإسلام كلها، وأدى واجبات الدين بأجمعها، وعاد من حجِّه ليواصل مسيرة النقاء النفسي والصفاء القلبي والطُّهر الخلُقي.
وقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: "العمرةُ إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة".
وقال ـ صلى الله عليه وسلم: "مَن حج فلم يرفُث ولم يفسُق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه".
ولحكمة ما فإن مناسك الحج وشعائره تتضمَّن الصلاة والصيام والصدقة والذكر والدعاء.
فمن المشروع أداء ركعتين خلف مقام إبراهيم بعد الطواف لقوله تعالى: (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) (البقرة:125).
ومن كفارات الحج الصيام والهَدْي، قال تعالى: (فمَن كان منكم مريضًا أو به أذًى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسُك) (البقرة:169).
إن الحج قائم على كافة ألوان العبادة التي تشمل القلب والقالِب.(122/2)
وتتمكَّن من النفس والجوارح، وتنطلق من الإخلاص والتسليم المطلَق لله رب العالمين، ولعل التلبية التي يُرَدِّدها الحاج في حرَكاته وسكَناته هي التعبير الصحيح لخضوع الإنسان نفسًا وبدنًا لخالقه الأعظم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
إن الذين يريدون الحج ألقابًا، ويتخذونه تِجارةً، ويذهبون إليه سياحةً يفقدون أغلى ما يحرِص عليه العاقل، ويُضيعون أثمن ما في الحياة، ويغفلون عن أعمق ما في الوجود، وهو الإخلاص لله.(122/3)
الحج عزة للمسلمين وانتصار للإسلام:
العزة حالة مانعة للإنسان من أن يُغلَب من قولهم: أرض عِزاز أي صُلْبة، وتَعزَّز اللحمُ: اشتد، والعزيز: الذي يَقهَر ولا يُقهَر.. والعِزُّ: ضد الذل.
والعزة صفة نفسية يجب الحِرْص علي تأصيلها، وهي في الحقيقة منحة من الله لعباده الصالحين قال تعالى: (ولله العزةُ ولرسوله وللمؤمنين) (المنافقون:8).
والحج فريضة تُمثِّل انتصار الإسلام وعِزَّة المسلمين وامتداد نور الله في الآفاق والأنفس، ودخول الناس في دين الله أفواجًا فَرِحين مُستبْشِرِين.
ذلك ما يؤكده تاريخ التشريع الإسلامي للحج.
لقد فرض الله تعالى الحج على أمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ في العام السادس للهجرة بعد مرحلة من أدق مراحل الجهاد الإسلامي في المدينة المنورة، فقد وقعت غزوات: بدر الكبرى وأحد والخندق في مواجهة المشركين، وغزوات بني فينقاع وبني النضير وبني قريظة في مواجهة اليهود، وتحطَّمت قوى الشرك والشر وقامت دولة الإسلام.
ثم رأى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رؤيا منامية أنه دخل مكة وطاف بالبيت الحرام فأخبر رؤياه الصحابة ودعاهم إلى الاستعداد للسفر إلى مكة لأداء العمرة، فخرجوا وساقوا معهم الهدي، ولما وصلوا إلى مكان يسمى الحديبية ـ وهي اسم بئر قريبة من مكة ـ توقفوا عن السَّيْر وبدؤوا يراسلون قريشًا ليفهموا حقيقة موقف المسلمين وأنهم لم يأتوا لحرب أو قتال، وإنما جاءوا زائرين للبيت الحرام ومعظِّمين له.. وقال ـ صلى الله عليه وسلم: "لا تدعوني قريش إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلا أعطيتُهم إياها".
وانتهت المراسلات والمشاورات إلى عقد صلاح الحديبية على أن يرجع المسلمون عامهم هذا ثم يأتوا في العام القابل ويدخلوا مكة ثلاثة أيام.(123/1)
ونزل قوله تعالى: (لقد صدق الله رسولَه الرؤيا بالحق لتدخلُنَّ المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحًا قريبًا) (الفتح:27).
وفي العام السابع للهجرة دخل المسلمون مكة في مشهد مهيب، وقال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأصحابه وهم يطوفون: رحم الله امرءًا أراهم اليوم من نفسه قوةً..
ولم يمضِ عام آخر بعد عمرة القضاء حتى نقضت قريش عهدها فجهز الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ جيشًا قِوامه عشرة آلاف مقاتل، وزحف نحو مكة في رمضان من العام الثامن للهجرة.
ولما رأى أبو سفيان زعيم المشركين يومئذ هذا الجيش الجرَّار قال للعباس عم الرسول: والله يا ابا الفضل لقد اصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيمًا فقال له العباس مصححًا للمفاهيم: يا أبا سفيان إنها النبوة.
وتم فتح مكة وتحطيم الأصنام وكان شعار ذلك اليوم: لا إله إلا الله وحده، صدق وعده ونصره عبده، وهزم الأحزاب وحده.
ورغم انهيار دولة الشرك فقد ظل المشركون يؤدون الحج على طريقتهم الوثنية فلما كان العام التاسع للهجرة ذهب أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ أميرًا على الحجاج المسلمين، وخلال موسم الحج نزلت سورة "براءة" تعلن تصفية الحج من كل مظاهر الجاهلية، وأعلن المتحدث الرسمي للرسول ـ صلى لله عليه وسلم ـ وهو علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ أمام الملأ من المسلمين والمشركين يوم الحج الأكبر وهو يوم عرفة أربعة مبادئ أساسية:
أيها الناس لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عُريان، ومَن كان له عند رسول الله عهد فعهده إلى مدته.
وعندما توجَّس المسلمون كسادًا اقتصاديًّا بسبب منع المشركين نزل قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجَس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم) (التوبة:28).(123/2)
وفي العام العاشر للهجرة خرج رسول الله في مائة ألف أو يَزِيدون لأداء حجة الإسلام والبلاغ والوداع ونزل قوله تعالى: (اليوم أكملتُ لكم دينَكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورَضِيتُ لكم الإسلام دينًا) (المائدة:3).
وهكذا يتجدد الحج كل عام ليؤكد عزة المسلمين وانتصار الإسلام.(123/3)
الحج وتنمية الوعي:
من الضروري لبقاء الأمة واستمرار مسيرة الحياة المثلى، يقظة الوعي بالمقدسات والقيم وتنمية الذاكرة بأصول الدين وأخلاقه، وإحياء القلب والعقل بأيام الله المجيدة.
قال تعالى: (ولقد أرسلنا موسى بآياتِنا أن أخرجْ قومك من الظلُمات إلى النور وذكِّرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور) (إبراهيم:5).
فالتذكير بأيام الله هو التذكير بنِعَمِه وآلائه، وفي قمة النِّعَم الدين والشرع والقيَم.
والحج فريضة إلهية تحيي ذاكرة الأمة، وتُجَدِّد آمال الشعوب الإسلامية وتُشحذ هِمَم المسلمين، وتَتعالَى بنفس المؤمن وعقله إلى آفاق السموِّ الروحي والملأ الأعلى.
إن المسلم عندما يحج ويذهب إلى مكة لا ينسى المدينة المنورة ويتوارد على عقله وقلبه بيت المقدس الشريف.. فهذه الأماكن الثلاثة لها من الذكريات والمواقف والأحداث ما يجعلها دائمًا في بُؤرة الشعور الإسلامي.
لقد ارتبطت الصلاة والحج بالكعبة المشرَّفة، قال تعالى: (وإذ جعلنا البيت مثابةً للناس وأمنًا واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طَهِّرا بيتيَ للطائفين والعاكفين والركع السجود) (البقرة:125). وقد كانت المدينة المنوَّرة متَلَقَّى المهاجرين والأنصار، وجعل الله ثراها مثوًى لسيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين.
وكان الإسراء والمعراج رباطًا قدسيًّا يجمع بين مكة والقدس وسيناء حيث بدأت الرحلة الميمونة من مكة ومرت بسيناء وانتهت في القدس. ومن هناك صعد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى السماوات العلا، إلى حيث العَلِيُّ الأعلى ثم عاد من حيث بدأ، كل ذلك في جزء يسير من الليل.. قال تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريَه من آياتنا إنه هو السميع البصير) (الإسراء:1).(124/1)
وأقسم الله تعالى بمكة وسيناء والقدس في قوله تعالى: (والتين والزيتون. وطور سنين. وهذا البلد الأمين) (التين:1ـ3).
فالتين والزيتون قسم ببيت المقدس حيث ولد عيسى عليه السلام ودعا إلى التوحيد الخالص لله رب العالمين، وطور سينين قسم بسيناء حيث كلم الله موسى تكليمًا، والبلد الأمين قسم بمكة المكرمة حيث وُلِد سيدنا محمد وبُعِث وجاهد في الله حق جهاده، فالتذكير هنا برسائل التوحيد التي عمَّ نورها الآفاق.
وجمع الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ الأرض المقدَّسة في سياق واحد فقال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى".
فهذه المساجد الثلاثة لها منزلة خاصة وثواب مضاعَف، وتستحق اهتمام المسلم وبالغ حرصه.
إننا في حاجة قصوى إلى غرس الوعي لدى الأجيال المسلمة بحرمة هذه الأرض وقدسيتها، وأنها أمانة في أعناقنا وعقد فريد لا يتجزَّأ، ويوم نرضى بالدُّون لقدسنا الشريف نكون قد بدأ التفريط في أعراضِنا كلها ومقدساتنا جميعًا.
إن الحج يغرس الوعي ويُحيي الذاكرة، ويربي المسلم نفسًا وبدنًا، ويمنحه سلوكًا اجتماعيًّا رفيعًا.
إن الحج يُجَدِّد في المسلم الولاء لله ورسوله والوفاء بعهد الله والحفاظ على حُرْمة المساجد والأعراض مما يؤصل فيه النقاء النفسي والإخلاص الكامل.
إن المسلم الحاج يقف طويلاً أمام آيات القرآن الكريم يستشعر معناها ويتلمَّس أماكن نزولها ويتذكر أحداث تاريخها، ويُعيد تأملاته في مثل قوله تعالى: (إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواءً العاكف فيه والباد ومَن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم) (الحج:25).
وهذا ما يجعله في رباط إلى يوم القيامة.(124/2)
الحج تأكيد لقوة الرحماء:
الحج فريضة لا يفي بأداء مشاعرها إلا القوي الأمين، ولا يزاول مناسكها في تمامها إلا مَن آتاه الله بسطة في العلم والجسم، ولا يستشعر آفاقها العليا إلا من كمُل إيمانه وقوي بدنُه وكان ذا قلب كبير ونفس مطمئنة.
إن الحج سفر، والسفر قطعة من العذاب، وفي الحج ترك للأوطان وهجر للأولاد وبذل للأموال، وذلك يحتاج إلى يقين صادق بالله عز وجل، وتحمُّل نفسي كبير وتجلُّد شديد، فالمال شقيق الروح، والولد مَجْبَنة، وحب الأوطان في سويداء القلوب.
وليس من اليسير أداء المناسك مع الضعف والخوَر، وقلة البأس، وهزال البدن، فالطواف حول الكعبة سبعًا، والسعي بين الصفا والمروة سبعًا وسط الزحام وتكأكؤ الناس واختلاطهم في حاجة إلى قوة رحيمة تتكافأ مع هذه المشقة، وتترفق بالناس في طوافهم وسَعْيهم حتى لا يقع شخص أو ينكفئ إنسان أو يُزاحم امرأة أو يقسو على صغير.
والإقامة في عرفات الله وفي أرض منى مع اختلاف ظروف الحياة في طقسها ومناخِها، وفي مأكلها ومشربها، وفي نومها ويقظَتِها. كل ذلك يتطلب جسدًا سليمًا يضم روحًا طاهرة ليكون الإنسان قويًّا جلدًا، رحيمًا بالضعفاء حانيًا على البائسين، شفوقًا بذوي الحاجات.
وقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حجة الوداع يُمسك بزمام ناقته ويشدها بقوة حتى لا تُسرع في زحام الناس، وينادي ويشير بيده اليمنى الشريفة: أيها الناس.. السكينةَ.. السكينةَ..
ومن هنا تتأكد أهمية الحج في تربية المسلم وتربية تقوم على القوة الرحيمة التي تعني التواضع وكظم الغيظ والحلم والأناة والرفق والتواضع وحسن الخلُق.
قال تعالى: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين. الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين) (آل عمران:133ـ134).
فهذه الصفات وإن كانت شِعار المسلم في كل وقت إلا أنها في الحج آكَد وألزم.(125/1)
إن القوة الرحيمة أو قوة الرحماء هي أسمى ما يتخلق به المرء، وأعلى ما يهدف إليه المصلحون، وأعظم ما يفكر فيه العقلاء، وأبهى ما تراه العيون.
إن البعض ينادي بالقوة الغاشمة التي تقوم على الغلَبة وحب الانتقام والغرور بالنفس والاستعلاء بالذات.
ولن تكون تلك القوة الغاشمة الشرِّيرة إلا في الحمقى وذوي العاهات الفكرية.
إن الإسلام يدعو إلى القوة بجميع ألوانِها، قوة العقل والفكر، قوة البدن والجسم، قوة النفس والقلب، قوة العدة والعتَاد، لكنها قوة الرحماء التي تحمي الدين وتَصُون الحق وتذود عن الحرُمات وتدافع عن المقدَّسات، وتنتصر للمظلومين، وتحقق الأمن والأمان للناس أجمعين.
قال الله تعالى: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم والله يعلمهم وما تنفقوا من شيء يوفَّ إليكم وأنتم لا تظلمون. وإن جنحوا للسَّلْم فاجنح لها وتوكَّل على الله إنه هو السميع العليم) (الأنفال:60ـ61).
وفي حديث رواه الطبراني ـ ورجاله رجال الصحيح ـ أن فتًى جلدًا مرَّ على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال الصحابة تعجبًا من قوته: لو كان هذا في سبيل الله، يريدون الجهاد فقال ـ عليه الصلاة والسلام: "إن كان خرج يسعى على ولده صغارًا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج رياءً ومفاخرةً فهو في سبيل الشيطان".(125/2)
الطريق إلى الكعبة والطريق إلى الله:
للحج ميقات زماني هو شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، لا يصح لمسلم أن ينوي الحج إلا في هذا الوقت فقط.
وللحج ميقات مكاني لا يعبُره الحاج إلا وهو محرم ولا يتجاوزه إلا متطهرًا مؤديًّا ركعتين، ناويًا الحج أو العمرة، رافعًا صوته بالتلبية، قائلاً: اللهم إني نويت الحج فيسِّرْه لي وتقبَّلْه مني، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.
ثم يتجنَّب المحرِم محظورات الإحرام من لبس المَخِيط والمحيط، ومس الطِّيب، وحلق الشعر وتقليم الأظفار وقتل الصيد وقطع الشجر.. الخ.
فإذا كان الحاج يبدأ طريقه إلى الكعبة محرمًا فإن المسلم يبدأ طريقه إلى الله بالتوبة النصوح.
فقد جاء الأمر بها عامًّا في قوله تعالى: (وتوبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون) (النور:31).
وحقيقة التوبة إقلاع عن المعصية، وندَم على ما وقع، وعزْم على عدم العود، واستقامة على المنهج.
فلا توبة مع الإصرار، وقد لا يكون الإقلاع توبة، وذلك كمَن ترك المعصية لمعنى آخر غير الندَم، فمَن ترك الفاحشة لعدم استطاعته لها أو ترك الخمر لضررها ويظل قلبه متعلقًا بها لا يعد تائبًا. فإن التوبة عمل قلبي تصحبه حركة الجوارح في استقامة واحدة نحو مرضاة الله تعالى.
ولكي يمحو المرء آثار معصيته فلا بد من التزوُّد بالتقوى؛ فإن الحسنة تمحو السيئة. قال الله تعالى: (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين) (هود:114).(126/1)
وإذا كانت المعصية متعلقة بحقوق العباد فلابد من رد المظالم إلى أهلها أو مسامحتهم فيها. وقد سأل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصحابه يومًا، فقال: "أتدرون مَن المفلِس؟ قالوا: المفلس فينا مَن لا درهم له ولا متاع، فقال: إن المفلس من أمتي مَن يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطَى هذا من حسناته، وهذا من حسناته فإن فَنِيَت حسناتُه قبل أن يقضي ما عليه، أُخِذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طُرِح في النار".
إن المسلم حين يبدأ طريقه إلى الله تعالى بالتوبة يأخذ في الترقي من النفس الأمارة إلى النفس اللوامة، إلى النفس المطمئنة.
فالنفس الأمارة قرينها الشيطان يقذف فيها بالباطل ويَعِدها الأماني الكاذبة ويُزَيِّن لها القبيح، ويهوي بها إلى مكان سحيق.
والنفس اللوامة هي التي تلوم صاحبها على تقصيره في جنب الله، وتدفعه إلى المسارعة إلى البر والخير، والنجاة إلى شاطئ الأمان.
والنفس المطمئنة هي التي اطمأنت إلى ربها في حكمه وحكمته وسلكت مسالك الأنبياء والصالحين فاستحقَّت ذلك النداء الإلهي الكريم: (يا أيتها النفس المطمئنةُ. ارجعي إلى ربِّك راضيةً مرضيةً. فادخلي في عبادي. وادخلي جنتي) (الفجر:27ـ30).(126/2)
طواف الكعبة وطواف الكون:
من شعائر الحج ومناسكِه الطواف حول الكعبة المشرَّفَة، وقد يكون طواف قدوم، أو طواف إفاضة أو طواف ودَاع.
فطواف القُدوم عند رؤية الكعبة.
فتحية المسجد الحرام بالطواف على خلاف سائر المساجد التي تُحيَّى بركعتين.
وطواف الإفاضة هو طواف الركن، وطواف الوداع لمَن يخرج من مكة ليكون آخر عهده بالبيت الحرام.
والطواف سبعة أشواط تبدأ من الحجر الأسود باسم الله وتنتهي به، وهو كالصلاة فيشترط له الطهارة من الحدَث والنجَس إلا أنه أُبيح لنا الكلام فيه.
والطواف حول الكعبة يستحضر لنا تاريخ الأنبياء من عهد إبراهيم وإسماعيل إلى خاتمهم محمد ـ صلى الله عليهم جميعًا وسلم ـ ذلك التاريخ الذي يقوم على الجهاد والدعوة في سبيل الله.
ولعل في طواف المسلم حول الكعبة ما يُحَفِّزه إلى طواف العقل والقلب في ملكوت السماوات والأرض، واستكشاف آيات الأنفس والآفاق.
فإن الأمة الإسلامية هي أمة القراءة والعلم والحضارة، استجابةً لهذا التوجيه الإلهي الأول: (اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم) (سورة العلق:1ـ5).
ولأول مرة في تاريخ الرسالات تكون معجزة الإسلام الكبرى كتابًا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، يُنادي صباح مساء بالنظر والتأمل ويُطالب بالحجة والبرهان، ويدفع إلى البحث عن السنن الكونية، ويسبح بالإنسان في أجواء الفضاء، ويغوص به في أعماق الأرض، ويعلو به قمم الجبال، ويمشي به في حدائق ذات بهجة، ويركب معه الأمواج، ويَستَطلِع النجوم، ويتعرف على ما خلق الله من دابة.(127/1)
فالقرآن كون مقروء والكون قرآن منظور، وصدق الله حيث يقول: (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبثَّ فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخَّر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون) (سورة البقرة:164).
إن المسلمين يوم عَقِلوا طواف العقل والقلب في الكون حكموا العالم من أقصاه إلى أقصاه، وحققوا الفردوس الأرضي، وكانت مراكز الحضارة الإسلامية في بغداد ودمشق والقاهرة وصقلية وقرطبة وغيرها مشاعل النور والهداية للعالمين.(127/2)
سعي الصفا والمروة وسعي الصفاء والمروءة:
من مناسك الحج السعي بين الصفا والمروة، وهما في الأصل جبلان قريبان من الكعبة، وأصبحا الآن داخل المسجد الحرام، يبدأ السعي من الصفا بقراءة الآية الكريمة: (إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يَطَّوَّف بهما من تطوع خيرًا فإن لله شاكر عليم) (سورة البقرة:158).
وقد يتوهم البعض أن السعي ليس ركنًا، وقد سأل عروة بن الزبير خالته السيدة عائشة فقال: إني لأظن رجلاً لو لم يَطُف بين الصفا والمروة ما ضرَّه، قالت: لِمَ؟ قال: لأن الله تعالى يقول: (إن الصفا والمروة من شعائر الله..) إلى آخر الآية، فقالت: ما أتمَّ الله حج امرئ ولا عمرته لم يَطُف بين الصفا والمروة، ولو كان كما تقول لَكان: "فلا جناحَ عليه أن لا يطَّوَّف بهما"، وهل تدري فيم كان ذاك؟ إنما كان ذاك أن الأنصار كانوا يهلون في الجاهلية لصنمين على شط البحر يقال لهما إساف ونائلة، ثم يجيئون فيطوفون بين الصفا والمروة، ثم يحلقون فلما جاء الإسلام كرهوا أن يطوفوا بينهما للذي كانوا يصنعون في الجاهلية فأنزل الله عز وجل: (إن الصفا والمروة من شعائر الله ...) إلى آخرها فطافوا وإذا كان الحاج يسعى بين الصفا والمروة فأحرى بنا أن نسعى في مناحي الحياة كلها خيرًا وبِرًّا ومعروفًا.
فهناك سعى إلى ذكر الله والصلاة وبيوت الرحمن، قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمُعة فاسعَوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) (سورة الجمعة:9).
فلا يصح شرعًا مباشرة أي عمل ممن يجب عليه الجمعة وقت النداء لأهمية اجتماع المسلمين في رحاب بيوت الله يتدارسون القرآن ويتفقهون في الدين ويتعارفون محبة لله وفي الله.(128/1)
وهناك سعى لطلب العلم فإن الحكمة ضالَّة المؤمن يبحث عنها وينقِّب ويتحمل البأساء والشدة.. وفي حديث رواه أبو داود وابن ماجة وابن حبان قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: "مَن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهَّل الله له طريقًا إلى الجنة. وإن الملائكة لَتَضَع أجنحتَها لطالب العلم رضًا بما صنع. وإن العالم يَستَغفِر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورَثة الأنبياء، وإن العلماء لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر".
وهناك سعى لإعفاف النفس والولد، وتوفير حاجات الأسرة ونفقاتها، وهو أفضل السعي وثوابه أجزل الثواب، وذات يوم مرَّ على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ رجل فرأى الصحابة من جلَده ونشاطه فقالوا: يا رسول الله لو كان هذا في سبيل الله، فقال ـ عليه الصلاة والسلام: "إن كان خرج يسعى على ولده صغارًا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياءً ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان" (رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح).
وهناك سعى في حوائج الناس وتيسير العون للضعفاء وكفالة المحتاجين، وفي صحيح الحديث قال ـ عليه الصلاة والسلام: "مَن نفَّس عن مؤمن كربةً من كرَب الدنيا نفَّس الله عنه كربة من كرَب يوم القيامة، ومن يسَّر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه".(128/2)
وهناك سعي على الأرامل والمساكين ورعاية لليتامى، وهو يَعدِل قِمَم العمل الديني السامي كالجهاد وقيام الليل بغير نوم وصيام النهار بغير انقطاع. قال ـ عليه الصلاة والسلام: "الساعي على الأرملة والمِسكِين كالمجاهد في سبيل الله". قال أبو هريرة وأحسبه قال: وكالقائم لا يفتُر وكالصائم لا يُفطِر.
إن حركة الحياة واستمرارها مرتبطة بالسعي الحثيث، ويكون السعي مثمرًا بنَّاءً بقَدْر صلته بالله والتزامه بمنهج الله حينئذ يعم الخير، وتنتشر المُروءة، ويسود الصفاء.(128/3)
عرفات الله وتَعارُف البشر:
أهم ركن في الحج هو الوقوف بعرفة يوم التاسع من ذي الحجة، ومَن فاتَه الوُقوف فاته الحج، وقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: "الحج عرفة".
ويلتقي الحجيج آلافًا مؤلَّفة بزي الإحرام الموحَّد، في زمان ومكان واحد، يُحاولون استشراف الحياة في أصلها مجرَّدين من الزخرف والشهَوات، مُتَعالين على الأعراق والأنساب، مُتَجاوِزين الألقاب والمراتب، يجأرون إلى الله تعالى بالولاء الخالص والدعاء الضارع.
وفي صحيح مسلم قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: "ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبيدًا من النار، من يوم عرفة، وإنه لَيدنو يتجلى ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟".
إن يوم عرفة يؤكد قيَمًا عُلْيا تقوم عليها الحياة، ويتعايش بها الناس كي يحققوا سعادة الدنيا وكرامة الآخرة.
إن يوم عرفة يذكرنا بضرورة التعارف البشري والتقارب الإنساني الذي سجله القرآن المجيد في قوله: (يا أيها الناس إنَّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمَكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير) (سورة الحجرات:13).
إن الأصل الواحد الذي انبثق منه البشر، والرحِم الأول الذي توالَد منه الإنسان يتطلب حقوقًا وواجبات.. فالنفس الإنسانية لها كرامتها واحترامها، وحرمة المال والعِرْض من أعظم الحرُمات، والنفس الواحدة تُمثِّل الإنسانية بأسرها، قال الله تعالى: (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه مَن قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا ومَن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا) (سورة المائدة:32).(129/1)
وفي خطبة الوداع قال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في نصيحة عامة: "أتدرون أي يوم هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننَّا أنه سيُسَمِّيه بغير اسمه، قال: أليس هذا يوم النحر؟ قالوا: بلى، قال: أي شهر هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننَّا أنه سيُسَمِّيه بغير اسمه، قال: أليس ذا الحجة، قالوا: بلَى. قال: أي بلد هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننَّا أن سيسميه بغير اسمه، قال: أليس بالبلد الحرام، قالوا: بلى، قال: فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، إلى يوم تَلْقَوْن ربكم، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد، فليبلِّغ الشاهد منكم الغائب، فربَّ مبلَّغ أوعى من سامع، فلا تَرجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض".
إن الجموع الحاشدة التي تلتقي في عرفات الله تجعلنا نحن المسلمين نوقن أن صلاح أمتنا الإسلامية مرهون بالتوحيد والوَحدة، التوحيد في العقيدة، والوَحْدة في المجتمع.. فنحن إزاء ما نُعانيه من الزحف الإلحادي والانحراف الخلُقي والفساد الاجتماعي والتيارات الآثمة ـ لن تكون هناك وسيلة للخلاص إلا أن نُعِيد الأمة إلى كلمة التوحيد الخالِص لله رب العالمين.
ونحن في مواجَهة الاحتكارات العالمية، والكتَل الدولية لن تستقيم للمسلمين حياتهم إلا بالوَحدة والتكامل الاقتصادي والبشري.. قال الله تعالى: (إن هذه أمتكم أمةً واحدةً وأنا ربكم فاعبدونِ) (سورة الأنبياء:92).
وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: "مثَل المؤمنين في توادِّهم وتراحمِهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعَى له سائر الجسَدِ بالسهر والحمى".
إن الأمة الإسلامية من المُحِيط إلى المُحِيط قد حبَاها الله بخيرات وَفِيرة وموارد ضخمة وإمكانات هائلة تُنادي المؤمنين صباحَ مساءَ؛ كي تَنفَحَهم بثمراتها المُبارَكة.(129/2)
إن وقفة عرفات تُجَمِّع زعماء الأمة ورجالها في مختلف نواحي الحياة الفكرية والاقتصادية والسياسية، كي يتدارسوا أحوال المسلمين ويتحملوا أمانة إصلاح المجتمع.(129/3)
الهَدْي والأُضْحية والتكافل الاجتماعي:
من شعائر الله وتقوى القلوب وحرُمات الله التي تُعَظَّم، الهَدْي في الحج والأُضحية.
والهدي: ما يُهدَى إلى الحرَم من النَّعَم.
والأضحية: هي الذبيحة التي يُتَقَرَّب بها إلى الله تعالى أيام عيد الأضحى، سُمِّيت بذلك؛ لأنها تُفعَل وقت الضُّحَى، وهو ارتفاع الشمس في أول النهار، وهي تذكرنا بقصة الفداء لإسماعيل ـ عليه السلام ـ حين افتداه الله بكبش من السماء. قال الله تعالى: (وفديناه بذِبْح عَظيمٍ) (سورة الصافات:107).
والأضحية والهدي شريعة التقت عليها رسالات الله جميعًا، قال الله تعالى: (ولكل أمة جعلنا مَنْسَكًا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشِّر المخبتين) (سورة الحج:34).
وقد جعل الله للهدي والأضحية ميقاتًا زمنيًّا هو يوم العاشر من ذي الحجة وأيام التشريق الثلاثة بعده. قال الله تعالى: (ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير). (سورة الحج:28).
فالأُضحية في عيد النحر تقابل زكاة الفطر في نهاية رمضان، مقصود بها التوسِعَة على المسلمين، وفي عامٍ ـ على عهد رسول الله ـ كان بالمسلمين ضائقة مالية ومُعاناة، فقال ـ عليه الصلاة والسلام: "مَن ضحَّى منكم فلا يَصبَحَنَّ بعد ثالثة وفي بيته منه شيء". أي أن لحم الأُضحية لا يُدَّخَر بل يُوَزَّع على الفقراء، ويأكل منه المسلم ثلاثةَ أيام فقط. فلما كان العام التالي قال الصحابة: يا رسول الله نفعل كما فعلنا العام الماضي؟! فقال ـ صلى الله عليه وسلم: "كُلوا وأطعموا وادَّخِروا فإن ذلك العام كان بالناس جهد فأردتُ أن تُعِينوا فيه".(130/1)
إن قيام المسلم بأداء هذا الحق وغيره من الحقوق المالية قيام بالواجب لذاته، وهو خالٍ من الرياء والمَن والأذى، ويَحتَسِبه عند الله عز وجل، قال الله تعالى: (لن ينال اللهَ لحومُها ولا دماؤُها ولكن ينالُه التقوى منكُمْ) (سورة الحج:37)، ويقول جل شأنه: (إِنَّما نُطعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيد منكم جزاءً ولا شكورًا) (سورة الإنسان:9).
فالمال مال الله استخلفنا فيه، والواجب يُحتِّم علينا المشاركة بمال الله في مساعدة خلق الله، وذات يوم قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأصحابه: مَن كان معه فضل ظهر فليَعُدْ على مَن لا ظهر له، ومن كان له فضل من زاد فليعد به على من لا زاد له، قال الراوي فذكر من أصناف المال ما ذكر حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل".
وليس للمرء من ماله إلا ما تصدق به فكل إنسان في ظل صدقته يوم القيامة، وما عدا ذلك فمآكل تَفنَى وملابس تَبلَى ومظاهر خادِعة.
وفي تشبيه رائع تحكي السيدة عائشة ـ كما رواه الترمذي ـ أنهم ذبحوا شاةً، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما بقي منها؟ قالت: ما بقي منها إلا كتفها قال ـ عليه الصلاة والسلام: بقي كلها غير كتفها.
فلننظر إلى هذا المعنى الرائع الجميل، فالذي أنفق من الشاة هو الباقي، وإن عادت منفعته إلى الغير، والذي تُرك من الشاة هو الفاني وإن عادت منفعته إلى الشخص.(130/2)
رمي الجمرات رغمًا للشيطان:
من مناسك الحج رمي الجمَرات، ويبدأ برمي جمرة العقَبَة يوم العاشر من ذي الحجة، وهي الجمرة الكبرى، ثم يكون الرمي للجمرات الثلاث الصغرى والوسطى والكبرى في أيام التشريق الثلاثة بعد العيد.
قال الله تعالى: (واذكروا الله في أيام معدوداتٍ فمَن تعجَّل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمَن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون) (سورة البقرة:203).
وكل جمرة تُرمَى بسبع حصيات، ومجموع الحصيات لمَن تعجَّل تسع وأربعون حصاة، ولمَن تأخَّر سبعون، ويقول الرامي عند كل حصاة: بسم الله والله أكبر رغمًا للشيطان وحزبه.
وهذا الموقف الرمزي في الحج له دلالته العميقة في حياة المسلم، فإن الشيطان عدو للإنسان، وقد اتخذ العهد على نفسه منذ هبوط آدم ـ عليه السلام ـ إلى الأرض، كي يصرف الناس عن الحق والخير.
قال الله تعالى: (قال فبما أغويتني لأقعدنَّ لهم صراطك المستقيم. ثم لآتينَّهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين) (سورة الأعراف:17).
وقد وعد الله ـ ووعدُه الحق ـ أن يحمي عباده الصالحين من نزغات الشيطان فقال: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا مَن اتبعك من الغاوين). (سورة الحجر:42).
إن سبُل الشيطان متعددة، وهي في جملتها إيعاد بالشر وتكذيب الحق، فالشيطان يصُدُّ عن ذِكْر الله والصلاة، ويشغل الناس عن الخُشوع في العبادة، ويُلهيهم عن مواقيتها ويدفعهم إلى انحراف السلوك والفكر والعقيدة، ويُزيِّن لهم القبح.. قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون. إنما يريد الشيطان أن يُوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدَّكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون) (سورة المائدة:90ـ91).(131/1)
والشيطان يخوِّف أولياءه من الجهاد ويُلقي في قلوبهم الوهَن ويَغرِس فيهم الجبن.. قال الله تعالى: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشَوْهم فزادهم إيمانًا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل. فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم. إنما ذلكم الشيطان يُخوِّف أولياءه فلا تخافوهم وخافونِ إن كنتم مؤمنين) (سورة آل عمران:73ـ75).
والشيطان يصُد الناس عن الإيمان ويَصرِفهم عن تحكيم منهج الله والولاء لشريعته، قال الله تعالى: (ألم تر إلى الذين يزعُمون إنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أُمِروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالًا بعيدًا). (سورة النساء:60).
والشيطان يمنع الناس من المُشارَكة في التكافل الاجتماعي ويقذِف في قلوبهم حب الدنيا وخوف الفقر فلا يتصدقون. قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيَمَّمُوا الخبيثَ منه تنفقون ولستُم بآخِذِيه إلا أن تُغمِضُوا فيه واعلموا أن الله غني حميد. الشيطان يَعِدُكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليم) (سورة البقرة:267ـ 268).
ومن هنا فإن العاقبة الوَخِيمة التى تنتظر إبليس وجنوده والغاوين هي جهنم وبئس المصير.. قال الله تعالى: (إن الشيطان لكم عدوٌّ فاتخذوه عدوًّا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير) (سورة فاطر:6).
وليكن معلومًا أن لفظ الشيطان يعني المتمرِّد، سواءً كان من الجن أو الإنس، قال الله تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوًّا شياطين الإنس والجن يُوحِي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا) (سورة الأنعام:112).(131/2)
كما أطلق القرآن لفظ الوَسْواس الخنَّاس على كل صاحب كلام خفي يخدع به الناس ويزيِّن لهم القبح سواء كان جنيًّا أو إنسيًّا. فقال: (من شر الوَسْواس الخنَّاس. الذي يُوسوِس في صدور الناس. من الجِنَّة والناس) (سورة الناس:4ـ6).
ومهما يكن من أمرٍ فإن مهمة الشيطان هو مجرد الوسوسة والتزيين، وتقع المسئولية كاملة على الإنسان المنحرف الذي يتَّبِع خطُوات الشيطان ويلغي عقله وفكره ويغمض عينيه دون النور والهُدَى، وقد وضع القرآن هذه المسؤولية بما لا يدع مجالاً للريب، فقال: (وقال الشيطان لما قُضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتُكم وما كان ليَ عليكم من سلطان إلا أن دعوتُكم فاستجبتُم لي فلا تلوموني ولُوموا أنفسَكم ما أنا بمُصرِخكم وما أنتم بمصرخيَّ إني كفرتُ بما أشركتمونِ من قبلُ إن الظالمينَ لهم عذاب أليم) (سورة إبراهيم:22).(131/3)
زيارة المسجد النبوي والسلام على رسول الله:
الحديث عن أدب الزيارة النبوية تَتَداعَى إليه أمور تُثِير الحس المُؤمِن، وتجعله يشدو بقلبه ولسانه: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميد مجيد.
إن زيارة الرسول الكريم تَعنِي التواجُد في المدينة المنوَّرة والصلاة في المسجد النبوي تشريف، والتشرُّف بالسلام على سيد الأولين والآخرين.
أما المدينة ففضلها عظيم ومكانتها كبيرة ومنزلَتُها في الدِّين رفيعة، فهي مُلتَقَى المهاجرين والأنصار، وفيها تأسَّست الدولة الإسلامية، ومنها خرجت جيوش الرحمن وكتائب الإسلام تنشُر نور الله في كل مكان.
وقد أخبر الصادق المصدوق ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه لا يدخلها الطاعون ولا الدجَّال، وأن الإيمان يأرِزُ إلى المدينة كما تَأرِز الحيةُ إلى جُحرها، وأنها تنفي الناس كما ينفي الكيرُ خبَثَ الحديد، وأن المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون.
وعن مالك ـ رضي الله عنه ـ أن بلغه أن عمر بن عبد العزيز حين خرج من المدينة التفت إليها فبكى ثم قال لمَن معه: يا مزاحمُ، أتخشى أن تكون ممن نفتِ المدينة؟!
ومسجد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو خير مسجد بعد المسجد الحرام، وأحد المساجد الثلاثة التي تُضاعَف فيها الصلاة، ويُسعَى إليها من آفاق الأرض، قال ـ عليه الصلاة السلام: "لا تُشَدُّ الرِّحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرام ومسجد الأقصى".
وقال: "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام". وبالمسجد النبوي الروضة الشريفة، وفي فضلها ورد الحديث الشريف: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة".(132/1)
أما القبر الذي يضم الجسد الشريف فهو في الأصل حجرة السيدة عائشة؛ لأن الأنبياء يُدفَنُون حيث يموتون، وقد انتقل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الرفيق الأعلى وهو في حجرة أم المؤمنين عائشة مستندًا إلى صدرها، وقد أصغت إليه يقول: اللهمَّ اغفرْ لي، وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى.
وفي موطأ الإمام مالك عن يحيى بن سيعد أن عائشة زوج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قالت: رأيتُ ثلاثةَ أقمار سقطتْ في حجرتي فقصصتُ رؤياي على أبي بكر الصدِّيق، قالت: فلما توفي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودُفِن في بيتها قال لها أبو بكر: هذا أحد أقمارِك وهو خيرُها".
والأدب في الزيارة والتشرُّف بالسلام على المصطفى الأمين أن يبدأ المسلم بصلاة تحية المسجد في الروضة الشريفة أو في أي مكان خالٍ من المسجد، ثم يتقدم إلى القبر الشريف من ناحية القِبْلة بأدب وسكينة وخشوع، ويقف تلقاء القبر بوجهه ويقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته.
ولا حرج أن يتوسع بذكر بعض أوصافه وأحواله ـ صلى الله عليه وسلم.
ثم يتقدم إلى جهة يمينه قَدْر ذراع ليواجه الصدِّيق ـ رضي الله عنه ـ فيسلم عليه، ثم يتقدم قَدْر ذراع أخرى ليواجه الفاروق عمر ـ رضي الله عنه ـ فيسلم عليه.
وإذا أراد الزائر أن يدعو لنفسه بعد ذلك فليستقبل القبلة ولا يستقبل القبر.
وجاء في بعض الروايات أنه كان أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا خلا المسجد جلسوا برمانة المنبر التي تلقاء القبر بميامنهم ثم استقبلوا القبلة يدعون" وكان ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ يجيء إلى القبر فيقول: السلام على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ السلام على أبي بكر، السلام على أبي" ثم ينصرف.
وفرق بعض العلماء بين أهل المدينة والقادمين عليها من الآفاق:
فقال الإمام مالك: وليس يلزم مَن دخل المسجد من أهل المدينة الوُقوف بالقبر، وإنما ذلك للغُرَباء.(132/2)
وقال أيضًا، كما نقل ذلك الإمام ابن تيمية في الفتاوى:
ولا بأس لمَن قَدِم من سفر أو خرج إلى سفر أن يقف على قبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيصلى عليه ويدعو له، ولأبي بكر وعمر.
قال ابن القاسم: ورأيتُ أهل المدينة إذا خرجوا منها أو دخلوا أتَوا القبر فسلَّموا.
ذلك كله تحيةً للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتشرفًا بالسلام عليه.
وهذا التفريق بين أهل المدينة والقادمين يتبعه تفريق آخر في حكم التنفل في مسجد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم. فالمعلوم فقهًا أن صلاة الرجل في بيته أفضل إلا المكتوبة، لكن الإمام مالكًا قال: "والتنفل فيه للغرباء أحب إليَّ من التنفل في البيوت".
ومما يجب التنبيه إليه أن نتذكر حديث الرسول الأمين: "اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعبَد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجدَ".
نحب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في صورته المِثالية، والالتزام الكامل بسنته وهَدْيه.
وروى سعيد بن منصور أن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي رأي رجلاً يُكثِر الاختلاف إلى قبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال له: "يا هذا، إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: لا تتخذوا قبري عيدًا، وصلوا عليَّ حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني.
فما أنت ورجل بالأندلس منه إلا سواء".(132/3)
عشر ذي الحجة:
إن لله تعالى نفحات على عباده تتجلَّى في أوقات وأماكن يختارُها المولى جل شأنه ويصطفيها ترغيبًا في الطاعة ومُضاعَفة للثواب، حتى يزداد الناس حبًّا لله واستقامةً على سبيل الرشاد.
من هذه النفَحات عشر ذي الحجة، من أول شهر ذي الحجة إلى اليوم العاشر منه وهو المسمى يوم النحر أو عيد الأضحى.
وقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما رواه البخاري: "ما من أيام العمل الصالح فيها أفضلُ منه في هذه العشر ـ يعني العشر الأوائل من ذي الحجة، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء".
فالرسول الكريم يدعونا إلى مَزِيد من العمل الصالح وفعل الخير والبر والمعروف لأن العمل في هذه الفترة الزمنية له ثواب كبير ومنزلة عظيمة عند الله تعالى، فالمسلم بعد وفائه بفرائض الدين وأركانه التي يتحتَّم عليه أداؤها والقيام بها يستزيد من نوافل الصلاة والصيام والصدقة وصلة الرحم ومساعدة المحتاجين ومساندة البؤساء وكفالة اليتامى وتفريج هموم المكروبين.
وهذا العمل الصالح مطلوب في كل وقت لكنه يتأكد في العشر الأوائل من ذي الحجة.
وإذا علمنا أن المجاهد في سبيل الله موصول الثواب دائمًا وأنه يَعدِل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يَفتُر من صيام ولا صلاة ـ أدركنا مدى فضل الله على عباده في عشر ذي الحجة.
قال الله تعالى: (ما كان لأهل المدينة ومَن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغَبُوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يُصيبهم ظمأ ولا نصَب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئًا يَغِيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كُتِب لهم به عمل صالح إن الله لا يُضيع أجر المحسنين. ولا ينفقون نفقة صغيرة لا كبيرة ولا يقطعون واديًا إلا كتب لهم ليجزيَهم الله أحسن ما كانوا يعملون) (التوبة: 120 ـ 121).(133/1)
وقد اجتمع لعشر ذي الحجة من دواعي التفضيل الشيء الكثير، فهذه الأيام من الأشهر الحرم التي عظَّمها الله تعالى وجعلها دينًا قيمًا، وتلك الأشهر الحرم هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب. قال الله تعالى: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله يوم خلَق السماوات والأرض منها أربعة حرُم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم) (التوبة: 36).
ومن معالم هذه العشر الأوائل من ذي الحجة يوم عرفة، الذي يمثل الركن الأساسي في الحج، فالحج عرفة، فمَن فاته الوُقوف بعرفة فاتَهُ الحجُّ وعليه أن يقضيَه في العام التالي.
وصيام يوم عرفة له فضل جزيل، وفي صحيح مسلم قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم: "صيام يوم عرفة أحتَسِب على الله أن يكفِّر السنة التي قبلَه والسنة التي بعده".
والمعنى أنه يكفِّر ذنوب صائمه في سنتين، والمراد الصغائر ورفع الدرجات، أما الكبائر فتحتاج إلى توبة نَصُوح، وأما حقوق العباد فتحتاج إلى رد الحقوق لأصحابها.
ولا يُستَحبُّ صيام هذا اليوم للحاج لأنه مشغول بأداء المناسك ولكيلا يضعف عن أداء الطاعات المنوطة بالحج.
وبهذا يكون المسلمون جميعًا وقوفًا على باب الرحمة والمغفرة، هذا بحجه وذاك بصومه.
وقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في فضل يوم عرفة ـ كما في صحيح مسلم: "ما من يوم أكثر من أن يعتِق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء".
والمراد بالدنو هنا دنو الرحمة والكرامة لا دنو المسافة والمماسة، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
وفي رواية لأحمد وابن حبان والحاكم قال ـ عليه الصلاة والسلام: "إن الله يباهي بأهل عرَفات أهل السماء، فيقول لهم: انظروا إلى عبادي جاءوني شُعثًا غُبْرًا.
وقد يتساءل البعض ويقول: أيهما أفضل هذه العشر الأوائل من ذي الحجة أم العشر الأواخر من رمضان التي أحياها الرسول وأيقظ أهله فيها وجدَّ وشدَّ المِئْزَر؟(133/2)
والجواب أن أيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام عشر رمضان؛ لأن في الأولى يوم النحر الذي هو يوم الحج الأكبر، ويوم عرفة ويوم التروية وهي أيام مباركة، وأن ليالي العشر الأخير من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة لأن في الأولى ليلة القَدْر، وهي خير من ألف شهر، أي أن التفضيل في عشر ذي الحجة باعتبار الأيام، وفي عشر رمضانَ باعتبار الليالي.
فما أحرانا أن نستقبل هذه المناسبات الكريمة بالتوبة الصادقة والاستقامة على الحق والاعتصام بحبل الله القوي المَتِين.(133/3)
يوم عرفة:
يوم عرفة من أيام الله المبارَكة، وهو يُمثِّل بالنسبة للحاجِّ الركن الأساسي لفريضة الحج، فقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: "الحج عرفةَ".
فمَن فاته الوقوف بعرفة فاتَه الحج.
وفي فضل يوم عرفة والوقوف بهذا الجبل المبارك جاء قول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما رواه مسلم: "ما مِن يومٍ أكثر من أن يعتِق الله فيه عبيدًا من النار من يوم عرفة، وإنه لَيدنو يتجلى ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء".
وفي رواية لأحمد وابن حبان والحاكم قال ـ عليه الصلاة والسلام: "إن الله يباهي بأهل عرفات أهل السماء فيقول لهم: انظروا إلى عبادي جاءوني شُعثًا غبرًا.
وفي يوم عرفة وكان يوم جمعة حج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حجة التي ودع فيه أمته وقال لهم: اسمعوا قولي فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا.
وتسمى حجة البلاغ لأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يقول عقب كل أمر أو نهي في خطبته: ألا هل بلغت، فيقول الجمع الحاشد: نعم.
فيقول الرسول الكريم: اللهم فاشهد.
وتسمى حجة الإسلام لأنها الحجة الوحيدة التي أداها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد فرضية الحج في الإسلام، فالحج فُرِض على المسلمين في العام السادس للهجرة وأدها الرسول في العام العاشر للهجرة.
وقد نزل في يوم عرفة قول الله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورَضِيت لكم الإسلام دينًا) (المائدة: 3).
فالمسلم يستشعر نعمة الله عليه في أداء النُّسُك وفي الهداية للدين الحق وفي نعمة التعارف الإسلامي، حيث يلتقي المسلمون على صعيد عرفات من كل فج عميق، يلبون بهذا النداء الخالد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمةَ لك والملك، لا شريك لك.(134/1)
وبالنسبة للمسلم غير الحاج فإنه لَيَسْتَشْعِر هذه المعاني كلها ويصوم يوم عرفة، وهو اليوم التاسع من ذي الحجة، ويحظى بثواب الله تعالى الذي وعد به على لسان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قوله: "صيام يوم عرفة إني أحتَسِب على الله أن يكفِّر السنة التي بعده والسنة التي قبله".
ومن السنة أن يكبر المسلمون رجالاً ونساءً وأطفالاً ليلة العيد من غروب الشمس إلى أن يدخل الإمام في صلاة العيد، وهذا التكبير يكون مطلقًا في البيوت والأماكن العامة لأنه شعار الأعياد في الإسلام.
وهناك تكبير مقيَّد عقب الفرائض من صبح يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق الثلاثة بعد العيد.
وصيغة التكبير فيها سَعة، والمهم هو استشعار العظَمة والجلال والكمال لله رب العالمين، فقد نقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.
وقد نزيد ونقول: الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، لا إله إلا الله وحده صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون.
وهي معانٍ جميلة ورائعة، وفيها تثبيت للعقيدة وتنمية الوعي الديني، وسمو بالروح إلى آفاق الملأ الأعلى.
ومن السنة أن يذهب المسلم إلى صلاة العيد من طريق ويرجع من آخر حتى تتردد في جنَبات الكون تكبيرات المسلمين، ولا يأكل المسلم بعد صلاة الفجر ويظل ممسكًا حتى يعود من صلاة العيد ويذبح الأضحية ويأكل منها، احتفالاً بهذا اليوم المشهود وتوسِعة على المسلمين.(134/2)
ومن هدي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يشارك المسلمون جميعًا في حضور صلاة العيد، الرجال والنساء والأطفال، حتى ولو كان هناك عذر يمنع من الصلاة كالدورة الشهرية والنِّفاس فإنه يمكن للمرأة أن تستمع لخطبة العيد وتحظى برحمة الله تعالى التي تَعُم الجميع في هذه اللحظات الطيبة المباركة، وذلك إذا كانت الصلاة في الساحات العامة غير المساجد.
وتحدثنا السيدة أم عطية إحدى الصحابيات الجليلات فتقول ـ كما في الصحيح ـ أمرنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن نخرجهن في الفطر والأضحى، العواتق والحُيَّض وذوات الخدور، فأما الحُيَّض فيعتزلنَ الصلاة ويشهدن الخير ودعوة المسلمين.
والعواتق: جمع عاتق وهي الفتاة التي لم تتزوج، وذوات الخدور هن السيدات المتزوجات.(134/3)
الأضحية:
الأضحية: هي الذبيحة التي يُتَقَرَّب بها إلى الله تعالى أيام عيد الأضحى المبارك، وسميت بذلك لأنها تُفعَل في وقت الضحى، وهو ارتفاع الشمس في أول النهار.
والأضحية تذكرنا بقصة الفداء لإسماعيل ـ عليه السلام ـ عندما رأى إبراهيم الخليل في المنام أنه يذبح ولده، ورؤيا الأنبياء حق، فلما همَّ بتنفيذ رؤياه، واستسلم كل منهما لقضاء الله، جاء الفداء من السماء.. قال تعالى: (وناديناه أن يا إبراهيم. قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين. إن هذا لهو البلاء المبين. وفديناه بذبح عظيم) (الصافات: 104ـ107).
والأضحية سنَّة على الموسِر لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما في الصحيح: إن أول ما نبدأ به في ويومنا هذا ـ أي في يوم عيد الأضحى ـ نصلي ثم نرجع فننحر، فمَن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس من النسُك في شيء.
ومعنى هذا الحديث الشريف أن الأضحية لا تُذبَح إلا بعد طلوع الشمس يوم العيد بقَدْر ما يسَع الصلاة، فمَن ذبح قبل ذلك فلا ثواب له عن الأضحية، وإنما له ثواب الصدقة إن تصدق.
ويستمر وقت الذبح من يوم العيد إلى آخر أيام التشريق الثلاثة، وهي اليوم الحادي عشر من ذي الحجة والثاني عشر والثالث عشر.
فيمكن لمَن فاته الذبح يوم العيد، وهو اليوم العاشر من ذي الحجة أن يذبح في هذه الأيام الثلاثة.
والأضحية في عيد الأضحى تُقابل زكاة الفطر في رمضان، مقصود بها التوسعة على المسلمين، والتكافل الاجتماعي للمحتاجين. والصلة لذوي الرحم والقربى، وهي أحب عمل إلى الله تعالى في أيام العيد، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما رواه الترمذي: ما عمل ابن آدم يوم النحر من عمل أحب إلى الله تعالى من إراقة الدم، إنها لَتَأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض فطِيبوا بها نفسًا".(135/1)
ويُستَحب أن يقوم المسلم بذبح أضحيته بنفسه، فإن لم يحسن الذبح وكَّل بها من يذبحها ويشهدها معه، ويقول: بسم الله والله أكبر، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وصحبه وسلم، اللهم منك وإليك، اللهم تَقبَّلْ مني.
وفي مسند عبد الرزاق: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا أراد أن يُضَحِّي اشترى كبشين عظيمين سمينين أقرنين أملحين موجوءين، فذبح أحدهما عن محمد وآل محمد، والآخر عن أمته، مَن شهد لله بالتوحيد وله بالبلاغ.
ومعنى الموجوء المنزوع الأنثيين وهو الخصاء؛ لأن الخصاء يفيد اللحم ويجعله طيبًا.
هذا، وفي أحد الأعوام على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان بالمسلمين ضائقة مالية ومُعاناة فقال ـ عليه الصلاة والسلام: مَن ضحى منكم فلا يصبحن بعد ثالثة وفي بيته منه شيء، أي أن لحم الأضاحي لا يُدَّخَر بل يوزع على الفقراء، ويأكل منه المضحى ثلاثة أيام فقط.
فلما كان العام التالي قالوا يا رسول الله: نفعل كما فعلنا العام الماضي، فقال ـ عليه الصلاة والسلام: كلوا وأطعموا وادَّخروا؛ فإن ذلك العام كان بالناس جهد فأردت أن تعينوا فيه.
وعلى هذا فيمكن للمسلم أن يقسم أضحيته ثلاثة أقسام، قسم يأكله وقسم يهديه، وقسم يتصدق به.
ومما تجدر ملاحظته أن ما يخرج من الأضحية يشترط فيه أن يكون نيئًا (ناء اللحم إذا لم ينضج فهي نيء بوزن نَيْل) فلا يكفى جعله طعامًا ودعوة الناس أو الفقراء إليه، كذلك لا يجوز أن يُباع من الأضحية شيء، وعلى سبيل المثال يمنع إعطاء الجزَّار جلدها مقابل الذبح، بل يُعطَى أجرة الذبح نقودًا ثم إن كان فقيرًا فيُعطى الجلد أو غيره كصدقة وليس كأجرة.(135/2)
وهناك رأي لابن حزم الأندلسي في الأضحية، فهو يرى أنها جائزة بكل حيوان يؤكل لحمه من ذي أربع أو طائر، والأفضل في كل ذلك ما طاب لحمه وكثر وغلا ثمنُه، ونقل عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: لقد رأيت أبا بكر وعمر وما يضحيان كراهةً أن يُقتَدى بهما، أي يعتقد الناس فرضية الاضحية.
ونقل عن بلال قوله: ما كنت أبالي لو ضحيتُ بدِيكٍ، ولأن آخذ ثمن الأضحية فأتصدق به على مِسكين فقير فهو أحب إليَّ.
وأعطى ابن عباس مولى له درهمين وقال له: اشتر بهما لحمًا، ومَن لاقيت فقل له: هذه أضحية ابن عباس.
وحاول الإمام ابن حزم أن يلتمس دليلاً من الحديث المشهور: مَن اغتسل يوم الجمعة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشًا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة".
وأيًّا ما كان فإن كل مسلم يَجُود بما تيسَّر عنده، وما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم.(135/3)
لا جدال في الحج:
قال الله تعالى: (الحج أشهر معلومات فمَن فرَض فيهن الحج فلا رفَث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزوَّدوا فإن خير الزاد التقوى واتقونِ يا أولي الألباب).(البقرة:197).
أ ـ ميقات الحج الزماني:
للحج ميقات زماني هو شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، فمن أراد الحج نواه في هذا الميقات الزماني والتزم بمحظورات الإحرام وواصل مسيرة أداء النسُك.. ولا تَصِحُّ نية الحج والإحرام به في غير هذا الميقات الزماني.
ب ـ آداب الحج:
المُحرم بالحج يلتزم آدابًا رفيعة تجعله في محل المناجاة العُلوية مع الخالق جل شأنه، وتصل بالحاج إلى مراقي الكمال الروحي.
وقد أشارت الآية الكريمة إلى ثلاثة جوانب أساسية هي:
1 ـ النهي عن الرَّفَث:
والرفث هو الجماع ودواعيه، فيحرم على الحاج المعاشرة الزوجية ومقدماتُها.
وقد جاء الرفث بمعنى الجماع في قوله تعالى: (أُحِلَّ لكم ليلةَ الصيامِ الرَّفثُ إلى نسائِكم).
وذكر ابن جرير أن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ كان يقول: "الرفث إتيان النساء، والتكلم بذلك للرجال والنساء إذا ذكروا ذلك بأفواههم.
2 ـ النهي عن الفسوق:
والفسوق هي معاصي الله عز وجل، سواء كانت متعلقة بالإحرام أو عامة لكل ما نهى الله عنه، فهناك محظورات للإحرام كقتل الصيد، ولبس المخيط، وتعليم الأظفار، واستعمال الطِّيب وغير ذلك.
ويدخل في الفسوق كل معصية، فالحاج الذي ترك الأهل والوطن، وتحمل المشاق في النفس والمال يجدُر به أن يواصل مسيرة النقاء والطهر، وينأى بنفسه عن كبائر الذنوب وصغائرها، فلا يُزاحم ولا يظلم في بيعه وشرائه، ولا يبخس الناس أشياءهم ولا يسيء إلى أحد.(136/1)
وإذا كان اجتناب المعاصي واجبًا في كل قوت إلا أنه في وقت الإحرام بالحج ألزم؛ ولهذا كان مجرد نية السوء في الحرم تُحمِّل صاحبَها وزرًا كبيرًا وذنبًا عظيمًا، قال تعالى: (وَمَنْ يُرِدْ فيه بإلحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عذابٍ أليم).
3 ـ النهي عن الجدال في الحج:
وهذا النهي له معنيان: الأول: لا جدال في مشروعية الحج وفرضيته وحكمة مناسكه، فهذا أمر مقرَّر شرعًا بنصوص صحيحه وصريحة لا تحتمل تأويلاً.
إن هناك افتراءاتٍ يرددها أصحاب المذاهب الهدامة، وغرباء الفكر حول مناسك الحج ويصفونه بأنه من بقايا الجاهلية، ويتناسَون أن شريعة الحج عرفتْها رسالات الله إلى البشر قبل الإسلام، وأن البيت الحرام بمكة المكرمة هو بناء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وأن دعوة إبراهيم الخليل ما زالت تُؤتي ثمارها الطيبة المباركة، وستظل بمشيئة الله إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها قال تعالى: (وأذِّنْ في الناسِ بالحجِّ يأتوك رجالاً وعلى كلِّ ضامِرٍ يأتِينَ من كلِّ فجِّ عميقٍ ليشهدوا منافعَ لهم ويذكروا اسمَ اللهِ في أيامٍ معلوماتٍ على ما رزقَهم من بَهيمةِ الأنعامِ فكُلوا منها وأطعموا البائسَ الفقيرَ. ثم لْيقْضوا تَفَثَهُم ولْيُوفوا نذورهم ولْيطَّوَّفُوا بالبيتِ العتيقِ) فلا مراء في مشروعة الحج ولا مناقشة في رُكْنِيَّتِه، ولا خلاف في آثاره المباركة.
المعنى الثاني: لا مجال للمخاصمة والمنازعة في موسم الحج، فالمسلم حريص على أن يُسالم الزمان والمكان والبشر والمخلوقات كلها.
فالزمان من الأشهر الحرم، والمكان هو البيت الحرام، ومَن دخله كان آمنا، وحُرم صيد البر أثناء الإحرام، وهكذا فالمناسبة كلها مناسبة سلام وأمن وإخاء وصفاء.
والمطلوب من المسلم الحاجِّ هو فعل الخير والتزود بالتقوى في موسم الحج وفي كل وقت، (وما تفعلوا من خيرٍ يعلمْه اللهُ وتزوَّدوا فإن خيرَ الزادِ التقوى واتَّقونِ يا أولى الألباب).(136/2)
حكمة الحج في ميقاته
ما هي أسباب الاختيار الإلهي لأداء الحج في مكة وفي شهر ذي الحجة؟
يجب أن يتنبه المستمع الكريم إلى أن الاختيار الإلهي لشيء ما لا يعلل إلا بالمشيئة الإلهية، قال تعالى: (وربكَ يخلقُ ما يشاءُ ويختارُ ما كانَ لهمُ الخِيَرةُ سبحانَ اللهِ وتعالَى عمَّا يشركونَ).
(الأحزاب:36) قال جل شأنه (ومَا كانَ لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضَى اللهُ ورسولُهُ أمرًا أنْ يكونَ لهمُ الخيرةُ مِن أمرِهمْ ومَن يَعصِ اللهَ ورسولَه فقدْ ضلَّ ضلالاً مبينًا) ويمكن لنا نحن البشر أن نتلمَّس حُكمًا لهذا الاختيار الإلهي لكننا لا نحيط بالحكم كلها.
فالله تعالى اختار مكة مقصدًا للحج لكونها أمَّ القرى قال تعالى: (وكذلك أوحينا إليك قرآنًا عربيًّا لتنذر أمَّ القرى ومَن حولها) (الشورى: 7) قال الإمام الرازيّ في تفسيره: وأم القرى أصل القرى، وهي مكة، وسُميت بهذا الاسم إجلالاً لها؛ لأن فيها البيتَ ومقام إبراهيم، والعرب تسمي أصل كل شيء أمَّه، حتى يقال هذه القصيدة من أمهات قصائد فلان.
هذا وقد رفع إبراهيم وإسماعيل ـ عليهما السلام ـ قواعد البيت الحرام في هذه البقعة المباركة بإذن الله ليكون مثابة للناس وأمْنًا، أي يعتادون الذَّهاب إليه والرجوع منه مرات عديدة على مدى حياتهم كلها في أمن وأمان.
والكعبة المشرفة هي أول بيت بُني لعبادة الله وحده قال تعالى: (إنَّ أولَ بيتٍ وُضعَ للناسِ للذي بِبَكَّةَ مباركًا وهدًى للعالمينَ. فيهِ آياتٌ بيناتٌ مقامُ إبراهيمَ ومَنْ دخلَهُ كانَ آمنًا وللهِ على الناسِ حِجُّ البيتِ مَنِ استطاعَ إليهِ سبيلاً ومَنْ كفرَ فإنَّ اللهَ غنيٌّ عنِ العالمينَ) (آل عمران: 96 ـ 97).(137/1)
واختار الله تعالى للحج زمانًا هو ما يُسمى بالميقات الزماني، وهو شوال وذو العقدة وعشر من ذي الحجة، قال تعالى: (الحجُّ أشهرٌ معلوماتٌ) (البقرة: 197) أي أن المسلم لا يستطيع أن ينوي الحج إلا في هذا الوقت بالذات على أن يقف يوم التاسع من ذي الحجة بجبل عرفات، فالحج عرفة ومَن فاته الوقوفُ بعرفة فاته الحج.
ومن المعلوم شرعًا أن ذا القعدة وذا الحجة من الأشهر الحرم التي عظَّمها الله تعالى فقال: (إنَّ عدةَ الشهورِ عندَ اللهِ اثنَا عشرَ شهرًا في كتابِ اللهِ يومَ خلقَ السمواتِ والأرضَ منها أربعةٌ حُرُمٌ ذلكَ الدينُ القَيِّمُ..) (التوبة: 36).(137/2)
معنى بَكّة.
ما معنى قوله تعالى: (إنَّ أولَ بيتٍ وضعَ للناسِ للذي ببكّةَ مباركًا وهدًى للعالمينَ) (آل عمران: 96).
فما المقصود بالبيت؟ وماذا تعني كلمة "بكة"؟
أول بيت وُضع للناس للعبادة والطاعة هو الكعبة المشرفة، رفع قواعدها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، والأولية أولية فضل ومكانة وتعظيم فهي أقدس مكان وأطهره، وأعز بيت وأرفعه.
وجاء في الصحيحين عن أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ قال: قلت يا رسول الله أيُّ مسجد وُضع أولَ؟ قال: المسجد الحرام، قلت: ثم أيّ؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة.
ومن المعروف أن المسجد الأقصى هو بناء يعقوب وهو ابن إسحاق ابن إبراهيم عليهم السلام، فيكون يعقوب قد اكتسب صيغة البناء من جده الخليل واقتفى أثره في تشييد بيوت الله تعالى، وكل ما يذكره الناس حول الكعبة قبل إبراهيم ـ عليه السلام ـ لم يثبت نص ولم تقم به حجة وهي رواياتٌ الله أعلم بها.
وكلمة "بكة" هي مراد بها مكة المكرمة؛ وذلك أن بكة ومكة اسمان لمُسمًّى واحدٍ، والباء والميم حرفان متقاربان في المخرج فيقال هذه ضربة لازم، وضربة لازب، ويقال هذا دائم ودائب.
وفي اشتقاق هذه الكلمة يرى العلماء أنها من البكّ بمعنى المزاحمة؛ لأن الناس يزدحمون في مكة للحج والعمرة أو من البك بمعنى الدك؛ لأن الله يحميها ويَدُق أعناق الجبابرة الذين يريدونها بسوء.
وأيًّا ما كان فهي حرَمُ الله الآمن تهوي إليه الأفئدة من كل فج عميق.(138/1)
الحجُّ عبادة قديمة
يزْعُم بعضُ المستشرقين أن الحجَّ من بقايا الجاهليةِ فما هو الفهم الصحيح لمناسك الحج؟
هناك أمور يجب أن تَعِيها تمامًا ـ في مجال العقيدة ـ وهي أن الإنسانيةَ بدأت مؤمنةً موحدةً، تلتزم منهج اللهِ الذي أتَى على لسانِ آدمَ أبي البَشَرِ، ثمَّ توالتِ الرسالاتُ الإلهيةُ توضح الحقَ وطرائقَ الخيرِ، كلَّما تباعَدَ الناسُ وتشاغلُوا بمُتَعِ الحياةِ الرخيصةِ، قال الله تعالى: (إنَّا أرْسَلْنَاكَ بالحقِّ بشيرًا ونذيرًا وإنْ مِنْ أُمّةٍ إلاَّ خلاَ فيها نذيرٌ) (فاطر: 24).
ومن المقطوعِ به أن المنطقةَ العربية ومكَّة ـ على وجه الخصوص ـ قد عرفت شريعةَ إبراهيمَ وشريعةَ إسماعيلَ، وأن الحَجَّ هُوَ مِلَّةُ إبراهيمَ الذي بنَى الكعبةَ ورفعَ قَواعِدَها مع ولده إسماعيلَ، عليهما السلام. قال الله تعالى: (وعهِدْنَا إلَى إبراهيمَ وإسماعيلَ أنْ طهِّرَا بيْتِيَ للطائِفِينَ والعاكفينَ والرُّكَّعِ السُّجُودِ) (البقرة: 125).
مع تطاول الزمن وتباعد العهد بدأ الناس يبتدِعون في دين الله وأَغْوَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فحَرَّفُوا وبَدَّلُوا فوَضَعَ العربُ الأصنامَ فِي جَوْفِ الكَعْبة، وطاف البعضُ منهم وهم عراة، وحرَّمُوا على أنفسهم مآكلَ ومطاعمَ قَدِمُوا بِهَا من خارجِ الحَرَمِ ومنعوا المحرم أن يدخلَ دارَه من بابها المعتاد.. وغير ذلك كثير، فلما جاء الإسلامُ محَا آثارَ الجاهليةِ فحطَّمَ الأصنامَ وأصبحَ المبدأُ الإسلامي لا يطوفُ بالبيتِ عُريان، وقال الله تعالى: (وليسَ البرُّ بأنْ تأتُوا البيوتَ منْ ظهورِها ولكن البرَّ منِ اتَّقَى وأْتُوا البيوتَ منْ أبوابِها واتقوا اللهَ لعلكم تُفلحونَ) (البقرة: 189).
والحج تشريعٌ إلهيٌّ على لسانِ رسلِ الِله، وليس بدعةً اخترعها الوهمُ العربيُّ في جاهليته.(139/1)
وللحج حكمةٌ بالغةٌ تعْجَزُ عنها أقلامُ الباحثينَ، ويكفي فيها على المستوى الفردي التَّجردُ من حُطَامِ الدنيا والإخلاصُ لله وحده، وصفاءُ القلبِ واستشعارُ الملأ الأعلى، وعلى المستوى العام التعارفُ الإسلامي والتقاءُ كافةِ المسلمينَ وأهلُ الفِكْر على كلمةٍ سواء؛ هي لبيك اللهم لبيك.(139/2)
منافع الحج
ما هي الحِكَم من فريضة الحج بالنسبة للمسلمين؟
للحج حِكَم متعددة على المستوى الفردي والمستوى الجماعي، عبَّرَ عنْها القرآنُ الكريمُ بقوله تعالى: (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ) (الحج: 28).
فعلى المستوى الفردي يبدأُ المسلمُ طريقَهُ إلى الكعبةِ بالتوبةِ وردِّ المظالم، ويمارس مناسكَ الحجِّ بالتجرد عن حُطام الدنيا، والكفِّ عنْ الملذَّاتِ، والتنزُّهِ عنِ الشهواتِ والاقتصار على الضروراتِ.. الأمرُ الذي يجعلُ المسلمَ صابرًا محتسِبًا، يستطيع مواجهةَ أعباءِ الحياةِ بلا يأس من روح الله، وعندما يؤدي المسلمُ المناسكَ يكونُ في قمةِ التسليمِ لله والولاء للشرعِ والوفاء للدين فهو يقول بقلبه ولسانه: لبيك اللهم لبيك، ويقول: لبيك بحِجِّةٍ حَقًّا تعبدًا ورِقًّا، وهو يقول أمام الحجر الأسود: بسم الله والله أكبر، اللهمَّ إيمانًا بك وتصديقًا بكتابِكَ ووفاءً بعهْدِك واتباعا لسنة نبيك محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحين يسافر المسلم لأداء المناسك يتذكَّر السفر الطويل إلى الآخرة، (يا أيُّهَا الإنسانُ إنَّكَ كادحٌ إلى ربِّكَ كدحًا فملاقِيهِ).
وإذا كان سفر الدنيا يحتاج إلى طعام وشراب فإن سفر الآخرة يحتاج إلى زاد التقوى، وإذا كان لسفر الدنيا عودة فإن سفر الآخرة لا عودة منه.. قال تعالى: (وتَزَوَّدُوا فإنَّ خيرَ الزَّادِ التقوَى واتقُونِ يا أولِي الألبابِ) (البقرة: 197).
وقال جل شأنه: (حتَّى إذا جاءَ أحدَهُمُ الموتُ قال ربِّ ارجعونِ. لعلِّي أعملُ صالحًا فيما تركتُ كلاَّ إنَّها كلمةٌ هوَ قائلُهَا ومنْ ورائِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يومِ يُبْعَثُونَ) (المؤمنون: 99 ـ 100).
وعلى المستوى العام يحقق المسلمون التعارف الإسلامي، ويلتقي قادتهم على ما ينفع الناس ويحقق سعادتهم في الدنيا والآخرة.(140/1)
قال تعالى: (يا أيُّها الناسُ إنَّا خلقنَاكُمْ منْ ذكرٍ وأنثَى وجعلناكُمْ شعوبًا وقبائلَ لتعارفُوا إنَّ أكرمَكُمْ عندَ الِله أتقاكُمْ إنَّ اللهَ عليمٌ خبيرٌ) (الحجرات: 13).
وقال جل شأنه: (وأذِّنْ فِي النَّاسِ بالحجِّ يأتُوكَ رجالاً وعلَى كلِّ ضامِرٍ يأتينَ منْ كُلِّ فَجٍّ عميقٍ ليشهَدُوا منافعَ لهُمْ) (الحج: 27).
فالحج مؤتمر إسلاميٌّ كبيرٌ يُبْرِزُ قوة المسلمين ووحدة صفوفهم، ويوحِّد بين قلوبهم ويُشْعِرهم بعزة الإسلام وكمال الإيمان.(140/2)
الحج والعمرة
ما هو الفَرْق بين الحج والعمرة؟
شأن المسلم أن يعبدَ اللهَ على بصيرة، بحيث يكون مدركًا للعبادة التي يؤديها في أركانها وشرائط صحتها وهيئاتها، وما ينبغي أن تكون عليه، والحج والعمرة لكل منهما حُكْم شرعي خاصٌّ وكيفية تُؤَدَّى بها.
والحج في اللغة: القصد، وشرعا: قصد الكعبة للنُسك الخاص.
أما العمرة فهي في اللغة: الزيارة، وشرعا: زيارة البيت الحرام بكيفية خاصة، والحج أحد أركان الإسلام ومعلوم من الدين بالضرورة. قال الله تعالى: (وللهِ على الناسِ حَجُّ البيتِ مَنِ استطاعَ إليهِ سبيلاً ومنْ كفرَ فإنَّ اللهَ غنيٌّ عنِ العالمينَ) (آل عمران: 97).
وقال عليه الصلاة والسلام في صحيح الحديث: "أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فَحُجُّوا" فقال رجل: أكل عام يا رسول الله فسكت حتى قالها ثلاثا، فقال ـ صلى الله عليه وسلم: لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم.
أما العمرة فهي فرض عند الشافعية والحنابلة كالحج، وسُنّة مؤكدة عند غيرهما؛ لأنها لم تذكر في الآيات والأحاديث الدالة على وجوب الحج وإنما ذُكِرَت تِبَعًا في مواطنَ أخرى.
والحج لا يتكرر في عام واحد، أما العمرة فيمكن تكرارها يوميًّا وعلى مدار السنة؛ لأن الحج يختص بميقات زماني؛ هو شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، ويرتبط بالوقوف بعرفةَ يوم التاسع من ذي الحِجة، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: (الحَجُّ أشهرٌ معلوماتٌ) (البقرة: 197) وبقوله ـ صلى الله عليه وسلم: "الحَجُّ عَرَفَة" والعمرة ليس لها ميقات زماني.
كذلك يختص الحج برمي الجِمارِ يوم النَّحْر وأيام التشريق ولا شيء من ذلك في العمرة.
وتلتقي العمرة مع الحج في الإحرام من الميقات المكاني والطواف والسعي والحلق أو التقصير واجتناب محرمات الإحرام من لبس المخيط وقتل الصيد وعقد النكاح وغير ذلك.(141/1)
ولا تستغرق أعمال العمرة إلا ساعة من نهار وقد قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ في صحيح الحديث : "العُمرةُ إلى العُمرةِ كفارةٌ لما بينهما، والحَجُّ المبرور ليس له جزاء إلا الجنة".(141/2)
حَجُّ الرسولِ
كم مَرّةٍ حَجَّ الرسولُ ـ صلى الله عليه وسلم؟
فُرِض الحجُّ على المسلمين في العام السادس من الهجرة، وكان المسلمون يحجون مع المشركين، إلى أن نزل قوله ـ تعالى ـ في العام التاسع من الهجرة (يَا أيُّها الذينَ آمنُوا إنَّمَا المشركونَ نَجَسٌ فلا يقربُوا المسجدَ الحرامَ بعدَ عامِهِمْ هذَا وإنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فسوفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ منْ فضلِهِ إنْ شاءَ إنَّ اللهَ عليمٌ حكيمٌ) (التوبة: 28).
وفي يوم مشهودٍ من أيامِ الله خرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في العام العاشر من الهجرة ومعه مائةُ ألفٍ أو يَزيدون؛ يُؤَدُّون مناسكَ الحجِّ بعد أن أصبحت مكةُ في حِمَى المسلمين، وبعد أن طُهِّرَتِ الكعبة من الأصنام وبعد أن مُحِيَت آثار الجاهلية كلها. وقال عليه الصلاة والسلام لأصحابه "خُذُوا عنِّي مَناسِكَكُمْ" وخَطَبَهُم خطبةً جامعةً حدَّدت ملامحَ المجتمع الإسلامي، وتُوصَفُ هذه الحجة وهذه الخُطبة بأوصافٍ؛ البلاغ والإسلام والوداع، أما أنها حِجَّة البلاغ؛ فلأن رسول الله كان يقولُ عَقِبَ كلِ أمرٍ أو نَهْيٍ في خطبته أَلا هلْ بَلَّغْت؟ فيقول الجمع الحاشد: نعم، فيقول عليه الصلاة والسلام: اللهم فاشهد.
أما أنها حِجّة الإسلام؛ فلأنها الحجة الوحيدة التي أدَّاها الرسولُ الكريمُ في الإسلام بعد فرضيته ونزل فيها قوله تعالى: (اليومَ أكملتُ لكمْ دينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عليكُمْ نِعمتِي ورَضِيتُ لكُمْ الإسلامَ دينًا) (المائدة: 3).
أما أنها حجة الوداع؛ فلأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودَّع أُمَّته قائلا: "أيها الناس اسْمعُوا قولي فإني لا أدري لعلي لا أَلْقاكُم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا" فقد انتقل الرسول إلى الرفيق الأعلى بعد عودته إلى المدينة بقليل. وفي صحيح البخاري سُئِل أنسُ ـ رضي الله عنه ـ كم حَجَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: واحدة.(142/1)
عمرةُ رمضانَ
هل أدَّى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عمرةَ رمضانَ؟
في صحيح مسلم عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لامرأة من الأنصار: ما يَمْنعُكِ أن تحُجِي معنا؟ قالت: لم يكن لنا إلا ناضحان فحَجَّ أبو ولدها وابْنُها على ناضحٍ، وترك لنا نضاحًا ننضح عليه.
والناضح هو البعير الذي يستقى عليه الماء.
فقال عليه الصلاة والسلام: "فإذا جاءَ رمضانُ فاعْتَمِرِي، فإنَّ عمرةً فيه تَعْدِلُ حَجَّة".
لكن لم يثبت أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أدَّى عمرةً في رمضانَ، وقد اعْتَمَر النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أربعَ عُمَرٍ كُلُّهُنَّ في ذي القعدة إلا التي مع حجة الوداع، فقد نَواهَا في ذي القعدة وأداها في ذي الحجة.
ولعل الرسول الكريم ـ كما يقول ابن القيم ـ كان يشتغل في رمضانَ من العبادات بما هو أهمُّ من العمرة، ولم يكن يمكنه الجمع بين تلك العبادات وبين العمرة، وأخَّر العمرة إلى أشهر الحج، ووفَّر نفسه على تلك العبادات في رمضانَ، مع ما في ترك ذلك من الرحمة بأمته والرأفة بهم، فإنه لو اعتمر في رمضان؛ لبادَرَتِ الأمةُ إلى ذلك، وكان يشقُّ عليهم الجمع بين العمرة والصوم، وربما لا تسمح أكثرُ النفوسِ بالفطر في هذه العبادة؛ حرصًا على تحصيل العمرة وصوم رمضان، فتحصل المشقة؛ فأخرَّها إلى أشهر الحج.
وقد كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يترك كثيرًا من العمل وهو يحب أن يعمله خشية المشقة عليهم.(143/1)
الأشهر الحُرُم
ما هي الأشهر الحُرُم؟ وما هو وجه تعظيمها؟
الأشهر الحُرُم هي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، وسُمِّي الأول بذلك؛ لقعودهم عن القتال والترحال؛ استعدادا لموسم الحج والثاني؛ لوقوع الحج فيه والثالث؛ تأكيدا لحرمته والرابع من الترجيب وهو التعظيم. وقد سجلها القرآن العظيم فقال: "(إنَّ عدةَ الشهورِ عندَ اللهِ اثنَا عشرَ شهرًا في كتابِ اللهِ يومَ خلقَ السماواتِ والأرضَ منها أربعةٌ حُرُمٌ ذلكَ الدينُ القَيِّمُ فلا تظلموا فيهنَّ أنفسَكُمْ" (التوبة: 36).
وقد بيَّنَها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: "إلا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم؛ ثلاثة متواليات ذو العقدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مُضَر الذي بين جمادى وشعبان".
وإنما قال عليه الصلاة والسلام "رجب مُضَر" ليبين صحة قول هذه القبيلة في رجب أنه الشهر الذي بين جمادى وشعبان، لا كما تظن قبيلة ربيعة مِنْ أنَّ رجبَ المُحَرَّم هو الشهر الذي بين شعبان وشوال وهو رمضانُ اليوم.
وقد كان من عادة العرب في جاهليتهم تغْيير أحكامِ اللهِ بأهوائهم الباردة، فأحيانا يُحِلّون المُحرّم ويُؤخِرون حُرمته إلى صفر، فلا يُقاتلون فيه وهو النسيءُ، قال الله تعالى: (إنَّمَا النَّسِيءُ زيادةٌ في الكفرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذين كفروا يُحِلُّونَهُ عامًا ويحرمونَهُ عامًا) (التوبة: 37).
وهذه الأشهر الحُرُم يوضع فيها القتال ـ إلا ردًّا للعدوان ـ وتُضاعف فيه الحسنةُ كما تُضاعف السيئةُ. وذهب الشافعي وكثير من العلماء إلى تغليظِ دِيةِ القتيلِ في الأشهر الحُرُم.(144/1)
وجاء في كتب التفسير عند قوله تعالى: (فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أنْفُسَكُمْ) (التوبة: 36) قال قتادة: إن الظلم في الأشهر الحُرُم أعظم خطيئةٍ ووِزْرًا من الظلم فيما سواها وإن كان الظلم على كل حال عظيمًا، ولكن الله يعظم من أمره ما يشاء. وقال: "إن الله اصطفى صفايا من خلقه، اصطفى من الملائكة رُسلا ومن الناس رُسلا، واصطفى من الكلام ذكره، واصطفى من الأرض المساجدَ، واصطفى من الشهور رمضانَ والأشهرَ الحرمَ، واصطفى من الأيام يومَ الجمعةِ، واصطفى من الليالي ليلةَ القدرِ فعَظِّموا ما عظَّم الله.(144/2)
المالُ الحرامُ والحَجُّ
أَفْتحُ مَحلاًّ؛ "كوافير" للسيدات وأريد أن أَحُجَّ فما رأي الدين في ذلك؟
المسلم حريص على أن يكتسب حلالا ويُطعم أولاده الطيبات؛ لأنه لا وزن لأخلاق الرجل وعباداته ما لم تكن قائمةً على الرزق الطيب الحلال. وفي صحيح مسلم أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "إن الله ـ تعالى ـ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلا طَيِّبًا، وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى (يَا أيُّهَا الرسلُ كلُوا مِنْ طيباتِ ما رزقناكُمْ) (المؤمنون: 51). وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كلُوا مِنْ طيباتِ ما رزقناكُمْ) (البقرة: 172). ثم ذكر الرجل يُطيل السفرَ أشعثَ أغبرَ يَمدُّ يديه إلى السماء؛ يا رب يا رب، ومَطْعَمه حرام، ومشرَبه حرام وملبَسُه حرام، وغذِّي بالحرام فأنَّى يُستجاب له".
والإنسان الذي يعمل في تجميل السيدات، وملامسة أجسادِهِنَّ، هو رجل مقِيمٌ على المعصية مصرٌّ عليها، ويكتسب سُحْتًا خبيثًا، ويُخْشَى عليه سُوءَ الخاتمة؛ مِن كثرة ممارساته لهذه المنكرات الفواحش التي يُقيم عليها ليلا ونهارا.
ومن البَديهِي في الشريعة الإسلامية أن جسدَ المرأةِ عورة لا يجوز النظر إليه، ولا ملامسته؛ إلا لضرورة قاهرة كعلاجٍ ونحوه.
ولنتذكر حديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما رواه مسلم: "صِنفان من أهل النار لم أَرَهُما؛ قومٌ معهم سِياطٌ كأذنابِ البقرِ يَضرِبون بها الناس، ونساءٌ كاسيات عاريات، مُمِيلات مائلات، رءوسهن كأَسْنِمَةِ البُخْتِ المائلة، لا يَدْخُلْنَ الجنة ولا يَجِدْنَ رِيحَها، وإن ريحها ليُوجد من مسيرة كذا وكذا".
وخير من يفهم التعبير النبوي "رُءُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ البُخْتِ المائلةِ" هم أصحاب الكوافير الذين يتَفَنَّنُونَ في تصفيف شَعْرِ المرأة.(145/1)
وعلى السائل إنْ كان يخشى الله واليوم الآخر، ويُريد حجًّا مبرورا أن يُقلع فورا عن هذا العمل الفاحش ويرجع إلى الله بتوبة صادقة، وما أوْسَعَ أبواب الرزق الحلال.
والله ولي التوفيق(145/2)
الحج على حساب الدولة
وقع الاختيار على موظف بالشرطة ليشارك في خدمة حجاج بيت الله الحرام، فهل أداؤه للفريضة حينئذ يجعله ينال ثوابها؟
الحج فريضة محكَمة على المسلم المستطيع مالًا وبدنًا، لقوله تعالى: (وللهِ على الناسِ حِجُّ البيتِ مَن استطاع إليه سبيلًا ومَن كفَر فإن الله غنيٌّ عن العالَمين) (آل عمران: 97) فمَن استطاع ببدنه وكان صحيحًا مُعافًى ولكنه ليس يَملِك ما يَكفي الزادَ والراحلة ونفقة من يَعُول خلال مدة السفر فلا يجب عليه الحج وجوبًا عينيًّا.
فإن تيسَّر لمثل هذا الإنسان سبيلُ الوصول إلى الأرض المقدسة، وهيّأ الله له أسباب السفر وأداء المناسك عن طريق هبة أو منحة من إنسان آخر، أو عن طريق التواجد هناك للعمل، أو عن طريق بعثة موفَدة من قِبَلِ جهة خاصة أو عامة ـ فذلك فضلٌ من الله ونعمةٌ ساقها الله لهذا المسلم عليه أن يشكر الله عليها ويجتهد لينال التوفيق في أداء المناسك.
فهناك فرق بين الوجوب والصحة، ولا ارتباط بينهما، فقد يجب العمل على شخص ولا يصحُّ منه، فالكافر مطالَب بفروع الشريعة ـ على القول الراجح ـ ولا تصحُّ منه إلا بالدخول في الإسلام، والصبيُّ لا تجب عليه الصلاة ولكنها تصحُّ منه، والمرأة والمسافر لا جمعة عليهما ولكن تصحُّ منهما. كذلك الحج لا يجب على غير المستطيع ولكن يصحُّ منه، فمن وقع عليه الاختيارُ لخدمة حجاج بيت الله الحرام وأدَّى مناسك الحج بما يُرضي الله ـ عز وجل ـ فحجُّه صحيح وله الثواب بقدر إخلاصه. وقد سئل ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ عن العمل واكتساب الرزق في موسم الحج فقال: ألستم تُحرِمون وتَطوفون بالبيت وتَقضُون المناسك؟ فأنتم حجاج. وعندما تأثَّمَ الناس أن يتَّجِروا في موسم الحج نزل قول الله تعالى: (ليس عليكم جناحٌ أن تَبتغوا فضلًا من ربكم) (البقرة: 198) والله وليّ التوفيق(146/1)
العمل في الحج
ذهبت للعمل في موسم الحج فأديت عمرة ثم خرجت إلى المدينة المنورة فأقمت بها حتى حان موعد الحج فأحرمت بالحج، فهل أكون متمتعًا ويَلزَمني هديٌ؟
التمتع هو أن يُحرِم الإنسان بالعمرة في أشهر الحج من الميقات ثم يَصل إلى الكعبة المشرفة فيطوف لعمرته ويسعى بين الصفا والمروة ويَحلق أو يُقصّر ثم يُحِلّ بمكة المكرمة ويظل مقيمًا بها حتى تقرُب أيام الحج فيَنويَ الحجَّ في عامه هذا، وهو المقصود بقوله تعالى: (فمَن تَمتَّعَ بالعمرة إلى الحجِّ فما استَيسَرَ من الهَدْي) (البقرة: 196).
والجمهور من العلماء على أن التمتع بالعمرة إلى الحج يَقتضي الموالاةَ بينهما، وعلى هذا فمن خرج من مكة بعد العمرة وسافر سفرًا تُقصَرُ فيه الصلاةُ فليس بمتمتع، وحيث إن السائل ذهب إلى المدينة المنورة بعد عمرته ومكث بها فترة زمنية، ومعلوم أن المسافة طويلة بين مكة المكرمة والمدينة المنورة وتزيد على مسافة القصر بمراحل، إذ هي تقرُب من خمسمائة كيلو متر ـ فيُعتبر هذا السائل غيرَ متمتع وليس عليه هديُ التمتع. وبالله التوفيق(147/1)
ارتداء الملابس في الحج
ما رأيُ الدين فيمن يحُجّ وهو يرتدي ملابسه كاملةً لمرض في بدنه يريد أن يُخفيَه عن أعيُن الناس؟
تبدأ مناسك الحج أو العمرة بالإحرام من الميقات المكانيّ، وذلك بأن يقول المسلم بقلبه ولسانه: نويت الحج (مثلًا) وأحرمت به لله تعالى، اللهم يسِّره لي وتقبَّله منّي. ويُسَنّ قَرنُ الإحرام بالتلبية قائلًا: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك". ومنذ هذه اللحظة يحرُم على الرجل لُبسُ المَخيط. والمَخيطُ هو المعمول على قدر البدن أو قدر عضو منه ويحرُم عليه تغطية رأسه، وفي صحيح مسلم أن رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يَلبَس المُحرِم من الثياب؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تَلبَسوا القُمُصَ ولا العمائمَ ولا السراويلاتِ ولا البرانسَ ولا الخفافَ، إلا أحد لا يجد النعلَين فَلْيَلْبَس الخفَّين وَلْيَقْطَعْهما أسفلَ من الكعبَين، ولا تَلبَسوا من الثياب شيئًا مسَّه الزعفرانُ ولا الوَرْسُ". وهذه المحظورات للإحرام لا يتوقف صحة الحج عليها، فلو أدَّى المسلم المناسك بملابسه العادية لعذر أو غير عذر صَحَّ الحج وسقَطَت عنه الفريضة، وشرَع الله جبرًا لذلك فديةً هي على التخيير بين صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين أو ذبح شاة، قال الله تعالى: (فمن كان منكم مريضًا أو به أذًى من رأسه ففديةٌ من صيامٍ أو صدقةٍ أو نُسُكٍ) (البقرة: 196) ولا يُجزئ الهديُ ولا الإطعامُ إلا بالحرم، مع التفرقة على فقرائه ومساكينه. ويجوز أن يصوم حيث شاء.
وليَكُنْ معلومًا أن المرأة تختلف عن الرجل عند الإحرام، فهي تَلبَس ملابسها الإسلامية العادية الساترة لجميع بدنها ما عدا وجهَهَا وكفَّيها. هذا وبالله التوفيق(148/1)
فرائض الحج وسننه
ما هي فرائض الحج؟ وما هي سننه؟
هناك في الحج أركان وواجبات وسنن، فالركن لابد أن يُؤتَى به ولا يتمّ الحج بدونه، والواجب قد يُجبَر بدم عند تركه، والسنة من الخير فعلها لمزيد الثواب ولا يلزم بتركها شيء.
ومن أركان الحج الإحرامُ مع النية، بأن يقول المسلم عند الميقات: اللهم إني نويت الحج فتقبَّلْه منِّي ويسِّره لي. قال صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات". ومن أركان الحج الطوافُ والسعيُ، قال الله تعالى: (وَلْيَطَّوَّفُوا بالبيت العتيق) (الحج: 78) وقال جل شأنه: (إن الصفَا والمروةَ من شعائر الله). ومن أركان الحج الوقوفُ بعرفة يوم التاسع من ذي الحجة لقوله صلى الله عليه وسلم: "الحجُّ عرفة".
أما الواجبات، فمنها الإحرام من الميقات، فلكل بلد مكانٌ خاص لا يتجاوزه الحاجُّ إلا مُحرِمًا ناويًا لما أراد من حج أو عمرة. ومنها أيضًا رميُ الجمار يوم العيد وأيام التشريق. ومنها المَبِيتُ بمنًى أيام الرمي. فمثل هذه الأشياء يجب فعلها، ومن ترك منها شيئًا ولم يأته فيُمكن جبرُ ذلك بذبح الهَدي.
ومن السنن التي يَحرص الحاجُّ عليها رجاءَ ثوابها الإكثارُ من التلبية، ويرفع الرجل بها صوته، وتتأكد بتغير الأحوال؛ كركوب وصعود وهبوط واختلاط رفقة وإقبال ليل أو نهار. وليس في السعي أو الطواف تلبيةٌ وإنما هناك ذكرٌ ودعاءٌ. كذلك لا يلبّي عند رمي الجمار وإنما يكبّر.
ومن السنة إذا رأى الكعبة المشرفة لأول مرة أن يرفع يديه قائلًا: "اللهم زِدْ هذا البيت تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا ومهابةً، وزِدْ من شرَّفه وكرَّمه ممَّن حجَّه أو اعتمره تشريفًا وتكريمًا وتعظيمًا وبرًّا، اللهم أنت السلام ومنك السلام فحَيِّنَا ربنا بالسلام". ومن السنة طوافُ القُدوم لمن دخل مكة قبل الوقوف بعرفة. ومن السنة ركعَتَا الطواف خلف المقام، فإن لم يتيسر ففي الحجر، فإن لم يتيسر ففي المسجد، وإلا في أيّ مكان من الحرم بمكة.(149/1)
هذا، وتفصيل الأركان والواجبات والسنن موجود في كتب الفقه. وقد يُعِدُّ بعض العلماء مَنسَكًا في الأركان ويُعِدُّه آخرون واجبًا، وقد نجد مَنسَكًا مختلَفًا في أنه واجب أو سنة، واجتهاد المذاهب الفقهية رحمة بالأمة، وعلى المسلم أن يلتزم بكل ما ورد عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقدر ظروفه وأحواله (وما جعَل عليكم في الدين من حَرَج) (الحج: 78)(149/2)
الأيام المعدودات
ما هي الأيام المعدودات؟ وما هو المقصود من الذكر في قوله تعالى: (واذكُروا اللهَ في أيامٍ معدوداتٍ فمن تَعجَّلَ في يومَين فلا إثمَ عليه ومن تأخَّرَ فلا إثمَ عليه لمَن اتَّقَى واتَّقُوا اللهَ واعلَموا أنكم إليه تُحشَرون)؟ (البقرة: 203).
هذه الآية الكريمة من سورة البقرة، وهي متعلقة بالحج ومناسكه، والأيام المعدودات هي أيام التشريق الثلاثة بعد يوم عيد الأضحى، وذكرُ الله عامٌّ للحاجّ وغيره، وهو يَشمل التكبيرَ عقب الصلوات الفرائض والتكبيرَ على الأضحية والتكبيرَ عند رمي الجمار. فمن المعروف في فقه الشريعة أن هناك تكبيرًا عقب الفرائض، وهو عند الشافعيّ من صبح يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق الثلاثة.
ووقت الأضحية عقب صلاة العيد إلى أخر أيام التشريق الثلاثة. ورميُ الجمار في الحجّ يكون يوم العيد، ويسمَّى "رَمْيَ جمرة العقبة" ثم يستمر ثلاثة أيام لمن أراد أن يُتمَّ، فإن تَعجَّلَ رَمْيَ يومَين بعد العيد وتَرَكَ منًى قبل الغروب فلا إثم عليه، فإن غرَبَت الشمس عليه وهو في منًى فلا بد أن يَبِيت ويرميَ الجمَرات في اليوم الثالثَ عشرَ من ذي الحجة، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: (فمن تَعجَّلَ في يومَين فلا إثمَ عليه ومن تأخَّرَ فلا إثمَ عليه لِمَن اتَّقَى) (البقرة: 203) ونفيُ الإثم في التأخرِ، مع أنه أفضلُ وهو السنةُ، للمجانَسة في التعبير، مثل قوله تعالى: (وجزاءُ سيئةٍ سيئةٌ مثلُها) (الشورى: 40) فإن رَدَّ السيئة بمثلها ليس سيئةً.
فالمقصود من الآية التي معنا هو التخييرُ بين التعجيل والتأخير ورفعُ الحرج عن الحاجّ، وكان الناس في الجاهلية أحيانًا يؤثِّمون المتعجِّل وأحيانًا يؤثِّمون المتأخِّر فجاء القرآن ينفي المأثَمَ عنهما جميعًا، والمسألة كلها قائمة على تقوى الله سبحانه ومراقبة حدوده والاستعداد ليوم لقائه.(150/1)
محظورات الإحرام
ما الأشياء التي يمتنع عنها الحاج؟ وماذا يحدث لو أتى شيئًا منها؟
إذا أحرَم المسلم بالحجّ أو العمرة فهناك أشياء يَمتنع إتيانُها، وهي لُبسُ المَخِيط المعمول على قدر البدن أو قدر عضو منه، مثل الملابس الداخلية وأغطية الرأس بأنواعها والقفَّازَين والأحذية التي تغطي الكعبَين. ويمتنع المُحرِم من الطِّيب وإزالة الشعر وتقليم الأظفار، ولا يباح له مأكول أو مشروب وُضع فيه الطِّيب ولم تذهب رائحته، أما رائحة الفواكه والنباتات الطيبة الرائحة فلا شيء فيها. وقد سأل رجل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم: ما يَلبَس المحرم من الثياب؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تَلبَسوا القُمُصَ ولا العمائمَ ولا السراويلاتِ ولا البرانسَ ولا الخفافَ، إلا أحد لا يجد النعلَين فَلْيَلْبَس الخفَّين وَلْيَقْطَعْهما أسفلَ من الكعبَين، ولا تَلبَسوا من الثياب شيئًا مسَّه الزعفرانُ ولا الوَرْسُ". ويمتنع المُحرِم من صيد البر الوحشيّ، وقطع شجر الحرم وحشيشه الرَّطب بقصد الإتلاف. ويمتنع المُحرِم من عقد النكاح لنفسه أو لغيره، ولا يعاشر النساء ولا يفعل كل ما يتصل بالشهوة، ولنتذكر قول الله تعالى: (الحجُّ أشهرٌ معلوماتٌ فمن فرَض فيهنَّ الحجَّ فلا رَفَثَ ولا فسوقَ ولا جدالَ في الحجِّ) (البقرة: 197).
ولا تأثيرَ للحرم ولا للإحرام في ذبح الحيوان الإنسيّ ولا في قتل الفواسق الخمس التي أباح الشرع قَتْلَها في الحلّ والحَرَم، وهي الحِدَأَة والغراب والفأرة والعقرب والكلب العَقُور، وفي معناها كلُّ ما فيه أذًى من سباع البهائم وجوارح الطير والحشرات المؤذية كالبَقّ والبعوض والبراغيث، فالتعرض لمثل هذه الأشياء ليس محظورًا.
وإذا فعل الحاج أو المعتمر شيئًا من محظورات الإحرام لَزِمَته الفدية، إلا الجماعَ فإنه يُفسد الحجَّ أو العمرة، وعلى الحاجِّ أن يُتمَّ أعمال الحج، وتَلزَمه بَدَنة، ويجب عليه القضاء في العام القابل.(151/1)
وفديةُ فعلِ المحظورِ هي صيامُ ثلاثة أيام أو إطعامُ ستة مساكين أو ذبحُ شاة. وفي قتل الصيد جزاءٌ هو مثلُ ما قتَل من النَّعَم، فمن قتل نعامة مثلًا وجب عليه ذبحُ بَدَنة. وإذا كان الصيد مما لا مِثْلَ له أخرَج القيمة يَشتري بها طعامًا ويتصدق به، أو يصوم يومًا عن كل ما يُجزئ لطعام مسكين. وفي الشجرة الكبيرة بقرةٌ، وفي الصغيرة شاةٌ، أو يشتري بقيمة ذلك طعامًا يتصدق به أو يصوم يومًا عن كل ما يجزئ لطعام مسكين.(151/2)
أنواع الطواف
ما الفرق بين طواف القدوم وطواف الإفاضة؟ وكيف يؤدي المسلم الطواف؟
طواف القدوم هو من أدب الدخول لمكة المكرمة، وهو سنة للحاجّ والمعتمر وغيرهما، فتحية المسجد الحرام هو الطواف.
أما طواف الإفاضة، وقد يسمَّى طوافَ الركن أو طوافَ الزيارة، فهو ركن من أركان الحج، ويؤدَّى بعد الوقوف بعرفة يوم التاسع من ذي الحجة، وأول وقته عند الشافعية من نصف ليلة النحر، وأفضلُه بعد رمي جمرة العقبة وذبح الهدي والحلق أو التقصير، ويكون ذلك ضُحَى يوم النحر. ويجوز الطواف طوال يوم النحر بلا كراهة، ولا آخر لوقته، فلا بد من الإتيان به مهما طال الزمن. ويبتدئ الطواف من الحجر الأسود، ويكون البيت الحرام عن يساره، ويطوف سبعة أشواط. ومن السنة تقبيلُ الحجر الأسود عند التمكن، ومن لا يستطيع أشار إليه بيده على بُعدٍ قائلًا: بسم الله، الله أكبر، الله إيمانًا بك وتصديقًا بكتابك ووفاءً بعهدك واتباعًا لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم.
ويشترط لصحة الطوافِ الطهارةُ من الحدث والنجس وسترُ العورة؛ فالطواف كالصلاة إلا أنه أُبِيحَ لنا الكلام فيه.
وإذا شك في عدد الأشواط بنَى على اليقين وهو الأقل، وإذا أقيمت الصلاة المكتوبة تَوقَّفَ عن الطواف وصلَّى وعقب الصلاة يطوف مستكملًا الأشواطَ الباقيةَ له ويَبني على ما سبق.
ومما يجب التنبُّهُ إليه أن حجر إسماعيل جزء من الكعبة، ولا يصح الطواف داخل الحجر بل يجب أن يكون الطواف خارج حجر إسماعيل.
وعقب الانتهاء من الأشواط السبعة يؤدي الحاج ركعتين، يقرأ في الأولى بعد الفاتحة سورة الكافرون وفي الثانية سورة الإخلاص، ويكون ذلك خلف مقام إبراهيم إن تَيسَّرَ، وإلا ففي أيّ موضع خالٍ بالمسجد، قال الله تعالى: (وإذ جعلنا البيتَ مَثَابةً للناس وأمنًا واتَّخِذوا من مقام إبراهيم مُصَلًّى وعَهِدنَا إلى إبراهيمَ وإسماعيلَ أن طَهِّرَا بيتيَ للطائفين والعاكفين والرُّكَّع السجود) (البقرة: 125).(152/1)
السعي في الحج
كيف يؤدي المسلم ركن السعي في الحج؟
السعيُ بين الصفا والمروة ركن من أركان الحج، ولا يكون السعيُ إلا بعد طوافٍ حول الكعبة المشرفة، سواء كان طواف قدوم أو إفاضة، ويخرج الحاج عقب الطواف من المسجد الحرام من باب الصفا، فإذا دنا قرأ هذه الآية الكريمة: (إن الصَّفَا والمروةَ من شعائرِ اللهِ فمَن حَجَّ البيتَ أو اعتمَرَ فلا جناحَ عليه أن يَطَّوَّفَ بهما ومن تَطوَّعَ خيرًا فإن اللهَ شاكرٌ عليمٌ) (البقرة: 158) ثم يقول: أبدأُ بما بدأ الله به. ويَرقَى على بقايا جبل الصفا حتى يرى الكعبة المشرفة فيستقبلها قائلًا: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده" ثم ينزل ويمشي في طريقه إلى جبل المروة، وسيجد مسافة محددة بين علامتَين مُضاءتَين باللون الأخضر فيسرع المَشيَ مع تقارب الخُطَا، فإذا انتهت هذه المسافة المُضاءة باللون الأخضر مشَى المشية المعتادة حتى يصلَ إلى المروة، فيصعدَ فوقها ويتجهَ نحو الكعبة ويدعوَ الله تعالى ويمجِّدَه، ثم ينزلَ ويعودَ إلى الصفا، يمشي في موضع المشي ويُسرع في موضع الإسراع، وليس على المرأة إسراعٌ بل تمشي بأدب جَمّ ودون هرولة. ويحسب الذهاب من الصفا إلى المروة شوطًا ومن المروة إلى الصفا شوطًا آخر، بحيث يتم سبعة أشواط تبدأ بالصفا وتنتهي بالمروة.
ويستحب أن يسعَى طاهرًا متواليًا، ولو سعى بغير وضوء جاز، ولو استراح في بعض الأشواط فلا حرج عليه، ولا بأس أن يطوف أول النهار ويسعَى آخرَه.
وإذا لم يَسعَ في يوم طواف القدوم وجَب عليه أن يسعى عقب طواف الإفاضة يوم النحر.(153/1)
ذبح الهدي
ما حكم ذبح الهدي بالنسبة للحاج؟ ومتى يذبح؟
الهديُ المرتبط بمناسك الحج أنواع، منها هديٌ يجب بسبب تركِ نُسُكٍ كهدي التمتع؛ وذلك أن المتمتع أدَّى عمرة في أشهر الحج ومكَث في مكة حتى قرُب موعد يوم عرفة فأحرَم بالحج من مكة، وهذا المتمتع يجب عليه ذبحُ شاة أو يشترك مع ستة آخرين في ذبح بقرة أو بدنة، فإن لم يجد صام عشرة أيام بدلًا من ذبح الهدي، ثلاثة منها بعد الإحرام بالحج وسبعة إذا عاد إلى أهله ووطنه، قال الله تعالى: (فمن تَمتَّعَ بالعمرةِ إلى الحجِّ فما استيسرَ من الهدي فمن لم يجدْ فصيامُ ثلاثةِ أيامٍ في الحجِّ وسبعةٍ إذا رجعتُم تلك عشَرَةٌ كاملةٌ ذلك لمن لم يكنْ أهلُه حاضري المسجدِ الحرامِ) (البقرة: 197).
وهناك هديٌ يتعلق بمحظورات الإحرام، كإزالة الشعر أو لُبسِ المَخيط أو استعمال الطيب، فالحاجّ أو المعتمر مخيَّر حينئذٍ بين ثلاثة أشياء: ذبح شاة، أو صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين، قال تعالى: (فمَن كان منكم مريضًا أو به أذًى من رأسه ففديةٌ من صيامٍ أو صدقةٍ أو نُسُكٍ) (المائدة: 95).
وهناك هديٌ يتعلق بالإحصار، بأن نوى المسلم حجًّا أو عمرةً ثم حبَسَه حابس ومنَعَه مانع قهريٌّ من الذهاب إلى مكة وضاق الوقت، فيَتحلّلُ حيث كان ويذبح شاة، فإن عجز عنها لعدم وجودها أطعَمَ بقيمة الشاة، وإن عجز عنها لفقره صام أيامًا بعدد من كان يُطعم من الشاة، قال تعالى: (فإن أُحْصِرْتُم فما استيسرَ من الهدي) (البقرة: 196)
وهناك هديٌ يتعلق بقتل الصيد، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقتُلُوا الصيدَ وأنتُم حُرُمٌ ومن قتلَهُ منكم متعمدًا فجزاءٌ مثلُ ما قتَل من النَّعَمِ يحكمُ بِهِ ذَوَا عدلٍ منكم هديًا بالِغَ الكعبةِ أو كفارةٌ طعامُ مساكينَ أو عدلُ ذلك صيامًا ليذوقَ وبالَ أمرِهِ عفَا اللهُ عما سلَف ومن عادَ فينتقمُ اللهُ منه واللهُ عزيزٌ ذو انتقامٍ) (المائدة: 95).(154/1)
وهناك هديٌ يتعلق بالمعاشرة الزوجية أثناء الإحرام، فمن عاشر زوجته أثناء الإحرام فسد حجه أو فسدت عمرته، وعليه أن يستمر في أداء بقية المناسك حتى نهايتها، ويجب على الرجل ذبحُ بدنة أو بقرة أو سبع شياهٍ، فإن لم يجد اشترَى بقيمتها طعامًا وتصدَّق به على فقراء الحرم، فإن لم يستطع صام أيامًا بقدر عدد المساكين الذين يُمكن أن توزَّع عليهم اللحوم. وعلى الحاج أن يأتيَ في العام القادم ليؤديَ الحج من جديد. وإن كان في عمرة قد فسدت بالنكاح فبعد إتمامها يأتي بعمرة أخرى جديدة.(154/2)
الحلق للمرأة
هل يُطلب من المرأة الحاجة أن تحلق رأسها عند انتهاء المناسك؟
من مناسك الحج والعمرة الحلقُ أو التقصيرُ، وهو ركن فيهما على مذهب الإمام الشافعيّ وواجب عند باقي الأئمة، ويتوقف التحلل من الحج والعمرة على الحلق أو التقصير.
والأفضل في الحلق أو التقصير أن يكون بعد رمي جمرة العقبة وبعد ذبح الهدي إن كان معه، وقبل طواف الإفاضة، سواء كان قارنًا أو مُفرِدًا.
أما في العمرة فيأتي بالحلق أو التقصير في ختام مناسكها بعد الإحرام والطواف والسعي.
وقد أشار القرآن العظيم إلى هذا النسك فقال: (لقد صدَق اللهُ رسولَه الرؤيا بالحقِّ لَتَدْخُلُنَّ المسجدَ الحرامَ إن شاء اللهُ آمِنِين مُحلِّقِين رءوسَكم ومُقصِّرِين لا تخافون) (الفتح: 27).
وهذا النُّسُكُ مختصّ بالرأس، فلا يُجزئ عنه حلق أو تقصير في سائر الجسد، والأفضل للرجال هو الحلق لفعل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقوله وقد حلق: "اللهم اغفر للمُحلِّقِين" قالوا: يا رسول الله، وللمُقصِّرِين. قال: "اللهم اغفر للمُحلِّقِين" قالوا: يا رسول الله، وللمُقصِّرِين. قال: "اللهم اغفر للمُحلِّقِين" قالوا: يا رسول الله، وللمُقصِّرِين. قال: "وللمُقصِّرِين". وذلك أن الحلق أبلغ في العبادة وأدَلُّ على صدق النية في التذلل لله تعالى، فشأن الحاج أن يكون أشعَثَ أغبَرَ.
أما المشروع في حق النساء فهو التقصير فقط ويُكرَهُ لهنَّ الحلق، وقد أخرج أبو داود والبيهقيّ في سننه عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس على النساء حلق وإنما على النساء التقصير". ولم يُعهد في النساء امرأةٌ بغير شعر رأسها إلا مرضًا، والإسلام حريص على الطبائع السليمة والفطر النقية، والوصف الملازم للمرأة هو التنشئة في الحلية، قال تعالى: (أوَ مَن يُنَشَّأُ في الحليةِ وهو في الخِصامِ غيرُ مبينٍ) (الزخرف: 18).(155/1)
الفرق بين الرجل والمرأة
هل هناك اختلاف في طريقة أداء فريضة الحج بالنسبة للمرأة والرجل؟
الحج فريضة كتبها الله تعالى على المستطيع من الرجال والنساء، قال الله تعالى: (ولِلهِ على الناسِ حجُّ البيتِ من استطاعَ إليه سبيلًا ومن كفَر فإنَّ اللهَ غنيٌّ عنِ العالمين) (آل عمران: 97) إلا أن الاستطاعة بالنسبة للمرأة تزيد اشتراطَ مَحرَم معها يَصحَبها في سفرها، ويقوم مقام المَحرَم النسوةُ الثقات، فالمرأة الحاجة تَصحَب زوجَها أو أباها أو أخاها أو ابنَها أو عمَّها أو خالَها، فإذا لم يوجد هؤلاء وتوافر مجموعة من النساء الصالحات العفيفات فإنهنَّ يَقُمنَ مقام المَحرَم.
وعند الإحرام بالحج من الميقات فإن الرجل يَلبَس ثوبَين أبيَضَين نظيفَين، إزارًا ورداءً، ويتجرد عن المَخيط. أما المرأة فإحرامها في وجهها وكفَّيها فقط، فيحرُم تغطيتُهما، وتَلبَس المرأة ملابسها المحتشمة. وعلى الجميع أن يتذكر قول الله تعالى: (الحجُّ أشهرٌ معلوماتٌ فمن فرَض فيهنَّ الحجَّ فلا رَفَثَ ولا فسوقَ ولا جدالَ في الحجِّ) (البقرة: 197).
وتؤدي المرأة الطواف والسعي بلا رَمَلٍ فيهما، أي أنها تمشي أثناء الطواف والسعي المشية المعتدلة العادية. أما الرجل فإنه يُسرع المَشيَ، مع تقارب الخُطَا في الأشواط الثلاثة الأولى من الطواف وبين العلَمَين الأخضَرَين في السعي.
وإذا أصاب المرأةَ الدورةُ الشهرية فإنها تُرجِئ الطوافَ والسعيَ حتى تَطهُرَ؛ لأن الطواف كالصلاة يُشترط له الطهارة، والسعيُ لابد أن يقع عقب طواف. أما الوقوف بعرفة يوم التاسع من ذي الحجة فلا يُشترط فيه الطهارة فيَصحُّ للمرأة أن تقف بعرفة حائضًا ونُفَسَاءَ.
وترمي المرأة الجمار بنفسها متى كان ذلك مستطاعًا من غير مزاحمة مع الرجال، فإن لم تستطع تُكلِّف من ينُوب عنها في الرمي.(156/1)
والمرأة تقصِّر شعرها فقط ولا يجوز لها حلق شعرها، أما الرجل فهو مخيَّر بين الحلق والتقصير، والحلق أفضل لقوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغفر للمُحلِّقِين" قالوا: يا رسول الله، وللمُقصِّرِين. قال: "اللهم اغفر للمُحلِّقِين" قالوا: يا رسول الله، وللمُقصِّرِين. قال: "اللهم اغفر للمُحلِّقِين" قالوا: يا رسول الله، وللمُقصِّرِين. قال: "وللمُقصِّرِين".(156/2)
تكرار العمرة
هل يصح من الحاج أن يؤديّ العمرة أكثر من مرة في نفس العام؟
قال الله تعالى: (وأتِمُّوا الحجَّ والعمرةَ لله) فالحج أحد أركان الإسلام، والعمرة واجبة عند جمهور العلماء. والفرق بين الحج والعمرة أن الحج خاصّ بميقات زمانيّ هو شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، قال تعالى: (الحجُّ أشهرٌ معلوماتٌ) أما العمرة فهي جائزة في جميع السنة. وتُكرَهُ عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى في خمسة أيام، هي يوم عرفة والنحر وأيام التشريق. كما يَختص الحج بالوقوف بعرفة يوم التاسع من ذي الحجة وبرمي الجمار، ولا شيء من ذلك في العمرة. ويلتقي الحج مع العمرة في الإحرام والطواف والسعي والحلق والتقصير واجتناب محرَّمات الإحرام، من لُبس المَخيط وقتل الصيد وعقد النكاح وغير ذلك مما هو معروف. وفي فضل الحج والعمرة يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "العمرة إلى العمرة كفارةٌ لما بينهما، والحجُّ المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة". وقد احتج الشافعيّ والجمهور بهذا الحديث على استحباب تكرار العمرة في السنة الواحدة مرارًا، فهي طاعة يُتقرب بها إلى الله تعالى، وهي ارتيادٌ لمواضع الخير وبقاع الطُّهر، ولم يَرِدْ نص يَمنع من ذلك. والحديث المذكور دليل على التفريق بين الحج والعمرة في التكرار؛ إذ لو كانت العمرة كالحج لا تُفعل في السنة إلا مرة لسوَّى بينهما في الجزاء. وقد اعتمَرَت عائشة ـ رضي الله عنها ـ مرتَين في شهر. ويذكر أن أنسًا رضي الله عنه كان إذا حُمَّ رأسُه خرَج فاعتمَرَ. وأن عليا رضي الله عنه كان يعتمر في السنة مرارًا.
وللعمرة في رمضان شأنٌ خاصّ، فقد أوصى بها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ امرأةً تخلفت عن الحج معه لعذر، فقال: "إذا جاء رمضان فاعتمري فإن عمرة فيه تَعدِل حجّةً".(157/1)
العطور للمُحرِم
أثناء أدائي لمناسك العمرة نسيت فوضعت الكولونيا على ملابسي، فما رأي الدين؟
أجمع العلماء على أن الطِّيب كله يحرُم على المُحرِم بالحج أو العمرة في حال إحرامه، وذلك أن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ سئل: ما يَلبَس المحرم من الثياب؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تَلبَسوا القُمُصَ ولا العمائمَ ولا السراويلاتِ ولا البرانسَ ولا الخفافَ، إلا أحد لا يجد النعلَين فَلْيَلْبَس الخفَّين وَلْيَقْطَعْهما أسفلَ من الكعبَين، ولا تَلبَسوا من الثياب شيئًا مسَّه الزعفرانُ ولا الوَرْسُ". فقد حصر هذا الحديث محظورات الإحرام، فنبَّه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالقميص والسراويل على ما في معناهما وهو كل مَخيط معمول على قدر البدن أو قدر عضو منه. ونبَّه بالعمائم والبرانس على كل ساتر للرأس بالنسبة للرجل، ونبَّه بالورس والزعفران على كل أنواع الطيب.
فوضعُ الطِّيب على جسم المُحرِم أو ثوبه أثناء أدائه للنسك حرامٌ شرعًا، وتجب إزالته بالغسل أو خلع الثوب؛ لأنه يتنافى مع التجرد المطلوب في هذا الموقف العظيم المذكِّر بالحشر وسَوْق الناس إلى الحساب يوم الدين.
ويبقى تساؤل: هل يلزمه فدية أم لا؟
وحيث إن السائل الكريم وضع الكولونيا ناسيًا، فقد قال عطاء والثوريّ والشافعيّ وغيرهم بأن من أصاب في إحرامه طيبًا ناسيًا أو جاهلًا فلا كفارة عليه ولا فدية، وإنما يجب عليه المبادرة إلى إزالتِه متى عَلِمَ، لقوله تعالى: (وليس عليكم جناحٌ فيما أخطأتم به ولكن ما تعمَّدَت قلوبُكم) ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "رُفع عن أمتي الخطأُ والنسيانُ". وفي مذهب الإمام مالك أن الفدية لا تجب إلا إذا طال استعماله للطيب وظلَّ أثره عليه مدة طويلة، لكن إذا تدارك في الحال فلا شيء عليه.(158/1)
وأيًّا ما كان فإن الفدية عند القائلين بها هي على التخيير بين ذبح شاة أو صوم ثلاثة أيام ولو متفرِّقات أو التصدق على ستة مساكين، لكل مسكين قدحٌ من غالب قوت البلد، أو قيمة ذلك، يَفعل من هذه الأشياء ما يراه مناسبًا. وبالله التوفيق(158/2)