وفي عصرنا شاعت أمراض معدية شديدة الخطورة، سريعة العدوى بعضها في الطيور، مثل انفلونزا الطيور، وبعضها في الأغنام، مثل بعض الحمِّيات، وجنون البقر، وغيرها. ويترتَّب على الاستهانة بهذه الأمراض إهدار أموال تصل أحيانا إلى المليارات.
إياك والحلوب:
ومن روائع ما ورد في السنة في المحافظة على الموارد: قول النبي صلى الله عليه وسلم لمُضَيِّفه الأنصاري، الذي أراد إكرامه بذبح شاة: "إياك والحَلُوب"(1). قاله له حينما أحدَّ الرجل المُدْية ومضى ليذبح.
ومعنى الحديث: أنه عليه الصلاة والسلام نهى المُضَيَّف أن يعمد إلى شاة ينتفع بدرِّها ولبنها، لأنها حلوب، فيذبحها، فيخسر درَّها وحليبها، ويخسرها معه المجتمع، ويغنى عنها شاة أخرى غير حلوب، ومعنى هذا وجوب المحافظة على مصادر الإنتاج في الأمة، وإن كانت شاة حلوبا.
وربما يقول بعض الناس: وماذا يؤثِّر ذبح شاة في موارد مجتمع أو أمة؟
والجواب: أن الرسول الكريم يربِّي الأمة على قِيَم وأخلاق معيَّنة ينبغي أن يلتزم بها الجميع، ورعاية هذه القِيَم والأخلاقيات على مستوى الأمة ذات مردود هائل، عند مَن يتدبَّرون الأمور، فالقليل على القليل كثير، والشاعر يقول:
لا تحقرن صغيرة ... إن الجبال من الحصى
الانتفاع بجلد الميتة:
وأكثر من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه، وقد رأى شاة ميتة: "لمَن هذه الشاة"؟ قالوا: إنها شاة مولاة لميمونة - أم المؤمنين - قال: "هلاَّ انتفعتم بجلدها؟". قالوا: إنها ميتة! قال: "إنما حَرُم أكلها"(2).
__________
(1) - رواه مسلم في الأشربة (2038)، وابن ماجه في الذبائح (3180)، عن أبي هريرة.
(2) - متفق عليه: رواه البخاري في الزكاة (1492)، ومسلم في الحيض (363)، كما رواه أحمد في المسند (2369)، وأبو داود في اللباس (4120)، والنسائي في الفرع والعتيرة (4235)، عن ابن عباس.(1/78)
فهو ينبِّههم إلى الاستفادة بجلد الشاة - فروتها - بأن يُدبغ، فيطهُر بالدباغ، وينتفع به. فقد جاء في الحديث: "أيُّما إهاب دُبغ فقد طهُر"(1).
فانظر إلى هذا التوجيه الرائع: ضرورة الانتفاع بكلِّ شيء صالح للانتفاع به، ولو كان في ميتة تنفر منها النفس، فهذا النفور لا يجوز أن يكون سببا في أن تغلق عقولنا عن الانتفاع بالحلال منها.
لا تترك اللقمة للشيطان:
وأكثر من ذلك قوله صلى الله وسلم: "إذا سقطت لقمة أحدكم، فليأخذها، وليمِط عنها الأذى، وليأكلها، ولا يدعها للشيطان"(2).
قال أنس: وأمَرَنا (أي النبي) أن نسلت القصعة: أي نتتبَّع ما فيها من بقايا باللعق أو المسح، بحيث لا نترك فيها فضلات.
لقمة واحدة، تسقط، فتهمل وتترك ولا يستفيد منها أحد، إلا سلال القمامة، اعتبرها النبي صلى الله عليه وسلم قد تركت للشيطان، وكلُّ ما لا يستفاد منه خير فهو للشيطان!
وكان يمكن بعمل سهل أن ينتفع بها، وهو إماطة ما أصابها من أذى، غبار ونحوه، وهذه تربية رفيعة: خُلقية واقتصادية في نفس الوقت.
فأين هذا مما نراه اليوم، وصناديق القمامة تمتلئ بفضلات الطعام، من اللحم والأرز والخبز وغيرها، مما يتمنَّى كثير من المسلمين وغيرهم في العالم لو أصابوا شيئا منه!
لا ينبغي أن يُستهان بهذه التوجيهات النبوية ومردودها الاقتصادي، فإنها - على مستوى الأمة الكبرى - يمكن أن تحقِّق الكثير الكثير، وتوفِّر للمجتمع كلِّه الملايين، بل البلايين.
ذم تعطيل الثروة الزراعية والحيوانية:
__________
(1) - رواه مسلم في الحيض (366)، كما رواه أحمد في المسند (1895)، وأبو داود في اللباس (4123)، والترمذي في اللباس (1728)، والنسائي في الفرع والعتيرة (4241)، وابن ماجه في اللباس (3609)، عن ابن عباس.
(2) - رواه مسلم في الأشربة (2034)، كما رواه أحمد في المسند (11964)، وأبو داود (3845)، والترمذي (1803)، كلاهما في الأطعمة، والنسائي في الكبرى كتاب الوليمة (6732)، عن أنس.(1/79)
ولقد حمل القرآن على نوع من الفساد شاع لدى مشركي العرب، وهو تعطيل بعض الموارد الزراعية والحيوانية، بناء على أوهام وأباطيل شركية، ما أنزل الله بها من سلطان، وناقشهم مناقشة مفصَّلة في سورة الأنعام كما في قوله تعالى: {وَقَالُواْ هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نَّشَاء بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاء عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } [الأنعام:138].
وفي سورة يونس خاطبهم بقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس:59].
إحياء الموات:
ومن أعظم الموارد التي عُني الإسلام بالمحافظة عليها، وعمل على تنميتها، والاستفادة من خيراتها: الأرض الزراعية التي هي مصدر القوت والطعام للإنسان كما قال تعالى: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس:24-32].(1/80)
ومن أفضل الأعمال التي حثَّ عليها الإسلام، ورغَّب فيها، ووعد فاعليها بأعظم المثوبة: استصلاح الأراضي البور، لما فيه من توسيع الرقعة الزراعية وزيادة مصادر الإنتاج، وقد عُرف هذا الأمر في الفقه الإسلامي بعنوان معبِّر جميل هو: (إحياء الموات)، أيْ إحياء الأرض الميتة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن أحيا أرضا ميتة فهي له، وما أكلت العافية (طلاب الرزق) منها، فهي له صدقة"(1)، قال أبو عبيد: العافية: من السباع والطير والناس وكلُّ شيء يعافه.
وكان من سياسة النبي صلى الله عليه وسلم، وخلفائه الراشدين: الإقطاع من هذه الأراضي البور لبعض الرجال الذين أدَّوا خدمات ممتازة للدولة الإسلامية، فهي مكافأة لهم من جهة، وتشجيع على استصلاحها وعمرانها من جهة أخرى.
ومَن قطع له من هذه الأرض مساحة معينة، ثم تركها لعدَّة سنوات، بغير أن يعمرها ويصلحها، كان لولي الأمر أن ينتزعها منه، ويعطيها لغيره ممَّن يقوم بإحيائها.
وقد روى أبو عبيد وغيره، عن بلال بن الحارث المزني: أن النبي صلى الله عليه وسلم اقطعه العقيق - أرضا بالمدينة - فلما كان زمان عمر، قال لبلال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقطعك لتحتجزه عن الناس، وإنما أقطعك لتعمل، فخذ منها ما قدرت على عمارته، وردَّ الباقي(2). وهذه سياسة حكيمة، تشجِّع العاملين على العمل والاجتهاد، وتحرم الكسالى من أن يحتكروا ما لا ينتفعون به.
وعن عبد الله بن عمر قال: كان عمر بن الخطاب يخطب على هذا المنبر يقول: يا أيها الناس، مَن أحيا أرضا ميتة فهي له، وذلك أن رجالا كانوا يحتجزون من الأرض ما لا يعمرون(3).
__________
(1) - رواه أحمد في المسند (14636)، إسناده صحيح على شرط الشيخين، عن جابر، وأبو عبيد في الأموال صـ318، انظر صحيح الجامع الصغير ص 5974 ـ 5976 .
(2) - رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (10/426)، وأبو عبيد في الأموال صـ323.(1/81)
وكانت من سنة عمر تشجيع الأفراد العاملين على زيادة الإنتاج كنافع أبي عبد الله، الذي كتب إلى واليه بالبصرة في شأنه يقول: أما بعد، فإن أبا عبد الله ذكر أنه زرع بالبصرة، وافتلي أولاد الخيل (رعاها بالفلاة) حين لم يَفْتِلها أحد من أهل البصرة، وأنه نعم ما رأى، فأعنه على زرعه وعلى خيله، فإني قد أذنت له أن يزرع، وآته أرضه التي زرع ... ولا تعرض له إلا بخير(1).
المحافظة على الماء والأحياء المائية:
ومن مكونات البيئة التي يجب المحافظة عليها: الماء، الذي قال الله فيه: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء:30]، فمن هذا الماء نشرب ونرتوي، ومنه نطهو أطعمتنا، ونسقي دوابنا وطيورنا، ونروي أرضنا ومزارعنا، ونغسل أيدينا ووجوهنا وأجسامنا، لهذا اعتبر الماء رمزا للحياة. سواء كان ماء عذبا، كماء الأنهار والبحيرات العذبة، أم الماء المركوز تحت الأرض وهو في بعض البلاد، كأنه أنهار مخزونة، أم كان ماء مالحا مثل مياه البحار والمحيطات، وهي تشمل نحو ثلاثة أرباع الكرة الأرضية.
وكلُّ هذه المصادر للمياه مطلوب المحافظة عليها من التلوُّث، ولا سيما من المخلَّفات الصناعية والذرية والتلوُّثات الإشعاعية وغيرها، مما تسبِّبه المصانع المختلفة والسيارات والقطارات وسائر الأجهزة من آثار على الصحة العامة، وعلى البيئة الطبيعية، وعلى الإنسان والحيوان والطيور، والأسماك وسائر الأحياء المائية.
يقول تعالى في سورة النحل، التي تسمَّى (سورة النعم): { هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:11،10].
__________
(1) - من هامش الأموال للبلاذري صـ346، وفي الأموال نحوه صـ310.(1/82)
وفي سورة إبراهيم: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ} [إبراهيم:32].
وفي سورة فاطر: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [النحل:14].
وفي سورة فاطر: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [فاطر:12].
وقد رأينا الآيتين الكريمتين تشيران إلى ما في البحر من أحياء مائية تكوِّن ثروة غذائية هائلة للإنسان، نظرا لضخامة الكتلة المائية على الأرض، فهي مخزون احتياطي للبشر، يمكنهم الاستفادة من أحيائه الكبيرة والصغيرة، ومن أعشابه المعروفة وغير المعروفة، فكلُّها من نعم الله تعالى، التي سخَّرها للناس، وامتنَّ بها عليهم بقوله: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان:20]، ولعل ما في باطن البحار والمحيطات العميقة من النعم الباطنة.
ومن هنا وجب الحفاظ على الثروة المائية، وعدم تلويثها بمخلَّفات الصناعة وغيرها، كما نراه في أوربا وغيرها من البلاد الصناعية، فكلُّ أنهارها ملوَّثة، وغير صالحة للشرب، بل غير صالحة لمجرَّد الاستحمام، بل ما فيها من الأحياء المائية أصبح مضرَّة على الإنسان.
كما أن تلويثها قد يعرِّض ثروة (اللحم الطري) فيها إلى الفساد والضياع، حين لا يصلح للاستهلاك الآدمي، بتسرُّب النفط وغيره من الزيوت إليه.(1/83)
وهذا لا يقتصر على مياه الأنهار والبحيرات العذبة، بل قد تصبح البحار نفسها - وخصوصا المغلقة منها - معرَّضة للخطر، حيث يكثر التلوُّث بالنفط عند الشواطئ وقريبا منها، وتغدو المياه الإقليمية للمحيطات والبحار الكبيرة مصدرا للهلاك والموت.
(5)
مقاصد الشريعة المتعلقة بتداول المال
كما أن للشريعة الإسلامية مقاصد أصيلة فيما يتعلَّق بإنتاج المال واستهلاكه وتوزيعه؛ كذلك لها مقاصد فيما يتعلَّق بتداوله وتبادله بين الناس.
ومقاصد الشريعة هنا بين إيجاب وتحريم وإباحة.
ففي الإيجاب: توجب الشريعة الوفاء بالعقود، وتشدِّد في هذا، حتى تستقرَّ المعاملات على أساس مكين، ويحترم الناس كلمتهم إذا قالوها، سواء كانت كلمة مكتوبة أم شفهية، وإن كان القرآن يأمر بكتابة (الديون) وتوثيقها، حتى لا تتعرَّض لاحتمال الإنكار، فتضيع الحقوق على أهلها.
ومن عجب أن يُنزل الله تعالى أطول آية في كتابه من أجل هذا الأمر - كتابة الدين - ويسمِّيها العلماء آية المداينة، وهي التي يقول الله تعالى فيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} إلى قوله: {وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:282].(1/84)
وفي مجال الإباحة والتحريم: تبيح الشريعة التجارة، وتحلُّ البيع، وتحرِّم الربا، الذي أباحته الجاهلية العربية، كغيرها من الجاهليات، حتى وصل إلى أضعاف مضاعفة. وفي بيان هذا الواقع جاء قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً} [آل عمران:130]، فهذا ليس حدًّا في التحريم، ولكنه لبيان ما هو حاصل بالفعل.
وقد شدَّد القرآن في النهي عن الربا، وذمَّ آكليه، وآذنهم بحرب من الله ورسوله، وهو موقف لم تنفرد به معصية أو كبيرة غير الربا. يقول تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:275-279].(1/85)
ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه(1)، وهذا مبنيٌّ على فلسفة الإسلام في حصار المنكر من كلِّ جوانبه، فإذا حرَّم شيئا حرَّم كلَّ ما يؤدِّي إليه، ويساعد عليه. ولهذا لعن كلَّ هؤلاء في الربا.
كما لعن في الخمر عشرة(2)، تشمل كلَّ مَن يُسهم في صنعها أو الاتجار بها، أو تسهيل وصولها إلى شاربها.
وكذلك حرَّم الإسلام الاحتكار، وقال: "لا يحتكر إلا خاطئ"(3)، أي آثم، كما قال القرآن: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص:8]، أي آثمين.
وسواء كان هذا الاحتكار من فرد أو جماعة، من منتجين ضدَّ مستهلكين، أو من تجَّار كبار ضدَّ تجَّار صغار، أو ضدَّ متعاملين عاديين من الناس، أو من أرباب عمل ضدَّ عمال، أو من ملاك ضدَّ مستأجرين، أو من أيِّ فئة قوية ضدَّ فئة ضعيفة أو مستضعفة: فإنه احتكار يحرِّمه الإسلام، ويؤثِّم أصحابه، ويعمل على إزالته، حتى يقوم العدل، وتسود الرحمة بين الناس.
1- ضبط المعاملات المالية بأحكام الشريعة:
ومن مقاصد الشريعة الأساسية هنا: ضبط المعاملات المالية بين الناس بأحكام الشريعة وقواعدها، حتى لا يتَّبع الناس أهواءهم، ويركضوا وراء شهواتهم ومطامعهم الخاصة، ومنافعهم الذاتية العاجلة، ضاربين عرض الحائط بالقيم والأخلاق والعدالة والفضيلة.
وإنما حرصت الشريعة على ذلك، لتحقيق عدَّة أهداف، منها:
أ. ربط الدنيا بالدين، ومصالح المعاش بمصالح المعاد، وتغليب بواعث الحقِّ والخير في الإنسان على بواعث الأنانية والهوى.
__________
(1) - رواه مسلم في المساقاة (1598)، وأحمد في المسند (14263)، عن جابر بن عبد الله.
(2) - رواه الترمذي في البيوع (1295)، وقال: حديث غريب، وابن ماجه في الأشربة (3381)، والطبراني في الأوسط (2/92)، عن أنس، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (2357).
(3) - رواه مسلم عن معمر بن عبد الله، وقد سبق تخريجه.(1/86)
ب. إقامة للعدل حتى لا يبغي قوي على ضعيف، أو غني على فقير، أو مالك على مستأجر، أو ربُّ عمل على عامل، أو منتج أو تاجر على مستهلك، أو غير ذلك.
ج. والحفاظ على الإخاء، ومنع التنازع والخصومات، ولهذا حرَّم الغرر بأنواعه، وطلب الوضوح والعدالة البيِّنة، كما نهى عن بيع الرجل على بيع أخيه، ويقاس عليه: الإجارة على إجارته، ونحوها.
د. وضمان الاستقرار، ليعرف كلُّ ذي حقٍّ حقَّه، فيتمسَّك به ولا يزيد عليه، ويتوافق الناس على معيار عام يحتكمون إليه، ولهذا كان إيجاب الوفاء بالعقود ومراعاة الشروط.
ه. ومنع الضرر والضرار، تحقيقا للمصلحة بين الناس، وكلُّ ما يؤدِّي إلى ضرر النفس أو مضارَّة الغير يجب منعه، ولهذا حرَّم الاحتكار والربا، والميسر وتطفيف الكيل والميزان، وبخس الناس أشياءهم، والغشَّ والنجش، وغيرها.
قواعد حاكمة في شؤون المعاملات:
ومن هنا قرَّر الإسلام جملة من القواعد الحاكمة في شؤون المعاملات:
أ. الأصل في المعاملات الدنيوية الإذن، بخلاف العبادات الشعائرية، فالأصل فيها المنع، حتى يأتي بها الأمر من الشارع. فالشرع في المعاملات مصلح مهذِّب، وفي المعاملات منشئ مؤسِّس.
ب. الأصل في البيوع الحِل، إلا ما حرَّمه الشارع، {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة:275]، فكلُّ بيع حلال إلا ما نصَّ الشرع على تحريمه، أو اشتمل على ما يحرِّمه الشرع.(1/87)
ج. الأصل في العقود والشروط الوفاء والالتزام، امتثالا لأمر الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]، وقوله: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ} [النحل:91]، وللحديث النبوي: "المسلمون عند شروطهم"(1).
د. الأصل أن كلَّ معاملة فيها ظلم لأحد الطرفين: الحظر والتحريم، لأن الله تعالى حرَّم الظلم على نفسه، وجعله محرَّما بين عباده، وهو لا يحبُّ الظالمين، فيجب منع الظلم بكلِّ صُوره.
2- مقاصد الشريعة في الثروة النقدية:
__________
(1) - ورد هذا الحديث بلفظين: "المسلمون عند شروطهم"، "وعلى شروطهم"، أما اللفظ الأول فرواه البخاري تعليقا في الإجارة، والحاكم في النكاح (2/57)، وسكتا عنه، والدراقطني في السنن كتاب البيوع (3/27)، عن عائشة، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6716).
وأما الثاني: "المسلمون على شروطهم"، فرواه أبو داود في الأقضية (3594)، والحاكم (2/57)، وقال: رواة هذا الحديث مدنيون ولم يخرجاه، وهذا أصل في الكتاب، وله شاهد من حديث عائشة وأنس، وسكت عنه الذهبي، وقال: كثير (ابن زيد) ضعفه النسائي ومشاه غيره، والدراقطني في السنن (3/27)، كلاهما في البيوع، والبيهقي في الكبرى كتاب الشركة (6/79)، وفي الشعب باب الإيفاء بالعقود (4/75)، عن أبي هريرة، وصححه الألباني في صحيح الجامع (6714).
ورواه الترمذي في الأحكام (1352)، وقال: حسن صحيح، عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف، وقال الحافظ في الفتح: كثير بن عبد الله ضعيف عند الأكثر، لكن البخاري ومَن تبعه كالترمذي وابن خزيمة يقوون أمره (4/452)، وقد روي الحديث عن أنس ورافع بن خديج.(1/88)
ومن المقاصد الشرعية فيما يتعلَّق بالمال: أن تخرج النقود من قمقم (الكنز) إلى باحة الحركة والعمل، فإن النقود لم تُخلق لتُحبس وتُكتنز، إنما خلقت لتتداول، وتنتقل من يد إلى يد: ثمنا لسلعة، أو أجرا لعمل، أو عين يُنتفع بها، أو رأس مال لشركة أو مضاربة، أو غير ذلك، فهي وسيلة لأغراض شتَّى، وليست هي غرضا في ذاتها، ولا يجوز أن يحوِّلها الناس إلى وثن يعبدونه ويطوفون به، فهذا سبب التعاسة والشقاء، كما جاء في الحديث: "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم"(1).
ولقد تحدَّث الإمام الغزالي في (الإحياء) عن وظيفة النقود في الحياة الاقتصادية، حديثا سبق به فلاسفة الاقتصاد في العصر الحديث. فقد ذكر أن الله تعالى خلق الدراهم والدنانير (يعني النقود) لتتداولهما الأيدي، وليكونا حاكمين متوسِّطين بين الأموال بالعدل، ولحكمة أخرى، وهي: التوسُّل بهما إلى سائر الأشياء، لأنهما عزيزان في أنفسهما، ولا غرض في أعيانهما، ونسبتهما إلى سائر الأشياء واحدة، فمَن ملكهما فكأنه ملك كلَّ شيء، لا كمَن ملك ثوبا فإنه لا يملك إلا الثوب ... فكلُّ مَن عمل فيهما عملا لا يليق بالحكم، بل يخالف الغرض المقصود بالحكم (أي بين الأموال) فقد كفر نعمة الله فيهما، فإذن مَن كنزهما فقد ظلمهما، وأبطل الحكمة فيهما، وكان كمَن حبس حاكم المسلمين في سجن يمتنع عليه الحكم بسببه ... فأخبر الله تعالى الذين يعجزون عن قراءة الأسطر الإلهية، المكتوبة على صفحات الموجودات، بكلام سمعوه حتى وصل إليهم المعنى بواسطة الحرف والصوت، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة:34].
__________
(1) - رواه البخاري عن أبي هريرة، وقد سبق تخريجه.(1/89)
وقد فرض الله الزكاة على النقود في كلِّ حَول، نمَّاها مالكها أم لم ينمِّها، لتكون حافزا قويا يدفعه إلى تنميتها وتحريكها، حتى لا تأكلها الزكاة بمرور الأعوام(1).
وهذا ما أمر به الحديث الأوصياء على أموال اليتامى أمرا صريحا: أن يبتغوا في أموال اليتامى ويتَّجروا فيها حتى لا تأكلها الزكاة.
وقد ذهب بعض الصحابة إلى أن المال الذي أُدِّيت زكاته فليس بكنز، وإن كان مدفونا تحت الأرض.
جاء هذا عن عمر وابنه عبد الله رضي الله عنهما.
وهذا لم يصح مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو خلاف ظاهر اللغة، كما تفيده كلمة (كنز) فإن معناها الأصلي الدفن والخبء.
يمكن أن يؤخذ بذلك، إذا حاول صاحب النفوذ أن يحرِّكها، فضاقت عليه السبيل، ولم يجد مجالا يشغِّلها فيه، فهنا يكون معذورا، وحسبه أن يؤدِّي زكاتها، لتظلَّ دافعا قويا له، لتشغيلها حتى لا تستهلكها الزكاة بطول الزمن.
ومعنى هذا: أنه لا يكفي المسلم أن يخرج زكاة النقود والأثمان، ويكنزها، ويدفنها، ولا يشارك بها في عمل اقتصادي ينفعه وينفع الناس من حوله.
(6)
مقاصد الشريعة المتعلقة بتوزيع المال
1- تحقيق العدل في توزيع المال بين الفئات والأفراد:
من أبرز أهداف الإسلام، ومقاصد الشريعة - فيما يتعلَّق بتوزيع المال أو الثروة بين أبناء المجتمع الواحد - الحرص على تحقيق العدل في توزيعه بين الفئات والأفراد، فلا يستأثر أحد بالخير دون غيره، ولا يفتح باب لبعض الناس في حين يُسد في وجوه الآخرين. بل تتاح فرص متكافئة للجميع، لينال حظَّه من نعم الله في أرض الله، التي خلقها للجميع، كما قال تعالى: {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ} [الرحمن:10]، {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة:29].
__________
(1) - انظر: فقه الزكاة (1/253).(1/90)
وقد أثبت القرآن أن تحقيق العدل في الأرض هو هدف الرسالات الإلهية جميعا، كما قال سبحانه: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد:25]، والقسط هو العدل.
والقرآن قد أمر بالعدل والقسط بصِيَغ شتى: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى} [النحل:90]، { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ} [النساء:58]، { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} [الأعراف:29].
وكما أمر القرآن بالقسط نهى عن الظلم، وحرَّمه أشدَّ التحريم، وذمَّ أصحابه، وتوعَّد عليه بأشدِّ العقوبات في الدنيا والآخرة: {وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [آل عمران:57]، {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام:21]، {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51]، {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} [الكهف:59]، {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} [النمل:52].
والقرآن ينهى المسلم أن يكون ظالما، كما ينهاه أن يكون عونا لظالم، أو يركن إليه، فيشاركه في الإثم والعقوبة، قال تعالى عن فرعون: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [القصص:40]، فانظر كيف أشرك جنوده معه، واعتبر الجميع ظالمين.(1/91)
وقال سبحانه: {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} [هود:113]، والركون هو الميل، فحرَّم مجرَّد الميل إلى الظلمة، ورتَّب عليه أن تمسَّهم النار، ويفقدوا ولاية الله لهم.
وشدَّد الإسلام في (المظالم المالية) أكثر ما شدَّد في غيرها، لأنها تتعلَّق بـ(حقوق العباد)، ومن المعلوم في الشريعة: أن حقوق العباد مبنية على المشاحَّة، على حين أن حقوق الله مبنية على المسامحة.
ولهذا جاء في الحديث الصحيح: "يغفر للشهيد كلُّ ذنب إلا الدين"(1). هذا مع ما للشهيد من منزلة عند الله تعالى، وما للشهادة من قيمة في ميزان الإسلام، حتى إنها تعتبر أسمى ما يتطلَّع إليه المسلم من مطالب وطموحات. فقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يقول: اللهم آتني أفضل ما آتيتَ عبادك الصالحين، فقال: "إذن يُعقر جوادك، ويُهراق دمك!"(2).
ومن هنا كان التشديد على أن يأخذ صاحب السلعة ثمنها العادل المناسب لها في اعتبار الناس، دون احتيال عليه أو غبن له، أو محاباة له، حتى لا يأخذ دون حقِّه أو فوق حقِّه، بغير رضا من أطراف التعامل الأخرى.
__________
(1) - رواه مسلم في الإمارة (1886)، وأحمد في المسند (7051)، عن عبد الله بن عمرو.
(2) - رواه البزار في المسند (3/318)، والنسائي في الكبرى كتاب عمل اليوم والليلة (9841)، وأبو يعلى في المسند (2/56)، وابن حبان في السير (10/496)، وقال الأرناؤوط: رجاله رجال الصحيح غير محمد بن مسلم بن عائذ، والحاكم في الإمامة (1/325)، وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي.(1/92)
وأن يأخذ مقدِّم المنفعة أجرته، دون وكس ولا شطط، ودون تأخير أو مطل، كما جاء في الحديث: "أعطوا الأجير أجره، قبل أن يجفَّ عرقه"(1)، وفي الحديث القدسي الذي رواه البخاري: "ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ... - وفيه - ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطِه أجره"(2).
2- تمليك الفقراء والضعفاء بإيجاب الزكاة واعتبارها ركنا من أركان الإسلام:
وكان من أول مظاهر العدل وثمراته: أن فرض الله في أموال الأغنياء زكاة، تؤخذ من أغنيائهم، لتردَّ على فقرائهم، وجعلها ركنا من أركان الإسلام العملية الخمسة، وقرنها بالصلاة في ثمانية وعشرين موضعا من القرآن، ولم يكِلها إلى ضمائر الأفراد وحدها، بل كلَّف الدولة أن تأخذها من أربابها، وتصرفها على مستحقيها بوساطة جهاز (العاملين عليها) الذين يأخذون أجرتهم من الزكاة نفسها. ولهذا قال القرآن: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} [التوبة:103].
فمَن لم يدفع الزكاة طوعا طيبة بها نفسه، أُخذت منه بسلطان الشرع وقانون الدولة، فإن امتنع من أدائها وكان ذا شوكة قوتل حتى يؤدِّيها.
ولقد كانت الدولة الإسلامية أول دولة في التاريخ تجيِّش الجيوش، وتعلن الحرب من أجل حقوق الفقراء، وقال الخليفة الأول: والله لأقاتلنَّ مَن فرَّق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عناقا - عنزة صغيرة - وفي رواية: عقالا - حبل بعير - كانوا يؤدُّونه لرسول الله لقاتلتهم عليه(3).
__________
(1) - رواه ابن ماجه في الرهون (2443)، عن ابن عمر، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (1980).
(2) - رواه البخاري في البيوع (2227)، ,احمد في المسند (8692)، وابن ماجه في الرهون (2442)، عن أبي هريرة.
(3) - متفق عليه: رواه البخاري في الاعتصام بالكتاب والسنة (7284)، ومسلم في الإيمان (20)، كما رواه أحمد في المسند (117)، وأبو داود في الزكاة (1556)، والترمذي في الإيمان (2607)، والنسائي في الزكاة (2443)، عن عمر.(1/93)
ولقد أخذ رسول اله الزكاة من كلِّ مال نامٍ في عصره، من الثروة الزراعية، والثروة الحيوانية، والثروة النقدية، والثروة التجارية، وهو ما أعطانا قاعدة كليَّة: أن كلَّ مال نامٍ - أو قابل للنماء - تجب فيه الزكاة.
وبهذا نقول بوجوب الزكاة في كلِّ مال نامٍ في عصرنا، ومعنى (نامٍ) أنه يدرُّ دخلا على صاحبه، أو في إمكانه أن يدرَّ دخلا وإن عطَّله صاحبه ولم ينمِه. ويدخل في ذلك (المستغلاَّت) كالعمارات السكنية، والمصانع *والمطابع* ونحوها.
وإذا لم تأخذ الدولة المسلمة الزكاة وجب على المسلم أن يدفعها لأهلها المستحقِّين لها، وسيما الفقراء والمساكين، وهم موجودون في كلِّ مكان. وكذلك سائر المصارف التي نصَّ عليها القرآن: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:60]، وهي مصارف متنوِّعة المقاصد، بعضها يهدف إلى تحرير الفقراء، وبعضها إلى تحرير الرقيق {فِي الرِّقَابِ}، وبعضها إلى تحرير المدينين {الْغَارِمِينَ}، وبعضها لإيواء المشرَّدين {ابْنِ السَّبِيلِ}، وبعضها يهدف إلى تأليف القلوب على الولاء للإسلام، وبعضها إلى إعلاء كلمة الإسلام ونشره في الآفاق، وهذا من شأن الدولة الإسلامية.
ومقصد الزكاة: أن تنقل الفقراء إلى ملاَّك، وأن يتحوَّلوا من فئة عاجزة إلى قوَّة فاعلة، ولذا يعطى الفقير تمام كفايته هو وأسرته من الزكاة. بعضهم قال: كفاية سنة كاملة تتجدَّد كلَّ عام، وبعضهم - كالشافعي - قال: كفاية العمر الغالب لأمثاله، ولا يُعطى ما يغنيه نقودا، بل يُشترى للصانع آلة صنعته ويفتح له محل يباشر فيه مهنته، ويعطى الزارع ضيعة أو جزءا من ضيعة يعمل فيه ويدرُّ عليه عائدا موسميا أو سنويا يغنيه عن سواه.(1/94)
وقد فصَّلنا أحكام هذه الفريضة العظيمة وفلسفتها في كتابنا الكبير (فقه الزكاة) فليرجع إليه.
3- التقريب بين الفوارق:
يهدف الإسلام بتعاليمه، وأحكامه إلى الحدِّ من طغيان الأغنياء، والإعلاء من مستوى الفقراء. وذلك بوسائل وآليات شتَّى.
منها: أنه يحرم على الأغنياء أن ينمُّوا أموالهم إلا بالكسب الحلال، فحرَّم عليهم تنميتها بالربا، كما حرَّم عليهم الاحتكار، سواء كان احتكار الأقوات أم غيرها من أساسيات الحياة، كما حرَّم التجارة في المحرَّمات مثل المسكرات والمخدِّرات، بل كل ما يضرُّ بالناس، مثل التبغ (الدخان)، ومثل أي مادَّة يمكن أن ينشأ منها ضرر للناس، نتيجة للتلوُّث الغذائي أو الإشعاعي، أو انتهاء زمن الصلاحية أو غيرها.
ولا يجوز التجارة في الأشياء التي تضرُّ بالمجتمع معنويا، مثل الأفلام والمسلسلات التي تحرِّض على العنف، أو على الانحراف السلوكي، وخصوصا الانحراف الجنسي.
وكذلك التجارة بالسلاح التي تدرُّ المليارات على أصحابها.
وكلُّ هذه الأحكام والوصايا من أجل الطبقات الفقيرة والمسحوقة، حتى لا تفترسها أنياب الأقوياء.
ومنها إيجاب حقوق لازمة في المال على الأغنياء لحساب الفقراء، مثل: فريضة الزكاة التي تحدَّثنا عنها. والزكاة أول الحقوق الواجبة في أموال الأغنياء، وليست آخرها. فهناك حقوق أخرى، أهمُّها: حقُّ التكافل للفئات الضعيفة، إذا لم تكفهم الزكاة، وسائر موارد الدولة، فيفرض على الأغنياء في أموالهم ما يكفي الفقراء.
وهناك الوصية لمَن ترك خيرا، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:180].
وهناك الميراث، الذي يوزع بأنصبة معروفة بين الورثة، فتتفتت الثروة الكبيرة، وتتوزع على أعداد الناس.(1/95)
وهناك توزيع الفيء وخمس الغنائم وغيرها من موارد الدولة، على المصالح العامة، وعلى الفئات الضعيفة من اليتامى والمساكين وأبناء السبيل خاصة.
قال تعالى: {مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ} [الحشر:7]، وفي هذا التعليل إشارة إلى اتجاه الشريعة الإسلامية في شأن المال، وهو أن يتداوله الجميع، وينتفع به الجميع، ولا يقتصر تداوله على الأغنياء وحدهم، كما هو شأن الرأسمالية، فلو سأل سائل: ما أخص ما يميِّز الرأسمالية عن غيرها؟ كان الجواب: أن المال فيها دُولة بين الأغنياء دون غيرهم من الطبقات.
والإسلام حريص على أن يسوِّي في الفرص بين الطبقات، ويُعنى عناية خاصة بالطبقات الضعيفة والمسحوقة في المجتمع، وهي التي نوَّه بها الحديث الشريف، وأشار إلى أهميتها في المجتمع في السلم والحرب، فقال عليه الصلاة والسلام: "إنما تُرزقون وتُنصرون بضعفائكم"(1)، فالرزق والنصر هنا ليس بمجرَّد البركة والإخلاص عند هؤلاء، ولكن إشارة إلى قضية اجتماعية كبيرة: أن هؤلاء هم في الحقيقة عمدة الإنتاج في السلم، وعدَّة النصر في الحرب.
4- احترام الملكية الخاصة للمال:
__________
(1) - رواه البخاري في الجهاد والسير (2896)، عن مصعب بن سعد، قال الحافظ ابن حجر في الفتح معلقا على قول الدارقطني أنه مرسل: صورته صورة المرسل إلا أنه موصول في الأصل، معروف من رواية مصعب بن سعد عن أبيه، وقد اعتمد البخاري كثيرا من أمثال هذا السياق، فأخرجه على أنه موصول، إذا كان الراوي معروفا بالرواية عمن ذكره (1/362)، وجعله الحافظ المزي في تحفة الأشراف في أحاديث سعد بن أبي وقاص، وأحمد في المسند (1493).(1/96)
ومن المقاصد المهمة هنا: احترام الملكية الفردية، أو الملكية الخاصة للمال، ولذا ينسب المال إلى أصحابه، فيقال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة:103]، {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} [آل عمران:186]، {وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} [التوبة:41].
والإسلام يحترم الملكية باعتبار التملُّك غريزة فطرية، وباعتبار الملكية مميِّزة للحرِّ عن العبد، بل للإنسان عن الحيوان، {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النحل:75].
ولهذا حرَّم الإسلام السرقة والغصب، والاعتداء على ملكية الغير وأخذ ماله بغير طيب نفس منه، أو بغير الطرق الشرعية التي أجاز بها الإسلام تملُّك المال: بالعمل، أو بالتداول والمعاوضة، أو بالتبرُّع، أو بالميراث.
5- منع الملكية الخاصة في الأمور الضرورية لعموم الناس:
كما احترم الإسلام الملكية الخاصة، وقرَّرها قاعدة أصلية في الاقتصاد الإسلامي: منع الأفراد من تملُّك الأشياء الضرورية للمجتمع عامَّة، كما ورد في الحديث: "الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار"(1). ومثلها كلُّ ما يحتاج إليه المجتمع من ضروريات، ليس من المصلحة أن يملكها بعض الأفراد، ويتحكموا بملكها في مجموع الناس، مثل السكك الحديدية، وأمثالها.
6- تقرير قاعدة التكافل المعيشي في المجتمع:
__________
(1) - رواه أحمد في المسند (23082)، وقال مخرجوه: إسناده صحيح، وأبو داود في الإجارة (3477)، والبيهقي في الكبرى كتاب إحياء الموات (6/150)، عن أبي خداش عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.(1/97)
ومن المقاصد الأساسية للشريعة الإسلامية فيما يتعلَّق بتوزيع المال أو الثروة: تقرير قاعدة لزوم التكافل الاجتماعي المعيشي في ظلِّ المجتمع المسلم، بحيث لا يجوز أن يبقى فيه جائع، وإلى جواره شبعان، وبحيث يتلاحم أفراده تلاحم الإخوة أو أفراد الأسرة الواحدة، بعضهم مع بعض، باعتبار ان (الأخوَّة) الإيمانية هي التي تربط بين الجميع بحبل متين لا تنفصم عُراه، كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، وقال الرسول الكريم: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه"(1).
والأخوَّة بين الأفراد تستوجب أن يأخذ القوي بيد الضعيف، وأن يعطف الغني على الفقير، وأن يصبَّ المليء على الفارغ، وأن يكونوا - كما صوَّرهم الرسول الكريم - كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر(2).
وكما جاء في الحديث الآخر: "المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشدُّ بعضه بعضا" وشبَّك بين أصابعه(3).
__________
(1) - متفق عليه: رواه البخاري في المظالم (2442)، ومسلم في البر والصلة (2580)، كما رواه أحمد في المسند (5646)، وأبو داود في الأدب (4893)، والترمذي في الحدود (1426)، عن ابن عمر.
(2) - متفق عليه: رواه البخاري في الأدب (6011)، ومسلم في البر والصلة (2586)، كما رواه أحمد في المسند (18373)، عن النعمان بن بشير.
(3) - متفق عليه: رواه البخاري في المظالم (2446)، ومسلم في البر والصلة (2585)، كما رواه أحمد في المسند (19624)، والترمذي في البر والصلة (1928)، والنسائي في الزكاة (2560)، عن أبي موسى.(1/98)
ونظرية الإسلام هنا: أن الفرد إن كسب المال وتملَّكه بجهده ومهارته، فإن المجتمع قد شاركه في ذلك، فلولا المجتمع ما استطاع الفرد أن يحقِّق شيئا وحده. ولهذا السبب نسب القرآن الأموال إلى المجتمع حين قال: {وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء:5]، وإنما أضاف الأموال إلى المخاطبين - مع أنها من الناحية الرسمية والقانونية - أموال السفهاء، لأن المجتمع مشارك أساسي في إيجاد هذه الأموال.
ومن هنا يجب أن يتضامن المجتمع كلُّه، فيكفل بعضهم بعضا، ابتداء من كفالة الأقارب داخل الأسرة الواحدة، ونعني بها الأسرة الموسَّعة الممتدَّة، التي تشمل الأبوين والإخوة والأخوات، والأعمام والعمات، والأخوال والخالات، وأبنائهم وبناتهم، وليست الأسرة الذرية الضيقة، التي ينادي بها بعض الغربيين، والتي تقتصر على الزوجين والأولاد، وحتى الأولاد بمجرَّد أن يصلوا إلى البلوغ، يذهب كلٌّ منهم إلى حال سبيله، لا يكاد يرتبط بأب أو أم، أو إخوة أو أخوات.
وللإسلام وسائل ومناهج وتعاليم وأحكام وفيرة تحقِّق هذا التكافل، بعضها إرشادات وتوجيهات ربانية ونبوية، وبعضها أحكام وتشريعات تنظيمية وإلزامية، ولا بد من كلٍّ منهما لإنشاء المجتمع المسلم المتكافل.
ومن هذه الوسائل والتعاليم ما يلي:
أ. إيجاب الحض على طعام المسكين:
مما انفرد به الإسلام: أنه لم يكتفِ بإيجاب إطعام المسكين، بل ألزم بفريضة أخرى، يقوم بها المجتمع كلُّه، حتى من لم يستطع إطعام المسكين، وهي: إيجاب حضِّ الآخرين على إطعام المسكين، وجعل ترك هذه الفريضة من خصائص المجتمع الجاهلي الذي خاطبه القرآن بقوله: {كَلاَّ بَل لّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الفجر:18،17]، وهذا المجتمع الموصوف بالقسوة والأنانية.(1/99)
كما جعل القرآن ذلك من وصف الكافر المكذِّب بالدين: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الماعون:1-3].
كما جعل القرآن من أوصاف أهل الجحيم الذين يأخذون كتابهم بشمالهم: أنهم لا يحضُّون على طعام المسكين، يقول تعالى: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:30-32].
وطعام المسكين كناية عن كلِّ ما يحتاج إليه من طعام وشراب وكسوة ونفقة ضرورية، إذ ليس معقولا أن يطعمه ويتركه عريانا أو مشرَّدا لا مأوى له، أو مريضا يفتقر إلى الدواء ولا يجده.
ب. الحث على الصدقات والإنفاق في سبيل الله:
ومن وسائل الشريعة في ذلك، الدعوة إلى الصدقة، والحثِّ على الإنفاق في سبيل الله، بأبلغ أساليب الترغيب والترهيب والتشويق، في القرآن والسنة.
قال تعالى: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة:245].
وقال سبحانه: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:261].
وقال: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} [الحديد:7].
والآيات هنا غزيرة، والأحاديث أغزر، والقضية واضحة لا تحتاج إلى مزيد من التدليل.
ج. الحض على الصدقة الجارية والوقف الخيري:(1/100)
وبجوار الصدقات التطوُّعية العادية، يحثُّ الإسلام على الصدقة الجارية، أي الدائمة، والوقف الخيري، الذي يُخرِج الواقف ملكية رقبة الموقوف لله تعالى، و(يُسبِّل منفعته) لوجه من وجوه الخير: التعليم أو الكفالة لليتامى والأرامل، أو الكفاية للمحتاجين، أو للإنفاق على المؤسَّسات التربوية أو الصحية أو الاجتماعية أو غيرها.
وفي الحديث: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"(1).
وعن ابن عمر، أن عمر أصاب أرضا من خيبر فقال: يا رسول الله، أصبتُ أرضا بخيبر لم أُصب مالا قط أنفس عندي منها، فما تأمرني؟ فقال: "إن شئتَ حبَّست أصلها، وتصدَّقت بها"، فتصدَّق بها عمر - على أن لا تباع، ولا توهب ولا تورث - في الفقراء وذوي القربى، والرقاب، والضيف، وابن السبيل، لا جناح على مَن وليها أن يأكل منها بالمعروف، ويطعم غير متموِّل. وفي لفظ: غير متأثِّل(2).
وقد أدَّى الوقف الإسلامي دورا مهمًّا في الحياة الإسلامية، وسدَّ خللا كثيرا في نواحي المجتمع، ولم يكَد يترك حاجة إنسانية إلا واجتهد أن يعالجها ويقف لها من المال ما يغطِّيها.
د. الحث على الإيثار:
ومن أسمى المراتب الأخلاقية في هذا المجال: فضيلة الإيثار، التي أثنى القرآن على أهلها، والإيثار: أن تجود بالشيء وأنت تحتاج إليه، فتقدِّم غيرك على نفسك، ابتغاء مرضاة الله تعالى.
__________
(1) - رواه مسلم في الوصية (1631)، وأحمد في المسند (8844)، وأبو داود في الوصايا (2880)، والترمذي في الأحكام (1376)، والنسائي في الوصايا (3651)، عن أبي هريرة.
(2) - متفق عليه: رواه البخاري في الشروط (2737)، ومسلم في الوصية (1632)، كما رواه أحمد في المسند (4608)، وأبو داود في الوصايا (2878)، والترمذي في الأحكام (1375)، والنسائي في الأحباس (3599)، وابن ماجه في الصدقات (2396)، عن ابن عمر.(1/101)
قال تعالى في وصف الأنصار: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9].
ه. إيجاب كفاية المضطر وإغاثة الملهوف:
فلا يجوز أن نَدَع إنسانا تصل به الضرورة إلى أكل الميتة أو الدم المسفوح أو لحم الخنزير، وهناك مَن يملك فضل مال.
و. إيجاب زكاة الفطر على الأشخاص بمناسبة عيد الفطر:
كما في حديث ابن عمر: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، زكاة الفطر صاعا من تمر، أو صاعا من شعير، على العبد والحرِّ، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدَّى قبل خروج الناس إلى الصلاة(1).
ز. إيجاب قوانين تكافلية مختلفة:
مثل: قانون نفقات الأقارب، وقانون الأضحية في عيد الأضحى، وقانون الكفارات في الأخطاء الدينية مثل الحنث في اليمين، وقانون النذور كما قال تعالى في وصف الأبرار: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان:7]، وقال: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج:29]، وقانون حقِّ الضيف الغريب على أهل البلدة، وقانون حقِّ الحصاد(2)، قال تعالى: {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } [الأنعام:141]، وقانون الماعون، كما قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } [الماعون:4-7].
7- تحرير الإنسان من نير الفقر والسعي للقضاء عليه:
__________
(1) - رواه البخاري (1504)، ومسلم (984)، كلاهما في الزكاة (4486)، وأبو داود (1611)، والترمذي (676)، والنسائي (2502)، وابن ماجة (1826)، أربعتهم في الزكاة، عن ابن عمر.
(2) - انظر كتاب (اشتراكية الإسلام) للدكتور مصطفى السباعي تحت عنوان (قوانين التكافل المعاشي) صـ117-131.(1/102)
من مقاصد الشريعة المتعلِّقة بالمال: تحرير الإنسان من ربقة (الفقر)، الذي قرن في بعض الأحاديث بـ(الكفر)، و الذي يصيب الأفراد، ويصيب الأسر، ويصيب المجتمعات، فيعجزهم عن تحقيق مطالبهم المادية من المأكل والمشرب، والملبس والزينة، والمسكن والدواء، والزواج وبناء الأسرة، وغيرها من متطلَّبات الحياة، وضرورياتها.
وربما حسب بعض الناس: أن الدين يرحِّب بالفقر ويشيد به، لما قرأه أو سمعه: أن الدين يحثُّ على الزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة، وأن ما عند الله هو خير وأبقى، وأن الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة، وأن الكفار لهم الدنيا، وأما المؤمنون فلهم الآخرة.
وهذه أوهام على الدين، أو أفكار مغلوطة، لم توضع موضعها الصحيح.
فالزهد الحقيقي في الدنيا: أن تملكها ولا تملكك، وأن تسخِّرها ولا تسخِّرك، وأن تجمعها في يدك، ولا تُسكنها في قلبك. بعبارة أخرى: أن تتَّجه إرادتك إلى الآخرة لا إلى الدنيا. وإن كنتَ تستمتع بطيباتها وبزينة الله فيها، فالذي ذمَّه القرآن هو أن تكون الدنيا أكبر همِّه، ومبلغ علمه، وأن يؤثرها على الآخرة إذا تعارضتا، كما قال تعالى: {فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:37-39].
وقال: {فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ} [النجم:30،29]، فهذا هو الذي ذمَّه الله: الذي لم يرد إلا الحياة الدنيا، وما له في الآخرة من خلاق، وذلك مبلغه من العلم. ولهذا ورد في بعض الأدعية المأثورة: "اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همِّنا، ولا مبلغ علمنا"(1).
__________
(1) - رواه الترمذي في الدعوات (3502)، وقال حسن غريب، والنسائي في الكبرى (10162)، عن ابن عمر، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (2783).(1/103)
وذكر لنا القرآن أهل الدنيا، وأهل الآخرة، فقال: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} [الإسراء:19،18].
فناط الأمر بالإرادة وحدها، فصنف يريد العاجلة، وهي الدنيا، وصنف يريد الآخرة، ويسعى لها سعيها.
ولقد رأينا من رسل الله مَن يملكون الدنيا، ويجعلونها في طاعة الله، وخدمة الحقِّ، كما في قصة يوسف عليه السلام، الذي مكَّنه الله في الأرض، وآتاه الملك: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:56].
ومثل داود عليه السلام، الذي آتاه الله الملك والحكمة وعلَّمه مما يشاء، وابنه سليمان عليه السلام، الذي سأل ربه فقال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي} [ص:35].
ورأينا من المؤمنين من أتباع الرسل من ملك الدنيا، ورزق الغنى والثروة، فأنفقها في طاعة الله ونصرة دينه، وإعلاء كلمته، كما تجلَّى ذلك في مسيرة عدد من الصحابة، مثل عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وغيرهم رضي الله عنهم.
لهذا كان صلى الله عليه وسلم يسأل الله الغنى، ويستعيذ بالله من شرِّ الفقر.
ففي الحديث: "اللهم إني أسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى"(1).
__________
(1) - رواه مسلم عن عبد الله بن مسعود، وقد سبق تخريجه.(1/104)
وفي حديث ثالث: "اللهم إني أعوذ بك من شرِّ فتنة الغنى، اللهم إني أعوذ بك من شرِّ فتنة الفقر"(1).
ويتضرَّع صلى الله عليه وسلم إلى ربه في دعاء قوي بليغ، أثنى عليه بما هو أهله، ثم سأله الإغناء من الفقر، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، أغنني من الفقر، وسدَّ عني الدين"(2)رواه مسلم.
وقد بيَّنا في كتابنا (مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام؟): لماذا اعتبر الإسلام الفقر مشكلة، وبينَّا خطره على العقيدة وعلى العبادة، وعلى الخلق والسلوك، وعلى العقل والتفكير، وعلى تماسك المجتمع وسلامته.
8- العناية بالمشكلات أو الحاجات الطارئة:
كما أن من مقاصد الشريعة فيما يتعلَّق بالمال: علاج المشكلات الدائمة، مثل: مشكلة الفقر الذي كاد أن يكون كفرا، نجد من مقاصدها كذلك: علاج المشكلات الطارئة على الإنسان، وإشباع الحاجات التي تطرأ عليه، مثل مشكلة الديون، ومشكلة الكوارث والنوازل، ومشكلة الاغتراب، ونحوها.
أ. مشكلة الديون :
ينظر الإسلام إلى الدين: أنه ليس مجرَّد مشكلة اقتصادية، بل هو مشكلة نفسية، فهو كما قال الأقدمون: همٌّ بالليل ومذلَّة بالنهار.
__________
(1) - متفق عليه: رواه البخاري في الدعوات (6375)، ومسلم في الذكر والدعاء (589)، وأحمد في المسند (24301)، والترمذي في الدعوات (3495)، والنسائي في الاستعاذة (5466)، وابن ماجه في الدعاء (3838)، عن عائشة.
(2) - رواه مسلم في الذكر والدعاء (2713)، وأحمد في المسند (8960)، وأبو داود في الأدب (5051)، والترمذي في الدعوات (3400)، عن أبي هريرة.(1/105)
ولهذا قد كان عليه الصلاة والسلام، يستعيذ بالله من ضلع الدين(1)، وفي بعض الروايات: من غلبة الدين(2)، وكان يناجي ربه ويسأله أن ينجيه من الفقر ويسد عنه الدين(3).
وهو كذلك مشكلة أخلاقية، فكثيرا ما يدعو إلى إخلاف الوعد، والكذب في الحديث، وفي هذا صحَّ الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يكثر الاستعاذة من المأثم والمغرم، فسئل في ذلك، فقال: "إن الرجل إذا غرم (استدان) حدَّث فكذب، ووعد فأخلف"(4).
ولهذا لا يُستحبُّ للمسلم أن يورِّط نفسه في الاستدانة إلا من حاجة، فقد يأتيه الموت وهو لم يوفِّ دينه، فتكون تبعته عليه.
والإسلام حريص كلَّ الحرص على تسديد الديون لمستحقِّيها، ولا يسمح لدائنه أن يذهب لأداء فريضة الحج إذا كان مدينا إلا إذا استأذن دائنه، وكان واثقا من نفسه بقضاء دينه .
كما لا يجوز للمسلم أن يذهب متطوِّعا إلى الجهاد إذا كان عليه دين، ما لم يأخذ الرخصة من الدائن، حتى إنه لو قُتل شهيدا في سبيل الله، كانت شهادته كفارة له، وتطهيرا من كلِّ ذنوبه، إلا ديون العباد، وفي هذا جاء الحديث الصحيح: "يُغفر للشهيد كلَّ ذنب إلا الدين"(5).
__________
(1) - رواه البخاري في الدعوات (6369)، وأحمد في المسند (12616)، وأبو داود في الصلاة (1541)، والترمذي في الدعوات (3484)، والنسائي في الاستعاذة (5450)، عن أنس.
(2) - رواه أحمد في المسند (12225)، وقال مخرجوه: حديث صحيح وهذا إسناد جيد، عن عبد الله بن عمرو.
(3) - رواه مسلم عن أبي هريرة، وقد سبق تخريجه.
(4) - متفق عليه: رواه البخاري في الأذان (832)، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة (589)، كما رواه أحمد في المسند (24578)، وابو داود في الصلاة (880)، والنسائي في السهو (1309)، عن عائشة.
(5) - رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو، وقد سبق تخريجه.(1/106)
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في أوائل عهده بالمدينة، يمتنع على الصلاة على الميت إذا مات وعليه دين، ولم يترك وفاء له في تركته، وإنما يمتنع عن الصلاة؛ ليكون زجرا للصحابة ألا يستدينوا إلا من ضرورة أو حاجة، ولا يتوسَّعوا في الاستدانة، ثم لما أفاء الله عليه بالغنائم والفيء، كان يقضي ديون المدينين من بيت المال، ويقول: "مَن ترك مالا فلورثته، ومن ترك دينا أو ضياعًا (عيالا صغارًا خائفين) فإليَّ وعليَّ"(1).
وقد قال عليه الصلاة والسلام ذلك بوصفه إمام المسلمين وولي أمرهم، فهو يوفِّي الديون من بيت مال المسلمين، وقد رأينا الإسلام جعل في مصارف الزكاة مصرفا لـ(الغارمين) أي المدينين، سواء كانوا مدينين لمصلحة أنفسهم، من أجل غذاء، أو دواء، أو زواج، أو مسكن، أو تعليم، أو غيرها، فيدفع له ما يسدُّ به دينه، ولا يكلَّف أن يشقَّ على نفسه، ويبيع من أثاث بيته أو حاجاته ما يسدُّ به الدين.
وقد روى أبو عبيد: أن الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز كتب في خلافته إلى ولاته، أن اقضوا عن الغارمين. فكتب إليه بعضهم يقول: إنا نجد الرجل له المسكن، والخادم، والفرس، والأثاث. أي وهو مع ذلك هو غارم، فكتب عمر: إنه لا بد للمرء المسلم من سكن يسكنه، ومن خادم يكفيه مهنته، وفرس يجاهد عليه عدوه، ومن أن يكون له الأثاث في بيته. نعم، فاقضوا عنه؛ فإنه غارم(2).
__________
(1) - متفق عليه: رواه البخاري في الكفالة (2298)، ومسلم في الفرائض (1619)، كما رواه أحمد في المسند (7899)، والترمذي في الجنائز (1070)، والنسائي في الجنائز (1963)، وابن ماجه في الصدقات (2415)، عن أبي هريرة.
(2) - الأموال لأبي عبيد صـ588.(1/107)
ولم تكتفِ الشريعة الإسلامية بالوفاء بديون الغارمين إذا غرموا لحاجاتهم وحاجات عوائلهم، بل مَن غرم لمصلحة المجتمع، وعجز الوفاء بدينه، فإن الشريعة تتدخَّل لإنقاذه من مصرف (الغارمين) كما إذا غرم في بناء مستشفى خيري، أو دار للأيتام، أو مدرسة لتعليم الفقراء، أو مسجد لتعليم الصلاة، أو غير ذلك من المشروعات النافعة، ومثلها مَن غرم في إصلاح ذات البين، كما كان يفعل العرب حين يصلحون بين القبائل المتصارعة، ويتحمَّلون الديات التي يطالب بها أحد الفريقين، ثم يعجز مَن قام بالصلح عن الوفاء بها كلِّها، فإن الشرع يرخِّص له أن يأخذ من الزكاة ما يفي بحمالته، كما صحَّ في حديث قبيصة بن المخارق الهلالى(1).
ب. مشكلة الكوارث :
ومن المشكلات الطارئة التي تعرض للبشر وتحتاج من الجميع التعاون في حلِّها ولا سيما الكوارث العامة، مثل المجاعات التي تنزل بالناس بسبب القحط والجفاف، والكوارث التي يعمُّ ضررها بسبب الفيضانات التي تغرق الزرع، وتهلك الحرث والنسل.
ومثل كوارث الزلازل الطبيعة التي تهدم المباني وتجعل عاليها سافلها، وتقتل مَن تقتل من سكانها، وتغيِّب مَن تغيِّب تحت أنقاضها، وتشرِّد مَن تشرِّد من أهلها.
وقد يجتمع في بعض الأحيان: الزلزال والفيضان، فيزداد البلاء، ويتضاعف الشقاء، كما في زلزال (تسونامي) وأمثاله.
وهنا لا يترك الإسلام أمثال هؤلاء المصابين يعانون ما يعانون من آلام وشدَّة، وربما فقدوا المال والولد جميعا، دون أن تقدَّم لهم المعونة اللازمة.
ومن الواجب اللازم دينا وشرعا: أن يعانوا بكلِّ وسيلة، من الزكاة المفروضة، من سهم الغارمين ومن غيره، لما جاء عن بعض السلف: مَن ذهب السيل بماله، أو أُحرق بيته، فادَّان على عياله.
__________
(1) - رواه مسلم وأحمد عن قبيصة، وقد سبق تخريجه.(1/108)
... كما أن له حقوقا في المال غير الزكاة، فإن إغاثة الملهوف، وإعانة المضطَّر، وإطعام الجائع، وإيواء المشرَّد، وجبر المكسور، ومداواة الجريح، كلُّها فرائض لازمه على الأمة بالتضامن ففي الحديث: "ليس منا - أو ليس بمؤمن - مَن بات شبعان ، وجاره إلى جنبه جائع"(1)، "المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ولا يسلمه"(2)، ومعنى: "لا يسلمه"، أي لا يخذله ويتخلَّى عنه وقت الشدَّة، بل يأخذ بيده ويدافع عنه.
ومَن تركه بجوع ويعرى، ويتعرَّض للألم والأذى، ولا يحاول إخراجه مما هو فيه: فقد أسلمه وخذله وضيَّعه.
وفى موراد الدولة كلِّها: مصدر للإسهام في علاج هذه الفئات، وتلبية هذه الحاجات، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسؤول عن رعيته"(3).
كما في أموال الأفراد مجال لأخذ الحقوق منها بعد الزكاة، فالزكاة أول الحقوق وليست آخرها، وقد أثبتنا في كتابنا (فقه الزكاة) أن في المال حقوقا سوى الزكاة: وأهمُّها وأعظمها: حقُّ التكافل بين أبناء المجتمع، بحيث لا يضيع فيهم ضعيف، وكلُّ مسلم مطالب وجوبا بالحضِّ على طعام المسكين.
ج. مشكلة التشرد والاغتراب:
__________
(1) - رواه أبو يعلى في المسند (5/92)، والطبراني في الكبير (12/154)، والحاكم في البر والصلة (4/184)، وصحح إسناده ووافقه الذهبي، والبيهقي في الشعب باب كراهية إمساك الفضل (3/225)، عن ابن عباس، وقال المنذري: رواته ثقات. انظر المنتقى (1531).
(2) - متفق عليه عن ابن عمر، وقد سبق تخريجه.
(3) - متفق عليه: رواه البخاري في الجمعة (893)، ومسلم في الإمارة (1829)، كما رواه أحمد في المسند (4495)، وأبو داود في الخراج والإمارة (2928)، والترمذي في الجهاد (1705)، عن ابن عمر.(1/109)
ومن المشكلات التي تطرأ على حياة الإنسان: أن يغترب عن وطنه، أو يخرج منه قسرا، ويشرَّد عن بيته وأهله، بغير ذنب جناه، إلا أن يكون صاحب عقيدة يشرَّد من أجل عقيدته، مثل الرسول وأصحابه: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج:40].
أو يسلط على بعض الشعوب بعض الطغاة أو الجبابرة، يسومونهم سوء العذاب، فيفرُّون من الرعب إلى حيث يجدون الأمان، كما حدث لإخواننا من أهل فلسطين، حين سلِّطت عليهم العصابات الصهيونية، فصبَّت عليهم سياط العذاب، وأقامت المجازر البشرية في قراهم، مثل: دير ياسين وغيرها، وبقروا بطون الحوامل، وعبثوا بالأجنة بسنان أسلحتهم، وقتلوا الابن أمام أبويه، وقتلوا الأبوين أمام أعين الأولاد، وهو ما جعل الناس من هول ما شاهدوا ولمسوا؛ ينفدون بجلدهم يلتمسون الأمن في أيِّ مكان.
والإخراج من الديار من أشقِّ المصائب على الأنفس، حتى أن القرآن قرنه بقتل النفس، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم} [النساء:66].
ومن هنا جعله القران سببا كافيا لقتال مَن تسببوا فيه، كما قال تعالى: {وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا} [البقرة:246].
ويسمِّي القران والسنة هؤلاء المغتربين والمشرَّدين عن ديارهم: (ابن السبيل) وكأن السبيل - أي الطريق - أمه وأبوه، فإذا كان الأصل في الإنسان أنه (ابن بيت) يضمُّه ويؤويه، فهذا (ابن السبيل) وليس ابن بيت.
وابن السبيل أحد الفئات المحتاجة والمستضعفة التي تستحقُّ العناية والاهتمام من المجتمع، ولهذا كان من مصارف الزكاة: {وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ} [التوبة:60].(1/110)
ومن المعلوم أن هناك حقوقا سوى الزكاة تجب في المال، كما قال تعالى : {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177].
وقال تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء:26].
ومن هنا كان لابن السبيل حقَّه في أموال الأفراد، كما أن له حقَّه في موارد الدولة المختلفة ومنها: الغنيمة: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال:41]، ولابن السبيل حقٌّ في مورد الدولة من الفيء: {مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر:7].
وقد قرَّر الفقهاء من شتَّى المذاهب: أن ابن السبيل له حقٌّ، وإن كان غنيًّا، له ماله وثروته في بلده، مادام لا يستطيع الوصول إليها والتصرُّف فيها، وما يأخذه لا يعتبر قرضا عليه، حتى يردَّه متى رجع، بل هو حقٌّ له، إن شاء ردَّه تبرُّعا منه.(1/111)
ومن حقِّ المشرَّد أن يكون له مسكن يؤويه كسائر البشر، ولا يُترك في العراء بدعوى أن له بيتا في وطنه، فما قيمة المنزل الذي لا يمكن لصاحبه الانتفاع به؟! ولاسيما إذا استولى عليه غيره.
الفهرس
مقدمة ... 2
مقاصد الشريعة المتعلقة بالمال ... 4
(1) ... 5
مقاصد الشريعة المتعلقة بقيمة المال ومنزلته ... 5
1- ... بيان منزلة المال وأهميته في الإسلام: ... 5
2- ... إيجاب المحافظة على المال: ... 7
3- ... التحذير من الافتتان بالمال والطغيان بسببه: ... 8
(2) ... 10
ربط المال والاقتصاد بالإيمان والأخلاق ... 10
أولا: ربط المال والاقتصاد بالإيمان والربانية ... 11
المال عون على طاعة الله: ... 13
ثانيا: ربط المال والاقتصاد بالأخلاق والمثل الإنسانية ... 15
تنويه بعض الأجانب بأخلاقية الاقتصاد الإسلامي: ... 16
المشكلة الأساسية في الاقتصاد الوضعي: ... 18
(3) ... 19
مقاصد الشريعة فيما يتعلق بإنتاج المال ... 19
1- ... الحث على إنتاج المال وكسبه من طرقه المشروعة: ... 19
الإنتاج الزراعي: ... 21
الإنتاج الصناعي: ... 22
التجارة: ... 25
2- ... تحريم الكسب الخبيث: ... 27
3- ... اكتساب المال من الحرام لا تطهره الصدقة: ... 28
4- ... إيجاب تنمية المال بالطرق المشروعة: ... 30
5- ... تحريم إنتاج ما يضر: ... 30
مقصدان شرعيان مهمان للإنتاج: ... 32
المقصد الأول: تحقيق تمام الكفاية للفرد: ... 32
تفصيلات في مستوى تمام الكفاية: ... 34
سورة النحل تعطينا صورة لما ينبغي أن تكون عليه الحياة الإسلامية: ... 39
المقصد الثاني: تحقيق الاكتفاء الذاتي للأمة: ... 40
1- ... ضرورة التخطيط: ... 41
2- ... استخدام الإحصاء: ... 42
3- ... تهيئة الطاقات البشرية وحسن توزيعها: ... 43
4- ... حسن استغلال الموارد المتاحة: ... 43
5- ... تنويع الإنتاج وفق حاجات الأمة: ... 46
أي الحرف والأعمال أفضل من غيره: ... 49
6- ... لزوم التنسيق بين فروع الإنتاج: ... 50
(4) ... 52
مقاصد الشريعة فيما يتعلق باستهلاك المال ... 52
1- ... إباحة الطيبات والإنكار على من حرمها: ... 52
2- ... ترشيد استهلاك المال وإنفاقه: ... 53
3- ... تحريم الترف والحملة على المترفين: ... 57(1/112)
آثار الترف في حياة الفرد والمجتمع: ... 58
4- ... المحافظة على البيئة ومكوناتها ... 61
الوعيد على قتل عصفور عبثا: ... 62
قاطع السدرة في النار: ... 63
الحفاظ على الثروة الحيوانية من خطر العدوى: ... 63
إياك والحلوب: ... 64
الانتفاع بجلد الميتة: ... 65
لا تترك اللقمة للشيطان: ... 65
ذم تعطيل الثروة الزراعية والحيوانية: ... 66
إحياء الموات: ... 66
المحافظة على الماء والأحياء المائية: ... 67
(5) ... 70
مقاصد الشريعة المتعلقة بتداول المال ... 70
1- ... ضبط المعاملات المالية بأحكام الشريعة: ... 71
قواعد حاكمة في شؤون المعاملات: ... 72
2- ... مقاصد الشريعة في الثروة النقدية: ... 73
(6) ... 75
مقاصد الشريعة المتعلقة بتوزيع المال ... 75
1- ... تحقيق العدل في توزيع المال بين الفئات والأفراد: ... 75
2- ... تمليك الفقراء والضعفاء بإيجاب الزكاة واعتبارها ركنا من أركان الإسلام: ... 76
3- ... التقريب بين الفوارق: ... 78
4- ... احترام الملكية الخاصة للمال: ... 79
5- ... منع الملكية الخاصة في الأمور الضرورية لعموم الناس: ... 80
6- ... تقرير قاعدة التكافل المعيشي في المجتمع: ... 80
أ. ... إيجاب الحض على طعام المسكين: ... 81
ب. ... الحث على الصدقات والإنفاق في سبيل الله: ... 82
ج. ... الحض على الصدقة الجارية والوقف الخيري: ... 82
د. ... الحث على الإيثار: ... 83
ه. ... إيجاب كفاية المضطر وإغاثة الملهوف: ... 83
و. ... إيجاب زكاة الفطر على الأشخاص بمناسبة عيد الفطر: ... 83
ز. ... إيجاب قوانين تكافلية مختلفة: ... 84
7- ... تحرير الإنسان من نير الفقر والسعي للقضاء عليه: ... 84
8- ... العناية بالمشكلات أو الحاجات الطارئة: ... 86
أ. ... مشكلة الديون : ... 86
ب. ... مشكلة الكوارث : ... 88
ج. ... مشكلة التشرد والاغتراب: ... 89
الفهرس ... 92(1/113)
مقاصد الشريعة
في أحكام الأسرة
توجيها لأحكام الأسرة المسلمة في الغرب
أ. د / عبد المجيد النجار
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد:
المقصد الأعلى من الشريعة الإسلامية هو تحقيق مصلحة الإنسان بجلب النفع له ودفع الضرّ عنه في حياته الدنيا وفي حياته الأخرى، وعن هذا المقصد الأعلى تتفرّع مقاصد عالية يتحقّق منه بقدر ما يتحقّق منها، ويتخلّف بقدر ما يتخلّف. وكلّ أحكام الشريعة كلّيّها وجزئيّها إنّما هي موضوعة من أجل تحقيق هذه المقاصد، فإذا كانت أحكاما نصّيّة فهي مبنيّة في أساسها على ذلك، وإذا كانت أحكاما اجتهادية فينبغي أن يكون الاجتهاد فيها موجّها بالمقاصد، متحرّيا ما تكون به محقّقة لها، فمقاصد الشريعة هي المحور الأكبر في صياغة الأحكام، تدور معها حيثما تدور، وتتوجّه إليها حيثما تكون.
وبما أنّ الإنسان لا تتحقّق له المصلحة على الوجه الأفضل إلاّ إذا شملت أحواله في دوائرها الأساسية الثلاث: دائرة الفرد، ودائرة الأسرة، ودائرة المجتمع، فإنّ الشريعة بنت أحكامها على مقاصد تتعلّق بكلّ دائرة من هذه الدوائر، حتى إذا ما جرى التطبيق الفعلي لتلك الأحكام تحقّق للإنسان النفع ودفع عنه الضرّ باعتباره فردا وباعتباره أسرة وباعتباره مجتمعا، دون أن يجور واحد منها على الآخر فيظفر هو بالمصلحة ويلحق بالآخر الضرر. وتلك ميزة من ميزات الشريعة الإسلامية قد لا تتوفّر في غيرها من الشرائع.(1/1)
وإذا كانت مقاصد الشريعة تعتبر موجّهات على سبيل الوجوب لكلّ اجتهاد فقهي في أيّ شأن من شؤون الحياة، وفي أيّ مستوى من مستوياتها، وأنّ هذا التوجيه ينبغي أن تراعى فيه مراتب المقاصد، فيقدّم ما هو أعلى على ما دونه، وما هو كلّي على ما هو جزئيّ، إلاّ أنّ أوضاع الحياة المتقلّبة قد تنتهي أحيانا إلى وضع مّا يستلزم في معالجته بالاجتهاد الفقهي صرف الاهتمام إلى مقاصد شرعية معيّنة أكثر من صرفه إلى غيرها من المقاصد لما يُرى من أنّها أبلغ في المعالجة باعتبار ذلك الظرف المحدّد، والحال أنّه من حيث الأصل ينبغي أن تكون كلّ المقاصد مأخوذة بعين الاعتبار بأقدار متساوية من الاهتمام في نطاق الدرجة الواحدة من درجاتها، فإذا كانت الأمّة على سبيل المثال في وضع تتعرّض فيه لفتنة توشك أن تمزّقها أشتاتا فإنّ الاجتهاد الفقهي من أجل معالجة أوضاعها ينبغي أن يُقدّم فيه الاهتمام بمقصد وحدة الأمّة من مقاصد الشريعة على الاهتمام بمقصد التعمير بالرغم من أنّ هذا المقصد من حيث ذاته يوازي مقصد الوحدة إلاّ أنّ الظرف الذي نشبت فيه الفتنة أخّره في الاهتمام عنه.(1/2)
وتبعا لذلك فإنّ الاجتهاد من أجل معالجة شرعية لواقعة من الوقائع أو لحالة من الحالات أو لفرد أو جماعة من المسلمين يقتضي من بين ما يقتضي أن يتقدّم بين يديه درس عميق للوضع الذي تكون عليه تلك الوقائع والحالات أو الأفراد والجماعات في مظاهره وأبعاده وأسبابه ليكون الاجتهاد في المعالجة مبنيّا على اهتمام أوسع واعتبار أكبر بالمقصد الشرعي الذي يكون أكثر مناسبة لذلك الوضع، وتكون به الأحكام أبلغ في المعالجة لما اقتضى الاجتهاد في شأنه، وما إخال الفاروق رضي الله عنه إلاّ صادرا عن هذا الفقه لمّا حكم بعدم توزيع أرض العراق على الفاتحين، فقد بسط بين يديه مقاصد الشريعة ليبني عليها حكمه في هذا الوضع، فاهتمّ بمقصد العدل بين الأجيال أكثر من اهتمامه بغيره من المقاصد، وعليه بنى حكمه لما رأى من أنّ هذا الوضع المتطلّب للاجتهاد في أسبابه ومآلاته يليق به مقصد العدل أكثر من أيّ مقصد آخر.
وإذا كانت الشريعة الإسلامية قد اهتمّت بالحياة الإنسانية اهتماما شاملا فلم تغادر منها شيئا دون توجيه كلّي أو تفصيلي، فإنّ اهتمامها بالحياة الأسرية كان في الذروة من ذلك الاهتمام الشامل، وهو ما يشهد له ما ورد في شأن هذه الحياة من تفصيل في الأحكام لا يدانيه تفصيل في أيّ مجال آخر من مجالات الحياة الاجتماعية، فذلك إنّما يدلّ على عناية الشريعة الإسلامية العناية البالغة بالأسرة، إذ لو تركت لاجتهادات العقل في التفاصيل لكان الخطأ فيها آيلا إلى الضرر البالغ بالمجتمع كلّه، بل بمستقبل الإنسانية بأكملها.(1/3)
والأحكام المتعلّقة با لأسرة تحكمها في معرض شموليتها وتفاصيلها جملة من المقاصد التي ما من حكم من تلك الأحكام إلاّ وهو موضوع من أجل تحقيقها أو تحقيق بعض منها، وتلك المقاصد هي التي ينبغي أن تكون غاية الاجتهاد في تلك الأحكام، ما كان منها منصوصا عليه فبالاجتهاد في الفهم، وما كان غير منصوص فبالاستنباط؛ ولذلك فإنّ العلم بها على وجه الدقّة يعدّ ضرورة من ضرورات الاجتهاد الفقهي في شأن الحياة الأسرية، وإلاّ فإنّ هذا الاجتهاد قد يخطئ الحكم في هذا الشأن، وذلك ما يكون له وخيم العواقب على وضع المجتمع بأكمله فضلا عن وضع الأسرة في ذاتها.
والمتتبّع لمدوّنات مقاصد الشريعة في التراث الأصولي الإسلامي يجد أنّ العناية بهذه المقاصد في شأن الأسرة لم تكن العناية المتناسبة مع حجمها في الأهمّية، إذ تكاد تكون في ذلك التراث مغمورة في تقريرات المقاصد الشرعية العامّة، في غير تفصيل لها وتأصيل لولا أن خصّص لها الإمام ابن عاشور فصلا مستقلاّ في كتابه " مقاصد الشريعة "، وهو مع ذلك لم يوفّها فيما نرى حقّها من البيان والتفصيل(1). ولعلّ من أسباب ذلك ما حظيت به أحكام الأسرة من تفصيل كما أشرنا سابقا، فكأنّ الأحكام في أيّ شأن كلّما كانت أكثر تفصيلا كان الاهتمام بمقاصدها في الشرح والبيان أقلّ باعتبار أنّ مجال الاجتهاد فيها أضيق كما هو شأن أحكام العبادات، فالمقاصد إنّما تحرّر وتفصّل من أجل ترشيد الاجتهاد وتسديده.
__________
(1) راجع : ابن عاشور ـ مقاصد الشريعة الإسلامية: 345 وما بعدها(1/4)
وإذا كان الاجتهاد في شأن الأسرة المسلمة بصفة عامّة ينبغي أن ينبني على أصول بيّنة من مقاصد الشريعة في هذا الشأن كما الأمر في كلّ اجتهاد مع زيادة في التحرّي لما للأسرة من أثر في الحياة الاجتماعية، فإنّ هذا الأمر يبلغ ذروته فيما يتعلّق بالأسرة المسلمة في الغرب؛ وذلك لأنّ هذه الأسرة تنضاف إلى أهمّيتها في ذاتها باعتباره أسرة أهمّية باعتبار خصوصية وضعها التي هي فيه أسرة مسلمة في وسط اجتماعي غير مسلم بما يتضمّنه ذلك من أسباب للفتنة من جهة ومن أبعاد للدعوة والشهادة على الناس من جهة أخرى كما سنبيّنه لاحقا، وهو ما من شأنه أن يضيف إلى الاهتمام بمقاصد الشريعة في شأن الأسرة بصفة عامّة اهتماما مضاعفا باعتبار هذه الخصوصية التي تستلزم فيما تستلزم أن تُستبان تلك المقاصد على وجه التفصيل والدقّة من حيث ذاتها، ثمّ تُلاءم مع تلك الخصوصية في أبعادها المختلفة ليقع ترتيبها بحسبها، ويتمّ الاجتهاد لمعالجة أوضاعها تبعا لذلك بحسب ما تقتضيه خصوصيتها حتى تتنزّل الأحكام عليها بما يناسب تلك الخصوصية فتتحقّق مقاصد الشريعة فيها على الوجه المطلوب. وهو ما نحاول القيام به تاليا.
أوّلا ـ خصوصية الأسرة المسلمة في الغرب:(1/5)
إنّ الاجتهاد في شؤون الأسرة المسلمة في الغرب إذا كان يستلزم استبانة مقاصد الشريعة في شؤون الأسرة على وجه التفصيل والدقّة ليكون الاجتهاد مُوجَّها بحسبها، فإنّه يستلزم أيضا استبانة الواقع الذي عليه هذه الأسرة من حيث خصوصياتها التي تكون عليها متفرّدة بها عن الأسرة المسلمة التي تعيش في المجتمع الإسلامي؛ وذلك لأنّ لهذه الخصوصيات اعتبارا في المقاصد الشرعية التي يتأسّس عليها الاجتهاد من حيث ترتيبها في الدور الذي تقوم به في معالجة قضايا ومشاكل الأسرة المسلمة في الغرب، وبالتالي من حيث ترتيبها في الاهتمام بها عند الاجتهاد، إذ تلك المشاكل والقضايا باعتبار نشوئها من خصوصية الواقع الذي تعيشه لا يعالجها إلاّ ترتيب للمقاصد قد يخالف الترتيب الذي تُعالج به المشاكل والقضايا التي تتعرّض لها الأسرة المسلمة في المجتمع الإسلامي، وإن كانت المقاصد من حيث ذاتها هي نفس المقاصد المبتغاة من أحكام الأسرة بصفة عامّة. وهذا ما يستدعي تبيّن الخصوصيات التي يتميّز بها واقع الأسرة المسلمة في الغرب كأساس من أسس الاجتهاد المقاصدي في شؤون تلك الأسرة.
وهذه الخصوصيات المتعلّقة بالأسرة المسلمة في الغرب هي خصوصيات مشتقّة من خصوصيات الوجود الإسلامي بالغرب بصفة عامّة، إلاّ أنّها متلوّنة بلون الأسرة من بين ألوان سائر مكوّنات ذلك الوجود، فهي إذن خصوصيات مركّبة من درجتين: خصوصية الوجود الإسلامي بالغرب بصفة عامّة، وخصوصية الأسرة المسلمة في نطاق ذلك الوجود ضمن البيئة غير الإسلامية التي يعيش فيها، وهو ما يستلزم استبانة مركّبة أيضا للوصول إلى معرفة حقيقية بخصوصيات ضمن خصوصيات، مع ما يتطلّبه ذلك من جهد مضاعف في التحرّي لتبيّن الحقيقة في هذا الشأن.(1/6)
والوجود الإسلامي بالغرب لعلّ من أبرز خصائصه أنّه وجود إسلامي خاضع لسلطان قانوني غير سلطان القانون الإسلامي، وهو سلطان القانون الوضعي الذي ينظّم الحياة في البلاد التي يعيش فيها المسلمون موجّها لكلّ وجوهها تبعا لما للدولة الحديثة من هيمنة واسعة على حياة الأفراد والمجتمعات. وبالإضافة إلى ذلك فإنّ هذا الوجود الإسلامي بالغرب يتعرّض لغواية شديدة من المعتقدات والقيم والعادات والتقاليد التي تخالف المقتضيات الإسلامية في كلّ ذلك، فهذه الأحوال وإن لم تكن لها على المسلمين سطوة قانونية إلاّ أنّ لها سطوة نفسية واجتماعية وثقافية يعزّزها ما عليه حال المسلمين من ضعف متعدّد الجوانب على كلّ تلك المستويات. ومع ذلك فإنّ من خصوصيات الوجود الإسلامي بالغرب أنّه وجود ذو بعد رسالي، إذ مطلوب منه أن يكون مساهما في إثراء المسيرة الحضارية للبلاد التي هو فيها، وأن يقدّم من قيم دينه وأحكام شرعه ما يسهم به في حلّ المشاكل والمعضلات التي يتعرّض لها المجتمع الذي يعيش فيه وذلك بصورة نظرية و بصورة عملية سلوكية على حدّ سواء. ومن هذه الخصوصيات العامّة للوجود الإسلامي بالغرب نتجت خصوصيات للأسرة المسلمة فيه، لعلّ من أهمّها ما يلي:
1 ـ الخضوع لسلطان غير إسلامي:(1/7)
الأسرة المسلمة بالغرب كما سائر المسلمين تخضع لسلطان غير إسلامي، وهو سلطان المجتمع الذي تعيش فيه، سواء تمثّل ذلك السلطان في القانون الملزم الذي يتعلّق بالأسرة ويضبط أحوالها في جميع مراحلها وكلّ علاقاتها، أو تمثّل في الضغط الهائل الذي تتعرّض له الأسرة المسلمة ثقافيا واجتماعيا من قِبل المجتمع الذي تعيش فيه وما تسوده من ثقافة نظرية وعملية فيما يتعلّق بأحوال الأسرة بصفة خاصّة وبالعلاقات الاجتماعية بصفة عامّة مستمدّة من قيم ومبادئ مخالفة في كثير منها للقيم والمبادئ الإسلامية، أو تمثّل في الضغوط الاقتصادية التي توجّه حياة الأسرة فيما يشبه الإلزام نحو الاستهلاك باعتباره المحور الأساسي في الحياة الاقتصادية بالغرب.
إنّ هذا الخضوع لسلطان متعدّد الوجوه، وهو غير إسلامي في وجوهه كلّها من شأنه أن يحدث في الأسرة المسلمة بالغرب خصوصية تختلف بها عن أختها في البلاد الإسلامية. ومن أهمّ عناصر تلك الخصوصية ما ينشأ في الروح الجمعية للأسرة من ازدواجية متعدّدة المظاهر. فازدواجية طرفاها انتماء للإسلام وقيمه من جهة وخضوع لسلطان غير سلطانه من جهة أخرى، مع ما ينشأ عن ذلك من شعور بالاغتراب والمهزومية والتناقض, وازدواجية طرفاها آباء يشدّهم إلى موطنهم الأصلي وثقافته حنين وولاء من جهة، وأبناء اتّخذوا من بلاد الغرب وطنا لهم دون أن تربطهم بموطن آبائهم ولا بثقافته صلة ذات بال، مع ما ينشأ عن ذلك من انفصال ثقافي في الجسم الأسري. وكلّ من هذا وذاك ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار في الاجتهاد الفقهي لمعالجة شؤون السرة المسلمة بالغرب.
2 ـ التعرّض للغواية:(1/8)
تتعرّض الأسرة المسلمة في الغرب إلى أسباب كثيرة من أسباب الغواية لا تتعرّض لمثلها الأسرة المسلمة في البلاد الإسلامية. فمن غواية جنسية قائمة بعنف لما يفشو في المجتمع الغربي من إباحة جنسية، وما يتبع ذلك من دعاية لها، ومن تفنّن في تسويقها، إلى غواية استهلاكية ضاربة، لما يشيع في هذا المجتمع من قيم الاستهلاك، وما يبذل فيه من ترويج لها، ومن تنويع في الدعوة إليها، إلى غواية ثقافية عامّة، لما يضغط على الأسرة من عادات وتقاليد وأعراف في المأكل والمشرب والملبس والعلاقات بين الناس، ولما يُروّج لذلك كلّه من أنّه هو مظهر التحضّر والتقدّم، وأنّ ما يخالفه هو البدائية والتخلّف، إلى غواية تطبيقات منحرفة لمفاهيم ومبادئ ذات صلة بالأسرة بصفة مباشرة، من مثل الحرّية والاستقلالية والمسؤولية وما شابهها من مفاهيم انحرفت بها عن حقيقتها.
إنّ هذه الغوايات المتعدّدة المظاهر تضغط على الأسرة المسلمة في الغرب ضغطا شديدا لتجعلها في مواقف حرجة بالنسبة إلى انتمائها الإسلامي من جهة، ولتماسك بنيتها وتلاحم عناصرها من جهة أخرى، فكثيرا ما تنجح هذه الغوايات في إحداث مشاكل بين أطراف الأسرة تنتهي بها إلى التمزّق دون أن تكون قادرة على تلافيها، ودون أن تجد من الأحكام الفقهية ما يكون معوانا على حلّها لأنّها أحكام ليس لها عهد بطبيعتها إذ هي من خصوصية الأسرة بالغرب، وذلك ما يستلزم أن تعالج بأحكام تناسب تلك الطبيعة.
3 ـ العزلة الأسرية:(1/9)
الأسرة المسلمة في المجتمع الإسلامي هي مع سائر الأسر لبنات متجانسة تكوّن المجتمع، وهي جزء من أسرة ممتدّة ليس الأب والأمّ والأبناء إلاّ النواة التي تحيط بها دوائر متواسعة لتنتهي إلى المجتمع، وأمّا الأسرة المسلمة بالغرب فهي لبنة غير متجانسة مع لبنات المجتمع في كثير من الشؤون، وهي أسرة مصغّرة تقف في الغالب عند حدود ذاتها المصغّرة دون أن يكون لها امتداد في الدائرة الأسرية الأوسع، فهي إذن تشبه أن تكون وحدة أسرية منعزلة، إذ الوجود الإسلامي بالغرب لم يبلغ بعد مرحلة أن يكون مجتمعا إسلاميا ولو صغيرا، لا من حيث التواصل الجغرافي ولا من حيث الترابط الدموي والنفسي، وذلك بالرغم من التكاثر العددي للمسلمين، ولكنّه تكاثر مبثوث في خضمّ المجتمع الغربي الواسع الممتدّ، وممّا يدعّم هذا الانعزال الذي تعيشه الأسرة المسلمة ما عليه المجتمع الغربي نفسه من انعزال أسري، إذ الروابط بين الأسر تفقد في هذا المجتمع باطّراد متانتها حتى انقطع الكثير منها وتوشك أن نؤول إلى الانحلال، وذلك مناخ مساعد على انعزال الأسرة المسلمة التي هي منعزلة أصلا بحكم انبتاتها عن محيطها الإسلامي.(1/10)
ولا شكّ أنّ هذا الانعزال الأسري يُعتبر خصوصية ذات آثار نفسية واجتماعية على مجمل البنية الأسرية وعلى أفرادها في ذواتهم وفي علاقاتهم ببعضهم وعلاقاتهم بالمجتمع الذي يعيشون فيه، فالامتداد الأسري هو أحد العوامل التربوية والنفسية المهمّة في الشعور بالأمن وفي الانضباط الثقافي والسلوكي، كما أنّه عامل مهمّ في الاستقرار الأسري وفي تفادي التوتّرات التي تلمّ بالأسرة وتؤثّر على حياتها، وهو مقتضى قوله تعالى:" وإن خِفتُم شِقاقَ بينهماَ فابعثُوا حَكَمًا من أهله وحَكَما من أهلها إن يُريدَا إِصلاحًا يوفّق الله بينهمَا " (النساء/35)، وحينما تكون الأسرة المسلمة بالغرب على النحو الذي وصفنا من الانعزالية فإنّها ستفقد هذا السند النفسي والتربوي والاجتماعي الكبير الذي تجده الأسرة المسلمة في بيئتها الأسرية والاجتماعية الإسلامية، وتلك خصوصية يجدر أن تؤخذ بعين الاعتبار في الاجتهاد الفقهي في هذا الشأن.
4 ـ العبء التربوي:
إذا كانت الأسرة هي المحضن التربوي الأوّل للأبناء الذي يلزمها بدور أساسي في التربية فإنّ الأسرة المسلمة بالغرب يكون هذا الدور في حقّها دورا مضاعفا؛ وذلك لأنّ المؤسّسات التي تقوم بدور تربوي أصلي أو مساعد في تنشئة الأطفال على المبادئ والقيم الإسلامية هي في مجتمع الغرب مفقودة أو تكاد، فلا المجتمع يقوم بهذا الدور بل قد يقوم بدور معاكس له، ولا المدرسة في الغالب تقوم به لأنّها المدرسة العامّة لأبناء المجتمع الغربي إلاّ أن تكون بعض الإضافات التربوية الإسلامية الخفيفة إليها، ولا مؤسّسة الأسرة الموسّعة تقوم بهذا الدور لأنّها مؤسّسة مفقودة كما بيّنّاه آنفا، وإذن فإنّ الأسرة هي التي ينبغي أن تقوم بالعبء التربوي الأكبر في تنشئة الأبناء على الإسلام .(1/11)
وبما أنّ الأسرة المسلمة بالغرب هي في الغالب غير مؤهّلة ثقافيا وتربويا للقيام بهذا الدور، إذ تعاني من قصور ذاتي في مؤهّلاتها، وذلك بالإضافة إلى العوامل الخارجية المضادّة، وهو ما يحول بينها وبين القيام بهذا الدور، فإنّ الأسرة المسلمة تظلّ بهذا السبب تعيش تخوّفا مطّردا على أبنائها أن تحيد بهم السبل عن أن يكونوا مسلمين كما تطمح إليه، وهو تخوّف قد ينمو في النفوس حتى يفضي إلى وضع من القلق النفسي والاضطراب في تقرير المستقبل بين بقاء في ديار الغرب وبين عزم على مغادرته إلى البلاد الإسلامية، وذلك كلّه ينعكس بصفة سلبية على مجمل الأداء الأسري في مختلف مجالات الحياة، وتلك خصوصية من خصوصيات الأسرة المسلمة بالغرب يجدر أخذها بعين الاعتبار.
5 ـ البعد الرسالي للأسرة المسلمة بالغرب:
إذا كانت الأسرة المسلمة بصفة عامّة مطلوبا منها أن تكون باعتبارها أسرة أنموذجا مصغّرا للمجتمع المسلم، وأن تنشر بسيرتها العملية هذا المغزى الرسالي بين الناس للتأسّي به كما سنبيّنه لاحقا، فإنّ الأسرة المسلمة بالغرب يشتدّ في حقّها هذا البعد الرسالي الدعوي؛ وذلك لأنّها ترمز بصفتها الإسلامية إلى قيم الإسلام في الأسرة بصفة خاصّة، وفي شؤون الحياة بصفة عامّة، وهي برمزيتها هذه تعرض نفسها على مجتمع غير إسلامي تعيش فيه، وهو مجتمع يلحظها باهتمام كبير ويراقبها في جميع تصرّفاتها، وسيكون في شطر كبير من تقييمه للإسلام وموقفه منه صادرا عن الصورة التي ترتسم في ذهنه عن الأسرة المسلمة من خلال تصرّفاتها المختلفة.(1/12)
وممّا يزيد من أهمّية هذا الدور الرسالي للأسرة المسلمة بالغرب ما تمرّ به الأسرة الغربية على وجه العموم من أزمة متمثّلة في تقلّص حجمها وفي وهن العلاقة بين أفرادها، بل توشك هذه الأزمة أن تضرب في أصل وجودها، فالأسرة المسلمة في هذا الواقع لمّا تكون ممثّلة للإسلام حقّ التمثيل، متمسّكة بقيمه الأسرية فإنّها تصبح كالمنارة الهادية التي يجد فيها المراقبون والملاحظون الحلّ العملي لأزمتهم الأسرية، ويدركون من خلال أنموذجيتها أنّها تمثّل سببا هامّا من أسباب السعادة، ومن ثمّة ينطلق البحث في العوامل التي جعلتها كذلك، وقد ينتهي هذا البحث في كثير من الحالات إلى الاقتناع بما جاء به الإسلام من حقّ، فتكون الأسرة إذن قد حقّقت هدفا رساليا دعويا، وهذه خصوصية من خصوصياتها يجدر أن تؤخذ بعين الاعتبار عند الاجتهاد في شأنها.
ثانيا ـ مقاصد الشريعة في أحكام الأسرة:(1/13)
جاءت أحكام الشريعة في شأن الأسرة على قدر من التفصيل قد لا يفوقه إلاّ ذلك التفصيل الذي حظيت به أحكام العبادات، ومع ذلك فإنّ بعض ما يتعلّق بالأسرة تُركت الأحكام فيه للاجتهاد مراعاة لتغيّر الأوضاع والأحوال المتعلّقة به، فيكون الاجتهاد محقّقا لمصلحة الأسرة بحسب ذلك التغيّر في أحوالها، ولكن مع ذلك فقد وردت في تلك المناطق الاجتهادية توجيهات كلّية عامّة من شأنها أن تسدّد الأحكام فيها لتكون مكمّلة في توافق لتلك الأحكام الواردة على سبيل التفصيل. والمستقرئ لمجمل الأحكام والقواعد والتوجيهات الشرعية المتعلّقة بالأسرة يجد أنّها محكومة كلّها بمقاصد يبغي الشارع تحقّقها في هذه المؤسّسة الاجتماعية لتكون محقّقة هي بدورها للمقاصد العليا للشريعة فيما يتعلّق بالإنسان والغاية من وجوده والدور المناط بعهدته في الحياة. ويمكن استخلاص تلك المقاصد في شأن الأسرة من البيانات النصّيّة المباشرة التي ترد بين الحين والآخر في هذا الشأن صريحة أو ضمنية، ومن التصرّف العامّ للأحكام التفصيلية والاطّراد الذي تجري عليه أنساق ذلك التصرّف. وسنحاول فيما يلي تبيّن جملة من تلك المقاصد من خلال هذين الموردين.
1 ـ حفظ النوع البشري:
لعلّ المقصد الأوّل من مقاصد أحكام الشريعة في الأسرة هو حفظ النوع البشري، فاستمرارية هذا النوع مثل كلّ الأنواع الحيّة لا تتمّ إلاّ بالتزاوج، وإذا كانت أنواع الحيوان تتمّ استمرارية وجودها بمجرّد التزاوج الغريزي المرسل فإنّ الإنسان بالنظر إلى الدور المطلوب منه لا يمكن حفظ نوعه على الوجه الذي يقتضيه ذلك الدور إلاّ من خلال التزاوج الأسري، ومن ثمّة شرّعت الأحكام المتعلّقة بالأسرة قاصدة إلى حفظ النوع الإنساني بما يتلاءم مع الهدف من وجوده.(1/14)
وأوّل تجلّيات هذا المقصد هو التناسل في نطاق الأسرة، ضمانا لاستمرارية النوع في الوجود، وهو ما جاءت أحكام وتوجيهات كثيرة تهدف إلى تحقيقه، فقد قال تعالى:" ياأيّها الناسُ اتّقُوا ربَّكُم الذي خلقَكُم من نفسٍ واحدةٍ وخَلَقَ منها زوجَها وبثّ منهما رجالاً كثيرا ونساءً " ( النساء/1 )، فالآية تومئ إلى أنّ الزواج وهو أساس الأسرة إنّما الهدف الأوّل منه هو التكاثر لاستمرارية وجود النوع الإنساني، وهو ما تدعمه أحاديث كثيرة تحثّ على الزواج من أجل استمرارية النسل، وتحثّ على اتّخاذ الأسباب من أجل ذلك، ومن تلك الأحاديث قوله صلّى الله عليه وسلّم:" تناكحوا تناسلوا فإنّي مباه بكم يوم القيامة"(1)، وقوله:" تزوّجوا الودود الولود"(2)، وقوله: " من استطاع منكم الباءة فليتزوّج"(3)، ففي هذه الأحاديث حثّ شرعي على البناء الأسري لغايةالتكاثر حفاظا على النسل. ومن ذلك أيضا ما شرّع من تحريم لإسقاط الأجنّة من بطون الأمّهات بدون أسباب وجيهة، إذ ذلك يُعتبر مناقضا لمقصد أساسي من مقاصد الأسرة وهو استمرارية النسل، فقد كانت إذن أحكام الشريعة وتوجيهاتها تتّجه في عمومها إلى تحقيق مقصد حفظ النّوع الإنساني باستمرارية النسل.
__________
(1) أخرجه العجلوني في كشف الخفاء ( 1/380)
(2) أخرجه أخرجه الحاكم في المستدرك ( 2/176،ط دار الكتب العلمية، بيروت 1990)
(3) أخرجه أخرجه مسلم ( 2/1018، ط دار إحياء التراث، بيروت).(1/15)
ومن تجلّيات هذا المقصد الحفاظ على النوع الإنساني بما ينظّم الأنساب ويحافظ عليها من الاختلاط والتداخل، فالحفاظ على النسب يتضمّن من المغازي الاجتماعية والنفسية والصحّية ما يكون به النسل أقوى من حيث ذاته، وأقدر على الاستمرارية والبقاء، إذ الأنساب المحفوظة تقوّي من الانتماء الاجتماعي للفرد، كما تقوّي نفسيا من الشعور بالثقة بالنفس والاعتزاز بالمحتد. ومن تجلّياته تجنّب الزواج من الأقارب فتُتلافى كثير من الأمراض والعاهات الناشئة عن ذلك، وما كانت عناصر القوّة هذه كلّها لتحصل إذا اختلطت الأنساب وجُهلت القرابات، ومن أجل تحقيق هذا المقصد شرّعت أحكام أسرية كثيرة، وأُحكمت توجيهات وإرشادات عديدة، ومن ذلك ما يتعلّق بتحريم الزنا، ومنع الزواج من المحارم، والنهي عن الزواج من الأقارب(1)، وضبط أحكام الرضاعة، فهذه كلّها مقصدها الحفاظ على استمرارية النسل بحفظ الأنساب من الاختلاط والتداخل.
ومن تجلّياته أيضا حفظ النسل ليقوى على استمرارية الوجود بحسن التربية للأبناء نفسيا وعقليا وجسميا، فرعايتهم من قِبل الأسرة من هذه الجهات كلّها من شأنها أن تثمر نسلا قويّا قادرا على المقاومة من أجل البقاء سواء بالتدبير العقلي أو بالصحّة الجسمية، وأمّا لو أهمل هذا النسل، وتُرك عفوا دون رعاية فإنّه قد ينشأ على حال من الضعف تجعله غير قادر على الصمود أمام العوامل المضادّة، فإذا هو يؤول إلى الوهن الذي قد يؤول به إلى الانقراض.
__________
(1) راجع: الغزالي ـ إحياء علوم الدين: 2/47.(1/16)
وإذا كانت الحيوانات تقوى على البقاء وهي غير مرعيّة من نظام أسري فإنّ الإنسان لا يمكنه ذلك إذ قُدّر له أن لا يكون مستطيعا الاعتماد على نفسه إلاّ بعد سنوات طويلة من ولادته في حين قُدّر للحيوان أن يكون مستطيعا ذلك بعد أيّام قليلة، وليس لهذا الدور التربوي أن تقوم به إلاّ الأسرة، إذ غيرها من هيئات المجتمع مثلا لئن كان بإمكانها توفير أسباب الصحّة الجسمية فإنّها ليس بإمكانها توفير أسباب الصحّة النفسية؛ ولذلك جاء الدين يشرّع أحكاما كثيرة في شأن الأسرة مقصدها تمكين النوع الإنساني من أسباب البقاء بالتربية الأسرية، وذلك مثل أحكام النفقة والحضانة والتعليم والرعاية الصحّية وما هو في حكمها من كلّ ما يتعلّق بتربية الأطفال ورعايتهم، فيتحصّل إذن أنّ حفظ النوع الإنساني بإقداره على استمرارية البقاء هو مقصد أساسي من مقاصد أحكام الشريعة في الأسرة، وذلك سواء بأصل الزواج المثمر للذرّية، أو بحفظ الأنساب أو بالرعاية والعناية.
2 ـ مقصد الإفضاء:(1/17)
قال تعالى: " وكيف تأخذونَه وقد أفضى بعضُكُم إلى بعضٍ" ( النساء/21)، ومن هذا القول يمكن استنتاج مقصد عظيم من مقاصد أحكام الأسرة، وهو مقصد إفضاء الزوجين إلى بعضهما، والإفضاء في اللغة هو الوصول إلى المكان والانتهاء إليه بعد قطع الفضاء الحائل دونه، وقد استعير لفظ الإفضاء للكناية عن العلاقة بين الزوجين، لأنّ بهذه العلاقة كأنّ الزوج يصل إلى زوجه بالتمازج الروحي محبّة ومودّة وألفة وسكنا وموالاة، والتمازج الجسمي معاشرة جنسية(1)، فالإفضاء يعبّر إذن عن قمّة التمازج بين الزوجين مع ما يحصل من ذلك التمازج من سعادة معنوية وحسّية، ولعلّ كثافة هذه المعاني التي يحملها لفظ الإفضاء هي التي جعلت لفظ الوصل والوصال من مصطلحات المحبّين والعشّاق، كما استعملها بعض المتصوّفة أيضا تعبيرا منهم عن قمّة الدرجات في الصلة بالحبيب وما ينجرّ عن ذلك من السعادات(2).
__________
(1) راجع في ذلك: الرازي ـ التفسير الكبير:10/18، وابن عاشور ـ التحرير والتنوير ـ 4/290
(2) راجع: لسان العرب : مادّة (وصل).(1/18)
وإنّما يؤخذ الإفضاء مقصدا للأسرة من هذه الآية لأنّه جاء في سياق الإنكار على الزوج أن يستعيد ما قدّمه لزوجته من مهر بعد تأسيس الأسرة بالزواج، فهو إنكار للتناقض الذي يحصل في هذا المشهد بين ما تأسّست عليه الأسرة من مقصد عظيم هو مقصد الإفضاء الذي تتمازج به الأرواج والأجسام، وبين تصرّف صغير هو استرجاع دريهمات أُعطيت مهرا للزوجة، فهذا التصرّف الصغير لا يليق بذلك المقصد الكبير، ولذلك وقع الإنكار، فيكون إذن الإفضاء بالمعاني الكثيفة التي يحملها كما بيّنّاه مقصدا أساسيا من مقاصد الأحكام المتعلّقة بالأسرة(1).
والمتتبّع لأحكام الشريعة في شأن الأسرة، وما ورد في ذلك من البيانات والتوجيهات يتبيّن أنّ ثمّة اطّرادا في تلك الأحكام والبيانات في اتّجاه تحقيق الإفضاء بين الزوجين بصفة صريحة أو بصفة ضمنية أو بصفة مآلية، وهو ما يتأكّد به أنّ هذا الإفضاء معدود في الدين من مقاصد الشريعة في شأن الأسرة، وذلك أمر يقتضي أن يكون الاجتهاد لمعالجة أوضاعها فيما هو مجال للاجتهاد ميمّما هذا المقصد، عاملا على تحقيقه فيما يصدر عنه من أحكام، وهو في الحقيقة مقصد كبير يتضمّن مقصدين أساسيين:
أ ـ مقصد الإفضاء الجنسي:
__________
(1) أكثر المفسّرين والفقهاء اقتصروا في شرح هذا التعبير القرآني على حكم شرعي جزئيّ، هو ما يتعلّق باسترجاع الزوج للمهر الذي أعطاه إياها إذا أراد أن يطلّقها بعد الزواج، فذهبوا إلى الاقتصار في معنى الإفضاء على معنى الجماع الذي لا يحقّ به استرجاع المهر، أو على معنى الخلوة الذي يحقّ به استرجاع بعضه، وقصر معنى الإفضاء على الجماع أو على الخلوة اختزال كبير للمدلول الذي تحمله الآية.(1/19)
المتعة الجنسية الحاصلة من البناء الأسري معدودة في الدين من النعم التي أنعم الله تعالى بها على الإنسان، وهي لذلك تحسب غاية من غايات الزواج، وقد أولتها الشريعة الإسلامية في أحكامها وتوجيهاتها الأهمّية البالغة التي تتناسب مع هذه المقصدية، وجماع ذلك ما جاء في الدين من حثّ على التمتّع بهذه النعمة حثّا يبيح أن يبلغ ذلك التمتّع أقصى ما يمكن من الكمال(1)، ويمنع كلّ ما عساه أن يفضي بسببها إلى ضرر بأحد الزوجين أو بكليهما ظاهرا كان أو خفيّا.
__________
(1) انعكست أهمّية المتعة الجنسية في بناء الأسرة على التعريفات الفقهية للزواج، فجاءت أكثر هذه التعريفات في كتب الفقه تقتصر في تعريف الزواج على كونه " عقد يفيد حلّ استمتاع كلّ من العاقدين بالآخر على الوجه المشروع" ( عن: أبو زهرة ـ الأحوال الشخصية: 17)، وقد كان هذا الاقتصار محلّ نقد من قِبل الشيخ أبي زهرة لما يوحي به من أنّ مقصد الأسرة يكاد ينحصر في المتعة الجنسية الحلال؛ ولذلك عرّفه متلافيا ذلك القصور بأنّه" عقد يفيد حلّ العشرة بين الرجل والمرأة وتعاونهما ويحدّد ما لكليهما من حقوق وما عليه من واجبات" ( نفس المرجع والصفحة )، ولا نرى من الحقّ ما ذهب إليه البعض من نفي أن يكون الإشباع الجنسي مقصدا من مقاصد الزواج، أو اعتباره مقصدا جزئيّا ثانويا صغير الشأن، وهو ما كان رأيا لبعض الفقهاء مثل الإمام السرخسي الذي اعتبر قضاء الشهوة ليست مقصودة في عقد الزواج، وإنّما المقصود هو ما يتمّ به من المصالح الأخرى، مساويا بينها وبين قضاء شهوة الجاه، إذ ليس قضاؤها أيضا بمقصود للشرع في أحكام الإمارة وإنّما المقصود إظهار الحقّ والعدل ( راجع: السرخسي ـ المبسوط:2 / 194 ).إنّ تصرّفات الشارع في هذا الشأن تفيد بما فيها من اطّراد أنّ الإشباع الجنسي مقصد أساسي من مقاصد الزواج يوازي مقاصد أخرى منه كما سنبيّنه.(1/20)
والقاعدة الأساسية في هذا الشأن هي قوله تعالى: " نساؤُكم حَرثٌ لكم فاتُوا حرثَكُم أنّى شِئتُم " ( البقرة/223)، ففي الآية إباحة شرعية للمعاشرة الجنسية على الوجه الذي يحقّق أعلى درجة من المتعة، وهو ما تفيده سعة المدلول لـ (أنّى )، فهي تفيد الكيفية في الجماع، والظرفية المكانية والزمانية التي يكون فيها(1). وقد أُحيطت هذه الإباحة الواسعة بممنوعات تعصمها من أن تؤول إلى ضدّها من الألم الذي يحدثه الضرر الذي ينشأ من بعض أحوالها، وهو ما أفاده قوله صلّى الله عليه وسلّم:"أقبل وأدبر واتّقًِ الدبر والحيضة"(2).
__________
(1) راجع أيضا ما يتعلّق بذلك في: ابن حزم ـ المحلى: 9/21 وما بعدها، وابن القيّم ـ جامع الفقه: 5/212
(2) أخرجه الترمذي في تفسير سورة البقرة، باب 27(1/21)
وقد جاءت أحكام شرعية كثيرة تندرج ضمن سياق هذا المقصد، ومنها تلك الأحكام المتعلّقة بحقوق الزوجين وواجباتهما التي من ضمنها الحقوق والواجبات الجنسية، وآثار هذه الحقوق والواجبات في حال أدائها أو الإخلال بها على استمرارية الزواج أو إنهائه(1). ومنها ما جاء في البيانات الشرعية والتوجيهات القرآنية والنبوية الكثيرة من آداب وضوابط في المعاشرة الجنسية، ومن إرشادات إلى ما تبلغ به ذروتها في تحقيق المتعة وما يعصمها من المآل إلى الأضرار الجسمية والنفسية في بعض أحوال إتيانها. وكلّ تلك الأحكام والتوجيهات تلتقي عند اعتبار الإفضاء الجنسي مقصدا من مقاصد الشرع في بناء الأسرة.
ب ـ مقصد الإفضاء النفسي:
والمقصود به ما يحصل ببناء الأسرة من راحة نفسية بالمودّة والألفة والسكن والأمن، وقد أفادت آيات وأحاديث كثيرة أنّ هذا الضرب من الإفضاء هو أحد المقاصد الأساسية للشريعة في شأن الأسرة، ومن ذلك قوله تعالى: " هو الذي خَلقَكُم من نفسٍ واحدةٍ وجعَلَ منها زَوجَها ليسكُنَ إليها" (الأعراف/189)، وقوله تعالى: " هنّ لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهنّ" (البقرة/187)، وقوله صلى الله عليه وسلّم: حُبّب إليّ من دنياكم النساء والطيب، وجُعلت قرّة عيني في الصلاة"(2)، والمقصود بحبّ النساء في الحديث ما يوجد في الزوجة من ألفة وسعادة وهناء، وكلّ ذلك مندرج ضمن الإفضاء النفسي.
__________
(1) يعتبر أكثر الفقهاء أنّ العيوب التي تحول دون تحقيق المتعة الجنسية للزوج والزوجة سواء كانت أصلية أو طارئة مبرّرا كافيا لإبطال عقد الزواج من أيّ طرف منهما. قال العلائي: " ومنها الجنون والجذام والبرص والجبّ [ = قطع المذاكير ] إذا كان بالزوج وقارن ابتداء العقد ثبت للزوجة الخيار، وكذلك إذا حدث في دوام النكاح" ( العلائي ـ المجموع المذهب في قواعد المذهب:2/733) وراجع أيضا: محمد مهدي شمس الدين ـ مقاصد الشريعة: 41.
(2) أخرجه النسائي ـ باب حبّ النساء.(1/22)
وقد جاءت أحكام الشريعة وتوجيهاتها تهدف فيما تهدف إلى تحقيق هذا المقصد، فقد اعتبر الارتباط الأسري ابتداء ميثاقا غليظا، وهو تعبير يوحي بما ينشأ عن العشرة الزوجية من التقارب والتمازج بين الزوجين ممّا يجعل الصلة بينهما تبلغ من القوّة والمتانة تقاربا وتآنسا وتحاببا بحيث يصبح ما ينشأ بينهما من ذلك كالميثاق الغليظ الذي يتعاهدان عليه، وهو ما أشار إليه الرازي في قوله شارحا هذه الآية:" قالوا: صحبة عشرين يوما قرابة، فكيف بما يجري بين الزوجين من الاتّحاد والامتزاج"(1)، فيكون إذن الإفضاء النفسي غاية من غايات التشريع للزواج والبناء الأسري. ويشمل هذا الإفضاء الأبناء أيضا فيما بينهم وفيما بينهم وبين آبائهم، فمن مقاصد الشريعة إقامة اللحمة النفسية المتينة بين هذه العناصر الأسرية جميعا،لتكون الأسرة كلّها خليّة محبّة وسعادة ووئام.
وفي سبيل تحقيق ذلك انبنت أحكام الأسرة على كلّ ما من شأنه أن ينزع بين أطرافها أسباب الفرقة، ويغرس أسباب الوئام، وما تحديد المواريث بصفة دقيقة إلاّ مندرجا في هذا السياق، وكذلك كلّ الأحكام المبيّنة للحقوق والواجبات لكلّ عضو من أعضاء الأسرة، ناهيك عن تلك التوجيهات الأخلاقية المتعلّقة بكلّ فرد من أفراد الأسرة تجاه أفرادها الآخرين، فقد تواردت الأحكام الشرعية، والتوجيهات الأخلاقية، والإرشادات التربوية على ذات المعنى، فعُلم بهذا الاطّراد أنّ الإفضاء النفسي مقصد أساسي من مقاصد التشريعات الأسرية، وهو ما ينبغي أخذه بعين الاعتبار عند الاجتهاد في الشؤون الأسرية.
3 ـ مقصد التماسك الاجتماعي:
__________
(1) الرازي ـ التفسير الكبير: 10/18(1/23)
إذا كانت للأحكام الشرعية مقاصد تروم تحقيقها في ذات الأسرة سعادة لأفرادها في عيشهم المشترك، وإشباعا لأشواقهم في البقاء بحفظ النسل، فإنّ لها مقاصد تروم تحقيقها في المجتمع من خلالها؛ ذلك لأنّ الأسرة هي الخليّة الأولى من خلايا المجتمع، فمستقبله من نهضة وارتكاس يتوقّف إلى حدّ كبير على ما تكون عليه الأسرة من حال الرقيّ أو التدنّي، وإذن فإنّ الأسرة في المفهوم الإسلامي ليست شأنا شخصيا يهمّ أفرادها فحسب، وإنّما هي شأن اجتماعي، فينبغي إذن أن تُبنى الأحكام الشرعية المنظّمة لها على ما يؤدّي إلى مقاصدها في المجتمع بالإضافة إلى ما يؤدّي إلى مقاصدها في ذاتها.
ومن أبرز ما يدلّ على المقصد الاجتماعي من الأسرة أنّ الدين قد اعتبرها في خطابه شأنا اجتماعيا وليس شأنا شخصيا، وأوكل شطرا كبيرا من شؤونها إلى المجتمع يرى فيه رأيه، ويعالجها بمعرفته، ولا أدلّ على ذلك من أنّ الخطاب في هذه الشؤون جاء خطابا جماعيا بالرغم ممّا تبدو عليه هذه الشؤون من صبغة شخصية لا تتعلّق إلاّ بذات الأسرة، وذلك مثل قوله تعالى:" ولا تُنكحُوا المشركين حتى يُؤمنُوا" ( البقرة/221)، وقوله:" وأَنكِحُوا الأيامى منكم والصالحين من عبادِكم وإمائكُم " ( النور/32)، وقوله:" وإن خِفتم شِقاقَ بينِهما فابعثُوا حَكَما من أهلِه وحكَمًا من أهلِها" (النساء/35)، فهذا الخطاب القرآني المطّرد في شؤون الأسرة لجماعة المسلمين يدلّ على أنّ في أحكام الأسرة مقصدا اجتماعيا أساسيا.(1/24)
ولعلّ هذا المقصد الاجتماعي العامّ للأسرة هو أن تكون هذه الأسرة عامل وحدة اجتماعية، وذلك بما يفضي إليه بناؤها ابتداء وتصرّفاتها بعد البناء من تقوية اللحمة بين أفراد المجتمع وفئاته، بحيث يكون للأسرة دور اجتماعي أساسي فيما يسوده من التآلف، وما يربطه من صلات الودّ، وما يسود فيه من قيم الأخلاق، وما يحكمه من القوانين والآداب، دون أن تبقى حبيسة ذاتها ولو كان ذلك من أجل تحقيق مصالحها التي يعود حقّا نفعها عليها في ذاتها ولكن على وجه الاقتصار الذي لا يتعدّى به شيء من ذلك النفع إلى المجتمع فضلا عن أن يكون مفضيا إلى ضرر به.
ويبدو هذا المقصد في أحكام الشريعة وتوجيهاتها في شأن الأسرة ابتداء من التوجيهات التربوية لأعضائها جميعا، التزاما لآداب الرعاية المتبادلة والتعاون المشترك، وخضوعا لمقتضيات الحقوق والواجبات، وأخذا في التعامل بالبرّ والاحترام والمودّة والرحمة، فذلك كلّه لئن كان مقصودا منه أن تعيش الأسرة الحياة السعيدة، إلاّ أنّه مقصود منه أيضا إعداد الناشئة في نطاق الأسرة ليعيشوا الحياة الاجتماعية المتطلّبة لكلّ تلك الصفات، فكأنّ الأسرة بهذه التوجيهات تغدو محضنا تدريبيا يهيّئ للحياة في المجتمع حياة التضامن والتكافل والوحدة والتعاون.
والمتأمّل في أحكام الأسرة ابتداء من الخطبة إلى الطلاق يجد خيطا رابطا بينها جميعا قد يظهر جليّا أحيانا، وقد يدِقّ أحيانا أخرى فلا يُدرك إلاّ بالتأمّل، وهو العمل على تقوية الرابطة الاجتماعية في أوسع مدى ممكن من الدوائر، والعمل على نزع أسباب التنافر والتنازع التي يمكن أن تنشب فيها. وأوّل ما يبدو ذلك في النهي النبوي عن الزواج من الأقارب، فكأنّ المقصد من ذلك إلى جانب المصلحة الصحّية توسيع دائرة الآصرة الأسرية إلى أبعد ممّا يتحقّق بزواج الأقارب، فإذا مقتضيات الألفة والتعاون والمودّة تمتدّ من دائرة الأسرة الصغيرة إلى دائرة الصهر الأوسع.(1/25)
ومن أحكام الأسرة أن يكون تأسيسها بالزواج شأنا اجتماعيا يشرف عليه الأهل من الطرفين بالولاية، ويشارك فيه المجتمع بالإشهار، فإذا ما شابتها أثناء رحلة الحياة شوائب الشقاق أشرف المجتمع على ذلك بتحكيم حكمين من أهل الزوج والزوجة للحيلولة دون ما عسى أن يتركه ذلك الشقاق من أثر سلبي على العلاقات التي كانت قد توطّدت بآصرة الصّهر، وذلك إمّا استئنافا المعاشرة بالمعروف أو إنهاء لها بإحسان.(1/26)
وفي هذا الافتتاح لبناء الأسرة بإشراف المجتمع، وفي تعهّده بعد ذلك لتقويم بنيته، وفي الإشراف على إنهائه بالإحسان إذا ما اقتضى الحال ما يوحي بأنّ لأحكام الأسرة فيما بين مبتدئها ومنتهاها مقصدا اجتماعيا يقوم على وحدة المجتمع وتآلفه وترابطه ينتظمها جميعا سواء كان بيّنا أو خفي بعض الخفاء(1).
4 ـ مقصد الشهادة على الناس:
__________
(1) لامس الفقهاء والأصوليون هذا البعد الاجتماعي للأسرة باعتباره مقصدا من مقاصدها، ولكنّهم فيما نعلم لم يذهبوا به بعيدا ، فبقي جزئيا محدودا، ومن ذلك ما قاله صاحب المبسوط:" يتعلّق بهذا العقد [ عقد النكاح ] أنواع من المصالح الدينية والدنيوية، من ذلك حفظ النساء والقيام عليهن والإنفاق، ومن ذلك صيانة النفس عن الزنا، ومن ذلك تكثير عباد الله وأمّة الرسول صلّى الله عليه وسلّم" ( السرخسي ـ المبسوط: 4/193)، وإلى مثل ذلك ذهب الإمام الغزالي ( راجع : إحياء علوم الدين: 28 وما بعدها)، وقد وقف ابن عاشور بهذا البعد الاجتماعي في مقاصد الشريعة عند حدّ آصرة الصهر في غير بيان كاف لما يمتدّ به ذلك إلى الجسم الاجتماعي الأكبر من روابط يتماسك بها ويتوحّد ( ابن عاشور: مقاصد الشريعة الإسلامية: 345 وما بعدها)، وقد كان أبو زهرة أبعد في ارتياد البعد الاجتماعي للأسرة حينما قال: " فإذا كان الإنسان حيوانا اجتماعيا لا يعيش إلاّ في مجتمع، فالوحدة الأولى لهذا المجتمع هي الأسرة هي الأسرة، فهي الخلية التي تتربّى فيها أنواع النزوع الاجتماعي في الإنسان عند أوّل استقباله للدنيا، ففيها يعرف ما له من حقوق، وما عليه من واجبات، وفيها تتكوّن مشاعر الألفة والأخوّة الإنسانية، وتبذر بذرة الإيثار" ( أبو زهرة: الأحوال الشخصية: 19).(1/27)
لقد حرص الإسلام حرصا شديدا على أن تكون الأسرة أنموذجا للتديّن الصحيح، وأن يكون ذلك متحقّقا في بواطن أحوالها وفي ظواهرها، وذلك ليكون هذا التديّن سيرة ينشأ عليها الأبناء ابتداء، وليكون أيضا ملحظا للناس في المجتمع المحيط فيؤخذ مأخذ التأسّي به والعمل على تقليده، إذ حينما تكون الأسرة قائمة على حدود الله تعالى تطبّقها في كلّ أحوالها فإنّ ذلك سيثمر فيها سعادة في الحياة ونجاحا فيها، وهو ما من شأنه أن يكون مجلبة للتّأسّي بالنتائج يدفع حتما إلى التأسّي بالأسباب التي هي التمسّك بأحكام الدين التي أثمرت السعادة والنجاح، وعلى هذا المعنى فإنّ الأسرة الإسلامية هي أسرة ذات بعد رسالي، تشهد بتديّنها على أنّ هذا التديّن هو سبب الفلاح، فيقوم ذلك مقام التبليغ الديني تبليغا عمليا.
ولعلّ هذا البعد الرسالي في بناء الأسرة يدلّ عليه أبلغ دلالة ما جاء في التشريع الأسري من أنّ الاستمرارية في الحياة الأسرية أو التوقّف عنها بالانفصال يتوقّف على مدى تطبيق أحكام الشريعة فيها، فإذا ما كانت تلك الأحكام مطبّقة كان ذلك عامل استمرار، وإذا ما أصبحت منتهكة كان ذلك مبرّر انفصال، وهو مقتضى قوله تعالى:" فإن خفتم ألاَّ يُقيما حُدودَ الله فلا جُناح عليهما فيما افتدت به تلكَ حدودُ الله فلا تعتَدُوها" ( البقرة/229)، " وحدود الله استعارة للأوامر والنواهي الشرعية بقرينة الإشارة"(1).
__________
(1) ابن عاشور ـ التحرير والتنوير:2/413.(1/28)
ومن مدعّمات البعد الرسالي للأسرة كما في هذه الآية التعبير القرآني عن الالتزام بأحكام الشريعة بإقامة حدود الله، ففي هذا التعبير معنى الإظهار مستفادا من لفظ الإقامة ومن لفظ الحدود، فكلّ منهما يومئ إلى الإعلان في التزام الأحكام الضابطة للحقوق والواجبات والموجّهة للتعايش بالمعروف. ومن ذلك أيضا التوجّه بالخطاب في الخوف من ألاّ تقوم أحكام الشريعة في الأسرة إلى عامّة المسلمين أي إلى المجتمع الإسلامي، فذلك يومئ إلى أنّ الالتزام بهذه الأحكام في نطاق الأسرة هو أمر يهمّ المجتمع الذي يشهد ذلك الخلل فيتأثّر به سلبا بعض المتأثّرين، كما يشهد حال الالتزام الأسري بالأحكام فيكون لذلك الأثر الإيجابي في الكثير من أفراده.
ولعلّ من مؤكّدات هذا البعد الرسالي أيضا تعليق انفصال الرابطة الأسرية بالخلع على الخوف من عدم الالتزام بالأحكام الشرعية وليس على وقوع ذلك فعلا، وذلك ما يشير إلى ما لتعطيل الأحكام الشرعية في الحياة الأسرية من الأثر السلبي على المجتمع، فيكون مبرّرا لتلافيه قبل وقوعه، وهو ما أشار إليه الإمام الطبري في قوله:"إنّ الله تعالى ذكره إنّما أباح للزوج أخذ الفدية من امرأته [ وإنهاء العلاقة الأسرية بالخلع] عند خوف المسلمين عليهما أن لا يقيما حدود الله"(1).
إنّ هذا البعد الرسالي في البناء الأسري يرقى في حسباننا إلى أن يكون مقصدا هامّا من مقاصد الشريعة في أحكام الأسرة، وقد نجد بتتبّع تلك الأحكام ما يؤيّد ذلك من خيط رابط بينها جميعا يظهر أحيانا ويدقّ أحيانا أخرى، وهو المتمثّل في أنّ تلك الأحكام أسّست في الإيجاب والمنع والإجازة على ما تفضي إليه من أسباب تدعو الأسرة إلى إقامة دينها بمقتضى أُسَرِيتها، أو تدعوها إلى خلاف ذلك، فأيّما تصرّف يساعد الحياة الأسرية على إظهار التديّن يكون مطلوبا في الشريعة، وأيّما تصرّف انتهى إلى خلاف ذلك يكون ممنوعا.
__________
(1) الطبري ـ جامع البيان:2/631(1/29)
وعلى سبيل المثال فإن الشريعة حكمت في البناء الأسري ابتداء بأن يقوم على قبول الطرفين للاشتراك في هذا البناء؛ لأنّ ذلك أدعى إلى أن يلتزم كلّ منهما بمقتضيات الحياة الزوجية من الأحكام، والعكس صحيح، والتوجيه إلى التحرّي في اختيار الزوج تأسيسا على التديّن والكفاءة بصفة أساسية يندرج ضمن ذلك أيضا، والحكم بانبناء الزواج على الدوام يدعو الزوجين إلى التديّن خلافا لانبنائه على التأجيل والتوقيت " فإنّ الدخول على عقدة النكاح على التوقيت والتأجيل يقرّبه من عقود الإجارات والأكرية ... فإنّ الشيء المؤقّت المؤجّل يهجس في النفس انتظار محلّ أجله ويبعث فيها التدبير إلى تهيئة ما يخلفه به عند إبّان انتهائه ... وهذا يفضي لا محالة إلى ضعف الحصانة"(1). وهكذا فإنّه عند استقراء الأحكام الشرعية المتعلّقة بالأسرة يتبيّن أنّ مقصد أن تكون الأسرة بها شاهدة على الناس بما تظهر من دين تبلّغه إليهم تبليغا عمليا بسيرتها وتصرّفاتها وسعادتها ونجاحها هو مقصد مهمّ من مقاصد تلك الأحكام، وهو ما ينبغي أخذه بعين الاعتبار في الاجتهاد في هذا الشأن.
ثالثا ـ مقاصد الأحكام موجَّهة للأسرة المسلمة في الغرب:
__________
(1) ابن عاشور ـ مقاصد الشريعة: 35(1/30)
إنّ المقاصد العامّة للأسرة المسلمة كما بيّنّاها هي ذات المقاصد بالنسبة لأحكام الأسرة المسلمة بالغرب، إلاّ أنّ خصوصيات هذه الأسرة كما شرحناها آنفا تستلزم عند الاجتهاد في الأحكام المتعلّقة بها من جهة تلك الخصوصيات أن تُرتّب المقاصد لبناء الأحكام عليها ترتيبا مناسبا لخصوصياتها، وأن تُوجَّه بحسبها، سواء من حيث مساحة الاهتمام وحجم الاعتبار، أو من حيث الترجيح عند التقابل، فربّ مقصد من مقاصد أحكام الأسرة يكون في المجتمع الإسلامي غير حاضر في الاعتبار الاجتهادي إلاّ قليلا يصبح في حال الأسرة بالغرب يتصدّر الأولوية في ذلك الاعتبار لما تقتضي خصوصياتها من ذلك، فمقصد الشهادة على الناس على سبيل المثال ليس موقعه في المعالجة الفقهية لأوضاع الأسرة المسلمة بالمجتمع الإسلامي مثل موقعه في معالجة أحوال الأسرة المسلمة بالغرب، إذ الدور الدعوي التبليغي لهذه باعتبار عيشها في مجتمع غير إسلامي أقوى وآكد منه لتلك باعتبار عيشها في مجتمع إسلامي، وهو ما يترتّب عليه توجيه بعض الأحكام توجيها يختلف بين الوضعين.
إنّ الأسرة المسلمة بالغرب تواجه من التحدّيات ما لا تواجهه الأسرة المسلمة بالمجتمع الإسلامي، وتُطلب منها مهامّ غير ما تُطلب منها، وهو ما يقتضي أن تكون الأحكام في كلّ منهما دائرة بحسب تلك التحدّيات والمهامّ، وذلك وفق استهداء بالمقاصد التي تناسبها مواجَهة للتحدّيات وإنجازا للمهامّ: تقديما وتأخيرا، وتوسيعا وتضييقا، وهو ما يستدعي فقها دقيقا توازن فيه أطراف ثلاثة للانتهاء إلى الحلول الفقهية الناجعة: المقاصد الشرعية العامّة للأسرة المسلمة، والخصوصيات الواقعية للأسرة المسلمة بالغرب، والترتيب للمقاصد العامّة بما تقتضيه الخصوصيات الواقعية. وفيما يلي بعض الأمثلة العامّة لذلك.
1 ـ الأسرة المسلمة بالغرب ومقصد حفظ النوع:(1/31)
تعاني الأسرة بالغرب مشكلات كثيرة لعلّها من أعوص ما يعاني الغرب من مشكلات، فهذه الأسرة هي ابتداء مهدّدة في وجودها، إذ العزوف عن الزواج ظاهرة متفشّية في المجتمع الغربي، والعزوف عن الإنجاب سيرة عامّة فيه، ممّا أدّى إلى شيخوخة هذه المجتمعات وأيلولتها إلى التناقص، وإنجاب الأطفال في نطاق المعاشرة غير الشرعية أمر رائج ومعترف به قانونيا ممّا أفضى إلى تفكّك الأسرة وانحلال روابطها أو ارتخائها إلى ما يقارب الانحلال(1)، وعلى النطاق الفلسفي ظهرت بعض الأصوات تدعو إلى التخلّص من الشكل التقليدي للأسرة فيما يشبه الدعوة إلى إلغائها والاستعاضة عنها بأشكال أخرى أكثر تحرّرا.
والأسرة المسلمة بالغرب تعيش هذا المناخ من الأزمات الأسرية، وهي وإن لم تبلغ منها هذه الأزمات مبلغا مؤثّرا إلاّ أنّها عرضة لأن يتمّ في شأنها ذلك بمرور الزمن، وهو ما يدعو إلى أن تتّجه الأحكام الشرعية المتعلّقة بها الوجهة التي تعصمها من هذا المآل، وذلك بأن يكون مقصد حفظ النوع بالمعاني التي شرحناها آنفا مقصدا حاضرا بقوّة في هذه الأحكام، وأن تكون الفتاوى التي تصدر في شأن الأسرة المسلمة آخذة إيّاه بعين الاعتبار بقدر كبير من الكثافة، دائرة معه حيث يدور بقدر كبير من الوعي الفقهي.
__________
(1) أدّت موجة الحرّ التي ضربت فرنسا صائفة 2003 إلى وفاة 15 ألفا من المسنّين، ثلثهم توفّوا في منازلهم في حال من الوحدة، ولم يعرف أمر موتهم في الغالب إلاّ استدلالا بالروائح الكريهة الناشئة عن تعفّن أجسامهم.(1/32)
وممّا يؤكّد هذه الضرورة في إبراز مقصد حفظ النوع أنّه مقصد مغفول عنه في الفكر الفقهي بصفة عامّة، ولعلّ من أسباب ذلك أنّ الحاجة لم تكن داعية إلى إبرازه، إذ الواقع الإسلامي جار على حفظ النوع بصفة تلقائيّة وإن يكن بمعنى أضيق من معناه الحقيقي، إذ حفظ النوع بالتربية لم يكن آخذا حظّه اللائق به في هذه التلقائية. وممّا يؤكّد ذلك أيضا ما تفشّى بين المسلمين من دعوة إلى تحديد النسل أوشكت أن تنشئ في بعض البلاد الإسلامية ثقافة عامّة بدأت آثارها تظهر في تناقص النموّ الطبيعي لعدد السكّان، بل أصبحت تهدّد بالأيلولة إلى التناقص في هذا العدد والشيخوخة في المجتمع(1).
إنّ هذه الدواعي مجتمعة تستلزم من الاجتهاد الفقهي في شأن الأسرة بالغرب أن يبرز هذا المقصد عند تحرير الأحكام والفتاوى،ليكون حاضرا بقوّة عند النظر في قضاياها لحلّ مشاكلها، وذلك في اتّجاه الحثّ على البناء الأسري بالزواج، والحثّ على الإنجاب في نطاقه، ميلا بهما إلى حكم الوجوب من بين الأحكام التي تعتري الزواج كما قرّرها الفقهاء نظرا إلى الظرف الذي يعيشه المسلمون بالغرب، وفي اتّجاه التيسير في كلّ ما يتعلّق بالأسباب المساعدة على الزواج والإنجاب، والتشديد في كلّ ما يتعلّق بالعزوف عنهما، وبإقامة العلاقات الجنسية خارج نطاق الأسرة، وبتعطيل الإنجاب أو تقليصه بدون أعذار شرعية، وبالتقصير في العلاقة بين الآباء والأبناء، وبالقصور في الرعاية التربوية الأسرية، حتى ينتهي الأمر إلى أن يجري على اليسر كلّ الأحكام والفتاوى المتعلّقة ببناء الأسرة وأدائها وظيفة الإنجاب على أفضل الوجوه، وأن يجري منها على الشدّة كلّ ما يفضي فيهما إلى التفريط كمّا وكيفا بأيّ وجه من الوجوه.
__________
(1) تشير الإحصائيات في تونس إلى أنّ المجتمع بلغ حافّة التوقّف عن النموّ العددي، ومن مؤشّرات ذلك أنّ عددا كبيرا من المدارس أغلقت أبوابها أو على وشك أن تغلقها بسبب تناقص عدد الأطفال.(1/33)
2 ـ مقصد الإفضاء موجِّها لأحكام الأسرة بالغرب:
تواجه الأسرة المسلمة في الغرب تحدّيات كبيرة في خصوص العلاقة الأسرية سواء في شقّها المادّي أو في شقّها النفسي؛ وذلك لما تتعرّض له من غواية عاتية من طرف المجتمع الذي أصبحت جزء منه، والثقافة السائدة فيه، فالمغريات المادّية جنسية واستهلاكية شديدة الوطأة على الأسرة بما تُروّج به من دعاية واسعة النطاق نافذة المفعول، والقوانين الأسرية السائدة والملزمة للأسرة المسلمة تنطبع في كثير منها بطابع الحدّية القانونية الجافّة التي تضيّق كثيرا من مساحة الإحسان بين أفراد الأسرة زوجين وأبناء(1)، ومن شأن هذه التحدّيات جميعها أن تؤثّر تأثيرا سلبيا على العلاقة الأسرية في اتّجاه الفتور والارتخاء والتفكّك، وهو مناقض لما جاءت الشريعة لتحقيقه متمثّلا في مقصد الإفضاء بالمعنى الذي شرحناه سابقا، وهو ما يستدعي أن يتّجه الاجتهاد في شأن الأسرة المسلمة بالغرب أحكاما وفتاوى إلى أن يجعل هذا المقصد أصلا أساسيا من أصوله ليبني تلك الأحكام والفتاوى على ما يحقّق ذلك المقصد، ويواجه التحدّيات الكثيفة المواجهة له، والعاملة على هدمه.
ولعلّ الإفضاء الجنسي من أهمّ ما ينبغي أن يكون مرعيا في هذا الخصوص؛ وذلك لاعتبارات ثلاثة على الأقلّ: أوّلها، شدّة الغواية فيه متمثّلة في الإباحية الجنسية الجارفة السارية في المجتمع الغربي. وثانيها، شدّة تأثير هذه الغواية في المسلمين وأكثرهم من الشباب الذين لا عهد لهم بهذه الإباحية والذين هم أساسا من أرومة عرف طبعها بالتفاعل الكثيف مع الظاهرة الجنسية. وثالثها، الضعف الشديد لدى المسلمين في الثقافة الجنسية في وجهها المشروع الذي تبيحه تعاليم الإسلام.
__________
(1) في الكثير من البلاد الأوروبية يمكن أن يشتكي الأبناء آباءهم إلى السلطة الحاكمة بسبب معاملتهم إيّاهم، ويمكن بيسر أن ينتزع هؤلاء الأبناء منهم، بل يمكن أن يودع الآباء السجن بهذه الشكاوى.(1/34)
إنّ الجنس في المجتمع الغربي يكاد يكون محورا أساسيا من محاور الاهتمام في الوسائل الدعائية والإعلامية، وتتفنّن تلك الوسائل في عرضه وتسويقه فنونا كثيرة تذهب بألباب ذوي الحزم فما بالك بمن دونهم من عامّة الناس، ويتعرّض المسلمون إلى ذلك وزادهم الثقافي الجنسي من منظور إسلامي زاد ضعيف إن لم يكن معدوما، إذ يستقرّ في مخزونهم الثقافي أنّ التثقيف الجنسي يُعدّ من العيوب المسقطة للهيبة، والمخالفة للحياء، وربّما المخالفة للدين، فتفعل بهم إذن تلك الدعاية الجنسية الأفاعيل سواء كانوا أزواجا أوعزبة، وقد ينتهي الأمربالأسرة إلى التفكّك لأنّ أحد الزوجين وهو في الغالب الزوج لم يجد في الطرف الآخر ما يشبع رغبته الجنسية بحسب ما يشاهده في الدعاية الجنسية العاتية من فنون(1).
ولمواجهة هذه الأحوال ينبغي أن تتّجه المعالجة الفقهية إلى الإفتاء بما يحقّق للمسلم والمسلمة أقصى درجة من المتعة الجنسية بالتفنّن في الكيفيات، والتنويع في الأساليب، ابتداء من مرحلة التمهيد وانتهاء إلى درجة الإشباع، والتوجيهات الشرعية في هذا الشأن تتّسع لكلّ ذلك، إذ قد حوّطت هذا الأمر بحدود واسعة تتمثّل في منع التبرّج للمرأة خارج دائرة زوجها، وفي اتّقاء الحيضة والدبر، ثمّ تركت المساحة واسعة بين تلك الحدود، موجّهة إلى استثمار تلك المساحة بأوسع ما يمكن من الاستثمار، وهو ما يفيده قوله تعالى فيما يعتبر دستورا للمعاشرة الجنسية بين الأزواج: " نساؤُكُم حرثٌ لكم فأتُوا حرثكُم أنّى شئتُم" (البقرة/223)، فالآية وسّعت من كيفيات الاستمتاع بما لا يحدّه إلاّ تلك الحدود التي فيما وراءها لا يتحقّق حرث ولا نتائج الحرث.
__________
(1) تقع في أوروبا حالات طلاق كثيرة بين المسلمين بهذا السبب، وتقع حالات تعدّد في الزوجات كثيرة بسببه مع ما ينجرّ عنها من مشاكل زوجية تذهب بمقصد الإفضاء.(1/35)
إنّ الفقه الأسري بصفة عامّة، والمتعلّق منه بالأسرة المسلمة بالغرب بصفة خاصّة ينبغي أن يقتحم المجال الجنسي بما هو أوسع بكثير من المعهود، وأن تتّجه فيه الأحكام والفتاوى إلى ما يحقّق مقصد الإفضاء الجنسي في حدود الفضاء الشرعي الواسع في هذا الشأن، وأن يتخلّى عن الاحترازات والتحوّطات والمحاذير التي تسود الفقه في هذا المجال تأثّرا بوهم أنّ الخوض فيه والتفصيل في فروعه وجزئيّاته غير لائق بهيبة العلم وقداسة الشرع، وليكن التأسّي في ذلك بالسّنّة النبوية، فقد جعل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم المتعة الجنسية في نطاق الزوجية صدقة إذ قال:" وفي بضع أحدكم صدقة"(1)، وروى أبو داود في سننه أنّه صلّى الله كان يقبّل عائشة ويمصّ لسانها(2)، وفي هذا السياق جاءت أحاديث كثيرة تفيد مطّردة أنّ دائرة المتعة الجنسية الحلال هي إحدى دوائر البيان الديني(3)، فينبغي أن تكون دائرة فقهية تُبيّن فيها الفتاوى والأحكام بتفصيل تحقيقا لمقصد الإفضاء الجنسي إلى أقصى درجة ممكنة فيه، وإلاّ فإنّ الكثير من المسلمين إذا لم يجدوا فيها بيانا شرعيا فإنّهم ستجرفهم الثقافة غير الشرعية في هذا الشأن لشدّة سطوتها الدعائيّة المغوية.
__________
(1) أخرجه النووي في شرحه على مسلم ( 7/92، دار إحياء التراث 1392)
(2) أخرجه أبو داود في الصوم،باب الصائم يبلع الريق.
(3) راجع: الغزالي ـ إحياء علوم الدين:2/56 وما بعدها، وابن القيّم ـ أعلام الموقّعين:263 وما بعدها، وجامع الفقه: 5/211 وما بعدها. وقد خصّص الراغب الأصبهاني فصلا واسعا في كتابه المحاضرات للمعاشرة الجنسية وآدابها وإن تكن الصبغة الأدبية فيه تغلب على الصبغة الفقهية، إلاّ أنّ ذلك يدلّ على أنّ التثقيف الجنسي يمكن أن يشارك فيه عالم الدين مثل الراغب صاحب مفردات القرآن وغيره من المؤلّفات العقدية والقرآنية الكثيرة.(1/36)
وفيما يتعلّق بالإفضاء النفسي من مودّة ورحمة وسكن وتعاون بين أفراد الأسرة فإنّ الأسرة المسلمة بالغرب تواجه أيضا تحدّيات كبيرة فيه، وذلك لتعدّد الأسباب النفسية والاجتماعية الداعية إليه، من نزعة مادّية في التعامل الأسري، ومن الضوابط القانونية المحدّدة للعلاقة بين أفراد الأسرة والمتّصفة بالحدّية والجفاء، ومن ثقافة الاستهلاك التي ترهق ميزانية الأسرة فتفضي إلى الخلافات والخصومات، ومن تباين ثقافي وحضاري إذا كانت الزوجة غير مسلمة، فهذه الأسباب وغيرها كثير من شأنها أن تصيب الإفضاء النفسي بين الزوجين وبينهما وبين الأطفال إصابات بالغة، وهو ما تشهد له حالات كثيرة واقعة في الأسرة المسلمة بالغرب بادية على سبيل المثال في تفشّي ظاهرة النشوز في هذه الأسرة على نطاق واسع(1).
إنّ هذه التحدّيات الكثيرة المعارضة للإفضاء النفسي تستلزم من الفقه المعالج لأحوال الأسرة المسلمة بالغرب أن يعمل بأحكامه وفتاويه على مواجهتها، وقطع السبل ما أمكن دون تأثيرها السلبي، وذلك بأن يقع الاتّجاه بتلك الأحكام والفتاوى إلى دائرة الإحسان أكثر من الاتّجاه بها إلى دائرة الحقوق الحدّية الجافّة ما كان ذلك منضبطا بالحدود الشرعية.
__________
(1) راجع في هذه الظاهرة: العمراني ـ فقه الأسرة المسلمة في المهاجر: 2/79 وما بعدها.(1/37)
ويمكن أن يكون ذلك على سبيل المثال بأن يُفتى في شأن المشاكل الناشبة في العلاقة الزوجية بفتاوى تأخذ بالمعروف أساسا للعشرة الزوجية، وتتوسّع في مفهومه ليبلغ أقصى مدى من المخالقة والاحترام والإحسان، وتفصّل فيه من الصور ما يناسب الأعراف والعادات، إذ هو مفهوم قابل للتوسّع عبر الأزمان كما لاحظه ابن عاشور في قوله" تحت هذا [ المعروف ] تفاصيل كبيرة تؤخذ من الشريعة، وهي مجال لأنظار المجتهدين في مختلف العصور والأقطار"(1). وكأن يُفتى في القوامة بالفتاوى التي تتّجه بها نحو أن تكون شورية شرفية وليست تسلّطية تعسّفية. وكأن يُفتى في معالجة النشوز بما هو أبلغ لاستجابة النفوس، وأوفق لأعراف الناس السائدة، وأبعد عن تفاقم الخلاف من حيث أُريدت معالجة أسبابه(2)، وهكذا يقع الاتّجاه في كلّ الأحكام والفتاوى نحو ما يحقّق مقصد الإفضاء النفسي كما يتحقّق به في ظروف الخصوصية التي تعيشها الأسرة المسلمة بالغرب(3).
3 ـ الأسرة المسلمة بالغرب ومقصد التماسك الاجتماعي:
__________
(1) ابن عاشور ـ التحرير والتنوير:2/400.
(2) ما زال بعض المفتين في بلاد الغرب يفتي في معالجة النشوز بضرب الزوجة، والحال أنّ هذا يُعتبر جريمة في القانون، وإهانة بليغة في العرف لا تثمر إلاّ المزيد من التمزّق العائلي، فضلا عن كونه في الشرع محوطا بقيود كثيرة تكاد ترمي به في منطقة المنع.
(3) درج المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث في قراراته وفتاواه على اتّباع هذا المنهج الذي يعتمد بيان الأحكام في نطاق الإحسان والمودّة والرحمة، دون الاكتفاء ببيانها حدّية جافّة، راجع: قرارات وفتاوى المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث : المجموعة الأولى والثانية: 17، 119(1/38)
تجد الأسرة المسلمة بالغرب نفسها خليّة غير موصولة بمحيطها الطبيعي المتمثّل في النسيج الاجتماعي الإسلامي، إذ هي في الغالب تفتقد الأسرة الموسّعة المترابطة بالقرابة، كما أنّها تفتقد المحيط الإسلامي المكثّف اجتماعيا وجغرافيا، إذ هذا المحيط هو في الغالب مكوّن من أسر غير إسلامية تكون العلاقة بها شبه منعدمة للتباين الثقافي والديني والحضاري، وهذا الوضع الاجتماعي للأسرة المسلمة يشكّل إزاءها تحدّيات اجتماعية وتربوية ونفسية كثيرة، فهي إذ تجد نفسها فيما يشبه العزلة الاجتماعية لا تتمكّن من أن تمتدّ بالتواصل النفسي والاجتماعي عبر نسيج من دوائر القرابة الدموية والعقدية، وتكون النتيجة سلوكها مسلك الانكماش والتقوقع على الذات، فتنزل بسبب ذلك الحصيلة التربوية للأسرة إلى مستويات متدنّية، وهو ما يضعف إلى حدّ كبير البعد الاجتماعي الذي جاءت الشريعة تعمل على تأسيسه في الأسرة لتتحقّق به اللحمة الاجتماعية الشاملة، وهو ما يؤدّي إلى تعطيل دور أساسي من أدوارها التي جعلته الشريعة مقصدا هامّا من مقاصدها.
وهذا الوضع الانعزالي الذي تجد الأسرة المسلمة بالغرب نفسها فيه ينبغي أن تتّجه الأحكام الفقهية المعالجة لأحوالها إلى تفكيكه لتأخذ هذه الأسرة طريقها نحو الامتداد الاجتماعي، ولتكتسب في ذلك من الخبرات التربوية والنفسية ما يعود بها شيئا فشيئا نحو القيام بدورها في التماسك الاجتماعي المقصود من الشرع. ويمكن في هذا الصدد الانطلاق في اتّجاهين: اتّجاه الوجود الإسلامي المحيط بالأسرة مهما بدا متفرّقا أو متباعدا، والمجتمع غير الإسلامي الذي يشكّل المحيط الأكبر للأسرة المسلمة، لتوجّه الأحكام والفتاوى في شأن الصلة بهذين المحيطين الوجهة التي تؤول بهذه الأسرة إلى التفاعل الاجتماعي الذي يثمر فيها بعدا اجتماعيا يمكّنها من أن تسهم في ترابط المجتمع وتماسكه.(1/39)
أمّا فيما يتعلّق بالعلاقة مع الوجود الإسلامي فيكون اتّجاه الأحكام والفتاوى اتّجاها تعمل فيه على تفعيل أسباب التواصل والتعاون، ونزع أسباب التباعد والفرقة، وذلك لتتجاوز الأسرة المسلمة القيود الجغرافية والديموغرافية للعزلة، وتتكوّن بين الأسر المسلمة ما يشبه المجتمع المصغّر من خلال ما يتأسّس من منتديات جامعة مثل المراكز الاجتماعية والجمعيات الثقافية والمؤسّسات التربوية والاقتصادية لتكون محضنا اجتماعيا للأسر المسلمة يمتدّ فيها بعضها إلى بعض، وتتكوّن بينهم العلاقات التي جاء الدين يأمر بامتدادها بين المسلمين من تآخ وتعاون وتآزر وتناصر.
كما تتّجه الأحكام والفتاوى اتّجاها تزول به أسباب الفرقة بين المسلمين من عصبيات عرقية، وتباينات مذهبية، وانتماءات قطرية ووطنية، ليلتقي المسلمون جميعا على صعيد واحد هو صعيد الانتماء الإسلامي الذي على أساسه وحده دون غيره يقع التواصل، ويتمّ التوالي والتناصر، ويقع التزاور والتصاهر، فإذا الأسر المسلمة بذلك تتّسع دوائر اللقاء بينها، فيمتدّ بعضها إلى بعض، ويخالط بعضها بعضا لتكتسب في خبرة الآباء وتربية الأبناء البعد الذي يتحقّق به المقصد الاجتماعي من الشريعة في أحكام الأسرة.(1/40)
وممّا يقتضيه هذا التوجيه للأحكام والفتاوى في شأن الأسرة أن يكون مراعى فيها المآل الاجتماعي بالمعنى الذي وصفناه، وذلك بأن لا تقف الفتوى المتعلّقة بالأسرة عند حدّ الحكم المجرّد الذي قد تقف عنده بالنسبة للأسرة المسلمة في المجتمع الإسلامي، وإنّما تأخذ بعين الاعتبار ما يؤول إليه ذلك الحكم من مآل اجتماعي، فيُصار إلى الترجيح أو التيسير أو التشديد بحسب ما يؤول إليه الحكم في ضوء الظروف الخاصّة التي تعيشها هذه الأسرة من تحقيق لمقصد التماسك الاجتماعي أو عدم تحقيق، وهكذا يكون الأمر في استخدام سائر القواعد الفقهية في هذا الشأن(1).
__________
(1) راجع أنموذجا من هذا التوجيه للفتوي في: راشد الغنوشي ـ مسألة اللحوم ومصير الأقلّية المسلمة في الغرب ( الأبعاد الثقافية والاقتصادية): المجلّة العلمية للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث ،عدد:3، ص:17 وما بعدها، وقد اتّجه صاحب هذا البحث اتّجاه التشديد في الذبائح لما لذلك من دور في تكوين لحمة اجتماعية واقتصادية بين المسلمين تتكوّن باجتماعهم حول هذا المرفق الحيوي من مرافق الحياة،.وراجع أيضا: القرضاوي ـ المشكلات الفقهية للأقلّيات المسلمة بالغرب: المجلّة العلمية للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث: عدد:1،ص:59، وقد جعل صاحب البحث من قواعد الاجتهاد في شأن الأقلّيات المسلمة التركيز على فقه الجماعة لا مجرّد الأفراد(1/41)
وفيما يتعلّق بالمجتمع العامّ غير المسلم الذي تعيش في محيطه الأسرة المسلمة بالغرب فإنّ هذا المجتمع وإن كان يختلف في ثقافته ومعتقده عن الأسرة التي تعيش فيه إلاّ أنّه أصبح يُعتبر بالنسبة إليها هو مجتمعها الذي آلت حياتها إليه، وارتبط قدرها به، إذ أصبحت الأسر المسلمة بالغرب مندرجة ضمن الهدف العامّ الذي انخرط فيه الوجود الإسلامي بتلك الديار وهو هدف المواطنة الدائمة بديلا عن الوجود العرضي المؤقّت، فعلى هذا الأساس ينبغي أن تُعالج قضايا الأسرة بالاجتهاد الفقهي، فتتّجه الأحكام والفتاوى إذن إلى أن تمتدّ الأسرة المسلمة إلى هذا المجتمع بالتواصل الإيجابي ليتكوّن بهذه الأحكام والفتاوى بعد اجتماعي في الكيان الأسري، فيتحقّق فيها مقصدها وهو التماسك الاجتماعي.
ولكنّ الاختلاف الثقافي والعقدي بين الأسرة المسلمة وبين مجتمعها الغربي من جهة، والوضع الجديد متمثّلا في هذا الانتماء الوطني الدائم من جهة أخرى أصبح يشكّل معادلة جديدة في الوضع الاجتماعي للأسرة، وهي معادلة لم تكن قائمة بالنسبة للأسرة في المجتمع الإسلامي، وهو ما يستلزم أن تكون المعالجة الفقهية لهذا الوضع آخذة بعين الاعتبار هذه المعادلة غير المعهودة، بحيث تكون الأحكام الأسرية في بعدها الاجتماعي محقّقة للخصوصية الثقافية العقدية للأسرة من جهة، وللاندماج الاجتماعي من جهة أخرى، فتبنى الأسرة إذن على خصوصية ذاتية وعلى تماسك اجتماعي في نفس الآن، وذلك ما يستلزم فقها دقيقا يزيد من صعوبته أنّه ليس فيه سابقة ثريّة في الفقه الموروث، إذ لم يكن هذا الوضع الأسري قائما في الواقع بالقدر الذي يستدعي معالجة فقهية ثريّة(1).
__________
(1) ممّا يعين على تحرير هذا الفقه وتطويره ما أُُُنجز من بحوث في فقه الأقلّيات، راجع جملة من هذه البحوث في: المجلّة العلمية للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث: عدد: 2، 4،5.(1/42)
ولعلّ من أوّل ما ينبغي أن يبنيه هذا الفقه هو التأصيل الشرعي للتصوّر الذي ينبغي أن تحمله الأسرة عن هذا المجتمع غير المسلم في ذاته، وعن وجودها هي فيه، وعن المسلك العامّ للروابط التي ينبغي أن تربطها به، والتصرّفات التي ينبغي أن تصدر منها إزاءه. إنّ هذه التصوّرات قد أصابها في أذهان الكثيرمن المسلمين غبش كثيف، وانحرفت بها السبل عن صحيح الدين، فإذا هذا المجتمع عند هؤلاء مجتمع مؤثّم، وهو بالتالي مرفوض منكر، وإذا الإقامة فيه تبعا لذلك منكرة مؤثّمة، وحينما تدعو الضرورة العملية إليها فينبغي أن يكون مستصحبة لذلك التصوّر الأصلي(1)، وذلك كلّه ينبني عليه من الحواجز والعوائق دون المجتمع ما يعصف بالبعد الاجتماعي في الكيان الأسري أن يكون عاملا على التواصل والتماسك، وذلك هو مبرّر أن يعمل الاجتهاد الفقهي في هذا الشأن على تصحيح هذه المفاهيم الخاطئة، وأن يؤصّلها على أصولها الصحيحة ابتداء، لتتوجّه الأحكام والفتاوى بعد ذلك نحو ما يفضي إلى تربية الأسرة على تلك المعادلة التي ذكرناها آنفا جامعة بين طرفي التميّز العقدي الثقافي والاندماج الاجتماعي.
__________
(1) تروج بين المسلمين بالغرب فتاوى كثيرة تؤثّم المجتمع الغربي، وتحرّم الإقامة فيه، وتدعو إلى التعامل معه بالغشّ والخديعة، وهي فتاوى تصدر أحيانا عن جهل شرعي، وأحيانا عن جهل واقعي، وأحيانا عنهما معا، وهي في كلّ الأحوال تفعل فعلها في أعداد من المسلمين وخاصّة الشباب منهم، وكثيرا ما يستند مروّجو هذه الفتاوى على آثار ضعيفة يحملونها على غير محاملها، وعلى آراء لبعض العلماء السابقين ينزّلونها على غير واقعها، ويفصلونها عن مآلاتها.(1/43)
وبناء على هذه الأصول ينبغي أن توجّه الأحكام والفتاوى في شأن الأسرة المسلمة بالغرب التوجيه الذي تنفتح به على المجتمع بالمودّة والرحمة والاحترام وتقديم المعونة والمشاركة في الأفراح بالتهنئة وفي الأتراح بالمواساة، وذلك ابتداء من قرابة الدّم والجيرة وامتدادا إلى سائر دوائر المجتمع، حتى ينتهي الأمر من تلك الأحكام والفتاوى إلى حصيلة تستقرّ في ثقافة الأسرة استقرار الوجوب الديني، خلاصتها أنّ الأسرة المسلمة بالغرب يجب أن تكون أسرة نافعة للمجتمع، عاملة على ما فيه خيره، مشاركة في بنائه وتطويره، وهي حصيلة تنبني عليها الأسرة في أساسها جزء من واجبها الديني، ويتربّى عليها الأبناء تربية دينية، فإذا ذلك البناء التربوي الديني موجَّها بالأحكام والفتاوى يحقّق أحد مقاصد الشريعة في الأسرة، وهو مقصد التماسك الأسري(1).
4 ـ الأسرة المسلمة بالغرب ومقصد الشهادة على الناس:
__________
(1) درج المجلس الأوروبي على توجيه أحكامه وفتاواه في هذا الاتّجاه، فهو في كلّ دورة من دوراته يدعو المسلمين بالغرب إلى أن يحسنوا العلاقة مع المجتمع الذي يعيشون فيه، وأن يعملوا على تحقيق ما فيه مصلحته، ودفع ما فيه ضرره، وأن يلتزموا بقوانينه دون خداع أو غشّ، وهو في فتاواه ينطلق من هذا التأصيل وخاصّة فيما يتعلّق بشؤون الأسرة. راجع: قرارات وفتاوى المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث:79،138(1/44)
هذا مقصد هامّ من مقاصد الأحكام المتعلّقة بالأسرة المسلمة بصفة عامّة كما بيّنّاه سابقا، ولعلّه بالنسبة للأسرة المسلمة في الغرب أكثر أهمّية؛ وذلك لأنّ هذه الأسرة باعتبار كونها مسلمة في مجتمع غير إسلامي تكون ملحوظة من طرف ذلك المجتمع من حيث صفتها الدينية، مرصودة بالأنظار الناقدة من حيث تلك الصفة، فتكون إذن تصرّفاتها الدينية الأسرية رسولا إلى ذلك المجتمع الملاحظ الراصد يعرض عمليا القيم الدينية التي تُحسب عليها الأسرة، وبقدر ما يكون عليه العرض من حسن أو سوء تكون نتيجة الملاحظة والرصد من قبول ورفض.(1/45)
وممّا يؤكّد هذه الأهمّية الدعوية للأسرة المسلمة بالغرب ما آل إليه وضع الأسرة فيه من تفكّك وجفاف في العلاقات وارتخاء في الروابط بما أصبح يهدّد كيان الأسرة في وجوده أصلا، وهو ما غدا قضيّة مؤرّقة لذوي الفكر والرأي المهتمّين بقضايا المجتمع، بعدما كان يؤرّق نفوس الأفراد بصفة عامّة والمسنّين منهم بصفة خاصّة، وهذا الوضع من شأنه أن يكوّن في النفوس وفي العقول أيضا مزاجا عامّا مشرئبّا إلى حلول تشبع الشوق الأسري الفطري، فإذا هو بحث دؤوب ظاهر وخفيّ عن حلول لهذه القضيّة المؤرّقة(1)، وإذا هذا البحث يتطلّع إلى حلول في أنموذج عملي لما انطبعت به الثقافة الغربية من طابع النفعية الذرائعية، فتكون إذن الأسرة المسلمة ـ وقد أصبحت ظاهرة بيّنة في المجتمع الغربي ـ محطّة من محطّات ذلك البحث، فذلك ممّا يؤكّد أهمّية الدور الدعوي لهذه الأسرة، ويؤكّد أهمّية أن تُوجّه الأحكام والفتاوى المتعلّقة بها وجهة يتحقّق به هذا المقصد الشرعي.
__________
(1) كثيرا ما لاحظنا ولاحظ كثيرون ممّن يعيشون في البلاد الغربية أنّ الأسرة المسلمة حينما تظهر متجوّلة في المدن والمنتزهات وتكون بادية عليها الألفة والسعادة كما يخبر به مظهرها المادّي والنفسي زوجين وأطفالا كثيرا ما تثير انتباه المتجوّلين وتعليقاتهم الإيجابية وخاصّة المسنّين منهم، وهو ما يوشي بلهفة إلى إرواء العطش الأسري الذي استثاره مشهد الأسرة المسلمة السعيدة، وذلك ما يؤكّد أهمّية ما يمكن أن تقوم به هذه الأسرة من دور دعويّ هامّ.(1/46)
ولعلّ من أهمّ ما ينبغي توجيه الأحكام والفتاوى المتعلّقة بالأسرة إليه لتحقيق هذا المقصد الدعوي هو الترابط الأسري متمثّلا في كفالة أفراد الأسرة بعضهم بعضا بما يتجاوز حدود الحقوق والواجبات إلى دائرة الإحسان التي يبذل فيها الفرد من ذات يده ومن ذات نفسه للآخرين من أفراد أسرته ما يبلغ به درجة الإيثار، فتكون الأسرة بذلك محضنا مادّيا وروحيا لسائر أفرادها، ينعمون فيه بالطمأنينة والأمن والدفء العاطفي، وفي الشريعة من الأحكام والتوجيهات في ذلك فقه ثريّ واسع، فإذا ما أُخذ ت الفتوى فيه بأقصاه، وبلغت به مداه خلافا للثقافة السائدة في ربوع الغرب، فإنّها قد تبلغ بالأسرة درجة الأنموذجية في عيون الملاحظين الراصدين من أهل هذه الربوع وقد برّحت بهم المتاعب النفسية لتراخي روابط أسرهم، فتكون هذه الأسرة إذن قد عرضت من الدين ما يرغّب فيه وما ينفع الناس.(1/47)
ومثل ذلك يمكن أن يحصل أيضا إذا ما اتّجهت الأحكام والفتاوى المتعلّقة بالأسرة إلى الإلزام بالقوانين والتراتيب التي يلزم بها المجتمع نفسه وتلزم بها الدولة مجتمعها، سواء إذا ما تعلّق الأمر بتراتيب الزواج وقوانينه، أو بالتراتيب والقوانين المدنية الضابطة للتعامل مع الدوائر الاجتماعية ومع الجهات الإدارية ومع البيئة الطبيعية، وفي أحكام الشريعة أيضا ما يلزم بالوفاء بالمواثيق والعهود، فإذا ما وجّهت نحو أقصاها، والتزمت بها الأسرة دينا، فإنّها ستجعل منها رمزا محترما محبوبا في مجتمع يقدّس الانضباط القانوني ويعتبره من أعلى قيمه الاجتماعية، وسيكون ذلك عرضا بليغا للدين الذي تديّنت به الأسرة في انضباطها المدني القانوني، فتكون الأسرة إذن قد شهدت على الناس شهادة الحقّ(1).
__________
(1) لا شكّ أنّ بعض القوانين والتراتيب المعمول بها في البلاد الغربية في شأن الأسرة تخالف التعاليم الدينية، وليس معنى الالتزام الأسري بها استحلالها دينا، ولكن معناه الإتيان منها بأقلّ ما يكون مخالفا للشرع القطعي، والنضال المدني وفق القانون من أجل أن تُرفع عن المسلمين لتتحقّق لهم حرّية التديّن التي هي حقّ مرعيّ في القانون نفسه، ولكن لا يمكن بحال أن يُفتى بما هو مخالف للقانون الأسري فيما فيه سعة للاختيار والترجيح، كأن يُفتى للزوج بحقّه في ضرب زوجته في مجتمع يعتبر ذلك جريمة قانونية، فذلك ممّا ينفّر في الدين وأهله، وفي شرع الله تعالى مندوحة عنه.(1/48)
وممّا يحقّق نفس الغرض أن تُوجّه الأسرة بأحكام وفتاوى تدفع بها إلى أن تكون خليّة عمل اجتماعي تشارك في تقديم الخدمات الثقافية والاجتماعية والإغاثية وما إليها عبر النوادي والمؤسّسات والجمعيات والمراكز الاجتماعية، كما تشارك في الإنتاج الاقتصادي من خلال التضامن الأسري والشراكة الأسرية المنتجة، وذلك كلّه يمكن أن يتحقّق بالتوجيه الشرعي نحو التعاون بين أفراد الأسرة على العمل الخيري والعمل الإنتاجي تأصيلا دينيا له، وحثّا تربويا عليه، ضبطا لحدوده من الحقوق والواجبات والقواعد فيه.
إنّ الأسرة العاملة المنتجة إنتاجا مادّيا ومعنويا تحظى في المجتمع الغربي بقيمة اجتماعية كبيرة، وهي تعتبر أنموذجا محترما ضمن المكوّنات الاجتماعية، وحينما تكون الأسرة المسلمة على ذلك النحو فإنّها تكون مقيسة بذات المقياس، وتكون بالتالي ممثّلة للأنموذجية التي تلتقي فيها التمثيلية الإسلامية بما توجّهت به من الأحكام الدافعة إلى التعاون والإنتاج، والرضى الاجتماعي قياسا على القيم السائدة، ويحصل من ذلك دور مهمّ تعرض فيه الأسرة الإسلام عرضا عمليا صائبا(1).
__________
(1) شاركت بعض الأسر المسلمة في العمل الإنقاذي إثر انهيار البرجين بنييويورك فكان لذلك وقع حسن في نفوس الملاحظين، ولا شكّ أنّ هذا المشهد على جزئيته ومحدوديته من شأنه أن يترك انطباعا إيجابيا على القيم الإسلامية التي ترمز إليه هذه الأسر بسبب عمله الاجتماعي راجع: طه جابر العلواني ـ مبادئ في فقه الأقلّيات: مجلّة المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث: عدد: 4ـ5).(1/49)
إنّ الأسرة المسلمة بالغرب بحكم خصوصياتها في المجتمع الذي تعيش فيه إذا كانت تتعرّض لتحدّيات كبيرة بمقتضى تلك الخصوصيات فإنّها يمكن أن تتجاوزها جميعا لتكون عامل خير لمجتمعها بمكوّناته من المسلمين وغير المسلمين، وذلك بما تقدّم من أنموذجية حضارية لذلك المجتمع الذي أصبح يؤرّقه وضع الانحلال الأسري بما ينتج عنه من جفاف عاطفي ومضاعفات نفسية وتفكّك اجتماعي، ولكي تقوم الأسرة المسلمة بهذا الدور ينبغي أن تُعالج قضاياها جميعا ببحث شرعي يستحضر بعمق مقاصد الشريعة من أحكام الأسرة، ويوجّه تلك المقاصد باجتهاد فقهي مؤصّل توجيها خاصّا بالأسرة المسلمة في الغرب، مراعاة لخصوصياتها بحكم عيشها في هذه البلاد التي يكون فيها المسلمون أقلّية، ولكنّهم يمكن أن يقوموا بدور عظيم في الشراكة الحضارية الإنسانية بما يقدّموا من قيم الإسلام ومنها القيم الأسرية لو أُحسن التقديم اجتهادا فقهيا وسلوكا عمليا.
ثبت المراجع
ـ ابن حزم ( أبو محمد علي بن أحمد،ت 456هـ).
1 ـ المحلّى بالآثار، ط دار الفكر، بيروت (د.ت). تحقيق: عبد الغفار سليمان البنداري.
ـ الرازي ( محمد بن عمر فخر الدين، ت 604 هـ).
2 ـ التفسير الكبير،ط دار الفكر، بيروت1995.
ـ أبو زهرة ( محمد).
3 ـ الأحوال الشخصية. ط دار الفكر العربي، القاهرة ( د.ت).
ـ السرخسي ( شمس الدين،ت 490 هـ).
4 ـ المبسوط. ط دار الكتب العلمية،بيروت 1993).
ـ الطبيري ( أبو جعفر محمد بن جرير، ت 310 هـ).
5 ـ جامع البيان،ط دار الفكر،بيروت 1995).
ـ ابن عاشور ( محمد الطاهر).
6 ـ التحرير والتنوير. ط الدار التونسية والدار الجماهيرية،تونس 1984.
7 ـ مقاصد الشريعة، ط المركز المغاربي للبحوث والترجمة، لندن 2004. تحقيق: محمد الطاهر الميساوي.
ـ العلائي ( أبو سعيد خليل بن كيكلدي، ت 761 هـ).
8 ـ المجموع المذهَب في قواعد المذهب. ط وزارة الأوقاف، الكويت 1994. تحقيق: محمد عبد الغفار الشريف.(1/50)
ـ العلواني ( طه جابر ).
9 ـ مدخل إلى فقه الأقلّيات.بحث منشور بمجلة المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث،عدد:4
ـ العمراني ( محمد الكدي ).
10 ـ فقه الأسرة المسلمة في المهاجر. ط دار الكتب العلمية، بيروت 2001).
ـ الغنوشي ( راشد).
11 ـ مسألة اللحوم ومصير الأقلّية المسلمة بالغرب: الأبعاد الثقافية والاقتصادية. بحث منشور بالمجلة العلمية للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث عدد: 3.
ـ الغزالي ( أبو حامد محمد بن محمد،ت505 هـ).
12 ـ إحياء علوم الدين، ط دار الكتب العلمية، بيروت (د.ت).
ـ القرضاوي ( يوسف).
13 ـ المشكلات الفقهية للأقلّيات المسلمة بالغرب. بحث منشور بمجلة المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، عدد: 2.
ـ ابن القيّم ( أبو عبد الله محمد بن أبي بكر شمس الدين، ت751 هـ).
14 ـ أعلام الموقّعين، ط دار الكتب العلمية، ط3 بيروت 1993.
15 ـ جامع الفقه ( الأعمال الكاملة لإمام ابن القيّم )، ط دار الوفاء، المنصورة 2003. تحقيق:يسري السيد محمد.
ـ المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث.
16 ـ قرارات وفتاوى المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث. ط دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة 2002.
ـ محمد مهدي شمس الدين.
17 ـ مقاصد الشريعة. ط دار الفكر، بيروت دمشق 2001. تحرير وحوار: عبد الجبار الرفاعي.(1/51)
نحو توجه استراتيجي
للتمويل الإسلامي بأوروبا
) قضايا ومشكلات التمويل التجاري (
إعداد
د. محمد النوري
بحث مقدم
للدورة الثامنة عشرة للمجلس - دبلن
جمادى الثانية/ رجب 1429 هـ / يوليو 2008 م
1 ـ الحاجة لهذا التوجه:
يحتاج الوجود الإسلامي في أوروبا إلى رؤية إستراتيجية متعددة الأبعاد والجوانب، فقد أضحى هذا الوجودجزءا لا يتجزأ من الواقع الأوروبي الموحد، وهو يمثل اليوم ثقلاً بشرياً وحضارياً يستأثر باهتمام المخططين والاستراتيجيين على مستوى العالم الإسلامي، وعلى مستوى قادة الرأي والمسئولين في المجتمعات الأوربية .
ومن أقل الأبعاد والجوانب حضورا واستئثارا بالاهتمام والتوجيه إلى حد الآن هو البعد المالي والاقتصادي حيث يعاني ضعفا واضحا وتقصيرا ملموسا على صعيد الأفراد والمجموعات والمؤسسات نتيجة تراكم العديد من العوائق والصعوبات التي تحول دون النهوض به وإيلائه ما يستحق من التفكير والتخطيط والتوجيه، وقد ترك للجهود والاجتهادات الفردية التي هي عرضة في الغالب للعشوائية والإذعان لضغوطات الواقع والاستسلام لآلياته وقوانينه!
وإذا كانت مرحلة السبعينيات بالنسبة للوجود الإسلامي بأوروبا مرحلة التأسيس أي بناء المؤسسات الأساسية والضرورية، مثل المساجد والمراكز الثقافية الإسلامية والمنظمات الاجتماعية ثم المدارس الإسلامية؛ و مرحلة الثمانينيات وبداية التسعينيات بداية تقنين الوجود بتأسيس الهيئات التمثيلية والمؤسسات السياسية والإعلامية تعبيرًا عن الحضور المتزايد للمسلمين في المجتمع الأوروبي، سواء على مستوى العدد أو على مستوى إمكاناتهم التعليمية والاقتصادية والعمرية؛ فإنه مع بداية القرن الجديد تطور الوعي الفردي والجماعي إلى ضرورة الانتقال للاهتمام بالجانب الاقتصادي والمالي باعتباره مفتاح كل تلك الإشكالات والقضايا والأبعاد الأخرى.(1/1)
كما أدرك الجميع أن التخلف في هذا الجانب من شأنه أن يضعف بشكل سريع التطور الحاصل في المجالات الأخرى، وأنه قد آن الأوان لتفادي هذا التأخر وتدارك مخلفاته.
ويعود هذا الإدراك المتأخر إلى جملة من العوامل الذاتية والموضوعية التي كانت عائقا أساسيا أمام الحضور الشامل والفعال طيلة العشريات الماضية والتي تتطلب اليوم مواجهة جماعية من قبل كل المهتمين بمستقبل الوجود الإسلامي في أوروبا والغرب بشكل عام ولاسيما النخبة الفكرية والهيئات الشرعية التي تواكب نهضة المسلمين في هذه الديار والتطور السريع لوجودهم وتأثيرهم في المجتمعات الأوروبية التي يتواجدون بها.
في مقدمة هذه العوائق تأتي بطبيعة الحال إشكالية التعامل مع الربا التي تظل المعضلة الرئيسية في هذه الديار حيث تستند معاملات الواقع الاقتصادي فيها على الاقتراض الربوي دون غيره وهو ما يدفع في الغالب قطاعات واسعة من مسلمي أوربا للنأي بأنفسهم بعيداً عن جانب واسع من مجالات العمل والاستثمار؛ بسبب ما يخالطها من محظورات دينية أو شبهات شرعية، بينما يتردد البعض منهم في التعامل مع فرص الاقتراض الربوي لتمويل مشروعاتهم المستقلة، بل واحتياجاتهم الأساسية كالمنازل والشقق والسيارات وغيرها.
ومن العوائق أيضا حالة الضعف الاقتصادي التي كان عليها الجيل الأول للوجود الإسلامي في الدول الأوربية استنادا إلى أن معظم الدخول التي يحصل عليها المهاجرون الأوائل كانت تستنفد لتغطية نفقات الانتقال في بداية الأمر، ثم للإنفاق على المهاجر وذويه في الوطن الأم قبل أن يبدأ في تحسين مستواه الاقتصادي. ويبدأ المهاجر التقليدي في العادة نشاطه الاقتصادي بمشقة دون أن يتمتع بإمكانات وخبرات متراكمة ومتصلة بنظم البلدان الجديدة نظرًا لحداثة عهده بها.(1/2)
لكن بالمقابل يتمتع الجيلان الثاني والثالث من أبناء المهاجرين المسلمين بفرص أوفر لتحقيق الذات في المضمار الاقتصادي؛ بسبب تلافي عقبات الهجرة والتي دفع الجيل الأول تبعاتها.
بالإضافة إلى ذلك ينطوي الواقع الاقتصادي لمسلمي أوربا على تحيز واضح لصالح المواطنين ضد الأجانب، فمعظم المسلمين هنا ينتمون إلى فئات ذوي الدخل المحدود والمتوسط، كما أنهم لا يديرون مشروعات ذات صفة مستقلة، حيث يتركز وجودهم في قاع الهرم الاقتصادي وليس في قمته؛ ويعانون بشكل ملموس من تداعيات البطالة والتفرقة في سوق العمل، حيث إن الإقصاء في سوق العمل والتفرقة بين المسلمين متفشية على نطاق واسع؛ إذ تعاني الأقليات وفئات المهاجرين من البطالة أكثر من غيرها، كما أن نصيبها يكون غالبًا في مواقع عمل أقل أمانًا وأدنى أجرًا والبيانات المرصودة من دول الاتحاد الأوربي تبرهن بما لا يدع مجالاً للشك على وجود تفرقة في سوق العمل على خلفية دينية أو عرقية.
2 ـ أهداف التوجه
يطمح كثير من المسلمين في أوروبا، خصوصا أبناء الأجيال الشابة، إلى التوجه نحو إنشاء شركات ومقاولات خاصة، قادرة على أن تفتح لهم آفاقا واسعة مقارنة بالوظيفة إن وجدت أو سمح لهم بالوصول إليها، كما يمكن أن تمنحهم قدرات أكبر في التأثير إيجابيا في محيطهم الأوروبي الذي ينظر إليهم بكثير من السلبية، انطلاقا من تجارب آبائهم المتواضعة والتي استندت بالأساس، إما إلى عمل في أحد المصانع وورشات البناء، أو العيش على المساعدات الاجتماعية التي تقدمها الدولة للفقراء!
لكن السنوات الأخيرة شهدت إقبالا ملحوظا من قبل الشباب المسلم –والرأسمال الإسلامي عامة- على الاستثمار في القطاع الخاص وتأسيس المقاولات والمشاريع الخاصة، وهو ما يحمل برأي الكثيرين مؤشرا إيجابيا هاما فيما يتعلق بمستقبل الوجود الإسلامي بأوروبا.(1/3)
كما أن توسع الاهتمام بظاهرة التمويل الإسلامي من قبل المؤسسات المالية الأوروبية وانتشار البنوك الإسلامية على نطاق واسع شكلا حافزا مهما للمسلمين لمزيد الانخراط الايجابي في الدورة الاقتصادية الأوروبية وتعزيز حضورهم .
كل ذلك يستدعي جهدا خاصا من قبل كل الجهات المهتمة بمستقبل الوجود الإسلامي بأوروبا لمواكبة هذا التحول وتأطيره والاجتهاد في توجيهه ورسم الخطوط الإستراتيجية الكبرى للقائمين عليه، وعدم تركه عرضة للعشوائية والاجتهادات الفردية ذات الآفاق المحدودة!
وبناءا على كل ذلك، لا يمكن أن تترك الأجيال المسلمة بأوروبا اليوم في حالة التردد والاضطراب على الصعيد المالي والاقتصادي بين الجائز والمطلوب وبين الترخيص والتأسيس، بالإضافة إلى ما هي فيه من التشتت والانقسام إلى طوائف وتيارات على صعيد الواقع الثقافي والديني، بل إن ضرورة العمل الإسلامي تفرض على الجميع إيجاد رؤية إستراتيجية لحماية الوجود الاقتصادي الإسلامي من التقوقع والتهميش والغوغائية المذهبية، وهي الرؤية التي يتم فيها توضيح الأولويات وبلورة الآفاق في إطار المنهجية الوسطية التي تخدم توطين الدعوة وتعزيز فرص تقبلها في تلك المجتمعات تماما كما حصل طيلة التاريخ الإسلامي الطويل من انتشار الدعوة عبر الواجهة التجارية والمعاملات المالية والاقتصادية!
ومن أغراض هذا التوجيه المطلوب أيضا:
? المساهمة في العمل على بلورة رؤية أكثر واقعية للاحتياجات الإسلامية المتزايدة للمسلمين في المجتمع الأوربي، مع تحديد لسلم الأولويات وترجمة ذلك إلى برامج ومشروعات واضحة وممكنة التطبيق.
? الإسهام في توعية الرأي العام الإسلامي في أوربا بأهمية التحدي الاقتصادي وحفزه على حشد الموارد اللازمة لمواجهته.(1/4)
? بلورة موجهات إستراتيجية في المجال الاقتصادي تكون بمثابة دليل مؤسساتي يساعد المسلمين على الاستثمار والنهوض بواقعهم المادي ودعم مؤسساتهم الاجتماعية والثقافية دون الالتجاء إلى غيرهم، والخروج بالتالي من حالة التخلف الاقتصادي الذي يعانون منه.
? المساعدة على تطوير البنية المؤسسية للوجود الإسلامي في أوربا بالشكل المتكامل والتخصصي،
? المساعدة على بلورة المسالك التمويلية التي تحتاجها شبكة الخدمات الدينية والاجتماعية والتعليمية والثقافية والإعلامية لدعم الوجود الإسلامي الأوروبي ودفعه إلى المزيد من الاستمرارية والاستقرار.
3 ـ أسس التوجه
? الوعي التام بضرورة مثل هذا التوجيه وفاعليته في النهوض بالواقع الاقتصادي للوجود الإسلامي في أوروبا.
? تذليل العوائق النفسية والفقهية التي تعترض العاملين في المجال الاستثماري بأوروبا ووضع حد لحالة المراوحة والاضطراب في الموقف الفقهي المتردد في معالجة واقعية للإشكالات المطروحة وتأهيل العاملين في أوساط المسلمين الأوروبيين تأهيلا مناسبا لخوض هذه المهمة الإستراتيجية.
? ترشيد التصرفات المالية والاقتصادية للمسلمين في أوروبا وتوجيه سلوكياتهم المتعددة على صعيد الإنتاج والاستهلاك والادخار والاستثمار توجيها محكما على غرار ما انتهجته بعض الأقليات العرقية والدينية الأخرى التي استطاعت بفضل وعي وتخطيط محكم من قبل قياداتهم الفكرية والدينية والسياسية أن تحتل موقعا مركزيا في النسيج الاقتصادي والمالي بالبلدان الأوروبية.(1/5)
? الاطلاع العلمي والميداني على هذا الواقع الذي تعيش فيه الجاليات المسلمة في الدول الغربية وتفاعلاته، بمكوناته وإمكاناته وثرواته لاستكشاف خصوصيته ، وما يحيط به من تحديات، من أجل بلورة خارطة اقتصادية واستثمارية تكون بمثابة الدليل الاستثماري للرساميل الإسلامية الوافدة على أوروبا من خلال بعث مؤسسة بحثية ودراسية متخصصة أو تشجيع المؤسسات القائمة على إنجاز هذا المطلب.
4 ـ آليات التوجه
? العمل على إيجاد نوع من الشبكة المعلوماتية تربط بين الفعاليات والمنشآت والمؤسسات ذات الصبغة المالية والاستثمارية المتواجدة بأوروبا مع صناديق الاستثمار والمؤسسات المالية الإسلامية بالمشرق والعالم الإسلامي عموما في اتجاه إقامة شراكة إستراتيجية بين البوابتين للأمة الإسلامية (الشرق والغرب).
? مواكبة الاتجاه المتزايد لمستثمري الخليج لتنويع محافظهم الاستثمارية في الخارج وانتقال الرساميل الإسلامية من السوق الأمريكية إلى الأسواق الأوروبية، بالتوازي مع ما تبديه البنوك التقليدية الغربية من اهتمام متزايد أكثر من أي وقت مضى بالتمويل الإسلامي،
? تفعيل المؤسسات الإسلامية القائمة، وقيام مؤسسات استثمارية إسلامية وعربية تسهم في رفع المستوى الاقتصادي والاجتماعي وتزيد من تأثير الوجود الإسلامي وتعزز دوره ونشاطه.
? الحث على بعث شركات قابضة بين المسلمين في مختلف الأقطار الأوروبية من أجل توظيف الإمكانات وتعبئة المدخرات الذاتية التي يقدر حجمها بالملايين لو وجدت الوعاء الاستثماري الحلال لتجميعها وتوجيهها الوجهة المطلوبة لصالح الأفراد والجماعات على غرار ما تقوم به بعض الجاليات والجماعات الأخرى!(1/6)
? إحياء نظام الوقف الإسلامي باعتباره مسلكا من أهم المسالك الاستثمارية الفريدة والمجدية التي تتيح الكثير من الآفاق لتعبئة المدخرات وتطوير البنية الاستثمارية للوجود الإسلامي الأوروبي سيما وأن مثل هذا النظام لا يواجه موانع قانونية أو عوائق إجرائية بل أضحى وجهة الاهتمام حتى للمؤسسات والنظم الغربية التي وجدت فيه قطاعا حيويا ثالثا ومصدرا من مصادر تخفيف العبء المالي على الدولة.
? إيلاء المزيد من الاهتمام بنظام الزكاة والعمل على استغلال هذه الفريضة المالية بشكل فعال و مأسستها وحسن إدارتها وتنظيمها حتى تقوم بدورها في تنمية وتطوير الوجود الإسلامي في هذه الديار والإسهام في مواجهة التحديات الاقتصادية المتزايدة.
? تشجيع البنوك الإسلامية والرأسمال الإسلامي عموما على التفكير في انجاز مشروع بنك إسلامي أوروبي يكون بمثابة بنك تنمية إسلامي على الساحة الأوروبية وضرورة التسريع في مثل هذا المشروع واستثمار الفرصة المتاحة اليوم أكثر من أي وقت مضى وعدم ترك هذا المجال فقط للآخرين.
ولا تأتي أهمية هذا المشروع الاستراتيجي من حاجة المسلمين المتواجدين بأوروبا إليه فحسب، وإنما أيضا من تعاظم حاجة الإنسانية عموما للتمويل الإسلامي في إطار الميل المتزايد نحو كل ما يرتبط بالأخلاق والقيم والمعاملات الخالية من الربا الفاحش والاستغلال المقيت الذي قادت إليه الرأسمالية الوحشية المترهلة.
إن مجمل الأوضاع الأوروبية اليوم تتجه بشكل متسارع وملفت نحو استقطاب نظام التمويل الإسلامي عبر انخراط كبرى البنوك والمؤسسات المالية الأوروبية في هذا السياق وإنشاء الفروع والصناديق الإسلامية لها في أنحاء شتى من العالم وكذلك السماح للبنوك الإسلامية بالنشاط في الساحة الأوروبية وهي نقلة نوعية جديرة بالتأمل والاهتمام تدعم المسيرة العامة لانتشار الإسلام وترسيخ الوجود الإسلامي في هذه الديار.
5 ـ التمويل التجاري: بعض القضايا والمشكلات:(1/7)
في هذا الإطار وضمن هذه الرؤية الإستراتيجية المنشودة يجدر التوقف عند بعض القضايا والمشكلات العملية التي تواجه النشاط التجاري والاستثماري للوجود الإسلامي الأوروبي على مستوى الأفراد والمؤسسات والجماعات وتحول دون نموه وتطوره.
ويشمل التمويل التجاري كافة التسهيلات الائتمانية لتمويل الشركات والمشاريع من قروض تجارية ومالية وخصم السندات وبيع الفواتير وتسهيلات الاعتمادات المستندية الخاصة بالتجارة الدولية وغيرها.
ويمكن أن يتم هذا التمويل عن طريق البنوك والمؤسسات المالية أو عن طريق مخاطبة القطاع العريض من المدخرين الذين يرغبون في توظيف أموالهم دون أن يرتبط نشاطهم مباشرة بالنشاط الاقتصادي للمؤسسة و ذلك من خلال إصدار أسهم للاكتتاب العام أو الخاص وفق القوانين والإجراءات المعمول بها.
أ ـ المسالك والصيغ الشرعية المتاحة:
تتوفر في الساحة الأوروبية بعض المسالك التي لا تحوم حولها في الغالب شبه شرعية ولا تتناقض مع الأشكال المعمول بها في المؤسسات الإسلامية. ولكن بحكم العديد من العوامل الموضوعية منها غياب المعرفة والاطلاع الشرعي لعامة المسلمين بمثل هذه الأشكال المتاحة وغياب التوجيه والإرشاد الشرعي من قبل المؤسسات المختصة، فانه قلما يتم الانتباه لهذه المسالك والاستفادة منها دون مشقة بدل البحث عن صيغ شرعية بديلة.
ومن ضمن هذه المسالك التمويلية المعمول بها في كافة البنوك التقليدية بالبلدان الأوروبية:
? صيغة التمويل بالتأجير مع الوعد بالتملك:
وهي صيغة تسمح بتمويل كافة الممتلكات العقارية والمعدات ووسائل الانتاج عن طريق التأجير المنتهي بالتمليك وهوعقد يتطابق في جوهره مع ما هومعمول به لدى سائر المصارف الاسلامية .
? البيع بالتقسيط:
وفي صيغة تقترب من الصيغة الأولى ولكنها تتعلق فقط بالمعدات والتجهيزات الصغيرة.
? الشركات القابضة:(1/8)
وهي التي يحق لها إصدار أسهم للاكتتاب العام أو الخاص من أجل الحصول على التمويل التي تحتاج إليه لانجاز المشروع التي تقوم عليه أو أية مشاريع استثمارية أخرى. وهي على نوعين:
الشركات القابضة المحدودة من حيث عدد المساهمين وهي لا تحتاج إلى ترخيص خاص من قبل الهيئات الرسمية وغير خاضعة لرقابة أو متابعة خاصة باستثناء احترام قانون الشركات التجارية المعمول به في كل بلد.
الشركات القابضة الكبرى المفتوحة للجمهور العام وهي على عكس الأولى تحتاج لترخيص مسبق وتخضع لإدارة إشراف مسموح لها بالعمل وفق القوانين المتاحة.
? التمويل عن طريق المشاركة:
وهي الصيغة المبسطة لتجميع رأس المال المطلوب لانجاز أي مشروع عن طريق المشاركة بين طرفين او أكثر سواء كانت مشاركة ثابتة(طويلة الأجل) او مشاركة متناقصة(محدودة الأجل).
? التمويل عن طريق صناديق الاستثمار:
توجد بكل الاقطار الاوروبية مؤسسات مالية على هيئة صناديق استثمارية تقوم بالمشاركة في تاسيس وتمويل المشاريع بصيغة المشاركة المتناقصة وتتجه هذه الصناديق في الغالب للمشاريع المتوسطة والكبيرة ذات مردودية كافية.
ب ـ الأشكال والصيغ التمويلية الأخرى التي تحتاج إلى تكييف شرعي:
? خصم السندات والأوراق التجارية:
تشكل الأوراق التجارية (السندات الاذنية أو الكمبيالات) وسيلة أساسية إن لم تكن الأولى السائدة في النشاط التجاري اليومي للشركات والمؤسسات التجارية. ويحتاج التعامل بهذه الوسيلة التمويلية إلى توفير السيولة لتسديد التزامات عاجلة عن طريق اللجوء إلى خصم هذه الأوراق لدى البنوك والمؤسسات المالية.
ومفهومها أن يتقدم المتعامل للمصرف بطلب تحصيل القيمة الحالية لكمبيالة تستحق بعد فترة بعد خصم مبلغ معين يتم احتسابه باستخدام سعر الفائدة وهو يمثل الفترة بين تاريخ الخصم وتاريخ الاستحقاق.(1/9)
وهذه العملية لا يجوز تنفيذها اليوم عموما في سائر المصارف الإسلامية لأنها تعتمد علي استخدام سعر الفائدة في تحديد القيمة الحالية للكمبيالة. ولكن هناك بعض الآراء تقول بضرورة البحث عن تكييف شرعي لهذه المعاملة الأساسية في التجارة على أساس قاعدة (ضع وتعجل ) أي الحطيطة من الدين المؤجل، لأجل تعجيله، سواء أكانت بطلب الدائن أو المدين التي قال بها ابن عباس (رض).
وهناك من يقول بتكييف الخصم على أساس قاعدة جواز بيع الدين، لكون بيع الدين بأقل منه جائز شرعا إذا لم يكن ذهبا أو فضة أو مكيلا أو موزونا (باقر الصدر).
كما ذكر الأستاذ مصطفى الهمشري في كتابه (الأعمال المصرفية والإسلام) تخريجين لعملية الخصم يتفقان مع الروح الإسلامية على أساس القرض بضمان والوكالة بأجر، باعتبار أن عملية الخصم مركبة من الاثنين والفقه الإسلامي يقر القرض بضمان والوكالة بأجر، وليست حصيلة الخصم سوى مجموع نفقة القرض وأجر الوكالة ومصاريف التحصيل.
والتخريج الثاني على أساس الإبراء والإسقاط حيث من الجائز أخذ أقل من قيمة عقد المداينة.
وفي نفس السياق يعتبر الدكتور علي عبد الرسول في مؤلفه(المبادئ الاقتصادية في الإسلام) أن عملية خصم الأوراق التجارية يمكن أن تتم على أساس فقه الجعالة باعتبار أن ما يتقاضاه البنك ليس سوى جعل مقابل تحصيل الكمبيالة.
ولا تزال مسألة خصم الأوراق التجارية بحاجة إلى مزيد من التكييف الشرعي والمراجعة الفقهية خاصة بالنسبة للأقليات المسلمة بالغرب حيث تمثل هذه العملية مصدرا لا غنى عنه لتوفير السيولة في النشاط التجاري والاقتصادي بشكل عام.
? بيع الفواتير(الفاكتورينغ) :(1/10)
و هو اتفاق بين مؤسسة مالية (معروفة بمؤسسة أو شركة الفاكتورنغ أي مشتري الديون) مع عميلها (المعروف بالفاكتورايزي او بائع الديون)، يقدّم بموجبه هذا الأخير كافة الفواتير والسندات المالية التي يملكها إلى الشركة التي يحق لها اختيار الفواتير والسندات التي ترى إمكانية استيفائها، مقابل تعجيل قيمتها للعميل ، وتتحمل مخاطر عدم وفاء المدين، من دون الرجوع على عميلها (الفاكتورايزي)، ما لم يتم الاتفاق على خلاف ذلك صراحة أو في الحالات المتفق عليها والمحددة في العقد.
ويعتبر عقد الفاكتورنغ في الأساس من العقود الرضائية التي تتطلب الإيجاب والقبول لانعقادها وفقاً لمواد القانون المدني. ويتجلى الرضا في العقود باجتماع العرض والقبول. إلا أن هذا المبدأ لم يأتِ مطلقاً، فقد يخضع عقد الفاكتورنغ، في بعض الحالات لبعض الشروط الشكلية. إلا انه بالرغم من عدم وجود نص صريح يفرض إفراغ عقد الفاكتورنغ في شكل معين، فمن الضروري كتابة هذا العقد من أجل إظهار جميع شروطه المتعددة والدقيقة بشكل واضح وصريح. وإذا كان عقد الفاكتورنغ لا يعتبر من العقود الشكلية، ولا يوجد جزاء على تخلّف كتابته، فإن العرف والضرورات العملية استقرت على أهمية كتابة عقد الفاكتورنغ. وتعتبر الكتابة إحدى وسائل إثبات عقد الفاكتورنغ وفقاً للقواعد العامة في الإثبات.(1/11)
وإذا كان عقد الفاكتورنغ لا يخضع لشروط شكلية معينة بوجه عام، إلا أنه يخضع للشروط الشكلية التي تفرضها عملية انتقال الحقوق أو الديون من الدائن إلى مؤسسة الفاكتورنغ، مع الحفاظ على وجوب أن تكون عملية الانتقال بسيطة وسريعة وصحيحة. ومثال على ذلك، عندما يكون موضوع عقد الفاكتورنغ سندات تجارية؛ كسند سحب (كمبيالة) أو سند لأمر، فهو قابل للانتقال بطريق التظهير. والشروط الشكلية لانتقال سند السحب أو الكمبيالة هي الشروط القانونية الشكلية لصحة التظهير، وهي: أن يُكتب التظهير على سند السحب أو على ورقة ملصقة به، أي على ورقة إضافية، كما يجب أن يكون التظهير مشتملاً على توقيع المظهر ، سواءً أكان تظهيراً اسمياً أم لحامله أم على بياض.
كذلك، يجب أن تتوافر في عقد الفاكتورنغ الأركان الأساسية العامة الواجب توافرها في سائر العقود من أجل اعتباره ناجزاً وصحيحاً. فعقد الفاكتورنغ، يجب أن تتوافر فيه الشروط الموضوعية، وهي: الرضا والأهلية والموضوع والسبب.
ويتضح بالتالي أن عملية شراء الديون (الفاكتورنغ) محصور القيام بها من قبل المصارف والمؤسسات المالية الخاضعة لقانون النقد والتسليف.
? تسهيلات الاعتمادات المستندية الخاصة بالتجارة الدولية:
تعد الاعتمادات المستندية من أهم الخدمات المصرفية التي تقدمها المصارف وهي أساس الحركة التجارية (الإستيراد - التصدير ) في كافة أنحاء العالم والتي تنفذ من خلال شبكة المراسلين للمصارف حول العالم.
والاعتماد المستندي هو عبارة عن طلب يتقدم به المتعامل من أجل سداد ثمن مشتريات بضائع من الخارج, يقوم البنك بموجبه عن طريق المراسلين بسداد القيمة بالعملة المطلوب السداد بها .
وتنفذ الاعتمادات المستندية بالمصارف من خلال أسلوبين هما :(1/12)
- الأسلوب الأول: وهو تنفيذ الاعتماد المستندي كخدمة مصرفية حيث يتم تغطيته بالكامل من قبل المتعامل , ويقتصر دور المصرف علي الإجراءات المصرفية لفتح الإعتماد لدى المراسل وسداد قيمة الاعتماد بالعملة المطلوبة.
- الأسلوب الثاني: وهو تنفيذ الاعتماد المستندي كإئتمان مصرفي حيث يقوم المتعامل بسداد جزء فقط من قيمة الاعتماد ويقوم المصرف بإستكمال سداد قيمة الاعتماد كعملية إئتمانية.
وتنفذ هذه العملية بالمصرف الإسلامي عن طريق إحدي قنوات الإستثمار (مرابحة - أو مشاركة الإعتمادات ).أما بالبنك التقليدي فتتم عبر احتساب عمولة حسب سعر الفائدة المعمول به في السوق.
وفي حالة تنفيذ المصرف الاسلامي للاعتماد المستندي كخدمة مصرفية فهي خدمة جائزة شرعا تندرج تحت قواعد الوكالة والإجارة يتقاضي المصرف عن تأديتها أجرا. وفي حالة تنفيذها كعملية استثمارية فهي تندرج تحت قواعد عقود البيوع والمشاركات .أما في حالة البنك التقليدي فإن تنفيذ الاعتمادات المكشوفة غير المغطاة وهي الصورة الغالبة في الواقع باعتبار الحاجة التجارية للسيولة يمثل مشكلة بحاجة الى حل أو بديل عملي دائم. وهذه الصورة تتقاطع مع مشكلة السقوف الائتمانية التي تحتاجها باستمرارأغلب النشاطات التجارية ولاسيما المؤسسات الصغرى والمتوسطة.
? الحسابات الجارية المكشوفة:(1/13)
تضطر العديد من الشركات في نشاطاتها اليومية إلى السيولة الكافية لتسديد التزاماتها المتجددة وتمويل مشترياتها ونفقات تشغيلها. وفي الكثير من الحالات تجد نفسها في حالة انكشاف مالي مؤقت أو شبه دائم وهو ما يعرف بالحسابات المكشوفة التي ينجر عنها تسديد فوائد للبنوك على شكل آجيو. وهذه حالة تكاد تكون عادية وروتينية لأغلب الشركات والمؤسسات التي تتعامل مع البنوك التقليدية. وفي بعض الحالات لا يتم إشعار العميل بوضع الانكشاف في حسابه الجاري باعتباره لم يصل إلى حد ملفت أو غير مقبول. ويجد المسلم نفسه يدفع عمولات آجيو دون أن يشعر! أو هو يظن أن المسألة لا تتعدى ساعات أو بضع أيام في انتظار التغطية ولكن أي تأخير من قبل الآخرين في الوفاء بتعهداتهم ينجر عنه انكشاف غير محسوب في حسابه!
هذه الحالة تعترض أغلب المتعاملين مع البنوك القائمة وهي إشكالية تكاد تكون يومية في إطار النشاط التجاري الدوري للأفراد والشركات. وهي بالتالي بحاجة إلى موقف شرعي محدد في ظل غياب بديل عملي.
والله ولي التوفيق(1/14)
بسم الله الرحمن الرحيم
نظام الأسرة في الإسلام
وأثره في بناء المجتمع الراشد
أ.د. أحمد علي الإمام
مقدمة:
الحمد لله الرحمن الرحيم، الذي خلق الإنسان وعلّمه البيان، وجعل استمرار الحياة قائماً على الحياة الزوجية بين الذكر والأنثى، وجعل بينهما السكينة والمودة والرحمة، وأخرج منهما ذرية ونسلاً، وأنشأ حولهما نسباً وصهرا، ووصل ما بينهما رَحِماً وقربى.. والصلاة والسلام على خير الناس لأهله، وأبرهم بولده، وأغيرهم على عرضه، سيدنا محمد الصادق المصدوق، وعلى آله وصحبه المتأسين به.
ثم إنَّ هذه دراسة موجزة تتلمس مواطن الاستهداف التخريبي للأسرة المسلمة في مخطط الصهيونية وما اتصل بها من (الماسونية) ونحوها تارة باسم العلمانية، وتارة تحت عنوان العولمة، كما تتلمس مكامن القوة في الأسرة المسلمة، وهي مستمدة من قيم الدين وأعراف الأمة الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر، مكوِّنة الحصن الدفاعي في وجه الصدام المفتعل بين الحضارات، وهو يدخل في إطار الاستراتيجيات المخططة، ويصدر في شكل مبادرات مفروضة لإصلاحات مصنوعة.. وذلك حتى نحافظ على البناء الأسري الموروث من سلف الأمة، ونطوره إلى كيان اجتماعي ممتد إلى مستقبل أجيالها.
والآن أخذت القوى الأصولية المتطرفة القائمة على البغي والعدوان من تحالف (الصليبية والصهيونية) في الغرب ترسم استراتيجيتها الثقافية وفق موجة جديدة من النزعات العلمانية، وهي تستغل علاقات العولمة، وتستخدم قنوات الإعلام وشبكات المعلومات، والمستهدف الأول هو الأسرة المسلمة.. ذلك بأن شريعة الأسرة، بقواعدها القانونية والأخلاقية، على خلاف ظنهم السالف بها قد أثبتت أنها مرتكز القوة في التحصين الاجتماعي، وخط الدفاع الأول لمقاومة الغزو الثقافي..(1/1)
ورغماً عن كل ذلك، فإن الأسرة المسلمة قد أخذت تتصاعد بتدينها الأصيل إلى أفق جديد من تطلع أجيالها إلى تحكيم الدين في نظم الدولة ومناهج الحياة العامة، ومن تزود طلائعها بقوته الدافعة في مقاومة موجات الاحتلال والاستتباع المتلاحقة المتجددة.. فأدركت هذه القوى المعادية لهذا الدين أن الأسرة المسلمة هي المحيط الحيوي الذي يجري من خلاله توارث القيم الدينية بين الأجيال. ولذلك صارت الأسرة المسلمة الآن هي بؤرة الاستهداف ونقطة الاختراق، وبصورة مباشرة مؤثرة، وقد تحول المخطط التخريبي ذي الوجه الإصلاحي الخادع إلى تغيير شريعة الأسرة بصكوك دولية، كاتفاقية سيداو، وإلى تغريب الحياة الاجتماعية عن طريق تغريب مناهج التعليم.. هذا فضلاً عن تركيز التأثير التغريبي على الحياة الاجتماعية والأسرية من خلال البث الفضائي الإعلامي والشبكي.
أولاًً: مصادر القوة في الأسرة المسلمة
هذه معالجة إبداعية، تقدم تصوراً نموذجياً عاماً لحياة فرد مسلم، في أسرة مسلمة.. في مجتمع مسلم، وذلك منذ أن يستهل الوليد صارخاً حتى يسلم الروح بارئها، لنرى كيف شكَّلت هذه الأسرة شخصيته السوية، وأشربته السلوك القويم والمزاج السليم.. ولنرى أيضاً كيف استطاع أن يكون هذا الفرد، عند تكوينه أسرته الخاصة به، ناقلاً أميناً، بالأسوة والقدوة، لما توارثه من جيل أبويه إلى جيل أولاده من هذه القيم السلوكية، ثم كيف انداحت منه كرائم الطباع وأصائل الشمائل إلى بيئته المحيطة وجواره الطيب... وذلك لإثبات أن الأسرة المسلمة بحق هي مدرسة تربوية تتناقل منظومة القيم الفاضلة بين أجيالها بقوة ذاتية مسنودة بفطرة سليمة.
وهذه المعالجة مهداة إلى علماء علم النفس التربوي في الغرب، ليروا معنا كيف تكون الأسرة الصالحة صمام أمان لحياة إنسانية صالحة، وكيف أن الإسلام منهاج حياة حضارية متقدمة، مركزيته التربية الأسرية القويمة المستقيمة.(1/2)
فإلى معالم هذه الحياة الفردية والأسرية المُتَصَوَّرة، وهي تقوم على تعاليم الإسلام الهادية المهتدية.. وهو تصور يسنده الواقع بما ظلت تحتفظ به المجتمعات المسلمة من حصانة ذاتية في وجه التغريب الثقافي.
(1) صحة المولود النفسية:
يستقبل المولود الحياة بسماع أذان الصلاة، يرفعه في أذنه أحد أبويه، أو من رأياه صالحاً، حتى تقر في إدراكه الباطن حرمة الشعائر، وحتى تعود نفسه الطمأنينة بعد صرخة الميلاد.. وهي الطمأنينة التي اكتسبها في طوره الجنيني من حالة أمه العابدة الذاكرة { أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوب } [الرعد:28]، ذلك بأنها تعيش في كنف حياة زوجية آمنة مطمئنة، تتبادل فيها مع زوجها نعمة السكينة، وتتقاسم وشائج المودة والرحمة { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون } [الروم:21]، فهما ينقلان إلى مولودهما صحتهما النفسية من خلال ما يمدانه به من جينات وراثية هي من آيات الله المبدع الخلاق..
وقد كانت هذه الحالة النفسية الهادئة الوادعة نتاجاً طبيعياً لزواج هو من مبتدئه قويم القواعد، سليم البنيان.. فاختيار الزوجين بعضهما لبعض كان بإرادة حرة مستقلة، ليس فيها ظل لإكراه، وذلك لما يسود في المجتمع والأسرة من ثقافة إسلامية منها الأمر النبوي (لَا تُنْكَحُ الْأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلَا تُنْكَحُ الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ). قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ إِذْنُهَا؟ قَالَ: (أَنْ تَسْكُتَ)(1). ومنها التوجيه النبوي (لا تحملوا النساء على ما يكرهن)(2) .
__________
(1) أخرجه الشيخان: البخاري في كتاب النكاح برقم 4741، ومسلم في كتاب النكاح برقم 2543.
(2) أخرجه الصنعاني في المصنف.(1/3)
وقد انبنت حرية الاختيار على حسن الاختيار، بأن تكون الزوجة ذات دين وأن يكون الزوج مرضي الدين، فالأسرة المسلمة من ثقافتها الإرشاد النبوي (تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ)(1). كما أن من ثقافتها التوجيه النبوي: (إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ)(2) ..
وهو، من قبل، زواج مبرور الخيرة، ميسور المؤونة، فإن من المبشرات النبوية ببركة الزواج التي تبتغيه الأسرة المسلمة ما يحيط بشأنه من تيسير: (إِنَّ مِنْ يُمْنِ الْمَرْأَةِ: تَيْسِيرَ خِطْبَتِهَا، وَتَيْسِيرَ صَدَاقِهَا، وَتَيْسِيرَ رَحِمِهَا)(3) وعقد الزواج نفسه ينطوي على كثير من مقاصد الدين، ومنها إقامة العدل في الحقوق والواجبات بين الزوجين في ظل المعاشرة بالمعروف والمعاملة بالإحسان.. فمن الثقافة القرآنية التي تتشربها الأسرة المسلمة { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } [البقرة:228]، ومن الثقافة النبوية أيضاً حسن العشرة: (خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي)(4) .
وهكذا يخرج هذا الوليد في محضن أسري سليم البناء التكويني، مكتمل الصحة النفسية، فتنتقل إليه استقامة السلوك ميراثاً واكتساباً.
(2) صحة المولود الجسدية:
__________
(1) أخرجه الشيخان: البخاري في كتاب النكاح برقم 4700، ومسلم في كتاب الرضاع برقم 2661.
(2) أخرجه الترمذي في كتاب النكاح برقم 1004.
(3) أخرجه الإمام أحمد في مسند الأنصار برقم 23338.
(4) أخرجه ابن ماجه في كتاب النكاح برقم 1967، والترمذي في كتاب المناقب برقم 3830.(1/4)
أما مورثات الصحة الجسدية التي يتمتع بها هذا المولود فمصادرها عديدة، منها إنفاق معيشي كافٍ تنال منه الأم حاجتها، وراحة بدنية ضرورية تعينها على وهن حملها، والنفقة والراحة حق شرعي لها وبرٌّ وإحسان بها تعرْ به الأسرة المسلمة وهي لا تفتأ تتواصى بوصية النبي المعصوم عليه الصلاة والسلام، في خطبته بحجة الوداع (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَإِذَا شَهِدَ أَمْرًا فَلْيَتَكَلَّمْ بِخَيْرٍ أَوْ لِيَسْكُتْ وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ إِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ اسْتَوْصُوا بِالنِّساء خيراً) (1)
أما صحة الجنين التي ورثها المولود فهي من حق الحياة الذي كفله الاسلام لأي نفس مطلقاً، ومن باب أولى حياة الجنين التي تحتاج إلى رعاية أكبر وهي في طور التكوين.. فالأسرة المسلمة، ومن ورائها المجتمع المسلم، تتمثل في عرفها ثقافة (الحياة) في قمة يتقاصر دونها حق الحياة في الصكوك الدولية كافة، ففي هذه الثقافة أن قتل النفس الواحدة بغير حق كأنه قتل للنوع البشري بأسره، وإحياءها كإحيائه كما قال تعالى: { مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُون } [المائدة:32]، ومن هاهنا يجيء منع الإجهاض، إلا لضرورة ملحة هي إحياء نفس أخرى أوْلى بالحياة، وهي الأم الحبلى الذي يتهدد استمرار الحمل حياتها..
__________
(1) أخرجه الشيخان: البخاري في كتاب النكاح برقم 4687، ومسلم في كتاب الرضاع برقم 2671.(1/5)
ويبدأ توفير الضمانات لحياة المولود السليمة في الأسرة المسلمة منذ تفضيل التباعد في الأنساب لدى التزوج.. وذلك تجنباً لانتقال الأمراض الوراثية من جهة، وتوخياً لاكتساب التنوع في الخصائص الأسرية من جهة أخرى.. ويتلو التباعد في الأنساب بين الزوجين التباعد في الولادات جراء اختيارهما الرضاعة لحولين كاملين، حتى لقد صار التوجيه القرآني في ذلك عرفاً سائداً لدى الأسرة المسلمة { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } [البقرة: 233]، فالرضاعة الكافية عافية للطفل السابق، وعافية للطفل اللاحق، وعافية لأمهما الرؤوم.. ثم هي مصدر استقرار عاطفي للوليد جراء ضمه إلى دفء صدرها، ولمسه بحنو أناملها..
وهكذا تكون الأمومة المأمونة وتكون الطفولة السليمة، وهما محاطتان برعاية الدين وعناية الأسرة المتدينة.
(3) نشأة الطفل الفطرية:
وينشَّأ الطفل على الفطرة التي ولد عليها (مَا مِنْ مَولُودٍ إلا يُوَلَدُ على الفِطْرَة فأبواه يُهودَانِهِ أو يُنَصِّرَانِهِ أو يُمَجِّسَانِهِ)(1). فأبواه يقيمانه على دين الفطرة، وهو الإسلام، ويجعلانه على حالة الفطرة، كما وجهت إليها السنة النبوية، من حسن تسميته، ومن ختانه ، ومن تدريبه على طهارة بدنه ونظافة ثوبه، ومن تمرينه على سنن الفطرة مثل الاستياك وتقليم الأظافر، ومن تحفيظه الميسور من القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف في يفاعته، ومن تعويده على الصلاة والصوم في صباه، وتكون تربيته على السلوك القويم بالأسوة الحسنة من أبويه، والموعظة الحسنة من ذويه.
(4) حياة الطفل من الحقوق إلى الحرمات:
__________
(1) أخرجه الشيخان: البخاري في كتاب تفسير القرآن برقم 2402، عند تفسير قوله تعالى { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ } [الروم: 30]، ومسلم في كتاب القدر برقم 4803.(1/6)
والبيئة الأسرية المسلمة التي يترعرع فيها الطفل بيئة مؤتمرة بالعدل والإحسان، وبخاصة بين ذوي القربى، وأَوْلاهم الطفل. فهي بيئة صالحة تعرف للطفل من الحقوق الشرعية ما يرقى إلى الحرمات الدينية.. فكما هي تنتظر من الصغير توقير الكبير، فإنها تطالب الكبير برحمة الصغير (ليسَ منَّا من لم يَرحَم صغيرنا ولم يُوقِّرْ كبيرَنَا)(1). ومن الحرمات التي يحظى الطفل برعاية الأسرة لها إقامتها العدل بينه وبين إخوانه وأخواته، مسترشدة في ذلك بالإرشاد النبوي: (اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ)(2).. فالعدل بين الأطفال من تقوى الله تعالى.. ومن حرمات الطفل أيضاً نسبته إلى أبويه، كما هو الأمر القرآني { ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا } [الأحزاب:5]، ومن هذه الحرمات ضمان أسرته له حد الكفاية المعيشية، وإنباته النبات الحسن، وتنشئته المنشأ العزيز، وتعليمه العلم النافع، ومن حرماته ضمان إرثه الشرعي، حتى إذا كان جنيناً!!..
(5) الشباب بين الأسرة والمجتمع:
__________
(1) أخرجه الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في رحمة الصبيان، برقم 1984.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الهبة برقم 2398.(1/7)
ويشب الشاب في الأسرة المسلمة وهي بطبعها المتوارث آمرة بالمعروف من المفروضات والمروءات، ناهية عن المنكر من الرذائل والمباذل: فهذه الأسرة التقية النقية تطبعه بطابعها من غير إعنات أو إكراه، وإنما هي تحيطه برأي عام وعرف مرعي يولدان لديه الوازع الداخلي والرادع الذاتي، وبما هو أقوى من قوة الإلزام الأخلاقي.. فهو يخرج للتعامل مع المجتمع، وبين جنبيه مكارم أسرته وفي إهابه محامد بيته، ويسعى ليحسن تمثيلها بكل سبيل، فهو إليها منسوب ولها محسوب..
(6) الشباب من صلة الرحم إلى صلة الأمة:
أما صلة الشاب بوالديه في حياة الأسرة فبر وإحسان وصحبة حليمة حميمة.. وهو يتعلم منذ نعومة أظافره أن الأدب مع الوالدين مقترن بعبادة ربه تعالى { وَقَضَى رَبُّكَ أنْ لاَ تَعْبُدُوا إِلاَّ إيَّاهُ وبالْوَالِدَيْنِ إحْسَاناً إمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أحَدُهُما أوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَريماً. وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كما رَبَّيَاني صَغِيراً } [الإسراء: 23، 24]، فهو عرفان بفضلهما ووفاء لحقهما لابد مفضيان إلى الإحسان لذوي القربى الرحمية بأجمعهم، ثم لأفراد مجتمعة وأبناء أمته بأسرهم حيث تتسع دائرة الإحسان إلى ذوي القربى الروحية.. فثقافته مستمدة من ميزان الحقوق الذي لا يجور، وهو الهدى القرآني { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا } [الإسراء: 26].. كما هو الهدى النبوي: (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ، وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ)(1) ..
(7) من عضو الأسرة الصالحة إلى المواطن الصالح:
__________
(1) أخرجه الشيخان: البخاري في كتاب الأدب برقم 5526، ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب برقم 4639.(1/8)
وعضو الأسرة المسلمة قمين بأن يكون مواطناً صالحاً، حيث يتربى في هذه الأسرة على جلب النفع ودرء الضر في تعامله مع مجتمعه الصغير ومجتمعه الكبير.. فالثقافة الأسرية السائدة هي أن الأحب إلى الله من الناس هو الأنفع للناس.. كما هو الإرشاد النبوي (الخلق عيال الله، فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله)(1).. وهو ينقل إلى المجتمع ما تشرَّبه في أسرته من فضيلة التعاون على أداء صنائع البر وأعمال التقوى مهتدياً بما ظل يتردد في أصداء بيته من هدى قرآني، { وتعاونوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب } [المائدة:2]..
وهو من قبيل أسري يهب لنجدة المحتاج وإغاثة الملهوف ونصرة المظلوم، لأنها هي تعاليم دينه التي رضع لبانها من بيئة صالحة.. وهو يبدأ أعمال البر بجاره ذي الجنب حتى يبلغ الأباعد من أبناء أمته ووطنه..
(8) أسرة التعلُّم والتكسُّب:
__________
(1) أخرجه السيوطي في الجامع الصغير برقم 115، بلفظ: (أحب الناس إلى الله أنفعهم، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعا، ولأن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إلي من أ أعتكف في هذا المسجد شهراً، ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظاً ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رضى يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يثبتها له أثبت الله تعالى قدمه يوم تزل الأقدام، وإن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل).(1/9)
ولأنه تربى في الأسرة المسلمة على أكل الحلال وغُذِّي من حلال، فإنه شغوف بالتعلُّم النافع حتى يهيئ لنفسه التكسُّب النافع.. وهو لا يستنكف عن العمل اليدوي والخدمة البدنية، وقد تربى على فضيلة العون الذاتي في محيطه الأسري.. وذلك على خلفية التأسي والاتباع للنبي الكريم، عليه الصلاة والتسليم، حيث روت السيدة عائشة رضى الله عنها أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم بخدمة بيته..
وهذه الأسرة المسلمة إنما تتكافل على أساس مشاركة أفرادها القادرين بعملهم ودخلهم في سد ضروراتها وحاجاتها.. فمثل هذه النفقة الناجمة عن طلب الرزق أقرب القربات إلى الله كما هو الهدى النبوي (إن من الذنوب ذنوباً
لا يكفرها الصلاة ولا الصيام ولا الحج ولا العمرة، يكفرها الهموم في طلب المعيشة )(1).
(9) أسرة العفة والاستعفاف:
ويتربى الشاب في الأسرة المسلمة وهي محاطة بسياج العفة، ولذلك هو يتحلى بفضيلة الاستعفاف، حيث يهتدي بالأمر القرآني { وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ
لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ } [النور:33]، وهو يستعين بصوم التطوع على استدامة استعفافه، مستجيباً للنداء النبوي: (يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ)(2)..
وقد تعلم من التربية الأسرية غض البصر وحفظ الفرج، كما تعلم منها الإحصان بالزواج، وهو في إقدامه عليه يتمثل ما توارثه عن أبويه من حسن اختيار للشريك، ومن حسن عشرته، ومن تمثل السكينة وتبادل المودة والرحمة معه، حتى يستديم إحصانه وإعفافه لآخر العمر.
(
__________
(1) الجامع الصغير ، جلال الدين السيوطي ، حديث رقم 2461.
(2) أخرجه الشيخان: البخاري في كتاب النكاح برقم 4678، ومسلم في كتاب النكاح برقم 2485، واللفظ لمسلم.(1/10)
10) عمر عامر في أسرة عامرة:
ويمتد العمر بالشاب، وهو قد كوَّن أسرته الخاصة به، يورِّثها ما توارثه عن أسرته الممتدة وعائلته الكبيرة، من قيم الدين وأعراف الأمة.. فهو كما أدى إليه أبواه حقوق التربية صار هو يؤدي هذه الحقوق لأولاده.. وهو كما كان باراً بوالديه صار أولاده بارين به. { هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ } [الرحمن:61]، وهو كما كان مستعففاً صار أولاده مستعففين، فالخصائص السلوكية كالخصائص البدنية تنتقل بين الأجيال الأسرية من خلال التوارث والتعايش..
وهو كما تغذى في الطفولة من الكسب الحلال، غَذَّى أولاده من هذا المورد الطاهر.. وقد أعان أولاده على جادة الحق بما ضربه لهم من الأسوة الحسنة في خاصة نفسه، وذلك كما كان منهج أبويه معه في طفولته وشبابه، وقد أفلح المنهج وآتى أكله..
وعندما يتقدم به العمر، ويشتد به العجز، يكفله أولاده، ويحيطونه بالرعاية الحانية والعناية الحادبة، هم وحفدته، حتى يبلغ مثواه الأخير، قرير العين.. فالأسرة المسلمة رحيمة بالمسنين حليمة مع المعاقين، فهي كما ترحم الصغار توقر الكبار، يتلو في كتاب الله تعالى ما يأمره للإحسان بوالدين { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا } [الإسراء: 23].
هذه هي القيم العليا للأسرة المسلمة تتشربها وتتوارثها وتتناقلها، وتحافظ عليها لأنها عصمة دينها وعروة تدينها.
ثانياً: الأسرة المسلمة مدرسة سياسية واقتصادية واجتماعية(1/11)
والأسرة هي المحيط الحيوي الذي تتفتح عليه عيون الناشئة، وهم في المرحلة العمرية المبكرة المعروفة بالمقدرة الفاعلة على التلقي بلسان القدوة. والأسرة المسلمة بخاصة توفر للناشئة الأجواء السليمة التي يتربون فيها على قيم الحق والعدل.. فهي مدرسة سياسية واقتصادية واجتماعية تخرج الأجيال ليكونوا مواطنين صالحين نافعين ناضجين..
ففي المحيط الأسري تغرس قيم الشورى من حيث هي منهاج للحياة الخاصة قبل أن تكون منهاجاً للحياة العامة. فالزوج والزوجة يتحاوران ويتشاوران في إدارة الأسرة، بل هما يمارسون الشورى في أخص الشؤون حول فطام الطفل { فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } [البقرة: 233]، وللصبيان حظ من هذه الشورى فقد كان الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب رضي عنه يستشير الصبيان لما يتوسم فيهم من نجابة الرأي وفطرية التفكير.. وفي هذا يخرج الناشئ وهو مطبوع على قيم الشورى والمشاركة..
وتعلم الأسرة المسلمة ناشئتها المبادئ الأولية للاقتصاد، وهم يطلعون على ميزانية الأسرة، ويشاركون في اقتصاد المعيشة، وربما شاركوا في زيادة الدخل بالعمل المنزلي المنتج، أو بالعمل الحقلي النافع إن كانوا من سكان الريف، أو بالعمل العام المجدي إن كانوا من سكان المدينة. وهم يتلقون من الثقافة الإسلامية قيمة العمل.. (ما أكل ابن آدم طعاماً قط خيراً من عمل يده وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده). كما جاء في التوجيه النبوي (الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة، والتودد إلى الناس نصف العقل، وحسن السؤال نصف العلم)(1).
__________
(1) كنز العمال للمتقي الهندي، الاقتصاد والرفق في المعيشة، برقم 5434.(1/12)
أما القيم الاجتماعية، من التعاون على أعمال البر والتكافل في العون الذاتي، فالمسلم يتلقاها من التربية الأسرية التي تجعل من هذه القيم قوام عيشها وضمان حياتها. فالقرآن الكريم الذي تتلقى الأسرة تعاليمه دستوراً لحياتها يحض على التعاون النافع وينهى عن التعاون الضار { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَان } [المائدة: 2]، وهي قاعدة أخلاقية لا معدى عنها لتماسك الأسرة وترابط المجتمع.
ثالثاً: التعليم الديني في خدمة الأسرة المسلمة
ونشير هنا إلى الانفصام الذي أحدثه الإستخراب (المسمى الاستعمار) بين تعليم (مدني) عام وتعليم (ديني) خاص، مع أن الإسلام لا يعترف بهذه الثنائية، فهو منهاج متكامل يدخل في كل شؤون الحياة فيوجهها بأحكامه ومقاصده، ومن ذلك التعليم، ومن هاهنا تقوم في بلادنا حركة التأصيل لمناهج التعليم لإزالة الانفصام في تربية الناشئة.
ورغماً عن ذلك ظل التعليم الديني في (الخلاوي) المعروفة في بعض أجزاء العالم الإسلامي بالمحاضر أو الكتاتيب والمعاهد (الدينية) وهي تحفظ لهذه الأمة ثقافتها الإسلامية في وجه حملات التغريب.. وظلت (خلاوي) القرآن الكريم بخاصة ترفد المجتمعات المحلية والأسرة المسلمة بقيم السلوك الإسلامي الرصين التي صارت أعرافاً سائدة وتقاليد مرعية.. وذلك حيث تحولت هذه المراكز القرآنية إلى منارات للعلوم ومثابات للأخلاق.
ونقتطف فيما يلي معالم ذلك التأثير القوي الذي أحدثته (الخلاوي القرآنية) في حفظ الأسرة المسلمة على تدينها المطبوع من كتابنا (الخلوة والعودة والحلوة) فيما يلي:
الشيوخ والقدوة الحسنة:(1/13)
كان المجتمع كله يلتفّ حول الخلوة؛ فكان شيخها يؤمهم في الصلاة، ويوثق فيما بينهم الصلات، ويتولى تزويجهم، ويسمي أولادهم، ويعلمهم، ويؤدِّبهم، ويصحبهم، عائداً مرضاهم، ومشيعاً جنائزهم، آمًّا صلواتها، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر؛ بل هو يملك حق إزالة المنكر بيده، من غير نكير عليه ولا معارض له فيما يأمر به أو ينهى عنه، ويُذكِّر بالله تعالى حتى يبلغ بالمجتمع طهارة المظهر العام، مع نقاء السريرة والاستقامة على أمر الله تعالى في ائتلاف بين المظهر والمخبر والسر والعلن.
والشيخ قد كان في موضع الأسوة والقدوة، وهو يسعى لتطبيق الفضائل التي يدعو إليها، يقترن العلم بالعمل، مع الإخلاص والتجرد ونكران الذات ومغالبة مطامع النفس وشهواتها.. وعلماء التربية الروحية وتزكية النفوس يتناصحون فيما بينهم.
تدين المجتمع:
كان ذلك المجتمع تزيّنُ صغاره البراءة وسلامة الفطرة، ويجمِّل ناشئيه الأدب وتوقير الكبار، ويفشو بين كباره حب الخير للناس، والسعي في مصلحتهم، والدأب على قضاء حوائجهم ورحمة صغارهم.
ولقد كان يغلب على مجتمعنا كله، أفراداً وجماعات، إجلال القرآن العظيم وتوقير أهله، الذين كانوا حقاً قدوة الناس ومؤدبيهم والمذكرين بالله تعالى بينهم وكأنهم في عصرهم سادة الدنيا ووجهاء الدار الآخرة لدى وجدان محبيهم، حيث كان حبهم من حبهم لله تعالى وحبهم لرسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ويملأ وجدانهم استحضار الدار الآخرة في طلب العلم النافع والعمل الصالح.
فضل الأمهات والآباء:
أما الأمهات فهن الصالحات القانتات الحافظات للغيب، بما حفظ الله، واللائى كنَّ يوقرن القرآن الكريم ومعلميه ومتعلميه ، وأما الأجداد فكثيراً ما كانوا يتفرغون من الصوارف ومشاغل الكسب إلى لزوم المساجد والاعتكاف كلياً أو جزئياً فيها. وهم سائرون في الناس بحسن السيرة والسريرة.(1/14)
والوجدان المتدين واضح الظهور جداً على الجدات، فهن في صيام بالنهار، وقيام بالليل، مع المحافظة على صلاة الضحى، وكان من حديث بعضهن أن أكثر ما يشغل بالها من مشاهد القيامة هو هول الموقف.
ولعلَّ الحافظ للقرآن الكريم، التالي للذكر الحكيم، يجد نفسه في موضع الشكر الخالص لوالديه كما أمره الله تعالى بذلك وقرن شكر والديه بشكره: { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } [لقمان: 14]، وقد اقترن الإحسان إلى الوالدين بما سبق من أمره تعالى بعبادته فقال : { وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } [النساء : 36]. إنها الوصية الدائمة بالإحسان إلى الوالدين كما في قوله تعالى { وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إحُساناً } [الأحقاف: 15].
ويتواصل الشكر وتقدير الجميل للوالدين فيما حرصا عليه من ابتعاثهما بولدهما للخلوة لحفظ القرآن..
الأسرة وتعلَُّم اللغة العربية :
وتعلُّم اللغة العربية ، كتابةً وقراءة ، جنباً إلى جنب مع حفظ القرآن الكريم ، في (الخلاوي) أو الكتاتيب أو المحاضر ، كان خطة حكيمة ، ومنهجاً قويماً ،لهما دلالة قوية على اقتران اللغة العربية عامة بلغة القرآن خاصة ... بل إن المنهج التعليمي في تلك المؤسسات قد جعل تعلُّم اللغة العربية يجري من خلال تعلُّم القرآن الكريم .
وأكثر من ذلك فإن الاستزادة من تعلّم اللغة العربية ، بسائر علومها ، هو مفتاح لايُستغني عنه لفهم القرآن الكريم على خير الوجوه ... ذلك بأن القرآن الكريم موصوف هو نفسه من الله تعالى بأنه عربي لعلة أن يفهمه العرب :
{ إنا جعلناه قرآنا عربيًّا لعلكم تعقلون} [ الزخرف : 3] ، ثم لينقلوا معانية إلى سائر الأمم ... ذلك بأن فهم القرآن الكريم هو مفتاح التدين السليم .
ولقد شاء الله تعالى أن تكون اللغة العربية وعاء صالحاً لحمل القرآن ، كما قال شاعر النيل حافظ إبراهيم بلسان اللغة العربية :(1/15)
وسعت كتاب الله وغايةً *** فما ضقت عن آيٍ به وعظات
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة*** وتنسيق أسماء لمخترعات
ولذلك قدرَّ الحق تعالى لهذه اللغة الفريدة أن تكون غنية المفردات ، واسعة التراكيب ، خصبة التعابير ، وقد عرف أهلها الأقدمون بالبلاغة والفصاحة والأداء اللغوي الجزل ... وتمثلت معجزة القرآن البيانية في عجزهم عن الإتيان بمثله ، كما تمثلت معجزته العلمية في التعبير عن آيات الآفاق ( الكونية) وآيات النفوس (الإنسانية) إلى حد من الإعجاز يشبع حاجات الفهوم ويستوعب طاقات العلوم في كل عصر ومصر ... كل ذلك لما تمتعت به لغة القرآن الكريم العربية من خصوبة في الوسع والعمق .
ولذلك صار مندوباً أن يتعلَّم كل مسلم من غير العرب اللغة العربية ، بالقدر الذي يتيسر له ولو القدر الضروري لقراءة القرآن الكريم في الصلوات والدعوات ... كما صار وجوباً على الدعاة المسلمين من العرب لدي تبليغهم القرآن الكريم لغير العرب أن ينقلوا معانيه المتنوعة كما تعطيها اللغة العربية ، دون الترجمة الحرفية لنصوصه التي تُذهب بحقائقه ودقائقه .
وهذا المنهج يصدق كذلك على فهم الحديث النبوي الشريف ، وهو صادر من أبلغ البلغاء وأفصح الفصحاء عليه صلاة الله وسلامه ، في التفسير والتفصيل لكلام الله المحكم المعجز ... فقد أوتي رسول الله صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم ومختصر اللسان وبليغ البيان ، وقد أفاض الله تعالى على حديثه طلاوة القرآن الكريم ، وأغدق على كلامه حلاوة الذكر الحكيم .
وهكذا تقترن اللغة العربية بالقرآن الكريم اقتراناً موضوعياً لا فكاك منه للباحث والدارس للعلوم الإسلامية .(1/16)
ولهذا يحسن أن تتعهد الأسرة المسلمة أولادهابتعليم اللغة العربية لإدراك جمالها والاتصال المباشر بالقرآن العظيم والهدي النبوي . هذا وقد نزل القرآن العظيم بلغة عربية بلغت أرفع مقامات الجمال والجلال والكمال ، وحسبها ذلك شرفاً ومجداً وهو كتاب أنزله الله تعالى ليتدبّر الناس آياته ، ولايتأتي ذلك من غير إتقان هذه اللغة . وعلى أهل القرآن أن يجهدوا في تعلُّم هذه اللغة ليدركوا أسرار الجمال البياني ووجوه الإعجاز التشريعي والعلمي في هذا الكتاب العظيم .
وقد بلغت هذه اللغة من بهائها وروائها أن أسرت ألباب الفصحاء والبلغاء من أهلها ، بل ومن اتّصل بها من غير اهلها ، ومن غير دين أهلها ، كما ذهب بعضهم إلى أن هذه اللغة العربية التي نزل بها القرآن لغة جميلة أخّاذة فتّانة ، وانها لغة تخترق القلوب اختراقاً ، وأنها لغة لاينبغي أن يكون المتحدثون بها إلاّ ملائكة ، لابشراً .
ونحن أوْلىَ الناس احتفاءً بهذه اللغة وإعلاءً لشأنها ... ولئن كان غيرنا يري لها هذه المكانة فما ينبغي أن ننام عن هذا النور المبين .
ثم إنه قد أحسن من قال ، ولعله الإمام الشافعي :
حفظُ اللُّغَاتِ عَليْنَا فَرضٌ كَفَرْضِ الصَّلاة * فَليْس يُعْرَف دينٌ إلاَّ بِحِفْظِ اللَّغَاتِ (1)
خاتمة:
__________
(1) انظر كتاب الخلوة والعودة الحلوة ، الطبعة السابعة ، أ . د . أحمد على الامام ، ص 115 .(1/17)
وبعد، فإن نظام الأسرة في الإسلام، بقواعده الشرعية والأخلاقية، هو العمدة في بناء المجتمع الفاضل والمواطن الصالح.. بل إن الأسرة المسلمة الناشئة على مقاصد الدين وأحكام الشريعة هي الآن خط الدفاع الأول في وجه الاستهداف العلماني الذي يتزين بالصكوك الدولية، ويتزيى بالشعارات البراقة، ويعمل وفق مخططات مدروسة لاختراق الأسرة المسلمة، وللإحاطة بمقوماتها.. فما أحرانا أن نزيد روابط الأسر توثيقاً، وأن نشد بنيانها، ونعلي أركانها على المنهاج القويم الذي يبلغنا سعادة الحياة الدنيا وصلاح العقبى، والله المستعان.(1/18)
بسم الله الرحمن الرحيم
ورقة حول
وسائل الوقاية من الالتجاء إلى الطلاق
في ضوء الكتاب والسنة ومقاصد الشريعة
ورقة مقدمة
للدورة الرابعة عشرة للمجلس
14-18 محرم 1426هـ 23-27 فبراير 2006م
بقلم :
أ.د. علي محيي الدين القره داغي
أستاذ ورئيس قسم الفقه والأصول بجامعة قطر
والخبير بمجمع الفقه الإسلامي ، بمكة المكرمة ، وجدة
وعضو المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعامين محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين
وبعد
فهذه ورقة نوجز فيها القول حول الوسائل التي شرعها الإسلام لتجنب الطلاق ، وللحفاظ على بقاء الأسرة وتماسكها ، لأن الأسرة في الإسلام لها الأهمية القصوى في بناء صرح الجماعة والأمة والحضارة ، فهي اللبنة الأولى الأساسية في كل ذلك ، ولذلك أولاها القرآن (الذي ليس من شأنه الدخول في التفاصيل في الأحكام الفرعية) عناية قصوى من حيث التفصيل والتأصيل ، حتى وصلت هذه التفاصيل إلى أدق التفاصيل الجزئية .
ومن هذه القضايا الخاصة بالأسرة قضية الطلاق ، والوسائل الخاصة بتجنبه بكل الوسائل المتاحة .
ونحن في هذه الورقة نتحدث عن هذه الوسائل بشيء من الإيجاز مبينين فيها مدى حرص الإسلام على عدم وقوع الطلاق إلاّ في حالة كما يقال في المثل (آخر الدواء الكي) داعين الله تعالى أن نوفق فيها وأن يجعل أعمالنا كلها خالصة لوجهه الكريم ، وأن يعصمنا من الخطأ والزلل في العقيدة والقول والعمل إنه مولاي فنعم المولى ونعم النصير .
كتبه الفقير إلى ربه
علي بن محيى الدين القره داغي
غرة جمادى الأولى 1425هـ
مقاصد الشريعة في الطلاق :(1/1)
عندما يقرأ الإنسان قوله تعالى : (وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى ان تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً)(1)يتبين للإنسان أن مقاصد الشريعة في باب الأسرة تكمن في إبقاء العشرة الطيبة والمعاشرة بالمعروف ، حتى في حالة كره الرجل لزوجته كرهاً شديداً فإن الإسلام يأمره بالصبر ، ويربطه بالعقيدة بالغيب ، ويبذل كل جهده لتعويض هذه الكراهية من خلال أنه الله يجعل في هذا الزوج خيراً كثيراً في مجالات أخرى في مجال الأجر ، وفي مجال الأولاد الصالحين والذرية الصالحة ، وفي مجالات أخرى لا يعلمها الإنسان وإنما يعلمها الله تعالى .
فلو تدبرنا الآية السابقة وقرأنا الجزء الأول منها وهي قوله تعالى : ( فإن كرهتموهن....) فإن القارئ العادي ينتظر أن يكون الجواب أو جزاء الشرط : فلا مانع من الفرقة أو الطلاق مثلاً ، ولكن الجواب يكون على عكس التوقع حيث يفهم منه : كلا ، لا توقعوا الطلاق ، وحافظوا على المعاشرة بالمعروف ، فإن لم تتحقق المعاشرة بالإحسان ، فلا ينبغي أن ننزل عن درجة المعروف والعدل ، ثم يبرر القرآن الكريم هذا الجواب بتمهيد عقدي ونفسي سايكولوجي غريب يقضي على العقدة النفسية التي أدت إلى الكراهية من خلال تفويض الأمر إلى الله ، وأن الإنسان لا يعلم الغيب ولا المستقبل ، ولا الخير الذي يتحقق في المستقبل ، فمهد الله تعالى نفس الكاره للمحبة ، أو على الأقل للقبول ، لأنه أخبر الله الحكيم بأنه يجعل فيه خيراً كثيراً ، ومن الناحية النفسية فلا يجتمع في القلب كراهة والإحساس بالخير الكثير ، حيث يقوم المصلحون الاجتماعيون والنفسيون بالجلوس مع الزوج والزوجة ، ويعدون ما لدى كل واحد من الإيجابيات ، وبعد جلة أو جلستين يقتنع الزوج بأن لدى زوجته نقاط كثيرة من الإيجابيات ، كما تقتنع الزوجة بأن لدى زوجها الكثير والكثير من الإيجابيات ، كما يقتنعان بأن في بقاء الزوجية الخير الكثير .
__________
(1) سورة النساء / الآية 19(1/2)
وقد سمعت هذا كثيراً من هؤلاء ونجاحاتهم التي تصل إلى نسبة مرتفعة .
وإذا نظرنا إلى الآيات التي تتحدث عن الأسرة نجد أن هناك مقاصد شرعية واضحة ، وهي (ضبط نظام العائلة من مقصد الشرائع البشرية كلها...روعي فيه حفظ الإنسان من الشك في انتسابها ...ولم تنزل الشرائع تعنى بضبط أصل نظام تكوين العائلة الذي هو اقتران الذكر بالأنثى المعبر عنه بالزواج ، ولا جرم أن الأصل في تشريع أمر العائلة هو إحكام آصرة النكاح ، ثم إحكام آصرة القرابة ، ثم إحكام آصرة الصهر ، ثم إحكام كيفية انحلال ما يقبل الانحلال من هذه الأواصر الثلاث.....)(1).
بل إن الآيات الكريمة تذل بوضوح على أن مقاصد الشريعة السكنى ، والمودة ، والرحمة فقال تعالى : ( ومن آياته ان جعل لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون )(2).
وسائل الوقاية :
هذه الوسائل كثيرة ، وهي وسائل عقدية ، ووسائل نفسية ، ووسائل اجتماعية ، ووسائل عملية ، ومن جانب آخر فهي وسائل قبل الزواج ، ووسائل بعد الزواج نلخصها فيما يأتي:
أولاً : الوسائل العقدية وهي :
1 ـ الجانب الإيماني الذي يشمل الأمور الآتية :
__________
(1) مقاصد الشريعة للشيخ محمد الطاهر بن عاشور ، تحقيق ومراجعة الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجه ط. قطر (3/421)
(2) سورة الروم / الآية 21(1/3)
أ ـ الإيمان بالله تعالى واستشعار الخوف من الله تعالى من الظلم والإيذاء ، ومراقبة الله تعالى ، والتفكير في اليوم الآخر ، حيث يجمع هذه المعاني لفظ ، التقوى من الله تعالى ، ولذلك تكرر معظم الحديث عن الزواج والطلاق وأحكام الأسرة ، بل بدأ الله تعالى بالتقوى في سورة النساء وفي أول آية منها فقال تعالى : ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً)(1)وكذلك قوله تعالى في أول آية من سورة الطلاق فقال تعالى : (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهنّ لعدتهنّ وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم...)(2).
ب ـ الإيمان بأن الجميع (رجالاً ونساءً) من نفس واحدة ، وبالتالي فأصلها واحد.
2 ـ الجانب الأخلاقي :
حيث إن الإسلام فرض مجموعة من الأخلاقيات في التعامل بين الناس جميعاً ، وبين الزوج والزوجة تؤدي إلى الوقاية من الوقوع في الطلاق .
3 ـ الجانب النفسي ، وذلك من عدة جوانب:
أ ـ أن المرأة جزء من الرجل ، وأن كليهما من نفس واحدة ، فقد شاء الله تعالى ان تبدأ هذه البتة في الأرض بأسرة واحدة ، فخلق ابتداءً نفساً واحدة ، وخلق منها زوجها فكانت أسرة من زوجين (وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً) فتقوم الأسرة الأولى من ذكر وأنثى هما من نفس واحدة ، وطبعة واحدة ، وفطرة واحدة .
ب ـ رعاية مكونات كل من الرجل والمرأة ، ورعاية خصائص كل واحد منهما ، وتوزيع الأدوار عليما بعدل وحكمة ، دون تجاهل لاستعدادات الرجل ، واستعدادات المرأة وتناسق هذه الاستعدادات مع بعضها البعض ، وتكاملها لإقامة الأسرة(3).
__________
(1) سورة النساء / الآية 1
(2) سورة الطلاق / الآية 1
(3) في ظلال القرآن (1/575)(1/4)
ج ـ رعاية الجانب النفسي للزوجين ، وبالأخص الزوجة ، حيث يقول الله تعالى (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام) كما يقول سيد قطب : (أما تقوى الأرحام فهي تعبير عجيب يقلي ظلاله الشعورية في النفس ... ارهفوا مشاعركم للإحساس بوشائجها ، والإحساس بحقها وتوقي هضمها وظلمها ، والتحرج من خدشها ومسها ، توقوا أن تؤذوها ، وأن تخرجوها وأن تغصبوها)(1).
د ـ تأكيد القرآن الكريم على جوانب الخير في بقاء الزوجية ، كما سبق في تفسير قوله تعالى : (فإن كرهتموهن فعسى ان تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً)(2).
رابعاً : وسائل قبل الزواج :
1 ـ اختيار الشريك الصالح ، أو الزوجة الصالحة .
2 ـ ملاحظة الجوانب النفسية والصحية ، والبدنية والاجتماعية من خلال الأسرة وأفرادها .
3 ـ البحث الطويل عن طبائع الزوج ، أو الزوجة من حيث المعاشرة والإدارة .... .
خامساً: وسائل بعد الزواج :
1 ـ صناعة البيت الإسلامي منذ أول ليلة من خلال إقامته على الطاعة والصلاح .
2 ـ المشاورة المستمرة لكل الأمور (عن تشاور) والمناصحة الدائمة .
3 ـ محاولة إرضاء الآخر بكل الوسائل المشروعة حتى التعريض في هذا الباب جائز ، بل أجيز الكذب إذا كان هناك ضرورة .
4 ـ الوعظ ومراعاة الآداب الشرعية للوعظ ووسائله وأساليبه المتنوعة (مع ذكر نماذج من وعظ الرسول صلى الله عليه وسلم).
5 ـ الهجر في المضجع مع بيان آثاره .
6 ـ الهجر في الكلام ، ومدته وشروطه .
7 ـ الضرب ومعناه وكيفيته ، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم فيه .
8 ـ تدخل مجلس الأسرة من خلال الحكمين ، وهذا التحكيم إجباري فقد ذكر
__________
(1) في ظلال القرآن (1/575)
(2) سورة النساء / الآية 19(1/5)
جماعة من الفقهاء منهم الشافعية على المعتمد ، وبعض المالكية ، وهو مروي عن علي وابن العباس ومعاوية والشعبي(1)إلى أن التحكيم واجب عند حدوث الشقاق بين الزوجين حيث قال الله تعالى : ( وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما )(2)فالآية صريحة في دلالتها على الوجوب وقد تبنى هذا الرأي القاضي ابن العربي فقال : ( إذا علم الإمام من حال الزوجين الشقاق لزمه أن يبعث إليهما حكمين )(3)وقد ذكر القاضي أن المراد بالمخاطب هو ولي الأمر ونائبه المتمثل في القاضي(4)،
__________
(1) الأم ( 5/177 ) ، ونهاية المحتاج ( 6/385 ) ، وأحكام القرآن ( 1/427 )
(2) سورة النساء / الآية ( 35 )
(3) أحكام القرآن ( 1/427 )
(4) المصدر السابق نفسه ، وتفسير ابن عطية ( 4/48 ) ، والتفسير الكبير للرازي ط . دار احياء التراث العربي ببيروت (10/92 ) ، وتفسير ابن عباس ، ومروياته في الكتب الستة ، للدكتور عبدالعزيز بن عبدالله الحميدي ط ..جامعة أم القرى (1/237 )(1/6)
حيث لا يجوز له البت في الأمر إلاّ بعد هذا الإجراء ، وهو إرسال حكم من أهله ، وحكم من أهلها ، أو أن المراد أولياء الزوجين إذا كانا محجورين ، وأن الحكمين هما بمثابة القاضيين وليسا وكيلين ، قال القاضي ابن العربي : ( هذا نصّ من الله تعالى من أنهما قاضيان لا وكيلان ، وللوكيل اسم في الشريعة ومعنى ، وللحكم اسم في الشريعة ومعنى ، فإذا بين الله سبحانه كلّ واحد منهما فلا ينبغي لشاذ ـ فكيف لعالم ـ أن يركب معنى أحدهما على الآخر فذلك تلبيس وافساد للأحكام ، وإنما يسيران بإذن الله تعالى ويخلصان النية لوجه الله وينظران فيما عند الزوجين بالتثبيت ، فإن رأيا للجمع وجهاً جمعا ، وإن وجداهما قد أنابا تركاهما، ... ) وإن وجداهما قد اختلفا ولم يمكن الجمع بينهما ، أو أن الجمع لا ينفع لوجود تجارب أخرى فرّقا بينهما وهذا مروي عن عليّ وابن عباس ومعاوية والشعبي ، وهو مذهب مالك دافع عنه القاضي ابن العربي دفاعاً مستميتاً ، وقد ذكر عدة أدلة على ذلك(1).
__________
(1) أحكام القرآن ( 1/421 ـ 424 )(1/7)
وقال إذا فرّقا فتكون الفرقة طلقة بائنة ، وأن هذه الفرقة لوقوع الخلل في مقصود النكاح من الألفة وحسن العشرة ( فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان )(1)وقد ردّ على من قال : بأن الظلم من أحد الزوجين لا ينافي النكاح ، بأن هذا نظر قاصر يتصور في عقود الأموال ، فأما عقود الأبدان فلا تتمّ إلاّ بالاتفاق والتآلف وحسن التعاشر ، فإذا فقد ذلك لم يكن لبقاء العقد وجه ، وكانت المصلحة في الفرقة ، ثم أوضح بأن حكم الحكمين كما أنه ملزم في الجمع ، أو الفرقة ، ملزم كذلك فيما يخص بقية الحقوق المالية من المنازلة أو أخذ شيء من أحدهما(2)ثم بيّن بأن القاضي لا يقضي بعلمه ، ولكن الشرع خصّ هاتين الواقعتين ( الشقاق وجزاء الصيد ) بحكمين لينفذ حكمهما بعلمهما وترتفع بالتعدد التهمة عنهما(3).
ومع وجود هذا التحكيم الإجباري في حالة الشقاق فإنه لا مانع شرعاً من التحكيم الاختياري من الزوجين أو من أهلهما ، أو من أوليائهما سواء اختارا حكمين ، أو حكماً واحداً ، أو أكثر من اثنين لأن التحكيم جائز وينفذ حكم المحكم إذا توافرت شروط التحكيم(4).
__________
(1) سورة البقرة / الآية ( 229 )
(2) أحكام القرآن ( 1/425 )
(3) المصدر السابق ( 1/425 ) ، وتفسير الكبير للرازي ( 10/93 )
(4) أحكام القرآن لابن العربي ( 1/427 )(1/8)