وإذا كانت أقوال العلماء في هذه الموضوع معلومة سواء فيما اتفقوا عليه أو فيما اختلفوا فيه فما هو القول الذي ينبغي المصير إليه؟ هذا ما نبينه في الصفحات التالية: قال في فتاوى النساء لابن تيمية: وهذا القول ( أي القول بعدم الإجبار ) هو الصواب ثم قال: والناس متفاوتون في في مناط الإجبار هل هو البكارة أو الصغر أو مجموعهما أو كل منهما على أربعة أقوال في مذهب أحمد وغيره.
والصحيح أن مناط الإجبار هو الصغر، وأن البكر البالغ لا يجبرها أحد على النكاح فإنه ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا تنكح المرأة حتى تستأذن ولا الثيب حتى تستأمر) فقيل له: إن البكر تستحي؟ فقال: (إذنها صمتها) وفي لفظ في الصحيح: (البكر يستأذنها أبوها) فلهذا نهى صلى الله عليه وسلم : (لا تنكح حتى تستأذن) وهذا يتناول الأب وغيره.
وقد صرح بذلك في الرواية الأخرى الصحيحة وأن الأب نفسه يستأذنها وأيضا فإن الأب ليس له أن يتصرف في مالها إذا كانت رشيدة إلا بإذنها، وبضعها أعظم من مالها. فكيف يجوز أن يتصرف في بضعها مع كراهتها ورشدها؟.
وأيضا فإن الصغر سبب الحجر بالنص والإجماع، وأما جعل البكارة موجبة للحجر فهذا مخالف لأصول الإسلام، فإن الشارع لم يجعل البكارة سببا للحجر في موضع من المواضع المجمع عليها، فتعليل الحجر بذلك تعليل بوصف لا تأثير له في الشرع(1).
وقال البخاري في صحيحه: باب لا ينكح الأب وغيره البكر والثيب إلا برضاهما. قال الحافظ ابن حجر في شرحه فتح الباري: (في هذه الترجمة أربع صور: تزويج الأب البكر وتزويج الأب الثيب وتزويج غير الأب البكر وتزويج غير الأب الثيب، وإذا اعتبرت الكبر والصغر زادت الصور. فالثيب البالغ لا يزوجها الأب ولا غيره إلا برضاها اتفاقا إلا من شذ كما تقدم.
__________
(1) ـ انظر: فتاوى النساء لابن تميمة دراسة وتحقيق وتعليق إبراهيم محمد الجمل ص 21(1/38)
والبكر الصغيرة يزوجها أبوها اتفاقا إلا من شذ كما تقدم. والثيب الغير البالغ اختلف فيها، فقال مالك وأبو حنيفة: يزوجها كما يزوج البكر. وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد: لا يزوجها إذا زالت البكارة بالوطء لا بغيره، والعلة عندهم أن إزالة البكارة تزيل الحياء الذي في البكر، والبكر البالغ يزوجها أبوها وكذا غيره من الأولياء، واختلف في استئمارها، والحديث دال على أنه لا إجبار للأب عليها إذا امتنعت وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم. إلى أن قال الحافظ: ثم إن الترجمة معقودة لاشتراط رضا المتزوجة بكرا كانت أو ثيبا صغيرة كانت أو كبيرة، وهو الذي يقتضيه ظاهر الحديث، لكن تُستثنى الصغيرة من حيث المعنى لأنها لا عبارة لها.
قال البخاري: حدثنا معاذ بن فضالة حدثنا هشام عن يحيى عن ابن أبي سلمة أن أبا هريرة حدثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تنكح الأيم حتى تستأمر. ولا تنكح البكر حتى تستأذن. قالوا يا رسول الله وكيف إذنها؟ قال: أن تسكت).
وبسنده عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت يارسول الله : إن البكر تستحيي، قال رضاها صمتها. قال الحافظ : وخص بعض الشافعية الاكتفاء بسكوت البكر البالغ بالنسبة إلى الأب والجد دون غيرهما، لأنها تستحي منهما أكثر من غيرهما. والصحيح الذي عليه الجمهور استعمال الحديث في جميع الأبكار بالنسبة لجميع الأولياء واختلفوا في الأب يزوج البالغ بغير إذنها فقال الأوزاعي والثوري والحنفية ووافقهم أبو ثور: يشترط استئذانها فلو عقد عليها بغير استئذان لم يصح: وقال الآخرون : يجوز للأب أن يزوجها ولو كانت بالغا بغير استئذان وهو قول : ابن أبي ليلى ومالك والليث والشافعي وأحمد وإسحاق.
قال البخاري: باب إذا زوج الرجل ابنته وهي كارهة فنكاحه مردود.قال الحافظ: هكذا أطلق فشمل البكر والثيب. لكن حديث الباب مصرح فيه بالثيوبة فكأنه أشار إلى ما ورد في بعض طرقه كما سأبينه.(1/39)
قال البخاري بسنده : عن خنساء بنت خدام الأنصارية أن أباها زوجها وهي ثيب فكرهت ذلك فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد نكاحها.وذكر الحافظ أن لقصة خنساء طريقا أخرى أخرجها الدارقطني والطبراني من طريق هشيم عن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة أن خنساء بنت خدام زوجها أبوها وهي كارهة فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فرد نكاحها ولم يذكر فيه بكراً ولا ثيباً(1).
وقال الحافظ بن القيم في زاد المعاد في هدي خير العباد في ذكر أقضيته وأحكامه صلى الله عليه وسلم في النكاح وتوابعه: ( فصل، حكمه صلى الله عليه وسلم في الثيب والبكر يزوجهما أبوهما، ثبت عنه في الصحيحين أن خنساء بنت خدام زوجها أبوها وهي كارهة وكانت ثيبا فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد نكاحها. وفي السنن من حديث ابن عباس أن جارية بكرا أتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه غير خنساء. فهما قضيتان قضى في إحداهما بتخيير الثيب وقضى في الأخرى بتخيير البكر. وثبت عنه في الصحيح أنه قال: لا تنكح البكر حتى تستأذن، قالوا يارسول الله وكيف إذنها؟ قال أن تسكت. وفي صحيح مسلم: البكر تستأذن في نفسها وإذنها صمتها. وموجب هذا الحكم أنه لا تجبر البكر البالغ على النكاح ولا تزوج إلا برضاها، وهذا قول جمهور السلف ومذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايات عنه. وهو القول الذي ندين الله به ولا نعتقد سواه وهو الموافق لحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره ونهيه وقواعد شريعته ومصالح أمته.
__________
(1) ـ انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري كتاب النكاح باب 41- وباب 42 ج التاسع ص 232 فما بعدها عن الطبعة التي حقق أصلها عبد العزيز بن باز ورقم كتابها وأبوابها وأحاديثها محمد فؤاد عبد الباقي دار الحديث القاهرة(1/40)
أما موافقته لحكمه فإنه حكم بتخيير البكر الكارهة. إلى أن قال: وأما موافقة هذا القول لأمره فإنه قال والبكر تستأذن وهذا أمر مؤكد لأنه ورد بصيغة الخبر الدال على تحقق المخبر به وثبوته ولزومه والأصل في أوامره أن تكون للوجوب ما لم يقم إجماع على خلافه وأما موافقته لنهيه فلقوله لا تنكح البكر حتى تستأذن فأمر ونهى وحكم بالتخيير وهذا إثبات للحكم بأبلغ الطرق وأما موافقته لقواعد شرعه فإن البكر البالغة العاقلة الرشيدة لا يتصرف أبوها في أقل شيء من ملكها إلا برضاها ولا يجبرها على إخراج اليسير منه بدون رضاها، فكيف يجوز أن يرقها ويخرج بضعها منها بغير رضاها إلى من يريده وهي من أكره الناس فيه وهو من أبغض شيء إليها فينكحها إياه قهرا بغير رضاها إلى من يريده ويجعلها أسيرة عنده كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: فإنهن عوان عندكم أي أسرى، ومعلوم أن إخراح مالها كله بغير رضاها أسهل عليها من تزويجها بمن لا تختاره بغير رضاها ولقد أبطل من قال إنها إذا عينت كفؤا تحبه وعين أبوها كفؤا فالعبرة بتعيينه ولو كان بغيضاً لها قبيح الخلقة.
وأما موافقته لمصالح الأمة فلا يخفى مصلحة الثيب في تزويجها بمن تختاره وترضاه وحصول مقاصد النكاح لها بذلك، وحصول ضد ذلك بمن تبغضه وتنفر عنه فلو لم تأت السنة الصريحة بهذا القول لكان القياس الصحيح وقواعد الشريعة لا تقتضي غيره وبالله التوفيق.(1/41)
وقد ناقش ابن القيم رحمه الله مَن فرق بين الثيب والبكر وأبطل مستندهم، ثم ذكر أقوال الفقهاء في مناط الإجبار فقال : (وقد اختلف الفقهاء في مناط الإجبار على ستة أقوال. أحدها أنه يجبر بالبكارة وهو قول الشافعي ومالك وأحمد في رواية، الثاني أنه يجبر بالصغر وهو قول أبي حنيفة وأحمد في الرواية الثانية، الثالث أنه يجبر بهما معا وهو الرواية الثالثة عن أحمد. الرابع أنه يجبر بأيهما وجد ، وهو الرواية الرابعة عنه، الخامس أنه يجبر بالإيلاد فتجبر الثيب البالغ. حكاه القاضي إسماعيل عن الحسن البصري قال وهو خلاف الإجماع ، قال وله وجه حسن من الفقه فيا ليت شعري ما هذا الوجه الأسود المظلم، السادس أنه يجبر من يكون في عياله. ولا يخفى عليك الراجح من هذه المذاهب(1).
وفي شرح السنة للبغوي عن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الايم أحق بنفسها من وليها و البكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها، هذا حديث صحيح أخرجه مسلم عن يحيى بن يحيى عن مالك وأخرجه من رواية أبي هريرة، وعن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: البكر تستأذن قلت إن البكر تستحي قال : إذنها صماتها. هذا حديث صحيح.
__________
(1) ـ انظر زاد المعاد المجلد الثاني ج الرابع ص 2-3 الطبعة الثانية 2 و 13 ه 72و 1م دار الفكر(1/42)
قال الإمام: اتفق أهل العلم على أن تزويج الثيب البالغة العاقلة لا يجوز دون إذنها، فإن زوجها وليها دون إذنها فالنكاح مردود، فأما البكر البالغة العاقلة إذا زوجها وليها قبل الاستئذان فاختلف أهل العلم فيه فذهب قوم إلى أن النكاح مردود لقوله صلى الله عليه وسلم: والبكر تستأذن، وإليه ذهب الأوزاعي وسفيان الثوري وأصحاب الرأي. وذهب جماعة إلى أنه إن زوجها أبوها أو جدها من غير استئذان فجائز. يروى ذلك عن القاسم بن محمد وسليمان بن يسار وسالم بن عبد الله. وإليه ذهب مالك وابن أبي ليلى والشافعي وأحمد وإسحاق وقالوا معنى قوله: والبكر تستأذن هو على استطابة النفس.
ونقل محققه شعيب الأرناؤوط عن ابن التركماني في الجوهر النقي قال : (قوله صلى الله عليه وسلم : لا تنكح البكر حتى تستأذن . دليل على أن البكر البالغة لا يجبرها أبوها ولا غيره(1).
قال شارح العمدة أي عمدة الأحكام: وهو مذهب أبي حنيفة وتمسكه بالحديث قوي؛ لأنه أقرب إلى العموم في لفظ البكر. وربما يزاد على ذلك بأن يقال: الاستئذان إنما يكون في حق من له إذن ولا إذن للصغيرة فلا تكون داخلة تحت الإرادة.
ويختص الحديث بالبالغات فيكون أقرب إلى التناول أو التاويل. إلى آخر ما ذكره في تأييد هذا القول(2).
وقال العلامة صديق بن حسن القنوجي البخاري : "عند قول المصنف وتخطب الكبيرة إلى نفسها" (والمعتبر حصول الرضا منها. لحديث ابن عباس وغيره: الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها. وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة وعائشة نحوه.
__________
(1) ـ انظر : الجوهر النقي 7 / 114.
(2) ـ انظر: شرح السنة للبغوي ج التاسع حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه شعيب الأرناؤوط. المكتب الإسلامي.(1/43)
وأخرج أحمد وأبو داود وابن ماجة والدارقطني من حديث ابن عباس : أن جارية بكرا أتت الرسول صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم .قال الحافظ: ورجال إسناده ثقات، وروى نحوه من حديث جابر أخرجه النسائي، وأخرج ابن ماجة عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: جاءت فتاة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أبي زوجني أبن أخيه ليرفع بي خسيسته قال: فجعل الأمر إليها فقالت قد أجزت ما صنع أبي لكن أردت أن أعلم النساء أن ليس إلى الآباء من الأمر شيء. ورجاله رجال الصحيح. وأخرجه أحمد والنسائي من حديث ابن بريدة عن عائشة. قال في الحجة البالغة: أقول لا يجوز أيضا أن يحكم الأولياء فقط لأنهم لا يعرفون ما تعرف المرأة من نفسها. ولأن حارالعقد وقاره راجعان إليها. والاستئمار طلب أن تأذن ولاتمنع. وأدناه السكوت. وإنما المراد استئذان البكر البالغة دون الصغيرة(1).
الخلاصة
بناء على ما سبق إيراده وسرده من أقوال العلماء في هذا الموضوع نستخلص أنه: يجب على الآباء أو الأولياء استئمار البنت في أمر الزواج فإن وافقت عليه صح العقد وإلا فلا. خصوصاً وأننا نعيش في مجتمع يعطيها كامل الحرية في ذلك بل في أبعد من ذلك، فلم لا نعطيها نحن الحرية في قبول الزوج أو رفضه؟.
ومستندنا في ذلك واضح وقوي، أضف إلى ذلك أن قوانين الأسرة في كثير من البلدان لا تقبل عقد الزواج قبل بلوغ البنت سن 18 . وبنت 18 سنة بنت بالغة عاقلة تدرك في الغالب ما يضرها وما ينفعها.
__________
(1) انظر: الروضة الندية شرح الدرر البهية ج 2 ص 5 دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت لبنان.(1/44)
وليس معنى هذا رفض الولاية من أصلها وإنما المراد تخفيف صلاحية ولاية الإجبار التي لا يسندها دليل قوي من جهة ، ولما فيها من اختلاف واسع من جهة ثانية ، ولما لها من نتائج غير مرضية كما بينا من جهة أخرى، غير أنه لا بد من مراعاة الكفاءة، يعني كفاءة الزوج الذي ترضاه البنت زوجا لها، وهذا من حيث المبدأ ضروري لضمان سعادتهما وتفاهمهما لأن النكاح يعقد للعمر ويشتمل على أغراض ومقاصد كالازدواج والصحبة والألفة وتأسيس القرابات ولا ينتظم ذلك عادة إلا بين الأكفاء. لكن ما هي الكفاءة المعتبرة؟.
مفهوم الكفاءة، والمعتبر منها أساسا.
مما تعنيه الكفاءة : المماثلة في الشرف والنسب والمكانة، ومن أهم عناصر الشرف في الإنسان؛ شرف الدين، والحرفة، و... لذا اتفق علماء المذاهب الفقهية على اعتبار الكفاءة في الدين على رأس الشروط المعتمدة في التماثل والكفاءة بين الزوجين، فإذا اختارت البنت رجلا فاسقا وأرادت التزوج منه فإن للأب أن يمنعها من ذلك أو يعترض لدى القاضي بعدم الكفاءة فإن تحقق القاضي عدم الكفاءة فسخ العقد وإلا أجراه.
والإسلام إذ يقيم الوزن الأرجح للكفاءة في الدين لا يحول دون ابتغاء ما دونها من كفاآت أخرى مادية كانت أو معنوية بشرط أن تتوفر الكفاءة في الدين أولا، أما إذ فقدت الكفاءة في الدين فلن تعوضها أي كفاءة أخرى، في حين أن في الدين عوضا عن كل شيء.
ولقد فهم السلف الصالح أن المعول عليه في الكفاءة المنشودة، هو الدين أساسا، فضنوا بفتياتهم على الأمراء المستهترين وآثروا عليهم الفقراء المتقين ثقة منهم أن العاقبة للتقوى.
إذا ، فقد اتفق الفقهاء على اعتبار الكفاءة في الدين واختلفوا في النسب وفي اليسار،"الغنى" وفي السن وفي الصحة من العيوب. والكلام في هذا يطول وليس هو موضوع بحثنا.
ومحصلة الكلام في الكفاءة أنها على ثلاثة أوجه:
*ما هو حق لله تعالى، وهو الإسلام، فهو متعين إجماعا.(1/45)
* وما هو حق للمرأة خاصة كعيوب البدن من جنون وعمى وغيرهما فلها الرضا بها ولا مقال للأولياء.
* وما هو حق لها ولهم من فسق أو نقص في النسب قالقول قول من أبى منهم(1).
المبحث الثاني: مفهوم العضل وفيه تمهيد ومطلبان:
تمهيد: إذا أجيز لبعض الأولياء نوع من الإكراه"الإجبار" لمن في ولايتهم، مع الاختلاف القائم في ذلك بين فقهاء المذاهب، فإن البعض من الأولياء قد يتعسف ويتجاوز ما هو متاح لهم شرعا، فيجورون في حق من تحت ولايتهم، بدافع المصالح الخاصة، أو العاطفة وقلما تكون، أو غير ذلك. فما معنى العضل، ومتى يعتبر الولي عاضلا، وما حكم الشرع في ذلك التصرف؟.
المطلب الأول: مفهوم العضل لغة واصطلاحا.
أولا: العضل لغة: العضل في اللغة المنع. قال في لسان العرب: وعضل المرأة عن الزوج حبسها. وعضل الرجل أيمه يعضُلها ويعضِلها عضلا وعضَّلها منعها الزوج ظلما. قال الله تعالى: (فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن(2).
ثانيا: العضل اصطلاحا: العضل في الاصطلاح الشرعي، هو امتناع الولي من تزويج موليته من الكفء حيث يجب عليه هذا التزويج(3).
قال القاضي أبو بكر ابن العربي في أحكام القرآن. قوله تعالى: (فلا تعضلوهن). (العضل يتصرف على وجوه مرجعها إلى المنع وهو المراد ها هنا. فنهى الله تعالى أولياء المرأة عن منعها من نكاح من ترضاه(4).
وقال البغوي في شرح السنة : والعضل هو منع الولي وليته من النكاح. وأصل العضل هو التضييق والمنع وأصله من عضلت الناقة إذا نشب ولدها ولم يسهل مخرجه(5).
المطلب الثاني: متى يعتبر الولي عاضلاً:
__________
(1) ـ انظر: النوازل الكبرى للمهدي الوزاني 3 / 237.
(2) ـ سورة البقرة آية 232، وانظر لسان العرب مادة"عضل".
(3) ـ انظر: المفصل في أحكام المرأة والبيت المسلم عبد الكريم زيدان 62 ص360
(4) ـ انظر: أحكام القرآن لأبي بكر بن العربي 1/201. طبعة دار الفكر.
(5) ـ انظر: شرح السنة للبغوي 7/45.(1/46)
قد يتصرف الولي تصرفا يظن أنه في صالح من في ولايته، دون استشارة المولى عليه، فيؤدي إلى إهمال رغبة المولى عليه، أو إلحاق حرج وضيق به، دون قصد الولي الإساءة إليه. وهذا ما حصل لمعقل بن يسار رضي الله عنه لما رفض تزويج أخته من رجل كان قد تزوجها ثم طلقها. وهذا هو مفهوم العضل كما حكاه ابن قدامة المقدسي في كتابه "المغني" قال: (ومعنى العضل منع المرأة من التزويج بكفء لها إذا طلبت ذلك ورغب كل واحد منهما في صاحبه. قال معقل بن يسار: زوجت أختا لي من رجل فطلقها حتى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها فقلت له زوجتك وأفرشتك وأكرمتك فطلقتها ثم جئت تخطبها لا والله لا تعود إليك أبدا، وكان رجلا لا بأس به وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه فأنزل الله تعالى هذه الآية:(فلا تعضلوهن). فقلت الآن أفعل يا رسول الله قال فزوجها إياه(1) رواه البخاري، واستنادا إلى هذا الحديث نص ابن قدامة على لزوم تزويج تلك المرأة ممن ترغب فيه، ولو لحقها بعض الإجحاف في بعض حقوقها قال: (وما دامت المرأة راغبة في ذلك الزوج فعلى الولي تزويجها سواء بمهر مثلها أو دونه، وبهذا قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة: (لهم "أي الولياء" منعها من التزويج بدون مهر مثلها؛ لأنَّ عليهم في ذلك عاراً وفيه ضرر على نسائها لنقص مهر مثلهن. ولنا أن المهر خالص حقها وعوض يختص بها فلم يكن لهم الاعتراض عليها فيه كثمن عبدها وأجرة دارها ولأنها لو أسقطته بعد وجوبه سقط فبعضه أولى ..... إلى أن قال فإن رغبت في كفء بعينه. وأراد تزويجها لغيره من أكفائها وامتنع من تزويجها من الذي أرادته كان عاضلا لها بهذا. لأنها لو تزوجت من غير كفئها كان له فسخ النكاح فلأن تمتنع منه ابتداء أولى(2).
__________
(1) ـ أخرجه الترمذي في السنن 5/216 والبيهقي في السنن الكبرى 7/130
(2) ـ انظر : المغني والشرح الكبير 7/" 368-369" دار الفكر(1/47)
ومنع الولي من عضل موليته هو ما ذهب إليه المالكية أيضا. قال ابن أبي زيد القيرواني في النوادر والزيادات: في نكاح الأكفاء وذكر العضل وفي التي ترضى بدونها في الحال والمال، نقلا عن الواضحة ما نصه: (نهى الله سبحانه وتعالى الأولياء عن العضل. وروى أن الآية نزلت في معقل بن يسار. وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم حض الآباء على نكاح بناتهم(1).
وقال ابن رشد في بداية المجتهد: (الموضع الرابع في عضل الأولياء: واتفقوا على أنه ليس للولي أن يعضل وليته إذا دعت إلى كفء وبصداق مثلها؛ وأنها ترفع أمرها إلى السلطان فيزوجها ما
عدا الأب فإنه اختلف فيه المذهب(2).
وبعد اتفاق فقهاء المذاهب على منع العضل اختلفوا في الكفاءة المعتبرة التي لا يجوز للولي عضل موليته إن توفرت، وهل صداق المثل، والدمامة والحسن منها أم لا؟.
__________
(1) ـ انظر : النوادر والزيادات لابن أبي زيد القيرواني 4/388.
(2) ـ انظر : بداية المجتهد 6/ "391-392"(1/48)
فعند المالكية، يحسن بالولي ألا يزوج ابنته من الرجل الدميم ولا من الرجل المسن كما نقل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (لا يزوج الرجل وليته للقبيح الذميم ولا للرجل الكبير). لكنها إن رضيت بمن دونها في الحسب وهو ديِّنٌ فلها ذلك. وهو ما نقله ابن أبي زبد القرواني من كتاب ابن الموازفقال : (قال مالك في المرأة تريد البيت ترضى برجل دونها في الحسب وهو كفء في الدين ويرده الأب والولي فرفعت ذلك إلى السلطان فليزوجها. قال ابن القاسم فإن كان كفئا في الدين وليس بكفء في المال فلا بأس به إذا لم يأت من ذلك الضرر إلى أن قال؛ ومن كتاب ابن المواز قال مالك: لايعترض على الأب في رد الخطاب عن ابنته البكر حتى يتبين أنه أراد الضرر بها وتطلب هي ذلك. وأما غيره من الأولياء فلينظر السلطان في منعهم إياها فإن تبين صوابه عذره وإن رأى الغبطة والحظ زوجها برضاها وإن كره وليها(1).
أما الشافعية فقد قال النووي في منهاج الطالبين ممزوجا بشرح جلال الدين المحلي: (وإنما يحصل العضل إذا دعت بالغة عاقلة إلى كفء وامتنع الولي من تزويجه وإن كان امتناعه لنقص المهر. لأن المهر يتمحض حقا لها بخلاف ما إذا دعت إلى غير كفء فلا يكون امتناعه عضلا لأن له حقا في الكفاءة. ولابد من ثبوت العضل عند الحاكم ليزوج بأن يمتنع الولي من التزويج بين يديه بعد أمره به والمرأة والخاطب حاضران؛ أو تقام البينة عليه لتعزز أو توار بخلاف ما إذا حضر فإنه إن زوج فقد حصل الغرض وإلا فعاضل فلا معنى للبينة عند حضوره(2).
يظهر من بعض هذه النقول أن الفقهاء اختلفوا في بعض جزئيات العضل. وملخص مذاهب الفقهاء فيه مايلي:
__________
(1) ـ انظر : النوادر والزيادات لابن أبي زيد القيرواني 4/388
(2) ـ انظر: حاشية قليوبي وعميرة 3/225.
2 ـ نقلا عن المفصل في أحكام المرأة والبيت المسلم لعبد الكريم زيدان بتصرف(1/49)
قال الحنابلة: عضل الولي منع موليته أن تتزوج بكفء إذا طلبت ذلك ورغب كل منهما في صاحبه بما صح مهرا ولو كان بدون مهر مثلها.
وقال الشافعية: يحصل عضل الولي إذا دعت بالغة عاقلة رشيدة كانت أو سفيهة إلى التزوج بكفء. وامتنع الولي غير المجبر من تزويجها منه. لأن الواجب عليه تزويجها من كفء.
وعند الحنفية: العضل امتناع الولي عن تزويج الصغيرة من الزوج الكفء بمهر المثل أو أكثر؛ فهذا الامتناع منه عضل لموليته. أما البالغة فلها الحق عندهم في العقد على نفسها دون الحاجة للولي فلا يتصور فيها إجبار ولا عضل.
وعند المالكية: في عضل الولي تفصيل، فقد قالوا: على الولي ولو كان أبا غير مجبر وجوبا الإجابة لتزويج المرأة بكفء رضيت هي به أو دعت لكفء ودعا وليها لكفء غيره. فإذا امتنع من تزويجها به أمره الحاكم بأن يبين وجه امتناعه فإن لم يبد وجها صحيحا مقبولا وكَّلَ الحاكم من يعقد عليها إذا أصر على امتناعه؛ ولو كان الوكيل أجنبيا منها. ولا تنتقل ولاية تزويجها للولي الأبعد لأن الولي الممتنع يصير بامتناعه عاضلا برده أول كفء رضيت به أو دعت إليه.
أما إذا كان الولي مجبرا كالأب ووصيه فلا يصير عاضلا لموليته المجبرة برده للخاطب الكفء وإن تكرر رده حتى يتحقق عضله وإضراره ولو برده الكفء مرة واحدة. وذلك لما جبل عليه الأب من الحنان والشفقة على ابنته ولجهلها هي بمصالحها فربما علم الأب من حالها أو من حال الخاطب ما لا يوافق مصلحتها ولا يحقق سعادتها وراحتها من زواجها منه فلا يصير عاضلا برده الخاطب الكفء حتى يتحقق عضله(1).
__________
(1) 1 ـ نقلا عن المفصل في أحكام المرأة والبيت المسلم لعبد الكريم زيدان بتصرف(1/50)
وفي المدونة الكبرى: قلت أرأيت البكر إذا خطبت إلى أبيها فامتنع الأب من إنكاحها أول ما خطبت إليه وقالت الجارية وهي بالغة زوجني فأنا أحب الرجال ورفعت أمرها إلى السلطان أيكون رد الأب الخاطب الأول إعضالا لها؛ وترى للسلطان أن يزوجها إذا أبى الأب؟ قال لم أسمع من مالك فيه شيئا إلا أني أرى إن عرف عضل الأب إياها وضرورته إياها لذلك؛ ولم يكن منعه ذلك نظرا لها رأيت للسلطان إن قامت الجارية بذلك وطلبت نكاحه أن يزوجها السلطان إذا علم أن الأب إنما هو مضار في رده وليس بناظر لها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لاضرر ولاضرار) وإن لم يعرف فيه ضررا لم يهجم السلطان على ابنته في إنكاحها حتى يتبين له الضرر.
قلت: أرأيت البكر إذا رد الأب عنها خاطبا واحدا أو خاطبين وقالت الجارية في أول من خطبها للأب زوجني فإني أريد الرجال وأبى الأب. أيكون الأب في أول خاطب رد عنها معضلا لها؟ قال: أرى أنه ليس يكره الآباء على إنكاح بناتهم الأبكار إلا أن يكون مضارا أو معضلا لها؛ فإن عرف ذلك منه وأرادت الجارية النكاح فإن السلطان يقول له إما أن تزوج وإما زوجتها عليك. قلت: وليس في هذا عندك حد في قول مالك في رد الأب عنها الخاطب الواحد أو الاثنين؟ قال: لانعرف من قول مالك في هذا حدا إلا أن تعرف ضرورته وإعضاله(1).
__________
(1) ـ انظر : المدونة الكبرى للإمام مالك رواية سحنون عن ابن القاسم ج 2 ص 145 دار الفكر.(1/51)
ونخلص مما سبق إلى القول بأن العضل منهي عنه لما روى معقل بن يسار رضي الله عنه قال: زوجتُ أختاً لي من رجل فطلقها حتى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها فقلت له زوجتك وفرشتك وأكرمتك فطلقتها ثم جئت تخطبها لا والله لا تعود إليك أبدا وكان رجلا لا بأس به وكانت المرأة تريد أن ترجع إليه فأنزل الله تعالى هذه الآية: (فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن)(1). فقلت الآن أفعل يا رسول الله قال فزوجها إياه، الحديث أخرجه البخاري في تفسير سورة البقرة باب (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن).... وفي النكاح باب من قال لا نكاح إلا بولي. وفي الطلاق باب وبعولتهن أحق بردهن في العدة.
وبهذا حرم على الأولياء أن يمنعوا الفتاة من الزواج ممن ترغب فيه إذا كان كفؤاً؛ فإذا منعوها انتقلت الولاية من الولي الذي منعها إما إلى ولي أبعد منه على قول. وإما إلى القاضي على قول آخر.
جاء في النوازل الكبرى للمهدي الوزاني: وسئل أبو عبد الله السرقسطي عمن حلف ألا يزوج ابنته البكر هل تنتقل ولايتها للقاضي أو لأقرب أوليائها بعد الأب ويجب استئمارها فأجاب: إن لم يحنث الأب نفسه وامتنع من تزويج ابنته ممن هو كفء لها ووافق على كفاءته ورضيه لابنته وثبت ذلك عند القاضي. ورفعت البنت أمرها إليه فاختلف في من يلي العقد عليها قيل القاضي. وقيل أقرب أوليائها إليها نسبا؛ ولا بد من استئذانها وإذنها بالقول؛ وإن قدم القاضي وليا عقد نكاحها كان صوابا إن شاء الله(2).
وسئل ابن هلال فأجاب: إذا أثبت الخاطب ببينة عادلة أنه كفء للمخطوبة أمر وليها بإنكاحها فإن أبى وعجز عن الدفع في شهود الكفاءة زوجها الشرع منه برضاها.
__________
(1) ـ سورة البقرة آية .232
(2) ـ انظر: النوازل الكبرى 3 /242(1/52)
والكفاءة المعتبرة عند ابن القاسم رحمه الله هي في الحال والمال وهو الذي به الحكم واختلف في الحال ماهو فقيل الجسم أي نفي العيوب عن الجسم بأن يكون سالما منها. ولا يشترط المساواة في المال بل المقاربة وقيامه بالحقوق والصيانة والله أعلم(1).
يستفاد من أقوال الفقهاء وفتاواهم أنه لا يجوز لولي ولا وصي أن يحرم المرأة من الزواج بكفء أو يعضلها عنه ما دامت أهلا للزواج.
ومن منعها بدون مبرر شرعي مباشر أو بوسائل المكر والاحتيال من أجل انتقام أو تحكم قسري أو لغرض شخصي فإنما يحرم الأفراد والمجتمع من أهداف النكاح الكبرى ويعمل على إشاعة الفاحشة بين المسلمين؛ وهذا ظلم للشخص وظلم للمجتمع. والظلم يجب رفعه ممن يقدر عليه. وذلك القاضي إن كان وإلا فجماعة المسلمين والله أعلم.
وزيادة على ما سبق فإن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإسراع في تزويج من لا زوج له ينافي العضل.
وقد وردت أحاديث تنص على تسهيل أمر الزواج اتقاء للفتن التي يمكن أن تحصل إذا عسر الأولياء ظروف النكاح واشترطوا شروطا معجزة على الراغبين فيه.
منها قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الإمام الترمذي وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه: (إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض). وواضح أن هذا الحديث يأمر بتزويج المرضي دينا وخلقا وأن عدم تزويجه يؤدي إلى الفتنة والفساد.
ودفع ذلك يتأتى بالإسراع بالتزويج وعدم التباطؤ والتأخر فيه حذرا من الوقوع في النهي الذي وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما قال له: (يا علي ثلاث لا تؤخرها الصلاة إذا آنت والجنازة إذا حضرت والأيم إذا وجدت لها كفؤا)(2).
__________
(1) ـ انظر: المصدر السابق 3/250.
(2) أخرجه الترمذي 1/320 رقم 171 ) (وأبو داود 1/632 رقم 1967) ( والحاكم 2/176 رقم2686).(1/53)
قال المباركفوري: والمعنى أن ثلاثا من المهمات لا تؤخر وهي: الصلاة إذا آنت أي إذا حان وقتها. وصلاة الجنازة إذا حضرت، والأيم وهي من لا زوج لها إذا جاءها الخاطب الكفء أو وجد لها الولي الكفء؛ ولا مفهوم لمجئ الخاطب أو إيجاده من طرف الولي بل إن وجدته هي واختارته فيجب على الولي أن يزوجها ولا يعضلها؛ وهو ما تنص عليه رواية الإمام أحمد لهذا الحديث وهي: عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ثلاثة يا علي لا تؤخرهن الصلاة إذا آنت والجنازة إذا حضرت والأيم إذا وجدت كفؤا)(1).
فالإسراع بتزويج الأيامى مطلوب شرعا وإخلال الأولياء بهذا الأمر يحملهم نصيبا من الإثم الذي قد يقع فيه أولئك الأيامى.
والواقع أن تأخير الزواج وتكرار العضل من بعض الأولياء كثيرا ما يوقع في مفاسد خطيرة على الفرد والمجتمع منها:
* احتمال انغماس الأيامى في براثن الرذيلة والفساد . خصوصا الذين يعيشون في هذا المجتمع.
*احتمال فوات فرص الزواج من الأكفاء أو فواتها كليا بسقوط الفتيات في العنوسة التي غالبا ما تكون لها عواقب وخيمة على نفسهن وعلاقتهن بالمجتمع.
*بغض وليها وأسرتها المحيطة بها التي تسببت في عنوستها بكثرة رد خطابها؛ بل ربما تحقد على المجتمع كله. فتسعى في تدميره بدل المساهمة في بنائه(2).
الفصل الثالث: صور العضل الواقعة في بلاد الغرب ونتائجها وفيه مبحثان:
المبحث الأول: صور العضل الممارسة عند المسلمين في الغرب. وفيه ستة مطالب.
المطلب الأول : عدم إشراك الفتاة في اختيار الزوج المناسب
المطلب الثاني: عدم إشراك الأم في اختيار زوج ابنتها.
المطلب الثالث: منع أو تأخير زواج الفتاة طمعا في مالها.
المطلب الرابع : رغبة الولي تزويج موليته من أحد أقربائه أو من أهل قبيلته.
__________
(1) ـ أخرجه الإمام أحمد في المسند 1/205رقم828
(2) ـ كتاب فقه الأسرة المسلمة في المهاجر للدكتور العمراني ج الأول ص349-350(1/54)
المطلب الخامس: فضاضة الولي وغلظ طبعه المؤدي إلى نفور الخطاب.
المطلب السادس: رغبة الولي في إتمام ابنته دراستها.
المبحث الثاني: نتائج العضل الممارس على البنات في الغرب
المطلب الأول: عدم إشراك الفتاة في اختيار الزوج المناسب.
المطلب الثاني: تزوج بعض الفتيات رغم أنف اوليائهن.
المطلب الثالث: هروب بعض الفتيات إلى ما يعرف بدور الرعاية الاجتماعية.
المطلب الرابع: احتمال فوات فرص الزواج من الأكفاء أو فواتها كليا.
المطلب الخامس: وقوع بعضهن في شباك غير المسلمين.
المطلب السادس: ارتماء بعض الفتيات في براثن الدعارة والفساد.
المبحث الأول: صور العضل الممارسة عند المسلمين في الغرب. وفيه ستة مطالب.
تمهيد : قد تحدث مظاهر للعضل من طرف الأولياء المقيمين في غير المجتمعات الإسلامية، إضافة إلى المظاهر الذي تحدث لمن يقيم في المجتمعات الإسلامية فتتعدد الصور وتكثر الكوارث، ومن صور العضل الموجودة بين المسلمين المقيمين في هذه الديار.
المطلب الأول: عدم إشراك الفتاة في اختيار الزوج المناسب.
مما يؤسف له أنه مما شاع في كثير من المجتمعات اعتبار الولي صاحب الكلمة الأولى والأخيرة، ولا قيمة لرغبة الفتاة ولا وزن لإرادتها، فهي إما أن تخضع أو تمنع!!(1/55)
وهذا لا يتوافق مع عدالة التشريع الإسلامي المبني على أساس تحمل المكلف تبعات ما يفعل وما يقول وما يمارس لا يلزم أحدا نتائج ما لم يرتكب وتبعات ما لم يوافق عليه؛ أو وافق عليه تحت إكراه حسي أو معنوي؛ وليس معنى هذا إلغاء مبدأ الولاية في النكاح الذي تقدم الكلام فيه مفصلا؛ ولكن معناه أن الولي يجب عليه أن يحرص على مصلحة موليته، يحرص أن يضعها في يد من هو كفء لها بقدر ما يحرص على تحقيق بعض مصالحه. فإذا تقدم إليها الرجل المناسب الذي رضيها ورضيته زوجا لها فلا ينبغي للولي أن يمنعها بحجة أنه سيزوجها لابن أخيه أو ابن أخته أو أحد أفراد أسرته الذين ما زالوا في البلد الأصلي من أجل أن يأتي بهم إلى أوربا مثلاً. والفتاة لا تريد واحدا من هؤلاء فيقال لها إما أن تقبلي أو تبقيْ بلا زواج طول عمرك.
وأحيانا يحصل نزاع بين أب الفتاة وأمها حيث يكون أبوها وعد بها بعض أقربائه وأمها وعدت بعض أقربائها.فتحسم البنت هذا النزاع فلا تقبل هذا ولا ذاك، تحسم النزاع حسما مؤلما فتهرب منهما معا وتلوذ بأحد بيوت الرعاية الاجتماعية، أو إلى حيث لا يعلمون، أو إلى بيوت الدعارة.
المطلب الثاني : عدم إشراك أم الفتاة في اختيار زوج ابنتها.(1/56)
مما لاشك فيه أن اهتمام الأم بابنتها وعطفها عليها قد يتجاوز اهتمام الأب وعطفه أحيانا، ومن هنا راعى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الإحساس وهذا التعلق فرغب الآباء في استشارة الأمهات عند الإقدام على تزويج البنات حيث قال فيما أخرجه بعض أهل السنن عن ابن عمر رضي الله عنهما: ( آمروا النساء في بناتهن ).كما أخرجه الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما مع ذكر سبب الحديث قال: عن ابن عمر رضي الله عنهما إنه خطب إلى نسيب له ابنته. قال: فكان هوى أم المرأة في ابن عمر وكان هوى أبيها في يتيم له. قال: فزوجها الأب يتيمه ذلك فجاءت "يعني الأم" إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذالك له فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( آمروا النساء في بناتهن(1).
وتعلق هذه الصورة التي هي عدم إشراك أم الفتاة في اختيار الزوج لابنتها بالعضل هي من جهة أن الأم قد تختار لابنتها زوجا ترضاه الأم والبنت، ويختار الأب غيره، فيقول الأب إما أن توافقاني على ما اخترت أو تبقى البنت بلا زواج، يحدث هذا كثيرا وخصوصا إذا كانت الأم مطلقة، حدث مثل هذا الأمر في الماضي فكيف به الآن. جاء في المدونة: ولقد سألت مالكا امرأة ولها ابنة في حجرها وقد طلق الأمِّ زوجها عن ابنة له منها فأراد الأب أن يزوجها من ابن أخ له فأبت، فأتت الأم إلى مالك فقالت له إن لي ابنة وهي موسرة مرغوب فيها وقد أصدقت صداقا كثيرا فأراد أبوها أن يزوجها من ابن أخ له معدما لا شيء له أفترى أن أتكلم، قال نعم إني لأرى لك في ذلك متكلماً، قال ابن القاسم فأرى أن إنكاح الأب إياها جائز عليها إلا أن يأتي من ذالك ضرر فيمنع من ذلك(2).
المطلب الثالث: تأخير الولي زواج موليته طمعا في مالها.
__________
(1) ـ انظر: مسند الإمام أحمد 2/34 رقم 4905.
(2) ـ انظر : المدونة الكبرى 2/140 دار الفكر(1/57)
مما يقع كثيراً في هذه البلاد أن تكون للرجل بنت تتقاضى تعويضات مهمة أو تعمل عملاً ذا مردود جيد، وكل ذلك أو معظمه يقع في يد أبيها ، فيتباطؤ في تزويجها لينتفع بدخلها!!
وقد يتقدم إلى خطبتها الكثير من الناس وهو يردهم الواحد بعد الآخر، ولقد عرفت من رد أكثر من عشرين خاطبا. وكان السبب البارز هو هذا الطمع في مال البنت، مع العلم أن البنت ما دامت رشيدة تملك الحرية التامة في التصرف بأموالها دون وصاية عليها من أحد. وأبواب المعاملات في كتب الفقه تفيض ببيان حقوق التصرف المتنوعة في المملوك لكل من الرجال والنساء، وما دام الأمر كذالك وهو كذلك فلا يجوز للأب أن يرد الرجل المناسب الذي يتقدم لخطبة ابنته حرصا على مال ليس ملكا له، وليس هو محتاجا إليه للنفقة على نفسه بل حبا في الثراء أو في التنعم وما شابه ذلك.
وأمثال هذا الولي لا تصح ولايتهم. فقد أفتى السجلماسي حسب ما نقل عنه الوزاني في النوازل الكبرى بعدم صحة ولاية من يأخذ متاع ابنته ولو تظاهرت بالرضا في أخذ مالها أو تصدقت عليه قال: (وإذا علم من والدها أخذ متاعها لنفسه لم يصح له الولاية عليها شرعا). قال الإمام ابن هلال: (صدقة الثيب المولى عليها على أبيها الذي كانت في ولايته مردودة باطلة لا تجوز، ولا ينفذ له منها شيء. وبيس الولي والناظر أبوها المذكور إذ الولي يحفظ مال من في ولايته ويمنعه من إتلافه)(1).
المطلب الرابع: رغبة الولي تزويج موليته من أحد أقربائه أو من أهل قبيلته.
__________
(1) ـ انظر: النوازل الكبرى للمهدي الوزاني ج3 ص512(1/58)
ومن صور العضل رغبة الولي تزويج موليته من أحد أقربائه أو من أهل قبيلته، وهذه الصورة شائعة بين أبناء الجالية المغربية والتركية المقيمة في هولندا وبلجيكا وألمانيا، وربما يوجد في غيرها من البلدان. حيث كثيرا ما يُرفَضُ الرجل ولو بلغ في الصلاح ما بلغ، لأنه ليس من الجهة الفلانية ، أوليس من القبيلة الفلانية.وإذا حصل هذا بين أبناء الشعب الواحد فما بالك لو تقدم مسلم من دولة مسلمة أخرى غير دولة البنت فهنا يزداد الأمر تعقيدا، وكأن الناس لم يقرأوا قول الله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكروأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم(1)ولا حاجة بي إلى ضرب الأمثلة فهي أكثر من أن تحصى.
المطلب الخامس: فضاضة الولي وغلظ طبعه المؤدي إلى نفور الخطاب.
ومن صور العضل الذي يؤذي الفتاة غلظ طبع الولي وفضاضة خلقه الذي قد يؤدي أحيانا إلى نفور الخطاب منه، بحيث لا يجرؤ أحد على التقدم إليه خاطبا ابنته بسبب فضاضته وسوء طبعه. قال في حاشية الروض المربع شرح زاد المستقنع للبهوتي عند قول المتن ممزوجا بالشرح فإن عضل الولي الأقرب بأن منعها كفؤا رضيته. قال الشيخ: (ومن صور العضل إذا امتنع الخطاب لشدة الولي)(2).
وكم حدث أنني ذهبت مع بعض الشباب إلى بعض الآباء لخطبة بناتهم فكانت المقابلة صعبة وشديدة حتى لكأنك ذهبت إليه محاربا. فإذا سمع الناس مثل هذا نفروا عن صاحب هذا الطبع ، وأحيانا يكون للرجل عدة بنات ويشاء الله أن يتزوج بعضهن فيعامل الأب زوج ابنته بأسوإ المعاملات حتى يشيع ذلك ويعرف بين الناس فيؤدي ذلك إلى نفور الناس من طلب المصاهرة معه.
المطلب السادس: رغبة الولي في إتمام ابنته دراستها.
__________
(1) ـ سورة الحجرات آية 12.
(2) حاشية الروض المربع ج3 ص73-74 الناشر مكتبة الرياض الحديثة(1/59)
ومن المعلوم أن الدراسة مراحل ابتدائية وثانوية وجامعية وقد تطول فترة الدراسة بسبب عدم النجاح في كل سنة دراسية وترغب الفتاة في الاقتران بزوجٍ أولاً ثم محاولة متابعة دراستها. وهذا في هذه الديار ممكن إذا كانت الرغبة صادقة فيتدخل الأب ويصر على منع البنت من الزواج ما لم تتم دراستها ولو بلغت من العمر ما بلغت، وهذا بلا شك تجنٍّ على الفتاة لأنها قد لا توفق لإتمام دراستها، وقد تنتهي من الدراسة ولا توفق في الحصول على الزوج المناسب.
هذه بعض الصور مما هو شائع بين المسلمين المقيمين في هذه الديار ولا شك أن هذه الممارسات من طرف بعض الأولياء تؤدي إلى نتائج سيئة فما هي النتائج المترتبة على العضل.
المبحث الثاني نتائج العضل الممارس على البنات في الغرب.
تمهيد :إن تأخير الزواج وتكرار العضل من بعض الأولياء يترتب عليه نتائج خطيرة على الفرد وعلى المجتمع، منها:
المطلب الأول: نفور الفتيات من الحضن الأسري.
كثيرا ما لا ينتبه الأولياء لرغبة بناتهم في الزواج، فيندفعون بحب في نظرهم، أو بتطلع لتحقيق غاية لم يستطيعوا تحقيقها في حياتهم، فيرغبون في الوصول إليها عن طريق أبنائهم، بل ربما لم يتوفر الزوج المناسب لوليتهم. فيتعسفون عن شعور ووعي، وغالبا دون شعور ولا وعي منهم، فيؤخرون سن زواج من في ولايتهم، أو يعضلونهن، مما يؤدي إلى نفور الفتاة من الحضن الأسري، وبغضها لوليها وأسرتها المحيطة بها التي تسببت إما في عنوستها بكثرة رد خطابها ، أو في حرمانها من الاقتران الشرعي بمن أحبته واطمأنت إلى سلوكه معتقدة أنه الزوج المناسب لها حسا ومعنى.
المطلب الثاني: تزوج بعض الفتيات رغم أنف اوليائهن.(1/60)
ومما يؤدي إليه عضل الأولياء تمرد بعض الفتيات عليهم، والارتباط بمن ترغب في الزواج منه، رغم رفض الأولياء لذالك الزواج، وذلك إما عن طريق عقد الزواج العرفي في بعض المساجد عقدا قد لا يكون مستوفيا أركان الزواج وشروطه، وحتى إن استوفاها ما عدا الولي الذي هو عاضل، أو بتولية بعض المسلمين، فهو عقد لا يضمن الكثير من الحقوق المشتركة بين الزوجين سواء في الحياة أو في الممات. وإما عن طريق العقد المدني في البلدية والاكتفاء بذلك أو الذهاب بعده إلى بعض أئمة المراكز والمساجد لإجراء مراسيم العقد الشرعي للاطمئنان، أو إلى القنصلية لتصحيح هذا العقد، ومهما كانت هذه النتيجة مقبولة شرعا أو مرفوضة، فإن السيء فيها هو تفكك الأسرة وانقسامها بين قابل ورافض، ومؤيد ومعارض، ونظر ناقص من بعض الأهل إلى ابنتهم هذه بأنها زانية وأن أولادها من هذا العقد غير شرعيين، وحتى البنت نفسها ربما ستعيش في المستقبل حياة نفسية معقدة لإحساسها بالنقص حيث إن أهلها لم يحضروا عقد زواجها، وهذا الإحساس عبرت لنا عنه الكثيرات من البنات بعد فوات الوقت.
المطلب الثالث: هروب بعض الفتيات إلى ما يعرف بدور الرعاية الاجتماعية.(1/61)
إن من المآسي الكبيرة التي لا تطيقها أية أسرة مسلمة ـ وقد تكون الأسرة أو بعض أفرادها سببا فيها ـ هروب الفتاة من بيت أهلها إلى ما يعرف بدور الرعاية الاجتماعية المنتشرة في كل مدينة؛ بعضها معروف وبعضها مجهول العنوان، وإذا حصل هذا وقد حصل بالفعل لعشرات إن لم نقل للمئات من البنات المسلمات، فإن خط الرجعة يكون صعبا للغاية حيث تتصور البنت أنها إن عادت إلى أهلها مرة أخرى فمصيرها القتل أو الإهانة الدائمة على الأقل، ومهما حاول المساعدون الاجتماعيون التدخل في مثل هذه الحالة وطمأنة الفتاة إلى ندم أهلها وأن عودتها إليهم ستفتح عهدا جديدا من التعامل، وأنهم سيلبون لها رغبتها فإن نسبة نجاح هذه المحاولات وقبول الفتاة الرجوع إلى دار أهلها، لا تكاد تذكر إذا قيست بغيرها.
المطلب الرابع: احتمال فوات فرص الزواج من الأكفاء أو فواتها كليا.
ومما ينتج عن هذا العضل والتعسف، فوات فرص الزواج من الأكفاء، أو فواتها كليا بسقوط الفتيات في العنوسة التي غالبا ما تكون لها عواقب وخيمة عليهن وعلى علاقتهن بالمجتمع، ومن هذه العواقب اللجوء إلى الشعوذة اعتقادا منهن أن هذه الفتاة مسحورة بسحر صرف الخطاب عنها أو سحر منعها من الزواج طول حياتها.
المطلب الخامس: وقوع بعضهن في شباك غير المسلمين.
وتحت ضغط هذا التعسف، إضافة إلى تأجج الرغبة في الزواج تتطلع الفتاة إلى كل زوج
تقدم إليها، دون التفكير في الكفء منهم وغير الكفء، بل تصل إلى الاستعداد للارتباط بأي زوج سواء كان مسلما أم لا، فتتزوج البنت المسلمة من غير السلم زواجا مدنيا، وقد يبقى على عقيدته ودينه، وقد تؤثر عليه أحيانا فيعلن إسلامه إما حقيقة وإما صورة فقط إرضاءً لها، ثم لا يهمه بعد ذلك من أركان الإسلام ومبادئه أي شيء .
وقد عرض علي من هذه الحالات العشرات في المدينة الواحدة منها ما صحح وقوم والحمد لله، ومنها ما لم نستطع تقويمه وتصحيحه.(1/62)
المطلب السادس: ارتماء بعض الفتيات في براثن الدعارة والفساد.
والنتيجة الأسوأ من كل ما سبق، ارتماء البعض من الفتيات في جريمة الدعارة وبراثن الرذيلة والفساد. وهناك إحصاءات خطيرة، ومعطيات مخجلة عن عدد الفتيات المسلمات اللائي وقعن في هذا المنزلق.
هذه النتائج الخطيرة وهذه العواقب السيئة لا تخفى على أحد وهي متفاوتة بين بلد وبلد، والمتفق عليه هو أنه لا يوجد مسلم يقبل بها أو ببعضها أو غيرها مما شابهها. وإذا كان هذا أمراً متفقا عليه ومسلماً من قبل كل مسلم فما هو العلاج لهذه الظاهرة ظاهرة العضل؟ هذا ما نشير إليه باختصار في الفصل الرابع من هذا البحث.
الفصل الرابع: علاج ظاهرة العضل ودور أئمة المساجد ومسؤولي المراكز الإسلامية في ذلك وفيه مبحثان
المبحث الأول علاج ظاهرة العضل الواقعة في حياة المسلمين في الغرب، وفيه مطالب
المطلب الأول: ضرورة معرفة الأحكام الشرعية
المطلب الثاني: الاطلاع على قوانين البلد.
المطلب الثالث: الحرص على تجاوز العادات والأعراف.
المبحث الثاني: دور أئمة المساجد والمراكز في علاج هذه الظاهرة وفيه مطالب
المطلب الأول: توعية المسلمين بفوائد الالتزام بأحكام الشرع الإسلامي.
المطلب الثاني: تيسير وتسهيل إجراءات الالتزام بالشرع.
المطلب الثالث: ما مدى الصلاحية المتاحة لأئمة المساجد والمراكز في تولي العقد للفتاة في
حالة عضلها من طرف الولي؟.
المطلب الرابع والأخير: ألا يمكن أن يقوم إمام المسجد أو المركز مقام القاضي.
المبحث الأول: الفصل بين الأحكام الشرعية والعادات والأعراف.
تمهيد: إن علاج ظاهرة عضل الأولياء، وبالتالي هروب الفتيات أو تمردهن أو الوقوع في براثن الفساد وما إلى ذلك يتجلى في اتخاذ التدابير التالية.
المطلب الأول: ضرورة معرفة الأحكام الشرعية.(1/63)
لقد اختلط في أذهان الناس ومعارفهم الكثير من الأعراف والتقاليد بالأحكام الشرعية، حتى بات الاحتكام إلى العرف هو السائد الغالب، بينما أحكام الشرع واقعة بين الجهل بها، أو رفضها أحيانا إذا لم نستطع القدرة على مواجهة ضغط الأعراف والتمسك بالشرع. وهذا ما يحصل للناس في مجموعة من العلاقات ، ومنها أحكام الزواج، وهو حاصل في جانب الأولياء كما في جانب المولى عليهم.
لذا فإن معرفة الأحكام الشرعية ضرورية للأولياء ومن في ولايتهم، إذ بهذه المعرفة يدرك كل طرف ماله وما عليه فلا يطالب بما ليس له وقد يتنازل عن بعض حقوقه بعد معرفتها، وهذا ما صنعته الفتاة التي زوجها أبوها دون استئمارها فجاءت تشكو ذلك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. عن عائشة رضي الله عنها قالت: ( جاءت فتاة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن أبي زوجني ابن أخيه يرفع بي خسيسته فجعل الأمر إليها. قالت: فإني قد أجزت ما صنع أبي ولكن أردت أن تعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء(1). وفي رواية للدارقطني ( ليرفع بي خسيسته ولم يستأمرني فهل لي في نفسي أمر ؟ قال نعم. قالت ما كنت لأرد على أبي شيئا صنعه ولكني أحببت أن تعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء(2)، فهي تنازلت عن حقها بعد أن عرفته.
المطلب الثاني: الاطلاع على قوانين البلد.
إن الإطلاع على قوانين بلد الإقامة وما تتيحه هذه القوانين من حقوق وحماية للفتاة، يُمكِّن صاحبه من التصرف العقلي السليم حيث إن قوانين بلد الإقامة منها ما هو متفق مع أحكام الشريعة، ومنها مالا يتعارض مع الشريعة، ومنها ما يمكن تكييفه تكييفا شرعيا، ومنها مالا يتفق مع الشريعة بحال.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد 6/136 رقم25087) (وابن ماجه 1/602 رقم1874) (والنسائي في السنن الكبرى 3/ 284رقم5390) (والدارقطني 3/232 رقم45)
(2) ـ أخرجه الدرقطاني في سننه 3/233 رقم47(1/64)
فإذا عرف الإنسان المقبول وغير المقبول ساعدته هذه المعرفة على التأني وأخذ الأمور بالحكمة فلا يخسر ابنته ولا يخسر دينه.
ذلك أنه توجد قوانين تحمي الأبناء من آبائهم، كما يدعي مقنونها، وقد تعاقب الآباء إن تصرفوا تصرفا يخالف رغبة أبنائهم، بل ولو كانت تلك الرغبات أهواء محضة وضارة لهم في بعض الأحيان، انطلاقا من مبادئ الحرية السائدة في المجتمعات الغربية.
لذا يحسن بالمسلمين معرفة هذه القوانين، والحرص على تربية أبنائهم على المبادئ الدينية التي هي خير للإنسان، وإن خالفت أهواءه ونوازعه وشهواته، والاهتمام بهذا الأمر ضعيف في أغلب البيئات الإسلامية، نظرا لجهل الآباء أنفسهم بالشرع الإسلامي.
المطلب الثالث: الحرص على تجاوز العادات والأعراف.
إن الكثير من الممارسات السائدة بين الناس في مراسيم الخطبة والزواج وحفلات الزفاف تقاليد وأعراف موروثة خلفا عن سلف، لا تجد لها سندا من الشرع، بل قد تخالف الشرع كليا، سواء كانت هذه العادات لها علاقة بالخطبة أو بالصداق الذي جرت عادة بعض الناس أن يغالوا فيه مغالاة تنفر الشباب من الإقبال على خطبة هذه الفتاة. أو بحفل الزواج الذي أصبح من أوله إلى آخره إلا عند القليل من الناس لا يتفق مع آداب الشرع في قليل ولا كثير، وصور المغالاة في المهور مغالاةً غير معقولة بالنسبة للوضع المادي الذي يعيشه المسلمون في هذا البلد كثيرة ومتعددة.
ومن العادات التي يجب الحرص على تجاوزها أن يكون للأب بنتان أو عدة بنات فيرفض أن يزوج أي بنت إلا بعد أن تتزوج البنت الأكبر منها. فإذا لم تتزوج الكبرى فلا طمع لمن يصغرها في الزواج، وهكذا حتى يحرم جميعهن من الزواج، وتقع المسؤولية الكبيرة في هذا الأمر على عاتق أئمة المساجد والمراكز والمصلحين الاجتماعيين. وهذا هو المبحث الثاني.
المبحث الثاني: دور أئمة المساجد والمراكز في علاج هذه الظاهرة
يتمثل دور الأئمة والمصلحين في المطالب التالية:(1/65)
المطلب الأول: توعية المسلمين بفوائد الالتزام بأحكام الشرع الإسلامي.
إن توعية المسلمين ذكورا وإناثا، آباء وأبناء، بفوائد الالتزام بمباديء الشريعة الإسلامية عموماً، وفي بناء الأسرة والبيت المسلم خصوصا، له دور فعال في التخفيف من هذه الظواهر التي غالبا ما ترتكب لجهل الناس بتلك المبادئ وفوائدها. ويكون ذلك بإقامة حلقات أو دورات تعليمية تخصص لهذا الجانب الذي إن صلح صلح المجتمع المسلم وإن فسد فسد .
والملاحظ وخصوصاً في البلد الذي أقيم فيه أن هذا الجانب يكاد يكون مهملا عند الأئمة سواء في الخطب أو في الدروس، أما الدورات فلا تكاد تذكر.
وهذا بلا شك يتطلب منا أن ننبه إخواننا إلى الاعتناء بموضوع الأسرة وضرر إهماله أو التقصير فيه كما يوجب علينا أن نعد نموذجا ميسرا يتناول أهم القضايا الأسرية للمسلمين في هذا الديار، ويبين المقاصد الشرعية من الزواج.
صحيح أن الكتابات في هذا كثيرة ولكنها لكثرتها لايعرف الإنسان ما يأخذ منها وما يدع ، وما يقدم وما يؤخر، ولعل بعض المشايخ الأفاضل في هذا المجلس يتفضل بإعداد ذلك أو يمدنا بما عنده إن كان معدا.
المطلب الثاني: تيسير وتسهيل إجراءات الالتزام بالشرع.
قد يرغب أغلب المسلمين في الالتزام بأحكام الشرع، لكنه لا يجد اليد المساعدة على ذلك، نظرا لجهله، ولعدم وجود جهة تتولى تبسيط تلك الإجراآت. ففي عقود الزواج مثلا، يحسن تبسيط مساطرها، وتسهيل إجراءاتها، بشكل لاتضيع معه الحقوق، وذلك بأن يتشدد الإنسان في المتفق عليه من الأركان والشروط ويتساهل إذا اقتضى الأمر التساهل في المختلف فيه، ويتحرر ما أمكنه التحرر من ثقل العادات والتقاليد والأعراف التي لا يسندها كتاب ولا سنة، إرضاء لربه من جهة وتسهيلا عليه من جهة ثانية.
المطلب الثالث: ما مدى الصلاحية المتاحة لأئمة المساجد والمراكز في تولي العقد للفتاة في حالة عضلها من طرف الولي؟.(1/66)
قد قدمنا أنه إذا ثبت عضل الأب لابنته ومنعها من الزواج بكفء خطبها أو اختارته بنفسها، فإن الولاية تسحب من الأب وتنتقل إلى القاضي أو إلى أقرب أوليائها إليها نسبا، وهذا في بلاد المسلمين أمر واضح وميسور ولا كلام لنا فيه، والكلام إنما هو بالنسبة للمسلمين المقيمين في غير بلاد الإسلام، فما العمل وما هو الحل لهذه المعضلة الكثيرة الوقوع ؟.
الواقع أن تصرفات الأئمة تختلف: فمنهم من هو متساهل إلى أبعد الحدود، بحيث مهما جاءته فتاة وشاب يرغبان في الزواج وتدعي الفتاة أن أباها لا يقبل أن يزوجها من هذا الشاب وهي راغبة فيه يعقد لهما، ولا يكلف نفسه الاتصال بهذا الأب ولو لمجرد سؤاله عن حقيقة الأمر، ومنهم من يرفض التدخل في هذا الأمر بأي وجه من الوجوه ، ومنهم من يتصرف تصرفا سليما في نظري، وهذا ما يقوم به كثير من الإخوة الأئمة الذين نتعاون معهم، وهذا التصرف هو كالتالي:(1/67)
نتصل بولي الفتاة ونحاوره ونبين له أن من الخير له أن يوافق على زواج ابنته وخصوصا في مثل هذا المجتمع، فإن اقتنع فذاك، وإن لم يقتنع وأصر على المنع، فإن كانت الفتاة من بلد إسلامي له سفارة وقنصلية في بلد الإقامة ويوجد في السفارة قاض وفي القنصلية عدول موثقون، ننصح الفتاة برفع أمرها إلى القاضي، وهو بدوره يقوم بدعوة وليها ليعرف منه سبب العضل، فإن لم يجد سببا وجيها أعطى الإذن بالزواج، والمهم أن القاضي لا يترك الأمر حتى يجد له حلا مناسبا. وإن كانت الفتاة من بلد إسلامي ليس لديه سفارة ولا قنصلية، أو لديه ولكنها لا تهتم بهذا الأمر، فإننا نركز وبإلحاح على إقناع الولي الأقرب، فإن لم يرض فمن بعده، فإن لم يوجد ننصح الفتاة بعقد الزواج أولا عند البلدية عقدا مدنيا، ثم تأتي إلى المسجد وتولي أمرها أحد المسلمين فيعقد لها العقد الشرعي، وعلى ذكر العقد المدني نحن في كل الأحوال لا نجري العقد في المسجد إلا بعد العقد المدني، حرصا منا على ضمان حقوق الطرفين، الزوجين وحقوق الأبناء إن حصل حمل وولادة.
المطلب الرابع والأخير: ألا يمكن أن يقوم إمام المسجد أو المركز مقام القاضي.
في حالة العضل ولا حاجة إلى كل ما سبق ذكره؟ أظن أن الجواب واضح ، وهو أن الإمام ليس بيده حل ولا عقد، وليس مخولا بالنظر في الخصومات، والحكم في المنازعات، فكيف يقوم مقام القاضي؟.
ومن الأمثلة التي تبين ذلك أن بعض النساء عقدن زواجهن بتولية بعض الأئمة، وبعد الزواج حصل الشقاق بين الزوجين فجاءت المرأة تطلب الحل فقال: أنا لست قاضياً، اذهبي إلى القاضي، فكيف يقوم مقام القاضي في العقد ولا يقوم مقامه في الحل !؟(1/68)
وفي كثير من الحالات يرفض الزوج الطلاق، فتبقى المرأة معلقة لا هي متزوجة ولا هي مطلقة، وفي بعض الحالات يذهب الزوج إلى حيث لا تعلم الزوجة وتنقطع أخباره عنها، وليس لديها ما ثبت أنها زوجة لتتقدم إلى الجهات المختصة لطلب العون، فتبقى ضائعة مادياً ومعنوياً.
نعم، يمكن للإمام أن ينصح، ويقرب وجهات النظر، ويفتي بما يناسب لحل المعضلة القائمة، لكن يوجد حل انسب من هذا في نظري، وياليت المسلمين يتنبهون له ، وهو تأسيس مجامع وتنظيمات "مجالس تحكيمية" تتولى هذا الأمر بالاتفاق مع سلطات البلد، حتى تكتسب قوتها من قانون البلد، فتتدخل هذه المجالس لحل هذه النزاعات وفق الشرع الإسلامي، ويتولى القضاء المدني تنفيذ تلك الأحكام على الرافض لها، وهذا حاصل في بعض المناطق في بعض البلدان الأوروبية. وقد عالج هذا المجلس الموقر موضوع التحكيم وما له من فوائد في إلزام الناس بشرع الله، في دورة سابقة، كما تدارسه مجمع الفقه الإسلامي بجدة في بعض ملتقياته السابقة، وهو أمر مسموح به شرعا، فلمَ لا يكون حلا لهذه المعضلات ريثما يتهيأ حل نهائي لمعضلات الملايين من المسلمين المقيمين في غير المجتمعات المسلمة.
خلاصة البحث
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه.
وبعد..
أولاً: الولاية في عقد النكاح:
من أهم ما تجدر الإشارة إليه أنه ليس كل قريب يصلح أن يكون ولياً للمرأة في عقد نكاحها، بل من توفرت فيه مجموعة الشروط المعتبرة، ومن أهمها أن يكون تصرفه نافعاً لها لا ضاراً بها.(1/69)
وأما موقف الفقهاء من الولاية فقد ذهب جمهور العلماء من المحدثين والفقهاء إلى اشتراط الولي في عقد النكاح، عملاً بالحديث الذي رواه الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها، فنكاحها باطل -ثلاث مرات-، وإن دخل بها فالمهر لها بما أصاب منها، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له)(1).
وحديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا نكاح إلا بولي)(2).
وذهب بعض الفقهاء إلى عدم اشتراط الولي في عقد النكاح، كما ذهب بعضهم إلى اعتباره ركناً لا شرطاً.
وحيث إن المسألة فيها خلاف فقهي معتبر، فيمكن القول أن الحرص على موافقة الولي شيء مهم دينياً واجتماعياً، لكن إن اقتضى الحال تزويج المرأة بدون ولي لظروف معينة، فلا بأس من العمل بقول من لا يشترط الولي في العقد، هذا ابتداءاً، وأما إذا وقع ونزل ووقع العقد بدون ولي، فإنه عقد صحيح، مراعاة لقول المخالف.
ثانياً: الإجبار.
القول الذي ينبغي المصير إليه والعمل به في الإجبار هو أنه يجب على الآباء أو الأولياء استئمار البنت في أمر الزواج، فإن وافقت عليه صح العقد، وإلا فلا، لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن)، قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنها ؟ قال: (أن تسكت)، رواه البخاري عن أبي هريرة، وبسنده عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله إن البكر تستحي، قال: (رضاها صمتها).
__________
(1) أخرجه أبو داود (2/229)، والترمذي وقال: حديث حسن (3/407)، وابن ماجه (1/605)، والإمام أحمد (6/47).
(2) أخرجه أبو داود في النكاح / باب الولي، والترمذي في النكاح، باب لا نكاح إلا بولي، وابن ماجه في النكاح باب لا نكاح إلا بولي.(1/70)
وينبغي ألا يغيب عن الذهن أن للولي هامشاً من الاختيار الإلزامي، إذا لم تكن الفتاة راشدةً تميز بين مصالحها ومضارها، خصوصاً في هذا العصر الذي غلب فيه الميل مع الأهواء والشهوات.
ثالثاً: العضل:
إنه ليس للولي أن يعض وليته إذا دعت إلى كيف وبصداق مثلها، فيحرم على الأولياء أن يمنعوا الفتاة من الزواج ممن ترغب فيه إذا كان كفؤاً.
فإذا منعوها انتقلت الولاية من الولي الذي منعها إما إلى أبعد منه، وإما إلى القاضي أو جماعة المسلمين إن لم يكن قاض؛ لأن تأخير الزواج وتكرار العضل من بعض الأولياء يوقع في مفاسد خطيرة على الفرد والمجتمع.
وصور العضل كثيرة، وهي مهما تنوعت لا يقبلها عاقل، وحيث إن ظاهرة العضل متفشية فلا بد من التفكير في علاجها بما يقلل منها إن لم يمنعها.
وأهم علاج هو الفصل بين الأحكام الشرعية وبين التقاليد والأعراف، ثم توعية المسلمين بفوائد الالتزام بأحكام الشرع الإسلامي، وذلك في شكل نشرات وعقد دورات تخصص لهذا الجانب، ثم العمل على الوصول إلى تكوين مجالس تحكيم يمكن الرجوع إليها في مثل هذا الأمر، والله أعلم.
الخاتمة
وبعد هذه الإطلالة الموجزة في الحقيقة على أحكام ولاية الزواج، وما يتعلق بذلك من العضل وصوره ومظاهره، وخطورة تجاوز أحكام الشرع من قبل عموم الناس، فإني أرجو أن يكون هذا البحث نافعاً، وأن يسد ثغرة في بابه، خاصة في معالجة أوضاع الجالية المسلمة في البلاد غير الإسلامية.
مع الاعتراف بأن هذا العمل جهد بشري، وكل جهد بشري معرض للنقص أو النقد، والله سبحانه هو المقصود، وليس لنا إلى غير الله حاجة ولا مطلب .. والحمد لله رب العالمين ...
قائمة المصادر والمراجع
1. أحكام الأحوال الشخصية للمسلمين في ديار الغرب، لسلام بن عبد الغني الرافعي.
2. أحكام القرآن للقاضي أبي بكر بن العربي.
3. الأحوال الشخصية، للدكتور أحمد الحجي الكردي.
4. الإشراف على نكتب مسائل الخلاف للقاضي عبد الوهاب البغدادي.(1/71)
5. الإكراه وأثره في التصرفات، للدكتور عيسى زكي محمد شقرة.
6. أنيس الفقهاء للشيخ قاسم القونوي.
7. بدائع الصنائع للإمام الكاساني.
8. التاج والإكليل في شرح مختصر خليل، لأبي عبد الله محمد بن يوسف العبدري.
9. تحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي، للمباركفوري.
10. التعريفات للجرجاني.
11. تهذيب المسالك في نصرة مذب مالك، لأبي الحجاج يوسف بن دوناس الفندلاوي، تحتد الدكتور أحمد البوشيخي.
12. رحمة الأمة في اختلاف الأئمة، للإمام أبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن الدمشقي العثماني.
13. الروض المربع شرح زاد المستقنع، للبهوتي الحنبلي.
14. الروضة الندية شرح الدرر البهية، لصديق حسن خان القنوجي.
15. زاد المعاد في هدي خير العباد لابن القيم.
16. سنن أبي داود.
17. سنن الترمذي.
18. سنن الدارقطني.
19. السنن الكبرى، للإمام البيهقي.
20. شرح حدود ابن عرفة للرصاع.
21. شرح الإمام النووي على صحيح مسلم.
22. شرح الحطاب على مختصر خليل.
23. شرح السنة للبغوي، تحقيق: شعيب الأرناؤوط.
24. الشرح الكبير للإمام أحمد بن محمد الدردير.
25. صحيح البخاري.
26. فتاوى النساء لابن تيمية، تحقيق إبراهيم محمد الجمل.
27. فتح الباري شرح صحيح الإمام البخاري، للإمام ابن حجر العسقلاني.
28. فقه الأسرة المسلمة للدكتور محمد الكدي العمراني.
29. الفقه المالكي وأدلته للشيخ الحبيب بن طاهر.
30. قرارات وفتاوى المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، المجموعة الثانية.
31. لسان العرب، لابن منظور.
32. المبسوط للإمام السرخسي.
33. مختصر الشيخ خليل بن إسحاق الجندي.
34. المدونة الكبرى للإمام مالك بن أنس، رواية سحنون عن ابن القاسم.
35. مسند الإمام أحمد.
36. المصباح المنير، للفيومي.
37. المعجم الوسيط.
38. المغني والشرح الكبير لابن قدامة.
39. المفصل في أحكام المرأة، عبد الكريم زيدان.
40. منهاج الطالبين للإمام النووي، مع شرح الجلال المحلي، وحاشيتي قليوبي وعميرة.(1/72)
41. المهذب للإمام الشيرازي.
42. النوادر والزيادات لابن أبي زيد القيرواني.
43. النوازل الكبرى للمهدي الوزاني.
44. الهداية في تخريج أحاديث البداية للشيخ أبي الفيض أحمد بن الصديق الغماري.
فهرس المواضيع
الفصل الأول: الولاية في الزواج وفيه مبحثان
المبحث الأول: الولاية في الزواج مفهومها، أسبابها، أنواعها، ومراتبها، ، وفيه أربعة مطالب.
المطلب الأول: مفهوم الولاية.
المطلب الثاني: أسباب الولاية
المطلب الثالث: أنواع الولاية .
المطلب الرابع: مراتب الولاية .
مسألة في حكم تزويج المرأة من لدن وليين.
المبحث الثاني ما للولي وما عليه، ومذاهب الفقهاء من الولاية وفيه أربعة مطالب.
المطلب الأول: شروط الولي.
المطلب الثاني: حقوق الولي وواجباته.
المطلب الثالث: مذاهب الفقهاء من الولاية، وهل هي شرط في صحة النكاح.
المطلب الرابع: حكم عقد المرأة نكاحها دون تدخل وليها.
الفصل الثاني: مفهوم الإجبار والعضل والعلاقة بينهما،وفيه مبحثان:
المبحث الأول: الإجبار: مفهومه، مجالاته، ومن يمارسه وعلى من يمارس؟وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: مفهوم الإجبار، والإكراه ، لغة وشرعاً، والفرق بينهما.
المطلب الثاني: مجالات الإكراه.
المطلب الثاني: من له حق الإجبار في مختلف المذاهب الفقهية؟
المطلب الثالث: على من يمارس الإجبار، وما هي علته؟
المطلب الرابع: سند القائلين بالإجبار والقول الذي ينبغي المصير إليه والعمل به.
المبحث الثاني:مفهوم العضل ، وفيه مطلبان
المطلب الأول: العضل لغة وشرعا.
المطلب الثاني: متى يكون الولي عاضلا، واختلاف العلماء في ذلك.
الفصل الثالث: صور العضل الواقعة في بلاد الغرب ونتائجها وفيه مبحثان:
المبحث الأول: صور العضل الممارسة عند المسلمين في الغرب. وفيه ستة مطالب.
المطلب الأول : عدم إشراك الفتاة في اختيار الزوج المناسب
المطلب الثاني: عدم إشراك الأم في اختيار زوج ابنتها.(1/73)
المطلب الثالث: منع أو تأخير زواج الفتاة طمعا في مالها.
المطلب الرابع : رغبة الولي تزويج موليته من أحد أقربائه أو من أهل قبيلته.
المطلب الخامس: فضاضة الولي وغلظ طبعه المؤدي إلى نفور الخطاب.
المطلب السادس: رغبة الولي في إتمام ابنته دراستها.
المبحث الثاني: نتائج العضل الممارس على البنات في الغرب
المطلب الأول: عدم إشراك الفتاة في اختيار الزوج المناسب.
المطلب الثاني: تزوج بعض الفتيات رغم أنف اوليائهن.
المطلب الثالث: هروب بعض الفتيات إلى ما يعرف بدور الرعاية الاجتماعية.
المطلب الرابع: احتمال فوات فرص الزواج من الأكفاء أو فواتها كليا.
المطلب الخامس: وقوع بعضهن في شباك غير المسلمين.
المطلب السادس: ارتماء بعض الفتيات في براثن الدعارة والفساد.
الفصل الرابع: علاج ظاهرة العضل ودور أئمة المساجد ومسؤولي المراكز الإسلامية في ذلك وفيه مبحثان
المبحث الأول علاج ظاهرة العضل الواقعة في حياة المسلمين في الغرب، وفيه مطالب
المطلب الأول: ضرورة معرفة الأحكام الشرعية
المطلب الثاني: الاطلاع على قوانين البلد.
المطلب الثالث: الحرص على تجاوز العادات والأعراف.
المبحث الثاني: دور أئمة المساجد والمراكز في علاج هذه الظاهرة وفيه مطالب
المطلب الأول: توعية المسلمين بفوائد الالتزام بأحكام الشرع الإسلامي.
المطلب الثاني: تيسير وتسهيل إجراءات الالتزام بالشرع.
المطلب الثالث: ما مدى الصلاحية المتاحة لأئمة المساجد والمراكز في تولي العقد للفتاة في حالة عضلها من طرف الولي؟.
المطلب الرابع والأخير: ألا يمكن أن يقوم إمام المسجد أو المركز مقام القاضي.(1/74)
بسم الله الرحمن الرحيم
فقه الأقليات المسلمة بين فقه الاندماج (المواطنة)
وفقه العزلة:
قراءة سياسية في واقع المسلمين في أوروبا
بحث مقدم إلى
المؤتمر الذي ينظمه مجلس الإفتاء الأوروبي
في موضوع "الفقه السياسي في أوروبا"
أ.د. نادية محمود مصطفى
أستاذ العلاقات الدولية ومدير برنامج حوار الحضارات
كلية الاقتصاد والعلوم السياسية
جامعة القاهرة
مقدمة: منطلقات الدراسة ومنهاجيتها:
(1) حين تلقيت الدعوة للمشاركة في الندوة، قبلت بلا تردد ولكن بقلق واضح، وكان مرجع هذا القلق أمرًا أساسيًّا؛ وهو: ما الذي أستطيع أن أقدمه وأنا أستاذة علاقات دولية تعيش في مصر، لا تعرف دقائق وتفاصيل واقع المسلمين في أوروبا بقدر ما تعرف عن توجهاتها العامة الكلية؟ ولكن سرعان ما تبدد هذا القلق لعدة اعتبارات، وحلَّ محله إرادة واعية بضرورة المشاركة. وتنبع هذه الاعتبارات من تطور مسار خبرتي العملية والعلمية والفكرية والبحثية والتي تولد -خلالها ومعها- إدراك أبعاد مفهوم "الأمة"؛ ومن ثم إيمان عميق بأنني جزء من الأمة، وأن أحد رافدي الأمة هو "أقلياتها المسلمة" في أرجاء العالم، بالإضافة إلى الرافد الآخر المتمثل في الأغلبيات المسلمة. وتتلخص الاعتبارات التي تراجع معها قلقي في الآتي:(1/1)
أول هذه الاعتبارات يتصل بالتراكم الذي ستحققه مشاركتي بالنسبة لمسار اهتمامي بقضايا العلاقات الدولية للأمة الإسلامية على مستويات مختلفة؛ ومنها بالطبع العلاقات بالأقليات المسلمة وعلى ضوء وضعها. ولقد بدأ هذا المسار بطريقة منظَّمة مع "مشروع العلاقات الدولية في الإسلام" (1986- 1992)(1)، ثم مع سلسلة بحوثي ودراساتي عن صراعات البلقان والقوقاز وآسيا الوسطى بعد نهاية الحرب الباردة (92- 98)(2)،
__________
(1) د. نادية محمود مصطفى (مشرف ومحرر) مشروع العلاقات الدولية في الإسلام، إحدى عشرة جزء، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، القاهرة، 1996.
(2) د.نادية محمود مصطفى: البوسنة والهرسك، من إعلان الاستقلال وحتى فرض التقسيم (مارس92-يولية93)، نجاح العدوان المسلح في فرض الأمر الواقع أمام أنظار النظام العالمي الجديد.(في): تقرير الأمة في عام (1993) 1413هـ. مركز الدراسات الحضارية. القاهرة.1994.
- د.نادية محمود مصطفى: آسيا الوسطى والقوقاز بين القوى الإسلامية الكبرى وروسيا، أنماط ومحددات التطور التاريخي للتفاعلات الدولية، إطار مقترح للتحليل السياسي للتاريخ الإسلامي (في) معهد البحوث والدراسات العربية: الوطن العربي وكومنولث الدول المستقلة. القاهرة1994.
- د.نادية محمود مصطفى: كوسوفا بين التاريخ والأزمة الراهنة (في) حولية أمتي في العالم (1998) مركز الحضارة والدراسات السياسية، 1999.
- د.نادية محمود مصطفى: قراءة ما يحدث في كوسوفا، القدس، العدد5، مايو 1999.
- د.نادية محمود مصطفى: أزمة كوسوفا وحلف الأطلنطي: التوازنات الأوربية والعالمية. المستقبل العربي، عدد يوليو 1999.
- د.نادية محمود مصطفى: الخطاب العربي-الإسلامي وضربات الناتو حول كوسوفا (في) حولية "أمتي في العالم" 1999، مركز الحضارة للدراسات السياسية، القاهرة، فبراير 2000.(1/2)
والاهتمام بالإطار المقارن لدراسة الأقليات المسلمة في العالم منذ نهاية الحرب الباردة، والذي فرض نفسه على نحو ظاهر منذ (1997)(1)، إلى التركيز على "التحديات الثقافية والحضارية" التي تواجه الأمة الإسلامية في ظل العولمة وبعد نهاية الحرب الباردة ويقع في صميمها قضية التهديد الأخضر للغرب، وكان مسلمو أوروبا والغرب -بصفة عامة- في قلب هذا الحديث(2)، وإلى خبرة إصدار "حولية أمتي في العالم" التي حرصت أعدادها جميعها على تناول ما يتصل بمسلمي الغرب(3).
وأخيرًا سلسلة اللقاءات والدراسات والبحوث في مجال حوار الثقافات والحضارات؛ حيث كان في قلبه أيضًا -وجزء منه- المسلمون في الغرب(4)، وهو الأمر الذي زاد ظهوره بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 بصفة خاصة. وأذكر من بين ما كتبته مباشرة عقب هذه الأحداث: التحذير من عواقبها على وضع مسلمي الغرب(5).
__________
(1) د. نادية محمود مصطفى: إطار مقارن لدراسة الأقليات الإسلامية في العالم. (في) د. حسن العلكيم (محرر): قضايا إسلامية معاصرة، مركز الدراسات الآسيوية، جامعة القاهرة، 1997.
(2) د. نادية محمود مصطفى: التحديات الخارجية للعالم الإسلامي بروز الأبعاد الثقافية والحضارية (في) الأمة في قرن عدد خاص من حولية أمتي في العالم، تحرير وإشراق د. نادية محمود مصطفى، د. سيف الدين عبد الفتاح، مركز الحضارة للدراسات السياسية، القاهرة، 2003، الجزء السادس.
(3) إصدار مركز الحضارة للدراسات السياسية 5 أعداد من حولية أمتى في العالم، فضلاً عن العدد الخاص "الأمة في قرن: 6 أجزاء في الفترة من (1998- 2005).
(4) انظر على سبيل المثال (من بين إصدارات برنامج حوار الحضارات– جامعة القاهرة)– د. نادية محمود مصطفى (محرر) الهوية الإسلامية في أوروبا: إشكاليات الاندماج قراءة في المشهد الفرنسي، برنامج حوار الحضارات، جامعة القاهرة، 2005.
(5) د. نادية محمود مصطفى، التحالف الدولي... ضد مَن ولماذا؟، من موقع:
http://www.islamonline.net/Arabic/politics/2001/09/article29.shtml(1/3)
ولقد اقترنت هذه الخبرة الفكرية والنظرية بأخرى عملية جسَّرت الفجوة بين المتابعة عن بُعد وبين المعايشة المباشرة والمراقبة عن قرب لمشاكل مسلمي أوروبا، والغرب، وهو الأمر الذي حققته لي ثلاثة أمور: من ناحية أولى: سفري المتكرر لزيارة ابنتي –بعد زواجها في الولايات المتحدة الأمريكية ولمدة ثماني سنوات ثم قرارها فجأة ضرورة العودة، من ناحية ثانية: الفارق الذي لاحظته خلال زياراتي المتكررة لعواصم أوروبية أو خلال مؤتمرات دولية ألتقي فيها بمسلمين من أوروبا؛ الفارق بين الخطابات المعلنة وغير المعلنة لرموز من العمل الإسلامي في الغرب والتي تعبر عن قدر من عدم التفاؤل الكبير بالرغم من تعبيرات الأمل المعلن عنها.
ومن ناحية ثالثة: متابعتي للأحداث والوقائع المقارنة في الغرب، ذات الدلالة بالنسبة لواقع الأقليات المسلمة؛ ومن أهمها: قانون الحجاب(1)، قانون معاداة السامية(2)، أزمة الرسوم الدانمركية(3)
__________
(1) د. نادية مصطفى (محرر): الهوية الإسلامية في أوروبا: مرجع سابق.
(2) د. نادية محمود مصطفى (محرر): مفهوم معاداة السامية بين الأيديولوجيا والقانون والسياسية، أعمال المؤتمر الدولي الذي نظمه مركز البحوث والدراسات السياسية بالتعاون مع الجمعية المصرية للقانون الدولي والجمعية العربية، لمناهضة التمييز، القاهرة، مارس 2005 (تحت الطبع وسيصدر قريبًًا).
(3) د. نادية محمود مصطفى، بين الحوار كمبدأ استراتيجي وتسييسه كأداة: قراءة في أزمة فرعية كاشفة على هامش أزمة الرسوم الدانماركية، من موقع:
http://www.hewaronline.net/denmark/Ben2l7ewar.htm
- د. نادية محمود مصطفى، الرسوم الدانماركية وتداعياتها، أزمة في مسار حوار الأديان والثقافات: قراءة في مغزى العلاقة بين الثقافي/ السياسي وشروط حوار عادل ومتكافئ، من موقع:
http://www.hewaronline.net/denmark/2lrosom2ldenemarkya.htm(1/4)
بعد أزمة قتل المخرج الهولندي، وكذلك بعد أزمة سلمان رشدي قبل ما يقرب من العقدين، شهادات ناشطين مدنيين ومفكرين مسلمين أوروبيين (سواء إسلاميين أو قوميين) عن مظاهر العداء للإسلام والمسلمين التي يعايشونها يوميًا، والتي تزخر بتسجيلها تقارير أوروبية وعالمية. بعبارة أخرى كل هذه الخبرة في مستوياتها المتنوعة ولدت لي من المقولات ومن الفرضيات ما أضحى بحاجة للمناقشة بطريقة أعمق مما جرت عليه حتى الآن، وخاصة ما يتصل بإدراك مسلمي أوروبا ذاتهم لمشكلتهم سواء كانوا من الشرعيين أو أصحاب علم الاجتماع السياسي وغيرهم.
ثاني هذه الاعتبارات: الرابطة -على الأقل إن لم يكن التشابه- بين أنماط من التحديات التي تواجه كافة المسلمين سواء كانوا في دول إسلامية أو باعتبارهم أقلية في الغرب بصفة عامة. ومن ثم؛ فإن دراسة مشاكل الأقليات المسلمة في أوروبا تساهم في إبراز الجوانب الإجرائية لمفهوم "الأمة" على مستويين: من ناحية أولى: مستوى التهديدات، ومن ناحية أخرى: مستوى إمكانيات التفاعل المتبادل حول الاستجابات.(1/5)
فمن ناحية، حقيقةً تتعدد دوافع واقترابات الاهتمام بالأقليات المسلمة في إطار مقارن نظرًا لمعضلة "التنوع والوحدة في نفس الوقت" من حيث المشاكل أو التحديات أو التهديدات وكذلك الفرص والإمكانات المقارنة فيما بينها من جانب وبينها وبين المسلمين في الدول الإسلامية من جانب آخر، إلا أنه يظل تحديد نمط الأقلية المسلمة من بين عدة أنماط أخرى لها قضية منهاجية مهمة؛ حيث إن معايير هذا التحديد (النشأة، وطبيعة النظام السياسي المحيط مثلاً(1)) تصبح مؤثرة في فهم طبيعة المشاكل ناهيك عن طبيعة الحلول. ومما لا شك فيه أن الاهتمام بدراسة "الأقليات المسلمة في أوروبا (الغربية)" –باعتبارها نمطًا بين أنماط أخرى يعني الآتي: النظر إليها باعتبارها أقلية لا تنتمي (ما عدا أسبانيا والبرتغال) إلى ديار إسلام سابقة أي تنتمي إلى ديار تحكمها سلطة إسلامية، ولكن تواجدت نتيجة الهجرة حديثة الجذور، الهجرة إلى نظم سياسية واجتماعية ذات طبيعة خاصة –علمانية ديموقراطية ذات وفرة اقتصادية- انعكست بالطبع على المشاكل التي أضحت تواجهها الأقليات المسلمة؛ حيث برزت أولوية التهديدات الثقافية-الحضارية للذات الإسلامية الملتزمة في ممارساتها الدينية مقارنة بأولوية التهديدات للعقيدة في حد ذاتها التي مرت بها الأقليات في النظم الشمولية أو النظم المتخلفة التابعة.
__________
(1) د. نادية محمود مصطفى: إطار مقارن لدراسة الأقليات المسلمة، مرجع سابق.(1/6)
فلم تفتقد الأقليات المسلمة في الغرب الكيان الاجتماعي والديني الذي يوفر حرية الاعتقاد وممارسة العبادات ولكن واجهت تحديات أخرى (كما سنرى تفصيلاً بعد ذلك) تنبع من أمور ثلاثة: العلاقة بين الإسلام والعلمانية، والعلاقة بين الشريعة والقوانين الوضعية، والعلاقة بين الرابطة العقدية والولاءات الوطنية؛ وهي أمور تتصل على التوالي بعلاقة الفرد بالمجتمع، والعلاقة بين الجماعة المسلمة والدولة، والعلاقة بينها وبين الأمة الإسلامية، كما أن هذه الأمور تتصل بغاية وجود المسلم ووظيفته في مجتمع الهجرة (كما سنرى لاحقًا).
ولعلنا نستطيع هنا أن نقول إن جوهر القضايا المشار إليها عاليًا لا تنفرد به الأقليات المسلمة ولكن يظهر جليًا الآن بين ثنايا مجتمعات ونظم الدول الإسلامية، وذلك تحت موجات التدخل والاختراق الخارجي في ظل العولمة (بعد موجات النقل الأول عن الغرب التي تزايدت تدريجيًا في ظل الاحتلال وبعد الاستقلال تحت حكم نظم قومية علمانية)، وأخيرًا في ظل الحرب الأمريكية على الإرهاب؛ حيث أضحت أهم أبعاد التحديات التي تواجهها الدول الإسلامية تلك ذات الأبعاد الدينية والثقافية المباشرة وذات الصلة الوثيقة بنظائرها السياسية والاقتصادية على نحو جعل البعض يقول إن الثقافة والقيم أضحت آخر خطوط دفاعنا لأنها أضحت آخر خطوط الهجوم العلني علينا(1).
__________
(1) د. نادية محمود مصطفى: التحديات الخارجية للعالم الإسلامي، مرجع سابق.(1/7)
وبالرغم من ذلك التشابه؛ فما زال هناك اختلاف بين الحالتين (الدول/ الأقليات المسلمة) –من حيث درجة التعرض لتيارات الفكر العلماني- ومن حيث درجة القدرة على مقاومته؛ ذلك لأن الأقليات المسلمة في الغرب تعيش في قلب إطار ثقافي غير إسلامي في كلياته وجزئياته تتزايد علمانيته فجاجة وهجومًا بحيث تصبح مهمة العلاج والمقاومة ليست شديدة الصعوبة أو مستحيلة أحيانًا، بل قد تعتبر –في أحيان أخرى- نوعًا من الخيانة وعدم الولاء وعدم الاندماج المهدد للاستقرار ولقيم ولمبادئ النظم العامة. وفي المقابل؛ فإن الإطار الثقافي الإسلامي (بالرغم مما يتعرض له من اختراقات وتشويهات) فمازال يحتفظ بإمكانيات المقاومة في كلياته وبتجدد الأصوات المحذرة من خطورة الإصابات قبل أن يتمكن الداء تمامًا.
بعبارة أخرى: الأقليات المسلمة هي الوجه الآخر للعملة في حديث "العلاقة بين الإسلام والغرب" سواء تهديدًا أو حوارًا؛ فهانتينجتون بعد أن كتب عن صدام الحضارات كتب "من نحن؟" متعاطيًا بالأساس مع أقليات أمريكا، أما أوروبا وهي تحدد أبعاد التهديدات الجديدة لأمنها التي دفعتها إلى المشاركة الأوروبية المتوسطية ابتداء ثم إلى بلورة سياسات حوار الثقافات الأورومتوسطية، اعتبرت أن الهجرة من الجنوب وتزايد أعداد المسلمين (المهاجرين) من بين هذه المصادر للتهديدات(1).
ولم تخلُ مقالات ودراسات جادة -تتحدث عن العلاقة بين الإسلام والغرب من مداخل متباينة- من استحضار الأقليات المسلمة في الغرب في سياق التشخيص أو التفسير(2).
__________
(1) د. نادية محمود مصطفى: البعد الثقافي للمشاركة الأورومتوسطية (في) د. نادية محمود مصطفى (محرر) أعمال ندوة "الاتحاد الأوروبي وإدارة حوار الثقافات الأورومتوسطية" التي نظمها برنامج حوار الحضارات، جامعة، القاهرة، أبريل 2005 (تحت الطبع).
(2) انظر على سبيل المثال:
- ... جون اسيوسيتو "التهديد الإسلامي خرافة أم حقيقة: ترجمة ود. قاسم عبده قاسم، دار ةالشروق، القاهرة 2001.
وكذلك انظر عرضًًا مقارنًًا تفصيلاًً لبعض أهم هذه الأعمال (في) د. نادية محمود مصطفى: التحديات الخارجية للعالم الإسلامي (في) مشروع التحديات للعالم الإسلامي، رابطة الجامعات الإسلامية، 1998، (الفصل الثاني).(1/8)
وتزايد هذا الوضع وضوحًا بالطبع بعد 11 سبتمبر 2001(1)، وحين بادرت بالكتابة مباشرة عقب هذه الأحداث(2)؛ فمن أول ما أشرت لتأثره بعواقب هذه الأحداث كان مسلمي أوروبا والغرب بصفة عامة وهذا ما أثبتته التطورات خلال السنوات الخمس الماضية.
خلاصة القول –عن هذا الاعتبار، إن هناك حالة من الاعتماد المتبادل بين مكونات الأمة أو رافديها (الدول- الأقليات)، وبينهما وبين العالم نتيجة مجموعة التحولات النظمية الكبرى التي تحدد –كما يرى البعض(3)- ملامح حالات الانتقالات عبر المحلية في ظل العولمة Translocality and Globality، ولا يمكن مع هذه الحالة فهم المسلمين في أوروبا بانعزال عن بقية العالم وخاصة بقية الأمة الإسلامية. فسواء أردنا أم لم نرد فنحن محسوبون على بعضنا البعض.
وحين يحدثوننا –في أوطاننا- عن العلاقة بين الدين والسياسة والمواطنة، فإنهم أيضًا يتحدثون مع مسلمي أوروبا عن نفس العلاقة.
__________
(1) انظر أعمال العدد ىالرابع (2003) من حولية أمتي في العالم عن تداعيات أحداث الحادي عشر من ستبمبر على الأمة دولاً وأقليات
كذلك انظر:
Joh Esposito: American Foreign Policy after 9\11: Challenges to Islam and the west.
(في) د. نادية محمود مصطفى (محرر): الإسلام والمسلمين في الاستراتيجية الأمريكية: دراسة في العلاقة بين الأبعاد الثقافية والاستراتيجية، برنامج حوار الحضارات، جامعة القاهرة، 2002.
- Summary Report on Islamophobia in EU after 11 September 2001, European Monitoring center on racism and Xenophobia, by C.Allen, J. Nielsen, Vienna, May 2002.
(2) د. نادية محمود مصطفى، التحالف الدولي... ضد مَن ولماذا؟، مرجع سابق.
(3) Peter Mandaville: Transnational Muslim Polilics, Reimagining the Umma. Routledge Research in transnationalism, London, 2001, PP. 114-118.(1/9)
فإن قضية العلاقة بين الدين- العلمانية- المواطنة- الديموقراطية؛ هي قضية تلخص أزمة علاقة الإسلام والمسلمين بالحداثة وما بعد الحداثة، وهي عملية ذات وجهين؛ أحدهما متصل بمسلمي الغرب والآخر يتصل بنا(1)، ولا انفصال بينهما في ظل العولمة والحركات الاجتماعية الجديدة وحركات البشر والأفكار، والصعود السياسي للحركات الإسلامية المعتدلة (بالانتخابات)(2) في وقت تواجه فيه الحركات الراديكالية الإسلامية الاتهامات بالإرهاب ومعاداة الليبرالية(3)، والتدخلات والاختراقات القوية من أجل ما يسمى "الإسلام المدني" و"الإسلام الحداثي"(4).
__________
(1) فبالنظر إلى محاور المؤتمر نجد أن المحررين الأولية عامين لهما دلالتهما بالنسبة للأوضاع في الدول الإسلامية أيضًا كما أن قضايا المحاور الأخرى –الخاصة بالتأصيل الشرعي والأخلاقي للمشاركة والعمل السياسي- تثور أيضًا على صعيد الدول الإسلامية، وذلك بالنسبة للحركات الإسلامية السياسية (المعتدلة) سواء التي تجد صعوبة بها في أدماجها قانونًا في الحياة السياسية لبعض الدول مصر أو تلك التي تم ادماجها في الحياة السياسية التعددية لدول أخرى (الأردن- المغرب).
(2) انظر على سبيل المثال:
خليل العناني: "الصعود السياسي للإخوان المسلمين: أسبابه ودلالاته" (في) أعمال ندوة تحولات القوى السياسية والانتخابات البرلمانية في مصر، ندوة نظمها مركز البحوث والدراسات السياسية –جامعة القاهرة، مايو 2006 (تحت الطبع).
انظر أيضًا: عمرو الشوبكي (محرر) إسلاميون وديموقراطيون مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، مؤسسة الأهرام، القاهرة، 2004.
(3) انظر على سبيل المثال:
Paul Berrman: Terror (VS) LiberaLisme, 2005.
(4) انظر التعليقات على التقرير الشهير الذي أعدته شيرلي برنارد والصادر عن مؤسسة راند ومنها على سبيل المثال:
أ. السيد ياسين: الإصلاح العربي بين الواقع السلطوي والسراب الديمقراطي، ميريف، القاهرة، 2005.(1/10)
بعبارة أخرى، تواجه مجتمعاتنا في الدول الإسلامية الآن أزمة هوية مثلما تواجه أوروبا أزمتها أيضًا. والعلاقة بين المسلمين وغيرهم هنا وهناك في قلب هذه الأزمة، وذلك نتاج التحولات المجتمعية والنظمية التي فجرت قضية الهويات القومية والانتماءات الدينية بدرجة ملحوظة وظاهرة على نحو جعل موضع الدين من المواطنة والعلمانية والديموقراطية محل مراجعة ونقد في الفكر الليبرالي؛ حيث يثور طرح مقولة مهمة(1)؛ وهي: عدم التناقض بين حضور الدين وبين تحقيق المواطنة والديموقراطية؛ فالعلمانية ليست شرطًا ثبت ضرورة توفره لتحقق المواطنة والديموقراطية في دولنا الإسلامية.
كما أضحت نفس الثلاثية محل مراجعة أيضًا على صعيد تأثيرها على العلاقات الدولية(2).
__________
(1) من الباحثين الجادين العاملين على نقد الخطاب الليبرالي –وخاصة من حيث موضع الدين منه، أ. هبة رؤوف عزت: انظر على سبيل المثال:
Heba R. Ezzat Co-Citizenship: Bringing religion back, Paper Presented to: International consultations in: Christians and Muslims in Dialogue and beyond Convened by World church council, Geneva, October 2002.
(2) انظر على سبيل المثال:
- F. Petito, P. Hatzopoulos, Religion in International Relations: The return from exile, Palgrave macmillan, 2003.
- د. نادية محمود مصطفى: إشكاليات بناء منظور إسلامي لدراسة العلاقات الدولية (في) د. نادية مصطفى، د. سيف الدين عبد الفتاح (محرران)، المنهاجية الإسلامية في العلوم الاجتماعية، العلوم السياسية نموذجًا، مركز الحضارة وللدراسات السياسية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، القاهرة، 2002.(1/11)
ومن ناحية أخرى وعن مستوى وسائل الاستجابة المتبادلة أو التفاعل المتبادل بين رافدي الأمة (كما سنرى بعد ذلك بالتفصيل)؛ فإذا كان البعض يرفض أن يكون للمسلمين في أوروبا علاقة ببقية الأمة، فإن البعض الآخر(1) يرى أن حالة الإسلام الرحَّال Traveler والدياسبورا المسلمة، إنما تقع في إطار أوسع من عبر المحلية والعولمة (تجعله يختلف عن الترحال القديم) بحيث يرتبط فهمه بفهم بقية الأمة، ولذا يرى مثلاً هذا الاتجاه أن المسلمين في الغرب عليهم دور كبير في إدارة الصراع الآن بين الإسلام والغرب والذي لا يقدر عليه بصورة فاعلة مسلمو الدول الإسلامية بمفردهم. وبينما يرى فريق ثالث(2) أن مسلمي الغرب بأفكارهم يمكن أن يصبحوا مصدر تجديد وإصلاح في أوطانهم الأم؛ فإن فريقا رابعا يرفض الفتاوى من علماء الإسلام –خارج الديار الأوروبية- ويطالب بفتاوى أوروبية(3)، ... إلخ. أيًا كان الأمر وأيًا كانت تفسيراته؛ فإن هذه الاستدلالات تطرح قضية أساسية: إذا كان وجود مسلمي الغرب في ديارهم الجديدة لابد من أن يُطرح معه تجديد نقدي للفكر الإسلامي (مزيد من الانفتاح أم مزيد من الانغلاق؟) إذن من الذي يقدم النُّصرة "الفكرية" لمن؟ وكيف يحدث انتقال الأفكار بين رافدي الأمة؟
إن أهمية هذه القضية –التي طرحها البعض(4) بصورة منظمة في ظل ما يسمى "نظرية انتقال الأفكار"، كانت ماثلة في ذهني وأنا أفكر كيف أعالج موضوع الدراسة؛ فالنصرة في نظري فكرية أيضًا بقدر ما هي مادية.
__________
(1) Peter Mandaville: op. cit, PP. 149-150.
(2) انجمار كالسون: الإسلام وأوروبا تعايش أم مجابهة: (ترجمة) سمير يوناني، الشروق الدولية، القاهرة، ط1، 2003.
(3) انظر على سبيل المثال: مقالات أ. فهمي هويدي عن "الفتاوى الأوروبية".
(4) Peter Mandaville: op. cit, chap. 2 + 3.(1/12)
ثالث هذه الاعتبارات: طبيعة التحدي المتبادل الذي يمثله المسلمون والأوروبيون لبعضهم البعض في هذه المرحلة (من مراحل تطور هذا التحدي المتبادل عبر تاريخ العلاقات الإسلامية-الدولية)، وكيف يمثل هذا التحدي الآن اختبارًا حقيقيًا لمصداقية انطباق المبادئ الأوروبية عن التعددية والتسامح وحقوق الإنسان والديموقراطية على ساحة أراضيهم، وهم الذين لا يكفون عن التبشير بها في الخارج مدعين عالميتها ومطالبين الجميع باحترامها، ومن ثم يتدخلون باسم حمايتها في أرجاء العالم.
ويقتضي التفصيل في هذا الاعتبار تقديم الطرح التالي:
الحديث عن المسلمين في أوروبا الآن: حديث ذو شقين: عن مسلمي الهجرة الحديثة (على الأقل ابتداء من القرن العشرين) إلى أراضي لم تحكمها من قبل "سلطة الإسلام" (ما عدا الأندلس)، وعن مسلمي البلقان وشرق أوروبا التي حكمتهم من قبل سلطة الإسلام منذ الفتح العثماني وطوال الحكم العثماني، وطمست وجودهم –بوصفهم مسلمين- فترة حكم شيوعي ممتدة، إلا أنه سرعان ما عاد ظهورهم منذ 1990، وكلا المستويين –الآن، ولو لأسباب مختلفة وفي أطر مختلفة هما بمثابة أقلية في محيط غير مسلم، إلا أنهما يمثلان مكونًا لأحد رافدي الأمة؛ أي الأقليات، والرافد الآخر هو "الدول الإسلامية".(1/13)
والمستوى الأول (مسلمو الهجرة الحديثة من الجيل الأول والثاني والثالث)، هو موضع الاهتمام في هذا المؤتمر؛ لأنه يمثل نمطًا من "الأقليات المسلمة" فريدًا من نوعه هاجر طوعًا وبإرادته (ولو تحت دوافع يراها البعض اضطرارية) إلى دول غير مسلمة؛ وهو وضع فريد من نوعه لا يقارن بأوضاع "أقلية" أخرى توالت عبر التاريخ الإسلامي سواء نتيجة "هجرة" فرارًا بالدين أو دعوة للدين (ونموذجها القياسي هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم)، أو سواء نتيجة انقلاب ميزان القوة لتتحول أرض الإسلام إلى أرض حرب نتيجة الاسترداد المعاكس (في شرق أوروبا- أو الأندلس) أو نتيجة لاستعمار أوروبي لدول مسلمة، وفي هذه الحالة الأخيرة -وإن ظل المسلمون أكثرية- إلا أنهم فقدوا القوة؛ حيث إن وضع الأقلية في نظر البعض((1)لا يرتهن بالعدد فقط بل أيضًا بدرجة "القوة والسلطة والحكم".
ولقد كان لكل حالة من هذه الحالات "فقهها" الذي تنتجه الظروف ويتعامل مع دواعي الضرورة من عدمها التي تستوجب على المسلمين البقاء أو المغادرة، كما يتعامل مع شروط البقاء والاستمرار(2).
__________
(1) Dr. Zaki Babawi: introduction to, Dr Taha Jabir AL-Alwani, Towards a fiqh for Minorities, Some Basic reflexions, (IIIT), London, Occasional papers No. 10, 2006.
(2) لقد اهتمت أدبيات غربية –استشراقية وسياسية بمتابعة هذا التطور
انظر على سبيل المثال:
Peter Mandaville: op. cit Bernand Lewis: La situation des populations musulmanes dans un régime non-musulman: reflescions juridiques et historiques. (dans) Bernand Lewis; Dominique Schnapper (eds) Musulmans En Europe. Actes Sud, Panis, 1992.
انظر أيضًا:
- ... أ. مدحت ماهر: الجديد فقه الأقليات في موضوع المرأة.
(
في) د. أماني صالح (محرر) مراجعة في خطابات معاصرة حول المرأة: نحو منظور حضاري أعمال الندوة التي نظمها برنامج حوار الحضارات، جامعة القاهرة، نوفمبر 2005، (تحت الطبع).(1/14)
بعبارة أخرى: أضحت "الظروف المنشئة للهجرة" تفرض تحديًا جديدًا على "الفقه الإسلامي" مقارنة بالتحديات التي فرضتها ظروف منشئة لأوضاع أخرى تاريخية أوجدت "حالات أقلية عددية أو سلطوية".
ومن ناحية أخرى: فإن الحديث عن مسلمي أوروبا –من زاوية ما يفرضه واقعهم (في أوروبا) من تحديات على الفقه والفكر الإسلامي- لا ينفصل فهمه عن فهم نمط آخر من التحديات تلك التي يفرضها وجود الإسلام والمسلمين في أوروبا على الأوروبيين؛ فلقد مثل الإسلام والمسلمون دائمًا تحديا لأوروبا: للهوية والحضارة الأوروبية، ابتداء من الفتح الأموي من جنوب غرب أوروبا، إلى تحدي الفتح العثماني من الشرق وجنوب شرق أوروبا، وكلاهما نمطان مثَّلا تحديًا مباشرًا –في ظل حكم سلطة الإسلام، وإن اختلفت خبرة وجودهما (حضارة الأندلس في مقابل حكم عثماني عسكري مباشر)، كما اختلفت بالطبع آثارهما ومآلاتهما، إلا أنهما مثَّلا –كما يرى البعض(1)
__________
(1) Tomaz Mastnak, Islam and the creation of European identity, University of west minister Press, Center for the study of democracy, Research papers No. 4, 1994.
- وحول رؤية جديدة عن كيف يجب اعتبار الإسلام مكون من مكونات الحضارة الغربية إلى جانب التقاليد المسيحية واليهودية انظر:
- Lisa Kaul- Seidman, Jorgen S. Nielsen, Markus Vinzent: European Identity and cultural pluralism: Judaism Christianity and Islam in European curricula Herbert- quandt- stiftung, 2003.(1/15)
- تحديًا ساهم في بلورة "هوية أوروبية" في مواجهة "الآخر"؛ وهو الإسلام، وذلك في مواجهة "الخطر العثماني" بالأساس من الشرق، وكما يرى البعض الآخر(1)؛ فإن الحديث عن تهديد إسلامي في أوروبا يتم استثماره لتعميق وتوطيد مشاعر الوحدة الأوروبية بعد أن خفتَ فورة الحماس الذي ساد الثمانينيات...، وذلك استمرارًا لدورة بدأت منذ معركة بواتييه (732م)".
بعبارة أخرى، بعد تحدٍّ حضاري من الجنوب الغربي (الأندلس)، وبعد عدة قرون ومع سقوط غرناطة تبلور وتدعم تحدٍّ آخر(العثماني) في الشرق، والآن فإن التحدي ينتشر عبر الأرجاء الأوروبية، وبأنماط أخرى من الانتشار ولو أنها في إطار الأقليات، إلا أنهم يدركونها باعتباره تحديًا دينيًا أحيانًا وثقافيا أحيانًا أخرى، واقتصاديًا سياسيًا في أحيان ثالثة.
__________
(1) انجمار كاربسون: مرجع سابق، ص 29.(1/16)
وهكذا تتوالى "دورات التحدي والاستجابة" بين الإسلام والمسلمين على ساحة أوروبا ذاتها، لنصل إلى مرحلة جديدة الآن ذات سمات جديدة أفرزت "حالة فقهية جديدة". لا يمكن حسن فهم وظائفها ولا توقع مآلاتها بدون استيعاب وضعها في مسار تطور النشأة للوجود المسلم في أوروبا حديثًا، والتحديات المتبادلة بين الطرفين. إن المسار السابق شرحه –على ساحة أوروبا ذاتها- يدفعنا للتساؤل: ما الذي ينتظر مسلمي أوروبا -الذين ذهبوا طوعًا واختيارًا وليس فتحًا أو غزوًا أو حكمًا أو علوًا سياسيًا وحضاريًا- من وضع دونية سياسية ومادية؟ ما الذي ينتظرهم وقد كان ذلك مآل سابقيهم من الفاتحين الغزاة؟ ما الذي ينتظر –هذه الغزوة الثالثة الكبرى بوسائل "القوة المرنة"soft power - هل ستصمد الآن في ظل "تسامح" الحداثة والعلمانية والديموقراطية، هذه المفاهيم والنظم التي لم تتوافر من قبل -حيث كانت التصفية هي الآلية السائدة: تصفية الوجود المسلم في الأندلس أو الوجود العثماني في البلقان؟ أم سيعيد التاريخ نفسه –ولو بأساليب جديدة- من حيث عدم قدرة أوروبا على قبول المسلمين إلا بشروطها –عسكريًا وحضاريًا؟ هو نمط حضاري متكرر أيًا كانت الوسائل وأيًا كانت الأطر المحيطة؟(1/17)
رابع هذه الاعتبارات: الإيمان الشديد بأهمية التفاعل بين "الشرعيين" و"متخصصي العلوم الاجتماعية والإنسانية"؛ ذلك لأن العلاقة يجب أن تكون وثيقة بين "فقه النص" و"فقه الواقع" (فضلاً عن فقه التاريخ). وإذا كانت هذه العلاقة ضرورية في ظل متطلبات الاجتهاد والتجديد في شئون الأمة بصفة عامة، فهي أكثر ضرورية فيما يتصل بالأقليات، وخاصة أن هناك اختلافات بين اتجاهات فقهية معاصرة، حول مدى الحاجة إلى فقه أقليات مستقل أو حتى متفرع عن الفقه في عمومه (كما سنرى). وبالرغم من أن فقه الواقع –الذي يقوم عليه متخصصو العلوم الاجتماعية والإنسانية أصبح محكًا في النقاش بين هذه الاتجاهات المختلفة، إلا أن القيام عليه وبه يؤدي مهمة أساسية وذات أسبقية ولازمة لكل اجتهاد أو تجديد بشأن الرؤية الكلية لوضع الأقليات أو المسائل الجزئية التي تواجهها، ولذا نجد مثلاً أن مؤتمر "فقه اليوم: المسلمون كأقليات في المملكة المتحدة" في فبراير 2004 تم عقده بالتعاون بين مجموعة من العلماء وتحت رعاية جمعية علماء الاجتماع المسلمين بالتعاون مع المعهد العالمي للفكر الإسلامي.
(2) ومع تبلور الإرادة الواعية بأسباب ضرورة المشاركة، ظل قائمًا السؤال: كيف؟
هل أقدم قراءة سياسية فقط، أرسم -على ضوئها- خريطة المشاكل والتحديات التي تواجه مسلمي أوروبا، وأناقش القضايا الفكرية والسياسية التي تطرحها هذه التحديات، وأبحث في الجدال عن النمط الأمثل "لوضع" هؤلاء المسلمين في المجتمع والنظام السياسي، وأفكر في المحددات التي تشكل كل ما سبق وتؤثر على مآلات الفقه الخاص به؟(1/18)
وحيث إنني أشارك في مؤتمر يعقده مجلس الإفتاء الأوروبي، وليس مؤتمرًا عامًّا عن "المسلمين في أوروبا"، وجدت أنه ليس من الممكن على الإطلاق –وعلى ضوء الاعتبار الرابع الذي حدد ضرورة مشاركتي- أن أقدم مجرد قراءة سياسية تقليدية لباحث في العلاقات الدولية(1).
ورأيت من الواجب أن أعرف ماذا كتب أصحاب مدرسة فقه الأقليات عنه؟ وماذا قدموا؟ وماذا كُتِبَ عنه؟ وما موضع "فقه الواقع" في عملية إخراجه وفي التأثير على مخرجاته؟ وما هي أوجه الاختلاف من حيث تشخيص هذا الواقع وفي تقدير آثاره بين مدرسة فقه الأقليات وبين من كتبوا عن وضع المسلمين في أوروبا من مداخل أخرى –غير شرعية- سواء من داخل أوروبا أو خارجها من المسلمين وغير المسلمين؟
على هذا النحو رأيت أنه من الممكن أن أقدم مساهمة وتراكمًا في هذا المجال. إلا أن تحقيق هذه المساهمة كان يتطلب منهجًا مركبًا يعكس عدة أمور: أولها- الجمع بين أدبيات الشرعيين وأدبيات متخصصي العلوم الاجتماعية، من داخل أوروبا ومن خارجها من المسلمين (المهاجرين أو من أصل أوروبي).
ثانيها- المقارنة بين نماذج من أدبيات الأوربيين غير المسلمين ذوي التوجهات المختلفة من قضية الوجود المسلم ذاته.
ثالثها- الانطلاق أساسًا من رصد الخصائص العامة الكبرى للوجود المسلم في أوروبا والاتجاهات الفكرية حول تشخيص الواقع وتحدياته، أكثر من الاعتماد على وقائع الأحداث وتفاصيلها ووقائع الفتاوى المتوالية؛ حيث يحتاج هذا المنحى الأخير وسائل وأدوات أخرى للدراسة.
ولذا؛ فإن المقولة الأساسية للدراسة هي مقولة ذات شقين: الشق الأول هو: أين موضع فقه الأقليات بين فقه الاندماج والمواطنة، وبين فقه العزلة؟
__________
(1) د. نادية محمود مصطفى: إطار مقارنة لدراسة الأقليات المسلمة: مرجع سابق.(1/19)
إن تحديد هذا الموضع يفترض البحث في مكانة "الواقع" لدى هذا الفقه للأقليات من ناحية، وقراءة خصائص الإطار المحيط (مناط المشكلة ومحدداتها) من ناحية أخرى، وخريطة المدركات عن حال وضع المسلمين ومستقبله من ناحية ثالثة.
والشق الثاني من المقولة –واتساقًا مع الاعتبار الثاني من اعتبارات ضرورة مشاركتي: ما دلالة كل ما سبق بالنسبة للعلاقة بين رافدي الأمة؟ من أين النصرة ولمن؟ وهنا تبدو فكرة النصرة المتبادلة ونظرية ارتحال الأفكار والرؤى؛ فهل يمكن أن يصبح مسلمو أوروبا مصدر تجديد أمام التحديات التي تواجه روافد الأمة في مجموعها؟ ولماذا يظل فقهاء الدول الإسلامية ومفكروها (الذين لم يعايشوا خبرة المسلمين الأوروبيين المباشرة) كما يقول البعض، يشاركون في الإفتاء في حين هناك حاجة لفتاوى "أوروبية" إن لم يكن لإسلام أوروبي يعتمد على نتائج دراسات الحالة الإمبريقية أو الميدانية عن "واقع المسلمين في أوروبا" أو عن ماهية الفتاوى في مسائل محددة ومدى التراكم أو التغير في هذه الفتاوى من مجتمع أوروبي إلى آخر؟
وبناء على ما سبق؛ فإن التراكم الذي ستحققه الدراسة هو رسم خريطة لنماذج من الاتجاهات الفقهية والسياسية في الموضوع، ولنماذج التحديات والرؤى الكلية عن حالة الوجود المسلم ومآله سعيًا نحو تقييم الإمكانات المستقبلية لمدرسة فقه الأقليات والتحديات المتغيرة التي عليها أن تتصدى لها دومًا، ليس فقط من أجل الإجابة عن السؤال التالي: "هل يمكن أن يعيش المسلمون في أوروبا؟" بل "هل يمكن للمسلمين أن يستمروا في العيش في أوروبا"؟(1/20)
بعبارة أخرى، وحيث إنني لست مفكرة أقدم رؤيتي فقط ، ولكنني أستاذة علوم سياسية متخصصة في العلاقات الدولية؛ فإن الإسهام الذي يمكنني تقديمه هو رسم الخرائط، وتحديد أنماط العلاقات وطرح الأسئلة وتحديد عوامل التأثير ومجالات التأثر فيما يتصل بالظاهرة محل الاهتمام. وكل هذا يحمل في طياته رؤية وإن كانت عن مجال في أمس الحاجة لمثل هذا الجهد المقارن التراكمي للتعرف على حالة التعامل الفقهي والحركي مع الظاهرة، بعد أن تعددت مناهج النظر والتدبر ومناهج الحركة.
(3) وعلى ضوء ما سبق، نجد أن مفهوم "السياسي" في الدراسة هو مفهوم واسع؛ فلا يقتصر العمل السياسي المقصود على المشاركة السياسية بالمعنى التقليدي (الترشيح للانتخابات أو عضوية الأحزاب أو التصويت أو تولي المناصب العامة). فهذا هو المعنى "العلماني الغربي التقليدي" في حين أن التطور الذي أصاب هذا المفهوم –في نطاق المراجعات على صعيد المدارس الغربية لعلم السياسة- وعلى ضوء المراجعات لمفهوم "السلطة" في نظرية الاجتماع بصفة عامة، قد جعل منه مفهومًا متسعًا يضم أشكالا أخرى من المشاركة (المدنية) وعلى مستويات أخرى من الأنشطة (المدنية) واسعة النطاق التي تتجاوز مفهوم "السلطة" التقليدي، كما تتجاوز مستوى المؤسسات الرسمية أو مجرد العلاقات بين الحاكم والمحكوم إلى مستوى أكثر اتساعًا من علاقات السلطة يمتد إلى القاعدة الشعبية (Grass roots) والهيئات غير الرسمية (المجتمع المدني والأهلي)((1).
__________
(1) انظر على سبيل المثال:
- د. هبة رؤوف، د. نادية محمود مصطفى، د. حازم حسني: إعادة تعريف السياسي (في النظرية السياسية والعلاقات الدولية).. (في) د. نادية محمود مصطفى (محرر) علم السياسة: مراجعات نظرية ومنهاجية أعمال السمينار العلمي لقسم العلوم السياسية (2002- 2004)، جامعة القاهرة، 2004.(1/21)
وعلى الصعيد المقابل؛ فإن التصور الإسلامي للأصول السياسية للعمل السياسي بصفة عامة وفي مجال العلاقات الدولية بصفة خاصة((1)يتجاوز أيضًا المفهوم التقليدي الغربي، ويجد مناطق تقاطع بينه وبين المفاهيم الجديدة عن "السياسي"؛ حيث إن تلك الأخيرة أضحت تتجاوز أيضًا المادي إلى القيمي، كما تتجاوز السياسي- الاقتصادي إلى الثقافي المجتمعي ليتبلور على هذا النحو مفهوم عن "الجماعة السياسية" بوصفها فاعلا ومستوى تحليل جديدا إلى جانب الفاعل ومستوى التحليل التقليدي وهو "الدولة-القومية".
ومع ذلك يظل بالطبع لهذا التصور الإسلامي للأصول السياسية للعمل السياسي في الغرب مناطق تميزه وخصوصيته؛ وهذا هو مناط اهتمام الفقه السياسي للأقليات. ولهذا؛ فإن الدراسة باقترابها –السابق تحديده- وبالنظر إلى طبيعة المقولة الأساسية لها، إنما تُعنى بالتأصيل السياسي. ذلك التأصيل السياسي للوجود المسلم ذاته (دوافعًا وغاية وسبلاً) وإمكانيات وقيود العيش في الواقع الأوروبي بل إمكانية الاستمرار من عدمه في هذا العيش في ظل تحديات الإطار الأوروبي والعالمي (والذاتي) والشروط التي تتطلبها الاستجابة الفاعلة (الحافظة للهوية الإسلامية) لهذه التحديات.
بعبارة أخرى، تتصدى الدراسة لمستوى الرؤى الكلية، وهذا هو مناط التحدي الأساسي الذي يجب على فقه الأقليات أن يواجهه –بحيث لا يقتصر على فقه المسائل الجزئية- فهل تحقق هذا المناط، في ظل ما تم إخراجه من تأصيل لفقه الأقليات حتى الآن؟ هذا ما ستحاول أجزاء الدراسة أن تقدمه.
هذا وتنقسم الدراسة إلى جزءين وخاتمة:
__________
(1) انظر على سبيل المثال:
- د. سيف الدين عبد الفتاح: القيم مدخل دراسة العلاقات الدولية وفي الإسلام (في) د. نادية محمود مصطفى (مشرف ومحرر) مشروع العلاقات الدولية في الإسلام، مرجع سابق، الجزء 2ٍ.
- د. سيف الدين عبد الفتاح: النظرية السياسية من منظور إسلامي، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، القاهرة.(1/22)
الجزء الأول- موضع "فقه الواقع" بين اتجاهات مدرسة "فقه الأقليات: نحو رؤية كلية أو فتاوى جزئية".
الجزء الثاني- الإشكاليات الكبرى لواقع الوجود المسلم: قراءة سياسية في فقه المواطنة والاندماج.
الخاتمة- الواقع بين فقه الأقليات وفقه المواطنة وفقه العزلة: مناط التحديات المستقبلية: كيف يمكن الاستمرار؟
وعلى هذا النحو –وابتداء وقبل الدخول في تفاصيل الدراسة- فإنني أرى أن موضعها في الجدول المبدئي للمؤتمر، لا يتسق ومضمونها؛ حيث إنها لا تتصل بالضوابط الأخلاقية والشرعية، ولكن الأقرب أن تقع في موضع وَسَط بين مجموعة الجلسة العلمية الخامسة (المسلمون والسياسة في أوروبا) التي تتصدى لواقع العمل السياسي، وبين مجموعة الجلسة السادسة (التي يجب تغيير عنوانها لتصبح القضايا والضوابط الشرعية) كما قد ينبغي –من وجهة نظري- تغيير موضعها لتصبح هي الجلسة السابقة (مضافًا إليها: موضوع العمل السياسي للأقليات المسلمة بين ضوابط الشريعة ومقتضيات العلمانية)؛ وبذا تصبح السابعة في الجدول هي السادسة، وفق الترتيب المقترح الجديد.
وبذا؛ فإنا أقترح أن يكون موضوعي في بداية الجلسة السادسة باعتباره حلقة وصل بين التأصيل السياسي للواقع والتأصيل الشرعي للعمل السياسي وضوابطه؛ حيث إن فهمي "لعنوان البحث المنوط بي في التكليف" قد قادني إلى التصور الذي وضعته في هذه المقدمة، وحيث إن محاور المؤتمر –حين أُرسِلت إليَّ مع الاستكتاب الأول- لم تكن تتضمن هذا الموضوع، مما جعلني أجتهد لأجعله حلقة وسيطة بين استقرار الواقع وبين التأصيل الشرعي، على النحو الذي فصلته الصفحات السابقة.(1/23)
ولذا، وجدتني في حاجة لوضع عنوان جديد له، وحين وصلني الجدول المبدئي للمؤتمر، لم أشعر بإمكانية استمراري في موضعي في الجلسة الثامنة، وتأكد لي ذلك مع كتابة الدراسة والانتهاء منها، مما استلزم إضافة هذا التوضيح في هذا الموضع من الدراسة، والذي سأتجه به إلى المنظمين لإعادة ترتيب الموضوعات في الجدول –على الأقل في الإصدار النهائي لأعمال الندوة.
الجزء الأول- موضع فقه الواقع (التأصيل السياسي للواقع) بين اتجاهات مدرسة فقه الأقليات: نحو رؤية كلية أو فتاوى جزئية؟
أولاً:-يثير استخدام مصطلح الأقليات -بصفة عامة- تحفُّظات عدة من منظور إسلامي، فهو لم يظهر في التراث الفقهي أو التاريخي الإسلامي، ويعتبر دخيلاً عليهما؛ لأن الأساس في هذا التراث ليس الأكثرية أو الأقلية العددية بل العدالة، سواء للدلالة على غير المسلمين تجاه أكثرية مسلمة أم العكس. وكان المصطلح المستخدم هو الملل والنحل. وإذا كان مصطلح الأقلية يعكس معاني ومضامين الذلة أو القهر؛ فإن هذا ما لا تحمله أو توحي به المصطلحات الإسلامية المناظرة. ومع ذلك فإن الشائع استخدامه هو مصطلح الأقليات.
ومن ناحية أخرى.. فإن الموضوع موضع الاهتمام في الدراسة ذو أبعاد شرعية عديدة -وإن كانت هذه الأبعاد ليست ما ستتوقف عنده الدراسة بالتفصيل- إلا أنها لا تغفلها ولا تنكر أهميتها. ويجب أن نعي قدر ما ثار وما يثور من جدل حول العلاقة بين النصوص الشرعية وبين التراث الفقهي وبين الخبرات التاريخية السابقة وبين الأوضاع المعاصرة والراهنة للأقليات؛ فهي الأوضاع التي تحتاج لاجتهادات حديثة تُتوق إليها الأقليات المسلمة ذاتها، كما تحتاجها الدول الإسلامية عند توجهها نحو هذه الأقليات.(1/24)
وبالرغم من خصوصية دراسة هذه الأبعاد الشرعية.. إلا أنها لا تنفصل عن الأبعاد السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تكوِّن الظروف الموضوعية التي يعايشها مسلمو الأقليات، والتي تؤثر على أسس وقواعد الشخصية المسلمة وذاتيتها، ولهذا؛ فإن المرحلة الراهنة من فقه الأقليات هي أحد مراحل تطور هذا الفقه عبر تاريخ الفقه الإسلامي، والذي صاحبه التطور في الظروف المنشأة لهذه الأقليات والظروف التي أحاطت بوجودها(1).
وبقدر ما لم يكن وضع الأقليات المسلمة في العالم المعاصر مثيرًا من قبل لنفس القدر من الاهتمام الذي أضحى يثيره الآن (ومنذ ما يقرب من العقدين) بقدر ما لم يكن الاهتمام "بفقه الأقليات" قد وصل إلى ما وصل إليه الآن من تبلور ومن إثارة للنقاش في نفس الوقت.
__________
(1) انظر هامش رقم 29.(1/25)
بعبارة أخرى: اقترن ظهور وبروز فقه الأقليات بظهور وبروز مشاكل هذه الأقليات وتحدياتها على نحو جديد، وكان د. يوسف القرضاوي(1) قد اعتبر أن سؤال المسلمين عن الموقف الشرعي من قضية وجودهم وما يتفرع عنها، دليل على أن الإسلام لا يزال له أثره البالغ على سلوك المسلم وعلى تفكيره بالرغم من اغترابه عن وطنه الإسلامي، كما كان فضيلته قد اعتبر هذا الاهتمام مرحلة من مراحل تطور صلة الأقليات المسلمة بالإسلام –فكرًا وشعورًا وسلوكًا- خاصة أن هذه الصلة قد مرت بمراحل متفاوتة بدأت بمرحلة عدم الوعي أو عدم الإحساس الكافي بالانتماء الإسلامي أو الهوية الإسلامية، ثم بدأ المسلمون المهاجرون ينفضون غبار الغفلة ويشعرون بالحنين إلى الهوية الدينية ورسالة تميزهم، وبعد مرحلة الشعور بالهوية (أو الصحوة الإسلامية) جاءت مرحلة الاستيقاظ ثم التحرك ثم التجمع ثم البناء ثم التوطين وصولاً إلى المرحلة الراهنة؛ وهي مرحلة التفاعل الإيجابي مع المجتمع حيث لا مجال للعزلة والانكفاء على الذات والحذر من مواجهة الآخرين.
وفي المقابل، يرى طارق رمضان(2) أن الجيل الأول من المهاجرين لم يكن يعتبر إقامته في بلد المهجر إقامة دائمة وكان يعتريه دائمًا الإحساس بضرورة العودة إلى الوطن؛ وهو الأمر الذي لم يترتب عليه الا اللجوء إلى فتاوى جزئية خاصة بموضوعات الحياة اليومية، إلا أن الجيل الثاني ثم الثالث، الذي اكتشف أن وجوده لم يعد مؤقتًا وأنه أصبح واقعًا قائمًا، هو الذي فطن إلى إشكالية الهوية.
__________
(1) د. يوسف القرضاوي: في فقه الأقليات المسلمة، دار الشروق، القاهرة، ط1، 2001، ص ص 18- 23.
(2) Tareq Ramadam: Islam and Muslims in Europe: Fundamental issues (Part 1).
www. Islamonline.net/English/ Europear Muslims/ Polilics/ 2006/ 04/ 02.(1/26)
وأيًا كان تفسير نمو الحاجة إلى فقه للأقليات؛ فإن الواقع أشار إلى تطور الجهود الفردية ثم الجماعية في هذا المجال على أكثر من مستوى، حتى تم تأسيس مجلس الإفتاء الأوروبي (والمجلس الفقهي لأمريكا الشمالية).
ولسنا هنا بالطبع بمعرض تقويم مخرجات هذا المجلس في دوراته المتعاقبة، وخاصة فيما يتصل بموضوع الندوة "الفقه السياسي"، ولكن أركز في هذا الموضوع –وعلى ضوء منطلقات مقدمة الدراسة- على محورين أساسيين:
المحور الأول- فقه الأقليات، من حيث كونه أصولاً وقواعد منهاجية شرعية تتعامل مع الواقع، وهنا يمكن التمييز بين عدة اتجاهات في مدرسة "فقه الأقليات" من حيث تعاملها مع إشكالية العلاقة بين النص والواقع.
المحور الثاني- طبيعة فقه واقع الأقليات: أي كيف تم إدراك هذا الواقع وتوصيفه لدى اتجاهات هذه المدرسة؟ وهل يفصّلون فيه أم تأتي الإشارة إليه باعتباره ظروفَا خاصة بالأقليات تقدم المبرر للحاجة إلى فقه جديد؟ وما موقف هذا الفقه من الكليات (غاية الوجود المسلم، نمط الوجود المسلم، دوافع ومبررات الحاجة لفقه جديد للأقليات)؟
وعن المحور الأول، فإنني أبتدئ بتقديم ملخص رؤية طرحها أحد الباحثين الشبَّان الواعدين أ. مدحت ماهر؛ (وهو من طلبة الدراسات العليا في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية) والتي قدمها في دراسة((1)ستصدر قريبًا –ضمن أعمال أحد المؤتمرات العلمية(2)، وبقدر ما تحوي رؤية أ. مدحت جدية القراءة المقارنة النقدية إلا أنها تتطلب أيضًا –بدورها- نقدًا مقابلاً.
__________
(1) مدحت ماهر: مرجع سابق.
(2) د. أماني صالح (محرر)، مرجع سابق.(1/27)
وفي مقدمة دراسته يقدم أ. مدحت تلخيصًا لصورة عامة عن طبيعة "الفقه الموروث" (في موضوع الأقليات) وأصوله ودلالات مفهومي "الاجتهاد" و"التجديد" فيه، كما يشير إلى مدلولات الكثرة الواضحة في تداول تعبير "فقه" مقرونًا بالعديد من المسائل والحقول العلمية، على أساس أن كشف هذه المدلولات ضروري للاقتراب من أبعاد البيئة الفكرية المحيطة ببروز اصطلاح فقه الأقليات، كما يميز بين مدلولات "الفقه" –ابتداء من اللغوي والقرآني، إلى مدلولال الصدر الأول في الإسلام وصولاً إلى تحول مدلول "الفقه" من علم يشمل مجمل موضوعات الدين؛ وهو الكتاب والسنة لا غير إلى "العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة أو المستتبطة من أدلتها التفصيلية".
وعلى ضوء هذه المقدمة يصل إلى التمييز بين نوعين من فقهاء الأقليات في الغرب: "الفقهاء المتصلين بالتراث الفقهي"، و"المتفقهة المتحررين من الفقه القديم"، وفي حين يقصد الباحث بالفئة الثانية هؤلاء الذين يَعنون بالفقه مجردَ حُسن الفهم من رؤية منتسبة للإسلام، ولا يدَّعون الرسوخ في علم الفقه بل ترى –هذه الفئة المتفقهة- أنها يمكن أن تتجاوز الفقه الموروث ولها حق التعامل المباشر مع شرعة دينها كتابًا وسُنة؛ فإن الفئة الأولى -لدى الباحث- هي ذات صلة مشهورة بالموروث الفقهي وهم الذين أسسوا ويؤسسون لفقه أقليات جديد.
وتلك الفئة الأخيرة هي التي نُعنَى بها هنا –في هذا الموضوع من الدراسة- في محاولة لتبيُّن الفروق بين اتجاهاتها فيما يتصل بإشكالية العلاقة بين النص والواقع.
وفي هذا الصدد، ونقلاً أيضًا عن دراسة أ. مدحت ماهر؛ فنجده يميز بين اتجاهين يدعو كل منهما إلى فقه جديد للأقليات، وإن اختلفا على النحو التالي((1):
__________
(1) مدحت ماهر: مرجع سابق، ص 5-6.(1/28)
- "اتجاه "الفقه بمعنى علم الأحكام الشرعية على منوال المدلول الشائع"، وإن كان "فقه الأقليات" سيمثل بابًا محددًا مستجدًا، ذا خصوصية. وهذا الاتجاه يقوده فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي وعدد من الأساتذة العاملين في المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، مع بعض التباين في الأساليب، وفي صياغة الطروحات، ونمثّل لهذا الاتجاه بالشيخ القرضاوي وبالأستاذ الدكتور عبد المجيد النجار.
وخلاصة طرح هذا الاتجاه أنه يُعنىَ بوضع علم له موضوعه الخاص (الأقليات المسلمة في غير بلاد المسلمين– مع العناية بالغرب)، وله أصوله الخاصة (أصول لفقه الأقليات).
هذه الأصول -وما يستخرج منها من تقعيدات وأحكام- غايتها أن تؤسس لوضع المسلمين في الغرب من جهة؛ أي تمنحه توصيفًا شرعيًا ملائمًا، ومن جهة أخرى تمكّن من استنباط أحكام شرعية لقضايا الأقليات المسلمة الجزئية وشبه الجزئية في واقعهم الخاص بهم.
- أما الاتجاه الآخر في هذا الفريق الأول؛ فإن "الفقه" –عنده- في "فقه الأقليات"، لا يدل غالبًا على "علم أحكام"، بل –إن جاز التعبير- يدل على "علم حلول عملية لمشكلات واقعية"، يستأنس بروح الشرع وعمومياته، وليس بالضرورة يستنبط أحكامًا، وليس بالضرورة يتعامل تعاملاً مباشرًا استدلاليًا ولا استنباطيًا مع النصوص التي هي الأدلة التفصيلية.
وعلم الفقه -لدى هذا الفريق- علم إجمالي باسم "الفقه الأكبر"؛ وهو المشتمل على عقائد وأخلاق ومبادئ وقيم لا مجرد أحكام. وهذا الاتجاه –على غير درجة سابقه في التحفظ- لا يستفز الأمة فقط لفتح باب "الاجتهاد" في الفقه بناء على أصوله التي لا تزال مقبولة عند أغلب أهل العلم، بل يردد الدعوة لـ"التجديد" الكلي في الفقه، بالتجديد في أصول الفقه أيضًا.(1/29)
يبرز واضحًا في التنظير لهذا الاتجاه فضيلة الدكتور طه جابر العلواني –رئيس المجلس الفقهي لأمريكا الشمالية، ورئيس جامعة العلوم الإسلامية والاجتماعية في فيرجينيا بالولايات المتحدة. ويُضم إلى هذا الاتجاه –مع التحفظ ثانية على التعميم التصنيفي والانتباه للفروق جنبًا إلى جنب مع الأشباه- دراسة مسهبة لفضيلة الدكتور جمال الدين عطية، الذي يعد من أنشط دعاة "التجديد" في الفقه أساسًا وفي أصوله تاليًا، ومنذ زمن".
ومع التجاوز الآن عن تفاصيل الاختلاف بين الاتجاهين من حيث "المضمون" حيث نتناولها في المحور التالي مباشرة، فنقتصر هنا على الاختلاف "المنهجي" ودرجة ما يؤدي إليه من "اجتهاد" أو "تجديد " في موضوع الأقليات انبثاقًا عن طبيعة النظر إلى "فقه الواقع" وتحدياته.
ويلخص أ. مدحت ماهر هذا الاختلاف كالآتي(1):
يقرر القرضاوي (وكمثله الدكتور النجار وعلى خلافهما العلواني وعطية) أن "مصادر فقه الأقليات هي مصادر الفقه العام نفسها. ولكن ينبغي أن يكون لهذا الفقه وقفات (تجديدية) لهذه المصادر..".
والوقفات (التجديدية) لفقه الأقليات إزاء مصادر الفقه هي الخط الثاني الأعرض في تحقيق معنى "التجديد":
- فالقرآن الكريم هو "مصدر المصادر، وأصل الأصول"، "حتى السُّنة النبوية يجب أن (تفهم في ضوء القرآن الكريم)، فهو الأب لكل القوانين والأحكام، ولذا هو يُعنى [أي القرآن الكريم] بإرساء القواعد والمبادئ العامة، أكثر من التعرض للجزئيات والتفصيلات، بخلاف السُّنة التي تعالج مسائل وقتية، وحالات شخصية، ...".
__________
(1) مرجع سابق، ص 19-24.(1/30)
ورغم أن الشيخ القرضاوي تحدث عن (وقفات تجديدية) ورقّم لها بالرقم (1) فإنه لم يصل إلى رقم (2)، وتكاد تقتصر وقفته (وليس وقفاته) على التأكيد والتشديد على "أن تُرد السُّنة إلى القرآن، وأن ترد السُّنن إلى بعضها البعض، وأن تفهم الأحاديث في ضوء ملابساتها ومقاصدها، وأن نُميز بين الهدف الثابت والوسائل المتغيرة...".
هذه الملاحظة المتكررة من روّاد "فقه الأقليات"، والتي تبلغ أقصى درجات الإفصاح عنها (محاولة تقييد العمل بالسُّنة ومحاولة وضع حدود وقيود لا حصر لها على ذلك)، مع تأصيلات الدكتور العلواني، هذه الملاحظة وتكرارها صارت ذريعة لفريق وصفه القرضاوي –في دراسة أخرى- بـ"العلمانيين الذين أقحموا أنفسهم على الشريعة"، لكي ينكروا السُّنة ويلفظوها، بل والنصوص بعامة؛ بدعوى أن القرآن أبا القوانين الإسلامية لم يُعنَ إلا "بإرساء القواعد والمبادئ العامة، أكثر من التعرض للجزئيات والتفصيلات، بخلاف السُّنة". وعلى الرغم من أن القرضاوي ليس من هذه المدرسة بل يهاجمها، إلا أن كثيرًا من مثل هذه العبارات يحملها البعض باعتبارها ذرائع لاتجاهاتهم المخالفة، وهذا من سلبيات التعميم السائد.
وسوف نجد أن مثل هذا الإطلاق للقرآن دون السُّنة يستحيل -عند متفقهة الأقليات- منهجًا لإحالة السُّنة ومعها كل التراث الإسلامي إلى نسبوية وخصوصيات وقتية ظرفية يتسع المجال لتجاوزها أو لإغفالها بالكلية.(1/31)
الاجتهاد في فقه الأقليات –كما يعرضه القرضاوي- انتقائي: "ينتقي من القديم في ضوء الأصول والاعتبارات الشرعية"، وإبداعي: "لما امتلأت به الحياة المعاصرة من ألوف المسائل الجديدة التي لا يمكن أن تجد لها جوابًا مباشرًا في تراثنا الفقهي العظيم" –على حد قول الشيخ القرضاوي. "وهذا الاجتهاد إنما هو جزء من (التجديد) للدين". وهذا الاجتهاد يراعي الاستناد إلى القواعد الفقهية التي أصّلها الفقهاء... وهي كثيرة، ذكر منها القرضاوي نحو أربعين قاعدة نصفها الأول يتعلق بالضرورات والضرر والمفاسد والمشاقّ والضيق... بما يشير إلى حاجة فقه الأقليات إلى التيسير ومراعاة حالات الحرج والمشقة والضرورة..."
"... يصل د. النجار إلى أن ما يقدِّمه هو من تأسيس لقواعد تأصيلية لفقه الأقليات المسلمة بالبلاد الأوروبية "لا يقصد منه تأسيس اختراعي لقواعد جديدة تُستحدث به استحداثًا بعد أن لم تكن موجودة في المدوَّنة التراثية لعلم أصول الفقه بفروعه المختلفة، بقدر ما يُقصد منه تأسيسٌ يستثمر فيه ما جاء في تلك المدونة من ثراء في قواعدها وضوابطها، لتُستخلص جملة منها تؤلِّف في بناء جديد، وتوجِّه توجيهًا جديدًا، بحيث يتكوّن منها منهج أصولي متكامل يؤصل لفقه الأقليات".
ومن قراءة ما يقدمه د. النجار يتضح أنه لا يدخل في قواعد فهم النص واستنباط فقه جديد بقدر ما يدخل في قواعد تطبيق النص والإفتاء به؛ فهي قواعد حركة لحل إشكالات أكثر منها قواعد نظرية، وهي قواعد إفتاء أكثر منها قواعد استنباط أحكام..."
"... والاتجاه الثاني يبدو أكثر انفتاحًا وإقبالاً على التجديد في أصول الفقه وعلى الأخص اجتهاد فضيلة الدكتور العلواني ثم دراسة الأستاذ الدكتور جمال عطية...(1/32)
إن ما يقدمه الدكتور العلواني تحت عنوان (مدخل إلى فقه الإقليات)، ثم تحت عنوان أدق هو (نحو بناء أصول لفقه الأقليات)، يعد ثورة وانقلابًا في عالم الأصول الفقهية؛ فبالرغم من استدراك فضيلته المبدئي بعدم تجاهل "أدلة الفقه ولا شروط الاستنباط منها..."، إلا أنه يعود في صفحات عدة ليطرح منهجًا جديدًا تمام الجدّة على الفقه الموروث، في أصول الاجتهاد وبناء الأحكام التكليفية وتفريعها، لتقويم الفعل الإنساني وإعطائه الوصف الملائم له من كونه "ينبغي أن يفعل" أو "لا ينبغي أن يفعل" ونحو ذلك.
ويمكن أن نختصر أصول العلواني الفقهية الجديدة في: الجمع بين القراءتين، ثم حاكمية القرآن على السُّنة، والطبيعة المبيّنة فقط (غير الإنشائية للحكم) بالنسبة للسُّنة النبوية، وتراجُع معنى الحُجية في الإجماع والقياس إلى مستوى الوسائل المنهجية أو دوائر الفهم، والفهم بالعموميات من المبادئ الأساسية والقيم الحاكمة والمقاصد العليا والقواعد الكلية لا بالنصوص الجزئية، والمنطق القرآني الكامن في القرآن الذي يقدر الإنسان على كشفه ليشكل قوانين تعصم "العقل الموضوعي" من الشذوذ والخطأ، ويمكن أن يوجد قاعدة مشتركة للتفكير بين البشر (هكذا كل البشر)، ثم اعتبار عالمية الخطاب القرآني، التي يواجه بها الحالة العالمية الراهنة بوصفه كتابًا يقوم على "قواعد إنسانية وقيم مشتركة"...
... (هذا الاتجاه) لا يمثل تجديدًا عاديًا، بل تجديدًا جذريًا؛ أهم مآلاته:
- أنه لا ينبغي الرجوع إلى أعيان الأدلة (الآيات والأحاديث الجزئية) بقدر ضرورة العودة إلى أجناسها وعموميات المفهومات عنها.
- إحلال "القيم والمقاصد والمبادئ والقواعد العامة" محل الدلالات الخاصة للأدلة التفصيلية بدلاً من أن تأتي الأولى في مقام المعضدات والضوابط للثانية.
- إنشاء قواعد جديدة للترجيح بين الدلالات.(1/33)
- إلقاء غشاوة ثقيلة على الحديث وعلومه، وعلى الفقه وأصوله؛ بذريعة "النسبوية" في مقابل الإطلاق القرآني وحده، بل إن السُّنة نفسها –بجملتها- أُدرجت في عالم "النسبيّ" الزمكاني، باعتبارها –كما يقول فضيلة الدكتور العلواني- بيانًا للقرآن و"تنزيلاً لقيمه في واقع نسبيّ محدد".
- فتح المجال أمام أهل "الرأي والفكر" المجرَّد من السند التفصيلي؛ لكي يتكلموا بكلام الفقهاء في أفعال المكلَّفين بما "ينبغي فعله وما لا ينبغي"، على حد تعبير الدكتور العلواني.
وثمة إشكال تأصيلي آخر يظهر في النموذج الأخير– الدكتور جمال الدين عطية، فبالإضافة إلى اعتماد أفكار المدرسة الإنسانية في النظرة إلى ما يسمى اليوم بـ"الآخر" من "وحدة الأصل الإنساني". و"كرامة الإنسان، مطلق الإنسان"، و"وحدة الدين"؛ أي العقيدة، و"سُنة التنوع"، ورفض الإسلام "لكل أنواع التمييز" حتى "التمييز بسبب الدين"، ومفاهيم المواطنة والولاء الاجتماعي ..إلخ، ثم اعتماد أفكار نفس المدرسة في "العلاقة مع الآخر" سيما المساواة، والحريات، والموضوعية وعدم التحيز، إلا أننا لا نركز في مسألة التأصيل إلا على القضية الأخطر، وهي "قضية المرجعية".
فإذا كان بحث الدكتور العلواني يخلي الطريق في التعامل مع النص من زخم القواعد اللغوية وقواعد علوم الدلالة وما إلى ذلك، ليحليها بقواعد فكرية استنبطها فضيلته من قراءته الخاصة للدين ومصادره سيما القرآن الكريم، فإن الدكتور جمال الدين عطية بعد أن يستعرض تعريفًا وصورًا لواقع الأقليات، ينتقل مباشرة إلى ما سماه "المرجعية الدولية" التي يجعلها مع "المرجعية الشرعية" في حزمة "المرجعية المطلقة"، ورغم أنها منتوجات بشرية، إلا أنه يجعلها في نفس الصفة مع الشريعة، فيما يتحدث -على الجانب الآخر- عن الكتابات الفقهية الإسلامية فيقول:(1/34)
"وبالذات الكتابات الفقهية ما هي إلا اجتهادات بشرية ليس لها إلزام شرعي، فضلاً عن أن هذه الاجتهادات كانت استجابة لظروف زمانية ومكانية مختلفة عن ظروفنا الحالية، وأننا بحاجة إلى اجتهادات جديدة تراعي ظروفنا وتعالج مستجدات الأمور".
ورغم استدراك الدكتور جمال على ذلك، ورغم عرضه لما سماه "المرجعية الشرعية" بصورة اجتهادٍ منه في تنظير النظرة ثم العلاقة مع الآخر، إلا أنه يخلص في مبحثه الأخير (الثامن) إلى أنه "قد اتضح من الدراسة الحالية أنه لا تعارض بين الاتجاه الدولي والرؤية الإسلامية بل إنهما يتكاملان؛ إذ تقدم الرؤية الإسلامية الأساسَ النظريَّ والمبادئ العملية التي تشكل المادة التي تترجمها المواثيق الدولية إلى التزامات قانونية، وتنشئ لمراقبة تطبيقها الآليات الضرورية".
هكذا صارت الرؤية الإسلامية "المادة"، بينما المترجِم عنها هو القانون الدولي (المرجعية الدولية). ومن ثم: ما الداعي للتحدُّث بالمترجَم طالما سَهُل التحدث بالمترجِم عنه؟..."
هكذا تخلص دراسة أ. مدحت ماهر إلى أن "التأصيل على مستوى "التجديد في فهم الشريعة" لم يكن على مستوى واحد، وأنه يتراوح بين اتجاه متحفظ، وبين اتجاه منطلق مع فكره وآرائه التي يضعها موضع التقرير، بين اتجاه حريص على التدليل لتأصيله، وإن كنا لا نتفق مع بعض مفرداته سيما في تحفظات الشيخ القرضاوي على السُّنة بما تشبه قليلاً حالة الدكتور العلواني، وبين اتجاه آخر دليله فهمه، مع إغفال القواعد المنهجية الوسيطة بين المصدر وبين المفهوم عن هذا المصدر"((1).
__________
(1) مرجع سابق، ص 25.(1/35)
ويقرن أ. مدحت هذا النمط من التراوح بين ما أسماه اتجاه محافظ واتجاه أكثر تحررًا، بنمط العلاقة بين فقه الواقع وفقه النص كما أدركها أ. مدحت لدى كل من الأساتذة الفقهاء الأربعة. وذلك على ضوء فهمه هو لما يجب أن تكون عليه هذه العلاقة؛ فهو يقول(1) "أكاد أجزم أنه اتفق القدماء والمحدثون على ضرورة فقه الواقع جنبًا إلى جنب مع "فقه النص" سيما لمن عُني بالتطبيق.. إلا أن المطروح اليوم في "تجديد الفقه وأصوله" بعامة، وفي بناء أصول فقه الأقليات فيما يخص هذه الدراسة، هو تحديدًا "فقه النص بفقه الواقع". ولا ضير أن يحسّن الفقيه والمفتي فهمهما للنص بعد استيفاء "علوم الفهم"؛ من الرجوع لفهم السلف، وفهم قواعد علم الدلالة وعلوم العربية ومعهودات النصوص من معهود السُّنة ومعهود السلف وقضايا التعريفات والاصطلاحات والتطورات التاريخية للدلالات .. لا ضير -بل هو مطلوب- أن يُكمّل ذلك بفهم الواقع سيما عند تنزيل النص على معنيات الواقع. يقول الشيخ القرضاوي:
"ولا يستطيع هذا الاجتهاد المعاصر المرجوّ أن يؤدي مهمته، ويحقق غايته، ويؤتي ثمرته، إلا إذا ضم إلى فقه النصوص والأدلة: فقه الواقع المعيش، فالفقيه أشبه بالطبيب...". "ومن واجب هذا الفقه الواقعي، أو هذا الاجتهاد المعاصر: أن يعرف حقيقة الأقلية المسلمة التي يفتي لها".
__________
(1) المرجع السابق، ص 26- 27.(1/36)
هذا الطرح لا غُبار عليه سيما حين يميل إلى مخاطبة المفتي المجتهد في استخراج "حكم بفتوى أو فتوى بحكم"، ومثله القاضي والسياسي القائد، أما الفقيه (المجتهد لاستبناط الحكم النظري) فينبغي أن يشدَّد على فقهه للنص بأدواته، الأمر الذي سوف تتضح أهميته في تنظير "الأقليات" لموضوع المرأة، حيث نجد المتفقهة منهم لا يقفون موقفَ مَن يُفتي بحكم في واقعة، إنما ينطلقون في تقرير أحكام عامة هي من مستوى التجديد الفقهي الذي يعم وقائع وحالات عدة لا يمكن أن تقف على "فقه الواقع"، بل هي الأولى "بفقه النص" بأدواته وقواعده التي دوّنها علم أصول الفقه ولما يجدّد بعدُ في مادتها المجددون، إنما راحوا يقللون من شأن بعض المرجعيات ويحاولون تقييدها.
ففقه الواقع عند فضيلة الدكتور العلواني -حين دمجه مع قراءة الوحي باسم (الجمع بين القراءتين)- صار أصلاً مكافئًا لفقه النص، أصلاً في فهم النص وليس في توجيهه أو تحسين فهمه. فالدكتور العلواني يؤسس منهج البحث والاكتشاف على تقابل وتكامل كتابي الوحي المقروء والكون المتحرك، وذلك في معرض تأصيل فقهي أو كما سماه فضيلته "بناء أصول فقه أقليات"؛ ولأن "فقه الواقع" لا يقدم بذاته أدوات ضابطة فإن مآل دعوة الدكتور العلواني هي الجمع بين علوم الشريعة وبين ما يسمى بالعلوم الاجتماعية والإنسانية الحديثة ذات المصدر الأوربي أو الغربي (التي يعبرون عنها بأنها ذات مصدر إنساني):
"إن فقه الإقليات فقه نوعي يراعي ارتباط الحكم الشرعي بظروف الجماعة، وبالمكان الذي تعيش فيه، فهو فقه جماعة محصورة لها ظروف خاصة، قد يصلح لها ما لا يصلح لغيرها، ويحتاج متناوله –إضافة إلى العلم الشرعي- إلى ثقافة واطّلاع في بعض العلوم الاجتماعية، خصوصًا علم الاجتماع والاقتصاد والعلوم السياسية والعلاقات الدولية".(1/37)
والخلاصة عند أ. مدحت أن فقهاء الأقليات يؤصلون لفقه أقليات جديد بأصول فهم للنص تتراوح بين الانتقاء من الأصول القديمة، وبين إنشاء أصول جديدة إنما هي راجعة إلى مقولة فهم أو فقه الواقع، التي تستدر قواعدها من الثقافة المسوّدة عالميًا، والتي تنقلها وسائل التعليم والإعلام الحديثة وتشيعها مضامين ورؤى ومنهجيات العلوم الاجتماعية المعاصرة، وأغلبها مصدره -كما قال القدماء- آراء الرجال وعقولهم، بغير اشتراط هدًى ولا كتابٍ منير.
وهكذا –وبعد أن يغوص أ. مدحت في تفاصيل المقارنة –في المضمون- يعود في نهاية دراسته ليختمها بعبارة تلخص موقفه من قضية العلاقة بين فقه النص وفقه الواقع، التي ترواحت أنماطها على نحو أنتج مواقف فقهية جديدة مقارنة بالتراث الفقهي القديم في موضوع الأقليات. وهذه المقولة هي(1):
"وأخيرًا، فثمة مهام ضرورية في الطريق: فإذا كان القدماء قد أصّلوا لفقه النص بما نضج حتى احترق، فإن المجدّدين والمجتهدين المعاصرين، في موضوع الأقليات المسلمة وفي موضوع المرأة، بل ربما في كل مجالات الحياة الإسلامية، منوط بهم أن يضعوا أصول فقه للواقع وضبطه، وألا يكلوا الأمر إلى دعوة بالاستعانة بالعلوم الحديثة، فإن السؤال الأكثر جدوى –في تصور الباحث- والذي لا تجيب عنه العلوم الإنسانية الحديثة هو:
ماذا يقدم النص الشرعي من ضوابط في عملية إدراك الواقع وتوصيفه والبناء عليه في عمليات التجديد الراهنة حتى يكون إدراك الواقع شرعيًا على مراد الله تعالى؟!
__________
(1) المرجع السابق، ص 52- 53.(1/38)
إن العرض المقارن السابق –ليس غاية في حد ذاته بقدر ما هو وسيلة للتهميد لفهم خصائص مواقف مدرسة فقه الأقليات من ناحية ولفهم مساحة الاختلافات بين اتجاهاتها حول أمور أربعة أساسية هي من صميم "الأصول السياسية" الكبرى للفقه السياسي للأقليات المسلمة في أوروبا –والغرب بصفة عامة، وهذا هو موضوع المحور الثاني من هذه الجزئية، وقبل الانتقال إليها يجدر التوقف عند بعض الملاحظات المنهاجية التي أثارتها أطروحات أ. مدحت، وعلى ضوء قراءتي أيضًا –بصفتي أستاذ علاقات دولية- لبعض النصوص التي أشار إليها من تأليف كل من د. القرضاوي، ود. النجار، ود. العلواني بصفة خاصة؛ فبالرغم من عدم التخصص في العلم الشرعي إلا أن الأمر لا يمنع من تقديم التعليقات التالية حول محك الاختلاف بين الفقه القديم والفقه الحديث هو "فقه الواقع"، ولكن يجدر الانتباه إلى أن الفقه القديم الموروث قد تطور بدوره عبر القرون مع تطور حالات التواجد بين مسلمين وغير مسلمين سواء في ظل وضع أقلية عددية (التواجد للضرورة في غير ديار الإسلام) أو في وضع أقلية عددية من حيث القوة والغلبة بعد تغلب غير المسلمين على ديار إسلام (الأندلس والبلقان) أو في وضع أكثرية عددية ولكن أقلية من حيث القوة والغلبة (الاستعمار الأوروبي للدول إسلامية)، كل هذه الحالات (بل ابتداء من الهجرة في فترة الرسول صلى الله عليه وسلم) تعرض لها الفقه باجتهادات متنوعة لبيان حالات الضرورة أو الاختيار (كما سبق التوضيح).(1/39)
وبالمثل ألم يتغير أيضًا فقه "أهل الذمة مع التغير في أحوال المسلمين عبر أكثر من قرنين. ولذا فإن طرح د. جمال عطية –وهو عن الأقليات بصفة عامة (وفيها غير المسلمين في ديار الإسلام) إنما جاء على النحو الذي يتحرى عدم الوقوع في "المعايير المزدوجة"؛ بحيث إن ما يصدق على مسلمي أوروبا من قواعد ومبادئ وأسس يمكن أن يصدق أيضًا على رؤيتنا وفقهنا عن العلاقة مع غير المسلم في ديار الإسلام. ولكن السؤال الذي يجب أن يظل في الذهن: كيف ندرك درجة الضرورة التي يفرضها الواقع وكيف نحددها على النحو الذي لا ينال من الثوابت ويسمح في نفس الوقت بالاستجابة للمتغيرات؟ فلا يمكن أن نظل ندرك وضع استضعاف أقلية المسلمين في أوروبا، في نفس الوقت الذي توجد فيه "الدول الإسلامية أيضًا في حالة من الاستضعاف والهوان، بنفس منظار ووفق نفس قواعد وأصول ومنطلقات النظر إلى وضع استضعاف المسلمين بصفتهم أقلية، ولكن في نفس الوقت الذي كانت فيه ديار الإسلام في قوة وعزة ومنعة وحضارة وكانت تمثل مركز القوة العالمية وتشكل تفاعلاتها، ففي تلك الحالة مقارنةً بالحالة الراهنة لابد أن يختلف معنى "الضرورة" أو "الاختيار الإرادي" من عدمه للتواجد في غير ديار الإسلام.
بعبارة أخرى: إن التغير في خصائص الواقع –وخاصة من حيث ميزان القوة بين المسلمين (دولاً وأقليات) وغيرهم- لابد أن يصحبه تغير في الرؤية للواقع والرؤية للعالم تشخيصًا وتكييفًا وتقويمًا. وبالتالي؛ فإن محاكمة فقه الأقليات الجديد بقدر مخالفته للفقه القديم يحتاج لضوابط.(1/40)
ومن ناحية أخرى: ما الفارق بين القرضاوي وعلواني –من حيث الخبرة الحياتية- ألا يفترض أن للعيش في الغرب أثره، ومن ثم؛ فإن عيش العلواني في الغرب واختبار تحدياته بطريقة مباشرة لابد أن يحمل جديدًا في الفقه والرؤية مقارنة بالقرضاوي الذي لم يمر بنفس خبرة التعايش المباشرة. حقيقة د. القرضاوي أعطى مساحة كبيرة –كما سبق الإشارة- إلى ضرورات الواقع، ولكن أرجع التعرف إليها إلى أصحاب الخبرة فيه، في حين أن العلواني لم يرَ أن اللجوء إلى علماء الاجتماع –من قبيل الاستكمال- ولكن على قدم المساواة مع علماء الشرع؛ ومن هنا جاءت فكرته عن القراءتين: النص والواقع على قدم المساواة وليس أحدهما بالآخر.
ومن ناحية ثالثة: واستمرارًا للحديث عن العلاقة بين العلوم الشرعية والاجتماعية عند تأسيس فقه الأقليات –فهل هي علاقة جسر بين طرفين أم علاقة طريق ذي اتجاهين أم علاقة تعاضد وتعاون كاملين على نفس الطريق عبورًا للجسر بين الجانبين، وعلى نحو يفرز جديدًا، وليس مجرد منتج للفقيه "الشرعي" وآخر "للمتفقه" في الواقع من رؤية منتسبة للإسلام.
إن القول بدور النص في فقه الواقع لا يسمح بدور لأمثالي من متخصصي العلوم الاجتماعية الذين يقرأون في "الشرعي" ولا يملكون ناصيته، كما أن الأخذ بأن "فقه النص بفقه الواقع" قد يصعِّب من مهمة الفقيه بعلوم النص وأصوله؛ حيث وإن كان من المطلوب أن يكمل فهمه بفهم الواقع، إلا أن تعقد الواقع وتشابك خريطة مكوناته (وخاصة في ظل التداخلات بين الخارجي والداخلي وكذلك فيما بين الأبعاد المختلفة للواقع الواحد) قد يجعل من الصعب عليه الإلمام "بصورة متكاملة للواقع".
[(1/41)
إلا أن يتم توزيع المهام في إطار تكافل الفقه والفكر: بين من يمتلك رؤية إسلامية كلية ورؤية واقعية عريضة وبالتالي يمكنه ويسند إليه مهام رسم خرائط الواقع من منطلقات إسلامية ورسم سيناريوهات الإمكان الواقعي الأكثر احتمالا، وبين من يمتلك معلومات تفصيلية ويتتبع وقائع جزئية عملية وبالتالي يمكنه ويوكل إليه مهمة ملء الخرائط الواقعية وتحميل السيناريوهات بالأحكام والتوجيهات الشرعية، مع ضرورة الجمع بين الخيرين، وأولوية ذلك].
ومن ثم ففي ظل هذا الوضع الحالي من الثنائيات –الذي يظهر جليًا في فقه الأقليات، كما يظهر أيضًا جليًا في فقه شئون المسلمين في كل مكان في ديار الإسلام وغيرها، في ظل هذا الوضع؛ فإن الأمل يكمن في الآتي: التمييز بين حالات الفتوى، القضاء، الحكم التي تستلزم دور النص في فقه الواقع، وبين حالات التنظير وتقدير الرؤى الكلية التي تستلزم فقه النص بفقه الواقع أو على الأقل فقه النص مكافئًا لفقه الواقع بحيث يصبح الأخير أصلاً في فهم النص وليس في توجيهه أو تحسين فهمه. وبذا يمكن التمييز بين ثلاث مجموعات من الثنائيات:
- اجتهاد (جزئي) ... - تجديد (كلي)
- فتوى (فرد) ... - حكم (جماعة)
- فقه واقع (ابتداء) ... - فقه نص (ابتداء)
وبالنظر رأسيًا –نستطيع أن نكوّن عامودين كل منهما يتكون من ثلاث مفردات ويعبر عن مستوى من مستويين لإشكالية "العلاقة بين النص والواقع" وبين "الاجتهاد والتجديد".
الأول- اجتهاد (جزئي)، فتوى (فرد)، فقه واقع (ابتداء) = فقه النص بفقه الواقع.
والثاني- تجديد (كلي)، حكم عام (جماعة)، فقه نص (ابتداء) = دور النص في فقه الواقع.(1/42)
وإذا كانت هاتان المجموعتان (العامودان) تنبنيان على النظر للشريعة باعتبارها أحكامًا بالأساس، إلا أن للشريعة مستوى آخر هو القيم والمبادئ والأسس التي تكون رؤية منتسبة للإسلام، وهذا يفسح المجال لمجموعة ثالثة لا تقدم فتوى محددة أو تخلص إلى حكم عام ولكنها تقدم رؤية إسلامية للواقع أي فقه واقع من منظور إسلامي، تمييزًا لها عن العلوم الاجتماعية والإنسانية الحديثة التي تتعامل مع الواقع –ولكن من منظورات غربية (مادية وعلمانية أساسًا).
ولذا؛ فإن الأمر يتطلب النظر في مسار ثالث يتلخص في الآتي: ليس المناط هو حديث عن العلاقة بين العلوم الشرعية والعلوم الاجتماعية والإنسانية؛ لأن الأخيرة هي علوم حديثة ذات مصادر مرجعية أخرى، ولذا فالمطلوب هو فقه للواقع من منظور إسلامي؛ أي منظور إسلامي للعلوم الاجتماعية ينطلق من مرجعية مغايرة. وهذا المنظور الإسلامي (قيمي) بقدر ما ينبني على الأحكام –الخاصة بالظاهرة محل الاهتمام- فهو ينبي أيضًا على القيم والسنن والمقاصد بوصفها مدخلا منهاجيًّا وإطارًا مرجعيًّا. وعلى نحو يفسح المجال لمساهمة عالم الاجتماعيات والإنسانيات (من منظور إسلامي)، وإن كان غير المتمكن من ناحية العلوم الشرعية وغير القادر على الولوج في الأدلة الشرعية بنفس قدرة المتخصص. إذن المقصود بانضباط فهم الواقع بفهم النص لا يقتصر على فهم الأحكام وأدلتها –أي الفقه الشرعي وأصوله فقط.
ولكن يمكن أن ينضبط الواقع برؤية إسلامية تنطلق من القيم والسنن والمقاصد، وبدون هذا المسار لن يصبح فقه الواقع ممكنًا إلا على الشرعي؛ فهل يجب أن نكون جميعنا شرعيين أم يمكن أن يكون لنا أدلتنا الأخرى من فقه الواقع المنضبط بالمعنى الواسع –ليس بفقه النص- ولكن بفقه الشريعة؟(1/43)
إذن هناك فارق بين منهج النظر ومنهج التدبر من ناحية، وبين منهج الفتوى والحكم من ناحية أخرى. ومن هنا مغزى تقسيم هذه الدراسة إلى جزءين: أحدهما– وهو الذي نتحدث على صعيده الآن- خاص بالفقهاء ذوي الصلة بالعلم الشرعي، والثاني خاص بأصحاب فقه الواقع –من رؤى منتسبة للإسلام- وغيرها.
ومن ناحية رابعة: وبالنظر أيضًا إلى مؤتمر جامع –في نفس الموضوع (فقه الأقليات- شارك فيه شرعيون ومتخصصو علوم اجتماعية، وتعاون في تنظيمه المعهد العالمي للفكر الإسلامي، وجمعية علماء الاجتماع المسلمين في المملكة المتحدة يمكن نرصد بعض الأمور المنهاجية المهمة التي وجهت النظر إليها بحوث هذا المؤتمر(1)، والتي تثير أيضًا قضية العلاقة بين الواقع وبين الشريعة (أحكامًا ومنهجًا) فيما يتصل بفقه الأقليات المسلمة الراهن.
المحور الثاني- طبيعة (حال) فقه واقع الأقليات: إطار مقارن للقراءة
سبقت الإشارة إلى أن المحور الأول ليس إلا بمثابة التمهيد المنهاجي لفهم خصائص مواقف مدرسة فقه الأقليات من ناحية ولفهم مساحة الاختلافات –من ناحية أخرى- بين اتجاهاتها حول أمور هي من صميم "الأصول السياسية الكبرى للفقه السياسي للأقليات المسلمة في أوروبا-والغرب بصفة عامة"، وإذا كان المحور الأول قد تناول البعد المنهاجي في إسهام هذه الاتجاهات، فلابد أن نستكمل معرفة كيف تؤثر المنهاجية على طبيعة مخرجات هذه المدرسة، فمهما كانت التقويمات لتنوع الاقتراب من إشكالية "العلاقة بين الواقع والنص"، فيبقى أن نعرف كيف شخصوا وفسروا وقوَّموا الواقع وكيف قدروا ما يفرضه من ضرورات؟ وكيف انعكس ذلك على فقه القضايا الكبرى؟
والمقصود بهذه القضايا ما يلي:
__________
(1) Fiqh Today: Muslims as minorities: 5th annual (UK) conference 21- 22, February 2004, University of Westminster, London, Organized by (IIIT) The Muslim college, Q news Media, (Conference Booklet).(1/44)
أولاً- تأصيل مآل وجود المسلم وغايته (مؤقت أم مستمر ودائم وتأصيل سبب هذا الوجود (ضرورة أم اختيار)، ثانيًا- تأصيل دوافع الحاجة لفقه جديد للأقليات (التحديات) وتأصيل دوافع ومبررات استمرار هذا الوجود (الفرص)، ثالثًا وأخيرًا نمط هذا الوجود (تفاعل، تعايش، عيش معًا) وضوابط تحققه وترجمته قانونًا (مواطنة.. ولاء مزدوج..؟).
وجميعها تتصل بالرؤية الكلية لوضع "الجماعة" وليس الفرد.
وإذا كانت القضية الأولى برافديها تجيب عن السؤال: هل يمكن أن يعيش المسلمون في غير ديار الإسلام بصورة دائمة؟ وما أسباب هذه الإقامة الدائمة؟ فإن القضية الثانية (برافديها أيضًا) تنبع إما من التحديات التي تفرضها خصائص البيئة الغربية والتي تدفع للسؤال: لماذا جواز الإقامة أو وجوبها؟ (وهذا هو الحال الطارد لهذه البيئة؛ ومن ثم أين "فقه الأقليات" الذي يتعامل معها؟) أو تنبع من "الفرص" التي تستوجب ضرورة تحمل هذه التحديات والتعامل معها وعدم الرجوع إلى ديار الإسلام (إذا كان ذلك ممكنًا)؟
ومن الجدير بالذكر أن هذا التصنيف للقضايا على النحو المشار إليه عاليًا، لم تنصّ عليه أدبيات مدرسة فقه الأقليات (الشرعية) أو غيرها من أدبيات الاجتماع السياسي (التي سترد في الجزء الثاني من الدراسة)، ولكنه يمثل الإطار المقارن الذي صممته الباحثة على ضوء القراءة المقارنة الممتدة في أدبيات متنوعة تم الاستعانة بها في هذه الدراسة. علمًا بأنه جاء مضمون كل قضية في هذه الأدبيات تحت عناوين أخرى. من قبيل: أهداف وخصائص ومصادر فقه الأقليات المسلمة، ركائز فقه الأقليات، المشكلات الفقهية...، وبالرغم من تعدد الأدبيات في هذا المجال(1)؛
__________
(1) انظر على سبيل المثال:
- ... المرجع السابق الذي يتضمن دراسات لعلماء ولخبراء في هذا المجال بكل أبعاده بصفة عامة وتلك التي تناولت دراستنا بعضها.
- ... انظر أيضًا: الشيخ فيصل والمولدي: المفاهيم الأساسية للدعوة والإسلامية في بلاد الغرب
www. Islam-online.net.
- عبد الله بن بيه: وماذا عن فقه الأقليات المسلمة؟ في
www. Alarabiya. Net/ article (1/6/2006).
- انظر: أيضًا اتجاهات مضادًا يمثله – د. محمد سعيد رمضان البوطي- يرفض "فقه الأقليات باعتباره "كسوة إسلامية مناسبة للإسلام الذي يتنافى اليوم في الغرب بشطرية الأوروبي والأمريكي، دون الإسلام الآمخر المنتشر في الأوطان الإسلامية عامة انظر: كلمة محمد سعيد رمضان البوطي: ليس صدفة تلاقي الدعوة إلى فقه الأقليات مع الخطة الرامية إلى تجزئة الإسلام.
www. Bouti. Com/ bouti_monthly 15. htm.(1/45)
فلقد اقتصرت الدراسة على القراءة المقارنة في بعض ما قدمه ثلاثة فقط من مؤسسي فقه الأقليات.
ومن واقع القراءة المقارنة لنصوص لكل من القرضاوي، النجار، العلواني(1)، يمكن القول إجمالاً إن المشترك في أبعاد رؤيتهم عن القضايا المشار إليها عاليًا يمكن إيجازه فيما يلي:
- هم يتحدثون عن وجوب الإقامة والاستمرار في أوروبا؛ فهي ضرورة واختيار، وأن التحديات جسام تفرض التيسير والمراعاة للظروف، كما أن الفرص توجب الاستمرار لما يتحقق من ورائها من مقاصد. والإقامة تكون في ظل نمط من التفاعل الحضاري والتعايش وليس الانغلاق أو الصراع، والتواجد للمسلمين من زاوية كونهم جماعة ذات هوية، ويمكن أن يأخذ شكل "الولاء المزدوج أو المواطنة". وفيما يلي قدر من التفصيل الذي يبين بالرغم من هذه القسمات المشتركة مناط الاختلافات حول قضايا الإطار المقارن الثلاثة السابق تحديدها.
__________
(1) د. يوسف القرضاوي: مرجع سابق.
- د. طه جابر العلواني: نظرات تأسيسية لفقه الأقليات (سلسلة من 7 مقالات): تحديد المفاهيم، الاجتهاد وتجاوز الفقه الموروث، نحو أصول الفقه الأقليات، الأسئلة الكبرى في فقه الأقليات، فقه الأقليات والقيم الإسلامية قواعد عامة، دروس من الهجرة إلى الحبشة، خلاصة منهجية (في):
www. Islamonline.net/ Arabic/contemporary politics/2001/article.
(انظر أيضًًا:
Taha Gabir- AL-Alwani Towards Fiqh for minorities, Some basic Reflexions, occasional papers Series No. 10, (IIIT) London- Washington 2003.
- د. عبد المجيد النجار: نحو تأصيل فقهي للأقليات المسلمة في الغرب موقع إسلام أون لاين 14\1\2004.(1/46)
1) وكما يرى البعض(1)؛ فإن الفقهاء المحدثين قد بنوا هذا الفقه للأقليات المسلمة على أسس عقدية وتشريعية مختلفة كثيرًا عما اعتمد عليه الفقهاء القدماء، مما أنتج فقهًا حديثًا مختلفًا بالضرورة؛ حيث إنه وفقًا لقسمة قدماء الفقهاء للمخلوقين إلى مؤمن وكافر، ونظرًا لرؤيتهم أنه مع طبيعة الإيمان ومقتضياته وطبيعة الكفر ومقتضياته يستعصي كل منهما على معايشة الآخر دون تدافع وتغالب واصطراع حتى يقهر أحدهما الآخر، نظرًا لهذا (وغيره) "لم تكن (وفق هذا التحليل) مسألة إقامة المسلم الاختيارية في غير ديار الإسلام مطروحة".
".... وهذا هو مكمن اختلاف جوهري بين أولئك القدماء، وبين المحدثين من دعاة فقه جديد للأقليات المسلمة في الغرب. فالفقهاء والمتفقهة الجدد يكادون يجمعون –في مقدمات تأصيلاتهم- على أنه ليس فقه ضرورة أو نوازل أو فقه مرحلة مؤقتة، إنما يؤصلون وصوب أعينهم غاية التمكين لاستمرار الوجود المسلم في بلاد الغرب مع استبعاد مسائل تقسيم الخليقة إلى مؤمن وكافر ثم تقسيم المعمورة إلى دار سلم ودار حرب، ثم استبعاد أفكار الهجرة، والجهاد الدائم الماضي بالمعنى الخاص (القتال)، بل يمتدون –في تجديدهم- لمناقشة قضايا الولاء الوطني والمواطنة السياسية والجنسية والتواؤم (لا الذوبان في أغلبهم) الاجتماعي، وطرح مفاهيم الأسرة الإنسانية، والقيم المشتركة والتواد الإنساني، الأمر الذي تعالت رنتّه مع بزوغ حزمة مفاهيم تعارف الحضارات وحوارها وتعايشها وتزاوجها وما إلى ذلك.
__________
(1) مدحت ماهر: مرجع سابق، ص 9- 10.(1/47)
إذن الحقيقة التي نصل إليها –في هذا الأمر الأول- أن "فقه الأقليات" المعاصر ليس جديدًا في موضوع اهتمامه، ولكنه مختلف اختلافًا كثيرًا في أصوله ومنطلقاته، بما يحمله من نظرة مباينة تمامًا لنظرة القدماء إلى "العالم" ودياره، ولطبيعة الإيمان والكفر (بين الاقتضاء الضروري للصراع حتى القتال، وبين عدم الاقتضاء الضروري لذلك)، وبين إبراز مسألة التحاكم للشريعة وبين إغفالها، وبين أصل الإقامة: من حرمتها إلا لضرورة، ومن ضرورة الإقامة –كما يقول كثير من المعاصرين- لمصالح عدة، وبما يحمله هذا التجديد من أصول تشريعية مختلفة في الاجتهاد لهذه الأقليات".
2) واستكمالاً على هذه المقارنة التي قدمها التحليل السابق، نسترجع بعض ما سبق ذكره من ملاحظات عن ضوابط فقه الواقع مقارنة بفقه النص، وكيف يجب أن تقود إلى التمييز بين درجات من الفقه الجديد ومستويات له تتباين من حيث (الجزئية- الكلية)، فإن ما سبق يمكن دعمه واستكماله بالانتقال إلى دوافع ومبررات الحاجة لفقه جديد لوضع الأقليات المسلمة لدى الفقهاء المحدثين (من التحديات للفرص).
فنجد أن د. القرضاوي(1) وهو يتناول القواعد الفقهية الكلية التي يجب مراعاتها عند الاجتهاد في شئون الأقليات قد أتى في معظمها على قواعد تتعلق بالضرورات والضرر والمفاسد والمشاق والضيق، وهو الأمر الذي يعني مدى إدراكه حاجة فقه الأقليات إلى التيسير ومراعاة حالات الحرج والمشقة والضرورة، على أساس أن المسلم في المجتمع غير المسلم يكون أضعف من أخيه في مجتمع مسلم؛ مما يلزم معه احتياجه للتخفيف والتيسير عليه أكثر من غيره.
__________
(1) د. يوسف القرضاوي: مرجع سابق، ص 42- 43.(1/48)
أما الدكتور النجار(1)، فهو يقع في موقع وسط من القرضاوي والعلواني على هذا الصعيد، ذلك لأن د. النجار يبدأ من وضع المغلوبية الحضارية لأمم أخرى والذي يتسم به وضع الأمة الإسلامية الراهن والذي ينعكس بدوره على ضرورة مراعاة خصوصية الوضع الذي يعيشه المسلمون بالبلاد الأوروبية، ورؤيته عن التحديات لا تنفصل عن رؤيته عن الفرص بل وعن نمط الوجود المسلم، وهو يجمع بين هذه العناصر الثلاثة للإطار المقارن لقراءتي تحت عنوان "المبادئ الموجهة لتأصيل فقه الأقليات"؛ وهي خمسة مبادئ.
ويتضمن المبدأ الثاني منها -والذي يأتي تحت عنوان "مراعاة خصوصية وضع الأقلية"- ثلاثة بنود: أولها- خصوصية الضعف، وأنواع الضعف لديه هي: ضعف نفسي ناجم عن الشعور بالغربة الثقافية والاجتماعية، والشعور بالدونية الحضارية أو المغلوبية الحضارية من جراء الانتقال من مناخ حضاري متخلف إلى آخر باهر التقدم، والضعف الاقتصادي والسياسي والاجتماعي.
والبند الثاني- هو خصوصية الإلزام القانوني، وفيه يقول النجار:
__________
(1) د. عبد المجيد النجار: مرجع سابق، ص12- 15.(1/49)
"والقانون في هذه البلاد مبني على ثقافة المجتمع ومبادئه وقيمه، وهو منظم للحياة العامة على أساس تلك الثقافة والمبادئ والقيم، ويطبق هذا القانون على الأقلية المسلمة كما يُطبق على سائر أفراد المجتمع من مواطنين ومقيمين، وهو تطبيق يمتد من أحوال الفرد إلى أحوال الأسرة إلى أحوال المجتمع بأكمله في قدر كبير من الصرامة النظرية والفعلية، بحيث يكاد لا يترك استثناء لخصوصية فرد أو مجموعة تمارس فيها تلك الخصوصية خارج سلطان القانون،.... . في هذا الوضع تجد الأقلية المسلمة نفسها ملزمة بالخضوع للقانون، وتطبيقه في حياتها حيثما يكون له تدخل في تلك الحياة، وخاصة ما كان يتعلق بالعلاقات العامة بين الأفراد والجماعات، أو بينهم وبين الدولة، والحال أن تلك القوانين كثير منها يخالف المبادئ الدينية والثقافية التي تكون هويتها، وتشكل التزامها العقدي، وهكذا ينتهي الأمر إلى سيادة قانونية على حياة الأقلية معارضة في كثير من الأحيان لقوانين هويتها، فإذا هي ملزمة بالخضوع لتلك القوانين،..."(1).
والبند الثالث – هو خصوصية الضغط الثقافي، يقول فيه:
" تعيش الأقليات المسلمة في مناخ مجتمع ذي ثقافة مخالفة لثقافتها في الكثير من أوجه الحياة، وهي تجد نفسها في مواجهة مباشرة مع تلك الثقافة في كل حين وفي كل حال، فمن الإعلام، إلى التعليم، إلى العلاقات الاجتماعية، إلى المعاملات الاجتماعية، إلى المعاملات الاقتصادية والإدارية، إلى المناخ العام في الشارع من عادات وتقاليد وتصرفات فردية واجتماعية، بحيث تطغى تلك الثقافة على أحوال المسلم أينما حل، بل تطغى عليه حتى داخل بيته. ...
__________
(1) د. عبد المجيد النجار: نحو تأصيل فقهي للأقليات المسلمة في الغرب، التأصيل لفقه الأقليات.. ضرورته وموجهاته 14/01/2004 ، إسلام أون لاين نت: الإسلام وقضايا العصر.
http://www.islamonline.net/Arabic/contemporary/2004/01/article02d.shtml(1/50)
إن هذه الثقافة المغايرة التي تتعرض لها الأقلية المسلمة في بلاد الغرب بوجوهها المختلفة، وبوسائلها الجذابة المغرية، وبطرق إنفاذها المتقنة، تسلط ضغطا هائلا عليها، وبصورة خاصة على أجيالها الناشئة، وهذا الضغط يصطدم بالموروث الثقافي الذي تحمله هذه الأقلية إن بصفة ظاهرة معبرة عن نفسها أو بصفة مضمرة مختزنة، وفي كل الصور يحصل من ذلك تدافع بين الثقافتين، وينتهي هذا التدافع في الغالب إما إلى الانسلاخ من الثقافة الأصل والذوبان في الثقافة المغايرة، أو إلى التقوقع والانزواء اعتصاما بذلك من الابتلاع الثقافي، أو إلى رد الفعل العنيف على هذه السطوة الثقافية يجد له تعبيرات مختلفة من جيل الشباب على وجه الخصوص.
ومهما يكن من رد فعل على هذه السطوة الثقافية فإنها تُحدث في نفوس الأقلية المسلمة -وبالأخص في نفوس الشباب منها- ضربا من الاضطراب والقلق في الضمير الفردي والجماعي على حد سواء، وهو ما يصبغ الحياة العامة للأقلية بصبغة التأرجح التي ينتفي معها وضع الاستقرار النفسي والجماعي، فلا هذه الأقلية اندمجت في جسم المجتمع الذي تعيش فيه حتى صارت خيوطا من نسيجه، ولا هي كونت هيكلا متجانسا يتفاعل مع المجتمع من منطلق تلك الهيكلية المتماسكة فيما بينها كما هو شأن الأقليات في بعض البلاد الآسيوية مثل الهند، وهو وضع يكتسب من معنى الخصوصية ما ينبغي أخذه بعين الاعتبار في التأصيل الفقهي(1).
__________
(1) المرجع السابق.(1/51)
أما الدكتور العلواني(1): فلقد اقترن اتجاهه الكبير لتجديد أصول الفقه –كما سبق التوضيح- باعتراف واضح بمدى التغير الذي أصاب واقع الأمة برمتها برافديها من الدول والأقليات؛ وهو الأمر الذي يحتاج فقها جديدا مستقلا للأقليات، وليس مجرد اجتهاد من داخل الفقه العام؛ فهو يقول: "فقه الأقليات فقه نوعي يراعي ارتباط الحكم الشرعي بظروف الجماعة وبالمكان الذي تعيش فيه، فهو فقه جماعة محصورة لها ظروف خاصة، يصلح لها ما لا يصلح لغيرها، ويحتاج متناوله إلى ثقافة في بعض العلوم الاجتماعية، خصوصًا علم الاجتماع والاقتصاد والعلوم السياسية والعلوم الدولية".
كما يقول د.علواني إنه ليس "فقه جزئيات" يرد على أسئلة جزئية بل يجب معالجته "في ضوء رؤية شاملة تستصحب القواعد الشرعية الكلية، والمبادئ القرآنية الضابطة، وتراعي غايات الإسلام في الانتشار والتمكين على المدى البعيد.."، فإن الفقيه الواعي بعالمية الإسلام وشهادة أمته على الناس، وبالتداخل في الحياة الدولية المعاصرة (يجب أن ينتقل بالأسئلة) من منطق الرفض السلبي إلى منطق الوجوب والإيجابية انسجامًا مع ما يعرفه من كليات الشرع وخصائص الأمة والرسالة.
بعبارة أخرى، يدعو د. العلواني إلى "نظرة جديدة كلية تتجاوز القضايا التقليدية ذات الطابع الفردي.. إلى قضايا أكبر دلالة وأعمق أثرًا ذات صلة بالهوية الإسلامية ورسالة المسلم في وطنه الجديد وصلته بأمته الإسلامية ومستقبل الإسلام وراء حدوده الحالية...".
__________
(1) د. طه العلوامي نظرات تأسيسية.. (2) (ضرورة الاجتهاد وتجاوز الفقه).(1/52)
واستنادًا إلى هذا المنطلق عن أهداف الفقه الجديد ودوافعه؛ فإن د.العلواني يرفض المنطق التقليدي في تحديد دوافع هذا الفقه ومبرراته؛ ألا وهو منطق "الضعف والنوازل والضرورات" على اعتبار أنه منطق هشٌّ لا يتسع لأمور ذات بال ... بل قد يوقع في فوضى الإفتاء... مما يوقع المسلمين في البلبلة والاضطراب وتحجيم دورهم المرتقب والحكم عليهم بالعزلة والاغتراب وفرض التخلف عليهم وإظهار الإسلام بمظهر العاجز عن مواجهة أسئلة الحضارة والعمران المستنير في زمننا هذا".
بعبارة جامعة: من الملاحظ أن الفروق بين الاتجاهات الثلاثة من حيث المنهج (فقه مستقل أم جزء من الفقه له خصوصية) قد انعكس في الاختلاف من حيث تقويم درجة التغير في الواقع، ودرجة ما تتطلبه من فقه جديد (جزئي/ كلي)، وعلى نحو يعني اتخاذ موقف صريح من المقصود بمعنى الفقه: هل الفقه "الشرعي" أم الفقه الأكبر؟(1/53)
كما يعني أيضًا اتخاذ موقف ضمني من العلاقة بين رافدي الأمة؛ أي الدول والأقليات؛ حيث إن د.القرضاوي يبدو أكثر حرصًا على القواسم المشتركة، فهو يقول في مقدمة كتابه (في فقه الأقليات المسلمة: حياة المسلمين وسط الجتمعات الأخرى)(1): "فلا غرابة أن تشكو الأقليات الإسلامية في بلاد الغرب ونحوها مما تشكو منه الأكثريات الإسلامية في بلاد الإسلام ذاتها.. ولكن حديثنا يتركز حول المشكلات التي تختص بها الأقليات المسلمة لظروفها الخاصة، أو أنها تكون عندها أكثر حدة، وأعظم إلحاحًا منها في الديار الإسلامية..."، كما قال في موضع آخر: "إن الأقليات المسلمة هي جزء من الأمة الإسلامية من ناحية.. وهم من ناحية أخرى –جزء من مجتمعهم الذين يعيشون فيه وينتمون إليه. فلا بد من مراعاة هذين الجانبين، بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر ولا نضخم أحدهما على حساب الآخر". في حين أن د. طه بدا أكثر اهتماما نحو "الوطن الجديد للمسلم" بل مستقبل الإسلام وراء حدوده الحالية، وأن ذلك يكون في ظل الصلة مع الأمة.
وتعبر رؤية د. طه العلواني عن أقصى درجات التبرير للوجود المسلم، كما يتضح لنا من رؤيته في البند بعد التالي عن نمط وجود المسلم في الغرب.
3) وعن دوافع ومبررات الحاجة للاستمرار في الغرب (الفرص الكامنة في البيئة الغربية)، فهي التي تجعل من الوجود المسلم ضرورة، بالمعنى الإيجابي وليس السلبي الذي قدمه الفقه الموروث وهو يبرز تأقيت الوجود.
__________
(1) القرضاوي، ، ص5.(1/54)
وفي هذا يرى القرضاوي(1) أن ضرورة الوجود الإسلامي في الغرب ترجع إلى عدة اعتبارات: لطبيعة الرسالة العالمية للإسلام، وللمحافظة على المسلمين ودعمهم معنويا وماديا، ولنشر الدعوة الإسلامية، ولأنه لا يجوز ترك الغرب القوي المؤثر للنفوذ اليهودي وحده. ولذا يرفض القرضاوي السؤال عن جواز إقامة المسلم في بلد غير مسلم، وحيث إن عبرة التاريخ تثبت أهمية تحرك المسلمين إلى غير ديار الإسلام وهجرتهم إليها، كما ينطلق على ضوء هذه الضرورة لتحديد أهداف الفقه المنشود للأقليات؛ وهي تتراوح ما بين خدمة الفرد والأسرة والجماعة، فيما بينها، وعلى مستوى خدمة العبادات والعقيدة وحماية الشخصية والهوية الإسلامية، ناهيك عن المعاونة على المرونة والانفتاح المنضبط حتى لا نكمش وتتقوقع.. وتنعزل، بل تتفاعل تفاعلا إيجابيا. إذن هذا الفقه يساعد في أداء الواجبات والحفاظ على الحقوق.
أما د. النجار(2) فإن تناوله للفرص والمزايا للوجود المسلم في الغرب لم يكن بنفس قدر وضوح تناوله للتحديات كما عرضها، بل كانت الفرص لديه جزئية ومندمجة مع الضرورات النابعة من تأصيله لهذه التحديات أساسا، ومندمجة أيضا مع ضوابط نمط الوجود من ناحية أخرى. ولهذا نجده يتحدث عن هذه الفرص في بند يقع بين عدة بنود لخص بها د. النجار ما أسماه خصوصيات وجود الأقلية التي يجب أخذها بعين الاعتبار في التأصيل لفقه الأقليات، وباعتبار مراعاة هذه الخصوصية هي المبدأ الثاني من المبادئ الموجهة لتأصيل فقه الأقليات؛ وهذا البند هو خصوصية التبليغ الحضاري (بعد ثلاثة بنود سبقت الإشارة إليها: الضعف الحضاري، الضغط الثقافي، الإلزام القانوني). وفي هذا الأمر يقول د. النجار:
__________
(1) د. القرضاوي: مرجع سابق، ص 5، ص32.
(2) النجار، مرجع سابق.(1/55)
"مهما يكن من وضع الأقلية المسلمة بالغرب من قوة أو ضعف، ومن استقرار أو اضطراب، فإن مجرد وجود هذا العدد الكبير من المسلمين بالبلاد الغربية يُعتبر ضربا من الصلة الحضارية بين الحضارة الإسلامية -مهما يكن تمثيلها ضعيفا- وبين الحضارة الغربية المستقرة؛ فالمسلمون الذين هاجروا إلى هذه البلاد لا يمثلون مجرد كمية بشرية انتقلت من مكان إلى مكان، شأن كثير من الهجرات التي تقع قديما وحديثا، وإنما هجرتهم تحمل معها دلالة حضارية، وهي دلالة تتأكد باطراد بارتقاء نوعية المهاجرين وتعزز تلك النوعية بهجرة العقول وتمكن المهاجرين في مواقعهم العلمية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية على وجه العموم".
إلا أن د. النجار يستكمل تناوله –للفرص والضرورات- عند انتقاله إلى المبدأ الثالث من مبادئ توجيه التأصيل (بعد مبدأ مراعاة الخصوصية)؛ ألا وهو مبدأ التطلع إلى تبليغ الإسلام، فيقول:
"وذلك انطلاقا من وجوده بالبلاد الأوربية في حال الأقلية، وسعيا إلى التعريف به لدى غير المسلمين، انتهاجا في ذلك لمنهج يأخذ بعين الاعتبار المسالك النفسية والاجتماعية والثقافية والفكرية التي منها يمكن أن يأخذ الدين طريقه إلى النفوس بينا واضحا، فينتفع به من أراد الانتفاع، فيكون إذن من الموجهات الأساسية لتأصيل فقه الأقليات أن يبنى ذلك التأصيل على مقصد دعوي لا يقف عند حد حفظ تدين الأقليات وتدعيمه، وإنما يتخذ منه منطلقا للتوسع والانتشار ليراه الناس على حقيقته، فيؤمن به من يختار الإيمان، ويستفيد منه من يرى فيه الفوائد"(1).
بعبارة أخرى: فإن رؤية د. النجار عن مبادئ توجيه التأصيل (وهي خمسة) هي رؤية تجمع في تشابك بين التحديات التي تدفع للحاجة إلى فقه للأقليات وبين الفرص وأخيرا بين رؤيته عن نمط الوجود المسلم وضوابطه، كما سنرى في البند التالي.
__________
(1) المرجع السابق.(1/56)
وهنا تجدر الإشارة ابتداءً –فيما يتصل بطرح د. النجار عن التحديات مقارنة بالفرص- أنه لابد لنا أن نطرح السؤال التالي: كيف يتسنى لهذا الوجود المسلم الذي يعاني من هذه "الخصوصيات السلبية" أن يتمكن من تأدية هذه الأدوار المطلوبة وخاصة في مجال الدعوة؟؟ وكيف يتسنى له أيضا أن يحقق مناط الفقه الحضاري؟
4) وعن نمط وجود المسلم وضوابط تحققه؛ فإذا كنا قد سبق وأشرنا إلى مقارنة بين الفقه التقليدي والفقه الحديث للأقليات تبين لماذا اتجه المحدثون -في مجملهم- نحو قبول نمط للوجود يخالف ما قبله القدماء، إلا أنه مازال ممكنًا تلمس بعض الفروق بين الاتجاهات الثلاثة: فإن د. طه العلواني(1) يؤصل -ضمنيًا وصراحة- لهذا النمط الجديد المطلوب وهو نمط التعايش ورفض ثقافة الصراع التي عكستها فتاوى قديمة، وهو يؤصل لذلك من خلال بيان أسباب ضرورة تجاوز الفقه الموروث؛ فإلى جانب الأسباب المنهاجية فهناك الأسباب ذات الصلة بتحقيق المناط، وهي الأسباب التي تبين كم تغير العالم الراهن مقارنة بعالم المسلمين السابق الذي اتسم وفق طرح د. العلواني وفق طرح د. العلواني بما يلي:
(1) لم يعتد المسلمون في تاريخهم –بعد عصر الرسالة- على اللجوء إلى بلاد غير إسلامية طلبًا لحق مهدر أو هربًا من ظلم مفروض؛ بل كانت البلاد الإسلامية في الغالب أرض عزة ومنعة، ولم تكن تفصل بينها حدود سياسية مانعة؛ فكلما ضاقت بمسلم أرض، أو انسدت عليه سبيل، تحول إلى ناحية أخرى من الإمبراطورية الإسلامية الفسيحة، دون أن يحس بغربة، أو تعتريه مذلة.
(
__________
(1) د. القرضاوي: مرجع سابق، ص33، 35.(1/57)
2) لم تكن فكرة المواطنة -كما نفهمها اليوم- موجودة في العالم الذي عاش فيه فقهاؤنا الأقدمون، وإنما كان هناك نوع من الانتماء الثقافي لحضارة معينة، أو الانتماء السياسي إلى إمبراطورية معينة يعتمد المعيار العقائدي، ويتعامل مع المخالفين في المعتقد بشيء من التحفظ، مع اختلاف في درجة التسامح: من محاكم التفتيش الأسبانية إلى الذمة الإسلامية.
(3) لم تكن الإقامة في بلد غير البلد الأصلي تكسب حق المواطنة بناء على معايير ثابتة، مثل الميلاد في البلد المضيف، أو مد الإقامة، أو الزواج.. وإنما كان الوافد يتحول تلقائيًّا إلى مواطن إذا كان يشارك أهل البلد معتقدهم وثقافتهم، أو يظل غريبًًا –مهما استقر به المقام- إذا كان مخالفًا لهم في ذلك.
(4) لم يكن العالم القديم يعرف شيئًا اسمه القانون الدولي أو العلاقات الدبلوماسية، اللذان يحتِّمان على كل دولة حماية رعايا الدول الأخرى المقيمين على أرضها، ومعاملتهم بنفس معاملة الرعايا الأصليين، إلاَّ في بعض الأمور الخاصة التي تقتضي حقوق المواطنة التميز فيها.
(5) كان منطق القوة هو الغالب على العلاقة بين الإمبراطوريات القديمة –بما فيها الإمبراطورية الإسلامية- فكانت كل منها تعتبر أرض الأخرى "دار حرب" يجوز غزوها وضمها كليًّا أو جزئيًّا إلى الدولة الغالبة؛ إذ من طبيعة الإمبراطوريات أنها لا تعرف حدودًا إلا حيث تتعسر على جيوشها مواصلة الزحف.
(6) لم يعش فقهاؤنا الوحدة الأرضية الاتصالية التي نعيشها اليوم؛ حيث تتداخل الثقافات، وتعيش الأمم في مكان واحد. وإنما عاشوا في عالم من جزر منفصلة، لا تعايش بينها ولا تفاهم. فكان "فقه الحرب" طاغيًا بحكم مقتضيات الواقع يومذاك. وما نحتاجه اليوم هو "فقه التعايش" في واقع مختلف كمًّا ونوعًا.
((1/58)
7) كان بعض الفقهاء الأقدمين والمتأخرين يعبرون بفتاواهم عن نوع من المقاومة وردة الفعل على واقع مخصوص يختلف عن واقعنا، وفي هذا الإطار يمكن أن ندرج كتاب ابن تيمية "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أهل الحجيم"، وفتاوى علماء الجزائر في صدر هذا القرن بتحريم حمل الجنسية المصرية؛ فهذه الكتب والفتاوى جزء من ثقافة الصراع التي لا تحتاجها الأقليات الإسلامية.
ولذا فإن د. العلواني(1) عند تناوله للقواعد العامة لفقه الأقليات (في سياق ما قدمه من نظرات تأسيسية في فقه الأقليات) قد اهتم بالتأصيل الشرعي لعلاقة الأمة بغيرها مبينًا الأسس الأخلاقية والقانونية التي يجب أن يعامل به المسلمون غيرهم.
وذلك على ضوء الارتباط بين معنى الخيرية والإخراج للناس باعتبارهما اثنين من خصائص الأمة، ومن ثم؛ فإن خطابه في هذا التأصيل الشرعي يوجه للمسلمين فقط (وهو دعوة للتعايش والانفتاح والتفاعل وهو بمثابة الوجه الآخر الذي يقدمه بعض المثقفين من أمثال طارق رمضان من مدخل الاجتماع السياسي الإسلامي في الغرب).
ويقول د. طه –تأسيسًا على التأصيل الشرعي- إن أي رضا من المسلمين بالدون، أو بالمواقع الخلفية وأي سلبية وانسحاب من التفاعل الإيجابي مع الوسط الذي يعيشون فيه يناقض مدلول الآيات الداعية إلى الإيجابية والانتصار (الخيرية + الإخراج للناس).
واستكمالاً لهذا الانتظام في فكر د. العلواني، يصل في -الجزئية الأخيرة- من مقاله(2) لتوضيح ضوابط نمط الوجود المسلم وأشكال تحققه؛ وهي تتلخص كالآتي:
1- إن وجود المسلمين في أي بلد يجب التخطيط له باعتباره وجودًا مستمرًّا ومتناميًا، لا باعتباره وجودًا طارئًا أو إقامة مؤقته أملتها الظروف السياسية والاقتصادية في العالم الإسلامي.
__________
(1) د. عبد المجيد النجار: مرجع سابق، ص 15- 18.
(2) د. طه العلواني: نظرات تأسيسية في فقه الأقليات (3)، نحو أصول الفقه الأقليات.(1/59)
2- ينبغي لأبناء الأقليات المسلمة أن لا يقيدوا أنفسهم باصطلاحات فقهية تاريخية لم ترد في الوحي مثل "دار الإسلام" و"دار الكفر". وعليهم أن ينطلقوا من المنظور القرآني: {إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [سورة الأعراف، الآية 128].
3- من واجب المسلمين أن يشاركوا في الحياة السياسية والاجتماعية بإيجابية، انتصارًا لحقوقهم، ودعمًا لإخوتهم في العقيدة أينما كانوا، وتبليغًا لحقائق الإسلام، وتحقيقًا لعَالميته.
4- كل منصب أو ولاية حصل عليها المسلمون بأنفسهم، أو أمكنهم التأثير على مَن فيها مِن غيرهم، تُعتبَر مكسبًا لهم من حيث تحسين أحوالهم، وتعديل النظم والقوانين التي تمس صميم وجودهم، بل التي لا تنسجم مع فلسفة الإسلام الأخلاقية.
5- كل ما يعين على تحقيق هذه الغابات النبيلة من الوسائل الشرعية فهو يأخذ حكمها. ويشمل ذلك تقدم المسلم لبعض المناصب السياسية، وتبني أحد المرشحين غير المسلمين –إذا كان أكثر نفعًا للمسلمين، أو أقل ضررًا عليهم.
6- إن انتزاع المسلمين لحقوقهم في بلد يمثلون أقلية فيه، وتفاعلهم الإيجابي مع أهل البلد الأصليين، يقتضي منهم تشاورًا وتكاتفًا واتفاقًا في الكليَّات، وتعاذرًا في الجزئيات والخلافيات.
7- يحتاج أبناء الأقليات المسلمة إلى ترسيخ الإيمان بالله، وتدعيم الثقة في الإسلام، حتى لا يدفعهم التفاعل مع غيرهم إلى تنازلات تمَسُّ أساس الدين مجاراة لعرف سائد أو تيار جارف.
8- تحتاج الأقليات المسلمة إلى حسن التعبير عن حقائق الإسلام الخالدة، ونظام قِيمه الإنساني الرفيع...وبذلك لا يكسب المسلمون تعاطف الناس فقط؛ بل يكسبون الناس أنفسهم للالتحاق بركب لتوحيد.(1/60)
أما الدكتور القرضاوي، فلقد تطرق(1) إلى نمط وجود المسلمين حين تناول التطور في مراحل العصر الجديد للأقليات، والذي قاد إلى الصحوة الإسلامية بين الأقليات. فلقد بدأ هذا التطور بمرحلة الشعور بالهوية مؤديًا في النهاية إلى مرحلة التفاعل التي تعيشها الأقليات الآن، ويصفها فضيلة د. القرضاوي بالتفاعل الإيجابي مع المجتمع حيث لا مجال للعزلة والانكفاء على الذات والحذر من مواجهة الآخرين.
ومن جانب آخر، فإن فضيلته عند تناوله ركائز فقه الأقليات(2)، قد أشار في الركيزة الثالثة إلى العناية بفقه الواقع المعيش حيث إن رأي المفتي (وهو يقصد هنا المسائل الجزئية مثل التدخين وشراء المنازل للأسرة المسلمة) لابد أن ينبني على رأي الخبراء وأهل الاختصاص حتى تتضح أبعاد الضرورة من عدمها؛ ذلك لأن كثير من العلماء الأفاضل وفق ما ذكره د. القرضاوي– ينقصهم الوعي بظروف هذه الأقليات ومعاناتها في مجتمع غير مسلم، فلا يكفي أن يفتيهم العالم بما قرأ في بطون الكتب دون فقه لواقعهم ودراسة كافية لضروراتهم وحاجاتهم.
كما أشار فضيلته إلى ركيزة رابعة وهي التركيز على فقه الجماعة لا مجرد الأفراد على أساس أن الأقلية باعتبارها (جماعة متميزة) يجب أن تستطيع أن تعيش إسلامها "قوية متماسكة مؤمنة بالتنوع في إطار الوحدة.. ومن حق الجماعة المسلمة في ديار الغرب ونحوها: أن تكون جماعة قوية متعلمة متماسكة قادرة على أن تؤدي دورها وتتمسك بدينها وتحافظ على هويتها وتنشئ أبناءها وبناتها تنشئة إسلامية حقة، وتبلغ رسالتها إلى من حولها بلسان عصرها".
__________
(1) د. طه العلواني نظرات.(4): فقه الأقليات والقيم الإسلامية: قواعد عامة.
(2) د. طه العلواني، نظرات...(7) خلاصة منهاجية.(1/61)
وهذا الربط –من جانب د. القرضاوي- بين مراعاة فقه الواقع وبين التركيز على فقه الجماعة إنما يبين رؤيتين عن جانب آخر من نمط الوجود المسلم –إلى جانب نمط التفاعل الإيجابي مع المجتمع المحيط- حيث لن يتحقق هذا التفاعل الإيجابي بدون حركة الجماعة المسلمة وبدون علاج مشاكل واقعها ومعيشتها كجماعة وليس مجرد أفراد -فهذا هو شرط التفاعل الإيجابي- كما يتضح لي من قراءة د. القرضاوي.
ولكن ماذا عن "شكل تحقق هذا النمط من الوجود قانونيًا؟" ماذا عن قبول مبدأ المواطنة الأوروبية، أو الجنسية الأوروبية؟ وهل من بدائل أخرى؟
فمن أهم معالم الجديد في الفكرة التي طرحها د. القرضاوي –ما يمكن تسميته بفكرة الولاء المزدوج؛ حيث –كما سبقت الإشارة- يرى أن الأقليات المسلمة جزء من أمتها المسلمة من ناحية، وجزء من مجتمعاتها الخاصة التي تعيش فيها من ناحية أخرى، وأنه يجب مراعاة هذين الجانبين بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر.
ويتضح من محتويات طرح د. العلواني، موافقته على مفهوم "المواطنة"، والذي تناوله أيضًا بطريقة أكثر صراحة طارق رمضان (كما سنرى). ومبدأ المواطنة –لم يعرفه الفقهاء القدماء –بل فإن الفقه التقليدي قد اتحد لديه معنى "الولاء السياسي" في معنى "الولاء الديني"، حيث لا ينحصر ولاء المسلم السياسي في إقليم، ناهيك عن تأقيتهم الوجود في الخارج وشرطه بحالة الضرورة.
إلا أن د.النجار(1) قدم طرحا مخالفا؛؛ حيث تحددت رؤيته عن نمط الوجود المسلم من أمرين: تعريفه لوضع الأقلية، ومفهومه عن التأصيل لفقه حضاري وفقه جماعي.
وعن الأمر الأول يقول:
__________
(1) النجار مرجع سابق.(1/62)
"وفي تحديد مصطلح الأقليات المسلمة المقصود في هذا المقام، ربما تعترض بعض المشكلات، فاللفظ بظاهره حينما يندرج في المصطلح العام للأقليات يكون دالا على مدلول عددي، ومدلول تميز ثقافي، فيصبح المعنى المقصود بالأقليات المسلمة تلك المجموعة من الناس التي تشترك في التدين بالإسلام، وتعيش أقلية في عددها ضمن مجتمع أغلبه لا يتدين بهذا الدين"...
"إذا ما أضفنا هذا إلى ذاك أصبح مصطلح الأقليات المسلمة مصطلحا ذا خصوصية بين نظائره من المصطلحات الضابطة للأقليات؛ إذ يصبح القانون العام الذي يُطبق في المجتمع الذي توجد به الأقلية عنصرا مهما في تحديد مفهوم هذا المصطلح، فيكون إذن مصطلحا ينطبق على تلك المجموعة من المسلمين التي تعيش في مجتمع تُطبق فيه قوانين غير إسلامية من قِبل سلطات حاكمة غير إسلامية، أو تسود فيه لسبب أو لآخر ثقافة وأعراف وتقاليد غير إسلامية".
إذن المعيار القانوني (الأحكام) أساس في طرح د. النجار؛ ومن ثم فهو منطلق ينبني عليه فهمه لخصوصية وضع الأقليات المسلمة، باعتبارها أقليات ذهبت اختيارا ولـ"حاجة" –وليس لضرورة بالمعنى التقليدي- فهو يقول:(1/63)
"إن القاعدة العريضة للأقليات المسلمة بالغرب هي قاعدة مهاجرة بدوافع الحاجة، إما طلبا للرزق، أو طلبا للأمن، أو طلبا للعلم، أو طلبا للظروف المناسبة للبحث العلمي، فكان هذا الوجود الإسلامي بالغرب هو في عمومه وجود حاجة لا وجود اختيار، وليست فكرة المواطنة الشائعة اليوم بين هؤلاء المهاجرين مشيرة إلى ضرب من الاختيار إلا تطورا لا يتجاوز عمره سنوات قليلة، وهي فكرة لم يعتنقها بعد القسم الأكبر من الأقلية المسلمة بالغرب. وبالإضافة إلى ذلك فإن هذه الأقلية جاءت تحمل معها هويتها الثقافية، وقد ظلت محافظة عليها بشكل أو بآخر من أشكال المحافظة، وهي بذلك وجدت نفسها في خضم ثقافة غربية مغايرة لثقافتها، بل مناقضة لها في بعض مفاصلها المهمة، وليست هذه الهوية في مستكن المسلم هي مجرد هوية انتماء شخصي، بل هي أيضا هوية تعريف وتبليغ وعرض في بعدها الديني والحضاري".
الأمر الثاني- وينبني –بدوره- على الأول؛ إذ إن التأصيل للوجود المسلم يجب أن يكون تأصيلاً لفقه جماعي وفقه حضاري: " وهو فقه لا يقتصر على التشريع لعبادة الله تعالى بالمعنى الخاص للعبادة، وإنما يتجاوز ذلك ليشرع في حياة الأقليات المسلمة عبادة لله تعالى بمعناها العام الذي يشمل كل وجوه الحياة الفردية والجماعية في علاقة المسلمين بعضهم مع بعض، وعلاقتهم بالمجتمع الذي يعيشون فيه،..."
هذا التأصيل يعني ضمنيا مرة وصراحة مرة أخرى رفضا لمفهوم المواطنة وتداعياتها الممكنة. فهو يقول:(1/64)
".. ذلك لأنه يستلزم أن يكون ملاحظا فيه بقدر كبير الحالة الحضارية العاتية التي يعيش في كنفها المسلمون بأوربا، والتي تغالب في نفوسهم وسلوكهم منزع التدين بسلطان ذي سطوة شديدة، فإذا لم يؤخذوا بفقه حضاري على نحو ما وصفنا يكافئ في عيونهم نفسيا وفكريا، وفي أثره على حياتهم نفعيا ذلك الأنموذج الحضاري الذي يتعرضون لسطوته أو يشف عليه، وترك الأمر لمجرد أن تعالج حياتهم معالجة فقهية تعبدية بالمعنى الخاص، أفضى الأمر إلى أن تكون لتلك السطوة غلبة على النفوس، فتنساق حياتهم في أكثر وجوهها على غير شريعة الله تعالى حتى إن انتظمت فيها شعائر العبادة.
وكذلك يقتضي هذا الموجه أيضا أن يكون ملاحظا فيه بقدر كبير ما هو مترسب في أذهان الأوربيين وأذهان بعض المسلمين المتأثرين بهم من صورة للدين لا يدخل فيها إلا ما هو علاقة روحية بين العبد وربه، ويخرج منها ما هو تنظيم للحياة الاجتماعية وتنظيم لعلاقة الإنسان بالمقدرات الكونية، فتخلو بذلك من البعد الحضاري للتدين الذي يكاد يتمحض فيها للبعد الروحي من حياة الإنسان، وإذا ما لم يؤصل فقه الأقليات تأصيلا حضاريا واقتصر على أبعاده التعبدية الروحية والأخلاقية كرست في الأذهان تلك الصورة المنقوصة للتدين فلم يبق لها أثر ذو بال في التمكين للدين الذي هو مقصد أساسي لفقه الأقليات كما بينا آنفا"(1).
خلاصة القول: بعد هذه القراءة المقارنة في القضايا الكبرى الأربع -كما قدمها فكر ثلاثة من مؤسسي مدرسة "فقه الأقليات"- يمكن التوقف أمام مجموعة من الملاحظات النقدية التي تمهد للانتقال إلى الجزء الثاني من الدراسة:
1- كان تركيز القرضاوي والنجار على الكليات (بمعنى الفقه الأكبر) أقل وضوحًا من تركيز العلواني. ومن ثم تظل إشكالية مستوى الرؤية الفقهية الجزئية والكلية مسألة هامة.
__________
(1) النجار، مرجع سابق.(1/65)
2- بالمقارنة بين جملة التحديات وجملة الفرص في البيئةالغربية، واستحضارًا للموقف من تأصيل غاية الوجود المسلم وأسبابه، يبرز لنا التناقض –وخاصة لدى القرضاوي والنجار بين الحديث عن "حالة الضعف والاستضعاف التي تقتضي التيسير في الفقه (الجزئي) وبين الحديث عن "أهداف وجود المسلم" ودوره الحضاري في الغرب. وفي حين أن طرح العلواني يحل هذا التناقص، لأنه يرفض منطق الاستضعاف والضرورة، إلا أن تصور العلواني عن الإيجابية التي يجب أن يكون عليها المسلم هي الصورة المثلى، ولكن ما يعوق تحقيقها -أو على الأقل يزيد من صعوبة هذا التحقيق- المحددات الأوروبية والعالمية المحيطة.
بعبارة أخرى إذا كان التطور في التأصيل لفقه الأقليات من حيث ضروريته وأهدافه، قد جاء من باب الاستجابة للتطور في تجدد وعي المسلمين بهويتهم، إذن سيظل تطور هذا الفقه استجابة للمستجدات أكثر أهمية.
فكيف يستطيع مؤسسوه الحفاظ على زخم تطويره في خدمة الوجود المسلم مع هذا التصاعد المستمر في التحديات التي يواجهها الوجود المسلم منذ 2001 بصفة خاصة؟ وهو الوضع الذي يفرض إعادة طرح السؤال: "هل يجب أن يبقى المسلمون في أوروبا وكيف يعيشون"؟ ليصبح على النحو التالي: هل ما زال بإمكان المسلمين البقاء بطريقة فاعلة إيجابية؟
3- من الذي يستهدفه خطاب هذا الفقه؟ فنحن نعرف أن المسلمين ليسوا كتلة واحدة. فهناك المسلم باسم الدين فقط، وهناك المسلم ثقافيًا، وهناك "الإسلامي"، وبين هؤلاء الأخيرين يمكن أن نميز بين أكثر من توجه، ويختلفون من حيث درجة الانعزال والانغلاق (راجع حالات: حزب التحرير و"المهاجرون" و"التوحيديون") أو من حيث درجة الاندماج والمواطنة الأوروبية، أو من حيث بلورة كيان جماعي متميز للمسلمين.(1/66)
ويجمع بين الاتجاهات الثلاثة لمدرسة فقه الأقليات –كما سبقت الإشارة- فقه التعايش والتفاعل؛ ومن ثم فهو يتصدى لفقه الصراع والانغلاق الذي يتبناه بعض المسلمين في أوروبا. إذن فقه الأقليات هو فقه التعايش باعتبار المسلمين جماعة حضارية ذات وجود متميز، يقف في موقف وسط بين فقه الاندماج للمسلمين بوصفهم أفرادًا –مواطنين وأعضاء في جماعة أوسع- وليس الجماعة المسلمة فقط من ناحية وبين فقه العزلة والصراع من ناحية أخرى.
4- التحديات الأوروبية المحيطة تمثل معطاة للفقهاء يبررون بها الحاجة لفقه جديد، ولكن لا يتوقفون لتحديد خريطة أبعادها، فهل هذا من شأن المختصين في الاجتماع والسياسة؟ حقيقة قدم الفقهاء الأطر الشرعية للقضايا الأربع الكبرى السابق تحديدها، إلا أن هذه ليست هي القضايا الكبرى الوحيدة التي تتصل "بالفقه الأكبر" للأقليات المسلمة، والتي تدور حولها تفاصيل التحليلات الإمبريقية ودراسات الحالات المحددة. بعبارة أخرى، يبدو من الخطاب الفقهي –موضع الاهتمام في هذا الجزء- أنه خطاب بينيّ (أي بين المسلمين فقط) لا يستهدف الآخر بلغته، ولا يناقش مدركاته عن مسلمي أوروبا سواء كانت الرافضة لهم أو العكس، ولا يقترب من مناطق السياسات والإجراءات المحددة التي تستهدف المسلمين.
وهي الأمور التي تزخر بها الأدبيات في مجال الاجتماع السياسي أو الاجتماع الحضاري أو الاجتماع الديني بل والعلاقات الدولية. فمن المهم ألا نكتفي بأن نعرف ما نريده لمسلمي أوروبا فقط، ولكن أن نعرف بطريقة أكثر دقة وتفصيلاً كيف يفكر الأوروبيون وماذا يخططون؟ وماذا ينفذون تجاه المسلمين؟ فعلى سبيل المثال وليس الحصر: ماذا عن سياسات فرض الاندماج بالقوة وسياسات مكافحة الإرهاب وقوانين تقييد الهجرة؟(1/67)
5- ما قدر المتحقق من نتائج في تطور وضع المسلمين، على ضوء طبيعة مبادئ ورؤى فقه الأقليات، على الأقل منذ تأسيس مجلس الإفتاء الأوروبي؟ فهل هناك آليات لرصد ومتابعة ما تحقق؟ هل تتوافر دراسات إمبريقية عن واقع المسلمين تساعد على تقدير مدى التحسن في الأوضاع أو ما إذا كانت التحديات مازالت أكثر وطأة؟ إن هذه الأمور من الضرورة حتى يمكن تقدير فقه المآلات المستقبلية الاستراتيجية:
فهل سيكون هناك حاجة لمزيد من المرونة في مواجهة الضرورات المتزايدة؟ وهل سيكون المآل لفقه المواطنة والاندماج، على حساب فقه الأقليات الأكبر؟ بعبارة أخرى: هل سيكون المآل أكثر انفتاحًا أمام الرؤى والاجتهادات المعنيَّة على الجانب القيمي من الشريعة أكثر منه على الجانب الشرعي (الأحكام) باعتبارها المجال الذي يمكن أن يساهم فيه "غير الشرعيين" بنصيب أكبر في تشخيص وتقويم واقع الأقليات المسلمة الذي يزداد تعقيدًا؟
مما لا شك فيه أن الملاحظات السابقة لابد أن تدفع للتساؤل الآتي:
ما الذي يمكن أن تقدمه القراءة السياسية–الاجتماعية-الثقافية لواقع الأقليات المسلمة (على الأقل خلال العقدين الماضين) على نحو يستكمل الوجه الآخر للعملة؟
الجزء الثاني- الإشكاليات الكبرى لواقع الوجود المسلم في أوروبا، قراءة سياسية في فقه الاندماج والمواطنة
إن الانتقال من مدرسة "فقه الأقليات" إلى القراءة السياسية في الإشكاليات الكبرى لواقع الوجود المسلم يقودنا إلى نمط آخر من الفقه، وهو "فقه المواطنة والاندماج"، وهذا الانتقال يهدف –بدوره- إلى توضيح بعض القواعد المنهاجية التي تضبط التحليل في هذا الجزء من الدراسة مقارنة بالجزء السابق واستكمالاً لأهداف الدراسة، واتفاقًا مع منطلقاتها.
وتتلخص هذه القواعد على النحو الآتي:(1/68)
من ناحية: مع الاعتراف بأن الأقليات المسلمة ليست كتلة واحدة، وأن واقعها يختلف من دولة أوروبية لأخرى(1)، فإن هذا الجزء يتصدى للإشكاليات والأسئلة الكبرى التي تمثل قاسما مشتركا، تتصدى له إجمالاً الأدبيات التي تعالج "وضع أقلية محددة" أو تدلي بدلوها في الفقه السياسي للأقليات المسلمة بصفة عامة.
من ناحية أخرى: تقديم نتائج القراءة في أدبيات متنوعة قدمها أوروبيون من المسلمين وغيرهم. وتمثل هذه الأدبيات مجرد أمثلة لاتجاهات عدة تنقسم بينها دراسة هذا الموضوع وتعبر عنها بالطبع نماذج أخرى. ذلك لأن الغرض من هذا الجزء ليس تأصيل الاختلافات بين هذه الاتجاهات ورسم خريطتها كاملة، ولكن الهدف هو الاستعانة بما يحقق أهداف القراءة السياسية المقصودة هنا. ولذا فعلى سبيل المثال، فإن من الأوروبيين المسلمين موضع الاهتمام الناشطين في هذا المجال من أمثال طارق رمضان، أي مسلمي الجيل الثاني من المهاجرين من أصول عربية (أو غيرها) وفي المقابل لم تتطرق مثلاً إلى مراد هوفمان، روجيه جارودي، عزت بيجوفيتش، مع ما لرؤاهم من أهمية ومع أنهم يمثلون المسلمين من أصل أوروبي.
وفي المقابل لم نقتصر على اتجاهات المسلمين من الأوروبيين، ولكن امتد التحليل إلى اتجاهات من بين الأوروبيين غير المسلمين.
ومن ناحية ثالثة: المقصود بالقراءة السياسية لواقع الأقليات قراءة في الأدبيات المشار إليها على ضوء إطار مقارن يتضمن مجموعة من العناصر. وعلى ضوء هذا الإطار أمكن التمييز بين عدة اتجاهات من حيث تشخيص وتفسير المسألة، وهذه العناصر هي:
__________
(1) د. القرضاوي: مرجع سابق، ص 23.(1/69)
أولاً- ما هو أصل المشكلة: ديني – ثقافي – أم اجتماعي سياسي؟ أي كيف تقدم الاتجاهات والرؤى المختلفة الإجابة عن هذا السؤال؟ حيث من الملاحظ أنه حين تبلورت مطالب الحفاظ على الهوية الإسلامية بدأت تبرز حدة مشاكل الأقليات وتصاعد الحديث الأوروبي عن الاحتياجات للاندماج لتحقيقه ولو بالقوة، رغمًا أن التحليلات لا تحسم مسألة أن مشاكل الأقليات ترجع إلى أسباب نقاش دينية فقط (ولو متصلة بطرفي العلاقة)؟
ثانيًا- ما هي أنماط القضايا المثارة؟ ففي مقابل قضايا مناط الفقه التي قرأنا على ضوئها مدرسة فقه الأقليات، نجد مجموعة مكملة من القضايا –وكاشفة في نفس الوقت- عن حال آثار المجموعة السابقة ودلالاتها؛ وهي تدور حول المحاور الثلاثة التالية:
العلاقة بين الإسلام والعلمانية، والعلاقة بين الشريعة والقوانين الوطنية، إشكالية الولاء المزدوج (الرابطة العقدية –الرابطة الوطنية)؛ ومن ثم الموقف من قضايا الأمة الإسلامية والعلاقة معها.
وهذه المحاور الثلاثة تتصل بمستويات ثلاثة من الثنائيات هي على التوالي: الفرد–المجتمع الأوروبي؛ الجماعة (الأقلية) المسلمة–الدولة (النظام الأوروبي)، الجماعة (الأقلية) المسلمة- الأمة الإسلامية.
وثالث عناصر القراءة السياسية يتصل ببدائل نمط الوجود المسلم المطروحة لدى الاتجاهات المختلفة (الاندماج الاستيعابي، الاندماج الإيجابي: "مواطنة + هوية".. المواطنة الأوروبية بلا هوية إسلامية)؛ لأن المسألة لا تتصل بهل يندمجون أم لا، ولكن بكيف يندمجون وما هي شروط هذا الاندماج كما يراها المسلمون وغيرهم؟
بعبارة الأخرى، فالأمر لا يتصل (في بعض الأحيان) بهل يقبل بعض الأوروبيين إدماج المسلمين (وفق مبدأ الموطنة مع مراعاة تميز الهوية) أم يختلقون الأعذار والعراقيل لجعل الاندماج الإيجابي أصعب ولجعل الهجرة أيضًا أكثر صعوبة بل وربما التمهيد للإخراج من أوروبا.(1/70)
ورابع هذه العناصر هو دراسة المحددات من البيئة الداخلية للأقلية المسلمة ذاتها, والهدف منها استكشاف آثار التغيرات العالمية والأوروبية بعد 11 سبتمبر بصفة خاصة وآثارها على الأقليات المسلمة في أوروبا في ظل قوانين الهجرة ومكافحة الإرهاب، وسيتم تقديم نتائج القراءة على ضوء هذا الإطار المقارنة، على خطوتين:
- الاتجاهات حول العناصر الثلاثة الأولى نظرًا لترابطها وتداخلها لدى كل نموذج من النماذج التي سيتم عرضها سواء من بين الأوروبيين (غير المسلمين) أو الأوروبيين المسلمين.
والثانية- عن محددات رؤى مقارنة حول أصل المشكلة وبدائل حلها؟
يمكن التمييز في هذا الصدد بين ثلاثة اتجاهات:
الاتجاه الأول- الذي يعلي من شأن أصل المشكلة الثقافي-الديني وخاصة ما يتصل بأثر المفهوم الإسلامي عن الدين على صعوبة اندماج المسلمين طواعية، وهنا نواجه نمط الانغلاق من جانب رافد من المسلمين ونمط العنصرية أو نمط الاندماج بالقوة من جانب أوروبيين.
الاتجاه الثاني- وهو الذي يعلي من شأن أصل المشكلة السياسي–الاجتماعي ويرد المسئولية عنها للأوروبيين أو المسلمين على حد سواء، ومن ثم يرى أن البديل هو الاندماج الإيجابي والمواطنة التي تحتاج مجهودًا من الطرفين؛ لأن البعد الثقافي- الديني يمكن إدارة سلبياته برؤى جديدة.
الاتجاه الثالث- والذي لا يرى للمشكلة من أصل إذا قبل المهاجر منذ البداية المواطنة الأوروبية واندمج اندماجًا كاملاً ثقافيًا وسياسيًا.
ونظرًا لصعوبة العرض التفصيلي لهذه الاتجاهات الثلاثة في صفحات محدودة في هذه الدراسة(1)، ونظرًا لأن كل من الاتجاهات الثلاثة يشترك فيه مسلمون وغير مسلمين أوروبيين أو غير أوروبيين، ولدواعي تسيير العرض في هذه الدراسة فسيتم عرض الآراء المقارنة في مجموعتين:
أولاً- خريطة رؤى أوروبية عن الوجود المسلم:-
__________
(1) مرجع سابق، ص ص 40-60.(1/71)
تتضمن هذه المجموعة الأولى رؤى الأوروبيين (غير المسلمين) من الباحثين والأكاديمين المتهمين بهذا الأمر. وللتعرف على خريطة رؤاهم، نظرًا لما يمارسه بعضهم من تأثير على صنع السياسات الأوروبية أو في الحورارات البينية على الساحة الأوروبية بين المسلمين وغيرهم، ونظرًا لامتداد تحليلاتهم لتجمع بين الشأن الإسلامي على صعيد رافدي الأمة الإسلامية( الدول والأقليات)، وأخيرًا يمثلون –في طرحهم لإشكاليات العلاقة بين الإسلام والعلمانية والحداثة والمواطنة والديمقراطية- بيئة فكرية (سائدة أو متغلبة) لابد أن تكون قد مارست تأثيرها على فكر المسلمين الأوروبيين في الدول الإسلامية ذاتها حيث إن هذا الفكر ليس خامدًا لكن مر بتغيرات الاحتكاك المباشر وغير المباشر.
والعرض التالي يهدف لبيان التنوع في هذه الخريطة، وهو يعبر عن تدرجية في نمط الأسئلة المطروحة عن أصل المشكلة ابتداء، ووصولاً إلى الاقتراحات بشأن "نمط الإسلام" المطلوب حتى يتحقق اندماج المسلمين!! فإذا كان البعض قد رأى في "الإسلام" حائلاً دون اندماج المسلمين، فإن البعض الآخر وصل إلى القول بالتغييرات المطلوبة في الإسلام حتى يصبح المسلمون قابلين للاندماج.
[1] والبداية مع نموذج يعلي –إجمالاً من الأساس الديني-الثقافي لمشاكل "المسلمين في أوروبا" بالرغم من اهتمامه أيضًا بالوجه الآخر للعملة؛ أي السياسات الأوروبية تجاه مسلميها.(1/72)
فنجد برنارد لويس في مقدمة أحد الكتب المحررة(1) –يؤسس وينظِّر "للمفهوم الإسلامي عن الدين، ويبين كيف أنه يمثل عائقًا دون اندماج المسلمين في أوروبا لأنه يأتي بالمخالفة مع المفهوم الغربي (العلماني) عن الدين. وهو يبدأ أطروحته ببيان كيف أن وضع المسلمين الآن في أوروبا هو نمط فريد من الهجرة لم يكن له سابق، ومن ثم لا يمكن تبريره شرعيًا –كما حدث في الفقه القديم- بأنه للضرورة. والمهم من وجهة نظره ليس التبرير الشرعي لهذا الوجود من عدمه، ولكن المهم هو فهم المهاجرين لدينهم على نحو يختلف عن المفهوم الغربي للدين. وبالنظر إلى شرحه للفارق بين المفهومين "الإسلامي" و"الغربي" وشرحه لعواقب هذا الفارق -نجد أن هذا النمط من الرؤية يؤسس لفكر يستعدي ضد "حقوق المسلمين في هوية متميزة لهم؛ أي ضد إمكانية عيش المسلمين وفق مقتضيات دينهم، بل ويؤسس لعدم إمكانية الاندماج نظرًا للصدام الذي سيحدث مع الثقافة الغربية نظرًا للاختلاف حول مفهوم "الدين".
بل ويثير طرح لويس ضمنيًا السؤال التالي: لماذا أتيتم إلى مكان مختلف سبق ورفض الفقه الإسلامي –في فترات القوة والازدهار الإسلامي- البقاء الدائم فيه إلا للضرورة؟
__________
(1) الجزء الثاني ص 35- 60: الأدبيات الأجنبية التي سيرد الإشارة إليها، جميعها تضمنت فصولاً عن الحالات في الدول الأوروبية المختلفة إلى جانب القواسم المشتركة: وهي تتضمن تحليلات سياسية-اجتماعية معمقة ولا تقتصر على الدراسات الوضعية التي تتضمنها وبعض الدراسات باللغة العربية.(1/73)
هذا هو الخيط الناظم بين مكونات طرح لويس في هذا الفصل والذي يعود فيبلوره في نهايته بالقول "الأقلية المسلمة التي تكونت بالهجرة "الإرادية بين أراضي مسلمة تجاه دول تحت سيطرة مسيحية، ولم تنتم أبدًا لديار الإسلام، وهي أقلية بدون سابقة في التاريخ الإسلامي، ولم يتم بحثها في الفقه القانوني الإسلامي.. ولم يكن من المتصور في أي لحظة أن مسلمًا يترك بإرادته أرضًا مسلمة ليضع نفسه في موقف حرج كهذا... هذه الهجرة بأعداد كبيرة (على عكس الهجرة)، لأناس عاديين يبحثون عن حياة جديدة لدى "الكفار" هي ظاهرة جديدة تفرض مشاكل أساسية، والنقاش حول هذه الأمر قد بدأ...
(الوضع) يترجم معضلة تواجه أقلية معظم أفرادها يأتون من فئات الأقل حداثة في أوطانهم الأولى. إنهم مختلفون عن الأغلبية التي يعيشون معها الآن، ليس فقط لأن دينهم مختلف، ولكن لأن لديهم مفهوم يختلف جذريًا عن ما يعنيه ويتطلبه ويحدده الدين".
وبالرغم من أن فصول الكتاب قد عرضت لأنماط مختلفة من تجارب الدول الأوروبية التي تبين أثر اختلاف الأطر السياسية الاجتماعية –الاقتصادية على تأصيل مشكلة الأقليات المسلمة ونمط الحلول المقترحة –في هذه المرحلة المبكرة من بداية تبلور المشكلة كمشكلة لجماعة ذات متطلبات للحفاظ على هويتها "الثقافية الإسلامية"(1)، إلا أن نتائج تحليل الخبرات المقارنة(2) التي قدمها المحرر في نهاية الكتاب قد قدمت عملتين ذات وجهين:
__________
(1) تنفيذًا لبعض مقتضيات هذه الدراسة التفصيلية المقارنة، تم تسجيل رسالة ماجستير في العلوم السياسية تحت عنوان: "المسلمون في فرنسا: دراسة في الاتجاهات الفكرية السياسية حول إشكالية الهوية (1990- 2006)، إعداد الطالية ياسمين زين العابدين.
(2) Bernard Lewis: op. cit, pp. 11-12, pp. 25- 26, pp. 29- 31, pp. 34- 39.(1/74)
الوجه الأول هو: أن هذا النموذج من الطرح الأوروبي (الذي انطلق من أطروحات برنارد لويس التي تصدرت الكتاب) يقرن قضية تحقق الاندماج من عدمه بعدة مسائل دينية وثقافية؛ وهي من ناحية المفهوم القرآني للشريعة وواجبات المسلم أينما كان، وكيف تعوق عن الاندماج في الثقافة السائدة للمجتمعات الأوروبية؟ يتضح هذا من ناحية أخرى من واقع القضايا التي تختبر الاندماج من عدمه وهي قضايا: المرأة، أو المثليين الشواذ، تديين المجال العام (أي انتقال الدين من المجال الخاص إلى الظهور في المجال العام)، العلاقة بين الديني وبين السياسي، القوانين: خاصة في مجال الأحوال الشخصية، بناء المساجد.
ومن ناحية ثالثة: تبرز أيضًا مسألة رفض العلاقة بين المسلمين المهاجرين وبين العالم الإسلامي. وأخيرًا: التركيز على كون المسلمين لا يمثلون جماعة واحدة متماسكة؛ ومن ثم لا يمكنهم المطالبة بوضع الجماعة ذات الحقوق.
أما الوجه الثاني للعملة: فهو قدرة أوربا ذاتها على تحقيق اندماج القادمين الجدد الذين فتحت أبوابها لهم وحققت من ورائهم عدة مكاسب اقتصادية. وهنا تم عرض ومناقشة المسائل التالية: ارتباط مشاكل الاندماج –في جزء منها- بعنصرية الأوروبيين ومتطلبات تجربتهم العلمانية (ولكن ذات التقاليد المسيحية) وأزمة الهوية الأوروبية ذاتها، الصورة السائدة عن الإسلام كدين متطرف، عنيف، غير عقلاني، مع قبول أنه ليس "فريدا وموحدا لأن المسلمين مختلفين باختلافات ثقافتهم.
أنماط السياسات الأوروبية ذاتها وقدر تنوعها أو اختلافها فيما يتصل بالموقف من الاندماج: حيث يتباين مثلاً النمط الفرنسي عن البريطاني عن الألماني عن الهولندي..، وأخيرًا اختلاف رؤى وتصورات المسلمين عن الذات وعن الأنماط الثلاثة لوضع الدين: قاصر على المجال الخاص (للفرد)، ينعكس على خصائص وسمات جماعية، الاندماج والمواطنة في ظل تقاليد العلمانية.(1/75)
بعبارة أخيرة: فإن هذا الطرح لخلاصة التحليل المقارن للخبرات الأوروبية ينبني على سؤالين مرتبطين.
هل يريد المسلمون في أوروبا المشاركة في المجتمعات الديمقراطية الحديثة؟ وما هي قدرات وإمكانيات الاندماج عند الأمم الأوروبية: ولهذا يثور التأكيد على أمرين في التقاليد الإسلامية يجعلان هذه المشاركة صعبة إن لم تكن مستحيلة، وهما: أن ممارسة الإسلام يتعدى المجال الديني؛ لأن القانون الإسلامي ينطبق على كل أبعاد الحياة الفردية والاجتماعية، ومن ثم فإن الديني ليس منفصلاً عن الاجتماعي والسياسي في حين أن المجتمعات الغربية تقوم على مبدأ العلمانية السياسية.
ولهذا نجد أن الطرح (الذي تم تغليفه وإحاطته بما يبدو درجة كبيرة من الموضوعية) يصدق عليه وصف البعض له (د. سيف الدين عبد الفتاح) بمكيدة الموضوعية. فنعم، هذا هو المفهوم القرآني للشريعة وعن واجبات المسلم، ولكن هل هذا يمنعه من العيش (وليس الاندماج) في مجتمع مخالف، وخاصة أنه قد ذهب إليه أو مازال يقيم فيه (اختيارًا وليس عن ضرورة، على الأقل بالمعنى التقليدي لتعريف الضرورة في الفقه الموروث)؟
ومن ثم هل طرح مدرسة "فقه الأقليات" يستجيب لهذا التحدي الفكري، وبأية درجة؟ لأن طرح برنارد لويس يصدق في جانب كبير منه على الفقه الموروث" الذي اجتهد مؤسسو مدرسة فقه الأقليات للتجديد في كلياته، أو الاجتهاد في بعض مسائله، سواء بالدعوة لتأسيس فقه أقليات مستقل أو فقه أقليات متفرع عن الفقه العام، يبين شرعيته بل وضرورة استمرار الوجود المسلم في مثل هذه البيئة المخالفة الآن، بل يجد فيها فرصة متعددة المنافع (كما سبق الشرح).
إلا أنه يظل هناك أمر معلق ومحل تساؤل حتى الآن؛ وهو: هل الحفاظ على "الهوية الإسلامية" أضحى حفاظًا "مشروطًا بشروط "الغير" إما لتقييد هذه الهوية أو التعديل فيها أو ربما استبدالها بشبيه مشوه إن لم يكن ببديل كامل؟(1/76)
ومن ثم ما هو مناط الثابت الذي لا يمكن قبول تجاوزه حتى لو اضطر فقه الأقليات إلى اجتهادات في مجال "المتغيرات"؟
وتزداد حيوية هذا السؤال المطروح في هذا الموضع من الدراسة لأن "الشروط" من الغير كانت في البداية مجرد قبول المسلم "للضغوط" بالمعنى السلبي على تمسكه باحترام موجبات دينه على سلوكه، والمقصود بالمعنى السلبي هنا الضغوط النابعة من طبيعة الإطار ذاته (ترك الدين حتى في المجال الخاص، والخروج للمجال العام بكل ما هو ضد القيم المشتركة بين كل الأديان وليس فقط ضد واجبات المسلم السلوكية والخلقية..). ثم أضحت "الشروط" الآن إرادية لأنها تقع تحت الضغوط الإيجابية؛ ومعنى الإيجابي هنا هو الفعل المقصود بالضغط من أجل فرض الاندماج بالقوة القانونية (قانون الحجاب) والضغوط النفسية بواسطة الإهانة المتعمدة لأصول الإسلام اختبارًا لمدى تحمل المسلمين ما يسمى "حرية التعبير في العلمانية (الدين الجديد).
(1) ثم ننتقل إلى نموذج ثان ظهر في مرحلة خاصة:(1/77)
فبعد أزمة سلمان رشدي وظهور أزمة الحجاب في فرنسا ثم -وبدرجة أساسية- بعد نهاية الحرب الباردة واندلاع حروب البلقان ازداد تبلور الجدال حول اتجاهات الإسلام والمسلمين نحو علمانية الحياة السياسية والاجتماعية في الغرب؛ أي ما اعتبر هوية أوروبية تكمن في طريقة تنظيم ووظيفة كل من المجتمع والنظام السياسي في أوروبا الغربية، وعلى نحو يجعل الدين قاصرًا على المجال الخاص ومقابل علمنة الدولة. ومن اتجاهات تلك المرحلة ذلك النموذج(1) الذي أضاف إلى ما قدمه النموذج السابق الإشارة إليه، وعلى نحو يبين قدرا من التغير في اتجاه الجدل حول وضع المسلمين في أوروبا.
__________
(1) على سبيل المثال فإن الدراسة عن "النمط الفرنسي (باعتباره أقصى الأنماط تعبرًا عن الاندماج ورفضًا لتقليد "التعددية الثقافية التي يترجمها النموذج البريطاني وبدرجات أقل كل من الألماني والهولندي) والتي قدمها أوليفيه روا، قد طرحت عدة أمور من بينها: التمييز بين سكان مسلمين وبين جماعة مسلمة ولأن التحول من أقلية إلى جماعة يتطلب شروطًا وبحيث لا تأتي الجماعة على نقيض التقليد الفرنسي. إذن شرط الاعتراف بالمسلمين كجماعة هو أن تندمج على النمط الفرنسي أي تتفرنس، كما أن الاندماج يتطلب شرطًا آخر هو انفصام العرى تمامًا مع العالم الإسلامي. (خاتمة كتاب برنارد لويس).(1/78)
ويوضح هذا النموذج أنه بعد أن كان من الواضح خلال السبعينيات أن اندماج المسلمين الثقافي والديني لن يتحقق في ظل مبادئ العلمانية الغربية، وبعد أن تكررت مظاهر الصدام وعدم الاتفاق بين قيم المجتمعات الأوروبية الغربية وبين مطالب المسلمين خلال الثمانينيات، فإن اختفاء النظم الشيوعية في شرق أوروبا قد فرض بدوره هذه الأجندة على نحو يبدو بلا نهاية؛ ولهذا لم يعد المطروح هو النقاش حول مقولة عدم التطابق بين القيم الإسلامية وبين القيم العلمانية المنظمة للدولة والمجتمع في غرب أوروبا؛ حيث بدأت تظهر الجهود الفكرية التي تتحدى هذه المقولة وتقدم أطروحات عن إمكانيات التوفيق بين الجانبين فيما يتصل بالمواطنة وطبيعة المنظمات الاجتماعية- السياسية.
إلا أنه مع ذلك لم تقُد النقاشات المستمرة -والتي شارك فيها المسلمون بأنفسهم بآراء متنوعة- لم تقُد طوال التسعينيات إلى الاعتقاد بإمكانية حل المشكلة في مستقبل قريب، وظلت القضية المطروحة ومحل الاهتمام في الأجل القصير هي قضية الذوبان الثقافي.
وإذا كان هذا الاتجاه قد خطى خطوة للإمام مقارنة بالرؤية التي طرحها برنارد لويس في الثمانينيات، فإنه قد خطى أيضًا خطوة أخرى بالنسبة للوجه الثاني للعملة؛ أي مسئولية أوروبا عن الاندماج من عدمه؛ ذلك لأن هذا الاتجاه وجه النظر إلى أن قضية الهوية لا تعني المسلمين فقط ولكن تعني أيضًا المجتمعات الأوروبية.
فتلك الأخيرة تخشي أيضًا على هويتها التي تبلورت عبر عدة قرون من خبرة الدولة-القومية والتي أفرزت ثقافة وطنية مشتركة. ولذا؛ فإن التحليل ينتقد عدم التوازن في الآراء التي تستدعي فقط التحديات لهوية المسلمين في أوروبا، وتتهم فيه الأوروبيين بالمركزية الأوروبية.(1/79)
ولهذا فإن الهجرة الكبيرة التي أعقب 1945 وأتت بثقافات مختلفة عن ثقافة أوربا كان لابد أن تعود إلى توترات وعدم تفاهم وصراعات. فعلى سبيل المثال بينت أحداث حرق كتاب سلمان رشدي وردود فعل الأوروبيين تجاهها كيف أضحت المجتمعات الأوروبية بعيدة عن الأولويات الدينية. ولعل المثال الصارخ على ذلك –في نظر هذه الدراسة- هو حالة فرنسا باعتبارها دولة الاستنارة، والعقلانية حيث تصبح علامات الهوية الدينية الظاهرة بمثابة عوامل اضطراب.
والحل المقترح من جانب هذه الدراسة نقلاً عن واحد من أهم مراجع دراسة وضع مسلمي أوروبا(1) يتلخص كآلاتي: نظرًا لأن مخاطر التفكك الاجتماعي لا يمكن إهمالها، ونظرًا لأن الاختلافات والتعددية –وخاصة ذات الطبيعة الدينية- كانت تاريخيًا ذات آثار مدمرة أكثر منها بنائية، لذا فإن الاختلافات يجب أن تحل في نطاق رضاء عام سياسي واجتماعي وقانوني".
وفي المقابل فإن الدراسة لم ترَ أنه قد حدث تقدم ما على هذا الصعيد لأن هذه القصة لم يتم دراستها بجدية من جانب الأوروبيين، وكان المطلوب من الأوروبيين الاعتراف بحقيقة المشاكل وحقيقة المقاومة الثقافية التي تبديها الشعوب الأوروبية تجاه المهاجرين.
فإن هذا الاعتراف –وليس إخفاؤه أو إنكاره لأي سبب من الأسباب- هو الأساس لبداية البحث عن رؤى جديدة من هذه الشعوب تجاه الجماعات المسلمة، أو التي اعتادوا أن يلقوا عليها مسئولية ما تواجهه مجتمعاتهم من أزمات نتيجة عوامل أخرى مثل التصنيع والحضر .
__________
(1) Dominique Schnapper, Commmumautés, minorités éthniques ef citoyens musulmans. (in) B. Lewis, Dominique Schnapper (eds) op, cit, pp 181- 186).(1/80)
ولذا تفاقمت الأوضاع -في نظر هذه الدراسة- نتيجة اجتماع ثلاثة أمور: هجرة واسعة النطاق، أزمة اقتصادية، إطار دولي وموقف دولي يؤثر على المدركات المتبادلة بين جماعات المسلمين في أوروبا ومجتمعاتهم المضيفة، ناهيك عن "الإرث التاريخي والذاكرة الجماعية عن الآخر".
بعبارة أخرى: هذا الطرح لم يلقِ المسئولية الأساسية على التشخيص الديني–الثقافي المتصل بالإسلام والمسلمين، ولكن امتد نطاق تشخيص المسئولية إلى الطرف الآخر مع بيان إمكانية التحرك من أجل التوفيق بين مبادئ وقيم الثقافتين.
(3) وإضافة إلى الاتجاهين السابقين يمكن رصد اتجاه ثالث(1) تبلور في ظل ازدياد حدة الجدال في التسعينيات، ونبع من إطار خبرة سويدية في مجال العلاقة مع العالم الإسلامي والعربي بصفة عامة والتي استدعت خبرة وضع المسلمين في أوروبا كمكون من مكونات هذه العلاقة.
وهذا الاتجاه يضيف إلى الإجابات المتنوعة حول السؤال الدائم التكرار عن أصل المشكلة: هل دينية-ثقافية أم سياسية –اجتماعية...؟ هل يخشى الأوروبيون على هويتهم أم على الاقتصاد أم العلمانية؟ وهل يتوقع المسلمون اندماجًا إيجابيًا في ظل تعددية ثقافية –تحت سلطة نظام علماني ذي جذور وتقاليد مسيحية-يهودية؟
ويقدم هذا الاتجاه بدوره إجابة ذات وجهين:
ومن أهم مقولات الوجه الأول لهذا الاتجاه ما يلي: ص 8
__________
(1) Gerd Nonneman: Muslim communities in the new Europe, Themes and puzzles (in) G. Nonneman, Tim Niblock., Bogdon Szajko wski (eds) Muslins communities in New Europe, Ithaca, UK, 1996.(1/81)
"إن أوروبا الحديثة ذات جذور إسلامية أكثر بكثير مما ينعكس في تصوراتنا السائدة. فأوروبا هي امتزاج الشرق بالغرب. والإسلام في أوروبا اليوم هو عنصر يجمع بين الأصالة والغرابة في آن معًا. وبغض النظر عن إمكانية بناء البيت الأوروبي وترتيبه باستلهام نموذج "الحمراء"، فمن الصعب على أي حال أن تتصور أوروبا بدون اللون الإسلامي الأخضر.
"ويقول في موضع آخر" (ص 120- 121): "..إن قوة الجذب إلى جنوب وغرب أوروبا ستظل قوية. إن مؤشر التطور السكاني يتجه بالتأكيد نحو قارة أوروبية متعددة الأجناس والأديان.
..وبصرف النظر عن دقة التقدير، لا شك أننا نقف على مشارف تبدلات جذرية في الهوية الأوروبية. إن ظواهر التفرقة العنصرية والتعصب والقومية الضيقة تستفحل وتتفاقم بسرعة متزايدة في عموم وبلدان أوروبا كرد فعل متوقع نتيجة تعاظم معدلات الهجرة التي تبدو حاليًا ضئيلة بالمقارنة مع ما ستكونه في المستقبل.
...إلى أي مدى ستفتح المجتمعات الأوروبية أبوابها لاستقبال المهاجرين من الخارج بما في ذلك اللاجئين؟ أي عناصر في هوية المهاجرين الدينية والحضارية واللغوية ستكون موضع الترحيب؟
...إن الشرط الجوهري لنجاح عملية اندماج المهاجرين يتمثل في قدرة الغرب على التعرف على الوجوه المختلفة للإسلام، والتباين بين المهاجرين المسلمين، عوضًا عن الاستسلام للمقولات والمفاهيم المغلوطة.
...إن هؤلاء المسلمين ما زالوا يعاملون هنا في الغرب على أنهم أحاديو الصفات ومتطابقون في كل شيء، وأن القواسم المشتركة بينهم هي الأصولية والتطرف. إن المسلمين في أوروبا ليسوا على الإطلاق كتلة متجانسة....
..على ذلك، يجب على أوروبا أن لا تقف في مواجهة ضد الإسلام، ولا ينبغي أن تشعر بأن هؤلاء المهاجرين المسلمين يمثلون طابورًا أصوليّا خامسًا موحدًا...
..إن الإشكالية الأهم التي تعترض سبيل المهاجرين المسلمين في أوروبا تكمن في هذا التعدد والاختلاف، ...
...(1/82)
على الرغم من أن الإسلام يقبل الآخر، ويعترف باليهود والمسيحيين باعتبارهم من أهل الكتاب، إلا أن الإسلام من حيث التجربة التاريخية كان دائمًا الطرف المهيمن والهجومي، وينبغي على المسلمين في أوروبا الآن أن يقبلوا ويتعلموا كيف يعيشون كأقلية، وعليهم أن يتفهموا ويقبلوا بالمرتكزات الأساسية للنظم الاجتماعية الحديثة في هذه القارة، ويتعلق هذا بشكل خاص بمسألة التعددية، وشرعية وعلمانية المجتمع التي تمتاز بالتسامح في نظرتها وتعاطيها –على حد سواء- إزاء الأفراد الذين لهم رؤى سياسية أو دينية مختلفة...
..وأن يُتاح لأولئك الذين يحترمون قيمنا الحصول على الدعم والمساعدة للمحافظة على هويتهم الثقافية والدينية...
..وبالمثل يجب عدم المبالغة في اعتبار كل الممارسات الدينية وتصنيفها باستسهال في خانة الأقوال الأصولية وتفسيرها على أنها تعبير لرفض التكيف في المجتمع السويدي. إن "أسلمة" المهاجرين ليست خطرة بحد ذاتها، لكن الخطر هو حين يكون معيارها الوحيد هو التناقض مع مبادئ المجتمع التعددي وأعراف النظام الديمقراطي.....
.. إن التدين الزائد لا يجب مساواته بعدم الثقة، ولا يعني رفض الثقافة الأوروبية العلمانية، لا بل ويمكن اعتبار المشاعر الإيمانية عاملاً إيجابيًّا يخلق الطمأنينة في النفوس ويعزز التسامح، وبالتالي فهو عامل مساعد على تحقيق الاندماج في المجتمع الجديد، ويجب التعامل بشكل لا تهاون فيه مع الأفراد الذين يسيئون استغلال رحابة المجتمع التعددي، ويكرسون قواهم لنشر مواعظ الحقد والكراهية ضد أوروبا والمسيحية، وبالمقابل يجب عدم اعتبار الجماعات الإسلامية المتطرفة تجسيدًا لمخطط وعالمي شامل يرمى إلى الزحف على العالم الغربي والانقضاض عليه من داخله لتقويضه. إن هذا المخطط لا وجود له في الواقع، ولا وجود لقيادة إسلامية قادرة على تخطيط مثل هذه المؤامرة...
..(1/83)
إن أوروبا قادرة فقط على استيعاب إسلام متحرر وغير سياسي، شرط أن تتم عملية الاستيعاب هذه بالتوازي مع عملية تأهيل اقتصادية واجتماعية، ونجاح مثل هذا التطور يتطلب بدوره أن تكون الهجرة نفسها منظمة وخاضعة للسيطرة، وأن تضع الدول الأوروبية سياسة مشتركة ومنسقة تساعد في خلق مجتمعات إسلامية متسامحة وليبرالية في أوروبا، ولبلوغ هذا الهدف يجب توفير الأجواء المناسبة للذين يرغبون بالاندماج، ليشعروا بأنهم موضع الترحيب والانتماء في أوطانهم الجديدة. إن الإحساس الذي ينطوي عليه التساؤل "أين وطني؟"، يعد حقلاً خصبًا لاستنبات الأصولية، وتشكل الأحياء الخاصة بالأقليات الفقيرة والمغلقة أيضًا...
..فإن الجاليات المسلمة في أوروبا يمكن أن تتحول إلى جسور بين أوروبا والبلدان التي نزحوا منها، وعندها سيتمكن "المسلمون الأوروبيون" من أن يصبحوا نموذجًا يساهم في نشر الفكر الديمقراطي وثقافة الحرية في بلدانهم التي هاجروا منها أصلاً، وعلى هذه الأرضية يمكن تأسيس علاقة ثلاثية بناءة وإيجابية بين الأوطان الأصلية والأوطان الجديدة والجاليات المسلمة..."
بعبارة أخرى بقدر ما يعترف هذا الاتجاه بالمكون الإسلامي في البناء الأوروبي الجديد وقدرته على الاندماج، فهو أيضًا يميز –على صعيد المسلمين- بين من هو قادر وراغب في الاندماج وبين ما هو رافض له؛ أي إنه لا يطلق التعميم –كما فعل برنارد لويس- حول عدم إمكانية المسلمين الاندماج نظرًا لطبيعة المفهوم القرآني عن الإسلام كدين، إلا أنه لم يتوانَ من ناحية أخرى عن تحديد شروط الاندماج وسماته، اللازمة لتكوين "إسلام أوروبي"؛ لأنه ليس من الممكن -من وجهه نظره– تصور اتحاد أوروبي خال من اللون الأخضر ومن العنصر الإسلامي. إلا أنه لم يجب عن السؤال: هل يمكن بناء البيت الأوروبي على أساس نموذج "الحمراء" في الأندلس؟ وكيف يختلف هذا الإسلام الأوروبي عن الإسلام في مناطق أخرى؟(1/84)
ولهذا لابد أن يثور التساؤل: ما هو الموقف من هذه الشروط التي تتلخص في ثنائية "ظهور الإسلام" ولكن على "النمط الأوروبي"؟ فأين إذن "الإسلام الأوروبي" من فقه الأقليات المسلمة في أوروبا"؟
(4) نموذج رابع من اتجاهات تشخيص وتفسير وضع الإسلام والمسلمين في أوروبا تبلور في ظل أحداث –ما بعد الحرب الباردة وتدشين فكر "صدام الحضارات" والتمهيد لتحوله إلى واقع –كما حدث بعد سبتمبر 2001- إنه الاتجاه(1) الذي انطلق من مناقشة مدى ما يمثله المسلمون في أوروبا من تهديد باعتبارهم جزءًا من مخطط إسلامي عالمي للهيمنة، وذلك بعد أن احتل الإسلام مكان الصدارة كقوة مؤثرة في العلاقات الدولية، ولكن من منظور المحذرين مما يمثله من تهديد وخطر على الحضارة الغربية والأمن والاستقرار العالمي" (منذ ما قبل الحادي عشر من سبتمبر بنحو عشر سنوات).
ولذا فإن هذا الاتجاه يبين كيف انعكس هذا المناخ على الموقف من مسلمي أوروبا؛ حيث أضحوا يواجهون بتيار من العداء للإسلام "anti-islam-ism" وقيود شديدة على الهجرة تنبع من مقولات عنصرية دائمة، ومخاوف من الإبادة على غرار ما تعرض له مسلمو البوسنة، في نفس الوقت الذي أخذ يتبلور بين مسلمي أوروبا الوعي المتزايد بالذات وضرورة مواجهة هذه التحديات ومواجهة تزايد نشر الصور المشوهة عن المسلم باعتباره غير عقلاني، من العصور الوسطى، يقهر المرأة، يعادي الحداثة والديمقراطية، في نفس الوقت الذي تبلور لدى بعض المسلمين "تصور ذاتي" يفترض تفوقهم الأخلاقي واحتكارهم للحقيقة وكونهم ضحية لمؤامرة تسببت في ظهور كل مشاكل المسلمين نتيجة الفساد الغربي، والعنصرية والعداء للإسلام.
__________
(1) J.Nielsen, Muslims, Christians and loyalities in the Nation- State (in) J.Nielsen (ed), Religion and Citizenship in Europe and the arab world, London 1992.(1/85)
ويبني هذا الاتجاه أطروحاته على عرض واف ومعمق لهياكل الوجود المسلم في أوروبا وتطوراته الاجتماعية السياسية على اعتبار أن فقه الواقع هو ضرورة مسبقة لمناقشة التصور عن الإسلام والمسلمين سواء بواسطة المسلمين ذاتهم أو بواسطة الإطار الأوروبي المحيط.
بعبارة أخرى: تتراجع لدى هذا الاتجاه العوامل الدينية-الثقافية في مواجهة العوامل الاجتماعية-السياسية عند تشخيص وتفسير أزمات المسلمين في أوروبا، والتي تجعلهم يتجهون إلى مطالب "الجماعات" أكثر من اتجاههم إلى مطالب باعتبارهم جزءًا من مجتمع أكبر يتحدد الانتماء إليه وفق معيار ما الذي يفعله الفرد وموقفه من الآخرين وليس وفق معيار من هو هذا الفرد.
(5) اتجاه خامس(1) يهتم بالتحولات التي يتعرض لها المسلمون ويتعرض لها فهمهم للإسلام نتيجة هجرتهم وانتقالهم؛ وهي التحولات التي تطرح للنقاش مجموعة من القضايا سواء على مستوى الحوار البيني المسلم أو مع غير المسلمين. كما أنها التحولات التي تحدث في ظل العولمة والتفاعلات عبر المحلية (وليس فقط عبر القومية). فإن العوامل التي تحيط بظاهرة الهجرة المسلمة تؤثر على نمط معايشة المهاجرين لإسلامهم ومراجعتهم لهم في إطار "الدياسبور"، على اعتبار أن هذه الهجرة هي جزء من التحولات الاجتماعية الثقافية العالمية التي يتسم بها النظام العالمي؛ ولهذا يلخص هذا الاتجاه أطروحته في عبارة واحدة:
Traveling Islam becomes travel within Islam
ويصبح الأكثر أهمية هو تحديد ما الذي يتغير وما الذي يظل ثابتًا؟ وعادة –وفق هذا الاتجاه ما يأخذ التغير واحدا من أشكال ثلاثة: التغير في مغزى الأفكار والممارسات، ترجمة لغة الرموز الإسلامية إلى لهجة عبر محلية، بناء أشكال جديدة من التعبير عن الإسلام.
__________
(1) انجمار كارلسون: مرجع سابق، ص 8، ص ص 120- 121.(1/86)
بعبارة أخرى: هذا الاتجاه يقوم على أن الإسلام حين ينتقل ويستقر بين غير مسلمين لابد أن يتغير فهم المسلمين له. وبذا يظهر عملية إعادة تفكير في الإسلام rethinking Islam؛ وهو الأمر الذي يطرح النقاش حول طبيعة مخرجات هذه العملية؛ ذلك لأن المسلمين يواجهون صعوبة –وفق هذا الاتجاه- في تحديد ما إذا كانت عمليات العولمة محايدة ثقافيًا، وبالتالي يستطيعون التعامل في إطارها بدون خوف على قيمهم وتقاليدهم، أم أن عليهم أن يحذروا من أجندة أخرى ومجموعة العمليات العالمية التي تسعى لقهر ومحو مطالبهم بالتميز والاختلاف عن الغرب؟
ومن أهم دلالات هذا التحليل –بغض النظر الآن عن تفاصيل محتواه عن أشكال ومخرجات إعادة التفكير في الإسلام في الدياسبورا- ما يلي: أن مسلمي الدياسبورا عليهم دور حيوي للقيام به: "فإنهم هم الذين يقعون في أفضل موقع للقيام بانتقاد تجديدي مستمر لدينهم، كما أنهم الأكثر فعالية في تقديم هذا الإسلام الجديد للعالم".
وهكذا، ومرة أخرى، يتم استدعاء "إسلام جديد" بعد الحديث عن "إسلام أوروبي"؛ وهما صورتان من الإسلام على مسلمي الغرب تقديمهما ليس لأنفسهم فقط، ولكن لباقي الأمة الإسلامية (كرافد من روافد التجديد والإصلاح المطلوبين في الأمة)، بل للعالم أجمع. وهو الأمر الذي من شأنه مرة أخرى أن يطرح السؤال التالي:
ما المسافة بين هذا "الإسلام الجديد" وبين فقه الأقليات المسلمة الذي يقوم عليه مجلس الإفتاء الأوروبي؟ ناهيك عن المسافة بينه وبين التجديد المرتقب في الدول الإسلامية ذاتها؟
((1/87)
6) جانب آخر أو مدخل آخر من مداخل النظر في تشخيص وتفسير وتقويم "الوجود المسلم في أوروبا"؛ هو ما مارسه ويمارسه الإسلام من آثار في أوروبا الغربية المعاصرة. ومن أهم أبعاد هذا التأثير –كما يقدمه البعض(1)- هو أن الاهتمام بأوضاع الإسلام والمسلمين في أوروبا قد أفرز وصفًا أصبح فيه الدين هو المتغير الأهم عند مناقشة قضايا الأقليات الإثنية؛ ذلك لأنه أدى للتعامل مع الأفراد والمجتمعات بناء على التعريفات التي صاغوها هم لأنفسهم، والمسلمون عرفوا أنفسهم بأنهم مسلمون، إلا أن تحديد الهوية –على أساس الدين- وإن صار أمرًا مقبولاً وشرعيًا –وفق هذا التحليل- إلا أنه يمكن إساءة استخدامه إذا صار التعريف وفقًا للدين هو الأساس.
ولهذا وفي ظل تطور الثمانينيات والتسعينيات (التي أفرزت مطالب الهوية الإسلامية) يرى هذا الاتجاه أن هذا الوضع يدفع بالأوروبيين لمراجعة الطريقة التفليدية في فهم هويتهم القومية وحتى يتلمسوا الطريق بين هويتهم القومية القديمة وذلك الشيء الجديد الذي لم تتضح طبيعته بعد؛ حيث إن الثقافة الأوروبية التي تولدت نتيجة عملية تاريخية طويلة تتعرض للتغيير الآن، وعلى الأوروبيين أن يقبلوا –حتى يحدث التغيير- المواجهة بين "نحن" و"الآخر"، "وتحديدًا اللقاء بين أوروبا وسكانها المسلمين الجدد ليست حدودًا تقع على هامش الحدث، إنها هي الحدث الأساس. إن مناطق المواجهة تلك هي التي سيبزغ منها مستقبل أوروبا الجديدة".
(7) وأخيرًا، هل برز جديد بعد 2001، يقدم تراكمًا إضافيًا على المداخل السابق عرضها؟
__________
(1) Steven Vertovec, Ceripeach: Introduction, Islam in Europe and the politics of Religion and community (in) S. Vertoves, C. Peach (eds) Islam in Europe, Center for Research in Ethnic Relations, University of war wick, 1997.(1/88)
الاستعداء على المسلمين لعدم قدرتهم على الاندماج، قدرة المسلمين على الاندماج إذا ما توافرت السياسات الأوروبية المساعدة على ذلك، التحذير من مخاطر الأصولية والتطرف والإرهاب، الحديث عن التغيرات التي تطرأ على المسلمين وعلى فهمهم للإسلام نتيجة هجرتهم، وفي نفس الوقت الحديث عن التحديات التي تواجهها الهوية الأوروبية تحت تأثير الإسلام والمسلمين....؟ وجميعها رؤى كلية تحدد الإطار العام الذي يحيط بقضية "العمل السياسي أو المشاركة السياسية للمسلمين في أوروبا" وتشكل الأبعاد الممكنة له.
يمكن القول إن أمرين استجدا على المناقشات في ضوء عواقب أحداث 2001 وفي ظل الحرب الأمريكية على الإرهاب:
الأول- هو "إجراءات فرض الاندماج بقوة القوانين"؛ ومثالها الحي القانون الفرنسي عن الرموز الدينية الظاهرة. وهو الأمر الذي أفرز جولة جديدة من نقاشات مراجعة العلمانية ومن النقاشات حول العلاقة بين الإسلام والعلمانية وحول ضمانات حماية "الهوية الإسلامية" في ظل الاندماج.(1/89)
فمن ناحية فإن قراءة "تقرير ستازي"(1) وخطابات شيراك قبل وبعد إصدار القانون(2)، وكذلك قراءة اتجاهات مناقشة القانون في الجمعية الوطنية(3) تبين كيف –أنه بالرغم من الاعتراف بعوائق الاندماج النابعة من الأوضاع الاجتماعية السياسية التمييزية ضد المسلمين، فلقد وصلت القناعة ذروتها بأن "الإسلام الظاهر" يمثل عائقًا أمام الاندماج لأنه يعلن مشروعًا سياسيًا ويترجم موقفًا أيديولوجيا. بعبارة أخرى جسد تقرير ستازي القناعة -في هذه المرحلة- بأن المسلمين من الصعب إدماجهم بسبب إسلامهم؛ فيخلص جزء منه إحدى القراءات للتقرير(4) الآتي:
"... قد يظهر شعور لدى قارئ التقرير أن هناك استهدافًا للرموز الإسلامية بصفة خاصة وإحساسًا بصعوبة اندماج المسلمين دون غيرهم، .. ففي حين سيقت عدة أمثلة عما يسببه الحجاب من اضطرابات وتوترات بشكل مباشر وما يمثله من انتهاك لمبدأ المساواة بين الرجل والمرأة، فإن النبرة تختلف عند تناول الكيبا، حيث أكد التقرير أن هناك مخاطر وتهديدات تواجه من يرتديها، ولذا فمن دواعي الأمن وبهدف الحماية من الإهانات يأتي إجراء منع ارتدائها، وبينما تمت الإشارة سريعًا إلى ما يتعرض له المسلمون من مضايقات قدم التقرير إحصائية دقيقة عن عدد حالات الاعتداء المختلفة على اليهود".
__________
(1) Peter Mandaville: op.cit, pp 114-118, pp 145-150.
(2) يورجين نيلسون: آثار الإسلام في أوروبا الغربية المعاصرة ترجمة علياء وجدي (في) د. نادية محمود مصطفى (محرر) مسارات وخبرات متنوعة في حوار الحضارات برنامج حوار الحضارات، القاهرة، 2004.
(3) د. باكينام الشرقاوي: قراءة في تقرير ستازي (تقرير مراجعة تطبيق العلمانية في فرنسا) (في) د. نادية محمود مصطفى (محرر) الهوية الإسلامية في أوروبا.. مرجع سابق.
(4) د. فريدة جاد الحق: قراءة في خطاب الرئيس الفرنسي جاك شيراك (في) مرجع سابق.(1/90)
ومن ناحية أخرى، جرت مراجعات للعلمانية ومواقعها من الأديان وخاصة الإسلام، حتى إن البعض(1) تساءل (عن مغزى القانون الفرنسي) هل هو عداء للإسلام أم علمانية متشددة؟ موضحًا أن القضية تشير إلى جمود النموذج العلماني الفرنسي مقارنة بنظيره الأنجلو-ساكسوني، لأن النموذج الفرنسي لا يرغب في تطوير علمانية الجامدة لتتقبل درجة من التنوع داخل المجتمع الفرنسي لا يتعارض التعبير عنها مع قيم العلمانية أو النظام الجمهوري.
كما وضح هذا الاتجاه كيف أن المعضلة الحقيقية تكمن في جانب آخر؛ وهو الأحكام النمطية التي يروج لها الإعلام الغربي والتي تتمثل في أن "المواطن الصالح هو الذي يعيش مثل الأوروبيين ويجب أن يبتعد عن الدين حتى يكون حداثيًا وديمقراطيًا، ولهذا دخل الإسلام الفرنسي في حالة حرب مع المحجبات، وليس من مع نماذج الفشل الفرنسية في علاج مشاكل المهاجرين الاجتماعية والاقتصادية، بل والتمييز ضدهم على نحو يدفعهم إلى العزلة وليس الاندماج، وهي العزلة التي لا ترجع بالضرورة ودائمًا لأسباب دينية بالأساس.
الأمر الثاني- هو قدر ما يمثله المسلمون –وخاصة الأصوليون- من تهديد للأمن الأوروبي؟ وهو سؤال قديم جديد بادر الأوروبيون بطرحه منذ بداية التسعينيات وتجدد بقوة بالطبع بعد 2001، وشارك فيه بصورة ملحوظة الأمريكيون، ولا ينفصل هذا الأمر عن الأول –الخاص بالاندماج بالقوة- على اعتبار أن أحد أهم سبل تفسير التطرف والإرهاب أنهما نتاج عدم الاندماج، وأن هذا الأخير ذو أسباب ثقافية دينية.
وتتعدد الرؤى والأطروحات على هذا الصعيد (الربط بين عدم الاندماج بأسبابه المختلفة وبين التطرف والإرهاب) ونكتفي بالإشارة إلى بعض من أهمها:
__________
(1) د. نادية محمود مصطفى: ملامح خطابات رسمية وبرلمانية فرنسية (في) مرجع سابق.(1/91)
فمن ناحية- قدم أحد التقارير الاستراتيجية الصادرة عن واحد من أهم مراكز التفكير في الولايات المتحدة(1) تحليلاً وافيًا لأسباب عدم اندماج المسلمين في أوروبا والولايات المتحدة، داعيًا للإسراع بعملية التكامل التدريجي للمسلمين وإتمامه، وتوضيح أن العقيدة الإسلامية ومبادئها لا تمثلها الأصوات المتطرفة العالية. والجدير بالملاحظة أن ما قدمته دراسات هذا التقرير –بأقلام متخصصين في هذا المجال- لم يقدم جديدًا مقارنة بما درج عليه التشخيص والتحليل طوال عقد سابق على أحداث 2001، وربما الاختلاف هو ليس في طبيعة العوامل المذكورة ولكن فيما أضحت عليه درجة حدتها وتحديها.
ومن بين أسباب عدم الاندماج التي ذكرتها دراسات هذا التقرير ما يلي:
1- تتعقد عملية التكيف والاندماج نظرًا للتعقد في العلاقة بين الجاليات المسلمة في العالم الإسلامي وخاصة مع زيادة حدة الاتصالات في ثورة المعلومات.
ففي حين ساعد الإطار الديمقراطي في أوروبا "المثقفين المسلمين من التوصل إلى تفسير جديد للإسلام يبين إمكانية التعاون بين الإسلام والحداثة، فلقد تسربت –في نفس الوقت أفكار المسلمين الراديكاليين إلى الجاليات المسلمة مما يستلزم منع انتشار هذه العدوى(2).
__________
(1) د. باكينام الشرقاوي: مرجع سابق، ص 109.
(2) د. عمرو الشوبكي: حظر الحجاب في فرنسا علمانية متشددة أم عداء للإسلام؟ (في) د. نادية محمود مصطفى: الهوية الإسلامية في أوروبا.. مرجع سابق، ص 61- 64.
- ... وانظر أيضًا تحليلاً للاتجاهات الفرنسية المتنوعة المواقف من هذه القضية في: د. هبة مشهور: خريطة المشهد
العام داخل فرنسا: بين مواقف التأثير والمعارضة (في) مرجع سابق.(1/92)
2- النظرة الموحدة أو النمطية (Sterotypes) عن الجاليات المسلمة والتي يواجههم بها الأوروبيون تقوي شعورهم بعدم الانتماء، وخاصة أن مهاجري الجيل الأول مازالوا يتمسكون بأسطورة العودة للأوطان الأم. كذلك تنعقد محاولات الاندماج من جراء تأثير الإطار التاريخي للعلاقات بين الإسلام والمسيحية ابتداءً من الحروب الصليبية وحتى ما يحدث في فلسطين والبوسنة والشيشان وكشمير.
3- المعايير المزدوجة التي تتعامل بها المجتمعات الغربية مع الإسلام مقارنة بالتسامح الذي تتعامل به مع المسيحية واليهودية. وبالتالي فالمسلمون يتلقون رسائل متناقضة من الدعوة لاندماجهم من ناحية والعمل على إبعادهم واتهامهم دائمًا بأنهم مصدر تهديد، وإذا كانت الجماعات المتطرفة تساهم في إذكاء هذه الصورة، فإن وسائل الإعلام الغربي تركز على المسلمين كأجانب أو متطرفين ولا تبرز كفاحهم من أجل الاندماج.
4- تدخلات بعض الدول الإسلامية لتقديم دعم مالي للجاليات المسلمة يضعف من الاندماج ويزيد من انقسام الجاليات المسلمة ومن ظهور الجماعات المتطرفة(1).
5- الذاكرة المشتركة بين الطرفين عن العلاقات التاريخية وخاصة في ظل الاستعمار، تخلق ضغطًا كبيرًا على المسلمين حيث إنه من الصعب على الأوروبيين أن يقبلوا أن يكون أبناء المستعمرات السابقة (الذي ثاروا ضدهم وحاربوهم) أن يكونوا مواطنين أوروبيين. ولذا ليس من السهل أن يوجد مسلم في أوروبا من أصول وقومية وثقافية مختلفة عن باقي الأوروبيين. وخاصة أن الأوروبيين يتجاهلون ما يحدث من تغييرات في المسلمين ويركزون فقط على ما يربطهم بالقضايا الدولية الكبرى والتهديدات الإرهابية عبر القومية.
__________
(1) تقرير مركز الدراسات الاستراتيجية في واشنطن تحت عنوان "الإسلام في أوروبا والولايات المتحدة زمن تحرير شيرين هانتر (من على موقع المركز على الشبكة الإليكترونية.(1/93)
6- الظهور الواضح للإسلام في أوروبا في الثمانينيات والتسعينيات قد سبق ظهور الإسلام السياسي في الدول العربية والإسلامية، وبالرغم من العلاقات مع الدول الإسلامية إلا أن للجاليات المسلمة استقلالية عن هذه الدول، بل إن هناك توجها بين الأجيال الجديدة لعدم التمييز بين المسلمين على أسس عرقية أو قومية، بالإضافة إلى ظهور أجيال من المسلمين من أصول أوروبية، وهم يريدون تطوير خصوصية للإسلام الأوروبي ترتبط بالأوضاع التي يعيشونها في دولهم الأوروبية؛ لأنهم لا يريدون أن يكونوا علمانيين أو أن يهجروا الإسلام؛ ولذا يريدون تقنين الوجود الإسلامي في الإطار الاجتماعي العام إلا أن هذه الجهود لا يتقبلها معظم الأوروبيين إلا بسوء فهم(1).
خلاصة القول: على ضوء العرض لهذه الخريطة، نجد أنه بغض النظر عن تعدد مداخلها فهي تجتمع على "الاندماج حلا لمشاكل المسلمين".
ولذا ألا يمكن القول إن السؤال المطروح علينا يجب أن يكون: هل يقبلنا الأوروبيون بشروطنا؟ وهل يمكننا الاندماج وفق شروطهم؟
ومن ثم؛ هل ما يجري حتى الآن من جانبنا هو فقه مشاكل الوجود أم يجب أن يتصدى أيضًا هذا الفقه لمحاولات اقتلاع الوجود ذاته، مما يتطلب رؤى كلية عن وضع المسلمين وليس فقط رؤى جزئية في فقه بعض المسائل المحددة؟
وينتج عن مجمل النظر في هذه الخريطة تلخيص مفاده التالي:
إن معضلة العلاقة بين الحفاظ على الهوية (ذات المصدر الديني (الإسلامي) وبين اكتساب حقوق المواطنة (ذات المصدر العلماني الحداثي)الليبرالي، إنما تقع في صميم النقاش حول الأصول السياسية لفقه الأقليات المسلمة أو فلنقل الجماعات المسلمة في الغرب؛ وهي معضلة في حاجة لاجتهاد (فكري-نظري إسلامي) حول موضع الدين من المواطنة ومن الهوية وعدم تناقص هذا الموضع مع "التعددية" والديمقراطية.
__________
(1) الفصل الأول من التقرير تحت عنوان "مقدمة والتقرير إعداد شيرين هانتر، المرجع السابق.(1/94)
هذا الاجتهاد يمكن أن يضيف ويراكم على الساحة العلمية التي تزخر بالنقاشات حول هذه الأمور مع التجدد في الاهتمام بالأبعاد القيمية والدينية والثقافية في دراسة العلوم الاجتماعية الحديثة من منظورات متنوعة، كما أن هذه المعضلة (الهوية/ المواطنة) في حاجة لاجتهاد فقهي شرعي أيضًا لبيان أمرين:
هل يمكن أن يصبح الإسلام حبيس المجال الخاص؟
وما هي قواعد ظهوره في المجال العام بحيث لا يبدو متناقضًا مع قواعد النظام العام وقوانين الأوطان الجديدة (التي يفترضها الاندماج)؟ وفي نفس الوقت كيف يحافظ على قيم سلوك المسلم والتزامه الخلقي والإنساني والمجتمعي؟
إذن ماذا قدم مسلمو أوروبا وغيرهم من المسلمين –من خارج التخصص الشرعي- من رؤى تتعامل مع هذه الكليات والأصول السياسية؟
ثانيًا- الأوروبيون المسلمون (أم المسلمون الأوروبيون؟) وفقه المواطنة والاندماج
الأقليات المسلمة، الجماعات المسلمة، الدياسبورا المسلمة،.. مصطلحات يتردد وصف مسلمي أوروبا –وغيرهم- بها، وهؤلاء المسلمون أنفسهم ليسوا كتلة واحدة بل يجدر التمييز بين فئات منهم كما سبقت الإشارة، فهناك الأصوليون (حزب التحرير والمهاجرين) الذين يدعون للعزلة والانغلاق ويكفرون المجتمعات الأوروبية ويدعون لتغييرها، والإسلاميون الوسطيون المعتدلون المدافعون عن الاندماج ولكن بوصفه اندماجًا إيجابيًا يقوم على المواطنة من ناحية والحفاظ على الهوية الدينية والثقافية من ناحية أخرى، وأخيرًا هناك المسلمون (دينًا) والذين لا يعرّفون أنفسهم بالإسلام وهم الأقرب إلى الاستيعاب في القيم الأوروبية وطريق الحياة الأوروبية.(1/95)
وموضع التركيز هنا هو الفئة الثانية أساسًا وهي التي تقدم استجابة فكرية للتحديات التي تفرضها الرؤى الأوروبية المتنوعة –السابق رسم خريطتها- وهي من ناحية أخرى تقدم اقترابًا آخر تحت اسم "فقه الاندماج والمواطنة"، وليس فقه الأقليات مما يعطي مساحة للمقارنة مع مدرسة فقه الأقليات السابق تناولها في الجزء الأول من الدراسة حيث إن هذه الفئه (فئة الاندماج والمواطنة) هي التي يصفها البعض(1) بمتفقهة الأقليات الذي ينطلقون من المبادئ والكليات والقيم العامة وروح القرآن ومقومات الرسالة الإسلامية، وذلك على عكس الفقهاء المستندين إلى مصادر وأدلة الشرع؛ أي إنهم –وفق هذا التصور أيضًا- هم الذين لا يدعون الرسوخ في علم الفقه ويشرون لأنفسهم كدراسين أو باحثين أو ماشابه ذلك، ويرون أيضًا أن لهم حق التعامل المباشر مع شِرْعَه دينها كتابًا وسنة.. وأن يتجاوزوا الفقه الموروث.
بعبارة أخرى هذه الفئة من متفقهة الأقليات تقدم حججًا وتفسيرات وتشخيصا تستند إلى أسس فلسفية واجتماعية، وتتجه أساسًا إلى ما يسمى حلولاً أوروبية لمشاكل "الأوروبيين المسلمين".
كما أن هذه الفئة من ناحية ثالثة: تمثل استجابة لتحديات ما بعد الحادي عشر من سبتمبر، فلقد تبلورت آراؤها وأضحت أكثر ظهورًا وانتشارًا منذ ذلك الحين، ونذكر بصفة خاصة رؤى التيار الذي يمثله د. طارق رمضان والذي يشارك في قسماته الكبرى أطروحات منظرين ومفكرين وناشطين آخرين من الجيل الثاني من مسلمي أوروبا.
__________
(1) الفصل الثاني من التقرير تحت عنوانه: "الإسلام كظاهرة غربية: التداعيات لأوروبا والولايات المتحدة من إعداد جون اسبوسيتو.(1/96)
وعلى هذا النحو فإن هذه الفئة تمثل الاستجابة للمرحلة الثالثة من مراحل تطور علاقة المسلمين بالمجتمعات الأوروبية التي هاجروا إليها باعتبار أن المرحلة الأولى هي مرحلة ما أسماه البعض(1) مرحلة الإسلام الهادئ (1900- 1972)، والمرحلة الثانية هي مرحلة ظهور الجيل الثاني من المسلمين (1973- 1988)، التي تبلور فيها تعبير المسلمين عن أنفسهم وتنامت فيها مطالبهم بحقوقهم حفاظًا على هويتهم أو المرحلة التالية (1989- ....) هي مرحلة المواجهة التي ازدادت صدامًا بعد 2001 وبعد تفجيرات أوروبا –في أسبانيا وفرنسا ولندن- وتنامت خلالها اتجاهات العنصرية الأوروبية واليمين المتطرف مستغلين الأحداث الخارجية (الانتفاضة، الحرب على العراق) من ناحية وأعمال العنف المسلح من قبل الأصوليين الإسلاميين في أوروبا من ناحية أخرى لإضفاء مزيد من السوء على صورة المسلمين وتصويرهم على أنهم يمثلون تهديدا لقيم المجتمعات الأوروبية وثقافتها.
ولذا تصاعدت في هذه المرحلة الاستقطابات الحادة بين المسلمين والمجتمعات الأوروبية والتي اتخذت أشكالاً عدة، لم تمنع بدورها من ظهور مؤشرات إيجابية هامة من بينها تزايد عدد معتنقي الإسلام –وخاصة في فرنسا- على نحو غير مسبوق، وتزايد مبيعات الكتب عن الإسلام(2).
__________
(1) الفصل والثالث من التقرير تحت عنوان ملف الإسلام الأوروبي من إعداد جوسلين سيزاري.
(2) مدحت ماهر: مرجع سابق.(1/97)
ومن وسط هذا السياق تبلورت رؤى هذه الفئة من مسلمي أوروبا متحدثة بفقه الاندماج وفقه المواطنة كسبيل المواجهة هذه الهجمة الجديدة على الإسلام في أوروبا –بعد أن كان قد قطع شوطًا في النمو والتأسيس خلال الثمانينيات والتسعينيات- وهذه الهجمة الجديدة هي محصلة تأثير عدة محددات داخلية أوروبية وأقليمية (شرق أوسطية) وعالمية(1).
إذن ما الجديد الذي قدمه فكر هذه الفئة عن العلاقة بين الإسلام / العلمانية / الحداثة، ومن ثم عن المواطنة والاندماج؟ أي حول الإطار المقارن الذي سبق تحديده في مقدمة الجزء الأول من الدراسة؟
ودون التقليل من إسهام فكر آخرين(2) إلى جانب طارق رمضان فسأقتصر في هذا الموضع الآن على التفصيل في إسهام هذا الأخير باعتباره مفكرا أو أستاذًا جامعيًا وناشطًا مدنيًا أثار قدرًا كبيرًا من الاهتمام والنقاش حول أفكاره(3)؛
__________
(1) حسن أبو طالب (رئيس تحرير): التقرير الاستراتيجي العربي (2004- 2005)، المسلمون في أوروبا أزمات الاندماج في بيئة مغايرة، ص 141-144.
(2) حول بعض المؤشرات السلبية (2004) تجاه المسلمين في أوروبا، انظر المرجع السابق، ص 149- 152.
(3) حول هذه المحددات انظر على سبيل المثال:
- عمرو الحمزاوي (محرر): حركات اليمين الراديكالي في أوروبا وأزمة الديموقراطية الليبرالية، أوراق أوروبية، العدد 2، مايو 2005، مركز الدراسات الأوروبية، جامعة القاهرة، 2005.
-J. Nielsen: Islam in Europe in to the next millennium (in) S. Vertovec, C. peach (eds) op. cit.
- وعن تدني وضع الدين في أوروبا وأثار ذلك على التوجه نحو المسلمين انظر:
- Noelle Knox: Religion takes back seat in Western Europe. Us Today.
www.Ustoday.com/news/ world/2005-80/10europe-religion-cover.
- ... عن وضع الأديان في فرنسا على سبيل المثال، انظر: دانييل هرفيوليجيه: وضع الأديان في فرنسا، (نص مترجم من أرشيف السفارة الفرنسية في جمهورية مصر العربية).
- ... وحول رؤية المحافظين الجدد واليمين الديني في الولايات المتحدة لآثار الوجود المسلم في أوروبا، انظر:
- ... Daniel Pipes, Muslim Europe, NewYork Sun, May 11, 2004.
US slams Europe in Muslim Integration, by Tresa Kuchler, eu Observer, 4/6/2006: www euobserver. Com / 9 / 21327.(1/98)
وباعتباره أيضًا من ذلك الرافد –في إطار فقه المواطنة والاندماج الذي يركز على نقد الذات أولاً والابتداء بالواجبات التي على المسلمين القيام بها قبل المطالبة بالحقوق التي لهم، وفي المقابل فهناك رافد آخر يركز على نقد سياسات أوروبا ومجتمعاتها وتأكيد مسئوليتها ابتداء من توفير فرص الاندماج للمسلمين الأوروبيين.
ويمكن تلخيص محور أطروحاته على النحو التالي:
هو يتحدث أساسًا عن "الأوروبي المسلم" وليس "المسلم الأوروبي". فمشروعه الأساسي الذي يخدمه فكريًا وحركيًا هو إيجاد شخصية أوروبية مسلمة متجانسة والبحث عن المشترك بين المسلمين وغير المسلمين، ورفضه ثقافة الضحية والاستضعاف وعقد النقص والاضطهاد.
ولذا فإن أهم مؤلفاته يتخذ عنوانًا "الغربيون المسلمون ومستقبل الإسلام". خلاصة هذا القول التمهيدي أنه يمثل فكر ما يسمى "الإسلام الأوروبي والإسلام النقدي"، ويمكن عرض خريطة أفكاره أو منظومتها –من واقع قراءة بعض مقالاته(1)
__________
(1) نذكر على سبيل المثال لا الحصر:
- Mohamed Mestiri, From The Fiqh of Minorities to The Fiqh of Citizenship: Challenges of Conceptualization and Implementation; (in): Fiqh Today: Muslim as Minoreties Conference, op.cit.
- Louy Safi: Muslim Minorities and Universal Worldview: The Role Muslim Social Societies in Differentiating Universal from the Particular; (in): Ibid.
- Dilwar Hussain: The Need for A European Fiqh and The Normalization of Islam in Europe; (in): Ibid.
- Muhammad Brich: Fiqh for Minorities and Maqaid Al-Shariah; (in): Ibid.
- Ihsan Yilmaz: Micro-Mujtahids and Implementation of Fiqh Al-Aqlliyat; (in): Ibid.
- Dilwar Hussain: Europe and Islam: Mutual experiences and the future, www.islamonline.net/english/europeanmuslims/arts/2006/1/29.
- Nabil Shabeeb: Muslims in Greater Europe, www.islamonline.net/english/europeanmuslims/politics/2005/12/07.
- Farish A. Noor: What is the victory of Islam? Towards a different understanding of the ummah and political success in the contemporary world (in) Omid Safi (ed) progressive muslims 2003, one world- publication.(1/99)
- فيما يلي:
1- بينما عرف المسلم –في إحدى مقالاته 2002 بالجانب العقيدي مستبعدًا التعريف المتصل بالثقافة الإسلامية أو تأدية فرائض الإسلام، فإنه في مقال آخر -على موقع إسلام أون لاين 2006- أشار (في هامش) أن قضية الاندماج لا تنطبق على المسلمين الذين قرروا عدم ممارسة إيمانهم.
ويرى د. طارق أن اهتمامات المسلمين في أوروبا –والنابعة من نمو إدراكهم بضرورة فهم دينهم بطريقة أفضل وأعمق- هي الحفاظ على الديانة الإسلامية، الحفاظ على الإيمان وليس الثقافة، الحفاظ على القوة الروحية للإسلام حية داخل المسلم، الحفاظ على القيم والأخلاق الإسلامية رغمًا عن المعيشة في مجتمع غير إسلامي، ومن ثم ضرورة تكييف ممارسات الدين مع البيئة المحيطة لتصبح ممارسة متوازنة.
كذلك يرى أن هناك اختلافات بين المسلمين في أوروبا من حيث العرق والقومية والمذهب والتوجه، ولذا؛ فإن هناك أيضًا اختلافًا في تحديد مفهوم "الهوية الإسلامية" وفي تعريف "الثقافة الإسلامية". فمثلاً الباكستاني المسلم ليبقى مسلمًا في أوروبا يجب أن يبقى مسلمًا باكستانيًا وينعكس هذا بالطبع على قضية التعليم الإسلامي (وفق التعليم التقليدي أو في المدارس الموازية أو في نظم تكميلية).
2- وتحتل قضية الاندماج –لدى طارق رمضان- وضعا متميزًا. وهي تبني على رؤيته السابقة عن الهوية والثقافة وترتبط من ناحية أخرى برؤيته عن المواطنة:
أ) ولقد ميز في البداية بين الاندماج القانوني والاندماج الاجتماعي والسياسي والأكاديمي:(1/100)
الاندماج القانوني يرى أنه ذو أهمية من أجل إعطاء شرعية الوجود الإسلامي، إلا أنه شخص الاختلاف حول هذا الأمر: فهناك اتجاهات العزلة الاجتماعية والقانونية على حد سواء والتي ترفض الدساتير والقوانين الأوروبية (السلفيون)، في حين أن اتجاهات أخرى (حزب التحرير) تطالب بقوانين إسلامية وخاصة في الأحوال الشخصية، فهم يرفضون أن يكونوا جزءًا من النظم الوطنية الأوروبية التي يعيشون في ظلها ويرغبون في التمسك بأحكام الإسلام بدلاً من القوانين أو الدساتير الأوروبية، وأخيرًا يأتي الاتجاه الثالث الذي يحاول البحث عن سبيل للحفاظ على إسلامه أخلاقيًا واجتماعيًا وفي نفس الوقت الذي يخدم فيه الدستور الذي يعيش في إطاره، ولذا يرى طارق رمضان أن هذا الاتجاه يتطلب إعادة تفسير الفقه الإسلامي ليتكيف مع الأوضاع الأوروبية.(1/101)
أما عن التكامل الاجتماعي والسياسي والأكاديمي، فلقد أشار رمضان أن معظم المؤسسات الإسلامية تتجه نحو تحقيق الاندماج الكامل للمسلمين في المجتمعات الأوروبية ليصبحوا جزء من النسيج الاجتماعي الأوروبي، وليصبح وجودهم طبيعيًا. ومع ذلك فإن المعارضين لهذا التوجه يتمسكون بالانعزال وتنمية مجتمع بديل. ويطلق رمضان على نمط الاندماج الساعي إليه وتمييزًا له عن الاستيعاب، الاندماج الودود intimate. وتأسيسًا لتوجه الاندماج، فلقد استدعي فكرة الجماعة –في مواجهة الجيتو، والجماعة لديه ليست جماعة المسلمين فقط ولكن الجماعة الأوسع التي يعيش فيها المسلم. على أساس أن جوهر فكرة جماعة الإيمان لا تعني على الإطلاق جماعة منعزلة تبتعد عن الأطر الأكبر المحيطة؛ لأن هذا المفهوم الكلي عن "الانفصال الفكري والمادي هو مفهوم غريب عن روح الإسلام، فيجب التمييز بين ممارسة الإيمان داخل الجماعة وبين الانعزال عن المجتمع المحيط. ولهذا فإن المعرفة بقوانين النظام والمشاركة في الحياة الاجتماعية والسياسية وغيرها ضرورة تنبي على شعور أصيل بالانتماء لذلك المجتمع الأوروبي، كما تتطلب توافر معارف وقدرات عديدة حتى يستطيع المسلم أن يبزغ كمواطن أوروبي.
ب- وترتبط قضية الاندماج بقضية المواطنة لدى طارق رمضان؛ فهو يقول بأنه لا تعارض بين أن تكون مسلمًا وأن تكون أوروبيًا؛ فالولاء يجب ألا يكون للثقافة الإسلامية لدولة المنبع ولكن يجب تشجيع تنمية ثقافة أوروبية إسلامية من خلال عملية انتقائية وتطوير لثقافة المسلمين. وهذا يتم من خلال تشجيع الانغماس في المجتمع والمشاركة في الحوارات السياسية والمجتمعية، وتطوير موارد تمويل ذاتية ورفض التمويل المشروط المقدم من حكومات الدول الإسلامية للمنظمات الإسلامية في أوروبا.(1/102)
ومن ثم؛ فهو يرى أن اندماج المسلم الأوروبي في المجتمع الأوروبي سيشجع وصوله للمواطنة الحقيقية كأوروبي. بعبارة أخرى؛ فإن طارق رمضان يرى أن الطريق للمواطنة الأوروبية هو أن يحدث تكيف وتغير في الثقافات الإسلامية "المنقولة مع المهاجر"، ومن ثم لا يجب الخلط بين المبادئ الدينية وثقافة الموطن الأصلي؛ فالأوروبي المسلم يجب أن يكون مسلمًا فقط وليس مسلمًا جزائريًا أو مغربيًا أو .....
ولذا؛ فهو يطالب بتشجيع المواطنة النشطة وفي نفس الوقت الحاجة لخلق ثقافة إسلامية أوروبية، وذلك من خلال احترام المبادئ الإسلامية، وفي نفس الوقت تبني الأذواق وأساليب الحياة الأوروبية.
للاندماج والمواطنة الحقيقية مزايا عديدة، في نظر رمضان، ومنها:
يصبح صوته بمثابة صوت للمسلمين المحرومين من التعبير عن آرائهم في أرجاء العام، فعندما يشارك المسلم الأوروبي في العملية الديموقراطية في أوروبا يستطيع انتقاد سياسات الحكومات الأوروبية ويشجع التعددية والتحول الديموقراطي في أنحاء العالم المسلم. ومن الملاحظ أن طارق رمضان –على الأقل في المقالات التي اعتمدت عليها- لم يتطرق إلى دواعي الوجود التي تطرق إليها فقه الأقليات... فلماذا؟
3- بالرغم من اعتراف طارق رمضان بأن هناك صور تقدم كبيرة عن ظهور الوجود المسلم إلا أنه لا ينكر وجود عدد كبير من التحديات أمام المسلمين ليتمكنوا من العيش كمواطنين في انسجام مع بقية المواطنين- غير المسلمين.
أ- ومن أهم التحديات التي يركز عليها طارق رمضان التحديات من داخل الجماعات المسلمة ذاتها التي تدفع للحاجة للإصلاح.(1/103)
فالمسلمون –من وجهة نظره- يجب ألا يخلطوا الأمور ببعضها البعض (تحت ضغط ثقافة الاضطهاد والضحية والاستضعاف)؛ فالتمييز ضدهم في مسائل العمل والسكن ليست بسبب "العداء للإسلام" ولكنها نتاج سياسات اجتماعية يجب العمل على تغييرها انطلاقًا من حقوق المسلمين –كمواطنين- والمتساوية مع حقوق غيرهم من المواطنين. بعبارة أخرى؛ هو يطالب المسلمين بعدم الانسياق وراء "الإسلاموفوبيا" والاعتقاد أنها تعوقهم عن التقدم، بل يجب عليهم تحمل مسئولياتهم، وتطوير حججهم الواضحة والانغماس في الحوارات، ورفض تلك الرؤية الأحادية عن "نحن/ هم"، وأخيرًا دعم القيم المشتركة عن المساواة والعدالة والاحترام باسم "أخلاقيات المواطنة" ابتعادًا عن كل تداعيات نظر المسلمين لأنفسهم كأقلية منعزلة.
ب وإذا كان طارق رمضان يبدأ دائمًا بدعوة المسلمين ليكونوا الأكثر نقدًا لأنفسهم، إلا أنه لا ينسى أن يذكر الأوروبيين بما عليهم من واجبات أيضًا؛ وهي:
- القبول بأن ديموجرافية أوروبا قد تغيرت، وأنه لم يعد لأوروبا تاريخ تنفرد به، ومن ثم؛ فإن المستقبل يفترض التفاهم والاحترام المتبادل.
- عليهم مواجهة جهلهم بالإسلام، وأن يتحققوا من الأحكام المسبقة المشوهة للإسلام.
- عليهم أن يسألوا أنفسهم: هل هم مستعدون لدراسة تاريخ الحضارة المتواجدة أمامهم، والتي تكون جزء من مجتمعاتهم المتعددة؟ وهل يعتقدون أن المسلمين –بأخلاقياتهم وروحانياتهم- يمكنهم تقديم مشاركة إيجابية إبداعية لمجتمعاتهم. ولهذا؛ فإن رمضان يعترف بأن مستقبل أوروبا –في ظل وجود مسلم متنام، وهوية أوروبية منفتحة- يتوقف على نمط الإجابة عن هذه الأسئلة ومواجهة متطلبات كل التحديات السابقة.(1/104)
بعبارة أخرى، يؤكد رمضان على أن أهم التحديات هي استغراق المسلمين في وضع الأقلية؛ فليس هناك –في نظره- شيء اسمه الأقلية أو مواطن من الدرجة الثانية في أوروبا. ولذا؛ فهو يستنكر سلوك الساسة الأوروبيين الذين لا يتذكرون المسلمين إلا وقت الانتخابات، ومن ثم؛ يوظفون الدين ليحصلوا على أصوات، كما يستنكر سلوك بعض البرلمانيين الفرنسيين الذين وصفوا مرتكبي أحداث الضواحي في نوفمبر 2005 بأنهم مهاجرين، وليسوا مواطنين فرنسيين أصليين.
ولذا؛ يطالب رمضان المسلمين أن يؤمنوا بأنهم "في وطنهم" At home، وأن يشاركوا في مجتمعاتهم بصفتهم مواطنين يهدفون إلى مزيد من العدل الاجتماعي، والتخلص من "جيتو" النفس والعقل والثقافة والدين.
4- وعلى ضوء إدراكه لهذه التحديات الذاتية ومن البيئة المحيطة، والسابق شرحها وعلى ضوء تعريفه لبعض المفاهيم كالثقافة والهوية الإسلامية؛ فهو يقدم إجابة متعددة الأركان لمفهومه عن "الأوروبي المسلم"؛ فمن ناحية: الإسلام دين عالمي يقوم على مجموعة من المبادئ وتضمن الدساتير والقوانين الأوروبية حرية العبادة وحرية الضمير. فلا قانون يستطيع أن يمنع المسلم من الصيام أو يجبره على شرب الخمر. ولذا؛ يقول رمضان: أنا أستطيع أن أكون مسلما كاملا وأوروبيا كاملا في نفس الوقت.
ومن ناحية أخرى: المسلمون يجب أن يحترموا القوانين المنظمة لعلاقات المواطنة في الدول التي يعيشون فيها؛ فهذا ليس سلوك مضاد للإسلام ولكنه العكس لأن مبدأ احترام العقود من أهم مبادئ الإسلام.(1/105)
ومن ناحية ثالثة: الإسلام الأوروبي –كحقيقة ثقافية- ليس ثقافة واحدة ولكنه عدة ثقافات؛ ذلك لأن عالمية الإسلام لم تأتِ لتنمط الثقافة في كل مكان، بل هي تدعونا باسم عالمية مبادئها أن نقبل تنوع الثقافات. ولذا يقول رمضان: أنا أوروبي بالثقافة، ولكن مسلم دينًا، وسويسري الجنسية، ومصري الذاكرة، وإنساني عالمي بمبادئي. وكما يمكن أن يكون الفرنسي أو الهولندي "إنساني" النزعة؛ فإنه يمكنه أيضًا أن يكون مسلمًا.
ولهذا، فإنه يربط في طرحه الكلي بين مفاهيمه عن الجماعة والثقافة وحماية الإيمان وبين تحقق الاندماج والمواطنة والاستقلال؛ فالجماعة منطلق إسلامي أساسي يرفض مبدأ العزلة، ولذا؛ فإن استخدام مفهومي الجماعة والهوية مرتبط بالثقافة الأوروبية. هذا الرفض وهذه العزلة هي التي تجعل بعض الأوروبيين يقولون إن المسلمين ليسوا جادين في طلب الاندماج؛ لأنهم يستفيدون من حقوق المواطنة في نفس الوقت الذي يحافظون فيه على خصوصياتهم الثقافية: الملبس، المسافة بين الرجل والمرأة، الموسيقى....(1/106)
وإذا كان بعض الناس يرى أن الاندماج الحقيقي يعني التأثير على كل جوانب الشخصية؛ فإن رمضان يرفض هذه النظرة الضيقة للاندماج لأنها تتطابق مع مفهوم الاستيعاب. وهو لهذا ينبه إلى التناقض القائم بين تأكيد الأوروبيين –نظريًا- لحق المسلمين في ممارسة دينهم، وبين إنكارهم لتلك الممارسات التي يصاحبها ظهور كبير في المجال العام. وفي مقابل هذا، يرى رمضان أن مستقبل الوجود المسلم في أوروبا سيصاحبه "ثقافة إسلامية أوروبية Islamo- European Culture" تنفصل عن ثقافات العرب، والأتراك والهنود والباكستانيين، وإن ظلت هذه الثقافات الأم موضع استلهام. إلا أن الوضع الراهن يشير إلى أنه تجري الآن عملية تشكيل وبلورة هذه الثقافة الإسلامية الأوروبية الحديثة، وهي عملية لا تتم في معزل عن الإطار المحيط بل تقبل حقائق العيش في أوروبا. وبالتالي؛ فإن مزج الأفكار والمبادرات بين الشباب المسلم يمثل مرحلة جديدة من تطور الوجود المسلم.
5- ويرى طارق رمضان، أن هذا الوجود المسلم النشط المتفاعل الجديد الذي تعبر عنه الأجيال الشابة الجديدة في الجماعات المسلمة والساعية لتشكيل ثقافة إسلامية أوروبية جديدة يثير تساؤلا كبيرا حول كيفية حماية الإيمان، على أساس أن تسامح الأوروبيين مع الوجود المسلم سيكون مشروطًا بتخليهم عن ممارسة دينهم. ويرى رمضان أنه إذا كان هذا النمط من الخطابات التي قد وجهتها بعض القوى السياسية والإعلامية؛ لأغراض معينة؛ فإن الاستجابة لها باختيار اتجاه العزلة سيحقق أغراضها وأهدافها؛ وهي تحجيم الوجود المسلم. وفي المقابل يرى رمضان أنه قد تبين من خلال النقاشات الداخلية والخارجية أنه ليس هناك في نص أو روح التشريعات الأوروبية ما يعارض الممارسة الكاملة والسلمية لدين المسلم.(1/107)
ولهذا تنامت المؤسسات الإسلامية القائمة على تحقيق هذا الأمر في ظل مناخ مفتوح للحوار حول الهوية خاليًا من ردود الفعل المتشددة أو العدوانية. واعترف رمضان بأنه بالرغم من إنجازات هذه المؤسسات الإسلامية إلا أنها تواجه عقبات أمنية وإدارية بسبب الشكوك والخوف والخلط الناجم عن الاعتقاد بأن كل مسلم ملتزم هو بالضرورة "أصولي".
ويصل رمضان إلى أن المُخرج النهائي لأفكاره -وهو المواطنة في ظل الاندماج- لن يتحقق إلا بنشر الوعي بالقيم المدنية، وبدون التضحية بالدين لتحقيق مواطنة حقيقية تلزم المسلمين بالوعي بكل من حقوقهم والتزاماتهم في السياق الأوروبي، وهو الأمر الذي سيتولد معه "اندماج ودود Intimate integrate" في المجتمع الأوروبي، لن يجعل من المسلم إنسانا أقل إسلامًا حتى يصبح أوروبيًا، بل سيجعل من اندماج المسلم إسهامًا إيجابيًا في المجتمع الأوسع، مع احتفاظ هذا المسلم بتكامله الروحي والخلقي والقيمي.
6- وأخيرًا، لقد حدد رمضان موضع فكره –كمعبر عن فكر الجيل الثاني والثالث- مقارنةً بفقه الأقليات باعتباره الأكثر تصديًا للأبعاد الاجتماعية- السياسية؛ فإن رمضان يرى أن مشكلة هوية المسلمين لم تتولد إلا مع الجيل الثاني من المهاجرين الذين تبلورت مطالبهم واحتياجاتهم؛ لأن إقامتهم أضحت دائمة وليست مؤقتة (مثل اعتقاد الجيل الأول عن إقامته)، ثم أضحى وجودهم في أوروبا أمرا واقعا يتطلب فقهًا جديدًا. ولذا؛ برزت الأسئلة الكبرى حول عدم تطابق الإسلام مع التشريع الأوروبي؛ ومن ثم عدم إمكانية المسلمين الاندماج في المجتمعات الأوروبية؛ وهو الأمر الذي ولد صورة تهميشية/ صراعية عن الهوية الإسلامية.(1/108)
ولذا كان على الفقهاء –من منظور رمضان- أن يعيدوا تعريف فقههم. وفي نفس الوقت كان على شباب الجيل الثاني والثالث أيضًا أن يعيدوا النظر في وضعهم باعتبارهم ليسوا أقلية، ولكن في وطنهم، ويجب أن يحصلوا على حقوقهم. ولذا؛ جاهد هذا الجيل ليحتلوا مكانهم على الصعيد الفكري والاجتماعي والسياسي، وليعيدوا تقويم مواقفهم وعلاقاتهم السابقة مع الدول التي يعيشون فيها؛ فلقد أضحوا مدفوعين لإعادة تقييم افتراضاتهم من أجل التوصل إلى آراء جديدة يجب أن تتكيف مع طريق الحياة الغربية. ولذا فلقد مثلوا صحوة في الفكر الإسلامي في الغرب؛ فهم باعتبارهم أوروبيين أخذوا يطرحون أسئلة كبرى تتصل بالإقامة الدائمة، وعن العلاقة مع التشريع الوطني، وهل بإمكانهم الحصول على جنسية أوروبية والقيام بدورهم كمواطنين؟
بعبارة أخرى، هذه أسئلة كبرى تتصل بالهوية والوجود والدور بوصفهم جماعة وليسوا أفرادا يسألون عن مسائل جزئية. هذا، ويشير رمضان إلى أن الجهود المبذولة من جانب الفقهاء ومن جانب الباحثين المسلمين سواء في أوروبا أو العالم الإسلامي قد توصلت للرضاء العام حول بعض المبادئ الأساسية التي يجب عدم التنازل عنها لأنها تعبر عن "حقهم في الهوية".
وهذه المبادئ هي:
1- الإيمان كروحانية وممارسة (البعد الثقافي).
2- الفهم والذكاء عند استخدام المصادر الإسلامية بقدر استخدام الأطر الاجتماعية والسياسية والثقافية الأوروبية (مفهوم الرشادة والمسئولية).
3- التعليم والانتشار: الإيمان هو رصيد يمكن نقله من خلال التعليم.
4- الحركة والمشاركة في الفعاليات الاجتماعية من أجل العدالة وحياة أفضل.(1/109)
خلاصة القول إن هذا الرافد من فكر "الأوروبيين المسلمين" الذي حظي بنقاش كبير حوله، وتشارك مع نماذج أخرى في بعض القسمات الأساسية وخاصة الانطلاق من فكر الأقلية إلى فكر الجماعة والاندماج والمواطنة على أساس من القيم والقواعد والمبادئ الإسلامية العالمية الإنسانية، هذا الرافد، مع أهميته؛ لأنه يعكس خبرة اجتماعية سياسية من الداخل الأوروبي، إلا أنه بلا شك يثير أكثر من علامة استفهام حول أمور تبدو متناقضة أو ستواجه معضلة عند تطبيقها أو على الأكثر تعكس حالة "الفتنة" التي يواجهها المسلمون –ليس في أوروبا فقط- ولكن في الدول الإسلامية أيضًا (ولو بدرجة أقل).
وأطرح في هذا المقام خريطة هذه الأسئلة -التي لابد أن تكون قد تناولتها الأقلام الناقدة لهذه الرؤية –كليًا وجزئيًا(1):
أ كيف يتكون الفقه الإسلامي؟ وكيف يتكيف ويتغير؟ وما العلاقة بين الأحكام وبين القيم؟ ومتى وإلى أي حد يمكن تجاوز الأحكام من أجل القيم؟
__________
(1) - انظر تعريفًا به ولماذا يثور جدلاً حوله تزايد خلال العامين الماضين في:
- Reinventing Islam in Europe: a profile of Tariq Ramadam, Buy Rosemany Bechler.
www. Open democracy.net/ debates article 6-7-2004.
ومن أهم ما تم التعريف به أنه فيلسوف لامع ومحاضر بارع يمتلك ناحية القرآن كامتلاكه ناحيته الفلسفية الغربية نقد العقلانية الغربية، وأنه من الإخوان المسلمين المتخفين أو هو حصان طروادة الجهاد في أوروبا، وواجه الاتهام بالعداء للسامية من جانب مثقفين فرنسيين وفي نفسي الوقت الذي واجه فيه الاتهام بمهادنته الغرب وإسرائيل، كما أنه بقدر ما واجه انتقادات من المسلمين لانجاذبه تجاه الغرب، فلقد واجه النقد أيضًا من جانب الغربيين لأفكاره الإسلامية، بل والقول أن ارتدائه رداء الأكاديميا لا يخف تطرفه بل أنه أكثر خطورة من بن لادن نفسه لأنه أكثر اقناعًا للغرب.(1/110)
ب ما معنى "أوروبي"؟ من هو الأوروبي؟ وما معنى الاندماج لأصبح أوروبيًا؟ وما هو مناط "المواطنة" بالمعنى القانوني السياسي فقط؟ وماذا عن الجانب القيمي ونمط الحياة الذي هو أساس التفاعل من عدمه في علاقة المواطنة؟
كيف أحدد هذه المفاهيم: (الاندماج الأوروبي) قياسًا على طبيعة القيم والقواعد والمبادئ الإسلامية التي جرى ذكرها أكثر من مرة؟ وما هو سُلَّم أولويات هذه القيم وعلاقتها بالمقاصد؟
فمما لا شك فيه أن طرح رمضان يضع على المحك كيفية الحفاظ على القيمي (الإسلامي) في ظل متطلبات وشروط "الاندماج" الأوربية من وجهة نظر الأوروبيين، وخاصة تلك الشروط الأخيرة التي تفرض الاندماج بقوة القانون، وبذا يصبح أحد ضحايا هذا الفرض بعض أهم ممارسات الدين الإسلامي (على الأقل بالنسبة للمرأة مثلاً)؟
ج- ما معنى الدفاع عن الإيمان أساسًا، وليس ثقافة إسلامية؟ وهل ليست هناك ثقافة إسلامية مشتركة بين ثقافات الشعوب الإسلامية، هي نتاج هذا الإيمان وهذه العقيدة، مهما تنوعت الأطر البيئية؟ وما العلاقة بين تلك الثقافة الإسلامية المشتركة وبين الثقافة الأوروبية الإسلامية المدعو إليها؟ وكيف ستتحقق تلك الثقافة الإسلامية الأوروبية في ظل معضلة موضع الدين بين المجال الخاص والمجال العام (وفق العلمانية الأوروبية)؟ هل سيظل الدين في المجال الخاص؟ وكيف ستطبق إذن القيم والأخلاق والمبادئ الإسلامية (ولا أقول الأحكام) في المجال العام وهي مرفوض أصل ظهورها؟ أم ستتراجع هي أيضًا بدورها؟(1/111)
بعبارة أخرى، كيف ستوفق ثقافة إسلامية أوروبية بين قيم العلمانية- الحداثة وبين القيم الإسلامية (ولو في مجال السلوك الفردي ونمط الحياة؟ أم ستكون ثقافة "سلبية" تُطَبع مع "المنكر" ولا تقدر أن تصبح ثقافة "إيجابية" تدعو للمعروف وتحافظ عليه؟ ومن سيمكنه تحديد مساحة مشتركة بالفعل بين مجموعتي القيم؟ وكيف سيتم التفاعل حولها (ولو في الأجل القصير)؟ ومن الذي سيحدد هذه المساحة المشتركة من الجانبين؟ هل العلمانيون- الداعون إلى أنسنة العلمانية وتسامحها أم "الدينيون" الداعون إلى عقد اجتماعي جديد للعلمانية يفسح مجالاً أكبر للدين في حياة الأوروبيين؟ هل سيتحالف هؤلاء مع "المسلمين الإصلاحيين والمعتدلين" في مواجهة "أحلاف العلمانية"؟ وهل قيم الإسلام هي التي ستجعل العلمانية أكثر إنسانية؟ أم الإسلام هو الذي سيصبح علمانيًا ومدنيًا وحداثيًا؟ وهل المقصود فقط أن يكون إسلامًا لا سياسيًا ومنزوع الأسنان أم يكون أيضًا منزوع القيم التي هي من صميمه لأنه الإسلام ليس عقيدة فقط بلا تجليات ظاهرة؟(1/112)
هذه الأسئلة وغيرها لابد أن تواجه المهموم بشأن وجود الإسلام في أوروبا، المهموم الذي يرفض منطق فقه "الجيتو والانعزال والتكفير للمجتمعات الجديدة"، ولكن في نفس الوقت المهموم بمآل حال المسلمين، الذين يجاهدون للتغلب على منطق الأقلية والعزلة ولكن في إطار سياق ما زال –وخاصة بعد 2001- يفرض من القيود والضغوط أكثر مما يقدم من الفرص والإمكانيات!!؛ فإن الأوروبيين وهم يتحدثون معنا عن الحوار يستخدمون كل عناصر القوة الصلدة على أراضينا، وحين يتحدثون عن اندماج مسلمي أوروبا؛ فهو أيضًا الاندماج بشروط –القوة المرنة- حتى الآن؟ في حين أن تجميع جزئيات الأحداث والوقائع من هنا وهناك (مثلاً ما يحدث خلال معركة الرئاسة الفرنسية من تلاعب بقضية المهاجرين تحت زعم مقاومته فرص اليمين المتطرف المتصاعد) لابد وأن يكون صورة كلية تدفع هذه الهموم خطوات للأمام...
ولذا يظل التساؤل التالي قائمًا: هل يريد الأوروبيون استمرار بقاء المسلمين في ظل "اندماج إيجابي" وفق مفهوم "الأوربيين المسلمين"؟ أم يريدون وجودًا مسلمًا في ظل شروطهم "العلمانية اللاإنسانية اللاتعددية للاندماج والهجرة" والتي أسفرت عن نفسها في بعض قوانين الهجرة الجديدة؟(1).
__________
(1) تم الرجوع إلى ما يلي:
- ... طارق رمضان: ما هي اهتمامات وطموحات المسلمين الأوروبية، الفصل اللسادس من التقرير الصادر عن المؤتمر الذي نظمه البرنامج الإسلامي لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بواشطن وصدر عام 2002 بتحرير من شيرين هانتر.
- Islam In Europe:
www. Tariqramadan.com/ anticle/ 27/9/2004.
- Democracy, Islam and the politics of belanging: Rosemary Bechler.
www. Open democracy.net. 2-3-2006.
(عرض للمناظرة بين طارق رمضان ودياب أبو جهجاح في روتردام).
- Islam and Muslims in Europe: Fun damental issues
www. Islamonline. Net/ English/ European Maslmis/ politics/ 2006/04/02.
(
94) من بينها آراء دياب أبو جهجاح الذي اشترك مع د. رمضان في مناظرة في روتردام في مارس 2006. انظر:
Rosemary Bechler, Democracy, Islam and the politics of belonging, opcit.
(95) من بين نماذج هذه الشروط ما يسمى اختبار الحياة الذي يتعرض له المتقدمون للهجرة إلى هولندا؛ حيث يعرض على المتقدم صور لامرأة عارية الصدر، ورجلين من الشواذ يقبلا بعضهما،... إلخ وغيرها من طرق الحياة الغربية... ويسألونه هل يقبلها أم لا...! أليس هذا عنفًا هيكليًا يمارسه دعاة الحرية وحقوق الإنسان باسم دينهم "العلمانية". وحول قوانين الهجرة والإرهاب الجديدة واستهدافها للمسلمين. انظر التقارير التالية:
- Alaa Bayoumi: Integrating European muslims: Europe's fearful Bid, www.islamonline.net/english/europeanmuslims/politics/2005/12/06.
- انظر في شبكة النبأ المعلوماتية المقالات تحت العناوين التالية:
أ- علي خليفة، اغتيال المخرج الهولندي فان خوخ: قوانين أوروبية جديدة ستقلص إعداد المهاجرين المسلمين إلى النصف (8\12\ 2004).
ب- البرلمان الفرنسي يشدد قوانين مكافحة الإرهاب وكذلك انظر:
- قوانين مكافحة الإرهاب في أوروبا بين القبول والرفض (موقع البرلمان الشيعي الهولندي 4-5-1427هـ).
- راندة شبيب- ألمانيا- مستقبل المسلمين في ألمانيا وقوانين جديدة لمكافحة الإرهاب.
- انظر أيضًا تقارير منظمة العفو الدولية عن فرنسا وإيطاليا وبريطانيا (2005) في
www.ara_amnesty.org/web/web/nsf18/6/2006.
- تقرير اتحاد هلسنكي العالمي: عن المسلمين كضحايا لعدم التسامح والتمييز في الاتحاد الأوروبي منذ 11/9/2001
www.quantara.de/web/web com/ show/ article/ 18/6/2006.(1/113)
الخاتمة
وماذا بعد رسم هذه الخرائط للاتجاهات الفكرية والفقهية عن الأقليات المسلمة في أوروبا؟ وماذا بعد طرح الأسئلة على ضوء دلالاتها؟
إن التعرف على هذه الخرائط في حد ذاتها جزء أساسي من التعرف على الواقع (من خلال الأفكار) وهو ليس أقل أهمية من واقع الأحداث والمؤسسات (حركة البشر ذاتهم)؛ فهو الوسيلة لتشخيص وتفسير هذه الحركة، ودراسة تلك الأخيرة- إمبريقيًا وميدانيًا- إنما تدعم من نتائج ودلالات هذه الخرائط الفكرية والعكس صحيح. بعبارة أخرى: إن مدخليْ الحركة والفكر ليسا منفصلين.
وإذا كان منهج رسم هذه الخرائط في هذه الدراسة؛ قد تشكل بناء على دوافع وأهداف ومنطلقات حددتها مقدمة الدراسة، فمما لا شك فيه أيضًا أن قراءة هذه الخرائط نفسها، وما تطرحه من أسئلة لابد أن يقود إلى نتائج وإجابات مختلفة تتنوع بتنوع القارئ أو الباحث أو الناشط المعنيّ مباشرة بالأمر.
ومن ثم؛ فإن هذه الدراسة ليست إلا محاولة للتنبيه إلى بنية تحتية مهمة وأساسية تفتقد إليها الدراسات في هذا المجال (فقه الأقليات) وغيره من مجالات شئون المسلمين؛ ألا وهو التراكم والمقارنة بين الجهود الفكرية –ناهيك عن أهمية التشبيك والتنسيق على مستوى الحركة- في محاولة لتحقيق قدر من الرضاء العام عن ملامح كبرى لأسباب المشكلة وكيفية إدارتها، وذلك دون الوقوع في إسار قبضة مركزية الأفكار والحركة أو تأميمهما، ومع المحافظة على سنة التنوع والتعدد التي تحقق... (سيتم إكمالها)
الهوامش(1/114)
المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث
فقه البورصة
الشيخ عبدالله بن الشيخ محفوظ بن بية
استاذ بجامعة الملك عبدالعزيز – جدة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه
بتكليف من المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث تضمنته رسالة فضيلة الأمين العام للمجلس أقدم هذا البحث عن الحكم الشرعي في بعض عمليات البورصة ويشتمل هذا البحث على :
? تعريف مختصر للبورصة .
? أهم المعاملات التي تدور فيها .
? عرض للقرارات الصادرة عن المجامع الفقهية حول قضية البورصة.
? ثم تعليقنا على بعض هذه القرارات يمثل رأينا الخاص.
? الخلاصة .
تعريف موجز للبورصة :
اسم البورصة مختلف في أصله التاريخي والظاهر أنها مشتقة من اسم تاجر بلجيكي من القرن 14 كان يقوم بالسمسرة أو من كيس النقود وهو بالفرنسية bourse وكذلك تقريباً باللغات الغربية .
إلا أن الذي ينبغي أن تعرفه هو مضمون هذا المصطلح فالبورصة هي سوق مالية ذات طبيعة خاصة فهي كالسوق في أن كلا منها بحل بيع وشراء واخذ وعطاء إلا أن البورصة تتميز عن السوق بكونها سوقاً منظمة تحكمها لوائح وقوانين وأعراف وتقاليد.
أهم وظائفها :
خلق سوق مستمرة لأدوات الاستثمار المتاحة بحيث يكون بوسع المستثمر في أي وقت تسييل أصوله المالية أو جزء منها بسرعة وسهولة وبأفضل سعر ممكن وبأدنى تكلفة ممكنة وتتحقق السوق من خلال وجود عدد كبير من البائعين والمشترين.
ويمكن أن نفرق بين نوعين من الاسواق
? سوق الأصدارات الجديدة أو السوق الأولية: وهي سوق تطرح فيها الشركات في طور التأسيس أسهمها للاكتتاب العام لأول مرة قد تكون شركة عقارية أو تجارية.أو شركات قائمة بالفعل تصدر سندات لزيادة رأسمالها .
كيفية التعامل في هذه السوق:
يكون التعامل فيها باحدى الطريقتين:
التعامل المباشر ويتم بالاتصال المباشر بين مصدر السندات والراغبين في الاشتراء ويقوم على العلاقة الشخصية.(1/1)
التعامل الغير مباشر ويعتمد على استخدام الوسطاء الذين يقومون بدورهم بتولى مسئولية الاصدار وتغطية الاكتتاب وتحمل مخاطر تقلب الاسعار فإذا قررت الشركة طرح أسهمها للأكتتاب العام تتفاوض مع بنك لضمان تغطية الاصدار وقد يكون ذلك على شكل شراء الاوراق المصدرة من الشركة من طرف البنك لاعادة بيعها إلى الجمهور بسعر أعلى وهناك نشرة اكتتاب تتضمن كل المعلومات.
? أما السوق الثانوية ( سوق التداول ) الاوراق التي سبق إصدارها في السوق الأولية كيف يجري تداولها والمناقلة فيها؟
الاجابة على هذا السؤال هو تكوين السوق الثانوية فهذ السوق يبيع فيها أصحاب الحقوق في الشركات المساهمة التي قد تكون أصولاً لا تسهل تصفيتها لحساب احد المستثمرين دون حاجة إلى المساس بأصل الثروة ودون مساس بحقوق الاخرين الذين قد لا يريدون بيع سهامهم .
وهذه السوق تسهل على المستثمر- بدل من أن يبحث عمن يشتري سهامه بصفة مباشرة وقد لا يجد – أن يدخل مباشرة إلى الجمهور عن طريق سوق الاوراق المالية التي يتم فيها التعامل عن طريق المزايدة حيث تعرض الايجاب من طرق الباعة والقبول من طرف المشترين في المنافسة للوصول إلى أفضل الاسعار المقبولة من جميع الاطراف .
ويتم تداول الاوراق في قاعة السوق عن طريق المزايدة المكتوبة وذلك بعرض جميع أوامر البيع والشراء على اللوحة المعدة لهذا الغرض طبقاً للقواعد والاجرآت المنصوص عليها في اللائحة التي تحكم التداول في البورصة.
يقصد بمكان السوق ردهة البورصة التي يتم عليها تداول الاوراق المالية علنا عن طريق وسطاء مرخص لهم يقومون بتنفيذ أوامر عملائهم في البيع والشراء .(1/2)
وهذا يقتضي وجود قاعدة معلوماتية عن الشركات التي تعرض أصولها وأسهمها للبيع حتى يكون المشتري على بينة من أمره فعليه أن يعرف العائد المطلوب تحقيقه ،العائد الخالي من المخاطر،العائد الموزع في نهاية أخر السنة المالية متوسط معدل نمو الارباح خلال السنوات الخمس الماضية .
ولكن للسوق حركتها التي تؤدي إلى رفع الاسعار وخفضها في مهب ريح المضاربات .
ولهذا نشأت جهات متخصصة كمؤشر دواجنز الذي يختار عدداً من الشركات ويقوم بوضع نظرية حركة متوسط اسعار هذه الشركات طبقاً لمعايير خاصة لا يستطيع المستثمر أن يوفرها لنفسه إلا عن طريق هذه الجهات المتخصصة تخصصاً دقيقاً وبالتالي فإن هذه الجهات توفر أساساً للخيارات والبدائل للمستثمرين وقد أسس داوجنز مؤشراً للشركات الاسلامية قبل سنة وسماه " مؤشر داوجنز الاسلامي" واختار فيه مجموعة من الشركات العالمية من انحاء العالم وليس من الشرط أن تكون هذه الشركات مملوكة للمسلمين ولا معلنة تقيدها بالشريعة الإسلامية ولكن يشترط أن يكون تعاملها موافقاً للشريعة الاسلامية حسب المعايير التي وضعها وهي أن لا يكون نشاطها حراماً فهي لا تتعاطى الصريفة الربوية ولا تبيع الخمر ولا الخنزير وأن لا يزيد تعاملها " العارض" مع جهات الاقراض الربوية على 5 % وأن لا تزيد ديونها أو التي عليها على حد معين ومنها شركات أمريكية ويابانية . وهكذا وفر داوجنز هذه القاعدة المعلوماتية لمن يريد أن يتعامل في أسهم هذه الشركات.
سنعرض هنا بعض أهم المعاملات التي تجري في البورصة لتكون مقدمة لفهم أليات الاسواق المالية على أن يكون حكمنا عليها من خلال تعليقنا على قرارات المجمعين الفقهيين .
أولاُ : عقود على الاسهم:(1/3)
سواء في طور التأسيس في السوق الاولى أو عند تسبيل بعض المساهمين لحصصهم في السوق الثانية( سوق التداول) والظاهر أن ذلك لا يطرح معضلة في الشرع فاشتراء هذه الاسهم جائز باعتبار هذه الاسهم تمثل جزءاً شائعاً من رأسمال الشركة – التي تكون صناعية تجارية أو زراعية – الذي قد يكون عروضاً وسلعاً وعقارات كما تكون نقوداً وفي هذه الحالة يشترط فيها ما يشترط في بيع النقود بعضها ببعض إذا كان مشترياً الاسهم أما إذا كان مؤسساً أو داخلاً في حال اكتتاب لزيادة رأس المال فان الامر لا يكون كذلك والجواز فيها فرع عن جواز انشاء شركة المساهمة وإذا كان الأصل في العقود والمعاملات الجواز إلا ما نص الشارع على تحريمه فان شركة المساهمة وان كانت غير منضبطة بالضوابط التي اعتمدها أكثر الفقهاء في العقود والشركات فتدخل تحت هذا الأصل ولعل ابن تيمية قد نبه على أهمية التحرر من الصيغ وعزا إلى الامام أحمد أن هذا الاصل في العادات العفو فلا يحظر منها إلا ما حرمه الله ورسوله وإلا دخلنا في قوله تعالى :" قل ارأيتم ما انزل الله لكم من رزق" واضاف وأما السنة والاجماع فمن تتبع ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة من صيغ أنواع المبايعات والمؤاجرات والتبرعات علم بالضرورة انهم لم يكونوا يلتزمون الصيغة من الطرفين والآثار بذلك كثيرة . الفتاوى
فمن يشتري السهم يشتري جزءاً مشاعاً من الشركة.
قلت وهو جائز ولهذا أجاز الامام احمد بعض الشركات التي لاتدخل في حد أي من الشركات التي أجازها الآخرون .
وق أفتى شيخ الازهر محمد شلتوت بجواز الاسهام في هذه الشركات وكذلك شيخ الازهر حسن مامون .
والذي يؤخذ على هذه الشركات هو مسؤلية الشريك لا تتجاوز مقدار حصته من رأس المال وبالتالي فلو فلست الشركة ماكان على الشركاء أي تبعة في أموالهم الخاصة .(1/4)
ويؤخذ عليها ما يدعى من الغرر في أن الذي يشتري السهم لا يدري حقيقة ما يشري ولم يعتبر مجمع الفقه الاسلامي بجدة في قراره الذي سيذكر لاحقاً ما أشرنا إليه سبباً للتحريم فأجاز شركات المساهمة ذات المسؤلية المحدودة ومع تحفظي على عدم مسؤلية الشريك خارج مال الشركة فإن قرار المجمع يمكن أن يكون أساساً مقبولاً فتكون شركة المساهمة جائزة إلا إذا كانت غايتها محرمة أو تعاملت بالحرام أخذا وعطاء فحينئذ يحرم الاشتراك فيها واشتراء أسهمها في السوق الاولى والسوق الثانية .
والعقود على هذه الاسهم هم من البيوع التي يجري تنفيذها في أسواق الاوراق المالية على أصول مالية تتحدد أسعارها من خلال العرض والطلب عند أعلى سعر يعرضه المشترون وأدنى سعر يقبله البائعون .
وهي من نوع بيوع المزايدة لان البيع أنواع منه مساومة ومرابحة ومزايدة وقد أجمع الجمهور على جواز بيع المزايدة كما يقول ابن رشد الحفيد .
ثانياً عقود الخيارات :
ومن المعلوم أن الخيار التعاقدي عند الفقهاء هو:( بيع وقف بته أولاً على امضاء يتوقع) على حد تعريف ابن عرفة المالكي .
وانما قولنا التعاقدي احترازاً من خيار المجلس وخيار النقيصة لأن هذه لم يتعاقد عليها الطرفان ، والخيار أنما يكون في اشتراء سلعة مالية ، اما هذا الخيار فهو أن يكون لأحد المتعاقدين الحق في فسخ العقد في موعد التصفية ، أو قبل حلوله ، أو تنفيذ العقد إذا جاءت تقلبات الاسعار في صالحه . وذلك في مقابل مبلغ يدفع مقدماً ، ولا يرد للمضارب ،يعرف بالتعويض ويعطي هذا الحق المشتري فيكون له الخيار بين استلام الصكوك ودفع الثمن المتفق عليه أو فسخ الصفقة مقابل تعويض .
هل هذا التعويض يدخل في بيع العربون الذي قال به عمر وابنه وابن سيرين وذهب إليه احمد .
وهناك خيار الشراء بسعر كذا أو البيع بسعر كذا دون تحديد من البائع والمشتري .(1/5)
وبتدقيق النظر في هذا النوع نرى أنه من باب تعليق اللزوم وقد نص المالكية على تعليق لزوم البيع على الاتيان بالثمن (كابيعك بشرط الا ينعقد البيع إلا بدفع الثمن وهذه جائزة معمول بها كما لأبي الحسن على المدونة ) الزرقاني ج5ص5 وتسمى تعليق لزوم لأن البيع قائم .
ثالثاً : عقود المستقبليات
وهي شبيهة بالسلم . والسلم مشروع بعموم الكتاب ونصوص السنة وإجماع الامة . أما عموم القرآن فهو قوله تعالى ( وأحل الله البيع ) والسلم بيع ، واما السنة فالحديث المتفق عليه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلىالله عليه وسلم قدم المدينة وهو يسلفون في التمر العام والعامين فقال :"من أسلف فليسلف في كيل معلوم أو وزن معلوم" .
إلا أن سلم البورصات الذي يسمى بالمستقبليات أو البيوع الآجلة أنواع منوعة وألوان متلونة ، فمنها ما يكون على سلع وهي معاملات تتحكم فيها قوانين البورصة وأعرافها . ومن أهمها أن يبيع الانسان سلعة من شخص إلى أجل يتم فيها التسليم والبائع لا يملك السلعة إلا أنه يمكنه الحصول عليها عند الاجل المحدد .
إلا أن المشتري لا يدفع الثمن الآن بل انه سيدفعه فقط عند تسليم السلعة أو التصفية وتمكن الزيادة في الاجل مقابل ثمن .
وهذا العقد في أصله سلم إذ أن السلم هم بيع سلعة موصوفة في الذمة في مقابل ثمن عاجل من غير جنسها )(1/6)
وقد اختلفت عبارات العلماء في تعريف السلم طبقاً لاختلافهم في بعض صور السلم وصيغه فقد عبر أكثرهم بأن الثمن يدفع في المجلس بينما عبر البعض بأنه يدفع عاجلاً . ولعل أهم عقدة في هذا العقد هي أن الثمن فيه مؤجل وهذا يخالف رآي جمهور العلماء ولكن... هذه العقدة جعلت كافة الكتاب الإسلاميين المعاصرين في الاوراق المالية يجزمون بأن هذه المعاملة ممنوعة شرعاً وطبقاً لذلك ضربوا صفحاً عن هذه المعاملة وجاءت قرارات المجامع الفقهية لتسير في هذا الاتجاه وتصب في هذا المجرى وقد يكون من المناسب أن ننقل هنا إلى اخواننا في المجلس الاوروبي نص هذه القرارات .
وهي قرارات صادرة عن مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي وأخرى صادرة عن محمع الفقه الاسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي .
وغنى عن القول أن هذين المجمعين الدوليين يضمان خيرة علماء العالم الإسلامي من كل المذاهب والاتجاهات .
وبعد عرض هذه القرارات بنصها سأعلق عليها بما يسر لي ربي ، ليكون موضوع بحث الزملاء الكرام وأكتفي بمحل الاتفاق في القرارات باعتباره يمثل رأيي وأعلق على محل الاختلاف معها .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه.
قرار رقم: 63 ( 1/7)(1)
بشأن الاسواق المالية
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 7 – 12 ذي القعدة 1412هـ الموافق 9 –14 أيار( مايو)1992م .
بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع "الاسواق المالية" الأسهم ،الاختيارات ،السلع،بطاقة الائتمان، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله قرر ما يلي:
أولأ الأسهم:
1- الإسهام في الشركات:
__________
(1) مجلة المجمع ( العدد السادس ج2ص1273 والعدد السابع ج1ص73 والعدد التاسع ج2ص5 )(1/7)
أ - بما أن الأصل في المعاملات الحل فإن تأسيس شركة مساهمة ذات أغراض وأنشطة مشروعة أمر جائز.
ب - لا خلاف في حرمة الإسهام في شركات غرضها الأساسي محرم كالتعامل بالربا أو انتاج المحرمات أو المتاجرة بها.
ج - الأصل حرمة الإسهام في شركات تتعامل أحياناً بالمحرمات ،كالربا ونحوه بالرغم من أن أنشطتها الأساسية مشروعة(1).
2- ضمان الإصدار ( UNDER WRITING):
ضمان الاصدار هو الاتفاق عند تأسيس شركة مع من يلتزم بضمان جميع الإصدار من الأسهم أو جزء من ذلك الإصدار وهو تعهد من الملتزم بالاكتتاب في كل ما تبقى مما لايكتتب فيه غيره وهذا لا مانع منه شرعاً إذا كان تعهد الملتزم بالاكتتاب بالقيمة الاسمية بدون مقابل لقاء التعهد ويجوز أن يحصل الملتزم على مقابل عن عمل يؤديه – غير الضمان- مثل أعداد الدراسات وتسويق الاسهم .
3- تقسيط سداد قيمة السهم عند الاكتتاب:
لا مانع شرعاً من أداء قسط من قيمة السهم المكتتب فيه ، وتأجيل سداد بقية الاقساط لأن ذلك يعتبر من الاشتراك بما عجل دفعه والتواعد على زيادة رأس المال ولا يترتب على ذلك محظور لأن هذا يشمل جميع الأسهم ، وتظل مسؤولية الشركة بكامل رأس مالها المعلن بالنسبة للغير ، لأنه هو القدر الذي حصل العلم والرضا به من المتعاقدين مع الشركة.
4 – السهم لحامله :
بما ان المبيع في ( السهم لحامله ) هو حصة شائعة في موجودات الشركة وأن شهادة السهم هي وثيقة لإثبات هذا الاستحقاق في الحصة فلا مانع شرعاً من أصدار أسهم في الشركة بهذه الطريقة وتداولها .
5 – محل العقد في بيع السهم :
إن محل المتعاقد عليه في بيع السهم هم الحصة الشائعة من أصول الشركة وشهادة السهم عبارة عن وثيقة للحق في تلك الحصة .
6 – الأسهم الممتازة :
لا يجوز إصدار أسهم ممتازة لها خصائص مالية تؤدي إلى ضمان رأس المال أو ضمان قدر من الربح أو تقديمها عند التصفية أو عند توزيع الارباح .
__________
(1) انظر الصفحة 178 و 198 .(1/8)
ويجوز إعطاء بعض الأسهم خصائص تتعلق بالامور الإجرائية أو الإدارية .
7 – التعامل في الاسهم بطريقة ربوية :
أ – لا يجوز شراء السهم بقرض ربوي يقدمه السمسار أو غيره للمشتري لقاء رهن السهم ، لما في ذلك من المراباة وتوثيقها بالرهن وهما من الأعمال المحرمة بالنص على آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه .
ب- لا يجوز أيضاً بيع سهم لا يملكه البائع إنما يتلقى وعداً من السمسار بإقراضه السهم في موعد التسليم لأنه من بيع مالا يملك البائع ويقوى المنع إذا اشترط إقباض الثمن للسمسار لينتفع به بإداعه بفائدة للحصول على مقابل الإقراض .
8 – بيع السهم أو رهنه :
يجوز بيع السهم أو رهنه مع مراعاة ما يقضي به نظام الشركة كما لو تضمن النظام تسويغ البيع مطلقاً أو مشروطاً بمراعاة أولوية المساهمين القدامى في الشراء وكذلك يعتبر النص في النظام على إمكان الرهن من الشركاء برهن الحصة المشاعة .
9 – إصدار أسهم مع رسوم إصدار :
إن إضافة نسبة معينة مع قيمة السهم لتغطية مصاريف الإصدار لا مانع منها شرعاً مادامت هذه النسبة مقدرة تقديراً مناسباً .
10 – إصدار أسهم بعلاوة إصدار أو حسم ( خصم) إصدار :
يجوز أصدار أسهم جديدة لزيادة رأس مال الشركة إذا أصدرت بالقيمة الحقيقية للأسهم – حسب تقويم الخبراء لأصول الشركة – أو بالقيمة السوقية .
11 – ضمان الشركة شراء الاسهم :
يرى المجلس تأجيل إصدار قرار في هذا الموضوع لدورة قادمة لمزيد من البحث والدراسة .
12 – تحديد مسؤولية الشركة المساهمة المحدودة :
لا مانع شرعاً من أنشاء شركة مساهمة ذات مسؤولية محددة برأس مالها ، لأن ذلك معلوم للمتعاقدين مع الشركة وبحصول العلم ينتفي الغرر عمن يتعامل مع الشركة .
كما لا مانع شرعاً من أن تكون مسؤولية بعض المساهمين غير محدودة بالنسبة للدائنين بدون مقابل لقاء هذا الالتزام . وهي الشركات التي فيها شركاء متضامنون وشركاء محدودو المسؤولية .(1/9)
13 – حصر تداول الاسهم بسماسرة مرخصين ، واشتراط رسوم للتعامل في أسواقها :
يجوز للجهات الرسمية المختصة أن تنظم تداول بعض الأسهم بأن لا يتم إلا بواسطة سماسرة مخصوصين ومرخصين بذلك العمل لأن هذا من التصرفات الرسمية المحققة لمصالح مشروعة .وكذلك يجوز اشترط رسوم لعضوية المتعامل في الأسواق المالية لأن هذا من الأمور التنظيمية المنوطة بتحقيق المصالح المشروعة .
14 – حق الأولوية :
يرى المجلس تأجيل البت في هذا الموضوع إلى دورة قادمة لمزيد من البحث والدراسة .
15 – شهادة حق التملك :
يرى المجلس تأجيل البت في هذا الموضوع إلى دورة قادمة لمزيد من البحث والدراسة .
ثانياً : الاختيارات :
أ – صورة عقود الاختيار :
إن المقصود بعقود الاختيارات الاعتياض عن الالتزام ببيع شئ محدد موصوف أو شرائه بسعر محدد خلال فترة زمنية معينة أو في وقت معين إما مباشرة أو من خلال هيئة ضمانية لحقوق الطرفين .
ب – حكمها الشرعي :
إن عقود الاختيارات – كما تجري اليوم في الاسواق المالية العالمية – هي عقود مستحدثة لا تنضوي تحت أي عقد من العقود الشرعية المسماه .
وبما أن المعقود عليه ليس مالاً ولا منفعة ولا حقاً مالياً يجوز الاعتياض عنه فإنه عقد غير جائز شرعاً.
وبما أن هذه العقود لا تجوز ابتدءً فلا يجوز تداولها .
ثالثاً : التعامل بالسلع والعملات والمؤشرات في الاسواق المنظمة :
1 – السلع :
يتم التعامل بالسلع في الاسواق المنظمة بإحدى أربع طرق هي التالية :
الطريقة الأولى :
أن يتضمن العقد حق تسليم المبيع وتسليم الثمن في الحال مع وجود السلع أو إيصالات ممثلة لها في ملك البائع وقبضه .
وهذا العقد جائز شرعاً بشروط البيع المعروفة .
الطريقة الثانية :
أن يتضمن العقد حق تسليم المبيع وتسليم الثمن في الحال مع إمكانهما بضمان هئية السوق .
وهذا العقد جائز شرعاً بشروط البيع المعروفة .
الطريقة الثالثة:(1/10)
أن يكون العقد على تسليم سلعة موصوفة في الذمة في موعد آجل ودفع الثمن عند التسليم وأن يتضمن شرطاً يقتضي أن ينتهي فعلاً بالتسليم والتسلم.
وهذا العقد غير جائز لتأجيل البدلين ،ويمكن أن يعدل ليستوفي شروط السلم المعروفة ،فإذا استوفى شروط السلم جاز.
وكذلك لا يجوز بيع السلعة المشتراة سلماً قبل قبضها .
الطريقة الرابعة :
أن يكون العقد على تسليم السلعة موصوفة في الذمة في موعد آجل ودفع الثمن عند التسليم دون أن يتضمن العقد شرطاً يقتضي أن ينتهي بالتسليم والتسلم الفعليين ، بل يمكن تصفيته بعقد معاكس.
وهذا هو النوع الأكثر شيوعاً في أسواق السلع ، وهذا العقد غير جائز أصلا .
2 – التعامل بالعملات :
يتم التعامل بالعملات في الاسواق المنظمة بإحدى الطرق الأربع المذكورة في التعامل بالسلع.
ولا يجوز شراء العملات وبيعها بالطريقتين الثالثة والرابعة.
أما الطريقتان الأولى والثانية فيجوز فيهما شراء العملات وبيعها بشرط استيفاء شروط الصرف المعروفة .
3 – التعامل المؤشر:
المؤشر هو رقم حسابي يحسب بطريقة إحصائية خاصة يقصد منه معرفة حجم التغير في سوق معينة ، وتجري عليه مبايعات في بعض الاسواق العالمية .
ولا يجوز بيع وشراء المؤشر لأنه مقامرة بحتة وهو بيع شئ خيالي لا يمكن وجوده .
4 – البديل الشرعي للمعاملات المحرمة في السلع والعملات:
ينبغي تنظيم سوق اسلامية للسلع والعملات على أساس المعاملات الشرعية وبخاصة بيع السلم ، والصرف، والوعد بالبيع في وقت آجل، والاستصناع ، وغيرها.
ويرى المجمع ضرورة القيام بدراسة وافية لشروط هذه البدائل وطرائق تطبيقها في سوق إسلامية منظمة .
قرار المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة
البورصة
في الدورة السابعة للمجمع صدر القرار التالي سنة 1404ى هـ
القرار الأول
حول سوق الأوراق المالية والبضائع ( البورصة)(1/11)
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، سيدنا ونبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً وبعد:-
فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي قد نظر في موضوع سوق الأوراق المالية والبضائع (البورصة) وما يعقد فيها من عقود – بيعاً وشراءً – على العملات الورقية وأسهم الشركات ، وسندات القروض التجارية والحكومية والبضائع وما كان من هذه العقود على معجل ، وما كان منها على مؤجل .
كما اطلع مجلس المجمع على الجوانب الإيجابية المفيدة لهذه السوق في نظر الاقتصاديين والمتعاملين فيها ، وعلى الجوانب السلبية الضارة فيها.
أ – فإما الجوانب المفيدة فيها:
أولاً: أنها تقيم سوقاً دائمة تسهل تلاقي البائعين والمشتريين ، وتعقد فيها العقود العاجلة والآجلة على الاسهم والسندات والبضائع.
ثانياً: أنها تسهل عملية تمويل المؤسسات الصناعية والتجارية والحكومية عن طريق طرح الأسهم وسندات القروض للبيع.
ثالثاً: أنها تسهل بيع الأسهم وسندات القروض للغير والانتفاع بقيمتها لأن الشركات المصدرة لا تصفي قيمتها لأصحابها.
رابعاً: أنها تسهل معرفة ميزان اسعار الاسهم وسندات القروض والبضائع وتموجاتها في ميدان التعامل عن طريق حركة العرض والطلب .
ب – وأما الجوانب السلبية الضارة في هذه السوق فهي:
أولاً: أن العقود الآجلة التي تجري في هذه السوق ليست في معضمها بيعاً حقيقياً ،ولا شراءً حقيقياً لأنه لا يجري فيها التقابض بين طرفي العقد فيما يشترط له التقابض في العوضين أو في أحدهما شرعاً .
ثانياً : أن البائع فيها غالباً يبيع ما لا يملك من عملات وأسهم أو سندات قروض أو بضائع ،على أمل شرائه من السوق وتسليمه في الموعد دون قبض الثمن عند العقد كما هو الشرط في السلم.(1/12)
ثالثاً:أن المشتري فيها غالباً يبيع ما اشتراه لآخر قبل قبضه،والآخر يبيعه أيضاً لآخر قبل قبضه . وهكذا يتكرر البيع والشراء على الشئ ذاته قبل قبضه إلى أن تنتهي الصفقة إلى المشتري الأخير الذي يريد أن يستلم المبيع من البائع الأول، والذي يكون قد باع ما لا يملك أو أن يحاسبه على فرق السعر في موعد التنفيذ، وهو يوم التصفية بينما يقتصر دور المشتريين والبائعين-غير الأول والأخير- على قبض فرق السعر في حالة الربح ،أو دفعه في حالة الخسارة ، في الموعد المذكور كما يجري بين المقامرين تماماً .
رابعاً: مايقوم به المتمولون من احتكار الأسهم والسندات والبضائع في السوق للتحكم في البائعين الذين باعوا ما لا يملكون ؛على أمل الشراء قبل موعد تنفيذ العقد بسعر أقل ، والتسليم في حينه ،وإيقاعهم في الحرج.
خامساً:أن خطورة السوق المالية هذه تأتي من اتخاذها وسيلة للتأثير في الأسواق بصفة عامة ، لأن الأسعار فيها لا تعتمد كلياً على العرض والطلب الفعليين من قبل المحتاجين إلى البيع أو إلى الشراء ،وإنما تتأثر بأشياء كثيرة بعضها مفتعل من المهيمنين على السوق أو من المحتكرين للسلع أو الأوراق المالية فيها كإشاعة كاذبة أو نحوها . وهنا تكمن الخطورة المحظورة شرعاً لأن ذلك يؤدي إلى تقلبات غير طبيعية في الأسعار مما يؤثر على الحياة الاقتصادية تأثيراً سيئاً.(1/13)
وعلى سبيل المثال لا الحصر: يعمد كبار الممولين إلى طرح مجموعة من الأوراق المالية من اسهم أو سندات قروض ، فيهبط سعرها لكثرة العرض فيسار صغار حملة هذه الأوراق إلى بيعها بسعر أقل خشية هبوط سعرها أكثر من ذلك وزيادة خسارتهم فيهبط سهرها مجدداً بزيادة عرضها فيعود الكبار إلى شراء هذه الأوراق بسعر أقل بغية رفع سعرها بكثرة الطلب وينتهي الأمر بتحقيق مكاسب للكبار وإلحاق خسائر فادحة بالكثرة الغالبة، وهو صغار حملة الأوراق المالية نتيجة خداعهم بطرح غير حقيقي لأوراق مماثلة . ويجري مثل ذلك أيضاً في سوق البضائع.
ولذلك قد أثارت سوق البورصة جدلاً كبيراً بين الاقتصاديين والسبب في ذلك أنها سببت – في فترة معينة من تاريخ العالم الاقتصادي – ضياع ثروات ضخمة في وقت قصير بينما سببت غنى للآخرين دون جهد حتى أنهم في الأزمات الكبيرة التي اجتاحت العالم طالب الكثيرون بإلغائها ؛إذ تذهب بسببها ثروات ، وتنهار أوضاع اقتصادية في الهاوية، وبوقت سريع كما يحصل في الزلازل والانخسافات الأرضية.
لذلك كله ،فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي ، بعد اطلاعه على حقيقة سوق الأوراق المالية والبضائع( البورصة) وما يجري فيها من عقود عاجلة وآجلة على الاسهم وسندات القروض والبضائع والعملات الورقية ومناقشتها في ضوء أحكام الشريعة الإسلامية يقرر ما يلي:
أولاً :أن غاية السوق المالية (البورصة) هي إيجاد سوق مستمرة ودائمة يتلاقى فيها العرض والطلب والمتعاملون بيعاً وشراءً وهذا أمر جيد ومفيد ويمنع أستغلال المحترفين للغافلين والمسترسلين الذين يحتاجون إلى بيع أو شراء ، ولا يعرفون حقيقة الأسعار ، ولا يعرفون المحتاج إلى البيع ومن هو المحتاج للشراء.
ولكن هذه المصلحة الواضحة يواكبها في الأسواق
المذكورة(البورصة) أنواع من الصفقات المحظورة
شرعاً والمقامرة والاستغلال وأكل أموال الناس بالباطل(1/14)
ولذلك لا يمكن إعطاء حكم شرعي عام بشأنها ؛بل يجب بيان حكم المعاملات التي تجري فيها ، كل واحدة منها على حدة.
ثانياً: أن العقود العاجلة على السلع الحاضرة الموجودة في ملك البائع التي يجري فيها القبض- فيما يشترط له القبض في مجلس العقد شرعاً- هي عقود جائزة ، مالم تكن عقوداً على محرم شرعاً ، أما إذا لم يكن المبيع في ملك البائع فيجب أن تتوفر فيه شروط بيع السلم ، ثم لا يجوز للمشتري بعد ذلك بيعه قبل قبضه.
ثالثاً: أن العقود العاجلة على أسهم الشركات والمؤسسات حيث تكون تلك الأسهم في ملك البائع جائزة شرعاً، ما لم تكن تلك الشركات أو المؤسسات موضوع تعاملها محرم شرعاً كشركات البنوك الربوية وشركات الخمور ، فحينئذ يحرم التعاقد في اسهمها بيعاً وشراءً .
رابعاً: أن العقود العاجلة والآجلة على سندات القروض بفائدة بمختلف أنواعها غير جائزة شرعاً ، لأنها معاملات تجري بالربا المحرم .
خامساً: أن العقود الآجلة بأنواعها ، التي تجري على المكشوف ، أي على الاسهم والسلع التي ليست في ملك البائع، بالكيفية التي تجري في السوق المالية
( البورصة) غير جائزة شرعاً؛لأنها تشتمل على بيع الشخص ما لا يملك أعتماداً على أنه سيشتريه فيما بعد ويسلمه في الموعد .وهذا منهي عنه شرعاً لما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" لا تبع ما ليس عندك" ،وكذلك ما رواه الإمام أحمد وأبو داوود بإسناد صحيح عن زيد بن ثابت رضي الله عنه:" أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم".
سادساً: ليست العقود الآجلة في السوق المالية (البورصة) من قبيل بيع السلم الجائز في الشريعة الإسلامية،وذلك للفرق بينهما من وجهين:
أ في السوق المالية(البورصة) لا يدفع الثمن في العقود الآجلة في مجلس العقد، وإنما يؤجل دفع الثمن إلى موعد التصفية ،بينما الثمن في بيع السلم يجب أن يدفع في مجلس العقد.(1/15)
ب في السوق المالية(البورصة) تباع السلعة المتعاقد عليها وهي في ذمة البائع الأول-وقبل أن يحوز المشتري الأول- عدة بيوعات وليس الغرض من ذلك إلا قبض أو دفع فروق الأسعار بين البائعين والمشتريين غير الفعليين،مخاطرة منهم على الكسب والربح ،كالمقامرة سواء بسواء بينما لا يجوز بيع المبيع في عقد السلم قبل قبضه.
وبناء على ما تقدم يرى المجمع الفقهي الإسلامي أنه يجب على المسئولين في البلاد الإسلامية ألا يتركوا أسواق البورصة في بلادهم حرة تتعامل كيف تشاء في عقود وصفقات ؛سواء أكانت جائزة أم محرمة ،وألا يتركوا للمتلاعبين بالاسعار فيها أن يفعلوا مايشاؤون ،بل يوجبوا فيها مراعاة الطرق المشروعة في الصفقات التي تعقد فيها، ويمنعوا العقود غير الجائزة شرعاً ؛ ليحولوا دون التلاعب الذي يجر إلى الكوارث المالية ويخرب الاقتصاد العام، ويلحق النكبات بالكثيرين ؛لأن الخير كل الخير في التزام طريق الشريعة الإسلامية في كل شئ ،قال الله تعالى:" وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون".
والله سبحانه هو ولي التوفيق ،والهادي إلى سواء السبيل
وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
إن قرارات المجمعين استوعبت كثيراً من الصور التي يقع بها التعامل في البورصات وأصدرت عليها احكاماً بالقبول أو الرد.
إلا أن لدي ثلاثة ملاحظات على القرارات السالفة الذكر وهي:
الملاحظة الأولى:
مسألة منع بيع المسلم فيه قبل القبض، وتداول السند الممثل للسلعة المسلم فيها مثال ذلك أن يشتري شخص سلماً كمية من البترول أو الحديد أو النحاس ،لتسلم له بعد أربعة أشهر،ويستلم سنداً (وثيقة بدين) تمثل هذه الكمية فلا خلاف بين المجمعين في أنه لا يجوز أن يبيع هذه الكمية حتى يقبضها وبالتالي فإن هذا السند لا يمكن تداوله كما هو الحال في البورصات.(1/16)
وتعليقاً على هذا –مع الاحترام لقرار المجمعين- أن هذا العقد صحيح ويمكن تداول السندات الممثلة لدين السلم قبل القبض بناء على مذهب مالك والاوزاعي في جواز بيع سلع الدين قبل قبضها وقبل حلول أجلها بما فيها دين السلم ما لم تكن طعاماً .
وإليكم النصوص التالية :
قال مالك في الموطأ:( ومن سلف في سلعة إلى أجل وتلك السلعة مما لا يؤكل ولا يشرب فإن المشتري يبيعها ممن شاء بنقد أو عرض قبل أن يستوفيها من غير صاحبها الذي اشتراها منه ولا ينبغي له أن يبيعها من الذي ابتاعها منه إلا بعرض يقبضه ولا يؤخره).
قال القاضي عبدالوهاب البغدادي في المعونة:( وما عدا الطعام والشراب من سائر العروض والعبيد والحيوان والعقار وما ينقل ويحول وما لا ينقل ولا يحول وما يكال وما لا يكال وما يوزن ومالا يوزن كان عيناً معينة أو سلماً مضموناً في الذمة فبيعه قبل قبضه جائز) ص 973 .
وقد جمع مالك بين احاديث الباب بأن ردها كلها إلى معنى الطعام. قال أبو عمر بن عبدالبر في حديث حكيم:(ياابن أخي إذا اشتريت شيئاً فلا تبعه حتى تقبضه) حمل الشافعي والثوري هذا الحديث على عمومه في كل بيع وجعله مالك ومن تبعه مجملاً يفسره قوله صلى الله عليه وسلم:(من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يقبضه) وكذلك حملوا ربح ما لم يضمن على الطعام وحده.
وقال عيسى: سألت ابن القاسم عن ربح ما لم يضمن؟ فقال:ذكر مالك أن ذلك بيع الطعام قبل أن يستوفيه لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك وربحه حرام. قال وأما غير الطعام من العروض والحيوان والثياب فإن ربحها حلال لا بأس به لأن بيعها قبل استيفائها حلال .
وكذلك قال مالك وقال ابن وهب عن مالك: أرى أن ربح ما لم يضمن: بيع الطعام قبل أن يستوفي وبيع كل ما ابتاع المرء بالخيار شهراً أو شهرين أو أقل أو أكثر من ذلك وكل ما تضمنته من البائع والله أعلم.الإستذكار ج19ص262 .(1/17)
وحجة مالك ومن قال بقوله في هذا الباب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خص الكعام ألا يبيعه كل من ابتاعه حتى يستوفيه ويقبضه فإدخال غير الطعام في معناه ليس بأصل ولا قياس لأنه زيادة على النص بغير نص ........)
وأما حديث حكيم بن حزام عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(إذا ابتعت بيعة فلا تبعه حتى تقبضه) فإنما أراد الطعام بدليل رواية الحافظ لحديث حكيم بن حزام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له:(إذا ابتعت طعاماً فلا تبعه حتى تقبضه) الاستذكار ج 20 ص 154 .
قلت ووجه الحمل واضح حيث حمل العام على الخاص وهو أمر معهود عند الاصوليين .
ولهذا فإن الفتوى هنا في ديار الاقليات ينبغي أن تكون بمذهب مالك والاوزاعي وهو رواية عن أحمد وتوسعة على العباد وترجيحاً يستند إلى قاعدة التيسير .
أما الملاحظة الثانية:
وتتعلق بصيغة هي الاكثر شيوعاً في البورصات وهي العقد على سلعة مؤجلة الا أن المشتري لا يدفع الثمن عاجلاً وهذا يسمى "بتأجيل البدلين" ولا خلاف بين المجامع في تحريم هذا العقد إلا أنه توجد عقود صححها العلماء وفيها تأجيل البدلين من ذلك بيع أهل المدينة وهي أن تشتري من دائم العمل كالخباز مثلاً ما يحتاج إليه من الخبز شهرياً على أن تدفع له الثمن في نهاية الشهر ويبدأ بتسليم السلعة شيئاً فشيئاً ويسمى ذلك بالاستجرار والمالكية خرجوه على أن قبض الأوائل ينزل منزلة الأواخر،كما أن جواز تأجيل البدلين في عقد الاستصناع أمر معروف وبخاصة في المذهبين المالكي والحنفي كما روى أشهب عن مالك جواز فسخ الدين في منافع الاجارة وهي منافع يتأخر قبضها.
ولا يختلف أكثر أهل العلم في تحريم السلم مع تأجيل البدلين وهو ما يسمى بالنسئة من الطرفين الذي قال عنه ابن رشد في البداية:فأما النسيئة من الطرفين فلا يجوز بإجماع لا في العين ولا في الذمة لأنه الدين بالدين المنهي عنه).(1/18)
إلا أن التحريم ليس منصوصاً في كتاب ولا سنة وكلمة من أسلف التي وردت في الحديث يصدق على العقد كما تصدق على النقد، ولأن العلة هي الغرر فإذا انتفت عن طريق توثيق البيع في البورصة التي تمثل طرفاً ثالثاً يضمن إيصال كل ذي حق لحقه واعتبرنا أن السلم مستثنى من بيع ما ليس عندك بنص الشارع للحاجة والرفق بالناس فهذا من السلم الذي يحتاج إليه الناس.
أضف إلى ذلك أن مالكاً لا يوجب نقد ثمن السلم( رأس المال) في المجلس بل يجوز تأخيره عنده بالشرط إلى ثلاث وبدون شرط مطلقاً فهذا داخل في العقود المباحة(وأحل الله البيع). وجواز تأجيل البدلين قول سعيد بن المسيب كما نص عليه ابن يونس في جامعه، وابن المسيب اعلم التابعين بالبيوع ، وهو أفضل التابعين كما يقول الإمام أحمد رحمه الله واتفق المحدثون والفقهاء على قبول حديثه المرسل وليست هذه الخاصية لغير سعيد رضي الله عنه والحق بعضهم الحسن البصري.
ثم أن عمدة الجمهور هو حديث النهي عن التكالئ بالتكالئ وهو حديث لم يثبت كما صرح به الحافظ وقال أحمد ليس في هذا حديث يصح .
ولو صح فإن العلماء اختلفوا في تفسير الكالئ فذهب المالكية أن معناه فسخ الدين في الدين أي أن يكون لك على شخص مائة ديناً إلى أجل فتبيعها له بمائة وعشرين إلى أجل أبعد فهذا هو فسخ الدين بالدين وهو الكالئ بالكالئ ولهذا اجازوا ابتداء الدين بالدين.
وقال ابن تيمية وهو يمدح مذهب المالكية( فأصول المالكية في البيوع أجود من أصول غيره فإنه أخذ ذلك عن سعيد بن المسيب الذي كان يقال:هو أفقه الناس في البيوع كما كان يقال عطاء افقه الناس في المناسك وإبراهيم افقههم في الصلاة والحسن اجمعهم لذلك كله . لهذا وافق أحمد كل واحد في أغلب ما فضل فيه لمن استقر ذلك من اجوبة وأحمد موافق لكالك في ذلك في الأغلب) الفتاوىج29ص26-27 .
الملاحظة الثاثة:(1/19)
اشكال بيع الخيار الذي منعته المجامع والذي يذهب أكثر الفقهاء المعاصرين إلى تحريمه بناء على أنه ليس متمولاً وأن المالية لا تثبت الا بالتمول والتمول حيازة الشئ واحرازه).
على حد عبارة الاحناف فيشترط إمكان الحيازة وإمكان الانتفاع به على وجه معتاد .واذا كان غير الحنفية جعلوا المنافع مالاً وإن كانت لا تحاز مستقلة فحيازتها بحيازة أصلها ومصدرها .
إلا ان المالكية قد أجازوا المعاوضة في بعض المعاملات فقالوا عن ابن رشد إذا قال شخص يسوم سلعة لأخر يريد أن يسومها: كف عني ولك دينار جاز ولزمه الدينار اشترى أو لم يشتر ولو قال كف عني ولك بعضها على وجه الشركة جاز)
واستشكل ابن ملال ماقاله ابن رشد من جواز المعاوضة على ترك الزيادة قائلاً أنه من أكل اموال الناس بالباطل وقال ابن عبدوس: لا اشكال فيه لانه عوض على ترك وقد ترك) يراجع الزرقاني والبناني على هامشه ج5ص90-91 .
ويجري على هذه المسألة من اراد أن يتزوج امرأة فقال له آخر كف عن خطبتها ولك كذا)
وكذلك"جواز أخذ شئ من دراهم ونحوها في نظير إباحة صيد من بركة ماء" حسب عبارة الزرقاني ج 5 ص222.
قلت ومعلوم بأن السمك في الماء لا يجوز بيعه لأنه من الغرر والجهالة ولكن حق الاصطياد تجوز المعاوضة فيه .
لعل هذه الفروع عند المالكية تدل على أن العقود يمكن أن ترد على فعل أو ترك امتياز مما يرغب فيع المتعاقدان ويحقق لهما مصلحة . والله تعالى أعلم .
خلاصة البحث :
فتحصل من هذا أن ما يجري في البورصات :
1. إذا كان اشتراء لأسهم شركات فهو جائز أياً كانت عقارية أو صناعية أو تجارية ذات أصول لا يغلب على رأس مالها الدين وكان الثمن معجلاً . سواء كانت في طور التأسيس أو قائمة بالفعل باعتبار صك السهم انما يعتبر وثيقة بحصة شائعة في موجودات الشركة.
2. إن أسهم الشركات التي تتعامل بالحرام أو في حرام لا يجوز اشتراؤها ولا يجوز الاقتراض الربوي لشراء الاسهم .(1/20)
3. تفاصيل ضمان الاسهم وتقسيط السداد والسهم لحامله لا مانع منها طبقاً لما ورد في قرارات المجمع.
4. يجوز البيع العاجل ثمناً ومثمناً مع وجود السلع أو ايصالات ممثلة لها بشروط البيع المعروفة ويمكن أن تضمن العقد ضمان هيئة السوق.
5. يجوز بيع السلعة المشتراة قبل قبضها –إذا لم تكن طعاماً- وتداولها على مذهب مالك عكساً لما ورد في قرارات المجمعين.
6. قد يجوز تأجيل البدلين بأن يكون العقد على سلعة آجلة ليكون تسلم السلعة مقروناً بتسليم الثمن للأدلة التي ذكرناها عكساً لما ورد في قرارات المجمعين.
7. قد يجوز اشتراء حق الخيار لكن لا يمكن تمديد أجل الخيار أو تأخير التسليم مقابل عوض لأنه من باب أما أن تقضي أو تربي.
8. قضايا تجب دراستها مع الاختفاظ في الوقت الحاضر بموقف المجمع الفقهي المتمثل في المنع
أولاً: مسألة الاسهم الممتازة التي لها خصائص تؤدي إلى ضمان رأس المال أو ضمان قدر من الربح.
ثانياً : مسألة التصفية دون تسلم السلعة المتعاقد عليها .(1/21)
هذه نتائج موجزة بنيناها على جهد مجامعنا الموقرة وأضفنا إليها بعض الاراء التي توخينا فيها أن لا تكون مصادمة لنص صريح من كتاب أو سنة أو قاعدة قطعية مع تقيدنا بالعزو إلى من يقتدى به من هذه الامة وبذلك نخلص أنفسنا من ربقة مخالفة الاجماع التي قد يتصورها المرء بادي ذي بدء . ورائدنا إن شاء الله هو التيسير في ظروف الاقليات التي هي ضروف ضرورة ، أو حاجة تلامس الضرورة بناء على قاعدة رفع الحرج ، وقاعدة تغير الاحكام بتغير الزمان وقاعدة تحكيم العرف الذي لا يصادم نصاً غير قائم عليه وقاعدة تحقيق المناط لتأصيل فقه التيسير فمن اختار العزيمة وآثر الاخذ بالاشد فذلك له وهو مأجور 0ان شاء الله- بحسب نيته إلا أنه يطلب منه أن يتأمل وأن يتجنب إتهام من خالفه فمبدأ حسن الظن في الاختلافات الفرعية يجب أن يسود علاقات أعضاء المجامع الفقهية تطبيقاً لأدب الخلاف الرفيع الذي ورثناه عن السلف الصالح رحمهم الله تعالى.
وأود أن انبه على أن ما ذكرته ليس من باب الفتوى بل هو أراء معروضة أمام سماحة الرئيس حفظه الله تعالى وأعضاء المجلس المحترمين لمناقشة الموضوع وتقدير الحاجة.
واستغفر الله العظيم ونسأله التوفيق في القول والعمل
عبدالله بن الشيخ المحفوظ بن بيّة
عضو هيئة التدريس بجامعة الملك عبدالعزيز
جدة(1/22)
بسم الله الرحمين الرحيم
فقه البورصة بين الجائز والمطلوب:
رؤية منهجية للحالة الإسلامية بأوروبا
محمد النّوري
يعد التعامل مع البورصة أي سوق الأوراق المالية والبضائع، من المسائل التي لا تزال بحاجة إلى تمحيص و تدقيق. والبورصة، أو المصفق، هي سوق تعقد فيها صفقات الأوراق المالية كالأسهم و السندات أو البضائع بالإضافة إلى العملات والنقود. وتوسعت وظائف البورصة أخيرا لتشمل ما يسمى بالاختيارات (options) والمستقبليات (futures) التي سيأتي شرحها لاحقا (1).
و المسلمون في أوروبا بحاجة ماسة إلى فقه البورصة و معاملاتها باعتبارهم جزء لا يتجزأ من المجتمعات الغربية و مطلوب منهم - أكثر من أي وقت مضى - الاندماج الإيجابي في تلك المجتمعات، اندماجا شاملا دون ذوبان، يحقق لهم مزيدا من الفعل والفاعلية وينمي ثقلهم البشري والاجتماعي و يجنبهم التهميش والإقصاء والتبعية.
كما أن البورصة أصبحت يوما بعد يوم - في ظل هيمنة العولمة الليبرالية - وتوسع الرأسمالية المالية بالنسبة للنظام الاقتصادي, بمثابة الرئة للإنسان ومقياس لدرجة حرارة الاقتصاد. فهي سوق - تعدت كل الأسواق الأخرى - لها خصائصها ووظائفها وإيجابياتها الاقتصادية والمالية كما لها من السلبيات والمخاطر، ما يدعو - المسلمين خاصة في هذه الديار - إلى الفهم العميق لهذه الظاهرة قبل التسرع في التكييف الشرعي للصور المستحدثة التي ألقت بها البورصة عليهم بملابستها المختلفة.
إن الرؤية المنهجية المطلوبة للتعامل مع قضايا البورصة و مستجداتها هي التي تسعى للمواءمة بين الجائز والمطلوب في أحكام البورصة ولا تكتفي بتطويع النصوص الفقهية أو البحث عن مخارج شرعية لإشكاليات لها أبعاد خطيرة ومتعددة على الفرد والأسرة والمجتمع.(1/1)
في هذا الإطار, تحرص هذه الورقة على إبراز الأسس المنهجية التي تلائم بين الجائز والمطلوب في فقه المعاملات المالية في مثل هذه السوق وذلك انطلاقا من تحديد الأولويات الاقتصادية للمسلمين في أوروبا من خلال فهم خصوصيات الواقع الأوروبي والأقليات المسلمة المتواجدة به من جهة، وضرورة ترشيد التصرفات المالية والاقتصادية لتلك الأقليات من أجل الخروج من مرحلة التهميش الاقتصادي إلى مرحلة التأسيس والبناء الإيجابي.
إن فقه الترخيص لا يكفى لوحده لتحقيق الاندماج الإيجابي والواعي للمسلمين في المجتمعات الأوروبية لأنه لا يتجاوز رفع الحرج الشرعي – نسبيا - عن الأفراد في معاملاتهم المالية، ربما يساهم في توطين بعض الأفراد في تلك المجتمعات و لكنه لا يساهم في توطين المشروع الإسلامي بأبعاده المختلفة وفي مقدماتها البعد الاقتصادي الذي جعل من أقلية الأقليات (الجالية اليهودية) في هذه الديار تتحكم في دواليب النظام الاقتصادي وتوجهه الوجهة التي تخدم مصالحها الإستراتجية في الداخل والخارج.
لقد كان بوسع علماء اليهودية في الديار الغربية أن يجدوا في ثنايا ديانتهم على سبيل المثال ما يجيز ذبائح غيرهم من أهل الكتاب لمزيد الاندماج والانصهار ولكن ذلك لم يحصل، بل حرص اليهود على التميز في هذا المجال وإبراز خصوصيتهم(casher) على كل المستويات والأصعدة مما ساهم في تركيز بنية اقتصادية تشكل مصدرا رئيسيا من مصادر التمويل والاستثمار.
تسعى هذه الورقة بعد ذلك إلى عرض وتحليل النشاطات الحديثة للبورصة وإبراز الإيجابيات والمنافع والسلبيات والمخاطر و كذلك التمييز بين الحاجة والضرورة في العلاقة بمثل هذه الأمور أي تحديد الحاجة الحقيقية للمسلمين في أوروبا للتعامل مع نشاطات البورصة.(1/2)
ثم نستعرض أحكام البورصة في الفقه الإسلامي الحديث بالتركيز على نقاط الاتفاق والاختلاف بين الفقهاء ثم نختم بخلاصة حول بعض الموجهات الضرورية لترشيد الفتوى الشرعية في مثل هذه القضايا الحساسة وهي بمثابة المرتكزات العملية لفقه التأسيس.
1/ الأولويات الاقتصادية للمسلمين في أوروبا:
إن الواقع الجديد للوجود الإسلامي بأوروبا أصبح يطرح على نفسه مهام جديدة تختلف دون ريب عن مهام العقود الأولى من مرحلة الهجرة الطارئة والوجود العابر.
إن المسلمين في ارو ربا يتطلعون إلى المساهمة الفاعلة في البناء الحضاري و صناعة المستقبل المشترك للإنسان في الضفتين الإسلامية و الأوروبية وهي مهمة ثقيلة تقتضي منهجا جديدا في التحقيق يتجاوز الفتاوى الجزئية والآراء العارضة والحلول الظرفية الخاصة، ويؤسس للتفاعل الحضاري على أصول من التقصي الشامل والاستشراف المستقبلي بنظر عميق يستجلي الواقع ويرسم الآفاق ويقود إلى تفعيل الوجود الإسلامي وتأهيله لهذا الدور الحضاري الكبير. (2)
ويقتضي هذا المنهج تحديد الأولويات وضبط الأهداف الإستراتجية المتعلقة بالوجود الإسلامي بأوروبا ومستقبل تطوره.
وانطلاقا من المقول الرائجة "المال قوام الأعمال", فان الأولوية الاقتصادية تأتي في مقدمة أولويات هذا المشروع الاستراتيجي لأنه بدون التفكير في سبل تحقيق وجود اقتصادي فاعل سيظل الوجود البشري وجودا هامشيا كما هو لحد الآن.
أ- خصائص الوجود الإسلامي بأوروبا:
يواجه الحضور الإسلامي في أوروبا تطورات واضحة خلال العقود الأربعة الماضية لعل في مقدمتها تنامي العنصر الشبابي ونزوعه إلى التدين كردة فعل على الأزمة المجتمعية التي تعاني منها مجمل الأقطار الأوروبية بما في ذلك انتشار الفوارق الاجتماعية والبطالة وتفشي الإدمان على المخدرات و العجز عن تحقيق التنمية العادلة.(1/3)
بالإضافة إلى تلك الخاصية البشرية التي تحتاج إلى لفتة خاصة في بعديها الاقتصادي والاجتماعي, هناك أيضا خاصية الكفاءات العلمية التي تشكل شريحة هامة من الوجود الإسلامي بأوروبا وتمثل رصيدا بشريا وعلميا لا يستهان بوزنه ولا بدوره في تفعيل الوجود الاقتصادي الإسلامي. وتضم هذه الشريحة عددا هائلا من الكفاءات المهاجرة التي استقرت اختيارا أو اضطرار بأوروبا وكذلك بمجموعة من العقول المتخرجة من الجامعات الأوروبية التي تساهم في عملية التنمية الإقتصادية في هذه البلاد.
لكن في المقابل, تعاني الأقليات المسلمة في أوروبا من تفشي البطالة خاصة في أوساط الشباب مما أدى إلى وقوع العديد منهم في مستنقع الانحراف والجريمة وارتياد السجون.
ب- ضرورة ترشيد التصرّفات الماليّة في أوروبا:
يحتاج المسلمون في أوروبا إلى رؤيا استراتيجية تنبني عليها تصرفاتهم المالية وسلوكياتهم الاقتصادية على غرار ما انتهجته الأقليات العرقية والدينية الأخرى التي استطاعت بفضل وعي وتخطيط محكم من قبل قياداتهم الفكرية و الدينية و السياسية أن تحتل موقعا مركزيا في النسيج الاقتصادي والمالي بالبلدان الأوروبية.
لكن الأقليات المسلمة، نظرا لحالة الفوضى المؤسساتية وتشتت القيادات والمنظمات، لم تولي المجال الاقتصادي والمالي أهمية تذكر وترك الأمر للتصرفات الفردية التي تتسم بالعفوية والارتجال و تغليب المنفعة الخاصة دون اعتبار للمصلحة العامة للمجموعات البشرية التي تكون جسم الأقليات المذكورة.
لقد آن الأوان أمام هذه المجموعات أن تقطع مع أساليب المرحلة السابقة وأن تنظر نظرة استشرافية استراتيجية لتحديد الخطوط الكبرى لتحديات المرحلة القادمة مرحلة التوطين والاندماج والمساهمة في البناء المستقبلي للمجتمعات التي تعيش فيها.(1/4)
وهذا لا يعني بحال التقوقع والانزواء والاندماج داخل تجمعات صغيرة منغلقة على ذاتها وإنما الانطلاق من الخصوصيات الذاتية لبناء بنية تحتية اقتصادية تستجيب لحاجيات المسلمين و تعمل على ترقيتهم اقتصاديا و اجتماعيا وتساهم في الآن نفسه في التنمية الاقتصادية للمجتمعات الأوروبية.
إن ترشيد التصرفات المالية والاقتصادية للمسلمين في أوروبا يقتضي الانطلاق من هذه الرؤية الاستراتيجية وتلك الأولويات من أجل توجيه الطاقات البشرية والإمكانيات المالية لتحقيق نقلة نوعية في الحضور الاقتصادي للمسلمين في هذه الديار.
ويأتي في مقدمة الأولويات ترشيد الاستثمار وتوجيهه الوجهة المطلوبة لتلبية الحاجيات الاقتصادية والتنموية للوجود الإسلامي بتأسيس المشاريع الإنتاجية والخدمية التي تولي العنصر البشري أهمية قصوى على حساب الاعتبارات الأخرى. من هنا تأتي أهمية فقه البورصة وضرورة الفصل فيه بين الجائز والمطلوب، بين المصلحة الفردية والمصلحة الاستراتيجية العامة والنظر إلى مآلات الفتوى فيه دون الاقتصار على الإجابات الجزئية المنفصلة عن واقع المجموعة.
ج- فقه التأسيس و فقه الترخيص:(1/5)
في هذا الإطار لا بد لفقه التأسيس أن يأخذ مكانه في سلم الأوليات المطروحة على الفكر الإسلامي وفقه الأقليات بشكل خاص0 لا مناص من تأسيس رؤية استراتيجية للوجود الإسلامي بأوروبا تقطع مع العفوية والارتجال والبحث عن الرخص أو "الحيل" الشرعية لا سيما في مجال المعاملات وتتمحور حول معاجلة شؤون الوجود الإسلامي بفقه خاص ينتمي إلى الفقه الإسلامي العام ولكنه يتفرد بخصوصيات تقتضيها خصوصيات الوجود الإسلامي بأوروبا (3). لا يهدف فقه التأسيس إلى الترقية الاقتصادية والتنموية لهذا الوجود فحسب و لكنه يطمح في معالجة مشاكل المجتمع الأوروبي والانتفاع بما جاء به الإسلام من خير وقيم روحية ومبادئ أخلاقية وأحكام منظمة للاقتصاد والمجتمع تخفف من غلواء الأزمة الاقتصادية وطغيان المادية في ظل هيمنة الليبرالية المتوحشة. إن فقه التأسيس يجب أن يقود فقه الترخيص لا أن يتخلف عنه أو أن ينقاد إلى استتباعاته و تداعياته.
فالفقه الإسلامي يزخر بالعديد من الاجتهادات والرخص التي شملت كل مناحي الحياة وإشكالات الواقع المتطور عبر التاريخ الطويل للبشرية. وليس من الصعب العثور في خضم هذه الثروة الفقهية المتراكمة على إجابات ومخارج شرعية للقضايا المستحدثة في الواقع المعاصر. ولكن التحدي الأهم هو كيف يمكن أن نجعل من فقه الترخيص جزءا مكملا لفقه التأسيس لا مهيمنا عليه وموجها له.
في هذا الإطار يمكن تحليل النشاطات الحديثة للبورصة والتحديات التي تطرحها على الفقه الإسلامي لا سيما في ديار الغرب في ظل الموجهات العامة التي تم عرضها.
2/ النشاطات الحديثة للبورصة:(1/6)
تحولت البورصة في ظل ثورة المعلومات والإنترنيت من سوق بمثابة الطلسم الذي تجهله الأغلبية الساحقة من الناس ولا يفقه كنهه إلا المتعاملين فيه إلى سوق مفتوحة تدخل البيوت بدون استئذان وتدفع الأفراد إليها دفعا طمعا في تحصيل الربح دون جهد ومعاناة، حتى أضحى عدد المرتادين إلى "البورصة المباشرة" من أطفال ونساء وغيرهم يفوق عدد المتعاملين مع نشاطات البورصة من خلال الوسائط و المتعهدين.
وتشير الإحصائيات في هذا الصدد أن عدد المتعاملين مع البورصة عبر شبكة الأنترنيت تجاوز 71% عام 1999 وهو يزداد يوما بعد يوم. وبلغ 8 مليون شخص من المتعاملين مع الشبكة من مكاتبهم و6 مليون من منازلهم. وتشير التقديرات أن هذا العدد تضاعف 4 مرات بحلول عام 2002. ولم تعد البورصة حكرا على المحترفين فقط بل أصبحت في متناول الجميع عبر آلية الاستثمار اليومي (day-trading) وهو يعني البيع والشراء للأسهم في نفس اليوم الواحد بفضل السرعة التي توفرها الإنترنت في المعاملات مع تكاليف السمسرة المنخفضة. (4)
ويمكن تخليص نشاط البورصة في الأعمال التالية:
أ-الأسهم (Actions):
وهي عبارة عن حصص من رأسمال الشركات المسجلة في سوق الأوراق المالية. و الأسهم بهذا المعنى هي جزء مشاع في تلك الشركات. ومن اشترى أسهما في البورصة أصبح شريكا في الشركة المعنية.
وليست كلّ شركة مسجلة في البورصة، إلا إذا كان رأس المال الشركة كبيرا. فهناك اكتتاب لرأسمال شركات تحت التأسيس وهناك شراء وبيع أسهم شركات قائمة بالفعل ويتم تداول أسهمها في البورصة. وهناك شركات تريد أن تزيد في رأسمالها فتصدر أسهما جديدة وكل ذلك يتم بالنسبة للشركات الكبيرة في سوق الأوراق المالية أي البورصة.
ب-السندات (Obligations):(1/7)
هي عبارة عن قروض قصيرة أو طويلة الأجل تصدرها الحكومات والشركات الهامة وتكون ضامنة لتسديدها عند الأجل مقابل فائدة سنوية محددة. فهي قروض بزيادة في مقابل الزمن، بينما الأسهم جزء مشاع في الشركة.
ج- صناديق الادخار الجماعية : (OPCVM = Titres des Organismes de Placement collectif en Valeur Mobilière)
وهي من أهم وسائل الإدخارالجديدة التي تشهد إقبالا كبيرا من طرف المدخرين الذين يخافون من دخول البورصة شخصيا. فيلجئون إلى أختصاصيين ماليين مثل البنوك وشركات التأمين للتخلّص من مشاكل التسيير. ويقوم الوسطاء بعرض سندات هذه الصناديق إلى المعنيين. ويشتمل نشاط هذه الصناديق على صنفين من السندات:
- سندات لشركات الاستثمار ذات رأس المال المتغير = (SICAV)
- سندات صناديق الادخار الجماعية = ((FCP
د/ الاختيارات: = ((OPTIONS
وهي نوع من المنتوجات المالية المتداولة حديثا في البورصات الدولية. وهي عبارة عن عقود مضاربة بالبيع الآجل بناء على توقعات لصعود الأسعار أو هبوطها بالنسبة للأسهم أو السندات أو السلع أو العملات. ولا يتم فيها القبض أو التسديد.
فالاختيارات هي عقد أتفاق بين طرفين يتم بموجبه إسناد حق الشراء (call) أو البيع (Put)دون الإلزام لسلعة أو سند أو سهم أو عملة معينة بسعر محدد، لمدة زمنية محددة مقابل مبلغ محدد لحق الشراء أو البيع.
ه/ المستقبليات = ((FUTURES
وهي أيضا نوع من عقود المضاربة ((Speculation أي المقامرة بالبيع الآجل بين طرفين ويعطي الحق مع الإلزام غير القابل للرد للمشتري لإتمام الصفقة بالسعر المحدد والوقت المحدد.
وبعد العقد يستطيع المشتري لتسلم البضاعة أو التفويت في موقعه قبل ذلك لطرف ثالث مقابل تعويض يتفق عليه. وتقوم هذه العقود المستقلبية على المضاربة على أسعار الفائدة أو العملات أو مؤشرات البورصات الدولية أو القيم المنقولة أو المواد الأولية.
3/ منافع البورصة ومخاطرها :(1/8)
لقد أثارت البورصة ولا تزال جدلا كبيرا بين الاقتصاديين وكذالك بين الفقهاء المعاصرين والسبب في ذلك أنها حولت النشاط الاقتصادي من اقتصاد إنتاجي يرتكز على العمل و رأس المال إلى اقتصاد رمزي يقوم على المضاربة (speculation)أي المقامرة على صعود الأسعار وهبوطها دون بذل جهد يذكر لتحقيق الأرباح.
لقد كانت البورصة ولا تزال وراء العديد من الأزمات والهزات المالية التي عصفت باقتصاديات برمتها وساهمت في ضياع ثروات ضخمة في وقت قصير بينما أدت إلى حصول أرباح فاحشة دون جهد لبعض المرابين. وقد طالب بعض الاقتصاديين بإلغاء هذه السوق نظرا للمخاطر التي تنجم عنها.
ويمكن إجمال ايجابيات البورصة ومخاطرها في النقاط التالية:
أ - الايجابيات أو المنافع:
? تشكل البورصة سوقا دائمة تسهل تلاقي البائعين والمشترين ويقوم فيها العقود العاجلة والآجلة على الأسهم والسنوات والعملات والبضائع.
? تساهم في تسهيل عملية التمويل للمؤسسات والشركات وتوفر السيولة المطلوبة عند الحاجة عن طريق بيع الأسهم والسندات.
? تمثل أداة لمعرفة تقلبات الأسعار عن طريق حركة العرض والطلب.
ب - السلبيات أو المخاطر:
? التأثير السلبي على النشاط الاقتصادي من جراء هيمنة مجموعة من المحترفين والمرابين والمحتكرين للسلع والأوراق المالية واستخدامهم للحيل والإشاعات وشتى وسائل الخداع و التضليل من أجل التحكم في الأسعار وتحقيق المزيد من الأرباح على حساب الغافلين من صغار التجار والممولين.
? إن العقود الآجلة التي تجري في البورصة ليست في معظمها بيعا حقيقيا ولا شراء حقيقيا بحكم غياب التقابض الفعلي في العرضين أو في أحدهما.
? إن البيع في هذه السوق غالبا هو بيع وهمي أي بيع إرادة ومشيئة وليس بيع سلعة أو حق مالي حقيقي. فهو بيع ما لا يملك الإنسان من عملات وأسهم وسندات وبضائع على أمل شرائه في السوق في الموعد دون قبض الثمن عند العقد. (5)
4/ موقف الفقه الإسلامي من البورصة:(1/9)
أ - نقاط الاتفاق بين الفقهاء:
? لا خلاف بين الفقهاء على تحريم شراء ة بيع السندات لأنها قرض بزيادة في مقابل الثمن وهذا هو ربا الديون الذي حرمه الإسلام باستثناء الشيخ محمد عبده والأستاذ عبد الوهاب خلاف الذين أجازا التعامل بالسندات بالاعتماد على أن تحديد الفائدة أو الربح أصبح ضرويا لعموم البلوى وفساد ذمم كثير من الناس.
? لا خلاف أيضا على جواز العقود العاجلة على السلع الحاضرة الموجودة في ملك البائع التي يجري فيها التقابض الفوري، ما لم تكن عقودا على سلع محرمة شرعا.
? لا خلاف أيضا على شراء وبيع أسهم الشركات و المؤسسات حين تكون الأسهم في ملك البائع، ما لم تكن تلك الشركات أو المؤسسات موضع تعاملها أو مجال نشاطها محرم شرعا.
ب- نقاط الاختلاف:
? أسهم الشركات التي أصل نشاطها حلال ولكن يشوبه شيء من الحرام، كالتعامل بالربا أو ما شابه ذلك. وقد أجاز البعض شراء وبيع الأسهم في مثل هذه الحالة بشروط منها:
- أن لا تزيد ديون الشركة عن النصف.
- أن لا تزيد نسبة التعامل الربوي لهذه الشركة عن الثلث.
- أن لا تزيد نسبة الفائدة إلى مجمل الأرباح عن 10%.
وهذه الشروط لا تنطبق على الشركات والمؤسسات الأوروبية لأن نسبة التعامل الربوي تصل إلى مئة في المئة والديون قد تصل إلى نفس النسبة أيضا.
? الاختيارات و المستقبليات: وهي العقود الآجلة بأنواعها المختلفة، وفيها أقوال:
- هناك من الفقهاء من يعتبرها تندرج ضمن حكم بيع الإنسان ما لا يملك لحديث الرسول صلى الله عليه و سلم عن حزام بن حكيم "لا تبع ما ليس عندك" وتدخل فيه أحكام فقهية متعددة منها بيع المعدوم وبيع الغرر و بيع معجوز التسليم.
- هناك من الفقهاء من يعتبر هذه العقود تدخل ضمن بيع الكاليء بالكاليء أو الدين بالدين وهو بيع غير جائز لأنه ليس فيه قبض لا سلعة ولا ثمن ولا يندرج ضمن بيع السلم.(1/10)
- هناك من العلماء من اعتبر هذه العقود تدخل ضمن باب بيع الشيء المملوك دون قبضه من آخر وقد أجمعوا على عدم جواز هذا البيع باستثناء المالكية الذين قصروا المنع على بيع الطعام أما غير الطعام فيجوز بيعها قبل قبضها.
- هناك من العلماء من اعتبر هذه العقود الآجلة تدخل في باب البيع دون تحديد السعر (أو البيع بما ينقطع غليه السعر) وهو البيع الحالي في البورصة حيث تباع السلع الحاضرة بثمن السوق في يوم محدد أو في فترة محددة هي فترة التصفية.
وقد اتفق العلماء على عدم جواز هذا العقد باستثناء الإمام أحمد بن حنبل ورأي ابن تيمية وابن القيم في إجازة البيع بما ينقطع عليه السعر في المستقبل بتاريخ معين من غير تقدير الثمن أو تحديده وقت العقد لتعارف الناس و لتعاملهم به في كل زمان و مكان وهو ما يسمى ببيع الاستجرار. والمقصود بذلك سعر السوق وقت البيع لا أي سعر في المستقبل.
5/ خلاصة واستنتاجات:
نخلص مما سبق إلى أنّ الاتجاه العام لموقف الفقهاء هو إجازة التعامل مع البورصة فيما يتعلّق بـ:
- أسهم الشركات وصناديق الادخار الجماعية التي لا يغلب على نشاطها الحرام ضمن شروط محددة.
- عقود الاختيارات والمستقبليات إذا كانت تندرج في إطار عقد بيع الاستجرار (أي سعر السوق وقت البيع).
أمّا السندات فهي موضع خلاف والرأي الغالب لحدّ الآن هو عدم إجازتها لأنها تنطوي على فائدة ثابتة.
والمتأمل في آلية عمل البورصة وخاصة في المجتمعات الأوروبية يدرك صعوبة التمييز بين الحلال والحرام في نشاطات الشركات والمؤسسات ونوعية الأسهم التي تتوفر فيها الشروط الشرعية للتعامل بها. كما أنّ الوسطاء والمصارف لا تستطيع تقديم الاستشارات الضرورية في هذا المجال لمن يطلبها. وبالتالي يحتاج الفرد إلى تفقّه حقيقي ودراية دقيقة بالمعاملات المالية في هذه البلدان حتى يستطيع التعامل مع البورصة وتجنّب الحرام قدر الامكان.(1/11)
وإذا نظرنا إلى واقع الوجود الإسلامي بأوروبا وحاجة المسلمين فيه إلى البورصة يتراءى إلينا مباشرة طرح التساؤلات التالية:
أولا – ما مدى حاجة الوجود الإسلامي بأوروبا فعلا إلى التعامل مع البورصة ؟ أي هل مناك حاجة ماسة للتعامل مع البورصة ؟ وهل هناك من المسامين الذين لهم قدرة مالية وفائض مالي حتى يوجهه إلى الاستثمار في البورصة؟ وإن وجد مثل هؤلاء، كم عددهم وما هي نسبتهم مع مجموع المسلمين في البلاد الأوروبيّة؟
ثانيا- هل يجوز حقيقة توجيه الرأسمال الإسلامي بأوروبا إلى مثل هذه الأسواق والحال أن الوجود الإسلامي ليس له بنية اقتصادية تذكر وهو بحاجة إلى مشروعات تحتيّة أساسية أولا وقبل كل شيء وتعاني أعداد هائلة من شبابه وكهوله حالة من البطالة والعيش عالة على المجتمع الأوروبي، ولولا المنح العائليّة والتغطية الاجتماعية التي توفرها الحكومات الأوروبية لتحوّلت تلك الجموع البشريّة إلى صف المشرّدين والمصنفين بدون مأوى ((SDF ؟
ثالثا- هل يجوز التوسع في فتاوى البورصة ونشاطاتها القائمة على المضاربة (بمعنى المقامرة) في الوقت الذي ينادي فيه أصوات أوروبية وغربية عديدة بضرورة إلغاء هذه السوق الوحشية التي سببت في انهيار أوضاع اقتصادية وعملات محليّة ومؤسسات كبرى بين عشيّة وضحاها نتيجة تآمر حفنة من المرابين والمحتكرين ؟
رابعا- هل يجوز فتح الباب على مصراعيه أمام الأطفال والشباب وربات البيوت الذين دخلت البورصة عليهم وما تفتأ تسلّط إغراءاتها في تحقيق الأرباح السهلة دون جهد ومعاناة مما يؤثر سلبا على الحياة الفرديّة والأسريّة؟
خامسا- هل هناك مؤسسات أوروبيّة بالبورصة يتوافر فيها الحدّ الأدنى من الضوابط الشرعيّة حتّى نبيح التعامل معها وشراء أسهم فيها؟(1/12)
وبناء عليه يجدر الحثّ على توجيه الاستثمار في القطاعات الإنتاجية بدل المضاربة الماليّة التي لا تخفى أخطارها على الفرد والأسرة والمجتمع. وهو ما يحتاج إلى وعي استثماري جديد يضع في الاعتبار المصالح الاستراتيجية للوجود الإسلامي في هذه الديار.
ومما لا شك فيه أن هذا الوعي تساهم في تشكله في المقام الأول فتاوى العلماء واجتهاداتهم.
والله ولي التوفيق.
هوامش:
(1) البورصة هي مكان للتبادل، وفيها يمكن تبادل كل شيء. ففيها يتم بيع وشراء المواد الغذائية (مثل البن والأرز و الذرة...)، والمواد الأولية ( مثل البترول والقطن والنحاس...)، والسندات المالية( مثل سندات الأسهم والالتزامات...)، والعملات (مثل الدولار والين واليورو...)، وحتى معدلات الفائدة. كل شيء قابل للتبادل والمتاجرة.
(2) انظر: البحث في الشأن الإسلامي بأوروبا - سلسلة الدراسات المنهجية - د. عبد المجيد النجار – مركز البحوث والدراسات بالمهد الأوروبي للعلوم الإنسانية- فرنسا.
(3) نفس المصدر السابق.
(4) www.home4arab.com
(5) انظر: قرار المجمع الفقهي الإسلامي حول البورصة - الدورة السابعة 1404 هـ.(1/13)
بسم الله الرحمن الرحيم
المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث
قتل المرحمة
EUTHANASIE
بين
القوانين الوضعية
والفقه الإسلامي
ستوكهولم 1423هـ/2003 م
الأستاذ الدكتور
محمد الهواري
... ...
... ... ... ... ... ... ...
مدخل:
... أمكن للتقدم العلمي في السنوات الأخيرة وخاصة في مجال صحة الحياة وكذلك التطور المذهل للتقنية الطبية أن يؤدي لأن تطول الأعمار بصورة واضحة جداً. ويلاحظ كذلك أن التقدم الطبي وخاصة في البلاد المتطورة، استطاع أن يحافظ على الحياة الاصطناعية للمرضى الواقعين تحت تأثير الغيبوبة، لفترة طويلة من الزمن قد تستمر في بعض الأحيان لعدة سنوات.ومع التطور الاجتماعي وتفكك الروابط الأسرية وارتفاع نفقات العلاج الطبي اختلفت النظرة الطبية لمثل هؤلاء المرضى اختلافا بيّناً. فقد يصدف أن يصاب بعض المرضى بآفات لا يرجى شفاؤها، كبعض آفات السرطان أو الإيدز وغيرها، وقد تتصاحب هذه الآفات بآلام شديدة غير محتملة مما يدفع الهيئة الطبية المعالجة أو المريض نفسه أو من يتولى أمره أن يبحث عن طريقة تنتهي بواسطتها حياة المريض رحمة به وشفقة عليه. وأدى هذا الموقف إلى نشوء ما يسمى بقتل الرحمة أو تيسير الموت أو ما يعرف باللغات الأوربية باسم (الأوتانازيا Euthanasia ). وهو وسيلة أثارت جدلاً عنيفاً بين الأوساط الطبية والقانونية والأخلاقية والدينية لم تنتهي آثارها حتى يومنا هذا.
تعريف قتل المرحمة أو الأوتانازيا:
... كلمة الـ ( Euthanasia ) كلمة إغريقية الأصل وتتألف من مقطعين:
- السابقة EU وتعني الحَسَن أو الطيب أو الرحيم أو الميسر.
- واللاحقة TATHANOS وتعني الموت أو القتل.
وعليه فإن كلمة الأوتانازيا تعني لغوياً الموت أو القتل الرحيم أو الموت الحسَن أو الموت الميسر.
أما في التعبير العلمي المعاصر فتعني كلمة الأوتانازيا "تسهيل موت الشخص المريض الميؤوس من شفائه بناء على طلب مُلِحٍ منه مقدم للطبيب المعالج ".(1/1)
ومع الزمن نشأت صور تطبيقية مختلفة للأوتانازيا نلخصها فيما يلي:
1- القتل الفعال Euthanasie Directe أو القتل المباشر أو المتعمد:
... ويتم بإعطاء المريض جرعة قاتلة من دواء كالمورفين أوالكورارCurare ... أوالباربيتوريات Barbiturates أو غيرها من مشتقات السيانيدCyanide ... بنيّة القتل. ...
... وهو على ثلاثة أحوال:
الحالة الأولى: ... ... الحالة الاختيارية أو الإرادية حيث تتم العملية بناء على طلب ملحٍّ من المريض الراغب في الموت وهو في حالة الوعي أو بناء على وصية مكتوبة مسبقاً.
الحالة الثانية: ... ... الحالة اللاإرادية وهي حالة المريض البالغ العاقل الذي فقد الوعي، حينئذ تتم العملية بتقدير الطبيب الذي يعتقد بأن القتل في صالح المريض، أو بناء على قرار من ولي أمر المريض أو أقربائه الذين يرون أن القتل في صالح المريض.
الحالة الثالثة: ... ... وهي حالة لا إرادية يكون فيها المريض غير عاقل، صبياً كان أو معتوهاً، وتتم بناء على قرار من الطبيب المعالج.
2- المساعدة على الانتحار:Aide au suicide:
... وفي هذه الحالة يقوم المريض بعملية القتل بنفسه بناء على توجيهات قدمت إليه من شخص آخر الذي يوفر له المعلومات أو الوسائل التي تساعده على الموت.
3- القتل غير المباشر: Euthanasie Indirecte :
... ويتم بإعطاء المريض جرعات من عقاقير مسكنة لتهدئة الآلام المبرحة، ... وبمرور الوقت يضطر الطبيب المعالج إلى مضاعفة الجرعات للسيطرة على ... الآلام، وهو عمل يستحسنه القائمون على العلاج الطبي، إلا أن الجرعات ... الكبيرة قد تؤدي إلى إحباط التنفس وتراجع عمل عضلة القلب فتفضي إلى ... الموت الذي لم يكن مقصوداً بذاته ولو أنه متوقع مسبقاً.
4- القتل غير الفعال أو المنفعل Euthanasie Passive:
... ويتم برفض أو إيقاف العلاج اللازم للمحافظة على الحياة ويلحق به رفع ... أجهزة التنفس الاصطناعي عن المريض الموجود في غرفة الإنعاش والذي ... حُكِمَ بموت دماغه، ولا أمل في أن يستعيد وعيه.(1/2)
الجدل القانوني والأخلاقي حول قتل المرحمة
يقول الدكتور عصام الشربيني بأن قتل المرحمة وافد غريب على عالم الطب والأطباء، بصوره المختلفة أو أسمائه المتعددة أو وسائله المتباينة، فلم يزل الأطباء يلتزمون بالمحافظة على الحياة الإنسانية من بدء الحمل إلى نهاية الموت، منذ قَسَم أبقراط أقدم ما عرف، إلى الدستور الإسلامي للمهن الطبية أحدث ما صدر.
ويعتقد بأن ظاهرة قتل المرحمة بدأت بالظهور بصورة منظمة في الربع الثاني من القرن الماضي، ثم أخذ الداعون إليه يزدادون وينشئون الجمعيات تحت أسماء مختلفة، لعلها تكون أكثر قبولاً أو أقل استثارة للمعارضة والنفور. وقد أنشئت الجمعية الأمريكية لقتل الرحمة سنة 1930 ثم عدلت اسمها سنة 1970م إلى: " جمعية حق الإنسان في الموت ". وعقدت الجمعية البريطانية لقتل الرحمة أول اجتماع لها عام 1936م وقدمت مشروعا لمجلس اللوردات يجعل قتل الرحمة أمراً يبيحه القانون، فلما رفضه المجلس تكررت المحاولات مرات عديدة على مرّ السنين.
ومع أن التقاليد الطبية السائدة في بلدان العالم والكثرة الغالبة من الأطباء ما زالت ترفض وتنفر بشدة مما يسمى قتل الرحمة، ومع أن القوانين السارية في معظم بلدان العالم تعتبر قتل الإنسان بأي صورة ولأي سبب جريمة يعاقب عليها القانون، إلا أن قتل الرحمة أخذ يُمارس بصورة متزايدة في عدد من البلدان الأوروبية مستترا في صدور الأطباء الذين مارسوه ثم اعترفوا به في مناسبات مختلفة، وقد يكون لا يزال ضائعاً في أروقة المستشفيات وسجلاتها تحت أسماء مضللة تجعل السلطات تغض الطرف عنها أو تمتنع المحاكم من إيقاع العقوبات القانونية في حق مرتكبيها. وتكاد هذه الأمور تصبح ممارسة يومية في بلد كهولندا، إلى أن أصبح الأمر مقننا من قبل السلطات التشريعية.(1/3)
وكما تطورت الأسماء من "جمعية قتل الرحمة" إلى "جمعية حق الإنسان في الموت" إلى "حق الإنسان في الموت في وقار وإجلال"، كذلك تطورت الأهداف من علاجية إلى وقائية، أي من إنهاء الألم بقتل المتألم إلى " الوقاية من الطفولة المعوقة " والمطالبة بتشريع يبيح للأطباء قتل الأطفال المعوقين خلال ( 72 ) ساعة من ولادتهم.
ومما لا شك فيه أن الاهتمام في مسألة القتل الرحيم تزايد في الثمانينيات المنصرمة، ونظن أن ذلك يرجع إلى أمور من أهمها:
...
أ ) اهتمام دوائر الإعلام ونشر ممارسة القتل الرحيم بشكل واسع في هولندا.
ب ) استفحال بعض الأوبئة واستعصائها على العلاج كبعض أنواع السرطانات ومرض الإيدز.
ت ) نشوء جمعيات وهيئات ذات تأثير كبير في الضغط على السلطات الحكومية لأجل إصدار تشريعات حول القتل الرحيم.
انقسمت الآراء حول القتل الرحيم بين مؤيدين ومعارضين وبين مؤيدين بشروط صارمة. ومن بين الحجج التي يبديها المؤيدون للقتل الرحيم نذكر ما يلي:
أولاً) ... مصلحة المريض:
... يرى البعض أن اللجوء إلى القتل الرحيم هو في مصلحة المريض الذي يعاني ... من الآلام الجسدية والنفسية التي لا يطيق تحملها، ويقدمون لتدعيم موقفهم ... الحجج التالية:
1- حرية التقرير الذاتي: Autonomie
... يرى هؤلاء بأن الإنسان حرٌّ في تقرير مصيره وله الحق في التصرف ... بجسده كيف يشاء. ويؤكدون بأن القتل الرحيم هو نوع من المساعدة ... على الانتحار المشروع والذي لا تعاقب عليه القوانين الوضعية. ولذا ... ينصحون بأن يكتب المريض وصية للتصرف بحياته عند دخوله ... المستشفى للمعالجة وهو لا يزال في كامل وعيه وقدرته على التصرف، ... فإذا ما تعرض لمرض ميؤوس من شفائه فيرى أن على الطبيب المعالج ... أن يتوقف عن علاجه وأن لا يحاول المحافظة على حياته سدىً.
2- الحقوق الذاتية :
... يرى المؤيدون أن للمريض حقوقا ذاتية يجب احترامها وتتلخص فيما ... يلي:(1/4)
... - ... طالما أن الموت أمر محتوم ومقدر لكل إنسان، فللإنسان الذي ... ... ... يتعرض لآلام طويلة الحق إذن في أن يموت أو أن يحيا ... ... ... بالصورة الكريمة التي يتمناها.
... - ... وبناءً على ذلك فله الحق في أن يُقتَلَ إذا طَلبَ ذلك.
3- الرحمة والشفقة بالمريض:
... يرى المؤيدون للقتل الرحيم بأن من شأنه أن يُريح المريض ويخلصه ... من المعاناة والعذاب والآلام التي لا يطيق الصبر عليها.
4- نوعية الحياةQualité de vie :
... تقاس قيمة الحياة بمنظور المؤيدين للقتل الرحيم بما يمكن أن يساهم ... الإنسان في المجتمع من إنتاج وإبداع، فإذا ما أصبحت الحياة تعتمد ... على الغير في قضاء الحوائج وأن يصبح الإنسان كتلة لحمية لا نفع ... لها، حينئذ تتساوى الحياة مع الموت ، بل إن الموت أولى.
ثانياً) ... مصلحة الآخرين ( مصلحة الأهل والأصدقاء والمجتمع):
1- الرحمة والشفقة:
... وإذا خففنا الآلام الجسمية عن المريض الميؤوس من شفائه، فإن آلامه ... النفسية مستمرة لشعوره بأنه عبءٌ ثقيل على سواه ممن يتولون رعايته، ... ولا مفرّ - بعد قليل أو كثير – من تبرّمهم وتمرّدهم على ما يشقّ ... عليهم من أمره.
... وإذا لم يكن في حالة من الوعي يشعر معها بهذه الآلام، فهي واقعة بلا ... شك على أهله الأقربين، وأصدقائه الأدنيْن ( وهنا نلاحظ الانتقال من ... الرحمة بالمريض إلى الرحمة بأهله وأصدقائه الأصحاء ) .
...
2- العامل الاقتصادي:
... ولا شك أن وراء كل هذه الحجج والأسباب عاملاً يظللها جميعاً بظله، ... سواء ذكر صراحة، أو لم يذكر، وهو التكاليف المادية والأعباء ... الاقتصادية التي تتحملها الأسرة أو المجتمع، وفي التخلص من ... المرضى الميؤوس من شفائهم توفير مادي على المجتمع والدولة ... والعائلة.
3- منطق العقوبة:(1/5)
... يقول المؤيدون للقتل الرحيم بأنه من الواجب أن يتخلص المجتمع من ... العناصر الطفيلية والضارّة في المجتمع، فمرضى الإيدز مثلاً يشكلون ... خطراً كبيراً على المجتمع في إمكانية نشرهم لهذا الوباء إضافة إلى ... تحمّل المجتمع نفقات معالجتهم الباهظة والتي لا نفع يرجى منها حتى ... اليوم.
هذا ويبدو أن هولندا كانت من الدول السباقة في إصدار التشريعات التي تبيح القتل الرحيم، كما أجازت الزواج المثلي للشاذين جنسياً من قبل. وقد أعلن أن هيئة المجلس التشريعي العليا في البرلمان الهولندي وافقت على مشروع قانون لما يسمى " القتل الرحيم " بأغلبية (48) صوتا مقابل (28) صوتا معارضاً، في الوقت الذي تظاهر فيه الآلاف من المعارضين لهذا القرار أمام البرلمان وهم يرددون الترانيم الدينية وإقامة الصلوات مؤكدين أن الحياة نعمة وهِبة من الله فلا يحق لأحد أن يستلبها إلا بالحق.
ويؤكد وزير الصحة الهولندي بأن القانون فيه كثيرٌ من الاحتياطات لضمان عدم استغلاله استغلالاً سيئاً، كأن تكون هناك علاقة طويلة بين المريض والطبيب تسبق القرار في القتل الرحيم، وأن يأتي القرار من المريض بكامل وعيه، فلا يحق للطبيب أن يقترح القتل الرحيم كأحد الخيارات الناجمة عن فشل المعالجة، كما لا بد أن يكون المريض يعاني من عذاب أليم ناتج عن مرض مزمن لا يرجى شفاؤه، ولا بدّ أن يلح المريض في الطلب مع التأكد من سلامة قواه العقلية. وتذكر وسائل الإعلام بأن ( 90 % )من الهولنديين موافقون على هذا القانون.
المعارضون للقتل الرحيم:(1/6)
... يشمل الطرف المعارض للقتل الرحيم المجموعات الدينية ومجموعات الحق في الحياة. وقد كان الفاتيكان من أشد المعترضين على المشاريع الرامية لتقنين الموت الرحيم، وعلّق أحد أعضاء الاتحاد المسيحي في هولندا على مشروع القانون بأنه خطأ تاريخي ولا ينبغي لهولندا أن تكون فخورة به، وقد هاجم وزير العدل الألماني هذا القانون الجديد بقوله" إنه ينبغي علينا التركيز على تطوير أنواع العلاج التي تزيل الألم".
... ويرى كثير من الأطباء أن يزداد الاهتمام بطب المسنين وتحسين مستوى الخدمات الصحية والاعتناء بالخدمات الشخصية للمرضى المزمنين وأن تتابع الأبحاث العلمية في تطوير المسكنات، وأن يعطى المريض خيارات كثيرة تجعل حياته أكثر راحة، كل هذا بدلاً من المضي في إصدار تشريعات تبيح القتل الرحيم.
... وقد أبدت بعض الهيئات تخوّفها من أن تضع مثل هذه القوانين كبارَ السن في وضع حرج تجاه ذوبهم الذين قد يعتقدون أنهم أصبحوا عبئاً عليهم، وبالتالي يلجأ ون إلى هذا الخيار تحت هذا الضغط النفسي.
وفي مقال مناهض للقتل الرحيم صدر عن المنظمة البريطانية للحق في الحياة، استشهد كاتبه في دفاعه بالأديب الألماني (غوتة Goethe) الذي قال: " إن الدور الوحيد للطبيب هو الحفاظ على الحياة بصرف النظر عن قيمة الحياة في نظره، إذ إن ذلك ليس من اختصاصه، فإذا تَركَ الطبيب لنفسه تقييمَ قيمة حياة مريضه مرةً واحدة، فإنه سيصبح بلا شك أخطر رجل في الدولة".
الموقف العملي
لبعض الدول من القتل الرحيم
... يبدو بأن الدانمرك وبعض المقاطعات السويسرية وما يزيد عن نصف الولايات الأسترالية وجميع الولايات الأمريكية قد تبنّت تشريعات تعترف بحق كل فرد في أن يرفض أي إصرار على العلاج الدوائي.(1/7)
ويسمح قانون ممارسة المهنة الطبية الدانمركي للأطباء بعدم السعي للمحافظة على حياة مريض ميؤوس من شفائه وغير قادر على التعبير عن إرادته، حتى لو لم يسبق للمريض أن أبدى رغبته بعدم الاستمرار في العلاج.
وأجازت ولاية أوريغون Oregon الأمريكية حديثا تشريعا يبيح المساعدة على الانتحار.
وسبق للولايات الشمالية الأسترالية أن أصدرت في عام 1996 تشريعات لتقننين القتل الرحيم، غير أن الحكومة الفيدرالية ألغت هذا القانون عام 1998 بعد الاعتراض الشديد الذي قادته الكنيسة والسكان الأصليون في القارة الأسترالية.
ويعترف كثير من الدول بحق كل فرد في أن يرفض أي علاج طبي يهدف إلى إطالة حياته بدون جدوى.وبالمقابل يختلف الموقف حينما يفقد المريض القدرة العقلية التي تسمح له باتخاذ القرار، ولهذا أباحت بعض الدول للمريض أن يعبّر عن قراره بصورة مسبقة وأن يكتب في وصيته ما يدعو إلى رفضه أيّ علاج دوائي يطيل حياته بدون فائدة ترجى. كما يحق له أن يتخذ وصياً عليه يحق له اتخاذ القرار المناسب بدلاً عنه في حال وقوعه في العجز عن اتخاذ القرار. وهذا هو موقف كل من الدانمرك وبعض الولايات الأسترالية وعدد من المقاطعات السويسرية وجميع الولايات الأمريكية ما عدا ولاية ألاسكا التي تنص على وجوب الالتزام بالوصية، وكذلك كل من ولاية نيويورك وماساتشوسيتس وميتشيغان التي تنص على وجوب اتخاذ وصي على المريض يُفوّض باتخاذ القرار، أما الولايات الأخرى فتقبل بالصورتين المختلفتين.
وفي كثير من الدول يُمارس القتل الرحيم غير الفعال (أو المنفعل) والقتل الرحيم غير المباشر لإنهاء حياة مريض ميؤوس من شفائه دون أن تكون هناك تشريعات تقنن ذلك، كما هي الحال في الدانمرك وهولندا وألمانيا وأمريكا وسويسرا وبريطانيا وأستراليا وغيرها. ويتم الأمر برفع أجهزة التنفس الاصطناعي أو بإعطاء المريض جرعات متزايدة من المسكنات التي تسرّع في إنهاء حياته.(1/8)
وفي ألمانيا على الخصوص لا يتداول تعبير القتل الرحيم Euthanasia بل يستعمل بدلاً عنه تعبير المساعدة على الموت Sterbehilfe. وحتى اليوم لا توجد تشريعات تبيح القتل الرحيم الفعال بل إن ممارسته تعرض الفاعل للعقوبات القانونية. وبالمقابل فإن القتل غير الفعال أو المنفعل يعتبر مرغوباً فيه بل يشجع على القيام به، كما أن قانون الممارسة الطبية يقبل بالقتل غير المباشر بالشروط المعروفة. وتدل الإحصاءات على أن الألمان يتراجعون بصورة واضحة عن قبول القتل الرحيم بسبب تطور العلاج الطبي المعاصر.
أما في بريطانيا فلا يعتبر القتل الرحيم الفعال عملاً إجرامياً بل يعتبره القانون مماثلا للانتحار الإرادي، ولا تزال السلطات الحكومية والهيئات الطبية تعارض إصدار أي تشريعات بهذا الخصوص.
وبالمقابل ترفض التشريعات القتل الرحيم بالمساعدة على الانتحار ويعرض الفاعل للمساءلة القانونية. إضافة إلى هذا تقبل التشريعات القتل الرحيم غير المباشر والقتل المنفعل.
وفي الدانمرك يعاقب القانون المساعدة على الانتحار في حين يجيز القتل الرحيم بصوره المختلفة الأخرى. ويحق للطبيب أن يمتنع عن معالجة أي مريض يرى أنه ميؤوس من شفائه.
وبالنسبة لهولندا فإن القانون يعاقب على القتل الرحيم الفعال والمساعدة على الانتحار، إلا أن التشريعات القانونية تقبل أن يُقدِمَ الطبيبُ على القتل الرحيم في حالات خاصة تضعه في مواجهة القيام بواجبه في الحفاظ على حياةٍ ميؤوس منها وبين إنهاء هذه الحياة غير المحتملة. وتقنيناً لهذا صدرت تشريعات عام 1993 وضعت نظاماً كثير التعقيد يحمي الأطباء الممارسين للقتل الرحيم من المساءلة القانونية.
وفي سويسرا يحمي القانون الجنائي حق الحياة بصورة مطلقة ويعاقب على القتل الرحيم الفعال حتى لو تمّ بناءً على طلب ملح من المريض.(1/9)
وبالمقابل فإن القانون يبيح المساعدة على الانتحار بشرط أن لا يكون في ذلك مصلحة لغير المريض. وعلى الرغم من عدم وجود أي تشريعات واضحة إلا أن القتل الرحيم غير الفعال يمارس بشكل عملي في جميع المقاطعات السويسرية.
وفي الولايات المتحدة لا يزال القتل الرحيم الفعال غير مسموح به قانوناً بل يعاقب فاعله بمسؤولية القتل العمد. والمساعدة على الانتحار يعاقب عليها في أكثر الولايات الأمريكية. وقد أجازت ولاية أوريغون Oregon مؤخراً (عام 1997) أن يعطى المريض الميؤوس من شفائه حقنة قاتلة بناء على طلبه. وتجيز التشريعات حق رفض الاستمرار في المعالجة أو حق رفع الأجهزة الاصطناعية في حالة القتل الرحيم غير المنفعل.
والأمر في فرنسا شبيه بما سبق، فلا يجيز القانون القتل الرحيم الفعال، ويسمح بالقتل غير المنفعل و يحق المريض في رفض الاستمرار في العلاج.
موقف علماء المسلمين
من القتل الرحيم
درست بعض المجامع الفقهية وبعض المنظمات الإسلامية الطبية وكثير من علماء المسلمين قضية القتل الرحيم وكانت آراؤهم في معظمها متشابهة من حيث النتيجة برفض الجميع القتلَ الرحيم الفعال وقبول القتل الرحيم غير المنفعل.
وبما أن الأمر في اللجوء إلى القتل غير المنفعل يعتمد بالدرجة الأساسية على اعتبار أن المريض في حالة ميؤوس منها أو بحكم الميت، فكان لا بد من التحدث مسبقا عن نهاية الحياة الإنسانية، أو بتعبير آخر: ما هو الموت الحقيقي؟.
كانت هذه القضية وما زالت محلّ اهتمام علماء الشريعة والطب نتيجة للزيادة المطردة بين مصابي الحوادث ومرضى الغيبوبة العميقة الذين يطلق عليهم اسم " ميّتي المخ".(1/10)
ومما لا ريب فيه أن الموتَ نقيضُ الحياة ولهذا فإنهما لا يجتمعان في بدن واحد، ولا يرتفعان عنه في نفس الوقت، وإذا كان الموت هو مفارقة الروح للجسد، فإن هذه المفارقة لا تُدرك بالحس، لأن الروح عَرَض ولا يمكن إدراكها بالحواس. إلا أن لمفارقتها البدن بالموت علاماتٍ استدلّ بها الفقهاء على موت من ظهرت عليه.
وللأخ الأستاذ الدكتور محمد هيثم الخياط دراسة حول نهاية الحياة الإنسانية أقتبس منها ما يلي :
لم يرد في القرآن الكريم أو السنة المطهرة نصٌّ على علامات يعرف بها انتهاء الحياة الإنسانية، بل تُركَ ذلك – والله أعلم – للتطوّر مع ما يستجد للناس من معارف. ولكننا نجد في القرآن الكريم تعريفاً دقيقاً للموت. إذ يُعَرَّفُ الموت بأنه لحظة "اللاعودة " ؛ فيقول عزّ من قائل: " حَتَّى إذَا جَاءَ أحَدَهُمُ المَوتُ قالَ ربِّ ارجِعُونِ لعلّي أعمَلُ صَالِحَاً فيما ترَكتُ ... كلا "[ سورة المؤمنون : 100] ويقول سبحانه وتعالى : " اللهُ يَتَوفَّى الأنفُسَ حينَ مَوْتِهَا، والتي لمْ تَمُتْ في مَنَامِهَا، فَيُمْسِكُ التي قَضَى عليْهَا الموت " [ سورة الزمر: 42]
فما هو العضو الذي يؤدي توقفه عن العمل إلى مرحلة "اللاعودة " ؟ أهو القلب، أم الرئتان؟ أم الكلى؟ أم الدماغ؟
أما القلب، فيمكن أن يقف بضع ثوانٍ، يعود بعدها إلى النَّبَضان بعد تدليك القلب أو إحداث صدمة كهربائية له. وقد يُوقَفُ عن العمل عدة ساعات في أثناء جراحة القلب، ويستعاض عنه بمضخة اصطناعية، ثم يعود إلى النبضان.
وأما الرئتان، فيمكن أن تقِفَا عن العمل، ثم تعودا إليه بعد إجراء التنفس الاصطناعي، أو يُستعاض عنهما بأجهزة الإنعاش الاصطناعي، التي يمكن أن يظلَّ المرءُ مُتَنَفِّسَاً بها مدة تطول أو تقصر.
وأما الكليتان، فيمكن أن تفشلا، فيقوم مقامَهُما (الدِّيَال Dialyze) أو جهاز الغسل الكلوي، ريثما يُستعاض عن إحداهما بكلية مزروعة.(1/11)
وأما الدماغ، فإذا توقف عن عمله أربع دقائق على الأكثر من جرّاء نقص توارد الدم – بما فيه من أوكسيجين وسكر – إليه، فإنه سرعان ما يتحلل ويتخرّب إلى غير عودة، ولا يمكن أن يُستعاض عنه بشيء. ويحدث له مثل ذلك إذا تعرّضَ إلى إصابة أو أذيّة نتيجة حادثة من الحوادث، أو أصيب بنزف جسيم أو ورم.
فموت الدماغ إذن يمثل الموت الحقيقي لأنه يمثل اللاعودة. ومتى مات الدماغ- قِشْرُهُ و جِذْعُهُ – تَوَقَّفَ القلبُ والتنفس بما أن مركزيهما الناظمَيْن لهما يستقران في جذع الدماغ. ولا تفلح أجهزة الإنعاش الاصطناعي عندئذ إلا في إطالة مظاهر حياةٍ انتهت إلى غير رجعة بتحلل الدماغ.
فإذا لم يكن المرء موضوعاً على أجهزة الإنعاش الإصطناعي، فإن في وُسعِ الطبيب أن يستدل على موته من توقف القلب عن النبضان، أو توقف الرئتين عن التنفس، أو غير ذلك من العلائم التي تدل على موت الدماغ من اتّساع الحدَقَتَيْن وعدم تفاعلهما للنور، ثم من برودة جسم الميت، وشحوب وجهه، وانخساف صُدغَيه، وميل أنف، وانفراج شفتيه، واسترخاء رجليه وامتداد جلدة وجهه، وتقلص خصيتيه إلى فوق مع تدلي الجلدة، إلى غير ذلك مما هو مذكور أيضاً في كتب الفقه.
أما إذا كان موضوعاً على أجهزة الإنعاش الإصطناعي، وعُلِمَ موتُ دماغه أو جذع دماغه من إحدى القرائن التي أجمع عليها الأطباء، فإن وقفَ أجهزة الإنعاش هذه وعدم عودة المرء إلى التنفس التلقائي بعدها، يؤلف أمارةً إضافية تنضاف إلى تلك القرائن. وأصدق هذه القرائن توقّف الدم عن الدماغ، ويُعرف ذلك بتصوير الشرايين الأربعة التي توصل الدم إلى الدماغ بعد حقن الشرايين أو الأوردة بمادة ملونة، أو بتحري دوران الدم في الشرايين الدماغية بواسطة الأمواج فوق الصوتية، أو بالرنين المغناطيسي، أو بحقن مواد مشعة في الدورة الدموية ثم البحث عنها في النسيج الدماغي.
أما الأمارات الظاهرة فهي:(1/12)
1- انعدام الإبصار والحركة الاختيارية، أما الحركة الاضطرارية كحركة المذبوح فقد تبقى بل قد تشتدّ بعد موت الدماغ، لأن مصدرها النخاع الشوكي وقد زالت سيطرة الدماغ الذي كان يكبحها.
2- انقطاع النَّفَس انقطاعاً تاماً
3- توسع الحدقتين وعدم تفاعلهما للنور
4- انعدام منعكس قرنية العين
5- انعدام المنعكس العيني الدماغي
6- عدم حصول الرأرأة ( اهتزاز مقلة العين ) عند التنبيه الحراري للأذن
7- انعدام المنعكسات التي تدل على سلامة الأعصاب القحفية
8- انخفاض متزايد في درجة حرارة الجسم.
ولا بد لتشخيص توقف وظائف الدماغ وجذعه توقفاً كاملاً لا رجعة فيه مما يلي:
1- غيبوبة عميقة مترافقة بانعدام الإدراك وانعدام الاستجابة
2- العلامات السريرية ( الإكلينيكية ) لتوقف وظائف جذع الدماغ
3- انعدام قدرة المرء على التنفس التلقائي بالاختبار المعتمد، أثناء توقف مضخة التنفس فترة محددة.
ونعني بالغيبوبة حالة من فقد الوعي لا يمكن إيقاظ المريض منها وهي تنجم عن أسباب متعددة منها السموم التي يتناولها المرء من الخارج أو التي تتولد في جسمه بسبب المرض، ومنها بعض الأمراض والإصابات. لذلك كان لا بدّ من التأكد من أن سبب الغيبوبة العميقة هو حدوث تلف شديد في بنية الدماغ بسبب إصابة شديدة ( مثل رضّ شديد على الرأس أو نزف جسيم داخل الدماغ )، أو في أعقاب جراحة على الرأس، أو ورم كبير داخل الجمجمة، أو انقطاع التروية الدموية عن الدماغ لأي سبب كان، وتأكيد ذلك بالوسائل التشخيصية اللازمة. كذلك لا بدّ من أن تكون قد مضت ست ساعات على الأقل من دخول المرء في غيبوبة وأن لا توجد لدى المصاب أي محاولة للتنفس التلقائي.(1/13)
ولا بدّ كذلك من استبعاد كون المرء تحت تأثير المهدئات أو المواد المخدرة أو السموم أو مُرْخِيَات العضلات، وكذا استبعاد هبوط حرارة الجسم إلى ما دون (33 ْ ) درجة مئوية، أو أن يكون المصاب في حالة صدمة قلبية وعائية لم تعالج. كما أنه لا بدّ كذلك من استبعاد الاضطرابات الاستقلابية ( الأيضية ) أو الغديّة التي يمكن لها أن تؤدي إلى تلك الغيبوبة.
ثم ينبغي التأكد من استمرار التوقف الكلي في وظائف الدماغ فترة من الزمن يبقى المرء فيها تحت الملاحظة والمعالجة وهي ( 12 ) ساعة منذ تشخيص غيبوبة اللاعودة، أو ( 24 ) ساعة حين يكون سبب الغيبوبة هو الانقطاع الشامل في الدورة الدموية ( كما يحدث في توقف القلب مثلاً )، أو أطول من ذلك في الأطفال دون السنة الأولى من العمر.
ويشترط في الفريق المخوّل إليه تقرير موت الدماغ أن يتكون من طبيبين مختصين على الأقل، من ذوي الخبرة في تشخيص حالات موت الدماغ، ويفضل استشارة طبيب ثالث مختص في الأمراض العصبية عند الحاجة. كما ينبغي أن يكون أحد الطبيبين على الأقل مختصاً بالأمراض العصبية أو جراحة الدماغ والأعصاب أو العناية المركزة.
ودرءاً لأية شبهة أو مصلحة خاصة قد تؤثر على القرار، يُستبعد من هذا الفريق أيُّ فرد من فريق زرع الأعضاء، وأيّ فرد من عائلة المصاب، وأيّ فرد آخر له مصلحة خاصة في إعلان موت المصاب ( كأن يكون له إرث أو وصية مثلاً )، وكلُّ من ادعى عليه ذوو المصاب بإساءة التصرف المهني تجاه المصاب.
هذا وقد انعقدت ندوتان بالمنظمة الإسلامية للعلوم الطبيبة بالكويت الأولى عام 1985 عن "الحياة الإنسانية بدايتها ونهايتها" والثانية عام 1996 عن "التعريف الطبيّ للموت" وكلتاهما اعتبرت الإنسان ميتًا إذا توقفت وظائف دماغه بأجمعها نهائيًّا، بما في ذلك جذع المخّ، وهو ما قرره مجمع الفقه الإسلاميّ الدولي المنعقد بعمان / الأردن 1986م.
رأي بعض فقهاء المسلمين
في القتل الرحيم(1/14)
رفض الدكتور محمد سيد طنطاوي -شيخ الأزهر- في لقاء جمعه بأطباء وقضاة في القاهرة كل ما يثار عن قتل الرحمة مؤكدًا أن قتل المريض الميئوس من شفائه ليس قرارًا متاحًا من الناحية الشرعية للطبيب أو لأسرة المريض أو للمريض نفسه، غير أن شيخ الأزهر أكَّد إلى جانب ذلك أن الأمر قد يختلف فيما يتعلَّق بحالات الوفاة المخية، حيث يجوز للطبيب أن يفصل الأجهزة الطبية عن المريض ليتوقَّف قلبه إذا تأكَّد أن عودته للحياة مستحيلة.
وأضاف شيخ الأزهر في الجلسة التي عقدت خلال المؤتمر الدولي السنوي الثالث والعشرين لكلية طب عين شمس تحت عنوان "الطب المتكامل"، والذي عقد في الفترة من 21-24 فبراير 2000م أن حياة الإنسان أمانة يجب أن يحافظ عليها، وأن يحافظ على بدنه ولا يلقي بنفسه إلى التهلكة لقوله تعالى: (وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)، وحرَّم الإسلام قتل النفس لقوله تعالى: (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا)، ونهى الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن أن يقتل الإنسان نفسه نهيًا شديدًا، وتوعَّد من يفعلون ذلك بسوء المصير في الدنيا والآخرة، فقد أكَّدت شريعة الإسلام على التداوي من أجل أن يحيا الإنسان حياة طيبة، كما أمرت الشريعة الإسلامية الأطباء بأن يهتموا بالمريض، وأن يبذلوا نهاية جهدهم للعناية به، وعلى الطبيب والمريض أن يتركا النتيجة على الله -سبحانه وتعالى-، وعلى الطبيب ألا يستجيب لطلب المريض في إنهاء حياته، وإذا استجاب يكون خائنًا للأمانة؛ سواء بطلب المريض أو بغير طلبه، والعقاب للطبيب في هذه الحالة يكون حسبما يراه القاضي لكل حالة على حدةٍ.(1/15)
وطرح الأطباء على شيخ الأزهر خلال الجلسة عدة حالات يحتار فيها الطبيب؛ منها رفض مريض السرطان أخذ العلاج لإدراكه أن أيامه قليلة، وطلب الأسر في بعض الحالات المتأخرة خروج المريض من المستشفى الموجود به الأجهزة التي تساعده على الحياة لعدم استطاعتها سدَّ نفقات العلاج بالمستشفى، وحالة المرضى الذين ماتوا مُخيًّا لكن قلبهم ما زال ينبض، في حين أن فرص عودتهم للحياة معدومة، فهل من حق الطبيب أو الأهل أن يطالبوا بمنع هذه الأجهزة عن المريض؛ إما لحاجة مريض آخر فرصته في الشفاء أعلى من المريض الأول، أو للتقليل من النفقات التي قد لا تؤدي إلى نتيجة؟!
وكان ردّ شيخ الأزهر على هذه الأسئلة: "هو أن الموت هو مفارقة الحياة، ومن يحكم بمفارقة الحياة هم الأطباء، وليس رجال الدين، فإذا رأى الطبيب أن المريض الذي ينبض قلبه ومات مخّه ميتًا فهذا شأن الطبيب، لكن لا يجوز للأسرة إخراج المريض من المستشفى لتحرمه من الشفاء، أما في حالة أن بقاء قلب المريض ينبض مرتبط بوجوده على الأجهزة ومخه قد مات أصلاً فلا بأس من أن تطلب الأسرة منع الأجهزة عنه؛ لعدم استطاعتهم الوفاء بمصروفات هذه الأجهزة، ويرضون بقضاء الله، أما المريض الذي يطلب موت الشفقة أو موت الرحمة أو غير ذلك من المسميات لينتهي من عذاب الآلام.. فلا يجوز له ذلك".
وفي سؤال حول قتل المريض الميؤوس من حياته وجّه إلى دار الإفتاء بالكويت بتاريخ 13/8/2001 م هذا نصه:
"هل يجوز إيقاف العلاج في الحالات الميئوس منها أو يجب مواصلته إلى أن يموت المريض أو يتم إنقاذه ؟ و هل يجوز القتل بدافع الرحمة الإنسانية،وقياس ذلك على قتل الحصان الذي بلغ سنة معينة" .
كان نص الإجابة كما يلي :
بسم الله ، والحمد لله ،والصلاة والسلام على رسول الله،وبعد:(1/16)
" التخلص من المريض بأية وسيلة محرم قطعاً، ومن يقوم بذلك يكون قاتلاً عمداً، لأنه لا يباح دم امرئ مسلم صغيراً أو مريضاً إلا بإحدى ثلاث حددها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: « لا يحلّ دمُ امرئ مسلم شهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفسُ بالنفس، والثيّبُ الزاني، والمارقُ من الدين التارك للجماعة » أخرجه البخاري، وهذا القتل ليس من هؤلاء الثلاثة، والنص القرآني قاطع في الدلالة على أن قتل النفس محرم قطعاً لقوله تعالى: { ولا تقتلوا النفسَ التي حرّمَ الله إلا بالحق } ويشترك في الإثم والعقوبة من أمر بهذا أو حرص عليه، وقياس هذا القتل على قتل الحصان الميئوس من شفائه فيه امتهان لكرامة الإنسان، إذا الحصان يجوز ذبحه حتى ولو كان صحيحاً، بخلاف الإنسان فإنه معصوم الدم، ووصف الرصاصة القاتلة للحصان برصاصة الرحمة وصف لم يقم عليه دليل شرعي، فكيف نسمي الحقنة القاتلة للإنسان بهذا الاسم، وأما بالنسبة للمريض بمرض ميئوس منه إذا طرأ عليه مرض آخر قابل للعلاج ويؤدي للوفاة إذا أهمل فإنه يطبق عليه الحكم الأصلي للتداوي، وهو عدم الوجوب من جهة الشرع، لأن حصول الشفاء بالتداوي أمر ظني، وهو مطلوب على سبيل الترغيب لا على سبيل الوجوب، أما من جهة التعليمات الطبية والقرارات الرسمية المنظمة للمهنة فينبغي شرعاً العمل بما تقضي به فيما لا يتنافى مع الشرع".
والله أعلم.
وجوابا على سؤال حول جواز قتل المريض المصاب بفقد المناعة ( الإيدز ) أجاب الشيخ عطية صقر بما يلي:(1/17)
"من المقرّر شرعًا وعقلاًً أن قتل النفس جريمة من أكبر الجرائم ما دام لا يوجد مبرِّر لذلك، والنصوص في ذلك أشهر من أن تُذكَر، يكفي منها قوله تعالى عن الشرائع السابقة (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا) (سورة المائدة : 32) وقوله تعالى (ولا تَقْتُلوا النَّفْسَ التِي حَرَّم اللهُ إِلا بِالحَقِّ) (سورة الأنعام:151 والإسراء : 33) وقوله تعالى: (ومَنْ يَقتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزاؤُه جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ ولَعَنَهُ وأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) (سورة النساء : 93).
والقتل الجائِز هو ما كان بالحقّ، كالدفاع عن النفس والمال والعِرض والدِّين والجهاد في سبيل الله، وما نصَّ عليه الحديث الذي رواه البخاري ومسلم وغيرهما بألفاظ متقارِبة "لا يَحِلُّ دَمُ امرئ مُسلم إلا بإحدى ثلاث، الثَّيِّبُ الزّاني والنَّفْس بالنَّفْس، والتّارِك لدِينِه المُفارِق للجَماعة" وهناك مسائلُ أخرى يجوز فيها القتل تُطْلب من مَظانِّها.(1/18)
والمريض أيًّا كان مرضُه وكيف كانت حالة مرضِه لا يجوز قتله لليأس من شفائِه أو لمنع انتقال مرضِه إلى غيره، ففي حالة اليأس من الشّفاء ـ مع أن الآجال بيد الله، وهو سبحانه قادر على شفائه ـ يحرُم على المريض أن يقتُل نفسَه ويحرُم على غيره أن يقتلَه حتى لو أُذِنَ له في قتلِه، فالأول انتحار والثاني عدوان على الغير بالقتل، وإذنه لا يحلِّل الحرام، فهو لا يملِك رُوحَه حتّى يأذَنَ لغيره أو أن يقضيَ عليها، والحديث معروف في تحريم الانتحار عامّة، فالمُنتحِر يُعذَّب في النار بالصّورة التي انتحر بها خالدًا مخلَّدًا فيها أبدًا، إن استحلّ ذلك فقد كفر وجزاؤه الخلود في العذاب، وإن لم يستحلّه عُذِّب عذابًا شديدًا، جاء التعبير عنه بهذه الصورة للتنفير منه. روى البخاري ومسلم أن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "كان فيمن قبلَكم رجل به جُرح فجَزِع فأخذ سكِّينًا فحزَّ به يده، فما رَقَأ الدّم حتى ماتَ" قال الله تعالى: "بادَرني عبدي بنفسِه، حَرَّمْتُ عليه الجَنَّة"وفي رواية لهما أنّ رجلاً مسلمًا قاتَل في خيبر قتالاً شديدًا ومات، فلما أُخبر به الرسولُ قال: "إنّه من أهل النار" فعجِب الصّحابة لذلك، ثم عَرَفوا أنّه كان به جُرح شديد فلم يصبِرْ عليه، فوضَع نصلَ سيفِه بالأرض وجعل ذُبابَه ـ أي طرفَه ـ بين ثديَيه ثم تحامَل على نفسه حتّى مات، وتقول الرواية إنّ الرسول أمر بلالاً أن ينادِيَ في النّاس أنّه لا يدخل الجنّة إلا نفس مُسلمة، وأنّ الله يؤيِّد هذا الدّين بالرجل الفاجر.
وقد أُلِّفت في إنجلترا جمعيّة باسم "القتل بدافع الرّحمة" طالبت السلطات سنة 1936م بإباحة الإجهاز على المريض الميؤوس من شفائه، وتكرّر الطلب فرُفِضَ، كما تكونت جمعيّة لهذا الغرض في أمريكا وباءَ مشروعُها بالفشل سنة 1938، وما زالت هذه الدعوة تكسِب أنصارًا في هذه البلاد.(1/19)
فالخُلاصة أنّ قتل المريض الميؤوس من شفائه حرام شرعًا حتّى لو كان بإذنه، فهو انتحار بطريق مباشر أو غير مباشر، أو عُدوان على الغير إن كان بدون إذنِه، والرُّوح مِلك لله لا يُضحَّى بها إلا فيما شرعه الله من الجهاد ونحوه ممّا سبق ذكره.
أما المريض الذي يخشى انتقال مرضِه إلى غيره بالعدوى حتى لو كان ميؤوسًا من شفائه فلا يجوز قتله من أجل منع ضررِه، ذلك لأنّ هناك وسائل أخرى لمنع الضّرر أخفُّ من القتل ومنها العزل، ومنع الاختلاط به على وجه يَنقل المرض، فوسائل انتقال المرض متنوعة وتختلف من مرض إلى مرض، وليس كل اختلاط بالمريض بفَقد المناعة "الإيدز" محقِّقًا للعدوى، فهي لا تكون إلا باختلاط معيَّن، كما ذكره المختصُّون، فالإجراء الذي يُتَّخذ معه هو منع هذه الاتصالات الخاصة، مع المحافظة على حياته كآدمي يقدّم إليه الغِذاء حتّى يَقضِيَ الله أمرًا كان مفعولاً.
وعدم الاختلاط بالمريض مرضًا مُعْدِيًا، أي العزل أو الحجر الصِّحِّيّ، مبدأ إسلامي جاء فيه قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ "فِرّ من المجذوم فِرارَك مِنَ الأسَدَ" رواه البخاري وقوله "إذا سمِعْتُم بالطّاعون في أرض فلا تدخُلُوها، وإذا وقع بأرضٍ وأنتم بها فلا تخرُجوا منها" والله سبحانه يقول (خُذُوا حِذْرَكُمْ) ( سورة النساء : 71) وفي الحديث الذي رواه أحمد وابن ماجه بإسناد حسن "لا ضَرَرَ ولا ضِرارَ".
فالمريض بالإيدز على فرض اليأس من شفائه ـ لا يجوز قتله منعًا لضرره عن الغير، فمنع الضّرر له وسائلُ أخرى غير القتل، ولا يقال إنه يَستحِقُّ القتلَ؛ لأنه ارتكب مُنكرًا نَقَل إليه هذا المرض، فليس كل مُنكر حتى لو كان اتِّصالاً محرَّمًا يوجِب القتل ، فهناك شروط موضوعة لإقامة حدِّ الرَّجم "القتل" على مرتكب الفاحِشة، كما أن هناك وسائل لانتقال المرض إليه ليست مُحرَّمة وربما لا يكون له فيها اختيار، كنقل دَمِ مريض به دون عِلم، أو غير ذلك.(1/20)
وعلى العموم لا يصِحُّ قتل المريض بالإيدز أو بغيره، لا لليأس من شفائه، ولا لمنع انتقال المرض منه إلى غيره، فالله على كل شيء قدير، ووسائل الوقاية متعدِّدة، وقد يكون بريئًا من ارتكاب ما سبَّب له المرضَ، فهو يستحِق العطفَ والرحمةَ، ومداوَمة العِلاج بالقدر المُستطاع، جاء في الحديث الذي رواه الترمذي "يا عبادَ الله تداوَوْا، فإنّ الله لم يضَعْ داء إلا وَضَع له دواءً " وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم "ما أنزلَ الله من داءِ إلا أنزلَ له شفاءً " وفي الحديث الذي رواه أحمد "إنّ الله لم يُنزِّل داءً إلا أنزل له شفاءً، عَلِمَه مَن عَلِمَه وجهِله مَن جهِله " وجاء في بعض روايات أحمد استثناء "الهَرَم" فإنه ليس له شفاءٌ.
وهذه الأحاديث تُعطينا أملاً في اكتشاف دواء لهذا المرض، كما اكتشفت أدوية لأمراض ظنَّ الناس أن شفاءَها ميؤوس منه، فلا يصِحُّ قتل حامله لليأس من شفائه، ولا لمنع الضّرر عن الأصِحّاء، حيث لم يتعيّن القتل وسيلة له، فالوسائِل المُباحة موجودة، وعليه فليست هناك ضرورة أو حاجة مُلِحّة حتّى يُباح لها المحظور، ولا محلّ أيضًا لقياس قتلِه على إلقاء أحد رُكّاب السفينة في البحر لإنقاذ حياة الباقين، تقديمًا لحقِّ الجَماعة على حقّ الفرد، أو على قتل المُسلِم الذي تَترَّسَ به العدو للتوصُّل إلى قتله. فذلك وأمثالُه تحتّم الإغراقُ والقتلُ وسيلة، فأُبيحَ للّضرورة، والأمر في منع العَدْوى ليس كذلك.
ومن الفتاوى الجامعة في هذا الموضوع فتوى للعلامة الأستاذ الشيخ يوسف القرضاوي حول أسئلة وجهت إليه من قبل منظمة الطب الإسلامي لجنوب أفريقيا من ضمن أسئلة عن الطب الإسلامي وأحكامه وآدابه جاء في السؤال الأول منها ما يلي :
قتل الرحمة (تيسير الموت):
التعريف: تسهيل موت الشخص بدون ألم بسبب الرحمة لتخفيف معاناة المريض سواء بطرق فعالة أو منفعلة.
تيسير الموت الفعال: يتخذ الطبيب إجراءات فعالة لإنهاء حياة المريض.(1/21)
أمثلة:
1- مريض مصاب بالسرطان يعاني من الألم والإغماء ويعتقد الطبيب بأنه سيموت بأي حال من الأحوال ويعطيه جرعة عالية من علاج قاتل للألم الذي يوقف تنفسه.
2- مريض في حالة إغماء لفترة طويلة مثلاً بعد إصابته بالتهاب السحايا أو بإصابة شديدة في رأسه، ومن الممكن أن يبقى حيًا باستعمال منفِّسة (جهاز إنعاش) ويعتقد الطبيب بعدم وجود أي أمل بشفائه، والمنفِّسة تضخّ الهواء للرئتين، وتديم تنفسه "أوتوماتيكيا". فإذا ما أوقف المنفسة لن يتمكن المريض من إدامة تنفسه، فمن الممكن إبقاء هذا المريض حيًا بواسطة هذه المنفسة الصناعية التي تديم فعالياته الحيوية، ولكن لكل الاعتبارات الأخرى يعتبر مثل هذا المريض "ميتًا" وغير قادر على السيطرة على وظائفه وإيقاف هذه المنفسة يعتبر تيسيرًا فعالاً للموت.
تيسير الموت المنفعل:
هنا لا تتخذ خطوات فعالة لإنهاء حياة المريض بل يترك للمرض أن يأخذ أدواره بدون إعطاء المريض أي علاج لإطالة حياته.
أمثلة:
1- مريض نهائي بالسرطان أو الإغماء من إصابة بالرأس أو التهاب سحائي ولا يرجى شفاؤه منه، ومصاب بالتهاب الرئة التي إن لم تعالج - وهي ممكنة العلاج - يمكن أن تقتل المريض وإيقاف العلاج من الممكن أن يعجل بموت المريض.
2- طفل مشوه تشويها شديدًا بتصلب أشرم - شوكة مشقوقة - أو بشلل مخي يمكن أن يترك من دون علاج إذا أصيب بالتهاب الرئتين أو بالتهاب السحايا، ويمكن أن يموت الطفل من هذه الالتهابات.
والتصلب الأشرم - الشوكة المشقوقة - هي حالة غير طبيعية للعمود الفقري تؤدي إلى شلل الساقين وفقدان السيطرة على المثانة والأمعاء الغليظة والطفل المريض بهذا الداء يكون مشلولا يحتاج إلى عناية خاصة طيلة حياته.
أما الشلل المخي فهي حالة تلف في المخ خلال الولادة تسبب تخلفًا عقليًا وشللا في الأطراف بدرجات متفاوتة، ومثل هذا الطفل يكون مشلولا جسميًا وعقليًا ويحتاج لعناية خاصة طيلة حياته.(1/22)
في الأمثلة السابقة "إيقاف العلاج" هو نوع من أنواع تيسير الموت المنفعل وبصورة عامة لا يعيش هؤلاء الأطفال عمرًا طويلاً، وإيقاف العلاج وتيسير الموت المنفعل يمنع إطالة معاناة الطفل المريض أو والديه.
الأسئلة:
1- هل تيسير الموت الفعال مسموح به في الإسلام؟
2- هل تيسير الموت المنفعل مسموح به في الإسلام؟
وقد أجاب فضيلة الأستاذ الدكتور الشيخ يوسف عبد الله القرضاوي بما يلي:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
تيسير الموت الفعال:
1- تيسير الموت الفعال في المثال رقم (1) لا يجوز شرعاً؛ لأن فيه عملا إيجابيًا من الطبيب بقصد قتل المريض، والتعجيل بموته، بإعطائه تلك الجرعة العالية من الدواء المتسبب في الموت، فهو قتل على أي حال. سواء كان بهذه الوسيلة أم بإعطاء مادة سمية سريعة التأثير، أم بصعقة كهربائية أم بآلة حادة، كله قتل، وهو محرم، بل هو من الكبائر الموبقة. ولا يزيل عنه صفة القتل أن دافعه هو الرحمة بالمريض، وتخفيف المعاناة عنه. فليس الطبيب أرحم به ممن خلقه. وليترك أمره إلى الله تعالى، فهو الذي وهب الحياة للإنسان وهو الذي يسلبها في أجلها المسمى عنده.
2- ... أما المثال رقم (2) من أمثلة تيسير الموت الفعال، فنؤخر الحديث عنه بعد الحديث عن تيسير الموت المنفعل.
تيسير الموت المنفعل (بإيقاف العلاج):
وأما تيسير الموت "بالطرق المنفعلة" كما في السؤال. فإنها تدور كلها سواء في المثال (1) أم (2) على "إيقاف العلاج" عن المريض، والامتناع عن إعطائه الدواء، الذي يوقن الطبيب أنه لا جدوى منه، ولا رجاء فيه للمريض، وفق سنن الله تعالى، وقانون الأسباب والمسببات.(1/23)
ومن المعروف لدى علماء الشرع: أن العلاج أو التداوي من الأمراض ليس بواجب عند جماهير الفقهاء، وأئمة المذاهب. بل هو في دائرة المباح عندهم. وإنما أوجبه طائفة قليلة، كما قاله بعض أصحاب الشافعي وأحمد. كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية. (الفتاوى الكبرى لابن تيمية 4/260طـ. مطبعة كردستان العلمية بالقاهرة) وبعضهم استحبه.
بل قد تنازع العلماء: أيهما أفضل: التداوي أم الصبر؟ فمنهم من قال الصبر أفضل، لحديث ابن عباس في الصحيح عن الجارية التي كانت تصرع - يصيبها الصرع - وسألت النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يدعو لها، فقال: "إن أحببت أن تصبري ولك الجنة، وإن أحببت دعوت الله أن يشفيك" فقالت: بل اصبر، ولكنى أتكشف، فادع الله لي ألا أتكشف، فدعا لها ألا تتكشف. (متفق عليه. رواه البخاري في كتاب المرضى ومسلم في البر والصلة 2265).
ولأن خلقًا من الصحابة والتابعين لم يكونوا يتداوون، بل فيهم من اختار المرض، كأبي ابن كعب، وأبي ذر - رضي الله عنهما - ومع هذا فلم ينكر عليهم ترك التداوي. (الفتاوى الكبرى لابن تيمية 4/260ط. مطبعة كردستان العلمية بالقاهرة).
وقد عقد الإمام أبو حامد الغزالي في "كتاب التوكل" من "الإحياء" بابًا في الرد على من قال ترك التداوي أفضل بكل حال. (انظر: إحياء علوم الدين 4/290 وما بعدها).
هذا هو رأي فقهاء الأمة في العلاج أو التداوي للمريض. فأكثرهم يجعلونه من قسم المباح، وأقلهم يجعلونه من المستحب، والأقل منهم يجعلونه واجبًا. وأنا مع الذين يوجبونه في حالة ما إذا كان الألم شديدًا، والدواء ناجحًا، والشفاء مرجوًا منه وفق سنة الله تعالى.
وهو الموافق لهَدْي النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي تداوى وأمر أصحابه بالتداوي، كما ذكر ذلك الإمام ابن القيم في هديه -صلى الله عليه وسلم- في "زاد المعاد" (انظر: الجزء الثالث من (زاد المعاد) طـ. الرسالة ببيروت). وأدنى ما يدل عليه ذلك هو السنية والاستحباب.(1/24)
ومن هنا يكون العلاج أو التداوي حيث يرجى للمريض الشفاء مستحبًا أو واجبًا، أما إذا لم يكن يرجى له الشفاء، وفق سنن الله في الأسباب والمسببات التي يعرفها أهلها وخبراؤها من أرباب الطب والاختصاص، فلا يقول أحد باستحباب ذلك فضلاً عن وجوبه.
وإذا كان تعريض المريض للعلاج بأي صورة كانت - شربًا أو حقنًا أو تغذية بالجلوكوز ونحوه، أو توصيلاً بأجهزة التنفس والإنعاش الصناعي، أو غير ذلك مما وصل إليه الطب الحديث، ومما قد يصل إليه بعد - يطيل عليه مدة المرض، ويبقى عليه الآلام زمنا أطول، فمن باب أولى ألا يكون ذلك واجبًا ولا مستحبًا، بل لعل عكسه هو الواجب أو المستحب.
فهذا النوع من تيسير الموت - إن صحت التسمية - لا ينبغي أن يدخل في مسمى "قتل الرحمة"، لعدم وجود فعل إيجابي من قبل الطبيب، إنما هو ترك لأمر ليس بواجب ولا مندوب، حتى يكون مؤاخذًا على تركه.
وهو إذن أمر جائز ومشروع، إن لم يكن مطلوبًا، وللطبيب أن يمارسه، طلبًا لراحة المريض وراحة أهله. ولا حرج عليه إن شاء الله.
تيسير الموت بإيقاف أجهزة الإنعاش:
بقي الجواب عن المثال الثاني في النوع الأول، الذي اعتبره السؤال من تيسير الموت بالطرق الفعالة لا المنفعلة. وهو يقوم على إيقاف المنفسة الصناعية أو ما يسمونه "أجهزة الإنعاش الصناعي" عن المريض، الذي يعتبر في نظر الطب "ميتًا" أو "في حكم الميت" وذلك لتلف جذع الدماغ، أو المخ، الذي به يحيًا الإنسان ويحس ويشعر
وإذا كان عمل الطبيب مجرد إيقاف أجهزة العلاج، فلا يخرج عن كونه تركًا للتداوي شأنه شأن الحالات الأخرى، الذي سماها "الطرق المنفعلة".
ومن أجل ذلك أرى إخراج هذه الحالة وأمثالها عن دائرة النوع الأول "تيسير الموت بالطرق الفعالة" وإدخالها في النوع الآخر.(1/25)
وبناء على ذلك يكون هذا أمرًا مشروعًا ولا حرج فيه أيضًا، وبخاصة أن هذه الأجهزة تبقى عليه هذه الحياة الظاهرية - المتمثلة في التنفس والدورة الدموية - وإن كان المريض ميتًا بالفعل، فهو لا يعي ولا يحس ولا يشعر. نظرًا لتلف مصدر ذلك كله وهو المخ.
وبقاء المريض على هذه الحالة يتكلف نفقات كثيرة دون طائل، ويحجز أجهزة يحتاج إليها غيره، ممن يجدي معه العلاج، وهو - وإن كان لا يحس - فإن أهله وذويه يظلون في قلق وألم ما دام على هذه الحالة، التي قد تطول إلى عشر سنوات أو أكثر!.
... وقد ذكرت هذا الرأي منذ سنوات أمام جمع من الفقهاء والأطباء في أحد اجتماعات الندوة التي تقيمها بين الحين والحين "المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية" بالكويت، فلقي قبول الحاضرين من أهل الفقه وأهل الطب.
والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
والله أعلم.
... ... وحول رفع أجهزة الإنعاش الاصطناعي عن المريض المتوفى دماغياً صدرت فتاوى عن المجامع الفقهية منها:الفتوى الصادرة من المجلس الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته العاشرة في 24/2/1408هـ ومفادها:
أن المجلس قد نظر في موضوع تقرير حصول الوفاة، بالعلامات الطبية القاطعة، وفي جواز رفع أجهزة الإنعاش عن المريض الموضوعة عليه في حالة العناية المركزة، واستعرض المجلس الآراء، والبيانات الطبية المقدمة شفهياً وخطياً من وزارة الصحة في المملكة العربية السعودية، ومن الأطباء الإختصاصيين، واطلع المجلس كذلك على قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، المنعقد في مدينة عمان العاصمة الأردنية رقم (5) في3/7/1986م، وبعد المداولة في هذا الموضوع من جميع جوانبه وملابساته، انتهى المجلس إلى القرار التالي:(1/26)
" المريض الذي ركبت على جسمه أجهزة الإنعاش يجوز رفعها إذا تعطلت جميع وظائف دماغه نهائياً، وقررت لجنة من ثلاثة أطباء إختصاصيين خبراء، أن التعطل لا رجعة فيه، وإن كان القلب والتنفس لا يزالان يعملان آلياً، بفعل الأجهزة المركبة، لكن لا يحكم بموته شرعاً إلا إذا توقف التنفس والقلب، توقفاً تاماً بعد رفع هذه الأجهزة. أ.هـ.
وكان المؤتمر الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي قد أصدر قراره رقم 17(5/3)
ومفاده: " أن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة الأردن من 8-13 صفر 1407هـ /11-16 تشرين الأول (أكتوبر) 1986م، بعد التداول في سائر النواحي التي أثيرت حول موضوع أجهزة الإنعاش واستماعه إلى شرح مستفيض من الأطباء المختصين، قرر ما يلي: يعد شرعاً أن الشخص قد مات وتترتب جميع الأحكام المقررة شرعا للوفاة عند ذلك إذا تبينت فيه إحدى العلامتين التاليتين:
1-إذا توقف قلبه وتنفسه توقفاً تاماً وحكم الأطباء بأن هذه التوقف لا رجعة فيه.
2-إذا تعطلت جميع وظائف دماغه تعطلاً نهائياً، وحكم الأطباء الإختصاصيون الخبراء بأن هذا التعطل لا رجعة فيه، وأخذ دماغه في التحلل.
وفي هذه الحالة يسوّغ رفع أجهزة الإنعاش المركبة على الشخص وإن كان بعض الأعضاء كالقلب مثلا، لا يزال يعمل آليا بفعل الأجهزة المركبة. أ.هـ.
والفارق بين القرارين السابقين –كما يلاحظ– أن القرار الأول لا يحكم بموت المريض
حتى يتوقف قلبه وتنفسه نهائياً بعد رفع الأجهزة، بينما يرى القرار الثاني أن يعد المريض ميتاً شرعاً بتعطل جميع وظائف دماغه تعطلاً نهائياً حتى وإن كان قلبه ينبض بفعل أجهزة الإنعاش،
والله أعلم
وخلاصة القول:(1/27)
فإن قتل المرحمة كما ذكرنا أمر وافد على علم الطب والأطباء ساعد انتشاره في الأمم الغربية عوامل مختلفة من اجتماعية واقتصادية وتفكك الروابط الإنسانية والأسرية، ويتجه كثير من البلدان الغربية المعاصرة إلى تقنينه تحت مسمياته المختلفة.
وبحمد الله لم نسمع إلى اليوم عن ممارسة هذا النوع من القتل في عالمنا الإسلامي، ولكن يخشى أن تتطور القوانين المدنية وتتأثر بما هو جار في عالم اليوم، فعلى الرغم من أن الغالبية العظمى من قوانين العقوبات في البلاد العربية لا تأخذ بفكرة تخفيف العقوبة في حال قتل الرحمة، إلا أن ذلك لا يمنع من تطبيق فكرة " الظروف المخففة " المعروفة في ميدان القوانين الجنائية، وهي في الواقع تؤدي إلى تخفيف العقوبة إذا اقتضت الجريمة المقامة من أجلها الدعوة العمومية رأفة القضاة. ومن ناحية النصوص تأخذ قوانين العقوبات في كل من السودان وسورية ولبنان بفكرة تخفيف العقوبة في حالة القتل بناء على رضا المجني عليه( المادة 249 / الفقرة الخامسة من قانون العقوبات السوداني)، وفي حالة القتل بعامل الإشفاق بناء على إلحاح المجني عليه ( المادة 538 من قانون العقوبات السوري) و ( المادة 552 من قانون العقوبات اللبناني).
وأرى أن يصدر المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث فتواه التي تتضمن ما يلي :
1- تعريف قتل المرحمة اللغوي والطبي.
2- التعرض لذكر أنواعه المختلفة وتعريفها.
3- تحريم قتل المرحمة الفعال المباشر وغير المباشر.
4- تحريم الانتحار الذاتي أو المساعدة عليه بأي وسيلة كانت.
5- تعريف الموت وأماراته
6- إباحة تيسير الموت غير الفعال بشروطه وعدم استعمال تعبير القتل في هذه الحالة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العلمين ...(1/28)
مآلات الأفعال
وأثرها في فقه الأقلّيات
أ.د/ عبد المجيد النجار
بحث مقدم للدورة التاسعة للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث
جادى الأول 1423 هـ يوليو 2002م
باريس – فرنسا
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد:
إذا كانت أحكام الشريعة الإسلامية جاءت لتعالج أحوال الناس مطلقا عن الزمان والمكان، إذ العبرة فيها بعموم اللّفظ في مداركها، فإنّها قد انفسح فيها المجال أيضا لاستثناءات من الأحوال التي يشملها العموم، لتخرج من تحت حكمه إلى حكم آخر، وذلك باعتبار خصوصية ذاتية أو موضوعية فيها، تجعل تطبيق الحكم العامّ عليها غير مؤدّ إلى المقصد الشرعي الذي من أجله شرّع، فإذا ما تخلّف المقصد في حال مّا من الأحوال آل الأمر فيها إلى الاستثناء.
وقد كان هذا الأمر قائما في مجمل أحكام الشريعة نفسها، إذ التنبيهات إلى ذلك كثيرة في نصوص القرآن والسنّة، كما جرى عليه النظر الفقهي استنباطا وتطبيقا عند الفقهاء والأيمّة المجتهدين، ثمّ كان ملحظا مبكّرا في التقعيد الأصولي الذي ضبط مناهج استنباط الأحكام الشرعية وتطبيقها، إذ قد قُرّرت في علم أصول الفقه جملة من القواعد التي تلتقي عند معنى استثناء وقائع و أحوال من الحكم الذي يشملها في أصل العموم، وذلك لخصوصية فيها لا يتحقّق معها المقصد الشرعي.
ومن تلك القواعد قاعدة مآلات الأفعال، تلك التي يُقدّر الحكم الشرعي فيها على أيّ فعل من أفعال الناس باعتبار ما يؤول إليه عند التطبيق من تحقيق المصلحة التي وضع من أجلها الحكم العامّ المتعلّق بجنسه أو عدم تحقيقها، فإذا تبيّن عدم تحقيقه المصلحة لخصوصية من الخصوصيات استثني ذلك الفعل من الحكم الشرعي الموضوع له في الأصل، وعدل به إلى حكم آخر يتحقّق به المقصد الشرعي.(1/1)
وقد كانت هذه القاعدة مناط اجتهاد واسع ودقيق من قِبل فحول الأيمّة والفقهاء، وكانت لها تطبيقات كثيرة في الفقه الإسلامي، أفضت إلى إثراء أحكامه وتوسيع آفاقه. وبتعقّد الحياة الإنسانية الفردية والجماعية، وتشابكها، وتوسّعها يكون لهذه القاعدة المجال الأوسع للاجتهاد، وتكون الحاجة إليها أوكد؛ ذلك لأنّ وجوه الحياة كلّما مالت إلى البساطة اشتدّ التماثل بين أفرادها، فتتناقص خصوصياتها المفرّقة بينها، وعلى العكس من ذلك كلّما مالت إلى التعقيد اشتدّ الاختلاف لتكاثر الخصوصيات المفرّقة ممّا يفضي إلى اختلاف المآلات، فيكون للاستثناء المبني على تلك الخصوصيات وما تفضي إليه من اختلاف المآلات مجالا واسعا في النظر الفقهي.
ولعلّ أوضاع المسلمين حينما يكونون أقلّية في مجتمع غير مسلم تعدّ من أشدّ الأوضاع تعقيدا، إذ هي أوضاع اجتمع فيها التعقيد والتشابك في الحياة المعاصرة بصفة عامّة، مع التعقيد والتشابك والمضاعفات الناتجة عن وضع المسلمين كأقلّية في مجتمع غير إسلامي، وتحت سلطان قانون غير القانون الإسلامي، وتحت ظلّ حكم غير إسلامي. إنّ هذه الأوضاع من شأنها أن تُكسب أحوالا كثيرة من أحوال المسلمين خصوصيات ذاتية وموضوعية تؤول بها لو طبّقت عليها الأحكام الشرعية العامّة إلى مآلات تخالف مقاصد تلك الأحكام، فيكون إذن لقاعدة مآلات الأفعال دور اجتهادي مهمّ في فقه الأقلّيات المسلمة، بل لعلّها تكون من أهمّ القواعد الأصولية التي ينبغي تحكيمها في ذلك الفقه.
المبحث الأوّل ـ مآلات الأفعال:(1/2)
لم يكن مصطلح مآلات الأفعال كثير الرواج في التراث الفقهي الأصولي، ولعلّ الإمام الشاطبي كان من أكثر من استعمله من بين الفقهاء والأصوليين(1)، إلاّ أنّ مضمون هذا الأصل الفقهي كان كثير التداول في ذلك التراث، كما كان كثير الاستعمال من قِبل الفقهاء والمجتهدين، وذلك ضمن قواعد وأصول تحمل عناوين أخرى من مثل: سدّ الذرائع، والاستحسان، والحيل، وغيرها من القواعد الفقهية، فكلّها تندرج من حيث المعنى في مدلول مآلات الأفعال على وجه العموم.
1 ـ مدلول مآلات الأفعال:
قد يرد مصطلح مآلات الأفعال بألفاظ أخرى دون أن يتغيّر من المدلول شيء، وذلك مثل: مآلات الأعمال، ومآلات الأحكام، ومآلات الأسباب. ومن حيث اللغة، فإنّ مآلات الأفعال أو الأعمال يُقصد بها ما ينتهي إليه العمل أو الفعل الذي يقوم به الإنسان من أثر في نفسه أو في غيره، كأن ينتهي الزواج إلى تحصين النفس، والشورى إلى ترشيد الرأي، والسرقة إلى الاضطراب وفقدان الأمن. ومآلات الأحكام يقصد بها الأثر الذي يحدثه الحكم الشرعي حينما يجري وفقه فعل مّا من الأفعال، كأن ينتهي حكم المنع في شرب الخمر إلى حفظ العقل، وحكم الوجوب في أداء الزكاة إلى التكافل الاجتماعي، وحكم الإباحة في الكثير من الأعمال إلى التوسعة ورفع الحرج. وعلى نفس المعنى يُحمل لفظ مآلات الأسباب؛ لأنّ المقصود بالأسباب هي الأحكام الشرعية.
__________
(1) عند التفتيش على المواقع التي استُعمل فيها لفظ " مآلات الأفعال " و"مآلات الأحكام" في القرص المدمج المشتمل على برنامج "مكتبة الفقه وأصوله" المشتمل على المئات من المصادر الأصولية والفقهية لم يظهر هذا المصطلح إلاّ في موقعين كلّ منهما في كتاب الموافقات للشاطبي.(1/3)
وأمّا اعتبار مآلات الأفعال كقاعدة أصوليه، فالمقصود به أنّ الحكم الشرعي إنّما وضع لتحقيق مصلحة للإنسان، وقد شُرّعت الأحكام في طلبها لتلك المصلحة على أساس من العموم الذي يشمل أجناس الأفعال مطلقا عن الزمان والمكان والأعيان؛ ولكنّ الأحكام وإن كانت في الغالب الأعمّ تؤول عند تطبيقها على واقع الأفعال إلى تحقيق المصلحة المبتغاة منها، فإنّها في بعض الأحيان، وفي بعض الأعيان قد لا تؤدّي إلى تلك المصلحة المبتغاة، بل قد تؤدّي إلى نقيضها من المفسدة؛ وذلك لخصوصية تطرأ على ذات تلك الأعيان أو على ظرفها، تخرج بها عن عموم خصائص جنسها التي قُدّر على أساسها الحكم، فإذا تطبيق الحكم عليها يؤول إلى المفسدة من حيث أُريد به تحقيق المصلحة.
وفي هذه الحال فإنّ الفقيه يراعي ذلك المآل الذي آل إليه الفعل عند جريانه على مقتضى الحكم، فيعدل به إلى حكم آخر يتحرّى المصلحة ويتفادى المفسدة. ومثال ذلك أنّ فعل السرقة شرّع له حكم المنع بالحرمة، لما يحقّق ذلك الحكم من مصلحة الأمن على الأموال وما يتبعه من الاجتهاد في كسبها وتنميتها؛ ولكن قد يحيط بأحد الأعيان في أفراد السرقة ظرف خاصّ ،كأن يجد الإنسان نفسه على أبواب الهلاك جوعا، ويكون ذلك الظرف سببا في مفسدة الهلاك فيما لو طبّق حكم المنع على هذا الفرد من أفراد السرقة شأن كلّ أفراد جنسها؛ وبالنظر إلى ذلك فإنّ الفقيه يعدل بحكم المنع في هذا الفرد لعدم تحقيقه المصلحة المبتغاة منه إلى حكم الجواز.(1/4)
وقد كان الإمام الشاطبي بحسب ما وقفنا عليه من أوفى من شرح هذا المدلول الاصطلاحي، إذ قال في شأنه: " النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا، كانت الأفعال موافقة أو مخالفة؛ وذلك أنّ المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلّفين بالإقدام أو بالإحجام إلاّ بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، [ فقد يكون ] مشروعا لمصلحة فيه تُستجلب، أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قُصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أُطلق القول في الأوّل بالمشروعية فربّما أدّى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعا من إطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أُطلق القول في الثاني بعدم المشروعية ربّما أدّى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصحّ إطلاق القول بعدم المشروعية، وهو مجال للمجتهد صعب المورد، إلاّ أنّه عذب المذاق، محمود الغبّ، جار على مقاصد الشريعة "(1).
__________
(1) الشاطبي ـ الموافقات: 5/ 177ـ78(1/5)
وتماشيا مع هذا المفهوم الواسع لمآلات الأفعال عند الإمام الشاطبي، فقد جعله أصلا عامّا من أصول النظر الشرعي، وأدرج ضمنه جملة من القواعد التي كانت عند غيره تُعتبر من الأصول القائمة بذاتها، ومن تلك القواعد التي أدرجتها ضمن أصل المآلات قاعدة سدّ الذرائع، باعتبار أنّ الفعل في ذاته قد يكون مشروعا، ولكنّه يكون ذريعة بالمآل إلى ممنوع، فيُمنع هو أيضا اعتبارا لذلك المآل. ومنها قاعدة الحيل التي يؤول فيها على سبيل التحيّل فعل ظاهر الجواز لتشريعه في الأصل تحقيق مصلحة إلى مآل تتحقّق فيه مفسدة. ومنها قاعدة مراعاة الخلاف، باعتبار أنّ الفعل إذا كان حكمه الشرعي المنع بالدليل الراجح والجواز بالدليل المرجوح، فإنّه قبل وقوعه بالفعل يُجرى عليه حكم المنع، ولكن حينما يقع بالفعل فإنّه يُجرى عليه حكم الجواز الذي هو مرجوح؛ وذلك بالنظر إلى أنّه لو أُجري عليه حكم المنع لآل به إلى مفاسد تفوق إجراء حكم الجواز(1). ومنها قاعدة الاستحسان(2)، وذلك أنّ طرد القياس بصفة مطلقة قد يؤول في بعض الأفعال لخصوصية فيها إلى مفسدة تساوي أو تفوق المصلحة التي يقتضيها القياس، فيعدل بذلك الفعل عن الحكم الذي يقتضيه ذلك القياس إلى حكم آخر يتفادى في الفعل المخصوص الأيلولة إلى المفسدة(3).
2 ـ الحجج الشرعية لاعتبار مآلات الأفعال:
__________
(1) مثاله إجراء حكم الجواز على النكاح الفاسد بعد وقوعه فيما يتعلّق باستحلال المهر وثبوت النسب وإيقاع الميراث.
(2) مثاله العدول عن حكم المنع إلى الجواز في المراطلة الكثيرة في الأنواع المتماثلة التي يحصل فيها التفاضل اليسير لما يؤول إليه تطبيق القياس عليها من مفسدة الحرج الشديد على الأمّة في المعاملات.
(3) راجع في تفصيل ذلك في: الشاطبي ـ الموافقات: 5/ 182 وما بعدها.(1/6)
ليس أصل مآلات الأفعال محلّ اتّفاق في اعتباره أصلا للاجتهاد بين الأيمّة المجتهدين من حيث كونه أصلا قائما، ولكن حتى أولئك المعارضين لأصليّته الاجتهادية اعتمدوا في اجتهادهم بعض تطبيقاته على وجه أو آخر من الاستعمال(1). وربّما كان من أهمّ ما تمسّك به المعارضون لهذا الأصل هو أنّ الحكم الشرعي إذا ما تقرّر في شأن فعل من الأفعال فإنّ الشارع الحكيم لم يشرّعه في حقّه إلاّ لعلمه بتأديته إلى المصلحة، فإذا ما وقع صرفه عنه إلى حكم آخر فإنّ ذلك يعتبر مخالفة لإرادة الشارع وتقوّلا عليه. ولكنّ المتأمّل في نصوص الدين وقواعده العامّة لا يعدم أدلّة على أنّ اعتبار مآلات الأفعال أصل من الأصول التي بنيت عليها الشريعة، ومنهج معتبر من مناهج الاجتهاد. ومن تلك الأدلّة ما يلي:
أ ـ حجّة التنصيص النظري: وتتمثّل فيما ورد من نصوص تفيد بصفة مباشرة أنّ مآلات الأحكام أمر معتبر في الشريعة، وبيان ذلك في العديد من الآيات القرآنية التي ضُبطت فيها أحكام معيّنة، وعُلّلت بالمآلات التي تؤول إليها. ومن أمثلة ذلك قوله تعالى في التعقيب على تشريع القصاص:" ولكُم في القِصَاصِ حياةٌ ياأُولِي الأَلبَابِ" ( البقرة/179)، وقوله تعالى في التعقيب على تحريم الخمر والميسر: " إنّما يُريد الشيطانُ أن يُوقعَ بينكُم العدَاوَةَ والبغضَاءَ في الخمرِ والميسِرِ" ( المائدة/91).
__________
(1) راجع هذه المسألة ومناقشتها في: آل سلمان ـ تحقيق الموافقات: 5 /186(1/7)
فتعليل هذه الأحكام بمآلاتها من تحقيق مصلحة بإجراء حكم الوجوب على الأفعال، واتّقاء مفسدة بإجراء حكم المنع عليها دليل على أنّ اعتبار المآل الذي يؤول إليه الحكم أمر معتبر في التشريع، وهو بالتالي أمر معتبر في الاجتهاد. ولا يقدح في ذلك ما يشوب الأيلولة من الظنّية التي قد تكون سببا في إهدار مقاصد الأحكام في الأفعال التي وُضعت لها لمّا يُعدل بها بناء على الظنّ إلى أحكام أخرى؛ لأنّ هذا الظّنّ في الأيلولة قد يبلغ أحيانا من القوّة ما يقترب بها من اليقين، وإذا لم يبلغ تلك الدرجة فإنّ الظّنّ الغالب يُلحق به، فضلا عن أنّ أحكام الشريعة هي في أغلبها قائمة على الظنّ.
ب ـ حجّة التنصيص التطبيقي: وتتمثّل فيما جاء من نصوص تفيد في مسائل مخصوصة مشروعية العدول عن الحكم الذي وضع لأفعال معيّنة في الأصل إلى حكم آخر، مراعاة في ذلك للمآل المخالف لمقصد الحكم الأصلي الذي تؤول إليه لو أُجريت عليه. ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: " ولاَ تَسُبُّوا الذين يدعون من دون الله فيَسُبُّوا اللهَ عدوًا بغير علم" (الأنعام/108)، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: " لولا قومُك حديثٌ عهدُهم بكفر لأسّست البيت على قواعد إبراهيم"(1)، وقوله في تعليل انصرافه عن قتل المنافقين: " أخاف أن يتحدّث الناس أنّ محمّدا يقتل أصحابه"(2).
__________
(1) أخرج البخاري نحوه ـ كتاب الحج: باب فضل مكّة وبنيانها.
(2) أخرجه البخاري ـ كتاب المناقب: باب ما ينهى من دعوى الجاهلية.(1/8)
ففي هذه الأمثلة عدول نبوي بصفة عملية عن إجراء الحكم المتعيّن في الأصل على فعل تأسيس البيت على قواعد إبراهيم، وفعل قتل المنافقين، إلى حكم الامتناع عن ذلك، لما يؤول إليه إجراء الحكم الأصلي من مفسدة فيهما هي تلاعب الناس ببيت الله وانتزاع هيبته من نفوسهم، وإشاعة الخوف في نفوس أتباع الدين وتنفيرهم منه، خلافا لما شرّع من أجله من مصلحة هي الإعلاء من مقام البيت وربطه بذكر مؤسّسه إبراهيم، والتخلّص من الضرر الفادح الذي يحدثه المنافقون بالمسلمين، وفي هذا العدول النبوي عن الحكم الأصلي إلى حكم آخر بسبب المآل حجّة على أنّ مآلات الأفعال أصل معتبر في التشريع، فتكون إذن أصلا معتبرا من أصول الاجتهاد.
ج ـ حجّة اعتبار المقاصد: ليس من خلاف في أنّ أحكام الشريعة شرّعت من أجل مقاصد راجعة إلى العباد جماعها تحقيق المصلحة، وهو مضمون قوله تعالى:" وما أرْسَلْناكَ إلاَّ رحمَةً للعالَمين " ( الأنبياء/107)، فكلّ حكم شرعي علّة تشريعه هي تحقيق مقصده الذي من أجله شرّع مهما يكن عليه ذلك المقصد من درجة الظهور والخفاء.
واعتبار المقاصد التي ابتغاها الشارع من الأحكام أمر مشروع ما دامت هي علّة الأحكام وأسبابها، ولا يناقض هذا الاعتبار ما هو مطلوب من الانصياع للأحكام لمجرّد اعتبارها أوامر إلهية؛ لأنّ هذا الانصياع هو انصياع للأوامر باعتبارها أوامر تحقّق المصلحة، فتبيّن هذه المصلحة ممّا يعضّد حال الانصياع ويقوّيه؛ لأنّه ينضاف به العلم بوجه الحقّ في الأحكام تفصيلا بتبيّن آثارها الفعلية إلى العلم بوجه الحقّ فيها إجمالا باعتبار صدورها عن الرحمن الرحيم، ولعلّ ذلك هو أحد الأغراض التربوية في الموقف الإبراهيمي الذي جاء في قوله تعالى: " ولكن ليطمئنّ قلبي ".(1/9)
وإذا كانت مقاصد الأحكام في تقريرها النظري مختلفة الدرجات بين الظهور والخفاء، إذ هي في العبادات أخفى منها في المعاملات، وهي في المعاملات متفاوتة في ذلك ، وإذا كانت كذلك أيضا في أيلولتها الفعلية في الواقع، إلاّ أنّ قدرا منها في المجالين معا قد يمكن الوقوف عليه إمّا على وجه اليقين أو على وجه الظنّ الغالب، وهو ما يبرّر الالتفات إلى المقاصد بالاعتبار في الانصياع إلى الأحكام إذعانا بالتسليم وتطبيقا بالإيقاع(1).
ولمّا كانت مقاصد الأحكام قد يطرأ عليها من الظروف الخارجة عن ذاتها ما يعطّل حصولها في الواقع عند تطبيقها كما مرّت الإشارة إليه، فإنّ تطبيق الحكم الشرعي على الأفعال ينبغي أن يكون ملحوظا فيه إفضاؤه إلى تحقيق مقصده ـ إذ ذلك المقصد هو علّة تشريعه ـ، فإذا تبيّن على سبيل اليقين أو الظنّ الغالب أنّ حكما مّا من الأحكام لسبب أو لآخر من الأسباب سوف لا يفضي تطبيقه على الفعل الذي وُضع له إلى تحقيق مقصده، فإنّ ذلك يكون مبرّرا كافيا لأن يُعدل بالفعل من حكمه الأصلي إلى حكم آخر اعتبارا للمآل، فيكون إذن تحقّق المقصد أو عدم تحقّقه فيما يؤول إليه تطبيق الأحكام الشرعية على الأفعال أمرا معتبرا يُحتجّ به في مشروعية أصل مآلات الأفعال.
3 ـ ضوابط اعتبار المآلات:
__________
(1) راجع وجوها كثيرة من الأدلّة الشرعية على اعتبار المآل متمثّلا في سدّ الذرائع في: ابن القيّم ـ إعلام الموقّعين: 3/110 وما بعدها.(1/10)
اعتبار مآلات الأفعال كأصل من أصول الاجتهاد الشرعي بقدر ما هو أصل مفيد في الإثراء الفقهي، وفي ترشيد النظر الاجتهادي، فهو دقيق في الاستعمال، وعر في المسلك، عرضة لأن تزلّ فيه الأقدام، وهو ما استشعره الإمام الشاطبي فعبّر عنه بوصف أنّه "صعب المورد"؛ وإنّما كان على هذا النحو لأنّ مرمى النظر فيه بعيد، يمتدّ إلى مآل الفعل الذي قد يتبيّن ببعض اليسر في الدائرة القريبة، وقد لا يتبيّن إلاّ في دوائر بعيدة تتداعى مضاعفاتها وتتوالى قبل أن تستقرّ على حالها الأخيرة، وخاصّة فيما هو معقّد متشابك من شؤون الحياة، فيصعب حينئذ تقدير المآل الذي ينبني عليه الحكم
وتُضاف إلى هذه الصعوبة في المورد تلك الخطورة الشديدة إذا ما وقع الخطأ في التقدير؛ إذ لو قُدر المآل في فعل من الأفعال على غير حقيقته، فعُدل بالحكم الشرعي المتعلّق به إلى حكم آخر يقتضيه ذلك المآل المقدّر خطأ لانتهى الأمر إلى تغيير في شرع الله تعالى بإجازة الممنوع ومنع الجائز، وذلك محذور كبير هو الذي استشعره أولئك الذين عارضو أن يكون اعتبار المآلات أصلا اجتهاديا، فبنوا أقوى أدلّتهم في المعارضة عليه(1).
وتقتضي هذه الصعوبة في المورد، وهذه المحاذير في النتائج أن يُحاط استعمال هذا الأصل الاجتهادي بجملة من القيود والضوابط التي من شأنها أن ترشّد فيه المسار، وأن تجنّب الزلل. وبما أنّ مناط الاجتهاد في استعمال هذا الأصل يتعلّق بأمرين: مقصد الحكم المنظور في مآله، وأيلولته إلى تحقيق ذلك المقصد من عدمها عند التطبيق، فإنّ الضوابط التي من شأنها أن ترشّد الاجتهاد بهذا الأصل ستكون متعلّقة بهذين الأمرين على نحو ما يلي:
__________
(1) راجع في ذلك : ابن حزم ـ الإحكام في أصول الأحكام: م2/180(1/11)
أ ـ تحرّي مقاصد الأحكام: إنّ اعتبار المآلات مبنيّ على اعتبار المقاصد، فحينما يقع العدول عن حكم مّا في فعل من الأفعال إلى حكم غيره بناء على مآله، فالمقصود بذلك أنّ هذا الحكم لا ينتهي عند تطبيقه إلى المقصد الذي شُرّع من أجله، بل يؤول إلى خلاف ذلك المقصد، فيُعتبر إذن ذلك المآل، ويُعدل بالحكم الأصلي إلى غيره. ولمّا كان الأمر كذلك فإنّ أوّل الضوابط في اعتبار المآلات هو تحرّي المقصد الذي شرّع من أجله الحكم المنظور في مآله حتى يحصل فيه تعيين باليقين أو بغلبة الظنّ، فيرد اعتبار المآل إذن في تحقّق المقصد من عدمه على مقصد معلوم غير موهوم، وينتهي تقدير المآل على مورد صحيح.
ومقاصد الأحكام الشرعية إذا كانت ثابتة في ذاتها بالنسبة لكلّ حكم منها، إلاّ أنّها من حيث ظهورها وخفاؤها بالنسبة للناظر متفاوتة في الدرجات، فقد يكون حكم مّا بيّن المقصد فيُعلم على وجه اليقين أو ما يقارب اليقين، وقد يكون حكم آخر خفيّ المقصد بحيث يكاد لا يستبين، وما بين هذا وذاك درجات كثيرة ينبسط فيها للظنّ مجال واسع، فينبغي أن ينبسط فيها أيضا للنظر جهد كبير، حتى ينتهي الأمر إلى تعيين صحيح للمقصد يحدّد على أساسه المآل فيما إذا كان موافقا له أو مخالفا.(1/12)
وحينما نعود إلى الأدب الأصولي فيما يتعلّق بالمقاصد فإنّنا لا نظفر بما يشفي الغليل في خصوص مسالك الكشف عن مقاصد الأحكام الشرعية على وجه التفصيل فيها، وإذا تجاوزنا في ذلك ما يُعرف في باب القياس من علم أصول الفقه من مبحث مسالك العلّة فإنّنا لا نجد حسب علمنا من خصّص جهدا معتبرا في الكشف عن هذه المسالك سوى الإمامين المقاصديين: الشاطبي وابن عاشور، فقد عقد كلّ منهما فصلا حاول فيه التوجيه إلى مسالك تعين على تعيين مقاصد الشريعة من أحكامها، فكانت كالقواعد التي يتوخّاها الناظر لتحديد تلك المقاصد والوقوف عليها، وزاد ابن عاشور على ذلك أن بيّن المقاصد التفصيلية في كلّ جنس من أجناس الأحكام، فكان ذلك كالتطبيق لتلك القواعد النظرية(1). ومن أهمّ المسالك الكاشفة عن مقاصد الأحكام كما وردت عند الإمامين ما يلي:
__________
(1) راجع في ذلك:الشاطبي ـ الموافقات: 5 / 132 وما بعدها، وابن عاشور ـ مقاصد الشريعة: 19 وما بعدها، وراجع أيضا بحثا لنا بعنوان " مسالك الكشف عن مقاصد الشريعة بين الشاطبي وابن عاشور " في كتاب : فصول في الفكر الإسلامي بالمغرب" : 19 وما بعدها.(1/13)
أوّلا ـ التحرّي بالتعيين النصّي: جاء في القرآن الكريم تعيين للمقاصد الشرعية في بعض الأحكام المخصوصة أو في الأحكام بصفة عامّة، وذلك على سبيل التصريح أو على سبيل التنبيه، وذلك من مثل قوله تعالى: " إنّما يُريدُ الشيطانُ أن يُوقِع بينكُم العداوةَ والبغضاءَ في الخمرِ والميسرِ" ( المائدة / 91 )، ففي هذا تصريح بأنّ المقصد من منع الخمر والميسر هو منع ما يفضيان إليه من العداوة والبغضاء بين الناس، وقوله تعالى: " ومن كان مريضا أو على سَفَر فعِدّةٌ من أيَّامٍ أُخَر يُريد اللهُ بكم اليُسرَ ولا يُريدُ بكم العُسرَ" (البقرة/185 )، ففيه تعيين لمقصد الحكم بجواز الإفطار في حال المرض والسفر، وهو التيسير ورفع المشقّة على الصائم، وهو المقصد الذي ورد تعيينه على سبيل التنبيه في أحكام الدين كافّة كما في قوله تعالى:" وما جعلَ عليكُم في الدينِ من حَرَج" ( الحج/78 )(1).
ثانيا ـ التحرّي بالتعيين الاستقرائي: يمكن أن يتمّ تعيين مقاصد الأحكام الشرعية بعمل استقرائي في عموم التصرّفات الشرعية ما كان منها بيانا قوليا وما كان بيانا عمليا، فذلك الاستقراء يُبين عن اطّراد في بعض المعاني تتكرّر في جملة كبيرة من الأحكام، فيقوم ذلك مقام التعيين لتلك المعاني مقاصدَ للأحكام التي اطّردت فيها، وللأحكام التي هي من جنسها.
__________
(1) راجع: ابن عاشور ـ مقاصد الشريعة: 21.(1/14)
ومن أمثلة ذلك ما يطّرد في أحكام المعاوضات من نهي عن المزابنة، وعن بيع المكيل بالجزاف، وعن المخادعة في البيع، فهذا النهي في أشكاله المتعدّدة يتعيّن به بطريق الاستقراء مقصد عامّ لهذه الأحكام هو مقصد إبطال الغرر. ومن أمثلته أيضا ما يطّرد في أحكام بيع الطعام من نهي عن الاحتكار، ونهي عن بيع الطعام قبل قبضه، والنهي عن بيع الطعام بالطعام نسيئة، فهذا النهي يفيد بطريق الاستقراء أنّ المقصد في أحكام بيع الطعام رواجُه وتيسير تداوله بين الناس(1).
ثالثا ـ : التحرّي بدلالة الأصل على الفرع: إنّ من أحكام الشريعة ما يُبنى على مقصد أصلي يكون متعيّنا بالنصّ أو بالاستقراء، وتتفرّع عنه وتتبعه مقاصد أخرى له لا تكون متعيّنة بذلك، ففي هذه الحال يمكن تعيين تلك المقاصد الفرعية بدلالة ذلك المقصد الأصلي المتعيّن بالنصّ، وذلك باعتبار أنّ كلّ ما كان موافقا للمقصد الأصلي مدعّما له فهو مقصد شرعي لذلك الحكم، وكلّ ما كان خلاف ذلك فهو ليس بمقصد له.
ومثال ذلك أنّ المقصد الأصلي من أحكام الزواج هو إنجاب النسل، وبهذا المقصد الأصلي يُستدلّ لتعيين مقاصد فرعية تكون متلائمة معه وموافقة له، وذلك من مثل المتعة المادّية، والسّكن النفسي، والإعفاف، والتعاون في شؤون الحياة، فهذه كلّها وما في معناها مؤيّدات لإنجاب النسل، مدعّمات له، فهي من المقاصد الفرعية لأحكام الزواج، فيمكن للناظر أن يعيّنها بدلالة ذلك المقصد الأصلي عليها(2).
__________
(1) راجع: ابن عاشور ـ مقاصد الشريعة: 20.
(2) راجع: الشاطبي ـ الموافقات: 3 / 139(1/15)
رابعا ـ التحرّي بالتعيين السكوتي: كما قد يُعلم مقصد الشارع من الحكم على سبيل الإيجاب تعيينا بأحد المسالك السابقة، فإنّه قد يُعلم بطريق السلب، وذلك كأن يُشرّع حكم مّا في شأن مفردات من الأفعال أو الأشياء، ويسكت عمّا هو شبيه بها فلا يُشمَل بذلك الحكم، فذلك السكوت يقوم مقام التعيين لكون المقصد من الحكم غير شامل للأفراد المسكوت عنها، فيُعرف من ذلك أنّ المقصد الشرعي المتعيّن في حقّ أشباهها ليس مقصدا متعيّنا في حقّها هي، وذلك ضرب من المسالك في معرفة مقاصد الأحكام.
ومن أمثلة ذلك ما جرى عليه الاجتهاد المالكي من إسقاط الزكاة من الخضر والبقول، لما نقل عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من أنّه لم يأخذ فيها زكاة، وإسقاط السجود شكرا لله عند حلول النعم والأفراح، لما نقل عنه من تركه لذلك؛ فبهذا السكوت النبوي عن تشريع الزكاة في الخضر والبقول، وتشريع السجود شكرا للّه عند حلول النعم مع قيام الدواعي لذلك، إذ قد توفّر بين يديه إنتاج الخضر والبقول، وتوفّرت مناسبات الأفراح، يُعلم أنّ مقصد الزكاة في سائر الأنواع التي شملها حكم الزكاة، ومقصد السجود في سائر مناسبات السجود التي ورد فيها حكم به، ليس بمقصد لزكاة الخضر والبقول، ولا مقصد للسّجود شكرا عند حلول النعم، وهو ما يساعد المجتهد على تبيّن مقاصد الأحكام بطريق التعيين السلبي لما هو ليس بمقصد شرعي(1).
هذه بعض المسالك التي تعين المجتهد على تعيين مقاصد الأحكام، وبمزيد من كدّ النظر في هذا الشأن يمكن أن يقف الباحث على مسالك أخرى، إمّا مستقلّة بذاتها، أو متفرّعة عن هذه التي ذكرناها، فالمجال في هذا الأمر بقي قليل الارتياد من النّظّار، وآفاقه مفتوحة للبحث، والبحث فيه بحث جليل الفائدة في مقام الاجتهاد بصفة عامّة، وجليل الفائدة في مقام الاجتهاد باعتبار المآلات بصفة خاصّة.
__________
(1) راجع: نفس المصدر ـ 3/156.(1/16)
ب ـ تحرّي أيلولة الأحكام: إنّ تعيين مقاصد الأحكام لئن كان خطوة ضرورية في اعتبار المآلات، إلاّ أنّها ليست بكافية في ذلك؛ لأنّ الحكم الشرعي الذي يبنيه المجتهد على اعتبار المآل ينبغي أن يبنيه على علم باليقين أو الظنّ الغالب بأنّ الحكم الأصلي إذا ما طُبّق على الفعل الموضوع له فسوف لا يحقّق به ذلك المقصد منه الذي وقع تعيينه بمسلك من مسالك التعيين، وإنّما سينتهي إلى مآل آخر فيه من المفسدة ما يساوي المصلحة المقصودة أو يربو عليها، وذلك العلم هو المبرّر للعدول بالحكم الأصلي إلى حكم آخر يُقدَّر أنّه هو الذي يحقّق المقصد المرجوّ.
والعلم بهذا المآل الذي هو معقد العدول بالحكم الأصلي إلى حكم آخر يستلزم من المجتهد ضربا آخر من الفقه غير الفقه الذي يعيّن به مقاصد الأحكام، إذ أحكام الشريعة المتعلّقة بأفعال العباد إنّما وضعت من قِبل عليم حكيم، وهي لم توضع من قِبله متعلّقة بتلك الأفعال أمرا ونهيا وإباحة إلاّ لأنّها بحكم علمه وحكمته تحقّق مقاصدها فيها من جلب مصلحة للعباد ودرء مفسدة عنهم، فكيف تؤول أحيانا إلى خلاف ما وُضعت له فلا تتحقّق مقاصدها؟ وما هي الأسباب التي تجعلها لا تحقّق تلك المقاصد؟ وكيف يمكن للناظر أن يعلم بأنّ الأحكام ستحقّق مقاصدها إذا ما طُبّقت على الأفعال الموضوعة لها أو هي لا تحقّقها؟ أسئلة ثلاثة يجب على الناظر في المآلات أن يكون له فيها جواب.
أوّلا ـ أيلولة الأحكام إلى غير مقاصدها: أحكام الشريعة متعلّقة بأفعال العباد، والأفعال صادرة عن أفراد من الناس معيّنين بأشخاصهم، وهذا التعيّن لئن كان يشتمل على قدر مشترك بين المتعيّنين مثل ماهية الإنسانية بمكوّناتها الفطرية، فإنّه يشتمل أيضا على قدر من الاختلاف بين فرد وآخر من الأفراد، وبين مجموعة وأخرى من المجموعات، من مثل المكتسبات التربوية، والأحوال الخارجية كالفقر والغنى، والجماعية والتفرّد، والظروف المكانية والزمانية.(1/17)
وإذا كانت الماهية المشتركة بين أفراد الإنسان تمثّل سببا في اطّراد جملة كبيرة من التصرّفات عند جميعهم كالسعي إلى تحصيل ما يحفظ الحياة من الطعام والشراب، وما يحفظ النوع من أسباب التناسل، فإنّ ما به الاختلاف ممّا هو زائد على الماهية يمثّل سببا في اختلاف الأفراد في جملة كبيرة من التصرّفات الصادرة عنهم، وفي اختلاف درجات قبولهم للمؤثّرات الخارجية وتفاعلهم معها، وفي مدى انصلاح نفوسهم واستقامة أعمالهم بما يرد عليهم من عوامل الإصلاح والتقويم، وممّا يعزّز ذلك ويقوّيه ما رُكّب عليه الإنسان في أصل فطرته من إرادة الاختيار التي تذهب بالأفراد مذاهب شتّى تبعا لاختياراتهم المتعدّدة. وذلك كلّه يصحّ في حقّ الجماعات التي تتشكّل لحمتها بظروف الزمان أو المكان، أو بالعوائد والأعراف، أو بالمذاهب والأديان، أو بغيرها من أسباب تشكّل الجماعات كما يصحّ في حقّ الأفراد.
إنّ الإنسان إذن هو بالاعتبارات السابقة مخالف للمادّة الصّمّاء، فالمادّة تتشكّل على سواء في أصل خلقتها، ولا يكون بين أفراد أنواعها من تفاوت، إذ هي مسلوبة الاختيار، وهي مسلوبة في التفاعل مع غيرها قابلية التفاوت بالزيادة أوالنقصان في كينونتها؛ وهي لذلك تتقبّل المؤثّرات على وزّان واحد، فتستجيب كلّ أفرادها على ذات النّمط من الاستجابة، لا يشذّ فرد في ذلك عن أفراد نوعه؛ ولذلك فهي تنضبط في صرامة للقانون الكلّي الموحّد الذي يصدق على كلّها كما يصدق على جزئيّات أفرادها؛ ولكنّ الإنسان وشأنه ما وصفنا لئن كان يستجيب على أنماط متطابقة أو متقاربة للقانون الموحّد الذي يتعلّق بتكوينه الفطري الذي هو قدر مشترك ثابت، فإنّه ليس كذلك فيما يتعلّق بما به الاختلاف بين الأفراد وبين الجماعات، فذلك الذي به الاختلاف لاينضبط في التفاعل والاستجابة إلى قانون صارم، بل يحدث فيه من التفاوت ما لا يحصره قانون، ولا تضبطه قاعدة ثابتة.(1/18)
والله تعالى لمّا كان عليما بطبيعة الإنسان فيما ينتظم أفراده من مشتركات الفطرة ومن مختلفات الأوضاع المكتسبة، فإنّه لمّا شرّع الأحكام وبناها على تحقيق مصلحة الإنسان، شرّعها على وجه القانون العامّ الذي يناسب المشترك من الفطرة الإنسانية، ولكنّ هذا القانون العامّ المتمثّل في الأحكام الكلّية للشريعة لئن كانت في تحقيق مقاصدها التي أرادها الله تعالى منها تنتهي إلى تحقيق تلك المقاصد بالفعل عند التطبيق بالنسبة للغالب من أفراد الناس وأفراد الجماعات باعتبار غلبة ما هو من مشترَك الفطرة، فإنّها قد لا تنتهي إلى ذلك التحقيق الفعلي بالنسبة لبعض الأفراد، أو لبعض الجماعات، أو في بعض الظروف والأحوال؛ وذلك بسبب الاختلاف بينها فيما هو زائد على مكوّنات الفطرة من المكتسَبات العارضة(1/19)
وإذن فإنّ أحكام الشريعة إذا كانت تؤول في الغالب إلى تحقيق مقاصدها عند تطبيقها على الأفعال، فإنّه ليس من المستغرب أن تتخلّف أحيانا أيلولاتها إلى ذلك التحقيق للأسباب التي ذكرناها آنفا، وهو ما يقوم مقام المبرّر الشرعي لاستعمال قاعدة اعتبار المآلات في منهج الاجتهاد ليُصرف الفعل عن حكمه الأصلي الذي لم يحقّق فيه مقصده إلى حكم آخر يحقّقه فيه، وذلك ما أشار إليه الشاطبي في قوله: " إنّ الشريعة لم تنصّ على حكم كلّ جزئيّة على حدتها، وإنّما أتت بأمور كلّية، وعبارات مطلقة تتناول أعدادا لا تنحصر، ومع ذلك فلكلّ معيّن خصوصية ليست في غيره ولو في نفس التعيين، وليس ما به الامتياز معتبرا في الحكم بإطلاق، ولا هو طردي بإطلاق، بل ذلك منقسم إلى الضربين"(1)، كما أشار إليه في قوله تكملة لذلك: " فلو أعرض عن الجزئيات بإطلاق، لدخلت مفاسد، ولفاتت مصالح، وهو مناقض لمقصود الشارع، ولأنّه من جملة المحافظة على الكلّيات، لأنّها يخدم بعضها بعضا.. .. فالحاصل أنّه لا بدّ من اعتبار خصوص الجزئيّات مع اعتبار كلّياتها، وبالعكس،وهو منتهى نظر المجتهدين بإطلاق"(2).
ثانيا ـ المؤثّرات في أيلولة الأحكام: إذا تبيّن أنّ أحكام الشريعة لئن كانت تؤول إلى تحقيق مقاصدها في الأغلب، إلاّ أنّها قد تتخلّف في ذلك التحقيق، فحقّ على الناظر المجتهد بقاعدة اعتبار المآل أن يكون له إلمام بالأسباب التي تجعل الأحكام تتخلّف عن تحقيق مقاصدها، والمؤثّرات التي تؤثّر عليها في ذلك، فما هي تلك الأسباب وتلك المؤثّرات؟
__________
(1) الشاطبي ـ الموافقات: 5/ 114ـ15
(2) نفس المصدر: 3/180(1/20)
ألمعنا آنفا إلى أنّ أفراد الأفعال التي يتّجه إليها الحكم الشرعيّ الكلّي بالتكليف إنّما يتّجه إليها باعتبار ما فيها من معنى الكلّية المتمثّل في جنسها أو نوعها، والمقصد المبتغى تحقيقه منها مبنيّ على اعتبار ذلك المعنى الكلّي، ولكنّ الأفراد في تعيّنها تكتسب لها أحوالا تزيد عن ذلك المعنى الكلّي الجامع بينها، وهي أحوال قد تختلف بين فرد وآخر من أفرادها إن كثيرا أو قليلا. وتلك الأحوال التي يختصّ بها كلّ فرد من الأفراد قد تبلغ في بعض الأفراد مبلغا بعيدا ينأى بها عن سائر الأفراد، فتتكوّن لها بذلك خصوصية بيّنة تكون سببا مؤثّرا على أيلولة المقصد الشرعي الذي شرّع من أجله الحكم المتّجه إليها، فإذا بذلك المقصد يتخلّف حينما يطبّق الحكم عليها بسبب تلك الخصوصية. ويمكن تبيّن تلك الخصوصية المؤثّرة على أيلولة الحكم إلى تحقيق مقصده في جملة من المظاهر التي من أهمّها ما يلي:
ـ الخصوصية الذاتية: قد يكتسب فعل مّا من الأفعال، أو يكتسب فاعله لسبب أو لآخر من الأسباب صفات ذاتية يخرج بها عن مماثلة النوع الذي ينتمي إليه، وتكون تلك الصفات منافرة في طبيعتها لطبيعة المقصد الشرعي الذي من المفروض نظريا أن يتحقّق في ذلك الفعل أو في ذلك الفاعل عندما يُجرى عليه الحكم الموضوع له؛ ولذلك فإنّه عند تطبيق الحكم الشرعي عليه ابتغاء تحقيق مقصده فيه تكون تلك الصفات المكتسبة المنافرة في طبيعتها لطبيعة ذلك المقصد حائلا دون تلك الأيلولة المبتغاة.(1/21)
ومن أمثلة ذلك في الأشخاص الفاعلة أن يكتسب شخص مّا أو مجموعة من الأشخاص صفات من غلظة النفس، ومن تمكّن الباطل فيها، ما يجعلها إذا ما وُجّه إليها نصحٌ بأمر بمعروف أو نهي عن منكر عاندت ذلك النصح بعكس مقتضاه من الانتصاج شأن النفوس المرسلة على فطرتها السويّة، فإذا هي تأتي من المنكر جرّاء ذلك النصح بما هو أفظع من المنكر المنصوح فيه، وإذن فإنّ المقصد المبتَغَى من حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المشمولة به تلك النفوس وهو حصول المصلحة بإتيان المعروف والانكفاف عن إتيان المنكر لا يكون له تحقّق في هذا النمط من الأفراد الفاعلة، لتلك الصفات الذاتية التي اكتسبتها فعطّلت أيلولة الحكم إلى تحقيق مقصده، وهذه الخاصّية الذاتية الصارفة عن تحقيق مقصد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي التي كانت ملحَظا ذكيّا للإمام ابن تيمية حينما مرّ بقوم من التتار يشربون الخمر، فنهاهم صاحبه عن هذا المنكر، فأنكر عليه ذلك قائلا:" إنّما حرّم الله الخمر لأنّها تصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدّهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرّية وأخذ الأموال، فدعهم "(1).
ومن أمثلته في الأفعال ما قد يخالط فعل الزواج من نيّة التوقيت إلى أجل محدّد سواء لتحقيق متعة، أو لتحليل زوجة مطلّقة ثلاثا، فصفة التوقيت التي يكتسبها هذا الفعل في عنصر النيّة منه تجعل الحكم الشرعي المبتَغَى من الزواج في عموم أفراده غير متحقّق فيه، إذ طبيعة صفة التوقيت معاندة في طبيعتها لمقصد الإنجاب والسكينة والتعاون؛ ولذلك يُصرف عنه حكم الجواز أو الطلب، ويُستعاض عنهما بحكم المنع، اعتبارا لهذه الأيلولة المصروف فيها المقصد الشرعي عن التحقّق بسبب هذه الخصوصية الذاتية.
__________
(1) ابن القيّم ـ إعلام الموقّعين: 3/13(1/22)
ـ الخصوصية الظرفية: قد تكتسب بعض الأفعال خصائص إضافية من تلقاء الظرف الذي يكون مسرحا لحدوثها، سواء كان ظرفا زمانيا، أو مكانيا، أو زمانيا ومكانيا معا، وتكون تلك الخصائص المضافة إلى الفعل في أصل طبيعته عائقة دون تحقيق المصلحة التي يبتغيها منه الحكم المشرّع لعموم نوعه، فتعتبر تلك الخصوصية الظرفية إذن هي المؤثّر على أيلولة الحكم الشرعي إلى منتهَى لا يتحقّق فيه المقصد منه.
ومن أمثلة ذلك أنّ الأفعال التي تستحقّ أن تُطبّق عليها أحكام الحدود إذا ما وقعت في زمن تدور فيه الحرب مع العدوّ، أو وقعت على مكان هو بلاد العدوّ، فإنّها تكتسب بهذه الظرفية الزمانية والمكانية خاصّية تجعل من حكم إقامة الحدّ حكما غير مؤدّ إلى مقصده من تطبيقه عليها، بل قد يؤدّي إلى عكس ذلك المقصد؛ فبدلا من أن يؤدّي تطبيق الحدّ على مقترف الأفعال المستحقّة له إلى ردع الفاعل عن مقارفتها مجدّدا قد تؤدّي إلى إغرائه بإفشاء الأسرار إلى الأعداء أو إلى اللّحاق بهم انتقاما لما فُعل به، وتنكيلا بمقيمي الحدّ عليه، وهو ما يؤدّي إلى مفسدة أعظم من مفسدة ترك إقامة الحدّ(1).
ـ الخصوصية العرفية: تتّخذ بعض الجماعات أعرافا وعادات تتواضع عليها وتحكّمها في بعض شؤون حياتها، وقد تكتسب بعض أفعالهم بتلك الأعراف خصوصية لا تكون لها في أصلها العامّ، وتلك الخصوصية العرفية التي تكتسبها بعض الأفعال قد تجعلها حينما يُطبّق عليها الحكم الشرعي المتعلّق بها غير آيلة إلى تحقيق المقصد الذي يبتغيه ذلك الحكم، فتكون أيلولتها إلى هذا المآل إذن بسبب من تأثير الخصوصية العرفية.
__________
(1) راجع في هذه المسألة نفس المصدر: 3/13، وراجع فيه أيضا أمثلة أخرى كثيرة في هذا الشأن.(1/23)
ومن أمثلة ذلك أنّ بعض المجتمعات جعلت من عاداتها تفشّي المصافحة بين الرجال والنساء، وعُدّ عندها الامتناع عن ذلك من علامات التحقير والاستنقاص والسخرية التي تقابل بالنكير الشديد والجفوة البالغة، فإذا ما جاء الداعية المرشد لهؤلاء القوم يطبّق عليهم في فعل هذه المصافحة الحكم الشرعي بالمنع، باءت دعوته بفشل ذريع، إذ يُستنكر عليه ذلك استنكارا، وتقابل دعوته وإرشاداته بالرفض، فربّما كان من اجتهاده الموفّق اعتبار هذه الأيلولة لحكم المنع إلى غير مقصده، فترخّص بالجواز إلى حين تحويل القوم بالدعوة والإرشاد عن هذه العادة.
ـ الخصوصية الواقعية: أحكام الشريعة جاءت توجّه أفعال العباد بالجواز والمنع والطلب حتى تحصل في الواقع بحسب ذلك، فهي متّجهة إليها بالتكليف قبل وقوعها، ومقاصدها المبتغاة منها إنّما حدّدت على ذلك الاعتبار، فإذا ما وقع الذي حكمه الطلب تحقّقت المصلحة من وقوعه، وإذا ما لم يقع الذي حكمه المنع تحقّقت المصلحة من عدم وقوعه؛ ولكن بعض الأفعال حينما يأخذ طريقه إلى الوقوع جاريا على غير ما شُرّع له من الحكم فإنّه قد يكتسب بوقوعه على ذلك النحو خصوصية واقعية تجعل تطبيق حكمه عليه بالمنع مثلا إن كان حكمه المنع يؤول به إلى خلاف مقصد ذلك الحكم منه، وتكون إذن تلك الخصوصية الواقعية مؤثّرة على أيلولة الحكم الشرعي إلى تحقيق مبتغاه.(1/24)
ومن أمثلة ذلك ما كان من تصرّف نبوي مع ذلك الأعرابي الذي تبوّل في المسجد فهمّ أصحابه بمنعه، فقد منعهم من ذلك وقال لهم: " لا تُزرموه "(1)، فهذا الفعل اكتسب بسبب الوقوع خصوصية صار بها لو طُبّق عليه حكم المنع في حال وقوعه آيلا إلى عكس مقصده الذي هو الحفاظ على نظافة المكان، إذ تطبيق المنع في حال الوقوع يفضي إلى المزيد من النجاسة بالانتشار، إضافة إلى ما يحصل من الأذى البدني بذلك المنع، وهذا التصرّف النبوي إنّما كان مبنيا على ما كان من تأثير لخصوصية الوقوع على أيلولة الفعل. ولعلّ القاعدة الفقهية القائلة بأنّه يجوز في الانتهاء ما لا يجوز في الابتداء مبنيّة على اعتبار المآل بتأثير خصوصية الوقوع هذه.
__________
(1) أخرجه البخاري ـ كتاب الأدب / باب الرفق في الأمر كلّه.(1/25)
وقد كان الفقهاء والأصوليون والمجتهدون يقدّرون هذه الأسباب المؤثّرة في أيلولة الأفعال، ويتّخذون منها قواعد في التأصيل والاجتهاد، فقد عقد ابن القيّم في كتابه الإعلام فصلا بيّن فيه " تغيّر الفتوى واختلافها بحسب تغيّر الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيّات والعوائد"(1)، وممّا قرّره الشاطبي مندرجا في ذات السياق أنّه ينبغي على المجتهد:" النظر فيما يصلح بكلّ مكلّف في نفسه، بحسب وقت دون وقت، وحال دون حال، وشخص دون شخص، إذ النفوس ليست في قبول الأعمال الخاصّة على وزّان واحد ... فهو يحمل على كلّ نفس من أحكام النصوص ما يليق بها، بناء على أنّ ذلك هو المقصود الشرعي في تلقّي التكاليف"(2). وإنّما اعتبر المآل في هذه البيانات والأقوال بناء على العلم بالمؤثّرات التي تؤثّر في الأيلولة فتخرج بها من سياقها في إنتاج الحكم لمقصده إلى سياق آخر يكون فيه غير منتج لذلك المقصد، وذلك بواحد من الأسباب التي ذكرناها أو بغيرها، وهو علم مطلوب للمجتهد باعتبار المآل.
__________
(1) ابن القيّم ـ إعلام الموقّعين: 3/11.
(2) الشاطبي ـ الموافقات:5/25، وراجع أيضا في نفس المكان شواهد كثيرة من الحديث النبوي على هذه القاعدة.(1/26)
ثالثا ـ مسالك الكشف عن المآلات: لا يكفي في الاجتهاد باعتبار المآل أن يعلم المجتهد مقاصد الأحكام تعيينا، وأن يعلم المؤثّرات على الأيلولة بحسب ما هي عليه في الواقع، فتلك كلّها إنّما هي مقدّمات لعلم آخر ضروري هو المعقد في اعتبار المآل، وهو العلم بالقواعد والمسالك التي بها تُقدّر مآلات الأفعال، فيعلم من خلالها مسبقا على وجه اليقين أو الظّنّ الغالب أنّ هذا الحكم الشرعيّ إذا ما طُبّق على هذا الفعل المعيّن آل به إلى أيلولة لا يتحقّق بها مقصده، ليكون ذلك العلم هو الأساس الأصلي في العدول بالحكم الأصلي إلى حكم آخر يتحقّق به المقصد المبتَغَى، ويكون تبعا لذلك هو الأساس الأصلي في الاجتهاد باعتبار المآل. فما هي المسالك التي يمكن أن يستكشف بها المجتهد مآلات الأفعال قبل وقوعها ليبني عليها اجتهاده باعتبار المآل؟
لم نقف بحسب علمنا على مبحث متخصّص في هذا الأمر لا في الدراسات القديمة ولا في الحديثة، وإنّما هي ملاحظات وإشارات ولمحات مبثوثة في مؤلّفات الأصوليين والمقاصديين منهم على وجه الخصوص، وقد أورد الشاطبي هذه القضية قضيّة العلم المسبق بمآل الحكم من تحقيق مقصده أو عدمه في هيئة إشكال طرحه للحوار بين القول بإجراء الأحكام على الأفعال المتعلّقة بها أو عدم إجرائها في حال العلم أو الظّن بأنّها لا تفضي إلى تحقيق مقاصدها منها، ولم يأت في ذلك بجواب فيما يمكن أن يُعلم به مسبقا أيلولة الحكم إلى مقصده من عدم ذلك.(1/27)
وممّا قاله الشاطبي في تحديد هذه المشكلة:" وأمّا إن كان امتناع وقوع حكم الأسباب وهي المسبّبات [ أي الأيلولة إلى تحقيق المقصد الشرعي ] لأمر خارجي مع قبول المحلّ من حيث نفسه، فهل يؤثّر ذلك الأمر الخارجي في شرعية السبب، أم يجري السبب على أصل مشروعيته؟ هذا محتمل، والخلاف فيه سائغ"(1)، وممّا أورده من استشكالات في هذا الشأن قوله: " إنّ اعتبار وجود الحكمة [ أي حصول المقصد ] في محلٍّ عينا لا ينضبط؛ لأنّ تلك الحكمة لا توجد إلاّ ثانيا عن وقوع السبب [ أي عن تطبيق الحكم ]، فنحن قبل وقوع السبب جاهلون بوقوعها أو عدم وقوعها ... وإذ لم نعلم وقوع الحكمة فلا يصحّ توقّف مشروعية السبب على وجود الحكمة"(2).
وإنّه لمن الحقّ على المجتهد أن يتبيّن ببعض القواعد والمسالك حصول المقصد من إجراء الحكم الشرعي على الأفعال العينية المتعلّق بأجناسها أو عدم حصوله ليبني على العلم بتلك الأيلولة إجراءه عليها أو صرفه عنها، وذلك فقه دقيق في هذا الاجتهاد نحسب أنّه لم يأخذ حظّه من الدرس، فماذا يمكن أن يُضبط من المسالك المؤدّية إلى ذلك الغرض؟ ربّما يفيد جمع ملاحظات وإشارات متناثرة في هذا الشأن في تحديد المسالك والقواعد التالية:
ـ مسلك الاستقراء الواقعي: لعلّ هذا المسلك هو من أبين المسالك في استكشاف مآلات الأفعال قبل وقوعها، فحينما يُطبّق حكم مّا من أحكام الشريعة على أفعال عديدة في زمن معيّن أو في فاعلين معيّنين، ويتبيّن بنتائج الواقع أنّ ذلك التطبيق لم يتحقّق به المقصد المبتغَى منه، فإنّ ذلك يكون دليلا على أنّ تطبيق الحكم على أمثال الحالات التي طُبّق فيها سوف يؤول إلى نفس المآل من عدم تحقيق المصلحة، ويكون بذلك استقراء المآلات كما تحقّقت في الواقع منهجا يُعلم منه أحوالها قبل وقوعها.
__________
(1) الشاطبي ـ الموافقات: 391.
(2) نفس المصدر: 391ـ392(1/28)
ومثال ذلك ما بنى عليه ابن تيمية وابن القيّم فتوى اعتبار الطلاق ثلاثا بلفظ واحد طلقة واحدة؛ فقد رأيا باستقرائهما لوقائع زمنهما أنّ إمضاء الطلاق ثلاثا بلفظ واحد طلاقا باتّا كما أفتى به عمر رضي الله عنه ومضى عليه الناس بعده قد أفضى إلى فشوّ التحليل لما غدا عليه الناس من رقّة في الدين، وهي مفسدة أكبر من مفسدة التهاون بالطلاق والاستهتار به التي بنى عليها عمر فتواه، فعُلم من هذا الاستقراء الواقعي أنّ الحكم ببتّ الطلاق بلفظ الثلاث سيكون مآله نفس المآل(1).
وفي عصرنا هذا أصبح استقراء الوقائع علما قائما بذاته، يقوم على قوانين وقواعد دقيقة منضبطة في الإحصاء والتصنيف والاستنتاج، وأصبحت تُبنى على نتائجه الخطط والبرامج والمشاريع، استدلالا بما هو كائن على رسم ما ينبغي أن يكون لتفادي مفاسد وتحرّي مصالح، وهو ما ينبغي على الفقيه المجتهد أن يستعمله مسلكا في التعرّف على مآلات الأفعال كما يجري بها الواقع، حتى إذا ما علم بيقين أو بظنّ غالب أنّ تلك المآلات هي التي ستقع مستقبلا، بنى أحكامه وفتاواه على اعتبارها بحيث يتحقّق المقصد الشرعيّ منها، فهذا مسلك يتوفّر عليه فقهاء اليوم بأوضح وأقوم ما كان بين يدي السابقين.
ـ مسلك الاستشراف المستقبلي : أصبح اليوم استشراف المستقبل علما قائم الذات، تقنّن له القوانين وتقعّد له القواعد، ومن خلال تلك القوانين والقواعد تُستطلع الآراء، وتُستبان عزائم الأفعال، وتُحلّل مكنونات النفوس الفردية والجماعية، وتُجمع المؤشّرات من جاري الأحداث والوقائع، ثمّ يُبنى من كلّ ذلك بطرق علمية تصوّر لأيلولة الأوضاع في شتّى مجالات الحياة.
__________
(1) راجع هذه المسألة في: ابن القيّم ـ إعلام الموقّعين: 3/31 وما بعدها.(1/29)
إنّ هذا العلم لئن كانت نتائجه غير قطعية، إلاّ أنّه كثيرا ما ينتهي إلى تلك النتائج بالظّنّ الغالب؛ ولذلك فإنّه تُبنى عليه اليوم المخطّطات المستقبلية في الاقتصاد والسياسة والاجتماع، فيمكن إذن استثماره مسلكا في معرفة مآلات الأفعال، تحرّيا لما هو من قواعده ينتج نتائجه بالظنّ الغالب، لتكون تلك المآلات معتبرة في تطبيق الأحكام الشرعية المفضية إلى مقاصدها.
ونحسب أنّ هذا المسلك كان من حيث الأصل مستخدما من قِبل المجتهدين، فعمر بن عبد العزيز على سبيل المثال لمّا تولّى الملك أجّل تطبيق بعض أحكام الشريعة، فلمّا استعجله ابنه في ذلك، أجابه بقوله:" أخاف أن أحمل الحقّ على الناس جملة، فيدفعوه جملة، ويكون من ذا فتنة"(1)، فما ذلك الاجتهاد من عمر إلاّ لاستقرائه مسقبل أيلولة تطبيق أحكام الشرع جملة على الناس، استدلالا بمؤشّرات من أحوالهم النفسية والاجتماعية والإيمانية، فلمّا أصبح اليوم هذا الاستكشاف المستقبلي علما، فما أحرى الفقها أن يستخدموه مسلكا في العلم بمآلات الأفعال.
ـ مسلك العادة الطبيعية: كما بني الكون كلّه على ترابط علّي بين ظواهره ومكوّناته، بحيث يُستدلّ ببعضها على وقوع بعض، فإنّ الإنسان في مكوّناته وتصرّفاته الفردية والاجتماعية بُني أيضا على قانون طبيعي تترابط فيه المقدّمات والنتائج ترابطا سببيا، وقد كشف علم النفس الفردي والاجتماعي وعلم الاجتماع على الكثير من تلك القوانين الطبيعية، بما أفسح المجال لأن يُعلم الكثير من التصرّفات المستقبلية للإنسان بناء على العلم بمقدّماتها السببية المفضية إليها.
__________
(1) الشاطبي ـ الموافقات: 2/148.(1/30)
إنّ هذه العادات الطبيعية في الكيان الإنساني الفردي والاجتماعي يمكن أن تُستخدم أسلوبا في الكشف عن مآلات الأفعال، فيُستدلّ وفق هذه العادات بمقدّمات حاصلة على نتائج لها سوف تحصل بمقتضى الترابط الطبيعي بين المقدّمات والنتائج، ويبني المجتهد على ذلك العلم المسبق بالمآلات الأحكام الفقهية التي تناسب المآل المحقّق للمصلحة، ويتفادى الأحكام التي تنتهي إلى مآل لا تتحقّق فيه.
ونحسب أنّ هذا المسلك في الكشف عن المآلات قد استعمله المجتهدون قديما من حيث أصله العامّ، فعمر بن الخطّاب رضي الله عنه أجّل العمل بتطبيق حدّ السرقة في عام المجاعة، وربّما كان ممّا حمله على ذلك استكشافه للمآل الذي سيؤول إليه إمضاء هذا الحكم، وهو مآل لا يتحقّق فيه مقصده، إذ المقصد منه هو الارتداع لاستتباب الأمن بين الناس، ولكن هذا الارتداع لا يحصل في النفوس إذا ما مسّها حرّ الجوع، إذ هو بمقتضى العادة الطبيعية في الإنسان عامل غلاّب يطغى على نازعة النفس اللّوّامة إلى الارتداع بالعقوبة، فهذا القانون الطبيعي في النفس البشرية لعلّه كان من المسالك التي استكشف بها عمر بن الخطاب مآل حدّ العقوبة عام المجاعة، فاعتبر ذلك المآل وأجّل تطبيق الحدّ. وبين يدي المجتهدين اليوم من القواعد والقوانين في طبائع الإنسان مادّة ثريّة ما أحراهم بأن يستثمروها في الكشف عن مآلات الأفعال لإجراء الأحكام المناسبة المحقّقة للمصالح.
ـ مسلك العادات العرفية: قد تكتسب المجتمعات في التعامل بين أفرادها عادات وأعرافا وتقاليد يتواضعون عليها الناس، وتصبح بينهم كالقواعد والقوانين التي تجري عليها التصرّفات، وتُحاكم إليها المواقف. وهذه العادات العرفية قد تكون في بعض الأحيان سببا في أيلولة بعض الأحكام الشرعية عند تطبيقها إلى مآل لا يتحقّق به مقصدها، في حين أنّ ذلك المقصد يتحقّق في حال من ليس من عاداتهم تلك العادة.(1/31)
وبناء على ذلك فإنّه يمكن للفقيه المجتهد أن يستخدم علمه بالعادات والأعراف ليستبين منها بعض مآلات ما يحكم به من أحكام الشرع، فإذا تبيّن له أنّ عادة مّا من عادات القوم ربّما أدّت بيقين أو بظنّ غالب إلى أيلولة حكم من الأحكام أيلولة لا يتحقّق بها مقصده، اتّخذ من ذلك الانكشاف للمآل بمسلك العادة العرفية طريقا للحكم بحكم آخر يؤول إلى تحقيق المصلحة.
ولعلّ من أصول هذا المسلك في استكشاف المآل ما جاء في قوله تعالى:" ولا تسبّوا الذين يدعون من دون الله فيسبّوا الله عدوا بغير علم" ( الأنعام/108)، فمن الأعراف المتفشّية في المجتمعات أنّ من يُسبّ له من هو أثير عنده من إله معبود أو أب أو أمّ فإنّه يردّ على السّابّ بأن يسبّ له نظير ذلك الأثير، فلعلّ هذه العادة كانت متفشّية عند أهل الجاهلية، كما قد توحي به بعض الروايات في سبب نزول هذه الآية من أنّ المشركين قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: لئن لم تنته عن سبّ آلهتنا وشتمها لنهجونّ إلهك(1)، فنهى الله تعالى سبّ أوثان الجاهلية لما يترتّب على ذلك بحكم العادة من سبّ الله تعالى. ونظير ذلك في الحديث النبوي ما جاء من نهي عن سبّ الرجل أباه بأن يسبّ أبا الرجل فيسبّ أباه(2)، فكأنّ ذلك إذن من العادات الفاشية في الأقوام، فهذا الأصل المشار إليه في القرآن والحديث يمكن أن يبنى عليه مسلك في استكشاف مآلات الأفعال هو مسلك الاستكشاف بالعادات العرفية.
ـ مسلك الاستدلال بقصد الفاعل: إذا كان المآل في اعتبار المآلات هو المعتبر في تقدير الحكم، دون أن يكون لمقصد الفاعل مدخل في هذا الاعتبار أو عدمه، فإنّ مقصد الفاعل من فعله يمكن أن يكون على نحو من الأنحاء مسلكا يُعرف منه المآل الذي ينتهي إليه مقصد الشارع من الحكم المطبّق على ذلك الحكم.
__________
(1) راجع: ابن عاشور ـ التحرير والتنوير: 7/428
(2) أخرجه مسلم ، كتاب الإيمان.(1/32)
ووجه ذلك أنّه وإن لم يكن مقصد الفاعل من فعله مرتبطا ارتباطا علّيا بمآل ذلك الفعل، إذ قد يؤول الفعل إلى ما يوافق النيّة وقد يؤول إلى ما يخالفها، إلاّ أنّ نيّة الفاعل من فعله هي عنصر مهمّ من العناصر المحدّدة لنتائجه وآثاره، فبالنيّة يكون الحزم في إتمام الفعل على وجهه الأكمل، واستجماع الوسائل لذلك، فتسري إذن تلك النيّة سريانا قد يكون محسوسا وقد يكون غير محسوس في أرجاء الفعل ومفاصله ومقدّماته، فيعطيه من قوّة الدفع ما ينتهي به إلى مآله المطلوب، وبها أيضا يكون التراخي والتهاون ممّا تنحلّ به عرى الفعل فلا يبلغ منتهاه المطلوب.
إنّ مقصد الزوج في إنهاء الزوجية عند توقيت معيّن من شأنه أن يؤثّر في أيلولة الزواج إلى مقصده الشرعي من تحقيق للنسل والسكينة والتعاون، إذ يكون الزوج بنيّة التوقيت غير حريص في تصرّفاته على بناء العلاقة الزوجية بحيث تفضي إلى ذلك المقصد، إذ لمّا كانت هذه العلاقة ستنتهي عند أجل معيّن فلماذا ذلك البناء الذي سينهدم بعد حين؟ ولعلّ هذا هو أهمّ الأسباب التي حرّم من أجلها زواج المتعة، وإذا كان هذا الزواج معلنة فيه نيّة التوقيت، فإنّ هذه النيّة يكون لها نفس الأثر في أيلولة الزواج في حال الإضمار، فتكون إذن أحد أهمّ المؤشّرات الكاشفة عن أيلولة الفعل.(1/33)
وإذا كان الأمر كذلك فإنّ مقصد الفاعل قد يكون في حالات كثيرة مؤشّرا يُستدلّ به على أيلولة الفعل إلى غير ما وضع له من حكمة، وحينئذ يُعتبر هذا المآل في إمضاء الحكم اللائق به. إلاّ أنّ هذا الحكم إذا كان فقها اتّجه إلى الفاعل في خاصّة نفسه حين يكون قصده مضمرا غير ظاهر، فمن تزوّج بقصد مضمر للتحليل اتّجه إلى فعله حكم الحرمة فباء بالإثم، وليس يتّجه إليه المنع في الخارج بالقضاء، وأمّا إذا كان القصد ظاهرا بالقرائن الكافية فإنّ المنع يتّجه إليه فيُحظر وقوعه من قِبل من بيده الحظر. ومن هذا الباب ما يُعلم من مآلات الأفعال فيما يُعرف بالحيل، إذ هي ليست إلاّ مبنية على مقاصد للمتحيّل مخالفة لمقاصد الشارع، فيُحكم عليها إذن بالمنع لما يُعلم من أيلولتها بدلالة قصد الفاعل لها(1).
__________
(1) راجع في الحيل وأحكامها: الشاطبي ـ الموافقات: 5/187.، وابن القيّم: إعلام الموقّعين: 3/126.(1/34)
إنّ هذه المسالك في التعرّف على أيلولة الأفعال مسبقا بمعالجتها بالأحكام المناسبة ليست مسالك يقينيّة كلّها، وإنّما هي قد تنتج يقينا، وقد تنتج ظنّا يقوى أويضعف بتفاوت بينها، وبتفاوت في الأحوال المندرجة ضمن الواحد منها، وعلى الناظر فيها أن يُحسن النظر وأن يتحرّى فيه غاية التحرّي، فإذا ما انقدح له يقين أوظنّ غالب بأيّ واحد منها بمآل من مآلات الأفعال المنظور فيها اعتبر ذلك المآل وأمضى الحكم الشرعي المناسب له، فهي إذن مسالك اجتهادية تحتاج إلى أقدار كبيرة من التحقيق والتثبّت، وهي على أيّة حال وسائل مساعدة على استكشاف المآلات(1).
المبحث الثاني ـ دور اعتبار المآلات في فقه الأقلّيات:
__________
(1) ضبط بعض الأصوليين في باب سدّ الذرائع بعض القواعد لتبيّن مدى ما تفضي إليه الذريعة من مآل فيحكم بسدّها، ولكنّها في جملتها نحت منحى العموم، فبقي الأمر محتاجا إلى مزيد من الدرس للتوصّل إلى قواعد أكثر دقّة في هذا الشأن = =راجع في ذلك: الشاطبي ـ الموافقات: وابن القيّم ـ إعلام الموقّعين:3/109، وأبو زهرة ـ أصول الفقه: 290، ووهبة الزحيلي ـ أصول الفقه الإسلامي: 2 /884.(1/35)
إنّ هذا الأصل الاجتهادي أصل اعتبار المآلات له تطبيقات واسعة في مجمل أبواب التشريع، وقد استعمله الأيمّة المجتهدون في فروعه المختلفة، وفي أبواب الفقه المتعدّدة، وحتى من لم يكن معترفا به باعتبار عنوانه فقد استعمله في بعض تطبيقاته تحت أسماء أخرى؛ إلاّ أنّ الاستعمال الاجتهادي لهذا الأصل يكون أكثر ما يكون في الحالات ذات الخصوصية، وفي الظروف الاستثنائية، سواء تعلّق ذلك بأحوال وظروف فرد أو مجموعة أو واقعة معيّنة أو ظاهرة عامّة، فكلّما تحقّقت الخصوصية في أيّ مظهر من مظاهرها كان لأصل اعتبار المآل مجال استعمال أوسع؛ وذلك لأنّ الظرف الاستثنائي والحالات ذات الخصوصية كثيرا ما يؤول فيها الحكم الشرعي إلى مآل لا يتحقّق فيه مقصده من المصلحة بسبب خصوصية الأفعال التي يُنزّل عليها، ممّا يستلزم اجتهادا يُعتبر فيه ذلك المآل.
ومن أبين مظاهر الخصوصية في حياة الجماعة المسلمة الوضع الذي يكون فيه مجموعة من المسلمين يعيشون أقلّية في مجتمع غير مسلم، إذ يكون هؤلاء في مناخ ثقافي وحضاري وقانوني مخالف لما يؤمنون به ويعيشون عليه من قيم وقوانين إسلامية، ويكونون في حال إلزام بأن تجري حياتهم على غير ما يؤمنون به في بعض مجالات حياتهم الفردية والاجتماعية؛ ولذلك فإنّ أوضاع الأقلّيات المسلمة باعتبار خصوصياتها المتعدّدة الجوانب من شأنها أن تكون مجالا واسعا لاستعمال أصل اعتبار المآلات لتوفيقها إلى أحكام الشريعة بنسق تفضي فيه إلى مقاصدها لتحقيق المصلحة المبتغاة من الدين.
1 ـ الأقلّيات وفقه الأقلّيات:(1/36)
راج مصطلح الأقلّيات في عصرنا وأصبح له بعد سياسي واجتماعي وقانوني؛ وذلك لما حدث في الواقع من اختلاط بين الأمم والشعوب بفعل تفشّي هجرة الأفراد والجماعات من بلد إلى بلد ومن قارّة إلى قارّة لتوفّر مغرياتها وليسر أسبابها، فإذا المجتمعات الأصلية في كلّ قارّة تنضمّ إليها جماعات مغايرة لها ممّن هاجر إليها، فتشاركها الحياة في وجوهها المختلفة، وتحدث في تلك المشاركة وجوه من الاحتكاك تسفر عن وجوه من الاضطرابات التي تطلب لها حلولا اجتماعية وسياسية، فكان ذلك من أهمّ أسباب رواج مصطلح الأقلّيات، ثمّ مصطلح فقه الأقلّيات.
أ ـ مصطلح الأقلّيات: حينما يُطلق مصطلح الأقلّيات فإنّه يُراد به في الغالب المجموعات البشرية التي تعيش في مجتمع تكون فيه أقلّية من حيث العدد، وتكون مختصّة من بين سائر أفراد المجتمع الآخرين ببعض الخصوصيات الجامعة بينها، كأن تكون أقلّية عرقية، أو أقلّية ثقافية، أو أقلّية لغوية، أو أقلّية دينية، وإذن فإنّ هذا المصطلح يشير إلى عنصرين في تحقّق وصف الأقلّية هما: القلّة العددية لمجموعة ما تعيش في مجتمع أوسع، والتميّز دون سائر ذلك المجتمع بخصوصيات أصلية في الثقافة أو في العرق(1).
__________
(1) راجع في شرح هذا المصطلح: يوسف القرضاوي ـ في فقه الأقلّيات المسلمة:25(1/37)
وفي تحديد مصطلح الأقلّيات المسلمة المقصود في هذا المقام ربّما تعترض بعض المشكلات، فاللّفظ بظاهره حينما يندرج في المصطلح العامّ للأقلّيات يكون دالاّ على مدلول عددي، ومدلول تميّز ثقافي، فيصبح المعنى المقصود بالأقلّيات المسلمة تلك المجموعة من الناس التي تشترك في التديّن بالإسلام، وتعيش أقلّية في عددها ضمن مجتمع أغلبه لا يتديّن بهذا الدين، وممّا يتوجّه إلى هذا المصطلح من وجوه الاستفسار: هل تُعتبر من الأقلّيات المسلمة تلك الأقلّيات العددية التي قد تكون هي النافذة في مجتمع غير مسلم، بحيث يكون بيدها السلطان السياسي الذي تحقّق به سيادة القانون الإسلامي على عموم المجتمع؟ وهل تُعتبر من الأقلّيات المسلمة تلك المجموعة المسلمة التي هي من حيث العدد أكثرية، ولكنّها تعيش في مجتمع تكون فيه مجموعة أخرى غير مسلمة هي النافذة بحيث تسيطر على الحكم وتطبّق من خلاله قانونا غير إسلامي على سائر المجتمع؟
إنّ الإجابة على هذه المشكلات ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار أيضا طبيعة الصفة الإسلامية في خصوصيتها من بين سائر الأديان، إذ المسلم لكي تتحقّق صفته الإسلامية ينبغي أن يحكم الإسلام كلّ وجوه حياته الفردية والاجتماعية، وهو ما يجعل علاقة القانون العامّ الذي ينظّم الحياة ميزانا أصليا في تحقّق الصفة الإسلامية أو عدم تحقّقها، بينما غير المسلمين يمكن أن يتحقّقوا بصفة دينهم إذا ما تديّنوا به في خاصّة النفس مهما يكن القانون العامّ الذي يطبّق عليهم.(1/38)
إذا ما أضفنا هذا إلى ذاك أصبح مصطلح الأقلّيات المسلمة مصطلحا ذا خصوصية بين نظائره من المصطلات، إذ يصبح القانون العامّ الذي يُطبّق في المجتمع الذي توجد به الأقلّية عنصرا مهمّا في تحديد مفهوم هذا المصطلح، فيكون إذا مصطلحا ينطبق على تلك المجموعة من المسلمين التي تعيش في مجتمع تُطبّق فيه قوانين غير إسلامية من قِبل سلطات حاكمة غير إسلامية، أو تسود فيه لسبب أو لآخر ثقافة وأعراف وتقاليد غير إسلامية. وعلى هذا الاعتبار يدخل في مفهوم الأقلّية المسلمة تلك الأكثرية المسلمة في مجتمع يخضع لقانون وثقافة غير إسلامية إذا كانت تلك الأكثرية مغلوبة في أمرها على ذلك النمط من الحياة، ومن باب أولى أن يدخل فيه الأقلّية الخاضعة لنظام غير إسلامي. وعلى هذا الاعتبار أيضا يخرج من مفهوم الأقلّية المسلمة تلك الأقلّية التي يكون لها نفوذ يسود به القانون الإسلامي والثقافة الإسلامية في المجتمع الذي تعيش فيه، كما يخرج منه أيضا المسلمون الأكثرية إذا كانوا يخضعون لحكم من قِبل أنفسهم ولكن لا يُطبّق فيهم القانون الإسلامي إن جزئيّا أوكلّيا.(1/39)
ب ـ مصطلح فقه الأقلّيات: لا يتجاوز عمر هذا المصطلح حسبما نعلم بضعة عقود، ولا يتجاوز شيوعه في الاستعمال عقدا أو عقدين. ولعلّ منشأه كان مرتبطا بالجالية الإسلامية بالبلاد الغربية، إذ لمّا تكاثرت هذه الجالية بأوروبا وأمريكا، وبدأت حياتها تنتشر وعلاقاتها تتشعّب، وبدأت تشعر بكيانها الجماعي ذي الخصوصية الدينية في مهجرها الذي يعيش فيه مجتمع غير إسلامي، وتسود فيه ثقافة وقوانين غير إسلامية، إذ ذاك بدأت تتوق إلى أن تنظّم حياتها الفردية والجماعية على أساس من دينها، ولكن وجدت أنّ وجوها كثيرة من تلك الحياة لا يفي بتوفيقها إلى أحكام الدين ما هو متداول معروف من الفقه المعمول به في البلاد الإسلامية، إمّا لأنّه لا يناسب أوضاعا مخالفة للأوضاع الموجودة بالبلاد الإسلامية، أو لأنّه لا يغطّي أوضاعا انفردت بها حياتهم بالمهجر، فأصبحت هناك ضرورة لفرع فقهي جديد يختصّ في معالجة حياة هذه الأقلّية أُطلق عليه اسم فقه الأقلّيات.
وليس فقه الأقلّيات بمنعزل عن الفقه الإسلامي العامّ، ولا هو مستمدّ من مصادر غير مصادره، أو قائم على أصول غير أصوله، وإنّما هو فرع من فروعه، يشاركه ذات المصادر والأصول، ولكنّه ينبني على خصوصية وضع الأقلّيات، فيتّجه إلى التخصّص في معالجتها، في نطاق الفقه الإسلامي وقواعده، استفادة منه وبناء عليه، وتطويرا له فيما يتعلّق بموضوعه، وذلك سواء من حيث ثمرات ذلك الفقه من الأحكام، أو من حيث الأصول والقواعد التي بُنيت عليها واستُنبطت بها.(1/40)
فمن حيث ثمرات الفقه من الأحكام فإنّ فقه الأقلّيات ينبني جسمه الأكبر على تلك الثمرات، إذ القدر الأكبر منها متعلّق بما هو ثابت تشترك فيه أوضاع المسلمين مهما تغايرت ظروفها في الزمان والمكان، ولكن مع ذلك فإنّه يعمد إلى اجتهادات كانت مرجوحة، أو غير مشهورة، أو متروكة لسبب أو آخر من أسباب الترك، فيستدعيها، وينشّطها ويحييها، لما يُرى فيها من مناسبة لبعض أوضاع الأقلّية المسلمة تتحقّق بها المصلحة، فيعالج بها تلك الأوضاع، في غير اعتبار لمذهبية ضيّقة، أو عصبيّة مفوّتة للمصلحة، ما دام كلّ ذلك مستندا إلى أصل في الدين معتبر.
ومن حيث الأصول والقواعد، يعمد هذا الفقه إلى استعمال القواعد الفقهية والمبادئ الأصولية ما يُرى منها أكثر فائدة في توفيق أحوال الأقلّية إلى حكم الشرع، ويوجّهها توجيها أوسع في سبيل تلك الغاية، وربّما استروح من مقاصد الشريعة ما يستنبط به قواعد اجتهادية لم تكن معهودة في الفقه الموروث، فيدخلها في دائرة الاستخدام الاجتهادي في هذا الفقه، أو يعمد إلى قواعد كانت معلومة ولكنّ استعمالها ظلّ محدودا جدّا، فينشّط العمل بها في استخدام واسع تقتضيه طبيعة أوضاع الأقلّيات المسلمة، ليتحصّل من ذلك كلّه فقه للأقلّيات ينبني على الفقه الإسلامي المأثور، ويتّجه بخصوصية في هذا الشأن، يضيف بها فقها جديدا يكون كفيلا بمعالجة هذا الوضع الجديد(1).
__________
(1) راجع في ذلك : طه جابر العلواني ـ مدخل إلى فقه الأقلّيات ( بحث مخطوط ).(1/41)
ونحسب أنّ من بين أهمّ ما يمكن أن يُستفاد منه في فقه الأقلّيات من الأصول الفقهية أصل اعتبار المآلات؛ وذلك لأنّ هذا الأصل كما مرّت الإشارة إليه مبنيّ على تعديل الحكم الشرعي المتعلّق بفعل من الأفعال إذا لم يكن محقّقا لمقصده فيه إلى حكم آخر يحقّق فيه مقصده، وقد ذكرنا آنفا أنّ الحكم الشرعي إنّما يتخلّف تحقّق مقصده عند إجراء الفعل عليه بأسباب تعود في الغالب إلى خصوصية تطرأ على ذلك الفعل تكون مانعة من تحقيق الحكم لمقصده فيه. وأحوال الأقلّيات المسلمة هي أحوال مشبعة بالخصوصيات المتنوّعة بالنسبة لأحوال المسلمين في أوضاعهم العادية، وذلك ما يجعل معالجتها بالأحكام الشرعية الأصلية الموضوعة لأجناسها كثيرة الأيلولة فيها إلى غير مقاصدها، ممّا يحتّم أن تُعالج بشكل موسّع بأحكام تُبنى على اعتبار المآلات لتحقيق مقاصد الشريعة. ويتبيّن هذا الأمر بوضوح من خلال تبيان وجوه الخصوصية في أحوال الأقلّيات المسلمة، ثمّ بتبيان وجوه تأثير تلك الخصوصيات في المآلات لتكون معتبَرا في المعالجة الفقهية، ومن ذلك يتّضح الدور الكبير لهذا الأصل الفقهي في إثراء فقه الأقلّيات وتنميته وتطويره.
2 ـ خصوصية أوضاع الأقلّيات:
الأقلّيات المسلمة بالغرب على وجه الخصوص تكوّنت في أساسها بموجة من الهجرات من البلاد الإسلامية عبر مراحل متتالية من القرن العشرين، ولم يكن المنضمّون إليهم من الذين أسلموا من أهل الغرب إلاّ أعدادا قليلة بالنسبة لعدد المهاجرين. وقد كان أغلب هؤلاء المهاجرين إلى أوروبا على وجه الخصوص من طبقة العمّال، ثمّ انضمّ إلى العمّال طلبة العلم، ثمّ انضمّ إليهم المضطهدون السياسيون، ثمّ انضمّ إليهم أعداد من العقول المهاجرة، وبالتراكم الزمني أصبح لهؤلاء المهاجرين أبناء وأحفاد شكّلوا ما يُعرف بالجيل الثاني وأصبح الآن الجيل الثالث قيد التشكّل.(1/42)
إنّ القاعدة العريضة للأقلّيات المسلمة بالغرب هي قاعدة مهاجرة بدوافع الحاجة، إمّا طلبا للرزق، أو طلبا للأمن، أو طلبا للعلم، أو طلبا للظروف المناسبة للبحث العلمي، فكان هذا الوجود الإسلامي بالغرب هو في عمومه وجود حاجة لا وجود اختيار، وليست فكرة المواطنة التي تشير إلى ضرب من الاختيار إلاّ تطوّرا لا يتجاوز عمره سنوات قليلة، وهي فكرة لم يعتنقها بعد القسم الأكبر من الأقلّية المسلمة بالغرب. وبالإضافة إلى ذلك فإنّ هذه الأقلّية جاءت تحمل معها هويّتها الثقافية، وقد ظلّت محافظة عليها بشكل أو بآخر من أشكال المحافظة، وهي بذلك وجدت نفسها في خضمّ ثقافة غربية مغايرة لثقافتها، بل مناقضة لها في بعض مفاصلها الهامّة، وليست هذه الهويّة في مستكنّ المسلم هي مجرّد هويّة انتماء شخصي، بل هي أيضا هويّة تعريف وتبليغ وعرض في بعدها الديني والحضاري. ومن هذه العناصر المتعدّدة في وجود الأقلّية المسلمة بالغرب تكوّنت الخصوصيات العديدة، التي يمكن أن نبرز أهمّها فيما يلي:
أ ـ خصوصية الضعف: تتّصف الأقلّيات المسلمة بصفة عامّة بصفة الضعف التي لا تكاد تفارق أيّة أقلّية إسلامية في العالم، وإذا كانت حال الضعف حالا ملازمة للأكثر من الأقلّيات في العالم، إلاّ أنّها ليست حالا لجميعها، بل من الأقلّيات من هي على حال من القوّة تفوق قوّة الأكثرية التي تعيش بينها، ولكنّ الأقلّيات المسلمة تفوق في حال ضعفها الأكثر من الأقلّيات في العالم لأسباب متعدّدة سنذكر بعضها لاحقا.(1/43)
ويبدو هذا الضعف أوّل ما يبدو في الضعف النفسي، فهذه الأقلّيات هي في أغلبها منتقلة من أوساطها إلإسلامية إلى وسط ثقافي واجتماعي وحضاري غريب عنها، وهذه النقلة إلى مناخ غريب من شأنها لا محالة أن تحدث في النفس شعورا بالغربة الثقافية والاجتماعية، فالمنبت في المجال الإنساني كما في المجال الطبيعي هو دائما مبعث للشعور بالاطمئنان النفسي المتأتّي من الانسجام مع المحيط، والهجرة في المجالين أيضا مبعث للشعور بضرب من القلق النفسي جرّاء عدم الانسجام مع المحيط الجديد إلى أن يتطاول العهد، وينشأ الانسجام. والشعور بالاغتراب والقلق هو ضرب من الضعف النفسي.
وينضاف إلى هذا المظهر من مظاهر الضعف النفسي ما يستكنّ في نفوس الأقلّيات المهاجرة من شعور بالدونية الحضارية أو المغلوبية الحضارية، فالمهاجرون المسلمون إلى الغرب وهم أكثر الأقلّية انتقلوا من مناخ حضاري متخلّف في وسائله المادّية والإدارية، إلى مناخ حضاري باهر التقدّم في ذلك، وهذه النقلة بين المناخين مع ما يصحبها من مقارنة دائمة تسفر عن تبيّن استمرارية دائمة في الفوارق من شأنها لا محالة أن تشيع في النفوس شعورا نفسيا بالدونية والانهزام، وذلك ضرب من ضروب الضعف النفسي.
وينضاف إلى ذلك الضعف النفسي ضعف اقتصادي، إذ الأقلّية المسلمة في أوروبا على وجه الخصوص هي من أكثر الأقلّيات ضعفا اقتصاديا، إذ هي في أكثرها من اليد العاملة أو من الحرفيين، أو من الموظفين في قلّة قليلة، وكلّ أولئك هم على حافّة الكفاية إن لم تكن حافّة الكفاف، وهو ما انعكس على طريقة الحياة كلّها من السكن وسائر المرافق الأخرى، كما انعكس أيضا بصفة سلبية على قدرة هذه الأقلّية على تطوير نفسها وتحقيق برامجها وأهدافها التربوية والثقافية والاجتماعية، وقدرتها على الاندماج في الحركة الحضارية والاستفادة منها الاستفادة المثلى.(1/44)
ومن مظاهر الضعف أيضا الضعف السياسي والاجتماعي، فبالرغم من أنّ عددا كبيرا من الأقلّية المسلمة أصبح من المواطنين الأوروبيين، إلاّ أنّ المشاركة السياسية لهؤلاء ما تزال ضعيفة جدا، إن لم تكن معدومة، فالتأثير السياسي الذي من شأنه أن ينشأ عن تلك المشاركة هو أيضا على غاية من الضعف، ولذلك فإنّ هذه الأقلّية يكاد لا يكون لها اعتبار يُذكر في القرار السياسي في البلاد التي تعيش فيها، وكذلك الأمر بالنسبة للوضع الاجتماعي، فليس لهذه الأقلّية مؤسّسات اجتماعية ذات أهمّية وتأثير لا من حيث الكمّ ولا من حيث الكيف، واندماجها في المؤسّسات الاجتماعية العامّة اندماج ضعيف لا يكاد يُلحظ له أثر، ومحصّلة ذلك كلّه أن الأقلّية المسلمة بالغرب هي من الضعف السياسي والاجتماعي بحيث يكاد لا يُلمح لها وجود، ولا يكون لها أثر، وشتّان في ذلك بينها وبين أقلّيات أخرى أقلّ منها بكثير عددا، ولكنّها لقوّتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية ترى آثارها فتحسبها هي الأغلبية وليست الأقلّية. وهذا الوضع من الضعف المتعدّد الوجوه ينبغي أن يكون ملحَظا معتَبرا عند النظر في المآلات لإثراء فقه الأقلّيات.
ب ـ خصوصية الانضباط القانوني: البلاد الغربية بصفة عامّة يحظى فيها القانون باحترام كبير، سواء في الحسّ الجماعي، أو في دوائر التنفيذ؛ ولذلك فإنّ سيادة القانون فيها يُعتبر أحد الثوابت التي بُنيت عليها ثقافتها وحضارتها، ومن ثمّة فإنّ أيّما فرد أو مجموعة انتمى إلى هذه البلاد، سواء بالإقامة أو بالمواطنة، فإنّه سيصبح تحت سيادة القانون السيادة الكاملة، مهما كان وضعه العرقي أو الديني أو الثقافي.(1/45)
والقانون في هذه البلاد مبنيّ على ثقافة المجتمع ومبادئه وقيمه، وهو منظّم للحياة العامّة على أساس تلك الثقافة والمبادئ والقيم؛ ويطبّق هذا القانون على الأقلّية المسلمة كما يُطبّق على سائر أفراد المجتمع من مواطنين ومقيمين، وهو تطبيق يمتدّ من أحوال الفرد إلى أحوال الأسرة إلى أحوال المجتمع بأكمله في قدر كبير من الصرامة النظرية والتطبيقية، بحيث يكاد لا يترك استثناء لخصوصية فرد أو مجموعة تمارس فيها تلك الخصوصية خارج سلطان القانون، وهو ديدن الدولة الحديثة في السيطرة الإدارية المحكمة على المجتمع، وإن تكن تلك السيطرة بتفويض من المجتمع نفسه.
في هذا الوضع تجد الأقلّية المسلمة نفسها ملزمة بالخضوع للقانون، وتطبيقه في حياتها حيثما يكون له تدخّل في تلك الحياة، وخاصّة ما كان يتعلّق بالعلاقات العامّة بين الأفراد والجماعات، أو بينهم وبين الدولة، والحال أنّ تلك القوانين كثير منها يخالف المبادئ الدينية والثقافية التي تكوّن هويّتها، وتشكّل التزامها العقدي، وهكذا ينتهي الأمر إلى سيادة قانونية على حياة الأقلّية معارضة في كثير من الأحيان لقوانين هويّتها، فإذا هي ملزمة بالخضوع لتلك القوانين، أو هي إذا كان الموقف موقف خيار بين الدخول في معاملات يحكمها القانون وبين عدم الدخول فيها فإنّ عدم الدخول يحرمها أحيانا كثيرة من ميزات مادّية وأدبية يتمتّع بها سائر أفراد المجتمع، وهو ما يعطّل كثيرا من مصالحها، ويعرقل من سبل تقدّمها.(1/46)
إنّ هذه السيادة القانونية على الأقلّية المسلمة المعارضة في كثير من محطّاتها لضميرها الديني والتزامها العقدي تمثّل وضعا خاصّا لهذه الأقلّية من بين أوضاع عامّة المسلمين، فالمسلم وضعه الأصلي أن يكون خاضعا لسيادة القانون الإسلامي، والتكاليف الدينية التي كلّف بها إنّما كلّف بها باعتباره يعيش تحت سيادة ذلك القانون، إذ تلك التكاليف هي في أغلبها ذات بعد جماعي كما هي الطبيعة الجماعية للدين الإسلامي، فإذا ما وجد المسلم نفسه ضمن مجموعة من المسلمين هي تلك الأقلّية موضوع البحث، ووجد أنّه ملزم بأن يكون تحت سيادة غير سيادة القانون الإسلامي الذي هو الوضع الطبيعي لتنظيم حياته الجماعية، فإنّه سيجد نفسه لا محالة في تناقض بين واقعه وبين مقتضيات هويّته الجماعية، وهو ما يمثّل ظرفا خاصّا في حياة الأقلّية المسلمة بالبلاد الغربية على وجه الخصوص يقتضي أن يؤخذ بعين الاعتبار في الاجتهاد الفقهي في شؤونها.
ج ـ خصوصية الضغط الثقافي: تعيش الأقلّيات المسلمة في مناخ مجتمع ذي ثقافة مخالفة لثقافتها في الكثير من أوجه الحياة، وهي تجد نفسها في مواجهة مباشرة مع تلك الثقافة في كلّ حين وفي كلّ حال، فمن الإعلام، إلى التعليم، إلى العلاقات الاجتماعية، إلى المعاملات الاجتماعية، إلى المعاملات الاقتصادية والإدارية، إلى المناخ العامّ في الشارع من عادات وتقاليد وتصرّفات فردية واجتماعية، بحيث تطغى تلك الثقافة على أحوال المسلم أينما حلّ، بل تطغى عليه حتى داخل بيته.(1/47)
وممّا يزيد من سطوة تلك الثقافة على الأقلّية المسلمة أنّ هذه الأقلّية لم تنتظم أمورها الاجتماعية بحيث تكون لها فضاءات خاصّة بها، تسود فيها ثقافتها، فتخفّف بذلك من سطوة الثقافة الغربية عليها، ففي فرنسا يعيش أكثر من خمسة ملايين مسلم، ولكن ليس لهم مدرسة واحدة منتظمة كامل أيام الأسبوع تمثّل فضاء ثقافيا خاصّا بهم يخفّف عن أبنائهم ما يتعرّضون له من غلبة الثقافة الاجتماعية السائدة، ناهيك عن النوادي والمؤسّسات الترفيهية إذا ما استثنينا المساجد والمراكز الدينية.
إنّ هذه الثقافة المغايرة التي تتعرّض لها الأقلّية المسلمة في بلاد الغرب بوجوهها المختلفة، وبوسائلها الجذّابة المغرية، وبطرق إنفاذها المتقنة، تسلّط ضغطا هائلا عليها، وبصورة خاصّة على أجيالها الناشئة، وهذا الضغط يصطدم بالموروث الثقافي الذي تحمله هذه الأقلّية إن بصفة ظاهرة معبّرة عن نفسها أو بصفة مضمرة مختزنة، وفي كلّ الصور يحصل من ذلك تدافع بين الثقافتين، وينتهي هذا التدافع في الغالب إمّا إلى الانسلاخ من الثقافة الأصل والذوبان في الثقافة المغايرة، أو إلى التقوقع والانزواء اعتصاما بذلك من الابتلاع الثقافي، أو إلى ردّ الفعل العنيف على هذه السطوة الثقافية يجد له تعبيرات مختلفة من جيل الشباب على وجه الخصوص.(1/48)
ومهما يكن من ردّ فعل على هذه السطوة الثقافية فإنّها تحدث في نفوس الأقلّية المسلمة وبالأخصّ في نفوس الشباب منها ضربا من الاضطراب والقلق في الضمير الفردي والجماعي على حدّ سواء، وهو ما يصبغ الحياة العامّة للأقلّية بصبغة التأرجح التي ينتفي معها وضع الاستقرار النفسي والجماعي، فلا هذه الأقلّية اندمجت في جسم المجتمع الذي تعيش فيه حتى صارت خيوطا من نسيجه، ولا هي كوّنت هيكلا متجانسا يتفاعل مع المجتمع من منطلق تلك الهيكلية المتماسكة فيما بينها كما هو شأن الأقلّيات في بعض البلاد الآسيوية مثل الهند، وهو وضع يكتسب من معنى الخصوصية ما ينبغي أخذه بعين الاعتبار في فقه الأقلّيات.
د ـ خصوصية الوصل الحضاري: مهما يكن من وضع الأقلّية المسلمة بالغرب من قوّة أو ضعف، ومن استقرار أو اضطراب، فإنّ مجرّد وجود هذا العدد الكبير من المسلمين بالبلاد الغربية يُعتبر ضربا من الصلة الحضارية بين الحضارة الإسلامية مهما يكن تمثيلها ضعيفا وبين الحضارة الغربية المستقرّة، فالمسلمون الذين هاجروا إلى هذه البلاد لا يمثّلون مجرّد كمّية بشرية انتقلت من مكان إلى مكان شأن كثير من الهجرات التي تقع قديما وحديثا، وإنّما هجرتهم تحمل معها دلالة حضارية، وهي دلالة تتأكّد باطّراد بارتقاء نوعية المهاجرين وتعزّز تلك النوعية بهجرة العقول وتمكّن المهاجرين في مواقعهم العلمية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية على وجه العموم.(1/49)
وإنّما كان الأمر كذلك من بين كثير من الأقلّيات المشابهة في وجودها بالغرب للأقلّية المسلمة لأنّ هذه الأقلّية تحمل معها ميراثا حضاريا ضخما، لئن لم يكن حاضرا الحضور البيّن الفاعل في واقع التدافع الحضاري، إلاّ أنّه حيّ في النفوس، مختزن فيها بقيمه ومبادئه الروحية، وبرؤيته في تفسير الوجود وتنظيم الحياة، وبتاريخه في الممتدّ لألف ونصف من الأعوام، فهذا الميراث لم يتركه المهاجرون إلى البلاد الغربية خلف البحار ليصلوا إليها غفلا من التشكّل الحضاري، بل أولئك الذين نشأوا بهذه البلاد من الجيل الثاني والثالث لم يكونوا كذلك أيضا، وإنّما هم يحملون أقدارا من ذلك الميراث منحدرا إليهم من الانتماء الأسري ومن الانتماء الحضاري العامّ، ومهما بدا في الظاهر أحيانا من ملامح التخلّص من هذا الميراث كما هو متمثّل في بعض مظاهر التنصّل من مقتضيات ذلك الميراث الحضاري فإنّه ليس إلاّ مظاهر سطحية أمّا الضمير فهو مختزن لذلك الميراث.
وبالإضافة إلى ذلك فإنّ هذا الميراث الحضاري الذي تحمله الأقلّية المسلمة ليس ميراثا طبيعته الانكفاء والسكون، وإنّما طبيعته الظهور والعرض؛ وذلك لما انبنى عليه من أصول عقدية توجب على حاملها في ذاتها وحامل مقتضياتها الحضارية أن يعرّف الناس بها، وأن يعرضها عليهم عرض بيان واختيار، عسى أن يجدوا فيها من الخير ما يقنعهم فيأخذون به، فيعمّ إذن نفعه، ولا يبقى حكرا على أصحابه، وذلك هو معنى الشهادة على الناس التي تضمّنها قوله تعالى: " وكذلك جعلناكم أمّة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا" ( البقرة/ 143).(1/50)
ومن جهة أخرى فإنّ هذه الأقلّية المسلمة ليس وجودها بمهجرها وجود انبتات عن الجسم الأكبر لأمّتها، وإنّما هو وجود انتماء إليها وتواصل معها مهما شطّ بها المكان، ونأى بها المقام، ومهما اتّخذت لها من مجتمعاتها الجديدة موطن تفاعل واستقرار، ويقتضي هذا الانتماء والتواصل بمقتضى امتزاجها بالحضارة الغربية امتزاج عيش يومي، ووقوفها عليها وقوفا عن كثب أن تكون أيضا واسطة اقتباس لما هو خير في هذه الحضارة في وجوهها المادّية والمعنوية لتبلّغها إلى أمّتها الإسلامية قصد تعريفها بها، والانتفاع منها في بناء نهضتها.
يتحصّل من ذلك إذن أنّ الأقلّية المسلمة في أيّ موقع وجدت فيه بصفة عامّة، وفي موقعها بالبلاد الغربية بصفة خاصّة تمثّل حلقة وصل حضاري بين حضارتين، ومن مهامّها باعتبار ذلك الموقع أن تقوم بدور تنقل فيه المنافع النظرية من قيم ومبادئ تشرح الوجود وتبيّن الحياة، والمنافع العملية في وجوهها المختلفة من طرف إلى آخر، وأن تعمل على تأكيد معنى التعارف الحضاري بين العالم الإسلامي والعالم الغربي، لتكون سببا من أسباب العمل على البناء الحضاري المشترك لما فيه خير الإنسان، وبهذا الموقع الذي هي فيه، وهذا الدور المناط بعهدتها تكتسب خصوصية ينبغي اعتبارها في فقه الأقلّيات.
3 ـ تأثير خصوصيات الأقلّيات على المآلات:(1/51)
التشريع الإسلامي مبنيّ في عمومه على أساس من الوضع العادي لوجود المسلمين أمّة خاضعة لسلطان هذا التشريع؛ ولذلك فإنّ الخطاب التكليفي الوارد في القرآن والسنّة يرد موجّها في أغلب الأحوال بصيغة الجمع التي تعني جماعة المسلمين أو الأمّة الإسلامية بما يحمله ذلك من معنى الانتظام وفق قانون جامع هو القانون الإسلامي، وذلك في مثل قوله تعالى:"ولا تأكُلُوا أموالكم بينَكم بالباطلِ وتُدلوا بها إلى الحُكَّامِ" ( البقرة/188)، وقوله تعالى:" والسارقُ والسارقَةُ فاقطَعُوا أَيدِيَهما" ( المائدة/38)، فالحكم بمنع أكل الأموال بالباطل، والحكم بعقوبة السرقة وُجّه الخطاب التكليفي بهما إلى المسلمين باعتبارهم أمّة تطبّق فيهم هذه الأحكام، وليس باعتبارهم أفرادا لا يخضعون لسلطة الأمّة(1).
ويعني هذا المعنى أنّ المقاصد التي وضعت من أجلها هذه الأحكام هي مقاصد مبنيّة في إمكانية تحقّها وإتيانها ثمارها من المصالح على اعتبار ذلك المعنى الجماعي في التكليف الذي يقوم على سيادة القانون الإسلامي، فبما أنّها أحكام تتعلّق بوضع معيّن للمسلمين هو وضع الجماعة التي يحكمها القانون الإسلامي، فإنّ المقصد منه قُدّر على ذلك الأساس، فيكون إذن متحقّقا في حال تطبيق الحكم الموضوع له على ذلك الوضع، فإذا ما طُبّق على وضع آخر فإنّ المقصد قد لا يكون له تحقّق.
__________
(1) تندرج ضمن هذا المعنى الأحكام ذات الصبغة الجماعية، وهي أكثر الأحكام الإسلامية، وذلك لا يمنع أنّ أحكاما كثيرة يخاطب المسلم بها الفرد في أيّ وضع كان فيه، وخاصّة تلك المتعلّقة بالعبادات والمبادئ الأخلاقية.(1/52)
إنّ الخصوصيات التي شرحناها آنفا خصوصياتٍ ممبّزة لوضع الأقلّيات المسلمة من شأنها أن تجعل تلك الأقلّيات وهي في وضعها الخاصّ لا تتحقّق فيها مقاصد كثير من الأحكام التي خُوطبت بها الأمّة في وضعها أُمّةً قائمة، إذ تلك الخصوصيات تكون في بعض الأحيان عائقا دون تحقّق المقاصد المبتغاة من أحكامها، وذلك ما ينبغي أن يكون مناطا للاجتهاد الفقهي ذا أهمّية بالغة في المعالجة الفقهية لأحوال الأقلّيات، وهو ما من شأنه أن يثرى به فقه الأقلّيات، ويتطوّ، فيساهم في إنضاج مسيرته وبناء هيكله.
ليس في التشريع الإسلامي من النصوص المباشرة ما هو متعلّق بأحوال الأقلّيات سوي القليل، وليس في الفقه الإسلامي ما يتعلّق بذلك أيضا إلاّ ما هو قليل أيضا؛ فالفقه إنّما كان يعالج في الأكثر أحوال الواقع، ولم تكن الأقلّيات المسلمة في عهد الازدهار الفقهي واقعا ذا شأن بحيث تُعالج أوضاعه باجتهاد فقهي واسع، فلمّا أصبحت تلك الأقلّيات واقعا ملحوظا كما هو حال المسلمين الباقين بالأندلس بعد سقوطها، كان الفقه الإسلامي قد تراجع مدّه، فلم يكن له من قوّة الدفع ما يعالج به ذلك الوضع، وهذه المحصّلة من شأنها أن تجعل الاجتهاد في وضع الأقلّيات أكثر صعوبة، وأبعد موردا.
وفيما يتعلّق بموضوع الحال الذي هو كيفية استعمال مبدإ اعتبار المآلات مبدأ اجتهاديا لمعالجة أحوال الأقلّيات، فلعلّ أوّل ما ينبغي النظر فيه من ذلك هو تبيّن كيف أنّ خصوصيات الأقلّية المسلمة تؤثّر على مآلات الأفعال، فتجعل بعض الأحكام الشرعية لا تتحقّق مقاصدها عند تطبيقها على أحوال الأقلّيات، لما يقتضي ذلك من اعتبار لهذه المآلات فتقدّر إذن في حقّها أحكام أخرى من شأنها تحقيق مقاصدها. فكيف تؤثّر خصوصيات الأقلّيات المسلمة في مآلات الأفعال لتقدّر لها الأحكام المناسبة؟(1/53)
أ ـ التأثير بخصوصية الأقلّية: إنّ أحكام الشريعة تتفاوت من حيث توجّهها بالتكليف إلى المسلمين باعتبارهم أفرادا، أو توجّهها إليهم باعتبارهم جماعة، وقد ارتبطت مقاصدها بحسب ذلك التوجّه التكليفي فيما إذا كان فرديا أو جماعيا. فمنها ما شرّع ليعمل به كلّ مسلم على سبيل العينية، وبني المقصد منه على ذلك التطبيق العيني، وذلك مثل أحكام العبادات وأحكام المنع في السرقة والخمر والزنا وأمثالها، فأيّما تطبيق فردي لهذه الأحكام تحصل منه المصلحة التي وضع من أجلها في ذات الأفراد المطبّقين لها، وفي المجتمع الذي يعيشون فيه.
ومن الأحكام ما شرّع ليعمل به كلّ فرد من أفراد المسلمين ولكن في نطاق تطبيق جماعي من قِبل الهيئة العامّة للمجتمع، فارتبط مقصده بقدر من الأقدار بذلك التطبيق الجماعي، بحيث لو أصبح نظاما عامّا يوجّه حياة الجماعة تحقّقت منه المصلحة المقصودة، أمّا لو عمل به قلّة من الأفراد دون الهيئة الاجتماعية العامّة فإنّ مقصده لا يتحقّق على الوجه الذي أريد منه، وهو المصلحة الجماعية العامّة، وإن كان تطبيقه الفردي قد لا يخلو من بعض المصلحة التي شرّع من أجلها. وهذا النوع من الأحكام هو في الغالب ذلك الذي يعالج تلك العلاقات المتشابكة بين أفراد المجتمع بحيث لا يظهر أثرها فيها بيّنا إلاّ إذا أصبحت نظاما عامّا للجماعة، وذلك مثل بعض المعاملات الاقتصادية، ومعاملات التكافل الاجتماعي.
بل إنّ بعض الأحكام الشرعية ارتبط تشريعها أساسا بالتطبيق الجماعي، على معنى أنّها فرضت على الجماعة المسلمة ولم تفرض على الأفراد من المسلمين، فإذا ما تيسّر تطبيقها من قِبل الجماعة تعيّن وجوبها، وإذا ما لم يتيسّر ذلك لم تكن واجبة في حقّ الأفراد، فيرتبط إذن مقصدها بالتطبيق الجماعي على وجه الحصر، وذلك مثل تطبيق الحدود الشرعية، فإنّه مفروض على الجماعة ممثّلة في السلطة الحاكمة، فإذا ما لم تتوفّر تلك السلطة سقط التطبيق عن أفراد المسلمين.(1/54)
وبناء على ذلك فإنّ الأقلّية المسلمة هي باعتبار خصوصية أقلّيتها من حيث ذاتها ستكون عاملا مؤثّرا على مآلات الأفعال؛ ذلك لأنّ بعض الأحكام الشرعية ذات البعد الجماعي في التكليف إذا ما طُبّقت على هذه الأقلّية دون أن يكون تطبيقها عامّا في المجتمع الذي تعيش فيه وترتبط به ارتباطا وثيقا في معاملاتها ـ إذ ذلك غير ممكن وغير مطلوب ـ فإنّ ذلك التطبيق الذي يتمّ في حقّ أقلّية من أفراد المجتمع وهي الأقلّية المسلمة سوف لن يتحقّق منه المقصد المطلوب، إذ هو مقصد مرتبط بالتطبيق الجماعي، فتكون إذن خصوصية الأقلّية من حيث ذاتها عاملا مؤثّرا في مآلات الأحكام.
ومن أمثلة ذلك تطبيق حكم المنع في التعامل الربوي، فهذا التعامل إنّما حرّمه الشارع لما يفضي إليه من مفاسد جمّة في الاقتصاد العامّ للمجتمع الذي يشيع فيه، ممّا يعود بالضرر على مجمل العلاقات بين الناس في بعدها الاقتصادي والاجتماعي، من حيف في توزيع الثروة، ومن أكل للأموال بالباطل، ممّا ينشأ عنه الكثير من أسباب الفرقة الاجتماعية، فإذا ما طُبّق هذا الحكم بالمنع على المجتمع فصار تطبيق ذلك نظاما عامّا له تحقّق المقصد منه باتّقاء عواقبه الفاسدة، وأمّا لو طُبّق على أفراد من المجتمع أو على فئة قليلة منه فإنّ ذلك التطبيق سوف لن يحقّق المقصد الذي هو ذو طابع اجتماعي عامّ.(1/55)
ولعلّ ما ذهب إليه بعض الفقهاء الأحناف من تجويز للتعامل الربوي في الديار غير الإسلامية هو اجتهاد مبنيّ على هذا الملحظ(1)، إذ في هذه الديار التي لا يمكن فيها التطبيق الشامل لمنع التعامل الربوي لا يحصل فيها المقصد من ذلك المنع إذا ما طُبّق على أفراد من المسلمين أو على فئة قليلة منهم بالنسبة لأكثرية من المجتمع الذي يعيشون فيه غير ملزمة بتطبيق هذا المنع. وقد كانت الفتوى التي أصدرها المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث بجواز الاقتراض الربوي للأقلّيات المسلمة لشراء المساكن مرعيّا فيها هذا الأصل، إذ جاء في مبرّراتها القول: " إنّ المسلم غير مكلّف شرعا أن يقيم أحكام الشرع المدنية والمالية والسياسية ونحوها ممّا يتعلّق بالنظام العامّ في مجتمع لا يؤمن بالإسلام؛ لأنّ هذا ليس في وسعه، ولا يكلّف الله نفسا إلاّ وسعها، وتحريم الربا هو من هذه الأحكام التي تتعلّق بهويّة المجتمع، وفلسفة الدولة، واتّجاهها الاجتماعي والاقتصادي"(2).
__________
(1) راجع ذلك في: الجصاص ـ مختصر اختلاف العلماء : 2، والسرخسي ـ المبسوط: 14/ 56، وابن عابدين ـ حاشية ردّ المحتار: 186، وابن الهمام ـ فتح القدير: 300
(2) فتاوى المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث ـ المجموعة الثانية: 31 ( نسخة مخطوطة )(1/56)
يتبيّن إذن أنّ خصوصية الأقلّية في الأقلّيات المسلمة هي في ذاتها تمثّل عاملا من العوامل المؤثّرة في أيلولة بعض الأحكام الشرعية، إذ تلك الأحكام لمّا تكون متّجهة بالتكليف إلى الهيئة الاجتماعية العامّة، أو إلى الأفراد باعتبارهم مندرجين في تلك الهيئة، أو إلى الدولة باعتبارها ممثّلة للمجتمع، فإنّ مقصدها من المصلحة يكون مبنيا على ذلك المعنى من التطبيقي الجماعي، وإذن فإنّ التطبيق الجزئيّ على بعض الأفراد، أو على فئة قليلة من المجتمع سوف لا يكون منتهيا إلى تحقيق مقصدها، بل ربّما كان في بعض الحالات مفضيا إلى إلحاق ضرر بمن تُطبّق عليهم تلك الأحكام من الأفراد حينما لا يكون التطبيق عامّا(1). وهذا العامل المؤثّر في أيلولة الأفعال ينبغي أن يأخذه المجتهد في فقه الأقلّيات بعين الاعتبار في اجتهاده.
ب ـ التأثير بالسيادة القانونية: الأقلّيات المسلمة تعيش في مجتمعات يسود فيها قانون غير إسلامي، وهو قانون في كثير من فصوله يتناقض مع مقتضيات الأحكام الشرعية سواء في تنظيم الحياة الفردية أو الجماعية، ومن تلك القوانين ما يتعلّق بأحوال الأسرة كالزواج والطلاق والحضانة، ومنها ما يتعلّق بالعلاقات الاجتماعية كالتأمينات بمختلف أنواعها، ومنها ما يتعلّق بالحياة الاقتصادية كالمعاملات البنكية وما يتعلّق بها من المعاملات.
__________
(1) ممّا جاء بهذا الصدد في مبرّرات فتوى المجلس الأوروبي الآنفة الذكر أنّ المسلم في دار غير المسلمين " إذا لم يتعامل بهذه العقود التي يتراضونها بينهم [ ومنها العقد الربوي ] سيضطرّ إلى أن يعطي ما يُطلب منه، ولا يأخذ مقابله، فهو ينفّذ هذه القوانين والعقود فيما يكون عليه من مغارم، ولا ينفّذها فيما يكون عليه من مغانم، فعليه الغرم دائما وليس له الغنم، وبهذا يظلّ المسلم أبدا مظلوما ماليا بسبب التزامه بالإسلام، والإسلام لا يقصد أبدا إلى أن يظلم المسلم بالتزامه به" ( نفس المرجع والصفحة ).(1/57)
إنّ هذه السيادة القانونية هي ملزمة لكلّ من يتعامل بمعاملات تندرج تحت أوامر القانون ونهيه، على أنّ تلك المعاملات منها ما هو من الضروري لكلّ مسلم أو لأغلب المسلمين أن يدخلوا تحت طائلته كالإجراءات المدنية في العقود المختلفة، إذ ليس لأيّ فرد يعيش في هذه المجتمعات إلاّ أن يلج هذه المعاملات في ظرف مّا من ظروف حياته على الأقلّ، إن لم يكن باسترسال يومي أو شبه يومي، ومنها ما هو ليس كذلك، وللمسلم الاختيار في أن يتعامل به أو يبتعد عنه كالاقتراض الربوي وما في حكمه. ولكلّ من هذا وذاك إذا ما طُبّقت عليه أحكام الشريعة مآل قد يخالف إن قليلا أو كثيرا تحقيق مقاصدها منها.
أمّا المعاملات التي يكون المسلم ملزما بأن يتعامل بها سواء كان إلزاما من قِبل متطلّبات الحياة، أو إلزاما إداريا، من مثل المعاملات المدنية وبعض أنواع التأمينات، فإنّها حينما تكون مخالفة لمقتضيات الأحكام الشرعية، ويطُبّق عليها حكم المنع، فإنّ هذا التطبيق يؤول إلى مخالفات قانونية تأخذ أبعادا خطيرة في نظر السلطة الحاكمة كما في نظر الهيئة الاجتماعية، لما للقانون من هيبة ومن سطوة أيضا في البلاد الغربية، وإذن فإنّ المخالف للقانون يكون معرّضا نفسه لعقوبات قد تكون شديدة إذا ما كانت المخالفة جسيمة، وهو ما يؤدّي إلى ضرر كبير يلحق المخالف للقانون استجابة لأحكام الشريعة.(1/58)
وبالإضافة إلى هذا الضرر الذي يلحق مخالف القانون بصفته الفردية، فإنّ ضررا آخر يلحق المجموعة الإسلامية عامّة يتمثّل فيما يلحق بها من وصمة المخالفة للقانون، وهي وصمة من شأنها أن تُستتبع بنظرة تحقيرية استنقاصية إن لم تكن عدائية، وذلك من قِبل السلط الحاكمة من جهة، ومن قِبل الهيئة الاجتماعية من جهة أخرى، وذلك ما يكون سببا في الرفض لهذه المجموعة المخالفة للقانون رفضا نفسيا وشعوريا، وربّما إداريا وإجرائيا أيضا، كما يكون سببا في تبليغ صورة سيّئة عن الإسلام الذي تمثّله هذه الأقلّية المسلمة، وإذن فإنّ المآل الذي يؤول إليه هذا الضرب من الأفعال هو مآل مخالف لمقصد أحكامها منها.
وأمّا المعاملات التي يكون المسلم مخيّرا في التعامل بها، والتي هي إن اختارها وجدها جارية على خلاف الحكم الشرعي، وذلك من مثل الاقتراض الربوي، وتعاطي بعض ضروب الأعمال، واقتحام المجتمع بالمخالطة والمشاركة المتنوّعة المناحي، فهذه المعاملات إن طبّق عليها المسلم الحكم الشرعي بالامتناع عن الدخول فيها فإنّ ذلك قد يفضي إلى أحد مآلين كلّ منهما غير محقّق لمقصد ذلك الحكم الشرعي. أمّا أحد المآلين، فهو أنّ المسلم قد يكون غير ملزم بالقانون أن يدخل تحت معاملة مّا من المعاملات المخالفة للجكم الشرعي، ولكنّه يجد نفسه في حال اضطرار لذلك، فربّما انسدّت أمامه سبل العمل، فلا يجد إلاّ العمل في مواطن تروج فيها المحظورات بحكم الشريعة، وربّما انسدّت أمامه سبل التمويل لتحقيق مطلب ضروري كالسكن إلاّ سبل الاقتراض الربوي، وحينئذ إن امتنع عن هذه المعاملات تطبيقا للحكم الشرعي فإنّه سيجد نفسه في حرج شديد يتعلّق بضرورات الحياة.(1/59)
وأمّا المآل الثاني، فهو أنّ الامتناع عن كلّ المعاملات المحظورة شرعا قد تفضي بالمسلم إلى التخلّي عن الاستفادة ممّا يوفّره المجتمع الذي يعيش فيه من الامكانيات الكثيرة التي بنيت على محظورات شرعية، وخاصّة فيما يتعلّق بالتعامل المالي، فإذا هو ينخرط في المجتمع بما يقدّم له من أعمال قد تكون أحيانا بالغة الأهمّية مثلما تقدّمه العقول المهاجرة، وما يدفعه من الضرائب، وما يبذله أحيانا من تضحيات حتى بالنفس عند التجنيد العسكري، ولكنّه لا ينخرط فيه حين الاستفادة ممّا يقدّمه هذا المجتمع لأفراده من قروض وتسهيلات مختلفة، وهذا الانخراط في الغرم والانسحاب من الغنم من شأنه أن يضعف وضعية المسلمين كأفراد، وبالتالي وضعيتهم كجماعة، إذ هم لا يستفيدون ممّا يوفّره المجتمع من إمكانيات، وهو ما يمكن أن يؤدّي إلى أن تبقى الأقلّية المسلمة أقلّية هامشية، لا تتطوّر ولا تقوى في أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية.
إنّ المجتمعات الغربية بُنيت على نظام معيّن له أسسه وقوانينه وتراتيبه، ومن خلال ذلك النظام يتمّ التفاعل الاجتماعي العامّ بين الأفراد والمؤسّسات ومجمل المكوّنات الاجتماعية، ومن خلاله تتمّ حركة التطوّر والنموّ، إذ في نطاقه وبمقتضيات قوانيه تتمّ حركة الأخذ والعطاء، والإفادة والاستفادة تبادلا بين الأفراد ومجمل المجتمع، ومن بقي خارج ذلك النظام، غير منخرط فيه بالأخذ والعطاء، فإنّه سيبقى على هامش المجتمع، وسوف لن يستطيع أن يستفيد منه ما يقوى به ويتطوّر، فيكون إذن ذلك الضعيف الذي لا يؤثّر في المجتمع شيئا، إذ أسباب القوّة مرصودة ضمن نظامه، ولا تُكتسب إلاّ من خلال ذلك النظام.(1/60)
إنّ تطبيق أحكام الشريعة على الأقلّية المسلمة في قسم غير يسير من المجال الاجتماعي والاقتصادي قد تنتهي إذن في بعض الأحيان بحكم ما تقدّم بيانه إلى حرج شديد يلحق الأفراد في بعض ضروراتهم الحياتية، وإلى وضع من الضعف والتهميش وفقدان الفاعلية والتأثير بالنسبة لمجمل الأقلّية، وذلك كلّه مآل ناتج من تطبيق أحكام الشريعة على أقلّية مسلمة بسبب من خصوصية وقوعها تحت سيادة قانون غير إسلامي، وهو مآل جدير بالنظر الاجتهادي في أحوال الأقلّيات لتبيّن أبعاده ومقاديره وآثاره، وتقدير الأحكام الشرعية المناسبة له تحقيقا للمصلحة التي هي مقصد كلّ الأحكام.
ج ـ التأثير بالسيادة الاجتماعية: الأقلّية المسلمة كما تعيش تحت ظلّ سيادة قانونية غير سيادة القانون الإسلامي، فإنّها تعيش أيضا تحت ظلّ سيادة اجتماعية غير سيادة المجتمع الإسلامي، فالمجتمع الذي تعيش فيه هذه الأقلّية مشكّل في بنيته الثقافية على ما تقتضيه الخلفية المرجعية التي توجّهه، سواء كانت دينية أو إيديولوجية عامّة، ومن تلك الخلفية انبت عادات المجتمع وأعرافه ومؤسّساته وأنماط حياته، سواء فيما يتعلّق بالعلاقات بين الأفراد، أو علاقات الجيرة، أو علاقات الأفراح والأتراح، أو علاقات العمل، أو غير ذلك من العلاقات.
والمسلمون الأقلّية وهم يعيشون في كنف هذا المجتمع بمكوّناته وعاداته وأعرافه يجدون أنفسهم في اضطرار معيشي وإنساني واجتماعي لأن يتعايشوا معه، ويتعاملوا مع مواريثه، وينخرطوا في سياقه، وإلاّ لتعطّلت بهم الحياة في وجوه كثيرة، ولأصبحوا يعيشون خارج الدورة الاجتماعية بما تتضمّنه من مسالك التبادل المنفعي أخذا وعطاء بين أفراد المجتمع وفئاته، وهو من الأغراض الأساسية للوجود الاجتماعي نفسه.(1/61)
ولمّا تنخرط الأقلّية المسلمة في سياق المجتمع الذي تعيش فيه، وهو انخراط ضروري لوجودها لا تستطيع منه فكاكا، مهما يكن حجمه وامتداده، فإنّها تجد نفسها في كثير من المواقع تحت سلطة قسرية للمجتمع فيما استقرّ عليه من أنماط في التعامل الاجتماعي. ولمّا كان كثير من هذه الأنماط يخالف الأحكام الشرعية إن مخالفة منع قاطع أو مخالفة منع مخفّف، فإنّ الأقلّية المسلمة إن هي انخرطت فيها ستجد نفسها في منطقة الممنوعات الشرعية. وإذا ما طُبّقت الأحكام الشرعية على الأقلّية المسلمة في معاملاتها الاجتماعية الخاضعة لسلطان المجتمع، فإنّ ذلك قد يؤدّي إلى جملة من الإحراجات، ويفوّت جملة من المصالح.
ومن تلك الإحراجات ما قد يترتّب أحيانا من توتّر في العلاقة بين الأفراد أو بين الفئات جرّاء ما يُحسب على أنّه استهتار بالمشاعر، أو استهانة باللّياقة في المعاملة، أو تكبّر واستعلاء، وذلك على سبيل المثال حينما لا يشارك المسلم جيرانه أو زملاءه أو أصدقاءه أو أصهاره من غير المسلمين في مراسيم أفراحهم وأتراحهم التي قد لا تخلو من مخالفات شرعية، فإذا بذلك التوتّر ينسج خيوط الوقيعة شيئا فشيئا حتى يؤول إلى المشاحنة والفرقة وما يترتّب على ذلك من ضرر يلحق المسلمين، بل قد يلحق بصورة الإسلام الذي يدينون به باعتبار أنّ ما عُد استهانة واستهتارا هو في حسبان القوم من ذات الإسلام لا من المسلمين.(1/62)
ومنها ما قد يترتّب على مقاطعة المعاملات الاجتماعية أو مقاطعة القسط الأكبر منها من الصيرورة بالأقلّية المسلمة إلى وضعية الانزواء والانعزال عن المجتمع فيما يجري فيه من تفاعل، فيصبح المسلمون إذن في واقع المجتمع، وفي الحسّ الاجتماعي المشترك كالفرقة الشاذّة عن السياق العامّ للمجتمع، وقد يفضي ذلك إلى أن تصبح كالفرقة المنبوذة لشذوذها، فتستبعد إذن من الاعتبار في دائرة التفاعل الاجتماعي ، كما تُستبعد بالأحرى من أن تكون محلّ اعتبار كمصدر للتأثير برأي أو بتصرّف أو بإيحاء أو بموقف، إذ هي قد انعزلت عن المجتمع واقعيا، فانعزلت في الأذهان تبعا لذلك، وذلك مصير للأقلّية المسلمة فيه من الحرج لها كما فيه من الضرر لما تمثّله من دين شيء كثير.
وإذا ما انعزلت الأقلّية المسلمة عن المجتمع الذي تعيش فيه تطبيقا للحكم الشرعي بمنع بعض ما قد يشوب اختلاطها به من الشوائب، فإنّ ذلك يفضي لا محالة إلى بقاء هذه الأقلّية غير عليمة بحقائق هذا المجتمع ومكوّنات تركيبه وآليات حركته، إذ العلم بذلك يقتضي المخالطة والتوغّل، كما يفضي بالتالي إلى القصور عن الاستفادة من المؤسّسات الاجتماعية، ودوائر المجتمع المدني في طرائق إدارتها، وفيما توفّره من الخدمات والمزايا لأفراد المجتمع، وهو ما يؤدّي إلى حرمان الأقلّية المسلمة من أسباب للمعرفة وأسباب للمصلحة ممّا يمكن أن يكون عوامل نموّ وقوّة وإيجابية في التفاعل الاجتماعي تفاعل أخذ وعطاء ونفع وانتفاع.(1/63)
يمكن إذن أن تؤدّي بعض الأحكام الشرعية المتعلّقة بالمخالطة الاجتماعية إذا ما طبّقت على حياة الأقلّيات المسلمة إلى مآل ينتج عنه من الضرر الذي يلحق بجماعة الأقلّيات أكثر من المصالح التي وضعت تلك الأحكام من أجلها كمقاصد لها، وذلك بسبب أنّ تلك المقاصد قُدّرت اعتبارا لتطبيق الأحكام في ظلّ سيادة المجتمع الإسلامي، فلمّا تطبّق على المسلمين في ظلّ سيادة مجتمع غير إسلامي فإنّ هذه الخصوصية يكون لها أثر بيّن في مآلات الأحكام، وهو ما ينبغي للفقيه أن يأخذه بعين الاعتبار في بناء فقه الأقلّيات.
د ـ التأثير بخصوصية التمثيل الدعوي: ذكرنا سابقا أنّ الأقلّيات المسلمة بالبلاد الغربية على وجه الخصوص تمثّل حلقة وصل بين العالم الإسلامي وما يمثّله من حضارة الإسلام، وبين العالم الغربي وما يمثّله من حضارة الغرب، وهي بهذا الموقع كأنّما تتصدّى بمجّرد حضورها لمهمّة ذات خطورة بالغة، هي مهمّة تمثيل الإسلام في أبعاده القيمية والحضارية لدى أهل الغرب، وستكون صورة الإسلام لدى هؤلاء مرتبطة إلى حدّ كبير بتقييمهم من خلال ثقافتهم للأنموذج الذي يكون عليه المسلمون الأقلّية في مجمل وجوه حياتهم، وفي تصرّفاتهم إزاء أنفسهم وإزاء الآخرين، وربّما يكون مصير الإسلام بالديار الغربية من قبول أو ردّ، ومن استحسان أو استقباح، ومن انتفاع بما فيه من خير أو انكماش دون ذلك مرتبطا أشدّ الارتباط بما يحدثه هذا الأنموذج الذي تكون عليه الأقلّية المسلمة باعتبار أنّها تمثّل الإسلام، والشواهد في أيّامنا هذه تترى في الشهادة على ذلك.(1/64)
وليست المجتمعات الغربية التي تعيش فيها الأقلّيات المسلمة بقادرة في أغلبها على أن تقيّم ذلك الأنموذج في تمثيليته للإسلام من خلال مقاييس موضوعية علمية، وإنّما هي سيكون تقييمها ذاك في شطر كبير منه جاريا من خلال ثقافتها هي وأعرافها وعاداتها ونمط عيشها، وذلك فيما عدا تلك المبادئ الأساسية الكبرى التي يلتقي عليها الطرفان، من مثل المبادئ الأخلاقية والإنسانية العامّة، وهو ما يضفي على هذا الوضع الذي تتصدّى فيه الأقلّيات المسلمة لدور تمثيلي أنموذجي صعوبة أخرى وتعقيدا زائدا.
ومن مقتضيات هذا الدور التمثيلي ذي البعد الدعوي للأقلّيات المسلمة أن تكون هذه الأقلّيات ذات قوّة مادّية اقتصادية وقوّة اجتماعية وعلميّة، بحيث تظهر بالمظهر القويّ اللاّئق الجالب للاحترام في أحوالها السكنية والهندامية والمظهرية العامّة، وفي تجمّعاتها ومناسباتها وممارساتها المتعدّدة، وفي علاقاتها الاجتماعية وتصرّفاتها المختلفة، وفي أعمالها ومؤسّساتها ومنشآتها، وفي مواقعها العلمية والوظيفية، فبقدر ما تكون الأقلّيات راقية قويّة في ذلك تكون تمثيليتها للإسلام أوقع في رسم الصورة الإيجابية عنه في نفوس أهل الغرب، وعكس ذلك صحيح إلى حدّ كبير.
ومن مقتضياته أيضا أن يكون السلوك العامّ للمسلمين في مظاهرهم وفي تصرّفاتهم إزاء الآخرين وفي علاقاتهم الاجتماعية سلوكا غير جارح للحسّ الذوقي العامّ للمجتمع، ولا متّصف بالشذوذ والغرابة، ولا مسيئا للشعور الجماعي، بل يكون مستحسنا في العيون، مقرّبا إلى القلوب، منسجما مع الطابع العامّ للمجتمع، لطيف الوقع في النفوس، بحيث تحصل من مجمل كلّ ذلك صورة تشيع في المخيال المجتمعي الاستحسان، وتكتسب لدى عامّة الناس الاحترام، وتقع في تقدير العقول موقعا رفيعا.(1/65)
هذه المقتضيات التي يقتضيها موقع الأنموذجية للأقلّيات المسلمة في بعدها الدعوي من شأنها أن تساعد على القيام بدور تمثيلي للإسلام يفضي إلى التقارب والتعارف بين المسلمين وأهل الغرب، كما يفضي إلى إبراز محاسن الإسلام وخيريته لينتفع بها الناس. ولكنّ بعض أحكام الشريعة حينما تعمل بها الأقلّية المسلمة وهي في هذا الموقع فإنّها قد تفضي إلى ما يخالف هذه المقتضيات، فإذا هي تعطّل إن كثيرا أو قليلا ما تصدّت له الأقلّية المسلمة بحكم موقعها الواصل بين الحضارتين من دور تمثيلي دعوي عظيم.
وإنّما يحصل ذلك بسبب أنّ تلك الأحكام هي في مجملها مشروعة للمسلمين في حال كونهم أمّة متجانسة بالصفة الإسلامية، فحينئذ تتشكّل أحوالهم وعاداتهم وأذواقهم وهيئاتهم الجماعية على سواء بين جميعهم، فيكون ميزان التقييم الذوقي، ومعايير الاستحسان، وتقديرات العقول للمواقف والتصرّفات، جارية كلّها على ذات المقاييس التي تأسّس عليها المجتمع الإسلامي المتجانس بأثر من الدين الجامع، فإذا ما جرت تلك الأحكام على أفعال الأقلّية وهي تعيش في مناخ اجتماعي مخالف، كان لها في ذلك المناخ أثر مخالف لأثرها في المناخ الاجتماعي الإسلامي المتجانس.(1/66)
ومن أمثلة ذلك أنّ بعض المسلمين من الأقليّة في البلاد الغربية تراهم في بعض تصرّفاتهم وعلاقاتهم ، وفي بعض مظاهرهم وأحوالهم يحرصون على تطبيق أحكام شرعية حرصا شديدا، وإن تكن من باب السنن والنوافل المجمع عليها أو المختلف فيها، من مثل ما يتعلّق بكيفيات اللّباس، أو بأوصاف معيّنة في إعفاء اللّحى، أو بمقاطعة المشاركة بالمواساة في الأتراح والمشاركة بالمسرّة في الأتراح، وهم بما يفعلون من ذلك يتركون الأثر السيّئ وأحيانا البالغ السّوء في عيون ونفوس المجتمع الذي يعيشون فيه، فإذا هم يصدّون بذلك صورة الإسلام عن أن تبلغ إلى النفوس فتقع فيها موقع الاستحسان، وإذا تطبيق تلك الأحكام الذي هو في الأصل نصرة للإسلام وإعلاء له يصبح في هذه الحال آيلا إلى عكس ذلك من استنقاص له ونفور منه.
وقد كان المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث يصدر في بعض فتاويه وقراراته بناء على هذا المعنى الذي يؤخذ فيه البعد الدعوي للأقلّية المسلمة بعين الاعتبار، ومن ذلك ما جاء في فتواه بجواز الاقتراض الربوي لشراء المساكن من تقرير للحاجة على أنّ " هناك إلى جانب هذه الحاجة الفردية لكلّ مسلم، الحاجة العامّة لجماعة المسلمين الذين يعيشون أقلّية خارج دار الإسلام، وهي تتمثّل في تحسين أحوالهم المعيشية، حتى يرتفع مستواهم، ويكونوا أهلا للانتماء إلى خير أمّة أخرجت للناس، ويغدو صورة مشرقة للإسلام أمام غير المسلمين"(1).
__________
(1) نفس المرجع: 30(1/67)
يتبيّن إذن أنّ خصوصية الأقلّية المسلمة متمثّلة في تمثيليتها للإسلام في عيون غير المسلمين الذين تعيش في مجتمعهم، ومنظورا إليها في بعدها الدعوي والحضاري والمستقبلي في علاقة الإسلام والمسلمين بالغرب وأهله، يتبيّن أنّها خصوصية ذات أثر في مآلات الأفعال، فذلك إذن موطن خصب للاجتهاد في فقه الأقلّيات، ولكنّه موطن تتشابه فيه السبل، وتختلط فيه الحقائق بالظنون، فعلى المجتهد الفقيه أن يوازن فيه بين المصالح والمفاسد بموازين الذهب حتى لا تُنتهك أحكام الشريعة بالأوهام.
إنّ ذلك المنهج الدقيق هو ما يجب أن يكون ديدنا للناظرين في مجمل النظر في مآلات الأفعال كأصل من الأصول في المعالجة الشرعية لأوضاع الأقلّيات المسلمة، وإنتاج فقه ثريّ في ذلك يرقّي هذه الأوضاع ويبلغ بها أهدافها القريبة والبعيدة، وذلك سواء من حيث تعيين مقاصد الأحكام، أو من حيث تبيّن أيلولتها الفعلية، أو من حيث تقدير ما هو مناسب منها لتلك الأيلولة، فكلّ ذلك كما لاحظ الإمام الشاطبي: صعب المورد، إلاّ أنّه عذب المذاق، محمود الغبّ.
فهرس المواضيع
الموضوع الصفحة
تمهيد 2
المبحث الأوّل ـ مآلات الأفعال: 3
1 ـ مدلول مآلات الأفعال 3
2 ـ الحجج الشرعية لاعتبار مآلات الأفعال 6
3 ـ ضوابط اعتبار المآلات 8
أ ـ تحرّي مقاصد الأحكام 9
ب ـ تحرّي أيلولة الأحكام 12
ـ أيلولة الأحكتم إلى غير مقاصدها 13
ـ المؤثّرات في أيلولة الأحكام 15
ـ مسالك الكشف عن المآلات 19
المبحث الثاني ـ دور اعتبار المآلات في فقه الأقلّيات 25
1 ـ الأقلّيات وفقه الأقلّيات 25
2 ـ خصوصية أوضاع الأقلّيات 29
3 ـ تأثير خصوصية الأقلّيات على المآلات 35
أ ـ التأثير بخصوصية القلّة 36
ب ـ التأثير بالسيادة القانونية 39
ج ـ التأثير بالسيادة الاجتماعية 41
د ـ التأثير بخصوصية التمثيل الدعوي 43
ثبت المراجع
ـ آل سلمان ( أبو عبيدة مشهور بن حسن)(1/68)
1 ـ تحقيق الموافقات للشاطبي. ط دار ابن عفّان، مصر، 1421 هـ
ـ الجصاص ( أحمد بن محمد الطحاوي، ت 321 هـ )
2 ـ مختصر اختلاف العلماء. ط دار البشائر الإسلامية، بيروت 1417 هـ. تح: عبد الله نذير أحمد.
ـ ابن حزم ( أبو محمد علي بن أحمد ت 456 هـ 9
3 ـ الإحكام في أصول الأحكام. ط دار الكتب العلمية، بيروت ( د.ت ).
ـ أبو زهرة ( محمد ).
4 ـ أصول الفقه. ط دار الفكر العربي ( د.ت).
ـ السرخسي ( أبو بكر محمد بن أبي سهل )
5 ـ المبسوط.
ـ الشاطبي ( إبراهيم بن موسى اللخمي ، ت 790 هـ ).
6 ـ الموافقات. ط دار ابن عفان، مصر، 1421 هـ. تح: آل سلمان.
ـ طه جابر العلواني.
7 ـ مدخل إلى فقه الأقلّيات ( نظرات تأسيسية ). بحث مخطوط.
ـ ابن عابدين.
8 ـ حاشية ابن عابدين.
ـ ابن عاشور ( محمد الطاهر )
9 ـ التحرير والتنوير. ط الدار التونسية للنشر والدار الجماهيرية.
10 ـ مقاصد الشريعة. ط الشركة التونسية للتوزيع، تونس 1978.
ـ ابن القيّم ( أبو عبد الله محمد بن أبي بكر، ت 751 هـ )ز
11 ـ إعلام الموقّعين عن رب العالمين. ط2 دار الكتب العلمية، بيروت 1993ز
ـ المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث.
12 ـ مجموع الفتاوى.
ـ النجار ( عبد المجيد بن عمر ).
13 ـ فصول في الفكر الإسلامي بالمغرب. ط دار الغرب الإسلامي، بيروت 1992.
ـ وهبة الزحيلي.
14 ـ أصول الفقه الإسلامي. ط دار الفكر المعاصر ودار الفكر، دمشق 1986.
ـ يوسف القرضاوي.
15 ـ في فقه الأقلّيات المسلمة.ط دار الشروق. القاهرة 2001.(1/69)
مراجعات في الفقه السياسي الإسلامي
إعداد
الأستاذ الدكتور
عبدالستار أبو غدة
بحث مقدم
للدورة السادسة عشرة للمجلس - اسطنبول
جمادى الأخرة 1427 هـ / يوليو 2006 م
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصبحه أجمعين .
وبعد ، فإن الفقه السياسي في الإسلام له مراجعه العديدة سواء من المنظور التراثي، أو حسب المعطيات الحديثة، ولا مجال لاستقصاء أدبيات هذا العلم ، فحسبنا الإشارة إلى أنواعها المختلفة:
? هناك الكتب الفقهية المساعدة وهي التي وضعها أصحابها خارج إطار المدونات المألوفة، مثل كتب الأحكام السلطانية، والسياسة الشرعية، وبعضها حمل عناوين قد تحجبها عمن ليس لديه عناية بالمراجع، مثل كتاب الخراج لأبي يوسف والغياثي ( غياث الأمم عند التياث الظلم) لإمام الحرمين الجوينى .
? وهناك فصول في كتب العقائد خصصت لمبحث ( الإمامة ) مع أنها ـ حسب التحقيق ـ ليست من قبيل العقيدة .
? وهناك أبواب في المدونات الفقهية، مثل : السير، والبغاة ، والحدود
? أما أدبيات هذا العلم الحديثة فهي كثيرة لا داعي للتنويه بها .
على أن الغرض من طرح هذا الموضوع الذي جعل عماد دورة كاملة بمحاور شتى ليس استيفاء جوانب هذا العلم وإنما التعريف بخصائصه ومقارنتها بما عليه الحال الآن، وما يساعد استحضاره في التعامل مع المعطيات السائدة في العصر الحاضر .
والله ولي التوفيق ،،،
والفقه السياسي يتناول مقولات تدور حول الدولة التي هي مجاله، ومن تلك المقولات على سبيل المثال لا الحصر :
o تعريف الدولة وأركانها .
o المبادئ التي تقوم عليها الدول وبخاصة الدولة الإسلامية .
o أنواع الدول .
o تحديد نوع الدولة الإسلامية .
o رئاسة الدولة، واختيار رئيس الدولة ( البيعة ) وأهل الحل والعقد، .
o مفهوم المعارضة ... الخ
o السلطات الثلاث : التشريعية ـ القضائية ـ التنفيذية .
o مبدأ الفصل بين السلطات .(1/1)
o ما يتعلق بعلاقات الدولة في السلم والحرب ... الخ
تعريف الدولة وأركانها
الدولة، حسب الفقه الدستوري المعاصر، هي :" مجموعة أفراد يقيمون إقامة دائمة على إقليم محدد، ويخضعون لسلطة سياسية" .
على أن الدولة الإسلامية طراز خاص من الدول تختلف في طبيعتها وغاياتها عن سائر الدول المعاصرة، وذلك لتفردها بنظام قانوني من مجموعة من القواعد الإلهية تتشكل وفقاً لها غايات الدولة وأهدافها وحدود ونطاق كل سلطة، كما تحدد سلوك أفراد الجماعة الإسلامية حكاما ومحكومين بحيث تعد هذه القواعد إطاراً قانونياً ملزما للجماعة الإسلامية بأسرها(1) .
وعليه فإن الدولة الإسلامية محكومة سلفاً بقواعد وأحكام ملزمة ولا تملك الجماعة الإسلامية والسلطات التي تمثلها إلا العمل في حدودها فالدولة الإسلامية تقوم على كيانين : مادي يتمثل في العناصر المادية لقيام أي دولة، ومعنوي أو روحي يتمثل في مجموعة القواعد والأحكام الإلهية التي أوجبها الإسلام .
وبمراعاة ما سبق يمكن تعريف الدولة الإسلامية بأنها، مجموعة من الأفراد المسلمين بحسب الغالب يقيمون في دار الإسلام، ويلتزمون التزاما حتميا وقاطعاً بالقواعد والضوابط الإلهية في نظام العقيدة والتشريع، ويخضعون لسلطة سياسية تلتزم بالامتثال لأحكام الشريعة الإسلامية وكفالة تحقيق ما أمرت به .
__________
(1) ... بحث " بعض المفاهيم الإدارية والسياسية من منظور إسلامي د. فؤاد محمد النادي (ندوة الإدارة في الإسلام ) ونظام الحكم في الإسلام، د. محمد عبد الله العربي 21 .(1/2)
وينبثق مفهوم الدولة الحديثة من نظرية ( العقد الاجتماعي ) التي نادي بها ( جان جاك روسو )، وبعض الباحثين يقرر أن جذور تلك النظرية مقتبسة من الحضارة الإسلامية التي اتصل بها الغربيون في عهد مبكر بالاحتكاك السلمي أو الحربي، وبالتحديد يظن أن أصلها صحيفة المدينة، التي أبرمها النبي صلى الله عليه وسلم لتكون معاقدة تعايش بين المسلمين في المدينة المنورة ومن يساكنهم فيها من اليهود وغيرهم لتكوين دولة يرأسها النبي صلى الله عليه وسلم(1) .
وعليه، فإن الدولة الإسلامية ـ كغيرها ـ تتكون من ثلاثة أركان أو عناصر هي :
1/ ... الشعب ( أي المواطنون في الدولة ) .
2/ ... الأرض ( أي الإقليم الذي تقوم عليه الدولة ) .
3/ ... السيادة ( أي السلطة التي تحكم الشعب وتمثله ) .
وفيما يلي بيان موجز لكل من هذه الأركان، مع بيان الخصوصية التي له من المنظور الإسلامي .
ومعرفة الأغلبية الإسلامية التي تعتبر بها الدولة إسلامية ليست ميسورة دائماً بسبب عدم توافر إحصاءات دقيقة عن التوزيع الديني للسكان في مختلف دول العالم، لأن ذلك يتطلب تعدادات سكانية دقيقة تتضمن بيانا خاصا بشأن الانتماء الديني وهو لا يتوافر بسبب صعوبات فنية مادية وأخرى معنوية(2) .
... ... (1)
الشعب
يكفي لكي يتحقق عنصر الشعب أن يتوافر عدد من الناس مهما كان دينهم لكن يتطلب الأمر في الدولة الإسلامية أن يكونوا جميعا من المسلمين، أو أغلبيتهم، وفي الحالة الأخيرة فإن من يعيشون في الدولة من غير المسلمين بصفة تاريخية دائمة هم جزء من الشعب، وقد كان الوصف الملازم لهم أنهم ( أهل الذمة) .
__________
(1) ... مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي، د. محمد حميد الله 100 .
(2) ... الفقه السياسي للأقليات المسلمة د. نادية محمود مصطفي ص 5 .(1/3)
والآن جرت النظم الحديثة على فصل الجنسية عن الدين، مع تحقيق المساواة التامة بين جميع أفراد الشعب ـ دون نظر للعقيدة والدين ـ في شتى الحقوق السياسية والحقوق العامة والخاصة، والاشتراك في انتخاب رئيس الدولة وعضوية المجالس الشعبية لتمكين جميع المواطنين من عرض مشاكلهم وإبداء الرأي العام والخاص بمصالحهم(1) .
هذا، وإن المراد بالشعب ( الذي هو أحد عناصر الدولة ) الشخص الذي يحمل جنسية الدولة، باصطلاح العصر الحاضر . وهي ما يطلق عليه في أدبيات التراث التاريخي الإسلامي : النسبة المكانية . ولم يكن هناك ما يعرف الآن بالجنسية أو التابعية وكان البديل عن الجنسية هو النسبة المكانية التي تستحق تلقائياً ( ولا تحتاج للمنح ) بمجرد ولادة الشخص في بلدٍ ما، أو اتخاذه بلداً ما موطناً له بالإقامة فيه أربع سنين فأكثر .
وقد نقل الإمام النووي عن عبد الله بن المبارك وغيره أنهم قالوا : " إذا أقام إنسان في بلد أربع سنين نسب إليه " .
ولم يكن هناك ما يمنع من تعدد ( الجنسية = النسبة المكانية ) حيث يضيف النووي بياناً عما استقر لدى المؤرخين في هذا الصدد بقوله :
" إذا كان للإنسان نسب إلى بلدين، بأن يستوطن أحدهما ثم الآخر نسبوه غالباً إليهما، وقد يقتصرون على أحدهما . وإذا نسبوه إليهما قدموا الأول فقالوا : المكي الدمشقي، والأحسن : المكي ثم الدمشقي . وقد يقولون : الشامي الدمشقي الحرستاني، فينسبونه إلى الإقليم ( الشام) ثم البلدة ( دمشق ) ثم القرية (حرستا) (2) .
(2)
الأرض
أطلق الفقهاء على الإقليم الذي تقوم عليه الدولة الإسلامية اسم (دار الإسلام) بحيث يشمل كل ما دخل من البلاد في محيط سلطان الإسلام ونفذت فيه أحكامه وأقيمت شعائره .
__________
(1) ... الدولة في الإسلام ، د. مجمد سلام مدكور 118 .
(2) ... تهذيب الأسماء واللغات، للنووي 1/14 .(1/4)
وتسمى دار الإسلام أيضاً ( دار العدل ) ويقابلها ( دار البغى) وهي المنطقة التي يثور فيها تمرّد على السلطة الحاكمة .
أما البلاد التي تخضع لغير سلطان الإسلام فيطلق عليها أحد اسمين :
أ/ ... إذا كانت هناك عهود بين الدار التي لم تدخل في سلطان الإسلام وبين الدولة الإسلامية فإنها تسمى ( دار العهد ) .
ب/ ... إذا لم تكن هناك عهود فإنها تسمى ( دار الحرب ) .
ولا تصير دار الإسلام كذلك إلا إذا كانت تطبق فيها أحكام الإسلام وكان أمنها بأمن المسلمين . فإن ظهرت فيها أحكام الكفر ونفذت فيها وزال منها الأمن الذي كان بأمان المسلمين بالنسبة لكل مسلم وذمي فإنها لا تعتبر دار إسلام .
والكلام واسع عن الدور وأنواعها ما بين دار الإسلام، ودار العهد ودار الحرب، وذلك في كتب الفقه، وكتب السير والأحكام السلطانية . وهي تقسيمات تصف واقع المعمول به في عصور الفقهاء وفي إطار المتعارف عليه بين الدول ولو لم يكن مدوناً، وما كان مبنياً على العرف في الأزمنة أو الأمكنة يتغير طبقاً للمعطيات الجديدة دون الإخلال بما جاء في النصوص الشرعية من حيث جوهر تلك الموضوعات، أو ما تعلقت به بعض الأحكام كالميراث الذي يتأثر باختلاف الدين، وباختلاف الدار ( عند بعض الفقهاء ) سواء في حق الوارث والموروث أو في حق أحدهما .
(3)
مبدأ السيادة
المراد بالسيادة استقلالية السلطة التي تحكم الشعب وتنظم شئونه وموارده وتقيم العدل بين أفراده والدفاع عنه وتنظيم الصلات بالدول الأخرى عن طريق تبادل التمثيل السياسي والاشتراك في المنظمات الدولية .
ولا بد لممارسة السيادة من شخص وهيئة تعاونه . كما لا بد من نفاذ قرارات الدولة في الداخل ، والاستقلال السياسي وعدم الخضوع لمؤثرات خارجية في العلاقات مع الدول . ولا يخل بذلك التقيد بقواعد القانون الدولي وقرارات المنظمات الدولية .(1/5)
وقد مرّ مفهوم السيادة بمراحل بدءاً بالصراع بين السلطة السياسية والشعبحينما كانت السيادة لشخص الحاكم، وليس للسلطة التي برأسها، أي الشخصية المعنوية للشعب الذي يمثله الحاكم، ثم تطور حتى أصبح قائماً على اعتبار الأمة مصدراً للسلطات واستمداد سلطة الحاكم من الإرادة الجماعية للشعب .
وهذا المفهوم الأخير مقبول إسلامياً، فالأمة ـ كما سبق ـ هي التي تمنح الحاكم سلطته، ويحق لها مراقبته سياسياً وقضائياً ولكن سيادة الأمة نفسها مقيدة في مجال التشريع بأحكام ومبادئ الإسلام .
وعليه فإن السيادة في المنظور التقليدي مطلقة بما تختاره السلطة التشريعية في أي وقت ، أما في المنظور الإسلامي فإن السيادة مقيدة قبل نشأتها بالأحكام الثوابت والمبادئ الأساسية للإسلام .
ومبدأ السيادة يتمثل في السلطات الثلاث التي تشكل هوية الدولة، من حيث الجهة التي تصدر تشريعاتها، وجهازها القضائي، وجهاز الإدارة والتنفيذ . وسيأتي مزيد من بيان للسلطة التنفيذية، بعد تقديم نبذة مجملة عن السلطات الثلاث وقضية الفصل بينها .
السلطات الثلاث، والفصل بينها
? إن وجود السلطات الثلاث لابد منه لإبراز سيادة الدولة .
? فالسلطة التشريعية تضع النظم والقوانين ، والسلطة القضائية تحسم المنازعات وفقاً لقوانين السلطة التشريعية .
? والسلطة التنفيذية تحمى الناس وتحفظ الأمن وتنفذ الأحكام الصادرة عن السلطة القضائية . وهذه السلطة الأخيرة ( التنفيذية ) يعود إليها توصيف السياسة التي تسلكها الدولة، وهي محل التفصيل لاحقاً .
والفصل بين السلطات الثلاث هو لضمان الحريات والحفاظ عليها، وهو مبدأ حديث العهد بالتطبيق وأول من طبقه الفرنسيون عام 1791 واستوحوه من فكر مونتسكيو في كتابه روح الشرائع التي سيتم التوسع فيها .
والانفصال بين السلطات الثلاث قد يحصل من خلال الضوابط التي تحكم كل سلطة ولو لم يصرح بالفصل . وهذا ما كان يتم في العهود الإسلامية .(1/6)
والسلطتان التشريعية والقضائية تكفي الإشارة بإيجاز إليهما من حيث فصلهما عن السلطة التنفيذية .
? فالسلطة التشريعية فيما لا نص فيه من كتاب أو سنة مرجعها إلى المجتهدين في حال اختلاف الاجتهادات بما يختاره الإمام للمصلحة
العامة، وهذان الضابطان مستندان إلى أصول الاجتهاد يلتزم وشروط المصلحة، وهذا فصل عملي واضح لهذه السلطة عن غيرها، وبخاصة السلطة التنفيذية المطلقة(1) .
? والسلطة القضائية مقيدة بالأحكام الشرعية، فلا تخضع لتدخل السلطة التنفيذية وإن كان القضاة يولون من قبلها، بل كان من حق القضاء محاكمة من يديرون تلك السلطة ومن أجل ذلك أنشئ ديوان المظالم الذي يشبه القضاء الإداري الآن، فضلاً عن ديوان الحسبة التي هي رقابة إدارية وكان تطبيقها أحياناً يشمل الحكام .
إن عدم بروز هذا الفصل في العهود الإسلامية سببه طبيعة العلاقة التي كانت تسود بين من يشغلون مهام تلك السلطات، وليس ذلك مانعاً من الفصل المنظَّم حسب مقتضى الظروف وتغير الأوضاع، كما عليه الحال الآن(2) .
نوع الحكومة الإسلامية
الحكومات أنواع ما بين دكتاتورية، وارستقراطية ( للنخبة من الطبقات ) أو ديمقراطية، اوثيوقراطية ( إلهية ) وفق توجيهات الرهبان عند الغرب، أو وفق أحكام الشريعة في المنظور الإسلامي .
__________
(1) ... يرى د. بشار عواد معروف في بحثه عن الشورى (ص3) ان ربط الشورى بالمجالس المقترحة للقوانين فيه تقليل من شأنها، فإن الذين يقترحون القوانين هم الفقهاء العلماء المجتهدون العارفون باستنباط الأحكام من الشريعة بعد الاستعانة بالمستشارين، وهم كل من يستفاد منه في هذا المجال .
(2) ... يرجع إلى المصادر التالية للتفصيل : السلطات الثلاث في الدساتير العربية ، د. سليمان الطماوي 49 ، 202 النظم الإسلامية ، د. حسن إبراهيم 293 الأحكام السلطانية للماوردي 83 – 93 عبقرية الإسلام في أصول الحكم د.منير العجلاني .(1/7)
والحكومة الإسلامية ليست دكتاتورية قطعاً ولا ارستقراطية، كما أنها ليست من قبيل الحكم الديمقراطي بدقة، لأن مصدر السيادة في الحكم الديمقراطي للشعب بإطلاق، أما في الحكومة الإسلامية فمصدرها الشرع حيث يخضع له الشعب والحكومة، غير أنها تلتقي مع النظام الديمقراطي من حيث المساواة السياسية بين الجميع وتوفير الحرية السياسية والرقابة الشعبية ، ومن أطلق على الحكومة في الإسلام أنها دينية فهي تختلف عن الثيوقراطية الأوربية التي تقوم فيها طبقة من الرهبان بوضع التشريع فيها وينسبونه إلى الله(1) .
هذا، وان اطلاق التسميات المشار إليها أعلاه قد يؤدي إلى تخيلات أو أغلاط في فهم التصور الحقيقي لدولة الإسلام، كما ان من شأن ذلك أيضاً ان يؤدي إلى مسخ المفاهيم والمصطلحات الإسلامية وذلك بربطها ونسبتها إلى نظم وضعية، ويرتبط بطبيعة الدولة الإسلامية أنها دولة تنحو نحو تحقيق العالمية اطلاقاً من عالمية الشريعة الإسلامية(2) .
خضوع الإدارة العامة في الدولة الإسلامية للقانون الإسلامي :
__________
(1) ... نظرية الإسلام السياسية 32 ط . لجنة الشباب المسلم بمصر 1951 . وحقيقة الإسلام وأصول الحكم، بخيت المطيعي 30 والسياسة الشرعية، عبد الوهاب خلاف 28 مبادئ نظام الحكم في الإسلام، عبد الحميد متولى 71 .
وأحكام القانون الدولي في الشريعة الإسلامية، حامد سلطان 105 .
(2) ... بعض المفاهيم الإدارية والسياسيةن د. فؤاد النادي 80 وعالمية الدعوة الإسلامية، د. علي عبد الحليم محمود 360 .(1/8)
ساد النظم الإدارية المعاصرة مبدأ سيادة القانون أو ما يطلق عليه مبدأ المشروعية ويضمن هذا المبدأ أن أعمال الهيئات العامة وقراراتها الملزمة لا تكون صحيحة ولا منتجة لآثارها القانونية، ولا تكون ملزمة للأفراد المخاطبين بها، إلا بمقدار مطابقتها لقواعد القانون العليا التي تحكمها، بحيث متى صدرت بالمخالفة لهذه القواعد فإنها تكون غير مشروعة، ويكون من حق الأفراد ذوي المصلحة طلب إلغائها والتعويض عنها أمام المحكمة المختصة(1) .
دستورية الدولة الإسلامية :
عند النظر في القرآن الكريم وفي السنة النبوية يتبين أن الحكومة الإسلامية دستورية بكل ما تحتمله الكلمة من معان، وإن الأمر فيها ليس خاصا بفرد وإنما هو للأمة ممثلة في أصحاب الحل والعقد لأن الله سبحانه جعل أمر المسلمين شورى بينهم وساق وصفهم بهذا مساق الأوصاف الثابتة والسجايا اللازمة فهو شأن الإسلام ومن مقتضياته . فقال سبحانه وتعالى ? والذين استجابوا لربهم واقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون ?(2) وأمر الرسول المنزه عن الخطأ المعصوم أن يشاور في الأمر فقال سبحانه ?فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر?(3) .
__________
(1) ... مبدأ المشروعية وضوابط خضوع الدولة للقانون، د.طعيمة الجرف ص 5 ط 1963
(2) ... سورة
(3) ... سورة(1/9)
وقد وردت في السنة النبوية عدة أحاديث تدعو إلى الشورى، وكان عمل الرسول صلى الله.عليه وسلم وسنن الراشدين من بعده على التشاور وعدم الاستقلال بالأمور أو الاستبداد بالآراء(1) .
رئاسة الدولة، ومهامها
تعريف رئاسة الدولة ( أو الإمامة الكبرى ) :
( رئيس الدولة ) أو ( الإمام ) أو ( الخليفة ) لم أجد تعريفاً محدداً له، ولعل ذلك لوضوحه واستغنائه عن التعريف ـ لكن يمكن استخلاص تعريف له من خلال تحديد مهامّه على وجه الإجماع، فقد ذكروا أن مهمة الإمامة الكبرى :" حراسة الدين وسياسة الدنيا " وواضح أن تلك السياسة لا بد أن تكون سياسة شرعية، ولذا استحسن بعضهم أن يضاف بعدها ما ينبئ عن ذلك وهو " سياسة الدنيا به " أي بالدين .
وقد عرف ابن خلدون الخلافة بأنها نيابة عن صاحب الشرع في حفظ الدين وسياسة الدنيا .
قال ابن حزم : اتفق جميع أهل السنة وجميع الخوارج على وجوب الإمامة وان الأمة واجب عليها الانقياد إلى إمام عادل يقيم فيهم حكم الله، ويسوسهم بحكم الشريعة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم(2) .
على أن هذا الوجوب وقع الخلاف فيه هل هو عقلا كما قال المعتزلة ، أم أنه وجوب بحكم الشرع كما انتهى إليه أهل السنة(3) .
__________
(1) ... يلحظ أن د. نصر محمد عارف في بحثه ( إشكالية الطرح السياسي للإسلام) (ص3) يوجه النظر إلى ان المجتمع الإسلامي في التاريخ كان هو المعمل الذي ينتج الحضارة والدولة هي طبقة هامشية في المجتمع لا تؤثر عليه كثيراً... ويضرب أمثلة لذلك بمؤسسة الأوقاف التي غطت الوظائف الاجتماعية وحققت الاستقلالية في مواجهة الدولة، وبالحسبة التي ترعى (124) من المؤسسات الاجتماعية التي كان لها تنظيمها وإدارتها الداخلية دون هيمنة من الدولة وكذلك مؤسسات التعليم التي لم تكن مملوكة للدولة .
(2) ... الفصل في الملل والنحل، ابن حزم 4/87 .
(3) ... المسامرة لابن الهمام وشرحها للكمال بن أبي شريف 2/141 ومقدمة ابن خلدون 179 .(1/10)
رئيس الدولة أعلى سلطة فيها :
يكفي أن يراعى في أي تعريف لهذا المصطلح أن يدل على أن رئيس الدولة هو أعلى شخص في السلطة، وذلك لطبيعة المهام الأساسية المنوطة به مما سيأتي تفصيله .
ولا أثر لكون ذلك المركز الأعلى قد حصل التجاوز له أو الافتئات عليه دون تنحية من يشغله ويحمل اسمه، وهذا قد حصل في العهود الإسلامية، فقد وجد منصب سمي نائب السلطنة، وكان له الأمر والنهي مع وجود السلطان، واستخلاص موافقته أو إجازته للتصرفات بعد وقوعها ويشبه هذا الأنظمة التي تكون فيها السلطة الفعلية بيد رئيس الوزراء، ويكون منصب الملك أو رئيس الجمهورية، رمزاً للدولة ( يملك ولا يحكم ) .
وقد آل الأمر إلى إطلاق نائب السلطنة لنفسه التصرف دون أي مراعاة لمن ينوب عنه، مما جعل أحد الشعراء يصف حالة الرئيس الأعلى المهمّش بقوله:
وتؤخذ باسمه الدنيا جميعاً *** وما من ذاك شيء في يديه
وأحياناً كان السبب في هذه الممارسة الحرص على اكتساب الشرعية ممن أخذ الحكم بالتغلب، أو الحرص على الأولوية على حكام آخرين منافسين له باسترجاع دور الخلافة بعد ضمورها، كما حصل في حال ضعف الخلافة العباسية، ولم يكن حظ الخليفة إلا الخطبة له على المنابر، وسك العملة باسمه .
مدة الرئاسة :
هناك نظامان بشأن المدة التي يظل فيها رئيس الدولة في سدة الحكم :
? التحديد بمدة تنتهي فيها ولايته إلا إذا جدد له بنفس طريقة توليته لمدة أخرى واحدة أو أكثر ( حسب المقررات الدستورية ) .
? الاستمرار طوال العمر، وهو النظام الملكي والأميري، سواء كان وراثياً أو بطريقة الاختيار أو العهد لشخص من عائلة الحكم أو أي جهة أخرى يناط بها ذلك .
... ولكل من النظامين محاسنة ومزاياه أو محاذيره ومضاره .(1/11)
والنظام الإسلامي أخذ من كل منهما جانباً : فهو قائم على الاستمرار كأصل مع فتح المجال لإنهاء المدة من قبل أهل الحل والعقد ، وبلغة العصر طرح الثقة بالحاكم على الشعب أو جهة تمثله للاستمرار في منح الثقة أو حجبها .
على أنه ليس هناك ما يمنع من التحديد، كما عليه معظم الأنظمة غير الملكية، وهو الأحوط، لأن الإنهاء أصعب من التجديد، لأن الإنهاء كثيراً ما يتم عن طريق الخروج على الحاكم .
وللخروج على الحكام أحكامه المبينة في باب البغاة ،
كما أن تسنّم سدة الحكم قد حصل عملياً بالتغلب . وفي هذا يقول ابن سماعة الدمشقي : إذا انعقدت الإمامة بالشوكة والغلبة لواحد ثم قام آخر فقهر الأول بشوكته وجنوده انعزل الأول وصار الثاني إماماً لمصلحة المسلمين وجمع كلمتهم(1) .
مهام رئيس الدولة
بين إمام الحرمين وغيره أن الغرض من الإمامة الكبرى النظر في الأمور المتعلقة بالدين ثم النظر في الأمور المتعلقة بالدنيا، بعد أن قرر أن الغرض استيفاء قواعد الإسلام طوعاً أو كرها، والمقصد الدين، ولكنه لما استمد استمراره من الدنيا كانت هذه القضية فرعية(2) ثم فصل النظرين بما مجمله :
واجب الإمام نحو الدين ( أصله وفروعه ) :
حفظ الدين ودفع شبهات الزائغين وأصحاب البدع والأهواء ودعوة غير المسلمين إلى التزام الدين الحق، مع البدء في ذلك بالحجة والبراهين .
__________
(1) ... مذكرات في نظم الحكم في الإسلام للشيخ أحمد هريدي مفتي مصر الأسبق 115 وينظر التفصيل في الملل والنحل لابن حزم 4/173 ومقالات الإسلاميين للأشعري 2/451 ومذكرات في نظم الحكم في الإسلام، د. محمد يوسف موسى 67 .
(2) ... الغياثي ، لإمام الحرمين 183 ط نهضة مصر 1401هـ .(1/12)
ولا يدخل في مهامه التعرض لفقهاء الإسلام فيما يتنازعون فيه من تفاصيل الأحكام كما عليه الاهتمام بما هو شعار ظاهر في الإسلام من العبادات التي ترتبط باجتماع عدد كبير كالجمع والأعياد ومجامع الحجيج، لأنه " يخاف في مزدحم القوم أمور محذوره " وكذلك ما هو شعار ظاهر كالأذان وإقامة الجماعات إذا عطل ذلك(1) .
واجب الإمام في الأمور المتعلقة بالدنيا :
ومجمل ذلك حفظ ما حصل، وطلب ما لم يحصل . بسدّ الثغور، وصيانة بلاد الإسلام من المخلين بالأمن، وفصل الخصومات، وإقامة السياسات والعقوبات وحفظ المشرفين على الضياع بالولاية عليهم وسد حاجات المحاويج، وضبط الأموال التي يحصلها الإمام ويصرفها إلى مصارفها(2) .
الطبيعة لدنيوية المسالة رئاسة الدولة :
اتفقت المذاهب الإسلامية السنية على أن " الإمامة مسألة دنيوية وقضية مصلحيه "(3) وأنها من مسائل الفروع، وليست من مسائل أصول الدين، وإن كانت ترد أحيانا في بعض كتب العقائد، فإن الغرض من إدراجها في ذلك العلم هو أنها كانت من المسائل الفاصلة بين المذاهب السنية وغيرها، حيث إن الشيعة يعتبرون الإمامة رئاسة عامة مطلقة في أمور الدين والدنيا بالأصالة في دار التكليف(4) ويصرح بعضهم بأنها منصب إلهي يرتّبه الله تعالى لمن ارتضى من البشر(5) ونكتفي بهذه الإشارة إلى هذا الاتجاه، لأنه محفوف بقضايا أخرى يصعب تناولها مدرجة في ثنايا هذا الموضوع، مثل مرجعية التقليد المطلقة التي وكلت إلى الأئمة المجتهدين شرعية الحكم على السلطة الزمنية مما تطور حتى ظهر مصطلح (ولاية الفقيه) (6) .
__________
(1) ... المرجع السابق 184 .
(2) ... المرجع السابق 201 .
(3) ... الملل والنحل ، للشهرستاني 33 الإرشاد لإمام الحرمين 26
(4) ... فرق الشيعة، للنوبختي 91 .
(5) ... عقائد الإمامية، محمد رضا المظفر .
(6) ... ينظر كتاب " نظرية ولاية الفقيه ـ دراسة وتحليل ونقد ـ للدكتور عرفان عبد الحميد فتاح .نشر دار عمار الأردن 1988 .(1/13)
كما نتجاوز المسائل الفقهية الخلافية في قضية نصب الإمام وصفاته والقول بالنص على الإمامة الأولى في العهد الراشدي، وتكييف طرق الاختيار فيه أو فيما بعده في عهود الملوك (من أمويين وعباسيين وغيرهم )، دون أن يفوتنا التأكيد بأن الأصل في ذلك هو الاختيار، بحسب ما تساعد عليه الظروف : كالانتخاب العام، أو من المجالس المعتمدة (أهل الحل والعقد ) الخ ..
واجبات رئيس الدولة :
هذا، وقد أورد الماوردي وأبو بعلي في كتابيهما بشأن الأحكام السلطانية واجبات الخليفة بما خلاصته(1) :
1/ ... حفظ الدين على أصوله المستقرة وما أجمع عليه السلف، فإن نجم ( برز ) مبتدع، أو زاغ ذو شبهة عنه أوضح له الحجة وبين له الصواب وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود ليكون الدين محروساً من خلل، والأمة ممنوعة من ذلك .
2/ ... تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين، وقطع الخصومة بين المتنازعين، حتى تعم النصفة ( العدل ) فلا يتعدى ظالم، ولا يضعف مظلوم .
3/ ... حماية البيضة والذب عن الحريم، ليتصرف الناس في المعايش وينتشروا في الأسفار آمنين من تغرير بنفس أو مال .
4/ ... إقامة الحدود لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك، وتحفظ حقوق عباده عن إتلاف أو استهلاك .
5/ ... تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة النافعة، حتى لا يظفر الأعداء بثغرة ينتهكون فيها محرماً بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة ليقوم بحق الله تعالى من إظهاره على الدين كله .
6/ ... جهاد من عاند الإسلام .
7/ ... جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصا واجتهاداً من غير جور ولا عسف .
8/ ... تقدير العطايا وما يستحق في بيت المال من غير سرف ولا تقتير، ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير .
9/ ... استكفاء الأمناء وتقليد النصحاء بما يفوضه إليهم من الأعمال، ويكله إليهم من الأموال .
10/ ... مباشرة، الأمور وتصفح الأحوال لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملة .
__________
(1) ... الأحكام السلطانية للماوردي 15 والأحكام السلطانية لأبي يعلي 11 .(1/14)
واجبات الأمة تجاه رئيس الدولة :
أوجز الماوردي(1) ما يجب للخليفة على الأمة في أمرين :
1/ ... التسليم له بالنظر في جميع أمور المسلمين وشئونهم العامة وعلاقاتهم مع الدول الأخرى .
2/ ... عدم التدخل في الأعمال التي وكلت إليه، إلا تلبية لطلبه أو لمجرد إبداء النصح .
ويقول أيضاً : إذا قام الإمام بواجباته فقد أدى حق الله تعالى فيما للأمة عليه، ووجب له عليهم حقان: الطاعة، والنصرة ، ما لم يتغير ، والنصرة يقصد بها المعونة على النهوض بأعباء الحكم ومساندته في وجه من يخرجون عليه بغير حق أو يقصدون الإساءة إليه والتقليل من شأنه ومهابته افتئاتا عليها(2) .
مبدأ السياسة الشرعية
لا بد لنا ونحن في مجال البحث عن الفقه السياسي الإسلامي ـ من أن نبين المراد بالسياسة الشرعية .
هناك قواعد أساسية يقوم عليها الحكم في الإسلام وينظم منها دستوره وهي إذا جاءت بها نصوص شرعية قطعية في ثبوتها ودلالتها لا تخضع للتغيير . أما إن جاءت بها نصوص ظنية وفيها مرونة في دلالتها واختلاف في مدلولها فإن ذلك يتيح لولي الأمر الأخذ بأحد الوجوه .
كما أن بعض الأحكام تبنى على العرف ثم يتغير، أو تستند إلى تحقيق مصالح ثم تنتفي المصلحة، فينقل الحكم من نوع إلى آخر .
__________
(1) ... الأحكام السلطانية، للماوردي 15 و 16 .
(2) ... ينظر أيضاً تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام 259 فقد أورد عشرة حقوق تجب للخليفة قبل الأمة ، وهي تندرج فيما ذكره الماوردى ( الطاعة ، والنصرة ) .(1/15)
قال ابن عابدين : تختلف بعض الأحكام باختلاف الزمان لتغير عرف أهله أو لحدوث ضرورة أو فساد أهل الزمان، بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه لزم منه المشقة والضرر بالناس ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف(1) . وقال القرافي : جملة الأمر أن وظيفة الحاكم في حكمه ـ خليفة أو واليا أو قاضيا إن يكلف بفعل شيء أو تركه أو برفع التكليف به مسايرة لحاجات الناس ومصالحهم من غير مصادمة لقاعدة من قواعد الشريعة(2) .
وقد شبه بعض القانونيين السياسة الشرعية بما يصدره ولي الأمر من قوانين تخالف المتبع في قواعد القوانين وأصولها مع وجوب موافقتها للقانون الطبيعي وإلا كانت غير جائزة .
وقد الف ابن تيمية وغيره كتباً في السياسة الشرعية، من حيث مجالها، وضوابطها، وتطبيقاتها .
مفهوم المعارضة السياسية
مفهوم المعارضة معروف منذ بدء الدولة الإسلامية ، تحت مظلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكانت تحدث بصورة متعددة وفي مواقف مختلفة معروفة في العهود الإسلامية بما فيها العهد النبوي حيث كانت تحصل بمراجعة الصحابة ـ مع السمع والطاعة ـ للنبي صلى الله عليه وسلم في بعض التصرفات القائمة على الرأي والخبرة، كما حدث في اختيار موقع المعركة في بدر وفي مفاداة الأسرى، وفي صلح الحديبية ثم في العهد الراشدي حيث كان الخلفاء يحضّون الناس على الصدع بالحق بل تقويم ما يرونه فيهم من اعوجاج كما كان يفعل أبو بكر وعمر رضي الله عنهما(3) .
قال الباجي : مصدر سلطة الإمام مبايعة الجمهور له ورضاهم به، فالأمة هي الحافظ للشرع(4) .
__________
(1) ... رسائل ابن عابدين 2/125 .
(2) ... الفروق، للقرافي 2/103 وتهذيب الفروق 2/114 .
(3) ... مجموعة الوثائق السياسية د. محمد حميد الله 59 و 62 .
(4) ... المنتقى شرح الموطأ، للباجي 5/415 و 458 .(1/16)
إن المعارضة السياسية الهادفة ( التي لا تصدر لتسجيل مواقف وتحقيق مكاسب شخصية ) تنبع من قاعد المسئولية التي لا يعفى منها أحد، بل تبدأ بولاة الأمور، كما في قوله صلى الله عليه وسلم " كلم راع وكلكم مسئول عن رعيته: فالإمام راع وهو مسئول عن رعيته "(1) .
ومسئولية الحاكم تحقق قاعدة توازن السلطة مع المسئولية التي اعتمدها علماء الإدارة العامة، فإن المسئولية تتزايد كلما تزايدت السلطات الموكولة إلى الشخص القائم على السلطة، لأنه مما يؤدي لمخاطر جسيمة في جهاز الإدارة العامة أن يعطى شخص ممن يحتلون درجة من درجات السلم الإداري سلطات واسعة دون ان تقرر القواعد الكفيلة بتقرير مسئوليته على تلك السلطات .
والنصوص الشرعية كثيرة بشأن المسئولية وان الولاية ـ مهما كان نوعها ـ هي أمانة ?يا ايها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول، وتخونوا أماناتكم وانتم تعلمون ?(2)
المسئولية من نتائج الشورى :
إن هذه المسئولية من نتائج الشورى إذ لولا أن للأمة حق الرقابة على الحاكم ما أمر أن يستشيرها في كل أموره التي تتصل بهم . وقد دعم هذا سياسة الخلفاء الراشدون أنفسهم مع الناس، فهذا أبو بكر يعلن في أول خطبة له : إني وليت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني " وهذا عمر بن الخطاب يعلن كذلك : " من رأى منكم في اعوجاجا فليقومه . قال له أعرابي والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا " .
ومن هذا يستبين أن دعائم الحكومة في الإسلام هي الشورى ومسئولية أولى الأمر واستمداد الرئاسة العليا من البيعة العامة . وتلك دعائم كل حكومة عادلة لأن مرجعها كلها أن يكون أمر الأمة بيدها وأن تكون هي مصدر السلطات.
__________
(1) ... صجيح البخاري 7/41
(2) ... سورة الأنفال ـ الآية 27 .(1/17)
وقد قضت الحكمة أن تقرر هذه الدعائم غير مفصلة لأن تفصيلها يختلف باختلاف الأزمان والبيئات . فالله سبحانه أمر بالشورى وسكت عن تفصيلها ليكون سعة في نظمها بما يلائم حالهم فهم لكل شعب يقررون نظام انتخاب رجالها والشروط الواجب توافرها في المنتخبين وكيفية القيام بالواجبات إلى غير ذلك مما تتحقق به الشورى ويصبح أمر المسلمين شورى فيما بينهم(1) .
وكذلك نظام المسئولية وكيف يؤدى رجال الشورى واجب النصح وتقديم ما يمكن أن يطرأ على غيره إلى غير ذلك . وترك تفصيله أيضاً لمراعاة مقتضيات الأحوال(2) .
اللامركزية في النظام السياسي الإسلامي
تتباين الأنظمة السياسية بشأن السلطة بين المركزية والتوزيع (اللامركزية). على أن معظم البلاد الغربية تأخذ باللامركزية وأما في البلاد الإسلامية فالحال على العكس .
والواقع أن اللامركزية هو الشكل الذي كانت عليه الدول الإسلامية في عهود وحدتها حيث كانت تضم الدولة ولايات لها ما يشبه الحكم الذاتى ، على كل منها والٍ أو أمير، وفي كل ولاية مدن وقرى متفاوتة في الحجم والأهمية بحسب الموقع أو المزايا الأخرى التي تتفاضل بها الأماكن .
والواقع أن السلطة لم تكن مركزية تنحصر في عاصمة الدولة وهي آنذاك المدينة التي يقيم فيها رئيس الدولة بل كانت متقاسمة بين الولايات .
__________
(1) ... اورد د. بشار عواد معروف في بحثه عن الشورى (ص2-3) ان الاستشهاد بالتطبيقات العملية للشورى في عهد النبوة فيه الكثير من عدم الدقة بسبب الشخصية الرسالية للنبي صلى الله عليه وسلم . وان المجتمع الإسلامي يستطيع اليوم ان يضع القوانين والنظم والتعليمات بالشورى بما تلائم العصر وان التطبيقات العملية التي مارسها الخلفاء والحكام عبر العصور كانت ملائمة لعصورهم .
(2) ... عالمية الدعوة الإسلامية، د. على عبد الحليم محمود 359 دار عكاظ 1984 .(1/18)
وعلينا أن نستحضر حداثة هذا المصطلح ( المركزية، واللامركزية أو المحلية) من حيث التصريح به والنص عليه في وثيقة رسمية .. فكان لابد من البحث في التطبيقات التي حفظتها لنا كتب الأحكام السلطانية وكتب الخطط، مع إشارات في كتب التاريخ عند الكلام عن الولاة ومجال أو حدود ولايتهم، وكتب الفقه عند الكلام عن المصر وما دونه من تقسيمات لإقامة الجمع والأعياد .
الحرية الشخصية والحريات الأخرى (1)
إن المقصود بالحرية الشخصية من المنظور الإسلامي أن يكون لدى الشخص في ظل الحكم الإسلامي قدرة على التصرف في شئون نفسه وفي كل ما يتعلق بذاته في الوقت الذي يأمن من الاعتداء عليه أو عرضه أو مأواه أو أى حق من حقوقه، بشرط أن لا تكون قدرته تلك ـ أو حريته ـ مصحوبة بعدوان على حقوق الآخرين، أو بتجاوز لحدود الله وما شرعه من أحكام .. ومن تلك الحريات المصونة :
أ/ ... الحرية الفردية :
الإسلام يقرر هذه الحرية وأمن الفرد على ذاته من أي اعتداء وذلك بأن حد حدوداً بأوامره ونواهيه وشرع عقوبات عند المجاوزة، وبعض هذه العقوبات مقدر وهو الحدود وبعضها متروك تقديره للظروف المختلفة وهو التعزير .
ب/ ... حرية العقيدة :
أقر الإسلام هذه الحرية وترك لكل فرد الحرية التامة في أن يكون عقيدته بناء على ما يصل إليه عقله ونظره الصحيح والدليل على ذلك ان الإسلام جعل أساس التوحيد والإيمان والاعتقاد البحث والنظر والتفكير والتدبر والتعقل، لا القهر ولا الإلجاء، ولا المحاكاة ولا التقليد .
وكثير من آيات القرآن الكريم نفت أن الإيمان يأتي بطريق الجبر أو الإكراه قال تعالى ?لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغى ? وقال تعالى ?أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ? وقال تعالى ?لكم دينكم ولى دين ? .
__________
(1) ... عالمية الدعوة الإسلامية ، د. علي عبد الحليم محمود 361 .(1/19)
والإسلام يقرر حرية العقيدة لغير المسلمين ويعطيهم الحق في أن يقيموا شعائرهم في كنائسهم ومعابدهم وأن يتبعوا أحكام دينهم في معاملاتهم وأحوالهم الشخصية " لهم ما لنا وعليهم ما علينا " وجميع العهود التي كانت تعطى للمعاهدين كان يقرن فيها بالتأمين على الأنفس والأموال، التأمين على العقائد وحرية إقامة الشعائر .
ولا يخل بحرية العقيدة عقوبة المرتد الذي يترك دينه ويفارق الجماعة بعد أن يمهل وتزال الشبهات عنه، لأن الردة إخلال بالنظام العام وتمرد عن الجماعة .
ج/ ... حرية الرأي والتعبير :
قرر الإسلام هذا الحق وكفله لجميع الأفراد وقد نظر الإسلام إلى حرية الرأى على أنها نوعان : حرية الرأى في الأمور الدينية، وحرية الرأى في الأمور الدنيوية .
أما الأمور الدينية فلكل من لديه أهلية الاجتهاد أن يجتهد فيها ويرى الرأى الذي يوصله إليه اجتهاده، مادام اجتهاده في غير موضع النص، وما دام رأيه في حدود الأصول الكلية للدين ونصوصه الصحيحة : وذلك أن الإسلام جعل القياس من أصوله ومصادر التشريع فيه ـ والقياس هو إلحاق الأشباه بالأشباه والنظائر بالنظائر لاستنباط الأحكام التي لم ينص عليها، وهو إعمال للرأي بضوابط تحميه من الخطأ .
وأما حرية الرأى في الأموال الدنيوية فقد قرر الإسلام أن لكل فرد أن يبدى رأيه فيه حسبما يراه، وأن يعبر عن هذا الرأى بالطرق المناسبة له كالحديث والكتابة وما إلى ذلك، لا سلطان لأحد عليه ولا يملك أحد أن يصادر عليه رأيه وفكره، ما دام لا يتجاوز حدود الله وشعائر دينه ومقدساته ولا يعتدي على حريات الآخرين والنصوص الإسلامية التي تقرر المساواة بين الناس كثيرة .
المساواة بين الأفراد في الحقوق المدنية والسياسية :(1/20)
المساواة بين الأفراد في كافة الحقوق المدنية والسياسة شعار من أظهر شعارات الإسلام، ونصوص الإسلام وأحكامه ناطقة بتقريرها على أكمل وجوهها بل إنها تعتبر المساواة من شعائر الإيمان كما يقول تعالى ? إنما المؤمنون إخوة ? وقوله صلى الله عليه وسلم " الناس سواسية كأسنان المشط لا فضل لأحمر على أسود ولا لعربى على عجمى إلا بالتقوى " .
ذلك أن الإسلام لا يفرق بين واحد وآخر في الخضوع لسلطان قانونه، وليس فيه فرد فوق القانون مهما علت منزلته . فأمير المؤمنين والوالي وكل واحد من الأفراد متساوون في أحوالهم المدنية والجنائية، لا يمتاز واحد بحكم خاص ولا يطرق محاكمة خاصة بل الجميع أمام القانون سواء .
اشتراط الإسلام في الولايات العامة(1) :
__________
(1) ... يفسّر المستشار طارق البشري ، في بحثه القيم عن غير المسلمين في المجتمع الإسلامي (ص6) قصر الولايات على المسلمين بأن ذلك بسبب قلة المسلمين في الأقطار المفتوحة، فكان ضرورياً في مواجهة شعوبها لئلا يفلت الزمام من ايدى المسلمين، وكان هذا القصر ممكنا بحسبان التفوق السياسي .(1/21)
إذا ما سلمنا بأن الدولة الإسلامية طراز خاص من الدول لها ذاتيتها وطبيعتها الخاصة التي تتميز بها على سائر الدول المعاصرة فإن ذلك يمكن أن يوضح العديد من القواعد الإدارية التي يجب أن تسود الجهاز الإداري والتي لا نظير لها في الإدارة المعاصرة، ومن بين هذه القواعد ضرورة اشتراط الإسلام في القادة الإداريين الذين يمارسون الولاية العامة على المسلمين وذلك لأن هذا الشرط يتعلق بذاتية الدولة الإسلامية وطبيعتها الخاصة، ذلك لأن غير المسلم لا يعمل على تحقيق الأهداف والغايات التي ابتغاها الإسلام، فضلاً عن أنه سوف لا يراعي ما أوجبه الشرع الإسلامي، ولكون الدولة أساساً تؤسس على الإسلام وتنبني عليه فلا يتصور ترتيباً على ذلك أن يمارس أعمال الولاية العامة من لا يدين بدين الإسلام وكان من المنطقي أن تمنع النصوص ولاية غير المسلم على المسلم، لذلك حسم القرآن الكريم هذه المسألة في قوله عز وجل ? ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً?(1) .
وقد قرر الفقهاء المعنيون بالنظم الإسلامية جواز تولي غير المسلمين المناصب الإدارية بما فيها الوزارة ما عدا وزارة التفويض التي يعهد فيها ولي الأمر إلى الوزير تدبير الأمور برأيه وإمضاءها على اجتهاده(2) .
إن تحقيق المساواة بين أفراد الشعب لا ينقص من قصر بعض الوظائف الرئيسية على المسلمين لأن ذلك يتفق مع طبيعة الدولة بأنها إسلامية، والدول الديمقراطية لا تخول الأقليات المناصب الرئيسية (3) .
__________
(1) ... سورة
(2) ... الأحكام السلطانية، للماوردي 20 ، النظرية السياسية الإسلامية .د. ضياء الدين الريّس 228
(3) ... الدولة في الإسلامي 119 وبحث بعض المفاهيم الإدارية والسياسية، د. فؤاد النادي 82 .
أحكام القانون الدولي في الشريعة الإسلامية، حامد سلطان 105 .(1/22)
أما تولية القضاء لغير المسلم فهو في الأصل غير جائز، إذ لا ولاية لغير المسلم على المسلم، لأن شهادته عليه غير مشروعة، غير أنه يمكن التمحّل لمحاولة تصحيح بعض الأوضاع في بعض البلاد الإسلامية التي تقتضيها ظروف الحياة المعاصرة إجازة قضائهم في المسائل المدنية ونحوها، لضرورة رفع الحرج(1) .
ومن القواعد الإدارية التي أخذ بها الإسلام وتتعلق بذاتية هذا النظام الأخذ بمعيار التقوى والورع والفلاح للمفاضلة في اختيار القادة الإداريين وضرورة توفر القدوة الحسنة فيهم وقيام العملية الإدارية على الصدق والأمانة في المعاملة، وضرورة أن تسعى الإدارة لتحقيق مقاصد الله في الخلق ومراعاة المصلحة العامة لجماعة المسلمين واعتبار هذه المصلحة أساس ممارستهم لكل السلطات في الدولة الإسلامية واستناد العملية الإدارية لرقابة الأمة الإسلامية، فضلاً عن ضرورة إعمال الشورى في تسيير أعمال الإدارة لرقابة الأمة الإسلامية بمقتضي واجب الحسبة وكل هذه القواعد الإدارية مستمدة أساساً من ذاتية النظام الإسلامي وطبيعته الخاصة ولا نظير لها في النظم الإدارة(2) .
علاقات الدولة الإسلامية بغيرها
اعتناء الفقهاء بالحقوق الدولية
__________
(1) ... القضاء في الإسلام ، د. محمد سلام مدكور .
أحكام القانون الدولي في الشريعة الإسلامية، حامد سلطان 105 .
(2) ... بعض المفاهيم الإدارية والسياسية من منظور إسلامي ، د. فؤاد النادي 82 .(1/23)
من الجدير بالتنويه به بيان ما للحقوق الدولية من وجود عميق أصيل في الحضارة الإسلامية . والباعث على ذلك ما هو ملحوظ من ضعف الصلة بالتراث لدى الجيل الحالي، ولما طرأ من تغاير في التسميات وتداول المصطلحات حيث كانت العلاقات الدولية تسمى ( السير ) جمع سيرة بمعنى ما يسلكه الحاكم المسلم من سيرة في العلاقة مع الدول الأخرى وكذلك بسبب المبادرات التي انطلقت من الغرب لتكوين المنظمات الدولية بدءاً بعصبة الأمم ثم هيئة الأمم وما تفرغ عنها من مؤسسات في المجالات المختلفة .
والواقع أن للمسلمين قصب السبق في هذا المجال سواء من خلال التطبيق العملي في حالتي السلم والحرب أم من حيث أدبيات الفقه الدولي والمثل العليا في معالجة الحالات المختلفة .
وحسبنا أن نشير إلى الأعمال العلمية للإمام محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة ومدون مذهبه حيث وضع كتابين هما السير الصغير والسير الكبير الذي شرحه الإمام السرخسي ونشر في خمسة أجزاء .
والطريف هنا أن كتب الشيباني شدت مجموعة من الباحثين المسلمين المقيمين في ألمانيا منذ عقود فأسسوا في مدينة روتنجن جمعية سموها ( جمعية الشيباني للحقوق الدولية ) كما أن المنصفين من الباحثين من المسلمين وبعض المستشرقين يقررون أن الشيباني هو أبو الحقوق الدولية وليس (غروشيوس) الهولندي الذي هو من ابرز تلك الحقوق في الغرب فالشيباني له الأولوية في العالم وهذا من قبيل التجوز والمشاكلة في الحوار، لأن ما أورده الشيباني مستمد من القرآن والحديث فترجع العلاقات الدولية إلى الرسالة المحمدية ويزيد عمر السبق حوالي قرنين .
العلاقات في السلم والحرب
لقد نظم الإسلام علاقات الدولة بغيرها سواء في حال السلم أو حال الحرب أما في حال السلم فلا يحتاج الأمر مزيد بيان، فقد أتاح فرص التعايش سواء بالسفارات والمهام الخارجية، أو بإتاحة المجال لدخول الدولة من خلال مبدأ (المستأمن) أو ( المعاهدات ) .(1/24)
وأما في حال الحرب فقد وضع نظاماً دقيقاً لها لتخفيف ما تجره من ويلات ومآس على المدنيين، فمنع من التعرض للشرائح المسالمة .. كما حصرها في أمرين :
? الدفاع عن الدولة الإسلامية ومواطنيها من مسلمين وذميين ومستأمنين .
? فتح المجال أمام الدعوة الإسلامية لإخراج الشعوب من عبادة الطغاة إلى عبادة الله وحده، ومن الجور إلى العدل، ومن الضلالات إلى الهداية . ومن أجل ذلك شرع الجهاد أيضاً .
والجهاد في سبيل الله ـ كما عرفه ابن عرفة : قتال مسلم كافراً غير ذي عهد، لإعلاء كلمة الله، أو حضوره له، أو دخول أرضه(1).
وبهذا التعريف خرج قتال المسلم للبغاة، وقطاع الطرق، كان منه معنويا أو مادياً .
وقد قسم بعض الفقهاء الجهاد إلى أربعة أنواع مستوعباً ما كان منه معنوياً أو مادياً .
1/ ... جهاد القلب للشيطان والنفس عن الشهوات المحرمات .
2/ ... وجهاد باللسان بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ( ويدخل فيه الدعوة للإسلام، والحرب الإعلامية أيضاً ) .
3/ ... وجهاد باليد بزجر ذوي الأمر أهل المنكرات عن منكرهم، ومنه إقامة الحدود .
4/ ... وجهاد بالسيف .
وقد عبر الدكتور البوطي عن قسمي الجهاد الأساسيين بأنهما : الجهاد الدعوي، والجهاد القتالي :
- ... فالجهاد الدعوى يكون بتعريف الناس بالإسلام وإزالة الشبهات التي قد تتسرب إليه
- ... والجهاد القتالي يكون بمقابلة المعتدين خارج البلد الإسلامي وبعيداً عن حدوده كقتال رسول الله صلى عليه وسلم المشركين يوم أحد ويوم بدر، ويوم ذات الرقاع .
وقد يكون بمهاجمة المسلمين للأعداء واقتحامهم بلادهم، وذلك عندما يكتشف المسلمون كيدا يدبر منهم وخطة ترسم ضد أمنهم(2) .
__________
(1) ... شرح المواق على مختصر خليل 3/348 .
(2) ... الجهاد في الإسلام، للدكتور محمد سعيد البوطي 166 .(1/25)
وبما أن الدول في العهود الأولى للدولة الإسلامية لم تكن بينها معاهدات لإقرار السلم بينها، فقد ظهرت الحاجة إلى البعوث السنوية للقتال ( أو الشواتى والصوائف ) وذلك بقصد الردع عن العدوان وهي ( الحرب الوقائية )، وهذه البعوث ـ بالرغم من تقرير الفقهاء وجوبها فإن ذلك كان لمقتضيات العصور التي عايشوها .
وفيما يلي تقرير مشروعيتها : نص ابن قدامة والحطاب وغيرهما على أنه يجب أن يبعث الإمام في كل سنة جيشاً يغيرون على العدو في بلادهم، وعبارة ابن عبد البر : فرض على الإمام إغزاء طائفة للعدو في كل سنة يخرج هو بها أو من يثق به وفرض على الناس في أموالهم وأنفسهم الخروج المذكور لا خروجهم كافة.
أما ارتباطها بمقتضى الأحوال فإن ابن قدامة نفسه بعدما أشار إلى أن اقل ما يفعل الجهاد مرة في كل عام أورد استثناءات كثيرة يهمنا منها قوله :" أو يعلم الإمام من عدوه حسن الرأي في الإسلام فيطمع في إسلامهم إن أخر قتالهم ونحو ذلك مما يرى المصلحة معه في ترك القتال، فيجوز تركه بهدنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد صالح قريشاً عشر سنين، وأخر قتالهم حتى نقضوا عهده، وأخر قتال قبائل العرب بغير هدنة "(1) .
__________
(1) ... المغني لابن قدامة 8/348 والحطاب شرح خليل 3/347 ناقلا عن الكافي لابن عبد البر .(1/26)
ومن هذا يتبين أن هذه البعوث هي مبادرات معهودة في تلك العصور، حيث لا وجود للمعاهدات الدولية بالمصطلح الحديث ولا وجود للمنظمات الدولية التي ترعاها ـ ولو أدبياً ـ فكانت تلك البعوث لمنع الاعتداء ولو بالتفكير به أو التخطيط له، ولاستبقاء الرهبة التي يوجد معها توازن القوى، وهو المطلوب في قوله تعالى ? واعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ?(1) .
أما الآن فقد تحقق ما يستغنى به عن ذلك وهو المعاهدات والمواثيق الدولية كما أن حالة السلم هي السبيل الآن للترغيب في الإسلام في ظل مبدأ الحريات، وهو مبدأ كان غائباً أو مغيباً بوجود الكيانات المسيطرة والحائلة دون نفوذ الدعوة للشعوب(2) .
أثر الحوار السياسي
في مجال العلاقات الدولية
إن من يستعرض الرسائل النبوية يجد أنها تنقسم من حيث العلاقة بالمرسلة إليهم إلى أقسام، والذي يهمنا من تلك الأقسام ما كان يندرج في العلاقات الدولية، وحتى يكون البحث مؤصلا على ما تقرر في هذا العلم نورد تعريف علم الحقوق الدولية وما يعتبر من قبيل العلاقات بين الدول .
هناك تقسيما للحقوق الدولية إلى :
? حقوق دولية عامة وهي التي تكون أطرافها دولاً، مثل معاهدة الحديبية ومثل صحيفة المدينة التي حددت علاقة المسلمين فيها بمن يشاطرهم العيش على أرضها .
? وحقوق دولية خاصة وهي التي يكون أحد أطرافها دولة والطرف الآخر فرداً من دولة أخرى .
__________
(1) ... سورة الأنفال الآية / 60 وقد عنى بعض الباحثين بتفصيل أسباب الحروب والغزوات وفي صدر الإسلام ( الشريعة الإسلامية والقانون الدولي ) للمستشار علي علي منصور ط . المجلس الأعلى للشئون الإسلامية 1384هـ = 1965 .
(2) ... ومن العبارات الدالة على هذا قول ابن جزي في القوانين الفقهية 97 " إذا حميت أطراف البلاد، وسدت الثغور سقط فرض الجهاد ( يقصد فرض الكفاية بالبعوث السنوية ) وبقي ناقلة " .(1/27)
أما العلاقات الدولية فتشمل جميع الاختصاصات التي تمارسها الدول من سياسية واقتصادية واجتماعية . كما تشمل حالتي السلم والحرب(1) .
أنواع الوثائق الخارجية للدولة الإسلامية :
أما المستندات والوثائق المؤسسة للعلاقات الخارجية بالرجوع للتراث الإسلامي فإن هناك كتباً ( عهوداً ) (2) أعطيت في عهد النبوة لبعض الوفود من القبائل والأفراد لتوثيق الأمان لهم، أو لإثبات عطايا واقطاعات منحت إليهم، وهي تسلم لأصحابها مباشرة ممن وفدوا على عاصمة الدولة .
وهناك الرسائل النبوية إلى الملوك والحكام في عهد النبوة .
وإلى جانب الرسائل والعهود وكتب الأمان هناك ( المعاهدات ) التي نظمت العلاقة بين الدولة وغيرها من الدول أو لإيقاف الحرب كمعاهدة الحديبية(3) .
هناك (الوصايا) النبوية إلى أمراء الجيوش بتطبيق القيم الإسلامية في الحرب وبعدها، وهي بمثابة رسائل مفتوحة ولوائح منظمة للعلاقات الدولية .
الاعتراف بالآخر من خلال الرسائل النبوية :
__________
(1) ... المنظمات الدولية ، د. جعفر عبد السلام 55 ، 29 .
(2) ... اشتملت الطبقات الكبرى لابن سعد على تلك العهود بمناسبة كلامه عن الوفود .
(3) ... اشتمل كتاب الأموال لأبي عبيد ( ص 218) على كثير من المعاهدات وتنظر دراسة للمعاهدات في العهد النبوي، عتيق الرجمن العثماني، المؤتمر الرابع للسيرة والسنة 5/587 – 623 ومجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة ن د. محمد حميد الله الحيدر ابادى رقم الصفحة 96 .(1/28)
لقد تضمنت الرسائل النبوية الإشارة في الرسائل إلى المزايا التي يتحلي بها المرسل إليهم، وتمثل ذلك في عناوينها بوصفهم بالأوصاف التي سموا بها، مثل عظيم الروم ونحو ذلك ولا يخفى أن من دواعي القبول لما تحمله الرسالة من فكر وما تهدف إليه من أغراض تقدير الشخص المرسلة إليه ومخاطبته بصفته ممثلا للدولة بصرف النظر عن كونه مخالفاً في الدين ولعل ذكر ما في هؤلاء الرؤساء من مزايا يقصد بها حضهم على تسخيرها للخير والهدى بدلاً من إضاعتها وتوظيفها في اللهو أو الشر وضرر الآخرين .
ولم يقتصر هذا الأمر على الرسائل إلى الملوك ( العلاقات الدولية العامة ) بل شمل الأفراد من دولة أخرى ( العلاقات الدولية الخاصة ) ومثال ذلك ما جاء في الرسالة التي بعث بها الوليد بن الوليد إلى أخيه خالد بن الوليد بتوجيه من النبي صلى الله عليه وسلم لدعوة خالد إلى الإسلام، وهي صورة من العلاقات الدولية الخاصة، فقد جاء في تلك الرسالة بعد البسملة أما بعد فإني لم أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام، وعقلك عقلك، ومثل الإسلام يجهله أحد؟ وقد سألني رسول الله صلى الله عليه وسلم عنك وقال أين خالد؟ فقلت : يأتي الله به قال :" مثله يجهل الإسلام ؟ ! ولو كان جعل نكايته وجده مع المسلمين كان خيراً له ولقدمناه على غيره" فاستدرك ـ يا أخي ـ ما قد فاتك من مواطن صالحة(1) .
أما في مجال مخاطبة الملوك بالقول اللين فإن أمثلته واضحةفي الرسائل، ومنها رسالته إلى ملك اليمن وقوله له : إن أسلمت أعطيتك ما تحت يدك وملكتك على قومك(2) .
اشتمال الرسائل النبوية على الدعوة إلى الله ونشر القيم الفاضلة:
__________
(1) ... صفوة الصفوة، لأبن الجوزي 1/651 ومع إن الرسالة من الوليد لأخيه خالد فإنها مستوحاة من كلامه عليه الصلاة والسلام .
(2) ... تاريخ الطبري 2/297 .(1/29)
الرسالة أسلوب من أساليب الدعوة التي يجب على الداعية أن يستخدمها، لأن لها تأثيراً دائماً يتكرر سواء بالتأمل فيها عند قراءتها، أم كلما رجع إليها المرسلة إليه، ولا يخفى أن الرسالة حين يكتبها صاحبها يفرغ جهده في تحريرها وتضمينها ما يحقق ما يرمى إليه المرسل من أهداف .
عالمية الإسلام من خلال الرسائل النبوية إلى الملوك :
إن الرسائل النبوية تكشف عن وجه من وجوه التطبيق العملي الملموس لعالمية الدعوة الإسلامية باعتبارها خاتمة الأديان والهداية الإلهية للناس كافة، وموضوع الرسائل النبوية يعتبر صفحة هامة من صفحات السيرة النبوية(1) .
وتجدر الإشارة المؤجرة هنا إلى أهم العبر التي تستخلص من إرسال الرسائل إلى الملوك :
? إرسال الرسل فيه برهان عملي على ان دعوة الإسلام عامة للناس كافة .
? موقف هرقل وأفعاله يدل على التكبر عن الحق بالرغم من معرفته .
? من واجب المسلمين تهيئة وسائل الدعوة في كل أرجاء الأرض بما يتناسب مع كل عصر .
? البدء بالإصلاح الداخلي للمسلمين ليكون ذلك مثلاً صالحاً للسلوك والخلق ودعوة عملية للإسلام .
? اقتناع الشعوب الأخرى بسلامة أهداف الدولة المحمدية والتهيئة لتقبل الإسلام طوعاً أو مسالمة المسلمين والإسهام في بناء اقتصاد الدولة .
? تعزيز مبدأ استبعاد الإكراه الديني الذي كان هو السائد في عصر النبوة لدى الدول الأخرى .
? تأمين الطرق والمسالك وتوفير الحماية للرسل والمبعوثين .
? التمهيد للمعاهدات والتفاهم السلمي كما في الرسالة إلى "هرقل عليك إثم الاريسيين" أي الفلاحين والصناع(2) .
? التذكير بمسئولية الحكام .
***
الفهرس
__________
(1) ... الدراسات المتعلقة بالرسائل النبوية، د. عز الدين إبراهيم (بحث المؤتمر الرابع للسيرة) 6/249.
(2) ... فقه السيرة، محمد الغزالي ، دار العلم دمشق 1409هـ = 1989م
وفقه السيرة ، د. محمد سعيد رمضان البوطي 306 .
والسيرة النبوية ، أبو الحسن الندوي 1407هـ = 1987م .(1/30)
المقدمة .......................................................................... ... 2
تعريف الدولة واركانها ........................................................... ... 4
(1) الشعب .................................................................. ... 6
(2) الأرض .................................................................. ... 8
(3) مبدأ السيادة ............................................................. ... 10
السلطات الثلاث، والفصل بينها .................................................. ... 12
نوع الحكومة الإسلامية .......................................................... ... 14
... - ... خضوع الإدارة العامة للقانون الإسلامي ........................... ... 15
... - ... دستورية الدولة الإسلامية ........................................ ... 15
رئاسة الدولة، ومهامّها ........................................................... ... 17
ذو القعدة تعريف رئاسة الدولة ( الإمامة الكبرى ) .......................... ... 17
ذو القعدة رئيس الدولة أعلى سلطة فيها .................................... ... 18
ذو القعدة مدة الرئاسة ..................................................... ... 18
مهام رئيس الدولة ............................................................... ... 20
ذو القعدة واجب الإمام نحو الدين ( أصله وفروعه ) ......................... ... 20
ذو القعدة واجب الإمام في الأمور المتعلقة بالدنيا ............................. ... 20
ذو القعدة الطبيعة الدنيوية لمسألة رئاسة الدولة .............................. ... 21
ذو القعدة واجبات رئيس الدولة ............................................ ... 22
ذو القعدة واجبات الأمة تجاه رئيس الدولة ................................... ... 23(1/31)
مبدأ السياسة الشرعية ........................................................... ... 24
مفهوم المعارضة السياسية ........................................................ ... 26
المسئولية من نتائج الشورى ...................................................... ... 27
اللامركزية في النظام السياسي الإسلامي ........................................... ... 29
الحرية الشخصية والحريات الأخرى .............................................. ... 30
ذو القعدة الحرية الفردية ................................................... ... 30
ذو القعدة حرية العقيدة .................................................... ... 30
ذو القعدة حرية الرأي والتعبير .............................................. ... 31
ذو القعدة المساواة بين الأفراد في الحقوق .................................... ... 32
ذو القعدة اشتراط الإسلام في الولايات العامة ............................... ... 32
علاقات الدولة الإسلامية بغيرها .................................................. ... 35
ذو القعدة اعتناء الفقهاء بالحقوق الدولية .................................... ... 35
ذو القعدة العلاقات في السلم والحرب ...................................... ... 37
أثر الحوار السياسي في مجال العلاقات الدولية ..................................... ... 41
ذو القعدة أنواع الوثائق الخارجية للدولة الإسلامية .......................... ... 41
ذو القعدة الاعتراف بالآخر من خلال الرسائل النبوية ........................ ... 42
ذو القعدة اشتمال الرسائل النبوية على الدعوة .............................. ... 43
ذو القعدة عالمية الإسلام من خلال الرسائل النبوية على الملوك ............. ... 44(1/32)
بسم الله الرحمن الرحيم
مسلمو أوروبا والمشاركة السياسية
ـــ الواقع والمنشود ـــ
حسام شاكر
اسطنبول / فيينا ، تموز (يوليو) 2006
المحتويات
الفصل الأول: عن المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا
? المشاركة السياسية ـ في المفهوم
? المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا ـ في المفهوم
? المشاركة السياسيّة لمسلمي أوروبا ـ من إشكاليّات المفهوم
? المشاركة السياسية والمشاركة المجتمعية
? المشاركة السياسية والمشاركة المجتمعية ـ تشابك آليات التأثير
? مسلمو أوروبا وأهمية استصحاب المشاركة المجتمعية مع المشاركة السياسية
? مؤشرات للتعرف على المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا
? ملف تمثيل المسلمين .. والطابع السياسي
الفصل الثاني: مسلمو أوروبا وصعوبات المشاركة السياسية
? من الصعوبات التي تعترض المشاركة السياسية لعموم الجمهور
? من الصعوبات التي تعترض المشاركة السياسية للأقليات
? من الصعوبات المتعلقة بخصوصية مسلمي أوروبا
? فرص المشاركة السياسية في أوروبا وتحدي "السقف الزجاجي"
? الصعود إلى النخبة ومعايير الاصطفاء
الفصل الثالث: مواقف مسلمي أوروبا من المشاركة السياسية
? فئات مؤيدة بوضوح للمشاركة السياسية
? فئات معارضة بوضوح للمشاركة السياسية أو لصورها المباشرة على الأقل
الفصل الرابع: في توصيف المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا
? الظرف التاريخي للمشاركة السياسية الراهنة لمسلمي أوروبا
? من ملامح المشاركة السياسيّة لمسلمي أوروبا
? المشاركة السياسية على المستوى المحلي
? عن تجارب إدارة العمل السياسي في صفوف مسلمي أوروبا
? عندما يحجم مسلمو أوروبا عن الانتخاب ـ الخلفيات
? المرأة المسلمة في الحياة السياسية الأوروبية
? مساجد أوروبا .. وساحة المشاركة السياسية
? المشاركة في ظل الأزمات
الفصل الخامس: مسلمو أوروبا الشرقية والمشاركة السياسية
? التحوّل في النظم السياسيّة في أوروبا الشرقيّة ـ لمحة موجزة(1/1)
? خصوصيات المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا الشرقية
الفصل السادس: إشكالية تقييم المواقف السياسية من خلال المجالات المختلفة
السياسيات الداخلية والخارجية ـ مثالاً
? مسلمو أوروبا وخلفيات الاهتمام بالسياسات الخارجية
? مسلمو أوروبا ونموّ الاهتمام بشؤون السياسة الداخلية
? حضور هامشي للسياسة الخارجية في الساحة الجماهيرية الأوروبيّة
? ما الذي يعنيه ذلك بالنسبة للتفاعل السياسي لمسلمي أوروبا؟
? مسلمو الغرب واضمحلال فرضية "القرب من مراكز صنع القرار العالمي"
? عن التوازنات الداخليّة بشأن "القضايا الإسلامية" في السياسات الخارجية الأوروبية
? مسلمو أوروبا .. وخيارات الدور الوسيط في العلاقة الأوروبية مع العالم الإسلامي
? مسلمو أوروبا والتفاعل مع السياسات الخارجيّة .. نحو مشاركةٍ أكثر عمقاً
? مراعاة الأولويات وإدراك التباينات في البيئات الأوروبية وكيفية التعاطي معها
الفصل السابع: كيف تكون المشاركة؟
بحثاً عن مداخل لتطوير تجارب المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا
? عن مفهوم المشاركة السياسيّة الرشيدة لمسلمي أوروبا
? المشاركةُ السياسية الرشيدة لمسلمي أوروبا ـ في مقاصدها العامة
? المشاركة السياسية الرشيدة لمسلمي أوروبا ـ أهدافها المباشرة
? المشاركة السياسية الرشيدة لمسلمي أوروبا ـ وسائلها وأدواتها
? مسؤوليات ووظائف مترتبة على أطراف المشاركة السياسية الرشيدة لمسلمي أوروبا
? من متطلبات العمل السياسي الرشيد لمسلمي أوروبا ومواصفاته
? الموازنة بين المكتسبات الرمزية والتقدم الفعلي في ساحة المشاركة السياسية
? المبادرة إلى الفعل واستباق التطوّرات .. بدلاً من الاستئناس بردود الأفعال
? نحو حضور أكثر فاعلية في الساحتين السياسية والمجتمعية
? تهيئة الرأي العام وتكييف الخطاب والممارسة
? عن التنازلات في سياقات المشاركة ـ الهوامش والحدود ودور الخطاب السياسي(1/2)
الفصل الثامن: مسائل وإشكاليات في العمل السياسي لمسلمي أوروبا
? السياسي المسلم وإشكالية "ازدواجية الولاء" (المزعومة) بين الأقلية المسلمة والحزب السياسي
? تحدي القدرة الفعلية للسياسي المسلم على التأثير في المستوى السياسي
? إشكالية التوافق مع مبادئ الحزب وبرامجه وسياساته ومواقفه وأدائه التنفيذي
? هل من معايير لإمكانية بقاء السياسي المسلم في إطار حزبي بعينه؟
? إشكالية التشابك بين "السياسي" و"الدعوي"، أو إشكالية "تسييس" الحضور العام لمسلمي أوروبا
? إشكالية "الالتزام الحزبي" في الحياة السياسية والبرلمانية
? مسألة التعاطي مع "القواسم المشتركة" بين المبادئ والتوجيهات الإسلامية من جانب؛ والمبادئ والأيديولوجيّات الحزبية من جانب آخر
? إشكاليّة التنازع أو التردّد بين أنماط الخطاب ضمن مجمل الحضور السياسي والمجتمعي لمسلمي أوروبا
? إشكالية الموازنة بين مقتضيات المبدأ والواجب والدور؛ وضرورات الحذر والاحتراس
الفصل الأول
عن المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا
المشاركة السياسية ـ في المفهوم:
طبقاً لما تقرّره مصادر العلوم السياسية؛ فإنّ النظام السياسي الديمقراطي إنما يقوم على أساس مشاركة الشعب أو الجمهور فيه، فيقال على وجه العموم؛ "إنّ الأنظمة الديمقراطيّة تنظر إلى أنّ غاية السياسة هي توفير جوّ اجتماعي، وحمايته والمحافظة عليه؛ يستطيع فيه الأفراد أن يحقِّقوا طموحاتهم الفردية والجماعية"(1).
__________
(1) غراهام، لورنس/ فاركاس، ريتشارد/ غريدي، روبرت/ راسموسن، يورغن/ تسوروتاني، تيكتسوجو: "السياسة والحكومة ـ مقدمة للأنظمة السياسية" (الترجمة العربية). الرياض، 2000، ص ط.(1/3)
من هنا تأتي المشاركة السياسية لتصف تلك الأداءات التي يتولّى المواطنون القيام بها بشكل طوعي بما يهدف للتأثير على القرارات في المستويات المتعددة للنظام السياسي. أي أنّ هذه المشاركة يُقصَد بها ما يتعلّق بتلك الأداءات التي يُرجى بوعي من خلالها، الوصول إلى هدف سياسي(1).
والواقع أنّ المشاركة السياسية لمجموعة ما إنما تهدف للتأثير على صناعة القرار، وهي إن نجحت فإنها تكون، بصورة عامة، جزءاً من بيئة صناعة القرار، في ما أنها قد تنجح في بعض الحالات في النفاذ إلى داخل الدائرة المباشرة لصناعته. فعضوية اللجان العامة المختصّة، أو صعود ممثِّل عن رؤى المجموعة ومواقفها إلى مستويات تشريعيّة أو تنفيذيّة مثلاً؛ قد يُعَدّ، ضمن أشكالٍ واحتمالاتٍ متعددة، مشاركةً عضويّة في عملية اتخاذ القرار. إلاّ أنه قد يحدث كذلك، أن يصعد ممثِّلون عن المجموعة ذاتها إلى نطاق صناعة القرار، دون قدرة على التعاطي مع بيئتها أو إمكانية التأثير فيها، لأسباب ذاتية و/أو موضوعية.
__________
(1) Kaase, Max: „Vergleichende Politische Partizipationsforschung“. In: Berg-Schlosser, Dirk/ Müller-Rommel, Ferdinand (Hrsg.): „Vergleichende Politikwissenschaft“. Leverkusen, 1987, S. 136.(1/4)
ولا تتخذ المشاركة السياسية نمطاً محدداً، كما أنها لا يمكن حصرها في ما يقرِّره المشرِّعون مثلاً، طالما أنها بمثابة حالة تواصلية قادرة على التعبير عن ذاتها بطرق شتى، منها ما هو مقبول، ومنها ما قد لا يكون كذلك. وبهذا؛ لا يكون بالوسع النظر إلى المشاركة السياسية بمنطق النصوص الدستوريّة أو القانونيّة وحدها، ذلك أنّ المشاركة السياسية تتحقّق من جانب وفق مقرّرات تشريعية أو نظامية ما، كما في الجولات الانتخابية مثلاً، بينما تتجسّد واقعاً من جانب آخر عبر حملات الحشد والتعبئة والضغوط التي يقوم بها المواطنون بصفة غير نظاميّة أيضاً. ثم إنّ المشاركةَ السياسية قد تجري في ضوءِ القانون، فتكون متمتِّعةً بالشرعيّة القانونيّة، بينما قد تجري في حالاتٍ ما على هيئة "مشاركةٍ في الظل"، أي بشكل لا يتوافق، بقدر أو بآخر، مع المعايير والضوابط، قانونيّة كانت أم أخلاقيّة.
وهي على أي حال؛ مشاركةٌ تُمارَس بوعي(1)سعياً لأن تَتْرُكَ تأثيراً ما على صناعة القرار في مستوى أو آخر. وإن كان يجري أحياناً بدون وعي ما يبدو شبيهاً بفعل المشاركة السياسية، كجُملةٍ من الأفعال والأقوال التلقائيّة أو حتى على ما دون ذلك من صور الحضور والتعبير عن الذات، التي ربما يترتب عليها انعكاس سياسي ما. ورغم اعتبار الوعي بفعل المشاركة أساساً فيها؛ فإنّه يصعب عملياً عزلُ الفعلِ "الواعي" ذي الأثر السياسيّ عن نظيره الذي يجري بدون وعي أو إرادة مُسبَقة أو تصميم مثلاً، ولذا فإنّ هذه الدراسة تتبنّى مفهوماً أرحب للمشاركة السياسية، يأخذ بعين الاعتبار جملة المشاركات المؤهلة لأن تكون ذات أثر بدرجة أو بأخرى، في الساحة السياسية.
__________
(1) قد يبدو أنّ صفة إرادة التأثير تشمل العنف السياسي، لكنّ العنف لا يتوافق مع روح المشاركة وطابعها.(1/5)
أما لجهة تأثيرها؛ فإنّ المشاركة السياسية قد تكون مُلزِمة أو غير مُلزِمة، وذلك من الجانب النظامي البحت، ولكنها في المنظور الأخلاقي أو الأدبي أو المبدئي، مع الأخذ بعين الاعتبار أيضاً تباينه وعدم تحديده وكونه فضفاضاً في الغالب؛ قد تفرض إلزامية أو لا إلزامية، وهو ما يخضع لتقديرات ذاتية وموضوعية متفرِّقة. فعلى سبيل المثال؛ ينبغي، وفق المنظور النظامي، القبول بنتائج الانتخابات التي تجري طبقاً للأنظمة المرعية والتسليم بها إلزاماً، ولكنّ ذلك قد يستدعي في حالات ما، تحفّظات، عادةً ما تُورَد مشفوعة بمبرِّرات، أو ذرائع، أخلاقية أو أدبية أو مبدئية، فعلية كانت أم مزعومة؛ إذا ما تمخّضت العملية النظامية عن نتائج مُتحفّظ عليها من طرف أو أكثر. وهنا؛ قد تخضع نتائج المشاركة السياسية للضغوط والرفض والمقاومة، بصفة صريحةٍ أو غير صريحة(1). ويثير ذلك جانباً إشكالياً، يتعلّق بالحالات التي يجري فيها تحوّر، أو إجراء تحوير، في النظرة المبدئية أو الموقف النظري أو الملابسات الأخلاقية من مسألة بعينها أو من طرف ما، بالشكل الذي يجعل، مع عوامل أخرى، المعايير القانونية أو النظامية وحدها غير كافية لضمان مشاركة سياسية فاعلة ومتكافئة في البيئة السياسية الواحدة.
المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا ـ في المفهوم:
__________
(1) مثال ذلك حملة الضغط العارمة التي أعقبت صعود زعيم حزب "الجبهة الوطنية" (Front National) السياسي المتطرف جان ماري لوبن إلى جولة الانتخابات الرئاسية الفرنسية الثانية سنة 2002، والمقاطعة الأوروبية للنمسا عقب التقدم الكبير الذي أحرزه حزب الحرية النمساوي (FP?) بشعاراته المعادية للأجانب في انتخابات 1999 واشتراكه في الائتلاف الحاكم، ومن قبل كان أحد النماذج الصارخة والإشكالية متمثلاً بفوز الحزب النازي (القومي الاشتراكي) (NSDAP) بقيادة أدولف هتلر في آخر انتخابات ديمقراطية تشهدها ألمانيا قبل الحرب العالمية الثانية.(1/6)
لا يُقصَدُ بالمشاركة السياسية لمسلمي أوروبا؛ "المشاركةَ الإسلاميّة" في الساحة السياسية الأوروبية، أي انبثاق المشاركة هذه عن توجيهات الدين الإسلامي، كما قد ينصرف إليه الذهن. ولكن يُفترَض بالممارسة الرشيدة لمسلمي أوروبا في الساحة السياسية المحلية والقُطرية والقارِّيّة أن تكون منسجمةً بقدر معقول مع خصوصيّات البيئات السياسية الأوروبية، وغير متعارضة مع قيم الإسلام وتوجيهاته وتعاليمه، بل وأن تكون، وهذا هو الأوْلى والأوفَق، مستهديةً ومسترشِدةً بهذه القيم والتوجيهات والتعاليم الإسلامية مع انطباعها الإيجابي بخصوصيّة بيئيةٍ يجعلُها متّصلةً بواقعها غير منفصمةٍ عنه.
ومن هنا؛ يمكن التفريق بين مفهوم "المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا"، كحالة مُستلّة من الواقع، وتلك الممارسة إذا ما وُصفت بالرُّشد، كحالة مُثلى أو قريباً من ذلك، كممارسة منشودة أو مرتجاة.
وغنيّ عن القول إنّ مشاركة المسلمين في الساحة السياسية، لا يمكن أن يُفهم منها أنها تسعى إلى الهيمنة على هذه الساحة في العاجل أو الآجل، بل هي، من حيث كونها مشاركةً؛ إنما تهدف بالطبع إلى الحضور اللائق في هذه الساحة على أسس التفاعل السليم مع شركاء المواطنة من الأطراف المجتمعية والسياسية الأخرى، وهو ليس بالمطلب المتيسِّر على أي حال.(1/7)
وفي واقع الأمر؛ فإنّ ما قد يستدعي لفتَ الانتباه إلى هذه المُسَلّمة أمران؛ أولهما ما تثيره بعض أصوات التحريض ضد مسلمي أوروبا من أنهم يسعون إلى "أسلَمة" الواقع الأوروبي، وهي مُفرَدة يُقصَد بها في سياقات كهذه إرادةَ الهيمنة على هذا الواقع والاستفراد به مع النزوع إلى إضفاء طابع شموليّ عليه وبما لا يتيح متنفساً للآخرين، في ما يهدِّد "الميراث الأوروبي" برمّته. وعادة ما يتذرّع هؤلاء المحرِّضون المتطرِّفون بلغة البيانات العدديّة (عن تزايد أعداد المسلمين مقابل تناقص عددي للمواطنين الأوروبيين "الأصليين") التي تُجَيّر على نحو يُراد منه إثارة الفزع، وبما يمنح انطباعاتٍ مضلِّلَة تُشَكِّل بحدّ ذاتها محفِّزات لاستنبات القلق والارتياب و"الإسلاموفوبيا". أما الأمر الثاني؛ فيأتي على خلفيّة إدراك حالات الخلل والقصور في الثقافة السياسية وتجاربها في بقاع ممتدّة من العالم الإسلامي، والتي قد تُلقي ببعض ظلالها على تصوّرات بعض المسلمين الوافدين من تلك البقاع. فقد شهد العالم الإسلامي، وما زال، تجاربَ مؤسِفة من الاستفراد السياسيّ المزمن، والهيمنة الأحادية على الساحتين السياسية والمجتمعية، تملّصت من مبدأ الشورى وانعتقت عن التزاماته، وهو ما لم يُتِح فرصاً مشجِّعة لبلورة خبرات مُسبَقة لدى بعض مسلمي أوروبا الذين يتحدّرون من تلك الأقاليم، وهي ملاحظة تستدعي السعي إلى بلورة ثقافة سياسية ومجتمعية معفيّة من أعباء بعض التجارب التي هيمنت بشكل سلبيّ على بعض بيئاتهم السابقة، وذلك تشجيعاً على تعاطٍ رشيد وبنّاء من جانب عموم مسلمي أوروبا مع الساحتين السياسية والمجتمعين في البيئات الأوروبية.
المشاركة السياسيّة لمسلمي أوروبا ـ من إشكاليّات المفهوم:(1/8)
لا ريب أنّ مفهوم المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا، مؤهّلٌ لأن يثير تساؤلاتٍ وإشكاليات. فهل يمكن حقاً النظر إلى المشاركة السياسية لقطاعات المجتمع العريض من خلال الاقتصار في التصنيف على الانتماء الديني مثلاً وحسب، أو لمجرّد التابعيّة لأقلية ما؟ وإلى أي مدى يمكن تجاهل حقيقة انتماء عضو المجتمع إلى أكثر من دائرة أو فئة أو قطاع في الوقت ذاته؟.
وكمثال على ذلك؛ يجد المرء أنّ المسلمةَ الأوروبيّة التي تعمل في مصنع، مثلاً، تنتمي إلى الأقليّة المسلمة، وإلى فئة النساء، وإلى "الشريحة العاملة"، كما أنها قد تكون من قطاع من يُوصَفون بالمهاجرين. وهي من الناحية العمرية؛ قد تُصنّف ضمن الشريحة الشابة، في ما أنها قد تكون متحدِّرة من بلد مسلم، أو حتى من أقليّة مسلمة تقطن بلداً أغلبيته غير مسلمة، كأن تكون مهاجرة من بلد آسيوي كالفلبين لا يشاركها معظم مواطنيها السابقين انتماءها الدينيّ لكنها تشاركهم الانتماءّ إلى الوطن السابق واللغة وبعض العادات والتقاليد أيضاً. من هنا؛ تتّضح، ببساطة، استحالةُ تصنيف الفرد، تصنيفاً أحادياً، بالتعامل مع خصوصيّة واحدة وتجاهل غيرها من الخصوصيّات.
هذا بشأن الفرد؛ أما تصنيف المجموعات، كلّ على حدة؛ فيتم تلقائياً على أساس ملاحظة المشترك الجامع بين الأفراد، فتكون لكل مجموعةٍ خصوصيّتُها التي يَفتَرضُها هذا التصنيف. لكنّ ذلك لا ينبغي له أن يتجاهل حقيقة التداخل والتشابك والتقاطع بين المجموعات والفئات والقطاعات والشرائح المكوِّنة للمجتمع العريض، كما لا يجوز له أن يَغُضّ الطرف عن واقع التنوّع الداخليّ المتوقع ضمن كل مجموعة على حدة أيضاً.(1/9)
ولا بدّ أن يكون واضحاً؛ أنّ إدراك التنوّع الداخلي والتباينات الضمنيّة ضمن الوجود المسلم في أوروبا لا ينبغي فهمُه على أنه مشروعٌ تقويضيّ للإطار العام، أو نزعةٌ تفكيكيّةٌ لـ "وحدة المسلمين" كما قد يُظَنّ؛ بل هو في الأساس مدعاةٌ للتعويل على القواسم المشتركة في تعزيز حالة التشابك المسلم ضمن النسيج الأوروبي العام.
أما من يتجاهل ذلك بالفعل في تناوله؛ فإنه لا يَبني ملاحظاتِه واستنتاجه على أُسُسٍ غير دقيقة وحسب؛ بل وقد يُمارِس، بوعي أو بدونه؛ تناولاً يقوم على عزل مجموعة عن سياقها المجتمعي عزلاً قسرياً. وإذا ما تعلّق الأمر بالمسلمين؛ فإنّ المرء يلحظ ذلك مثلاً بشكل صارخ في التناول التحريضي ضد الوجود المسلم في البلدان الأوروبية، الذي يعمد إليه خطاب متطرِّف في المجتمع أو السياسة أو الإعلام. ومن المؤسف أن نجد شيئاً من ذلك في بعض المعالجات الأخرى التي تَلْتَفِتُ إلى خصوصيّة الوجود المسلم في أوروبا، دون الاكتراث بواقع التنوّع في فضاء هذا الوجود، وبوشائج الصلة والتقاطعات المتعدِّدة التي تضعه ضمن النسيج المجتمعي العام. ولكنّ التناول الذي يَتَحرّى المقاربةَ الواقعيّة؛ ينبغي أن يراعي التوازن النسبيّ بين إدراكِ الخصوصيّات من جانب؛ وملاحظة طبيعة التشابكات والتقاطعات ضمن النسيج المجتمعي العام من جانب آخر.
وعليه؛ فإنّ هذه الإشكالية تخضع لكيفية التعامل مع مفهوم المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا، أي زاوية تناول الموضوع. فهذه المشاركة ينبغي، تحرِّياً للدقة والموضوعيّة؛ أن تُقرَأَ باعتبارها محصِّلة مشاركة المجموع المسلم المتنوِّع في ذاته، والتي تأتي، دون فقدان خصوصيّتها الجوهرية، في سياق فعل المشاركة للمجتمع العام. بل إنّ ملاحظة التشابكات والتقاطعات المجتمعية للأقلية المسلمة، كالتموضع الطبقي أو الشرائح المهنية مثلاً؛ تبدو هامّة للغاية، في معرض دراسة المشاركة السياسية لهذه "الأقليّة".(1/10)
وسيكون من الواضح، بالتالي، كم يُرتِّب هذا التشابكُ وتلك التقاطعات من مصاعب، في سبيل كلّ من يسعى للخروج باستنتاجات بشأن المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا، على أساس افتراض عزل المسلمين عن سياقهم المجتمعيّ وتحييد مجمل العوامل والملابسات الأخرى المؤثرة في واقعهم وفي ما يتعلق بمشاركتهم السياسية. ومع ذلك؛ فلا ينبغي أن يكون ذلك مبرِّراً للاستغراق في نسبيّة تفضي إلى إهمال الخصوصيّة، أو تجاهل الملامح الذاتية المشتركة التي تحملها الأقلِّيّة، أو الأقلِّيّات، المسلمة في أوروبا، حتى على صعيد الساحة السياسية، فوضع المسلمين في سياقهم المجتمعي؛ لا يبرِّر النزوعَ إلى منطق يَفتَرِض ذوبانَهم فيه أو يطمس أَثرَهم وملامحَهم الجامعة المشتركة؛ بذريعة تشابكهم مع النسيج المجتمعي العام.
المشاركة السياسية والمشاركة المجتمعية:
لا يمكن عزل المشاركة السياسية عن المشاركة المجتمعية كسياق عام. ذلك أنّ المشاركة السياسية تبقى جزءاً من المشاركة المجتمعية بمفهومها الشامل. ولا شك أنّ العلاقة بين المشاركة السياسية والمشاركة المجتمعية هي علاقة جدلية، فكلما تزايد منسوب المشاركة المجتمعية الفاعلة لمجموعة بشرية أو أقلية ما؛ ازدادت احتمالات مشاركتها السياسية الفاعلة، وكلما انخفض ذلك المنسوب تضاءلت فرص المشاركة السياسية الفاعلة وإمكاناتها. كما أنّ المشاركة السياسية ذاتها تنعكس بالإيجاب على تطوير واقع المشاركة المجتمعية بمفهومها الشامل، وتحفيزها بالنسبة للمجموعة البشرية أو الأقلية المعنية.
وقد يبدو للمرء أنّ كلّ فعل مجتمعي، يمكنه أن يحمل بُعداً أو أبعاداً ذات صلةٍ ما بالشأن السياسي، أو ذات مغزى أو دلالة أو تأثيرات ذات انعكاسات سياسية(1)، مهما بدا ذلك ثانوياً أو غير مباشر.
__________
(1) Kaase, Max, S. 136.(1/11)
وبالمقابل؛ فإنه يمكننا أن نستنتج أنّ القابليات والفرص، أو الصعوبات والتحديات، التي تتعلّق بالمشاركة السياسية لأية مجموعة بشرية أو أقلية ما؛ يمكن العثور على العديد من مكامنها أو ارتباطاتها أو مسبِّباتها في الفعل المجتمعي الذاتي أو في الظرف المجتمعي الموضوعي المتعلق بتلك المجموعة أو الأقلية.
ومن هنا يكون مفهوماً لماذا يشدِّد الشيخ راشد الغنوشي، مثلاً، على أهمية الانتشار المجتمعي والثقافي للمسلمين في أوروبا والغرب إجمالاً. ففي محاضرة له ألقاها في بريطانيا في أواسط التسعينيات من القرن العشرين؛ كان قد أوضح أنّ "الإسلامَ هنا ما لم يربط علاقةً خاصة مع البريطانيين وحضارتهم ومع مشكلاتهم وآدابهم والتحديات التي تواجههم، وكذلك مع الفرنسيين والألمان والأمريكان، وما لم يساهم الإسلام في إثراء هذه الثقافات (...)؛ سيظلّ الإسلام نبتةً غريبةً معزولةً لا تزال بها البيئة تحاصرها حتى تفنيها، وليس ذلك ولا شك من طبيعة الإسلام العالمية الإنسانية الدعوية المنظمة، التي نهضت على عقيدة الإيمان بالله رب العالمين بوصفهم الإنساني"(1).
__________
(1) الغنوشي، راشد: "الإسلام في الغرب وعلاقته بالأنظمة الغربية". في: أبو شمالة، مجدي عقيل (محرِّر): "رسالة المسلمين في بلاد الغرب". إربد، لندن، 2000، ص 108.(1/12)
ويأتي وضعُ المشاركة السياسية ضمن نسقٍ من المشاركة المجتمعية، متماشياً مع اعتبار النظام السياسي جزءاً من النظام المجتمعي العام، وهذا ما يراه بعض علماء السياسة، وعلى رأسهم ديفيد إيتسون (David Easton) وجابرييل ألموند (Gabriel Almond). إذ يرى إيتسون أنّ النظام السياسي عبارة عن مجموعة من الظواهر التي تمثل نظاماً فرعياً من النظام المجتمعي، في ما يذهب ألموند إلى أنّ النظام السياسي هو ذلك النظام الذي يشتمل على التداخلات القائمة في كافة المجتمعات والتي يقدّم عبرها الوظائف التي ينجزها النظام بواسطة القوة الجبرية الشرعية أو التهديد باستخدامها(1).
ورغم أهمية إدراك الفعل السياسي ضمن مجمل الفعل المجتمعي العام، ورغم ضرورة تناول المشاركة السياسية ضمن مجمل المشاركة المجتمعية؛ فإنّ المشاركةَ السياسية، على نحو يرومُ التناولَ الأدقَّ؛ إنما يُقصَد بها ما يتعلق بتلك الأداءات التي يُرجى بوعي من خلالها، الوصول إلى هدف سياسي. فهذه المشاركة تصف تلك الأداءات التي يتولى المواطنون القيام بها بشكل طوعي بما يهدف للتأثير على القرارات في المستويات المتعددة للنظام السياسي(2).
__________
(1) Easton, David: „The Political System – An Inquiry into the State of Political Science“. New York, 1981, p. 39.
(2) Kaase, Max, S. 136.(1/13)
ولا يغيب عن الأنظار هنا ما انشغل به بعض الفلاسفة من إبراز الطابع السياسي للفعل المجتمعي، وهو ما يتّضح مثلاً لدى بعض الماركسيين، إلى درجة إفراطهم في تسييس ذلك الفعل، بما قد يُفضي إلى المجازفة باعتبار أنّ أيّ عمل من شأنه إحداث تحوّل في جانب ما هو عمل سياسي، ما قد يقودنا إلى طمس خصوصيّة السياسة. ويمكن العثور على جذور ذلك التماهي بين الجانبين في أعمال ماركس ولينين، كما يلاحظ نيكوس بولانتزاس(1)(Nicos Polantzas) مثلاً(2).
المشاركة السياسية والمشاركة المجتمعية ـ تشابك آليات التأثير:
إنّ إدراكَ تشابكِ المشاركة السياسية مع مجمل المشاركة المجتمعية؛ ضروريّ جداً لفهم بعض خصائص الثبات والحراك في المجتمع والسياسة. وعلى صعيد الأدوات؛ يبدو نشاط الأطراف المجتمعيّة مدخلاً لا غنى عنه للتحوّلات السياسية، خاصة وأنّ بعض أوجُه هذا النشاط وصُوَرِه يمكن قراءتها أيضاً على أنها مشاركة سياسية مباشرة أو غير مباشرة.
__________
(1) نيكوس بولانتزاس، ولد في أثينا عام 1936، أستاذ علم الاجتماع بجامعة باريس، واشتغل بالتدريس في مدرسة الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية، وقد توفي منتحراً في سنة 1979، تاركاً وراءه عدد من المؤلفات في العلوم السياسية، منها كتابه "السلطة السياسية والطبقات الاجتماعية" (Pouvoir politique et Classes sociales)، الصادر عام 1972.
(2) بولانتزاس، نيكوس: "السلطة السياسية والطبقات الاجتماعية". بيروت، 1980، ص 41ـ43.(1/14)
ففي البيئة الأمريكية؛ لم تكن الآليات الديمقراطية "النظامية" قادرةً، ولا مؤهّلةً، لأن تُنصِفَ الأمريكيِّين السود، وكان لا بد من أن تضطلع حركة الحقوق المدنية، في أواسط القرن العشرين، بدور ناهض انطلاقاً من القاعدة الجماهيرية، وعبر الشارع. لقد كانت تلك مشاركةٌ سياسيّة أيضاً، وإن لم تكن مباشرةً أو تخصّصية الطابع. وهنا يبدو الأثر الحاسم للمعتدلين (كتحركات مارتن لوثر كنغ) والمتطرِّفين (كبعض المنظمات السوداء المحليّة) على السواء في هذه التفاعلات المجتمعية والسياسية، التي شهدتها الولايات المتحدة، وبغضّ النظر عن الوسائل المتّبعة للوصول إليها ومدى مشروعيّتها. والمثير أنّ ما بدا "حلماً" لمارتن لوثر كنغ؛ لم تتوفّر في أدوات الفعل الديمقراطي التقليدية، كالانتخابات النيابية مثلاً، ما يحقِّقه، فكان لا بدّ من التعبئة والحشد وإلقاء أحجار كبيرة في المياه الراكدة، بل والإقدام على "استثمار مدنيّ" رشيد لنقمة جارفة وقابلة أحياناً لممارسة العنف باتت تجتاح التجمعات السكانية السوداء، علاوة على السعي للتحالف والشراكة والتنسيق مع أطراف في الساحة المجتمعية الأمريكية(1).
__________
(1) مما قاله مارتن لوثر كنغ في خطابه الشهير، في تجمع حاشد من السود ومختلف الفئات العرقية الأمريكية، في الثامن والعشرين من آب (أغسطس) 1963 (اغتيل على يد عنصري أبيض في 4/4/1968):
لديّ حلمٌ عميق الجذور نابتاً في تربة الحلم الأمريكي ذاته. أحلم بيوم تسمو فيه الأمّة إلى آفاق تحقيق جوهر ما تؤمن به من أنّ الله قد خلق الناس جميعاً متساوين. أحلم بيوم تصبح فيه حتى ولاية مسيسيبي التي تئنّ تحت القمع؛ واحةً للحرية والعدالة. أحلم بيوم يعيش فيه أطفالي الأربعة في أمّة لا يُقيّم الناس فيها على أساس لونهم وإنما على أساس ذواتهم. لديّ اليوم حلمٌ. أحلم بأنه يوماً ما في ولاية ألاباما، بكل ما فيها من عنصريِّين آثمين، وبحاكمها الذي تقطر من فمه معاني البغضاء والإنكار؛ سيشبك أطفالنا السود الصغار، أولاداً وبنات، أيديهم مع أقرانهم الصغار من البيض، كأخوة وأخوات حقيقيين. لديّ اليوم حلمٌ. أحلم بيوم تغمر فيه المياه كلّ واد، وتعلو فيه هامة كلّ هضبة، ويصبح كلّ جبل أقل علوّاً، وتمهّد كل الطرق المحطمة، فتنكشف عظمة الله للناس جميعاً. هذا هو حلمنا، وهذه هي الرؤية التي سأحملها معي إلى الجنوب، والتي بها سنكون قادرين على انتزاع صخور الأمل من جبل اليأس. إنها الرؤية التي ستتيح لنا تحويل الشقاق الرهيب الذي يلفّ أمّتنا إلى معزوفة إخاء جميلة.(1/15)
أما في الحالة الأوروبية الغربية؛ فقد شعر جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية، أنّ النظامَ المجتمعيَّ والسياسيَّ حافلٌ بالرتابة والشكلية، وأنّ الديمقراطيّة النيابيّة وحدها لا تلبِّي تطلّعات الأجيال الجديدة، وأنّ الساحة السياسية والثقافة المجتمعية لم تَعُد مُقنِعةً وهي بحاجة إلى تغيير ملموس. لقد استنتج "جيل 1968" بالتالي أنّ "الأدوات النظاميّة" في مجتمع ديمقراطيّ بتلك المواصفات؛ لم تكن مؤهّلةً لأن تنهض بمطلب التفعيل المنشود، بل غالباً ما نُظر إلى تلك الأدوات على أنها جزءٌ من المشكلة وليست مفتاحاً للحلّ. ولذا؛ انطلقت الانتفاضة المجتمعيّة والسياسيّة، في صفوف ذلك الجيل، بكل صخبها ونزعتها الصادمة للوعي واستفزازها المتعمّد للتقاليد الراسخة، لتدفع باتجاه التغيير ـ بغض النظر عن مدى تحقّقه ـ، ضمن المعادلة التي تقوم على التجاذب بين القوى الساعية للتغيير والقوى المعيقة له. والواقع أنّ ذلك المنعطف قد ترك بصماته التي لا تخطئها العين على المشهد السياسيّ والمجتمعيّ في أوروبا والغرب، بل والعالم أيضاً. وما يلفت الانتباه في هذا الصدد؛ أنّ أدوات متجدِّدة للفعل المجتمعي والسياسي أخذت بالظهور تباعاً، من رحم تلك التحوّلات وما واكبها أو أعقبها، من قبيل بروز تجارب "المعارَضة خارج البرلمان"، أو نموذج "المبادرات الشعبية" أو "مبادرات المواطنين" مثلاً(1)،
__________
(1) برز نموذج "مبادرات المواطنين" (Bürgerinitiativen) في تجربة المجتمع المدني الألماني في سنوات السبعينيات، وإن كانت التجربة سابقة لذلك، وهي عبارة عن تشكيلات مرنة ولا تنطوي على هياكل ثابتة أو بنى هرمية، وتضع نصب عينيها اهتمامات محلية في المقام الأول. وتبدو هذه المبادرات أشبه بجماعات المصالح، فهي تركز على بنود بعينها أو حتى على نقطة واحدة فقط تحاول حشد الرأي العام حولها وتقوم بالتواصل مع المستوى السياسي لهذا الغرض.(1/16)
في ما أخذ قطاع المنظمات غير الحكومية ينتزع اعترافاً متزايداً بدوره وإسهاماته، ويثير بعض التحفّظات أحياناً.
وغالباً ما تَكتسب أدوات التفعيل غير التقليديّة أهميّةً إضافيّةً في البيئات التي تُعاني من جمود سياسيّ مزمن، ومن انسداد آفاق الحوار المجتمعيّ والسياسيّ، ومن منطق مركزيّ في الحكم والإدارة والتسيير، ومن الافتقار إلى تقاليد التغيير التدريجي واستحقاقاته التي تتطلّب الصبر(1). ومن هنا؛ يمكن إلى حدّ ما فهم جانب من "النموذج الفرنسيّ" الذي يمثِّل فيه الشارع الصاخب "لاعباً أساسياً" أحياناً في التغيير السياسيّ؛ كلّما بدت لبعض قطاعات الجمهور حاجةً فعليّةً إلى ذلك. ويبدو أنّ مركزية الحكم، ومنطق النظام الجمهوريّ الفرنسيّ الذي يبدو وكأنّ الأفراد فيه "مكشوفون" أمام الدولة، لم يُوَلِّد الكثيرَ من الخيارات البديلة التي يرى بعض الجمهور جدواها. يعني ذلك أنّ الانسدادَ السياسيَّ من جانب، واستشعارَ عجزِ قطاعاتٍ من الجمهور عن المشاركة السياسيّة الفعليّة من جانبٍ آخر؛ قد يعزِّزان من النظرة إلى الخيارات البديلة، كتحريك الشارع أو الفعاليات التنديديّة أو الإضرابات، على أنها خياراتٌ أكثر جدوى. والمُقلق هنا على نحو خاص؛ أنّ إمكانية الانزلاق إلى مسارات العنف المجتمعيّ والسياسيّ تبدو أيسر في ظلّ هذه الملابسات.
مسلمو أوروبا وأهمية استصحاب المشاركة المجتمعية مع المشاركة السياسية:
__________
(1) عن تلك التقاليد والخلفيات وتباينها الواضح من بيئة سياسية أوروبية إلى أخرى، انظر مثلاً: "السياسة والحكومة". مصدر سابق، ص 120 ـ 121.(1/17)
يعني ما سبق أنّ تنويع خيارات الفعل المجتمعي والسياسي وأدواته مطلبٌ هام، وأنه لا مناص من استفادة المشاركة المجتمعية والسياسية لمسلمي لأوروبا من مجمل خيارات الفعل وأدوات التأثير، ضمن الضوابط القانونيّة والشرعيّة والأخلاقيّة، ومن خلال الموازنات الدقيقة، والتقدير الحصيف للمصالح والمفاسد. وبالمقابل؛ فإنّ التعويل على خيارات بعينها دون مجمل ما يتطلّبه التدافعُ المدنيُّ الرشيد؛ قد يُفَوِّتُ الكثير من المصالح، بل وغالباً ما يُغري بتجاوزات عدّة على حساب مسلمي أوروبا لا تتوفّر الحصانة منها دوماً، حتى في بيئة مسيّجة بمواثيق حقوقية (تشوبها بعض الثغرات) والتزامات أدبية (غير دقيقة أحياناً).
ويلحق بذلك؛ التحذير من خطورة الاستئناس بالتصرّف بمعزل عن النسيج المجتمعي، بمعنى أن تظهر الأقليّات معزولة عن "مجتمع الأغلبية"، ومكشوفة أمام معادلة كثيراً ما تبدو غير متكافئة. ولا جدال في أنّ أيّ فعل مجتمعي أو سياسي قائم على منطق العزلة أو حتى إرادة الانعزال؛ إنما يتناقض مع روحيّة فعل "المشاركة" مجتمعيّاً أو سياسيّاً. ومن هنا؛ فإنّه لا مناص من السعي للانتشار في شتى قطاعات الفعل المجتمعي الرشيد، وبناء التحالفات والشراكات، وتوثيق أواصر التعاون والتنسيق؛ مع الأطراف الفاعلة في البيئة المجتمعيّة والسياسيّة، بناءً على مخزون القواسم المشتركة، واسترشاداً بالتوجيهات الإسلامية في هذا الشأن، وأخذاً بعين الاعتبار مجمل المعايير والضوابط ذات الصِّلة.(1/18)
وإنّ العُرَى المتشابكة بين مجمل المشاركة المجتمعيّة، والمشاركة السياسيّة؛ لتتّضح أيضاً من خلال أهمِّيّة المشاركة المجتمعيّة في إحداثِ التغيير اللازم أحياناً في واقع المشاركة السياسيّة. فإذا ما أمكن التسليمُ بأنّ المشاركةَ السياسيّة ينبغي أن تسير في الأساس طبقاً لـ "قواعد اللعبة"، فإنّ الاختلالات التي يُحتمل العثور عليها على صعيد الممارسة بمفعول تلك "القواعد" المعمول بها؛ قد تقتضي إضفاء تعديلات على "قواعد اللعبة" ذاتها، وهو ما يقتضي إلى جانب التعاطي مع التقاليد السياسية وإفرازاتها؛ استثمار دور المشاركة المجتمعية لتحقيق التغيير المطلوب في المجال السياسي. من ذلك مثلاً؛ مطلب تمكين "الأجانب" من حق المشاركة في الانتخابات المحلية، سواء كمشاركة سلبية (تصويتاً وحسب) أم إيجابية (ترشحاً وتصويتاً). فإن كانت البيئة التشريعية تحظر ذلك، وكان النظام السياسي مُحجِماً عن إتاحة الفرصة لهذه الخطوة؛ فإنّ الأمر قد يتطلّب، ضمن خيارات عدّة؛ فعلاً مُرَكّزاً في مستوى المشاركة المجتمعيّة، بما قد يتصل مثلاً بالتوعية الثقافيّة والاجتماعيّة العامة بمقتضيات الحقوق السياسية والاجتماعية وما يترتب عليها من التزامات.(1/19)
من هنا؛ ينبغي التعامل الواعي مع مفهوم "العمل في نطاق القانون"، أو "احترام القوانين"، أو ما في حكم ذلك من تعبيرات. إذ أنّ ذلك يبقى مطلباً، والتزاماً هامّاً ينبغي أن يتقيّد به مسلمو أوروبا. إلاّ أنّ ذلك لا ينبغي أن يُفهَم منه إخراجُ الفعلِ المجتمعيّ والسياسيّ لمسلمي أوروبا، ولشركائهم وحلفائهم، من ساحة الفعل والتأثير اللازمة للتطوير المستمرّ للمنظومة القانونية، عبر معالجة أية اختلالات أو ثغرات ذات صِلَة، وهو ما عناه الأستاذ عبد الله بن منصور، أحد قياديِّي "اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا" (l’UOIF)، في تعقيبه المباشر على خطاب ألقاه وزير الداخلية الفرنسي نيقولا صاركوزي سنة 2003. فبعد أن خاطب الوزير جماهير المسلمين في مؤتمر الاتحاد العشرين(1)بقوله "لا أجاملكم على حساب قوانين فرنسا"؛ علّق القيادي المسلم مباشرة بالقول إنّ "المسلمين حقاً يحترمون القوانين، ولن نسكت حتى تغيير كل قانون غير عادل مثل قانون خلع الحجاب (في صور بطاقات الهوية) وسوف نجتهد لتغيير هذا القانون غير العادل وفق الطرق القانونية المشروعة أيضاً".
لا ريب بالتالي أنّ استصحاب المشاركة المجتمعية مع المشاركة السياسية؛ هو خيار لا غنى عنه لمسلمي أوروبا على نحو أخصّ. ذلك أنّ فُرَصَ التحرّك السياسي وحدودَه كثيراً ما تبقى مُرتَهَنةً على نحو عام لواقع المشاركة المجتمعيّة ومواصفاتها، بما يكاد يُوحي أنّ المشاركة السياسية قد تأتي انعكاساً لحالة الاصطفاف المجتمعي القائمة. ورغم صعوبة التسليم بتقدير كهذا كقانون عام؛ إلاّ أنه ينطوي على قدر من الصحة والدلالة الجزئية في أحوال عدّة، على الأقلّ.
__________
(1) المنعقد بضاحية لوبورجيه الباريسية، من 18 إلى 21 نيسان (أبريل) 2003، تحت عنوان "الإسلام من الفهم إلى التطبيق".(1/20)
ويترتّب على ذلك؛ الالتفاتُ إلى أنّ للتحرّك السياسي حدوداً تستمدّ تفسيرَها من واقع الساحة المجتمعيّة، وأنه بموجب ذلك؛ يكون من غير المتوقع أن يجد مسلمو أوروبا في المشاركة السياسية، على نحو حصريّ، وصفةً ناجعةً للنهوض الشامل بواقعهم. فخياراتُ النهوض الجادّة؛ إنما تتأتي عبر مسارات المشاركة المجتمعيّة ككلّ، بما في ذلك مسارات المشاركة السياسيّة، المباشرة منها وغير المباشرة.
لقد كان ممن أدرك ذلك من أصحاب التجارب الحديثة في العالم الغربيّ؛ "الليبراليون"، أو "الليبراليون الجدد". فهؤلاء الذين مكّنوا لرؤاهم الاقتصادية في عالم السياسة مع نهاية سبعينيات القرن العشرين(1)،
__________
(1) تتمثل نجاحاتهم السياسية تلك في عهد كل من الرئيس الأمريكي رونالد ريغان (جمهوري) ورئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر (محافظة)، عبر إطلاق العنان لدور القطاع الخاص في البلدين، وأيضاً الاتجاه الواسع نحو الخصخصة في بريطانيا، وتخفيف تدخل الدولة في الشأن الاقتصادي، وغير ذلك من الإجراءات والتدابير. ويُعتبر عهد كل ريغان وتاتشر نقطة تحوّل بالنسبة للتيار الليبرالي الجديد، الذي تعاظم حضوره منذ ذلك الحين، وسط انتقادات له بأنه أتاح لقوى السوق أن تهيمن على الساحة السياسية، وهو ما جعل بعض الأصوات تحذِّر من "موت الديمقراطية"، وهو ما تتبنّاه مثلاً نورينا هيرتز، المديرة المشاركة لمركز الأعمال والإدارة الدوليين بمعهد القانون التابع لجامعة كامبردج البريطانية، انظر:
Hertz, Noreena: “The Silent Takeover – Global Capitalism and the Death of Democracy”. London, 2001.(1/21)
في كل من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا؛ قد مهّدوا لذلك بعمل دؤوب استغرق ثلاثة عقود ونصف العقد ضمن ميادين التوجيه الفكري والإعلامي، فأسّسوا المعاهد، واستقطبوا الأكاديميين والمثّقفين والكاتبين، وتوجّهوا عبر وسائل الإعلام أيضاً إلى التأثير على الثقافة العامة في البلدين، إلى حدّ الحرص على ترويج رؤاهم عبر مجلة "ريدرز دايجست" (Reader’s Digest) واسعة الانتشار. وكان تقدير روّادِهم أنّ "مصير المجتمع يتغيّر فقط بتغيّر الأفكار، فيجب أولاً أن تصل إلى المثقفين والمعلِّمين والكاتبين بالحجّة الساطعة، ثم يطغى تأثير نخبة الروّاد المثقفين على المجتمع، ومن ثم يتبعهم السياسيون"، ولذا فقد بلغ بهم الأمر أن أحجموا عن الانخراط في الساحة السياسيّة إلى أن تمكّنوا من تقلّد مواقع التوجيه للمستوى السياسي(1).
ولا ينبغي أن تنصرف الأذهان إلى أنّ التأثير لا يكون إلاّ عبر منابر الفكر والتوجيه الثقافيّ والتواصل الإعلاميّ وحدها، فهناك مجالاتٌ أخرى لا ينبغي إغفالها أيضاً، ضمن مجمل ساحة العمل المجتمعيّ العريضة. ولكنّ "تهيئةَ أذْهانِ" النُّخَب (الصفوة) وعموم الجمهور، والسياسيِّين بالتالي؛ تبقى مطلباً لا غنى عنه لإحداث تأثيرات، أو حتى تغييرات ما، في بعض جوانب الساحة السياسية، وهي عبرةٌ ينبغي على مسلمي أوروبا أن يُدرِكوها أيضاً.
__________
(1) الطالب، هشام: "كيف حقّق الليبراليون خطتهم في 35 عاماً". في: بن يوسف، أحمد (محرِّر): "مستقبل العمل الإسلامي ـ الحركة الإسلامية في ظل التحوّلات الدولية وأزمة الخليج". شيكاغو، 1991، ص 429.(1/22)
بالمقابل؛ فإنّ هناك أطرافاً انخرطت في الساحة السياسيّة بكلِّ قواها، وأغفلت أهميّة التواصل مع النخب والجمهور، وتجاهلت ضرورةَ تعزيز حضورها في الساحة المجتمعيّة العامّة، أو أهميّة كسب تفهّم قطاعات النخب والجمهور أو تأييدها، وهو ما أدّى إلى انحسار تجربتها السياسية على نحوٍ بيِّن، كما جرى مثلاً في تجربة جمعية الفابيين في إنجلترا (The Fabian Society)، عندما تفرّغوا لمناصب الحكومة بعد فوز حزب العمال في الانتخابات العامة البريطانية سنة 1945، وتركوا ساحة التواصل المجتمعيّ العريضة، وهو ما جعل انتصارهم مؤقتاً(1).
ويتّضح الارتباط الوثيق، متعدِّدُ الأوجُهِ، بين المشاركة السياسيّة الأخصّ، والمشاركة المجتمعية الأعمّ، أكثر فأكثر؛ من خلال الولوج المألوف إلى العمل السياسيّ من بوابات الفعل المجتمعيّ، سواء في ما يتعلّق بالأفراد أو حتى الأُطُر. فأولئك الطامحون إلى مراكمة التأييد الجماهيري وحصد الأصوات عادة ما يُدرِكون أكثر من غيرهم مفعولَ الحضور في المجتمع والنشاط فيه، وتقديم الخدمات، والتفاعل مع بعض مسارات الفعل العام فيه. وأما تشكيلُ القوائم الانتخابية من خارج الأطر الحزبية التقليدية، أو حتى إقامة تجمّعات حزبيّة جديدة؛ فغالباً ما يأتي ثمرة اندماج مجموعاتٍ، أو أفراد متفرِّقين، بعد خبراتٍ من العمل المشترك في ما بينهم. وفي حالة مسلمي أوروبا؛ تبدو كثيرة هي الحالات التي أتاحت فيها ضروبُ المشاركةِ المجتمعيّة الفاعلة؛ الانتقالَ إلى الساحة السياسيّة المباشرة، بل لعلّها تكون الأصل والحالة الغالبة بلا منازع. بالمقابل؛ فإنّ "اعتزال السياسة" كما يسميه بعضُهم، وعلى فرضيّة إمكان ذلك حقاً؛ غالباً ما يكونُ لحساب الانشغال بالنشاط المجتمعيّ العام، بما يعنيه ذلك في حالاتٍ كثيرة مجرّد الانتقال من خانة المشاركة السياسيّة المباشرة، إلى نظيرتها غير المباشرة.
__________
(1) الطالب، هشام، مصدر سابق، ص 430.(1/23)
من جانب آخر؛ فإنّ الترابط بين المشاركة السياسية المباشرة والمشاركة غير المباشرة، هو ترابط واضح، ولا يجوز تجاهله. إذ لا يمكن للمرء أن يَغُضّ الطرف عن وشائج الصلة التي تربط ساحة المشاركة السياسية المباشرة عن تلك ذات الصفة غير المباشرة. وقد تؤدي التطوّرات التي قد تطرأ على مركز الساحة السياسية إلى انعكاسات ارتدادية في أطراف تلك الساحة. فعندما يتمكّن طرفٌ سياسيّ ما من إحراز تقدّم انتخابيّ ما يؤهله لقيادة الحكومة بأغلبية مريحة؛ فإنّ القوى المنافسة له قد تجد ضالّتها في التعبئة السياسيّة من خلال الجماهير بوسائل بديلة، من قبيل تنظيم المظاهرات أو الفعاليات التنديدية بسياسات أو إجراءات ومواقف محدّدة. وغالباً ما يتم توظيف مواقع التأثير المتاحة من خلال جماعات المصالح والقوى النقابية مثلاً لإنجاز تلك التعبئة. وهكذا مثلاً؛ أدى صعود ائتلاف يمين الوسط الذي جمع "حزب الشعب" (?VP) و"حزب الحرية" (FP?) بعد الانتخابات البرلمانية النمساوية، التي جرت في تشرين الأول (أكتوبر) 1999، إلى موجة تحرّكات جماهيرية كبرى نظّمتها قوى ناشطة في المجتمع المدني وبتشجيع من الأحزاب المعارضة لذلك الائتلاف بدءاًَ من الشهر التالي للانتخابات. كما أنّ فوز ائتلاف يمين الوسط الذي يقوده سيلفيو برلسكوني، زعيم حزب "فورتسا إيطاليا" (Forza Italia)، في انتخابات أيار (مايو) 2001، على منافسه ائتلاف "شجرة الزيتون" المعبِّر عن يسار الوسط؛ قد جاء إيذاناً بتنظيم سلسلة من التحرّكات الجماهيرية في الشارع الإيطالي لمناهضة سياسة الحكومة.(1/24)
وقد كان لافتاً للانتباه أيضاً أنّ هذه التحرّكات قد جرت كذلك تحت لافتة التحذير من العولمة الاقتصادية، كما في التحركات الكبرى في مدينة جنوى الإيطالية في تموز (يوليو) 2001 (التي لم تتم في الأصل بتنظيم من اليسار السياسي والمعارضة البرلمانية وإنما من مجموعات في المجتمع المدني الإيطالي وتشكيلات مستقلة نسبياً وممن يوصَفون بـ "المناضلين القاعديين"(1)،
__________
(1) في ذروة تلك التحرّكات شهدت جنوى صدامات عنيفة لجأت فيها قوات الشرطة إلى استخدام العنف، وقد قُتل الشاب الإيطالي المتظاهر كارلو جولياني بمفعول ذلك بطلقة نارية في الوجه من يد شرطي في مثل سنِّه. وبعد مرور 24 ساعة على الواقعة، قامت ليلاً مجموعة من رجال الشرطة بالتعرض لحوالي مائة متظاهر أثناء رقادهم وأوقعت جرحى في صفوفهم في ما وصفه معلقون بأنها حملة جرت "بوحشية".(1/25)
ولاحقاً في أواسط 2002 من خلال إضرابات القوى النقابية وفعالياتها الحاشدة، مثل نقابات معامل الحديد والصلب ونقابات المعلِّمين ومعهم التلاميذ، وكذلك من خلال التحركات التي قادها من يوصفون بالأجانب والمؤيدون لحقوقهم ضد "قانون بوسي ـ فيني"(1)، وفي ما بعد أواخر 2002 وأوائل 2003 لمعارضة الحرب على العراق التي شاركت فيها حكومة برلسكوني حليفة للولايات المتحدة.
__________
(1) يربط مشروع القانون بقوّة بين حقوق المهاجرين، وخاصة حق الحصول على تصريح إقامة، باشتراط تمتعهم ببطاقة عمل، وقد تخلّلت الحركة المنددة بالقانون فعالياتٌ كان من بينها تنظيم ما عرف بـ "إضرابات ملوّنة" شملت قطاعات صناعية حيوية في شمالي إيطاليا. وقد اكتسب القانون المشار إليه شهرته باسم "قانون بوسي ـ فيني" نسبة إلى كل من أُمبرتو بوسي، الذي يقود "رابطة الشمال" (Liga Nord) المعروفة بمواقفها الانفصالية والرافضة للاجانب والمعادية للمسلمين، وجيانفرانكو فيني الذي يقود "التحالف الوطني" (Alleanza Nazionale) ، وهي حركة اجتماعية ذات ميول فاشية سابقاً وتحوّلت منذ منتصف التسعينيات الى حزب يميني ليبرالي. وقد جاء القانون من خلال عضوية بوسي وفيني في حكومة سيلفيو برلوسكوني.(1/26)
وبصفة عامة؛ يُستَنتَج أنّ الأطراف السياسية والمجتمعية تحاول في العادة توظيفَ أقصى قدر متاح لها من فرص المشاركة السياسيّة، وأنّ خسارتها، أو خسارة حلفائها، للانتخابات العامة مثلاً؛ قد يدفعها إلى تفعيل الخيارات الرديفة من التأثير وممارسة الضغوط على مركز الساحة السياسية، وهو ما يمكن العثور على شواهدَ متضافرةٍ بشأنه في عموم البلدان الأوروبية. ولا يعني ذلك بالضرورة أنّ ما يجري هو مجرد انعكاسٍ لسعيِ القوى السياسية التي تخسر جولةً ما إلى ممارسة التأثير بطرق "التفافية"؛ بل إنّ الأمر قد يكون مؤشراً على حالة من إعادة التبلور وتجديد الحضور في القواعد الجماهيرية المؤيدة لطرف خسر جولة انتخابية مثلاً، بما قد يؤذن مثلاً بتشكيل أطراف سياسية جديدة في الساحة تأسيساً على الخبرات المتراكمة. وفي كلِّ الأحوال؛ فإنّ الأمر قد يؤشِّر إلى تصاعد التذمّر في أوساط شعبية بعينها من توجّهات الحكومة وسياساتها وأدائها.
مؤشرات للتعرف على المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا:
هل بالإمكان قياس المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا، أو حتى لأية فئة مجتمعية أخرى؟ ربما يكون من الصعوبة بمكان القياس الدقيق لتلك المشاركة، إلاّ أنه بالوسع تشكيل تقديرات عامة بشأن منسوب تلك المشاركة وانطباعات مبدئية عنها.
وتقترح هذه الدراسة تتبع ملامح المشاركة السياسية من خلال ثلاثة مستويات مترابطة، تنتقل من الأخص فالأعم، وذلك من مستوى المشاركة السياسية المباشرة، فمستوى المشاركة السياسية العامة، ثم مستوى المشاركة المجتمعية ككل. ويمكن من خلال بعض المؤشرات ضمن كل مستوى أن تمنح انطباعاً واقعياً عن حالة المشاركة، وذلك على النحو التالي مثلاً:
أولاً/ مستوى المشاركة السياسية المباشرة:(1/27)
ويتمثل هذا المستوى، بالمشاركة في الفعل السياسي الصرف، كالجولات الانتخابية مثلاً. وهنا يمكن قياس مدى مشاركة المسلمين فيها من واقع البيانات العددية، تصويتاً، وترشيحاً، وفوزاً أو خسارة. وعادة ما يمكن التعرّف على المعطيات المتعلِّقة بهذا المستوى من المشاركة السياسية بصورة أدقّ نسبياً من غيرها، بل والتعبير عن ذلك جزئياً بمؤشرات عددية. إلاّ أنّ تلك المؤشرات وحدها لا تمتلك في العادة قُدرةً تفسيريّةً كافية لواقع المشاركة السياسية وملابساتها، كما لا تعكس في الغالب جملة من التفاصيل والتباينات التي ينبغي إدراكها. فهل يمكن حقاً التعبير عن حجم المشاركة المباشرة للمسلمين في الحياة السياسية من خلال عدد المقاعد البرلمانية أو البلدية أو الحقائب الحكومية والتنفيذية مثلاً التي يشغلها مسلمون؟ إنّ ذلك ينبني على الافتراض الواهي بأنّ كل مسلم يشغل موقعاً في الحياة السياسية يُعدّ معبِّراً عن مشاركة سياسية للمسلمين فيها، وهو ما لا يمكن التسليم به على إطلاقه. كما أنّ ذلك المنطق يستبعد الشركاء والحلفاء المحتَمَلين للمسلمين في الساحة السياسية، والذين يتجاوز دورُهم أحياناً من ناحية الحجم والجدوى والأهمية ما يتحقّق عبر حضور مسلمين في تلك الساحة.
إلاّ أنه لا مناص من رصد مؤشرات المشاركة السياسية المباشرة للمسلمين وأخذها بعين الاعتبار، مع استجماع المستلزمات ذات العلاقة أيضاً، بما يتيح قدرةً أكبر على تكوين تقديرات وتشكيل انطباعات تتحرّى الدقّة، ضمن مسعى قياس المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا.
ومن بين المؤشرات المتعلقة بالمشاركة السياسية المباشرة لمسلمي أوروبا؛ ما يتمثل في ما يلي:
1/ حجم حضور المسلمين في الهيئات التشريعية، أي على مقاعد المجالس النيابية (البرلمانات)، سواء على المستوى المحلي (كالبلديات والمقاطعات ومجالس الأحياء)، أو القُطري (برلمانات الدول)، أو الأوروبي (البرلمان الأوروبي).(1/28)
2/ حجم حضور المسلمين في الأجهزة الحكومية والتنفيذية، بدءاً من الحكومة والأجهزة الوزارية على المستوى القُطري، أو بالأجهزة التنفيذية على المستوى المحلي (البلديات والمقاطعات)، فضلاً عن المستوى التنفيذي الأوروبي (المفوضية الأوروبية والأجهزة المتفرعة عنها). ويُلحَقُ بذلك أيضاً مدى حضور المسلمين في المواقع المتعلِّقة بالأجهزة التنفيذية والوكالات العامة، وأيضاً على مستوى السلك الدبلوماسيّ (CD) الخارجيّ للدول، وفي سياق تمثيلها في المنظمات الدولية والإقليمية.
3/ مدى انخراط المسلمين في الحياة الحزبية، عبر التسجيل في الأحزاب السياسية، ومدى تبوّؤهم مواقع في مستوياتها القيادية ودوائر صنع القرار خاصتها.
4/ الاتجاهات التي يتّخذها السلوك التصويتيّ لمسلمي أوروبا في الجولات الانتخابية في شتى مستوياتها ونطاقاتها، من قبيل نسبة المقترعين من إجمالي من يحقّ لهم التصويت منهم، ونسبة من يُحجِمون عن الإدلاء بأصواتهم، وكذلك خياراتهم الانتخابية المفضّلة (كالأحزاب والمرشّحين) والتحوّلات التي تطرأ عليها من جولة إلى أخرى، وما إلى ذلك.
5/ حجم مشاركة المسلمين في التحرّكات السياسية الأهم في البلدان الأوروبية، كالفعاليات الجماهيرية (المظاهرات، المسيرات، الاعتصامات، وغير ذلك) ذات الطابع السياسي المباشر، والحملات السياسية الشعبية، والتوقيع على العرائض التي يرفعها الجمهور، والمشاركة في الاستفتاءات، وما إلى ذلك.
6/ نسبة المسلمين الذين يكسبون أرزاقهم من خلال وظائف ومهن وأعمال ترتبط بالشأن السياسي ارتباطاً مباشراً أو غير مباشر (موظفون في هيئات سياسية أو حزبية أو أجهزة تنفيذية سياسية الطابع، أكاديميون وأساتذة جامعيون في العلوم السياسية، باحثون ومحلِّلون في الشأن السياسي، خبراء واستشاريون في مراكز مختصة بالمتعلقات السياسية، عاملون أو معلِّقون في مؤسسات إعلامية مختصة بالمتابعات السياسية، وغير ذلك).(1/29)
ومن المؤكّد أنّ التمكّن من قياس مؤشِّرات الصعود والهبوط، عبر مراحل زمنيّة عدّة، لمجمل هذه المؤشِّرات؛ من شأنه أن يرسم صورةً تقريبيّةً لا غنى عنها لواقع المشاركة السياسية المباشرة لمسلمي أوروبا، ولما يمكن أن يطرأ عليها من تطوّرات أو تحوّلات.
ولكن؛ لابدّ هنا من ملاحظة أنّ قياس مؤشرات النموّ أو التراجع في واقع مسلمي أوروبا على صعيد هذه الجوانب؛ لا ينبغي أن يتم بمعزل عن ملاحظة المؤشِّرات العامة المرصودة في الواقع الأوروبي بعامة، وذلك لإدراك مدى تساوق هذه المؤشِّرات مع الاتجاهات الملموسة في السياق المجتمعي العام. فتسجيل نموّ في جانب بعينه في هذا الحقل قد يبدو، بنظرة مجرّدة، تقدّماً بالنسبة لمسلمي أوروبا، إلاّ أنه بنظرة نسبيّة إلى ما يتحقّق في السياق المجتمعي العام قد يوحي بقصور عن المواكبة من جانب أو بتقدّم استثنائيّ من جانب آخر، بحسب المؤشرات العامة المرصودة في الساحة المجتمعية العامة.
كما أنّ هذه المؤشِّرات ينبغي أن تُرصَد مع استصحاب ملاحظة المشاركة السياسية العامة والمشاركة المجتمعية ككلّ.
ثانياً/ مستوى المشاركة السياسية العامة (المباشرة وغير المباشرة):
إنّ المشاركة السياسية العامة تشمل المشاركة المباشرة، وتلك غير المباشرة. أيّ أنها تبدو بمثابة نطاق أعم يشمل المشاركة المباشرة، ويستوعب أيضاً صور المشاركة التي تتواصل مع الساحة السياسية وتفاعلاتها دون أن تعدّ من صميم الفعل السياسي. وقد يصعب في واقع الأمر وضع حدود فاصلة بين الجانبين، وهو ما يؤكد بحدِّ ذاته عن مدى الترابط والتعاضد بينهما.
وتتمثل المؤشِّرات المتعلقة بالمشاركة السياسية العامة لمسلمي أوروبا في ما يلي، على سبيل المثال لا الحصر:
1/ مجمل المؤشرات المتعلِّقة بالمشاركة السياسية المباشرة لمسلمي أوروبا، حسب ما تقدّم توضيحه.(1/30)
2/ مدى توفّر قَنواتٍ وآلياتٍ للتواصل بين المسلمين من جانب؛ والسياسيِّين والمسؤولين من جانب آخر، ومدى فعاليّة هذه القنوات والآليات.
3/ الإدلاء بالمواقف والبيانات والتصريحات في ما يتعلّق بالشأن السياسي العام وتفاصيله، وحضور آراء المسلمين في الشواغل العامة للمجتمعات الأوروبية، ومثلاً؛ يمكن لحلقات النقاش التلفزيونية بشأن المستجدات السياسية أن تمثل أحد النماذج على ذلك، كما يمكن للحلقات النقاشية حول الشأن السياسي أن تندرج في ذلك.
4/ مدى حضور السياسيين والمسؤولين للفعاليات والنشاطات التي يقيمها المسلمون في البلدان الأوروبية، وكذلك مدى دعوة القيادات المجتمعية المسلمة المحلية لحضور المناسبات واللقاءات العامة في البلدان الأوروبية، ودرجة اهتمام "البروتوكول" الرسمي بهذا الجانب.
5/ طبيعة المشاركة في النشاطات المجتمعية ذات الصفة السياسية ومنسوبها، وتدخل في ذلك المظاهرات والاعتصامات والإضرابات وتحرير العرائض، وغير ذلك من الصُّوَر.
6/ المشاركة في العمل النقابيّ بشتى مسالكه وصوره، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ بعض أوجه العمل النقابي تتّخذ صفة المشاركة السياسية المباشرة.
7/ مدى توفّر أسبقيّات على تأثير، أو مشاركة في تأثير، من جانب المسلمين على صناعة القرار التشريعي أو التنفيذي، بما أدى إلى نتائج ملموسة مثلاً.
ثالثاً/ مستوى المشاركة المجتمعية:
تشمل المشاركة المجتمعية صور المشاركة في شتى مسارات الفعل المجتمعي بما في ذلك المسارات السياسية، أي أنّ المشاركة السياسية (مباشرة وغير مباشرة) تندرج في هذا النطاق، دون التفريط بخصوصيّة الخاص وعمومية العام.
وتتمثّل المؤشرات المتعلقة بالمشاركة المجتمعية لمسلمي أوروبا، في ما يلي أساساً:
1/ مجمل المؤشرات المتعلقة بالمشاركة السياسية العامة لمسلمي أوروبا، حسب ما تقدم توضيحه.(1/31)
2/ مدى وجود بيئة مؤسسية وأجهزة تخصصية تلبِّي مطلب رعاية خصوصيّات الوجود المسلم في البلدان الأوروبية في شتى المجالات، دينياً، واجتماعياً، وثقافياً، وتعليمياً، وإعلامياً، واقتصادياً، وإنمائياً، وغير ذلك.
3/ الحضور في أطر العمل الأهلي أو المدني، والتفاعل معها، وهو ما يشمل المنظمات غير الحكومية (NGOs) والتجمعات واللجان والمبادرات الشعبية، وغير ذلك.
4/ الحضور في الساحة الإعلامية، عبر المشاركة في الحلقات التلفزيونية مثلاً، أو الكتابة في زوايا الرأي بالصحف، وكذلك عبر وجود معلِّقين صحافيين مسلمين وكاتبي أعمدة صحافية، وحضور المسلمين في الجسم الصحافي، وأيضاً في السوق الإعلامي من خلال حصصهم من امتلاك وسائل الإعلام وإدراتها، وغير ذلك.
5/ الإسهام في الحياة العلمية، عبر مدى حضور المسلمين في المؤسسات العلمية والبحثية للبلاد الأوروبية، وإسهامهم في وضع الكتب العلمية وتأليف البحوث والدراسات، ومشاركة المسلمين في المؤتمرات والندوات العلمية والتخصصية بالحضور أو التقديم أو التنظيم، وما إلى ذلك.
6/ الإسهام في الحياة الثقافية، كتأليف الكتب ونشرها، وتنظيم الفعاليات الثقافية كالمؤتمرات والندوات والمعارض، وإسهامهم في الحياة الفنية، وغير ذلك. ويلحق بذلك؛ الإسهامُ في جهود الحوار الدينيّ، والتواصل بين الثقافات، وتشكيل المنتديات الجامعة أو التفاعل معها.
7/ الإسهام في الحياة الاقتصادية وإنعاش الرفاه، كتوزّع المسلمين ضمن مجمل القوى العاملة وشرائح العمل، ومؤشرات البطالة، وكذلك مدى توفر حلول للإشكاليات المرتبطة بالجانب الاقتصادي للوجود المسلم، كالصيرفة الإسلامية (Islamic Banking)، ومؤسسة التمويل الإسلامية، ومؤسسات التأمين الإسلامي أو التعاوني، وغير ذلك.(1/32)
8/ الإسهام في الجهود الإنسانيّة والخيريّة في شتى المستويات، داخلياً وخارجياً، وذلك بالنظر إلى مدى وجود أُطر تعبِّر عن إسهام المسلمين في هذا الحقل كليّاً أو بالشراكة مع غيرهم، ومن خلال ملاحظة حجم الإنفاق الخيري للأقليات المسلمة في أوروبا، وأيضاً حجم الموارد البشرية المسلمة المنخرطة في هذا الحقل توظيفاً أو تطوّعاً.
9/ الفعالية المدنّية للجمهور المسلم، أي مدى قابلية المسلمين واستعدادهم للتعبير عن رؤاهم وتطلعاهم والذود عن مصالحهم وحماية حقوقهم ومكتسباتهم بطريقة مدنية ومتماشية بوعي مع خصوصيات البيئة ومسالكها، وقيامهم بذلك بالفعل بصفة فاعلة ومؤثِّرة كلما لزم الأمر. ويمكن القول إنّ أحد الملامح الأساسية لهذه الفعالية المدنية؛ يتمثّل في القدرة على الانتقال من نطاق المشاعر إلى نطاق المواقف العملية الواعية والمؤثرة، وبصورة تعمّق حاسة المبادرة الرشيدة في صفوف المسلمين. ويأخذ ذلك صوراً شتى، منها مثلاً تشكيل جبهات التحالف مع قوى مجتمعية حول قضايا أو مسائل بعينها، والتوجّه للتواصل مع الرأي العام لكسبه في موقف محدّد، والاحتكام إلى القضاء في حالات النزاع بصورة كفؤة ومنظّمة، وغير ذلك.
ملف تمثيل المسلمين .. والطابع السياسي:
إذا ما تركّز الانتباه بشأن المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا على مدى تفاعلهم مع الساحة السياسية العامة في أوروبا؛ فإنه لا ينبغي أن يغيب عن الأذهان، أنّ الفعل السياسي للمسلمين يمضي في مسارات غير مُتوقّعة بالضرورة أحياناً، من قبيل التفاعلات السياسيّة في ساحة مسلمي البلد الأوروبي الواحد، أو في ساحة مسلمي أوروبا ككلّ.(1/33)
ورغم أنّ ذلك لا يبدو ملموساً في عديد البلدان الأوروبية، إلاّ أنّه يتجسّد حقيقةً قائمة في بعضها بالفعل، كما يبدو مثلاً في صفوف الوجود المسلم التاريخيّ الذي يتركّز في شرقيّ أوروبا، وحتى في بلدان أوروبا الغربية، كما في الحالة الفرنسية مثلاً. ففي فرنسا، التي تضمّ أكبر عددٍ من المسلمين من بين دول الاتحاد الأوروبي الخمس والعشرين؛ شهد ملف تمثيل المسلمين تجاذباً لسنوات طويلة، وبرز ذلك بقوّة مع إطلاق وزير الداخلية الفرنسي السابق جان بيار شوفنمان لما سُمِّي بـ "الاستشارة" في عام 1999، وُصولاً إلى تشكيل "المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية" (CFCM) في الأيام الأخيرة من عام 2002، والذي بدا في حينه بمثابة حدث كبير سبقته مخاضاتٌ عسيرة، كانت وثيقة الصلة بتطوّرات الحالة السياسية الفرنسية وأنماط معالجتها للشأن الإسلامي. ومن اللافت للانتباه أنّ ملف تمثيل المسلمين بدا، ولأسباب مفهومة، في مقدمة الاهتمامات السياسيّة لأطراف الساحة المسلمة في فرنسا، وربما متقدِّماً بمراحل عن الاهتمامات السياسية الأخرى كالتفاعل مع الأحزاب السياسية أو جولات الانتخابات التي تجري في البلاد مثلاً.(1/34)
وبهذا يمكن استنتاج أنّ ملف تمثيل المسلمين، وما في حكمه، هو ملف لا يفتقر أحياناً إلى طابع سياسيّ، بل قد يطغي عليه هذا الطابع بالنظر إلى ظروف ذاتيّة وموضوعيّة أو ملابسات ظرفية عدة، كما يبدو بوضوح في الحالة الفرنسيّة. وكونه ملفاً سياسيّ طابع، بقَدْرٍ أو بآخر؛ فإنّ تسْييسَه يتأتى من خلال العلاقة مع المستوى الرسميّ (الحكومي والقانوني)، ومدى تأثيراته أو تدخلاّته المُعلنَة أو الضمنيّة، من جانب، وعبر التوزّعات الداخليّة والتوازنات البينيّة ضمن صفوف الوجود المسلم المحلِّي، من جانب آخر. وقد جاء انتخاب الهيئة التنفيذية لمسلمي بلجيكا للمرة الأولى في العام 1999 دلالةً قوية على ذلك، خاصة مع فتح مراكز للاقتراع واستقبال الناخبين بطرق نظاميّة وبصورة تشبه الجولات الانتخابيّة البرلمانية والمحليّة والنقابيّة التي تجري في البلاد.
وما يزيد من طابع المنافسة السياسيّة ضمن هذا الملف أحياناً، تلك الأهميّة التي توليها بعض الدول الإسلامية لملف تمثيل المسلمين في أوروبا، بالنظر إلى منطق "الرعايا المغتربين" كما يمكن أن يُلاحَظ في خطاب الحكومات التركيّة، والمغربيّة، والجزائريّة، والباكستانيّة، مثلاً لأولئك "المهاجرين" الذين كثيراً ما تعتبرهم مجرّد رعايا لها في أوروبا، وإن كانت هذه النظرةُ الرسمية تشهد تحوّلات أيضاً.(1/35)
ولا بدّ من ملاحظة الدلالات المتباينة لمفهوم تمثيل المسلمين، بين التمثيل المجتمعيّ والسياسي من جانب، ونظيره الذي يُقصَد منه الإشرافُ على تسيير الشأنِ الدينيّ العام للوجود المسلم. وعادة ما يحصُل اجتماعُ النموذجيْنِ في إطارٍ واحد، أو افتراقُهما على أكثر من إطار. وقد يغيب أحدُهما أو كلاهما من بيئةٍ أوروبيّة إلى أخرى. كما يُشار هنا إلى وجود تبايُنات عدّة في ملف تمثيل المسلمين في أوروبا، من دولةٍ إلى أخرى، وهي تبايناتٌ تُعزى إلى تمايزٍ في الخصائص والظروف، بما في ذلك خصوصيّة التجربة التاريخية للوجود المسلم وللبلد ذاته، وخصوصيّة النظام القانوني والسياسي، ولطبيعة العلاقة بين الدين والدولة وتأثيرات ذلك على الثقافة السياسيّة، ولأسباب أخرى مُحتَملة. وبصفة إجمالية؛ سيتضح أنّ ملف الاعتراف بكيان قانونيّ معبِّر عن الطائفة / الأقليّة المسلمة؛ هو من الملفات التي ما زالت متعثِّرة في عديد البلدان الأوروبية، والتي كثيراً ما تخضع لمحدِّداتٍ معقّدة ومتباينة بوضوح من بلدٍ أوروبي إلى آخر.(1/36)
ومع الإقرار بالطابع السياسيّ لبعض الملفّات الداخلية الخاصة بمسلمي أوروبا، بغضّ النظر عن درجته، بما في ذلك ما يتعلّق بتسيير ما يمكن وصفه بـ "الشأن الدينيّ الصّرف"؛ فإنّ ذلك لا ينبغي أن يُغري المحلِّلَ لذلك بالاستدراج إلى مزالق التسييس المُفتَعل والمبالَغ فيه، خاصة مع طابع التسييس الذي يطغى على بعض المعالجات الكتابيّة والتعليقات والتغطيات الإعلامية المرصودة في الساحة الأوروبية في ما يتعلّق بالشأن الإسلامي وتفاصيله. والواقع أنّ تلك المعالجات والتغطيات قلّما تتحرّر من المنظور المأزوم للملفّات المتعلقة بمسلمي أوروبا، ما يجعل زاوية الأزمة تنعكس، عادةً، على مداخل التناول ومخرجاته: كالاستنتاجات أو الانطباعات المتحققة، بالشكل الذي كثيراً ما يجافي المقاربة الموضوعية للواقع، ولا يساهم بالتالي في فهم أدقّ للمسائل موضع التناول.
الفصل الثاني:
مسلمو أوروبا وصعوبات المشاركة السياسية
تعترض مشاركةَ مسلمي أوروبا في الساحة السياسيّة صعوباتٌ عدة، يُعزَى بعضُها إلى صعوباتٍ عامّة بالنسبة للسياق المجتمعي، وأخرى متعلِّقة بالأقلِّيّات أو من يُصَنّفون على أنهم "أجانب"، علاوة على صعوبات متعلِّقة بخصوصيّتهم كونهم مسلمين. وتتداخل هذه الصعوبات وتتشابك، مع تفاوُتٍ نسبيّ في ذلك بين بيئةٍ أوروبية وأخرى، وهو ما يفرض، باستمرار، ملاحظةَ التباينات القائمة وأخذَها بعين الاعتبار، تحاشياً للانجرار إلى التعميم.
أولاً/ من الصعوبات التي تعترض المشاركة السياسية لعموم الجمهور:
يُقصَد بهذه الصعوبات العامة؛ هي تلك الصعوبات التي يمكن لأفراد المجتمع بعامة، وللمنتمين إلى بعض قطاعاته بخاصة، أن يواجِهوها في طريق تفاعلهم مع الساحة السياسية، بغضّ النظر عن خصوصيّة الانتماء إلى أقلية ما، كالمسلمين مثلاً.(1/37)
وتتمثّل هذه الصعوبات في جوانب عدة، منها تلك المرتبطة بالديمقراطيّة التمثيليّة (النيابيّة)، وما ينشأ معها من فجوات بين النواب ومن فوّضوهم (الناخبون)، وكذلك بين الحكومة والشعب. ويُعيد ذلك إلى الأذهان بعضَ الانتقادات التي وجّهتها "ثورةُ الشباب والطلاب" في أوروبا في سنة 1968، لجهة التشكيك في مدى شفافية تمثيل النواب للشعب فعلياً. ويُلاحَظ هنا تفاوتُ النُّظُم السياسيّة في أوروبا، وضيق هذه الفجوة في بعضها، كما عليه الحال في نموذج ما يسمى بـ "الديمقراطية المباشرة" السويسري مثلاً.
وخلاصة القول؛ إنّ الصعوبات المرتبطة بهذه الديمقراطية التمثيلية، وبالشكل الذي يبدو واضحاً للعيان في بعض الساحات السياسيّة الأوروبية؛ يتسبّب في نشوء صعوبات على طريق تفاعل الجمهور مع الساحة السياسيّة، بل وقد يُنشئ أزمة ثقةٍ بين السياسيّ والناخب، وهو ما تُعبِّر عنه استطلاعات الرأي في العادة.
وفي ما يتعلّق بالمآخذ على الديمقراطيّة النيابيّة أو التمثيليّة؛ يرى الكاتب البرتغالي الحائز على جائزة نوبل للأداب خوزيه ساراماغو (José Saramago)، أنّ المواطن يتنازل عبر الديمقراطية النيابيّة عن حقه في العمل السياسي حتى حلول موعد الانتخابات التالية، وهو ما يجعله يقترح مثلاً إعادة النظر في الديمقراطية.
بل يذهب ساراماغو (وهو عضو في الحزب الشيوعي البرتغالي) إلى حد القول بأنّ "الديموقراطيّة الغربيّة المفترَضة قد دخلت في حقبة تحوّل تراجعيّ لا يمكن وقفُها، ستفضي كما هو متوقّع إلى نقيض لها. فلا حاجة أن يُقدِمَ أحدٌ على تصفيتها فهي تنتحر يومياً"(1)، وفق تقديره.
__________
(1) Saramago, José: „Que reste-t-il de la démocratie ?“. Le Monde diplomatique, août 2004.(1/38)
ويرى جاك تستار (Jaques Testart)، مدير الابحاث بالمؤسسة الوطنية للصحة والبحث الطبي (Inserm) في فرنسا، أنه قد "آن الأوان لاستنباط ممارسات جديدة، خصوصاً من أجل معالجة نواقص الديموقراطية التمثيلية بأشكال أكثر تشاركية"، ويضيف "علينا الانتهاء من المفهوم السحريّ للديموقراطية الذي يدفع الى الاعتقاد بأنه في مقدور أيّ كان تكوين رأي صائب حول مسألة معقّدة دون التزوّد المسبق بالوسائل اللازمة لتكوين هذا الرأي"(1).
كما أنّ هناك صعوبات مرتبطة بدور رأس المال في الحياة السياسية. فالعمل السياسي بما يتطلّبه من مقوِّمات تمويليّة، خاصة في المواسم الانتخابية، لا يتيح الفرصة المتكافئة لجميع المواطنين للارتقاء في مراتب الحياة السياسيّة، ليبقى الأمرُ مرتبطاً، بدرجة أو بأخرى، بعوامل نخبويّة ذاتيّة أو موضوعيّة. فالسياسيّ "الفقير" في الواقع الأوروبي يبقى استثناءً وحالة نادرة، حتى وإن كانت هناك قوى سياسيّة تعوِّل على إسناد "الطبقة الكادحة" من المجتمع لها.
وتتمثل هذه الإشكاليّة في الفُرَص الواقعية المتاحة لأولئك المنتمين لشرائح ذوي الدخل المحدود، للمنافسة الجادّة في الساحة السياسيّة، مقابل أولئك المستقلِّين مالياً أو من يحظَوْن بمداخيل أعلى. وترتبط هذه الإشكالية بجانب آخر؛ هو دورُ رأس المال واللاعبين الاقتصاديين في الحياة السياسية، وهو ما يبرُزُ بصورة صارخة في بعض النماذج الأوروبية، من قبيل النموذج الإيطالي المتجسِّد برئيس الوزراء السابق سيلفيو برلسكوني.
__________
(1) تستار، جاك: "اختراع أشكال الديمقراطية التشاركية ـ التجربة الواعدة لمؤتمرات المواطنين". لوموند دبلوماتيك (صحيفة)، باريس، كانون الثاني (يناير) 2005.(1/39)
مع ذلك؛ فإنّ هناك فوارقَ ملموسة بين بلد أوروبي وآخر في هذا الجانب، كما أنّ لرأس المال دوراً محدوداً في العمل السياسي في عموم أوروبا، بالمقارنة مع ما عليه الحال في الساحة السياسية الأمريكية حيث يضطلع التمويل الشعبي من المساندين بدور هام في الصعود بالسياسيين، الأمر الذي يتيح هامشاً واسعاً لتحركات بعض جماعات المصالح وقوى الضغط.
أيضاً؛ فإنّ الجانب الماليّ في الواقع السياسي الأوروبي يبدو أقلّ أهمية في قاعدة الهرم السياسي، أي في العمل السياسي على المستويات المحليّة (البلديّة) وما دون ذلك، كما في ما يتعلق بالقطاعات النقابية أيضاً.
ومن بين الصعوبات الأخرى التي يمكن فرزها؛ ما يتعلّق بالخطاب السياسي الشعبوي (الغوغائي) (Populistic)، الذي يُرَكِّز على حشد المؤيدين واقتناص الأصوات من خلال تهييج العواطف والمشاعر، وأحياناً ببعث الضغائن والعداوات، كما يتّضح في حالة أقصى اليمين السياسي غالباً. وعادة ما تنتهج هذه القوى السياسية سبيلَ إثارة الهلع في صفوف الجمهور وتوظيف المخاوف المتأصِّلة في النفوس، لحصد التأييد لها، ما يتسبّب في إرباك الساحة السياسية ككل، وربما يشكِّل حالةً من "الوعي السياسيّ الزائف" (أي القناعة بخيار سياسي أو تأييده رغم أنّ المصلحة لا تكمن فيه) ولعلّ الأخطر من ذلك؛ هو ما يعمد إليه هذا الخطاب من محاولةِ شقّ صفوف المجتمع الواحد. ومن الواضح بالتالي أنّ الخطاب السياسي الشعبوي المتطرِّف يمثل إحدى الصعوبات في المشاركة السياسية، بالنظر لمحاولته استلاب وعي قطاعات من الجمهور وإطلاق العنان لغرائزه البدائية، والجنوح بها صوب جداول أعمال (Agendas) سياسية متطرِّفة.(1/40)
وكما يستنتج ألكسندر دورنا (Alexandre Dorna)، الأستاذ في جامعة كان (فرنسا) ورئيس الجمعية الفرنسية لعلم النفس السياسي، ومؤلف كتاب "الشعبوية" (Le Populisme)(1)فإنّ "انبعاث الشعبوية منذ حوالي عشرين سنة يشير إلى أزمة تجتاح الديموقراطية التمثيلية. والأزمة كونية، أي لا سابق لها، ويبدو أنّ تأثيرها النفسي تصاعديّ إعلامياً. فالاضطراب المفاجئ، وغير العنيف بالضرورة، في البنى الاجتماعية والسياسية بفعل العولمة الليبيرالية؛ يترافق مع تشويش موازٍ في البنى النفسية والعادات والتخيّلات. فالكبت المتراكم يولِّد شيئاً فشيئاً خيبةَ أمل كبرى. فالقدماء لا يجدون أنفسهم في جمهورية المحدثين الحزينة والمستسلمة ولا في المجتمع "الاجتماعي ـ الليبيرالي" السلطوي والمنغلق بشكل متزايد. من هنا يكبر القلق الى درجة أنّ البديل ليس مُفرِحاً: إمّا الانفجار الثوري وإمّا الانبجاس الامتثالي. لا مفرّ عندها من تحديد الداء، ويمكن اعتبار الشعبوية بمثابة حمّى، واذا كانت الحمّى إشارةً إلى المرض؛ فهي ليست المرض في عينه"(2).
__________
(1) Dorna, Alexandre: „Le Populisme”. Paris, 1999.
(2) دورنا، ألكسندر: "هل يجب أن نخاف من الشعبوية؟". في: لوموند دبلوماتيك (صحيفة)، باريس، عدد تشرين الثاني (نوفمبر) 2003.(1/41)
ثمّ إنّ المشاركة السياسيّة تحفّها صعوبات أخرى تترتّب على بيروقراطية الحكم والإدارة، كأن تتسبّب تلك البيروقراطية في انعكاسات سلبيّة أحياناً، في ما يتعلّق بقابليّات أفراد الجمهور على التفاعل مع الساحة السياسية. فمن جانب؛ قد يبدو للمواطنين أنّ النظام السياسي يتّسم بالتعقيد، وأنّ طبيعته أو آليات عمله غير مفهومة بالتالي. ومن جانب آخر؛ تبدو المسافة واسعة نسبيّاً بين الحاكم والمحكوم، أي قد يستشعر المواطن أنّ هناك الكثير من الأبواب المُغلقة أو المسارات البيروقراطية التي تحجزه عن صانع القرار، بغضّ النظر عن مدى دقة هذا الانطباع. ورغم أنّ الأمر لا يبدو في الحالة الأوروبية على هذه الشاكلة دوماً (فمثلاً؛ يُنظر إلى الحالة السويسرية تقليدياً على أنها تمثِّل نموذج "الباب المفتوح" بين السياسي والمواطن)؛ فإنّ هذه المشكلة موجودة في الواقع الأوروبي في حالات عدّة بالفعل، علاوة على أنها التصقت في وعي مواطني القارة الموحّدة بأطر الاتحاد الأوروبي على نحو خاص.
ومهما يكن من أمر؛ فإنّ من شأن العواقب السلبيّة تلك، الناجمة عن بيروقراطية الحكم والإدارة؛ أن تتسبّب في تضييق مسارات تفاعل عامة المواطنين مع الساحة السياسيّة، كما يتّضح مثلاً في الإقبال الفاتر نسبيّاً في عديد البلدان الأوروبية على الاقتراع في الجولات الانتخابية للبرلمان الأوروبي.(1/42)
فمثلاً؛ رغم الحملات الأوروبية والوطنيّة المكثّفة التي جرت في الأسابيع التي سبقت انتخابات البرلمان الأوروبي في حزيران (يونيو) 2004، لاستنهاض إرادة المواطن الأوروبي في الإدلاء بصوته، لتحديد من يمثله في بروكسيل على المستوى التشريعي؛ هبطت نسبة المشاركة في تلك الانتخابات إلى قرابة الثلث من إجمالي من يحق لهم التصويت. وقد جرى ذلك رغم ظهور رئيس المفوضية الأوروبية آنذاك، رومانو برودي، بشكل يومي على شاشات التلفزة في أقطار أوروبا، في إعلانات مدفوعة الأجر لحثّ مواطني الدول الأعضاء بلغاتهم الأم على التفاعل بشكل أفضل مع انتمائهم الأوروبي المشترك.
ومن الأسباب التي يُحتَمل أنها تقف وراء ذلك الإقبال الفاتر؛ أنّ مشروع التكامل الأوروبي الذي يقوم على عضويّة الدول فيه؛ يُضَيِّق مسارات التفاعل بين الشارع والمفوضية، أي "حكومة" أوروبا الموحدة. فلم يحدث مثلاً أن قام المواطنون الأوروبيون بالنزول إلى الشوارع للتنديد بحكومتهم الأوروبية تلك، بينما اعتادوا أن يفعلوا ذلك على المستويات الوطنية، بما أدى أحياناً إلى الإطاحة بوزراء أو حتى إسقاط حكومات.
أما عدم حدوث التفاعل الحيوي بين المواطنين وقمّة مشروع الوحدة؛ فيمكن أن يُعزَى أيضاً إلى حواجز واقعيّة أخرى. فإذا كان المواطنُ الأوروبيّ على احتكاكٍ شبه مباشر مع المسؤولين على المستوى المحليّ والوطنيّ؛ فإنّه يرى المسافة التي تفصله عن بروكسيل أو ستراسبورغ بعيدة جداً. وما يزيد في اغترابه؛ أنّهم في أروقة الوحدة لا يتحدّثون إلاّ نادراً بلغته الأم، فهي مجرد واحدة من عشرين لغة مُعتَمدة رسمياً على قدم المساواة، بينما يعمل جيش من آلاف المترجمين على إنجاح هذا التواصل اللغوي المذهل.(1/43)
ثم إنّ البناءَ المُتعاظم لبيروقراطية الوحدة؛ يفرض مساراتٍ معقّدة يصعب على المواطنين استيعابها، ما يورثهم حالةً من التيه واضطراب الاتجاه، وهو التي تعبٍّر عن ذاتها أيضاً عبر التقلِّبات الحادّة في المؤشِّرات التصويتيّة في انتخابات البرلمان الأوروبي، بين مفاجآت جولة وأخرى. وما يفاقم الموقف؛ ما أسفرت عنه التوسعة الأخيرة التي جرت في أيار (مايو) 2004، من تعقيد زائد في الهيكليّة وتشابكٍ معقّد في الصلاحيات، لإفساح المجال أمام عشر دول جديدة أخرى في مؤسسات الاتحاد. ومن هنا يثور التساؤل؛ عمّا إذا كان نظامُ أوروبا الموحّدة أو آليّة مشروعها مفهوميْن بالقدر الكافي في وعي مواطنيها.
وبالوسع الإشارة إلى أصناف عدّة أخرى من الصعوبات التي تعيق المشاركة السياسية لعموم الجمهور، منها مثلاً ما تواجهه المرأة في الصعود في الحياة السياسية، وهي صعوبات تبقى ملموسةً في البيئة السياسيّة الأوروبيّة، بشكل عام، خاصة مع المنسوب المتدنِّي لحضور المرأة في المواقع التشريعيّة والتنفيذيّة، بالنظر لنسبتها في المجتمع، واحتمالات أن يكون هذا الحضور شكليّاً أحياناً وبعيداً عن بعض المواقع النافذة والأكثر تأثيراً أحياناً أخرى. والثابتُ أنّ المرأة تواجه في الساحة السياسية الأوروبية "سقفاً زجاجياً" يحدّ من قدرتها على الصعود إلى المواقع المتقدمة، إلاّ ما ندر.
وللتعامل مع هذه الصعوبات؛ وقائياً أحياناً، وعلاجياً أحياناً أخرى، جرى اتخاذ تدابير عدّة في مستويات متباينة، بدت فاعلة كلِّيّاً أو جزئيّاً أحياناً، وأقل جدوى في حالات أخرى.(1/44)
فلاحتواء الصعوبات المرتبطة بالديمقراطية التمثيليّة، جرت مثلاً، وإلى حدٍّ ما بمفعول مطالبات "جيل 1968"، خطواتٌ عدّة في عديد الساحات السياسية في اتجاه تجسير الهوة بين النخب السياسيّة وعامة الجمهور. وقد اكتسب ذلك طابعاً جدياً أحياناً وشكلياً أحياناً أخرى، إلاّ أنّ اعترافاً عاماً بهذه الإشكالية كان قد تحقّق في غضون ذلك.
وبشأن رأس المال والحياة السياسية؛ وُضِعت ضوابطُ ومعايير عدّة، واتُخِذَت تدابيرُ متفرِّقة، بهدف معالجة الإشكاليّات ذات الصلة بهذه العلاقة الحسّاسة. وبينما تحقّق بعض النجاح في حالات أو بيئات بعينها؛ فإنّ ذلك بقي محدود الأثر في حالات أو بيئات أخرى.
أما في ما يخصّ الصعوبات المتعلِّقة ببيروقراطية الحكم والإدارة؛ فإنّ التعامل معها استدعى مساعٍ لتبسيط صورة الآليات الحكومية في عيون الجمهور، واختزال المسافات بين المسؤول والمواطن، وتكثيف السياسات الإرشاديّة العامة. وقد أطلق الاتحاد الأوروبي، كمثال، حملاتٍ عدة للتواصل مع مواطني القارة الموحدة وتوعيتهم بما "يدور وراء الكواليس".(1/45)
وفي ما يتعلّق بالصعوبات التي تواجهها المرأة، أو حتى الشرائح الشابة، في الانخراط في الحياة السياسية والصعود في مراتبها؛ فإنّ تقاليد العمل السياسي في كثير من بلدان أوروبا باتت تشتمل على إتاحة فرص أوفر أمام النساء والشبان للولوج إلى هذا الحقل وتقلد المزيد من المواقع المتقدمة فيه. وكمثال؛ فقد جسّدت الدول الاسكندنافية حالةً متقدمة أوروبياً وعالمياً في مجال إفساح المجال للمرأة في البرلمانات والحقائب الوزارية، إلاّ أنّ منطق "الإفساح" بقي هو السائد ضمناً في حالات عدة، بكل ما قد يحمله ذلك من انطباعات سلبيّة. ورغم ازدياد نسب النساء في الساحة السياسيّة؛ فإنّ ما يسمى بـ "الطابع الذكوريّ" ظلّ هو المهيمن على الساحة السياسية، خاصة في المستويات الاستراتيجية الدقيقة والوزارات المفصلية في العمل السياسي، فضلاً عن أنّ المواقع الأولى، فهي في معظمها بقيت حكراً على الرجال غالباً.
ثانياً/ من الصعوبات التي تحكم فرص المشاركة السياسية للأقليات بشكل عام:
يمكن الاستنتاج مبدئيّاً أنّ الأقليات، بشكل عام، تواجه صعوباتٍ أكثر من غيرها في ما يخصّ فرص المشاركة في الحياة السياسية. ويتأتّى ذلك من واقع الصعوبات العامة، سابقة الذكر، التي قد يواجهها عامة المواطنين في ما يتعلق بالتفاعل مع الشأن السياسي، وهي الصعوبات التي تبدو أحياناً أشدّ حدة في الكشف عن ذاتها إذا ما تعلّق الأمر بالأقليّات.
إنّ الأقلية، وكما يشي به التعبير، لا تتمتع بفرص مريحة دوماً إزاء ما يُوصف بـ "مجتمع الأغلبية"، فهي تتمايز عنه بهذا القدْر أو ذاك، لتنشأ مع هذا التمايز مفارقاتٌ وإشكاليّاتٌ عدّة، تبدو هيِّنة حيناً وعسيرة حيناً آخر، وذلك بحسب الأقلية المعنيّة، وتبعاً لخصوصيات مجتمع الأغلبية أيضاً، وبناء على طبيعة العلاقة المتبادلة بين الجانبين، وما شهدته في الماضي والحاضر من صعوبات أو نجاحات.(1/46)
وقد يكفي هنا أن يُشار إلى الحساسية التقليدية التي كثيراً ما تطبع العلاقةَ بين الأقليّات ومجتمعات الأغلبية، وهو ما اتضح في التاريخ الأوروبي القديم والحديث، وصولاً إلى المنعطفات الحادّة خلال القرن العشرين في هذه القارّة، وما زال يمثِّل في بواكير القرن الحادي والعشرين ملفّاً مُثقَلاً بالأعباء.
أما إذا ما تعلّق الأمر بالمشاركة السياسية في واقع المتحدِّرين من خلفية هجرة، أي الأقليات المنعوتة بأنها "أجنبيّة"؛ فإنّ الأمر ينطوي على حساسيات إضافية أحياناً، وعلى صعوبات معقّدة، من بينها تأثّر المشاركة السياسيّة بالثقافة الجمعية وطبيعة الخلفية السياسية أو الخبرات الديمقراطية في البلد الأصلي الذي جاء منه مهاجرو الأمس، والتي قد لا تتساوق مع ملامح الثقافة الجمعيّة والساحة السياسية للوطن الجديد، الأمر الذي يأتي على حساب مساعي التكيّف المتبادَلة بين هؤلاء "المواطنين الجدد" والبيئة التي يُفترَض أن تحتضنهم وتشجِّعهم على التفاعل المثمر مع شتى مسارات الفعل المجتمعي، بما في ذلك الساحة السياسية. ولكنّ هذه الخبرات المتعدِّدة قد تُثمر في بعض الحالات عن نتائج إيجابية أو حتى باهرة، وعن إثراء فعليّ لساحة المشاركة السياسيّة.
"نحن" و"هم": الأغلبية والأقليات في الحياة السياسية ـ التوازنات والمحاذير والإشكاليات
إنّ الاحتكام الصارم لمنطق الأغلبية والأقلية في الحياة السياسية، يثير إشكاليات عدّة، بل ويحمل محاذير على صعيد الممارسة التطبيقية.
الإشكاليات والمحاذير المرتبطة بالاحتكام الصارم لمنطق الأغلبية والأقلية في الحياة السياسيّة:
1/ تبدو الأغلبية، في معظم الأحوال، أوفر حظاً في فرض ذاتها على الحياة السياسية، بل والشأن المجتمعي بعامّة، وربما على حساب ما تبدو أحياناً أنها مكتسبات وحقوق تعود للأقليات.(1/47)
2/ إنّ تمركُز المخزون التصويتي في صفوف الأغلبيّة يجعل القوى السياسية تركِّز اهتماماتها وبرامجها على شؤون الأغلبيّة، بالقدر الذي كثيراً ما يتسبّب في إهمال احتياجات الأقليات ومصالحها. وما قد يسعف الأقليات أحياناً في هذا الجانب؛ هي القدرة الترجيحية التي قد ينطوي عليها ثقلها التصويتيّ.
3/ إنّ اختلال التوازنات المجتمعية بين "أغلبيّة"، وأقلية أو أكثر؛ إنما يفتح المجال على مصراعيْه للاستقطابات السياسية الحادّة، بالشكل الذي يُغري بعض القوى السياسيّة والمجتمعيّة بالتعويل على الشقاق المجتمعيّ وإثارة المخاوف المتبادَلة سعياً لتحقيق أصوات ومكاسب جماهيريّة، وهو ما يُلاحَظ مثلاً في واقع القوى السياسية الغوغائية (الشعبوية) واليمينية المتطرِّفة في أوروبا، التي كثيراً ما تختزل برامجها وخطابها السياسي وتعبئتها الجماهيرية في فكرة محورية تتمثّل في العداء لـ "الآخر" أو الأجنبي أو المسلم.
4/ إنّ مجرّد تقسيم المجتمع إلى أغلبية وأقلية، يحمل في طياته ما يثير انطباعات سلبية بشأن مفاهيم الشراكة المجتمعية والمشاركة السياسية التي يُفترَض فيها التكافؤ المبدئي. بل إنّ ذلك المنطق قد يغري بتعميق الاختلالات المجتمعيّة والسياسيّة التي كثيراً ما تكون قائمة بين حظوظ مجتمع الأغلبيّة وبعض الأقليات.(1/48)
5/ إنّ توزيع قطاعات المجتمع وفئاته وشرائحه على مربّعيْن اثنيْن، متقابليْن بلا تكافؤ، هما الأغلبية والأقلية أو الأقليات؛ إنما يفضي إلى تجاهل التمايزات والتباينات والخصائص المتفاوتة الملموسة داخل صفوف من يُوصَفون بالأغلبية وكذلك في أوساط من يُصنّفون على أنهم أقليّة. بمعنى أنّ معادلة الأغلبية والأقلية من شأنها أن تشجِّع النظرة التسطيحيّة والاختزاليّة لواقع التنوّع والتعدّد الضمنيّ وحيثيات التفاوت القائمة في المجتمع العام، لصالح ثنائيّة استقطابيّة كثيراً ما يجري التعبيرُ عنها بتقسيماتٍ تعسفيّة من قبيل "نحن" و"هم". وعادة ما تقفز هذه التقسيمات على المشترك المجتمعيّ الذي يجمع المنضوين ضمن الفئات والشرائح، لصالح فرض خارطة مجتمعيّة إجماليّة لا تعكس الواقع من مناظيره المتعدِّدة. والمعضلة الأخرى التي يُفضي إليها ذلك التصوّر؛ أنه كثيراً ما يُعَظَّم من شأن الاستقطابات الثنائية على أرض الواقع ضمن منطق "نحن" و"هم"، لتبدو تلك الخارطة المجتمعية المصطَنعة وكأنها آخذة في البروز، والتجسّد فعلياً، على حساب خيارات أخرى أكثر واقعيّة وجدوى. فقد لا يغدو يسيراً، كمثال على ذلك، الالتفاتُ إلى حقائق ومعطيات، تتعلّق بالتفاوت، الهائل أحياناً، في صفوف المجموعة المصنّفة على أنّها أغلبيّة أو أقليّة، فلا يُعدّ النقابيّ المسلم مثلاً في المربع المجتمعي ذاته مع زميله الذي ينتمي إلى فئة دينية أو عرقيّة مغايرة، لمجرد الاحتكام إلى منطق الأغلبية والأقلية إيّاه بمنظور أحادي. كما يُتوَقّع في هذا الصدد أن يصبح بعض كبار المتموِّلين والساعين نحو الفائدة الربحيّة بأيّ ثمن مادي أو أخلاقي كان؛ أقرب إلى بعض صغار الكسبة ممن ينادون بشعارات العدالة الاجتماعية والمسؤولية الأخلاقية لرأس المال، لمجرد اشتراكهم في مربع الأغلبيّة أو الأقليّة القائم على بُعد أحاديّ يتجاهل أبعاداً أخرى.(1/49)
أي أنّ منطق الأغلبيّة والأقليّة قد يُلحِق أضراراً بفرض التواصل المجتمعيّ وتعزيز القواسم المشتركة والالتقاء على برامج أو تفاهمات بمنطلقات عدّة بوسعها أن تخدم الصالح العام وتعبِّر عن القيم الصالحة، وهو ما قد يهدِّد إجمالاً باهتراء النسيج المجتمعيّ العام. ومع ذلك؛ فلا ينبغي أن يُفهم من استحضار التباينات وإدراك التعدّديّة؛ أنّ المقصود هو إلغاء المشترك الجامع ضمن المجموعة البشرية الواحدة، بحسب توزّعاتها الدينية أو العرقية أو الثقافية أو غير ذلك؛ بل المُراد ألاّ يكون ذلك مدعاةً لإغفال أبعادٍ وخصائص أخرى قائمة بالفعل في الواقع المجتمعيّ، وإن لم يكن بالوسع معاينتها بوضوح أحياناً.(1/50)
6/ إنّ طائفةً من الحقوق والمصالح المجتمعية الأساسية، لا يمكن أن تُترَك لتقديرات الأغلبية أو الأقلية، فالمشروعيّة السياسية لا ينبغي أن تتحقّق لتوجّهات سياسيّة أو قرارات ما لمجرّد موافقتها لما تراه الأغلبية. كأن يرأى من يُفتَرَض أنّهم مُعَبِّرون عن الأغلبية في مجتمع ما؛ حرمانَ المرأة المسلمة من حقِّها في ارتداء الزيّ الذي تريد، أو أن تقبل "الأغلبيّة" برنامجاً سياسياً قائماً على التعدِّي على حقوق الأقليات وربما السعي لاجتثاثهم (كما جرى في ألمانيا لدى صعود النظام النازي مثلاً). فقد برهنت الخبرات التاريخية البشريّة، وبما اتضح على نحو جليّ في أوروبا أيضاً؛ على أنّ الصرامةَ في الاحتكام إلى منطق الأغلبيّة والأقليّة في الممارسة السياسيّة؛ محفوفةٌ بمحاذير عدّة، كما اتضح في سوابق فرض قرارات مدفوعة بقناعات دينيّة محدّدة تعتنقها الأغلبية المجتمعية، في مواجهة الأقليّات الدينية، كما جرى في إنجلترا وهولندا(1)في القرن السابع عشر، على سبيل المثال. ومن هنا؛ وُضِعت ضوابطُ عدة، في الدساتير والمواثيق، وفي التنظيم القضائيّ والسياسيّ والإداريّ، بغيةَ التعاملِ مع هذه الإشكاليّات، لكنّ فعالية تلك الضوابط، أو مدى معالجتها لمجمل الواقع الإشكاليّ بشتى تفاصيله على الصعيديْن النظري والتطبيقي؛ ما زالت خاضعةً لمكامن قصور متفاوتة بحسب البيئات والوقائع. وهو ما يمنح أهمِّيّةً إضافيّةً لأن تتقدّم الأقلياتُ إلى ساحة المشاركة السياسيّة والمجتمعيّة، وتسعى لتعزيز حضورِها فيها، والتنبّه المستمر إلى أية نُذُر قد تحيقُ بها، والذود عن حقوقها ومكتسباتها، دون الإخلالِ بالسلم المجتمعي أو انتهاكٍ للمعايير والضوابط ذات الصلة.
__________
(1) Von Krockow, Christian Graf: „Die liberale Demokratie“. In: Fetscher, Iring / Münkler, Herfried (Hrsg.): „Politikwissenschaft: Begriffe – Analysen – Theorien“. Hamburg, 1985, S. 458.(1/51)
خيارات للتعامل الرشيد مع توازنات الأغلبية والأقليات في الحياة السياسية:
1/ إنّ المجتمعات البشريّة، التي تتوزّع ضمنيّاً على أغلبيّات وأقليّات؛ لا ينبغي أن تُطلِق العنان لمنطق صارم في التعامل مع هذه التوازنات، بشكل يأتي على حساب حقوق ومكتسبات ومصالح من يُصَنّفون على أنهم أقليّات.
2/ الحذر من مغبة ركون الساحة السياسية إلى تسويات، تعتمد على محصِّلة استقطابات الأطراف الفاعلة ذات الوزن والتأثير، وهو ما قد يعني تجاهل الأقلِّيّات. وينبغي بدلاً من ذلك؛ السعي إلى التوافق بين الأطراف السياسية والمجتمعية، بما في ذلك الأقلِّيّات، وهو ما يوفِّر أيضاً ضمانة لتعزيز السلم المجتمعيّ والتفاعل المتكافئ بين قطاعات المجتمع وفئاته، بغض النظر عن تصنيفات الأغلبيّة والأقليّة.
3/ إنّ الساحة المجتمعيّة والسياسيّة بحاجة إلى ضوابط فاعلة ومتجدِّدة لحماية السلم المجتمعيّ وضبط الخطاب والممارسة السياسيّيْن بعيداً عن نزعات التهميش والإقصاء لمن ينتمون إلى المجتمع الواحد الكبير. وينبغي في هذا الإطار تفعيل المواثيق الحقوقية ذات الصِّلة، وتطويرها المستمرّ في النصوص والتفسيرات، بما يحقِّق المأمول منها في هذا الجانب.
4/ تعزيز المشترك المجتمعيّ، وإدراك وجود قواسم مشتركة عدّة قائمة أو يمكن تعزيزها أو بالوسع التوصل إليها (كلمة سواء). وتلحق بذلك أهمِّيّة اندماج الأقليات في النسيج المجتمعيّ، اندماجاً إيجابياً على أساس المشاركة الفاعلة والمتكافئة، دون الإضرار بخصوصّياتها.
5/ لا بدّ من العمل من خلال الساحة المجتمعيّة العامّة بما يؤدي إلى دفع عجلة الإصلاح السياسيّ حال تبيّن الحاجة إليه، عبر المشاركة المجتمعية الفاعلة للأقلِّيّات، بما من شأنه أن يتيح، ضمن مساعٍ رديفة؛ تداركاً كليّاً أو جزئيّاً، لمكامن القصور أو التجاوزات في الساحة السياسيّة.(1/52)
6/ ضرورة تحسّب المجموعات البشرية المُصنّفة على أنها أقليّات؛ للاحتمالات الواقعيّة لتجاوز حقوقها أو هضم مصالحها أو الانتقاص من مكتسباتها، من خلال الساحتين المجتمعيّة أو السياسيّة، وهو ما يقتضي منها التوجّهَ الفاعلَ لمعالجة أية مكامن قصور أو تجاوزات قد تلحظ بواكيرها، واعتبار أنّ ذلك الإسهام غالباً ما يصبّ، ضمناً، في صالح المجتمع بكامله، سواء لجهة مسعى الترشيد المستمرّ للممارسة المجتمعيّة والسياسيّة فيه، أو من منظور تدارك الانعكاسات السلبية التي تنجم عادة عن الإضرار بالنسيج المجتمعيّ العام بمفعول الاختلالات المُفترَضة في العلاقة بين الأغلبيّة والأقلِّيّات.
7/ أهمية تنبّه الأطراف الفاعلة ضمن صفوف الأغلبيّة، بما في ذلك الهيئات والمؤسسات والقوى السياسيّة والمنظمات غير الحكوميّة وقادة الرأي؛ لمسؤوليتها الأدبية والتزاماتها المنتظرة منها، في ما يتعلق بتعزيز العلاقة الإيجابية والودِّيّة والمثمرة في المجتمع الواحد. إذ ينبغي أن تتداعى هذه الأطراف، من موقع المسؤولية القانونية و/أو الأدبية، إلى إصلاح أية اختلالات ماثلة على هذا الصعيد.
8/ عدم الاكتفاء بالخطوات والتدابير العلاجية للاختلالات التي يمكن أن تُلمَس في العلاقة بين الأغلبيّة والأقلِّيّة في المجتمع الواحد والساحة السياسيّة؛ بل ينبغي أيضاً الاهتمام بالجانب الوقائيّ، الذي يستبق التطوّرات قبل أن تتفاقم إلى مآلات غير مرغوبة، وهو ما يقتضي بلورةَ آلياتٍ فاعلة للإنذار المبكر، من قبيل المراصد المعنيّة بجمع المعلومات وتحليلها وتقصِّي الحقائق، والمراكز البحثيّة المتخصِّصة.(1/53)
9/ إنّ التعامل مع الإشكاليات والمحاذير الناشئة على خلفية توازنات الأغلبية والأقلية في المجتمع والسياسة؛ ينبغي أن يتمّ أيضاً عبر التعامل مع منظومة التقاليد والأعراف المجتمعيّة والسياسيّة السائدة. ولا ريب أنّ تلك التقاليد والأعراف، تبقى عرضة للتحوّلات والتبدّلات، التي عادة ما تتم ببطء وبشكل غير ملحوظ، وهي تبدّلات وتحوّلات تمليها مستجداتُ الواقع، ويحملها ما يطرأُ من مؤثرات على الثقافة المجتمعيّة العامة، وعلى الثقافة السياسيّة ضمناً، وهي تحوّلات وتبدّلات لا تبدو معزولةً كذلك عن التفاعلات الجارية بين شتى الأطراف المجتمعيّة والسياسيّة، بمعنى أنها متأثرةٌ بالتدافع المجتمعيّ والسياسيّ. وعليه؛ فإنّ المشاركةَ المجتمعيّة والسياسيّة، ينبغي أن تُولِي مسألةَ التقاليد والأعراف المجتمعيّة والسياسيّة عنايتَها، بالتعامل مع الثقافة العامة للمجتمع والثقافة السياسة للبيئة المعنيّة. وعلى سبيل المثال؛ تبذل مؤسسات ونخب أوروبية مسلمة، مساعٍ متزايدة، لكي تُدخِل المناسبات والخصوصيات الإسلامية ضمن مجمل الثقافة المجتمعيّة والسياسيّة المحلِّيّة، ليغدو من المألوف، مثلاً، تهنئةُ المسلمين بأعيادهم، أو إقامة موائد إفطار رمضانية بمشاركة الشخصيات العامة. ويجدر الانتباه هنا إلى أنّ الأمر يتعلّق باتجاه، لا بدّ منه، لتطبيع العلاقة بين المسلمين وخصوصيّاتهم من جانب؛ ومجمَل البيئة المجتمعيّة والسياسيّة من جانب آخر، وهو مسعى لا ينبغي أن يَقتصر على الجانب المسلم وحده، بل هو جدير بأن يحظى بدعم وإسناد عام من الفاعلين في المجتمع والسياسة.
ثالثاً/ من الصعوبات المتعلقة بخصوصية مسلمي أوروبا:(1/54)
تخضع مشاركة مسلمي أوروبا في الساحة السياسية لصعوبات عدة، يُعزَى بعضها إلى تلك الصعوبات العامّة التي سبق التطرّق إليها، وإلى صعوبات أخرى متعلقة بالأقليات أو بمن يُصنَّفون على أنهم "أجانب"، بينما تبدو هناك صعوبات من نوع خاص، متعلِّقة بخصوصيّتهم كونهم مسلمين، ومنها ما يلي:
أ/ صعوبات ذاتية وموضوعية:
من الصعوبات التي تحدّ من المشاركة المجتمعية والسياسية الفاعلة لمسلمي أوروبا؛ ما هو شائعٌ في كثير من البيئات الأوروبية من الافتقار إلى أطر التنسيق والتعاون الفاعلة ضمن نطاق الوجود المسلم، حيث لا تبدو حالات التشرذم أمراً استثنائياً.
وكثيرون أولئك الذين سجّلوا ملاحظاتهم بشأن ما استوقَفهم من قصورٍ كامن ضمن نطاق الأقليات المسلمة، على صعيد القدرة على تنظيم ذاتها في أطر وَحدَوية فاعلة. ففي التسعينيّات من القرن العشرين؛ سجّل الشيخ راشد الغنوشي، خلال محاضرة ألقاها في بريطانيا، انطباعاته بهذا الشأن بقوله "نحن هنا نستورد كثيراً من التخلّف، ولذلك عندما نرى الجماعات المسلمة وكيف تتعامل مع بعضها (بعضاً)، ونقارنها بالأحزاب الغربية هنا كيف تتعامل، وكيف تحلّ مشكلاتها؛ ندرك بأنّ هناك كافراً متحضِّراً ومسلماً متخلفاً"(1).
__________
(1) الغنوشي، راشد، مصدر سابق، ص 109.(1/55)
أما محمود الدبعي، أحد القيادات البارزة لمسلمي السويد، وقد رأَس لأعوام عدّة "المجلس الإسلامي السويدي"، المعني بالتواصل مع المستوى السياسي والمجتمعي في السويد؛ فيرى أنّ "أزمة التمثيل والقيادة أدّت إلى وجود اختلافات بين مناهج العمل وعدم الاتفاق حول تحديد الأولويات، حيث أنه في الكثير من الأحيان يصعب على الغرب التحدّث مع طرف موحّد أو قيادة موحّدة وشرعية تمثِّل الجالية الإسلامية في ما يتعلّق بشؤونها. نحن متخلِّفون في جانب الحوار السياسي مع صنّاع القرار في الغرب، مع أننا نرى أنّ ذلك واجب علينا من أجل تصحيح المفاهيم"(1).
وفي سياقات شبيهة، كان قد رصد شيئاً من ذلك الباحث الباكستاني في بريطانيا، مُعظّم علي (مدير مركز لندن لدراسات باكستان) بالنسبة للجاليات الباكستانية في أوروبا، فقد لاحظ (عام 1982) أنها تعيش حالة من الفُرقة على "الكثير جداً من الأحزاب الصغيرة" التي تهاجم بعضها بعضاً ولا تقوم بأي نشاط يذكر، وهو ما يراه كفيلاً بتشويه "صورة باكستان والباكستانيين في عيون الشعب والسلطات بالبلدان المستقبلة"(2).
__________
(1) الدبعي، محمود: "الإسلام والغرب ـ الطريق إلى الفهم المتبادل". الأوروبية (مجلة)، العدد 18، باريس، حزيران (يونيو) 2000، ص 28.
(2) Ali, Muazim: „Pakistanis in Europe“. Manchester, 1982, p. 15.(1/56)
والواقع أنّ شكاوى كهذه عادةً ما كانت تتردّد في أوساط الأقليات المسلمة في أوروبا، خلال العقود المنصرمة، ورغم أهمية التعامل بجدية معها؛ فإنها لا تخلو أحياناً من نزعة مثاليّة تكاد تنفصم عن الواقع باتجاهها إلى افتراض إمكانية قَولَبة وجود الأقلِّيّات في أطر وَحدَوية مع الإحجام في العادة عن اقتراح خيارات واقعيّة وعمليّة تتيحُ التوصّلَ إلى ذلك. بمعنى أنّ المسألة ينبغي أن تتعلّق بكيفية التعامل الأمثل مع حالة التنوّع والاختلاف الضمني في واقع مسلمي أوروبا، بما يحدّ من احتمالات الخلاف ويطوِّق إمكانات الشقاق ونوازع التمزّق، ويستثمر في الوقت ذاته الحالة التعدّدية القائمةَ، على أفضل وجه.
أما الافتراض التقليدي بأنّ الأمر يتعلّق بـ "سفراء" لأوطانهم الأصلية في الخارج، وأنّ عليهم تمثيلها على الوجه الأمثل؛ فإنه كثيراً ما يتجاهل تلك التحدِّيات والإشكاليّات التي ينضح بها واقعٌ معقّد تعيشه الأقلِّيّات المسلمة في أوروبا في مجالات عدّة.(1/57)
كذلك؛ فإنّ إحدى المعضلات التي واجهت، وتواجه، تجارب المشاركة المجتمعيّة والسياسيّة لمسلمي أوروبا، على تفاوتٍ بين بلد وآخر؛ هي حالة التمركز حول الأشخاص، التي غالباً ما تكون باديةً للعيان في أوساط الجيل الأول للوجود المسلم المهاجر، أي جيل التأسيس لـ "العمل الإسلامي". وبصفة إجمالية؛ لا يمكن وضع تفسير أحاديّ لهذه الحالة، فهناك مفعول التكوين الثقافيّ والاجتماعيّ والنفسيّ الذي حمله بعض مهاجري الأمس من بيئاتهم السابقة، حيث تتقدّم أهمية الولاءات أحياناً على مطالب الحوار والتواصل والشورى. ولكنّ بعض أنماط التشكّل التي عرفها الوجود المسلم الحديث في عدد من بلدان أوروبا؛ شجّعت هذه الحالة من الشخصنة والتفرّد. فمن اعتُبروا بمثابة "قيادات للجاليات المسلمة" كانوا أفراداً في حالات عديدة، ثم نشأت من بعد ذلك مؤسسات وأطر وهياكل. أي بدا أحياناً وكأنّ الفرد هو الذي استَوْعَبَ المؤسسة وليس العكس. وما جرى في حالات عدّة؛ لم يكن سوى "تركيب" المؤسسة على القيادات الفردية، أي تقمّص لملامح مؤسسيّة، وليس اتجاهاً جادّاً نحو المأْسَسَة بالضرورة. وتنشأ هذه المعضلة مع تركّز الخبرة في أيدٍ قليلة، وإمساك أفراد قلائل بمفاتيح التأثير، وتصدّرهم المشهد العام للحضور المسلم في ساحة المشاركة السياسية والمجتمعية. وقد انعكس ذلك على تماسك ساحة المسلمين أحياناً، وعلى كفاءة مشاركتهم المجتمعية والسياسية بكلّ تأكيد، وأورث مشكلة ملموسةً على صعيد التواصل بين الأجيال. وفي بعض الأحيان؛ بدت تلك وكأنها حالة مُستَأْنَسة حتى من بعض الأطراف السياسيّة في الساحات الأوروبية، التي ترى في هذا الشخص أو ذاك خياراً مريحاً بالنسبة إليها.(1/58)
والواقع أنّ حالة التمركُز حول الأشخاص؛ تحمل مخاطرةً جدِّيّة ببعض فرص المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا، ذلك أنّ الخروجَ الاضطراريّ لبعض الأشخاص المحوريِّين القلائل من ساحة فعله؛ يؤدِّي تلقائيّاً إلى إحداث فجوةٍ كبيرة قد يَصعُبُ سدّها، طالما أنّ أولئك لم يعمَلوا على توريثِ التجربة ونَقلِ الخبرة وإشاعةِ ثقافةِ المشاركة ضمن المربّع المسلم المعنيّ بالتواصل السياسيّ. ولم يعد الخروجُ الاضطراريّ للأفراد أو حتى بعض المؤسسات من ساحة العمل العام بالأمر المستَبعَد في واقع مسلمي الغرب إجمالاً، في ظل حملات الاستهداف والتشويه المسلّطة على بعض ساحات الأقليات المسلمة، والتي تتجنّد لها مؤسساتٌ وأقلامٌ وإعلاميين وأصواتٌ سياسيّة ومجتمعيّة أحياناً، كثيراً ما تجد فرصَتَها السانحةَ في أداءاتٍ متعثِّرة أو مكامن قصورٍ أو ثغرات في الفعل أو القول. ومن المؤسف ألاّ تكون هذه التداعيات المقلقة كافيةً هي الأخرى لانتشال واقع العمل العام للمسلمين في بعض البلدان الأوروبية من حالات التفرّد القياديّ والتمركز حول الأشخاص.
كما يمكن تحديد إحدى أهمّ الصعوبات التي تحكم فرص المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا على نحو مرتبط بخصوصيّتهم أساساً؛ في افتقار الساحة المؤسسيّة لمسلمي أوروبا إلى النضوج التخصصيّ، وهو ما لم يُتِح في معظم البيئات الأوروبية الفرصةَ لنشوء نسقٍ مؤسسيّ متكامل وقادر على رفد التجارب السياسية المحليّة الناشئة في صفوف المسلمين بمستلزمات النهوض والدعم والتجدّد. وتبدو ضمن ذلك إشكالية الافتقار إلى أطر مؤسسيّة لا غنى عنها في سياق العمل السياسيّ الفاعل، أو التعامل المؤثِّر مع الساحة السياسيّة، في البيئة الأوروبية، من قبيل مؤسسات البحث والدراسات، والمراصد الحقوقية الفاعلة، ومجموعات الضغط والتأثير والتعبير عن المصالح، وأطر التأهيل السياسي، وغير ذلك.(1/59)
وبشكل عام؛ يمكن القولُ إنّ واقع مسلمي أوروبا ما زال شاهداً على الافتقار إلى تَبَلْوُر أدواتٍ للعمل السياسي تكون في مستوى يلائم ما عليه الحال في الساحة الأوروبية، سواء تعلّق الأمر بالبلدان والأقاليم الأوروبية كلّ على حدة، أم تعلّق بالمستوى الأوروبي العام. ومع ذلك؛ فلا يمكن تجاهل النمو النوعيّ الذي شهدته بعض الساحات الأوروبية في غضون الأعوام الماضية؛ إلاّ أنّ الطابعَ العام ما زال دون المستوى الذي يمكن التعويلُ الجادّ عليه. وقد برهنت عديدُ الحالات على أنّ مسلمي أوروبا إجمالاً، وخاصة في بعض البيئات الأوروبية على نحو خاص؛ يَفتَقِرون بوضوح لأدواتِ المشاركةِ المجتمعيّة والسياسيّة الفاعلة والقادرة على التعاطي مع خصوصيّات الساحة التي يتحرّكون فيها، وهو ما يمكن أن يُعزَى إلى ظروف ذاتيّة متعلقة بخصوصيّة الوجود المسلم ذاته في البلد أو الإقليم المعنيّ ومقدّراته وإمكاناته؛ وإلى ظروف موضوعيّة متّصلة بالبيئة أو الظرف الناشئ. ومن الشواهد التي يمكن أن يُشار إليها في هذا المضمار؛ الحالةُ الفرنسيّةُ من خلال القانون المتعلِّق بما يُسمى "الرموز الدينية البارزة"، والذي رمى أساساً إلى حرمان التلميذات المسلمات من حق اختيار الزيّ، وأيضا عبر التطرّ إلى الحالة الدانمركية من خلال أزمة الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة للمقام النبوي الشريف (صلى الله عليه وسلم).
ففي الحالة الأولى؛ تمّ تمرير القانون المثير لاستياء جمهرة مسلمي فرنسا (وفق ما يُستدلّ عليه من مؤشرات عدّة)، دون أن تتوفّر لعموم المسلمين أية أدوات مجتمعيّة أو سياسيّة قادرة على كبحه. كما لم يجد المسلمون حلفاء جادِّين لهم لمعالجة القضية التي بدت وكأنها حازت على ما يشبه توافقَ الأوساطِ السياسية والمجتمعية على تمريرها، وهو ما كان.(1/60)
وفي الحالة الثانية؛ لم يجد مسلمو الدانمرك أدواتٍ للفعل المجتمعيّ والسياسيّ تكون قادرةً على التعاطي مع الأزمة في نطاقها المحليّ ابتداء، في ما أنّ البيئة المؤسسيّة لمسلمي الدانمرك بدت بدائيّة إلى حدٍّ ما، كونها تركّزت على أنماط بعينها تتمثل في المساجد والمراكز الإسلامية، أي مؤسسات غير متخصِّصة، في ما أنّ القيادات المجتمعية قد ارتبطت بمواقع الإمامة أساساً، وهو ما يثير التساؤل عن الافتقار إلى سمات التنوّع في القيادة المجتمعيّة، وهو أساس لأيّ أداء مجتمعيّ أو سياسيّ فاعل في أي بيئة كانت. وفي المحصِّلة؛ لم تتوفّر لمسلمي الدانمرك من أدواتِ الفعل المجتمعيّ والسياسيّ ما يُسعِف في اختراق حالة الانسداد المحليّ في الموقف، كما لم يجد المسلمون، حلفاءَ لهم في الساحة السياسية والمجتمعية الدانمركية لمعالجة القضية، حتى مع عدد من المواقف الهامة التي يمكن الإشارة إليها في هذا الصدد (كموقف الدبلوماسيين الدانمركيين)، وهو ما يفسِّر جزئياً اتجاه مسلمي الدانمرك لتحريك القضية من الخارج.
ويمكن الاستنتاج أنه في الحالتيْن، الفرنسية والدانمركية؛ تضافرت عواملُ موضوعيّة مع أخرى ذاتيّة، لتمرير سابقة قانونية (فرنسيّاً) من جانب، واحتدام الموقف وتأزّمه (دانمركيّاً) من جانب آخر.(1/61)
وقد يعثر المرء على صعوبات، أو إشكاليات من ضَرْبٍ آخر، تنبثق عن التباين في بعض تقاليد العمل السياسي بين ما هو سائد في البيئات الأوروبية من جانب، وما هو مُستَقى من التوجيهات الإسلامية والأعمال والتجارب والموروثات ذات الصفة الإسلاميّة من جانب آخر. ومكمن هذه الصعوبات أساساً في الافتراق أو التنازع بين الإطارين المرجعيّيْن اللذيْن يجد المسلم ذاتَه إزاءَهما في بعض الحالات، أي الإطار المرجعيّ السائد في بيئته الأوروبية، والإطار المرجعيّ الإسلاميّ، بما قد يترتّب عليه من انعكاسات. ومن ذلك مثلاً مسألة الالتزام الحزبي، التي تفرض على النائب في البرلمان أن يصوِّت مع كتلته، بغض النظر عن رأيه الشخصي في المسألة، وهو ما قد يجده متعارضاً مع "أمانة التصويت". أيضاً؛ فإنّ بعض المراوغات التي يمكن تتبّعها في بعض ثنايا الساحة السياسية، بما فيها تلك التي تقوم على تبرير الغاية للوسيلة؛ تصطدم بأخلاقيّات العمل السياسي وضوابطه وخاصة بالنسبة للمسلم. ولا ريب أنّ ذلك من شأنه أن يفرض أعباءً متزايدة، وربما يبثّ أجواء غير مريحة، على المسلم الذي يروم الصعود في مراتب الحياة السياسية، إذا ما شابت ساحة تحرِّكه شوائبُ كهذه.
ب/ الصعوبات المتعلقة بالمواقف السلبية من الإسلام والمسلمين:
وهنا يمكن تصنيف تلك المواقف، ضمن فئات عدّة، منها المواقف المتحفِّظة على الإسلام والثقافة الإسلاميّة، وتلك التي تتّسم بمناهضة الإسلام أو الوجود الإسلامي في أوروبا وتتبنّى توجهات عدائية ضدهما. ويمكن في هذا المجال إدراكُ الدور المتعاظم لهذه المواقف إجمالاً، وسط حمّى الرّهاب الإسلامي "الإسلاموفوبيا"، وموجةٍ من التعامل التمييزيّ أو الإقصائيّ مع المسلمين تسللت إلى بعض البيئات الأوروبية.(1/62)
كما يُشارُ هنا إلى دور اليمين السياسي المتطرِّف، أو ما يُعرف بأقصى اليمين، وحتى دور بعض القوى العلمانيّة أو الليبرالية المتطرفة والتي كثيراً ما تتذرع بـ "القيم الأوروبية" أو "قيم الحرية والانفتاح والتسامح" وضرورة "حمايتها"، لتبرير رؤاها وخطابها ومواقفها. كما يُشار هنا إلى وجود قوى أصدرت تحفّظات على المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا، وأبدت مناهضة لذلك، من قبيل الدور التحريضي لبعض الأطراف.
وكثيراً ما يمكن تتبّع تجلِّيات الإسلاموفوبيا في المواقف السياسية والتغطيات الإعلامية، وهي تمضي، في حالات عدة، في استهداف المؤسسات الفاعلة والقيادات المجتمعية ذات الأثر الحميد والحضور الإيجابي في صفوف مسلمي أوروبا، بصورة كفيلة في حالات عدّة بإرباك الأداء المجتمعي والسياسي للوجود المسلم برمّته. ولا يتسع المقام لإيراد الكثير من الشواهد على ذلك، وإيضاح بعض الملابسات المرتبطة بهذا المنحى.
ولا يجوز التساهل مع أحد الاتجاهات المقلِقَة التي أخذت تطلّ برأسها بوضوح في السنوات الأخيرة في بعض بلدان أوروبا، وهي التي تتعلّق بمطالبة الجمهور المسلم، على نحو كلِّيّ أو جزئيّ، بما يشبه البرهنة على الولاء للمجتمع والدولة، وهو ما يجري التعبير عنه بشكل أو بآخر في بعض سياقات الجدل بشأن الاندماج وما يتّصل به. فبينما يتم في فرنسا الحديث أحياناً عن أهميّة "استيعاب قيم الجمهورية"، يتحدّث آخرون في ألمانيا عن التسليم بـ "الثقافة السائدة" (Leitkultur)، في ما ينادي المستشار النمساوي فولفغانغ شوسل، عن حزب الشعب (محافظ)، في حملته للانتخابات التشريعية لعام 2006 بأهمية احترام "التقاليد" النمساوية من جانب الأجانب والوافدين. أما في هولندا فيجري الإكثار من الحديث عن ضرورة القبول بقيم المجتمع الحرّ والديمقراطي والمتسامح، وهي إشارات تتفاوت من بلد إلى آخر في طرائق التعبير عنها أو في درجة حضورها، أو في الأطراف التي تطلقها.(1/63)
ج/ الإشكاليات المتعلقة بجوانب شرعية وفقهية ومبدئية ومسلكية في ما يخصّ العمل السياسي والتواصل المجتمعي:
فتبعاً للخصوصيّة الإسلامية أو الثقافية، يمكن، بشكل أكثر تحديداً، العثور على طائفة من الصعوبات، التي تكتنفُ فرصَ مشاركة مسلمي أوروبا في الساحة السياسية. والأمر هنا يتسع لشواهد عدة، تتردّد في الأوساط المسلمة المعنية في أوروبا، ويمكن، على سبيل المثال لا الحصر، الإشارة إلى ثلاثة أنماط من هذه الإشكاليّات:
ـ الإشكاليّات المتعلقة ببعض المواقف السياسية، التي يقول المعنيّون من المسلمين إنه لا مناص أحياناً من الإقرار المبدئي بها، أو حتى التعامل الواقعي أو "البراغماتي" معها، سواء من خلال العمل ضمن إطار سياسي ما، كحزب أو كتلة برلمانية أو لائحة انتخابية أو مجموعة نقابية، أو عبر مقتضيات التحالفات السياسية والمواقف الجبهوية الجامعة لأكثر من فئة.
ـ ثمة إشكاليّات أخرى تتَمَحوَر حول مواقف بعض المجموعات الناشطة في صفوف المسلمين، منها المجموعات الرافضة للمشاركة السياسية، والتي كثيراً ما تسوق ما تعتبره حججاً شرعيّة أو فقهيّة أو حتى مبدئيّة لتبرير مواقفها.(1/64)
ـ الإشكاليّات المتعلِّقة بحدود التواصل البشري وبعض أوجه السلوك الفردي وما يمكن أن يخالطه، كالاجتماع على موائد تتصدّرها الخمور مثلاً، أو المدى المقبول شرعاً في الاختلاط بين الجنسين. وتبدو هذه الإشكاليات أكثر حضوراً وإثارة للتساؤلات لدى الجيل الأول المسلم المتحدر من خلفية هجرة أو في أوساط الشبيبة المسلمين، علاوة على المرأة المسلمة، وهم الذين يتوجّه إليهم عادة، أكثر من غيرهم، خطاب الاستنهاض للمشاركة في الفعل المجتمعي والسياسي. وعلى سبيل المثال؛ فإنّ العمل الحزبيّ التقليدي في أوروبا، يضع الشبان المسلمين أمام تساؤلات من قبيل كيفيّة التعامل مع الحفلات والرحلات الشبابية لناشطي الحزب، التي كثيراً ما لا تبدو أجواؤها ملائمة لما يحرص المسلم الملتزم بدينه على التقيّد به.
فرص المشاركة السياسية في أوروبا وتحدي "السقف الزجاجي"
أو: عن المنافذ الضيقة للمشاركة والفجوات بين الشعار والتطبيق
"صحيحٌ أننا نقترع وأننا نختار ممثلينا في البرلمان من خلال التفويض الذي نعطيهم إياه عبر الأحزاب بصفتنا مواطنين كاملي الحقوق. صحيح أخيراً أنّ الحكومة تأتي من الحجم التمثيليّ للأطراف والتحالفات السياسية التي تفرضها ضرورة قيام أكثرية. كلّ ذلك صحيح، لكنّ الصحيح أيضاً أنّ إمكانات الممارسة الديموقراطية تبدأ هنا وتنتهي هنا".(1/65)
هكذا يوجز الكاتب البرتغالي خوزيه ساراموغا، الحائز على جائزة نوبل للآداب، تقديره للمنافذ الضيقة التي يراها للمشاركة السياسية في واقع الديمقراطيات الغربية. وهو يرى أيضاً أنه "بوسع الناخب إسقاط حكومة لا يرضى عنها واستبدالها بحكومة أخرى، لكنّ تصويته هذا لم يكن له قطّ، ولن يكون له أبداً؛ أيّ تأثير ملموس على القوة الحقيقية الوحيدة التي تحكم العالم وتحكم بلده وشخصه تالياً، قصدت بها بالطبع السلطة الاقتصادية في القطاع متنامي الأهمية، والذي تديره الشركات متعدِّدة الجنسية وفقاً لخطط لا تمت بصلة الى الخير العام الذي تصبو اليه الديموقراطية من حيث المبدأ"(1).
إنّ مثل هذه التقديرات آخذة بالاتساع في أوساط النخب الأوروبية، في ظلّ الشكوك التي تحوم حول فعّاليّة فرص المشاركة السياسية لعموم المواطنين. وقد عبّرت عن ذلك مؤلّفات ومنتديات عدة، تطرّقت إلى جوانب هذه المعضلة، واقترح بعضُها حلولاً للتعاطي معها، في ما يعبِّر آخرون في مرافعاتهم عن نبرة يائسة، وربما تبدو متطرِّفة أحياناً؛ إزاء مجمل واقع النظام السياسي في البيئات الأوروبيّة.
لكنّ ما يتّصل بالمشاركة السياسية لمسلمي أوروبا، ينطوي على مُعضِلَتين؛ واحدة يشتركون فيها مع نظرائهم في المجتمع العريض، وأخرى تتعلّق بخصوصيّتهم لجهة كونهم يتوزّعون على أقلِّيّات غالباً، وما زال طابعهم العام في معظم البلدان الأوروبية الغربية والوسطى مرتبطاً بملمح الهجرة، وإن نشأت أجيالٌ متعاقبة منهم في الأوطان الأوروبية.
__________
(1) الكاتب البرتغالي خوزيه ساراموغا، الحائز على جائزة نوبل للآداب، من خطاب ألقاه في الجلسة الختامية "المنتدى الاجتماعي العالمي" الأول، في بورتو أليغري، بالبرازيل، في الخامس من شباط (فبراير) 2002.(1/66)
ففي السياق العام للواقع في بلدان أوروبا؛ رغم أنّ الأدبيات الديمقراطية التقليدية ترفع شعارات، من قبيل أنّ الديمقراطية هي "حكم الشعب بالشعب للشعب"، وقد اشتُهر ذلك الرأي عن الرئيس الأمريكي أبراهام لينكولن؛ إلاّ أنّ ترجمة ذلك على أرض الواقع تبدو مغايرة ومحفوفة بالتساؤلات. ففي آليات الديمقراطيّة التمثيليّة مثلاً؛ فإنّ الحكم لا يجري "بالشعب"، وإنما بمن يُفترض أنّهم ممثلوه، ولكنّ هؤلاء هم في الواقع أدنى لتمثيل أحزابهم ـ وربما هم معبِّرون عن جماعات مصالح أيضاً ـ من كونهم ممثِّلين لقطاعات الشعب، في ما لا يبدو من الجائز التسوية بين الأطر الحزبيّة والشعب كإطار عام جامع. ومن جانب آخر؛ فإنّه من المقتضيات العمليّة للديمقراطيّة التمثيلية أنّ "الجمهور هو آخر منبع لاتخاذ القرار السياسيّ"، كما يُلاحِظ عالم الاجتماع السياسي الألماني رالف داريندورف (Ralf Dahrendorf)(1).
ويدفع ذلك العالم السياسي الألماني هاينريش أوبرْرُويتر (Heinrich Oberreuter)، مثلاً، لأن يفترض أنّ الديمقراطيّة التمثيليّة يتوجب أن تكون "ديمقراطيّة تواصليّة" (kommunikative Demokratie)، إلاّ أنه يُعرِب في الوقت ذاته عن خشيته من أنّ الصفة التواصلية هذه ضئيلة جداً في واقع الممارسة السياسية، وخاصة في وعي النواب وفي اعتيادية العمل البرلماني(2).
__________
(1) Dahrendorf, Ralf: „Fundamentale und liberale Demokratie. Uber Teilnahme und Initiative in der modernen Politik“. In: Dahrendorf, Ralf (Hrsg.): Konflikt der Freiheit. Auf dem Weg zur Dienstklassengesellschaft. München 1972, S. 225-237.
(2) Oberreuter, Heinrich: „Aus Politik und Zeitgeschichte“. Beilage zum Wochenzeitung „Das Parlament“, B 2/1983, Bonn, 15.1.1983, S. 28-31.(1/67)
وعلاوة على الإشكاليّات التقليديّة المتعلِّقة بالديمقراطية النيابيّة، أو التمثيليّة؛ فإنّ المجالس النيابية، أو البرلمانات؛ لديها في الواقع فرصٌ محدودة للتغيير السياسيّ بصفة مستقلة عن الحكومة. ولما كانت الحكومة تتشكّل من الحزب، أو ائتلاف الأحزاب، التي تتمتّع بأغلبيّة مقاعد البرلمان؛ فإنّ ذلك يعني أنّ البرلمان مرتبط بدرجة ما بالحكومة، أو هو تابع لها لجهة صناعة القرار، وأنّ فكرة الفصل بين السلطات، أو السلطتين التشريعية والتنفيذية على نحو خاص؛ تبدو هنا موضع شكوك جدية. والواقع أنه "في مجلس العموم البريطاني فإنّ 97 في المائة من المشاريع التي تقدمها الحكومة تُقرّ، ولأعضاء مجلس العموم فترة اثني عشر يوماً لاقتراح مشاريع أنظمة فرعية، وأيام أقل لتعديل أي مشروع نظام. أما البرلمان الفرنسي فينعقد لمدّة أقلّ من نصف العام، ويمنع الدستور الجمعية الوطنية (المجلس الأدنى) من التشريع في بعض الأمور، بينما يستطيع رئيس الوزراء والحكومة التشريع بالمراسيم. باختصار إنّ معظم البرلمانات هي نيابيّة أو تمثيليّة، وهدفها شرعنة قرارات الحكومة لكنّها ليست تشريعية، هم فقط يصادقون على مشاريع الأنظمة المُقدّمة من الوزارات والحكومة، ويساندون المراسيم التنفيذيّة، أو يرفضونها على شكل تصويت على الثقة في الحكومة"(1).
ولذا؛ فليس من فراغ أن تَبَلْوَرَت في عدد من البيئات الأوروبيّة تجاربُ سعى القائمون عليها إلى تلافي ما يرونَه من قصور وثغرات في النظام الديمقراطي القائم على الإنابة. ومن بين هذه التجارب يبدو مثلاً أسلوب "مؤتمرات المواطنين"، أو ما يُسمى في الدانمرك بـ "مؤتمرات التوافق"، وهي نماذج تندرج ضمن ما يسمى "الديمقراطية الحوارية".
__________
(1) "السياسة والحكومة"، مصدر سابق، ص 70.(1/68)
وكما يشرح جاك تستار، مدير الابحاث بالمؤسسة الوطنية للصحة والبحث الطبي (Inserm) في فرنسا، فإنه بموجب أسلوب "مؤتمرات المواطنين"، "يمكن لمجموعة محدودة، حوالى 15 شخصاً، أن تمثِّل السكان في تنوّعهم، كما يُصار أحياناً الى اختيار عشوائي لعشرات من المتطوعين يُوزّعون على الأعمار والجنسين والمهن والخيارات السياسية والمناطق. والهدف من ذلك؛ الحصول على رأي يُفترَض به تمثيل جميع السكان لو مُنحوا الوسائل لإبداء رأي مستنير، وهذا ما لا يمكن توفيره مادياً. المطلوب ليس فقط إبداء الرأي في ملف معين بل السماح لمجموعة من المواطنين بفهم المسألة وتبادل الافكار حولها تمهيداً لاتخاذ الموقف المسؤول منها. (...) (ويتم) اختيار هذه المجموعة من المواطنين لهدف محدد وهو تلقيها كل المعلومات الضرورية لتكوين الرأي من دون تمويه للمصاعب او للمتناقضات. ويساعد المجموعة اختصاصي في علم النفس الاجتماعي على أن تنأى بنفسها عن إمكان التلاعب ـ لا تُكشف هوية المشاركين حتى انتهاء مهمتهم ـ وينفرط عقدها في ما بعد كي لا تتحوّل الى مجموعة من الخبراء من خارج الاختصاص. تكون المعلومات المقدمة إلى المواطنين المشاركين في هذه التجربة، على درجة كبيرة من الأهمية. فمن أجل تأمين الموضوعية يبدو أنه من الأنسب تكوين لجنة قيادة تضم إضافة إلى القيِّمين على التجربة خبراء من أصحاب الآراء المتنوعة، لا بل المتعارضة. فتقوم هذه اللجنة ببناء برنامج إعدادي توافقي يتضمن المواضيع المطروحة والوثائق المقدمة وهوية المشرفين على الإعداد. فيكون للحركة التشاركية مكانها داخل لجنة القيادة كما في صفوف المشرفين على الإعداد، لتوفِّر نوعاً من الخبرة المضادة المتعارضة في الغالب مع ما يقدمه الخبراء التابعون للمؤسسات.(1/69)
وقد أظهرت التجارب أنّ كل مواطن يوافق على المشاركة يظهر الكفاءة كونه قادراً على التعلّم والفهم والتحليل وإبداء الرأي المعلّل، كما تبيّن أنّ أقلية فقط ـ الثلث تقريباً ـ من الاشخاص المطروحين للمشاركة توافق على التضحية بعطل نهاية الأسبوع للاستعلام والنقاش والتساؤل وإبداء الرأي بصورة مغفلة ومن دون بدل مادي. إنه لمسار ديموقراطي أصيل يمكن أن يخلق تطابقاً بين السياسة وخيارات الغالبية من المواطنين الذين يوافقون على التعلم والفهم، وهو مسار منفتح على الجميع وفي متناولهم. علينا الانتهاء من المفهوم السحري للديموقراطية الذي يدفع إلى الاعتقاد بأنه في مقدور أي كان تكوين رأي صائب حول مسألة معقدة دون التزود المسبق بالوسائل اللازمة لتكوين هذا الرأي"(1).
أما في السياق الخاص بمسلمي أوروبا؛ فإنّ التصوّرات المُشرِقة التي حملَها المهاجرون المسلمون إلى أوروبا عن "البيئة الديمقراطية" و"أجواء الحرية"، التي سيصادفونها؛ أخذت بالاهتزاز التدريجي في بعض البيئات التي وفدوا إليها. ومع تجذّرهم في هذا الوقع؛ انقَشَعت الهالةُ التي ارتسمت في أذهانهم للواقع السياسي عن تفاصيل معقدة لا تُدرَك بنظرةٍ أفقيّة حالمة. وقد جاءت "صدمة 11/9" لتهزّ شيئاً من القناعات في هذا الجانب لدى قطاعات من مسلمي أوروبا، الذين أخذ، وعلى نحو غير مسبوق، بعضهم يخشى على حقوقه ومكتسباته في بيئة ديمقراطية.
__________
(1) تستار، مصدر سابق.(1/70)
ويعرض الدكتور علي أبو شويمة، مدير المركز الإسلامي في ميلانو ولومبارديا بإيطاليا، لهذا التحوّل الناجم عن الفجوة بين التوقّعات المسبَقة والوقائع الملموسة، في افتتاحيّته لمجلة "الأوروبيّة" التي يرأس تحريرها (كانون الثاني (يناير) 2004)، التي كتب فيها: "لعلّ الكثير ممن جاؤوا إلى الغرب؛ كانت هذه الشعارات (الديمقراطية، الحرية، المساواة، ...)، وما تصوّروه من تطبيقات لها في حيِّز الواقع؛ السبب المباشر أو غير المباشر لهجرتهم، ولكن بعد فترة قصيرة يصطدم المهاجر بأنّ الدكتاتورية هناك (في موطنه الأصلي) لا تختلف عن هنا، إلاّ أنّ الأولى دكتاتورية فرد يخدمه نظام مفروض، وهنا (في أوروبا) دكتاتورية نظام يخدمه أفراد. وفي الحالتين إذا كنت خارج "السيستم" (System) ـ النظام القائم أُسساً وفلسفة ـ ؛ فلا حرِّيّة لك ولا ديمقراطية ولا مساواة. وحيث أنّ "السيستم" هنا (في أوروبا) وُضِع بتأثير طبقة مَلَكت المال والإعلام والسياسة والقوّة العسكريّة، أي ملكت كلّ شيء تقريباً كما ملك هناك القائدُ المُلهَمُ والزعيمُ الأوحد؛ فمن حقّ هذا النظام أن ينعَتَك ويجعلك في الدائرة أو خارجها، سواء كانت لك حقوق أو ليس لك حقوق، وسواء كان الظلم عليك مشروعاً أم غير مشروع، وقهرُك جائزٌ أو جائر، وقتلُك حرامٌ أم حلال. بل هو اليوم يرسم لك حياتَك كلّها ويحدِّد لك ما تأكل وما لا يجب عليك أن تأكل، وما تلبس وما لا يجوز لك أن تلبس، لتكون آلةً من الآلات وقطعةً من قطع الشطرنج، ودُميَةً (...). وكما أنه مَرْضِيّ عنك هُناك (البلدان الأصلية) وتُعطَى لك الرشاوى وتُدفَع لك الأتاوات وتُقَلّد المناصب والجاهات، إن صفّقت وتجسّست لصالح النظام حتى على أخيك وأبيك؛ فأنت هنا المعتدل ورجل السلام وتُقَلّد الأوسمة إلى جائزة نوبل إن تبنّيت الميوعة ونسيت هويّتك ودُسْتَ على مبادئك.(1/71)
لقد تغيّرت أحوال الطقس في العالم فنَدَر الماء والعُشب لأسراب الطيور والعصافير، وتغيّرت أوروبا وأمريكا فتقلّصت فيها الحرية والديمقراطية والمساواة"(1).
الصعود إلى النخبة ومعايير الاصطفاء:
لإدراك الكيفيّة التي تضيق بها منافذ المشاركة السياسيّة؛ يُستَحسَن الالتفاتُ إلى أنّ التنوّع الذي ينطوي عليه الواقع المجتمعيّ في البلدان الأوروبية، لا ينعكس بالدرجة المماثلة من التعدّديّة في ساحة المشاركة المجتمعيّة، في ما تتضاءل بوضوح هذه التعدّديّة في ساحة المشاركة السياسية، وأما المستويات العليا من صنع القرار السياسي فتبدو أكثر تجانساً وأبعد عن أن تكون انعكاساً لواقع التنوّع المجتمعيّ. وفي ظلال هذا الواقع تضطلع فرص الصعود ومعايير الاصطفاء ومؤهلات البروز المجتمعي والسياسي، بأدوار حاسمة في الإبقاء على هذه الحالة، وربما تكريسها.
__________
(1) أبو شويمة، علي: "كلمة التحرير"، الأوروبية (مجلة)، العدد 37، باريس، كانون الثاني (يناير) 2004، ص 4.(1/72)
ويمكن تتبّع بعض مسالك الصعود تلك في مؤسسات التعليم الأكاديمي رفيعة المستوى وباهظة الكلفة التي تلجأ إليها النخب للتحصيل الجامعي، أو تبوّؤ مواقع متقدِّمة في إدارة مؤسسات المال والأعمال والمجموعات والشركات الكبرى التي تمثِّل أحجار الزاوية في الساحة الاقتصادية فضلاً عن التمتّع بحصص من أصولها. وقد تكون "معايير الاصطفاء" مرتبطةً بالإمكانات الاقتصاديّة، أو المقدرات الإعلامية المتاحة تحت التصرّف، في ما أنها كثيراً ما تفرض طابعاً خاصّاً على بعض جوانب الحياة، مثل الكيفية التي يتمّ بموجبها قضاء أوقات الفراغ والمرافق المُختارَة لذلك، وحتى الأماكن المفضّلة لعقد اللقاءات والاجتماعات مع الآخرين. ويكتسب الانتماء العائلي أهمية خاصة في هذا الجانب، في ما تلحق بذلك أبعادٌ أخرى، مثل العلاقات الاجتماعية وارتباطات الزواج والصداقة، وصولاً إلى عضوية منتديات النخب والاشتراك في بعض المؤسسات نافذة التأثير أو قويّة الحضور. ورغم أنّ ذلك لا يمثل معايير ثابتة أو مُطلَقة، علاوة على أنها غير مكتوبة أو منصوص عليها؛ إلاّ أنها ترقى لأن تكون اشتراطاتٍ غير مرئيّة، بل وتكتسب قدرة على تفسير بعض جوانب الارتقاء في مسالك التأثير مجتمعياً وسياسياً، وهو ما يبدو في بعض البيئات الأوروبيّة أوضح منه في أخرى، وضمن تيارات بعينها (المحافظون ويمين الوسط مثلا) أكثر منه في غيرها (كاليسار والخضر والاجتماعيين). ومن المثير أنّ هذه الظاهرة تتجاوز حدود القطر الواحد إلى الإقليم والقارة والعالم، مثل ما يعكسه مثلاً نموذج منتديات اللقاء والتشاور للنافذين والأطراف الأكثر تأثيراً في العالم، كالمنتدى الاقتصادي العالمي بدافوس (سويسرا).(1/73)
ومن هنا؛ لا يكون مفاجِئاً أن يخرج القادة السياسيّون من الساحة السياسيّة إلى ميدان الاقتصاد والأعمال، ليتبوّؤوا مراتب القيادة في أبرز الشركات مثلاً، وبصورة تبدو معاكسة لتوقعات بعض من أنصتوا باهتمام إلى خطابهم السياسي. فبعد تقمّصه لمطالب العاملين مثلاً قد لا يتورّع السياسي ذاته عن تثبيت أقدامه في مربع أرباب العمل وربما في قطيعة صارخة مع ماضيه.
ولا يعني ذلك أنّ الصاعدين في دروب الحياة المجتمعية والسياسية يُتوقّع أن يكونوا من القابعين داخل أروقة النُّخَب بالضرورة؛ لكنّ ذلك قد يلفت الانتباه إلى أنّ الارتقاء في مراتب التأثير تصاحبه في العادة مخاطر من الانفصام أو العزلة عن الواقع التعدّدي في الفضاء المجتمعي، ونشوء مشكلات في التواصل مع ذلك الواقع ومن يَنتمون إليه من خارج أوساط النخب(1). فعندما تتشكل شبكة من العلاقات مع "النافذين"، قد لا يكون الإبقاء على شبكة العلاقات السابقة خياراً مضموناً، أو حتى مرغوباً ربما من صاحبها.
إنّ هذه المعضلة، التي تتفاوت في حضورها بين بيئة أوروبيّة وأخرى؛ تنطوي على تحدّ غير يسير بالنسبة للوجود المسلم في أوروبا، لجهة فرصه في المشاركة الفاعلة في الساحتين المجتمعيّة والسياسيّة.
__________
(1) عن بعض جوانب هذه المعضلة انظر مثلاً ما كتبه ميشيل بَنسون ومونيك بَنسون- شارلو، وهما عالما اجتماع فرنسيان، ومديرا أبحاث في المركز الوطني للدراسات العلمية (CSU-IRESCO) في فرنسا، ومؤلفا العديد من الكتب حول البورجوازية، ومنها "سوسيولوجيا البرجوازية":
Pinçon, Michel/ Pinçon-Charlot, Monique: „Sociologie de la bourgeoisie”. Paris, 2000.
وانظر أيضاً:
بَنسون، ميشيل/ بَنسون ـ شارلو، مونيك: "على خطى الطبقى المترفة". لوموند دبلوماتيك (صحيفة)، باريس، أيلول (سبتمبر) 2001.(1/74)
فمسلمو أوروبا لا يتمتعون حتى الآن بفرص ذات شأن في الحضور الملموس ضمن دوائر النخب، خاصة في غربي أوروبا ووسطها، حتى مع وجود نسبة ملحوظة من المسلمين في بعض القطاعات المهنيّة المرموقة نسبياً كالأطباء والمهندسين مثلاً، في عديد البلدان الأوروبية. ويمكن اعتبار القوائم والإصدارات المخصّصة للتعريف بالشخصيات البارزة في شتى المجالات في بلدان أوروبا، والمعروفة باسم (Who's Who)؛ شاهداً قوياً على ذلك، وهي التي تبرهن على أنّ الحضور الضعيف للغاية للمسلمين ضمن هذه التصنيفات، وربما غيابهم عنها تقريباً؛ لا يتناسب بأي حال مع نسبتهم العددية في المجتمع(1).
__________
(1) على سبيل المثال يبدو الحضور المسلم في "طبقة" المال والأعمال النمساوية هامشياً للغاية، وغير ملحوظ، رغم بعض الاستثمارات لعرب ومسلمين المستقرة في النمسا منذ زمن. وحسب مجلة (Business People) النمساوية، في عددها لشهري تموز (يوليو) وآب (أغسطس) 2002، والذي خصّصت موضوعه المركزي لأبرز ألف مرتبة من رجال الأعمال والاقتصاديين والمديرين في النمسا، بناء على مؤشرات جمعتها في النصف الأول من عام 2002 عن حجم أعمالهم وتجاراتهم وما تحققه من نمو. وقد جاءت المراتب بحسب الشركات وغالباً ما ضمّت المرتبة الواحدة أكثر من اسم. وإجمالاً؛ فقد وردت أسماء عربية أو مسلمة في خمس مراتب منها فقط، أي ما يقل عن نصف في المائة من إجمالي العدد (نسبة المسلمين في النمسا تبلغ 4 في المائة من السكان). فحاملو الأسماء العربية أو المسلمة (ليسوا من المسلمين بالضرورة) جاؤوا في المراتب 97 و365 و754 و894 و921. دون استبعاد أن يكون هناك مسلمون آخرون بأسماء غير مسلمة (معتنقو الإسلام مثلاً). انظر:
Business People (Magazin), Nr. 6, Juli/August 2002, Wien.(1/75)
وعندما تضيق منافذ تلك المشاركة كلما اقتربت من دوائر من يُوصَفون بـ "النافذين"، مجتمعيّاً وسياسيّاً؛ لا تتفاقم مشاقُّ العبور إلى تلك الدوائر وحسب؛ بل وتتزايد احتمالاتُ اهتراء عرى التواصل بين الوجود المسلم في المجتمع والمعبِّرين عنه داخل هذه الأوساط، وبالتالي نشوء شكوك جدية بشأن مدى تمثيلهم لمصالح المسلمين وهمومهم وتطلعاتهم فيها، طالما أنهم أصبحوا مصنّفين ضمن من يعرفون بـ "الشخصيات الأكثر أهمية" (VIP).
ولعلّ ذلك يلفت الانتباه إلى أحد الأدوار الأدبيّة التي يُستَحسن بالمشاركة المجتمعية والسياسية لمسلمي أوروبا أن تأخذها على عاتقها، ألا وهو الإسهام في ردم الفجوات التي تفصل الواقع عن النُّخَب، خاصّة من خلال الحرص على نهج "القرب من المواطنين" وتَمَثُّلِه وتأكيده بصورة رشيدة من قبل الفاعلين المجتمعيِّين والسياسيِّين المسلمين وشركائِهم، وهو مطلبٌ يتواءَم على أي حال مع القيم والتوجيهات الإسلاميّة في هذا المجال، كما يتضح مثلاً في سورة "عَبَس"، وكما في محطات عدّة من سيرة الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) ذاتها.
الفصل الثالث:
مواقف مسلمي أوروبا من المشاركة السياسية
يمكن تصنيف مواقف مسلمي أوروبا، مؤسّسات وتجمّعات وقادة رأي وشخصِّيات عامة، من المشاركة السياسية ضمن فئات عدة، تتوزع إجمالاً بين خانتيْ "المؤيِّدين" و"المعارضين". لكنّ التيار الرئيس (mainstream) المسلم في أوروبا، المعبِّر إجمالاً عن الوجود المسلم، يؤيد فكرة المشاركة السياسية بلا مواربة، بل يرى أهميتها وربما قال بعض قياداته بوجوبها أو ما فوق ذلك. ومع هذا؛ فإنّ ساحة مسلمي أوروبا اتّسعت لمواقف أخرى من تلك المشاركة، تحفظت عليها وربما قالت بحرمتها، وهي مواقف بقيت إجمالاً في هامش الساحة المجتمعية المسلمة في هذه القارة.(1/76)
ومع التمايز بين الجانبين؛ فإنّ في كل جانب منهما أطيافٌ من التنوّع والتباين الضمنيّ في بعض الحيثيات والحجج أو في مدى الحماسة لهذا الموقف أو ذاك، أو حتى في ما يتّصل إمكانية إيراد تحفّظات أو ضوابط أو "خيارات بديلة".
وإجمالاً؛ يتّضح بشكل جليّ، أنّ الحضور المسلم في أوروبا يميل للمضيّ في نهج المشاركة السياسية والمجتمعية، ومعه معظم المؤسسات الإسلامية وقادة الرأي المسلم والأئمة، والحديث هنا هو عن المواقف التي تنطلق أساساً من المرجعية الإسلامية أو تحاول أن تنسجم معها.
وفي ما يلي عرضٌ لشواهد من الجانبين، ذلك المؤيِّد بوضوح للمشاركة السياسية، والآخر المعارض لها بوضوح أيضاً.
أولاً/ فئات مؤيدة بوضوح للمشاركة السياسية:
يمثِّل "ميثاق المسلمين في أوروبا" (Muslims of Europe Charter) النموذج الأبرز على أنّ الحضور المسلم في أوروبا يميل في معظمه للمضيّ في نهج المشاركة السياسيّة والمجتمعيّة، ومعه معظم المؤسسات الإسلامية وقادة الرأي المسلم والأئمة، والحديث هنا هو عن المواقف التي تنطلق أساساً من المرجعية الإسلامية، خاصة وأنّ هذا الميثاق مُعتَمد من قبل مئات المؤسسات الإسلامية في عموم القارة الأوروبية، بما فيها كبريات المنظمات على الصعيد الأوروبي المركزي، والتي تدير المئات، بل آلاف، المساجد والمصليات والمراكز الإسلامية في أرجاء القارّة.(1/77)
فحسب ما ورد في مقدِّمة ميثاق المسلمين في أوروبا؛ فإنه منذ مطلع سنة 2000، تداول "اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا" (FIOE)، لوضع ميثاق للمسلمين في أوروبا، يحدِّد منطلقات عامة للفهم الإسلامي، ويبيِّن قواعد لاندماج المسلمين في المجتمع في إطار المواطنة. وقد شكّل الاتحاد لجنة لإعداد المشروع، الذي تمّت مناقشته في مؤسّساته القيادية، ثم عُرِض المشروعُ على العديد من الهيئات الإسلامية الأوروبية، التي اجتمع مندوبون عنها في ندوة جامعة بمدينة بروكسل في كانون الثاني (يناير) 2002، ثم وقع تعميم المشروع على أكبر عدد ممكن من المؤسسات الإسلامية الأوروبية التي لم يتيسّر لها حضور ندوة بروكسل لإبداء ملاحظاتها واقتراحاتها. وبعد اعتماد التعديلات وإدراجها، تم التوصل إلى الصيغة النهائية للميثاق بصورته الحاضرة، ووقّعت عليه مؤسسات في 28 قطراً أوروبياً، في ما ظلّ التوقيع على الميثاق مفتوحاً لكل المؤسسات التي تقرِّر اعتماده.
وقد أيّد "ميثاق المسلمين في أوروبا" فكرةَ المشاركةَ السياسية، فضلاً عن المشاركة المجتمعية. ففي ما يتعلّق بالمشاركة السياسية؛ نصّت المادة 21 من الميثاق على أنّ "المسلمين في أوروبا مدعوّون للانخراط في الشأن السياسي العام من منطلق المواطنة الفاعلة، إذ أنّ من أهم مقتضيات المواطنة الصالحة؛ المشاركة السياسية بدءاً من الإدلاء بالتصويت في الانتخابات إلى التعاطي مع الهيئات السياسية، ومما يشجِّع على ذلك انفتاح هذه الهيئات على جميع أفراد المجتمع وفئاته، انفتاحاً يستوعب جميع الطاقات والأفكار".(1/78)
ويرى الميثاق ذاته دوراً للمسلمين في تعزيز عملية الوحدة الأوروبية، فقد ورد في مادته 26 ما يلي "إنّ المسلمين في أوروبا من خلال رصيدهم الدينيّ والثقافيّ، ومن خلال وجودهم في مختلف البلاد الأوروبية؛ يشكِّلون عامل دعم لجهود التقارب في إطار الوحدة الأوروبية، مما يجعل من أوروبا قطباً حضارياً هاماً، قادراً بما يحمله من مكوِّنات دينية وثقافية متنوِّعة، على القيام بدور التوازن في العالم".
وفي ما يندرج في نطاق المشاركة المجتمعية، أو ما يتّصل إلى حدٍّ ما بالمشاركة السياسية غير المباشرة، وردت موادّ عدّة في الميثاق، مثل المادة 17، التي نصّت على أنّ "المسلمين في أوروبا يحترمون القوانين والسلطات القائمة عليها، ولا يمنعهم ذلك، ضمن ما هو مكفول لجميع المواطنين، من الدفاع عن حقوقهم والتعبير عن آرائهم ومواقفهم أفراداً ومجموعات، وذلك في ما هو عائد إلى شؤونهم الخاصة كفئة دينية، أو في ما يتعلّق بالشأن العام كمواطنين، وإنّ ما قد يعرُض من تباين بين ما تقتضيه بعض القوانين وما يتّصل بجوانب دينية خاصة؛ فللمسلمين أن يتوجّهوا إلى الجهات المعنية لمراعاة احتياجاتهم والوصول إلى الحلول المناسبة".
وقد نصّت المادة 19، على أنّ "المسلمين في أوروبا بصفتهم مواطنين أوروبيِّين، يعتبرون أنّ من واجبهم أن يعملوا من أجل الصالح العام، وأن يكون حرصُهم على أداء واجباتهم كحرصِهم على المطالبة بحقوقهم. وإنّ من مقتضيات الفهم الإسلامي السليم؛ أن يكون المسلمُ مواطناً فاعلاً في الحياة الاجتماعية، منتجاً ومبادراً وساعياً لنفع غيره".(1/79)
وقد نصّت المادة 20، على أنّ "المسلمين مدعوّون إلى الاندماج الإيجابي في مجتمعاتهم، اندماجاً يقوم على التوازن بين الحفاظ على هويتهم الدينية ومقتضيات المواطنة، وإنّ كلّ اندماج لا يعترف بحقّ المسلمين في الحفاظ على شخصيّتهم الإسلاميّة وحقهم في أدائهم لواجباتهم الدينية؛ لا يخدم في حقيقة الأمر مصلحةَ المسلمين ولا مصلحةَ مجتمعاتهم الأوروبية التي ينتمون إليها".
وعلى نحو أعمّ؛ فإنّ "ميثاق المسلمين في أوروبا"، يؤكِّد في مادته 24 أنّ "الإسلام بما يملكه من رصيد للقيم الإنسانية والتجارب الحضارية، يمكنه أن يساهم عبر الوجود الإسلامي الأوروبي في دعم مكانة القيم العامة التي تخدم مجتمعاتنا المعاصرة، كقيم العدل والحرية والإخاء والمساواة والتكافل، تأكيد البُعد الإنساني والأخلاقي في المجال الاجتماعي وفي مجال التقدم العلمي والتقني والاقتصادي، وإنّ في هذا الإسهام من الإثراء النافع ما تعود فائدته على الجميع"(1).
أما بالنسبة للوجود المسلم في الأقطار والأقاليم الأوروبية؛ فيمكن التوقف عند عدد من الشواهد على سبيل المثال، لا الحصر، كما بالنسبة لواحدة من أبرز المؤسسات الإسلامية الجامعة في السويد، وهي "الرابطة الإسلامية في السويد". فحسب تعريفها لذاتها، ورد في نشرة تحمل عنوان "من هي الرابطة الإسلامية في السويد"، ما يلي: "تُعتبر الرابطة الإسلامية في السويد إحدى المؤسسات الإسلامية العاملة في الساحة السويدية، ولها علاقات واسعة بمختلف الدول الاسكندنافية. تقوم الرابطة على مجموعة من المبادئ هي من صميم الإسلام، وتجسِّد روحه بين الجالية المسلمة والمجتمع الذي نعيش فيه بعيداً عن الإفراط والتفريط".
__________
(1) "ميثاق المسلمين في أوروبا". فيينا، نيسان (أبريل) 2006.(1/80)
وقد جاء في النشرة ذاتها، التي يُقدَّر تاريخُ صدورها في عام 1999 أو قبل ذلك (بلا تاريخ)، ما يلي ضمن "موقف الرابطة من مختلف القضايا": "العمل السياسي: هناك جدل (في أوساط مسلمي السويد) حول ولوج العمل السياسي من خلال المشاركة السياسية سواء بالبلديات أو البرلمان (بالسويد). وهكذا؛ فقد انقسم الناس إلى مؤيِّدٍ ومعارض وكلّ له دليله. وبعد دراسة لهذا الموضوع واستشارة أهل العلم والمشورة من العلماء كأمثال الشيخ القرضاوي وغيره؛ فقد استقرّ رأي الرابطة على ضرورة المشاركة السياسية لخدمة الإسلام والجالية المسلمة والمجتمع الذي نعيش فيه بما يُرضي الله عزّ وجل".
كما تتبنّى "الرابطة الإسلامية في السويد"، خيارَ المشاركةِ المجتمعيّة بوضوح، وقد عبّرت عن ذلك في النشرة التعريفية ذاتها، فقد جاء فيها مثلاً أنّ "المسلم مُطالََبٌ بواجباته تجاه المجتمع، سواء الماديّة منها أو المعنويّة، كالالتزام بالقانون والعمل ضمن مؤسسات الدولة في ما لا يتعارض مع الإسلام. كما أنّ الواجب الشرعي يملي علينا كمسلمين أن نكون إيجابيِّين تجاه المجتمع الاسكندنافي، وأن نُساهم مساهمة فعالة في إصلاحه وألاّ نتحوّل إلى مجموعة من المستهلِكين".
وفي موضع آخر من النشرة؛ يجري تأكيد قيمة الحوار، وذلك عبر توضيح أنّ "المجتمع السويدي مجتمعٌ متعدِّدُ الثقافات. والإسلام بفضل الله قد أصبح جزءاً من هذا المجتمع، وإحدى الثقافات التي أصبحت تأخذ طريقها إلى مختلف المؤسسات والهيئات والمنتديات. وإننا كمسلمين مسؤولون عن دمج الإسلام في المجتمع حتى يتبوّأ المكانة اللائقة به، وليساهم مساهمة فعّالة في خدمة المجتمع ككل (...)"(1).
__________
(1) ورد ذلك في نشرة تعريفية صادرة عن "الرابطة الإسلامية في السويد"، وتحمل عنوان "من هي الرابطة الإسلامية في السويد"، ويُقدّر تاريخ صدورها في عام 1999 أو قبل ذلك قليلاً ربما (بلا تاريخ).(1/81)
أما بالنسبة للمسلمين في فرنسا؛ فيرى رئيس اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا (l’UOIF)، الحاج التهامي إبريز، أنّ على مسلمي فرنسا "أن يكون لهم تواجد فعّال في كلّ المحافل، عن طريق تأهيل النخبة ثم المشاركة في الانتخابات، ويأتي ذلك ضمن الاندماج العام في كلّ الأحزاب السياسية"(1).
ومن جانبه؛ يشير المفكر الألماني المسلم الدكتور مراد هوفمان، إلى جدوى المشاركة المجتمعيّة والسياسيّة للمسلمين بقوله "من المفيد أيضاً الانخراط في الجمعيات والأحزاب من أجل أن تكون تصوّرات المسلمين ووجهات نظرهم مسموعةً، ويجب عدم الخوف من الاتصال بغير المسلمين، لأنّ هذا هو جوهر الدعوة". كما يدعو هوفمان إلى انتشار المسلمين في المجالات التنفيذية والإدارية والقانونية، إذ يقول "يجب أن تصنع الجاليات المسلمة (في أوروبا) محامين وقضاة، وأكبر عدد من الموظفين في البيروقراطيات المحلية والجهوية (الإقليمية)"(2).
كما يحثّ الدكتور أحمد جاء بالله، مدير الكلية الأوروبية للدراسات الإنسانية بباريس، على المشاركة الفاعلة لمسلمي أوروبا في الحياة السياسية، بقوله "لا يمكن أن يكون حظّنا من الحياة السياسية هو حظّ المتفرِّج المراقب الذي يسجِّل مواقف هذا الحزب أو ذاك، أو يعلِّق بسلبية على سياسات الحكومة في هذا المجال أو ذاك، وإنما يجب أن يكون في دور المشارك الفاعل المتفاعل الذي تحرِّكه دوافع الخير للجميع والحرص على المصلحة العامة"(3).
__________
(1) مقابلة مع رئيس اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا، الحاج التهامي إبريز: الأوروبية (مجلة)، العدد 37، باريس، كانون الثاني (يناير) 2004، ص 26.
(2) جاء ذلك في لقاء معه: الأوروبية (مجلة)، العدد 22، باريس، تشرين الثاني (نوفمبر) 2000، ص 24 ـ 25.
(3) جاء بالله، أحمد: "العودة وسنة الاستئناف"، الأوروبية (مجلة)، العدد 14، باريس، أيلول (سبتمبر) 1999، ص 5.(1/82)
ويقول عضو البرلمان المحلي بفيينا، عمر الراوي، "الشيء المهم الذي يجب أن يعلمه المسلمون، أو أيّة أقلية، أنّ هناك قراراً يُصنَع، والقافلة تسير. وإن كان هناك مجال قريب عليك؛ ليكن في علمك ولتكن على يقين بأنك إن لم تشغل هذا المكان فسيشغله غيرك. يعني إذا كان هناك ملعب للأطفال بجانب بيتك، ولم يذهب أولادُك إليه، فلن يبقى فارغاً، فسيلعب أولادٌ آخرون فيه. والقرار سيسير، وهو يهمّك كإنسان وكأقليّة، فإن لم تشارك سيشارك غيرك"(1).
كما تعكس مواقف كثير من المؤسسات الإسلامية في أوروبا تأكيداً لفكرة المشاركة المجتمعية الفاعلة، وبما يلحق بها من المشاركة السياسية المباشرة أو غير المباشرة.
فمثلاً تحدِّد "أمانة معاذ الخيرية" ببرمنغهام (بريطانيا) إحدى أولوياتها بـ "الالتزام، قدر الإمكان، بمبدأ المشاركة والتعاون عند القيام بمعظم الأنشطة والخدمات والمشاريع، مع مؤسسات المجتمع المختلفة، الرسميّ منها والشعبيّ، وذلك لسبيين رئيسين: الأوّل: تثبيت وتشجيع مبدأ التواصل والتفاهم والتعاون على الخير الذي يرسٍّخ واقع المسلمين كجزء لا يتجزأ من المجتمع البريطاني. الثاني: أبناء المسلمين، كغيرهم من أفراد المجتمع، لهم حقوق وصلاحيات لا يجوز تركها أو التخلِّي عنها، خاصة وأنّ المؤسسات الطوعية الخيرية ـ كأمانة معاذ ـ لا يمكن أن تكون لها الإمكانيات الكافية للقيام بأي مشاريع كبيرة أو خدمات متميِّزة دون الاستعانة بالمؤسسات الأخرى والمشاركة معها"(2).
__________
(1) الراوي، عمر: (مقابلة)، "سلام" (صحيفة)، العدد 3، فيينا، تشرين الثاني (نوفمبر) 2005، ص 7.
(2) "أمانة معاذ الخيرية ـ عقد من العطاء ـ بوابة حضارية إسلامية بريطانية"، برمنغهام، 2003، ص3.(1/83)
وفي ما يتعلّق بالمشاركة المجتمعيّة؛ فقد قرّر مؤتمر جمع عدداً من الأئمة ومسؤولي المراكز الإسلامية في أوروبا، التأم في مدينة غراتس (Graz) النمساوية في عام 2003، أنّ "المشاركة الفعّالة وتحمّل المسؤولية في كل مجالات الحياة؛ هو مبدأ إسلامي أصيل يثري التعايش المشترك في عالم يقوم على التعدّدية". وفي ما يتعلّق بالتواصل السياسي؛ أوصى المؤتمر بـ "بتأسيس مكتب اتصال إسلامي في بروكسيل ليكون حلقة تواصل وحوار مستمرّ بين المسؤولين في الاتحاد الأوروبي وأجهزته المختلفة"(1).
وقد تضمّن "الميثاق الإسلامي" (Islamische Charta) الذي أصدره "المجلس الأعلى للمسلمين في ألمانيا" (Zentralrat der Muslime in Deutschland) لتوضيح "موقفه الأساسيّ من الدولة والمجتمع"، بعد أن أقرّته جمعيته العمومية في 3 شباط (فبراير) 2002؛ إشارات عدّة للمشاركة المجتمعية، وأخرى بشكل ضمنيّ للمشاركة السياسية، من قبيل ما جاء في المادة 21 منه: "سيقوم الناخبون المسلمون بإعطاء أصواتهم للمرشّحين الذين يعملون على تمكين المسلمين من الحصول على حقوقهم، والذين يدعمونهم من أجل تحقيق أهدافهم، والذين يُبدون أكبر تفهّم لقضايا الإسلام وحاجات المسلمين في هذه البلاد". ومن الإشارات اللافتة للانتباه في سياق هذا الميثاق ما جاء في المادة 12 منه، والتي حملت عنوان "لا نهدف إلى إنشاء دولة"، وتضمنت النص التالي: "لا نهدف إلى إنشاء دولة إكليروسية ـ ثيوقراطية ـ ونحيٍّي نظام جمهورية ألمانيا الاتحادية الذي توفرت فيه علاقة منسجمة بين الدين والدولة".
__________
(1) ورد ذلك ضمن "إعلان غراتس" (Grazer Erkl?rung)، الصادر عن "مؤتمر رؤساء المراكز والإسلامية والأئمة في أوروبا"، المنعقد في مدينة غراتس النمساوية (عاصمة الثقافة الأوروبية آنذاك) من 13 إلى 15 حزيران (يونيو) 2003.(1/84)
وفي سياق تأكيد المشاركة المجتمعية لمسلمي ألمانيا؛ أورد "الميثاق الإسلامي" ذاته في المادة 18 منه، تحت عنوان "واجبنا نحو المجتمع"، ما يلي: "يشعر المجلس الأعلى للمسلمين في ألمانيا بواجبه تجاه المجتمع الألماني بكامله، ويسعى للقيام بواجبه بالتعاون مع جميع عناصر المجتمع من أجل تحقيق التسامح والمثل والأخلاق وحماية البيئة والحيوان. كما يندِّد المجلس الأعلى بانتهاك حقوق الإنسان في كلّ مكان، ويبدي استعداده للتعاون من أجل مكافحة العنصرية والعرقية والعنف والإباحية الجنسية".
وهناك فقرات عدّة من ذلك الميثاق تطرّقت إلى جوانب متفرِّقة من المشاركة المجتمعيّة والسياسيّة، في ما أنه أورد في مادته العشرين تحت عنوان "حاجات وضرورات قائمة"، أحد عشر مطلباً أساسياً تمثِّل بحدّ ذاتها تلخيصاً لأهم مضامين التحرّك المطلبي للمسلمين في ساحة المشاركة السياسية في المرحلة الراهنة(1).
وعن المشاركة المجتمعية يشرح الأستاذ أحمد الراوي، رئيس "اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا"، ما ترتِّبه على المؤسسات الإسلامية في القارة الأوروبية من أدوار والتزامات، وذلك بعد أن يؤكِّد الموقف من هذه المشاركة بقوله "لقد حسمنا خيارنا في أوروبا، بما ينسجم مع الدور الإيجابي للمسلم، دور المواطنة الصالحة بكل أبعادها، خاصة وأنّ مسلمي أوروبا لم يعودوا كما كانوا في غالبيّتهم مجرّد مهاجرين، بل بات وجودهم استقراراً متجذِّراً في هذه البلاد جيلاً في إثر آخر، وتبلورت في غضون ذلك ملامح جديدة لهم، وقضايا وإشكالات واحتياجات عدة لم تكن ربما معهودة من قبل".
ويضيف "على ضوء ذلك؛ نستطيع أن نسلِّط الأضواء على الدور الملقى على عاتق المؤسسات الإسلامية في أوروبا على النحو التالي:
__________
(1) Zentralrat der Muslime in Deutschland: „Islamische Charta – Grundsatzerkl?rung des ZMD zur Beziehung der Muslime zum Staat und zur Gesellschaft“. Berlin, 2002.(1/85)
ـ مسؤولية التعريف بالإسلام وترسيخ القيم والمثل الإسلامية في صفوف المسلمين في الغرب، وإبراز فقه إسلامي يناسب مقتضيات العصر وخصوصيات الواقع الأوروبي.
ـ مسؤولية المؤسسات الإسلامية في تعزيز الوجود الإسلامي في أوروبا، أي تكريس الجهود والإمكانات للحفاظ على الوجود الإسلامي في أوروبا باعتباره جزءاً من المجتمعات الأوروبية، والعمل على تثبيته وتدعيمه ليقوم بدوره الفاعل في الإشعاع الحضاري.
ـ العمل على حضور المسلمين في المجتمعات الأوروبية ومساهمتهم في مجالات حياتها المختلفة؛ الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية.
ـ التشجيع والعمل على تحقيق الاندماج الإيجابي للمسلمين، وأجيالهم الجديدة على وجه الخصوص؛ في المجتمعات الأوروبية؛ اندماجاً يجمع بين الحفاظ على الشخصية الإسلامية من جانب؛ وممارسة المواطنة الصالحة من جانب آخر، خدمةً للصالح العام وتحقيقاً لمبادئ النصح والانسجام والازدهار لشعوبهم الأوروبية.
ـ الإفادة من التقدم والتطور الذي حصل في الغرب في أوجه الحياة المختلفة، العلمية والثقافية والاجتماعية والمثل والقيم الإنسانية الصالحة، التي هي نتاج جهود إنسانية وبحوث علمية.
ـ إبراز صورة الإسلام الصافية والتعريف بمثله وقيمه الإنسانية الحضارية في المجتمعات الأوروبية، وإبراز أثره الحضاري في ميادين العلوم المتعددة.
ـ توسيع الحوار الثقافي والحضاري بين المسلمين وأصحاب الأديان والعقائد والأفكار الأخرى، والعمل على التفاعل معها وصولاً إلى توطيد السلم الاجتماعي في المجتمعات الأوروبية.
ـ المساهمة في الجهود الرامية لحماية الحريات والدفاع عن حقوق الإنسان وكرامته ونبذ التمييز"(1).
__________
(1) الراوي، أحمد: "دور المؤسسات الإسلامية في الغرب" (ورقة). لندن، 2001.(1/86)
يُشار هنا إلى أنّ منظمات إسلامية جامعة تعمل على المستوى القاريّ، افتتحت في غضون الأعوام الماضية مكاتب اتصال لها في بروكسل قرب مقارّ الاتحاد الأوروبي، وفي مقدمتها اتحاد "المنظمات الإسلامية في أوروبا" (FIOE)، و"المنتدى الأوروبي للمنظمات الشبابية والطلابية الإسلامية" (FEMYSO)، وهو ما يمثِّل تجسيداً عملياً لإرادة المشاركة السياسية، من خلال التواصل مع صانعي القرار وموجِّهي السياسات حتى على المستوى الوحدوي الأوروبي.
ثانياً/ فئات معارضة بوضوح للمشاركة السياسية أو لصورها المباشرة على الأقل:
بالنظر إلى أنّ هناك فئاتٍ معارضةً بوضوح لمشاركة المسلمين في الحياة السياسيّة في أوروبا؛ فإنّ ما يلفت الاهتمام أنّ هناك تباينات يمكن العثور عليها بين هذه الفئات، سواء في ما يتعلّق بالمنطلقات أو الحجج، أو في ما يختصّ بالخطاب المعتمد لدى كل منها، أو أساليب التعبير عنه.
كما يقتضي الأمر ملاحظة أنّ معارضة المشاركة السياسية لا تبدو مُطلَقةً لدى بعض هذه الأطراف، كما عليه الحال بالنسبة لـ "حزب التحرير" مثلاً، فرغم معارضته الصارمة لفكرة المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا؛ إلاّ أنّ تلك المعارضة تتركّز في واقع الأمر على المشاركة السياسية المباشرة، أو ضمن بعض صورها ربما، وخاصة ما يتعلّق منها بالمشاركة في الانتخابات بأيّ من الصور، أو بالانضواء في الأحزاب والبرلمانات والحكومات، لكنه يقترح ما يسميها "بدائل" مما يندرج أساساً ضمن المشاركة السياسية في نطاقها العام.(1/87)
ويمثِّل موقف "حزب التحرير" من مسألة المشاركة السياسية، حالةً لافتة للاهتمام، نظراً لإمعانه في رفض هذه المشاركة في شتى صورها المباشرة، ومحاولة تأصيله لهذا الموقف وحسمه، وأيضاً للأهمية التي يوليها الحزب لهذه المسألة بالشكل الذي طغت على حضوره العام في أوروبا، خاصة في البلدان الأوروبية التي تشهد حالةً من المساعي الواضحة لمشاركة المسلمين في الشأن السياسيّ فيها. ومما يضفي أهميةً على موقف "حزب التحرير" ذاك؛ أنّ تبنِّي خطابِه في هذا الشأن يجري في بعض الأوساط والمجموعات العاملة في صفوف مسلمي أوروبا والتي تبدي تقارباً فكرياً مع الحزب في هذه المسألة، بل ربما تكون قد تأثّرت بأطروحاته بشأنها مباشرة أو بشكل غير مباشر، كما في حالة جماعة "المهاجرون" العاملة في نطاق مسلمي بريطانيا مثلاً. وقد تسبّبت مواقف "حزب التحرير" والأطراف التي تتّفق معه في هذه النقطة، في نشوء تطوّرات أثارت جدلاً في الأوساط المسلمة في عدد من بلدان أوروبا، خاصة في ظل المواقف المناهِضة لمشاركة المسلمين في الانتخابات والتي جعلت الجولات الانتخابية مواسمَ للتنازع المتكرِّر حول هذه المسألة في بعض البلدان والأقاليم الأوروبية.(1/88)
وكان "حزب التحرير" يبدي معارضة مستمرّة في ما سبق لأية مشاركة من جانب المسلمين في أوروبا في الجولات الانتخابية، ولو بمجرد الإدلاء بالأصوات، لكنّ ذلك كان يأتي عادة في سياق الموقف العام للحزب الرافض لتلك المشاركة أينما كانت، وخاصة في العالم الإسلامي، دون اختصاص مميّز بواقع مسلمي أوروبا أو الغرب. لكنّ الحزب أخذ مع نهاية التسعينيات من القرن العشرين، يُبَلوِر مواقف أكثر تحديداً واستفاضة في ما يتعلق بمسلمي أوروبا والغرب إجمالاً، وخاصة في ما يختص بمسألتيْ المشاركة السياسية والاندماج(1). وقد اتجه "حزب التحرير" في الأعوام الأخيرة لمحاولة تفصيل القول في مسألة المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا، فمثلاً في كتيِّب أصدره "حزب التحرير ـ أوروبا" في عام 2002، تحت عنوان "حكم مشاركة المسلمين الموجودين في العالم الغربي في الحياة السياسية فيه"، تم عرض موقف الحزب من هذه القضية.
__________
(1) من ذلك مثلاً؛ بيان وزّعه "حزب التحرير" في بريطانيا وأوروبا، حمل تاريخ 17 أيار (مايو) 2002، وهو يعبِّر عن موقفه من قضية اندماج المسلمين في المجتمعات الأوروبية، الرافض لها بشدة، وقد حمل البيان عنوان "كتاب مفتوح إلى مسلمي بريطانيا بشأن الدعوة الخطِرة إلى الاندماج".(1/89)
وفي سياق تناوله لهذه القضية؛ يشدٍّد "حزب التحرير" النكير على فكرة مشاركة مسلمي أوروبا في الساحة السياسيّة، بقوله "إننا لنعجب كلّ العجب من بعض المسلمين الذين يتجرّؤون على دين الله سبحانه وتعالى فيُبيحون للمسلم العمل مع أحزاب الكفر هذه، بلْه يوجبون عليه ذلك!، ونسألهم عن دليلهم الذي استندوا إليه من كتاب الله وسنّة رسوله الذي يبيحون للناس أو يوجبون عليهم بمقتضاه العمل في الأحزاب السياسية في الغرب رغم ما ينطوي عليه هذا العمل من مخالفات عقدية وشرعية. وكيف يصنعون بمئات من النصوص الشرعية التي تحرِّم على المسلم تبنِّي الكفر والحرام والدعوة إليهما والعمل بهما، وتوجب عليه التصدِّي للكفر والحرام بكل أنواعهما وأشكالهما!.
والمسلم الذي يريد المشاركة في الأحزاب السياسية الغربية بين أمرين؛ إما أن ينتميَ إليها وقد اقتنع بفكرها وتبنّى آراءها، فأدنى حكم يصلح في حقِّه أنه فاسقٌ ظاهرُ الفسق، هذا إن لم يكن جاوز الفسقَ إلى الكفرِ والعياذ بالله. وإما أنه قصدَ التلبيس على الغربيين بانتمائه إلى أحد هذه الأحزاب بغية تحقيق بعض المصالح للمسلمين، حين يزعم ظاهراً إيمانه بفكر الحزب الذي انتمى إليه مع كفره به باطناً، فهذا عمل الكاذبين والمنافقين، وهو من المحرّمات بيِّنة الحرمة، ومما ينبغي للمسلم أن يربأ بنفسه عنه، وكيف للمسلم أن يُعطي الصورة الحقيقية عن الإسلام للغربيين وهو يخادعهم في الأصول قبل الفروع!"(1).
__________
(1) حزب التحرير ـ أوروبا: "حكم مشاركة المسلمين الموجودين في العالم الغربي في الحياة السياسية فيه"، 2002، لا تفاصيل إضافية، ص 12ـ 13.(1/90)
أما في ما يتعلق بمشاركة مسلمي البلدان الأوروبية والغربية في الانتخابات، فإنّ "حزب التحرير" يقرِّر أيضاً أنه "لما كان الحُكم في الغرب يقوم على الكفر والحرام، وكان البرلمان يقوم بأعمال التشريع دون الله تعالى، أي يقوم بأعمال كفر ومعصية، وكانت البلدية تقوم هي الأخرى بأعمال محرّمة؛ فإنّ الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والبلدية في الغرب محرّمة لأنها نوع من التوكيل في أعمال محرّمة. ولا فرق في ذلك بين انتخاب المسلم أو غيره، لأنّ الانتخاب متعلِّق بالأعمال المنتَخَب لها.
ويزيد انتخابَ قائمة الحزب السياسي حرمةً كونُ الانتخاب ليس انتخاباً شخصياً بل انتخاباً لبرنامج يخالف الإسلام. فالمسلم عندما يصوِّت لحزب سياسي لا يصوِّت لأشخاص بصفتهم الفردية بقدر ما يصوِّت للبرنامج الذي وضعه الحزب بكل ما يحويه هذا البرنامج، سواء منه ما كان واقعاً في إطار ما أجازه الشرع، أو ما كان حراماً أو كفراً صراحاً. ومن المغالطة ما يدّعيه بعض المسلمين من أنه صوّت للحزب الفلاني لأنّ هذا الحزب يحقِّق مصلحة للمسلمين، أو لأنه يناصر قضية من قضايا الأمة على وجه أفضل من غيره من الأحزاب، لأنّ إدلاءه بصوته ليس مربوطاً بنيّته وقصده، بل حقيقة هذا التصويت أنه انتخاب لبرنامج الحزب بأكمله شاء ذلك أم أبى.
كما ويختصّ انتخابُ الحاكم بمزيد إثم إن كان اختياراً لكافر لأنّه لا يجوز للكافر الحكم شرعاً، إذ من شروط الحاكم الإسلام"(1).
__________
(1) حزب التحرير ـ أوروبا، مصدر سابق، ص 34 ـ 35.(1/91)
وعن المشاركة في العمل السياسي على المستويات البلدية والمحلية في البلدان الأوروبية، يرى "حزب التحرير" أنّ "المسلم الذي يريد المشاركة في البلدية؛ رئاسة أو عضوية، لا مندوحة له عن الوقوع في الحرام المحقّق، وفي المحافظة على المنكرات، لأنه لا يتأتّى له قَصْر أعماله على النواحي الإدارية الصرفة مما هو مباح، بل طبيعة عمله في البلدية توجب عليه القيام بما هو محرّم قطعاً"(1).
ومما تجدر ملاحظته هنا؛ أنّ موقفاً كهذا يرى حرمة مشاركة مسلمي الغرب في شتى المستويات الانتخابية، وهو ما لا يتوقف عند حدود الانتخابات البرلمانية أو الرئاسية أو حتى البلدية، بل يشمل بالضرورة الانتخابات في أطر قطاعية وضمن مستويات أدنى، كالانتخابات في الهياكل النقابية والطالبية، وقد يُفهم أيضاً أنها تشمل الانتخابات التي تجري حتى في مجالس الأحياء السكنية ضمن التقسيمات المحلية، وربما على وجه الاحتمال في بعض الأطر الانتخابية الأخرى، مثل أطر المجتمع الأهلي (المجتمع المدني) أو منظّماته غير الحكومية، أو في نطاقات أخرى من قبيل الانتخابات المعبِّرة عن الجمهور في بعض المؤسسات التابعة للحق العام كمجالس الجمهور في هيئات الإذاعة والتلفزيون العامة(2). أي أنّ ذلك من شأنه أن يفضي إلى عزلة شاملة للمسلمين عن أحد أبرز خيارات التفاعل مع هذه المستويات والقطاعات كافة في البلدان والمجتمعات التي يعيشون فيها.
__________
(1) حزب التحرير ـ أوروبا، مصدر سابق، ص 32.
(2) من قبيل مجلس الجمهور Publikumsrat في هيئة الإذاعة والتلفزيون النمساويةORF ، وكانت قد شهدت بالفعل ترشح ثلاثة مسلمين في انتخابات عضويتها في جولة 2001، وإن لم يتمكن أيّ منهم من الحصول على مقعد فيها.(1/92)
لكن ما يلفت الانتباه على نحو خاص في موقف "حزب التحرير"؛ أنه بينما يرفض المشاركة السياسية المباشرة؛ فإنه يُعوِّل في وثيقته ذاتها على المشاركة السياسية غير المباشرة وبعض أوجه المشاركة المجتمعية العامة.
فقد جاء فيها "إنّ حرمة مشاركة المسلمين الموجودين في ديار الغرب في الحياة السياسية في البلدان التي يعيشون فيها لا تعني أن يتقوقعوا على أنفسهم، وأن يعتزلوا عن مخالطة أهل البلاد، بل عليهم أن يعيشوا معهم عيشة طبيعية، يلتزمون فيها بأحكام الإسلام، وأن يكونوا مؤثِّرين لا متأثرين، لأنهم أصحاب رسالة عالمية، وحضارة لا تضاهيها حضارة.
إنّ ما يُراد تحقيقه من المشاركة في الحياة السياسية في بلاد الغرب جملة من المصالح والمطالب، كنصرة المسلمين وقضاياهم، وتوفير أفضل السبل للدعوة إلى الإسلام، وتمكين المهاجرين من الالتزام بأحكام الشرع دون حرج وتضييق، كأحكام الزواج والطعام الحلال ولباس المرأة الشرعي وغير ذلك من المطالب المشروعة. وهذا الأمر يمكن تحقيقه بسلوك المسلك الشرعي الذي أجازه الإسلام، دون الحاجة إلى ارتكاب الحرام، أو الاحتجاج بالضرورات وجلب المصالح ودرء المفاسد التي تحلّ الحرام. فقد أغنانا الله عزّ وجلّ عن حرامه، وأباح لنا من البدائل والأساليب ما فيه كفاية لتحقيق المطالب. (...) وأما البدائل والأساليب التي يتيسّر للمسلمين الأخذ بها دون الوقوع المحتم في الحرام؛ فهي كثيرة نذكر منها:(1/93)
1/ القوة الفكرية: ونعني بالقوة الفكرية القدرة على مخاطبة العقول والتأثير في النفوس. (...) وهو ما يقتضي اتصال مفكرينا من المتقنين للغة الغرب بالمثقفين الغربيين والمفكرين والسياسيين حتى يُعرض عليهم الفكر الإسلامي، وتقدّم لهم المعالجات الإسلامية للمشاكل التي تعترض البشرية بطريقة عقلية مؤثِّرة، وأسلوب رصين، أي بالحكمة والموعظة الحسنة. فإذا استطعنا نقاش هؤلاء الناس، واستطعنا التأثير فيهم، إمّا بإسلامهم، أو بنيل احترامهم وتقديرهم، فإنا نكون قد أوجدنا مناخاً ملائماً لعرض مطالبنا، وكسبنا تأييداً هاماً لها. والأصل في المسلمين أنهم حملة رسالة الإسلام أينما وُجدوا، وفي أي مكان حلّوا باعتبار أنّ الإسلام رسالة عالمية، وباعتبار أنّ الله سبحانه وتعالى قد أوجب عليهم حمل هذه الرسالة إلى العالم جميعه: دولة، وأحزاباً، وأفراداً، وتبليغها للناس جميعاً (...)".
2/ القوة الاقتصادية: يستطيع بعض المسلمين ممن أوتوا المال والثروة أن يؤثِّروا في صناعة القرار السياسي في الغرب. ذلك أنّ تركيز القوة الاقتصادية بيد المسلمين، واعتمادها أداة ترغيب وترهيب يجعل صوتهم مسموعاً، وكلمتهم مؤثِّرة، خصوصاً إذا أدركنا كون الحكومات الغربية تقوم على دعم الرأسماليين بل تقوم بهم. ولقد رأينا بعض غير المسلمين ممن هم قلّة في العدد كيف تمكّنوا من الضغط على الحكومات الغربية لتنفيذ مطالبهم ورعاية شؤونهم عن طريق ما يتمتعون به من قوى اقتصادية. (...) وعلى كل حال؛ فإنّ النشاط الاقتصادي من حيث الأصل ليس محرّماً في الإسلام، بخلاف المشاركة في الحياة السياسية، ويمكن للمسلمين ولوج جُملة من أوجه النشاط الاقتصادي مع الحرص الدقيق على عدم الوقوع في المحرّم من المعاملات الاقتصادية كالربا وغيره.(1/94)
3/ القوة الإعلامية: ميدان الإعلام من الميادين الخطيرة التي تساهم في صياغة الرأي العام واتخاذ القرارات السياسية. وهو هام بشكل خاص في البلاد الغربية لكثرة ما يعتمد عليه أصحاب القرار في تبرير سياساتهم وإقناع الناس بها (...).
4/ القوة البشرية: إنّ المسلمين يُعدّون في البلاد الغربية بالملايين، وهو ما يمكن أن يجعلهم قوّة يُحسب لها حساب لما لها من ظهور وبروز في المجتمع، ولما لها من أهمية مستقبلية يبني عليها الغرب مخططاته. فعلى المسلمين أن يحسنوا استغلال هذه الإمكانية، وأن يدركوا حاجة الغرب إليهم. (...) وهذه القوى البشرية من المسلمين في الغرب تتكوّن من قطاعات مختلفة ومتعددة من الناس في كل المجالات، ففيهم الطبيب والمهندس في كلّ أنواع الهندسات، وفيهم المتخصصون في كل العلوم والمجالات، كما أنّ فيهم البسطاء من العمال وأصحاب الحرف. إنّ هذا التنوّع عند المسلمين يكسبهم قوّة هائلة ويمكِّنهم من تحقيق مطالب كثيرة تفوق ما يحلمون به اليوم من ذبح حلال، وسماح بارتداء اللباس الشرعي لبناتهم ونسائهم وما يشبه ذلك. ليصبحوا أداة ضغط على الدول الغربية في مناصرة قضايا الأمة، وحملة دعوة في هذه الأرض القفر".
ويخلص "حزب التحرير" في وثيقته ذاتها إلى القول إنّ "هذه بعض الأمور البديلة التي يمكن للمسلمين أن ينصرفوا إليها بدلاً من المشاركة في الحكم وغيره من المحرّمات. وإذا كان غير المسلمين رغم قلّتهم قد نجحوا في اكتساح بعض المجالات والميادين، واستطاعوا في بعض الأحيان الضغط على الحكومات والتأثير عليها في أمور تهمّهم؛ فلماذا يفشل المسلمون في ذلك وهم لا تعوزهم الإمكانيات ولا تنقصهم القدرات؟"(1).
__________
(1) حزب التحرير ـ أوروبا، مصدر سابق، ص 63 ـ 75.(1/95)
وقد نشطت بعض المجموعات العاملة ضمن نطاق المسلمين في بعض البلدان الأوروبية، للحيلولة دون انخراط المسلمين في الساحة السياسية والتفاعل الإيجابي معها. ولم يكن "حزب التحرير" وحده في هذا المضمار، رغم أنّه كان في ريادة من نظّر لفكرة "خطر المشاركة" وقال بحرمتها، فساهم في تمهيد الطريق لمجموعات أخرى تقمّصت خطاباً مماثلاً إلى حدٍّ ما في هذه المسألة.
ويذكر مختار بدري، وهو أحد المتابعين لأوضاع المسلمين في بريطانيا حيث يقيم، "تستوقفنا ونحن نتجوّل في شوارع لندن ملصقات دعائية للإسلام وعلويّته على أيّ نظام أرضي، ودعوات لإقامة الخلافة الإسلامية، وشعارات تسفِّه النظم السائدة (في بريطانيا وأوروبا) وتحرِّض على اعتماد الشريعة الإسلامية بدلاً منها، مثبّتة على إشارات المرور في الطرقات العامة!. كما يقف المتابع للصحوة الإسلامية في هذا البلد (بريطانيا) الذي كانت قوانينه ولا تزال من أكثر القوانين الأوروبية والغربية تسامحاً مع التعدّد الديني والثقافي والعرقي وحرِّيّة التعبير والدعاية لها؛ يقف على تنامي مجموعات جعلت موضوع دعايتها ومادة تعبئتها للجيل الثاني من الشباب المسلم التهجّم على نظم البلاد القائمة على الديمقراطية والحرية وعلى الانتخابات والبرلمانات، فأصبحت كلّ تلك المفردات رديفة في خطابهم للكفر والفساد، وأصبح الجهاد في سبيل الله لإلغائها ورفع راية الخلافة بدلاً منها فوق مؤسسات البلاد السيادية كقصر الملكة ومقرّ البرلمان وغيرها واجباً دينياً عاجلاً، هكذا!، وإظهار الخروج على قوانينها المنظِّمة للهجرة والإقامة والسلوك قربة إلى الله، (...)"(1).
__________
(1) بدري، مختار: "حتى تكون دعوتنا مثمرة". الأوروبية (مجلة)، العدد 22، باريس، تشرين الثاني (نوفمبر) 2000، ص 32.(1/96)
وتجسيداً لإرادة الحيلولة دون مشاركة المسلمين في الشأن السياسي؛ تخوضُ مجموعاتٌ مثيرةٌ للجدل والتذمّر في صفوف المسلمين محاولاتٍ لتعطيل بعض الأنشطة المخصّصة لتواصل المسلمين مع المستوى السياسي في البلدان الأوروبية. وتمثل حادثة وقعت في المسجد المركزي بلندن في أواخر نيسان (أبريل) 2000، شاهداً قوياً على ذلك، عندما استهدفت مجموعةٌ من المسلمين رافضةٌ للمشاركة السياسية اجتماعاً نظّمه "المجلس الإسلامي البريطاني" (MCB)، واستضاف فيه سوزان كرامر، مرشحة الحزب الليبرالي الديمقراطي لمنصب عمدة لندن، في المركز الثقافي الإسلامي ـ المسجد المركزي (ريجنت بارك) بلندن. وقد تمّ التهجم اللفظي على كرامر ورشقها والمشاركين بالبيض والدقيق، مع إطلاق المهاجمين للتكبيرات. وفي واقعة أخرى سبقت ذلك بنحو عشرة أيام فقط (16 ـ 18 نيسان (أبريل) 2000)، كان المجلس الإسلامي البريطاني قد نظّم تجمّعاً مندِّداً بزيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى مقرّ رئاسة الوزراء البريطانية بلندن، إبّان حرب الشيشان، ورفع بعض الذين حاولوا فرض حضورهم على التجمّع شعارات مكتوبة وصوتية متشدِّدة أثارت حنق المشاركين(1).
__________
(1) انظر مثلاً تعليق الدكتور كما الهلباوي على حادثة المسجد المركزي بلندن في حلقة "الشريعة والحياة" التي بثتها قناة "الجزيرة" يوم 6 آب (أغسطس) 2000، وكذلك تعليق مختار بدري على الصخب الذي رافق التجمع المندِّد بزيارة بوتين: بدري، مختار، مصدر سابق، ص 33.(1/97)
وعلى نحو عام؛ من المرجّح أن تنعكس المواقف المتحفظة على الديمقراطية من قبل بعض الأطراف المسلمة على إمكانيات التواصل واللقاء والتنسيق ضمن الوجود المسلم في البلدان الأوروبية. وهناك من يَلمَح بالفعل، أثراً سلبياً للموقف المتحفظ على الديمقراطية ونظمها (كالانتخابات) أو المعارض لها كلِّيّاً؛ على فرص التنسيق بين المؤسسات والأطراف ضمن ساحة مسلمي بلد أوروبي ما. ومن ذلك ما يتعلّق بالحالة الإسلامية السويدية مثلاً، إذ أنّ أحد القادة البارزين في ساحة المؤسسات الإسلامية في السويد، وهو الأستاذ محمود الدبعي، يحدِّد من بين العوامل التي لا تجعل بعض المؤسسات المسلمة تتعاطى بإيجابية مع مساعي التواصل والتنسيق ضمن أطر نظاميّة تتولى التعبيرَ عن المسلمين؛ "وجود قناعاتٍ فكريّة أو أيديولوجية أو تعصّب جهة إلى فكرتها حيث لا ترى الصواب سوى في تصوّرها، وبعضها يكفِّر أو يفسِّق من قََبِل بتطبيق النهج الديمقراطي في تأسيس الجمعيات وقبولها بالتعددية والمشاركة السياسية في بلد غير مسلم. ونتيجة لهذا السلوك؛ صدرت بيانات مُستغرَبة تنال من هذه الاتحادات الإسلامية، وتهاجم القائمين عليها لمجرّد قبولهم بمفهوم الديمقراطية والتعددية الثقافية وقبول مبدأ المشاركة السياسية"(1).
الفصل الرابع:
في توصيف المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا
الظرف التاريخي للمشاركة السياسية الراهنة لمسلمي أوروبا:
تأتي المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا وثيقةَ الصلة بجملة من التطورات والملابسات، وطيف من الخلفيات والأبعاد الظرفية، مما يمكن أن يُعبّر عنه إجمالاً بالظرف التاريخي. وعلى نحو مقتضب؛ يمكن تحديد ملامح هذا الظرف التاريخي في ما يلي:
1/ ميراث علاقة مطبوعة بالأعباء التاريخية بين العالم الإسلامي والعالم الغربي:
__________
(1) الدبعي، محمود: "الحوار بين المؤسسات الإسلامية". الأوروبية (مجلة)، العدد 20، باريس، آب (أغسطس) 2000، ص 21.(1/98)
إذ غالباً ما تُوضَع العلاقةُ التاريخيّة بين العالم الإسلامي والعالم الغربي، أو كما يسميها بعضهم بعلاقة الإسلام بالغرب، في سياق مأزوم، مع إشارات إلى ميراثٍ ثقيلٍ من وطأة تلك الأعباء التاريخية، ينعكس على الحضور المسلم في أوروبا وآفاق مشاركته مجتمعياً وسياسياً. والواقع أنّ إدراكَ المرء للنظرة القائمة إلى التاريخ المتبادل على هذا النحو؛ لا يعني تسليمه بمبرِّراتها، خاصة وأنّ العلاقة الإسلامية ـ الغربية (إن جاز التعبير) لم تكن علاقة صراع دوماً، بل ربما كانت الحروب هي الاستثناء فيها، كما أنّ هذه النظرة تتجاهل أيضاً أنّ العلاقات الداخليّة في أوروبا ذاتها كانت محفوفةً بالصراعات المريرة عبر قرون طويلة، وصولاً إلى القرن العشرين. ومع ذلك؛ فلا مجال لإغفال أنّ العلاقة مع الإسلام والمسلمين، قد تأخذ أحياناً طابعاً حسّاساً وإشكاليّاً في بعض ثنايا الواقع الأوروبي، بذرائع تاريخية مزعومة إلى حدٍّ ما، وهو ما تترتّب عليه عواقب سلبية في ساحة المشاركة الراهنة.
2/ ملامح أزمة ثقة متجدِّدة في العلاقة بين الدائرتين الحضاريتين الإسلامية والغربية:
وقد عبّرت عن ذلك التطوّرات المصاحبة للمنعطفات في فلسطين، وحرب أفغانستان، واحتلال العراق، وكذلك بعض الأزمات الأوروبية الداخلية من قبيل أزمة الحجاب في فرنسا، وأزمة الرسوم الدانمركية، فضلاً عن التطوّرات العنيفة من قبيل عمليات التفجير والترويع التي تجري في بلدان عدة. وتأتي أزمة الثقة المتجدِّدة هذه لتغترف من أعباء التجارب الاستعمارية الأوروبية في العالم الإسلامي، والتي ما زالت عقابيلُها تطبع بعض جوانب العلاقة المتبادلة بين مكوِّنات الدائرتين الحضاريتين.
3/ العامل الديمغرافي (السكاني):(1/99)
ويتعلّق ذلك بواقع النموّ العددي الكبير الذي طرأ على الوجود المسلم في غربي أوروبا ووسطها، والذي جعل المسلمين في مقدِّمة من تزايدت أعدادهم من الطوائف الدينية في أوروبا الغربية والوسطى منذ الربع الأخير من القرن العشرين. وواكب ذلك النموّ العددي؛ تجذّر للحضور المسلم في البلدان الأوروبية مع نشوء أجيال مسلمة جديدة من ذراري الجيل الأول المهاجر. ويلاحظ هنا تركّز مسلمي أوروبا الغربية والوسطى في العواصم والمدن الكبرى، وهو ما من شأنه أن يضفي وزناً أكبر على آفاق مشاركتهم السياسيّة والمجتمعيّة، بينما قد يكونون في الوقت ذاته الأكثر معاناة من الاختلالات القائمة في التجمّعات المدينية، كما يُلاحَظ مثلاً في بعض الضواحي أو الأحياء السكنية الأفقر في عدد من العواصم والمدن الأوروبية. ومن اللافت للانتباه أنّ مؤشرات النموّ العددي كثيراً ما يجري توظيفها من قبل الأطراف المتحفِّظة على الوجود المسلم في البلدان الأوروبية، كأقصى اليمين السياسي مثلاً، والتي تحاول تقديم هذه المعطيات بطريقة تنزع إلى إثارة الذعر والفزع في صفوف المواطنين "الأصليِّين". كما أنّ هذا التعامل التحريضي مع المعطيات العدديّة؛ يغفل واقع التنوّع الداخلي الذي ينطوي عليه الوجود المسلم في أوروبا، فهو يُقَدَّم على أنه وجود متجانس أو كتلة أحادية، وهو ما لا يتوافق مع الواقع.
الحالة الألمانية مثالاً:(1/100)
مما يلفت الاهتمام على أيّ حال؛ أنّ الحضور الجديد للمسلمين في أوروبا الغربية والوسطى لم يكن ظاهرةً متوقّعة سلفاً على هذا النحو، وتبدو حالة الأتراك في ألمانيا شاهداً على ذلك. فبداية الوجود التركي الجديد في ألمانيا الاتحاديّة كان باتفاق تم التوقيع عليه في الثلاثين من تشرين الأول (أكتوبر) 1961 بين بون وأنقرة، ثم أخذت القطارات تقلّ هؤلاء في "رحلة عمل"، استقبلت أفواجها الأولى بالمعزوفات والورود. وكان الذين فارقوا قراهم في الأناضول يحملون من الأمتعة ما يكفيهم لمفارقة الوطن سنوات قليلة وحسب، وكانوا يُسمَّون في ألمانيا طوال عقود "العمّال الضيوف" (Gastarbeiter).
لقد وضعت اتفاقية استقدام العمال الأتراك نصب عينيها استقطاب قوى عاملة لتمكين المصانع الألمانية من متابعة نشاطها، ودون أن تتكلّف أجوراً باهظة، ولم تكن فكرة المواطنة أو المشاركة بحق هؤلاء واردة آنذاك بأي حال. فقد انشغلت الحكومة الألمانية بمطلب سدّ نافذة العجز الفادح في الأيدي العاملة، الذي خلّفه قرار ألمانيا الشرقية تشييد الجدار بين شطري برلين وسدّ الطريق أمام الألمان الشرقيين للالتحاق بأماكن العمل في ألمانيا الغربية. ومن المحتمل؛ أن تكون "الأعجوبة الاقتصادية" في ألمانيا أمراً مستحيلاً بدون القوى العاملة المُستَقدمة من تركيا أو من أية أقطار أخرى.
وقد انقضى ربع قرن تقريباً في أعقاب الاتفاقية هذه؛ قبل أن يكتشف الجميع أنّ "العمال الضيوف" أصبحوا مواطنين في البلاد، بشكل أو بآخر. فرحلة العمل المؤقتة تحوّلت إلى استقرار دائم، والعمّال الذين داعبت مخيّلاتهم أحلام العودة بالمال الوفير إلى أسرهم في أرض الأناضول باتوا يُوصَفون بـ"جيل المهاجرين الأول"، فاليوم ها هم أحفادهم قد بدؤوا تجربتهم في ألمانيا ذاتها ويحملون وصف "الجيل الثالث".(1/101)
ويستقرّ في ألمانيا اليوم أكثر من مليوني وربع المليون نسمة من أصل تركي، افتتحوا قرابة ألفي مسجد ومصلى في أنحاء البلاد (وإن كانت متواضعة المواصفات في غالبيتها العظمى)، في ما برزت المظاهر الإسلامية من خلالهم بوضوح في بعض المدن الألمانية، وخاصة في أحياء بعينها هي في الغالب الأدنى حظاً.
وكما كانت البدايات بالأيدي العاملة متدنيّة التأهيل؛ فإنّ معظم الأتراك في ألمانيا اليوم ينتمون إلى "الشريحة الكادحة". وإذا أمكن "غض الطرف" عن هذه الشريحة في مواسم الازدهار الاقتصادي الكفيلة بامتصاص القوى العاملة؛ فإنّ الأمر لا يكون على هذه الشاكلة مع آفة البطالة الباعثة على الأرق في المجتمع منذ الوحدة الألمانية بصفة خاصة، إذ تتفاقم الشكوك في المجتمع وتتصاعد الميول العنصرية متخذة من الأجانب "كبش الفداء" أو الشماعة التي تعلّق عليها الاتهامات.
أما حضور المواطنين من أصل تركي في الحياة العامة الألمانية، فيجري ببطء ملحوظ، ومن ذلك تمكّن عدد منهم في الأعوام الأخيرة من الوصول إلى البرلمانات المحلية، علاوة على البرلمان الاتحادي "البوندستاغ" (Bundestag).
كما تتحقّق نجاحات اقتصادية موازية في قطاع الأعمال، وعلى صعيد المنشآت الصناعية المتوسطة والصغيرة. ففي العام 1970 لم يكن عدد رجال الأعمال من أصل تركي في ألمانيا يتجاوز 3300 شخص، وقد قفز هذا العدد بعد ثلاثين سنة إلى نحو 55 ألف رجل أعمال، أوجدوا لألمانيا 293 ألف فرصة عمل. وغالباً ما يرتبط الحديث عن "المهاجرين الأتراك" بالشكاوى من "الأجانب الذين يرهقون شبكة الخدمة الاجتماعية". والمؤكد أنّ هذه الانطباعات تتجاهل أنّ هؤلاء لم يعودوا مهاجرين وإنما أصبحوا مواطنين، وبالوسع التسليم بأنهم دعامة من دعائم الاقتصاد الألماني.(1/102)
وكما لخّص الكاتب الألماني هاينريش بُل (Heinrich B?ll) الحائز على جائزة نوبل للآداب في العام 1983، ما جرى بمقولته الشهيرة: "لقد استدعينا قوى عاملة؛ وجاءنا بشر"(1)؛ فإنّ التجربة المتعلقة باستقدام الأتراك للعمل في ألمانيا، تكشف عن الملابسات غير المتوازنة التي خيّمت على تجربة الوجود المسلم المهاجر في عدد من بلدان أوروبا، وكيف، أيضاً، أخذت النظرة العامة لهذا الوجود تنحو بالتدريج إلى اتجاهات سلبية.
4/ تبلور واقع مأزوم في العلاقة مع الوجود المسلم في أوروبا:
وقد جاء ذلك عبر تصاعد حدّة الجدل بشأن كيفية إدارة العلاقة مع الوجود المسلم في البلدان الأوروبية، والنظرة الاستثنائية تقريباً في التعاطي مع هذا الوجود في عدد من بلدان أوروبا، علاوة على صعود المخاوف في البلدان الأوروبية والغربية من صور التطرف والتشدّد والعنف والترويع المنسوبة للدائرة الإسلامية.
ويترافق ذلك مع استشعار الأجواء الضاغطة على الوجود المسلم في أوروبا، متمثلة في نشاط بعض الأطراف العنصرية، وفي ظاهرة "الإسلاموفوبيا"، وفي الأصوات التحريضيّة أو المتحاملة على مسلمي هذه القارّة، وهو ما اكتسب إجمالاً زخماً ملحوظاً في ظل تحوّلات ما بعد الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، وما أعقبها من محطاتٍ من قبيل تفجيرات مدريد (2004)، ولندن (2005)، وأعمال العنف في هولندا في خريف 2004 على خلفية مقتل المخرج تيو فان جوخ (Theo van Gogh)، وأزمة الرسوم الدانمركية المسيئة للمقام النبوي الشريف بدءاً من خريف 2005.
5/ التباين في الرؤى والممارسات في التعامل مع المسلمين والأقليات:
__________
(1) „Wir haben Arbeitskr?fte gerufen, und Menschen sind gekommen.“(1/103)
إذ تتعدّد الرؤى الممارسات والتجارب القائمة في التعامل مع المسلمين أو الأقليات، في الواقع الأوروبي، بين الإقصاء والمشاركة، أو بين الإذابة والاندماج. ويعود ذلك أساساً إلى خلفيات عامّة، مثل الخبرة التاريخية لكل بلد في العلاقة مع الأقليات، وهنا تقف الدانمرك وهولندا على طرفي نقيض تقريباً مثلاً، كما تفترق التجربتان الفرنسية والسويدية بوضوح في هذا الحقل. ويرتبط ذلك أيضاً بخصوصيات الثقافة السياسية لكل بلد أوروبي، علاوة على التباينات في الأطر الدستورية والقانونية لجهة العلاقة مع الأديان والطوائف الدينية. وعليه؛ فإنّ المصطلح الواحد عادة ما يحمل دلالات غير متطابقة بين بيئة أوروبية وأخرى، بل وداخل البيئة الواحدة أيضاً، كما يتجلى في مصطلح "الاندماج" (Integration). وتتفرّع عن هذه التباينات ممارسات متفرِّقة المشارب والأهواء في التعامل مع المسلمين والأقليات في الفضاء الأوروبي، تأخذ طابع النزوع إلى الإقصاء في حالات والترغيب في المشاركة في حالات أخرى، وهناك من يعمد إلى محاولة الإذابة أو الصهر الثقافي، مقابل من يدركون أهمية الاندماج بصفته الإيجابية ويشجعون التعدّدية في الفضاءات الثقافية والمجتمعية.
6/ نموّ في صور تعبير مسلمي أوروبا عن الذات:(1/104)
وقد يأخذ ذلك طابع التفاعل مع بعض المجريات المجتمعيّة والسياسيّة، مع مساعٍ للنهوض في أوساط مسلمي أوروبا، مع استمرار، أو تفاقم، معضلات عدّة في صفوفهم. ومن المتوقع أن يتجّه مسلمو أوروبا نحو مزيد من المأْسَسَة في نطاقاتهم وضمن آليات مشاركتهم المجتمعيّة وربما السياسيّة أيضاً. وقد تكفي للإشارة إلى ذلك ملاحظةُ الاتجاه الملموس في أكثر من بلد أوروبي لتشكيل أطر يُؤمَل منها أن تكون جامعة للوجود المسلم أو معبِّرة عنه، وربما ممثِّلة له(1)، وإن كان رصيد النجاحات في هذا الحقل بقي محدوداً على نحو عام. كما تلحق بذلك مساعٍ لتشكيل أطر معبِّرة عن قطاعات الوجود المسلم في البلدان الأوروبية ككلّ.
7/ التحوّلات التي طرأت على حالة الوجود المسلم التاريخي في أوروبا الشرقية:
__________
(1) على مستوى الأقطار الأوروبية، يرد في ذلك مثلاً تشكيل المجلس الإسلامي البريطاني (MCB)، وكل من المجلس الأعلى للمسلمين في ألمانيا (ZMD) ومجلس الإسلام في ألمانيا (Islamrat)، والمجلس الفرنسي للديانة الإسلامية (CFCM)، والهيئة التمثيلية للمسلمين في بلجيكا، والمجلس الإسلامي السويدي، واتحاد الهيئات والجاليات الإسلامية في إيطاليا (UCOII)، ومن قبل جاء تشكيل الهيئة الدينية الإسلامية بالنمسا (IGGi?). وعلى نحو عام؛ يتضح تباين تلك التجارب بحسب سياقاتها، وتفاوتها في مدى النجاح أو الإخفاق الذي يحتسب لها أو عليها.(1/105)
وذلك مع انهيار أنظمة الحكم الشموليّة في الشطر الشرقيّ من القارة، الذي يتركّز فيه الوجود المسلم المتواصل تاريخياً في الديار الأوروبية. والمفارقة أنّ ذلك الوجود كان يُفترَض مع ذلك التحوّل أنه بات بوسعه أن يتمتّع بفرص واعدة من الحريّة الدينيّة وربما السياسيّة؛ لكنّه كان عليه أن يواجه محناً عسيرة كادت في بعض الحالات أن تعصف به وتجتثّه، عبر حروب الإبادة والاستئصال، مثل ما شهدته البوسنة والهرسك (1992 ـ 1995)، وأيضاً عبر اختبار حرب كوسوفا (1999). ومع ذلك؛ فإنّ التحوّلات التي شهدتها أوروبا الشرقية أتاحت فرصاً لم تكن متاحة طوال نصف قرن تقريباً، للتعبير عن الحضور الدينيّ المسلم، وتطويره. كما أنعش ذلك بعض الآمال في استعادة الأوقاف الإسلاميّة المسلوبة أو المصادرة أو المطموسة، أو بعض منها على الأقل.
8/ ملامح تحوّل نسبيّ في الثقافة السياسية في بلدان أوروبا نحو تعزيز فكرة مشاركة المواطنين في الشأن السياسي:
ورغم أنّ ذلك لم يكن ليعني على الأغلب نشوء تحوّلات عميقة أو شاملة في هذا الاتجاه بالكيفيات المثلى؛ إلاّ أنّه لا يمكن إغفال بعض التطوّرات التراكميّة التي طرأت على آليات المشاركة المجتمعية وصورها، منذ سبعينيّات القرن العشرين، والتي تلاحقت منذ ذلك الحين، ومنحت وزناً أكبر بالتالي للمشاركة السياسية غير المباشرة (خاصة عبر تفاعل المجتمع المدني مع الشأن السياسي). كما تلحق بذلك القفزات التي شهدتها ميادين الاتصال والإعلام والتشبيك الإلكترونيّ منذ تسعينيّات القرن العشرين، وهو ما ترك أثرَه الملموسَ في واقع العمل السياسيّ والمجتمعيّ.
9/ تسارع عملية التكامل الأوروبي:(1/106)
جاء ذلك مع بروز تجربة الوحدة الأوروبيّة، ممثّلة بالاتحاد الأوروبي، الذي بات يضمّ مع حلول أيار (مايو) 2004 خمساً وعشرين دولة، وهو عدد يُنتَظر أن يتزايد في الأعوام المقبلة. ويُفترَض أن يفتح ذلك آفاقاً جديدة أمام مشاركة المسلمين السياسيّة، سواء من خلال مؤسّسات الوحدة، كالبرلمان الأوروبي مثلاً، أو عبر التواصل والتنسيق في ما بينهم وتعزيز تجاربهم وتطويرها مع تبادل الخبرات، فضلاً عن تواصلهم مع التجارب السياسيّة والمجتمعيّة القائمة في عموم أوروبا ككلّ. ويرافق ذلك نشوءُ اهتمام قاريّ بملف العلاقة مع الشأن الإسلامي، بما يتيحه ذلك من آفاقٍ وفُرَص، أو حتى تحدِّياتٍ وربما مكامن قلق. وقد يَكمُنُ القلقُ مثلاً في ما يتعلّق ببعض جوانب القصور لجهة إبداء ضمانات للأقلِّيّات في نطاق الاتحاد الأوروبي مثلاً(1).
10/ تنامي الشعور بالهويّة والخصوصيّة الإسلاميّة في أوساط مسلمي أوروبا:
__________
(1) خاصة مع عدم تضمين نصوص وافية في هذا الجانب في ميثاق الحقوق الأساسية للاتحاد أو في مشروع الدستور الأوروبي، وقد ضغطت بعض الدول الأوروبية في هذا الاتجاه وفي مقدمتها فرنسا.(1/107)
وقد جاء من جانب بمفعول حالة من الوعي الإسلامي كثيراً ما جرى التعبير عنها في أوساط المسلمين بـ "الصحوة الإسلامية"، وهو تعبيرٌ شاع استخدامه منذ نهاية سبعينيّات أو بداية ثمانينيات القرن العشرين تقريباً. ومما يُلاحَظ أيضاً؛ أنّ تنامي ظاهرة الإساءة للدين الإسلامي والتحريض ضد المسلمين كفيلة جزئيّاً بأن تُبَلوِر الوعي بالهوية المسلمة، خاصة وأنّ بعض الأصوات التحريضيّة والعدائيّة تتعامل مع الجميع ضمن نطاق مسلمي أوروبا على أنهم مسلمون قبل أن يكونوا أتراكاً أو آسيويِّين أو عرباً، وهو ما من شأنه أن يساعد في الوعي بالهوية المشتركة لمسلمي أوروبا(1).
من ملامح المشاركة السياسيّة لمسلمي أوروبا:
بدت المشاركةُ السياسيّةُ لمسلمي أوروبا في الغالب مكتسبةً طابع الأداء المتقطِّع، الذي لا يستندُ إلى برامج متواصلة أو أدوات مستقرّة. ورغم المؤشرات المتصاعدة لفعل المشاركة هذا في الأعوام القليلة الماضية؛ إلاّ أنّ الحصيلة العامة لتجاربها تبدو متواضعةً، وغالباً ما جاءت أدنى بوضوح من المنسوب المتعارَف عليه في الساحتين المجتمعية والسياسية في بلدان القارة، مع تفاوت في ذلك بين بلد أو إقليم وآخر.
__________
(1) من المفارقات التي سجّلتها عدد من التقارير الميدانية في هذا الشأن؛ أنّ بعض غير المسلمين قد جرى استهدافهم باعتداءات جسدية أو لفظية أو بحالات من التمييز بعد الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، في بلدان غربية، ظنّاً بأنهم مسلمون، كما وقع مع بعض المنتمين إلى الطائفة السيخية مثلاً الذين يعتمرون عمائم.(1/108)
ومع هذا؛ فإنّ المؤشرات تسير عموماً في اتجاه نموّ المشاركة السياسيّة للمسلمين، وربما النموّ المتسارع بشكل ملحوظ في بعض البلدان والأقاليم، ومن المتوقع أن يكون ذلك النموّ في الأمد القريب كمِّيّاً أكثر من كونه نوعيّاً، أي بحجم الحضور في الميادين ذت الصلة بالتأثير السياسيّ، من ناحية الثقل والزخم (كما في أعداد المسلمين المرشّحين على القوائم الحزبية، وأعداد البرلمانيين وأعضاء المجالس البلدية، ووتيرة الإدلاء بمواقف سياسيّة أو عدد البيانات التي يجري إصدارها، وغير ذلك)، في ما أنّه يبقى مُنتَظَراً أن يطرأ نموٌّ في الجوانب النوعيّة للمشاركة، والتي يمكن أن تمنحها تأثيراً أكبر (مثل جودة الأداء السياسي، ومواصفات المواقف والبيانات ونوعية التصريحات، وطبيعة الصلات مع المستوى السياسي، وغير ذلك).
تجارب المشاركة من واقع الحالة البريطانية:
تُعتبر جولة الانتخابات العامة البريطانيّة التي جرت في عام 1997، محطّةً زمنيّة هامة بالنسبة لتجربة المشاركة السياسية لمسلمي بريطانيا. ففي تلك الجولة تمكّن أول مسلم من الدخول إلى مجلس العموم (البرلمان)، وهو محمد سِروار، النائب عن حزب العمال من غلاسجو (اسكتلندا). وقد تميّزت تلك الجولة بتقدم حزب العمال وفوزه بالحكومة التي أمسك حزب المحافظين بزمامها لمدة ثماني عشرة سنة متواصلة حتى ذلك الحين.(1/109)
ويمكن اعتبار تلك الجولة محطّةً على طريق تطوّر تجربة مشاركة مسلمي بريطانيا في الساحة السياسية. ففي الانتخابات البرلمانية اللاحقة التي جرت في السابع من حزيران (يونيو) 2001؛ بدت ساحة مسلمي بريطانيا أكثر تنظيماً وفاعلية من ذي قبل، وهو ما تجلّي مثلاً في نهوض "المجلس الإسلامي البريطاني" (MCB) (تأسّس في 1997) بوصفه مظلّة تمثيليّة لمعظم المؤسسات الإسلامية الفاعلة على الساحة، كما أنّ أساليب الحشد والتعبئة والتوجيه بدت أكثر فعالية في العام 2001، مع استفادة نسبيّة من تقنيّات التشبيك الإلكتروني في هذا الصدد. وقد تكفي الإشارةُ في هذا الصدد إلى حملة "التصويت الذكي" أو النبيه (Smart Voting) التي أطلقها بعضُ المسلمين لتوجيه الأصوات على أسس أكثر وعياً، وإن كان تأثير الحملة في حينه بقي موضع تساؤل بالنظر إلى الطبيعة التي اتخذها السلوك التصويتي للمسلمين. فرغم ما انطوت عليه من نموّ نسبيّ؛ جاءت الجولة الانتخابية البرلمانية التي جرت في العام 2001 مخيِّبة لآمال قطاع واسع من مسلمي بريطانيا، لأنها لم تنجح في إيصال أكثر من نائب مسلم إضافي إلى مجلس العموم، هو خالد محمود، من حزب العمال عن برمنغهام (إنجلترا)، إلى جانب احتفاظ النائب محمد سِروار بمقعده، في ما أخفق 32 مرشحاً مسلماً في الفوز.
ولكنّ تلك الجولة (2001) على نحو خاص؛ حملت معها بعض المستجدّات والمزيد من الخبرات بالنسبة لمسلمي بريطانيا، وهو ما يمكن إيجازه في الأبعاد التالية التي يمكن التعرّف عليها من خلال الملاحظات المتوافرة في ساحة مسلمي بريطانيا آنذاك:(1/110)
1/ انعكس وصول نائب مسلم إلى مجلس العموم البريطاني في جولة 1997 الانتخابية؛ بالإيجاب إلى حدّ كبير، على منسوب اهتمام الجمهور المسلم في بريطانيا بالتفاعل مع جولة 2001، ويبدو أنها ساهمت في اجتياز حاجز معنوي، بل وتفكيك بعض الانطباعات والأحكام المسبقة في صفوف بعض قطاعات مسلمي بريطانيا، من قبيل ذهاب بعضهم إلى حدّ الظنّ في ما سبق باستحالة وصول مسلم إلى البرلمان.
2/ من الخبرات التي راكمتها جولة انتخابات 2001، تزايد تواصل ممثلي الأحزاب السياسية المتنافسة مع المسلمين، بما في ذلك حزب المحافظين الذي لا يحظى في العادة بإسناد الناخبين المسلمين في بريطانيا. فقد قام وليام هيغ، مرشح المحافظين آنذاك لرئاسة الوزراء، بالاجتماع مع ممثلي المؤسسات الإسلامية الكبرى، وأبدى تقديره للدين الإسلامي، كما يفعل منافسه طوني بلير. وقد ركّز هيغ في الوقت ذاته على "قيم الأسرة" في الإسلام وتأثيراتها الإيجابية على المجتمع البريطاني، انسجاماً مع منطلقات حزبه المحافظ. وقد شهدت تلك الجولةُ محاولاتٍ من جانب الأحزاب الثلاثة الرئيسة في الحياة السياسية البريطانية لاستقطاب أصوات الناخبين المسلمين، وهي أحزاب العمال، والمحافظين، والديمقراطيين الأحرار (الليبراليين). وفي هذا السياق؛ تنامى الوعيُ في أوساط المسلمين بأنّ المجاملات الرمزية من جانب الأحزاب لخطب ودّهم لم تعد كافية ولا تصحّ المبالغة في التعويل على مفعولها الواقعيّ في الساحة السياسيّة.
3/ تبيّن لقطاعات من المسلمين، وخاصة بالنسبة للمؤسسات الإسلامية الفاعلة؛ أنّ مجرّد صعود نائب مسلم أو أكثر إلى البرلمان يبقى مكسباً محدوداً، وربما رمزيّاً إلى حدّ كبير، إذا لم يتوافق ذلك الصعودُ مع توجّهاتٍ وبرامج عمل في الفضائيْن السياسي والمجتمعي.(1/111)
4/ اتّضح من خلال تجربتيْ انتخابات 1997 و2001 لمجلس العموم؛ أنّ تمثيل المسلمين من خلال نائب أو اثنين في البرلمان، لمجرد انتمائهما للوجود المسلم في البلاد؛ ليس أمراً يمكن التسليم به بتلقائيّة، فالتمثيل الفعلي والجاد يتأتي أساساً من خلال أداء النائب وفعاليّته ودوره. وقد تبلور الانطباعُ على ما يبدو بأنه لم يعد بالوُسع دعم مرشّح بعينه لمجرّد كونه مسلماً، بل لا بدّ من ملاحظة جملة من العوامل الأخرى.
5/ أفرزت التجربة المتراكمة حتى حينه عِبراتٍ ودروساً، كان منها أنّ عملية "تمثيل المسلمين" في البرلمان، لا يمكن أن تُترَكَ بالكامل للأحزاب السياسية وأولويّاتها وموازناتها وخياراتها التفضيليّة، بل لا بدّ من أن يكون للأطراف المعبِّرة عن الحضور المسلم دور فاعل في هذا الجانب.(1/112)
6/ بالنظر إلى الفارق الكبير بين عدد المرشّحين المسلمين لمجلس العموم (34 مرشّحاً) على قوائم الأحزاب، وعدد الذين تمكّنوا من الوصول إلى المجلس بالفعل (مرشّحان فقط)؛ فقد بدا لذلك العدد من المرشحين المسلمين مفعولٌ امتصاصيّ للأصوات المسلمة تغتنمُه الأحزاب دون جدوى مكافئة للثقل التصويتيّ يمكن أن يعود على الوجود المسلم ذاته(1).
__________
(1) وعادة ما تتبع بعض الأحزاب السياسية في أوروبا تكتيكاً شبيهاً، مثل ما قام به الحزب الديمقراطي الاجتماعي في الانتخابات البرلمانية النمساوية التي أُجريت في 24 تشرين الثاني (نوفمبر) 2002، عندما رشّح سبعة عشر شخصاً على قوائمه من "خلفية هجرة" ومنهم عدد من المسلمين، دون أن يصل أي منهم للبرلمان الاتحادي بالفعل رغم امتصاص معظم أصوات المسلمين ومن هم من خلفية هجرة لصالح الحزب. ويشرح السياسي النمساوي المسلم عمر الراوي ذلك بقوله "الحقيقة أنّ الحزب الديمقراطي الاجتماعي قرّر خوض المعركة الانتخابية بطريقة المجموعات المُستَهدَفة، وهذا هو سبب التنوّع. فهناك من يمثِّل اليوغسلاف، والهنود، والمسلمين، وغيرهم من الأقليات الثقافية والحضارية. هذه كانت الفكرة في الأصل. ولكن يجب أن نقول للأمانة أنّ الحزب ليس هو الذي عرض هذا العدد من المرشّحين، بل كانت هناك استماتة من جانب عدد كبير للترشّح في الانتخابات على قائمة الحزب". انظر: مقابلة مع النائب عمر الراوي، الأوروبية (مجلة)، العدد 32، باريس، ص 24.(1/113)
7/ استقرّت القناعة في أوساط مسلمي بريطانيا مع تلك التجارب، أنه ينبغي الانفتاح قدر الممكن على كافة الأطراف السياسية في الساحة، باستثناء تلك المتطرِّفة (كالحزب القومي البريطاني BNP المعادي للمسلمين)، دون منح الانطباع المسبق بأنّ الصوت المسلم محسومٌ لصالح حزب بعيْنه (وهو في الحالة البريطانية حزب العمال، كما عليه الحال عادة). في ما أنّ تقدير الطرف أو الأطراف المؤهّلة لكسب أصوات المسلمين يبقى إجراء مترتِّباً على مضامين البرامج واتجاهات المواقف وحصيلة عملية الاتصال السياسي للمسلمين مع ممثلي الأحزاب على المستوى البريطاني العام وعلى مستوى الدوائر كلّ على حدة، مع استصحاب مجمل الموازنات ذات العلاقة.
8/ مع ترشّح عدد غير مسبوق في حجمه من المسلمين على قوائم الأحزاب السياسية المتعارضة لانتخابات 2001، بلغ 34 مرشحاً للبرلمان؛ رافقت ذلك بعض المستجِّدات غير المألوفة، من قبيل تنافس أكثر من مرشّح مسلم على قوائم أحزاب عدّة ضمن دائرة انتخابية واحدة، وهو ما أبرز إشكالية تشرذم الصوت المسلم في بعض الدوائر، لكنه ربما شجّع اتجاه المفاضلة بين المرشّحين المسلمين على أسس أكثر وعياً في ما بعد. وقد كانت برمنغهام نموذجاً على التعارض الصارخ وحالة التشرذم تلك، عندما ترشّح ستة مسلمين على قوائم أحزاب متنافسة في دائرة سباركروك وسمول هيث، وقد أخفقوا جميعاً ليفوز مرشح غير مسلم.(1/114)
9/ ظهرت في تلك الجولة الانتخابيّة ملاحظاتٌ ناقدة في بعض الأوساط المسلمة تتعلّق بمدى تقاطع المصالح وافتراقها، بين الحزب السياسي والجالية المسلمة، لدى تقويم سلوك بعض السياسيين المسلمين في الأحزاب البريطانية. فمثلاً؛ خسر محمد رياض، المرشّح المسلم عن حزب المحافظين في دائرة غربي برادفورد (إنجلترا)، فوزاً كان يبدو مضموناً سلفاً، وذلك على ما يبدو بمفعول تدخّل أطراف مسلمة من حزب العمال للترويج للمرشح العمالي (غير المسلم) في الدائرة ذاتها. وقد خسر محمد رياض المقعدَ النيابيّ آنذاك بفارق يقارب أربعة آلاف صوت عن منافسه، وهو ما اعتُبر في حينه فارقاً ضئيلاً.
10/ أظهرت الجولةُ الانتخابيّةُ لعام 2001، وجودَ أطراف في ساحة مسلمي بريطانيا، تحاول ثني المسلمين عن التصويت والاقتراع، وهي تقول بحرمة المشاركة في الانتخابات على سبيل القطع. وقد خاضت تلك الأطرافُ، ومن أبرزها "حزب التحرير" وجماعة "المهاجرون"، حملاتٍ واسعة النطاق نسبيّاً في هذا الاتجاه، في ما رُصدت حالةً من الاستياء الواضحة في صفوف القطاع الأعرض من المؤسسات الإسلاميّة البريطانيّة لهذه الاتجاهات، خاصة وأنّ هناك من قام بالمشاغبة على فعاليّات التواصل السياسيّ للمسلمين مع ممثِّلي الأحزاب. وقد تكرّرت تلك المحاولات في انتخابات 2005، في ما أعرب بعضُ المسلمين المعنيِّين بالتواصل السياسيّ عن شكواهم من عمليات الإخلال بفعاليات نظّموها مع مرشّحي الأحزاب.(1/115)
11/ تَبَلْوَرَت ملاحظاتٌ ناقدةٌ إزاءَ ترشيح نوّاب مسلمين على قوائم الأحزاب في دوائر غير مضمونة بالنسبة إليها، وهو ما أثار تساؤلاتٍ وشكوكاً في صفوف المسلمين بشأن جدِّيّة تلك الأحزاب في الوصول بأولئك المرشحين إلى البرلمان. ويمكن النظر إلى تلك الملاحظات في سياق منسوب الثقة من جانب قطاعات المسلمين بهذه الأحزاب، خاصة لجهة مدى استعدادها الفعلي في إتاحة المجال لصعود شخصيّات مسلمة إلى مراتب الحياة السياسية بطريقها. وقد تكرّرت هذه الظاهرة في جولة الانتخابات البرلمانية لعام 2005.
12/ لوحظ تأثيرُ التعبئة والتعبئة المضادة، ومفعول الإشاعات على اضطراب السلوك التصويتيّ للمسلمين في بعض الدوائر، وهو ما يتجلّى مثلاً في موقف الناخبين المسلمين من مايك غيبس، مرشّح حزب العمال عن دائرة إيلفورد الجنوبية بلندن، والذي لا يقف على التوافق مع المؤسسات الإسلامية البريطانية في ما اشتُهر بانحيازه للدولة العبرية وتقلّده منصب نائب رئيس "جمعية أصدقاء إسرائيل" بحزب العمال. فقد سادت إشاعات قبل نحو أسبوع من انتخابات 2001 البرلمانية تتحدّث عن أنّ مشكلة المسلمين والمؤسسات الإسلامية مع غيبس قد حُلّت بشكل ما. وقد تردّدت تقديراتٌ(1)بأنّ أوساطاً مسلمة بعينها في حزب العمّال قد وقفت وراء تلك الإشاعات لاجتذاب الأصوات لصالح مرشح الحزب هذا.
ورغم اتساع آمال مسلمي بريطانيا في تحقيق أداء أفضل للمرشحين المسلمين لمجلس العموم، في انتخابات أيار (مايو) 2005؛ إلاّ أنّ النتيجة جاءت فاترة للغاية. فلم ينجح سوى أربعة نواب مسلمين في الوصول إلى البرلمان البريطاني، منهم نائبان سابقان.
__________
(1) عن ذلك انظر مثلاً: "نائبان في مجلس العموم فوز دون المأمول لمسلمي بريطانيا ـ اضطراب البوصلة السياسية مسؤول عن التقدم الانتخابي التواضع"، الأوروبية (مجلة)، العدد 26، باريس، تموز (يوليو) 2001، ص 38.(1/116)
وهكذا فإنّ النواب المسلمين في مجلس العموم لدورة 2005 ـ 2009 هم بالإضافة إلى محمد سِروار (عن غلاسجوGlasgow ولدورة ثالثة على التوالي) وخالد محمود (عن برمنغهام Birmingham ولدورة ثانية على التوالي)؛ النائب الجديد شاهد مالك (عن ديوسبري Dewsbury)، والنائب صادق خان (عن توتنغ Tooting ). واللافت للانتباه أنّ هؤلاء الأربعة هم من حزب العمال، وقد جاء ذلك رغم ترشّح 74 مسلماً في تلك الانتخابات، 48 منهم على قوائم الأحزاب الثلاثة الرئيسة (العمال، المحافظون، الليبراليون الديمقراطيون). ويرى الصحافي البريطاني المسلم أحمد فيرسي، محرِّر صحيفة "مسلم نيوز" اللندنية(1)، أنّ نسبة المسلمين العدديّة في بريطانيا كانت تقتضي وجود عشرين نائباً مسلماً في مجلس العموم. ومع ذلك؛ فإنّ هناك مؤشِّرات تتحدّث عن تأثير لأصوات المسلمين على فرص بعض المرشحين (غير المسلمين) بالإيجاب أو السلب، بحسب مفاضلة الصوت المسلم بين المرشّحين، وهو تكييفٌ نسبيّ للسلوك التصويتيّ شجّعت عليه حملاتُ الإرشاد التي قامت بها الأطراف المسلمة المعنيّة.
وفي كلّ الأحوال؛ فإنّ نتائج انتخابات مجلس العموم للأعوام 1997، 2001، 2005؛ تُظهِر أنّ الثقل الانتخابي للمسلمين ما زال يتركّز على الانتخابات المحلِّيّة أساساً، وهو ما تؤكِّده انتخابات البرلمان الأوروبي لعام 2004 أيضاً.
ولدى تحليل تطوّر تجربة المشاركة السياسيّة لمسلمي بريطانيا، من خلال الجولات الانتخابيّة البرلمانيّة الثلاث، لعام 1997، وعام 2001، وعام 2005؛ يمكن ملاحظة أنّ تلك التجربة قد اجتازت ثلاث مراحل ضمنيّة:
__________
(1) في تعليق له نشره موقع الصحيفة على الإنترنت www.muslimnews.co.uk في السادس من أيار (مايو) 2005.(1/117)
أولاً/ مرحلة الخروج من عهد الانكفاء على الذات، واجتياز الحاجز المعنوي الذي يحول دون التواصل مع الساحة السياسية، وبدء التعرّف على الساحة السياسيّة والاحتكاك بها، مع الاهتمام المبالغ به بالأبعاد الرمزيّة للمشاركة السياسيّة، دون نضوج مضامين أو برامج جادّة لتلك المشاركة.
ثانياً/ مرحلة التعاطي مع الأحزاب السياسيّة بانفتاح نسبيّ، ومع قدْر واضح من الاضطراب في البوصلة السياسية، وذلك بمفعول تدفّق الخبرات المتجدِّدة بصفة أسرع من أطوار النضوج التي تشهدها مراكز التوجيه السياسي العام للجمهور المسلم. ومن الصعب القول إنّ إرادةً سياسيّةً مسلمة قد نضجت في تلك المرحلة بصفة مستقلّة عن الاستقطابات الحزبيّة. ويبدو أنّ الملامح الكبرى لتلك المرحلة قد طُوِيَت مع صعود حضور جديد لمسلمي بريطانيا في الساحتين السياسية والمجتمعية، بدءاً من عامي 2002 و2003، وهما اللذان ترافقا مع تحرّكاتٍ واسعة واصطفافاتٍ ملحوظة داخل الساحة البريطانية لمواكبة التطوّرات السياسيّة الدوليّة التي كانت بريطانيا طرفاً فيها بصفة مباشرة أو غير مباشرة(1).
__________
(1) تتمثل تلك التطورات ذات الصفة غير المباشرة في: تفاعلات انتفاضة الأقصى، تطوّرات ما بعد 11 أيلول (سبتمبر) 2001 وملف "الحرب ضد الإرهاب"، وحرب أفغانستان في 2001 و2002، وأما التطوّرات ذات الصفة المباشرة: حرب العراق واحتلاله، والتي واكبتها تفاعلات جارفة في الساحتين السياسية والمجتمعية البريطانية كما اتضح في المسيرة الضخمة التي شهدتها لندن في الخامس عشر من شباط (فبراير) 2003 بمشاركة مسلمة ملحوظة.(1/118)
ثالثاً/ مرحلة التحوّل للتعاطي الواقعيّ والموجّه نسبيّاً مع الساحة السياسيّة، مع تَبَلْوُر تدريجيّ لما يشبه القيادة السياسيّة لمسلمي بريطانيا، وهي عبارة عن بعض نقاط الارتكاز والاستقطاب(1)، مع اتجاه ملموس لديها بشكل عام للحرص على إبقاء هامش استقلاليّ عن الأحزاب السياسية. وتميّزت هذه المرحلة، التي عبّرت عن ذاتها في الانتخابات البرلمانية التي أجريت في أيار (مايو) 2005؛ بالاكتراث المتزايد بالمضامين والبرامج دون المبالغة في التوقّف عند الأبعاد الرمزيّة البحتة أو الحضور الشكليّ في المواقع السياسيّة. فقد عمّم المجلس الإسلامي البريطاني بطاقاتٍ إرشادية على الناخبين المسلمين يوجِّههم فيها إلى القضايا التي يجدر أن يراعوها في المفاضلة بين المرشّحين بغض النظر عن أحزابهم. ويمكن ملاحظة أنّ تفاعل الأطراف المعبِّرة عن مسلمي بريطانيا في هذه المرحلة مع الجولات الانتخابية؛ لم تعد تقتصر على الانتخابات البرلمانية (مجلس العموم) وحدها؛ بل مع شتى الجولات الانتخابيّة المتاحة في الساحة السياسية، كالانتخابات المحلِّيّة والبلديّة، وانتخابات البرلمان الأوروبي. بل يُعرِب أنس التكريتي، أحد وجوه الحياة المجتمعيّة والسياسيّة لمسلمي بريطانيا، عن تقديره بأنّ "المجتمع المسلم (البريطانيّ) وضع قدمه بشكل قويّ وراسخ في حقل المباراة السياسيّة، إمّا على الصعيد الأوروبي، أو على الصعيد البلدي ـ المحلي، أو على الصعيد البرلماني البريطاني وغيره"(2).
__________
(1) مثل المجلس الإسلامي البريطاني (MCB)، الرابطة الإسلامية في بريطانيا (MAB)، وإلى حدّ ما الجمعية الإسلامية البريطانية (ISB)، وبعض الأطراف الأخرى في الساحة المجتمعية المسلمة، علاوة على دور الصحف والمجلات ومواقع الإنترنت التي يديرها مسلمون بريطانيون.
(2) مقابلة مع أنس التكريتي: الأوروبية (مجلة)، العدد المزدوج 39 و40، باريس، آب (أغسطس) 2004، ص 30.(1/119)
وترى قيادات بريطانيّة مسلمة، أنّ هذا الحضور السياسي يأتي ضمن نسق من المشاركة المجتمعيّة الواسعة، فَطِبقاً لتقديرات إقبال سكراني، الأمين العام السابق للمجلس الإسلامي البريطاني (MCB)؛ "يتواجد المسلمون في بريطانيا منذ قرون عديدة. وحيث أننا نشكل ثاني أكبر ديانة في بريطانيا، نجد أنفسنا الآن نساهم في نسيج ورفاهية مجتمعنا بطرق لا تُعَدّ ولا تحصى، تتراوح ما بين المشاركة في الحياة السياسيّة والأكاديميّة والماليّة، وفي مجال القانون والتعليم والصحافة والفنون الإبداعية، وهذه أمثلة معدودة من بين الكثير من المجالات"(1).
وعلى أيّ حال؛ فمِمّا يلفت الانتباهَ في تطوّرات المشاركة السياسيّة بالنسبة لمسلمي بريطانيا؛ أنّ الطموحَ لم يعد يقتصر على مجرّد إنجاح نائبٍ مسلم، وإنما بالالتفات إلى الجدوى من ذلك، في ما شهدت هذه المرحلة اتجاهاً واضحاً نحو بناء التحالفات مع نواب وسياسيِّين غير مسلمين ودعمهم، سواء على مستوى البرلمان، أم على المستويات المحلية، وتمثل حالة عمدة لندن كين ليفنغستون نموذجاً واضحاً على ذلك الاتجاه.
__________
(1) جاء ذلك في سياق تعريف عن المسلمين في بريطانيا، على موقع وزارة الخارجية البريطانية على الإنترنت، على الوصلة التالية:
http://www.fco.gov.uk/servlet/Front?pagename=OpenMarket/Xcelerate/ShowPage&c=Page&cid=1089129265351(1/120)
وما تتوجّب الإشارة إليه؛ أنّ هذه المراحل وإن كان بالوسع توقّعها في تجارب المسلمين في بلدان أوروبية أخرى؛ إلاّ أنها لا تمثل مساراً حتمياً. وعلاوة على كونها تجربةً متعلِّقةً بالواقع البريطانيّ وملابساته؛ فإنها متأثِّرة أيضاً بالخيارات التي تحدِّدها الأطراف الفاعلة ضمن ساحة مسلمي بريطانيا لنفسها، كما أنها جاءت مُنطبعةً بالأداء السياسي للأحزاب والفجوة بين التوقّعات المسبقة والنتائج المتحققة فعلياً. فمما أثار أسف قطاعات من المسلمين، أنّ حزب العمال الذي صوّتت غالبيتهم لصالحه عام 2001؛ قد تحالف مع الولايات المتحدة في حرب احتلال العراق (2003) وبدت سياستُه متراخيةً إزاء تصاعد عدوان الاحتلال الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني. وقد انعكس ذلك بوضوح على تفاعل المسلمين مع الحزب، ولكنّ خيارات سياسية بديلة لم تكن قد تَبَلْوَرَت بعد في المشهد السياسي البريطاني طالما أنّ المحافظين ليسوا بديلاً ملائماً في ما يتعلّق بالسياسة الخارجية في ما أنّ السياسات الداخلية لحزب العمال بدت مقبولة نسبياً.
وعموماً؛ تتّجه المشاركة السياسيّة لمسلمي بريطانيا، أيضاً، إلى اصطحاب مفعول المشاركة المجتمعيّة الفاعلة في التأثير في الساحتين السياسيّة والمجتمعيّة، وإلى المضيّ بقَدْرٍ إضافيّ من الثقة والواقعيّة بإمكانات الولوج إلى مسارات الفعل المجتمعي والسياسي.(1/121)
وتبدو تجربة المشاركة السياسيّة لمسلمي بريطانيا، ذات أهمية خاصة لما تحفل به من الدلالات والعبر، التي يمكن لمسلمي أوروبا أن يفيدوا منها ويكيِّفوها بالقَدْر الذي يتساوق مع واقعهم المحليّ ويتلاءم مع خصوصيّاتهم، خاصة وأنّ بريطانيا تُعَدّ إحدى أهم الدول في أوروبا الموحدة، إلى جانب ألمانيا وفرنسا، وأنّ الوجود المسلم فيها يُعتبر متقدِّماً نسبيّاً عن نظيره في معظم دول أوروبا الأخرى في مجال إقامة المؤسّسات المتخصِّصة، وإن لم تَرْقَ تلك البنية المؤسسيّة إلى المستوى الذي يستجيب لجحم الاحتياجات والمتطلّبات المعقّدة ويَفي بالآمال العريضة المعقودة على ناصيتها للنهوض بواقع مسلمي بريطانيا من شتى جوانبه.(1/122)
ولا يمكن اختزال تجربة المشاركة السياسية لمسلمي بريطانيا مع الأحزاب والمستويات التشريعية والتنفيذية؛ بنوّاب قلائل غير ملحوظي الحضور في مجلس العموم، أو حتى دخول مسلمين إلى مجلس اللوردات؛ ذلك أنّ الحضور الفعلي آخذ بالتمدّد والانتشار من خلال مستويات السياسة المحلِّيّة أساساً. ويأخذ التعبيرُ عن ذلك مظهَرَيْن أساسيَّين؛ هما صعود مسلمين إلى مواقع العمل السياسيّ المحلِّيّ، ونجاح آخرين من غير المسلمين في تبوّؤ مواقع في هذا المستوى بينما تلقُّوا دعماً من الوجود المسلم المحلِّيّ (يمثِّل عمدة لندن كين ليفنغستون نموذجاً واضحاً على ذلك). ويمكن النظر إلى تقلّد سياسيّ مسلم محليّ، ومعروف بالتزامه الدينيّ، منصب عمدة مدينة مانشستر، في العام 2005، بمثابة مؤشِّر قويّ على التطوّر الجاري في هذا السياق. وقد يلفت الاهتمامَ إضفاءُ بعض الأبعاد الرمزيّة على هذا الحضور، فمثلاً تخلّل حفلَ تنصيب عمدة مانشستر المسلم محمد أفضل خان، في 22 أيار (مايو) 2005، إنشاد "طلَعَ البدرُ علينا"، في ما أنّ مراسيم افتتاح أعمال البرلمان الاسكتلندي في السادس من أيار (مايو) 2003 في كاتدرائية سانت جايلز بمدينة أدنبره تخلّلتها أيضاً تلاوة ثلاث آياتٍ من سورة الحجرات. ورغم أنّ هذه الإشارات الرمزية الوافرة، ينبغي أن لا يُضخّم من أهميّتها في ساحة المشاركة السياسيّة؛ إلاّ أنها تنطوي على كسرٍ لبعض الحواجز الذهنيّة والنفسيّة التي يمكن العثور عليها في سياق التعامل بين المسلمين وغير المسلمين، في ما أنها تكشف في الوقت ذاته عن الفوارق والتبايُنات الملموسة بين بلد أوروبي وآخر، ليس فقط في قدرته على استيعاب حالة إيجابيّة من التعامل مع المسلمين في شتى المجالات؛ بل وفي الخصائص الذاتية للبيئة السياسيّة ومدى مرونتها في هذا الجانب أو ذاك.(1/123)
ولكنّ تلك الإشارات الرمزيّة وما يواكبها تمثِّل إحدى وسائل الاستقطاب الانتخابيّ للمسلمين أيضاً، فقادة الأحزاب والمرشّحون على قوائمها يحاولون استمالةَ المسلمين عبر زيارة مسجدٍ خلال الحملة الانتخابية مثلاً، أو حتى إقامة موائد إفطار رمضانيّة، وفعاليات بمناسبة عيدي الفطر والأضحى، وربما بإقامة حفل بمناسبة المولد النبوي الشريف، كما فعل حزب المحافظين البريطاني على ضوء الانتخابات البلدية في العام 2003، في مقرّه الرئيس تحت رعاية قائد الحزب أين انكن سميث وبحضوره شخصياً.
المشاركة من واقع التجربة الهولنديّة:
تمثِّل الحالة الهولنديّة نموذجاً على مفعول القوانين المنفتحة نسبيّاً على "الأجانب" في مجال الإقبال على المشاركة السياسيّة. فبعد أن شرّع البرلمان الهولندي، في العام 1990، قانوناً يكفل حقّ الانتخاب والترشّح في الانتخابات المحلِّيّة (البلدية) للأجانب الذين انقضى على وجودهم القانونيّ في البلاد خمسة أعوام متواصلة؛ بدأ مفعول ذلك بالتنامي، من حضور غير ملحوظ إثر صدور القانون مباشرةً في الانتخابات المحلِّيّة لعام 1990، إلى نقلةٍ واضحة في جولة الانتخابات المحلية لعام 1994 بوصول 25 نائباً محلِّيّاً من المسلمين، ليقفز العدد في جولة الانتخابات المحلِّيّة التي جرت في عام 1998 إلى 75 نائباً.(1/124)
أما في المستوى القُطري الهولندي؛ فإنّ نسبة النوّاب الذين يحملون خلفيّة مسلمة قياساً إلى إجمالي عدد مقاعد البرلمان الوطني؛ يسير نحو التقارب مع نسبة المسلمين في هولندا، وهو ما يُعَدّ حالة فريدة تقريباً في أوروبا، إذ أنه صعد من أربعة نواب في 1994 إلى سبعة في 1998، وذلك من أصل مائة وخمسين نائباً. ولكنّ ذلك لا يعني أنّ هذا الحضور يمثِّل انعكاساً لمشاركة سياسية متماسكة كما قد تشي به المعطيات العددية المجرّدة عن التفاصيل والمنتَزَعة من واقعها، خاصة عندما يدرك المرء أنّ حالة النائبة إبان هيرسي علي (عن الحزب الليبرالي ذي التوجّهات المتطرفة)، التي تتحدّر من أصل صومالي، تمثّل ذروة العداء للإسلام والتطرّف في الساحة السياسية الهولندية، قبل أن تطيح بها فضيحة تزوير في ربيع سنة 2006 طوت، على الأرجح، صفحة تجربتها السياسيّة المثيرة للجدل في البلاد، وهي الفضيحة التي أدّت تفاعلاتها إلى انهيار الائتلاف الحاكم في البلاد في أواخر حزيران (يونيو) 2006.
ومن المُحتَمل أن تكون الساحة السياسية الهولندية التي لا يحظى فيها حزب سياسيّ بأغلبيّة تتيح له تشكيل حكومة بمفرده؛ عاملاً مشجِّعاً على تحفيز المشاركة السياسية للمسلمين، بالنظر إلى تزايد مفعول الثقل الترجيحيّ لأصواتهم في التوازنات السياسية في البلاد. كما أنّ طبيعة النظام المجتمعيّ والثقافة السياسيّة في هولندا، التي تتيح هوامش واسعة نسبيّاً من التنظيم الذاتي للأقلِّيّات (العرقيّة والاثنيّة أساساً)؛ تعود ببعض المردودات الإيجابيّة على هذه المشاركة في هذا الاتجاه، وإن رأى بعضُ الناقدين أنها تتسبّب في عزلة كل أقلِّيّة في فضائِها الخاصِّ بها، عمّا سواها في المجتمع العريض.(1/125)
ومن المؤكد أيضاً أنّ النُّظُم الهولندية في مجال حيازة جنسيّة البلاد والسماح بمزاوجتها مع جنسيّة أجنبيّة، والتي تُعَدّ نموذجاً على الصعيد الأوروبي العام؛ قد تركت أثراً إيجابياً على قابليّات المشاركة السياسيّة للمسلمين وفُرَصها، وطبعت ساحة الفعل المجتمعيّ والسياسيّ في مملكة الأراضي المنخفضة بملامح التنوّع. إلاّ أنّ مناخات التراجع في هذا المضمار، خاصة في ما يتعلّق بالمسلمين، أخذت بالبروز تدريجياً، وبالذات منذ مطلع العام 2001 تقريباً.
ويمكن تحديد بداية مسيرة التراجع تلك مع الضجّة الإعلامية والزوبعة السياسية التي أُثيرت حول تصريحات للشيخ خليل المومني، أحد الأئمة المعروفين على مستوى مدينة روتردام، أبدى فيها معارضةً صريحةً للشذوذ الجنسيّ. ومغزى تلك الضجة؛ أنها وضعت الوجود المسلم المتديِّن، موضعَ تساؤلٍ لجهة مدى توافقه مع "ليبرالية" المجتمع الهولندي، التي تُعَدّ بالمنظور الشائع في بلدان أوروبية أخرى "ليبرالية مُفرِطة". وارتفعت بعض الحجج والشعارات بدءاً من ذلك التوقيت، للتحذير من مغبة التسامح مع "غير المتسامحين"، في ما تعاقبت الحملاتُ الإعلاميّةُ على المساجد والأئمّة، ويبدو أنّ بعض ثنايا الخطاب المنبري السائد في بعض المساجد كان صيداً ثميناً لتلك الحملات.
وتنتصب هذه القضية بحدِّ ذاتها شاهداً على بعض الملابسات التي تنشأ بموجبها بعض الأزمات المفضية إلى تراجعاتٍ في المناخ السياسي والمجتمعيّ والإعلاميّ. فقد بدا الأمر وكأنّ هناك مخزوناً من الاحتقان طفا إلى السطح فجأة، وما فاقم الموقفَ أنّ الساحة الهولنديّة كانت في واقع الأمر واحدةً من أكثر الساحات توتّراً في أوروبا الغربية في أعقاب الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، وهو توتّر لم يتوقف عند حدود الهجمات المادية والاعتداءات اللفظية؛ بل تعداه إلى بعض مضامين الخطاب السياسيّ والمجتمعيّ والتغطيات الإعلامية التي بدت وكأنها تؤجِّج الموقف.(1/126)
وقد ارتكس النموذجُ الهولنديُّ في الاندماج وبدا مثيراً للشكوك والتساؤلات حول جدواه، بعد أن استلَبَ الاهتمامَ لأعوامٍ مديدة. وقد جاء هذا الارتكاسُ تحديداً مع الأزمة التي أعقبت اغتيال المخرج السينمائي المناهض للإسلام تيو فان غوخ (Theo van Gogh)، على يد شابٍّ مسلم. فمسلسل الاعتداءات والتوتّرات الميدانية في هولندا، وتخييم شبح الأزمة على السياسة والمجتمع والإعلام؛ جاء بمثابة ضربة قوية للنموذج الهولندي الذي يرفع لافتة التعدّديّة الثقافيّة، لتسارع القوى الرافضة لهذا النموذج، داخل هولندا وخارجها؛ إلى توظيف هذه الأزمة من منطلق مناداتها بإقصاء حضور الثقافات المتعدِّدة في الفضاء المجتمعيّ الأوروبيّ، في ما وُضع الإسلامُ والثقافة الإسلاميّة في مركز الجدل إلى درجة شبه حصرية. وقد كانت الساحة الألمانيّة، تقريباً، هي الأكثر تجاوباً مع أصداء ذلك، لتنشأ حالةَ جدلٍ عام فيها خيّمت عليها نبرات التطرّف في الخطاب السياسيّ والمجتمعيّ والتغطيات الإعلاميّة، وسط تساؤلاتٍ عن احتمالات اندلاع أزمة شبيهة في بعض الولايات والمدن الألمانية، من قبيل كولونيا (K?ln) مثلاً.
والواقع أنّ تلاحُقَ الأزمات عالمياً وأوروبياً؛ لم يُتِح الفرصةَ لتعافي الواقع الهولنديّ من مؤثِّرات هذه الحالة الداخلية المتأرجِحة، وهي أزماتٍ بدت وكأنها تقترب من تخوم هولندا بالتدريج، خاصة بعد وقوع الاعتداءات الدامية في مدريد في 11 آذار (مارس) 2004، وفي لندن في 7 تموز (يوليو) 2005، علاوة على بروز أشكال متجدِّدة من الاضطرابات داخل الساحات الأوروبيّة والتي اعتُبرَ المسلمون أحياناً ذوي صلة بها، مثل اضطرابات الضواحي الباريسية في خريف 2005، والتي رسمت نُذُراً من المخاوف المقلقة في عدد من بلدان أوروبا باعتبارها نموذجاً "قابلاً للتصدير" إلى بؤر الأزمات المجتمعية والاقتصادية الملموسة في بعض التجمّعات المدينيّة في هذه القارّة.(1/127)
ومع ذلك؛ فإنّ هذه التفاعلات المثيرة لقلق مسلمي هولندا (وأوروبا ككلّ) وتوجّسهم، نخباً وجماهير، وإن ساهمت في انكفاء بعض المسلمين على أنفسهم وتراجع حماستهم لخيارات المشاركة السياسيّة؛ فإنّ التوجّه العام نحو المشاركة ظلّ ملموساً، بل وربما طرأ عليه تطوّر ونموّ في بعض المجالات الكمِّيّة (كنسبة الإقبال) أو النوعيّة (الميل لطرح مضامين وحلول، مع تطوّر في الخطاب السياسيّ والمجتمعيّ مثلاً).
وبعد فصول التراجعات المتتابعة منذ مطلع سنة 2001؛ جاءت الانتخابات المحليّة التي شهدتها هولندا في ربيع 2006 لتمثِّل نموذجاً مُشَجِّعاً إلى حدٍّ ما؛ فالإقبال على مشاركة المسلمين فيها كان كبيراً، وقد أفرزت في الوقت ذاته قياداتٍ سياسيّة من صميم الحضور المجتمعي المتديِّن من منظومة المؤسسات الإسلامية والمساجد في البلاد، وهو ما يُعبِّر عنه مثلاً الفوز الذي حقّقه القيادي المسلم أحمد مركوش في برلمان أمستردام، وهو الذي وقف من قبل على رأس مؤسسة إسلامية هولندية تعبِّر عن المساجد والأئمة هي اتحاد المساجد. وبموجب نجاحِه؛ بات مركوش يرأس بلدية سلوترفارت التابعة لمدينة أمستردام بدءاً من عام 2006. ومن الإشارات الجديرة بالتأمّل، وربما التي تنطوي على نصيب من الدلالة؛ أنّ ذلك جاء متبوعاً بانطفاء تجربة السياسيّة المتطرِّفة المعادية للإسلام، إبان هيرسي علي، مع فضيحتها المدوِّية، دون أن يعني الأمر بالضرورة خبوّ جذوة التيّار السياسي والمجتمعي المناهض للإسلام وللتنوّع الثقافيّ بالضرورة.(1/128)
وما يستدعي التوقّفَ والمعالجة؛ أنّه قد اتضح في سياقات هذه التطوّرات الهولنديّة، وكما يبدو بوضوحٍ في حالات بلدان أوروبيّة أخرى، كم أنّ ملف "الاندماج" والهيئات والجهات القائمة عليه؛ بوسعها أن تكون جزءاً من الحلّ، وأن تغدو جزءاً من الأزمة أيضاً. فوزيرات الاندماج في عدد من الدول الأوروبية، مثلاً، كما عليه الحال في هولندا والدانمرك والسويد، هنّ عناوين على خطاب متعقِّل أو خطاب أقلّ تعقّلاً، بحسب توجهات الحكومة القائمة. وبينما تمثِّل السويد النموذج الأكثر إيجابية، نسبياً، في هذا الاتجاه؛ فإنّ الدانمرك تمثِّل النموذج الأكثر سلبية، في ما أنّ الحالة الهولندية في هذا الشأن أخذت تجنح بعيداً عما يبعث التفاؤل، وبصفة متزايدة، وإن غلب عليها التأرجُح.
وإذا ما أمكن الخروجُ بخلاصاتٍ من التجربة الهولنديّة، وما اعتراها من مدّ وانحسار؛ فسيكون من بينها على الأرجح أنّه من الأهمِّيّة بمكان التعامل مع نُظُم الاندماج السياسي والمجتمعي بتقويم نقديّ لا يكتفي بالانبهار بالشعارات المرفوعة أو بالعناوين العريضة، بل يتوجّب إخضاعُ هذه النُظُم والنماذج للاختبار والتمحيص، سواء بمراجعة ما تقوم عليه أو التحقّق من الكيفية التي تعمل من خلالها والصور التي تتنزّل بها على أرض الواقع.(1/129)
أيضاً؛ فإنّ من أهمّ ما يمكن استخلاصُه من التجربة الهولندية؛ أنّ عدم اضطلاع المستوى السياسي بمسؤوليّاته بالقدْر اللائق به، في احتواء أمارات التطرّف السياسيّ والإعلاميّ ونوازع الشِّقاق المجتمعيّ، الذي يهدِّد فُرَص الأقلِّيّات وإمكاناتها للحضور المتكافئ في الساحتين المجتمعية والسياسية؛ من شأنه أن يُفضي إلى عواقب غير حميدة قد تحمل معها نُذُراً بائسة، خاصة في مواسم الأزمات التي لا تتوفّر ضماناتٌ كافيةٌ من أنها تداعياتها لن تخرج عن السيطرة. ولا ريب أنّ مسؤوليّات القيادات السياسيّة والمجتمعيّة (بما في ذلك القيادات الدينية والمثقفون والمجتمع المدني) هامّة للغاية في احتواء النُّذُر المقلقة، وأما التوجّه إلى معالجة تلك الأزمات المتعلِّقة بالوجود المسلم، واحتوائها؛ فينبغي أن يتم أيضاً على أساس الشراكة والتعاون مع هذا الوجود ذاته وقياداته المجتمعيّة، بما في ذلك القيادات الدينيّة والأئمّة، وليس بالقفز عليه وتصميم الحلول الأحادية والفوقية التي تفاقم الموقف وتهدِّد بإذكاء نوازع الإقصاء من جانب "مجتمع الأغلبيّة" وتفاقم احتمالات التهميش الذاتي في جانب "مجتمع الأقلّيّة".
المشاركة السياسية على المستوى المحلي:
تمثِّل مشاركة المسلمين السياسية على المستويات المحلِّيّة (كالبلديات والمقاطعات أو الولايات) والقطاعية (كالنقابات) ميداناً هامّاً لتوسيع نطاق تلك المشاركة وإكسابها زخماً كبيراً، وذلك للخلفيات والعوامل التالية:
1/ تنطوي المستويات المحلِّيّة والقطاعية على احتكاك مع عامة الجمهور بصفة أكثر حيوية وتفاعليّة، مع اختزال المسافة الفاصلة بين المسؤول وصانع القرار، بالمقارنة مع ما عليه الحال على المستوى القطري العام.(1/130)
2/ لا تتطلّب المشاركةُ السياسيّةُ في المستويات المحلِّيّة، على الأغلب، المنسوب ذاته من القدرات المادِّيّة أو المهارات المتمِّيزة الذي تتطلّبه المشاركةُ السياسيّة في المستوى القُطريّ العام.
3/ تكفل النُّظُم المعمول بها في بعض البلدان الأوروبية، حقَّ المشاركة السياسيّة المباشرة انتخاباً وترشّحاً حتى لغير المتمتعين بمواطنة (جنسية) البلد مع بعض الشروط، في ما أنّ بلداناً أخرى تكفل حق المشاركة الانتخابية السلبيّة وحسب (الانتخاب دون الترشّح). ومع ذلك؛ فإنّ معظم البلدان الأوروبيّة تحرم أولئك المصنّفين على أنهم "أجانب" من حقوق الترشّح أو الانتخاب، وهو ما يُنشئ في هذه الحالة فجوةً يصعب تبريرها بين من يَصنَعون القرار ومن عليهم أن يتحمّلوا تبعاته. ويعني ذلك إجمالاً أنّ هامشَ المشاركة الانتخابيّة أوسع نسبيّاً أمام المسلمين ممن هم مُصَنَّفون على أنهم "أجانب" على المستويات المحلِّيّة (برلمانات المقاطعات أو الولايات والمجالس البلديّة ومجالس الأحياء) والقطاعيّة (المجالس النقابيّة والطلابيّة المنتَخَبة)، بالمقارنة من المستويات الوطنيّة العامّة (البرلمان الوطني أو الاتحادي أو الأوروبي).
4/ يفوق عدد الناشطين في صفوف الأحزاب السياسيّة ومن يتقلّدون مواقع تشريعيّة أو تنفيذيّة في الساحة السياسيّة والإداريّة، في المستوى المحلِّيّ ما عليه الحال في المستوى الوطنيّ العام. ويعني ذلك أنّ القدرة الاستيعابيّة للعمل السياسي من الناحية العدديّة تكتسب ثقلَها في المستويات المحلِّيّة والقطاعيّة التي تشكِّل قاعدة الهرم.
5/ يُعَدّ العملُ السياسيّ في المستويات المحلِّيّة والقطاعيّة هو المدخل الاعتياديّ للارتقاء في مراتب العمل السياسيّ، ليُتاح التدرُّج التقليديّ من المستوى المحلِّيّ أو القطاعيّ إلى المستويات القُطريّة، وربما القارِّيّة (البرلمان الأوروبي مثلاً).(1/131)
6/ كثيرٌ من المطالب المحدّدة والمصالح المرعيّة والمكتسبات المنشودة، من جانب مسلمي البلدان الأوروبيّة؛ يمكن إحرازُها أو تحقيقُها أو حتى حمايتها وتعزيزها، من خلال المستويات المحلِّيّة، كإقامة المساجد والمراكز الإسلامية، وتأسيس المدارس الإسلامية ورياض الأطفال والمنشآت التربويّة والاجتماعيّة، واقتطاع المقابر الإسلامية، وتوفير بعض الخدمات كالمسالخ الخاصة بالذكاة الشرعية، وسنّ بعض الإجراءات المتعلِّقة بجوانب الحياة اليوميّة على المستويات المحلِّيّّة أو في النطاقات المهنيّة والقطاعيّة. لكنّ الأنظمة المعمول بها في أوروبا تؤدِّي إلى تفاوتٍ واضح في صلاحيّات كلٍّ من المستويات القطرية والمحلية، ففي الوقت الذي يُعدّ فيه تنظيمُ الاعتراف بهيئة معبِّرة عن الطائفة المسلمة من اختصاصات الحكم المركزي في فرنسا، أو في النمسا (وإن استلزم ذلك لاحقاً ترتيبات إجرائية في الأقاليم أو المقاطعات)؛ فإنّ ذلك يُعَدّ من اختصاصات الولايات في جمهورية ألمانيا الاتحادية (التي تضم 16 ولاية).(1/132)
7/ يَكتَسِبُ العملُ السياسيّ على المستوى المحلِّيّ أهمِّيّةً خاصّة بالنسبة لمسلمي أوروبا بالنظر لطابع انتشارهم الديمغرافي. إذ أنّ تركّز مسلمي أوروبا الغربية في العواصم وبعض المدن الصناعيّة، وتحديداً في أحياء بعينها على نحو خاصّ؛ يمنح مشاركتَهم السياسيّة في المستوى المحلِّيّ ثقلاً أكبر، بل ويفرض على الأحزاب السياسيّة التعاطي مع هذه المعطيات الديمغرافية سواء بمحاولة استمالة الثقل التصويتي للمسلمين وإفساح المجال لصعود مسلمين على قوائمها والتدرّج في أطرها؛ أو بمحاولة تركيز القوى المتطرِّفة والعنصريّة (كأقصى اليمين السياسي) على النفخ في نار الأحقاد وإثارة المخاوف من الوجود المسلم الملحوظ عددياً سعياً لحصد الأصوات. وتُلاحَظُ هنا مثلاً حالةُ مدينة روتردام الهولنديّة، ذات الكثافة السكانيّة المسلمة الملحوظة، والتي تمثِّل من جانب نموذجاً على حضور المسلمين في المستوى السياسي المحلِّيّ، والتي شهدت من جانب آخر انبعاث تيّار يمينيّ ليبراليّ متطرِّف مُعادٍ للمسلمين و"الأجانب" بقيادة السياسي بيم فورتوين (Pim Fortuyn). فمن مدينة روتردام انطلقت "قائمة فورتوين" المتطرِّفة إلى المستوى القُطري الهولندي، وذلك بعد أن حصدت 34 في المائة من أصوات الناخبين في الانتخابات المحلية بروتردام في آذار (مارس) 2002، التي خاضتها تحت شعارات معادية للإسلام ومناهضة للتعدّديّة الثقافيّة.(1/133)
8/ إنّ المؤسسات والأُطر التي أقامها مسلمو أوروبا للتعبير عن حضورهم؛ تبدو أكفأ في أدائها وأكثر وُضوحاً في حضورها في المستويات المحلِّيّة، كالمقاطعات أو الولايات والمدن والأحياء، بالمقارنة مع كفاءتها وحضورِها على المستوى القُطري العام، وذلك يعود أساساً لأطوار النشوء والارتقاء المرحليّ التي تشهدها تلك التجارب، ولحدود الإمكانات والمقدرات البشرية والمادية والمتاحة لها، بما يجعل القدرة أوفر على التواصل والتأثير في المستوى المحليّ منه على المستوى القطريّ العام الذي يستلزم أطراً أكثر تخصّصاً وكفاءةً وموارد. وبناء على هذه الفجوة؛ يمكن توقّع أنّ المشاركة السياسية على المستوى المحلي تحظى بفرص أكبر في صفوف مسلمي أوروبا بالمقارنة مع هو مُتاحٌ لتلك المشاركة على المستوى القطري العام.
9/ إنّ فرص التواصل مع الأطراف الفاعلة في الساحة السياسيّة المحلِّيّة والقطاعيّة، تبدو أيسر منها بالمقارنة مع المستويات القُطرية أو حتى القارِّيّة. وتلحق بذلك الفرص الأوفر لنسج التحالفات وعقد الشراكات، والمضيّ في مساعي التنسيق والتعاون ضمن المجتمع المدنيّ على المستويات المحلِّيّة والقطاعيّة، بما في ذلك تشكيل القوائم الانتخابيّة أيضاً أو حتى إقامة الأحزاب المحلِّيّة أو الجهويّة.
المستويات المحلية مركز الثقل في المشاركة السياسية المسلمة:(1/134)
في واقع الأمر؛ يحقِّق مسلمو أوروبا حضوراً متزايداً في المستوى السياسيّ المحلِّيّ في بلدانهم، بينما ظلّ حضورُهم السياسيّ في المستويات القُطريّة متواضعاً نسبيّاً. ويمكن هنا ملاحظة عدد النواب المسلمين في البرلمانات المحلِّيّة والمجالس البلديّة في بلدان أوروبا الغربيّة؛ مع عدد من نجحوا في الارتقاء إلى البرلمانات القُطريّة أو الوطنيّة، ولكنّ ذلك قد لا يمثِّل في حالات عدّة فجوةً فعلية أو كبيرة إذا ما روعي التناسب، بالنظر إلى أنّ القابلية الاستيعابيّة تتضاءل كلما جرى الصعود من المستويات المحلية إلى المستويات الإقليميّة (الجهوية) فالقُطرية فالأوروبية(1). وفي كلّ الأحوال؛ لا ينبغي هنا إغفال أنّ هذا العدد لا يُعَدّ تعبيراً تلقائيّاً عن حجم المشاركة السياسيّة للمسلمين، فضلاً عن أنّ وجود من يحملون أسماء مسلمة في موقع سياسيّ ما لا يصلح أن يكون وحده معياراً لتصنيف ذلك ضمن المشاركة السياسية للمسلمين بكل ما تحمله هذه المشاركة من دلالاتٍ وما يترتّب عليها من مسؤوليّات وأدوار.
وإجمالاً؛ يمكن القول إنّ مسلمي أوروبا قدّموا وجوهاً أكثر عدداً في العمل السياسيّ المحلِّيّ، بالمقارنة مع النُّدرَة الملحوظة في الوجوه السياسيّة المسلمة العاملة ضمن المستويات القطريّة والأوروبيّة.
__________
(1) أي أنّ عدد السياسيين من أعضاء الأجهزة التشريعية والتنفيذية يقل في المستوى الأوروبي عنه في المستوى القطري، ويقل في المستوى القطري عنه في المستوى البلدي أو المحلي، وتتسع قاعدة الهرم في أدنى مستويات العمل السياسي المحلي كمجالس الأحياء والقطاعات النقابية الفرعية مثلاً.(1/135)
ومن غير المستَبعَد أن تتّخذ المشاركةُ السياسيّة للمسلمين في عديد البلدان الأوروبيّة مساراً يَبدَأُ من المستويات المحلِّيّة إلى ما فوقها، بحيث يبرُزُ مركزُ الثقل في البلديّات والمقاطعات وحتى مجالس الأحياء، علاوة على المستويات القطاعيّة كالنقابات، قبل أن يتعزّز الحضورُ السياسيّ على المستوى القُطريّ العام، وهذا هو الاتجاه العام السائد في تجارب المسلمين في معظم بلدان أوروبا، في يبدو مُستَبعَداً أن يتحقّق حضورُ لافتٌ للانتباه للمسلمين على المستويات القُطريّة مع تجاوز الحضور السياسي المحلي.
وفي بعض البلدان؛ تكتسب المشاركةُ السياسيّة على المستويات المحلِّيّة وزناً أكبر مما عليه في بلدان أوروبيّة أخرى، كما يتّضح مثلاً في البلدان الاتحاديّة (الفيدراليّة) كألمانيا، أو في حالة بلجيكا مثلاً، وعلى نحو أكثر بروزاً في سويسرا، بالنظر إلى طبيعة النظام السياسي السويسري، الذي يتيح هوامش واسعة للكانتونات ضمن نطاق الاتحاد الكونفدرالي.(1/136)
فأحد النماذج اللافتة للانتباه على صعيد المشاركة السياسية للمسلمين، يجسدها كانون تيسّان (تيتشينو) (Ticino)، السويسريّ الناطق بالإيطاليّة، والواقع في جنوب شرقيّ سويسرا. فعلاوة على أنه سجّل في العام 2004 أسبقيّة ترشّح أوّل مُسلِمة محجّبة في سويسرا على قائمة انتخابيّة محليِّّة وعُرِفَ عنها حرصُها على الالتزام الدينيّ، وهي الشابّة المسلمة السويسرية نادية صديقي، والتي لم يحالفها النجاح بالفوز؛ فإنّ الكانتون ذاته قد شهد انتخاب القيادي المسلم المحلِّيّ حسن العربي، ليشغل مقعداً في أحد مجالسه المحلِّيّة، من خلال ترشّحه على القائمة المشتركة لحزبيْ الخضر والاشتراكي، وهو معروف بإدارته لمكتبة إسلامية، وبتديّنه أيضاً، وبنشاطاته الواسعة في المجتمع. ويرى الإعلامي المسلم في سويسرا، الصحبي الخطيب، أنّ "نجاح حسن العربي يشكِّل مرحلة جديدة في مستقبل الأقلِّيّة المسلمة على المستوى الكانتوني وكذلك على المستوى الفيدرالي (السويسري)، إذ أصبح الآن محطّ أنظار الرأي العام، الذي يتابع عن كثب مداخلاتِه في المجلس البلدي ومقترحاته أو كيفية تعامله مع المشكلات، من منطلق التوفيق والموازنة بين المسؤولية النابعة من انتمائه إلى الحزب الذي يمثله وخصوصيته الإسلامية التي تطبع نظرته إلى القضايا المطروحة"(1).
__________
(1) الخطيب، الصحبي: "انتخاب أول عربي مسلم في المجلس البلدي بمقاطعة لوغانو". الأوروبية (مجلة)، العددان 39 و40، باريس، آب (أغسطس) 2004، ص 43.(1/137)
ومن الأهمِّيّة بمكان مراعاة بعض الفوارق المُحتَمَلة بين السلوك التصويتيّ للمسلمين في المستويات المحلِّيّة وفي نظيرتها القُطريّة أو الوطنيّة. ففي المستوى المحلِّيّ يَنفَتِح الصوتُ المسلمُ على خياراتٍ أوسع في العادة، ويمكن توقّع الانتقال بالأصوات من خانةٍ إلى أخرى بسهولةٍ أكبر مما عليه الحال في المستويات الوطنيّة والقُطريّة. ومن ذلك ما شهدته الانتخابات البلدية التي جرت في بريطانيا في العام 2003، والتي طرأ فيها انصرافُ نسبةٍ ملحوظة من أصوات المسلمين عن حزب العمال، ليرسو بعضُها لصالح أحزابٍ أخرى، بما فيها حزب المحافظين، الذي لم يكن الخيار التقليديّ المفضّل للمسلمين في العادة. وقد تسبّب هذا التحوّل النسبي في تلك الجولة إلى إثارة انتقاداتٍ من جانب مسلمين من حزب العمال، الذي اعتَبروا الانصرافَ عن حزبهم مؤشِّراً على قِصَر نظرٍ سياسيّ.
ومن العسير على أيّ حال التسليم تلقائيّاً بأنّ السلوك التصويتيّ للمسلمين في هذا البلد الأوروبيّ أو ذاك ينمّ عن وضوح رؤيةٍ سياسيّة أو تشويش فيها؛ إلاّ أنّ مجرّد إقبال المسلمين على التفاعل مع المواسم الانتخابيّة، على نحو رشيدٍ أو أقلّ رشداً؛ هو مطلب هام بحدّ ذاته لتحقيق حالة تراكميّة من الوعي العام في هذا الجانب تبقى قابلةً للتطوير والتوجيه لاحقاً.
المشاركة السياسيّة بين المستويات المحلِّيّة والقُطريّة .. البحث عن صمّام الأمان؟(1/138)
إنّ المشاركة السياسيّة ضمن المستويات المحلِّيّة والقطاعيّة يُفترَض أن يكون بوسعها الاضطلاع بدور صمّام الأمان الإضافيّ للأقلِّيّات المسلمة في أوروبا، خاصة عندما ينطوي الأداءُ السياسيّ المركزيّ أو القُطريّ على تجاوزاتٍ ما أو على ما يُعَدّ انتقاصاً محتَمَلاً من مكتسبات المسلمين أو تهميشاً لمصالحهم. ولكنّ العكس صحيحٌ أيضاً، باعتبار أنّ المستوى القُطريّ أو الاتحاديّ، وربما الأوروبي أيضاً، بوسعه أن يكون صمّام أمان لأية تجاوزات مُفترَضة في المستويات المحلِّيّة.
فالعمل مع المستوى السياسي المحلِّيّ، أو حتى القطاعيّ (كالنقابات مثلاً)، يمكن أن يعيقَ تمرير بعض القوانين أو السياسات أو الإجراءات غير المرغوبة التي يتخذها المستوى الوطنيّ، أو أن يخفِّف من وطأتها على الأقلّ. ورغم أنّ ذلك لا يبدو خياراً مكفولاً دوماً، وأنه يتباين بوضوح من بيئةٍ أوروبيّة إلى أُخرى؛ إلاّ أنه يكتسبُ أهمِّيّته في بعض البلدان الأوروبية على نحو أخصّ بالنظر لهيكليّة النظام السياسي وتوزيع الصلاحيات فيه.(1/139)
لكنّ ذلك لا ينبغي أن يَغُضّ الطرفَ عن بعض السلبيّات التي يمكن توقّعها من مستويات السياسة المحلِّيّة أيضاً. ففي الحالة الألمانيّة كمثال؛ يمكن لبعض الولايات أن تتمادى في سياسات مثيرةٍ لحنق المسلمين بناء على التوجّهات السائدة فيها، مثل ما تعكسه حالة ولاية بافاريا (Bayern) الألمانيّة، التي يُهَيمن على ساحتها السياسيّة، بحكومتها وبرلمانها؛ الاتحادُ المسيحي الاجتماعي (CSU) ، وهو النسخة الأكثر محافظة ويمينيّة من حزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي (CDU). وقد اشتُهر ذلك الجناح البافاري بعدد من المواقف المتشدِّدة في ما يتعلق بملف المسلمين، وخاصة بعد الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، في ما بلغ الأمر في سنة 2005 حدّ إغلاق "المدرسة الإسلامية الألمانية" (Deutsche Islamische Schule) الأعرق من نوعها في ألمانيا، الكائنة في ميونيخ عاصمة الولاية. كما أنّ قضيّة حجاب المعلِّمات المسلمات في المدارس العامة الألمانية، والتي انطلقت في العام 1997 مع قضية المعلمة فريشيتا لودين، ولاحقاً مع قضية المعلِّمة إيمان الزايد؛ جاءت من إجراءات وقرارات اتُخِذت على المستوى المحلِّي (الإدارات المدرسية في المدن والولايات أو وزارات التعليم المحلِّيّة ومن ثم تمت شرعنتها بقرارات قضائيّة من محاكم الولايات). وفي الحالتين السويسريّة والبلجيكيّة؛ كان واضحاً أنّ الأقاليم الناطقة بالفرنسيّة كانت أكثر قابلية لـ "استيراد" قضية الحجاب من فرنسا المجاورة ولو عبر الجدل السياسي، بالمقارنة مع غيرها من الأقاليم، وهو ما يتضح بصفة خاصة في حالة كانتون جنيف السويسريّ أكثر من غيره.
ومن شأن هذه الملاحظات أن تعزِّز الاستنتاجَ بأنّ المشاركةَ السياسيّة، والمجتمعيّة أيضاً، للمسلمين على المستويات المحلِّيّة؛ تكتسب أهمِّيّة فائقةً وتنطوي على حساسيّة خاصّة أيضاً، فهي مطلوبةٌ لتحقيق مكتسباتٍ وتعزيز مصالح، وأيضاً لدفع أضرارٍ محتَمَلة.(1/140)
عن تجارب إدارة العمل السياسي في صفوف مسلمي أوروبا:
تنوّعت التجارب التي تَبَلْوَرَت في ساحات مسلمي أوروبا، على صعيد تفعيل مشاركتهم السياسيّة وترشيدها، ومن ذلك تشكيل أطر ولجان متخصِّصة بالإشراف على العمل السياسيّ المباشر أو تنسيقه. وعلى سبيل المثال لا الحصر؛ يمكن في هذا الصدد الإشارة إلى التجارب التي شهدتها كلّ من السويد وبلجيكا.
إذ تُعَدّ السويدُ من البلدان الأوروبيّة التي سبقت نسبيّاً في تفاعل مسلميها مع الساحة السياسيّة. وكما قال الأستاذ شكيب بن مخلوف في العام 1999، عندما كان رئيساً للرابطة الإسلامية في السويد، "لقد أصبح الإسلام فعلاً أحد الأنسجة التي تشكِّل المجتمع الاسكندنافي وخاصة السويد، وأصبحت هذه الظاهرة مقبولة إلى حدّ ما من قبل بعض السياسيين والمؤسسات الرسمية والشعبية، وذلك بدرجات متفاوتة"(1).
__________
(1) من الكلمة الافتتاحية التي ألقاها الأستاذ شكيب بن مخلوف، رئيس الرابطة الإسلامية في السويد (آنذاك)، في افتتاح المؤتمر الثامن عشر للرابطة في الثاني من نيسان (أبريل) 1999.(1/141)
وقد عبّرت خطواتٌ عدّة عن التفاعل المبكر نسبياً (بالمقارنة مع الدول الأوروبية الأخرى) من جانب مسلمي السويد مع الساحة السياسية، منها تشكيلُ وفد مساعٍ حميدة إسلاميّ في سنة 1990 بهدف التوسّط لإخلاء سبيل الرعايا السويديِّين العالقين في بغداد على إثر الغزو العراقي للكويت، وهي المهمّة التي تكلّلت في حينها بالنجاح، وأيضاً تشكيل المجلس الإسلامي السويدي في العام 1990 كمحاولةٍ لتمثيل المسلمين في الساحتين المجتمعيّة والسياسيّة، على ضوء الحاجة إلى طرفٍ تتعامل معه الجهات المسؤولة في التعبير عن الوجود المسلم في البلاد. وقد انبثقت عن المجلس الإسلامي السويديّ لجنةٌ سياسيّة متخصِّصة في المتابعات المتعلِّقة بالشأن السياسيّ الصّرف. وفي تشرين الثاني (نوفمبر) 1998؛ تأسّس "التجمّع السياسي الإسلامي" (PIS) ليغدو بمثابة إطارٍ لتنسيق التواصل والتحركات بين المسلمين الفاعلين في الساحة السياسية، وذلك بعد اجتماع ممثلين من 14 مدينة سويديّة. وقد اتفق الحاضرون في ذلك الاجتماع على انتخاب 44 مندوباً يمثِّلون التجمّع في البلديّات السويديّة، كما أقرّوا الدستور والسياسات العامّة. ومن بين تلك السياسات التي تجدُر الإشارةُ إليها مما جرى إقرارُه؛ عدم اعتبار اللون الحزبيّ للأعضاء، خاصة وأنّ التجمّع يضمّ مسلمين منضوين في العديد من الأحزاب السويديّة. ويتكون الهيكلُ الإداريّ للتجمّع من إدارةٍ عامّة ومجلس للمندوبين ومؤتمر عام.(1/142)
ومن الأهداف التي وضعها ذلك التجمّع لنفسه؛ تكوينُ تكتّل إسلاميّ سياسيّ يعمل على دعم الوجود المسلم في السويد ويخدم قضاياه بالوسائل السياسيّة، وتجميع أصحاب الاهتمامات والممارسة السياسّية من المسلمين لتوحيد الرؤية وتبادل الخبرات في هذا المجال، وتوعية مسلمي السويد بفوائد المشاركة السياسية واستثمار رصيدهم العددي بما يخدم قضاياهم(1).
أما في الحالةِ البلجيكيّة، والتي تُعَدّ من بين الحالات التي تميّزت مع قلّة من الدول الأوروبية الأخرى، بالسبق لوجود أشخاص ينتمون للوجود المسلم في مواقع سياسيّة ضمن الأحزاب أو على مقاعد برلمانيّة؛ فيمكن الإشارة إلى تجربتين في الميدان المتعلق بالمشاركة السياسيّة للمسلمين، أو للنطاق العربي من المسلمين على الأقل (الذي يمثِّل نسبة الأغلبيّة تقريباً من إجمالي الوجود المسلم). وقد حملت التجربة الأولى التي يمكن التوقّف عندها في هذا الاتجاه اسم "مكوِّنات الجالية العربيّة"، وكانت قد انطلقت في غضون الموجة التفاعليّة الأولى مع انتفاضة الأقصى (2000 ـ 2002)، لتتحوّل بالتدريج من الاقتصار على مناصرة قضية فلسطين إلى إطارٍ للتداول والمشاورة والتنسيق في شؤون التواصل المجتمعي والسياسي. وأما التجربة الثانية؛ فحملت اسم "لجنة المشاورة" (CDC) وتعود بواكيرُ تشكّلها إلى عام 2002. ومما يؤشر للتواصل بين التجربتين هو وجود قاسم مشترك بين الفاعلين فيهما، مثل الأستاذ يونس شكري العضو في تنسيقيّة "مكونات الجالية العربيّة"، والذي رأس في ما بعد "لجنة المشاورة".
__________
(1) الدبعي، محمود / الغمقي، محمد: "السويد أكثر البلدان الأوروبية انفتاحاً على المسلمين". الأوروبية (مجلة)، العدد 12، باريس، تموز (يوليو) 1999، ص 39.(1/143)
وقد نشطت اللجنة الأخيرة في التواصل مع الأحزاب والمرشّحين في الجولات الانتخابيّة التي شهدتها بلجيكا منذ ذلك الحين، كالانتخابات التشريعيّة التي جرت في 18 أيار (مايو) 2003، وانتخابات البرلمان الأوروبيّ التي جرت في حزيران (يونيو) 2004، وشكّلت حسب القائمين عليها "جسر التواصل السياسيّ والحوار بين الجهات الرسميّة والجالية العربيّة والمسلمة وتحديداً نسيجها الجمعيّاتي". وتراسل اللجنة الأحزاب السياسيّة البلجيكيّة، والنواب الذين ينتمون للجالية المسلمة، قبل الجولات الانتخابية، لحثِّهم على الاهتمام بالقضايا التي تشغل عناية الوجود العربي والمسلم في بلجيكا، في ما تذكر اللجنة أنها تتلقّى ردوداً إيجابيّة على مراسلاتها تلك(1).
وإجمالاً يمكن القول إنّ هذه التجارب ومثيلاتها قد لا تكون عرفت استمراراً أو استقراراً طويلاً من الناحية الزمنيّة، ولكنّها كانت مُجْدِيَةً من أوجه عدّة، أهمّها أنّها أَسْدَت خدماتٍ لا يمكن التهوينُ من شأنها في بعض المراحل، بما في ذلك بعض مواسم الذروة السياسيّة. وحتى في حالة اضمحلال إحداها؛ فإنّ ذلك كان يؤذِنُ بصعود أخرى جديدة، وهي ولادةٌ قد تأتي من رَحِم التجربة الأولى، وربما بصورة أكثر نُضجاً. والثابت على كلِّ حال؛ أنّ التجارب تبزُغُ ثم قد تتوارى نسبيّاً أو ربما تنطفئ؛ لكنّ الخبرات المشترَكة مؤهّلة لأن تتراكم وتنفتح على آفاقٍ متجدِّدة.
عندما يحجم مسلمو أوروبا عن الانتخاب ـ الخلفيات
لماذا تُحجم قطاعات من مسلمو أوروبا عن المشاركة في الانتخابات؟
__________
(1) المعلومات الواردة مستقاة من معاينات ميدانية ومتابعات ومشاورات أجراها الباحث مع قيادات مسلمة في بلجيكا ومنها الأستاذ يونس شكري ذاته، وانظر أيضاً: الأوروبية (مجلة)، العدد 38، باريس، أيار (مايو) 2004، ص 21.(1/144)
ليس من النّادرِ أن تُسْمَع بعضُ الانتقادات التي تأخذ على الجمهور المسلم في أوروبا، عدم إقبالِه على التفاعل مع المواسم الانتخابيّة، والزهد في التصويت. ومن المألوف أن تأتي هذه الانتقاداتُ بدافع الحرص على تفعيل المشاركة السياسيّة للمسلمين، وفي سياق خطابٍ استنهاضيّ للدور المسلم في جولات الاقتراع.
لكن قَلّ ما يجري التوقّفُ عند الأسباب التي تجعل قطاعاً، كبيراً كان أو ضئيلاً، من المسلمين في البلدان الأوروبيّة، يُحجِمون عن الإدلاء بأصواتهم. كما يصعُبُ أن تُنْتَزَعَ هذه الحالةُ من سياقِها المجتمعيّ العريض، الذي يشهدُ ظاهرةَ عدم الاكتراث بالتصويت، إلى الدرجة التي جعلت بعض المراقِبين لهذه الحالة يَتَندَّرون بالقول: إنّ الطرفَ الرابِحَ في معظم الانتخابات التي تجري في أوروبا هو "حزب غير المصوِّتين".
أما بالنسبة لمسلمي أوروبا، فبالوسع تصنيف العوامل التالية، التي تتداخل في ما بينها أحياناً، باعتبارها المسؤولة إجمالاً عن عدم إقبال قطاع من المسلمين الذين يحقّ لهم الاقتراع، على الإدلاء بأصواتهم في المواسم الانتخابيّة التي تجري في مستويات عدّة. ويُلاحَظ في هذا الصدد أنّ العوامل التاليّة ليست مقتصرة بعامّة على المسلمين، فهي تتّصل بعدد من القطاعات في المجتمع العريض، وعلى تفاوت في ما بينها.
أولاً/ أسباب إجرائيّة أو فنيّة بحتة:(1/145)
كعدم استكمال الناخبين لإجراءاتِ العملية الانتخابيّة، أو عدم الإدلاء الصحيح بالأصوات، كما في حالة الأصوات الملغاة، ويُقدّر أنّ هذه المشكلات أكثر حضوراً في صفوف المسلمين في عديد البلدان الأوروبية، بالمقارنة مع ما عليه الحال في المجتمع العريض، سواء على خلفية حداثة عهد قطاعاتٍ منهم نسبيّاً بالانتخابات الحرّة بسبب موروث الهجرة من أوطان أصليّة لا تُمارَس فيها الديمقراطيّةُ بالمفهوم الفعلي، أو لإشكاليّات فنِّيّة في التعامل مع الجانب الإجرائي من العملية الانتخابية لأسباب مرتبطةٍ بمدى الاندماج أو التباينات الثقافيّة واللغويّة، أو لغير ذلك.
وتلحَقُ بالمشكلاتِ الفنِّيّة والإجرائيّة وصعوبات التواصل؛ تأثيراتُ الأميّة، أو عدم الإلمام باللغة المحلِّيّة، أو حتى عدم التمكّن من الوصول إلى مراكز الاقتراع، بل وأحياناً الافتقار إلى المعرفة بوجود انتخابات جارية في الموعد المحدّد (وهو ما يُتوقَع في الانتخابات القطاعيّة، كما في أُطر النقابات، أكثر من غيرها)، في ما قد ينشغل آخرون بأعمالهم أو بظروفٍ خاصّة أو يفضِّلون قضاء أوقات أطول مع الأُسرة، وربما السفر إلى الخارج في أيام العطلات التي تجري فيها الانتخابات.
ويلحق بذلك الضعفُ في فهم العملية السياسيّة وإدراك تفاعلاتها والأطراف المشاركة فيها، على النحو الكافي، أو الافتقار إلى التمييز الدقيق بين الأحزاب والبرامج، وهو ما يمثل بحدّ ذاته إشكاليّةً متعلِّقةً بمدى الاندماج والعزلة.
ثانياً/ أسباب دينيّة أو أيديولوجيّة أو مبدئيّة:
كموقف القائلين من المسلمين بحرمة المشاركة في الانتخابات الديمقراطيّة إجمالاً، أو التحفّظ على المشاركة بالانتخابات في البلاد غير المسلمة على نحو خاص. ويُشار هنا إلى وجود مجموعات دينيّة غير مسلمة حاضرة في أوروبا وتحظر على أتباعها المشاركةَ في الانتخابات أيضاً، مثل فرقة "شهود يهوه"(1).
__________
(1) Feist, Ursula, S. 29.(1/146)
وقد يحدث الإحجامُ عن التصويت لأسباب أيديولوجيّة، وهو باعث لدى نسبة من الذين لا يُدلُون بأصواتهم في الانتخابات بالدول الأوروبيّة، مثل أولئك الذين يتّخذون موقفاً مناهضاً للنظام السياسيّ القائم.
ثالثاً/ مواقف السخط والتنديد:
قد تَتَبَلْوَر مواقفُ ساخطة أو تنديديّة بناءً على تطوّرات ما، تدفع قطاعاً أو أكثر من الناخبين إلى الإحجام عن الإدلاء بأصواتهم. وغالباً ما تكمن خلف ذلك الرغبةُ، الواعية غير الواعية، في إيصال رسالةٍ سياسيّة للقوى الحزبية المتنافسة، أو لبعضها على وجه الخصوص؛ بعدم الاكتراث بأدائها أو برامجها أو وعودها. وقد يأخذ ذلك أحياناً نمطاً شبيهاً بالمقاطعة الانتخابية المنظّمة من خلال مجموعات.
رابعاً/ ركود الساحة السياسية والقناعة بصعوبة تفعيلها:
وذلك عندما يستشعرُ الناخبون أنّ الساحة السياسية تتسم بالركود وليس فيها ما يجتذبُ اهتمامَهم، وأنّ لا آمال بإحداثِ تغييرٍ ما أو تفعيلٍ للساحة السياسيّة. وعلى سبيل المثال؛ قد يبرز هذا العامل بالنسبة لمسلمي أوروبا، في الحالات التي لا يُولي فيها المستوى السياسيّ، والأطراف المتنافسة فيه، عناية تذكر لمخاطبة اهتمامات الناخبين المسلمين وشواغلهم.
خامساً/ عدم وعي الأفراد والمجموعات بأهمية أصواتهم:
بما في ذلك استشعار الفرد بأنه في العملية الانتخابية "مجرّد صوت" غير ذي وزن. كما أنّ المُحجِمين عن التصويت قد لا يَرَوْن أنّ الاقتراع يمكنه أن يكون أداةً للتأثير السياسيّ الفعليّ. وقد أوضحت استطلاعاتٌ للرأي أنّ نسبة من لا يَرَوْن إمكانيّة التأثير السياسيّ عبر تصويتهم في الانتخابات؛ هي أعلى بوضوح لدى غير المقترِعين منها لدى المقترِعين(1).
سادساً/ عدم تبلور خيارات مشجعة للتصويت لها:
__________
(1) Feist, Ursula, S. 38.(1/147)
فقد تُهمِلُ الأطرافُ المتنافسةُ في الانتخابات اهتماماتِ المسلمين، وقد يبدو لبعض الناخبين أنّ الأطراف المتنافسة في الساحة السياسية ليست جديرة بأصواتهم، أو حتى أنّ المنافسة تجري بين حزب غير مفضّل وآخر غير مرغوب فيه، أو بين من يعتبره بعضهم خياراً سيِّئاً وما يرونَه خياراً أسوأ. وقد لا تكون المشكلة مع الحزب السياسيّ ذاته؛ بل مع من تم ترشيحُه على قائمته الانتخابية، أي مع شخص بعينه أو أشخاص على خلفيّات عدّة مُحتملة.
سابعاً/ تآكل الثقة بالأحزاب السياسية:
ويتأتّى ذلك عبر أسبابٍ عدّة، منها استشعارُ الناخبين للفجوة السلبيّة بين الوعود الانتخابيّة والممارسة الفعليّة، وعدم الرضا العام عن أداء الأحزاب والسياسيِّين، ومفعول الفضائح السياسيّة، والفجوة بين المستوى السياسي والجمهور.
ثامناً/ مواقف الأطراف السياسية من اهتمامات المسلمين والشؤون الإسلامية و"الإسلاموفوبيا":
فعلى سبيل المثال؛ أربك التحالفُ البريطانيّ مع الولايات المتحدة في حرب العراق (2003) قطاعاتٍ من الناخبين المسلمين، الذين اعتادوا التصويت تقليديّاً لحزب العمال البريطاني الحاكم. وبالمقابل؛ فإنّ المحافظين لا يمثِّلون خياراً تقليدياً مفضلاً للناخبين المسلمين في بريطانيا.
كما أنّ المواقف غير المشجِّعة للحزبيْن الأساسيّين في ألمانيا (الاجتماعيين SPD والمسيحيين CDU/CSU)، من الشؤون الإسلاميّة على المستوى الداخلي في السنوات الأخيرة؛ أربكت قطاعاً من الناخبين المسلمين في الانتخابات البرلمانيّة لعام 2005.
تاسعاً/ استشعار قطاع من الناخبين سلفاً أنّ النتائج محسومة:(1/148)
فاستشعار أنّ النتائج محسومة بفوز طرف ما، بغضّ النظر عن موقف الناخب منه، من شأنه أن يعزِّز من اطمئنان الناخب المؤيِّد لذلك الطرف بأنه لا حاجة للإدلاء بصوته، أو ربما يبعث على قنوطه من فعالية اقتراعه إن كان يميل لطرف سياسيّ مقابل. ومن المألوف أن تتسبّب استطلاعاتُ الرأي التي تتزايد قبل الانتخابات في تعزيز مشاعر الإحجام عن الاقتراع أحياناً على هذه الخلفية.
عاشراً/ عدم الاكتراث بالشؤون العامة:
عدم الاكتراث بالشؤون العامة، أو الافتقار إلى الحدود الدنيا من الدراية بالمجريات السياسيّة، وهي مشكلةٌ قد تأتي وثيقة الصلة بطبيعة الثقافة السياسيّة السائدة في البلاد، أو بخصوصيّة بعض الأفراد أو المجموعات أو القطاعات في المجتمع. ومن أبرز أعراض هذه المشكلة؛ عدم متابعة أنباء التطوّرات السياسيّة الكبرى في البلاد، أو حتى تفضيل الانشغال بممارسة بعض الهوايات على الذهاب "لمجرّد إلقاء ورقة" في صندوق الاقتراع يوم الانتخابات. وتحاول بعض الإجراءات والحملات التعاطي مع هذه المشكلة بحثّ الجمهور على التصويت، وربما بتيسير سبل الاقتراع بما في ذلك بمحاولة اعتماد أسلوب الاقتراع الإلكتروني عبر شبكة الإنترنت (E - Voting).
حادي عشر/ مقتضيات واقع الهامشيّة المجتمعيّة:(1/149)
إنّ الوقوع على هامش الحياة المجتمعيّة، من قبل بعض الفئات؛ يجعلها معزولة، بقدر أو بآخر، عن الحدث السياسيّ والتفاعلات الانتخابيّة، وهي عُزْلَةٌ تتأتّى بإرادة تهميش ذاتية، أو بمسبِّباتُ حالةٍ من التهميش، أو بكليْهِما معاً. ومن ذلك ما يتعلّق مثلاً ببعض الفئات التي تعيشُ في ما يُوْصَف أحياناً بـ "مجتمعات موازية" ضمن الفضاء المجتمعيّ، أو تلك التي تعيش حالةً من العزلة المجتمعيّة المُطبِقة لأسباب اجتماعية ـ نفسية (socialpsychological) أو بمفعول مصاعب اقتصادية حادّة، علاوة على فئات أخرى واقعة على أقصى الهامش المجتمعي كما في نموذج فئة المشرّدين (بلا مأوى) (Homelessness) الذين يقدّر عددهم بمئات الألوف في دول الاتحاد الأوروبي وحدها، أو مدمني الكحول ومتعاطي المخدِّرات. فالعيشُ ضمن واقع اجتماعيّ أو اقتصاديّ أو صحِّيّ أو نفسيّ لا يبعث على الارتياح؛ قد يحرِّضُ بعض من يحقّ لهم الاقتراع على الإحجام عن التصويت، بل وقد تَتَبَلْوَر مشاعرُ من الوقوع ضحيّة للغُبن تستدرجُ أصحابها إلى تبنِّي مواقف سلبية من مجمل النظام السياسيّ والاقتصاديّ والمجتمعي القائم، أو من الإحساس بالعجز إزاءه، ما يورث تآكلاً للثقة السياسية بالنّفس(1).
__________
(1) Feist, Ursula, S. 48-49.(1/150)
ويتّضح هنا؛ إلى أي مدى يتداخلُ هذا العاملُ مع عوامل أخرى من بواعث الإحجام عن المشاركة في الاقتراع الانتخابيّ، كما يتّضح أنّ المؤشِّرات التي تدلّ على كون المسلمين والأقليات في الواقع الأوروبي أكثر عرضة من "مجتمع الأغلبية" لمجمل ملابسات التهميش المجتمعي واختلال ميزان الفرص لأعضاء المجتمع الواحد؛ إنما تجعل المسلمين والأقليات عرضة لاحتمالاتٍ أوفر من الإحجام عن المشاركة السياسيّة، بما في ذلك المشاركة الانتخابيّة، حتى وإن أمكن توقّع أن تكون تلك الاختلالاتُ ذاتها باعِثاً محرِّضاً، في الوقت نفسه، على مشاركة فاعلة لقطاعات أوسع من المسلمين والأقليات، لاستشعار الأمر ينطوي على تحدِّيات ومسؤوليّات متراكمة.
ثاني عشر/ القنوط من الديمقراطيّة النيابيّة (التمثيليّة):(1/151)
منذ منعطف 1968 في أوروبا، تَبَلْوَرت مؤشِّرات من الشكوك في النظام الديمقراطيّ النيابيّ والتململ منه، وأخذت خيارات بالظهور يعوِّل المنادون بها على المشاركة التفاعليّة والتسييس الجماهيريّ والمبادرات الشعبيّة بالصعود إلى الواجهة. إذ لم يعد بوسع الجيل الجديد أن يقبل باختزال مشاركته السياسية بمجرد التصويت في الجولات الانتخابيّة المتعاقبة، فظهر اتجاه متنامٍ لـ "ديمقراطية الشارع" ولخيارات الفعل المجتمعي المباشر ولمجموعات "المساعدة الذاتية"، وهي أنماط من تشكيلات أخذت تعبِّر كذلك عن قوى وأطراف يقع بعضُها في هامش خارطة المشاركة المجتمعيّة والسياسيّة، علاوة على قوى وتيارات تقع داخل ساحة المشاركة تلك. وقد اعتنقت بعض تلك المجموعات قناعاتٍ لا ترى جدوى في الأحزاب السياسيّة القائمة ولا في النظم الانتخابيّة المتبعة، معتمدة في ذلك سياسة "افعلها بنفسك" (Do it yourself policy)(1). ومن الواضح أنّ النبذ المتزايد في بعض أوساط الأجيال الجديدة للبُنى الحزبيّة الهرميّة، والميل إلى أسلوب شبكات العمل (Networks)، خاصة مع توفّر خيارات تقنِّيّة واتصاليّة مشجِّعة على تواصل كهذا بمفعول التطوّرات الاتصالية والتقنيّة والإعلاميّة المتلاحقة؛ قد عزّز من قناعة أصحاب اتجاه المشاركة السياسيّة الذاتيّة بقابليّاتهم على التأثير في الساحة دون التعويل على التقاليد الانتخابية أو الاكتفاء بإيصال ممثِّلين "غير مؤتَمَنين" إلى المقاعد النيابيّة لممارسة دور سياسي "غير محسوب العواقب" بالإنابة عنهم. والواقع أنّ آلياتِ التنظيم والتواصل المجتمعيّ المتجدِّدة؛ قد أتاحت فرصاً غير مسبوقة للمجموعات المعنيّة للإحساس بالذات الجمعيّة وبالقدرة على التحريك والتأثير، والتبَلْوُر السريع، بغض النظر عن جدِّيّة فرص التأثير التي تتأتّى عبر ذلك.
__________
(1) Feist, Ursula, S. 54.(1/152)
ويمثِّل "المنتدى الاجتماعي الأوروبي" (European Social Forum) ، الذي يُعَدّ بمثابة الإطار القاريّ الخاص بأوروبا ضمن "المنتدى الاجتماعي العالمي"، الذي اشتهر بمواقفه المطالِبة بكبح جماح سياسات العولمة الاقتصادية؛ نموذجاً ملموساً على تعاظم الاتجاه الذي ينبذ الانخراط في النظم الهرميّة، وتفضيل العمل الشبكي. إلاّ أنّ هناك من يشير إلى وجود بنى هرميّة غير مرئيّة واستقطابات ضمنيّة داخل هذه الأنماط المتجدِّدة من التنظيم المجتمعيّ والسياسيّ. وقد وجّه المفكِّر طارق رمضان، أستاذ الدراسات الإسلاميّة في جامعة فريبورج وأستاذ الفلسفة في جامعة جنيف (سويسرا) في مقال له أثار جدلاً في عام 2003؛ انتقاداتٍ قويّة إلى الحركات المعارِضة لسياسات العولمة، أكّد في سياقها أنّ "الافتقار إلى روح الديمقراطيّة والتفتّح أمر جليّ اليوم داخل حركة المناهضين للعولمة. ليس هناك زعماء، وليس هناك هيكلّ موحّد، وكلّ شيء مطروح للنقاش والجدل وإلى التصويت، والحركة مفتوحة للجميع حسب ما يُقال؛ للأفراد كما للأفكار، للشخصيّات الشهيرة كما للنكرات. لِنَرَ ذلك. في عمق الديناميكيّة يلحظ المرء تواطؤاتٍ قديمة ومصالح مسكوت عنها لكنّه مُقَرّ بها، وممارسات متعارَفة حدّدتها سنواتٌ طويلةٌ من النضال: خلف واجهة اللانمطيّة تختبئ شبكات من التواطؤ والعادات والمصطلحات. فكرةٌ بعينها مصاغة مُسبَقاً عن رموز ومصطلحات النضال الشرعيّ الحقيقيّ الوحيد هي التي تنساق أحياناً إلى الحكم بالضلال على ما لا يشبهها"(1).
__________
(1) www.qantara.de/webcom/show_article.php/_c-345/_nr-15/_p-1/i.html(1/153)
ومقابل هذه الاتجاهات؛ أخذت بعض الأحزاب السياسية تستشعر حاجة متزايدة للقيام بإصلاحات بنيوية داخلها وضمن آليات عملها، رافعة شعارات من قبيل "ديمقراطية القاعدة"(1)مثل ما يتجلى في تجارب أحزاب الخضر وخطابها، كما تأتي في هذا السياق المطالباتُ بانفتاح الأحزاب على المزيد من القطاعات والشرائح المجتمعيّة، واعتماد سياسة "القرب من المواطنين".
يُذكَر هنا أنّ وجود مرشّحين مسلمين يحظَوْن بمعدّلات معقولة من الكفاءة والمصداقية والاحترام لدى الجمهور المسلم على قوائم الأحزاب؛ من شأنه أن يزيد من معدلات إقبال الناخبين المسلمين على الإدلاء بأصواتهم. كما أنّ إيلاء القوائم المتنافسة عنايةً لاهتمامات الناخبين المسلمين من شأنه أن يشجِّعهم على الاقتراع. ويلحق بذلك توجّه الحملات الانتخابية للجمهور المسلم مباشرة، بشتى الأدوات المتاحة لذلك، بما فيها مراعاة الخصائص اللغويّة إن لزم الأمر، وهو ما يشهد بالفعل بعض النموّ في بعض البلدان الأوروبيّة، واتضح مثلاً في الحالة النمساوية في الانتخابات البرلمانية لعام 2002 وفي الانتخابات المحلية في فيينا لعام 2005.
المرأة المسلمة في الحياة السياسية الأوروبية:
مع النموّ العامّ في تجارب المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا، أخذ حضور المرأة المسلمة يبدو ملحوظاً أحياناً وبشكل متزايد ضمن فضاء المشاركتين السياسية والمجتمعيّة، وفي حالات عدّة بات الحجاب حاضراً ضمن هذه المشاركة.
__________
(1) Feist, Ursula, S. 127.(1/154)
فالنائبة المسلمة في البرلمان السويدي، عن الحزب الديمقراطي الاجتماعي الحاكم، مريم عثمان (من أصل أريتري)، استَجوبت في جلسة برلمانية، وزيرة الديمقراطية والاندماج السويدية منى صالين بشأن معاناة المحجبات في سوق العمل السويدي وما يواجهنه من عوائق في هذا الشأن. وقامت مريم عثمان خلال ذلك الاستجواب بارتداء الحجاب كإشارة تضامنية مع المرأة المحجبة في السويد(1).
وفي السويد ذاتها؛ فإنّ السياسية المسلمة المحجبة لمياء العامري (من أصل تونسي)، العضو في المجلس البلدي لاستوكهولم عن دورة 2002 ـ 2006، تمثل نموذجاً لمشاركة المرأة المسلمة في الحياة السياسية، دون أن يعزلها التزامها الديني عن هذه المشاركة.
وقد فازت النمساوية المسلمة (من أصل تركي)، أمينة بولات، وهي التي ترتدي الحجاب، بمقعدٍ عن مجلس لأحد أحياء فيينا، في الانتخابات البلدية التي أجريت في نهاية تشرين الأول (أكتوبر) 2005، في العاصمة النمساوية.
كما بدا نموذج الشابة المسلمة السويسرية نادية صديقي (من أصول باكستانية)، لافتاً للانتباه، إذ رشّحها الحزب الديمقراطي المسيحي للانتخابات في إحدى مقاطعات كانتون تيسّان (تيتشينو) (Ticino)، في العام 2004، خاصة وأنها مسلمة محجبة وعُرف عنها حرصها على الالتزام الديني. وإن لم تكن هذه الشابة المسلمة قد نجحت في الانتخابات؛ فإنّ ذلك لا يُخرِج تجربتها من ساحة المشاركة السياسيّة للمسلمين، والتي تشهدُ في الكانتون ذاته تقدّماً ملحوظاً بالنسبة للسياق السويسري العام، خاصة مع نجاح السياسي المسلم حسن العربي (من أصول مصرية) في انتخابات برلمان محلِّيّ فيه.
__________
(1) الأوروبية (مجلة)، العدد 35، باريس، تموز (يوليو) 2003، ص 9.(1/155)
وعموماً؛ لم يكن حضورُ المرأة المسلمة في الساحة السياسيّة الأوروبيّة نادراً، إذ تمكنت عدد من النساء اللواتي يتحدّرن من بلدان إسلاميّة من التقدّم بالفعل ضمن الأحزاب السياسيّة في عديد البلدان الأوروبيّة، وانتزاع مواقع في البرلمانات المحلِّية والقطرية علاوة على البرلمان الأوروبي ذاته، بل وبشكل كافأ الحضور العددي للرجال المتحدرين من بلدان إسلامية في عدد من الحالات(1).
__________
(1) يبدو أنّ هذه الظاهرة تتطلّب وقفة تحليلية من جوانب عدة، إذ أنها قد تُظهِر من جانب أنّ مخزون الكفاءة السياسية لدى النساء المسلمات في أوروبا قد لا يقلّ أحياناً على ما يمكن توقّعه من الرجال المسلمين، بل ربما يزيد عليه في بعض الأحوال. وقد يطيب لآخرين أن يقرؤوا الأمر على أنه يأتي تعبيراً عن "ردّ فعل" على إقصاء المرأة المسلمة عن المشاركة في الفعل السياسي والمجتمعي. وبالمقابل؛ يمكن النظر إلى ذلك ضمن هامش الفعل الحرّ للمرأة في التجمعات المسلمة في أوروبا، على افتراض أنها لم تجد فرصتها اللائقة في المؤسسات المعبرة عن الوجود المسلم في الفضاء المجتمعي، وهي المؤسسات التي يمكن أن تتحمّل مسؤولية نسبيّة عن إضعاف المشاركة السياسية للمسلمين إذا ما انطوت على مبالغة في البنى الهرمية على حساب الانسيابية والتواصل، أي أنّ إعفاء النساء من التقيّد بكثير من هذه المؤسسات قد يكون أتاح لهم فرص التواصل مع الفضاء المجتمعي المفتوح. وتبقى هذه إجمالاً مجرّد تقديرات أو تخمينات، وهي تشكل تساؤلات تتطلّب البحث والتحليل. لكن ما تجدر دراسته أيضاً؛ احتمال أن يكون نموذج المرأة المتحدرة من العالم الإسلامي، و"المتحرِّرة" من الحجاب والمظهر الإسلامي العام النمطي المرسوم في الصورة الذهنية الرائجة في المجتمعات الأوروبية، له دوره الكفيل بتشجيع بعض النماذج على الارتقاء في مراتب العمل السياسيّ، ولو كان تشجيعاً يتمّ بصورة غير واعية.(1/156)
فعلى سبيل المثال؛ لا يقلّ حضور الأسماء النسائيّة المسلمة في الساحة السياسيّة في فرنسا ودول البينيلوكس عن حضور نظيرتها للرجال المسلمين، بل ربما تقدّمت عليهم. فكما يتّضح بالنسبة للحالة الفرنسية مثلاً؛ تمكّنت أسماء نسائيّة تنتمي إلى خلفية هجرة من بلدان إسلامية من تحقيق تقدّم في انتخابات البرلمان الأوروبي التي أجريت في الثالث عشر من حزيران (يونيو) 1999؛ دون تسجيل أي حضور رجالي من الخلفية ذاتها. وبهذا شغلت كل من ياسمين بوجناح (الشيوعيون)، وطوقية صائفي (الديغوليون) وحليمة بومدين (الخضر) مقاعد في البرلمان الأوروبي عن دورة 1999 ـ 2004.
ولكنّ المؤشِّر الجديد في هذا المضمار والآخذ بالتشكل؛ هو حضور المسلمة المحجّبة أو التي تُظهِر مزيداً من التقدير للدين الإسلامي في المستوى السياسيّ.
ثمّ إنّ التفاوتَ الواضح في بعض البلدان الأوروبية، بين نسبة النساء والرجال ضمن إجمالي من يعتنقون الإسلام، قد يحمل في طيّاته تفسيراً جزئياً للحضور النسويّ البارز أحياناً في ساحة المشاركة المجتمعيّة والسياسيّة لمسلمي أوروبا.
مساجد أوروبا .. وساحة المشاركة السياسية:
إنّ للمسجد في أوروبا دوراً لا يمكن إغفاله في الحياة المجتمعيّة وفي سياق المشاركة السياسيّة، ويمكن توصيف أبرز أدواره النموذجيّة في هذا الحقل، في تحفيز الجمهور المسلم على التفاعل الإيجابيّ مع مسارات المشاركة المجتمعيّة والسياسيّة، والإسهام في ترشيد هذه المشاركة وإنعاشها بفيْض القيم الإسلامية ذات الصِّلة. وإنّ دَوْرَ المسجد في هذا المضمار، الذي يتأتّى أساساً عبر إسهامات الأئمة والخطباء والمحاضرين والوعّاظ، ينبغي أن يحافظ في الوقت ذاته على مسافةٍ من الحصانة عن مزالق الشأن السياسيّ واستقطاباته.(1/157)
وفي سياق المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا بصفتها الراهنة؛ فإنّ المسجد آخذ في اكتساب قَدْرٍ وافِرٍ من ثقله عبر موقعه المحوريّ ضمن تجمّعات الوجود المسلم في البلدان الأوروبيّة، أي أنه محور النشاط المجتمعيّ، وهو ما يُغري السياسيِّين مثلاً للتواصل مع المساجد وجماهيرها وكسب ودّ الأئمة على نحو متزايد ولافت للانتباه في عديد الأقطار الأوروبية، غالباً لجمع الأصوات وتحسين صورة أحزابهم، وأحياناً لنزع فتائل التوتر في المجتمع الواحد في ظلال الأزمات. كما يغري ضرباً آخر من السياسيين لاستهداف المساجد بمواقفهم وسياساتهم، وهو ما تتوفر عليه شواهد عدّة في عدد من بلدان أوروبا.
ولكنّ المسجد له دوره الواضح في مجال تمثيل الاحتياجات الدينيّة وبعض الاهتمامات المجتمعيّة (شؤون الأحوال الشخصيّة مثلاً) والتعبير عن المصالح والمكتسبات المرتبطة بها إزاء المستوى السياسي، سواء بشكل مباشر أو من خلال أطر مختصّة بالتعبير عن ذلك كروابط المساجد أو مجالس الأئمة أو الهيئات الدينية المسلمة وما في حكمها. ثم إنّ المسجد يُفترض أن يضّطلع بدور لا غنى عنه في سياق مساعي التواصل المجتمعيّ وتحقيق التفاهم ونزع فتيل التوتّرات، وهو ما تنهض بشيء منه فعاليات من قبيل "يوم المسجد المفتوح" التي تُنَظّم في معظم البلدان الأوروبيّة، وبات يتمّ تنظيمها في مساجد ألمانيا ككلّ في وقت متزامن في أوقات محدّدة من شهر تشرين الأول (أكتوبر) من كل عام، في جميع الولايات، وذلك في أوسع حملةٍ منتظمة من نوعها، في ما أنّ بعض المساجد والمراكز الإسلامية في أوروبا قد طوّرت هذه الفعاليات ومنحتها زخماً كبيراً، كما عليه الحال بالنسبة للمركز الثقافي الإسلامي بأيرلندا (ICC) الذي يقيم ما يُطلِق عليه اسم "أسبوع الجيرة" كل عام بانتظام وبنجاح لافت للانتباه.(1/158)
ومقابل ذلك؛ فإنّ المسجد بات واقعاً أيضاً على محور الأزمات المتعلِّقة بالوجود المسلم في أوروبا، ليس فقط لوجود حالات من التسيير الخاطئ، أو عدم انضباط أو حكمة لما يُقال من فوق المنابر أو ما يجري من أنشطة في بعض المساجد والمراكز الإسلامية؛ ولكن أيضاً وعلى نحو أهمّ وأوسع نطاقاً؛ تبعاً لمحاولات التحريض على الوجود المسلم في أوروبا والتحريض ضده واستهداف نقاط الحضور والتمركز في هذا الوجود، وليس المسجد أو المركز الإسلامي سوى العنوان الأبرز في هذا السياق.
وتولِّد الحملات السياسية أو الإعلامية على المساجد أو الأئمة في بعض الدول الأوروبية، استياءً في صفوف المسلمين. ففي معرض انتقاده لحادثة خلع إمام مسجد روما الكبير في سنة 2003، على خلفية دعاء من فوق المنبر، أثار ضجّة إعلاميّة في إيطاليا؛ يعلِّق الدكتور علي أبو شويمة، مدير المركز الإسلامي في ميلانو ولومبارديا، على ذلك بالقول "إنّ حرية الكلمة والتعبير جائزة بل حقّ للجميع، ولو تهجّم صاحبُها على كلّ مقدّس وحتى لو سبّ الذاتَ الإلهية، ولكنّها محرّمةٌ وممنوعةٌ على المسلم ولو كان ذلك من قبيل الجهر بالسوء من القول لمن ظُلم. الأمر الآخر هو أنّ خطب الجمعة في أوروبا باتت تحتاج أن تمرّ على وزارات الداخليّة، لكي تملي على الخطباء ماذا يقولون وبماذا يدعون ربّهم، فكأننا في دول العالم الثالث المغلوبِ على أمرها، وبدأنا نشعر بمخالفة الواقع للشعارات. فقبل أن ننقل الديمقراطيّةَ إلى هناك؛ أُعيدت الدكتاتوريّةُ من هناك إلى هنا (أوروبا)"(1).
المشاركة في ظل الأزمات:
__________
(1) أبو شويمة، علي: "كلمة التحرير". الأوروبية (مجلة)، العدد 35، باريس، تموز (يوليو) 2003، ص 4.(1/159)
من الملامح التي تثير الاهتمام، بشأن التفاعل السياسيّ الذي يبديه مسلمو أوروبا، كما يتمثل في إصدار البيانات أو التصريحات المعبِّرة عن مواقف المؤسسات والاتحادات والجمعيات العاملة في صفوفهم مثلاً، أو كما يمكن أن يُلاحَظ حتى عبر مضامين خطب الجمعة في المساجد؛ أنّ ما بات يغلب على كثير منها هو التعليق على التطوّرات سلبيّة الطابع أو الأزمات والفواجع.
إذ يُلاحَظ على سبيل المثال؛ أنه خلال السنوات من 2000 وحتى نهاية 2005؛ برزت سلسلةٌ من التطوّرات الجارفة ضمن أبرز الموضوعاتِ التي انشغلت بها المواقف والتعليقات العامة الصادرة عن أوساط مسلمي أوروبا في فضاء الحضور السياسيّ والمجتمعيّ.(1/160)
وتتمثّلُ هذه التطوّرات في اندلاع انتفاضة الأقصى بدءاً من نهاية أيلول (سبتمبر) 2000، وما تخلّلتها من محطّات لاحقة، كاغتيال أبرز القيادات السياسيّة الفلسطينيّة، والحملات الحربيّة الضارية لجيش الاحتلال. وكذلك قضيّة تفجير تماثيل بوذا في باميان بأفغانستان إبان عهد طالبان، في ربيع سنة 2001، وهجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 التي تمثل نقطة تحوّل في هذا الاتجاه، بينما لوحظ في أوساط مسلمي أوروبا اهتمامٌ ثانويّ فاتر في التعليق التنديديّ بالحرب على أفغانستان في خريف 2001 (التي جاءت في ظلال صدمة 11/9)، بالمقارنة مع سلسلة التفجيرات والهجمات المروِّعة التي شهدتها مناطق عدّة من العالم. ومن بعد جاءت الحربُ على العراق التي انطلقت في آذار (مارس) 2003، وكافة تطوّرات الوضع العراقيّ الملتهب في ما بعد؛ موضوعاً لسلسلة من المواقف والتصريحات والبيانات للمؤسسات الإسلاميّة والقيادات المجتمعيّة والسياسيّة المسلمة في أوروبا. وقد برزت أيضاً "قضيّة الحجاب"، المتمثِّلة بالتوجّه الرسميّ الفرنسيّ لحظر الحجاب وإصدار قانون حظر الرموز الدينيّة البارزة (2003 ـ 2004). كما تبلور اتجاه قويّ لإصدار المواقف بشتى الصور في سياق مسلسل الاختطافات في العراق لأشخاص أوروبيِّين، خاصة مع ما واكَبَها من مناشدات من جانب مسلمي أوروبا للإفراج عن الرهائن وزيارات حميدة متكرِّرة إلى بغداد لهذا الغرض. ومن التطوّرات الأخرى التي برزت؛ تفجيرات قطارات مدريد في 11 آذار (مارس) 2004، وأزمة العنف المجتمعيّ في هولندا على خلفيّة التحريض ضد الإسلام واغتيال المخرج تيو فان غوخ في خريف 2004، ثم تفجيرات وسائل النقل العام في لندن في 7 من تموز (يوليو) 2005، وصولاً إلى اندلاع أزمة الرسوم الدانمركيّة المسيئة للمقام النبويّ الشريف، بدءاً من خريف وشتاء 2005.(1/161)
ويكشف هذا التلاحقُ المتسارع في التطوّرات والفواجع، حجم الظروف الضاغطة في غضون السنوات الأخيرة، والتي استشعر مسلمو أوروبا، عبر هيئاتهم ومؤسساتهم وجمعيّاتهم وقياداتهم المجتمعيّة وسياسيِّيهم؛ أنّ عليهم مواكبَتَها والتعليقَ عليها أو ربما محاولة التأثير في مجرياتها أو التخفيف من تداعياتها. وقد ترتّب على ذلك طابعٌ عام من الحضور الإعلاميّ والسياسيّ في ظل الأزمات، وهو يمثِّل عِبئاً بحدِّ ذاته، إلاّ أنّه أبرَزَ دوراً متزايِداً للأطراف التي يُفترَضُ أنها تُعبِّرُ عن المسلمين أو حتى تمثِّلهم، في المستويين السياسيّ والإعلاميّ. فمن الناحية السياسيّة؛ تزايدت الحاجةُ إلى من يتمّ التعامل معهم من المسلمين، أو إلى "شركاء حوار"، أما من الجانب الإعلاميّ؛ فقد اكتسبت مواقفُ الهيئاتِ والأطراف والشخصيّات المسلمة وزناً إعلاميّاً أكبر، وبدت موضعَ اهتمامٍ متزايد، خاصة في ظلّ بعض المنعطفات الحرجة التي تزاحمت خلال السنوات الستّ (2000 ـ 2005).(1/162)
وليس من الدقّة أن يُعَدّ ذلك الاهتمامُ السياسيّ والإعلاميّ المتزايد، على أنه يعني وبشكل تلقائيّ تزايداً في الفعاليّة والقدرة على التأثير في الساحتين السياسيّة والإعلاميّة، ذلك أنه يأتي هنا في سياقات مأزومة غالباً، وضمن ملابسات تكتسب من الناحية الإجمالية طابعاً سلبيّاً، مهما تحقّق في ثناياها من مكاسب عَرَضيّة أو ثانويّة، علاوة على أنها أبرزت نزعةً اعتذاريّةً، أو أحياناً لهجةً دفاعيّةً، في بعض صفوف مسلمي أوروبا ومؤسّساتهم. فلا ريب مثلاً أنّ التحوّلات التي أفضى إليها منعطف الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001؛ حملت تراجعاتٍ عدة في ما يتعلّق بأوضاع المسلمين في عدد من بلدان أوروبا في أكثر من مضمار. كما أنّ سلسلة التفجيرات والهجمات المروِّعة حول العالم، خاصة ما وقع منها داخل أوروبا؛ قد جرّ أضراراً متشعِّبة على واقع الوجود المسلم في هذه القارّة. أما في حالاتٍ أخرى؛ فقد بدا أنّ تدخّلات المسلمين، بالأشكال التي اتخذتها ومستوى الأداء وطبيعة الخطاب؛ لم تُجدِ نفعاً في درء سياسات أو خطوات تنتقص من حقوقهم وحريّاتهم، وفق ما يتمثل في "قضية الحجاب" في فرنسا مثلاً.(1/163)
وحتى في الحالات التي استطاع فيها مسلمو أوروبا أن يساهموا فيها في التفاعل مع الشأن السياسيّ، كما في موجة المظاهرات التي عمّت أوروبا في النصف الأول من عام 2002 تنديداً بالحملات الحربية لقوات الاحتلال في فلسطين، وكما في مظاهرات التحذير من شنّ حرب على العراق بدءاً من خريف 2002؛ فإنّ ما كان واضحاً هو تركيز الجهود على الفعل السياسي الجماهيريّ أو المواقف الإعلاميّة التقليديّة، دون بروز أدوات أمضى نفاذاً في مسارات الفعل السياسيّ وأكثر تشابكاً معه. وقد بدا بوضوح أنّ الأداءَ السياسيّ للمسلمين قد اتخذ سمةً موسميّةً في كثير من الساحات الأوروبيّة، ولم تتوفّر أطرٌ أو أدواتٌ للمسلمين تتيح التواصُلَ السياسيَّ "المحترف" في معظم دول أوروبا ضمن هذه الملفّات أو غيرها، رغم وجود بعض النماذج الناهضة في بلدان قليلة وحالات محدودة.
ولدى تتبّع خلفيّات ذلك ضمن نطاق المسلمين أنفسهم؛ فإنه لا يمكن فهمُهُ على أنه مرتبطٌ بأداءِ السياسيِّين المسلمين في أوروبا وحدهم، ولا بالهيئات والمؤسسات والجمعيات وحسب؛ وإنما بمجمل الأطراف والعوامل المتعلِّقة بالمسلمين، ومدى تطوّر الثقافة السياسيّة، بل وأنماط الحضورِ المجتمعي وتجلِّياته. وتُضاف إلى ذلك مجملُ العوامل الموضوعيّة والتطوّرات والملابسات ذات الأثر.(1/164)
ورغم أنه قد جرى الاهتمامُ ببعض التطوّرات الاعتياديّة، التي تخرج عن نطاق الأزمات، مثل الجولات الانتخابية على نحو خاص، كما اتضح مثلاً في انتخابات البرلمان الأوروبي لعام 2004؛ فإنّ ذلك لا ينفي واقع أنّ المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا ما زالت من الناحية الإجماليّة بعيدة عن الانشغال باتجاهات مؤثِّرة وهامّة، من قبيل الإسهام في وضع جدول الأعمال (Agenda Setting) في الساحتين السياسيّة والمجتمعيّة، أسوة بما تسعى إليه في العادة الأطرافُ المجتمعيّةُ الفاعلة. ولا يعني ذلك عدم وجود محاولاتٍ أو تجارب في أوساط مسلمي أوروبا في هذا الجانب؛ لكنّ الواضح أنّ السمة العامة هي أنّ تفاعلهم مع الشأن السياسي يبدو أقرب إلى طابع ردود الأفعال والأداء الموسميّ الذي يفتقرُ إلى الاستمراريّة والتواصل والاستقرار، خاصّة مع الافتقار إلى منظومة مؤسسيّة مستقرّة معنيّة بمتعلقات العمل السياسيّ، كمؤسّسات الاستشارات والخدمات، ومراكز البحوث والدراسات الكفؤة، ومؤسسات التفكير المعروفة باسم "دروع الأفكار" (Think Tanks)، و"مجموعات المصالح" الفاعلة(1)، ومؤسّسات المعلومات والإعلام، والجمعيّات الحقوقيّة ذات الصوت المسموع والأداء الضاغط، وغير ذلك.
__________
(1) في واقع الأمر؛ يمكن لكبريات المؤسسات الإسلامية في أوروبا أن تُصنّف على أنها "مجموعات مصالح"، لكونها تعبِّر عن مصالح واهتمامات قطاعات من أفراد المجتمع، لكنّ الواضح أنّ درجة فعالية هذه المؤسسات يبقى موضع تساؤل، خاصة وأنّ كثيراً منها يفتقر إلى الهيئات والآليات النظامية لتسيير شؤونها، فضلاً عن مدى التزامها بالنظم التي وضعتها لذاتها في مجال التسيير. ومع ذلك؛ فقد تبلورت على مستوى بعض الأقطار الأوروبية مؤسسات فاعلة للمسلمين، وكذلك على الصعيد الأوروبي القاريّ، تحاول أن تردم الفجوة في هذا الجانب.(1/165)
ومع هذا؛ فلا يمكن تجاهل أهمِّيّة ردود الأفعال أو التحرّكات المتقطِّعة أو الأداء موسميّ الطابع بالنسبة لفُرَصِ إنعاشِ المشاركة السياسيّة للمسلمين. فمن جانب؛ يمكن التسليمُ بأنّ ذلك كلّه يندرج إجمالاً ضمن المشاركة السياسيّة، وإن بشكل غير مباشر، ولكنّ الأهم ربما؛ هو أنّها تمثِّل، من جانبٍ آخر، إرهاصاتٍ تُؤذِنُ غالباً بمزيدٍ من النموّ التراكميّ، أو أنها تحمل في ذاتها مؤشِّراتِ نهوضٍ على صعيد تلك المشاركة. فعبر التحركات الجماهيرية المتكرِّرة؛ من المألوف أن تتحوّل لجانُ العمل والتنسيق المؤقّتة إلى أطر أكثر استقراراً وربما إلى جمعيّات ومنظّمات، قد يضطلع بعضُها بدور فاعل(1).
__________
(1) كمثال على ذلك؛ فإنّ أحزاب الخضر تشكّلت في الأصل من تجمع قوى وأطراف مجتمعية عدة تبلورت ضمن فعاليات جماهيرية تطالب بحماية البيئة، كما أنّ حزب "الاحترام" البريطاني تشكّل امتداداً لموجة المظاهرات الجماهيرية الحاشدة التي شهدتها لندن للتحذير من شنّ حرب على العراق. أيضاً فإنّ المظاهرات المناهضة للعنصرية التي شهدتها بعض دول أوروبا في أعقاب تنامي الموجة العنصري أو المعادية للأجانب؛ قد أفضى بعضها إلى تشكيل مؤسسات ولجان دائمة للعمل الحقوقي ومناهضة العنصرية، كما في حالة منظمة "إس أو إس متمنش" (SOS Mitmensch) النمساوية مثلاً. ومما يلفت الانتباه على نحو خاص، أنّ الانتخابات البرلمانية النمساوية لسنة 1999 التي شهدت صعوداً قوياً لحزب الحرية (FP?) الذي يقف على أقصى يمين الساحة السياسية والذي خاض الانتخابات بشعارات مناهضة لمن يُوصَفون بالأجانب؛ جاءت إيذاناً بانطلاق مرحلة جديدة إلى حدّ كبير من مشاركة مسلمي النمسا في الساحتين المجتمعية والسياسية، وهو ما تؤكده الهيئة الدينية الإسلامية الرسمية في النمسا..انظر مثلاً مقالاً لكارلا آمنة بغجاتي، المسؤولة الإعلامية بالهيئة الدينية الإسلامية بالنمسا، حمل عنوان "المسلمون في النمسا ـ أي دور مجتمعي يضطلعون به؟"، وقد عممته الهيئة على وسائل الإعلام في السادس من كانون الأول (ديسمبر) 2004، في الذكرى الخامسة والعشرين لتأسيسها:
Baghajati, Carla Amina (Medienreferentin der IGGi?): „Muslime in ?sterreich – Welche gesellschaftliche Rolle spielen sie?“. (Essay), Wien, 2004.(1/166)
وبنظرةٍ مستقبليّةٍ يمكن القولُ؛ إنّ المؤشِّرات المتاحة تتّجه إلى تبلوُر أشكالٍ أكثر استقراراً للمشاركة السياسيّة لمسلمي أوروبا، وقيام منظومةِ مؤسساتٍ رديفةٍ وهامّة لتعزيز تلك المشاركة، وذلك امتداداً للإرهاصاتِ الملموسة، كما تقدّم، وبناءً على استشعارٍ متزايد للحاجة إلى تفاعلٍ أكثر كفاءة وفعالية وتأثيراً مع الشأن السياسيّ، بناء على خبراتِ مسلمي أوروبا خلال السنوات الماضية وصدماتها في هذا الشأن.
الفصل الخامس:
مسلمو أوروبا الشرقية والمشاركة السياسية
أولاً/ التحوّل في النظم السياسيّة في أوروبا الشرقيّة ـ لمحة موجزة:
لقد أُعيد تشكيل الساحة السياسية في دول شرقيّ أوروبا، بمفعول عاملين اثنين متتابعين، أولهما انهيارُ نظم الحكم الشيوعي، وثانيهما إعادة تشكيل الخارطة السياسية في هذا الشطر من القارة، مع ما رافقه من توتّرات وأزمات، بل وحروب طاحنة كان المسلمون هم أبرز ضحاياها بلا منازع. وقد نشأت دولٌ جديدةٌ من رحم هذه التحوّلات في غضون العقد الأخير من القرن العشرين.
فمع نهاية الثمانينيات من القرن العشرين طرأت الانعطافةُ التاريخيّةُ في شرقيّ أوروبا، عبر وصول مسيرة التغيير فيها إلى مرحلة النضج المفاجئ. جاء ذلك بعد سلسلةٍ من الإرهاصات البطيئة، أبرزُها اجتياح السوفيات للعاصمة المجرية بودابست في عام 1956 للإطاحة بالحكم الإصلاحي، وتقويض موسم الإصلاحات المؤقّت في تشيكوسلوفاكيا الذي عُرف باسم "ربيع براغ" في عام 1968، وتحرّكات نقابة عمّال "تضامن" (Solidarno??) البولنديّة منذ مطلع الثمانينيات، بينما تركت المبادراتُ الإصلاحيّةُ للسكرتير العام للحزب الشيوعي السوفياتي ميخائيل غورباتشوف عبر "بروسترويكا" (الإصلاح) و"غلاسنوست" (الشفافية) آثارَها الكبيرة، إلى أن انهار سور برلين.(1/167)
إذ بدا من الواضح في ذلك الحين أنّ تلك الخطوات قد شكّلت مناخاً جديداً في أوروبا الشرقية، اكتسبت فيه شعوبُ الدول الاشتراكيّة جرأةً غير مسبوقة في انتقاد ديكتاتوريّة الأحزاب الشيوعيّة الحاكمة.
كانت الظروفُ الاقتصاديّة المتردِّية، وغياب الحريات، وترهّل الأوضاع بفارق ملحوظٍ عمّا عليه الحالُ على الجانب الآخر من "الستار الحديدي"؛ قد أفرز في مجموعه حالةً مثيرةً لحنق الجماهير، بينما كانت صورة الجيش السوفياتي المنسحب من أفغانستان عام 1988 قد تمرّغت في الأوحال، بعد الهزائم التي تعرّض لها.
وقد شهد العام 1989 تداعي الهياكل الحمراء الهشّة للسقوط تباعاً، وكانت بولندا هي البداية عندما التأَمت "محادثات المائدة المستديرة" بين الحكومة ونقابة "تضامن" في السادس من شباط (فبراير) من عام 1989، والتي أسفرت عن صعود ليخ فاليسا وفريقه المعارض.
لم تكن مفاجأةً أن تبعث تلك الخطوة بأصداء مدوِّيةٍ في كافة أرجاء "العالم الاشتراكي"، فسارعت بودابست وفي أقل من أسبوع إلى تأييد نظام تعدّد الأحزاب، وكان الحزبُ الشيوعي المجري بخطوته التاريخيّة تلك قد كسر حاجزاً كبيراً أدّى إلى ارتفاعِ أصواتِ القوى المنادية بالانفتاح وبالإصلاحات السياسيّة في شرقيّ أوروبا من جانب؛ وإلى تشدّد القوى المتصلِّّبة من جانب آخر. فالحزب الشيوعي في تشيكوسلوفاكيا أبدى تصلّباً كبيراً في تعاطيه مع الموقف، بل وشرع في محاكمة الأديب الشهير آنذاك فاتسلاف هافل، في العشرين من شباط (فبراير) 1989.
لقد انتهت اجتماعاتُ المائدة المستديرة في وارسو في السادس من نيسان (إبريل) 1989، لتمهِّد لانتخابات بولندية "حرّة" في أوائل حزيران (يونيو) من ذلك العام؛ انتصرت فيها المعارضة بشكل ساحق.(1/168)
وفي إشارة ترمز للرغبة في خوض تحوّل تاريخيّ؛ قامت المجر في منتصف حزيران (يونيو) 1998 بإعادة دفن الزعيم الإصلاحي إمري ناغي بصورة تكريميّة. وكان ناغي قد تولّى رئاسة الوزراء في المجر بين عامي 1953 و 1955، واتبع نهجاً انفتاحياً خلال عهده، ثم تولّى رئاسة الوزراء مجدّداً في العام 1956 عقب الإطاحة بالقيادة الستالينيّة للحزب الشيوعي، وبعد أن طالب بانسحاب بلاده من حلف وارسو تدخّلت القوات السوفياتية وأطاحت بالحركة الإصلاحية، بينما جرى اقتياد ناغي إلى رومانيا، ثم أُعدم في وقت لاحق في المجر.
وفي نهاية حزيران (يونيو) 1989 تهاوى أحد رموزِ العهد الشيوعيّ، عندما قام المسؤولون المجريون والنمساويون بإزالة الأسلاك الحدودية الكثيفة التي عُرفت باسم "الستار الحديديّ" المقامة على الحدود بين البلدين، وسط اهتمام إعلاميّ كبير. وأُعلن في الشهر التالي في بودابست عن "انتخابات حرّة" ستشهدها البلاد في العام المقبل (1990).
ولم تكن ألمانيا الشرقيّة بعيدةً عما يجري. إذ كان الشارع الألماني الشرقيّ في تلك الأثناء على موعدٍ مع الخروج من صمته. فابتداءً من آب (أغسطس) من العام ذاته؛ شرعت جماهير غفيرة من مواطني "جمهورية ألمانيا الديمقراطية" بالهجرة الجماعيّة إلى الغرب، عبر المجر وتشيكوسلوفاكيا وبولندا، مستفيدين من تخفيف القيود على السفر في المجر عقب سقوط "الستار الحديدي". وجاءت زيارة ميخائيل غورباتشوف إلى برلين الشرقية في تشرين الأول (أكتوبر) 1989 على ضوء تلك التطوّرات، لتُفضي إلى استقالة الرئيس الألماني الشرقي هونيكر من منصبه في الثامن عشر من الشهر ذاته، فجاء خليفتُه كرينتز ليَعِد بعهدٍ من التحوّل في البلاد.
ولم تَمْض سوى أيامٍ معدودات؛ حتى تهاوى جدارُ برلين، وقد مهّدت تلك الخطوة التاريخيّة لوحدة البلاد في العام التالي، بعد أن أعطى الاتحاد السوفياتي الضوءَ الأخضر لذلك.(1/169)
وسرعان ما جاءت استقالةُ شيفكوف بوصفه رئيساً للدولة وللحزب الشيوعي البلغاري في العاشر من تشرين الثاني (نوفمبر) 1989، ومهّدت تلك الخطوة لانعقاد "مؤتمر الطاولة المستديرة" في صوفيا أواخر العام نفسه، والذي حسم مستقبلَ البلاد باتجاه "الديمقراطيّة". ثم تسارعت وتيرةُ الأحداث في العواصم الأخرى التي لم تحسم أمرَها، إذ اندلعت "الثورة المخمليّة" (أو الناعمة) في تشيكوسلوفاكيا في السابع عشر من تشرين الثاني (نوفمبر) 1989، والتي أفضت في الأيام الأخيرة من ذلك العام إلى صعود المعارض فاتسلاف هافل إلى دفّة الرئاسة في براغ، ليكتمل مسار التحوّل في تلك الفيدرالية.
أما في رومانيا؛ فلم يستغرق التغييرُ أكثرَ من أسبوع، لكنه جاء دامياً وعنيفاً. فقد جرى ذلك عندما اندلعت في الثامن عشر من كانون الأول (ديسمبر) 1989 اضطراباتٌ ضاريةٌ انتهت بإعدام الديكتاتور نيقولاي تشاوشيسكو وزوجه أمام وسائل الإعلام بعد أسبوع واحد.
وهكذا انقضى العام 1989 ليجعل مستقبل ما تبقى من "العواصم الحمراء" في مهب الريح، إذ لم يقتصر التغييرُ في العامين اللاحقين على تفتّت الكتلة الشرقية؛ بل وانهارت النظم الشيوعية بالكامل من أوروبا، وتفتّتت جمهورياتُ الاتحاد السوفياتي العملاق، وانتهت الحرب الباردة رسمياً.(1/170)
ومع هذا الانهيار؛ صعدت القوميات إلى واجهة المشهد السياسي، واحتدمت الصراعاتُ، وتفتّتت بعض الدول بشكل حربي أو عنيف (مثل يوغسلافيا) أو بصفة سلميّة وتعاقدية (مثل تشيكوسلوفاكيا). وبينما انعتقت ألبانيا، وهي الدولة الأوروبيّة الوحيدةُ ذات الأغلبيّة المسلمة حتى ذلك الحين، من العهد الشيوعي؛ فإنّ نشوءَ جمهورية البوسنة والهرسك ذات الأغلبية المسلمة أيضاً جاء إيذاناً بحرب استصاليّة ضارية (1992 ـ 1995) أضعفت فُرَصَ هذه الدولة الناشئة وفرضت نموذجاً استثنائياً للحكم فيها (شطر محكوم بالشراكة بين البوسنيِّين المسلمين والكروات، وشطر مخصّص لجمهورية صرب البوسنة ويقوم على الأراضي التي احتلتها القوات الصربية في الحرب). كما أنّ إقليم كوسوفا بأغلبيته الألبانية المسلمة، شهد في سنة 1999 حرباً بين قوات حلف شمال الأطلسي "ناتو" والقوات اليوغسلافية التي أُرغِمت على الخروج منه. وما زال الكيان الكوسوفي مفتَقِراً إلى الشخصيّة القانونيّة المستقلةّ، منذ ذلك الحين.
ومع ذلك؛ فإنّ التحوّل السياسيّ في دول شرقيّ أوروبا، قد أتاح فرصةً لتجديد الحضور المسلم في هذه البلدان، سواء تلك التي تتركّز فيها أقلِّيّات مسلمةٌ كبيرةٌ، مثل رومانيا وبلغاريا وأوكرانيا، أو لغيرها من الدول، مثل بولندا وتشيكيا وسلوفاكيا والمجر وما عداها من الدول التي التحق معظمُها بالاتحاد الأوروبي، والتي أخذ الوجودُ المسلم الحديثُ والمحدودُ في حجمه يتشكّل أساساً من خلال حضورِ المهاجرين والمقيمين بصفة مؤقّتة كالطلبة، علاوة على الأعداد المتزايدة من معتنقي الدين الإسلامي من المواطنين الأصليين.
ويجِدُ الحضورُ المسلم في دول شرقيّ أوروبا، ذاتَه جزءاً من بيئةٍ أُعيد تشكيلُ الثقافة السياسيّة فيها بصفةٍ جذريّة، بل ما زالت بعض أشواطِ عمليّة إعادة التشكّل مستمرةً في مسارات عدّة، سياسيّاً ومجتمعيّاً.
ثانياً/ خصوصيات المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا الشرقية:(1/171)
تكتسب المشاركةُ السياسيّة للمسلمين في بلدان شرقيّ أوروبا ملامحَ ودلالاتٍ وأبعاداً متباينةً بوضوح عن واقع تلك المشاركة وملابساتها في غربيّ القارة ووسطها. كما أنّ التبايُنات تبدو ماثلةً بين بلدٍ أوروبيّ شرقيّ وآخر، في ما يتعلق بالمشاركة السياسية للمسلمين.
ويعود السبب في هذا التباين في واقع المشاركة السياسية للمسلمين بين شرقيّ القارة وغربيِّها، إلى العوامل التالية أساساً:
1/ تركُّز الوجود المسلم التاريخيّ، من السكان الأصليِّين، في بلدان شرقي أوروبا، وخاصة في البلقان، وهو ما يجعل المشاركةَ السياسيّة تتعلّقُ بمواطنين ضربت جذورُهم في أعماق البيئة التي يعيشون بين أكنافها.
2/ التحوّل الذي طرأَ على بلدان شرقيّ القارّة الأوروبيّة، في نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات، وهو ما ترتّب عليه إعادة تشكيل الساحتين السياسية والمجتمعية، وإعادة إنتاج الثقافةِ السياسيّة، لكل بلد من هذه البلدان المتحوِّلة عن العهد الشيوعي، بما في ذلك إعادة تعريف عملية المشاركة السياسيّة ذاتها. وقد نشأت في أعقاب ذلك التحوّل أحزابٌ سياسية جديدة، وشهدت الساحة السياسيّة اصطفافات عدّة، وما زالت على نحو عام أقلّ ثباتاً مما عليه الحال في غربيّ القارة الأوروبيّة. وتلحق بتلك التحوّلات مساعي عواصم شرقي أوروبا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وهو ما أفلَحت فيه عدد من دولها في ما أنّ دولاً أخرى ما زالت بانتظار دورِها في العضويّة.
3/ المسلمون في بلدان شرقيّ أوروبا، يشكِّلون الأغلبيّةَ السكانيّة أو نسبةً سكانيّة كبيرة في بعض تلك البلدان أو ضمن أقاليم بعينها فيها، في ما أنهم يمثِّلون أقليّات ذات نسبة لا يمكن تجاهلها في بلدان أو أقاليم أخرى ضمن الفضاء الأوروبي الشرقيّ. ويعني ذلك أنّ المشاركةَ السياسيّة للمسلمين، لها، من هذا الوجه، من الأهمِّيّة والوزن والخصوصيّة ما قد يتوفّر لنظيرتها بالنسبة لمسلمي أوروبا الغربية.(1/172)
4/ إنّ عدداً من بلدان شرقيّ أوروبا شهدت حروباً طاحنةً وصراعاتٍ داميةً ذات صلة ما بالوجود المسلم فيها، في ما أنّ بلداناً أخرى قد عرفت حالاتٍ من الاضطهاد والاستهداف والتضييق بحق ذلك الوجود بشكل أو بآخر. وإجمالاً؛ يمكن القول إنّ الوجود المسلم في شرقيّ أوروبا لم يتعافَ في كثيرٍ من بلدان تلك المنطقة من الأزمات والتوتّرات المتعلِّقة به بشكل مباشر أو غير مباشر. أي أنّ الساحة السياسيّة ما زالت في عديد بلدان شرقي أوروبا؛ محفوفةً بأماراتِ الاضطراب وملابساتِ إعادة التشكّل وهي إجمالاً أقلّ استقراراً عما عليه الحال في غربيّ القارّة الأوروبيّة، وهو ما يبرهنُ عليه وجودُ قوّاتٍ أجنبيّة لـ "حفظ السلام"، وهيئات مختصة بمراقبة الأوضاع وتكييفها مثل الأجهزة المنبثقة عن "منظمة الأمن والتعاون في أوروبا" (OSCE).
5/ إنّ المسلمين في عديد هذه البلدان يختلفون في طبيعتهم عن مسلمي أوروبا الغربية، في واقع التجانس النسبيّ الذي يطبعُ حضورَهم في كلّ بلدٍ أو إقليم أوروبيّ شرقيّ على حدة، بالمقارنة مع واقع التنوّع الملحوظ في ما يتعلّق بمسلمي غربي أوروبا. وتبعاً لذلك؛ فإنّ تعريف المسلمين لا يجري في هذه البلدان أو الأقاليم بناءً على دينِهم بالضرورة، بل ربما على أساس المجموعة القوميّة أو العرقيّة أو اللغويّة التي ينتمون إليها، مثل ما يجري في حالة الألبان في إقليم كوسوفا، أو حالة من يُصَنَّفون على أنهم "أتراك" في تراقيا الغربية (اليونان)، وكذلك في بلغاريا، أو حتى رومانيا، ومثل حالة الأقلية التترية في أوكرانيا ولتوانيا وبولندا. بل إنّ تصنيف "المسلمين" في البوسنة والهرسك يُورَدُ للدلالة على مجموعة دينيّة وعلى القومية البوسنية المسلمة (البوشناق) على حدٍّ سواء. ويترتّب على هذه التصنيفات اكتساب المشاركة والحضور من جانب المسلمين في الساحة السياسيّة طابعاً قومياً أو إثنياً قد يبرز أو يضمحلّ بحسب خصوصيّات كل حالة.(1/173)
6/ إنّ الوجودَ المسلمَ في بلدان شرقيّ أوروبا لديه من بعض المقدِّرات والمقوّمات ما لا يتوافرُ لنظيره في غربيّ القارة الأوروبيّة بالصورة المماثلة في الغالب، من قبيل الهيئاتِ الدينيّة الرسمية (كالمشيَخات ودور الفتوى ورئاسة العلماء وما في حكمها)، والأعيان والمنشآت الوقفية (وإن كانت مُصادَرةً أو مسلوبةً أو مطموسةً في معظمها)، ووسائل الإعلام المسموعة والمرئيّة والمطبوعة والإلكترونيّة، وغير ذلك من المقدِّرات، وهو ما من شأنه أن ينعكس على فرص المشاركتين المجتمعيّة والسياسيّة للمسلمين بتأثيرات شتى.(1/174)
7/ إنّ المسلمين في شرقيّ أوروبا قد عمَدوا إلى إنشاءِ أحزابٍ سياسية معبِّرة عنهم، أو شاركوا في تأسيس أحزابٍ "مختلطة" تجمعهم وقطاعاتٍ أخرى من الساحة السياسيّة، وقد شارك بعضُ هذه الأحزاب في الحكم بالفعل. وتبقى هذه خصوصيّة لتجارب المشاركة السياسية لمسلمي شرقيّ أوروبا بالمقارنة مع مسلمي غربيّ القارة ووسطها. أي أنّ مسألة تمثيلِ المسلمين في الساحة السياسية قد قطعت بعض الأشواط، وعلى نحو يفترق عن ظروف تمثيل المسلمين سياسياً في غربي القارة. فمثلاً؛ يحاول قطاع من مسلمي بلغاريا تنظيم قواهم السياسية ضمن حزب "حركة الحقّ والحرية"، الذي أحرز في الانتخابات العامة التي أجريت في 17 حزيران (يونيو) 2001 تقدّماً بحصوله على ما نسبته 6.75 في المائة من أصوات الناخبين، ليتربّع على 21 مقعداً من مقاعد البرلمان البلغاري (من أصل 240 مقعداً)، وشارك بموجب ذلك في الائتلاف الحكوميّ. وعلاوة على ذلك؛ فإنّ مهام تمثيل المسلمين تضطلع بها أيضاً القيادات الدينيّة الرسميّة، كالمشيخات ودور الإفتاء ورئاسات العلماء. فعلى سبيل المثال؛ فإنّ دار الإفتاء لمسلمي رومانيا، التي يرأسها المفتي، تُعَدّ الجهة الممثِّلَةَ للمسلمين في البلاد، وهي تضمّ مجلساً للشورى ومجلساً إدارياً، ويتم انتخاب المفتي بالاقتراع السري من مجلس الشورى. وحينما يتم انتخاب المفتي يُسجّل في وزارة الأديان الرومانيّة بصفته ممثلاً للطائفة المسلمة في رومانيا، وتقوم وزارة الأديان بانتداب مراقبين لها أثناء عملية انتخاب منصب المفتي، وبعد ذلك يتمّ اعتماد المفتي من قبل رئيس الجمهورية الرومانيّة. وبموجب موقعه؛ يحمل مفتي المسلمين في رومانيا جواز سفر دبلوماسياً، كما أنه يُعتَبر الناطق والممثل الرسميّ للمسلمين في بلاده(1).
__________
(1) اللقطة، علاء: "الإسلام في رومانيا". الأوروبية (مجلة)، العدد 15، باريس، تشرين الثاني (نوفمبر) 1999، ص 37.(1/175)
8/ إنّ فكرة المشاركة السياسيّة للمسلمين، على النحو المطروح في واقع الوجودِ المسلم في أوروبا الغربيّة والوسطى؛ لا تبدو متوافقةً إلى حدٍّ كبير مع ما عليه الحال في عدد من الدول أو الأقاليم في شرقي أوروبا ذات الأغلبية المسلمة، كون مساحة التنافس السياسيّ الواسعة تقع ضمن نطاق الوجود المسلم ذاته أحياناً. أي من الصعب تحديد أطراف بعينها تعبِّر عن المشاركة السياسية للمسلمين في عددٍ من بلدان شرقيّ أوروبا، بالنظر إلى التعدّد، الكبير غالباً، في ساحة المسلمين أنفسهم، وبالقدر الذي قد يوحي بالتشرذم السياسيّ أحياناً. فمثلاً في الانتخابات الرئاسية التي شهدتها البوسنة والهرسك في 5 تشرين الأول (أكتوبر) 2002، خاض متنافسون عن سبعة أحزاب أساسيّة عن "القوميّة" البوسنيّة المسلمة (البوشناق)، هذه الانتخابات، بخلاف المرشّحين عن القوميّة الكرواتيّة بالبوسنة وعن صرب البوسنة. والمرشّحون للرئاسة عن البوشناق هم كلّ من سليميان تيهيتش عن "حزب العمل الديمقراطي" (Stranka Demokratske Akcije)، وحاز على 37.3 في المائة من الأصوات، وحارث سيلايجيتش عن "الحزب للبوسنة والهرسك" (Stranka za Bosnu i Hercegovinu)، وحاز على 35.8 في المائة، وعلي (عليّا) بيهيم عن "الحزب الديمقراطي الاجتماعي" (Socijaldemokratska partija Bosne i Hercegovine)، وحصل على 17.5 في المائة، وفكرت عبديتش عن "جماعة الشعب الديمقراطي" (Demokratska Narodna Zajednica) وهو من جيب بيهاتش المعزول نسبياً، وأحرز 4.1 في المائة، وفاروق باليّاجيتش عن "الحزب البوسني" (Bosanska stranka)، والذي لم يحصل على أكثر من 1.9 في المائة، بينما حصل أمير زلاتار عن "الحزب البوسني الهرسكي الوطني" على 1.3 في المائة، وأما راديم كاديتش عن "الحزب الديمقراطي الليبرالي" فحصل على 1 في المائة فقط من الأصوات.(1/176)
9/ إنّ بلدانَ شرقيّ أوروبا، ومنذ التحوّل عن الشيوعيّة، بقيت مسكونةً بآمال اللحاق بأوروبا(1). ولا شكّ أنّ نزعةَ التوجّه غرباً تترك انعكاساتها على المشهد السياسيّ العام وبعض تفاصيله، وعلى الأولويات المطروحة على جدول الأعمال السياسيّ. وفي المحصلة؛ يمكن العثور على حالة انشدادٍ لدى عديد الأطراف السياسيّة في هذه البلدان للغرب، سواء الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة، وقد بقي هذان القطبان قادِرَيْن على التأثير في التوازنات السياسيّة الداخلية في بلدان شرقي أوروبا بصفة نافذة.
كما لوحظ هذا التأثير في ما يتعلّق بالأطراف المعبِّرة سياسيّاً عن المسلمين، من قبيل التوجّه الغربي الملموس بعد نهاية حرب البوسنة والهرسك، لتهميش دور "حزب العمل الديمقراطي" (SDA)، ومعه دور الرئيس البوسني السابق ورئيس الحزب علي عزت بيغوفيتش، رغم أنّ هذا الحزب قد اعتُبر المعبِّر عن مسلمي البوسنة والهرسك، وجاء هذا التأثير لصالح إبراز قوّةٍ أو قوى سياسيّة بوسنيّة أو متعدِّدة الاثنيّات تحظى بالقبول الغربي (أوروبا والولايات المتحدة).
__________
(1) يعكس ذلك بحدّ ذاته مدى المفارقة في مفهوم أوروبا والذي يُورَد عادة للدلالة على أوروبا الغربية والوسطى وليست أوروبا الجغرافيا أو الشعوب.(1/177)
وفي حالة بلد أوروبي يمثِّل المسلمون الأغلبيّة السكانيّة فيه، مثل ألبانيا؛ كان واضحاً منذ التحوّل عن الشيوعية أنّ الأوروبيِّين، ومعهم الولايات المتحدة، ظلّوا لاعِباً واسع النفوذ في توازناتِه السياسية الداخلية، وهو ما كان يجعلُ الأعلامَ الأمريكية مثلاً ترتفع في مظاهرات الأطراف السياسية المتنافسة في هذا البلد إبان أزماته السياسيّة الحادّة التي شهدها في أواخر التسعينيات. بل ينسب الصحافي نيلز أندرسون (Nils Andersson) إلى رمزي لاني، مدير مؤسّسة وسائل الاعلام في ألبانيا، قوله، رداً على السؤال عمّن سيكون رئيس ألبانيا؛ "اذهبوا واسألوا في السفارة الأمريكيّة، هذا إذا لم يلفت إلى الخيوط التي تمسك بها السيدة دوريس باك، صاحبة الكلمة في البرلمان الأوروبي للشؤون البلقانية، أو اليد الخفية للسيد رومانو برودي (رئيس المفوضية الأوروبية آنذاك) أو أيضاً إلى إيطاليا أو اليونان (المجاورتين لألبانيا)"(1).
ولكنّ الانشداد للغرب لا يفسِّر وحده ذلك النفوذ الأوروبي والأمريكي في بعض هذه البلدان؛ بل هناك أيضاً التأثير الاقتصاديّ الكبير للبلدان الغربية، كأطراف مانحةٍ(2)ومستثمرة، وكقوى مؤثِّرة على مجمل السياسة الإقليميّة، وأيضاً كطرفٍ يُنشَدُ تجاوُبُه مع آمال اللحاق بالغرب سواء الأسرة الأوروبيّة الموحدة أو المنظومة الدفاعيّة الأطلسية المتمثِّلة بحلف "ناتو"، في ما أنّ الوجودَ العسكريّ الغربيّ المباشر في بعض دول البلقان يبقى تجسيداً لهذا النفوذ الكبير.
__________
(1) أندرسون، نيلز: "ألبانيا في سعيها إلى الحصول على الاعتراف". لوموند دبلوماتيك (صحيفة)، باريس، حزيران (يونيو) 2002.
(2) تبنّى الاتحاد الأوروبي في العاشر من حزيران (يونيو) 1999، توجّهاً إنمائياً لدول جنوب شرقي أوروبا، تحت عنوان "تحالف الاستقرار"، وجاء ذلك في أعقاب حرب كوسوفو مباشرة التي اندلعت في آذار (مارس) 1999.(1/178)
ولا شكّ أنّ تأثير النفوذ الغربيّ في بلدان شرقيّ أوروبا يمتدّ أيضاً إلى ميدان "الإصلاحات" التي يجري اعتمادُها في بعض هذه البلدان، إذ تشكو بعض الأصوات من أنّ هذه الإصلاحات لا تراعي بعض جوانب الخصوصيّة التي تنطوي عليها البيئات المعنيّة. ففي الحالة الألبانية؛ يقول الصحافي الألباني مصطفى نانو "إذا أردنا تحقيقَ تقدّم في فكرة الديموقراطية يجب تجاوز النموذج المفروض (من الخارج الغربي) الذي لا يتلاءَم لا مع البنى المجتمعيّة ولا مع حالتها النفسيّة. وقد فرض صانعو السياسة الالبان والغربيّون دستوراً، لكنه وُضع ليوافق الذهنيّات وأنماط التفكير الأجنبيّة. كما أنّ القانون الانتخابي هو أيضاً قانونٌ مفروضٌ لا يأخذ في الاعتبار الواقعَ السياسيّ الألبانيّ"، على حدِّ تقديره(1).
10/ إنّ التحوّلات المتسارعة في بلدانِ شرقيّ أوروبا، وما واكبَها من اختلالاتٍ عدّة واضمحلالٍ لحضور سلطة القانون في بعض الأقاليم أحياناً، علاوة على تأثير الاضطراباتِ والنزاعاتِ والحروب، والأزمات المحمولة من إرث العهود البائدة؛ كل ذلك أوجدَ بيئةً ملائمةً لتفاقم معضلات الفساد الإداريّ والجريمة المنظّمة وقوى "المافيا"، وهي معضلاتٌ ألقت بظلالها على الطبقة السياسيّة في بعض بلدان شرقيّ أوروبا. ومن الواضح بالتالي أنّ المشاركةَ السياسيّة في هذه البلدان لا تجري، على خلفيّة هذا البُعد أيضاً؛ ضمن الأجواء ذاتها التي تكتنفُ المشاركةَ ذاتها في بلدانِ غربيّ القارّة.
الفصل السادس:
إشكالية تقييم المواقف السياسية من خلال المجالات المختلفة
السياسيات الداخلية والخارجية ـ مثالاً
__________
(1) كما نقل عنه نيلز أندرسون (Nils Andersson) ، في: أندرسون، نيلز، مصدر سابق.(1/179)
تتمثّل أحد المصاعب الجوهريّة في العمل السياسي لمسلمي أوروبا في افتقار عددٍ من قطاعات المسلمين لإدراكِ خارطة الواقع السياسيّ وعمقِه في الساحة الأوروبيّة. إذ لا يمكن أن تحوزَ سياساتُ حزب بعيْنه أو حكومة ما، على مؤشِّرات إيجابيّة وبالمستوى ذاته في كافة المجالات. إنّ تقويم مدى توافق حزبٍ سياسيّ ما، مع ميول الناخبين المسلمين المفضّلة، أو مع مقاصد المشاركة السياسيّة للمسلمين في البلد المعنيّ؛ إنما يُفترَض أن تخضع لملاحظة رؤى الحزب وبرنامجه ومواقفه من مجالات شتى: كخلفيات الحزب ومنطلقاته وخطه العام وخطابه، ومجالات السياسة الداخلية (كملف التمييز والتفرقة وحقوق الأقليات وملف الرعاية الاجتماعية وغيرهما)، وإزاء ذلك ما يتعلق بمجالات السياسة الخارجية أيضاً.(1/180)
والواقع أنّ الانطباعاتِ المشتّتة عن سياساتِ بعض الحكومات أو الأحزاب، قد تسبّبت في إرباكات عدة في صفوف مسلمي البلدان الأوروبية في عددٍ من الحالات لجهة اتخاذ الموقف الأنسب منها، ويبرز ضمن عوامل الإرباك(1)ما يتعلّق بالسياسات الخارجيّة التي تتّخذ طابعاً مستقلاً إلى حدٍّ ما عن مسارات السياسة الداخليّة. وعادة ما يواجِهُ الناخبون المسلمون بعضَ المصاعب في عددٍ من الدول الأوروبيّة، لجهة المفاضلة بين الخيارات السياسيّة، والانتخابيّة منها على نحو خاصّ، على خلفيّة ما يبدو أحياناً أنه تفاوتٌ كبيرٌ في تقييم الأحزاب من جانب سياساتها الداخلية والخارجية، وهو تفاوتٌ يأخذ طابع التناقض أحياناً.
مسلمو أوروبا وخلفيات الاهتمام بالسياسات الخارجية:
ثمة خصوصيات تعزِّز الافتراضَ والملاحظاتِ بأنّ مسلمي أوروبا هم أكثر اهتماماً بالسياسات الخارجيّة لدولهم الأوروبية؛ بالمقارنة مع منسوب الاهتمام العام في مجتمعاتهم الأوروبيّة ذاتها بتلك السياسات.
__________
(1) من ذلك مثلاً أمارات التردّد بين المسلمين التي لوحظت في مواسم سياسية بعينها في بلدان أوروبية، مثل بعض التذبذب لدى مسلمي فرنسا بين التصويت للاشتراكيين كخيار تقليدي مفضل أم التوجه للديغوليين عقاباً للوزير الأول الاشتراكي ليونيل جوسبان على مواقف منحازة للسياسات الإسرائيلية أبداها في سنة 2000، وفي بريطانيا تبلور إحجام نسبي وشيء من التردّد من جانب المسلمين إزاء التصويت لحزب العمال بعد حرب احتلال العراق في سنة 2003، رغم أنه خيارهم الانتخابي التقليدي.(1/181)
فأولاً؛ إنّ المسلمين، وخاصة من يتّصفون بخلفيّة الهجرة منهم، عادة ما يكونون مشدودين إلى القضايا الكبرى والأزمات المزمنة أو الطارئة التي ينضح بها العالم الإسلامي. ومن شأن هذا الانشداد أن يجعلهم أكثر اهتماماً بالشأن السياسيّ الخارجيّ لدولهم الأوروبية، خاصّة ما يتعلّق بالقضايا موضع اهتمامهم. ولا يخفى أنّ ما يزيد من وتيرة هذا الانشداد؛ تلك الحالة من التعويل على دور الوجود المسلم في أوروبا، أو بعض قطاعاته، في التأثير على السياسات الخارجيّة للدول الأوروبية في ملفّات بعينها، وهي الحالة التي يمكن تلمّسها في صور وأشكال عدّة. فكما خاطب(1)الرئيس الباكستانيّ الراحل محمد ضياء الحق الباكستانيِّين في أوروبا بقوله "إنكم رمز لباكستان في الخارج، وباكستان هي رمز لهويتكم"؛ فإنّ بعض الدول الإسلاميّة تعوِّل على إسناد "رعاياها المغتربين" لها في بعض القضايا والشؤون المتعلقة بالسياسات الخارجية للدول الأوروبية التي يقيمون بها، في ما أنّ الشعوب أو الأقليات المسلمة الواقعة تحت الاحتلال أو الاضطهاد قد تصدُر عنها مناشداتٌ لمسلمي العالم بالتحرّك لـ "نصرتها"، وقد يأخذ الأمر صوراً أخرى.
__________
(1) من خطاب الرئيس الباكستاني الراحل محمد ضياء الحق الذي بعث به إلى مؤتمر "الباكستانيّون في أوروبا"، المنعقد في مدينة مانشتستر البريطانية، يومي 20 و21 شباط (فبراير) 1982.(1/182)
وثانياً؛ إنّ أوروباً، دولاً منفردة، أو كياناً وحدوياً؛ لها من الوزن والتأثير على السياسة الدولية، ما لا يمكن من الناحية الإجمالية أن تتخطّاه عملياً سوى قوة واحدة هي الولايات المتحدة، التي تجمعها كذلك علاقة تحالف أو شراكة أو تعاون مع الأطراف الأوروبية في مجالات شتى. ويبدو هذا العاملُ مثيراً لاهتمام المسلمين أيضاً، خاصة وأنّ أوروبا تكتسب وزناً وتأثيراً لا يُضاهَى في قضايا وملفات بعينها. ومن المتوقع بالتالي أن يدرِكَ مسلمو أوروبا أنّ التعاطي مع هذا الدور والتأثير لا يفتقر إلى الأهمية، وقد تضعه بعض أوساط مسلمي أوروبا في مصافّ الأولويات وربما في مقدِّمتها أحياناً. فأوروبا تبدو طرفاً ذا تأثير في القضايا الهامّة في العالم الإسلامي، وهو ما يجعل مسلمي أوروبا يسعون إلى ضمان أن يكون التأثيرُ في الاتجاهات المرغوبة بالنسبة إليهم. فقضيّة فلسطين، مثلاً، نشأت في الأساس بمفعول دورٍ أوروبيّ مباشر، في ما أنّ القضية العراقية بدءاً من سنة 2003 متّصلةٌ بدور أوروبي جزئيّ، وأنّ قضايا التنمية والديون في البلدان الأفريقيّة المسلمة كثيراً ما تخضع لسياسات الدول الأوروبيّة في هذا الملف، ومثل ذلك يُقالُ بشأن الأدوار الأوروبية في قضايا عدّة. ولا شكّ أنّ التجارب الاستعماريّة الأوروبيّة في العالم الإسلامي؛ مكّنت أوروبا من الاضطلاع بأدوارٍ نافذةٍ بالفعل، تضعها بالتالي أمام مسؤوليّات شتى، وهو ما يتبيّن مثلاً في المشكلات الحدوديّة في العالم الإسلامي الناشئة عن تقسيمات العهد الاستعماري التعسفيّة، وفي ما يتعلّق بقضيّة هامة مثل كشمير، التي مثّلت تقليدياً شاغلاً هاماً لمسلمي بريطانيا من الخلفيّة جنوب الآسيويّة لعقود طويلة وانعكست على مجالات اهتماماتهم في ما يخص السياسة الخارجيّة البريطانيّة.(1/183)
وبينما يصعب تحديدُ محطّاتٍ مبكِّرة لتعاطي الوجود المسلم في عديد الدول الأوروبية مع السياسات الداخلية؛ فإنّ المرء يستطيع أن يتتبع بيسر كيف تحرّك هذا الوجود في مراحل مبكرة نسبيّاً لمحاولة التأثير على السياسات الخارجية لهذه الدول، ضمن محطّات متقطعة، عندما شعر أنه ليس بوسعه الاكتفاء بالصمت ومراقبة تطوّرات رآها مُقْلِقَة. وارتبط ذلك في بواكيره بدور المثقفين المهاجرين والمنفيِّين السياسيِّين في بعض دول أوروبا. فهكذا أخذ عبد الله يوسف علي، صاحب الترجمة الشهيرة لمعاني القرآن الكريم إلى اللغة الإنجليزيّة، يتقدم تحرّكات ومظاهرات لنصرة فلسطين في بريطانيا في عام 1937. وقد أدّى ذلك التفاعل إلى مضاعفات حادّة في حالة الجزائريِّين في فرنسا في السنوات الأخيرة من الاحتلال الفرنسي للجزائر، كما جسّدته المجزرة التي ارتكبتها قوّات الأمن بحق مسيرة سلميّة في باريس في 17 تشرين الأول (أكتوبر) 1961، ما أودى بحياة مائتي متظاهر جزائري دفعة واحدة.
ومع ذلك؛ فإنّ هذه البواكير قد أخذت طابعاً بدائياً ومبسّطاً في محاولة التأثير السياسيّ، ألا وهو مجرد التظاهر والخروج إلى الشوارع أو رفع الرسائل والمذكرات وصياغة المناشدات، دون أن تُتيحَ الظروفُ الذاتيّة والموضوعيّة خياراتٍ أخرى أكثر نفاذاً في مسالك التأثير السياسي. ويُشارُ أيضاً إلى أنّ تلك التحرّكات اتسمت بمواكبتها لتطوّرات حادّة في العالم الإسلاميّ، وأنها جاءت معزولةً عن أيّة برامج متابعة أو فعل منظّم على نحو مستقرّ أو أداء مؤسسي يمكن الإشارة إليه، فضلاً عن أنها اكتسبت صفة التقطّع من الناحية الزمنية، ومن الصعب القول إنها صبّت بالتالي في رصيد تجربة المشاركة السياسيّة لمسلمي أوروبا، إذ بدت لاحقاً منفصمةً عنها وعن خبراتها بوضوح بمفعول الانقطاع الزمني وغياب الأطر التي تكفل الاستمرارية والتواصل.(1/184)
ثالثاً؛ أنّ "ثقافة الهجرة" ما زالت حاضرة لدى قطاعات من مسلمي أوروبا، من بين تلك التي تشكّلت بمفعول الهجرة إلى أوروبا. فأجيال "المهاجرين" التي ما زال بعضها يحتفظ بصلة معنويّة وبدرجة ملحوظة من المعايشة لشؤون الأوطان الأصليّة؛ لا شكّ ستُوْلِي اهتماماً مميّزاً للسياسات الخارجيّة الأوروبيّة، خاصة إذا ما تعلّقت تلك السياساتُ بشواغلها. ومن ذلك مثلاً؛ مدى الاهتمام الذي يوليه مسلمو أوروبا الغربيّة المتحدرين من تركيا، لملف العضوية التركيّة في الاتحاد الأوروبي، والذي يبدو من الملفات الحاسمة أحياناً بالنسبة للناخبين من أصول تركيّة في المفاضلة بين الأحزاب السياسيّة، كما في نموذج الجولات الانتخابيّة الألمانيّة مثالاً. يُضاف إلى ذلك أنّ بعض المهاجرين قد يحملون في وعيهم انطباعاتٍ أو معلومات ما، بِغَضّ النظر عن دقّتها، عن السياسات الخارجيّة للدول التي يُقيمون فيها حتى قبل وفودهم إليها، بالنظر إلى متابعاتهم الإعلامّية أو إلمامهم بالتطوّرات الدوليّة، وهي تطوّراتٌ تلتفتُ إلى الجانب الخارجيّ من السياسات أكثر من أي شيء آخر، بحكم مضامين التغطيات الإعلاميّة في الخارج التي قلّما تكترث بالشؤون المحليّة.(1/185)
ورابعاً؛ أنّ العاملَ الإعلاميّ يضطلع بدورٍ واضح في توجيه قسطٍ إضافي من اهتمامات مسلمي أوروبا، أو بعض قطاعاتهم على وجه الدقة، إلى السياسات الخارجيّة الأوروبيّة. فبالنظر إلى نسبة المتابعة الملحوظة في أوساط مسلمي أوروبا لوسائل إعلامية تبثّ أو تصدر من الخارج، كالفضائيات التلفزيّة، ومحطات الإذاعة، ومواقع الإنترنت، علاوة على الدوريات المطبوعة؛ فإنّ ذلك من شأنه أن يلفت انتباههم إلى السياسات الخارجيّة لدولهم الأوروبيّة على حساب الشؤون الداخليّة أو المحلِّيّة. فما يواكبه المشاهدون العرب في أوروبا على الفضائيّات التلفزيونيّة غير الأوروبيّة، من المواد الإخباريّة والمتابعات السياسيّة؛ لا يأتي في الأساس من منطلق التماشي مع الاهتمامات المحلِّيّة، بقدر ما يركِّز على الشؤون الخارجية، والسياسات الدوليّة بعامة. ويتضح ذلك أيضاً في ما يتعلق بالفضائيّات التركيّة التي نادراً ما تكترث بالسياسات الداخليّة الأوروبيّة، إلاّ إذا ما تعلّقت، بشكل مباشر أو غير مباشر، بشؤون المهاجرين أو الأجانب أو المسلمين أو الوجود التركي بالأساس في أوروبا. وتكتسب هذه الملاحظة أهمِّيّة إضافيّة إذا ما أُخِذَ بعين الاعتبار واقعُ التحوّلات الإعلاميّة التي تسارعت وتيرتها منذ مطلع التسعينيات، وأصبحت المضامينُ الإعلاميّةُ بموجبها أكثر قدرة على عبور الحدود والقارّات مع تجاوزها لعامل الزمن، خاصة مع دخول محطّات التلفزة آفاق البثّ الفضائي، واتساع تطبيقات شبكة الإنترنت، وتطوّر نُظُم إصدار الصحف والمجلات وطباعتها وتوزيعها.
مسلمو أوروبا ونموّ الاهتمام بشؤون السياسة الداخلية:
ويمكن رصد تحوّلٍ لافت للانتباه منذ أواسط التسعينيات، في اهتمامات الناخبين المسلمين في عديد الدول الأوروبيّة الغربيّة، لجهة تقييمهم لمواقف الأحزاب والقوى السياسيّة، وبالتالي إمكانية المفاضلة بينها.(1/186)
فكثيراً ما تقدّم الاكتراث بالسياسة الخارجية لتلك الأحزاب والقوى السياسية، على السياسة الداخلية ومجالات أخرى. ثم طرأ بالتدريج ميلٌ لإدراك السياسة الخارجية بصفة تتساوق بشكل متزايد مع رؤية أكثر استجماعاً لمجالات سياسيّة أعمّ، بما في ذلك السياسات الداخلية لتلك الأحزاب والقوى.
بل يرصد فاروق شِن، الذي يرأس مركز الدراسات التركية بجامعة إسِن الألمانية، أنه في الانتخابات البرلمانية التي أجريت في ألمانيا في نهاية أيلول (سبتمبر) 2002، كانت "السياسة الخارجية تحتلّ إلى حدّ ما قليلاً من الأهمية بالنسبة للخيار الانتخابي للمسلمين الألمان، وبصفة خاصّة يبدو لي أنّ هناك مبالغة في تقدير أهمية الأزمة في الشرق الأوسط"، كما يقول.
وعن المسائل التي اكترثَ بها الناخبون المسلمون في ألمانيا في مفاضلتهم بين الأطراف المتنافسة؛ يذكر شن في تقرير له قبل إجراء تلك الانتخابات، أنّ "في بؤرة اهتمام المسلمين هناك قانون الأجانب، وتنظيم الهجرة أو سياسة الاندماج، إنّ هذه الموضوعات، التي من حسن الحظّ لم يتم استغلالها في المعركة الانتخابية ضد المهاجرين؛ لديها مخزون كبير لحشد الناخبين المسلمين. إنّ هذا يسري أيضاً على سياسة التعليم، إذ كان المهاجرون أكثر من عانى من القصور الذي سارت عليه السياسة المدرسية في العقود الماضية. وفي الوقت ذاته؛ فإنّ المسألة الأهم لمجموع الشعب (الألماني)، وهي سبل مكافحة البطالة؛ تمثِّل بالنسبة للمسلمين معنى متمِّيزاً، فبينما تشير إحصاءات العاطلين عن العمل إلى أنّ البطالة العامّة في ألمانيا تعادل قرابة عشرة في المائة؛ فإنها تذهب إلى أنّ حصة الأتراك منها تعادل 24 في المائة"(1).
__________
(1) جاء ذلك في تقرير لفاروق شِن، نشرته مجلة "فوكوس" الألمانية، في 15 تموز (يوليو) 2002، أي قبل شهرين ونصف الشهر من إجراء تلك الانتخابات، انظر:
Sen, Faruk: Focus, Nr. 29/2002, München, 15. Juli 2002.(1/187)
ويعكس ذلك، على ما يبدو، تَبَلْوُرَ رؤيةٍ أوسع في أوساط مسلمي أوروبا للشأن السياسي، وتنامي التحدِّيات المحلِّيّة التي تواجه الوجود المسلم في هذه القارّة، علاوة على تَبَلْوُر "شخصيّة" قائمة بذاتها لهذا الوجود، مع صعود دور الجيلين الثاني والثالث في مجمل مسارات الحياة المسلمة في أوروبا ومفاصلها. إلاّ أنّ ذلك لا يعني دوماً بالضرورة تراجعاً جوهرياً في الاهتمام بالشأن السياسيّ الخارجيّ، خاصّة مع السخونة المتزايدة التي تكتسبها القضايا الملتهبة في العالم الإسلامي، كما يتجسد في قضيّة فلسطين منذ سنة 2000 (اندلاع انتفاضة الأقصى)، والقضية العراقية منذ سنة 2002 (الأجواء التي سبقت الحرب على العراق في سنة 2003)، والتي تفرض حضوراً كبيراً على الساحة كل عدّة سنوات، مثل ما جرى في مواكبة مسلمي أوروبا الغربيّة لقضايا البلقان المسلم خلال التسعينيات أيضاً.
فبشكل تقليديّ، تتبوّأ قضايا بعينها مراتبَ الأولويّة في اهتمامات مسلمي أوروبا على صعيد السياسات الخارجيّة، وأبرزها قضايا فلسطين، والعراق (بدءاً من مطلع التسعينيات، وبشكل أوضح منذ إرهاصات حرب احتلال العراق في خريف 2002)، وقضية كشمير التي تمثِّل شاغلاً ملموساً لدى مسلمي الجزر البريطانيّة وغالبيّتهم من جنوبي آسيا، فضلاً عن مسألة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي الذي تمثل منذ أواخر التسعينيات أحد الاهتمامات البارزة للمسلمين من أصول تركيّة والذين يتركّزون أساساً في المنطقة الناطقة بالألمانية وفي دول البينيلوكس.
وعلاوة على ذلك؛ فإنّ هناك قضايا أخرى احتلّت موقعاً من اهتمامات الوجود المسلم في أوروبا، ولو لمراحل زمنية محدودة، مثل حروب البلقان، وبخاصة في البوسنة والهرسك (1992 ـ 1995)، وحرب كوسوفا (1999)، والقضية الشيشانية (1996 ـ 1997) و(1999 ـ ... )، فضلاً عن مراحل الصراع في أفغانستان منذ سنة 1979 وحتى الآن.(1/188)
وإزاء هذه الاهتمامات الواقعة ضمن ملفّات السياسة الخارجيّة؛ تفرض شواغلُ أخرى حضوراً متزايداً في أوساط مسلمي أوروبا، وهي شواغلُ تندرج ضمن ملفات السياسة الداخليّة، مثل ما يتعلّق بسياسات الرفاه الاجتماعي، ومجمل السياسات المتّصلة بمن يُوصَفون بالأجانب، علاوة على الاهتمام بنمط من التوجّهات السياسيّة يفرض نفسَه بشكل ملحوظ، ومُقلق أيضاً إلى حدٍّ ما، يبدو مختصّاً بالوجود المسلم في أوروبا، مثل حزمة السياسات المندرجة ضمن "مكافحة الإرهاب"، أو تلك التي تتعلّق بملف "الاندماج". وتكفي في هذا الصدد الإشارةُ إلى بعض الملفات ذات العلاقة، من قبيل قضية الحجاب، والمسائل المتعلقة بالمساجد والأئمّة، والسياسات الخاصة بالرقابة والتنصّت وانتهاك المجال الشخصي للأفراد في ظل تحوّلات ما بعد الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001.
وبالمقابل؛ فإنّ الاهتمام المتزايد في أوساط مسلمي أوروبا بالسياسات الداخلية؛ يتساوق مع النجاح النسبيّ الذي يحرزونه في المشاركة السياسيّة على المستوى المحليّ، كانتخابات البلديّات والمقاطعات مثلاً، بالمقارنة مع الانتخابات التشريعيّة العامة مثلاً.(1/189)
ومع ذلك؛ فإنّ عاملاً هامّاً قد يضاهي مفعولَ هذه التطوّرات كافّة في توجيه اهتمام مسلمي أوروبا إلى السياسات الداخليّة لدولهم الأوروبية؛ إلاّ وهي المشكلة العنصريّة وحضور أقصى اليمين السياسي وبروز الخطاب المعادي للأجانب بعامة والمسلمين بخاصة في الساحة السياسية. فلا شكّ أنّ بروز هذه الميول في كافة الساحات الأوروبيّة تقريباً(1)قد وجّه مزيداً من اهتمام المسلمين للساحة السياسيّة المحلِّيّة، وضرورة التفاعل معها، ربما سعياً لدرء المفاسد المتوقّعة قبل التوجّه لجلب المصالح المرجوّة. فعلى سبيل المثال؛ لم يكن لمسلمي النمسا أيّ حضور يُذكر في الساحة السياسية قبل الانتخابات البرلمانية التي أجريت في تشرين الأول (أكتوبر) 1999. إلاّ أنّ تلك الانتخابات، التي صعدت بقوة بحزب الحرية اليميني (FP?)، ذي الشعارات المناهضة للأجانب إلى المرتبة الثانية في البلاد ولينضمّ بموجبها إلى الائتلاف الحاكم؛ كانت منعطفاً مُؤذِناً بتفاعل ملموس نسبيّاً من جانب مسلمي النمسا مع الساحة السياسيّة، خاصّة مع استشعار التحدِّي الذي يمثله أقصى اليمين السياسي.
__________
(1) من قبيل أحزاب أقصى اليمين السياسي أو الفوى السياسية المناهضة للمسلمين أو المتحفظة على الوجود الأجنبي، مثل الكتلة الفلمنكية (Vlaams Blok) في بلجيكا، والحزب القومي البريطاني (BNP)، وحزب الحرية النمساوي (FP?)، والجبهة الوطنية في فرنسا (FN)، ورابطة الشمال في إيطاليا (Liga Nord)، وحزب الشعب الدانمركي (Dansk Folkeparti)، وقائمة بيم فورتوين (LPF) في هولندا، والجناح اليميني من حزب الشعب السويسري (قومي محافظ) (SVP)، وأحزاب "الجمهوريون" (Die Republikaner) والقومي الألماني (NPD) واتحاد الشعب الألماني (DVU) في ألمانيا، وغيرها.(1/190)
إلاّ أنّ ذلك لا يعني دوماً أنّ التحدي العنصريّ، أو الخطاب المُناهِض للأجانب والمسلمين، وموجة "الإسلاموفوبيا"؛ كفيلةٌ باستحثاث استجابات إيجابيّة في صفوف المسلمين على صعيد المشاركة السياسيّة؛ إذ قد يتسبّب ذلك في ردود أفعال سلبيّة أيضاً (مثل ما شهدته هولندا في خريف 2004 من اغتيال للمخرج المناهض للإسلام تيو فان جوخ على يد شاب مسلم، واندلاع موجة عنف مجتمعي في البلاد)، وربما يفضي ذلك إلى إحباط بعض مساعي الاندماج الإيجابي للمسلمين في مجتمعاتهم وبيئاتهم الأوروبية، بل ومن المتوقّع أن تُسجّل استجابات إيجابيّة وسلبيّة في البيئة الواحدة من بيئات مسلمي أوروبا على تلك التحدِّيات المثيرة للقلق، وهنا تتضح أهمِّيّة دور قادة الرأي المحلِّيّ من المسلمين، مثل الأئمة ومسؤولي المؤسّسات والشخصيّات المسلمة المؤثِّرة والمتفاعلين مع العمل السياسيّ؛ في استحثاث استجابات إيجابيّة من قبل قطاعات الجمهور المسلم واحتواء نُذُر الانكفاء على الذات. كما أنّ توفّر خيارات متاحة للمشاركة السياسيّة وملموسة الأثر بالنسبة للجمهور المسلم سيكون عاملاً مشجعاً على الانخراط في التفاعل الإيجابي مع الشأن السياسيّ. وما يساعد على ذلك أيضاً، وعلى نحو حاسم؛ وجود أطرافٍ في الساحة السياسيّة والمجتمعيّة منفتحةٍ على المسلمين وتتعاطى معهم بإيجابيّة ومستعدّة لإنشاء التحالفات والشراكات معهم في عدد من المجالات.
حضور هامشي للسياسة الخارجية في الساحة الجماهيرية الأوروبيّة:(1/191)
بالوسع الإشارة إلى عاملٍ آخر، من المُحتَمَل أن يؤثر على تراجع نسبي في اهتمام بعض قطاعات مسلمي أوروبا بالسياسات الخارجيّة لدولهم الأوروبيّة، ألا وهو التساوق مع الاهتمامات السائدة في المجتمع العريض. فالاكتراث، الذي يبدو استثنائيّاً أحياناً، بمتعلقات السياسة الخارجيّة، قد لا يُساعد الفرد المسلم على الاندماج في محيطه الاجتماعيّ، في مستوى الزمالة الدراسيّة أو المهنيّة أو ضمن نطاق العلاقات المبنيّة على أساس الجوار. وحتى إذا ما بدت هذه الملاحظة عابرةً بشكل عام؛ فإنها تكتسب وزناً خاصاً لدى المسلمين المتحدرين من مجتمعات أكثر تسيّساً أو أوساط أكثر انشغالاً بالشأن السياسيّ الدوليّ. ويشرح طبيبٌ مسلم، من الجيل الأول المهاجر إلى النمسا هذه المشكلة،(1)بقوله "عندما أحضُرُ إلى موقع عملي في المشفى؛ فإنّ الأحداث والتطوّرات التي تشغل ذهني من واقع متابعاتي للأخبار العالميّة في الليلة الماضية على قناة "الجزيرة" وغيرها؛ لا بد وأن تنعكس على ما أودّ تبادل أطراف الحديث بشأنه مع الزملاء، لكن سرعان ما أجد أنّ اهتماماتهم بعيدة تماماً عن تلك الحروب والأزمات الكبرى، وهنا لا مفرّ أمامي من أن أتعاطى مع مسائل ليست من اهتماماتي في الأصل، وحتى لو كانت سياسيّة فإنها تتعلق بالسياسة المحلِّيّة وجزئيّاتها التي أرى أنّ هناك ربما ما هو أوْلى بالحديث عنه. الزملاء لا يتحدّثون عن السياسة، وما يشغلهم هو التعليق على هذا البرنامج التلفزيوني المسلِّي أو على الوجهة المفضلة لقضاء أوقات الفراغ، فهل يمكنني أن أندمج حقاً باهتماماتٍ غير هذه؟!".
__________
(1) في إفادة أدلى بها للباحث بهذا الصدد.(1/192)
وكما يلاحظ الباحثُ الألمانيّ هربرت كِلمان (Herbert Kelmann)، فإنّ الجمهور "لا يكترث بكل ما يتعلّق بالسياسة الخارجيّة، ومعلوماته يشوبها الجهلُ العام، وتتميّز بعدم الاهتمام وبالجهل والنقص في إمكانية الاستزادة (المعلوماتية بهذا الشأن) والثبات" في الآراء(1).
لكنّ الأمر يتجاوز الجمهور إلى النُّخَب ذاتها، وفق ما يرى وزير الخارجية الفرنسي السابق أوبير فيدرين (Hubert Vedrine) ، الذي يُقِرّ بأنّ "فرنسا اليوم لا تشهد سوى النزر اليسير من التحليل والتأمّل في أحوال العالم والسياسة الخارجيّة والعلاقات الدوليّة، وهذه مفارقة في زمن العولمة. والمثقّفون القادِرون على الاضطلاع بدور مفيد هم الغائبون الكبار عن هذا النقاش، إلاّ إذا استثنيْنا بعضَ ردود الفعل المحدّدة. ذلك أنهم ينتمون الى عالم مُنطوٍ على ذاته"(2).
__________
(1) أورد ذلك: مسلّم، سامي: "صورة العرب في صحافة ألمانيا الاتحادية". بيروت، 1986، ص 32. نقلاً عن:
Kelmann, Herbert: „Sozialpsychologische Aspekte Internationalen Verhaltens“. In: Nerlich, Uwe (Hrsg.): „Krieg und Frieden im indusriellen Zeitalter“. Gütersloh, 1966.
(2) فيدرين، أوبير: "من أجل إعادة تأسيس السياسة الخارجية الفرنسية" (مقال). لوموند دبلوماتيك (صحيفة)، باريس، كانون الأول (ديسمبر) 2000.(1/193)
ويستنتج الخبير الاستراتيجي أحمد رمضان أنّ النظام السياسيّ في العالم الغربيّ "يُعتبر الأكثر قدرةً وحيويّةً في فنّ التعامل مع الرأي العام لديه"، مشيراً إلى "النجاح الذي تحقّق (له) على مدى زمنيّ طويل في إقامة جدار عازل بين الجمهور الغربي ومسائل السياسة الخارجية، إلى درجة أصبحت فيها ثقافةُ الإنسان الغربيّ عن أجزاء العالم الأخرى تبدو مضحكةً ومثيرةً للدهشة في آنٍ معاً"(1).
ومما يُسجّلُ هنا؛ أنّ شؤونَ السياسة الخارجيّة لا تحتلّ موقعاً لافتاً للانتباه في برامج الأحزاب السياسية في معظم الدول الأوروبيّة. فغالباً ما تشغل هذه الشؤون مساحةً ضئيلةً من البرامج والشعارات الانتخابيّة، بينما يُلاحَظ كذلك أنّ تناول ما يتعلق بالسياسة الخارجيّة في تلك البرامج والشعارات قد يجري على شِحّته بشكل سطحيّ وتعميميّ، وبما يتوافق مع اهتمامات قطاعات الجمهور العريض المحدودة غالباً في هذا الشأن. والسائد أن يجري وضعُ السياسة الخارجيّة في سياق متّصل بانعكاساتها على الشأن المحلِّيّ. وبينما يتّضح ذلك في ما يتعلق بالأحزاب الأساسية في الساحة السياسيّة؛ فإنّ البرامج والشعارات الخاصة بأحزاب أقصى اليسار والشيوعيِّين عادةً ما تتناول الشأنَ السياسيّ الخارجيّ بتوسّع أكبر، وبدرجة ملحوظة نسبيّاً، لكنّها قوى تتموضع على أطراف الساحة السياسيّة لا في مركزها، علاوة على أنّ خطابها المؤدلج نادراً ما يكترث بالبحث عن القواسم المشتركة مع الآخرين فيأتي معزولاً في حضوره.
__________
(1) رمضان، أحمد: "حركة الرأي العام في الغرب وقواعد التأثير ـ دور مسلمي أوروبا في التفعيل الإيجابي للرأي العام الغربي"، الأوروبية (مجلة)، العدد 32، باريس، شباط (فبراير) 2001، ص 29.(1/194)
ومن العوامل التي تكمُن خلفَ هذا الاهتمامِ الضئيل بالسياسة الخارجيّة في البرامج الحزبيّة والشعارات الانتخابيّة؛ حقيقةُ أنّ الأحزاب السياسيّة في أوروبا تتشكّل في الأصل بناء على مسائل واهتمامات من الواقع الداخلي للدول، أي ما يتّصل بالسياسات الداخلية، ونادراً ما تَتَبَلْوَر على خلفيّات تتعلّق بالشؤون الخارجيّة.
ومن جانب آخر؛ فإنّ الأحزاب المتنافسة على أصوات الناخبين، تبقى معنيّةً بمخاطبة الجمهور بما يراعي اهتماماته، التي تغيب عنها السياسةُ الخارجيّة بالكلِّيّة أو تأتي في مواقع ثانويّة من تلك الاهتمامات، لصالح الاهتمامات التقليديّة، المتعلِّقة عادة بمنسوب الرفاه الاقتصادي والمستوى المعيشيّ، والشواغل المتّصلة بسوق العمل والتشغيل والبطالة، ومكتسبات دولة الرعاية الاجتماعيّة، والعناية الصحيّة، والشؤون التعليميّة، ومكافحة الجريمة، وحماية البيئة، علاوة على الاهتمام المتزايد الذي يتعلّق بملف الهجرة والأجانب واللاجئين والأقلِّيّات.
وفي الحالة الهولنديّة كمثال؛ يتّضح أنّ المبادئ الأساسيّة للأحزاب السياسيّة لا تتطرّق إلى السياسة الخارجيّة إلاّ في حالات نادرة. فالبواعث لتشكيل الأحزاب السياسيّة الهولنديّة، حسب المعتاد، هي شواغل سياسيّة داخليّة. كما أنّ الجمهور الهولندي عندما يُسأل عن النقاط المثيرة للجدل السياسيّ في بلاده؛ فإنه لا يذكر من بين ذلك ما يتعلّق بالسياسة الخارجيّة إلاّ في ما نَدَر(1).
__________
(1) Baehr, Peter: „Innenpolitische Beeinflussung der Aussenpolitik in den Niederlanden“. In: ?sterreichische Zeitschrift für Politikwissenschaft. 84/2, Wien, 1984, S. 226.(1/195)
ونادراً ما توجد في الساحة السياسية الأوروبية قوى ذات وزن تخوض انتخاباتٍ بناء على برامج وشعارات متعلِّقة بالسياسة الخارجيّة، وحتى إن جرى ذلك؛ فإنّ النتائج التي تحصل عليها تبقى متواضعة للغاية وأقلّ من أن يُشار إليها. وفي حالة حزب "الاحترام" (Respect) البريطاني، الذي تشكّل في الأساس على خلفيّة ناقدة للسياسة الخارجيّة البريطانيّة لجهة التحالف الوثيق مع الولايات المتحدة، والمشاركة البريطانيّة في حرب العراق واحتلاله؛ فإنّه قد حقّق أداء فاتراً للغاية في أول جولة انتخابية أعقبت تشكيله، وهي انتخابات البرلمان الأوروبي (2004)، علماً بأنّ معارضيه اتهموه بأنه "حزب القضية الواحدة". ولم تأتِ الجولاتُ الانتخابيّة التي تبعت ذلك بنتائج تكافئ توقّعات حزب "الاحترام" المسبقة، رغم أنه تشكّل بإسناد مباشر من قوى نجحت بشكل لافت في تحريك مظاهرات حاشدة في لندن لمناهضة الحرب على العراق، لم تشهد العاصمة البريطانية مثيلاً لها من قبل. وبدا واضحاً أنّ تفاعل قطاعات من الجمهور مع الشأن السياسي الخارجي في منعطفٍ ما؛ لا يمثِّل مؤشِّراً كافياً للحكم على نشوء تحوّل عميق في اهتمامات عموم جمهور الناخبين في مجمل المواسم السياسيّة والانتخابيّة.(1/196)
إلاّ أنّ اهتمامات السياسة الخارجية تبقى مرشّحة لبعض البروز في البرامج والشعارات الانتخابيّة في بعض المواسم الاستثنائيّة، كما حدث في الانتخابات العامة الألمانيّة (انتخابات البرلمان الاتحادي "بوندستاغ") التي جرت في 22 أيلول (سبتمبر) 2002، والتي نجح فيها ائتلاف الديمقراطيين الاجتماعيين (SPD) والخضر (B’90/Die Grünen) في الفوز للدورة الثانية على التوالي، بصعوبة بالغة وبفارق ضئيل. وقد شكّل موقف الاجتماعيِّين والخضر الرافض للاشتراك في الحرب الأمريكية على العراق رافعةً انتخابيّة لائتلاف غيرهارد شرودر، مقابل الفرص الأفضل التي كان يُفتَرَض أنّ التيار السياسيّ المحافظ ـ الديمقراطيون المسيحيون (CDU) والاجتماعيون المسيحيون (CSU) ـ يتمتّع بها في الحالة الاعتيادية، وهو التيار الذي لم يُظهِر موقفاً رافضاً للاشتراك في تلك الحرب. كما أنّ الانتخابات الأسبانيّة في ربيع 2004، والتي أعقبت اعتداءات مدريد الدمويّة التي جرت في 11 آذار (مارس) 2004؛ تمثِّل شاهداً على إمكانيّة صعود أحد بنود السياسة الخارجية إلى واجهة الاهتمام الشعبيّ وبالتالي المفاضلة بين القوى المتنافسة بناءً على ذلك، وهو ما ساهم في الإطاحة بفرص خوزيه ماريا أثنار عن الحزب الشعبي (PP)، لصالح خوزيه لويز ثاباتيرو عن الحزب الاشتراكي (PSOE) المعارض للاشتراك في احتلال العراق والمتحفظ على الانسياق الجارف مع الحملات الحربية الأمريكية، فأعلن بعد ساعات من فوزه في انتخابات 14 آذار (مارس) 2004 عن سحب قوات بلاده من العراق.
ما الذي يعنيه ذلك بالنسبة للتفاعل السياسي لمسلمي أوروبا؟(1/197)
حتى بالنسبة للجمعيّات والمؤسّسات المسلمة؛ فإنّ توجّه الاهتمام إلى شؤون السياسة الخارجيّة قد لا يبدو بالنسبة لها خياراً ملائماً في الأحوال الاعتيادية. فمؤسسات التيار العام أو الرئيس (mainstream) لمسلمي أوروبا تتمسّك بوضوح وعلى نحو متزايد، بخطاب الحوار والتواصل والانفتاح، وهو اتجاه يجري تأكيده من جانبها منذ أواسط التسعينيّات وشهد زخماً كبيراً منذ الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001. ومن المتوقّع أن تجد العديد من تلك المؤسسات مصاعب في التطرّق إلى شؤون السياسة الخارجيّة تطرّقاً مباشراً، خاصة وأنّ تلك الشؤون تأخذ طابعاً صراعياً أحياناً، أو تهيمن عليها تجاذبات المصالح غير المنضبطة من بعض أطراف السياسة الدولية، وهي ملابساتٌ لا تنسجم مع المناخ العام الذي قد تجد الأطرافُ المسلمة المحلِّيّة ربما أنه يحكم التواصل الداخليّ في مجتمعاتها الأوروبية.
وحسب ما تقرِّره "المدرسة الواقعيّة" (Realist School) في علم السياسة والعلاقات الدولية، مثلاً؛ فإنّ الدول تلتزم في سياستها الخارجية بالقيم والأخلاقيات أو القانون الدولي، إذا توافق ذلك مع مصالحها القومية وقدراتها المتاحة. كما أنّ هذه المدرسة، التي تُعَدّ من أشهر المدارس الفكرية في دراسة مراحل عملية صنع السياسة الخارجية، والكيفية التي تتفاعل الدول بموجبها وتتعامل بها على صعيد العلاقات الدولية؛ تقرِّر أيضاً أنّ السياسة الخارجية للدول ليست امتداداً للسياسة الداخلية، وبالتالي فإنّ التزام الدول بالمعايير والقيم الأخلاقية على الصعيد المحلِّيّ أو الداخليّ؛ لا يعني بالضرورة التزامَها بالشيء نفسه على مستوى العلاقات الدولية(1).
__________
(1) خشيم، مصطفى: "موسوعة علم العلاقات الدولية". بنغازي، 1996، ص 143 ـ 146.(1/198)
وعليه؛ يكون مفهوماً أن تشعر عديد المؤسسات الإسلامية في أوروبا بأنّ عليها أن تنأى بنفسها عن ذلك السياق غير المنسجم مع خطابها، خاصة مع ما يكتنف العلاقات الدولية من طابع صراعيّ، وهو ما يأخذ من جانب طابع التنصّل والتبرّؤ من كل ما يُحتَمَل إلصاقُه تعسّفاً بالإسلام والثقافة الإسلامية وبالمسلمين، والإحجام عن الخوض أو الاستغراق في المتابعات السياسية الخارجيّة "المؤرِّقة" والخارجة عن السياق، من جانب آخر. هكذا مثلاً يمكن أن تُفهَم الخلفيّات التي تحكم البيانات والإعلانات الصادرة عن بعض المؤتمرات التي يعقدها مسلمو أوروبا في السنوات الأخيرة على نحو خاص، أو تدرك البواعث التي تجعل بعض الأطراف المسلمة تحجم عن التعليق على بعض "التجاوزات الأوروبيّة" في السياسة الدوليّة، مثل تورّط الاتحاد الأوروبي في سياسة تجويع الشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال، على خلفيّة الانتخابات الديمقراطيةّ الفلسطينيّة التي أجريت في 25 كانون الثاني (يناير) 2005.(1/199)
إنّ ذلك الاتجاه الآخذ بالتبلور على نحو متزايد؛ قد يثير تساؤلات عمّا إذا كان يمضي أساساً على نحوٍ واعٍ تماماً أم بموجب الظروف والتطوّرات الضاغطة وكنمط تعاطٍ تلقائيّ وغير مدروس. وفي كلِّ الأحوال، وبمعزل عن إصدار تقييم بشأن هذا التطوّر؛ فإنّ ما يمكن على الأقلّ لفتُ الانتباه إليه في هذا المضمار هو أنه قد يعزِّز الحاجة إلى وجود أطر متخصِّصة بالعمل السياسي في شؤون مسلمي أوروبا، بما في ذلك مجالات السياسات الخارجيّة. ولعلّ أحد التحدِّيات الإشكالية التي يمكن ملاحظتُها هنا، واستشرافها مستقبلاً؛ احتمال نشوءِ فجوةٍ في ما يتعلّق بالسياسة الخارجيّة، قد تتسع تدريجياً، بين اهتمامات قطاعات من الجمهور المسلم الأوروبي وتوقّعاتها من مؤسّسات التيار الرئيس أو العام للوجود المسلم في القارّة؛ وخطاب تلك المؤسسات وأدائها. إنّ تلك الفجوة قد تتّضح أحياناً في بعض المنعطفات المأزومة، كنشوب حروب ضد بلدان مسلمة تتورّط فيها دول أوروبية، أو كاتضاح ضلوع بعض الدول الأوروبية في الإسناد المباشر لحالات احتلالية في العالم الإسلاميّ. وحقيقة أنّ الوجود المسلم في أوروبا الغربيّة والوسطى ذو طابع شابّ من الناحية العمرية؛ تجعل تلك الفجوة المفترَضة أكثر وروداً في الحسبان، بالنظر إلى أنّ الأوساط الشابّة قد تكون أحياناً أكثر قابليّة للانشداد إلى بعض القضايا الساخنة في العالم الإسلاميّ من جانب، وأنّ خطاب المؤسّسات المعبِّرة عن الوجود المسلم في أوروبا وخطابها قد لا يكافئ توقّعات الجمهور المسلم أو حتى "مثاليّاته". وعلاوة على ذلك؛ يُلاحَظ أنّ هناك من يرى أنّ ما يسمى بـ "التضخّم الشبابيّ" يجعل المجتمعات أميَل للصراعات، وهو ما يسجِّله صموئيل هنتنغتون باهتمام كأحد العوامل الضمنيّة في واقع الشعوب المسلمة، التي تستحثّ ما يسميه "صدام الحضارات"(1).
__________
(1) هنتغتون، صموئيل: "صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي"..مصراته، 1999، ص 444 ـ 448.(1/200)
مسلمو الغرب واضمحلال فرضية "القرب من مراكز صنع القرار العالمي":
إنّ الانصرافَ النسبيّ لمسلمي أوروبا عن الاكتراث بالسياسات الخارجيّة، يمكن تفسيره أيضاً على نحو جزئيّ من خلال الفجوة الملموسة بين التوقّعات المسبقة والنتائج المتحقّقة. فبعض التوقّعات المسبَقة كانت تفترض أنّ وجوداً مسلماً في بلدٍ أوروبيّ ما، من شأنه أن يتيح الفرصة، للتأثير على صناعة القرار السياسيّ الخارجيّ، مع الإقرار بأنّ ذلك يتطلّب وقتاً وجهداً وموارد. وكان التعويلُ الواضح هنا على أنّ "القُرب من مراكز صنع القرار في الغرب" يمثِّل فرصةً وينطوي على مسؤوليّة، في التأثير على صنع القرار وترشيده، وعادةً ما كانت تجري الإشارة إلى "لوبيّات" (Lobbies) بعينها وربّما منحها أبعاداً عملاقة أو حتى أسطوريّة.(1/201)
إلاّ أنّ الذي يتبيّن للمعنيِّين من مسلمي أوروبا، ومسلمي الغرب عموماً، بمضيّ الوقت؛ هو أنّ هناك فارقاً بين القُرب الجغرافيّ من مراكز صنع القرار، والقُرب الفعليّ من مسالكها. بل قد يبدو أنّ الأمر يتعلّق بمعضلتيْن؛ أولاهما أن يتوفّر الإدراكُ الدقيقُ لآليّات صُنع القرار وملابساته، في الشأن السياسيّ الخارجيّ، وهو ما لا يتيسّر عموماً بالنسبة لمن ينشغلون بـ "طقوس" الساحة السياسيّة و"شكليّاتها" وتجاذباتها الطافية على السطح، كالجولات الانتخابيّة وتوزيعات المقاعد البرلمانية وألوان الحكومات واتجاهات الرأي العام، وحتى المواقف والتصريحات للمسؤولين ومقرّبيهم. فتلك المعطياتُ نادراً ما ترافقها تحوّلاتٌ عميقة في فضاء السياسات الخارجيّة للدول الغربيّة إجمالاً، إلاّ في مواسم التحوّل في المناخات الدوليّة كلّ بضعة عقود ربما. فالسياسة الخارجيّة على نحوٍ خاص؛ غالباً ما تبقى محكومةً بتوجّهات استراتيجيّة تصدر عنها، وهو ما يجعل الثباتَ في الملمح العام للسياسة الخارجيّة ملحوظاً أكثر من نظيره المتغيِّر، إذا ما قُرئت المتغيِّرات ضمن نسق زمنيّ ممتدّ بعض الشيء. والمعضلة هنا؛ أنّ النظرة السطحيّة للسياسات الخارجيّة للدول قد تُغري صاحبَها بمحاولة قراءة تلك السياسات من خلال مواقف مبعثرة مثلاً، دون أن ينفذ البصرُ إلى الأعماق، بحثاً عن الخيوط الناظمة لتلك المواقف وفرزها لتصنيف مدى جديّتها أو قابليّتها على الاستمرار.(1/202)
وعلى سبيل المثال؛ فإنّ الذين تصوّروا أنّ الموقف الألماني الرافض لتأييد حرب احتلال العراق (2003) يمثِّل خروجاً عن العلاقة التحالفيّة التقليدية بين برلين وواشنطن، فإنهم في أحسن الأحوال قد أصابوا جزئيّاً وعلى نحو محدود فقط، في ما يتعلّق باكتساب تلك العلاقة ملمَحاً استقلاليّاً من الجانب الألماني عن التبعيّة للموقف الأمريكيّ، لكنّ هؤلاء أنفسهم فوجِئوا ربما بوجود دور إسناديّ ألمانيّ، في المستويات الثانوية، للحضور العسكري الأمريكي في العراق(1). والواقع أنّ إدراك الخلفيات وفهم الأبعاد الاستراتيجية طويلة الأمد، يتيحان قدرةً أوفر على استيعاب المجريات على نحو أكثر دقّة وعمقاً، ووضعها في سياقاتها الصحيحة أيضاً.
__________
(1) على سبيل المثال، يمكن التعرّف على بعض جوانب هذا الدور الإسنادي، من خلال الوظيفة الهامة للقواعد العسكرية الأمريكية فوق الأراضي الألمانية في الوجود العسكري الأمريكي في العراق، وفي إسناده، وفي تلقي حالات العلاج لجرحى الميدان. كما يتضح في دور جهاز المخابرات الألماني (BND) في توفير خدمات معلوماتية للأمريكيين في العراق، وهو ما كُشف النقاب عن بعض تفاصيله بدءاً من خريف وشتاء 2005.(1/203)
أما المعضلة الثانية؛ فتتعلّق بالقدرة الفعليّة على النفاذ إلى مسالك صنع القرار السياسي الخارجي، ومدى حدودها. ولا ريب أنّ نجاح الأقلِّيّات المسلمة في أوروبا في تقديم سياسيِّين على المستوى المحلِّي مثلاً (في الأطر التشريعية: كالبرلمانات المحلية للولايات أو أو المقاطعات أو المحافظات، أو مجالس البلديات، وما في حكمها، أو في الأطر التنفيذية: كالإدارات المحلية وحكومات المقاطعات)؛ لا يعني تلقائياً القدرة على الولوج بالمدى ذاته إلى المستوى القُطري تشريعيّاً أو تنفيذيّاً، في ما أنّ الوصول إلى دوائر السياسة الخارجيّة ذاتها له شأنٌ آخر وحيثيّات أكثر تعقيداً. وفوق ذلك؛ فإنّ وصول أفراد مسلمين إلى تلك الأوساط لا يعني مباشرةً أنهم يُعبِّرون بالضرورة عما يخامر الأقلية المسلمة من تطلّعات ورؤى وهموم في الشؤون ذات العلاقة، أو أنهم يتمتّعون بفرص التأثير الفعليّ في صناعة القرار.
إنّ لفت الانتباه إلى هاتَين المُعضِلَتين، أي إدراك مسالك السياسات الخارجية وآليات عملها والأطراف الفاعلة فيها من جانب؛ والقدرة على النفاذ إلى تلك المسالك والأوساط والتأثير الفعلي على النحو الرشيد فيها من جانب آخر؛ لا يُقصد منه القطع باستحالة هذا المطلب؛ وإنما مجرّد إضفاء لمسةٍ واقعيّةٍ عليه، ومحاولة تفسير جانب من خلفيّات التراجع النسبيّ في اكتراث مسلمي أوروبا بالتأثير على السياسات الخارجية.(1/204)
وقبل عقد ونصف العقد (سنة 1991)، قال أحد الشخصيّات المسلمة البارزة في الساحة الأمريكية "لقد أراد الله أن يَمتَحِن إيمانَنا هنا في القدرة على التعامل مع مركز القوى العالمي، الذي تتفرّد به الولايات المتحدة اليوم، فهي التي تقرِّر مصير العالم الإسلاميّ وغيره، وهي التي تقرِّر (...) استمرار الوضع أو تغييره في أي بلد، سواء كان ذلك بالغزو الإعلامي أو الاقتصادي أو العسكري (...)"(1).
__________
(1) الحديث للدكتور جمال البرزنجي، أحد قيادات الساحة الإسلامية الأمريكية ووجوهها المعروفة، وقد جاء النص في سياق عرضه وتلخيصه وتعليقه على وقائع ندوة عقدت في فرجينيا بالولايات المتحدة بين 19 و21 تموز (يوليو) 1991 عن "مستقبل العمل الإسلامي". انظر:
البرزنجي، جمال: "عرض وتلخيص لوقائع الندوة وأهم مقترحاتها". في: بن يوسف، أحمد (محرِّر): "مستقبل العمل الإسلامي ـ الحركة الإسلامية في ظل التحوّلات الدولية وأزمة الخليج". شيكاغو، 1991، ص 502.(1/205)
وإزاء تقديراتٍ كهذه كانت تحظى بقدر من الرَّواج في أوساط مسلمي الغرب في ما مضى؛ فإنّ الأمر بات يستدعي التمييزَ بين القُربِ الجغرافيّ المجرّد من مراكز القوى، والقرب الفعلي منها بما يفيد من أهليّة النفاذ إلى مسالك التأثير وصناعة القرار. ولعلّ ذلك هو ما يدفع مفكِّراً مثل الدكتور طه جابر العلواني، لأن ينبِّه إلى أنّ سطحية "تصوّر أنّ مجرّد الحصول على الإمكانات المادِّيّة سوف يجعلنا (مسلمي الولايات المتحدة) قادرين على منافسة اليهود على قلوب الأمريكان وعقولهم، (تلك) إشارات متفائلة جداً، وتحتاج من هؤلاء الأخوة إلى مراجعة، و(هي) تهمِل المنظومةَ الحضاريّةَ والثقافيّةَ لهذه الأمّة التي نعيش في ما بينها، وعلينا أن نُدرك الآخَر، أن نُدركَ ثقافتَه وحضارتَه وما يحمل، لا ينبغي أن نتصوّر أنّ هذه الحضارة الجبّارة القاهرة ذات المَعِدة الضخمة الهاضمة أنها تنتظرنا لكي نحوِّلها ونُجري فيها عمليات التغيير بكل هذه السهولة، لا، إنّ هناك أموراً مركزيّة، وهناك أمورٌ لا بدّ من دراستها، ولا بدّ من الوعي بها، لكي لا نغرق في التفاؤل، ولكي لا نذهب بعيداً ونكون سطحيِّين (...)"(1).
عن التوازنات الداخليّة بشأن "القضايا الإسلامية" في السياسات الخارجية الأوروبية:
__________
(1) الحديث للدكتور طه جابر العلواني، أحد الشخصيات البارزة في الساحة الإسلامية الأمريكية علاوة على حضوره في ساحة الفكرية الإسلامية ككلّ، وقد جاء النص في سياق كلمته الختامية في ندوة عقدت في فرجينيا بالولايات المتحدة بين 19 و21 تموز (يوليو) 1991 عن "مستقبل العمل الإسلامي".
العلواني، طه جابر: "كلمة ختامية" في: بن يوسف، أحمد (محرِّر): "مستقبل العمل الإسلامي ـ الحركة الإسلامية في ظل التحوّلات الدولية وأزمة الخليج". شيكاغو، 1991، ص 506.(1/206)
لعلّ إحدى الخصائص التي قد تغيبُ عن الأذهان في ما يتعلّق بالمدى الذي يمكن لمسلمي أوروبا أن يتعاطَوْا بموجبه مع السياسات الخارجيّة لبلدانهم ذات الصِّلَة بالعالم الإسلاميّ؛ أنّ طبيعة التجاذبات المتشابكة في الساحة السياسيّة الأوروبيّة، تقومُ على أساس اعتبار الأقلِّيّات أو المجموعات المجتمعيّة أطرافاً معنيّة بالقضايا التي يُفتَرَض أنها ذات صلة بها أو باهتماماتها. أي أنّ الأطراف الحاضرة ضمن معادلات التجاذب، أو التي تُشرِفُ على إدراتها وضبطها أو التعاطي معها، عادةً ما تأخُذُ بعين الاعتبار أنّ المسلمين معنيّون بدرجة أو بأخرى بالقضايا "المُجمَع عليها" في العالم الإسلامي أو بما يتعلّق بالأمة الإسلامية على نحو أعمّ، كقضية فلسطين، أو رفض المساس بالمقدّسات (أزمة الرسوم مثلاً)، أو كقضية البوسنة والهرسك في ما سبق، أو قضية الحرب على العراق في ما بعد. وهنا يُفتَرَض أنّ توازن المعادلة بين شدّ الأطراف وجذبها؛ قد يكون عرضةً لاختلالٍ، أو لمزيد من الاختلال، إذا ما توفّرت في الساحة أطرافٌ تعمل في الاتجاه النقيض لما يرى المسلمون أنه من مقتضيات العدل والحريّة والإنصاف مثلاً. وهنا تثور تساؤلاتٌ وإشكاليّاتٌ؛ عن المدى الذي يمكن للمسلمين أن يُحَيِّدوا معه موقفَهم إزاء قضيّة ما من هذه القضايا، ضمن ما قد يعتمل في الساحة السياسيّة التي هم على تماسٍ معها، في ما تشهد تلك الساحةُ انشداداً مثلاً إلى مربّعات الأطراف النقيضة من هذه المسألة أو تلك. أي أنه لا مناص من الموازنة الواعية بين مقتضيات النطاق الذاتيّ للوجود المسلم في بلد ما، وفي الإطار الأوروبي العام من جانب؛ ومقتضيات الانتماء إلى الأمّة ككلّ و"الأخوّة في العقيدة" من جانب آخر، علاوة على ما يستتبع الانتماءَ الى النطاق الإنسانيّ العام من أدوار والتزامات، وهذا ما ينبغي أن يراعى في تراتبيّة الأولويات بالنسبة للمشاركة السياسيّة للمسلمين.(1/207)
إنّ "رضى" قطاع مجتمعيّ أو أكثر، بما في ذلك الأقلِّيّات ذات الحضور، أو "استيائه"، من موقف سياسيّ ما؛ ليس بالبُعد الذي يمكن لصانعي السياسات أن يتجاهلوه، حتى وإن كان تأثيرُ ذلك ضئيلاً للغاية على صناعتهم الفعليّة للقرار. ولكنّ التأثيرَ قد يأتي في المستويات الثانوية، عبر التخفيف من الانجراف في بعض القرارات أو كبح التمادي في تطبيقها، ومراعاة تداعياتٍ لها، أو ربما بمحاولة كسبِ "تفهّم" القطاع المجتمعيّ المعنيّ أو حتى "استرضائه" لهذه المواقف. ولكنّ تحييد المواقف أو حتى إظهار الرضي قد يُغري بالنقيض أحياناً، وقد يغوي بعضاً من صانعي السياسات بالذهاب بعيداً، والإسراف في بعض التطبيقات المثيرة للانتقاد، طالما تراءى لهم في هذا النهج شيئاً من المصالح المُحتَمَلة أو المكاسب المُتوهَّمة. أي أنّ مُخرَجات (Outputs) تحرّكات التأثير السياسي لا يمكن حصرُها في القرار السياسيّ المجرّد عن جملةٍ من الملابسات والتداعيات وردود الأفعال والمكاسب أو الأضرار الجانبية.
مسلمو أوروبا .. وخيارات الدور الوسيط في العلاقة الأوروبية مع العالم الإسلامي:(1/208)
على أيّ حال؛ فإنّ هناك اتجاهاً واضحاً في أوساط مسلمي أوروبا لإبراز دورهم في تطوير العلاقة بين القارّة والعالم الإسلامي، وهو ما عبّر عنه مثلاً "ميثاق المسلمين في أوروبا" (Muslims of Europe Charter)، الذي جاء فيه "إنّ الإسلام بمبادئه الإنسانيّة العالميّة يؤمِنُ بالتقارب العالميّ الذي يحترم حقوق الشعوب وخصوصيّاتها، ويلتزم بقواعد العدل في التبادل والتعاون بين الناس، بعيداً عن كل أسباب الهيمنة والاستغلال. ومن هذا المنطلق؛ فإنّ المسلمين في أوروبا يدركون أنّ من واجبهم أن يساهموا في توطيد العلاقةِ بين أوروبا والعالم الإسلامي، وأنّ من مستلزماتِ ذلك؛ العمل على التخلُّص من الصورة النمطيّة السلبيّة بين الإسلام والغرب، من أجل بناء أواصر التواصل بين الشعوب والتفاعل المثمر بين الحضارات"(1).
وعن فكرة "الجسر" الرابط بين أوروبا والعالم الإسلامي؛ يقول إقبال سكراني، الأمين العام السابق للمجلس الإسلامي البريطاني (MCB)، "لدينا كلّ الثقة بأننا نستطيع بمشيئة الله، من خلال العمل الجاد ودعم أصدقائنا وشركائنا، أن نوجد معاً مجتمعاً مسلماً بريطانياً مشارِكاً ويتمتّع بالموارد والحيويّة، يكون بمثابة جسرٍ ضروريّ ما بين الشعوب هنا وفي جميع أنحاء العالم"(2).
__________
(1) المادة 23، "ميثاق المسلمين في أوروبا". فيينا، نيسان (أبريل) 2006.
(2) جاء ذلك في سياق تعريف عن المسلمين في بريطانيا، على موقع وزارة الخارجية البريطانية على الإنترنت، على الوصلة التالية:
http://www.fco.gov.uk/servlet/Front?pagename=OpenMarket/Xcelerate/ShowPage&c=Page&cid=1089129265351(1/209)
وما قد يبدو لافتاً للانتباه بعض الشيء؛ أنّ وَجْهاً جديداً إلى حدِّ ما من وجوه التعاطي مع السياسات الخارجيّة، آخذٌ بالبروز في واقع مسلمي أوروبا. إنه يتعلّق بدورِهم كوسطاء في بعض جوانب العلاقة الأوروبيّة مع العالم الإسلاميّ، وخاصة في ظلّ التطوّرات الداهمة أو المنعطفات المأزومة، وانطلاقاً من مواطنتهم الأوروبيّة.
ولعلّ تجربة مسلمي السويد في التوسّط للإفراج عن مواطنيهم العالقين في بغداد، الذين اعتُبروا بمثابة رهائن أو مُحتَجزين، إثر غزو القوات العراقية للأراضي الكويتية في آب (أغسطس) 1990؛ قد مثّلت مؤشِّراً أوَليّاً على ذلك، خاصة مع نجاح مسعى الوساطة ذاك، والذي لفت الاهتمام إلى مخزون الأدوار الإيجابيّة التي يمكن للوجود المسلم في أوروبا أن يقوم بها، في محطّات كهذه على الأقل.
ومنذ احتلال العراق (2003) وتوالي حوادث خطف رهائن أوروبيِّين، بدءاً من اختطاف اثنين من الصحافيِّين الفرنسيِّين في نهاية صيف 2004؛ فإنّ المؤسّسات الإسلاميّة في أوروبا أخذت تُكَثِّف من اهتمامها بهذا الملف، بإطلاق المناشدات تِلْوَ الأخرى، وبالقيام بزياراتٍ خاطفةٍ إلى بغداد لحثّ العلماء المسلمين العراقيين فيها على تكثيف مساعيهم للتوسّط في هذا الشأن.(1/210)
ورغم أنّ المؤسّسات الإسلاميّة في أوروبا قد قامت بمساعيها تلك من منطلق التوجيهات الإسلاميّة والالتزامات الإنسانيّة والأخلاقيّة والشراكة في المواطنة، كما تؤكد؛ فإنّ تلك المساعي والتحرّكات يمكن أن تندرج أيضاً، بشكل أو بآخر، ضمن الإطار العام لمشاركتهم السياسية. إلاّ أنّ الأمر على هذا النَّحو لن يفتقرَ إلى أبعادٍ حسّاسة أيضاً. وما ينبغي قولُه هنا على أيّ حال؛ أنّه كان هناك حرصٌ واضحٌ من جانب مسلمي أوروبا، على عدم تسييس تلك المساعي، وإبقائها في نطاقها الإنسانيّ البحت، إذ لم يتمّ عمليّاً استثمار تلك المواقف سياسيّاً أو حتى إقامة صلات تُذكَر مع من أُطلق سراحهم بالفعل بعد اختطافهم، رغم المفعول الحاسم أحياناً الذي اضطلعت به المناشدات الحثيثة التي أطلقها مسلمو أوروبا في إطلاق سراحهم.
وإزاء تقديرات بعض النُّخَب المسلمة في أوروبا، بأنّ المسؤوليّة الأدبيّة تُملي عليها السعيَ لتجسير الفجواتِ بين أوروبا والعالم الإسلامي؛ فإنّ المستوى السياسيّ في البلدان الأوروبيّة قد يرى أدواراً مجديةً للحضورِ المسلم لديه ضمن إدارته للعلاقة مع العالم الإسلامي أيضاً.(1/211)
فعلى نحوٍ أَعَمّ؛ يمكن ملاحظة كيف أنّ العلاقة مع الأقلِّيّة المسلمة آخذةٌ في تبوّؤ موقعٍ لها في السياسات الخارجيّة لعديد الدول الأوروبيّة، ولو بصفة شكليّة أو دعائيّة. فالرسائل التي تحرصُ بعض الحكومات الأوروبيّة على إيصالها إلى العالم الإسلاميّ؛ تتضمّن عادةً أنّ المسلمين لديها يعيشون حياة سوية ويتمتّعون بالحريّة الدينية والحقوق المقرّرة لهم(1). ومن الواضح أنّ الولايات المتحدة سبقت في قيامها بمحاولات شبيهة(2).
__________
(1) مثلاً؛ يتضمن الموقع العربي لوزارة الخارجية البريطانية على الإنترنت www.fco.gov.uk عرضاً موسعاً عن الإسلام والمسلمين في بريطانيا.
(2) في هذا السياق؛ تعمد وزارة الخارجية الأمريكية إلى تشكيل وفود تضم أئمة مسلمين للحديث عن أوضاع إيجابية مفترضة لمسلمي الولايات المتحدة، علاوة على برامج تقوم بها السفارات الأمريكية للتواصل مع البلدان والأقليات المسلمة، وباتت تشتمل على تقاليد دورية ثابتة مثل إقامة موائد إفطار رسمية في شهر رمضان، وهو ما تقوم به بالفعل السفارات الأمريكية في معظم العواصم الأوروبية منذ عام 2002 وتدعو إليها قيادات المسلمين في كلّ بلد، وإن كانت هذه الدعوات تقابل في العادة باهتمام فاتر يصل أحياناً إلى حدّ المقاطعة على خلفية السياسات الخارجية والحربية الأمريكية المثيرة للانتقاد. وانظر أيضاً ملفاً خاصاً على موقع وزارة الخارجية الأمريكية باللغة العربية تحت عنوان "هكذا يعيش المسلمون في أمريكا"، على الوصلة التالية:
http://usinfo.state.gov/arabic/muslimlife/homepage.htm(1/212)
ومن المُتوقّع أن يكونَ من بين موجِّهي السياسات الخارجيّة الأوروبيّة، من يأمل في كسب مواقف مسلمي أوروبا أو تحييدها، أو تخفيف اتجاهاتها "غير المرغوبة" على الأقلّ، في ما يتّصل بمتعلّقات السياسة الخارجيّة. وفي واقعٍ لا تبدو مَعَهُ الشعوبُ الأوروبيّةُ على اطلاعٍ وافٍ أحياناً على مجريات السياسة الخارجيّة لحكوماتها، بما يعتورها من ملابسات أو يترتّب عليها من أبعاد؛ لا يُنتَظَر أن يكون مسلمو أوروبا استثناءً مميّزاً من ذلك. ولكنّ الاهتمام النسبيّ للوجود المسلم في أوروبا ببعض ملفّات السياسة الخارجيّة، خاصّةً ما يتعلّق بالقضايا الساخنة والملحّة للعالم الإسلامي؛ لا يجعل موجِّهي السياسات بمعزلٍ عن الحرص على استمالة هذا الاهتمام أو جعله أكثر تساوقاً مع الاتجاهات المرغوبة تحاشياً لتعارض التأثيرات في بعض مسارات السياسة الخارجيّة المثيرة للجدل. ومن الواضح أنّ الحكومات تجد في أيديها "أوراقاً" جدِّيّة للتأثير أو حتى الضغط، ليس أقلّها استبعاد طرف ما في ساحة المسلمين من الاهتمام في التواصل، بل وتوفّر إمكانيّة تهميشه إلى أقصى ساحة تمثيل المسلمين، والتي تبقى ساحةً غير مستقرة وقابلة لبعض التبدّلات النسبية في الأدوار وتوازنات الفاعلين داخلها. إلاّ أنّ ذلك كلّه يبقى له تأثيرٌ رادِعٌ وحسب، يجعل أداءَ الأطراف المسلمة وخطابها واتجاهات مواقفها ومدى الجدِّيّة أو حتى الحدّة في تلك المواقف، محكومةً بحسابات مَسبَقَة، وتوازناتٍ، قد تنتهي بها إلى تكييف الخطاب والمواقف مع الاتجاهات السائدة، أو إضعاف حضور بعض الجوانب أو النقاط في خطابها المتعلِّق ببعض السياسات، وليست السياسات الخارجيّة سوى أكثرها حدّة في الغالب.(1/213)
وقد تبدو هذه المفارقةُ أحياناً بوصفها تعبيراً واقعيّاً عن اختلال التوازن بين الأغلبيّة والأقلِّيّة. فالمسلمون في ملفٍ ما يَكتَرثون به على نحو خاصّ، قد يجدون أنفسَهم إزاء أغلبيّة صامتة أو غير مُدرِكةٍ لبعض أبعاد هذا الملف تاركة شأن التصرّف فيه للطبقة السياسية ذات الصِّلة (وزير الخارجية ومساعدوه والمؤسسات التي تعمل على توجيه السياسات الخارجيّة أو التأثير عليها). ومن هنا؛ وَجَبَت الإشارة إلى أنّ الخيار الذي لا غنى عنه لمسلمي أوروبا في الشأن السياسيّ، كما يتضح في مثل هذه الحالات أيضاً؛ هو خيارُ بناء التحالفات والشراكات، والسعي لإنضاج حالة من الاصطفاف المجتمعيّ والسياسيّ حول شتى المسائل والاهتمامات ذات العلاقة، ووضع مواقف المسلمين قَدْرَ الممكن ضمن النسيج المجتمعيّ والسياسيّ المتشابك، لا عزله عنه. ولكنّ ذلك لا يمثِّل خياراً متيسِّراً، بل يقتضي بذلَ الجهود الحثيثة والتراكميّة والكفؤة قالباً ومضموناً، وهو ما يأتي على أيِّ حال في صميم فعل المشاركة السياسية التي لن تحقّق جدواها على نحو هَيِّن أو تلقائيّ.(1/214)
ولا بدّ في سياق التطرّق إلى مسائل السياسة الخارجيّة من ملاحظة أنّ منسوب الأهمِّيّة لتفاعل مسلمي أوروبا مع هذه السياسات قد تتفاوت باعتبار المكان والزمان. فالسياساتُ الخارجيّةُ للبلدان الأوروبيّة ذات الوزن الدولي الأبرز (وهي هنا بريطانيا وفرنسا وألمانيا أساساً)، وهي قليلةٌ بالنظر إلى المجموع الأوروبيّ العام، تبدو أهم وأكثر فاعلية من نظيرتها الخاصة بدول تلي ذلك التصنيف في تراتبيّتها، والتي تتبايَنُ في ما بينها في أهمِّيّة سياستها الخارجيّة. إذ تبدو الدولُ الأبرزُ ممسكةً بزمام السياسة الخارجيّة لأوروبا الموحّدة ككلّ، وطرفاً مباشراً أحياناً أو غير مباشر في كثير من الملفّات والأزمات السياسيّة حول العالم. ومع ذلك؛ فلا ينبغي التقليلُ بحالٍ من أهمِّيّة العناية بالسياسات الخارجيّة للدول الأخرى، خاصة وأنها قد تكون نقاطَ توازنٍ أحياناً في بعض مجالات السياسة الدوليّة، كما أنّ منها دولاً تكتسبُ سياساتها الخارجيّة طابعَ الحياد أو الحياد النسبيّ، مثل سويسرا والنمسا والسويد وفنلندا وأيرلندا، بما يمنحها وزناً خاصاً في حل النزاعات والتعاطي الإيجابي مع الصراعات في بؤر العالم الملتهبة، أو يتيح لها فرصاً لإنعاش جهود التواصل والحوار والوساطة. أما من الناحية الزمانيّة؛ فإنّ إيلاء الاهتمام للسياسات الخارجيّة يتزايَدُ أو يتضاءل بالنظر لجملةٍ من المتغيِّرات والمستجدّات والتطوّرات، كزمن الحروب مثلاً. ولذا؛ فإنّ ما يُقْبَل غضُّ الطرف عنه في وقتٍ ما؛ قد لا يبدو مسوّغاً في غيره، خاصة في ظل المنعطفات التاريخيّة والمحطّات التي تنفتحُ على مآلاتٍ جسيمة.
مسلمو أوروبا والتفاعل مع السياسات الخارجيّة .. نحو مشاركةٍ أكثر عمقاً:(1/215)
إنّ التفاعلَ مع السياسات الخارجيّة للدول الأوروبيّة، لا ينبغي أن يقتصرَ على على خطوةٍ في هذا الملف أو أخرى في غيره، بل وإضافة إلى ذلك؛ يتوجب أن يَلتَفِتَ إلى أهمِّيّةِ التأثير على الخلفيّات التي تَصدُرُ عنها الخطواتُ السياسيّة في الملف المعنيّ أو غيره، بحيث لا يجري التوقُّفُ عند حدود "التكتيك السياسيّ" بل التعاطي ضمن "فضاء التوجّهات الاستراتيجيّة".
ثم إنّ أحد الجوانب التي تتطلّب قدراً من العناية لمن يروم التأثير على السياسات الخارجيّة؛ هو جانب التقاليد والمعايير التي تخضع لها السياسات الخارجيّة، وتَصدُرُ عنها المواقفُ وتتكيّفُ معها الخطوات المتّخذة. ولا جدالَ في أنّ تعديلَ بعض تلك التقاليد وتحوير بعض المعايير المتّبعة، مما لا يكون مكتوباً أو منصوصاً عليه في العادة؛ لا يبدو بالأمر اليسير، فهي أقربُ إلى الثبات منها إلى الحراك، لكنّ تعديلَها كان لا بدّ منه لتصحيح بعض جوانب السياسات الدوليّة في ما سبق ومعالجة جوانب خَلَلٍ متفاقمةٍ. هكذا أمكن مثلاً طيُّ صفحة الاستعمار التقليدي في أواسط القرن العشرين(1)، كما أُتيح عزلُ نظام "الأبارتهيد" (الفصل العنصري) في جنوب أفريقيا وفرض عقوباتٍ عليه وصولاً إلى سقوطه، ولم يكن خافياً أنّ هذه التحوّلات تطلّبت مراجعاتٍ في ثنايا التقاليد والمعايير السائدة في السياسات الخارجية للدول، وبخاصة في أوروبا، ولا شكّ أنّ نشوءَ رأي عام جارفٍ مواكبٍ لتفاقم الأزمات المرتبطة بكل ملف منها وتَبَلْوُرَ حالةٍ من الرَّفْضِ أو حتى المقاومة في المناطق المتضرِّرة؛ كلّ ذلك وفّر ظروفاً استدعت المراجعة، وأظهرت أنّ الكلفة اللازمة للاستمرار في تحقيق مصالح ما مُفتَرَضة باتت باهظةً وبما يفوق الجدوى المصلحيّة المنشودة.
__________
(1) وإن نشأت في مرحلة ما بعد إعلانات الاستقلال في العالم الثالث حالة يصفها بعضهم بالاستعمار الجديد أو ما بعد الاستعمار.(1/216)
بل تستنتج مونيك شومييه ـ جاندرو (Monique Chemillier - Gendreau)، الأستاذة في جامعة باريس السابعة "دني ديدرو"، أنّ "الشعب الفيتنامي والشعب الجزائري وشعوب أفريقيا (التي وقَعت) تحت الاستعمار البرتغاليّ؛ لم تربح حروبها ضد الغرب بموجب ميزان قوى مادِّيّة بل على العكس ربحتها بقوّة الفكرة، فكرة التحرّر وبروز تغيير في المعيار القانونيّ مع تأكيد مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها، وهذا ما انهى شرعية الاستعمار المعتَرَفِ به حتى ذلك التاريخ"(1).
__________
(1) مونيك شومييه ـ جاندرو، مونيك: "في سبيل نظام عالمي ديمقراطي عام". لوموند دبلوماتيك (صحيفة)، باريس، كانون الأول (ديسمبر) 2002.(1/217)
وهكذا؛ يجدر التوجّه للإسهام في معالجة بعض الاختلالات الماثلة في جوانب متفرِّقة من السياسة الخارجيّة للدول الأوروبيّة. ومن ذلك ما يتعلّق بقضية فلسطين المزمنة والذي تعدّ أوروبا طرفاً مباشراً في نشوئها واستمرارها. ومنها ما يتّصل بمواقف أوروبا من سياسات الحصار والعقوبات الاقتصادية و"التجويع" ضد بلد أو آخر، والتي تُعتَمَدُ أحياناً رغم ما تخلِّفه من انعكاسات سلبيّة على المدنيِّين بمقاييس كارثيّة أحياناً. كما تلحقُ بذلك المآخذُ على السياسات الخارجيّة لبعض الدول الأوروبية في ملفّات بعينها، والانتقادات الموجّهة إليها، كالقول بانطوائها على "معايير مزدوجة" في مسائل عدّة. ومن المجالات الأخرى ما يتّصل بمراعاة حقوق الإنسان في السياسة الخارجيّة، أو من قبيل بعض مكامن القصور في السياسات الاقتصاديّة ذات الانعكاسات الخارجيّة السلبيّة(1). إنّ هذه المجالات وغيرَها مما يوجِّه الاهتمامَ إلى الحاجة الماسّة إلى إعادة النظر في التقاليد والمعايير التي تَصدُرُ عنها السياساتُ وتتماشى معها، خاصة مع الحاجة إلى ترشيد الحضور الأوروبيّ في الساحة السياسيّة الدوليّة، اتعاظاً من دروس الماضي الأوروبي والحاضر الأمريكي.
__________
(1) كسياسة الدعم الزراعي الداخلي مثلاً والذي يحرم مزارعي "الجنوب" من المنافسة المتكافئة فيفاقم من أزمة الفقر التي يعانون منها ويحرمهم من منافع "انفتاح الأسواق" بل وقد يجعلهم ضحايا لذلك "الانفتاح".(1/218)
ولا ينبغي هنا إغفال الطابع الشاقّ والمعقّد والنسبيّ وطويل الأمد، لإنجاز مهمة تغيير عناصر راسخة في التقاليد والمعايير السائدة في ساحة السياسات الخارجيّة للدول الأوروبية. كما لا يجوزُ بالمقابل إغفالُ أهمِّيّة السعي إلى تحقيق مكتسبات جزئيّةٍ مؤقتة ضمن مواقف أو خطوات مهما بدت عرضيّة، بمعنى أنّ المطروح في ساحة المشاركة السياسية ليس التغييرُ الجذريّ الذي يقوم على منطق "إما ـ أو"، وإنما على أساسٍ من تفاعل مستمر وواعٍ ضمن الساحة الأوروبيّة العامّة. فما تجدُر مراعاتُه أيضاً؛ هي أهمِّيّة وضعِ التوجّهات والمطالب في سياقاتها الملائمة، وهو اشتراطٌ واقعيٌّ لا غنى عنه للسعي لتحقيق مكتسبات أو ممارسة التأثير من أي طرف كان من الأطراف في الساحة الأوروبيّة.
مراعاة الأولويات وإدراك التباينات في البيئات الأوروبية وكيفية التعاطي معها:
إنّ تفاعل المسلمين مع السياسات الخارجية أمرٌ إيجابيّ ومرغوبٌ، ويفترض أن ينمّ عن وعي يقتضي الترشيد المستمر كي يكون بنّاءً ومنسجماً مع حضور مجتمعيّ فاعل. إذ ينبغي أن يجري ذلك بشكل واعٍ يستصحب أولوّياتٍ الوجود المسلم في أوروبا واحتياجاته ومتطلّباته العديدة، والتي يُفتَرَضُ أنها لا تتناقض مع التعاطي الرشيد مع السياسات الخارجيّة من حيث المبدأ.
ولكنّ الأمر لا يبدو على هذا القَدْرِ من البساطة كما يتوهّم المرءُ، ذلك أنّ الخطوطَ الفاصلة بين مدى التفاعل "المنشود" ونظيره "غير المحبّذ" مع السياسات الخارجية، ليست واضحةً بعدُ، وقد لا تتضح بسهولة، والأهم أنّ هناك تفاوتاً ملموساً بشأنها بالمقارنة بين واقع المسلمين في بلد أوروبي ما وواقعهم في غيره، بل وضمن نطاق الوجودِ المسلم في البلد أو الإقليم الواحد أيضاً.(1/219)
ومن المستَبعَد أن يُحسَمَ الجدلُ الداخليّ في بعض الأوساط المسلمة بهذا الشأن. إذ يكفي مثلاً أن يُلاحِظَ المرءُ موقفَ المؤسّسات الإسلامية في بلدٍ كألمانيا(1)بالمقارنة مع نظيرتها في بريطانيا(2)، في ما يتعلّق بالتعاطي مع السياسة الخارجيّة.
وما يقتضي الدرسَ والتقصِّي عنه هنا؛ هي احتمالات وجود ظروفٍ ضاغطة في الواقع المحلِّيّ الألمانيّ على الأقلِّيّة المسلمة تدفعُها إلى كَبْتِ صوتها وتضييق حضورِها وانكماشها على الذات، وهو ما يثير التساؤلَ عن المدى الذي يمكُن للمسلمين أن يتسامحوا معه عن هذه الحالة المُفترَضة.ومن جانبٍ آخر؛ فإنّ الخبرةَ البريطانيّة في الانفتاح على العالم والتعاطي مع الشأن الدوليّ من موقع "الدولة العظمى"؛ ربما كان لها مفعولها في ساحةِ مسلمي بريطانيا.
لقد بات المسلمون في ألمانيا يواجهون في الإعلام والسياسة، وباستمرار، ضغوطاً متزايدة تمنح الانطباع بأنّ المطلوب هو "البرهنة على الولاء" وفق الطريقة التي يختارُها السياسيّون (المحافظون في الغالب)، أو التي تحدِّدها السلطات الملحَقَة بوزارة الداخليّة والتي تحمل اسم "هيئة حماية الدستور" (Verfassungsschutz)، التي تُصدِر سنوياً تقارير تُفَصِّلُ فيها القول عمّن هو "جيِّد" بالنسبة للدولة والمجتمع، ومن "ليس كذلك"، وفق معايير متّهمة بالإجحاف. ومن الواضح أنّ ملابساتٍ كهذه ليست واردةً في البيئة البريطانيّة، التي لا تُتَخَيّل فيها إمكانيّةُ إغلاق مدارس مسلمة عريقة كما جرى في ألمانيا مثلاً في السنوات الأخيرة.
__________
(1) كما في حالة المجلس الأعلى للمسلمين في ألمانيا (ZMD) والمجلس الإسلامي لألمانيا (Islamrat).
(2) كما في حالة المجلس الإسلامي البريطاني (MCB) والرابطة الإسلامية ببريطانيا (MAB).(1/220)
ولتوضيح بعض الفوارق في المناخات السياسيّة والمجتمعيّة بين بلد أوروبي وآخر؛ يُلاحَظ أنّ مسلمي بريطانيا في الوقت الذي انخرطوا فيه بقوة في السنوات الأخيرة في مظاهرات معارِضةٍ للحرب على العراق ومندِّدة بمجازر الاحتلال في فلسطين ومدافعة عن "حق الحجاب"؛ لم يتمكّن مسلمو فرنسا من تحريك أكثر من مسيرات وُصفت بأنها "خَجولة" ومحدودة العدد والحجم دفاعاً عن حق التلميذات المسلمات في الزي في البلد ذاته الذي ارتبط بالقضية، أما مسلمو ألمانيا فلم يتمكّنوا من تنظيم أية فعاليات تنديدية تُذكر حتى بإغلاق مدرستين أو امتهان العديد من مساجدهم من قبل قوات الأمن، وسط ما يُشبه حالةً من الصمت العام في الوسط المسلم حتى عن إصدار المواقف والتصريحات، وهو ما قد يُغري بالمزيد من التجاوزات ويحمل نُذُراً غير مشجِّعَةٍ على تحسّن مستقبليّ.
وفي كلّ بيئةٍ من هذه البيئات تقريباً؛ كان هناك جدلٌ داخليّ أيضاً، تحذيراً من "الاندفاع" و"التهوّر" تارةً، أو "الركون" و"التقاعس" تارةً أخرى. ولكن قد تكفي هذه الشواهد لملاحظةِ الهوامش المتبايِنة للمشاركة السياسيّة والمجتمعيّة، من بيئةٍ أوروبيّة إلى أخرى. وسيكون من مسؤوليّات هذه المشاركة؛ توسيع الهوامش وضمان الفرص المتكافئة لجميع المكوِّنات المجتمعيّة في الحضور الواثق بالذات والتفاعل المتبادل.(1/221)
وما قد يُوَضِّح أيضاً المدى الذي يمكن أن تكتسبه مسألة المشاركة السياسيّة للمسلمين من تبايُنٍ جَليّ في الخصوصيّات بين بلدٍ أوروبيّ وآخر، بالنظر لبعض الملابسات التي تكتنفها؛ يمكن الإشارة إلى الحالة اليونانيّة كمثال. إذ يَفرِضُ الجانب التاريخيّ في العلاقة مع الوجود المسلم في البلاد (مسلمو تراقيا الغربية أساساً) حضورَه على مسألةِ مشاركة المسلمين في الساحة السياسيّة، مع حساسيّة ملحوظة من حضور "العامل التركي" الشائك في هذا الملف. ويَتْرُكُ هذا العاملُ انعكاساتٍ بالفعل في مجالات شتى. فمثلاً؛ عندما أصدرت الحكومة اليونانية في العام 2000 قراراً يقضي بحذف الإشارة إلى الانتماء الدينيّ في البطاقات الشخصيّة ورفعت رسمياً القيدَ عن انضمام المسلمين إلى الهيئات الأمنيّة والقوات المسلّحة؛ تضمّنت ردودُ الأفعال التي أعقبت إلغاءَ هذه العقبات ذات الأثر التمييزي، الإعراب عن القلق من مغبّة "استغلال" تركيا لمسلمي اليونان في اختراق أجهزة الجيش والمؤسسات الأمنيّة، وهو ما يتساوق مع شعارات "الطابور الخامس" التقليدية(1). وما هو مؤكّدٌ على أيّ حال أنّ ذلك القرار الرسمي لا يعني زوالَ القيود الفعليّة والعقبات العمليّة التي تحولُ دون التحاق مسلمي اليونان بقطاعات الجيش والأمن، خاصة مع إمكانية التقصِّي بوسائل شتى عن الانتماء الديني للراغبين في الالتحاق بهما.
الفصل السابع:
كيف تكون المشاركة؟
بحثاً عن مداخل لتطوير تجارب المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا
عن مفهوم المشاركة السياسيّة الرشيدة لمسلمي أوروبا:
__________
(1) انظر مثلاً ما نشرته صحيفة "إخورا" اليونانية، من مواقف وردود فعل في هذا الشأن، في عددها الصادر في 12 حزيران (يونيو) 2000 تحت العنوان العريض "مسلمون في الجيش والشرطة".(1/222)
يُقصد بالمشاركة السياسية الرشيدة لمسلمي أوروبا، ما يُبتغَى منه تحقيقُ تفاعلِهم الإيجابيّ المثمر مع الساحة السياسيّة، بشتى الأشكال الممكنة، بالصورة التي تتوافق مع خصوصيّات الساحة الأوروبيّة وتستهدي أيضاً بالتوجيهات الإسلاميّة.
إنّ تعبير "الرشيدة"؛ إنما يُراد منه تمييز المشاركة السياسيّة المنشودة من جانب مسلمي أوروبا، عن أيّة صور أو أشكالٍ من المشاركة مما قد لا يتوافق مع المقاصد العامة المثلى، أو مما يُهمِل الأهداف العامة أو المباشرة التي ينبغي مراعاتها، أو حتى مما لا يعتمد الوسائل والأدوات المقبولة.
المشاركةُ السياسية الرشيدة لمسلمي أوروبا ـ في مقاصدها العامة:
تتمثّل المقاصدُ العامة للمشاركة السياسيّة الرشيدة لمسلمي أوروبا في الإسهام الحسن في التأثير الإيجابي على السياسات وصناعة القرارات في شتى مستوياتها الممكنة، انطلاقاً من حقوق المواطنة وواجباتها، وأخذاً بعين الاعتبار الثقافة والتقاليد السائدة في الساحات السياسيّة الأوروبية، وتمثّلاً لقيم الإسلام والصدور عنها، مع السعي للتعبير عن التوجّهات الإسلامية التي فيها الصالح العام.
وتسعى هذه المشاركةُ إلى حماية الوجود المسلم في أوروبا والحفاظ على حقوقه وحريّاته، ورعاية مكتسباته وتثميرها، وتعزيز فرصه وتطوير إمكاناته، مع التعبير الناضج عن تصوّرات الوجود المسلم واحتياجاته ومطالبه بطريقة بنّاءة وتفاعلية، وبما يتساوق مع خصوصيّات البيئات السياسيّة الأوروبيّة.(1/223)
وعلى هذه المشاركة أن تتوجّه للإسهام في خدمة الصالح العام للمجتمعات الأوروبية، سواء للمسلمين أو لغير المسلمين، مع الأخذ بعين الاعتبار المسؤوليّات والواجبات المنتَظَرة في هذا الجانب لصالح الوجود المسلم على نحو خاص. وتضع هذه المشاركةُ نصب عينيها تعزيزَ الحضور الإيجابيّ للمسلمين في مجتمعاتهم الأوروبيّة وتفاعلهم مع الشأن العام فيها، وتحاشي الانزلاق إلى أية عوارض من العزلة والهامشيّة أو الإقصاء والتجاهل، مع تدعيم قيم الوفاق والحوار والسلم المجتمعي، ومكافحة آفات الشقاق ونزعات الخصام.
وترنو هذه المشاركة من جانب المسلمين إلى إقامةِ قنواتٍ الحوار وتفعيل خطوط التواصل والتعاون في الساحة الأوروبيّة العامة، بما في ذلك مع الأطراف السياسيّة والمجتمعيّة، مع توفير الأجواء المساعدة على المشاركة المجتمعيّة الرشيدة للمسلمين وتعزيزها في شتى المجالات.
أي يمكنُ القول إنّ المشاركة السياسية الرشيدة لمسلمي أوروبا؛ هي تجسيدٌ بليغ للمواطنة الصالحة في المجتمعات الأوروبيّة، بما يترتب عليها من أدوار ينبغي النهوض بها في شتى المجالات، ومن بينها المجال السياسي بمستوياته المتعددة، وبما يتعلق بالسياسات الداخلية والخارجية.
المشاركة السياسية الرشيدة لمسلمي أوروبا ـ أهدافها المباشرة:
1/ التأثير الإيجابي في صناعة القرار السياسي، تشريعيّاً وتنفيديّاً، مع التوجّه إلى تعزيز كفّة الأطراف المعتدلة في الحياة السياسيّة الأوروبيّة، واحتواء أية مواقف سلبيّة أو ميول متطرفة قد تظهر فيها.
2/ حماية الوجود المسلم، بما في ذلك الشأن الدينيّ الإسلاميّ، من أية تجاوزات قد تستهدفه أو أية انتهاكات قد تقع عليه، مع قطع الطريق على عوارض الإقصاء والتهميش، وحالات التفرقة والميز، مع السعي لتعزيز تكافؤ الفرص في المجتمع الواحد.(1/224)
3/ التحسين المستمر للحضور العام الإيجابيّ للمسلمين في الفضاء المجتمعيّ وفي تعاطى المستوى السياسي معه، بكلّ ما يتطلّبه ذلك من جهود ومساعٍ. ويلحق بذلك توفّرُ أجواءٍ مشجِّعَة للمسلمين للتعبير عن تصوّراتهم وآرائهم ومواقفهم في الرأي العام.
4/ رعاية مصالح الأقلِّيّات المسلمة في أوروبا، وبالصورة التي تتمتع بالمسؤوليّة وتتماشى أيضاً مع المقاصد والتوجيهات الإسلامية ذات الصلة، وبما يعزِّز في الوقت ذاته الصالح العام للمجتمعات الأوروبيّة، ويدعم السلم المجتمعيّ ويتقدم بحالة التعايش والتفاهم المتبادل داخلها.
5/ العناية بالجانب المطلبيّ لمسلمي أوروبا، وإنضاجه، أخذاً بعين الاعتبار مجمل الحقوق الدينيّة والثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة المقرّرة، مع السعي لكسب تفهّم الفضاء المجتمعيّ والأطراف السياسيّة لما يترتب على هذا الجانب.
6/ التعبير عن تصوّرات المسلمين ومواقفهم من مجمل الشؤون العامة والسياسات في الواقع الأوروبي، ومن ما يتعلق بالمسلمين أو الشأن الإسلامي وقضاياه منها على نحو أخصّ.
7/ العمل على ضمان تحقّق كافة الأطر والأنظمة القانونيّة والسياسيّة والإجرائيّة التي تكفل حالةً مُثلى من تنظيم العلاقة مع الجماعة المسلمة في بلدان أوروبا على الأصعدة القطريّة والمحلِّيّة، علاوة على الأصعدة فوق القطريّة والأوروبيّة العامة.
8/ تنوير عموم المسلمين في أوروبا بحقوقهم وواجباتهم، وبمكتسباتهم ومسؤوليّاتهم، ضمن مجمل الواقع العام في مجتمعاتهم الأوروبيّة، بما يعزِّز وعيَهم السياسي ويطوِّر من قابليّاتهم لحضور سياسيّ ومجتمعيّ فاعل ورشيد.
9/ إيجاد قنوات كفؤة للتواصل بين الساحة السياسية في أوروبا بشتى مستوياتها، والأقليات المسلمة الأوروبية، ولا شكّ أنّ المشاركة السياسيّة الرشيدة بوسعها أن توفِّر قنواتٍ كهذه مما لا يُستغنى عنه في مجتمع تعدّدي.
المشاركة السياسية الرشيدة لمسلمي أوروبا ـ وسائلها وأدواتها:(1/225)
إنّ الضابط الأساس الذي يجعل من وسائل أو أدوات ما، في حقل المشاركة السياسيّة للمسلمين في أوروبا، مقبولة؛ هو ضرورةُ تقيّدها بالمعايير والتوجيهات الإسلامية والقانونيّة والأخلاقية والأدبية ذات الصلة. وغنيّ عن القول في هذا المجال؛ أنّ الغاية لا يمكن أن تبرِّر الوسيلة، وهو ما ينبغي التشديدُ عليه في الحقل السياسيّ على نحو خاص، بالنظر إلى ما قد يخالطه من شبهاتٍ أو يعتوره من محظوراتٍ ينبغي التنبّه لها.
وإجمالاً؛ يمكن سرد الوسائل والأدوات التاليّة للمشاركة السياسية، على سبيل المثال لا الحصر، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ المشاركةَ الرشيدة في الساحة السياسية تقتضي أيضاً تنويع الوسائل والأدوات بما يحقق المقاصد العامة ويراعي الأهداف المباشرة المنشود تحقيقها:
1/ التحاق المسلمين بالساحة السياسية، عبر بروز سياسيِّين مسلمين، أو التحاق المسلمين بالأحزاب والقوى السياسيّة القائمة في الساحة الأوروبية.
2/ تشكيل الأطر المعبِّرة عن حضور المسلمين في الساحة السياسية، سواء أكانت تلك الأطر سياسيّة الطابع بشكل صرف (أحزاب أو قوائم مثلاً)، أم ذات تأثير ما في الساحة السياسية (منظمات غير حكومية مثلاً أو مبادرات شعبية ولجان عمل).
3/ المشاركة في العملية الانتخابية، عبر شتى حلقاتها، تصويتاً، أو ترشّحاً، أو تعبئة للناخبين وحشداً للأصوات، أو دعماً للمرشّحين، أو تواصُلاً معهم، أو ما سوى ذلك. وبالمقابل؛ فإنّ الإحجام عن المشاركة في العملية الانتخابيّة بصورة واعية لذلك؛ إنما تمثِّل بحدِّ ذاتها صورةً من صور المشاركة الضمنيّة في الفعل السياسي، عبر إرادة المقاطعة الانتخابيّة، أو حجب الأصوات مثلاً، أو التعبير عن رسالةِ تنديدٍ صامتة، أو غير ذلك.(1/226)
4/ تنظيم النشاطات والفعاليّات الجماهيريّة التي تحمل رسائل عامة أو محدّدة للمستويات السياسيّة، كالمظاهرات، والاعتصامات، والتحركات المطلبيّة، وإعداد العرائض وحملات التوقيع، واقتراح سنّ قوانين أو اتخاذ إجراءات، والمطالبة بإجراء استفتاءات، وغير ذلك.
5/ بناء التحالفات مع القوى السياسيّة أو المنظمات غير الحكوميّة أو حتى الشخصيات العامة، بما يُرجَى معه زيادةُ القدرة على التواصل أو التأثير أو الضغط في المجال السياسي. وبالمقابل؛ فإنّ الإحجام عن الاستجابة لنداءات بعض الأطراف في الساحة السياسيّة أو المجتمعيّة للتعاون والتنسيق أو التحالف؛ إنما قد يعبِّر أحياناً عن إرادة سياسية، بما يمثل أحياناً ضرباً من ضروب المشاركة السياسية (السلبيّة).
6/ بلورة أطر أو هياكل أو تجمّعات معبِّرة عن اهتمامات المسلمين بشأن المشاركة في العمل السياسي بصورة مباشرة أو غير مباشرة. وغالباً ما تكونُ هذه الأُطُر بمثابة مقدِّمات ذات تأثير على صعيد الفعل السياسيّ، بحكم المفعول التراكميّ للتنسيق أو التحالف أو العمل الجبهوي.
7/ التوعية العامة لجمهور المسلمين بمتعلقات العمل السياسي، كأهمية التصويت في الانتخابات، وكنشر المعلومات التوضيحيّة عن برامج الأحزاب ومواقفها من مسائل بعينها، وكذلك تهيئة الجمهور المسلم لممارسة العملية الديمقراطيّة. كما تدخل في ذلك التوعيةُ العامة بالحقوق والواجبات، وبنشر الوعي القانونيّ والحقوقيّ، وما إلى ذلك.
8/ تنظيم اللقاءات التي تجمع السياسيِّين بالجمهور، أو بممثِّليه، والتي تشكل بحدِّ ذاتها أداةً هامة من أدوات التواصل المتبادل، ومحاولة المرشّحين استمالة الناخبين، أو محاولة تأثير الجمهور على السياسيّ وحزبه، فضلاً عن أية مضامين أخرى للتواصل قد تتحقّق، مثلاً من قبيل تعبير السياسيّ عن بعض المواقف (تضامن، مواساة، .. إلخ)، أو غير ذلك.(1/227)
9/ حضور الفعاليات والنشاطات السياسيّة، كجلسات البرلمان، والمؤتمرات الحزبيّة، والندوات والمحاضرات والتجمّعات التي تنظمها القوى السياسية أو تلك المتفاعلة مع الشأن السياسي، وما إلى ذلك.
10/ تمويل النشاطات السياسيّة والانتخابيّة، أو ما يتصل بها، بالشكل الذي يتوافق مع القانون ولا يخرج عليه، وبما لا يمثِّل أيضاً انتهاكاً للقيم والتوجيهات الإسلامية والأخلاقيّة والأدبية ذات الصِّلة، وبما يحقِّق الصالح العام إجمالاً.
11/ الإعلام السياسي، بما يتيح التعبير عن الرؤى والتصورات والمطالب والمواقف وما إلى ذلك، بالطريقة الفاعلة والناجعة.
12/ إصدار التقارير والمذكرات وتحرير الرسائل، وإعداد البحوث والدراسات، وعقد المؤتمرات والندوات وحلقات النقاش وورش العمل، بما يفضي إلى إنضاج التصوّرات ومدارسة الخيارات.
13/ إقامة المؤسسات المتخصِّصة في المتابعات السياسيّة بشتى متعلقاتها، كمؤسسات التفكير السياسيّ، ومراكز البحوث والدراسات والتخطيط، وأطر التواصل مع المستوى السياسي، وغير ذلك.
مسؤوليات ووظائف مترتبة على أطراف المشاركة السياسية الرشيدة لمسلمي أوروبا:
تتضمّن المسؤوليّات المترتِّبة على المشاركة السياسيّة للمسلمين في أوروبا، جملةً من الأدوار والوظائف، التي بنبغي أن يقوم بها، على نحو إجمالي، من يُفترَض أنهم يُعَبِّرون عن، أو يجسِّدون، تلكَ المشاركة، كلّ في نطاقه. أي ينبغي أن تنهض بهذه الأدوار والوظائف، على نحو إجمالي وتكاملي، مجمل الأطراف المسلمة ذات الصلة بالمشاركة السياسيّة.
وتشتمل هذه المسؤوليات على وظائف ضمن المستوى التشريعيّ، كمراقبة مشروعات القوانين والتعاطي معها والإدلاء بمواقف بشأنها، مع منح الأولويّة لما يتعلّق بمصالح المسلمين وشؤونهم واهتماماتهم، ودون إغفال مجمل المسائل العامة الأخرى.(1/228)
وهناك وظائف ضمن المستوى التنفيذيّ، تقضي مثلاً بمراقبة تنفيذ القوانين واتخاذ الإجراءات ومسار السياسات وكيفية تنزيلها على أرض الواقع.
كما تشتمل هذه المسؤوليات على وظائف ضمن المستوى التواصليّ، مثل المهام الإعلامية، بالتعبير عن تطلّعات المسلمين واهتماماتهم ومصالحهم في الرأي العام، وخاصة إزاء الساحة السياسيّة، والسعي المستمرّ للتأثير بما ينسجم مع ذلك من خلال التواصل الإعلاميّ. والتواصل الجماهيريّ، بما في ذلك جهود التوعية والإقناع والحشد والتعبئة، علاوة على تشجيع التواصل بين القطاعات والمؤسسات والنُّخَب وفئات الجمهور المسلم، وتشجيع التواصل بين المسلمين وغير المسلمين، وتشجيع التواصل بين المسلمين والأطراف السياسيّة والمجتمعيّة. ويقتضي الأمرُ أيضاً النهوض بواقع الإعلام السياسيّ للمسلمين وترشيده، وهو ما يتعلّق أساساً بالمواقف والبيانات والتصريحات والإصدارات ذات الصلة بالشأن السياسي وتطوّراته.
وضمن المسؤوليات المترتبة على المشاركة السياسية؛ ثمة وظائف ضمن المستوى التحفيزيّ، تقتضي، مثلاً، تحفيز كافة قطاعات الجمهور المسلم في النطاقات المعنية على الإسهام في المشاركة السياسية والمجتمعية، دون إغفال النساء والشباب وحتى الفئات ذات الاحتياجات الخاصة.(1/229)
في ما أنّ هناك وظائف ضمن المستوى التوجيهيّ أو الإرشاديّ، وهذه تشتملُ على تنظيم الصوت المسلم وتوجيهه بما يحقِّق أقصى جدوى ممكنة وبما يتّفق مع التوجيهات والضوابط ذات الصِّلَة، وكسب قادة الرأي والقيادات المحلية والمجتمعيّة في صفوف المسلمين للتوجّهات الرشيدة في ما يتعلق بالمشاركة السياسيّة والمجتمعيّة. كما يتضمّن ذلك توعية الجمهور المسلم بحقوقه وواجباته، وبمصالحه ومكتسباته، وبما يترتب على ذلك من مسؤوليّات عامة على الفرد والجماعة. وفي هذا السياق أيضاً؛ هناك متطلّباتٌ تتعلّق بالتأهيل السياسيّ العام للجمهور المسلم، والتأهيل النوعيّ التراكميّ للمسلمين المعنيِّين مباشرة، أو حتى بشكل غير مباشر؛ بالشأن السياسيّ. ويلحق بذلك؛ السعي لكسب تفهّم عموم الجمهور في البلدان الأوروبيّة، وعلى المستوى الأوروبيّ العام، لحقوق المسلمين ومصالحهم واهتماماتهم وتطلعاتهم، ولدورهم العام في المجتمع والسياسة، علاوة على التوجّه لإحراز قبول الأطراف السياسيّة والمجتمعيّة بهذه الأبعاد قَدْر الممكن.
كما أنّ هناك وظائف على مستوى القيادة السياسيّة والمجتمعيّة، تقضي ببَلْوَرَة مطالب وصياغة أهداف ووضع مقترحات. كما تقضي مسؤوليّات القيادة السياسيّة والمجتمعيّة؛ بالتعرّف على القواسم المشتركة التي تجمع قطاعاتِ الجمهور المسلم، ومحاولة توسيع هوامشها، وتدعيمها، والاستناد إليها قَدْر الممكن في الأداء السياسيّ. أي أنّ الأداءَ السياسيّ ينبغي أن يحرص على تجميع المسلمين لا تفريقهم، وأن يعزِّز وَحْدَتهم وتواصُلَهم ما أمكَنه ذلك، متحاشياً التشرذم والفرقة.(1/230)
ويمكن تحديدُ وظائف أخرى مترتبة على مسؤوليات المشاركة السياسية للمسلمين، منها، مثلاً، على نحو تفصيلي، وظيفة استفادة المسلمين من المخصّصات المالية والصناديق العامة وبرامج الدعم الرسميّ في شتى الحقول، وهنا يُفتَرَض بالمشاركة السياسيّة للمسلمين أن تنهض بدور إرشاديّ للمسلمين، مؤسساتٍ وأفراداً، بأهمية تحصيل المخصّصات العامة وموارد الدعم وكيفية ذلك أسوة بشركاء المجتمع العريض، وأن تتولّى أطراف المشاركة السياسيّة للمسلمين، الاضطلاع بدور توجيهيّ للمستوى السياسي وللجهات المسؤولة بضرورة مراعاة احتياجات المسلمين وخصوصيّاتهم في المخصّصات المالية وبرامج الدعم الرسمي.
من متطلبات العمل السياسي الرشيد لمسلمي أوروبا ومواصفاته:
1/ الانبثاق عن منطلقات سليمة، واعتماد توجّهات رشيدة، وتحديد أهداف مثمرة، واختيار أنسب الوسائل وأنجعها مما لا يتعارض مع ذلك كلّه ولا يخرج عن المعايير الشرعيّة والأخلاقيّة والقانونيّة، مع السعي ـ قدر المستطاع لا على سبيل الإطلاق بالضرورة(1)ـ لأن يتماشى ذلك مع الأعراف السياسيّة والمجتمعيّة السائدة.
__________
(1) لا تمثل الأعراف السياسية والمجتمعية حالة جامدة غير قابلة للتطوير أو التحوير، حتى وإن احتفظت بملامحها العامة بما يوحي بالثبات. ولعلّ ما هو أهمّ أنّ هذه الأعراف ليس منصوصاً عليها بشكل جامع مانع وعلى نحو دقيق، علاوة على أنها تخضع لمؤثرات وعوامل عدة. ومن الملاحظ هنا؛ أنّه ليس من النادر أن تجري محاولات إقصاء أو تهميش للأقليات تحت لافتة تلك الأعراف التي قد تُغري بعض الأطراف لأن تستخدمها ذريعة لفرض رؤى أو اختيارات بعينها على مجمل الساحتين المجتمعية والسياسية. ومن هنا؛ جاءت الملاحظة التي لا بدّ منها، بالسعي إلى التماشي مع تلك الأعراف، ولكن ضمن حدود الممكن والمقبول وحسب، كي لا تُقدّم تلك الأعراف على أنه قَدَر محتوم على الواقع الراهن أو على فرص الأجيال المقبلة وخياراتها.(1/231)
2/ التعرّف الدقيق على احتياجات الجمهور المسلم (الشرائح المباشرة التي ينبثقُ عنها العملُ السياسيّ أو يتعاطى معها) على نحو خاص، وعلى احتياجات المجتمع العريض على نحو عام.
3/ تعبئة كافة الموارد البشريّة والماديّة الممكنة لخدمة المشاركة السياسيّة على أسس سليمة، مع الحرص على تنظيم هذه الموارد وتوزيعها وتوظيفها واستثمارها بأنجع الصور.
4/ الموازنة بين التطلّعات والاحتياجات والإمكانات، بما يتيح الفرصةَ لأداءٍ مستقرّ ومتوازن، يراعي الأولويّات، وينفتح على آفاق التطوير المستمر.
5/ إدراك واقع ساحة التحرّك السياسيّ، في شتى النطاقات والأبعاد ذات العلاقة، وهو ما لا ينبغي أن يَستَثْنيَ أيضاً واقع المسلمين في النطاق المعنيّ أيضاً وخصوصيّاتهم.
6/ المشاركة الداخليّة: فمن غير المتوقع أن تنهض تجارب فاعلة من المشاركة السياسيّة والمجتمعيّة، لمسلمي أوروبا، في ما لو افتَقَروا إلى فرص المشاركة والتفاعل البنّاء داخل أُطرهم ومؤسّساتهم. وتدخُلُ في ذلك على نحوٍ خاص؛ مشاركةُ المرأة، ومشاركةُ الشرائح الشابّة والأجيال الجديدة، ومشاركة المنتمين لشتى الفئات قَدْرَ الممكن، ومراعاة التنوّع الذي عليه الوجود المسلم. إنّ هذه المشاركة الداخليّة ليست مطلوبةً لذاتها وحسب؛ بل وتُعَزِّز الحاجةَ إليها ما تتيحُه لتجارب المشاركةِ السياسيّة والمجتمعيّة من قابلية أكبر على إدراك الواقع الذي تتعاطى معه أيضاً.(1/232)
7/ المأسَسَة: أي التوجّه إلى إقامة المؤسّسات وتطوير ما هو قائمٌ منها، وهو توجّه يهدف إجمالاً إلى النهوض بذلك العمل الجماعيّ المُنظّم، الذي يقومُ على توزيع المهام وتحديد الصلاحيّات، من أجل تحقيق أهدافٍ محدّدة في إطار واقعٍ معيّن. ومع ذلك؛ فإنّ المأسسة لا تعني استبعادَ مجهودات الأفراد المتفرِّقين أو إهمالها، والتي يبقى لها دورٌ هام في سياق المشاركة السياسيّة للمسلمين، ولكنّ المعنيّ هو أن تنهضَ مؤسساتٌ فاعلةٌ في ساحة المشاركة تلك سياسيّاً ومجتمعيّاً.
8/ التخصّص: إنّ المنحى التخصّصي في ساحة المشاركة السياسيّة والمجتمعية لمسلمي أوروبا هو مطلبٌ للنهوض بالمسؤوليّات والاستجابة الواعية للتحديّات المتعاظمة على عاتق تلك المشاركة. ولا ريب في أنّ الافتقار إلى المؤسّسات والأطر المتخصّصة، والأفراد المتخصِّصين، في شتى المجالات الأساسيّة والفرعيّة؛ سينعكس بالسلب على الأداء العام الذي لن يُكافئ الاحتياجات المنتَظَرة منه. ومن المؤكد أنه لم يَعُد بالوسع تقديمُ إسهاماتٍ في المستوى اللائق، ضمن مسارات المجتمع والسياسة، من خلال هياكل مؤسسيّة أو قيادات مجتمعية ذات اهتمامات عامّة، لا يرقى أداؤها للتخصّص في ميدان واحد بشكل متميِّز.
9/ المراجعة والتقويم والتطوير على نحو مستمر، ويتطلب ذلك اعتماد آليات فاعلة لهذا الغرض، وتقويم الأداء على أسس دقيقة لا تخضع للاستئناسات والتخمينات.(1/233)
11/ استقلاليّة الإرادة عن الأطراف السياسية الأخرى في الساحة: فجوهر تجربة المشاركة السياسيّة لمسلمي أوروبا ينبغي أن تكون مستقلة الإرادة ومتحرِّرة من التبعيّة وتملك قرارَها(1)، مع التعاطي الواعي مع تلك الأطراف السياسية.
12/ التواصل والتنسيق وتجسيد معادلة الوَحدة والتنوّع. وذلك بأن تكونَ المشاركةُ السياسيّةُ لمسلمي أوروبا، قائمةً في العموم على مبدأ التواصل بين مكوِّنات الأقلِّيّة المسلمة والتنسيق في ما بينها، وهو الحدّ الأدنى المعقول في هذا المجال. ويقتضي الأمرُ الحفاظَ على حالة التنوّع في نطاق المسلمين، باعتبارها من حيث المبدأ مكسباً لا عبئاً، مع التعامل الحصيف في الوقت ذاته مع أيّة انعكاسات سلبيّة تترتب على تلك التعدّدية، والحذر من أن تُفضي إلى التمزّق والتشرذم بما قد يستتبعه من تداعياتٍ سلبيّة على صعيد المشاركة السياسيّة.
الموازنة بين المكتسبات الرمزية والتقدم الفعلي في ساحة المشاركة السياسية:
__________
(1) على نحو واع جرى ربط مطلب الاستقلالية بجوهر المشاركة، لا بكل تجلياتها، أخذاً بعين الاعتبار أنّ تلك التجليات لا تأخذ طابعاً انفرادياً، بل تتعاطى مع أطر العمل السياسي، تأثيراً وتأثراً، بما في ذلك الانضمام إلى الأحزاب والأطر السياسية ذات العلاقة. ولكن ما ينبغي ضمانه باستمرار؛ أن لا تكون المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا في ذاتها خاضعة أو مرتهنة لأية أطراف كانت مع انفتاحها على عموم الساحة، وهو المطلب المُشار إليه بتعبير استقلالية جوهر تلك المشاركة.(1/234)
غنيٌّ عن القول إنّ المشاركةَ السياسيّة والمجتمعيّة لمسلمي أوروبا معنيّةٌ بتحقيق تقدّمٍ في مجالات متعدِّدة ومسارات شتى، ومن ذلك تعزيز المكانة الأدبيّة والاعتباريّة للوجود المسلم وخصوصيّاته الدينيّة. والواقع أنّ هذا مسعى ينطوي على أهمية بالغة ودلالة رمزية فائقة كذلك، ولكنه لا ينبغي أن يتّخذ من المكتسبات ذات الطابع الرمزي مؤشِّراً تلقائيّاً على إحراز تقدّم فعليّ في واقع المشاركة السياسيّة والمجتمعيّة.
ومن غير الممكن عملياً وضعُ حدودٍ فاصلة بين الخطوات الرمزيّة وتلك "العمليّة"، خاصّة وأنه من المعتاد أن يترتّب على المكتسبات ذات الطابع الرمزي ما يحقِّقُ احتياجاتٍ عمليّة. إلاّ أنّ المكتسبات الرمزيّة هي ما تنطوي على تعزيزٍ للمكانة الأدبية للتعامل مع الشأن الإسلامي في مجال أو أكثر. ومن المجالات التي يمكن الإشارة إليها في هذا المضمار على سبيل المثال؛ مما طرأ عليه بعض التقدم منذ أواخر التسعينيات من القرن العشرين؛ ما يلي:
ـ إدراج المناسبات الإسلامية ضمن قوائم المناسبات التي تراعيها النُّظُم والتقاليد السياسيّة والإداريّة في البلدان الأوروبية (مثل "البروتوكول" الرسميّ مثلاً)، بإرسال التهاني وتنظيم حفلات الاستقبال، وما إلى ذلك. ومن البلدان التي سجّلت تقدّماً في هذا المضمار خلال الأعوام الأخيرة النمسا مثلاً. كما تشهد بريطانيا تقليداً متزايداً في ما يتعلق بتوجيه القادة السياسيِّين، وفي مقدمتهم رئيس الوزراء، رسائل تهنئة رسمية للمسلمين بالأعياد.(1/235)
ـ اعتماد المحاكم للشهادة القانونيّة على المصحف الشريف مراعاةً لخصوصيّة المسلمين. كما جرى مثلاً بالنسبة لإحدى المحاكم المحلِّيّة في مدينة ليمرك الأيرلندية وبعض المدن المجاورة لها، التي اتّصلت في العام 2000 بالمركز الثقافي الإسلامي بأيرلندا (ICC) لطلب نُسَخٍ من المصحف الشريف مع التعهّد بحفظه في مكان طاهر(1).
ـ مراعاة الشعائر الإسلاميّة في الثكنات العسكرية، بافتتاح المصلّيات واعتماد أئمة مسلمين، مراعاة للاحتياجات الدينية للمجنّدين المسلمين. وهو ما أصبح أمراً واقعاً في ثكنة عسكريّة في العاصمة النمساوية فيينا بدءاً من العام 2004.
ـ زيارة كبار المسؤولين للمساجد والمراكز الإسلامية والتعبير عن الاحترام للدين الإسلامي والتقدير للمسلمين. وقد شهدت بريطانيا، مبكِّراً بالمقارنة مع بلدان أوروبية أخرى، زياراتٍ عدّة كهذه، ضمن تقاليد زيارة دور العبادة للطوائف الدينية التي دأبت عليها المؤسسة الملكيّة البريطانيّة. وهناك بلدانٌ كثيرة زار كبار المسؤولين فيها مركزاً إسلامياً أو مسجداً، لعلّ من أبرزها أيرلندا والسويد، وفي الأخيرة قام بزيارة مسجد استوكهولم (المركز الإسلامي) كبار المسؤولين في الدولة، وعلى رأسهم الملك والملكة (8 تشرين الأول (أكتوبر) 2003)، ورئيس الوزراء (12 تشرين الثاني (نوفمبر) 2003)، وثلاثة من وزراء الحكومة في افتتاحه (8 حزيران (يونيو) 2000)، علاوة على زيارات أخرى عدّة. ويُشار أيضاً إلى أنّ تلك الزيارات شهدت انتعاشاً ملموساً في مسعى طمأنة الوجود المسلم في عدد من البلدان الأوروبية بعد الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001.
__________
(1) "الأوروبية" (مجلة)، العدد 18، باريس، حزيران (يونيو) 2000، ص6.(1/236)
ـ الإشادة بالإسلام والثقافة الإسلاميّة وبإسهامات الوجود المسلم، في خطابات المسلمين ومواقفهم، وهو ما يُعَدّ أمراً مألوفاً في عدد من بلدان أوروبا، بينما يُعَدّ أمراً استثنائيّاً أو غائباً بالكليّة في بلدانٍ أخرى من هذه القارّة.
ومع ذلك؛ فإنّ العنايةَ بالجانب الرمزيّ لا ينبغي أن يَغُضّ الطرف عن تحقيق مكتسبات فعليّة، كما ينبغي أن تُوْضَعَ بعضُ هذه الخطوات، خاصة "البروتوكوليّة" منها، في سياقاتها الصحيحة. فالحكم على "جدِّيّة" الخطوات الرمزيّة ينبغي أن يتمّ كذلك من خلال ملاحظة انعكاسها على أنماط التعامل مع الوجود المسلم ككلّ وروحيّة هذا التعامل. فالأمثل هو أن يلمس عامّة مسلمي البلد الأوروبي المعنيّ توجّهاً إيجابيّاً من جهة الأوساط المسؤولة في التعامل معهم، لا أن يقتصر الأمر على ما تستشعره بعض النُّخَب المسلمة في البلد ذاته وحسب من ودّ وانفتاح(1).
__________
(1) من المفارقات التي رصد الباحث مثلاً؛ أنّ عدداً من اللقاءات الودية الهامة في المناسبات الإسلامية، مثل شهر رمضان والعيدين ورأس السنة الهجرية، التي أقامها في الأعوام الأخيرة بعض كبار الشخصيات السياسية النمساوية واستضافوا فيها قيادات مسلمي بلادهم وشخصياتهم المعروفة تم تجاهلها بوضوح من الأقسام الإعلامية الخاصة بهؤلاء المسؤولين، كما لم تظهر على مواقعهم الرسمية ضمن قائمة النشاطات المجتمعية اليومية التي يقومون بها، بحيث يبدو وكأنها قد أغفلت عن سياقها. وقد يكمن التفسير المحتمل لذلك في خشية هؤلاء السياسيين من اغتنام أقصى اليمين السياسي لهذه اللقاءات، خاصة مع حملات حزب الحرية المناهضة للمسلمين في البلاد، والتي برهنت على جدواها الانتخابية في حصد قطاع من أصوات الجمهور، كما اتضح مثلاً في الانتخابات المحلية بفيينا، التي أجريت في تشرين الأول (أكتوبر) 2005.(1/237)
وإن لم تكن وفرة الخطوات الرمزيّة الإيجابيّة نحو المسلمين كافيةً وحدَها للدلالة على توجّه إيجابيّ عام في التعامل مع الوجود المسلم وخصوصيّاته؛ فإنّه بالمقابل يمكن القول إنّ ندرة تلك الخطوات الرمزيّة في بلد أوروبي ما ستؤشر غالباً إلى عدم نضوج توجّه إيجابيّ، أو اهتمام في المستوى اللائق، صوب التعامل مع الوجود المسلم.
بل كان إحجامُ حكومة أنوس فو راسموسن الدانمركية عن اتخاذ موقف مما تقتضيه في الأصل تقاليد العمل الدبلوماسيّ، كاستقبال وفد السفراء المسلمين المعتمدين في كوبنهاغن إثر أزمة الرسوم المسيئة للمقام النبويّ الشريف في خريف 2005؛ تأكيداً لموقف سلبيّ متأصِّل من جانب الحكومة ذات التوجّهات اليمينيّة من هذا الملف، وهو ما يتّسق مع سجلِّها غير اللائق بدولة كالدانمرك في العلاقة مع الوجود المسلم المحلِّيّ.
كما أنّ الحالةَ الألمانيّة كمثال؛ تُظهِر كيف تُبدي القيادةُ السياسية على المستوى الاتحادي وعلى مستوى الولايات، تحفّظات متزايدة في الانفتاح على مسلمي البلاد ومؤسّساتهم. بل إنّ الخطوات الودِّية، القليلة نسبيّاً(1)، ذات الطابع الرمزي التي يمكن العثور عليها؛ تكاد تتبدّد أمام حالة عامة من التعاطي المأزوم سياسياً وإعلاميّاً مع ملف المسلمين في البلاد.
__________
(1) كزيارة وفد من البرلمان الألماني لأقدم مساجد برلين في 18 أيلول (سبتمبر) 2001، واستقبال كل من الرئيس الألماني آنذاك يوهاناس راو والمستشار في حينه غيرهارد شرودر وفداً يمثل مسلمي ألمانيا في أعقاب هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001.(1/238)
وقد بدت التجربةُ الفرنسيّةُ وكأنها تفتقر إلى الكياسة أو الحساسية اللائقة في التعامل مع الوجود المسلم في البلاد، والذي يُعتبر الأعرض على المستوى الأوروبيّ العام. وهكذا تبدو الإشاراتُ الودِّيّة التي حاول الرئيسُ الفرنسيّ جاك شيراك إبداءَها في خطابه الذي ألقاه في 17 كانون الأول (ديسمبر) 2003، من قبيل قوله إنّ "الإسلام الذي هو الدين الأكثر حداثة على أرضنا، له مكانته الكاملة بين كافّة الديانات الكبرى التي اتخذت موطئ قدمٍ لها على ترابنا"، واعتباره أنّ "السائرين على التقليد الإسلامي" (...) "يُعَدُّون جزءاً لا يتجزّأ من أمتنا"(1)؛ ليست ذات شأن طالما أنّ الخطاب ذاته جاء للدّفع باتجاه حرمان التلميذات المسلمات من حقّ ارتداء الزي الذي يخترنه، ورفض مقترحات "لجنة ستازي" بمراعاة الأعياد الإسلامية واليهودية في العطلات الرسمية.
كما أنّ لفتات الودّ والاحترام للثقافة الإسلاميّة تفقد زخمها عندما يُوردُها مسؤولٌ أوروبيّ في سياق تبرير مشاركة بلاده في الحرب على العراق مثلاًَ، مثل ما دأب عليه وزير الخارجية البريطانيّ السابق جاك سترو في عدد من خطاباته التي ألقاها سنتي 2002 و2003.
__________
(1) من نص الخطاب الذي ألقاه الرئيس الفرنسي جاك شيراك، مساء يوم الأربعاء 17 كانون الأول (ديسمبر) 2003 بحضور 400 شخصية فرنسية سياسية ودينية، من بينهم الأعضاء العشرون للجنة برنار ستاسي، التي قدّمت تقريرها النهائي حول "مراقبة تطبيق العلمانية" في فرنسا، وقد أعلن شراك في خطابه تأييده لسرعة إصدار قانون يحظر "كافة الرموز الدينية الظاهرة"، وعلى الأخص الحجاب.(1/239)
وعن الأبعاد الرمزيّة وأهميّتها، مثل مآدب الإفطار الرمضانيّة التي أصبحت معروفة في الوسط السياسي النمساوي في غضون الأعوام القليلة الماضية؛ يقول عضو برلمان العاصمة النمساوية فيينا عمر الراوي، إنّ "هذه الظاهرة مهمّة جداً. فمع أنها رمزية، فإنّ فيها في الوقت نفسه عدة مؤشِّرات. المؤشِّر الأول هو الاعتراف بالإسلام والمسلمين كجزء من هذا المجتمع، ثانياً: الاعتراف بطقوسه الدينية كجزء حضاري من هذا المجتمع". ويضيف النائب الراوي "عندنا (في النمسا) أصبحت إقامة الصلاة في القصر الجمهوري أو في بلدية فيينا شيئاً عادياً، بينما في فرنسا قد تهتزّ الدولة والجمهوريّة أو الدستور إذا حصل الشيء نفسه. وفي المستقبل عندما نتكلّم عن المسلمين واحتياجاتهم (في النمسا)؛ فإننا لن نرى من لا يتفهّم هذا الشيء. فاستقبالهم والاعترافُ بهم يُقَوِّي بحدِّ ذاته المناخَ العام، الذي يساعدنا في المستقبل لحماية حقوقِهم (المسلمين) والذود عنهم، وخاصة عندما تُقام حملةٌ أو هجوم ضدّهم"(1).
وعلاوة على ما سبق؛ فإنّ من يدقِّق النظر في واقع مسلمي أوروبا الغربية والوسطى؛ قد يلحظُ في سياق تأمّلاته خيوطاً ناظمة لاصطفافاتٍ بعينها في الخطاب المجتمعيّ والسياسيّ، وفي الأداء التواصليّ وفعل الممارسة المترتِّبيْن عليه. ويمكن الإشارة هنا إلى اصطفافاتٍ عدة قد لا يجوزُ حصرُها أو اختزالها في نماذج قليلة، لكنّ ما يسترعي الانتباه منها اتجاهان، يقوم أوّلهما على نزعة تغليب خطاب الحوار والتواصل ومحاولة البرهنة على "حُسن النيّة" في التعامل مع الوسط المجتمعيّ والسياسيّ. في ما أنّ المعبِّرين عن الاتجاه الآخر يقفون على النقيض، مرتكزين إلى إبراز التناقضات ومغفلين القواسم المشتركة أو فرص التواصل واللقاء مع الأطراف المجتمعية.
__________
(1) الراوي، عمر (مقابلة): "سلام" (صحيفة). العدد 3، فيينا، تشرين الثاني (نوفمبر) 2005، ص 6.(1/240)
وفي ما أنّ الاتجاه الثاني لا يقدم تصوّراً ولا برنامجاً للمشاركة السياسيّة فضلاً عن المشاركة المجتمعية؛ فإنّ الاتجاه الأول يبقى مَدعُوّاً لبلورة خيارات التعاطي مع الساحتين المجتمعيّة والسياسيّة على أسس أكثر وعياً ونقديّة. ويمكن القول إنّ اتجاهاً ثالثاً يمكن العثورُ عليه في أوساط مسلمي أوروبا، يدرك أنّ التواصل والحوار والتفاعل المتبادل لا يقتضي التملّص من التناول النقديّ للمسائل المطروحة في الساحة السياسيّة، وذلك على أساس بناء الجسور من جانب وحماية المصالح والمكتسبات من جانب آخر.
كما ينبغي أن يكون واضحاً؛ أنّ الخلط بين الأدوار ضمن ساحات التواصل السياسي والمجتمعي، قد يبدو بالأمر المُحتَمل أحياناً، ولكنه قد يجانب المصلحة أحياناً عدة. واستقاءً من واقع ذلك التواصل في ساحات مسلمي أوروبا؛ فإنّ ذلك الخلط يجري أحياناً في التعامل مع المسؤول السياسي البارز، تارة بصفة الحفاوة والترحيب وبروح المبالغة في تقدير وزن اللفتات الرمزيّة التي "يمنحها" للجانب المسلم، وتارة أخرى، كما يُفتَرَض بمنطق التعاطي السياسيّ القائم على المحاجَجة وربما الشدّ والجذب في مواسم الجدل أو الأزمات.
ولكن هل يمكن للمرء ذاته أن يتقمّص الدورَيْن معاً، وأن ينجح فيهما أيضاً كما هو مُرتجى، وعلى نحو مستمر؟.
قد يُفْلِحُ بعضُهم حقاً في الأمر، أو يخفقون في الاثنين معاً، ولكنّ آخرين إما أن يُضّطَروا إلى تخفيض سقوف التعاطي في الشقّ السياسي، فيغلب منطق المجاملات مثلاً على تواصلهم مع ساحة محكومة بقوانين التجاذبات والتوزانات وتقاطعات المصالح وافتراقها؛ أو أن يأتي حضورُهم في الفعاليات "البروتوكوليّة" والرمزيّة خارجاً عن سياقه ومحفوفاً بنزعة تسييسه قد لا تكون ملائمة وبما لا يراكم النجاحات المفترضة في هذا الحقل من حقول التواصل.(1/241)
أي أنّ التساؤل يتعلّق هنا بالمدى المعقول لانشغال المعبِّرين عن مصالح الوجود المسلم في أوروبا، في الفعاليّات ذات الطابع "البروتوكولي"، خاصة مع الحاجة إلى قراءة التأثيرات التي تنشأ عن اختزال المسافة بين "الشخصية المسلمة" والمسؤول السياسي على خطاب الأول وأدائه وفعاليته. ولعلّ هذا يستدعي إبقاء هوامش معقولة تحفظ الاستقلاليّة بالنسبة لأولئك الذين عليهم أن ينشغلوا بملفّات وقضايا شائكة تتطلّب "أصحاب الأصوات المسموعة" وليس "ذوي الأيادي المصفِّقة"، وتحتاج الباحثين عن مفردات التعاطي السياسيّ لا المنهمكين بتنميق الخطاب بما يلائم "البروتوكول". إلاّ أنّ التواصل المجتمعيّ يتطلّب من يتعاطى مع الدبلوماسيّة المجتمعيّة والسياسيّة، ويتقن "البروتوكول" ذاته مُدرِكاً أنّ منتديات اللقاء الودِّي معنيّة أكثر بتعزيز الثقة وإشاعة الأجواء الإيجابيّة والبحث عن القواسم المشتركة، مما لا يفي به الخطاب المطلبيّ الذي لا يتسع للمجاملات وإشارات التودّد.وخلاصة القول في هذا الشأن؛ أنّ مسلمي أوروبا بحاجة إلى الدورَيْن معاً، علاوة على أدوار أخرى، وهو ما لا يمكن التفريطُ فيه في سياق مشاركتهم المجتمعيّة والسياسيّة.
المبادرة إلى الفعل واستباق التطوّرات .. بدلاً من الاستئناس بردود الأفعال:(1/242)
إنّ المشاركة السياسية والمجتمعية لمسلمي أوروبا ليست معنيّة بتنويع أدواتها وحسب؛ بل وعليها أن تتهيّأ لما يمكن أن تأتي به التطوّرات المُحتَمَلة، فتسعى بالتالي لامتلاك زمام المبادرة بدلاً من الاستئناس بالاقتصار على ردود الأفعال وحسب. ومن يتأمّل في حالة "قضيّة الحجاب" في فرنسا مثلاً؛ فإنّ ما قد يستوقفه هو أنّ المسلمين في فرنسا رغم كلّ ما بذلوه في هذا السياق لم يتمكّنوا من إقامة منابر متخصِّصة وفاعلة، تضع نصب عينيها الدفاع عن حقوق المرأة والفتاة في اختيار الزي، رغم أنّ تلك القضية تعود إلى سنة 1989(1)، وكانت تتفاعل وتتفاقم بين مرحلة وأخرى. ومن المُستَغرَب عدم التوجّه إلى خطوةٍ كهذه أو ما يشبهها طوال خمس عشرة سنة، وصولاً إلى ارتسام نُذُر حظر ما يسمى بـ "العلامات الدينية البارزة" عبر تطوّرات استغرقت عدة أشهر في عامي 2003 و2004. ومن المؤسف أنّ أول إطار متخصِّص في هذا الشأن قد نهض لاحقاً، أي بعد سنّ قانون "الرموز الدينية" ذاك، وحمل اسم "لجنة الخامس عشر من مارس للحريات". ومن اسمها الذي استوحته من تاريخ شرعنة "حظر الحجاب" بالمدارس (15 آذار (مارس) 2004)؛ فإنّ هذه اللجنة، وهي تجربة جديرة بالاهتمام والتشجيع، جاءت في الواقع ردّ فعل وانعكاس، وربما كان الأوْلى لو نهض عملٌ مُوَسّع في المجتمع المدنيّ والحقل الحقوقيّ والإعلاميّ لاعتراض النُذُر المتراكمة قبل سنوات من ذلك، وربما قبل شهور من صدور ذلك القانون على الأقل.
__________
(1) نشأت في العام 1989 ضجة واسعة في فرنسا عرفت بـ "قضية الفولار" على إثر منع فتيات مسلمات محجبات من دخول المدرسة، فطلبت الحكومة الفرنسية الاشتراكية آنذاك من مجلس الدولة، وهو أعلى سلطة دستورية في فرنسا، تقييم الموقف، فتوصل المجلس من جانبه في 27 تشرين الثاني (نوفمبر) 1989، إلى أنّ مظاهر الانتماء الديني أو السياسي متماشية في الأصل مع العلمانية ما لم تتسبب في اضطراب النظام العام.(1/243)
ولا يعني ذلك إغفال جهود عدّة بُذلت في هذا الإطار عبر أعوام مديدة، ولكنها بدت موسميّة ومتقطِّعة، ومفتقرة إلى المَأسَسة التي تكفل لها عملاً متخصِّصاً ومستقرّاً وقابلاً للتطوير المستمر.
ومع ذلك؛ فإنّ الواقع العام للوجود المسلم في أوروبا، ما زال يركنُ إلى ردود الأفعال والقصور في استباق التطوّرات، وهو ما يُرشِدُ بحدّ ذاته إلى أهمِّيّة الحاجة إلى الاستشعار المبكِّر للأزمات المحتملة والملفات المتفاقمة، والتي يمكن أن تأتي على هوامش من حريّات المسلمين وحقوقهم، وتقوِّض شيئاً من مصالحهم ومكتسباتهم.
وما بات يحدُث في حالاتٍ عدّة؛ هو أنّ التفاعلَ العام لبعض ثنايا الساحة المسلمة في أوروبا مع بعض الملفات، يأخذ طابع الفتور حيناً، وربما اللامبالاة، إلى أن يصل إلى نقطةٍ يبدو معها الموقف وكأنّه قد تجاوز الحدود المحتَمَلة، فتنطلق حملات موسّعة، تفاجِئُ قطاعاتٍ من المواكبين والمتابعين وعموم الرأي العام. وهنا قد لا يحدث تفهّمٌ لهذه الهبّات المفاجئة، والتي لم تكن مسبوقَةً بجهودٍ تواصُليّة حثيثةٍ ومتراكمة لكسب تفهّم الرأي العام والقطاعات المعنيّة، بما في ذلك المستوى السياسي؛ لما يراه المسلمون من هذه القضية أو تلك. وتُعَزِّز هذه الملاحظات من أهمِّيّة التفات مسلمي أوروبا إلى أيّة مكامن خلل مُحتَمَلة، وهي كثيرةٌ على الأرجح، ومحاولة وضع تقديراتٍ للتعامل معها والتواصل مع الرأي العام والأطراف المعنيّة بشأنها ما أمكن ذلك، وهو ما ينبغي أن يقع ضمن مسؤوليّات المشاركة السياسيّة لمسلمي أوروبا على أي حال.
نحو حضور أكثر فاعلية في الساحتين السياسية والمجتمعية:
لعلّ إحدى المسؤوليّات الكبرى التي تترتّب على توجّه المشاركة الفاعلة لمسلمي أوروبا في الساحة السياسيّة؛ تتمثل في وضع رؤى وتصوّراتٍ جادّة، وصياغة برامج عمليّة، والمضيّ في الممارسة التطبيقيّة على قَدْرٍ من الجدِّيّة والمسؤوليّة والكفاءة.(1/244)
ويتطلّب هذا المسعى وضعَ جداول أعمالٍ (Agendas) متجدِّدة، وتعبئة جمهور مسلمي أوروبا، كلّ في بلده أو إقليمه أو منطقته أو قطاعه الذي ينتمي إليه، للتفاعل مع هذه الأولويّات والمضيّ فيها، وهو ما يفرض مطلب التوضيح والتوعية العامّة، لكي يكون الجمهورُ المسلمُ هو الحاضنة لهذه المشاركة السياسيّة، مع الحذر من عُزلَته عنها أو انفصامِه عن مستجداتها.
وما سيُعينُ على ذلك؛ هو بروزُ أُطُرٍ ومؤسّسات وقيادات للعمل السياسيّ والتواصل المجتمعيّ في أوساط مسلمي أوروبا، لا تعوزُها المصداقيّة، وتكون مؤهّلةً لحيازة رضى الجمهور المسلم، الذي سيكون مطالَباً بأن يمنحها ثِقَتَه لتمثيل تطلّعاته واهتماماتِه ومصالحه في المستويات السياسيّة والمجتمعيّة، مع قدرة هذه الأطر والمؤسسات والقيادات على الحضور الحسن واللائق بمسؤوليّاتها وأدوارها في الساحتين المجتمعيّة والسياسيّة العريضة في أوروبا,
لا ريبَ أنّ هذه جميعاً ليست بالمهامّ المتيسِّرة، إلاّ أنّه لا غنى عن المضيّ فيها قَدْرَ الوُسْع.
ولا ريبَ أيضاً، أنّ إحدى المعضِلات التي ينبغي على المشاركةِ السياسيّة لمسلمي أوروبا أن تتصدّى لها؛ هي كيفيّة التفاعل مع الساحة السياسيّة، دون أن يكون ذلك التفاعلُ مجرّدَ كمٍّ تصويتيّ يكتفي بشَرْعَنَة الأداء السياسيّ القائم دونما تأثيرٍ فاعلٍ فيه أو قُدْرَةٍ على الإسهام في تصويبِه وفقَ التوجّهات والمصالح المرعيّة، ويتطلّب ذلك التفريقَ بين مجرّد انتزاع مكتسبات مطلبية مُبَعثَرة أو تحقيق إنجازات متفرِّقة من جانب؛ وتحقيق حضورٍ فاعل في الساحة السياسيّة على أساس التواصل والتعاون والشراكة مع عدد من الأطراف المجتمعية والسياسية الأخرى بما لا يتوقف مردوده عند حدود مكتسبات جزئية مبعثرة، بل يرقى إلى تحقيق إنجازات متراكمة في مجالات عدّة.(1/245)
ثم إنّ تواصُلَ الأطرافِ المسلمة المعنيّةِ بالعمل السياسيّ مع الأحزاب والقوى السياسيّة والأطراف المجتمعيّة بعامّة؛ لا ينبغي أن يقتَصِرَ على مطالب جزئيّة أو أهداف شكليّة، مثلاً من قبيل تثبيت مرشّحين على القوائم الانتخابية وحسب، أو إمكانية دعم حزبٍ ما في التعبئة الانتخابيّة من عدمها؛ بل الأمثل علاوة على هذا كُلِّه أن ينفتحَ التواصُلُ مع هذه القوى على جداول أعمالٍ أكثر رحابةً واتساعاً وعُمقاً في العموم، وبالطبع مع التركيز والدقّة والضبط كلما لزم الموقف.
أيّ أنّ الأمر يقتضي استيعابَ البرامج والمشروعات، وإدراك السياسات والمواقف، التي تتحرّك الأطرافُ السياسيّة بها وبموجبها. وسيُفيدُ ذلك الأطرافَ المعنيّةَ بتوجيه المشاركة السياسيّة للمسلمين في تحرِّي التموضع الأرجح في الساحة السياسيّة. ولن يكون ذلك مُتاحاً على الوجه الأمثل بمعزل عن وضع توجّهاتٍ رشيدة وحصيفةٍ للعمل السياسي، وربما اقتراح حلولٍ لمشكلاتٍ وطرح خياراتٍ واقعيّة للتعامل معها، دون أن يكون ذلك متعلِّقاً بشؤون المسلمين واهتماماتهم الأخصّ وحسب. وسيُساعد ذلك الأطرافَ المسلمةَ على تقديم إسهاماتٍ ومقترحاتٍ وآراءٍ فاعِلة في الساحة السياسيّة في مجالات متنوِّعة، بدلاً من أن يبدو حضورَهم السياسيّ مجرد ثقل تصويتيّ يركِّز على الجوانب المطلبيّة وحدها، وبما يخصّ "الطائفة" لا أكثر. أي أنّ المنشودَ هو التمكين لحضور مؤهّلٍ لأن يُضيفَ شيئاً للساحة، وأن يحدِّد على نحو أدقّ شركاءَه المحتَملين ومن يقفون على النقيض منه.
ويستلزم الأمرُ حواراً داخليّاً في الأوساط المسلمة المعنيّة، وتواصلاً مع قطاعات الوجود المسلم وجماهيره التي يُطلَبُ إسنادُها للتوجّهات والخيارات المحدّدة، بدلاً من أن تنشأ الفجواتُ بين النخب السياسيّة والمجتمعيّة المسلمة من جانب؛ وعموم الجماهير المسلمة من جانب آخر، أو حتى تتفاقم تلك الفجوات وتتعاظم.(1/246)
إنّ اهتمامَ المعبِّرين عن الوجود الإسلامي في أوروبا، بالإدلاء بمواقف متميِّزة في حقولٍ ومجالات شتى، ومدى قابليّاتهم وكفاءاتهم في القيام بذلك، وبقدر ينطوي على التميّز من جانب وطابع التواصل المجتمعيّ من جانبٍ آخر؛ لهو أحد المؤشِّرات بالغةِ الأهمِّيّة، وربما ذات الأثر الحاسم نسبيّاً؛ على نجاح عملية اندماجهم الإيجابّي في الحياة العامة. بل إنّ ذلك ليس مؤشِّراً على نجاح مفترض كهذا؛ بل هو مطلبٌ له، وباعثٌ على تحفيزه أيضاً.
وليس من شكّ في أنّ غياب المسلمين عن جولات الجدل (Debate) السياسيّ والمجتمعيّ التي تشهدها البيئات الأوروبيّة بين موسم وآخر؛ إنما يشي بغيابهم عن قلب المجتمع وعدم حضورهم في ساحته، أو ربما يُنبِئُ بعدم اكتراثهم بما يدور في الفضاء السياسيّ والمجتمعيّ، أو قد يبعث على الظنّ بافتقارهم لما يمكن أن يقدِّموه، مع الافتراض الساذج ربما بأنّ خصوصيّتهم الدينية والثقافية قد تتحمّل المسؤولية عن ذلك بقدْر أو بآخر. وسيُغري ذلك مَن قد تَضطّرِمُ لديهم نوازعُ الإقصاء والتهميش، بالذهاب بعيداً في استهداف هذا الوجود المسلم والحمل عليه بشتى السبل المتاحة له، وهو ما تُبرهِنُ عليه شواهدُ عدّة في بعض البيئات الأوروبيّة.
تهيئة الرأي العام وتكييف الخطاب والممارسة:(1/247)
من مكامنِ القُصور التي يمكنُ لأية مجموعة ترومُ المشاركةَ السياسيّة أن تقع فيها؛ تركيزُها للتواصل والتأثير أو حتى الضغط على المستوى السياسيّ الصرف، مع تجاهلِ أهمِّيّة التعامل مع الرأي العام الذي ينبغي تهيئته لاستيعاب المطالب والتطلّعات ولتفهّم المصالح والاهتمامات المنشودة من خلال المشاركة السياسيّة تلك. والواقع أنّ السعيّ لفتح الخطوط بين الأقلِّيّات المسلمة والأوساط السياسيّة، وتفعيل التواصل بين الجانبين؛ لا يبدو وحدَه خياراً مجدِياً، خاصة إذا ما اتضح أنّ خطوطَ التواصل مع قطاعات المجتمع وفئات الرأي العام، بشكل عام أو في ما يتعلق بمسائل محدّدة، تبدو مسدودةً أو مقطّعة أو حتى متعثِّرة. والمشكلةُ هنا ستبدو محكومةً، إلى حدٍّ ما، بالتوازنات غير المتكافئة بين الأغلبيّة والأقلِّيّة، وهي التوازنات التي يُفتَرَضُ أنّ السياسيّ الباحث عن الإسناد الشعبيّ يراعيها بعنايةٍ ويُدرِكُ حساسيّتها الفائقة، بما يحول دون توقّّع الوقوف في مربّع الأقلية بعيداً عن ميول الأغلبيّة، في حالة التناقض المفترَض بينهما في مسألة ما.
من هنا؛ يكتسبُ الفعلُ المجتمعيُّ بعامّة، والتواصل مع الرأي العام بخاصّة، أهمِّيّةً فائقةً لإنجاح مساعي المشاركة السياسيّة، التي يبدو الحضورُ الإعلاميّ الإيجابيّ مَطْلَباً لا غنى عنه بالنسبة إليها.(1/248)
إلاّ أنّ ذلك لا يعني مجرّد الاهتمام بالفعل الإعلامي كنشاط موجّه؛ وإنما بأن يأخذ ذلك سمةً تواصُلَيّة تقوم على التفاعل المتبادل، بما يعنيه ذلك من تكييف المرامي والخطاب والممارسة، قَدْرَ الممكن وبلا تكّلف وضمن الإطار العام للخصوصيّات وبما يتساوق مع الفكرة ومنطلقاتها الأساسية؛ مع مطالب المجتمع الكبير وتطلّعاته، ومصالحه واهتماماته، بحيث يُسعَى لأن يكون فعلُ المشاركةِ السياسيّة بشتى تضاعيفه مفهوماً، ومُتَقبّلاً، أو على الأقل بما يُحَيِّد بعض الصعاب التي من المحتَمَل أن تَعترضَه ضمن الفضاء المجتمعي، وبالتالي عبر البيئة السياسيّة. ولكنّ الأمر يتعدّى مجرّد كسب التفهّم والقبول أو التحييد؛ إلى السعي لوضع المشاركة السياسيّة للأقلِّيّات المسلمة في أوروبا على مسارات المشاركة السياسيّة العامة للنطاق المجتمعي العريض، بحيث تتقاطع إيجابياً مع مشاركة فئات المجتمع وشرائحه ومجموعاته الأخرى، بما يفتحه ذلك من آفاق التعاون والتنسيق، وبما يتيحه من فرص التحالف والشراكة، علاوة على أنه سيجعل مشاركةَ الأقلِّيّة ضمن المعادلة المجتمعيّة والسياسية العامة للبلاد، لا أن تبدو طارئةً عليها أو متمايزةً عن سياقها.
عن التنازلات في سياقات المشاركة ـ الهوامش والحدود ودور الخطاب السياسي:
إنّ من يراقبُ بدقّة بعض مظاهر الأداء في ساحة المشاركة السياسيّة لمسلمي أوروبا، لا بدّ وأن يعثر في سياق التعاطي مع بعض القضايا أو المسائل التي تتجاذبها أطراف عدّة؛ على حالات تنطوي على ارتباكٍ في الأداء، أو حتى على تنازلاتٍ في مضامين جوهريّة لموقف بعينه، أو تصعيد غير مبرّر في مسائل بعينها على حساب جوانب أخرى قد لا تقلّ أهمية، بما يمسّ أحياناً جانِباً مُصَنّفاً على أنه ذو طابع مبدئيّ أو ينتقص من حقّ لا يُقبّل التفريط به مثلاً.(1/249)
وبمزيد من التأمّل والتحليل؛ قد يتّضح، على سبيل الاحتمال، أنّ الأمر جاء حصيلةً لجهود مناوئة لذلك الموقف المبدئيّ أو حتى نتاجاً لضغوط مناهضة لذلك الحقّ الذي يُفترَض أن يكون مكفولاً. وفي ساحةٍ تتنازعُها المصالح والرؤى، بل قد لا تغيب عن بعض أطرافها إرادةُ المزاحمة أو حتى نزعات الصراع؛ يكون من الخطورة بمكان التسليم بالتخلِّي عمّا يمكن تصنيفه ضمن المبادئ الراسخة أو ما يمكن فرزه على أنه حقوق غير قابلة للمساس أو مكتسبات لا يجوز تقليصها أو التعدِّي عليها. ولذا؛ فلا بدّ من التعاطي بحذر مع الهوامش التي يمكن قبول التنازل فيها أو المرونة بشأنها، خاصة في سياقات التدافع، وما يكون التنازل مُتوقّعاً أساساً إلاّ تحت الضغوط، أيّاً كانت صورها.(1/250)
ولا ريب مثلاً أنّ المرونة والتكيّف في الخطاب وما يتفرّع عنه من رسائل ذات مضامين وسياقات وصياغات حصيفة؛ تتيحُ إجمالاً هوامش معقولة نسبيّاً من الحراك والتعاطي مع المستجدات، مع الحرص على عدم التناقض في ذلك مع المفاهيم والتصوّرات، أو مصادمة الثوابت والمبادئ. وثمة ما يؤشِّر على أنّ القصور في الخطاب والأداء المرتبك في تمريره وحالة الضعف في التواصل وإهمال مستلزمات الإقناع والمحاججة؛ تتحمّل جملةً أو فرادى قسطاً، قد يكون وافراً أحياناً، من المسؤولية عن محاولة بحث بعض العالقين في مآزق التواصل السياسي وما يصاحبه من خطاب ورسائل منبثقة عنه؛ عن مخارج وملاذات من خلال التوجّه لتفكيك الثوابت التي حدّدوها لأنفسهم وربما بالتفريط بحقوق ومصالح لحساب أنصافها أو أرباعها أو حتى أقلّ من ذلك. ولذا؛ يلفت الخبير الاستراتيجي أحمد رمضان، الانتباهَ إلى أنّ التواصلَ السياسيّ يتطلّب، ضمن ما يتطلّبه، "توفّر خطاب سياسيّ انسيابيّ، قادر على معالجة الأخطاء بالسرعة الممكنة، وتفادي المضيّ في سياسات قد تُلحِق ضرراً استراتيجياً بالأداء العام للقضيّة المركزيّة التي يتم تبنِّيها، وبالتالي؛ فإنّ عناصر هذا الخطاب يجب أن تكون محلّ دراسةٍ وتمحيص بشكل متواصل بما ينسجم مع تفاعلات الواقع (...)، ولا يعني ذلك بأيّ حال من الأحوال تقديم تنازلات في البرنامج السياسيّ المركزيّ لجهة الاحتفاظ بتأييد الرأي العام، لأنّ تقديم التنازلات لا يُعتَبر مؤشِّراً لكسب الرأي العام بقدر ما هو دليل على عدم القدرة على إنجاز ذلك والرضوخ لضغوط الخصم الذي يُفتَرَض أنه نجح في تحقيق انحياز المجتمع المدني لصالحه، في صورة ترغم الطرف الآخر على تقديم تنازلات"(1).
__________
(1) رمضان، أحمد: "حركة الرأي العام في الغرب وقواعد التأثير ـ دور مسلمي أوروبا في التفعيل الإيجابي للرأي العام الغربي". الأوروبية (مجلة)، العدد 32، باريس، شباط (فبراير) 2001، ص 29.(1/251)
والواقع على أيِّ حال أنّ التحذير من مغبة تقديم "التنازلات" يمكن العثورُ عليه في ما يتعلّق بالتجارب السياسيّة والمجتمعيّة لمسلمي أوروبا، ومن ذلك تحذيراتٌ أطلقَها الدكتور عدنان علي رضا النحوي، جاء فيها "لقد نَصَحتُ في حدود وُسعي، ونبّهتُ إلى الخطر الذي يقع بسبب هذه التنازلات (...). لقد كوّن هذا المسلسل من التنازلات التي امتدّت زمناً طويلاً قوّةً نفسيّةً للكثيرين في العالم الغربي، تُغريهم بالجرأة على تحدِّي الإسلام والمسلمين في قضايا الحجاب وغيرها، لمّا رأوا أنّ بعض المسلمين أنفسهم يتنازلون شيئاً فشيئاً عن إسلامهم، حتى توافر لديهم، لدى بعض المسلمين، الاستعدادُ النفسيُّ والفكريُّ للتنازلات"(1).
وسواء استصحب المرءُ تحذيراتٍ كهذه أم لم يفعل؛ فإنّ ما يتوجّب لَفْتُ الأنظار إليه على أيّ حال؛ هو خطورة التهوين من قصور الخطاب السياسيّ أو ما يتفرّع عنه، ضمن ساحات المشاركة السياسيّة لمسلمي أوروبا، لأنّه قد يستَحِثّ مفعولاً ارتدادياً غير مبرّرٍ أو مُجْدٍ يتّجه لتخفيض سقوف الثوابث والانتقاص من خانة الحقوق وتآكل جدول الأعمال السياسيّ.
أي أنّه لا يُستَبْعَدُ أن تجري أحياناً الاستعاضةُ عن معالجة مكامن الضعف والقصور في الخطاب والرسائل التي تتفرّع عنه؛ بالنزوع، الواعي أو غير الواعي، إلى تفكيك التصوّرات والمفاهيم. أي الانتقال خطوتين إلى الوراء دفعةً واحدة، وربما لإعفاء الذات من المسؤوليّة عن القصور بالمسارعة إلى التفتيش عن مكامن الخلل في النسق المفاهيمي الذي يجري الصدور عنه، و"ليس العيْبُ فينا". والمثير أنّ هذه العملّيّة قد تتكرّر باستمرار لتعيد إنتاجَ ذاتها، لتبقي على خطابٍ سياسيّ مرتَبِكٍ وقاصر من جانب؛ في ما يَقِفُ على أرضيّة مبدئيّة متآكلةٍ باستمرار وتحت سقف مفاهيميّ يزداد انخفاضاً.
__________
(1) النحوي، عدنان علي رضا: "مع قضية الحجاب". الأوروبية (مجلة)، العدد 38، باريس، أيار (مايو) 2004، ص 41.(1/252)
وفي كلّ الأحوال؛ فإنّ هذه الملاحظات إنما تعزِّز القناعةَ بأهمِّيّة إيلاء مزيدٍ من العناية لمسألة التواصل السياسيّ، ورفع مستوى الكفاءة فيه في أوساط مسلمي أوروبا، ومن باب أولى لمن يقومون بهذا التواصُل بالفعل.
وقد تقتضي الإشارةُ التنبيهَ؛ إلى أنّ خطاب التواصل السياسي وما يتفرّع عنه من رسائل وإشارات؛ لا يتطابَقُ في طبيعته ومواصفاته مع ذاك الذي يمكن معه خوض جولات الحوار الدينيّ أو الثقافيّ، مهما اتسع النطاق المشترك بينهما. فالمضيّ إلى ساحة الحوار بين الأديان وجولات التواصل الثقافي (وهو من الشواغل البارزة لكثير من قيادات مسلمي أوروبا اليوم والتي يتصدى بعضها للشأن السياسي أيضاً، خاصة مع عدم نضوج أطر متخصِّصة في أي من المجالين في عدد من الساحات الأوروبيّة المسلمة)؛ ليس ممّا يَحتَمِل استصحابَ خطابِ المزاحمة والمدافعة الذي قد تتطلّبه تجاذبات الساحة السياسية إن لزم الموقف.(1/253)
وعن فكرة التدافع هذه؛ يشرح الداعيةُ الفرنسيّ المسلم حسن أقيوسن، الأمرَ بأنّ مسلمي أوروبا "ما داموا ليسوا في المستوى الذي يؤهِّلهم للدفاع عن أنفسهم؛ فإنّ التمييزَ سيتواصل، بل ستزيد حدّته. فإذا لم يشغل المسلمون الساحة السياسيّة ليدافعوا عن أفكارهم ومعتقداتهم؛ فإنّ الآخرين سيشغلونها وسيدافعون عن أفكارهم ومصالحهم التي قد تتصادم مع أفكارنا (مسلمي أوروبا) ومصالحنا، وهذا هو قانون التدافُع في الواقع. ونظراً لغياب المسلمين في مؤسسات المجتمع المدني، كالجمعيات، ولجان أولياء التلاميذ في المدارس، واللجان الثقافيّة والاجتماعيّة في المجالس البلديّة وفي الأحياء؛ فإنّ هذا الغياب لا يُسهِم في إعطاء الصورة الصحيحة عنهم. من هنا تأتي ضرورة المشاركة والسعي لتصحيح الصورة بالمثابرة والعمل الجاد وإعطاء المثال". ولذا؛ فإنّ حسن أقيوسن يدعو المسلمين إلى المشاركة المجتمعيّة والسياسيّة، بما في ذلك الانضمام إلى الأحزاب(1).
ولكنّ محاولة إمساك بعض القيادات المجتمعيّة المسلمة في أوروبا بزمام الموقفيْن معاً (موقف البحث عن الوفاق والقواسم المشتركة وتعزيز الحوار من جانب، وموقف رعاية المصالح وحماية المكتسبات وانتزاع المطالب والمزاحمة في الساحة السياسية من جانب آخر)؛ يُضعِفُ أحدَهما أو كليهما معاً، وقد يفضي إلى ارتباك قد لا تُحمَد عُقباه في مواسم الأزمات.
__________
(1) جاء ذلك في مداخلة للداعية حسن أقيوسن، في ندوة عقدتها "جمعية مسلمي روني سوبوا" (Association des Muslulmans de Rosny) في السادس من آذار (مارس) 2004، عن التمييز العنصري ضد المسلمين والأجانب في فرنسا، ونشرت مجلة "الأوروبية" مقتطفات منها. انظر: الأوروبية (مجلة)، العدد 38، باريس، أيار (مايو) 2004، ص 47.(1/254)
ويقتضي ذلك وضعَ بعض الحدود والهوامش لمدى الأداء وأبعاد الخطاب السياسيّ الذي يمكن لمستوى القيادة المجتمعيّة أو الدينيّة المنشغلة بشؤون الحوار أو الدعوة أن تتوغّل فيهما، ووضع هوامش نظيرة مقابلة للقيادة المنشغلة بالشأن السياسيّ في ما يتعلّق بالدرجة المقبولة منها للانغماس في "شؤون الدعوة" أو مسارات الحوار. أي ليس من الوارد إحداث القطيعة، أو اصطناع التناقض، وإنما أن تَصدُرَ أداءات أكثر تمرّساً وتخصّصاً عن مشكاة واحدة أو مشتركة أو جامعة، قَدْرَ الممكن؛ من التصوّرات والمفاهيم والمنطلقات الرشيدة.
أي أنّ تنويع أدوات الفعل المجتمعيّ مطلبٌ لا غنى عنه، يتيح فرصاً أفضل لمزيد من التخصّصيّة ضمن مسارات هذا الفعل، كما يوسِّع هوامش الحراك والمناورة ويرفع السقوف الواطئة ويوفر آفاقاً أرحب لإقامة التحالفات ونسج عرى الشراكة والتعاون والتنسيق والتواصل على مستويات عدّة، ويشجِّع فوق ذلك كلِّه مطلب الانتشار المجتمعي الواعي والحميد، وهو ما يتساوق مع رؤى "الاندماج الإيجابي" التي تكاد تتوافق عليها الساحة الوسطيّة لمسلمي أوروبا.(1/255)
ومن هنا؛ تتطلّب المشاركةُ السياسيّة لمسلمي أوروبا، إذا ما نشدت الفعاليّةَ في خضمّ ساحةٍ معقّدة وتتجاذبها أطرافٌ عدّة، أن تنطوي، كما يقول الخبير أحمد رمضان؛ على وجود "قوى منظّمة بشكل فعّال ومُحكَم تتولّى التعامل مع الرأي العام على اختلاف أطيافه، وتتوفّر على قدرات كافية ثقافيّة وفكريّة وبشريّة ومادِّيّة، تتيح لها إمكانية الاستمرار والتطوير في أساليبها وأدواتها، ولا بدّ لتلك القوى من أن تحسن اختيار مفردات خطابها الموجّه، وتُدَقِّق في توقيت تحرّكاتها، ولا تركن إلى النجاحات التي يمكن أن تحقِّقها، بقدر ما تبدي اهتماماً بالتحدِّيات التي تواجهها، والانكسارات التي قد تصيبُها، لأنّ من شأن الخصم الانقضاض على الخطأ وتحويله إلى فشلٍ ذريع ومن ثمّ الإفادة منه في تقويض قدرات الطرف المقابل وشلِّه"(1).
الفصل الثامن:
مسائل وإشكاليات في العمل السياسي لمسلمي أوروبا
يبقى العملُ السياسيّ لمسلمي أوروبا، محفوفاً بتساؤلات وإشكاليّات، ومرتبطاً بتحدِّيات عدّة، ينبغي استعراضُها ومناقشتها باستفاضة وعُمق.
ولمّا كان العملُ السياسيّ لمسلمي أوروبا خاضعاً لتقديراتٍ اجتهاديّة وافرة، ومتعلقاً بموازنات معقّدة ومتشعِّبة؛ فإنه لا بد من لفت الانتباه إلى جملةٍ من المحاذير والنقاط الجديرة بالانتباه، بناءً على خصوصيّة مسلمي أوروبا وطبيعة ساحتهم السياسيّة.
وتلي محاولاتٌ لتشخيص بعض الإشكاليّات، أو التساؤلات، المتعلِّقة بالمشاركة السياسية لمسلمي أوروبا، وربما المشارَكة المجتمعيّة العامّة ككلّ، وهي مستقاةٌ إجمالاً من واقع هذه المشاركة، ومُغْتَرَفَةٌ من صميم ما يموج فيها من تجاذباتٍ والتباسات، وقد تنحو أحياناً منحى استشرافياً لما يُتَوَقّع أن يُثارَ في الحاضر والمستقبل من تساؤلاتٍ في هذا السياق.
__________
(1) رمضان، أحمد. مصدر سابق، ص 29.(1/256)
وبهذا؛ فإنّ الإشكاليّات التالية تتفاوتُ في مدى جديّتها، وتتمايز في عُمقها وتأثيراتها، كما تتبايَنُ في قوّة حضورها أو ضعفه في ساحة مسلمي أوروبا، دون أن يُنقِص ذلك من دواعي التصدِّى لها بمعالجات تحليليّة ناقدة، سعياً لتوضيح ملابساتها، وصولاً إلى بعض الاستنتاجات أو التوصيات، حسب ما يلي:
أولاً/ السياسي المسلم وإشكالية "ازدواجية الولاء" (المزعومة) بين الأقلية المسلمة والحزب السياسي:
إنّ إثارة تساؤلات بشأن "ولاء" السياسيِّين، هي إحدى الإشكاليّات التي يمكن العثور عليها أحياناً في ساحة مسلمي أوروبا، بل وفي أوساط الأقلِّيّات بشكل عام. فالسياسيّ المسلم الذي يُعَوِّل أساساً على أصوات الناخبين المسلمين، والمرشّح بدوره على قائمة حزب سياسي ما؛ هو مُنتَمٍ إلى أقليّته، لكنه مُنْضَوٍ في إطار حزبِهِ أيضاً.
ومن المألوف أن تثور الشكوك والتساؤلات في بعض صفوف الناخبين المسلمين بشأن "حقيقة ولاء" السياسيّ، أَهُوَ للأقلِّيّة المسلمة، أم للحزب المعنيّ. ومن الواضح أنّ هذه التساؤلات، التي تصدر في العادة من منافسي السياسيّ المذكور، أو من معارضيه، أو من الناقدين لأدائه لسبب أو لآخر؛ إنما تعوِّل على القابليّة للشكّ والارتياب التي عادةً ما تكون مُتوقّّعة في صفوف الأقلِّيّات إزاء جدِّيّة المواقف "الودِّيّة" التي تُبديها بعض الأحزاب السياسية. وعادة ما يأتي ذلك التعويلُ عبر إثارة تساؤلاتٍ ذات دلالاتٍ مُبهَمة، وتخضع لتقديرات ذاتيّة (subjective) غير دقيقة، علاوة على اصطناعها تناقضاً مُفترَضاً وملتبساً بين "الولاء للحزب" و"الولاء للأقلِّيّة"، بينما تقفزُ هذه المزاعِمُ أحياناً فوق مساحة المصالح المشتركة والتعاطي المتبادل بين الأقلِّيّة والحزب، التي عادةً ما يسعى السياسيّون المعبِّرون عن الأقلِّيّات للعمل من خلالها، بدرجاتٍ متفاوتة من المسؤولية والجدِّيّة والكفاءة والتأثير.(1/257)
وفي معظم الأحوال؛ تأتي هذه التساؤلاتُ المتعلِّقة باصطناع تناقض في "الولاء" لنطاقيْن غير متجانسيْن (الأقلية والحزب)؛ منطلِقَةً من رؤى سائدةٍ في بعض صفوف الناخبين داخل الأقلِّيّة، أكثر من تساوقها مع واقع العمل السياسيّ والحزبيّ. ولا مجال للاستفاضة في هذا المقام بإيراد حالات أُثيرت فيها (في أوساط مسلمي بعض البلدان الأوروبية) تساؤلات "الولاء" إياها بصياغات عدّة، ترمي إلى التشكيك في ولاء سياسيِّين مسلمين بعينهم للأقلِّيّة المسلمة أو في جدِّيّة قيامهم بالتعبير عن مصالحها، من قبيل أنّ "السياسي زيد هو مرشّح الحزب إياه لدى المسلمين وليس مرشّح المسلمين لدى ذلك الحزب"، وغير ذلك من صيغ التراشقات اللفظيّة التي يصعب ضبط دلالاتها بدقة، والتي يبقى توقّعها أمراً لا مناص منه في صفوف أيّة أقلِّيّة كانت.
إلاّ أنّ ما يتجاوز تلك التجاذبات؛ هو واقع العمل السياسي والحزبي، وطبيعة النظم الانتخابية. فالسياسيّ المسلم، إذا ما كان نائباً برلمانيّاً مثلاً، مهما اعتُبر "موالياً" لأقليّته المسلمة أو "وفيّاً" للقطاعات التي اقترعت لصالحه؛ يبقى محكوماً بمسؤوليّات وتقاليد حزبيّة، وبالتزامات تفرضها الثقافة السياسيّة في البلاد. إذ يبقى ذلك السياسيّ مرتبطاً بحزب وضعه على قائمة انتخابيّة وصولاً إلى مقعد برلماني مثلاً، وربما إلى موقع تنفيذيّ أو حتى منصب وزاريّ. وقد يجد السياسيُّ المسلمُ نفسَه مشدوداً بأقدار متفاوتة إلى ناخبيه وإلى حزبه أو حكومته. ومن غير المستبعد أن تنشأ عن هذا الانشداد المتبادل؛ إشكاليّاتٌ ومصاعب عدّة، فقد يتمّ تحميل السياسي الفرد مسؤوليّة برامج حزبه وسياساته ومواقفه بالكامل، أو حتى الجهاز التنفيذي أو الحكومة، وستكون وطأة ذلك أشدّ بكل تأكيد كلّما بدا لجمهور المسلمين أو بعضهم أنّ الأمر يخلّ بما يندرج ضمن اهتماماتهم أو تطلعاتهم أو مصالحهم.(1/258)
وقد يواجه السياسي المسلم مصاعب من طرف مقابل، أي من الأوساط الحزبيّة ذاتها، ومن بعض الناقدين أو المنافسين له داخل صفوف الحزب، خاصة عندما يتبنّى بعضُهم مواقفَ متحفظة أو سلبية، معلَنة أو كامنة، من المسلمين في بلاده أو إقليمه، بل وقد لا تتعدّى بواعثُ (Motives) بعضهم مجرّد منافسته على "مساحة ما مفترضة تبدو مخصّصة للمسلمين داخل الحزب".
وفي ظل تجاذبات كهذه؛ فإنّ السياسي المسلم، المعروف بالتزامه الديني و/أو بانحياز قطاعات من الجمهور المسلم له، والذي ينجح في الارتقاء في مراتب الحياة السياسية؛ لا يُستَبعد أن تستهدفه انتقاداتٌ إعلاميّة أو سياسيّة على خلفية "الإسلاموفوبيا"، أو على خلفيات أخرى، أي أنّ ذلك من شأنه أن يضاعف من مفعول الصعوبات التي يواجهها ذلك السياسيّ، وقد يتسبّب في تضييق هوامش الحراك التي يتمتع بها، بما قد يتسبّب له في إرباكات مع قاعدته الانتخابية.
وينبغي الانتباه في هذا الصدد؛ إلى أنّ من يُنْظَر إليهم على أنهم سياسيّون معبِّرون عن الأقلِّيّات، بما فيها الأقلِّيّة المسلمة، أو مرشّحون أو نواب عنها؛ يرتبطون من جانب بمؤسسة حزبيّة لها نظمها ومبادئها وبرامجها وسياساتها ومواقفها المحدّدة في عديد المجالات، بينما يرتبط أولئك السياسيّون بأقليّاتهم التي هي في الأحوال الاعتياديّة عبارة عن مجموعة، أو مجموعات، بشريّة تشترك في بعض الخصائص، لكنها ليست بمؤسسة، ولا تحكمها بالتالي نُظُمٌ مؤسسيّة محددة، وأما مبادئها ومواقفها فهي ما يسود في أوساط اتحاداتها وجمعياتها ونخبها وجمهورها من قناعات وآراء وتقديرات لا تفتقر إلى الهلاميّة في الدلالات أحياناً أو التفاوت الواضح في ما بينها أحياناً أخرى.(1/259)
يعني ذلك أنّ إطلاق تعبيراتٍ من قبيل "مرشّح المسلمين" كما يشيع أحياناً، إنما يحمل دلالاتٍ نسبيّة، وغالباً ما تفتقر إلى الدقّة الكافية، طالما أنّ "المسلمين" ليسوا مؤسّسة، إلاّ لو افتُرِضَ وجودُ إطار جامع لمسلمي البلد أو ضمن الدائرة الانتخابية المعنيّة معبّر عنهم بدقة وشفافيّة، وهو احتمال، على فرضيّته، نادراً ما يتساوق مع آليات الفرز السياسيّ في صفوف الأقلِّيّات المسلمة في أوروبا، علاوة على افتقاره لأهلية التماشي مع الأنماط المألوفة في ساحات العمل الحزبيّ بالبلدان الأوروبية.
ومع ذلك؛ فإنّ السياسيّ المسلم قد يجد أنه من الملائم أحياناً أن تتمّ الإشارةُ إليه بوصفه مُرشّح المسلمين، بما قد يمنحه وزناً سياسياً أكبر، و/أو يزيد فرصه في الحصول على دعم المسلمين وأصواتهم، علاوة على احتمال تساوق ذلك بالفعل مع قناعته أو قناعات مؤيِّديه بأنه ممثِّلٌ للمسلمين بالفعل، سواء بالنظر إلى تعبيره عن مجموعهم أم أخذاً بعين الاعتبار اهتماماتهم وتطلّعاتهم ومصالحهم المُفترَضة.
ولا ريب أنّ هناك من المؤشرات المتاحة ما يفيد في تقييم تجارب السياسيِّين المسلمين واختبار جديتها، ومن ذلك مثلاً مدى إسهام السياسيّ المسلم في إنعاش التواصل بين الجمهور المسلم، ممثّلاً بأطره ومؤسّساته وقادة الرأي فيه؛ والوسط السياسيّ الذي يتحرّك فيه. ومن هنا تماماً تكتسب بعض الملاحظات أهميتها، مثل ما يوضِّحه أول نائب مسلم في برلمان محلِّي نمساوي(1)، من أنّ تجربته خلال الدورة الأولى التي استغرقت أربعة أعوام (2001 ـ 2005) قد تركّزت على "تهيئة المناخ المناسب للتعامل بين المسلمين والسياسيين وباتجاهين، لذا فقد أصبح للمسلمين تجاوب وتفاعل في الساحة السياسية"، على حد تقديره.
__________
(1) هو النائب عمر الراوي، انظر: عمر الراوي (مقابلة)، صحيفة "سلام"، العدد 3، فيينا، تشرين الثاني (نوفمبر) 2005، ص 6.(1/260)
ثانياً/ تحدي القدرة الفعلية للسياسي المسلم على التأثير في المستوى السياسي:
من الضرورة بمكان؛ الانتباه إلى القابليات الموضوعية التي يحوزها الأفراد المسلمون المتفرِّقون، المنخرطون في العمل السياسي، للتأثير في بيئات سياسية تعجّ بالمؤسسات الفاعلة وتحفل بالتقاليد الراسخة، بل وبمراكز القوى ومحاور النفوذ.
ـ وأخذاً بعين الاعتبار القابليات المحدودة إيّاها؛
ـ وسعياً لاعتماد خيارات فاعلة للعمل السياسي لمسلمي أوروبا (بالتعاون قدر الممكن مع شركائهم في الساحة المجتمعيّة والسياسيّة الأوروبيّة) بما ينهض بدور المشاركة السياسية، بما في ذلك ما يتيحُ العملَ من داخل الأحزاب السياسية؛
ـ وتلافياً لاحتمال خفض سقوف الآمال وتقليص التطلّعات المعقودة على ناصية العمل السياسي لمسلمي أوروبا، طالما أنه يبقى خاضعاً لتقديرات سياسيِّين فرادى نادراً ما يجدون إسناداً من أطر مؤسسيّة خاصة بمسلمي أوروبا؛
فإنّ الأقليات المسلمة في أوروبا ستكون معنيّة بالمقاربة بين الآمال والتطلّعات من جانب، والإمكانات المتاحة من جانب آخر، وذلك تحرِّياً للتطوير المرحلي المحسوب.
فالخيار الأمثل هو خوض تجارب المشاركة السياسية بمنحى تراكمي، وهي التراكمية التي لا تتأتّى بمعزل عن ميدان التطبيق الفعلي والممارسة العملية.
قد ينجح بعضُ المسلمين في دخول ساحة العمل السياسيّ المباشر في البلدان الأوروبيّة، ليعكس ذلك من حيث المبدأ مؤشِّراً إيجابياً في ما يتعلّق بالمشاركة السياسيّة لمسلمي أوروبا. لكن كيف يبدو الحضور الواقعي لممثلي الأقليات، ومنها الأقليات المسلمة، أو المعبِّرين عن مصالح الفئات المجتمعيّة أو بعض القوى والأطراف، في الأطر الحزبيّة والسياسيّة؟(1/261)
إزاء التساؤلات التي يمكن طرحُها بشأن فرص حضور هؤلاء، ومدى تأثيرهم الفعليّ في النطاق الحزبي؛ فإنّ الأمر يستدعي الإشارةَ إلى أنّ فرص تأثير السياسيّ المسلم ضمن نطاقه السياسيّ أو الحزبيّ تبقى محكومةً بعوامل عدة، ومنها عوامل ذاتيّة مرتبطة به مباشرة، كالمكاسب الانتخابية التي يحققها للحزب، مثلاً عبر الثقل التصويتي، أي حجم الأصوات التي يحصل عليها الحزب من خلال ترشّح ذلك السياسي على قوائمه مثلاً.
ومن العوامل الذاتية أيضاً؛ المؤهلاتُ والمهاراتُ والخبراتُ التي يتمتع بها السياسي، ذلك أنّ الفارق يبقى ملحوظاً بين سياسي لا يمثل سوى ثقل انتخابي، وآخر يحوز، علاوة على ذلك، على مؤهِّلات عالية، مثلاً، ومهارات تواصليّة، وخبرات في العمل السياسيّ أو التنفيذيّ، وعلاقات نافذة في الداخل والخارج. فالأحزابُ والحكومات تبقى بحاجة للأشخاص الأكفاء وذوي المهارات والخبرات، ليغطوا مجالات الحاجة، ولينهضوا بالمسؤوليات المتجدِّدة.
ومن العوامل الذاتيّة الأخرى؛ قدرة السياسي على التعامل المُثمِر مع أوساط الحزب أو الحكومة الداخليّة، وفي أوساط الحياة العامة ككلّ، بما في ذلك بناء التحالفات والقيام بمبادرات فاعلة وغير ذلك من التحرّكات، بما يؤهله لأن يكسب أوسع قطاعاتٍ ممكنة داخل حزبه أو حكومته لصالح ما يتبنّاه من رؤى ومواقف، وأن ينعكس ذلك بالتالي على أداء الحزب.
ومن تلك العوامل أيضاً؛ قدرة السياسي على إدماج من يعزِّزون دورَه ويُسنِدون حضورَه في نطاق الحزب أو المستوى السياسي، وقيامه بذلك بالسبل المُثلى، وهي ملاحظة ذات أهمية خاصة بالنسبة للمشاركة السياسية للأقلِّيّات.(1/262)
أما من الناحية الموضوعيّة؛ فإنّه لا يغيب عن الأذهان أنّ السياسيِّين المسلمين في الأحزاب القائمة في الساحات الأوروبيّة، هم مجرد أفراد من حيث المبدأ يعملون ضمن إطار عام، بما يجعل فرصَهم في التأثير محدودةً بدون شكّ. إلاّ أنّ ذلك الإطار الحزبي، أو ربما الحكوميّ، ليس متجانساً في واقع الأمر. فمن المألوف أن تضمّ الأحزابُ السياسيّة الأوروبيّة، خاصة الأحزاب العريقة والكبرى، بين جنباتها أجنحةً وأقطاباً، ومراكزَ قوى، وجماعات معبرة عن مصالح الفئات التي تتعامل معها الأحزاب. وعادة ما يكون مجمل الأداء الحزبي بمثابة محصِّلة للاتجاهات والتجاذبات الداخلية في النطاق الحزبي. "وحتى مع سعي بعض فئات المجتمع للدفاع عن مصالحها من خلال جماعات المصالح، والتي تختلف وظائفها عن الأحزاب؛ فإنه من الممكن اعتبار الأحزاب تجمّعاً لقوى ومصالح اجتماعية مختلفة"(1).
ومن المألوف بالتالي أن تعبِّر بعض المواقع أو اللجان أو المجموعات العاملة ضمن الوسط الحزبي؛ عن مراكز قوى أو جماعات مصالح أو حتى قوى ضغط، قد تكون معنيّة بمجمل الأداء الحزبيّ أو معظمه، أو قد تسلِّط جهودها على الجوانب المُحَدّدة المتّصلة باهتماماتها وتطلّعاتها ومصالحها. فالقوى النقابيّة مثلاً، إذا كان لها من يعبِّر عنها داخل هذا الحزب أو ذاك؛ فإنها ستمنح الأولويّة لمحاولة التأثير على ما يتعلّق بشؤون الشرائح الممثِّلة لها. وإذا ما تعلّق الأمر بالأشخاص ذوي الإعاقة؛ فإنّ تركيز التأثير يتمّ ضمن ما يعني هذه الشريحة المجتمعيّة على نحو خاص، وهو ما يسري على فئات وشرائح شتى أيضاً.
__________
(1) "السياسة والحكومة". مصدر سابق، ص 138.(1/263)
أيّ أنّ هذه الأطراف تعمل كـ "لوبيّات" (Lobbies)، أو مجموعات ضاغطة (Preasure Groups)، داخل صفوف الأحزاب ذاتها، دون التفريط من حيث المبدأ بمطلب "خدمة الحزب". وتفيد تلك الأطراف من أداء مجموعات المصالح الرديفة، أو ذات الاهتمام المشترك، الواقعة خارج نطاق الحزب، وقد يكون السياسيّ ذاته عضواً فيها.
يعني ذلك؛ أنّ قدرة السياسي المسلم وإن كانت محدودةً حقاً؛ فإنّ قابليّتها على التأثير يمكن أن تتقلّص أو بالوسع تثميرها، بحسب الإمكانات الذاتية لذاك السياسي ورؤيته وقدراته على التفاعل مع مكوِّنات الواقع الذي يتحرّك ضمنه وتوظيفه للعوامل والمتغيّرات، فضلاً عن امتلاكه لرؤية وتصوّر، يتحرك بموجبهما في ساحة شائكة ومعقّدة في الغالب.
ثالثاً/ إشكالية التوافق مع مبادئ الحزب وبرامجه وسياساته ومواقفه وأدائه التنفيذي:
لعلّ أحد الأسئلة الإشكاليّة الدقيقة، التي تكتسب أهمِّيّةً خاصة بالنسبة لمسلمي أوروبا في ما يتعلّق بميدان العمل السياسي عبر الأحزاب؛ ما يتعلّق بافتراض مطلب الموافقة على كافة مبادئ الحزب وبرامجه وسياساته ومواقفه وأدائه التنفيذي، لكي يكون مقبولاً الانضمام إلى صفوفه أو النشاط السياسي من خلاله.(1/264)
والواقع أنّ مسألة الموافقة هذه، لا يمكن أن تؤخَذ على إطلاقها، ذلك أنّ الإقرار بالتعامل الإيجابي مع منظومة النظريات والبرامج والأقوال والمواقف والأداءات الصادرة عن حزب ما؛ لا يرقَى لأن يكون موافقةً مُطلَقةً أو ينطوي على تَبَنّ لكلّ ذلك جملةً وتفصيلاً. ومثل هذه الموافقة أو هذا التبنِّي، بصفة مُطلَقَة، غير واردة ولا مُنتظرَة من عموم المنخرطين في صفوف حزب ما، كما أنه من غير المألوف أن يُطالَب بها العضو في الأحزاب الكبرى الفاعلة على نحو صريح ومشدّد عليه، إلاّ أنّ مجرّد انضمامه للحزب إنما يحمل إقراراً ضمنيّاً، أو حتى نصِّيّاً، بسياسات الحزب العامة وبرامجه، مع الاستعداد لدعم الحزب والتعبير عن منطلقاته وسياساته.
وقد يتوجّب في هذا السياق مراعاة الفارق بين المجموعة الأيديولوجيّة، ذات الخطاب "المُؤدلَج"، ولو كانت حزباً سياسيّاً، من جانب؛ والأحزاب المتموضعة داخل الساحة السياسيّة، لا على أطرافها، من جانب آخر. وتتأتّى أهمية هذا التفريق من التمايز الملموس بين "البيت السياسيّ" و"البيت الأيديولوجيّ". صحيحٌ أنّ لمعظم الأحزاب السياسيّة الأوروبيّة جذوراً أو ارتباطات فكرية أو أيديولوجية؛ إلاّ أنّ الأحزاب الأوروبيّة ذاتها، عندما تحرص على أصوات أوسع شرائح مجتمعيّة ممكنة، وتسعى إلى ضم معبِّرين عن تلك الشرائح قَدْرَ الممكن إلى صفوفها؛ فإنها عادةً ما تنأى بنفسها عن الاصطباغ بلونٍ فكريّ صارخ أو طابع أيديولوجيّ بارز، مفضِّلة بدلاً عن ذلك التعبير عن "قيم" عامة و"مبادئ" تبدو مشتركة وأقدر على اجتذاب أوسع قطاعات مجتمعيّة ممكنة، دون الإلزام بتعريفات صارمة ذات دلالات لا تقبل التأويل، ومع هذا فإنّ ذلك يتمّ بما لا يتناقض في الوقت ذاته مع خصوصيّات كل حزب وهويّته العامة. ولذا تتّجه بعض الأحزاب يميناً أو يساراً بعض الشيء من موسم إلى آخر، بناء على اتجاهات الرأي العام وتبعاً للتوازنات الداخلية في أطرها أيضاً.(1/265)
أما الخلفيّةُ الفكريّة أو الأيديولوجيّة للحزب، فقد يتمّ الاحتفاظ بها، ولكن في إطار خاص، قد يمثِّل "نواة صلبة" (من قبيل هيئة داخل الحزب، أو لجنة مختصّة، أو قسم لتأهيل الكوادر، أو مركز دراسات، أو مجموعة تفكير، أو نادٍ للناشطين، أو غير ذلك)، عادة ما تكون موئلاً لعقائديِّي الحزب، أو غير ذلك من الصور. وعليه؛ فإنّ الفارق واضحٌ بين المستوييْن؛ مستوى النطاقات الأيديولوجيّة الخاصّة، ومستوى الفضاءات الحزبيّة العامّة.
والواقع أنّ الأوساط الداخليّة في أطر الأحزاب الأساسيّة في الساحات السياسيّة الأوروبيّة؛ عادة ما تتمتّع بهامش حراكٍ نقديّ يتسع أو يضيق بحسب كل حزب وكل مرحلة وكل مسألة، دون أن يعني ذلك عدم وجود "محظورات" أو "محرّمات" (تابوهات) بالعرف السياسيّ والحزبيّ، أي "خطوط حمراء". وفي أوساط الحزب الواحد؛ لا يُستَبعَد تشخيص تيّارات وأجنحة ومراكز قوى، بما في ذلك قوى متديِّنة وأخرى علمانيّة متصالحة مع الأديان وغيرها علمانيّة متطرِّفة. ففي الحزب الواحد؛ كحزب العمال البريطاني مثلاً، يمكن العثور على سياسي ملحد، وإن قادَهُ سياسيّ من خلفية متديِّنة ويرتاد الكنيسة ويقرأ "العهديْن القديم والجديد" بانتظام كطوني بلير. وفي حزب العمال ذاته؛ يمكن العثور على "مجموعة أصدقاء إسرائيل"، كما يمكن تصنيف نواب من الحزب على أنهم مؤيِّدون تقليديّون للحقوق الفلسطينية. بل وفي الحزب نفسه؛ كان هناك من أيّد الحرب على العراق، وهناك من عارضها، وبحدّة مثل جورج غالاوي قبل انفصاله عن الحزب. ويصدُقُ هذا النموذج، بقَدْرٍ أو بآخر، على الطابع العام للساحة الحزبيّة الأساسيّة في عموم أوروبا، دون أن يعني ذلك عدم وجود استثناءات.(1/266)
وما تجدر الإشارة إليه أيضاً؛ أنّ السياسيّ المسلم، الذي يُفتَرَض أن يكون مُعَبِّراً عن المشاركة السياسيّة للأقليّة المسلمة؛ إنما ينبغي، كما عليه الحال بالنسبة لمعظم أقرانه السياسيين؛ أن يُبقي لذاته مساحة من التحفّظ على بعض التفاصيل الواردة ضمن منظومة النظريّات والأقوال والمواقف والأداءات الصادرة عن حزبه. فالتماهي المطلق مع تلك المنظومة كفيلٌ بأن يُفقِدَهُ خصوصيّته كسياسيّ معبِّر عن إرادة المشاركة السياسيّة للمسلمين، وهي مشاركةُ، عندما تصدُر من أي مجموعة مجتمعيّة؛ إنما تروم الحفاظ على المكتسبات من جانب؛ وإحداث تغيير ما في صناعة القرار السياسي من جانب آخر، بما يوافق رؤاها وتصوّراتها ومصالحها. فكيف تتأتّى المشاركةُ، بما تقتضيه من إرادة التغيير، مع ذلك التماهي المُفترَض؟
ولا يمكن الاحتجاجُ في هذا الشأن بأنّ التغييرَ المنشودَ هو في الساحة السياسيّة ككلّ أو في القرار السياسيّ العام وليس في مستوى الحزب الذي ينخرط فيه السياسيّ المسلم بما لا يمنع التماهي معه، إذ ما ينبغي التشديدُ عليه في هذا الموضع؛ أنه لا يمكن إحداث تغيير عبر الحزب في القرار السياسيّ العام على أي مستوى، مع القفز على مطلب التغيير داخل النطاق الحزبي ذاته، ولو جرى التسليم بذلك الاحتجاج لأمكن اعتبار الحزب إياه معبِّراً تلقائياً عن إرادة المشاركة السياسيّة للمسلمين، ولانتفت، ربما، الحاجةُ إلى دور السياسي المسلم أو من في حُكمه من شركاء المسلمين.(1/267)
ومن الواضح أنّ المسلمين غالباً ما يجدون في كلّ حزب من الأحزاب الجماهيريّة في الساحة الأوروبيّة، من ضمن ما يُوصَف بالأحزاب الديمقراطية المعتدلة؛ ما يخاطب جانباً أو جوانب من اهتماماتهم وتطلّعاتهم ومصالحهم على نحو خاص، مع تفاوُتٍ بين حزبٍ وآخر في ذلك. ويمكن البناءُ على تلك القواسم المشتركة بالفعل، وهو ما يحاول أن يفعله عمليّاً بعض الساسة المسلمين المنضوين في تلك الأحزاب أو المرشّحين على قوائمها، كما أنّه ما تعمد إليه أحياناً آلياتُ الاستقطاب السياسيّ والانتخابيّ لتلك الأحزاب في تعاملها مع المسلمين.(1/268)
فمثلاً؛ عن مبادرته للتواصل بين الإسلام والمذهب "الديمقراطي الاجتماعي" (Islam und Sozialdemokratie)؛ يقول عمر الراوي النائب المسلم عن الحزب الديمقراطي الاجتماعي النمساوي (SP?)، "برأيي أنّ هناك ثلاثة مقومات عندما تدلي بصوتك لأيّ حزب. المقوم الأول: ما هي سياسة الحزب تجاهي كإنسان وكمواطن في هذه البلاد؟ هل سياسة الحزب مع تكاليف التعليم المجاني؟ مع التأمين المعقول؟ مع توزيع الأموال بشكل عادل بين الغنيّ والفقير والتكافل الاجتماعيّ؟ عندما أقيّم سياسة الحزب الديمقراطي الاجتماعيّ؛ أجدها سياسة أقرب إلى دعم الطبقة الكادحة في المجتمع. والمقوّم الثاني: ما هي سياسة الحزب تجاه الأقلِّيّات؟ هل هو حزب منفتح يحترم الآخرين؟ يحترم الأديان؟ يحترم تعدّد الآراء والأفكار؟ والمقوم الثالث: ما هي سياسته العالمية؟ هل هو حزب مع الحياد أم منحاز؟ هل هو حزب مع السلام العالمي أم مع الولايات المتحدة؟ مثلاً في ألمانيا في الانتخابات السابقة؛ قال الحزب الديمقراطي الاجتماعي (SPD) أنه لن يشارك بالحرب، وقال الحزب الديمقراطي المسيحي (CDU) أنا سأشارك في حرب العراق، وحُسمت الانتخابات بمشاركة 6027 صوت، وهم الذين رجّحوا حزباً على حزب. فهذه المعايير هي التي يجب أن نُقَيِّم الأحزاب بناءً عليها"(1).
__________
(1) الراوي، عمر (مقابلة): سلام (صحيفة)، العدد 3، فيينا، تشرين الثاني (نوفمبر) 2005، ص 7.(1/269)
أما الشابّة المسلمة السويسرية نادية صديقي (من أصول باكستانية)، والتي رشّحها الحزب الديمقراطي المسيحي للانتخابات في إحدى مقاطعات كانتون تيسان (تيتشينو)، في العام 2004، فقد أكّدت أنّ قبولها عرضَ الحزب الديمقراطيّ المسيحيّ يعني بشكل رئيس قبولها "بقيم الحزب وسياساته التي تعطي الأولويّة للفرد وللحفاظ على الكيان الأسريّ، وهي القيم ذاتها التي يدعو إليها ديني الذي يحثّني أيضاً على الاهتمام بالآخرين وبالمجتمع الذي أعيش فيه"(1). وعلى أيّ حال؛ فقد أثار نموذج نادية صديقي الانتباه لأنها مسلمة محجبة وعُرف عنها حرصها على الالتزام الديني.
__________
(1) الأوروبية (مجلة)، العدد 38، باريس، أيار (مايو) 2004، ص 8.(1/270)
فالمسلمون المنضوون في الأحزاب الديمقراطية الاجتماعيّة (تيار الوسط الاشتراكي) غالباً ما يُبرِزون الجوانب المتعلِّقة بالرعاية الاجتماعيّة ومكتسبات دولة الرفاه، وأما المسلمون المنضوون في الأحزاب المحافظة فيركِّزون عادة على الجوانب المتعلِّقة بقيم الأسرة وحمايتها ودعمها وتعزيزها، في ما أنّ أحزاب الخُضر تميل لاستعراض تجاربها في مجال تكافؤ الفرص والصعود بأبناء الأقليات وربما في ما يتعلق بسياستها المنفتحة تقليدياً نحو "المهاجرين"، وأما القوى الليبرالية فقد تجد في تركيزها على الشجاعة المدنيّة (Civil Courage) وقيم الحوار المجتمعي وإطلاق الفرص؛ ما قد يلفت إليها اهتمام المسلمين. بل من المثير أنّ بعض من يتحدرون من خلفية هجرة ومن ينتمون إلى الأقليات بما في ذلك المسلمون أو اليهود أيضاً؛ يتجهون للتصويت لصالح أقصى اليمين السياسي ذي الخطاب المتطرِّف نحو "المهاجرين"(1)، وهو ما يُعزَى جزئيّاً لخلفيّات نفسيّة واجتماعيّة كامنة، منها نزعة تأكيد الانتماء للمجتمع الجديد وإقناع الذات باستيفاء المواطنة علاوة على يعَدّها بعضها أنها "ظاهرة" الأجانب أو أبناء الأقليات "الكارهين لذواتهم".
__________
(1) وهي ظاهرة ملموسة جزئياً في بعض البلدان الأوروبية، مثل فرنسا مثلاً التي تتوجه أصوات نسبة من "الأجانب" فيها لصالح حزب "الجبهة الوطنية" (Front National) اليميني المتطرف.(1/271)
إلاّ أنه ينبغي على أيّ حال التمييز بين مقتضيات تعزيز القواسم المشتركة، ومتطلبات الانفتاح على الأحزاب الأساسية الفاعلة، من جانب؛ وإصدار أحكام وتقديرات موضوعيّة (Objective) لمُجمل توجّهات كل حزب وبرامجه وسياساته وأداءاته، من جانب آخر. فلإصدار أحكام وتقديرات موضوعيّة كهذه؛ لا بدّ وأن تتوفّر رؤى أشمل ومعايير أدقّ وأدوات ناقدة، وبدون ذلك؛ فإنّ تجارب المشاركة السياسية للمسلمين قد لا تسير وفق خارطة طريق (Road Map) صحيحة، وإنما قد تتجاذبها مواسم انتخابيّة متقطّعة ومتقلِّبة، وتتنازعها إنجازاتٌ عابرة أو سطحيّة، وتقديرات أو تخمينات متضاربة، وسط تساؤلات عن الجدوى العميقة والمردود الفعلي من ذلك كلِّه.
وبالمقابل؛ فإنّ استبعاد إمكانيّة المشاركة السياسيّة للمسلمين من أيّ حزب قائم في الساحة السياسيّة، لمجرد التعارض مع مسائل بعينها؛ إنما يهدِّد بالاستبعاد الشامل لإمكانية مشاركة المسلمين السياسية من كافة الأحزاب، وهو ما تترتّب عليه مفاسد لا تُدرَأ ومصالح لا تُجلَب. إذ لا سبيلَ لتوافُقٍ مُطلَق كما تقدّم، ولا بد من وجود تباينات ما، وإنّ التباينات تلك هي ما يتيح للمشاركة أحد مبرِّارتها الهامة، بل وتؤشِّر لوظيفةٍ جوهرية من وظائفها، أي وظيفة التغيير ونشدان التأثير. ومن الأهمية بمكان أن يُشار هنا إلى أنّ تلك التباينات ليست "استثناءً إسلاميّاً"، أي أنها لا تختصّ بما يتعلّق بالمسلمين وحدهم، بل هي حاضرةٌ، بقَدْرٍ أو بآخر، مع شتى الفئات والأطراف المجتمعية، والتي تتوجّه بدورها إلى المشاركة السياسيّة سعياً لتغيير يتوافق مع ما تَصدُرُ عنه من قناعات أو اهتمامات، وبما يتماشى مع ما تراه لنفسها من مصالح.(1/272)
إلاّ أّنّ التباينات ينبغي أن تبقى محسوبةً، وأن تظلّ قابلة لأن يتم الالتفاف عليها أو تجسير هوّتها، وإلاّ فإنّ المشاركة لن تتوفّر لها الشروط الموضوعيّة للنجاح. ومن ذلك؛ عبثيّة المشاركة في أحزاب تتبنّى برامج أو خطاباً معادياً للمسلمين أو من تصفهم بـ "الأجانب"، أو أخرى تقوم على أرضية عنصريّة، أو حتى بعض الأحزاب المُؤدلَجة خاصة إن كانت صارخةً في التعبير عن أيديولوجيّتها، أو غيرها المتورِّطة في سياسات مثيرة للجدل وباعثة على التذمّر الواسع وبما لا تتوافر مؤشِّرات مشجِّعة على قابليّته للإصلاح والتقويم.
ولعلّ ما يسري على منطق الحكم على المشاركة من خلال الأحزاب؛ إنما يُفترَض أن يراعَى أيضاً في ما يتعلّق بالتحالف السياسيّ أو الوصول إلى قواسم مشتركة مع الأطراف السياسيّة والمجتمعيّة، من قبيل تشكيل جبهات عمل مشتركة، أو تحرير عرائض ومذكّرات أو التوقيع عليها.(1/273)
ولكن في كلِّ الأحوال؛ لا ينبغي أن يغيبَ عن الانتباه، أنّ السياسيّ المسلم، يسَعه ما لا يسَع الأقلية المسلمة، وأنّ السياسيّ المسلم الذي ينشط أحياناً ضمن موازناتٍ متشابكة وتقديراتٍ غير يسيرة، يبقى أكثر قابلية للوقوع في الزلل أو ارتكاب أخطاء، ينبغي أن يبقى الوجود المسلم والأطراف المعبرة عنه بمعزل عن تداعياتها قدر الممكن. ومن هنا تبرز مجدّداً أهمية وجود أطر معبِّرة تعبيراً صرفاً عن الوجود المسلم واهتماماته ومصالحه وتطلعاته، وبالصورة التي تحتفظ بمسافة حياد عن الدولة وسلطاتها وعن الأطراف الحزبيّة والتيارات المجتمعيّة الأخرى وجماعات المصالح غير المسلمة، مع الانتباه جيِّداً إلى أنّ اختزال تلك المسافة بحق أيّة أقلية كانت ليس بالأمر الذي يُستَبعَدُ وقوعُه، بناء على حصيلة التفاعلات التي تجري في الساحتيْن السياسيّة والمجتمعيّة ضمن ما يتّصل بالأقليّة إياها، وهو ما يجدر التنّبه له والحذر منه، من جانب الأقلِّيّات الحريصة على ضمان استقلاليّتها في كلّ الظروف والأحوال.
رابعاً/ هل من معايير لإمكانية بقاء السياسي المسلم في إطار حزبي بعينه؟
عطفاً على ما سبق؛ فإنّ بقاء السياسي المسلم (والمعنيّ هنا أساساً هو المتدرِّج في مراتب العمل السياسيّ وليس مجرّد العضو) في نطاق حزب ما؛ ينبغي أن يكون مشروطاً بتوفّر واحد على الأقل من المعايير التالية، وهي معايير ذاتيّة، تخضع كيفيّةُ تنزيلِها لتقديرات السياسيّ المسلم نفسه أساساً، والذي تُفترَض فيه الحصافة الكافية وتُنتَظَر منه الأمانة في تقييم المواقف، دون إعفائِه من مسؤوليّاته كسياسيّ، أو عدم محاسبته عن أيّ قصور أو تقصير ضمن مقتضيات النُّظُم والتقاليد والأعراف المرعيّة:
1/ القدرة على تغيير ما قد يراه سلبياً أو مرفوضاً:(1/274)
ولا يُشتَرَط في ذلك؛ التغيير المطلق، أو الكلي، بل قد يكون التغيير جزئياً، ولو بالحدّ من تفاقم الجانب السلبيّ، وهذه من سنن التدافع البشري. ومن جانب آخر؛ فإنّ ما قد يراهُ السياسيّ سلبيّاً أو مرفوضاً؛ يتفاوت ضمناً في سلبيّته ودرجة التغليظ في رفضه، وهو ما يخضع إجمالاً لتقدير كل موقف بقَدْره. فمثلاً؛ إنّ صدور موقف سلبيّ إزاء المسلمين من سياسيّ مغمور في الحزب؛ لا يستوي مع صدور الموقف ذاته من قيادي بارز في الحزب أو تضمين ذلك في برنامج انتخابي مثلاً (مع الإشارة إلى ضرورة تبرّؤ قيادة الحزب من المواقف السلبيّة المنسوبة لأي من سياسيِّيه).
2/ القدرة على التعبير عن رأي يرى أنه لا بدّ من التعبير عنه:(1/275)
وهنا ينبغي التمييز بين تلك القُدْرَة وما يتعلّق بالتعبير عن مجمل آرائه وقناعاته ومفاهيمه. ذلك أنّ تقاليد العمل السياسيّ ومتطلّباته لا تتيح متّسعاً للإسراف في مثل ذلك، بل ما يُنتظر من السياسي الفاعل، والذي يرى أنّ تغييراً ما لا بدّ منه، أن يوصل الرسالة التي تحقِّق المقصد في الجانب المطلوب تحديداً وفي التوقيت الأكثر ملاءَمة لذلك. ويُلاحَظ هنا أنّ السياسيّ الفاعل، حسب ما يتضح من واقع الساحة الأوروبيّة، قد يبوح بعد اعتزاله السياسة أو تقدّمه في السنّ بكثير من المفاهيم والقناعات والآراء مما لم يكن يجرؤ على الإدلاء ببعض منه بينما كان في ذروة نشاطه السياسيّ. وفي العمل السياسي، وكما يتجلّى في التقاليد الأوروبيّة على نحو خاص؛ ثمة رسائل أو مضامين سياسيّة يعبِّر عنها السياسيون، وهي تنبثق عن مجمل خطابهم السياسي، والذي يصدر عن منظومة مفاهيمية يستندون إليها (وهي ليست بالضرورة، ولا حتى في الغالب، المنظومة ذاتها للحزب وعلى نحو دقيق أو مطابق). إلاّ أنّه يكون من الصعوبة على وجه الدقّة؛ التعرّف على المنظومة المفاهميّة الخاصّة بكل سياسيّ، إلاّ في مراحل متأخِّرة ربما. أي أنّ للمفاهيم الخاصّة بكل سياسيّ متّسعاً في وعيه يمكنه أن يصدر عنها حسب ما يلزم وبما يراعي الحاجة. إلاّ أنه في هذا المضمار، ينبغي التفريق بين التعبير المدروس والواعي عن الرأي، والحالة التي لا يكون بوسع السياسي التعبير معها عن رأي يستنتج أنه لا بدّ من التعبير عنه، بما يتّصل مثلاً بدرء مفسَدة متحقّقة أو تعطيل مصلحة ذات شأن ماثلةٍ له. إلاّ أنّ تعبيره عن رأي ما، لا يجوز أن يتعارض مع مفاهيمه، ولا أن يتمّ ضرب الحقيقة الكليّة بجزء من الحقيقة.
3/ القناعة بأنّ مجرد البقاء في صفوف الحزب من شأنه أن يحقق مصلحة لا يجدر التفريط بها، أو يدفع مفسدة لا ينبغي الإبقاء عليها:(1/276)
ويلحق بذلك أن يرى أنه بالوسع تحقّق المعياريْن الأوّل أو الثاني أو كليهما معاً في قابلات الأيام، أي في مراحل لاحقة، بناءً على معطيات ذاتيّة خاصة به، و/أو موضوعيّة متعلِّقة بالحزب وظروفه وأوضاعه الداخليّة أو بالساحة العامة ككلّ والظروف التي تكتنفها. فمثلاً؛ قد يكون السياسيّ المسلم متدرِّجاً في حزب ما، ولم يتمكّن بعد من تثبيت أقدامه في مواقع مؤثِّرة، فلا يُؤْبَهُ لقَولِه أو لا يُكْتَرَثُ بملاحظاته، أو لم تتحقّق له بعد من القُدْرَة على التأثير ما قد يحوزه لاحقاً. أو قد تكون التوازناتُ القائمة داخل الحزب في مرحلة ما، أو أوضاع الحزب العامّة في توقيتٍ بعينه، أو الملابسات الظرفيّة التي تحكُمُه؛ غير ملائِمَةٍ لتحرّك من جانبه حسب المعياريْن الأوّل والثاني، بينما يمكن تجاوز تلك الظروف لاحقاً. كما قد يحدث أن تكون هناك ظروفٌ داهِمَةٌ ضمن مجمل الساحة العامّة، تفرض تقديراتٍ استثنائية كما في المنعطفات السياسيّة والأمنيّة ومواسم الحروب وغيرها. ويلحق بما سبق ضمن هذا المعيار أيضاً؛ التفريطُ بمصلحةٍ سعياً لتحقيق مصلحةٍ أكبر منها، أو التهاون مع مفسَدَةٍ ما لما يُرَى من ضرورة الانصراف إلى دَرءِ مفسدةٍ أعظم منها.
ويُلاحَظ في هذا الصدد، أنّه من المشكوك فيه أن يتّصف حزبٌ لا تتحقّق فيه إمكانيّة إعمالِ أحد هذه المعايير الثلاثة سابقة الذكر، بالتماشي مع مقتضيات الديمقراطيّة والاعتدال والحيويّة. ذلك أنّ نوعية الأداء الديمقراطي ستكون ضعيفة، وتخالطها ملابسات غير ديمقراطيّة وتتناقض مع روحيّتها ومقتضياتها؛ في ما لو لم تتوفر لأعضاء الحزب إمكانيّة تفعيل أيّ من هذه المعايير حال الحاجة، فضلاً عن أن يكون ذلك متعلِّقاً بمن هم في مستويات أعلى أو حتى قياديّة في صفوف الحزب.
خامساً/ إشكالية التشابك بين "السياسي" و"الدعوي"، أو إشكالية "تسييس" الحضور العام لمسلمي أوروبا:(1/277)
غنيّ عن القول إنّ مقتضيات العمل السياسيّ للمسلمين في الساحة الأوروبيّة، لا يمكن تصوّرها تعبيراً واضحاً عن الدعوة للإسلام أو التعريف به، كما قد يتردّد أحياناً في بعض أوساط المسلمين. فذلك العمل عندما يكون رشيداً وفاعلاً، إن ينطلق بتمثّل القيم والتوجيهات الإسلامية، وبروحيّة الدعوة للإسلام والتعريف به في مفهومها الواسع، إلاّ أنه لا بدّ وأن يكون واضحاً، أنّ للتعريف بالإسلام، لجهة أمانة البلاغ؛ منابرَ وميادين ينبغي أن تحافِظَ على استقلاليّتها وضمان هامش حراكٍ أوسع لها مع طابع دعويّ عام، وهو ما لا ينسجم مع مقتضيات العمل السياسيّ الذي يروم التغيير في السياسات وتطويرها أسوةً بشركاء المجتمع الواحد، وضمن تقاليد الساحة السياسيّة الأوروبيّة، بشرط عدم تعارضها مع التعاليم والتوجيهات الإسلاميّة ذات الصلة تعارضاً لا مراء فيه.
ولا يُقصَد من هذه الإشارة، في واقع الأمر، مجرّد تقرير ما هو معروفٌ لدى المعنيِّين، بل وتنبيه الفاعلين في ساحة مسلمي أوروبا، من غير السياسيِّين، إلى أنّ العملَ السياسيّ، على أهمِّيّته؛ يبقى أحد مسارات المشاركة المجتمعيّة، وأنه من المحذور تحميله ما لا يحتمل، كما أنه لا يُتَصوّر تعطيل الأدوار المجتمعيّة الأخرى للمسلمين، بما في ذلك الحاجة إلى حضورٍ مجتمعيّ يعبِّر عن الشخصيّة المسلمة الأوروبيّة تعبيراً صريحاً ومسؤولاً وحكيماً، وهو ليس الدورُ الذي يُنْتَظَرُ حصراً من سياسيِّين أفراد يتوزّعون إجمالاً على المربّعات الحزبيّة في الساحة السياسيّة.(1/278)
ولما كانت المشاركة السياسيّة لمسلمي أوروبا، مهيّأةً لأن تتّخذ ملامح عدة، ومنها ملمح التدافع ضمن ساحةٍ تتجاذبها أطرافٌ عدّة؛ فإنّ ذلك من شأنه أن يثير إشكاليّةً دقيقةً وحسّاسة، تتعلّق بالمدى المعقول الذي يمكن معه الزجّ بالوجود المسلم، ومعه على وجه الاحتمال أو الافتراض؛ "الخطاب الإسلامي"، أو حتى مجرد إضفاء "طابع إسلامي" على تلك المشاركة. ولم يكن من النادر العثور على ملاحظات في أوساط النخب المسلمة في هذا الاتجاه، تتعلّق بمخاوف من مغبة ارتهان الحضور الدينيّ الإسلاميّ الصّرف للتجاذبات السياسيّة. فمثلاً يشرح الدكتور أحمد جاء بالله، ذلك بقوله "نحن في الغرب نعتقدُ أنه لا مانع من أن نتبنّى قضايا المسلمين هنا وهناك، ولكن ليكن واضحاً في طرحنا الإسلاميّ أننا ندعو إلى دينٍ وإلى عقيدة، لا نخلطها دوماً بتبنِّينا للقضايا السياسيّة مما يعزل أمرَ دعوتنا عن الآخرين. قد يكونُ الإنسان الغربيّ لا تهمه قضيّة من قضايانا التي نعتبرها نحن أساسيّةً بالنسبة لنا في هذا البلد أو ذاك، فلماذا نحرمه من دعوةِ الإسلامِ عندما نجعل الإسلامَ ملتصقاً دائماً بقضية النضال السياسيّ؟! (...) وأنا ممن يعتقد أنه حتى في دفاع المسلمين عن حقوقِهم في بلاد الغرب؛ أنهم ليسوا مضّطرين لأن ينطلقوا من منطلق الإسلام للمطالبة بحقوقهم، بل ينبغي أن ينطلقوا من منطلق صفتهم كمواطنين في المجتمع. وفي هذه البلاد (الغربية) قوانين تكفل لهم حقوقاً كما تكفل لغيرهم، فما هو الداعي لأن ننطلق في الدفاع عن حقوق اجتماعيّة أو حقوق اقتصاديّة أو سياسيّة وأن نبرزها من المنطلق الإسلامي؟! إنه بإمكاننا في هذه البلاد، ومن خلال قوانينها وأعرافها؛ أن نُطالِبَ بحقوقِنا وأن ندافع عن قضايانا كمواطنين في هذا المجتمع؛ حتى لا يُقْحَمَ الإسلامُ في قضيّة صراعٍ قد تُبعِدُهُ عن قبول الناس له"(1).
__________
(1) جاء بالله، أحمد، مصدر سابق، ص 61ـ 62.(1/279)
ولو حاولنا أن نتعاطى مع هذه الإشكالية، بمجرد التذكير بأنّ الأمر يتعلق بالمشاركة السياسية "للمسلمين" في أوروبا، وليس بالمشاركة السياسية "الإسلاميّة" في أوروبا؛ فإنّ الاستئناس لذلك وحده لا يمثِّل على ما يَبدو خياراً وافياً، ذلك أنّ خصوصية المسلمين لا بدّ وأن تستدعي ربطاً تلقائيّاً مع الإسلام والثقافة الإسلاميّة في أذهان عامة الجمهور، وهي ملاحظة تنطوي على وزنٍ أكبر في الواقع الأوروبيّ، حيث يسود الانطباع بأنّ الإسلام هو الذي يشكِّل مجمل حياة المسلمين بتفاصيلها، بما يفضي إلى استنتاجات واهيةٍ من قبيل أنه يتحمّل بالتالي المسؤوليّةَ عن تصرّفاتهم، وأخطائهم أيضاً.
لذا؛ فإنّنا في الوقت الذي ينبغي أن نُفَرِّقَ فيه بين المشاركة السياسيّة "للمسلمين"، والمشاركة السياسيّة "الإسلاميّة"؛ فإنّ علينا أن نضع هذه المشاركة أساساً ضمن نسقها المجتمعي، وبشكل متشابك معه، من جانب؛ ومن جانب آخر؛ بإبقاء هوامش معقولة من الحصانة، والحماية، للأطر والمؤسسات والأفراد، ممن يتولّون التعبير عن الحضور المسلم ذي الصفة الدينيّة الصرفة (الشعائرية مثلاً) من مغبة الانغماس في الشؤون السياسية، بينما الأوْلى أن تُعنى أطرافٌ أخرى أكثر تخصّصاً بالسهر على هذه الشؤون.
لا شكّ أنّ ذلك كفيلٌ بإثارة تساؤلاتٍ على الجانب الآخر؛ تتعلّق أساساً بمحاذير تقمّص التجربة الكنسيّة الراهنة مثلاً، أو حتى فصل الشأن الدينيّ الإسلاميّ عن المجريات العامة. وإزاء ذلك ينبغي إيراد ثلاث إشارات؛
ـ الأولى هي أنّ الأطر الدينية الصرفة للمسلمين بوسعها أن تُدلي ببعض المواقف ذات الصلة بالشؤون العامّة، ولكنّ ذلك يبقى محكوماً بخطابٍ وأدواتٍ ووتيرةٍ وتعبيراتٍ ومُفرَداتٍ ملائمة للمقام الدينيّ الصّرف وخصوصيّته وحساسيّة موقعه.(1/280)
ـ أما الإشارةُ الثانية؛ فتتعلّق بالحاجة إلى إبقاء المسارِ العام لهذه المواقف متمتِّعاً باستقلاليّته عن أطراف الساحة السياسيّة وإبقاء مسافة معقولة تفصلها عنها.
ـ والإشارةُ الثالثة؛ هي أنّ هناك فارقاً بين "حضور التديّن"، وما يُتَصوّر أنه "تمثيل الدين"، ويُقصَدُ في الأخير حضور الأشخاص الذين يُتَصَوّر في الثقافة السائدة أنهم يعبِّرون عن الدين أو "المؤسّسة الدينيّة".
وعلى سبيل المثال؛ إن كانت مشاركة الإمام المسلم بملمحه العام (المعمّم مثلاً) المعروف عنه في الحياة السياسيّة المباشرة، كأن يشغل موقعاً برلمانياً، أمراً معهوداً أو معقولاً في بعض التجارب البرلمانية بالعالم الإسلاميّ (مصر، الأردن، المغرب، باكستان، إندونيسيا، وغيرها)، حيث المجتمعات مجتمعات مسلمة بعامّة، وموقع الإمام ودوره واضِحَيْن إلى حدٍّ ما باعتباره غير ممثِّلٍ للدِّين رسميّاً وفق المفهوم الإسلاميّ الذي لا يضمّ طبقة "رجال الدين"؛ فإنّ ذلك يتطلّب أكثر من وَقفة إذا ما افتُرِض في واقع مسلمي أوروبا مثلاً، فهو ليس معهوداً في الثقافة السياسيّة والحياة البرلمانيّة؛ والأهمّ من ذلك ربما ما قد يتعلّق بمعقوليّته لجهة جدواه وانعكاساته. فالرأيُ العام في المجتمعات الأوروبيّة يتعامل إجمالاً مع الإمام بمنطق مطبوع بالنظرة إلى رجل الدين النصرانيّ، باعتباره ممثلاً رسمياً للدين، وسيتسبّب هذا الالتباس بجعل ما يصدُر عنه من أقوال أو أفعال، أو مواقف أو إقرارات، أو حتى إشارات وإيحاءات؛ يؤخَذ غالباً على هذا المحمل. أما مشاركة المسلم "المتديِّن" مشاركة مباشرة في الساحة السياسيّة؛ فإنّ لها شأناً آخر. فالأمر في هذه الحالة يخرج، بشكل عام، عن ذلك الالتباس.(1/281)
ثمّ قد يتبيّن بمزيد من إعمال النظر في الممارسات الواقعيّة؛ أنّ افتقار الأقلِّيّات المسلمة إلى أدوات للتعاطي مع الشأن السياسيّ، تكون مستقلّةً عن الشأن الدينيّ الصّرف؛ قد يجعل المتابعات السياسيّة متروكةً للأطر المعبرة عن الشأن الدينيّ الصّرف أو المعنيِّين ببعض الميادين غير ذات الصلة المباشرة والفاعلة بالواقع السياسي، وهو ما تنجم عنه إشكاليات عدّة على صعيد جدوى الأداء، مثل ضعف الكفاءة في التعاطي مع المجريات السياسيّة لعدّم التخصّص (التخصّص في الممارسة العملية) أو الافتقار للتعمّق غالباً في هذا الملف، وهو ما يعود أحياناً بعواقب غير حميدة ويفوِّت فرصاً ومصالح عدّة، وأيضاً من قبيل استشعار المؤسّسات والقيادات المسلمة ذات الصفة الدينيّة الصرفة لضيق هوامش الحراك والتعبير المتاحة لها بالنظر إلى حساسيّة مواقعها وخصوصيّة مكانتها، وهو ما يجعلها غير مؤهّلة للتعاطي مع تجاذبات الساحة السياسيّة التي لا تفتقر إلى الحدّة أحياناً، فتبدو مواقفُها متراخيَةً مثلاً عندما يتطلّب الأمر إصراراً على الحقوق ومنافحةً عن المكتسبات.
وينبغي التشديدُ كذلك على أهمِّيّة أن يحافِظَ الجمهورُ المسلم، عبر الأطر المعبّرة عنه، على مسافة متقاربة من الأحزاب المعتدلة والجادّة في التقرّب منه، حتى ولو اختار الانحيازَ إلى أحدها في جولة انتخابيّةٍ أو في موقفٍ بعيْنه، بمعنى أنه لا ينبغي أن تُعَدّ الأقلِّيّةُ المسلمةُ منحازَةً تلقائياً لحزب سياسيّ بعينه، وذلك تحقيقاً للمقاصد التالية، أو تجنباً للمحاذير ذات الصلة مما يلي:(1/282)
1/ ضرورة أن تُدرِكَ بعض الأحزاب والقوى السياسيّة أنّ أصوات المسلمين ليست مضمونةً لها بشكل تلقائيّ، وأنه من الأهمِّيّة بمكان أن تتكيّف مع احتياجات المسلمين واهتماماتهم، وأن تراعي توقّعاتهم ومطالبهم، وأن تسعى لتعزيز مكتسباتهم وحماية حقوقهم، وكذلك بأن تُدرِكَ الأحزاب الأخرى أنّ أصوات المسلمين ليست محجوبةً بشكل مبدئيّ عنها، ما قد يحثّها على التقرّب من الأقلِّيّة المسلمة ومحاولة استمالتها لها.
2/ تحاشي وضع المسلمين في خانة سياسيّة بعينها، بما يعنيه ذلك من تجنّب محاذير عدّة، كتشجيع قوى سياسيّة ما على الاصطفاف في الجهة المقابلة لمصالح المسلمين تبعاً لذلك، خاصة إذا ما ارتأت تلك القوى أنّ ذلك يحقِّق لها مكاسب ما على مستويات أخرى.
3/ الحفاظ على استقرار العلاقة بين الوجود المسلم في البلد المعني والمستوى السياسي فيه، بحيث تبقى تلك العلاقة قائمةً على أساس التقدير المستمر من جانب الوجود المسلم لتفاعلات الساحة السياسيّة وتحديد الخيارات الملائمة بناء على ذلك، وليس الانجراف مع طرف سياسي بعينه بشكل قد يؤدِّي إلى الإضرار بالتواصل مع أطراف أخرى معتدلة أو حتى القطيعة معها.
4/ استثمار الجوانب الإيجابية لدى شتى الأطراف السياسيّة، والبناء عليها وتطويرها، ومعالجة الجوانب السلبيّة، أخذاً بعين الاعتبار فرص التأثير المتاحة، وطابع الحراك في الساحة السياسيّة سواء لجهة تبدّل موازين القوى فيها، أم من جانب معادلة الثابت والمتغيِّر في تصوّرات الأحزاب والقوى السياسيّة ومواقفها.(1/283)
وخلاصة القول؛ فإنّ المنشود من جانب هي مشاركةٌ فاعلةٌ لمسلمي أوروبا في الساحتين المجتمعيّة والسياسيّة، والمطلوب من جانب ثانٍ أن تأتي هذه المشاركة بشكل متساوق قدر الممكن في طبيعة حضورها مع الملامح العامة للواقع القائم في البيئات الأوروبية ومتشابك مع نسيجها غير منفصم عنه، ومن جانب ثالث؛ بأن يتم ذلك دون استدراج الإطار العام للحضور المسلم إلى فخاخ التسييس الشامل، بما يجعل الوجود المسلم برمّته طرفاً من أطراف التجاذبات السياسيّة في الساحة، وهو ما يفضي إلى المطلب الرابع المتمثل في الحفاظ على الحصانة والخصوصيّة المتعلقة بالشأن الديني لمسلمي أوروبا من مغبة الانشغال بالمتابعات السياسيّة عن الأدوار الأساسيّة المنتَظَرة في الملف الدينيّ الصّرف، فضلاً عن احتمالات الوقوع في محاذير انجرارها إلى تجاذبات سياسيّة حادّة تعود بمضاعفات سلبيّة.
سادساً/ إشكالية "الالتزام الحزبي" في الحياة السياسية والبرلمانية:
عادةً ما تتردّد آمالٌ في أوساط مسلمي أوروبا، بأن ينضمّ من يُعَبِّرون عنهم إلى الأطر الحزبيّة، لإنعاش فرص مشاركتهم السياسيّة، عبر تمثيل اهتمامات الأقلِّيّة المسلمة وتطلّعاتها ومصالحها، في النطاق البرلماني مثلاً.
أي أنّ التوقّعات المبنيّة على هذا المطلب؛ قد تتعلّق بمجرد وصول السياسيّ المسلم إلى مقاعد البرلمان، باعتبار ذلك نقطة التحوّل المُفتَرَضة في الأداء السياسي. إلاّ أنّ الأمر لا يبدو وفقَ هذه الشاكلة متيسِّراً، ذلك أنّ مسائل وإشكاليّات عدّة تبقى مطروحةً للنقاش، بغرض التحقّق من جدِّيّة التعويل السّلِس على مشاركةٍ فاعلةٍ عبر "صوت برلماني" وحسب.(1/284)
وتتعلّق إحدى الإشكاليات الماثلة في هذا الشأن؛ بنظام الالتزام الحزبي، والذي يجعل النائب مُلْزَماً بالتصويت مع حزبه بغض النظر عما يراه هو شخصيّاً. ويُقصد بالالتزام الحزبي، أن يكون النظامُ المعمولُ به هو تصويتُ النوّاب من أعضاء الحزب (وهو ما يمكن أن يسري على أطر سياسيّة وتمثيليّة غير البرلمانات أيضاً، كالهيئات النقابيّة مثلاً) إلزاماً مع حزبهم؛ وإلاّ فإنّ عقوبات تُوقَعُ عليهم.
وقد تعني الفرضيّةُ المترتِّبَةُ على ذلك؛ أنّ الثقل التصويتيّ للنائب المسلم قد يبقى ملكاً للحزب أكثر من كونه مملوكاً له، أو للأقليّة المسلمة مباشرة، في ما أنّ دورَه هو الإدلاء بصوته نيابة عن الحزب بناءً على ما تقرّر سلفاً في أوساط الحزب، لا جرّاء ما تراه الأقلِّيّة المسلمة. ويصدُقُ ذلك في حال النوّاب ككلّ، فتمثيلُهم المباشر من الناحية العمليّة هو لأحزابهم، أدنى منه للشعب (الناخبين) الذي فوّضهم للوصول إلى هذه المواقع. ويبقى مدى تمثيل الأحزاب، كأطر سياسيّة، أو كمجموع من السياسيِّين والنوّاب، للشعب، مسألة تتّسع لتقديرات عدّة.
والواقع أنّ مدى العمل بنظام الالتزام الحزبي يتفاوت بين دولة أوروبيّة وأخرى، ومن ذلك مثلاً أنّ النواب في "البوندستاغ" (Bundestag) (الغرفة الدنيا للبرلمان الألماني) بوسعهم التصويت خلافاً لما تقرِّره كتلهم البرلمانية.
ثم إنّ النائب يستطيع التغيّب عن بعض الجلسات البرلمانيّة، وقد يُتاح له التحفّظ على الإدلاء بموقف، وهو ما يُؤخَذُ بعين الاعتبار أيضاً.(1/285)
وإجمالاً؛ يمكن القولُ إنّ نظام الالتزام الحزبي، إنما يقلِّل بالفعل من جدوى التعويل على أصوات مبعثرة ضمن كتلةٍ برلمانيّة، وهو ما يؤكِّد أنّ ساحة العمل الفعليّة لا تتركّز في الجلسات البرلمانيّة، وإنما في التواصل السياسي الذي يجري في خلفيّتها، بغية التأثير على المواقف المعتمدة، وهو ما يعيد إلى الأذهان أهمية مراعاة الكفاءة من كافة وجوهها ذات العلاقة، بالنسبة للصاعدين في دروب العمل السياسي عن المسلمين.
سابعاً/ مسألة التعاطي مع "القواسم المشتركة" بين المبادئ والتوجيهات الإسلامية من جانب؛ والمبادئ والأيديولوجيّات الحزبية من جانب آخر:
عبر الإشارة إلى وجود قواسم مشتركة بين توجّهات حزب ما "معتدل" والمبادئ الإسلامية؛ يجدر التطرّق إلى أنّ تعزيز تلك القواسم وإن كان مطلباً وجيهاً من حيث المبدأ؛ إلاّ أنه لا ينبغي أن يتم بشكل ينطوي على قدر من التكلّف الذي قد يفضي إلى تشكيل انطباعات مضلِّلة في وعي الجمهور.(1/286)
بمعنى أنّ هناك فارقاً بين "البحث عن المشترك" و"اصطناع المشترك". وما هو أخطر من ذلك؛ أن يبدو الأمر وكأنه "احتواءٌ للإسلام" ضمن الإطار العام لمبادئ حزب ما أو توجيهاته. ورغم أنّ ذلك قد يبدو مُستَبْعَداً على نحو كبير في الممارسة القائمة في الواقع؛ إلاّ أنّه لا غنى عن لفت الانتباه إليه كلّما دعت الحاجة إلى ذلك. فمن غير المقبول أن يَبلُغَ الأمرُ مثلاً حدّ "ارتهان الإسلام" لمبادئ حزبٍ ما وتوجيهاته، لمجرد التفتيش عن قواسم مشتركة. إذ يتّضح الفارق بين القول إنّ الإسلام "يصون حقوقَ العمال"، والذهاب إلى حد الزعم بأنّ الإسلام "يتبنى مطالب البروليتاريا" (بغض النظر عن الموقف من تلك المطالب المُفتَرَضة)، تماماً كأن يُقال إنّ الإسلام "يعنى بالبيئة وحمايتها"؛ وأن يذهب بعضهم إلى حد وصفه بأنه "دين حماية البيئة" أو "دين بيئيّ"، فهي تعبيرات وإن وافقت حظاً وافراً من الصواب إلاّ أنها تنطوي على طابع التكلّف الممجوج. ويمكن تحديد تباينات عدّة بشأن القواسم المشتركة الأخرى المحتملة، مثل الفارق بين القول إنّ الإسلام "يحرص على الأسرة وتماسكها واستقرارها"، وأنه "يتبنّى القيم المحافظة"، خاصة وأنّ هذه القيم متفاوتة الدلالة وملتبسة في خلفياتها حسب التجارب البشرية المتمايزة بين بيئة وأخرى.(1/287)
إنّ التباين بين الحالتين في الشواهد السابقة المُفتَرَضة؛ لا يتمثّل في مجرّد تضخيم القاسم المشترك أو المبالغة فيه؛ بل وقد يتعدّاه أحياناً لاحتمال إبراز التوجّهات والمبادئ الحزبيّة باعتبارها الأصل أو الإطار الأعمّ، فيتم تجيير المفهوم الإسلامي (في ما يتعلّق بالعدالة الاجتماعية مثلاً) لحساب ما يتساوق معه من مفاهيم الأحزاب مع إغفال الخصوصيّة الإسلاميّة، أو لما يُفضي لإمكانيّة طمس الوعي بتكامل الرسالة الإسلاميّة وتوازنها، فيجري وضعُ الإسلام في كفّة (أو حتى لحساب طبقة) مجتمعيّة أو سياسيّة دون أخرى (كفة القيم المحافظة، أو كفة الطبقة العاملة).
وإذا ما بدا للوهلة الأولى أنّ إشارات كهذه تُوغِلُ في المبالغة؛ فإنه لا مناص من التذكير بأنّه لا حصانة من مفارقاتٍ كهذه ضمن زخم التفاعلات المتوقعة في الساحة السياسيّة بالبلدان الأوروبية، لجهة صلتها بالمسلمين. وبغضّ النظر عن بعض الشواهد المتفرِّقة التي يمكن الإشارة إليها من واقع التجارب القائمة في أوروبا في هذا المضمار، وسواء بدت جدِّيّة أم عابرة؛ فإنه لا تغيب عن الذاكرة أنّ العالم الإسلامي ذاته كان قد شهد ما يشبه ذلك في أواسط القرن العشرين مثلاً، في أتون التفاعل مع التيارات المجتمعيّة والسياسيّة الوافدة من أوروبا، فظهرت مقولاتٌ أثارت جدلاً من قبيل "اشتراكية الإسلام"، كما برزت أعمال مكتوبة تكاد تشي باختزال الرسالة الإسلامية في قيمة على حساب أخرى، من قبيل "محمد (صلى الله عليه وسلم) رسول الحرية"، وغيرها كثير.(1/288)
وإذا ما سلّم المرءُ بأنّ هذه المفارقات تبقى مُستَبعَدة عموماً في واقع التعاطي المتبادل بين المسلمين والأحزاب السياسية في أوروبا؛ فإنّ الإشكالية قد تبدو أكثر احتمالاً إذا ما تعلّق الأمر بأحزاب تُقَدَّم على أنها أحزاب معبِّرة عن المسلمين أساساً. فهذا النمط من الأحزاب قد نودي به في بعض بلدان أوروبا الغربية، ويبدو أنه موجود بالفعل بعض بلدان أوروبا الشرقية التي تضم وجوداً تاريخياً عريضاً للمسلمين.
وخلاصة القول في الأمر؛ أنّ البحث عن القواسم المشتركة (كلمة سواء)، وتعزيزها، توجّه إيجابي من حيث المبادئ، ولكن ينبغي المضيّ فيه بمسؤوليّة ورشد أيضاً.
ثامناً/ إشكاليّة التنازع أو التردّد بين أنماط الخطاب ضمن مجمل الحضور السياسي والمجتمعي لمسلمي أوروبا:
هل المطلوب من المشاركة السياسية لمسلمي أوروبا أن تركن إلى ما يمكن وصفه بالخطاب المبدئي، الذي ينصرف لتأكيد المبادئ العامة والتمسّك بها، دون الخوض في ما قد يشوب التعبير عن الفكرة الكلِّيّة؟ أم ينبغي التوجّه إلى "الخطاب المطلبي"، من موقع المسؤوليّة عن الحفاظ على الحقوق وحماية المكتسبات وتثميرها؟ وما هي الفرص التي ستتبقّى في أي من الحالتين "للخطاب التواصلي والحواري" مثلاً، وهو الذي يسعي إلى تشجيع آفاق التواصل والبحث عن القواسم المشتركة، وتجنّب مكامن التوتّر أو التنازع أو التأزيم؟.
إنّ من يدقِّق النظر؛ سيجد أنّ هذه الإشكالية، وشواهدها كثيرة، إنما تترتّب أساساً على عدم نضوج أدوات التعبير عن المشاركة السياسيّة والمجتمعيّة، ومحدوديّتها، فيكون عليها بالتالي أن تتصدّى لحالات عدّة لا تنهض بها على النحو الأمثل إلاّ أُطُرٌ متنوِّعة تتوزّع على جوانب وتخصّصات وفقَ ما تمليه الحاجة ويتطلّبه الواقع.(1/289)
فالخطابُ "المتنوِّع" يتطلّب تنويعَ أدوات التعبير والممارسة، بحيث ينبثق كلّ خطاب فرعي عن "أداة" ملائمة له، وعادة ما تتولّى هذه المهمة عمليات الفرز المجتمعيّ المستمرّة، لكنّ الأوفق أن تنبثق عن تخطيط منهجيّ، خاصة بالنسبة للأقلِّيات التي تشعر مؤسّساتها ويدرك قادتها وحكماؤها، أنّ المطلوب هو تطوير الحضور والأداء بصورة غير عفوية.
وعليه؛ فإنّ المشاركةَ السياسيّة من خلال "جماعات المصالح" أو الأطر النقابية مثلاً؛ ستكون معنيّة بالخطاب ذي النزعة المطلبيّة، في ما أنّ المشاركة السياسيّة غير المباشرة، عبر الساحة المجتمعيّة العريضة؛ قد يلائمُها الخطابُ ذو الطابع التواصلّي والحواريّ، الذي ينزع أكثر من غيره ربما إلى تشجيع آفاق التواصل والبحث عن القواسم المشتركة، وتجنّب مكامن التوتّر أو التنازع والمزاحمة. في ما أنّ الحضورَ المجتمعيّ للهيئات المعبِّرة عن الحضور الدينيّ الإسلاميّ الصّرف ـ إن جاز التعبير ـ، وتلحق بها بعض الأوساط الفكرية والأكاديمية الإسلامية؛ له أن يركِّز على الخطاب ذي الملامح المبدئيّة، أي الذي ينصرف لتأكيد المبادئ العامة والتمسّك بها، ويولي عنايةً خاصّة للتعبير عن الإسلام وقيمه ومبادئه وتوجيهاته.
إلاّ أنّ الخلطَ في أدوار الحضور المجتمعيّ والسياسيّ؛ هو الذي يُوْرِثُ الاضطراب والتردّد، وبالتالي الارتباك في تقمّص تجلِّيّات الخطاب في هذا الاتجاه أو ذاك. ورغم أنه لا يُستَبعَدُ العثور على بعض المزايا لحضور المؤسّسة الواحدة، أو حتى الشخصية العامة الواحدة، في أكثر من حقل أو مضمار، بما يتطلّبه ذلك من تنويع أَوْجُه الخطاب وطابعه؛ فإنّ الاحتجاج بذلك لا يصمد أمام المتطلّبات الواقعيّة التي تراعي الحاضر والمستقبل ومستلزمات الانفتاح على آفاق المشاركتين المجتمعيّة والسياسيّة بالنسبة لمسلمي أوروبا.(1/290)
ومما يتوجّب التشديد عليه في هذا الشأن؛ هو أنّ الحاجة إلى تنويع تجلِّيات الخطاب في ساحتيْ المشاركة السياسية والمجتمعية لمسلمي أوروبا؛ ينبغي أن تُراعَى مع استصحاب الحرص على عدم تعارض ذلك مع الأرضيّة المفاهيميّة التي ينبثق عنها ذلك الوجود المسلم، وبمواءمة ذلك قدر الممكن، مع واقع الساحتيْن السياسية والمجتمعية وملامح الخطاب السائدة فيهما. فالتنوّع في تجلِّيّات الخطاب لتلك المشاركة؛ لا يعني بحال الخروج عن الأرضية المفاهيميّة تلك، فالخطاب الذي يُبرِز جانب الحقوق أو المطالب؛ لا ينبغي له أن يتعارض مبدئيّاً مع النسق المفاهيميّ الذي يصدُر عنه، مثلما عليه الحال مع ذلك الخطاب الذي يلتفت إلى توثيق عرى التواصل وتعزيز فرص الحوار المجتمعيّ.
وعلى أيّ حال؛ فإنه لا مناص من قبول واقع التنوّع في أوجُه الخطاب وعدم التبرّم منه مبدئياً، ولعلّ ذلك الواقع يمثل ضمانة لحضور متوازن للمشاركة المجتمعيّة والسياسيّة لمسلمي أوروبا.
تاسعاً/ إشكالية الموازنة بين مقتضيات المبدأ والواجب والدور؛ وضرورات الحذر والاحتراس:
لا يستطيع من يلاحظ التجاذبات الجارية في بعض الساحات السياسيّة الأوروبيّة في ما يتعلق بالشأن الإسلاميّ؛ أن يُغفِلَ وجود "مصمِّمي أزمات" أو من يسهرون على محاولات استدراج بعض الأطراف إلى فخاخ سياسيّة وإعلاميّة ومجتمعيّة مركّبة. وقد يبدو للوهلة الأولى أنّ ذلك بالأمر المستغرب أو الاستثنائي؛ لكنه قد يُفهم على أنه متساوقٌ مع نزعات الصِّراع أو توجّهات التهميش التي لا يمكن استبعادُها من بعض ثنايا أيّ واقع سياسيّ؛ كان مهما افتُرِضَت النوايا الطيِّبة وسلامة الطويّة وأُحسنت الظُّنون.(1/291)
فعملياً؛ يمكن لصحيفة واحدة اليوم أن تُصمِّم أزمة مجتمعيّة وسياسيّة وبأبعاد عابرةٍ للحدود والقارّات، من قبيل تجربة صحيفة "يولاندز بوستن" الدانمركية، في حملتها التحريضية التي أطلقتها في الثلاثين من أيلول (سبتمبر) 2005. وليست تلك على ما يبدو سوى غيْضٍ من فيض الشواهد التي يمكن الإشارة إليها، دون أن تكون قضية الحجاب في فرنسا معزولةً عن ذلك أيضاً، وفق تقديرات بعض قيادات مسلمي فرنسا. إذ يقول رئيس اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا (l’UOIF)، الحاج التهامي إبريز، في سياق تلك القضيّة (مطلع عام 2004) "هناك حملةٌ شرسةٌ وكبيرة من بعض الجهات المعادية (لمسلمي فرنسا) التي لا تقبل أن يتصالح الإسلام مع الدولة (الفرنسيّة). وتحاول هذه الجهات إحداث جوّ متوتِّر بأيّ طريقة. ونحن في هذه الحال؛ نحاول أن نتماشى مع القانون (ذي الصلة بحظر الحجاب)، ونستعمل كلّ الأساليب الممكنة، ومن بينها حقّ التظاهر والمحاكم العادلة التي تمكِّننا من حقنا دون التنازل عن كل شيء"(1).
__________
(1) إبريز، الحاج التهامي (مقابلة): الأوروبية (مجلة)، العدد 37، باريس، كانون الثاني (يناير) 2004، ص 26.(1/292)
ومع أهمية هذه الإشارات إلى وجود محاولات مصطَنَعة لتوتير العلاقة وتأزيم الموقف؛ إلاّ أنه من غير الصائب التعامل معها باعتبارها استثناءً، بل يتوجّب التعاطي معها على أنها حالة متوقّعة في أي وقت وبيئة بالنظر إلى طبيعة التجاذبات التي تنطوي عليها الساحتان السياسيّة والمجتمعيّة، والتي قد تتخذ طابع الحدّة من جانب بعض الأطراف ودون اكتراث ربما بأية معايير مُعتَبرة. كما ينبغي التسليم بذلك؛ أخذاً بعين الاعتبار أيضاً ما ينطوي عليه الحضورُ الإسلاميّ في أوروبا من تماس مع جوانب وأبعاد حسّاسة وشائكة بالنسبة لبعض الأطراف التي يُتَوقّع أن لا يثير الاندماج الإيجابيّ لمسلمي أوروبا، أو مشاركتهم السياسيّة والمجتمعيّة، ارتياحَها، ربما لشعورها بتناقض مُفترَض لذلك مع مصالحها أو لغير ذلك من الاحتمالات.
ومهما يكن من أمر؛ فإنّ ذلك سيثير تساؤليْن اثنيْن على الأقل:
ـ هل يُسوّغ الوقوع في الفخاخ المنصوبة بعناية أو الانجرار إلى محاولات الاستدراج المُدبّرة بليل؟
ـ هل يُقبل التنازل عن جوانب مبدئيّة والتلكّؤ في حماية الحقوق أو التقاعس عن حفظ المصالح أو تبديد بعض المكتسبات أو تجميد بعض الأدوار المؤثِّرة وربما إهمالها؟(1/293)
إنّ هذيْن التساؤليْن، مهما بدا أحدهما أو كلاهما ساذجاً؛ يُوْجِزان في الواقع قَدْراً وافراً من القوْل بشأن إشكاليّة التنازع بين بعض الخيارات التي تتراءى للفاعلين في ساحة مسلمي أوروبا. فعلى نحو غير حصريّ؛ ثمة اصطفافات ضمن فريق يحذِّر من الفخاخ ومكامن الاستدراج، ويحتجّ بتفويت الفرصة على من يرمون إلى وقوع المسلمين في هذه الفخاخ، فيأتي الحديثُ مُفعَماً لدى بعضهم بإشارات عن "أخفّ الضرريْن وأهون الشرّيْن"، إيذاناً بتقديم تنازلات مُحتَمَلة، ربما "انحناءً للعاصفة". وفي هذه الحالة كثيراً ما يجري الاستئناسُ بأدوارٍ هامشيّة من الفعل، مع الميل إلى تضخيم مردودها، مع مصاحبَةِ ذلك باتجاه للتحوّل من موقع الحضور الفاعل الإيجابيّ إلى موقع المراقب السلبيّ، أي تحييد الفعل الذاتي أو الاقتراب من حالة التحييد هذه.
وثمة اصطفافات مقابلة في صفوف مسلمي أوروبا؛ تُعَظِّم من إبراز الجوانب المبدئيّة، وتُمعن في إبراز ما لحماية الحقوق من أهمِّيّة، وما يستوجبه "الموقف الداهمُ" من حفظ المصالح أو الذود عن المكتسبات، مع إيغال في التعبئة ربما، إلى درجة ذهاب بعضهم بالتلويح بإشارات الاستعداد بحزم الحقائب والرحيل (إلى أين؟) إن بلغ الأمر حدّ المساومة على الدين والمبادئ.(1/294)
ولعلّ في ثنايا هذه الاستقطابات والاصطفافات التي أخذت تطفو على السطح في صفوف مسلمي أوروبا منذ مطلع القرن الميلادي الحادي والعشرين؛ ما يعين على رسم بعضٍ من محدِّدات الموقف العام الرشيد للتعاطي السياسيّ للوجود المسلم في أوروبا مع بعض القضايا والملفات المأزومة، وهي متكاثرة على أي حال. لكن من المؤكد أنّ أياً من هذين الاستقطابيْن ليس مؤهّلاً لحمل مشروع مشاركة سياسيّة فاعلة للوجود المسلم في أوروبا. فكلاهما ينطوي على استراتيجية تقويض صامتة لما يمكن البناء عليه ومراكمته. ولا بدّ من البحث عن إطار للتحرّك، وخيارات للفعل، بعيداً عن نزوعٍ إلى هذا الاتجاه أو ذاك، ضماناً لحضور فاعل ومدروس ومتوازن. ولابد لخيارات المشاركة السياسية والمجتمعية المنشودة؛ أن تستجمعَ المطلبيْن معاً بحنكة وتؤدة والتزام: أي التمسك من جانب بالإطار المبدئي، والمضي في حماية الحقوق وحفظ المصالح وتثمير المكتسبات وتفعيل الأدوار المؤثرة؛ دون الوقوع من جانب آخر في الفخاخ المنصوبة بعناية، أو الانجرار إلى محاولات الاستدراج المُدبّرة بليل، أو حتى الانزلاق إلى إغراءات حرق المراحل.
لا شكّ أنها ليست بالمعادلة اليسيرة، لكنّ المخاطر المحدقة بالوجود المسلم في بعض المجالات؛ تفرض مراجعاتٍ جادّة، وصولاً للإنضاج والبلورة، في النطاقيْن النظريّ والعمليّ، بكل ما يستدعيه ذلك من إعداد وبناء.
وكما قد يتبيّن؛ فإنّ هذه الدراسة، تقترح في جوانب متفرقة منها، خياراتٍ للتعاطي، بل وتصف بعض الأدوات ذات الطابع العملي التي تصلح لإنعاش المدارسة في هذا الحقل الهام والشائك.(1/295)
وبإيجاز شديد؛ فإنّ ما لا ينبغي القفز عليه في هذا الصدد؛ هو أنّ مسلمي أوروبا لا يصحّ بحال أن يتحوّلوا إلى مجرد طرف معزول عن النسيج المجتمعي العام، وعليهم أن يحقِّقوا في فعلهم ومشاركتهم مفهومَ الانتشار المجتمعي الحميد، وبتوزيع الأدوار تُقتَسم الأعباء وينجلي بعضٌ من الخيارات المصيرية القاهرة، مما قد تستشعره مؤسّسةٌ واحدة أو اثنتان تستجمعُ، أو تستجمعان، كافة الأوراق، لتوازن هذه أو كلتاهما، في ساعة العسرة بين جميع الضغوط، لتجد نفسها عاجزةً عن الفعل ومحشورة في الزاوية. كما أنّ على مسلمي أوروبا أن يَصُبّوا اهتمامهم على عنصر المبادرة، باستباق الفعل، بدلاً من الاستئناس بردود الأفعال.
* * * * * * * *
والله يقولُ الحقّ وهو يهدي السبيل،(1/296)
مفهوم الإرهاب في الفكر الإنساني
دراسة و تحليل و تعريف
إعداد : دكتور طاهر مهدي
عضو المجلس الأوربي للإفتاء و البحوث
مفهوم الإرهاب في الفكر الإنساني
دراسة و تحليل و تعريف
إعداد : دكتور طاهر مهدي عضو المجلس الأوربي للإفتاء و البحوث
تقدمة:
الخوف من الآخر قديم لدى بني البشر قدم الوجود الإنساني على وجه البسيطة، فقد ورث الناس هذا الخوف تجاه الآخرين جيلا بعد جيل، إلا أنه كان يتضاءل في أوقات السلم الدولي و يزداد في أوقات الحرب. فالمؤمنون بشكل عام يعتبرون أن غير المؤمنين ليسوا كاملي الأهلية ليتمتعوا بالحياة خصوصا في حقب سابقة في تاريخ البشرية الطويل، و غير المؤمنين ينظرون الى المؤمنين نفس النظرة حيث يعتبرونهم مصدر خطر على حقوق الناس، على حرياتهم و على السلم الإجتماعي لما يحملونه من قيم دينية تحد من حركة الناس. كذلك الشأن بالنسبة للحكومات و المعارضات، فكل منهما يتهم الآخر بالإرهاب، بل حتى بين الأغنياء و الفقراء و الأقوياء و الضعفاء يوجد سوء تفاهم في شأن الإرهاب. و على هذا يشكل هذا المصطلح مادة غنية للخلاف بين المنظرين و المفكرين و الفلاسفة بل حتى بين اللغويين. و فعلا يقر الجميع بصعوبة التوصل الى تعريف يحضى بإجماع العالم. بل حتى في حال التوصل الى تعريف مجرد و موضوعي للكلمة، فإن التفسير العملي للمصطلح يظل مشكلة كبرى. فمصطلح الحروب الصليبية عند الغربيين تقيّم بشكل إيجابي و توصف بحركة تصدير الحضارة و الهداية، كما أن الفتوح الإسلامية هي ما يعتبره المسلمون والعرب حركة هداية للبشر و دعوة لتحرير الإنسان من الإنسان حتى و لو كان وراء ذلك بناء إمبراطورية توسعية لا تغيب عنها الشمس. و السؤال الذي يطرح نفسه هل من الخير للبشرية توحيد المصطلحات و المفاهيم حتى و لو كانت البشرية مختلفة أصلا، أم الأفضل أن تظل الفوارق قائمة وفقا لقوانين الطبيعة الثابتة؟(1/1)
لم يحرّم الإسلام و لا ميثاق الأمم المتحدة استعمال العنف، ولكنّهما لم يسمحا بذلك إلا في حال وقوع الظلم على الناس، وبعد فشل الطرق السلمية لرفع المظالم. وقد قيّد نبي الإسلام والخلفاء الأوائل استعمال العنف بقيود تحول دون ضرب المدنيين والمستضعفين. وينسب للخليفة الأول وصاياه العشر في الصراعات المسلحة: (يا أيها الناس قفوا أوصيكم بعشر، فاحفظوها عني: لا تخونوا، ولا تغلوا، ولاتغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلا صغيرا، ولا شيخا كبيرا، ولا امرأة، ولا تعقروا نخلا، ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة، ولا بقرة، ولا بعيرا إلا لمأكلة). (أنظر مادة حق التدخل، الجزء الثاني من موسوعة الإمعان في حقوق الإنسان).
و يتميزالغربيون على غيرهم بتركة من الفزع والهلع جعلتهم يحقدون على كل ما ليس غربيا كالإسلام وأهله! لكنهم أخفوا هذه الكراهية خلال صراعهم مع الكتلة الشيوعية، فلما سقطت المنظومة الشيوعية وانهارعقدها كقوة رادعة تحفظ توازن الرعب في العالم، انفرد الغرب بزعامة أمريكا وأسفر عن وجهه الحقيقي وعلت الأبواق التي تصم الإسلام بالإرهاب فاتخذوا الإسلام عدوا لهم بديلاً عن الشيوعية، كل ذلك يتم تحت شعار محاربة الأصولية الإسلامية!! والقضاء على الإرهاب الإسلامي!! ومن ثم استخدم مصطلح الإرهاب في معجم الإعلام اليومي وكافة المحافل السياسية والإقتصادية والمنتديات الثقافية بشكل واسع بغية توسيع دائرة حصار الإسلام وتشكيل رأي عام عالمي لكره المسلمين باعتبار أن الإرهاب لازمة من لوازم هذا الدين. و نعتقد أن الغربيين بهذا التصرف يثبتون مرة أخرى للتاريخ أنهم يتمون أعمال زعماء محاكم التفتيش التي أقيمت لسحق الملايين من المسلمين و اليهود و المخالفين لعقائدهم في القرون الوسطى، و لكن هذه المرة تحت شعار آخر و هو مقاومة (الإرهاب الإسلامي).(1/2)
فمثلنا ومثل الغرب كقول العرب قديماً (رمتني بدائها وانسلت!) فكما هو معلوم تاريخيا أن أول من أدخل كلمة الإرهاب في قاموس العالم الإسلامي هم العصابات الصهيونية في فلسطين المحتلة وذلك بشهادة (باتريك سيل) إذ يقول: (أثناء التمرد العربي في الفترة من 1936-1939 كانت الـ(ستيرن جانجstearn gang) أول من أدخل الإرهاب إلى الشرق الأوسط عن طريق تفجير القنابل في الأتوبيسات وفي الأسواق العربية. ومنظمة (الأرجون) اليهودية الإرهابية بتأسيس رجل روسي المولد اسمه (فلاديمير جابوتنسكيVladimir gabotinsky) والذي كان يدعو إلى استخدام القوة بدون خجل تحت شعار: (الجدار الحديدي ضد العرب لإقامة سيادة يهودية كاملة فوق ضفتي نهر الأردن وهو جدول الأعمال الذي تبناه تلامذته المخلصون إسحاق شامير ومناحم بيجين(1).
ومن هذا المنطلق سنبحث العناصر التالية:
أولاً: مفهوم الإرهاب في اللغة العربية.
ثانياً: مفهوم الإرهاب في المنظمومتين الغربية والإشتراكية.
ثالثاً: مفهوم الإرهاب في المنظومة الشرعية.
أولاً: مفهوم الإرهاب في اللغة العربية:
ورد في لسان العرب في مادة (رهب: ( رَهِبَ بالكسر يَرْهَبُ رَهْبَةً ورُهْبَاً بالضم ورَهَباً أي خاف، ورهب الشئ رهباً ورهبه: خافه.
والإسم/الرُّهْبُ والرُّهْبى والرهبوتُ والرهبوني ورجل رهبوت. يقال: رهبوتٌ خيرٌمن رحموت، أي لأن تُرْهَب خيرٌ من أن ترْحَم. وترهّب غيره إذا توعده. وأنشد الأزهري العجاج يصف عيراً وأتته:
تعطِيهِ رَهباها إذا ترهّبا... على اضطمار الكشح بولاً زغربا...عصارة الجَزء الذي تحلُّبا
__________
(1) بندقية للإيجار/تأليف/باتريك سيل/مراجعة وتقديم/أحمد رائف/مركز الدراسات والترجمة/الزهراء للإعلام/ص109)..).(1/3)
رهباها: الذي ترهبه. يقال الرهباء من الله والرغباء إليه. وفي حديث الدعاء: رغبة ورهبة إليك. الرهبةُ: الخوف والفزع جمع بين الرغبة والرهبة. وفي حديث رضاع الكبير: فبقيت سنة لا أحدث بها رهبته. قال ابن الأثير: هكذا جاء في رواية أي من أجل رهبته، وهو منصوب على المفعول له. وأرهبه ورهّبه: أي أخافه وفزعه. واسترهبه: استرعي رهبته حتى رهبه الناس، وبذلك فسر قوله عز وجل: ( واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم)( أي أرهبوهم(1).
يتضح من خلال هذا أن مفهوم (الإرهاب) في اللغة العربية يدور حول هذه المعاني: الخوف والفزع والرعب والتهديد.
أما الآن فسنستعرض تعريف الإرهاب في القاموس الغربي وتعريفات ساسة وقادة ومفكري المنظومة الغربية وتعليقنا على تلكم التعريفات:
مفهوم الإرهاب في اللغة الفرنسية
Terrorisme : 1- usage systématique de la violence (attentats, destructions, prises d’otages etc.)auquel recourtent certaines organisations politiques pour favoriser leurs desseins. Terrorisme d’Etat : recours systématiques à des mesures d’exception, à des actes violents par un gouvernement agissant contre ses propres administrés et par extenssion contre la population d’un Etat ennemi. 2- attitude d’intimidation, d’intolérence dans le domaine intellectuel. Terroriste : personne qui pratique le terrorisme, pratiques terroristes.
مفهوم الإرهاب في اللغة الإنجليزية
Terror : 1- Extreme Fear. 2- Terrifying person or thing. 2- Collogue formidable or trouble some person or thing. Esp. a child. 3- Organized intimidation. Terrorism [Latin terreo frighten]. Terrorist : person using esp. organized violence against a government.
__________
(1) لسان العرب لأبي الفضل ابن منظور/دار صادر/بيروت/ط3/مج أول/مادة رهب/ ص436وص437)(1/4)
نلاحظ أن هناك تقارب كبير بين مفاهيم الإرهاب في قواميس اللغة من حيث الخوف و الفزع و التهديد سواء في ذلك لسان العرب لابن منظور، قاموس أكسفورد الإنجليزي أو القاموس المستعمل في اللغة الفرنسية. إلا أن هناك بعض الفوارق التي يجدر الإشارة إليها و هي: عدم تحديد الجهة الممارسة للإرهاب و الواقع عليها لدى لسان العرب. وقد ورد تحديد الجهةالتي يمارس ضدها الإرهاب في القرآن(1)حيث قال : (ترهبون به عدو الله وعدوكم) وفي السنة : (نصرت بالرعب) و (كل لهو فباطل إلا ثلاث...).
فالتعريف العام لكلمة (رهب) في اللغة العربية لم يحدد الجهة الممارسة ولا الممارس ضدها الإرهاب.. أما القرآن الكريم فقد ذكر أن إدخال الرعب والفزع في قلوب الأعداء أمر محمود واجب يثاب المسلم عليه و يأثم بتركه وكذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم "نصرت بالرعب" أي نصره الله على الأعداء بإدخال الرعب والخوف في قلوبهم كي لا يفكروا في الإغارة على المسلمين، كما يحصل اليوم. إذن فالسنة النبوية قد حددت الجهة الممارس ضدها الإرهاب.
__________
(1) - الأنفال 60.(1/5)
أما مفهوم الإرهاب في قاموس اللغة الإنجليزية: فقد حدد قاموس أكسفورد آنف الذكر الجهة الممارسة للإرهاب وكذا الجهة الممارس ضدها، فذكر أن هذا الإرهاب أي الخوف أو العنف أو الفزع قد يمارسه شخص أو منظمة ضد الحكومة أو ضد الأفراد أو الأطفال وفي القاموس نفسه يوجد تعريف آخر للإرهاب و هوأنه حكم عن طريق التهديد كما وجهه ونفذه الحزب الموجود في السلطة في فرنسا إبان ثورة 1789، 1794. و عند تمحيص التعريف نرى أنه اقتصرعلى الجهة الممارسة للإرهاب وهي الحكومة أو الحزب الحاكم و يعني به حكومة فرنسا آنذاك نظراًلعنفوان الثورة الفرنسية التي كانت تقريبا يتيمة في أوربا ملكية مطلقة ولاقترافها القمع وتصفية المعارضين وقتل وتدمير المدنيين. فنجد أن التعريف قد تأثر بهذه الحالة فاقتصر على الجهة الممارسة للإرهاب ولم يبين الدافع أو الباعث على ذلك كما أنه لم يذكر الجهة الممارس ضدها الإرهاب طبقاً لهذا التعريف. غير أن التعريف اللاحق والذي نقلنا جزءاً منه قد تدارك هذا القصور وذكر أشياء لم يذكرها في التعريف الحالي فهو بذلك ينطبق على فرنسا أو غيرها وبين الجهة الممارسة للإرهاب سواء الحكومة أو الأفراد أو المنظمات كما ذكر الجهة الممارس ضدها الإرهاب (الأفراد/الأطفال) وننبه على أن تعريف أكسفورد السابق ركز على إرهاب الأفراد والأحزاب والمنظمات ولم يركز على إرهاب الحكومة ضد الأحزاب أو المدنيين طبقاً لمصطلح المنظومة الغربية.(1/6)
مفهوم الإرهاب في القاموس اللغوي الفرنسي المتداول: نعتقد أن التعريف الفرنسي للإرهاب أكمل من الإنجليزي، ذلك أنه لم يقتصر على إرهاب الأفراد و المنظمات و المجموعات فحسب بل اعتبر أي عمل عنيف من طرف الدولة ضد شعبها مثل فرض حالات خاصة لأهانة المواطنين، إرهابا بل تعدى التعريف الى اعتبار الكبت الفكري نوعا من أنواع الإرهاب. و الخصوصية التي ميزت التعريف الفرنسي هي إطلاق مسمى إرهابي على الأشخاص و المجموعات و الأعمال في حد ذاتها، مما يتيح إمكانية إدخال أية ممارسة مخلة بحقوق الإنسان ووسمها بالإرهاب و لو كانت الدولة هي المعنية.
إنه كي يتسنى لنا تعريف الإرهاب لا بد من توافر الشروط التالية:
أ- عدم قصر التعريف على دولة من الدول مثلما قصر تعريف قاموس أكسفورد الإرهاب على حكومة الثورة الفرنسية سنة 1789- 1794 كأنموذج للصورة القمعية رغم البون الزمني الواسع وتغير الظرف التاريخي.
ب- عدم إغفال إ رهاب الحكومة ضد الأفراد والمنظمات، كما نلاحظ في تعريف قاموس أكسفورد السابق الذكر.
ج- عدم إغفال الباعث على ارهاب المنظمات أو الأفراد ضد الحكومة بمعنى الإرهاب بغرض ديني أو سياسي أو اقتصادي أو نتيجة ظلم اجتماعي أو استقلالي ذاتي.
د- أن لا يكون التعريف وليد ظروف معينة، سياسية كانت أو اجتماعية أو اقتصادية.
هـ - أن يكون التعريف جامعا مانعا، آخذا بعين الاعتبار الحقوق العامة لبني البشر على أساس من المساواة، و ليس على أساس الدين، العرق، الجنس أو الوضع العسكري.
تعريف الإرهاب لدى بعض الهيئات والحكومات وبعض الساسة ومفكري المنظومة الغربية:(1/7)
تعريف شميد(1).
(الإرهاب هو أسلوب من أساليب الصراع الذي تقع فيه الضحايا جزافا كهدف عنف فعال، وتشترك هذه الضحايا الفعالة في خصائصها مع جماعة أو طبقة في خصائصها مما يشكل أساساً لانتقائها من أجل التضحية بها. ومن خلال الإستخدام السابق للعنف والتهديد الجدي بالعنف، فإن أعضاء تلك الجماعة أو الطبقة الآخرين يوضعون في حالة من الخوف المزمن، هذه الجماعة أو الطبقة التي تم تقويض احساس أعضائها بالأمن عن قصد، هي هدف الرهبة. وتعتبر التضحية بمن اتخذ هدفاً للعنف عملاً غير سوي أو زمنا في وقت السلم مثلا،ً أو مكانا في غير ميادين القتال، عملية التضحية أو عدم التقيد بقواعد القتال المقبولة في الحرب التقليدية، وانتهاك حرمة القواعد، هذا يخلق جمهوراً يقظاً خارج نطاق الرهبة ويحتمل أن تشكل قطاعات من هذا الجمهور بدورها هدف الإستمالة الرئيسي والقصد من هذا الأسلوب غير المباشر للقتال هو إما شل حركة هدف الرهبة وذلك من أجل إرباك أو إذعان، وإما لحشد أهداف من المطالب الثانوية من الحكومة مثلاً أو أهدافا للفت الإنتباه لدى الرأي العام ًمن أجل إدخال تغييرات على الموقف أو السلوك بحيث يصبح متعاطفاً مع المصالح القصيرة أو الطويلة لمستخدمي هذا الأسلوب من الصراع(2).
__________
(1) 4 جاء في الطبعة الأولى من كتاب الإرهاب السياسي ( (Political Terrorismسجل "شميد" مئة وتسعة تعريفا من وضع علماء متنوعين من جميع العلوم الإجتماعية بما في ذلك علماء القانون واستناداً إلى هذه التعريفات المائة وتسعة فقد أقدم "شميد" على مغامرة تقديم تعريف في رأيه جمع العناصر المشتركة في غالبية التعريفات.
(2) 5 الإرهاب الدولي/ د.محمد عزيز شكري/ دار العلم للملايين/بيروت/ط/ أولى1991/ ص45، 46)(1/8)
ملاحظات: رغم أن شميد مشهود له بالبحث و التنقيب عن المفاهيم اللغوية و الإصطلاحية فإنه هنا لم يوفق في الخروج بتعريف شاف كاف من خلال التعاريفات التي جمعها، فلا هو أبدع و أتى من عنده بشيء، و لاأحسن العرض و التصرف فيما نقله من تعريفات مختلفة متضاربة أحيانا.
بل عدم تعرضه لها بالنقد و التمحيص جعله يكرر الخطأ حيث خلط بين التعريف في حد ذاته كمفهوم مجرد يصلح للتطبيق الشامل عند توافر عناصره، و بين الأسلوب و الباعث و الطريقة لدى من يتعاملون بالإرهاب. فضلا عن التناقض الواضح في عرضه لعناصر تعريفه حيث وصف الضحية الساقطة بسبب الإرهاب بأنها ضحية جزافية يعني بريئة لا علاقة لها بالقضايا التي يطالب بها الإرهابيون مثلا، ثم بعد ذلك وصف نفس الضحية بأنها منتقاة من أجل هدف إرهابي فعال. فهذا الخلط و عدم وضوح الرؤية لدى شميد تجعلنا نعرض صفحا عن تعريفه، لأنه لا يفرق بين النوازل كعدم وضوح ما يسقط بسبب الفوضى من الضحايا و ما يسقط بسبب الإرهاب الذي يكون غالبا عن سابق تخطيط و إصرار و تصميم.
فلا يمكن التسليم بتعريف يخلط بين مفهومين لا علاقة لأحدهما بالآخر إلا عرضا، و في حالات نادرة. خاصة أن كثيرا من شرائح المجتمع قد تكون فوضوية و لكن لا علاقة لها بالإرهاب. مثل ما يحصل في المظاهرات، و التجمعات و التظاهرات الثقافية و على مدرجات الملاعب أحيانا حتى في بلاد الغرب، حيث ينجر الشباب تحت تأثير الخمور، بسبب الهيجان و الفرح الشديد الى التكسير و العبث فسادا بممتلكات الناس. ترى هل يدخل من هذا شأنه في عداد الإرهاب.(1/9)
إن التركيز من طرف (شميد) على منهج الإرهاب وطرقه من قبل المجموعات أو المنظمات وإهمال إرهاب الدولة الذي هو أخطر أنواع الإرهاب نعتبره خطأ منهجيا في تصوره للأشياء. ثم نلاحظ أنه ربط الحكم على الإرهاب أو العنف - الذي يختلف من مجتمع لآخر ومن مذهب لمذهب آخر بل ومن ديانة لديانة أخرى- ويعتبر التضحية بمن اتخذ هدفاً للعنف عملاً غير سوي من قبل معظم المراقبين من جمهور المشاهدين على أساس القسوة المصاحبة.أ يقصد جمهور العالم كله على اختلاف مشاربهم؟!! أم جمهورا معينا في مكان معين.
فمثلا عقب كل اغتيال تقوم به العساكر الصهيونية لمجاهد فلسطيني، لطفل أو لشيخ أو لحي بكامله كما يحصل في هذه الأيام يهلل الإسرائيليون حكومة وشعباً لمقتل افرهابيين على حد تعبيرهم. وقد أجرى معهد "داحاف" استطلاعاً للراي أكد فيه ترحيب غالبية الشعب الإسرائيلي لمقتل النشطين الفلسطينيين(1). فالواقع يثبت خطأ واضطراب تعريف (شميد) للإرهاب، فهل يعارض غالبية اليهود اغتيال الفلسطينيين عملاً غير سوي؟!! على العكس تماماً فهم فرحون فرحا شديدا بالحرب الهوجاء التي يقوم بها أريال شارون الإرهابي في نظر القانون الدولي، بدليل مطالبة المحاكم البلجيكية به.
تعريف وكالة الإستخبارات المركزية:
عرفت وكالة الإستخبارات الأمريكية CIA الإرهاب عام 1980بالتهديد الناشئ عن عنف من قبل أفراد أو جماعات(2).
تعريف مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي عام 1983م:
(الإرهاب هو عمل عنيف أو عمل يشكل خطراً على الحياة الإنسانية وينتهك حرمة القوانين الجنائية في أية دولة(3).
تعريف وزارة العدل الأمريكية عام 1984م:
أسلوب جنائي عنيف يقصد به بوضوح التأثير على حكومة ما عن طريق الإغتيال أو الخطف(4).
تعريف الجيش الأمريكي للإرهاب عام 1983م:
(
__________
(1) - جريدة الحياة عدد 2008 شعبان 1416.
(2) - الإرهاب الدولي/د.محمد عزيز شكري/مرجع سابق/ص45
(3) - نفس المصدر.
(4) - نفس المصدر ص 46.(1/10)
واعتبر التعريف الموحد لإستعماله من قبل الجيش الأمريكي والقوات الجوية والإسترالية والبريطانية والكندية والنيوزلندية: الإستعمال أو التهديد بالإستعمال غير المشروع للقوة أو العنف من قبل منظمة ثورية)(1).
تعريف وزارة الدفاع الأمريكية عام 1986م:
(الإستعمال أو التهديد غير المشروع للقوة ضد الأشخاص أو الأموال، غالباً لتحقيق أهداف سياسية أو دينية أو عقائئدية).
تعريف وزارة الخارجية الأمريكية عام 1988م:
(عنف ذو باعث سياسي يرتكب عن سابق تصور وتصميم ضد أهداف غير حربية من قبل مجموعات وطنية فرعية أو عملاء دولة سريين ويقصد به عادة التأثير على جمهور ما).
تعريف فريق المهمات الخاصة التابع لنائب الرئيس الأمريكي للإرهاب عام 1988م:
(في سعيهم للقضاء على الحرية والديمقراطية، يتخذ الإرهابيون أهدافهم من غير المحاربين عن عمد لتحقيق أغراضهم الذاتية الخاصة فهم يقتلون ويشوهون الرجال والنساء والأطفال العزل. كما يقدمون عمداً على قتل القضاة، ومراسلي الصحف، والرسميين المنتخبين، والإداريين الحكوميين، والقادة النقابيين ورجال الشرطة وغيرهم ممن يدافع عن قيم المجتمع)(2).
؟ وقد عرف البرفيسور نوام تشومسكي من معهد التكنولوجيا في جامعة "كامبريدج" بمساشوست بالولايات المتحدة الأمريكية حيث قال :(الإرهاب محاولة لإخضاع أو قسر السكان المدنيين أو حكومة ما عن طريق الإغتيال أو الخطف أو أعمال العنف، وذلك لتحقيق أهداف سياسية).
فهذه التعريفات غير موضوعية وتعبر عن وجهة نظر الحكومة الأمريكية بمعنى أن كل عمل ضد الإدارة الأمريكية فهو إرهاب! أما ارهاب الحكومة فقد أغفلته التعريفات السابقة مجتمعة!
__________
(1) - نفس المصدر.
(2) - التعريفات الأخيرة كلها من نفس المصدر.(1/11)
أما تعريف فريق المهمات الخاصة السابق فهو يوحي باضطراب شديد و عدم وضوح لمفهوم الإرهاب في أذهان المفكرين و المنظرين الأمريكان. ففي التحقيق الذي نشرته مجلة المشاهد السياسي: عن ما هو الإرهاب والإرهابي أعطى تشومسكي التعريف السابق ذكره للإرهاب. و نحن نلاحظ أن هذا التعريف كغيره، يأتي في نطاق مكافحة ما تسميه الولايات المتحدة التمرد والعصيان الذي لا تلتزم به الولايات المتحدة بنفسها حيث تخالف كل ما تتوصل إليه الأمم المتاحدة من قرارات بل و تستعمل حق الفيتو (الذي هو نوع من أنواع الإرهاب الرسمي الأمريكي)، وهي تدخل في قائمة المتمردين العاصين دولا أخرى ككوبا مثلاً ونيكارجوا و العراق و كوريا الشمالية و إيران الخ.
يعترف تشومسكي بأن الولايات المتحدة الأمريكية قامت بأعمال إرهابية عندما تدخلت في كوبا و نيكاراجوا، فهو يقول : (وقد نلنا بفضل ما اتخذناه على الجبهتين –الكوبية و النيكاراجوية- من اجراءات لقمعهما تنديداً من محكمة العدل الدولية بتهمة ارتكابنا الإرهاب الدولي).
و عندما سئل تشومسكي المفكر السياسي و الأكاديمي الأمريكي المرموق عن الإرهاب و ازدواجية المعايير في تعريفه : (إنه معيار واحد، ترى كل دولة أن الإرهاب هو مايرتكبه الآخرون فحسب، لقد ضم اجتماع (شرم الشيخ) مثلاً بعض أهم قيادي الإرهاب في العالم، ومع ذلك كان التنديد بالإرهاب الصادر عن آخرين شديداً، لو تحقق اجتماع قمة مماثلة لقمة ( شرم الشيخ) في دمشق وحضره كل من ليبيا والسودان وإيران لندد البيان الصادر عنهم بالإرهاب بقوة. وبريق بيان ( شرم الشيخ) نفسه. نعم الإرهاب بنظرنا هو ما يرتكبه الطرف الآخر فقط بغض النظرعما نفعله نحن)(1).
__________
(1) - المشاهد السياسي/العدد الثالث/31مارس1996/ص10 ص11)).(1/12)
ففي نظر أمريكا ما يرتكبه الطرف الآخريساوي الإرهاب بعينه! أما ما ترتكبه أمريكا من الفظائع والمجازروتجويع الأطفال والعجائز وقتل الشعوب وتدمير البنى التحتية للدول المخالفة لنظامها فهو عمل مشروع لأنه يحقق لها مصالحها القومية والاستراتيجية! و يكرس هذا المفهوم مشروع اللجنة اليهودية الأمريكية المتشكل من عشر نقاط قدمه (وايفد هارس) المدير التنفيذي للجنة اليهودية و يرى أن الحكومة يجب أن تتبناها من أجل مكافحة النشاطات الإرهابية للمسلمين(1).
نجمل تلك الوصايا العشر فيما يلي:
1- يجب على الكونجرس أن يضاعف من قيمة الميزانية المخصصة لمكافحة الإرهاب واعتبار ذلك أولوية وكذلك لابد من اخضاع أعمال إصدار التأشيرات الأمريكية لمكتب التحقيقات الفيدرالية وبقية الوكالات, كما يجب على الكونجرس أن يصدر تشريعات خاصة بقضايا الإرهاب والإرهابيين، والموازنة بين قضايا المدنيين والحماية من الإرهابيين ونشاطاتهم.
2- يُطلب من الرئيس إصدار قرار رئاسي أمني قومي يحدد الإستراتيجية التي تتبناها الإدارة تجاه الإرهاب وسبل مكافحته.
3- دعم جهود الإدارة الأمريكية الرامية إلى الحفاظ على المقاطعة المفروضة على العراق.
4- تشجيع الدول الأخرى وخصوصاً دول أوروبا الغربية والشرق الأقصى على إيقاف أو تقليص مبادلاتهم التجارية العادية وصلاتهم السياسية مع إيران خصوصاً في مجال التكنولوجيا والإعانات المالية والديون.
5- التأكيد للحكومات الأجنبية على أهمية وخطورة وشمولية الخطرالإرهابي والحاجة إلى حماية الحدود، وتطويع مشاريع المتابعات لكل المجموعات الإرهابية مثل (حماس) وغيرها من المنظمات الإرهابية.
__________
(1) 13- وقد صدر هذا التقرير في 16ديسمبر1994م.(1/13)
6- تشجيع الولايات المتحدة والدول الأخرى على أن يأخذوا على عاتقهم العمل على إنهاء الإرهاب العالمي، وتطوير التعاون الحكومي بين الدول من أجل ذلك، وتشجيع التعاون الإقتصادي مع الدول العربية المعتدلة!! الأمر الذي يشكل حاجزاً ضد انتشار الإرهاب.
7- استمرار الدعم القومي لعملية السلام في الشرق الأوسط، ومعيار ذلك التطور الإقتصادي واتاحة الفرص الإستثمارية، الأمر الذي يخفف من بريق حركة(حماس) والطوائف الأخرى الرافضة للسلام.
8- تعليم وإعلام الرأي العام الأمريكي حول الإرهاب والخطر الإرهابي الذي يشكله الإسلام المتطرف للأمن والمصالح الأمريكية ولكل الأمريكان.
9- الطلب من الحكومة الأمريكية والحكومات في العالم أن يجمدوا أموال الإرهابيين ويمنعوا مواطنيهم من إرسال تبرعات خاصة من شأنها أن تساعد في نشاطات إرهابية.
10- على الدول الراعية أو المساعدة للحركات الإرهابية منعها من الحصول على مساعدات من الولايات المتحدة أو الصندوق الدولي أو أية منظمات دولية أخرى(1).
لماذا أتينا بالنقاط السابقة مع أنها غير داخلة في تعريفات الإرهاب؟ ذكرناها نظراً لارتباطها بالمناخ السايسي والظرف الإعلامي الموجه الذي أفرز التعريفات الأمريكية للإرهاب. وفعلاً تبنى(كلينتون) مشروع اللجنة اليهودية وأصدر قراراً رئاسياً بناء على المادة 204ب من قانون سلطات الطوارئ القومي، وكان أول شئ فعله(كلينتون) أن قام بتوقيع قرار رئاسي يقضي بتجميد أرصدة وممتلكات 12 منظمة و18 شخصية، كما يقضي أيضاً بإيقاف أية عمليات تحويل مالية من أي شخص يقيم في الولايات المتحدة، سواء كان مواطناً أو طالباً، إلى هذه المنظمات والشخصيات بما في ذلك التبرعات الخيرية المالية أو السلع أو الخدمات.
__________
(1) قضايا دولية/العدد270/ 271/السنة السادسة/ ص5)).(1/14)
هذا هو المعيار المنضبط لدى الإدارة الأمريكية التي تفتخربالحرية و الديمقراطية.فالديمقراطية ليست إلا لخدمة الرجل الأمريكي والعجيب أنها تريد تعبيد العالم لديانة الديمقراطية الأمريكية. ولو أمعنا النظر في المفهوم الأمريكي للإرهاب لخرجنا بنتيجة مفادها أن كل دول العالم ستعتبر أمريكا دولة إرهابية طبقاً للتعريف البرجماتي الأمريكي للإرهاب. ومن ثم سيقوم تعريف الإرهاب الرسمي بقدر عدد الدول وسينشطر العريف إلى آلاف التعاريفات طبقاً لمعيار أمريكا النفعي.
تعريف مكتب جمهورية ألمانيا الإتحادية لحماية الدستور 1985م:
(الإرهاب هو كفاح موجه نحو أهداف سياسية يقصد تحقيقها بواسطة الهجوم على أرواح وممتلكات أشخاص آخرين، وخصوصاً بواسطة جرائم قاسية)(1).
وفي تعليق السنوسي بلاله في كتابه(منهج الإرهاب):
__________
(1) - الإرهاب الدولي/مرجع سابق/ص46.(1/15)
قال السنوسي بلالة : (ورغم إيماننا العميق بعدم إمكانية قولبة تعريف الإرهاب السياسي بالتحديد إلا أنه سلوك مخالف للقانون وخارج عن قواعد المجتمع وسيلة أو أسلوبا مبرمجا يهدف إلى تحقيق غايات معينة. وقد ورد تعريف الإرهاب في الموسوعة السياسية بأنه استخدام العنف أو التهديد به بأشكاله المختلفة كالإغتيال والتشويه والتخريب والنسف، بغية تحقيق هدف سياسي معين، مثل كسر روح المقاومة والإلتزام عند الأفراد، وهدم المعنويات والمؤسسات)(1). نلاحظ أن الكاتب قد أغفل الإرهاب الرسمي للدولة كغيره تماما وقصر الإرهاب على كل من يخالف القانون أو قواعد المجتمع، رغم أن الحكومة نفسها هي التي تخرق القانون وقواعد المجتمع مثل حوادث إطلاق النار على المدنيين أثناء القبض عليهم أو حصار وتدمير قرى كاملة بسبب الإعتداء على رجل الإدارة كضابط أو مخبر أو تكسير عظام المتظاهرين من أطفال و شباب إهانة الشيوخ و النساء، إلخ. فهل هذا السلوك يتفق وضوابط المجتمع؟ إذن فليس الأفراد أو المجموعات هي التي تمارس الإرهاب وحدها بل إن إرهاب الحكومة يفوق الجميع! خاصة إذا كانت هذه الدولة غنية و قوية و غبية كأمريكا.
تعريف الإرهاب حسب دائرة المعارف الروسية :
قالت دائرة المعارف الروسية في تعريف الإرهاب : (إنه سياسة التخويف المنهجي للخصوم بما في ذلك استئصالهم مادياً. كما يعرف العنف عادة بأنه الإستعمال المنظم المشروع للقوة داخل المجتمع وتذهب كثير من الأنظمة إلى تحديد المشروعية لممارسة القوة بتولي السلطة باسم المجتمع وحماية النظام العام داخل الشرعية الحكومية، أي ممارسة للعنف خارج هذا النطاق تعد لدى الأنظمة التقليدية ممارسة للعنف(2).
(
__________
(1) - منهج الإرهاب/السنوسي بلاله/دراسة في نشأة وتطبيقات بعض جوانب الإرهاب السياسي عند[لينين-ماو-القذافي]/دار الإنقاذ للنشر والإعلام/ص6)).
(2) - العنف والإرهاب/سالم إبراهيم/مرجع سابق/ص90.(1/16)
الإرهاب والعنف) مصطلحان فرق بينهما التعريف وإن كانت النتيجة واحدة والجدير بالذكر أن بعض الباحثين يفرقون بين المصطلحين والكثير منهم يخلط بينهما مما يجعل التعريف مضرباً و غير جامع و لا مانع. ذكر التعريف أيضا أن الإرهاب هو سياسة التخويف المنهجي بما في ذلك استئصالهم ماديا أي تصفية الخصوم جسديا. إلا أن الجديد في التعريف أنه لفت الإنتباه إلى أن كثيراً من الأنظمة –وهذه حقيقة واقعة- تعتبر أن أي ممارسة للعنف أو القوة خارج نطاق السلطة تعد عنفاً بمعنى أن الحكومة وحدها هي التي من حقها ممارسة العنف باسم حماية المجتمع والنظام العام، ومن ثم تسن كثيراً من قوانين في منتهى القسوة وهي ما تسمى بقوانين مكافحة الإرهاب وحق الدولة في انتهاك الحرمات الخاصة للأفراد والمنظمات بدون علمهم والتصنت على حياتهم الخاصة جداً وسجنهم بدون إبداء أسباب ومسوغات طبقاً لهذه القوانين الإستئصالية كل ذلك يتم باسم حماية النظام العام والمجتمع. ونفس الصورة نجدها أوضح في دول العالم الثالث ولكنها تمارسها الأنظمة على نطاق واسع وبوحشية أفظع حيث يشرع الحاكم القوانين ضد الخصوم والمعارضين حسب مزاجه الشخصي وممارسة القمع والتنكيل بالخصوم تتم علانية تحت عباءة حماية النظام العام أيضاً، وتحت شعار المكاسب التي حققتها الجماهير من أجل الحرية والسلام الإجتماعي. بل تقوم بعض الأنظمة باسم الديمقراطية و مكافحة الإرهاب بإلغاء نتائج الإنتخابات حينما تحصل عليها فئات معينة ممن ينتخبهم الشعب لثقته فيهم. ألا يعد هذا تعد و فرض للوصاية على شعوب بأكملها، أليس التنكيل و القتل لكل من انتخب تلك الفئة كما يحدث الآن في بعض دول العالم الثالث إرهابا باسم الديمقراطية؟ و إنه لمن العجب العجاب أن يعرف الروس الإرهاب بما ينطبق عليهم تماما فيما يقومون به ضد الشيشان، و غيرهم من الشعوب التي لا تربطها بهم ثقافة و لا دين.
مؤتمر" جوناثان" حول الإرهاب(1/17)
في أحد المؤتمرات صعد اثنان من المتدخلين ليقررا: ( بأن الإسلام هو في الواقع دين إرهابي، وعليه فإن مصطلح "الإرهابيون الإسلاميون" هو مصطلح مشروع سوف يخدم في تعليل وإلى حد كبير في توضيح اللجوء إلى استعمال الإرهاب السياسي في أيامنا هذه(1).
هكذا تتدخل الخلفيات النابعة من ثقافات حاقدة وعنصرية ليصاغ تعريف الإرهاب مسايرة لها مع أن المفترض أن لا تتأثر المصطلحات بمنطلقات الباحث طبقاً للمنظومة الغربية! فالمتدخلان هما كاتبان يهوديان وفي مؤتمر دولي عقد خصيصاً لبحث آراء الكتاب والمفكرين حول مصطلح الإرهاب، فإذا بهما يفصحان عن حقيقة الصراع مع الغرب. فكره الإسلام والخوف من المسلمين يفرز عبارة هذين الباحثين الحاقدين –بأن الإسلام في الواقع دين إرهابي! فهل هذا تعريف محترم؟! هل هذا يليق بباحث يفترض فيه الحيدة ؟! ماذا سيحدث لو أن باحثاً إسلامياً صعد المنصة وقال: اليهودية ديانة إرهابية! هل كان مؤتمر جوناثان يرضى ويسكت؟! بالطبع فإن الدنيا كانت ستقوم ولن تقعد! ويتهم الباحث بأنه عدو للسامية! وأنه باحث عنصري متطرف يكره اليهود. أما ماحدث في هذا المؤتمر من تصريح هذين الكاتبين فليس بشيء. إن مثل هذه المؤتمرات تجعلنا نوجه أصابع الإتهام للقائمين عليها ممن يدعون الحياد العلمي والموضوعية. فقضية كره الغرب للإسلام راسخة في أذهان ومنطلقات وتصورات الباحثين الغربيين وإن زعموا أنهم منصفون ومحايدون.
يقول الدكتور خليل فاضل
(
__________
(1) - الإرهاب الدولي/مرجع سابق/ص75. Dolewise Liekedourie and Company(1/18)
على الرغم من عدم وجود تعريف محدد لجرائم الإرهاب إلا أن أحد القانونيين العرب عرفها بأنها (جرائم تبعث الذعر وتنشئ خطراً عاماً يهدد عدداً غير محدد من الأشخاص وتعتمد على أساليب وحشية لايتناسب ضررها مع الغرض المستهدف بها مثال على ذلك نسف المباني وبصفة خاصة قاعات الإجتماع في وقت يجتمع فيه الناس، وإتلاف الخطوط الحديدية و تسميم المياه)(1).
فالمزعج حقا أن كتاب العالم العربي و الإسلامي يغرفون من نفس الفكر الإستعماري الغربي المتعالي حيث نلاحظ هنا الأعتراف المسبق من الكاتب بأنه لايوجد تعريف محدد للإرهاب. و عندما حاول التعريف خلط بين المصطلح ونتيجته و تحدث عن جرائم الإرهاب و هو بذلك يخلط بين الماهية والأثر فضلا عن أنه لم يحدد الجهة الممارسة للإرهاب أو الجهة الممارس ضدها الإرهاب. فقوله (لايتناسب ضررها مع الغرض المستهدف بها) لم يوضح هذا الغرض الذي تم من أجله فعل الإرهاب. كما أغفل الكاتب إرهاب الحكومات ومن ثم نرى أن هذا التعريف أيضاً غير منضبط وقاصر و ما هو إلا تقليد خارج من المنظومة الغربية! و الأدهى من ذلك تعريف الدكتور شفيق المصري للإرهاب بشكل عام باعتباره (استخدام غير شرعي للقوه أو العنف (أو التهديد باستخدامهما) بقصد تحقيق أهداف سياسية. والإرهاب في هذا الإطار، هو الذي يتعدى العمل المخالف للقوانين الداخلية للدولة، أو حتى ذلك الذي لا يخالفها، إلى كونه مخالفاً لمبادئ القانون الدولي وقواعده. ولهذا يعرف عادة بـ (الإرهاب الدولي ) )International Terrorism."
و نعتقد أن هذا الأسلوب في حد ذاته لا مسوغ له لأنه لا يتسم بالاعتدال و من ثم فليس بالموضوعي.
__________
(1) - سيكولوجية الإرهاب السياسي/د.خليل فاضل/ط/أولى/إصدارات خليل فاضل1991.(1/19)
و تشدد فريق آخر من علماء الإجتماع والتاريخ فقصروا الإرهاب على الدولة و حصروه فيما هو رسمي فقط، حيث يصف الكاتب الفرنسي "ج.م. دومناك( الدولة بأنها عنف منظم). وقد عبر(ج. لافو) عن ذلك بمرونة أكثر إذ يقول: (إن السياسة لاتقوم بدون عنف بل جوهر السياسة في كل زمان ومكان ينطوي على العنف)(1).
ويسير على نفس المنوال "ح.فرويند" الذي يقول:
(إن القوة تكون بالضرورة أداة السياسة الأساسية وأنها من مقوماتها الجوهرية. وعرف العنف بقوله: (سوف نطلق اسم العنف على القوة التي تهاجم مباشرة شخص الآخرين وخيراتهم أفراداً أو جماعات بقصد السيطرة عليهم بالموت والتدمير والإخضاع والهزيمة).
نلاحظ أن التعريفات السابقة ذات التوجه الشيوعي تغفل إرهاب الأفراد أو الجماعات وتقصر التعريف على عنف الدولة بل وتخلط بين مصطلحي العنف والإرهاب وهناك فريق من الكتاب العرب يتبنون التعريف السابق للإرهاب مثل الدكتور سالم إبراهيم وهو من نفس المدرسة ذات الميول الإشتراكية إذ يقول:
(وقد أظهرت الدراسات التاريخية أن الإرهاب الذي تمارسه أنظمة الحكم التي تسيطر على أساس التسلط والسيطرة أكثر بكثير من العنف الذي تمارسه الطبقات المعارضة. ويستشهد بقول الكاتب الأمريكي مايكل كلير: إن الولايات المتحدة تقف في نهاية الخط الذي يمد معظم الأنظمة الإستبداية في العالم بتقنية القمع)(2).
__________
(1) - العنف والإرهاب/مرجع سابق/ص89)).
(2) - العنف والإرهاب/المرجع السابق/ص89)).(1/20)
هكذا تتغاير التعريفات طبقاً لتباين المعتقدات والمنطلقات فوصف الكاتب الأمريكي مايكل كلير صاحب النزعة الإشتراكية الولايات المتحدة الأمريكية بأنها تقف في نهاية الخط الذي يمد معظم الأنظمة الإستبدادية في العالم بتقنية القمع مثل القنابل المسيلة للدموع والعصاة المكهربة الصاعقة ومصفحات الأمن المركزي والطائرات المروحية والغازات السامة بالإضافة إلى حماية الأنظمة الديكتاتورية من انتفاضة شعوبها. هذا لا مراء فيه وحق لاينكره من اطلع على أصول السياسة الأمريكية وممارساتها في بقاع العالم. لكن هذا الوصف لايصلح أن يكون تعريفاً منضبطاً للإرهاب، فالكاتب مايكل كلير يعرف الإرهاب من منطلق الأيدلوجية الإشتراكية، لأننا يمكننا في المقابل أن نقول : إن الإتحاد السوفياتي السابق وروسيا الحالية يقف وراء كل قمع وتهجير عرقي وتعذيب وحشي لدول وجماعات بأسرها وتاريخ روسيا ملطخ بدماء شعوب القوقاز التي قتلت في زمهرير صحراء سيبيريا، ومحنة الشعب الأفغاني المسلم لم تمح من ذاكرة العالم، وتدمير الروس للشعب الشيشاني المسلم شاهد على أبشع صور الإرهاب والعنف والقمع الذي تمارسه دولة قوية ضد دولة ضعيفة بل وضد مجموعة من الأفراد، رغم أنهم يدافعون عن هويتهم.
و صفوة القول لم يتفق الباحثون على تعريفات محددة لمصطلح الإرهاب ومن ثم استبان لنا اضطراب التعريفات السابقة وقصورها. فالمنظومة الإشتراكية تعرف الإرهاب حسب منطلقاتها ومصالحها. فمصلحة البروليتاريا والسلام الإجتماعي يبرر عنف الدولة طبقاً للأيدلوجية الإشتراكية أو الشيوعية.
وهذا يتفق والمنظومة الغربية بزعامة أمريكا التي تبرر إرهاب إسرائيل بحجة الدفاع عن سلامة أراضيها وأمنها القومي. إذن تعريف الإرهاب له مقاييس متباينة ومتقابلة لم تحسم بعد.(1/21)
أما عن الإرهاب في المنظومة الشرعية فذلك ما يستحق مناقشات مستمرة من طرف علماء هذا المجلس المبارك ليخرجوا في النهاية بتعريف كوني و شرعي وإنساني خال من المؤثرات الأيديولوجية المختلفة بل و من النزعة الدينية التي تكون سببا في عدم قبوله من طرف الآخرين و حتى لا يكون تعريفا ضبابيا يسمح بالأخطاء الحقوقية.
و فيما يلي إقتباس من موضوع بحث كتبه الأستاذ هيثم منّاع(1)في هذا الشان:
قد شغلت قضية الإرهاب المنظمات غير الحكومية والأمم المتحدة منذ ولادتها. وكون الإرهاب، في إحدى صوره، وسيلة التعبير اليائسة والخرقاء لمن لا وسيلة متكافئة لديه للتعبير عن الذات، كانت الدول الغربية المنتصرة في الحرب العالمية الثانية مجمعة على إدانته منذ الأربعينات. في حين اعتبرت دول العالم الثالث، مؤيدة من الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو، العنف المسلح للدفاع عن أرض محتلة أو عدوان خارجي أو مناهضة الاستعمار قضية مشروعة.
عندما حاولت الجمعية العامة للأمم المتحدة تعريف الإرهاب بطريقة واسعة، اعتبرت أنه يشمل فيما يشمل الأعمال والوسائل والممارسات غير المبررة التي تستثير رعب الجمهور أو مجموعة من الأشخاص لأسباب سياسية بصرف النظر عن بواعثه المختلفة. و لذلك أنشأت في عام 1996 لجنة محددة الزمان والمهمة خاصة بالإرهاب Ad hoc Committee on Terrorism)) مهمتها إعداد اتفاقية دولية ملزمة لمكافحة الإرهاب.
__________
(1) - هيثم مناع: المشرف على موسوعة الإمعان في حقوق الإنسان، المتحدث باسم اللجنة العربية لحقوق الإنسان. أعدت هذه الدراسة بطلب من مجلة "التضامن" المغربية.(1/22)
أما اليوم فهناك استعجال لاستصدار هكذا معاهدة لأسباب سياسوية مباشرة، داخل أو خارج الأطر العادية لنقاشات الجمعية العامة، فإن تجربتنا مع المعاهدات الصادرة عن الجمعية العامة، وخاصة منها تلك المتعلقة بالحقوق الإنسانية وحماية الكائن البشري، كانت مرّة وقاسية. فقد حاربتنا الولايات المتحدة في أهم المواثيق وبشكل خاص العهد الخاص بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وميثاق المحكمة الجنائية الدولية الذي صوتت ضده في روما ثم عادت ووقعت عليه آخر ليلة في التوقيعات، ولم تصدّق عليه بعد. كذلك الأمر بما يتعلق بمعاهدات حماية البيئة والطفولة التي لم تكن أكثر حظا. في حين أن منطق القوة كان فاعلا في الحصار المطبق على كوبا والعراق، ومنطق الفيتو حاسما في حماية جرائم الحرب الإسرائيلية. في الحالتين، كان منطق القوة يحطم الثقة بمنطق العدالة، ويجعل من العنف الأعمى حلا مقبولا عند الجماهير المظلومة.
يمكن القول أن أسس مكافحة الإرهاب قد زرعت في القانون الدولي وفي 12 إعلان ووثيقة صادرة عن الأمم المتحدة. حيث ثمة إدانة واضحة لأعمال الإرهاب الدولي ووجوب ملاحقتها، مع تركيز على موجبين أساسيين على الأقل يقتضي أن تلتزمهما جميع الدول هما:
1-أن لا تشجع ولا تتورط على إقليمها أو خارجه بأي نشاط إرهابي ذي أغراض سياسية.
2- أن تقوم بكل ما يساعد في منع أو معاقبة أي نشاط إرهابي يقع ضمن إقليمها أو يكون مرتكبا ضمن هذا الإقليم.
لعل القرار الذي أصدرته الجمعية العمومية للأمم المتحدة في 9-12-1994 ( تحت رقم 49/60 ) أتى فاصلا محوريا في هذا الشأن. فقد دعت الجمعية العمومية بموجب هذا القرار جميع الدول ومجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية والوكالات المتخصصة لتطبيق (الإعلان المتعلق بإجراءات إزالة الإرهاب الدولي) الملحق بقرارها ذاته. وفي هذا الإعلان:(1/23)
- إدانة كاملة لأعمال الإرهاب بكل أشكاله ومظاهره، بما في ذلك الأعمال التي تكون الدولة متورطة فيها بشكل مباشر أو غير مباشر.
- وجوب إحالة القائمين بالأعمال الإرهابية إلى العدالة من أجل وضع حد نهائي لها، سواء كان مرتكبوها أفراد عاديين أو موظفين رسميين أو سياسيين.
- وجوب اتخاذ كل السياسات والتدابير اللاّزمة من أجل محاربة الإرهاب الدولي سواء كانت هذه التدابير فردية تتخذها الدولة ذاتها أو ثنائية أو متعددة الأطراف مع الدول الأخرى. وذلك من اجل محاربة الإرهاب الدولي ومنع قيامه ومعاقبة مرتكبيه.
- التعاون الكامل بين جميع الدول من أجل تعزيز مبادئ الأمم المتحدة وأهدافها والتزام الاتفاقات الدولية الشارعة لجهة توفير السلام والأمن الدوليين وحماية الأبرياء والمحافظة على علاقات الصداقة والتعاون بين الشعوب.
- تعديل أو استحداث القوانين الداخلية للدول بما يتلاءم مع هذه الاتفاقات، لاسيما المتعلقة بحقوق الإنسان.
يعلق الأستاذ هيثم منّاع قائلا:
يمكن القول أن هناك ترسانة قانونية كافية لأهم ما يتعلق بالجرائم المرتكبة في زمني الحرب والسلم والواقعة ضمن تعريف الإرهاب. فهي تشمل اتفاقية منع إبادة الجنس (1948)، اتفاقية طوكيو لإدانة الأعمال غير القانونية على متن الطائرات (1963)، اتفاقية مونتريال لإدانة خطف الطائرات (1971)، الاتفاق القاضي بإدانة خطف الديبلوماسيين (1973)، اتفاق إدانة احتجاز الرهائن (1979)، اتفاقية مناهضة التعذيب (1987)، اتفاقية إدانة القرصنة البحرية (1988)..
لقد صدر في إطار القانون الدولي مجموعتان من الأحكام الدولية الملزمة التي تدين الإرهاب الدولي وتطالب بملاحقة مرتكبيه من الأفراد ومحاسبة الدول التي ترعاه بشتى الوسائل أو تحرض عليه مباشرة أو غير مباشرة:(1/24)
آ- المجموعة الأولى تشتمل على الاتفاقات الدولية المشرعة التي تشير إلى الأعمال الإرهابية الدولية. منها على سبيل المثال لا الحصر: اتفاقية منع إبادة الجنس للعام 1948، واتفاق طوكيو للعام 1963 لإدانة الأعمال غير القانونية على متن الطائرات، إضافة إلى إعلان هلسنكي للعام 1975 الذي التزمت بموجبه الدول الأوربية الامتناع عن مساعدة أي نشاط إرهابي في أي شكل كان، ثم القرارات الدولية الصادرة عن مجلس الأمن في إطار معاقبة الدول التي تخالف المبادئ الدولية وتهدد السلام والأمن الدوليين.
تجدر الإشارة إلى أن الجمعية العمومية للأمم المتحدة أرست هذه المبادئ القاضية بمكافحة الإرهاب الدولي منذ العام 1970، عندما أصدرت إعلانها الشهير عن "مبادئ القانون الدولي المتعلقة بعلاقات الصداقة والتعاون بين الدول وفقاً لميثاق الأمم المتحدة "، وطالبت "الجمعية"، بموجب هذا الإعلان، جميع الدول بالامتناع عن استخدام القوة أو التهديد باستخدامها ضد أي دولة أخرى. كذلك طالبت "الجمعية" جميع الدول بالامتناع عن التنظيم والمساعدة والمشاركة في أي عمل إرهابي ... الخ.
يفسر الدكتور شفيق المصري هذه النصوص والأحكام الواردة أعلاه بالقول:
أ . أن القانون الدولي حرص على تعريف الإرهاب من خلال تعدد الحالات التي يمكن الأفراد فيها التعرض إلى الحقوق الإنسانية الأصيلة، أو إلى سلامة الدولة ونظامها العام الخلقي أو السياسي والاقتصادي ... الخ، أو إلى السلام والأمن الدوليين. من هذا المنطق اعتبر القانون الدولي الفرد مسؤولاً أمام القانون الدولي مباشرة. بذلك نشأ فرع مفصلي من القانون الدولي عرف بـ "القانون الجنائي الدولي" ...(1/25)
ب- أن القانون الدولي حرص على تعريف الإرهاب بحيث يشمل الأفراد والدول كذلك، وطلب بإدانة الاثنين معاً. على هذا الأساس، فان ثمة نوعين من الإرهاب الدولي، وإن تكاملت عناصرهما في بعض الأحيان وتداخلت، بحيث يصبح العمل الإرهابي نتيجة سياسة حكومية ينفذها الأفراد :
-إرهاب الأفراد الذين يرتكبون العمل الإرهابي مباشرة، وهو العمل الموصوف في الاتفاقات الدولية أو القرارات التي مر ذكرها حول هؤلاء الأشخاص وفقا للقانون الدولي وبصرف النظر عن قوانين بلادهم.
- إرهاب الدولة، وذلك عندما تخالف المبادئ الأساسية والأحكام المستقرة في القانون الدولي. بما في ذلك أحكام قانون حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي. مؤدى ذلك أن تصبح الدولة المتورطة في عمل إرهابي، بشكل مباشر أو غير مباشر، مسؤولة أمام القانون الدولي وما يحدده من جزاءات وتعويضات عن الأضرار التي تلحقها بالدولة أو بالدول الأخرى أو بأفرادها.
ج - على أساس ما تقدم، فإن القانون الدولي شرح إرهاب الدولة وحدد الحالات التي يحصل فيها، كما أشار إلى وجوب مقاضاته أيضاً. نذكر بعض هذه الحالات على سبيل المثال لا الحصر:
- المادة الثانية من المعاهدة الدولية المتعلقة بحجز الرهائن للعام 1979 تنص على أن كل دولة ترتكب أي عمل من الأعمال الموصوفة باحتجاز الرهائن، يجب أن تعاقب بما يتناسب مع خطورة الإساءة المرتكبة وطبيعتها. كذلك يجب أن تعاقب الدولة التي تساعد أو توافق أو تتغاضى عن عملية الاختفاء القسري للأفراد.(1/26)
- إن كان إرهاب الدول والجماعات والأفراد قد شكل مادة خصبة للنقاش، فإن نوعا آخر من الإرهاب، وهو الإرهاب الذهني، لم يأخذ حقه البتة نسبة لأهميته الكبيرة. هذا الإرهاب الذهني ينتهك بشكل منهجي مفاهيم جوهرية وأساسية تتعلق بحق التعبير والمشاركة ورفض فكرة الاستئصال والنفي للآخر واعتبار التفوق شكلا منتجا للعنف بالضرورة. وهو يبدو بوضوح عبر الأخطبوط الموالي للصهيونية في الإعلام الغربي الذي لم يتورع عن التحول إلى محام عن مجرم الحرب أرييل شارون في ظل انتفاضة الأقصى.
إن كانت جنوحات هذا الصنف من الإرهاب جلية في اللوبي الموالي لإسرائيل، فقد أصبح هذا التوجه أكثر شيوعا منذ مأساة 11 سبتمبر 2001. حيث بدأت الكلمات القاتلة تحل محل الطائرات المجنونة لتعلن حربا صليبية تخير الناس بين الخير الأمريكي والشر الآتي من معسكر الآخر، وتتحدث عن التفوق الحضاري الغربي على لسان رئيس وزراء فاسد ومفسد من روما. ولعل من تعبيرات الإرهاب الذهني الجديدة تلك الكلمة المرتجلة للسيد ليونيل جوسبان رئيس الوزراء الفرنسي الذي خرج بنظرية تربط سببية الإرهاب بالعقيدة والإيمان و كان من نتائج تلفيقه ذاك أن رجمه أطفال الحجارة رجم الزاني المحصن.
أما الوضع المأساوي في الجنوب ولشعوب تدفع ثمنا باهظا لسياسة الهيمنة الغربية فهو لا يعدو كونه الأرض المؤهبة لذلك (مداخلة في الندوة الألمانية الفرنسية اكتوبر2001). ينسى السيد جوسبان، الذي يلصق بالعقيدة الإسلامية ما استنكرته في كل مدارسها، أو يجهل، بأن الانتحار في التاريخ العربي الإسلامي، إستشهاديا كان أم سوداويا، يشكل أضعف نسبة تذكر في الأمبراطوريات الإنسانية الكبرى.
هذا النوع من الإرهاب، مع هيمنة منطق القوة والحرب، سيؤدي بالضرورة إلى تهميش وتهشيم الفكر والثقافة لحساب تدنيس متصاعد للوعي.(1/27)
كما شكلت الحرب العالمية الثانية مرجعا دوليا في قضايا جرائم الحرب وأعطت اتفاقيات جنيف الرابعة، استفادت الشعوب المناضلة من أجل تحررها من الحركات المسلحة لمقاومة النازية كمثل ومرجع لإدانة الاحتلال والحق في التحرر من الاستعمار وتقرير المصير. جاءت المادة الأولى من ميثاق الأمم المتحدة والمادة الأولى من العهدين الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والخاص بالحقوق السياسية والمدنية لتؤكد على هذا الحق. فكما يذكر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فإن هذه الحقوق إنما أقرت (لكي لا يلجأ المرء في آخر الأمر إلى التمرد).
من هنا، ثمة إقرار دولي بأن كل دولة ملزمة قانونيا بالامتناع عن أي عمل قمعي يحرم الناس حقهم في تقرير المصير والحرية والاستقلال وأساسيات العيش. على هذا الأساس فإن قيام الناس بمقاومة هذا العمل القمعي يعتبر عملا مشروعا. ولا شك بأن اعتبار الاستيطان جريمة ضد الإنسانية في ميثاق روما للمحكمة الجنائية الدولية يجعل من شعب فلسطين شعبا يناضل لوقف جريمة بهذه الخطورة عبر نضاله المشروع.
إن ما يعرف باسم الحرب ضد الإرهاب يدخلنا في مرحلة عبثية يصعب التكهن بمجاهيلها. فخلافا لحروب التقنيات الحديثة المعروفة (العراق وكوسوفو)، هذه الأزمة تعيد الاعتبار بقوة لمفهوم الأمن على حساب الحرية. وكما هو معروف في العلوم الإنسانية، الأمن ليس حالة، وإنما علاقة بالذات والآخر، علاقة مع العالم وتصور لهذا العالم. هكذا علاقة، لا يمكن أن تبنى في حالة طوارئ وبعقلية الطوارئ. وعندما يكون هذا هو الحال، فثمة انتصار للعنجهية على العدالة ولمفهوم التفوق على حساب فكرة المساواة بين البشر. ولا شك بأن عقلية الطوارئ هذه ستحكم الخطوات الأخيرة في اتفاقية مكافحة الإرهاب فيما سيجعل السياسي يخنق الحقوقي في مسألة في غاية الخطورة.(1/28)
إن هذا الوضع يحتاج إلى مراجعة عامة لنظرتنا للنفس وللعالم في المحيط العربي الإسلامي. وهو أيضا يتطلب مراجعة جذرية للسياسة الأمريكية تسمح لنا باستقراء مسلكية جديدة تجاه الشرعية الدولية لحقوق الإنسان. فالإدارة الأمريكية التي وقفت بحزم ضد انعقاد الأطراف السامية المتعاقدة في اتفاقيات جنيف في 15/7/1999 واوقفت هذا الاجتماع بعد عشر دقائق حتى لا تدان دولة إسرائيل على معاملتها للمدنيين، الإدارة الأمريكية التي رفضت في مجلس الأمن وجود قوات دولية لحماية المدنيين الفلسطينيين من أرييل شارون والعنجهية الإسرائيلية، لهذه الإدارة مسؤولة أساسية عن جعل قتل المدنيين مسألة مقبولة في الوعي الجماعي العام، وعلى الصعيد العالمي. وبالتالي فهي تشارك الإرهابيين في المسؤولية عن مقتل المدنيين الأمريكيين باعتبارها التزمت الصمت عن مقتل المدنيين الفلسطينيين والعراقيين وغيرهم.
بهذا المعنى، يمكن أن تشكل مأساة 11 سبتمبر بالفعل منعطفا تاريخيا إذا ما أدت إلى مواقف تاريخية. كذلك يمكن أن تكون نقطة الانطلاق نحو ارتداد عام في الجنوب والشمال، نخسر في خضمّه، أجمل ما ترك لنا القرن الماضي، أي تلك القواسم المشتركة للحقوق والكرامة الإنسانية. يضحى بها، لحساب تعبيرات جديدة للشوفينية والتعصب والتفوق الأهوج.
و آخر دعوانا الحمد لله رب العالمين(1/29)
مقاصد الشريعة المتعلقة بالمال
إعداد
الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي
بحث مقدم
للدورة الثامنة عشرة للمجلس - دبلن
جمادى الثانية/ رجب 1429 هـ / يوليو 2008 م
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا وأسوتنا وحبيبنا ومعلِّمنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن اتَّبع هداه.
(أما بعد)
فقد كلَّفتني الأمانة العامة للمجلس الأوربي للإفتاء والبحوث: أن أعدَّ بحثا حول (مقاصد الشريعة الإسلامية المتعلقة بالمال) ليُلقى في الندوة العلمية التي سيعقدها المجلس خاصة بالمعاملات المالية في الشريعة، في دورة المجمع الثامنة عشرة التي ستنعقد في أول شهر تموز (يوليو) 2008م في مدينة دبلن.
وأمانة المجلس تقصد بذلك ترسيخ مفهوم (مقاصد الشريعة) في كلِّ البحوث التي يقوم بها المجلس، وهذا من مظاهر التجديد للفقه وللدين نفسه. وذلك بالربط أبدا بين النصوص الجزئية والمقاصد الكلية. ولا يمكن أن يتمَّ تجديد أو تطوير أو إصلاح في فقهنا الإسلامي، أيًّا كان موضوعه ومجاله، في الاقتصاد أو في السياسة أو الإدارة أو الجنايات والعقوبات أو الجهاد والعَلاقات الدولية، إلا بإعمال هذا المبدأ وإبرازه والتركيز عليه، وهو فَهم النصوص في إطار مقاصدها وأهدافها.(1/1)
أما النظرة الحرفية والظاهرية التي تتشبَّث بها بعض المدارس، فهي لا تصوِّر الإسلام الحقيقي، ومثلها الذي يغفل النصوص الجزئية الواردة في محكمات القرآن وصحيح السنة، بدعوى الاعتماد على رُوح الإسلام أو مجرَّد المصلحة أو نحو ذلك. فهذا شرود عن فَهم حقيقة الإسلام، وإعراض عن حكم الله ورسوله باتباع الهوى، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُّبِينًا} [الأحزاب:36]، {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51].
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: "مَن يرد الله به خيرا يفقِّهه في الدين" متفق عليه.
اللهم ارزقنا الفقه في دينك، والفَهم عنك وعن رسولك، حتى لا نحيد عن غايتنا، أو نميل عن صراطنا. اللهم {اهدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7،6].
الدوحة في: جمادي الآخرة 1429هـ ... ... ... ... الفقير إليه تعالى
... يونيو 2008م ... ... ... ... ... ... يوسف القرضاوي
مقاصد الشريعة المتعلقة بالمال
اتَّفق جميع الفقهاء والأصوليين منذ عصر الإمام الغزالي (ت505هـ) على أن المحافظة على المال من المقاصد أو المصالح الكلية الضرورية الخمس للشريعة، مثل الدين والنفس والنسل والعقل. وهذا لا ريب فيه.
ولكن من المهم أن يُعلَم أن الشريعة الإسلامية في شأن كليَّة المال نفسها: مقاصد متعدِّدة ومتنوِّعة:
منها: ما يتعلَّق بقيمته ومنزلته.
ومنها: ما يتعلَّق بربطه بالإيمان والأخلاق.
ومنها: ما يتعلَّق بإنتاجه.
ومنها: ما يتعلَّق باستهلاكه.
ومنها: ما يتعلَّق بتداوله.(1/2)
ومنها: ما يتعلَّق بتوزيعه.
وسنتحدَّث عن هذه الأمور وما حولها بإجمال أو بتفصيل يليق بالمقام.
(1)
مقاصد الشريعة المتعلقة بقيمة المال ومنزلته
1- بيان منزلة المال وأهميته في الإسلام:
للمال في الإسلام مكانة مهمَّة في حياة الفرد والجماعة، وله تأثيره الكبير في الدنيا والآخرة. ويتَّضح ذلك بالمقارنة بين تعاليم المسيحية وتعاليم الإسلام في هذا الجانب: يقول المسيح فيما ترويه عنه الأناجيل المعتمدة: (ما أعسر دخول ملكوت الله على ذوي المال، فلأن يدخل الجمل في ثقب الإبرة أيسر من أن يدخل الغني ملكوت الله)(1). وجاء رجل يريد أن يتبع المسيح ويسير معه، فقال: اذهب فبع مالك ثم اتبعني(2)!
أما الإسلام فينظر إلى المال نظرة أخرى، إنه يعتبره وسيلة هامَّة لتحقيق مقاصد شرعية دنيوية وأخروية، فردية واجتماعية. فلا يستطيع المرء أن يحافظ على حياته المادية إلا بالمال، فبه يأكل، وبه يشرب، وبه يلبس، وبه يبني مسكنه، وبه يصنع سلاحه الذي يدافع به عن نفسه وحرماته، وبه يطوِّر حياته ويرقِّيها.
وبه يستطيع أن يزكِّي ويتصدَّق ويعتق الرقاب، ويسهم في الخيرات، كما قال تعالى:
{فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد:11-17].
ولهذا اعتبر القرآن المال {قِيَاماً} أو (قواما) لحياة الناس، أيْ أنه - كما يقولون في عصرنا - عَصَب الحياة، قال تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} [النساء:5].
__________
(1) - انظر: إنجيل (لوقا 18/24-25)، و(متى 19: 23-24).
(2) - انظر: إنجيل متى (19/21).(1/3)
وقد وصف كثيرا من الأنبياء بالغنى والمال، كالأنبياء الذين آتاهم الله الملك، مثل يوسف عليه السلام، الذي مكَّن الله له في أرض مصر يتبوَّأ منها حيث يشاء، وداود عليه السلام، الذي آتاه الملك والحكمة، وسليمان عليه السلام، الذي آتاه الله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده.
ولقد ذكر القرآن أن المال ليس نقمة ولا شرًّا على الإنسان في ذاته، كما يعتقد بعض أصحاب الأديان والفلسفات التي تقوم على الحرمان من الطيبات، وعلى تعذيب الجسد حتى تسمو الروح، مثل: البرهمة في الهند، والبوذية في فارس، والرواقية في اليونان، والنصرانية وبخاصة الرهبانية فيها.
بل رأينا القرآن يسمِّي المال (خيرا) في عدد من آياته، كما في قوله تعالى عن الإنسان: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:8]، وقال: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة:215]، وقال عزَّ وجلَّ: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:180].
كما اعتبر القرآن في كثير من آياته: المال وسَعَة الرزق من مثوبة الله العاجلة لعباده الصالحين في الدنيا.
كما قال تعالى على لسان نوح: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:10-12].
وقال تعالى عن أتباع الأنبياء الصادقين: {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:148].(1/4)
وقال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف:96].
وقال عزَّ وجلَّ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2، 3].
وقال عن أهل الكتاب: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [المائدة:66].
وامتنَّ الله تعالى على خاتم رسله محمد، فقال: {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} [الضحى:8].
وامتنَّ على الصحابة بعد الهجرة، فقال: {وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال:26].
وقال لعمرو بن العاص: "نعم المال الصالح للمرء الصالح"(1).
ومن أدعيته المأثورة: "اللهم إني أسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى"(2).
__________
(1) - رواه أحمد في المسند (17096) وقال مخرِّجوه: إسناده صحيح على شرط مسلم، وابن حبان في الزكاة (3210)، عن عمرو بن العاص.
(2) - رواه مسلم في الذكر والدعاء (2721)، وأحمد في المسند (3692)، والترمذي في الدعوات (3489)، وابن ماجه في الدعاء (3832)، عن عبد الله بن مسعود.(1/5)
وروى عنه سعد بن أبي وقاص أنه قال: "إن الله يحبُّ العبد التقي الغني الخفي"(1). وقال في حديث الوصية المشهور حين أراد أن يوصي بماله كلِّه أو نصفه أو ثلثه في سبيل الخيرات: "الثلث والثلث كثير"(2). ودعا لخادمه أنس بن مالك: أن يكثِّر الله ماله(3). وقال: "ما نفعني مال كمال أبي بكر"(4).
ومن المقرَّر عند أهل العلم في الإسلام: تفضيل الغني الشاكر على الفقير الصابر. كما يدلُّ عليه حديث: "ذهب أهل الدثور بالأجور"(5).
__________
(1) - رواه مسلم في الزهد والرقائق (2965)، عن سعد بن أبي وقاص.
(2) - متفق عليه: رواه البخاري في الإيمان (56)، ومسلم في الوصية (1628)، كما رواه أحمد في المسند (1479)، وأبو داود (2864)، والترمذي (2116)، والنسائي (3626)، وابن ماجه (2708)، أربعتهم في الوصايا، عن سعد بن أبي وقاص.
(3) - عن أنس رضي الله عنه قال: قالت أمي: يا رسول الله، خادمك أنس ادع الله له. قال: "اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيما أعطيته". متفق عليه: رواه البخاري في الدعوات (6380)، ومسلم في الفضائل (2481)، كما رواه أحمد في المسند (13013). عن أنس.
(4) - رواه أحمد في المسند (7446)، وقال مخرِّجوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين، والترمذي في المناقب (3661)، وقال: حديث حسن غريب من هذا الوجه،، وابن ماجه في المقدمة (94)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2894).
(5) - متفق عليه: رواه البخاري في الأذان (843)، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة (595)، كما رواه أحمد في المسند (7243)، وأبو داود (1504)، وابن ماجه (927)، كلاهما في الصلاة، عن أبي هريرة.(1/6)
وكذلك تفضيل (اليد العليا) وهي اليد التي تعطي على (اليد السفلى)، وهي اليد التي تأخذ، وفيها ورد الحديث الصحيح: "اليد العليا خير من اليد السفلى"(1).
2- إيجاب المحافظة على المال:
ولأهمِّية المال في نظر الإسلام، جاءت الأوامر والتوجيهات القرآنية والنبوية بالمحافظة عليه، كما جاء النهي عن إضاعة المال، والنهي عن الإسراف والتبذير فيه، وإنكار ما كان في الجاهلية بشأن الحرث والأنعام.
ومثل ذلك: الحجر على السفهاء، {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:5]، وهو حجر لصالح المجتمع، وكذلك الحجر على الصغار والمجانين، وهو حجر لصالح المحجور عليهم.
__________
(1) - متفق عليه: رواه البخاري (1429)، ومسلم (1033)، كلاهما في الزكاة، كما رواه أحمد في المسند (7155)، وأبو داود (1648)، والنسائي (2533)، كلاهما في الزكاة، عن أبي هريرة.(1/7)
وحسبنا هنا: أن أطول آية في القرآن: نزلت في تنظيم شأن من شؤون المال (كتابة الدَّين)، وتسمَّى (آية المداينة). وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاء إِذَا مَا دُعُواْ وَلاَ تَسْأَمُوْا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَو كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:282].
3- التحذير من الافتتان بالمال والطغيان بسببه:(1/8)
ومع ما للمال من قيمة ومنزلة في الإسلام، نرى الإسلام يحذِّر من الافتتان به، والطغيان بسببه، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15]، وقال: {كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6، 7]، علق القآن طغيان الإنسان برؤيته نفسه مستغنيا عن غيره، وربما مستغنيا عن ربه. وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون:9]، فالخطر ليس في وجود الأموال والأولاد، ولكن في إلهائها أصحابها عن ذكر الله.
وأثنى الله تعالى على رواد المساجد فقال: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:37،36]، فهم ليسوا دراويش ولا متبطِّلين، بل هم رجال أعمال، ولكن لا تشغلهم عن ذكر الله وأداء الواجبات.(1/9)
ولا غرو أن نقرأ حملة القرآن على طغاة الأغنياء، مثل قارون: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ...} [القصص:76] الآيات، التي انتهت بأن الله خسف به وبداره الأرض. وصاحب الجنتين في سورة الكهف، وعاد، وثمود. قال تعالى في عاد: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء:129،128]، {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الشعراء:132-134]، وقال تعالى في ثمود: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} [الشعراء:146-148].
{وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} [الهمزة:1-9]، {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد:1-5]، {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} [القلم:14].
(2)
ربط المال والاقتصاد بالإيمان والأخلاق
من مقاصد الشريعة الأساسية - فيما يتعلَّق بالمال أو بالاقتصاد - ربطه بأصلين كبيرين:
أولهما: ربطه بالإيمان بالله وبالمعاني الربانية، وبهذا تمتزج المادة بالرُّوح، والدنيا بالآخرة، والخلق بالخالق.(1/10)
وثانيهما: ربطه بالقيم والأخلاق، حتى لا يسير الاقتصاد سائبا، يتَّبع الهوى، ويسعى وراء المنفعة، وإن كان وراءها شرٌّ خطير، وإثم كبير على الناس.
أولا: ربط المال والاقتصاد بالإيمان والربانية
من أهم وأبرز مقاصد الشريعة المتعلِّقة بالمال والثروة، أو بالاقتصاد: ربطه بالإيمان بالله تعالى، وبالمعاني الربانية، من معرفته تعالى ومحبَّته وذكره وشكره وحسن عبادته، والرجاء في رحمته، والخشية من عقابه، والتوكُّل عليه، إلى آخر هذه المعاني، التي تؤسِّس (الجانب الرباني) في حياة المسلم. مستمدا من القرآن والسنة.
ولهذا أساس معرفي واضح أصيل، يتمثَّل فيما يلي:
1. إن الله تعالى خلق هذا الكون علويَّه وسفليَّه، ليعرفه الناس ويعبدوه، ويقوموا له بحقِّه، باعتباره الخالق العظيم، والرب الأعلى، والمنعم بجلائل النعم، وحسبنا أنه واهب الحياة، ومانح العقل والإرادة للإنسان، ومسخِّر ما في السماوات وما في الأرض لمنفعة الإنسان.
قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [الطلاق:12]، أي إن الله تعالى خلق السماوات والأرض لنعرفه، بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، ولا سيما صفتي القدرة المطلقة والعلم المحيط.
ومن مقتضيات هذا العلم: أن نخصَّه ونفرده بالعبادة، فهي المهمَّة الأولى لنا، وهي الغاية القصوى من خلقنا، كما قال عزَّ وجلَّ: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذريات:56-58].(1/11)
2. إن الإنسان ليس هو هذا الغلاف الظاهر من الجسد، بأجهزته وأعضائه وخلاياه، أي ليس هو هذا الهيكل العظمي، الذي كساه الله وكمَّله باللحم والأعصاب والدماء، بل حقيقة الإنسان هو الجزء الذي لا يُرى فيه، إنه الرُّوح أو القلب أو الفؤاد أو النفس الناطقة، أو سمِّه ما تسمِّيه، فهو حقيقة الإنسان، الذي به يُخاطب ويكلَّف، ويؤمر ويُنهى، ويُثاب ويعاقَب.
كما أشار القرآن إلى ذلك في قصة خلق آدم الذي خلقه الله من تراب أو طين، أو من صلصال من حمأ مسنون، ثم سوَّاه ونفخ فيه من رُوحه، وبهذه النفخة الإلهية استحقَّ أن يكرَّم وتسجد له الملائكة، ولهذا قال للملائكة: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر:29].
فإذا كان المال معنيًّا بغذاء الإنسان الماديِّ وحاجاته المادية، من مأكل ومشرب وملبس ومسكن، فإنه لا ينبغي أن يُنسى أن الإنسان الحقيقي له مطالب أخرى، يجب تلبيتها وتوفيرها، إن أردنا أن يكون إنسانا، فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، كما في الإنجيل(1).
3. أن المالك الحقيقي للمال ليس هو الإنسان، وإنما هو الله سبحانه، خالق المال، وخالق الإنسان، ولهذا رسخت في الإسلام هذه الفكرة الأصيلة: أن المال مال الله، والإنسان مستخلَف فيه. كما قال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7]. ومعنى أن الإنسان مستخلف في المال: أنه موكَّل به من قِبَل مالكه، نائب عنه، مؤتمن عليه، مثل أمين الصندوق، أو الخازن، ليس حرَّ التصرُّف فيه كما يشاء، بل هو مقيَّد بأوامر مالك الصندوق وتوجيهاته.
__________
(1) - إنجيل متى (4/4).(1/12)
وفي مقام آخر يقول القرآن عن المستحقِّين: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33]، فالغني المسلم ينظر إلى المال الذي يحوزه وينسب إليه ملكه، ويسجَّل باسمه: أنه وديعة من الله لديه، وفضل من الله عليه، لا يجوز أن ينفقه في غير حقِّه، أو يبخل به عن حقِّه، فيستحقُّ ذمَّ الله تعالى، كما قال: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ} [آل عمران: 180].
سئل أعرابي مسلم يرعى الغنم: لمَن هذه الغنم، يا أعرابي؟ فقال: هي لله عندي! فما أبلغ هذا الجواب وأصدقه.
والحقيقة: أن مَن يتأمَّل كيف ينشأ المال: يجد أن يد الله تبارك وتعالى هي التي تعمل في خلقه وإنشائه وإبرازه، وحتى جهد الإنسان في ذلك هو من إمداد الله تعالى وتوفيقه.
انظر إلى الزرع وثمره: مَن الذي خلق التربة التي تُنبت الزرع والشجر؟
ومَن وضع فيها من الخصائص والمكونات، ما يجعلها صالحة لإمداد النبات بما يحتاج إليه؟
ومَن الذي أمدَّها بالغذاء والهواء والضياء الذي تحتاجه؟
ومَن الذي خلق البذرة التي هي أصل النبات؟
ومَن الذي أمدَّها بالماء الذي ينزل من المطر أو يجري من النهر؟
ومَن الذي وضع السنن التي يجري عليها نظام الإنبات؟
إنه الله جلَّ جلاله. كما قال تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ} [يس:33-35]. وهكذا يأكلون من ثمره وما عملته أيديهم، بل عملته يد الله سبحانه، كما قال في نفس السورة: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} [يس:71].(1/13)
وصاحب المال الحقيقي هو الذي يأمر مالك المال الاسمي أن يُخرِج منه الحقوق الواجبة لأصحابها، وأولها: الزكاة المفروضة، وهي الركن الثالث من الأركان العملية للإسلام، وأن يتعبَّد الله بذلك. كما يأمره بإخراج غيرها من الحقوق.
وهو الذي أمره إلا يكسب المال إلا من حِلِّه، ولا ينميه إلا بطريق مشروع، وألا يبخل به عن حقٍّ، وألا ينفقه في أمر يبغضه الله تعالى، كالخمر والميسر، وأن يلزم حدود الاعتدال في إنفاقه ... إلخ، وألا يتعدَّى الحلال إلى الحرام في أيِّ تصرُّف ماليٍّ من تصرفاته.
والمستخلف في المال، عليه أن يطيع صاحب المال، ويأتمر بأمره، ويسير في تنميته وإنفاقه وتداوله حسب توجيهه.
المال عون على طاعة الله:
ثم هناك جانب رباني آخر في المال، وهو: أنه عون على طاعة الله تعالى، فهو الذي يمكِّن المسلم من الصدقة العادية والجارية، أي الدائمة المتمثِّلة في الوقف الخيري، وهو الذي يعينيه على الإسهام في مشروعات الخير، من كفالة الأيتام، ورعاية المساكين وابن السبيل، وإقامة مؤسَّسات الخير والإغاثة الإنسانية.
كما يعين المال صاحبه على أداء الحج والعمرة، وعلى النفقة في سبيل الله، وعلى نشر الإسلام، وإمداد دعاته وتجهيزهم بما يحتاجون إليه، ولهذا قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: "نعم المال الصالح للرجل الصالح"(1).
ثانيا: ربط المال والاقتصاد بالأخلاق والمثل الإنسانية
وكما إن من مقاصد الشريعة: ربط المال والاقتصاد بالإيمان والمعاني الربانية: فكذلك من مقاصدها ربطه أيضا بالأخلاق والمُثل الإنسانية.
فإذا كان الاقتصاد الغربي مفصولا عن الأخلاق، كما هو مفصول عن الدين والإيمان، فإن الاقتصاد الإسلامي مربوط ربطا مُحكَما بالإيمان والأخلاق.
__________
(1) - رواه أحمد عن عمرو بن العاص، وقد سبق تخريجه.(1/14)
ذلك أن الحياة في نظر الإسلام حلقة متشابكة، موصولة بعضها ببعض، ومن الخير لها ألا تنفصل عن الأخلاق والمُثل العليا في أيِّ ناحية من نواحيها. وفصلها عنها بمثابة فصل الجسد عن الروح، أو فصل الآلة عن ضوابطها وكوابحها التي لا تستغني عنها.
لقد فصل الغربيون العلم عن الأخلاق، وفصلوا العمل عن الأخلاق، وفصلوا السياسة عن الأخلاق، وفصلوا الحرب عن الأخلاق، وفصلوا كذلك الاقتصاد عن الأخلاق.
والانفصال عن الأخلاق يعني: الانطلاق كما تريد الأهواء والشهوات، أو كما تُملي المصالح الذاتية والمادية والآنية للإنسان، دون أدنى تفكير فيما قد يصيب غيره من أضرار أو آفات، فكلُّ امرئ يقول: نفسي نفسي. وفي هذا الانطلاق اللاأخلاقي خطر على المجموع في النهاية.
يجب على مَن بيديه مال: أن يلزم الفضائل والمُثل في استخدام المال، بل عليه أن يلزم هذه المُثل قبل ذلك في اكتسابه إذا اكتسبه، فلا يكسبه بطريق الظلم أو الغش، أو ما سمَّاه القرآن {الْبَاطِلِ}، وهو يشمل كلَّ طريق غير مشروع لاكتساب المال أو تنميته، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29].
وقال تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْأِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:188].(1/15)
والمتأمِّل في سياق الأحكام والتوجهات الإسلامية المتعلقة بالمال، سيجد بوضوح: أن الإسلام يفرض الأخلاق والمُثل في كلِّ جانب من جوانب المال: في إنتاجه إذا أُنتج، وفي استهلاكه إذا استُهلك، وفي توزيعه إذا وُزِّع، وفي تداوله إذا تُدوول، ولا يقبل بحال أن تسير أيَّ ناحية من هذه النواحي بمعزل عن الأخلاق(1).
فلا يقبل إنتاج ما يحرم أو ما يضرُّ الناس من المسكرات أو المخدرات، أو حتى التبغ (التدخين). ولا يقبل إنتاج المواد الفنية والأعمال الدرامية التي تنشر الخلاعة والميوعة، وتُشيع التبرُّج، وأخطر منها: ما يُشيع العلمانية في الفكر، والنظرة الإباحية في السلوك، أو الشكَّ في العقيدة.
وكما لا يقبل إنتاج هذه المواد وتسويقها، لا يقبل شراءها واستهلاكها.
بل لا يقبل الإسلام استهلاك الحلال إلا في حدود الاعتدال: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31].
كما يرفض الترف وأهله، ويعلن الحرب عليه، لما وراءه من دفع الأمة إلى الفساد والهلاك: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الاسراء:16].
ومثل ذلك في التداول: حرَّم الربا والاحتكار والتدليس والغشَّ وبخس الناس أشياءهم، والتطفيف في الكيل والميزان، {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:1-6].
تنويه بعض الأجانب بأخلاقية الاقتصاد الإسلامي:
__________
(1) - انظر: كتابنا (دور القيم والأخلاق في الاقتصاد الإسلامي) نشر مكتبة وهبة بالقاهرة، ومؤسسة الرسالة في بيروت.(1/16)
وقد لاحظ بعض الدارسين الأجانب هذه الميزة في الاقتصاد الإسلامي، وكيف مزج بين الاقتصاد والأخلاق، على حين فرَّقها الاقتصاد الوضعي، يستوي في ذلك الاقتصاد الرأسمالي، والاقتصاد الشيوعي.
يقول الكاتب الفرنسي (جاك أوستروي) في كتابه (الإسلام والتنمية الاقتصادية): (الإسلام هو نظام الحياة التطبيقية والأخلاق المثالية الرفيعة معا، وهاتان الوجهتان مترابطتان لا تنفصلان أبدا، ومن هنا يمكن القول: إن المسلمين لا يقبلون اقتصادا (علمانيا)، والاقتصاد الذي يستمدُّ قوَّته من وحي القرآن يصبح - بالضرورة - اقتصادا أخلاقيا.
وهذه الأخلاق تقدر أن تعطيَ معنى جديدا لمفهوم (القيمة)، وتملأ الفراغ الفكري الذي يوشك أن يظهر من نتيجة (آلية التصنيع).
لقد استنكر (بركس) النتائج المؤذية لنمو حضارة (الجنس) في الغرب، ويقلق الاقتصاد اليوم من سيطرة قِيَم الرغبات على القِيَم الحقيقية.
والآن بدأ الغرب يعي بالنتائج المؤذية من جرَّاء مفاوضات عالمية لعالم غير مستقرٍّ ... فلقد وجد الرجل نفسه مفصولا عن عمله، فالآلة أصبحت السيِّد، وجاء التطرُّف في وسائل الراحة كالسيارات وغيرها ... والاهتمام بالتوافه، ولم يهتم الغرب أبدا بتخفيف عداء (الآلة) للإنسان، وهي تشكِّل أفقا لقسم هامٍّ من الإنسانية.
ولم يغِب عن الإسلام الواعي هذا الدرس في متناقضات الغرب، ولكي يقف في مواجهة الغرب، محقِّقا في الوقت نفسه وجهته الاقتصادية، عمد الإسلام لإدخال قيمه الأخلاقية في الاقتصاد...
وهكذا يُخضع العناصر الماديَّة في الاقتصاد لمتطلبات العدل.
وهذا اللقاء بين الأخلاق والاقتصاد، الذي يلحُّ عليه (ج. برث) لم يوجد صدفة في الإسلام الذي لا يعرف الانقسام بين الماديَّات والرُّوحيَّات.
وإذا كان اقتران البروتستانية مع الوثبة الصناعية مزوَّرا، وإذا كانت الصلة بينهما موضع نقاش، فهذا غير كائن في الإسلام، لأن عالمية تشريعه الإلهي تمنع كلَّ تنمية اقتصادية لا تقوم عليها.(1/17)
وعلى النقل التقليدي السريع لتجربة الغرب: أعطِ ما لقيصر لقيصر وما لله لله. يجب ألا يخفى استحالة هذا التمييز في الإسلام. وفصل الدين عن الدولة، الذي أدخل الفاعلية الماديَّة في الغرب، لا معنى له في الإسلام، حيث لا تولد الفاعلية الماديَّة في المجال الفكري وخارجه، بل باستلهام من قوَّة الإسلام ومن الوحي المنزَّل)(1)اهـ.
وإذا استقرأنا الواقع التطبيقي، وجدنا أثر هذا الاقتران بين الاقتصاد والأخلاق، واضحا عميقا في تاريخ المسلمين، وخاصَّة يوم كان الإسلام هو المؤثِّر الأول في حياتهم، والموجِّه الأول لنشاطهم وسلوكهم.
المشكلة الأساسية في الاقتصاد الوضعي:
يرى رجال الاقتصاد الوضعي: أن المشكلة الأولى عندهم: ما يسمُّونه (الندرة) ويعنون بها أن الموارد التي يحتاج إليها الناس محدودة، ولذا يتنافس عليها المتنافسون، بل يتقاتل عليها المتقاتلون.
على حين يرى رجال الاقتصاد الإسلامي: أن الأصل هو (الوفرة) وأن الله تعالى هيَّأ للناس أرزاقهم في هذه الأرض: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6]، وأن الله حين خلق الأرض: {بَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} [فصلت:10].
وقال تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} [الأعراف:10]، {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان:20]، إلى غيرها من الآيات الكثيرة التي يمنُّ الله فيها بنعمه الوفيرة على الإنسان: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا} [النحل:18].
__________
(1) - عن كتاب (الإسلام والتنمية الاقتصادية) للكاتب الفرنسي جاك أوستروي ترجمة د. نبيل الطويل. ***(1/18)
ويرى الاقتصاد الإسلامي: أن مشكلة الاقتصاد هي (الإنسان)، كما قال تعالى بعد أن عدَّد على الإنسان مظاهر نِعَمه الكبرى في السموات والأرض، ثم قال: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:34]، فأشار إلى أن المشكلة تكمن في الإنسان قبل كلِّ شيء، في ظلمه لنفسه، وظلمه لغيره، وتجاوزه لمهمَّته، وكذلك في كفرانه بنعمته تعالى التي أنعم بها عليه. وهذا هو أصل البلاء كلِّه.
(3)
مقاصد الشريعة فيما يتعلق بإنتاج المال
للشريعة الإسلامية مقاصد متعدِّدة فيما يتعلَّق بإنتاج المال وكسبه وتنميته.
من هذه المقاصد:
1- الحث على إنتاج المال وكسبه من طرقه المشروعة:
مادة المال الذي يحتاج إليه الإنسان مبثوثة في هذا الكون، ولكن جرت سنة الله أن إنتاجها بحيث تصبح صالحة لاستخدام الإنسان، وتلبية حاجاته، وتوفية مطالبه، لا بد له من عمل وكسب يقوم به الإنسان، فالأرض خلقها الله للأنام، وجعلها ذلولا، وجعل تربتها صالحة للإنبات، ولكنها تحتاج إلى مَن يضع البذرة في الأرض في وقت معين، بطريقة معينة، ويهيِّئ لها من الماء العذب الذي خلقه الله ما يرويها، وأن يبعد عنها من الشوائب والآفات ما يعوق نموها، وأن يمدَّها بالسماد الطبيعي بما تحتاج إليه ... إلخ ما يعرفه أهل الزراعة من خدمة للأرض، ورعاية للنبات حتى يؤتي ثمرته وفق سنة الله. يقول تعالى: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ} [يس:33-35].(1/19)
والإسلام حريص على أن يدفع المسلمين ليعملوا ويكدحوا في إطار السنن الكونية، لإنتاج المال وكسبه وتنميته، ولا يتوانوا عن ذلك، ويدعوا غيرهم من الأمم يأخذون زمام المبادرة منهم، بل عليهم أن يتقرَّبوا إلى الله بالعمل في عمارة أرضه، ويعتبروا ذلك من العبادة التي خلقهم الله لها، كما قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، وهو أيضا جزء من مهمَّة الخلافة التي اختارهم الله للقيام بها، حين قال للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]. وكانت عمارة الأرض ضمن هذه الخلافة، ولذا كان رسل الله يذكِّرون بها أقوامهم، كما وجدنا صالحا يقول لقومه ثمود: {يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود:61]، ومعنى {اسْتَعْمَرَكُمْ}، أي طلب منكم أن تعمروها. فبعد أن طالبهم بالتوحيد، طالبهم بعمارة الأرض.
ومن هنا جاء الإسلام يطالب المسلمين بالعمل والمشي في مناكب الأرض، ليأكلوا من رزق الله، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15].
ولا يقبل منهم أن يتقاعسوا عن ذلك بدعوى الزهد في الدنيا، فالزهد في الدنيا: أن تملكها ولا تملكك، أن تجعلها في يدك ولا تسكنها قلبك، أن تستمتع بطيباتها وتتَّجه بإرادتك إلى الآخرة، ولذلك علَّق القرآن أمر الدنيا والآخرة على الإرادة، فقال: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ} [الشورى:20].(1/20)
كما لا يقبل منهم أن يقعدوا عن السعي على المعيشة، بدعوى التوكُّل على الله، فإن التوكُّل لا يعني اطِّراح الأسباب، بل يجب مراعاة الأسباب، وترك النتائج إلى الله، كما قال عمر: لا يقعدنُّ أحدكم عن طلب الرزق، ويقول: اللهم ارزقني. وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة، أما قرأتم قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:10](1).
إن الإسلام يضفي على العمل المعيشي الدنيوي قدسية ترتفع به إلى منزلة العبادة، أو إلى مقام الجهاد في سبيل الله.
وذلك بشروط وقيود لا بد من مراعاتها:
أولا: أن يكون العمل في دائرة الحلال، بعيدا عن الحرام، بل عن الشبهات ما استطاع. وأن الحرام لا خير فيه.
ثانيا: أن يؤدِّيه بإتقان، يؤتيه حقَّه من الإجادة، فإن الله كتب الإحسان على كل شيء. وأن الله يحبُّ من العامل إذا عمل عملا أن يتقنه، تخلُّقا بأخلاق الله: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة:7].
ثالثا: ألا يلهيه عن واجبه نحو ربِّه، ونحو أهله ومجتمعه، كما وصف الله روَّاد بيوته ومساجده بقوله: {رِجَالٌ لّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:37].
رابعا: ألا يعتدي فيه على حقِّ إنسان أو مخلوق آخر. والإسلام يريد من المسلم أن يكون متوازنا في رعاية الحقوق كلِّها، حتى حقَّ الله تعالى نفسه لا ينبغي أن يطغى على الحقوق الأخرى، وإذا فعل قيل له: "إن لبدنك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، ولزُورِك (زوَّارك) عليك حقًّا"(2).
__________
(1) - إحياء علوم الدين (2/62) للغزالي، دار المعرفة ببيروت.
(2) - متفق عليه: رواه البخاري (1975)، ومسلم (1159)، كلاهما في الصوم، كما رواه أحمد في المسند (6867)، والنسائي في الصيام (2391)، عن عبد الله بن عمرو.(1/21)
الإنتاج الزراعي:
أول ما يُعنَى به التشريع من أنواع الإنتاج: الإنتاج الزراعي، أي إنتاج الأقوات والحبوب التي يأكلها الناس، ويعيشون عليها من القمح والأرز والأذرة والشعير وغيرها، ومثلها ما يكمِّلها من الخضروات والفواكه التي امتنَّ الله بها على عباده. كما قال تعالى: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنْ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ} [يس:33-35].
وقال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام:141].
وقال تعالى: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس:24-32].
وقد جاءت الأحاديث النبوية الصحيحة تحثُّ على الإنتاج الزراعي بكلِّ صنوفه، وتعِد على ذلك بأعظم الأجر عند الله.
اقرأ هذه الأحاديث:
"ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة"(1).
__________
(1) - متفق عليه: رواه البخاري في الحرث والمزارعة (2320)، ومسلم في المساقاة (1553)، كما رواه أحمد في المسند (13389)، والترمذي في الأحكام (1382)، عن أنس.(1/22)
ومما يدخل في هذا المقام: ما جاء من الحديث في (إحياء الموات) كما في قوله عليه الصلاة والسلام: "مَن أحيا أرضا ميتة فهي له"(1).
فسمَّى هذا العمل في إصلاح التربة، وتهيئتها للزرع والغرس، وسوق الماء إليها، ونحو ذلك: (إحياء)، كما سمَّى الأرض التي لم تهيَّأ للزراعة (ميتة)، وفي هذه التسمية ما فيها من الثناء على هذا العمل، كما أنه كافأه على هذا الجهد بتمليكه ثمرة عمله، ليتنافس الناس على هذا العمل الخيِّر النافع، الذي لا يثمر إلا الخير والبركة والنماء للمجتمع.
ومن الأحاديث الرائعة هنا: ما رواه أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا تقوم (أي الساعة) حتى يغرسها فليغرسها"(2). وفي ذلك إشارة إلى أن المسلم يظلُّ عاملا منتجا إلى أن تلفظ الحياة آخر أنفاسها!
الإنتاج الصناعي:
ومن المعلوم: أن الزراعة وحدها لا تحقِّق كلَّ ما يحتاج إليه البشر، لهذا كان الناس في حاجة دائما إلى الصناعات التي بها تقوى الأمم اقتصاديا وعسكريا.
وقد جاءت بعض الأحاديث تحذِّر من (الاكتفاء بالزرع) واتِّباع أذناب البقر، بحيث تقتصر الأمة على الزرع، وتَدَع الصناعة لغيرها، وفي هذا ما فيه من خطر.
__________
(1) - رواه أبو داود في الخراج والإمارة (3073)، والترمذي في الأحكام (1378)، وقال حسن غريب، والنسائي في الكبرى كتاب إحياء الموات (5729)، عن سعيد بن زيد، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2638).
(2) - رواه أحمد في المسند (12981)، وقال مخرجوه: إسناده صحيح على شرط مسلم، عن أنس.(1/23)
وحسبنا أن القرآن نوَّه بقيمة معدن (الحديد) وأهميَّته في الصناعات المدنية والحربية، وأنزل في ذلك سورة تسمَّى (سورة الحديد) وفيها قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد:25]، فقوله: {فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} إشارة إلى الصناعات الحربية، وقوله: {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} إشارة إلى الصناعات المدنية.
كما أثنى القرآن على داود عليه السلام، بإتقانه صناعة الدروع التي تلبس في الحروب، كما قال تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء:80].
وقال سبحانه: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [سبأ11،10].
وفي السنة النبوية تجد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، في سياق الحثِّ على العمل الصناعي والحرفي، ينوِّه بفضل داود عليه السلام، ويعدَّه نموذجا يحتذيه المؤمنون، فيقول: "ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده"(1)، فرغم ما آتى الله داود من الملك، وما مكَّن له في الأرض كما قال تعالى: {وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء} [البقرة:251]، لم يأكل عن طريق الملك، بل كان يأكل من عمل يده، أي من صناعة الدروع الحربية الواقية من سهام العدو ورماحه: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ11،10].
__________
(1) - رواه البخاري في البيوع (2072)، وأحمد في المسند (17181)، عن المقدام بن معد يكرب.(1/24)
ومما ينبغي التنبيه عليه هنا: ما ذكره القرآن في صناعة السدود والأسوار الحصينة، التي تحمي الأمم من غزو جيرانها أو غيرهم من الطامعين في أرضهم وخيراتها. أعني هنا: ما حكاه القرآن عن ذي القرنين في بنائه السد الحاجز بين يأجوج ومأجوج وجيرانهم والقريبيين منهم من الأقوام الذين يخافون إغارتهم عليهم، حيث يفسدون في الأرض ويهلكون الحرث والنسل: {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [الكهف:94-97]. فلم يستجب ذو القرنين لطلبهم أن يأخذ منهم خرجا ويتولَّى الدفاع عنهم، بل أشركهم في الأمر وبنى لهم السدَّ، مما عندهم من زبر الحديد، فلما أوقد عليه النار وذاب الحديد أفرغ عليه القطر وهو النحاس المذاب، ليزداد صلابة على صلابة، وقوَّة على قوَّة، ثم ردَّ الفضل إلى الله في ذلك كلِّه: {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} [الكهف:97].
ومما ذكره القرآن هنا: أن نوحا شيخ المرسلين عليه السلام، كان يجيد صناعة السفن، كما قال تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود:37]. وقال: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود:38].(1/25)
كما ذكر لنا القرآن أن إبراهيم خليل الرحمن وابنه إسماعيل كانا يتقنان صناعة البناء، وهما اللذان بنيا الكعبة البيت الحرام، كما قال تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127].
كما أن سيدنا الخضر عليه السلام، لما ذهب إلى القرية - ومعه موسى - واستطعما أهلها، فأبَوا أن يضيِّفوهما، وقد رأى فيها جدارا يريد أن ينقضَّ (أي آيلا للسقوط) فأقامه، أي رمَّمه وشيَّده، حتى قال له موسى: {لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف:77]، أي إنه عمل كعمل المحترف المتقن الذي يستحقُّ الأجر.
وقد رأينا داود يجيد صناعة الدروع الحربية، وفيه يقول القرآن: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء:80].
ومما يذكر هنا كذلك: ما قام به الجن من صناعات في خدمة سليمان عليه السلام، فكانوا {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ} [سبأ:13]، وفي سورة أخرى ذكر تسخير الشياطين له، فقال: {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ} [ص:37].
ومن الصناعات التي أشار إليها القرآن: الصناعات الغذائية، التي تعمل فيما تنتجه الأرض من حبوب وفواكه لتحويلها إلى مواد غذائية حلوة قابلة للتخزين، كما قال تعالى: {وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [النحل:67].(1/26)
ومن الصناعات التي أشار إليها القرآن: صناعة تربية النحل، وهي داخلة ضمن قوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ} [النحل،69،68].
ومن الصناعات التي أشار إليها القرآن: صناعة الصيد، سواء صيد السمك، أم صيد اللؤلؤ والمرجان، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [النحل:14].
كما أشار القرآن إلى الحلية التي تتَّخذ من المعادن كالذهب والفضة، وهي التي تستخدم فيها النار لتصفيتها وصقلها، كما قال تعالى: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ} [الرعد:17].
ومما يدخل في هذا الباب: الصيد البري، بكل أنواعه، وبكل آلاته، من السهام والرماح، ومن الصيد بالجوارح سواء كانت كلابا معلمة، أم طيورا مدربة كالصقور ونحوها، وفي هذا يقول القرآ،: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة:4].
وقد أباح الله هذا الصيد إلا في أرض الحرم، وفي حالة الإحرام، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:95]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة:94].(1/27)
وقد قرَّر المحقِّقون من علماء الأمة: كالغزالي والقرافي والشاطبي وغيرهم: أن كلَّ صناعة يحتاج إليها المسلمون، فإن تعلُّمها وإتقانها وتوافرها: فرض كفاية على ألأمة. على معنى: أن يوجد في الأمة عدد كافٍ لتلبية حاجاتها. وإلا أثمت الأمة كلُّها.
وكذلك العلوم، مثل علم الطب والتشريح والهندسة والفلك والكيمياء الفيزياء والبيولوجيا والجيولوجيا وغيرها.
وسواء كانت الأمة تحتاج إليه في المجال المدني أم في المجال العسكري، حتى تحمي دارها وأهلها من أعدائها، وحتى تكون في مأمن من خطرهم وشرِّهم.
ويربِّي الإسلام المسلم على احترام العمل، ولو كان مدخوله قليلا، أو كان الناس ينظرون إليه نظرة استهانة، أو كان شاقًّا على النفس، لكنه يعفُّ المسلم عن مدِّ يده للآخرين، وفي هذا يقول صلى الله عليه وسلم: "لأن يأخذ أحدكم حبله على ظهره فيأتي بحزمة من الحطب فيبيعها، فيكفَّ الله بها وجهه: خير له من أن يسأل الناس: أعطوه أم منعوه"(1).
التجارة:
كما حثَّ القرآن على الزراعة والصناعة ورغَّب فيهما، نراه أيضا لم يغفل التجارة، بل أشار القرآن إليها، وتحدَّث عنها في مناسبات كثيرة، منها: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} [النساء:29].
وفي آية المداينة: {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} [البقرة:282].
وفي وصف روَّاد المساجد: {رِجَالٌ لّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ } [النور:37].
__________
(1) - رواه البخاري في الزكاة (1471)، وأحمد في المسند (1407)، والنسائي (2589)، وابن ماجه (1836)، كلاهما في الزكاة، عن الزبير.(1/28)
ومدح القرآن الضرب في الأرض للتجارة، كما قال في صلاة الجمعة: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة10]، فهو يضفي على التجارة هذا الوصف الجميل (الابتغاء من فضل الله). وقد تكرَّر ذكره في القرآن، كما في سورة المزمل: {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل:20].
حتى ورد عن سيدنا عمر قوله: ما من حال يأتيني عليه الموت بعد الجهاد في سبيل الله، أحبُّ إليَّ من أن يأتيني وأنا بين شعبتي رَحْلي، ألتمس من فضل الله. ثم تلا هذه الآية: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المزمل:20](1).
وفي الحديث: "التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء"(2). والصدوق هو: المبالغ في الصدق الملتزم به، فلا يكذب ولا يغشُّ ولا يخون في بيع ولا شراء ولا وساطة.
وسئل إبراهيم النَّخَعي عن التاجر الصدوق: أهو أحبُّ إليك أم المتفرِّغ للعبادة؟ قال: التاجر الصدوق أحبُّ إليَّ؛ لأنه في جهاد، يأتيه الشيطان من طريق المكيال والميزان (أي التطفيف)، ومن قِبَل الأخذ والعطاء، فيجاهده(3).
وقد تاجر النبي صلى الله عليه وسلم، قبل البعثة في مال خديجة مضاربة، هي برأس المال وهو بالجهد والعمل.
وكان كثير من الصحابة تجَّارا، منهم أبو بكر، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وغيرهم.
__________
(1) - رواه عبد الرزاق في الجامع (11/464)، والبيهقي فس الشعب باب التوكل بالله (2/93).
(2) - رواه الترمذي (1209)، وقال حديث حسن لا تعرفه إلا من هذا الوجه، والدارمي (3539)، والحاكم (2/7)، وقال: من مراسيل الحسن، والدراقطني في السنن (3/7)، وصححه الألباني لغيره في صحيح الترغيب (1782).
(3) - إحياء علوم الدين (2/62)، طبعة دار المعرفة، بيروت.(1/29)
ولقد شرع الإسلام التجارة حتى في موسم الحجِّ، حين قال: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} [البقرة:198].
كلُّ ما يحرص عليه الإسلام هنا: ألا تُلهي التجارة عن واجب مطلوب نحو الله ورسوله وكتابه، فإذا وقع التعارض كان إيثار ما عند الله هو الواجب الذي لا شكَّ فيه، يقول تعالى في شأن الجمعة: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } [الجمعة:11].
2- تحريم الكسب الخبيث:
المهم في كسب المال: أن يكون حلالا، لا يتطرَّق إليه إثم أو شبهة. فإن الله سائل كلَّ مكلَّف يوم القيامة عن أسئلة أربعة رئيسية، منها: "عن ماله: من أين اكتسبه، وفيم أنفقه؟"(1).
وفي الصحيحين، حديث النعمان بن بشير المشهور: "إن الحلال بيِّن والحرام بيِّن، وبينهما كثير من المشتبهات لا يعلمهنَّ كثير من الناس، فمَن اتقى الشبهات، فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومَن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه"(2).
وفي صحيح البخاري: "يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ: أمن حلال أم من حرام"(3).
__________
(1) - رواه الترمذي في صفة القيامة (2417)، وقال حديث حسن صحيح، والدارمي في المقدمة (537)، وأبو يعلى في المسند (13/351)، والطبراني في الأوسط (2/348)، عن أبي برزة الأسلمي، وصححه الألباني في صحيح الجامع (7300).
(2) - متفق عليه: رواه البخاري في الإيمان (52)، ومسلم في المساقاة (1599)، كما رواه أحمد في المسند (18368)، وأبو داود في (3329)، والترمذي (1205)، والنسائي (4453)، ثلاثتهم في البيوع، وابن ماجه في الفتن (3984)، عن النعمان بن بشير.
(3) - رواه البخاري في البيوع (2059)، وأحمد في المسند (10563)، والنسائي في البيوع (4454)، عن أبي هريرة.(1/30)
ومن هنا نتبيَّن أنه كما أن من مقاصد الشريعة اكتساب المال من حِلِّه: فكذلك من مقاصدها: تحريم المكاسب الخبيثة أيًّا كان اسمها أو وصفها. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29]، {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:188].
ومن أكل أموال الناس بالباطل: الغصب، والسرقة، والقمار، وبيع المحرَّمات، والربا، والاحتكار، والغش. وخصوصا إذا قامت بذلك شركات كبرى، وتعاونت على ذلك مؤسَّسات عالمية عابرة للقارات.(1/31)
ومن أهمِّ ما يميِّز المذهب الإسلامي عن المذهب الرأسمالي: أن الإسلام يحرِّم الربا والاحتكار، وهما الساقان اللتان يقوم عليهما المذهب الرأسمالي. أما الربا فهو من الكبائر الموبقة في الإسلام، كما في الحديث المتفق عليه: "اجتنبوا السبع الموبقات - وعدَّ منها - وأكل الربا"(1)، كما آذن القرآن آكل الربا بحرب من الله ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} [278،279]، وقد حرَّم الإسلام قليله وكثيره. ولعن رسول الإسلام: آكله ومؤكله، وكاتبه وشاهديه(2). وأما الاحتكار، ففي الحديث: "لا يحتكر إلا خاطئ"(3)، والخاطئ الآثم، كما قال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص:8]، أي آثمين.
3- اكتساب المال من الحرام لا تطهره الصدقة:
__________
(1) - متفق عليه: رواه البخاري في الوصايا (2766)، ومسلم في الإيمان (89)، كما رواه أبو داود (2874)، والنسائي (3671)، كلاهما في الوصايا، عن أبي هريرة.
(2) - رواه مسلم في المساقاة (1598)، وأحمد في المسند (14263)، عن جابر.
(3) - رواه مسلم في المساقاة (1605)، وأحمد في المسند (15758)، وأبو داود في الإجارة (3447)، والترمذي في البيوع (1267)، وابن ماجه في التجارات (2154)، عن معمر بن عبد الله.(1/32)
ومن المبادئ المهمَّة التي أرساها الإسلام هنا: أن المال إذا اكتُسب من حرام، فلا يطهِّره عند الله أن يتصدَّق صاحبه بجزء منه على الفقراء والأيتام، أو على جهة من جهات الخير، بل لا يقبل منه إلا أن يخرجه كلَّه عن ملكيته، ويردَّه إلى أهله إن كانوا أحياء أو إلى ورثتهم إن كانوا موتى، أو يتنازل عنه إلى جهات البرِّ والخير، إذا لم يُعرف أصحابه.
فالمال الخبيث في مكسبه لا يُقبل صدقة عند الله تعالى، كما في الحديث الصحيح: "لا يقبل الله صدقة من غُلول"(1). والغلول: الخيانة من المال العام، مثل مال الغنائم في الجيش قبل أن توزَّع.
وفي الحديث الصحيح: "إن الله طيِّب لا يقبل إلا طيِّبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:51]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة:172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمدُّ يديه إلى السماء: يا ربِّ، يا ربِّ، ومطعمة حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذِّي بالحرام، فأنَّى يستجاب لذلك؟"(2).
فرغم طول السفر ومشقَّته، بدليل شعثه وغبرته، ولعله سفر حجٍّ أو عمرة، ورغم أنه يمدُّ يده إلى السماء مناديا يا رب، يا رب، وكلُّ هذه المظاهر من مقرِّبات الإجابة، لا يستجاب له. وأنَّى يستجاب له، وهو منغمس في الحرام مأكلا ومشربا وملبسا وغذاء؟!
__________
(1) - رواه مسلم في الطهارة (224)، والترمذي في الطهارة (1)، وابن ماجه في الطهارة (272)، عن ابن عمر.
(2) - رواه مسلم في الطهارة (1015)، والترمذي في تفسير القرآن (2989)، عن أبي هريرة.(1/33)
وعن ابن مسعود موقوفا عليه: والذي نفسي بيده، لا يكسب عبد مالا من حرام، فيتصدَّق به فيُقبل منه، أو ينفق منه فيُبارَك له فيه، أو يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار. إن الله تعالى لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث(1).
ومن ظنَّ من رجال المال والأعمال أنه يجمع الملايين من حلال وحرام، ثم يبني مسجدا للعبادة، أو مدرسة للأيتام، أو دارا لتحفيظ القرآن، أو يطبع مصحفا، أو ينشر كتابا دينيا، أو نحو ذلك، مما يعدُّه الناس في أعمال الخير، فهذا كلُّه مرفوض في نظر الشرع، لا وزن له عند الله سبحانه. فإن الإسلام يشترط طهر الوسائل، كما يشترط شرف المقاصد والغايات. ولا يقبل الوصول إلى الحقِّ بطريق الباطل. إن القاعدة المكينة هنا: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا"(2)!
4- إيجاب تنمية المال بالطرق المشروعة:
بعد اكتساب المال من حِلِّه، ينبغي أن يسعى مالكه في تنميته، حتى لا يُستهلك بمرور الزمن، بسبب أمرين لازمين:
أولهما: نفقة الشخص وعائلته، وهذا أمر دائم. والمال إذا كان يؤخذ منه باستمرار دون أن يُنمَّى: جدير بأن يُهدَّد بالفناء بطول الزمن، وإن كان المأخوذ قليلا. وهنا يقول الناس في أمثالهم: خذ من التلِّ يختلّ.
__________
(1) - رواه أحمد في المسند (3672)، وقال مخرجوه: إسناده ضعيف لضعف الصباح بن محمد، والبزار في المسند (5/392)، والبيهقي في الشعب باب قبض اليد على الأموال (4/395)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد ورجال إسناده بعضهم مستور وأكثرهم ثقات (1/213)، وضعفه الألباني في غاية المرام (19)، ولكنه صحيح عن ابن مسعود موقوفا، كما قال الدارقطني في العلل (5/271).
(2) - رواه مسلم عن أبي هريرة، وقد سبق تخريجه.(1/34)
وثانيهما: الزكاة الواجبة في المال في كلِّ حَول، فهي كفيلة أن تُنقص المال إن لم ينمِّه المسؤول عنه. ومن هنا جاءت الوصية النبوية بالاتِّجار في أموال اليتامى حتى لا تأكلها الصدقة، يعني: الزكاة، فقد روى الترمذي في سننه، عن عبد الله بن عمرو، أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال: "مَن ولي يتيما فليتَّجر له في ماله، حتى لا تأكله الصدقة"(1).
وإنما أمر ولي اليتيم بتثمير ماله، لأن الإنسان قد يتهاون في مال غيره، أما مال نفسه فبحكم غريزة الملكية وحبِّ المال، سيسعى بطبيعته في تنميته.
وقال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام:152]، أي بأحسن الطرق التي تؤدِّي إلى إصلاح المال وتنميته وتثميره في أحسن المجالات فرصة، وأقلِّها مخاطرة، وذلك بحفظ أصوله وتثمير فروعه، كما قال الإمام القرطبي(2).
والمطلوب أن يكون ذلك في نطاق المعاملات المشروعة، بعيدا عن الحرام، وإن كان يجلب الأرباح بالملايين، فالكسب الحرام لا خير فيه، ولا بركة فيه.
5- تحريم إنتاج ما يضر:
ومن مقاصد الشريعة في مجال الإنتاج: التشديد في تحريم إنتاج كل ما يضر بالناس، في دينهم، أو في أنفسهم، أو في نسلهم وذرياتهم، أو في عقولهم وأفكارهم، أو في قيمهم وأخلاقهم، أو في أي جانب من جوانب حياتهم.
__________
(1) - رواه الترمذي (641)، وقال: في إسناد الحديث مقال، لأن المثني بن الصباح يضعف في الحديث، والدارقطني في السنن (2/109)، والبيهقي في الكبرى (4/107)، ثلاثتهم في الزكاة، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وضعفه الألباني في ضعيف الترمذي (96).
(2) - انظر: تفسير القرطبي (9/111) نشر مؤسسة الرسالة، تحقيق التركي وزميليه.(1/35)
ولذا يحرِّم الإسلام إنتاج المخدرات بكلِّ أنواعها، ويحرِّم زراعة النباتات التي تؤخذ منها المخدِّرات، ويحرِّم كذلك تصنيعها وتسويقها، ويلعن في ذلك كلَّ مَن لعنهم في الخمر، بل الواقع أن الخمر ما خامر العقل، وكلُّ هذه المخدرات خمر، لأنها تخامر العقل، وتخرجه عن طبيعته المميزة الحاكمة. بل هي - كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - أشدُّ إثما من الخمر المعروفة، لأن أضرارها أشدُّ من أضرار الخمر على الفرد والأسرة والمجتمع.
ومن الإنتاج المحظور: إنتاج (التبغ) أو (الدخان) الذي يتناوله الناس بطرق شتَّى، بالتنفس، وبالمضغ، وبالسعوط(1)، وبغير ذلك من الوسائل، وقد أثبتت الدراسات العلمية، والواقع العملي أضراره الصحية، وخصوصا على الرئتين والجهاز التنفسي، وأنه من أعظم المسببات لسرطان الرئة، ومن المسببات الشهيرة لوفيات كثيرة، فضلا عن تأثيره على الصحة العامة.
هذا بالإضافة إلى أضراره النفسية والأسرية والاجتماعية والاقتصادية، بل والدينية أيضا.
ولهذا تعتبر زراعته من المحظورات، وتصنيعه من المحظورات، وترويجه من المحظورات.
ومثل ذلك: الإنتاج الحربي، الذي يهلك الحرث والنسل، ويقتل العباد ويخرب البلاد، كما في أسلحة الدمار الشامل: البيولوجية والكيماوية والنووية. وعلى المسلمين أن يقودوا حملة كبرى لتحريم هذه الأسلحة، وتدمير ما أنتج منها. وأن يتفق البشر على ذلك، وأن يتساووا فيه، ولا يجوز أن يكون ذلك حلالا لبعض الدول، حراما على غيرهم.
وقد أجزت في كتابي (فقه الجهاد)(2)للمسلمين أن يمتلكوا ما لا بد منه من هذه الأسلحة إذا كان غيرهم يملكها، ويهددهم بها، ولكن لا يستخدمونها قط إلا في حالة الضرورة القصوى، معاملة بالمثل، حين لا يجدي غيرها، دفاعا عن النفس.
__________
(1) - السَّعُوط: بالفتح اسم الدواء يصب في الأَنف. لسان العرب (7/314).
(2) - هو تحت الطبع الآن، وسيرى النور قريبا بإذن الله.(1/36)
ومثل ذلك: الإنتاج الفني، من الأعمال الدرامية والإعلامية، من مسرحيات وتمثيليات وأفلام ومسلسلات، وغيرها من البرامج المتنوعة، مما يفسد الدين، أو يضلل العقل، أو يلوث السلوك، أو يضر بالأخلاق والقيم العليا، التي توراثتها البشرية خلال العصور.
وهذا الإنتاج - وإن كان فنيا وإعلاميا - هو من وجه ما اقتصادي أيضا؛ لأنه يباع ويسوق إقليميا، وربما عالميا، وله مردود اقتصادي يقل أو يكثر، ربما يقدر بالمليارات. وحسبنا هنا إنتاج (هوليود) الأمريكي المعروف، وما وراءه من مكاسب اقتصادية يعرفها الخبراء، بجوار الغزو الفني والفكري والأدبي.
مقصدان شرعيان مهمان للإنتاج:
ومن مقاصد الشريعة في إنتاج المال: مقصدان مهمَّان:
أولهما: تحقيق الكفاية التامَّة للفرد في حياته المعيشية.
وثانيهما: تحقيق الاكتفاء الذاتي للأمة، بحيث تستطيع الاستغناء عن غيرها من الأمم، وخصوصا في فترات الأزمات والصراعات.
المقصد الأول: تحقيق تمام الكفاية للفرد:
أما مقصد تحقيق الكفاية للفرد، فنعني به الكفاية التامَّة، والمقصود أن تتحقَّق له ولمَن يعوله في أسرته: الكفاية التامَّة في المأكل والمشرب والملبس والمسكن وكلِّ ما لا بد له منه، على ما يليق بحاله، بغير إسراف ولا تقتير. كما قال الإمام النووي(1).
وكلمة (كلُّ ما لا بد له منه) كلمة مرنة قابلة لأن يدخل فيها كلُّ المطالب التي تطرأ للإنسان، وكلُّ الحاجات التي تعرض لحياته، وإن لم تكن في حياة من قبله. فإن الحاجات تتطوَّر بتطوُّر الزمان والإنسان، مثل كثير من الحاجات في عصرنا، من الأدوات الكهربائية والإلكترونية، في التبريد والتسخين، والنقل والحركة والسرعة، كالهواتف والكمبيوترات ونحو ذلك، فقد أمست حاجات أساسية للإنسان.
__________
(1) - انظر: المجموع للنووي (6/191)، والروضة (2/311).(1/37)
وكلمة (على ما يليق بحاله) تعني: أن الأفراد يختلفون من حيث مستوياتهم، فما يليق بحال الرجل في المدينة غير ما يليق بحاله في القرية أو البادية، وما يليق بحال الطبيب غير ما يليق بحال (التومرجي) وما يليق بحال أستاذ الجامعة غير ما يليق بحال الحارس أو الناطور، وما يليق بحال الرجل ذي العيال غير ما يليق بحال الرجل العزب، أو المتزوِّج غير المنجب، وما يليق بالرجل ذي الأمراض المختلفة غير ما يليق بالرجل السليم الذي عافاه الله من بلاء المرض ولا يشكو من شيء. وينبغي أن نضيف هنا إلى ما ذكره النووي أيضا: ما يليق بزمانه وبيئته، كما أشرنا إلى ذلك.
وكلمة (بلا إسراف ولا تقتير) تعني: أن المطلوب هو الحدُّ الوسط في هذه المتطلَّبات كلِّها، بلا طغيان ولا إخسار، ولا وكس ولا شطط. ومن هذه الأشياء ما يمكن تحديده باليوم، وما يمكن تحديده بالشهر، وما يمكن تحديده بالسنة.
ولكن الغذاء لا يحدِّده إلا المختصُّون في التغذية، والذين يعرفون ما حاجة الجسم من البروتينات والكربوهيدرات والأملاح والفيتامينات وغيرها، محدَّدا بمقدار يومي تقريبي.
ذلك أن للمعيشة الإنسانية - في المجال الاقتصادي - مستويات أربعة، بعضها فوق بعض.
هناك (مستوى الضرورة)، وهي الحالة التي يعيش فيها الإنسان على ما يمسك الرمق، ويُبقي عليه أصل الحياة، ويدفع عنه الهلاك أو الموت.
وهي حالات الذين يعيشون في أتون المجاعات، ونرى صورهم في التلفاز أحيانا كأنهم هياكل عظمية، أو أشباح هاربة من القبور.
وبقاء مثل هؤلاء بهذه الصورة البائسة بين البشر، نقطة سوداء في جبين الإنسانية، التي تنفق عشرات ومئات المليارات على التسليح بكلِّ أنواعه.
وهناك مستوى أحسن من هذا وهو (مستوى الكفاف)، وهو الذي يمثِّل الحدَّ الأدنى للمعيشة دون زياة ولا نقصان، فلا مجال فيه للون من السَّعة والترفُّه.(1/38)
وهناك مستوى أفضل من هذا، وهو الذي يسمِّيه الفقهاء (تمام الكفاية) للإنسان. فليس المقصود إذن مجرَّد الكفاية، بل الكفاية التامَّة بكلِّ عناصرها ومقوِّماتها، وهذا هو المستوى الذي يريده الإسلام لأبنائه، بل لكلِّ مَن يعيش في ظلِّه، مسلما أو غير مسلم. حتى قالوا في باب الزكاة: إذا كان الفقير يملك بعض الكفاية أو أكثرها، فيجب أن يُعطى من الزكاة ما يكمِّل كفايته، فلو كان يكسب سبعة أو ثمانية ولكن كفايته لا تتمُّ إلا بعشرة، يجب أن يُعطى له بقية العشرة، حتى يكون له "قوام من عيش، أو سداد من عيش"، كما ذكر الحديث الصحيح(1).
وهناك فوق ذلك: مستوى الترف، وهو مرفوض إسلاميا، فلا يتصوَّر أن تقصد الشريعة إليه.
تفصيلات في مستوى تمام الكفاية:
فالإسلام لا يرضى لأبنائه المستوى الدون من المعيشة، بل لا بد أن يكون هذا المستوى على نسبة معقولة من الارتفاع، بحيث يتوافر فيها العناصر التالية:
1. قدر من الغذاء الكافي، لإمداد الجسم بالطاقة التي تلزمه للقيام بواجبه: نحو ربه كالصلوات الخمس، وواجبه نحو نفسه وأسرته ومجتمعه، والرسول يقرر أن للبدن حقا لا بد أن يعطاه: "إن لبدنك عليك حقا"(2). وينبغي أن يكون هذا الغذاء متكاملا، بحيث يشتمل على المواد التي يتطلبها الجسم (من بروتين ونشا وسكر ودهن وأملاح وفيتامين وغيرها)، ولا عجب إذا امتن القرآن بذكر لحوم الأنعام والأسماك واللبن والعسل والفاكهة وغيرها ... ويكفي أن نقرأ سورة كسورة النحل، لنلمح فيها صورة للحياة التي يريد الله لعباده أن يتنعموا بطيباتها.
__________
(1) - رواه مسلم في الزكاة (1044)، وأحمد في المسند (20602)، وأبو داود (1640)، والنسائي (2579)، كلاهما في الزكاة، عن قبيصة بن المخارق.
(2) - متفق عليه عن عبد الله بن عمرو، وقد سبق تخريجه.(1/39)
2. قدر من الماء يكفيه للشرب والري، ويعينه على النظافة العامة التي هي من آداب الإسلام، وعلى الطهارة الخاصة التي هي من شروط صحة الصلاة، كالوضوء من الحدث، والغسل من الجنابة، فضلا عن الاغتسال الأسبوعي الذي جاءت به السنة: "غسل الجمعة واجب على كلِّ محتلم"(1)، أي بالغ، "حقٌّ على كلِّ مسلم في كلِّ سبعة أيام يوم يغسل فيه رأسه وجسده"(2).
3. لباس يحقِّق ستر العورة، والوقاية من حرِّ الصيف وبرد الشتاء، وحسن المظهر أمام الناس، كما قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26]، والريش ما يحقِّق الزينة والجمال، وقال: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل:5]، وقال: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل:81]، أي البرد.
وهذا يستلزم أن يتوافر لكلِّ فرد - كحد أدنى - ملبس مناسب للشتاء، وملبس مناسب للصيف، وهذا ما أوجبه ابن حزم لكلِّ مسلم أو ذمِّي في ظلِّ نظام الإسلام، وأجاز له أن يقاتل للحصول عليه.
وفوق هذا الحدِّ الأدنى ينبغي أن يتهيَّأ للمسلم ما يتجمَّل به في المناسبات كالجُمَع والأعياد، وذلك مطلوب من المسلم لئلا يؤذي الآخرين بلباس مهنته. وقد كان الحسن إذا ذهب إلى المسجد، تجمَّل وتطيَّب ونظر في المرآة، فلما سئل عن ذلك، قال: أتزيَّن لربي! ثم تلا: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31].
__________
(1) - متفق عليه: رواه البخاري (879)، ومسلم (846)، كلاهما في الجمعة، كما رواه أحمد (11027)، وأبو داود في الطهارة (341)، والنسائي في الجمعة (1377)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1089)، عن أبي سعيد الخدري.
(2) - متفق عليه: رواه البخاري (897)، ومسلم (849)، كلاهما في الجمعة، كما رواه أحمد في المسند (8503)، عن أبي هريرة.(1/40)
4. مسكن صحي يحقِّق:
أ. معنى السكون الذي امتنَّ الله به حين قال: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} [النحل:80].
ب. وعنصر السَّعة التي جعلها النبي صلى الله عليه وسلم من مقوِّمات السعادة الدنيوية، فقال: "ثلاث خصال من سعادة المرء المسلم في الدنيا: الجار الصالح، والمسكن الواسع، المركب الهنيء"(1).
ج. وعنصر الوقاية من أخطار الطبيعة كالمطر والشمس والعواصف ونحوها.
د. وعنصر الاستقلال، بحيث لا تتكشف عوراته للناظرين من الغادين والرائحين، هذا الاستقلال الذي تدلُّ عليه الآية الكريمة: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27].
وهذا ما نصَّ عليه ابن حزم أيضا فيما افترض توافره لكلِّ فرد بحيث قال: (ومسكن يقيهم الشمس والمطر وعيون المارة)(2).
والأصل أو الظاهر - حسبما نصَّ عليه فقهاء الإسلام - أن يكون هذا المسكن ملكا للإنسان، لا مستأجرا ... وهذا مستوى لا يزال كثير من الدول الغنية دون الوصول إليه.
__________
(1) - رواه أحمد في المسند (15372)، وقال مخرجوه: حديث صحيح لغيره وهذا حسن في الشواهد، والبخاري في الأدب المفرد كتاب الجار (116)، والبيهقي في الشعب باب إكرام الجار (7/82)، عن نافع بن عبد الحارث، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح (8/299)، وصححه الألباني لغيره في صحيح الترغيب والترهيب (2575).
(2) - المحلى لابن حزم (6/453).(1/41)
ومما يلزم لهذا المسكن الذي ينشده الإسلام: أن يكون من السَّعة ووفرة الأثاث بحيث يضمن معه تنفيذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم، بالتفريق بين الأولاد في المضاجع، إذا بلغوا عشر سنوات من عمرهم(1).
كما ينبغي أن تكون فيه حجرة للضيف يطرأ على أهل البيت من أقاربهم أو من غيرهم، وهو ما كان يسمِّيه الناس (حجرة المسافرين)، وفي هذا روى مسلم في صحيحه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "فراش للرجل، وفراش لامرأته، وفراش للضيف، والرابع للشيطان"(2).
__________
(1) - حديث: "وفرقوا بينهم في المضاجع". رواه أحمد في المسند (6756)، وقال مخرجوه: إسناده حسن، وأبو داود في الصلاة (495)، والحاكم في الصلاة (1/311)، والدارقطني في السنن كتاب الصلاة (1/230)، والبيهقي في الشعب جماع أبواب صفة الصلاة (2/228)، عن عبد الله بن عمرو، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (466).
(2) - رواه مسلم في اللباس والزينة (2084)، وأحمد في المسند (14124)، وأبو داود في اللباس (4142)، والنسائي في النكاح (3385)، عن جابر.(1/42)
5. قدر من المال يدَّخره ليتزوَّج به ويكوِّن الأسرة المسلمة، إذ لا رهبانية في الإسلام، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم من التبتُّل (أي الانقطاع عن الزواج للعبادة)، وأعلن أن الزواج من سنته ثم قال: "مَن رغب عن سنتي فليس مني"(1)، وخاطب الشباب فقال: "يا معشر الشباب، مَن استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغضُّ للبصر وأحصن للفرج"(2)، وقال: "الدنيا كلُّها متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة"(3).
وقد ذكر الفقهاء في أبواب النفقات، وفي أبواب الزكاة من كتب الفقه: أن الزواج من تمام الكفاية، وخصوصا إذا كان المرء تائقا له، ومحتاجا إليه، ويخاف على نفسه العنت(4).
6. قدر من المال يعينه على طلب العلم الواجب تعلُّمه عليه وتوفيره لأبنائه وبناته: "طلب العلم فريضة على كلِّ مسلم"(5)، ويهيِّئ لكلِّ ذي فنٍّ كُتبه التي يحتاج إليها في فنِّه.
__________
(1) - متفق عليه: رواه البخاري (5063)، ومسلم (1401)، كلاهما في النكاح، كما رواه أحمد في المسند (13534)، والنسائي في النكاح (3217)، عن أنس.
(2) - متفق عليه: رواه البخاري (5066)، ومسلم (1400)، كلاهما في النكاح، كما رواه أحمد في المسند (3592)، وأبو داود (2046)، والترمذي (1081)، والنسائي (3209)، وابن ماجه (1845)، أربعتهم في النكاح، عن ابن مسعود.
(3) - رواه مسلم في الرضاع (1467)، وأحمد في المسند (6567)، والنسائي في النكاح (3232)، وابن ماجه (1855)، عن عبد الله بن عمرو.
(4) - انظر: كتابنا (مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام) صـ89، 90.
(5) - رواه ابن ماجه في المقدمة (224)، وأبو يعلى في المسند (5/223)، والطبراني في الأوسط (1/7)، وفي الصغير (1/36)، والبيهقي في الشعب باب طلب العلم (2/253)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (183)، وكذلك في تخريج كتابنا (مشكلة الفقر: 86)، وانتهى السيوطي بطرقه إلى الصحة.(1/43)
والعلم الواجب طلبه وتعلُّمه قد يكون علما دينيا، وهو ما يصحِّح به عقيدته وعبادته، ويجعله على بيِّنة من ربه، وبصيرة من أمره، وما يضبط به سلوكه وفقا للمعايير الشرعية في الحلال والحرام.
وقد يكون علما دنيويا، يتغيَّر بتغيُّر العصر والبيئة، وهو درجات ومستويات، أدناها الحدُّ الذي تُلزم به الدول أبناءها، وأعلاها لا حدَّ له، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
7. العلاج إذا مرض، استجابة لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "يا عباد الله، تداووا؛ فإن الله لم يضع داءً إلا وضع له دواء"(1)، والأصل في مثل هذا الأمر أن يكون للوجوب، وإن كان الفقهاء قديما جعلوا التداوي من باب المباحات، وهو ما يجب أن نناقشهم فيه على ضوء معطيات عصرنا، ولا سيما إذا كان المرض يؤلم الإنسان إيلاما شديدا، مثل مغص الكُلى، ووجع الضرس، وصداع الرأس، وغيرها، وكان من الميسور إزالة هذه الآلام بالأدوية المعروفة: لا يشكُّ الفقيه أنه واجب.
كذلك التداوي من الأمراض التي عُرف بالتجربة دواؤها وعلاجها، ولا سيما في عصرنا هذا، الذي تقدَّم فيه علم الطب تقدُّما ملموسا تحقَّق به قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "ما أنزل الله داء، إلا أنزل له دواء"(2)، " لكلِّ داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء بريء بإذن الله"(3).
__________
(1) - رواه أحمد في المسند (18454)، وقال مخرجوه: إسناده صحيح رجاله ثقات رجال الشيخين غير أن صحابيه لم يخرج له سوى أصحاب السنن، وأبو داود (3855)، والترمذي (2038)، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (3436)، ، وابن حبان (13/426)، قال سفيان: ما على وجه الأرض اليوم إسناد أجود من هذا، والحاكم (4/441)، وصححه ووافقه الذهبي، خمستهم في الطب، عن أسامة بن شريك.
(2) - رواه البخاري في الطب (5678)، وابن ماجه في الطب (3439)، عن ابن مسعود.
(3) - رواه مسلم في السلام (2204)، وأحمد في المسند (14597)، والنسائي في الكبرى كتاب الطب (7514)، عن جابر.(1/44)
وقد خدم الطب تقدُّم العلوم الأخرى من التشريح ووظائف الأعضاء والأحياء (البيولوجيا) والكيمياء والفيزياء، والإلكترونيات، وغيرها.
وقد يستغنى الفرد عن المال الذي يحتاج إليه لتعليم أولاده، أو علاجهم وعلاج نفسه، إذا كان العلم والعلاج مبذولين وميسَّرين من جهة الدولة لكافَّة الناس. وهو ما ينبغي أن تحرص عليه دولة تتَّخذ الإسلام منهجا ونظاما. وهذا ما سار عليه المسلمون أيام ازدهار حضارتهم فكانت المستشفيات للجميع مجانا، وكذلك العلم في المدارس للجميع بلا أجر، هذه تقدِّم غذاء العقول، وتلك تقدم دواء الأبدان. وفي زمننا نرى الدول المتقدِّمة تؤمِّن العلاج الطبي والرعاية الصحية للجميع في كلِّ مراحل العمر من الأطفال والشباب والشيوخ من الذكور والإناث، وخصوصا رعاية الأمومة والطفولة.
8. فضل من مال يدَّخره أيضا؛ ليحج به بيت الله الحرام، ويؤدِّي به فريضة العمر، ويُحيي مع إخوانه المسلمين هذا الركن العظيم من أركان الإسلام: { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران:97].
صحيح أنه ليس فرضا على المسلم أن يطلب المال ليحقِّق به الاستطاعة التي جعلها الله شرطا لوجوب الحجِّ، ولكن المسلمين بوصفهم جماعة: فُرض عليهم أن تظلَّ هذه الشعيرة قائمة، وأن يظلَّ هذا الموسم عامرا دافقا بالمؤمنين الآتين من كلِّ فجٍّ عميق، ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله.
كما أن المسلم بمقتضى إيمانه وحنينه إلى الأرض المقدَّسة، وشوقه إلى إقامة هذه الشعيرة العظيمة، يظلُّ معلَّق القلب ببيت الله العتيق، راغبا في الطواف به مع الطائفين والقائمين والركع السجود، وساعيا في تحقيق هذه الرغبة بكلِّ ما يستطيع، فهو بهذا حاجة نفسية من الحاجات التي يسعى المسلم لإشباعها.(1/45)
وقد أدَّت هذه الأشواق والرغبات الفردية في الحجِّ في بعض البلاد الإسلامية - مثل ماليزيا - إلى إقامة مؤسسة للحجِّ تجمع من المسلمين الراغبين في أداء الفريضة، مدَّخرات سنوية وتنمِّيها لحسابهم، وقد نمت هذه المؤسسة واتَّسعت حتى غدت تملك عمارات شاهقة، وطاقات اقتصادية كبيرة، تقدَّر بالمليارات
هذا ما يجب أن يتوفَّر في ظلِّ نظام الإسلام لأوساط الناس، حتى يستطيعوا أن يؤدُّوا واجبهم ويشعروا بنعمة ربهم عليهم.
سورة النحل تعطينا صورة لما ينبغي أن تكون عليه الحياة الإسلامية:
وحسبنا أن نقرأ بعض الآيات من سورة النحل - التي سمَّاها بعض السلف (سورة النعم) - لنرى فيها صورة لما يجب أن تكون عليه حياة الإنسان في الأرض، حتى يشكر نعمة الله، ويفهم خطابه في كتابه:
قال تعالى: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل:5].
{هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:11،10].
{وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [النحل:14].
{(1/46)
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ * وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:66-69].
{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} [النحل:72].
{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل:80].
{وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ} [النحل:81].
هذه حياة الإنسان كما تصوِّرها هذه الآيات: مطاعم من لحوم الأنعام، ومن سمك البحر، ومن الزيتون والنخيل والأعناب ومن كلِّ الثمرات، ومن اللبن الخالص السائغ للشاربين، ومن المربيات وغيرها مما يتَّخذ من ثمرات النخيل والأعناب من سكر ورزق حسن، ومن عسل النحل من مصادره المتنوِّعة من الجبال والشجر ومما يعرشون، يخرج من بطونها شرابا مختلفا ألوانه فيه شفاء للناس، وغيرها مما رزق الله وامتنَّ به من الطيبات.(1/47)
وملابس تقي الحرَّ، وبالتالي تقي البرد، من صوف الأغنام ونحوها: {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ}، ودروع تقي البأس وشدة الحرب: {وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ}.
وبيوت جعلها الله سكنا لا سجنا، وزواج يجد الإنسان فيه السكينة والإنس، كما يجد فيه الذرية والنسل: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ}.
المقصد الثاني: تحقيق الاكتفاء الذاتي للأمة:
والهدف الآخر للإنتاج هو: تحقيق (الاكتفاء الذاتي) للأمة، بمعنى أنها يجب أن يكون لديها من الإمكانات والقدرات، والخبرات، والوسائل، ما يمكِّنها من الوفاء بحاجاتها المادية والمعنوية، ويسدُّ الثغرات المدنية والعسكرية، عن طريق ما يسمِّيه الفقهاء: (فروض الكفاية) وهى تشمل كلَّ علم أو عمل أو صناعة أو مهارة يقوم بها أمر الناس في دينهم أو دنياهم، فالواجب عليهم حينئذ تعلُّمها وإتقانها حتى لا يكون المسلمون عالة على غيرهم ولا يتحكَّم فيهم سواهم من الأمم الأخرى.
وبغير هذا الاستغناء والاكتفاء لن يتحقَّق لهم العزَّة التي كتب الله لهم في كتابه: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8].
وبغيره لن يتحقَّق لهم الاستقلال والسيادة الحقيقة وهو ما ذكره القرآن بقوله: {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء:141].
ولن يتحقَّق لهم مكان الأستاذية والشهادة على الأمم، وهو المذكور في قوله سبحانه {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143].
فلا عزَّة لأمة يكون سلاحها من صنع غيرها، يبيعها منه ما يشاء، متى يشاء، بالشروط التي يشاء، ويكفُّ يده عنها أنَّى شاء، وكيف شاء.(1/48)
ولا سيادة حقيقة لأمة تعتمد على خبراء أجانب عنها في أخصِّ أمورها، وأدقِّ شئونها، وأخطر أسرارها.
ولا استقلال لأمة لا تملك زراعة قوتها في أرضها، ولا تجد الدواء لمرضاها من مصانعها، ولا تقدر على النهوض بصناعه ثقيلة، إلا باستيراد الآلة والخبرة من غيرها.
ولا أستاذية لأمة، لا تستطيع أن تبلِّغ دعوتها عن طريق الكلمة المقروءة أو المسموعة، أو المصوَّرة المرئية، إلا بشرائها من أهلها القادرين عليها، ما دامت لا تصنع مطبعة، ولا محطَّة إذاعية، ولا تلفازا، ولا أقمارًا صناعية!
لهذا كان من مقصد الشريعة: أن تكون الأمة المسلمة - بمجموع شعوبها وبتكاتفها وتعاونها فيما بينه - قادرة على أن تقوم بمهمَّتها في الحياة المالية والاقتصادية، دون عوائق تحول بينها وبين تحقيق رسالتها، ومنها فقرها الشديد في بعض النواحي التي تجعلها عاجزة عن إقامة البناء والتقدم العمراني والحضاري على أساس مكين، كما تعجز أيضا عن الدفاع عن سيادتها وأرضها وحُرُماتها.
ولكي تستكمل الأمة قدراتها، وتتفادى العجز الذي يمكن أن تسقط فيه، فيشلُّ حركتها، لا بد لها من وسائل وآليات تتَّخذها، ومن ذلك:
1- ضرورة التخطيط:
لا بد من التخطيط القائم على رؤية المستقبل، واستشراف للغد، كما يقوم الأرقام الحقيقية للواقع، والمعرفة اللازمة بالحاجات المطلوبة، ومراتبها ومدى أهمّيتها، والإمكانات الموجودة، ومدى القدرة على تنميتها، والوسائل العملية الميسورة، والمعينة على تلبية الحاجات، والتطلُّع إلى الطموحات.(1/49)
وقد ذكر لنا القرآن الكريم نموذجا من التخطيط امتدَّ لخمسة عشر عاما، قام به رسول كريم من رسل الله، هو يوسف الصدِّيق عليه السلام. وبهذا التخطيط - الذي شمل الإنتاج والادِّخار والاستهلاك والتوزيع - واجه أزمة المجاعة، والسنوات العجاف، التي حلَّت بمصر، وما حولها، كما قصَّ ذلك علينا القران الكريم في سورة يوسف: {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} [47-49].
2- استخدام الإحصاء:
ومن الوسائل المهمَّة هنا: اللجوء إلى الإحصاء ولغة الأرقام التي أمست من سمات عصرنا.
ومن المعلوم لدى المسلمين: أن من أسماء الله الحسنى: اسم (المحصي) الذي أحصى كلَّ شيء عددا.
وعلماء السلوك يطلبون من المسلم أن يكون له حظٌّ من أسمائه تعالى، فيستمد القوة من اسم (القوي)، ويستمد الرحمة من اسم (الرحيم)، ويستمد العلم من اسم (العليم)، ويستمد الإحصاء من اسم (المحصي).
وإذا كان عصرنا يعتبر استخدام أسلوب الإحصاء من أبرز دلائل الطريقة العلمية في معالجة الأمور، وهو فارق مميِّز بين العلميين والعشوائيين أو الغوغائيين من الناس، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد بادر إلى الانتفاع بالإحصاء منذ عهد مبكر من إقامة دولته بالمدينة.
فقد روي مسلم، عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "احصوا لي كم يلفظ بالإسلام"(1).
__________
(1) - رواه مسلم في الإيمان (149)، وأحمد في المسند (23259)، والنسائي في الكبرى كتاب السير (8824)، وابن ماجه في الفتن (4029)، عن حذيفة.(1/50)
وفي رواية للبخاري أنه قال: "اكتبوا لي مَن تلفَّظ بالإسلام من الناس". قال حذيفة: فكتبنا له ألفا وخمسمائة رجل(1).
فهو إحصاء كتابيٌّ يُراد تدوينه وتثبيته، وذلك ليعرف عليه الصلاة والسلام مقدار القوة البشرية الضاربة التي يستطيع بها أن يواجه أعداءه المتربِّصين به، ولهذا كان الإحصاء للرجال فقط، أي القادرين على القتال.
والإحصاء الذي تمَّ في عهد مبكر من حياة الدولة المسلمة، وتمَّ بأمر من الرسول نفسه في سهولة ويسر، يرينا إلى أيِّ حدٍّ يرحِّب الإسلام باستخدام الوسائل العلمية.
وفي مقابل هذا نجد في (لعهد القديم)(2): أن أحد أنبياء بني إسرائيل أراد أن يعمل لهم إحصاء فنزلت عقوبة سماوية بهم! كأنما (الإحصاء) يمثِّل تحديًّا للقدر أو للإرادة الإلهية، وهذا ما استنبط منه الفيلسوف المعاصر الشهير (برتراند راسل) أن (التوراة) والكتاب المقدَّس لا يتيح مناخا مناسبا لإنشاء عقلية علمية(3).
3- تهيئة الطاقات البشرية وحسن توزيعها:
يجب على الأمة أن تطوِّر نظامها التعليمي والتدريبي، بحيث يهيئ لها الطاقات والكفايات البشرية المتنوِّعة في كلِّ مجال تحتاج إليه، وأن تطوِّر نظامها الإداري والمالي بحيث تنمِّى هذه الطاقات وتحسن تجنيدها، وتوزيعها على شتَّى الاختصاصات بالعدل اهتداء بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122]. وملء الثغرات التي تهمل - عادة أو غفلة - بالحوافز أو بالإلزام.
__________
(1) - متفق عليه: رواه البخاري في الجهاد والسير (3060)، والبيهقي في الكبرى كتاب قسم الفيء والغنيمة (6/363)، عن حذيفة.
(2) - انظر العهد القديم، سفر العدد، إصحاح (23).
(3) - انظر: كتابنا (الرسول والعلم) صـ 46، نشر مكتبة وهبة، الطبعة الثانية .(1/51)
ووضع كلِّ إنسان في المكان المناسب له، والحذر من إسناد الأمر لغير أهله، "إذا وسِّد الأمر الى غير أهله فانتظر الساعة"(1).
ومن ثمَّ كان حرص الإسلام على الثروة البشرية، والمحافظة عليها والعمل على تنميتها: جسميا، وعقليا، وروحيا، وعلميا ومهنيا، وكانت الموازنة بين الدين والدنيا دون طغيان أو إخسار.
4- حسن استغلال الموارد المتاحة:
حسن استغلال الموارد الاقتصادية والإمكانات المادية للأمة، بحيث لا تهدر شيئا منه، والمحافظة عليها باعتبارها أمانة يجب أن تُرعى، ونعمة يجب أن يشكر الله تعالى باستخدامها أحسن استخدام، وأمثله.
ومن أجل هذا لفت القرآن أفكارنا إلى ما سخَّر الله لنا مما في السموات والأرض، وما في البرِّ والبحر، وحمل بشدة على الذين يهدرون أجزاء من الثروة الحيوانية اتباعا لأقاويل شركية خرافية فحرَّموا ما رزقهم الله افتراء على الله، وناقشت ذلك سورة (الأنعام) مناقشة مطوَّلة مفصَّلة في جملة آيات.
__________
(1) - رواه البخاري في العلم (59)، وأحمد في المسند (8729)، عن أبي هريرة.(1/52)
يقول تعالى: {وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّؤُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَمِنَ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:142-144].
وكذلك سورة المائدة: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَائِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} [المائدة:103].
وقد رأينا كيف نبَّه الرسول الكريم على وجوب الانتفاع بأي مادة خام، وعدم إهدارها وتضييعها، وإن استهان الناس بها مثل: جلد الشاة الميتة.
بل إن النبي صلى الله عليه وسلم ليحذِّر من التفريط حتى في اللقمة تسقط من آكلها، فينبغي أن يميط عنها الأذى ويأكلها، ولا يدعها للشيطان.
كما ينبغي له أن يلعق الصحفة أو يُلِعقها، ولا يَدَع الفضلات تُلقى في سلال القمامات سرفًا واستهتارًا.
ومما يجدر التنبيه عليه هنا: توجيه النبي صلى الله عليه وسلم إلى زراعة الأرض لمَن قدر أن يزرعها بنفسه، أو بإعارتها لمسلم آخر يستطيع أن يزرعها.(1/53)
وفى هذا جاء الحديث: "مَن كانت له أرض فليزرعها بنفسه، فإن لم يستطع أن يزرعها وعجز عنها فليمنحها أخاه المسلم"(1).
وإذا تيسَّر له المزارعة عليها بجزء شائع من غلَّتها فهو حسن أيضًا، من باب التعاون بين مالك الأرض والفلاَّح المزارع، أشبه بالمضاربة التي يتعاون فيها رأس المال والجهد، كما يمكن إجارتها بمال معلوم، كما هو رأى جماعة من الفقهاء وإن كنا لا نرجِّحه(2).
وقد زارع النبي صلى الله عليها وسلم، اليهود على أرض خيبر بالشطر مما يخرج منها(3).
وقال عمر بن عبد العزيز: زارعوا على الأرض بنصفها، بثلثها، بربعها، إلى عشرها، ولا تدعوا الأرض خرابا(4).
... كما رأينا كيف أنكر الرسول صلى الله عليه وسلم، بشدَّة على مَن قتل عصفورا عبثا، وأخبر أنه سيشكو إلى الله قاتله يوم القيامة قائلاً: "يارب قتلني عبثا ولم يقتلني منفعة"(5)!
__________
(1) - رواه مسلم في البيوع (1536)، وأحمد في المسند (14242)، والنسائي في المزارعة (3874)، عن جابر.
(2) - انظر كتابنا الحلال والحرام صـ271- 276، نشر مكتبة وهبة بالقاهرة.
(3) - عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: عامل النبي صلى الله عليه وسلم، خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع. رواه البخاري في الحرث والمزارعة (2329)، ومسلم في المساقاة (1551)، كما رواه أحمد في المسند (4663)، وأبو داود في البيوع والتجارات (3408)، والترمذي في الأحكام (1383)، والنسائي في المزارعة (3929)، وابن ماجه في الرهون (2467)، عن ابن عمر.
(4) - رواه ابن حزم في المحلى (8/251).
(5) - رواه أحمد في المسند (19470)، وقال مخرجوه: إسناده ضعيف لجهالة حال صالح بن دينار، والنسائي في الضحايا (4446)، وابن حبان في الذبائح (13/214)، والطبراني في الكبير (7/317)، والبيهقي في الشعب باب في رحم الصغير (7/483)، عن الشريد بن سويد.(1/54)
ويلحق بالعصفور كلُّ المباحات التي يحصل عليها بالصيد ونحوه، من ثروة برية أو بحرية فلا يجوز العبث بها، ولا المساس بها بغير ما فيه منفعة للناس، ومثل ذلك كلُّ الثروات الحيوانية والزراعية والمعدنية.
كما أنكر النبي عليه الصلاة والسلام في حديث آخر استخدام الشيء في غير ما خلق له بالفطرة أو بالعادة، فقد جاء في الصحيح: "أن رجلا ركب بقرة فتكلَّمت فقالت: ما لهذا خلقتُ؛ إنما خلقتُ للحرث"(1).
فهل تكلَّمت بلسان الحال، وقد يكون أبلغ من لسان المقال؟ أو هو كلام حقيقي من باب الخوارق، وهو الظاهر من سياق الحديث، وما ذلك على الله بعزيز.
المهم هنا ما يشير إليه الحديث من الحثِّ على استخدام الشيء فيما خُلق له.
ويحسن بنا هنا أن نشير إلى قوله تعالى في الوصية بمال اليتيم: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام:152].
وقد تكرَّر ذلك في القرآن بهذه الصيغة نفسها، فلم يكتفِ القرآن منا أن نقرب مال اليتيم بطريقة حسنة وحسب، بل بالتي هي أحسن، فإذا كانت هناك طريقتان لتنمية مال اليتيم والمحافظة عليها: إحداهما حسنه جيدة، والأخرى أحسن منها وأجود، كان الواجب علينا أن نستخدم التي هي أحسن وأجود، بل حرام علينا ألا نستخدم إلا التي هي أحسن، كما هو مفهوم التعبير بالنهى وأسلوب القصر.
__________
(1) - رواه البخاري في الحرث والمزارعة (2324)، ومسلم في فضائل الصحابة (2388)، وأحمد في المسند (8963)، والترمذي في المناقب (3677)، والنسائي في الكبرى كتاب المناقب (8060)، عن أبي هريرة.(1/55)
ومال الأمة في مجموعه أشبه بمال اليتيم، والدولة التي ترعاه ومؤسساتها المسؤولة عنه أشبه بولي اليتيم، كما شبَّه عمر نفسه مع بيت المال بولي اليتيم: إن استغنى استعفَّ، وإن افتقر أكل بالمعروف(1). ولهذا يجب أن نحافظ على أموال الأمة وثرواتها، ونعمل على تنميتها بالتي هي أحسن.
5- تنويع الإنتاج وفق حاجات الأمة:
ومن المقاصد الشرعية المطلوبة في الإنتاج في ظلِّ اقتصاد إسلامي: أن يتنوَّع الإنتاج ويتعدَّد، وفق حاجات الأمة المتنوعة، ومطالبها المتعدِّدة: علمية وعملية، زراعية وصناعية، فنية ومهنية، مدنية وعسكرية.
فإذا كان (المنتجون) في الاقتصاد الرأسمالي الغربي، يبحثون عما يحقِّق لهم الربح أولاً، بل أعلى عائد منه ما أمكن ذلك، بغضِّ النظر عن حاجة الأمة أو عدم حاجتها. فإن (المنتج المسلم) يهمُّه - قبل كلِّ شيء - ما ينفع الناس، وما يحتاج إليه الناس، لأنه يعمل لآخرته كما يعمل لدنياه، ويسعى لإرضاء مولاه، قبل أن يُرضي هواه.
وأولى الناس برضوان الله ومثوبته: مَن وجد ثغرة في اقتصاد الأمة قد أُغفلت فعمل على سدِّها.
فمن المقرَّر لدى فقهاء المسلمين: أن كلَّ علم أو عمل، أو حِرفة أو مهارة، يحتاج إليها جماعة المسلمين، ففرض كفاية عليهم أن يتقنوها ويقوموا بها، بحيث تكتفي الأمة اكتفاء ذاتيًّا، تستغني به عن غيرها، ولا تكون عالة على سواها، ممَّن لا يدين بدينها، وقد لا يضمر لها ودًّا ولا خيرا.
وإذا لم يتنبَّه الأفراد بفطرتهم ووعيهم الذاتي إلى مثل هذه الفروض الكفائية، فواجب أولي الأمر أن يخطِّطوا لتنويع الإنتاج وتوجيهه، حتى يُلبِّي كلَّ حاجات المجتمع المسلم ومطالبه المادية والمعنوية.
__________
(1) - رواه ابن أبي شيبة في السير (33585)، والبيهقي في الكبرى كتاب البيوع (6/4)، عن عمر.(1/56)
ولقد نبَّه القرآن الكريم على ضرورة التخصُّص، وذلك حين نَفَرَ الناس إلى الجهاد متحمِّسين، وغفلوا عن طلب العلم والتفقُّه في الدين. فقال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122].
وكما لا يجوز ترك التفقُّه في الدين والانشغال بالجهاد، كذلك لا يجوز ترك العلوم والصناعات الأخرى الضرورية لحياة الناس انشغالا بالفقه، وهذا ما عاب به الإمام الغزالي أهل عصره، حيث يوجد في البلد الواحد عشرات المشتغلين بالفقه، ولا يوجد فيها إلا طبيب من أهل الذمَّة(1)!
ولقد أنزل الله في كتابه سورة سمِّيت (سورة الحديد) ذكر الله فيها آية دلَّت على أهمية هذا المعدن في حياة الناس الدينية والدنيوية، وأشارت إلى منافعه المدنية والحربية، وذلك في قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد:25]. ففي قوله تعالى: {بَأْسٌ شَدِيدٌ}، إشارة إلى أهمية الحديد للصناعة الحربية، وفى قوله تعالى: {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}، إشارة إلى أهميته في الصناعة المدنية، وإن كان الذي يؤسف له: أن أمة سورة الحديد لم تتقن صناعة الحديد لا في المجال الحربي، ولا في المجال المدني. ومن واجب المسلمين أن ينفِّذوا أمر الله تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } [الأنفال:60].
__________
(1) - إحياء علوم الدين للغزالي (1/16)، دار المعرفة، بيروت.(1/57)
وخيل عصرنا تتمثَّل في الدبابات والمدرَّعات وغيرها، ولا يمكن تنفيذ الآية الكريمة وما في معناها من النصوص إلا بإنتاج صناعي متقدِّم، وهو يحتاج إلى علوم تهيِّئ له، وتكنولوجيا تخدمه، فلا بد من توافرها جميعا، وتيسير أسبابها، وما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجب.
ولقد حثَّت الأحاديث النبوية الشريفة على الزراعة، ورغَّبت فيها بأبلغ أساليب الترغيب، وحثَّت كذلك على الصناعة، ورغبت فيها بأبلغ أساليب الترغيب، وحثَّت على التجارة، حثها على الزراعة والصناعة، وما ذلك إلا ليكتمل الإنتاج في كلِّ هذه النواحي، ولا تترك ناحية يظهر فيها ضعف الأمة وافتقارها إلى غيرها، فيُتحكم فيها من خلالها، ويُمسك بتلابيبها.
وانظر إلى هذا الحديث الذي رواه ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا تبايعتم بالعينة(1)، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم بالجهاد، سلَّط الله عليكم ذلاًّ لا ينزعه حتى ترجعوا الى دينكم"(2).
__________
(1) - العينة: أن يبيع السلعة بثمن معلوم لأجل، ثم يشتريها منه في الحال بأقل منه، تحايلاً على أكل الربا، فهو بيع صوري، السلعة فيه غير مقصودة، وإنما هي وسيلة للتحايل فقط .
(2) - رواه أحمد في المسند (5007)، وقال محققوه: إسناده ضعيف، وأبو داود في الإجارة (3462)، والبيهقي في الكبرى كتاب البيوع (5/316)، عن ابن عمر، وصححه الألباني في صحيح الجامع (423)، والحديث قواه ابن القيم في (تهذيب سنن أبي داود)، ورمز السيوطي لحسنه في (الجامع الصغير) وتعقبه المناوي، وانظر: كلامنا عليه في كتابنا (بيع المرابحة للآمر بالشراء).(1/58)
والعينة: معاملة صورتها بيع، وحقيقتها ربا. وأخذ أذناب البقر، رمز إلى الاستكانة، وإخلاد كلِّ امرئ إلى شؤونه الخاصة، وأخذ كلِّ واحد بذَنَب بقرته، والاكتفاء بالزراعة، وإهمال الصناعة، وخصوصا الحربية، وهذا نقص في الكفاية الإنتاجية للأمة يعرِّضها للخطر، ولا سيما إذا أضيف إلا ذلك ترك الجهاد في سبيل الله.
ولقد رأينا المسلمين في عصور الالتزام والازدهار - في مجال الإنتاج - يحرصون على الأعمال النافعة، ويمتنعون عن تربية الخنازير، وصناعة الخمور، وصناعة الأصنام والتماثيل، وغير ذلك من الأشياء التي حرَّمها الإسلام، على الرغم مما قد يكون وراءها من مكاسب مُغرية.
ورأيناهم يتقرَّبون إلى الله بالزراعة والغرس، والصناعات والحِرف المختلفة، حتى إن كثيرا من كبار العلماء في شتَّى التخصُّصات والعلوم الإسلامية، ليُنسبون إلى حِرفهم وصناعتهم، ولهذا عرَف التاريخ والطبقات والتراجم عندنا أمثال: الخصَّاف، والجصاص، والقفَّال، والخرَّاز، والبزَّار، والخياط، والصبَّاغ، والنجَّار، والحدَّاد والزيَّات ... وغيرهم.
وكان العلماء الربَّانيون يوصون مريديهم ومَن استنصحهم أن يشتغل أحدهم بصناعة مهمَّة، ليكون في قيامه بها كافيا عن المسلمين أمرا مهمًّا في الدين(1).
أي الحرف والأعمال أفضل من غيره:
ومن بدائع ما ذكروا: اختلافهم: أىُّ الحَّرف والأعمال أفضل وأكثر تحصيلا للثواب من الله تعالى: الزراعة، أم الصناعة، أم التجارة؟ ففى فضل كلٍّ منها وردت نصوص، وأحاديث، وآثار:
فبعضهم قال أفضلها: الزرع والغرس؛ لما ورد في فضلهما من أحاديث، حتى إن الزارع والغارس ليؤجر على ما يؤكل من ثمره وجناه - ولو لم يقصده - حتى ما يأكله الطير والحيوان، ويظلُّ أجره ممتدٌّ ما انتفع به منتفع من خلق الله - من إنسان أو حيوان - إلى يوم القيامة.
__________
(1) - انظر: احياء علوم الدين (2/83).(1/59)
وبعضهم قال: بل الصناعة أفضل؛ لما ورد من حديث: "ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده"(1).
وحديث: "خير الكسب كسب يد العامل إذا نصح"(2).
وبعضهم قال: بل التجارة أفضل؛ لما ورد أن: "التاجر الصدوق يحشر مع النبيين والصديقين والشهداء"(3)، ولأن الخيرة من كبار الصحابة رضي الله عنهم كانوا تجَّارا: مثل أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعبد الرحمن بن عوف ... وغيرهم.
والذي رجَّحه المحقِّقون هو التفصيل في الجواب دون التعميم والإطلاق، ومن هنا قالوا: إن الأفضل منها ما اشتدَّت حاجة الناس إليه، وانشغل الناس عنه، فإذا انصرف الناس عن الزراعة إلى الصناعة أو التجارة، لكثرة مكاسبهم بها، مع مسيس حاجتهم إلى الأقوات والثمار، كانت الزراعة أفضل وأعظم مثوبة عند الله.
وإذا انصرف الناس عن الصناعات والحرف، وأصبحوا فيها عالة على غيرهم من غير المسلمين، كان العمل في هذا الميدان أولى وأعظم أجرا.
وإذا احتاج الناس إلى التجارة، لانقطاع الطرق، أو لوجود مخاطر شديدة، أو لقلَّة المكاسب بها، أو لغلبة بعض الأفراد أو الفئات على الأسواق، أو تلاعبهم بالأسعار، أو احتكارهم للسلع والأقوات، وحاجة الناس إلى تجَّار صالحين غير جشعين ولا مستغلِّين، تكون التجارة هنا أفصل، وأعظم أجرا.
6- لزوم التنسيق بين فروع الإنتاج:
__________
(1) - رواه البخاري عن المقدام، وقد سبق تخريجه.
(2) - رواه أحمد في المسند (8412)، وقال مخرجوه: إسناده حسن رجاله ثقات رجال الشيخين، والبيهقي في الشعب باب التوكل (2/87)، عن أبي هريرة، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد ورجاله ثقات (4/102).
(3) - رواه الترمذي في البيوع (1209) عن أبي سعيد الخدري، وحسّنه، والدارقطني في السنن كتاب البيوع (3/7)، وصححه الأباني لغيره في صحيح الترغيب (1782).(1/60)
ومن اللازم هنا - لكي تكتفي الأمة اكتفاء ذاتيا - أن يتمَّ التنسيق بين جوانب الإنتاج المختلفة، فلا يطغي فرع على فرع، ولا يهمل جانب لحساب جانب آخر، فلا يحسن أن توجَّه العناية إلى الزراعة مثلاً، في حين يُهمل أمر الصناعة، أو العكس، أو يوجَّه التعليم لتخريج أطباء، وينسى المهندسون، أو العكس، أو يهتمَّ بالهندسة المدنية أو الميكانيكية، وتغفل الهندسة الإلكترونية أو النووية، أو يعنى بالجوانب النظرية، أو الكفاءات العقلية العالية، وتغفل الجوانب العملية، والمهارات اليدوية، والخبرات المتوسطة أو الدنيا ... وهكذا.
لهذا أكَّدنا ضرورة التخطيط القائم على الدراسة والإحصاء لمعرفة حاجات المجتمع من كلِّ تخصُّص للعمل على تلبيتها، والتعرُّف على أوجه النقص لاستكمالها.
ويجب في ميدان الإنتاج تقديم الأهمِّ على المهمِّ، والمهمِّ على غير المهمِّ. أو -على حدِّ تعبير الأصوليين - تقديم (الضروريات) التي لا تقوم الحياة إلا بها على (الحاجيات) التي تكون الحياة بدونها شاقَّة وعسيرة، وتقديم (الحاجيات) على (التحسينات) أو ما نسمِّيه بلغة العصر (الكماليات).
فلا يجوز لمجتمع أن يزرع الفواكه الغالية الثمن التي لا تهمُّ غير الأثرياء والمترفين، في حين يهمل زراعه القمح أو الأذرة أو الأرز، التي هي القوت اليومي للجماهير.
ولا يجوز إقامة مساكن اصطياف للأثرياء على الشواطئ، وترك بناء المساكن الضرورية للفقراء.
ولا يجوز الاهتمام بصناعة العطور وأدوات الزينة (والمكياج)، في حين لا تتَّجه الهمَّة إلى صناعة أدوات الزراعة أو الري أو السيارات أو صناعة الدواء الضروري للصحة، أو السلاح الضروري للدفاع عن الحوزة.
(4)
مقاصد الشريعة فيما يتعلق باستهلاك المال
من مقاصد الشريعة هنا عدَّة أمور:
1. إباحة الطيبات وتوفيرها للناس، والإنكار على مَن حرمها.
2. الاعتدال في الإنفاق وترشيد الاستهلاك (تحريم الإسراف والتبذير، كتحريم البخل والتقتير).(1/61)
3. تحريم الترف والحملة على المترفين.
1- إباحة الطيبات والإنكار على من حرمها:
من مقاصد الشريعة في مجال الاستهلاك: إباحة الطيبات التي خلقها الله لعباده، فما كان الله ليخلقها لهم ثم يحرِّمها عليهم. قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة:29]، {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان:20]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا} [البقرة:168]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلَّهِ} [البقرة:172]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة:87].
ويقول: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:31، 32]، {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة:4].
فنجد آيات القرآن الكريم هنا تقرِّر عدَّة مبادئ:
أ. إباحة الطيبات للناس عامَّة، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا}، وللمؤمنين خاصَّة.
ب. الإنكار بشدَّة على الذين يحرِّمونها باسم الدين: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}، {لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ}.
ج. طلب الشكر على نعمة الطيبات: {وَاشْكُرُواْ لِلَّهِ}.(1/62)
د. عدم الإسراف في استخدام الطيبات: {كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا}.
ه. النهي عن الإفساد والاعتداء على حقوق الآخرين: {وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}، {كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [البقرة:60].
وهذه الطيبات تتناول كلَّ أنواع الطيبات:
أ. طيبات المأكل والمشرب: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ} [الكهف:19]، وفي قصة سبأ: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُواْ لَهُ} [سبأ:15].
ب. طيبات الملبس والزينة: {قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا} [الأعراف:26]، {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31].
ج. طيبات المسكن: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} [النحل:80].
د. طيبات المركب: كما قال تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل:8]، {وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} [الزخرف:12-14].
ه. طيبات الحياة الزوجية والأسرة: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً} [النحل:72].(1/63)
و. طيبات اللهو المباح، مما يرفِّه الحياة، وخصوصا في مناسبات الأعراس والأعياد ونحوها، كما في الحديث: "لتعلم يهود أن في ديننا فسحة، وأني بُعثت بحنيفية سمحة"(1).
2- ترشيد استهلاك المال وإنفاقه:
الاعتدال في الإنفاق وترشيد الاستهلاك، وتحريم الإسراف والتقتير، كتحريم البخل والتقتير. وبداية ذلك: أن يقدِّر نعمة الله حقَّ قدرها، فلا يستهين بها وإن صغُرت.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا سقطت اللقمة من أحدكم فليمِط عنها الأذى، وليأكلها، ولا يَدَعها للشيطان"(2).
ومن ذلك: الأحاديث التي تحثُّ على لعق الصحفة: "فليلعقها أو يلعقها"(3). ومعنى هذا: أن يغرف لنفسه ما يكفيه، ولا يكثر في وعائه، ثم يأكل ثلثه أو نصفه، ويرمي بالباقي.
وقال تعالى في وصف عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان:67]، وقال سبحانه في وصايا الحكمة من سورة الإسراء: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} [الإسراء:29].
__________
(1) - رواه أحمد في المسند (24855)، حديث قوي وهذا سند حسن، عن عائشة.
(2) - رواه مسلم في الأشربة (2033)، وأحمد في المسند (14552)، والنسائي في الكبرى كتاب الوليمة (6746)، عن جابر.
(3) - متفق عليه: رواه البخاري في الأطعمة (5456)، ومسلم في الأشربة (2031)، كما رواه أحمد في المسند (1924)، وأبو داود في الأطعمة (3847)، والنسائي في الكبرى كتاب الوليمة (6744)، وابن ماجه في الأطعمة (3269)، عن ابن عباس.(1/64)
عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كلوا واشربوا وتصدَّقوا في غير سرف ولا مخيلة، إن الله تعالى يحبُّ أن يرى أثر نعمته على عبده"(1).
يحرص التوجيه الإسلامي في الاستهلاك - وقد يعبَّر عنه بالإنفاق(2)- أن يكون في دائرة الاعتدال والتوسُّط، بحيث لا يزيد إلى درجة الإسراف أو التبذير، كما لا ينقص إلى درجة البخل والتقتير، وهو أمر مطلوب من الفرد، كما هو مطلوب من الأسرة، كما هو مطلوب من المجتمع والدولة.
وهو كذلك يختلف باختلاف القدرات والإمكانات المالية والاقتصادية للفرد والأسرة والجماعة والدولة. فما قد يكون إسرافا في البلاد الفقيرة والتي تعاني من أجل توفير الضروريات، قد يُعَد لونا من التقتير والتضييق في بلاد الوفرة والغنى.
فلا بد من مراعاة قدرة المستهلك وإمكاناته، والحكم له أو عليه وفقا لها، كما قال تعالى في شأن الأزواج مع زوجاتهم: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق:7].
__________
(1) - رواه الطيالسي في المسند (1/299)، والحاكم في الأطعمة (4/150)، وصحح إسناده ووافقه الذهبي، والبيهقي في الشعب باب الاقتصاد في النفقة (5/256).
(2) - الإنفاق قد يكون من باب الاستهلاك إذا كان على النفس والأهل ومَن يعوله المرء، وقد يكون من باب (التوزيع) إذا كان إنفاق في سُبل الخير، وعلى الفقراء والمساكين، ونحو ذلك، ومنه إيتاء الزكاة والصدقات.(1/65)
المهم أن يكون هذا الدستور نصب عيني المستهلك، حتى لا يطغى في الميزان، ولا يخسر في الميزان، وهو قول الله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا } [الإسراء:29]، وقوله تعالى في وصف عباد الرحمن الذين رضي عنهم وجعل جزاءهم الجنة يلقَّون فيها تحية وسلاما: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان:67]، وقوله سبحانه: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء:27،26]، وإنما كان الشيطان كفورا لربه، لأنه استخدم نعمته وما آتاه من قدرات في نشر الشرِّ والفساد، وإضلال الخلق عن الحقِّ، وكذلك المبذِّر استعمل نعمة الله في المال فيما لا يُرضي الله. وفرَّق العلماء بين الإسراف والتبذير بأن الإسراف تجاوز في الكمية، وهو جهل بمقادير الحقوق، والتبذير تجاوز في موقع الحقِّ، وهو جهل بالكيفية وبمواقعها، وكلاهما مذموم(1).
ويدخل في التبذير كلُّ إنفاق في المحرَّمات، ولو كان درهما واحدا. نقل القرطبي عن الشافعي رضي الله عنه قوله: التبذير: إنفاق المال في غير حقِّه، ولا تبذير في عمل الخير(2).
__________
(1) - انظر: حاشية الشهاب على تفسير البيضاوي (6/26)، نشر المكتبة الإسلامية – محمد أزدمير، ديار بكر، تركيا.
(2) - تفسير القرطبي (3/64)، طبعة مؤسسة الرسالة، بيروت.(1/66)
ومن هنا لما أباح الله الطيبات، قيد الاستمتاع بها بقوله: {كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف:31]، وفي هذا جاءت أحاديث توجه وتنبه إلى رعاية الاعتدال في المأكل والمشرب والملبس وغيرها. مثل قوله عليه الصلاة والسلام: "ما ملأ ابن آدم وعاء شرًّا من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فاعلا، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه"(1).
وقال: "المؤمن يأكل في معى واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء"(2).
وفي استهلاك الماء، مر عليه الصلاة والسلام برجل يتوضا فقال: "لا تسرف، لا تسرف"(3).
كما مر بسعد بن أبي وقاص، وهو يتوضأ، فنهاه عن الإسراف، فقال: أو في الماء سرف، يا رسول الله؟ قال: "نعم، وإن كنت على نهر جار"(4).
والعالم كله اليوم يحذر أشد التحذير من خطر المبالغة في استهلاك الماء، لقلة المياه العذبة في العالم، حتى قالوا: إن الحروب القادمة ستكون من أجل المياه.
__________
(1) - رواه أحمد في المسند (17186)، وقال مخرجوه: رجاله ثقات غير أن يحيى بن جابر الطائي تكلموا في سماعه من المقدام، فإن صح سماعه منه فالحديث صحيح، وإلا فمنقطع، والترمذي في الزهد (2380)، وقال: حسن صحيح، والنسائي في الكبرى كتاب الوليمة (6738)، وابن ماجه في الأطعمة (3349)،
(2) - متفق عليه: رواه البخاري في الأطعمة (5393)، ومسلم في الأشربة (2060)، كما رواه أحمد في المسند (4718)، والترمذي في الأطعمة (1818)، والنسائي في الكبرى كتاب الوليمة (6740)، وابن ماجه في الأطعمة (3257)، عن ابن عمر.
(3) - رواه ابن ماجه في الطهارة (424)، عن ابن عمر، وقال الألباني في ضعيف ابن ماجه: موضوع (95).
(4) - رواه أحمد في المسند (7065)، وقال مخرجوه: إسناده ضعيف، وابن ماجه في الطهارة (425)، والبيهقي في الشعب باب الطهارات (3/30)، عن ابن عمر، وضعفه الأباني في ضعيف ابن ماجه (96).(1/67)
والناس يتساهلون في استهلاك المياه، ويدعون الصنابير (الحنفيات) مفتوحة، بغير حساب.
ومن الناس من يغلون في ملابسهم وأدوات زينتهم، ولا سيما النساء - فيشترون أضعاف ما يحتاجون إليه - وهو ما أنكره عمر على بعض الصحابة حين قال: أكلما اشتهيتم اشتريتم؟!
وفي الحديث النبوي: "كل واشرب والبس، في غير إسراف ولا مخيلة"(1). فوضع الحديث هنا على الإنفاق في الأكل والشرب واللبس قيدين: قيدا ماديًّا، وهو الإسراف، أي التجاوز في الحدِّ والكمِّ. وقيدا معنويا، وهو المخيلة، أي الاختيال والفخر والزهو، وهو من آفات الأنفس، وأمراض القلوب.
وكما أن الفرد مطلوب منه أن يقتصد في نفقته واستهلاكه، فالدولة كذلك مطلوب منها: أن تقتصد في نفقاتها، ولا تسرف في الصرف على المظاهر والشكليات، فإنه يكون على حساب ضروريات وحاجيات أولى منها بالإنفاق، ولهذا قال مَن قال من الحكماء: ما رأيت إسرافا إلا وبجانبه حقٌّ مضيَّع!
ومن المطلوب لزوما: أن تهتمَّ الدول بحاجات الجماهير، ومطالبهم اليومية، وضرورياتهم المعيشية، مثل القوت والخبز والملابس والدواء، بحيث يجدها الناس بسهولة، وبأثمان في مقدورهم أن يدفعوها، ولا يمكثون في طوابير بالساعات، حتى يحصلوا على رغيف الخبز، فإذا حصلوا عليه وجدوه لا يكاد يصلح للاستخدام الآدمي.
في حين نرى الحكومة تنفق على أشياء كمالية وتحسينية يمكن الاستغناء عنها، وقد لا يستفيد منها إلا فئات قليلة ممن يسمونهم (عِلية القوم)!!
وأهمُّ ما يلزم الدولة من الاعتدال في النفقات: أيام الأزمات والشدائد، مثل القحط والمجاعة والكوارث والحروب وغيرها، فهنا يجب أن يشترك أبناء الأمة الواحدة في تحمُّل المسؤولية، وأن يدفع الجميع الثمن من المشاركة فيما تعانيه طبقات الشعب كلِّه. ولا يجوز لفئة من الشعب أن تستغلَّ أزمة الأمة، لتغنم منها مكسبا لنفسها، فتتاجر بجوعها وعرقها ودمها.
__________
(1) - سبق تخريجه بلفظ: "كلوا واشربوا وتصدقوا".(1/68)
ولقد ضرب لنا القرآن مثلا مما يمكن أن تفعله الأمم أيام الأزمات، في قصة يوسف، وما أصاب مصر في سنوات القحط والجفاف، وكيف قلل الاستهلاك في سنوات الخصوبة، ليدَّخر منها ما يسعف الناس في سنوات القحط: {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} [47-49].
3- تحريم الترف والحملة على المترفين:
ومن مقاصد الشريعة في الاستهلاك: تحريم الترف، والحملة على حياة المترفين، الذين إذا كثروا وانتشروا في أية أمة من الأمم كانوا سبب هلاكها ودمارها.
والترف: أمر أعمق من السرف. السرف: تجاوز الكمِّ في الاستمتاع بالطيبات الحلال، ولكن الترف في غالبه تجاوز (للكيف) في الاستمتاع، فهو إغراق وتوسُّع في الترفُّه والنعومة، وهو غالبا ملازم للسرف، بحيث نستطيع أن نقول: كلُّ ترف سرف، وليس كلُّ سرف ترفا، لأن الترف سرف وزيادة، وذلك أن فيه بجوار الجانب المادي جانبا نفسيا، هو البطر والغرور بالدنيا والاستغراق في متاعها الأدنى.
وكم رأينا من أناس يسرفون كلَّ الإسراف في الإنفاق على بعض ما يشتهونه مثل: التدخين أو المخدرات ونحوها مما اعتادوا عليه وأدمنوه، ومع هذا نري حياتهم خشنة، لا أثر فيها لنعومة أو ترف.
ومن هنا كانت حملة القرآن على المترفين، الذين اعتبرهم من أهل النار: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ لّا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} [الواقعة:41-45].(1/69)
ولأنهم مستغرقون في متاع الدنيا، لم يستجيبوا لدعوة الدين، الذي يريد أن يصلهم بالحياة الآخرة، بما فيها من ثواب وعقاب، وأن يعرِّفهم بالله الذي أسبغ عليهم فضله، ووسَّع لهم في نعمه، فوقفوا في وجه دعوة الرسل، وقاوموهم وكذَّبوهم وعصوهم، وهذا ما سجَّله القرآن حين قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ } [سبأ:34].
آثار الترف في حياة الفرد والمجتمع:
إن الترف مفسد للفرد؛ لأنه يشغله بشهوات بطنه وفرجه، ويلهيه عن معالي الأمور ومكارم الأخلاق، ولأنه يقتل فيه روح الجهاد والجد والخشونة، ويجعله عبدًا لحياة الدَّعة والرفاهية. وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة، وعبد الخميصة"(1).
والترف مفسد للجماعة منذر بانهيارها، ولهذا قرنه القرآن الكريم بالظلم والإجرام {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ} [هود: 116].
وسرُّ ذلك أن الأقلية المترفة إنما تسرق بترفها حقوق الأكثرية المحرومة ظلما، وتسمن على حساب هزالها إجراما، قال تعالى: {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ} [هود:116].
ومن هنا كان الترف في نظر القرآن من أظهر أسباب الانحلال الاجتماعي والتدمير المعنوي للأمة، ولا سيما إذا كثر المترفون أو أصبحوا أصحاب السلطة.
__________
(1) - رواه البخاري في الجهاد والسير (6887)، والترمذي في الزهد (2375) مختصرا، وابن ماجه في الزهد (4135)، عن أبي هريرة.(1/70)
قال تعالى مقرِّرا هذه السنة الاجتماعية: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء:111].
في الآية قراءتان {أَمَّرْنَا مُتْرَفِيهَا}، بتشديد الميم، أي جعلناهم أمراء وحكامًا فطغوا في البلاد، وأكثروا فيها الفساد، فصبَّ عليهم ربك سوط عذاب. كقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام:123]، وفي الحديث: "إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة"(1).
وأما قراءة التخفيف المشهورة، فمعناها: أمرناهم بالعدل والطاعة، ففسقوا عن أمر الله، وفعلوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، فاستحقوا عقوبة الله تعالى.
وعن ابن عباس وغيره: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا}: أكثرنا عددهم. واسشهدوا له بحديث: "خير المال مهرة مأمورة"(2)، أي كثيرة النسل.
وكلُّ هذه المعاني صحيحة، ولا مانع أن تكون كلُّها مرادة من الآية.
كما حدَّثنا القرآن أن الترف كان هو المسؤول الأول عما أصاب كثيرا من الأمم التي غرقت في التنعُّم والترف فنزل بها عقاب الله وبلاؤه، وحُرِمت من النصر، وحقَّت عليها كلمة العذاب، كما قال تعالى: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِم بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} [المؤمنون:64]، {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ } [الأنبياء:11].
__________
(1) - رواه البخاري عن أبي هريرة، وقد سبق تخريجه.
(2) - رواه أحمد (15845) وقال مخرجوه: إسناده ضعيف، والبيهقي في الكبرى كتاب الأيمان (10/46) والطبراني في الكبير (7/91)، عن سويد بن هبيرة.(1/71)
والترف معلوم للناس بالفطرة والعرف، وهو يختلف باختلاف ثروة كلِّ أمة ودخل الفرد العادي فيها، ومدى مواريثها في المدنيَّة والرفاهية.
قال الإمام الرازي: المترف المتنعِّم الذي أبطره النعمة وسَعة العيش.
فجعل الترف مكوَّنا من جانب مادي وهو التنعُّم، وجانب معنوي وهو البَطَر.
ومع هذا حرَّم الإسلام بعض أشياء محدَّدة، تُعَد أمثلة بارزة للترف، ومن ذلك:
1- أوانى الذهب والفضة، فقد روى الشيخان، عن أم سلمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم"(1).
وفى رواية لمسلم: "من شرب في إناء من ذهب أو فضة فإنما يجرجر في بطنه ناراً من جهنم"(2). والجرجرة: صوت الماء.
وعن حذيفة رضي الله عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن الحرير والديباج، والشرب في آنية الذهب والفضة، وقال: "هنَّ لهم في الدنيا، وهى لكم في الآخرة"(3).
__________
(1) - متفق عليه: رواه البخاري في الأشربة (5634)، ومسلم في اللباس والزينة (2065)، كما رواه أحمد في المسند (26582)، والنسائي في الكبرى كتاب الوليمة (6843)، وابن ماجه في الأشربة (3413)، عن أم سلمة.
(2) - رواه مسلم في اللباس والزينة (2065)، والنسائي في الكبرى كتاب الوليمة (6848)، والطبراني في الكبير (23/358)، والبيهقي في الكبرى كتاب الزكاة (4/146)، عن أم سلمة .
(3) - متفق عليه: رواه البخاري في الأطعمة (5426)، ومسلم في اللباس والزينة (2067)، كما رواه أحمد في المسند (23269)، وأبو داود (3723)، والترمذي (1878)، كلاهما في الأشربة، والنسائي في الزينة (5301)، وابن ماجه في الأشربة (3414)، عن حذيفة.(1/72)
وفى رواية عنه: سمعتُ رسول الله صلى الله وسلم: "لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها"(1). والديباج: نوع من الثياب سُداه ولُحمته من الحرير.
ومثل ذلك: أن تتَّخذ هذه الأواني زينة وتحفة، لا للاستعمال في الأكل والشرب.
وأشدُّ من ذلك في الحرمة: التماثيل الفضية أو الذهبية؛ لأن الإثم فيها مزدوج، لحرمة التماثيل نفسها أولاً، ثم لحرمة اتِّخاذها من الذهب والفضة ثانيا.
2- مفارش الديباج والحرير الخالص، فعن حذيفة قال: نهانا النبي صلى الله عليه وسلم، أن نشرب في آنية الذهب والفضة، وأن نأكل فيها، وعن لبس الحرير والديباج، وأن نجلس عليه(2).
وعن صفون بن عبد الله بن صفوان قال: استأذن سعد رضي الله عنه، على ابن عامر، وتحته مرافق(3)من حرير. فأمر بها فرُفعت، فدخل عليه، وهو على مطرف من خزٍّ، فقال له: استأذنتَ وتحتي مرافق من حرير، فأمرتُ بها فرُفعت. فقال له: نعم الرجل أنت، يا ابن عامر، إن لم تكن ممَّن قال الله فيهم: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا} [الأحقاف:20]، والله لأن أضطجع على جمر الغضا أحبُّ إلىَّ من أن أضطجع عليها(4).
__________
(1) - رواه البخاري في الأطعمة (5426)، والنسائي في الكبرى كتاب الوليمة (6597)، عن حذيفة.
(2) - رواه البخاري في اللباس (5837)، والدارقطني في السنن كتاب الأشربة (4/293)، والبيهقي في الشعب باب الملابس (5/135)، والبيهقي في الكبرى كتاب الطهارة (1/28)، عن حذيفة .
(3) - والمرافق: جمع مِرفقة، وهى المخدة شىء يتكأ عليه، شبيه بالمخدة.
(4) - رواه ابن أبي شيبة في العقيقة (25129)، والحاكم في التفسير (2/494)، وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، والبيهقي في الكبرى كتاب صلاة الخوف (3/267)، عن سعد بن أبي وقاص، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (2055).(1/73)
3 - حُلي الذهب وملابس الحرير بالنسبة للرجال، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأنها: "إن هذين حرام على ذكور أمتى"(1).
وقال: "لا تلبسوا الحرير، فإن مَن لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة"(2).
ورأى خاتما من ذهب في يد رجل، فنزعه وطرحه، وقال: "يعمد أحدكم إلى جمرة من نار، فيجعلها في يده"(3).
ومثل الخاتم: قلم الذهب، وساعة الذهب، وقدَّاحة (ولاَّعة) الذهب ... إلخ.
ويتضاعف الإثم في هذه الأشياء حين يكون جمهور الشعب في حالة من الفقر وضيق العيش، بحيث يشقُّ عليه وجود الخبز الجاف بغير إدام، كما يشقُّ عليه الملبس الضروري الذي يستر عورته.
وحين نجد بعض الناس يملكون قصورًا تركض في ساحاتها الخيل لسَعتها، لا يكاد يدخلها مالكها؛ لأن لديه ما يغنيه عنها، في حين نجد عائلة تتكدس في حجرة أو حجرتين في (بدروم) لبعض العمارات، الرجل وزوجته وأبناؤه وبناته، وربما كان معه أمه وأبوه.
4- المحافظة على البيئة ومكوناتها
ومن مقاصد الشريعة فيما يتعلَّق بالمال: المحافظة على مكونات البيئة الطبيعية، كما خلقها الله. والواجب على المسلم في استهلاكه للطيبات: أن يراعي الرشد والصلاح في استهلاكه من خلال الرعاية والمحافظة على موارد البيئة وخيراتها، وكلِّ مكوناتها، باعتبارها نعما من الله تعالى على خلقه، فواجبهم أن يقوموا بشكرها، ومن شكرها المحافظة عليها من التلف والخراب والتلوُّث أو غير ذلك، مما يعتبر نوعا من الإفساد في الأرض.
__________
(1) - رواه أحمد في المسند (750)، وقال مخرجوه: صحيح لشواهده، وأبو داود في اللباس (4057)، والنسائي في الزينة (5144)، وابن ماجه في اللباس (3595)، عن علي بن أبي طالب.
(2) - متفق عليه: رواه البخاري (5834)، ومسلم (2069)، كلاهما في اللباس، كما رواه النسائي في الزينة (5305)، عن عمر.
(3) - راوه مسلم في اللباس والزينة (2090)، عن ابن عباس.(1/74)
والله تعالى يقول: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [الأعراف:56]، أي بعد أن خلقها الله صالحة، وهيَّأها للإنبات والعمارة.
وقد قال تعالى لبني إسرائيل بعد أن فجَّر لهم في التيه اثنتي عشرة عينا: {كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [البقرة:60].
وقال شعيب لقومه: {وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [الأعراف:85].
وقبل ذلك، قال صالح لقومه: {فَاذْكُرُواْ آلاء اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [الأعراف:74].
وذمَّ القرآن بعض الأصناف، فقال تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205].
والإفساد في الأرض قد يكون ماديًّا: بتخريب عامرها، وتلويث طاهرها، وإهلاك أحيائها، وإتلاف طيباتها، أو تفويت منفعتها.
وقد يكونا معنويا: بإشاعة الظلم، ونشر الباطل، وتقوية الشرِّ، وتلويث الضمائر، وتضليل العقول.
وكلاهما شرٌّ يبغضه الله تعالى، ولا يحبُّ أهله.
ولهذا تكرَّر في القرآن أن الله {لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة:64، القصص:77]، و{لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205].
وذمَّ الله اليهود بقوله: {وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة:64].
الوعيد على قتل عصفور عبثا:
وأكَّدت السنة النبوية الأمر بالمحافظة على الموارد بأساليب شتَّى من الترغيب والترهيب.(1/75)
من ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "مَن قتل عصفورا عبثا، عجَّ إلى الله يوم القيامة، يقول: يا رب، إن فلانا قتلني عبثا، ولم يقتلني لمنفعة"(1). وقوله في الحديث الآخر: "ما من مسلم يقتل عصفورا فما فوقها، بغير حقِّها، إلا يسأله الله عزَّ وجلَّ عنها"، قيل: يا رسول الله، وما حقُّها؟ قال: "أن يذبحها فيأكلها، ولا يقطع رأسها، ويرمي بها"(2).
والحديثان يدلان دلالة قوية على احترام كلِّ ذي روح من الطير والحيوان، ومنع قتله لغير حاجة ولا منفعة معتبرة، كما يرشدان إلى المحافظة على موارد الثروة، وعدم تبديدها باللهو والعبث، أي لغير منفعة اقتصادية.
بالإضافة إلى ما يدلُّ عليه الحديثان من المحافظة على البيئة بكلِّ ما فيها من الكائنات الحيَّة، التي أصبح التقدُّم التكنولوجي خطرا عليها.
قاطع السدرة في النار:
يؤكِّد هذا التوجُّه الحديث الشريف الذي رواه أبو داود في سننه: "مَن قطع سدرة صوَّب الله رأسه في النار"(3).
__________
(1) - رواه أحمد عن الشريد بن سويد، وقد سبق تخريجه.
(2) - رواه أحمد في المسند (6551)، وقال مخرجوه: إسناده ضعيف لجهالة صهيب الحذاء، وباقي رجاله ثقات رجال الصحيح (6550)، وصحح الشيخ شاكر إسناده، والنسائي في الصيد والذبائح (4349)، والحاكم في الذبائح (4/261)، وصحح إسناده ووافقه الذهبي، والبيهقي في الكبرى كتاب السير (9/86)، وأقره المنذري في الترغيب والترهيب.
(3) - رواه أبو داود في الأدب (5239)، والنسائي في الكبرى كتاب السير (8557)، والطبراني في الأوسط (3/50)، والبيهقي في الكبرى كتاب المزارعة (6/139)، عن عبد الله بن حُبْشي، والألباني في صحيح الجامع (6476). والمراد بالسدرة: شجر السدر (النبق) التي يكثر وجودها في البراري.(1/76)
قال أبو داود بعد أن روى هذا الحديث: يعني من قطع سدرة في فلاة، يستظل بها ابن السبيل والبهائم، عبثا وظلما، بغير حق يكون له فيها، صوب الله رأسه في النار.(1)
وفي هذا الوعيد الشديد توجيه إلى المحافظة على الأشجار، ومنها أشجار البَرِّ والغابات، لما فيها من نفع كبير للبيئة وتوازنها، ومن فوائد شتَّى للناس، فلا يجوز أن تقطع إلا بقدر وحساب، بحيث يغرس مكانها غيرها، مما يقوم بوظيفتها.
ولقد رأيتُ بعض العلماء أوَّل هذا الحديث على أن المقصود به: مَن قطع سدر الحرم. وهذا تأويل لا دليل عليه، وتخصيص لعموم الحديث بلا مسوِّغ، والصحيح ما فسَّره به مُخْرجه أبو داود.
الحفاظ على الثروة الحيوانية من خطر العدوى:
ومما يسير في هذا الدرب: الحفاظ على الثروة الحيوانية والحرص على حسن نمائها كمًّا وكيفا، فهي مكمِّلة للثروة الزراعية في توفير الغذاء للإنسان. فلا يجوز إضاعتها ولا إهمالها، غذائيا ولا صحيًّا، بل يجب علاجها إذا مرضت، كما يجب المحافظة عليها، من آفات الأمراض وخصوصا المعدية منها، كما هو معلوم أن الوقاية خير من العلاج. ومن التوجيهات النبوية في ذلك حديث: "لا يوردنَّ مُمْرض على مُصِحٍّ"(2).
والمُمْرض: صاحب الإبل المريضة بداء الجَرَب، والمُصِحُّ صاحب الإبل الصحيحة السليمة، فعندما تورد الإبل للشرب، يجب على صاحب الإبل المريضة ألا يوردها على الإبل السليمة، فتحتكّ بها فتعديها بمرض الجرب الذي يضرُّ بها، وفقا لسنة الله في العدوى. وهذا توجيه لوقايتها من المرض، فإذا أصيبت، فيجب أن تعالج من ناحية أخرى، ولا يتمُّ هذا الواجب إلا بطبٍّ بيطري متخصِّص، فهو مطلوب شرعا.
__________
(1) - انظر سنن أبي داود (3/404).
(2) - متفق عليه: رواه البخاري في الطب (5770)، ومسلم في السلام (2220)، كما رواه أحمد في المسند (9263)، وأبو داود في الطب (3911)، والنسائي في الكبرى كتاب الطب (7547)، عن أبي هريرة.(1/77)