ويكون التداوي مباحاً جائزاً تركه ، إذا كان العلاج لا يجدي نفعاً وأن الدواء لا ينفعه ، حيث ذكر الغزالي خمسة أسباب لترك التداوي منها أن تكون العلة مزمنة ، والدواء الذي يؤمر به موهوم النفع(1).
ب ـ النظر إلى العلاج الجيني من حيث ما له من خصوصية ، وما له من آثار وما يترتب عليه من مصالح أو مفاسد أو مخالفات للنصوص الشرعية .
فبهذا الاعتبار لا ينبغي أن نصدر حكماً عاماً لجميع أنواع العلاج الجيني وحالاته وذلك لأن الحكم الشرعي إنما يكون دقيقاً إذا كان متعلق الحكم معلوماً مبيناً واضحاً ، لأن الحكم على الشيء فرع من تصوره .
وإضافة إلى هذه الأدلة الخاصة بالعلاج والتداوي فهناك عدة قواعد عامة ، ومبادئ معتبرة تتحكم في العلاج بصورة عامة ، وفي العلاج الجيني بصورة خاصة وهي :
1ـ مقاصد الشريعة في رعاية المصالح الضرورية والحاجية ، والتحسينية ، والموازنة بين المصالح والمفاسد والقواعد المتفرقة منها مثل درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة وأنه يتحمل الضرر الأخف في سبيل درء الضرر الأكبر ، وأن الضرر يزال ، وأن الضرر لا يزال بمثله ، وأن الضرورات تبيح المحظورات ، وأن الضرورات تقدر بقدرها ، وأنه يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام ، وأن الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف ، وأنه إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً ، وأنه يختار أهون الشريّن ، وأن الضرر يدفع بقدر الإمكان ، وأن الحاجة تنزل منزلة الضرورة ، وأن الاضطرار لا يبطل حق الغير ، وأن المشقة تجلب التيسير ، وأنه إذا ضاق الأمر اتسع ، وأنه لا ضرر ولا ضرار(2).
__________
(1) إحياء علوم الدين ( 4/279 )(1/32)
2ـ اعتبار الوسائل والذرائع ، فالوسيلة المحرمة محرمة ولو كانت الغاية شريفة ، فلا يجوز استعمال أية وسيلة محرمة في العلاج الجيني أو غيره إلاّ للضرورة التي تبيح المحظورات(1)وقد جعل ابن القيم قاعدة سد الذرائع ربع الدين والفقه الإسلامي(2).
3ـ رعاية المألات والغايات والنتائج والآثار المترتبة على العلاج قال الشاطبي : ( النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً سواء كانت الأفعال موافقة أو مخالفة ، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو الإحجام إلاّ بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل مشروعاً لمصلحة فيه تستجلب ، أو مفسدة تدرأ ، ولكن له مآل على خلاف ذلك ، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوى المصلحة أو تزيد عليها ، فيكون هذا مانعاً من إطلاق القول بالمشروعية ، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي ، أو تزيد فلا يصح القول بعدم المشروعية )(3)، وقاعدة المآلات هي الأصل العام الذي تنبني عليها مجموعة من القواعد الأساسية(4).
4ـ النظر إلى العلاج الجيني بصورة خاصة من خلال أنواعه ، وحالاته ، حتى يكون الحكم دقيقاً صحيحاً بقدر الإمكان ، وذلك لأن الحكم الصحيح على الشيء فرع من تصوره وفهمه فهماً دقيقاً ، ولذلك نفصل القول حسب الأنواع المتاحة لنا :
__________
(1) قال لشاطبي في الموافقات ( 4/556 ) = ( لأن حقيقتها التوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة )
(2) إعلام الموقعين ط . النهضة الجديدة بالقاهرة ( 3/134 ـ 159 )
(3) الموافقات ( 4/552 ـ 553 )
(4) المرجع السابق ( 4/556 )(1/33)
أ ـ حكم العلاج الجيني بالنوعين المذكورين إنما يجوز إذا لم يترتب عليه الأضرار والمفاسد التي ذكرناها سابقاً ، وقد صدر قرار من المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته الخامسة عشرة تضمّن مجموعة من الأحكام والضوابط ، حيث نصّ على : ( أن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في دورته الخامسة عشرة المنعقدة في مكة المكرمة التي بدأت 11رجب 1419هـ الموافق 31 اكتوبر 1998م قد نظر في موضوع استفادة المسلمين من علم الهندسة الوراثية التي تحتل اليوم مكانة مهمة في مجال العلوم ، وتثار حول استخدامها أسئلة كثيرة ، وقد تبين للمجلس أن محور علم الهندسة الوراثية هو التعرف على الجينات ( المورثات ) وعلى تركيبها ، والتحكم فيها من خلال حذف بعضها ـ لمرض أو لغيره ـ أو إضافتها أو دمجها بعضها مع بعض لتغيير الصفات الوراثية الخلقية .
وبعد النظر والتدارس والمناقشة فيما كتب حولها ، وفي بعض القرارات والتوصيات التي تمخضت عنها المؤتمرات والندوات العلمية . يقرر المجلس ما يلي :
أولاً : تأكيد القرار الصادر عن مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بشأن الاستنساخ برقم 100/2/د/10 في الدورة العاشرة المنعقدة بجدة في الفترة من 23ـ28صفر 1418هـ .
ثانياً : الاستفادة من علم الهندسة الوراثية في الوقاية من المرض أو علاجه ، أو تخفيف ضرره بشرط أن لا يترتب على ذلك ضرر اكبر .
ثالثاً : لا يجوز استخدام أي من أدوات علم الهندسة الوراثية ووسائله في الأغراض الشريرة وفي كل ما يحرم شرعاً .
رابعاً : لا يجوز استخدام أي من أدوات علم الهندسة الوراثية ووسائله للعبث بشخصية الإنسان ، ومسؤوليته الفردية ، أو للتدخل في بنية المورثات ( الجينات ) بدعوى تحسين السلالة البشرية .(1/34)
خامساً : لا يجوز إجراء أي بحث ، أو القيام بأية معالجة ، أو تشخيص يتعلق بمورثات إنسان ما إلاّ بعد إجراء تقويم دقيق وسابق للأخطار والفوائد المحتملة المرتبطة بهذه الأنشطة ، وبعد الحصول على الموافقة المقبولة شرعاً مع الحفاظ على السرية الكاملة للنتائج ، ورعاية أحكام الشريعة الإسلامية الغراء القاضية باحترام حقوق الإنسان وكرامته.
سادساً : يجوز استخدام أدوات علم الهندسة الوراثية ووسائله في حقل الزراعة وتربية الحيوان شريطة الأخذ بكل الاحتياطات لمنع حدوث أي ضرر ـ ولو على المدى البعيد ـ بالإنسان ، او الحيوان ، أو البيئة .
سابعاً : يدعو المجلس الشركات والمصانع المنتجة للمواد الغذائية والطبية وغيرهما من المواد المستفيدة من علم الهندسة الوراثية إلى البيان عن تركيب هذه المواد ليتم التعامل والاستعمال عن بينة حذراً مما يضرُّ أو يحرم شرعاً .
ثامناً : يوصي المجلس الأطباء وأصحاب المعامل والمختبرات بتقوى الله تعالى واستشعار رقابته والبعد عن الإضرار بالفرد والمجتمع والبيئة ) .
ب ـ حكم المسح الوراثي : يجوز شرعاً المسح الوراثي بشرط أن تكون الوسائل المستعملة فيه مباحة آمنة لا تضرُّ بالإنسان والبيئة ، وذلك لأن هذه الطريقة تهدف إلى تقليل الأمراض الوراثية ، وتساعد الأطباء على وضع البرامج الوقائية لحماية الإنسان وابتكار الأدوية ، كما تساعد على دفع الضرر قبل وقوعه .
ويجوز للدولة الإجبار على هذه الطريقة إذا انتشر الوباء في بلد معين ، أو اقتضته المصالح العامة ، ولكن يجب الحفاظ على نتائج المسح وعدم إظاهرها إلاّ بقدر ما تقتضيه الضرورة أو الحاجة الملحة حماية لأسرار الناس التي هي من مقاصد الشريعة .
أثر الفحص الطبي بعد الزواج :(1/35)
إذا تم الزواج فإن الموضوع يختلف تماماً ، لأن الهدف من الفحص قبل الزواج هو الاطمئنان على الآخر والقدرة على الزواج ومتطلباته البدنية والنفسية قبل أن يكون هناك أي التزام طرف من قبل الآخر ، أما بعد كتب الكتاب وعقد الزواج ، فإنه حينئذٍ يكون البحث عن العلاج ، أو حق الطلاق أو التطليق ، أو الفسخ .(1/36)
فقد ذكر الفقهاء العظام مجموعة من العيوب التي تعطي حق الخيار في الفرقة بين الزوجين أوصلها الحنابلة إلى ثمانية عشر عيباً ، والمالكية إلى ثلاثة عشر عيباً ، والإمامية إلى اثني عشر عيباً ، وبعض التابعين وضعوا لها معيار الضرر ، ولكن من أهمها تسعة عيوب(1)
__________
(1) يراجع في تفصيل ذلك : فتح القدير شرح العناية (3/268) وابن عابدين (2/593) وتبيين الحقائق (3/25) والاختيار (2/176) وبدائع الصنائع (3/1536) والشرح الصغير (2/468) وبداية المجتهد (2/50) والمهذب (2/48) والروضة (7/195) ومنتهى الارادات (2/186 ـ 189) والمغني (7/580) والمحلى لابن حزم (10/58 ـ 62) ونيل الأوطار (6/167) وزاد المعاد (5/180 ـ 186) والمختصر النافع ص 212 ويراجع : الزواج في الشريعة الإسلامية للأستاذ علي حسب الله ط. دار الفكر العربي ص 257 وأحكام الأسرة في الإسلام للشيخ محمد مصطفى شلبي ط. بيروت ص 417 وأحكام انحلال عقد الزواج للأستاذ نظام الدين عبدالحميد ط.جامعة بغداد ص 207 والأسرة في التشريع الإسلامي ط..دار الثقافة ص 321 للدكتور محمد الدسوقي(1/37)
ثلاثة يشترك فيها الرجال والنساء ، وهي الجنون ، والجذام(1)، والبرص(2)واثنان يختصان بالرجال وهما الجبّ(3)والعنّة(4)وأربعة تختص بالنساء وهي القرن(5)والرتق(6)والفتق(7)والعفل(8)فقد ذهب جماهير الفقهاء (ما عدا الظاهرية(9)الذين لا يقولون بالفسخ بسبب هذه العيوب) إلى إعطاء حق الخيار في الفرقة بين الزوجين في الجملة ، ولكنهم اختلفوا في بعض التفاصيل :
1. فذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى ثبوت حق المطالبة بالتفريق بسبب العلل المانعة من الجماع للزوجة فقط دون الزوج ، لان الزوج يملك الحق في الطلاق دون الحاجة إلى الفسخ ، وأضاف محمد بن حسن الشيباني إلى هذه العيوب الجنون والجذام ، كما أنه وسع دائرة العيوب حسب نص الكاساني عن محمد : (خلوه من كل عيب لا يمكنها المقام معه إلاّ بضرر كالجنون والجذام والبرص)(10).
__________
(1) الجذام : بضم الجيم علة تتأكل منها الأعضاء وتتساقط ، يراجع المصادر السابقة مادة (جذم)
(2) البرص بفتح الباء والراء بياض يقع في الجسد لعلة ، يراجع المصادر السابقة مادة (برص)
(3) الجب : بفتح الجيم هو قطع الذكر ، انظر لسان العرب ، والقاموس المحيط والمصباح المنير مادة (جبب)
(4) بضم العين عجز يصيب الرجل فلا يقدر على الجماع ، يراجع المصادر السابقة مادة (عنن)
(5) القرن بفتح القاف والراء عظم أو لحم يكون على الفرج يمنع الجماع ، يراجع المصادر السابقة مادة (قرن)
(6) الرتق بفتح الراء والتاء انسداد الفرج ، يراجع المصادر السابقة مادة (رتق)
(7) الفتق بفتح الفاء وسكون التاء : بروز جزء من الأمعاء من فتحة في جدار البطن ، يراجع المصادر السابقة مادة (فتق)
(8) العفل ضيق في الفرج من ورم يحدث بين مسلكي المرأة ، أو لحم في الفرج ، وقيل رطوبة تمنع لذة الجماع ، يراجع المصادر اللغوية السابقة مادة (عفل)
(9) المحلى لابن حزم (10/0058)
(10) بدائع الصنائع للكاساني (3/1536)(1/38)
وقد اشترط الحنفية لحق مطالبة الزوجة بالتفريق بسبب الأمراض السابقة الشروط الآتية:
أ ـ أن لا يصدر منها صراحة ما يدل على رضاها بالمرض .
ب ـ أن لا تكون على علم بالمرض وقت الزواج .
ج ـ أن يكون العيب موجوداً عند الزواج ، أما لو وجد بعد الدخول فلا يحق لها المطالبة بالفسخ .
د ـ أن لا تكون هي أيضاً معيبة بعيب جنسي مثل الرتق والقرن .
2. وذهب جمهور الفقهاء المالكية والشافعية والحنابلة ، والإمامية(1)إلى ثبوت حق المطالبة بالفسخ والتفريق لكلا الزوجين بسبب العيوب السابقة سواء وجدت قبل العقد أو بعده وإن كانوا مختلفين في عددها ـ كما سبق ـ .
3. وذهب جماعة من الفقهاء إلى معيار موضوعي للعيوب ، وهو : كل عيب يؤدي إلى نفرة أحدهما من الآخر ، ويسبب له الإيذاء والضرر في الحياة الزوجية وهذا ما قال به بعض التابعين كالقاضي شريح ، والزهري ، وأبي ثور ، وأيدهم ابن القيم فأورد آثاراً وأدلة لترجيح هذا القول ، حيث ذكر بعض الآثار عن عمر(2)رضي الله عنه أنه لم يقف عند العيوب المذكورة ، بل قضى بأن العقم من العلل ، فقال : ( والقياس : أن كل عيب ينفر الزوج الآخر منه ، ولا يحصل به مقصود النكاح من الرحمة والمودة يوجب الخيار ، وهو أولى من البيع ، كما أن الشروط المشترطة في النكاح أولى بالوفاء من شروط البيع (أي بنص الحديث الصحيح) وما ألزم الله ورسوله مغروراً قط ، ولا مغبوناً بما غر به وغبن به ، وما اشتمل عليه من المصالح لم يخف عليه رجحان هذا القول ، وقربه من قواعد الشريعة)(3).
__________
(1) الشرح الصغير (2/468) والروضة (7/195) ومنتهى الإرادات (2/186) والمختصر النافع ص 212
(2) يراجع : الموطأ (2/526) وزاد المعاد (4/183)
(3) زاد المعاد (5/182 ـ 183)(1/39)
وقال ابن القيم أيضاً : (وأما الاقتصار على عيبين ، أو ستة ، أو سبعة ، أو ثمانية ....فلا وجه له ، فالعمى والخرس ، والطرش ، وكونها مقطوعة اليدين ، أو الرجلين ، أو إحداهما ، أو كون الرجل كذلك من أعظم المنفرات ، والسكوت عنه من أقبح التدليس والغش ، وهو مناف للدين الأخلاق ، إنما ينصرف إلى السلامة ، فهو كالمشروط عرفاً)(1).
وهذا الذي رجحه ابن القيم هو الذي يظهر رجحانه شرط أن يكون العيب مستديماً يحول دون علاقة زوجية طبيعية ،و هو الذي يتسق مع مقاصد الشريعة في الزواج وتحقيق المحبة والرحمة والسكنى ، ولذلك يدخل في العيوب الموجبة لحق الفسخ ما ظهر في عصرنا الحاضر من العيوب التي تعتبر أخطر مما ذكره فقهاؤنا الكرام ، مثل مرض الايدز ، ونحوه من الأمراض المعدية الخطيرة .
هذا وقد صدر قرار (رقم82(13/8)) من مجمع الفقه الإسلامي الدولي بشأن مرض نقص المناعة المكتسب (الايدز) نص على أنه (في حالة إصابة أحد الزوجين بهذا المرض ، فإن عليه ان يخبر الآخر ، وأن يتعاون معه في إجراءات الوقاية كافة)(2).
وصدر قرار آخر (رقم90 (7/9)) ينص على أنه (من حق السليم من الزوجين طلب الفرقة من الزواج المصاب بعدوى مرض نقص المناعة المكتسب "الايدز" )(3).
التفريق هنا بحكم القاضي :
والتفريق في باب العلل والأمراض يكون بحكم القاضي بشرط أن لا يكون طالب التفريق عالماً بالعيب وقد رضي به ، وان يأخذ القاضي برأي أهل الاختصاص في مجال العلة ، فقد يكون أحد العيوب في عصر فقهائنا مستحكماً لا يرجى شفاؤه ، وأصبح الآن سهلاً يمكن الشفاء منه بإذن الله حسب الطب المعاصر .
كما أن الراجح في نظرنا أن هذه الفرقة ليست طلاقاً ، وإنما هي فسخ وهو رأي الشافعية والحنابلة ، فلا يترتب عليه نقص عدد الطلقات(4).
__________
(1) المصدر السابق نفسه
(2) يراجع مجلة المجمع الفقهي الإسلامي الدولي ، ع 8 ج3
(3) المصدر السابق ع 9
(4) المصادر الفقهية السابقة(1/40)
الحكم الفقهي في الفحص الطبي قبل الزواج (الرأي المختار) :
لمعرفة الحكم الشرعي بدقة نحتاج إلى بيان الحكم للأمور الآتية :
الأمر الأول : هل يجب الفحص الطبي للمخاطبين قبل الإقدام على إكمال العقد وجوباً شرعياً ما دام ذلك الفحص متاحاً .
الأمر الثاني : هل يجوز للدولة إصدار تشريع بإجبار الراغبين في الزواج باللجوء إلى الفحص الطبي قبل الزواج ، بحيث يترتب على عدمه عم إقدام الجهات الرسمية بتوثيق العقد والاعتراف به .
الأمر الثالث : إذا علم أحد الزوجين ، أو الخاطبين بوجود مرض معد أو وراثي فيه ، فهل يجب عليه إخبار الطرف الآخر ؟ وما الذي يترتب على كتمانه ؟
الأمر الرابع : هل هناك علاقة بين موضوعنا هذا والزواج من الأقارب ؟
الأمر الخامس : في حالة عدم الوجوب ، أو الإلزام هل هناك بدائل ؟
هذا ما سنحاول بحثه والوصول إلى الرأس الذي تدعمه الأدلة في نظري بعد الاعتماد على الله تعالى ، وقبل أن أجيب أود وضع قاعدة تعد بمثابة تحرير لمحل النزاع وهي :
أن جميع من وقعت عيني على بحوثهم ، وفتاواهم لا يختلفون في أهمية البحث عن كل الوسائل المتاحة لإنشاء أسرة متماسكة متينة صالحة سليمة قوية الإيمان والبنيان ، كما أنهم لا يختلفون في أن الأمراض التي هي محل البحث هي ليست جميع الأمراض بما فيها الأمراض العادية التي لا يخلو منها الإنسان ، أو الأمراض الطارئة غير المعدية ، وإنما هي الأمراض المعدية الخطيرة مثل التهاب الكبد الوبائي ، والأمراض التي تنتقل من شخص إلى آخر بسبب الاتصال الجنسي ، أو نقل الدم أو نحو ذلك مثل مرض نقص المناعة المكتسب (الايدز) والأمراض الوراثية المضرة التي تنتقل من خلال الجينات ـ كما سبق ـ .
فالبنسبة للموضوع الأول وهو وجوب الفحص قبل الزواج :(1/41)
فالذي يظهر لي رجحانه انه لا يوجد دليل من الكتاب والسنة على وجوب الفحص قبل الزواج من حيث هو ، وإنما موضوع التداوي برمته ـ كما سبق ـ هو محل خلاف كبير ـ كما سبق ـ ، بل إن موضوع الفحص الطبي قبل الزواج يختلف عن التداوي ، لأن الأخير أمام ضرر محقق من خلال المرض وضرر عدم تداويه ، فالضرر يزال ، فمسألة وجوب التداوي في حالة ضرر محقق واردة ، أما موضوع الفحص فليس هناك ضرر محقق عند إرادة الفحص فلا يرد عليه ما ورد على المرض المحقق ، إضافة إلى أن هذا الإيجاب (وهو تكليف جديد) يحتاج إلى دليل ثابت بنص خاص ، أو بنصوص عامة واضحة الدلالة عليه ، وإنما ينبغي أن يكون الحديث عن الفحص الطبي قبل الزواج في إطار أنه مشروع فقط وجائز من حيث المبدأ ، دون زيادة أي حكم آخر من الوجوب أو الحرمة ، أو نحوهما من الأحكام الشرعية التكليفية الأخرى .
ولكن إذا كان أحد الخاطبين او كلاهما مريضاً فإن هذه المسألة تدخل ضمن موضوع التداوي بصورة عامة ، ثم إذا فحص نفسه ، وتبين أنه مصاب بمرض معد خطير ثم كتم ذلك فإنه حينئذٍ يدخل في الموضوع الخاص بالتدليس الذي نبحث عنه بعد قليل إن شاء الله.
الموضوع الثاني : هل يجوز للدولة إصدار تشريع بإجبار الراغبين في الزواج على الفحص الطبي قبل الزواج ، وترتيب آثار على عدم القيام به من البطلان ، أو عدم التسجيل ونحو ذلك:(1/42)
أختلف المعاصرون ، فذهب جماعة (منهم الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله ود.عبدالكريم زيدان ، ود.محمد رأفت عثمان ، ود. محمد عبدالغفار الشريف)(1)إلى عدم جواز ذلك مستدلين بالأدلة الآتية :
1 ـ أن عقد النكاح ليس عقداً جديداً حتى نبحث عن شروط جديدة لصحته ، بل هو عقد تناوله الشرع بالتفصيل من حيث أركانه وشروطه ، بل له خصوصيته حيث أحاطها الشارع بمزيد من العناية والخصوصية ، وبالتالي فإن إجبار العاقدين بوجود هذا الشرط (الفحص الطبي) مخالف لما ثبت عن الشرع ، ويكون هذا الشرط باطلاً ، لأنه يدخل في قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فهو باطل)(2).
2 ـ لا نجد في الكتاب والسنة ولا في أقوال الفقهاء السابقين دليلاً ، أو قولاً باشتراط سلامة الصحة لصحة النكاح ، كما لانجد اشتراط أن يكون النكاح يلزم منه الذرية ، كما في المرأة الآيسة ، والرجل كبير السن حيث يجوز لهما الزواج دون إرادة الذرية ، بل الشروط الشرعية بعد شروط العقد هو كون الزوج من أهل الدين والخلق ولم يشترط كونه سليماً ، حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه.....)(3).
__________
(1) يراجع : جريدة المسلمون ، ع 597 في 12 يوليو 1996 ، ورأي الدكتور عبدالكريم زيدان في مناقشاته في مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي شوال 1422هـ ، ود.محمد رأفت عثمان : بحثه السابق ، ود.محمد عبدالغفار الشريف : بحثه السابق ، ويراجع : د.عبدالرشيد قاسم : الفحص الطبي قبل الزواج المنشور في موقع : لها أون لاين .
(2) رواه البخاري في صحيحه ـ مع الفتح ـ (5/187، 324) ومسلم (2/124)
(3) رواه الترمذي الحديث رقم 1084 وابن ماجه الحديث رقم 1967(1/43)
3 ـ إن تصرفات ولي الأمر وبالأخص في جعل المباح واجباً إنما تصح إذا تعينت فيها المصلحة ، أو غلبت للقاعدة الفقهية (تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة)(1).
وذهب جماعة (منهم الدكاترة : محمد الزحيلي ، والميمان ، وحمداتي ماء العينين(2)، وشبير)(3)إلى أنه يجوز لولي الأمر إصدار قانون يلزم فيه كل المتقدمين للزواج بإجراء الفحص الطبي مستدلين بما يأتي :
1 ـ الأدلة العامة من الكتاب السنة وعلى وجوب طاعة ولي الأمر فيما ليس بمحرم .
2 ـ الأدلة العامة الدالة على حماية الإنسان لنفسه وعدم الوقوع في التهلكة .
3 ـ الأدلة العامة على وجوب الحفاظ على النسل الذي هو من الضروريات .
ومن الواضح أن هذه الأدلة العامة لا تكون نصاً في الدعوى ، أو لموضوع فلا يمكن إثبات الإيجاب بها في أمر خاص مثل الفحص الطبي .
4 ـ حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( لا توردوا الممرض على المصح)(4)حيث أمر باجتناب المصابين بالأمراض المعدية والوراثية ، وهذا لا يتحقق إلاّ من خلال الفحص الطبي .
5 ـ إن الفحص الطبي لا يعتبر افتئاتاً على الحرية الشخصية ، لأن فيه مصلحة الفرد أولاً ، وللجماعة ثانياً ، وحتى لو ترتب عليه ضرر خاص فإنه يتحمل لأجل الضرر العام كما تقضي بذلك القواعد الفقهية : ( يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام) و (يرتكب أهون الشرين وأخف الضررين ، وأدنى المفسدتين...) و (درء المفسدة أولى من جلب المصلحة) .
6 ـ قاعدة (الدفع أولى من الرفع) حيث إذا أمكن دفع الضرر قبل وقوعه فهذا أولى من رفعه بالوقوع .
__________
(1) يراجع لهذه القاعدة : الأشبه والنظائر للسيوطي ص 121 ، والمنثور للزركشي (1/309)
(2) بحثه المعنون : موقف الإسلام من الأمراض الوراثية ، المنشور في مجلة الحكمة ، ع6 صفر 1416هـ ص 210
(3) انظر : كتاب الحادي عشر لندوة المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية ، المشار إليه سابقاً .(1/44)
7 ـ رعاية الوسائل ، حيث إن للوسائل حكم الغايات(1).
الترجيح :
الذي يظهر لي رجحانه هو التفصيل في المسألة ، وهو القول بعدم جواز الإجبار على الفحص الجيني وضرورة ترك ذلك للحرية الشخصية مع التوعية بأهميته ، والقول بجواز صدور قرار ملزم من الدولة بإلزام الراغبين في الزواج بالفحص الطبي العادي قبل الزواج بشرطين :
الشرط الأول : أن يكون ذلك في الأمراض المعدية الخطيرة السارية مثل التهاب الكبد الوبائي والايدز وعلى أن تشكل لجنة متخصصة لتحديد هذه الأمراض المعدية الخطيرة دون التوسع فيها ، وذلك من باب (أن الضرورات ، والحاجيات الملحة تقدر بقدرها).
الشرط الثاني : أن لا يكون جزاء الإخلال بالفحص الطبي هو إبطال العقد ، وفساده ، أو عدم ترتيب الآثار الشرعية على عقد النكاح ، بل يكون الجزاء على الإخلال شيئاً آخر مثل غرامة مالية ، أو نحو ذلك .
وقصدي من ذلك أنه لا يجوز للدولة ، أو لولي الأمر إصدار قرار بإجبار الفحص الطبي قبل الزواج ، وترتيب فساد العقد ، أو بطلانه ، او عدم ترتب آثاره الشرعية عليه ، فهذا ليس من حق الإمام لأنه يصطدم بالنصوص الشرعية القاضية بصحة العقد ما دامت الأركان والشروط متوافرة ، أما أن يقول القرار مثلاً : (وفي حالة الإخلال بهذا الشرط يعاقب بغرامة مالية ، أو أنه لا يعطى له المزية الفلانية) فهذا جائز .
__________
(1) المراجع السابقة ، ويراجع : د.عبدالرشيد قاسم : بحثه السابق ص 3 ، ويراجع لهذه القواعد الفقهية : الأشباه والنظائر للسيوطي ص 138 ، والمنثور للزركشي (2/155)(1/45)
والدليل على هذه التفرقة في الحكم بين الفحص الجيني ، والفحص العادي بكل الوسائل المتاحة للأمراض المعدية هو أن الفحص الجيني يترتب عليه مفاسد عظيمة على مستوى الفرد ،والأسرة والجماعة ذكرنا بعضها في السابق ، كما أن هناك أسراراً لم تكشف فتحتاج إلى مزيد من الدراسة والتحليل ، في حين أن ترك الأمراض المعدية الخطيرة مثل التهاب الكبد الوبائي ، والايدز تترب عليه مفاسد عظيمة كما ذكرنا ، وأعتقد أننا بهذا الجمع قد جمعنا خير ما في كل من آراء الفريقين ، كما أن فيه جمعاً بين
تكاليف الفحص :
في حالة إجبار الدولة أرى أن تتحمل الدولة هذه المصاريف ، أو تهيئ المختبرات الخاصة التي تقوم بهذه الفحوصات مجاناً ، لأن مصالحها ومنافعها ليست خاصة بالفرد وإنما مصالح عامة يتحملها بيت مال المسلمين ، أو خزانة الدولة العامة ، وفي حالة عدم توفر ذلك فإن كلا من الزوجين يتحمل مصاريفه إلاّ إذا اشترط على الطرف الآخر ، وحينئذٍ يكون الشرط معتبراً.
الموضوع الثالث : إذا علم (بوجود مرض خطير وراثي أو عادي) أحد الخاطبين قبل الزواج أو الزوجين بعد الزواج ، فما حكم الشرع في هذه المسألة ؟
الذي يظهر لي رجحانه والله أعلم هو وجوب إخبار الطرف الآخر بما عنده من أمراض معدية خطيرة ، أو أمراض وراثية خطيرة ، أما إذا كان المرض عادياً أي غير معد ، ولا يؤدي إلى التشوهات في الأطفال المولودين منه ـ حسب الظن الغالب ـ فلا يجب عليه البيان .
والدليل على وجوب البيان على أحد الخاطبين أو الزوجين في حالة أنه اكتشف أنه مريض بأحد الأمراض المعدية الخطيرة ، أو انه يحمل جيناً من الجينات المريضة التي تؤدي إلى أن يكون المولود منه مشوهاً ـ حسب الظن الغالب لأهل العلم ـ حيث يجب عليه إخباره ....هو ما يأتي :(1/46)
1 ـ وجوب الأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة والآثار والاجماع على حرمة الغش والتدليس والتغرير والخداع ، والتحايل التي تدور معانيها حول : كتمان الحقيقة ، واستعمال طرق النصب والاحتيال للوصول إلى مآرب الغاش ، والمدلس والمغرر والمحتال ، لذلك قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( من غش فليس مني)(1).
2 ـ لا يقف أثر التغرير والتدليس عند العقود المالية التي يكون تأثيره فيها محل اتفاق في الجملة(2)بل يتجاوزها إلى النكاح أيضاً حيث اتفقوا على أن التغرير بالحرية يوجب الضمان ، وحق الفسخ(3).
3 ـ هناك آثار وأحكام وفتاوى لبعض كبار الصحابة بوجوب البيان فقد روى الشعبي عن عمر رضي الله عنه قال : (انه بعث رجلاً على بعض السقاية فتزوج امرأة وكان عقيماً ، فقال له عمر : أعلمتها أنك عقيم ؟ قال : لا ، قال : فانطلق فأعلمها ، ثم خيّرها)(4).
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه ، كتاب الإيمان (1/99) وأبو داود ـ مع عون المعبود ـ (9/32) والترمذي ـ مع تحفة الأحوذي ـ (4/544) وابن ماجه (2/749) والحاكم في المستدرك (2/9) والسنن الكبرى للبيهقي (5/320)
(2) لمزيد من البحث و التفصيل : مبدأ الرضا في العقود ، دراسة مقارنة ط.دار البشائر الإسلامية (1/600 ـ 666)
(3) تجردي القدوري ، مخطوطة دار الكتب 803 فقه حنفي ج 2 ق 1 ، حيث ادعى الاجماع ، وابن عابدين (5/145) ، ويراجع لمزيد من التفصيل : مبدأ الرضا في العقود ، دراسة مقارنة ط.دار البشائر الإسلامية (1/664)
(4) أخرجه عبدالرزاق الصنعاني في مصنفه الحديث رقم 10346 ، ورجاله ثقات(1/47)
وقد قضى شريح (قاضي الإسلام الذي ضرب به المثل بعلمه وحكمته) بعدم جواز التدليس في الزواج وبحق الخيار للمدلس عليه ، حيث اتى برجل فقال : إن هؤلاء قالوا لي : إنا نزوجك بأحسن الناس ، فجاؤوني بامرأة عمشاء ، فقال شريح : (إن كان دلس لك بعيب لم يجز)(1)قال ابن القيم معقباً على هذا الحكم : ( فتأمل هذا القضاء ، وقوله : إن كان دلس لك بعيب ، كيف يقتضي أن كل عيب دلست به المرأة فللزوج الرد به)(2).
4 ـ ومن باب القياس الأولى إذا كان بيان العيوب في البيع ونحوه من المعاملات المالية واجباً ، وأن كتمانه يعطي حق الفسخ فكيف لا يكون تأثر للغش في هذا العقد العظيم الذي يترتب عليه آثار خطيرة على صحة الزوجين ومستقبلهما ومستقبل أولادهما ، يقول ابن القيم : (وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم حرم على البائع كتمان عيب سلعته ، وحرم على من علمه أن يكتمه من المشتري ، فكيف بالعيوب في النكاح)(3).
النكاح قائم على الإفصاح والشفافية :
أولى الإسلام عناية قصوى بأن تكون العلاقة بين الخاطبين أو الزوجين قائمة على الشفافية والإفصاح ووجوب البيان حتى يقدما على العقد بمنتهى القناعة ، والاطمئنان للوصول إلى الاستقرار والسكنى .
__________
(1) المرجع السابق الحديث رقم 10685 ، وإسناده صحيح
(2) زاد المعاد (4/184)
(3) المصدر السابق (5/185)(1/48)
ولا يقتصر هذا البيان على العاقدين ، بل على يستشار في هذا الصدد ، حيث قال النبي صلى الله عله وسلم لفاطمة بنت قيس حين استشارته في نكاح معاوية أو أبي جهم : (أما معاوية فصعلوك لا مال له ، وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه)(1)ثم أرشدها إلى النكاح من أسامة رضي الله عنهم ، يقول ابن القيم : (فعلم أن بيان العيب في النكاح أولى وأوجب ، فكيف يكون كتمانه وتدليسه والغش الحرام به سبباً للزومه ، وجعل ذا العيب غلاً لازماً في عنق صاحبه مع شدة نفرته عنه .....وهذا مما يعلم يقيناً أن تصرفات الشريعة وقواعدها وأحكامها تأباه)(2).
فهذا البيان من واجب الشخص نفسه ، ومن واجب الذي يستشار بشأن الزواج استدلالاً بالحديث الصحيح السابق ، ولا يدخل هذا في باب الغيبة ، فقد سئل الإمام أحمد عن الرجل يسأل عن الرجل يخطب إليه ، فسأل عنه فيكون رجل سوء ، فيخبره ...أيكون غيبة ؟ قال : ( المستشار مؤتمن يخبره بما فيه ، وهو أظهر ، ولكن يقول ما أرضاه لك ، ونحو هذا أحسن)(3).
والخلاصة أن أحد الزوجين يجب عليه ان يخبر الآخر بالأمراض المعدية والأمراض الجينية الخطيرة الموجودة فيه ، وإلاّ فهو آثم ، وللطرف الآخر حق الفسخ ، بل والتعويض إن أصابه ضرر تطبيقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم الذي أصبح مبدءاً أو قاعدة عامة (لا ضرر ولا ضرار)(4)والضرر يزال ، وان الضر لا يزال بمثله(5)، وقد صدر قرار من مجمع الفقه الإسلامي الدولي (رقم 82(13/8)) بوجوب إخبار المصاب الآخر من الزوجين(6).
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه الحديث 1480 ومالك في الموطأ (2/580) والشافعي في الرسالة الحديث 856
(2) زاد المعاد (5/185 ـ 186 )
(3) غذاء الألباب (1/107)
(4) رواه مالك في الموطأ ص 464 ، وأحمد (6/313، 5/527) وغيرهما
(5) يراجع : الأشباه والنظائر
(6) مجلة مجمع الفقه الإسلامي الدولي ، ع 8 ص 9 وما بعدها(1/49)
هذا وقد صدر قرار طيب عن مجمع الفقه الإسلامي الدولي (رقم 90(7/9)) بشأن مرض الايدز نذكره لأهميته حيث نص على :
أولاً : عزل المريض :
حيث إن المعلومات الطبية المتوافرة حالياً تؤكد أن العدوى بفيروس العوز المناعي البشري نقص المناعة المكتسب (الايدز) لا تحدث عن طريق المعايشة أو الملامسة الو التنفس او الحشرات او الاشتراك في الأكل أو الشرب او حمامات السباحة أو المقاعد أو أداوت الطعام ونحو ذلك من أوجه المعايشة في الحياة اليومية العادية ، وإنما تكون العدوى بصورة رئيسية بإحدى الطرق التالية :
1. الاتصال الجنسي بأي شكل كان .
2. نقل الدم الملوث أو مشتقاته .
3. استعمال الإبر الملوثة ، ولا سيما بين متعاطي المخدرات وكذلك أمواس الحلاقة.
4. الانتقال من الم المصابة إلى طفلها في أثناء الحمل والولادة .
وبناء على ما تقدم فإن عزل المصابين إذا لم تخش منه العدوى ، عن زملائهم غير واجب شرعاً ، ويتم التصرف مع المرضى وفق الإجراءات الطبية المعتمدة .
ثانياً : تعمد نقل العدوى :
تعمد نقل العدوى بمرض نقص المناعة المكتسب (الايدز) إلى السليم منه بأية صورة من صور التعمد عمل محرم ، ويعد من كبائر الذنوب والآثام ، كما أن يستوجب العقوبة الدنيوية وتتفاوت هذه العقوبة بقدر جسامة الفعل وأثره على الأفراد وتأثيره على المجتمع.
فإن كان قصد المتعمد إشاعة هذا المرض الخبيث في المجتمع فعمله هذا يعد نوعاً من الحرابة والإفساد في الأرض ، ويستوجب إحدى العقوبات المنصوص عليها في آية الحرابة ( إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتّلوا أو يصلّبوا أو تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم) سورة المائدة / الآية 33 .(1/50)
وإن كمان قصده من تعمد نقل العدوى إعداء شخص بعينه ، وتمت العدوى ، ولم يمت المنقول إليه بعد ، عوقب المتعمد بالعقوبة التعزيرية المناسبة وعند حدوث الوفاة ينظر في تطبيق عقوبة القتل عليه .
وأما إذا كان قصده من تعمد نق العدوى إعداء شخص بعينه ولكن لم تنتقل إليه العدوى فإنه يعاقب عقوبة تعزيرية .
ثالثاً : إجهاض الأم المصابة بعدوى مرض نقص المناعة المكتسب (الايدز) إلى جنينها لا تحدث غالباً إلاّ بعد تقدم الحمل ـ نفخ الروح في الجنين ـ أو أثناء الولادة ، فلا يجوز إجهاض الجنين شرعاً .
رابعاً:حضانة الأم المصابة بمرض نقص المناعة المكتسب(الايدز) لوليدها السليم وإرضاعه :
لما كانت المعلومات الطبية الحاضرة تدل على أنه ليس هناك خطر مؤكد من حضانة الأم المصابة بعدوى مرض نقص المناعة المكتسب (الايدز) لوليدها السليم ، وإرضاعها له ، شأنها في ذلك شأن المخالطة والمعايشة العادية ، فإنه لا مانع شرعاً من أن تقوم الم بحضانته ورضاعته ما لم يمنع من ذلك تقرير طبي .
خامساً : حق السليم في طلب الفرقة من الزوج المصاب بعدوى مرض نقص المناعة المكتسب (الايدز) :
للزوجة طلب الفرقة من الزوج المصاب باعتبار أن مرض نقص المناعة المكتسب (الايدز) مرض معد تنتقل عدواه بصورة رئيسية بالاتصال الجنسي .
سادساً : اعتبار مرض نقص المناعة المكتسب (الايدز) مرض موت شرعاً ، إذا اكتملت أعراضه ،وأقعد المريض عن ممارسة الحياة العادية ، واتصل به الموت)(1).
الموضوع الرابع : العلاقة بين الزواج من الأقارب ، والأمراض :
__________
(1) مجلة المجمع : ع9 ج4 ص 379(1/51)
هناك تفصيل كبير في هذا المجال نلخصه في أن احتمال انتقال الأمراض الجينية بين الأقارب أكبر ، ولكن من جانب آخر ، فالتحقيق أن المسألة لا تعود إلى الأقارب بقدر ما تعود إلى كون الأسرة مريضة أفرادها أم سليمة علماً بأنه لم يثبت حديث صحيح ، أو حسن في هذا المجال(1).
الموضوع الخامس : البدائل عن الفحص الطبي قبل الزواج :
فهناك بدائل كثيرة وهي :
1 ـ البحث عن الرجل الصالح السليم القوي ، والمرأة الصالحة السليمة القوية من خلال السؤال عنه أو عنها ، وعن أحوالهما ، عن طريق الأصدقاء والجيران والموظفين العاملين معه ، وحتى لا مانع من خلال البحث السري عن ملفه في المستشفى .
إضافة إلى المظاهر الدالة على الصحة ، ولذلك قال علماؤنا إن رؤية الوجه للجمال ، ورؤية الكفين للصحة والسلامة .
2 ـ البحث عن أسرة الزوج ، أو الزوجة من حيث الصحة والمرض وكل ما هو معتبر فالعرق دساس .
3 ـ التوعية ، ونشر وسائل الاقناع بالفحص قبل الزواج ، والتوعية بالسرية والحفاظ على عدم الاضرار بالآخر .
هذا ما تيسر لنا بحثه شاكراً الله على أنعمه التي لا تعد ولا تحصى
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
كتبه الفقير إلى ربه
علي محيى الدين القره داغي
__________
(1) يراجع لمزيد من التفصيل : بحث الدكتور علي السالوس في مجلة مركز بحوث السنة والسيرة ، جامعة قطر(1/52)
الكفاءة في النكاح
الشيخ فيصل مولوي
تعتبر مسألة الكفاءة في النكاح من أكثر المسائل التي غلبت فيها العادات والأعراف، حتى جعلت كثيراً من الفقهاء يتوسعون في تفسير النصوص، أو يتساهلون في تصحيحها، من أجل تبرير العمل بالأعراف التي اعتادها الناس. والأساس الذي دفع الفقهاء إلى هذا الموقف أنّ من أهمّ مقاصد الزواج انتظام التفاهم والتعاون بين الزوجين، وهذا لا يتحقّق إلاّ بوجود قدر من التكافؤ بينهما في المسائل المهمّة في نظر الناس، بحسب الأعراف السائدة في المجتمع. ولذلك قال الدكتور عبد الستار أبو غدّة – في رسالته المقدّمة إلى المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث – الدورة الثالثة عشرة- (أمور الكفاءة تختلف باختلاف الزمان والبلدان والعادات والبيئات، فإذا كان العرف السائد أنّ أمراً منها لا يعتبر من متطلبات الكفاءة، فإنه يرجع إلى العرف، وهو معتبر في الشريعة. فإذا تغيرت نظرة المجتمع إلى النسب مثلاً أو الحرفة، باعتبار أنّ العمل بأي مهنة ليست محرّمة هو شرف للإنسان، فالعبرة بذلك العرف). ولعلّ هذا القول يلخّص حقيقة الموقف الشرعي عند الذين يقولون باعتبار الكفاءة من شروط النكاح.
وسأتناول مسألة الكفاءة في النكاح في المباحث التالية:
المبحث الأول: التعريف والشرح.
الكفاءة هي المماثلة والمساواة. والمقصود بها في النكاح أن يكون الزوج مساوياً لزوجته أو مقارباً لها في أمور مخصوصة تختلف حولها أنظار العلماء والمذاهب. وأهمّ هذه الأمور ما يلي:
1- الدين: والمراد به هنا التقوى والصلاح والامتناع عن المحرّمات، فلو تزوجت امرأة صالحة رجلاً فاسقاً كان قد خدعها بصلاحه ثمّ تبيّن خلاف ذلك، أو تزوجته بدون موافقة وليّها، أو زوّجها وليّها منه دون موافقتها، فلها أو لأوليائها حقّ فسخ النكاح. هذا هو مذهب الجمهور من الشافعية والحنابلة والمالكية وأكثر الأحناف والزيدية والجعفرية.(1/1)
2- النسب: وهو معتبر لجهة الآباء عند الأحناف والشافعية والحنابلة، ولهم في ذلك تفاصيل أكثرها لم يعد مقبولاً في مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة، وهم يستدلّون بحديث ابن عمر: (قريش بعضهم أكفاء لبعض، والعرب بعضهم أكفاء لبعض، قبيلة بقبيلة، ورجل برجل. والموالي بعضهم أكفاء لبعض، قبيلة بقبيلة، ورجل برجل، إلاّ حائك أو حجام). هذا الحديث رواه البيهقي في سننه (7/134)، وقال عنه الكمال بن الهمام: (إنّ هذا الحديث ضعيف بل لا يصحّ..) ومع ذلك فإنه قال: (يستأنس بالحديث الضعيف في ذلك)(1). وأخرجه الحاكم دون ذكر قريش كما في نصب الراية للزيلعي (3/197) ونقل عن ابن عبد الهادي أنه أعلَّ إسناده بالانقطاع. وقوله (قريش بعضها لبعض أكفاء) أورده ابن أبي حاتم في علل الحديث (1/424) ونقل عن أبيه أنه قال: هذا حديث منكر(2). ونقل السيد سابق في فقه السنّة (2/147) قول الدارقطني في الملل عن هذا الحديث: لا يصحّ. وقول ابن عبد البرّ: هذا منكر موضوع. وذكر الشوكاني في نيل الأوطار (6/146) كلّ روايات هذا الحديث عند الحاكم وابن عبد البرّ والبزار، كما ذكر العلل التي اعتمد عليها العلماء في تضعيف هذه الروايات.
عدم اعتبار النسب في الكفاءة:
__________
(1) - المفصّل في أحكام المرأة للدكتور عبد الكريم زيدان (6/333) نقلاً عن فتح القدير (2/430).
(2) - الموسوعة الفقهية الكويتية باب كفاءة (34/273).(1/2)
لكن يرى المالكية وكثير غيرهم أنّ النسب لا يعتبر من الكفاءة. قيل لمالك: إنّ بعض هؤلاء القوم قد فرّقوا بين عربية ومولى، فأعظم ذلك إعظاماً شديداً وقال: أهل الإسلام كلّهم بعضهم لبعض أكفاء، لقول الله تعالى في التنزيل: (يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم) الحجرات 13. وكان سفيان الثوري يقول: لا تعتبر الكفاءة في النسب لأنّ الناس سواسية . قال صلى الله عليه وآله وسلّم: (لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر إلاّ بالتقوى) أخرجه أحمد (5/411) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رجاله رجال الصحيح(1). ونقل الشوكاني عن عمر وابن مسعود ومحمّد بن سيرين وعمر بن عبد العزيز تأييد هذا المذهب، ورجّحه ابن القيم فقال: (.. فالذي يقتضيه حكمه صلى الله عليه وآله وسلّم اعتبار الكفاءة في الدين أصلاً وكمالاً، فلا تزوّج مسلمة بكافر، ولا عفيفة بفاجر. ولم يعتبر القرآن والسنّة في الكفاءة أمراً وراء ذلك، فإنه حرم على المسلمة نكاح الزاني الخبيث، ولم يعتبر نسباً ولا صناعة ولا غنى ولا حرمة، وجوَّز لغير القرشيين نكاح القرشيات، ولغير الهاشميين نكاح الهاشميات، وللفقراء نكاح الموسرات..)(2). والجدير بالذكر أنّ أمّ المؤمنين السيدة عائشة لا تشترط الكفاءة بين الزوجين لا في النسب ولا في غيره، وهي تجيز زواج القرشي بغير القرشية، وقالت: (إنّ أبا حذيفة بن عتبة وكان ممّن شهد بدراً مع النبي صلى الله عليه وآله وسلّم تبنّى سالماً، وأنكحه بنت أخيه هنداً بنت الوليد بن عتبة، وهو مولى لامرأة من الأنصار) رواه البخاري في باب النكاح.
رأينا في ذلك:
__________
(1) - المدونة الكبرى 3/163.
(2) - زاد المعاد (5/158) مؤسسة الرسالة- بيروت- الطبعة 14.(1/3)
والذي نراه أنه مع وجود أدلّة شرعية على اعتبار الكفاءة في عقد النكاح، فإنه لا يصحّ إدخال النسب في هذه الكفاءة (لأنّ مزية الإسلام الجوهرية هي الدعوة إلى المساواة، ومحاربة التمييز العرقي أو العنصري، ودعوات الجاهلية القبلية والنَسبية، وإعلان حجّة الوداع واضح أنّ الناس جميعاً أبناء آدم، وليس لعربي على عجمي فضل إلاّ بالتقوى)(1). ولعلّ من أهمّ مقاصد هذه الشريعة إلغاء التفاخر بالأنساب، وإقرار التمايز بالعمل الصالح وبالتقوى. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم في خطبته المشهورة(2)عند باب الكعبة يوم فتح مكّة المكرّمة: (يا معشر قريش، إنّ الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظُّمها بالآباء. الناس من آدم وآدم من تراب، ثمّ تلا الآية: (يا أيها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم) الحجرات 13. وفي مثل هذا المعنى قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: (إنّ الله عزّ وجلّ أذهب عنكم عُبيَّة الجاهلية وفخرها بالآباء، مؤمن تقي وفاجر شقي. أنتم بنو آدم وآدم من تراب. ليدعنّ رجال فخرهم بأقوام، إنما هم فحم من فحم جهنّم، أو ليكوننّ أهون على الله من الجعلان التي تدفع بآنفها النتن). أخرجه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح. والعبية: الكبر والنخوة. الجعلان: جمع جعل وهو دابة صغيرة. الآنف: جمع أنف.
وقد وردت أحاديث أخرى كثيرة تشهد لهذا المعنى، وهي وإن لم تبلغ درجة الصحّة، فهي على الأقلّ أحسن سنداً من الأحاديث التي يحتجّ بها الفقهاء في اعتبار النسب في الزواج، منها:
__________
(1) - الفقه الإسلامي وأدلّته للدكتور وهبة الزحلبي (7/245) دار الفكر – دمشق.
(2) - سيرة ابن هشام وغيرها من كتب السيرة.(1/4)
- حديث عقبة بن عامر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: (إنّ أنسابكم هذه ليست بسباب على أحد وإنما أنتم ولد آدم. طفّ الصاع لم يملؤه. ليس لأحد فضل على أحد إلاّ بالدين والعمل الصالح...)(1).
- وحديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: (إذا كان يوم القيامة أمر الله منادياً ينادي: ألا إني جعلت نسباً، وجعلتم نسباً. فجعلت أكرمكم أتقاكم فأبيتم إلاّ أن تقولوا: فلان بن فلان خير من فلان بن فلان، فاليوم أرفع نسبي وأضع نسبكم، أين المتّقون؟)(2).
- وعندما اختلف أبو ذر مع بلال، وقال له: يا ابن السوداء. غضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وقال لأبي ذرّ: أتعيرّه بأمّه؟ إنّك امرؤ فيك جاهلية، فندم أبو ذر ووضع خدّه على الأرض، وقال لبلال: قم فطأ عليه.(3)
3- المال واليسار:
__________
(1) - رواه أحمد والطبراني. وفيه ابن لهيعة فيه لين، وبقية رجاله وثقوا. مجمع الزوائد (8/159).
(2) - رواه الطبراني في الصغير والأوسط، وفيه طلحة بن عمرو وهو متروك. مجمع الزوائد (8/161).
(3) - هذه القصّة وردت في روايات كثيرة باختلاف يسير، ومنها ما أخرجه البخاري ومسلم.(1/5)
يرى الأحناف والحنابلة في إحدى الروايتين وبعض الشافعية، أنّ يسار الزوج يعتبر من عناصر الكفاءة في الزواج، لأنّ التفاخر بالمال أكثر من التفاخر بغيره عادة، ولأنّ على الموسرة ضرراً في إعسار زوجها، ولإخلاله بنفقتها ونفقة أولادها. والمعتبر في اليسار عندهم قدرة الزوج على مهر المثل وعلى النفقة، ولو لم يكن مساوياً لها في المال. ويروى عن أبي حنيفة ومحمّد أنّ المساواة في الغنى بين الزوج والزوجة شرط لتحقّق الكفاءة. كما يروى عن أبي يوسف أنّ المعتبر في يسار الزوج قدرته على النفقة فقط، لأنّ الناس عادة يتساهلون في المهر، ويعتبر الزوج قادراً عليه بيسار أبيه. والأصحّ عند الشافعية أنّ اليسار لا يعتبر في الكفاءة، لأنّ المال غاد ورائح، ولا يفتخر به أهل المروءات. والرواية الثانية عن الإمام أحمد بن حنبل أنّ اليسار ليس شرطاً في الكفاءة، لأنّ الفقر شرف الدين، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلّم: (أللهمّ أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً)(1). ويرى ابن عبّاس عدم اعتبار المال في الكفاءة، وقد سئل عن الكفء في النكاح فقال: الدين والنسب. (ابن أبي شيبة 1/233).
رأينا في ذلك:
والذي نراه أنّ المال لا يصحّ اعتباره - في خصال الكفاءة- شرطاً يسمح بطلب فسخ الزواج وذلك للأدلّة التالية:
__________
(1) - الموسوعة الفقهية الكويتية – باب كفاءة 34/278- المغني 6/485.(1/6)
أ قوله تعالى: (وأنكحوا الأيامى منكم، والصالحين من عبادكم وإمائكم، إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم) النور 32. والأيم هو الذي لا زوج له من الرجال أو النساء. والمعنى كما يقول المفسّرون: لا تمتنعوا من التزويج بسبب الفقر (إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله). وهذا وعد بالغنى للمتزوجين. قال الزجاج: حثَّ الله على النكاح وأعلم أنه سبب لنفي الفقر... ويدلّ عليه قوله تعالى: (وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء). وقد نقل القرطبي في تفسير هذه الآية قول ابن مسعود: (التمسوا الغنى بالنكاح)، وقول عمر: (عجبي ممّن لا يطلب الغنى بالنكاح)، واعتبر هذه الآية دليلاً على تزويج الفقير، وليس للزوجة فسخ النكاح بالإعسار لأنها دخلت عليه هكذا. ونقل الشوكاني في نيل الأوطار (4/30) عن ابن أبي حاتم عن أبي بكر الصديق قوله: (أطيعوا الله فيما أمركم من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى). وعن عبد الرزاق في المصنّف وعبد بن حميد عن قتادة قول عمر بن الخطاب: (ما رأيت كرجل لم يلتمس الغنى في الباءة، وقد وعد الله فيها ما وعد)، وعن البزار والدارقطني في العلل والحاكم وابن مردويه والديلمي من طريق عروة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله صلى الله عليه وآله وسلّم: (أنكحوا النساء، فإنهنّ يأتينكم بالمال). فالله تعالى شرع التزويج رغم وجود الفقر، بل شجّع عليه ووعد بأن يكون الزواج سبباً للغنى، وهذا يقطع بعدم فسخ الزواج بسبب الفقر، وبعدم اعتبار المال أو اليسار من خصال الكفاءة.(1/7)
ب وقد روى البخاري – في باب النكاح- عن سهل رضي الله عنه قال: (مرَّ رجل غني على النبي صلى الله عليه وآله وسلّم فقال: ما تقولون في هذا؟ قالوا: حري إن خطب أن ينكح، وإن شفّع أن يشفّع، وإن قال أن يسمع. قال: ثمّ سكت، فمرَّ رجل من فقراء المسلمين فقال: ما تقولون في هذا؟ قالوا: حري إن خطب أن لا ينكح، وإن شفّع أن لا يشفّع، وإن قال أن لا يسمع. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم: هذا خير من ملء الأرض مثل هذا). ومفهوم هذا النصّ واضح أنّ الفقر ليس سبباً للامتناع عن تزويجه، أو لفسخ الزواج بعد حصوله. هذا ما فهمه الإمام البخاري نفسه عندما جعل عنوان هذا الباب (باب الأكفاء في الدين)، واعتبر الكفاءة المعتبرة في النكاح هي الدين.
4- الحرفة: هي نوع العمل الذي يطلب به الرزق كالزراعة أو الصناعة أو التجارة أو غيرها. مرَّ معنا أنّ المالكية لا يعتبرون الكفاءة إلاّ في الدين. وقد اختلفت أقوال فقهاء المذاهب الثلاثة في مسألة اعتبار الحرفة من خصال الكفاءة. فروي عن أبي حنيفة وأحمد: (أنّ الحرفة غير معتبرة في الكفاءة في النكاح) كما روي عن الشافعي: (أنّ الكفاءة في الدين) مختصر البوطي. والرواية الثانية عن أحمد أنّ الحرفة (أو الصناعة) شرط في الكفاءة، واستند إلى الحديث: (العرب بعضهم لبعض أكفاء إلاّ حائكا أو حجاماً..) قيل لأحمد: كيف تأخذ به وأنت تضعفه؟ قال: العمل عليه. وروي عن أبي يوسف عدم اعتبار الكفاءة في الحرفة، إلاّ أن تكون فاحشة. ومع ذلك فالراجح في المذاهب الثلاثة اعتبار الكفاءة في الحرفة رغم الاختلاف بينهم في التفصيل، لكنّهم متّفقون على اعتبار العرف في ذلك.
5- وقد اعتاد الفقهاء في مبحث خصال الكفاءة أن يذكروا مسألتين:
أ الحرية: فالعبد ليس كفء للحرّة، ولا أرى حاجة لذكر هذه المسألة بعد انتهاء الرقّ في جميع بلاد العالم.
ب السلامة من العيوب وسنبحث هذه المسألة عند الحديث عن فسخ الزواج أو التفريق بين الزوجين.(1/8)
المبحث الثاني: الحكم الشرعي في الكفاءة.
لقد وقع خلاف كبير بين المذاهب، وداخل كلّ مذهب حول الحكم الشرعي للكفاءة ونحن نلخّص أولاً الأقوال الواردة في هذا الموضوع ثمّ نبيّن ما نميل إليه، فنقول:
الرأي الأول: الكفاءة شرط في صحّة عقد النكاح:
ذهب الحنفية- في رواية الحسن المختارة للفتوى عندهم- وبعض المالكية، ورواية عن أحمد وأحد قولين عند الشافعية، إلى أنّ الكفاءة شرط في صحّة النكاح، ومعنى ذلك أنّ العقد لا يصحّ أصلاً إذا لم يوجد شرط الكفاءة:
? روي عن أبي حنيفة وأبي يوسف: (أنّ نكاح البالغة العاقلة، إذا زوجت نفسها من غير الكفء، نكاح لا يجوز) وعلّلوا ذلك بأنه: (كم من واقع لا يرفع)(1).
? ذهب النخعي وابن فرحون وابن بشير من المالكية إلى: (منع تزويج المرأة من الفاسق ابتداءً، وأنه ليس لها ولا لوليها الرضا بذلك، لأنّ مخالطة الفاسق ممنوعة، وهجره واجب شرعاً فكيف بخلطة النكاح؟ فإذا وقع وتزوجها لزم فسخه أيضاً)(2).
? قال أحمد: (إذا تزوّج المولى العربية فرِّق بينهما، وقال في الرجل يشرب الشراب – أي الخمر- ما هو بكفء لها يفرّق بينهما. وقال: لو كان المتزوّج حائكاً فرّق بينهما لقول عمر رضي الله عنه: لأمنعنّ فروج ذوات الأحساب إلاّ من الأكفاء. ولأنّ التزوّج مع فقد الكفاءة تصرّف في حقّ من يحدث من الأولياء بغير إذنه، فلم يصحّ، كما لو زوجها بغير إذنها)(3).
? وعند الشافعية: (أنه لو زوج المرأة أحد أوليائها المستوين في الدرجة بغير الكفء برضاها، دون رضى باقي الأولياء المستوين، لم يصحّ التزويج به، لأنّ لهم حقاً في الكفاءة فاعتبر رضاهم. وفي قول: يصحّ العقد ولهم الفسخ)(4).
الرأي الثاني: الكفاءة شرط لزوم لعقد النكاح:
__________
(1) - شرح العناية على الهداية في فقه الحنفية (2/393).
(2) - حاشية الدسوقي (3/248).
(3) - المغني لابن قدامه الحنبلي (6/480).
(4) - مغني المحتاج في فقه الشافعية (3/164).(1/9)
معنى ذلك أنه إذا زوجت المرأة نفسها من غير كفء بدون موافقة وليها، أو إذا زوجها وليها من غير كفء بدون موافقتها، فلكلّ منهما حقّ طلب فسخ العقد. فهو عقد صحيح لكنّه يقبل الاعتراض والفسخ لأنّ الكفاءة حقّ للمرأة والأولياء، فإن رضوا بإسقاطها فلا اعتراض عليهم. هذا هو مذهب جمهور الفقهاء من الشافعية والحنفية، وهو الأصحّ عند الحنابلة كما قال في المقنع والشرح(1).
? فعند الشافعية: (الكفاءة المعتبرة في النكاح دفعاً للعار، وليست شرطاً في صحّة النكاح، بل هي حقّ للمرأة والولي، فلهما إسقاطها..) ولو زوّجها أحد الأولياء المستوين بغير كفء برضاها دون رضاهم لم يصحّ، وفي قول يصحّ ولهم الفسخ. والظاهر أنّ الشربيني يرجّح القول الثاني أنّ العقد يصحّ ولهم الفسخ، إذ يشير أنّ هذا القول (نصّ عليه في الإملاء) وأنّ (النقصان يقتضي الخيار لا البطلان)(2).
? وعند الحنفية: (ينعقد نكاح العاقلة البالغة برضاها، وإن لم يعقد عليها ولي... ثمّ في ظاهر الرواية لا فرق بين الكفء وغير الكفء، ولكن للولي الاعتراض في غير الكفء)(3)ويقيد الحنفية حقّ الاعتراض للولي بما إذا لم تلد الزوجة من الزوج، (أما إذا ولدت فليس للأولياء حقّ الفسخ، كي لا يضيع الولد عمّن يربيه)(4).
? وعند الحنابلة: (ولا يشترط الكفاءة، فلو زوجت بغير الكفء صحّ، وكذا برضى بعضهم على الأصحّ. ولمن لم يرض الفسخ متراخياً، ذكره القاضي وغيره. وعنه: هي شرط واختاره الخرقي وجماعة)(5).
__________
(1) - الموسوعة الفقهية الكويتية، باب كفاءة (34/268).
(2) - مغني المحتاج في فقه الشافعية (4/271) دار الكتب العلمية – بيروت.
(3) - الهداية (2/391).
(4) - العناية على الهداية (2/393).
(5) - الفروع لابن مفلح (5/189) الطبعة الثانية 1963- قطر.(1/10)
وقد استدلّ هؤلاء الفقهاء على مذهبهم بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلّم أنه زوّج بناته ولا أحد يكافئه، وبأنه أمر فاطمة بنت قيس وهي قرشية أن تنكح مولاه أسامة بن زيد فنكحها بأمره (مسلم)، وأنه زوَّج زيد بن حارثة ابنة عمّه زينب بنت جحش الأسدية (الطبري في تفسيره). كما استدلّوا بأنّ الكفاءة لا تخرج عن كونها حقاً للمرأة والأولياء فلم يشترط وجودها(1).
الرأي الثالث: الكفاءة شرط لزوم لعقد النكاح، لكنها محصورة بالدين والحرية والسلامة من العيوب، ولا يدخل فيها النسب والحرفة والمال.
هذا هو الرأي المعتمد عند المالكية: (الكفاءة... والمراد بها المماثلة في ثلاثة أمور على المذهب: الحال والدين والحرية) والمقصود بالحال: السلامة من العيوب الموجبة للرد. وبالدين: كونه ذا ديانة احترازاً من أهل الفسوق. وبالحرية: أن لا يكون عبداً رقيقاً.
ويجوز للزوجة وللولي ترك الكفاءة والرضا بعدمها (فإن لم يرضيا معاً، فالقول لمن امتنع منهما، وعلى الحاكم منع من رضي منهما. وليس للأب جبر البكر على فاسق أو ذي عيب، فإن تزوجها الفاسق أو ذو العيب أو العبد، فلها وللولي الردّ والفسخ) يقول الصاوي المالكي في حاشيته على الشرح الصغير شارحاً هذه المسألة: (أنه إذا وقع وتزوجها الفاسق ففي العقد ثلاثة أقوال:
الأول: لزوم فسخه بفساده وهو ظاهر قول اللخمي وابن بشير.
والثاني: أنه صحيح وشهره الفاكهاني.
والثالث لأصبغ: إن كان لا يؤمن منه رده الإمام وإن رضيت به...
والذي قرره في الحاشية أنّ المعتمد القول بصحّة العقد الذي شهره الفاكهاني.(2)
الرأي الرابع: الكفاءة غير معتبرة في عقد النكاح:
__________
(1) - الموسوعة الفقهية الكويتية – باب كفاءة (34/268).
(2) - الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك، للدردير وبهامشه حاشية الصاوي (2/401) دار المعارف بمصر.(1/11)
هذا هو رأي الكرخي والجصاص من الأحناف، وهو قول في مذهب الحنابلة رجّحه ابن قدامة فقال: (..والصحيح أنها – الكفاءة- غير مشترطة، وما روي فيها يدلّ على اعتبارها في الجملة ولا يدلّ على اشتراطها) المغني (6/481). وذكر أنّ هذه الرواية عند أحمد هي: (قول أكثر أهل العلم، روي نحو هذا عن عمر وابن مسعود وعمر بن عبد العزيز وعبيد بن عمير وحماد بن أبي سلمان وابن سيرين وابن عون ومالك والشافعي وأصحاب الرأي...) المغني (6/480). ونسب هذا القول أيضاً إلى سفيان الثوري والحسن البصري (الموسوعة الفقهية الكويتية – باب كفاءة 34/269)، وهو رأي ابن حزم الظاهري الذي يقول: (وأهل الإسلام كلّهم إخوة، لا يحرم على ابن زنجية نكاح ابنة الخليفة الهاشمي..) المحلى (10/24). ويستدلّ أصحاب هذا الرأي بما يلي:
أ النصوص العامّة كقوله تعالى: (إنما المؤمنون إخوة) الحجرات 10، (فانكحوا ما طاب لكم من النساء..) النساء 3، (وأحلّ لكم ما وراء ذلكم..) النساء 24، (إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم..) الحجرات 3، (لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلاّ بالتقوى..)(1).
ب مجموعة من الأحاديث الصحيحة التي تؤّكد عدم اعتبار الكفاءة في الزواج منها:
- حديث أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم قال: (يا بني بياضة، انكحو أبا هند وانكحوا إليه. قال: وكان حجاماً) وأبو هند هو مولى بني بياضة وليس منهم. أخرجه أبو داود (2/579) والحاكم (2/164) وصححه ووافقه الذهبي. ولو كانت الكفاءة معتبرة لما أمر رسول الله بهذا الزواج.
__________
(1) - من خطبة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم في حجّة الوداع. راجع كتب السيرة وكتاب الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة. د. محمّد حميد الله – دار الإرشاد- بيروت. وقد أخرج هذا النصّ الإمام أحمد (5/411) وقال الهيثمي في المجمع (3/266) رجاله رجال الصحيح.(1/12)
- حدبث عائشة: (أنّ أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وكان ممّن شهد بدراً مع النبي صلى الله عليه وآله وسلّم تبنى سالماً، وأنكحه ابنة أخيه الوليد بن عتبة بن ربيعة، وهو مولى امرأة من الأنصار) رواه البخاري.
- وقد (أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلّم فاطمة بنت قيس أن تنكح أسامة بن زيد مولاه فنكحها بأمره) متّفق عليه. وزوّج أباه زيد بن حارثة ابنة عمّته زينب بنت جحش الأسدية. رغم أنها امتنعت عن ذلك لنسبها في قريش ولأنّ زيداً كان عبداً وقالت: أنا خير منه حسباً، فنزل قول الله عزّ وجلّ: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) الأحزاب 36. فرضيت وسلّمت. (أسباب النزول للسيوطي)(1)، وذكر هذه الرواية الطبراني بسند صحيح.
- وقد خطب بلال رضي الله عنه إلى قوم من الأنصار، فأبوا أن يزوجوه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم قل لهم: إنّ رسول الله يأمركم أن تزوجوني. أمرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلّم بالتزويج رغم عدم الكفاءة.(2)
ج وأنّ جميع الأحاديث الواردة صراحة في موضوع اعتبار الكفاءة لم تبلغ درجة يعتدّ بها عند علماء الحديث، وأهمّها ما يلي:
? (تخيروا لنطفكم، وانكحوا الأكفاء، وانكحوا إليهم) السنن الكبرى للبيهقي (7/133)، وسنن ابن ماجة (2/477)، الدارقطني (3/299)، والحاكم (2/163) وجميع هذه الروايات فيها: الحارث بن عمران المدني ضعيف، قال فيه أبو حاتم: ليس بالقوي. والحديث الذي رواه لا أصل له. قال ابن عدي: والضعف على رواياته بيِّن. وقال الدارقطني: متروك.
__________
(1) - المفصّل في أحكام المرأة للدكتور عبد الكريم زيدان (6/326) مؤسسة الرسالة – بيروت نقلاً عن البدائع (2/317).
(2) - المرجع السابق (6/326) نقلاً عن البدائع (2/317)(1/13)
? (ألا لا يزوّج النساء إلاّ الأولياء، ولا يزوّجن إلاّ من الأكفاء) رواه البيهقي (7/211) عن مبشر بن عبيد عن الحجاج بن أرطأة، وقال عنه: ضعيف بمرة. ونقل عن علي أنّ مبشر بن عبيد متروك الحديث، ونقل عن الإمام أحمد أنه حديث ضعيف لا تقوم بمثله الحجّة. وقال ابن حبّان: مبشر بن عبيد يروي عن الثقات الموضوعات. وقال ابن القطان: الحجاج بن أرطأة ضعيف، ويدلس عليه الضعفاء(1).
يقول الدكتور عبد الكريم زيدان(2): (هذا الحديث وإن كان ضعيفاً، لكن قوي بتضافر الشواهد، ومنها ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (لأمنعنّ فروج ذوات الأحساب إلاّ من الأكفاء). وقد نقل مثل ذلك الفقيه المحدّث قاسم قطلوبغا عن ابن الهمام (فتح القدير 2/417). هذا الأثر عن عمر أخرجه البيهقي في سننه (7/215) والدارقطني في سننه (3/206)، وهو وإن وصل إلى درجة الحسن، إلاّ أنه ليس دليلاً على اعتبار الكفاءة شرطاً في النكاح، إذ من المعروف أنّ حقّ الأمير الالزام في المسائل الاجتهادية، وقد يكون من رأي عمر اعتبار الكفاءة شرطاً للنكاح مراعاة للواقع الاجتماعي، ولأنّ العرب كانوا يتعيرون أو يتشرفون بالأنساب، ومن المعروف أنّ الفقهاء الذين يعتبرون الكفاءة شرطاً في لزوم النكاح يعتبرونها تابعة لأعراف الناس بحسب مجتمعاتهم.
__________
(1) - الكفاءة في النكاح- قاسم بن قطلوبغا – ص24- دار البشائر الإسلامية –بيروت.
(2) - المفصّل في أحكام المرأة (6/327) مؤسسة الرسالة – بيروت.(1/14)
? (يا علي ثلاث لا تؤخرها: الصلاة إذا آذنت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت كفؤاً) أخرجه البيهقي والحاكم وقال صحيح الإسناد. وأخرجه أيضاً ابن ماجة وابن حبّان والترمذي(1)وقال: حديث غريب حسن. لكن من الواضح أنّ هذا الحديث لا يمكن أن يستنتج منه إلاّ الحضّ على تزويج الأيم إذا جاءها الكفء. أما اعتبار الكفاءة شرطاً في صحّة الزواج أو لزومه فهو أمر آخر. كما أنه يمكن اعتبار الكفاءة هنا محصورة بالدين كما يرى المالكية وكثير من الفقهاء.
يؤيّد ذلك أنّ الصلاة في أول الوقت فضيلة لكن ليست شرطاً في صحّة الصلاة، وكذلك صلاة الجنازة لمن حضرها، والإسراع بالجنازة لدفن الميت كلّها من الفضائل لكنّها ليست فرائض ولا شروطاً.
? (العرب بعضهم لبعض أكفاء، قبيلة لقبيلة، وحي لحي، ورجل لرجل، إلاّ حائكاً أو حجاماً) وقد ذكرنا تضعيف علماء الحديث لجميع الروايات الواردة في هذا المعنى، وقول بعضهم أنه منكر موضوع، فلا حاجة لإعادتها.
ح اما الأحاديث التي لا تنصّ صراحة على الكفاءة، لكن العلماء استنتجوا منها اعتبار الكفاءة شرطاً في لزوم النكاح، فمنها الصحيح الذي قد يدلّ على ذلك، وهذه كلّها محصورة في الدين والخلق، ومنها غير الصحيح الذي يحتمل أنه إشارة إلى اعتبار الكفاءة في الزواج، أو اعتبارها في غير ذلك. من هذه الأحاديث:
? (إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلاّ تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كيبر) وقد ذكرنا سابقاً روايات هذا الحديث، ونشير هنا إلى أنّ كثيراً من الفقهاء يعتبرون هذا الحديث دليلاً على اعتبار الكفاءة في الزواج. وهو كما نرى حضّ شديد على تزويج صاحب الدين والخلق، وتهديد لمن لم يفعل ذلك، لكنّه لا يصحّ دليلاً على اعتبار الكفاءة شرطاً لصحّة الزواج أو للزومه.
__________
(1) - الفتح الرباني في ترتيب مسند الإمام أحمد (2/227).(1/15)
? حديث فاطمة بنت قيس: (إنّ أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي خسيسته) فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم الأمر إليها، فقالت: (قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن أعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء)(1).
لكن الاستدلال بهذا الحديث غير صحيح، لأنّ ابن عمّ البنت عادة كفء لها، وبالتالي فإنّ كلام فاطمة لا ينسجم مع شروط الكفاءة عند من يقول بها. ومن الواضح أنّ الأب هنا زوّج ابنته بدون رضاها، فيمكن أن يكون جَعْلُ الأمر إليها لأنّ موافقة المخطوبة شرط في صحّة الزواج أو لزومه، وليس لعدم وجود الكفاءة. يؤيد هذا أنّ علماء الحديث يذكرون هذه القصّة وأمثالها في باب الإجبار والاستئمار وضرورة موافقة المخطوبة على الزواج من خاطبها.
? (إنّ الله اصطفى كنانة من بني إسماعيل، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم، فأنا خيار من خيار من خيار)(2). وقد اعتمد بعض الفقهاء على هذا الحديث لاعتبار أنّ غير الهاشمي والمطّلبي ليس كفؤاً لباقي قريش. وواضح أنّ النصّ لا يساعد على ذلك, لأنّه أصلاً يتعلّق برسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم, وهو يؤكّد أنه خيار من خيار من خيار، فكيف يعتبر الخيار الثالث غير مكافئ للثاني والثاني غير مكافئ للأول، وليس في النصّ ما يشير إلى ذلك، بل الحديث يصف الجميع بأنهم خيار.
__________
(1) - رواه ابن ماجه وأحمد والنسائي من حديث ابن بريدة، وإسناد رجاله رجال الصحيح كما قال الشوكاني في نيل الأوطار (6/145)
(2) - رواه مسلم.(1/16)
? حديث فاطمة بنت قيس أنّ معاوية وأبا جهم خطباها، فاستشارت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم فقال: (أما أبو جهم فلا يضع عصاه على عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، انكحي أسامة بن زيد) فنكحته(1). وكلّ ما فيه أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم لم ينصحها بالزواج من معاوية لأنه فقير لا مال له، وهي قبلت منه هذه النصيحة. وهذا يؤكّد اعتبار قدرة الخاطب المالية عند الموافقة على الزواج منه، لكن ليس فيه ما يدلّ على اشتراط ذلك لصحّة الزواج أو لعدمه. والحديث نصّ واضح في عدم الاعتداد بالنسب. ففاطمة قرشية وهي من المهاجرات الأول، وكانت ذات جمال وفضل وكمال، وأسامة مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم وأبوه كذلك مولى، وقد قدّمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم على أبي جهم ومعاوية وهما أكفاءها من قريش. ولم يطلب من أحد من أوليائها إسقاط حقّه.
? (الحسب المال والكرم التقوى)(2). وهناك أحاديث أخرى في هذا المعنى يعتمد عليها الفقهاء للقول أنّ الكفاءة في المال أو اليسار شرط لزوم لصحّة النكاح، ومن الواضح أنّ هذا الحديث – وأمثاله- لا يصحّ دليلاً على ذلك، وأقصى ما فيه اعتبار المال مما يرفع حسب الرجل، وليس فيه اعتبار أنّ الحسب أو المال يمكن أن يكون أو لا يكون شرطاً في النكاح.
__________
(1) - رواه مسلم.
(2) - أخرجه البيهقي في السنن الكبرى وأحمد في المسند والترمذي وصححه والحاكم وصححه.(1/17)
? حديث بريرة، وقد وردت حوله روايات أكثرها صحيح وأغلبها عن عائشة وخلاصتها: أنّ زوج بريرة كان عبداً أسود اسمه مغيث، وأنها اعتقت، فخيّرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم أن تمكث عنده أو تفارقه. وفي رواية عند مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي قالت عائشة: (ولو كان حراً لم يخيرها). وفي رواية لأبي داود: (إن قربك فلا خيار لك). وفي رواية عند الخمسة: (كان زوج بريرة حراً، فلما اعتقت خيرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم). وفي رواية عند الدارقطني أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلّم قال لبريرة لما أعتقت: (قد عتق بضعك معك فاختاري). وقد ذكر الشوكاني في نيل الأوطار رواية أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلّم قال لبريرة: (ملكت نفسك فاختاري) دون أن يبيّن مصدر هذه الرواية. والفقهاء متّفقون على أنّ بريرة اعتقت، وعلى أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم خيّرها فاختارت نفسها. وهم مختلفون: هل كان زوجها حراً أم عبداً عندما أعتقت؟ وذلك بسبب الاختلاف بين الروايات.
فأكثر العلماء يقولون: أنه كان عبداً، وبعضهم يقول أنه كان حراً.
ويترتّب على ذلك اختلافهم فيما إذا كان الزوج حراً هل يثبت الخيار لها بعد ان أصبحت حرّة أم لا؟
فأكثر العلماء يقولون: لا يثبت لها الخيار، لأنّ العلّة في الفسخ عدم وجود الكفاءة، وهذه العلّة تنتفي إذا كان الزوج حراً.(1/18)
وذهب الشعبي والنخعي والثوري وأحمد في أحد قولين والحنفية إلى أنه يثبت الخيار ولو كان الزوج حراً، واستدلوا على ذلك بالروايات التي تقول أنه كان حراً، وبالروايات التي تقول: (ملكت نفسك فاختاري)، (وقد عتق بضعك معك فاختاري). وظاهر هذه الروايات يشير إلى أنّ سبب التخيير هو ملكها لنفسها، وذلك مما يستوي فيه الحرّ والعبد. ويظهر أنّ ابن القيم يرجّح هذا الرأي لأنّ (السيّد عقد عليها بحكم الملك حيث كان مالكاً لرقبتها ومنافعها، والعتق يقتضي تمليك الرقبة والمنافع للمعتق، فإذا ملكت رقبتها ملكت بضعها ومنافعها، ومن جملتها منافع البضع، فلا يملك عليها إلاّ باختيارها. ولذلك خيّرها الشارع بين أن تقيم مع زوجها، وبين أن تفسخ نكاحه).
يقول الإمام الشافعي في رواية البويطي: (أصل الكفاءة مستنبط من حديث بريرة، وكان زوجها غير كفء لها، فخيّرها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم)(1).
لكن هذا الاستدلال من قبل الإمام الشافعي بحديث بريرة لاعتبار الكفاءة شرطاً في لزوم النكاح يناقش من جهتين:
الأولى: أنّ مسألة الكفاءة هنا مبنية على كونه حراً أو عبداً، وهذه مسألة خلافية كما ذكرنا، ورغم أنّ الأرجح أنه كان عبداً إلاّ أنّ الاحتمال الآخر قائم، ومع الاحتمال يبطل الاستدلال.
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي (7/213)(1/19)
الثانية: لو سلّمنا أنه كان عبداً، فإنّ الكفاءة بينهما لهذه الجهة كانت موجودة وقت العقد، ولا اعتبار لزوالها بعد ذلك. (هذا هو مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة. فلو كان الزوج عند عقد النكاح مستوفياً لخصال الكفاءة ثمّ زالت هذه الخصال أو اختلفت، فإنّ العقد لا يبطل بذلك)(1). إلاّ أنّ الشافعية يستثنون من ذلك حالة العتق تحت رقيق كما حصل لبريرة. جاء في الفتاوى الهندية في فقه الحنفية: (ثمّ الكفاءة تعتبر عند ابتداء النكاح، ولا يعتبر استمرارها بعد ذلك، حتى لو تزوّج وهو كفء، ثمّ صار فاجراً داعراً لا يفسخ النكاح).
المعمول به اليوم في بعض البلاد الإسلامية:
- كثير من البلاد الإسلامية تعتمد في قوانينها الشرعية المعاصرة أنّ الكفاءة شرط للزوم النكاح. وقد كان هذا هو المقرّر في قانون حقوق العائلة العثماني(2)الصادر عام 1917 والذي لا يزال سارياً في لبنان بالنسبة للمسلمين السنّة. وتنصّ المادة 45 منه على ما يلي: (يشترط في لزوم النكاح أن يكون الرجل كفئاً للمرأة في المال والحرفة وأمثال ذلك. والكفاءة في المال أن يكون الزوج مقتدراً على إعطاء المهر المعجّل وعلى القيام بنفقة الزوجة. والكفاءة في الحرفة أن تكون تجارة الزوج أو خدمته التي سلكها مقاربة في الشرف لتجارة ولي الزوجة أو خدمته). كما تنصّ المواد التالية (47-48-49) على حقّ الزوجة أو الولي في (طلب فسخ النكاح لعدم الكفاءة).
__________
(1) - الموسوعة الفقهية الكويتية – باب كفاءة (34/270).
(2) - قانون حقوق العائلة- المجلة القضائية- مطبعة صادر ص3.(1/20)
- وينصّ قانون الأحوال الشخصية السوري(1)الصادر عام 1953 على أنّه: (يشترط في لزوم الزواج أن يكون الرجل كفؤاً للمرأة) م26، وعلى أنه: (إذا زوجت الكبيرة نفسها من غير موافقة الولي، فإن كان الزوج كفؤاً لزم العقد، وإلاّ فللولي طلب فسخ النكاح) م27، وعلى أنّ: (العبرة في الكفاءة لعرف البلد) م28، وعلى أنّ: (حقّ الكفاءة ملك للزوجة وللولي) م29، وعلى أنه: (يسقط حقّ الفسخ لعدم الكفاءة إذا حملت المرأة) م30.
- ولم تذكر (مدونة الأسرة) في المغرب الصادرة بالقانون رقم (7003) عام 2004، الكفاءة لا كشرط صحّة، ولا كشرط لزوم. والظاهر أنها اكتفت بذكر العيوب التي تبرّر طلب إنهاء الحياة الزوجية من قبل الزوجين (م107). أما اشتراط الكفاءة في الحرية فلم يعد لها فائدة بعد انتهاء نظام الرقّ. وأما الكفاءة في الدين فالظاهر أنها تركت لتراضي الزوجين بدون حاجة للنصّ عليها.
- وقد نصّ قانون الأسرة اليمني(2)على أنّ: (الكفاءة معتبرة في الدين والخلق، وعمادها التراضي، ولكلّ من الزوجين طلب الفسخ لانعدام الكفاءة) م46.
- وقد نصّ قانون الأحوال الشخصية في قطر(3)على أنّ: (الكفاءة شرط في لزوم الزواج، والعبرة فيها بالصلاح في الدين والخلق عند العقد) م33، وأنها: (حقّ خاص للمرأة والولي) م34، وأنه: (يسقط حقّ طلب الفسخ لانتفاء الكفاءة بحمل الزوجة، أو انقضاء سنة على عقد الزواج) م37.
رأينا في مسألة الكفاءة
في ضوء ما ذكرنا يمكننا تلخيص رأينا في مسألة الكفاءة في النكاح ضمن النقاط التالية:
__________
(1) - شرح قانون الأحوال الشخصية- للدكتور مصطفى السباعي – المكتب الإسلامي- دمشق- الطبعة السابعة (1/149 وما بعدها)
(2) - أحكام الأسرة في الشريعة الإسلامية- للدكتور علي أحمد القليصي (1/59) مكتبة الجيل الجديد – صنعاء.
(3) - الأسرة في التشريع الإسلامي- الدكتور محمد الدسوقي- صفحة 145- دار الثقافة- الدوحة.(1/21)
1- ليس هناك دليل نقلي يبرّر اعتماد الكفاءة كشرط لصحّة عقد النكاح أو لزومه. وأكثر الأحاديث الواردة في ذلك لم تبلغ درجة الصحّة، وما كان منها صحيحاً جاءت دلالته على المطلوب ضعيفة.
2- الأحاديث الصحيحة الواردة في هذه المسألة تحصر الكفاءة بالدين والخلق والحرية. وبما أنّ الرقّ قد انتهى في هذا العصر، فإنّ الكفاءة التي يمكن اعتبارها في عقد النكاح هي كفاءة الدين والخلق، هذا هو مذهب المالكية، وأكثر علماء الحديث يميلون إلى هذا الرأي وفي مقدّمتهم البخاري الذي جعل عنوان هذا الباب في صحيحه: (باب الأكفاء في الدين)، ومسلم الذي جعل عنوان هذا الباب في صحيحه أيضاً: (في نكاح ذات الدين). والترمذي الذي عنون: (باب إذا جاءكم من ترضون دينه فزوجوه)، وأبو داود: (باب ما يؤمر به من تزويج ذات الدين)، وابن ماجه جعل عنوانه: (باب الأكفاء) لكنّه لم يذكر من خصال الكفاءة إلاّ الخلق والدين. ولا شكّ أنّ الجمهور الأكبر من الفقهاء ومن جميع المذاهب يقولون باعتبار الكفاءة في الدين والخلق، بل ادّعى بعضهم الإجماع على ذلك.
لكن جميع هذه الأحاديث تؤكّد ضرورة اعتبار الكفاءة في الدين والخلق عند الإقدام على النكاح، وليس فيها ما يشير إلى اعتبار الكفاءة شرطاً لصحّة العقد أو لزومه.
3- الأدلّة النقلية في القرآن الكريم والسنّة الصحيحة، والمبادئ العامّة، ومقاصد الشريعة الإسلامية، وبعض النصوص الخاصّة المتعلّقة بالنكاح وبالكفاءة، كلّها تتضافر على عدم اعتبار النسب أو المال أو الحرفة كشروط في صحّة عقد النكاح أو لزومه. أما ما توافق عليه بعض الفقهاء في هذا المجال فهو نتيجة لمراعاة أعراف الناس ومسايرة عاداتهم فيما لا يخالف المبادئ العامّة، لكنّ بعضهم وقع في مثل هذه المخالفة.(1/22)
4- بعض الفقهاء يقول أنّ الجمهور يعتمد الكفاءة في النسب أو المال أو الحرفة كشرط لصحّة النكاح أو لزومه، هذا الكلام الشائع في كتب الفقهاء غير دقيق، إذ في كلّ مذهب خلاف كبير حول هذه المسائل، وتكاد لا تجد مذهباً اتّفق فقهاؤه على رأي واحد. فعند أحمد روايتين والصحيح عدم الاشتراط، والرواية عن الشافعي أنّ الكفاءة في الدين فقط. وعند الأحناف خالف الكرخي والجصاص. فضلاً عن أنّ المالكية لا يعتبرون الكفاءة إلاّ في الدين.
5- جميع الفقهاء الذين يعتبرون الكفاءة شرطاً في لزوم عقد النكاح يربطونها بأعراف الناس، لأنّ الدليل المعتمد عندهم – في غياب النصوص الصحيحة- هو الحرص على انتظام الحياة الزوجية، وهذا لا يتحقّق إلاّ عند مراعاة الأعراف في الكفاءة بين الزوجين. ولذلك فهم يقولون: أنه إذا تغيّرت الأعراف، ولم يعد النسب معتبراً فإنه لا يعود شرطاً للكفاءة. وكذلك اختلف الأحناف حول اعتبار الكفاءة في المال، وهل يشترط فيها القدرة على المهر فقط أم على المهر والنفقة، وذلك بناءً على الاختلاف في أعراف الناس.كما قالوا بأنّ الكفاءة في الحرفة تتغيّر حسب الأعراف، وقد يعتبر الناس إحدى الحرف دنيئة، بينما يعتبرها غيرهم شريفة.
6- الأعراف اليوم تغيرت كثيراً سواء في البلاد العربية أو الإسلامية أو الغربية، ولم تعد الأنساب خالصة كما كانت سابقاً، ولم يعد التفاخر بها مقبولاً. كما اختلفت النظرة إلى كثير من الحرف التي كانت تعتبر دنيئة، وأصبح العمل في أي حرفة شرف لصاحبها – ما لم تكن حراماً-. وقد كان لشيوع الوعي الإسلامي أكبر الأثر في تعديل الأعراف، كما أنّ الأعراف المعاصرة ساهمت في ذلك. يضاف إلى هذا أنّ ثلث المسلمين اليوم يعيشون كأقليات في بلاد غير إسلامية، ويتأثرون بأعرافها، كما أنّ المسلمين أنفسهم شاع بينهم التزاوج على اختلاف الجنسيات مما يجعل اعتبار النسب في الكفاءة نادراً جداً.(1/23)
7- بناءً على ذلك فإننا نرى حصر اعتبار الكفاءة بالدين والخلق.
- فهذا القدر من الكفاءة يكاد ينعقد عليه الإجماع.
- وتؤيده نصوص صريحة صحيحة سبق أن ذكرناها مع تخريجها.
- وتشهد له المبادئ العامّة الحاكمة، والمقاصد الشرعية.
- ولعدم وجود دليل نقلي صحيح على اعتبار سائر خصال الكفاءة.
- ولأنّ اعتبار خصال النسب والحرفة والمال في الكفاءة بناه الفقهاء على دليل عقلي هو الحرص على انتظام الحياة الزوجية، وربطوه بالأعراف. وقد تغيّرت اليوم هذه الأعراف.
8- كما نرى اعتبار (الكفاءة في الدين والخلق) من الأحكام التوجيهية، وليست من شروط لزوم النكاح أو صحّته، لأننا نعتبر أنّ موافقة الزوجة نفسها شرط في صحّة عقد النكاح، وموافقة وليها شرط في لزومه، وهذا كاف لتحقيق المقصود فإنّ موافقة الزوجة أو الولي قد تبنى على وجود الكفاءة أو على أي سبب آخر. وهذا ما سنشرحه فيما بعد.
فيكفي في رأينا أن يكون للزوجة حقّ طلب إبطال الزواج إذا تمّ بدون موافقتها، وأن يكون للولي حقّ طلب فسخ الزواج لأي سبب مشروع إذا لم يكن موافقاً عليه قبل العقد، والقضاء هو الذي يحسم الأمر بإمضاء عقد النكاح أو إبطاله أو فسخه.
9- الكفاءة في عقد النكاح في الدول الأوروبية:
إنّ عقود النكاح التي تجري في الدول الأوروبية، وسائر الدول غير الإسلامية يمكن تصنيفها ثلاثة أنواع:
الأول: عقود تجري وفق القوانين الشرعية لإحدى الدول الإسلامية. إنّ حكم الكفاءة في هذه العقود يعرف من خلال القانون الذي يحكمها. ولا نحتاج إلى البحث فيه.
الثاني: عقود تجري بين المسلمين، بعيداً عن أي قانون رسمي سواء كان قانوناً شرعياً أو وضعياً، وتسمى عقوداً عرفية.(1/24)
ومع أنّ المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث نصح المسلمين أن لا يلجأوا لهذه العقود، وأفتى بمنعها، إلاّ أنّنا نقول: انه على افتراض حصول مثل هذا العقد، فإنّ مسألة الكفاءة تعتبر حكماً توجيهاً لا أكثر، يجدر بالطرفين مراعاتها حتى تتحقّق مقاصد النكاح، خاصّة لجهة الكفاءة في الدين والخلق. ولا يمكن اعتبارها شرط صحّة ولا شرط لزوم، لعدم وجود القاضي الشرعي الذي يمكن الجوء إليه لفسخ الزواج بسبب عدم الكفاءة.
الثالث: عقود تجري بين المسلمين وفق القوانين المدنية الأوروبية. ومن المعروف أنّ الكفاءة غير موجودة في هذه القوانين لا كشرط صحّة ولا كشرط لزوم، فلم يبق إلاّ أن يحرص الطرفان على مراعاتها عند الاتفاق على الزواج.
10- بناءً على هذه الدراسة، وعلى واقع المسلمين في أوروبا، أقدّم هذا الاقتراح كمشروع قرار يتعلّق بمسألة الكفاءة.
(كفاءة الرجل للزواج من امرأة معيّنة، يعتبر من الأحكام التوجيهية التي يجدر بالطرفين مراعاتها قبل الزواج، خاصة لجهة الدين والخلق. وهي ليست شرطاً لصحّة الزواج ولا للزومه عند المالكية. والمجلس يأخذ بهذا الرأي انسجاماً مع الأعراف السائدة في هذا العصر، ومع القوانين النافذة في الدول غير الإسلامية. لكنّه يؤكّد على الزوجة وأهلها ضرورة مراعاة هذه المسألة لضمان استقرار واستمرار الحياة الزوجية ولتحقيق المقاصد الشرعية وأهمّها بناء الأسرة المسلمة).(1/25)
المرأة والمشاركة السياسية والديمقراطية
دراسة في الفقه والفكر السياسي الإسلامي
بقلم
أ . د . علي محيى الدين القره داغي
بحث مقدم
للدورة السادسة عشرة للمجلس - اسطنبول
جمادى الأخرة 1427 هـ / يوليو 2006 م
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيدنا وحبيبنا وقدوتنا محمد المبعوث رحمة للعالمين ، وعلى اخوانه من الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله الطيبين ، وصحبه الميامين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
وبعد
فقد أصبحت قضايا المرأة من أهم القضايا التي انشغل بها العالم منذ اكثر من قرن بصورة عامة ، والعالم الإسلامي بصورة خاصة ، وهي قضية تستحق هذه العناية لأنها تتعلق بنصف المجتمع الذي إن تخلف فقد تخلف المجتمع بأسره ، وإن تطور فقد تطور المجتمع كله .
ومع ذلك فقد نالت قضية المشاركة السياسية للمرأة عناية أكبر ، بل إثارة أكثر ، واختلف حولها الناس بين مُفْرِط ، ومُفرّط ، وبين مجحف بحق المرأة ، ومضيع للثوابت .
كما أنه اضطربت فيه الفتاوى بين موسع ومضيق ، بل إن بعض الجهات المختصة بالفتوى أصدرت فتوى بالمنع ، ثم أصدرت فتوى أخرى بالاباحة .
ولذلك كان ينبغي بحث هذا الموضوع على أساس الوسطية التي هي منهج الإسلام في علاج كل القضايا .
ومن هنا كان بحثنا لهذا الموضوع على ضوء هذه المنهجية الوسطية ، داعياً الله تعالى أن نكون قد وفقنا في تحقيق ما نصبو إليه .
والله أسأل أن يجعل أعمالنا كلها خالصة لوجهه الكريم ، وأن يجمع الأمة الإسلامية على الخير والوفاق والتعاون البنّاء وخيري الدنيا والآخرة ، وأن يبارك في جهود جميع المخلصين ، فهو مولانا فنعم المولى ونعم النصير .
كتبه الفقير إلى ربه
علي محيى الدين القره داغي
الدوحة / غرة ربيع الأول 1427هـ
المراد بعنوان البحث :
معظم كلمات العنوان واضحة ، لكننا نلقي بعض الأضواء على بعض المصطلحات الواردة في العنوان ، أو التي لها علاقة بالموضوع ، وهي :(1/1)
1 ـ الديمقراطية : كلمة اغريقية الأصل معناها ( حكم الشعب ) أي أن يكون الحكم للشعب وليس للفرد ، وفي العصر الحديث قال الرئيس الأمريكي ( لنكولن ) : ( إنها حكم الشعب بالشعب وللشعب ) ، فالأمة في نظر الديمقراطية هي مصدر السلطات وإرادتها(1).
ودون الخوض في أسس الديمقراطية العقدية ( الايدلوجية ) فإن المقصود بها اليوم في عالمنا الإسلامي والعربي هو آلياتها وجوانبها التطبيقية المتمثلة في الفصل بين السلطات التشريعية ، والتنفيذية ، والقضائية ، وفي شرعية التعددية السياسية ، ووصول الحاكم إلى الحكم عن طريق الانتخابات ، وفي المساواة في الحقوق والحريات العامة .
وأما حكم الشعب للشعب فإن كان الشعب مسلماً فلا يمكن أن يحكم بما يتعارض مع ثوابت الإسلام ، في حين أن له الحق من خلال علمائه الاجتهاد فيما سواها .
والذي يتعلق ببحثنا هنا هو مسألة المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والحريات ، مع أن هذه المساواة بين الرجل والمرأة أو حتى بين المواطنين لم تكن موجودة في النظم القديمة ( الرومان ، واليونان ) التي ابتدعت الديمقراية ، وإنما ظهرت في العصر الحديث من خلال الاعلان العالمي لحقوق الإنسان في عام 1948م ، وهذه المساواة بين الرجل والمرأة تشمل ما يأتي :
1. المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات .
2. مساوة المرأة بالرجل في الحقوق السياسية الشاملة لما يأتي :
أ ) تولى المرأة الوظائف السياسية العامة رئاسة الدولة ، أو البرلمان ، ورئاسة مجلس الوزراء ، والوزراة والقضاء ونحوها .
__________
(1) يراجع لمزيد من البحث حولها : د. أنور أحمد رسلان : الديمقراطية بين الفكر المادي والفكر الاشتراكي ، ط .دار النهضة العربية 1971 ص 32 ، ود. محمد كامل ليلة : النظم السياسية ط. دار الفكر العربي 1971 ص 470 ، ود. عبدالحميد الأنصاري : الشورى وأثرها على الديمقراطية ط. المطبعة السلفية بالقاهرة 1981 ص 335(1/2)
ب ) حق المرأة في الانتخاب والترشيح للبرلمان .
فهذه المسائل هي التي نلقي بعض الأضواء عليها في ظل ما تسمح به طبيعة البحث .
ولكن بعد بيان نبذة تأريخية لحقوق المرأة السياسية والفتاوى المتعارضة ، ثم بيان منهجية دقيقة في بحث هذا الموضوع .
2ـ السياسة : هي لغة من ساس يسوس سياسة ، ولها معان كثيرة ، فيقال : ساس الناس أي تولي رياستهم وساس الفرس أي قام بأمرها ، فروضا وهيأها ، وساس الأمور أي دبرها ، وساس الرعية أي أمرهم ونهاهم ، وساس الطعام أي أكله دود الوسوس.....(1).
ولو نظرنا إلى المعاني اللغوية للفظ السياسة ومشتقاتها لوجدناها تستوعب كل أنواع السياسات الحكيمة الرشيدة ، والظالمة والعنيفة ، والتي تقوم بترويض الشعوب ، وكذلك التي بمثابة دودة السوس التي تنخر في عظام الشعب المحكوم فتدمره في قواه وفي ابداعاته ، ومقوماته .
الخلافة والاستخلاف :
تكرر لفظ الخليفة في القرآن الكريم مرات منها قوله تعالى في بيان رسالة آدم ووظيفته في الأرض : ) إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً )(2)أي يخلف في الأرض لتحقيق أهداف معينة ، ومقاصد حددها القرآن الكريم ، وهي :
أ . العبودية لله تعالى ، قال تعالى : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)(3). تعمير الكون على ضوء منهج الله تعالى القائم على اللاح والاصلاح دون الفساد والافساد ، فقال تعالى : ) هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا )(4).
وقد ارتبطت فكرة الخلافة في الفقه السياسي بالفترة الراشدة التي حكم فيها الخلفاء الأربعة ، بناء على الحديث الذي ورد .
__________
(1) يراجع : القاموس المحيط ، ولسان العرب ، والمعجم الوسيط ، والمصابح المنير مادة ( ساس )
(2) سورة البقرة / الآية30
(3) سورة الذريات / الآية 56
(4) سورة هود / الآية61(1/3)
وهذا المصطلح ( الخلافة ) بهذا المعني الخاص لم يرد في القرآن الكريم ، بل إن الصحابة أطلقوه على ابي بكر باعتباره خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لما جاء عمر استصعب خليفة خليفة ......
نبذة تأرخية ـ بإيجاز شديد ـ لحقوق المرأة السياسية :
لم تكن للمرأة حقوقها المدنية والاجتماعية ـ ناهيك عن الحقوق السياسية ـ في ظل الحضارات السابقة على الإسلام ، حتى لم تكن لها الأهلية في ظل القانون الروماني ، وأن بعض الحضارات تنظر إليها باعتبارها شراً لا بدّ منها ، وفي العصر الجاهلي كان الوأد نصيب كثيرات منهنّ ، وفي معظم الحضارات القيدمة كن كالمتاع تورث ـ كما هو معروف ـ(1).
__________
(1) يراجع د. سعاد عبدالله الناصر : قضية المرأة ، كتاب الأمة العدد 97 ص 53 ، د. مثنى الكردستاني:حركات تحرير المرأة ص 42(1/4)
وحينما جاء الإسلام نظر إلى المرأة نظرة أخرى فأعطى لها كرامتها الكاملة وإنسانيتها ، وأصّل هذا المبدأ من خلال أن أصلها مع الرجل واحد ( أنتم بنو آدم وآدم من تراب )(1)ثم ( مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ )(2)أي مخلوطة من ماء الرجل الذي يحمل 23 كرموسوماً ومن البييضة التي تحمل أيضاً 23 كرموسوماً ، وأن جميع الآيات الخاصة بكرامة بني آدم والإنسان وبالثواب والجزاء ، والحقوق والواجبات تشمل الطرفين ، ومع ذلك أكد ذلك من خلال قوله تعالى : ( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(3)وهذه الدرجة هي درجة إدارة البيت وتسيير سفينة الحياة بالتشاور والتراضي والمحبة والسكينة نحو برّ الأمان ، وقوله تعالى : ( لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ )(4).
__________
(1) رواه أبو داود في سننه الحديث 5116 ط. حمص (5/340) والترمذي الحديث 3950 وحسنه ونقل المنذري تصحيحه
(2) سورة الانسان / الآية2
(3) سورة البقرة / الآية228
(4) سورة النساء / الآية32(1/5)
بل إن القرآن الكريم نفي نفياً قاطعاً أن تكون المرأة الأولى ( حواء ) هي السبب في خروج آدم من الجنة ، وبالتالي المصائب التي حلت ببني آدم ، وتحميلها المسؤولية ، كما كان السائد لدى جميع الأديان السابقة ، حيث بينت الآيات بأن الأمر بعدم القرب عن الشجرة كان شاملاً لآدم وحواء فقال تعالى : ( وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ)(1)وأنهما معاً اغترا بالشيطان فقال تعالى : ( فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ)(2)وأنهما معاً ارتكبا المخالفة فقال تعالى : ( فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ)(3)وأنهما معاً : ( بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ )(4)كما أنهما تساوياً في زجر الله لهما فقال تعالى : ( وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ )(5)وأنهما معاً اعترفا بذنوبهما وتابا إلى الله تعالى : ( قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)(6). بل إن بعض الآيات تسند العصيان والمسؤولية إلى آدم فقال تعالى : ( وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى)(7).
__________
(1) سورة الأعراف / الآية19
(2) سورة لأعراف/ الآية22
(3) سورة لأعراف / الآية22
(4) سورة الأعراف / الآية22
(5) سورة الأعراف / الآية22
(6) سورة الأعراف / الآية 23
(7) سورة طه / الآية121(1/6)
كما أن الآيات القرآنية تدل على مساواة الرجل والمراة في الأجر والثواب ، والعقاب فقال تعالى : ( إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)(1).
__________
(1) سورة الأحزاب / الآية 35(1/7)
وقد ألغى الإسلام كل العادات والتقاليد التي تتنافى مع كرامة المرأة وإنسانيتها ، ولا يسع المجال لذكرها ، حيث شهد بذلك كل المنصفين من الرجال والنساء من المسلمين وغيرهم فقد شهدت كثير من النساء حتى صاحبات الفكرالتحرري بإن الإسلام هو دين الاصلاح الذي جاء لردّ الظلم عن المظلومين ولذلك كان لكون خديجة أول من أسلمت ، ولدور سمية وغيرها من الجواري اللاتي أسلمن ، ولدور أسماء بنت أبي بكر الصحابية الجليلة الثائرة السياسية المناضلة دلالات عظيمة تقول توجان فيصل : (حقوق المرأة في الإسلام كما في أحكامه الأخرى أحدثت النقلة السياسية والاجتماعية التي تفرق عهد الإسلام عما سبقه .... وفي الغاء التمييز وصولاً إلى حالة قادرة على الاستمرار ... ان هذا النهج الاصلاحي هو ما يجعل الاسلام ديناً صالحاً لكل زمان ومكان )(1). وفي عصرنا الحاضر تأخرت الدول المتقدمة اليوم في الاعتراف بحقوق المرأة السياسية بصورة عامة ، فلم يعترف لها بهذه الحقوق السياسية في أمريكا إلاّ في عام 1920م وفي بريطانيا عام 1928، وفي فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية ، مع أن المرأة نصف المجتمع ، وهو الشق الثاني الوحيد المكمل للمجتمع الإنساني ، ونصف القوى البشرية لأي مجتمع ، وهي التي تتحمل مسؤولية بناء الرجال وتربية الأبطال ، ولها النصيب الأكبر من المتاعب والمشاكل ، والتشرد والفقر واللجوء .
__________
(1) مقالتها بعنوان : هل تصبح المرأة حصان طراودة ، المنشور في الجزيرة نت ، الأحد 18/8/1425هـ الموافق 3/10/2004م(1/8)
وأمام هذه الواجبات فإن دورها السياسي لا يزال في العالم أجمع أقل بكثير من أدوارها الأخرى ، حيث تشير الاحصائيات إلى أن حجم تمثيل المرأة في البرلمانات العربية تتراوح بين 1% إلى 4% ففي مجلس الشعب المصري السابق فإن حجم مشاركة المرأة فيه في حدود 2.2% ، وحتى في العالم الغربي المتقدم فإن حجم تمثيل المرأة في مجلس العموم البريطاني 18.2% وفي الجميعة العمومية لفرنسا ( بلد النور والتحرر كما يقولون ) 6% ، وفي الدول الآسيوية تصلب إلى 19% وفي أمريكا اللاتنية 10%(1).
ومن الجانب السياسي التطبيقي الخاص بالرئاسة فإن معظم الحضارات السابقة كالحضارة الرومانية ، والحضارة اليونانية والحضارة الصينية عجزت أن تقدم امراة واحدة لقيادة امبراطوريتها على مرّ تأريخها الطويل ، بل إن أمريكا منذ نشأتها إلى الآن لم تصبح امرأة واحدة فيها رئيسة لها .
ولكن حقوق المرأة السياسية قد طرحت في القرن العشرين من خلال الاعلان العالمي لحقوق الإنسان ، حيث بدأ العمل في التوسع في دراسة الحقوق والحريات المعلقة وتدوينها في شكل قانون ملزم، ونتج عن هذه العملية بروز وثائق هامة ولها صلة مباشرة بوضع حقوق المرأة ولا سيما في المجال السياسي كالاتفاقية الخاصة بالحقوق السياسية للمرأة سنة 1952م و الاتفاقية الخاصة للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة والتي أقرت عام 1979 وبدأ تنفيذها عام 1981 والأهم في هذه الاتفاقية أنها حددت وبشكل دقيق المجالات العالمية لهذه الحقوق وذلك من خلال ما نصت عليه المادتان من هذه الاتفاقية من ضرورة وكفالة المساواة مع الرجل في:
1- التصويت في جميع الإنتخابات.
2- الأهلية للترشيح.
3- المشاركة في صياغة السياسات وتنفيذها
__________
(1) أكرم عطا الله : مقالته الخاصة بالمشاركة السياسية للمرأة الفلسطينية ص 1 ، ويراجع : المرأة والحياة السياسية ، إصدار المركز المصري لحقوق المرأة ص 19 ، ودائرة الاحصاء المركزية في فلسطين ص 11(1/9)
4- شغل الوظائف العامة على جميع المستويات الحكومية.
5- المشاركة في منظمات وجمعيات غير حكومية.
6- تمثيل الحكومة في المستوى الدولي.
7- المشاركة في المنظمات الدولية.
ولكن ابرز سمات هذه الإتفاقية تأكيدها الصريح على الهدف المتمثل في تحقيق المساواة الفعلية إلى جانب المساواة القانونية، وهو ما انعكس على عدد من المواثيق والإعلانات الدولية الأخرى، وآخرها منها العمل الصادر عن مؤتمر المرأة العالمي الرابع الذي انعقد في بكين عام 1995(1).
اشكاليات كبيرة أدت إلى ردّ فعل غير متوازن في بعض الفكر الاسلامي المعاصر :
في قضية المرأة حدثت اشكاليات كبيرة كان لها تأثير في الفكر الاسلامي القديم والمعاصر :
أولاً ـ خلط التقاليد والأعراف بالدين في مجال المرأة بشكل كبير ، وكان لهيمنة الرجال دور كبير .
ثانياً ـ مسألة سدّ الذرائع التي حجزت عن المرأة تسعة أعشار حقوقها .
ثالثاً ـ أن الدفاع عن حقوق المرأة جاء في البداية على أيدي العلمانيين ومن يسمونهم بالمتنورين بالحضارة الغربية .
رابعاً ـ أن المستعمرين حاولوا ولا يزالون يحاولون استغلال موضوع المرأة لتحقيق مآربهم في الافساد وخلخلة النظام السياسي والاجتماعي للهيمنة والاستكبار .
خامساً ـ أن الدعوات الغربية والعلمانية كانت معاكسة تماماً للتوجه الاسلامي حيث ارادت الاباحية وثقافة الجنس والقضاء على الاسرة كما ظهر ذلك جلياً في المؤتمرات الدولية للنساء في القاهرة ، وفي بكين ، كما ظهر في كتابات كثيرة ووسائل الاعلام حيث نستكيع القول بأنه لا توجد قضية أثير حولها من المسائل مثل قضية المرأة .
__________
(1) يراجع : عواطف عبدالماجد : رؤية تأصيلية لاتفاقية القضاء على جميع اشكال التمييز ضد المرأة ، نشر مركز دراسات المرأة بالسودان(1/10)
سادساً ـ افراط الرحاكت النسوية في حقوق المرأة حتى فضلت المرأة على الرجال ، ورفع شعارات معادية للرجل مثل الحرب من أجل عالم بلا رجال(1).
سابعاً ـ ارتباط بعض دوائر اتحادات النساء في القرنين ( 19 و 20 ) ، والمدافعين عن حقوقها بالدوائر الاستعمارية .
ثامناً ـ الهجوم على الاسلام بصورة عامة ، وبعض الأحاديث الخاصة بالمرأة مثل الحديث الذي يتحدث عن نقص عقل المرأة ، وانها خلقت من ضلع أعوج .
ردّ الفعل الاسلامي :
أما النقاط السابقة كان لبعض الاسلاميين رد فعل عنيف حتى وصل بهم الأمر إلى التقليل من شأن المرأة ، ومنهم قائم على الدفاع عن كل ما هو موجود في التراث ، والتبرير لما حدث ، والتعليل لذلك ما استطاع إلى ذلك سبيلاً ، وساعد على ذلك وجود مناهج مستشددة حول المرأة ، ومدارس مدعومة أيضاً من دول ، ومستقوية بالتقاليد معها ، ولكن المفروض بل المطلوب هو أن لا ندافع إلاّ عن الحق ، وأن تكون نظرتنا إلى تراثنا العظيم نظرة غربلة فإفادة واستفادة ، ونظرة اختبار واختيار وانتقاء دون تقديس ولا استقصاء ، وبالتالي العودة إلى الينابيع الأصيلة لهذا الدين المتمثلة في الكتاب العزيز والسنة الصحيحة المطهرة ، ثم الاستفادة من كل قديم صالح ، ومن كل جديد نافع ، وأن الحكمة ضالة المؤمن فهو أحق بها أنى وجدها ، وذلك من خلال منهجية جامعة بين النصوص الشرعية كلها ، والنظرة إليها نظرة شمولية قائمة على مقاصد الشريعة ومبائدها العامة التي أصلت المساواة بين جميع البشر من الأصل ( كلهم من آدم وآدم من تراب ) وكلهم خلقهم الله تعالى من ذكر وأنثى ، وكلهم مخلوقون لتحقيق العبودية والاستخلاف كل بقدره ، كما يتضح ذلك فيما بعد .
__________
(1) هبة رؤوف عزت : المرأة والعمل السياسي ط. معهد الفكر العالمي 1995 ص 63(1/11)
وأن الطريقة الصحيحة لهذا المنهج هو عدم التأثر بما يقال ويثار في الخارج ، وعدم التأثر بالموروث ما دام ليس نصاً ثابتاً ، ولا بالشروح والتفسيرات للنصوص ما دامت هذه التفسيرات غير منصوص عليها ، وما دامت النصوص تحتمل غيرها .
حقوق المرأة السياسية في الدساتير العربية :
1- دول ليست لها دساتير أو قوانين تنظم وتفسر الحقوق السياسية للمواطنين وهو ما يشمل الرجل والمرأة .
2- دول أصدرت دساتير لكن لم تنص أحكامه على منح المرأة حق المشاركة السياسية مثل ( الكويت والإمارات ) وقد تم تعديل دستور الكويت أخيراً فأعطى هذا الحق للمرأة بضوابط الشريعة الغراء .
3- دول عربية لها دساتير وقوانين تنص بوضوح على حق المرأة المشاركة السياسية ( تونس، مصر، سوريا، العراق، الأردن، المغرب، لبنان، اليمن، البحرين ، قطر) وغيرها فمن الملاحظ هنا أن التعامل مع الحقوق السياسية للمرأة في المجتمعات العربية ظل مرتهناً في بعض المجتمعات بعوامل متشابكة منها ما هو متصل بالموروث الثقافي والتقاليد ، وتأويل النصوص الدينية.
وأن أهم المعوقات أمام تفعيل دور المرأة في الحياة العامة:
1- الموروثات التاريخية المأخوذة من التقاليد وليست من الدين الحنيف والتي حصرت دور المرأة في أدوار محددة.
2- مشكلة الأمية التي تلعب دوراً خطيراً وعائقاً لحركة المرأة في نشاطها الوطني والديمقراطي، من حيث إن الأمية هي النقيض لما يريده الإسلام منذ نزول أول سورة من دستوره ( القرآن الكريم ) التي تقول : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ..)(1)، والأمية لا يمكن حصرها فقط في معرفة الكتابة والقراءة ومعرفة المرأة حقوقها التشريعية والقانونية والسياسية فإن كل هذا يصبح هباء إذا كانت الأمية هو الأساس الذي يتحكم ويقنن نشاط المرأة في المجتمع .
__________
(1) سورة العلق / الآية 1(1/12)
3- الفجوة الكبيرة بين نصوص الدستور والقوانين المنظمة للعمل بالمساواة الممكنة بين الرجل والمرأة وبين تطبيقها على الأمر الواقع وبالتالي فقد أدى واقع المرأة إلى ابتعاد عن مجالات صنع القرار وإلى ضعف مشاركتها السياسية(1).
قضية المرأة والسياسة الاستعمارية والمحلية :
حاولت الدول المستعمرة والطامعة في خيرات البلاد الإسلامية استغلال قضية المرأة بشكل خطير ، فأنشأت بعض الاتحادات والمنتديات الخاصة بالنساء ، وحاولت اختراق البعض الآخر ، ويكفي للإشارة إلى ذلك أنه عند غليان الشعب المصري ضد الاحتلال الانجليزي كانت هدى الشعرواي(2)
__________
(1) موقع http://www.balagh.com/woman/index.htm ، مع تصرف
(2) هدى الشعرواي ( 1879 ـ 1949م ) واسمها نور الهدى محمد سلطان باشا ، نسبت نفسها إلى زوجها ( علي باشا الشعراوي ) على عادة الغربيين ، وهي من عائلة لها ارتباط كبير بالاحتلال الانجليزي ، وكانت بائسة مع زوجها ، حيث تزوجها وهو كبير جداً بدون رضاها وعمرها اثنتا عشرة سنة ، وقد طلقها ثم بعد 8 سنوات راجعها .
يراجع : نجلاء حماده : زمن النساء والذاكرة البليدة ، ملتقى ذاكرة المرأة 1998 ص 283 ، ومحمد اسماعيل : عودة الحجاب ص 106 ، ودمثنى الكردستاني : حركات تحرر المرأة ص 205(1/13)
التي أسست جمعية الاتحاد النسائي عام 1923 تنادي بأن التحرير من الاستعمار لا بدّ أن يسبقه تحرير المراة ، وكما أن صفية زغلول قادت مظاهرة نسائية أمام ثكنات الجيش الانجليزي سنة 1919م بميدان التحرير يهتفن ضده وأثناء ذلك خلعت حجابها أمام المتظاهرات ضد الانجليز وداسته برجليها ، وتبعتها الاخريات ، ونسين القضية الأساسية(1)، وكانت درية شفيق التي انتحرت عام 1975 وأنشات : اتحاد بنت النيل في عام 1939م لها علاقة قوية بسفارة بريطانيا وأمريكا في مصر ، وكانت تدعو إلى الاقتداء بالمراة الانجليزية المتحررة(2).
ولذلك وقف المصلحون ، والأحزاب الوطنية ، مثل الحزب الوطني المصري برئاسة مصطفى كامل ضد هذه الدعوات وذلك أن وراءها أصابع استعمارية تهدف إلى الهاء الأمة عن مصيرها .
ومن الجانب الداخلي استغلت قادة الانقلابات العسكرية العربية في فترة الخمسينات هذه المسألة ، من خلال تبني ايدولجية الشيوعية ، أو الاشتراكية التي لا تعترف أساساً بمثل هذه القضايا الدينية ، وتدعو إلى الاباحية المطلقة ، وذلك لابعاد الدين عن الحياة ، حتى كانت المظاهرات الشيوعية في العراق بعد انقلاب عبدالكريم قاسم تدعو جهاراً نهاراً إلى ابعاد الدين عن الحياة ، وعدم الاعتراف بالنكاح والمهور والقيود والعقود(3).
وفي عهد الاحتلال والهيمنة الجديدة ظهر الاهتمام الكبير بقضية المرأة من قبل الإدارة الأمركية برئاسة بوش التي وضعت : الاصلاح السياسي والديمقراطي والتعليمي في طليعة أولوياتها حسب الخطابات الرسمية للرئيس الأمريكي جورج بوش ، وبدأت الضغوط السياسية تأخذ مجراها في هذا المجال .
__________
(1) محمد قطب : قضية تحرير المرأة ط. دار الوطن بالرياض 1410هـ
(2) د. محمد اسماعيل : المرجع السابق ص 118
(3) سمعناها بأنفسنا فكانوا يقولون باللهجة العامية : بعدها الشهر ماكو عقد ولا مهر(1/14)
وفي مصر فجرّ كتاب تحرير المرأة في عام 1908م لقاسم أمين قضايا المرأة ففتح أبوابها على مصراعيها ، فطالبت منيرة ثابت عام 1919م بالحق السياسي للمرأة وشاركتها هدى شعراوي ، ودرية شفيق ، فطالبن بحق الترشيح والانتخاب وعضوية البرلمان للمرأة ، ثم أيد ذلك الاتحاد النشائي المصري حيث جاء في نظامه الأساس (تعديل قانون الانتخاب باشراك النساء مع الرجال في حق الانتخاب)(1).
بل سعت المرأة المصرية لإنشاء أحزاب سياسية ، فطالبت فاطمة نعمت راشد ودرية شفيق بإنشاء حزب سياسي ونجحت درية في إنشاء حزب ( بنت النيل ) .
وأدت محاولات النساء إلى اقناع بعض الكتاب والبرلمانيين إلى المطالبة بهذا الحق لهنّ حيث قدم في عام 1946 اقتراح إلى مجلس الشيوخ المصري يطالب بمنح المرأة حق الانتخاب بل قدم مشروع قانون بذلك إليه في عام 1947م و1948م ، وأثناء ذلك صدر الاعلان العالمي لحقوق الإنسان عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها المنعقدة بباريس في 10/12/1948 وفي المؤتمر النسائي الذي عقد بالقاهرة في 19/4/1951 وقفت المرأة موقفاً عدائياً فارتفع صوت الشاعرة روحية القلليني بتحذير الرجال فقالت :
أمامكم ترون هدوء وجه ... ... ... ولكن القلوب تكنّ ناراً
فما يثني عزائمنا وعيدٌ ... ... ... فنار قلوبنا ازدادت أواراً
حيث خرجت النساء متظاهرات يطالبن بتقرير الحرية والمساواة في كافة الحقوق والأجور ، وتكررت هذه المظاهرة في 12/3/1954(2)فنتج عن ذلك دستور 1956 الذي أعطى الانتخاب حقاً للمصريين جميعاً ذكوراً وإناثاً .
__________
(1) مذكرات هدى شعرواي ص 332
(2) د. اجلال خليفة : الحركة النسائية ص 174 ، ود. السيد أحمد فرج : المؤامرة على المرأة المسلمة ط. دار الوفاء بمصر ص 106-109(1/15)
وكان في مقابل الدعوات ( التي خلطت بين الحق والباطل وركزت على السفور والتغريب) دعوات معتدلة من النساء الملتزمات إضافة إلى المفكرين المصلحين أمثال محمد عبده ، ورفاعة الطهطاوي ، وعلي مبارك ، وكان محمد علي باشا نفسه يرى أهمية تعليم البنات ، فأنشأ مدارس لتعليم البنات عام 1832م مع منتهى الالتزام بآداب الاسلام وضوابطه ، فمثلاً حينما افتتحت أول مدرسة ثانوية للبنات في القاهرة ( مدرسة السنية) كانت هيئة التدريس نسوية خالصة فيما عدا مدرس اللغة العربية لتعذر وجود مدرسات للغة العربية ، ومع ذلك كان يختار من الرجال المتزوجين الكبار المشهود لهم بالصلاح ، وكانت الفتيات يحضرن إلى المدرسة في سيارات مغطاة بالستائر ، ويعدن إلى البيوت بالوسيلة نفسها ، أو يأتي وليّ الأمر مع موليته .
الفتاوى المتعارضة ودور الزمن فيها :
كان علماؤنا في العصور الخيرة ( القرون الثلاثة الأول ) لا يكتفون ببيان الأحكام الشرعية لمستجدات عصرهم فحسب ، بل كانوا يستشرفون المستقبل من خلال وضع الحلول الشرعية لما كانت تجول في أفكارهم من مسائل مستقبلية احتمالية اشتهر بها علماء العراق ( الأحناف ) حتى سموا ( أريتيّة ) أي : أرأيت إن كان كذا ، وبعبارة أخرى استحضار الاحتمالات المستقبلية من خلال الحصر العقلي لها ، ثم بيان الحكم الشرعي لكل حالة محتملة حيث قالوا : أرأيت لو أن امرأة من المغرب تزوجها رجل من المشرق عند الغروب ، ثم مات عند الشروق ، ثم تبين أنها حامل فولدت بعد ستة أشهر من هذا العقد ؟ قالوا : إن الحمل يثبت منه بالفراش لاحتمال أنه طار بالليل إليها ، ثم عاد فمات ، وهكذا .... .(1/16)
وإضافة إلى ذلك فكان الزمن له دوره في التأثير في الفتاوى الاجتهادية ، حتى عقد الإمام ابن القيم فصلاً مهماً من كتابه القيم ( اعلام الموقعين عن ربّ العالمين ) خصصه لتغيير الفتاوى بتغيير الأزمنة والأمكنة ، والأحوال والنيات والعوائد ، وقال : ( هذا فصل عظيم النفع جداً ، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة ، أوجب من الحرج والمشقة ، وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي هي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به ، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد ، وهي عدل كلها ، ورحمة كلها ، ومصالح كلها ، وحكمة كلها ، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور ، وعن الرحمة إلى ضدها ، وعن المصلحة إلى المفسدة ، وعن الجد إلى العبث ، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل ، فالشريعة عدل الله بين عباده ، ورحمته بين خلقه ، وظله في أرضه ، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم أتمّ دلالة وأصدقها ، وهي نوره الذي به أبصر المبصرون ، وهداه الذي به اهتدى المهتدون ، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل ، وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل ، فهي قرة العيون ، وحياة القلوب ، ولذة الأرواح ، فهي بها الحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة ، وكل خير في الوجود فإنما هو مستفاد منها ، حاصل بها ، وكل نقص في الوجود فسببه من إضاعتها ، ولولا رسوم قد بقيت لخربت الدنيا وطوي العالم ، وهي العصمة للناس وقوام العالم ، وبها يمسك الله السموات والأرض أن تزولا ، فإذا أراد الله سبحنه وتعالى خراب الدنيا وطي العالم رفع إليه ما بقي من رسومها ، فالشريعة التي بعث الله بها رسوله هي عمود العالم ، وقطب الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة )(1).
__________
(1) يراجع : اعلام الموقعين ط. الكليات الأزهرية ( 3/ 3-47)(1/17)
ومن هذا الباب كثير من الفتاوى الصادرة المتعارضة في الظاهر من علمائنا الأعلام ، حيث نجد لهم جميعاً آراء متنوعة ، وروايات مختلفة وأقوالاً متعارضة في الظاهر ، فهذا الإمام الشافعي حينما دخل مصر أعاد النظر في جميع ما كتبه ، حتى يقول تلامذته إنه أعاد كتابة كل ما كتبه قبل دخوله مصر إلاّ كتاب الصداق ، فظهرت له أقوال جديدة في مقابل أقواله القديمة(1).
ولكن معظم العلماء في العصور المتأخرة لم يستفيدوا من هذه القدوة المباركة ، فصدرت منهم فتاوى متعجلة في عصرنا الحاضر بمنع البنات من التعليم الابتدائي والثانوي ، ثم التعليم الجامعي ، ثم لما صار ذلك أمراً واقعاً صدرت الفتاوى بجوازه ، وكان المفروض أن تصدر الفتاوى منذ البداية بحل ما هو حلال مع وضع الضوابط الشرعية المطلوبة .
وهذا ما نراه أيضاً في مسألة المشاركة السياسية للمرأة ، حيث وقف بقوة وعزم معظم الفقهاء ضد ذلك في بداية الأمر ، ثم بدأت الفتاوى تترى فتجيز ذلك .
__________
(1) المجموع للنووي ( 1/ 66 ) ط. شركة العلماء(1/18)
فقد كانت لجنة الفتوى بالأزهر الشريف برئاسة رئيسها الشيخ محمد عبدالفتاح العناني رحمه الله ، قد أصدر فتوى مطولة في رمضان 1371هـ الموافق 1952م بشأن : (حكم الشريعة الإسلامية في اشتراك المرأة في الانتخاب للبرلمان ) بدأت بتمهيد جيد وذكر فيه : ( ان طبيعة الاجتماع تقضي باختلاف الآراء وتشعب الأفكار .... ) ثم انتهى بعد مناقشات وأدلة مستفيضة إلى أن المشاركة السياسية للمرأة بأن تكون عضواً في البرلمان ، وأن تشترك في انتخاب من يكون عضواً فيه من الولاية العامة ، لأن البرلمان هو المختص بولاية سنّ القوانين ، وبالتالي فلا يجوز للمرأة كلا الأمرين السابقين استناداً إلى الحديث الصحيح المعروف الذي رواه البخاري ، وأحمد والنسائي والترمذي بسندهم عن أبي بكرة قال : ( لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن فارس ملكوا ابنة كسرى فقال : ( لن يفلح قوم ولوا أمرهم لامرأة )(1)، فقالت الفتوى : ( ولا شك أن النهي المستفاد من الحديث يمنع كل امرأة في أي عصر من العصور أن تتولى أي شيء من الولايات العامة..... )(2).
ثم تغيرت الفتاوى في الأزهر الشريف ، وفي العالم الإسلامي اليوم نحو الاجازة ، حيث يتجه معظم علماء المسلمين ، والحركات الإسلامية إلى جواز المشاركة السياسية للمرأة بكونها عضواً في البرلمان ، أو منتخبة لأعضاء البرلمان بضوابط شرعية .
__________
(1) الحديث صحيح سيأتي تخريجه
(2) فتوى لجنة الأزهر ، المنشورة في : الحركات النسائية وصلتها بالاستعمار ، للأستاذ محمد عطية خميس ط. دار الانصار 98- 127(1/19)
وكان من أواخر المعارك السياسية والفقهية حول المشاركة السياسية للمرأة ما حدث في الكويت ، حيث كانت المادة الأولى من قانون رقم 35 في 1962م تقصر حق الانتخاب على الذكور ممن بلغوا سنّ 21 سنة دون الاناث ، وكان هذا التوجه مؤيداً بفتوى لجنة الافتاء التابعة لوزارة الأوقاف الكويتية ، وبتوجيه معظم الإسلاميين ، والتوجه القبلي في البرلمان ، ثم صدر مرسوم أميري في عام 1999م بإعطاء المراة الكويتية حق الانتخاب والترشيح ، ولكن البرلمان رفضه بالأغلبية ، ودامت المعركة فأشغلت معظم ساحات المجتمع إلى أن حسمت في البرلمان نفسه في أواخر عام 2005م لصالح مشاركة المرأة في الانتخاب والترشيح مع اشتراط التزامها بآداب الشريعة ، وتأييد التوجه الأخير أيضاً بفتاوى من الفقهاء داخل الكويت وخارجها .
وهذا التعارض الواضح في الفتاوى ـ مهما حاولنا تبريرها ـ فإنما يدل على أنها لم تدرس دراسة عميقة ، بل كانت متأثرة بالظروف والتقاليد ، ولذلك حينما تغيرت ، تغيرت الفتوى ، كما أنها تدل على أن مثل هذه الفتاوى لم تكن قائدة ، بل كانت تابعة ، وكان المفروض أن تكون الأولى وليست الثانية .
نحو منهجية دقيقة في بحث هذا الموضوع :
وإذا نظرنا إلى التأريخ الإنساني وتجاربه نرى أن أكبر المشاكل والمصائب تكمن بين طرفي الأمر الافراط والتفريط ، فإما أن يفتح الباب على مصراعيه دون قيود ولا ضوابط فيؤدي ذلك إلى الفوضى الشاملة ، أو يغلق الباب غلقاً محكماً ، ويسدّ بالمسمار لمنع أي تسرب حتى للهواء الطلق ، فيفسد ما في داخله .
ومن جانب آخر فإن الافراط ، أو التفريط نفسه إنما يحدث لدى التحقيق وفي معظم الأحيان بسبب النظرة الأحادية إلى الشيء ، والانحسار في دائرة واحدة أو زاوية واحد أو حتى مجموعة من الزوايا ، ولكن دون نظرة شمولية جامعة تحيط بذات الشيء وواقعه ومقاصده ، ووسائله ، وبما يترتب عليه من نتائج أو ما يسمى بفقه الواقع ، وفقه المآلات ، وسد الذرائع .(1/20)
ونحن نحاول في هذه المسألة الخطيرة أن نطبق هذه المنهجية القائمة على النظرة الشمولية الجامعة على ضوء النقاط الآتية :
أولاً ـ المرأة باعتبار إنسانيتها ، وحقوقها الإنسانية مساوية للرجل تماماً ، فهي مُكَرَّمّةٌ مثل الرجل ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ )(1)ولفظ بني آدم يشمل الذكور والاناث بالاجماع ، فلا يجوز التقليل من شأنها ، ولا التمييز بينها وبين الرجل في كرامتها ، والحفاظ على حقوقها ، وأمام القضاء ، وفي حريتها الفكرية والدينية والتعبدية ، وحتى إنها تزيد على الرجل في انها لا يجوز قتلها في ساحات القتال ، ولا بسبب ردتها عند الحنفية حيث تحبس(2).
وكذلك فهي مساوية للرجل في اهليتها المالية الكاملة ( وجوباً وأداءً ) التي لم تصل إليها التشريعات والقوانين إلاّ في القرن العشرين(3)، بل حتى في أهليتها الشخصية حيث لها القدرة على تزويج نفسها وغيرها عند جماعة من الفقهاء قديماً وحديثاً.
فالمرأة في الإسلام ليست تابعة لا في دينها ولا في نسبها ، ولا في اهليتها وأموالها لأحد ، حتى ولا لزوجها ـ كما هو الحال الآن في الغرب ـ بل هي الجزء المكمل للحياة الإنسانية ، ولذلك سماها الله تعالى مع الرجل : الزوج ـ والزوج يتكون من عددين متساويين ، لها الحرية الكاملة مثل الرجل في فكرها ، وإرادتها ، واختياراتها.
ولكن الحرية في الإسلام ليست مطلقة لا للرجل ولا للمرأة ، بل منضبطة بضوابط القيم العليا والأخلاق الفاضلة .
__________
(1) سورة الاسراء / الآية70
(2) يراجع : تحفة الفقهاء للسمرقندي ت529هـ ، ط. قطر ( 3/530)
(3) مبدأ الرضا في العقود ، دراسة مقارنة بين الشريعة والقانون ط. دار البشائر الإسلامية 1985 بيروت ( 1/294 )(1/21)
فهذه المساواة هي التي منحها الإسلام دون مطالبة من اتحاد نسائي أو مظاهرات في الوقت الذي كانت المرأة ينظر إليها باعتبارها شراً لا بدّ منه ، أو متاعاً يورث ، فقال تعالى : ( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ)(1)وقال الرسول صلى الله عليه وسلم في آخر وصية له : ( ألا واستوصوا بالنساء خيراً ......... )(2).
ثانياً ـ هل المرأة مثل الرجل في كل شيء ؟
الجواب الطبيعي والواقعي الذي لا يختلف فيه اثنان هو أنه : ( وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى )(3)ولا الانثى كالذكر .
هذه حقيقة لا يمكن أن ينكرها أحد لا عقلاً ولا طبعاً كياناً وخِلقَة ، ولا من حيث وظائف الأعضاء ( الفسيولوجي ) من النواحي الآتية :
1. الرجل يتكون عند الخِلقة من Y+X في حين أن المرأة تتكون من X+X
__________
(1) سورة البقرة / الآية 228
(2) الحديث بهذه اللفظة رواها الترمذي الحديث 1163 وقال : حديث حسن صحيح ، وابن ماجه الحديث 1851 وأحمد (5/73،72) وأما بلفظ ( استوصوا خيراً ...) فمتفق عليه ، انظر : صحيح البخاري ـ مع الفتح ـ (6/261 ، 262 ، 9/218 ، 219) ومسمل الحديث رقم 1468
(3) سورة آل عمران / الآية36(1/22)
2. الاختلاف على مستوى الخلايا ، فالحيوان المنوي له رأس مدبب ، وعليه قلنسوة مصفحة ، وله ذيل طويل سريع الحركة يسعى للوصول إلى هدفه أو يموت ، أما البييضة(1)فهادئة ساكنة ، باقية في مكانها لا تبرحه منتظرة للحيوان المنوي السعيد الذي ينجو بين مئات الملايين من الحيوانات المنوية ، إذن فكل واحد من الحيوان المنوي الخارج من الرجل وبييضة المرأة يعبر عن خصائص صاحبه(2).
3. الاختلاف على مستوى الأنسجة والأعضاء ، والخلايا ، يقول الدكتور البار : ( والفرق تراه في الرجل البالغ ، والمرأة البالغة ، كما تراه في المنوي والبويضة ... ليس في ذلك فحسب ، بل ترى الفرق في كل خلية من خلايا المرأة ، وفي كل خلية من خلايا الرجل ... ، وإذا أردنا أن نقلب الموازين ـ وكم من موازين قد قلبناها ـ فإننا نصادم بذلك الفطرة التي فطرنا الله عليها ، ونصادم التكوين البيولوجي والنفس الذي خلقنا الله عليه)(3).
وحتى في مجال الدم فإن الخلايا الدموية البيضاء للرجال بين 4000و8000 كرية /مم3 ، وللنساء 4000و7000 كرية/مم3 ...(4).
4. الفروق الهرمونية وعمل الغدد الصماء ، فمثلاً للرجل الخصية التي تفرز الهرمونات المذكرة ( تستستيرون ) وللأنثى المبيض التي تعتبر من وظيفتها الرئيسية : تكوين وطرح البييضات ، وإفراز الهرمونات الأنثوية (الاستروجين ، البروجسترون ، الريلاكسين ) .
__________
(1) المستعمل بين العامة ( البويضة ) والصحيح لغوياً ( البييضة )
(2) يراجع لذلك : الطبيب المشهور الدكتور محمد علي البار : عمل المرأة في الميزان ط. الدار السعودية للنشر والتوزيع 1407هـ ص 55 ، والشيخ عبدالمجدي الزنداني : المرأة وحقوقها السياسية في الإسلام ط. مكتبة المنار الإسلامية ، الكويت ص 7و8
(3) د. البار : المرجع السابق ص 73 – 74
(4) د. نزار فؤاد ، وعقاب العزام وزملاؤهما : الدمويات عملي ط. دار المستقبل للنشر والتوزيع 1994 ص 113-114(1/23)
فهرمون الاستروجين يعتبر مسؤولاً عن زيادة وتكاثر الأنسجة ومسؤولاً عن تركيز الشحم للمراة وإلى زياة الشعر في فروة الرأس وتقليله في الجسم ، في حين أن هرمون التستستيرون في الرجل يؤدي إلى تركيز البروتين في العضلات ، كما أن هرمونات الرجولة أكثر ميلاً للعدوان من هرمونات المرأة .
5. الحيض الذي تتراوح مدته من يوم وليلة إلى سبعة أيام ، والذي له علاقة مباشرة بالتركيب الجسدي والنفساني للمرأة ، حيث ينخفض الخصاب الدموي قليلاً ، كما ينخفض تعداد الكريات الحمراء ، وتركيز جديد للمصل الدموي ، أما أثناء الطمس ( أي ما بين 2-7 أيام أي 5 أيام في الغالب ) فتنخفض مقاومة البدن العامة مع انخفاض معتدل في عدد الكريات البيضاء ، وارتفاع سرعة التنقل الدموي ، ومن آثار ذلك التوتر العصبي والنفسي ، وسرعة الإثارة ، والكآبة ، والقلق ، وقد تصاب بعض النساء بالصداع النصفي ، وفقر الدم ( الانيميا ) بسبب النزف الشهري الدموي حيث تفقد ما بين 60ملل و240 ملل ، وإصابة الغدد الصماء بالتغير أثناء الحيض ، كل ذلك له دوره في العمل والتفكير والإنتاج(1)وصدق الله تعالى إذ يقول : (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ)(2)ولذلك خفف الله تعالى عليها الصلاة فلا تصلي أثناء الحيض ولا يجب عليها القضاء ، وكذلك تؤخر الصيام .
تأثير الحمل والولادة والنفاس والرضاعة :
__________
(1) يراجع د. عبدالمجيد الشاعر ، ود. حسام كنعان ود. عمار الخطيب ود. عبدالقادر العكايلة : أساسيات علم وظائف الأعضاء ط. دار المستقبل ، الأردن / عمان 1993 ص 374
(2) سورة البقرة / الآية222(1/24)
حيث تصاب الحامل بفقر الدم ، ويتحمل القلب الحامل أضعاف ما يتحمله قبل الحمل إذ يقوم بدورتين دمويتين كاملتين ، دورة للأم ، ودورة للجنين ، حيث يضخ القلب قبل الحمل حوالي 6500 لتر يومياً ، أما عند الحمل وبالأخص قبل نهايته فتصل الكمية التي يضخها القلب إلى 15000 لتر يومياً ، وقد عبّر ـ عما سبق ، وعن غيره مما ذكره الأطباء وما لا يسع المجال لذكره هنا ـ بدقة قوله تعالى : ( .... حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ )(1)وحقاً إنه ضعف في كل الجوانب على ضعف .
وكذلك الحال بالنسبة لفترة النفاس ، وأما في حالة الرضاع فالأم بحاجة إلى التفرغ لرضاعة وتربية ولدها لمدة عامين على الأقل ، ولذلك طالب تقرير منظمة الصحة العالمية المنشور عام 1981م ، طالب حكومات العالم بتفريغ المرأة للمنزل والرضاعة ، ودفع راتب شهري لها إذا لم يكن لها من يعولها(2).
__________
(1) سورة لقمان/ الآية14
(2) المراجع السابقة نفسها(1/25)
وهناك فوارق أخرى تخص نوعية التفكير والمخ ، فقد ذكرت مجلة العلوم الأمريكية ( Seientifc American ) في عدد مايو/ أيار 1994 بحثاً بعنوان ( الفوارق في الدماغ بين الزوجين ) للدكتورة دورين كيمورا ، أستاذة علم النفس ، وزميلة الجميعة الملكية الكندية في عام 1992 ، حيث استعانت بتجارب كثيرة ونتائج تجارب لعدد من المتخصصين في هذا المجال مثل ( V.N واطسون) بجامعة غربي ابتارو و ( M . إيك) جامعة يورك ، ودراسة ( A.R كورسكي) وزملائه من جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلس ، وغيرهم ، وتوصلت إلى ما يعتبر اكتشافاً مذهلاً ، وهو ( أن تخزين المعلومات والقدرات في الدماغ يختلف في الذكر عن الأنثى ، ففي الفتى تتجمع القدرات الكلامية في مكان مختلف عن القدرات الهندسية والفراغية بينما هي موجودة في كلا فصي المخ لدى الفتى .... )(1).
وقد عرضت مجلة تايم الأمريكية في 31 يوليو 1995 ص 39 نتيجة دراسة علمية تتمثل في عرض صورة لدماغ المرأة عندما تستغرق في الحديث والكلام ، وحينئذ ينشغل كلا جانبي المخ تماماً ، فيستخدمان في معالجة اللغة ، كما عرضت صورة لدماغ الرجل عند حديثه فلم يستعمل إلاّ جانباً واحداً منه مما يجعله أكثر تخصصاً ودقة لأنه عند الحديث يستعين بالجزء الثاني من دماغه للتذكير في حين ينشغل الجزءان من مخ المرأة عند الكلام وهذا(2)ـ والله أعلم ـ هو السر في قوله تعالى : ( فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى)(3).
__________
(1) مجلة العلوم الأمريكية ، مجلد 10 في مايو 1994 ص 76 وما بعدها ، ويراجع : الشيخ الزنداني : المرجع السابق ص 15
(2) مجلة تايم الأمريكية في 31 يوليو 1995 ص 39 ، ويراجع د. البار : عمل المرأة في الميزان ، والشيخ الزنداني : المرجع السابق ص 14-16
(3) سورة البقرة / الآية282(1/26)
المقصود بهذا العرض :
المقصود بهذا العرض ليس تفضيل الرجل على المرأة ، ولا العكس ، وإنما بيان وجود فوارق طبيعية وخلقية وبدنية ، وهرمونية ، وعناصر حيوية ، وبالتالي لا بدّ أن يكون لها آثارها في نطاق العمل والاستخلاف والاستعمار الذي خلقنا الله تعالى لأجله بعد أداء العبودية لله تعالى التي لا يختلف فيها الرجل عن المرأة ، وإنما الاختلاف في مجال توزيع الأدوار لتحقيق عمارة الأرض .
فلا يجوز عقلاً ولا شرعاً إهمال هذه الفوارق في مجال تعمير الكون الذي هو يتكون أساساً من الزوجين في كل شيء ، زوجية محققة للتوازن فقال تعالى : ( وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ)(1).
وهنا يأتي الجواب بأن الحل هو المنهج الوسط الذي يراعي أصل المساواة ، ويراعي كذلك الفوارق المذكورة ، ويراعي كذلك التزاوج والتكامل للوصول إلى أسرة موزونة ، وبالتالي مجتمع موزون وأمة موزونة ، وعندما يتحقق هذا التوازن للكون الموزون الذي وضع فيه كل شيء منه بمقدار ، وروعي فيه حجم الصغير والكبير ، والثقيل والخفيف ، ووضع كل شيء في مكانه واستفيد منه لتحقيق دوره الرائع .
وهذا ما سنتحدث عنه :
الذكر والانثى تزواج وتكامل لا انفصام ولا تضاد ولا فصال :
الرجل والمرأة سماهما القرآن الكريم ( الزوج ) وهذا يعني أنهما مشروع واحد يتكون من عنصرين متوازنين متساويين اسمه الإنسان ، بل الكون كله يتكون من الزوج والشفع ، من السالب والموجب ، والذكر والانثى ، فقال تعالى : ( سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ)(2).
__________
(1) سورة الحجر/ الآية19
(2) سورة يّس/ الآية 36(1/27)
فكل ما في الكون شفع وزوج ، والوتر الوحيد هو الله تعالى الواحد الأحد ، فقال تعالى : ( وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ)(1). فكما أن الموجب يكمل السالب ، وبالعكس ، وأننا لا نستطيع أن نقول إلاّ أن كل واحد منهما يكمل الآخر ، فالكهرباء مثلاً إنما يتكون من سالب وموجب وأنه لا يمكن تحقيق الاضاءة والقوة والطاقة إلاّ بهما معاً ، وهكذا الإنسان والأسرة والمجتمع والأمة والحضارة ، والاستعمار والاستخلاف لا يتحقق إلاّ بالرجل والمرأة .
فإذا كان الإنسان نفسه ـ بعد آدم وحواء ـ لا يوجد ولا يخلق إلاّ من مشروع مشترك متناصف بين الرجل والمرأة حيث يتكون من نطفة أمشاج يتمثل فيها دور المرأة بـ 23 كرموسوماً ، ودور الرجل كذلك بـ 23 كرموسوماً ، إذن كيف يدعي أحدهما أنه أفضل من الآخر في هذا البنيان المشترك ، وهكذا الأمر عند الله تعالى فالميزان عنده هو العمل الصالح والتقوى فقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)(2)وقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ )(3).
توافق الشريعة مع طبيعة الجنين :
__________
(1) سورة الفجر/ الآية 3
(2) سورة الحجرات / الآية 13
(3) سورة الحجرات / الآية11(1/28)
فالرجل والمرأة ـ كما هو الحال في الكون كله حيواناً ونباتاً وجماداً ـ في نظر الإسلام مخلوق لخالق واحد مبدع عالم حكيم ( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ )(1)فإذا كان التناقض والتصادم والتضاد غير موجود في هذا الكون الشامل فكيف يكون ذلك موجوداً في أعظم خلقه الذي خلقه بيديه ونفخ فيه من روحه ، وجعله في أحسن تقويم وأجمل صورة ومنحه من صفاته الكثير والكثير ، ولذلك فقضية الذكر والأنثى ، والسالب والموجب هي قضية الكون كله .
وإذا كان الكون الجمادي والنباتي والحيواني ـ ما سوى الإنسان والجنّ ـ يسير على أحسن نظام ، وتوزعت الأدوار لكل شيء ، فكل جزء منه من الذرة إلى المجرة له دوره المرصود ، حيث جبله الله تعالى على سنن وقواعد لا يتخلف عنها ( ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ )(2)فإن الله تعالى أنزل شرائعه التي انتهت بشريعة الإسلام الخالدة الشاملة الكاملة ليسير المجتمع الإنساني على هذا النظام المبدع الدقيق الذي كل شيء فيه بقدر ، وكل شيء له وزنه ، حتى يكون المجتمع الإنساني المسلم أيضاً موزوناً قادراً على تحقيق السعادة في الدنيا والآخرة ، وعلى تعمير الكون في ضوء منهج الله تعالى .
وعلى ضوء ذلك نصل إلى ما يأتي :
__________
(1) سورة الملك / الآية 14
(2) سورة فصلت /الآية11(1/29)
1. إن الشريعة كما أنها توافقت مع الكون كله حيث فيه الثوابت والمتغيرات ، فكذلك الشريعة فيها الثوابت والمتغيرات ، وكذلك الإنسان الذي فيه ثوابت من حيث خلقته وعواطفه وفكره ، ومتغيرات في التجدد(1)، كذلك الأمر في موضوع أحكام الشريعة الخاصة بالرجل والمرأة ، فكيف لا يكون كذلك ؟ فالشريعة من الله تعالى ، والكون مخلوق لله تعالى ، فهو كتابه المقروء والثاني كتابه المفتوح ، ( أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ )(2).
2. الرجل والمرأة جزءان من مشورع واحد هو الإنسان ، فهذه الزوجية ( الذكر والأنثى مثل السالب والموجب ) موجودة في كل ما في هذا الكون .
3. توزيع الأدوار على كل واحد منهما لتحقيق التكامل وذلك بأن يوضع كل شيء في محله بكل دقة وحكمة .
4. الابتعاد عن هضم حقوق المرأة ( التفريط ) .
5. عدم الافراط بالزيادة ، أو إعطاء دور للمرأة ليس من تخصص المرأة أو للرجل ليس من تخصصه ، وحينئذ يكون وضعاً للشيء في غير محله ، وقلباً للسنن فيختل النظام .
6. تحقيق التوافق بين الفطرة ، لا الاصطدام معها ، والتناغم والتكامل والترابط والتزاوج بين طرفي المشروع ( الإنسان ) بعيداً عن الصراع والتضاد والعداء والخصومة ، فالمرأة من الرجل ، والرجل من المرأة ، وكلاهما من جنس واحد ، من آدم ، وآدم من تراب ، لتحقيق السكنى والاستقرار والمحبة والألفة والرحمة ، والسعادة فقال تعالى : ( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(3).
__________
(1) يراجع لمزيد من التفصيل : شيخنا القرضاوي : المدخل إلى الشريعة ، ط. وهبة
(2) سورة الملك / الآية 14
(3) سورة الروم/ الآية 21(1/30)
فالإسلام يريد الفرد السعيد المستقر المتزن ، والأسرة السعيدة المستقرة المتحابة والمتراحمة المتزنة في حين يريد المغالون دعاة حقوق المرأة اعلان حرب شعواء ضد الرجل وبالأخص الناشطات اللائي يطالبن بالقتال من أجل عالم بلا رجال ، وبعضهنّ طالبن بتقطيع أوصال الرجال إرباً إرباً(1)، فقد ألفت الكاتبة الأمريكية دورثي رو ، كتاباً سمته : ( العدوّ ) أي الرجل ، حيث تقول لتأصيل هذا العداء : ( إن المرأة في بدايات الحياة البشرية عندما رأت الرجل مخلوقاً مخيفاً ، له جثة ضخمة مغطاة بالشعر مكتظة بالعضلات ، ومن عينيه نظرة وحش مفترس ... خافت منه ، وهنا وقعت في الخطأ الكبير الذي سبب العذاب لكل النساء فيما بعد ... لأن خوفها قادها أن تستسلم وتخضع له ... ، فبدأت تتملقه اتقاء لشره ، وبذلك علّمت الرجل الغرور والاحساس بالقوة ، وأتاحت له فرصة السيطرة والتسلط ، فأصبحت المرأة في مركز التابع للمتبوع )(2).
__________
(1) يراجع : مجلة العربي / العدد 494 يناير 2000 ص 65 مقالة د. أحمد أبو زيد ود. مثنى أمين الكردستاني : حركات تحرير المرأة من المساواة إلى الجندر ط. دار القلم بالكويت 2004 ص 149
(2) مجلة كل الأسرة ص 25 المشار إليها في د. مثنى : المرجع السابق ص 49(1/31)
وتؤكد رائدة الحركة النسوية الانجليزية اليزابيث ستانتون ، أن الرجل يتسم بطبع قاس وأناني وعنيف ومغرور ، ويحب الشرّ والعنف والدمار(1)، بل اتجهت معظم الحركات الانثوية الغربية في القرن العشرين نحو تحميل الرجل كل معاناتها ، وردّ عليها بعض المفكرين الرجال بأفضلية الرجال والمبالغة في ذلك ، فأصبحت هذه المسألة سجالاً ، ونالت الأسرة نفسها كثيراً من آثار هذه المعركة منها رفض الأمومة والانجاب ، بل رفض الأسرة نفسها ، أو تفككها وإباحة الاجهاض والشذوذ الجنسي ، والغاء دور الأب ، فأصبح الصراع ، واثبات الذات ، والهيمنة أساساً في التعايش بدل الرأفة والرحمة والسكنى والتوزيع الأدوار كما يريده الاسلام .
__________
(1) المراجع السابقة(1/32)
والحق أن ما قامت به الحركات النسوية الغربية في القرنين السابقين كان ردّ فعل لنظرة الدونية السائدة في الغرب في القرون الوسطى وما يليها حيث ـ كما تقول زيغرد هونكه : ( إن موقف الرجل الأوربي من المرأة ، ونظرته إليها كانت تتسم بالازدواجية والنفاق ، والشهوانية والتسلط ، والتضارب في المفاهيم والأفعال )(1)بل لم تكن القضية تنحصر في دائرة النظرة بل تجاوزت إلى استعمال كافة مشاكل العنف النفسي والجسدي ، والجنسي معها ، ففي أمريكا تشير أرقام سنة 1984م إلى أن 2928 حادثة قتل تمت داخل الأسرة الواحدة ، وأن أكثر من ثلثها قتلن على يد الزوج أو الخليل ، وتذكر أوردين ، ونزبيت ، أن أكثر من مليوني امرأة سنوياً في أمريكا تبلغ الشرطة عن حادث اعتداء زوجها ، أو خليلها عليها ، وأن 4 نساء يومياً يقتلن بسبب الضرب المبرح ، و1.5 مليون زيارة للنساء للطبيب سببها اعتداء الزوج أو الخليل ، وهذا ما بلغ به الشرطة ، أما ما لم يبلغ به فيتوقع أن يكون نسبة ليست قليلة ، وفي بريطانيا تصل نسبة ضحايا الزوج والخليل من النساء القتيلات إلى 50% وأنه في كل دقيقة تغتصب امرأة في أمريكا(2).
__________
(1) د. محمد رشدي عبيد عقراوي : المشاعية ، ص 7 المشار إليه في د. مثنى الكردستاني : المرجع السابق ص 150
(2) د. شذى سليمان : المرأة المسلمة ص 96-97 ، 115 ، ويراجع : جارودي : أمريكا طليعة الانحطاط ، ترجمة صياح الجهيم ،وميشيل خوري ط. دار عطية للنشر ، لبنان 1998 ص 77 ، ود. مثنى الكردستاني : المرجع السابق 138(1/33)
ومن جانب آخر فإن الفلسفة السائدة في الغرب ( وبالأخص أوروبا ) هي الفلسفة الفردية الانانية ، والذرائعية الميكافيلية ، والنفعية القائمة على اللذة التي جعلت المرأة بمثابة متاع للتمتع والاستعراض والاعلانات ، وزاد الطين بلة تأثر المجتمعات الأوربية بفلسفة الصراع ، وخلق التناقض بين الأمم والمجتمعات ، وهي فلسفة تؤكد ذلك الصراع حتى بين الله تعالى والإنسان ، حيث إن الأسطورة اليونانية تقول إن برميثوس هو الذي سرق النار المقدسة من الآلهة(1)حيث أثرت هذه الفلسفة الصراعية على العلاقات الأسرية والاجتماعية وحتى بين الأمم ، يقول الشيخ سعيد النورسي : ( أوغلت الفلسفة في ضلالها حتى اتخذت دستور الصراع هذا حاكماً مهيمناً على الموجودات كافة فقررت .... أن الحياة كلها جدال وصراع ... )(2).
ما يترتب على هذه المنهجية الموزونة :
يترتب على هذه المنهجية التي أصلها الإسلام ، وفكره الصحيح القائم على الوسطية والواقعية والدقة ـ كما سبق ـ ثلاثة أمور : أولاً ـ أن الأصل هو المساواة كما دلت على ذلك الايات التي ذكرناها ويؤكدها قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( النساء شقائق الرجال )(3)، وثانياً : أن العدل هو مراعاة الفروق التكوينية لكلا الجنسين التي ذكرناه ، واعتبارها اه\ختلاف تنوع وتكامل ، لا اختلاف تعارض وتضاد وتصارع . وثالثا : تطبيق المنهج الصحيح القائم على الجمع والشفع والتوافق البعيد عن النظرة الاحادية إلى النصوص ، وذلك من خلال توزيع الأدوار .
أولاً ـ المساواة :
وبما أن الرجل والمرأة من نفس واحدة ، ولهما خصائص مشتركة ، وصفات منوافقة ، وبهذا الاعتبار فالمرأة مثل الرجل فيما يأتي :
__________
(1) المراجع السابقة
(2) كليات رئاسل النور : الكلمات ، ترجمة إحسان قاسم الصالحي ، نشر دار سوزلر استنابول 1992 ص 644
(3) رواه أحمد وأبو داود والترمذي(1/34)
1) المساواة في الحقوق ، حيث إن كلاً من الرجل والمرأة يتمتع بحقوق متساوية مع الآخر في شتى مجالات الحياة .
2) المساواة في جميع ما يخص أمور الآخرة من الأجر والثواب والجنة والنار ، وفي العقيدة والشعائر إلاّ ما خففت على المرأة بسبب ظروف الحيض والنفاس ، والحمل والرضاعة ونحوها .
3) المساواة في الاستخلاف في الأرض ، إن الآيات الواردة في القرآن الكريم حول الاستخلاف واستعمار الأرض لم تفرق بين الرجل والمراة ، ولم تستثن المرأة من هذه الوظيفة العظيمة التي كلف بها الانسان ، بل لا يمكن تعمير الأرض إلى بشقي الانسان وهما الذكر والانثى ، فقال تعالى ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)(1)ولذلك اتفق الفقهاء على أن الخطابات العامة التكليفية شاملة للذكر والأنثى حتى ولو كانت بألفاظ تستعمل في الجمع المذكر ، إلاّ ما استثنى بنص خاص .
يقول ابن حزم : ( لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مبعوثاً إلى الرجال والنساء بعثاً سوياً ، وكان خطاب الله تعالى وخطاب نبيه صلى الله عليه وسلم للرجال والنساء خطاباً واحداً لم يجز أن يخص بشيء من ذلك الرجال دون النساء إلاّ بنص جلي ، أو اجماع ، لأن ذلك تخصيص للظاهر ، وهذا غير جائز)(2).
__________
(1) سورة الحجرات /الآية 13)
(2) الاحكام في الاصول ط. القاهرة دار الحديث 1984 (1/3/337) ويراجع : هبة رؤوف عزت : المرأة والعمل السياسي ط. المعهد العالمي للفكر الاسلامي 1995 ص 56(1/35)
ومن هنا حينما طلبت المرأة في عصر الرسالة تخصيصها بالذكر نزلت الآيات استجابة لها ، فقال تعالى : ( وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(1)وقال تعالى : ( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(2)ومن هنا جاء استعراض القرآن لقصة ملكة سبأ بصورة تنبئ عن الاشادة بحكمتها وسياستها ، بل تأكيد قولها وتخليده حينما قالت : ( قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً ) فقال تعالى مؤكداً هذه الحكمة : ( وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ)(3).
وأعتقد أن اثبات هذا الأمر ( المساواة في الاستخلاف من يث المبدأ يساعدنا كثيراً في تأصيل جواز المراة أن تتولى من وظائف الاستخلاف ما لم يكن هناك نص خاص يمنعها من ذلك .
4) المساواة في الولاية والموالاة ، مما لايختلف فيه أحد أن الموالاة التي فرضها الله تعالى على المسلمين شاملة للذكر والانثى ، وكذلك الولاية فقال تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(4)ومن المعلوم أن هذه الولاية تشمل كل جوانب الحياة ، وعلى رأسها الولاية السياسية من حيث المبدأ .
__________
(1) سورة التوبة / الآية 72
(2) سورة النحل / الآية 97
(3) سورة النمل / الآية 34
(4) سورة التوبة / الآية 71(1/36)
5) المساواة أمام القانون والقضاء .
6) المساواة في حرية الاعتقاد والدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال تعالى : ( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(1)ويقول تعالى : ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(2)ويقول تعالى :( إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)(3).
7) المساواة في الحقوق الاجتماعية والمدنية .
8) المساواة في أهلية الأداء الكاملة ، حيث لها ذمة مالية مستقلة التملك والتصرف وإجراء العقود المالية ونحوها(4)، علماً بأن هذه الأهلية لم تعترف بها القوانين الرومانية والغربية إلاّ في وقت متأخر ، فعلى سبيل المثال إن القانون الفرنسي اعرتف بها في عام 1938م .
__________
(1) سورة النحل/ الآية 97
(2) سورة التوبة / الآية 71
(3) سورة الأحزاب / الآية 35
(4) يراجع : د. علي القره داغي : مبدأ الرضا في العقود ط. دجار البشائرالإسلامية 1985م بيروت ( 1/297-315 ) ويراجع كذلك د. هاني طيعمات : حقوق الإنسان ط. الشروق بالأردن 2001 ص 310(1/37)
9) المساواة في الحقوق المالية ، حيث إذا نظرت إلى الواجبات المفروضة على الرجل فإن الفروق الموجودة في الارث معوضة تماماً من خلال النفقة ، والتزامات الرجل.
إضافة إلى أن هناك حالات يتساوى فيها الرجل والمرأة ، وفي بعضها تكون حصة المرأة أكثر منه .
10) المساواة في ابدءا الرأي ووجوب الاستماع إلى رأيها ، ويدل على ذلك ما دار بين الخنساء بنت خزام الأنصارية وبين النبي صلى الله عليه وسلم حيث ذكرت : ( أن أباها زوجها من ابن أخيه دون إذن منها ، فجعل صلى الله عليه وسلم ( الأمر إليها) وحينما علمت بهذا الحق قالت : قد أجزت ما صنع أبي ، ولكني أردت أن أعلم أللنساء من الأمر شيء ؟ وفي رواية ابن ماجه صححها الحافظ الهيثمي قالت : ولكني أردت أن تعلم النساء أن ليس إلى الآباء من الأمر شيء )(1).
وفي مجال الزوجية أمر الله تعالى الزوجين أن تتم الأمور بينهما عن تراض منهما وتشاور فقال تعالى : ( فإن أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا )(2)وقصة المرأة التي وقفت أمام عمر فعارضته في تحديد المهر فقالت : (ما ذلك لك ) قال عمر : ( ولم ؟ ) قالت : ( إن الله قال : ( وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً )(3)فرجع عمر عن رأيه وقال : ( كل أحد أفقه من عمر )(4).
ثانياً ـ عدم المساواة في بعض الأمور ( اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد ) :
وبما أن المرأة تختلف في التكوين والخلقة والهرمونات عن الرجل ـ كما سبق ـ اختلاف تنوع ، لا اختلاف تضاد ، ومن باب توزيع الأدوار .
__________
(1) يراجع : سسن ابن ماجه ، كتاب النكاح ( 1/ 602) وسنن النسائي ، كتاب النكاح (6/71) وسنن أبي داود ـ مع عون المعبود ـ ( 6/120) ومسند أحمد (6/136)
(2) سورة البقرة / الآية233
(3) سورة النساء / الآية20
(4) الأثر رواه البيهقي في السنن الكبرى ، كتاب الصداق ( 4/233 )(1/38)
وهذا الاختلاف في بعض الأمور الخاصة بالأعمال التي لا تتناسب مع فطرتها ، وبالأخص في موضوع الحقوق السياسية التي هي موضوع بحثنا .
حق المرأة في تولي الولاية العامة ( المناصب الرئيسية ) :
الولاية ـ بالكسر ـ في اللغة : الإمارة ، وبالفتح : النصرة والنسب والقرابة وغيرهما(1).
والولاية في اصطلاح الفقهاء لها نوعان :
النوع الأول ـ الولاية العامة ، وقد ذكر لها القاضي أبو يعلى أربعة أقسام ، وهي :
1. الولاية العامة في الأعمال العامة كالخلافة (أو رئاسة الدولة تحت أي اسم كان) والوزارة.
2. الولاية العامة في الأعمال الخاصة كإمارة الأقاليم .
3. الولاية الخاصة في الأعمال العامة كقاضي القضاة ، وقائد الجيوش ، وحامي الثغور ، ومستوفي الخراج ، وجابي الصدقات .
4. الولاية الخاصة في الأعمال الخاصة كقاضي بلد ، أو اقليم(2)... وقد شرحها بعض المعاصرين بأنها تشمل القيام بأي عمل من أعمال السلطات الثلاث : التشريعية ، والتنفيذية ، والقضائية(3).
النوع الثاني ـ الولاية الخاصة في مجال تنفيذ العقود التي عرفوها بأنها : تنفيذ القول على الغير(4)، وهذا النوع غير مقصود هنا ، وأنه خارج عن موضوعنا .
وقد اختلف الفقهاء في مدى صلاحية المرأة للولاية العامة على ثلاثة آراء :
? الرأي الأول ـ المنع المطلق
? الرأي الثاني : الجواز المطلق
? الرأي الثالث : التفصيل
ونحن هنا نذكر هذه الآراء الثلاثة مع الأدلة والترجيح بشيء من الايجاز :
__________
(1) يراجع لمزيد من التفصيل اللغوي : لسان العرب ، والقاموس المحيط ، والمعجم الوسيط مادة ( ولي ) ولم يفرق بعض اللغويين بين كسرها وفتحها
(2) الاحكام السلطانية لأبي يعلى ط. مصطفى الحلبي 1966 بالقاهرة ص 28 وما بعدها ويراجع : الاحكام السطانية للماوردي ط. التوفيقية بالقاهرة ص31
(3) الشيخ عبدالمجيد الزنداني : المرجع السابق ص 56 ومراجعه الحديثة
(4) حاشية ابن عابدين ( 3/25)(1/39)
الرأي الأول : المنع المطلق وهذا رأي جمهور الفقهاء من أصحاب المذاهب الأربعة ما عدا بعض الاسثتناءات التي نذكرها في الرأي الثالث ، وهو رأي جماعة من المعاصرين أيضاً .
وقد استدلوا لذلك بالكتاب والسنة والاجماع والقياس وسدّ الذرائع ....
أولاً ـ الكتاب ، حيث استدلوا بمجموعة من الآيات منها :
أ ـ قوله تعالى : ( وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ )(1)حيث قال الطبري : ( روى عن زيد بن أسلم قوله : ( وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ ) : إمارة )(2)، وهكذا فسره جماعة من المفسرين(3).
ب ـ قوله تعالى : ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ )(4)حيث ذهب المفسرون إلى أن الآية تدل على إثبات القوامة لجنس الرجال على جنس النساء وأن هذه قاعدة عامة تشمل القوامة داخل البيت وخارجه(5)، وقال الاستاذ المودودي : ( هذا النص يقطع بأن المناصب الرئيسية في الدولة رئاسة كانت أو عضوية مجلس الشورى لا تفوض إلى النساء.... )(6).
ج ـ قوله تعالى:( وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ)(7)حيث يدل على أن الله تعالى فضل البعض وهم الرجال على البعض وهنّ النساء في بعض الأمور مثل الارث ونحوه(8).
__________
(1) سورة البقرة / الآية228
(2) تفسير الطبري ( 2/275)
(3) يراجع : التفسير الكبير للرازي ( 3/81) وتفسير ابن كثير ( 1/278)
(4) سورة النساء / الآية34
(5) يراجع : تفسير الكشاف للزمخشري (1/217)وتفسير القرطبي ( 5/169) وتفسير ابن كثير (1/432 )
(6) ترجمان القرآن ، في تفسير هذه الآية
(7) سورة النساء / الآية32
(8) تفسير الطبري ( 5/30 )وتفسير الماوردي ( 1/477 )(1/40)
د ـ قوله تعالى : ( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ )(1)حيث ان الآية تأمر النساء بالقرار في البيت وهذا مخالف لاجازة أن تشتغل المرأة بالمناصب العامة .
ثانياً ـ الأدلة من السنة المطهرة :
يعتبر من أقوى الأدلة وأصرحها ما رواه البخاري وغيره عن أبي بكرة ... قال : لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس قد ملكوا عليهم بنت كسرى قال : ( لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة )(2)قال الخطابي في الحديث : ( أن المرأة لا تلي الامارة ولا القضاء ...)(3)وقال الصنعاني : ( فيه دليل على أن المرأة ليست من أهل الولايات )(4)وقد ورد الحديث بألفاظ مختلفة منها : ( لا يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة )(5)وفي رواية أخرى : ( لا ، " لن " ، " ما " يفلح قوم تملكهم امرأة)(6).
ويؤكد هذا المعنى العام أن راوي الحديث أبا بكرة قال ذلك عند ما دعي للالتحاق بحملة جمل بقيادة عائشة ، فقال : ( لقد نفعني الله بكلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام الجمل بعدما كدتُ ألحق بأصحاب الجمل فأقاتل معهم .... )(7).
وقد أطال المانعون النفس في شرح الحديث ، ودلالاته على منع المرأة من كل ولاية عامة أو خاصة(8).
واستدلوا بأحاديث أخرى ليست نصاً في الموضوع(9).
ثالثاً ـ الاجماع :
__________
(1) سورة الأحزاب / الآية33
(2) صحيح البخاري ـ مع الفتح ـ كتاب المغازي ( 8/126-129)
(3) فتح الباري (8/128) وقد عقب ابن حجر على هذ التعميم
(4) سبل السلام ط. مكتبة عاطف (4/1496)
(5) رواه أحمد في مسنده ( 5/47)
(6) مسند أحمد ( 5/38 ، 43 ، 50 ، 51 )
(7) صحيح البخاري ـ مع الفتح ـ ( 8/126)
(8) يراجع : : الشيخ الزنداني : المرجع السابق ص 70-79 وغيره
(9) المرجع السابق نفسه(1/41)
حيث انعقد الاجماع على أن المرأة لا تصلح للولاية العامة ، يقول ابن قدامة : ( ولا تصلح للإمامة العظمى ولا لتولية البلدان ، ولهذا لم يول النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا أحد من خلفائه ، ولا من بعدهم امرأة قضاء ولا ولاية فيما بلغنا ، ولو جاز ذلك لم يخل منه جميع الزمان غالباً )(1).
وأكد هذا المعنى الشيخ عبدالمجيد الزنداني واستدل لذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ )(2)لكن هذا الحديث فيما يخص العبادات الشعائرية التي الأصل فيها التوقف ، أما العادات والمعاملات فالأصل فيها الاباحة(3).
رابعاً ـ القياس :
أي قياس الولاية على الطلاق ، وعلى الولاية في النفس .
خامساً ـ المصلحة :
حيث إن الأساس في الولايات العامة هي الكفاءة الدائمة ، والقوة والقدرة ، وهي ضعيفة في المرأة ـ كما سبق ـ .
سادساً ـ سد الذرائع :
حيث تؤدي ولاية المرأة للمناصب الرئيسية إلى فساد في الأخلاق وإلى ارتكاب محظورات شرعية من الخلوة ، فالفواحش ،واهمال لدور المرأة الأساس في تربية النشأ(4).
__________
(1) المغني ـ مع الشرح الكبير ـ ط. دار الكتب العلمية / بيروت ( 11/380)
(2) الحديث رواه البخاري في صحيحه ، كتاب الصلح ـ مع فتح الباري ـ ( 5/301 ، 4/355 ، 13/317) ومسلم في صحيحه (3/1343)
(3) يراجع : مبدأ الرضا في العقود ( 1/1159 وما بعدها )
(4) يراجع : الشيخ الزنداني : المرجع السابق 94-96(1/42)
الرأي الثاني : للقائلين بجواز تولي المرأة الولاية العامة مطلقاً ، وهو ما ذهبت إليه فرقة الشبيبة من الخوارج ، حتى حكموا غزالة وجعلوها إماماً بعد موت شبيب ، الذي لما دخل الكوفة أقامها على منبرها في المسجد الجامع حتى خطبت على المنبر(1)، وهذا رأي بعض المعاصرين أمثال د. عبدالحميد المتولي ، وظافر القاسمي ، والأخت زينب الغزالي أجازت لها رئاسة الوزراء دون رئاسة الدولة(2)، حيث استدلوا بما يأتي :
أولاً ـ الكتاب ، حيث وردت عدة آيات تثبت الولاية بصورة عامة ، منها :
أ ـ قوله تعالى : ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ .....)(3).
ب ـ قوله تعالى : ( وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ )(4)يقول الأستاذ محمد عبدالله العربي : ( لم يخص فئة من القوم دون سواهم بأداء مقتضيات الشورى )(5).
__________
(1) سبيب بن يزيد الخارجي خرج في خلافة عبدالملك ، وبقيت فتنته 4 سنوات ثم قضى عليها الحجاج ، وكانت غزالة من ربات الفروسية والشجاعة والفصاحة والبلاغة ، وكان لها دور كبير مع مائة خارجية مع شبيب في السيطرة على الكوفة ، حتى انهزم أرب مرات الحجاج أمامهم .
انظر : الفرق بين الفرق ص 110 – 111 ووفيات الأعيان (2/454)
(2) د. عبدالحميد متولي : مبادئ نظام الحكم في الاسلام ص 443- 444 ، وظافر القاسمي : نظام الحكم في الشريعة والتأريخ ص 242 ، وزينب الغزالي : هموم المرأة المسلمة والداعية ط. دار الاعتصام القاهرة ص 242
(3) سورة التوبة / الآية71
(4) سورة الشورى / الآية38
(5) نظام الحكم في الاسلام ص 84(1/43)
ج ـ قصة ملكة سبأ التي ذكرها القرآن الكريم في معرض الاشادة بهذه المرأة العاقلة الحكيمة التي أبعدت عن قومها شبح الرحب ، ثم أسلمت بعزة واباء فقالت : ( وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)(1)ولم تقل لأجل سليمان ... فسوت نفسها معه.
د ـ الآيات التي فيها بيعة النساء لرسول الله صلى الله عليه وسلم مثل قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ...... )(2)ومن المعلوم أن البيعة مشاركة سياسية .
ثانياً ـ من السنة المطهرة ، حيث وردت عدة أحاديث تدل على أن المرأة لها حق الولاية ، منها :
1 ـ حديث الخنساء الأنصارية السابق الذي يدل على اثبات الولاية لها في الجملة .
__________
(1) سورة النمل / الآية44
(2) سورة الممتحنة / الآية12(1/44)
2 ـ السيرة النبوية المشرفة التي تدل على أن النساء شاركن في بيعة الرسول منذ بداية الدعوة ، والتفكير في إنشاء الدولة الإسلامية ، ثم مبايعتهن للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقد شاركت المرأة في بيعة العقبة ، فقد روى أحمد بسنده من حديث جابر قال : ( مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين يتبع الناس في منازلهم في المواسم بمنى وغيرها ، ... حتى بعثنا الله له من يثرب قصد قناه ... حتى قال : فرحل إليه منا سبعون رجلاً ، ، وذكر حديث كعب : ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان ـ فوعدناه بيعة العقبة ، فقلنا : على ما نبايعك ؟ فقال : ( على السمع والطاعة في النشاط والكسل ، وعلى النفقة في العسر واليسر ، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعلى أن تنصروني إذا قدمت إليكم بيثرب ، فتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ، ولكم الجنة )(1)وقد ذكر الحافظ ابن حجر نقلاً عن ابن هشام أن المرأتين بايعتا رسول الله صلى الله عليه وسلم دون مصافحة(2)بل إن مبايعة النساء للنبي صلى الله عليه وسلم ثابتة في البخاري ومسلم(3)، وذكرت كتب السيرة أن نصيبة بنت كعب بايعت الرسول صلى الله عليه وسلم على الجهاد في بيعة العقية الثانية ، وقاتلت في غزوة أحد ، ويوم اليمامة ، وغزوة خيبر ، كما بايعت بيعة الرضوان التي بايع فيها الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت(4).
__________
(1) رواه أحمد في مسنده ( 3/322) قال في الفتح ( 7/219-223) إسناده حسن ، وصححه الحاكم
(2) الاصابة ( 4/479)
(3) صحيح البخاري ـ مع الفتح ) (10/265)
(4) البداية والنهاية لابن كثير ط. مكتبة المعارف ( 3/ 168 ، 4/34) وامتاع الاسماع للمقريزي ط. دار الانصار 1981 ( 1/131 ، 223 ، 246) وأسد الغابة قي معرفة الصحابة ط. دار الشعب (7/317) وهبة رؤوف عزت : المرجع السابق ص 125(1/45)
فهذه البيعة هي بيعة سياسية بكل ما تعني الكلمة ، وقد شاركت فيها النساء ، مما يدل على أن المرأة لها هذا الحق ، ولكن بيعة النساء ليست بالمصافحة وإنما بالكلام ، أو مع مد الأيادي دون المس ، يقول الأستاذ أبو شقة(1): ( إن مبايعة النساء النبي صلى الله لها عدة دلالات : الدلالة الأولى : استقلال شخصية المرأة ، وأنها ليست مجرد تابع للرجل ، بل هي تبايع كما يبايع الرجل ، الدلالة الثانية : مبايعة النساء النبي صلى الله عليه وسلم تقوم على أساسين : الأول ـ باعتباره صلى الله عليه وسلم الرسول المبلغ ، والثاني ـ باعتباره إمام المسلمين ، ومما يؤكد وجود الاعتبار الثاني قوله تعالى ( ولا يعصينك في معروف) ، وقوله صلى الله عليه وسلم عن طاعة الأمير (إنما الطاعة في المعروف )(2).
3ـ مشورته صلى الله عليه وسلم لأم سلمة ـ كما سبق ـ
4ـ قبوله صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت يزيد أن تمثل النساء بين يديه ، حيث قالت : (إني رسول مَنْ ورائي من جماعة نساء المسلمين يقلن بقولي ، وعلى مثل رأيي ...... الخ )(3)والمقصود أن المرأة مثلت جماعة من النساء مما يدل على مشروعية اتحادات خاصة بهنّ تدافع عن حقوقهن أمام الرجال المسلمين .
5ـ مشورته صلى الله عليه وسلم للمراة بصورة عامة ، حيث جاء في عيون الأخبار لابن قتيبة ، عن الزيادة ، قال : ( حدثنا حماد بن زيد عن هشام عن الحسن قال : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يستشير حتى المرأة فتشيرعليه بالشيء فيأخذ به )(4).
وهذا الحديث وإن كان مرسلاً لكنه معضد بحديث أم سلمة في الصحيح ـ كما سبق ـ .
__________
(1) تحرير المرأة في عصر الرسالة (2/425 ـ 426)
(2) رواه البخاري ـ مع التفح ـ ( 13/233 ) ومسلم ـ مع النووي ـ ( 6/15)
(3) كنز العمال ( 16/411) الحديث 45157 وقال : ( رواه
(4) عيون الأخبار ( 1/82)(1/46)
6ـ وكذلك الأمر في السيرة الراشدة ، حيث استشار عبدالرحمن بن عوف في امر عثمان وعليّ رضي الله عنهما حتى البكر في خدرها(1).
الرأي الثالث : القائلون بالتفصيل وأدلتهم :
وهؤلاء اختلفوا في نوعية التفصيل كالآتي :
أولاً ـ فابن جرير الطبري وابن حزم الظاهري يجيزان ولاية المرأة للقضاء ، بل يفهم من كلامهم هو أن الممنوع هو الإمامة الكبرى ( أي أن تكون خليفة المسلمين ، أو رئيسة الدولة ) .
ثانياً ـ الحنفية الذين أجازوا للمرأة تولي القضاء فيما عدا الحكم في الجنايات والحدود .
ثالثاً ـ زفر والمالكية الذين قالوا بجواز قضائها فيما تجوز فيه الشهادة .
رابعاً ـ جماعة من المعاصرين أمثال فضيلة الشيخ محمد الغزالي و الشيخ العلامة يوسف القرضاوي يذهبون إلى جواز أن تتولى المرأة كافة الولايات والمناصب ما عدا الإمامة العظمى إذا توافرت الشروط والضوابط الشرعية المطلوبة ، ولم تترتب عليها مفاسد من إهمال الأسرة ونحو ذلك وهؤلاء استدلوا بجميع أدلة الفريقين ، ولكن حملوها على ما عدا الإمامة العظمى ، فإن كان الديل نصاً في الموضوع كما في حديث : ( لن يفلح قوم.....) حملوا دلالة منعه على الإمامة العظمى ، وإلاّ فحملوه على الولايات الأخرى .
مناقشة الأدلة :
يمكن أن نناقش أدلة المانعين بما يأتي :
__________
(1) يراجع لمزيد من فقه المشورة للنساء في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم والخلافة الراشدة : د. توفيق الشاوي : فقه الشورى والاستشارة ط. دار الوفاء 1415 ، ود. محمود بلتاجي : مكانة المرأة في القرآن الكريم والسنة ط. دار الاعتصام ط. دار السلام ص 279 وما بعدها(1/47)
أولاً ـ قوله تعالى : (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ )(1)لا يدل على منع الولاية مطلقاً ، وإنما هي درجة كون الطلاق والرّجعة بيده ، لأن الآية في بدايتها تتحدث عن الطلاق والرّجعة حيث تقول : (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(2)، أو درجة القوامة داخل الأسرة وفسره قوله تعالى : ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً)(3)من حيث إدارة البيت والتأديب ونحو ذلك مما يحتاج إليه البيت بأن يكون له مدير وقائد فهذه الآيات كلها تتحدث عن الأسرة وإدارتها والانفاق عليها ، ولا يمكن أن يقصد بالآية العموم المطلق ، فليس لكل رجل ولاية على كل امرأة ، فهذا غير مقصود من الآية ، إذ ليس للرجل الأجنبي ولاية على امرأة أجنبية ، فهذه ولاية تبدأ بهذا الأصل وهو أن إدارة البيت بيد الزوج لما له من قدرات تهيئه لذلك ، كما أنه ينفق عليها ، ثم تتحدث الآية نفسها عن الزوجة الصالحة ، والزوجة الناشزة ....
__________
(1) سورة البقرة من الآية 228
(2) سورة البقرة / الاية 228
(3) سورة النساء/ الآية 34(1/48)
مع أن هذه القيادة ليست قيادة تحكم واستبداد وإنما قيادة تشاور وتراض ، ومعاشرة بالاحسان ، ولذلك حينما يتخلف عن أهدافها تؤخذ من الزوج .
فالآيتان لا تتحدثان على أية ولاية سوى ولاية الرجل على زوجته في إدارة البيت وأن الرجعة والطلاق بيده ، فالقوامة هي إدارة البيت ، والدرجة إما أنها هذه القوامة ، أو أن الطلاق والرّجعة بيده إضافة إلى أن سبب نزول : ( الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ ......) يدل على هذه الخصوصية(1)، نعم أن العبرة بعموم اللفظ وليس بخصوص السبب عند جمهور الأصوليين(2)، ولكن المحققين منهم قالوا : إن العموم يخص بالقرائن ومنها السياق ، حيث جاء في البحر المحيط للزركشي : ( قال الشيخ تقي الدين في شرح الإلمام : نص بعض أكابر الأصوليين على أن العموم يخص بالقرائن ، قال : ويشهد له مخاطبات الناس بعضهم بعضاً ، حيث يقطعوه في بعض المخاطبات بعدم العموم بناء على القرينة)(3)إضافة إلى أن عموم هذه القوامة داخل البيت باق لم يمس ، ومع ذلك لو أن الرجل تنازل لزوجته في حق إدارة البيت ، وفوض لها حق الطلاق فإن هذا جائز باتفاق الفقهاء(4).
ثانياً ـ أما قوله تعالى : ( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ .... )(5)فيجاب عنه بما يأتي :
__________
(1) يراجع لسبب النزول : تفسير الرازي ( 2/88)
(2) التحصيل ( 1/344 ) وشرح جمكع الجوامع ( 1/413) والكوكب المنير ( 3/136)
(3) البحر المحيط ، ط. وزارة الأوقاف الكويتية الطبعة الثانية 1413هـ ( 3/380)
(4) يراجع لجواز التفويض : حاشية ابن عابدين ( 2/475) والدسوقي مع الشرح الكبير ( 2/405) ومغني المحتاج ( 3/285) وكشاف القناع ( 5/254) وأحكام القرآن لابن العربي (3/1505)
(5) سورة الأحزاب / الآية33(1/49)
أ ـ أن المخاطبات بالآية الكريمة هنّ نساء النبي صلى الله عليه وسلم حيث تبدأ الآية الكريمة ( يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً)(1).
فالآية نص في خطاب زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنهنّ لسن كبقية النساء ، فكيف يعمم الالزام في جميع الأحكام لبقية النساء ؟
فهؤلاء لهنّ مقام عظيم ، وخصوصية بسبب كونهنّ أزواجاً للرسول القائد صلى الله عليه وسلم ولا سيما أن هذه الآيات نزلت بعد حادثة الافك التي هزت المجتمع الإسلامي وشلّت حركته طوال أربعين يوماً ، وبالتالي فاقتضى التشريع وضع قيود صارمة عليهنّ ، ولذلك خيرهنّ الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر الله تعالى قبل هذها الآية بين البقاء ، والطلاق فاخترن الله ورسوله ، وحينئذ نزلت عليهنّ تشريعات خاصة بهنّ للالتزام بهنّ ، ومنها الأمر بالقرار في البيوت حماية لعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ب ـ أن المقصود بـ (وَقَرْنَ ) ليس عدم الخروج مطلقاً ، ويدل على ذلك خروج بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحج والعمرة والجهاد ، وأداء صلة الرحم .
ثالثاً ـ ان أقوى أدلتهم هو الحديث المعروف : ( لن يفلح قوم ....) ، ويمكن أن يناقش هذا الحديث بما يأتي :
1ـ أن الحديث خاص بهذه الواقعة التي قيل فيها ، وهي تولي بنت كسرى الامبراطورية ، حيث صدق قوله صلى الله عليه وسلم فلم يفلح القوم ، بل انهزموا وسقطت الامبراطورية .
وقد يجاب عن هذا بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ـ كما سبق ـ
__________
(1) سورة الأحزاب / الآية 32(1/50)
2 ـ أن الحديث خاص بالولاية العظمى بدليل بعض روايات الحديث الثابتة ، حيث ورد الحديث بلفظ ( تملكهم ) في روايتين ، إحداهما : ( لا يفلح قوم تملكهم أمرأة )(1)والثانية بلفظ : ( لن يفلح قوم تملكهم امرأة )(2)إضافة إلى ورود رواتين أخريين بلفظ : ( لا يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة )(3)ولفظ : ( لن يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة )(4).
3ـ إن سياق الحديث ( الذي قال المحققون من الأصوليين انه يجوز تخصيص العموم به) يدل بوضوح على أن الحديث كان في الامبراطورية العظمى ، حيث تولتها بروان بنت شيرويه بن كسرى ، ويؤكد ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في سياق الغضب عليهم ، والدعاء عليهم بعدما قام كسرى بتمزيق رسالته صلى الله عليه وسلم حيث ورد في صحيح البخاري أنه صلى الله عليه وسلم دعا عليهم أن ( يمزّقوا كل ممزق )(5)وقال أيضاً : ( إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده )(6)فالحديث خاص بكسرى أو بالامامة العامة .
4ـ ان لفظ ( أمرهم ) يشير إلى العموم ، أو إلى الكمال ، وهذا لا يتحقق إلاّ في الولاية العظمى .
إن في ذلك جمعاً بين الأدلة ، وهو أولى من الغاء أحدها .
رابعاً ـ ان دعوى الاجماع لا تصح إلاّ في الإمامة العظمى ، أما غيرها فمحل خلاف كبير بين الفقهاء قديماً وحديثاً ـ كما سبق ـ .
خامساً ـ ان قياس الولاية على الطلاق وعلى الولاية في التزويج لا يستقيم لما يأتي :
1) ان الطلاق إذا فوضه الزوج إلى زوجته فإنه صحيح بالاتافق ـ كما سبق ـ ، مع أن القائلين بمنع الولاية لا يجيزون الولاية لا في البداية ، ولا بالتفويض من الرجال .
__________
(1) رواه أحمد ( 5/ 43 ) ومسند الشهاب ( 2/51 )
(2) رواه أحمد ( 5/ 51 )
(3) رواه أحمد ( 5/47)
(4) رواه أحمد ( 5/38) ومسند أبي داود الطيالسي الحديث 118
(5) صحيح البخاري ، كتاب المغازي ـ مع الفتح ـ ( 8/126) وما بعدها
(6) المرجع السابق(1/51)
2) ان ولاية المرأة على تزويج نفسها ، أو غيرها فمحل خلاف كبير ، حيث أجازها الحنفية(1)، وبالتالي فالأصل المقيس عليه ليس محل اتفاق حتى يكون ملزماً .
سادساً ـ أما مسألة المصالح والمفاسد وسد الذرائع ، فيمكن علاجها من خلال الضوابط الشرعية والقيود التي تمنع ذلك ، إضافة إلى أن كونها أدلة معتبرة ليست محل اتفاق بين الفقهاء .
وبهذه المناقشة اتضح لنا أن أدلة المانعين لم تنهض حجة على دعواهم بمنع الولاية مطلقاً من المرأة ، وإنما كل ما تدل عليها أدلتهم هو منع المراة من تولي الولاية العظمى.
ويمكن أن نناقش أدلة المجيزين مطلقاً ، بأن جميع أدلتهم لا تدل على الجواز المطلق ، وإنما تدل على جواز أصل المشاركة السياسية ، وحتى لو دلت فهي تخصص بحديث : ( لن يفلح قوم.... ) حيث هو نص في منع الولاية .
بعض الردود عن بعض المقولات :
فقد أثير في منع المرأة من المشاركة السياسية بعض المقولات منها :
أولاً ـ أن المرأة إذا شاركت أدى ذلك إلى الاختلاط المحرم ، وارتكاب المحظورات .
ونجيب عنه بما يأتي :
1) أن من يجيز ذلك يقيده بالالتزام بالضوابط الشرعية فإذا لم تتوافر فحينئذ لم تجز المشاركة .
2) انه ليس هناك تلازم بين الأمرين .
3) ان هذه الحرمة لا تخص النساء فقط ، بل تشمل الرجال أيضاً فهم مأمورن أيضاً بالالتزام بأحكام الله تعالى في التعامل مع النساء .
ثانياً ـ أن المشاركة السياسية تحتاج إلى الجرأة والشجاعة فهذه قد لا توجد في النساء .
__________
(1) يراجع لمزيد من التفصيل : مبدأ الرضا في العقود ( 1/303 ) ومصادره المعتمدة(1/52)
والجواب عن ذلك ، أن هذا غير صحيح ، وأن هذا أيضاً موجود لدى الرجال قديماً وحديثاً ، فكم من نساء اتسمنّ بشجاعة لم يستطع كثير من الرجال الوصول إليها ، فكثير من الصحابيات والتابعيات يبدين آراءهنّ بكل شجاعة حتى أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمام الخلفاء الراشدين ، فقد وقفت امراة أمام عمر رضي الله عنه ممتنعة من منع الزيادة في المهور ـ كما سبق ـ كما أن صفية رضي الله عنها كانت أشجع من حسان في الحادثة التي ذكرناها ، وأن موقف أسماء ذات النطاقين أمام الحجاج كان أشجع من أي موقف للرجال.
ثالثاً ـ أن المرأة طبعت على تغليب العاطفة على مقتضى العقل والحكمة ، حيث تشير آيات الأحزاب إلى تطلع النساء حتى من زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم إلى زنية الدنيا ومتعها ، كما في الآية 29 من سورة الأحزاب ، كما أن الآية 4 من سورة التحريم تذكر مظاهرة بعض زوجاته عليه .
فقد أجاب على ذلك فضيلة العلامة الشيخ يوسف القرضاوي حيث يقول : ( إن السائل فاته أن يذكر : أنهن - حين خُيِّرن - اخترن جميعًا الله ورسوله والدار الآخرة ـ كما أن المذكورتين في سورة التحريم قد تابتا إلى الله توبة نصوحاً ـ على أن تطلعهن إلى الزينة ومتاع الحياة كسائر النساء وبخاصة نساء العظماء، لا يدل على قصور عقولهن ، ولا عدم صلاحيتهن للتفكير في الأمور العامة، بل هو تطلع بحكم الفطرة البشرية، والطبيعة النسوية، سرعان ما تقشعت سحابته عندما نزلت آية التخيير.
وهل برئ الرجال تمامًا من مثل هذه المواقف التي يركنون فيها فترة إلى الدنيا، ثم تدركهم الصحوة، حينما ينبههم الوحي إلى خطئهم أو غفلتهم ؟.(1/53)
ألم يقل القرآن في شأن الصحابة مخاطبًا الرسول الكريم: ( وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)(1).
ألم ينزل الله تعالى عقب غزوة أحد آيات يعاتب فيها أصحاب رسوله - أفضل أجيال البشر - على ما بدر منهم من عصيان أمره، وترك مواقعهم والنزول لجمع الغنائم .... مما كان من عواقبه ما كان ؟ يقول عز وجل : ( وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ )(2).
قال ابن مسعود : " ما كنت أعلم أن فينا من يريد الدنيا، حتى نزلت هذه الآية " !.
هل يمكن أن يؤخذ من مثل هذه المواقف التي يضعف فيها بعض الرجال الأخيار وتغلب فيها أهواؤهم عقولهم: أن الرجال لا يصلحون للمهمات الكبار؟ !.
وفي غزوة بدر يسجل القرآن على بعض المؤمنين مثل هذه المواقف قبل المعركة وبعدها، يقول تعالى : ( كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ ......)(3).
__________
(1) سورة الجمعة / الآية 11
(2) سورة آل عمران / الآية 152
(3) سورة لأنفال/ الآية 5 - 7(1/54)
وبعد المعركة يقول في شأن موقفهم من الأسرى : ( تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)(1).
إن الضعف البشري يعتري الرجال والنساء جميعًا، والعبرة بالعاقبة.
ولماذا لا يذكر هنا مشورة أم سلمة للنبي -صلى الله عليه وسلم- في يوم الحديبية، وقد كان من ورائها الخير والمصلحة ؟.
بل لماذا لم يذكر ما ذكره القرآن عن امرأة حكمت قومها بالعقل، وساستهم بالحكمة وقادتهم في أحرج الأوقات إلى ما فيه خيرهم في الدنيا والآخرة ؟ ألا وهي ملكة سبأ(2).
ومع ذلك فليست كل امرأة صالحة للولايات ، كما أنه ليس كل الرجال صالحين لها ، وإنما للولاية شروط ، وربما تضاف بعض شروط أخرى إلى المرأة التي تريد أن تمارس حقاً من هذه الحقوق ، يقول الشيخ القرضاوي : ( وليست كل امرأة صالحة للقيام بعبء النيابة، فالمرأة المشغولة بالأمومة ومتطلباتها لن تزج بنفسها في معترك الترشيح لهذه المهام، ولو فعلت لكان على الرجال والنساء أن يقولوا لها : لا.. أطفالك أولى بك.
ولكن المرأة التي لم ترزق الأطفال وعندها فضل قوة ووقت وعلم وذكاء، والمرأة التي بلغت الخمسين أو قاربت، ولم تعد تعرض لها العوارض الطبيعية المذكورة، وتزوج أبناؤها وبناتها، وبلغت من نضج السن والتجربة ما بلغت، وعندها من الفراغ ما يمكن أن تشغله في عمل عام، ما الذي يمنع من انتخاب مثلها في مجلس نيابي، إذا توافرت فيها الشروط الأخرى، التي يجب أن تتوفر في كل مرشح، رجلا كان أو امرأة ؟)(3).
__________
(1) سورة الأنفال / الآية 67 – 68
(2) إسلام أون لاين في 17/11/2005
(3) المصدر السابق نفسه(1/55)
ومن جانب آخر فإن الممارسة السياسية الصحيحة الناجحة اليوم ليست كالسابق إذ تعتمد على المؤسسات ، وعلى رأي الجماعة ، فلا يكون الرئيس ( رجلاً أو امرأة ) أو الوزيرة ينفرد بالحكم ، بل يشاركه الحزب ، والبرلمان ، وغير ذلك .
والذي يظهر لي رجحانه هو أن الأصل هو التكامل من خلال توزيع الأدوار بين الرجل والمرأة دون الاحساس بأن دور أي منهما يقل عن الآخر ، فالبقاء البشري مرهون بأن تقوم المرأة بالحمل والانجاب ورعاية الأسرة ، فهذا هو من أعظم الأدوار في الدنيا والآخرة ، فهو دور تربية الرجال وصناعة الأجيال ، وأن هذا الدور لا يجوز تعطيله ، ولا تفضيل شيء آخر عليه ، ولا الاستهانة به ، فهو الذي يحقق لنا سعادة الدنيا والآخرة ، وأننا ـ نحن المسلمين ـ يغبط تماسكنا الأسري العقلاء من الشرق والغرب ، فهذا جورباتشوف يذكر بعد استعراض طويل لما حدث للمرأة في الاتحاد السوفيتي لينتهي إلى القول : ( بضرورة تسهيل مهمة المرأة للعودة إلى رسالتها النسائية البحتة ) ولتحقيق (جو أسري طيب ) ، و (لازالة مشاكلنا في سلوك الأطفال والشباب ، ومنع تدهور العلاقات الأسرية )(1).
ومع الحفاظ على هذا الدور العظيم المبارك فإن المرأة لها الحق في المشاركة السياسية ، وفي شغل المناصب القيادية ـ ما عدا الإمامة العظمى ـ إذا توافرت الشروط الآتية :
1) توفير الأجواء المناسبة شرعاً التي تدرأ من حيث الظاهر المفاسد والمحظورات الشرعية من الخلوة المحرمة ، والنظر ونحو ذلك .
2) التزام المرأة التي تريد الولاية بضوابط الشرع بالأخلاق والقيم الإسلامية ، وفي الملبس ونحوه ..
__________
(1) كتاب البريسترو كمالميخائيل جورباتشوف ص 132(1/56)
3) أن لا تكون مشاركتها السياسية وولايتها العامة على حساب اولادها واسرتها ، وبعبارة أخرى فإن أهم ولاية ودور للمرأة هي صناعة الأجيال وتربية الرجال والأبطال ، وتوفير السكنى والأمن لزوجها ولنفسها ولأسرتها ، أما إذا تعارضت المشاركة مع هذا الدور الأساس الأصيل ، فإنها تصبح محظورة في نظري .
وبهذه الشروط الشرعية يجوز في نظري المشاركة السياسية للمراة ، وتولي المناصب القيادية المناسبة لفطرتها وبنيتها ، بل إن بعض المناصب التربوية والتعليمية تكون المرأة فيها أولى من الرجال ، وكذلك منصب القضاء فيما يخص الفصل في النزاعات الخاصة بالنساء ، أو المشاكل الزوجية .
وبالإضافة إلى ذلك فإن المرأة لها الحق في المشاركة السياسية بالضوابط والشروط السابقة فيما يأتي :
1. حق الادلاء بصوتها في الانتخابات السياسية وغيرها ، لأن ذلك من باب الشهادات التي من حقها بالاجماع ، بل إنه من باب التعاون على الخير في توصيل من يستحق الوصول إلى الحكم ، أو إلى البرلمان ، أو إلى المجالس الأخرى ، بل إن ذلك من باب التوكيل الذي يجوز للمرأة أن تقوم به حيث يوكل شخصاً للوصول إلى البرلمان للقيام بواجب الحسبة والأمر بالمعروف ونحو ذلك .
2. حق ترشيح نفسها للبرلمان لتكون عضواً فيه لأن معظم أعمال البرلمان تكمن في سنّ القوانين ( وفي المجتمع الإسلامي تكون متعارضة مع الثوابت ) ، فهذا من باب الاجتهاد الذي تشترك فيها المرأة مع الرجل بالاجماع ، فهذه عائشة وصلت إلى مرتبة من العلم بالسنة والفقه حتى استدركت على بعض كبار الصحابة(1).
وإما أن يكون عمل البرلمان في الرقابة المحاسبة من خلال الاستجوابات ، فهذا من باب الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهذا الواجب يشترك فيه الرجل والمرأة على حدّ سواء .
__________
(1) وقد جمع الزركشي هذه الأحاديث في كتاب سماه : الاجابة لما استدركته أم المؤمنين عائشة على الصحابة(1/57)
3. المشاركة في المظاهرات السياسية ، والاعتصام وكل الوسائل المشروعة لتحقيق مصالح العباد ، أو لخلع الحاكم الظالم بما لا يترتب عليه مفسدة أعظم .
4. المشاركة في الشرطة والأمن العام فيما يخض النساء ، أو سجنهنّ ، أو التفتيش ، أو نحو ذلك ، أو في الأمور الإدارية التي تتناسب مع فطرتها وبنيتها بالشروط الثلاثة السابقة .
5. المشاركة في جهاد الدفع بالاجماع ـ أي عند احتلال الكفرة لبلاد المسلمين ـ وذلك بالقتل ونحوه وكل ما تقدر عليه ، والمشاركة كذلك في جهاد الطلب بما يتناسب مع فطرتها ، فقد شاركت في الجهاد صفية أم المؤمين رضي عنها عندما قتلت يهودياً يوم الخندق(1)، كما شاركت النساء الصحابيات في الجهاد بالتضميد والتداوي والسقي ، وغير ذلك ، حتى ان الإمام البخاري عقد باباً خاصاً سماه (باب غزو النساء وقتالهنّ) وروى فيه عدة أحدايث منها ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغزو بام سليم ونسوة من الأنصار معه ، إذا غزا فيستقين الماء ويداوين الجرحى(2)، بل ذكر في صحيحه خمسة أبواب أخرى حول جهاد النساء ، وغزو المرأة في البحر ، وحمل النساء القرب إلى الناس في الغزو ، ومداواة الجرحى في الغزو ، ورد النساء الجرحى في الغزو(3).
وقد روى مسلم بسنده : ( أن أم سليم اتخذت يوم حنين خنجراً فكان معها ... فسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : ( ما هذا الخنجر ؟ ) فقالت : اتخذته ، إن أدنى أحد من المشركين بقرت بطنه ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك ....)(4)أي اقرار منه لها بالتشجيع .
__________
(1) رواه الحاكم في المستدرك ( 4/56) وقال صحيح على شرط الشيخين
(2) صحيح البخاري ـ مع الفتح ـ كتاب الجهاد ( 6/65 )
(3) صحيح البخراي ـ مع الفتح ـ ( 6/62 – 80)
(4) صحيح مسلم ( 3/1442)(1/58)
بل قد روى البخاري أن عائشة وأم سليم يوم انهزم معظم الناس بقيتا مشمرتين تنقلان القرب على متونهما ثم تفرغانه في أفواه القوم ، ثم ترجعان .... )(1).
6. حق المشاركة في تشكيل اتحادات ، ونقابات النساء ، وجميع مؤسسات المجتمع المدني ، بل هي أولى من الرجال ببعضها .
والتحقيق أن المراة المسلمة أدت دوراً كبيراً في مجال دورها الطبيعي العظيم ، صناعة الأجيال ، وتربية الرجال ، وتحقيق الاستقرار والسكنى والتماسك للأسرة ، ومع ذلك فكان لها دروها الحضاري والعلمي وفي بناء المدارس والجامعات والمستشفيات بعطائهنّ الكبير ، ودورها في في الجهاد ، وفي الحياة الاجتماعية والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وفي العمل(2).
وقد خصص الأستاذ أبو شقه في دراسته الخاصة بالأحاديث الصحيحة الخاصة بتحرير المرأة : فصلاً مستقلاً لوقائع مشاركة المرأة المسلمة في النشاط السياسي في عصر الرسالة ، فذكر دور المرأة في تثبيت قلب النبي صلى الله عليه وسلم وأنها كانت أول المؤمنين بالدين الجديد ، وأنها تسبق أباها ، وزوجها وأهلها جميعاً ، وانها وقفت بقوة وصبر وثبات أمام اضطهاد المشركين ، وانها هاجرت الوطن كما هاجر الرجال إلى الحبشة ، ثم إلى المدينة المنورة ، وانها كانت تقوم بدعوة العشيرة كلها فتسمع لها وتدخل الإسلام بسببها ، وأنها كانت تبايع إمام المسلمين على السمع والطاعة بالمعروف مثل الرجال ، وانها كانت تشارك الرجل في الجهاد دفاعاً عن الإسلام(3).
__________
(1) صحيح البخاري ـ مع الفتح ـ كتاب الجهاد (6/66)
(2) يراجع لمزيد من التفصيل : عبدالحليم أو شقه : تحريرالمرأة في عصر الرسالة ، دراسة جامعة لنصوص القرآن الكريم وصحيح البخاري ومسلم ، ط. دار القلم الكويت (2/171 ـ 338)
(3) المصدر السابق ( 2/413 ـ 429)(1/59)
ومما هو جدير بالتنبيه عليه هو : أن المرأة المسلمة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم تستجيب لنداء الرسول صلى الله عليه وسلم في الجهاد وغيره ، فهذه أم سلمة كانت تنصت إلى خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم النفير إلى بني قريضة فتستجيب(1)، وقالت في حادثة أخرى حينما سمعت قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( أيها الناس ) لماشطتها ( أي المرأة التي تمشط شعرها ) : استأخري عني : فقالت الماشطة : إنما دعا الرجال ولم يدع النساء ، فقلت إني من الناس .... )(2)أي أن المرأة من الناس فتطبق عليها ما تطبق عليهم.
وكذلك فعلت فاطمة بنت قيس حينما سمعت نداء الرسول صلى الله عليه وسلم : (الصلاة جامعة ) انطلقت لتسمع ما هو المطلوب منها(3).
__________
(1) صحيح البخاري ـ مع الفتح ـ ( 7/441) وصحيح مسلم ـ مع النووي ـ (7/144)
(2) مسلم ، كتاب الفضائل ( 7/67) مع شرح النووي
(3) صحيح مسلم ـ مع النووي ـ ( 8/203)(1/60)
وقد سبق أن ذكرنا أن أم سلمة أشارت على الرسول صلى الله عليه وسلم فقبل مشورتها وكانت نعم المشورة(1)كما أن أم سليم تشير على الرسول صلى الله عليه وسلم يوم حنين(2)وأن حفصة تشير على أخيها عبدالله يوم طعن عمر(3)، ويوم التحكيم بين علي ومعاوية حيث ألحت عليه بالالتحاق(4)، وكذلك دور أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم جميعاً في تثبيت ابنها عبدالله بن الزبير ، وموقفها الجريء أمام الطاغية الحجاج ، فقالت : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أن في ثقيف كذاباً ومبيرا ( أي المهلك ) أما الكذاب فرأيناه ، وأما المبير ، فلا أخالك إلاّ إياه) فلما سمع الحجاج هذه الكلمات قام عنها(5)، ولم يستطع أن يرد عليها على الرغم من ظلمه وهيبته(6).
وأخيراً فإن قصة ملكة سبأ التي يذكرها القرآن الكريم في معرض المدح والثناء والحكمة ورجاحة العقل ، والمشورة والقوة والحزم لخير دليل على أن المرأة لا تحرم من المشاركة السياسية إذا توافرت الشروط الثلاثة التي ذكرتها .
هذا والله أعلم بالصواب
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
كتبه الفقير إلى ربّه
أ.د. علي محيى الدين القره داغي
__________
(1) صحيح البخاري ـ مع الفتح ـ (6/257) كتاب الشروط
(2) مسلم ـ مع النووي ـ ( 5/196)
(3) مسلم ـ مع النووي ـ
(4) مسلم ـ مع النووي ـ ( 6/5)
(5) البخاري ـ مع الفتح ـ ( 8/406 )
(6) أبو شقه : المصدر السابق ( 2/436)(1/61)
المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث
الدورة السابعة عشرة
(المسلمون في أوروبا: المواطنة والاندماج)
====================
مدرسة الغازي خسرو بك في سراييفو
تجربة تاريخية للاندماج
(بحث وتحليل بمناسبة مرور أربعمائة وسبعين عاما على تأسيسها)
يشهدها ويقدمها:
الدكتور مصطفى تسيريتش
رئيس العلماء والمفتي العام
في دولة البوسنة والهرسك
=====================
من 28 ربيع الآخر إلى 3 جمادى الأولى 1428 هـ
الموافق من 15 إلى 20 مايو 2007 م.
سراييفو - البوسنة والهرسك
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبيّنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واهتدى وهدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد:
فيقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الحكيم: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ.(1)
I
__________
(1) سورة آل عمران، الآية 85.(1/1)
لقد وصل الإسلام إلى أوروبا عبر بوابتين رئيسيتين: بوابة شبه الجزيرة الأيبيرية في القرن الثامن الميلادي(1)، وبوابة شبه جزيرة البلقان في الرابع عشر الميلادي(2). ولقد أنتج الوجود الإسلامي في الأندلس – أسبانيا على مدى ثمانية قرون ثقافة فريدة من التسامح(3)الديني والثقافي والحرية الأكاديمية التي ساعدت أوروبا بشكل غير مسبوق في مسيرتها نحو الإنسانية (Humanism) والنهضة(Renaissance)(4). ومما يؤسف له أن فكرة التسامح الأندلسي لم تدم في التاريخ الأوروبي. ومع نهاية القرن الخامس عشر الميلادي أظهر الملك فرديناند والملكة إيزابيلا عدم التسامح مع المسلمين مما اضطرهم إلى مغادرة شبه جزيرة أيبيريا سنة(5)1492 بلا رجعة. ولكن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه الكريم {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلامِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.
__________
(1) Cf., C. E. Bosworth, The Islamic Dynasties, Edinburgh, the University Press, 1967, pp. 14-41.
(2) Cf., Mehmed Hand?i?, „Islamizacija Bosne i Hercegovine” [Islamization of Bosnia Herzegovina] in Izabrana djela II - Teme iz op?e I kulturne historije, Ogledalo, Sarajevo, 1999, pp. 7- 46; Muhamed Had?ijahi?, Porijeklo bosanskih Muslimana (The Origin of Bosnian Muslims), Bosna, Sarajevo, 1990.
(3) Mar?a Rosa Menocal, The Ornament of the World – How Muslims, Jews, and Christians Created a Culture of Tolerance in Medieval Spain, Little, Brown & Company, New York, 2002.
(4) Averroës and the Enlightenment, ed. Mourad Wahba & Mona Abousenna, Prometheus Books, New York, 1996.
(5) Washington Irving, A Chronicle of the Conquest of Granada, 2 vols., Darf Publishers, London, 1986.(1/2)
يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}(1)، فأشرق نور الإسلام على أوروبا من جديد من شبه جزيرة البلقان، ومازال نوره يسطع في سمائها ويدخل الدفء في قلوب أبنائها إلى يومنا هذا. وبذلك أصبحت البوسنة "أندلسا ثانية"، وإن كانت الأندلس الأولى قد ماتت، فإن البوسنة ما تزال حية لم تمت، ولن تموت بفضل الله ومن ثم بفضل المدرسة التي أسست على التقوى والعلم والمعرفة والتسامح.
__________
(1) سورة الصف، الآيتان8 -7 .(1/3)
فقد هاجر حوالي سبعين ألف من يهود السفارد(1)من الأندلس إلى سراييفو وحملوا معهم مخطوطة فريدة من هاغادا(Haggada)(2)التي تمثل اليوم رمزا هاما في تاريخ اليهود البوسنيين. لقد عرفت أوروبا عبر تاريخها الطويل، العديد من الملوك العادلين والظالمين، والمتغطرسين والمتواضعين، والعظماء والمغمورين. ولقد شد اثنان منهم انتباهي بسبب تأثيرهما على الإسلام في أوروبا في أوقات مختلفة وبطرق مختلفة، هذان الملكان هما فرديناند ومعه إيزابيلا في أسبانيا وفرانسيس جوزيف الأول في البوسنة. فالسنة التي ميزت الأول منهما كانت سنة 1492، والسنة التي ميزت الثاني كانت سنة 1882. إن الفارق في تعامل هذين الملكين الكاثوليكين مع الإسلام والمسلمين كبير كِبرَ الفترة الزمنية التي تفصل بينهما وقدرها 390 سنة. وكما قلنا، فإن فرديناند وإيزابيلا لم يقبلا الوجود الإسلامي في شبه الجزيرة الأيبيرية، وأجبرا المسلمين على ترك ديارهم بعد ثمانية قرون من الحياة الثقافية المثمرة الفريدة.
__________
(1) السفارد - اليهود المتحدرون من أولئك الذين كانوا يعيشون فى شبه الجزيرة الأيبيريه قبل 1492 (بالعبرية: سفاراد تعني أسبانيا). لكن غالبا ما يستخدم تعبير السفارد للإشارة إلى اليهود من غير الأشكناز (مقتبسة من : "السفارد" في قاموس أكسفورد لأديان العالم، نشر: John Bowker، نشرة جامعة أكسفورد، أكسفورد ، 1997.
(2) نفس المصدر السابق، "هاغادا".(1/4)
وعلى الجانب الآخر، لم يكتف الملك الكاثوليكي فرانسيس جوزيف الأول بالتسامح مع الوجود الإسلامي في البوسنة والهرسك، بل سعي لمساعدة مسلمي البوسنة لتحقيق المزيد من التقدم في سعيهم إلى التكيف مع نمط العيش الأوروبي مع المحافظة على هويتهم الإسلامية القوية(1).
__________
(1) راجع: مصطفى تسريتش "أوروبا الجديدة في أحلام مسلم أوروبي عريق" ألقيت المحاضرة في مؤتمر الأئمة في مدينة غراتس من 13-15/06/2003، تحت عنوان: "دور الإسلام في أوروبا - حقوق الإنسان والتعليم". وكلمة الدكتور مصطفى تسريتش بمناسبة الذكرى المائة والعشرين (1882-2002) على تأسيس مكتب رئيس العلماء ومؤسسة رئاسة المشيخة الإسلامية في البوسنة والهرسك البوسنة (باللغتين البوسنية والعربية)، سراييفو، 2002.(1/5)
إن الاعتراف بمواقف فرانسيس جوزيف الإيجابية تجاه المسلمين البوسنيين، ينبغي أن لا يُنسينا حقيقة أن حيوية فهم البوسنيين للإسلام في ضوء العقيدة الماتوريدية والفقه الحنفي(1)قد لعبت الدور الرئيسى في عملية الإصلاح الإسلامي في البوسنة(2). وإضافة إلى ذلك، فإن ما جاء في وقفية مدرسة الغازي خسرو بيك في سراييفو نصا وروحا، مثل ما جاء في وقفية المدرسة النظامية في بغداد، يمثل مَعْلَمَاَ من معالم العمل المؤسساتي في مجال تعليم الإسلام في البوسنة والهرسك.
__________
(1) جاء الإسلام إلى البوسنة عن طريق الأتراك العثمانيين الذين تبنوا عقيدة أبي منصور الماتوريدي ومذهب أبي حنيفة في الفقه. أحد الأسباب التي جعلت الأتراك يتبنون العقيدة الماتوريدية والمذهب الحنفي هو أنّ الإسلام وصل إليهم عن طريق بلاد ما وراء النهر التي كانت في ذلك الوقت مركزا للماتوريدية والمذهب الحنفي. أضف إلى ذلك أنّ أبا حنيفة نفسه كان من أصل فارسي (أي من العجم) وكان أكثر مرونة في تعامله مع المسائل الفقهية بحيث يسهل على المسلمين الجدد التزامهم بالدين. راجع: W. Madelung، "انتشار الماتوريدية والأتراك" في وثائق المؤتمر الرابع للدراسات العربية والإسلامية، كويمبرا-ليسبوا، 1968، ص: 109-168. لايدن: E. J. Brill، 1971.
(2) بدأ الإصلاح الإسلامي في البوسنة مع رئيس العلماء جمال الدين تشاوشيفيتش (1870-1938)، انظر: "الرئيس جمال الدين تشاوشيفيتش – منوّر ومصلح"، أنس كاريتش ومويو ديميدوفيتش، ليليان، سراييفو، 2002. وتابعه حسين جوزو (1912-1982)، انظر: "حسين جوزو – أعمال مختارة"، 4 مجلدات، دار القلم، سراييفو، 2006.(1/6)
وَأَنْ يَكُونَ فِي المَدْرَسَةِ الَّتِي يُرِيدُ ابْتِنَائَهَا وَتَشْيِيدَهَا وِإِعْلائَهَا وَوَقْفَهَا لِلَّذِينَ يُحَصِّلُونَ العِلْمَ وَيُكَمِّلُونَ النَّفْسَ مِن الطُّلاَّبِ وَالعِبَادِ وَيَشْتَغِلُونَ بِالعُلُومِ العَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ مِنْ بَيْنِ العِبَادِ عَالِمٌ فَاضِلٌ كَامِلٌ نِحْرِيرٌ، كَاشِفُ أَسْتَارِ الحَقَائِقِ بِالتَّقْرِيرِ وَالتَّحْرِيرِ، جَامِعٌ بِالفُرُوعِ وَالأُصُولِ، حَاوٍ بِالمَعْقُولِ وَالمَنْقُولِ، يُدَرِّسُ بِهِمْ دُرُوسَ التَّفْسِيرِ وَالحَدِيثِ وَالأَحْكَامِ وَالأُصُولِ وَالمَعَانِي وَالبَيَانِ وَالكَلامِ وَمِنْ سَايَرَهَا أَيْضَاً حَسْبَ مَا يَقْتَضِيهِ العُرْفُ وَالمَقَامُ.(1)
إنّ هذه العِبَارَة الاعجازيّة في وقفية الغازي خسرو بيك البوسني(2)، التي تُلزِم طلاب المدرسة بأن يتعلموا " حَسْبَ مَا يَقْتَضِيهِ العُرْفُ وَالمَقَامُ"، تحدد مسار الوجه المنفتح والعصري للإسلام في البوسنة والهرسك. وعلى عكس سلفه نظام الملك البغدادي الذي حدد في وقفيته أن لا يُدَرَّس غير المذهب الشافعي في المدرسة النظامية، فإن الغازي خسرو بيك ترك الباب مفتوحا في المدرسة التي أنشأها لكل مصادر المعرفة التي " حَسْبَ مَا يَقْتَضِيهِ العُرْفُ وَالمَقَامُ ".
__________
(1) كُتبت وقفية مدرسة الغازي خسرو بيك في سراييفو سنة 943 هـ/1537 م. التذكرة بمناسبة مرور أربعمائة سنة على مدرسة الغازي خسرو بيك) المطبعة المساهمة الإسلامية، سراييفو، 1932.
(2) ولد الغازي خسرو بيك بن فرهاد بيك في سيريز بروميلية سنة 1480 م وكانت أمه السلجوقية الأصل ابنة للسلطان بيازيد. حكم الغازي خسرو بيك البوسنة ثلاث مرات: 1521-1525، 1526-1535 1536-1541 وانتهى حكمه بوفاته في تلك السنة. ولم يترك وراءه أولادا، ولم يعرف عنه أنه تزوج. يوجد قبره على يسار مسجده في سراييفو. انظر المصدر السابق.(1/7)
وتعتبر ملاحظة الكاتب الكرواتي الشهير ميروسلاف كرليجا ( Miroslav Krle?a1893-1981) شهادة مثيرة على الأهمية التاريخية للمدارس الدينية في البوسنة:
بدأ تاريخنا الحديث في البوسنة مع الحكم النمساوي، بينما تعرض تاريخنا البوغوميلي القديم للإهمال. كما أحاط التجاهل والإهمال الحقبة العثمانية من تاريخنا، رغم عِظَمِ إنتاجه الثقافي والعمراني والأدبي. لكنني أرجو أن تعتبروا – إن أردتم – بذلك العدد الضخم من المتعلمين، والكمّ الهائل من الكتب والمكتبات والمدارس. إن عددا ملحوظا من أقدم المدارس كان نَشِطاً في البوسنة، وهكذا ونحن نحتفل بِنُشوءِ الجامعات حول المؤسسات التعليمية اليسوعية في زاغرب، ينبغي علينا ألا ننسى المدارس الدينية في البوسنة التي تفوقها كثيرا في القِدَمِ(1).
II
__________
(1) أنس تشينغيتش، "مع كرليجا يوما بيوم، (1975-1977) – نافخ في البوق في صحراء الروح"، غلوبوس، زاغرب، 1986، ص: 32.(1/8)
عرفت سراييفو منذ دخول الإسلام إلى البوسنة أحدي عشرة مدرسة، كانت أقدمها مدرسة فردوس بيك، وقد أطلق اسم "مدرسة" على أحد شوارع سراييفو تيمنا بهذه المدرسة؛ ثم مدرسة كمال بيك في حي كوشفو، ومدرسة الغازي خسرو بيك، ومدرسة إسماعيل أفندي المصري في ساحة الخيل، والمدرسة الجديدة المعروفة بالمدرسة العنادية في حي بنتباشا، و"درفينيا" أو مدرسة عبد الكريم أفندي سيم زادة، ومدرسة جوميشيتشا بين جسري السلطان وشهر تشيهايا في آخر الزقاق الطويل على ضفة نهر ميلياتسكا، ومدرسة فاضل باشا قرب مسجد السلطان وقد سميت ايضا بالمدرسة السلطانية بسبب قربها من ذلك المسجد، ومدرسة مرحميتش التي بناها عثمان مونغولا مرحميتش وشقيقه ميهاغا. هذه ثمان مدارس، فإذا أضفنا إليها مدرسة خانقاه بيستيرغي، ودار المعلمين وهي أيضا نوع من المدارس، والمدرسة الإقليمية التي لم تدم طويلا، فسيصبح عدد المدارس في سراييفو أحدي عشرة مدرسة، ولم يبق منها سوى مدرسة واحدة هي مدرسة الغازي خسرو بيك، إلى جانب مدرستي مرحميتش والمصري اللتين تسيران نحو الزوال. ولم يذكر الرحالة أوليا جلبي سوى مدرسة الغازي خسروبيك، حيث إن بعض تلك المدارس لم تكن قائمة في ذلك الوقت. ويقول الرحالة أوليا جلبي أنه يوجد في سراييفو ثمانية أماكن لتدريس القراءات السبعة وتعليم الحفّاظ، ولكن لا يوجد دار خاصة للقرّاء. وكان الحديث يدرس في عشرة أماكن في المساجد الرئيسية، ولكن لم يكن يوجد دار خاصة للحديث، وينوه هذا الرحالة أنه في زمانه كان يوجد في سراييفو 180 كُتّابا.
أما في ترافنيك، فقد كان يوجد فيها ثلاث مدارس هي: مدرسة إبراهيم باشا ألتشي المعروفة بالفيضية والتي ما تزال قائمة حتى يومنا هذا، ومدرسة الحاج علي بيك ومدرسة لونتشاريتسا، ولم يذكر الرحالة أوليا جلبي أيا من هذه المدارس الثلاث.(1/9)
وكان في موستار المدارس الآتية: مدرسة كراجوز، ومدرسة الروزنامجي، ومدرسة محمد باشا كوسكي، ومدرسة جيوان بيك، ومدرسة درويش باشا تشيشيتش، ومدرسة سباهيتش ومدرسة الحاج بالي. ولم يذكر جلبي سوى مدرسة الروزنامجي. واليوم لا يوجد في موستار أي من تلك المدارس.
ويوجد في فيسوكو مدرسة واحدة هي مدرسة أحمد أفندي.
ويوجد في زينيتسا مدرسة واحدة أيضا هي مدرسة السلطان أحمد، وتمتاز هذه المدرسة بأنها المدرسة المختلطة الوحيدة في البوسنة والهرسك. ويوجد في جيبتشا مدرسة واحدة هي مدرسة فرهاد باشا.
أما مدينة غراتشانيتسا فكان فيها مدرستان، هما مدرسة مراد كابيتان ومدرسة عثمان كابيتان، والأخيرة ما تزال قائمة حتى اليوم.
وكان في مدينة غراداتشاتس مدرستان أيضا، الأولى مدرسة حسين كابيتان وكانت تسمى بمدرسة سفيراتس نسبة إلى اسم مدرِّسها، وهي ما تزال قائمة. والمدرسة الثانية هي مدرسة مراد كابيتان أو عثمان كابيتان.
ولم تعرف توزلا سوى مدرسة واحدة هي مدرسة بهرم بيك، وهي قائمة إلى يومنا هذا، وتتفوق هذه المدرسة على باقي المدارس الابتدائية بفضل جهود مدرّسيها.
وقد ذكر الرحالة جلبي بعد زيارته لمدينة زفورنيك في نهاية القرن الحادي عشر الهجري أنه يوجد فيها ثلاث مدارس وسبعة كتاتيب، وتوجد اليوم في زفورنيك مدرسة واحدة فقط يؤمها التلاميذ. وكان يوجد في سريبرينيتسا مدرسة واحدة فقط. ويوجد في برتشكو مدرسة واحدة ما تزال قائمة واسمها مدرسة تشاتشاك وتقع في مبنى أوقاف الحاج سليمان كوتشوكاليتش.(1/10)
ويذكر الرحالة جلبي أن مدينة فوتشا كان فيها ست مدارس، وكان في بعضها يدرس الحديث، ومن تلك المدارس توجد اليوم مدرسة الحاج محمد باشا كوكافيتسا، ومعروف لدينا أيضا مدرسة القاضي عثمان، وقد هدمت منذ زمن بعيد.كما يذكر الرحالة جلبي أن يايتسا كان فيها مدرسة أحمد باشا، ولكن حاليا لا يوجد في يايتسا أية مدرسة. وبحسب الرحالة جلبي كان يوجد في بروساتس (أقحصار) مدرسة كافي أفندي، وكان لكافي أفندي في بروساتس دار للحديث، بالإضافة إلى ثلاثة كتاتيب.
ويذكر جلبي مدرسة فرهاد باشا في مدينة بانيالوكا، ونحن نعلم أن بانيالوكا كان فيها المدارس الآتية: مدرسة فرهاد باشا، المدرسة الفيضية، مدرسة عتيق، مدرسة شيبيتش، مدرسة المفتي ومدرسة ماغلايليتش. ويوجد اليوم في بانيالوكا مدرسة موَحَّدة تشكلت قبل 14 سنة من دمج ثلاثة مدارس هي: عتيق والفيضية وشيبيتش. ويوجد في بيهاتش مدرسة واحدة، وقد أنشأ مبنى تلك المدرسة أبناء الشعب البوسني على نفقتهم الخاصة. وكان يوجد في تسازين مدرسة جميلة، ولكنها أغلقت منذ فترة قصيرة، رغم أن تلك المنطقة ما تزال تحتاج لتلك المدرسة. وسجّل الرحالة جلبي وجود ثلاثة مساجد ومدرسة في مدينة ليفنو، بالإضافة إلى ستة كتاتيب. ويوجد في يانيا مدرسة واحدة. ويوجد في تشاينيتشا ثلاثة مدارس أشهرها مدرسة سنان باشا، كما يوجد خمسة كتاتيب. كما سجل الرحالة أوليا جلبي مدرستين في مدينة كونيتس، واليوم تعمل فيها مدرسة واحدة، وهي اليوم المدرسة الوحيدة في منطقة الهرسك كلها. أما مدينة بوتشيتل فكانت توجد فيها مدرسة واحدة هي مدرسة إبراهيم كَتْخُدا.
وكان يوجد في مدينة نيفيسينيا مدرستان إحداهما مدرسة السلطان بيازيد الاول، والثانية مدرسة مسجد ولي آغا، بالإضافة إلى دار الحديث ودار القرّاء وهما من أوقاف علي أفندي شقيق إبراهيم أفندي الروزنامجي، وكان يعلوهما قبتان مغطّاتان بألواح الرصاص، هذا بالإضافة إلى ستة كتاتيب للأطفال.(1/11)
ويذكر الرحالة جلبي وجود مدرسة وكتّاب في مدينة ليوبينيا. كما سجل الرحالة جلبي وجود مدرستين وسبعة كتاتيب في مدينة هرتسك نوفي التي أسماها الرحالة "نوفوتِيْن". وكان يوجد في بلاغاي مدرسة واحدة وكتّاب. وذكر الرحالة جلبي أنه يوجد في راتشا مدرستان وثلاثة كتاتيب. وكانت البوسنة في الماضي تضم المدن التالية:
- أوجيتسا: وكان يدرس فيها القرآن في ثلاثة أماكن، والحديث في مكانين، وكان يوجد فيها أحد عشر كتّابا للأطفال الموهوبين.
- نوفي بازار: وكان يوجد فيها خمس مدارس بالإضافة إلى دار الحديث، والكتاتيب الموجودة في المساجد، ويضاف إليها أحد عشر كتّابا مستقلا.
- برِيِبُوليا: كان يوجد فيها ثلاث مدارس وأربعة كتاتيب.
- تاسليجا (بلييفليا): وكان يوجد فيها مدرستان وثلاثة كتاتيب.
- بييلو بوليا: كان يوجد فيها مدرسة قديمة أكلتها النيران، فقامت بتجديدها والدة السلطان عبد الحميد.
وكانت المدارس موجودة أيضا في المدن الآتية: كلادان، فيشيغراد، روغاتيتسا، برييدور، تيشان، فوينيتسا، أوجاك، بوسانسكا غراديشكا، ماغلاي، بوغوينو، غوراجدا، غابِلا، درفِنتا، برود، دوبوي، يِلِتش، بييلينا، بوسانسكي نوفين فلاسِنيتسا، ستولاتس، مودريتشا.
و بعد هذا الاحصاء للمدارس البوسنويّة التي لعبت الدور التاريخي للحفاظ والتطوير للهويّة الاسلاميّة عند البوسناق قال محمّد خانجيتش: "تلك هي المدارس الموجودة في البوسنة والهرسك حاليا أو التي كانت موجودة في الماضي، ولست أجزم بأنني قد جمعتها كلَّها، وذلك لشح المصادر، ولكن القارئ سيصاب بالدهشة عندما يعلم أن عدد المدارس في البوسنة والهرسك كان يقارب المائة مدرسة، والتي كانت في ذلك العصر تمثل المدارس الثانوية العصرية."
III(1/12)
لقد كان للمدارس المذكورة آنفا دور مهم في نشر الإسلام والحفاظ على الهوية الإسلامية للبوشناق، ولكن مدرسة الغازي خسرو بيك تتميز بأنها المدرسة الوحيدة التي – منذ تأسيسها في 26 من رجب 943 هـ / 8 من يناير 1537 م – لم تتوقف يوما واحدا عن أداء رسالتها، وربما يعود سبب ذلك إلى أن الغازي خسرو بيك ترك وقفية تاريخية نوردها هنا كاملة للمرة الأولى باللغة العربيّة والانغليزية ليرى العالم أن الإسلام دين العلم والمعرفة في وقت كانت فيه أوروبا تغوص في أوحال الجهل والظلام، وهذا هو نص وقفية مدرسة الغازي خسرو بيك:
This is the copy of the authentic Waqfiyyah-endowment transmitted from the original manuscript and edited by the one who is in the most desperate need of God's forgiveness Muhammad Rafiq bin ‘Ali bin al-Hajj ‘Abdullah the inspector of the Waqf - endowment affairs, may Allah have mercy on all of them. ... هَذِهِ صُورَةُ الوَقْفِيَةِ المَرْضِيَّةِ
مَنْقُولَةٌ مِنْ صُورَتِهَا المَرْعِيَّةِ حَرَّرَها
أَفْقَرُ الوَرَى إلِى عَفْوِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
مُحَمَّدٌ رَفِيقُ بنُ عَلَيٍّ بنِ الحَاجِّ عَبْدِ اللهِ
المُفَتِّشِ لأُمُورِ الأَوْقَافِ غُفِرَ لَهُم.(1/13)
1. الحَمدُ للهِ الَّذِي عَمَّرَ بَسِيطَ الغَبْرَاءِ بِمَدَارِسِ العُلُومِ الهَنِيَّةِ وَأَسْنَاهَا، وَنَوَّرَ مُحِيطَ الخَضْرَاءِ بِالمَصَابِيحِ السَّنِيَّةِ وَأَسْمَاهَا، وَعَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ فِي مَدْرَسَةِ الكَوْنَيْنِ، وَأَنْزَلَ مِن السَّمَاءِ الكِتَابَ المُسْتَبِينَ، وَوَقَفَ قُصُورَ الجِنَانِ عَلَى المُتَوَلِّينَ لِلأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ وَالحَسَنَاتِ، وَسُبُلَ حَدَائِقِ النَّعِيمِ لِلْبَاذِلِينَ أَمْوَالَهَمْ فِي سَبِيلِ البِرِّ وَالإِحْسَانِ، وَوَقَفَ مَنْ أَرَادَ مِن العِبَادِ لادِّخَارِ الزَّادِ وَإِعْتَادِ العَتَادِ لِمِيعَادِ المَعَادِ، وَيَسَّرَ لِمَنْ يَشَاءُ إِنْشَاءَ الخَيْرَاتِ وَاكْتِسَابَ الحَسَنَاتِ وَاقْتِرَابَ المَبَرَّاتِ، وَضاعَفَ أَجْرَ حَسَنَاتِهِ، وَصدَرَتْ عَن وُفُور الرَّغْبَةِ وَخُلُوصِ الْمَحَبَّةِ {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةِ ماِئَةُ حَبَّةٍ}. ... 1. Praise be to Allah Who bestowed the reaches of the earth with schools of the most desirable and luminous sciences, Who illuminated the heavens with the brightest and most sublime lights, Who taught Adam names in the school of both worlds, Who sent the clear book from the Heaven, Who designated the Heaven’s palaces for those who are of the good and beautiful deeds.(1/14)
It is (Allah) Who promised the gardens of Heaven to those who spend their fortunes in the way of righteousness and piety, He Who made it possible for those of His servants who wish to acquire goods that will prepare them for life in the hereafter to do so, He Who made it easy for those who want to establish charities, promote good deeds and earn the name of righteousness to do so, He Who doubles the reward for their good deeds which come out of their own will and pure love of the fact that (their good deeds) ... are like a grain of corn: it grows seven ears, and each ear has a hundred grains ... .
2. وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى مُحَمَّدٍ الهَادِي لِلْخَلْقِ إِلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ، المُوَازِي عُلَمَاءُ أُمَّتِهِ كَأَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَعلَى آلِهِ البَرَرَةِ الكِرَامِ وَصَحْبِِهِ الخِيَرَةِ العِظَامِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ مِن العُلَمَاءِ، مَا تَحَاوَرَ العُقَلاءُ الفُضَلاءُ الأَبْرَارُ فِي دُرُوسِ الحِكْمَةِ لِكَشْفِ الأَسْرَارِ وَتَجَادَلُوا فِي جَامِعِ العِلْمِ إِظْهَاراً لِلْحَقِّ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ... 2. May blessings and peace be upon Muhammad, the guide of the people to the right path, who made the parallel of the scholars of his Ummah with the messengers of Bani Israil, may God bless his honorable and respectable family, his good and glorious companions as well as his followers of the ulama’ who are in dialogue with rational, noble and rightful men who are conducting the lessons of wisdom in order to uncover the secrets by discussing day and night all fields of knowledge in order to demonstrate the truth.(1/15)
3. وَبَعْدُ: فَإِنَّ هَذِهِ صَحِيفَةٌ شَرْعِيَّةُ الأُصُولِ وَالْمَبَانِي، وَوَثِيقَةٌ أَنِيقَةٌ مَرْعِيَّةُ الأَلْفَاظِ وَالمَعَانِي، يُفْصِحُ مَضْمُونُهَا وَيُوضِّحُ مَكْنُونُهَا عَنْ ذِكْرِ مَا حَضَرَ مَجْلِسَ الشَّرِيعَةِ الشَّرِيفَةِ الغَرَّاءِ وَمَحْفِل الطَّرِيقَةِ الزَّهْرَاءِ مَوْلانَا مُحِيِ الدِّينِ بنِ قَاسِمٍ الإِمَامُ وَكِيلاً بِالإِقْرَارِ بِالوَقْفِ وَالقَبُولِ عَلَى الوَجْهِ الَّذِي يُذْكَرُ آتِياً عَنْ جَنَابِ المَلِكِ الأَعْظَمِ وَالأَمِيرِ الكَبِيرِ المُعَظَّمِ، قُدْوَةِ الأَعَاظِمِ وَالأَمَالِي، حَاوِي المَكَارِمِ وَالمَعَالِي، ذِي القَدْرِ الرَّفِيعِ وَالخَطْبِ الخَطِيرِ، مَالِكِ مَمَالِكِ الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ، مُشَيِّدِ بُنْيَانِ السَّلْطَنَةِ البَاهِرَةِ، وَمُمَهِّدِ قَوَاعِدِ الدَّوْلَةِ القَاهِرَةِ، رَافِعِ أَعْلامِ الإِسْلامِ بِالشَّوْكَةِ الشَّامِخَةِ، قَامِعِ أَصْنَامِ الكَفَرَةِ بِالصَّوْلَةِ الصَّائِلَةِ، غَازِي الغُزَاةِ وَالْمُجَاهِدِينَ، قَاتِلِ الكَفَرَةِ وَالمُشْرِكِينَ، صَاحِبِ الخَيْرَاتِ العَلِيَّةِ، وَاضِعِ الحَسَنَاتِ المِلِّيَّةِ، حَضْرَةِ خُسْرُوبِكْ ابنِ الْمَرْحُومِ فَرْهَادْ بِك، الوَالِي بِلِوَاءِ بُوسْنَةَ، زَيَّنَ اللهُ بَسَاتِينَ الإِمَارَةِ بِأَزْهَارِ آرَائِهِ الصَّائِبَةِ وَجَعَلَ أُمُورَ الجُمْهُورِ مُنْتَظِمَةً بَأَنَامِلِ أَفْكَارِهِ الثَّاقِبَةِ. ... 3. Then, may it be said – indeed that this document is based and composed on the principles of the Shari?ah.(1/16)
It is a valuable record which contains authentic and meaningful words the content of which confirms and uncovers its secrets by showing the fact that Mawlana Muhyuddin, son of Qâsim, the Imam, has come before the honorable Shari'ah Court and the bright assembly as the wakîl – agent to declare the waqf - endowment and the acceptance thereof, as shall be described further below, on behalf of his royalty the magnificent ruler, the great and glorious Emîr, the model of the prominent and promising men, the one who has the noble and highly regarded attributes, who has high honor and the important position, the one who is in possession of his mind and reasoning, who is raising pillars of the glorious authority, the one who is putting the foundations for the powerful state, who is raising the banner of Islam by great power, who destroys the idols of infidelity with victorious force – the victorious of the victorious and the warrior of the warriors, the annihilator of the infidels and polytheists, the one who is the author of highly good deeds and the deeds that last long, his royalty Husrev-bey, son of the late Farhat-bey, the wâlî – governor of the Province of Bosnia, may Allah beautify the gardens of his authority by the flowers of his right thoughts and make the people’s affairs be sorted by his insightful opinions.(1/17)
4. فَأَقَرَّ وَاعْتَرَفَ بَعْدَ ثُبُوتِ المَحْكِيَّةِ بِشَهَادِةِ شُجَاعِ بنِ جَلَبَ وَرْدِيٍّ وَمُصْطَفَى بِنْ حَسَنٍ بِأَنَّ المُوَكِّلَ المُومَى إِلَيِهِ لِمَا وُفِّقَ مِنْ قِبَلِ المَلِكِ المَنَّانِ وَاطْمَأَنَّ قَلْبُهُ بِالإِيِمَانِ وَعَلِمَ أَنَّ الأَعْمَالَ الصَّالِحَاتِ تَنْفَعُ صَاحِبَهَا يَوْمَ العَرْضِ وَالمِيزَانِ، خُصُوصَاً مِنْهَا تَعْلِيمُ الفِقْهِ وَتَفْسِيرُ القُرْآنِ، زَادَ فِي أَعْمَالِهِ الصَّالِحَاتِ، زِيَادَةً فِي المَثُوبَاتِ وَالحَسَنَاتِ. ... 4. It was established by the witness of Shujâ?, son of Chalab Wardî and Mustafa, son of Hasan, that (the wâqif - endower) has decided and acknowledged thereof that the aforementioned muwakkil – agent of his is competent to represent him, the good ruler whose heart is full of faith, and that he has realized that the good deeds will benefit their owner on the day of presentation and justice, especially those of the teaching of fiqh and the tafsîr of the Qur’an, may the reward of his good deeds be increased in the way of the increase of one’s righteousness.(1/18)
5. فَوَقَفَ وَحَبَسَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ وَصِحَّتِهِ وَكَمَالِ عَقْلِهِ وَنَفَاذِ تَصَرُّفَاتِهِ وَجَوَازِ تَبَرُّعَاتِهِ، ابْتِغَاءً لِوَجْهِ اللهِ الكَرِيمِ وَطَلَبَاً لِمَرْضَاةِ الرَّبِّ الرَّحِيمِ، يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ، إِلاّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، مَا هُوَ لَهُ وَمُلْكُهُ وَبِيَدِهِ وَقَبْضَتِهِ وَتَحْتَ تَصَرُّفِهِ إِلَى صُدُورِ هَذَا الوَقْفِ عَنْهُ وَذَلِكَ: _ جَمِيعُ المَنْزِلِ الكَائِنِ فِي مَحَلَّةِ جَرْكَجِي مِن مَحَلاّتِ سَرَايَ الْمَحْرُوسَةِ، الحَاوِي عَلَى بَيْتَيْنِ وَسِرْدَابٍ وَإصْطَبْلٍ وَجَنَّةٍ وَحَانُوتٍ وَمَخْزَنٍ وَدُكَّانِ قَصَّابٍ الشَّهِيرِ بِمِلْكِ طُورْنَه دَه دَه، الْمَحْدُودِ بِمَقَابِرِ المُسْلِمِينَ وَالطَّرِيقِ العَامِّ وَبِمِلْكِ كَمَالٍ وُيْوُدَهْ؛ _ وَالمَنْزِلِ الآخَرِ الكَائِنِ ثُمْنُهُ المَعْرُوفِ بِمِلْكِ مَحْمُودٍ ابنِ جَالِشِ خَوَاجَهْ المَحْدُودِ بِدَكَاكِينِ مَحْمُودٍ الصَّغْرَاقِيِّ وَبِوَقْفِ عِيسَى بِكْ المَرْحُومِ بِالسُّوقِ المُشْتَمِلِ عَلَى سِرْدَابٍ وَبَيْتٍ وَجَنَّةٍ وَتِسْعَةِ حَوَانِيتَ مُتَلاصِقَةٍ وَالحَانُوتَيْنِ الآخَرَينِ الكَائِنَيْنِ فِي السُّوقِ الإِفْرَنْجِيِّ مِنْ أَسْوَاقِ الْمَحْرُوسَةِ المُسْفَرَةِ المُسْتَغْنِيَيْنِ عَنِ التَّحْدِيدِ وَالبَيَانِ لِشُهْرَتِهِمَا لَدَى أَهْلِ المَكَانِ؛ _ وَالبَيْتَيْنِ المُتَّصِلَيْنِ إِلَى الحَانُوتَيْنِ المَزْبُورَيْنِ؛ _ وَالبَيْتَيْنِ الآخَرَيْنِ الَّذَيْنِ بَنَاهُمَا الوَاقِفُ المُشَارُ إِلَيهِ جَدِيداً المُتَّصِلَيْنِ بِالبَيْتَيْن المَذْكُورَيْنِ قَبْلَ هَذَيْنِ؛ _ والمَنْزِلِ الآخَرِ الكَائِنِ أَيْضاً فِي المَحْمِيَّةِ المَذْكُورَةِ الوَاقِعِ مُحَاذِياً لِهَذَينِ البَيْتَيْنِ المُبْتَاعِ مِن الذِّمِّيَّةِ الإِفْرَنْجِيَّةِ(1/19)
المَدْعُوَّةِ دُويَه بِنْتِ جَاوقُوشَ المُشْتَمِلِ عَلَى بَيتٍ وَسِرْدَابٍ المُسْتَغْنِيَيْنِ كِلَيْهِمَا عَن التَّحْدِيدِ وَالتَّعْرِيفِ لِشُهْرَتِهِمَا لَدَى الوَضِيعِ وَالشَّرِيفِ؛ _ وَجَمِيعِ مَبْلَغِ سَبْعِمِائَةِ ألْفِ دِرْهَمٍِ فِضِّيٍّ رَائِجٍ مِنْ خَالِصِ مَالِهِ مُفْرَزاً مِنْ سَائِرِ أَمْوَالِهِ بِجُمْلَةِ مَا لِلأَوْقَافِ المَزْبُورَةِ مِن الحُدُودِ المَقْطُوعَةِ وَالحُقُوقِ المَشْرُوعَةِ وَالتَّوَابِعِ وَاللَّوَاحِقِ وَالمَرَاسِمِ وَالمَرَافِقِ وَبِكُلِّ حَقٍّ لَهَا ذُكِرَ أو لَمْ يُذْكَرْ، سُطِرَ أوْ لَمْ يُسْطَرْ، وَقْفاً شَرْعِيّاً وَحَبْساًَ مَرْعِيّاً. ... 5.(1/20)
Thereupon, he declared his waqf and made it the unalienable state while in his life and good health with his full conscience and ability to hold his possessions and to allow his donations for the sake of the Merciful Allah, seeking the satisfaction of the Compassionate Lord on the Day whereon neither wealth nor sons will avail, but only he (will prosper) that brings to God a sound heart, and he took from what belongs to him and what is in his hands and under his control to the issuance of this waqf in the following way: - the whole house in the Cherkechi quarter of the quarters of the protected Sarajevo, which is made up of two houses, a basement, a horse stable, a garden, a shop, a warehouse and a butcher house, known as the property of Turna-dede, bordering the Muslim cemetery, public road and the property of Duke Kemal; - another house in that area, known as the property of Mahmud, son of Chalish-hojja, bordering with the shops of Mahmud Sagraqî and the waqf of the late Isa-bey in the sûq, which is made up of a basement, a house, nine shops back-to-back with each other, and two other shops in the sûq of Efrangî, which is one of the suqs of the aforementioned protected (city), the limitation and description of which are not necessary, as it is known among the population of this place; - two houses next to the two aforementioned shops; - two other houses that the aforementioned waqif built again next to the aforementioned two houses; - another house, also in the aforementioned protected (city) located across these two houses, bought from a Christian woman called Duya,(1/21)
daughter of Chavkosha, consisting of a house and basement. Description and limitation are not necessary, as it is known by ordinary people as well as the nobility; - the complete amount of 700.000 silver dirham that are in current use and are his own property. (All of this) he donated from his personal property together with the remainder of his property the limits of which were determined, and that which belongs to the concerned waqfs with all the legal rights and that which goes with it, with taxes and declarations, whether it was mentioned or not, recorded or not, should be made waqf according to the Sharî?ah waqf law as well as the original testament.
.(1/22)
6 وَشَرَطَ أَنْ يُسْتَغَلَّ المَنَازِلُ وَالأَمْلاكُ المَزْبُورَةُ عَلَى الوَجْهِ الشَّرْعِيِّ وَالأُسْلُوبِ المَرْعِيِّ وَأَنْ يُبْنَى بِأَرْبَعِمِائَةِ أَلفِ دِرهَمٍ مِن المَبْلَغِ المَسْفُورِ مَدْرَسَةٌ شَرِيفَةٌ رَفِيعَةُ البُنْيَانِ جَلِيلَةُ القَدْرِ بَيْنَ الخَوَّاصِّ وَالأَعْيَانِ فِي أَرْضِهِ المُحَازِيَةِ لِبَابِ الجَامِعِ العَالِي الَّذِي بَنَاهُ وَأَعْلاهُ الوَاقِفُ الوَالِي، المُسْتَغْنِيَةِ عَن التَّحْدِيدِ وَتبْيِينِهَا لاشْتِهَارِهَا بِانْتِسَابِهَا إِلَى وَقْفِهَا، مُشْتَمِلَةً بِاثْنَيْ عَشَرَ حُجْرَةً يَسْكُنُهُا القَوَابِلُ مِن الطَّلَبَةِ دُونَ الفَوَاسِقِ مِن الجَهَلَةِ، بِبِنَاءٍ مَشَيَّدٍ وَأُسْلُوبٍ مُؤَيَّدٍ، كَمَا هُوَ مَرْسُومٌ فِي مَدَارِسِ الوُزَرَاءِ وَالأُمَرَاءِ جَزَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الاِسْتِفَادَةِ وَإِفَادَةِ العُلَمَاءِ الفُضَلاءِ. ... 6. Then he conditioned that the aforementioned houses and properties be rented according to the Sharî?ah rules and customary regulations. Also, out of the aforementioned amount a descent madrasa shall be built for the amount of 400.000 dirham, the building of which shall be great and its reputation shall be respectable among the honorable and noble men. It shall be built at the location facing the door of the glorious Mosque which was built and erected by this wâqif and the wâlî and needs neither to be defined nor explained as it is known as the property of this waqif. The madrasah shall consist of 12 rooms where only the hardworking students shall reside. There shall be no place for corrupt and ignorant students. ((1/23)
The building of the madrasa) shall be great, and the curriculum of it shall be permanent and similar to the madrasas of the viziers and princes, May Allah reward them for their contributions that benefit all who serve others and are virtuous.
.7 وَمَا يَفْضَلُ مِن خَرْجِ البِنَاءِ المَزْبُورِ يُبْتَاعُ بِهِ الكُتُبُ المُعْتَبَرَةُ وَتُسْتَعْمَلُ فِي المَدْرَسَةِ المَذْكُورَةِ، يَسْتَفِيدُ بِهَا مَنْ يُطَالِعُهَا مِن المُسْتَفِيدِينَ وَمَنْ يَسْتَنْسِخُهَا مِن الْمُحَصِّلِينَ. ... 7. Then, from the remainder of the expenditure for the madrasa building, books shall be bought and shall be used in the madrasah. These books shall be at the disposal of those who wish to read them and to those who would like to copy them among those who wish to obtain knowledge.
.(1/24)
8 وَيُسْتَرْبَحُ البَاقِي مِن المَبْلَغِ المَسْفُورِ وَهُوَ ثَلاثُمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ بِالرَّهْنِ القَوِيِّ وَالكَفِيلِ الْمِلِّيِّ عَلَى حِسابٍيَكُونُ رِبْحُ كُلِّ عَشْرَةِ دَرَاهِمَ مِنهُ فِي كُلِّ عَامٍ دِرهَماً فَيُعَامَلُ عَلَى نَهْجٍ شَرْعِيٍّ أَنِيقٍ وَطَرِيقٍ مَرْضِيٍّ وَثِيقٍ، لا يَشُوبُ فِيهِ شَائِبَةُ الرِّبَا، وَلا يَتَطَرَّقُ إِلَيهِ الضَّيَاعُ، وَأَنْ يُعَامَلَ بَأَهْلِ التُّجَّارِ وَالصُّنَّاعِ وَالزُّرَّاعِ مِن أَرْبَابِ المِلَلِ المَعْرُوفِينَ بِاليَسَارِ وَالمُتَمَوِّلِينَ ذَوِي الاِقْتِدَارِ، يُرَى عَلَيْهِمْ آثَارُ الأَمَانَةِ سِيَّمَا الاِسْتِقَامَةِ وَالصِّيَانَةِ، وَيَكُونُ شُهْرَتُهُمْ بَينَ النَّاسِ بِحُسْنِ المُعَامَلَةِ لا بِالْكَذِبِ وَالتَّسْوِيفِ وَالمُمَاطَلَةِ، وَلا يُدْفَعُ إِلَى الأُمَرَاءِ وَالوُلاةِ وَالمُدَرِّسِينَ وَالقُضَاةِ وَلا إِلَى الجُنْدِيِّينَ وَسَائِرِ الجُيُوشِ وَأَرْبَابِ التِّيمَارِ وَالفََسَقَةِ وَالفُجَّارِ وَلا إِلى الأَعْوِنَةِ وَأَهْلِ الدُّيُونِ وَمَمَالِيكِ السُّلْطَانِ وَلا إِلَى مَنْ نِيَّتُهُم بِالتَّزْوِيرِ والطَّمَعِ مِنْ أَيِّ فِرْقَةٍ كَانَ. ... 8. The remaining of the aforementioned amount of 300.000 dirham, shall be invested in such a way that there be a strong reason and an insured endorsement for the income of one dirham per 10 dirham each year. This matter shall be executed in accordance to the Shari?ah rules and in such a satisfying manner that the usury is not involved and that (this property) does not suffer loss. Let there be business relations with merchants, craftsmen, farmers, and people of different guilds who are recognized as rich, wealthy, influential as well as reliable, virtuous and honest.(1/25)
Their reputation should be known to the common people by their good deeds, not by their lies, cheating and delaying (in payment). Let there be no business relationship with princes, rulers, teachers, judges, old military horsemen or other army officers as well as with estate owners, evil and vicious people who are in debt, who are Sultan’s servants, and those who are likely to cheat or who are greedy, whatever class they may be.
.9 فِيمَا يَحْصُلُ مِن غَلاّتِ الأَوْقَافِ المَزْبُورَةِ وَمَحْصُولاتِ الدَّرَاهِمِ المَذْكُورَةِ جَعَلَ لَهُ الوَاقِفُ المَزْبُورُ تَغَمَّدَهُ بِالرَّحْمَةِ الرَّبُّ الغَفُورُ قَانُوناً يُرْجَعُ إِلَيهِ وَأُسْلُوباً يُعْتَمَدُ عَلَيهِ، لا سَبِيلَ لأَِحَدٍ إِلَى تَغْيِيرِ هَذَا القَانُونِ وَتَبْدِيلِهِ وَلا مَجَالَ لِشَخْصٍِ إِلَى تَحْرِيفِ هَذَا الأُسْلُوبِ وَتَحْوِيلِهِ، مَا دَامَ الحَاصِلُ لِلْخُرُوجِ وَافِياً وَالدَّاخِلُ لِلصَّرْفِ كَافِياً.َ ... 9. In regard to the income from the above-mentioned waqfs and the aforementioned funds, the wâqif – may the Merciful God bless him with His mercy – has ordained the law that should be abided and the rules that should be relied on so that no one shall have the chance to break the law or change it, and no one shall have the way to corrupt the law or replace it as long as the revenues cover the costs and the income is sufficient for the expenditure.
.(1/26)
10حَيْثُ شَرَطَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا بَعْدَهُ مُتَوَلٍّ أَمِينٌ ذُو رَأْيٍ رَصِينٍ سَاعٍ فِي الدَّخْلِ عَلَى وَاضِحِ السُّنَنِ، كَافٍ فِي الخَرْجِ مَهْمَا أمْكَنَ بِضَبْطِ الغَلاَّتِ، مُجِدَّاً فِي الأَمَانَةِ وَمُجْتَنِبَاً عَن الإِهْمَالِ والْخِيَانَةِ. ... 10. Thereupon he (the wâqif) declared that there shall be the mutawallî - manager of this waqf after him who shall be a reliable, intelligent and stable person. Also, he shall be diligent in collecting the revenues based on the clear rules and he shall spend according to the amount of the income. The mutawallî shall be the trustworthy person that shall avoid negligence and shall not engage in treason.
.11 وَنَاظِرٌ جَابِي مَوْصُوفٌ بِالبَصِيرَةِ وَأَجْمَلِ الأَوْصَافِ يُحِيطُ عِلْمُهُ بِأَحْوَالِ الوَقْفِ كُلِّهَا وَلا يُغَادِرُ شَيْئاً مِن الأُمُورِالْمُتَعَلِّقَةِ بِالأَوْقَافِ مَصْلَحِهَا وَمَحَلِّهَا، وَلا يَتَصَرَّفُ المُتَوَّلِي إِلاَّ بِمَعْرِفَتِهِ وَلا يُبَاشِرُ فِي شَيْءٍ مِنْ مَصَالِحِ الوَقْفِ إِلاَّ بِرَأْيِهِ وَمَشُورَتِهِ. ... 11. The nâzir-jâbî (the monitor-collector) of the revenues shall be the person of good insight and of the best qualities who shall know everything about the waqf affairs. He shall not neglect a single issue regarding the interest and the state of the waqf. The mutawallî shall not do anything without the knowledge of the monitor and he shall not carry out any business which is in the interest of the waqf without the monitor’s opinion and consultation.
.(1/27)
12 وَأَنْ يَكُونَ فِي المَدْرَسَةِ الَّتِي يُرِيدُ ابْتِنَائَهَا وَتَشْيِيدَهَا وِإِعْلائَهَا وَوَقْفَهَا لِلَّذِينَ يُحَصِّلُونَ العِلْمَ وَيُكَمِّلُونَ النَّفْسَ مِن الطُّلاَّبِ وَالعِبَادِ وَيَشْتَغِلُونَ بِالعُلُومِ العَقْلِيَّةِ وَالنَّقْلِيَّةِ مِنْ بَيْنِ العِبَادِ عَالِمٌ فَاضِلٌ كَامِلٌ نِحْرِيرٌ، كَاشِفُ أَسْتَارِ الحَقَائِقِ بِالتَّقْرِيرِ وَالتَّحْرِيرِ، جَامٌِ بِالفُرُوعِ وَالأُصُولِ، حَاوِي بِالمَعْقُولِ وَالمَنْقُولِ، يُدَرِّسُ بِهِمْ دُرُوسَ التَّفْسِيرِ وَالحَدِيثِ وَالأَحْكَامِ وَالأُصُولِ وَالمَعَانِي وَالبَيَانِ وَالكَلامِ وَمَنْ سَايَرَهَا أَيْضَاً حَسْبَ مَا يَقْتَضِيهِ العُرْفُ وَالمَقَامُ، لا يَفُوتُ دُرُوسَهُمْ إلاَّ بِعُذْرٍ شَرْعِيٍّ، وَلا هُمْ يَفُوتُونَهُ إلاَّ بِوَجْهٍ مَرْعِيٍّ فِيهِ أَيَّامُ التَّعْطِيلِ وَالتَّحْصِيلِ بِمَا فِي العَادَةِ رِعَايَتُهُمَا لا حَاجَةَ إِلَى التَّفْصِيلِ، وَيُفْتِي الأَنَامَ فِيمَا يَسْتَفْتُونَهُ مِن المَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ بِأَقْوَى المَذَاهِبِ وَالأَقْوَالِ بِالنَّقْلِ وَالأَخْذِ مِنْ كُتُبِ الفَتَاوَى فِي كُلِّ الأَحْوَالِ، شَرْطَاً يَنْضَمُّ إِلَيْهِ نَظَارَتُهُ الحِسِّيَّةُ لِلأَوْقَافِ فِي جَمِيعِ الأَزْمَانِ وَعِنَايَتُهُ بِِهَا فِي كُلِّ الآوَانِ وَالأَحْيَانِ. ... 12.(1/28)
In the madrasa, which the waqif wants to build, establish, erect and devote to those who shall obtain knowledge and improve morality from among the students and common people, and to those who shall be occupied with rational and traditional knowledge, there shall be the one of them, who shall be knowledgeable, virtuous, excellent and competent, who shall uncover the secrets of realities by verbal and written words, who shall combine particular and universal as well as comprehend rational and traditional knowledge. He shall teach Qur’anic exegesis, Islamic tradition, the basics of Sharî?ah law, the theory of law, Arabic stylistics, speculative theology as well as all other things that the custom (or time) and the place require. He shall not miss any lecture except for the reason that is justifiable by the Sharî?ah, and the students shall not miss the lectures either except by permission. Both the time of vacation and the time of lecturing shall be as it is accustomed and thus there is no need to explain that in details. He shall issue fatwa-answers to people who shall ask fatwa-questions in accordance to the strongest madhhab-schools of law and opinions, using in each and every case the books of fatwas. Also, it is ordained that his monitoring of the waqft shall be for ever and his care of it shall be at all times and in all circumstances.(1/29)
13. وَمُعِيدٌ يُرَاعِي وَظِيفَةَ الإِعَادَةِ عَلَى مَا هُوَ المُقَرَّرُ فِي القَانُونِ وَالعَادَةِ، وَبَوَّابٌ يُقِيمُ خَدَمَاتِ الْمَدْرَسَةِ مِنْ كُتُبِهَا وَمُحَافَظَةِ أَسْبَابِهَا وَفَتْحِ بَابِهَا وَإِغْلاقِهَا: _ وَعَيَّنَ لِلْمُتَوَلِّي مَا عُيِّنَ مِنْ غَيْرِ الأَوْقَافِ الْمَذْكُورَةِ؛ _ وَلِلنَّاظِرِ الجَابِي مَا تَعَيَّنَ مِنْهُ أَيْضَا؛ _ وَعَيَّنَ لِلْمُدَرِّسِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسِينَ دِرْهَمَاً مِنَ الأَوْقَافِ المَزْبُورَةِ؛ _ وَلِلْمُعِيدِ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ؛ _ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِن الطَّلَبَةِ كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمَيْنِ؛ _ وَلِلْبَوَّابِ أَيْضَاً دِرْهَمَينِ. وَعَيَّنَ البَاقِي قَلِيلاً كَانَ أَو كَثِيرَاً لِتَكْمِيلِ المَبْلَغِ المَزْبُورِ إِنْ انْتُقِصَ لِحَادِثَةٍ مِنْ طَوَارِقِ الْحُدْثَانِ ثُمَّ لِيُخْرَجَ مَا يُنْتَقَصُ مِنْ أَطْعِمَةِ عِمَارَةِ الوَاقِفِ المَذْكُورِ، تَقَبَّلَ اللهُ حَسَنَاتِهِ المَلِكُ الشَّكُورُ، ثُمَّ لِمَرَمَّةِ عَامَّةِ أَوْقَافِهِ، فَيُحْفَظَ مَعَ سَائِرِ الزَّوَايِدِ مِنْ سَايِرِ الأَوْقَافِ بِيَدِ المُتَوَلِّي بِمَعْرِفَةِ النَّاظِرَيْنِ المَذْكُورَيْنِ وَيُصْرَفَ إِلَى المصَارِفِ المَرْقُومَةِ وَقْتَ الاِحْتِيَاجِ. ... 13. The mu?îd (repetitor) shall conduct his drill sessions as it is ordained by law and custom. The bawwâb (doorkeeper) shall conduct the cleaning and guarding of the inventory of the madrasa, and shall open and close the door.(1/30)
Now, it was established: - the mutawallî shall receive (his salary) from other mentioned waqfs, as it has been already established; - the nâzir-jâbi (the monitor-collector) shall receive from other waqfs as well; - the mudarris shall receive 50 dirham from the mentioned waqfs every day; - each mu?îd shall receive 4 dirham; - each pupil shall receive two dirham per day; - the bawwâb shall also receive two dirham per day. The remaining funds, whether large or small, are designated to be added to the mentioned budget should it be decreased by any unpredictable event, and the rest of it shall be used for food in the ?imaret - hostel of the above-mentioned wâ qif – May Allah, the Grateful Lord, accept his good deeds – as well as for the repair of all of his waqfs. (This amount) should be guarded, together with the additional funds of the other waqfs, by the mutawallî with the knowledge of both aforementioned monitor and collector and it should be spent for the above-mentioned purposes when it is deemed necessary.(1/31)
14. وَعَيَّنَ لِكُلِّ مَنْ يَسْكُنُ فِي المَدْرَسَةِ مِنَ المُعِيدِ وَالطَّلَبَةِ وَالبَوَّابِ أَنْ يُعْطَى لَهُمْ مِن الأَطْعِمَةِ المَطْبُوخَةِ فِي مَطْبَخِ العِمَارَةِ العَامِرَةِ فِي الصَّبَاحِ وَالمَسَاءِ كِفْلَينِ وَاحِدٌ مِن المَرَقِ مَعَ قِطْعَةِ لَحْمٍ وَأَرْبَعَ فَوَادِلَ، وَيُرَاعَى فِي حَقِّهِمْ لَيَالِي الجُمَعِ وَأيَّامُ الأَعْيَادِ بِإِعْطَائِهِمْ مِن المَطْبُوخَاتِ عَلَى مَا هُوَ الدَّأْبُ المُعْتَادُ. ... 14. It is ordained that all those who reside in the madrasah - the mu?îd, pupils and the bawwâb – are to receive a ladle of soup with a piece of meat from the food prepared in the kitchen of the ?imârat – hostel, in the morning and evening, with four fudola (a kind of bread) each. They have the right to receive food that is usually cooked on the eve of Friday and on the occasion of Bayram Holidays.(1/32)
15. وَشَرَطَ تَوْلِيَةَ الأَوْقَافِ المَزْبُورَةِ وَالتَّصَرُّفَ فِيهَا وَالنَّظَارَةَ عَلَيْهَا وَالقِيَامَ عَلَى مَوَاجِبِهَا وَلَوَازِمِهَا أَوَّلاً لِنَفْسِهِ النَّفِيسَةِ مَا دَامَ رُوحُهُ الشَّرِيفُ مَعَهُ وَكَانَ أَنِيسَهُ ثُمَّ لأَعْدَلِ عَبِيدِهِ وَأَوْلاهُمْ وَأَعْلاهُمُ عُمْدَةِ خَوَاصِّهِ مُرَادَ وُيْوُدَهْ بنِ عَبْدَاهْ، ثُمَّ لأَصْلَحِ عُتَقَاءِ الوَاقِفِ المَزْبُورِ ثُمَّ لأَصْلَحِ أَوْلادِهِمْ وَأحْفَادِهِمْ ثُمَّ وَثُمَّ نَسْلاً بَعْدَ نَسْلٍ وَفَرْعاً بَعْدَ فَرْعٍ، الأَصْلَحَ فَالأَصْلَحَ فَيَتَقَدَّمُ الأَرْشَدُ وَالأَفْلَحُ ثُمَّ لأَِوْلادِ بَنَاتِهِمْ ثُمَّ لأَبْنَاءِ أَبْنَائِهِمْ بَطْنَاً بَعْدَ بَطْنٍ وَقَرْنَاً بَعْدَ قَرْنٍ مَا تَنَاسَلُوا وَتَعَاقَبُوا فَإِذَا كَانَ أَحَدُهُمْ الأَصْلَحُ مُتَوَلِّيَاً يَكُونُ الأَشْرَفُ الآخَرُ نَاظِرَاً وَجَابِيَاً، فَإِذَا انْقَرَضُوا بِقَبِيلَتِهِمْ وَمَضَوْا بِسَبِيلِهِمُ يُوَلِّي عَلَيْهَا مَنْ يَكُونُ حَاكِمَاً بِالقَضَاءِ المَحْرُوسَةِ المَزْبُورَةِرَجُلاً مَعْرُوفَاً بِالأَمَانَةِ وَالدِّيَانَةِ مَوْصُوفَاً بِالاِسْتِقَامَةِ وَالصِّيَانَةِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ فَإِنَّ الْمُتَوَلِّينَ كَمَا تَرَاهُمْ. ... 15. The management of the concerned waqf, its administration and its monitoring as well as the realization of all what is required and necessary for its safety, are firstly in the hands of the wâqif himself as long as his precious soul is with him and his intimate friend.(1/33)
Then, the most just, the most eligible and the most high of his personal and reliable servants Duke Murat, son of Abdullah, shall take the charge of the waqf, then, after him, it shall be taken by the best of his servants who are freed from slavery, then by the best of his sons and grandsons and so forth from generation to generation the best of the best; then the sons of their daughters, then the sons of their sons from generation to generation, and centuries after centuries as long as they have progeny and as long as they come one after another. When the best of them becomes the mutevellî, may the next in line according to his capacity, become the nazir – monitor and jabî- collector. When their linage dies out and their life (journey) ends, he who becomes the qâdî – judge in the qadiluk – jurisdiction of the concerned area shall appoint a trustworthy and faithful as well as pious, just and incorruptible man, though, as you may see, there are few such people, to be the mutawallî.(1/34)
16. وَشَرَطَ لِلْمُتَوَلِّي أَنْ يُعْطِيَ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ وَيُوصِلَ إِلَى المُسْتَحِقِّ مُسْتَحَقَّهُ مِنْ غَيْرِ بَخْسٍ وَنَقْصٍ وَلَوْ مِنْ تَمْرَةٍ بِشِقْصٍ، مَا دَامَ الدَّخْلُ لِلْخَرْجِ وَافِيَاً وَالأَصْلُ فِي الفَرْعِ كَافِيَاً، وَإِنْ دَخَلَ نُقْصَانٌ فِي الدَّخْلِ وَانْحِطَاطٌ فِي الأَصْلِ بِحَادِثٍ مِنْ حَوَادِثِ الزَّمَنِ وَطَارِقٍ مِنْ طَوَارِقِ الفِتْنَِ، يُدْخَلُ الكَسْرُ فِي جَمِيعِ المَصَارِفِ، وَأَنْ يَعْرِضَ مُحَاسَبَتَهُ فِي رَأْسِ كُلِّ ثَلاثِ سِنِينَ عَلَى مَنْ يَكُونُ حَاكِمَا ثَمَنَهُ، فَيُحَاسِبُهُ عَلَى النَّقِيرِ وَالقِطْمِيرِ وَيَسْأَلُهُ عَلَى القَلِيلِ وَالكَثِيرِ وَيَتَفَحَّصُ عَلَى الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَالاِرْتِفَاعِ وَالاِنْحِطَاطِ وَالنَّفْعِ وَالخُسْرَانِ وَيَنْظُرُ فِي أَحْوَالِ الذِّمَمِ غَثِّهِمْ وَسَمِينِهِمْ، فَقِيرِهِمْ وَغَنِيِّهِمْ وَمُعْسِرِهِمْ وَمُوسِرِهِمْ وَيَكْشِفُ مِن أَحْوَالِ المُتَوَلِّي هَلْ رَاعَى الشَّرَائِطَ المَذْكُورَةَ المُعْتَبَرَةَ وَأَدَّى خِدْمَتَهُ المَسْطُورَةَ الْمُقَرَّرَةَ، فَإِنْ ظَهَرَ أَمَانَتُهُ وَاسْتِقَامَتُهُ وَاتَّضَحَ سَعْيُهُ وَكِفَايَتُهُ فَبِهَا وَنِعْمَتْ وَبَرِئَتْ ذِمَّتُهُ وَسَلِمَتْ، وَأَمَّا إِنْ تَبَيَّنَ خِيَانَتُهُ وَإِهْمَالُهُ أَوْ وَضَحَ تَقْصِيرُهُ وَإِخْلالُهُ فَيُعْزَلُ عَنْ التَّوْلِيَةِ وَيُنْصَبُ غَيْرُهُ مَكَانَهُ ثُمَّ يُضَمَّنُ مَا يَرَى أَهْلُ الشَّرْعِ ضَمَانَهُ عَنْ مَالِ الوَقْفِ الَّذِي يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ شَرْعَاً، أَصْلاً كَانَ أَوْ فَرْعَاً بِتَقْصِيرٍ عَنْهُ أَوْ إِخْلالٍ بِشَرْطٍ مِنْ شَرَايِطِهِ أَوْ عُذْرٍ أَوْ إِهْمَالٍ بِشَيْءٍ مِنْ ضَوَابِطِهِ، وَيُرَاعَى هَذَا الأُسْلُوبُ فِي جَمِيعِ الزَّمَانِ مَا دَارَ النَّيِّرَانِ وَتَوَاتَرَ(1/35)
الْمَلَوَانِ. ... 16. It is the mutawallî’s duty to provide all the rights to those who are entitled to have them. Also, those who deserve something of the waqf shall be given what they deserve without omission or decrease, even if it is a piece of a fig as long as the income may cover expenditures and as long as the capital is sufficient for expenses. Should it be in due time for the reason of time events or intrigues that the income and the capital suffer a decrease, all expenses shall be reduced. The mutawallî is also obliged at the beginning of every three years to submit to the qâdî – judge his financial report. The qâdî - judge ought to review the mutawalli’s report in all details and to inspect as to where it was spent small and where big money as well as to the fact of the surplus and deficit, increase and decrease, benefit and harm of the waqf. Then, he ought to review all debtors whether they are honest or dishonest, rich or poor, weak or strong. Furthermore, the qadi ought to review the mutawalli’s work to find out as to whether he abided by the written stipulations and whether he executed the assumed obligatory duties. If it appears that the mutawalli was reliable and honest and that he worked diligently as to get satisfactory grade, he shall be appraised and his innocence shall be declared. But if it appears that he failed his duties, neglected his obligations and if it becomes clear that he was short of applying the rules, he shall be ousted from his post and the other person shall be posted instead of him.(1/36)
Then, the Sharî?ah law experts shall make sure that the waqf property remain intact, whether the capital or the commission, in the manner of applying the Sharî?ah rules which shall prevent farther decrease, or the negligence of applying the waqf stipulations. This procedure shall be upheld for all times, as long as the moon and the sun orbit and as long as there is the exchange of day and night.(1/37)
17. وَأَقَرَّ بِأَنَّ الوَاقِفَ المَذْكُورَ الخَيِّرَ المَغْفُورَ وَكَّلَعَتِيقَهُمُرَادَوُيْوُدَهْ المَزْبُورَ وَأَنَابَ مَنَابَ نَفْسِهِ بِجَمِيعِ أَحْوَالِ التَّوْلِيَةِ وَعَامَّةِ مَصَالِحِهَا لِمَا رَأَى عَلَيْهْ أَثَرَ الصَّلاحِ وَسِيمَاءَ الرُّشْدِ وَالفَلاحِ وَعَهَدَ بِأَنْ لا يَعْزِلَهُ عَنْهَا مَا دَامَ هُوَ لابِسَاً لِبَاسَ الحَيَاةِ وَلَمْ يَقْرَعْ بَابَهُ حَاجِبُ الْمَمَاتِ، تَوْكِيلاً شَرْعِيَّاً مَقْبُولاً مِنْ قِبَلِهِ وِجَاهَاً وَشِفَاهَاً وَبِأَنَّ مُوَكِّلَهُ الوَاقِفَ المَذْكُورَ قَدْ نَصَبَ مَوْلانَا عَبْدَ السَّلامِ بنَ عِيسَى فَقِيه مُتَوَلِيَّاً لأَجْلِ التَّسْجِيلِ. ... 17. Then, (Mawlâna Muhyuddin) stated that the good aforementioned wâqif, may his sins be forgiven, delegated his servant, whom he gave freedom, the aforementioned Duke Murat and posted him in his stead to be in charge of all the affairs of management and of general benefits of the waqf as he saw in him the sign of honesty, maturity and stability and, thus, he asked him not to decline this post as long as he wears the clothes-life and as long as the guardian of death does not nock on his door. This is to be considered as the legally accepted authorization from the wâqif himself both privately and publicly. Also, it is to be noticed that his authorizer, the aforementioned wâqif - endower, appointed Mawlâna ?Abd al-Salâm, the son of the Faqîh (Sharî’ah lawyer) ibn ?Isâ, as the mutawellî for registration.(1/38)
18. فَبَعْدَ ذَلِكَ أَرَادَ الوَكِيلُ المَزْبُورُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْ يَدِهِ مُحْتَجَّاً بِعَدَمِ اللُّزُومِ فَقَابَلَهُ الْمُتَوَلِّي المَزْبُورُ مُتَرَافِعَاً إِلَى الحَاكِمِ المُوَقِّعِ فَرَجَّحَ هُوَ جَانِبَ الوَقْفِ وَحَكَمَ بِصِحَةِ مَا وُقِفَ مِن الأَشْيَاءِ المَذْكُورَةِ وَبِلُزُومِهَا فَسَلَّمَ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ مِن العَقَارَاتِ وَالدَّرَاهِمِ لِلْوَقْفِ. ... 18. Thereupon, the aforementioned wakîl – agent wanted to return this waqf from his (the mutawallî's) hands, claiming that (the act of waqf) does not assume liability. But, the mutawallî opposed to that claim and thus the case was brought before the avowed judge whose inclination was in favor of the waqf and thus he came with the verdict that the act of endowment of the aforementioned things is both valid and obligatory.(1/39)
19. وَأَقَرَّ قَرَارَاً مُصَدَّقَاً مِنْ قِبَلِهِ وِجَاهَاً ثُمَّ صَارَ هَذَا وَقْفَاً مُسَجَّلاً بَعْدَ مَا رُوعِيَ شَرَائِطُ التَّسْجِيلِ مِن التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ المَزْبُورَيْنِ، وَإرَادَةُ الرُّجُوعِ وَاسْتِرْدَادِهِ إِلَى المِلْكِيَّةِ وَامْتِنَاعُ المُتَوَلِّي وَمُرَافَعَتُهُ مَعَ هَذَا الوَكِيلِ إِلَى الحَاكِمِ المُوَقِّعِ أَعْلاهُ المُتَوَقِّعِ رِضَاءَ مَوْلاهُ، وَحَكَمَ بِصِحَّةِ وَقْفِيَّتِهِ وَلُزُومِهَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَاهُ مِن الأَئِمَّةِ المُجْتَهِدِينَ رِضْوَانُ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، عَالِمَاً بِاخْتِلافِهِمْ فِي مَسْأَلَةِ الوَقْفِ. ... 19. Thereupon, he (the wâqif) submitted all the waqf real-estate as well as the waqf funds. He asserted that personally so that this became the registered waqf after all the procedures for the registration had been applied such as the procedure of offer and acceptance, then the procedure o the revocation of the waqf to the previous state of ownership and the opposition of the mutawallî to such claim and his instituting legal action against this wakîl – agent before this avowed judge, who hopes to have gotten his Lord’s satisfaction, who declared that this waqf is valid and that its liability is established to the opinions of the authorities of the Sharî?ah law who are independent in the interpretation of the Islamic sources – may Allah be satisfied with them – being aware of their differences about the issue of the waqf liability as well.(1/40)
20. فَإِذَنْ لا يَجُوزُ بَعْدَ ذَلِكَ تَغِيِيرُ هَذَا الْوَقْفِ وَتَبْدِيلُهُ وَلانَقْضُهُ وَلا تَعْطِيلُهُ بِمَا يُنَاقِضُ مَضْمُونَ هَذَا الكِتَابِ بِوَجْهٍ مِن الْوُجُوهِ بِسَبَبِ مِن الأَسْبَابِ، وَلا يَحِلُّ لأَِحَدٍ مِمَّنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَبِاليَوْمِ الآخِرِ مِنْ مُتَوَلٍّ خَايِنٍ أَوْسُلْطَانٍ مُتَغَلِّبٍ أَوْ وَالٍ مُبْطِلٍ أَوْ قَاضٍ مُبَرْطَلٍ أَنْ يُزَاحِمَهُ فَيُبْطِلَهُ وَيَنْقُضَهُ أَوْ يُعَطِّلَهُ أَوْ يُغَيِّرَ شَرْطَهُ أَوْ يُحَوِّلَهُ، فَمِنْهُمْ مَنْ ارْتَكَبَ بِشَيْءٍِ مِنْ ذَلِكَ أَوْ خَالَفَ شَرْطَاً مِنْ شَرَايِطِهِ أَوْ غَيَّرَ شَيْئَاً مِنْ ضَوَابِطِهِ بِتَأْوِيلٍ فَاسِدٍ أَوْ تَوْجِيهٍ كَاسِدٍ فَقَدْ ارْتَكَبَ الْمُحَرَّمَ وَاسْتَوْجَبَ المَأْثَمَ، وَكَيْفَ يَتَجَاسَرُ عَلَى ذَلِكَ مُؤْمِنٌ أَوْ يَتَصَدَّى لَهُ خَايِفٌ مِن اللهِ المُهِينِ بَعْدَ مَا سَمِعَ قَوْلَهُ تَعَالَى عَزَّ شَأْنُهُ وَعَظُمَ سُلْطَانُهُ: {وَالظّالِميِنَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابَاً أَلِيمَاً} وَقَوْلَهِ: {أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}، وَقَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "شِبْرٌ مِن الأَرْضِ يَأْخُذُ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ المُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ طَوَّقَهُ اللهُ تَعَالَى مِنْ سَبْعِ أَرْضِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ".(1/41)
فَإِنَّ مَنْ خَالَفَ كِتَابَ اللهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ وَاسْتَحَلَّ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَسَعَى فِي فَسَادِ عَمَلِ أَخِيهِ المُسْلِمِ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِن اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ، وَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، وَاللهُ حَسِيبُهُ وَمُكَافِيهِ وَطَلِيبُهُ وَمُجَازِيهِ بِأَصْنَافِ العَذَابِ وَأَصْنَافِ العِقَابِ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً، وَيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ اليَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الحِسَابِ. وَأَجْرُ الوَاقِفِ فِيمَا نَوَاهُ وَهَمَّهُ وَابْتَغَاهُ عَلَى المَلِكِ الوَهَّابِ إِنَّهُ لا يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ وَلا يُخَيِّبُ رَجَاءَ المُؤْمِنِينَ. جَرَى ذَلِكَ وَحُرِّرَ فِي اليَوْمِ السَّادِسِ وَالعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَجَبَ المُرَجَّبِ سَنَةَ ثَلاثٍ وَأَرْبَعِينَ وَتِسْعِمِائَةٍ. ... 20. Now, therefore be it declared that from now on it is not allowed any change of this waqf, its transformation, its diversion, and its cancellation by any means or circumstances which would be contrary to this document. It is not allowed to anyone, who believes in Allah, His Messenger and in the Day of Judgment, be it the treasonous mutawallî, the tyrant sultan, the irresponsible wâlî – governor, or the corruptible qâdî – judge to compete with this waqf so that to destroy it, diminish it or cancel its application by changing its rules and regulations.(1/42)
Thus if anyone should commit such things or if anyone breaks any of its stipulations or if anyone should change any of its rules by a false interpretation or wrong advise, he would commit the sin and provoke evil deed, but how would a faithful or a pious man have the audacity to do so before Almighty God if he had heard His words: - And to the unjust God has prepared a painful punishment. - May God’s curse be on the unjust. And the saying of the Prophet Muhammad, peace be upon him: - If a man takes a foot of ground from his fellow Muslim unjustly, God will surround him with seven ground walls in the fire of Hell. Indeed – whoever opposes to the Book of God and to the Right Way of His Messenger andwhoever permits of what God and His Messenger have forbidden, and whoever is eager to corrupt the work of his fellow Muslim, He will draw on himself the wrath of God, and his abodes is Hell, an evil refuge (indeed), the reward on him is the curse of God, of His angels, and of all mankind. Every one will come before God for accountability and God will punish by different kinds of punishments on he Day when no profit will it be to wrong-doers to present their excuses, but they will (only) have the curse and the home of misery; on the Day when every soul will be confronted with all the good it has done, and all the evil it has done, it will wish there were a great distance between it and its evil; on that Day every soul will be requited for what it earned; no injustice will there be that Day, for God is Swift in taking account.(1/43)
The Almighty God, the Giver of rewards, will reward the wâqif – endower for his intentions and hopes because He neither discredits the reward of the righteous, nor disregards the hope of the faithful.
*This happened and was registered on the Twenty Sixth of Rajab of the Year of Hijra of Nine Hundred Forty Three (943), corresponding to the Eighth of January of the Year of Mîlâd of One Thousand Five Hundred Thirty Seven(1537).
شُهُودُ الحَالِ ... The Witnesses of the Case
مَولانَا عُثْمَانُ بنُ مَحْمُودٍ الإِمَامُ، مَولانَا عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ مُحَمَّدٍ المُدَرِّسُ فِي مَدْرَسَةِ خُسْرُوبِك، مَولانَا عُمَرُ بنُ مَحْمُودٍ الإمامُ، مُحَمَّدٌ بنُ إِبراهيمَ الإِمَامُ، مَولانَا مُحَمَّدٌ الخَطِيبُ بِجَامِع ِ يَحْيَى بَاشَا، مَولانَا مُحِيِ الدِّينِ الخَطِيبُ بِجَامِعِ الوَاقِفِ، مَولانَا شَمسُ الدَّينِ المُعَلِّمُ فِي مَكْتَبِ الوَاقِفِ، مَولانَا عَلِيٌّ بنُ نَصُوحٍ حَافِظٌ، وَمَولانَا إبراهيمُ بنُ... الإمامِ. ... Mawlâna Uthman son of Mahamûd the Imâm; Mawlâna ‘Abd al-Rahmân son of Muhammad al-Mudarris in the Gazi Husrev-bey Madrasa; Mawlâna ‘Umar son of Mahmûd the Imâm; Muhammad son of Ibrahîm the Imâm; Mawlâna Muhammad the Khatîb of the Yahya Mosque; Mawlâna Muhyuddin the Khatîb of the Wâqif's Mosque; Mawlâna Shams al-Dîn the teacher of the Wâqif's Maktab; , Mawlâna ‘Alî son of Nasûh the Hâfiz, Mawlâna Ibrahîm son of ... the Imâm.
IV(1/44)
إنه ليس من المفيد أن نقارن الغازي خسرو بيك مع نظرائه في الشرق فقط، بل لا بد من مقارنته مع نظرائه من مؤسسي المدارس الغربيين أو الأوروبيين، من أمثال روبرت دي سوربون (1201 - 1274) الذي كان القسيس المفضَّل لدي الملك الفرنسي لويس التاسع، كما كان الغازي خسرو بيك (1480 - 1541) حفيدا للسلطان العثماني بيازيد، فكلاهما أنشأ مدرسة على أساس المعتقدات الدينية. ولكن تاريخ مدرسة كل منهما كان مختلفا. فبدلا من تقديم كل الإمكانيات المعرفية "بحسب الزمان والمكان"، بقيت مدرسة الغازي خسرو بيك عصِيَّة على الأنشطة العصرية، وبالتالي لم تتطور لتصبح جامعة فذّة ، مثلما حدث لجامعة السوربون في باريس. وهذا ليس لأن مدرسة الغازي خسرو بيك لم يكن لديها تلامذة أمثال ديكارت وسبينوزا وفولتير وروسو وغيرهم من طلاب السوربون الذين عانوا من ضيق أفق روبرت دي سوربون، بل لأن المسلمين فقدوا بصيرتهم شخصيات بارزة مثل الفارابي وابن سينا والغزالي وابن رشد وبن خلدون، الذين لم يعانوا من سعة الأفق عند الغازي خسرو بيك.(1/45)
وبالطريقة نفسها، يمكن مقارنة مدرسة الغازي خسرو بيك في سراييفو ببدايات مدرسة أكسفورد التي أسست في القرن الثاني عشر، تَأَسِّيَاً بمدرسة السوربون. ومن المثير للاهتمام أن نلاحظ أيضا أن مدرسة هارفارد كانت قد تأسست على يد القس البروتستانتي جون هارفارد (1607 - 1638)، الذي كان عضوا في الكنيسة البروتستانتية الإنكليزية. إن أكسفورد وهارفارد اليوم جامعتان عالميتان وما تزال ممتلكاتهما الموقوفة في ازدياد مستمر. إنهما تقدمان دراسات في شتى ميادين المعرفة، تماما كما جاء وقفية الغازي خسرو بيك " حَسْبَ مَا يَقْتَضِيهِ العُرْفُ وَالمَقَامُ "، بما في ذلك الدراسات الإسلامية، بينما تناقصت أوقاف مدرسة الغازي خسرو بيك، بسبب التقلبات التاريخية التي حدثت في القرن الماضي، حتى وصل بها الحال أنها ما بقي من الأوقاف لا يكفي للمحافظة على المدرسة التي أنشئت على الوقف الدائم الذي يدر عليها دخلا دائما. ورغم ذلك فإن مدرسة الغازي خسرو بيك ما تزال قائمة ونشيطة في تأهيل الأئمة والخطباء (الوزراء والدعاة) الذين حصلوا على سمعة طيبة بسبب ما قاموا به من أعمال، ليس فقط في البوسنة والهرسك، ولكن في أوروبا وأمريكا وكندا وأستراليا الخ.(1/46)
إن مدرسة الغازي خسرو بيك تفتخر بأنها خرَّجت عددا من أشهر الشخصيات البوسنية الدينية والفكرية والثقافية والسياسية، مثل العالم الكبير أحمد بوريك ومحمد أمين ديزدار (دكتور في الشريعة الإسلامية)، محمد سيّد سرداريفيتش (فقيه كبير)، وحمديا كريشيفلياكوفيتش (مؤرخ)، وشاكر سيكيريتش (نحوي بارع)، محمد قنطارجيتش (عالم رياضيات)، ومحمد خانجيتش (عالم ومؤرخ)، وعزّت ناميتاك (كاتب)، وقاسم دوبراتشا (عالم)، وحسين جوزو (عالم ومصلِح)، ومصطفى بوصُلاجيتش (عالم في تاريخ الأديان والثقافة)، وكامل عبديتش (خطيب - مفكّر)، وحازم شعبانوفيتش (عالم في تاريخ الثقافة البوسنية)، وفيض الله حجيبايريتش (عالم كبير ومتصوف)، وقاسم حجيتش (مفكر)، وحارث سيلايجيتش (سياسي وعضو مجلس رئاسة البوسنة حاليا) وكثيرون غيرهم.
وقد شهد العام الماضي تخريج الدفعة السادسة والخمسين بعد الأربعمائة من طلاب مدرسة الغازي خسرو بيك الذين حازوا على شهادات تمكنهم من مواصلة التعليم في أي جامعة من جامعات البوسنة والهرسك. وتحتفل مدرسة الغازي خسرو بيك في هذه السنة بالذكرى السنوية السبعين بعد الأربعمائة لتأسيسها (1537-2007) مما يبين أن مدرسة الغازي خسرو بيك تعتبر – بحسب جميع السجلات – من أقدم المؤسسات التعليمية في البلقان، وربما في أوروبا أيضا
.
V(1/47)
إنه بناء على الازدياد الأخير في عدد المدارس الثانوية الإسلامية(1)، حيث أصبح عددها اليوم ثمانية مدارس، فإن المشيخة الإسلامية في البوسنة والهرسك قررت منذ العام الدراسي 2004/2005 أنّ شهادات المدرسة الثانوية الإسلامية لم تَعُدْ كافية لتخويل حاملها بممارسة وظائف الإمامة والخطابة والدعوة. لذلك، فإنه يجب على الأئمة والخطباء في المستقبل في البوسنة والهرسك والسنجق وصربيا وكرواتيا وسلوفينيا(2)أن يدرسوا ثلاث سنوات في كلية الدراسات الإسلامية في سراييفو أو في كليتي التربية الإسلامية في زينيتسا وبيهاتش، لكي يحصلوا على المؤهل العلمي الذي يؤهلهم للعمل في مجال الإمامة والخطابة.
__________
(1) أثناء حكم تيتو تم إغلاق العشرات من المدارس الدينية، وكانت مدرسة الغازي خسرو بيك في سراييفو هي المدرسة الوحيدة التي تخرج الأئمة والخطباء. بعد زوال الحكم الشيوعي أعادت المشيخة الإسلامية فتح خمسة مدارس دينية: مدرسة كرا جوز بيك في موستار، مدرسة بهرم بيك في توزلا، مدرسة جمال الدين تشاوشيفيتش في تسازين، مدرسة ألتشي إبراهيم باشا في ترافنيك، مدرسة عيسى بك في نوفي بازار، إضافة إلى مدرستين جديدتين وهما: مدرسة عثمان أفندي ريجوفيتش في فيسوكو، ومدرسة أحمد سماعيلوفيتش في زاغرب.
(2) بالرغم من أن المشيخات الإسلامية في السنجق وكرواتيا وسلوفينيا تتمتع قانونيا بالاستقلال، إلا أنها من الناحية الواقعية تعتمد على المشيخة الإسلامية في البوسنة والهرسك في مجال تأهيل الأئمة وغيره من الاحتياجات الفكرية. فالسنجق وكرواتيا وسلوفينيا لديهم مندوبيهم في الجمعية العمومية للمشيخة الإسلامية في البوسنة والهرسك وهي التي تنتخب رئيس العلماء الذي يعتبر المنصب الأعلى في المشيخة الإسلامية، والذي بدوره يرشح المفتين في السنجق وكرواتيا وسلوفينيا.(1/48)
وكما ذكرت آنفا، فبعد الحصول على الشهادة من إحدى المدارس الثانوية الإسلامية الثمانية التابعة للمشيخة الإسلامية في البوسنة والهرسك، لا بد لمن يرغب في ممارسة وظيفة الإمام والخطيب في المشيخة الإسلامية في البوسنة والهرسك أن يحصل على تأهيل مدته ثلاث سنوات في كلية الدراسات الإسلامية في سراييفو، التي تعتبر وريثة المؤسسات التعليمية الإسلامية في البوسنة والهرسك والتي تعود إلى زمن الحكم العثماني الذي دام 415 سنة (1463-1878). ومن المعروف أن السلاطين العثمانيين قد وظفوا استثمارات كثيرة في البنية التحتية الدينية والتعليمية والتجارية، وفي طرق المواصلات. فقد صرفوا الأموال الطائلة على بناء المساجد والمدارس الدينية والخانات والأسواق والحمامات العامة والجسور وغيرها. إلا أن المدرسة التي كان يقف وراءها مؤسسة وقفية ومكتبة كانت تستأثر باهتمامهم الخاص لأنهم كانوا يسعون إلى الحفاظ على القانون والنظام في المجتمع القائمين على مبادئ الشريعة.(1/49)
ولكن أهم تركة خلفها العثمانيون في البوسنة تتمثل في الخط الحنفي الماتوريدي الفريد في علم الكلام والفقه، والذي انتقل إلى البوسنة عبر بلاد ما وراء النهر واسطنبول قادما من قلب الجزيرة العربية(1).
هذهشهادة تاريخيّة للعالم البوسنوى حسن الكافي الاختصارى (1544 – 1616) على التواتر الثابت في العقيدة و الفقه علي المذهب الحنفي في البوسنة قال فيها:
الحمد لله الذي هدانا للعلم والإيمان، ونهانا عن الكفر والعصيان، والصلاة على نبيه النبيه، وحبيبه الوجيه محمد المبعوث بخير الأديان، وعلى آله السابقين بخير إحسان، وأصحابه التابعين بإذعان، وبعدُ:
__________
(1) خلص الأستاذ فكرت كارتشيتش إلى القول أن "التحليل التاريخي والجغرافي لسلسلة حسن كافي بروشتشاك يكشف الخط التالي لانتقال المذهب الحنفي من شبه الجزيرة العربية (القرن الأول الهجري/ السادس الميلادي) ووصوله إلى البوسنة (القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي): الحجاز ? العراق ? ما رواء النهر ? القاهرة ? حلب ? الأناضول ? اسطنبول ? البوسنة. ويمكن لهذا الاستنتاج أن يخضع للتمحيص الإضافي ببحث سِيَرِ العلماء البوسنيين في في أوائل العهد العثماني وإجازات التدريس. مهما يكن من أمر، فقد يظهر اختلاف حول انتقال المعرفة من الأناضول أو روميلية (كان اسم روميلية يطلقه العثمانيون على شبه جزيرة البلقان)، ولكن لا يوجد شك في مسار انتقال المذهب الحنفي من شبه جزيرة العرب إلى الأتراك العثمانيين"، فكرت كارتشيتش، "كيف جاء المذهب الحنفي إلى البوسنة – شرح سلسلة حسن كافي بروشتشاك" مجلة (المعلّم الجديد) جمعية علماء، سراييفو، المجلد الثالث، العدد: 8 (5 يناير 2002) ص: 20.(1/50)
فلما كان الإيمان أولَ ما يجب على الإنسان، وآخرَ ما يُطلب عند نزع الأرواح عن الأبدان، بل هو الغرض الأصلي من فيض الوجود، والمقصود الأقصى من أخذ الميثاق المعهود، ولا يحصل إلا بعد العلم بواجب الوجود، ولا يكمل إلا بإثبات صفات فائض الجود، وجب على كل عاقل صرف الوجود إلى كسبه وتحصيله بالأدلة البشرية ليتخلص من عقد التقليد في عقائد التوحيد؛ فالإيمان رئيس الاعتقادات الدينية، ورأسُها العلمُ الكاملُ بتحقيق أصل العلوم اليقينية، وأساسها وهو علم التوحيد والصفات، وقد وُجِدَتْ فيه أحسنُ المصنّفات وأحصرُ المؤلفات: الفقه الأكبر لإمامنا الأعظم، ثم عقائد الطحاوي وعقائد عمر النسفي وعقائد السيوطي عليهم رحمة ربهم الغنيّ، فإنها مع ما فيها من حسن التَّنظيم والتركيب، وصباحة الترتيب، وغاية التنقيح ونهاية التهذيب، مشتملة على غُرَرِ الفرائد من أصول الدين، ودرر الفوائد من قواعد عقائد اليقين، بحيث تستوجب أن تُحَرَّرَ وَتُزْبَرَ على صفحتي الشمس والقمر، لكن لخلوِّها عن الأدلة في التمهيد لا تكتفي للتفصي عن التقليد، فكنت أدير في نفسي وفي خَلَدي، وأستخير الله في كدِّي وملدي أن أستخرج من هذه الأصول لهؤلاء الفحول مختصرا رصينا مشتملا على المعقول، ومتنا متينا متضمنا لِنُخَبِ المنقولِ من أماثِل الأدلة وأصائل الأصول، من غير إيراد أسئلة المعارضين وأدلة المخالِفين، فرتبته على ما وقع من جواب سيد المرسلين حين سأله جبريل عن الإيمان، قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والبعث بعد الموت والقدر خيره وشره من الله تعالى. فهذه سبعة أصول، وبعد ما صدرتها ببيان حقيقة الإيمان صارت ثمانية فصول، فسميته بروضات الجنات في أصول الاعتقادات، واللهَ تعالى أسألُ أن يجعل التوفيق رفيقي، ويُسَهِّلَ عليَّ تأليفَهُ وتحقيقَهُ فإنه مجيب الدعوات وقاضي الحاجات. وهذه سلسلة الروايات الفقهيّة الحنفيّة من خلال أسماء العلماء الحنفيّين:(1/51)
كمال الدين بن الهمامِ (صاحب "فتح القدير")، عن السِرّاج عمر (الشهير بقاريئ "الهداية" وصاحب "الفتاوي" الشهيرة)، عن علاء الدين السِّيراميِّ، عن السيّد جلال الدين (شارح"الهداية")، عن عبد العزيز البخاري (صاحب "الكشف و التحقيق")، عن حافظ الدين النسفي (صاحب "الكنز")، عن شمس الأئمّة الكَرْدَرِيِّ، عن برهان الدين علي المرغينانيِّ (صاحب "الهداية")، عن فخر الاسلام البَزْدَويِّ، عنشمس الدين السَّرَخْسيِّ، عن شمس الأئمّة الحَلْواني، عن القاضي أبي علي النسفي، عن أبي بكر محمد بن الفضل البخاري، عن أبي عبد الله السَّبَذْيوُنيِّ، عن أبي حفصٍ عبدِ اللهِ ين أبي حفصٍ الصغيرعن والده أبي حفصٍ الكبير، عن الإمام محمد بن الحسن الشيبانيِّ، عن إمام الأئمّة و سراج الأمّة أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفيِّ، عن حَمَّادِ بن سليمان، عن إبراهيمَ النَّخَعيِّ، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعودٍ رضي الله تعالي عنه، عن النّبيّ صلي الله عليه و سلّم، عن أمينِ الوحيِ جبريلَ عليه السلام، عن الحكم العدل جلّ جلالُه و تقَدّسَتْ أسماؤُهُ.(1/52)
وبالرغم من أن البوسنة كانت تحتل مكانة عالية جدا في النظام التعليمي العثماني، إلا أن الطلاب البوسنيين في ذلك الوقت كان عليهم أن يذهبوا إلى اسطنبول للحصول على درجتي الماجستير والدكتوراه. إن العلماء البوسنيين الذين درسوا في اسطنبول أيام الحكم العثماني تمكنوا جيدا من لغات الحضارة الإسلامية الثلاث: العربية والفارسية والتركية(1). وكان الشيخ محمد جمال الدين تشاوشيفيتش رئيس العلماء الرابع (1913 - 1930) في البوسنة والهرسك(2)بعد مؤتمر برلين (1878)، آخر رئيس للعلماء من الذين درسوا في اسطنبول وكان يتقن اللغة التركية جيدا(3). وكان قادرا على القيام بأكبر قدر من الإصلاح الإسلامي(4)
__________
(1) للتوسع في إسهامات العلماء البوسنيين في الحياة الروحيه والثقافيه للعثمانيين، انظر: حازم شعبانوفيتش، "أدب مسلمي البوسنة والهرسك باللغات الشرقية"، سفييتلوست، سراييفو، 1973؛ محمد جدرالوفيتش، "ناسخو المؤلفات في المخطوطات العربية" مجلدان. سفييتلوست، سراييفو، 1988؛ عبد الرحمن ناميتاك، "مختارات من أدب الحميادو البوسني"، سفييتلوست، سراييفو 1981.
(2) يعتبر منصب رئيس العلماء والمفتي في البوسنة والهرسك مؤسسة فريدة للسلطة الإسلامية، وقد تم استحداثه في فترة ما بعد العهد العثماني نتيجة لمؤتمر برلين (1878) عندما وضعت البوسنة والهرسك تحت إدارة أمبراطورية النمسا وهنغاريا وضمّت إليها. رئيس العلماء الحالي في البوسنة هو الثاني عشر في الترتيب.
(3) جدير بالذكر أن رئيس العلماء الخامس الحافظ إبراهيم ماغلايليتش (1930-1936) قد درس في اسطنبول ولكن تأثير اسطنبول على التعليم الإسلامي في البوسنة كان قد تناقص.
(4) من بين الأمور الأخرى التي قام بها رئيس العلماء جمال الدين تشاوشيفيتش أنه استبدل الأبجدية اللاتينية بالأبجدية العربية وأمر أن تقرأ خطبة الجمعة باللغة البوسنية بعد أن كانت تقرأ باللغة التركية القديمة وبالعربية..(1/53)
أو التحول من "منطقة نفوذ إلى المنطقة الأوروبية للإصلاح المتسارع"(1). ومع مرور الوقت، وخاصة بعد إلغاء مكتب الخلافة في اسطنبول سنة (1924) انقطعت جميع الاتصالات الاعتيادية والطبيعية بين سراييفو واسطنبول. وصار لزاما على مسلمي البوسنة أن يبحثوا عن بديل للمحافظة على الاستمرارية الروحية والتعليمية. كان عليهم أن يقوموا بعملية "التفاف روحي" فتوجهوا نحو جامعة الأزهر الشريف(2)في القاهرة ساعين إلى تحصيل العلوم الإسلامية هناك. ولقد أدى هذا الانتقال من اسطنبول إلى القاهرة إلى استعراب العلماء البوسنيين بمعنى أنهم فقدوا صلتهم المباشرة مع اللغة التركية، وقد نتج عن ذلك أن أصبح تاريخ تأهيل الأئمة والخطباء البوسنيين في القرن الماضي مرتبطا بالتاريخ التعليمي العربي الإسلامي، ليس فقط على صعيد اللغة، بل أيضا على صعيد الفلسفة والثقافة.
__________
(1) انظر فكرت كارتشيتش، "ماذا نقصد بالتقاليد الإسلامية عند البوشناق؟"، في "قرار المشيخة الإسلامية حول تفسير الإسلام"، دار القلم، سراييفو، 2006.
(2) للمزيد عن الأزهر انظر: Bayard Dodge، "الأزهر ألف سنة من التعليم" طبعة تذكارية، معهد الشرق الأوسط، واشنطن، 1974؛ Jonathan Berkey، "نقل المعرفة في القاهرة في القرون الوسطى - التاريخ الاجتماعي للتعليم الإسلامي"، نشرة جامعة برينستون، برينستون 1992.(1/54)
كانت السلطات النمساوية - المجرية، تسعى لاجتذاب ولاء مسلمي البوسنة، فكانت من جهة أولى تبدي اهتماما باحتياجاتهم التعليمية، ومن الجهة الثانية كانت تمنع الطلبة من الذهاب إلى اسطنبول للحصول على التعليم الإسلامي العالي، ولذلك فتحت تلك السلطات عملية أسمتها "تحرير المثقفين المسلمين من أي تأثير خارجي". وهكذا صدر في عام 1881 مرسوم بتأسيس أول "مكتب نواب" في سراييفو (المدرسة العليا للشريعة الإسلامية) وكان الهدف منها تأهيل القضاة الشرعيين. ويجدر بالذكر أن سلطات الإمبراطورية النمساوية الهنغارية أعطت المسلمين البوسنيين الاستقلالية الدينية مما أدى إلى استمرار وجود المحاكم الشرعية في البوسنة والهرسك حتى عام 1946، عندما ألغت الحكومة الشيوعية اليوغوسلافية جميع المؤسسات التي كانت تمارس أي شكل من أشكال النشاطات الدينية. ولقد حصلت فكرة تأسيس أول مكتب نواب في سراييفو على دعم القيادة المسلمة في ذلك الوقت، بحيث خصصت الأوقاف الإسلامية قطعة الأرض التي أقيم عليها مبنى مكتب النواب. وقد قام بالتصميم المعماري لمبنى مكتب النواب المهندس المعماري التشيكي كارلو بارجيك، وتم الانتهاء من تشييده سنة 1887، مما يعني أنه في هذه السنة (2007) يكون قد مر على افتتاحه 120 سنة. ومما لا شك فيه، أن مكتب النواب كان قد لعب دورا كبيرا في الإصلاح الإسلامي في البوسنة والهرسك. ويعتبر الطراز الأندلسي لمبنى مكتب النواب رمزا لوجود الإسلام في أوروبا. وللأسف، فإن النظام الشيوعي اليوغوسلافي أغلق مكتب النواب في سنة 1945، وأمم وصادر جميع الأوقاف الإسلامية، ومن بينها مبنى مكتب النواب. وفي عام 1993 أعيد افتتاح مبنى مكتب النواب وهو اليوم يعتبر أحد أجمل القطع المعمارية في سراييفو بعد أن تم تجديده بفضل العطاء السخي الذي قدمته دولة قطر.(1/55)
لم يكن لدى المشيخة الإسلامية في البوسنة والهرسك حتى عام 1977 مؤسسة تعليمية جامعية، وكان التعليم الديني مقتصرا على مدرسة الغازي خسرو بيك الثانوية الإسلامية في سراييفو، التي كانت تخدم حاجات المسلمين الدينية في يوغوسلافيا السابقة من البوسنيين والألبان. وبعد سنوات طويلة من كفاح المشيخة الإسلامية في يوغوسلافيا السابقة، سمح النظام الشيوعي بافتتاح كلية الشريعة الإسلامية في سراييفو سنة (1977) – ونحن نحتفل في عامنا هذا بالذكرى الثلاثين لتأسيسها. وقد اتخذت الكلية مقرا لها في ذلك الحين داخل مبنى مدرسة الغازي خسرو بيك المجاورة لمسجد الغازي خسرو بيك، لتنتقل في عام 1993 إلى مبنى مكتب النواب وأصبح اسمها كلية الدراسات الإسلامية في سراييفو. وتعتبر هذه الكلية اليوم أعلى مؤسسة تعليمية إسلامية تابعة للمشيخة الإسلامية في البوسنة والهرسك، وتوفر هذه الكلية دراسات البكالوريوس والماجستير والدكتوراه في ثلاثة أقسام هي: أصول الدين، والتربية الإسلامية وتأهيل الأئمة والخطباء.
VI
ومع استيلاء الشيوعيين على الحكم في البوسنة والهرسك ضمن جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية السابقة، أغلقت كافة المدارس الإسلامية في البوسنة والهرسك باستثناء مدرسة الغازي خسرو بيك، واستمر الأمر على هذا الحال إلى عام 1992 م عندما أعلنت البوسنة والهرسك استقلالها، ومنذ ذلك العام بدأت المشيخة الإسلامية بإعادة افتتاح المدارس الثانوية الإسلامية في البوسنة والهرسك وفي كرواتيا والسنجق، حتى أصبح عددها ثمانية مدارس، ستة منها في البوسنة والهرسك وواحدة في زاغرب عاصمة كرواتيا وأخرى في نوفي بازار في السنجق.
ومنذ ثلاثة أعوام تعمل هذه المدارس وفق خطة وبرنامج مُوَحَّدَين، بعد أن أُدخِلَ عليهما العديد من التعديلات والتحسينات. وفي العام الدراسي 2006/2006 بلغ مجموع عدد التلاميذ في هذه المدارس الثمانية 1946 طالبا وطالبة.(1/56)
وأقدم هنا لمحة موجزة عن هذه المدارس حسب البيانات الصادرة عن رئاسة المشيخة الإسلامية في البوسنة والهرسك للعام الدراسي 2005/2006:
مدرسة الغازي خسرف بك الثانوية الإسلامية في سراييفو
و كما قلنا، تعتبر هذه المدرسة في سراييفو من أقدم المؤسسات التعليمية الإسلامية، فقد تم تأسيسها سنة 1537 م، ومنذ تأسيسها وحتى اليوم لم تتوقف عن أداء رسالتها التعليمية الإسلامية. ويتلقى 376 تلميذ وتلميذة تعليمهم فيها . هذه المدرسة بقسميها للذكور والإناث. ويعمل فيها 24 مدرسا و 21 مربيا. والمدرسة من النمط الداخلي، حيث يمضي التلاميذ كامل وقتهم فيها بما في ذلك المبيت. ومدير المدرسة الحالي هو الأستاذ زياد لييفاكوفيتش.
مدرسة بهرم بك الثانوية الإسلامية في توزلا
أعيد افتتاح هذه المدرسة في توزلا سنة 1993، ويتلقى 404 تلميذ وتلميذة تعليمهم فيها. ويعمل فيها 34 مُدرّسا و 20 مربيا. ومديرها الحالي الأستاذ وحيد فازلوفيتش.
مدرسة إبراهيم التشي باشا الثانوية الإسلامية في ترافنيك
جَدَّدَت هذه المدرسة عملها سنة 1994، ويتلقى 196 تلميذ وتلميذة تعليمهم فيها. ويعمل فيها 20 مدرسا و 7 مربين. ومديرها الحالي الأستاذ محرم داوتوفيتش.
مدرسة عثمان ريجوفيتش الثانوية الإسلامية في غراتشانيتسا
تأسست هذا المدرسة غراتشانيتيا – فيسوكو سنة 1992، ويتلقى 238 تلميذ وتلميذة تعليمهم فيها. ويعمل فيها 22 مدرسا و7 مربّين. ومديرها الحالي الأستاذ جمال صالحسباهيتش.
مدرسة قره جوز بك الثانوية الإسلامية في موستار
جّدَّدَت هذه المدرسة عملها سنة 1995، ويتلقى 121 تلميذ وتلميذة تعليمهم فيها. ويعمل فيها 21 مُدرِّسا و 4 مُربّين. ومديرها الحالي الأستاذ شيفكو تينياك.
مدرسة جمال الدين تشاوشيفيتش الثانوية الإسلامية في تسازين
تأسست هذه المدرسة سنة 1993، ويتلقى 224 تلميذ وتلميذة تعليمهم فيها. ويعمل فيها 30 مدرسا و8 مُرَبِّين. ومديرها الحالي الأستاذ أنس ليوبيانكيتش.(1/57)
مدرسة الغازي عيسى بك الثانوية الإسلامية في نوفي بازار (السنجق)
بدأت هذه المدرسة عملها سنة 1990، ويتلقى 286 تلميذا تعليمهم في هذه المدرسة. ويعمل فيها 13 مدرسا و 4 مُرَبِّين. ومديرها الحالي الأستاذ نجاد حسانوفيتش.
مدرسة د. أحمد اسماعيلوفيتش الثانوية الإسلامية في زاغرب (كرواتيا)
تأسست هذه المدرسة في زاغرب سنة 1992، ويتلقى 101 تلميذ وتلميذة تعليمهم فيها. ويعمل فيها 18 مدرسا ومربيان. ومديرها الأستاذ مراد حجيسماعيلوفيتش. ويتضح من هذا العرض الموجز أن المدارس الثانوية الإسلامية تضم 1946 تلميذا وتلميذة يتلقون فيها تعليمهم الديني.
إن الهدف الرئيسي من قسم تأهيل الأئمة والخطباء هو التأهيل الديني والفكري والأخلاقي والاجتماعي والثقافي للأئمة والخطباء. إن برنامج تأهيل الأئمة والخطباء مصمم بطريقة تزود الإمام الخطيب بالمعرفة النظرية والتطبيقية التي يحتاجها للنجاح في حسن قيادة جماعة مسجده. والتسجيل في قسم تأهيل الأئمة والخطباء مخصص لحملة شهادة الدراسة الثانوية من إحدى المدارس الثانوية الإسلامية الثمانية التابعة للمشيخة الإسلامية في البوسنة والهرسك. وتستمر الدراسة في هذا القسم ستة فصول دراسية ينجح خلالها الطالب في 48 امتحان نظري وعملي. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(1/58)
الكتاب:المفاهيم الإساسية للدعوة إلى الإسلام في الغرب
المؤلف :فيصل مولوي
مصدر الكتاب :www.ikhwan.net
[ الكتاب : مرقم آليا غير موافق للمطبوع ، قام بفهرسته الأخ عزالدين بوطرنيخ غفر الله له و لوالديه](/)
المقدّمة
الحمد الله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد ..
يعيش المسلمون اليوم في بلاد الغرب أزمة فكرية شديدة ناتجة عن قناعتهم بكثير من الأفكار التي تلقّوها في بلادهم الشرقية، وهي تتعارض تماماً مع ظروفهم الجديدة في ديار الغرب، ومع مصالحهم الكثيرة فيها. وقد حصل الكثيرون منهم على جنسية تلك البلاد، فلم يعد من السهل مطالبتهم بالرجوع إلى بلادهم. كما أنّ الكثير منهم أصبح يقيم هناك بشكل دائم لسبب أو لآخر، فضلاً عن أنّ كثيراً من أبناء الغرب الأصليين قد اهتدوا إلى الإسلام، وليس من المعقول أن نطالبهم بترك أوطانهم في ظروف الحرية التي يتمتّعون بها هناك وأن يلتحقوا ببلاد المسلمين.
وجميع هؤلاء بحاجة إلى ثقافة إسلامية أصيلة تنظّم عيشهم في مجتمعات غير إسلامية.
وهذه دراسة متواضعة حول هذا الموضوع، أسأل الله تعالى أن ينفع بها، وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم، إنّه سميع مجيب.
المستشار الشيخ فيصل مولوي
نحن جزء من المجتمع الذي نعيش فيه:
إنّ المسلم جزء من أمّته الإسلامية، وعلى هذا الأساس فمن الطبيعي أن يفكّر بمشاكلها، وأن يشعر بهمومها وأحزانها، وأن يتفاعل معها.
ولكنه حين اختار العيش في ديار الغرب، اختار أن يكون جزءاً من هذا المجتمع الذي يعيش فيه، فيجب عليه أيضاً أن يفكّر في هذا المجتمع: في قضاياه وهمومه ومشاكله من وجهة نظره الإسلامية، وهذا هو الذي يفرض عليه أن يبحث في شؤون الدعوة الإسلامية في هذه البلاد.(1/1)
إن الاهتمام بقضايا الأمّة الإسلامية في الشرق سيكون عند الكثيرين هنا مجرّد اهتمام نظري لا طائل من ورائه، طالما أننا لا نستطيع أن نقدّم لبلادنا شيئاً ملموساً، بينما الواقع الذي نعيشه في بلاد الغرب إذا تفاعلنا معه يمكننا أن نقدّم له ولدعوتنا فيه شيئاً ملموساً. إننا إذا أغفلنا هذا الواقع، وبقينا مشدودين إلى بلادنا الأصلية، فسيكون الخسران نصيبنا في الحالتين: نتكلّم عن بلادنا ولا نقدّم لها شيئاً يذكر، ونهمل واقعنا ولا نقدّم لدعوتنا فيه شيئاً أيضاً.
نحن لا ندعو - بل لا نفكّر - أن نتخلّى عن أيّة قضية من قضايا أمّتنا، لكننا نريد أن نحسّ بالواقع الذي نعيش فيه، وأن ندرك أن هذا الواقع يفرض علينا ممارسة دعوية هامّة جداً، يمكن أن يكون لها أثر على مستقبلنا في هذه البلاد، أو على مستقبل هذه البلاد بالنسبة للدعوة الإسلامية.
تراث مخلوط بشوائب:
لقد جاء المسلمون من بلادهم بتراث هائل جداً، فيه من الإسلام النقي الشيء الكثير، ولكن فيه أيضاً الشيء الكثير مما ورثوه عن أجدادهم من عصور التعصّب والتخلّف. هناك الكثير من المواقف والمشاعر والأفكار التي لا تعبّر عن الإسلام في هذا العصر. وقد تكون مفيدة في وقتها ومناسبة له، لكنها لا يمكن أن تكون صورة الإسلام في هذا العصر، ومع ذلك حملناها في قلوبنا وعقولنا إلى هذه البلاد ونحن نظنّ أنها جزء من الإسلام لا ينفكّ عنه، بينما هي في الحقيقة جزء من تاريخنا لا أكثر، وإذا كانت مقبولة من أجيال الأمّة السابقة فليس حتماً علينا أن نقبلها في هذا العصر، اللهمّ إلاّ لو كانت من ثوابت الإسلام القاطعة، وأنّى لها أن تكون؟(1/2)
لقد ظلّت أفكارنا وعواطفنا مشدودة إلى أمور خلافية كثيرة في المجالات التاريخية والفكرية والفقهيّة، ولا يمكن أن نتحرّك في هذا المجتمع بهذا الركام من التراث تحرّكاً دعوياً مثمراً. إنّ هدفي في هذه الدراسة هو أن أوضح أهم الأسس التي تتناول الدعوة في بلاد الغرب. هناك إشكالات شرعية كثيرة، وكذلك هناك مئات وآلاف من الأسئلة، تدور حول تعامل المسلم في الغرب مع المجتمع الذي يعيش فيه، فلو اختصرنا الجواب وأوضحنا الأساسيات لهان الأمر، واستطاع كلّ منّا أن يفتي لنفسه في كثير من المسائل. إنَ ممارسة الدعوة في هذه البلاد تحتاج إلى فهم صحيح لمسألتين أساسيتين، لا يمكن بدونهما أن تكون هناك دعوة. المسألة الأولى: العاطفة، والمسألة الثانية: الفكر.
الفصل الأول: العاطفة
هل يمكنك أن تتصوّر نشوء عاطفة بينك كمسلم وبين غير المسلم - في هذه البلاد - تكون أساساً للدعوة؟
هل يمكنك أن تدعو إنساناً وأنت تحقد عليه؟ وأنت كاره له؟ بل تخطّط لحربه؟ هل يمكن أن تدعوه في هذه الحالة بالحكمة والموعظة الحسنة؟
إذا كنت تريد أن تدعو إنساناً، وأنت ترفض أن تسلّم عليه ابتداء، التزاماً بما تعارفنا على فهمه من حديث الرسول صلى الله عليه وسلّم وهو وضع للحديث في غير موضعه: "لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام" . فهذا الحديث الخاص الذي قاله النبي الكريم في ظرف خاص، عندما كان اليهود في المدينة يتآمرون ويحقدون على المسلمين، وكان المسلمون إذا بدؤوهم بالسلام لا يردّون السلام عليهم، وإنّما يردّون بمزيد من الحقد والتآمر: (السام عليكم) أي الموت.. في هذا الجو، قال عليه الصلاة والسلام: "لا تبدؤوهم بالسلام". فأصبح هذا الحديث في كتبنا أساس العلاقة بين المسلم وغير المسلم في جميع الظروف، ونسينا العشرات من الآيات الكريمة والمئات من الأحاديث الصحيحة التي تأمر بالسلام، وبردّ التحية بمثلها أو بأحسن منها، وغير ذلك.(1/3)
أقول: كيف يمكن للمسلم أن يكون داعية لإنسان يتحرّج أن يبدأه بالسلام، أو يتكلّم معه بكلمة طيّبة، حتّى يظنّ غير المسلم أنّه ليس في قلب المسلم أيّة عاطفة نحو إنسان غير مسلم.
والسؤال مرة أخرى: هل يمكن أن تقوم علاقة حب بين المسلم وغير المسلم؟
أولاً : مراحل العلاقة بين المسلم وغير المسلم:
ولكي أجيب على هذا السؤال، سأركّز على تحديد العلاقة بين المسلم وغير المسلم في مراحل ثلاث، وردت جميعها في كتاب الله عزّ وجلّ وهي:
المرحلة الأولى: التعارف:
يقول المولى عزّ وجلّ: {يا أيّها النّاسُ إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائلَ لتعارفوا، إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير}.
إذاً لا يمكن أن أرى إنساناً غير مسلم، وتكون أول بادرة منّي هي أن أدير له ظهري وأهرب منه، ليس لسبب سوى أنه غير مسلم، فلا أكلّمه، بينما لا توجد أية مشكلة بيني وبينه.
إذا كنت أيها الأخ المسلم داعية، فهذه أرض الله خصبة لدعوتك، والله عزّ وجلّ سخّرها لك كي تقوم بواجب الدعوة إلى الله، وتحقّق فيها نجاحاً وفلاحاً، إرضاءً لله ولرسوله.
فأقبِل على غير المسلم، وتعرّف عليه وعلى مشاكله إن لزم الأمر، فلعلّ هذا التعرّف يقرّب قلبه منك، ولعلّه يرتاح إليك، فتكون فرصة سانحة لدعوته إلى الله عزّ وجلّ. فالتعارف بين المسلم وغير المسلم مرحلة أساسية لا بدّ منها.
المرحلة الثانية: التعايش:
هل يجوز للمسلم أن يعيش مع غير المسلمين؟
الجواب: نعم ..(1/4)
فهذه مسألة أساسية، تشهد لها الكثير من النصوص والآيات والأحاديث الشريفة والواقع. إذ ليس من المعقول أن لا يعيش المسلم إلاّ في جوّ إسلامي. وليس ذلك مطلوباً في شريعة الله إلاّ حين يخاف المسلم على نفسه أو على دينه. ولم يفعل ذلك المسلمون بل فعلوا عكسه، وكانوا يسافرون إلى البلاد غير الإسلامية ويتعايشون مع أهلها بأخلاق الإسلام، وكان ذلك سبباً في دخول كثير من هذه الشعوب في الإسلام. وقد حدّد الله سبحانه وتعالى أساس هذا التعايش بقوله: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم، إنّ الله يحبّ المقسطين}.
إذا لم يبدأك غير المسلم بحرب، ولا أخرجك من ديارك، ولا ظاهر على إخراجك، فهذا إنسان يجوز أن تعيش معه، وعند ذلك يجب عليك أن تلتزم بالبرّ والقسط.
البرّ أعلى درجات حسن الخلق:
انظروا إلى هذا المعنى القرآني العظيم (البرّ) وهو أعلى درجات حسن الخلق، ومنه برّ الإنسان لأمّه وأبيه، فهو أعلى درجات حسن الخلق، والمطلوب منّا كمسلمين أن نتعامل بهذا البرّ مع غير المسلمين، وأن نتعامل معهم أيضاً بالقسط وهو العدل، فلا يجوز لك أن تظلم غير المسلم، بل يجب عليك أن تقف إلى جانبه إذا كان الحقّ معه، ولو كان الخصم أخاك المسلم.
هذه قِيَم أخلاقية عظيمة ومسائل شرعية أساسية نتعايش بها مع غير المسلمين. والله تعالى لم يفرضها علينا كي ندير ظهورنا لغير المسلمين، ولا نتعامل معهم، وإنّما فرضها علينا كي تكون هي الأساس لهذا التعايش الذي يقتضيه الواقع.
لقد خلق الله - عزّ وجلّ - البشر هكذا: متنوّعين، متعدّدين، ولو شاء سبحانه لجعلهم أمّة واحدة، {.. ولا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربّك، ولذلك خلقهم ..} ثم طلب منهم أن يتعارفوا، وأن يتعايشوا بهذا البرّ والقسط.
المرحلة الثالثة: التعاون:
تتعارف أولاً مع غير المسلمين ..
ثمّ تتعايش بمحبة وانفتاح معهم ..(1/5)
ثم .. أليس عندك مسائل شرعية محددة؟ ..
هل يصعب أن تجد بعض هذه المسائل الشرعية تحقّق مصلحتك، وفي نفس الوقت تحقّق مصالح غير المسلمين؟
إذا وقع الانسجام في مسألة ما، فمن الممكن أن يقع التعاون، ما المانع في ذلك؟ والرسول صلى الله عليه وسلم - كما نعرف جميعاً - تحدّث عن "حِلف الفضول" وكان ذلك في الجاهلية، حيث اجتمع رؤساء قريش وزعماؤها وتعاهدوا فيما بينهم على: مساعدة الضعيف، وإغاثة الملهوف، ومساعدة المحتاج، إلى ما هنالك من مكارم الأخلاق، وحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال في الإسلام بعد ذلك: "لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حِلفاً ما أحبّ أنّ لي به حُمر النِّعم، ولو أُدعى به في الإسلام لأجبت" .
يجوز لنا إذاً أن نلبّي دعوة لغير المسلمين، إذا كانت على أساس يرضي الله عزّ وجلّ، فإذا كانت لدينا مسائل نعتبرها شرعية، وغير المسلمين يتبنّونها لأسباب أخرى، فإننا يمكن أن نتعاون معهم على تحقيقها طالما أنها تعتبر مشروعة عندنا، وما أكثر أمثال هذه المسائل.
إذاً فالمراحل التي تحدّد ملامح العلاقة بين المسلم وغير المسلم هي: التعارف .. ثمّ التعايش على أسس شرعية .. ثمّ التعاون على الأمور المتفق عليها المشروعة في ديننا.
ثانياً: الروابط الاجتماعية بين البشر:
أنتقل بعد ذلك إلى ناحية أخرى في تحديد العلاقة بين المسلم وغير المسلم.
خلق الله سبحانه وتعالى البشر وأقام بينهم روابط متعددة، يتعاونون بها على شؤون الحياة، وحولها يتلاقون.
من هذه الروابط:
أولاً : رابطة الإنسانية :(1/6)
وهي التي تربط بينك وبين كل إنسان على وجه الأرض، شئت هذا أم أبيت، فأنت من ذريّة آدم وهو من ذريّة آدم، وأنت إنسان وهو إنسان كذلك. والإنسان مكلّف من عند الله بتكليف واحد، سواء امتثل لهذا التكليف أم لا. ولذلك تجد الكثير من آيات القرآن الكريم توجّه الخطاب للناس جميعاً: {.. يا أيها الناس ..}. وقد ورد لفظ (الناس) أكثر من مائتي مرة في كتاب الله، فضلاً عن غيرها من الألفاظ التي تعبّر عن وحدة الجنس البشري، وتشير بالتالي إلى وجود رابطة بين هؤلاء الناس، وهي التي نسمّيها الرابطة الإنسانية. لأنها موجودة عند أي إنسان تجاه جميع الناس. هذه الرابطة بالنسبة لنا كمسلمين ترتّب علينا واجبات وحقوقاً شرعية تجدها مفصّلة في كتب الفقه والأخلاق والدعوة، ولا حاجة إلى ذكرها في هذا المقام.
ثانياً : رابطة القوميّة :
وهي أقوى من الرابطة الأولى، فالإنسان يلتقي مع قومه - وهم مجموعة من الناس - على أمور أكثر من مجرّد الرابطة الإنسانية. إنه يعيش عادة مع قومه، ويتكلّم بلسانهم، وله معهم مصالح مشتركة، وبينه وبينهم في الغالب قواسم مشتركة كثيرة. ولا شكّ أنّ هذه الرابطة موجودة ولها تأثيرها في واقع الفرد ودنيا الناس. ولذلك فقد ورد ذكر لفظ (القوم) ومشتقّاته في القرآن الكريم أكثر من ثلاثمائة وأربعين مرة.
ثالثاً : رابطة العائلة :
وهي تمتدّ على ثلاث دوائر:
الأولى: وتشمل الوالدين والأولاد والزوجة ومن يسكن معهم من الأقارب في نفس الدار.
الثانية: تشمل سائر الأقرباء من العصَبات والنساء وذوي الأرحام.
الثالثة: تشمل سائر الأقرباء الذين ينتسبون إلى جدّ واحد مهما كان بعيداً.(1/7)
هذه الرابطة تترتّب عليها آثار أكبر في حياة الإنسان، ولذلك خصّتها الشريعة بقدر كبير من الأحكام، سواء ما يتعلّق بالأبوين والزوجة والأولاد، أو بالمحارم، أو بالمواريث، أو بالعاقلة (وهم الأقرباء الذين يلتزمون بمساعدة أحدهم في دفع الدّية إذا ارتكب جريمة قتل خطأ)، أو غير ذلك.
رابعاً : رابطة المصلحة :
وهي التي تربط مجموعة من الناس بمصالح مشتركة يريد كل واحد منهم الحفاظ عليها ودعمها، كالنقابات التي تربط بين العاملين في مجال واحد، وقد لا يكون بينهم رابط آخر.
فهذا التعايش الدائم والمصالح المتبادلة تولّد رابطة بينك وبين هؤلاء القوم.
خامساً : رابطة الإقامة :
فالذي يقيم في بلد ما يشعر تجاه هذا البلد برابطة تشدّه إلى مكان إقامته الجديدة.
فالمسلم إذا أقام ببلد غير إسلامي، والعربي حين يقيم في بلد غير عربي، والمسيحي حين يقيم في بلد إسلامي _ غير بلده _ كل هؤلاء يشعرون برابطة خاصة تجاه بلد الإقامة الجديد، قد يكون فيها شيء من الحب والاحترام، وقد تكون نوعاً من الحقد والكراهية بحسب المعاملة التي يلقاها في هذا البلد الجديد، وهذه الروابط هي مشاعر فطرية بشرية طبيعية.
سادساً : الرابطة الإسلامية :(1/8)
أما الرابطة الإسلامية فهي التي تربط المسلم بأخيه المسلم، وهي تشمل كل من يقول: لا إله إلاّ الله محمد رسول الله. إنها الرابطة العقائدية التي تهيمن على ما سواها من الروابط جميعاً وتغلبها عند التنازع، لكنها مع ذلك لا تلغي أية رابطة منها على الإطلاق. والإشكالية الحاصلة هنا هي أنّ بعض المسلمين يظنّ أنّ هذه الرابطة تلغي جميع الروابط الأخرى ولا يعترف إلاّ بها، مع أنّ هذا ليس صحيحاً على الإطلاق. فالله عزّ وجلّ يقول: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشَوْن كسادها ومساكنُ ترضَوْنها أحبَّ إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربّصوا حتى يأتيَ الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين}.
يقول القرطبي في تفسير هذه الآية: (وفي الآية دليل على وجوب حبّ الله ورسوله، ولا خلاف في ذلك بين الأمّة، وأنّ ذلك مقدّم على كلّ محبوب). ومعنى ذلك أنّ حبّ الله ورسوله لم يلغِ أنواع الحب الأخرى، ولكنّه يقدَّم عليها فقط.(1/9)
لقد أشارت الآية الكريمة إلى رابطة الأبوّة والبنوّة والأخوّة والزوجية والعشيرة (القومية) والمصالح المتمثّلة بالأموال والتجارة ورابطة المساكن أي الإقامة، واستعملت كلمة (أحبّ إليكم)، فالله تعالى لم يُنكر علينا هذه الروابط وما ينشأ عنها من حب، ولكنه أنكر علينا أن يكون هذا الحب أكبر من حبّنا لله ورسوله، فالمطلوب أن يكون الحب لله أكبر من أيّ حب آخر. وحين التعارض فإن المسلم يغلب حبّه لله والتزامه بأحكام شريعته على مقتضيات جميع الروابط الأخرى. أمّا إذا لم يقع التعارض فأنت تعيش وفي قلبك حب لهذه العناصر الدنيوية طالما أنها لا تتعارض مع حبّك لله أو حبّك لرسول الله صلى الله عليه وسلم. إذاً لا بدّ أن ينشأ عن هذه الروابط التي أشار إليها ربّ العالمين حبّ، لأنّ الإنسان يعيش مع الإنسان الآخر إمّا بحبّ أو ببغض. والحبّ درجات والبغض درجات. فالحبّ قد يكون في أدنى الدرجات أو أعلاها، والبغض كذلك، ولا يمكن أن يرتبط أي إنسان بآخر إلاّ بأحد هذين الشعورين بشكل من الأشكال.
هنا أجد من الواجب أن أنتقل إلى توضيح مسألة أخرى في غاية الأهمية، وخاصة بالنسبة لمن يعيش مع غير المسلمين فأقول:
ثالثاً: حبّ المسلم لغير المسلم:(1/10)
هل يجوز لمسلم أن يشعر بحب نحو غير المسلمين؟ اسمعوا لقول الله عزّ وجلّ: {ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبّونكم وتؤمنون بالكتاب كلّه، وإذا رأوكم عضّوا عليكم الأنامل من الغيظ، قل موتوا بغيظكم} . المقصود بهذه الآية اليهود على رأي أكثر المفسّرين، والمنافقون على رأي بعضهم. يقول الطبري في تفسير هذه الآية: (.. فأنتم إذا كنتم أيها المؤمنون تؤمنون بالكتب كلها، وتعلمون أنّ الذي نهيتكم عنه أن تتخذوهم بطانة من دونكم هم كفار بجحودهم ذلك كله، من عهود الله إليهم، وتبديلهم ما فيه من أمر الله ونهيه، أولى بعداوتكم إيّاهم وبغضائهم وغشّهم، منهم بعداوتكم وبغضائكم ..). (.. وفي هذه الآية إبانة من الله عزّ وجلّ عن حال الفريقين، أعني المؤمنين والكافرين، ورحمة أهل الإيمان ورأفتهم بأهل الخلاف لهم، وقساوة قلوب أهل الكفر وغلظتهم على أهل الإيمان، كما حدّثنا بشر عن … قتادة قوله: {ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبّونكم وتؤمنون بالكتاب كلّه}، فوالله إن المؤمن ليحبّ المنافق ويأوي له - أي يرقّ له - ويرحمه، ولو أن المنافق يقدر على ما يقدر عليه المؤمن لأباد خضراءه) .(1/11)
ويقول السيد محمد رشيد رضا في تفسير هذه الآية: (فالقرآن ينطق بأفصح عبارة وأصرحها، واصفاً المسلمين بهذا الوصف، الذي هو أثر من آثار الإسلام، وهو أنهم يحبّون أشدّ الناس عداوة لهم، الذين لا يقصّرون في إفساد أمرهم وتمنّي عنتهم، على أن بغضاءهم لهم ظاهرة، وما خفي منها أكبر مما ظهر .. أليس حبّ المؤمنين لأولئك اليهود الغادرين الكائدين، وإقرار القرآن إيّاهم على ذلك لأنه أثر من آثار الإسلام في نفوسهم، هو أقوى البراهين على أنّ هذا الدين دين حبّ ورحمة وتسامح، لا يمكن أن يصوّب العقل نظره إلى أعلى منه في ذلك). وبعد كلام طويل يقول السيد رضا: (ونتيجة هذا كله: إن الإنسان يكون في التساهل والمحبة والرحمة لإخوانه البشر على قدر تمسّكه بالإيمان الصحيح، وقربه من الحق والصواب فيه. وكيف لا يكون كذلك، والله يقول لخيار المؤمنين: {ها أنتم أولاء تحبّونهم ولا يحبّونكم}، فبهذا نحتج على من يزعم أن ديننا يغرينا ببغض المخالف لنا ..) .
وإيّاك أن تفهم من ذلك أنّ حبّك للمسلم هو كحبّك لغير المسلم، هناك فارق كبير، فالمسلم إنما تحبّه لإيمانه بالله ورسوله، ولالتزامه بالعقيدة الصافية الصحيحة، حتى وإن لم تلقه، ولم تكن بينك وبينه مصلحة، لأنك إنما تحبه لأجل الله الذي ربط الإيمان به بينكما، حتى لو وقع بينك وبينه خلاف، فليس ذلك بمزيل لمحبّته من قلبك أبداً.(1/12)
كما أنّه لا يمكن أن يكون في قلبك حبّ لغير المسلم بسبب كفره، فهذا أمر محال، لكن قد يكون في قلبك حبّ له لاعتبارات أخرى. قد يكون صادقاً فتحبّ فيه صدقه، وقد يكون وفياً فتحبّ فيه وفاء العهد، وقد يكون معك أميناً في التجارة فتحبّ فيه هذه الأمانة، وأنت تحبّ له الهداية في كلّ الأحوال. هذه المشاعر قد توجد بينك وبين غير المسلم، وهي تختلف عن الحب في الله الذي لا يمكن أن يكون إلاّ لإنسان مسلم، والذي يكون مجرّداً من كل الاعتبارات الأخرى، بينما حب الكافر حين يوجد لا بدّ أن يكون مرتبطاً بأسباب أخرى. وقد ورد في أسرى بدر من المشركين حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كان المطعم بن عديّ حياً ثمّ كلّمني في هؤلاء النتنى لأطلقتهم له" . وهو دليل على وفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم للمطعم بن عدي لدوره في حمايته عندما عاد من الطائف، ولدوره في تمزيق صحيفة المقاطعة، وكان مشركاً في الحالتين. هذا الشعور من النبي عليه الصلاة والسلام نحو المطعم يحمل في طيّاته نوعاً من الحبّ الفطري لقيم الشهامة والشجاعة، وليس أبداً من نوع الحب العقائدي.
حبّ المسلم لزوجته الكتابية:
ومما يؤيّد هذه الفكرة أنّ الله عزّ وجلّ أباح للمسلمين الزواج بالكتابيات كما هو معروف. وقد خلق الله تعالى نوعاً من الحبّ والمودة بين الزوجين تكفل استمرار الحياة الزوجية، رغم كل الإشكالات. قال تعالى: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودَّة ورحمة، إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكّرون}.
فالرجل المسلم يحبّ زوجته الكتابية، والله تعالى هو الذي خلق هذه المحبة في قلبه، فهل يجوز أن ينهاه عنها؟ أعني هل يمكن أن يباح للمسلم الزواج من كتابية ثم يطلب منه أن لا يودّها ويحبّها؟ هذا غير معقول، فلو كان لا يجوز له مودّتها، لنهاه عزّ وجلّ عن الزواج منها.(1/13)
إذاً يمكن أن تكون هناك مودّة بين المسلم وغير المسلم، ولكن ليس لكفره وضلاله _ معاذ الله _ ولكن لاعتبارات أخرى مشروعة، منها رابطة الزوجية، فإن الزوجة ولو كانت كتابية تشارك زوجها في كثير من المشاعر، ويمكن أن يتفاهما فيها معاً.
كما يمكن أن تكون هناك مشاعر فطرية وروابط اجتماعية بين المسلم وغير المسلم، إذا وجدت مثل هذه الاعتبارات المشروعة كالعهد والجوار والتعامل وغيرها. إنه إذا لم يكن هناك نوع من المحبّة أو نوع من الاحترام أو الخلق الطيّب بينك وبين غير المسلم، فلا يمكن أن تنجح في دعوتك أبداً. قال تعالى: {أُدعُ إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن..} .
هذا أساس من أسس الدعوة، وهو أن يكون هناك حوار بالتي هي أحسن، وأن تكون هناك حكمة، وموعظة حسنة. هذه كلها لا تتوفّر إلاّ بوجود مشاعر بين الداعي والمدعو، قد تسميها حباً باعتبار، وقد تسميها مودة باعتبار آخر. وليس هو بلا شكّ من الحب في الله، وليس من المودة التي نهى الله سبحانه وتعالى عنها في كتابه الكريم.
المودة المنهي عنها:
قال تعالى: {لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله، ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم}.
فالمودة التي نهى الله عنها في هذه الآية هي لمن كفر وحادّ الله ورسوله، وليس فقط لمن كفر، بل هو من زاد على كفره أنّه يحادّ الله ورسوله، ويحارب الإسلام والمسلمين، لكن لو افترضنا أنّ هناك إنساناً كافراً غير محارب لله ورسوله، ولم يحادّ الله ورسوله - وقد تتوفّر فيه بعض الصفات الطيّبة والقيم الراقية - فلا بأس أن نقدّر فيه هذه الصفات أو القيم أو الاعتبارات لأنها بقية من رصيد الفطرة عنده، وهي مقبولة من الناحية الشرعية، بل إنّ الرسول صلىّ الله عليه وسلّم يجعل هذه القيم أساس رسالته حين يقول: "بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق" .(1/14)
ذكر الشوكاني في تفسيره أنّ هذه الآية { لا تجدُ قوماً يؤمنون ..} نزلت في أبي عُبيدة بن الجرّاح عندما قتل والده في غزوة بدر، وقد أخرج ذلك ابن أبي حاتم والطبري والحاكم وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في سننه. وذكر القرطبي مثل هذا القول عن ابن مسعود. كما ذكر أنّ هذه الآية نزلت في حاطب بن أبي بلتعة لمّا كتب إلى أهل مكّة بمسير النبي صلى الله عليه وسلّم إليهم عام الفتح. وذكر من سبب نزولها أو تفسيراً لها موقف أبي بكر عندما دعا ابنه عبد الله للمبارزة، وموقف مصعب بن عمير عندما قتل أخاه عبيد بن عمير. وموقف عمر بن الخطاب عندما قتل خاله العاص بن هشام، وموقف عليّ وحمزة عندما قتلا عقبة وشيبة والوليد. وكلّ هذه المواقف تؤكّد أنّ المودّة المنهيّ عنها في هذه الآية هي لمن جمع مع الكفر المحاربة. يؤيد ذلك ما سبق أن ذكرناه من جواز مودة المسلم لزوجته الكتابية وفق نص القرآن الكريم، لأنها لا يمكن أن تكون محاربة بسبب رباط الزوجية، فإذا حصلت الحرب منها فينبغي أن تزول المودة لأنها تصبح غير مشروعة.
نستنتج من هذا أنّ العاطفة يمكن ويجب أن تكون موجودة تجاه إنسان تريد أن تدعوه إلى الله عزّ وجلّ، وهذه العاطفة هي جزء صغير من عاطفة الحب التي أرادها الله عزّ وجلّ خالصة له، وأراد أن يكون الحبّ والبغض للناس الآخرين خالصاً أيضاً له سبحانه. هذا هو الأساس الذي يعتبر أقوى من كل ما عداه، ويغلب كلّ ما عداه .. لكن يمكن أن يكون ضمن هذا الحب الكبير جزء يبذل لغير المسلمين في حدود ما يرضي الله، إمّا عاطفة وإمّا حواراً بالتي هي أحسن، أو موعظة، أو خدمة، أو تضحية، أو تعاوناً على أمر مشروع، فهذه كلها جزئيات، لكن لا بدّ أن تكون موجودة لأنها تعبّر عن حقيقة الرسالة الإسلامية التي جعلها الله {رحمة للعالمين} وتساعد على نجاح الدعوة إلى الله.
الإسلام جاء رحمة للناس جميعاً:(1/15)
إذا أعلن الكافر الحرب عليّ ، فلا يمكن أن يكون في قلبي ذرة حبّ نحوه ، لكننا نعيش - في بلاد الغرب - اليوم في وسط مسالم ولو كان مخالفاً لنا في الدين، وعندنا رفاق وجيران من غير المسلمين، وقد يكون من بين هؤلاء من هو قريب جداً منّا، وقد تشعر أيها الأخ المسلم بنوع من العلاقة بينك وبين هؤلاء، وقد تستحي أو تتحرّج أن تسمّيها حباً أو مودة، إنه لا حرج في ذلك حسب الفهم الصحيح للآيات التي مرّت بنا وفق أسباب نزولها، وكذلك أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم. فهذه عواطف لا علاقة لها بالإيمان، وإنما هي عواطف متصلة باعتبارات مشروعة بالنسبة لنا نحن المسلمين، ومثل هذه الاعتبارات المشروعة، قد تنشأ عنها عواطف فطرية، وهذه لا يمكن ولا يُتصوّر أن تتعارض مع الحبّ في الله، فضلاً عن أن تتغلّب على ذلك الحب الذي يعتبر أصلاً من أصول الإيمان. إن أوثق عرى الإيمان هو: الحب في الله والبغض في الله. ومما يؤكّد مشروعيّة هذه العواطف أنّ الله عزّ وجلّ أرسل رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لن تؤمنوا حتى تراحموا. قالوا يا رسول الله كلّنا رحيم، قال: ليس برحمة أحدكم صاحبه، ولكنها رحمة الناس، رحمة عامة" . وقال أيضاً: "إرحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" . وهل الرحمة تجاه الناس جميعاً إلاّ نوع من العاطفة؟!
الحب الفطري والحب العقائدي:
من كل ما تقدّم يتبيّن لنا أنّ هناك نوعين من الحبّ. حبّ فطري وحبّ عقائدي.
- الحبّ الفطري: وهو أثر من آثار الشهوات، قال تعالى: {زُيِّن للناس حبّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضّة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث، ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب}. ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "حُبِّب إليّ من دنياكم الطيب والنساء، وجُعِلت قُرّة عيني في الصلاة" .(1/16)
يقول الإمام الغزالي عن هذا النوع من الحب: (هو حبّ بالطبع وشهوة النفس، ويتصوّر ذلك ممّن لا يؤمن بالله. إلاّ أنه إن اتصل به غرض مذموم صار مذموماً، وإن لم يتصل به غرض مذموم فهو مباح لا يوصف بحمد ولا ذمّ). فالحب الذي نتحدّث عنه مع غير المسلمين لا يكون إلاّ من هذا النوع الفطري. فقد تحبّ امرأة غير مسلمة لجمالها أو خلقها، هذا أمر فطري. ويكون مذموماً إذا اتصل به أمر حرام كالخلوة أو الاختلاط المحرّم أو الزنى، ويكون مباحاً إذا اتصل به غرض مباح كالزواج. وقد تحبّ إنساناً غير مسلم لحسن خلقه، أو كمال عقله، أو لقرابة بينك وبينه، أو لمصلحة لك عنده، أو لألفة بينكما أو غير ذلك. فإذا لم يتصل بهذا الحب أمر مذموم فهو مباح، وعلى المسلم أن يستفيد من هذا الحب في دعوة هذا الإنسان إلى الله تعالى. كما ورد عن عبد الله بن عبد الله بن أبيّ، الصحابي الصالح الذي كان أبوه منافقاً، وكان يحبّه لأنه والده، ويحبّ له الهداية، والرسول يأمره بحسن معاملة أبيه رغم نفاقه، لكن هذا الحب الفطري لم يدفعه للانتصار لأبيه ضدّ المسلمين، ولو حصل ذلك لكان حباً مذموماً، ولكنه انتصر للإسلام ضدّ أبيه كما حدث بعد غزوة بني المصطلق.
- الحب العقائدي: وهو حب الله ورسوله، والحب في الله ولله. وهو ثمرة من ثمرات الإيمان، وجزء من عقيدة المسلم. وبه يتعلّق التكليف الشرعي، لأنّ واجب المسلم أن يحب أخاه المسلم ولو لم يكن بينهما تناسب أو انسجام أو قرابة أو مصلحة، بل يحبّه لأنّه مسلم. ولذلك اعتبر رسول الله صلى الله عليه وسلم من حلاوة الإيمان "أن يحبَّ المرء لا يحبّه إلاّ لله" . وتحدّث عن السبعة الذين يظلّهم الله في ظلّه ومنهم: "رجلان تحابّا في الله، اجتمعا عليه وتفرّقا عليه" . وقال: "لا تدخلوا الجنّة حتّى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتّى تحابّوا .." . ومثل هذه الأحاديث كثير.
هل يعتبر غير المسلمين (إخوة):(1/17)
وقد يتحرّج بعض المسلمين من اعتبار غير المسلمين إخواناً لهم، وإذا استعمل البعض كلمة (إخواننا النصارى)، ترى الكثير من الشباب المسلم يهيج ويثور قائلاً: كيف تسمّون النصارى إخواناً لنا والله عزّ وجلّ يقول: {إنّما المؤمنون إخوة}.
إنهم يفهمون من هذه الآية أنّ الأخوّة محصورة بين المؤمنين، ولا يمكن أن تشمل غيرهم، وهذا ليس صحيحاً، للأدلّة التالية:
1. لقد وصف الله عزّ وجلّ الأنبياء بأنهم إخوة لأقوامهم الكفّار. قال تعالى:
- {وإلى عادٍ أخاهم هوداً}.
- {وإلى مدين أخاهم شعيباً}.
- {وإلى ثمود أخاهم صالحاً}.
وقال تعالى:
- {إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون؟}.
- {إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتّقون؟}.
- {إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون؟}.
هؤلاء الأنبياء: نوح وهود وصالح وشعيب، اعتبرهم الله إخواناً لأقوامهم، فهذا تصريح من القرآن بوجود أخوّة قوميّة رغم اختلاف الدين.
2. وقد أبقى الله تعالى وصف الأخوّة حتّى مع الإنسان الكافر المحارب، وذلك في قوله تعالى: {لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ..}. فالأخوّة الإنسانية موجودة، والأخوّة القومية موجودة، والأخوّة النسبية موجودة، وقد يكون معها أخوّة الإسلام فتزداد قوّة ومتانة، وقد لا يكون معها أخوّة إسلامية، فتبقى كل أنواع هذه الأخوّة إلى جانب بعضها، وعند التعارض يغلّب المسلم أخوّته الإسلامية على كل ما عداها.
أمّا الآية الكريمة {إنّما المؤمنون إخوة} فمعناها أنّ العلاقة بين المؤمنين لا يمكن أن تكون إلاّ علاقة أخوّة في الله، ولكنها لا تحصر الأخوّة فقط بين المؤمنين. إذ الأخوّة قد يكون لها سبب آخر بين المؤمنين وغير المؤمنين، فقد تكون أخوّة قومية أو أخوّة بشرية أو قد تكون صداقة مبنية على المصالح المشروعة.(1/18)
ومن جهة أخرى فقد تكون العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين حرباً أو عداوة أو أحقاداً، أمّا بين المسلمين فالعلاقة ينبغي أن تكون دائماً قائمة على الأخوّة في الله.
إذا نظرنا إلى هذه الآية في ضوء الآيات الأخرى، فإننا نتوصّل إلى النتيجة التالية: أنّ كل هذه الروابط البشرية روابط فطرية، غير أنّ أقوى رابطة تربطني ببشر هي رابطة الأخوّة في الله، وهذه لا يمكن التنازل عنها أو التفريط فيها أو الاستحياء منها.
لكن هذه الرابطة القوية ليست وحيدة ولا تمنع أن يكون بيني وبين غير المسلمين أخوّة من نوع آخر، أقدّر فيها القرابة النسبية أو القومية أو الإنسانية، فهذه لها قدرها وتلك لها قدرها، والذي يغلّب واحدة على أخرى عند التعارض أمر الله تعالى وشريعته.
الفصل الثاني: الفكر
أكثر من ثلث المسلمين يعيشون اليوم في بلاد غير إسلامية، وتنتشر بينهم مجموعة من الأفكار ورثوها من تراث الإسلام الزاخر، لكن بعضها كان متأثراً بظروف الأمة التاريخية، ويحتاج اليوم إلى الكثير من النقد والتصحيح، حتى يكون منسجماً مع المبادئ الشرعية الثابتة.
من هذه المفاهيم اعتبار كل كافر حربياً، وبالتالي إباحة دمه وماله، ومعاملته بأخلاق الحرب من جواز الكذب والاحتيال فضلاً عن الحقد والكراهية. وقد سمعت مثل هذا الكلام بنفسي من أحد المشايخ الذين تقلّدهم مجموعة من الناس.(1/19)
وأسارع إلى القول بأن كثيراً من الفقهاء وإن كانوا يعتبرون الكافر حربياً من حيث المبدأ - وهذا ما سنناقشه فيما بعد - إلاّ أنهم لا يرون جواز معاملته بأخلاق الحرب إلاّ حين تقع الحرب فعلاً بيننا وبينه. وكل النصوص الواردة في إباحة الكذب والاحتيال في الحرب محصورة بقيام الحرب الفعلية، وقد ذكر النووي في شرحه لصحيح مسلم عند الكلام عن حديث "الحرب خدعة": (اتفق العلماء على جواز خداع الكفّار في الحرب كيف أمكن الخداع، إلاّ أن يكون فيه نقض عهد أو أمان فلا يحلّ) ، فضلاً عن أنّ المجاهد المسلم يظلّ متمسّكاً بأخلاق الإسلام حتّى أثناء القتال فلا يجوز له قتل الأطفال أو النساء غير المقاتلات، أو الشيوخ غير المقاتلين، أو الرهبان في الصوامع، أو العسفاء - أي الخدم الأجراء - أو التجار، وفي كل ذلك وردت نصوص صريحة، وقد قاس عليها جمهور الفقهاء كل من لا يقدر على القتال أو لم يقاتل فعلاً كالأعمى والمريض المزمن والمعتوه والفلاح. ولا يجوز للمجاهدين التمثيل بجثث الأعداء إلاّ إذا كان معاملة بالمثل، والأفضل لهم العفو وعدم التمثيل. ولا يجوز التخريب والتحريق إلاّ إذا كان من ضرورات القتال. وتلخّص وصيّة أبي بكر لأول جيش خرج من الجزيرة العربية لقتال الروم كل هذه المعاني: (لا تمثّلوا ولا تقتلوا طفلاً صغيراً ولا شيخاً كبيراً، ولا امرأة ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلاّ لمأكلة. وسوف تمرّون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له) . وبما أن حالة الحرب الفعلية ليست قائمة بالنسبة للمسلمين الذين يعيشون في بلاد غير إسلامية، سواء كانوا مواطنين أو مقيمين، فإن كل حديث عن استباحة الدماء والأموال - للأفراد أو الدولة - مناقض لمبادئ الإسلام وأخلاقه ولا يبيحه أحد من العلماء على الإطلاق.
هل كل كافر حربي؟(1/20)
1. لا يكون الكافر حربياً إلاّ إذا أعلن هو- أو دولته - الحرب على المسلمين أو إذا أعلن المسلمون الحرب عليه أو على دولته، لأسباب مشروعة. وعند ذلك فقط يمكن أن نطبّق في معاملته أحكام الحرب.
2. إذا لم يقع إعلان الحرب كما ذكرنا في البند السابق، فإن كل كافر يمكن أن يكون حربياً، وهذا ما يعنيه الفقهاء عندما يتحدّثون عن الكافر بأنه حربي، وبالتالي فيجب على المسلمين أن يكونوا حذرين منه حتى تنقطع حربيّته بعهد، فيلتزم المسلمون معه بأحكام العهد.
3. يمكن أن يقع بين الكافر والمسلم عهد فردي فيجب الالتزام به بينهما.
وقد يقع العهد بين الكافر ودولة مسلمة، فيجب الوفاء به أيضاً من قبل جميع المسلمين رعايا هذه الدولة. ومنه عقد الذمة وهو عهد مؤبّد وعقد الأمان الذي يدخل بموجبه الكافر دار الإسلام وهو عهد مؤقّت.
وقد يقع بين المسلم ودولة كافرة، فيجب على المسلم الوفاء به كذلك، كما لو دخل المسلم دار الكفر للتجارة قديماً، وكما يدخل اليوم بالتأشيرة.
وقد يقع بين دولة مسلمة ودولة كافرة، فيجب الالتزام به كصلح الحديبية قديماً، وميثاق الأمم المتحدة اليوم.
وكتب الفقهاء غنيّة بذكر تفاصيل هذه الحالات الثلاث، التي يحكمها جميعاً قوله تعالى: {.. وأوفوا بالعهد إنّ العهد كان مسؤولاً ..}. وقد اعتبر الله تعالى نقض العهود من أخلاق اليهود {.. أوَ كلّما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم ..؟} ومن أخلاق المشركين {.. الذين عاهدتَ منهم ثمّ ينقضون عهدهم في كلّ مرّة وهم لا يتّقون}. أمّا المسلمون فمن أخلاقهم الوفاء بالعهود {.. والموفون بعهدهم إذا عاهدوا ..} {والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون}.
ليسوا سواء ..
إذاً، فإن غير المسلمين من الناحية القانونية، يكونون تجاه المسلمين في إحدى الحالات: الحرب الفعلية، احتمال الحرب، العهد. ولا يصح أن نعتبرهم دائماً محاربين فعلاً حتى نبرّر معاملتنا إياهم بأحكام الحرب.(1/21)
بل إن القرآن الكريم ميّز غير المسلمين، حتى من جهة قربهم أو بعدهم عن الإسلام كدين، وعن المسلمين كأمّة. قال تعالى: {لتجدنّ أشدّ الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا. ولتجدنّ أقربهم مودّة للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى، ذلك بأنّ منهم قسيسين ورهباناً، وأنهم لا يستكبرون} وقال تعالى: {ليسوا سواءً. من أهل الكتاب أمّة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ..}.
ذكر الشيخ محمد رشيد رضا في تفسير هذه الآية قول الإمام محمد عبده أنّ هذه الآية (دليل على أنّ دين الله واحد على ألسنة جميع الأنبياء، وأنّ كلّ من أخذه بإذعان، وعمل فيه بإخلاص، فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، فهو من الصالحين ..). وعقّب على ذلك بقوله: (وظاهر أنّ هذا كالذي قبله، في أهل الكتاب حال كونهم على دينهم، خلافاً لمفسّرنا "الجلال" وغيره، الذين حملوا المدح على من أسلم منهم، فإن المسلمين لا يُمدحون بوصف أنّهم من أهل الكتاب، وإنّما يُمدحون بعنوان المؤمنين). وختم الشيخ رضا بقوله: (إنّ استقامة بعض أهل الكتاب على الحقّ من دينهم لا ينافي ما حقّقناه في تفسير التوراة والإنجيل في أوّل السورة من ضياع كتبهم وتحريف بعضهم لما في أيديهم منها).
وهذا يعني أنّه حتى من الناحية العاطفية، فإن المسلم يشعر أن النصراني أقرب إليه من اليهودي. ويشعر أن الكتابي إجمالاً أقرب إليه من المجوسي أو الوثني. وقد عبّر القرآن عن ذلك بالإشارة إلى فرح المسلمين يوم ينتصر الروم وهم أهل كتاب على الفرس المجوس. قال تعالى: {الم. غُلبت الرومُ في أدنى الأرض، وهم من بعد غَلَبِهم سيُغلبون. في بضع سنين. لله الأمر من قبل ومن بعد. ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، ينصر من يشاء وهو القوي العزيز}
علَة القتال: الحرابة وليس الكفر(1/22)
بحث الفقهاء في مباحث الجهاد عن العلة التي تبيح للمسلمين قتل الأعداء، فقال جمهورهم من المالكية والحنفية والحنابلة أن علة القتال هي الحرابة - أي المحاربة - والمقاتلة والاعتداء، وليس مجرد الكفر ، بينما يرى الشافعي في أحد قوليه أن علة القتال هي الكفر. ورأي الجمهور في هذه المسألة هو الراجح، وقد بنوه على الأدلة التالية:
1. آيات كثيرة صريحة تؤكّد أن سبب قتال المسلمين لغيرهم هو العدوان الصادر منهم. {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحبّ المعتدين} {ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم وهمّوا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة} {وقاتلوا المشركين كافّة كما يقاتلونكم كافّة ..} {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحبّ المقسطين} . وقد اتفق أكثر المحققين أن هذه الآيات محكمة وليست من المنسوخ.
2. الأحاديث الصحيحة الكثيرة التي تمنع قتل كثير من الكفّار لأنّهم لم يحاربوا أو لعدم قدرتهم على القتال، منها الأحاديث التي تمنع قتل المرأة لأنها لا تقاتل والصبيان لأنهم لا يقاتلون، وقد ورد هذا المعنى عند البخاري ومسلم وأبي داود وابن ماجه وغيرهم. وقد ذكر أبو داود وابن ماجه منع قتل العسيف وصحح الألباني الروايتين (صحيح سنن أبي داود رقم 2324 وصحيح سنن ابن ماجه2294) والعسيف هو الأجير المستخدم في أمور لا تتصل بالقتال كالفلاحين والعمال في المصانع، وعمال النظافة في الطرقات والأطباء والممرضين وموظفي المستشفيات. وورد في سنن أبي داود منع قتل الشيخ الفاني، كما ورد فيها الأمر بقتل شيوخ المشركين، وجمع الشوكاني بين الروايتين بأن الشيخ المنهي عن قتله هو الفاني الذي لم يبق فيه نفع للكفار، والشيخ المأمور بقتله هو من بقي فيه نفع للكفار ولو بالرأي كدريد بن الصمة الذي كان صاحب رأي في الحرب فقتل وقد نيّف عن المائة .(1/23)
ولأن علة القتل هي المحاربة وليست الكفر فقد أوصى أبو بكر جيشه أن لا يتعرّضوا لمن حبسوا أنفسهم في الصوامع وأن لا يقتلوا امرأة ولا صبياً ولا كبيراً هرماً . ومع أن الإمام الشافعي يجيز قتل غير النساء والأطفال ولو لم يشتركوا في القتال، إلاّ أنه لا يرى قتل الرهبان اتباعاً لأبي بكر.
وقد ورد في مصنّف أبن أبي شيبة (أنهم كانوا لا يقتلون تجار المشركين) .
وقد قاس الفقهاء - الذين يرون أن علة القتال هي الحرابة وليس الكفر - على هذه النصوص كل من كان غير قادر على القتال كالمقعد والأعمى ويابس الشق - أي المشلول - والأعمى ومقطوع الرجل واليد من خلاف ومقطوع اليمنى والمعتوه والراهب في صومعته والسائح الذي لا يخالط الناس والرهبان في الكنائس والأديرة . ويرى المالكية منع قتل سبعة هم: المرأة والصبي والمعتوه والشيخ الفاني والزمن - أي المصاب بمرض مزمن - والأعمى والراهب المنعزل بالدير أو الصومعة وعند الحنابلة لا يجوز قتل الصبي ولا المرأة ولا الشيخ الفاني ولا زمِن ولا أعمى ولا راهب .
3. أنه لو كان القتل لمجرّد الكفر جائزاً، لكان هذا مناقضاً لعدم الإكراه على الدين. وهذه مسألة لا خلاف عليها بين جميع العلماء، والنصوص القاطعة الصريحة في القرآن الكريم تؤكّدها. قال تعالى: {لا إكراه في الدين ..} وقال لنبيّه {أفأنت تُكره الناس حتّى يكونوا مؤمنين؟} {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ..} {لكم دينكم ولي دين}.(1/24)
كما أن الثابت في سنّة النبي صلى الله عليه وسلّم أنه أسر الكثير من المشركين ولكنه لم يكره أحداً على الإسلام. وقد قتل بعضهم لأسباب أخرى غير الكفر، وفدى بعضهم، وأطلق سراح البعض. ولو كان القتل واجباً لمجرّد الكفر لم يكن يجوز تركهم. والله تعالى عندما ذكر حكم الأسرى قال: {فإمّا منّاً بعدُ وإمّا فداءً ..} وهذه من أواخر ما نزل من القرآن، ولم يأمر فيها بقتل الأسرى، بل لم يجعل هذا الأمر أحد الاحتمالات الأساسية، مما يعني استبعاده إلاّ إذا وجد ظرف خاص يبرره، ولذلك اتفق جمهور الفقهاء على تخيير الإمام عند تحديد مصير الأسرى بين المنّ أو الفداء أو القتل حسب مصلحة المسلمين، مستندين في ذلك إلى أنّ الرسول (ص) أمر بقتل بعض الأسرى لأسباب خاصّة تتعلّق بجرائم وممارسات ارتكبوها وليس لمجرّد الكفر، وإلاّ لأمر بقتل الجميع ولم يكن للتخيير معنى.
السلم هو الأصل:
ولقد كثرت مباحث الفقهاء حول أحكام الحرب، فلا تكاد تجد كتاباً فقهياً إلاً ويتناولها بشيء من التفصيل. ونحن نلاحظ أن جميع آراء الفقهاء تنطلق من نصوص ثابتة في القرآن الكريم أو السنّة المطهرة، ولكنها تعالج واقعاً تاريخياً معيناً. بل إن النصوص نفسها قسمان:
- منها ما يرتبط بالواقع الذي وردت فيه هذه النصوص فهو علاج لها، ولا تعبّر بالضرورة عن أحكام مطلقة.
- ومنها ما يتعلّق بالمبادئ والقيم الإسلامية التي نزل القرآن لنشرها بين الناس، وإقامة الحياة الإنسانية وفقها، فهي تعتبر أحكاماً مطلقة.
إن الواقع البشري الذي وردت فيه نصوص القرآن الكريم والسنّة المطهرة المتعلّقة بالقتال، ثم جاءت آراء الفقهاء تعالجه منذ العصر الأول حتى انهيار الخلافة العثمانية في أوائل هذا القرن يتميّز بما يلي:(1/25)
1. سيطرة الأنظمة الاستبدادية على جميع الشعوب المحيطة. هذه الأنظمة كانت تمنع على الناس حرية اختيار الدين الذي يشاؤون، بل وتلزمهم بمذهب الدولة الرسمي، وتبيح قتل المخالف حتى ولو كان مواطناً. ولم يكن هذا الأمر مقتصراً على بلاد الروم وفارس في العصور الإسلامية الأولى، بل امتدّ ليشمل الدول الأوروبية حتى هذا القرن. وإذا كان الإكراه الديني لم يعد موجوداً تجاه المواطنين في نفس الدولة بسبب انتشار الفكر العلماني، إلاّ أن الحقد الديني لا يزال يشكّل خلفيّة أساسية في التفكير الأوروبي والغربي - عند الشعوب أو عند الحكّام - ضد الإسلام والمسلمين بشكل خاص. ويظهر بين الحين والآخر في ممارسات ضد الإسلام والمسلمين تتجاوز حتى مسائل الحريات الشخصية وحقوق الإنسان كمسألة الحجاب.
2. سيطرة فكرة الحرب والقتل والعنف بشكل عام، وضدّ الإسلام والمسلمين بشكل خاص. نلاحظ ذلك عند بداية البعثة النبوية في المرحلة المكّية، واستمر الأمر على هذا المنوال في المرحلة المدنية، ثم بدأ العدوان على الجزيرة العربية من قبل الروم والفرس، وظهر إصرار الحكّام على منع شعوبهم من الدخول في الإسلام، فكانت الحروب الإسلامية كلها إمّا رداً لعدوان واقع، أو منعاً لعدوان متوقّع، أو رغبة في تخليص الشعوب من الأنظمة المستبدة لتختار ما تريد بحرية كاملة. إن هذا الجو المسيطر على العالم كله، جو الحرب والتآمر والكيد ومنع الحريات كان له أثره الكبير على كثير من الأحكام الفقهية التفصيلية المتعلّقة بالجهاد.
ورغم الضغوط الهائلة لهذه الظروف التاريخية على التفكير الإسلامي الفقهي، إلاّ أننا نجد عند فقهائنا دائماً التزاماً بالقيم الإسلامية المطلقة وحرصاً عليها وتغليباً لها في كل الظروف. من ذلك:
عض الأحكام الفقهية المتعلّقة بالقتال:
1. اعتبار المحاربة هي علة القتل والقتال، وليس مجرّد الكفر كما مرّ بنا آنفاً.(1/26)
2. تأكيد الحرية الدينية لجميع الناس، انطلاقاً من الآية الكريمة {لا إكراه في الدين ..}. وجمهور المحقّقين من الفقهاء والمفسّرين على أن هذه الآية محكمة وليست منسوخة ولا مخصوصة، وهذا ما ذكره ابن تيمية في رسالة القتال. وهذا ما اختاره ابن كثير والطبري والألوسي والجصاص والقرطبي وأبو حيان وغيرهم. بالإضافة إلى أن معنى عدم الإكراه مؤيد بعشرات من الآيات والأحاديث الصحيحة، وبفعل النبي الكريم صلى الله عليه وسلم والصحابة من بعده، وبممارسة حكّام المسلمين منذ الخلافة الراشدة حتى انهيار الدولة العثمانية، حيث لم يذكر التاريخ عملية إكراه واحدة في أي عصر من هذه العصور.
3. يذكر كثير من الفقهاء أن (الأصل في العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين الحرب) ولكنهم لم يريدوا بذلك ما يتوهّمه كثير من الناس اليوم. ولو أردنا أن نمحّص مقصود الفقهاء في عصرهم حسب لغة عصرنا لقلنا أنهم يقصدون بتلك العبارة (أن الأصل في العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين احتمال الحرب) وليس حتمية الحرب. وذلك واضح مما يذكرونه من أحكام تتعلّق بنزع صفة الحربي لأقل سبب.
- فالحربي يحصل على الأمان من أي مسلم بالغ عاقل، بل حتى من الصبي المميّز وهو الذي جاوز السبع سنوات عند مالك وأحمد ومحمد بن الحسن .(1/27)
- وإذا دخل الحربي دار الإسلام بغير أمان، ماذا يحصل له؟ الفهم المتبادر عندنا أن يقتل لأنه حربي وليس عنده أمان. لكن الفقهاء يقولون: لو قال - أي الحربي - دخلت لسماع كلام الله تعالى، أو دخلت رسولاً - سواء كان معه كتاب أو لم يكن - أو دخلت بأمان مسلم دون أن يأتي ببيّنة على ذلك صُدِّق ولم يتعرّض له لاحتمال ما يدّعيه، ولأن قصده ذلك يؤمنه من غير احتياج إلى تأمين. هذا قول الشافعية والحنابلة. وعند المالكية يُردّ إلى مأمنه إلاّ أن توجد قرينة كذب. وعند الأحناف يطالب بالبيّنة لإمكانها غالباً . ولم يقل أحد من الفقهاء إنّه يُقتل لمجرّد أنّه كافر حربي، مع أنّه يُعتبر حربياً في نظر الجميع.
- والحربي يمكن أن يصير ذمياً بالتراضي، أو بالإقامة مدة سنة في دار الإسلام .
إذاً فالحربي في مثل هذه الحالات لا يعامل بأخلاق الحرب ولا تطبّق عليه أحكامها.
إنه لا يعتبر حربياً بالفعل وتطبّق عليه أحكام الحرب، إلاّ عند قيام الحرب الفعلية بينه وبين المسلمين. لكن بما أن الراجح في التاريخ الماضي أن الكفار الحربيين كانوا دائماً يستعدون لحرب المسلمين ويخوضون هذه الحرب كلّما أمكنهم ذلك، وحتى لا يقصّر المسلمون في الاستعداد المقابل، اعتبر الفقهاء أن (أحكام الحرب) واقعياً ترجّح قيام حالة الحرب من جانبهم، مهما كنّا نفضّل السلام. ولذلك قالوا باعتبار الحرب هي الأصل في العلاقات مع الكفّار، بناءً على هذا الواقع.
4. وانطلاقاً من ذلك فإننا نرى أن ما ينسب إلى جمهور الفقهاء من (أن الأصل في العلاقات الحرب) يفهم في هذا العصر على غير ما قصده الفقهاء في عصورهم. بل إننا نقول إن عبارة (الأصل في العلاقات السلم) هي التي تعبّر عن نظرة الإسلام الأساسية للعلاقات الإنسانية، وهي تنسجم مع ما قصده فقهاؤنا في عصورهم ولنا على ذلك الأدلة التالية:(1/28)
أ. إنّ الله تعالى خلق الإنسان، وكلّفه بالإيمان به وبعبادته، وسمح له إن شاء أن يكفر، وجعل عاقبة كفره شقاء في الدنيا وعذاباً في الآخرة، ولم يعاقبه على كفره بالقتل، قال تعالى:
{يا أيّها الناس اعبدوا ربّكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلّكم تتقون ..}
{والذين كفروا وكذّبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}
{ومن أعرض عن ذكري فإنّ له معيشة ضنكاً، ونحشره يوم القيامة أعمى ..}
{وقل الحقّ من ربّكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، إنّا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سُرادقها، وإن يستغيثوا يُغاثوا بماء كالمُهل يشوي الوجوه، بئس الشراب وساءت مرتفقاً}
ب. إنّ الله تعالى أرسل الرسل لجميع الناس { وإن من أمّة إلاّ خلا فيها نذير } ، وحصر مهمّة الرسل بالبلاغ فقط { فهل على الرسل إلاّ البلاغ المبين؟}. وأضاف لسيدنا محمد خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم مهمّة التعليم والتزكية، قال تعالى: {هو الذي بعث في الأمّيين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبلُ لفي ضلال مبين}.
وممّا لا يشكّ فيه عاقل أنّ السلم هو الوضع الأمثل مع الكافرين لقيام الرسل بواجب التبليغ والتعليم والتزكية.
ت. عندما شرع الله تعالى الجهاد للمسلمين، وأمر به نبيّه صلى الله عليه وسلم، وذلك من أجل حماية المسلمين وحماية الدعوة الإسلامية، أمر المسلمين قبل الحرب وبعدها بالدعوة لأنّها الأصل، وهي المهمّة الأولى لهم.
وفي الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وغيره أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أمّر أميراً على جيش أوصاه إذا لقي عدوّه من المشركين: "أُدعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكُفّ عنهم .." وعندما أرسل علي بن أبي طالب لقتال اليهود يوم خيبر قال له: "أُدعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم، فوالله لأنْ يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حُمُر النِّعَم" .(1/29)
والإيمان بالله وعبادته لا تكون بالإكراه، بل بالدعوة والإقناع، وهذه تكون في جوّ السلم أفضل بكثير من جوّ الحرب، الذي يستثير الغرائز تحت ستار الدفاع عن النفس. ولمّا كان السلم هو أفضل الظروف لانتشار الدعوة، كان هو الأصل في العلاقات الإنسانية.
ث. كلمة (الأصل) في عبارة (الأصل في العلاقات الإنسانية السلم أو الحرب)، إمّا أن تعني الأقدم زماناً، أو الأهمّ، أو الأساس.
- فإن كانت تعني (الأقدم زماناً) فالأصل هو السلم بإجماع الفقهاء الذين يوجبون البدء بالدعوة قبل القتال. وإذا كان القليل من الفقهاء قد أجازوا قتال الكفّار ولو لم تبلغهم الدعوة فقد خالفوا في ذلك أحكاماً شرعية بدهيّة، حتّى قال الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم تحت هذا الرأي: إنه باطل.
- وإن كانت تعني (الأهمّ)، فإنّ السلم يكون تارة هو الأهمّ بل هو الأوجب أحياناً، كما أنّ الحرب في بعض الظروف تكون هي الأهمّ. وليس هناك خلاف على ذلك بين العقلاء، فكيف يكون هناك خلاف بين الفقهاء؟.
- وإن كان المعنى هو (الأساس) الذي تُبنى عليه العلاقات بين الناس فهو السلم أيضاً، لأنّه أفضل ظرف لتبليغ الدعوة، ولأنّه أساس التعارف الذي أمر به ربّ العالمين {وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا}، ولأنّه مناط التجارة التي أجمع الفقهاء على إباحتها مع دار الحرب.
ج. إنّ القتال شُرع في الإسلام لسببين، وعلى ذلك أجمع الفقهاء قديماً وحديثاً:
- الدفاع عن المسلمين: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا، إنّ الله لا يحبّ المعتدين}.
- منع الفتنة، أي الدفاع عن حرية الإنسان في اختيار الدين الذي يشاء {وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنة ..}.
ومعنى ذلك أنّه إذا لم يقع أحد هذين السببين فلا يجوز للمسلمين أن يلجأوا إلى القتال، ممّا يؤكّد أنّ الأصل في العلاقات السلم وليس الحرب.(1/30)
ح. أمّا جواز قتال غير المسلمين من أجل إجبارهم على الخضوع للنظام الإسلامي، مع المحافظة على حرّيتهم في عدم اعتناق الإسلام فهو رأي قال به بعض الفقهاء قديماً وحديثاً، لكنّنا نعتقد خطأ هذا الرأي لمصادمته لمبدأ {لا إكراه في الدين}.
والدين يشمل العقيدة والنظام، والإكراه على الخضوع للنظام الإسلامي لا يجوز في رأينا إلاّ إذا كان نتيجة حرب تسبّب بها غير المسلمين، وبهدف منع تجدّد أسباب الحرب في المستقبل، حرصاً على العلاقات السلمية بين الناس.
فضلاً عن أنّ مثل هذا الرأي - حتّى ولو كان صحيحاً من الناحية النظرية - لا يمكن قبوله شرعاً في العصر الحاضر، حيث يملك غير المسلمين القنابل الذرّية والهيدروجينية وأسلحة الدمار الشامل.
فلو افترضنا أنّنا أقمنا دولة إسلامية من أقوى دول الأرض، وأنّ هذه الدولة استطاعت أن تجمع الشعوب الإسلامية بكلّ إمكانيّاتها البشرية والاقتصادية والعسكرية.
ثمّ أرادت هذه الدولة أن تقوم بواجبها في الدعوة إلى دين الله فما الذي يحصل؟
إنّ الأنظمة الحاكمة اليوم في البلاد الغربية غير المسلمة تعتبر حرّية التفكير والتعبير واعتناق العقيدة من حقوق الإنسان الأساسية، فلو أنّ هذه الدول لم تمنع الدعاة إلى الله، ولم تسجن أو تقتل من دخل في الإسلام من أبنائها كما يحدث حتى الآن، واستطاع المسلمون أن يستعملوا كلّ الوسائل العصرية المتاحة للدعوة، من قنوات فضائية وإنترنت وكتب وأشرطة ومجلاّت.
ماذا يمكن أن يكون موقف الدولة الإسلامية؟
لإسلام أو الجزية أو القتال:
يظنّ البعض أنّ الموقف الشرعي الواجب على هذه الدولة المسلمة أن تخيّر الدول الأخرى بين الإسلام أو الجزية أو القتال التزاماً بظاهر بعض الأحاديث الصحيحة عندما تفهم مقطوعة عن ظروفها التاريخية.(1/31)
وهذا في رأينا غير صحيح، وتسلسل النصوص الشرعية والأحداث التاريخية يؤيّد ذلك. فالرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن استقرّ له الأمر في المدينة المنوّرة، كتب رسائل إلى الملوك من حوله يدعوهم إلى الإسلام وإلى الإيمان بالله وحده لا شريك له. فكتب إلى قيصر ملك الروم، وإلى كسرى ملك الفرس، وإلى النجاشي ملك الحبشة، وإلى المقوقس عظيم القبط، وإلى الحارث ملك تخوم الشام. وطلب من هؤلاء الملوك أن يبلّغوا دعوته إلى شعوبهم، وإلاّ فإنّهم يتحمّلون إثم هؤلاء الناس. وذلك بسبب ما كان معروفاً أنّ الملوك يمنعون شعوبهم أن يدينوا بغير دينهم.
ثمّ كانت الفتوحات الإسلامية، وكان تخيير هؤلاء بين الإسلام أو الجزية أو القتال مبنياً على سببين:
الأول: هو مبادرة بعضهم إلى قتال المسلمين كما حدث مع كسرى الذي مزّق كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم وكتب إلى نائبه في اليمن (باذان) أن يبعث له هذا الذي يدّعي أنّه نبي. وكما حدث مع الحارث الغسّاني الذي رمى كتاب النبي وعزم أن يسير إليه ليقاتله، وكما حدث في غزوة تبوك عندما تجمّع الروم لغزو المدينة، وقتلوا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم حسبما ورد في كتب السيرة.
الثاني: هو منع هؤلاء الملوك لشعوبهم من حرّية قبول الإسلام أو رفضه بناء على العرف العام - في تلك العصور - الذي يمنع الشعوب أن تعتقد ديناً يخالف دين ملوكها. وهذا ما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما حمّل الملوك مسؤولية رعاياهم، وهذه هي الفتنة التي أمر المسلمون بالقتال لرفعها عن جميع الناس.
إذاً فتخيير الشعوب غير المسلمة بين الإسلام أو الجزية أو القتال ليس حكماً إلزامياً مطلقاً في جميع الظروف، إنّما هو حكم شرعي يترتّب على:
- البدء بالقتال ضد المسلمين
- وعلى فتنة الناس ومنعهم من الدخول في الإسلام.(1/32)
وحين لا يحصل أيّ من هذين السببين يكون الواجب الدعوة فقط. وهذا ما يؤيّده الحديث المشهور الذي رواه الإمام مالك: "دعوا الحبشة ما ودعوكم، واتركوا الترك ما تركوكم" وعندما سُئل عن صحّة هذا الحديث قال: (ما زال الناس يتحامون غزوهم).
لاكتفاء بالدعوة:
ولو أنّ الدولة المسلمة في هذا العصر رأت أن تخيّر الدول الأخرى بين الإسلام أو الجزية أو القتال فماذا يحدث؟
من الطبيعي أن ترفض هذه الدول الدخول في الإسلام طالما أنّ هذه الدعوة تأتيها ضمن تهديد، وليس بالحكمة والموعظة الحسنة، ولما عندها من شبهات وأحقاد ضدّ الإسلام.
ليس هناك إذاً إلاّ القتال.
إنّ حرباً كهذه لو اندلعت في وجود التقنية الحديثة والرؤوس النووية والأسلحة البيولوجية والكيماوية الفتّاكة، فإنّها ستؤدّي حتماً إلى دمار شامل للبشرية كلّها ومنها المسلمون. فهل هذا هو المقصود؟ وهل من المعقول أن يسعى الإسلام لقتل المسلمين وإنهاء الدعوة إلى الله كلّياً بسبب هذا التصرّف؟
رحم الله فقهاءنا الأقدمين الذين لفتوا النظر إلى العمل بالمآلات ، ومعناه أنّ العمل المباح أصلاً يمكن أن يكون حراماً إذا أدّى في ظرف معيّن إلى الحرام.
ومن أجل ذلك فإنّنا نقول في هذا العصر: طالما أنّ باب الدعوة مفتوح، وطالما أنّ بإمكان غير المسلم أن يدخل في الإسلام دون أن يتعرّض إلى إيذاء أو قتل، فإنّ السبب الشرعي للقتال غير موجود. وأنّ الاكتفاء بالدعوة إلى الله عزّ وجلّ وإلى دينه بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن هو الواجب الأول والأخير. فالله تعالى استخلف الإنسان في الأرض لعمارتها لا لتخريبها، والإسلام دين الله ينظّم كيفية عمارة الأرض على الوجه المراد.(1/33)
والدعوة إلى الله تعالى هي أحسن كلمة وأحسن عمل يقوم به المسلم {ومن أحسنُ قولاً ممّن دعا إلى الله وعمِلَ صالحاً وقال: إنّني من المسلمين؟}. ومن الطبيعي أن تواجَه الدعوة بكلّ أنواع التآمر والكيد من أتباع الشيطان، ولكنّ الله تعالى علّمنا كيف نواجه كلّ هذه الحملات المضادة مهما بلغ سوءها فقال: {إدفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنّه وليّ حميم}. فالكلمة الطيّبة وردّ السيّئة بالحسنة هو الذي ينتزع من الصدور كلّ أنواع الغلّ والحقد، ويجعلها مستعدّة لقبول هذه الدعوة المباركة. ومثل هذه الدرجة - أي ردّ السيّئة بالحسنة - والتسامح مع الآخرين حتّى عند إساءتهم، هي درجة عالية جداً {وما يلقّاها إلاّ الذين صبروا، وما يلقّاها إلاّ ذو حظٍ عظيم}.
حشرنا الله تعالى في زمرة هؤلاء الدعاة الصابرين. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.(1/34)
الوجود الإسلامى فى الغرب
الدكتور / الهوارى
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة :
... إن حالة المسلمين في بلاد كأوروبا حالة متشابكة العناصر، لم تكن موضع الاهتمام منذ مدة طويلة، لأن الجالية الإسلامية كانت في أول الأمر قليلة العدد بالنسبة إلى مجموع السكان، ولم يحدث في معيشتها اليومية ما يلفت إليها أنظار الناس.
...
... غير أن هجرة المسلمين من الشمال الإفريقي وتركيا على الخصوص، إلى جانب أعداد وفيرة من الدول الأسيوية، هذه الهجرة ازدادت في العقود الأخيرة من القرن الماضي، وزاد في ظهورها تكاثر أولاد المهاجرين الذين غلب عليهم اسم " الجيل الثاني " إن لم نقل بأننا في واقعنا اليوم نعيش مع الجيل الثالث أو الرابع، وبذلك أصبحت الجالية الإسلامية في المهجر أقلية كبيرة العدد تتميّز بدينها وثقافتها وعروقها.
... واستلفت بعض أفراد الجيل الثاني الأنظارَ إليه لوجوده في كل مكان، وكثرت البطالة بين أفراده، وظهر من بعضهم تصرفاتٌ أقل ما توصف بأنها غير لائقة ومشوّهة لوجه الإسلام الناصع، وتحدثت عنهم أجهزة الإعلام حديثاً أقلق الأوساط الاجتماعية والسياسية والدينية في المجتمع الغربي.
... ومما لا شكّ فيه أن هجرة الآلاف من العمال، وخاصة منهم العمال المسلمين يُعتبَر في أوروبا الغربية الشمالية حدثاً مهماً على مستوى تاريخ الأديان والأفكاروالثقافة والأحوال الاجتماعية. ومن بين البلاد التي تركزت فيها الهجرة تتميز كل من فرانسا وألمانيا الاتحادية وإنكلترة وبلجيكا وهولندة والبلاد الأسكندنافية من بين بقية الدول الأوروبية بأن نسبة الهجرة فيها نسبة عالية إذا ما قيست إلى مجموع السكان.
... ونحن في دراستنا للوجود الإسلامي في الغرب يحسن بنا أن نلقي نظرة سريعة على القارة الأوروبية وموضعها في التاريخ والمكان والسكان والبنية الاجتماعية والعرقية لهذه القارة العريقة.(1/1)
أوروبا EUROPA
أوروبا هي إحدى قارات العالم السبع، وتُعدّ جغرافياً شبهَ قارة أو شبه جزيرة كبيرة تُكوّن الجزءَ الغربي الممتد من أوراسياEurasie بين جبال الأورال والقوقاز وبحر قزوين من الشرق والمحيط الأطلسي من الغرب والبحر الأبيض المتوسط والبحرالأسود ومنطقة القوقاز من الجنوب، والمحيط القطبي الشمالي من شمال القارة. ويفصل مضيق البوسفور وجبل طارق القارة الأوروبية عن كل من آسيا وأفريقيا، وتعتبر هذه القارة صغيرة نسبيا مقارنة ببقية القارات، لكن قارة أستراليا أصغر منها.
تبلغ مساحة القارة الأوروبية حوالي 10.379 مليون كم2 (7.1 % من مساحة الأرض). وهي تعادل ثلث مساحة القارة الأفريقية أو ربع مساحة قارة آسيا أو أمريكا، وهي ثالث قارة من حيث عدد السكان في العالم إذ يزيد عدد سكانها عن 700 مليون نسمة (11 % من سكان الأرض). وتأتي في مرتبة تالية لكل من الصين والهند من حيث عدد السكان.
التسمية والتاريخ
تاريخ أوروبا
يعتقد البعض استنادا إلى أدبيات الميثولوجيا اليونانية لهوميروس، أن اسم القارة مشتق من اسم الأميرة الفينيقية يوروبا Europe ابنة آجينور Agénor التي كانت قد خُطفت من قبل زيوس Zeus- إله السماء عند اليونان – الذي استحال إلى ثور أبيض وأخذها إلى جزيرة كريت Crète. وبعد حادثة الخطف هذه سميت اليونان باسم يوروبا، ثم بحلول العام 500 ق.م امتد المقصود من الكلمة ليشمل الأراضي الواقعة شمال وغرب اليونان.
إلا أن بعض اللغويين يعتبر أن الإسم مشتق من الكلمة السامِيّة إرِب Ereb التي تعني مغرب الشمس أو الغرب Occident، والبعض الآخر يعتقد أنه اسم مركب من جذرين، أولهما هو أوريس eur?s) )????? ومعناه الواسع أو العريض، والثاني أوبس) ?ps (??ومعناه الوجه، أي أن كلمة أوروبا تعني الوجه الواسع أو العريض، وعلى كل فإن كل هذا من الأساطير اليونانية غير المؤكدة.(1/2)
ومن الجدير بالذكر أن كلمة أوروبا كانت مستعملة قبل القرن السادس عشر الميلادي للدلالة على قارة متميزة عن آسيا وأفريقيا، ولكنها لم تكن معروفة من غير المثقفين، ولم يبدأ استعمال هذا التعبير من مواطني هذه القارة إلا بعد عصر النهضة في بداية القرن السابع عشر أو قبل ذلك بقليل.
لأوروبا تاريخٌ طويلٌ حافلٌ بالأحداث والتغيّرات الاجتماعية والثقافية والصراعات طويلة الأمد. ويُقدرالعصر الباليوليثي الذي اكتشفت بعض آثاره في مناطق في شبه الجزيرة الإيطالية، بأن تاريخ هذه القارة يعود لحوالي 800 ألف سنة خلت والتي تعتبر أول فترة في تاريخ تلك القارة العريقة.
تُنسب الحضارةُ الأوروبية الحديثة والتقدمُ الثقافي لبعض أجزاء تلك القارة، لقدامى اليونان بشكل رئيسي، كما أن للمسيحية تأثيراً كبيراً أيضا. ومن المعلوم أن الإمبراطورية الرومانية قامت على أجزاء واسعة من القارة الأوروبية، وكان سقوطها في القرن الخامس الميلادي فاتحةَ لكثير من التغيرات في القارة، وكان من أبرزها ما حدث إبّان عصر الهجرات حيث عانت أوروبا كثيراً من المعيشة الصعبة في هذه العصور المظلمة.
وبعد دخول عصر النهضة الأوروبي وفترة الممالك الجديدة بدأت عصور الاستكشاف وازداد الاهتمام بالعلوم الإنسانية والتطبيقية. وكانت البرتغال أول من بدأ بالاستكشاف في القرن الخامس عشر الميلادي، وتبعتها بعد ذاك إسبانيا، ثم جاءت بعدهما فرنسا والمملكة المتحدة وهولندا وقامت كل من هذه الدول بالاستيلاء واستعمار العديد من أراضي قارات آسيا وأفريقيا والأمريكيتين.(1/3)
وكان شغل أوروبا الشاغل بعد عصر الاستكشاف هو بث أفكار الديمقراطية وكيفية تطبيقها. حيث بدأت الشعوب الأوروبية بالمناداة بالحرية والمساواة الفردية، وكان أبرز حدث توّج تلك الأفكار والتوجهات هو الثورة الفرنسية التي أدت لشيوع وانتشار أفكار الثورة على الإقطاعيين أو رجال الدين في مختلف مناطق القارة. ثم أدى نشوء القوميات - بمعناها الحديث - إلى تعزيز الصراع الدائر بين القوى العظمى في أوروبا على دول العالم الحديث. وظهر أشهر تلك الصراعات عند استلام نابليون بونابرت السلطة في فرنسا، وهوالذي أنشأ ما عرف باسم الإمبراطورية الفرنسية التي سرعان ما انهارت. وبعد سقوط نابليون هدأت القارة الأوروبية نسبياً، وبدأ في تلك الفترة انهيار الممالك ونظم الحكم القديمة.
بدأت الثورة الصناعية في المملكة المتحدة في القرن الثامن عشر الميلادي، والتي قادت الاقتصاد الأوروبي للتحوّل تدريجياً من الاعتماد على الزراعة فقط. ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى نهاية الحرب الباردة كانت أوروبا مقسمة إلى قسمين سياسيين اقتصاديين رئيسيين اثنين: الشيوعيون في أوروبا الشرقية والرأسماليون في غرب القارة وأجزائها الجنوبية. وبسقوط سور برلين وإعادة توحيد ألمانيا قُضِيَ على ما كان يُسمى المعسكر الشرقي.
الجغرافيا والامتداد(1/4)
جغرافياً تعدّ أوروبا جزءاً من قطعة اليابسة التي تعرف باسم أوراسيا. ويعتبر امتداد جبال الأورالOural ممثلاً للحدود الشرقية للقارة مع قارة آسيا، بينما لا تزال الحدود مع آسيا من جهة الجنوب الشرقي مختلفاً عليها؛ فمن قائل إنها على امتداد نهر الأورال إلى قائل إن نهر إمبا هو الحد الفاصل بين القارتين. ومن الجنوب يفصل البحر المتوسط أوروبا عن القارة الأفريقية. بينما يحدُّ المحيطُ الأطلسي القارةَ من الغرب. ونظرا للاختلافات على تحديد المدى الجغرافي لعرض أو طول (الحدود بمعنى آخر) القارة الأوروبية فإن نتائج تحديد المركز الجغرافي لأوروبا تكون ذات اختلافات كبيرة.
الخواص الطبيعية
بشكل عام تعتبر أوروبا مجموعة من أشباه الجزر الصغيرة المتصلة المتراصة. يمكن تقسيم القارة إلى اثنين من أشباه الجزر: شبه الجزيرة الإسكندنافية في الشمال وبقية أجزاء القارة كشبه جزيرة أخرى يفصل بينهما بحر البلطيق. وثلاث من أشباه الجزر تتفرع من الجزء الجنوبي مخترقة أجزاء من البحر المتوسط من القارة وهي شبه جزيرة أيبيريا والبلقان وإيطاليا. وكلما اتجهنا شرقا في القارة الأوروبية يزداد اتساعها حتى يصل ذاك الاتساع ذروته عند حدود أوروبا مع آسيا؛ أي عند جبال الأورال.
التقسيمات السياسية وعدد السكان:
تضم أوروبا في رقعتها الحالية الدول المستقلة التالية:
1. ألبانيا ... 11. التشيك ... 21. أيسلندة ... 31. مولدوفا ... 41. سلوفاكيا
2. آندورا ... 12. قبرص ... 22. ايرلندة ... 32. موناكو ... 42. سلوفييا
3. أرمينيا ... 13. الدانمارك ... 23. إيطاليا ... 33. هولندة ... 43. اسبانيا
4. النمسا ... 14. استونيا ... 24. كازاخستان ... 34. النرويج ... 44. السويد
5. آذربيجان ... 15. فنلندة ... 25. لاتفيا ... 35. بولندة ... 45. سويسرا
6. روسيا البيضاء ... 16. فرنسا ... 26. ليختشتاين ... 36. البرتغال ... 46. تركيا
7. بلجيكا ... 17. جورجيا ... 27. لتوانيا ... 37. رومانيا ... 47. أوكرانيا
8.البوسنة والهرسك ... 18. ألمانيا ... 28. لوكسمبورغ ... 38. روسيا ... 48. انكلترا(1/5)
9.بلغاريا ... 19. اليونان ... 29. مقدونيا ... 39. سان مارينو ... 49. الفاتيكان
10. كرواتيا ... 20. المجر ... 30. مالطا ... 40. صربيا والجبل
1. أرمينيا وقبرص ليستا أجزاءً جغرافية من القارة الأوروبية، ولكنهما قد تعتبران من أوروبا ثقافيا
2. أذربيجان وجورجيا لهما بعض الأجزاء في القارة الأوروبية ( أي تقعان في قارتين)
3. بعض أجزاء فرنسا تقع خارج القارة الأوروبية
4. روسيا وكازاخستان تقعان في بعض أجزاء أوروبا غربي جبال الأورال ونهر الأورال
5. لهولندا أجزاء خارج القارة الأوروبية
6. جزر الماديرا البرتغالية تقع شمال المحيط الأطلسي قرب أراضي القارة الأفريقية
7. بعض أجزاء اسبانيا تقع خارج القارة الأوروبية كجزر الكناري
8. لتركيا جزء صغير جغرافي في أوروبا ...
هذا ويبلغ عدد سكان أوروبا حاليا ( إحصاء عام 2005) 380 895 732 نسمة، ومن الملاحظ أن عدد السكان في هذه القارة تطور بشكل كبير خلال عدة قرون نتيجة الهجرة المتنامية التي لم تتوقف منذ أكثر من عشرة قرون، ويكفي أن نذكر أن عدد المهاجرين الذين قدموا إلى أوروبا في عام 2004 م يزيد عن مليونين نسمة، والجدول التالي يعطي تزايد عدد السكان منذ عام 1150 حتى يومنا هذا :
... ... ... الإحصاء في عام عدد السكان
... ... ... 1150 ... ... 000 000 50
... ... ... 1300 ... ... 000 000 73
... ... ... 1400 ... ... 000 000 45
... ... ... 1750 ... ... 000 000 140
... ... ... 1800 ... ... 000 000 187
... ... ... 1850 ... ... 000 000 266
... ... ... 1900 ... ... 000 000 420
... ... ... 1995 ... ... 000 000 728
... ... ... 2005 ... ... 380 895 732
...
ولولا الهجرة المتزايدة لكان النمو السكاني في هذه القارة يتجه في المنحنى السلبي، فقد تناقص عدد السكان في عام 2005 بما لا يقل عن 000 63 نسمة .
وعلى كل حال تعتبر هذه القارة من المناطق المكتظة بالسكان، وتأتي في المرتبة الثالثة بعد الصين والهند، ويوجد فيها بلدان تعتبر من أكثر البلدان كثافة سكانية في العالم كما هي الحال في كل من بلجيكا وهولندة والمملكة المتحدة وألمانيا وفرانسا.(1/6)
ومن جهة أخرى فإن القارة الأوروبية لم تعرف في تاريخها وحدة سياسية على الإطلاق، إلا أن بعض الأطوار التاريخية شهدت سيطرة بعض المناطق على الأخرى من خلال القهر والقوة كما كانت الحال في الأمبراطورية الرومانية والأمبراطورية الكارولينيجية وإمبراطورية نابوليون والرايخ الثالث، وكان لبعض العائلات الحاكمة سيطرة على عديد من الدول الأوروبية كما هي الحال في عائلة هابسبورج.
وسبق للمفكر الفرنسي فيكتور هوغو أنه كان يحلم بإنشاء الولايات المتحدة الأوروبية أسوة بالولايات المتحدة الأمريكية على قواعد من السلم والديمقراطية، وهذا ما أفصح عنه في خطابه الافتتاحي لمؤتمر السلم الذي عقد في باريس عام 1849م.
ومنذ النصف الثاني من القرن الماضي تنامت حركة الوحدة الأوروبية حتى وصلت إلى ما عليه اليوم، حيث تضم في هذه الوحدة 27 دولة أوروبية منها 13 دولة تدخل في منطقة الأوروEUR التي تمثل الوحدة النقدية.
والوحدة الأوروبية في مسيرتها نحو التكامل تتجه إلى توحيد القوانين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية وما إلى هنالك، وعلى الرغم من بعض الصعوبات إلا إن القادة السياسيين يدفعهم الأمل باستمرار لتحقيق هذا الحلم الكبير الذي يعتبر نموذجا فريدا في تاريخنا المعاصر.
9. الثقافة والتنوع اللغوي
هناك العديد من العائلات اللغوية المنتشرة في القارة الأوروبية، وغالباً ما تتشابه لغات الدول حسب التشابه في التاريخ والثقافة لتلك الدول، ولكن بشكل عام يعدّ الدين هو العامل الأبرز في التحكم في توزيع اللغات على دول القارة الأوروبية. ومن المعلوم أن للعربية تأثيراً على بعض اللغات الأوروبية كالمالطية والإسبانية والألبانية.
ومن الجدير بالذكر أنه توجد 35 لغة رسمية في أوروبا إلى جانب 225 لغة محلية غير رسمية وتشكل في مجموعها إرثا ثقافيا وأدبيا وحضاريا متنوعا بالنسبة للقارة.(1/7)
ومن الناحية الإدارية تعتبر اللغة الإنكليزية والروسية والفرنسية والألمانية والإسبانية هي اللغات السائدة، واللغة الإنكليزية عمليا هي أكثرها انتشاراً
اللغات الجرمانية: أوروبا الجرمانية
اللغات الجرمانية هي اللغات التي يُتحدث بها في أجزاء أوروبا الشمالية الغربية وبعض أجزاء أوروبا الوسطى. وتشمل منطقة اللغات الجرمانية في أوروبا كلاً من المملكة المتحدة (بعض أجزائها كانت تتحدث باللغات الكلتية) وإيرلندا وآيسلندا وألمانيا والنمسا وهولندا والدنمارك والسويد والنرويج واللوكسمبورغ وليخشنشتاين وجزر فارو والجزء المتحدث بالألمانية من سويسرا ومنطقة الفلاندر في بلجيكا والمناطق المتحدثة بالسويدية في فنلندا ومنطقة الترايول الشمالي في إيطاليا.
اللغات الرومانسية: أوروبا اللاتينية
اللغات الرومانسية هي اللغات التي يُتحدث بها في الأجزاء الجنوبية الغربية من أوروبا بالإضافة إلى دولتي رومانيا ومولدوفا الواقعتين في أوروبا الشرقية. وتشمل المناطق المتحدثة باللغات الرومانسية كلاً من: إٍيطاليا وفرنسا ورومانيا ومولدوفا والبرتغال والمناطق المتحدثة بالرومانشية والإيطالية في سويسرا ومنطقتي الوالون في بلجيكا ونورماندي والجزء المتحدث بالفرنسية في سويسرا.
اللغات السلافية: أوروبا السلافية
اللغات السلافية هي اللغات التي يتحدث بها في أجزاء أوروبا الوسطى والشرقية. وتضم هذه المنطقة كلا من: روسيا البيضاء والبوسنة والهرسك وبلغاريا وكرواتيا وجمهورية التشيك ومقدونيا وبولندا وروسيا وصربيا والجبل الأسود وسلوفاكيا وسلوفينيا وأوكرانيا.
اللغات الأورالية : اللغات الأورالية
هي عائلة لغوية مقسمة إلى مجموعتين: اللغات الفينية البرمية ويتحدث بها في فنلندا وإستونيا واللغات الأجرية ويتحدث بها في هنغاريا.
اللغات الألطية:اللغات التركية
يتحدث بها في تركيا وأذربيجان وقبرص والبلقان والقوقاز.(1/8)
اللغات البلطية: اللغات البلطية أو لغات دول البلطيق
ويُتحدّث بها في لتوانيا ولاتفيا.
اللغات الكلتية: أوروبا الكلتية
أوروبا الكلتية هي المنطقة التي يتحدث فيها باللغات الكلتية أو أنها كانت إلى فترة قريبة لغة رسمية في مناطق ما من القارة ولا تزال ذات تأثير على اللغات السائدة حاليا في تلك المناطق. وتشمل مناطق أوروبا الكلتية كلاً من أسكتلندا وويلز وكورنوول (في المملكة المتحدة) وجزيرة مان (تتبع التاج البريطاني) وبريتاني (في فرنسا) وإيرلندا.
لغات أخرى
غير العوائل الستة الرئيسية في القارة هناك مجموعات أخرى من اللغات وهي:
1. اللغة اليونانية ويتحدث بها في اليونان وقبرص اليونانية.
2. اللغة الألبانية والتي تُعدّ فرعاً منفصلاً من فروع اللغات الهندوأوروبية.
3. اللغة الأرمينية والتي تعد إحدى لغات القارة على الرغم من الخلاف في اعتبار أرمينيا تابعة لأوروبا جغرافباً، وهي كالألبانية تعتبر فرعاً منفصلاً من فروع اللغات الهندوأوروبية.
4. اللغات الأيبرو قوقازية.
الأديان
أكثر الأديان والمذاهب انتشارا في القارة الأوروبية هي:
المسيحية الكاثوليكية: الدول والمناطق ذات النسبة الكبيرة من أتباع الكاثوليكية في القارة هي: البرتغال وإسبانيا وفرنسا وبلجيكا وجنوب هولندا وإيرلندا وأسكتلندا وجنوب ألمانيا وجنوب سويسرا وإيطاليا والنمسا وسلوفينيا وكرواتيا وسلوفاكيا والتشيك وبولندا وغرب أوكرانيا ورومانيا وبعض مناطق لاتفيا ولتوانيا. وتوجد أقليات كاثوليكية في إنجلترا وويلز وبعض مناطق إيرلندا الشمالية.
البروتستانتية: الدول والمناطق ذات النسبة الكبيرة من أتباع البروتستانتية في القارة هي: النرويج وآيسلندا والسويد وفنلندا وإستونيا ولاتفيا والمملكة المتحدة والدنمارك وألمانيا وهولندا وسويسرا. وتوجد أقليات بروتستانتية في فرنسا والتشيك وهنغاريا وإيرلندا.(1/9)
الأرثودكسية المسيحية: الدول والمناطق ذات النسبة الكبيرة من أتباع الأرثودكسية في القارة هي: ألبانيا وأرمينيا وروسيا البيضاء والبوسنة و الهرسك وبلغاريا وفنلندا وجورجيا واليونان ومقدونيا ومولدوفا ورومانيا وروسيا وجمهورية صربيا والجبل الأسود وأوكرانيا.
الإسلام: الدول والمناطق ذات النسبة الكبيرة من المسلمين في القارة هي: ألبانيا والبوسنة والهرسك وبلغاريا ومقدونيا وقبرص وكازاخستان وتركيا وأذربيجان وجورجيا. على مستوى القارة بشكل عام فإن ما يزيد عن (5 %) من مواطني دول الاتحاد الأوروبي يدينون بالإسلام، ويتركز العديد من المسلمين في ألمانيا (24,4 %) وفرتسا (4,8 %) والمملكة المتحدة (38,4 %).
من بعض الأديان الأخرى في أوروبا ما يلي:
? اليهودية ويتركز أتباعها في روسيا وفرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة.
? الهندوسية ويتركز أتباعها في المملكة المتحدة وهولندا.
? السيخية.
?
إحصاء عدد المسلمين في الغرب:
... ليس بين أيدينا إحصاءات علمية دقيقة عن أعداد المهاجرين المسلمين في الغرب، غير أن بعض وسائل الإعلام تذكر عادةً أن عدد المسلمين في المجتمع الغربي يزيد عن ( 16 ) مليون. وهو رقم بعيد جدا عن الواقع. فالدكتور اسماعيل باليتش، وهو باحث اجتماعي، يذكر في دراسة له أن عدد المسلمين في الغرب يصل إلى (26,387952 ) بما في ذلك دول الجزء الغربي من الاتحاد السوفييتي سابقاً.
... ولقد دعانا هذا الأمر إلى إعادة البحث في المراجع الاجتماعية العلمية والديموغرافية الحديثة المتوافرة لدينا والتي استطعنا أن نصل منها إلى الإحصائيات التالية:
عدد المسلمين في أوروبا (*)
الرقم ... الدولة ... عدد السكان ... عدد المسلمين ... النسبة %
1 ... ألبانيا ... 000 150 3 ... 205 2 ... 70
2 ... البوسنة ... 112 4 ... 199 2 ... ,53
3 ... صربيا والجبل الأسود ... 160 8 ... 500 3 ... ,42
4 ... مقدونيا ... 038 2 ... 613 ... ,30
5 ... قبرص ... 765 ... 152 ... ,19
6 ... بلغاريا ... 965 7 ... 043 1 ... ,13
7 ... فرانسا ... 485 59 ... 000 5 ... ,8
8 ... هولندة ... 000 144 16 ... 920 ... ,5(1/10)
9 ... بريطانيا ... 229 59 ... 600 2 ... ,4
10 ... سويسرا ... 290 7 ... 313 ... ,4
11 ... ألمانيا الاتحادية ... 495 82 ... 500 3 ... ,4
12 ... النمسا ... 048 8 ... 338 ... ,4
13 ... ليختنشتاين ... 32 ... 1 ... ,4
14 ... بلجيكا ... 333 10 ... 350 ... ,3
15 ... إيطاليا ... 000 690 57 ... 000 1 ... ,1
16 ... السويد ... 924 8 ... 130 ... ,1
17 ... الدانمارك ... 374 5 ... 00 76 ... ,1
18 ... النروج ... 538 4 ... 051 62 ... 36,1
19 ... اليونان ... 631 10 ... 140 ... 31,1
20 ... كرواتيا ... 465 4 ... ,1
21 ... اسبانيا ... 917 40 ... 450 ... ,1
22 ... لوكسمبورغ ... 444 ... 3 ... 67,0
23 ... رومانيا ... 300 22 ... 90 ... ,0
24 ... فنلندة ... 199 5 ... 15 ... ,0
25 ... البرتغال ... 177 10 ... 30 ... ,0
26 ... هنغاريا ... 159 10 ... 23 ... ,0
27 ... أيرلندة ... 920 3 ... 8 ... ,0
28 ... بولونيا ... 626 38 ... 20 ... ,0
29 ... السلوفاك ... 379 5 ... 2 ... ,0
30 ... التشيك ... 210 10 ... 2 ... 2,0
المجموع ... 800 979 497 ... 828 24 ... ,4
وبإضافة المسلمين في القسم التركي الأوروبي وعددهم 000 500 1
وكذلك المسلمين في القسم الغربي من الاتحاد السوفيتي سابقا 000 500 11
يصبح عدد المسلمين في أوروبا مساوياً إلى : ... 372 828,37
(*) إحصائيات مستقاة من : Der Fischer Weltalmanach , Zahlen-Daten-Fakten 2006
ونرى أن هذه الدراسة لا تزال تحتاج إلى إعادة النظر، لأن عدداً كبيراً من الدول الأوروبية تتحفظ على الإحصاءات الواقعية للمسلمين في أراضيها، ناهيك عن الهجرة غير الشرعية التي تزايد عددها في السنوات الأخيرة، إلى جانب تضاعف عدد الولادات بين العائلات المسلمة المقيمة في الغرب، مما يحعلنا نجزم أن الأرقام الحقيقية هي أكبر مما ذكرنا بشكل واضح.
ومهما كان الأمر، فإذا ما قورنت هذه الأرقام بتعداد السكان، كانت نسبة المسلمين في هذه البلاد تدلّ على أنهم أصبحوا يشكلون من حيث العدد المرتبة الثانية بالنسبة للأديان السائدة في هذه البلدان. وإذا كان عدد المسلمين لايزال يشكل أقلية بالنسبة لمجموع السكان الأوروبيين، إلا أن هذا العدد كان كافيا بالنسبة للغرب النصراني أن بوجّه أنظاره إلى الإسلام الذي تربّع على أرض جبهته الداخلية.
الإسلام حقيقة واقعية:(1/11)
يعتقد كثير من الباحثين الغربيين بأن الإسلام أصبح حقيقة واقعية في المجتمع الغربي، بل يذهب البعض إلى القول بأن الإسلام قد غُرسَ في أوروبا غرساًً وتمكنت جذوره إلى الأبد وأنه أصبح حقيقة اجتماعية وثقافية واقتصادية ودينية وتعاونية واضحة كل الوضوح.
... ولقد دعت هذه الصورة من الغرس الإسلامي كثيراً من الباحثين إلى إعادة النظر في تعريف المهاجر أو المغترب. ففي الوقت الذي كان ينزح فيه المهاجر بعيداً عن وطنه نزوحاً موقتاً طلباً للرزق أو ما شابه؛ فقد أصبح مع الزمن عضواً في مجموعة من الأقليات المستوطنة، أو بالأحرى أصبح مواطناً جديداً وعضوا من مكوّنات المجتمع الغربي.
... وبناءً على هذا المفهوم الجديد، فإن وجه كثير من البلدان الأوروبية وخاصة المجتمعات الريفية فيها ستأخذ بالتبدل، حيث سنشاهد فيها ألواناً من القاطنين ذوي العروق المختلفة أو ذوي الديانات المختلفة أو من ذوي الثقافات المتباينة، وسيكون الإسلام بلا ريب أحد العناصر المكونة لهذا النوع من المجتمعات.
... ومما لا شك فيه أن الإسلام هو أحد المفاهيم الجوهرية الرئيسية التي تتجمع حوله الهجرة الإسلامية في المجتمع الأوروبي، وأكثر ما تتضح هذه الصورة في هجرة الجيل الأول الذي ألجأته الظروف الاقتصادية المعاصرة وضغط البطالة، إلى أن يفتش عن الحلول للمشكلات التي يعانيها في قلب البيئة الإسلامية وتجمعاتها.
... والأمر يختلف نوعا ما في الجيل الثاني، فالناشئة المغتربة اليوم أصبحت مشتتة ضمن أقليات متحزبة؛ بعضها ينادي بالعودة إلى الإسلام كمرجع عقائدي أيديولوجي لكل شؤون الحياة، والبعض الآخر يرى نجاته في الابتعاد عن الإسلام والاندماج الكامل أو بالأحرى الذوبان في قلب المجتمع الذي يعيش فيه وتبني أفكاره وألوان حياته الاجتماعية المختلفة.(1/12)
... ولا ريب أن المجتمع الغربي على الرغم من أنه ينظر إلى العالم العربي والإسلامي نظرة خاصة، باعتباره مصدراً هاماً من مصادر الثروة التي لا يمكن أن يستغني عنها كالبترول والمواد الأولية المتنوعة التي تعتبر أساساً في الصناعات الغربية، وبالرغم من أنه حاول أن يزيل العلاقات المتميزة بالكراهية والحقد والبغضاء نتيجة لحروبه المستمرة ونتيجة للاستعمار، وأن يعقد بدلاً عنها علاقات وديّة تفرضها المصلحة، بالرغم من كل هذا بدأ يشعر بالخطر الذي يتهدده من جراء الهجرة المتنامية، والتي حاول أن يحدّ منها منذ منتصف السبعينيات. وزادت أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر القلق الأوروبي من الوجود الإسلامي واصبح ينظر إليه على أنه مصدر لتنازع المصالح والخطر على أمنه القومي وقد ينقلب في يوم من أيام إلى صراع ديني وعرقي لا تحمد عقباه. ويرى بعض الكتاب من ذوي النفوذ والتأثير على القرار السياسي أن الشرق المسلم بدأ يثبت جذوره في الغرب بطريقة مشابهة لغرس الأعضاء( كما يقول المستشرق Dasseto )، وأن هذه العلاقات الودية قد تصبح وهمية ولا بدّ أن يصيبها الخلل والاضطراب نتيجة لما يفرضه الوجود الإسلامي في الغرب من مشكلات وأزمات متعددة الأشكال والصور.
... ويتساءل الكاتب الفرنسي بيرونسيل هوغو Peroncel Hogoz في كتابه لواء محمد Le Radeau de Mahomet عن مصير هذه العلاقة الودية إذا اضطربت الموازين وتباينت المصالح. ويخشى من أن يضطر الشرق المسلم لإعادة تثبيت جذوره في الغرب عن طريق القوة والسلاح. ويتوقع ذلك من خلال دراسته للانفجار السكاني في شريط البحر الأبيض المتوسط الذي كان يعدّ في عام 1950 حوالي (70) مليوناً في حين يتوقع أن يصبح هذا العدد في مطالع القرن الواحد والعشرين ما يزيد عن ( 300) مليون، بينما لم يتزايد عدد سكان أوروبا الشمالية إلا من (140) مليونا إلى (200) في نفس الفترة من الزمن.(1/13)
... ويستنتج من ذلك أن هذه العلاقات الودية هي في الواقع علاقات سطحية تشبه البناء الهرم الذي جددناه بالطلاء اللماع وهو في حقيقته مهترئٌ آيلٌ للسقوط والانهيار.
... ومن الأمور التي تُعقّد نظرة الغربيين إلى المسلمين الوافدين أن المناداة بتطبيق الإسلام والعودة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية المصاحبة للصحوة الإسلامية، والتي قد يصاحبها اللجوء إلى استعمال العنف، وردود الأفعال اللامسؤولة من قبل السلطات الحاكمة في بلاد الإسلام، أدى إلى اعتبار المسلمين الوافدين إلى الغرب عناصر خطيرة وغير مرغوب بها، ويمكن أن تكون في المستقبل القريب أو غير البعيد جداً مصدراً لكل اضطراب ينشأ في البلاد.
... وعلى أثر ذلك تكونت حركات معادية للوجود الإسلامي في الغرب تنادي بطرد المسلمين وعودتهم من حيث جاءوا. ولم يكتف بعض هذه الحركات بالبيان السياسي أو الإعلامي، بل لجأ بعضها لاستعمال العنف ضد المسلمين، واعتداء النازيين الجدد والمتطرفين الفرنسيين على المسلمين الأتراك والمغاربة بالقتل وحرق البيوت والمساجد والمتاجر، بل وحرق أجسادهم على مرأى من الشهود ليس منا ببعيد. كما تناقلت وسائل الإعلام نبأ دخول متطرف فرنسي إلى أحد المقاهي وبيده مسدس رشاش حيث أطلق منه عيارات نارية على زبائن المقهى فقتل عددا من المسلمين الأتراك وجرح آخرين.
... ولا شك أن بعض المهاجرين بنقلهم الخلافات الناشئة من بلادهم الأصلية إلى أرض المهجر، زاد من تخوّف الغربيين من الوجود الإسلامي، وما سيحمله في المستقبل من المخاطر المجهولة كما هو الأمر في خلافات الأكراد مع كل من تركيا والعراق.
... إن مستقبل الوجود الإسلامي على الساحة الغربية يتوقف على عوامل عدّة منها :
1- طبيعة المركز الاجتماعي والثقافي والاقتصادي الذي يحتله المسلمون.
2- تطوّر المصالح والمنافع المتبادلة بين العالم الإسلامي والغرب.(1/14)
3- أثر التضامن الإسلامي في بقاء الهجرة وحمايتها وإنشاء مصالح اقتصادية لتنميتها.
ونحن في صدد دراستنا للمشكلات التي تعترض الوجود الإسلامي في مجتمع الاغتراب يجدر بنا أن نتعرف أولاً على طبيعة هذه الهجرة ومراكز تجمعاتها وبنيتها الاجتماعية والثقافية وآلامها وآمالها في المستقبل.... وماعلينا، أن نقدمه في هذا السبيل.
أسباب الهجرة وتاريخها:
تقودنا الدراسة المتعمقة للهجرة وأسبابها وتاريخها إلى التعرف على نمطين مختلفين من الهجرة:
النمط الأول : ... نمط الهجرة التي تمت في كل من فرنسا وإنكلترا على مدى حقبة طويلة من الزمن.
النمط الثاني: ... نمط الهجرة التي تمت في البلاد الأوروبية الأخرى كألمانيا الاتحادية وغيرها من دول شمال أوروبا.
1- هجرة المسلمين إلى فرنسا:
... في فرنسا حالياً ما يزيد عن خمسة ملايين من المسلمين أكثريتهم من العمال المهاجرين، منهم فئة جاءت من تركيا ويوغسلافيا وفئة بدأت تتوافد من الشرق الأوسط، ولكن أكثرهم هاجروا من الشمال الأفريقي والنسبة العظمى منهم جاءت من الجزائر.
... ولا شكّ أن الهجرة الجزائرية وقفت رسميا منذ عدة أعوام، وأن عدد القادمين من تونس وبخاصة من المغرب قد ازداد زيادة ملموسة، ومع ذلك تبقى الجالية الجزائرية أكبر الجاليات المهاجرة عدداً وتأثيراً لأسباب متعددة: منها أن الهجرة من الجزائر بدأت قبل أربعين سنة من سيطرة الاستعمار على أفريقيا الشمالية، ولأن التركيب الاجتماعي لهذه الهجرة التي زاد في حدّنها الاستعمار، لا تختلف كثيرا عن التركيب الاجتماعي للهجرات الأخرى المنطلقة من الشمال الأفريقي.
بداية الهجرة:(1/15)
أقرب الاحتمالات أن هذه الهجرة من شمال أفريقيا إلى أوروبا بدأت عام (1871م) و (1874م) وأنها كانت مؤلفة من الجزائريين فقط، وأنها كانت نتيجة ثورة قام بها الجزائريون بعد أن سيطر المستعمر على بلادهم. ويؤيد هذا القرارُ الصادرُ في 16/5/1874م الذي يطلب من الراغب في الهجرة الحصولَ على موافقة مسبقة من السلطات وتقديم كفالة مالية تضمن عودته إلى بلاده. لكن هذا القرار ألغي في بداية القرن العشرين بقرار جديد صدر بتاريخ 24/12/1904م، وبتعميم صدر بتاريخ 28/1/1904م فاشتدت الهجرة إلى فرنسا منذ ذلك الحين.
كانت الأصناف الأولى من المهاجرين تأتي بوجه خاص إلى الشاطيء الجنوبي من فرنسا ولا سيما إلى مدينة مرسيليا. وكان أكثرهم من صغار الباعة، والمختصين بنقل الحيوانات والخدم المرافقين للعائلات الفرنسية العائدة إلى بلادها.
وتلاها بسرعة صنف من الجزائريين الذين تحتاج إليهم الصناعة الفرنسية. وبمقدمهم بدأت فعلاً هجرة اليد العاملة المسلمة إلى فرنسا بشكل مطرد.
وقد جرّب أحد الصناعيين في مدينة (Lens) شمالي فرنسا استخدامهم في المناجم، فنجحت التجربة وانتشر الجزائريون المهجّرون في جنوب فرنسا وشمالها وفي باريس، ثم شملتهم المناطق الفرنسية الأخرى قبل نشوء الحرب العالمية الأولى عام (1914م).
ثم بدأت الهجرة تفقد صفتها المرتجلة منذ عام (1914م)، وقد أضحت هجرة رسمية منظمة تطلبها المصانع والمصالح الفرنسية، وحال دون ازديادها في أول الأمر، موقف السلطات المستعمرة للجزائر التي لم ترتح لرحيل المسلمين إلى فرنسا، فجعلت تُقيم العثرات في طريق المهاجرين.(1/16)
لكن الحكومة الفرنسية أصدرت في 14/9/1916م قراراً بمصادرة الجزائريين واستجلابهم باسم القانون للعمل في فرنسا. وكان أكثر القادمين من مناطق القبائل في الجزائر. ثم التحق بهم العمال من تونس والمغرب الذين شملهم قرار المصادرة – " ولا يدخل في هذا، الأعداد الهائلة من الجنود الذين دُعوا للخدمة العسكرية من بلاد أفريقيا الشمالية. "
وبانتهاء الحرب العالمية الأولى وقفت الهجرة إلى فرنسا وعاد أكثر المهاجرين من الجزائر وتونس والمغرب إلى بلادهم خلال عام 1919م.
غير أن حاجة فرنسا إلى تعمير البلاد بعد الحرب، واستصلاح منطقتي الألزاس واللورين اللتين استرجعتهما فرنسا لأراضيها، وقلة اليد العاملة الفرنسية لا سيما من الشباب الذين أفنتهم الحرب، كل هذا جعل الهجرة تعود إلى فرنسا بكل قوة، ومن غير مصادرة حكومية، وقد بلغ عددهم حوالي (17500) من الجزائر سنوياً خلال الأعوام 1922-1924 م
وزاد في حدّة هذه الهجرة المجاعة التي ظهرت في الجزائر حينئذ وسوء الحالة الاقتصادية فيها بسبب سوء تصرّف المستعمرين.
وقد آثَرَ عدد كبير من الجنود الجزائريين الذين حاربوا في أوروبا العودة إلى فرنسا للعمل بعد أن سرّحهم الجيش. ولم تعد أغلبية المهاجرين مقتصرة على مناطق القبائل، بل شملت الهجرة الجديدة العمال القادمين من مناطق الجزائر الأخرى. وكان الأمر الوحيد الذي كان يخفف من حدتها الخلافَ القانوني بين الحكومة الفرنسية المركزية التي كانت تشجع الهجرة إلى فرنسا، وبين السلطات المستعمرة للجزائر التي كانت تعاكسها بعناد واستمرار.(1/17)
ولما بدأت الأزمة الاقتصادية في الغرب في الثلاثينيات، ضَعُفَ تيار الهجرة، ثم عاد بين عامي 1936 و 1938م. لكن نشوب الحرب العالمية الثانية أوقف الهجرة من جديد إلى أن احتاجت حكومة فيشي Vichy إلى اليد العاملة عام 1942م لمساعدة الألمان على بناء السور الحاجز على شواطئ المحيط الأطلسي، فعادت الهجرة إلى فرنسا مرة أخرى ثم توقفت حين أنزل الحلفاء مع فرنسا الحرّة جيوشّهم في شمال أفريقيا وانقطعت الصلة حينئذ بين فرنسا وأفريقيا الشمالية حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.
ونظراً إلى أن فرنسا مازالت بحاجة إلى تعمير ديارها التي خرّبتها الحرب وكذلك حاجتها إلى التوسع الاقتصادي ، فقد شجعت الهجرة مرة أخرى من الشمال الأفريقي ولا سيما من الجزائر كما حدث من قبل عقب الحرب العالمية الأولى. وزاد في قوة هذه الهجرة سهولة التنقل بين الجزائر وبين فرنسا القارّية. واستمر وفود المهاجرين إلى أن قررت الجزائر المستقلة وقف الهجرة إلى فرنسا عام 1972م، وحذت فرنسا حذوها عام 1974م.
ومع ذلك استمر مجيء الزوجات والأطفال للالتحاق بالأزواج العاملين في فرنسا، وتمّ تكوين الكثير من العائلات المهجّرة.
يرى الناظر أن حركة الهجرة قبل عام 1946م كانت نتيجةً للضغط والقيود. يُرحَبُ بالمهاجرين فيأتون سراعاً، ثم يشتدُّ عليهم الضغط والتضييق فيعودون إلى بلدهم سراعاً. وكانت أسباب الضغط والتضييق منوّعةً: إدارية واقتصادية وسياسية.
وبعد عام 1946م انتظم المهاجرون في تركيب اجتماعي متكامل وأصبحوا جالية شبه مستقرة؛ فيهم الزوجات والأولاد والجدّات. وصار المهاجرون ثقيلي الحركة عاجزين عن العودة بسهولة إلى بلادهم، لهم جذورٌ عميقة ضاربة في أرض الهجرة، فإذا أصابهم ضيمٌ أو وقع عليهم تضييق لم يجدوا في شدّ الرحال والعودة إلى بلادهم الحلَّ المقبولَ، وسلكوا للمقاومة مسالكَ أخرى.(1/18)
ومنذ تكاملت بنية الطبقة المهاجرة صار ازدياد عدد المهاجرين تابعاًً لعدد الوافدين الجدد من الجزائر إلى فرنسا من جهة، ولعدد أبناء المهاجرين وبناتهم الذين ولدوا في فرنسا من جهة أخرى. فمن عام 1961م إلى عام 1967م كان عدد الوافدين من الجزائر في كل سنة يعادل ثمانية أضعاف الأبناء المولودين في فرنسا. أما في الأعوام 1967م إلى عام 1972م فإن الولادات الجزائرية في فرنسا بلغت (40%) من زيادة عدد الجزائريين المهاجرين كل عام. وهذا يعني أن الهجرة بين أفريقيا الشمالية وفرنسا لم تعد مقصورة على موجات من المهاجرين تزداد وتتقلص حسب الظروف والمناسبات، بل كوّنتْ مجتمعاتٍ وجاليات شبه مستقرة وصارت جزءاً من الحياة الاجتماعية في فرنسا.
هذا وعرفت الهجرة خلال حرب التحرير نوعاً من التوقف أو قلة الاندفاع استمر من عام 1957م إلى إعلان الاستقلال، وظهرت في هذه الهجرة سماتٌ جديدة:
أولاً) ... منها أنها لم تعد هجرة أفراد، بل صارت هجرة أسر (عائلات) بكاملها؛ أي مكونة من الزوج والزوجة والأولاد وبعض الأقرباء أحياناً.
ثانياً) ... ومنها هجرة المسلمين الذين تجنسوا بالجنسية الفرنسية وهو ما يطلق عليهم الآن اسم ( المسلمين الفرنسيين).
ثالثاً) ... ومنها أن الهجرة لم تعد مقتصرة على الجزائر، بل شملت المغرب وموريتانيا وتونس. يدل على هذا ازدياد عدد المغاربة من (14236) مغربيا عام 1968م إلى (260025) مغربياً عام 1975م، و(376053) عام 1978م. ونسبة النساء فيهم تصل(25%)، وتبلغ نسبة العاملات من النساء المغربيات (37%) من محموع الوافدات إلى فرنسا. أما التونسيون فكان عددهم (61028) نسمة عام 1968م، ثم أصبح (139735) تونسياً عام 1975م، ثم أضحى (176154) عام 1978م، ونسبة النساء في الجالية التونسية (25%) وفيهن (28%) من العاملات.(1/19)
وإذا كان العمال المغاربة يقبلون المهن الريفية والزراعية أو الأشغال الصعبة، فإن العمال التوانسة يفضلون أعمال البناء والعمارة ومصانع الحديد والفولاذ. ورغم أن الجالية المغربية تعتبر في عددها الجالية الخامسة في فرنسا، إلا أنها لم تستقرّ بعد في أرض المهجر استقرار الجزائريين.
ونستطيع أن نقول بأن الجالية المسلمة في فرنسا أصبحت أكثر تعقيدا وأكثر تنوعا، فهي تشمل الجزائريين والمغاربة والتوانسة والموريتانيين والأتراك والمسلمين القادمين من أفريقيا السوداء ومن يوغسلافيا وغيرها بحيث أصبحت نسبة المسلمين تساوي (8%) من مجموع السكان في فرنسا أو يزيد.
ونؤكد على أن هذه الإحصاءات هي التي عثرنا عليها في المراجع شبه الرسمية ، أما الإحصاءات الدقيقة فلا يزال أمرها عسيراً.
2- الهجرة في البلاد الأخرى:
... لا نستطيع أن نتكلم كثيراً عن النمط الثاني من الهجرة لانتفاء العامل الاستعماري الإلزامي، ولكننا نستطيع أن نحدد السمات التالية:
أولاً) ... بدأت هجرة بعض المسلمين الفارين بدينهم من البلاد الشيوعية كألبانيا ويوغسلافيا في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات. واستوطن هؤلاء المهاجرون في عدد من البلدان، منها ألمانيا الاتحادية وبلجيكا والدول المجاورة، واستقبلتهم في بداية الأمر المؤسسات الخيرية النصرانية وهيأت لهم السكن والعمل وأماكن الدراسة للأبناء إلى جانب الرعاية الاجتماعية الخاصة.
ثانياً) ... حاجة التنمية الاقتصادية إلى اليد العاملة قليلة الكلفة أدت إلى استقدامها من عدد من البلدان المضيفة.
... ومن العوامل التي أدت إلى زيادة حدة الهجرة نذكر ما يلي:
1- تشجيع البلاد الأصلية المصدّرة لليد العاملة على الهجرة كالمغرب وتركيا مثلاً.
2- البحث عن العمل والرزق والهروب من البطالة والأزمات الاقتصادية المحلية.
... ونتج عن العامل الأول :
1- تسوية ميزان المدفوعات.
2- اكتساب الخبرة من البلاد المتقدمة صناعياً.(1/20)
3- تحويلات العملة الصعبة والتي تشكل مورداً من الموارد الرئيسية للبلاد الأصلية. ...
والنتائج البعيدة لهذه السياسة يمكن تلخيصها بما يلي:
1- التسوية: لم تكن متحققة من الناحية العملية، لأن البلاد الإسلامية تنفق أضعاف ما يردها من العملة الصعبة لاستيراد المواد الغذائية فقط عدا الحاجات الهامة الأخرى.
2- أما الخبرة المكتسبة: فلم تستفد منها الدول الإسلامية بشكل مباشر، وتدل الدراسة على أن العائدين الأتراك مثلاً يذوبون في المجتمع التركي، ومن العسير العثور عليهم، وبالتالي لا يستفاد من خبراتهم بشكل منهجي، وتقتصر الفائدة منهم على أعمالهم الفردية.
وعلى الغالب يبقى ذوو الخبرة العالية المتقدمة مقيمين في المهجر، ولا يعود منهم إلا ذوي الخبرة الضعيفة من الناحية العملية.
هذا وتدلّ الدراسات الاحصائية في بلجيكا مثلاً أن عدد العائدين من المهاجرين الإسبان
والفنلنديين والإيطاليين واليوغسلاف أكبر بكثير من عدد العائدين الأتراك والمغاربة إلى مواطنهم. فما بين عام 1974-1978م عاد أكثر من مليون عامل من غير المسلمين في حين لم يتناقص الوجود الإسلامي بصورة محسوسة.
طبيعة الانتقال:
تمت الهجرة إلى هذه البلاد خلال ما يقرب من ربع قرن ضمن صورتين مختلفتين:
1- الهجرة العشوائية أو المرتجلة: وفيها تتم هجرة الأفراد والجماعات بدون إعداد مسبق أو معرفة مسبقة للمعطيات والمتغيرات المختلفة للبلدان المضيفة.
2- الهجرة المنظمة: تمت هذه الهجرة بمعرفة الأطراف المعنية وبناءً على اتفاقات ثنائية بين البلاد المضيفة وبين البلاد المصدرة لليد العاملة استنادا إلى الحاجة الاقتصادية. ومن مميزات هذا النمط من الهجرة أنها حققت بعض المكتسبات منها:
1) حق الإقامة والعمل.
2) أعطت حقوقا متساوية للمهاجرين مع المواطنين، عدا الحقوق السياسية في بعض البلدان، بلجيكا مثلاً.
3) ضمنت منح التأمينات الاجتماعية والتأمينات ضد البطالة.(1/21)
ولا شك أن أهم عامل نشأ عن هذا النوع من الهجرة أنه حوّل الانتقال المؤقت إلى دائم مستمر.
ويلاحظ أن أكثر القادمين كانوا من الأرياف وتوزعوا بصورة إجمالية على القطاعات التالية:
... 1- ... القطاع الصناعي ... ... 87%
... 2- ... القطاع الزراعي ... ... ... 6 %
... ... 3- ... قطاع الخدمات ... ... ... 7 %
...
ما ذا نشأ عن استقرار المهاجرين في الغرب:
1) يعتقد الرأي العام الأوروبي أن العامل المهاجر في الأصل هو الذي يفد إلى البلاد ليعمل فيها مؤقتاً ويدّخر ما يساعده على العودة الدائمة إلى الوطن الأم، وهذا ما يدعوه لاختيار السكن المتواضع لأسباب اقتصادية ويضع في بنود ميزانيته المصروف القليل مقابل الادخار الأكبر.
2) ونرى مع مرور الزمن أن كثيراً من المهاجرين تمكنت لديهم فكرة الاستقرار، ولا يواجهون فكرة العودة إلى مواطنهم في القريب العاجل.
3) ونشأ عن ذلك جيل ثانٍ وثالثٌ ... وتمكن البعض من متابعة الدراسة إلى حد مقبول. ولم يعد هذا الجيل يقبل الأعمال التي تعاطاها آباؤهم والأعمال ذات المردود الضعيف، بل بدأ يتطلع إلى الأعمال الراقية المتناسبة مع التكوين المكتسب الذي يفوق مقدرات آبائهم بكثير.
ويرى بعض الباحثين أن هناك أسباباً خمسة لرغبة المهاجرين في الاستقرار في هذه البلاد وهي:
1- يشغل المهاجرون أعمالاً يهرب منها الأوروبيون عادة ولا يرون فيها أي ترقية مهنية ولا يمكن أن نتصور أن الأوروبي سيأخذ يوما ما المكانَ الذي يشغله المهاجر.
وعلى الرغم من أن نسبة البطالة مرتفعة نسبياً في كثير من البلدان الأوروبية إلا أن درجة الفعالية والانتاج لا تزال مرتفعة لدى العمال المهاجرين طبقا لدراسة قدمتها الأمم المتحدة في عام 1992م
...(1/22)
2- والسبب الثاني هو أن استيطان المهاجرين يكمن في درجة تأنيث الجمهرة المهاجرة، فمن الثابت أن نسبة الذكورة كانت مرتفعة بالنسبة للأنوثة في كثير من البلاد الأوروبية في السنوات الماضية. أما اليوم فيرى بعض الباحثين الاجتماعيين أن نسبة الأنوثة آخذت بالازدياد بشكل ملجوظ، مع اختلاف واضح من قطر إلى آخر.
ومن المعلوم أن المهاجر حينما يحصل على الإقامة وإذن العمل النهائي، يسعى أول ما يسعى لاستحضار عائلته: زوجته وأولاده. ولا شك أن تطور عمل المرآة بصورة عامة، ورفض المرأة الأوروبية بصورة خاصة أن تمارس بعض الأعمال الإنتاجية، هيأ للمرأة المهاجرة أن تقبل القيام بالأعمال المتواضعة، وأن تحلّ مع الزمن محلّ المرأة الأوروبية في مجال العمل والإنتاج.
...
3- والسبب الثالث يستند إلى قرارات إيقاف الهجرة الصادرة في عام 1974م في أكثرالبلدان الأوروبية، حيث أصبحت قوانين الهجرة بموجبها قوانين صارمة جداً، وأصبحت هذه القوانين بعد اتفاقية شينجن Schengen أكثر شدة بالنسبة للوافدين الجدد. وتدل الدراسات الإحصائية أن إيقاف الهجرة إدى إلى إطالة زمن الاستيطان. وفي هذه الشروط فإن العامل العائد إلى وطنه يفقد كثيراً من فرص العودة إلى هذه البلاد ويسعى لأن يستقرّ فيها قبل أن يغادرها. ولقد ساعد هذا الاستيطان الطويل على أن يتجمع المهاجرون في أُسَرٍ فعالة ومتكاتفة، وبالتالي دفع هذه البلاد إلى أن تحدد بدقة شروط دخول العمال وأرباب العمل وعمل الزوجات ومن يعولونهم.(1/23)
4- ... والسبب الرابع يكمن في الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية التي تعانيها البلاد الأصلية للمهاجرين. وفي الواقع إن الأزمة الاقتصادية تتفاقم أكثر ما تتفاقم في بلاد حوض البحر الأبيض المتوسط، حيث الأعمال والأجور المتواضعة نسبياً. ولقد تبين من مطالعة الدراسات والإحصائيات الحديثة أن أغلب العائدين إلى مواطنهم هم أولئك الذين فشلوا في أعمالهم في البلاد الأوروبية وعجزوا عن أن يجدوا فيها أعمالاً مستقرّة، ولذلك يعودون رغماً عنهم وليس بسبب الآمال التي يبنونها في إيجاد الأعمال اللائقة في وطنهم.
5-والسبب الأخير هو أن الجيل الثاني من المهاجرين المولود في بلاد الغرب تبعه فيما بعد جيل ثالث ورابع وآخر، ويتطلع جيل الشباب إلى أن مستقبلهم مرتبط بالبقاء في هذه البلاد ومتابعة الدراسة فيها المتوافرة في جميع مستوياتها للجميع، إلى جانب العمل والعيش إلى أمدٍ بعيد.
ولا بد من الإشارة إلى أن الدراسات الديموغرافية أوضحت بما لا شك فيه أن نسبة الولادات في عائلات المهاجرين تفوق بكثيرالولادات لدى العائلات الغربية. بل إن بعض الدول يسير المنحنى الولادي فيها نحو التراجع,
ولنضرب على ذلك مثلا نسبة الولادات لدى المهاجرين في مدينة بروكسل بالنسبة للمواطنين البلجيك:
العام ... عدد الولادات الكلية ... ولادات المهاجرين ... النسبة المئوية
1970 ... ,28 %
1974 ... ,34 %
1979 ... ,42 %
1990 ... ,46 %
هذا وإن مشكلة الهجرة والمهاجرين لم تعد مشكلة محلية تتعلق بقطر دون آخر، بل أصبحت مشكلة دولية عالمية تواجهها جميع السلطات العامة بصورة مشابهة، وأصبحت من المواضيع التي يبحثها المجلس الأوروبي بصورة رئيسية، بل أوجد لها لجاناً أوروبية ( دولية ) متخصصة، مثل مجموعة شينجن Schengen ، ولم تعد أي دولة قادرةً بمفردها على تحديد سياسة معينة تجاه المهاجرين بمعزل عن الدول الأخرى؛ المجاورة لها على الأقل.
المؤسسات والجمعيات والمراكز الإسلامية:(1/24)
... لقد كان للنخبة المثقفة من الطلاب في مطالع الهجرة دور كبير في الانطلاقة إلى تأسيس جمعيات إسلامية ومنتديات اجتماعية وثقافية منذ نهاية الخمسينيات. وكانت لقاءاتهم تجري في غرف صغيرة مستأجرة أو في قاعات تقدمها لهم الجامعات أو المؤسسات التي يتابعون دراساتهم فيها.
وكان من أول المؤسست الطلابية التي ظهرت في عام 1961 م هو اتحاد الطلبة المسلمين في أوروبا الذي تأسس في مدينة بروكسل ببلجيكا ثم انتقل فيما بعد إلى بون في ألمانيا الاتحادية، وكان لهذا الاتحاد دور كبير في رعاية الجالية الاسلامية الوافدة من الناحية الدينية والاجتماعية والثقافية وإقامة العديد من المؤسسات العبادية في مختلف البلدان الأوروبية.
وتبع ذلك إنشاء جمعيات واتحادات ومنتديات في كل مكان؛ مثل اتحاد العمال المسلمين في أوروبا واتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا واتحاد الجمعيات الإسلامية واتحاد المراكز الإسلامية وغيرها.
ودعت الضرورة إلى أن تؤسس في كثير من الأقطار الأوروبية هيئات تعمل على التنسيق بين المراكز والمؤسسات الإسلامية كالمجلس الأعلى للمسلمين في بلجيكا ، والمجلس الأعلى للمسلمين في ألمانيا واتحاد المنظمات الإسلامية في فرانسا وبريطانيا وغيرها، والمجلس الإسلامي في ألمانيا، والهيئة الاسلامية في اسبانيا واتحاد الجمعيات الاسلامية في بريطانيا وأيرلندة وجمعية الأئمة في هولندة. وتم أخيرا إنشاء مجلس تنسيق إسلامي بين المؤسسات الإسلامية الكبرى في ألمانيا.
ومنذ مطالع الهجرة تتابع على مرور الزمن إقامة المساجد والمراكز الإسلامية في مختلف الأقطار الأوروبية، وكا من أوائلها المركز الإسلامي في جنيف والمركز الإسلامي في بروكسل والمركز الإسلامي في آخن والمركز الإسلامي في ميونيخ وهامبورغ ولندن وغيرها.(1/25)
وشهدنا في السنوات الأخيرة إقامة مراكز إسلامية حضارية متميزة؛ كالمراكز الإسلامية في كل من مدريد وروما ودبلن وميلانو وستوكهولم وجبل طارق وروتردام ومالقة وأدنبرة وغيرها.
وكان مما يلفت النظر أن هذه المراكز أقامت في بنائها منشأت تعليمية تبتديء من رياض الأطفال إلى المراحل التعليمية التالية. هذا إلى جانب قيام مؤسسات تعليمية خارج المسجد والمراكز، كالمدارس العربية التي انتشرت في ألمانيا وفرنسا وبلجيكا وهولندة والدانمارك واسبانيا وأيرلندة وبريطانيا وأكاديمية الملك فهد في كل من لندن وبون.
وأصبح الاتجاه واضحا لإقامة مؤسسات أكاديمية وجامعية إسلامية كما هي الحال في بريطانيا وفرانسا واسبانيا وألمانيا وغيرها .
وهكذا نرى أن المؤسسات الإسلامية من جمعيات ومساجد ومراكز واتحادات أصبحت تُعدّ في أوروبا بالآلاف، ويكفي أن نذكر على سبيل المثال أن مدينة بروكسل تضم أكثر من 115 مسجدا وأن عدد أماكن العبادة في كل من فرانسا وألمانيا يزيد عن 2000 مسجدا ومركزا وقاعة صلاة.
ويجدربنا أن نذكر أنه تكونت في بلجيكا هيئة تنفيذية منتخبة تمثل المسلمين ومنحتها الدولة البلجيكية ميزانية سنوية مجزئة.
وكان من أهم الانجازات في هذا المجال إقامة المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث الذي تأسس عام 1997 م ، وهو هيئة إسلامية متخصصة مستقلة تتكون من مجموعة من العلماء تهدف إلى إيجاد التقارب بين علماء الساحة الأوروبية والعمل على توحيد آرائهم الفقهية وإصدار فتاوى جماعية تسد حاجة المسلمين في أوروبا وتحل مشكلاهم وتنظم تفاعلهم مع المجتمعات الأوروبية في ضوء أحكام الشريعة ومقاصدها، والمقر الحالي للمجلس في مدينة دبلن بأيرلندة. ...
المؤسسات التعليمية وأبناء المهاجرين:(1/26)
... التربية والتعليم هما الموضوعان الرئيسان بين مشكلات «الجيل الثاني» من أبناء العمال المهاجرين، ينالون قسطاً من تربيتهم وتعليمهم في المدرسة. لكن المدرسة في الوقت نفسه تخلق لهم بعض المشكلات أثناء الدراسة وتزيد في حيرتهم وبؤسهم حين تؤدي دراستهم إلى الفشل ولا تعينهم على الالتحاق بسوق العمل المتميز.
... وتدل الإحصاءات على أن الكثير من أبناء المهاجرين المسلمين لا يذهبون إلى المدارس الثانوية، فإن ذهبوا فإنهم يساقون إلى معاهد التدريب المهني أو التعليم الفني القصير ولا يدخل في التعليم الثانوي الطويل إلا ندرة لا تزيد في كثير من الأحوال عن 3-5 % من مجموع أبناء المهاجرين المسلمين. ولو بحثنا عن هذه النسب لدى أبناء المهاجرين من الجنسيات الأخرى لوجدنا أنها أكثر ارتفاعاً. ذلك لأن هذه الجنسيات أقدر على التكيّف والاندماج في المجتمع الغربي ومؤسساته التربوية وأحسن حالاً من الناحية المالية واللغوية.
... هذه الملاحظات البسيطة في ظاهرها هي من أهم المشكلات التي تجابه أبناء المهاجرين في الغرب. وعند التأمل في الإحصاءات العلمية في بلد كفرنسا، نجد أنها تشير إلى أن عدد أبناء المهاجرين هو في ازدياد في المدارس الابتدائية بنسبة 3,2 % ، فإن صحت هذه النسبة في الزيادة، فإن نسبة أبناء المهاجرين إلى مجموع الطلاب في المدارس الابتدائية في مطالع القرن الواحد والعشرين ستكون حوالي ( 25 % ) تقريبا وذلك لكثرة الولادات في الأسر العمالية المسلمة وتناقص الولادات في الأسر الفرنسية.
... وهذه النسبة الكبيرة المتوقع تحققها في العشريات الأولى من القرن الواحد والعشرين في مدارس فرنسا الابتدائية تستحق اهتماما كبيرا من قبل العمال المهاجرين وجمعياتهم المسؤولة عنهم، ومن قبل الفرنسيين ومؤسساتهم التعليمية قبل أن تنقلب إلى أزمة كبيرة ومشكلة تستعصي على الحل.
...(1/27)
... ومن جهة أخرى يلاحظ بصورة عامة أن الطلاب يعانون من بعض المشكلات الرئيسية خلال تعليمهم الثانوي. فمن المعلوم أن بين الطفولة وبين الحياة المهنية سنوات حرجة بالنسبة للأطفال المغتربين. لأن هذه السنوات بالخاصة هي السنوات الأساس التي ترتكز عليها أساليب التربية. ولا يزال هؤلاء الأطفال يستمرون في مجابهة الصعوبات سنة بعد سنة، ولا يتخلصون منها إلا بشق الأنفس. ونذكر من بين هذه الصعوبات ما يلي:
1) لا يستطيع الوالدان بصورة عملية تقديم أية مساعدة تذكر من الناحية المادية والثقافية؛ وبالتالي ينمو الطفل في مناخ ثقافي متواضع بالإضافة إلى متاعب الجو السكني غير الملائم بصورة عامة للدراسة.
2) تضطرب أحيانا العلاقة بين الأبناء والآباء من جراء التربية التي يتلقاها الأبناء، والتي تختلف في طبيعتها وأصولها عن تربية الآباء.
3) يزداد الأمر سوءاً نتيجة لعدم استقرار مشاريع الآباء من حيث الاستيطان:
- هل سيعودون إلى أوطانهم ؟
- أم سيبقون إلى فترة محدودة؟
- أم سيبقون إلى الأبد أو إلى أمد غير محدد؟
4) ... وفي هذا المناخ لا تستطيع المدرسة أن تلعب دوراً مناسباً في إطار التعليم.
5) ... يعتقد الغربيون أن المدرسة هي الإطار المناسب للدمج الاجتماعي والثقافي للمغتربين مع المواطنين.
... إلا أن المغترب نظراً لأنه كان يأمل في يوم من الأيام بالعودة إلى وطنه. لذلك فإن تفاعله مع عملية الاندماج سلبي إلى حدّ كبير، وقد أراد بعض المسؤولين عن التعليم التغلب على هذه الصعوبة بمحاولة المحافظة على قدر معين من الثقافة الأصلية للمغترب، والاقلاع عن محاولة إبعاده عن جذوره الأصلية، ولا شك أن نتائج هذه المحاولة ستختلف باختلاف الدوافع لها؛ إن كانت تربوية حقا!! أم أن وراءها عامل اجتماعي أو ديني ما... والسير في الموضوع على النفس الطويل.(1/28)
6) ... يضاف إلى ذلك أن الطلاب المغتربين في مطالع هجرتهم، والذين تلقوا في الأصل مرحلة معينة من التعليم، يجدون صعوبة كبيرة للتلاؤم المباشر مع الصفوف الموافقة لسويتهم في المدارس الغربية من حيث السنّ والدراسة. ويعود هذا إلى الضعف في اللغة وفقدان لغة المخاطبة والتفاهم مع المناهج التعليمية الغربية. وقد يؤدي هذا إلى أن يخسر الطالب سنة دراسية على الأقل لكي يتلاءم مع جوّه الجديد.
7) ... وقد يصادف أن القدر من الدراسة التي تابعها التلميذ في موطنه قبل الهجرة غير معترف به كاملاً أو جزئياً في ديار الغربة، فيؤدي ذلك إلى بعض الصعوبات التي قد تفضي إلى خسارة بعض سنيّ الدراسة أيضاً.
8) ... وتدل الدراسات الإحصائية أن الاتجاه العام في تعليم أبناء المهاجرين واصح نحو التعليم المهني أكثر من التعليم العام أو التقني. ولو أننا أصبحنا في الأيام الأخيرة نلاحظ زيادة نسبية في التوجه نحو التعليم العام وبالتالي الانتقال إلى التعليم الجامعي.
اللغة العربية والثقافة الإسلامية:
اللغة العربية لغة رسالة حيّة خالدة، نزل بها القرآن الكريم وهي بذلك لغة العالم الإسلامي كله، يتعبّد بها المسلمون حيث كانوا على اختلاف أوطانهم وأجناسهم.
وهي لغة حضارة أعطت ما أعطت للبشرية في عصر كادت فيه المعارف الإنسانية تتلاشى وتفنى، فاستوعبت المنجزات الحضارية، وطوّرها المسلمون إلى حدّ الإبداع والدّقة.
وهي لغة تنتظر اليوم من ينشرها ويطورها لتستوعب النهضة العلمية والتقنية ولتستجيب للحاجيات الاجتماعية المتنوعة.
إن تدريس اللغة العربية ونشر الثقافة الإسلامية واجب ديني وحضاري يستوجب الاهتمام البالغ، تحصيناً للهوية الثقافية والذاتية الإسلامية والحضارية، وتعريفا بالقيم الإنسانية السامية التي جاء بها الإسلام.(1/29)
ويجدر بنا الانتباه إلى أن اللغة العربية كوسيلة لفهم الإسلام وإدراك معانيه والاستجابة لخطابه، مهددة بالفناء والانقراض في إطار الأجيال الجديدة الناشئة من أبناء الجالية المسلمة ذات الأصول العربية في المجتمع الغربي لافتقاد لغة الأم، وعجز الأسر المسلمة – إن صحّ التعبير – عن إدراك هذا الخطر، وتقديم أي شيء في هذا السبيل، ذلك أن هذه الجاليات انحدرت غالباً، من طبقات فقيرة الموارد، فقيرة الثقافة الإسلامية، وفقيرة في الوعي أيضاً. وكان همها الأول تحقيق المكسب المادي فقط.... إلى جانب ما يمكن أن يحكمها من النظرة الساذجة التي تسيطر عليها من أن العربية هي لغة المجتمعات الفقيرة المُسْتَعمَرَة من جانب أوروبا؛ أو التي تعوزها الحرية الموجودة في أوروبا والمفقودة في بلادها. وإن اللغات الأوروبية هي لغات العلم والعمل والحضارة، ومن الكسب الكبير: التكلم بلغة السيد المستعمر المستغل، حتى يمكن القول بأنه مرّت على الجالية المسلمة في أوروبا فترة قبل حركة اليقظة والوعي التي أورثها الابتعاث، كانت تحكمها فيها عقدة الخجل من أصلها الإسلامي ولغتها العربية؛ وتحاول الهروب من انتمائها، خاصة وأن هذه الجاليات أو معظمها لم يستطع أن يتجاوز قاع المجتمعات الأوروبية، حيث لم تزل محكومة بظروفها وأعمالها التي استقدمت من أجلها، فهي الطبقة التي تشكل اليد العاملة في المهن المتواضعة نوعاً ما، ولا يتاح من خلال الفقر وعدم الوعي لأبنائها فرصة متابعة التعليم، حيث يتوجه الأولاد عمالاً بسطاء إلى المعامل والمناجم التي يعمل فيها الآباء.
ومن جهة أخرى ليس بين الدول الأوروبية إلى الآن من يعترف بالدين الإسلامي سوى بلجيكا والنمسا واسبانيا والمجر، حيث تمّ الاعتراف من قبل الأولى في آب / أغسطس 1974م ومن قبل الثانية في عام 1979م.(1/30)
وفيما عدا بلجكا والنمسا وإسبانيا لا يوجد تعليم رسمي ديني لأبناء المسلمين في المدارس الحكومية، وتبقى المهمة ملقاة على عاتق المساجد والمراكز والجمعيات الإسلامية والثقافية المختلفة التي تبذل جهوداً مشكورة في تعليم أبناء المسلمين اللغة العربية والثقافة الإسلامية، ولا ينسحب هذا بالدرجة الأولى إلا على أبناء الجالية من الأصول العربية، أما أبناء المسلمين من الجنسيات الأخرى فتعليم اللغة العربية ليس من الناحية العملية له شأن ملموس. ونحب أن نشير إلى أن أغلب البرامج المتبعة لا تزال ضعيفة جداً وبعيدة عن المنهجية العلمية وعدم التصور العملي لطبيعة الحاجة التي يجب توفيرها للتعليم.
وفي بلجيكا والنمسا يجري تعليم الدين الإسلامي رسميا في المدارس الحكومية من قبل مدرسين تدفع الدولة رواتبهم وضمانهم الاجتماعي وتعويضاتهم العائلية.
وفي دراسة تمت على جمهرة من أبناء المسلمين في بلجيكا، تبين أن وضعية الطفل المسلم صعبة جداً، ويخشى عليه أن ينسلخ تماماً عن هويته الثقافية والحضارية. فهو يتعرض يوميا في المدرسة والشارع وفي البيت من خلال وسائل الإعلام الفتانة إلى صور من الضغوط تجرّه جراً نحو تيار ( التغريب ) والاندماج - أو بالأحرى- الذويان في المجتمع الأوروبي، وقد تزداد هذه الوضعية تشابكا إذا كان الطفل ينحدر من زواج مختلط ( خاصة الأم الأوروبية)، فيعيش الطفل انشطاراً محيّراً بين ثقافتين، وتكون الغلبة في أكثر الأحيان للثقافة الغربية إذا اعتبرنا جميع المؤثرات الخارجية.(1/31)
أما المسؤولية في هذا الوضع المتردي فتحملها أولاً وبالذات الحكومات الإسلامية والعربية التي لها جاليات هامة في الغرب. ذلك أن هذه الحكومات لم تبذل أي جهد منذ البداية في سبيل وضع سياسة واضحة بالاتفاق مع الحكومات المضيفة للمحافظة على الشخصية الإسلامية والعربية لأبناء مواطنيها. ورغم أن هناك مبادرات جريئة تطفو على السطح من حين لآخر، إلا أنها لا تعدو أن تكون حلولاً وقتية تنقصها النجاعة والديمومة والتخطيط المحكم.
كما أن الأسرة تتحمل قسطا من المسؤولية، فهي لو حافظت على عاداتها وتقاليدها الإسلامية، وحرصت على تربية أطفالها تربية إسلامية وخاطبته بالعربية دائما لأمكنها التخفيف من حدة هذا الأمر.
ومن جهة أخرى لا بدّ من كلمة حول الوسائل والمناهج المتبعة في تعليم أبناء المسلمين. فقد أظهرت لنا الدراسة المتأنية اختلاف المناهج والطرق من ناحية، وانعدام الكتاب المناسب والوسائل التعليمية المتطورة من جهة أخرى. ومن ثمّ يجد المدرس والتلميذ نفسهما في حيرة من جدوى هذا التعليم. خاصة وأن هذه الدروس تعطى في الغالب في أوقات راحة التلميذ، الذي إذا ما أحسّ بنقصان الفائدة من هذه الدروس يتضاءل شغفه بها، وهذا ما يحتم علينا العمل على توفير كل الوسائل وأسباب التشجيع وإيجاد محيط مشوّق، حتى يُقبِل هذا التلميذ بكل حماس على دروس اللغة العربية والثقافة الإسلامية.
ونعتقد أن ذلك يمكن أن يتم بما يلي:
1- إيجاد محيط إسلامي مشوّق وتوطيد المحبة بين التلميذ والمدرس والمدْرَسَة أوالمسجد.(1/32)
2- تسخير الوسائل العصرية والمفيدة لاستغلال كل الفرص المتاحة حتى يكون هذا التعليم ناجعاً وفعالاً في أقصر وقت ممكن، فمن المفيد مثلاً عرض أفلام وثائقية إسلامية المضامين، حتى يتعود الطفل على سماع اللغة العربية، ويشاهد الصور ذات المضمون العربي والتي تشدّه إلى البيئة الأم باعتزاز وفخار. ويحسن كذلك تخصيص قاعات سينمائية أو فيديو في المراكز الكبرى والتي لها من الإمكانات ما يجعلها قادرة على تجهيز مثل هذه القاعات، مما يجعل التلميذ يقبل على دروس العربية بتشوق ورغبة.
3- وضع مقررات موحدة انطلاقاً من دراسة معمقة تراعي جميع جوانب العملية التربوية والأهداف الرئيسية لها.
4- وضع كتب موحدة إسلامية المضمون وعصرية الأسلوب كي تكون مشوقة وناجحة.
5- وضع رصيد لغوي موحد، وفي هذا الصدد لا بد من الاستفادة من جهود المنظمات المختصة، كالمنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم ( الإسيسكو) والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ( الأليكسو) التي سارت شوطاً محمودا في هذا المضمار.
ولا بد لي أخيراً من أن أذكر بأن المدرسين العاملين في مختلف درجاتهم لم يكونوا مؤهلين في الأصل للقيام بمهام تعليمية في الوسط الأوروبي، ولذلك كانوا يواجهون عند مباشرتهم لعملهم الجديد صعوبات جمّة. وهم مع ذلك قليلو العدد والعدَة والإمكانات، ويطالَبونَ بما فوق قدرتهم، وإن وسائلهم التعليمية إذا ما قارناها بالوسائل المتوافرة في المدارس الغربية تُعَدُّ متواضعة جداً، بحيث لا تُرغّب التلميذ في الإقبال على تعلم العربية، ولذلك يجد المدرس نفسه وتلميذه في حيرة محيّرة.
مشكلات التعليم:
لدراسة الصعوبات ومشكلات التعليم أعددنا استمارة استجوابية قمنا بتوزيعها على المدرسين والتلاميذ في إحدى المداس التابعة لمركز إسلامي يهتم بتعليم اللغة العربية والتربية الإسلامية لأبناء المهاجرين، وكانت نتائج الاستجواب كما يلي:
أولاً) استجواب التلاميذ:(1/33)
1- ... عدد المستجوبين: ... 102 ... طفلاً
... ... منهم: ... ... ... 66 ... ذكور
... ... ... ... ... 36 ... إناث
2- ... العمر / سنة ... ... عدد الأطفال
8 1
... ... 9 3
... ... 10 ... ... 4
11 7
12 12
... ... 13 ... ... 18
14 ... 17
... ... 15 ... ... 14
16 ... 13
17 9
18 ... 4
المجموع ... ... 102
3- ... مكان الولادة:
... ... - ... في الغرب ... 76 ... طفلاً
... ... - ... وافدون ... ... 26 ... طفلاً
4- ... السن عند الوصول:
... ... أقل من 3 سنوات ... 3 ... أطفال
... ... من 3 – 6 سنوات ... 2 ... طفل
... ... من 6 – 9 سنوات ... 21 ... طفلاً
... ... المجموع ... ... 26 ... طفلاً
5- ... مهنة الأب:
... ... بدون ... ... 23 ... أب
... ... عامل ... ... 77 ... =
... ... موظف ... ... 2 ... =
... ... المجموع ... 102 ...
6- ... مهنة الأم:
... ... عاملات ... ... 23 ... أم
... ... موظفات ... 2 ... =
... ... ربات بيوت ... 67 ... =
... ... المجموع ... 102 ... =
7- ... اللغة المستعملة في البيت:
... ... اللغة الأجنبية فقط ... ... 42
... ... الأجنبية والعامية ... ... 51
... ... العامية فقط ... ... ... 9
... ... المجموع ... ... ... 102
8- موقف الأطفال من تعلم اللغة:
أ) ... راضٍ : ... ... 60 ... طفل
... لماذا: ... ... - أريد أن أعرف لغتي
... ... ... - أريد أن أقرأ القرآن
... ... ... - (8) أطفال قالوا: إن الدرس مفيد والمدرس لطيف
ب) ... راضٍ قليلاً ... 39 ... طفلاً
... لماذا؟ ... ... - المدرس يتكلم الأجنبية
... ... ... - لا أفهم كثيراً
... ... ... - ساعات التدريس قليلة
... ... ... - الرصيد اللغوي المقدم فقير
... ... ... - قلة التمارين الشفهية
... ... ... - سوء تنظيم الدروس
... ... ... - تخصيص وقت أكبر للقراءة
ج) ... غير راضٍ ... 4 ... أطفال
... لماذا؟ ... ... - غير مهتم
... ... ... - لا أفهم أبداً
... ... ... - أتعب من الدرس
... ... ... أريد أن ألعب
9- ... عدد الأطفال الذين درسوا العربية في الوطن ... 19 ... طفلاً
10- ... الأطفال الذين ابتدأوا العربية في الغرب ... ... 82 ... طفلاً
11- دراسة العربية في الغرب:
عدد سنوات الدراسة ... ... العدد ... ... مبتديء ... ... متوسط ... ... متقدم
أقل من 3 سنوات ... ... 30 ... ... 6. ... ... 24 ... ... -
من 3 – 5 سنوات ... ... 48 ... ... 02 ... ... 39 ... ... 7.
أكثر من 5 سنوات ... ... 24 ... ... 7. ... ... 9. ... ... 8.
المجموع ... ... 102 ... ... 15 ... ... 72 ... ... 15
12- عدد الساعات الدراسية أسبوعياً:
عدد الساعات ... ... عدد الأطفال
من 3 – 4 ... ... ... 83
من 4 – 6 ... ... ... 19
المجموع ... ... ... 102
13- اقتراحات المستَجوَبين:
- زيادة عدد ساعات التدريس.(1/34)
- دراسة تاريخ وجغرافية البلدان العربية والإسلامية.
- عرض أفلام عربية تعليمية.
- استخدام الوسائل السمعية البصرية.
- ضرورة إيجاد كتب تفي بالمنهاج التعليمي.
- توزيع التلاميذ حسب أعمارهم.
- مزيد من الاهتمام بالتمارين الكتابية.
ثانيا) استجواب المدرسين:
برزت صعوبات من أهمها:
1- زيادة عدد التلاميذ في الفصل الواحد (أحياناً أكثر من ثلاثين).
2- تعدد لهجات التلاميذ في الفصل الواحد.
3- فقدان التنسيق بين المدرس والكتاب والرصيد اللغوي.
4- شعور التلاميذ بأن تعلم اللغة العربية يشكل عبئاً إضافيا.
5- شعور المدرسين بتخلّي الآباء عن الأبناء في التعليم.
مقترحات المدرسين:
1- العمل على توجيه الآباء والأبناء بأهمية العربية.
2- تبادل الخبرات خلال لقاءات المدرسين.
3- عقد دورات تدريبية لرفع مستوى المدرسين.
4- إلقاء الدروس النموذجية من بعض الخبراء.
النتائج العملية لهذه الدراسة:
... رأى المدرسون والقائمون على هذه الدراسة العملية تقديم الاقتراحات التالية لرفع سوية العملية التعليمية قدر الإمكان وضمن الإمكانات المتاحة للجالية المسلمة:
1- يجب أن يعتمد المغتربون في الحفاظ على أبنائهم على إمكاناتاهم الذاتية وأن لا يتكلوا على الحكومات والهيئات الرسمية فقط.
2- التعاون على إيجاد مجلس أعلى للتعليم ينبثق عنه لجنة متخصصة للمتابعة وإعداد البرامج.
3- إنشاء صندوق مالي مشترك تساهم فيه العائلات الإسلامية ولو بالقدر اليسير لدعم عملية التعليم.
4- يراعى في عملية التعليم تهيئة الأطفال على تعلّم مبادئ القراءة والكتابة وحفظ قصار السور في سنّ مبكرة، وقبل الالتحاق بالمدرسة الإبتدائية.
5- التأكيد على أن تقوم العائلات بمخاطبة الأولاد في البيوت باللغة العربية.
6- للأبوين دور أساسي في عملية التعليم، وعليهم متابعة الأطفال في إنجاز الواجبات البيتية.(1/35)
7- عند إعداد البرامج الموَحَّدة تراعى البساطة والتدرّج والتشويق في الكتب من حيث الطباعة وحسن العرض والمضمون.
8- يمكن الاستفادة من الكتب المهيأة من عدد من الدول العربية في اقتباس بعض النصوص والتوجيهات، ولا ضرورة للتقيّد حرفيا بكامل المقرر.
9- عقد دورات تدريبية للمدرسين باستقدام أهل الاختصاص لفترات محدودة.
الجيل الثاني ومشكلات المراهقين:
يتعرّض الجيل الثاني المراهق من أبناء الجاليات الإسلامية إلى صعوبات متعددة يمكن تلخيصها فيما يلي:
1- الصعوبات في جوّ المدرسة، وهو جوٌّ لم يتهيأ في الأصل لاستقبال أبناء المهاجرين.
2- الصعوبات في ميدان العمل، الذي لا ينفتح بسهولة للمراهقين الذين تركوا المدرسة ولم يختصوا بصورة مناسبة للقيام بأعمال فنية مُكسِبَة. وهناك ميادين تغلق في وجههم بسبب جنسياتهم ليس غير. أما الوظائف الحكومية فهي مسدودة عملياً في وجه من لم يحصل على الجنسية الأوروبية، وكذلك الأعمال التي من شأنها الاتصال بالجمهور الأوروبي. وتزداد الصعوبة حينما يتعلق الأمر بالإناث.
3- عدا صعوبة الدراسة وصعوبة الدخول في ميدان العمل؛ هناك حقائق اجتماعية تزيد الأمور تعقيداً، كالنزعة العرقية، هذه النزعة التي يحسها المراهقون من أبناء العمال المهاجرين تُوَلّدُ فيهم ميلاً للإنطواء على أنفسهم، كما تُنمّي في نفوسهم رغبة التهجم والعنف.
4- والصعوبة الرابعة ثقافية: فالعالََم الثقافي لهؤلاء المراهقين لا تستطيع المدرسة التأثير فيه، ولا توسيعه؛ فيكتفون بثقافة هامشية تُمعِنُ في نشرها أجهزة الإعلام، وهي ثقافة ليس في قيمها الأخلاقية والفكرية صحة ولا قوة ولا استمرار.
5- من الصعوبات أيضاً وضع الأسرة المسلمة التي تأتي إلى الغرب بدون أن تتهيأ له، فتبقى أسيرة العادات والتقاليد التي حملتها معها من بلدها؛ فتتيبّس وتزيد من تناقض أوضاع الأسرة المسلمة في الغرب وفي قلقها ومعاناتها.(1/36)
6- ويمكن أن نضيف إلى ذلك الإشارة إلى أن كبرى الصعوبات ناجعة عن أن المراهقين يعيشون خاضعين لثقافتين مختلفتين يضيعون بينهما: ثقافة جاءت معهم ومع والديهم من الوطن الأصلي، ولم يطلعوا منها إلا على وجهها المتيبّس الذي لم يتجدد ولم يتطور، وثقافة تأتيهم من مستقرّهم الجديد، فلا تصل إليهم بقوتها وصحتها وتمامها، بل تصلهم سطحية مشوّهة ناقصة فاقدة لقوتها وصلاحها.
7- ومن الصعوبات الهامة – لكنها صعوبات طارئة – ازدياد عدد الجانحين بين المراهقين من أبناء العمال المهاجرين، حيث تثبت الحوادث والإحصاءات حقيقة هذا الأمر، وإن كان يذكر في الغالب مع كثير من المبالغات لغرض من الأغراض.
يدّعي بعض الباحثين الاجتماعيين أن الجنوح لدى المراهقين يعود إلى البيئة التي يعيشون فيها مع أهلهم في ظروف اجتماعية واقتصادية خاصة. والواقع يدلّ على خلاف ذلك، إذ نستطيع أن نلمس الترابط الاجتماعي وروح الجماعة في الأحياء القديمة أو القرى الصغيرة التي يقطنها المهاجرون، ونسبة الجنوح في هذه الأمكنة ضعيفة أو نادرة.
أما في الأحياء التي يقلّ فيها عدد المهاجرين فإن نسبة الجانحين بين الشبان المهاجرين لا تزيد عن الشبان الغربيين، إن لم تكن أقل، فإن الجنوح الملموس في الأحياء المأهولة بالسكان من المهاجرين لا يتصف بصفات خاصة، ولا يختلف في طبيعته عن الجنوح المعروف في أوساط الشبان الغربيين.
ولعل البطالة من أهم بواعث الجنوح، ونظرة واحدة إلى الإحصاءات الفرنسية حول نسبة البطالة بين الفرنسيين والمهاجرين تؤكد ارتفاع هذه النسبة بشكل صريح لدى المهاجرين.
تدل الدراسة الإحصائية لعام 2005 في فرنسا على ما يلي:
نسبة البطالة لدى المهاجرين الذكور من عمر (25-39) سنة ... 17 %
نسبة البطالة لدى المهاجرين الإناث من عمر (25–39) سنة ... 28 %
نسبة البطالة لدى الفرنسيين الذكور من عمر (25-39) سنة ... ... 9 %
نسبة البطالة لدى الفرنسيين الإناث من عمر (25-39) سنة ... ... 11 %(1/37)
وفي تقرير نُشر في الاتحاد الأوروبي بتاريخ 14 آذار / مارس 2003 يذكر أن العنصرية التي يعاني منها المهاجرون المقيمون أو الوافدون الجدد، والتي تدفعهم للانعزال عن المجتمع أو القبول بالأعمال الهامشية وخاصة السوداء التي يأنف منها الغربيون، قد تكون أحد العوامل الذي يساعد على نمو نسبة الجنوح في صفوفهم.
أثر الثقافة الأصلية والثقافة الأوروبية على الشبان المهاجرين:
تطالعنا الدراسة المنهجية على الصفات البارزة للشبان من الجيل الثاني المعتمدة على مؤشرين رئيسيين وهما الثقافة الأصلية والثقافة الأوروبية أن هناك ثماني فئات من هؤلاء الشبان الذين تتجلى صورتم في دولة مثل فرنسا، وهم:
1- الفئة الأولى: هي زمرة من الشباب تغلب عليهم الثقافة الأصلية وهم ميالون للعودة إلى وطنهم، لكن يحول دون هذه العودة أنهم غير مؤهلين لعمل من الأعمال. وتعيش هذه الفئة في أحياء إما آهلة بالمهاجرين، أو أن المهاجرين قليلون فيها جداً. ومعنى هذا أن تكاتف المهاجرين في منطقة ما أو قلتهم " التي تسبب عزلتهم" يؤديان إلى نفس النتائج في حياة هذه الزمرة وفي سلوكها الاجتماعي.
2- الفئة الثانية: هي فئة الشباب الذين تشربوا الثقافة الأصلية، وأثرت فيهم الثقافة الغربية" أو الثقافة الهامشية من الثقافة الغربية" أكثر مما أثرت في الفئة الأولى. وهم يتمنون البقاء في الغرب. وتتصف هذه الفئة بأنها مؤلفة من أفراد لهم عصبية واحدة ويعيشون في أحياء كثافة المهاجرين فيها كثيرة، ودراستهم في المدارس متنوعة النتائج ، ضعيفة في الغالب، وأحياناً متوسطة وقليل منها موفق.(1/38)
3- الفئة الثالثة: مؤلفة من شبان منعزلين نسبياً عن ثقافتهم الأصلية وعن الثقافة الأوروبية. وهم يرفضون العودة إلى وطنهم ويسعون للتجنس، وضياع الهوية في هذه الفئة ملموس، ونجاحهم في المدرسة هزيل، وكلّ هذا يقلل من إمكانات تلاؤمهم مع المجتمع الغربي. وتعيش هذه الفئة في مناطق قليلة العدد من المهاجرين، لكن أفرادها يعيشون على شكل عصابات أو تكتلات.
4- الفئة الرابعة: فئة الشبان الذين هم في خصام مع أسرهم ومجتمعهم الأصلي، وليس لهم تعلّق ظاهر لا بثقافتهم الأصلية ولا بالثقافة الغربية. لذلك كان من الصعب اندماجهم في البيئة الغربية. والصعوبة التي يلاقونها في الاختيار بين الوسطين تضيع شخصيتهم وهويتهم.
5- الفئة الخامسة: تتألف من مجموعة من الشبان يحولُ تعلقهم بثقافتهم الأصلية دون استفادتهم من الثقافة الغربية، ورغبتهم في العودة إلى وطنهم بارزة، ويمكن تحقيقها لأن أكثرهم ذو ثقافة عامة ومهنية ظاهرة.
6- الفئة السادسة: فئة تمثلت الثقافة الغربية جيداً، لكنها متعلقة بوطنها الأصلي، ولها اهتمام بكل ما يتصل بأحواله الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ورغبتهم في العودة صادقة‘ وهي قابلة للتحقيق لأن هذه الفئة ذات ثقافة عامة جيدة وتدريب مهني وافٍ.
7- الفئة السابعة: تشبه السادسة غير أن تمثلها للثقافة الغربية معادل لتمسكها بثقافتها الأصلية. ونجد في هذه الفئة أسراً إسلامية وعربية صحيحة. وأفراد هذه الفئة ناجحون في دراساتهم وتدريبهم المهني، لكن حصيلة هاتين الثقافتين في أفراد هذه الفئة هي الرغبة في البقاء في الغرب والميل أحيانا للتجنس.
8- الفئة الثامنة: أما هذه الفئة فهي ظاهرة العزم على تمثل الحياة والثقافة الغربية ونبذ القيم الأصلية، وتفضيل طريقة الغربيين في أسلوب الحياة وفي المذاهب السياسية، ولا تفكر هذه الفئة في العودة قط إلى الوطن الأول.
معضلة اندماج المهاجرين في مجتمع الغرب:(1/39)
هناك جماعة بشرية - وهي ما يمكن تسميته بالمجتمع- نظّمت نشاطها وترابط أفرادها فيما بينهم حسب حاجتها الاجتماعية والاقتصادية وحسب قيمها الروحية والأخلاقية. وهناك حاجة لكي يحلّ أفراد جدد من الشبان محل بعض الأفراد الذين أدركهم العجز أو انتزعهم الموت. وهناك أعمال واختبارات وامتحانات لا بدّ للشبان من معرفتها واجتيازها ليثبتوا أنهم أهل ليحلوا محل أفراد المجتمع الذين ضمتهم القبور أو أفعدهم العجز عن الاستمرار في العمل والانتاج في إطار المجتمع.
هذا النموذج مبسطٌ جداً ويتغير بتغير المجتمعات ومناطقها الجغرافية واعتقاداتها الدينية وقيمها الثقافية وحاجاتها الاجتماعية. ففي المناطق الزراعية مثلاً نرى الإبن يقلّد أباه، ويرى فيه الإنسان الخبير في شؤون الفلاحة وتربية الحيوانات.
أما المجتمعات الأرستقراطية في القرون الوسطى، فإنها كانت تطلب من الشاب ليلحق بالرجال والكهول: الفروسية وخدمة الدين وتعلم فنون القتال.
والشاب الغربي في عصرنا هذا يُطلبُ منه اجتياز امتحانات مدرسية متعددة، وتُطلبُ منه الخدمة العسكرية لمدة معيّنة لكي يعيش في جوٍّ من التقشف والمساواة والحياة الصعبة مع عدد كبير من مواطنيه.
ولفهم عملية اندماج الفرد في المجتمع الغربي لا بدّ من معرفة طبيعة هذا المجتمع الذي يستقبل أفراده الجدد من الشبان لدمجهم واستخدامهم حسب أغراضه وحاجاته.
يتصف مجتمع البالغين في الغرب، بسبب ارتباطه الشديد بالتقدم الاقتصادي بالصفات الرئيسية التالية:
1- إنه مجتمع تتغير فيه القيم والمعايير تغيراّ سريعا.
2- إنه مجتمع يعيش فيه الأفراد أعماراً أطول من أعمار آبائهم وأجدادهم نتيجة للتقدم الصحي ومستوى الحياة.
3- إنه مجتمع مغلق يصعب على المرء الدخول فيه.
4- إنه مجتمع يطلب من القادمين للاندماج فيه معرفة وتجربة ومهارة.(1/40)
5- غير أن هذه المؤهلات الثلاثة: « المعرفة والتجربة والمهارة » صارت سريعة التطور والتبدل منذ السنين الأخيرة بحيث أن هذه المؤهلات تصبح قديمة بالية غير صالحة خلال مدة قصيرة من الزمن، فلا بدّ من التدريب من جديد (أو ما يسمى إعادة التكوين) لاكتساب معارف وتجارب ومهارات جديدة مطلوبة من الفرد لكي يندمج في مجتمع " الراشدين" في الغرب.
6- تتصف المعارف والتجارب الجديدة بأنها تقنية وتكنولوجية متطورة تزداد كل يوم دقة، وتتطلب في كل وقت تخصصا جديداً. وليس لهذه التكنولوجية الجديدة غاية تجري إليها، فلا تهدف إلا ذاتها، ولا تتطور إلا من أجل التطور، ولا تتقدم إلا من أجل الرغبة في التقدم نفسه، وبذلك تخلق حاجات جديدة غير ضرورية لتضمن لحركة الجهاز الاقتصادي تحركاً بات من الصعب ضبطه والسيطرة عليه.
7- غموض الأهداف التي يجري إليها المجتمع الغربي وصعوبة السيطرة على ميكانيكية الحياة الاقتصادية فيه، أزالَ كل الحواجز والامتحانات التي كان يطلب من الفرد اجتيازها في الماضي للاندماج في هذا النوع من المجتمع. ولم ينتبه الكثيرون من الناس لزوال هذه الحواجز والاختبارات.
وعدَّت طائفة من الناس زوال هذه الحواجز تطوراً حسناً وتقدماً اجتماعياً محققاً للعدالة والديمقراطية، وقاضياً على الامتحانات التي تصطفي فئةً من الناس دون الفئات الأخرى ومزيلاً للفروق الاجتماعية.
في الواقع لم يكن زوال الحواجز تقدما ولا كسباً للعدالة والديمقراطية، وإنما كان تغييراً جذرياً في طرائق اندماج الأفراد الشبان في مجتمع الراشدين الذي تغيّرت طبيعته وقيمه وأهدافه وصار مجتمعاً إباحياً، لا تمكن مراقبته والسيطرة عليه وعلى توجيهه، وهو في ظاهره جذاب كثير الإغراء للشبان، ولكنه في الحقيقة يسيطر عليه الغموض والشكّ، وتغيب عنه العدالة الصحيحة والديمقراطية الحقيقية، ويبعث في النفس اليأس ثم القلق باستمرار بما نشهد اليوم آثاره ومآسيه.(1/41)
كل المصاعب الجديدة التي تقف في وجه الفرد في محاولة الاندماج في المجتمع الغربي تعانيها الشبيبة المسلمة من أبناء المهاجرين في حياتها اليومية على الأرض الغربية، وتعاني فوق ذلك كله صعوبتين جديدتين كبيرتين:
أ ) وضعهم الاقتصادي الفقير جداً
ب ) والرفض المستمر الذي يلقونه من المجتمع كلما سعوا للاندماج فيه، ونتيجة ذلك كله أن هذه المجموعات من الشبيبة تتجمع فيما بينها معتمدة على الروابط المختلفة والقيم الأصلية لتؤلف بؤرات اجتماعية مغلقة سلبية رافضة لكل القيم السائدة في المجتمع الغربي، وقد يتطرف بعضها فيكرّس قواه وإمكاناته للأذى والتخريب كما حدث في باريس وبعض المدن الفرنسية منذ سنوات قريبة.
وقد نمت هذه الرغبة في العدوان والتخريب في مجتمعات الشبيبة المغلقة العاطلة عن العمل لأنها استوفت الشرطين الرئيسيين اللذين يدفعان الجماهير للعنف والتخريب وهما:
- صعوبة الاتصال والتعبير
- ضيق الأمكنة التي حضروا للعيش فيها.
وخلاصة القول: إن العمال المهاجرين الذين جاءوا وحدهم إلى الغرب في أول الأمر ثم التحق بهم زوجاتهم وأولادهم... لم يجدوا المدرسة الأوروبية مهيأة لتربية أبنائهم بالشكل الذي يناسبهم، ولم يجدوا المجتمع مفتوحاً لاستخدام أبنائهم، ولا سيما وأن هذا المجتمع يعاني اليوم أزمة اقتصادية تشكو منها الشبيبة الأوروبية نفسها؛ فإن كانت شكوى الشبيبة المسلمة أشد وأوجع فذلك لأنهم في المجتمع الغربي أقل صناعة وأقل قدرة على المقاومة لضعف حالتهم الاقتصادية واختلافهم في العرق واللغة والدين والقيم الاجتماعية والروحية عن أبناء البلد المضيف الذي ما زال يعتبرهم غرباء مهاجرين.(1/42)
ولا بد لي أن أشير أن كل الذي تحدثنا عنه ينطبق على الأوضاع في المراحل الأولى من الهجرة، ولا شك أن أغلب المعطيات تغيّرت بشكل واضح، وأصبح موضوع الاندماج هو الشغل الشاغل للمؤسسات السياسية والاجتماعية الأوروبية، ولذلك لا بد لي من معالجة الموضوع بشكل آخر على ضوء هذه المستجدات.
حول نشوء مصطلح الاندماج:
تعتبر قضية الاندماج من بين أهم القضايا التي حظيت باهتمام منقطع النظير، ليس فقط من لدن النخبة المثقفة، وإنما كذلك من قبل مختلف شرائح ومكونات المجتمع الغربي المعاصر، على تباين درجة وعيها، ومستوى عيشها، وحجم موقعها الاجتماعي، حتى أضحى هذا المصطلح يسيل على كل الألسنة، وتنشغل به أغلب الجهات، ويحضر في معظم الأنشطة، رغم أنه حديث العهد بالظهور، حيث لم يمر سوى عقدين أو ما يزيد بقليل، على سنّ سياسة إدماج المسلمين والأجانب في المجتمعات الأوروبية بخاصة، ما دام أن وجود المسلمين بالغرب انتقل من حالة الاستقرار المؤقت إلى حالة المواطنة والإقامة الدائمة، وهذا التبدل والانتقال طرح أمام سلطات وحكومات الدول التي يقطن فيها المهاجرون، إشكالات جديدة وتحديات غير متوقعة، تقتضي معالجة فورية وحلولا معقولة للوضعية التي توجد فيها اليد العاملة، التي تم استيرادها من بلدان العالم الثالث منذ أواسط القرن المنفرط، وهي وضعية تتطلب تسوية قانونية لا تقتصر على منح المهاجرين هوية قانونية ومدنية، ينالون من خلالها أحقيتهم، إما في التحرك داخل رقعة البلد الذي يقيمون فيه، أو في السفر إلى أوطانهم الأصلية أو غير ذلك، وإنما تتجاوز ذلك إلى شتى الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتعليمية، إذ يصبح المهاجر باسم القانون ذا حق في العمل والصحة والتعليم والتعبير، وما يستتبع ذلك من حقوق متنوعة.(1/43)
هكذا لم يعد أولئك العمال الذين استجلبهم العديد من الدول الأوروبية من مختلف بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط، مجردَ ضيوف مؤقتين كما يعرفهم المصطلح الألماني الشائع (العمال الضيوف) Gastarbeiters، وإنما منذ بداية سبعينيات القرن الماضي، اكتشف العديد من سلطات الدول الغربية المستورِدَة لليد العاملة، أن أولئك العمال صاروا مقيمين أو شبه مقيمين بالديار الأوروبية، بل إن كثيراً منهم حصلوا على الجنسية الأوروبية، لأن الوضعية السيئة التي كانت عليها أوطانهم الأصلية، ما عادت تشجع على العودة، إلى جانب كثير من الامتيازات التي حصلوا عليها خلال استيطانهم في الغرب. وقد تواكب هذا مع أزمة اقتصادية عالمية خانقة، لم تكن أوروبا بمنأى عن مضاعفاتها وخلفياتها، مما دفع الدول الأوروبية ابتداءً من أوائل السبعينيات إلى وقف استيراد اليد العاملة، وإعادة النظر في تعاملها مع ملف المهاجرين، وقد ترتب عن هذه المراجعة إقحام سياسة اندماج الأجانب في مذكرتها السياسية، وبالتحديد منذ أواخر السبعينيات من القرن المنصرم. غير أن ما حدث هو أن اندماج اليد العاملة من أصل إسباني وإيطالي كان تلقائياً وسريعاً، في حين انعزلَ المغاربة والأتراك والآسيون المسلمون في تكتلات خاصة بهم خارج بنية المجتمع الأوروبي في أغلب الدول.(1/44)
وبعدما تم تقنين وضعية أعداد كبيرة من المسلمين المقيمين في أوروبا، وصار وجودهم القانوني بالمهجر يتحسن شيئا فشيئا، بدأت تنشأ بجانب ذلك التحسن مشاكل جديدة من عيار آخر، مشاكل ذات أبعاد أخلاقية وحضارية، تمس بشكل أو بآخر ما يعتبر مصيرياً في تفكير واعتقاد أولئك المهاجرين، كالدين والهوية والأخلاق والذريّة وغير ذلك، حيث بين عشية وضحاها تغير التفكير لدى غالبية مسلمي الغرب، من تفكير بسيط ومحدود في لقمة العيش والعمل والسكن، إلى تفكير معقد متشعب في تربية الأبناء، ومستقبل العقيدة التي يؤمنون بها، والثقافة التي يمثلونها، والتعامل مع الآخر وغير ذلك. ومن بين الأمور التي استأثرت بقسط وافر من تفكير أولئك المسلمين، وصارت لدى بعضهم بمثابة كابوس ينغّص رغد عيشهم، ويعكر صفاء حياتهم، نجد سياسة الاندماج، التي حاولت أغلب البلدان الأوروبية المستقطبة للمهاجرين، بواسطتها أن تدمج المسلمين والأجانب داخل مجتمعاتها، وتجعلهم ينخرطون في الحياة العامة بشكل منفتح وتلقائي وإيجابي، حتى أضحت تعادل ذلك الحلم الذي يراودها، ما دامت ترى في تنفيذ تلك السياسة و تحقيق أهدافها المبرمجة، حلاً سحرياً لجملة من الإشكالات الناتجة عن الوجود الإسلامي والأجنبي بالغرب، لكن هذه السياسة التي تبدو وكأنها سوف تجلب النفع والخير العميم للجميع؛ سلطةً وشعباً، أصليين وأجانب، أوروبيين ومسلمين... قوبلت بالرفض أو التحفظ من قبل العديد من المسلمين، سواء كانوا مثقفين أم عاديين، لأنها تُخفي غير ما تعلنه، وتبطن غير ما تعد به من أهداف ومشاريع، فهي تنبني على أسلوب الاحتواء الذي يسعى إلى تذويب المسلمين في أتون الثقافة الغربية، لأن ذلك الإدماج الذي يتراءى نافعا وإيجابيا، سرعان ما يتبدد نفعه وإيجابيته، لما يؤدي إلى بلع هوية الآخر وخصوصياته الحضارية والدينية.(1/45)
وهكذا صار مصطلح الاندماج ينطوي على مفهوم ملتبس ومخادع، ولو أن دلالته اللغوية الأصلية واضحة ومستوعبة، والمرجع في ذلك الالتباس، أو تلك المخادعة، إلى ذلك الاستهلاك المتنوع والمستمر له، مما شحنه بشتى الأفكار والحمولات والتأويلات الفكرية والسياسية والأيديولوجية، التي حرفت معناه الأصلي، فراح كل تيار أو حزب أو توجه يُؤوّل اندماج المسلمين في المجتمعات الغربية والأوروبية، وفق رؤية المرجعية التي ينتسب إليها، لذلك ارتأينا في هذا المبحث أن ننقب في الجذور اللغوية لهذا المصطلح، سواء في بعض القواميس العربية أم الأجنبية.
حقيقة مصطلح الاندماج:
لقد اتفق الدارسون الذين تناولوا مصطلح الاندماج (Integration) الذي يتكرر بنفس الصيغة اللغوية أو بما يقربها، في أغلب اللغات الغربية، لاتينية كانت كالفرنسية والإسبانية والإنجليزية وغيرها، أم جرمانية كالألمانية والهولندية، على معادلته في اللغة العربية بمفردة (الاندماج)، ومن المؤكد أنها أحيانا تُترجم بغير ذلك من المفردات القريبة منها دِلالياً، كالإدْماج والضمّ والانضمام والتأليف والإدغام وغيرها، لكن تبقى كلمة الاندماج أكثر استعمالاً وشيوعاً، لذلك رأينا من الجدارة بمكان، أن نذهب نفس المذهب، ونستخدم هذا المصطلح، لكن بعد أن نستوعب دلالته اللغوية الأصلية، التي سوف تمكننا لا محالة من وعي الجانب الاصطلاحي الشائع بيسر وفطنة وإدراك.(1/46)
إذا كانت بعض القواميس الغربية الحديثة مثل لاروس Larousse الفرنسي ودودن Duden الألماني وفان دال الهولندي وأكسفورد الإنجليزي وغيرها، تلتقي في تحديدها لمصطلح (Integration) حول ما معناه: الدخول في وحدة أو في الكل، والتجانس مع مكونات تلك الوحدة أو ذلك الكل. فإن جملة من المعاجم العربية القديمة تكاد لا تخرج عن ذلك الخط الدلالي، حيث تشرح أغلبها مادة (دَمَجَ) التي تشتق منها مفردة الاندماج، وأحيانا صيغة (اندمج) بـ: (دخل في الشيء)، ومنها ما يزيد على ذلك الشرح عبارة: واستحكمَ فيه، كما جاء في لسان العرب والمحيط. فيكون بذلك التحديد المتكامل لمادة (دمج) هو: دخل في الشيء واستحكم فيه. وكلمة استحكم، كما هو وارد في قاموسي المحيط والوسيط، تطلق على الشيء إذا توثق وصار محكما ومضبوطا ومتقنا.
استنادا إلى هذا التحديد اللغوي لمفردة الاندماج أو جذرها (دمج)، سواء في المعاجم الغربية أم العربية، يمكن استخلاص النتائج الآتية:
إن الدلائل اللغوية لهذه المفردة تكاد تتوحد توحداً كاملاً، رغم اختلاف المعاجم التي وردت فيها، من حيث الزمان والسياق واللغة والثقافة، وهذا يعني أن ترجمتها كانت في محلها، وأن استعمالها يظل صحيحا عندما يقترن الأمر بالشق اللغوي، ولا يشذ إلا عندما يخالطه ما هو أيديولوجي وثقافي. وهذا يجعلنا كذلك، نستنتج أن مصطلح الاندماج يبدو وكأنه صالح لكل زمان ومكان، لكن بعيداً عن أي تأويل ضيق، أو إسقاط تلفيقي، ومراعاة لخصوصيات المندمج الأصلية، التي ينبغي تفادي اصطدامها مع خصوصيات غريبة عنها أثناء عملية الاندماج، وإلا انقلب مفهوم الاندماج رأسا على عقب، وصار مبطناً بمفاهيم أيديولوجية مغايرة كالاحتواء والتبعية والإقصاء والذوبان.
إن الدلالة اللغوية لكلمة الاندماج (Integration) تنبني على مفهومين، لا يستقيم معناها إلا بتوفرهما، أو لا يكتمل أحدهما إلا بوجود الآخر. وهذان المفهومان هما:
الأول: الدخول،(1/47)
والثاني: الاستحكام أو التجانس مع الكل كما جاء في المعاجم الأوروبية.
وهذا معناه أن الشيء لا يصبح مندمجا اندماجا صحيحا وكليا في بنية ما، إلا إذا دخل في تلك البنية وتجانس مع باقي مكوناتها، واستحكم فيها عن طريق توثق الصلة مع كل البنية أو مع البنية كلها. من هنا، يتجلى أن الاندماج لا يكون بالدخول أو الانخراط في منظومة ثقافية ما أو اجتماعية أو غير ذلك، وإنما بالتجانس أو الاستحكام العقلاني مع باقي مكونات تلك المنظومة، وإلا أدى ذلك الدخول إلى ما يشبه الذوبان في ثقافة الآخر، ونكران الهوية الأصلية، لذلك فالتجانس العقلاني أو الاستحكام كما تشير القواميس اللغوية العربية، هو ضرب من التواصل المتبادل والبناء والواعي بين كل مركبات المجتمع، الذي من شأنه أن ينتج عنه اندماج إيجابي؛ يتشبث فيه المسلم والأجنبي بجذوره الثقافية والدينية، لكن في نوع من الانفتاح والتعاون مع الثقافات والعقائد الأخرى تحت مظلة المجتمع الواحد.(1/48)
وتنضاف إلى الإشارتين السابقتين ملاحظة في غاية الأهمية، وهي أن مفردة الاندماج التي يفضل أغلب الباحثين والمهتمين المسلمين والعرب وغيرهما استعمالها، هي مصدر لصيغة اندمج التي تقابلها في الميزان الصرفي صيغة انفعل، وهي ثلاثية الأصل، مزيدة بحرفين، وفعلها لازم لا يتعدى إلى مفعول، أي أنها تقتصر على فاعل، لكن عندما تتأمل هذا الفاعل تكتشف أنه لا يتجاوز الوظيفة النحوية، فهو لا يعمل شيئاً، ولا يسبب في عمل ما، لذلك يمكن أن نعتبره مجرد فاعل نحوي، في غياب الفاعل الدلالي والحقيقي، حيث الأحداث التي تحملها جمل من قبيل: انكسر الكأس، انهمر المطر، اندمج المسلم... ليست من عمل فاعل مباشر ومحدد، وإنما تحدث من تلقاء نفسها، وبشكل عفوي، فالانكسار أو الانهمار أو الاندماج... هي على المستوى المعنوي حالات للفواعل: الكأس والمطر والمسلم، أما على المستوى النحوي فهي فواعل. والخلاصة من هذا، أن تلك الأحداث أو الحالات كما تؤشر الأفعال تحصل بعيداً عن أي عامل معلن، حيث العامل الذاتي هو الوحيد المعلن، وهذا يدل على أن التلقائية والعفوية هي المناخ المناسب الذي يمكن أن يتبلور فيه حدث الجملة التي يوجد فيها فعل لازم مزيد بحرفين وعلى الصيغة الصرفية: انفعل.(1/49)
بناءً على هذه المقاربة اللغوية لصيغة مفردة الاندماج وما يمكن أن تحمله من إشارات دلالية لطيفة، نستطيع أن نوظفها في استيعابنا لمفهوم الاندماج على مستوى أوسع، حيث هذه التلقائية التي تطفح بها الصيغة المزيدة لجذر الاندماج، ينبغي كذلك أن تنعكس على عملية الاندماج داخل المجتمع، فلا تتأتى تلك العملية بأسلوب إجباري أو قسري، بقدرما تنبع بطريقة عفوية من تفكير وسلوك المندمج، وذلك عندما تتوفر له الشروط الملائمة لذلك، وأهمها التواصل الإيجابي المبني على الإيمان بثقافة الآخر وفكره ودوره، أما إذا كان هذا التواصل متقطعاً ومرتكزاً على العداء الخفي أو المعلن، كذلك يكون الاندماج متقطعاً، يؤسس لثقافة القطيعة لا لثقافة التعايش!
الوجه الخفي لسياسة الاندماج في الغرب(1/50)
بالنظر إلى الخطاب السياسي المهيمن في الغرب، الذي يُدرك أن بقاء المسلمين سواء في البلدان الأوروبية أم في الدول الغربية، غير مرهون فحسب بتوفرهم على وضعية قانونية صحيحة، أو نيلهم لجنسية البلد الذي يوجدون فيه، أو حتى انتمائهم إليه بالولادة والتربية والالتحاق بالمدارس ودرجات التعليم المختلفة ونحو ذلك، ولكنه مرهون بما هو أهم من ذلك كله، وهو وجوب انخراطهم في الحياة العامة الغربية، ثقافياًً ولغوياً واجتماعياً واقتصادياً وأخلاقياً وغير ذلك، على أن يكون هذا الانخراط مسايراً، بل ومندرجاً في بوتقة المجتمع الغربي، قلباً وقالباً، تفكيراً وسلوكاً، وبعيداً عن أي تصارع مع أخلاق وتقاليد الغربيين، ولو أنها تهدد المسلمين المغتربين في هويتهم الدينية والثقافية، وفي تربية أبنائهم وتوجيههم، مما يضعهم أمام نارين؛ نار الولاء للآخر، ونار التمسك بالهوية الأصلية.(1/51)
وسعياً إلى تنفيذ هذا المبتغى، الذي يطلق عليه في الأدبيات الغربية سياسة الاندماج، تم حشد شتى الإمكانيات القانونية والمادية والدعائية، التي وظفها العديد من الدول الغربية في شكل مشاريع عدة، تأتلف حول أهداف موحدة، وتكلفت مختلف الأجهزة بتطبيق ذلك وتعميمه على كل الأجانب الموجودين بين ظهرانيها، من وزارات وأحزاب ومؤسسات تعليمية وجمعيات وشركات وغير ذلك، وعندما تمعن النظر في هذا الاهتمام اللافت لهذه القضية، تشعر وكأنك لست أمام سياسة الاندماج، وإنما أمام ثورة الاندماج، مادام أن أولئك المشرفين على ملفات هذه القضية، الذين تفهم من خطابهم وكأن لا خيار للأجانب والمسلمين إلا الاندماج في المجتمعات الغربية، وأن رضى الغرب عليهم لا يأتي إلا من بوابة اندماجهم وفق رؤيته الفكرية والتنظيرية، وإلا فإنهم سوف يُحشرون لا محالة في خانة الوافدين لا المواطنين! لكن، وحتى تكتمل الصورة في أذهاننا، ينبغي أن نتصفح رؤية الغرب لاندماج الآخر في مجتمعه وثقافته، لعلنا نستوضح منها ما قد يكون إيجابيا لوجودنا عنده، فيكون ذلك بمثابة المصباح الذي نستنير به في طريقنا البعيد، أو لعلنا نفقه بها ما يساعدنا على أن نفهم الأسباب العميقة لانصراف الكثير من المسلمين وتحفظهم من سياسة الاندماج، التي تقدمها لهم الحكومات الغربية على طبق من ذهب! وسوف نقتصر هنا كمثال عملي على النموذج الهولندي حيث يعيش ما يقرب من مليون مسلم في هذا البلد. يبدو واضحا من كلام وزيرة الاندماج وشؤون الأجانب في هولندة، أن سياسة الاندماج تنطوي على مشروع عقلاني، يسعى إلى إشراك الأجانب في الحياة العامة، وذلك بمنحهم فرصة تلقي اللغة الهولندية، والتعرف على تاريخ وثقافة الشعب الهولندي، ونحو ذلك من الأهداف الشريفة.(1/52)
وقد جاء في كلمة الوزيرة أو الوزارة المعنية بالأمر ما فحواه: "يجب أن يتم الاندماج في المدارس والشركات والحي والشارع، وهو بدرجة ما مهمة تناط بالسلطة الوطنية، حيث منطلق سياسة المواطنة الجديدة، هو أن كل مهاجر يتحمل مسؤولية اكتساب المعارف والمهارات الضرورية."
إن المتصفح لمثل هذا الكلام، يدرك حقا أنه لا يشكل أي تهديد لهوية وثقافة كل من سوف يطاله هذا الاندماج، لكنه في نفس الوقت، لا يكشف عن الفائدة الملموسة من هذه السياسة، علما بأن ثمة الآلاف من المسلمين الذين اندمجوا لغوياً ومعرفياً، أي أتقنوا اللغة الهولندية، وتعرفوا على قيم وتقاليد وتاريخ الشعب الهولندي، لكن رغم ذلك ظلوا بعيدين عن ذلك التواصل التلقائي والحميمي مع المجتمع الهولندي الذي ينخرطون فيه، بل ومنهم من يتفوه علنا برفض قيم المجتمع والثقافة الهولندية، وهذا الرفض لا يأتي من فراغ، وإنما يستند إلى عوامل شتى، منها ما يمكن اعتباره موضوعياً، مثل مشاكل العمل، والتواء القوانين المنظمة لبعض القطاعات كالتأمينات والمدرسة وغير ذلك، دون نسيان الهجمة الإعلامية المدعمة ضد المسلمين، وهكذا دواليك.(1/53)
واستنادا على هذا، يتقرر أن عدم إقبال مجموعة من المسلمين على الانخراط العفوي في الثقافة الأخرى، لا يُعزى إلى فشل في اندماجهم اللغوي أو المهني أو حتى الشبه ثقافي، وإنما إلى أسباب أعمق من ذلك، تتجذر في أسلوب تفكيرهم، وطريقة تعاملهم، وهما أمران لا يفهمان إلا في نطاق البنية المجتمعية العامة التي ينحدر منها هؤلاء، وهي بنية جدُّ مختلفة عن بنية المجتمع الغربي، حيث المعايير الفكرية والسلوكية السائدة لا تليق إلا بالإنسان الغربي، وعندما تطبق على الإنسان المسلم أو الأجنبي تفقد قيمتها، وتنقلب ضداً، كما ينقلب السحر على الساحر، فالحرية مثلا، بالمفهوم الغربي هي فوضى بالمقياس الشرقي أو العربي، لذلك نرى أن أغلب صور السلوك المنحرفة والإجرامية التي يقترفها الأجانب، إنما السبب فيها هو الحرية المفرطة في غياب الأنا الأعلى (الأب، الإمام، الشيخ، السلطة...)، لذلك بمجرد ما تغيب سلطة الأب من المنزل، تنفتح شهية الأبناء للتحرر التام من كل القيود الدينية والثقافية والقانونية وغير ذلك، ومثل هذه الوضعية المعاشة التي يعانيها عدد من المسلمين في الغرب، تجعلهم يسخطون على القيم الغربية، ويعتبرونها سبب الانحرافات الخطيرة التي تتخبط فيها الأجيال الأخيرة، فيفقدون بذلك كل الثقة في المقولات الدعائية التي يروج لها الإعلاميون والسياسيون، ولا يرون في القوانين التي تصدر تباعاً بخصوص الأجانب والمسلمين، مجردَ وُعود تخفي وراءها قيوداً مصممة للحدّ من المد الإسلامي، وتدجين كل الأصوات التي تنادي بتمكين المسلمين والأجانب من حقوقهم القانونية والدستورية.
هذه الأسباب وغيرها كفيلة بأن تزرع الارتياب في نفوس الجالية المسلمة الموجودة في الغرب، وحتى يتسنى لنا الاستيعاب الشمولي والموضوعي لهذه الوضعية الحرجة التي تعكس الحالة الحقيقية لعدد لا يستهان به من المسلمين، نبلور ذلك في النقاط الآتية:(1/54)
إن سياسة الاندماج كما تطرحها بعض الحكومات الأوروبية والغربية، ليست هي النموذج الأوحد الذي يمكن بواسطته إشراك المسلمين في المنظومة الاجتماعية والثقافية الغربية، إشراكا إيجابيا وبناء، لأنها:
أولا) صادرة من طرف واحد، وهو الذي بيده القرار، دون تشاور مع ممثلي المسلمين ومثقفيهم، وثانيا) تبدو في جانبها النظري ذات أهداف إيجابية للكل، لكن أثناء التنفيذ يتضح زيفها وخداعها، وهذا ما راح يحصل من قبل وزيرة الاندماج الهولندية، التي جعلت من وزارتها في جانبها المرتبط بإدماج الأجانب ورشا للتجارب، مما يجعلنا نقرر ما أشرنا إليه في تحديدنا اللغوي لمصطلح الاندماج، الذي ينطوي على مفهوم شريف، ما إذا لم يعتريه ما هو أيديولوجي.
إن عدم تجاوب بعض المسلمين مع بعض قيم الثقافة الغربية، لا يعني أنهم لم يندمجوا، بقدرما يشير إلى أنهم استطاعوا أن يتقنوا اللغات الغربية، ويتعرفوا إلى ثقافات البلدان التي يوجدون فيها، وينتظموا بشكل إيجابي ومنتج داخل سوق العمل، لكنهم تحفظوا من الانخراط غير العقلاني في ثقافة الآخر، لأنه انخراط يحمل في طياته بذور الموت لثقافاتهم الأصلية، ومن فينة لأخرى تكشف مختلف الآراء عن هذا الموت أو التذويب للآخر في بوتقة المجتمعات الغربية، مثل آراء أحزاب اليمين المتطرف في العديد من الدول الأوروبية، وغير ذلك، فكيف يُنتَظر من المسلمين أن يقبلوا على هذا الآخر الذي يرفض قيمهم الدينية والثقافية دون تربص ووجل!
ثم إن وضعية المسلم في الغرب، ينبغي أن تحلل وتفهم في نطاق أوسع، يراعي شتى الجوانب النفسية والثقافية والدينية والتاريخية والسياسية والاجتماعية وغير ذلك، وهي جوانب تثبت أن الإنسان المسلم ليس هو الإنسان الأوروبي أو غيره، ومن هنا فالتعامل المثمر معه يجب أن يضع في الحسبان كل تلك الجوانب، وإلا فإنه سوف يتخذ مسارا منحرفا.(1/55)
في العام الماضي كشف تقريرصدر في هولندة ( وهو ما يسمى بتقرير بلوك) عن فشل سياسة الاندماج التي سنتها الحكومات الهولندية المتتابعة طوال حوالي ثلاثة عقود، لكن هذا لا يعزى بشكل أو بآخر إلى عجز المسلمين أو الأجانب عن الاندماج، وإنما يعود إلى خلل ما في تلك السياسة، أو إلى خلل في آلية إيصال فحوى الاندماج إلى الآخر، وجعله يتقبل هذه الفكرة من أصلها، لذلك عمد ذلك التقرير إلى اقتراح توصيات، يستوجب على الحكومة الحالية العمل بها، وما تلك التوصيات إلا قيود جديدة سوف تزيد من تضييق الخناق على الأجانب، مما سوف يولد ارتجاجات جديدة، تجعل المهاجر يسري عليه ذلك المثل العامي المعروف: (الداخل إلى الحمَّام ليس كالخارج منه!). والجديد الذي يتضمنه ذلك التقرير يتمحور حول: عدم تركيز أكثر من 80 % من التلاميذ الأجانب في مؤسسات تعليمية إثنية أو دينية معينة، وإجبار أكثر من 54 % من الأقليات على الانخراط في سوق العمل، وعدم السماح بتسكين العائلات ذات الدخل الأدنى في أحياء محددة، وانتهاج أسلوب الوقاية والقمع في مواجهة السلوكات الإجرامية المنحرفة التي يسببها شباب الأجانب، وتنظيم تكوين للأئمة والحد من استيراد الأئمة من الخارج، وإصدار مذكرة حول التطرف والأسباب التي تقف من ورائه وذلك بالتشاور مع عدد من المسلمين.(1/56)
كيف ينظر المسلمون إلى هذه التبدلات التي بدأت تحصل في الغرب، وهم ليسوا بعيدين عن تأثيرها؟ هل يتخذون منها موقفا معلنا، يحاولون من خلاله إثبات رفضهم أو قبولهم لذلك، أم يبقون مكتوفي الأيدي وهم ينتظرون الذي يأتي ولا يأتي؟ في حقيقة الأمر، يظهر أن مسلمي هذه الألفية الجديدة يختلفون جذريا عما كان عليه أسلافهم الذين شكلوا الجيل الأول، حيث استطاعوا في ظرف وجيز أن يحضروا في شتى قطاعات المجتمع الغربي ومجالاته، لكن ما يعاب على هذا الحضور أنه يتخذ طابعا فرديا، يغيب معه التنسيق الجماعي، مما يشتت الإسهام الذي يقدمه الأجانب داخل بنية المجتمع الغربي، ويجعله باهتا ومحجوبا بالأحداث الساخنة التي يسببها بعض المنحرفين، وهي أحداث تسرق أضواء الإعلام والسياسة، فيبدو معها كل إسهام من لدن المسلمين والأجانب مقزما وليس ذا شأن! رغم ذلك فثمة العديد من المنظمات والمؤسسات الإسلامية، بدأت تتخطى الحواجز لتثبت حضورها الفعلي داخل المجتمع، ومنها من تمكن من فتح الحوار مع السلطات المسؤولة، ومنها من يجمعه معها التعاون في شتى الجوانب، غير أن ما يعوز بعض هؤلاء هو الرؤية الواضحة للأمور، التي تحاول ترتيب أوراقها الداخلية، ومعرفة دورها داخل المنظومة الغربية، ومن ثم وضع استراتيجية تأخذ بعين الاعتبار كل الحيثيات التي تمت بصلة إلى وجود المسلمين في الغرب، وفي هذا الإطار يمكن إدراج تلك الأصوات التي تنادي بإسلام حضاري، يتكيف مع كل المناخات والثقافات، ليؤسس رؤية إنسانية وكونية ترتكز على الاعتدال والوسطية، ولا تنفي الاندماج الإيجابي في أي مجتمع، اندماج مشروط بالحفاظ على الهوية الأصلية، ومبني على التجانس العقلاني مع ثقافة الآخر، والاستحكام الذي يضمن استمرارية خصوصيات الديانة التي يؤمنون بها، والثقافة التي يمثلونها، والهوية التي يحملونها.
مشكلات الأسرة المسلمة في المهجر:(1/57)
كانت الأسرة الإسلامية المهاجرة في موطنها على الغالب أسرة تعيش من الزراعة ورعي الماشية، يتعاون أفرادها – جميع أفرادها – ويتقاسمون العمل وتجمعهم الصلات الإسلامية في المعاملات والعبادات والقيم الروحية والعلاقات الأخوية والأسرية.
فلما جاءت هذه الأسرة إلى الغرب، حاولت أن تتكيف حسب مقتضيات المجتمع الجديد وانقلبت عملياً إلى أسرة حسب النموذج الصناعي. ومن المعلوم أن تركيب الأسرة الصناعية وترابطها قائم كله على المرتب ( أي على الأجر الذي يتقاضاه العامل)، وتطور الأسرة المهاجرة الصناعية من النموذج الزراعي إلى النموذج الصناعي زاد في بؤسها ومشكلاتها لأن الأسرة الصناعية الأوروبية تكسب مرتين: مرتب الزوج ومرتب الزوجة، بينما الأسرة المهاجرة الصناعية لا تجني سوى مرتب واحد لصعوبة إيجاد عمل للزوجة. كما أن الأسرة الأوروبية قليلة الأولاد، بينما الأسرة المسلمة المهاجرة كثيرة التناسل. والأسرة الأوروبية أقدر في العثور على العمل وعلى الحصول على المرتبات الجيدة من الأسرة المسلمة المهاجرة.
ولقد تطورت الصلات بين أفراد الأسرة المهاجرة تطوراً هو في الواقع تقطيع للروابط وتمزيق للوشائج وضياع للقوى الروحية التي تجمع بين أفراد الأسرة الإسلامية.
وإذا تأملنا في هذا لتطور بصورة متأنية نلاحظ أولاً تأثير العامل الاقتصادي أي أن الأسرة لم تبق سلطتها مقصورة على الأب – كما في الأسرة العربية الإسلامية – بل هي بين الفرد الذي يكسب القوت ويربح المرتب ويثبت القدرة في الكفاءة في سوق العمل. أما التقاليد وتكافل الأسرة والاهتمام بالتربية وبتلقين الدين فقد أصبح كل ذلك أمراً ثانوياً موكولاً إلى مؤسسات اجتماعية خارج الأسرة كالمدرسة والمجتمع والمسجد.
ونلاحظ ثانيا انتقاص قيمة الوالد، وهو في الحقيقة مأساة في حياة الأسرة المسلمة المهاجرة حيث يتعارض نموذجان للأب:(1/58)
1- النموذج الأول هو الذي عرفه الجيل الأول من العمال المهاجرين، جاءوا بصورته من أوطانهم، وهو أبٌ يقوم بدور رب الأسرة، يرأسها ويعولها، ويطيعه جميع أفرادها.
2- أما النموذج الثاني فهو صورة الأب كما تعلمها الجيل الثاني وما بعده من أبناء المهاجرين الذين رأوها بأم أعينهم في المجتمع الصناعي الذي نشأوا فيه. وهو والد تأتي قيمته من وضعه الاقتصادي ومن قدرته على الحصول على العمل في سوق الكفاءة والمهارة. والعمل الذي يحصل عليه العامل المهاجر هو في الغالب عمل متواضع ذو أجر قليل.
وكان تصادم هذين النموذجين مدعاة لمآسي كثيرة في بعض الأسر المسلمة المهاجرة، فبينما نجد الأبناء قد قلّ تقديرهم لآبائهم الفقراء الأميين ذوي الأعمال البسيطة، نجد الآباء الذين جعلتهم ثقافتهم الأصلية موضع التقدير، يطالبون زوجاتهم وأبناءهم في أوروبا أن يعاملوهم بالاحترام الشديد والطاعة التامة والتمسك بالتقاليد.
لقد نجم عن هذا التعارض بين النظرتين خصومات كثيرة بين بعض أجيال الآباء وبعض أجيال الأبناء وكثرت الأزمات النفسية وانهيار الأعصاب من الجانبين، وساد جوّ بعض الأسر التوتر والقلق والحيرة والأمراض النفسية، وتمزق نسيج بعض الأسر من جراء ذلك شرّ ممزق.(1/59)
ونلاحظ ثالثاً استمرار تفضيل الرجولة في كثير من الأسر الإسلامية المهاجرة. فعلى الرغم من تأثر الأسرة المهاجرة بالحياة الاقتصادية في المجتمع الغربي الذي عدّل تركيبها وغيّر قيمها الأخلاقية والاجتماعية ورغم تأثرها كذلك بنموذج الوالد كما صار في المجتمع الصناعي، فإن أمراً واحداً استمرّ من التقاليد القديمة وهو تفضيل الرجولة على الأنوثة. وهذا التفضيل أظهر في الطبقات الفقيرة المتواضعة، حيث اضطربت القيم وضاعت الأصالة، ولم يبق للشبان معيارٌ يتباهون به ويجدون فيه هويتهم سوى التباهي بالذكورة. وقد زاد هذا التباهي شدة وجعله أشبه بردّ فعل أو ثورة على الواقع، الدورُ الذي تقوم به المرأة في الغرب؛ وغلبة العنصر النسائي في التعليم الغربي في المدارس الأوروبية الابتدائية والثانوية وحتى في صفوف تدريب المراهقين والشبان.
ويزداد هذا الأمر حدة وعمقاً للسببين التاليين:
1- إن آباء الشبان من الجيل الثاني غائبون أكثر الأوقات في أعمالهم، فلا يجد الشبان أمامهم سوى الأم في الدار والمعلمة في المدرسة.
2- والأم التي يعيشون معها في البيت لا تشبه الأم الغربية؛ فهي غالباً أمية لا تحسن الكلام باللغة الأوروبية، ولا تملك القدرات الفنية ولا المعلومات الثقافية التي تساعدها على حلّ مشكلات أبنائها من الشبان والمراهقين.
لكل ذلك يثور الشبان على المرأة ودورها في حياتهم، ويجدون في تمجيد الذكورة والتباهي بها خير وقاية لشخصياتهم المتزعزعة.
المرأة المسلمة ومجتمع الاغتراب:
المرأة المسلمة في الغرب أشد تعرضاً لوطأة الظروف الاجتماعية والأخلاقية من الرجل، نظراً إلى تمسك النسبة الكبرى من النساء المسلمات بالمظهر الإسلامي، في حده الأدني أحياناً وعلى الأقل، مما يجعلهن عرضة لنوع من السخرية والاستهزاء، في المدرسة أو الشارع أو العمل.... وهنّ غير قادرات على موقف المواجهة لافتقاد اللغة أحياناً أو لافتقاد التصور الإسلامي حيناً آخر.(1/60)
والمرأ المسلمة إما عاملة في مصنع أو في قطاع الخدمات، أو هي ربة بيت، ونادراً ما تكون في وضع ثقافي أو اجتماعي يمكنها من مواجهة المجتمع حولها... بل وغالباً ما يكون زوجها في مثل هذا الوضع.
التوجه السياسي للمهاجرين:
لا شكّ أن المهاجرين يشكلون اليوم نسبة لا بأس بها من العاطلين عن العمل، وغالبية كبيرة من الطبقة التي تعيش من المهن الفقيرة المورد، والتي ينفر منها غيرهم ، فمن المنطق إذاً العناية قبل كل شيء بتحسين وضعهم الاقتصادي لهم ولأبنائهم الذي يطلق عليهم الجيل الثاني. لكن هذا المنطق ظاهري لا بدّ من تصحيحه؛ وذلك لأنه لا بد من العناية في الوقت نفسه وبنفس الاهتمام، بحياتهم المعنوية والاجتماعية والثقافية والروحية. فقد أصبحوا اليوم مجموعة لها القدرة على التجمع والمطالبة بحقوقها، وعلى الكفاح من أجل الحصول على الحقوق الشرعية. وصار من السهل على الأحزاب السياسية والاتجاهات المتطرفة استثمارهم سياسياً واستخدامهم لأغراض أخرى.
غير أن الاهتمام بحياتهم المعنوية أمر صعب دقيق لا تقدر عليه سوى المؤسسات المتخصصة الإسلامية، ولا يجوز بأي حال أن يوكل الأمر إلى المؤسسات الغربية مهما خلصت نياتها وصدقت في خدمة المهاجرين؛ لأن طرائقها في تصور الحلول وفي تخطيطها وفي تنفيذها مطبوعة بطابع المدنية الغربية، والثقافة التي تغلب عليها التكنولوجيا والحلول المادية منذ قرنين من الزمن.
ومن المؤسف أننا لا نزال نجد بين قيادات المسلمين من يدعو إلى العزوف عن المشاركة السياسية في الحياة الغربية لاعتقادهم بمعارضتها لقواعد الشريعة الإسلامية, وقد أدى هذا إلى زيادة عزلتهم في المجتمع وإبعادهم عن مركز اتخاذ القرار وجعل مستقبلهم السياسي في ايدي غيرهم.
ولقد كان لفضيلة العلامة الشيخ عبد الله بن بيه رأي في هذه المشاركة نشرته جريدة المدينة السعودية يحسن بنا الاطلاع عليه:(1/61)
أكد الشيخ عبد الله بن بيه ان مشاركة المسلمين الذين يعيشون في الغرب في العمل السياسي هناك سواء بالترشيح او الانتخاب لا تعني بأي حال من الاحوال ولاء للكفر، ولا خروجا عن الاسلام, بل هي مشاركة تقتضيها ظروف وجودهم في هذه البلاد، وحق من حقوق المواطنة المشروعة لهم، وهذا لا شيء فيه، وهناك احداث في السيرة النبوية تؤكد ذلك، وجائزية هذه المشاركة السياسية تنعكس حتما على مصالح المسلمين، وحتى لا يعزل المسلمون انفسهم في هذه المجتمعات، واجاز الشيخ بن بيه على المسلمين في الغرب العمل ضمن الاحزاب السياسية القائمة وفق مصالحهم، ولا يعني ان قادة هذه الاحزاب وغير المسلمين، لان اغلبية هذه المجتمعات غير مسلمة، والاقلية مسلمة، ولكن لها مصالح وقضايا. وقال الشيخ عبدالله بن بيه إن الشباب المسلم في الغرب يواجه تحديات كبيرة، وان مستقبل هذا التحدي هو الذي سيشكل مصير الاسلام والمسلمين في ديار الغرب، لان الشباب اذا خرجوا عن انتمائهم الاسلامي وتركوا الاسلام بالكلية فهذا يعني ان الاسلام لن يكون له وجود، وان المسلمين سيذوبون في المجتمع الغربي وعلى العكس من ذلك لو تمسك الشباب بالاسلام ستكون البشرى والبشارة. وقال الشيخ بن بية ان الحديث عن قضية فقه الاقليات قضية زائفة والخلاف في المصطلح هو خلاف ما ينبغي ان يكون، وان فقه الاقليات ليس فقها خارجا عن الفقه الاسلامي، فهو جزء من هذا الفقه ويرتكز على الكتاب والسنة والاجماع والقياس والاصول الاربعة، والتي هي اصول الشريعة، وان المسلمين في الغرب لهم مشكلاتهم واوضاعهم المشقة وهذه المشقة تدور بين الضرورة الفقهية الشديدة وبين الحاجة، ومن ثم فلا بد من معالجة قضاياهم وفق فقه (مقاصد التيسير) وهذا لا يعني وجود فقه جديد بل يعني النظر لظروف الواقع.(1/62)
وقال الشيخ بن بيه: ان الواقع والأقضية التي تحدث للمسلمين في الغرب هي التي تجعلنا نتحدث عن (فقه الاقليات) والمجلس الاوروبي للافتاء هو مجلس رابطة علماء ودعاة وفقهاء ويلتزم بأصول الشرع وهو يفتي في قضايا الاقلية المسلمة في الغرب .
نظرة استشرافية لمستقبل المسلمين في الغرب
للقلق حول مستقبل الإسلام والمسلمين في أوروبا أسباب عديدة معظمها معروف، إلاّ أنّها تختلف باختلاف الجهة السائلة عن ذلك المستقبل ودوافعها، كما تداخلت تلك الأسباب تداخلاً كبيراً يزيد صعوبة الرؤية الموضوعية بحثاً عن أرضيّة مستقرّة لاستنتاجات وتوقّعات تقترب من الصواب قدر الإمكان. ومن المشكلات التي تعترض الباحث في هذا الميدان أنّ الجهات المعنية تطرح ما لديها غالباً من منظور معيّن تعطيه الأولوية على سواه، فلا تراعي بما يكفي عناصر مؤثّرة أخرى وفق منظور آخر، ولا يمكن في مسائل التطوّرات الاجتماعية فصل جانب عن آخر فصلا كاملا، وإن جرى ذلك في دراسة أو بحث فلتسهيل عرض المطلوب عرضاً وافياً، دون الإغفال عن جوانب أخرى، لتصبّ النتائج في خاتمة المطاف في صيغة متكاملة متوازنة.
لغة الأرقام - خلفية اجتماعية وثقافية - المسلمون وسوق العمالة في أوروبا - افتقاد الصيغة الشمولية
لا يزال الجانب الأمني منذ سنوات يطغى على سواه في السؤال عن مستقبل الإسلام والمسلمين في أوروبا، سواء من منطلق عدائي تثيره ظاهرة ما يُسمّى "الخوف المرضي من الإسلام" (أو الاسلاموفوبيا Islamophobie)، أو من منطلق دفاعي صادر عن خشية غالبية المسلمين من أن تشملهم النتائج المترتّبة على الخوف من دينهم دون أن يكون لذلك مسوّغ فيما يعرفونه عنه وعن أنفسهم.(1/63)
ومَن ينطلق من المنظور الأمني عدائياً ينظر أيضاًً بتخوّف وقلق إلى عامل التطوّرات المنتظرة وفق الدراسات المستقبلية على صعيد السكان في أوروبا والخلل في هرم الفئات السكانية وظاهرة الهجرة من الجنوب إلى الشمال وما يمكن أن يترتّب على ذلك من ارتفاع نسبة المسلمين إلى السكان وبالتالي ارتفاع نسبة وجود ذلك "الإسلام" الذي يُخشى منه أو تُثار المخاوف تجاهه، افتراءً في غالب الحالات وجهلاً أحياناً.
بينما يسعى أصحاب المنظور الاقتصادي المحض إلى بيان استحالة تجاوز تلك التطوّرات وبالتالي ضرورة التعامل معها مبكّرا، ويمكن أن يتلاقى هؤلاء مع أصحاب النظرة الموضوعية إلى الإسلام، سواء من داخل نطاق المسلمين أو غير المسلمين، إذا ما انطلق الجميع من تعايش الأديان والحضارات والثقافات بدلاٍ من منطلقات العداء والمواجهة والصدام.
بين هذه النظرات المتعدّدة تسعى الفقرات التالية للبحث عن صيغة تبيّن السلبيات التي ينبغي التغلّب عليها والإيجابيات التي ينبغي دعمها وتنميتها لضمان مستقبل الوجود الإسلامي في أوروبا، بصورة مثمرة تحقّق الفائدة لسائر الأطراف، من منطلق لا ضرر ولا ضرار.
لغة الأرقام
تتأرجح تقديرات أعداد المسلمين في الاتحاد الأوروبي كما ذطرنا سابقا في مستهل البحث، وفي غياب وجود إحصاءات رسمية دقيقة تأرجحاً كبيراً، وكانت تبدأ بحوالي 15 مليونا أو أقل من ذلك، وتصل إلى ما يتجاوز 25 مليوناً، يضاف إليهم المسلمون في دول ليست أعضاء في الاتحاد الأوروبي، أي ألبانيا والبوسنه والهرسك، فضلاً عن تركيا التي تنسب نفسها إلى أوروبا وتريد الانضمام إلى الاتحاد وبذلك يصل عدد المسلمين إلى ما يقرب من (37) مليوناً.(1/64)
وسيّان ما هو العدد الحقيقي، لا يصلح في وصف المسلمين في الاتحاد الأوروبي ما شاع حتى الآن من مصطلحات، كالجاليات والوافدين والأقليات، فلكلّ تعبير من ذلك سلبيّاته من حيث واقع الوجود البشري الإسلامي، أو من حيث ما يوحيه التعبير نفسه من التعامل بأساليب تتناقض مع استمرارية هذا الوجود ورعايته بصورة قويمة. ويشير إلى ذلك إشارةً عابرة مثلا ما انتشر في الإعلام الفرنسي أثناء الجدل الشديد حول تقنين حظر الحجاب على تلميذات المدارس المسلمات، كقول بعضهم إنّ عليهنّ الرحيل عن فرنسا إن رفضن قوانينها، وكأنّ لهنّ بلداً آخر ينتمين إليه سوى البلد الذي ولدن ونشأن فيه، ولهنّ على تشريعاته القانونية حقّ الحفاظ على دينهنّ.
لم يعد المسلمون في البلدان الأوروبية جزءاً من ظاهرة تاريخية أو موجة وافدين من العمال والطلبة، فالنسبة الأعظم من الملايين المذكورة هي أولئك الذين يُطلَق عليهم وصف الجيل الثاني والثالث من الأبناء والأحفاد المولودين والناشئين في أوروبا فليسوا من الوافدين، ثمّ المقيمون منذ عشرات السنين إقامة دائمة، وغالبية هؤلاء متجنّسون، علاوة على من اعتنق الإسلام من أهل البلاد الأصليين وعددُ هؤلاء في تصاعد مطّرد، لا سيّما في أوساط جيل الشبيبة، وبما يشمل سائر البلدان الغربية عموماً، أمّا الفئة التي يمكن وصف وجودها في أوروبا بأنّه وجود طارئ زمنياً، "أجنبيّ" بمنظور القانون، فهي الفئة الأقلّ عددا.(1/65)
والحديث عن مستقبل الوجود الإسلامي في أوروبا مرتبط إلى حدّ كبير بما تقول به الدراسات المستقبلية الموثّقة عن تطوّر الهرم السكاني عموما، وعلى مستوى المسلمين من بين السكان على وجه التخصيص، وهو الجانب الذي يحتاج إلى تخليصه من النظرة المتطرّفة، سواء كانت من أوساط غير المسلمين في الغرب، والتي تريد تصوير ارتفاع نسبة المسلمين خطراً، أو كانت من أوساط فريق من المسلمين يريدون تصوير ذلك "فتحاً" من باب السيطرة على أوروبا، وكلا الفريقين لا ينطلق من منطلق واقعيّ.
النتائج التي تسجّلها الدراسات الصادرة عن الأمم المتحدة، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية للدول الصناعية، وعدد من المعاهد الوطنية المتخصّصة في البلدان الأوروبية، تصل إلى نتائج متقاربة، من محاورها الرئيسية:
1- عدد السكان من ذوي الأصول الأوروبية في أهمّ بلدان الاتحاد وأكبرها سكانا، يتأرجح بين الثبات على ما هو عليه وبين التراجع المتزايد، كما هو الحال في أسبانيا وإيطاليا وألمانيا وبولندا وفرنسا، وقليلاً ما تميّز هذه الدراسات بين المعتقدات الدينية، فهي لا تحدّد فارقاً ما، يخصّ المسلمين من ذوي الأصول الأوروبية، ولو فعلت فلن يكون هذا الفارق كبيراً.
2- ارتفاع مطّرد لعدد غير ذوي الأصول الأوروبية من السكان، ويمثّل المسلمون أكثريتهم الكبرى، وهذا ما يجعل حصيلة نسبتهم إلى السكان في ارتفاع مستمرّ أيضاً.(1/66)
هنا تتحدّث بعض الجهات بصيغة التخويف أنّ الأوروبيين سيصبحون أقليّة داخل بلدانهم، ومن هذه الجهات ما يصوّر هذا التطوّر بشكل مفزع، عندما يتحدّث عن نسبة 20 في المائة قبل نهاية القرن الحادي والعشرين الميلادي. وهي تصوّرات تنطوي على مبالغة مقصودة أحياناً، كما تتجاهل غالباً عناصر تاريخية بشأن تكوين "العنصر" الأوروبي، فطوال ثلاثة آلاف عام على الأقلّ كانت أوروبا ساحة استقبال هجرات كبرى، ومصدراً لهجرات كبرى أيضاً، يستحيل معها عند علماء التاريخ القول إنّ العنصر الآريّ مثلا عنصر قائم بذاته منذ القدم، أو أنّ انتشاره فيما يزيد على ربع سكان الأمريكتين، لا يقابله انتشار سواه في وسط أوروبا بنسبة مماثلة أو أكثر، ولا أحد يطرح السؤال هل ينبغي أن يُعامل أحفاد المهاجرين الأوائل من ألمانيا إلى أمريكا مثلا، معاملة "الغرباء" كما يقال عن أحفاد الوافدين إلى ألمانيا؟
العنصر الأهمّ الذي تقول به الدراسات المستقبلية هو التبدّل الذي يسجّله هرم الفئات السكانية باطّراد، أي منذ أكثر من خمسين عاما. وبدأ الآن في الوصول إلى المرحلة الحرجة، فمن أهمّ جوانبه ارتفاع نسبة المسنّين (أكثر من 60 سنة) وبالتالي الفئات السكانية غير المنتجة، مقابل انخفاض نسبة القادرين على العمل (بين 18 و60 عاما)، دون أن يوجد على صعيد نسبة الأطفال والناشئة (دون 18 سنة) – ولا على صعيد النظرة إلى الإنجاب عموماً - ما يمكن الاعتماد عليه لتعويض النقص في المستقبل المنظور، أي خلال جيلين إلى ثلاثة أجيال، وهذا ما يخصّ مجدّدا ذوي الأصول الأوروبية، مقابل صورة معكوسة على مستوى غير ذوي الأصول الأوروبية في أوروبا. والحديث عن هذه الفئة يشمل الوافدين وأبناءهم وأحفادهم من زيجات تقتصر عليهم أو مختلطة مع أهل البلاد الأصليين، ودون النظر إلى اكتساب حقٌ الإقامة الدائمة أو الجنسية.(1/67)
هذا الخلل في الهرم السكاني بين زاويتي الإنتاج والاستهلاك، لا ترى الدراسات المستقبلية إمكانيةً لمعالجته دون فتح أبواب الهجرة إلى أوروبا، أي على النقيض من الممارسات السياسية على هذا الصعيد منذ مطلع الثمانينات في القرن الميلادي العشرين. والهجرة المطلوبة ليتحقّق التعويض ويبقى عدد السكان بمجموعه ثابتاً دون تناقص، تصل إلى مئات الألوف سنوياً، ابتداءً من الآن وفق التوقّعات الموضوعية حتى عام 2050م، فتصل إلى أكثر من 480 ألفا سنويا بالنسبة إلى بلد كألمانيا، وأكثر من 100 ألف لبريطانيا، وزهاء 100 ألف لفرنسا وهكذا.
ظاهرة انخفاض عدد السكان عموماً، رغم ارتفاع وسطي الأعمار نتيجة التقدّم في الرعاية الصحية والطبية، ظاهرة بدأت تطرح نفسها منذ أربعة عقود تقريبا، وانعكست في انخفاض نسبة المواليد من 18 طفل لكل ألف نسمة عام 1960م، إلى 10 أطفال لكل ألف نسمة عام 2000م، حتى أصبحت نسبة الوفيات أعلى من نسبة الولادات، وبلغ ذلك مستوى الخطر على سوق العمالة في بعض البلدان، مثل أسبانيا، ويتوقّع أن تليها على هذا الطريق ألمانيا وإيطاليا وبولندا.
وكان يتردّد أنّ الظاهرة التي كانت معروفة في البلدان الغربية من الاتحاد الأوروبي يمكن الحدّ منها بتوسعته شرقا، ولم تكن تتوافر دراسات مستقبلية منهجية عن دوله، ولكن ظهر من قبل التوسعة الكبرى للاتحاد، أنّها ظاهرة شاملة لمعظم الدول الشرقية أيضاً. والدولة الوحيدة التي يمكن أن تعوّض عن النقص جزئيا إذا تمّ انضمامها إلى الاتحاد، هي تركيا، وليس مجهولا، أنّها ستتحوّل آنذاك سريعاً نسبياً – أي في حدود عام 2040م- إلى الدولة الكبرى سكاناً في الاتحاد الأوروبي، والمعروف أنّ سكانها مسلمون بغالبيّتهم العظمى.
خلفية اجتماعية وثقافية(1/68)
بدأ الخلل في الهرم السكاني الأوروبي يظهر نتيجة انتشار سلسلة من الظواهر الاجتماعية المعروفة، كان في مقدّمتها ما يوصف عموما بتفكّك الأسرة، وهو تعبير جامع لعدد من المشكلات دفعة واحدة، يمكن تلخيص بعض ما يرتبط منها بموضوع الحديث بعناوين رئيسية:
1-طرح قضية إنصاف المرأة بعد هضم حقوقها عبر التاريخ الأوروبي طرحاً ارتبط بحاجة الثورة الصناعية إلى اليد العاملة، ممّا جعل المجتمع يقوم بمرور الزمن على استحالة إعالة الأسرة دون عمل المرأة، فأصبح عملها واجباً لازماً وليس أمراً مباحاً أو حقّا غير ملزم، أي تفرض الضرورة أن تأخذ المرأة به إن شاءت أو لا تفرض.
2- نشر النظرة الاجتماعية والثقافية التي تزدري مهمّة التربية ورعاية البيوت حتى أصبح معيار قيمة المرأة رهناً بعملها خارج المنزل، فلم تعد مسألة المساواة بين الرجال والنساء تنطلق من القيمة الذاتية للإنسان، والقيمة الذاتية لكلّ من الجنسين على حدة، وإنّما من مسألة التماثل في "الأعمال" التي يؤدّيها الطرفان، ومن المعروف أن درجة التطرّف على هذا الصعيد وصلت إلى مستوى تجاهل أيّ فارق بين مؤنّث ومذكّر فيما يُطرح حديثا تحت عنوان "الجندرة"Gender .
3- ما سمّي الثورة الجنسية منذ أواخر الستينات من القرن الميلادي العشرين، وهو ما أنشأ تدريجيا الإقبال على العلاقات بين الجنسين دون زواج، فالعزوف عن الزواج المبكّر، فالعزوف عنه وعن تكوين الأسرة أصلاً، حتى ارتفعت أعداد مَن يسكنون على انفراد في البلدان الأوروبية بصورة مطّردة، كما ارتفعت نسبة العزوف عن الإنجاب ارتفاعاً كبيراً.
كان من المستحيل أن تعوّض محاولاتُ علاج سلبيّات هذه الظواهر عن طريق إجراءات تقنينية محورها العمل على إيجاد إغراءات مالية لصالح الإنجاب، ومحاولات ضمان استمرار عمل المرأة بعد فترة زمنية محدّدة للإنجاب والحضانة الأولى، فمعظم هذه المحاولات وأمثالها يعالج ظواهر المشكلة دون التطرّق إلى أسبابها الأولى.(1/69)
الوافدون من المسلمين في أجيال ماضية إلى الدول الصناعية الأوروبية الرئيسية، كانوا يعيشون في عزلة، نتيجة ظروف فُرضت عليهم اجتماعياً وأخرى ذاتية، وكان للعزلة سلبيّاتها الكبيرة مع مرور الزمن، ولكنّها حافظت على صعيد المسلمين ولا سيّما في ميدان العلاقات بين الجنسين، على قدر معيّن من ضمان استمرارية الأسرة بنسبة عالية، بما في ذلك ارتفاع عدد المواليد نسبياً. وهذا ما يفسّر أن ظاهرة التطوّر المعكوس للهرم السكانيّ في أوروبا لم تشمل المسلمين فيها إلاّ جزئياً.
وإذا كانت نسبة المسلمين إلى عامّة السكان وفق التقديرات المشار إليها في حدود 5 في المائة حتى الآن، فإنّ نسبة أطفال المسلمين إلى عامّة الأطفال في المدارس الأوروبية تتراوح في أدنى التقديرات بين 15 و20 في المائة، وهو ما يشير إلى مستقبل تطوّر هرم الفئات السكاني خلال جيل واحد، يدعمه ازدياد عدد معتنقي الإسلام من الشبيبة عاما بعد عام.
على مثل هذه الأرقام والتوقّعات يبني بعض أصحاب النظرات المتسرّعة أو المتطرّفة توقّعاتهم المستقبلية. ففريق من المتطرّفين في موقع المسؤولية السياسية أو الإعلامية يحذّر من عدم ضبط هذا التطوّر ويطالب بسياسات متشدّدة بهدف تذويب العادات الاجتماعية للمسلمين، بما في ذلك تلك الناشئة عن المعتقدات الدينية، لا سيّما ما يرتبط بالعلاقات بين الجنسين، وفريق من المتطرّفين من أوساط المسلمين يلوّح بمستقبل الوجود الإسلامي في أوروبا، وبأنّ صناعة القرار ستكون في أيدي أبناء المسلمين.
هذه الأطروحات من الجانبين لا تؤجّج أسباب العداء والتخوّف فحسب، بل تؤدّي في الوقت نفسه إلى تبنّي تصوّرات لا أصل لها على أرض الواقع.
المسلمون وسوق العمالة في أوروبا(1/70)
إنّ صناعة القرار وبناء المجتمعات وتوجيه السياسات يحتاج جميعه إلى سلسلة من المواصفات والمعطيات لا يكفي معها الانطلاق من عنصر واحد ومن خلال بعض الأرقام المستقبلية فقط. ويمكن أن نأخذ هنا مثالاً على ذلك من ميدان ما يعنيه انقلاب الهرم السكاني بين متقاعدين وعاملين.
إنّ "أبناء المسلمين" في الوقت الحاضر ممّن تُطرح المخاوف المتطرّفة أو تُطرح الأماني المتطرّفة تحت عنوانهم، هم في الوقت الحاضر الأطفال المسلمون الذين تنخفض نسبتهم إلى زهاء 60 في المائة في مرحلة الدراسة الإلزامية، وأقل من 40 في المائة في تحصيل الشهادة الثانوية، ثمّ إلى ما دون ذلك بشكل ملحوظ في الدراسات الجامعية والتخصّصية.
ولهذه الإشارة أهمية كبيرة في توقّعات ما سيكون عليه الوجود البشري الإسلامي في أوروبا خلال جيل أو جيلين. فمعظم الدراسات المنهجية حول مستقبل العمالة في الدول الصناعية عموماً، بما يشمل الأوروبية، يؤكّد أنّ الحاجة الأكبر خلال العقود القادمة لن تكون في الميدان الإنتاجي أو ما كان يُسمّى اليد العاملة الرخيصة، كما كان قبل نصف قرن تقريباً، إنّما ستكون الحاجة الأكبر إلى العمالة ذات الكفاءة المهنية العالية، ثمّ إلى الإدارة والتخطيط على مستويات تخصّصية عليا، وقد بدأ ذلك بالظهور للعيان، كما هو معروف عن جلب الخبراء والمتخصّصين في قطاعات الحاسوب والبرمجة من بلد كالهند، إلى بلد كألمانيا التي بلغ عدد العاطلين عن العمل فيها بين 4 و5 ملايين، ويعني ذلك:
سواء كانت نسبة المسلمين إلى مجموع القادرين على العمل منخفضة أو مرتفعة، فإنّ انخفاض مستوى التأهيل التعليمي والمهني إلى أقلّ من نصف مستواه لدى سواهم، سيجعل نسبة البطالة في صفوفهم -لهذا السبب وسواه- أعلى بكثير منها في صفوف سواهم، وسيكونون بذلك "عالة اجتماعية واقتصادية" وليس محرّكا إنتاجيا يعطيهم ميزات إيجابية ما.(1/71)
هنا يظهر قدر كبير من عدم صحّة الاطمئنان بمنظور مستقبل الوجود الإسلامي في أوروبا، إلى النظرة العامّة السائدة حاليا أنّ الدول الأوروبية لن تستطيع الاستغناء عن الاستعانة بالأيدي العاملة من غير ذوي الأصول الأوروبية، ومعظمُ هؤلاء من المسلمين.
إنّ مستقبل الوجود الإسلامي في أوروبا لا يرتبط فقط بالتطوّرات التي تطرحها الأرقام المجرّدة، ما لم توظّف التقديرات والتتنبّؤات المطروحة في الدراسات المستقبلية توظيفاً قويماً في إطار تصوّر أوسع نطاقا يشمل الجوانب الثقافية والتعليمية والتأهيلية المهنية والظروف الاجتماعية والاقتصادية في وقت واحد.
افتقاد الصيغة الشمولية
ما يسري على صعيد سوق العمالة، يسري أيضا على مختلف الميادين الأخرى، ذات العلاقة بصناعة الفرد والمجتمع، عُقديا وفكريا، اجتماعيا وثقافيا، فنيا وأدبيا، سياسيا واقتصاديا، ومن هنا يمكن القول إنّ السؤال عن مستقبل الوجود الإسلامي لا يجد الإجابة دون صيغة شمولية تتناول سائر جوانبه في وقت واحد، وتصدر عن منطلقات موضوعية لا تكتفي بأسلوب التشاؤم أو التفاؤل تجاه الأرقام المجرّدة والتقديرات المستقبلية.
أوّل ما يواجه البحث عن مثل تلك الصيغة أنّ مستقبل الوجود الإسلامي في أوروبا لا يُطرح في الوقت الحاضر باعتباره قضية تحتاج إلى البحث والدراسة، بل يُطرح من منطلق أنّه مشكلة "تجب مواجهتها"، وتتعدّد جوانب هذه المشكلة على حسب منظور من يطرحها، ومن ذلك:
1- المنظور الأمني المسيطر سياسيا وإعلاميا نتيجة ظاهرة العنف، والخلط بين مقاومة مشروعة ضدّ احتلال أجنبي في نطاق الأرض الإسلامية، وبين عمليات عنف غير مشروع، لم تعد تقف عند الحدود الأوروبية.(1/72)
2- المنظور الثقافي والفكري المرتبط بموروث الفئات الثقافية والفكرية الأوروبية حول الإسلام نفسه والخلط بين مصادره المعتبرة وبين الكثير ممّا ينشر بأقلام المسلمين، سواء من فئة المتشدّدين إسلاميا أو فئة المتشدّدين في العداء للإسلام من داخل النطاق الإسلامي.
3- منظور التنظيمات والمراكز الإسلامية الناشئة في ظروف سابقة من القرن الميلادي العشرين، ولم تتجاوز في كثير من الحالات معطيات تلك الظروف فبقي تعاملها قاصراً عن التفاعل المثمر مع المعطيات الجديدة أوروبيا وكذلك المعطيات الجديدة للأجيال الجديدة من المسلمين.
4- منظور جيل الشبيبة من المسلمين الذي انتشرت فيه الصحوة الإسلامية انتشارا واسعا، وهو الجيل الذي سيصنع مستقبل الوجود الإسلامي في أوروبا، وهنا تظهر معطيات إيجابية وسلبية عديدة سيكون للتعامل معها الآن أثره الكبير على حصيلتها في المستقبل.
هذه الميادين الأربعة في حاجة إلى بحث ودراسة بما يتناول كلا منها على حدة، فيكفي في ختام هذه الدراسة التنويه بأن الجهات المسؤولة، وكذلك الروابط والمراكز الإسلامية، بدأت تستشعر أخطار القصور عن التعامل مع الوجود الإسلامي في أوروبا تعاملا موضوعيا، وفي الوقت نفسه بدأت تظهر على مستوى جيل الشبيبة طاقات جديدة قد تكون أقدر على استيعاب متطلبات المرحلة من جيل سابق يحمل أعباء مرحلة سابقة، وهذا ما يمكن البناء عليه في البحث عن صيغة شمولية تستهدف الوصول إلى ضمان مستقبل الوجود الإسلامي في أوروبا، بما يحقّق مصالح سائر الأطراف، في إطار عملية تطوير، وليس في إطار مواجهة وعداء.
وخلاصة القول:(1/73)
إن من الأمور المسلم بها أن تكون لهذه الفئة المسلمة في المجتمع الغربي مشكلاتها الخاصة ، شأنها في ذلك شأن أي أقلية تعيش في أي دولة من الدول. فهناك عقبات وصعوبات ومشكلات تواجه المسلمين في الغرب ، منها ما يتعلق بالمجتمع الغربي ونظرته المشوهة عن الإسلام والمسلمين بسبب الجهل أو بسبب مقصود، ومنه ما يتعلق بالواقع المتناقض الذي يعيشه المسلمون أنفسهم في مجتمعهم الجديد.
ويجب أن أن لا يغيب عن أنظارنا أن بين المسلمين في الغرب طائفة بدأت تبتعد عن الإسلام ولا سيما أبناؤهم وأحفادهم من الجيل الثاني والثالث وما يليهم ، الذين ولدوا أو نشأوا خارج ديار الإسلام، وعلى هذه الطائفة تنصب جهود المجتمع الغربي في سياسة الاندماج والذوبان وتبني القيم الغربية بمفاهيمها الواسعة. وعلى هذه الطائفة أيضا يجب أن تتوجه الجهود المخلصة من الدعاة والمربين الذي يؤمنون بأهمية الدور الذي يلعبه الإسلام العظيم في تكامل الحضارات والعيش المشترك بين مختلف الأجناس والعروق والديانات وتوفير الأمن والأمان لكل أفراد بني البشر.
سائلين الله تعالى أن يلهمنا رشدنا ويسدد خطانا
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين(1/74)
الولاء بين الدين وبين المواطنة
عبدالله بن بيه
قال تعالى { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا... } وقال سبحانه وتعالى { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًاچ
{ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } وقال جل وعلا { الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا } وقال { لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ چ
{ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } وقال تعالى { فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ } { وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا }(1/1)
وقال عليه الصلاة والسلام : إن بنى فلان ليسوا بأوليائي إنما أوليائي المؤمنون". "من كنت مولاه فعلي مولاه". وقال علية الصلاة والسلام :" الولاء لمن أعتق". وقال:"الولاء لحمة كلحمة النسب". "وأيما امرأة نكحت بغير أذن وليها". وجاء في حديث المسند " البلاد بلاد والعباد عباد الله فحيثما أصبت خيراً فأقم". وفي حديث ابن حبان: يا فديك أقم الصلاة وآت الزكاة واهجر السوء وأسكن من أرض قومك حيث شئت".
والولاء يفتح ويكسر فإذا فتح كان اسم مصدر وإذا كسر كان مصدراً مقيساً من والاه موالاة وولاء وأصله من فعل ولي إذا قرب ودنا ومصدره وَلْيُ كما في قول علقمة:
يُكلِفُني لَيلى وَقَد شَطَّ وَلْيُها وَعادَت عَوادٍ بَينَنا وَخُطوبُ
واسم الفاعل منه الوليُّ وله معان كثيرة منها المحب والصديق والنصير وفي معناه المولى ويطلق على واحد وعشرين معنى منها الرب جل وعلا والمالك والمُعتق والقريب والجار والحليف والعم والشريك والنزيل والناصر والمُنعم والمنعم عليه والمحب والتابع ...إلى آخره.
وهي معان منتشرة في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. ويقول مرتضى الزبيدي في تاج العروس : وأكثرها (هذه المعاني) قد جاءت في الحديث فيضاف كل واحد إلى ما يقتضيه الحديث الوارد فيه".
ومعنى ذلك أن الأمر يرجع إلى السياق لأنه لفظ مشترك ، وليس حقيقة لا لغوية ولا شرعية ولا عرفية يتعين حمل الكلام عليها، بل إن القرائن والسياقات هي التي ترشح محمله ، وهذا المعروف عند اللغويين، إلا أن بعض طوائف المسلمين الذين جعلوا من قوله عليه الصلاة والسلام :" من كنت مولاه فعلي مولاه" مبدأ عقدياً وقد بالغوا في مفهوم الولاء والولاية حيث استبعدوا الولاية لغير عليِّ رضي الله عنه من الخلفاء كما هو معروف.(1/2)
وقد تختلف المصادر باختلاف المعنى فالولاية بالفتح في النسب والنصرة والعتق، والولاية بالكسر في الإمارة، والوِلاء في العتق والولاء ، والموالاة من والى القوم موالاة مصدران مقيسان.
وقال بعضهم : الوَلاء بالفتح للقرابة والولاء بالكسر ميراث يستحقه شخص بسبب عتق شخص في ملكه أو بسبب عقد موالاة كما كان في صدر الإسلام { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآَتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ }
ولهذا فإن المنطلق اللغوي واختلاف المدلول حسب السياق يجعلنا نقرر أن هذا المفهوم ليس جامداً أو حقيقة شرعية كالصلاة والصوم والزكاة وإنما يعنى أحياناً انتماء إلى الدين بنصرته وموالاة أهله وبخاصة في حالة الاعتداء عليه وفي هذا السياق { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا } أو انتماء للقرابة وفي هذا السياق { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } { وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي } أو ولاء برابطة الحلف والعتق { فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ }
وإني لأعجب ممن يناضل عن السنة ويحارب البدعة بدءا من المصطلحات إلى المضامين فهو ينكر المجاز لأنه ما نطق به الأولون فراراً من البدعة والحدث ثم يُحْدِثُ مصطلحاً حذر منه السلف ويتكلف له ويحيطه بسياج من الأفعال والمظاهر بدلاً من إجراء الآيات القرآنية والأحاديث النبوية على مجاريها وفهمها في سياقها لتتضامن مع الآيات الأخرى التي تحث على التضامن مع بقية البشرية كلها في أوجه الخير والتعاون معها في مواجهة الشر كما يدل عليه حديث حلف الفضول وحديث فديك :" يا فديك أقم الصلاة وآت الزكاة واهجر السوء واسكن من أرض أقومك حيث شئت".
وتدل عليه وثيقة المدينة التي أخرجها ابن إسحاق في سيرته.(1/3)
حيث تتشكل منظومة من الولاءات تدل عليها مجموعة الآيات والأحاديث النبوية التي تزكي القيم الصالحة أياً كان مصدرها وتذم الرذائل والعدوان والطغيان.
وهذا ما تشهد له أكثر الآيات القرآنية التي توجه البراءة إلى الأعمال لا إلى الرجال قال تعالى { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ } { ? ? ???? ?? ? ? ? ? ? ? ? ?چ يونس41 { وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ } { قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ } { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ }
وقد وردت البراءة من الأشخاص في سورة الممتحنة في قوله حكاية عن إبراهيم قوله: { إِنَّا بُرَآَءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ }
كما ورد في صدر سورة التوبة براءة من المشركين في سياق إلغاء العهود والإنذار بالحرب بعد أن أسلم أهل الجزيرة العربية ولم يبق إلا عصابات تخريبية.
وفي الحديث: إني أبرأ إليك مما صنع خالد".
ووجه هذا الكلام أن المرء قد يكون فيه ما يبغض وما يحب، فيحب من وجه ويبغض من وجه لهذا كانت البراءة من العمل وليس من الرجل في الغالب. والله اعلم.
وأنكر أحمد بن حنبل إمام أهل السنة رحمه الله تعالى الولاء والبراء قائلاً –كما رواه عنه الأصطخري-: والولاية بدعة والبراءة بدعة وهم الذين يقولون نتولى فلاناً ونتبرأ من فلان وهذا القول بدعة فاحذروه. ( طبقات الحنابلة للقاضي أبي الحسين الفراء 1/35)(1/4)
وفي كتاب السنة لعبدالله بن أحمد رد السلف الصالح هذا الشعار بأشد العبارات لأن البراءة التي وردت في مطلع سورة التوبة موجهة إلى المشركين في سياق محدد يتعلق بالعهد والحرب والسلام وأعلن في تلك السنة في الحج الأكبر إعلاناً لنهاية علاقة كانت قائمة بعد أن أسلم جل أهل الجزيرة العربية.
لكن بعض الطوائف المسلمة جعلته شعارا تتبرأ فيه من فلان وتوالى فيه فلاناً فأنكر من أدركه ذلك من السلف فقال: كان أبو سعيد الخدري يقول: الشهادة بدعة والبراءة بدعة والإرجاء بدعة.
وعن أبي البختري ، قلت لشريك عن علي رضي الله عنه فذكره ، قال : « الإرجاء بدعة ، والشهادة بدعة ، والبراءة بدعة »
وعن سلمة بن كهيل ، قال : اجتمعنا في الجماجم أبو البختري وميسرة وأبو صالح وضحاك المشرقي وبكير الطائي فأجمعوا على أن الإرجاء بدعة والولاية بدعة والبراءة بدعة والشهادة بدعة.
وعن سعيد الطائي ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال : « الولاية بدعة ، والإرجاء بدعة ، والشهادة بدعة»(1).
قال الأشعري رحمه الله تعالى في "مقالات الإسلاميين" واصفاً غلو بعض المبتدعة في الولاء والبراء: ومن العطوية أصحاب عبد الكريم بن عجرد ويسمون العجاردة وهم خمس عشرة فرقة: فالفرقة الأولى منهم يزعمون أنه يجب أن يدعى الطفل إذا بلغ وتجب البراءة منه قبل ذلك حتى يدعى إلى الإسلام ويصفه هو.
- والفرقة التاسعة من العجاردة الصلتية أصحاب عثمان بن أبي الصلت والذي تفرد به أنه قال: إذا استجاب لنا الرجل وأسلم توليناه وبرئنا من أطفاله لأنه ليس لهم إسلام حتى يدركوا فيدعون إلى الإسلام فيقبلونه.
__________
(1) - عبدالله بن أحمد كتاب السنة 1/318(1/5)
أما تنزيل آيات النصر والولاية والحب وأحاديث الولاية والنصر والحب على هذا المصطلح وجعله مصطلحاً إقصائياً يطرد كل علاقة مع الغير فهو غير سديد لأنه يهمل مضامين آيات وأحاديث أخرى تحث على البر والأقساط والقسط والتعاون على البر والتقوى مع كل الناس وقد نسب الأنبياء إلى أقوامهم { وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ } { وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا } { وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا } وتحكى حبهم لأقاربهم من غير تعنيت ولا تبكيت { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ }
وحبهم لبلادهم واشتياقهم لها كما في حديث أصيل: قدم أصيل الهذلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا أصيل ، كيف تركت مكة ؟ قال : يا رسول الله ، تركتها وقد احجن ثمامها واغدف اذخرها وامشر سلمها فقال ايها أصيل دع القلوب تقر." كما في كتب السير.
وهذا الانتماء إلى الأقوام وحب الديار والأوطان هو ضرب من الولاء.
أما المواطنة: فلها مفهوم جديد فهي تعرف الآن بأنها عبارة عن علاقة متبادلة بين أفراد مجموعة بشرية تقيم على أرض واحدة وليست بالضرورة منتمية إلى جد واحد ولا إلى ذاكرة تاريخية موحدة أو دين واحد إطارها دستور ونظم وقوانين تحدد واجبات وحقوق أفرادها إنها شبه جمعية تعاونية ينتمي لها بصفة طواعية أفرادها بشكل تعاقدي فالذي ينضم اليوم إليها له نفس الحقوق التي كانت لأقدم عضو.
إن قيم هذه المجموعة في المفهوم الحديث هو عكس المفهوم التاريخي الذي يقوم على العرق أو الدين أو التاريخ المشترك على فرضية أن التنوع نفسه يصبح قيمة كبرى من خلالها يكون الانسجام من طريق التفاعل بين مختلف الخصوصيات للوصول إلى المصالح الكبرى للمجموعة بتفعيل المشترك الإنساني وتحييد عنصر الإقصاء والطرد كما يستبعد عنصر نقاء النسب الذي يؤدي إلى تقسيم المواطنين إلى درجات كما كان عند الرومان أو العرب في عصر الجاهلية.(1/6)
المواطنة رباط أو رابطة اختيارية معقودة في أفق وطني يحكمه الدستور أو ما سماه الفيسلوف الألماني هابرماس بالوطنية الدستورية أي شعور الفرد بانتمائه إلى جماعة مدنية مؤسسة على المشاركة في القيم الأساسية.
والمواطنة تتسامى على الفئوية لكنها لا تلغيها والمطلوب أن تتواءم معها وتتعايش معها تعايشاً سعيداً.
لعل ذلك أهم تحول في مفهوم المواطنة في العصر الحديث ولعله هو أهم جسر لتكون القيم الدينية لكل مجموعة بشرية محترمة ومقبولة وإن هذا يلتقي مع مفهوم الإسلامي للتعايش البشري والمسلم لا يجد حرجاً بل قد يكون متعاونا معها.
في هذا المنعطف التاريخي لتشكل المجتمع الغربي الذي يكون المسلمون كغيرهم جزء منه ومن خلال الوحدة الكبرى لأوربا على المسلمين أن يشاركوا في تحقيق مفهوم المواطنة الذي يستوعب مختلف الانتماءات وذلك عن طريق فهم صحيح وتقويم سليم للموروث التاريخي الأوربي والمتغيرات التي حدثت في العالم ليكونوا مدركين لمشكلات أوطانهم وعلى دراية بأسبابها وطبيعتها حتى يتفاعلوا مع الأغلبية ويصوغوا معاً المعايير الجديدة للمواطنة وذلك ما لا يكون إلا بنوع من تجاوز الذات لتحديد أبعاد المواطنة التي سيكون من أهمها بالنسبة للأقليات احترام الآخر والاعتراف بوجود ديانات وثقافات مختلفة وتحقيق الحريات والاشتراك في إدارة الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية بعيدا عن العنف.
لتكون المواطنة بوتقة تنصهر فيها كل الانتماءات وبقدر الانسجام والانتظام بين هذه العناصر والجماعة يجد المواطن نفسه والجماعة مكانتها.
وإذا كان الانتماء مفهوم نفسي ، اجتماعي ، فلسفي ، وهو نتاج العملية الجدلية التبادلية
بين الفرد والمجتمع أو الجماعة التي يفضلها المنتمي .
باعتبار الانتماء ذا طبيعة نفسية اجتماعية ، فإن وجود المجتمع أو الجماعة هام
جداً كعالم ينتمي إليه الفرد ، حيث يعبر عن الانتماء بالحاجة إلى التجمع والرغبة(1/7)
في أن يكون الفرد مرتبطاً أو يكون في حضور الآخرين ، وتبدو هذه الحاجة وكأنها عامة بين أفراد البشر .
لهذا فيمكن اعتبار الولاء دوائر ومراتب وبإمكانها أن تتواصل وتتفاعل بدلاً من أن تتصادم وتتقاتل فالولاء للدين أمر مسلم به عند كل مسلم بل بالنسبة لكل متدين وهو أعلى قمة هرم الولاءات.
وهو لا يطرد الولاء للوطن بمفهوم المواطنة ألذي أشرنا إليه إذ هو لا يتنافى والولاء للدين ما دام عقد المواطنة لا يشتمل على خروج من الدين أو انصراف عن الشعائر أو حجر على حرية المسلم أن يعيش إيمانه.
إن العلاقة بين عقد المواطنة وبين الدين يمكن أن يتصور في دوائر منها ما هو مطلوب شرعاً ومرغوب طبعاً كحق الحياة والعدالة والمساواة والحريات وحماية الممتلكات ومنع السجن التعسفي والتعذيب وحق الضمان الاجتماعي للفقراء والمسنين والمرضى والتعاون بين أفراد المجتمع للصالح العام وما يترتب عليه من واجبات كدفع الضرائب والدفاع عن الوطن ضد العدوان والامتثال للقوانين وفاء بعقد المواطنة وهذا في حقيقته يدخل في الوفاء بالعهد واحترام مقتضياته وذلك داخل في الولاء للدين { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ }
وإن وسائل ما تقدم من اشتراك في الانتخابات وانتساب إلى الأحزاب والجمعيات له حكم مقاصدها كما هو مقرر في كتب أصول الفقه وبخاصة عند العز بن عبدالسلام والقرافي وغيرهما.
ويدخل في التعاون على البر والتقوى قال تعالى { وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ }(1/8)
وقد نزلت في العلاقة مع المشركين المحاربين فكيف لا يجوز مع المواطنين المسالمين فإن العلاقة مع هؤلاء تحكمها آية الممتحنة { لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }
إن القيم الكبرى للعلمانية المحايدة تعتبر قيماً إيجابية من:
1- احترام المعتقدات 2- والحياد بين مختلف الديانات 3- الاعتراف بحقوق الإنسان الفردية والجماعية تسهر الدولة على حمايتها. 4- حق الاختلاف والتنوع والتغيير عن خصائص الأفراد والجماعات.
5- حق التحاكم أمام المحاكم الطبيعية لاستخلاص الحقوق وترتيب واجبات على الأفراد في احترام القوانين ودفع. دفع الضرائب للإسهام في المجهود الوطني لتسيير المؤسسات.
6- الدفاع ضد العدوان.
كل ذلك لا يتنافى مع القيم الكبرى التي تدعو إليها الديانات السماوية وبخاصة الدين الإسلامي الذي يدعو إلى البر والمحبة والأخوة الإنسانية.
وبطبيعة الحال فإن المنطقة الرمادية في التفاصيل ، وكما يقول المثل: فإن الشيطان يقبع في التفاصيل.
فقد يفسر البعض العلمانية تفسيراً يزحزحها عن الحياد لتكون تدخلية في خصائص الأقوام وأداة تسلط على المعتقدات وهذا انحراف عن المعنى الأصلي للعلمانية.
وعلى كل الفئات أن تظل متمسكة بعلمانية هي وسيلة للتحرر النابع عن القناعة الشخصية وليس خاضعاً لمذهب إيديولوجي شمولي يريد أن يفرض مفاهيم خاصة بناء على أوهام ذاتية.
كما أن على الفئات بالمقابل أن تظهر تجاوزا لبعض المظاهر النفسية للفئة التي تجعلها وكأنها ليست معنية بالهم الوطني الاجتماعي والاقتصادي والأمني وأن تكذب تكهن أولئك الذين يريدون شيطنة تلك الفئة التي يستجيب بعض سفهائها فيرتكبون عمليات تخريب أو إرهاب فيصبحون بذلك حلفاء طبيعيين للمتطرفين من الجانب الآخر الذين يبتهجون لذلك.(1/9)
إننا نبحث عن تعاون وتضامن بين القيم وليس عن صدام وصراع.
ولهذا فإن حملة القيم سيتحالفون للارتقاء بالأوطان { فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ } وخلاصة القول: أن الولاء هو انتماء وعلاقة بالناس وبالأفكار وبالقيم وقد يكون من المناسب ونحن نتناول هذا الموضوع في ديار الغرب أن نقرر أن الولاء للوطن ليس منافياً للولاء للدين في حدود الضوابط الشرعية الممكنة وأن الولاء هو ولاء للقيم والبر بالوطن والمواطنين قيمة يُزكيها الشرع والعقل وعلى المسلم "أن يهجر السوء " كما في حديث فديك.
والسوء درجات ومراتب فلا يوالي في تبديل دينه وهذا أعلى درجات السوء بل عليه أن يتمسك بدينه "ولو أن يعض بأصل شجرة حتى يدركه الموت". كما في الحديث المتفق عليه الوارد في الفتن.
وهو أمر لا مساومة فيه لو فرض أن ولاء ما أو انتماء يعارضه ويصادمه ثم تتدرج المراتب لتصل إلى المعاصي التي لا يجوز للمسلم أن يتعاون في ارتكابها إلا لضرورة حاقة لا مرد لها فلا يجوز أن يعتدي على دماء الناس ولا على ممتلكاتهم ولا يشارك في المحظورات والمحرمات التي تتفاوت مراتبها من محرمات مقاصد إلى محرمات وسائل.
ومراتب الولاء التي أشرنا إليها هي التي سماها الشيخ الطاهر بن عاشور حالة الموالاة وقسمها إلى ثمان حالات عند تفسير قوله تعالى في سورة آل عمران { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين }
قائلاً: والآية نهي عن موالاة الكافرين دون المؤمنين باعتبار القيد أو مطلقاً والموالاة تكون بالظاهر والباطن وبالظاهر فقط وتعتورها أحكام وقد استخلصت من ذلك ثمانية أحوال".
قلت: وقد جزم بالكفر في حالة واحدة وهي الموالاة في باطن الأمر ميلا إلى الكفر ونواء لأهل الإسلام وهي حال المنافقين.(1/10)
أما الأحوال الأخرى فتفاوتت بين المعصية الكبرى أو دونها أو الجواز حسب المفسدة المتوقعة أو المصلحة المتوخاة.
كما لاحظ العلامة ابن عاشور القيد الذي تشير إليه عبارة ( من دون المؤمنين) { الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } { لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ چ
فذكر اختلافاً في القيد والإطلاق في الموالاة ومعنى قيد ( من دون المؤمنين) أن يكون الولاء المنهي عنه إنما هو ما كان مبعداً للمؤمنين ومناهضاً أما الإطلاق فيعني النهي عن الولاء مطلقاً.
وفي الختام: فإنَّ الولاءَ والحب والنصرة والنصيحة لله ولرسوله وكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم أمرُ لا مريةَ فيه، فمنه ما هو ركنُ ماهيةِ الدين وهو الإيمانُ بالله ورسوله وكتبه، ومنه ما هو من كمال الإيمان وتمامه وعلامة إشراق نوره على القلب وهو: ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ". وقال عليه الصلاة والسلام كما في العديد من كتب السنن واللفظ لأبي داود : مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ وَأَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ.
نسأل الله أن يحشرنا في زمرة المحبين.(1/11)
إلا أنَّ هذا الولاءَ ليس سوراً معلقاً إقصائياً طارداً كلَ علاقةٍ دنيويةٍ بالناس لا تَكُر على أصل الإيمان بالنقص ولا تلبس المحبةَ بالبغض ولا الانقياد والطاعة بالرفض؛ بل تتعامل مع الناس في جلب المصالح ودرء المفاسد ، وتتبادل معهم عواطف الود ، وتتعامل معهم طبقاً لقانون الأخلاق وحسن العشرة بالكلمة الطيبة والعمل النافع، طبقاً لقوله تعالى { وقولوا للناس حسناً } وقوله عليه الصلاة والسلام كما في حديث الترمذي: وخالق الناسَ بخلق حسن".
فتقوم صداقات وتبرم عهود وصفقات، كل ذلك تزكيه العقولُ وتشهد له السيرة النبوية بالقبول.
فقد فرح بانتصار النجاشي المسلمون وبانتصار النصارى على فارس المؤمنون كما في صدر سورة الروم.
وأخيراً: فإن المسلمين في الغرب وهم يتضامنون ويوالون إخوانهم في الدين عليهم أن يتجنبوا الشطط والغلو في التعبير عن عواطفهم وبخاصة إذا ترتب على ذلك من الفساد ما يفوق كل المصالح التي قد تكون موهومة ذلك هو الميزان الذي يقوم على الفقه في الدين والنظر في المئالات والتحلي بالحصافة بالإضافة إلى معرفة واقع العولمة الذي لم يترك بلداً إلا وأصابه من الابتلاء بالمخالفات العلانية للدين ما أصابه وإن كانت البلاد تتفاوت.
مع تحياتي
عبدالله بن بيه(1/12)
بسم الله الرحمن الرحيم
المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث
بنوك الحليب
وعلاقتها بأحكام الرضاع
دراسة علمية وفقهية
إعداد
الأستاذ الدكتور
محمد الهواري
عضو المجلس
ذو القعدة 1424 هـ - كانون الأول / ديسمبر 2003 م
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد:
... تبلغ نسبة الأطفال الخُدَّج Premature babiesالذين يلدون قبل أوانهم ما لا يقل عن ( 7% وسطياً) من مجموع المواليد في العالم. وقد يستدعي الأمر إلى عزل هؤلاء الأطفال في حاضنات اصطناعية لفترة قد تمتد حتى يفيض حليب الأم من الثديين. نظراً للعناية الفائقة التي تقدم لهؤلاء الأطفال فإن حالتهم الحرجة تأخذ بالتحسن بصورة تسمح لهم بتلقي الحليب.
... ومن المعلوم أن حليب الأم هو الحليب الأنسب لتغذية هؤلاء الأطفال لاحتوائه على جميع العناصر اللازمة لنمو الطفل إضافة إلى غناه بالخلايا الدفاعية التي تمنحه فاعلية خاصة لمقاومة الجراثيم الضارة بالطفل. وعلاوة على ذلك فقد أظهرت الدراسات العلمية أن الطفل الذي يتغذى بلبن الأم يكون نموه متماشياً مع معدلات النمو الطبيعي، في حين أن الطفل الذي يتناول لبناً اصطناعياً فإن نموّه يتأثر تأثراً كبيراً، حيث تبين أن الرضاعة الاصطناعية قد تؤدي للإصابة بعدد قليل من الأمراض كسوء التغذية والنزلات المعوية والأمراض المَعِديّة التي قد لا تحمد عقباها.
... وتأتي أهمية هذا اللبن كما يقول الدكتور محمد علي البار من الأسباب التالية:
1. احتواؤه على المكونات الرئيسة المناسبة للطفل الوليد.
2. احتواؤه على الأجسام الضدية Antibodies والأجسام المناعية Immunebodies اللازمة لمقاومة جسم الطفل للأمراض.
3. يحمي لبنُ الأم الأطفالَ من مختلف أنواع الأخماج (الالتهابات) Infections التي تصيب الجهاز الهضمي والجهاز التنفسي وغيرهما من الأجهزة.
4. لا يتحسس الطفل من حليب الأم كما يتحسس من الألبان الأخرى: ألبان البقر والجواميس والأغنام والماعز.(1/1)
5. يحتوي لبن الأمهات على كمية كبيرة من خلايا المناعة وخاصة من نوع IJA الذي يلعب دوراً هاما في حماية الجهاز الهضمي والتنفسي.
6. يحتوي لبن الأمهات على نسبة من معدن التوتياء ( الزنك ) بينما لا يحتوي لبن الأبقار والجواميس على الكمية الكافية منه؛ ولذا فإن الأطفال الذين ينشأون وهم يُغَذّون بلبن غير إنساني يتعرضون لاحتمال الإصابة بأعراض نقص الزنك التي تؤدي إلى حدوث أمراض جلدية حادة أو مزمنة، كظهور ثبور وطفح جلدي سرعان ما يمتلئ بالصديد أو الدم وخاصة في مخارج الجسم ( حول الفم والشَّرَج وفي الأطراف) ويصحب ذلك إسهال قد يكون شديداً .
... ولهذه الأسباب ولغيرها تنصح الأمهات بإرضاع أطفالهن من الثدي لما في ذلك من فوائد للأطفال والأمهات على حدٍّ سواء.
... وبما أن الأم قد لا تستطيع إرضاع طفلها لنضوب لبنها أو لوجود مرضٍ معدٍ أو لأيّ سبب من الأسباب التي تمنع الإرضاع كوجود خراج في الثدي وغيره، فإن البديل لذلك هو اللجوء إلى المرضعات.
... ونظراً لاختفاء المرضعات في المجتمع الغربي وكثير من بلدان العالم فقد برزت إلى السطح فكرة إنشاء بنوك الحليب.
والأطفال الذين هم بأشد الحاجة لمثل هذا النوع من الحليب هم:
1. الأطفال الخُدَّج Premature Babies أي الأطفال الذين ولدوا قبل الميعاد (أقل من تسعة أشهر) وكلما كان ذلك أقل من تسعة أشهر كلما كانت حاجة الطفل أكبر.
2. الأطفال الناقصو الوزن عند الولادة رغم أنهم قد أكملوا مدة الحمل الطبيعية تسعة أشهر ( 280 يوماً من تاريخ آخر حيضة حاضتها المرأة أو 266 يوماً منذ التلقيح، قد تزيد قليلاً أو تنقص).
3. الأطفال الذين يصابون بالالتهابات الحادة أو الإنتانات المختلفة والتي تجعلهم في حاجة شديدة إلى اللبن الإنساني لما يحتويه من الأجسام الضدية والمناعية.(1/2)
وتلبيةً لحاجة هؤلاء الأطفال فقد أنشأ البروفسور تالبوت Talbotعام 1910م وفي مدينة بوسطن بالولايات المتحدة الأمريكية أولَ مركز لجمع وتوزيع حليب المرأة. وقد سمح ظهور تقنية التبريد والتجميد بالمساعدة على حفظ عيّنات الحليب لمدة طويلة وتقديم هذه العينات بشكل عقيم وسليم للأطفال عند الحاجة.
... ومن بعد أنشأت الدكتورة ماري إيليز كايزر Marie-Elise Kaiserأولَ مركز أوروبي لجمع حليب الأمهات في مدينة ماغدبورغ Magdeburgبألمانيا الاتحادية.
وفي عام 1947 م أنشأ البروفسور لولونغ Lelong في مركز رعاية الوليد في باريس أولَ بنك للحليب يعتمد على مبدأ جمع وتوزيع حليب الأمهات على جميع من يحتاجه من الأطفال. وبهذه الصورة يمكن القول بأنه ظهر لأول مرة وجود قانوني متميز لحليب الأم بعيداً عن الأم المعطية للحليب وللطفل المستقبِل لهذا الحليب. وقد نشأ في المجتمع الغربي جدل قانوني حول مشروعية اعتبار حليب الأم سلعة يمكن تقديمها كبقية السلع المعروفة في السوق. فمن البديهي أن جسم الإنسان يمثل هويته الشخصية ولا يمكن أن يكون عَرَضَاً يجوز التصرف فيه وتبادله في الأسواق. إلا أن هذا الجدل القانوني انتهي بالمُشَرّع الفرنسي على سبيل المثال إلى أن يعتبر أن أحد مكونات الجسم يصبح شيئاً من الأشياء حالما ينفصل عن الجسم ويجوز التصرف فيه. وعلى هذا يعتبر حليب الأم بمجرد انفصاله عنها شيئاً يجوز التصرف فيه بيعاً وشراءً وهبةً. وباعتبار أن هذا الحليب عنصر غذائي حيوي لذا يجوز بيعه والتصرف فيه كباقي السلع الغذائية.
ما هو بنك الحليب ؟(1/3)
هو مركز يتم فيه جمع حليب الأمهات الموجودات في دور التوليد، أو الأمهات المرضعات اللواتي يرضعن أولادهن في المنازل ويقبلن أن يعطين المقدار الفائض من الحليب مرة أو أكثر في اليوم الواحد. ويقوم هذا المركز بجمع حليب الأمهات وتحليل هذا الحليب ومراقبته ومن ثم توزيعه بناء على وصفة طبية إلى الأطفال الخدّج أو إلى الأطفال الذين يعانون من أمراض معوية مناعية أو تحسسية.
يُجمع الحليب عادة بصورة نظيفة وعقيمة في أوانٍ مغسولة جيداً بالماء والصابون والأفضل أن تكون معقمة بطريقة فنية، ثم يحفظ الحليب لوحده أو بعد خلطه مع غيره وفقاً للشروط التالية:
أولاً) ... في درجة الحرارة الطبيعية:
1. اللِّبَأ: Colostrum
... وهو الحليب الذي تدرّه المرأة خلال الأيام الستة الأولى من بعد الولادة.
... يمكن حفظ هذا الحليب لمدة (12) ساعة في درجة حرارة (27-32)° ... مئوية.
2. الحليب الناضج:
- يحفظ لمدة 24 ساعة بدرجة حرارة ( 15)° درجة مئوية.
- يحفظ لمدة 10 ساعات بدرجة حرارة ( 19-22)° درجة مئوية
- يحفظ لمدة 4 – 6 ساعات بدرجة حرارة (25)° درجة مئوية.
ثانياً) ... في درجة حرارة البراد:
... ... الحليب الناضج:
- يحفظ لمدة (8) أيام بدرج حرارة ( 0 – 4)° درجة مئوية.
... وإذا تُرِكَ الحليب لمدة ساعتين في درجة الحرارة الطبيعية ... فيمكن أن يوضع في البراد ويحفظ لمدة (4-5) أيام بدون أي ... محذور (أو 8 أيام ... كحدّ أقصى)، أما إذا وضع في الثلاجة ... فيمكن حفظه عدة أشهر.
ثالثاً) ... ... في درجة حرارة المجمدة:
... ... ... يمكن أن يحفظ الحليب الناضج في قسم التجميد الموجود ضمن ... ... ... البراد لمدة أسبوعين ، أما إذا كانت المجمدة منفصلة فيمكن حفظ ... ... ... الحليب فيه إلى قد تصل إلى ( 3-4 ) أشهر.
... وفي حالة المجمدة الأفقية قد تصل مدة الحفظ إلى (6) أشهر ... بحالته ... المجمدة بدرجة حرارة ثابتة (-19)° درجة مئوية.
ملاحظات :(1/4)
1. يمكن حفظ الحليب البشري جيدا في الثلاجة. وقد أظهرت الدراسات عدم تزايد نمو الجراثيم بل إن بعض مكونات الحليب يقوم بتخريب هذه الجراثيم.
2. الحليب بعد إخراجه من الثلاجة يمكن حفظه لمدة (2-3) أيام في البراد ذلك لأن تجميد الحليب يخرب بعض مكوناته التي تحدّ من نمو الجراثيم ولهذا تتكاثر الجراثيم في الحليب الخارج من الثلاجة أكثر من الحليب المبرد فقط.
3. إذا رضع الطفل جزءاً من الحليب الذي أخرج من الثلاجة، فيجب وضع القسم الباقي في البراد بحيث يجوز استعماله خلال ( 24-48 ) ساعة ولا يجوز تسخينه أكثر من مرتين لعدم معرفة ما يجري للحليب إذا سخن أكثر من مرتين في اليوم.
4. يمكن للحليب أثناء حفظه أن يأخذ طعماً وشكلاً غريبين. وقد يكون لهذا علاقة بما تتناوله الأم من أطعمة أو أشربة أو أدوية وغيرها. وقد يصبح الحليب رغويَّ الشكل نتيجة لعمل الخمائر في هضم المواد الدسمة الموجودة فيه مما قد يؤدي لاكتسابه طعماً غريباً، وقد ينفر الطفل من تناول هذا الحليب.
5. يخضع الحليب لاختبارات وفحوص طبية دقيقة كاختبارات الأيدزAids والتهاب الكبد البائي B والتهاب الكبد الجيمي C والاختبارات الجرثومية المختلفة والتأكد من خلوه من بعض الجراثيم كالمكورات العنقودية Staphylococcus، ويجب إعلام الأم بصورة دائمة عن نتائج هذه الاختبارات.
6. تُميّز بنوك الحليب بين نوعين من الحليب:
أ ) حليب الأم: Lait maternel وهو حليب مخصّص فقط لابن هذه الأم الموجود في المستشفى تحت العناية.
ب ) حليب المرأة: Lait feminin وهو الحليب الذي يُجمع ويحفظ ويمكن أن يقدم لأي طفل يحتاجه، وقد يكون هذا الحليب مختلطاً مع غيره من حليب الأمهات.(1/5)
7. انتشرت بنوك الحليب كثيراً في العالم الغربي. وقد تكون مؤسسات مستقلة بنفسها أو قد تكون ملحقة بمستشفيات الولادة بصورة عامة. وفي فرنسا على سبيل المثال يوجد حالياً ما يقرب من (20) عشرين بنك للحليب تنتشر على كافة التراب الفرنسي، كما يوجد بنوك مشابهة لها في ألمانيا ومختلف الدول الأوروبية والأمريكية، وهي غير معروفة إلى الآن في أقطار العالم الإسلامي. ومن الجدير بالذكر أن تكلفة هذه البنوك مرتفعة نسبياً، وبصورة عامة لا يُصرَف الحليب منها إلا بناء على وصفة طبية.
... وخلافا لبعض من قال بأن عدد هذه البنوك آخذ بالتراجع والانكماش فإنني ... أؤكد على انتشارها في العالم الغربي وأعطي على سبيل المثال فيما يلي ... عناوين بعض بنوك الحليب التابعة لرابطة ... بنوك الحليب الفرنسية:
رابطة بنوك الحليب الفرنسية
ASSOCIATION DES LACTARIUMS DE FRANCE (A.D.L.F.)
عنوان المركز الرئيسي
Siège social: 26, boulevard Brune, 75014 Paris.
Tél : 01.40.44.39.14
NANTES ... GRENOBLE ... AMIENS
44035 -Tél. 02.40.08.34.82 ... 38000 -Tél. 04.76.42.51.45 ... 80030 - Tél. 03.22.66.82.88
Lactarium Jacques Grislain ... Lactarium Rhône-Alpes ... Lactarium - Hôpital Nord - Pédiatrie II-
C.H.R.U. Quai Moncousu ... Antenne de Grenoble ... Place Victor Pauchet
Hôpital La Tronche
ORLEANS ... BORDEAUX
45032 -Tél. 02.38.74.41.81 ... LILLE ... 33077 - Tél. 05.56.79.59.14
Lactarium1, ... 59 037 - Tél. 03.20.44.50.50 ... Lactarium Départemental
rue Porte Madeleine-BP 2439 ... Hôpital Lille ... Hôpital Pellegrin - Enfants
PARIS ... Hôpital Calmette ... Place Amélie Raba Léon
75014 -Tél. 01.40.44.39.14 ... Bd. Professeur Jules Leclercq ... BREST
Lactarium ... LYON ... 29200 - Tél. 02.98.22.33.33 p.2002
26, Boulevard brune ... 69322 Cedex 05 -Tél. 04.72.38.55.67 ... Lactarium de Bretagne Occidentale(1/6)
POITIERS ... Hôpital Debrousse ... Service Pierre Royer
86000 -Tél. 05.49,44,44.44 p. 4206 ... Lactarium de Lyon ... Hôpital Morvan C.H.R.U Brest
C.H.R.U. Jean Bernard ... 29, rue Sœur Bouvier ... CHERBOURG
Av. Jacques Cœur ... MARMANDE ... 50102 - Tél. 02.33.20.70.00
SAINT-ETIENNE ... 47200 -Tél. 05.53.64.26.22 ... (ligne directe Néo-natologie)
St Priest en Jarez ... Lactarium Dr. R. Fourcade ... Lactarium C.H. Louis Pasteur
42277 - Tél. 04.77.93.64.66 ... Croix Rouge Française ... 46, rue du Val de Saire
Lactarium Charles Beutter ... Av. des Martyrs de la Résistance ... CLERMONT-FERRAND
C.H.R.U de St Etienne Nord ... MONTPELLIER ... 63003 Cedex - Tél. 04.73.31.60.00
STRASBOURG ... 34059 -Tél. 04.67.33.66.99 ... HشTEL-DIEU
67000 -Tél. 03.88.11.60.54 ... Lactarium Montpellier ... Service Biberonnerie
Institut de Puériculture ... CHU Hôpital Arnaud Villeneuve ... Avenue Vercingétorix
Lactarium des Hospices Civils ... 371 av., Doyen Gaston Giraud ... DIJON
23, rue de la Porte de l'hôpital ... MULHOUSE ... 21034 -Tél. 03.80.29.38.34
TOURS ... 68051 -Tél. 03.89.64.68.91 ... Lactarium C.H.R.U Bocage
37000 -Tél. 02.47.47.37.34 ... Lactarium C. H. Mulhouse ... Maternité du Bocage
Lactarium ... Hôpital du Hassenrain
C.H.R.U. Hôpital Clocheville ... Avenue d'Altkirch
49, Boulevard Bérenger
محاذير بنوك الحليب:
لا تهتم بنوك الحليب المنتشرة في العالم الغربي بالقيم الأخلاقية والدينية المتعلقة بالرضاع وما شابه وخاصة بعد أن اعتبرت أن الحليب بمجرد فصله عن الأم يجوز بيعه وشراؤه وهبته.(1/7)
بيد أن المجتمعات الإسلامية تنظر إلى هذا النوع من الحليب بالمنظار الديني، فالشريعة قررت أنه " يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب". وهذا يعني أن الطفل الذي يتناول حليباً إنسانياً مجهولاً فقد يؤدي ذلك إلى أن يتزوج الأخ أخته من الرضاعة أو خالته أو عمته أو غيرها من المحرمات عليه.
ولقد ناقش مجمع الفقه الإسلامي الدولي هذا الموضوع في دورته الثانية المنعقدة في جدة في شهر ربيع الآخر عام 1406 هـ / كانون الأول – ديسمبر 1985 م على ضوء حاجة العالم الإسلامي لبنوك الحليب وأصدر بشأنه القرار رقم 6 ( 6/2) وهذا نصه:
... بعد أن عرض على المجمع دراسة فقهية، ودراسة طبية حول بنوك الحليب، وبعد التأمل فيما جاء في الدراستين ومناقشة كل منهما مناقشة مستفيضة شملت مختلف جوانب الموضوع وتبين منها:
أولاً) ... أن بنوك الحليب تجربة قامت بها الأمم الغربية، ثم ظهرت مع التجربة بعض ... السلبيات الفنية والعلمية فيها وانكمشت وقلّ الاهتمام بها.
ثانياً) ... أن الإسلام يعتبر الرضاعة لحمة كلحمة النسب يحرم به ما يحرم من النسب ... بإجماع المسلمين. ومن مقاصد الشريعة الكلية المحافظة على النسب، وبنوك ... الحليب مؤدية إلى الاختلاط أو الريبة.
ثالثاً) ... أن العلاقات الاجتماعية في العالم الإسلامي توفر للمولود الخَداج أو ناقص ... الوزن أو المحتاج إلى اللبن البشري في الحالات الخاصة ما يحتاج إليه من ... الاسترضاع الطبيعي، الأمر الذي يغني عن بنوك الحليب.
قرر ما يلي:
أولاً) ... منع إنشاء بنوك حليب الأمهات في العالم الإسلامي.
ثانياً) ... حرمة الرضاعة منها.
... ويتضح مما سبق أن القرار أغفل وضع المسلمين المتزايد في العالم الغربي ولم يتطرق إلى أحوالهم المتصلة بهذا الموضوع. فكان لزاما أن يستأنف البحث على ضوء المستجدات والوصول إلى حكم يتناسب مع حاجة المسلمين في العالم الغربي.(1/8)
ولهذا سنعرض بإيجاز الأحكام المتعلقة بالرضاع في الفقه الإسلامي ( تعريفه وصفته وأنواعه وأحكامه ) وما يتصل منها ببنوك الحليب.
تعريف الرضاع(1)
1. الرضاع لغةً:
... ... الرِّضاع والرَّضاعة معناهما واحد، وهما بفتح الراء وكسرها، وقد ... ... ... رَضِعَ الصبيُّ أمه، بكسر الضاد، يَرْضَعَها، بفتحها، رَضْعَاً وَرَضَاعَاً ... ... ... ورضَاعَةً.
قال الجوهري: ويقول أهل نجد: رَضَع يَرْضِعُ ، بفتح الضاد في الماضي وكسرها في المضارع – رضعاً، كضرب، يضرب ضرباً. وأرضعته أمه، وامرأة مُرضع، أي لها ولد ترضعه، فإن وصفتها بإرضاعه قلت: مُرْضِعَة.(2)
قال شيخ الإسلام زكريا: الرَِّضَاع، بفتح الراء وكسرها: اسم لمصّ الثدي وشرب لبنه.
قال: وقائله جرى على الغالب الموافق للغة، وإلا فهو اسم لحصول لَبَنِ امرأةٍ أو ما حصلَ منه في جوْف طِفلٍ(3). وقد تُبدل الضاد تاءً لغةً(4).
2. الرضاع شرعاً :
هو اسم لحصول لبن امرأة أو ما حصل منه في معدة طفل(5).
وقال الجرجاني: هو مصّ الرضيع من ثدي الآدمية في مدة الرضاعة(6).
وعرّفه بعض العلماء بأنه: مصّ مَنْ دون الحولين لبناً ثابَ عن حمْلٍ، أو شُربه ونحوه(7). ويقول آخرون: هو اسم لمصّ الثدي وشُرب لبنه(8).
3. حكم الرضاع:
__________
(1) . ... الإمتاع في أحكام الرضاع للدكتور محمد حسن هيتو
(2) . ... انظر اللسان والقاموس مادة ( رضع ) والنووي على مسلم 10/18
(3) . ... شرح الروض 3/415 ؛ وفتح الوهاب 4/474 جمل.
(4) . ... تحفة المحتاج 8/283 ؛ نهاية المحتاج 7/172.
(5) . ... شرح الروض 3/415؛ فتح الوهاب 4/474 جمل؛ مغني المحتاج 3/414؛ التحفة 8/283 ؛ النهاية 7/172
(6) . ... التعريفات للجرجاني ( 111 ) .
(7) . ... السلسبيل في معرفة الدليل للبليهي 3/95 ؛ وانظر الروض المربع 3/218.
(8) . ... فقه الأسرة للدكتور أحمد علي طه الريان 1/280(1/9)
الرضاع جائز في الأصل، قال تعالى: “ وَأُمَّهَاتُكُم اللاّتي أرْضَعْنَكُم وَأَخَواتُكُم منَ الرَّضَاعَة “ . ]سورة النساء: 23[ ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن ابنة حمزة رضي الله عنهما : ( إنها ابنة أخي من الرضاعة ) ]انظر صحيح البخاري 5100 وهو جزء من حديث [. وقال عن ابنة أم سلمة رضي الله عنها : ( إنها لابنة أخي من الرضاعة، أرضعتني وأبا سلمة ثُوَيْبة )]رواه البخاري 5101 وهو جزء من حديث[ .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: " كان فيما أنزل الله من القرآن عشر رَضَعَات يحرِّمنَ ثم نسخن بخمس معلومات يُحرمن فتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وهنَّ مما يقرأ من القرآن " ]رواه مسلم 4/167 ؛ وأبو داود 2062 [
قد يكون الرضاع مكروهاً كالارتضاع بلبن المشركة ولبن الفجور والمشركات؛ قال ابن قدامة: " كره الإمام أحمد الارتضاع بلبن الفجور والمشركات "(1).
وقد يكون للرضاع أحكام أخرى بحسب الحال، فقد يكون واجباً وذلك في حق من لها لبن ووجدت طفلاً ليس له مرضعة، فيتعين عليها إرضاعه من باب إنقاذ نفس من الموت والهلاك، والله أعلم(2).
4. شروط الرضاع المحرِّم:
إن للرضاع تأثيراً على المرضعة ومن يتصل بها من النسب، وعلى الرضيع وأولاده، إلا أن هذا التأثير لا يوجد إلا إذا تحقق الرضاع بشروطه المعتبرة شرعاً. وقد اختلف الفقهاء في شروط الرضاع، وفي ذلك تفصيل نعرض له بإيجاز فيما يلي:
أولاً) ... السن الذي يثبت فيه التحريم بالرضاع:
__________
(1) . ... المغني 8/155
(2) . ... أحكام الرضاع في الإسلام للدكتور سعد الدين بن محمد الكبي(5)(1/10)
... ... اختلف الفقهاء في السن الذي يثبت فيه التحريم بالرضاع، فذهب ... ... ... جمهور أهل العلم إلى أن الرضاع الذي يثبت فيه التحريم ما كان في ... ... ... سنّ الحولين وهو قول مالك والشافعي وأحمد، وصاحبي أبي حنيفة(1).
... ... واستدلوا بقوله تعالى: " وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أوْلادَهُنَّ حوْليْنِ كامِلَيْنِ لَمَنْ ... ... أرَادَ أنْ يُتِمَّ الرّضاعَة " ] سورة البقرة : 233 [ فجعل تمام الرضاعة ... ... حولين . وبقوله تعالى: " وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونََ شهراً " ] سورة الأحقاف: ... ... ... 15 [.
... ... وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل ... ... عليها وعندها رجل، فتغيّر وجه النبي صلى الله عليه وسلم فقالت:
... ... ( يا رسول الله إنه أخي من الرضاعة، فقال: انظُرنَ مَنْ إخوانكن ... ... ... فإنما الرضاعة من المجاعة) ] متفق عليه [.
... ... وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه ... ... ... وسلم: ( لا يحرم من الرضاعة إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان ... ... ... قبل الفطام )] رواه الترمذي 1152 وصححه هو والحاكم [.
... ... ومعني في الثدي، قال الشوكاني: ( أي في أيام الثدي، وذلك حيث ... ... ... يرضع الصبي فيها )(2).
... ... وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " لا رضاع إلا في الحولين ”(3).
... ... وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه ... ... وسلم: ( لا رضاع إلا ما أنشز العظم وأنبت اللحمَ )(4).
__________
(1) . ... بداية المجتهد لابن رشد 2/36 ورحمة الأمة في اختلاف الأئمة للعثماني 343؛ والإقناع للخطيب الشربيني 2/366 ؛ والمغني ... لابن قدامة 8/143 ؛ ومنار السبيل لابن ضويان 2/294 ؛ والهداية للمرغيناني 2/243.
(2) . ... السيل الجرار للشوكاني 2/466 ؛ وانظر نيل الأوطار له أيضاً 6/354
(3) ... رواه الدارقطني وابن عدي مرفوعاً وموقوفاً، وقال الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام 1165 رجحا الموقوف
(4) . ... رواه أبو داود (2060) في النكاح ( باب في رضاعة الكبير). ...(1/11)
... ... أما الإمام أبوحنيفة رحمه الله فقد ذهب إلى أن التحريم يثبت إلى ثلاثين ... ... ... شهراً(1).
... ... واستدل بقوله تعالى: " وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونََ شهراً " ] سورة الأحقاف: ... ... ... 15 [.
... ... وذهب الظاهرية إلى أن إرضاع الكبير يُحرّم، لحديث سهلة بنت سهيل ... ... ... في قصة إرضاعها لسالم رضي الله عنهم، فعن عائشة رضي الله عنها ... ... ... قالت: جاءت سهلة بنت سهيل فقالت: يا رسول الله، إن سالماً مولى ... ... أبي حذيفة معنا في بيتنا، وقد بلغ ما يبلغ الرجال، فقال: ( أرضعيه
... ... تَحْرُمي عليه )(2).
__________
(1) . ... الهداية للمرغيناني ( 2/243)
(2) . ... كان أبو حذيفة تبنّى سالماً وهو مولى لامرأة من الأنصار كما تبنى النبي صلى الله عليه وسلم زيداً . وكان من تبنى رجلاً في ... الجاهلية دعاه الناس ابنه وورثه من ميراثه حتى أنزل الله تعالى " ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله ، فإن لم تعلموا آباءهم ... فإخوانكم في الدين ومواليكم " فردّوا إلى آبائهم. فجاءت سهلة فقالت: يا رسول الله، كنا نرى سالما ولداً يأوي معي ومع أبي ... ... حذيفة ويراني فضلاً – أي متبذلة في ثياب مهنتي – وقد أنزل الله فيهم ما قد علمت فقال: " أرضعيه خمس رضعات " فكان ... بمنزلة ولده من الرضاعة . رواه مالك في الموطأ. وروى أحمد ومسلم عن أم سلمة أنها قالت: أبى سائرُ أزواج النبي صلى الله ... عليه وسلم أن يدخلن عليهن بتلك الرضاعة أحداً. وقالت عائشة: ما نرى هذه إلا رخصة أرخصها النبي صلى الله عليه وسلم ... ... لسالم خاصة ] بلوغ المرام لابن حجر وبتعليق محمد حامد الفقي ( ص 376 ) .[(1/12)
... ... وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى أن إرضاع الكبير يجوز ... ... للحاجة ويثبت به التحريم فقال: ( وهذا الحديث– أي حديث سهلة بنت ... ... سهيل في إرضاعها لسالم أخذت به عائشة رضي الله عنها وأبى غيرها ... ... من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذن به مع أن عائشة رضي ... ... الله عنها روت عنه قال: " الرضاعة من المجاعة " لكنها رأت الفرق ... ... ... بين أن يقصد رضاعة أو تغذية، فمتى كان المقصود الثاني لم يحرّم ... ... إلا ما كان قبل الفطام، وهذا هو إرضاع عامة الناس، وأما الأول ... ... فيجوز إن احتيج إلى جعله ذا محرم، وقد يجوز للحاجة ما لا يجوز ... ... لغيرها، وهذا قول متجه )(1).
الترجيح:
... ... والراجح مذهب جمهور أهل العلم، وهو أن الرضاع لا يحرم إلا ما ... ... ... كان في الحولين لقوله صلى الله عليه وسلم: ( إنما الرضاعة من ... ... ... المجاعة ) وللأدلة السابقة المتقدمة في بيان أن الرضاع الذي يحرّم ... ... ... ما كان في زمن الفطام في الحولين، لأنه هو السن الذي يتغذى فيه ... ... ... باللبن، فينبت به اللحم وينشز به العظم. وأما الاستدلال بقوله تعالى: " ... ... ... وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونََ شهراً " ] سورة الأحقاف: 15 [على ثبوت ... ... ... التحريم إلى الثلاثين، فإن مدة الحمل أدناها ستة أشهر فبقي للفصال ... ... ... حولان، وقد دلّ على ذلك قوله تعالى " وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونََ ... ... ... شهراً " مع قوله تعالى: " وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أوْلادَهُنَّ حوْليْنِ كامِلَيْنِ ... ... ... لَمَنْ أرَادَ أنْ يُتِمَّ الرّضاعَة " ] سورة البقرة : 233 [ فحولان للرضاع ... ... ... ويبقى للثلاثين ستة أشهر وهي أقل مدة الحمل. والله أعلم.
ثانيا) ... عدد الرضعات التي يثبت معها التحريم:
... ... وقد اختلف أهل العلم في العدد المحرم من الرضاعة:
__________
(1) . ... الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية : ( 34/60 ) .(1/13)
... ... فذهب الإمامان مالك وأبو حنيفة رحمهما الله تعالى إلى أن قليل ... ... ... الرضاع وكثيره يحرم، وهذا القول هو رواية ثانية عن الإمام أحمد ... ... ... رحمه الله وإليه ذهب أيضا ابن المسيّب والحسن ومكحول والزهري ... ... ... ومالك والأوزاعي والثوري والليث(1).
... ... واحتجوا بقوله تعالى: " وَأُمَّهَاتُكُم اللاّتي أرْضَعْنَكُم وَأَخَواتُكُم منَ ... ... ... الرَّضَاعَة " . ]سورة النساء: 23[ ، وهذا لفظ مطلق يفيد الإطلاق وعدم ... ... التقييد، وبقوله صلى الله عليه وسلم: ( يحرم من الرضاعة ما يحرم من ... ... النسب)(2).
... ... وذهب داود الظاهري وابن المنذر، إلى أن أقل ما يحرّم ثلاث رضعات ... ... وبه قال أبو ثور وأبو عبيد(3)
... ... واستدلوا بمفهوم قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا تحرّم المصة ولا ... ... ... المصتان )(4). وفي رواية عن أم الفضل بنت الحارث قالت: قال النبي ... ... ... صلى الله عليه وسلم: ( لا تحرّم الإملاجة ولا الإملاجتان )(5). فمفهوم ... ... ... الحديث أن الثلاث تحرّم.
... ... وذهب الإمام الشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى إلى أن التحريم لا يكون ... ... بأقل من خمس رضعات، وهو قول ابن حزم أيضاً(6).
__________
(1) . ... انظر: بداية المجتهد (2/35) ورحمة الأمة في اختلاف الأئمة (243) والهداية للمرغيناني (2/243) والمغني (8/137-138)
(2) . ... رواه البخاري (2645) في الشهادات ( باب الشهادة على الأنساب والرضاع ).
(3) . ... سبل السلام للصنعاني (3/437) وبداية المجتهد (2/35) والمغني (8/138) ..
(4) . ... رواه مسلم ( 1450 ) في الرضاع
(5) . ... رواه مسلم (1451) في الرضاعة ، وملجَ الصبي أمّه تناول ثديها بأدنى فمه ، والإملاجة المصة .
(6) . ... بداية المجتهد (2/35) والإقناع للشربيني ( 2/367) والمغني ( 8/137-138) ومنار السبيل (2/293)(1/14)
... ... واستدلوا بحديث عائشة رضي الله عنها قالت: ( كان فيما أنزل من ... ... القرآن عشر رَضَعات معلومات يحرّمن، ثم نُسخن بخمسٍ معلومات، ... ... ... فتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وهُنَّ فيما يقرأ من القرآن(1).
... ... الترجيح:(2)
... ... والراجح ما ذهب إليه الإمامان الشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى ... ... لصريح ما استدلا به، وهو صحيح محكم، ومن آخر ما نقل عنه صلى ... ... ... الله عليه وسلم في حياته.
... ... ويجاب عن استدلال أبي حنيفة ومالك رحمهما الله تعالى: أنه مطلق وقد ... ... تقرر في الأصول من وجوب حمل المطلق على المقيّد، فقوله تعالى: ... ... ... " وَأخَوَاتُكُم مِنَ الرَّضَاعَة " وكذا قوله صلى الله عليه وسلم: (يحرم من ... ... ... الرضاعة ما يحرم من النسب ) مطلق يحمل على المقيد بخمس لقول ... ... عائشة رضي الله عنها: ( ثم نسخن بخمس معلومات ).
... ... ويجاب عن استدلال داود بأنه عمل بالمفهوم، والمفهوم يعمل به ما لم ... ... يخالف منطوقاً(3)، وقد خالف هنا المنطوق من حديث عائشة رضي الله ... ... عنها: ( ثم نسخن بخمسٍ معلومات ). والله أعلم
ثالثاً) ... حدّ الرضعة وشروطها:
... ... وإذا كان التحريم لا يتحقق إلا بخمس رضعات معلومات، فما هو حدّ ... ... ... الرضعة الواحدة وما هي شروطها؟
...
(1) حدّ الرضعة:
... ... الرجوع في ضبط الرضعة والرضعتين إلى العُرف، لأنه لا ضابطَ له ... ... في اللغة ولا في الشرع، وما لا ضابط له في اللغة ولا في الشرع ... ... ... يرجع به إلى العرف(4).
__________
(1) . ... رواه مسلم (1452) في الرضاع.
(2) . ... أحكام الرضاع في الإسلام للدكتور سعد الدين بن محمد الكبي ص /9
(3) . ... قال الخطيب الشربيني في الإقناع ( 2/259) : المفهوم إنما يكون حجة إذا لم يعرضه منطوق.
(4) . ... أنظر الأشباه والنظائر للسيوطي ص 98 وقواعد الزركشي (2/391)(1/15)
... ... فالرضعة هي المرة، فمتى التقم الصبي الثدي فامتص منه ثم تركه ... ... ... باختياره لغير عارض كان ذلك رضعة(1)، فأما إن قطع لضيق نفس ، ... ... أو للانتقال من ثدي إلى ثدي، أو لشيءٍ يلهيه، أو قطعت عنه ... ... المرضعة، فإن لم يعد قريبا فهي رضعة، وإن عاد في الحال، فجميع ... ... ... ذلك رضعة واحدة على الراجح(2).
... ... قال صديق خان: الرضعة أن يأخذ الصبي الثدي فيمتص منه ثم يستمر ... ... ... على ذلك حتى يتركه باختياره لغير عارض(3).
(2) شروط الرضعة:
... ... يشترط في الرضعات أن تكون متفرقات، وبهذا قال الشافعي وأحمد(4).
... ... وقد اختلف أهل العلم في شرط الرضعة في مسائل:
أ ) السَّعُوط والوَجُور:
... فالسَّعُوط: أن يصبّ اللبن في أنفه من إناء أو غيره.
... والوَجور: أن يصبَّ اللبن في حلقه صباً من غير الثدي.
... فمذهب أهل العلم أنه يثبت به التحريم، وهو قول أبي حنيفة والشافعي ... وأحمد والشعبي، والثوري، وبه قال مالك في الوَجور(5).
... والقول الثاني: لا يثبت التحريم، وهو مذهب داود، لأن هذا ليس ... برضاع، وإنما حرّم الله ورسوله بالرضاع.
... وقد رجح ابن قدامة في المغني مذهب الجمهور فقال: " ولنا أن هذا ... يصل ... به اللبن إلى حيث يصل بالارتضاع، ويحصل به من إنبات اللحم ... وإنشاز العظم ما يحصل من الارتضاع، فيجب أن يساويه في التحريم. ... والأنف سبيل الفطر للصائم، فكان سبيلاً للتحريم كالرضاع بالفم. قال: ... والذي يحرم من ذلك ما كان مثل الرضاعة وهو خمس رضعات، فإن ... ارتضع وكمل الخمس بالوجور، أو أوجر وكمل الخمس برضاع ثبت ... التحريم(6).
ب ) اللبن المختلط بغيره:
__________
(1) . ... المجموع شرح المهذب ( 18/216)
(2) . ... المجموع شرح المهذب ( 18/217-218 )
(3) . ... الروضة الندية (2/174)
(4) . ... المجموع شرح المهذب (18/217) والمغني ( 8/138 )
(5) . ... انظر المغني لابن قدامة (7/139)
(6) . ... نفس المصدر السابق(1/16)
... اللبن المشوب بغيره-أي المخلوط- فهو كاللبن المحض الذي لم يخالطه ... شيء وذلك في قول عند الحنابلة(1)، والقول الثاني: إن كان الغالب ... اللبن حرم وإلا فلا وهو قول أبي ثور والمزني لأن الحكم للغالب(2)،كما ... أنه قول الحنفية، قال في الهداية: " وإن اختلط بالدواء واللبنُ غالبٌ ... تعلّق به التحريم ، لأن اللبنَ يبقى مقصوداً فيه، إذ الدواء لتقويته على ... الوصول. وإذا اختلط اللبن بلبن الشاة وهو الغالب تعلق به التحريم(3)".
ج ) الحقنة باللبن:
... وأما الحقنة، فمذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد أنها لا تحرم، لأن هذا ... ليس برضاع ولا يحصل به التغذي فلم ينشر الحرمة(4).
... ومذهب الشافعي في القديم أنها تحرِّم، وعن محمد بن حسن الشيباني ... رحمه الله أنه تثبت به الحرمة كما يفسد به الصوم(5). أما في مذهب ... الشافعي الجديد فلا يثبت به التحريم وعليه الفتوى في المذهب(6). وقد ... رجح ابن قدامة رحمه الله عدم التحريم لعدم إنبات اللحم وإنشاز العظم ... بذلك(7).
... قال المطيعي في تكملة المجموع شرح المهذب: " وقد سألنا ولدنا التقي ... الدكتور أسامة أمين فراج فأجاب: لو أعطينا حقنة اللبن من الشَّرَج فإنه ... لا يتغذى منه الجسم إلا بنسبة ضئيلة في حالة بقائه في جوفه مدة ... طويلة ، ولا تقاس بجانب ما يتعاطاه بفمه كيفاً وكمّاً، وأما إذا نزل منه ... في الحال فإنه لا يعود عليه منه ما يغذيه"(8).
د ) الحلب من نسوة متعددات:
__________
(1) . ... المغني ( 8/140) وهو قول الشافعية ؛ انظر المجموع (18/221)
(2) . ... نفس المصدر
(3) . ... الهداية (2/245)
(4) . ... الهداية (2/245) والمجموع شرح المهذب( 18/220) والمغني ( 8/140)
(5) . ... نفس المصدر
(6) . ... الإمتاع في أحكام الرضاع للدكتور محمد حسن هيتو ص/34
(7) . ... المغني (8/140)
(8) . ... المجموع (18/221)(1/17)
... قال في المغني: وإن حلب من نسوةٍ وسقيه الصبي، فهو كما لو ارتضع ... من كل واحدة منهن، لأنه لو شيب بماء أو عسل لم يخرج عن كونه ... محرماً، فكذلك إذا شيب بلبن آخر(1).
هـ) ... إذا حلبت اللبن وسقته في أوقات متعددة:
... قال في المغني: ولو حلبت في إناء دفعة واحدة ثم سقته في خمسة ... أوقات فهو خمس رضعات، وإن حلبت في إناء حلبات في خمسة أوقات ... ثم سقته دفعة واحدة، كان كرضعة واحدة، قال: كما لو جُعلَ الطعام في ... إناء واحد في خمسة أوقات، ثم أكله دفعةً واحدة ، كان أكلة واحدة(2). ... وهو قول عند الشافعية(3).
و ) الارتضاع بلبن امرأة ميتة:
... هل يشترط للتحريم بالرضاع أن تكون المرضعة حية أثناء الارتضاع، ... فإذا شرب لبنها بعد موتها لم يُحَرِّم ؟
... اختلف الفقهاء في ذلك، فذهب الحنفية والحنابلة إلى أنه يحرّم لبن الميتة ... كما يحرم لبن الحية، لأن اللبن لا يموت، وهو قول أبي ثور ... والأوزاعي وابن القاسم وابن المنذر(4).
... وذهب الشافعي إلى أنه لا ينشر الحرمة، وبه قال الخلال من الحنابلة، ... لأنه لبن ممن ليس بمحل للولادة فلم يتعلق به التحريم(5).
... ورجح ابن قدامة إثبات التحريم، وقال: لأنه لو حلب منها في حياتها ... فشربه بعد موتها لنشر الحرمة ، وبقاؤه في ثديها لا يمنع ثبوت الحرمة ... لأن ثديها لا يزيد على الإناء(6).
... قال المطيعي في تكملة المجموع: ولو حلبت المرأة لبنها في وعاء، ثم ... ماتت، فشربه صبي نشر الحرمة في قول كل من جعل الوجور ... محرماً(7).
__________
(1) . ... المغني ( 8/141)
(2) . ... المغني ( 8/141)
(3) . ... المجموع (18/218-219) ورجح المطيعي القول الأول للشافعية، وهو أنه رضعة، لأن الوجور فرع للرضاع ، ثم العدد في ... الرضاع لا يحصل إلا بما ينفصل خمس مرات ، فكذلك في الوجور.
(4) . ... المغني ( 8/141) والهداية ( 2/245).
(5) . ... المجموع ( 18/223)
(6) . ... المغني ( 8/141)
(7) . ... المجموع (18/223)(1/18)
... فظهر أن مذهب الشافعية، أنهم يخصون عدم انتشار التحريم بما لو ... ارتضع من ثديها بعد موتها، أو حُلِبَ من ثديها في وعاء بعد موتها. أما ... لو احتلبت من ثديها في وعاء قبل موتها ثم شربه بعد موتها فإنه ينشر ... التحريم عندهم .
ز ) الارتضاع من لبن غير الآدمية:
... ولو ارتضع اثنان من لبن بهيمة فهل يصيران أخوين؟
... لا تنتشر الحرمة بلبن غير الآدمية، فلو ارتضع اثنان من لبن بهيمة لم ... يصيرا أخوين في قول عامة أهل العلم(1).
ح ) الشك في الرضاع:
... إذا شكت المرضعة هل أرضعت الطفل أم لا ؟ أو هل أرضعته خمس ... رضعات أو أربع رضعات، لم يثبت التحريم، لأن الأصل واليقين ... عدم الرضاع(2).
... قال الإمام الشافعي رحمه الله: ولو شكّ رجلٌ أن تكون امرأة أرضعته ... خمس رضعات، قلت: الورَعُ أن يكفَّ عن رؤيتها حاسراً ولا يكون لها ... محرماً بالشك.
... ولو نكحها، أو أحداً من بناتها لم أفسَخ النكاح، لأني على غيرِ يقينٍ من ... أنها أم(3).
... وأما إذا شك: هل دخل اللبن في جوف الصبي، أو لم يدخل؟ قال شيخ ... الإسلام : ( فهنا لا نحكم بالتحريم بلا ريب، وإن علم أنه حصل في ... فمه، فإن حصول اللبن في الفم لا ينشر الحرمة باتفاق المسلمين)(4).
...
...
الآثار الشرعية
المترتبة على الرضاع
... إذا أرضعت المرأة طفلاً رضاعاً مُحَرِّماً، صار المرتضع ابناً للمرضعة بغير خلاف، وصار أيضا ابناً لمن ثاب اللبن بسببه وهو الزوج – زوج المرضعة لأنه صاحب اللبن – فصار الرضيع في تحريم النكاح وإباحة الخلوة والمسافرة كالابن تماماً. ويترتب على ذلك ما يلي:
1. أولاد المرتضع من البنين والبنات أولاد أولادهما وإن نزلت درجتهم.
2. جميع أولاد المرضعة – من زوجها صاحب اللبن ومن غيره – وجميع أولاد الرجل الذي انتسب الحمل إليه من المرضعة ومن غيرها إخوة المرتضع وأخواته.
__________
(1) . ... الهداية ( 2246) والمجموع ( 18/223) والمغني ( 8/144) .
(2) . ... انظر المجموع للنووي (18/218)
(3) . ... الأم ( 5/31)
(4) . ... الفتاوى (34/45)(1/19)
3. وأولاد أولادهما هم أولاد إخوته وأخواته وإن نزلت درجتهم.
4. وأم المرضعة جدته، وأبوها جده.
5. إخوة المرضعة أخواله، وأخواتها خالاته.
6. أبو الرجل جدّه، وأمه جدته.
7. وإخوة الرجل أعمامه، وأخواته عماته.
8. جميع أقاربهما من النسب ينتسبون إلى المرتضع كما ينتسبون إلى ولدهما من النسب.(1)
والدليل في ذلك ما روته السيدة عائشة رضي الله عنها: " أن أفلح أخا أبي القعيس رضي الله عنه استأذن عليها بعد أن نزل الحجاب، فقالت: والله لا آذن له حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أخا أبي القعيس ليس هو أرضعني، ولكن أرضعتني امرأة أبي القعيس فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إن الرجل ليس هو أرضعني ولكن أرضعتني امرأته، قال: ائذني له فإنه عمُّك تربت يمينك ". قال عروة: فبذلك كانت عائشة تأخذ بقول: ( حرّموا من الرضاعة ما يحرم من النسب)(2).
وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن رجل تزوج امرأتين، فأرضعت إحداهما جارية والأخرى غلاماً، هل يتزوج الغلام الجارية؟ فقال: لا اللقاح واحد(3).
التحريم من قبل المرتضع:
فأما التحريم من جهة المرتضع فلا ينتشر إلا إليه وإلى أولاده، وإن نزلوا، ولا تنتشر إلى من في درجته من إخوته وأخواته، ولا إلى أصوله كأبيه وأمه، ولا إلى حواشيه كأعمامه وعمّاته وأخواله وخالاته، فلا يحرم على المرضعة نكاح أبي الطفل الرضيع، ولا أخيه، ولا عمه ولا خاله، ولا يحرم على زوجها نكاح أم الطفل المرتضع ولا أخته ولا عمته ولا خالته، ولا بأس أن يتزوج أولاد المرضعة وأولاد زوجها – صاحب اللبن – إخوة الطفل المرتضع وأخواته(4)، لأنه ليس بينهم رضاع ولا نسب.
__________
(1) . ... المغني لابن قدامة (8/141)
(2) . ... حديث متفق عليه.: البخاري في النكاح باب ما يحل من الدخول، وفي الرضاعة, ومسلم في الرضاع باب تحريم الرضاعة من ... ماء الفحل.
(3) . ... المغني ( 8/141-142)
(4) . ... المغني ( 8/142)(1/20)
ومن الجدير بالذكر التنويه إلى أنه لا تثبت بقية الأحكام بالرضاع، من النفقة والعتق ورد الشهادة والإرث وغير ذلك(1).
بنوك الحليب
وأثرها على أحكام الرضاع
... كنت قد أشرت سابقاً إلى أن مجمع الفقه الإسلامي الدولي ناقش هذا الموضوع في دورته الثانية المنعقدة في جدة في شهر ربيع الآخر عام 1406 هـ / كانون الأول – ديسمبر 1985 م واتخذ بذلك قراراً ذكرته فيما مضى.
... وكان من أهم الأبحاث التي تناولت قضية بنوك الحليب بحث أستاذنا الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله الذي ألخصه فيما يلي:
يقول الأستاذ القرضاوي(2)جوابا على سؤال حول بنوك الحليب: فلا ريب أن الهدف الذي من أجله أنشئت " بنوك الحليب " هدف خيّر نبيل يؤيده الإسلام الذي يدعو إلى العناية بكل ضعيف أياً كان سبب ضعفه، وخصوصاً إذا كان طفلاً خديجاً لا حول له ولا قوة.
ولا ريب أن أية امرأة مرضع تسهم بالتبرع ببعض لبنها لتغذية هذا الصنف من الأطفال مأجورة عند الله، ومحمودة عند الناس. بل يجوز أن يشترى ذلك اللبن منها إذا لم تطب نفسها بالتبرع، كما جاز استئجارها للرضاع كما نص عليه القرآن وعمل به المسلمون.
ولا ريب كذلك أن المؤسسة التي تقوم بتجميع هذه " الألبان " وتعقيمها وحفظها لاستخدامها في تغذية هؤلاء الأطفال في صورة ما سمي " بنك الحليب " مشكورة مأجورة أيضاً.
إذن ما المحذور الذي يُخاف من وراء هذا العمل؟
المحذور يتمثل في أن هذا الرضيع سيكبر بإذن الله، ويصبح شابّاً في هذا المجتمع، ويريد أن يتزوج إحدى بناته، وهنا يخشى أن تكون هذه الفتاة أخته من الرضاعة وهو لا يدري، لأنه لا يعلم مَنْ رضع معه من هذا اللبن المجموع.
__________
(1) . ... المغني ( 8/137)
(2) . ... مجلة مجمع الفقه الإسلامي : العدد الثاني : ج1 / ص 385 ( 1407هـ/1986م )(1/21)
وأكثر من ذلك أنه لا يعلم مَنْ من النساء شاركت بلبنها في ذلك، مما يترتب عليه أن تكون أمه من الرضاع، وتحرم هي عليه ويحرم عليه بناتها من النسب ومن الرضاعة، كما يحرم عليه أخواتها لأنهن خالاته، ويحرم عليه بنات زوجها من غيرها – على رأي جمهور الفقهاء – لأنهن إخوته من جهة الأب، إلى غير ذلك من فروع أحكام الرضاعة.
وبعد أن تناول الأستاذ القرضاوي معنى الرضاع الذي رتب عليه الشرع التحريم ثم ناقش ما رجحه صاحب المغني لحديث ابن مسعود عن أبي داود ( لا رضاع إلا ما أنشز العظم وأنبت اللحم )، قال صاحب المغني: " ولأن هذا يصل به اللبن حيث يصل بالارتضاع، ويحصل به من إنبات اللحم ما يحصل من الارتضاع، فيجب أن يساويه في التحريم ولأنه سبيل الفطر للصائم، فكان سبيلاً للتحريم كالرضاع بالفم"
ونقول لصاحب المغني رحمه الله – والكلام للشيخ القرضاوي - : " لو كانت العلة هي إنشاز العظم وإنبات اللحم بأي شيء كان، لوجب أن نقول بأن نقل دم امرأة إلى أي طفل يحرمها عليه ويجعلها أمه، لأن التغذية بالدم في العروق أسرع وأقوى تأثيراً من اللبن. ولكن أحكام الدين لا تفرض بالظنون، فإن الظن أكذب الحديث، (وإنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي منَ الحقِّ شَيْئَا ).
ثم يقول الأستاذ القرضاوي: والذي أراه أن الشارع جعل أساس التحريم هو (الأمومة المرضعة) كما في قوله تعالى في بيان المحرمات من النساء: (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة) ]سورة النساء: 23[.
وهذه الأمومة التي صرح بها القرآن لا تتكون من مجرد أخذ اللبن، بل من الامتصاص والالتصاق الذي يتجلى فيه حنان الأمومة وتعلق البنوة، وعن هذه الأمومة تتفرع الأخوة من الرضاع، فهي الأصل، والباقي تبع لها.(1/22)
فالواجب الوقوف عند ألفاظ الشارع هنا، وألفاظه كلها تتحدث عن الإرضاع والرضاع والرضاعة، ومعنى هذه الألفاظ في اللغة التي نزل بها القرآن وجاءت بها السنة واضح صريح، لأنها تعني إلقام الثدي والتقامه وامتصاصه، لا مجرد الاغتذاء باللبن بأي وسيلة.
ويتابع الشيخ القرضاوي قوله: ويعجبني موقف الإمام ابن حزم هنا فقد وقف عند مدلول النصوص، ولم يتعدّ حدودها فأصاب المحزّ وَوُفّقَ للصواب. ويَحسنُ بي أن أنقل هنا فقرات من كلامه لما فيه من قوة الإقناع ووضوح الدليل. قال: " وأما صفة الرضاع المحرم، فإنما هو ما امتصه الراضع من ثدي المرضعة بفمه فقط، فأما من سقي لبن امرأة من إناء أو حلب في فمه فبلعه أو أطعمه بخبز أو طعام أو صبّ في فمه أو في أنفه أو في أذنه، أو حقن به، فكل ذلك لا يحرم شيئاً ولو كان ذلك غذاؤه دهرَه كله". برهان ذلك قول الله عز وجلّ: " وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة " ] سورة النساء الآية: 23 [ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) ، فلم يحرم الله تعالى ولا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المعنى نكاحاً إلا بالإرضاع، والرضاعة والرضاع فقط.
ولا يسمى إرضاعاً إلا ما وضعته المرأة المرضعة من ثديها في فم الرضيع، يقال أرضعته ترضعه إرضاعاً. ولا يسمى رضاعة ولا إرضاعاً إلا إذا أخذ المرضع أو الرضيع بفيهِ الثديَ وامتصاصه إيّاه: تقول: رضع يرضع رضاعاً ورضاعة.
وأما كل ما عدا ذلك مما ذكرنا فلا يسمى شيءٌ منه إرضاعاً ولا رضاعة ولا رضاعاً، إنما هو حلب وطعام وإسقاء وشرب وأكل وبلع وحقنة وسعوط وتقطير، ولم يحرم الله عزّ وجلّ بهذا شيئاً."
و يتابع الشيخ القرضاوي كلامه فيقول: ( وبهذا نرى أن القول الذي يطمئن إليه القلب، هو ما يتمشى مع ظاهر النصوص التي ناطت كل الأحكام بالإرضاع والرضاع ومعناهما معروف لغة وعرفاً.(1/23)
كما يتمشى مع الحكمة في التحريم بالرضاع، وهو وجود أمومة تشابه أمومة النسب وعنها تتفرع البنوة والأخوة وسائر القرابات الأخرى.)
ومعلوم أن الرضاع بهذا المعنى في حالة " بنوك الحليب " غير موجود، إنما هو الوجود الذي ذكره الفقهاء، فلا يترتب عليه حينئذ التحريم.
ويناقش الشيخ القرضاوي مسألة الشك في الرضاع بقوله: " إننا لا نعرف مَنْ التي رضع منها الطفل؟ وما مقدار ما رضع من لبنها؟ وهل أخذ من لبنها ما يساوي خمس رضعات مشبعات؟ على ما هو القول المختار الذي دلّ عليه الأثر، ورجحه النظر، وبه ينبت اللحم وينشز العظم، وهو مذهب الشافعية والحنابلة.
وهل للّبن المشوب المختلط حكم اللبن المحض الخالص؟
ففي مذهب الحنفية قول أبي يوسف – وهو رواية عن أبي حنيفة – أن لبن المرأة إذا اختلط بلبن امرأة أخرى ، فالحكم للغالب منهما، لأن منفعة المغلوب لا تظهر في مقابلة الغالب، وهنا لا يُدرى غالبٌ من مغلوب.
والمعروف أن الشك في أمور الرضاعة لا يترتب عليه التحريم، لأن الأصل هو الإباحة فلا ننفيها إلا بيقين.
قال العلامة ابن قدامة في المغني: ( وإذا وقع الشك في وجود الرضاع، أو في عدد الرضاع المحرم، هل كملا أو لا ؟ لم يثبت التحريم، لأن الأصل عدمه، فلا نزول عن اليقين بالشك، كما لو شك في وجود الطلاق وعدده ) .
وفي الاختيار من كتب الحنفية: ( امرأة أدخلت ثديها في فم رضيع، ولا يدرى: أَدخلَ اللبنُ في حلقه أم لا ؟ لا يحرم النكاح.
وكذا صبية أرضعها بعض أهل القرية، ولا يدرى من هو، فتزوجها رجل من أهل تلك القرية يجوز، لأن إباحة النكاح أصل، فلا يزول بالشك.
قال ويجب على النساء ألا يرضعن كل صبي من غير ضرورة، فإن فعلن فليحفظنه أو يكتبنه احتياطاً.
ولا يخفى أن ما حدث في قضيتنا ليس إرضاعاً في الحقيقة، ولو سلمنا بأنه إرضاع فهو لضرورة قائمة، وحفظه وكتابته غير ممكن، لأنه لغير معيّن، وهو مختلط بغيره.(1/24)
والاتجاه المرجح عند الشيخ القرضاوي في أمور الرضاعة هو التضييق في التحريم كالتضييق في إيقاع الطلاق وللتوسيع في كليهما أنصار.
ويلخص الأستاذ القرضاوي بحثه بقوله:
إننا لا نجد هنا ما يمنع من إقامة هذا النوع من ( بنوك الحليب ) ما دام يحقق مصلحة شرعية معتبرة، ويدفع حاجة يجب دفعها. آخذين بقول من ذكرنا من الفقهاء، مؤيداً بما ذكرنا من أدلة وترجيحات.
وقد يقول بعض الناس: ولما لا نأخذ بالأحوط، ونخرج عن الخلاف والأخذ بالأحوط هو الأورع والأبعد عن الشبهات؟
وأقول: عندما يعمل المرء في خاصة نفسه، فلا بأس أن يأخذ بالأحوط والأورع بل قد يرتقي فيدع ما لا بأس حذراً مما به بأس.
ولكن عندما يتعلق الأمر بالعموم وبمصلحة اجتماعية معتبرة، فالأولى بأهل الفتوى أن ييسروا ولا يعسروا، دون تجاوزٍ للنصوص المحكمة، أو القواعد الثابتة.
ولهذا جعل الفقهاء من موجبات التخفيف: عموم البلوى بالشيء مراعاة لحال الناس ورفقاً بهم، هذا بالإضافة إلى أن عصرنا الحاضر خاصة أحوج ما يكون إلى التيسير والرفق بأهله.
على أن مما ينبغي التنبيه عليه هنا هو أن الاتجاه في كل أمر إلى الأخذ بالأحوط دون الأيسر أو الأرفق أو الأعدل، قد ينتهي بنا إلى جعل أحكام الدين مجموعة "أحوطيات " تجافي روح اليسير والسماحة التي قام عليها هذا الدين. قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: " بعثت بحنيفية سمحة ". " إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين"
والمنهج الذي نختاره في هذه الأمور هو التوسط والاعتدال بين المتزمتين والمتهاونين. " وكذلك جعلناكم أمة وسطاً "
... ... ...
* * * * *(1/25)
هذا وقد أورد الدكتور محمد علي البار في بحثه(1)أن الشيخ عبد اللطيف حمزة مفتي مصر أفتى بأنه لا تحرم رضاعة أي طفل من ( لبن البنوك ) واستند المفتي في قوله إلى مذهب أبي حنيفة الذي ينص على أن الرضاعَ لا يحرم إلا إذا تحققت شروطه، ومنها: أن يكون اللبن الذي يتناوله الطفل لبن امرأة وأن يصل إلى جوفه عن طريق الفم ولا يكون مخلوطاً بغيره كالماء أو الدواء أو لبن الشاة أو بجامد من أنواع الطعام أو بلبن امرأة أخرى ، فإن خلط بنوع من الطعام، وإن طبخ معه على النار فلا يثبت التحريم باتفاق أئمة المذهب الحنفي.... وإذا لم تمسّه النار فلا يثبت به التحريم أيضاً عند أبي حنيفة سواء أكان الطعام المضاف إليه غالباً أو مغلوباً لأنه إذا خلط الجامد بالمائع صار المائع تبعاً فيكون الحكم للمتبوع والعبرة بالغلبة، ولو خلط لبن امرأتين فإن العبرة للغلبة أيهما كان أكثر فإنه يثبت التحريم دون الآخر، وإن استويا ثبت التحريم بهما.
والرضاع لا يثبت بالشك. ولا يحرم اللبن رائباً أو جبناً فإن تناوله الصبي لا تثبت به الحرمة لأن اسم الرضاعة لا تقع عليه.
وإذا صار اللبن جافاً مسحوقاً فقد زال عنه اسم اللبن، وإذا خلط بالماء بعد ذلك لم يعد محرماً.
وإذا جُمع اللبن من نساء غير محصورات ولا متعينات بعد الخلط فلا مانع في رأي المفتي الشيخ عبد اللطيف حمزة من الزواج بين من تناول هذا اللبن لعدم إمكان إثبات التحريم لعدم تعيين مَنْ تبَرَّعنَ باللبن.
أما إذا أعطي اللبن محفوظا على هيأته السائلة ثم أعطي للأطفال فإن عامل الجهالة يبقى دائماً، ومن ثم لا يكون هناك مانع من الزواج بين الذين رضعوا من هذا اللبن المجهول.(2).
ملاحظات:
__________
(1) . ... مجلة مجمع الفقه الإسلامي : العدد الثاني : ج1 / ص 403 ( 1407هـ/1986م )
(2) . ... ندوة الإنجاب المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية ( الكويت ) 1983 : ص ( 458-459 )(1/26)
1. ... خالف عدد من الفقهاء الشيخ القرضاوي والشيخ عبد اللطيف حمزة في ... ... ... الرأي المبيح وذهبوا إلى الحرمة، وبعض هؤلاء الفقهاء اشتركوا في ... ... ... ندوة الإنجاب المنعقدة في الكويت عام 1983م. وطالبوا بوضع ... ... احتياطات مشددة إذا دعت الحاجة القصوى إلى مثل هذه البنوك، ومنها ... ... أن يكتب على كل قارورة اسم المتبرعة وأن يسجل ذلك في سجل ... ... خاص ويكتب فيه اسم الطفل الذي تناول هذا اللبن ويعلم أهل الطفل اسم ... ... المرضعة صاحبة اللبن ، وبذلك ينتفي المحذور.
2. ... نذكر من بين هؤلاء الفقهاء: الشيخ بدر المتولي عبد الباسط والدكتور ... ... ... محمد الأشقر والشيخ ابراهيم الدسوقي والشيخ عبد الرحمن عبد الخالق ... ... ... والدكتور زكريا البري وغيرهم.
3. ... وكان ممن شارك في مخالفة الشيخ القرضاوي لدى مناقشة الموضع في ... ... الدورة الثانية ... لمجمع الفقه الإسلامي الدولي عدد من العلماء نذكر منهم:
... ... الشيخ عبد الله البسام رحمه الله والشيخ تقي العثماني الذي لا يرى أي ... ... ... ضرورة لإنشاء مثل هذه البنوك في العالم الإسلامي كما يرى أن ... ... ... الارتضاع يتم من شرب اللبن المحلوب في الإناء.والشيخ المختار ... ... السلامي الذي يرى أن بنوك الحليب محرمة نظراً للمخاطر الشرعية ... ... ... والبدنية.والشيخ بكر أبو زيد الذي يرى منع هذه البنوك.(1)
4. ... أما الشيخ مصطفى الزرقا رحمه الله فقد ناقش الموضوع من ناحتين: ... ... ... أولاهما : هل يجوز أن يستحسن إنشاء بنوك للحليب في مثل هذه ... ... ... الأوضاع التي صورت فيها الحاجة إليها وانتشرت في بعض البلاد ... ... ... ويراد أن تنشأ في بلادنا وقد تنشأ بدون إرادتنا، والناحية الأخرى هي ... ... ... أنه لو أنشيء بنك للحليب فعلاً في بلد ما من البلاد الإسلامية وحصل ... ... ... فيه إرضاع الأطفال بهذه الطريقة، فما الحكم في هذا الرضاعة؟ بغض ... ... ... النظر عن كون إنشاء البنك مقبولاً أو جائزاً أو مستحسناً أو غير جائز ... ... ... وأن له محاذير.
__________
(1) . ... مجلة مجمع الفقه الإسلامي : العدد الثاني : ج1 / ص 414-423 ( 1407هـ/1986م )(1/27)
... ... ويقول الشيخ الزرقا رحمه الله في خلاصة رأيه : " الذي أراه أن الأدلة ... ... التي أتى بها الأستاذ القرضاوي حفظه الله وأيده ورحمنا جميعاً أحياءً ... ... ... وأمواتاً، أن أخانا الكبير الأستاذ القرضاوي حفظه الله وأيده ما أتى ... ... ... به من أدلة وملاحظات يترجح معها اعتبار عدم التحريم للأسباب ... ... وللمذاهب التي بينها وهي مذاهب معتبرة وللشك في تحقق شرائط ... ... التحريم باتفاق هذا كله يكفي لأن نقول أنه لو حصل بالفعل إنشاء ... ... هذه البنوك فإن هذا لا يؤثر تحريمه ... هذا الذي أراه " أ.هـ .(1)
5. ورأى الشيخ محمد علي التسخيري ممثل إيران في المجمع الفقهي بأنه لا مانع من إنشاء بنوك الحليب لعدم الارتضاع من الثدي وهو شرط في المذهب عنده، ثم لعدم العلم باتحاد المرضعة، وأخيراً لعدم العلم بحصول الكمية المطلوبة(2).
الخلاصة:
على الرغم من أن بنوك الحليب غير معروفة إلى اليوم في عالمنا الإسلامي إلا أنها أصبحت حقيقة واقعة في العالم الغربي الذي يقطنه اليوم ما يزيد عن (30) مليون من المسلمين يتمتع كثير منهم بالجنسية الأوروبية، فكان لا بد للمجلس ألأوروبي للإفتاء والبحوث أن يعيد النظر في القرار رقم 6 ( 6/2) الذي أصدره مجمع الفقه الإسلامي الدولي حول هذا الموضوع في دورته الثانية المنعقدة في جدة في شهر ربيع الآخر عام 1406 هـ / كانون الأول – ديسمبر 1985 م.
ونرى أن نأخذ بما ذهب إليه الأستاذ القرضاوي وأيده في ذلك الشيخ عبد اللطيف حمزة والأستاذ مصطفى الزرقا وذلك بجواز إنشاء بنوك الحليب لما تقدمه من خدمات جليلة في الحفاظ على الحياة الإنسانية، وبجواز تناول الأطفال لهذا الحليب الذي تقدمه البنوك فهولا ينشر الحرمة لجهالة المرضع ولعدم معرفة عدد الرضعات التي تناولها الطفل الرضيع.
__________
(1) . ... مجلة مجمع الفقه الإسلامي : العدد الثاني : ج1 / ص 418-419 ( 1407هـ/1986م )
(2) . ... مجلة مجمع الفقه الإسلامي : العدد الثاني : ج1 / ص 415 ( 1407هـ/1986م )(1/28)
والأمر معروض على المجلس ليرى رأيه في ذلك؛
والله يقول الحق وهو يهدي إلى سواء السبيل
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
...(1/29)
بنوك اللبن (الحليب)
ورقة مقدمة من
فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي
س: الطفل الوليد الخديج الذي ولد قبل أوانه .. قد يدعو الأمر لعزله تمامًا في حاضنة صناعية لفترة قد تطول حتى يفيض حليب أمه من ثديها.
ثم يتقدم رويدًا لدرجة لم تزل حرجة ولكن تسمح له بتلقي الحليب، ومعروف أن أنسب الحليب وأرفقه به هو الحليب البشرى ..
وقد درجت بعض المؤسسات على أن تستوعب الوالدات المرضعات بعضًا من حليبهن .. "تسخو كل بما تشاء ويجمع ذلك ويعقم ثم يكون في خدمة هؤلاء المواليد المبتسرين في هذا الدور الحرج الذي قد تضرهم فيه أنواع الحليب الأخرى".
فالذي يحدث أنه يستعمل خليط من حليب عشرات الأمهات بل مئاتهن .. وعليه يتغذى غير مواليدهن عشرات بل مئات من المواليد الخدج ذكرانًا وإناثًا .. على غير معرفة في الحال والاستقبال.
ولكن يتم ذلك دون لقاء مباشر أي دون مص الثدي.
فهل هذه أخوة شرعية من الرضاع؟ وهل يحرم حليب البنوك رغم مساهمته في إحياء النفوس؟
فإن كان مباحًا حلالاً فما مسوغات الإباحة؟ ترى هل هي عدم مص الثدي؟ أم عدم إمكان التعرف على أخوات الرضاع وهن في مجتمع بذاته يمثلن القلة بين الكثرة؟
القلة التي تذوب ولا يمكن تتبعها أو الاستدلال عليها؟
جـ: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فلا ريب أن الهدف الذي من أجله أنشئت "بنوك الحليب" كما عرضها السؤال هدف خير نبيل يؤيده الإسلام. الذي يدعو إلى العناية بكل ضعيف أيًا كان سبب ضعفه وخصوصًا إذا كان طفلاً خديجًا لا حول له ولا قوة.
ولا ريب أن أية امرأة مرضع تسهم بالتبرع ببعض لبنها لتغذية هذا الصنف من الأطفال، مأجورة عند الله، ومحمودة عند الناس، بل يجوز أن يشترى ذلك منها إذا لم تطب نفسها بالتبرع، كما جاز استئجارها للرضاع كما نص عليه القرآن، وعمل به المسلمون.(1/1)
ولا ريب كذلك أن المؤسسة التي تقوم بتجميع هذه "الألبان" وتعقيمها وحفظها لاستخدامها في تغذية هؤلاء الأطفال في صورة ما سمى "بنك الحليب" مشكورة مأجورة أيضًا.
إذن ما المحذور الذي يخاف من وراء هذا العمل؟
المحذور يتمثل في أن هذا الرضيع سيكبر بإذن الله، ويصبح شابًا في هذا المجتمع، ويريد أن يتزوج إحدى بناته، وهنا يخشى أن تكون هذه الفتاة أخته من الرضاع وهو لا يدرى، لأنه لا يعلم من رضع معه من هذا اللبن المجموع، وأكثر من ذلك أنه لا يعلم مَن مِنْ النساء شاركت بلبنها في ذلك، مما يترتب عليه أن تكون أمه من الرضاع، وتحرم هي عليه ويحرم عليه بناتها من النسب ومن الرضاع، كما يحرم عليه أخواتها لأنهن خالاته، ويحرم عليه بنات زوجها من غيرها على رأى جمهور الفقهاء لأنهن أخواته من جهة الأب إلى غير ذلك من فروع وأحكام الرضاع.
ولابد لنا هنا من وقفات، حتى يتبين الحكم جليًا.
1 - وقفة لبيان معنى "الرضاع" الذي رتب عليه الشرع التحريم.
2 - وقفة لبيان مقدار الرضاع المحرم.
3 - وقفة لبيان حكم الشك في الرضاع.
معنى الرضاع:
أما معنى الرضاع الذي رتب عليه الشرع التحريم. فهو عند جمهور الفقهاء ومنهم الأئمة الثلاثة أبو حنيفة ومالك والشافعي كل ما يصل إلى جوف الصبي عن طريق حلقه أو غيره، بالامتصاص أو غيره. مثل الوجور، وهو أن يصب اللبن في حلقه، بل ألحقوا به السعوط وهو أن يصب اللبن في أنفه، بل بالغ بعضهم فألحق الحقنة عن طريق الدبر بالوجور والسعوط.
وخالف في ذلك كله الإمام الليث بن سعد، معاصر الإمام مالك ونظيره. ومثله الظاهرية، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد.
فقد ذكر العلامة ابن قدامة عنه روايتين في الوجور والسعوط:
الأولى: وهى أشهر الروايتين عنه والموافقة للجمهور ـ: أن التحريم يثبت بهما. أما الوجور فلأنه ينبت اللحم وينشز العظم، فأشبه الارتضاع، وأما السعوط، فلأنه سبيل لفطر الصائم، فكان سبيلاً للتحريم بالرضاع كالفم.(1/2)
الرواية الأخرى: أنه لا يثبت التحريم، لأنهما ليسا برضاع.
قال في المغنى: وهو اختيار أبى بكر ومذهب داود وقول عطاء الخرساني في السعوط، لأن هذا ليس برضاع، وإنما حرم الله تعالى ورسوله الرضاع، ولأنه حصل من غير ارتضاع، فأشبه ما لو دخل من جرح في بدنه.
ورجح صاحب المغنى الرواية الأولى بحديث ابن مسعود عند أبى داود: "لا رضاع إلا ما أنشز العظم وأنبت اللحم".
والحديث الذي احتج به صاحب المغنى لا حجة فيه، بل هو عند التأمل حجة عليهم، لأنه يتحدث عن الرضاع المحرم، وهو ما كان له تأثير في تكوين الطفل بإنشاز عظمه وإنبات لحمه، فهو ينفى الرضاع القليل، غير المؤثر في التكوين، مثل الإملاجة والإملاجتين، فمثل هذا لا ينشز عظمًا ولا ينبت لحمًا. فالحديث إنما يثبت التحريم لرضاع ينشز وينبت، فلابد من وجود الرضاع أولا وقبل كل شيء.
ثم قال صاحب المغنى: ولأن هذا يصل به اللبن إلى حيث يصل بالارتضاع، ويحصل به من إنبات اللحم وإنشاز العظم ما يحصل من الارتضاع، فيجب أن يساويه في التحريم، ولأنه سبيل الفطر للصائم، فكان سبيلاً للتحريم كالرضاع بالفم.
ونقول لصاحب المغنى رحمه الله: لو كانت العلة هي إنشاز العظم وإنبات اللحم بأي شيء كان، لوجب أن نقول اليوم بأن نقل دم امرأة إلى طفل يحرمها عليه، بل التغذية بالدم في العروق أسرع وأقوى تأثيرًا من اللبن. ولكن أحكام الدين لا تفرض بالظنون، فإن الظن أكذب الحديث، وإن الظن لا يغنى من الحق شيئًا.
والذي أراه أن الشارع جعل أساس التحريم هو "الأمومة المرضعة" كما في قوله تعالى في بيان المحرمات من النساء: (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة) (1، 2 النساء: 23) . وهذه الأمومة التي صرح بها القرآن لا تتكون من مجرد أخذ اللبن. بل من الامتصاص والالتصاق الذي يتجلى فيه حنان الأمومة، وتعلق البنوة، وعن هذه الأمومة تتفرع الأخوة من الرضاع، فهي الأصل، والباقي تبع لها.(1/3)
فالواجب الوقوف عند ألفاظ الشارع هنا، وألفاظه كلها تتحدث عن الإرضاع والرضاعة، ومعنى هذه الألفاظ في اللغة التي نزل بها القرآن وجاءت بهما السنة واضح صريح، لأنها تعنى إلقام الثدي والتقامه، وامتصاصه، لا مجرد الاغتذاء باللبن بأي وسيلة.
ويعجبني موقف الإمام ابن حزم هنا، فقد وقف عند مدلول النصوص، ولم يتعد حدودها، فأصاب المحز، ووفق فيما أرى للصواب.
ويحسن بي أن أنقل هنا فقرات من كلامه لما فيها من قوة الإقناع ووضوح الدليل.
قال:
(وأما صفة الرضاع المحرم، فإنما هو ما امتصه الراضع من ثدي المرضعة بفيه فقط، فأما من سقى لبن امرأة فشربه من إناء أو حلب في فمه فبلعه أو أطعمه بخبز أو في طعام أو صب في فمه أو في أنفه أو في أذنه، أو حقن به، فكل ذلك لا يحرم شيئًا ولو كان ذلك غذاءه دهره كله.
برهان ذلك قول الله عز وجل: (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة) (النساء: 23) . وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" فلم يحرم الله تعالى ولا رسوله -صلى الله عليه وسلم- في هذا المعنى نكاحًا إلا بالإرضاع، والرضاعة والرضاع فقط، ولا يسمى إرضاعًا إلا ما وضعته المرأة المرضعة من ثديها في فم الرضيع، يقال: أرضعته ترضعه إرضاعًا. ولا يسمى رضاعة ولا إرضاعًا إلا أخذ المرضع أو الرضيع بفيه الثدي وامتصاصه إياه. تقول: رضع يرضع رضاعًا ورضاعة، وأما كل ما عدا ذلك مما ذكرنا فلا يسمى شيء منه إرضاعًا ولا رضاعة ولا رضاعًا، إنما هو حلب وطعام وسقاء وشرب وأكل وبلع وحقن وسعوط وتقطير، ولم يحرم الله عز وجل بهذا شيئًا.
قال أبو محمد: وقد اختلف الناس في هذا فقال الليث بن سعد: لا يحرم السعوط بلبن المرأة، ولا يحرم أن يسقى الصبي لبن المرأة في الدواء، لأنه ليس برضاع، إنما الرضاع ما مص من الثدي، هذا نص قول الليث وهذا قولنا وهو قول أبى سليمان يعنى داود إمام أهل الظاهر وأصحابنا، يعنى الظاهرية.(1/4)
ورد على الذين احتجوا بحديث: "إنما الرضاعة من المجاعة" فكان مما قاله:
أن هذا الخبر حجة لنا، لأنه عليه الصلاة والسلام إنما حرم بالرضاعة التي تقابل بها المجاعة، ولم يحرم بغيرها شيئًا، فلا يقع تحريم بما قوبلت به المجاعة من أكل، أو شرب، أو وجور، أو غير ذلك، إلا أن يكون رضاعة، كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، (ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون). (المحلى لابن حزم 10 / 9 - 11). اهـ.
وبهذا نرى أن القول الذي يطمئن إليه القلب، هو الذي يتمشى مع ظواهر النصوص التي ناطت كل الأحكام بالإرضاع والرضاع. كما يتمشى مع الحكمة في التحريم بالرضاع، وهو وجود أمومة تشابه أمومة النسب، وعنها تتفرع البنوة والأخوة وسائر القرابات الأخرى. ومعلوم أن الرضاع في حالة "بنوك الحليب" غير موجود، إنما هو الوجور الذي ذكره الفقهاء.
على أننا لو سلمنا برأي الجمهور في عدم اشتراط الرضاع والامتصاص لكان هنا مانع آخر من التحريم.
وهو أننا لا نعرف من التي رضع منها الطفل؟ وما مقدار ما رضع من لبنها؟ هل أخذ من لبنها ما يساوى خمس رضعات مشبعات؟ على ما هو القول المختار الذي دل عليه الأثر، ورجحه النظر، وبه ينبت اللحم، وينشز العظم، وهو مذهب الشافعية والحنابلة.
وهل للبن المشوب المختلط حكم اللبن المحض الخالص؟ ففي مذهب الحنفية من قول أبى يوسف أن لبن المرأة إذا اختلط بلبن أخرى، فالحكم للغالب منهما، لأن منفعة المغلوب لا تظهر في مقابلة الغالب.
والمعروف أن الشك في الرضاع لا يترتب عليه التحريم.
قال العلامة ابن قدامة في "المغنى":
(وإذا أوقع الشك في وجود الرضاع، أو في عدد الرضاع المحرم، هل كملا أو لا؟
لم يثبت التحريم، لأن الأصل عدمه، فلا نزول عن اليقين بالشك، كما لو شك في وجود الطلاق وعدده) (المغنى مع الشرح الكبير 9 / 194) وفى "الاختيار" من كتب الحنفية:
(امرأة أدخلت حلمة ثديها في فم رضيع، ولا يدرى: أدخل اللبن في حلقه أم لا؟(1/5)
لا يحرم النكاح.
وكذا صبية أرضعها بعض أهالي القرية، ولا يدرى من هو، فتزوجها رجل من أهل تلك القرية، يجوز، لأن إباحة النكاح أصل، فلا يزول بالشك.
قال: ويجب على النساء ألا يرضعن كل صبي من غير ضرورة، فإن فعلن فليحفظنه، أو يكتبنه احتياطًا) (الاختيار لابن مودود الحنفي 3 / 120، وانظر كذلك: شرح فتح القدير لابن الهمام على الهداية 3 / 2، 3) .اهـ.
ولا يخفى أن ما حدث في قضيتنا ليس إرضاعًا في الحقيقة، ولو سلمنا بأنه إرضاع فهو لضرورة قائمة.
وحفظه وكتابته غير ممكن، لأنه لغير معين، وهو مختلط بغيره.
والاتجاه المرجح عندي في أمور الرضاع هو التضييق في التحريم كالتضييق في إيقاع الطلاق، وللتوسيع في كليهما أنصار.
الخلاصة:
أننا لا نجد هنا ما يمنع من إقامة هذا النوع من "بنوك الحليب"، مادام يحقق مصلحة شرعية معتبرة، ويدفع حاجة يجب دفعها. آخذين بقول من ذكرنا من الفقهاء، مؤيدًا بما ذكرنا من أدلة وترجيحات.
وقد يقول بعض الناس: ولماذا لا نأخذ بالأحوط، ونخرج عن الخلاف، والآخذ بالأحوط هو الأورع والأبعد عن الشبهات.
وأقول:
عندما يعمل المرء في خاصة نفسه، فلا بأس أن يأخذ بالأحوط والأورع، بل قد يرتقى فيدع ما لا بأس به حذرًا مما به بأس.
ولكن عندما يتعلق الأمر بالعموم، وبمصلحة اجتماعية معتبرة، فالأولى بأهل الفتوى أن ييسروا ولا يعسروا، دون تجاوز للنصوص المحكمة، أو القواعد الثابتة.
ولهذا جعل الفقهاء من موجبات التخفيف: عموم البلوى بالشيء مراعاة لحال الناس ورفقًا بهم، هذا بالإضافة إلى أن عصرنا الحاضر خاصة أحوج ما يكون إلى التيسير والرفق بأهله.(1/6)
على أن مما ينبغي التنبيه عليه هنا هو أن الاتجاه في كل أمر إلى الأخذ بالأحوط دون الأيسر أو الأرفق أو الأعدل، قد ينتهي بنا إلى جعل أحكام الدين مجموعة "أحوطيات" تجافي روح اليسر والسماحة التي قام عليها هذا الدين. قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: "بعثت بحنيفية سمحة"، "إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين".
والمنهج الذي نختاره في هذه الأمور هو التوسط والاعتدال بين المتزمتين والمتهاونين (وكذلك جعلناكم أمة وسطًا). (البقرة: 143).
والله يقول الحق وهو يهدى السبيل.(1/7)
بيع المرابحة والتقسيط ودورها
في المعاملات المصرفية في الفقه الإسلامي
بقلم البروفيسور / المكاشفي طه الكباشي
عضو مجمع الفقه الإسلامي السوداني وأستاذ الدراسات العليا
بجامعة ام درمان الإسلامية
السودان - الخرطوم
بحث مقدم
للدورة الثامنة عشرة للمجلس - دبلن
جمادى الثانية/ رجب 1429 هـ / يوليو 2008 م
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمه:
الحمد لله رب العالمين القائل في محكم التنزيل (يا أيها الذين امنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا إن تكون تجارة عن تراضي منكم )(1)والصلاة والسلام علي إمام المتقين وقائد الغر المحجلين سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم القائل ( كل لحم – نبت من حرام فالنار أولي به )(2)وعلي اله وصحبه وعلي من تبعهم بإحسان إلي يوم الدين ,فيسرني الاشتراك في الندوة العلمية التي عنوانها ( المعاملات المالية للمسلمين في أوربا ) والتي يشرف عليها المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث بمدينة دبلن بجمهورية ايرلندا .
وبعد اطلاعي علي محاور الندوة العلمية المختلفة التي تناولت موضوعات كثيرة في التعامل المالي بوجوهه العديدة رأيت ان يكون موضوعي حول القروض المصرفية واخترت منها (بيع المرابحة والتقسيط مع زيادة الثمن).
واختياري لهذا الموضوع نابع من التجربة المصرفية حول قروض بيوع المرابحة والتقسيط التي كانت ولا زالت تعمل بها المصارف السودانية منذ أكثر من قرن من الزمان ولقد وقفت علي كثير من المعاملات في مجال التمويل المصرفي عن طريق بيوع المرابحة والتقسيط مع زيادة في الثمن ولقد لاحظت نجاحها وظهرت بركتها وفائدتها من خلال ما تقدمه المصارف لعملائها في مجال اقتناء السلع والبضائع الهامة والتي يحتاجون إليها سواء بغرض الاستعمال الشخصي أو لغرض المتاجرة فهي حلال وخالية من الربا .
__________
(1) سورة النساء الاية 29
(2) رواه الترمزي(1/1)
فلربما يقوم المصرف بتمويل بضائع متنوعة وكثيرة وبكميات هائلة عن طريق بيع المرابحة أو الأمر , بالشراء في بيع المرابحة أو عن طرق البيع بالتقسيط وبالتالي يكون التعامل والمتاجرة في بضائع وليس في نقود ولم يكن غرض الجميع المتاجرة في الدراهم حتى لا يدخلو في شبة من شبهات الربا كما هو الحال في بيع العينة وفي بيع التوريق .
ففي العينة يقوم البائع ببيع العين بثمن مؤجل بألف ومائة للمشتري ثم يقوم المشتري ببيعها للبايع بألف نقدا وحالا وهذا منهي للحديث الوارد فيه وكذلك في التوريق يكون غرض المشتري الدراهم وبالتالي يقوم بشراء السلعة بثمن مؤجل ثم يقوم ببيعها في السوق بثمن اقل نقداً وهذا يسمي بيع التوريق وهو منهي عنه .(1/2)
يقول شيخ الإسلام بن تيميه في الفتاوى ألكبري في العينة والتوريق ( ومن ذرائع كذلك أي من الحيل في الربا (مسالة العينة وهو إن يبيعه سلعة الي اجل ثم يبتاعها منه بأقل من ذلك فهذا مع التواطؤ يبطل البيعين لأنها حيلة وقد روي عن احمد وأبو داؤد باسنادين جديدين عن ابن عمر قال (قال رسول الله صلي الله عليه وسلم ( إذا تبا يعتم بالعينة واتبعتم إذناب البقر وتركتم الجهاد في سبيل الله أرسل الله عليكم ذلا لا يرفعه عنكم حتى تراجعوا دينكم ) واستمر شيخ الإسلام بن تيميه قائلاً ( ولو كان مقصود المشتري الدرهم وابتاع السلع الي اجل ليبيعها ويأخذ ثمنها فهذا يسمي (التورق) ففي كراهته عن احمد روايتان والكراهة قول عمر بن عبد العزيز ومالك فيما أظن خلاف المشتري الذي غرضه التجارة أو غرضه الانتفاع أو القنية(1)فهذا يجوز شراؤه الي اجل باتفاق ويقول شيخ الإسلام عن التوريق أيضا (ان كان المشتري يأخذ السلعة فيبيعها في موضع أخر يشتريها بمائه ويبيعها بسبعين لأجل ألحاجه إلي دارهم فهذه تسمي ( التوريق ) وفيها نزاع بين العلماء والاقوي أيضا انها منهي عنها وأنها اصل الربا كما قال عمر بن عبد العزيز وغيره )(2)وعليه فبيع المرابحة وبيع التقسيط مع زيادة الثمن لا يدخل في بيع العينة ولا في بيع التوريق .
فبيع المرابحة وبيع التقسيط مع زيادة الثمن جائز وحلال وفيه خير وبركة لأنه حلال ولذلك وقع اختياري لهذا الموضوع .
خطة البحث:-
تم تقسيم هذا إلي مقدمة ومباحث ثلاثة وفي كل مبحث مطالب وفروع ثم خاتمة للبحث وكانت خطة البحث ما يلي :-
المبحث الأول : مشروعية البيع وحكمتة
المطلب الأول :مشروعية البيع
... ... المطلب الثاني : حكمة مشروعة البيع
المبحث الثاني : مفهوم بيع المرابحة والتقسيط وإحكامها .
المطلب الأول : بيع المرابحة وحكمة
المطلب الثاني : بيع المرابحة والأمر بالشراء
__________
(1) الفتاوي الكبرى الجزء 29 ص30
(2) المرجع السابق الجزء 29 ص500(1/3)
المطلب الثالث : الوعد في المرابحة لزومه أو عدمه
المطلب الرابع : البيع بالتقسيط
المطلب الخامس: زيادة الثمن نظير زيادة الأجل
المطلب السادس : حلول لأجل في بيوع المرابحة والتقسيط
المبحث الثالث : التجربة المصرفية في بيوع المرابحة في السودان
المطلب الأول : منشور هيئة الرقابة الشرعية حول أحكام بيع المرابحة وبيع المرابحة للأمر بالشراء
المطلب الثاني : نماذج العقود الصادرة من هيئة الرقابة الشرعية
المطلب الثالث : منشورات مؤشر الأرباح الصادرة من هيئة الرقابة الشرعية .
ومن ثم ختم البحث بخاتمة بينت ما توصل إليه البحث ولأشك إن مثل هذه المجامع العلمية لها دورها وإثرها في نشر الفقه وإثراء الساحة الفقهية وتقديم الفقه الإسلامي في ثوب قشيب للعمل بموجبه لان الثروة الفقهية الموجودة الهائلة والتي بموجبها ازدهرت الدولة الإسلامية والتي كان لدور العلماء والفقهاء القدح المعلي في بيان الأحكام الفقهية وفي اجتهادا تهم الثرة التي تلبي حاجات العصر في مختلف العصور والأزمان .(1/4)
إن الصيغ الشرعية في كافة المعاملات من بيع ومقاولة وشركات مقارضه وعنان ومضاربة من مزارعة ومغارسة ومن بيع سلم وبيع مرابحة وبيع بالتقسيط وغيرها تكون محلاً للتطبيق العملي في تمويل القروض الشرعية في العمل المصرفي فالمصارف اللا ربوية قد انتشرت اليوم في ربوع العالم والحمد لله فالمصارف في السودان لا تعمل بالربا وكذلك المصارف في جمهورية إيران الإسلامية وكذلك المصارف في باكستان وحتى هنالك دول غر إسلامية لا تتعامل بالربا كالصين وغيرها واليوم بدأت المصارف في انجلترا تعمل بالصيغ الشرعية في مسالة الصكوك الإسلامية في التمويل وعليه فان العالم اليوم متجه نحو الإسلام شريعة وعقيدة لان فقهنا في كافة المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتربوية هو المنقذ للبشرية اليوم مما تعيش فيه من جاهلية وضلالات وظلم واكل مال بالباطل واستغلال وامتصاص لدماء الشعوب الفقيرة والمغلوب علي أمرها .
إن هذا المنتدى الإسلامي الكبير والي تناقش فيه قضايا معاصرة وهامة فيما يتعلق بالمال من حيث امتلاكه واستثماره بوجه مشروع وحلال ودور المصارف في التنمية وفي تقديم خدمات خالية من الربا وشبهتة وبالتالي فان إخواننا المسلمين في أوربا وغيرها يستفيدون بعون الله تعالي وتوفيقه من هذا المنتدى العلمي الكبير ولهذا كانت مشاركتنا بهذا البحث المتواضع المتعلق بالقروض المصرفية في مجال تمويل المتعاملين معها عن طريق الصيغ الشرعية في التمويل عن طريق بيع المرابحة والبيع بالتقسيط مع زيادة الثمن ولتكن محلاً للدراسة وإبداء الراي حتى نخرج جميعاً باجتهاد مجمع عليه .
وما التوفيق إلا بالله تعالي عليه توكلت واليه أنيب , ربنا لا تؤاخذنا أن نسينا أو أخطانا ربنا ولا تحمل علينا أصرا كما حملتة علي الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به وأعفو عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا علي القوم الكافرين .(1/5)
وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلي الله وسلم علي سيدنا محمد وعلي اله وأصحابه وسلم
كتبه
الفقير إلي الله تعالي
المكاشفي طه الكباشي
عضو مجمع الفقة الإسلامي السوداني
... وأستاذ الدراسات العليا بجامعه أمدرمان الإسلامية
... ... ... ... ... ... ... ...
المبحث الأول
مشروعية البيع وحكمتة
المطلب الأول : مشروعية البيع
البيع مشروع بالكتاب والسنة وإجماع الأمة .
أما الكتاب فيقول الله تعالي ( واحل الله البيع وحرم الربا)(1)اما السنة فيقول الرسول صلي الله عليه وسلم (أفضل الكسب عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور )(2). وقد اجتمعت ألامه علي جواز البيع والتعامل به من عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم إلى يومنا هذا .(3)
المطلب الثاني
حكمة مشروعية البيع
شرع الله البيع ذو سعة علي عباده فان لكل فرد من أفراد النوع الإنساني ضرورات من الغذاء والكساء وغيرها مما لا غني للإنسان عنه ما دام حياً وهو لا يستطيع وحده أن يوفرها لنفسه لأنه مضطر إلي جلبها من غيره وليس ثمة طريقة أكمل من المبادلة فيعطي ما عنده مما يمكنه الاستغناء عنه بدل ما يأخذه من غيره مما هو في حاجة إليه(4)
هذا ولقد تكلم الفقه عن أركان البيع من إيجاب وقبول وتكلموا عن الشروط المتعلقة بصيغة عقد البيع والشروط المتعلقة بالعاقد من حيث التكليف من عقل وتمييز وتكلموا عن الشروط المتعلقة بالمعقود عليه أو محل العقد فيشترط فيه الطهارة أي طهارة العين والانتفاع به وملكية العاقد له والقدرة علي تسليمه وان يكون معلوماً وان يكون مقبوضاً الخ.....
__________
(1) سورة البقرة الاية 275
(2) اخرجة الامام احمد في مسنده
(3) فقة السنه الجزء 3 ص 47
(4) فقه السنه للشيخ سيد سابق 3 ص 47(1/6)
مما لا يسع المجال للتفصيل فيها لأنها مبسوطة في كتب الفقة الإسلامي سواء القديم منها أو الحديث ولقد إبان الكثيرين من الفقهاء هذه الشروط في أبحاثهم وكتبهم.(1)
وعليه وفي إطار البيوع سوف نتكلم عن بيع المرابحة وعن البيع بالإقساط مع زيادة في الثمن عند تحديد الأجل ومدته وهذه من الصور المشاعة في كافة العمليات التجارية سواء التي تقوم بها شركات البيع أو تقوم بها بعض المصارف ولذلك سنفرد لذلك مبحثاً نتناوله بشي من التفصيل .
المبحث الثاني
مفهوم بيع المرابحة والتقسيط وبعض احكامه
المطلب الاول
بيع المرابحة وحكمه
هو البيع براس المال وربح معلوم . ويتشرط علمهما براس المال فيقول راس مالي فيهه أو هو علي بمائة بعتك بها وربح عشرة .(2)ويقول بن قدامه (فهذا جائز لا خلاف في صحته . ولا نعلم فيه عند احد كراهة(3).
__________
(1) فقه السنه الشيخ سيد سابق 3 ص51 وما بعدها والمغني لابن جدامة الجزء ص4 الي ص18وما بعدها
(2) المغني لابن قدامة الجزء 4 ص 199 – بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد الجزء 2 ص 213
(3) المغني لابن قدامة الجزء 4 ص 199(1/7)
وبيع المرابحة جائز عند الفقهاء ويقول بن رشد (اجمع العلماء علي إن البيع صنفان :مساومة ومرابحة , وان المرابحة هي :إن يذكر البائع للمشترى الثمن الذي اشتري به السلعة . ويشترط عليه ربحاً ما للدينار أو الدرهم.(1)وذكر الحنفية إن الحاجة ماسة إلي بيع المرابحة لان الغبي الذي لا يهتدي في التجارة يحتاج إلي إن يعتمد فعل الذكي المهتدي وتطيب نفسه بمثل ما اشتري وبزيادة ربح . موجب القول بجوازه ولهذا كان مبناه علي الأمانة والاحتراز عن الخيانة وعن شبهتها واشترط الحنفية لصحة بيع المرابحة أن يكون العوض مما له مثل كالنقدين والحنطة والشعير , وما يكال ويوزن العددي المتقارب لأنه إذا لم يكن له مثل يكون قد ملكه بالقيمة وهي مجهولة واشترط الحنفية كذلك إلا يكون في المرابحة خيانة فإذا اطلع المشتري علي خيانة في المرابحة فهو بالخيار عند أبي حنيفة إن شاء أخذه بجميع الثمن وان شاء تركه . وقد أجاز الحنفية في بيع المرابحة أن يضاف إلي راس المال أجرة القعار والطرار والصبغ والفتل وأجرة حمل الطعام لان العرف جار بإلحاق هذه الأشياء براس المال في عادة التجار علي إن يقول قام علي بكذا ولا يقول اشتريته بكذا حتي لا يكون كاذباً .(2)
المطلب الثاني :
بيع المرابحة للأمر بالشراء
تعريفه :هو بيع يتفق فيه شخصان أو أكثر علي تنفيذ الاتفاق يطلب فيه الأمر من المأمور شراء سلعة معينة او موصوفه بوصف معين ويعده بشراء السلعة منه وتربيحه فيها على أن يعقدا بعد ذلك عقداً بالبيع هذا البيع اجازه بعض العلماء منهم الإمام محمد الحسن الشيباني والامام الشافعي والامام جعفر الصادق وورد جوازه في الموطا وفي خليل وحواشيه في كتب المالكيه(3)
__________
(1) بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد الجزء 2 ص 240
(2) فتح القدير الجزء 6 ص 494-500
(3) المرابحة اصولها واحكامها للدكتور احمد علي عبد الله ص 180-189(1/8)
والقائلون بجوازه أشترطوا لصحته عدم الزام الامر بوعده وجعلوا له الخيار في أمضاء البيع المتواعد عليه او رده عندما يمتلك المأمور السلعة يعرضها عليه(1)
وحقيقه مثل هذا البيع يقوم على الاتفاق المبرم ما بين المشترك و البائع فلربما يكون البائع خبيراً في سلع معينة أو بضاعة معينة فيطلب منه المشترى ان يشترى له تلك السلعه حسب الاوصاف المذكوره وبناء على ذلك يقوم البائع أياً كان شركه أو متجر أو مصرف بشراء تلك البضاعه وبعدها يكون الخيار للمشترى فله ان يشتريها بناء على ذلك الوعد ويعطيه قيمتها زائداً ربحاً معيناً اتفقا عليه وعليه فان مثل هذا الوعد ينبغي الوفاء به حتى لا يتضرر البائع وعليه فان الفقهاء تكلموا عن الوعد وهل يجب الوفاء به أم لا ولقد تناولت هذا الموضوع باسهاب وتفصيل في كتاب الحق والزمه والالتزام وأثرهم بالموت ولاهميه هذا الأمر يشار إليه في هذا المطلب في احكام المرابحة
المطلب الثالث
الوعد من حيث لزومه أو عدمه
__________
(1) المرجع السابق(1/9)
عرف الفقهاء الوعد ( أو العدة) : ( بأنه إخبار عن إنشاء المخبر معروفاً في المستقبل)(1)وبهذا يفرق الفقهاء بين العدة والالتزام لأنه ليس في العدة إلزام الشخص نفسه شيئاً . وذكر الحطاب أن الفرق بين ما يدل علي الالتزام وما يدل علي العدة المرجع فيه إنما هو ما يفهم من سياق الكلام وقرائن الأحوال بحيث دل الكلام علي الإلزام، ولا يفرق بين العدة والالتزام بصيغة الماضي والمضارع كما قد يتبادر للفهم ، ثم يقول الحطاب أيضا إن الالتزام قد يكون بصيغة المضارع إذا دلت القرائن عليه كما يفهم من كلام الشيخ خليل في مختصره في باب الخلع قوله "" ولزمت البينونة إن قال إن أعطيتني ألفا فارقتك ..."" ثم ذكر الحطاب أن صيغة الماضي دالة علي الالتزام وانفاذ العطية ، والظاهر من صيغة المضارع الوعد إلا أن تدل قرينة علي الالتزام(2)
والوعد يجب الوفاء به ديانة ومروءة بالإجماع ، ولا خلاف في ذلك بين الفقهاء ، وإنما اختلفوا في وجوب القضاء به بان يلزم القاضي الواعد بالوفاء بما وعد ، وفي ذلك ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول :
__________
(1) تحرير الكلام في مسائل الالتزام للحطاب بكتاب فتح العلى المالك للشيخ عليش : 254:1.
(2) تحرير الكلام في مسائل الالتزام للحطاب بكتاب فتح العلى المالك للشيخ عليش :257:1.(1/10)
الوعد كله لازم ، ويقضي به علي الواعد ، ويجبر علي تنفيذه ، وهو مذهب ابن شبرمه(1)وهو قول عند المالكية وقد حكي الحطاب عنه انه ضعيف جداً(2)وصححه ابن الشاط فقال في حاشيته علي الفروق ( الصحيح عندي القول بلزوم الوفاء بالوعد مطلقا(3)وهو قول عند الحنابلة(4)وقال به عمر بن عبد العزيز(5)وقضي به سعيد بن عمرو بن الاشوع وكان قاضي الكوفة ، وذكر ذلك عن سمرة بن جندب ، وكان إسحاق بن راهويه يحتج بحديث بن الاشوع في القول بوجوب أنجاز الوعد.(6)
ويستدل أصحاب هذا المذهب بالاتي :ـ
1ـ قول الله تعالي:
( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون )(7)والوعد إذا اخلف قول لم يفعل فيلزم أن يكون كذباً محرماً ، وان يحرم إخلاف الوعد مطلقاً(8).
2 ـ قوله تعالي :( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود )(9)
3 ـ قوله تعالي : ( وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا )(10)
4 ـ قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان )(11)
__________
(1) المحلي لابن حزم :377:8.
(2) تحرير الكلام في مسائل الالتزام للحطاب بكتاب فتح العلى المالك :256:1
(3) إدرار الشروق علي أنواء الفروق لابن الشاط بهامش الفروق 24:4.
(4) كشاف القناع :316:3 ( باب القرض ) وانظر أيضا الإنصاف لابن حنبل :157:12 وانظر الفتاوى الكبرى لابن تيمية :474:3 وما بعدها . فقد ذكر ابن تيمية انه يجب الوفاء بالعهود والعقود والشروط عامة ، فيدخل في ذلك الوفاء بالوعد .
(5) الفروق للقرافي :25:4 ، فتح الباري :2902:5 ، فيض القدير :453:1 .
(6) صحيح البخاري وشرحه فتح الباري :29:5
(7) سورة الصف الآيات :2،3
(8) الفروق :20:4
(9) سورة المائدة الآية الأولي
(10) سورة الإسراء الآية 34.
(11) أخرجه البخاري ـ انظر البخاري بشرح فتح الباري :59:1 وجـ 289:5.(1/11)
5ـ قوله - صلى الله عليه وسلم - :( أربع من كن فيه كان منافقاً ، أو كانت فيه خصلة من أربع كانت فيه خصلة من النفاق حتي يدعها : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر)(1)
6ـ قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( وأي المؤمن حق واجب )(2)أي وعده واجب الوفاء به(3)
7ـ ويستدلون أيضا بما أورده البخاري بان ابن الاشوع قضي بالوعد وذكر ذلك عن سمرة بن جندب وقد احتج بحديث ابن الاشوع كما قال البخاري إسحاق بن راهويه في القول بوجوب أنجاز الوعد(4)
المذهب الثاني :
__________
(1) أخرجه البخاري : انظر البخاري بشرحة فتح الباري : 107:5
(2) اخرج أبو داود في مراسيله عن زيد أسلم مرسلا . ورواه سعيد بن منصور في سننه . وفيه هشام بن سعد وهو ضعيف . انظر فيض القدير : 360 :6 ، المحلي لابن حزم :378:8 ـ379.
(3) فيض القدير :380:6 ، الفروق للقرافي :20:4.
(4) انظر صحيح البخاري وشرحه فتح الباري :289:5.(1/12)
لا يلزم الواعد الوفاء بوعده ولا يقضي به عليه ولا يجبر علي ذلك ، ولكن يستحب له الوفاء بوعده ، وهو قول الجمهور من الفقهاء . قال المهلب : إنجاز الوعد مأمور به مندوب إليه عند الجميع ، وليس بفرض لاتفاقهم علي إن الموعود لا يضارب بما وعد به مع الغرما )(1)وبه قال الشافعية(2)والحنابلة(3)، وهو مذهب الحنفية في الجملة(4)وبه قال الظاهرية(5)، وهو قول عند المالكية وقد ذكر في سماع أشهب من كتاب العارية انه لا يقضي بالوعد مطلقاً ، وقد حكي الحطاب عنه بأنه ضعيف جداً(6)
يقول ابن حزم ( ومن وعد آخر بان يعطيه مالاً معيناً أو غير معين أو بان يعينه في عمل ما ، حلف له علي ذلك ، أو لم يحلف ، لم يلزمه الوفاء به ، ويكره له ذلك وكان الأفضل لو وفي به سواء أدخله بذلك في نفقة أو لم يدخله كمن قال : تزوج فلأنة وأنا أعينك في صداقها بكذا وكذا ، أو نحو ذلك ، وهو قول بي حنيفة والشافعية ، وأبي سليمان(7)
__________
(1) فتح الباري :390:5 واعترض ابن حجر علي قول المهلب في نقل الإجماع علي ذلك ، فقال ( ونقل الإجماع في ذلك مردود ، فان الخلاف مشهور لكن القائل به قليل ).
(2) نهاية المحتاج :441:4 أسني المطالب :245:2 ، القواعد للزركشي ( مخطوط) :223( حرف الواو)
(3) كشاف القناع :316:3 ، المغني لابن قدامه :237:4 ، الإنصاف لابن حنبل :157:12 .
(4) تنقيح الحامدية : 321:2 ، حاشية الولي علي الاشباه والنظائر :159 ، حاشية ابن عابدين :277،2765 وقد استثني الحنفية بعض الصور من الوعد المعلق وقالوا إنها تلزم ، واستثنوا كذلك بيع الوفاء في الصحيح عندهم وقالوا انه يلزم وإن كان وعداً سواء كان معلقاً أم لا.
(5) المحلي لابن حزم :377:8 المسألة 1125.
(6) تحرير الكلام في مسائل الالتزام للحطاب بكتاب فتح العلي المالك :256:1.
(7) المحلي لابن حزم :377:8 المسالة 1125.(1/13)
وقد استثني ابن حزم من ذلك الوعد بالديون الواجبة والأمانات الواجب أدواها والحقوق المفترضة ، وذكر أيضا انه يكون في إخلافه خصلة من خصال النفاق(1)
__________
(1) المصدر السابق :378:8 ، وانظر ايضاً الأحكام في اصول الأحكام :604:5 يقول ابن حزم :(..... فصح بهذا يقيناً أن الوعد الذي يكون في خلافه خصلة مكن خصال النفاق إنما هو الوعد بما افترض الله تعالي الوفاء به ، وألزم فعله وأوجب كونه ، كالديون الواجبة والأمانات الواجب أداوها والحقوق المفترضة فقط. لا ما عدا ذلك ، فان هذه الوجوه قد أوجب الله تعالي الوعيد علي العاصي في ترك أدائها ، وأوقع الملامة علي المانع منها وأمر بادئها وإن كان عز وجل لم يرد كون ما لم يكن منها ، ولا حجة لنا علي الله تعالي ، بل لله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين ....)(1/14)
واستدل الجمهور من الفقهاء بان الواعد محسن بما وعد من خير فلا يجير علي المضي فيه ، وما استدل به القائلون بلزوم الوعد والقضاء به من الأحاديث الصحاح إنما يلزم ذلك ديانة ومروءة ، وهي ليس علي ظاهرها كما يقول ابن حزم ، فقد ذكر أن من وعد بما لا يحل أو عاهد علي معصية فلا يحل له الوفاء بشي من ذلك ، كمن وعد بزني ، أو بخمر أو بما يشبه ذلك ، ثم يقول ابن حزم أيضا فصح انه ليس كل من وعد فاخلف ، أو عاهد فغدر مذموماً ولا ملموماً ، ولا عاصياً ، بل قد يكون مطيعاً مؤدي فرض ، فان ذلك كذلك فلا يكون فرضاً في أنجاز الوعد ، والعهد ، إلا من وعد بواجب عليه كأنصاف من دين أو أداء حق الحنث بالنص والإجماع المتيقن ، فإذا سقط عنه الحنث لم يلزمه فعل ما حلف عليه ، ولا فرق بين وعد اقسم عليه ، وبين وعد لم يقسم عليه . والوعد لا يصح بغير استثناء لقوله تعالي ( ولا تقولن لشئ إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله )(1). فوجب أن من وعد ولم يستثن فقد عصي الله تعالي في وعده ذلك ، ولا يجوز أن يجبر أحد علي معصية فان استثني فقال : إن شاء الله تعالي أو إلا أن يشاء الله تعالي أو نحوه مما يعلقه بإرادة الله عز وجل، فلا يكون مخلفاً لوعده إن لم يفعل ، لأنه إنما وعده أن يفعل أنشاء الله ـ وقد علمنا ‘ن الله تعالي لو شاءه لأنفذه ، فإن لم ينفذه فلم يشاء الله تعالي كونه(2). واستبدل الجمهور أيضا بجملة من الآثار تفيد في مجملها أن إخلاف الوعد لا حرج فيه ولا إثم فيه كذلك ، وما دام الوفاء بالوعد مباحاً فلا يلزم ولا يقضي به ، ومن هذه الآثار :
__________
(1) سورة الكهف الآيات :23،22
(2) المحلي لابن حزم :380،379،378:8:(1/15)
1 ـ ما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( إذا وعد الرجل أخاه وفي نيته أن يفي فلم يف ولم يجئ للميعاد فلا إثم عليه )(1)
2ـ ما جاء في الموطأ : حديثي مالك عن صفوان بن سليم أن رجلاً قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أكذب علي امرأتي يا رسول الله ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا خير في الكذب
فقال الرجل يا رسول الله : أعدها وأقول لها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لاجناح عليك(2)ويقول القرافي في تعليقه علي هذا الحديث : فمنعه من الكذب المتعلق فان رضي النساء إنما يحصل به ونفي الجناح علي الوعد ، وهو يدل علي أمرين ) أحدهما) : أن إخلاف الوعد لا يسمي كذباً لجعله قسيم الكذب ( وثانيهما) : أن إخلاف الوعد لا حرج فيه . ولو كان المقصود الوعد الذي يفي به لما احتاج للسؤال عنه ، ولما ذكره مقروناً بالكذب ، ولكن قصده إصلاح حال أمرته بما لا يفعله فتخيل الحرج في ذلك فاستأذن عليه(3).
المذهب الثالث :
__________
(1) أخرجه أبو داوود والترمذي وسعيد بن منصور في سننه . وقال الترمذي عنه : هذا حديث غريب ،وليس إسناده بالقوي . وفيه علي بن عبد الاعلي ثقة، وأبو النعمان مجهول ، وأبو وقاص مجهول . انظر سنن أبي داوود : 409:4 ( كتاب الأدب) وسنن الترمذي :131:4 ( أبواب الأيمان ) وفيض القدير :453:1.
(2) الموطأ بشرحة تنوير الحوالك : 254:2 وقال السيوطي : قال ابن عبد البر لا احفظه مسنداً بوجه من الوجوه وقد رواه ابن عيينة عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار مرسلاً ( انظر تنوير الحوالك بهامش الموطأ :254:2)
(3) الفروق :22:4(1/16)
وقد توسط أصحاب هذا المذهب فلم يقولوا بلزوم الوعد والقضاء به مطلقاً ، أو بعدم لزومه والقضاء به ، بل قالوا إنما الوعد يلزم ويقضي به إذا كان علي سبب وإن لم يدخل في شئ ، وهذا في أحد أقوال المالكية الشهيرة ، وقيل يشترط أن يدخل الموعود بسبب الوعد في الشئ وهذا في قول آخر للمالكية أشهر من الأول . وقيل إن الوعد لا يلزم إلا إذا كان معلقاً أو كانت هنالك حاجة ، وهو قول الحنفية ، وهذه تفاصيل أقوالهم :
قال المالكية إن العدة يقضي بها عن كانت علي سبب وإن لم يدخل الموعود بسبب العدة في شئ ، كقولك أريد أن أتزوج ، أو أن أشتري كذا ، أو أن أقضي غرمائي فأسلفني كذا ، أو أريد أن أركب غداً إلي مكان كذا فأعرني دابتك فقال : نعم ، ثم بد له قبل أن يتزوج أو أن يشتري أو أن يسافر فإن ذلك يلزمه ويقضى عليه به . وكذلك إذا قال : أنا أسلفك كذا أو أهب لك كذا لتقضي دينك أو لتتزوج أو نحو ذلك فإن ذلك يلزمه ويقضى به عليه . أما لو قال أسلفك كذا ونحوه ولم يذكر سبباً لا يقضى بها عليه ولا تلزم . وهذا قول أصبغ ، وقول مالك وقد وصفه الحطاب بأنه قوي.(1)
وذكر المالكية في قولهم الأخر أن العدة يقضى بها إن كانت علي سبب ودخل الموعد بسبب العدة في شئ ، وهذا هو المشهور من الأقوال ، وقال محمد ابن رشد : والعدة إذا كانت علي سبب لزمت بحصول السبب ، وهو مذهب المدونة ، وقول مالك
__________
(1) تحرير الكلام في مسائل الالتزام بكتاب فتح ألعلي المالك : 257،256:1.(1/17)
وهو قول ابن القاسم ، وهو قول سحنون ، وقيل لسحنون ما الذي يلزم من العدة في السلف والعارية قال : ذلك أن يقول الرجل للرجل هدم دارك وأنا أسلفك ، أو اخرج إلي الحج وأنا أسلفك أو تزوج امرأة وأنا أسلفك(1). ويقول الحنفية إن الوعد لا يلزم إلا إذا كان معلقاً أو في بيع الوفاء وإن لم يكن معلقاً(2).
والوعد المعلق كقوله إن شفيت أحج فشفي يلزمه(3)، وكقوله كما جاء في حاشية ابن عابدين نقلاً عن البزازية في أول كتاب الكفالة : إن يؤد فلان فأن أدفعة إليك ونحوه يكون كفالة ، لما علم أن المواعيد باكتساء صور التعليق تكون لازمة ، فإن قوله أنا أحج لا يلزمه به شئ ولو علق وقال : إن دخلت فأنا أحج يلزم الحج(4).
وأما بيع الوفاء فصورته كما يقول الحصكفي أن يبيعه العين بألف علي انه إذا رد عليه الثمن رد عليه العين إلا انه إن ذكرا ذلك أو اشترطاه في أثناء العقد أو قبله لا يلزم وكان بيعاً فاسداً ، أما لو كان بعد العقد وعلي وجه الميعاد جاز ولزم به ، لان المواعيد قد تكون لازمة لحاجة الناس ، وهو الصحيح كما في الكافي والخانية(5).
وبيع الوفاء علي الصحيح عند الأحناف كما ذكرنا وعد من المشتري بعد العقد بأن يرد المبيع إذا رد عليه البائع الثمن ، وهو لازم علي المشتري للحاجة ، وهو أشبه ما يكون بالتطوع بالثناء في البيع عند المالكية .
__________
(1) تحرير الكلام في مسائل الالتزام للحطاب بفتح لعلي المالك :257،256:1 الفروق 25:4.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم مع حاشية الشيخ محمد علي الولي عليه :159 ( بابا الحظر والإباحة) حاشية ابن عابدين :276:5.
(3) حاشية الولي علي الأشباه والنظائر :159.
(4) حاشية ابن عابدين :277:5.
(5) الدار المختار بهامش حاشية ابن عابدين :277،276:5.(1/18)
وهذا وقد رجح فريق من الفقهاء المحدثين المذهب الأول منهم الدكتور عيسوي احمد عيسوي فقال إن القول بلزوم الوعد والوفاء به ديانة وقضاء هو الذي يتفق مع النصوص الواردة في الكتاب والسنة والتي تأمر بالعهد والوعد وتحذر من الإخلاف فيه(1). ومنهم ايضاً الشيخ علي الخفيف فقد وصف هذا القول بأنه اسلم دليلاً(2).
لاشك أن الوفاء بالوعد مأمور به في جميع الأديان وحافظ عليه الرسل المتقدمون والسلف الصالحون ، واثني الله تعالي علي خليله إبراهيم في التنزيل(3)
بقوله : ( وإبراهيم الذي وفي)(4)ومدح ابنه إسماعيل بقوله : ( واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد )(5)والأدلة التي ذكرها الفقهاء واضحة في وجوب الوفاء به ، ولهذا أقول انه يجب الوفاء بالوعد ويجبر الواعد علي تنفيذه إذا كان يترتب علي وعده أي أضرار مالية للغير ، فانه في هذه الحالة يلزم الواعد ويجبر علي تنفيذ الوعد والعهد الذي قطعه علي نفسه ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الوعد مطلقاً أو معلقاً له بسبب أو لم يكن له سبب ، ما دام الواعد قد أدخل بوعده في التزامات مالية فيجب عليه أن يفي بوعده حتى لا يتضرر الموعود .
وإما إذا لم يترتب علي الوعد أي ضرر مالي علي الموعود كمن يعد زوجته بكذا وكذا أو كمن يعد صديقاً بقابلة في محل كذا وكان المحل قريباً أو أن يحضر إليه كذا فانه يندب له أن يفي بوعده ويجب عليه ذلك ديانة ولكنة لا يجبر لأنه لا يترتب علي عدم الوفاء أي ضرر مالي علي الغير. وفي هذا جمعاً بين الأدلة التي توجب الوفاء بالوعد والقضاء به والتي لا توجبه ، بل تبيحه فقط .
__________
(1) المدخل للفقه الإسلامي ـ عيسوي أحمد عيسوي :378.
(2) تأثير المعرف في حقوق الإنسان والتزاماته للشيخ علي الخفيف/ بحث منشور بمجلة القانون والاقتصاد المصرية السنة الحادية عشرة ص 581.
(3) فيض القدير :453:1
(4) سورة النجم الآية :37.
(5) سورة مريم الآية 54.(1/19)
وعلي كل فانه علي القول أن الوعد يجب الوفاء به وان يقضي به كذلك علي الملتزم ، فإن الالتزام في الوعد عند الماليكة يكون من قبيل فعل المعروف والمقرر عندهم أن المعروف لازم لمن أوجبه علي نفسه ما لم يمت أو يفلس.
وعليه فان الوعد في بيع المرابحة للآمر بالشراء ملزم ويجب عليه الوفاء به حتى لا يتضرر المأمور الذي قام بشراء السلعة أو البضاعة لمصلحة الآمر . لأنه بسبب الوعد دخل المأمور في التزامات مالية بشراء السلعة وما دام الأمر هكذا فعلي الآمر الالتزام بوعده حتى لا يدخل المأمور في إشكالات وأضرار لا حصر لها
المطلب الرابع :
البيع بالتقسيط
والبيع اياً كان بيع مرابحة أو غيره يمكن أن يكون ثمنه حالاً ويمكن أن يكون بثمن مؤجل ويمكن أن يكون مقسطاً .
جاء في فتح القدير (يجوز البيع بثمن حال ومؤجل إذا كان الأجل معلوماً(1)
وجاء في مجلة الأحكام العدلية :
المادة (245) البيع مع تأجيل الثمن وتقسيطه صحيح .
المادة (246) يلزم ان تكون المدة معلومة في البيع بالتأجيل والتقسيط(2)
وجاء في المدونة (سئل عبد الرحمن القاسم عمن باع ثوباً بمائة درهم الي اجل شهر ثم اشتري بمائة درهم الي الأجل : أيصح ذلك في قول مالك ؟ قال نعم لا باس بذلك )(3).
وفي كشاف القناع (.... ويذكرون في الفروع فان قال لك بعتك علي أن تنقدني الثمن إلي ثلاث او مدة معلومة و إلا فلا بيع بيننا فالبيع صحيح(4)وكذلك الأمر عند الشافعية(5).
المطلب الخامس :
زيادة الثمن نظير زيادة الأجل :
__________
(1) . الهداية بها من فتح القدير ج 6 ص 261
(2) مجلة الأحكام العدلية ص 37 وانظر أيضا فقه السنة للشيخ سيد سابق ج 3 ص 73
(3) . المدونة ج9 ص 117 وانظر في الزرقاني علي مختصر خليل ج 5 ص 98
(4) . كشاف القناع ج 3 ص 185 وانظر المغن لابن قدامة ج 3 ص 504
(5) . انظر نهاية المحتاج ج 4 ص 96(1/20)
في حالة إذا كان الثمن مؤجلاً او مقسطاً فيجوز زيادة الثمن من اجل التأجيل وهو قول جمهور الفقهاء جاء في فقه السنة يجوز البيع حال كما يجوز ان يكون بثمن موجل كما يجوز ان يكون بعضه معجلاً وبعضه موخراً متي كان ثمة تراضي بين المتبايعين
واذا كان الثمن مؤجلاً وزاد البائع فيه من اجل التأجيل جاز لان للأجل حصة من الثمن والى هذا ذهب الأحناف والشافعية وزيد بن علي والمؤيد بذلك وجمهور الفقهاء لعموم الأدلة القاضية بحوزة ورجحه الشوكاني(1).
ويلاحظ في البيوع المؤجلة الثمن ان يزاد في الثمن لأجل الأجل فكانه جعل الاجل مقدراً في الثمن ولقد أشار الحنفية الي ذلك في بعض المواضع ومنها قولهم من بيع المرابحة (ومن اشتري غلاماً بألف درهم نسيئة فباعه بربح مائة ولم يبين ذكر المشتري فعلم المشتري فان شاء رده وان شاء قبل لان للأجل شبهاً بالبيع فانه يزاد في الثمن لأجل الأجل )(2)
وقد يكون للسلعة ثمن حال او ثمن مؤجل أكثر من الحالي فإذا باع السلعة بعشرة دنانير نقداً او بخمسة عشر ديناراً الي اجل واتفقا علي ان يكون للمشتري الخيار صح البيع في قول معظم الفقهاء(3).
المطلب السادس :-
حلول الأجل في بيوع المرابحة والتقسيط
التأجيل في بيوع المرابحة والتقسيط حق للمشتري وهو المدين ثبت له بناء علي أوصاف ومعاني فيه كأمانته وثقة الدائن فيه بسداد الدين مما حدا بالدائن ان يوافق علي التأجيل .
وكما ذكرنا فانه يجوز التأجيل في البيوع من غير الربويات وهذا باتفاق الفقهاء(4).
__________
(1) . فقه السند للشيخ سيد سابق ج 3 ص 73 .
(2) . الهداية وشروحاًها فتح القدير ج 6 ص 507 .
(3) . بداية المجتهد ج 2 ص 175 . المفتي لابن قدامة ج 4 ص 177
(4) . الهداية وشروحاً بها في فتح القدير ج 6 ص 61 ، والمدونة ج 9 ص 117 ، حاشية قلبوب وعمره ج 2 ص 168 كشاف القناع ج 3ص196 ، المفتي لابن قدامة ج3 ص 504 المحل لابن حزم ج 8 ص 516(1/21)
والأجل يحل ميعاده وبالتالي يكون المشتري ملزماً بسداد ما عليه في وقته فهل يحل اجل الدين بوفاة المدين وهل هذه الحالة إذا حل الأجل يكون الورثة ملزمون بدفع كل المبلغ إما يكتفي بقدر ما بقي من الأجل ام الأجل لا يحل بوفاة المدين وبالتالي يورثون حق التأجيل .
هذه التساؤلات قد أجبت عليها في كتاب (الحق والذمة والإلتزام وتأثيرها بالموت ولا مانع من الإشارة الي ذلك مقتبسا من في كتابي سالف الذكر) .
اختلف الفقهاء في الجملة الي فريقين فريق يري ان الأجل يحل بالموت وفريق أخر يري ان الأجل يبقي ولا يحل بالموت ولذلك ينتقل الي ورثته .
رأي الفريق الأول :
يري جمهور الفقهاء من الحنفية (1) والمالكية (2) والشافعية (3) والظاهرية (4)
والحنابلة في رواية عندهم (5) إن الأجل يحل بموت المديون ، فيصبح كل ما عليه من ديون مؤجلة حالة بموته ، فلا يورث عنه الأجل ، وبه قال الشعبي ، وابراهيم النخعي ، وسوار،والثوري، وشريح الكندي (6) وهو قول الحسن البصري، وقد روي عنه انه كان يري الدين حالاً إذا مات وعليه دين (7) .
قال الشافعي في الأم : (... ولو كانت الديون علي الميت إلي اجل فلم اعلم مخالفاً حفظت عنه ممن لقيت بأنها حالة يتحاص فيها الغرماء ، فإذا فضل فضل كان لاهل الميراث ووصايا ان كانت له ...)(8)
__________
(1) . لإثبات والنظائر لابن تميم ص 354
(2) . المدونة ج 13 ص 232
(3) . الأم للشافعي ج3 ص 213 والمهذب ؟؟؟ ج 1 ص 327 .
(4) . المحل لابن حزم ج 8 ص 476 الثالثة 1206
(5) . المغني 4:327،328، الإنصاف للمرداوي : 5:307 وفيه (وفي رواية يحل الأجل مطلقاً ولو قتله ربه ولو قلنا لا يحل بالفلس اختاره ابن ابي موسي وقدمه ابن رزين في شرحه ومال إليه ...)
(6) . المغني لابن قدامة : 2:327، المدونة :13:236
(7) . المحلي لابن حزم : 8:212
(8) . الأم الشافعي :3 :212(1/22)
وقال ابن رشد الحفيد :(وجمهور العلماء علي أن الديون تحل بالموت) (1)
قال بن وهب :واخبرني يونس انه سال ابن شهاب عن رجل كان عليه دين إلي اجل فمات، فقال ابن شهاب: مضت السنة بان دينه قد حل حين مات ، ولأنه لا يكون ميراث إلا بعد قضاء الدين (2) وقال بن وهب أيضا واخبرني يونس وعبد الجبار عن ربيعة بن ابي عبد الرحمن انه قال : من مات فقد حل الدين الذي عليه ، ولا يؤخر الغرماء بحقوقهم إلي ذلك الأجل (3).
ويستدل الجمهور من الفقهاء علي حلول آجال الديون بموت المديون بأدلة نقلية وعقلية وهي
الأدلة النقلية وهي كالأتي :
1. ما روي عن بن عمر رضي الله تعالي عنهما ان النبي - صلى الله عليه وسلم - : (إذا مات الرجل وله دين إلي اجل وعليه دين الي اجل فالذي عليه حال ، والذي له إلي اجله) .(4)
2. ما روي عن ابي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (نفس المؤمن معلقة بدينه حتي يقضي عنه دينه) (5) فهذا الحديث يستقضي التعجيل بقضاء دين الميت حتي تبرأ ذمته المعلقة والمرهونة بقضاء دينه ، والتعجيل بقضاء الدين يستدعي حلول الاجل .
وأما الأدلة العقلية فهي من وجوه عديدة نجملها في الأتي :
__________
(1) . بداية المجتهد ونهاية المقتصد:2: 286 ، وانظر أيضا المدونة : 13 : 236 .
(2) . المدونة : 13 : 236
(3) . المصدر السابق
(4) . هذا الحديث ذكره الشيرازي في المهذب في الاستدلال بحلول الدين بالموت ج1 ص 327، وهو ضعيف كما قال البيهقي وجاء في سنن البيهقي (وروي في حلول الدين علي الميت عن ابن عمر مرفوعاً وعن زيد بن ثابت موقوفاً وكلاهما ضعيف. (سنن الكبري : 6: 49 (باب حلول الدين علي الميت).
(5) . هذا الحديث سبق تخريجه انظر ص 35 من هذا البحث ولقد أورده الشافعي في الأم : (3: 212) في معرض الاستدلال علي حلول الدين الذي علي الميت(1/23)
1. إن في التأجيل ضرراً بالوارث وبالمدين الميت ، أما بالنسبة للوارث، فلأنه يؤدي إلي تأخير حقه في الميراث ، ولا يحق له أن يأخذه إلا بعد قضاء الدين ولذلك تترك الديون إلي ان يحل اجلها وينتظر الوارث حلولها وفي ذلك ضرر كبير يلحقه لأنه لا تركه إلا بعد سداد الديون مصداقاً لقوله تعالي (من بعد وصية يوصي بها أو دين ...) (1)
أما بالنسبة للميت المدين فان تأخير الدين الي وقت حلوله يؤدي الي عدم إبراء ذمته من الدين لأنها مرهونة بقضاء الدين .
قال الشافعي في الأم(... ويشبه والله اعلم ان يكون من حجة من قال هذا مع تتابعهم عليه ان يقولوا لما كان غرماء الميت أحق بماله في حياته منه كانوا أحق بماله بعد وفاته من ورثته فلو تركنا ديونهم الي حلولها كما يدعها في الحياة كنا كنعنا الميت ان تبرا ذمته ومنعنا الوارث ان يأخذ الفضل عن دين غريم ابيه ...) (2)
ثم قال الشافعي ايضاً : (... ولو وقف (أي ماله) الي قضاء دينه علق روحه بدينه ، وكان ماله معرضاً ان يهلك فلا يؤدي عن ذمته زلا يكون لورثته فلم يكن فيه منزلة أولي من ان يحل دينه ثم يعطي ما بقي ورثته)(3)
ويقول ابن رشد الحفيد : (... وحجتهم أن الله تبارك وتعالي لم يبح التوارث إلا بعد قضاء الدين فالورثة في ذلك بين احد امرين : أما أن لا يريدوا أن يؤخروا حقوقهم في المواريث الي محل اجل الدين فيلزم ان يجعل الدين حالاً وأما ان يرضوا بتأخير ميراثهم حتي تحل الديون فتكون الديون حينئذ مضمونة في التركة خاصة لا في ذممهم ...) (4)
__________
(1) . سورة النساء الآية : 11
(2) . الأم للشافعي : 3: 212
(3) . المصدر السابق .
(4) . بداية المجتهد ونهاية المقتصد : 2: 286 ، وانظر الخرشي : 5 : 266 ، 267 .(1/24)
2. إن الضرورة او المصلحة تقتضي ان يحل الاجل لان ذمة الميت لا تتحمل الدين لأنها قد خربت بالموت وتعذر مطالبتها ، ولا يمكن إلزام الميت لا تتحمل الدين لأنها قد خربت بالموت وتعذر مطالبتها ولا يمكن إلزام الورثة به لأنه لم يلتزموه ولا يمكن تعليقه علي الأعيان للضرر الحاصل للكل يقول ابن قدامه : (... والرواية الأخرى أن يحل بالموت ... لأنه لا يخلو : إما أن يبقي في ذمة الميت ، لخرابها ، وتعذر مطالبتها بها . ولا ذمة الورثة ، لأنهم لم يلتزموها ولا رضي صاحب الدين بممهم ، وهي مختلفة متباينة، ولا يجوز تعليقه علي الأعيان وتأجيله ، لأنه ضرر بالميت ، وصاحب الدين ، ولا نفع للورثة فيه ...) (1)
3. ان الاجل جعل رفقاً وترفيهاً علي من عليه الدين ليسعى في يسر ورفق لسداده وبالموت فات ذلك ، ولذلك كان الرفق بعد الموت ان يقضي دينه حتي تبرا ذمته ويفك رهنها (2)
4. ان الاجل صفة للدين والدين حق علي الميت فلا دين علي الوارث فلا يثبت الاجل في حقه(3) ، ولان الفائدة من التأجيل ان يتجر فيؤدي الثمن من نماء المال ، فإذا مات من له الاجل تعين المتروك لقضاء الدين فلا يفيد التأجيل (4)
__________
(1) . المغني لابن قدامة : 4 :327 ، وانظر ايضاً الخرشي : 5 266 ، 267 .
(2) . المهذب للشيرازي : 1 : 327 ، الأم للشافعي : 3: 212 .
(3) . القواعد للزركشي : 83 (حرف الحاء) ، المحلي لابن حزم : 8: 476 ، 477 ، حاشية ابن عابدين : 5: 158 .
(4) . حاشية ابن عابدين : 4: 532 ، تنقيح الحامدية : 2: 225 .(1/25)
هذا وقد أفتي بعض فقهاء الحنفية ان المديون إذا مات قبل حلول الاجل فانه يمكن ان يؤخذ من الزيادة التي كانت في مقابل التأجيل بقدر ما بقي من المدة إذا كان البيع مرابحة وصورته كما قال ابن عابدين : ما لو اشتري شخص شيئاً مرابحة وكان الثمن مؤجلا ثم مات في أثناء المدة فلا يستحق الدائن من المرابحة التي جرت بينه وبين المدين إلا حصة ما مضي من الأيام وقد أفتي بذلك المتأخرون من الحنفية وقد أفتي به ايضاً المولي أبو مسعود وعلله بالرفق من الجانبين وأفتي به الحانوتي وغيره (1) .
وقد استحسن الشيخ احمد ابراهيم هذه الفتوى فقال : لا شك أن هذا نظر جيد جداً فانا نعلم علماً لا شك فيه أن عادة التجار إذا باعوا نسيئة أنهم يضيفون إلي الثمن الذي يباع المبيع به حالاً مقداراً يتناسب مع هذا الزمن والعادة المستمرة في المعاملات إن الأثمان المؤجلة أزيد من الأثمان الحالة ولا شك ولا ريب إن تلك الزيادة في مقابلة الاجل فكلما طال الاجل كثرت الزيادة إذ هي في الحقيقة موزعة علي مدة الاجل فكما إن البائع مرابحة بثمن مؤجل يحل دينه بموت المشتري وقد كان فيه زيادة تقابل ما بقي من المدة فمن العدل أن تسقط تلك الزيادة (2) .
وقد وصف الشيخ ابو زهرة فتوى واستنباط المتأخرين من الحنفية في إسقاط الزيادة التي كانت في مقابل الاجل ان ذلك لا يخلو من شبهة الربا ، والربا حرام ، وشبهته حرام (3) .
__________
(1) . حاشية ابن عابدين : 5 : 160 .
(2) . التركة والحقوق المتعلقة بها المواريث للشيخ احمد ابراهيم بحث بمجلة القانون والاقتصاد المصرية، السنة السابعة ، العدد الثالث سنة 1356هـ - 1937م ص 367 .
(3) . أحكام التركات والمواريث لابي زهرة : 40(1/26)
ولم يبين الشيخ ابو زهرة شبهة الربال التي يقصدها في هذه المسألة ولكن يبدو لي انه يقصد ربا الديون لان ثمن المبيع مرابحة قد تقرر في ذمة المدين وصار ديناً في ذمته فاذا حط الدائن جزاءاً منه واخذ بقية يكون ذلك ربا فالدائن في هذه المسألة قد ترك جزءا من دينه لورثة المدين سواء كان باختياره أو جبراً عنه واخذ باقية في مقابل ما تبقي من مدة الاجل السابق ولا فرق بين المدين وورثته لان الوارث فرع المورث وهو ايضاً خليفة مورثه فالربا في هذه المسألة قريب من الربا المعروف عند الفقهاء بضع وتعجل وهو ربا في قول الجمهور من الفقهاء منهم زيد بن ثابت ، وابن عمر من الصحابة ، وسعيد بن المسيب ، والحسن ، وحماد ، والحكم ، والشافعي ومالك ، والثوري، وابو حنيفة (1) وعمدة من لم يجز ضع وتعجل كما يقول ابن رشد الحفيد انه شبيه بالزيادة مع النظرة المجمع علي تحريمها ، ووجه شبهه بها انه جعل للزمان مقداراً من الثمن بدلاً منه في الموضعين جميعاً وذلك انه هنالك لما ذاد له عرضه ثمناً وهنا لم حط عنه الزمان حط عنه في مقابلته ثمناً (2)
والإمام ابو زهرة كما يبدو لي يري انه ما دام هناك حط من الدين في مقابلة ما حط من الزمان كان ذلك ربا أو له شبه الربا . أو يمكن أن يقال إذا كانت صورة ضع وتعجل لا تنطبق تماماً علي هذه المسألة انه ما دام قد جعل للزمان مقداراً من الثمن ، فان ذلك يكون ربا او له شبه بالربا لان الدائن حينها حط من الدين في مقابل ما تبقي من الاجل يكون قد جعل للزمان مقداراً من الثمن .
__________
(1) . بداية المجتهد : 2 : 164 ، المغني لابن قدامة : 4: 39 وقد اجاز ابن عباس ضع وتعجل فقد روي عنه انه لم ير باساً بها وروي ذلك ايضاً عن النخعي وابي ثور وهو قول زفر من الحنفية ولقد استدلوا لجواز ذلك بجملة من الأحاديث والآثار (انظر بداية المجتهد : 2: 164 ، والمغني لابن قدامة : 4: 39)
(2) . بداية المجتهد : 2: 164 .(1/27)
وعلي ضوء هذا الشرح لاعتراض ابي هريرة فاني أقول الأتي :
1. إن الجزء الذي أسقطه الدائن من الدين في مقابل ما تبقي له من زمن سابقاً لا صلة له بالربا المعروف عند الفقهاء بضع وتعجل لان ذلك قد تم بين الدائن والورثة وهم غير مدينين للدائن ولا وجه لإلزامهم بالدين لأنه لم يلتزموه والوارث لا يقوم مقام مورثه فيما عليه من ديون بل محل ذلك التركة إذا خلف مالاً ثم أضف إلي ذلك أن الدين هنا قد حل بوفاة المدين وانتهي اجله أضف فلا يتعجله الدائن ما دام قد حل ولهذا فان الجزء الذي أسقطه الدائن من دينه او الزم علي إسقاطه وان كان مقروناً عند الإسقاط بما تبقي له من اجل سابقاً بعيد كل البعد عن الربا المعروف عند الفقهاء بضع وتعجل وأما إذا تم ذلك بين الدائن والمدين واسقط الدائن جزءا من دينه مقابل اخذ باقية من المدين حالاً فان ذلك يكون ربا في قول جمهور الفقهاء لان صورة ضع وتعجل تنطبق عليه تماماً وهذا خلافاً لما يراه ابن عباس وغيره من الفقهاء أو إذا الزم الدائن بترك جزء من دينه للمدين قبل وفاته واخذ باقية حالاً فلا يصح ايضاً سواء لشبهة الربا أو غيرها .(1/28)
2. أما علي القول إن هذه المسألة شبيهة بالربا ،لأنه قد جعل للزمان مقداراً من الثمن فالدائن قد حط من الدين في مقابل ما تبقي له من زمن سابق قبل حلول الدين بالموت وفي هذه شبهة بالربا المتفق علي حرمته والمعروف عند الفقهاء انظرني ازيدك ففيه لما زاد له في الزمان زاد له عرضه ثمناً وفي هذه المسالة قد حط له من الدين بقدر ما تبقي له من الزمن ففي كلا الموضوعين جعل للزمان مقداراً من الثمن أقول إن هذه المسالة لا شبهة لها بذلك لأنها لقد تمت بين الورثة والدائن والزم بها الدائن لمصلحة الورثة ولا صلة للورثة بالدين في الحالين ثم إن اصل هذه المعاملة بين مؤجل الثمن وهو جائز عند الفقهاء ثم إن البيع كان مرابحة فكان الربح اصلاً فيه وبيع المرابحة جائز عند الفقهاء أضف إلي ذلك ايضاً أن ثم السلعة المؤجل يكون غالباً أكثر من ثمنها الحالي فسبب الاجل كانت هنالك زيادة في الثمن والأجل له قدر من الثمن في هذه المبيوع ولم يري الجمهور من الفقهاء في ذلك ربا وعلي هذا الأساس فان الربح أو الزيادة عن الثمن الحالي موزعة علي مدة الاجل فمن العدل أن يسقط جزء من هذه الزيادة في مقابل ما تبقي من الاجل حتى لا يتضرر الورثة إلا أن الثمن الذي تقرر فيه ذما مورثهم قد حل بوفاته ولهذه قد نظر المتأخرون من الأحناف علي ما يترتب علي ذلك من ضرر علي الورثة بحلول الدين المؤجل الذي يؤخذ من تركة مورثهم التي آلت إليهم فأفتوا بإسقاط جزء من الدين (أي المرابحة) في مقابل ما تبقي من الاجل وعللوا ذلك بان فيه رفقاً للجانبين .
وهذه الفتوى خاصة بالحالة المذكورة وهي حالة الورثة فقط لان الدين قد حل قبل أوانه نسبة لوفاة المدين وشرطه أن يكون الدين ثمناً لمبيع اجل ثمنه سواء أكان البيع مرابحة أو غيره فلا تشمل كل دين وكل مدين .
هذا : وقد استثني المالكية بعض الحالات وقالوا إن الدين المؤجل لا يحل بالموت فيها وهي :(1/29)
1. إذا قتل الدائن المدين فان دينه المؤجل لا يحل لأنه لقد استعجله قبل أوانه فعوقب بالحرمان.
2. إذا اشترط المدين علي الدائن أن لا يحل الدين المؤجل الذي عليه بموته فيعمل بالشرط هذا ولا يحل الدين المؤجل بموته (1)
وقد استثني ايضاً الشافعية بعض الحالات وذكروا أن الاجل لا يحل فيه بالموت وهي :
1. المسلم إذا لزمته الدية ولا مال له ولا عصبة يحمل عنه بيت المال فلوا مات اخذ من بيت المال مؤجلاً ولا يحل فان الدية تلازم التأجيل (2)
2. إذا لزمت الدية في الخطأ أو شبه العمد الجاني كما لو اعترف وانكرت العاقلة فأنها تؤخذ من جانب مؤجله فلو مات هل تحل الدية حتى تؤخذ منه حينئذ ؟ وجهان أصحهما نعم والثاني لا يحل بموته لان الدية يلازمها الاجل (3)
إذا ضمن ديناً مؤجلاً ومات الضامن لا يحل عليه الدين في وجهه وقد اصح خلافه ولو مات الأصيل حل عليه الدين ولا يحل علي الضامن علي الصحيح (4)
رأي الفريق الثاني :
__________
(1) . الخرشي : 5: 266 ، 267 وقد ورد فيه (000 ويستثني من الموت ، من قتل مدينة فان دينه المؤجل لا يحل ، لحمله علي استعجال ما اجل ... ومحل حلول الدين المؤجل بالموت او الفلس ما لم يشترط من عليه انه لا يحل عليه الدين بذلك والا عمل بشرطه.. ) وانظر ايضاً حاشية الدسوقي:3: 239 .
(2) . قواعد الزركشي : 103 (حرف الدال) اسني المطلب : 2: 184 حاشية الشبراملسي بهامش نهاية المحتاج : 4 :303 قال الشيراملسي : (وقد يقال لا تستثني هذه لانه انما نفي الحلول علي بيت المال وكلامهم في الحلول بموت من عليه الدين وفي هذه الصورة قد تعلق الدين ببيت المال فكأن من عليه الدين برئ حالة الموت)
(3) . القواعد للزركشي : 103 (مخطوط) (حرف الدال)
(4) . المصدر السابق .(1/30)
المشهور والمختار عند الحنابلة أن الدين المؤجل لا يحل بموت المدينون إذا وثقهم الورثة أو وثقه غيرهم برهن أو كفيل مليء علي اقل الأمرين من قيمة التركة أو الدين وهو قول ابن سيرين وعبد الله بن الحسن واسحق وأبي عبيد (1) وقيل أن الاجل لا يحل بالموت مطلقاً وان لم يوثق الورثة الدين وهو قول عند الحنابلة اختاره ابو محمد الجوزي وبه قال طاؤوس وابو بكر بن محمد والزهري وسعيد بن ابراهيم وحكي ذلك عن الحسن (2)
ويستدلون بان الاجل حق للميت وان الموت جعل مبطلاً للحقوق وإنما ميقات للخلافة وعلامة علي الوارثة وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (من ترك حقاً أو ماله فلورثته) (3) ولذلك يورث عنه الاجل كسائر حقوقه (4)
__________
(1) . المغني لابن قدامة :4: 327 كشاف القناع : 3: 438 الإنصاف للمرداوي الحنبلي :5: 307 وقد ذكر فيه : ان هذا هو المذهب وقال في القواعد الفقهية : هذا اشهر الروايتين وقال الزركشي : هذا المشهور والمختار للأصحاب من الروايتين وانظر ايضاً القواعد لابن رجب : 343 وانظر بداية المجتهد ونهاية المقتصد :2:286 قال بن رشد وراي بعضهم انه ان رضي الغرماء بتحمله في ذممهم أبقيت الديون إلي اجلها وممن قال بهذا القول ابن سيرين واختاره ابو عبيد من فقهاء الامصار .
(2) . المغني لابن قدامة :4:327 وانظر الإنصاف للمرداوي الحنبلي:5:307 وقد ورد فيه ان الاجل لا يحل أن تعذر التوثق اختاره ابو محمد الجوزي وقدمه في الرعايتين والحاويين . قال ناظم المفردات : ولا يحل علي المديون بموته من أجال الديون .
(3) . هذا الحديث سبق تخريجه .
(4) . المعني لابن قدامة : 4:328 ، كشاف القناع : 3: 438(1/31)
وعلي ذلك كما يقول الحنابلة يبقي الدين في ذمة الميت كما كان ويتعلق بعين ماله كتعلق حقوق الغرماء بمال المفلس عند الحجر عليه وان أحب الورثة أداء الدين وإلزامه للغريم ويتصرفون في المال لم يكن لهم ذلك إلا أن يرضي الغريم أو يوثقوا الحق بضمين ملئ أو رهن يثق به لوفاء حقه فإنهم قد لا يكونون املياء ولم يرضي بهم القرين فيؤدي إلي فوات الحق وقد ذكر القاضي إن الدين ينتقل إلي ذمم الورثة بموت مورثهم من غير أن يشترط التزامهم له (1) ولا وجه لإلزام الورثة به لأنهم لم يلتزموا كما يقول ابن قدامة (2)
وبين الحنابلة في الصحيح من أقوالهم لأنه إذا تعزر التوثق لعدم وجود وارث بان مات من غير وارث له حل الدين المؤجل حتى ولو ضمنه الإمام وكذلك إذا خلف وارثاً ولكنه لم يوثق حل الدين المؤجل ايضاً لغلبة الضرر فيأخذه ربه كله اتسعت التركة له أو يحاصص به الغرماء ولا يسقط منه شي في مقابل الاجل (3)
يلاحظ هنا أن الحنابلة يرون انه لا يسقط شيء في مقابل الاجل علي خلاف ما يري المتأخرون من فقهاء الحنفية .
__________
(1) . انظر المغني لابن قدامة : 4: 328
(2) . المصدر السابق ولقد علق ابن قدامة علي قول القاضي قائلاً
(ولا ينبغي ان يلزم الانسان دين لم يلتزمه زلم يتعاط سببه ، ولو لزمهم ذلك لموت مورثهم للزمهم وان لم يخلف وفاء . . .)
(3) . كشاف القناع : 3: 438 ، وانظر الإنصاف للمرداوي الحنبلي :5: 307 وفيه (فعل المذهب : ان تعذر التوثق : حل، علي الصحيح من المذهب جزم به في المغني ، والمحرر وغيرهما ، وقدمه في الفروع وغيره)(1/32)
وما ذهب إليه الجمهور من الفقهاء بان الدين المؤجل يحل بموت المديون هو الأوجه في نظري لان الاجل شرع ترفيهاً للمدين ولاعتبارات شخصية وأوصاف معينة جعلت الدائن يوافق علي تأجيل دينه لثقته في المدين أن يفي بوعده بسداد الدين عند حلول اجله ولذلك ومن هذه الناحية كان حقاً شخصياً يسقط بموت المدين كما قوة دليل الجمهور النقلي منها أو العقلي تجعلني أرجح رايهم هذا ولكن من ناحية أخري توجد فيه الشائبة المالية لانه في مقابل الاجل تزداد قيمة السلع وتكون هذه الزيادة في مقابلة الاجل ولذلك اري أن يسقط من الزيادة بقدر ما بقي من مدة الأجل إذا كان هذه الدين ثمنا لمبيع أجل ثمنه سواء أن البيع مرابحة أو كان بيعاً بالتقسيط أو غيره لان العادة في مثل هذه البيوع أن تزاد أثمانها إذا كانت مؤجلة أو مقسطة عملاً بفتوى المتأخرين من الأحناف وفي ذلك رفقا ومصلحة للدائن وورثة المدين وليس في ذلك رائحة أو شائبة من الربا ولقد قصدت التطويل والاطناب في هذا الأمر لأهميته ولكن هناك صور كثيرة واقعية تكون هنالك ديون بالملايين في مبعيات تقوم بها الشركات ا أو المصارف لعملائها وفجأة تحل الشركة المتعاملة مع المصرف أو المتعاملة مع شركة أخري أو يموت العميل ولذلك أما أن يبق آجل الدين إلي ميعاده أو إذا أحل ينبقي الاتنقاص منه بقدر ما تبق من الزمن كما ذكرنا والله أعلم.
المبحث الثالث
التجربة المصرفية في بيوع المرابحة في السودان(1/33)
تجربة المصارف السودانية في التمويل بالصيغ الشرعية راسخة ولقد لعبت دوراً كبيراً في حل الكثير من مشاكل التمويل وأبعدت المتعاملين من ويلات الربا و لعناته كما أن الأداء المصرفي مع الرقابة الشرعية أدي إلي تجويد عمليات التمويل حيث توجد في المصرف هيئة رقابة شرعية كما انه توجد هيئة رقابة شرعية علي مستوي البنك المركزي وتصدر المراشد والمنشورات من وقت لآخر. في كثير من الصيغ الشرعية في التمويل المصرفي وبالنسبة لبيوع المرابحة فقد أصدرت هيئة الرقابة الشرعية بالبنك المركزي المراشد والمنشورات متناولة للأحكام الشرعية لبيوع المرابحة وصور التعامل ونشير إلي ذلك في الأتي :ـ
المطلب الأول
منشور هيئة الرقابة حول أحكام بيع المرابحة
وبيع المرابحة للأمر بالشراء
أصدرت الهيئة العليا للرقابة الشرعية للجهاز المصرفي والمؤسسات المالية العديد من المنشورات التي تناولت فيها الأحكام الفقهية ونماذج من العقود المتعلقة بها ونذكر بيان حساب مؤشر الإرباح وما دام الأمر في هذا البحث يتعلق ببيع المرابحة ولبيع المرابحة للأمر بالشراء وسوف نتناول المنشورات الصادرة في هذا الشأن .
أحكام بيع المرابحة :
المرابحة من بيوع الأمانة وهي في اصطلاح الفقهاء هي البيع بمثل راس مال المبيع أو تكلفته مع زيادة ربح معلوم ، وصفتها أن يذكر البائع للمشتري الثمن الذي اشتري به السلعة ، أو تكلفتها ، ويشترط عليه ربحاً .
ومن شروط بيع المرابحة :
1ـ أن يبين المصرف للعميل ( المشتري) راس المال الأول ( أي الذي اشتري به السلعة أو تكلفة السلعة )
2 ـ أن يكون العقد الأول صحيحاً .
3 ـ أن يكون العقد الأول خالياً من الربا علي وجه الخصوص .
4 ـ أن يبين المصرف العيب الحادث بعد الشراء وكل ما هو معني العيب .
5 ـ أن يبين المصرف صفة ثمن الشراء : نقداً أم موجلاً .
6 ـ إذا اختل أي من الشروط ( أعلاه) يكون المشتري بالخيار في :ـ
- إمضاء البيع علي حاله ، أو(1/34)
- الرجوع بالنقص ، أو
- فسخ العقد .
وينبغي التنويه إلي أن بيع المرابحة هو بيع السلعة المملوكة للبائع وقت التفاوض عليها وحتي التعاقد وهو بذلك يختلف عن بيع المرابحة للآمر بالشراء علي نحو ما سيأتي :
أحكام بيع المرابحة للآمر بالشراء :ـ
1ـ الغرض من هذا البيع : نشأت فكرة بيع المرابحة للآمر بالشراء ـ فيما يبدو لتحقيق غرضين :
1ـ1 طلب التمويل :
إذ يطلب الآمر بالشراء من المصرف شراء السلعة ، ويعده بشرائها منه وتربيحه فيها ، باعتبار أن المصرف ( المأمور) سيبيعها له بثمن مؤجل كله أو بعضه .
والشراء بثمن مؤجل هو الدافع الذي يحرك جل ـ إن لم نقل كل ـ طالبي التعامل عن طريق بيع المرابحة للآمر بالشراء .
إن ازدياد التعامل في عالم اليوم في الشراء بالأجل أدي بدوره إلي زيادة الطلب علي بيع المرابحة والمرابحة للآمر بالشراء . علماً بأن الأجل ليس شرطاً في بيع المرابحة ولا المرابحة للآمر بالشراء ولكنه الغالب فيهما خاصة في الأخير .
1ـ2 نشدان الخبرة :
كأن يطلب أحد المتعاقدين من الآخر أن يشتري سلعة ويعده بشرائها منه وتربيحه فيها . معتمداً في كل ذلك علي خبرة المطلوب منه . يقول الموصلي : وللناس حاجة إلي ذلك ، لان فيهم من لا يعرف قيمة الأشياء ، فيستعين بمن يعرفها ويطيب قلبه بما اشتراه وزيادة(1)
ولئن وردت هذه العبارة في بيع المرابحة إلا أنها صالحة للاستدلال بها بذات القدر في بيع المرابحة للآمر بالشراء .
3 ـ صورة بيع المرابحة للآمر بالشراء وتعريفه:
1ـ يطلب أحد المتعاقدين ( الآمر بالشراء) من الآخر ( المأمور أو المطلوب منه ) شراء سلعة مسماة بعينها أو بوصفها .
2ـ يعد الآمر بالشراء ، أنه متي اشتري المأمور السلعة فانه أي الآمر :
- سيقوم بشرائها منه ،
- وسيربحه فيها .
__________
(1) الاختيار لتعليل المختار 2/39 نقلاً عن كتاب المرابحة أصولها وأحكامها للدكتور / أحمد علي عبد الله ص .24(1/35)
3 - إذا قبل المأمور الطلب فعليه أن يقوم بشراء السلعة المطلوبة حتى تؤول بموجب ذلك ملكية السلعة له .
4- إذا ملك المأمور السلعة فعليه أن يعرضها علي الآمر بالشراء وفقاً لشروط الاتفاق الأول بينهما .
5- عند عرض السلعة علي الآمر ، يكون له ـ علي الصحيح ـ الخيار في أن يعقد عليها بيعاً بناء علي وعده الأول أو أن يعدل عن شرائها .
6- إذا اختار الآمر بالشراء إمضاء البيع ، ينعقد عندئذ البيع علي سلعة مملوكة للمأمور ( البائع) وعندئذ فقد يحرر عقد البيع .
وإذا عدل الآمر عن شرائها تبقي السلعة في ملكية المأمور مؤكدة بذلك أن المأمور كان يتعامل في سلعة مملوكة له حقيقة .
7- التعريف : عرف بيع المرابحة للآمر بالشراء علي الصحيح بما يلي :
هو البيع الذي يتفاوض ويتفق فيه شخصان أو أكثر ثم يتواعدان علي تنفيذ الاتفاق يطلب بمقتضاه الآمر من المأمور : شراء سلعة معينة أو موصوفة لنفسه ، ويعده بشراء السلعة منه وتربيحه فيها علي أن يعقدا ذلك بيعاً جديداً بعد تملك المأمور للسلعة ، إذا اختار الآمر إمضاء الاتفاق .
مشروعية بيع المرابحة للآمر بالشراء :
المرابحة للآمر بالشراء وفقاً للتعريف والتصور أعلاه تجوز بناء علي الإباحة الأصلية للبيع وهي من الصيغ التي عرفها الفقه الإسلامي مبكراً وتناولتها المذاهب الفقهية وبينت أحكامها وشروط صحتها . ومن الذين أجازوا هذا البيع :
1- الإمام محمد بن الحسن الشيباني والإمام الشافعي ، والإمام جعفر الصادق ، وورد جوازه في الموطأ وفي متن خليل وشروحه وحواشيه من كتب المالكية(1)
2- كل الذين أجازوا بيع المرابحة للآمر بالشراء من الاقدمين اشترطوا لصحته عدم إلزام الأمر بوعده . وجعلو له الخيار في إمضاء البيع المتواعد عليه أو رده عندما يمتلك المأمور السلعة ويعرضها عليه .
بيع المرابحة للآمر بالشراء مع الإلزام وعدمه :
__________
(1) كتاب المرابحة أصولها وأحكامها . الدكتور / أحمد علي عبد الله ص. 180 ـ189.(1/36)
المرابحة للآمر بالشراء قد تكون مع إلزام الواعد بوعده ، أو مع عدم إلزامه ، واشترط الذين قالوا بصحة هذا البيع من الاقدمين عدم إلزام الآمر بوعده ، وانتهي مجمع الفقه الإسلامي الدولي موخراً لذات الحكم ، ولذلك مُنح الآمر بالشراء الخيار في شراء السلعة أو العدول عنها عند عرضها عليه من قبل المأمور ، وقال المتقدمون بعدم لزوم الوعد حتي لا تفضي هذه المعاملة لبيع ما ليس عند الإنسان المنهي عنه ، وأجاز بعض المعاصرين بيع المرابحة للآمر بالشراء مع الإلزام بالوعد . وليس العمل في السودان .
أحكام المرابحة للآمر بالشراء مع عدم الإلزام بالوعد :
1- صورة بيع المرابحة للآمر بالشراء الواردة في الفقرة السابقة تمثل إجراءات بيع المرابحة للآمر بالشراء حتي انعقاد العقد .
2- إذا اشترط علي الآمر بالشراء أن يدفع أول قسطاً أول ، يجب أن يكون الدفع بعد توقيع العقد ، ويكون القسط عندئذ جزاءً من ثمن هذا البيع .
3- لا يجوز في بيع المرابحة للآمر بالشراء معد عدم الإلزام بالوعد ما يعرف بهامش الجدية . ولا الدفع المقدم علي انعقاد البيع .
4- علي المأمور أن يقوم بشراء السلعة وتملكها علي نحو يحير له أن يبيعها للآمر بالشراء .
5- القبض الذي يتحقق به هذا المعني هو القبض الحقيقي أو الحكمي .
- القبض الحقيقي : هو قبض السلعة علي نحو يستند فيه المالك أو من ينيبه بالتصرف فيها ، وذلك .
بتخيله البائع بينه وسلعته ، أو
بحيازتها ونقلها إلي مكان حفظها ،
بكل ما يعتبره العرف قبضاً .
- القبض الحكمي : وهو القبض الذي يتحقق به للمالك غالب ما يتحقق بالقبض الحقيقي .
كمستندات الشحن في التجارة العالمية.
ومستندات التخزين في المخازن المدارة بأسس قانونية .
المطلب الثاني
نماذج العقود الصادرة من
الهيئة العليا للرقابة الشرعية
للجهاز المصرفي والمؤسسات المالية
(1) نموذج عقد بيع المرابحة
ابرم هذا العقد في :ـ(1/37)
اليوم ................. من شهر ................ سنة.....................14هـ
اليوم ................. من شهر ................ سنة.........................2م
بين كل من :ـ
أولا : السيد/ السادة ........................ فرع .............................
ويسمي فيما بعد لأغراض هذا العقد بالبنك ( طرف أول)
بما أن البنك يمتلك .................................................................
............................................................................................................................................................................
وحيث إن الطرف الثاني طلب شراء البضاعة المذكورة عن طريق بيع المرابحة فقد ابرما بينهما العقد علي النحو الأتي :
باع البنك للطرف الثاني ..........................................................
................................................................................................................................................................................................................................................................
يمثل هذا المبلغ ثمن الشراء .................................................. وقدره
مبلغ ..................... زائداً المصروفات وقدرها مبلغ .................. زائداً الربح وقدره مبلغ ...............................................................................
قبل الطرف الثاني شراء البضاعة المذكورة .................................................
يقر الطرف الثاني بأنه قد عاين..............................................................
ووجدها خالية من العيوب .
يلتزم الطرف الثاني بدفع ثمن البيع المنصوص عليه في البند (1) من هذا العقد علي النحو التالي :ـ
((1/38)
أ) يدفع (%) من ثمن البيع عند التوقيع علي هذا العقد.
(ب) والباقي علي:
1/ قسط واحد مقداره ..............................................................
في يوم.................... شهر ................... سنة.........................
2/أقساط كالأتي:ـ
القسط ... المبلغ المستحق ... التاريخ
......................... ... ....................... ... .......................
........................ ... ........................ ... ........................
........................ ... ........................ ... ........................
........................ ... ........................ ... ........................
........................ ... ........................ ... ........................
........................ ... ........................ ... ........................
........................ ... ........................ ... ........................
......................... ... ........................ ... ........................
تدفع الإقساط المذكورة أعلاه بموجب شيكات يحررها الطرف الثاني باسم البنك ويسلمها للبنك بعد توقيع هذا العقد مباشرة .
علي الطرف الثاني تقديم ضمان مصرفي / عقاري/ شخصي ، مقبول للبنك يضمن قيام الطرف الثاني بسداد كل الإقساط المستحقة عليه للبنك في مواعيدها المحددة بموجب هذا العقد .
إذا فشل العميل في سداد أي قسط من الإقساط تعتبر بقية الإقساط واجبة السداد ويحق للطرف الأول التصرف في الضمان .
تؤمن البضاعة تاميناً شاملاً ضد كل الإخطار بواسطة الطرف الثاني لدي شركة تأمين مقبولة للبنك ولصالحه .
إذا فشل أو امتنع الطرف الثاني عن تسليم البضاعة أو أي جزء منها بعد التوقعي علي هذا العقد في مدة أقصاها ................................. يمهله البنك مدة
................................(1/39)
فإذا لم يتسلم الطرف الثاني البضاعة في أثناء المدة يحق للبنك بيع البضاعة بسعر السوق وبالكيفية التي يراها مناسبة لاستيفاء حقوقه بموجب هذا العقد كما يجوز له مطالبة الطرف الثاني بالتعويض عن أي ضرر يلحق به من جراء ذلك .
إذا نشاء نزاع حول هذا العقد يجوز برضا الطرفين أن يحال ذلك النزاع إلي لجنة تحكيم تتكون من ثلاثة محكمين يختار كل طرف محكماً واحداً منهم ، ويتفق الطرفان علي المحكم الثالث الذي يكون رئيساً للجنة التحكيم ، وفي حالة فشل الطرفين في الاتفاق علي المحكم الثالث ، أو عدم قيام الأمر للمحكمة المختصة لتقوم بتعيين ذلك المحكم أو المحكمين المطلوب اختيارهم .
تعمل لجنة التحكيم حسب أحكام الشريعة الإسلامية وتصدر قراراتها بالأغلبية العادية وتكون هذه القرارات نهائية وملزمة للطرفين .
وقع عليه وقع عليه
ع/ البنك
( الطرف الأول ) ( الطرف الثاني)
الشهود :
1/................................ 2 /...............................
(2) نموذج عقد بيع المرابحة للآمر بالشراء
ابرم هذا العقد في:ـ
اليوم ......................... من شهر ............. سنة .................14هـ
اليوم ..........................من شهر .............. سنة...................19م
بين كل من :ـ
أولا: السادة بنك ................................ فرع ..............................
ويسمي فيما بعد لأغراض هذا العقد بالبنك ( طرف أول)
ثانياً : السيد/ السادة ..................................................................
ويسمي فيما بعد لأغراض هذا العقد بالطرف الثاني
بما أن الطرف الثاني قد تقدم للبنك طالباً منه شراء ...................................
..................................................................................................................................................................................................................................................................(1/40)
وبيعه / بيعها له عن طريق بيع المرابحة للآمر بالشراء ووعد البنك بشراء...........
....................................... وبيعه/ وبيعها للطرف الثاني .
وبما أن البنك قد قام بشراء ........................................... بموجب عقد البيع / الفاتورة/ المستند المرفق وعرضه/ عرضها علي الطرف الثاني الذي قبل شراءه / شراءها فقد ابرما بينهما عقد بيع بالمرابحة علي النحو التالي :ـ
عرض البنك بيع.................................................................
......................................................................................
ليمثل هذا المبلغ ثمن شراء البنك.....................................................
وقدره مبلغ...........................................................................
زائداً المصروفات وقدرها مبلغ......................................................
زائدا ربح البنك وقدره مبلغ .........................................................
قبل الطرف الثاني شراء ......................................... بالمبلغ المذكور
يقر الطرف الثاني بأنه قد عاين .................................................
...................................................... وأنها خالية من كل العيوب .
يلتزم الطرف الثاني بدفع ثمن البيع المنصوص عليه في البند(1) من هذا العقد علي النحو التالي:ـ
(أ) يدفع ( %) من ثمن البيع عند التوقيع علي هذا العقد .
(ب) والباقي علي :ـ
1/ قسط واحد مقداره ................................................................
في يوم..................... شهر ..................... سنة.........................
2. أقساط كالأتي:
القسط ... المبلغ المستحق ... التاريخ
......................... ... ....................... ... .......................
........................(1/41)
... ........................ ... ........................
........................ ... ........................ ... ........................
........................ ... ........................ ... ........................
........................ ... ........................ ... ........................
........................ ... ........................ ... ........................
........................ ... ........................ ... ........................
......................... ... ........................ ... ........................
تدفع الإقساط المذكورة أعلاه بموجب شيكات يحررها الطرف الثاني باسم البنك ويسلمها للبنك بعد توقيع هذا العقد مباشرة .
علي الطرف الثاني تقديم ضمان مصرفي / عقاري/ شخصي ، مقبول للبنك يضمن قيام الطرف الثاني بسداد كل الإقساط المستحقة عليه للبنك في مواعيدها المحددة بموجب هذا العقد .
إذا فشل العميل في سداد أي قسط من الإقساط تعتبر بقية الإقساط واجبة السداد ويحق للطرف الأول التصرف في الضمان .
تؤمن البضاعة تاميناً شاملاً ضد كل الإخطار بواسطة الطرف الثاني لدي شركة تأمين مقبولة للبنك ولصالحه .
إذا فشل أو امتنع الطرف الثاني عن تسليم البضاعة أو أي جزء منها بعد التوقعي علي هذا العقد في مدة أقصاها ................................... يمهله البنك مدة
............................ فإذا لم يتسلم الطرف الثاني البضاعة في أثناء المدة يحق للبنك بيع البضاعة بسعر السوق وبالكيفية التي يراها مناسبة لاستيفاء حقوقه بموجب هذا العقد كما يجوز له مطالبة الطرف الثاني بالتعويض عن أي ضرر يلحق به من جراء ذلك .(1/42)
إذا نشاء نزاع حول هذا العقد يجوز برضا الطرفين أن يحال ذلك النزاع إلي لجنة تحكيم تتكون من ثلاثة محكمين يختار كل طرف محكماً واحداً منهم ، ويتفق الطرفان علي المحكم الثالث الذي يكون رئيساً للجنة التحكيم ، وفي حالة فشل الطرفين في الاتفاق علي المحكم الثالث ، أو عدم قيام الأمر للمحكمة المختصة لتقوم بتعيين ذلك المحكم أو المحكمين المطلوب اختيارهم .
تعمل لجنة التحكيم حسب أحكام الشريعة الإسلامية وتصدر قراراتها بالأغلبية العادية وتكون هذه القرارات نهائية وملزمة للطرفين .
وقع عليه ... ... ... ... وقع عليه
... ... ع/ البنك
( الطرف الأول ) ... ... ... ( الطرف الثاني)
الشهود :
1/................................
2/...............................
المطلب الثالث
منشورات مؤشر الأرباح الصادرة من هيئة الرقابة الشرعية
هذا المنشور يتعلق بتوضيح الأرباح وجاء فيه :-
1/ حساب مؤشر أرباح البيع الأجل والمرابحة والمرابحة للأمر بالشراء :-
الأصل الذي ينبني عليه هامش الربح في البيع المؤجل هو القاعدة الفقهية (للزمن حصة من الثمن) وتفيد هذه القاعدة انه يجوز ان يكون للزمن اعتبار في تحديد الثمن في عقد البيع .
هذه القاعدة متفق عليها عند جمهور الفقهاء بما فيهم المذاهب الأربعة ، وعليه :
1.إذا فرض البنك المركزي هامش ربح محدد في العام ولنقل انه 12% فان هذه النسبة :
أ. تحسب كاملة علي التمويل الذي يدفع في نهاية العام دفعة واحدة .
ب. يحسب نصفها (6%) إذا دفع التمويل كله في نصف العام .
جـ. يحسب ربعها (3%) إذا دفع كاملاً في ربع العام .
د. تحسب (1%) إذا دفع التمويل في شهر .
2. إذا دفع التمويل مقسطاً فلا بد من مراجعة هامش الربحية بحيث يستوعب مضمون القاعدة وفقاً للزمن الذي يمكثه التمويل (الثمن) عند المشتري .
أ. فالمشتري الذي يدفع جزءاً من الثمن مقدماً عند التعاقد ثم يواصل الدفع بأقساط شهرية يدفع الحد الأدنى لهامش الربح .(1/43)
ب. الذي يدفع اقساطا شهرية دون أن يدفع قسطاً مقدماً يدفع ربحاً يراعي فيه الدفع الشهري ولكنه سيكون اعلي مما يطلب به المشتري في (أ) الذي دفع فوق ذلك قسطاً مقدماً .
ج. والذي يدفع اقساطاً دورية كل شهرين أو ثلاثة اشهر يدفع نسبة ربح اعلي من الذي يدفع اقساطاً شهرية وهكذا تتدرج القاعدة .
توقيع
د. احمد علي عبد الله
الأمين العام للهيئة العليا للرقابة الشرعية
للجهاز المصرفي والمؤسسات المالية
14 ذو الحجة 1417 هـ
21 ابريل 1997م
2/ قاعدة او مؤشر لحساب أرباح البيع الأجل والمرابحات والمرابحات للأمر بالشراء
بناء علي ما نصت عليه القاعدة الفقهية (للزمن حصة من الثمن في البيع) ولتحقيق العدالة المنشودة من هذه القاعدة وبناء علي افتراضات ثلاث ، فانه يمكن وضع قاعدة تؤخذ او مؤشر يساعد البنوك في حساب أرباح البيع لأجل عموماً والمرابحات والمرابحات في الأمر بالشراء حسب المتغيرات المتعلقة بفترة السداد التي يمكن فيها دفع مقدم والتي لا يكون فيها دفع مقدم بناء علي الافتراضات التالية :-
1. الدفع المقدم يبلغ 25% من حجم التمويل .
2. هامش الربح المحدد في العام 36% بواقع 3% شهرياً .
3. هامش الربح علي الدفع المقدم 1.5 أي بنسبة 5% من الهامش للشهر .
اولاً : التمويل لفترات متفاوتة ويتم السداد في نهاية تلك الفترات
فترة التمويل ... عدد الأقساط ... متوسط هامش الربح مع الدفع المقدم ... متوسط هامش الربح بدون دفع مقدم
1/ تمويل لمدة عام ... قسطاً واحداً ... .375 % ... %
2/ تمويل لمدة (9) اشهر ... " ... .625 % ... %
3/ تمويل لمدة (6) اشهر ... " ... .875 % ... %
4/ تمويل لمدة (3) اشهر ... " ... .125 % ... %
ثانياً : التمويل لفترات متفاوتة والسداد بأقساط شهرية متساوية
فترة التمويل ... عدد الأقساط ... متوسط هامش الربح مع الدفع المقدم ... متوسط هامش الربح بدون دفع مقدم
1/ تمويل لمدة عام ... قسطاً ... % ... .5%
2/ تمويل لمدة (9) اشهر ... أقساط ... % ... %
3/ تمويل لمدة (6) اشهر ... أقساط ... .25% ... .5 %(1/44)
4/ تمويل لمدة (3) اشهر ... أقساط ... % ... %
ثالثاً : التمويل لمدة عام والسداد لفترات متفاوتة بأقساط متساوية
فترة التمويل ... عدد الأقساط ... متوسط هامش الربح مع الدفع المقدم ... متوسط هامش الربح بدون دفع مقدم
1/ سداد كل 3 اشهر ... أقساط ... .187 % ... .5%
2/ سداد كل 4 اشهر ... أقساط ... .375 % ... %
3/ سداد كل 6 اشهر ... قسطان ... .625 % ... 7 %
4/ سداد كل 12 اشهر ... قسط واحد ... .5 % ... %
خاتمة البحث :
وبعد فاني اختم هذا البحث المتواضع المجمل في هذه النقاط الموجزة :-
1. أجمعت الأمة علي جواز البيع والتعامل به فقد أحل الله تعالي وبين الرسول الكريم صلي الله عليه وسلم إن من أفضل الكسب كل بيع مبرور .
2. اجمع العلماء علي إن البيع صنفان مساومة ومرابحة وان المرابحة هي البيع براس المال وربح معلوم .
3. وأجاز العلماء بيع المرابحة لأمر بالشراء وهو بيع يتفق فيه شخصان او أكثر علي تنفيذ الاتفاق يطلب فيه الأمر من المأمور شراء سلعة معينة او موصوفة بوصف معين ويعده بشراء السلعة معه وتربيحها فيها علي أن يعقدا بعد ذكر عقداً بالبيع .
4. اختلف العلماء في حكم الوعد في بيع المرابحة للأمر بالشراء منهم من قال انه وعد غير ملزم ومنهم من قال بإلزامه والقضاء به إذا دخل المأمور في التزام مالي تنفيذاً لما وعد به وبالتالي يكون الأمر ملزماً بالتعاقد قضاءً حتى لا يضار المأمور وهو ما رجحه الباحث .
5. أجاز العلماء البيع بثمن حال ومؤجل إذا كان الأجل معلوماً .
6. قال العلماء ان البيع مع تأجيل الثمن وتقسيط صحيح ويلزم ان تكون المدة معلومة في البيع بالتأجيل و التقسيط .
7. أجاز العلماء بان الثمن إذا كان مؤجلاً يزاد في الثمن من اجل التأجيل لان للأجل حصة من الثمن .
8. إذا حل الأجل بوفاة المدين يسقط من الزيادة بقدر ما بقي من مدة الأجل .
9. من صور التمويل في القروض المصرفية بيع المرابحة وبيوع التقسيط .(1/45)
10. لإنجاح تجارب المصارف للعمل بالصيغ الشرعية في التمويل المصرفي وجود هيئات رقابة شرعية في كل مصرف .
11. الصيغ الشرعية في التمويل المصرفي كانت البديل الشافي المبارك لتجنب ويلات الربا ومضاره .
وانهي هذا البحث بما بدأت به بحمد الله تعالي واسأله أن يوفقني وان يوفق الجميع علي السير في طريق العاملين علي خدمة كتابة المبين وسنة رسوله الكريم وصلي اللهم وسلم وبارك علي سيدنا محمد وعلي اله وصحبه أجمعين .
فهرسة المراجع
1. تفسير القران الكريم لإسماعيل بن كثير القرشي .
2. الموطأ – مالك بن انس
3. مسند الإمام احمد – احمد بن حنبل
4. صحيح البخاري – ابو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري .
5. سنن ابي داود – أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني .
6. سنن الترمزي- (الجامع الصحيح) ابو عيسي محمد عيسي بن سورة السلمي .
7. السنن الكبري – ابو بكر احمد بين الحسين بن علي البيهقي .
8. فتح الباري يشرح صحيح البخاري – ابن حجر العسقلاني .
9. فيض القدير شرح الجامع الصغير محمد عبد الرؤوف المناوي .
10. الهداية – علي بن ابي بكر بن عبد الجليل الحرغيناني .
11. فتح القدير شرح علي الهداية – كمال الدين محمد بن عبد الواحد بن الهمام .
12. الأشباه والنظائر علي مذهب ابي حنيفة زين العابدين بن ابراهيم بن نجيم المصري .
13. رد المختار علي الدر المختار – محمد امين بن عمر عابدين الشهير بابن عابدين .
14. العقود الدرية في تنقيح الفتاوي الحامدية – لابن عابدين .
15. مجلة الأحكام العدلية - وهي تحتوي علي القوانين الشرعية والأحكام العدلية المطابقة – حررتها لجنة مؤلفة من العلماء المحققين في الفقه الحنفي .
16. المدونة الكبرى – رواية سحنون بن سعيد التنوفي عن الإمام عبد الرحمن بن القاسم .
17. بداية المجتهد ونهاية المقتصد – ابو الوليد بن احمد بن محمد بن احمد بن رشد القرطبي المشهور بابن رشد الحفير .(1/46)
18. الفروق – شهاب الدين ابو العباس احمد بن ادريس بن عبد الرحمن الصنهاجي المشهور بالقرافي .
19. ادرار الشروق علي أنوار الفروق – ابو القاسم بن عبد الله الأنصاري المعروف بابي الشاط .
20. مختصر العلامة خليل – خليل ين إسحاق بن موسي .
21. تحرير الكلام في مسائل الالتزام محمد بن عمر بن عبد الرحمن الحطاب (منشورة في كتاب فتح العلي المالك) .
22. شرح الزرقاني علي مختصر خليل – عبد الباقي بن يوسف بن احمد الزرقاني .
23. شرح الخرشي علي مختصر خليل – ابو عبد الله الخرشي .
24. فتح العلي المالك في الفتوي علي مذهب الإمام مالك – محمد عليش .
25. الام – ابو عبد الله محمد بن ادريس الشافعي .
26. المهذب في فقه الامام الشافعي – ابو إسحاق ابراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي .
27. القواعد في الفروع – بدر الدين ابو عبد الله محمد بين عبد الله بن بهادر الزركشي (مخطوط) .
28. اسني المطالب شرح روض الطالب ابو يحي زكريا محمد الانصاري .
29. نهاية المحتاج الي شرح المنهاج شمس الدين محمد بن ابي العباس احمد بن حمزة بن شهاب الدين الرملي الشهير بالشافعي الصغير .
30. حاشية علي شرح الجلال المحل علي المنهاج (قليوس وعميرة) – احمد بن احمد بن سلام القليوي .
31. مختصر الخرق مع المغني – ابو القاسم عمر بن الحسين الخرقي .
32. المغني – ابو محمد عبد الله بن احمد بن محمد بن قدامة المقدسي .
33. الفتاوي الكبري – سيخ الاسلام ابو العباس تق الدين احمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن ابي القاسم الخضر النميري الحراني الدمشقي المعروف بابي تميمة .
34. الانصاف في معرفة الراجح من الخلاف عن مذهب الإمام احمد بن حنبل – علاء الدين ابو الحسن علي بن سليمان المرداوي الحنبلي .
35. كشاف القناع عن مثن الاقناع – منصور بن يونس بن ادريس البهوني .
36. المحل – ابو محمد علي بن احمد بن سعيد بن حزم الظاهري .(1/47)
37. الأحكام في أصول الإحكام – ابن حزم الأندلسي الظاهري .
38. فقه السنة – للشيخ سيد سابق .
39. المدخل للفقه الإسلامي – للدكتور عيسوي احمد عيسوي .
40. تاثير الموت في حقوق الإنسان والتزاماته – الشيخ علي الخفيف مجلة القانون والاقتصاد المصرية 1940م .
41. التركة والحقوق المتعلقة بها – الشيخ احمد ابراهيم – مجلة القانون والاقتصاد المصرية 1931م .
42. المرابحة أصولها وأحكامها – الدكتور احمد علي عبد الله .
43. المراشد الفقهية الصادرة عن الهيئة العليا للرقابة الشرعية للجهاز المصرفي والمؤسسات المالية – جمهورية السودان – بنك السودان .
44. ... الذمة والحق والالتزام وتأثيرها بالموت في الفقه الإسلامي – الدكتور المكاشفي طه الكباشي(1/48)
تجديد فقه السياسة الشرعية
إعداد
الدكتور عبدالمجيد النجار
بحث مقدم
للدورة السادسة عشرة للمجلس - اسطنبول
جمادى الأخرة 1427 هـ / يوليو 2006 م
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد
إنّ التراث الفقهي الإسلامي ضلّ على الدوام حاضرا في حياة المسلمين، مؤثّرا في توجيهها تأثيرا بالغا، ومهما يحدث من اجتهاد في الفقه وتجديد في الدين، فإنّ التراث تبقى له مكانته المرموقة في صياغة تديّن المسلمين في مختلف العصور، ومن بينها العصر الحاضر، بل كثيرا ما يتمّ الاجتهاد والتجديد في نطاقه، نظرا فيه بالتخيّر والترجيح حسبما تتطلّبه مقتضيات الظروف، أو تطويرا لبعض الاجتهادات فيه وفق ما تكشف عنه مستجدّات العلوم الكونية والإنسانية؛ ولذلك فإنّ المراجع الفقهية لكبار الأئمّة تكون دوما هي المنطلق الأساسي لكلّ نظر اجتهادي فقهي، فيكون التراث الفقهي إذن عاملا مؤثّر إن لم يكن الأكبر تأثيرا في توجيه حركة التديّن، وهو واقع الحال في الواقع الراهن للمسلمين.
وبالرغم من أنّ الفقه السياسي من بين التراث الفقهي هو الحلقة الأضعف فيه من حيث التوسّع والشرح والتفصيل لأسباب سنشرحها لاحقا، إلا أنّه هو أيضا ضلّ يؤثّر في العقلية السياسية الإسلامية عبر الأجيال إلى يومنا هذا، وربما كان بعض من هذا التأثير حاصلا بصفة تلقائية غير مقصودة، وذلك بطريق الترسّب الثقافي العامّ، وهكذا نجد على سبيل المثال كيف أنّ مؤسّسة الرئاسة تستولي على سلطات واسعة تعلو بها عن المحاسبة، سواء كانت متمثّلة في رئاسة الدولة أو في رئاسة المنظّمات والمؤسّسات، فذلك إنما نحسب أنه من تأثير ما منحه الفقه السياسي الإسلامي لهذه المؤسّسة من نفوذ واسع، وما جرى عليه الواقع بذلك عبر حقب متطاولة من الزمن.(1/1)
لقد بقي الفقه السياسي الإسلامي أقلّ أبواب الفقه تطوّرا وتجديدا، فهو يكاد يكون قد حافظ على ما أنتجه فقهاء السياسة الشرعية في القرن الرابع للهجرة، إذ قد ظلّت المؤلّفات بعد ذلك تراوح ما ألّفه أولئك الفقهاء مع إضافات قليلة، والباحثون المحدثون في هذا الشأن لئن طوّروا أسلوب العرض وبعض المصطلحات في السياسة الشرعية، وراجعوا بعض الأحكام بنظر اجتهادي، فإنهم لم يتناولوا جوهر القضايا السياسية باجتهاد يبني هذا العلم بناء جديدا سوى محاولات قليلة في هذا الشأن، وإذن فإنّ تأثير التراث الفقهي السياسي في المسلمين اليوم كان تأثيرا بمفاهيم واجتهادات أُنتجت قبل ألف عام بما تحمله من خضوع سلبي للواقع السياسي الذي أُنتجت فيه، بل بما تحمله في بعض القضايا من مجافاة للأصول الدينية من قرآن وسنّة، فإذا هي تؤدّي في حالات كثيرة إلى مسالك سياسية بيّنة الخطل، سيّئة النتائج، بالرغم من أنّها مسالك يسلكها متديّنون يحملون راية التجديد في الدين، وذلك سواء كانوا حركات إسلامية أو كانوا حكومات تحكم باسم الدين.
والمسلمون في أوروبا بحكم تنامي حجمهم العددي وأيلولة أوضاعهم إلى حال المواطنة فإنهم أصبحوا ينزعون إلى المشاركة السياسية مثل سائر المواطنين، وبما أنّهم يحملون في وضعهم هذا شطرا مهمّا من المفاهيم والمبادئ المترسّبة من إرثهم الثقافي القائم على أساس فقهي فإنهم مرشّحون مثل سائر المسلمين لأن تكون تصوّراتهم السياسية موصولة هي أيضا بالموروث من فقه السياسة الشرعية بما يتخلّله من ضعف، وما بني عليه من أحكام تجاوزها الزمن فانتهت صلاحيتها، وحينئذ فإنّ هذه المشاركة السياسية في مجتمع قطع في الفقه السياسي الوضعي مراحل متقدّمة جدا في الكثير من القضايا الكبرى سوف تكون مشاركة تحمل في ذاتها بذور فشلها، فضلا عن أن تكون مشاركة حضارية تحمل أنموذجا يضيف جديدا نافعا وفق ما أصبح الوجود الإسلامي يطرحه من شعار له في المرحلة المقبلة.(1/2)
ولهذا السبب فإنّ البحث في المشاركة السياسية للأقليات المسلمة في المجتمع الأوروبي ينبغي فيما نحسب أن يتأسّس على مراجعة للكثير من القضايا في الفقه السياسي الإسلامي مراجعة يقع فيها نخل تلك القضايا لتستبين فيها الحقيقة التي أسّستها نصوص الدين، وتتحرّر من الملابسات التي أحاطت بها تحت ضغوط الواقع زمن نشأة الفقه السياسي، ثم لتستفيد من الكسب الإنساني في هذا المجال حيث شهد علم السياسة تطوّرا كبيرا خلال القرن الماضي. وهذا ما نحاول التطرّق إليه في هذه الورقة، بدء بتقييم عامّ سريع للفقه السياسي الإسلامي، ومرورا بوضع أسس لمراجعة هذا الفقه، وانتهاء بنماذج لجملة من القضايا في هذا الفقه السياسي نقترح فيها طريقة للمراجعة. وسنعرض ذلك من خلال مبحثين، يتناول أولهما وصف الفقه السياسي، ويتناول الثاني نماذج من قضايا فقهية سياسية معروضة للمراجعة.
المبحث الأول
الفقه السياسي وضرورة المراجعة
ظلّت العلوم الإسلامية طيلة تاريخها تخضع للمراجعة من قِبل المتخصصين فيها من العلماء، وهي تلك المراجعة التي ينظر فيها اللاحق فيما أنتجه السابق، فيتناوله بالتمحيص، ويلائم بينه وبين مقتضيات ما استجدّ من أوضاع المسلمين، لينتهي إلى تعديل ما ينبغي تعديله، وإضافة ما ينبغي إضافته، وربّما إسقاط ما ينبغي إسقاطه، وبسبب ذلك نرى هذه العلوم تتطوّر باطّراد في كمّها وفي كيفها، ومهما يأتي عليها من زمن تخلد فيه إلى الركود، فإنها لا تلبث أن تنبعث فيها الحياة من جديد، وذلك بفعل هذه الفلسفة التي انبت عليها الثقافة الإسلامية في تطوّر العلوم، وهي فلسفة المراجعة المستمرّة من أجل التطوير والتنمية لمجابهة ابتلاءات الواقع.(1/3)
ولذلك فإنّ الدعوة إلى مراجعة علم فقه السياسة الشرعية على النحو الذي نبيّنه في هذه الورقة هي دعوة تندرج ضمن السياق العامّ لفلسفة العلوم الإسلامية، إذ لما حفّت بهذا الفقه ظروف تاريخية حالت دون أن يندرج ضمن سياق المراجعة مثل سائر العلوم الأخرى، فإنّ الوضع السياسي للمسلمين بصفة عامّة، والوضع السياسي للأقليات المسلمة بصفة خاصّة يقتضي أن تأخذ تلك المراجعة مجراها ليصبح فقه السياسة الشرعية مسهما إسهاما حقيقيا في تطوير الحياة السياسية للمسلمين، ومرشّدا للأقلّيات المسلمة فيما هي مقبلة عليه من المشاركة السياسية في المجتمع الأوروبي.
1 ـ واقع الفقه السياسي الإسلامي.
إنما المطلوب من الفقه عامّة والفقه السياسي ضمن ذلك هو أن يكون هذا الفقه مرشدا للحياة الواقعية للمسلمين كي تتوجّه بما تقتضيه الأحكام الدينية، وبما أنّ الحياة بصفة عامّة والحياة السياسية بصفة خاصّة متطوّرة أحوالها مستأنفة ابتلاءاتها، فإنّ الفقه السياسي مطلوب منه أن يكون مواكبا لتلك التطورات، مجيبا على تلك الابتلاءات، خاصّة وأنّ النصوص القطعية في هذا الشأن محدودة جدا، وهو ما يقتضي أن يكون مجال المتابعة الفقهية لمتجدّدات الأوضاع مجالا واسعا. ولكنّ الناظر في الفقه السياسي الإسلامي كما وصلتنا صورته التراثية، وكما هو معروض اليوم يجد أنّ هذا الفقه يستقرّ على واقع لا يقدر به على متابعة التطورات السياسية للمسلمين، والإجابة على ما تطرحه تلك التطورات من الأسئلة، وهو ما يقتضي نظرا تجديديا في هذا الفقه يعدّل وضعه ليكون فاعلا في مسايرة الحياة السياسية للمسلمين وتوجيهها نحو سمتها الديني الصحيح.
أ ـ الفقه السياسي والواقع(1/4)
إذا كان الفقه الإسلامي بصفة عامّة قد أصابه بعد فترة من ازدهاره حال من الجمود تعطّل فيه الاجتهاد وتوقّف التجديد لزمن غير قصير، فإنّ الفقه السياسي بصفة خاصّة قد أصابه من ذلك الحظّ الأوفر، سواء من حيث الفترة الزمنية التي استمرّ فيها الجمود، أو من حيث شدّة التجمّد وتعطّل الاجتهاد، حتى ليمكن القول إنّ هذا الفقه ما يزال إلى حدّ الآن في شطر كبير منه يرسف في قيود الماضي دون أن تناله حركة الاجتهاد بما يتّجه به إلى التجديد الفاعل سوى استثناءت قليلة، في حين حرّك الاجتهاد فروعا عديدة من فروع الفقه الأخرى ممّا أفضى إلى تجديد مثمر في تلك الفروع.(1/5)
إنّ ما جاء في كتاب الأحكام السلطانية للماوردني من أحكام فقهية في السياسة الشرعية يُعتبر هو المؤسّس الأكبر للفقه السياسي الشرعي، وهو عين ما جاء ترديده في المؤلفات المتعلقة بهذا الشأن فيما عرف بالمؤلفات في فقه السياسة الشرعية مع اختلافات غير جوهرية تتعلق بهذه المسألة أو تلك من المسائل الفقهية السياسية، وقد ظلّ ذلك مستصحبا إلى عصرنا هذا(1). وإذا كانت قد ظهرت منذ بعض الزمن بحوث ودراسات فقهية شرعية تنحو منحى تجديديا يسعى إلى أن يتصدّى للجواب على الأسئلة المطروحة اليوم على المسلمين في الشأن السياسي(2)إلاّ أن ذلك لم تصبح بعد منحى عامّا لفقه السياسة الشرعية، حتى ليمكن أن يقال إنّ هذا الفقه بصفة عامّة ما زال يعاني من القصور في أداء مهمّته، وفي معالجة المشاكل الواقعية، وذلك جرّاء انشداده إلى الماضي أكثر من تفاعله مع الواقع واستشرافه للمستقبل.
إن الواقع الراهن للفقه السياسي عدا بعض الاستثناءات التي أشرنا إليها يردّد نفس المقولات التي نشأت منذ أكثر من ألف عام، سواء من حيث المحتوى أو من حيث التعابير والمصطلحات، فإذا الهوّة بينه وبين الواقع السياسي الذي يجري عليه حال الأمّة تزداد اتّساعا، وإذا التأثير الذي من المفروض أن يكون هذا الفقه في ذلك الواقع يكاد يكون معدوما، وهو ما نشأ عنه خلل كبير في الحياة السياسية للأمّة يفوق في حجمه وسلبيته ما يصيب الجوانب الأخرى في حياتها من الأخلال.
__________
(1) راجع على سبيل المثال: محمود شاكر ـ موضوعات حول الخلافة والإمارة.
(2) نذكر من هذه البحوث على سبيل المثال: محمد ضياء الدين الريس ـ النظريات السياسية الإسلامية. يوسف القرضاوي ـ من فقه الدولة في الإسلام. محمد سليم العوا ـ في النظام السياسي للدولة الإسلامية. راشد الغنوشي ـ الحريات العامة في الدولة الإسلامية. حسن الترابي ـ السياسة والحكم.. محمد أمزيان ـ في الفقه السياسي.(1/6)
إنّ الحياة السياسية للمسلمين تجري في عمومها منذ قيام الدولة الحديثة على نمط من المبادئ السياسية للثقافة الغربية، فقد شهدت هذه الثقافة تطورا كبيرا في العلوم السياسية، سواء من حيث المبادئ والقيم، أو من حيث الآليات والإجراءات. وإذا كانت هذه العلوم السياسية تشتمل على أفكار كثيرة لا تتعارض مع الفلسفة السياسية الإسلامية وخاصة فيما يتعلّق منها بالآليات، فإن أفكارا أخرى تطرح في العلوم لا تتلاءم مع هذه الفلسفة، ومع ذلك فقد فرضت نفسها على ما تجري به السياسة في الواقع.
لقد ظلّ التأليف في الفقه السياسي الإسلامي ينحو منحى التقرير النظري الذي لا يتفاعل مع مجريات الحياة السياسية الفعلية، إذ انفصل علم السياسة الشرعية عن السياسة الواقعية في الثقافة الإسلامية منذ وقت مبكّر، ونأى فقهاء السياسة عمّا يجري به واقع الحكم تهيّبا للسلطان خوفا أو تعفّفا، وذلك خلافا للفروع الفقهية الأخرى التي ظلّت متفاعلة مع الواقع، عاملة من أجل تسديده بحسب المقتضيات الدينية، فإذا التقريرات الفقهية السياسية تفقد حيويتها وتجدّدها بهذا الانفصال، وتسقط مبكّرا في الجمود وترسف فيه طويلا.(1/7)
وقد ورث عصرنا الراهن هذا الوضع، الذي انحسرت فيه السياسة الشرعية من ساحة الفعل السياسي في حياة المسلمين، وبقيت حبيسة التراث، الذي بقي هو بدوره مستصحبا للمفاهيم التي نشأ عليها علم السياسة الشرعية، وحتى تلك الأحكام التي وقع فيها اجتهاد بقيت حبيسة النظر المجرد، ولم تتفاعل مع الواقع، إذ كان هذا الواقع خاضعا للمنظومة السياسية المستجلبة من الثقافة الغربية، وهكذا انتهى الأمر في علم السياسة الشرعية إلى كونه في مجمله علما تراثيا، لا يؤثر في الواقع، ولكنه يؤثّر في عقول كثير من الدارسين للعلوم الشرعية بصفة مباشرة، وفي عقول الكثير من عامّة المسلمين بصفة غير مباشرة عبر تأثير الثقافة الإسلامية المترسّبة في أذهان المسلمين، وهو ما يجعل أولئك وهؤلاء يطالبون بتوجيه العمل السياسي وفق ذلك التراث، أو يتصرفون في ممارساتهم السياسية وشبه السياسية وفق ذلك، والحال أنّ الواقع الذي تقدّم من أجله تلك المطالب وتمارس تلك التصرفات هو واقع لا تتناسب معه كثير من الأحكام التي يتضمّنها التراث الفقهي السياسي، وهو ما يستلزم مراجعة تلك الأحكام ليكون تنزيلها على الواقع الراهن محقّقا للمقاصد الشرعية منها..
ب ـ ضرورة المراجعة.
إنّ مراجعة الفقه السياسي الإسلامي يقتضيها الوضع الذي عليه هذا الفقه، وذلك من حيث نسبته من مجريات الواقع السياسي الراهن، ومدى ما يمكن أن تحقّق الأحكام الواردة فيه من المقاصد المطلوب تحقيقها،كما يقتضيها أيضا ما بُني عليه كثير من تلك الأحكام الشرعية من أدلّة يبدو أنّها مرجوحة من حيث ذاتها، وتأكّدت مرجوحيتها باعتبار تطوّر الأوضاع التي قامت من أجل معالجتها. ويمكن تلخيص هذه المبرّرات لضرورة المراجعة في الفقه السياسي فيما يلي:(1/8)
أولا ـ قلّة المؤلّفات في الفقه السياسي، ومحدودية الآراء والاجتهادات فيه، إذ المؤلّفات في هذا الفقه تكاد لا تتجاوز على مدى تاريخ الثقافة الإسلامية بضع عشرات، في حين تعدّ المؤلّفات في الفروع الفقهية الأخرى بالآلاف، والاجتهادات الواردة في هذه المؤلّفات يكاد يكون المتقدّم منها مستصحبا في المتأخّر على وجه التكرار، فخلت إذن من الثراء في الآراء، والتعدّد والتنوّع فيها، ولا جرم فإنّ ثراء الاجتهادات إنما يلده التفاعل مع الواقع، وتفاعل الفقه السياسي مع الواقع كان محدودا جدا كما أشرنا إليه آنفا.
وهذا الفقر في المؤلفات والمحدودية في الاجتهادات تجعل الناظر اليوم في التراث الفقهي السياسي لا يجد نفسه أمام خيارات متعدّدة من الاجتهادات فيتخيّر منها ما هو مناسب للوضع السياسي الراهن ليعالج به ما يتطلّبه ذلك الوضع من أحكام تتحقّق بها مقاصد الشريعة في الشأن السياسي، وذلك مثل ما عليه الحال في الفقه الاقتصادي أو فقه الأحوال الشخصية فيما يزخر به كلّ منهما من اجتهادات كثيرة يفزع إليها الفقيه في معالجة الأوضاع المستجدّة، فيجد طلبته في هذا الاجتهاد أو ذاك، حتى وإن كان على عهده مرجوحا أو مغمورا ما دام يقوم على سند معتبر من الدلائل؛ ولذلك فإنّ الفروع الفقهية الأخرى إذا كانت تستدعي هي أيضا النظر التجديدي مع ثرائها، فإنّ فقه السياسة الشرعية يستدعي نظرا تجديديا أوكد، واجتهادا في الأحكام أوسع من أجل معالجة القضايا السياسية الراهنة.(1/9)
ثانيا ـ إنّ الخطاب الديني في الشأن السياسي جاء خطابا يتّصف بالكلّية والعمومية، ويكاد يخلو من التفصيل والجزئية، فالأحكام الشرعية المنصوص عليها في هذا الشأن تكاد لا تتجاوز بضعة مبادئ كلّية عامّة، مثل مبدإ الشورى، وقيام الدولة على الدين، وسيادة الشريعة في الحكم، وإسناد السلطة للأمّة(1)، وما عدا ذلك من الأحكام المتعلّقة بتفاصيل الحياة السياسية وإجراءاتها العملية تُرك الأمر فيه للاجتهاد حسبما يقتضيه تغيّر الأحوال وتبدّل الأوضاع عبر الزمن.
وهذا الوضع اقتضى أن يكون التراث الفقهي السياسي مبنيا في معظمه على الاجتهاد فيما هو عفو غير منصوص عليه من الأحوال المتعلقة بشؤون الحكم، وذلك وفق ما تراءى للمجتهدين من فقهاء السياسة أنّه يحقّق مصلحة الأمّة في الظروف التي كانت على عهدهم، أما وقد تغيّرت تلك الظروف تغيّرا كبيرا، فإنّ الأمر يدعو إلى نظر اجتهادي جديد يتأطّر بإطار تلك المبادئ الكلّية المنصوص عليها، ويستنبط أحكاما تعالج الواقع السياسي المتجدّد، وذلك في مراجعة لتلك الأحكام التراثية قد تكون مراجعة جذرية في البعض منها إذا ما دعت إليها المصلحة التي هي غاية الأحكام الشرعية كلّها.
__________
(1) راجع هذه المبادئ في : إبراهيم زيد الكيلاني ـ نظام الحكم في الإسلام: 255 وما بعدها ( ضمن كتاب: في الفكر الإسلامي. ط جامعة الإمارات العربية المتحدة، 1990 )(1/10)
ثالثا ـ لقد كان الواقع السياسي على تلك العهود التي ألّفت فيها المصادر المؤسّسة للفقه السياسي شديد السطوة على أولئك المؤلفين، وذلك بما زخر به من الفتن السياسية البالغة التأثير في الأمّة، ابتداء من الفتنة الكبرى وما تلاها بعد ذلك من الفتن التي يكاد لم يخل منها عهد من العهود في الحكم الإسلامي، وقد كان لهذه السطوة الواقعية أثر بالغ في الاجتهاد الفقهي الذي دوّن في مؤلّفات السياسة الشرعية، وبقي بعد ذلك مستصحبا في المؤلّفات اللاحقة حتى وإن تغيّرت أحوال الواقع وزالت منه تلك السطوة التي كانت مؤثّرة فيه سابقا، والتي كانت سببا في توجيه الأحكام على النحو الذي استقرّت عليه.
وقد أدّى هذا الوضع الذي انتهى إليه الفقه السياسي إلى تأثير سلبي لبعض الاجتهادات من الموروث الفقهي حينما أُريد أن تدرج في مجريات الواقع السياسي الإسلامي الراهن على أساس توجيهه بحسبها، وذلك ما قد يفضي أو لعلّه قد أفضى إلى أزمات في ذلك الواقع، ويعوق عن التطوّر الإيجابي فيه، وذلك ما يستلزم مراجعات اجتهادية نقدية عميقة لتعديل تلك الآراء وإبطال مفعولها السلبي في الشأن السياسي الراهن، وقد يكون هذا التأثير السلبي أكثر استفحالا، وتكون المراجعة في شأنه أكثر ضرورة فيما يتعلّق بأوضاع الأقلّية المسلمة بأوروبا، إذ الوضع السياسي لهذه الأقلّية أكثر تعقيدا وأقلّ وضوحامن الوضع السياسي للمسلمين في البلاد الإسلامية.
وعلى سبيل المثال فإنّ الفقه السياسي الموروث يعطي لرئيس الدولة من الأساليب في التنصيب ومن الصلاحيات في التصرّف ما يغري بالاستبداد، وهو ما أفضى فعلا في واقع الدولة الإسلامية إلى ذلك، وقد استصحبت رئاسة الدولة في الواقع الإسلامي اليوم هذا الموروث عن طريق الانتهازية حينا، وعن طريق الاستبطان الثقافي حينا آخر، وأفضى الأمر في كلا الحالين إلى السقوط في غواية الاستبداد بشكل واسع.(1/11)
وممّا يدلّ على استحكام هذه الظاهرة أنّ الأغلب من المجدّدين في الشأن الإسلامي، المخلصين في الدعوة إلى الإصلاح وفي إحياء الدين ليكون حاكما على الحياة تراهم ينادون بالحرّية والديموقراطية بندا أساسيا من بنود حركاتهم الإصلاحية، فإذا ما انتهى بهم الأمر إلى الرئاسة الفعلية للحركات والمنظّمات قبل رئاسة الدولة سقطوا في غواية الاستبداد، وإذا ما انتهى الأمر إلى رئاسة الدولة كان الاستبداد متناسبا في سطوته وفي آثاره مع قوّة ذلك المنصب، وهو ما يفصح عن أنّ أزمة حادّة تعاني منها الثقافة السياسية الإسلامية متأثّرة على نحو من الأنحاء بالموروث الفقهي السياسي، ممّا يستلزم مراجعة اجتهادية تجديدية عميقة للكثير من القضايا والآراء في ذلك الموروث.
2 ـ أسس المراجعة في الفقه السياسي
من الضروري أن تتأسّس تلك المراجعة الاجتهادية للفقه السياسي على جملة من الأسس التي تضمن أن تكون مراجعة سديدة، وأن تحول دون الوقوع في تحكّمات تنأى عن التوجيه النصّي في الشأن السياسي، أو تخضع لما هو مناقض لذلك التوجيه مما قد يغري به الفقه السياسي الوضعي بما بلغه من تطوّر كبير تطابقت فيه الفلسفة النظرية بالمجريات الفعلية، أو تسقط في مقابل ذلك في موقف الرفض المطلق لذلك الفقه الذي يشتمل على تجربة ثريّة كثير منها محقّق لمقاصد الشريعة فيمكن اقتباسه والانتفاع به. ولعلّ من أهمّ تلك الأسس التي ينبغي أن تُبتى عليها المراجعة ما يلي:
أ ـ التأصيل.(1/12)
ومعناه الرجوع إلى نصوص القرآن والسنّة وما انعقد عليه إجماع قطعي بصفة مباشرة في تقرير الأحكام الفقهية السياسية، واتّخاذها المرجعية الحاكمة على كلّ ما سواها من الاجتهادات والآراء، سواء ما تمثّل منها في نصوص قولية، أو ما تمثّل في تصرّفات نبوية فعلية تتعلّق بالممارسة السياسية، فهذه الأصول هي التي يجب أن تكون منطلقا تتأسّس عليه أحكام الفقه السياسي، وهي التي يجب أن تكون مقياسا لمراجعة تلك الأحكام كما وردت في التراث.
وإنما نؤكّد على ذلك لأنّ الكثير من الأحكام في السياسة الشرعية انبنت على الاجتهاد، ولكنّها لثباتها في مؤلّفات هذا العلم، وتناقلها جيلا عن جيل اكتسبت في الثقافة الإسلامية ما يشبه المصدرية التي تعلو بها على المراجعة والتغيير، والحال أنّها باعتبارها اجتهادا مرتبطا بظروف معيّنة تحمل قابلية التغيير ليكون النصّ هو المرجع الذي تنبني على أساسه المراجعة لكلّ اجتهاد.
ب ـ التأسّي بالخلافة الراشدة
وذلك بالرجوع إلى الخلافة الراشدة فيما مارسته من شؤون الحكم والسياسة، فقد كانت تمثّل الانطلاقة الإسلامية الصحيحة في هذا الشأن، وقد رسمت من التوجّهات النظرية والعملية في الفقه السياسي ما ظلّ كثير منه محجوبا عن أنظار فقهاء السياسة في الأزمنة اللاحقة؛ وذلك لما حدث من انتكاس في التاريخ اللاحق للدولة الإسلامية أفضى إلى انتكاس أيضا في فقه أولئك الفقهاء، خضوعا لسطوة الواقع الذي جرت عليه الحالة السياسية للدولة الإسلامية.(1/13)
والرجوع إلى هذا الميراث السياسي الراشد يمثّل إذن موردا ثريّا لمراجعة ما استقرّ في التراث الفقهي من أجل التجديد، وليس مقتضى هذا الرجوع إلى الخلافة الراشدة أن تكون التصرّفات السياسية التي مارستها هذه الخلافة ملزمة في الاجتهاد الفقهي، فالملزم إنما هو النصّ وما انبنى عليه من إجماع، وإنما يكون الرجوع إليها على معنى التأسّي بها والاستئناس بتقريراتها الفقهية، فقد كانت أقرب التصرّفات السياسية إلى روح الدين وفلسفته في الشأن السياسي، كما كانت تتّصف بالإضافة إلى ذلك بالتعدّدية والثراء، وهو ما يرشّحها إلى أن تكون مرجعا معتبرا في مراجعة الفقه السياسي.
ج ـ التأسيس المقاصدي
ويعني ذلك مراجعة الفقه السياسي مراجعة مقاصدية، تقوم في بناء الأحكام على مراعاة ما تتحقّق به مقاصد الشريعة، وذلك بأن تُحرّر هذه المقاصد من الأحكام المتعلّقة بالسياسة والحكم وفق المنهجية المتّبعة في استكشاف مقاصد الشريعة، فيكون لها حضور بيّن متميّز ضمن المقاصد الدينية العامّة، ثمّ تُجعل تلك المقاصد هي الموجّه لكلّ اجتهاد يروم استنباط الأحكام السياسية التفصيلية من المبادئ الكلّية العامّة، ضمانا في ذلك لأن تكون تلك الأحكام محقّقة لما وضعت لأجله من المقاصد.
ومن الجدير بالملاحظة أنّ الفقه السياسي الموروث لم تتأسّس بعض آرائه وأحكامه على مقاصد شرعية بيّنة في هذا الشأن، وإنّما خضعت لظروف طارئة وأحوال جزئيّة، وكان لمجريات الواقع تأثير فيها، فجانبت الصواب كما سنشير إلى بعضه لاحقا، ولمّا كان من أهمّ أسباب ذلك كما نقدّر غياب المقاصد الشرعية في الشأن السياسي أن تكون هي الموجّه الأساسي لتلك الأحكام، فإنه يكون من المتحتّم مراجعة الفقه السياسي بصفة عامّة مراجعة مقاصدية.
د ـ الاستفادة من الفقه السياسي الوضعي(1/14)
لقد شهد الفقه السياسي الوضعي تطوّرا كبيرا في مبادئه النظرية الفلسفية وفي إجراءاته العملية على حدّ سواء، وأصبحت الحياة السياسية تدار بحسب ذلك الفقه في الواقع، فأثرت النظريات السياسية بالتجربة، وأثرت التجربة بتلك النظريات، وقد تحقّقت من ذلك أقدار كبيرة من النجاح في إدارة الشأن السياسي، كما يبدو ذلك على سبيل المثال في الطرق التي يتمّ بها تداول السلطة، والتي تتمّ بها المراقبة والمحاسبة لمن تكون بيده تلك السلطة.
وإذ كان كثير من الأحكام القانونية الواردة في هذا الفقه السياسي الوضعي متعلّقا بالآليات التي تُدار بها الحياة السياسية، وهي آليات تخلو في كثير منها من الحمولة الإيديولوجية، وإذ كانت بعض المبادئ النظرية في هذا الفقه لا تتناقض مع المبادئ الإسلامية، فإنّ كثيرا من القوانين في الفقه السياسي الوضعي يمكن أن يُدرج بصفة مباشرة أو بشيء من المعالجة الاجتهادية ضمن الفقه السياسي الإسلامي، إذ هو يشبه أن يكون تفصيلا للمبادئ والأحكام العامّة في ذلك الفقه رشّدته التجربة الواقعية المتراكمة عبر قرون من الزمن، فالنظر في ذلك الكسب يمكن أن يكون عونا على الانطلاقة التجديدية في الفقه السياسي الإسلامي.
هـ ـ مراعاة تطوّر العلاقات الإنسانية.
لقد شهدت العلاقات الإنسانية على مستوى النظام الدولي تغيّرات جذرية بالنسبة للوضع الذي نشأ فيه الفقه السياسي الموروث، فقد تشابكت هذه العلاقات وتوسّعت بحيث أصبح لا يمكن أن تعيش أية دولة أو مجموعة من الناس بمعزل عن الأخرين، وأصبحت العلاقات الدولية تنتظم وفق قانون يحدّد كيفيات التعامل بين الدول، في حال السلم التي هي الحال الأصلية، وحال الحرب التي قد تطرأ على تلك الحال الأصلية، وتلك أوضاع لم يتناول الكثير منها الفقه السياسي الموروث.(1/15)
وهذا الوضع الجديد للعلاقات بين بني الإنسان ينبغي أن يؤدّي إلى أن يأخذ الفقه السياسي الشرعي بعين الاعتبار هذا التطوّر العالمي في العلاقات بين بني الإنسان أفرادا وفئاتٍ ودولا، فقد أصبح المسلمون في علاقاتهم بغير المسلمين من التوسّع والتعقيد والتشابك سواء في ذات المجتمع الإسلامي أو مع غيره من المجتمعات على وضع يستلزم اجتهادا لاستنباط أحكام سياسية تسع عناصره وتفاصيله، إذ ما في الفقه السياسي الموروث غير موف بذلك لعدم عهديته بهذه الأطوار الجديدة في العلاقات الإنسانية.
المبحث الثاني
قضايا للمرادجعة في فقه السياسة الشرعية
بناء على ما تقرّر من ضرورة لمراجعة الفقه السياسي، وبناء على الأسس الاجتهادية التي شرحنا بعضا منها آنفا يمكن مراجعة الكثير من القضايا التي تضمّنها الفقه السياسي وخاصّة منها تلك القضايا الأصول التي تشكّل البناء الأساسي لهذا الفقه، والتي تتفرّع عنها جملة كبيرة من التفاصيل والفروع. وإذ لا يسمح المجال في هذه الورقة بتفصيل ما ينبغي مراجعته من قضايا هذا الفقه السياسي، فإننا نعرض تاليا بعض النماذج من القضايا الهامّة التي يتعيّن فيما نقدّر البدء بمراجعتها لما تمثّله من أهمّية في البناء السياسي بصفة عامّة، وما تمثّله من أهمّية بالنسبة للواقع السياسي الذي عليه المسلمون اليوم بصفة خاصّة. وسنكتفي في هذه القضايا بالإشارة إلى أهمّ المفاصل فيها التي نراها جديرة بالمراجعة بحسب ما تقتضيه الأوضاع السياسية الراهنة.
1 ـ رئاسة الدولة(1/16)
في الموروث من الفقه السياسي تضخيم كبير لمؤسّسة رئاسة الدولة، سواء من حيث المواصفات التي يُشترط توفّرها في الرئيس، أو من حيث الصلاحيات التي تفوّض إليه، ويكاد يكون تاريخ الدولة الإسلامية قد بني في الواقع على ذلك. وإذا كان الشرع قد أحاط منصب الإمامة أو الخلافة بقسط مقدّر من المهابة بما كلّفه به من مهمّة حراسة الدين، وما فرض في حقّه من الطاعة، فإنّ الفقه السياسي كما يبدو لنا قد ضخّم من ذلك المنصب بما تجاوز به مقصد استتباب وحدة الأمّة على أساس العدل المنتج للعمران إلى ما يغري الرئيس بأن يمارس الاستبداد.
ففي الفقه السياسي تشترط في الترشّح لمنصب الرئاسة شروط كثيرة تنحو في مجملها المنحى الإيماني والأخلاقي والعلمي كما هو معلوم، وهو ما لخصه عضد الدين الإيجي مجاريا فيه من جاء قبله بقوله: " الجمهور على أنّ أهل الإمامة مجتهد في الأصول والفروع ليقوم بأمور الدين، ذو رأي ليقوم بأمور الملك، شجاع ليقوى على الذبّ عن الحوزة"(1)، وقد ظلّت هذه الشروط تتردّد في مؤلّفات السياسة الشرعية منذ الماوردي إلى عصرنا الحاضر(2).
__________
(1) عضد الدين الإيجي ( توفي سنة 756 ) ـ المواقف: 2/467 ( ط بولاق، مصر 1913)
(2) 139 ( ط المكتب الإسلامي، بيروت 1992 ) راجع: محمود شاكر ـ الخلافة والإمارة:(1/17)
ولقد كان لهذه الشروط التي ينبغي أن تتوفّر في رئيس الدولة أثر بالغ في حجم الصلاحيات التي أوكلت إليه، وفي الطريقة التي يمارس بها الحكم، إذ بناء عليها فيما تتضمّنه من نقاء أخلاقي وقدرات ذاتية وعلمية تنزع منزع المثال الذي قد لا يكون متحقّقا في الواقع قد أوكل إليه التصرّف في شؤون الأمّة باجتهاده تصرّفا يشبه أن يكون مطلقا في نطاق ما هو مسموح به في الشرع، وليس في هذا الفقه من أحكام الشورى المقيّدة لتصرّف الرئاسة قدر ذو بال، وإن وُجد شيء من ذلك فإنّ الشورى المعلمة لا الملزمة كانت هي الصوت الأعلى فيه(1)، وهو ما جرى الأمر عليه في واقع الحكم في الدولة الإسلامية طيلة تاريخها إلاّ في الأقلّ.
ويبدو أنّ الفقه السياسي الإسلامي كان ينحو في هذا الشأن المنحى المثالي المجرّد من جهة، ومنحى اتّقاء الفتنة والسطوة من جهة أخرى، إذ كأنّ الشروط الإيمانية والأخلاقية المشروطة في الإمام اتُّخذت مبرّرا لتوسيع سلطته، واعتبرت ضمانا للالتزام بالعدل والابتعاد عن الاستبداد، فأُوكل الإمام إذن في تصرّفاته إلى تقواه وعلمه وقوّته، وانحسرت بذلك الأحكام الشرعية المقيّدة لتلك التصرّفات من خارج ذات الإمام مثل أحكام الشورى وما في حكمها.
__________
(1) راجع في ذلك: محمد سليم العوا ـ في النظام السياسي للدولة الإسلامية: 187 وما بعدها(1/18)
وفي هذا الصدد يمكن في سبيل المراجعة العودة إلى نصوص الشرع وإلى واقع ما جرى به التاريخ، فقد جاءت الآيات القرآنية المقيّدة لتصرّفات الإمام بالشورى صريحة بيّنة كما في قوله تعالى:" وشاورهم في الأمر " آل عمران / 159) وفي قوله تعالى: "وأمرهم شورى بينهم" ( الشورى / 38)، وجاءت السيرة النبوية مطبّقة لذلك على وجه قطعي، إذ لم يكن صلّى الله عليه وسلّم يقطع برأي في الشأن السياسي إلاّ عن مشورة من أصحابه، وكثيرا ما كان يتصرّف بمقتضى رأيهم المخالف لرأيه، والتزم ذلك النهج الخلفاء الراشدون في عموم تصرّفاتهم، ثمّ بيّن التاريخ أنّ الإمام حينما يُوكل إلى شروط التقوى والعلم حتى وإن كانت متحقّقة فيه بالفعل دون الرقابة الخارجية من الأمّة فإنّ شهوة السلطان سريعا ما تسقط بالكثير من الرؤساء في مهاوي الاستبداد.(1/19)
إنّ هذا التأصيل من جهة، وهذه العبرة التاريخية من جهة أخرى يدفعان إلى ضرورة أن يتّجه الفقه السياسي في شأن الرئاسة وجهة التأسيس للأحكام الشرعية التي تضمن أن يتصرّف رئيس الدولة في شؤون الأمّة تصرّفا شوريا، وذلك ابتداء من إضافة شرط من شروط اختياره متمثّلا في أن يكونالمرشّح للرئاسة مؤمنا بالشورى معروفا بممارسته الفعلية لها، ومرورا باستحداث المؤسّسات الأهلية التي يكون لها دور الشورى الملزمة له، والرقابة الدقيقة عليه، وانتهاء إلى أن يكون إخلاله بالشورى سببا كافيا لعزله عن منصب الرئاسة، وهو الأمر الذي لم يرد له ذكر في أحكام الفقه السياسي، سواء فيما يتعلّق بشروط التولية أو بأسباب العزل(1)، والحال أنّ الاستبداد بالرأي هو السبب الأكبر لجلّ المفاسد التي تنشأ في ممارسة الحكم .
__________
(1) لئن لم يرد في فقه السياسة الشرعية على ما نعلم أنّ للشورى مدخلا في التولية والعزل، فإن بعض العلماء جعلوا لها مدخلا في ذلك، ومن هؤلاء ابن عطية إذ يقول في تفسيره المحرر الوجيز: 3ـ397 (ط قطر 1977):" والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب"(1/20)
وكما كان لمنصب رئيس الدولة في الفقه السياسي من صلاحيات واسعة تميل إلى أن يكون مستبدّا بها دون مشورة الأمّة، فإنّ مبدأ الرقابة عليه في تصرّفاته ومحاسبته على أداء مهمّته لم يكن لها حظّ يذكر في هذا الفقه، وإذا ما كان لها ذكر فإنها تكاد تقتصر على المناصحة الوعظية التي تخلو من معنى الإلزام، فضلا عن أن تُختطّ لتلك المراقبة خطّة منظمة من هيئة معلومة أو مجلس محدّد، وإنما تُركت هذه المناصحة مرسلة في الأمّة، وإن تكن متّجهة إلى العلماء بالدرجة الأولى. ولمّا كان وضع الرقابة على هذا النحو من الضعف في الفقه السياسي، فإنّها لم يكن لها في الواقع تحقّق فعلي سوى بعض المأثورات من النصائح والمواعظ لهذا الإمام أو ذاك من رؤساء الدول الإسلامية(1).
وقد كان الأمر كذلك أيضا بالنسبة لعزل الإمام، فهو أمر جرى فيه الفقه السياسي مجرى التضييق البالغ، واشترطت فيه اشتراطات مشدّدة أوشكت أن تضفي على هذا المنصب صفة القداسة، حتى لقد ذهب الماوردي إلى أنّ الإمام إذا أصابه مرض يُفقده عقله بصفة ملازمة كالجنون والخبل فإنه لكي يصبح سببا كافيا لعزله عن الإمامة ينبغي أن يكون غيابَ عقل مستديما لا تتخلّله إفاقة، أما إذا كان غيابا تتخلله إفاقة " فإن كان زمان الخبل أكثر من زمان الإفاقة فهو كالمستديم يُمنع من عقد الإمامة واستدامتها، ويخرج بحدوثه منها، وإن كان زمان الإفاقة أكثر من زمان الخبل ... فقيل يُمنع من استدامتها .. وقيل لا يُمنع من استدامة الإمامة"(2)، ومعنى هذا الكلام أنّ الإمام إذا كان يغيب عقله بجنون عشر ساعات في اليوم والليلة يمكن فإنه يمكن أن يبقى مع ذلك إماما، ولا يعزل ليُستعاض عنه بغيره، وذلك رأي في منتهى الفساد فيما نقدّر.
__________
(1) راجع نماذج من ذلك في: محمد سليم العوا ـ في النظام السياسي للدولة الإسلامية ( ط دار الشروق، القاهرة بيروت 1989 )
(2) الماوردي ـ الأحكام السلطانية: 32 (ط المكتب الإسلامي،بيروت 1996)(1/21)
ومن مظاهر التشدّد في عزل الإمام أنّ العزل لا يتمّ إذا ما جُرحت عدالته، أو انحرفت عقيدته بتأويل، وهو ما رواه الفراء ويبدو أنّه يوافق عليه، إذ يقول:" فإن كان جرحا في عدالته وهو الفسق، فإنه لا يمنع من استدامة الإمامة، سواء كان متعلقا بأفعال الجوارح، وهو ارتكاب المحظورات، وإقدامه على المنكرات، اتباعا لشهوته، أو كان متعلقا بالاعتقاد، وهو المتأول لشبهة تعرض يذهب فيها إلى خلاف الحقّ"(1). ولا يفوت في هذا المقام التذكير برأي القرطبي الآنف الذكر، الذي يجعل إخلال الإمام بالشورى مبررا لعزله، فهو رأي متقدّم جدا بالنسبة لما ساد في هذا الشأن في الفقه الشرعي.
ويبدو أنّ التشدّد في عزل الإمام على النحو الذي وصفنا من أهمّ أسبابه التحسّب لما قد يحدث عن العزل من الفتنة التي تضرّ بمصلحة المسلمين عموما؛ ولهذا فقد صيغ للعزل مقياس دقيق يطبق عليه، وهو أن العزل يتمّ ميزان المصلحة والمفسدة، فإذا ما كان يستجمع أسبابه، وكانت الفتنة الحاصلة منه أشدّ ضررا من ضرر إخلال الإمام بالأمانة فإنه لا يجوز، وإذا كان العزل يسبّب فتنة ضررها أقلّ مما يسببه البقاء على الإمامة، فإن العزل يكون جائزا. ولكنّ هذا المقياس على مشروعيته فإنّه آل أمره إلى شيء من التناسي، ويكاد يكون قد استقرّ الحال في الفقه السياسي على التشدّد في العزل إلى ما يقارب المنع.
__________
(1) الفراء ـ الأحكام السلطانية: 20 ( ط دار الكتب العلمية:بيروت2000)(1/22)
وقد كان لهذا التضخّم في رئاسة الدولة من جميع أطرافها أثر في الثقافة السياسية للمسلمين، بل امتدّ هذا الأثر من رئاسة الدولة إلى كلّ رئاسة في المؤسسات الاجتماعية، وهو الأثر المتمثّل في الاستبداد بالرأي، وفي التشبّث بموقع الرئاسة، ويكاد يستوي في ذلك حملة الفكرة الإسلامية مع العلمانيين الذين لم تستطع العلمانية أن تحمل إليهم مع قيمها القيم السياسية التي أقرّها الفقه السياسي الغربي فيما يتعلّق برئاسة الدولة من حيث النيابة عن الشعب والتداول على السلطة والرقابة والمحاسبة، وهي القيم التي يلتقي فيها الفقه السياسي الوضعي مع المبادئ السياسية الإسلامية، ولكنّ الفقه السياسي الموروث فيما أحدثه من تشكيل ثقافي سياسي للعقول أدّى إلى هذا الوضع الذي عليه المسلمون في واقعهم السياسي، ولا إخال هذا الوضع يتغيّر إلا بمراجعة للفقه السياسي تؤدّي إلى تغيّر في الثقافة السياسية ليعود تصوّر مؤسّسة رئاسة الدولة إلى ما تقتضيه المبادئ الإسلامية من كون الرئيس نائبا عن الأمّة تختاره بمحض إرادتها ليقوم بتطبيق مرئياتها في شؤون الحياة، وتراقبه في أداء هذه الأمانة، وتحاسبه عليها، وتعزله عنها إذا أخلّ بشروط النيابة(1).
2 ـ سلطان الأمّة
__________
(1) لقد قام في بعض البلاد الإسلامية نظام للحكم يتّصف بأنه إسلامي تتبنّاه حركات إسلامية، ولكن الرئاسة في هذا النظام تكاد لا تختلف عن الرئاسة العلمانية المستبدّة، وما ذلك إلا دليل على أنّ الفقه السياسي الإسلامي يشكو فقرا كبيرا وضعفا مخلاّ، وهو ما يدعو إلاّ قيام حركة علمية واسعة وعميقة تتناول الفقه السياسي بالمراجعة والتجديد لينعدل أمر الواقع . راجع في في هذه المعاني: يوسف القرضاوي ـ من فقه الدولة في الإسلام: 80 وما بعدها(1/23)
مما يؤسف منه أشدّ الأسف أنّ الأمّة في الفقه السياسي الإسلامي لا تحظى بمقام مرموق من حيث ما يكون لها من حرّية في الاختيار، ومن سلطان في تنفيذ ما ترتئيه من الخيارات إن تيسّر لها الاختيار، بل إنّ شطرا كبيرا من الأمّة إن لم يكن الأكبر من حيث العدد يُعامل في هذا الفقه بالاستبعاد من مواقع الاختيار والقرار، بل يعامل أحيانا بشيء من الاستنقاص، ويُنعت بنعوت تحمل شيئا من الدونية التي تبررالحيللولة دون حقّ الاختيار، وذلك من مثل مصطلحات العامّة والغوغاء والدهماء وأمثالها(1). وإذا كانت بعض الآراء في هذا الفقه تكيّف الإمامة بما يظهرها على أنّها نيابة من تلقاء الأمّة للإمام كي ينفّذ إرادتها السياسية، إلاّ أنّ ذلك التكييف سرعان ما تتلاشى مقتضياته بما تمُنع منه الأمّة من حقوق الاختيار والتنفيذ لصالح الإمام.
وعلى سبيل المثال فإنّه إذا كان أوسع ما يشمل الأمّة من حقوق الاختيار أن تختار الرئيس الذي يُولّى عليها فإنّ الرأي الشائع في الفقه السياسي أنّ هذا الحقّ ليس بحقّ لأكثر أفرادها، بل هو حقّ محجوب عن عامّة الناس، ومخوّل للعدد القليل من الأفراد قد ينتهي أحيانا إلى الفرد الواحد كما أشار إليه إمام الحرمين في قوله:"فإذا لم يُشترط الإجماع في عقد الإمامة لم يثبت عدد معدود ولا حدّ محدود، فالوجه الحكم بأنّ الإمامة تنعقد بعقد واحد من أهل الحلّ والعقد"(2).
__________
(1) ما زالت مثل هذه العبارات تتردّد في مؤلفات بعض المعاصرين مما يدل على رسوخ ما تحمله من فكرة. وراجع على سبيل المثال:محمود شاكر ـ الخلافة ووالإمارة: 62
(2) إمام الحرمين: الإرشاد: 357 ( ط مؤسسة الكتب الثقافية/ ةبيروت 1985)(1/24)
لقد ورد في فقه السياسة الشرعية تقرير لحكم البيعة، وهي عقد بالتراضي بين الإمام المختار وبين المبايعين له من الأمّة على حقوق وواجبات تترتّب على كلّ منهما، وأُسندت هذه البيعة إلى مجموع الأمّة في بعض المدوّنات الفقهية، ولكنّها تُلفَى عند التأمّل مفرغة مما يقتضيه عنوانها من مضمون الاختيار الشعبي، وتكاد تنحصر في تزكية ملزمة للاختيار الذي تقوم به القلّة من الأفراد والذي يكون هو العاقد الحقيقي بالإمامة للإمام، وهو ما أوضحه الماوردي وتابعه فيه من جاء بعده من أغلب فقهاء السياسة الشرعية، إذ يقول متحدّثا عن أهل الحلّ والعقد: " فإذا تبيّن لهم من بين الجماعة من أدّاهم الاجتهاد إلى اختياره عرضوها عليه، فإن أجاب إليها بايعوه عليها، وانعقدت بيعته له الإمامة، فلزم كافّة الأمّة الدخول في بيعته، والانقياد لطاعته"(1).
وإذا كان الأمر على هذا النحو من استبعاد الأمّة عن ممارسة حقّها في اختيار رئيس الدولة الذي هو أمر يهمّ كلّ فرد من أفرادها، فإنّ استبعادها عن ممارسة حقوقها في الاختيار الحرّ فيما هو أدنى من ذلك قد كان أوسع وأشمل، حتى أصبحت الأمّة في مجملها تكاد لا تظفر بحقّ في أن يكون لها رأي تختار به الرؤية التي تريدها منهجا لحياتها، وقد حُوّلت تلك الصلاحية لرئيس الدولة، أو لقلّة قليلة من أفراد المجتمع الإسلامي. وقد استحدث الفقه السياسي لتضييق سلطان الأمّة في إنفاذ إرادتها ثلاث وسائل فعّالة هي: أهل الحلّ والعقد، وتولية العهد، والشوكة.
أ ـ أهل الحلّ والعقد.
__________
(1) الماوردي ـ الأحكام السلطانية: 17(1/25)
تقرّر في الفقه السياسي أنّ أمور الأمّة في الاختيار موكول إلى فئة قليلة من أفرادها تسمّى بأهل الحلّ والعقد، وهو مصطلح غير محدّد المعالم، وقد ينتهي مدلوله في بعض الأحيان إلى الرجل الواحد كما أشار إلى ذلك إمام الحرمين في موضع آخر من كتابه الغياثي حينما جعل الإمامة قد تنعقد للإمام بمبايعة رجل واحد إذا كان مطاعا في قومه قادرا على نصرة الإمام وحمايته، وفي ذلك يقول: " إن بايع رجل واحد مرموق كثير الأتباع والأشياع مطاع في قومه، وكانت منعته تفيد ما أشرنا إليه [ من نصرة الإمام وحمايته ] انعقدت الإمامة"(1).
وقد ظلّ هذا الرأي سائدا في فقه السياسة الشرعية إلى هذا العهد، متسرّبا إلى العقول ضمن الثقافة السياسية المتشكّلة بفكرة استبعاد الأمّة وحلول أهل الحلّ والعقد محلّها، ولو كان عددهم قد ينتهي إلى الفرد الواحد. وقد كنت أقوم بتجربة شخصية في هذا الشأن تتمثّل في اختبار أجريه على طلبتي في جامعات عربية وإسلامية مختلفة ومتباعدة في المكان، وذلك بأن ألقي عليهم بصدد تدريس مادّة النظام السياسي في الإسلام سؤالا عمّن هو صاحب الحقّ في اختيار رئيس الدولة، وقد كان الجواب في الغالب الأعمّ يأتي بأنّ صاحب هذا الحقّ في ذلك هم أهل الحلّ والعقد وليس عموم الأمّة، وذلك ما يدلّ على عمق التأثير للفقه السياسي الموروث في الثقافة السياسية للمسلمين.
__________
(1) إمام الحرمين ـ الغياثي: 71( ط قطر 1400 )(1/26)
وأما تأويل أهل الحلّ والعقد بأنهم ممثلون لمجموع أفراد الأمّة، وكلاء لهم أو نوّاب عنهم، فهو تأويل من قِبل بعض الفقهاء السياسيين المحدثين يندرج ضمن المراجعة التي ندعو إليها(1)، ولم نعثر له على أثر في التراث الفقهي. وحينما يتمحّض معنى أهل الحلّ والعقد للدلالة على عدد محدود من أفراد الأمّة قد ينتهي إلى الفرد الواحد، وحينما يخلو من أيّ معنى للنيابة الحقيقية عن مجموع الأمّة، فإنّ الأمر ينتهي إلى استبعاد الشطر الأعظم من الأمّة من مواقع الاختيار فيما هو شأن يهمّ جميع أفرادها مثل شأن اختيار رئيس الدولة وعقد البيعة له.
وقد كان الأمر كذلك بالفعل كما قرّره أغلب فقهاء السياسة الإسلامية، ومن ذلك ما ذهب إليه الماوردي في بيان أهل المسؤولية في عقد الإمامة حيث قال:" خرج من الناس فريقان: أحدهما: أهل الاختيار حتى يختاروا إماما للأمّة، والثاني أهل الإمامة حتى ينتصب أحدهم للإمامة، وليس على من عدا هذين الفريفين من الأمّة في تأخير الإمامة حرج ولا مأثم"(2)، وذلك أيضا ما انتهى إليه إمام الحرمين إذ يقول:" ما نعلمه قطعا أنّ النسوة لا مدخل لهنّ في تخيّر الإمام وعقد الإمامة ... ونحن بابتداء الأذهان نعلم أنّه ما كان لهنّ في هذا المجال مجال في منقرض العصور ومرّ الدهور ... ولا تعلّق له بالعوامّ الذين لا يُعدّون من العلماء وذوي الأحلام، ولا مدخل لأهل الذمّة في نصب الأيمّة"(3). وهكذا فإنّنا نكاد ننتهي في تقدير مؤسّسة أهل الحلّ والعقد وما أُنيط بها من دور في الفقه السياسي إلى تقرير أنّها ليست إلاّ مؤسّسة استحدثها هذا الفقه ليسحب من الأمّة سلطانها في اختيار رؤاها واختيار من تعهد له بتنفيذها.
ب ـ ولاية العهد.
__________
(1) راجع مثلا: محمد سليم العوا ـ في النظام السياسي للدولة الإسلامية: 204 ( ط دار الشروق:بيروت 1989)
(2) الماوردي ـ الأحكام السلطانية: 14
(3) إمام الحرمين ـ الغياثي: 62(1/27)
تقرّر في الفقه السياسي منذ وقت مبكّر شرعية أن تنعقد الإمامة بعهد من الإمام يعهد فيه بالإمامة لرجل يخلفه من بعده، وجُعلت هذه الآلية هي الطريقة الشرعية الثانية التي تنعقد بها الإمامة بعد طريقة الاختيار من أهل الحلّ والعقد، بل أصبحت هذه الطريقة في زمن متأخّر هي الطريقة الأولى في التولية على معنى أنّها الأكثر شرعية حتى من اختيار أهل الحلّ والعقد كما يوحي به قول الإيجي مقرّرا ما تثبت به الإمامة:" إنها تثبت بالنصّ من الرسول ومن الإمام السابق بالإجماع، وتثبت ببيعة أهل الحلّ والعقد"(1)، فقد استدلّ على شرعية ولاية العهد بالإجماع مقدّما ذلك على بيعة أهل الحلّ والعقد. وهذا القول من الإيجي هو تلخيص لما تواتر عند أسلافه من فقهاء السياسة منذ الماوردي الذي يقول: "أما انعقاد الإمامة [ لرجل ] بعهد من قبله فهو مما انعقد الإجماع على جوازه، ووقع الاتّفاق على صحته"(2). وهكذا أصبح هذا الأمر مستقرّا في الفقه السياسي منذ نشأته، ولا يزال يتبنّاه اليوم بعض الفقهاء(3).
__________
(1) الإيجي ـ الموافقات: 2/466
(2) الماوردي ـ الأحكام السلطانية: 21
(3) راجع مثلا: محمود شاكر: الخلافة والإمارة:91(1/28)
وقد ذهب بعض الفقهاء في ولاية العهد مذهبا يخفّف من غلوائها في الاستبداد بعقد الإمامة، وذلك بأن اشترطوا في شرعيتها لأن تكون طريقا لهذا العقد أن لا يكون لها نفاذ في التولية إلا بتزكيتها من أهل الحلّ والعقد، بل إنّ بعض الفقهاء ذهب في تأويل ولاية العهد على أنها لا تعدو أن تكون اقتراحا لا تنعقد به إمامة، وإنما تنعقد الإمامة بناء على هذا الاقتراح برضى المسلمين به، وهو ما قرّره الفرّاء في قوله:" ويجوز أن يعهد [ الإمام] إلى من ينتسب إليه بأبوة أو بنوة، إذا كان المعهود له على صفات الأيمّة؛ لأن الإمامة لا تنعقد للمعهود إليه بنفس العهد، وإنما تنعقد بعهد المسلمين"(1)، ولكنّ هذا المذهب ظلّ خافتا في مدوّنات الفقه السياسي، والصوت الأعلى فيها إنما كان للرأي القائل بأنّ ولاية العهد مكتملة الشرعية بذاتها في عقد الإمامة، غير محتاجة لتزكية من أحد، وهذا ما عبّر عنه الماوردي في قوله مناقشا شرط رضى أهل الاختيار في نفاذ ولاية العهد: " ذهب بعض علماء أهل البصرة إلى أنّ رضى أهل الاختيار لبيعته [ أي بيعة العاهد للمعهود إليه] شرط في لزومها للأمّة، لأنها حق يتعلق بهم فلم تلزمهم إلا برضى أهل الاختيار منهم، والصحيح أن بيعته منعقدة، وأن الرضى بها غير معتبر"(2).
__________
(1) أبو يعلى الفراء ـ الأحكام السلطانية: 25
(2) الماوردي ـ الأحكام السلطانية:21(1/29)
وقد أصبح هذا الحكم هو الأشهر في فقه السياسة الشرعية من حيث أصل التقرير الفقهي، وإذا كان قد انتشر فيه رأي ينتقد الحكم بشرعية ولاية العهد، فإنه يتبيّن عند التمحيص أنّه رأي لا يتّجه بالنقد إلى أصل الحكم، وإنما يتعلّق بأحداث جرى بها الواقع، وحصل فيها عقد ولايات للعهد جرت على إخلال بشروط الإمامة في العاهد بها أو في المعهود إليه، وهو ما يظهر جليا في تقرير إمام الحرمين حينما حكم بشرعية ولاية العهد في الأصل ثم قال:" ولم أر التمسّك بما جرى في العهود من الخلفاء إلى بنيهم؛ لأن الخلافة بعد منقرض الأربعةالراشدين شابتها شوائب الاستيلاء والاستعلاء، وأضحى الحق في الإمامة مرفوضا، وصارت الإمامة ملكا عضوضا"(1).
وحينما يُسند حقّ اختيار رئيس الدولة المستقبلي، وعقد البيعة له إلى رئيس الدولة الحالي، فإنّ ذلك معناه أنّ هذا الحقّ سُلب من الأمّة جمعاء وأُسند إلى شخص واحد منها، وهو الإمام العاهد، وحينما يكون أهل الحلّ والعقد غير مخوّلين لتزكية هذا الاختيار، وغير مطلوب رضاهم عنه كما هو الرأي الغالب، فإنّه مهما يكن من كونهم لا يمثّلون الأمّة حقّ التمثيل كما شرحناه آنفا إلا أنّه يُعتبر إيغالا في سلبها سلطانها في هذا الأمر الذي يكاد يتوقّف عليه كلّ سلطان لها في أيّ أمر من أمور حياتها، باعتبار أنّ الحقّ في اختيار الإمام تكاد تتوقّف عليه كلّ الحقوق السياسية الأخرى.
ج ـ الغلبة بالشوكة
__________
(1) إمام الحرمين ـ غياث الأمم: 124، وراجع بحثا في ذلك في: محمد أمزيان ـ في الفقه السياسي: 152(1/30)
المقصود بالشوكة القوّة العسكرية التي تكون بها الغلبة، وهي في هذا المقام الغلبة التي تمكّن من تنصيب الإمام، وهي آلية أضحت عند الكثير من الفقهاء وسيلة لإهدار سلطة الأمّة في اختيار رئيس الدولة، والاستعاضة عنها بالقوّة العسكرية الغالبة، بحيث يصبح الإمام منتصبا في موقع الإمامة، ومتصرّفا في شؤون الأمّة لا عن إرادة منها، بل عن غلبة قهرية بقوّة السلاح، وقد كان لإمام الحرمين تفصيل مهمّ في هذا الشأن(1).
هذه الآلية لتولية رئيس الدولة، والمتمثّلة في القوّة العسكرية المعبّر عنها بالشوكة تنزّلت في أغلب مدوّنات الفقه السياسي الإسلامي منزلة مرموقة، وأُسبغت عليها الصبغة الشرعية، حيث أجاز عامّة فقهاء السياسة ولا ية المتغلّب، أي المنتصب للإمامة بالقوّة العسكرية، ومهما يكن من أنّ هذه الشرعية قد أُضفيت عليها في زمن متأخّر من تاريخ الفقه السياسي حيث لم يرد لها ذكر عند الماوردي، ومهما يكن من أنّ التشريع لولاية الغلبة كان فيه تفصيل بين المتغلّب الجامع لشروط الإمامة، والمتغلّب غير الجامع لها، ومهما يكن من أنّ هذا التشريع كان يميل في أغلب الأحيان إلى أن يشرع للتغلّب بعد وقوعه لا قبله، فإنّ هذه الآلية في تنصيب رئيس الدولة أصبحت في عموم الفقه السياسي الإسلاميى آلية مشروعة معترفا بها على نطاق واسع(2).
__________
(1) راجع في هذا الخصوص كتابنا: مقاربات في قراءة التراث: 83 وما بعدها ( ط دار البدائل، بيروت 2001)
(2) راجع في بحث هذه المسألة بتفصيل: محمد أمزيان ـ في الفقه السياسي: مقاربة تاريخية: 162 وما بعدها ( ط مطبعة النجاح، الدار البيضاء، 2001).(1/31)
إنّ التشريع لآلية الشوكة في عقد الإمامة يلغي حقّ الأمّة في حقّ الاختيار، ويمنح هذا الحقّ للمتغلّب، ولا يقتصر هذا الإلغاء على مصادرة حقّ الأمّة في مجموعها كما هو حال التشريع لأهل الحلّ والعقد، بل يصادر أيضا دور هؤلاء في عقد الإمامة، لتصبح إذن القوّة العسكرية هي صاحبة الحقّ في تنصيب الإمام، وذلك ما نصّ عليه الإمام النووي في قوله:" وأما الطريق الثالث [ لعقد الإمامة بعد الاختيار والعهد ] فهو القهر والاستيلاء، فإذا مات الإمام وتصدّى للإمامة من جمع شرائطها من غير استخلاف ولا بيعة، وقهر الناس بشوكته وجنوده، انعقدت خلافته لينتظم شمل المسلمين، فإذا لم يكن جامعا للشرائط بأن كان فاسقا أو جاهلا فوجهان أصحّهما انعقادها لما ذكرناه"(1).
ويبدو أنّ هذه المصادرة لحقّ الأمّة في الاختيار لئن أصبحت شائعة في الفقه السياسي في زمن متأخّر إلاّ أنّها كانت لها بذور مبكّرة عند بعض الفقهاء، فقد روى أبو يعلى الفرّاء أنّ الإمام أحمد " رُوي عنه ما دلّ على أنها [ أي الإمامة ] تثبت بالقهر والغلبة، ولا تفتقر إلى العقد، فقال في رواية عبدوس بن مالك العطار: ومن غلب عليهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين فلا يحلّ لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماما، برّا كان أو فاجرا"(2).
__________
(1) عن المرجع السابق:163
(2) أبو يعلى الفرّاء ـ الأحكام السلطانية: 23 ( ط دار الكتب العلمية، بيروت 2000)(1/32)
إنّ هذه الآليات الثلاث في تولية رئيس الدولة قد استحدثت في السياسة الشرعية للحدّ من صلاحيات الأمّة في ممارسة سلطانها متمثّلا في اختيار نمط الحياة التي تبتغيه، واختيار من ينوب عنها في تنفيذ ذلك الخيار وهو رئيس الدولة. ومهما يكن من أنّ ظروف الواقع التي جرت به الحياة السياسية الإسلامية قد اضطرّت الفقهاء أحيانا إلى أن يفتوا ببعض الفتاوى التي تقتضي سلب الأمّة بعض صلاحياتها في الاختيار، إلا أنّ تلك الفتاوى الظرفية آلت في الغالب الأعمّ إلى تشريع فقهي دائم، لا يجد له سندا من النصوص ولا من تصرفات الخلافة الراشدة، كما لا يجد له مبرّرا في النتائج العملية التي جرى بها الواقع، ولا فيما تغايرت به الأحوال عما كانت عليه زمن ذلك الاجتهاد؛ ولذلك فإنه من المتاكّد مراجعة هذه القضية على ضوء هذه المؤشّرات الثلاثة.
فبالرجوع إلى نصوص الوحي نجد أنّ الأمّة هي صاحبة السلطان في سياسة أمورها، وهو ما يبدو في تقرير مبدإ الشورى على وجه الإلزام كما في قوله تعالى:" وأمرُهم شورى بينهم" ( الشورى/38) فإذا كانت تولية الإمام من أعظم الأمر فإن الشورى فيها تصبح من أعظم حقوق الأمّة ، كما يبدو في تأكيد الخطاب للأمّة بأن تتولّى أمورها بيدها، وذلك في مثل قوله تعالى:" والسارقُ والسارِقَةُ فاقطعُوا أيديَهما" (المائدة/38)، فسلطان التنفيذ في الآية إنما أُسند إلى الأمّة دلالة على كونه من اختصاصها، وإذا كانت المباشرة الفعلية لهذا السلطان تقع من رئيس الدولة، فذلك إنما هو على سبيل أنّ الأمّة فوضت إليه تنفيذ مرادهان وأنابته عنها في ذلك.(1/33)
ولا يوجد في هذه النصوص وغيرها كثير ما يشير إلى إحالة سلطان الأمّة إلى أهل الحلّ والعقد إلاّ أن يكونوا نوّابا عنها فوضتهم التصرّف في صلاحياتها بمحض إرادتها، ولا ما يشير إلى شرعية ولاية العهد بمعزل عن تزكيتها ورضاها كما استقرّ عليه الرأي الغالب في الفقه السياسي، ولا ما يشير إلى شرعية الغلبة العسكرية بالشوكة بالمعنى الذي آل إليه الأمر في ذلك الفقه. وليس في السنة النبوية ما يبرر شرعية هذه الآليات التي تصادر الإرادة الجماعية للأمّة، بل الأمر فيها على عكس ذلك قولا وفعلا، ومن أمثلته ما حدث في وفد هوازن لمّا فوّض صلى الله عليه وسلم الأمر في استرجاع هوازن للسبي إلى مجموع الناس الذين يهمّهم الأمر عن طريق عرفائهم قائلا:" إنّا لا ندري من أذن منكم في ذلك ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم، فرجع الناس، فكلّمهم عُرفاؤهم، ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه أنهم قد طيّبوا وأذنوا"(1). فقد أرجع النبي صلى الله عليه وسلم أمر الأمة إليها لتتشاور فيه، ولم يُحلّ أحدا محلَّها في ذلك، لا أهل حلّ وعقد ولا غيرهم. وقد جرى الأمر على هذا النحو من إعادة أمور الأمّة إليها في عهد الخلافة الراشدة كما تشهد به أخبار كثيرة.
__________
(1) أخرجه البخاري: كتاب الوكالة، باب إذا وهب شيئا لوكيل(1/34)
وقد شاع في الفقه السياسي تبرير لولاية العهد على الكيفية التي وصفناها بما صدر من أبي بكر في تولية عمر رضي الله عنهما، وما صدر من عمر في تولية أحد الستّة، واعتبر ذلك إجماعا يشرع لهذه الولاية، إذ قد رضيه جميع الصحابة، ولم يعارض فيه أحد منهم، وهو ما قرّره الماوردي وتابعه عليه الأكثرون(1)، وذلك في قوله:" وأما انعقاد الإمامة بعهد من قبله فهو مما انعقد الإجماع على جوازه، ووقع الاتفاق على صحته، لأمرين عمل المسلمون بهما ولم يتناكروهما: أحدهما، أن أبا بكر رضي الله عنه عهد بها إلى عمر رضي الله عنه، فأثبت المسلمون إمامته بعهده. والثاني، أنّ عمر رضي الله عنه عهد بها إلى أهل الشورى، فقبلت الجماعة دخولهم فيها"(2).
وإذا كان بعض فقهاء السياسة الشرعية قد جعلوا نفاذ ولاية العهد مشروطا بالإشهاد عليها خيفة التنازع عند ادّعائها من أكثر من واحد(3)، وإذا كان بعض آخر تقدّم في هذا الأمر خطوة أخرى فجعله مشروطا بموافقة أهل الحلّ والعقدكما ذكرنا ذلك سالفا، فإنه على حدّ علمنا لم يرد في كتب السياسة الشرعية ما يكيّف ولاية العهد، ولا ما يكيّف عقد الإمامة من قِبل أهل الحلّ والعقد ابتداء أو تزكية لولاية العهد على أنّهما من باب الاقتراح الذي يقترحه على الأمّة العاهد بالولاية أو أهل الحلّ والعقد، وتزكية يزكّون بها المقترح للإمامة، ليكون الأمر النهائي في الاختيار للأمّة، على نحو ما يُعرف اليوم بالترشيح الذي يعقبه الانتخاب، وإنما عُرض الأمر على أنّه شأن يستقلّ بالحقّ فيه العاهد بالولاية أو أهل الحلّ والعقد دون عموم الأمّة، وهو أمر لا نجد له أصلا في نصوص الدين ولا في تصرّفات الخلفاء الراشدين.
__________
(1) راجع في الذاهبين هذا المذهب: محمد أمزيان ـ في الفقه السياسي: 145 وما بعدها
(2) الماوردي ـ الأحكام السلطانية: 21
(3) راجع: الإيجي ـ المواقف: 2/467(1/35)
ويمكن أن نستثني مما قرّرناه إشارة أوردها الفراء قد توحي بمعنى الترشيح في تكييف ولاية العهد، وهو المضمّنة في قوله:" ويجوز أن يعهد [ الإمام ] إلى من ينتسب إليه بأبوة أو بنوة، إذا كان المعهود له على صفات الأيمّة، لأن الإمامة لا تنعقد للمعهود إليه بنفس العهد وإنما تنعقد بعهد المسلمين"(1)، فهذا الكلام يفهم منه أنّ ولاية العهد غير ملزمة للمسلمين بذاتها وإنما هي مجرد ترشيح من المُولّي يطرحه على المسلمين نصيحة لهم بما استُحفظ عليه من أمانة الإمامة، فلا يتمّ لها تنفيذ إذن إلا برضاهم.
وفي اتّجاه هذه الإشارة الواردة عند الفرّاء قام جملة من فقهاء السياسة المعاصرين بمراجعة هذه المسألة تكييفا لعقد الإمامة من قِبل أهل الحلّ والعقد أو بطريق ولاية العهد على أنّه ترشيح، وهو ما أصّله محمد سليم العوا في قوله:" كانت البيعة الأولى في سقيفة بني ساعدة بمثابة ترشيح أولي الرأي من المسلمين لأبي بكر لتولي أمور الدولة الإسلامية، وكانت البيعة العامّة في اليوم الثاني بمثابة الاستفتاء على هذا الترشيح الذي أبدى فيه المسلمون آراءهم في اختيار رئيس الدولة"(2).
__________
(1) الفراء ـ الأحكام السلطانية: 25
(2) محمد سليم العوا ـ في النظام السياسي للدولة الإسلامية: 71(1/36)
وإذا كان هذا الترشيح ترشيحا معتبرا بالنظر إلى مقام القائمين به إلا أنه غير ملزم للمسلمين، بل هو مطروح عليهم إن شاؤوا قبلوه وإن شاؤوا رفضوه، وهو ما شرحه عبد الوهاب خلاف على سبيل التأصيل في حقيقة تولية أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في قوله:" لو أنّ المسلمين رأوا بعد وفاة أبي بكر خيرا من عمر وبايعوه ما عارضهم معارض، ولا كان عهد أبي بكر حجّة عليهم، وكذلك لو بايع المسلمون واحدا غير الستة الذين جعل عمر الشورى فيهم، فالعهد او الاستخلاف لا يعدو أن يكون ترشيحا من السلف للخلف، والأمة بعد ذلك صاحبة القول الفصل فيمن تختاره إماما"(1). وهذا التأويل يرجع للأمّة حقّها في الاختيار، وهو أنموذج للمراجعة التي ينبغي أن تكون.
وما أصبح شائعا في الفقه السياسي من التشريع لتولي الإمامة بالغلبة بالشوكة العسكرية لئن كان اجتهادا قد تبرره أحداث معيّنة في ظروف معيّنة تُدفع فيها بهذه الغلبة الفتنة التي يفوق ضررها ضرر التولّي بالغلبة، إلاّ أنّه من غير المبرّر أن تصبح الشوكة العسكرية طريقا شرعية لتولي الإمامة بصفة مبدئية كما رأينا سالفا أنّه أصبح حكما شائعا في الفقه السياسي، إذ هو يعصف بالحقّ الثابت للأمّة في اختيار الإمام، وهو الحقّ الثابت في الدين كما شرحناه سابقا.
__________
(1) عبد الوهاب خلاف ـ السياسة الشرعية: 58،(1/37)
ومن الناحية العملية فإنّ الاستنقاص من قيمة هذا الحقّ الذي تُستحقّ به الإمامة متمثّلا في رضى الأمّة بالإمام وموافقتها عليه، في مقابل الإعلاء من قيمة القوّة المتمثّلة في الشوكة العسكرية من شأنه أن يجعل الميزان مائلا إلى جانب القوّة على حساب الحقّ فتكون هي العاقد للشّرعية دونه، وهذا الأمر حينما يصبح أمرا مشروعا فإنّه يفتح بابا يعسر سدّه في قضيّة الإمامة، إذ يصبح من المشروع السّعي في القوّة العسكرية من أجل السطو بها على الإمامة اكتسابا لها أو استمرارا فيها على حساب الاستحقاق الشرعي باختيار الأمّة، وفي الإمامة من الإغراء ما يزيّن ذلك السّعي ويذهب فيه إلى حدّ بعيد كما هو ثابت في طبائع الناس وفي تجارب التاريخ.
ومهما يكن من أنّ الشوكة العسكرية في هذا الصّدد جُعلت عاملا مرجّحا للمصلحة إذا ما دُفعت بها الفتنة، فإن ذلك إذا كان صالحا لعلاج أحداث جزئيّة تحصل في الواقع بين الحين والآخر، فإنه حينما يصبح مبدأ عامّا يشرّع لقوّة الشوكة أن تحسم في استحقاق الإمامة على حساب عناصر الحقّ يكون مفضيا إلى مفاسد تربو على المصالح المنتظرة منه؛ إذ ذلك حينما يصبح مكتسبا للشّرعيّة فإنّه يفتح الباب واسعا للاستيلاء على الإمامة بمقتضى الشوكة لا بمقتضى الحقّ المشروع، وهو باب للفساد كبير فُتح في تاريخ المسلمين بمقتضى هذا الاجتهاد، وولج منه كثيرون، وأدّى إلى شرور عظيمة من الفتنة التي أُريد تفادي شرورها.(1/38)
وما نحسب الإمام عليّ بن أبى طالب رضي الله عنه حينما وقف وقفته المشهودة ليكون الحقّ هو الأساس في شرعية الإمامة دون الشوكة العسكرية إلاّ منطلقا من بصيرة نافذة في الفقه الشرعي تمتدّ إلى آماد بعيدة في مستقبل الأمّة لتسدّ الطّريق في وجه الاستبداد بأن تكون الشوكة مشرّعة للإمامة على حساب الحقّ، إذ في ذلك تحشيد لأفراد الأمّة أن يقفوا مع الحقّ ويدافعوا عنه، وتأييس لأهل المطامع أن يسعوا إلى الإمامة بالشوكة، وإذا ما وقع ضرر كبير بسبب نصرة الحقّ في وقائع معيّنة كما وقع في عهد عليّ رضي الله عنه فإنّه يصبح ضررا صغيرا بالنسبة لضرر الاستبداد الحاصل جرّاء فشوّ الاستيلاء بالشوكة حينما يكون مسلكا مشروعا يجري به العمل على مدى التاريخ، وذلك عندما يسود في ضمير الأمّة وفي سلوكها مبدأ نصرة الحقّ على الشوكة في منصب الإمامة. ونحسب أنّ إمام الحرمين لم يكن مصيبا حينما تكلّم في هذا الأمر بما يُفهم منه أنّ الإمام عليا رضي الله عنه كان قد سلك المسلك الخطأ في دفعه لأن تكون الشوكة مشرّعة للإمامة دون الحقّ وإن يكن قد اعتذر له في ذلك بأعذار كثبرة(1).
__________
(1) إمام الحرمين ـ الغياثي:111(1/39)
إنّ هذا الاستنقاص من حقّ الأمّة في تنفيذ سلطانها بمظاهره المختلفة ووسائله المتعدّدة التي ذكرنا ثلاثا منها، قد كانت له آثار سلبية كثيرة في التاريخ الإسلامي، وبما أنه أصبح مندرجا ضمن الفقه السياسي مسبغة عليه صفة الشرعية، فإنّه ظلّ ساري التأثير إلى عصرنا الحاضر في الضمير الجمعي للمسلمين، وفي النظر الشرعي لبعض الفقهاء(1). وربّما يكون ما هو شائع اليوم في البلاد العربية والإسلامية من استيلاء على الحكم من قِبل الرؤساء بطرق مختلفة تصادر حقّ الأمّة في الاختيار، ما هو إلاّ من الآثار الواعية أو غير الواعية لما استقرّ من فقه سياسي يبرّر ذلك بصبغة شرعية، وما ينتج عن ذلك من مفاسد عظيمة أمر معلوم.
__________
(1) راجع بعض مظاهر هذا التأثّر السلبي في: يوسف القرضاوي ـ من فقه الدولة في الإسلام: 80 وما بعدها. ولم يقف هذا التأثير السلبي عند حدّ الفقهاء التقليديين، وإنما تجاوزه إلى بعض الباحثين الآخذين من الحداثة بحظ، فالدكتور محمد أمزيان على سبيل المثال بالرغم مما اتصف به بحثه المعنون بـ" في الفقه السياسي " من قيمة بحثية وعلمية رفيعة إلاذ أننا نراه يبرر بعض الآراء الفقهية التي تنتقص من سلطان الأمّة ( راجع على سبيل المثال: ص: 151(1/40)
لقد أصبحت الضرورة تدعو إلى مراجعة هذه لأحكام الفقهية السياسية في اتّجاه تصحيحها بما يقتضيه التأصيل، وفي اتّجاه أن تكون علاجا للحياة السياسية الإسلامية التي ترزح تحت مشاكل كثيرة. وإذا كان ذلك ضرورة ملحّة بالنسبة للفقه السياسي الإسلامي بصفة عامّة، فإنه يعتبر ضرورة أكثر إلحاحا بالنسبة لفقه الأقليات المسلمة في أوروبا؛ وذلك لأن هذه الأقليات وهي تستشرف عهدا للمشاركة السياسية في هذه البلاد سوف لن تكون لها إمكانية في ولوج هذا المجال، وهي معمورة أذهانها بمثل تلك الأحكام التراثية في رئاسة الدولة أو في سلطان الأمة أو في غيرها من القضايا، ومتشكّلة ثقافتها السياسية عليه، والحال أن الفقه السياسي الذي يجري عليه الواقع في أوروبا يناقض تلك الأحكام مناقضة كلّية.
ولكن المسلمين بأوروبا لو عادوا في فقههم السياسي إلى أصوله بفعل مراجعة جدّية للتراث الفقهي فإنهم سيجدون أنفسهم مستعدّين لولوج المعترك السياسي، لما يجدون من شبه بين الفقه السياسي الوضعي وبين الفقه السياسي الشرعي في العديد من القضايا من تشابه، بل إنهم لو تقدّموا في الاجتهاد خطوات فإنهم سوف يكونون قادرين على أن يسهموا في الحياة السياسية الأوروبية بالترشيد في بعض مساراتها بقيم إسلامية في الشأن السياسي يفتقر إليها الفقه السياسي الوضعي، وحينئذ فإنهم سوف يقومون بدور عظيم في الشراكة الحضارية التي هي هدفهم الاستراتيجي الجديد.
والله واي التوفيق(1/41)
تحديات تواجه الأسرة المسلمة في الغرب
الدكتور طاهر مهدي البلّيلي
عضو المجلس الأوربي للإفتاء و البحوث
أستاذ الفقه المقارن و الأصول و المقاصد أكاديمية العلوم الإسلامية بروكسل
لن نستطيع رفع التحدي الذي يواجه أسرنا المسلمة في أوطانها الجديدة إلا بإقرار استراتيجيات عمل ثقافي تربوي إسلامي في الغرب، و ضرورة تخطيط و ترشيد مناهج العمل الإسلامي في جميع مجالات الحياة لتستجيب لخصوصية الواقع الذي يعيش فيه المواطنون المسلمون الأوربيون في الدول الغربية وتفاعلاته، و ما يحيط به من تحديات.
إن استقراء واقع المواطنين الأوربيين المسلمين يبين لنا أن حركة الهجرة العالمية، باعتبارها إحدى أهم الظواهر المرتبطة بدينامكية الحياة في هذا القرن، قد حولت دول الاستقبال إلى مجتمعات متعددة الثقافات و الأديان، وهو ما جعل المسئولين في الغرب يضعون مخططات اجتماعية وثقافية وتربوية، لدمج المواطنين الجدد و بخاصة المسلمين في النظام القائم باختياراته العلمانية و مبادئه الوضعية.
و نظرا لشدة جهل المسلمين لحقيقة أهداف ذلك الدمج و لمبادئ دينهم و ثقافتهم التي تقوم أساسا على مبادئ العدالة الاجتماعية و المساواة المطلقة بين بني البشر، تلقى تلك الخطط مقاومة هائلة، و بخاصة من طرف المواطنين المسلمين. و يعود مبعث تلك المقاومة إلى خوف المواطنين المسلمين من الذوبان داخل مجتمعاتهم الجديدة و حرصهم على التمسك بذاتيتهم الثقافية و خصوصيتها الإسلامية.(1/1)
غير أن هذا الحرص من طرف المسلمين في الغرب، و مع أنه لا يعني انغلاقا على الذّات أو انعزالاً، فهو يفهم من طرف المسئولين و حتى المواطنين من أصحاب الديانات الأخرى أنه تعصب و انعزال عن المشاركة في الحياة الاجتماعية. و المطلوب منا كمسلمين هو التفاعل مع مواطنينا الأوربيين كي تنمحي كل الأحكام السالبة المسبقة و كل كليشي ملصق بنا كمواطنين من الدرجة الثانية أو حتى الثالثة. فينبغي أن نبرهن على قدرتنا على الاندماج الاقتصادي و أن نشارك بفعالية في الإنتاج المحلي، و أن نندمج سياسيا بحضور مكثف في المواقع السياسية حتى البعيدة منها على السلطة لنتمكن من التعايش مع مواطنينا الأصليين في جو من الوئام والتعاون. إن الانفتاح على الحضارة الإنسانية والتفاعل معها هو أحد المبادئ التي بإمكانها أن تخرجنا من عزلتنا الفعلية في هذا العالم الذي أصبح قرية واحدة بسبب العولمة التي تكتسح كل شيء. و هذا مع المحافظة على التمّيز الروحي والأخلاقي لدينا.
إن التحوّلات التي يعرفها العالم في هذه المرحلة الحاسمة و منذ عقود، و بخاصة منها التحولات الاقتصادية التي تطمح لفرض نموذجاً ثقافياً واحداً على المستوى العالمي؛ و لأن المبادئ الثقافية هي نتاج العلاقات الدولية الاقتصادية فقد ترتب على الاتصال الثقافي من التأثير و التأثر بين شعوب المعمورة ما يفوق عدداً وحجماً ما ترتب على التبادل الاقتصادي والاجتماعي غير المتكافئ.(1/2)
و منذ القدم، و من خلال استقراء التاريخ القديم و الحديث يظهر بما لا مجال للشك فيه بأن العلاقات و الصّراعات الدولية كانت تتركز أساسا على الهويات الثقافية للشعوب. و نحن نعتقد من خلال تنزيل التاريخ على الواقع، بأنه إذا نشأت نفس الظروف فإن التاريخ يتكرر و لو في سياقات مختلفة مع أن الهدف يظل واحدا. أن المستقبل القريب و البعيد، سيجعل من القضية الثقافية هي معترك العولمة الأول. و من ثم فإن هيمنة النموذج الثقافي الغربي، ستصطدم بحرص الشعوب الأخرى على هوياتها الثقافية و منها الشعوب الإسلامية.
إن خطر »الكونية الثقافية« الذي يتهدّد الشعوب الإسلامية في عقر دارها بفعل كونية الاتصالات، جعل المواطنين المسلمين في بلاد الغرب يخافون هذه الكونية الثقافية المفروضة و التي جاءت من عفوية التواصل العالمي الذي لم يعد البشر قادرين على تضييقه و السيطرة عليه. و بتصاعد هذا الخوف في البيئات غير الإسلامية، حيث تنشأ الأجيال الجديدة من أبناء المسلمين في مؤسسات لم تأخذ بعين الاعتبار مبادئ ثقافية معينة بله مبادئ الأديان السماوية، تصاعد الانغلاق و التقوقع حيث ظهرت جماعات تطالب بالعودة إلى التراث كمرجع وحيد للنجاة من الدمج الثقافي الكوني.
و في نظرنا فإن كون الجيل الثاني و الثالث لا يحسن لغة ثقافته و دينه، كما يجهل مبادئ العقيدة و الشريعة الإسلامية، ليس سببه هو العولمة و كونية التواصل الثقافي و غيره لأن هذا الوضع كان موجودا حتى قبل ثورة المعلوماتية و الاتصالات الحديثة و إنما سببه أن المجموعة المسلمة في الغرب تعاني نقصا و في أغلب الأحيان انعداما لمناهج و تقنيات التنشئة التربوية والرعاية الاجتماعية والتثقيف الإسلامي.(1/3)
فالمسلمون كمواطنين أوربيين هم حريصون على الاندماج الإيجابي في المجتمعات الغربية باعتبارها مجتمعاتهم، نجد أن أغلبهم يرفضون التخلي عن هويتهم والذوبان لأن ذلك في نظرهم هو انتحال لشخصية الآخر و هو ما لا تقبله العقوق السليمة حتى عند مواطنيهم الغربيين. إذن فالدمج الذي يحبذونه و يدعون له هو ذلك الدمج الذي يحترم خصوصياتهم بكل اتجاهاتها الثقافية و الدينية و الاجتماعية و حتى التقليدية منها. و لكن صيانة تلك الثقافة و تلك الخصوصيات و المحافظة عليها تحتاج لتنشئة تربوية إسلامية مؤسساتية، و لبرامج معدة و منهجية تأخذ بعين الاعتبار تلك الخصوصيات مع مراعاة المجالات التي يمكن أن تقبل فيها ثقافة المواطنين غير المسلمين و بخاصة فيما يتعلق بحقوق الإنسان والرعاية الاجتماعية من وجهة نظر إسلامية.
إن تزايد الضغوط الإيديولوجية وتحدياتها الساعية إلى فرض هيمنتها الثقافية والفكرية والحضارية، قلب الاحتياجات التربوية و الثقافية للمسلمين في الغرب إلى حاجة واقعية و ضرورة دينية يتعين على المؤسسات الإسلامية المعنية تلبيتها.
استراتيجية تربوية للأسرة المسلمة في الغرب:
الأسرة: قال - عز وجل - :» و جعلنا بينكم مودة و رحمة لتسكنوا إليها «
الأسرة في التعريف البسيط هي الأب و الأم و الأطفال. و من مقوماتها: الاجتماع: بين أفرادها الذي هو طبع إنساني. و الأخلاق: التي هي تبادل الحب والتضامن و التعاون لأداء الواجبات.
و من مهام الأسرة القيام بما يلي :
ـ الإبقاء على النوع البشري الذي لا يمكن إلا بإكثار عدد الأمة الإسلامية وفق ما سنَّه الشارع الحكيم ضمن علاقات الزواج الشرعي »يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم «.(1/4)
ـ تربية الأجيال التي هي أساس المجتمعات البشرية، و بدون هذا الدور المنوط بالأسرة فلا تنشئة و لا تربية و لا صلاح في المجتمعات قال I »كلكم راع و كلكم مسئول عن رعيته« (البخاري جمعة 844).
ـ المحافظة على التراث الاجتماعي، و قيمه، و أعرافه الصالحة، والحرص على نقلها للأجيال المتوالية.
إننا نؤكد على أن الحاجة لأن تلعب الأسرة الأدوار التي ذكرناها تزداد أهمية في المجتمع الغربي حيث تغيب المعاني الإسلامية و رموز و قيم الدين من الحياة الاجتماعية (أدعوا إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة)، ويصبح جو الأسرة المجال الرئيسي للتعويض عن ذلك الغياب. إن تحول الهجرة الإسلامية إلى أوروبا من هجرة فردية إلى هجرة عائلية، ومن وضع مؤقت إلى استقرار دائم، كانت له نتائجه الواضحة على مستويات متعددة، فخضعت الأسرة المسلمة المهاجرة مع ما تحمله من موروث اجتماعي وثقافي لعملية تغير مستمر، كما أنه من الطبيعي أن تتأثر في هذا السياق بالمحيط الجديد الذي انتقلت إليه ـ والذي يشهد هو نفسه تغيراً وتطوراً ـ ويتجلى ذلك في مظاهر كثيرة كالعلاقات داخل الأسرة، والعلاقات بين الأجيال والسلوك الإنجابي وطرق التربية وغير ذلك من أنواع التأثر.
ولاشك أنه من الطبيعي أن ينتج عن استقرار الأسر الإسلامية في أوروبا في بيئات لم تكن بنيانها مستعدة لاستيعاب هذه الواقعة الاجتماعية بكل أبعادها، مشاكل كثيرة تتفاوت حدتها وخطورتها وتختلف حسب نمط الأسرة وحجمها ومستواها المادي والثقافي، كمشكل قانون الأحوال الشخصية، ومشكل العلاقات بين أفراد الأسرة، ومشكل الفشل الدراسي، ومشكل الانحراف، ومشكل التواصل بين الأجيال، فضلاً عن ارتباط هذه المشاكل وتداخلها.
وبناء عليه، فإن واقع الأسرة الإسلامية في بلاد المهجر بأحواله ومشاكله ينبغي أن يكون محور اهتمام كبير في إطار هذه الاستراتيجية، وذلك لأسباب ثلاثة، وهي :(1/5)
* لأن الأسرة المهاجرة مرآة تعكس صورة حية و واقعية عن حقيقةِ المسلمين في أوروبا.
* إن التحولات التي طرأت على بنية الأسرة المهاجرة وخصائصها ومميزاتها، جعلتها في حاجة إلى مزيد من الرعاية و الاهتمام من قبل القائمين بالعمل الاجتماعي، خصوصاً إذا أخذنا بالاعتبار تفكك نظام الأسرة في بلاد الغرب.
* إن أية محاولة لإصلاح الأحوال الاجتماعية للمسلمين، إنما يمر عبر الأسرة باعتبارها النواة الأولى والخلية الأساسية في المجتمع. و لا شك أن استقرار الأسرة وسلامتها وتوازنها هو عامل مشجع على تجنب الكثير من المشاكل الاجتماعية، خاصة في بعض المناطق الأوربية، حيث لازالت الجالية المسلمة حديثة العهد.
و على الجملة يمكن تمييز صنفين من المشاكل :
ـ الأول: طارئ و يمكن معالجته عن طريق الحلول المناسبة لكل ما هو طارئ.
ـ الثاني: هو ما يمكن تلافيه بتوقعه والتحسب له، و بالتالي معالجته بالوقاية.
و لعلّ استعمال طريقتي العلاج هاتين يجعل من الأسرة الإسلامية نموذجاً ناجحاً للأسرة المترابطة الفاعلة التي يمكن أن يغتني بها المجتمع الأوربي.
المرأة:
ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار حال المرأة، لئلا تبقى الجهود المبذولة لإصلاح أوضاع الأسرة الإسلامية صرخة في واد و نفخة في رماد. إن المرأة يجب أن ينال حظاً وافراً من التفكير الاجتماعي لما يوجد من الروابط بين مشاكل الأسرة ومشاكل المرأة التي ينعكس بعضها على بعضها الآخر كون المرأة عماد الأسرة.
إن مشكلة المرأة هي مشكلة عالمية، وإذا كانت الإنسانية لم تفلح في المحافظة على الأسرة المثالية، فلأنها أهملت المرأة و تجاهلت مكانتها و بالتالي هضمت حقوقها التي تقرها الفطرة الإنسانية المستقيمة و مواثيق الأمم المتحدة و حقوق الإنسان.(1/6)
إن قضية المرأة لا يمكن طرحها بشكل معزول، بل كعنصر في الإصلاح العام الذي يعتبر تحريرها جزءا منه. وإذا كان هذا الأمر يتطلب أن يتحرر الرجال أولا من روح الجمود الذي تكبلوا به عبر التاريخ مما جعلهم يُؤْثِرُون التقاليدَ على الدين نفسه، فإنه يدعو كذلك المرأة أن تستثمر بالشكل الصحيح اتجاه الأحداث وروح العصر المتطورة للدفاع عن حقوقها الأساسية والجوهرية بدل الاكتفاء بالشكليات التي تظل إطاراً أجوف لا طائل من ورائه.
لقد كرّم الإسلام المرأة وجعلها مخاطبة بالشريعة »و لقد كرمنا بني آد«، فهي قادرة أن ترتفع إلى أعلى درجات السمو والتقرب من الله، كما احتفظ لها الإسلام بشخصيتها وهويتها اللتين لا تفقدهما بالزواج، كما أجاز لها تولي الوظائف والشؤون العامة كالاجتهاد والإفتاء والقضاء و الحكم في مشاكل الأمة والبلاد عموماً، و ساوى الإسلام بينها وبين الرجل في الحقوق والواجبات وفق ما قال الرسول I :»النساء شقائق الرجال«(الترمذي طهارة 105).
ويجدر بالعاملين على إصلاح أوضاع المرأة المسلمة في البلاد الأوربية استلهام تعاليم الإسلام للنهوض بالمرأة ومساعدتها على تحقيق وجودها. إنه يجب أن تقوم المرأة المسلمة بدور ملموس في الحياة الاجتماعية، وذلك على أوجه عدة؛ و حتى يكون للنساء أثر في اندماج المسلمين بعضهم مع بعض حيث ينشئ التجمع الأسري علاقات الجوار بين أفراد الجاليات، كما يجب أن تندمج المرأة في النسيج الاجتماعي فتتعلم و تكسب خبرة الحياة و تشارك بالعمل سواء في قطاع الخدمات أو المشاريع التجارية أو المهن الحرة.
كما أن تعليم المرأة سيؤدي إلى مزيد من فرص ارتقائها مما سيؤثر بشكل ملموس على توزيع الأدوار داخل الأسرة بالنظر إلى ارتباط مكانتها الاجتماعية بالعلاقة مع وضعها الاقتصادي.(1/7)
إن هذه الإرهاصات ينبغي تعزيزها من قبل القائمين على العمل الاجتماعي و ذلك بالاعتناء بتعليم المرأة وتثقيفها وإكسابها مهارات عملية وحياتية للنهوض بوضعها الاجتماعي، كما ينبغي مساواتها بالرجل في الأحكام وفق ما سَنَّهُ الشرع الإسلامي وتمتيعها بالحقوق التي ضمنها لها الدين الحنيف، وهي حقوق روحية ومدنية واجتماعية واقتصادية وقانونية.
الطّفولة و الشباب:
من المشاكل الكبرى التي يعانيها الأطفال والشباب من أبناء المسلمين في الغرب، مشاكل تربوية تتعلق بعدم التكيف المدرسي كالفشل و غيره.
وإزاء هذه المشاكل، لابد من إعادة التأكيد على الدور الكبير الذي تلعبه الأسرة في مسار التطبيع الاجتماعي؛ فالأسرة هي المهد الأول للمعرفة حيث يتسلح الطفل برصيد معرفي وثقافي يكون رافدا له في الحياة، وإذا لم يتلق المسلم الناشئ هذا الرصيد المكون للهوية ومهارات الحياة ومعارف عامة داخل الأسرة، فمن أين له به وهو ينشأ في بلاد الغرب؟
إن غياب هذه المبادئ يشكل عائقاً ثقافياً يضاف إلى غياب استراتيجية تربوية في مجال الاستثمار الاجتماعي وتعليم الأبناء وبناء مستقبلهم بالاستفادة من فرص التعليم المتاحة في المدارس الأوربية. و لا شك أن هذين العاملين، فضلاً عن عوامل أخرى خارجية، يعرضان الأطفال إلى أنواع من الإحباط والفشل سواء على المستوى التربوي أو الاجتماعي.
إن الإخفاق المدرسي الذي ينتهي عادة بالطرد والتهميش سيضاف إلى تراكمات أخرى من الفشل سواء داخل الأسرة أو في مجال العمل، إضافة إلى ظروف البطالة والفقر والحرمان ليزيد من تفاقم أزمة وضعية الشباب المنحدرين من الهجرة والذين يعيشون وضعية قلقة ومضطربة يبرز فيها تعارض المرجعيات وازدواجيتها في القدوة والتربية والتعليم.(1/8)
و لاشك أن ظروف التهميش الثقافي والاجتماعي هذه ستترتب عليها نتائج جد سلبية تتجلى في ميل الشباب إلى العنف والانحراف كمظاهر للاختلال الاجتماعي الذي يعانيه الشباب الأوربي عموماً والذي يصدر عنه كنوع من الاحتجاج أو محاولة لإثبات الذات أو رد الاعتبار.
وإذا كانت ظاهرة الانحراف موجودة بالفعل في صفوف الشباب المسلم، فإنه يجب معالجتها بواقعية وعدم إهمالها، غير أنه يجب التحسب هنا لمحذورين وهما ربطها بالدين أو بالهجرة، بما أنها نتيجة خلل عام، كما ينبغي النظر إليها في حجمها الفعلي دون تهويل أو مبالغة .
سبقت الإشارة إلى أن من وظائف الأسرة ربط حلقات المجتمع ببعضها بنقل قيم وثقافة المجتمع للأجيال المتوالية عن طريق التربية مما يجعل المرء يتساءل؛ أية علاقة تربط الأجيال المسلمة في بلاد أوربا، هل هي علاقة صراع أم تواصل؟
الواقع أن الأسرة الإسلامية حملت معها إلى المهجر تراثاً اجتماعياً يؤسس الأوضاع والأدوار والعلاقات على قاعدة ترتيب عمودي تكون للأجيال الكبيرة فيه »هيمنة« على الأجيال الناشئة، غير أن هذا النظام وجد نفسه في مواجهة نظام آخر للأوضاع والعلاقات قائم على المساواة بحكم ترتيب أفقي تبرز فيه مكانة الفرد، الشيء الذي نتج عنه اضطراب وصراع في المواقف والسلوكيات واختلال في الروابط التي يقوم عليها بناء الأسرة المسلمة، ولعل هذا ما يبرز بشكل أساسٍ في العلاقات بين الأجيال، وإذا كان صراع الأجيال ظاهرة عادية وعامة وكونية، فإنها تتخذ هنا طابعاً خاصاً بحكم التفاوت الكبير في المستوى الثقافي والفكري بين جيل الآباء والأبناء، فالآباء الذين هم في الغالب أميون قد تربوا ونشأوا في بيئة اجتماعية وثقافية معينة ويمثلون نموذجاً معيناً للتفكير، وليسوا مهيئين نفسياً وعقلياً واجتماعياً للاندماج في الوسط الجديد.(1/9)
أما الأبناء فهم على غير هذا الحال، إذ هم قد ولدوا في أوربا، وتشبعوا في نشأتهم بعاداتها وقيمها وأصبحوا منسجمين فيها أكثر من انسجامهم في ثقافة الآباء التي غالباً لا يستوعبونها و لا يؤمنون بصلاحيتها وجدواها في البيئة الأوربية.
و من هنا يأتي مصدر الصعوبات التي تتمثل في اختلاف التصوّرات ووجهات النظر للأشياء وتقييم الأفكار والمواقف، وكثيراً ما تزداد هذه الصعوبات حدة خصوصاً في مرحلة المراهقة عند الأبناء فتصل إلى نوع من التنافر والقطيعة ينتفي معها الانفتاح والحوار وبالتالي يغيب التواصل.
ولاشك أن غياب السلطة التربوية للآباء أو تقلص فاعليتها على الأقل، إضافة إلى الموقف الغامض من الهوية عند الأبناء وازدواجية النماذج والمرجعيات المطروحة عليهم يجعلهم يعيشون صراعاً نفسياً يميلون إلى حسمه سواء بالقطيعة النهائية مع مرجعية الآباء أو بالحفاظ على الصلة، ولكن ثمن ذلك سيكون ازدواجية في الشخصية.
التوعية بضرورة الاستقرار و توطين المسلمين في الغرب
معلوم لدى المختصّين من علماء الاجتماع أن العامل السكاني مؤثر تأثيرا مهمّاً فيما يتعلق بالأنشطة النوعية للناس في مكان ما. و كون تمركز المواطنين المسلمين في مناطق وأمكنة متقاربة، قد جعل منهم تجمعات سكانية ذات خصائص متجانسة نوعا ما. فمعدّلات الولادات لديهم تفوق في بعض المناطق الأسر الغربية، و عليه فإنهم أصبحوا عبارة عن أقليات لها خصائصها السكانية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية. والخلاصة هي أن الإسلام أصبح إحدى الديانات السماوية الحاضرة في الغرب بفضلهم، ويكاد يكون هو الديانة الثانية في بعض تلك الدول. ويشير التقرير الختامي لاجتماع الخبراء لوضع استراتيجية العمل الثقافي في الغرب لهذه الوضعية الجديدة والمتمثلة في استقرار الإسلام والمسلمين في الدول الغربية حينما يقول :(1/10)
ـ إن الوجود الإسلامي في أوربا غدا واقعاً حياً مستقراً يضرب بجذوره في أجزاء من أوربا، التي عاشت ردحاً من الزمان في ظل الإسلام، وأسهمت من خلال تعاليمه المضيئة وحضارته الزاهرة، في الحضارة الإنسانية »و تلك الأيام نداولها بين الناس«.
ـ إن الوجود الإسلامي بواقعه وقضاياه بات يمثل ثقلاً بشرياً وحضارياً يستأثر باهتمام المخططين والاستراتيجيين على مستوى العالم الإسلامي، وعلى مستوى قادة الرأي و المسئولين في المجتمعات الأوربية.
ـ إن المسلمين بفعاليتهم المختلفة أصبحوا جزءاً لا يتجزأ من مجتمعهم الأوربي الكبير، لديهم القدرات والكفاءات الذاتية التي تخولهم امتلاك زمام أمورهم، والتخطيط لحاضرهم ومستقبلهم والقيام بدورهم الإيجابي.
وتأسيساً على كل ذلك، لا يمكن أن نترك الأجيال المغتربة اليوم في حالة العزلة، كما لا يمكن تركها في حالة التشتت والانقسام إلى طوائف وتيارات، بل إن ضرورة العمل الإسلامي تفرض علينا إيجاد استراتيجية لحماية الهوية الثقافية للمسلمين من الاستلاب الفكري الذي يهدد معتقداتها الإسلامية، وذلك بالاعتماد على المرجعية الثقافية الإسلامية الأصيلة.
مراجع
1) القرآن الكريم
2) الحديث الشريف Cd شركة صخر للمعلوماتية
3) التفسير Cd صخر القرآن مع التفسير
4) د. عبد العزيز بن عثمان التويجري، تقديم الاستراتيجية الثقافية للعالم الإسلامي، منشورات الإيسيسكو.
5) إعلان سنة 1997 كسنة أوروبية لمحاربة العنصرية.
6) عبد الصمد بنكيران، ملاحظات حول واقع الأسرة المسلمة في أوروبا، أعمال جامعة الصحوة الإسلامية حول الإسلام والمسلمين بأوروبا، الدار البيضاء، المغرب،1997 .(1/11)
...
تقييم عام للفقه السياسي الإسلامي
إعداد
الدكتور/ صلاح الدين سليم أرقه دان
بحث مقدم
للدورة السادسة عشرة للمجلس - اسطنبول
جمادى الأخرة 1427 هـ / يوليو 2006 م
شكر وتقدير
"لا يشكر الله من لا يشكر الناس"(1).
أوجّه التحية والشكر الخالص إلى المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث
متمثلا بالسادة العلماء القائمين على هذه الندوة
للفرصة التي أتاحوها لي ولبقية الاخوة المشاركين من العلماء والباحثين،
في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى التواصل والتدارس والتفاهم
لترشيد مسيرة أمتنا المعاصرة والتخطيط لمستقبلها،
فلهم أخلص الثناء وأصدق الامتنان.
المحتويات
شكر وتقدير ... 2
المحتويات ... 3
ملخص البحث؟ ... 5
ماذا نعني بالفقه السياسي الإسلامي؟ ... 7
اهتمام المسلمين بالسياسة ... 8
هل يوجد في الإسلام نظرية سياسية؟ ... 9
السياسة في التصور الإسلامي ... 11
معنى السياسة اصطلاحاً ... 11
الخلافة لحراسة الدين وسياسة الدنيا ... 12
هل يوجد في الإسلام نظرية سياسية؟ ... 15
النظرية السياسية أوسع من دراسة الدولة نفسها ... 19
ممارسة السياسة حصيلة الحاجة والأمر الواقع ... 20
تكامل الإسلام وشموله وتلبيته لحاجات الإنسان ... 21
المرونة والثبات في الفكر الإسلامي عامة وفي السياسة خاصة ... 22
عالمية الإسلام واستمراره ... 24
والخلاصة فيما تقدم ... 25
هل نعيش حياتنا في غياب كامل عن الإسلام؟ ... 26
الطلاق النكد بين الأنظمة والتنظيمات ... 27
الافتقار إلى حرية العمل السياسي ... 29
الاقتصار على النخبة ... 30
غياب المؤسسات السياسية التخصصية ... 31
غياب النقد الذاتي عند الأفراد والجماعات ... 31
غياب مؤسسات متكاملة مع العمل السياسي ... 32
ضبابية الرؤية في التقنين للشورى وممارستها ... 33
الاقتصار على تجارب الماضي ... 34
نمطية معظم خريجي المعاهد والكليات الشرعية ... 34
العاطفة والمثالية في الطرح السياسي ... 35
__________
(1) رواه أحمد والترمذي وأبو داود من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - ، وقال الترمذي: حديث صحيح.(1/1)
حصر العمل السياسي في إطار السعي للسلطة ... 36
هموم العالم الإسلامي.. ثغرات في جدار السياسة ... 38
سبل الخروج ... 38
المصادر والمراجع ... 39
(1) المصادر ... 39
(2) المراجع ... 42
(3) دوريات وصحف ... 46
ملخص البحث؟
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين والمرسلين، وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد.
فلم يعد الشأن السياسي أمراً مقصوراً على فريق واحد من الناس بعدما أطلقت أحداث العصر رياح المعاناة في كل اتجاه، وسيست كل كائن حي ذي نفس في العالم الإسلامي، الذي أطلق عليه مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق زبغنيو برجنسكي Zbiginew Brizenski، هلال الأزمات Crescent of Crisis، الذي أصبح علماً على دولنا الغنية بالنفط وبالمتمردين على النظام العالمي الجديد(1)، وقد أحيا بشعاره هذا وصف القرن السابع عشر الميلادي للعالم الإسلامي بأنه "الفزع الأكبر للعالم"(2).
ومن الواضح أن القضية الفلسطينية لم تعد وحدها تحتكر هموم المسلم المعاصر وقد فاضت أقطار أخرى بدماء وأشلاء ومآسٍ صبت جميعها في مربع الاستنزاف المستديم الذي يستهلك طاقات الأمة ومستقبلها.
__________
(1) Ivo H. Daalder, Nicole Gnesotto, and Philip Gordon, eds. Crescent of Crisis, U.S.-European Strategy for the Greater Middle East, Brookings Institution Press and the EU Institute for Security Studies 2006.
(2) أطلق المؤرخ الإنكليزي ريشارد نولز Richard Knolles (ت1603م) هذه الصفة على الدولة العثمانية الي نظر إيها ممثلاً وقائداً لجميع مسلمي العالم في كتابه The General History of the Turks. وكان الغربي يطلق على أي مسلم لقب تركي، وعلى الدين الإسلامي: دين الأتراك، سواء كان المسلم عربياً أو أفريقياً أو أوروباً، من شرق المتوسط أو من غربه.(1/2)
وبالرغم من الصحوة الإسلامية التي نرى مظاهرها في جميع أرجاء العالم الإسلامي ودول الانتشار، إلا أن ميادين العمران البشري؛ كالسياسة والاقتصاد والاجتماع؛ بقيت بعيدة عن التخصص العلمي المطلوب، فلا الكليات والمعاهد الشرعية الحكومية والخاصة، ولا المؤسسات الدعوية الإسلامية على اختلاف مشاربها، أولت هذه الميادين اهتمامها كما فعلت في ميدان الفكر العام والفقه التفصيلي.
ولا أنتقص هنا من جهود العاملين في ميدان السياسة أو العمل العام، وبعضهم وصل إلى سدة الحكم، ولكنني أرى أن الممارسة العملية لم يواكبها حركة اجتهادية تنظّر وتقنّن من داخل الفقه الإسلامي وليس من خارجه، فأغلب كتّاب السياسة والاقتصاد والاجتماع من الإسلاميين مقلّدون غير مجتهدين، متأثرون بالفكر السياسي السائد وبالفكر الاقتصادي السائد وبالفكر الاجتماعي السائد، وكتاباتهم الإسلامية في هذه الميادين –على الأغلب- محاولة توفيق وتقريب ما بين التجربة الغربية والفقه الإسلامي، بل هم فريقان، فريق يغلب قاعدة "عموم البلوى" فيستسيغ نتائج التجربة الغربية المعاصرة، وفريق منصرف عن العصر يغلّب قاعدة "لا تراءى ناراهما"(1).
فلا عجب أن نجد المسيرة السياسية الإسلامية متعثرة، لا لوجود عقبات خارجية فقط، بل لغياب منهج واضح في السياسة وممارستها من حيث هي علم وضرورة، وفي إيجاد نموذج تطبيقي واقعي ملموس يرى الناس فيه بأم العين ماهية السياسة الإسلامية ومفرداتها في الحياة اليومية.
__________
(1) جزء من حديث أخرجه أبو داود في سننه، الحديث رقم 2645، والترمذي في جامعه، الحديث رقم 1604. وروى الطبراني عن قيس بن أبي حازم عن خالد بن الوليد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث خالد بن الوليد إلى ناس من خثعم فاعتصموا بالسجود فقتلهم فوداهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنصف الدية ثم قال : " أنا بريء من كل مسلم أقام مع المشركين لا تراءى ناراهما " .(1/3)
لقد نجح الإسلاميون، حكوميين وأشباه حكوميين ومستقلين، في ترسيخ شمولية الإسلام للدين والدنيا، وفي أن السياسة جزء لا يتجزأ من حياة المسلم، ونجح الإسلاميون في خوض معارك سياسية من مواقع مختلفة، بعضها مواقع حكم وسلطان، ونجحوا في أن يكون السؤال عن الإسلام والمسلمين حاضراً في حركة العصر السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولكنه نجاح ردة الفعل على ما يمارسه الآخر، ونجاح مقاومة هيمنة الآخر، وأظن أن المطلوب لتحقيق سياسة إسلامية –في عالم الفكر والواقع- الانطلاق من رؤية واضحة للمستقبل على ضوء الإسلام في شموليته وتعامله مع احتياجات الإنسان الفطرية والقابلة للتعامل مع التحديات المستجدة، لا للمسلم وحده، بل للعالم كله.
ومن جهة أخرى؛ لم ينجح التيار الإسلامي في إيجاد مؤسسات تشكل المطبخ السياسي، كمؤسسات البحث والإحصاء ومؤسسات الدراسات والتدريب، وما قام منها اقتصر عمله على جانب واحد من جوانب العمل السياسي، وهو خوض العمل السياسي من موقع السلطة أو موقع المعارضة، ونحن بصراحة نحتاج إلى مؤسسات دراسات تعمل ما يلي:
تؤصل وتقعد الفكر الإسلامي السياسي بمنهجية لا تقتصر على كتب الأحكام السلطانية.
تستحدث فرعاً من فروع المعرفة يتعلق بدراسة وتحليل نصوص الكتاب والسنة سياسياً.
ترسم صورة واضحة لمؤسسات الدولة وعملها.
تجلو معنى الشورى وطرق ممارستها وضمانات استمرارها.
توضح سبل تعبير الأمّة عن إرادتها من خلال اختيار حر لا إكراه فيه.
تجيب على الأسئلة القلقة في الساحة الإسلامية أولاً والدولية ثانياً مثل: الحريات العامة، ومشاركة غير المسلمين في إدارة الدولة والمجتمع، وموقع المرأة في المنظومة السياسية الإسلامية، ودور المسلمين في دول الانتشار خارج العالم الإسلامي، إلخ.
تستطلع الرأي ضمن المعايير العلمية المعتمدة.
تقوم بدراسات سياسية مقارنة.
تدرس التجارب التاريخية والمعاصرة.
تضع برامج إعداد القيادات السياسية.(1/4)
ترسم استراتيجيات نشر ثقافة إسلامية سياسية حقيقية.
وسواها من المواضيع التي تشكل أسس العمل السياسي.
ماذا نعني بالفقه السياسي الإسلامي؟
يُوصف الإنسان المعاصر "بأنه إنسان سياسي"(1)، ورأى العلامة ابن خلدون (ت808هـ) (المُلْك) و(السياسة) ظاهرة إنسانية(2)، وأنها ضرورة لا انفكاك عنها(3)، ورجّح خيرها على شرها(4)، وربط بينها وبين الحضارة(5) لأن الدولة لا تتصور دون عمران، ولأن العمران متعذر دون الدولة والملك(6).
وابن خلدون يعني بالسياسة: "قابلية كل إنسان لأن يكون رئيساً ومرؤوساً، ولأن يكون حاكماً ومحكوماً، ولأن يكون قائداً ومنقاداً، بحيث لا يميز في هذا المجال بين إنسان وآخر بقدرته المادية، أي بنسبه، أو ثروته، أو سلاحه، أو طبقته، أو طائفته، بل بطاقته الروحية، أي بأهليته لأن يكون أكفأ من سواه لتحمل المسؤولية الرئاسية"(7).
ويرفع شيخ الإسلام ابن تيمية (أحمد بن عبد الحليم، ت728هـ) ممارسة السياسة بمعناها السلطوي إلى درجة (الأمانة) التي يحرم إغفالها أو التفريط بها، تأسيساً على قوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل، إن الله نعمّا يعظكم به، إن الله كان سميعاً بصيراً} [النساء/58](8).
__________
(1) د. محمد علي محمد ود. علي عبد المعطي محمد، السياسة بين النظرية والتطبيق، بيروت، دار النهضة العربية، 1405هـ/ 1985م، ص11-12.
(2) ابن خلدون، المقدمة، تحقيق: درويش الجويدي، صيدا-بيروت، المطبعة العصرية، ط2، 1416هـ/1996م، ص138.
(3) مقدمة ابن خلدون، العصرية، ص277-278.
(4) مقدمة ابن خلدون، العصرية، ص133.
(5) سماها: العمران البشري.
(6) مقدمة ابن خلدون، العصرية، ص349.
(7) د. حسن صعب، علم السياسة، بيروت، دار العلم للملايين، ط8، 1985م، ص18.
(8) ابن تيمية، السياسة الشرعية، بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 1409هـ/ 1988م، ص8.(1/5)
وبالرغم مما تقدم ما زال المسلمون وغيرهم يسألون: هل المعرفة السياسية، وهل الوعي السياسي، ضمن التصور الإسلامي، أمر ميسور، وواضح لدي العامة والخاصة، وهل تشكل هذه المعرفة وهذا الوعي الأولوية في خضم أزماتنا المتراكمة؟
أسئلة يسهل طرحها، وتصعب الإجابة عليها.
فللأسف؛ هناك شح في المصادر السياسية التي تتحدث عن (السياسة الإسلامية) من حيث هي نظرية بحتة(1)، أو عن (التحليل السياسي في التصور الإسلامي) من حيث هو فن قائم بذاته له أصوله وقواعده، وليس وليد النشاط الشخصي، أو المواصفات الذاتية للأفراد، أو تطبيقاً لمناهج الغربيين في نظرتهم للسياسة ومؤسساتها وسبل ممارستها، مع إدراكنا إمكانية نجاح الأفراد في ميدان (الممارسة السياسية) أو (ممارسة العمل العام).
__________
(1) نستخدم مصطلح (نظرية) هنا بمعنى القواعد التي تقعّد للمنهج العملي، ولا نعني بحال من الأحوال أن ما طرحه الإسلام مجرد (فكرة) أو (نظرية) عابرة تحتمل التصديق والتكذيب وتخضع للتجربة البشرية بعيداً عن صوابية نصوص الوحي وصدقها وثباتها، إنما فهم الناس لقواعد الإسلام وكيفية تطبيق أحكامه هي محك المحاكمة، ومحك الاجتهاد المعرّض بدوره للخطأ والصواب.(1/6)
وجل ما يتوفر لدينا من تراث السلف؛ في هذا الخصوص؛ دراسات تتعلق (بالأحكام السلطانية)، وهي الأحكام الفقهية المتعلقة بالإمارة والوزارة والبيعة والولاء والبراء والحسبة والقضاء، وكل مظهر من مظاهر السلطة والولاية، وقد جاء أغلبها توصيفاً لما قامت عليه الدولة العباسية، وبعض آلياتها مقتبس من النظام الفارسي(1)، وعاد بعضها بالتأصيل إلى فترة السقيفة واستخلاف أبي بكر - رضي الله عنهم - وكان أغلب ما كتب سرداً للمراحل التاريخية التي مرّت بها دولة الإسلام حتى وصلت إلى الصيغ المدونة في كتب (الأحكام السلطانية) و(السياسة الشرعية) التي نضجت في القرن الخامس الهجري.
وبسبب الاقتصار على سرد الأحكام الفقهية وتوصيف آليات السلطة التنفيذية في الإسلام، يفتقد علم السياسة لدى المسلمين -كما لدى غيرهم- إلى "التحديد الدقيق الذي يجب أن يتوافر للعلم بصفة عامة، سواء على مستوى المجال الذي يتحرك فيه، أو المصطلحات والمفاهيم المستخدمة في التحليل، وذلك برغم البساطة التي يبدو عليها لأول وهلة"(2).
__________
(1) انظر: د. أحمد البغدادي، الفكر السياسي عند أبي الحسن الماوردي، الكويت، مؤسسة الشراع، ط1، 1984م، ص7-10.
(2) د. محمد علي محمد ود. علي عبد المعطي محمد، السياسة بين النظرية والتطبيق، ص13.(1/7)
وتأكيداً لهذه الضبابية العامة التي تلفّ علم السياسة تبدأ (موسوعة العلوم السياسية) بالجملة التالية: "يعرف كل امرىء عن السياسة، ولكن لا يفهمها أحد"(1). وعن صعوبات البحث في الفكر السياسي تقول: "يواجه بعض الصعوبات، أهمها أن موضوعه يفتقر إلى التحديد والوضوح، وان تدريسه يواجه بالشك في جدواه، فارتباطه بالمشكلات العملية وقضايا التأهيل غير بيّن، وان منهجه ما زال يغلب عليه الطابع الوصفي أكثر من النقدي والتحليلي"(2).
اهتمام المسلمين بالسياسة
لم يكن اشتغال المسلمين في عصور حياتهم وازدهار دولتهم بأمور السياسة مقصوراً على المحليات، وإنما تعدوْها إلى أحداث العالم وانعكاسها على الساحة الإسلامية، وعلى واقع المسلمين ومستقبلهم، وهي قضية لا تحتاج الى استفاضة في الشرح والتعليق، وليست وليدة الأمس القريب، ولكنها عملية مستمرة عبر التاريخ، مارستها الجماعة المسلمة الأولى؛ منذ العهد المكي؛ قبل بناء الدولة الإسلامية يوم تابع النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه الصحابة - رضي الله عنهم - تطورَ الصراع بين الفرس والروم، وقد خص القرآن الكريم مطلع سورة الروم شاهداً على هذا الإهتمام وتلك المتابعة، في قوله تعالى: {ألم* غُلِبت الرومُ* في أدنى الأرضِ وهم من بعْدِ غَلَبِهم سيغْلِبُون* في بضع سنينَ للهِ الأمرُ من قبلُ ومن بعدُ ويومئذٍ يفرحُ المؤمنون* بنصرِ اللهِ ينصرُ من يشاءُ وهو العزيزُ الرحيمُ* وعْدَ اللهِ لا يُخلفُ اللهُ وعدَه ولكنّ أكثرَ الناسِ لا يعلمونَ} [الروم/1-6].
__________
(1) جامعة الكويت، موسوعة العلوم السياسية، لمجموعة من الكتاب والباحثين، تحرير: محمد محمود ربيع وإسماعيل صبري مقلد، 1993/1994م، ص39.
(2) جامعة الكويت، موسوعة العلوم السياسية، ص104.(1/8)
ولئن وجد في تاريخنا من دعا إلى الانغلاق عن العالم الخارجي، فهو استثناء لا سند له من النصوص، ولم تكن عليه ممارسة السلف، ولئن كان الاهتمام بالساحة الدولية وانعكاسها على واقع الأمة ومستقبلها مطلوبا في ذلك العصر المبكر فالاهتمام اليوم أكثر وجوبا لما عليه عالمنا من الانفتاح والترابط، ولما وصلت إليه المدنية من سبل الاتصال والتأثير، حتى أضحى هذا الترابط نسيجاً واحداً يجعل الخلاص من المعادلات الدولية أمراً مُحالاً، ونستطيع الجزم بأنه لا توجد بقعة في عالم اليوم لا تخضع لمعادلات الصراع الدولي، أو بمنأى عن التأثر به، بل من المعروف أن الصراع اليوم انطلق إلى الفضاء الخارجي بعدما تمكّن في الأرض وكواها من مخططاته وألاعيبه. وبذلك نرى التغافل عن هذه المعادلات والقوى المتحكمة فيها جهلٌ يأثم عليه المسلمون، لأنه يحول بينهم وبين تحقيق (الاستخلاف) الواجب عليهم بالشكل الملائم، فضلا عن ان حياتهم وكرامتهم تصير عرضة لطمع الأعداء المتربصين.(1/9)
واقرأ إن شئت بتمعّن قول عالم فذّ بزّ أقرانه بما له من أفق واستشراف، يقول في تلازم السياسة والشريعة ما يلخص جملة أمور نسعى للوصول إليها، استمع إلى أبي حيان التوحيدي(1) يقول: "على أن الشريعة متى خلت من السياسة كانت ناقصة، والسياسة متى عريت من الشريعة، كانت ناقصة"(2)، ويقول ابن قتيبة (عبد الله بن مسلم، ت276هـ): "وليس الطريق إلى الله واحداً، ولا كل الخير مجتمعاً في تهجد الليل، وسرْد الصيام، وعلم الحلال والحرام، بل الطرق إليه كثيرة، وأبواب الخير واسعة، وصلاح الدين بصلاح الزمان، وصلاح الزمان بصلاح السلطان، وصلاح السلطان؛ بعد توفيق الله؛ بالإرشاد وحسن التبصير"(3)، لتدرك مكانة السياسة في التصوّر الإسلامي.
هل يوجد في الإسلام نظرية سياسية؟
الدافع إلى هذا التساؤل أن النظرية تضبط الممارسة، وتشكل الأصول التي ترتكز عليها أعمال وأفكار العاملين في هذا النشاط الإنساني.
__________
(1) علي بن محمد، المتوفى نحو 400هـ.
(2) أبو حيان التوحيدي، نحو400هـ، الإمتاع والمؤانسة، تحقيق: أحمد أمين وأحمد الزين، القاهرة، لجنة التأليف والترجمة والنشر، ط2، ص2/33.
(3) ابن قتيبة، عيون الأخبار، بيروت، دار الكتاب العربي، ب.ت، المقدمة، ص (ي).(1/10)
والسؤال نفسه قد يبدو ساذجاً لولا أن فريقاً من المستشرقين، وجماعةً من تلاميذهم، يطرحونه بقوة، فقد أنكر علي عبد الرازق، في كتابه: (الإسلام وأصول الحكم) أن يكون في الإسلام (سياسة) أو (دولة)، فهو يرى في النبي - صلى الله عليه وسلم - : "رسولاً كإخوانه الخالين من الرسل، وما كان ملكاً ولا مؤسس دولة، ولا داعياً إلى ملك"(1)، ويذهب مذهبه كل من د. طه حسين في كتابيه: (الشعر الجاهلي) و(الفتنة الكبرى). ود. حسين فوزي النجار، في كتابه: (الإسلام والسياسة). والمستشار سعيد العشماوي في كتابه: (الإسلام السياسي)، وخالد محمد خالد في كتابه: (من هنا نبدأ)(2).
بينما يؤيد فيه جمهور العلماء والدعاة وقادة العمل التنظيمي الإسلامي قول القائل: "إن من يقول بفصل الدين عن السياسة، لا يفهم في الدين ولا يفهم في السياسة"(3).
ولهذا وذاك يتساءل بصدق المتعلم وهمته: أين نجد هذا القدر من السياسة في التراث الإسلامي، تنظيراً وتقعيداً وتنفيذاً؟ وذلك لقناعته بأن الحكم أو الدولة ما هي إلا انعكاس وترجمة للفكر السياسي.
وفي الآثار المروية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على كون السياسة جزءاً لا يتجزأ من الشريعة الإسلامية، كرواية أبي أمامة الباهلي، عنه - صلى الله عليه وسلم - : "لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، وكلما انتقضت عروة تثبت الناس بالتي تليها، وأولهن نقضاً الحكم، وآخرهن الصلاة"(4).
__________
(1) علي عبد الرازق، الإسلام وأصول الحكم، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1993؟، ص64-65.
(2) ثم تراجع عن ذلك في كتابه (الدولة في الإسلام) .
(3) عبد الرحمن خليفة، في علم السياسة الإسلامي، الاسكندرية، دار المعرفة الجامعية، 1990م، ص53-54.
(4) مسند أحمد.(1/11)
ونقل عن الإمام الغزالي أن السياسة في الإسلام أصل من أشرف الأصول التي لا قوام للعالم إلا بها(1)، وهذا الأصل الذي هو من أشرف الأصول لم يتم التعامل معه وبلورته كما ينبغي؛ ربما لاختلاف الزمان ومصطلحاته؛ مما أوقع المعاصرين في ربكة التعريف وتحديد القواعد الكلية التي توضح النظرية الفلسفية للسياسة في الإسلام، "وإذا كان السلف قد أخذوا على الغزّالي عدم كتابة ولو فصل واحد عن الجهاد – على سبيل المثال – في إطار حديثه عن الدولة والسياسة بصورة عامة في سفره الضخم (إحياء علوم الدين) رغم الحاجة الماسّة إليه، أسوة بما فعله ابن تيمية، فإننا اليوم بدورنا نأخذ عليهم تقصيرهم في عدم بلورة الفقه السياسي الإسلامي، وتنميته بنفس الجهد الذي أعطوه لأحكام العبادات والمعاملات"(2).
ونحتاج لتحقيق ذلك تحديداً علمياً دقيقاً للتصور الإسلامي للسياسة "وبدون التحديد العلمي الموضوعي للمفاهيم لا يمكن بلورة النظرية الإسلامية المتكاملة التي نطالب بصوغها"(3).
ولابد أن يبقى عملنا داخل إطار الإسلام نفسه "فالدين أشمل من النظرية.. ولكن بالإمكان استنباط النظرية التي نقصد من الدين"(4).
__________
(1) عبد الرحمن خليفة، في علم السياسة الإسلامي، ص50.
(2) عبد الرحمن خليفة، في علم السياسة الإسلامي، ص45.
(3) مجموعة من الكتاب، الحركة الإسلامية: رؤية مستقبلية، أوراق في النقد الذاتي، تحرير وتقديم: د. عبد الله فهد النفيسي، الكويت، يطلب من المحرر مباشرة، ط1 1410هـ/ 1989م، ص18.
(4) مجموعة من الكتاب، الحركة الإسلامية، ص19.(1/12)
ولقد أفلحت أمتنا في بلورة البعد الخيري؛ مثلاً؛ من خلال الأوقاف والمؤسسات الخيرية التطوعية، وأصّل فقهاؤنا وفصّلوا وقعّدوا للعمل الخيري، وتركوا ثروة فقهية كبيرة في ذلك، نراها مجموعةً ومتفرقةً في بطون كتب الفقه والحسبة "أما في البعد السياسي فلم توفق مثل التوفيق الذي حالفها في البعد الأول، وذلك نظراً لغياب الرؤية السياسية الواضحة والدليل النظري الذي تسترشد به"(1).
والذي يظهر لنا أن "الفكر السياسي كتراث جاء إما بصيغة فقهية للتجارب التاريخية المبكرة ككتاب (الأحكام السلطانية) للإمام الماوردي (ت450هـ)، أو بصيغة الوعظ والإرشاد الموجه للملوك والسلاطين ككتاب (التبر المسبوك في نصيحة الملوك) للإمام الغزّالي (ت505هـ)، إلا أن التطور السياسي في عالمنا المعاصر، وما يعكسه من سلب وإيجاب على حضارتنا ووجودنا؛ بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى؛ جعل من الضروري أن نواجه حقيقة الفكر السياسي الإسلامي، ونغوص في خبايا أهدافه واتجاهاته، وعدم الاكتفاء بالشعارات العامة التي لا تغير من الواقع المرير شيئاً"(2).
السياسة في التصور الإسلامي
تأسيساً على ما تقدم؛ حاول كثير من المعاصرين، لاسيما العاملين في ميدان العمل العام، إيضاح ما توصّلوا إليه بالنظر، أو نتيجة الخبرة والممارسة، ومن ذلك إجابة د. فتحي يكن على سؤال (ماذا تعني السياسة في الإسلام)؟ فقال:
__________
(1) الحركة الإسلامية، ص27.
(2) د. علي محمد الآغا، الشورى والديمقراطية، بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط؟، 1982م، ص7.(1/13)
"إن السياسة تعني في مفهومنا الإسلامي رعاية شؤون الأمة" في كل جانب من جوانب الحياة: "التشريعية والتنفيذية والتربوية والتعليمية والإعلامية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والمالية والبيئية والعلمية والثقافية والفنية. إلخ"(1).
معنى السياسة اصطلاحاً
عرّف ابن منظور (محمد بن مكرّم، ت711هـ) السياسة في موسوعته اللغوية (لسان العرب) بقوله: "والسَّوْسُ: الرِّياسةُ. يقال: ساسوهم سَوْساً. وإذا رأّسُوه قيل: سوَّسُوه وأساسوه. وسَاسَ الأمرَ سياسةً: قام به. ورجل ساسٌ من قوم ساسة وسُوّاس. أنشد ثعلب:
سادَة قادة لكل جميعٍ * ساسَة للرجال يومَ القِتالِ
وسَوّسَه القومُ: جََعلوه يَسُوسُهم. ويقال: سُوِّسَ فلانٌ أمرَ بني فلان، أي كُلِّف سياستهم. الجوهري: سُسْتُ الرعيةَ سياسةً. وسُوِّسَ الرجلُ أمورَ الناس، على ما لم يُسَمَّ فاعله، إذا مُلِّك أمرَهم. ويروى قول الحطيئة:
لقد سُوِّسْتَ أمرَ بَنيك، حتى * تركتَهم أدقَّ من الطحين
وقال الفراء: سُوِّست، خطأٌ. وفلانٌ مُجرَّبٌ قد ساسَ وسيسَ عليه، أي أمَرَ وأُمِرَ عليه. وفي الحديث: "كان بنو إسرائيل يسُوسُهم أنبياؤهم"، أي تتولى أمورَهم كما يفعلُ الأُمراءُ والوُلاةُ بالرَّعيَّة. والسياسة: القيامُ على الشيء بما يُصلِحُه) إهـ"(2). فهي عنده لفظة عربية لا ريب فيها، ولا يختلف معناها عما يفهمه الناس منها اليوم، وهي الاشتغال بأمور الرعية على سبيل القيادة والتدبير.
__________
(1) د. فتحي يكن، أضواء على التجربة النيابية الإسلامية في لبنان، الكتاب الأول: الأداء النيابي بين المبدأ والتطبيق، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط1، 1416هـ/1996م، ص19-21.
(2) ابن منظور، لسان العرب، قم، نشر: آداب الحوزة، 1405هـ، ص6/108.(1/14)
ويخالفه المقريزي (أحمد بن علي، ت845هـ) الذي يراها مصطلحاً دخيلاً عرِّب عن المغولية، ويعني جملة القوانين التي حكم بها جنكزخان وخلفاؤه(1).
ويخرج الفقيه الحنبلي علي بن عقيل (ت513هـ) من دائرة البحث اللغوي للكلمة ليرسم ما ينبغي أن تكون عليه في واقع الناس، فيقول في تعريفها: "السياسة ما كان فعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ولا نزل به الوحي"(2).
__________
(1) المقريزي، المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، القاهرة، مكتبة الثقافة الدينية، تصوير بالأوفست، ب.ت، ص2/220 ويرى د. رضوان السيد أن موقف المقريزي في هذا التعريف تعبير عن (معارضة) حكم المماليك، الذين هم في النتيجة من جنس الترك الذين حكموا بكتاب جنكيزخان، ويراه امتداداً لنقد الفقهاء من مختلف المذاهب ابتداء من القرن الخامس الهجري (أيام السلاجقة)، فقد فعل ذلك الجويني (ت478هـ) في البرهان والغياثي، وابن عقيل (ت513هـ) وابن تيمية (ت728هـ) وابن القيم (ت751هـ). انظر (الحياة) اللندنية عدد12903، تاريخ 2/7/98م، ص19.
(2) ابن القيم، الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، تحقيق: محمد جميل غازي، القاهرة، مطبعة المدني، ط؟، 1977م، ص17.(1/15)
فيما يستند الفقيه الحنفي ابن نجيم (زين الدين بن إبراهيم، ت970هـ) على مصطلحات الفقهاء ليؤكد أن لفظة (السياسة) لم تعرف في الاستخدام بالمعنى الذي وصلت إليه في عصره(1)؛ فيقول: "ولم أر في كلام مشايخنا تعريف السياسة". ثم ينقل عن المقريزي قوله السابق، ثم يتابع فيقول: "والسياسة نوعان: سياسة عادلة تخرج الحق من الظالم الفاجر، فهي من الشريعة، علمها من علمها وجهلها من جهلها، وقد صنف الناس في السياسة الشرعية كتباً متعددة. والنوع الآخر سياسة ظالمة، فالشريعة تحرّمها"(2).
وعلّق، خاتمُ محققي الحنفية، ابن عابدين (محمد أمين بن عمر، ت1202هـ) في حاشيته على البحر الرائق المسماة (منحة الخالق على البحر الرائق) على قول ابن نجيم: "ولم أرَ في كلام مشايخنا تعريف السياسة"، فقال: "وظاهر كلامهم هنا أن السياسة هي فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها، وإن لم يرد بذلك الفعل دليل جزئي"(3).
ومن خلال ما تقدم "نخلص إلى أن السياسة الشرعية نوعان اثنان:
أولاً: أحكام الوقائع التي لا يوجد لها دليل خاص صريح في القرآن ولا السنّة، ولا الإجماع، ولا يوجد لها دليل تقاس عليه.
__________
(1) القرن العاشر الهجري.
(2) ابن نجيم، زين الدين بن إبراهيم، ت970هـ، البحر الرائق.. شرح كنز الدقائق، بيروت، دار الكتاب الإسلامي، ط2 بالأوفست، ص5/76.
(3) ابن نجيم، البحر الرائق، ص5/76.(1/16)
ثانياً: الأحكام التي من شأنها ألا تبقى على وجه واحد، وإنما تختلف باختلاف العصور والأحوال، وتتبدل بتبدل المصالح، وتتغير بتغير الظروف والمجتمعات. فالوقائع التي لا يوجد لها دليل خاص صريح من النصوص والإجماع، ولا يوجد لها نظير تقاس عليه، فإن السياسة الشرعية كفيلة بالحكم فيها بما يوافق روح الشريعة الإسلامية ولا يصطدم بنص من النصوص، ولا يخالف إجماعاً ولا قياساً"(1).
الخلافة لحراسة الدين وسياسة الدنيا
أما (الخلافة) من حيث هي مؤسسة تسهر على استمرار تعاليم الإسلام، وعلى مصالح الأمة الإسلامية، فأمر أقره علماء الإسلام من السلف والخلف، ومنهم الماوردي (علي بن محمد، ت450هـ) القائل: "الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين، وسياسة الدنيا، وعقدها لمن يقوم بها في الأمة واجب بالإجماع، وإن شذّ عنهم الأصمّ"(2).
__________
(1) د. فتحي يكن، أضواء على التجربة النيابية الإسلامية في لبنان، الكتاب الأول، ص22، نقلاً عن مذكرة: نظام الحكم، للدكتور عبد العال عطوة، وكتاب: أوليات الفاروق السياسية، للدكتور غالب عبد الكافي القرشي.
(2) الماوردي، الأحكام السلطانية والولايات الدينية، تخريج وتعليق: خالد عبد اللطيف السبع العلمي، بيروت، دار الكتاب العربي، ط1، 1410هـ/1990م، ص29.
والأصم: أبو بكر، عبد الرحمن بن كيسان، توفي نحو 225هـ، فقيه معزلي مفسّر. كان من أفصح الناس وأفقههم وأورعهم، خلا أنه كان يخطّئ الإمام علياً - رضي الله عنهم - في كثير من أفعاله، ويصوّب معاوية في بعض أفعاله. وله "تفسير" وصف بأنه عجيب، و"مقالات" في الأصول، ومناظرات مع ابن الهذيل العلاف. قال ابن حجر: هو من طبقة ابن الهذيل وأقدم منه. وقال القاضي عبد الجبار: كان جليل القدر، يكاتبه السلطان. [الزركلي3/323].(1/17)
وروى الإمام ابن حزم (علي بن أحمد، ت456هـ)، إجماع الأمة على وجوب تنصيب إمام، فقال: "اتفق جميع أهل السنة، وجميع المرجئة، وجميع المعتزلة، وجميع الشيعة، وجميع الخوارج على وجوب الإمامة، وأن الأمة فرض واجب عليها الانقياد لإمام عادل يقيم فيهم أحكام الله، ويسوسهم بأحكام الشريعة التي أتى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، حاشا النجدات من الخوارج، فإنهم قالوا: لا يلزم الناس فرض الإمامة وإنما عليهم أن يتعاطوا الحق بينهم، وهذه فرقة ما نرى بقي منها أحد، وهم المنسوبون إلى نجدة بن عامر الحنفي القائم باليمامة"(1).
ويؤكد الفراء (محمد بن الحسين، ت458هـ) وجوب تنصيب الإمام، فيقول "نصبة الإمام واجبة. وقد قال أحمد في رواية محمد بن عوف بن سفيان الحمصي: الفتنة إذا لم يكن إمام يقوم بأمر الناس"(2)، و"قال في رواية المروذي: لابد للمسلمين من حاكم، أتذهب حقوق الناس"؟(3).
ويربط شيخ الإسلام؛ ابن تيمية (أحمد بن عبد الحليم، ت728هـ) بين السياسة وممارسة السلطة الفعلية فيقول: "ولا يصير الرجل إماماً حتى يوافقه أهل الشوكة الذين يحصل بطاعتهم له مقصود الإمامة، فإن المقصود من الإمامة إنما يحصل بالقدرة والسلطان"(4).
__________
(1) ابن حزم، علي بن أحمد، ت456هـ، الفِصَل في المِلل والأهواء والنحل، بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 1416هـ/ 1996م، ص3/3.
(2) الفراء، الأحكام السلطانية، تصحيح وتعليق: محمد حامد الفقي، بيروت، دار الكتب العلمية، 1403هـ/1983م، ص19.
(3) الفراء، الأحكام السلطانية، ص24.
(4) ابن تيمية، منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية، تحقيق: د. محمد رشاد سالم، القاهرة، دار العروبة، ط؟ 1382هـ/1962م، ص1/365.(1/18)
ويوجب عضد الدين الإيجي (عبد الرحمن بن أحمد، ت756هـ) طاعة الخليفة على كافة الأمة لأنها من طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - : "هي خلافة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في إقامة الدين، بحيث يجب اتباعه على كافة الأمة"(1).
ويرفعها علاّمة علم الإجتماع الإسلامي؛ ابن خلدون (عبد الرحمن بن محمد، ت808هـ)؛ فوق السياسة والملك، لأنهما يرعيان مصالح العباد في الدنيا، وهي تقيم مصالح العباد في الدنيا والآخرة، ولأنها تجمع بين الأمة وصاحب الشرع، فقال: "الملك الطبيعي هو حمْلُ الكافّة على مقتضى الغرَض والشهوة، والسياسي هو حمل الكافّة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار، والخلافة هي حمل الكافّة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافةٌ عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به"(2).
والخلافة سعي دائب باتجاه تحقيق المصالح خالصة بعيداً عن المفاسد والشهوات، ولذلك دار أمر الحكم في التصوّر الإسلامي للحكم والحاكم حول الكيف وليس الكم، وبذلك تميزت (الخلافة) عن الأنظمة الديمقراطية المعاصرة التي تراعي المجموع الكلي لأصوات الناخبين ولا تركز على نوعية الاختيار الذي يحقق مصالح العباد الدينية والدنيوية، ويقيم التوازن بين جلب المصالح ودفع المفاسد(3).
__________
(1) عبد الرحمن بن أحمد الإيجي، المواقف في علم الكلام، بيروت، عالم الكتب، ب.ت، ص395.
(2) مقدمة ابن خلدون، العصرية، ط2، 1416هـ/1996م، ص178.
(3) د. محمد طه بدوي، المنهج في علم السياسة، طبعة كلية التجارة بجامعة الإسكندرية، 1979م، ص84.(1/19)
ومما يعزز قناعات المسلم باحتضان الإسلام للعمل السياسي واهتمام الشرع بهذا النشاط الإنساني الضروري، ما ورد في الآثار المعتبرة من تفصيل لمراحل الحكم التاريخية، تنبأ بها النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل وقوعها، فقد أخرج أحمد في مسنده عن النعمان بن بشير؛ قال: كنا قعوداً في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان بشير رجلاً يكف حديثه، فجاء أبو ثعلبة فقال: يا بشير بن سعد؛ أتحفظ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأمراء؟ فقال حذيفة: أنا أحفظ خطبته. فجلس أبو ثعلبة الخشني، فقال حذيفة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكاً عَاضّاً فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكا جبرياً، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة".
وفي كل ما تقدم دلالة واضحة على موقع (الحكم) بمعنى القيادة السياسية، وأشكال هذا الحكم في مسيرة الأمة المسلمة.
ولضبط مصالح العباد ودفع المفاسد عنهم وضع علماء المسلمين على رأس أهداف (الخلافة الإسلامية) ما استخلصوه من كتاب الله تعالى، فيما يتعلق بحفظ أحكام الدين ورعاية مصالح الفرد والجماعة واستمرار الدعوة على منهج النبوّة، وأبرزها:
- تعبيد البشرية لله وحده {ولقد بعثنا في كل أمةٍ رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوتَ} [النحل/36].
- وتبليغ الإسلام للناس كافّة {وكذلك جعلناكم أمّةً وسطاً لتكونوا شهداءَ على الناس ويكونَ الرسولُ عليكم شهيداً} [البقرة/143].
- والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر {كنتم خيرَ أمّةٍ أُخرجتْ للناس تأمرون بالمعروف وتنهوْن عن المنكر وتؤمنون بالله} [آل عمران/110].(1/20)
- وإزالة الفتنة من الأرض كافة، وإظهار الدين الحق على كل دين، وتحكيم الشريعة الإسلامية {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنةٌ ويكونَ الدينُ كلُّه لله} [الأنفال/39].
واشترطوا للإمام صفات واجبة، تؤهله لحمل الأمانة، ذلك لأن مؤسسة الخلافة إنما قامت على وراثة (العهد المدني) و(الخلافة الراشدة)، وبذلك كان لرأس الهرم السياسي والإداري من الشروط ما يكفي لضمان التزامه وإقامته للعدل الذي هو مقصد الشريعة، فقالوا في صفاته(1):
- الإسلام.
- والحرية والبلوغ والعقل.
- والذكورة.
- والقرشية، أو الغلبة السياسية الفعلية.
- والكفاية النفسية والجسمية.
- والعلم المؤدي الى الاجتهاد في النوازل والأحكام.
- والعدالة على شروطها الجامعة، أو الأخلاق الفاضلة والأمانة.
- والخبرة السياسية والحربية والإدارية.
وجعلوا على رأس اهتمامات ووظائف السياسة الإسلامية:
- الشورى.
- ووحدة الأمة والدولة الإسلامية.
- وسيادة الشريعة وهيمنتها.
- واستقلال الفقه والعلم عن الدولة.
- واستقلال الأمة والدولة الإسلامية عن السيطرة والنفوذ الأجنبي(2).
هل يوجد في الإسلام نظرية سياسية؟
__________
(1) فصّل ذلك الماوردي والفراء وابن تيمية وغيرهم في كتب الأحكام السلطانية، والسياسة الشرعية، كما تعرض الفقهاء في أمهات كتب الفروع لمسائل تتعلق بالخلافة والوزارة والإمارة والحسبة والقضاء إلخ. وشروطها وما ينبغي توفره في القائمين عليها، فانظره في مظّانه.
(2) انظر: د. توفيق محمد الشاوي، استراتيجية علمية للتيار الإسلامي، مساهمة في: مجموعة من الكتاب، الحركة الإسلامية: رؤية مستقبلية، أوراق في النقد الذاتي، تحرير وتقديم: د. عبد الله فهد النفيسي، الكويت، يطلب من المحرر مباشرة، ط1 1410هـ/ 1989م، ص38.(1/21)
حاول عدد من الكتّاب المعاصرين الإجابة على هذا السؤال، ومنهم وليد نويهض في (نشوء الدولة في صدر الدعوة)(1)، فأورد في مقدمته نماذج من آراء المستشرقين(2)، ونماذج من الآراء المقابلة التي يرى أصحابها وضوح الرؤية السياسية في التصور الإسلامي(3).
وأرجع نويهض أسباب تخبط مدرسة الاستشراق في هذه المسألة، وإنكارها على الإسلام وجود نظرية سياسية منذ عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وادعاءها أن الدولة نفسها إنما تطورت نتيجة الحاجة، والاقتباس من الأمم السابقة (الروم والفرس) ابتداء من العصر الأموي، وتابعها في ذلك بعض المتأثرين بدراسات المستشرقين، أرجع ذلك إلى محاولة تطبيق النموذج الأوروبي - الفكرة والدولة - على التجربة الإسلامية التاريخية، من لدن عهد النبوة وحتى اليوم.
__________
(1) وليد نويهض، الإسلام والسياسة.. نشوء الدولة في صدر الدعوة، بيروت، مركز الدراسات الاستراتيجية والبحوث والتوثيق، ط1، 1994م.
(2) انظر نقولاته من: فرد دونّر، تكوّن الدولة الإسلامية، الاجتهاد، بيروت، العدد13، خريف1991م، ص67. وبرهان غليون، نقد السياسة.. الدين والدولة، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1991م، ص58.
(3) هشام جعيط، الفتنة الكبرى، بيروت، دار الطليعة، ,1991 ص,47 ورضوان السيد، رؤية الخلافة وبنية الدولة في الإسلام، بيروت، الاجتهاد، العدد13، ص11.(1/22)
ومع ذلك لم يبلور نويهض في مقدمته ملامح هذه النظرية السياسية ولا معالمها، واكتفى بالقول بعد عرض أقوال المؤيدين والمعارضين: "وهذا يؤكد على أمر مهم، وهو أن في الإسلام (نظرية سياسية) في عهده الأول، وأن الدولة كمفهوم للحكم وممارسة للسلطة متأصلة في العقيدة، وسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - "(1).
وتعرض الكاتب فهمي هويدي للنظرية السياسية الإسلامية تحت العنوان الحضاري(2)، وعدّد في أركانها التوحيد، والحرية، والتصدي للظلم ومقاومته، وأن "الدين نهج حياة وليس مجرد علاقة بين الإنسان وربه"، والاعتراف للآخر بشرعية واجبة التقدير والاحترام مهما كان نوع وحجم الاختلاف، و"الشريعة منفصلة عن السلطة، فالقانون مصدره الله سبحانه، والسلطة مصدرها الأمة، ومن ثم فالشريعة فوق الدولة"(3).
ويستخلص د. مهدي فضل الله، النقاط التالية من سمات وملامح الإسلام، والسياسة جزء منه: "الألوهية، والثبات، والعالمية، والتوازن، والواقعية، والوحدانية"(4).
ويحددها عبد الرحمن خليفة بالتالي:
- التلازم بين النظرية والتطبيق.
- التوازن بين الروح والمادة.
- الترابط بين الدين والدولة.
- الوسطية بين الفرد والمجتمع.
- الواقعية بالنسبة لنشأة الدولة.
__________
(1) وليد نويهض، الإسلام والسياسة، ص23. ولم يقدم جبران شامية في كتابه (الإسلام هل يقدم للعالم نظرية للحكم، بيروت، دار الأبحاث والنشر، ط؟) تحديداً لذلك أيضاً، واقتصر كتابه على سرد لأنظمة الحكم الإسلامية كما تبدت من خلال تجارب الدول الإسلامية منذ الهجرة النبوية الشريفة، مع استعراض سردي لنظريات الماوردي والغزالي وابن جماعة وابن تيمية، السياسية.
(2) فهمي هويدي، 15 ركناً تحدد معالم المشروع الحضاري الإسلامي، مجلة المجلة، العدد800، 11-17/6/1995م، ص40-41.
(3) فهمي هويدي، معالم المشروع الحضاري، ص41.
(4) د. مهدي فضل الله، الشورى طبيعة الحاكمية في الإسلام، بيروت، دار الأندلس، 1984م، ص21-22.(1/23)
ويلخص عبد الرحمن خليفة أهم مبادئ الإسلام في السلوك الواقعي للمجتمع بـ"الشورى، والبيعة، والعدل، والعدالة، والمساواة، والثبات، والمرونة"(1).
أما مضمون السياسة في التصور الإسلامي، فيحددها بعض الباحثين في النقاط التالية:
- السياسة بمعنى القيادة والرياسة.
- السياسة بمعنى قواعد الحركة والتعاليم والمبادئ التي يجب أن تتحكم في مواجهة الموقف.
- السياسة بمعنى أسلوب الحكم باعتبار أن السياسة إحدى أدوات الحكم.
- السياسة بمعنى السلوك، وهو الاستجابة أو رد الفعل أزاء حدث معين(2).
ونحن نرى في النقاط السابقة كلها(3)، مدخلاً صحيحاً لنظرية الإسلام السياسية، وعلاقة العمل السياسي بالشريعة. ونعزز ذلك بما وصلنا عن الأئمة الأعلام الذين سعَوْا إلى فتح أفق الوعي داخل الصف الإسلامي بعيداً عن الارتباط الحرفي بالموروث وحده، فلم يروا مانعاً من الانفتاح على كل ما يحقق المصالح الشرعية، بشرط الالتزام بالقواعد الشرعية التي تضبط الفهم والاجتهاد فلا تحرِّم حلالاً ولا تحلل حراماً.
__________
(1) عبد الرحمن خليفة، في علم السياسة الإسلامي، الإسكندرية، دار المعرفة الجامعية، 1990م، ص30-31.
(2) انظر: فتحية النبراوي ومحمد نصر مهنا، تطور الفكر السياسي في الإسلام، القاهرة، دار المعارف، 1984م، ص2/25-26.
(3) التي أوردناها لهويدي وفضل الله وخليفة والنبراوي ومهنّا.(1/24)
ولئن عرّفت النظريات الغربية التقليدية (علم السياسة) بأنه ذلك الفرع من العلوم الاجتماعية الذي يتناول نظرية وتنظيم وحكومة وممارسة الدولة. أي علم الدولة. ووضعوا لممارسته قاعدة: (فن الممكن مقابل المستحيل)، فإن علماء المسلمين رأوا في السياسة (إصلاح الدنيا بالدين)، واستهداف تحقيق الصلاح والابتعاد عن الفساد لجميع خلق الله. فالإنسان ومصلحته المعتبرة شرعا هو موضوع السياسة الأساسي. وفي ذلك نكرر قول الفقيه الحنبلي علي بن عقيل (ت513هـ): "إن السياسة هي ما يكون فعلاً معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ولا نزل به وحي، فإن أردت بقولك: إلا ما وافق الشرع، أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح، وإن أردت إلا ما نطق به الشرع، فغلط وتغليط للصحابة، فقد جرى من الخلفاء الراشدين ما لا يجحده عالم بالسنن(1).
ولطالما ردّد الفقهاء هذه القاعدة: "حيثما وجدت المصلحة فثم شرع الله"(2)، دلالة على أن الأحكام الشرعية تعمل لمصلحة الإنسان وليس للحجر عليه كما وقع في الأمم السابقة، التي حجر كهانها على الناس والنصوص، وفرضوا رؤيتهم الخاصة في أمور الدين والدنيا.
ولمراعاة مصالح الناس غير المتناهية، والمختلفة باختلاف الزمان والمكان، أعطى الإسلام الفقهاءَ مرونة واسعة تعينهم على الاجتهاد، ضمن القواعد الأصولية المقررة، بما يؤدي إلى تحقيق غايات الإصلاح المنشود، وفي هذا يقول ابن القيم (محمد بن أبي بكر، ت751هـ) عن التوسع في ميدان (فقه السياسة):
__________
(1) انظر: ابن القيم، الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، تحقيق: محمد جميل غازي، القاهرة، مطبعة المدني، 1977م، ص17.
(2) عبد الوهاب خلاف، السياسة الشرعية، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط3، 1407هـ/ 1987م، ص10.(1/25)
"فإذا ظهرت أمارات الحق، وقامت أدلة العقل، وأسفر صبحه بأي طريق كان، فثم شرع الله ودينه ورضاه وأمره، والله تعالى لم يحصر طرق العدل وأدلته وأماراته في نوع واحد، وأبطل غيره من الطرق التي هي أقوى منه وأدل وأظهر، بل بين بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة الحق والعدل وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استخرج بها الحق ومعرفة العدل وجب الحكم بموجبها ومقتضاها"(1).
وأضاف توضيحا فقال: "ولا نقول إن السياسة العادلة مخالفة للشريعة الكاملة، بل هي جزء من أجزائها، وباب من أبوابها، وتسميتها سياسة أمر اصطلاحي، وإلا فإذا كانت عدلا فهي من الشرع"(2).
__________
(1) ابن القيم، أعلام الموقعين عن رب العالمين، مراجعة وتعليق: طه عبد الرؤوف سعد، القاهرة، مكتبة الكليات الأزهرية، المحرم 1388هـ/ إبريل 1968م، ص4/373.
(2) ابن القيم، أعلام الموقعين، ص4/373.(1/26)
وبيَّن؛ رحمه الله؛ شمول الإسلام لكل ميادين الحياة، وبطلان التقسيم إلى شريعة وسياسة بقوله: "وتقسيم بعضهم طرق الحكم إلى شريعة وسياسة كتقسيم غيرهم الدين إلى شريعة وحقيقة، وكتقسيم آخرين الدين إلى عقل ونقل، وكل ذلك تقسيم باطل، بل السياسة والحقيقة والطريقة والعقل كل ذلك ينقسم إلى قسمين: صحيح، وفاسد، فالصحيح قسم من أقسام الشريعة لا قسيم لها، والباطل ضدها ومنافيها. وهذا الأصل من أهم الأصول وأنفعها وهو مبني على حرف واحد وهو عموم رسالته - صلى الله عليه وسلم - بالنسبة إلى كل ما يحتاج إليه العباد في معارفهم وعلومهم وأعمالهم، وإنه لم يحوج أمته إلى أحد بعده، وإنما حاجتهم إلى من يبلّغهم عنه ما جاء به، فلرسالته عمومان محفوظان لا يتطرق إليهما تخصيص: عموم بالنسبة إلى المرسَل إليهم، وعموم بالنسبة إلى كل ما يحتاج إليه مَنْ بُعث إليه في أصول الدين وفروعه، فرسالته كافية شافية عامة لا تحوج إلى سواها ولا يتم الإيمان به إلا بإثبات عموم رسالته في هذا وهذا، فلا يخرج أحد من المكلفين عن رسالته، ولا يخرج نوع من أنواع الحق الذي تحتاج إليه الأمة في علومها وأعمالها عما جاء به"(1).
وبناء على ما تقدم نرى أن في الإسلام نظرية سياسية تقوم على أركان ثلاثة:
- أولها: الإقرار لله تعالى بالوحدانية، وحدانية الإلوهية والربوبية.
- وثانيها: استخلاف الإنسان لعمارة الأرض وبناء الحياة ضمن القواعد الشرعية.
- وثالثها: تحقيق المصالح ودرء المفاسد، للفرد وللجماعة، في دينهم ودنياهم.
وكل ما عدا ذلك تفصيل ينبغي على علماء المسلمين المشتغلين في السياسة الشرعية مراعاة احتياجات العصر، ورسم معالم النظرية بلغة يفهمها المسلم وغير المسلم، تماماً كما صاغ الفقهاء السابقون قواعد الأصول والقواعد الفقهية وسواها مما احتاجه الناس لصحة العبادات والمعاملات، وتنفيذ الأحكام، وتجنب الحرام.
__________
(1) ابن القيم، أعلام الموقعين، ص4/375.(1/27)
والحاجة الملجئة لإقامة الأحكام، وسياسة الناس، تخضع كغيرها من الأعمال للتصور الإسلامي (للجماعة المسلمة)، وعلو سلطان الشريعة على سلطان الدولة، فعن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنهم - (ت23هـ): "وددت أني وإياكم في سفينة في لجة البحر، تذهب بنا شرقاً وغرباً، فلن يعجز الناس أن يولوا رجلاً منهم، فإن استقام اتبعوه، وإن ظلم قتلوه. فقال طلحة: ما عليك لو قلت: وإن اعوج عزلوه؟ فقال عمر: لا، القتل أنكل لمن بعده"(1).
ونقل الشهرستاني (محمد بن عبد الكريم، ت548هـ) عن أهل السنة قولهم بأن الإمامة فرض واجب(2)، وكذلك الآمدي (علي بن محمد، ت631هـ)(3).
__________
(1) عبد الرحمن خليفة، في علم السياسة الإسلامي، الاسكندرية، دار المعرفة الجامعية، 1990م، ص127-128.
(2) الشهرستاني، نهاية الأقدام في علم الكلام، تحرير وتصحيح: الفرد جيوم، القاهرة، مكتبة الثقافة الدينية، ب.ت، ص478.
(3) الآمدي، الإمامة من أبكار الأفكار في أصول الدين، تحقيق: محمد الزبيدي، بيروت، دار الكتاب العربي، ط1، 1412هـ/ 1992م، ص72.(1/28)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (أحمد بن عبد الحليم، ت728هـ) بوجوب تنصيب الإمام مستدلاً بالنقل والعقل(1)، وهو قول الإيجي (عبد الرحمن بن أحمد، ت756هـ) بعد أن عدد ما يسميه المصالح العائدة إلى الخلق معاشاً ومعاداً(2)، وكذا ابن خلدون (عبد الرحمن بن محمد، ت808هـ) في مقدمته نقل الوجوب والإجماع على نصب الإمام(3). ويلخص الجرجاني (علي بن محمد، ت816هـ) الحكمة والحكم بقوله: "ففي نصب الإمام دفع مضرة لا يتصور أعظم منها، بل نقول: نصب الإمام من أتم مصالح المسلمين، وأعظم مقاصد الدين، فحكمه الإيجاب السمعي"(4).
النظرية السياسية أوسع من دراسة الدولة نفسها
لا يصح للوصول إلى بلورة نظرية سياسية الاكتفاء بدراسة سطحية لنظام الدولة التي تحكم شعباً أو أمة بعينها، وإنما نحتاج إلى دراسة شاملة لكل المؤثرات المتعلقة بالممارسة، لأن الممارسة نفسها نتيجة وليست سبباً، والعقيدة تشكل آلية التوجيه المؤثرة في حركة الناس وحركة رجال السلطة، "ينبغي علينا لتحليل النظام السياسي لبلد معين، ألا نقتصر على دراسة نظام الحكم فيه، بل يجب أيضا تحليل نظامه الاجتماعي"(5).
__________
(1) ابن تيمية، السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، تحقيق: أبو يعلى القويسي، بيروت، دار الكتب العلمية، ص137-138.
(2) عبد الرحمن بن أحمد الإيجي، المواقف في علم الكلام، بيروت، عالم الكتب، ب.ت، ص396.
(3) مقدمة ابن خلدون، العصرية، ط2، 1416هـ/1996م، ص179.
(4) الجرجاني، شرح المواقف للإيجي المتوفى 756هـ، تصحيح: محمد بدر الدين النعساني الحلبي، القاهرة، مطبعة السعادة، ب.ت، ص346-347.
(5) ثروت بدوي، النظم السياسية، القاهرة، دار النهضة العربية، 1975م، ص7.(1/29)
ذلك لأن "علم السياسة على صلة وثيقة جدا بالعلوم الإنسانية الأخرى كعلم الاقتصاد والاجتماع والنفس والأخلاق، ولذلك يذهب هارولد لاسكي في مقارنته بين الدولة والمجتمع إلى أن الدولة هي الذروة التي تتوج البنيان الاجتماعي الحديث، وتكمن طبيعتها التي تتفرد بها في سيادتها على جميع أشكال التجمعات الاجتماعية الأخرى"(1).
ولذلك نرى أن الاقتصار على مجرد قراءة الإجراءات السياسية في تاريخنا الإسلامي لم يؤدِ بالدارسين إلى تحديد دقيق وتفصيلي للقواعد التي اعتمدت عليها تصرفات رجال الحكم وإجراءاتهم، ولما أرادوا مقارنة نتائج أبحاثهم بما وصلت إليه الأنظمة الديمقراطية الغربية ومؤسساتها فشلوا في رؤية مؤسسات وقواعد شبيهة في النماذج التاريخية الإسلامية، مما أوقع الحركات الإسلامية المعاصرة -بالرغم من كثرتها وتنوعها- في قضايا التعميم الذي نتحرك فيه بشكل يشبه مسالك المتاهة، كلما حسبت أنك وصلت إلى نهايتها اكتشفت عودتك إلى نقطة بدايتها.
ممارسة السياسة حصيلة الحاجة والأمر الواقع
تقدم أن جماعة من المستشرقين الغربيين وبعض المتتلمذين عليهم نفوا عن الإسلام صفة (السياسية) وقالوا بأن السياسة ليست جزءاً من الإسلام نفسه ولا من أصوله، ولكنهم أقروا بممارسة المسلمين للسياسة وإنشائهم للدولة، ورأوا ذلك نتيجة الحاجة الإنسانية العامة للتنظيم والإدارة وقيادة المجتمع، وبذلك لم يروا اختلافاً بين الإنسان المسلم وغيره من الناس، فهو اضطر إلى ممارسة السياسة نزولاً عند سنن الاجتماع البشري كما فعل غيره.
فهل انطلق المسلم في ممارسته للعمل السياسي وإقامته للكيان السياسي (الدولة) من أصول الإسلام وبناء على توجيهه، أم كان ذلك مجرد حاجة اجتماعية فطرية، سعى إلى تنفيذها وقلّد فيها غيره؟
__________
(1) هارولد لاسكي، ترجمة: عزالدين محمد حسين، مدخل إلى علم السياسة، القاهرة، مؤسسة سجل العرب، 1965م، ص11-12.(1/30)
ولربما زاد في الإشكال فهم كل فريق لقول عمر - رضي الله عنهم - : "لا إسلام إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بإمارة، ولا إمارة إلا بطاعة"(1)، فكثير من الجماعات الإسلامية السياسية المعاصرة أقامت هيكليتها التنظيمية وقطاعاتها الإدارية، وشيئاً كثيراً من مفردات فهمها وتحليلها وممارستها للعمل السياسي من خلال محاكاة الآخرين، وليس من منطلق فكري إسلامي مستقل، ولعبت العولمة دوراً مؤثراً كبيراً في قبول هذه الظاهرة، أعني ظاهرة المحاكاة والتقليد، وقد اتهم د. أحمد البغدادي، الإمام (الماوردي) باقتباس آرائه ونظمه في كتابه (الأحكام السلطانية) من النظام السياسي الفارسي(2)! وأجاب وليد نويهض في مقدمته(3) إجابات خاطفة لم تلغِ الإشكالية ولم تجب على السؤال جواباً شافياً، وطرح جبران شامية(4) إجابة أكثر ضبابية حيث تعرض لأشكال الحكم الإسلامي دون التعرض للنظرية نفسها.
والتحقيق في المسألة يستوجب العودة إلى نصوص (الكتاب) و(السنّة) وهما المصدر الرئيس للشريعة الإسلامية، وبالتالي للأحكام والقواعد الإسلامية السياسية والاجتماعية والإدارية وغيرها على حد سواء.
__________
(1) حسين بن محسن، الطريق إلى جماعة المسلمين، الكويت، دار الدعوة، ط2، 1406هـ، ص5.
(2) راجع: د. أحمد البغدادي، الفكر السياسي عند أبي الحسن الماوردي، الكويت، مؤسسة الشراع، ط1، 1984م، ص7-10.
(3) انظر: مقدمة كتاب وليد نويهض، الإسلام والسياسة. نشوء الدولة في صدر الدعوة، بيروت، مركز الدراسات الاستراتيجية والبحوث والتوثيق، ط1، 1994م.
(4) جبران شامية، الإسلام هل يقدم للعالم نظرية للحكم، بيروت، دار الأبحاث والنشر، ط؟(1/31)
ونعني (بالكتاب) القرآن الكريم، ونعني (بالسنّة) أقوال وأفعال وتقريرات النبي - صلى الله عليه وسلم - وإجازاته لأصحابه - رضي الله عنهم - . ويعنينا في هذا البحث كل ما له علاقة مباشرة بالسياسة والإدارة السياسية، مما يطلق عليه الفقهاء مصطلح (الولايات الدينية) كالإمارة والقضاء والحسبة، إلخ.. و(الكتاب) يبيّن القواعد والأصول، و(السنّة) تبين التطبيق العملي، الأمر الذي أوضحته أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنهم - بقولها في وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - : "كان خُلُقُه القرآن"(1).
والدعوة إلى الكتاب والسنة تعني الالتزام بقواعدهما وعدم الاقتصار على النص الحرفي، ذلك لأن نوازل الناس كثيرة غير محدودة، والنصوص الواردة محدودة معدودة، وفي ذلك يستشهد علماء الأصول بحديث معاذ؛ حين بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن، فقال له: "كيف تصنع إن عرض لك قضاءٌ؟" قال: أقضي بما في كتاب الله. قال: "فإن لم يكن في كتاب الله"؟ قال: فبسنة رسول الله. قال: "فإن لم يكن في سنة رسول الله"؟ قال: أجتهد رأيي، لا آلو. قال: فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدري، ثم قال: "الحمد لله الذي وفّق رسولَ رسولِ الله لما يرضي رسولَ الله"(2).
ومن هنا كان على علماء الحركات الإسلامية المشتغلين بالسياسة، العمل على استخلاص النظرية الإسلامية، وتقعيد الأحكام. واستخلاص الضوابط من آيات القرآن الكريم، والنظر في صور التطبيق في السنّة النبوية الشريفة، قطعاً للالتباس الذي يحدث عندما نحاول تطبيق قواعد السياسة الغربية على أحكام سياستنا الشرعية.
__________
(1) الإمام أحمد، باقي مسند الأنصار، حديث23460.
(2) الإمام أحمد، مسند الأنصار، حديث21000.(1/32)
وحصر وتنسيق وترتيب الآثار الواردة عن السلف، ابتداء مندولة الرسول في المدينة وحتى نهايات الدولة العثمانية، يؤدي إلى بلورة الفكر السياسي الإجتماعي كما يتجلى من خلال تطبيقات السنّة وفهم الصحابة والتابعين وتابعيهم لمعالجة النوازل وتطبيق الأحكام وفق ما عرفوه في القرآن الكريم والحديث الشريف.
تكامل الإسلام وشموله وتلبيته لحاجات الإنسان
يلخص قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} [الأنفال/24] تلخيصاً لا لبس فيه مهمة الإسلام في حياة الإنسان وإحيائها، وهذا لا يتأتّى إلا بالاهتمام بمصالح الإنسان الروحية والمادية، الدنيوية والأخروية، الأمر الذي يظهر جلياً في نصوص الإسلام وممارساته، وفي إجماع المسلمين على أن الإسلام يجمع خيري الدنيا والآخرة.
وإجماع المسلمين، وغيرهم من أهل النظر والإنصاف(1)، أن الإسلام كلٌّ متكامل في عقيدته وعبادته وتشريعه وأخلاقه وتربيته ومسيرته التاريخية، يقول المولى - عز وجل - : {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض؟ فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يُردُّون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون} [البقرة/85]، فلا يصح تجزئة أحكام الإسلام، والتعامل معها بانتقائية شخصية أو مكانية أو زمانية، وكأن شيئا منها مهم والآخر لا أهمية لها.
__________
(1) "الدكتور شاخت يرى الإسلام نظاماً كاملاً يشمل الدين والدولة معاً" [ينقل ذلك عبد الرحمن خليفة، في علم السياسة الإسلامي، الإسكندرية، دار المعرفة الجامعية، 1990م، ص54، عن
Schacht، The Origins of Mohammadan Jurisprudence، Oxford، University Press1960].(1/33)
وهو عين ما يرمي إليه الحديث النبوي الشريف: "ليُنقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، وأولهن نقضاً الحكم، وآخرهن الصلاة"(1)، إذ يشير إلى ضرورة وتلازم التكامل الإسلامي.
وتطبيق الإسلام بحسب (المزاج) وبحسب (الكيف) أو اجتزاؤه بما يحقق أهداف الفرد أو السلطة، له نتائج خطيرة، لا نحتاج فيها إلى كثير شرح، لأن واقع العالم الإسلامي كاف في ميدان الدلالة والإيضاح، ابتداء من انهيار نظام الخلافة، مروراً بفترة الوقوع تحت نير الاستعباد الغربي المعروف بالاستعمار، ثم واقع التجزئة والعوَز واليد السفلى التي تستجدي المعرفة والتصنيع وكثيراً من أساسيات العمران البشري بعدما كانت الأمة المسلمة مصدر إشعاع وابتكار وتعليم للآخرين.
المرونة والثبات في الفكر الإسلامي عامة وفي السياسة خاصة
أقام الإسلام - في معرض حرصه على الإنسان - الاجتهاد على ثوابت وأصول، تشكل الرواسي التي تعين المسلم على مواجهة التحديات دون الخروج عن (الصراط المستقيم) فالتجديد في الإسلام يعني "التجديد مع المحافظة على الأصول، والتجديد يعني التحرك الفكري، والمحافظة على الأصول تعني الصمود"(2).
__________
(1) مسند أحمد، باقي مسند الأنصار، حديث21139.
(2) د. طارق البشري، الملامح العامة للفكر السياسي الإسلامي في التاريخ المعاصر، مساهمة في: مجموعة من الكتاب، الحركة الإسلامية: رؤية مستقبلية، أوراق في النقد الذاتي، تحرير وتقديم: د. عبد الله فهد النفيسي، الكويت، يطلب من المحرر مباشرة، ط1، 1410هـ/ 1989م، ص151.(1/34)
وقال أبو زيد الدبوسي الحنفي (عبيد الله بن عمر، ت430هـ): "أصل التقليد باطل، لأن الله رد على الكفرة احتجاجهم باتباع الآباء من غير نظر واستدلال، والمقلد في حاصل أمره ملحق نفسه بالبهائم في اتباع الأولاد والأمهات في مناهجها بدون تمييز، وكان الناس في الصدر الأول – أعني الصحابة والتابعين والصالحين رضوان الله عليهم – يبنون أمرهم على الحجة، فكانوا يأخذون بالكتاب ثم بالسنة ثم بأقوال من بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما يصح بالحجة"(1).
"وفقهاؤنا الروّاد قد ميّزوا بين النصوص في حجيتها وقوتها في ذاتها وفي دلالتها وإلزامها من حيث تطبيقها، فهناك مراتب من حيث قطعية الورود والدلالة، ومراتب في الإلزام بالنسبة لما هو قطعي الورود والدلالة، وهل هو للإيجاب أو الندب، أو الإرشاد إذا كان أمراً، وهل هو للتحريم أو الكراهة إذا كان نهياً، وأوجبوا تقدير (الضرورة) والحاجة بالنسبة للمحظور، واستجاب فقهاء (للمصلحة المرسلة) المتغيرة واعتبروها في فقههم، واعتبر فقهاء آخرون (عموم البلوى)"(2).
__________
(1) الدبوسي الحنفي، عبيد الله بن عمر، ت430هـ، كتاب (تقويم الأدلة في أصول الفقه)، مخطوط، نسخة مصوّرة عن دار الكتب المصرية تحت الرقم255 بعنوان (تقويم الأدلة) أو (تقويم أصول الفقه وتحديد أصول الشرع). ولقد أورد د. محمد أديب الصالح نصوصاً منه في كتابه (تفسير النصوص).
(2) د. فتحي عثمان، الحركة الإسلامية: العنصر الدينامي الاجتهادي في أسسها الفكرية، مساهمة في: مجموعة من الكتاب، الحركة الإسلامية: رؤية مستقبلية، أوراق في النقد الذاتي، تحرير وتقديم: د. عبد الله فهد النفيسي، الكويت، يطلب من المحرر مباشرة، ط1، 1410هـ / 1989م، ص302.(1/35)
والتقصير الحاصل في ميدان الكتابات والممارسات السياسية الشرعية الحديثة، كعدم التعرض بالتفصيل لمفاهيم (الحقوق) و(الواجبات) في ميدان العمل السياسي؛ على وجه التحديد؛ يعود إلى تقصير المسلمين في ذلك وليس إلى الإسلام نفسه الذي يعتبر ابتكاراً غير مسبوق في عالمي التدين والتشريع، على حد سواء، ولئن كانت الحقوق والواجبات السياسية في العالم الغربي ظهرت بعد معاناة ودماء وأشلاء، وبقي تطبيقها مقصوراً على قوميات دون غيرها، فإنها في التصور الإسلامي حق طبيعي من حقوق العباد، مسلمين وغير مسلمين، وإنما يتم نصب الخليفة، وتولية الوالي، وتأمير الأمير، للحفاظ عليها وتنميتها، وأي تقصير في ذلك تفريط في حق الله وإساءة لدينه.
وتتحمل الحركة الإسلامية المعاصرة، قسطاً كبيراً من المسؤولية، لأن منهاجها الثقافي "يتغيا إعادة الثقة في المسلم أكثر من تكوينه ثقافياً وأيديولوجياً، نجد ثمة تجاهلاً فيه لقضية الحقوق العامة والحريات العامة والتطور الدستوري والسلطوي، مقابل التركيز والاهتمام المكثف على بناء الروح وعالم الروح"(1).
والكلام على الحقوق والواجبات، وتطوير المفاهيم المتعلقة بهما، يصب بشكل مباشر في الاعتقاد بصلاحية الإسلام واستمراره، ذلك لأن أزمة الإنسان المعاصر في أهم جوانبها تتعلق بالحفاظ على الإنسان نفسه، بعيداً عن مواطن الاستغلال التي يعيشها في المجتمع الاستهلاكي حيث يتم التعامل معه على أساس (السلعة) لا أساس (القيمة)، وكأني بالإنسان أصبح سلعةفي ميدان النشاط الاقتصادي المعاصر، ينظر إليه من زاوية الربح والخسارة الماديين، على حساب القيم التي تنكمش وتتراجع شيئاً فشيئاً أمام امتداد (المادة).
__________
(1) د. عبد الله النفيسي، الحركة الإسلامية ثغرات في الطريق، ط1، 1992م؟ يطلب من المؤلف، ص59.(1/36)
ولأن الإسلام هو الدين الخاتم، ولأن أحكامه تغطي كل ميادين الحياة، كانت المرونة صفة لازمة تضاف إلى التكامل والأخلاق الذي تحدثنا عنهما، و(الاجتهاد) تعبير اصطلاحي على هذه السعة والمرونة، والقاعدة الأصولية: (الأصل في الأشياء الإباحة)، قاعدة معتبرة داخل إطار (الاجتهاد)، وإذا كان الاجتهاد مطلوباً فالتقليد، لاسيما التقليد القائم على الجهل والغفلة والعصبية، مذموم(1).
وهامش المرونة الذي نتحدث عنه هامش رباني لم نختلقه نتيجة الضرورة أو الحاجة، ولم نفتعله هروباً من قيود الشريعة وإنما هو الرحمة الربانية التي أرادت النصوص مقررة للقواعد الكلية بما يترك المجال للفقهاء أولي العلم لاستنباط الأحكام التفصيلية بحسب الابتلاءات المتعلقة بالزمان والمكان(2).
ولا ننسى في السياق نفسه، تأكيد الإسلام على ولاية الأمة، وعلى سيادة الشريعة، وعلى التداول السلمي للسلطة، وعلى النهي عن القيصرية والكسروية في نظام الحكم(3).
__________
(1) فصّل الإمام ابن تيمية في فتاويه ما بين التقليد المحمود والتقليد المذموم، فارجع إليها في مجموع الفتاوى: ص19/141 و28/214-215.
(2) عبد الرحمن خليفة، في علم السياسة الإسلامي، الإسكندرية، دار المعرفة الجامعية، 1990م، ص11. نقلا عن: عبد الحميد متولي، مبادئ نظام الحكم في الإسلام، الإسكندرية، منشأة المعارف، 1975م وعبد الوهاب خلاف، مصادر التشريع الإسلامي مرنة، القاهرة، مجلة القانون والاقتصاد، إبريل ومايو، 1945م، ص254.
(3) لما أراد معاوية أخذ البيعة لابنه يزيد كان عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنهم - حاضراً، فقال: "أهرقلية! كلما مات قيصر كان قيصراً مكانه؟ لا نفعل والله أبداً". فبعث إليه معاوية بمئة ألف درهم، فردّها وخرج إلى مكة، فمات فيها قبل أن تتم البيعة ليزيد (53هـ). له في كتب الحديث 8 أحاديث. [الزركلي3/311].(1/37)
والكلام على (الاجتهاد) وعلى (المصلحة) يدفعنا للتأكيد على (الضوابط) التي ترشد (المجتهد) وتقيد حدود (المصلحة) ضمن الإطار الشرعي، مشيرين في ذلك إلى حديث (معاذ بن جبل) - رضي الله عنهم - ، والقواعد التي أرستها أجوبته على أسئلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يعرض له من قضاء(1).
والحاجة ملحة لتأصيل البحث العلمي في مسألة الضوابط الشرعية، والمتوفر منها بداية طيبة، ولكنه لا يكفي في موضوع التأصيل والتكييف الشرعي لكثير من ابتلاءات العصر، وندعو أهل العلم إلى التعمق والتوسع في دراسة هذا الميدان والعمل على تبسيط لغة كتبهم وأبحاثهم ليتيسر نشرها بين عامة الناس، فإن آفة الجهل على رأس مقاتل الإسلاميين.
عالمية الإسلام واستمراره
__________
(1) بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن، فقال له: "كيف تصنع إن عرض لك قضاءٌ"؟ قال: أقضي بما في كتاب الله. قال: "فإن لم يكن في كتاب الله"؟ قال: فبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال: "فإن لم يكن في سنة رسول الله"؟ قال: أجتهد رأيي، لا آلو. قال: فضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدري، ثم قال: "الحمد لله الذي وفّق رسولَ رسولِ الله لما يرضي رسولَ الله"، رواه أحمد، مسند الأنصار، حديث21000.(1/38)
ليس بين الله وأحد من خلقه نسب، كالذي يعرفه الناس فيما بينهم، والناس، في التصور الإسلامي، عباد الله، وليسوا أبناؤه ومثلاؤه كما في التصورات الأخرى، وإعلان الإسلام مجرداً عن الالتزام والتطبيق لا يعني شيئاً، وإنما الذي يعني هو ارتباط القول بالعمل، والاستمرار على طريق الالتزام، لأن الأعمال بخواتيمها، فقد روي عن سهل بن سعد الساعدي؛ قال: نظر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى رجل يقاتل المشركين، وكان من أعظم المسلمين غَنَاء عنهم فقال: "من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا"، فتبعه رجل فلم يزل على ذلك حتى جُرح فاستعجل الموت، فقال بذبابة سيفه فوضعه بين ثدييه فتحامل عليه حتى خرج من بين كتفيه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إن العبد ليعمل؛ فيما يرى الناس؛ عملَ أهل الجنة وإنه لمن أهل النار، ويعمل؛ فيما يرى الناس؛ عملَ أهل النار وهو من أهل الجنة، وإنما الأعمال بخواتيمها"(1).
ويقول تعالى: {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه، أذلّة على المؤمنين أعزّة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم* إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا، الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون* ومن يتولَّ الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون} [المائدة/54-56].
و(الناس) كما يراهم الفكر الإسلامي هم أحد ثلاث: المسلمون، وأهل الكتاب، والناس أجمعون.. وموقف المسلم من (الآخر) تحدده عدد من المعطيات، منها ما يتعلق بموقف الآخر من قبول أو رفض التعايش مع المسلم، وبناء عليه فالآخرون سواء كانوا من أهل الكتاب أو الناس كافّة إما مسالم وإما محارب، ولكل منهما أحكام.
__________
(1) البخاري في كتاب الرقاق، حديث6012.(1/39)
يقول صاحب الظلال: "ينقسم العالم في نظر الإسلام وفي اعتبار المسلم إلى قسمين اثنين لا ثالث لهما: الأول (دار الإسلام) وتشمل كل بلد تطبق فيه أحكام الإسلام، وتحكمه شريعة الإسلام، سواء كان أهله كلهم مسلمين، أو كان أهله مسلمين وذميين، أو كان أهله كلهم ذميين ولكن حكامه مسلمون يطبقون فيه أحكام الإسلام، ويحكمونه بشريعة الإسلام، أو كانوا مسلمين، أو مسلمين وذميين ولكن غلب على بلادهم حربيون، غير أن أهل البلد يطبقون أحكام الإسلام ويقضون بينهم حسب شريعة الإسلام، فالمدار كله في اعتبار بلد ما (دار إسلام) هو تطبيه لأحكام الإسلام وحكمه بشريعة الإسلام.. الثاني (دار الحرب) وتشمل كل بلد لا تطبق فيه أحكام الإسلام، ولا يحكم بشريعة الإسلام، كائناً أهله ما كانوا، سواء قالوا: إنهم مسلمون، أو إنهم أهل كتاب، أو إنهم كفار، فالمدار كله في اعتبار بلد ما (دار حرب) هو عدم تطبيقه لأحكام الإسلام وعدم حكمه بشريعة الإسلام، وهو يعتبر (دار حرب) بالقياس للمسلم وللجماعة المسلمة. والمجتمع المسلم هو المجتمع الذي يقوم في (دار الإسلام) بتعريفها ذاك"(1).
هكذا كان التقسيم يوم كانت دار الإسلام تتحرك على الساحة الدولية وتمثّل الأمة المسلمة سياسياً، فهل بقي الوضع على ما هو عليه؟ وهل بقي التصنيف القديم ما بين دار إسلام ودار حرب هو الصيغة الوحيدة التي تلزم الإنسان المسلم والأمة المسلمة؟ أم هناك صيغ أخرى يمكننا التعامل معها في حركتنا المعاصرة، تنظم علاقتنا بالآخر؟ لاسيما وإن أحداثاً كثيرة قرّبت مِنَ الأمة مَنْ يُفترض فيهم أن يكونوا في جبهة العدوان، وأبعدت من يفترض به أن يكون جزءاً لا يتجزأ من الأمة.
__________
(1) سيد قطب، في ظلال القرآن، القاهرة وبيروت، دار الشروق، ط10، 1401هـ/ 1981م، ص873-874.(1/40)
وتبيّن تفاصيل صحيفة المدينة كيف يكون التعامل داخل الدولة المسلمة بين الدولة ورعاياها من جهة، وبين المسلمين وغير المسلمين من جهة أخرى، وهو تعامل سبق كل ما عرفته البشرية المعاصرة عن التعايش والتنوع والتعدد وحرية الرأي والمعتقد والهوية الثقافية والحريات السياسية، بمراحل تفتقدها دول معاصرة تحسب نفسها معنية بقضية (الإنسان) وهي منها بَرَاء.
إننا نرى من الضرورة بمكان أن يؤكد العلماء والدعاة على قدسية القرآن الكريم وصحيح السنة، وندعو بناء على هذه القاعدة إلى تحديد الثابت من قواعدنا الدينية والأخلاقية والسياسية، وتمييزها عن المتغيرات في شؤون الدنيا وعالم العلم، ذلك لأننا نرى في جعل كل قول سابق لإمام أو عالم، وكل تصرف سابق لخليفة أو سلطان، نصاً مقدساً له قوة نصوص الكتاب الكريم وصحيح السنة الشريفة، افتئات على الشرع وتضييق لما وسّعه الشارع سبحانه، وافتراء على قولنا بصلاحية الإسلام نفسه لكل زمان ومكان، ومخالفة بيّنة لمنهج السلف في تعاملهم مع الواقع والمستجدات، ولما عرفناه عنهم من الاستفادة من الخبرات والتجارب البشرية في شؤون الحياة الدنيا(1).
والخلاصة فيما تقدم
- ضرورة الفصل ما بين الثابت والمتغير في القواعد والمفردات الإسلامية.
- ووعي متغيرات الساحة الدولية، وقراءة سنن الله في التغيير قراءة واعية.
- وفهم منطلقات الإسلام ودوائر علاقته بالآخر.
- والبحث عن القواسم المشتركة مع الآخرين.
- وعدم الاكتفاء بالتنظير، فالعمل الميداني أحد أهم أركان الوعي السياسي الضروري للفرد وللجماعة.
- وينبغي السعي للانتقال عملياً من (حركة الأفراد) إلى (حركة المؤسسات) على كل المستويات، وبالخصوص المستوى السياسي والإعلامي.
- وإقامة التوازن ما بين (الثقة) و(الطاعة) و(النصيحة)، داخل الصف الإسلامي.
__________
(1) أنظر: د. صبحي الصالح، النظم الإسلامية، نشأتها وتطورها، بيروت، دار العلم للملايين، 1980م، ص253.(1/41)
- وينبغي رفع كفاءة الجمهور في ميدان الوعي السياسي، وتجهيزه بالمقياس الصحيح باعتباره جزءاً أساسياً من معادلة الصراع، ولما له من دور بشري رئيس في عملية التغيير، بإذنه تعالى.
هل نعيش حياتنا في غياب كامل عن الإسلام؟
يشكل هذا السؤال عنصراً مهماً في ميدان الفكر الإسلامي المعاصر، وتكاد الجماعات الإسلامية كلها تنطلق منه لتبلغ رسالتها للناس، للمسلمين أولاً ثم للآخرين، والسؤال بالرغم من بساطته يشكل حجر الزاوية في المنطلقات الفكرية والإجراءات العملية للتنظيمات والجماعات الإسلامية، وهو المسؤول عن معظم مظاهر التشدد، أو الوسطية التي تحياها هذه الجماعات أو تدعو إليها، وذلك بناء على إجابتها على السؤال أعلاه.(1/42)
لقد سيطرت فكرة (جاهلية المجتمع) على عقول كثير من الشباب المسلم منذ أطلقها الشهيد سيد قطب(1) في كتابه المشهور (معالم في الطريق) وعمّقها في نفوسهم (في ظلال القرآن)(2). ثم تبنتها أدبيات مؤسس (الجماعة الإسلامية) في شبه القارة الهندية أبي الأعلى المودودي(3)، وملخصها: إن الجاهلية ليست فترة زمنية محددة، وليست منطقة جغرافية معينة، وإنما هي تحدي الشرع الإلهي المتمثل بالكتاب والسنّة، وجرأة الإنسان على أن يبادر بالتشريع لنفسه بعيداً عن الوحي وعن الأحكام الإلهية، وإن أكثر الناس التصاقاً بأعمال الدين كالمفتين والقضاة الشرعيين وأئمة الجمعة والجماعات والمؤذنين إلخ. يعيشون الجاهلية من خلال ممارستهم لأحكامها، ويحتاجون إلى التبرؤ منها.
ولم يبق هذا الفكر محصوراً داخل دائرة جماعة إسلامية بعينها وإنما انتشر مع انشطار العمل الإسلامي في الساحة السُّنيّة إلى عشرات المجموعات والتكتلات الشللية، ثم ظهر في الساحة الشيعية تحت عنوان (الولاء والبراء)، وكان حتماً لازماً على كل منتمٍ (للفكرة) أو (للجماعة) أو (للتنظيم) أو (للحزب) أن يترسّخ في نفسه موضوع المفاصلة مع المجتمع الجاهلي.
__________
(1) استشهد سيد قطب، في عهد الرئيس المصري جمال عبد الناصر بتاريخ 29/8/1966م بسبب أفكاره الإسلامية. ويعتبر أحد أبرز منظّري الحركة الإسلامية المعاصرة، وأشهر كتبه (في ظلال القرآن) و(معالم في الطريق).
(2) أنظر عن مفهوم الجاهلية هذا: سيد قطب، في ظلال القرآن، القاهرة وبيروت، دار الشروق، ط10، 1401هـ/ 1981م، ص2859-2861. ونفس المصدر، ص904 في تفسيره لقوله تعالى: {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون} [المائدة/50].
(3) توفي المودودي يوم 22/9/1979. وترك وراءه ثروة علمية وحركية، ما زالت تشكل الزاد الرئيس لعدد كبير من الإسلاميين المعاصرين.(1/43)
وبالرغم من الأدبيات المعلنة بأن الجماعة المسلمة (أية جماعة) لا تشكل جماعة المسلمين وإنما هي جماعة مسلمة كغيرها من الجماعات العاملة في سبيل الله، ثم الأمة، فإن الشعور بالتميز وبالانتماء إلى فكر مغاير لما عليه عامّة النّاس بات ينمو وينمو حتى صار السمة العامة لجميع المنتمين إلى الجماعات الإسلامية، فصفتهم العامة مخالفة المجتمع الذي يعيشون فيه بشكل جادّ وحادّ، بنسب متفاوتة، وبطرق من التعبير تختلف باختلاف البيئات والأشخاص والظروف.
فهل نعيش بالفعل في مجتمعات جاهلية تستحق الحرب الضروس والمفاصلة الباتّة؟ وهل قوانيننا التي تحكمنا في العالم الإسلامي هي قوانين كفر وشرك وجاهلية؟ وبالتالي ليس بيننا وبينها سوى الخصومة والحرب التي لابد أن نخرج منها شهداء أو منتصرين؟ ويخرج منها عدونا -وهو هنا مجتمعاتنا ومؤسساتنا الدينية والسياسية الوطنية والقومية- بالحصيلة نفسها، إما الانتصار وإما الموت؟
الطلاق النكد بين الأنظمة والتنظيمات(1/44)
تتأرجح علاقة المسلم (الملتزم) بالمؤسسة السياسية ما بين الولاء والتأييد، والبراء والمخالفة، تبعاً لأحوال العصر ولموقف المؤسسة الحاكمة وفلسفتها في القيادة، أهي مستبدة أم شورية، أهي داعية أم داهية، أهي استمرار لمنهج الخلافة الراشدة أم هي صورة من صور الاستبداد والمُلك الجبري، ويزيد في ترسيخ هذه الصورة من العلاقات المتماوجة ما جمعه بعض الكتّاب الإسلاميين من قصص التراث في فترة المحنة الناصرية من مواقف تاريخية متوترة بين أهل العِلْم وأهل الحُكْم(1). ففي تراثنا مواقف تؤيد خط المفاصلة والمواجهة، ويبقى العز بن عبد السلام الأنموذج الأوضح الذي تستشهد به منابر الحماس والمواجهة، ومنها ما يستشهد به المعاصرون من دعاة البحث عن حل إسلامي لقضايانا الشائكة وعلى رأسها علاقة العالم والداعية بمؤسسة الحكم(2).
__________
(1) انظر على سبيل المثال: كتاب الشيخ الشهيد عبد العزيز البدري (الإسلام بين العلماء والحكام)، وكتاب الشيخ أحمد الدومي (محنة الإمام أحمد بن حنبل)، وكتاب الشيخ يوسف القرضاوي (عالم وطاغية)، وكتاب فهمي هويدي (متمردون لوجه الله).
(2) انظر مثلاً موعظة ابن أبي ذؤيب للمنصور، التي أورها الإمام الغزالي في الإحياء، 7/27. وموعظة طاووس لأبي جعفر المنصور في تذكرة الحفاظ، ص1/160، وفي وفيات الأعيان، ص2/511.(1/45)
وتكاد هذه الصورة وحدها تحتكر أذهان كثير من الدعاة عن العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ويتم ترسيخ هذه المفاصلة بكل ما أمكن من الشواهد، وأحياناً يتم تطويع النصوص النبوية بحيث تؤدي إلى مزيد من التنفير ما بين الحاكم والمحكوم، وتنمي أجواء الرعب من كل سلطة، وتصور كل سلطة على أنها جبارة في الأرض، وأنها في موقع الخصم للرسالة وللدعوة، وللعلماء القائمين على الرسالة والدعوة، وإن ما نعرفه من فترات هدنة إنما كانت لمصلحة المؤسسة الحاكمة، وإن العلماء الذين هادنوا لم يكونوا سوى (وعّاظ سلاطين) وبذلك يبقى في الذهن أن أفضل القُرُبات إلى الله الإنكار على أهل السلطة واتهام إنجازاتهم، ولو كانت تصب في مصلحة الأمة، مما يخرج البعض من سمت الموضوعية المطلوبة من العالم والداعية الرسالي إلى حيّز المناكفة والمخاصمة وكأنها من قبيل: (ولكن عين السخط تبدى المساويا)(1).
ويظهر أن التجربة العملية وحدها هي التي تصقل الرؤية، وتعدّل الخطاب السياسي الإسلامي، وهي التي تنير الطريق أمام الساعين بجد للخلاص من حالة التخبط التي نحياها، ومن حالة التصارع الداخلي الذي يزيد في عملية تآكل قوانا وطاقاتنا، وفي النموذج النيابي المصري صورة من صور التفاهم مع الذات ومع المجتمع، حيث تقول إحدى وثائق التيار الإسلامي في جلسات مجلس الشعب حول تطبيق الشريعة الإسلامية:
__________
(1) شطر بيت (فعين الرضا عن كل عيب كليلة * ولكن عين السخط تبدى المساويا)، لعبد الله بن معاوية عند جعفر بن أبى طالب، قاله فى الفضيل بن السائب، وذهب البيت مثلاً، ثم تبعه من قال: (وعين البغض تبرز كل عيب * وعين الحب لا تجد العيوبا) [ثمار القلوب في المضاف والمنسوب، ص1/327].(1/46)
" ... ويجب ألا يفهم منه إطلاقا إننا نعيش في فراغ إسلامي، يجب ألا يفهم منه إطلاقا أننا نبدأ من فراغ، إنما نحن نسير في الطريق القويم الذي يجعل من مصر دائما قدوة وقوة، إن مصر قدوة في العالم الإسلامي وستحافظ على هذا الاسم الذي جاء في القرآن الكريم والذي نحرص عليه جميعاً ونحرص أن نبين تماما انه إذا كانت هناك بعض الشوائب هنا أو هناك فإن الأساس سليم، وان مجتمعنا سليم، وإننا حريصون كل الحرص على الإسلام، بل إنه كما قيل هنا في أكثر من كلمة قيلت اليوم: إننا نستكمل الطريق، إن جزءاً كبيراً من قوانيننا - أيها الإخوة والأخوات - مستمد بالفعل من الشريعة الإسلامية"(1).
وبالرغم من وجود هذا التيار الإسلامي الواقعي الذي ينظر إلى الأمور بمقياس الوسطية البعيدة عن الإيغال في طرفي النقيض، ما زلنا نرى بعض الحكومات لا ترعوي عن خسارة جمهورها، وإهدار طاقات أمتها، والتفريط بالكفاءات الشابة والضرورية لنهضة موعودة، والتعرّض بقسوة للمتحركين على الساحة السياسية، إسلاميين كانوا أم غير إسلاميين(2).
__________
(1) محمد الطويل، الإخوان في البرلمان، القاهرة، المكتب المصري الحديث، ط1، مايو 1992م، ص131.
(2) د. عبد الله أبو عزة، نحو حركة إسلامية علنية وسلمية، مساهمة في: مجموعة من الكتاب، الحركة الإسلامية: رؤية مستقبلية، أوراق في النقد الذاتي، تحرير وتقديم: د. عبد الله فهد النفيسي، الكويت، يطلب من المحرر مباشرة، ط1، 1410هـ / 1989م، ص194و195.(1/47)
وأمام الصراع بين السلطة والتنظيمات الشعبية، من منطلق حرص كل طرف على إزالة الآخر، وضمن مناخ لا يرى سوى الخصومة والعدواة في الجهة المقابلة، يتحول العمل السياسي إلى ساحة وغى يتبارى فيها طرفان، ويصبح (الصدام) بألوانه السوداء المتدرجة هو الفلسفة الوحيدة المقبولة من لدن السلطة الحاكمة إلى أفراد المحكومين "فهنالك النظرية التي تقوم على العمل السياسي الصدامي بالسلطة بلا عنف، أي تصادم السلطة برفع الصوت عالياً ضدها أو ضد رمزها ويحرض عليه علناً"(1). "وهناك نظرية العمل السياسي التي تعتمد على الإفادة من كل ما يتيحه النظام من وسائل المعارضة والمشاركة بما في ذلك العمل ضمن النقابات والصحافة والبرلمان وغير ذلك"(2).
__________
(1) منير شفيق، حول نظرية التغيير، مساهمة في: مجموعة من الكتاب، الحركة الإسلامية: رؤية مستقبلية، أوراق في النقد الذاتي، تحرير وتقديم: د. عبد الله فهد النفيسي، الكويت، يطلب من المحرر مباشرة، ط1، 1410هـ/ 1989م، ص396.
(2) منير شفيق، حول نظرية التغيير، ص397.(1/48)
إن حركة الصراع تنعكس على منهجية الفهم السياسي للحركة الإسلامية، تماماً كما تنعكس على منهجية السلطة الحاكمة، وتبقى الحركة السياسية أسيرة الرؤية السوداوية الحذرة من كل شيء خارجها، وتنمو في نفوس أبنائها نظرية (المؤامرة)، وتتلاشى لديهم فرص اللقاء النفسي مع الآخر، وفي ذلك يقول د. حسن الترابي من منطلق التجربة الشخصية: "كانت الحركة ترهب الدول عموماً، وتنفر من الدول غير المسلمة خاصة، تعدية لمفهوم البراء من الكفار إلى صعيد العلاقات، وعقدت من شبهة الاتصال الدبلوماسي كأنه مباشرة نجس غريب، أو مقاربة خطر خبيث"(1).
ويطيب للبعض أن يحصر موقف الحكومات من الحركة الإسلامية، في أحد النقاط التالية:
- القمع بشراسة.
- أو غض الطرف.
- أو التحالف والإيهام بتقاسم المشروع والنفوذ.
- أو احتواء الحركة.
وفي جميع هذه الحالات تبقى حالة الترقب والحذر هي المسيطرة، وتسيطر معها حالة انعدام الثقة، وتوقُّع الضربة في أية لحظة، والاستعداد للحظة المواجهة، مما يعني حالة من الإعياء داخل متاهة تعيدك إلى نقطة البدء كلما ظننت أنك اقتربت من باب الخروج.
الافتقار إلى حرية العمل السياسي
__________
(1) د. حسن الترابي، البعد العالمي للحركة الإسلامية (التجربة السودانية)، مساهمة في: مجموعة من الكتاب، الحركة الإسلامية: رؤية مستقبلية، أوراق في النقد الذاتي، تحرير وتقديم: د. عبد الله فهد النفيسي، الكويت، يطلب من المحرر مباشرة، ط1، 1410هـ/ 1989م، ص92.(1/49)
تؤثر الحرية السياسية في جل ميادين الحياة، وتطبع الفرد والجماعات بطابعها، كما يلقي الاستبداد والعبودية بظلالهما الثقيلة على الإنسان فرداً وجماعة ودولة وأمة، وما يصدق في سلب الحرية على مستوى العمل السياسي الرسمي يصدق على العمل السياسي الحركي، والفكر السياسي المنشود لا يمكن أن ينبت داخل بيئة معادية للرأي، تفكيراً وتعبيراً وأداءً، ونحن -للأسف- عندما نوجّه سهام نقدنا للأنظمة المستبدة ننسى أن بعض التنظيمات تمارس دكتاتورية تفوق دكتاتورية الأنظمة، وفي معظم الأحيان تلتمس لنفسها الأعذار بحجة الدفاع عن النفس، وبحجة خوف الاختراق، ولذلك تراها تبين واجبات الفرد تجاه الجماعة ولا تبين حقوقه عليها، ويكثر في حلقاتها ولقاءاتها الحديث عن السمع والطاعة والثقة بالقيادة، وتقدّم ذلك على الحديث عمّا سواها، مع أن العمل الجماعي عمل تعاقدي يفترض أن تتضح فيه حقوق وواجبات أطراف العقد، كما في بيعة الحاكم حقوق وواجبات متقابلة، ولما بايع الأنصار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا: "اشترط لنفسك"، فاشترط لنفسه، واشترطوا لأنفسهم، فبيّن ما له عليهم وما لهم عليه. فالبيعة إذن عقد يتضمن حقوقاً تقابلها واجبات، وواجباتٍ تقابلها حقوق.
فهل تراعي الأنظمة ذلك في بناء شخصية المواطن، وهل تراعي التنظيمات قضية الحقوق والواجبات في بناء الشخصية الحركية.
وهذا الاجتزاء ما بين النظرة إلى الداخل، والنظرة إلى الخارج تشكل حجر عثرة حقيقية في طريق العمل الإسلامي، وطريق أية جماعة تسعى لحلول جذرية لأزمات الأمة الراهنة، وهو خطر يتجاوز في آثاره العملية والاستراتيجية كل ما يمكن تدبيجه عن محاسن الضبط والربط الداخلي.(1/50)
ومن العجيب أن نرى بعض أبناء التيار الإسلامي الريادي يقفون موقفاً سلبياً من (الحريات) بسبب انحراف الممارسة الغربية، وأعجب من ذلك أن يتم التأصيل لفقه الاستعباد، وأن يتم الخلط ما بين العبادة لله - وهي رأس هرم الحريات بما تحققه من انعتاق الإنسان من أسر الشهوة وعبودية العادة والخضوع للغير، وسواها - وبين العبودية السياسية المرفوضة شكلاً ومضموناً(1).
إن فقدان الحرية داخل الحركة وخارجها، يساهم في إقامة سدود العزلة بين أبناء الوطن الواحد، ويمنع الأمة من توظيف التنوع الفكري والثقافي لمصلحتها، ويدفع الصف الإسلامي نفسه للتقوقع والعزلة بعيداً عن المساهمة المباشرة، أو يتركه عرضة للخوف والتردد وعدم الخبرة، وكل منها كفيل بتحقيق الانحراف عن جادّة الصواب في التصرف والاختيار.
ولقد استعاذ النبي - صلى الله عليه وسلم - من الظلم، وأعاذ منه، ففي الحديث: "أعيذك بالله يا كعب بن عُجرة من أمراء يكونون من بعدي، فمن غشي أبوابهم وصدّقهم في كذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه، ولا يرد عليّ الحوض، ومن غشي أبوابهم أو لم يغش، فلم يصدّقهم في كذبهم ولم يعنهم على ظلمهم، فهو مني وأنا منه وسيرد عليّ الحوض"(2).
__________
(1) انظر موقف الشيخ/ سعيد حوى من موضوع الحرية ومقارنته ما بين الحرية في التصور الغربي والعبودية لله في التصور الإسلامي: الإسلام، بيروت، دار الكتب العلمية، ط2، 1399هـ/ 1979م، ص288و289.
(2) الترمذي، كتاب الجمعة، رقم558. وفي رواية النسائي: "ومن لم يدخل عليهم ولم يصدقهم بكذبهم" إلخ، البيعة، رقم4137. ومثله في أحمد، باقي مسند الأنصار، رقم22174.(1/51)
ويخصص ابن خلدون فصلاً كاملاً في مقدمته، يبيّن فيه أن وبال الظلم لا يقع فقط على الذين يمارسونه، وإنما يطال الدولة نفسها من حيث هي كيان سياسي، ويؤثر على استمرار أو عدم استمرار الاستقرار فيها، ويهدد استقلالها وازدهارها، كما يؤثر الظلم بشكل سلبي على العمران البشري، الذي لا يقوم ولا يتقدّم بدون استقرار يقوم على العدل(1).
الاقتصار على النخبة
لم تعد ظاهرة الاقتصار على (النخبة) محصورة في إطار الأنظمة، سواء كانت هذه الأنظمة وراثية أم انتخابية، حتى في المجتمعات الديمقراطية الغربية، تبقى الأعمال السياسية محصورة داخل إطار النخبة إلى حد بعيد، والمراقب للحركة الإسلامية المعاصرة يجد عناصرها من شريحة المثقفين لاسيما الجامعيين الذين سرعان ما ينتقلون إلى الحياة العملية ويصبحون بالتالي نخبة تكنوقراط في مجتمعاتهم كالأطباء والمهندسين والحقوقيين والمدرسين الجامعيين، ونظرة سريعة إلى انتخابات النقابات التي تحقق فيها الحركة الإسلامية نجاحات ملفتة للنظر تراها جميعاً من نقابات مهن (النخبة).
وقد يكون اهتمام الحركة الإسلامية في مطلع هذا القرن بالنخبة المثقفة في المدارس والجامعات مبرراً في حينه باعتبارهم ضحية مستهدَفة للفكر الغربي وأطروحاته السياسية والاجتماعية والثقافية المخالفة تمام المخالفة للتصورات الإسلامية في مجال العقيدة والعبادة والأخلاق والمجتمع والتشريع، وقد أراد الاستعمار السياسي إيجاد جيل من أبناء البلاد يحمل من الأفكار ما يمد في عمر الاستعمار ويمكنه من السيطرة لأمد بعيد على قدرات الأمة ومواردها، فكان -والحالة هذه- من أولوية الحركة الإسلامية أن تتوجه لإنقاذ الضحية المستهدفة، ولكن هل يصح الاستمرار في نفس الخط بعد تبدل الظروف وحاجة الأمة إلى كل عناصرها، وشرائحها كلها اليوم مستهدفة؟
__________
(1) ابن خلدون، المقدمة، تحقيق: درويش الجويدي، صيدا-بيروت، المطبعة العصرية، ط2، 1416هـ/1996م، ص263.(1/52)
وتظهر المشكلة بشكل أوسع عندما تطلع على برامج التربية والتأهيل الذي يدرسه كل منتمٍ للحركة الإسلامية، فهو برنامج مثقفين وليس برنامج عامّة، ويشعر (الأخ) العامل أو المزارع بحرج شديد وهو قاصر عن فهم ما يفهمه زملاؤه داخل الحلقة أو الأسرة، وهو شعور يبني حواجز كثيرة، وبعض الأفراد قد يكون أمياً لا يقرأ ولا يكتب(1).
إن تضييق إطار المشاركة الجماهيرية، لدى الأنظمة والتنظيمات، والاقتصار على النخبة يعني انكماش الوعي السياسي لدى قاعدة واسعة من أبناء الأمة، ويؤدي - شئنا أم أبينا - إلى حالة أقرب ما تكون إلى العزلة السياسية نتيجة التميز النخبوي، مما يجعل الأطروحات السياسية في واد وغالبية القوى الشعبية في واد آخر.
ويبقى على الحركة الإسلامية وعلى الأنظمة أن تعيد النظر في استراتيجية التعامل مع القاعدة الشعبية الواسعة وأن تولي هذه المسألة اهتماماً يتناسب مع حجمها داخل إطار الوطن الواحد، إذا أردنا للبرامج السياسية وأطروحاتها أن تقف ثابتة في وجه رياح التأثير والتغيير العاتية وتحقق المأمول منها.
غياب المؤسسات السياسية التخصصية
__________
(1) لا تقل نسبة الأمية في العالم العربي عن 40%.(1/53)
يفرض واقع عالم اليوم ظروفاً وشروطاً جديدة للعمل التنظيمي والحكومي والشعبي، في ميادين كثيرة، أبرزها تشكيل الإدارات وتحديد آليات اتخاذ القرار وتنفيذه، ولم يعد العمل السياسي مجرد كفاءة شخصية، كالتي عرفها العالم النامي في القرن الأخير، وإنما هو حصيلة جملة من المعطيات، تقوم عليها - في دول القرار الغربية - مؤسسات تخصصية تعنى بالقيادات والبرامج السياسية، كما تعنى بتوفير الأسباب المؤدية إلى نجاح عملهم وتحقيق أطروحاتهم، ونظرة سريعة إلى الحملات الانتخابية في الولايات المتحدة الأمريكية - على سبيل المثال - تبيّن لنا أهمية هذا التخصص، فالسياسة تحتاج ككل نشاط بشري إلى: المعلومات، والإعلام، وصياغة الخطاب، سواء كان موجهاً للخاصّة أو للعامة. والمعلومات تحتاج إلى مؤسسات فاعلة في هذا الميدان. والإعلام يحتاج إلى مؤسسة فاعلة، والخطاب يحتاج كذلك إلى مؤسسات صياغة، ألا ترى أن عالم اليوم لم يعد قائماً على العفوية؟
غياب النقد الذاتي عند الأفراد والجماعات
يشكل (النقد) حساسية مفرطة في المجتمع الإسلامي عامّة، ولدى الدعاة على وجه التخصيص، وربما تعود هذه الحساسية إلى الفكرة الغالبة بأن الدعوة تمثل حركة الإسلام نفسه، وإن (الحركة) أو (الجماعة) تمثل الأمل المرجو في استعادة مؤسسة الخلافة المفقودة، كما تعود إلى التقويم الخاص الذي ينظر إليه معظم خريجي المعاهد والكليات الدينية إلى أنفسهم، فهم - بمعنى ما - يمثلون عِلْم الكتاب والسنّة، ولعلهم يظنون أن لكلامهم نفس قدسية كلام الكتاب والسنّة، وجلهم يرى في نفسه أستاذاً يملك حق تفسير النصوص دون غيره، وإن كان البعض هو الذي يصرّح بذلك علانية(1).
__________
(1) خالص جلبي، في النقد الذاتي، ضرورة النقد الذاتي للحركة الإسلامية، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط1983م، ص10و21.(1/54)
إن موقع (الأستاذية) الذي يرى الداعية فيه نفسه يجعله بعيداً عن روح (الرسالة) الذي ينبغي أن يتحلى بها إن أراد بالفعل خدمة من حوله بإرشادهم إلى الطريق القويم، وبالرغم من الأدبيات الكثيرة التي تتحدث عن عدم عصمة أحد وتعرّض الجميع لإمكانية الخطأ والصواب، واستشهاد الكثيرين بقول الإمام الشافعي (ت205هـ): "كلامنا صواب يحتمل الخطأ، وكلام غيرنا خطأ يحتمل الصواب"، إلا أن الواقع يؤكد وجود ثقة بالنفس زائدة عما ينبغي، تدفع صاحبها إلى تخطيء كل من يخالفه في القول أو العمل.
ولا يصح أن يظنن ظان أن النقد يعني إنكار الإيجابيات، والتنكر للمنجزات التي قامت بها الحركة الإسلامية أو تقوم، فليس من العدل في شيء أن نحوّل (النقد) و(النصيحة) إلى تجريح وفضيحة وتسفيه، فإن وجد أحدنا في نفسه من ذلك فليمسك، لأن أحد أهم الفوارق ما بين النظام الإسلامي والديمقراطية هي (النية) الخالصة و(والوسيلة) المشروعة، وليست الفضيحة من الإسلام شيئاً، ولا يجوز من المسلم إيذاء المسلم بقول أو عمل، إنما القصد الإصلاح، وللإصلاح سبل ومقاصد مشروعة.
وغياب منهجية النقد الموضوعي تفوّت على المسلم فرصة رؤية عيوبه ومعالجتها، كما تفوّت عليه قراءة تاريخه قراءة تحليلية تهدف استنباط المواقف الصحيحة، وتحديد المواقف الخاطئة، وبالتالي استقراء دروس الماضي للاعتبار والتمثّل وتحاشي الثغرات، في وقت واحد، فالعين المُحبة لا تعني العين المُغلقة، وإنما يزداد الحب بمعرفة الحقيقة بدون زيف، وإلا فإننا نختلق عالماً وهمياً خاصاً بنا لا علاقة له بإنسانية الذين سبقونا ومهدوا لنا ما يمكن أن يجنبنا المزالق لو قرأنا تجربتهم بعين مستبصرة.(1/55)
والنقد الإيجابي يحيي روح المساءلة داخل مؤسسات الأنظمة والتنظيمات، ويعيد روح الحوار، وينمي روح المراقبة، ويقف بالمرصاد لنفسية الاتباع والانصياع والتغاضي، ويصحح منهجية التبرير التي تنطلق من منطلقات حسن النية، والحرص على الصورة خارج الصف، ثم تنتهي بموقف مزدوج يكيل بمكيالين، يبرر للجانب الذي ننتمي إليه ونحبه، ونجرّم الجانب الآخر بعيداً عن الموضوعية التي نبرر تضييعها بحفظ ما هو أهم وأفضل، وهل أهم وأفضل من حسن الظن بإخواننا؟ وكأن كلمة التقويم الهادف، أو النصيحة المسددة تعني سوء ظن! إنما سوء الظن أن نؤمن بعصمة من لم يعصمه الشرع، و"كل ابن آدم خطّاء وخير الخطائين التوابون"(1)9.
غياب مؤسسات متكاملة مع العمل السياسي
يحتاج تأهيل العاملين في السياسة إلى مراكز للتدريب، والتدريب يعني اختصار الوقت والجهد والمال والانطلاق من حيث انتهى الآخرون، لأنه يغرف من تراكم الخبرات، ويزيد فوقها خبرات جديدة. ومن المؤسف أن البعض ما زال يرى (التدريب) مسألة ثانوية ولا يصنّفه ضمن سلّم الأولويات، وكثيرا ما يردد باستهزاء (بعدما شاب دخل الكتّاب)، لأنه لا يؤمن في حقيقة الأمر بتنمية المهارات ويظن أن القابليات تولد مع الإنسان كبيرة، وهذا خلاف الحقيقة، إن قادة الدول المتحكمة في عالم اليوم يخضعون لنظام صارم من التدريب والتأهيل لا يقف في وجهه كونهم على رؤوس دول فاعلة على الساحة الدولية، ويدخل التدريب إلى أخص خصوصياتهم، ككيفية المشي والأكل وإظهار الانفعال وإجابة الأسئلة المحرجة وغيرها من الأمور التي قد نراها شخصية جداً.
__________
(1) الترمذي: صفة القيامة، رقم2423. ومثله في ابن ماجة: الزهد، رقم4241. وأحمد: باقي مسند المكثرين، رقم12576. والدارمي: الرقاق، رقم2611.(1/56)
ويحتاج العمل السياسي المعاصر إلى مراكز معلومات، وليس من الضرورة في شيء أن تكون هذه المراكز تابعة للحكومة أو التنظيمات، بل من الأنسب أن تقوم بالعمل مؤسسات خاصّة تلبي متطلباته المهنية والتقنية، وتوفّر المعلومات لطالبيها مقابل رسوم مالية، والغرب يعتمد على عشرات المؤسسات التي تقوم بتجهيز الدراسات والمعلومات، بالإضافة إلى ما توفره شبكة (الانترنيت) العالمية من ملايين الملفات المعلوماتية في شتى ميادين المعرفة البشرية، وهي أنموذج لما وصلت إليه الدول الغربية من اعتماد المعرفة الموثقة بديلاً عن الارتجال الذي نرى فيه قوّة الفرد (القائد).
ويحتاج العمل السياسي المعاصر إلى مراكز دراسات وإحصاءات، ترفده بالحقائق التي يحتاجها لتقويم الواقع والتخطيط للمستقبل، وتحديد الثغرات ووضع الحلول، وقد أصبحت لغة الأرقام من مسلّمات العالم الغربي الذي نحّى بالعاطفة جانباً ولم يعد يكتفي بعموميات الأشياء والمسائل.. وأصبح للتوثيق في نفس السامع والقارئ هناك ما ليس للكلام العام السابح في عالم المشاعر الجياشة وحدها.
ضبابية الرؤية في التقنين للشورى وممارستها
ترفع الحكومات والحركات الإسلامية المعاصرة، كثيراً من الشعارات السياسية البراقة دون أن تبيّن آليات تنفيذها، وتبلور برامج ترسيخها في عالم الواقع، ومن ذلك شعار (الإسلام هو الحل) و(الشورى هي الحل) و(الوحدة الإسلامية هي الحل) و(الكتاب والسنّة هما الحل) وغيرها، ولو سألت سائل عن مفردات هذا الحل الذي يرفع شعاره لما أمكنه شرح الأمر بكلمات مختصرات ولا مسهبات، ويهون الأمر عندما تكون المسألة متعلقة بتنفيذ خطوات مستقبلية تحتاج إلى مزيد من الدراسات والأعمال التنفيذية، ولكن كيف يكون الأمر أمام شعار كبير يشكل أهم قاعدة من قواعد العمل السياسي الإسلامي كالشورى مثلاً؟(1/57)
فالشورى في الحقيقة ليست قراراً سياسياً أو إدارياً يكفي اتخاذه ونشره في الجريدة الرسمية ليصبح واقعاً قائماً، وهي ليست نظرية يكفي فيها الجانب التنظيري والوعظي لتصبح التزاماً صحيحاً لدى الأفراد والمؤسسات. إن الشورى روح تطبع الفرد وتطبع المجتمع المسلم، ونحتاج لتحقيقها منهجاً في التربية يبدأ مع الناشئ في بيته ومدرسته وجامعه ومؤسساته الاجتماعية، بحيث يصبح المعارض والمخالف للشورى كالشيء النابي المكشوف للآخرين المعوّق لحركة المجتمع المرفوض من أبنائه.
فهل (الشورى) على المستوى العملي مواكبة للتنظير الذي يدور حولها؟ وهل نملك في الفكر الإسلامي المعاصر تصوراً واضحاً عن تطبيقاتها؟ وهل نملك ضمانات كافية لاستمرارها؟
أسئلة كثيرة تدور في ذهن أي مهتم وحريص لأن النموذج الوحيد الذي نراه حتى الآن فاعلاً وضامناً هو النظام الديمقراطي الغربي الذي تطور داخل المؤسسة السياسية إلى درجة أن أحداً ما لا يتصوّر أن يقوم رئيس دولة أو رئيس وزراء منتخب في الغرب فيعلن الحرب على إحدى جاراته بناء على خصومة شخصية بينه وبين قيادة الدولة المعنية، ولو وقع ذلك لتم عزله ولربما أرسلوه إلى مصحٍّ نفسي ليتلقى العلاج المناسب.(1/58)
إن ما ينبغي التفكير به، والتخطيط له وتنفيذه، هو كيف يمكننا إيجاد نموذج شوري عملي، وما هي الآليات الكفيلة باستمراره وعدم تقويضه بمجرد وصول حاكم مستبد يملك حرية التصرف والقفز فوق أحكام الشريعة وفوق سلطة القانون، وهو ما سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - (مُلكاً عاضّاً) و(مُلكاً جبرية)؟(1) وليس بعد الشورى إلا الاستبداد والجبرية، وهما سبب جملة آفاتنا خلال مسيرتنا الطويلة، وما نراه اليوم من المآزق يعود إلى جملة من الأسباب الموضوعية، وغياب الشورى على رأسها.
الاقتصار على تجارب الماضي
__________
(1) عن النعمان بن بشير؛ قال: كنّا قعوداً في المسجد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان بشير رجلاً يكف حديثه، فجاء أبو ثعلبة الخُشني فقال: يا بشير بن سعد؛ أتحفظ حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأمراء؟ فقال حذيفة: أنا أحفظ خُطبته، فجلس أبو ثعلبة؛ فقال حذيفة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً، فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرية، فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة"، ثم سكت. قال حبيب: فلما قام عمر بن عبد العزيز وكان يزيد بن النعمان بن بشير في صحابته فكتبت إليه بهذا الحديث أذكره إياه فقلت له: إني أرجو أن يكون أمير المؤمنين - يعني عمر - بعد الملك العاضّ والجبرية. فأُدخل كتابي على عمر بن عبد العزيز فسُرّ به وأعجبه. رواه أحمد: مسند الكوفيين، حديث17680.(1/59)
إن الاعتماد على التجربة التاريخية سلاح ذو حدين، فالتجربة التاريخية على غاية من الأهمية والضرورة لجهة الاعتبار وإثراء التجربة والاستفادة من التراكم الحضاري والانطلاق من حيث انتهى السابقون، وفي القرآن الكريم: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب} [يوسف/111]، وفي المقابل يشكل الاقتصار على التجربة التاريخية واتخاذها المثل الأعلى أو الشكل الأمثل الذي لا يصح تجاوزه، خطراً لا تتوقف آثاره عند الحاضر وحده بل تتجاوزه إلى المستقبل لأنه يشكّل منهجية مستحكمة تتوارثها الأجيال وهي التي ذمها الله تعالى في قوله: {إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون} [الزخرف/23].
فكيف يتم التعامل مع التجربة التاريخية في الفكر الإسلامي المعاصر؟ هل تعتبر مجرد تجربة سابقة تضاف إلى علمنا وإلى خبراتنا؟ أم هي نموذج مقدّس كالنصّ الثابت لا يجوز تجاوزها أو الالتفاف حولها؟
وفي حقيقة الأمر يوجد تياران طاغيان يتقاسمان الساحة الإسلامية، تيار يرى في التجربة التاريخية، فقهية كانت أو حضارية، نموذجاً مقدساً لا يصح التفريط به ولا تجاوزه، ويدعو هذا التيار إلى تمثّل الماضي بكل ما فيه، وفي جميع الميادين، ويطيب لهذا التيار أن يفهم (السلفية) داخل إطار الالتزام الحرفي، وبعض أفراده يغرقون إلى درجة تشعرك بأنهم يهربون من الواقع ليعيشوا في الماضي دون إجهاد النفس في مواجهة التحديات والإشكالات المعاصرة والخروج على الناس بحلول عصرية ضمن منهج السلف.
نمطية معظم خريجي المعاهد والكليات الشرعية(1/60)
بالرغم من كثرة خريجي المعاهد والكليات الشرعية، فإن الدور الذي يلعبه هؤلاء الخريجون يكاد يكون محصوراً في إطار ضيق من أعمال المساجد كإمامة الصلوات الراتبة، أو القضاء الشرعي، وبعض دوائر الإفتاء، والتدريس الديني، وتبقى هذه الأعمال - في الأغلب الأعم - داخل إطار من الروتين والتقليدية البعيدة عن روح التوثب والإبداع والتحديث(1).
وتكاد قلة نادرة من هؤلاء الخريجين تعمل على تطوير أنفسها بالإطلاع على أحداث العصر ومستجداته، وعلى تطوير ثقافتها الشخصية، ولذلك أسباب كثيرة، على رأسها مناهج التدريس التي تتلقاها في المعاهد والكليات، ففي الوقت الذي يعيش فيه الطالب الشرعي صور الماضي المشرقة تتحول حياته خلال فترة التلقي وما يعقبها من العمل الوظيفي إلى ما يشبه الجحيم لغياب منهجية تربوية صحيحة من جهة، ولحالة العوز والقلّة من جهة أخرى، والمناهج تُغفِل مواضيع أساسية في تكوين شخصية الداعية المعاصر(2).
__________
(1) في مصر وحدها 40 ألف شيخ وإمام مسجد، نشرت مجلة (المجلة) اللندنية تحقيقاً عنهم تحت عنوان: (مصر: حرب بين الحكومة والجماعات للسيطرة على الدعاة والمساجد)، العدد779، تاريخ 15/1/1995.
(2) أثارت مقترحات وبرامج تطوير الأزهر الشريف جدلاً في مصر، ماضياً وحاضراً، انظر: مجلة (الوسط) اللندنية، العدد236، تاريخ 5/8/96م. ومجلة (المجلة) اللندنية العدد958، تاريخ 21/6/98م. و(الأمان) اللبنانية، العدد309، تاريخ 12/6/98م، ص6. والعدد310، 19/6/98م، ص11. وأوسعها ملف (المجتمع) الكويتية، العدد1305، تاريخ 23/6/98م، تحت عنوان (الأزهر.. تدمير لا تطوير) ص20-27.(1/61)
إن شخصية خريج المعاهد الدينية قد لا تتطابق مطلقاً مع ما يتوقعه المسلم العادي منه، بل قد يراه على الطرف النقيض للصورة التي رسمها لقائده الديني، وهو هنا الشيخ المعمم المطلوب منه أن يكون ذا علاقات طيبة مع أبناء الحي، وخطيباً مفوهاً يحمل الكلمة الواعية، ومدرساً ناجحاً يستطيع التعامل مع الطلبة والطالبات في مختلف مراحل التعليم، فيبسّط لهم المادة، وييسر لهم فهم الفقه والتفسير وحفظ القرآن والحديث، والتمثّل بالسيرة النبوية، والأخلاق الإسلامية.
إن المناهج التربوية في المدارس والمعاهد والكليات الدينية المعاصرة تكاد تسحق شخصية الطالب وتقتل فيه الطموح الذي ينبغي توفيره في الداعية الرسالي الذي يحمل في عقله وقلبه علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهل يستطيع الذي حيل بينه وبين فهم الواقع والاطلاع عليه أن يساهم في تحريك عجلة الحياة الصدئة، وإخراج المجتمع الإسلامي من جموده؟ وهل يملك من يعيش همّ الوظيفة أن ينفخ في الشباب روح التوثب والبذل والتضحية الحية كما هو المتوقع والمطلوب؟
إن إبعاد هذه الشريحة من مثقفي الأمة عن مصادر المعرفة المفتوحة، وإدخالهم في دوامة السعي على لقمة العيش تحرم المجتمعات الإسلامية من طاقات شابة، وتضخ في جسم الأمة مزيداً من العاطلين عن العمل ولكن تحت مسمى (رجل دين)، إن أمتنا بحاجة لتأهيل (الفقيه العالم) وليست في حاجة (لرجل دين) لأن الإسلام نفسه لا يقر بالكهنوت، ولا يعرف الفصل ما بين الدنيا والآخرة ولا الدين والدنيا.
العاطفة والمثالية في الطرح السياسي
لا تجدي العاطفة وحدها إن لم تكن ضمن سياق وبرنامج يوظفها لمصلحة المشروع الكبير المصيري الذي تتحرك به الأمة، والعواطف لا تكسو عرياناً ولا تطعم جائعاً ولا تؤمن الدواء لمريض، والإسلام ميز ما بين العاطفة الصادقة المرتبطة بالفقه والعلم والتنفيذ، بين الحميّة التي تدفع صاحبها باتجاه عمل ما يختلف ظاهره عن مقصد صاحبه.(1/62)
إن اندفاعنا باتجاه الإسلام وحرصنا عليه يتحوّل أحياناً إلى مدخل لكل مدّع لا يرانا محصّنين بآليات الوعي، فبعضهم يرى فينا جمهوراً واسعاً يؤيد طموحاته السياسية، وبعضهم يرانا سوقاً استهلاكية لمنتوجاته، وآخر يرى في جيوبنا خزيناً كافيا لتمويل مشاريعه، فكم من قصص عن شركات توظيف الأموال التي ادعت العمل بمقتضى أحكام الشريعة الإسلامية، وبات الناس على الحلم وأفاقوا على ضياع شقاء العمر؟ وكم من زعيم بحت حناجرنا في الهتاف له كان ضياع البلاد وتبديد آمالنا نتيجة لسياساته الرعناء المرتجلة؟
ويواكب هذه العاطفة الجياشة المغرقة في الحلم (مثالية) محلّقة عالياً بعيدة كل البعد عن عالم الواقع، والرؤى المثالية لا نصيب لها من التطبيق، بل هي تجعل الهدف بعيداً جداً عن متناول الأيدي، وما رسمناه في عقولنا عن الإسلام وتطبيقاته، لم يتحقق بسبب المثالية، فنحن لا نريد التدرج، ولا نتبع المرحلية، ولا نعمل على درب التمهيد، وننسى في خضم الحماس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - انتهج المرحلية والتدرج في دعوته وفي بناء دولته، وأن الانتقال المفاجئ غير الممهد من مرحلة فكرية وسياسية معينة إلى مرحلة أخرى نقيضة يأتي بنتائج عكسية في أغلب الأحيان، تماماً كما في عالم الصحة، وغيرها.
ومن مظاهر العاطفة الجياشة في حركة مسلمي اليوم هذا الكم الكبير من الكلام الوعظي الخطابي الذي يتحرك في إطار المشاعر، ويهدف إلى استثارة النخوة، وتحريك الحمية، واستعادة كل الصور التاريخية التي تملأنا فخاراً، دون أن يكون للبناء الفكري الهادف نصيب مماثل في خطابنا هذا.(1/63)
إن العاطفة التي تغلّف عقولنا وتسكن قلوبنا لا تكتفي قط بالإثارة الذي تحدثنا عنها، وإنما تعطل منهجية التحليل المنطقي، ليصبح كل شيء نقوم به بدون تخطيط (قضاء وقدراً) -في نظرنا- وليصبح كل ابتلاء نزل بسبب منّا (تمحيصاً وامتحاناً إلهياً)، ونعني بذلك إنه (ليس بالإمكان أفضل مما كان)، ولنبتعد في خضم ذلك ولججه عن رؤية واضحة ترى بعيون مفتوحة ما يجري في الواقع مما يتبع سنن الله تعالى في خلقه، وتتحول قراءتنا للأحداث عن مسار الرؤية الواضحة - بسبب ضبابية العاطفة الطاغية - إلى الهاوية ونحن لا ندري، ولنقرأ هذا النموذج عن احتلال العراق للكويت وتداعياته:
"لم ألتقِ بشخص واحد بعد غزو الكويت قبل الهجوم البري من الشباب الإسلامي - مهما كان مستواه الفكري - يعتقد بأن الحرب قادمة. وقد التقيت بأكثر من ألف شاب إسلامي ومفكر إسلامي طوال الستة شهور السابقة للحرب. بل الأغرب من ذلك أن كثيراً من آراء الشباب الإسلامي كانوا يرون أن أمريكا ترتعد خوفاً من صدام حسين ومن جيشه وأنها لن تجرؤ على خوض القتال، لأنها تعرف إنها ستهزم لا محالة! وقال أحد الشباب بالحرف الواحد: هل تتصور أن الجنود الأمريكيين المدللين الجبناء يصلحون للقتال أمام جيش صدام حسين الذي حارب ثماني سنوات؟)(1)
حصر العمل السياسي في إطار السعي للسلطة
تكاد شعارات الحركات الإسلامية جميعاً، مع استثناءات نادرة، تجمع على أن هدفها الرئيس الوصول إلى السلطة، لأنها تؤمن بأن الحاكمية لله سبحانه، لا لسواه، وترفع شعار (إن الحكم إلا لله)، وهو مطلب عدل؛ ولكن هل حصر العمل الإسلامي بهذا الهدف السياسي سيؤدي إلى تحقيق شعار (إن الحكم إلا لله) في عالم الواقع؟
__________
(1) عصام دراز، لماذا اختلفنا؟ الإسلاميون وحرب الخليج، القاهرة، المنار الجديد، ط2، 1411هـ/ 1991م، ص60.(1/64)
ومن المعلوم أن مبحث السلطة السياسية (الإمامة) أحد أبرز مباحث الخلاف بين الفرق الإسلامية، ففي الوقت الذي يرى فيه الشيعة أن الإمامة وراثة للنبوة، ويجعلونها في مباحث (أصول الدين)، يرى أهل السنّة والجماعة (والخوارج والمعتزلة) إن الأحكام السلطانية من فروع الفقه وليست من العقائد، ولذلك يجعلونها في مباحث (الفروع).
وقد أوضح الإمام الغزالي (محمد بن محمد، ت505هـ)؛ وكان معاصراً لفترة تاريخية غرق فيها العالم الإسلامي في قضايا السياسة الدولية والفتن الطائفية وفتنة الخطر الخارجي المتحالف مع بعض فرق الباطنية الداخلية؛ أوضح نظرة أهل السنّة إلى قضية الإمامة (الحكم والدولة) فنفى أن يكون مبحث الإمامة جزءاً من مباحث العقيدة، فقال: (النظر في الإمامة أيضاً ليس من المهمّات، وليس أيضاً من فن المعقولات فيها، بل من الفقهيات)(1).
وبالعودة إلى ما ابتدأنا به الفقرة عن تحديد أولوية جُل فصائل الحركة الإسلامية في الوصول إلى السلطة، نسأل: ماذا يعني أن يكون الشعار المرفوع محصوراً في (إن الحكم إلا لله) دون أن نهيئ أسباب النجاح لتحقيق هذا الشعار في عالم الواقع، ونحن نرى نسبة الأمية في تصاعد، والزراعة في تراجع، والصناعة متخلفة، وبرامج الإسكان لا تتناسب مع زيادة عدد السكان، والطبابة بدائية، والتعليم لا يفي بحاجات الأمة، والبطالة تشكل عبئاً متزايداً على الأفراد والمجتمع والأمة؟ وهل يصح أن يغيب ذلك كله عن شعارات المرحلة الكلية أو الجزئية! وخطوات البناء والتنمية خطوات ضرورية لا تقل عن الشعار السياسي الذي ترفعه الحركة الإسلامية، ومحو الأمية، ورفع مستوى الخدمات، وتحقيق كفاءة تقنية ما هي إلا قواعد أساسية على درب بناء مجتمع متكافل يستطيع أن يكفي نفسه، ليستطيع بعد ذلك تحقيق شعاراته!
__________
(1) الغزالي، محمد بن محمد، ت505هـ، الاقتصاد في الاعتقاد، بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 1403هـ/ 1983م، ص147.(1/65)
إن حصر أهداف الحركة الإسلامية سياسياً بإزالة الحكام الحاليين لمصلحتها، افتئات على الحركة بعمومها، وإن كانت بعض الفصائل تسعى لذلك وتعلنه صراحة في أدبياتها ومؤتمراتها، وكانت حركة (المهاجرون) الناشئة في بريطانيا قد نظمت لسنتين متتاليتين مسيرة ضخمة جمعت أبناء الجاليات الوافدة واللاجئة في بريطانيا، تحت شعار (إقامة الخلافة).
وكانت مجلة (المجلة) اللندنية قد نشرت ملفاً عن تنامي (الإسلام السياسي) في بريطانيا، تحت عنوان (الجماعات الإسلامية تركز على الجامعات وحضور مكثف لقادتها في الندوات)، وفي نفس الملف مقابلة مع عمر بكري -كان يومها عضواً في حزب التحرير- اختارت له عنوان (نقوم بإفهام البريطانيين الإسلام للمساعدة في حال تقدم جيوش الخلافة لغزوهم)(1)، ولقد كرر مثل هذه التصريحات في مقابلات أجرتها معه عدد من المجلات والصحف(2)، وقد دفعت تصريحاته المتطرفة يوماً بأحد البريطانيين ليقول له: "إنني سمعت أن الإسلام دين حياة! ولكن الإسلام الذي أسمعه منك دين يدعو إلى القتل والإماتة".
هموم العالم الإسلامي.. ثغرات في جدار السياسة
هموم العالم الإسلامي كثيرة، يأتي في مقدمتها:
- عدم الاتفاق على خطة استراتيجية تصب فيها جهود جميع العاملين من أفراد ومؤسسات، حكومية وشعبية.
- عدم ترتيب سلم أولويات في معالجة واقعنا السياسي وأزماتنا الأخرى.
__________
(1) مجلة (المجلة) بتاريخ 17/12/1995م ص26-34.
(2) انظر: (القبس) الكويتية 1/3/96. و(الشرق أوسط) اللندنية 11/3/96. و(الحياة) اللندنية 5/9/96م، أوضح بكري فيها أين ستقوم دولة الخلافة بقوله: "إن منطقة القارة الهندية وأندونيسيا وماليزيا مؤهلة لذلك أكثر من الدول العربية، إذ فيها 500 مليون مسلم بينما في العالم العربي 160 مليوناً مقسمون على 20 دولة"، و(الوسط) اللندنية 9/9/96م، و23/9/96.(1/66)
- تعطيل المشاريع والخطوات المتفق عليها بسبب التنافس والتربص بين الدول أو المؤسسات داخل الدولة الواحدة(1).
- حالة الإحباط القائمة بسبب تردي الأحوال السياسية والاقتصادية والأمنية عموماً، ومسلسل التنازلات والخسائر والشعور باليد السفلى(2).
- العمل بردود الأفعال.
- وعدم احترام مبدأ التخصص وإعمال مبدأ الشورى.
- وغياب خطة عمل إسلامي محددة الأهداف والمراحل.
- وعدم الالتزام الجاد بالمبادئ من داخل الحركة الإسلامية نفسها.
- والأمية الدينية لدى جمهور الشباب المسلم.
- وعدم اتخاذ موقف موضوعي من الصراعات الفكرية والمذهبية المعاصرة.
- وعدم تحديد مصطلحات كالخلافة والبيعة في منظور الفقه السياسي الإسلامي قديمه وحديثه.
- وعدم حسم بعض القضايا المعلّقة كعمل المرأة المسلمة ومكانتها الاجتماعية وحركتها في المجتمع وزيّها وإسهامها في الأمور العامة.
- وعدم الوضوح في القضايا الوطنية.
- وعدم بلورة مشروع حضاري إسلامي متكامل يعتمد أسلوباً في التطبيق مستنيراً متطوراً.
- وانقطاع الجسور بين حكام الأقطار العربية والإسلامية وبين التيار الإسلامي، والحاجة ملحة لتخطّي الفجوة القائمة بينهما.
سبل الخروج
? استعادة الثقة بين القاعدة والقيادة.
? تحقيق الحرية وصيانتها نصاً وواقعاً.
? حفظ الضروريات الشرعية الخمسة (3).
? إقامة البنى التحتية للنشاط السياسي.
? تشجيع المؤسسات المساندة للعمل السياسي
? التخطيط السياسي.
__________
(1) مثل توحيد مناهج التعليم، أو تكامل الاقتصاد، أو توحيد إجراءات التنقل بين الدول، وغيرها.
(2) لاسيما أمام الاستعلاء الإسرائيلي.
(3) وهي "الدين والنفس والعقل والنسل والمال". انظر: الشاطبي، إبراهيم بن موسى، ت790هـ، الموافقات في أصول الشريعة، تحقيق: محمد عبد الله دراز، الرياض، مكتبة الرياض الحديثة، ب.ت، مقدمة الشارح، ص3-4.(1/67)
? طرح مشاريع واقعية(1).
? تكريس (الوعي السياسي) ضمن مناهج التربية والتعليم.
? الاهتمام بوسائل التأثير الجماهيرية.
? إعادة صياغة مناهج ووسائل المعاهد والكليات الشرعية.
? اعتماد وسائل التدريب الحديثة لتطوير المهارات.
? التحرر من إطار الحزبية والنخبوية الضيقة.
? إعادة صياغة الخطاب الإسلامي.
? التركيز على معاني الشورى وآليات تنفيذها(2).
? التأسيس الفقهي على النص والتطبيق.
? إقامة التوازن بين التجربة التاريخية ومتطلبات العصر.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المصادر والمراجع
(1) المصادر
1) ابن الأزرق، أبو عبد الله، ت896هـ، بدائع السلك في طبائع الملك، تحقيق: د. علي سامي النشار، بغداد، وزارة الاعلام، سلسلة كتب التراث، رقم45، ط؟، 1977م
2) ابن تيمية، الحسبة في الإسلام، أو وظيفة الحكومة الإسلامية، المدينة المنورة، المكتبة العلمية، ب.ت
3) ابن تيمية، السياسة الشرعية، بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 1409هـ/ 1988م
__________
(1) من القضايا التي يدعو إليها الإسلام، ويشترك الناس جميعاً في الحاجة إليها، ويفيدنا ويفيدهم تبنيها: الشورى، والحرب والسلام في العلاقات الدولية، والمشكلة الاقتصادية، والقضية الأخلاقية، وقضايا التربية والتعليم، والأقليات الدينية في العالم الإسلامي وخارجه، وتربية الجماهير على التفكير باعتباره فريضة دينية، وبث روح المبادرة الفردية لتحل محل فكرة الطاعة والانقياد الأعمى.
(2) عن عمر بن الخطاب: "الرأي الفرد كالخيط السحيل، والرأيان كالخيطين، والثلاث الآراء لا تكاد تنقطع"، انظر: الطرطوشي، سراج الملوك، ص1/320. وعن علي بن أبي طالب: "في المشورة سبع خصال، استنباط الصواب، واكتساب الرأي، والتحصن من السقطة، وحرز من الملامة، ونجاة من الندامة، وألفة القلوب، واتباع الأثر". [العقد الفريد للملك السعيد، لأبي سالم، محمد بن طلحة الوزير، ت652هـ، القاهرة، مطبعة الوطن، 1306هـ، ص43].(1/68)
4) ابن تيمية، مجموع الفتاوى، بيروت، دار ابن حزم
5) ابن تيمية، منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية، تحقيق: د. محمد رشاد سالم، القاهرة، دار العروبة، 1382هـ/1962م
6) ابن حزم، علي بن أحمد، ت456هـ، الفِصَل في المِلل والأهواء والنحل، بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 1416هـ/ 1996م
7) ابن خلدون، المقدمة، تحقيق: درويش الجويدي، صيدا-بيروت، المطبعة العصرية، ط2، 1416هـ/1996م
8) ابن قتيبة، عيون الأخبار، بيروت، دار الكتاب العربي، ب.ت
9) ابن القيم، أعلام الموقعين عن رب العالمين، مراجعة وتعليق: طه عبد الرؤوف سعد، القاهرة، مكتبة الكليات الأزهرية، المحرم 1388هـ/ إبريل 1968م
10) ابن القيم، الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، تحقيق: محمد جميل غازي، القاهرة، مطبعة المدني، 1977م
11) ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، بيروت، دار الأندلس، ط؟
12) ابن منظور، لسان العرب، قم، نشر: آداب الحوزة، 1405هـ
13) ابن نجيم، زين الدين بن ابراهيم، ت970هـ، البحر الرائق.. شرح كنز الدقائق، بيروت، دار الكتاب الإسلامي، ط2 بالأوفست
14) ابن هشام، السيرة النبوية، تحقيق: مصطفى السقا وابراهيم الابياري وعبد الحفيظ شلبي، بيروت، دار المعرفة، ب.ت [مجلدان]
15) أبو حيان التوحيدي، نحو400هـ، الإمتاع والمؤانسة، تحقيق: أحمد أمين وأحمد الزين، القاهرة، لجنة التأليف والترجمة والنشر، ط2
16) أبو سالم، محمد بن طلحة الوزير، ت652هـ، العقد الفريد للملك السعيد، القاهرة، مطبعة الوطن، 1306هـ
17) الآمدي، الإمامة من أبكار الأفكار في أصول الدين، تحقيق: محمد الزبيدي، بيروت، دار الكتاب العربي، ط1، 1412هـ/ 1992م
18) أحمد شهاب الدين الخفاجي، نسيم الرياض في شرح شفاء القاضي عياض، دار الكتاب العربي، بيروت، صورة عن طبعة المطبعة الأزهرية المصرية الأولى لسنة 1327هـ(1/69)
19) إمام الحرمين الجويني، الغياثي.. غياث الأمم في التياث الظلم، تحقيق: د. عبد العظيم الديب، حقوق الطبع للمؤلف، ط2، 1401هـ
20) الثعالبي، أبو منصور عبد الملك بن محمد، الاقتباس من القرآن الكريم، تحقيق: د. ابتسام مرهون الصفار ود. مجاهد مصطفى بهجت، مصر، دار الوفاء بالمنصورة، ط1، 1412هـ/ 1992م
21) الجرجاني، شرح المواقف للإيجي المتوفى 756هـ، تصحيح: محمد بدر الدين النعساني الحلبي، القاهرة، مطبعة السعادة، ب.ت
22) الدبوسي الحنفي، عبيد الله بن عمر، ت430هـ، كتاب (تقويم الأدلة في أصول الفقه)، مخطوط، نسخة مصوّرة عن دار الكتب المصرية تحت الرقم255 بعنوان (تقويم الأدلة) أو (تقويم أصول الفقه وتحديد أصول الشرع). ولقد أورد د. محمد أديب الصالح نصوصاً منه في كتابه (تفسير النصوص).
23) الحافظ الذهبي، ميزان الاعتدال في نقد رجال الحديث، الهند، ط1301هـ
24) سعد الدين التفتازاني، شرح العقائد النسفية، تحقيق: د. أحمد حجازي السقا، القاهرة، مكتبة الكليات الأزهرية، ط1، 1407هـ/ 1987م
25) الشاطبي، إبراهيم بن موسى، ت790هـ، الاعتصام، تحقيق: سليم بن عيد الهلالي، الخبر، دار ابن عفان
26) الشاطبي، إبراهيم بن موسى، ت790هـ، الموافقات في أصول الشريعة، تحقيق: محمد عبد الله دراز، الرياض، مكتبة الرياض الحديثة، ب.ت
27) الشهرستاني، نهاية الأقدام في علم الكلام، تحرير وتصحيح: الفرد جيوم، القاهرة، مكتبة الثقافة الدينية، ب.ت
28) الشيزري، عبد الرحمن بن نصر، ت589هـ، النهج المسلوك في سياسة الملوك، تحقيق: د. محمد أحمد دمج، بيروت، مؤسسة بحسون، ودار المنال، ط1، 1414هـ/ 1994م
29) الطبري، محمد بن جرير، ت310هـ، تاريخ الأمم والملوك، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، بيروت، دار سويدان
30) الطرطوشي، محمد بن الوليد، (ت520هـ)، سراج الملوك، تحقيق: محمد فتحي أبو بكر، القاهرة، الدار المصرية اللبنانية، ط1، 1414هـ/ 1994م(1/70)
31) الطرطوشي، محمد بن الوليد، ت520هـ، سراج الملوك، تحقيق: محمد فتحي أبو بكر، تقديم: د. شوقي ضيف، القاهرة، الدار المصرية اللبنانية، ط1، 1414هـ/ 1994م
32) عبد الرحمن بن أحمد الإيجي، المواقف في علم الكلام، بيروت، عالم الكتب، ب.ت
33) عبد الله بن محمود بن مودود، الموصلي الحنفي، ت683هـ، الإختيار لتعليل المختار، استنابول، جاغري ياينلري، ط: مارس 1980م
34) العز بن عبد السلام، ت660هـ، قواعد الأحكام في مصالح الأنام، بيروت، مؤسسة الريان، ط1، 1410هـ/ 1990م
35) علي القاري، المصنوع في معرفة الحديث الموضوع، تحقيق: د. عبد الفتاح أبو غدة، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط2، 1398هـ/ 1978م
36) القاضي عياض، الشفا، شرح الشمني (أحمد بن محمد ت872هـ) طبعة دار الكتب العلمية ببيروت، ط؟
37) الغزالي، محمد بن محمد، ت505هـ، الاقتصاد في الاعتقاد، بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، 1403هـ/ 1983م
38) الغزالي، محمد بن محمد، ت505هـ، فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، تحقيق: د. سميح دغيم، بيروت، دار الفكر اللبناني، ط1، 1993م
39) الغزالي، محمد بن محمد، ت505هـ، المستصفى من علم الأصول، تحقيق: د. محمد سليمان الأشقر، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط1، 1417هـ/ 1997م
40) الفراء، الأحكام السلطانية، تصحيح وتعليق: محمد حامد الفقي، بيروت، دار الكتب العلمية، 1403هـ/1983م
41) الماوردي، الأحكام السلطانية والولايات الدينية، تخريج وتعليق: خالد عبد اللطيف السبع العلمي، بيروت، دار الكتاب العربي، ط1، 1410هـ/1990م
42) المقريزي، المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، القاهرة، مكتبة الثقافة الدينية، تصوير بالأوفست، ب.ت
43) محمد بن يوسف، الصالحي الشامي، ت942هـ، سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، تحقيق: إبراهيم الترزي، وعبد الكريم العزباوي، القاهرة، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، لجنة إحياء التراث الإسلامي، 1411هـ/ 1990م(1/71)
44) الوزير الكامل، السياسة، تحقيق: سامي الدهان، نشر المعهد الفرنسي بدمشق للدراسات العربية، 1948م
(2) المراجع
1) إحسان قاسم الصالحي، بديع الزمان سعيد النورسي. نظرة عامة عن حياته وآثاره، دار (يني آسيا) للنشر، استانبول، ط2، 1987م
2) أحمد بن يوسف، الإسلام السياسي وتحولات الفكر المعاصر، الولايات المتحدة الأمريكية، رابطة الشباب المسلم العربي، اللجنة الثقافية، سلسلة البحوث والدراسات، ط1، 1988م
3) د. أحمد البغدادي، الفكر السياسي عند أبي الحسن الماوردي، الكويت، مؤسسة الشراع، ط1، 1984م
4) د. أحمد الريسوني، التعدد التنظيمي للحركة الإسلامية.. ما له وما عليه، الرباط، الجمعية الإسلامية بالمغرب، ط1، 1416هـ/ 1996م
5) أحمد شوقي الفنجري، الحرية السياسية أولاً، الكويت، دار القلم
6) أحمد شوقي الفنجري، الحرية السياسية في الإسلام، الكويت، دار القلم
7) أحمد كمال أبو المجد، ورقة قدمها لندوة الحوار القومي الديني، التي أقامها مركز دراسات الوحدة العربية في القاهرة
8) برهان غليون، نقد السياسة.. الدين والدولة، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1991م
9) د. بهيج ملا حويش، أضواء على معوقات العمل الإسلامي المعاصر، دار الدعوة، الكويت، ط1، 1408هـ/ 1988م
10) ثروت بدوي، النظم السياسية، القاهرة، دار النهضة العربية، 1975م
11) جامعة الكويت، موسوعة العلوم السياسية، لمجموعة من الكتاب والباحثين، تحرير: محمد محمود ربيع وإسماعيل صبري مقلد، 1993/1994م
12) جبران شامية، الإسلام هل يقدم للعالم نظرية للحكم، بيروت، دار الأبحاث والنشر، ط؟
13) جلال العالم، قادة الغرب يقولون: دمروا الإسلام أبيدوا أهله، الكويت، جمعية الفيزياء والعلوم الطبية بجامعة الكويت، ب.ت
14) حسن البنا، مجموعة رسائل الإمام الشهيد، القاهرة، دار الدعوة، 1408هـ/ 1988م
15) د. حسن صعب، علم السياسة، بيروت، دار العلم للملايين، ط8، 1985م(1/72)
16) حسين بن محسن، الطريق إلى جماعة المسلمين، الكويت، دار الدعوة، ط2، 1406هـ
17) خالص جلبي، في النقد الذاتي، ضرورة النقد الذاتي للحركة الإسلامية، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط1983م
18) خير الدين الزركلي، الأعلام، بيروت، دار العلم للملايين، ط10، 1992م
19) دافيد فرومكين، سلام ما بعده سلام.. ولادة الشرق الأوسط 1914-1922م، لندن، رياض الريس للكتب والنشر، ط1، 1992م
20) زكي العايدي، التاريخ السري للبنك الدولي، القاهرة، سينا للنشر، ط1، 1992م، وأصل الكتاب بالفرنسية، ترجمة: دار سينا، ومراجعة: ريشار جاكمون، وتحرير: علي حامد
21) سعيد حوى، الإسلام، بيروت، دار الكتب العلمية، ط2، 1399هـ/ 1979م
22) سعيد حوى، جند الله ثقافة وأخلاقاً، بيروت، دار الكتب العلمية، ط1، ب.ت
23) سعيد حوى، دروس في العمل الإسلامي، مكتبة الرسالة الحديثة، عمان، ب.ت
24) سميرة الزايد، الجامع في السيرة النبوية
25) سيد قطب، في ظلال القرآن، القاهرة وبيروت، دار الشروق، ط10، 1401هـ/ 1981م
26) د. شفيق المصري، النظام العالمي الجديد.. ملامح ومخاطر، بيروت، دار العلم للملايين، ط1، 1992م
27) د. صبحي الصالح، النظم الإسلامية، نشأتها وتطورها، بيروت، دار العلم للملايين، 1980م
28) صلاح شادي، صفحات من التاريخ، القاهرة، دار الفتح، ب.ت
29) د. صلاح الصاوي، مدى شرعية الانتماء إلى الأحزاب والجماعات الإسلامية، القاهرة، الآفاق الدولية للإعلام، ط2، 1413هـ/ 1993م
30) طارق البشري، الملامح العامة للفكر السياسي الإسلامي في التاريخ المعاصر، القاهرة وبيروت، دار الشروق، ط1، 1417هـ/ 1996م
31) عبد الحليم أبو شقة، تحرير المرأة في عصر الرسالة، الكويت، دار القلم، ط1، 1410هـ/ 1990م، [ستة أجزاء]
32) عبد الرحمن خليفة، في علم السياسة الإسلامي، الإسكندرية، دار المعرفة الجامعية، 1990م
33) د. عبد الله فهد النفيسي، الإخوان المسلمون في مصر(1/73)
34) د. عبد الله النفسي، الحركة الإسلامية ثغرات في الطريق، ط1، 1992م؟ يطلب من المؤلف
35) عبد الوهاب خلاف، السياسة الشرعية، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط3، 1407هـ/ 1987م
36) د. عبد الوهاب عزام، شرح ديوان محمد إقبال (ضرب الكليم)، القاهرة، مطبعة مصر، 1952م
37) عزام التميمي [تحرير]، التعددية السياسية من منظور إسلامي، ندوة: مشاركة الإسلاميين في السلطة، ليبرتي، لندن، ط1، 1994م
38) عصام دراز، لماذا اختلفنا؟ الإسلاميون وحرب الخليج، القاهرة، المنار الجديد، ط2، 1411هـ/ 1991م
39) علي عبد الرازق، الإسلام وأصول الحكم، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1993؟
40) د. علي عواد، الدعاية والرأي العام، بيروت، مؤسسة نزيه كركي، ط1، 1993م
41) د. علي محمد الآغا، الشورى والديمقراطية، بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1982م
42) عمر التلمساني، ذكريات لا مذكرات، القاهرة، دار الطباعة والنشر الإسلامية، 1985م
43) عمر عبيد حسنة، نظرات في مسيرة العمل الإسلامي، قطر، سلسلة كتاب الأمة، ط1، المحرم 1405هـ
44) د. فتحي يكن، أضواء على التجربة النيابية الإسلامية في لبنان، الكتاب الأول: الأداء النيابي بين المبدأ والتطبيق، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط1، 1416هـ/1996م
45) د. فتحي يكن، أضواء على التجربة النيابية الإسلامية في لبنان، الكتاب الثاني: الأداء النيابي عبر الأعلام، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط1، 1417هـ/1996م
46) د. فتحي يكن، أضواء على التجربة النيابية الإسلامية في لبنان، الكتاب الثالث: الأداء النيابي في الميزان، بيروت، مؤسسة الرسالة، ط1، 1417هـ/1996م
47) فتحية النبراوي ومحمد نصر مهنا، تطور الفكر السياسي في الإسلام، القاهرة، دار المعارف، 1984م
48) فريد عبد الخالق، الاخوان المسلمون في ميزان الحق، القاهرة، 1987م(1/74)
49) الكتاني؛ عبد الحي، نظام الحكومة النبوية المسمّى (التراتيب الإدارية)، بيروت، دار الكتاب العربي، ب.ت
50) مجموعة من الكتاب، الحركة الإسلامية: رؤية مستقبلية، أوراق في النقد الذاتي، تحرير وتقديم: د. عبد الله فهد النفيسي، الكويت، يطلب من المحرر مباشرة، ط1، 1410هـ/ 1989م
51) محمد أحمد الراشد، المسار، دبي، ط2، 1410هـ/ 1989م
52) أ.د. محمد بن محمد أبو شهبة، أعلام المحدثين، القاهرة، مركز كتب الشرق الأوسط، ط؟، 1381هـ/ 1962م؟
53) محمد الخضري، نور اليقين في سيرة سيد المرسلين، بدون ناشر، ط7، ب.ت
54) محمد السايس، تفسير آيات الأحكام، القاهرة، مطبعة محمد علي صبح، ب.ت
55) محمد صديق عبد الرحمن (رملي كابي)، البيعة في النظام السياسي الإسلامي وتطبيقاتها في الحياة السياسية المعاصرة، القاهرة، مكتبة وهبة، ط1، 1408هـ/1988م
56) د. محمد طه بدوي، المنهج في علم السياسة، طبعة كلية التجارة بجامعة الإسكندرية، 1979م
57) محمد الطويل، الاخوان في البرلمان، القاهرة، المكتب المصري الحديث، ط1، مايو 1992م
58) محمد علي الصابوني، مختصر تفسير ابن كثير، بيروت، دار القرآن الكريم، ط7، 1402هـ/ 1981م
59) د. محمد علي محمد ود. علي عبد المعطي محمد، السياسة بين النظرية والتطبيق، بيروت، دار النهضة العربية، 1405هـ/ 1985م
60) محمد عفيف الزعبي، مختصر سيرة ابن هشام، بيروت، دار النفائس، ط7، 1407هـ/ 1987م
61) د. محمد عمارة، الدين والدولة، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1986م
62) د. محمد عمارة، العالم الإسلامي والمتغيرات الدولية الراهنة، المنصورة، دار الوفاء، ط1، 1417هـ/ 1997م
63) محمد الغزالي، مشكلات في طريق الحياة الإسلامية، قطر، سلسلة كتاب الأمة، جمادى الآخرة 1402هـ
64) محمد فاروق النبهان، نظام الحكم في الإسلام، منشورات جامعة الكويت، 1974م(1/75)
65) محمد مهدي شمس الدين، أهلية المرأة لتولي السلطة، بيروت، المؤسسة الدولية للدراسات والنشر، ط1، 1995م
66) مركز دراسات الوحدة العربية، ندوة: الحركات الإسلامية المعاصرة في الوطن العربي، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، ط4، 1998م
67) مصطفى الطحان، تحديات سياسية تواجه الحركة الإسلامية، القاهرة، الفلاح للترجمة والنشر والتوزيع، ب.ت،
68) د. مهدي فضل الله، الشورى طبيعة الحاكمية في الإسلام، بيروت، دار الأندلس، 1984م
69) الندوة العالمية للشباب الإسلامي، الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة، الرياض، ط2، 1409هـ/ 1989م
70) نديم عطا الله إلياس، سيقهر الماء صم الحجر، نشر الدار الإسلامية للإعلام، بون، 1996م
71) نزار رمضان، الاستراتيجية ومرحلة التهيئة، مجلس اتحاد الطلبة بكلية العلوم والتكنولوجيا، جامعة القدس، ط1، 1412هـ/ 1992م
72) هارولد لاسكي، مدخل الى علم السياسة، ترجمة: عزالدين محمد حسين، القاهرة، مؤسسة سجل العرب، 1965م
73) هشام جعيط، الفتنة الكبرى، بيروت، دار الطليعة، 1991م
74) هنري لاوست، أصول الإسلام ونظمه في السياسة والاجتماع عند شيخ الإسلام ابن تيمية، ترجمة: محمد عبد العظيم علي، الاسكندرية، دار الدعوة، 1979م
75) وليد نويهض، الإسلام والسياسة.. نشوء الدولة في صدر الدعوة، بيروت، مركز الدراسات الاستراتيجية والبحوث والتوثيق، ط1، 1994م
76) د. يوسف إيبش ود. ياسوشي كوسوجي، السلطة في الفكر السياسي الإسلامي، نصوص مختارة وقراءات على امتداد ألف عام، بيروت، دار الحمراء، ط1، 1994م
(3) دوريات وصحف
1) (الاجتهاد)، العدد13، د. رضوان السيد، رؤية الخلافة وبنية الدولة في الإسلام
2) مجلة (إسلامية المعرفة)، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، عدد خاص عن الشيخ محمد الغزالي، عدد7، سنة2، رمضان1417هـ/ يناير1997م، محمد الغزالي، قصة حياة.. مقتطفات من مذكرات الشيخ(1/76)
3) (الأمان) اللبنانية، العدد309، تاريخ 12/6/98م. والعدد310، تاريخ 19/6/98م
4) (الأمة) القطرية، العدد43
5) (الأنباء) الكويتية، تاريخ 9/11/1993م
6) (الحياة) اللندنية، تاريخ 5/9/96م
7) (الحياة) اللندنية عدد12903، تاريخ 2/7/98م
8) (الشرق الأوسط) اللندنية تاريخ 11/3/1996م، و14/6/1997م
9) (القبس) الكويتية، تاريخ 12/3/1995م، و1/3/1996م
10) (قراءات سياسية)، السنة5، العدد1، شتاء1415هـ/ 1995م، سهي القاروقي، نظريات الدولة الإسلامية والواقع المعاصر، حالة دراسية
11) (المجتمع) الكويتية، العدد1305، تاريخ 23/6/98م، تحت عنوان (الأزهر.. تدمير لا تطوير) ص20-27
12) مجلة (المجلة)، العدد800، تاريخ 11-17/6/1995م، فهمي هويدي، 15 ركناً تحدد معالم المشروع الحضاري الإسلامي
13) مجلة (المجلة) تحقيق تحت عنوان: (مصر: حرب بين الحكومة والجماعات للسيطرة على الدعاة والمساجد)، العدد779، تاريخ 15/1/1995م، وبتاريخ 17/12/1995م، والعدد958، تاريخ 21/6/98م
14) (النهار) اللبنانية، تاريخ 1/11/1991م
15) مجلة (الوسط) اللندنية، الأعداد بتاريخ 5/8/96م، و9/9/96م، و23/9/96
16) (الوعي الإسلامي) الكويتية، العدد382، جمادى الآخرة 1418هـ، ص73. والعدد390، صفر 1419هـ، ص68(1/77)
حقوق الإنسان في الإسلام
وأثرها على سلوك المسلم الاقتصادي
إعداد
الشيخ راشد الغنوشي
بحث مقدم
للدورة الثامنة عشرة للمجلس - دبلن
جمادى الثانية/ رجب 1429 هـ / يوليو 2008 م
1- مقدمة حول موضوع حقوق الإنسان :
يمثل موضوع حقوق الإنسان في زمننا هذا وبالخصوص بعد انتهاء الحرب الباردة أهم محاور الجدل والصراع بين الشعوب المطالبة باحترام حقوقها وبين الحكومات المتهمة بانتهاكها. كما أنها غدت الميزان الذي توزن به سياسات الدول حسنا أو قبحا بحسب مدى احترام تلك الحقوق. وأكثر من ذلك تحول موضوع حقوق الإنسان إيديولوجية لبعض الدول وسيفا مسلطا تستخدمه في سياساتها الهيمنية ضد من تشاء وقت ما تريد تسويغا لإصدار إدانة ضد المستهدف والمضيّ حتى إلى إخضاعه لشتى العقوبات التي قد تصل إلى حد فرض الحصار الاقتصادي عليه وحتى العسكري الممهد غالبا لغزوه ووضعه تحت السيطرة.(1/1)
ولقد تأسست على امتداد العالم شبكات واسعة تحت مسمى الدفاع عن حقوق الإنسان غدت تمثل أنشط مؤسسات المجتمع المدني، كثيرا ما تولت تمويلها مؤسسات غربية خاصة أو رسمية لمراقبة سلوك الدول ومدى احترامها لحقوق الإنسان. وبعض هذه المؤسسات تحتضنها منظمة الأمم المتحدة ولها نظام للقاءات الدورية ومندوبون يجوبون أقطار الأرض يرفعون التقارير حول سلوك هذه الدولة أو تلك من جهة مدى احترامها لحقوق الإنسان كما نصت عليه المواثيق الدولية وبالخصوص ذلك المعروف بـ"الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" الذي أقرته الأمم المتحدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية سنة 1948 وتتالى منذئذ صدور سيل من النصوص والمواثيق والدراسات تشرح وتفصل وتستكمل الإعلان الأممي الأول الذي مهدت له :"منابع حقوق الإنسان ومراضعها جمعيات النظراء الفضلاء".. فهو تراكم خلقي ساهم في توريثه للإنسان أمراء انجلترا حين فرضوا الماجنا كارتا على الملك منذ أوائل القرن التاسع عشر الميلادي، وساهم فيه سييس ورفاقه في الثورة الفرنسية، وساهم قبل ذلك إعلان جفرسون والثائرون الأمريكان على الاستعمار البريطاني.. وازدهت البرجوازية بحقوقها الفردية الأنانية.. ولقد عكفت لجان مختصة كثيرة بتكليف من الأمم المتحدة على إعداد نصوص مهمة جدا لمشاريع عهود ومواثيق تفصّل الإعلان وتعمقه وتكمّله، ليغطي أوسع الساحات المتصلة بحقوق الإنسان. وبعد إقرارها تم عرضها على الدول الأعضاء من أجل التوقيع عليها مثل إعلان الأمم المتحدة للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري واتفاقية المساواة في الأجور واتفاقية حظر الرفض من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية واتفاقية مناهضة التعذيب واتفاقية حماية اللاجئين والعهد الدولي للحقوق الاجتماعية والثقافية والاقتصادية واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة.(1/2)
كما تعززت هذه الاتفاقيات بعدد من الإعلانات صدرت عن بعض الدول مثل فرنسا وألمانيا أو عن جماعات إقليمية أو دينية مثل الإعلان الأوروبي لحقوق الإنسان والإعلان الإفريقي والإعلان العربي والإعلان الإسلامي.
ومع ذلك استمرت موجات العلمنة المتطرفة تزحف على هذا المجال الحيوي في مسعى ناصب دؤوب لاحتلاله والسيطرة عليه واحتكاره جملة. ولقد بدا ذلك سافرا خلال انعقاد المؤتمرات الدولية للسكان مثل مؤتمر القاهرة ومؤتمر بيكين حيث برز استقطاب سافر ساخن بين التيار العلماني المتطرف وبين التيارات الدينية بقيادة تحالف ميداني إسلامي كاثوليكي، إذ عمل الأول على نسف الأساس الديني لقيم الأسرة من خلال الدعوة إلى أشكال جديدة للأسرة على أساس الجنسية المثلية "الشذوذ" - والعياذ بالله-، وتصدى لهم الاتجاه الديني دفعا عن قيم العفة والأسرة المعروفة، وهو ما شكل استقطابا علمانيا دينيا وتحالفا بين المسلمين والكنيسة الكاثوليكية.
أما المؤاخذة الرئيسية على هذه الإعلانات والعهود فلا تتعلق غالبا بالمضامين فهذه في الجملة محل قبول ورضى من الجميع بل تبقى مركزة على غلبة الشكلانية على هذه المواثيق والعهود الدولية فهي تقر للأفراد بحقوق جميلة في حياتهم الخاصة والعامة حقوق في التملك والزواج والتعبير والانتماء والمشاركة في إدارة الشؤون العامة والانتقال وحتى مقاومة الظلم، إلا أنها تقف عند هذا المستوى النظري البهيّ.(1/3)
ويزيد الأمر سوء الأسلوب المتبع في التعامل مع هذه الحقوق من قبل الدول الكبرى والصغرى على حد سواء وبالخصوص الدولة الأعظم المتخذة لنفسها وظيفة حراسة هذه الحقوق ومراقبة مدى التزام الآخرين بها، فهي طالما تورطت في ما يدعى المعايير المزدوجة، فقد تحمل بشدة على دولة بتهمة انتهاكها لحقوق الإنسان إلى حد فرض الحصار عليها وتعريض الملايين من مواطنيها لشتى الأخطار التي قد تصل حد الغزو العسكري بينما هي تدعم دولا أخرى لا تقل توحشا عن تلك بل إن الدولة الحارسة لحقوق الإنسان والماسكة بميزانه لم تتردد في الانتهاك السافر للمواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الأسرى مثلا وبحقوق الحماية لمن هم تحت احتلالها، أو تلك المتعلقة بحماية البيئة أو المتعلقة باتفاقيات التجارة أو المتعلقة بأسلحة الدمار الشامل، فهي تباح للبعض وتحظر عن البعض الآخر.
2- حقوق الإنسان في الإسلام:
إن التصورات الغربية في مجال الحريات وحقوق الإنسان تمتد جذورها إلى الفلسفة الطبيعية بافتراض طبيعة للإنسان تنبثق عنها حقوق للإنسان، ولقد رأينا مدى ما تردت فيه تلك التصورات من تلاعب وازدواجية معايير ونسبية وخضوع لمنطق موازين القوة وخدمة لمصالح أقلية قد لا تتجاوز 5% من البشر تضع يدها على معظم الموارد وتدفع بالكثرة الكاثرة إلى لجج الفقر والمجاعة والأوبئة وتسخر ثمار البحث العلمي لمصالحها الخاصة مطلقة العنان لأنانيتها على حساب الضعفاء، بما غدا يمثل تهديدا حقيقيا للسلام الدولي وللبيئة وللمصير البشري جملة بما يكاد يفقد مواثيق حقوق الإنسان كل تأثير حقيقي على المسالك الفردية والسياسات المحلية والدولية. والسبب الحقيقي هو خواء هذه المواثيق من مضمون عقدي يعطي معنى لحياة الإنسان ويقدم أساسا متينا لحقوق وموازين، يكون العبث بها وإخضاعها للنسبية ومواقف الانتهاز عسيرا.(1/4)
بينما التصورات الإسلامية للحقوق والحريات وسائر القيم والموازين المعيارية تتأسس على حقيقة بدهية ينطق باسمها كل شيء في هذا الكون: إن لهذا الكون العجيب خالقا ومالكا متصرفا هو أعلم بمخلوقاته فهو المشرع الأعلى والآمر المطلق. الناس كلهم سواسية من حيث كونهم عباده، قد استخلفهم في ملكه بما استحفظهم من أمانات العقل والإرادة والحرية والمسؤولية، وبما منّ عليهم من بعثات رسولية هدتهم إلى ما ارتضاه لهم ربهم من أصول وموازين وتصورات تكفل لهم السعادة في العاجل والآجل إن هم فقهوها على وجهها الحقيقي واتبعوا هديها وإلا وقعوا في لجج الشقاء الأبدي.(1/5)
ولقد ارتضى كثير من المفكرين الإسلاميين المعاصرين الباحثين في موضوع حقوق الإنسان المنظور المقاصدي الذي أسسه الفقيه الأندلسي الكبير أبو إسحاق الشاطبي في موسوعته الشهيرة "الموافقات" وطوره وجوّد صياغته خليفته التونسي الشيخ الطاهر ابن عاشور في كتابه "مقاصد الشريعة" ارتضوه إطارا عاما لحقوق الإنسان، على اعتبار أن غاية الشريعة العليا هي تعريف الناس بربهم وعبادته وفق ما جاءت به رسله، ولخّصته رسالة خاتم الأنبياء عليهم السلام. إن المنظور المقاصدي يقوم على اعتبار أن غاية الشريعة هي تحقيق المصالح الكبرى للبشرية التي صنفها الشاطبي إلى ضروريات لا غنى للناس عنها وحاجيات تغدو الحياة دونها في حرج ومصالح تحسينية تضفي على الحياة بهاء. وقد حدد في الصنف الأول مراتب متدرجة من المصالح الضرورية التي لا غنى للإنسان عنها وإلا حل به الشقاء والبلاء تبدأ بحفظ الدين باعتباره الركن الأعظم في البناء ويليه حفظ النفس ثم العقل ثم حفظ النسب فحفظ المال وألحق ابن عاشور مقصد العدل ومقصد الحرية، وكشف آخرون عم مقاصد أخرى مثل وحدة الأمة والإنسانية وحفظ البيئة... ولقد كشف الشاطبي أن كل شرائع الإسلام تدور حول إيجاد هذه المصالح وتحصيلها ودرء ما يناقضها ويفسدها. وفي هذا المنظور يمكن أن تندرج المنظومة المعاصرة لحقوق الإنسان باعتبارها مناهج لتحقيق مصالح الإنسان ودرء المفاسد عنه، وما يقتضيه ذلك من إقامة نظام للجماعة على أساس العدل وكذا تأسيس علاقات دولية تكفل السلام والعدل والتعاون بين الأمم بديلا عن التحارب واستغلال الأقوياء حاجات الضعفاء.(1/6)
إن تيارات التجديد في الفكر الإسلامي الحديث إذ لا تني تكشف عن ثغرات المشروع الغربي ونزعاته الهيمنية وضروب ازدواجية ممارساته الحقوقية لم تتردد في الإقدام على تقنين الشريعة وتقديم صياغات حديثة لحقوق الإنسان وفق المنظور الإسلامي وعلى أسسه وبيان مواطن اللقاء والاختلاف مع المنظور الغربي وبالخصوص في مجال الأصول الفلسفية المتباينة جدا بين المنظورين. فعلى حين يؤكد مفكرو الإسلام أن الإيمان بالله هو معين وأساس الحقوق والواجبات ذلك أن حقوق الإنسان وحرياته وواجباته هي فروع لتصوره الكوني ولمنزلته في الكون والغاية من وجوده، يؤكد التصور الغربي ، استنادها إلى الطبيعة بما يطبع إعلانات حقوق الإنسان في المحصلة - وإن دون تصريح- بطابع علماني يجعل الأولوية للإنسان وأنه مركز الكون، فيما التصور الإسلامي يؤكد ارتباط كل قيمة بالمصدر الذي تستمد منه كل الموجودات معناها ألا وهو الله تبارك وتعالى واجب الوجود وسبب كل موجود. إن الحقوق هنا تغدو واجبات مقدسة لا يحق للعبد المستخلف أن يفرط فيها لأنها ليست ملكا له بل مطلوب منه التصرف في كل ما يملك وفق إرادة الواهب فهو المالك الأصلي والإنسان مستخلف. فما بيد الإنسان من ثروة وصحة وما تحت يده من إمكانات كلها هبة من الله مطلوب منه مراعاة شروط المالك الأصلي في التصرف فيها الذي سيقتضيه حسابا على ذلك في الدنيا والآخرة جزاء أو عقابا.(1/7)
وإذا كانت التجارب البشرية قد أثبتت أن الإنسان لا يعيش من غير أن يتخذ لنفسه إلها فإن استناد حقوق الإنسان إلى خالق الكون رب العالمين يهبها قدسية وثباتا يدرأ عنها النسبية والعبث والمعايير المزدوجة ويجعلها أمانة في عنق كل مؤمن وليست مرتهنة لحاكم، محروسة فقط بشرطته عندما تحضر، ويعطيها أبعادها الإنسانية بمنأى عن الاعتبارات القومية التي تتأطر فيها منظومات حقوق الإنسان كما هي في العالم اليوم. كما يعطيها شمولا وإيجابية تخرج بهما عن الشكلانية والجزئية.
ثم إن ارتباط حقوق الإنسان بالشريعة لا يعرضها لخطر قيام حكم ثيوقراطي يتحكم فيه رجال الدين، إذ ليس في الإسلام سلطة دينية تحل وتحرم وتنطق باسم السماء،بل سلطة مدنية من كل وجه يؤسسها الناس ومنهم تستمد شرعية قيامها وبقائها أو زوالها إذ ليس بعد ختم النبوة من يملك أن يصدق في ادعائه النطق باسم السماء ، فالأمر متروك لحظوظ الناس في الفهم والاجتهاد لنصوص الشريعة ومقاصدها وتنزيلها على واقع جديد متميز لاستنباط حكم يلائمه حسب آليات الاجتهاد المتعارفة. ولقد كانت خطبة رسول الإسلام التوديعية عليه السلام إعلانا عاما لحقوق الإنسان سبق كل الإعلانات بمئات السنين.
3- أثر تصور حقوق الإنسان في الإسلام على النشاط الاقتصادي للفرد والجماعة:
ليس من اليسير تجلية هذا المقصد في هذا الحيز المحدود، فنكتفي بإبراز النقاط التالية :(1/8)
أ- إن للمال في الإسلام مكانة مهمة جدا عند تحصيله وحفظه جعلته مقصدا من مقاصد الشريعة، إذ يتوقف عليه السير الطبيعي لحياة المسلم العابد وقيامه بواجباته الدينية ولذلك اقترن ورود الصلاة بالزكاة في الكتاب العزيز تنبيها على أهمية المال والنشاط الدنيوي على أن يكون ذلك النشاط مدفوعا بدوافع صحيحة ومتقيدا بقيود الشريعة في تحصيله وصرفه " نعم المال الصالح للمرء الصالح "(1)، ذلك أن المالك الأصلي للمال هو الله سبحانه والإنسان مستخلف فيه. هو مستخلف باعتباره فردا في جماعة. قال تعالى: { وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } (الحديد/7).
ب- ولأن الله سبحانه هو المالك الأصلي بينما من بيده المال مستخلف فيه، فليس من حقه أن يتصرف فيه خارج دائرة الشريعة تحصيلا أو تثميرا أو استهلاكا، مقامرة أو إتلافا أو احتكارا أو سرفا وتبذيرا.
ج- إن استخلاف الإنسان على المال الذي بيده يفرض التقيد بقيود الشريعة ومنها أداء وظيفته الاجتماعية باعتبار الفرد جزءاً من جماعة لها مصالح ذات أولوية بالقياس إلى مصالح الأفراد، فحق الجماعة في مال الأفراد (ويدعى حق الله) ثابت لا يقتصر على أداء الزكاة { وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ } (المعارج/24) وأخرج ابن أبي شيبة عن إبراهيم قال : كانوا يرون في أموالهم حقا سوى الزكاة ، (الدر المنثور في التفسير بالمأثور، سورة الذاريات)
__________
(1) الأدب المفرد، باب : المال الصالح للمرء الصالح، باب : المال الصالح للمرء الصالح(1/9)
د- إن الخلفية العقدية التي تستند إليها حقوق الإنسان في الإسلام تصاحب كل مسالك الإنسان وأفكاره وخواطره، ما يجعل صاحب المال- مثلا- في رقابة ذاتية دائبة لتصرفه تمثل ضمانة كبرى لانضباط تلك التصرفات بمقتضى الشريعة وما يحقق المصلحة العامة. إن عقيدة الإيمان بالله سبحانه وباليوم الآخر مهمة جدا في تحقيق هذه الرقابة الدائمة وتثبيط الاندفاع للاستسلام للرغبات الإنسانية الجامحة في الربح باعتباره المبدأ الرئيسي الذي يحكم الاقتصاد العلماني بينما الفاعل الاقتصادي المسلم يبحث هو الآخر عن الربح ولكنه بحث مطئن غير محموم، بحث لا ينفلت من ربقة استشعار الحضور الإلهي في السوق وكذا حضور اليوم الآخر بما يضفي على العملية الاقتصادية طابعا إنسانيا، لا مجال فيه للغني أن يستغل حاجة الفقير فيرابيه ولا للجاهل بالغش "من غش فليس مني"(1)ولا بالاحتكار، والفاعل المسلم يعوض عن ذلك الربح الدنيوي بربح في الآخرة. فعوض أن يقرض بربى انسياقا مع شهوة الربح الدنيوي يقرض من دون ربى ابتغاء ما عند الله، وقد يبلغ حرصه على الربح الأخروي حط أصل الدين عنه { وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ } (البقرة/280).
ويكفي أن نعلم أن اتساع مفهوم الربح متجاوزا مجال الدنيا المحدود إلى رحاب الآخرة الفسيح قد أوقف على مصالح المسلمين العامة القسم الأعظم من ملكيات الأفراد حتى بلغ في عدة بلاد إسلامية ثلث أو نصف الممتلكات في البلاد أو أكثر اعتقادا في { مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ } (النحل/96) وعملا بالحديث الشريف"إذا مات العبد انقطع عنه عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له"(2)
__________
(1) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب قول النبي من غشنا فليس منا
(2) الأدب المفرد، باب : بر الوالدين بعد موتهما(1/10)
هـ- لم يكل الإسلام حقوق الناس لضمائرهم وحسب وإنما أرسل إليهم الرسل والشرائع ودعاهم إلى إقامة نظام سياسي عادل يحتكمون إليه كلما وهنت الضمائر عن كبح الرغائب والاندفاعات. ومن واجبات النظام الإسلامي في موضوع المال استعادة التوازن كلما اختل على نحو لا يجعل المال { دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ } (الحشر/7). قال تعالى: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } (التوبة/103) فليست الزكاة تطوعا وإنما فريضة تؤخذ من الأغنياء وترد على الفقراء. ولكن وظيفتها لا تقتصر على تلبية حاجة الفقير وإنما تؤدي وظيفة ربما أهم لدى الغني إذ تزكيه وتطهره من الأنانية والعبودية للناس أو لشهوة الجمع والتكديس وترفع درجته الإنسانية وتقربه إلى الله عز وجل. وهو ما جعل النظام الإسلامي مفترقا عن أي نظام من حيث أن شريعته الحقوقية قد توفرت لها ضمانات استمرار تطبيقها في كل الأحوال بما أحيطت به من وضوح لدى الجميع وما يصحبها من رقابة متعددة: رقابة الله على ضمير الفرد ورقابة المجتمع أمراً بمعروف ونهياً عن عن منكر ورقابة الدولة القانونية. فإذا توفر كل ذلك عرفت الحقوق الشرعية أعلى مستوى أدائها لكن إذا حصل خلل أو ضعف أو غياب لمصدر من مصادر الرقابة استمرت الشريعة تعمل وإن مع ضعف. إن غياب الدولة الإسلامية المستخلصة للزكاة مثلا لا يعفي الغني من أدائها بل هي في رقبته مسؤول أن يبحث جهده عن مصرف شرعي لأدائها، بينما الضريبة لا تعمل إلا بحضور رقيب واحد هو الدولة فإذا غابت أو غفلت أو تمكن الغني من التهرب منها كان ضميره في غاية الراحة والسعادة.(1/11)
و-إن المسلم الصالح يستشعر مسؤولية دائمة وتعاطفا مع كل مبتلى، مسلما أو غير مسلم { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } (الأنبياء/107). وبخاصة إذا كان هذا المبتلى يملك عليه إضافة لحق الاخوة الإنسانية حقا مثل أخوة الإسلام أو كان ذا رحم أو كان جاراً فهنا يشتد شعوره بالمسؤولية فيبذل وسعه لإراحة ضميره تقرباً إلى ربه ونجاة من التبعة والعقوبة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع"(1).
وإن ما يجتاح العالم من استعار للأسعار وبخاصة المواد الغذائية بما عرض ويعرض عشرات الملايين للمجاعات وللأوبئة ، بينما يبلغ الترف والجشع وخرائب ضمائر الأغنياء إلى حد التخلص من كميات مهولة من الأغذية بإلقائها في البحار حمافظة على ارتفاع الأسعار، إلى جانب ما يلقى من أغذية للكلاب وللقطط بما يكفي حاجة مئات من ملايين البشر إضافية لهو التعبير عن إفلاس الفلسفة المادية التي يقوم عليها النظام العالمي السائد كما تعبير عن مدى الخلل في النظام الاقتصادي والأخلاقي السائد، بما يفرض إعادة النظر في هذا النظام فلسفة وأخلاقا واقتصادا. قال تعالى { وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ } (المؤمنون/71).
بعض المراجع:
البيان العالمي لحقوق الإنسان في الإسلام، باريز1981
التونسي، خير الدين، أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك، الدار التونسية للنشر، 1972
عثمان، فتحي، اصول الفكر السياسي الإسلامي، بيروت. مؤسسة الرسالة، ط 1984
العيلي، عبد الحكيم حسن، الحريات العامة في الإسلام.
الشاطبي، أبو اسحاق، الموافقات في اصول الشريعة ،.بيروت، دار المعرفة،ج2، ص5
ابن عاشور، الشيخ محمد الطاهر، مقاصد الشريعة الإسلامية، الدار التونسية للنشر
__________
(1) الأدب المفرد، باب : لا يشبع دون جاره، باب : لا يشبع دون جاره.(1/12)
الغنوشي، راشد، الحريات العامة في الدولة الإسلامية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت،1993.
قطب، سيد ، خصائص التصور الإسلامي ومقوماته، دار الشروق، القاهرة
الفاسي، علال، مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها.(1/13)
حكم التعامل ، أو العمل
في شركات التأمين خارج ديار الاسلام
بقلم
أ . د . علي محيى الدين القره داغي
أستاذ بكلية الشريعة بجامعة قطر
والحائز على جائزة الدولة ، والخبير بالمجامع الفقهية
وعضو المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث
ونائب رئيس مجلس الادارة لجمعية البلاغ الثقافية " إسلام أون لاين "
بحث مقدم
للدورة الثامنة عشرة للمجلس - باريس
جمادى الثانية/ رجب 1429 هـ / يوليو 2008 م
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيدنا وحبيبنا وقدوتنا محمد المبعوث رحمة للعالمين ، وعلى اخوانه من الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله الطيبين ، وصحبه الميامين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
وبعد
فإن نوازل العصر كثيرة ، ومستجداته وقضاياه المعاصرة لا تعد ولا تحصى ، وهي تقتضي من أهل الذكر والعلم أن يجدوا لها الحلول الشرعية ، وأن يبينوا لها الأحكام التكليفية ، وذلك لأن المسلمين ملزمون شرعاً بأن يكونوا على بينة من حكم جميع تصرفاتهم من حيث الحل والحرمة والكراهة ، ومن حيث الوجوب ، والندب ، ومن حيث الصحة والفساد والبطلان.(1/1)
والمسلمون سواء كانوا يعيشون في الغرب أم الشرق ، أم في أي مكان ، وسواء كانوا أكثرية أم أقلية ، أم جالية ، أم فرداً ملزمون بتطبيق شرع الله تعالى غاية وسعهم فقال تعالى : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً)(1). غير أن من رحمة الله تعالى الواسعة أن جعل دينه الخاتم رحمة للعالمين ، ووضع فيه عن الناس الإصر والأغلال والأحكام المشددة الصعبة ، التي كانت موجودة في بعض الشرائع السابقة ، فرفع عن هذه الأمة الاسلامية الحرج ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(2)بل أقام دينه على اليسر والرحمة والتبشير فقال تعالى : ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(3)ولذلك شرع الله تعالى تخفيفات في الشعائر والأحكام عند وجود الحرج والأعذار والضروريات والحاجات ، أو ما يسمى بالظروف المخففة ، ومن هذه الظروف المخففة أن يعيش المسلم خارج الديار الاسلامية .
ومن هذا المنطلق تبحث المجامع الفقهية المهتمة بفقه الأقليات المسلمة ، أو المغتربين أو الجاليات الاسلامية عن الحلول المناسبة لهم في إطار الالتزام بأحكام الشريعة الغراء مع رعاية الظروف المخففة .
وهذا البحث يقتضي أن نبحث بإيجاز واقع شركات التأمين في العالم الغربي ، ثم بيان حكمها العام ، ثم نتعرج إلى بيان حكم العمل والتعامل مع هذه الشركات .
__________
(1) سورة الأحزاب / الآية36
(2) سورة الحج / الآية78
(3) سورة البقرة/الآية185(1/2)
والله أسأل أن نوفق جميعاً فيما نصبو إليه ، وأن يكتب لنا التوفيق في شؤوننا كلها ، والعصمة من الخطأ والخطيئة ، في عقيدتنا ، والاخلاص في أقوالنا وأفعالنا ، والقبول بفضله ومنّه لبضاعتنا المزجاة ، والعفو عن تقصيرنا ، والمغفرة لزلاتنا ، إنه حسبنا ومولانا ، فنعم المولى ونعم الموفق والنصير .
كتبه الفقير إلى ربه
علي محيى الدين القره داغي
الدوحة / رجب الخير 1428هـ
التعريف بـ " التأمين " :
التأمين لغة :
مصدر : أمّن يؤمّن تأميناً ، وأصله من أمن ـ بكسر الميم ـ أمنا ، وأماناً وأمانة ، وأمنة ، أي اطمأن ولم يخف ، فهو آمن ، وأمين ، وأمن البلد ، اطمأن فيه أهله ، وأمنه عليه ، أي وثق به ، قال تعالى : (هل آمنكم عليه إلاّ كما أمنتكم على أخيه من قبل)(1)أي هل وثقت بكم ...، وجاء أمُن ـ بضم الميم ـ أمانة ، أي كان أميناً ، وآمن يؤمن إيماناً أي صدقه ، قال تعالى : (وما أنت بمؤمن لنا)(2)أي مصدق ، ويقال : أمّن على دعائه أي قال : آمين(3)، وعلى الشيء : دفع مالاً منجماً لينال هو أو ورثته قدراً من المال متفقاً عليه ، أو تعويضاً عما فقد ، يقال : أمّن على حياته ، أو على داره ، أو سيارته (مج) إشارة إلى أن هذا المعنى الأخير جديد ، أقره مجمع اللغة العربية(4).
فالتأمين : هو تحقيق الأمن والاطمئنان حيث استعمله القرآن الكريم في هذا المعنى كثيراً ، فقال تعالى : ( وآمنهم من خوف )(5)وقال تعالى : ( ...أولئك لهم الأمن وهم مهتدون)(6).
أنواع التأمين :
للتأمين أنواع كثيرة من أهمها :
__________
(1) سورة يوسف / الآية (64)
(2) سورة يوسف / الآية (17)
(3) لسان العرب ، والقاموس المحيط ، والمعجم الوسيط ، مادة " أمن "
(4) المعجم الوسيط ، ط.قطر (1/28)
(5) سورة قريش / الآية 4
(6) سورة الأنعام / الآية 82(1/3)
أولاً ـ التأمين التجاري ، أو التأمين بقسط ثابت ، وهذا ما عرفه القانون المدني المصري في المادة 747 بأنه " عقد يلتزم المؤمن بمقتضاه أن يؤدي إلى المؤمن له ، أو إلى المستفيد الذي اشترط التأمين لصالحه مبلغاً من المال ، او إيراد مرتب أو أي عوض مالي آخر في حالة وقوع الحادث ، أو تحقق الخطر المبين بالعقد وذلك في نظير قسط أو أية دفعة مالية أخرى يؤديها المؤمن له للمؤمن" وأخذ بهذا التعريف القانون المدني الكويتي في مادته 773 ، والقانون المدني السوري في مادته 713 ، والقانون المدني الليبي في مادته 947 ، والتقنين العراقي في مادته 983(1).
وهذا التعريف يبرز عناصر التأمين وأركانه ، ويوضح العلاقة بين المؤمن والمؤمن له ، كما أن التعريف يوضح ان العلاقة بينهما علاقة معاوضة ، وأن مبالغ التأمين في مقابل أقساط التأمين ، ولكنه لم يتطرق إلى الأسس الفنية للتأمين مع أنها من مكوناته ، ولذلك رجح الكثيرون تعريف هيمار الذي ينص على أنه : (عملية يحصل بمقتضاها أحد الأطراف ، وهو المؤمن له نظير دفع قسط ، على تعهد لصالحه ، او لصالح الغير ، من الطرف الآخر وهو المؤمن ، تعهد يدفع بمقتضاه هذا الأخير أداء معيناً عند تحقق خطر معين ، وذلك بأن يأخذ على عاتقه مهمة مجموعة المخاطر ، وإجراء المقاصة بينها وفقاً لقوانين الإحصاء)(2).
التكييف القانوني للتأمين التجاري :
__________
(1) المراجع السابقة
(2) د. السنهوري : الوسيط ( 7/1090) ود. أحمد شرف الدين ، ص20(1/4)
لم تختلف القوانين الوضعية في تكييف التأمين التجاري بأنه عقد مدني زمني ملزم قائم على التراضي ، والمعاوضة ، كما أنها اتفقت على أنه عقد احتمالي قائم على الغرر ، ولذلك خصص القانون المدني المصري الباب الرابع لعقود الغرر ، فذكر في فصله الأول المقامرة ، والرهان ، وفي فصله الثالث : عقد التأمين(1).
وهذا التأمين له أنواع كثيرة تشمل التأمين من الأضرار والتأمين على الأشخاص ، وانه من خلال هذين النوعين يشمل كافة مجالات الحياة العادية والنادرة(2).
ثانياً ـ التأمين التعاوني ، وله صورتان :
الصورة الأولى : تتمثل في صورة تعاون مجموعة من الأشخاص من ذوي حرفة واحدة يتعرضون لنوع من المخاطر ، فيتعاونون فيما بينهم على التعويض عن أي خطر يقع على أحدهم من اشتراكاتهم(3).
فهذه الصورة إذا لم يخالطها أمر غير مشروع من الربا ونحوه فهي حلال وقد صدر بذلك قرار من مجمع البحوث الاسلامية في مؤتمره الثاني بالقاهرة عام 1385هـ ، ومن المجامع الفقهية الأخرى .
__________
(1) يراجع : د. عبدالرزاق السنهوري : الوسيط في شرح القانون المدني ، \. دار النهضة العربية 1964 (7/1084) ود. أحمد شرف الدين : أحكام التأمين في القانون والقضاء ، ط. جامعة الكويت عام 1403هـ ـ 1983 ، ص 18 وما بعدها ، ود.غريب الجمال : التأمين التجاري والبديل الإسلامي ، ط. دار الاعتصام ، ص 62 ، ود. عيسى عبده : التأمين بين الحل والتحريم ، ط. دار الاعتصام ، ص 8 ، ود. محمد الزغبي : عقود التأمين ، رسالة دكتوراه بكلية حقوق القاهرة عام 1402هـ ، ص 164 والأستاذ مصطفى الزرقا : نظام التامين ، ط.مؤسسة الرسالة ص 19 ، وبحثه المنشور في مجلة الاقتصاد الإسلامي ، ضمن بحوث مختارة من بحوث المؤتمر العالمي الدولي للاقتصاد الإسلامي بجامعة الملك عبدالعزيز ط. 1400هـ ص 373
(2) المصادر السابقة أنفسها
(3) يراجع : الاستاذ الزرقا : المرجع السابق ص 42 – 43(1/5)
الصورة الثانية : التأمين التعاوني المركب ، وهي أن تقوم شركة متخصصة بأعمال التأمين التعاوني ، يكون جميع المستأمنين ( حملة الوثائق ) مساهمين في هذه الشركة ، وتتكون منهم الجمعية العمومية ، ثم مجلس الادارة(1).
فالأموال تجمع من المساهمين وتصرف في إدارة الشركة ، وفي تعويض كل من يقع عليه الضرر ، أو يعطى للمستفيد حسب الاتفاق ، والباقي يبقى في رصيد الشركة ، وقد يوزع منه شيء عليهم .
وهذا النوع منتشر في بعض بلاد الغرب وبخاصة في الدول الاسكندنافية .
حكم التأمين التعاوني :
أنه حلال من حيث المبدأ ، لأن الأموال منهم وإليهم ، وأن العلاقة بين المساهمين تقوم على التعاون والتبرع ، وليس التجارة ، والاسترباح من عمليات التأمين ، إلاّ إذا صاحبت هذه الشركات محرمات مثل التعامل بالربا .
ومن التأمين التعاوني : نظام المعاشات والضمان الاجتماعي ، وتأمين الجمعيات التعاونية .
وقد قرر مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر الشريف في مؤتمره الثاني عام 1385هـ بخصوصه ما يلي :
1. التأمين الذي تقوم به جمعيات تعاونية يشترك فيها جميع المستأمنين لتؤدى لأعضائها ما يحتاجون إليه من معونات ، وخدمات أمر مشروع ، وهو من التعاون على البر .
2. نظام المعاشات الحكومي ، وما يشبهه من نظام الضمان الجماعي المتبع في بعض الدول ، ونظام التأمينات الاجتماعية المتبع في دول أخرى كل هذا من الأعمال الجائزة .
وهذا ما صدر به قرار رقم 9(9/2) من مجمع الفقه الاسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الاسلامي ، ومن المجمع الفقهي الاسلامي التابع لرابطة العالم الاسلامي ، وهيئة كبارالعلماء(2).
__________
(1) يراجع للمزيد : أ.د. علي محيى الدين القره داغي : التأمين الاسلامي ، دراسة فقهية تأصيلية مقارنة بالتأمين التجاري مع التطبيقات العملية ، ط. دار البشائر الاسلامية ببيروت 1426هـ / 2005م ، الطبعة الثانية ، ص 197 وما بعدها
(2) المرجع السابق ص 199 وما بعدها(1/6)
ثالثا ـ التأمين الاسلامي ، وهو يقوم على مبدأ التعاون والتبرع ،مع نوع من التنظيم من خلال وجود شركة مساهمة تكون وكيلة ، وحساب خاص بالتأمين التعاوني(1).
حكم العمل والتعامل مع شركات التأمين العاملة في الغرب :
وبما أن شركات التأمين العاملة في الغرب إما شركات تجارية ، أو تعاونية من التعاون المركب ، لذلك سنتحدث عن هذين النوعين :
التأمين التجاري :
وهو أكثر أنواع التأمين اشتهاراً في الغرب ، وهو يقوم بصورته الحالية على الفكر الرأسمالي ( الاسترباحي ) من خلال التأمين ، حيث إن شركة التأمين تجعل عمليات التأمين نفسها محلاً للاسترباح ، لأن الفرق بين قيمة الأقساط ، وقية التعويضات يكون لصالح الشركة فقط في حين أن هذا الفرق في التأمين التعاوني يبقى في حساب المشتركين(2).
وقد سبق أن بينا أن القوانين متفقة على تكييف التأمين التجاري بأنه : عقد ملزم قائم على المعاوضة والغرر .
ولذلك صدرت قرارات من المجامع الفقهية بحرمة التأمين التجاري ، وإباحة التأمين التعاوني ، منها قرار المجمع الفقهي الاسلامي التابع لرابطة العالم الاسلامي في دورته الأولى في 10 شعبان 1398هـ بمكة المكرمة حيث قرر بالاجماع ـ ما عدا الشيخ مصطفى الزرقا ـ حرمة التأمين التجاري بجميع أنواعه ، تأكيداً لقرار مجلس هيئة كبار العلماء بالسعودية في دورته العاشرة بالرياض في 4/4/1397هـ قرار رقم 51، 52 .
__________
(1) يراجع لمزيد من التفصيل والتأصيل : أ.د. علي محيى الدين القره داغي : التأمين الاسلامي ، دراسة فقهية تأصيلية مقارنة بالتأمين التجاري مع التطبيقات العملية ، ط. دار البشائر الاسلامية ببيروت 1426هـ / 2005م ، الطبعة الثانية ، ص 203 إلى آخر الكتاب
(2) يراجع في الفروق التسعة : المرجع السابق ، ص 317 – 343(1/7)
كذلك نص مجمع الفقه الاسلامي الدولي في قراره رقم (9/ (9/2) على أن : ( عقد التأمين التجاري ذي القسط الثابت الذي تتعامل به شركات التأمين التجاري عقد فيه غرر كبير مفسد للعقد ، ولذا فهو حرام شرعاً )(1).
وقد اعتمدت هذه القرارات والآراء الفقهية السابقة في تحريمها للتأمين التجاري على مجموعة من الأدلة ، من أهمها بإيجاز :
1) إن التأمين التجاري وهو عقد معاوضة يشتمل على الغرر المنهي عنه في الحديث الصحيح ، حيث نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر(2).
2) أن التأمين التجاري يتضمن الرهان والمقامرة ، وخصائصهما(3).
3) تحقق الربا فيه بنوعيه : الفضل والنسيئة(4).
4) إنه أكل لأموال الناس بالباطل(5).
مناقشة جماعية :
ومن الجدير بالتنبيه عليه أن المجمع الفقهي الإسلامي في دورته الأولى المنعقدة بمكة المكرمة في الفترة 10ـ 17 شعبان 1398هـ ، ذكر حكم التأمين التجاري ، وردّ على أدلة المجيزين ، وناقشها مناقشة علمية ، لذلك نذكرها بالكامل لأهميتها وشموليتها وهي : ( أما بعد ..... فإن مجمع الفقه الإسلامي قد نظر في موضوع التأمين بأنواعه المختلفة بعد ما اطلع على كثير مما كتبه العلماء في ذلك وبعدما اطلع أيضاً على ما قرره مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية في دورته العاشرة المنعقدة بمدنية الرياض بتأريخ 4/4/1397هـ . من التحريم للتأمين بأنواعه .
__________
(1) انظر : مجلة المجمع : ع2 م2 ص545 ، ود. علي محيى الدين القره داغي : المرجع السابق ص 192
(2) الحديث رواه مسلم في صحيحه ، كتاب البيوع (3/1153) وأبو داود (2/228) والنسائي (2/217) وابن ماجه (2/739) والترمذي (3/532) وأحمد (1/203)
(3) يراجع للتفصيل : أ.د. علي محيى الدين القره داغي : المرجع السابق ص 173 – 177
(4) المصدر السابق ص 177 - 178
(5) المصدر السابق ص 177 – 178(1/8)
وبعد الدراسة الوافية وتداول الرأي في ذلك قرر المجلس بالأكثرية تحريم التأمين بجميع أنواعه سواء كان على النفس أو البضائع التجارية أو غير ذلك من الأموال .
كما قرر مجلس المجمع بالاجماع الموافقة على قرار مجلس هيئة كبار العلماء من جواز التأمين التعاوني بدلاً من التأمين التجاري المحرم والمنوه عنه آنفاً وعهد بصياغة القرار إلى لجنة خاصة .
تقرير اللجنة المكلفة بإعداد قرار مجلس المجمع حول التأمين :
بناءً على قرار مجلس المجمع المتخذ بجلسة الأربعاء 14 شبعان 1398هـ المتضمن تكليف كل من أصحاب الفضيلة الشيخ عبدالعزيز بن باز والشيخ محمد محمود الصواف والشيخ محمد بن عبدالله السبيل بصياغة قرار مجلس المجمع حول التأمين بشتى أنواعه وأشكاله .
وعليه فقد حضرت اللجنة المشار إليها وبعد المداولة أقرت ما يلي :
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه .
أما بعد : فإن المجمع الفقهي الإسلامي في دورته الأولى المنعقدة في 10 شعبان 1398هـ بمكة المكرمة بمقر رابطة العالم الإسلامي نظر في موضوع التأمين بأنواعه بعدما ما اطلع على كثير مما كتبه العلماء في ذلك وبعد ما اطلع أيضاً على ما قرر مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية في دورته العاشرة بمدينة الرياض بتأريخ 4/4/1397هـ . بقرار رقم 55 من التحريم للتأمين التجاري بأنواعه .
وبعد الدراسة الوافية وتداول الرأي في ذلك قرر مجلس المجمع الفقهي بالاجماع عدا فضيلة الشيخ مصطفى الزرقا تحريم التأمين التجاري بجميع أنواعه سواء كان على النفس أو البضائع التجارية أو غير ذلك للأدلة الآتية :(1/9)
الأول : عقد التأمين التجاري من عقود المعاوضات المالية الاحتمالية المشتملة على الغرر الفاحش ، لأن المستأمن لا يستطيع ان يعرف وقت العقد مقدار ما يعطي أو يأخذ فقد يدفع قسطاً او قسطين ، ثم تقع الكارثة فيستحق ما التزم به المؤمن ، وقد لا تقع الكارثة أصلاً فيدفع جميع الأقساط ولا يأخذ شيئاً وكذلك المؤمن لا يستطيع أن يحدد ما يعطي ويأخذ النسبة لكل عقد بمفرده ، وقد ورد في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن بيع الغرر .
الثاني : عقد التأمين التجاري ضرب من ضروب المقامرة لما فيه من المخاطرة في معاوضات مالية ، ومن الغرم بلا جناية أو تسبب فيه ، ومن الغنم بلا مقابل غير مكافئ فإن المستأمن قد يدفع قسطاً من التأمين ثم يقع الحادث فيغرم المؤمن كل مبلغ التأمين ، وقد لا يقع الخطر ومع ذلك يغنم المؤمن أقساط التأمين بلا مقابل ، وإذا استحكمت فيه الجهالة كان قماراً ودخل في عموم النهي عن الميسر في قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) والآية بعدها .
الثالث : عقد التأمين التجاري يشتمل على ربا الفضل والنسأ فإن الشركة إذا دفعت للمستأمن أو لورثته أو للمستفيد أكثر مما دفعه من النقود لها فهو ربا فضل ، والمؤمن يدفع ذلك للمستأمن بعد مدة فيكون ربا نسأ ، وإذا دفعت الشركة للمستأمن مثل ما دفعه لها يكون ربا نسأ فقط وكلاهما محرم بالنص والاجماع .
الرابع : عقد التأمين التجاري من الرهان المحرم لأن كلاً منهما فيه جهالة وغرر ومقامرة ولم يبح الشرع من الرهان إلاّ ما فيه نصرة للإسلام وظهور لأعلامه بالحجة والسنان وقدر حصر النبي صلى الله عليه وسلم رخصة الرهان بعوض في ثلاثة بقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا سبق إلاّ في خف او حافر أو نصل ) وليس التأمين منذ لك ولا شبيهاً به فكان محرماً .(1/10)
الخامس : عقد التأمين التجاري فيه أخذ مال الغير بلا مقابل ، وأخذ بلا مقابل في عقود المعاوضات التجارية محرم لدخوله في عموم النهي في قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلاّ ان تكون تجارة عن تراض منكم) .
السادس : في عقد التأمين التجاري الإلزام بما لا يلزم شرعاً فإن المؤمن لم يحدث الخطر منه ، ولم يتسبب في حدوثه ، وإنما كان منه مجرد التعاقد مع المستأمن على ضمان الخطر على تقدير وقوعه مقابل مبلغ يدفعه المستأمن له والمؤمن لم يبذل عملاً للمستأمن فكان حراماً .
وأما ما استدل به المبيحون للتأمين التجاري مطلقاً أو في بعض أنواعه فالجواب عنه ما يلي :
أ ـ الاستدلال بالاستصلاح غير صحيح فإن المصالح في الشريعة الإسلامية ثلاثة أقسام قسم شهد الشرع باعتباره فهو حجة ، وقسم سكت عنه الشرع فلم يشهد له بإلغاء ولا اعتبار فهو مصلحة مرسلة وهذا محل اجتهاد المجتهدين ، والقسم الثالث ما شهد الشرع بإلغائه ، وعقود التأمين التجاري فيها جهالة وغرر وقمار وربا فكانت مما شهدت الشريعة بإلغائه لغلبة جانب المفسدة فيه على جانب المصلحة .
ب ـ الإباحة الأصلية لا تصلح دليلاَ هنا لأن عقود التأمين التجاري قامت الأدلة على مناقضتها لأدلة الكتاب والسنة ، والعمل بالإباحة الأصلية مشروط بعدم المناقل عنها وقد وجد فبطل الاستدلال بها .
ج ـ الضرورات تبيح المحظورات لا يصح الاستدلال به هنا ، فإن ما أباحه الله من طريق كسب الطيبات أكثر أضعافاً مضاعفة مما حرمه عليهم فليس هناك ضرورة معتبرة شرعاً تلجئ إلى ما حرمته الشريعة من التأمين .(1/11)
د ـ لا يصح الاستدلال بالعرف فإن العرف ليس من أدلة تشريع الأحكام ، وإنما يبنى عليه في تطبيق الأحكام وفهم المراد من ألفاظ النصوص ومن عبارات الناس في أيمانهم ، وتداعيهم وإخبارهم وسائر ما يحتاج إلى تحديد لمقصود منه من الأفعال والأقوال ، فلا تأثير له فيما تبين أمره وتعين المقصود منه ، وقد دلت الأدلة دلالة واضحة على منع التأمين فلا اعتبار به معها .
هـ ـ الاستدلال بأن عقود التأمين التجاري من عقود المضاربة أو في معناه غير صحيح ، فإن رأس المال في المضاربة لم يخرج عن ملك صاحبه ، وما يدفعه المستأمن يخرج بعقد التأمين من ملكه إلى ملك الشركة حسبما يقضي به نظام التأمين ، وإن رأس مال المضاربة يستحقه ورقة مالكه عند موته ، وفي التأمين قد يستحق الورثة نظاماً مبلغ التأمين ولو لم يدفع مورثهم إلاّ قسطاً واحداً ، وقد لا يستحقون شيئاً إذا جعل المستفيد سوى المستأمن وورثته ، وإن الربح في المضاربة يكون بين الشريكين نسباً مئوية مثلاً بخلاف التأمين فربح رأس المال وخسارته للشركة وليس للمستأمن إلاّ مبلغ التأمين أو مبلغ غير محدد .
و ـ قياس عقود التأمين على ولاء الموالاة عند من يقول به غير صحيح ، فإنه قياس مع الفارق ، ومن الفروق بينهما أن عقود التأمين هدفها الربح المادي المشوب بالغرر والقمار وفاحش الجهالة بخلاف عقد ولاء الموالاة فالقصد الأول فيه التآخي في الإسلام ، والتناصر والتعاون في الشدة والرخاء وسائر الأحوال ، وما يكون من كسب مادي فالقصد إليه بالتبع .
ز ـ قياس عقد التأمين التجاري على الوعد الملزم عند من يقول به لا يصح لأنه قياس مع الفارق ، ومن الفروق أن الوعد بقرض أو إعارة أو تحمل خسارة مثلاً من باب المعروف المحض فكان الوفاء به واجباً ، أو من مكارم الخلاق ، وبخلاف عقود التأمين فإنها معاوضة تجارية باعثها الربح المادي ، فلا يغتفر في التبرعات من الجهالة والغرر .(1/12)
ح ـ قياس عقود التأمين التجاري على ضمان المجهول وضمان ما لم يجب قياس غير صحيح لأنه قياس مع الفارض لا أيضاً ، ومن الفروق أن الضمان نوع من التبرع يقصد به الإحسان المحض بخلاف التأمين فإنه عقد معاوضة تجارية يقصد منها أولاً الكسب المادي ، فإن ترتب عليه معروف فهو تابع غير مقصود إليه ، والأحكام يراعى فيها الأصل لا التابع ما دام تابعاً غير مقصود إليه .
ط ـ قياس عقود التأمين التجاري على ضمان خطر الطريق لا يصح فإنه قياس مع الفارق كما سبق في الدليل قبله .
ي ـ قياس عقود التأمين التجاري على نظام التقاعد غير صحيح فإنه قياس مع الفارق أيضاً لأن ما يعطى من التقاعد حق التزم به ولي الأمر باعتباره مسئولاً عن رعيته ، وراعى في صرفه ما قام به الموظف من خدمة الأمة ، ووضع له نظاماً راعى فيه مصلحة أقرب الناس إلى الموظف ، ونظر إلى مظنة الحاجة فيهم ، فليس نظام التقاعد من باب المعاوضات المالية بين الدولة وموظفيها ، وعلى هذا لا شبه بينه وبين التأمين الذي هو من عقود المعاوضات المالية التجارية التي يقصد بها استغلال الشركات للمستأمنين والكسب من ورائهم بطرق غير مشروعة ، لأن ما يعطى في حالة التقاعد يعتبر حقاً التزم به من حكومات مسؤولة عن رعيتها ، وتصرفها لمن قام بخدمة الأمة كفاء لمعروفه وتعاوناً معه جزاء تعاونه معها ببدنه وفكره وقطع الكثير من فراغه في سبيل النهوض معها بالأمة .
ك ـ قياس نظام التأمين التجاري وعقوده على نظام العاقلة لا يصح فإنه قياس مع الفارق ، ومن الفروق أن الأصل في تحمل العاقلة لدية الخطأ وشبه العمد ما بينهم وبين القاتل خطأ أو شبه عمد من الرحم والقرابة التي تدعو إلى النصرة والتواصل والتعاون واسداء المعروف واو دون مقابل ، وعقود التأمين التجارية استغلالية تقوم على معاوضات مالية محضة لا تمت إلى عاطفة الإحسان وبواعث المعروف بصلة .(1/13)
ل ـ قياس عقود التأمين التجاري على عقود الحراسة غير صحيح لأنه قياس مع الفارق أيضاً ، ومن الفروق أن الأمان ليس محلاً للعقد في المسألتين وإنما محله في التأمين الأقساط ومبلغ التأمين ، وفي الحراسة الأجرة وعمل الحارس ، أما الأمان فغاية ونتيجة وإلاّ لما استحق الحارس الأجرة عند ضياع المحروس .
م ـ قياس التأمين على الإيداع لا يصح لأنه قياس مع الفارق أيضاً ، فإن الأجرة في الإيداع عوض عن قيام الأمين بحفظ شيء في حوزته يحوطه بخلاف التأمين فإن ما يدفعه المستأمن لا يقابله عمل من المؤمن ويعود إلى المستأمن بمنفعة إنما هو ضمان الأمن والطمأنينة ، وشرط العوض عن الضمان لا يصح بل هو مفسد للعقد ، وإن جعل مبلغ التأمين في مقابلة الأقساط كان معاوضة تجارية جهل فيها مبلغ التأمين أو زمنه فاختلف عن عقد الإيداع بأجر .
ن ـ قياس التأمين على ما عرف بقضية تجار البز مع الحاكة لا يصح ، والفرق بينهما أن المقيس عليه من التأمين التعاوني وهو تعاون محض والمقيس تأمين تجاري وهو معاوضات تجارية فلا يصح القياس ) انتهى قرار المجمع .
الخلاصة :
وبهذا العرض تبين لنا أن التأمين التجاري بصورته الراهنة غير جائز شرعاً ، وأن عقده باطل ، لأنه يقوم على الغرر ونحوه من المخالفات الشرعية .
حكم التعامل والتعاقد مع شركات التأمين التجاري :
فعلى ضوء ما سبق إن التعاقد أو التعامل مع شركات التأمين التجاري حرام حسبما صدرت به قرارات المجامع الفقهية ـ كما سبق ـ .
وهذا هو الأصل العام ولكنه أجيز استثناءً التعامل والتعاقد معها في حالات وجود قوانين ملزمة بالتأمين ، أو الحاجات العامة الملحة ـ كما هو الحال في بالنسبة للبنوك الاسلامية التي أجازت هيئاتها الشرعية منذ تأسيسها القيام بالتأمين التجاري على السلع والبضائع المستوردة أو المصدرة لسببين :(1/14)
أحدهما : أن الحاجات العامة تنزل منزلة الضرورة ، حيث إن البنوك الاسلامية في حالات المرابحات هي التي تشتري ، وتتحمل هي المخاطر ، وبما أن مخاطر الخسارة في حالة عدم التأمين كبيرة ولها آثار سلبية جداً على البنوك الاسلامية والمتعاملين معها أجازت هيئاتها الشرعية التأمين عليها من أي شركة كانت إلى أن يتوافر التأمين الاسلامي .
السبب الثاني : عدم وجود شركات التأمين الاسلامي ، حيث لم تكن متوافرة في البداية ، ثم وجدت شركات لا تكفي ، ولكن اليوم كثرت ـ والحمد لله ـ .
تعامل المسلمين في الغرب مع التأمين التجاري :
فالأصل كما قلنا هو عدم الجواز لما ذكرناه ، ولكن بما أن الأقلية الاسلامية لا تجد شركات التأمين الاسلامي في بلادها ، أو أنها موجودة بندرة فإنها يجوز لها التعامل معها في الحالات الآتية :
1. وجود قانون ملزم يفرض على أيّ مواطن أو مقيم التأمين .
2. وجود حاجة ملحة إلى التأمين لدفع الحرج والمشقة .
وقد صدر في ذلك قرار رقم (7/6) من المجلس الأوربي للافتاء والبحوث نذكر نصه لأهميته :
(قرار المجلس: ناقش المجلس البحث والأوراق المقدمة إليه في موضوع التأمين وما يجري عليه العمل في أوربا، واطَّلع عل ما صدر عن المجامع الفقهية والمؤتمرات والندوات العلمية بهذا الشأن، وانتهى إلى ما يلي:(1/15)
أولاً: مع مراعاة ما ورَد في قرارات بعض المجامع الفقهية من حرمة التأمين التجاري (الذي يقوم على أساس الأقساط الثابتة دون أن يكون للمستأمن الحق في أرباح الشركة أو التحمل لخسائرها) ومشروعية التأمين التعاوني (الذي يقوم على أساس التعاون المنظم بين المستأمنين، واختصاصهم بالفائض – إن وجد- مع اقتصار دور الشركة على إدارة محفظة التأمين واستثمار موجوداتها)، فإن هناك حالات وبيئات تقتضي إيجاد حلول لمعالجة الأوضاع الخاصة، وتلبية متطلباتها، ولاسيما حالة المسلمين في أوروبا حيث يسود التأمين التجاري، وتشتد الحاجة إلى الاستفادة منه لدرء الأخطار التي يكثر تعرضهم لها في حياتهم المعاشية بكل صورها، وعدم توافر البديل الإسلامي (التأمين التكافلي) وتعسر إيجاده في الوقت الحاضر، فإن المجلس يفتي بجواز التأمين التجاري في الحالات التالية وما يماثلها:
(1) حالات الإلزام القانوني، مثل التأمين ضد الغير على السيارات والآليات والمعدات، والعمال والموظفين (الضمان الاجتماعي، أو التقاعد)، وبعض حالات التأمين الصحي أو الدراسي ونحوها.
(2) حالات الحاجة إلى التأمين لدفع الحرج والمشقة الشديدة، حيث يغتفر معها الغرر القائم في نظام التأمين التجاري.
ومن أمثلة ذلك:
(1) التأمين على المؤسسات الإسلامية: كالمساجد، والمراكز، والمدارس، ونحوها.
(2) التأمين على السيارات والآليات والمعدات والمنازل والمؤسسات المهنية والتجارية، درءاً للمخاطر غير المقدور على تغطيتها، كالحريق والسرقة وتعطل المرافق المختلفة.
(3) التأمين الصحي تفاديًا للتكاليف الباهظة التي قد يتعرض لها المستأمن وأفراد عائلته، وذلك إما في غياب التغطية الصحية المجانية، أو بطئها، أو تدني مستواها الفني.
ثانيًا: إرجاء موضوع التأمين على الحياة بجميع صوره لدورة قادمة لاستكمال دراسته.(1/16)
ثالثاً: يوصي المجلس أصحاب المال والفكر بالسعي لإقامة المؤسسات المالية الإسلامية كالبنوك الإسلامية، وشركات التأمين التكافلي الإسلامي ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً )(1).
العمل في شركات التأمين التجاري :
فما دامت حرمة التأمين التجاري قد تقررت حسب قرارات المجامع الفقهية السباقة ، فإن الأصل العام في العمل في شركات التأمين التجاري هو عدم الجواز .
ولكن يستثنى من هذا الأصل ثلاث حالات :
الحالة الأولى : حالة الضرورة أو الحاجة الملحة بأن لا يجد الشخص في مجال تخصصه أي عمل ، أو أي عمل مناسب يستطيع أن يعيش هو وعياله عليه عيش الكفاف سوى العمل بشركات التأمين التجاري ففي هذه الحالة يجوز ، لأن ما يتعلق بالغرر يجوز الاستثناء منه بالحاجة العامة ، أو الحاجة الملحة في حين أن ما يتعلق بالربا لا يجوز الاستثناء منه إلاّ بالضرورة ، وهذه قاعدة أصَّلها شيخ الاسلام ابن تيمية ، حيث قال في التفرقة بين حرمة الربا ، وحرمة الغرر : ( وأما الربا فتحريمه في القرآن أشدّ ـ أي من الغرر ـ ) ثم ذكر الأدلة على ذلك من المنقول والمعقول ، ثم قال : 0 ومفسدة الغرر أقل من الربا ، فلذلك رخص فيما تدعو إليه الحاجة منه......) ثم ذكر أدلة على جواز الاستثناء من الغرر للحاجة بالسنة النبوية المشرفة ، وضرب لذلك أمثلة منها بيع العرايا(2).
__________
(1) يراجع : قرارات وفتاوى المجلس الأوربي للافتاء والبحوث ، المجموعتان الأولى والثانية ط. دار التوزيع والنشر الاسلامية القاهرة 2002 ص 154-155
(2) مجموع فتاوى شيخ الاسلام ابن تيمية طيب الله ثراه ، طبع ونشر المملكة العربية السعودية (29/48 -49(1/17)
ويقول أيضاً في موازنة رائدة ورائعة : (وإذا كانت مفسدة بيع الغَرَر هي كونه مظنة العداوة والبغضاء وأكل الأموال بالباطل، فمعلوم أن هذه المفسدة إذا عارضتها المصلحة الراجحة قدمت عليها، كما أن السباق بالخيل والسهام والإبل . لما كان فيه مصلحة شرعية جاز بالعوض، وإن لم يجز غيره بعوض . وكما أن اللهو الذي يلهو به الرجل إذا لم يكن فيه منفعة، فهو باطل، وإن كان فيه منفعة ـ وهو ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : ( كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل، إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته امرأته، فإنهن من الحق )(1) ـ صار هذا اللهو حقًا .
__________
(1) الحديث رواه أبو داود في سننه ، كتاب الجهاد ، مع عون المعبود (7/190) وأحمد في مسنده (4/146) وقد ترجم البخاري : باب اللهو بالحراب ونحوها ، وروى فيه حديث أبي هريرة في لعب الحبشة بحرابهم في المسجد .
قال الحافظ في الفتح (6/92-193) : ( وكأنه يشير بقوله : ( ونحوها ) إلى ما روى أبو داود ، والنسائي ، وصححه ابن حبان من حديث عقبة بن عامر مرفوعاً ( ليس من اللهو ـ أي المشروع أو المطلوب ـ إلاّ تأديب الرجل .... ) وفي رواية أبي داود (7/190) وغيره بلفظ ( ليس من اللهو إلاّ ثلاث : تأديب الرجل فرسه وملاعبته أهله ، ورميه بقوسه ونبله ...)(1/18)
ومعلوم أن الضرر على الناس بتحريم هذه المعاملات أشد عليهم مما قد يتخوف فيها من تباغض، وأكل مال بالباطل؛ لأن الغرر فيها يسير كما تقدم، والحاجة اليها ماسة، والحاجة الشديدة يندفع بها يسير الغرر . والشريعة جميعها مبنية على أن المفسدة المقتضية للتحريم إذا عارضتها حاجة راجحة أبيح المحرم، فكيف إذا كانت المفسدة منتفية ؟ ! ولهذا لما كانت الحاجة داعية إلى بقاء الثمر بعد البيع على الشجر إلى كمال الصلاح، أباح الشرع ذلك، وقاله جمهور العلماء . كما سنقرر قاعدته إن شاء الله تعالى )(1).
الحالة الثانية : أن يكون الشخص متخصصاً في التأمين ، وهو خريج جديد ، ولا يجد عملاً مناسباً في تخصصه ، حيث يجوز له عند بعض المعاصرين منهم العلامة الشيخ يوسف القرضاوي حفظه الله ، أن يعمل في شركات التأمين التجاري بشرطين اثنين :
1 ـ ان يقصد بعمله فيها كسب الخبرات .
2 ـ أن يسعى للحصول على مكان مناسب وحينئذ يخرج فوراً .
الحالة الثالثة : أن يدخل في إحدى هذه الشركات وهو قادر بنفسه أو مع غيره على تحويلها إلى شركة إسلامية .
حكم العمل ، أو التعامل مع شركات التأمين التعاوني المركب :
إن شركات التأمين التعاوني الموجودة في الدول الاسكندنافية ، وبعض الدول الغربية الأخرى ، وروسيا ، مشروعة من حيث المبدأ ، لأنها تقوم على أساس التعاون وليس فيها المعاوضة الحقيقية حتى يؤثر فيها الغرر المنهي عنه ، وذلك لأن المشتركين يدفعون حصصهم ، أو اشتراكاتهم في حساب خاص ، ثم تصرف المصاريف الادارية والتعويضات من هذا الحساب ، فتكون النتيجة هي أن المؤمّن هو نفس المؤمّن عليه من حيث المآل فالأموال منهم وإليهم ، ولذلك صدرت قرارات من المجامع الفقهية بأنها مشروعة ـ كما سبق ـ .
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الاسلام ابن تيمية ، طبع ونشر المملكة العربية السعودية (29/48 -49 )(1/19)
ولكن هذه الشركات تدار في الغرب دون مراعاة الضوابط الشرعية ، وبخاصة فيما يتعلق بالربا والفوائد البنكية ، فهي تجعل كل أموالها الزائدة عن المصاريف والتعويضات في البنوك الربوية إلاّ إذا قامت هي باستثمار أموالها بطرق مقبولة ، وأن هذا نادر ، وبالمقابل فإنها تتعامل أيضاً مع البنوك الربوية إن احتاجت إلى التمويل والتوسعة ، إضافة إلى شرائها سندات الدين المحرمة ، وباختصار فهي تتعامل مع البنوك الربوية إقراضاً واقتراضاً ، وقد ينص نظامها الأساس على هذا التعامل .
ومن هنا أتت الحرمة إلى هذه الشركات ، ولكنها مع ذلك فهي أقل من شركات التأمين التجاري لأن شركات التأمين التجاري إضافة إلى أن أهم أغراضها الاسترباح بالتأمين القائم على الغرر إنها أيضاً تتعامل إقراضاً واقتراضاً مع البنوك الربوية .
ولذلك فحكم شركات التأمين التعاوني هو حكم الشركات التي أصل نشاطها حلال ، ولكنها تتعامل مع البنوك الربوية إقراضاً واقتراضاً حيث اختلف فيها المعاصرون .
فمنهم من حرم التعامل معها مطلقاً ، ومنهم من أجازها ، ومنهم من فصّل القول فيها ، فاجازها بشروط ، وهذا ما عليه عدد من الباحثين المعاصرين ، وأجازه المعيار الشرعي لهيئة المحاسبة والمراجعة حيث جاء في البند 3/4 : المساهمة أو التعامل (الاستثمار والمتاجرة ) في أسهم شركات أصل نشاطها حلال ، ولكنها تودع او تقترض بفائدة :
الأصل حرمة المساهمة والتعامل ( الاستثمار أو المتاجرة ) في أسهم شركات تتعامل أحياناً بالربا أو نحوه من المحرمات مع كون أصل نشاطها مباحاً ، ويستثنى من هذا الحكم المساهمة أو التعامل ( الاستثمار أوالمتاجرة ) بالشروط الآتية :
3/4/1 ... أن لا تنص الشركة في نظامها الأساسي أن من أهدافها التعامل بالربا ، أو التعامل بالمحرمات كالخنزير ، ونحوه .(1/20)
3/4/2 ... ألا يبلغ إجمالي المبلغ المقترض بالربا ، سواء أكان قرضاً طويل الأجل أم قرضاً قصير الأجل 30% من القيمة السوقية ( Market Cap. ) لمجموع أسهم الشركة علماً بأن الاقتراض بالربا حرام مهما كان مبلغه .
3/4/3 ... ألأ يبلغ إجمال المبلغ المودع بالربا ، سواء أكانت مدة الايداع قصيرة أو متوسطة أو طويلة 30% من القيمة السوقية ( Market Cap. ) لمجموع أسهم الشركة علماً بأن الاقتراض بالربا حرام مهما كان مبلغه .
3/4/4 ... أن لا يتجاوز مقدار الايراد الناتج عن عنصر محرم نسبة 5% من إجمالي إيرادات الشركة ، سواء أكان هذا الايراد ناتجاً عن ممارسة نشاط محرم أم عن تملك لمحرم ، وإذا لم يتم الافصاح عن بعض الايرادات فيجتهد في معرفتها ويراعى حانب الاحتياط .
3/4/5 ... ... يرجع في تحديد هذه النسب إلى آخر ميزانية أو مركز مالي مدقق .
3/4/6 ... يجب التخلص مما يخص السهم من الايراد المحرم الذي خالط عوائد تلك الشركات وفقاً لما يأتي :
3/4/6/1 ... يجب التخلص من الايراد المحرم ـ سواء كان ناتجاً من النشاط أو التملك المحرم ، أم من الفوائد ـ على من كان مالكاً للأسهم سواء أكان مستثمراً أم متاجراً حين نهاية الفترة المالية ، ولو وجب الأداء عند صدور القوائم المالية النهائية ، سواء أكانت ربعية أم سنوية أم غيرها ، وعليه فلا يلزم من باع الأسهم قبل نهاية الفترة المالية التخلص .
3/4/6/2 ... محل التخلص هو ما يخص السهم من الايراد المحرم ، سواء وزعت أرباح أم لم توزع ، وسواء ربحت الشركة أم خسرت .
3/4/6/3 ... لا يلزم الوسيط أو الوكيل أو المدير التخلص من جزء من عمولته أو أجرته ، التي هي حق لهم نظير ما قاموا به من عمل .(1/21)
3/4/6/4 ... يتم التوصل إلى ما يجب على المتعامل التخلص منه بقسمة مجموع الايراد المحرم للشركة المتعامل في أسهمها على عدد أسهم تلك الشركة ، فيخرج ما يخص كا سهم ثم يضرب الناتج في عدد الأسهم المملوكة لذلك المتعامل ـ فرداً كان أو مؤسسة أو صندوقاً أو غير ذلك ـ وما نتج فهو مقدار ما يجب التخلص منه .
3/4/6/5 ... لا يجوز الانتفاع بالعنصر المحرم ـ الواجب التخلص منه ـ بأي وجه من وجوه الانتفاع ولا التحايل على ذلك بأي طريق كان ولو بدفع الضرائب .
3/4/6/6 ... تقع مسؤولية التخلص من الايراد المحرم لصالح وجوه الخير على المؤسسة في حال تعاملها لنفسها أو في حال إدارتها ، أم في حالة وساطتها فعليها أن تخبر المتعامل بآلية التخلص من العنصر المحرم حتى يقوم بها بنفسه ، وللمؤسسة أن تقدم هذه الخدمة باجر أو دون أجر لمن يرغب من المتعاملين .
3/4/7 ... تطبق المؤسسة الضوابط المذكورة سواء أقامت بنفسها بذلك أم بواسطة غيرها ، وسواء اكان التعامل لنفسها أم لغيرها على سبيل التوسط أو الادارة للأموال كالصناديق أو على سبيل الوكالة عن الغير .
3/4/8 ... يجب استمرار مراعاة هذه الضوابط طوال فترة الاسهام أو التعامل ، فإذا اختلت الضوابط وجب الخروج من هذا الاستثمار ..... انتهى المعيار .
... ...
فعلى ضوء ما سبق فإن الشخص المشترك في التأمين التعاوني المركب مساهم فعلاً ، فتطبق عليه هذه الضوابط السابقة ، في حالة توزيع الفائض ، أو تنازل شخص عن حصته لآخر بمبلغ من المال .
العمل في شركات التأمين التعاوني :
إن العمل في شركات التأمين التعاوني جائز عند من أجاز التعامل معها ـ كما سبق ـ إلاّ في الأعمال التي تخص الاقراض أو الاقتراض من البنوك الربوية .
وفي حالة ما إذا لم تتوافر الضوابط السابقة التي ذكرها المعيار الشرعي للهيئة ، فإن العمل إنما يجوز في الحالات الثلاث التي ذكرناها لشركات التأمين التجاري .
هذا والله أعلم بالصواب ،
وهو الهادي إلى سواء السبيل(1/22)
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم(1/23)
بسم الله الرحمن الرحيم
حكم الجيلاتين
ورقة للشيخ الدكتور محمد الهواري0
سؤال : يقال إن خميرة الخبز والزبادي مصنوعة من البقر أو الخنزير، هل يجوز الأكل من هذ المنتجات؟
جواب: لا صحة للقول بأن خميرة الخبز من منشأ حيواني، كالبقر أو الخنزير أو غيرها؛ فالخميرة الشائعة المستعملة في صناعة الخبز أصلها من أحد الفطور المساة بخميرة الجعة Yeast0 وهى خميرة مبتذلة، سريعة التكاثر والنمو، وتستعمل طرية رطبة أو جافة، وتقوم بتخمير المواد النشوية التي توجد في أنواع الدقيق المختلفة وتساعد على نضج الخبز أو العجين بصورة عامة0
وقد يستغنى عن هذه الخميرة في صناعة بعض المعحنات كأنواع (الكاتو) المختلفة وذلك باستعمال مسحوق مؤلف من ثانى كربونات الصوديوم Natrium Bicarbonate ؛ وهو مادة كيميائية تهيأ في الصناعة0
وعليه فلا حرج شرعا من استعمال هذه الخميرة (خميرة الخبز) في صناعة المعجنات والله أعلم0
أما الخميرة المستعملة في صناعة الزبادى أو اللبن الرائب؛ فقد تكون من مصدر جرثومي أو مصدر فطري أو مصدر حيواني0
والشائع اليوم استعمال الجراثيم المسمات بالعصيلت البنية Lactobacilles ... وأشهرها العصيات اللبنية الباغارية 0
أما المصدر الفطري فينتمي إلى الفطور الليمونية ولها فاعلية جيدة في صناعة الألبان والاجبان وبناء على ذلك فلا حرج من استعمالها في تحضير اللبن الرائب أو الزبادي0
أما الخمائر المستخرجة من أصل حياني، فتستعمل عادة بتركيزات زهيدة جدا، فحكمها كحكم المادة النجسة التي وقعت في الكثير الطاهر؛ فعلى القول بأن الخميرة من مصدر حيواني غير مأكول اللحم كالميتة والخنزير؛ فهي مستهلكة في الكثير من اللبن ولا تؤثر على طهارة اللبن الرائب الناتج0
والله تعالى أعلم0
سؤال : يسأل كثير من المسلمين عن حكم الجيلاتين والمواد الدهنية الحيوانية الموجودة في الكثير من المأكولات لهذه البلاد ؟ نرجو من حضرتكم الجواب .(1/1)
الجواب : تضمن السؤال طلب الحكم في مادتين مختافتين : الجلاتين والمواد الدهنية الحيوانية . والمقصود بهما المواد التي قد تستخرج من حيوانات غير مأكولة اللحم ، كالميتة ، والحيوانات غير المذكاة والخنزير .
والجلاتين مادة غذائية بروتينية غنية بالحموض الأمينية تدخل في كثير من الصناعات الغذائية كالمعجنات وأغذية الأطفال وفي صناعة اللبن الرائب والأجبان والمثلجات كما تدخل في الصناعة الدوائية كصناعة المحافظ الدوائية ( كبسولات capsules ) ؛ وقد تستعمل كمادة بديلة للبلاسما الدموية في معالجة حالات مرضية مختلفة .
لا يوجد الجلاتين أو الغراء الحيواني حراً في الطبيعة ؛ إنما ينشأ من معالجة الغراء الحيواني collahene
الموجود في جلود الحيوانات وأحشائها وعظامها . وتطرأ على الكولاجين تحولات فيزيائية وكيميائية تغيْر من بنيته الكيميائية تغيراً كاملاً حينما يتحول إلى جيلاتين .
فإن كان الجلاتين من مصدر حيواني مأكول اللحم كالماعز والشاة والبقر وما شابه ، فهو حلال ولا حرج من استعماله في الغذاء والدواء .
وإن كان من مصدر حيواني مشتبه به كأن يكون غير مذكى أو من حيوان غير مأكول اللحم فإن الإستحالة التي طرأت على الأصل أى الكولاجين تجعل المركب الناتج، أى الجيلاتين طاهرا يجوز أكله0
جاء في البحر الرائق : من الأمور التي يكون بها التطهير انقلاب العين، ومضى إلى أن قال: " وإن كان في غيره – أى الخمر – كالخنزير والميتة تقع في المملحة فتصير ملحا يؤكل، والسرجين والعذرة تحترق فتصير رمادا عند محمد(1)0
وفي فتح القدير(2): العصير طاهر فيصير خمرا ويصير خلا فيطهر، فعرفنا أن استحالة العين تستبع زوال الوصف المرتب عليها0 وعلى قول محمد فرّعوا الحكم بطهارة صابون صنع من زيت نجس0"
__________
(1) - البحر الرائق 1/239
(2) - شرح فتح القدير 1/200 وانظر الحاشية لابن عابدين 1/315 - 317(1/2)
وذهب المالكية إلى أن مااستحال إلى صلاح فهو طاهر وأن ماااستحال إفساد فهو نجس0
جاء في الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه: " من الطاهر لبن الآدمي ولو كان نافرا لاستحالته إلى الصلاح(1)0
ثم جاء في موضع آخر : إذا تغيّر القىء، وهو الخارج من الطعام بعد استقراره في المعدة، كان نجسا، وعلة نجاسته الاستحالة إلى فساد ، فإن لم يتغير كان طاهرا(2)0 "
وعليه فإن انقلاب العين النجسة الى عين أخرى، كأن احترقت فصارت رمادا أو دخانا فهى طاهرة ، قياسا على طهارة الخمر بتخللها، وسواء في ذلك انقلبت بنفسها أو بفعل فاعل 0 وعلى هذا فإن أية نجاسة عينية إذا تحولت إلى عين أخرى بخصائص تركيبية مخالفة ، فإنها تعتبر طاهرة ، كانتقال عظام الميتة بعد حرقها إلى أعيان جديدة من دخان ورماد(3)0 "
وقد وافق ابن تيمية ما ذهب إليه المالكية والأحناف ، فقال: " وهذا هو الصواب المقطوع به ، فإن هذه الأعيان لم تتناولها نصوص التحريم ، لا لفظا ولا معنىً ، فليست محرمة ، ولا في معنى التحريم، فلا وجه لتحريمها ، بل تتناولها نصوص الحلّ فإنها من الطيبات وأيضا في معنى ما اتفق على حلّه ، فالنص والقياس يقتضي تحليلها ، وعلى هذا استحالة الدم أو الميتة أو لحم الخنزير ، وكل عين نجسة استحالت إلى عين ثانية(4)0"
__________
(1) - الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1/50
(2) - الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1/57
(3) - أسهل الدارك ج1/40 وانظر القوانين /34
(4) - مجموع الفتاوى لابن تيمية ج21/68(1/3)
ويقول ابن تيمية في موضع آخر :" وإذا وقعت النجاسة كالدم أو الميتة أو لحم الخنزير في الماء أو غيره واستهلكت لم يبق هناك دم ولا لحم خنزيرا أصلا ، كما أن الخمر إذا استحالت بنفسها وصارت خلاً كانت طاهرة باتفاق العلماء0 وهذا عند من يقول : إن النجاسة إذا استحالت طهرت أقوى ، كما هو مذهب أبي حنيفة وأهل الظاهر ، وأحد القولين في مذهب مالك وأحمد ، فإن انقلاب النجاسة ملحا أو ترابا أو رمادا أو هواءً ، ونحو ذلك ، والله تعالى قد أباح لنا الطيبات(1)"
وبالقياس على ما أوردنا فإن الجيلاتين المتكون بالاستحالة من جلود الحيوانات أو عظامها أو أحشائها طاهر ويجوز أكله واستعماله في الغذاء والدواء والله تعالى أعلم 0 ...
أما المواد الدهنية الحيوانية المصدر المستعملة في المؤكولات المنتشرة في البلاد الغربية فتعتريها الشبة أو الحرمة ، لأنها كثيرا ما تختلط بدهن الخنزير ؛ ومن المعروف أن البيانات واللصاقات الموجودة على هذه الأطعمة لاتذكر مصدر المواد الدسمة الحيوانية بل تكتفي بذكر كلمة "دهن حيواني" فقط0
ولذا فإما أن يقوم المستهلك أو المؤسسات الإسلامية بسؤال الشركات الصانعة عن مصدر المواد الدهنية الحيوانية ، ومن حقها أن تحصل على الجواب الصحيح تبعا لقانون حماية المستهلك أو تمتنع عن استعمال المادة الغذائية المشتملة على الدهون الحيوانية للاشتباه باختلطها بدهن الخنزير0
والله تعالى أعلم
__________
(1) - مجموع الفتاوى لابن تيمية ج21/500 وانظر إعلام الموقعين لابن القيم ج1/12(1/4)
حكم تطليق القاضي غير المسلم
فيصل مولوي
السؤال: ما هو حكم تطليق القاضي غير المسلم؟
قبل الجواب على هذا السؤال أجد من المفيد أن أشرح مسألتين اثنتين:
الأولى: ... أنّ كلّ دولة في العالم اليوم تطبّق قوانينها على مواطنيها، وعلى المقيمين على أرضها، في جميع المسائل المدنية وفي العقوبات. وهكذا كان الأمر في ظلّ الدولة الإسلامية على اختلاف عهودها حتّى الدولة العثمانية. هذا هو العرف العام في التعامل القانوني بين الدول.
الثانية: ... أنّ قوانين الأحوال الشخصية تعتبر في أكثر دول العالم المعاصر كسائر القوانين من حيث إلزاميّتها لجميع المواطنين. وبالتالي فإنّ كلّ دولة تطبّق قوانين أحوالها الشخصية على أرضها الوطنية، بغضّ النظر عن ديانة هؤلاء المواطنين. أمّا المقيمون، وفي مجال الأحوال الشخصية فقط فإنّهم يخضعون أحياناً لقوانين الأحوال الشخصية في البلاد التي يقيمون فيها. وأحياناً لقوانين الأحوال الشخصية العائدة لبلادهم. وهذا الموضوع يعتبر اليوم ساحة هامّة لتنازع القوانين بين الدول.(1/1)
وفي هذا المجال فإنّ المسلم المقيم مثلاً في أوروبة يمكن أن يخضع لقانون البلد الذي يقيم فيه، ويمكن أن يخضع لقانونه الشخصي في بلده الأصلي، إذا كان قانون البلد الذي يقيم فيه يسمح بذلك، وقد يكون قانون بلده الأصلي منسجماً مع الأحكام الشرعية أو معارضاً لها. فالقوانين الأوروبية عندما يسمح بعضها بتطبيق القانون الشخصي للمقيم على أرضها، إنّما تعني القانون المعمول به اليوم في الدولة التي يحمل جنسيّتها، سواء كان موافقاً أو مخالفاً لأحكام الشريعة الإسلامية. وبالتالي فإنّ السؤال المطروح على المسلمين في أوروبة عن حكم تطليق القاضي غير المسلم، يمكن أن يطرح في بعض بلاد المسلمين ولو بنسبة أقلّ بكثير، وبشكل آخر فيقال: ما حكم تطليق القاضي المسلم وفقاً لقانون يخالف الشريعة الإسلامية؟ علماً بأنّه يمكن أن يوجد في بعض بلادنا الإسلامية قاض غير مسلم وهو يطلّق وفق القانون السائد المخالف للأحكام الشرعية فهذا يشبه تماماً القاضي غير المسلم الذي يطلّق في أوروبة وفق القوانين الأوروبية. كما أنّه يمكن أن يوجد في البلاد الأوروبية قاض مسلم يطبّق القوانين الأوروبية ويطلّق وفق أحكامها.
لقد ذكرنا هذه الاحتمالات للتنبيه إلى أهمّية السؤال المطروح، وامتداد هذه المشكلة إلى بعض بلاد المسلمين. لكنّنا سنحصر هذا البحث في حكم تطليق القاضي وفق القوانين الأوروبية، باعتبار أنّ كونه مسلماً أو غير مسلم ليس له تأثير في هذا الحكم.
الحالات المتنوّعة في هذا السؤال:
الحالة الأولى: ... أن يكون الزوجان من رعايا دولة إسلامية، وقد تمّ عقد زواجهما في دولة إسلامية، ولا يؤثّر في ذلك أن تكون الزوجة كتابية، وهما يقيمان في إحدى الدول الأوروبية، ووقع بينهما خلاف يمكن أن يؤدّي إلى الطلاق. في هذه الحالة:(1/2)
1. يجب على الزوجين أن يرفعا خلافهما إلى محكمة البلد الذي جرى عقد زواجهما فيه. لأنّه من الناحية الشرعية فإنّ قوانين بلادنا الإسلامية في نطاق الأحوال الشخصية تبقى في عمومها مستوحاة من الأحكام الشرعية وإن وقعت في بعضها مخالفات، لكنّها تظلّ أقرب إلى الشريعة بما لا يقاس من قوانين البلاد الأوروبية. ومن حيث منطق القانون الدولي الخاص فإنّ القانون الذي تأسّس عليه الزواج ينبغي أن يكون هو القانون الذي ينظر في مفاعيل الزواج وانحلاله. ومن حيث العدالة التشريعية فإنّ كلّ قانون من قوانين الزواج يعتبر وحدة متكاملة، وعندما يؤسس الزوجان حياتهما الزوجية وفق قانون معيّن فهما يعلمان – أو هكذا يفترض – كلّ الحقوق والواجبات التي تنتج لهما عن هذا القانون، وقد وقع تراضيهما على الزواج بناءً على ذلك، فليس من العدالة أن يطبّق عليهما قانون آخر لم يرتضياه عند إجراء عقد الزواج.
2. إذا رفع الزوجان أو أحدهما خلافهما إلى محكمة البلد الذي يقيمان فيه لأنّ ذلك أيسر عليهما، أو لأنّ قانون هذا البلد يعطي أحدهما امتيازاً لا يجده في قانون بلده، فقد وقع الخطأ الأول. ويتحمّل إثمه الشرعي من بادر إليه. وهنا نقول:
? قد يكون قانون البلد يفرض على محاكمها أو يجيز لها الرجوع في مثل هذا الخلاف إلى القانون الذي أنشأ الزواج، ففي هذه الحالة يجب على الزوجين أن يطالبا المحكمة بتطبيق أحكام القانون الذي تزوّجا بموجبه، وإن لم يفعلا ذلك وقع الخطأ الثاني، ويتحمّل مسؤوليته الشرعية من لم يطلب ذلك من المحكمة.(1/3)
? أمّا إذا كان قانون البلد يفرض على محاكمها تطبيق أحكامه، ويمنعها من تطبيق أيّ قانون آخر، فسنكون أمام حكم قضائي صادر عن قضاء دولة غير إسلامية يخصّ أشخاصاً مسلمين. هذا الحكم القضائي ملزم من الناحية الواقعية والقانونية شئنا أم أبينا، لكنّ الطرف الذي طالب به يكون آثماً من الناحية الشرعية إذا كان الحكم القضائي يخالف الأحكام الشرعية للقضية. أمّا الطرف الثاني فهو مضطرّ للقبول به بسبب إقامته في أوروبة، وهذه الضرورة تعتبر عذراً شرعياً له إذا كانت إقامته الأصلية مشروعة. ويجب على الطرفين حتّى بعد صدور الحكم القضائي – إذا أرادا التوبة – أن يتفقا على التحكيم بمقتضى الأحكام الشرعية.
الحالة الثانية: ... أن يكون أحد الزوجين من رعايا دولة إسلامية وهو مقيم في دولة أوروبية ولم يحصل على جنسيّتها بعد، ويكون الزوج الآخر من رعايا دولة أوروبية.
? فإذا كان عقد الزواج قد تمّ وفق قانون الدولة المسلمة، وجب أن يرفع الخلاف إلى محاكم هذه الدولة، وإذا رفع إلى محاكم الدولة الأوروبية يجب مطالبتها بتطبيق أحكام القانون الذي بني الزواج عليه، ولو كان الغالب في هذه الحالة أن تطبّق المحاكم الأوروبية قوانينها الخاصّة باعتبار أحد الزوجين من جنسيّتها، وهي تفترض أنّ قوانينها تحمي حقوقه، فنكون أمام حكم قضائي صادر عن دولة غير إسلامية ويلزم مسلماً، وهو الموضوع الذي أشرنا إليه في البند الثاني من الحالة الأولى وهو موضوع هذا السؤال.
? أمّا إذا كان عقد الزواج قد تمّ وفق قانون الدولة الأوروبية، والخلاف بين الزوجين حصل في أرضها، فلا بدّ أن تحكم فيه محاكمها وفق قوانينها، فنكون أيضاً أمام حكم قضائي أوروبي يتناول إنساناً مسلماً.(1/4)
الحالة الثالثة: ... أن يكون الزوجان مسلمين من جنسية دولة أوروبية، فلا بدّ أن يعقدا زواجهما وفق قانون هذه الدولة حتّى يصبح رسمياً معترفاً به، وإذا وقع الخلاف بينهما فلا بدّ أن يرجعا إلى محاكم هذه الدولة لتطبّق عليهما قانونها. ومن الطبيعي أن تصدر أحكامها بما يخالف الأحكام الشرعية في كثير من الأحوال. فما هو الحكم الشرعي في مثل هذه الأحكام القضائية الأوروبية في الحالات الثلاثة المذكورة آنفاً؟
نصائح للمسلمين والمسلمات في أوروبة:
بناءً على هذا الواقع نقدّم لإخواننا المسلمين وأخواتنا المسلمات النصائح التالية:
أولاً : ... ... يجب على المسلم والمسلمة أن يعقدا زواجهما وفق الأحكام الشرعية ما أمكن ذلك. لأنّه وإن كان عقد الزواج وفق القوانين الأوروبية يعتبر جائزاً من حيث أنّه عقد، إذا جرى ضمن الضوابط الشرعية، إلاّ أنّ الزوجين بعد ذلك يخضعان إلى هذه القوانين في كلّ ما يتعلّق بمفاعيل الزواج ومنها الطلاق والإرث، ولا يجوز للمسلم أن يتحاكم إلى غير شرع الله برضاه. وبناءً على ذلك نقول: إنّه من واجب المسلم غير الأوروبي أن يعقد زواجه في دولته طالما كان ذلك ممكناً، وإذا كان قانون دولته مستمدّاً من الأحكام الشرعية ولو كانت فيه بعض المخالفات. قال تعالى: { ألم ترَ إلى الذين يزعمون أنّهم آمنوا بما أُنزل إليك وما أُنزل من قبلك، يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أُمروا أن يكفروا به، ويريد الشيطان أن يضلّهم ضلالاً بعيداً } [سورة النساء الآية 60]. ذكر الحافظ بن كثير وغيره أنّ الآية نزلت في خصومة وقعت بين يهودي ورجل من الأنصار منافق يزعم الإيمان، فقال له اليهودي: تعال نتحاكم إلى محمد. فقال له المنافق: لا بل تعال نتحاكم إلى كعب بن الأشرف الذي سمّاه الله بالطاغوت. [أنظر صفوة التفاسير 1/285].(1/5)
... ورغم ذلك فإنّه إذا عقد المسلم غير الأوروبي زواجه أمام السلطات الأوروبية المدنية، وأصبح هذا الزواج خاضعاً لتلك القوانين غير الشرعية، فإنّنا نفترض أنّه لم يفعل ذلك بدافع النفاق، وإنّما فعله لضرورة أو لعذر. ولذلك نجد من الواجب أن نبيّن له الحكم الشرعي فيما يجري بعد الزواج من خلافات ربّما تؤدّي إلى طلاق وفق هذه القوانين الأوروبية.
ثانياً : ... أمّا المسلم والمسلمة من أصحاب الجنسية الأوروبية سواء كانوا من أهل البلاد الأصليين فأسلموا، أو من المسلمين الذين تجنّسوا بجنسية أوروبية، فليس أمامهم أن يعقدوا زواجهم إلاّ مدنياً حسب قوانين بلادهم. (قد يجري عقد زواج شرعي بعد العقد المدني أو قبله، لكنّ هذا العقد الشرعي ليس له أيّ مفعول أمام القضاء الأوروبي بالنسبة لمفاعيل الزواج، وإن كان يعطي الزوجين اطمئناناً أكثر إلى مشروعية المعاشرة الزوجية). وبالتالي فهم ملزمون بالخضوع لهذه القوانين في كلّ ما يتعلّق بأحوالهم الشخصية ومنها الطلاق.
... وأحبّ أن أشير هنا إلى أنّه عندما يتزوّج مسلم ومسلمة وفق القوانين الأوروبية، وهما ملزمان بذلك لأنّهما من جنسية أوروبية فلا إثم عليهما إن شاء الله، لأنّه لا يمكن أن يطلب منهما عدم الزواج. يقول الإمام الجويني: (فأمّا القول في المناكحات، فإنّا نعلم أنّه لا بدّ منها كما أنّه لا بدّ من الأقوات. فإنّ بها بقاء النوع كما بالأقوات بقاء النفوس .. وإذا أشكل في الزمان الشرائط المرعية في النكاح، ولم يأمن كلّ من يحاول نكاحاً أنه مخلّ بشرط معتبر في تفاصيل الشريعة، فلا تحرم المناكح، فإنّا لو حرّمناها لحسمناها، ولو قلنا ذلك لسبّبنا إلى قطع النسل وإفناء النوع، ثمّ لا تعفّ النفوس عموماً فتسترسل في السفاح إذا صُدّت عن النكاح)(1)
__________
(1) - غياث الأمم في التياث الظلم. ص 311 – دار الدعوة – الإسكندرية.(1/6)
... وإن كانا غير ملزمين بذلك لأنّهما لا يحملان الجنسية بل هما مقيمان هناك ويتمتّعان بجنسية دولة إسلامية، فقد يلحقهما إثم من الإقدام على عقد الزواج وفق قانون أوروبي، وقد يرفع عنهما الإثم إذا وجدت ضرورة أو حاجة دفعتهما لذلك. وفي الحالتين نكون أمام واقعة جديدة وهي:
ثالثاً: ... عندما يعقد زوجان مسلمان زواجهما وفق قانون أوروبي، يجب عليهما أن يتفقا على إخضاع مفاعيل هذا الزواج للأحكام الشرعية ما أمكنهما ذلك. ومن الواجب أن يكون مثل هذا الاتفاق رسمياً إذا سمح القانون بذلك، وإلاّ يكفي أن يكون خطياً. في هذه الحالة، وحين يقع خلاف بينهما يختاران حكَماً من العلماء أو من المسلمين القادرين على القيام بهذه المهمّة، وهذا الحكَم يحاول الإصلاح ما أمكن، فإن تعذّر عليه ذلك حكم بالتفريق بينهما شرعاً، ويصبح تنفيذ هذا الحكم الشرعي وفق الإجراءات القضائية للقوانين الأوروبية أمراً مشروعاً، وهو السبيل الوحيد لتنفيذ الحكم الشرعي إذا أراده الطرفان. وأعتقد أنّه لا توجد أيّة إشكالية من الناحية الشرعية ولا من ناحية القوانين الأوروبية في هذه الحالة.
رابعاً: ... إذا لم يتفق الزوجان على إخضاع مفاعيل زواجهما الأوروبي للأحكام الشرعية. أو إذا اتفقا ثمّ نقض أحدهما الاتفاق وادّعى أمام المحاكم الأوروبية طالباً الطلاق. فالزوج الآخر ملزم بالمثول أمام هذه المحاكم للمطالبة بحقوقه التي يكفلها له القانون، فإذا أثم الزوج الأول بطلبه التحاكم إلى القضاء الأوروبي، فإن الزوج الثاني لا يأثم لأنّه مضطرّ إلى ذلك بحكم العقد أو الجنسية أو الإقامة.
الموقف الشرعي من حكم قضائي بالطلاق صادر عن مرجع أوروبي غير إسلامي:
أحصر الكلام فيما إذا كان الحكم القضائي متعلّقاً بالطلاق. والذي أراه والله أعلم، أنّ هذا الحكم ملزم للطرفين شرعاً كما هو ملزم لهما قانوناً وذلك للأدلّة التالية:(1/7)
أ . أنّ عقد الزواج الذي تمّ بين الطرفين، إذا كان مستكملاً شروطه الشرعية الأساسية، فهو ملزم للزوجين، والله تعالى يقول: { يا أيّها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } [سورة المائدة، الآية 1]. ومقتضى العقد أن يخضع الطرفان لحكم القاضي في التطليق، فإذا رفض أحدهما فقد غدر بصاحبه، وقد ورد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (يرفع لكلّ غادر لواء يوم القيامة بقدر غدرته، فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان) [رواه الشيخان].
ب . أنّ أحكام الطلاق في الشريعة الإسلامية تجعل الطلاق أساساً بيد الرجل، لكنّها تجيز له أن يتنازل عن هذا الحق، ويفوّض زوجته أو غيرها بالطلاق. هذا رأي جمهور الفقهاء ولم يخالف في ذلك إلاّ الظاهرية. يقول الدكتور محمد مصطفى شلبي: (والطلاق ممّا يقبل الإنابة، فكما جاز له أن يوقعه، جاز أن ينيب عنه غيره في إيقاعه، سواء أكان ذلك الغير هو الزوجة أو شخصاً آخر)(1). والقوانين الأوروبية إجمالاً تجعل الطلاق بيد القاضي. وعندما يجري الرجل المسلم عقد زواجه وفق هذه القوانين، فهو يعلن صراحة التزامه بها، ومن ذلك جعل الطلاق بيد القاضي، وهذا يمكن اعتباره تفويضاً من الزوج وهو أمر جائز له. ولو قال قائل بأنّ هذا التفويض ليس صريحاً، فلا يُعمل به، قلنا إنّه على الأقلّ يعتبر عرفاً في المجتمعات الأوروبية. والقاعدة الفقهية أنّ (المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً) [المادة 43 من مجلّة الأحكام العدلية]. يقول الشيخ أحمد الزرقاء في شرح القواعد الفقهية – طبعة دار الغرب الإسلامي - : (في كلّ محلّ يعتبر ويراعى فيه شرعاً صريح الشرط المتعارف، وذلك بأن لا يكون مصادماً للنصّ بخصوصه، إذا تعارف الناس واعتادوا التعامل عليه بدون اشتراط صريح فهو مرعي، ويعتبر بمنزلة الاشتراط الصريح).
__________
(1) - أحكام الأسرة في الإسلام – ص 521 دار النهضة العربية – بيروت.(1/8)
ت . ومعروف أنّ الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - يرى أنّ كلّ شرط لم يقم الدليل من النصّ على بطلانه يعتبر صحيحاً ويجب الوفاء به، وخاصّة ما كان منها مقروناً بعقد الزواج لقوله - صلى الله عليه وسلم - : (إنّ أحقّ الشروط أن توفوا بها ما استحللتم به الفروج) [رواه الشيخان]. ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : (المسلمون عند شروطهم، إلاّ شرطاً أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً) [رواه الترمذي وحسّنه]. ولقول عمر بن الخطّاب - رضي الله عنه - لمن شرط لزوجه أن يسكنها دارها، ثمّ أراد نقلها إلى داره، فتخاصما لدى عمر فقال: (لها شرطها. فقال الرجل: إذاً يطلّقننا. فأجابه عمر بتلك الكلمة الدستورية الخالدة: مقاطع الحقوق عند الشروط ولك ما شرطت) [رواه البخاري].
فإذا كان الشرع يبيح اشتراط كلّ من الزوجين ما يراه لنفسه إلاّ ما نصّ على إبطاله الكتاب أو السنّة، ويكون الشرط ملزماً شرعاً. فإنّ رضاهما بإجراء العقد وفق القوانين الأوروبية يعتبر التزاماً بهذه القوانين، وتعتبر مواد هذه القوانين كأنّها شروط ملحقة بالزواج، وتخضع بالتالي لأحكام الشروط في العقود، والتي نرى فيها الرجوع إلى مذهب الإمام أحمد - رضي الله عنه - ، باعتباره من المذاهب المعتمدة، وهو في هذا الباب أكثرها تيسيراً على المسلمين في أوروبة.(1/9)
ث . إنّ الزواج عقد لا يتمّ إلاّ باتفاق ورضا الطرفين. وقد انعقد الاتفاق على التحاكم إلى القانون الذي نشأ الزواج على أساسه. فالتزام أحكام القانون أصبح واجباً شرعاً بمقتضى العقد الذي التزما به، إذا لم يخالف نصاً شرعياً. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وأصل العقود أنّ العبد لا يلزمه شيء إلاّ بالتزامه، أو بإلزام الشارع له. فما التزمه فهو ما عاهد عليه، فلا ينقض العهد ولا يغدر. وما أمره الشارع به فهو ممّا أوجب الله عليه أن يلتزمه وإن لم يلتزمه. ولهذا يذكر الله تعالى في كتابه هذا وهذا كقوله: { الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق، والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل } [الآية 20 من سورة الرعد]. فما أمر الله به أن يوصل فهو إلزام من الله. وما عاهد عليه الإنسان فقد التزمه، فعليه أن يوفي بعهد الله، ولا ينقض الميثاق إذا لم يكن مخالفاً لكتاب الله) [الفتاوى، جـ 29 ص 341]. وحكم هذا القانون بجعل أمر الطلاق بيد القاضي لا يصادم نصاً شرعياً طالما أنّه يجوز شرعاً باتفاق الفقهاء أن يفوّض الرجل الطلاق إلى من يريد. فهو بالتالي جائز شرعاً، وحين يتمّ الزواج وفق القوانين الأوروبية يصبح الطلاق تلقائياً بيد القاضي، وهو جائز شرعاً بتفويض الزوج، وجائز من باب أولى إذا اتفق عليه الزوجان، أو فرضه القانون الذي تراضى عليه الزوجان. وحين يوافق الرجل على إعطاء حقّ الطلاق للقاضي بمقتضى عقد زواجه الأوروبي، فلا يجوز له بعد ذلك أن يرفض حكم القاضي لأنّ القاعدة الفقهية (إنّ من سعى في نقض ما تمّ من جهته، فسعيه مردود عليه) [المادة 100 من مجلّة الأحكام العدلية].(1/10)
ج . إنّ عقد الزواج يوجب على طرفيه التزامات ذكرت فيه، أو في قانون الأحوال الشخصية. وإنّ الحكم القضائي لا يصدر عادة إلاّ بناءً لطلب أحد الزوجين. وهو يعطي هذا الطرف حقاً، ويوجب على الآخر التزاماً. فإذا رفض هذا الطرف القيام بالتزاماته المحدّدة بالعقد أو بالقانون اختلّ التوازن بين طرفي العقد، وأصبح التزام الطرف الآخر أمراً غير مقبول في كلّ القوانين والأعراف لأنّه يناقض العدالة. ولذلك أعطت الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية الطرف الثاني حقّ طلب إلغاء العقد إذا تخلّف الطرف الأول عن تنفيذ التزاماته بل وشرعت له المطالبة بالتعويض. فإمّا أن يلتزم الطرفان بموجبات العقد، وإمّا أن يلغى العقد. أمّا أن يفرض أحد الطرفين على الآخر ما يريد بإرادته المنفردة ودون أن يقبل الطرف الآخر بذلك، فهذا ينافي مقتضى العقد، ويؤدّي إلى إلغائه، والعقد كما هو معروف شريعة المتعاقدين، وهو توافق إرادتين. وقد تمّ هذا التوافق على عقد زواج خاضع لقانون معيّن، فلا يجوز لأحد الطرفين أن يرفض الخضوع لهذا القانون لأنّه عند ذلك يفرض على الطرف الآخر إرادته المنفردة، وهذا يناقض العقد.
فإذا طلبت الزوجة الطلاق وحكم به القاضي، فلا يجوز للزوج أن يتحجّج بأنّ طلاق القاضي غير شرعي، لأنّه بذلك يناقض العقد الذي تمّ على أساسه الزواج.(1/11)
ح . أنّ رفض هذا الحكم من جهة الزوج بحجّة الشرع يؤدّي إلى تناقض خطير لا يقرّه شرع ولا عقل، إذ يظلّ عقد الزواج قائماً بالنسبة للرجل ومنحلاً بالنسبة للمرأة، ويفسح المجال أمام الرجل للتعسّف في استعمال حقّه بالطلاق بحيث يؤدّي إلى مضارّة المرأة وهو الأمر الذي منعه النصّ القرآني بوضوح: { ولا تضارّوهنّ لتضيّقوا عليهنّ .. } [سورة الطلاق، الآية 6]. بل يؤدّي إلى مناقضة الشرع نفسه الذي يعتبر (الزواج عقداً مؤبّداً في الأصل ولكنّه قابل للانحلال) بينما يريد الرجل المتعسّف أن يحتفظ بالمرأة رغماً عنها حتّى وفاتها، طالما أنّه ليس هناك جهة شرعية قادرة على الحكم بالطلاق في زواج معقود وفق قانون أوروبي وبين طرفين أو أحدهما من جنسية أوروبية. فإذا كان الحكم القضائي الأوروبي غير مقبول عنده، وليس هناك أيّة إمكانية لصدور حكم شرعي، فقد أصبح هذا الزواج غير قابل للفسخ إلاّ بوفاة أحد الزوجين. وهذا مخالف للأحكام الشرعية المتعلّقة بالزواج وبالعقود، وهو مخالف لمقتضى العقل وبديهيّات الأمور، وهو يؤدّي إلى ضرر كبير يلحق بالمرأة. والشرع نهى عن إلحاق الضرر، والقاعدة الفقهية تقول: (لا ضرر ولا ضرار) [المادة 19 من المجلة]. وهذا نصّ حديث حسن رواه ابن ماجه والدارقطني، واتفق العلماء على صحّة معناه وجعلوه قاعدة فقهية مطردة. هذه القاعدة ليست مقيّدة إلاّ بما أذن به الشرع من الضرر (كما يقول الشيخ أحمد الزرقا في شرحه للقواعد الفقهية). والشرع لم يأذن بمضارّة المرأة وبقائها مقيّدة بزواج لم تعد تستطيع الوفاء بالتزاماته.
وقد ذكرت المجلّة ثلاث قواعد بشأن الضرر:
الأولى: للنهي عن إيقاعه، وهي هذه القاعدة.
الثانية: لوجوب إزالته إذا وقع وهي (الضرر يزال) [المادة 20].
الثالثة: أنّ إزالته مطلوبة بقدر الإمكان وهي (الضرر يدفع بقدر الإمكان) [المادة 31].(1/12)
فإذا كان رفع الضرر عن المرأة – التي تزوّجت وفق قانون أوروبي – ولم تستطع إكمال حياتها الزوجية، وتعسّف زوجها فرفض طلاقها، وليس لها جهة شرعية إلزامية تشتكي لديها، ولم يعد ممكناً دفع هذا الضرر عنها إلاّ باعتبار الحكم القضائي الأوروبي، لكان ذلك واجباً شرعاً من قبيل إزالة الضرر حتّى ولو لم نأخذ بالأسباب الأخرى المذكورة آنفاً.
خ . تنفيذ أحكام القضاء – ولو كان غير إسلامي – جائز من باب جلب المصالح ودفع المفاسد. يقول سلطان العلماء العزّ بن عبد السلام: (ولو استولى الكفّار على إقليم، فولوا القضاء لمن يقوم بمصالح المسلمين العامّة، فالذي يظهر إنفاذ ذلك كلّه، جلباً للمصالح العامّة ودفعاً للمفاسد الشاملة. إذ يبعد عن رحمة الشرع ورعايته لمصالح العباد تعطيل المصالح العامّة وتحمّل المفاسد الشاملة، لفوات الكمال فيمن يتعاطى توليتها ممّن هو أهل لها. وفي ذلك احتمال بعيد)(1)، فكيف إذا أضيف إلى ذلك أنّ تنفيذ هذه الأحكام القضائية ملزم قانوناً، وملزم شرعاً باعتبار العقد، ولا يتعارض مع أحكام الشريعة؟
مقارنة بين أنواع أحكام الطلاق وفق القوانين الأوروبية والأحكام الشرعية:
الأصل في الطلاق في الشريعة الإسلامية أن يكون بيد الرجل. وجميع القوانين الأوروبية ترفض هذا الأمر بالمطلق.
... ويترتّب على هذا الاختلاف أمرين:
1. أنّ كلّ طلاق يوقعه الرجل – إذا كان العقد جارياً وفق القوانين الأوروبية – ليس له أيّ مفعول قانوني تجاه زوجته، ولكن هل له مفعول شرعي؟
? إذا كان الزوجان متفقين على الالتزام بالأحكام الشرعية، يكون طلاق الرجل ملزماً شرعاً وتترتّب عليه أحكام العدّة والرجعة والمتعة والبينونة وسائر الأحكام، ويجب على الزوجين القيام بالإجراءات الرسمية لتنفيذه قانوناً. وذلك لأنّ الاتفاق الشرعي بين الزوجين مكمل للعقد القانوني، وليس مناقضاً له.
__________
(1) - قواعد الأحكام للعزّ بن عبد السلام – ص 66. مؤسسة الريان – بيروت.(1/13)
? إذا لم يكن بين الزوجين مثل هذا الاتفاق، يعتبر الرجل قد فوّض حقّه بالطلاق إلى القاضي بمجرّد موافقته على إجراء عقد الزواج وفق القانون الأوروبي. وبالتالي فإنّ إقدامه على الطلاق لا يكون له أيّ مفعول قانوني لأنّه لا يتمتّع بهذا الحقّ. أمّا من الناحية الشرعية فقد وقع الطلاق لأنّ تفويضه لغيره بالطلاق لا يمنعه من ممارسة هذا الحقّ، فيبقى له أن يطلّق، كما أنّ للمفوّض إليه أن يطلّق. ويجب على الزوج عند ذلك الالتزام بأحكام الطلاق المعروفة واتّباع الإجراءات التي يفرضها عليه القانون الأوروبي من أجل تنفيذ الطلاق. وذلك لأنّ الالتزام بالأحكام الشرعية مقدّم بالنسبة للمسلم على القوانين الوضعية. ولأنّ تنفيذ هذه الأحكام في البلاد الأوروبية لا يمكن أن يتمّ إلاّ من خلال قوانينها.
2. يجوز في الأحكام الشرعية أن يتّفق الزوجان على الطلاق، وهو ما يسمّى بالمخالعة. هذا الطلاق تجيزه بعض القوانين الأوروبية، وتمنعه قوانين أخرى كالقانون الفرنسي مثلاً. فإذا وقع في بلد يسمح به قانونه، فليس هناك أيّة مشكلة طالما أنّ الطلاق يقع شرعاً وقانوناً في هذه الحالة.
لكن إذا وقع في بلد يمنعه قانونه – كفرنسة مثلاً – فإنّ الاتفاق بين الزوجين على الطلاق ملزم لهما شرعاً، ونرى أن يتمّ بينهما خطّياً بإشراف أحد العلماء أو المسؤولين في المراكز الإسلامية، لتوضيح الحقوق والواجبات. ثمّ يجب عليهما اتّباع الإجراءات الرسمية ليصبح هذا الطلاق الشرعي قانونياً، فيقيمان الدعوة أمام المحاكم ويتابعانها حتّى صدور الحكم القضائي بالطلاق.(1/14)
3. إذا رغبت المرأة بالطلاق، فإنّ لها شرعاً أن ترفع أمرها إلى القاضي الذي يملك حقّ التطليق، ولو رفض الرجل، إذا وُجدت أسباب شرعية لذلك. والمذاهب الإسلامية والقوانين الوضعية المعاصرة في بلاد المسلمين تختلف حول تقدير الأسباب التي تبيح للقاضي الطلاق بناءً على طلب الزوجة ولو رفض الزوج، فمنها ما يوسّع ومنها ما يضيّق.
فإذا عقد الزوجان زواجهما وفق قانون أوروبي، فقد اتفقا على إعطاء القاضي الحقّ الذي يعطيه الشرع للرجل في إيقاع الطلاق، وهذا جائز شرعاً، ولو كان القاضي غير مسلم، لأنّه من قبيل تفويض الرجل حقّ الطلاق الذي يملكه. وبالتالي فإنّ أيّ حكم قضائي أوروبي في موضوع الطلاق يكون ملزماً شرعاً وقانوناً كما ذكرنا. وليس للرجل أن يرفض هذا الحكم بحجّة أنّه لم يطلّق زوجته للأسباب التي ذكرناها سابقاً.
... ... ... ... ... ... ... ... ... المستشار الشيخ فيصل مولوي(1/15)
خطابنا الإسلامي
في عصر العولمة
أ.د. يوسف القرضاوي
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله وكفى، وسلام على رسله الذين اصطفى، وعلى خاتمهم المجتبى، محمد وآله وصحبه ومن بهم اقتدى فاهتدى.
(أما بعد)
فقد كتب كثيرون ـ بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م الشهيرة ـ يطالبون بوجوب إعادة النظر والمراجعة لخطابنا الديني، وخصوصا بالنسبة للآخر، ونظرتنا إليه، وموقفنا منه.
وهذا الكلام بعضه حق، وبعضه باطل، وبعضه حق أريد به باطل.
فمن الحق: أن بعض الأفراد أو الفئات منا، تنهج نهج التشدد والغلو، ولا سيما مع الآخر، أي مع المخالفين في الدين، أو المخالفين في المذهب، أو المخالفين في الفكر، أو المخالفين في السياسة.
ونهج الغلو والتشدد مكروه بمقتضى الفطرة، مذموم بحكم الدين، وهو أكثر ذما في عصر تقارب فيه الناس ثم ازدادوا تقاربا، حتى أصبحوا كأهل قرية واحدة.
ومن الحق أن يراجع الناس أفكارهم ومواقفهم واجتهاداتهم، على ضوء المستجدات، وفي إطار الثوابت التي لا تتغير بتغير الزمان والمكان، كما قال علماؤنا بوجوب تغير الفتوى بتغير موجباتها.
فقد توجب هذه المراجعة تغييرا في مضمون بعض المقولات، وقد توجب تغييرا في أسلوبها، وقد توجب تغييرا في ترتيبها في سلم الأولويات، إلى غير ذلك.
ومن الحق أن كثيرا من المخلصين من المسلمين أنفسهم شعروا بضرورة هذا التغيير، ودعوا إليه، ومنهم إخوة نثق بدينهم وإيمانهم، كما نثق بتفكيرهم وسداد نظرتهم، في أمريكا نفسها، وفي أوربا أيضا.
وقد زارهم الأخ الكريم الدكتور أحمد علي مدير البنك الإسلامي للتنمية، وتباحث معهم في الموقف، وكتب إليَّ بضرورة معالجة الشبهات والقضايا التي يثيرها القوم عن الإسلام، وخصوصا النصوص المتعلقة بموالاة الكفار، وبالجهاد والقتال، والعلاقة بغير المسلمين، وبخاصة الأقليات غير المسلمة، وقضية المرأة وما يقال حولها.(1/1)
وإذا كان هذا من الحق، فإن من الباطل ما يطالب به بعض الناس: أن نشكِّل لنا دينا من جديد، نحذف منه ونبقي، ونغير فيه ونبدل، وفق ما تطلبه أمريكا وحلفاؤها!
وعلى هذا يجب أن نغير مناهج تعليمنا الديني كلها، وخطابنا الديني كله، حتى ترضى عنا أمريكا، وما هي براضية، فما يرضى هؤلاء إلا أن ننسلخ من ديننا (ود كثير من أهل الكتاب لو يردوكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق) البقرة: 109.
ولقد سلكت بعض الأنظمة العربية والإسلامية هذا السبيل منذ زمن، فاتخذت فلسفة (تجفيف المنابع) أي منابع التدين الإيجابي الذي يربي الشخصية المسلمة، والعقلية المسلمة، والنفسية المسلمة، ويحذفون كل ما يغرس معاني القوة والبطولة والغيرة على الحق، والجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحاربت كل دعوة صادقة لإحياء الإسلام الصحيح، وتربية الناس عليه، وشجعت إسلام الخرافات والأضرحة والدروشة، لأنه مشغول عنها، بل سائر في ركابها، ساكت عن مظالمها.
لهذا كان على أهل العلم والدعوة، وخصوصا دعاة المنهج الوسطي: أن يقولوا كلمتهم، ويبينوا وجهتهم، ويشرحوا رسالتهم، في خضم هذه الفتن المتلاحقة التي تذر الحليم حيران، وفي هذا الجو الرهيب الذي يحاط فيه بالأمة من كل جانب. وعليهم أن يعضوا بالنواجذ على الحق الذي ائتمنهم الله عليه، معتصمين بحبل الله المتين. (يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله) الأحزاب: 39 (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم) البقرة: 256.
الدوحة: شوال 1423هـ الفقير إليه تعالى
يناير 2003م يوسف القرضاوي
تمهيد
مفهوم العولمة وماذا تعني؟
(العولمة) مصطلح من المصطلحات التي شاعت بيننا في هذه السنين الأخيرة، مثل الحداثة، وما بعد الحداثة، وما بعد الاستعمار، وما بعد الإمبريالية، وغيرها، وهو تعبير جديد على لغتنا، فهو مترجم قطعا، كما سنرى.(1/2)
... والمعروف أن (العولمة) مصدر على وزن (فوعلة) مشتق من كلمة (العالَم)، كما يقال (قولبة) اشتقاقا من كلمة (قَالَب).
... فالتعبير صحيح من الناحية اللغوية، ولكن يبقى علينا أن نعرف معناه والمقصود منه، حتى يمكننا الحكم عليه، فالحكم على الشيء فرع من تصوره، كما قال قديماً علماء المنطق.
... العولمة: تعني في نظر البعض: إزالة الحواجز والمسافات بين الشعوب بعضها وبعض، وبين الأوطان بعضها وبعض، وبين الثقافات بعضها وبعض. وبذلك يقترب الجميع من (ثقافة كونية) و(سوق كونية) و(أسرة كونية). ويعرفها بعضهم بأنها تحويل العالم إلى (قرية كونية). ولذا نرى بعض الباحثين يستخدم هنا (الكوننة) اشتقاقا من كلمة (الكون) بمعنى العالم أيضا. كما أن بعضهم استعمل كلمة (الكوكبة) إشارة إلى كوكب (الأرض) التي نعيش عليها. ولكن الكلمة التي ذاعت وانتشرت هي (العولمة).
... ويرى العالم الاقتصادي والاجتماعي المعروف الدكتور جلال أمين: أن لفظ (العولمة) حديث، ولكن الظاهرة نفسها قديمة جداً. يقول: فإذا نحن فهمنا (العولمة) بمعنى: التضاؤل السريع في المسافات الفاصلة بين المجتمعات الإنسانية، سواء فيما يتعلق بانتقال السلع أو الأشخاص أو رؤوس الأموال، أو المعلومات، أو الأفكار، أو القيم، فإن العولمة تبدو لنا وكأنها تعادل في القدم نشأة الحضارة الإنسانية.(1)اهـ.
... ويبدو من صيغة التعريف أن الدكتور أمين يتحدث عن (ا?A??_??__?__?_?_ ????_________?_?_?_?_?_?_____________?_____?_____?_________l__?___?_?_?_?_?_?___?___?_______?___?___?___?_8_?_d_?_?_?___?_?_?___?_(_?___?___?___?___?___?___?___?___?___?___?___?___?_$_?_?_?_t_?_?_________?___?___________?___?___?___?___?__م.
__________
(1) انظر: مقدمة كتاب (العولمة والتنمية العربية من حملة نابليون إلى جولة الأورغواي) للدكتور جلال أمين، نشر مركز دراسات الوحدة العربية.(1/3)
... ويمكن تصحيح التعريف المذكور للعولمة إذا أضيفت إليه عبارة، مثل: العمل على التضاؤل السريع ... إلخ.
ويعرف الدكتور محمد عابد الجابري (العولمة) بقوله:
... " العولمة " ترجمة لكلمة (Monodialisation) الفرنسية التي تعني جعل الشيء على مستوى عالمي، أي نقله من المحدود المراقب إلى اللامحدود الذي ينأى عن كل مراقبة. والمحدود هنا هو أساسا الدولة القومية التي تتميز بحدود جغرافية وبمراقبة صارمة على مستوى الجمارك: تنقل البضائع والسلع، إضافة إلى حماية ما بداخلها من أي خطر أو تدخل خارجي، سواء تعلق الأمر بالاقتصاد أو بالسياسة أو بالثقافة. أما اللامحدود فالمقصود به (العالم)، أي الكرة الأرضية. فالعولمة إذن تتضمن معنى إلغاء حدود الدولة القومية في المجال الاقتصادي (المالي والتجاري) وترك الأمور تتحرك في هذا المجال عبر العالم وداخل فضاء يشمل الكرة الأرضية جميعها، ومن هنا يطرح مصير الدولة القومية، الدولة/الأمة، في زمن تسوده العولمة بهذا المعنى.
... على أن الكلمة الفرنسية المذكورة إنما هي ترجمة لكلمة (Globalization) الإنكليزية التي ظهرت أول ما ظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي تفيد معنى تعميم الشيء وتوسيع دائرته ليشمل الكل. وبهذا المعنى يمكن أن نحدس، أو على الأقل نفترض، أن الدعوة إلى العولمة بهذا المعنى إذا صدرت من بلد أو جماعة فإنها تعني تعميم نمط من الأنماط التي تخص ذلك البلد أو تلك الجماعة وجعله يشمل الجميع: العالم كله.(1/4)
... من هنا نستطيع أن نحدس، منذ البداية، أن الأمر يتعلق بالدعوة إلى توسيع النموذج الأمريكي وفسح المجال له ليشمل العالم كله. وبعبارة أخرى، فبما أن الدعوة إلى العولمة قد ظهرت فعلا في الولايات المتحدة الأمريكية بهذا المعنى، في أوساط المال والاقتصاد، فإن لنا أن نستنتج أن الأمر يتعلق ليس فقط بآلية من آليات التطور الرأسمالي الحديث، بل أيضا بالدعوة إلى تبني نموذج معين، وبالتالي فالعولمة هي، إلى جانب كونها نظاما اقتصاديا هي أيضا أيديولوجيا تعكس هذا النظام وتخدمه وتكرسه، وهناك من الكتاب من يقرن بينها وبين "الأمركة"، أي نشر وتعميم الطابع الأمريكي.(1)
بين العولمة والعالمية:
وربما كان معنى العولمة في ظاهره يقترب من معنى (العالمية) الذي جاء به الإسلام، وأكده القرآن في سوره المكية، مثل قوله تعالى: (وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين) الأنبياء:107، (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً) الفرقان:1، (إن هو إلا ذكر للعالمين. ولتعلمن نبأه بعد حين) ص: 87،88.
... ولكن هناك في الواقع فرق كبير بين مضمون (العالمية) الذي جاء به الإسلام، ومضمون (العولمة) التي يدعو إليها اليوم الغرب عامة، وأمريكا خاصة.
__________
(1) 1انظر: قضايا في الفكر المعاصر للجابري. نشر مركز دراسات الوحدة العربية ص136،137.(1/5)
... فالعالمية في الإسلام تقوم على أساس تكريم بني آدم جميعا (ولقد كرمنا بني آدم) الإسراء: 70، فقد استخلفهم الله في الأرض، وسخر لهم ما في السماوات وما في الأرض، جميعا منه. وكذلك على أساس المساواة بين الناس في أصل الكرامة الإنسانية، وفي أصل التكليف والمسؤولية، وأنهم جميعاً شركاء في العبودية لله تعالى، وفي البنوّة لآدم، كما قال الرسول الكريم أمام الجموع الحاشدة في حجة الوداع: "يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا أعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر، إلاّ بالتقوى.."(1)
... وهو بهذا يؤكد ما قرره القرآن في خطابه للناس كل الناس: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم) الحجرات: 13.
... ولكن القرآن في هذه الآية التي تقرر المساواة العامة بين البشر، لا يلغي خصوصيات الشعوب، فهو يعترف بأن الله تعالى جعلهم (شعوبا وقبائل) ليتعارفوا.
... أما (العولمة) فالذي يظهر لنا من دعوتها حتى اليوم: أنها فرض هيمنة سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية من الولايات المتحدة الأمريكية على العالم، وخصوصاً عالم الشرق، والعالم الثالث، وبالأخص العالم الإسلامي. الولايات المتحدة بتفوقها العلمي والتكنولوجي، وبقدرتها العسكرية الهائلة، وبإمكاناتها الاقتصادية الجبارة، وبنظرتها الاستعلائية التي ترى فيها نفسها أنها سيدة العالم.
__________
(1) 1رواه أحمد في مسنده 5/411 عن أبي نضرة عمن سمع خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسط أيام التشريق. وذكره الهيثمي في المجمع (3/266) وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. ونقل الشيخ الألباني عن ابن تيمية في (الاقتضاء 69)، أنه قال: إسناده صحيح.(1/6)
... إنها لا تعني معاملة الأخ لأخيه، كما يريد الإسلام، بل ولا معاملة الند للند، كما يريد الأحرار والشرفاء في كل العالم، بل تعني معاملة السادة للعبيد، والعمالقة للأقزام، والمستكبرين للمستضعفين.
... العولمة في أجلى صورها اليوم تعني: (تغريب العالم) أو بعبارة أخرى: (أمركة العالم). إنها اسم مهذب للاستعمار الجديد، الذي خلع أرديته القديمة، وترك أساليبه القديمة، ليمارس عهدا جديدا من الهيمنة تحت مظلة هذا العنوان اللطيف (العولمة). إنها تعني: فرض الهيمنة الأمريكية على العالم، وأي دولة تتمرد أو تنشز، لا بد أن تؤدب، بالحصار، أو التهديد العسكري، أو الضرب المباشر، كما حدث مع العراق والسودان وإيران وليبيا. وكذلك تعني فرض السياسات الاقتصادية التي تريدها أمريكا عن طريق المنظمات العالمية التي تتحكم فيها إلى حد كبير، مثل البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، وغيرها.
... كما تعني: فرض ثقافتها الخاصة، التي تقوم على فلسفة المادية والنفعية وتبرير الحرية إلى حد الإباحية، وتستخدم أجهزة الأمم المتحدة لتمرير ذلك في المؤتمرات العالمية، وتسوق الشعوب إلى الموافقة على ذلك بسياط التخويف والتهديد، أو ببوارق الوعود والإغراء.
... وتجلى ذلك في (مؤتمر السكان) الذي عقد بالقاهرة في صيف 1994م. والذي أريد فيه أن تمرر وثيقة تبيح الإجهاض بإطلاق، وتجيز الأسرة الوحيدة الجنس، (زواج الرجال بالرجال، والنساء بالنساء) وإطلاق العنان للأولاد في السلوك الجنسي، والاعتراف بالإنجاب خارج إطار الزواج الشرعي، إلى غير ذلك من الأمور التي تخالف الأديان السماوية كلها، كما تخالف ما تعارفت عليه مجتمعاتنا، وغدا جزءا من كينونتها الروحية والحضارية.(1/7)
... ومن هنا وجدنا الأزهر الشريف في مصر، ورابطة العالم الإسلامي في مكة، وجمهورية إيران الإسلامية، والجماعات الإسلامية المختلفة، تقف جنباً إلى جنب مع الفاتيكان ورجال الكنيسة، لمقاومة هذا التوجه المدمر، إذ شعر الجميع أنهم أمام خطر يهدد قيم الإيمان بالله تعالى ورسالاته، والأخلاق التي بعث الله بها رسله عليهم السلام.
كما تجلت هذه العولمة في (مؤتمر المرأة) في بكين سنة 1995م وكان امتدادا لمؤتمر القاهرة وتأكيدا لمنطلقاته، وتكميلا لتوجهاته.
... وهذه قضية في غاية الأهمية (الاعتراف بالخصوصيات) حتى لا يطغى بعض الناس على بعض، ويحاولوا محو هويتهم بغير رضاهم.
... بل نجد الإسلام يعترف باختلاف الأمم، وحق كل أمة في البقاء حتى في عالم الحيوان، كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها" رواه أبو داود.(1)وهو يشير إلى ما قرره القرآن في قوله تعالى: (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلاّ أمم أمثالكم) الأنعام: 38.
... وإذا خلق الله أمة مثل أمة الكلاب، فلا بد أن يكون ذلك لحكمة، إذ لا يخلق سبحانه شيئاً إلا لحكمة (ربنا ما خلقت هذا باطلا، سبحانك) آل عمران: 191 فلا يجوز إذن حذف هذه الأمة المخلوقة من خارطة الوجود، فإن هذا تطاول واستدراك على خلق الله تبارك وتعالى.
... إذا كان هذا في شأن الأمم الحيوانية، فما بالك بشأن الأمم الإنسانية؟إلا أن ترتضي أمة باختيارها الانصهار في أمة أخرى: في دينها ورسالتها ولغتها، كما فعلت مصر وبلاد شمال أفريقيا وغيرها، حين اختارت الإسلام دينا، والعربية لغة، بل أصبحت عضوا مهما في جسم هذه الأمة، بل لها دور القيادة في كثير من الأحيان.
العولمة استعمار جديد
__________
(1) 1 انظر تعليقنا على هذا الحديث في كتابنا (السنة مصدرا للمعرفة والحضارة) ص146،147 طبعة دار الشروق بالقاهرة.(1/8)
... إن (العولمة) كما تطرح اليوم، إنما تصب في النهاية لصالح الأقوياء ضد الضعفاء، ولكسب الأغنياء ضد الفقراء، ولمصلحة الشمال الغني ضد الجنوب الفقير.
... وهذا طبيعي، لأن التكافؤ مفقود في حلبة المصارعة أو الملاكمة، بين الأوزان الثقيلة والأوزان الخفيفة، بل بين المصارع المدرب الممارس، وبين خصمه الضعيف، الذي سيسقط لا محالة في بداية اللقاء من أول ضربة.
... وماذا يمكن أن نتصور من نتائج سباق يفتح ميدانه لمن يريد المشاركة فيه؟ كيف يكون مصير من يركب الجمل أو الحمار إذا سابق من يركب السيارة؟
... إن فتح الأبواب على مصاريعها ـ بدعوى العولمة ـ في مجالات التجارة والاقتصاد، والتصدير والاستيراد، أو في مجالات الثقافة والإعلام، سيكون لحساب القوى الكبرى، والدول التي تملك ناصية العلم والإعلام الجبار والتكنولوجيا العالية والمتطورة، ولا سيما الدولة الأكبر قدرة، والأشد قوة، والأعظم نفوذا وثروة، وهي أمريكا.
... أما بلاد (العالم الثالث) كما يسمونها، وخصوصا (البلاد الإسلامية) منها، وهي ما أطلق عليه المفكر الجزائري مالك بن نبي رحمه الله (محور طنجة ـ جاكرتا) فليس لها من هذا السباق العالمي، إلا بقايا ما يفضل من الأقوياء، إن بقي لديهم ما يجودون به من فتات على الآخرين.
... إنه الاستعمار القديم بوجه جديد، واسم جديد، إن الاستعمار يغير لونه كالحرباء، ويغير جلده كالثعبان، ويغير وجهه كالممثل، ويغير اسمه كالمحتال، ولكنه هو هو، وإن غير شكله، وبدل اسمه: استكبار في الأرض بغير الحق، وعلو كعلو فرعون في الأرض، والذي جعل أهلها شيعا، يستضعف طائفة منهم. ولكن الاستعمار الجديد الذي يريد العلو والفساد في الأرض كافة، لا يستضعف طائفة، بل يستضعف شعوب الأرض، لمصلحة أقلية ضئيلة منهم.(1)
خطابنا الديني في عصر العولمة
__________
(1) انظر: كتابنا (المسلمون والعولمة) ص 9-17 طبعة دار التوزيع والنشر الإسلامية.(1/9)
هل يتغير الخطاب الديني من عصر إلى آخر؟ وهل كل عصر له خطاب يخصه؟ هل الخطاب مثل أزياء الناس: زي للشتاء زي للصيف، وزي لأهل المدينة وآخر لأهل القرية، وزي لأهل كل مهنة يختلف عن أهل مهنة أخرى؟
أليس الدين ـ الذي يستمد منه الخطاب ـ ثابتا فلماذا يتغير الخطاب ويتنوع بأسباب شتى؟
هذه التساؤلات تحتم علينا أن نبين: أن الدين في أصوله لا يتغير، ولكن الذي يتغير هو أسلوب تعليمه والدعوة إليه.
وإذا كان المحققون من أئمة الدين وفقهائه قد قرروا: أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعرف والحال. والفتوى تتعلق بأحكام الشرع. فإن نفس هذا المنطق يقول: إن تغير الدعوة أو الخطاب ـ بتغير الزمان والمكان والعرف والحال ـ أحق وأولى.
فما يقال للمسلمين غير ما يقال لغير المسلمين.
وما يقال للمسلم الحديث العهد بالإسلام غير ما يقال للمسلم العريق في الإسلام
وما يقال للمسلم الملتزم المستقيم، غير ما يقال للمسلم المتفلت العاصي لربه.
وما يقال للمسلم في دار الإسلام غير ما يقال للمسلم في مجتمع غير إسلامي.
وما يقال للشباب غير ما يقال للشيوخ.
وما يقال للنساء غير ما يقال للرجال.
وما يقال للأغنياء غيرا ما يقال للفقراء.
وما يقال للحكام غير ما يقال للمحكومين.
لا شك أن هناك أقدارا مشتركة تقال للجميع ويخاطب بها الجميع، ولكن يبقى هناك خصوصية لكل فئة ممن ذكرنا، توجب على العالم والداعية أن يوجه لها خطابا، يجيب عن تساؤلاتها، ويحل مشكلاتها، ويرد على شبهاتها.
لما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل الأنصاري إلى اليمن، قال له: إنك تقدم على قوم أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله ... . الحديث.(1)
__________
(1) رواه البخاري عن ابن عباس في مواضع من كتابه بأرقام (1395، 1458،1496) وغيرها. ورواه مسلم أيضا.(1/10)
قال الحافظ ابن حجر في شرح الحديث في تعليل البدء بهذه الجملة "إنك تقدم على قوم أهل كتاب": هي كالتوطئة للوصية، لتستجمع همته عليها، لكون أهل الكتاب أهل علم في الجملة، فلا يكون العناية في مخاطبتهم، كمخاطبة الجهال من عبدة الأوثان.(1)
ومن هنا لا يستغرب أن يكون خطابنا الديني في عصر العولمة مغايرا ـ بعض المغايرة ـ لخطابنا الديني قبل عصر العولمة، إذا ثبت لنا فعلا أن هناك عصرا جديدا يحمل طابع العولمة.
ربما كان خطابنا ـ نحن المسلمين ـ قبل ذلك العصر، ذا طابع محلي، أعني: أننا نخاطب فيه أنفسنا، ولا نفترض أن هناك أحدا يسمعنا، أو يقرؤنا، أو يطلع على إنتاجنا.
وهذا ـ بلا ريب ـ صحيح، وينطبق على طوائف منا، كانت تكلم نفسها في داخل دارها، ولا تحسب أن أحدا ينصت لقولها، أو يهمه خطابها، وربما كان خطابها يجرح الآخر، أو يؤذيه أو يخيفه، من مضمون خطابه أو لهجته أو من سياقه.
وربما كان هذا الخطاب يحتقر الآخرين أو لا يلقي لهم بالا، ولا يقيم لهم وزنا. وربما كان مشحونا بالغضب عليهم، والبغض لهم بسبب موقفهم من الإسلام وقضايا أمته، والوقوف مع أعدائه.
وربما كان هذا نتيجة لعدم المعرفة الكافية بالآخر. وقد قال العرب قديما: من جهل شيئا عاداه.
ربما كان هذا أو كان غيره، فكل هذا مسوغ للنظر في خطابنا الديني ـ المسموع والمقروء ـ هل هو ملائم لعصرنا أو لا؟ وهل يتحقق به الدعوة إلى الله على بصيرة؟ وهل استوفى شروط الكلام البليغ الذي يجسد المطابقة لمقتضى الحال مع فصاحته؟
ومما لا خلاف عليه: أن الخطاب الديني يختلف باختلاف المدرسة التي ينتمي إليها الداعية ويعبر عنها.
فخطاب الصوفي غير خطاب الأثري، وخطابهما غير خطاب المتكلم. وهو غير خطاب الفقيه.
وخطاب الفقيه الملتزم بتقليد مذهب غير خطاب الفقيه المتحرر من ربقة التقليد.
__________
(1) فتح الباري (3/358) شرح الحديث رقم (1496) في كتاب الزكاة.(1/11)
وخطاب الداعية المخاصم للتصوف كله غير الذي يأخذ منه ما صفا ويدع ما كدر.
وخطب الداعية المحصور في تراث السابقين غير الذي انفتحت عينه على العصر وثقافته وتياراته.
وخطاب الداعية الذي لم يخرج من بلده غير الداعية الذي جاب الآفاق، وعرف الناس والأديان والمذاهب والثقافات.
وكل هذا من أسباب تنوع الخطاب الديني في الجملة، وإن كان الأصل المتفق عليه أن يستمد الجميع من مُحكمات القرآن، وصحيح السنة، وما اتفق عليه سلف الأمة، فإن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة.
والمنهج الأمثل: أن يجمع خطابنا الدعوي الإسلامي: بين روحانية المتصوف، وتمسك الأثري، وعقلانية المتكلم، وعلمية الفقيه. يأخذ من كل صنف خير ما عنده، ويمزج بينها في تناسق وانسجام.
لقد أصدرت كتابا في ترشيد الصحوة، وتسديد مسيرتها، سميته (الصحوة الإسلامية من المراهقة إلى الرشد) رجوت به أن تنتقل الصحوة من طور إلى طور، أعني من طور (المراهقة) بما يمثله من أحلام وخيالات وتمرد وعاطفية إلى طور (الرشد) بما يمثله من وعي وهدوء وعقلانية ونضج، ويتمثل في التزام (الخطوط العشرة لترشيد الصحوة)، والانتقال بها إلى المرحلة المنشودة.
هذه الخطوط العشرة التي تنتقل بها الصحوة:
1ـ من الشكل والمظهر، إلى الحقيقة والجوهر.
2ـ من الكلام والجدل، إلى العطاء والعمل.
3ـ من العاطفية والغوغائية، إلى العقلانية والعلمية.
4ـ من الفروع والذيول، إلى الرؤوس والأصول.
5ـ من التعسير والتنفير، إلى التيسير والتبشير.
6ـ من الجمود والتقليد، إلى الاجتهاد والتجديد.
7ـ من التعصب والانغلاق، إلى التسامح والانطلاق.
8ـ من الغلو والانحلال، إلى الوسطية والاعتدال.
9ـ من العنف والنقمة، إلى الرفق والرحمة.
10ـ من الاختلاف والتشاحن، إلى الائتلاف والتضامن.(1/12)
وقد تحدثت في فصول الكتاب المذكور عن كل نقطة من هذه النقاط، أو كل خط من هذه الخطوط: بما يشرحه ويلقي الضوء عليه، حتى تتضح المفاهيم، وتقوم الحجة، ولا تلتبس الحقائق بالأباطيل، وحتى يتعلم الجاهل، ويقتنع المتردد، وينهزم المكابر، ويهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حيَّ عن بينة.
وكم أود أن تنتقل هذه النقاط أو الخطوط العشرة إلى خطابنا الديني المعاصر، وخصوصا في هذا الزمن الذي يتهم فيه الإسلام والمسلمون بالعنف والإرهاب والغلو والتعصب والانغلاق على الذات، ورفض الآخر، إلى آخر ما يقال.
ولا يمكننا أن نتجاهل دعاوى عدونا أو اتهاماته لنا، لأن صوته عال، شئنا أم أبينا، وأبواقه تملأ أركان الدنيا الأربعة، ولذا كان لا بد لنا أن ندافع عن أنفسنا، ونقول كلمتنا، وتبليغ رسالتنا.
منهج الخطاب الديني كما رسمه القرآن
رسم القرآن منهج الخطاب الديني أو الدعوة الدينية في آية كريمة من سوره المكية، حين قال: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) النحل: 125.
فهذه الآية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكل من يتأتى خطابه من الأمة من بعده. إذ الدعوة إلى الله، أو إلى سبيل الله ليست خاصة بالنبي عليه الصلاة والسلام، بل أمته أيضا مطالبة بأن تقوم بدعوته معه وبعده.
وفي هذا يقول القرآن أيضا في مخاطبة الرسول: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني) يوسف: 108.
فكل من اتبع محمدا صلى الله عليه وسلم، ورضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا ورسولا: هو داع إلى الله، وداع على بصيرة، بنص القرآن (أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني).
وبهذا كانت الأمة مبعوثة إلى الأمم بما بعث بها نبيها، فهي تحمل رسالته، وتحتضن دعوته، كما قال صلى الله عليه وسلم للأمة: "إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين".(1)
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الوضوء عن أبي هريرة.(1/13)
وقال الصحابي ربعي بن عامر رضي الله عنه لرستم قائد جيوش الفرس: إن الله ابتعثنا، لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
من هنا نرى أن آية سورة النحل (أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) ترسم معالم المنهج المنشود للدعوة أو الخطاب الديني السليم.
معالم المنهج المطلوب للدعوة للخطاب الديني:
وضع القرآن الكريم لمنهج الدعوة إلى الله وإلى سبيله، وسائل تعين الداعية المسلم على أداء مهمته، وتبليغ رسالته. وقد أوجزها القرآن ـ بإعجازه البياني ـ في كلمات معدودة.
الدعوة واجب كل مسلم:
وأول هذه المعالم: العلم بأن هذه الدعوة فرض على كل مسلم. وهو مقتضى الأمر من الله بالدعوة، فكل مسلم مأمور بالدعوة إلى دينه بصورة ما، وبطريقة ما، كما قال تعالى: (أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني).
كل ما في الأمر: أن صورة الدعوة تختلف من شخص إلى آخر، حسب الاستطاعة والإمكان.
فهناك من يدعو إلى الله بتأليف كتاب أو كتب.
وهناك من يدعو إلى الله بإلقاء محاضرة في جامعة أو في مركز ثقافي.
وهناك من يدعو إلى الله بإلقاء خطبة جمعة في مسجد أو إلقاء درس ديني فيه.
وهناك من يدعو بالكلمة الطيبة، والصحبة الجميلة، والأسوة الحسنة.
وهناك من يدعو بالإنفاق على الدعاة، أو على نشر إنتاجهم، أو على تأسيس مركز للدعوة، على نحو ما قال عليه الصلاة والسلام: "من جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا"(1)ونحن نقيس عليه فنقول: "من جهز داعيا إلى الله فقد دعا".
2ـ دعوة ربانية: إلى منهج الله:
__________
(1) رواه البخاري (2843) ومسلم (1895) عن زيد بن خالد.(1/14)
وثاني هذه المعالم: أن يوقن الداعية: أنه يدعو إلى سبيل الله، أي طريق الله، أي منهج الله الذي رسمه لهداية الناس، حتى يحسنوا العبادة لله وحده، ويحسنوا التعامل بعضهم مع بعض، وبذلك يسعدون في الدنيا، ويفوزون بحسن المثوبة في الآخرة.
إن الداعية المسلم هنا لا يدعو الناس إلى نفسه، أو إلى قومه، بل يدعوهم إلى ربه وحده (ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس: كونوا عبادا لي من دون الله) آل عمران: 79 إنه لا يدعو إلى نظام بشري، ولا إلى فلسفة أرضية، ولا إلى قانون وضعي، وضع بأمر إمبراطور أو ملك أو رئيس أو أمير، بل يدعو إلى تحرير البشر من العبودية للبشر، فلم يعد ـ في نظر الإسلام ـ بشر يملك أن يشرع لبشر تشريعا مطلقا دائما، يحلل له ما يشاء، ويحرم عليه ما يشاء، كما حدث عند أهل الكتاب في فترة من فترات التاريخ، وهو ما أنكره القرآن بشدة حين قال: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون) التوبة: 31.
آن للبشر أن يتحرروا من عبودية بعضهم لبعض، وربوبية بعضهم لبعض، وأن يكونوا جميعا عبادا لله وحده الذي خلقهم وسخر لهم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة.
ولهذا كانت رسائل محمد صلى الله عليه وسلم إلى ملوك أهل الكتاب مختومة بهذا الآية: (يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله) آل عمران: 64.
3ـ دعوة المسلمين بأسلوبي الحكمة والموعظة:
وثالث المعالم لهذا المنهج أنه يقوم على دعوى المسلمين إلى منهج الله بأسلوبين: أولهما: الحكمة، وثانيهما: الموعظة الحسنة.
أسلوب الحكمة:(1/15)
والحكمة يراد بها: مخاطبة العقول بالأدلة العلمية المقنعة، وبالبراهين العقلية الساطعة، التي ترد على الشبهات بالحجج والبينات، وترد المتشابهات إلى المحكمات، والظنيات إلى القطعيات، والجزئيات إلى الكليات، والفروع إلى الأصول.
كما أن من الحكمة: مخاطبة الناس بما يفهمون، وما تسيغه عقولهم، لا بما يعجزون عن فهمه، وقد قال علي رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟
ومن الحكمة: أن تكلم الناس بلسانهم، ليفهموا عنك، ويتجاوبوا معك، كما قال تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) إبراهيم: 4 وليس معنى الآية مجرد أن يكلم الصينيين باللغة الصينية، والروس باللغة الروسية فقط، بل معناه الأعمق: أن يكلم الخواص بلسان الخواص، والعوام بلسان العوام، ويكلم الناس في الشرق بلسان أهل الشرق، وفي الغرب بلسان أهل الغرب، ويكلم الناس في القرن الحادي والعشرين بلسانهم لا بلسان قرون مضت.
ومن الحكمة: أن نأخذ الناس بالرفق فيما يأمرهم به وينهاهم عنه، وأن نهيئ أنفسهم لتقلي الأمر والنهي قبل توجيهه إليهم، وأن نأخذ بالمنهج النبوي الذي أمر به الأمة في الدعوة والتعليم، حين قال: "يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا".(1)
ولا تكلف الناس ما لا يطيقون، حتى لا يردوا أمرك، ويقولوا: سمعنا وعصينا، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم".(2)
ومن الحكمة: أن نحسن ترتيب ما نأمر به، وما ننهى عنه، بحيث يأتي كل شيء في موضعه، وفي أوانه، وفي مرتبته.
__________
(1) متفق عليه عن أنس. كما في اللؤلؤ والمرجان (1131).
(2) متفق عليه عن أبي هريرة. اللؤلؤ والمرجان (846).(1/16)
ليس من الحكمة: أن نكلم الناس في إحدى الفرعيات، وهم يخالفون في إثبات الأصول نفسها، كأن تدعوهم إلى صدقة التطوع، وقد منعوا ركن الزكاة، أو إلى صلاة الضحى، وقد ضيعوا صلاة الفريضة. أو تكلمهم في الأوامر والنواهي قبل أن تثبت العقيدة أولا. روى البخاري وغيره عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال: "إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه: عبادة الله، (وفي رواية: شهادة أن لا إله إلا الله ... .) فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلهم، فإذا فعلوا الصلاة فأخبرهم أن الله فرض عليهم زكاة من أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم ... الحديث".(1)
فلم يفرض عليهم فرض الصلاة إلا بعد أن يعرفوا الله.
وهذا من الحكمة: أن نثبت الأصول ثم ندعو إلى الفروع. وقديما قال أسلافنا: ما حرمنا الوصول إلا بتضييعنا الأصول.
ومن مجانبة الحكمة: التشديد في النوافل، وقد أهمل الناس الفرائض. ومن قواعدنا العلمية الموروثة: أن الله لا يقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة. ومن حكم السلف: من شغله الفرض عن النفل فهو معذور، ومن شغله النفل عن الفرض فهو مغرور.
ومن ذلك: الاشتغال بالمختلف فيه، وقد ضيع الناس المتفق عليه.
مثل الانشغال بتغطية وجه المرأة بالنقاب، وعدم الاكتفاء بالخمار (المعبر عنه في عصرنا بـ "الحجاب") وتأثيم المسلمة المختمرة، في حين أن المعركة الآن لم تعد معركة كشف الوجوه، بل كشف الرؤوس والنحور والصدور والذراعين والساقين، وما هو أكثر من ذلك. وشاع لبس ما يسمى (الميني جب) و(الميكرو جب) ونحوها. ورأينا الكاسيات العاريات المميلات المائلات.
__________
(1) البخاري مع الفتح الحديث (1458) طبعة السلفية. وقد رواه مسلم أيضا.(1/17)
وأذكر أني تكلمت في هذه القضية مع علامة الجزيرة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، فوافقني على الاكتفاء من المسلمة في عصرنا بالخمار، على أن تترك البلاد التي التزمت بالنقاب على التزامها.
ومن الحكمة المطلوبة: أن نراعي ما سميته (فقه الأولويات) فنقدم في باب المأمورات العقائد على الأعمال، ونقدم الفرائض الركنية على ما سواها، ونقدم الواجبات على السنن، والسنن المؤكدة على المستحبات. ونقدم في المنهيات: محاربة الكفر على ما دونه، ونقدم محاربة الكبائر على صغائر المحرمات القطعية، ونقدم المحرمات على الشبهات، وعلى المكروهات، ونقدم المتفق عليه على المختلف فيه.
ومن الحكمة المطلوبة: أن نأخذ الناس بالتدرج، فالتدرج سنة كونية، كما أنه سنة شرعية. أما أنه سنة كونية، فهذا ما نراه في خلق الإنسان، حيث بدأ نطفة، فعلقة فمضغة، فعظاما مكسوة لحما، ثم ينشئه الله خلقا آخر. ثم يخرج إلى الدنيا وليدا فرضيعا، ففطيما، فصبيا، فيافعا، فشابا، فكهلا، وفي هذا يقول الله تبارك وتعالى: (والله خلقكم أطوارا) نوح: 14.
وهكذا نرى خلق النبات، حيث يبدأ النبات بذرة، فينتقل من طور إلى طور حتى يصبح شجرة مثمرة.
وهو سنة شرعية، فإن الله تبارك وتعالى أمر رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم أن يرسي العقائد وأصول الأخلاق أولا، كما نرى ذلك واضحا في القرآن المكي، ثم بدأ بأخذه بالجانب العملي، متدرجا بهم شيئا فشيئا، بادئا بإقامة الصلوات، التي فرضت قبل الهجرة، ثم بإيتاء الزكاة وصوم رمضان في السنة الثانية من الهجرة، ثم بعد ذلك فرض الحج على من استطاع إليه سبيلا.(1/18)
وكذلك بدأ بتحريم بعض المحرمات التي تعتبر من الرذائل الإنسانية المتفق عليها، وأنها من أسباب الفساد والاضطراب في الحياة الإنسانية، مثل قتل النفس وفاحشة الزنى، وقتل الأولاد من إملاق واقع أو خشية إملاق متوقع، وأكل مال اليتيم، ونقض العهد، والمشي في الأرض مرحا، ونحو ذلك مما هو أقرب إلى الجانب الأخلاقي منه إلى الجانب التشريعي.
ولكني أرى بعض الإخوة الدعاة لا يراعون التدرج قط فيمن يدعونهم، فبعد أن سقطت الشيوعية، في عدد من الأقطار الإسلامية، مثل البوسنة والهرسك وكوسوفا، وقد ظلت هذه البلاد ـ وأهلها مسلمون ـ نحو خمسين سنة، معزولين عن الإسلام علما وثقافة وسلوكا، فهم يجهلون (ألف باء) الإسلام.
فكانوا في حاجة إلى أن نأخذهم بالمنهج التدرجي الحكيم. فنبدأ بما اتفق عليه المسلمون لا بما اختلفوا فيه، من العقائد والأحكام.
ولكن بعض الإخوة ـ أصلحهم الله ـ لم يراعوا ذلك، فبدأوا بشن حملة على عقائد الأشاعرة والماتريدية، الذين يدين بمذهبهم جمهور المسلمين في المشارق والمغارب، وتقوم المدارس والجامعات الدينية في أنحاء العالم الإسلامي على تدريسه.
هذا مع أن معركتنا اليوم ليست مع من يؤمن بالله وبلقائه وحسابه، ولكنه يؤول (يد الله) بأنها القدرة أو يؤول (وسع كرسيه السماوات والأرض) بأنه كناية عن سعة ملكه، وعظمة سلطانه.
إن معركتنا الحقيقية هي مع الملاحدة الذين يجحدون وجود الله بالكلية، ويقولون: لا إله، والحياة مادة.
ثم بدأ هؤلاء الإخوة الدعاة الطيبون يطالبون الرجال بإطلاق اللحى، وتقصير الثياب، والنساء بلبس النقاب، بل بعضهم حمل معه عدة آلاف من (النُّقُب) ليلبسها النساء، اللائي بينهن وبين الخمار مراحل ومراحل.
ثم إذا كنا في قلب ديار الإسلام والعرب، مبتلين بحليقي اللحى، فهل نبدأ بدعوة هؤلاء المسلمين الأوربيين الذين عاشوا نصف قرن تحت وطأة الشيوعية بما عجزنا عن مقاومته في قلب بلادنا العربية والإسلامية؟(1/19)
وهل إطلاق اللحية من أركان الإسلام أو من فرائضه حتى نبدأ بها، ونعطيها هذه الأهمية في الدين؟
كما نرى هؤلاء الدعاة الطيبين يبدأون بحملة على التصوف كله، واتهامه بأنه دخيل على الإسلام، لا يفرقون بين سني ومبتدع، بين مستقيم ومنحرف.
هذا مع أن الأمة عامة، وهذه الشعوب خاصة: في حاجة إلى تربية ربانية تخرجها من جحيم المادية المعاصرة، التي شغلت الناس بالدنيا عن الآخرة، وبالخلق عن الخالق، وبالمادة عن الروح. تربية إيمانية أخلاقية هي جوهر التصوف الصحيح الذي عبر عنه بعضهم بكلمة موجزة بأنه: الصدق مع الحق، والخُلُق مع الخَلْق. وبعبارة أخرى: التقوى مع الله، والإحسان مع الناس. إشارة إلى قوله تعالى: (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) النحل: 128.
ومن الحكمة التي يجب أن يتحلى بها الدعاة في دعوتهم: الرفق بالمدعوين والتلطف والرحمة بهم، والإشفاق عليهم. كما وصف الله رسوله بقوله: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك) آل عمران: 159 هذا وهو رسول الله المؤيد بوحيه، ولكن البشر لا يطيقون الفظ الغليظ ولو كان هو الرسول الأمين.
أسلوب الموعظة الحسنة:
وإذا كانت الدعوة بالحكمة تخاطب العقول فتقنعها، فإن الدعوة بالموعظة الحسنة تخاطب القلوب والعواطف فتثيرها وتحركها. والإنسان ليس عقلا مجردا، إنه عقل وقلب معا، إنه عقل يدرك ويفكر، وقلب يحس ويشعر، وعلينا أن نخاطب الجانبين فيه معا: الجانب الذي يعي ويدرك ويحصل المعرفة، والجانب الذي ينفعل ويريد، ويحب ويكره، ويرغب ويرهب.
ولم يصف القرآن الحكمة بشيء، لأن من أوتي الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا، ولكنه وصف الموعظة المطلوبة بالحسن (والموعظة الحسنة). فليس المطلوب أي موعظة ولكن الموعظة الحسنة الجميلة الجيدة.
قد يكون حسنها: في اختيار موضوعها المناسب للمخاطب.
وقد يكون حسنها: في اختيار أسلوبها المؤثر فيه.(1/20)
وقد يكون حسنها: أنها جاءت في أوانها، وفي مكانها.
وقد يكون حسنها: أنها لمست وترا حساسا من المخاطبين، فأثرت فيهم.
وقد يكون حسنها: أنها قدرت ضعف الإنسان، فلم تؤتيه حين يسقط، ولم تجرحه حين يعثر ويخطئ، فكل بني آدم خطاء، والإنسان قد خلق من طين، والطين لا يخلو من الكدر. وقد قال صلى الله عليه وسلم لمن لعن الصحابي الذي أدمن السُّكْر، وأتي به مرات إلى رسول الله شاربا للخمر، فقال أحدهم: لعنه الله! ما أكثر ما يؤتى به! فقال له: "لا تكن عونا للشيطان على أخيك" وفي رواية: "لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله"!
وقد يكون حسنها: أنها اتخذت المنهج الوسط في الترغيب والترهيب، أو الترجية والتخويف، فلم تخوف الناس حتى ييأسوا من روح الله، فإنه (لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) يوسف: 87 ولم تبالغ في الرجاء، حتى يأمن الناس من مكر الله، فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.
وخير الأساليب في ذلك: أسلوب القرآن، الذي يسوق الأنفس حينا بسوط الخوف من الله، ويقودها حينا بزمام الرجاء في رحمة الله، ليبقى المرء دائما (يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه) الزمر: 9.
الأسلوب القرآني يجمع بين الأمرين بتوازن وتناسق بديع (اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم) المائدة: 98 (وأن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وأن ربك لشديد العقاب) الرعد: 6 (نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم) الحجر: 49.
ليس من الموعظة الحسنة: استخدام الترهيب الدائم، لتخويف العوام، من أهوال الموت، ومن عذاب القبر، ومن عذاب النار، والمبالغة في ذلك، بإيراد الأحاديث الموضوعة، والقصص المخترعة، والإسرائيليات المكذوبة، والمنامات المزورة، فإن هذا قد يؤثر في نفوس بعض العوام، ولكن محصلته النهائية تنفير المثقفين والمستنيرين من الدين.(1/21)
ليس من الموعظة الحسنة تهييج العامة وإثارة مشاعرهم، وإلهاب عواطفهم في قضايا جزئية، قد يستفيد منها بعض الناس، ولكنها تضر الأمة في مجموعها ضررا بالغا.
ليس من الموعظة الحسنة: اتخاذ الأدعية الاستفزازية في صلوات الجمع وفي قنوت النوازل وغيرها.
فبعض الوعاظ والخطباء يدعون الله تعالى: أن يهلك اليهود والنصارى جميعا، وأن ييتم أطفالهم، ويرمل نساءهم، ويجعلهم وأموالهم وأولادهم غنيمة للمسلمين.
ومن المعلوم: أن في كثير من بلاد المسلمين توجد أقليات من النصارى ـ وربما من اليهود ـ وهم مواطنون يشاركون المسلمين في المواطنة، وليس من اللائق أن ندعو بدعوة تشمل هؤلاء بالهلاك والدمار. إنما اللائق والمناسب: أن ندعو على اليهود الغاصبين المعتدين، وأن ندعو على الصليبيين الحاقدين الظالمين، لا على كل اليهود والنصارى.
على أني لم أجد في أدعية القرآن، ولا في أدعية الرسول، ولا في أدعية الصحابة: مثل هذه الدعوات المثيرة: يتم أطفالهم، ورمل نساءهم، وأمثالها. بل أدعية القرآن مثل: (ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين) البقرة: 250.
(ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين. ونجنا برحمتك من القوم الكافرين).
ومن أدعية الرسول: "اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب: اهزمهم وانصرنا عليهم".(1)
"اللهم إنا نجعلك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم".(2)
وقد قال تعالى: (ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين) الأعراف: 55. أي لا يحب الذين يعتدون ويتجاوزون في دعائهم.
4ـ حوار المخالفين بالتي هي أحسن:
ومن معالم المنهج الذي رسمه القرآن للدعوة إلى الله: الجدال بالتي هي أحسن.
__________
(1) رواه البخاري (2933) ومسلم (1742) عن عبد الله بن أبي أوفى.
(2) رواه أبو داود (1537) عن أبي موسى الأشعري.(1/22)
ومن الملاحظ على التعبير القرآني المعجز في الآية: أنه اكتفى في الموعظة بأن تكون (حسنة)، ولكنه لم يكتف في الجدال إلا أن يكون بالتي هي (أحسن). لأن الموعظة تكون مع الموافقين، أما الجدال فيكون مع المخالفين، لهذا وجب أن يكون بالتي هي أحسن، على معنى أنه لو كانت هناك للجدال والحوار طريقتان: طريقة حسنة وجيدة، وطريقة أحسن منها وأجود، كان المسلم الداعية مأمورا أن يحاور مخالفيه بالطريقة التي هي أحسن وأجود.
ومن ذلك: أن يختار أرق العبارات، وأخف الأساليب في جداله مع المخالفين، حتى يؤنسه، ويقربه منه، ولا يوغر صدره، أو يثير عصبيته. وقد ضرب لنا القرآن أمثلة رائعة وبارزة في هذا المجال في حسن مجادلة المخالفين.
ومن ذلك قوله تعالى في جدال المشركين: (قل من يرزقكم من السماء والأرض؟ قل: الله، وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين. قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون) سبأ: 24.
ففي هذا الأسلوب الرقيق الرفيق من إرخاء العنان، وتسكين الخصم، وإرضاء غروره: ما يهيئ نفسه للاقتناع أو الاقتراب منه إلى حد كبير. فهو يقول: (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) ولم يقل لهم: أنتم في ضلال مبين. ثم قال: (لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون) وكان مقتضى المقابلة أن يقول: (ولا نسأل عما تجرمون) ولكن لم يشأ أن يجيبهم بنسبة الإجرام إليهم، إيناسا وتقريبا وتأليفا لقلوبهم.
ومن الجدال بالتي هي أحسن: التركيز على الجوامع المشتركة بين المتحاورين، لا على نقاط الاختلاف والتمايز بينهما، فإن وجود أرض مشتركة بين الطرفين يساعد على جدية الحوار وجدواه، إمكان الانتفاع به فيما هو متفق عليه بين الأطراف المتجادلة.(1/23)
وهذا ما يشير إليه القرآن في الجدال مع أهل الكتاب، حيث يقول تعالى: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ـ إلا الذين ظلموا منهم ـ وقولوا: آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون) العنكبوت: 46 فهو هنا يركز على العقائد التي تقرب المسلمين منهم: وهي: أن المسلمين يؤمنون بكل ما أنزل الله من كتاب، كما يؤمنون بكل من بعث الله من رسول، وكذلك يؤمن الجميع بإله واحد. ومن هذه النقطة ينطلق اللقاء لمواجهة الملاحدة والجاحدين الذين لا يؤمنون إلا بالمادة وحدها، ولا يعتقدون أن للكون إلها، ولا أن في الإنسان روحا، ولا أن وراء الدنيا آخرة.
ومن الجدال بالتي هي أحسن: ما ذكره صاحب (الظلال) رحمه الله، وهو أن يكون حوارا رقيقا رفيقا بلا تحامل على المخالف ولا ترذيل له وتقبيح. حتى يطمئن إلى الداعي ويشعر أن ليس هدفه هو الغلبة في الجدل، ولكن الإقناع والوصول إلى الحق. فالنفس البشرية لها كبرياؤها وعنادها، وهي لا تنزل عن الرأي الذي تدافع عنه إلا بالرفق، حتى لا تشعر بالهزيمة. وسرعان ما تختلط على النفس قيمة الرأي وقيمتها هي عند الناس، فتعتبر التنازل عن الرأي تنازلا عن هيبتها واحترامها وكيانها. والجدل بالحسنى هو الذي يطامن من هذه الكبرياء الحساسة، ويشعر المجادل أن ذاته مصونة، وقيمته كريمة، وأن الداعي لا يقصد إلا كشف الحقيقة في ذاتها، والاهتداء إليها. في سبيل الله، لا في سبيل ذاته ونصرة رأيه وهزيمة الرأي الآخر!
ولكي يطامن الداعية من حماسته واندفاعاته يشير النص القرآني إلى الله هو الأعلم بمن ضل عن سبيله وهو الأعلم بالمهتدين. فلا ضرورة للجاجة في الجدل إنما هو البيان والأمر بعد ذلك لله).(1)
__________
(1) انظر: في ظلال القرآن ص 2202. طبعة دار الشروق.(1/24)
هذا هو الخطاب الديني الذي كنا ندعو إليه بالأمس. بل تبنينا الدعوة إليه منذ عشرات السنين، وهو الذي ندعو إليه اليوم المسلمين، وغير المسلمين، وهو الذي سندعو إليه غدا وبعد غد، لأنه الخطاب الذي تعلمناه من الإسلام نفسه، من هُدى الله في كتابه، ومن هَدْي رسوله في سنته.
هو الخطاب الذي دعونا إليه قبل عصر العولمة، وسندعو إليه بعد عصر العولمة.
أما إذا كان عصر العولمة يريد منا خطابا دينيا جديدا، نحرف فيه الإسلام عن حقيقته، أو نحرف الكلم عن مواضعه، بحيث نقدم لهم إسلاما على هواهم: إسلاما (مستأنسا) إسلاما كسير الجناح، منزوع السلاح، لا حول له ولا قوة، يؤمر فيطيع، ويقاد فينقاد، ويطلب من العلماء والدعاة والكتاب، أن يقدموه: عقيدة بلا شريعة، وعبادة بلا معاملة، وسلاما بلا جهاد، وزواجا بلا طلاق، وحقا بلا قوة، ومصحفا بلا سيف، ودعوة بلا دولة، فهذا إسلام لا نعرفه ولا يعرفنا.
وليس هو إسلام السنة والقرآن، ولا إسلام رسول الله والصحابة ومن تبعهم بإحسان من خير القرون.
إن كان المراد بتغيير الخطاب الديني: تقديم الإسلام على أنه مجرد علاقة بين العبد وربه، وليس منهج حياة للفرد والأسرة والمجتمع والدولة، وأنه يتبنى شعار: دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، فهذا إسلام مزيف على المسلمين، ليس إسلام محمد صلى الله عليه وسلم، ولا إسلام القرآن، ولا إسلام المسلمين، الذي يرفض تقسيم الحياة والإنسان بين الله وقيصر، ويقول: قيصر وما لقيصر لله الواحد الأحد (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين. لا شرك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين) الأنعام: 162.(1/25)
إن كان المراد بتغيير الخطاب الديني: حذف الآيات التي تتحدث عن اليهود، وغدراتهم بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وانضمامهم إلى الوثنيين في حربه، أو ـ على الأقل ـ غض الطرف عنها، وتجميدها، فلا تتلى في إذاعة ولا تلفاز، ولا يتحدث عنه المتحدثون في خطب ولا دروس ولا محاضرات، فهذا مرفوض من أمة الإسلام، فكتاب ربهم يجب أن يظل متلوا مذكورا، معلّما موجها، فهو النور المبين، والصراط المستقيم، من علم علمه سبق، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن دعا إليه هُدِي إلى صراط مستقيم.
إن كان المراد من تغيير الخطاب الديني لدى المسلمين: حذف ركنية الزكاة من العبادات، وحذف تحريم الربا من المعاملات، وحذف الحدود من التشريع الجنائي، وحذف الجهاد من العلاقات الدولية، وحذف الغزوات من السيرة النبوية، وحذف خالد بن الوليد، وطارق بن زياد، وصلاح الدين الأيوبي، وسيف الدين قطز، وعمر المختار، وعز الدين القسام من تاريخ المسلمين، فلا ثم لا.
إن كان المراد بتغيير الخطاب الديني: إهالة التراب على شعر أبي تمام في فتح عمورية، أو شعر أبي الطيب في انتصارات سيف الدولة على الروم، فلا ثم لا.
غير المسلمين بدل الكفار:
ومن الجدال بالتي هي أحسن، المطالب به المسلمون، وخصوصا في عصر العولمة: ألا نخاطب المخالفين لنا باسم الكفار، وإن كنا نعتقد كفرهم. ولا سيما مخالفونا من أهل الكتاب.
وذلك لأمرين:
أولهما: إن كلمة (كفار) لها عدة معان، بعضها غير مراد لنا يقينا من هذه المعاني: الجحود بالله تعالى وبرسله وبالدار الآخرة، كما هو شأن الماديين الذين لا يؤمنون بأي شيء وراء الحس، فلا يؤمنون بإله، ولا بنبوة، ولا بآخرة.
ونحن إذا تحدثنا عن أهل الكتاب لا نريد وصفهم بالكفر بهذا المعنى، إنما نقصد أنهم كفار برسالة محمد وبدينه. وهذا حق، كما أنهم يعتقدون أننا كفار بدينهم الذي هم عليه الآن وهذا حق أيضا.(1/26)
والثاني: أن القرآن علمنا ألا نخاطب الناس ـ وإن كانوا كفارا ـ باسم الكفر، فخطاب الناس ـ غير المؤمنين ـ في القرآن، إما أن يكون بهذا النداء (يا أيها الناس) أو (يا بني آدم) أو (يا عبادي) أو (يا أهل الكتاب).
ولم يجئ في القرآن خطاب بعنوان الكفر إلا في آيتين: إحداهما خطاب لهم يوم القيامة: (يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون) التحريم: 7.
والأخرى قوله تعالى: (قل يا أيها الكافرون. لا أعبد ما تعبدون. ولا أنتم عابدون ما أعبد. ولا أنا عابد ما عبدتم. ولا أنتم عابدون ما أعبد. لكم دينكم ولي دين) الكافرون: 1-6. فكان هذا خطابا للمشركين الوثنيين الذين كانوا يساومون الرسول الكريم على أن يعبد آلهتهم سنة، ويعبدوا إلهه سنة، فأرادت قطع هذه المحاولات بأسلوب صارم، وبخطاب حاسم، لا يبقي مجالا لهذه المماحكات، فأمر الرسول أن يخاطبهم بهذه الصورة القوية، بما فيها من تكرار وتوكيد، ومع هذا ختمت السورة بهذه الآية التي تفتح بابا للسماحة مع الآخر، حين قالت: (لكم دينكم ولي دين).
ولهذا آثرت من قديم أن أعبر عن مخالفينا من أهل الأديان الأخرى بعبارة (غير المسلمين). وأصدرت من قديم كتابي (غير المسلمين في المجتمع الإسلامي). وقد طبع مرات ومرات، وترجم إلى عدة لغات.
مواطنون بدل أهل الذمة:
وهناك كلمات لم تعد مقبولة لدى إخواننا من الأقليات غير المسلمة مثل الأقباط في مصر، وأمثالهم في البلاد العربية والإسلامية الأخرى، وهي مصطلح (أهل الذمة) مع أن مدلول هذا المصطلح مدلول إيجابي، لأنه يعني: أن لهم ذمة الله ورسوله وجماعة المسلمين. وهذا مدلول له وقعه وتأثيره في نفس المسلم، فإنه لا يقبل أن تُخفَر ذمة الله ورسوله بحال، ومن فعل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.(1/27)
ولكن إذا كان مواطنونا من غير المسلمين يتأذون من هذا الاصطلاح، فلا أجد مانعا من استخدام كلمة (المواطنة) و(المواطن) فإن الفقهاء متفقون على أن أهل الذمة من (أهل دار الإسلام) فهم من أهل الدار، وإن لم يكونوا من أهل الملة. و(أهل الدار) تعني بالتعبير العصري: مواطنين.
وحذف هذه الكلمة لا يتعارض مع شيء من أحكام شريعتنا، أو مقررات ديننا.
ولنا أسوة في ذلك من عمل الخلفاء الراشدين الذين أمرنا أن نستن بسنتهم، وأن نعض عليها بالنواجذ، ولا سيما سنة الشيخين أبي بكر وعمر.
أسوتنا ما صنعه الفاروق عمر ـ ووافقه الصحابة رضي الله عنهم ـ مع عرب بني تغلب، وكانوا نصارى منذ عهد الجاهلية. وقد طلبوا إلى عمر أن يأخذ ما يأخذه منهم باسم الزكاة أو الصدقة، ولو كان مضاعفا، ولا يأخذه باسم الجزية، وقالوا: إننا قوم عرب، ونأنف من كلمة جزية.
تردد عمر في أول الأمر أن يجيبهم إلى طلبهم، ثم نصحه بعض مشيريه أن يستجيب لهم، قائلا: إنهم قوم لهم بأس وقوة، ونخشى أن يلحقوا بالروم، ففكر عمر في الأمر، ورأى أن ينفذ لهم ما أرادوا، وقال: سموها ما شئتم، وقال لمن حوله: هؤلاء القوم حمقى، رضوا المعنى وأبوا الاسم!
وكان هذا من الفاروق تقريرا لقاعدة مهمة: أن العبرة ليست للأسماء والعناوين، ولكن العبرة للمسميات والمضامين.
هذا مع أن كلمة (جزية) ذكرت في القرآن، ولكن المقصود هو معناها لا لفظها. ومعناها: أن يدفعوا ضريبة يعلنون بها إذعانهم لسلطان الدولة المسلمة، وقبولهم جريان أحكام الإسلام ـ غير الدينية ـ عليهم.
التعبير بالأخوة عن العلاقات الإنسانية:(1/28)
ومن التعبيرات المطلوبة في عصر العولمة: التعبير بالإخوة عن العلاقة بين البشر كافة، والمراد بها (الإخوة الإنسانية) العامة، على اعتبار أن البشرية كلها أسرة واحدة، تشترك في العبودية لله، والبنوة لآدم، وهذا ما قرره حديث نبوي شريف، خاطب بها رسول الإسلام الجموع الحاشدة في حجة الوداع، فكان مما قاله في هذا المقام:
"أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى"
وهذا الحديث يؤكد قول الله تعالى في مطلع سورة النساء: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان بكم رحيما) النساء: 1. وما أجدر كلمة (الأرحام) في هذه الآية: أن تشمل ـ فيما تشمل ـ الأرحام الإنسانية التي تربط الناس بعضهم ببعض. وفي ذلك يقول شاعر مسلم:
إذا كان أصلي من تراب فكلها بلادي، وكل العالمين أقاربي!
وفي حديث رواه أحمد وأبو داود عن زيد ابن أرقم مرفوعا: "اللهم ربنا ورب كل شيء ومليكه: أنا شهيد أن العباد كلهم إخوة".
وأولى من ذلك عن التعبير عن العلاقة بين المسلمين ومواطنيهم من غير المسلمين بـ (الأخوة).
والمراد بها: الأخوة الوطنية أو القومية. فليست (الأخوة الدينية) هي الأخوة الوحيدة التي تصل بين البشر. إنها لا شك أعمق ألوان الأخوة وأوثقها رباطا.
ولكن لا نزاع أن هناك أنواعا أخرى من الأخوة، مثل الأخوة بين أبناء القبيلة الواحدة وإن اتسعت، أو أبناء الشعب الواحد وإن تكاثر وانتشر، وبين أبناء الجنس الواحد أو القوم الواحد.
ودليلنا على ذلك: ما جاء في القرآن الكريم من حديث القرآن عن الأنبياء وصلتهم بأقوامهم المكذبين لهم، واعتبار القرآن كل نبي هؤلاء (أخا) لقومه، وإن عصوه وكذبوه وكفروا برسالته.(1/29)
اقرأ معي قول الله تعالى في سورة الشعراء: (كذبت قوم نوح المرسلين. إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون. إني لكم رسول أمين ... ) الشعراء: 106،107.
فانظر كيف أثبت أخوة نوح لهم، مع أنهم كذبوه، لأنهم قومه، وهو منهم، فهي أخوة قومية لا شك فيها.
ومثل ذلك قوله تعالى: (كذبت عاد المرسلين. إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون) الشعراء: 123،124..
وقوله سبحانه (كذبت ثمود المرسلين. إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون) الشعراء: 141،142.
وقوله: (كذبت قوم لوط المرسلين. إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون) الشعراء: 160،161.
ولم تخالف سورة الشعراء هذا التعبير إلا في الحديث عن شعيب، فقال تعالى: (كذب أصحاب الأيكة المرسلين. إذ قال لهم شعيب ألا تتقون) الشعراء: 176،177.
فلماذا غاير القرآن الأسلوب هنا، وقال: (إذ قال لهم شعيب) ولم يقل: إذ قال لهم أخوهم شعيب؟
السر في ذلك: أن شعيبا لم يكن من أصحاب الأيكة، بل كان غريبا عنهم، وإنما كان من مدين، ولهذا قال في سورة الأعراف، وفي سورة هود: (وإلى مدين أخاهم شعيبا) فدلتنا هذه الآية بوضوح أن من الأخوة ما يبنى على غير الدين، وإنما يبنى على اعتبارات أخرى، ومنها: الاعتبار القومي أو الوطني.
ومثل هذه التعبيرات تقرب الآخرين منا، وتزيل الفجوة بيننا وبينهم، وهذا ما يبطل كيد الأعداء المتربصين بنا، والذين يريدون أن يشعلوا فتيل الفتنة بين أبناء الوطن الواحد، ليصطادوا في الماء العكر، ويتخذوا من ذلك ذريعة للتدخل في شؤوننا، والتسلط علينا، والتحكم في رقابنا، وأولى بنا أن نرد كيدهم في نحورهم بمثل هذه المواقف التي تجعل قوى الأمة كلها جبهة متراصة في مواجهة مكرهم وعدوانهم.
خصائص خطابنا الإسلامي
في عصر العولمة(1/30)
إذا كان خطابنا الإسلامي ينبغي أن يراعي مكان المخاطبين أو المدعوين، وزمانهم وظروفهم، ويخاطب كل قوم بلسانهم ليبين لهم، ويجتهد في إفهامهم، حتى يكون بلاغه لهم (بلاغا مبينا) كما هو شأن بلاغ الرسل عليهم الصلاة والسلام (فهل على الرسول إلا البلاغ المبين)؟ النحل: 35.
فمن المهم أن يلاحظ هذا الخطاب في عصر العولمة: طبيعة التقارب الذي جعل العالم كله قرية واحدة، وأصبح من خصائص هذا العصر سرعة انتقال الخطاب إلى القارات في سرعة البرق، وأصبحت تتكلم من بلد صغير مثل قطر، ويسمعك العالم ويراك، كأنه يجلس إليك، وينصت بين يديك. لعلك لو كنت تُحدِّث قديما في جامع من الجوامع، ربما لم يرك بعض المصلين، وربما لم يصل صوتك إلى بعضهم.
ويلزم أهل الخطاب الإسلامي، أو الدعوة الإسلامية: أن يتحرَّوْا في خطابهم، ويتأنَّوْا في دعوتهم، ولا يلقوا الكلام على عواهنه، فقد غدا العالم كله يسمعهم، ويحلل أحاديثهم.
ينبغي أن يجمع هذا الخطاب الإسلامي المعاصر: عدة خصائص أساسية، تجعله قادرا على الوصول إلى الناس، بحيث يقنع عقولهم بالحجة، ويستميل قلوبهم بالموعظة، ولا يحيد عن الحكمة، ولا عن الحوار بالتي هي أحسن.
من خصائص هذا الخطاب أنه:
1ـ يؤمن بالوحي ولا يغيب العقل.
2ـ يحرص على المعاصرة ويتمسك بالأصالة.
3ـ يدعو إلى الروحانية ولا يهمل المادية.
4ـ يتبنى العالمية ولا يغفل المحلية.
5ـ يستشرف المستقبل، ولا يتنكر للماضي.
6ـ يتبنى التيسير في الفتوى والتبشير في الدعوة.
7ـ يدعو إلى الاجتهاد ولا يتعدى الثوابت.
8ـ ينكر الإرهاب الممنوع ويؤيد الجهاد المشروع.
9ـ يصون حقوق الأقلية ولا يحيف على الأكثرية.
10ـ ينصف المرأة ولا يجور على الرجل.
1ـ يؤمن بالوحي ولا يغيب العقل
من خصائص خطابنا الإسلامي في عصر العولمة: أنه يؤمن بالوحي، ولا يغيب العقل.(1/31)
فهو يؤمن بالوحي باعتباره أساس كل دين سماوي. فتعاليم الدين وأحكامه ليست من صنع النبي ـ أيّ نبي ـ ووحي فكره ووجدانه، بل أوحى الله بها إليه عن طريق ملك ألهمه أو أنزل كتابه إليه، فتلقاه النبي منه، وحفظه، وبلغه للناس كما أُنزل إليه.
فالأنبياء هم سفراء الله تعالى إلى عباده، بعثهم مبشرين ومنذرين، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.
ومحمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، أنزل الله عليه وحيه وقرآنه بطريق الوحي الجلي، بوساطة الملك جبريل عليه السلام أمين الوحي (نزل به الروح الأمين. على قلبك لتكون من المنذرين. بلسان عربي مبين) الشعراء: 193-195.
وقال تعالى: (والنجم إذا هوى. ما ضل صاحبكم وما غوى. وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى. علمه شديد القوى. ذو مرة فاستوى) النجم: 1-6 وشديد القوى هو جبريل عليه السلام.
وقال تعالى: (وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم) النمل: 6 فالله تعالى منزل الوحي، وجبريل إنما هو حامله، ومحمد هو متلقيه ومبلغه عن ربه (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) المائدة: 67.(1/32)
ونحن المسلمين بعد أن رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا، وبالقرآن إماما: أصبحنا ملتزمين ـ بحكم عقيدتنا ـ بأحكام الإسلام وأوامره ونواهيه: في العقيدة والشريعة والسلوك والمفاهيم والتقاليد. فنحن نصلي ونصوم ونتعبد كما يأمرنا الإسلام، ونحن نأكل ونشرب ونلبس ونتجمل ونبيع ونشتري ونتعامل، كما يأمرنا الإسلام، ونحن نتزوج ونعاشر وننجب، ونتوافق أو نطلِّق، كما يأمرنا الإسلام، ونحن نتعامل مع أمرائنا وحكامنا في السلم والحرب، والعافية والبلاء، كما يأمرنا الإسلام. فما دام هناك أمر ملزِم من الله ورسوله، أو نهي محرِّم من الله ورسوله، فليس لنا إلا أن نقول: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير. وفي هذا يقول الله تعالى: (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا: سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون) النور: 51.
ويقول: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا) الأحزاب: 36.
ولا يكون الفرد المسلم مسلما، ولا المجتمع المسلم مسلما حقا، إلا إذا احتكم كل منهما إلى شريعة ربه، مؤمنا بأن ما شرعه الله له خير مما يشرعه لنفسه، وأنه ليس أعلم من الله بخلقه، ولا أبر بهم منه سبحانه وتعالى، بل هو أبر بهم من أنفسهم، وأرحم بهم من الوالدة بولدها. وقد شرع لهم من الأحكام ما يعلم أن فيه الخير والمصلحة لهم في دنياهم وآخرتهم (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) الملك: 14.
لهذا كان الحكم بما أنزل الله على رسوله فرضا مؤكدا، لا يجوز أخذ بعضه دون بعض، كما قال تعالى لرسوله: (وأن أحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل إليك) المائدة: 49.(1/33)
وقد أنكر الله تعالى على بني إسرائيل قبلنا: أنهم جزّأوا دينهم، فقبلوا منه ما راق لهم، وتركوا ما لا يتفق وهواهم، فقال تعالى تقريعا لهم: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) البقرة: 85؟.
ومع دعوة الخطاب الإسلامي إلى الإيمان بما جاء به الوحي، والالتزام به أمرا ونهيا، في العبادات أو المعاملات: يدعو هذا الخطاب ـ في الوقت نفسه ـ إلى احترام العقل، الذي لولاه ما ثبت الوحي.
ولهذا قال علماء الإسلام: لولا العقل ما ثبت النقل (أي الوحي). لأن العقل هو الذي أثبت لنا قضيتين من قضايا العقيدة الكبرى.
فهو الذي أثبت وجود الله تعالى، إذ لم نعرف الله بالوحي، لأن ثبوت الوحي لا يكون إلا بعد ثبوت الموحِي به، وثبوت الرسول لا يكون بعد ثبوت المرسِل.
فبعد أن أثبت العقل وجود الله تعالى وحكمته وقدرته على إرسال الرسل، وتأييدهم بالآيات البينات التي تثبت نبوتهم، وتفحم خصومهم، وأنه لا يليق بحكمة الرب الحكيم الرحيم القادر على كل شيء: أن يدع عباده هملا، ويتركهم سدى، وهو قادر على أن يهديهم إلى الصراط المستقيم، ويعرفهم ما يجب عليهم نحوه، وما يسعدهم في أولاهم وأخراهم، ويحكم بينهم فيما يختلفون فيه، بعد هذا آمن العقل بأن فلانا هذا ـ التي قامت المعجزة على يديه ـ هو رسول من عند الله، إذ لا يقدر بشر على أن يمده بالآيات التي تثبت دعواه وتؤيد حجته.
وبعد أن أثبت العقل النبوة: يعزل العقل نفسه ـ كما عبر الإمام الغزالي ـ ليتلقى من الوحي الأوامر والنواهي والتعاليم، لأن سلطة النبوة أعلى من سلطته، ونور النبوة أسطع وأرفع من نور عقله، فعقله قد يخطئ أو يضل أو يخلط أو ينسى، ولكن النبوة لا تخطئ، لأنها من عند الله. ولو أخطأ النبي في أمر اجتهد فيه برأيه، فسرعان ما يأتي الوحي مصححا ومصوّبا، لأن الله تعالى لا يقره على باطل، لأنه لو أقره عليه لأصبح شرعا متبعا.(1/34)
الإسلام يحترم العقل، لأن به عرفنا الله، وبه عرفنا رسول الله، وبه عرفنا كتاب الله.
وهو يحترم العقل، لأننا بالعقل نفهم خطاب الله، ونفسر كتاب الله، ونستنبط أحكام الله، فقد شاء الله أن ينص على بعض الأحكام في كتابه أو على لسان رسوله، وأن يدع منطقة فارغة من التشريع والأحكام الملزمة سميناها في بعض كتبنا (منطقة العفو)(1)أخذا من الحديث القائل "ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو (عفو) فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئا، ثم تلا: (وما كان ربك نسيا) مريم: 60".(2)
وهذه المنطقة ـ منطقة العفو ـ مطلوب من العقل أن يملأها ـ عند الحاجة ـ بما يهديه إليه اجتهاده في ضوء النصوص الأخرى: إما عن طريق القياس بشروطه أو الاستصلاح أو الاستحسان أو غيره من أدلة ما لا نص فيه.(3)
وأما ما جاءت فيه نصوص قرآنية أو نبوية، فمهمة العقل أن يجتهد فيها ليستخرج منها الأحكام في ضوء الأصول والقواعد التي ارتضتها الأمة في الاستنباط، وبناء الفروع عليها. وهنا تتعدد المدارس، وتتنوع المشارب، ما بين من يميل إلى الرأي ومن يميل إلى الأثر، ومن ينظر إلى المقاصد، ومن يجنح إلى الظواهر، والشريعة تتسع لهؤلاء جميعا. وفي هذا التنوع إثراء للفقه وسعة ورحمة.
وهو يحترم العقل بعد ذلك، لأنه أداته الفذة في معرفة الكون من حوله، فهو الذي يكتشف قوانين المادة، ويفسر الظواهر الكونية، ويربط بينها، ويستخدمها في مصلحة الإنسان. كما يوظفها في تثبيت الإيمان (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) فصلت: 53.
__________
(1) في كتابنا (عوامل السعة والمرونة في الشريعة الإسلامية).
(2) رواه الحاكم عن أبي الدرداء وصححه (2/375) ووافقه الذهبي، كما رواه البزار، ورجاله ثقات كما قال الهيثمي في (مجمع الزوائد) 7:55.
(3) للشيخ عبد الوهاب خلاف رحمه الله كتاب بعنوان (أدلة التشريع فيما لا نص فيه).(1/35)
فلولا العقل ما استطعنا أن نسخر قوى الطبيعة لخدمتنا بإذن الله، وبالعقل استطاع أن يطير الإنسان في الهواء كالنسر، بل أرفع، وأن يغوص في البحر كالحوت أو أقوى، وأن يحطم الذرة، ويصنع الحاسوب، ويصعد إلى القمر، ويجتهد أن يغزو الكواكب الأبعد.
إن هذا العقل يجب أن يحترم لدى المسلمين، فلا يعطلوه عن وظيفته، ووظيفته الأساسية التفكير والبحث والاستنباط والنقد، وليست مهمته مجرد التلقي والتقليد والجمود، وقبول كل ما يلقن للإنسان دون أن يمتحنه، ويفحصه، ويعرف صدقه من كذبه، أو صحته من فساده، أو صوابه من خطئه.
ولهذا كان على العقل أن يناقش وينقد، ويطلب دليلا على كل قضية، وهذا ما يعلمه لنا القرآن، فهو الذي يقول بكل وضوح (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) النمل: 64 (نبئوني بعلم إن كنتم صادقين) الأنعام: 143.
ولهذا كان لا بد في إثبات الحسيات من دليل المشاهدة (أشهدوا خلقهم) الزخرف: 19.
ولا بد في إثبات النقليات من دليل التوثيق (إيتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين) الأحقاف: 4 (قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا) الأنعام: 148.
وكان لا بد في إثبات العقليات من البرهان المنطقي، ولهذا تكرر في القرآن مطالبة أصحاب الدعاوى العقدية أن يأتوا بالبرهان على دعواهم (أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم) الأنبياء: 24 (وقالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى، تلك أمانيهم، قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) البقرة: 111.(1/36)
والعقل الذي نريده، هو: العقل الحر الباحث عن الحقيقة، الطليق من آسار التقليد، واتباع الظنون والأهواء، فإن الظن لا يغني من الحق شيئا، والهوى يعمي ويصم، أما العقل المكبل بأغلال الانبهار بفلسفة معينة، أو بثقافة بشرية، أو بتقليد الماضين، فهذا عقل غير مأمون على تحصيل المعرفة الصحيحة، والوصول إلى الحقيقة الصريحة. وقد قال الإمام ابن الجوزي: (اعلم أن المقلد على غير ثقة فيما قلد فيه، وفي التقليد إبطال منفعة العقل، لأنه خلق للتأمل والتدبر، وقبيح بمن أعطي شمعة يستضيء بها: أن يطفئها، ويمشي في الظلمة).(1)
والتقليد مذموم في شرعة الإسلام: سواء كان تقليدا للأجداد والآباء، أم للسادة والكبراء، كما قال تعالى: (وإذا قيل لهم: اتبعوا ما أنزل الله، قالوا: بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون؟) البقرة: 170.
(وقالوا: ربنا إننا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا) الأحزاب: 67.
بل ينكر الإسلام تقليد العامة، والسير مع الجماهير، دون الرجوع إلى عقل أو شرع: "لا تكونوا إمعة: تقولون: إن أحسن الناس أحسنّا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم: إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا فلا تظلموا".(2)
وأشد ما يكون التقليد مذموما: حين تقلد أمة فلسفة أمة أخرى، وتقبل ـ مبصرة أو غير مبصرة ـ فكرتها عن الدين، والمجتمع، عن الله والإنسان، عن الدنيا والآخرة، عن المعرفة والقيم، ويقودها أفراد منها، فتنوا بالآخرين، وغلبوا على عقولهم كأنهم مغيبون أو مخدرون!
__________
(1) من كتابه (تلبيس إبليس) ص 81.
(2) رواه الترمذي في البر عن حذيفة (2008) وقال: حسن غريب.(1/37)
جربنا ذلك قديما في افتتان فئة من كبار مثقفي المسلمين بفلسفة الإغريق، وبهروا بها، وأذعنوا لسطانها، ولم يحاولوا أن يناقشوها أو يمتحنوها، بل اعتبروها أو اعتبروا قضاياها (مسلّمات) واتخذوها أصلا، والإسلام فرعا، فما وافقها من عقائد الإسلام وشرائعه فهو مرضي مقبول، وما خالفها فهو مرفوض.
وبعض ما كان يعتبر حقائق عندها وعندهم، يعرف تلاميذ المدارس الابتدائية اليوم: أنه خرافة وباطل، وقد كشف العلم الحديث زيفه.
حتى جاء حجة الإسلام الغزالي فهدم هذا الصنم الكبير على رأس أهله، وبين ما فيه من أباطيل وأوهام في كتابه (تهافت الفلاسفة). فأبطل الفلسفة بمنطق الفلاسفة.
ثم جاء بعده شيخ الإسلام ابن تيمية، فأكمل مشواره، ورد على الفلاسفة ومن تأثر بهم من المتكلمين، وبين موقف الإسلام بمنطق العقل الفطري، وضبط جموح العقل الإنساني بضوابط الوحي الرباني، وذلك في عدة كتب له أهمها (درء تعارض العقل والنقل) والذي سمي أحيانا (موافقة صحيح المنقول صريح المعقول).
وفي عصرنا امتحن العقل الإسلامي بقضية أخرى: فتنة الانبهار بصنم آخر، هو صنم الحضارة الغربية الحديثة، بما تحمله من فلسفة للحياة والإنسان، مغايرة لفلسفة الإسلام، سواء في فلسفتها الليبرالية الفردية أم في فلسفتها الجماعية الماركسية، فكلتاهما فلسفة حسية مادية، مغرقة في النفعية والدنيوية، تغلّب المادة على الروح، والدنيا على الآخرة، والعقل على الوحي، والمنفعة على الأخلاق، هذا إن لم ترفض الروح والآخرة، والوحي والأخلاق رفضا مطلقا، كما هو شأن الفلسفات المادية، ومنها: الشيوعية الماركسية.
لقد وجد من بني جلدتنا من فتنوا بهذه الحضارة، ومن لا يزالون مفتونين بها، ويريدون منا: أن ننسلخ من جلدنا، وننخلع من ذاتنا، لنتبع هذه الحضارة شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلوه وراءهم.(1/38)
هؤلاء الذين سميتهم (عبيد الفكر الغربي) وهم الذين أرادوا أن (نفنى) في الغربيين، ونسير في ركابهم، ونأخذ حضارتهم كلها، بجذورها الفلسفية، وخلفياتها العلمانية، وتناقضاتها التاريخية، أو كما قال قائلهم: بخيرها وشرها، وحلوها ومرها، ما يحب منها وما يكره، وما يحمد منها وما يعاب.
ونريد من (العقل المسلم) اليوم أن يتحرر من التبعية والتقليد للغرب وفلاسفته، كما دعوناه أن يتحرر من التبعية والتقليد للشرق وأئمته. بل هذا التحرر أحق وأولى، فإن أئمة الشرق هم منا ونحن منهم، نشاركهم في الأصول الكلية، وفي الفكرة المدنية، ولكن زماننا غير زمانهم، ومشكلاتنا غير مشكلاتهم، وظروفنا غير ظروفهم.
نريد للعقل المسلم أن يتحرر من التبعية والتقليد، وألا يتعبد إلا بمحكمات النصوص الربانية، التي تضيء له الطريق، وتهديه سواء السبيل، وهي في الحقيقة منارات تهدي، وليست قيودا تكبل، تسدد العقل ولا تقيده، وتحرره ولا تستعبده (ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم) آل عمران: 101(يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا) النساء: 174.
بل رأينا من الصالحين من يعتبرون التفكر عبادة، حتى قال بعضهم: تفكر ساعة خير من عبادة سنة. وكيف لا، وقد وصف الله الأخيار من عباده من (أولي الألباب) بقوله سبحانه: (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك) آل عمران: 191.
كما يعتبرون النظر في الكون وسننه وآياته: فريضة أمر الله تعالى بها (قل: انظروا ماذا في السماوات والأرض) يونس: 101 (أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء) الأعراف: 185.(1/39)
ليس عندنا ـ نحن المسلمين ـ ما في أديان أخر من عزل العقل عن قضية الإيمان، واعتبار الإيمان مسألة تتعلق بالوجدان، ولا علاقة بها بعقل الإنسان. ولا غرو أن وجدنا عندهم مثل هذه العبارات: أعتقد وأنت أعمى! أو: أغمض عينيك ثم اتبعني. بل قال بعض فلاسفتهم: أومن بهذا؛ لأنه غير معقول! كأن الإيمان والعقل في نظره لا يتلاقيان.
أما عندنا ـ نحن المسلمين ـ فلا بد للإيمان أن يؤسس على العلم، حتى يؤمن الإنسان بربه وبرسوله عن بينة، ويسير في طريقه على بصيرة ونور، فالعلم دليل الإيمان، كما قال تعالى: (وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم) الحج: 54 فالعلم يؤدي إلى الإيمان، والإيمان يؤدي إلى الإخبات، هكذا بالترتيب الذي دل عليه العطف بالفاء (ليعلموا، فيؤمنوا، فتخبت قلوبهم).
وأكابر علماء المسلمين يقولون: إن إيمان المقلد ـ تقليدا مطلقا ـ لا يقبل، لا بد أن يكون إيمانه مبنيا على الدليل، ولو لم يستطع التعبير عنه بعبارة علمية.
وقد كنا نحفظ، ونحن طلبة في المرحلة الثانوية بالأزهر: قول صاحب (الجوهرة) في علم التوحيد:
إذ كل من قلد في التوحيد إيمانه لم يخل من ترديد!
ولا توجد عندنا ـ نحن المسلمين ـ مشكلة الصراع بين العقل والوحي، أو بين الحكمة والشريعة، أو بين الفكر والعقيدة، أو بين العلم والدين، فالدين عندنا علم، والعلم عندنا دين.
ومن القواعد المعلومة المقررة عندنا: أنه يستحيل التناقض بين قواطع العقل وقواطع الشرع، لأن الحق لا يعارض الحق أبدا. وإذا وجد شيء من هذا في الظاهر، فلا بد أن يكون لأحدهما تفسير أو تأويل يخرج به عن التناقض.
أكد هذا المحققون من علماء الإسلام وأئمته الكبار، الذين جمعوا بين علوم الشرع وعلوم العقل، مثل إمام الحرمين والغزالي والراغب الأصفهاني وابن رشد وابن تيمية والشاطبي وابن الوزير وغيرهم من أفذاذ الأمة ومصابيحها.(1/40)
وحسبي أن أنقل هنا فقرات من كلام الإمام الغزالي لتوضيح هذه الحقيقة التي لا تخفى على ذي بصر، وقد قرر ذلك في عدد من كتبه، كما بينا ـ في كتابنا (الغزالي بين مادحيه وناقديه):
فها نحن نراه في (إحياء علوم الدين) يدعو إلى المزج بين العلوم العقلية والعلوم الدينية، ويبين الحاجة إلى كل منهما، ويقرر أن لا غنى بالعقل عن نور الوحي، ولا بالوحي عن نور العقل، بل كل منهما مع الآخر: نور على نور. يقول:
"فالداعي إلى محض التقليد ـ مع عزل العقل بالكلية ـ جاهل، والمكتفي بمجرد العقل عن أنوار القرآن والسنة مغرور، فإياك أن تكون من أحد الفريقين، وكن جامعا بين الأصلين.
فإن العلوم العقلية كالأغذية، والعلوم الشرعية كالأدوية، والشخص المريض يستضر بالغذاء، متى فاته الدواء، فكذلك أمراض القلوب، لا يمكن علاجها إلا بالأدوية المستفادة من الشريعة ... ".(1)
ثم يحمل الغزالي بقوة على من يظن أن ثمت تناقضا بين العقليات والشرعيات، فيقول:
"وظن من يظن أن العلوم العقلية مناقضة للعلوم الشرعية، وأن الجمع بينهما غير ممكن، هو ظن صادر عن عمى في عين البصيرة، نعوذ بالله منه.
بل هذا القائل ربما يناقض عنده بعض العلوم الشرعية لبعض، فيعجز عن الجمع بينهما، فيظن أنه تناقض في الدين! فيتحير به، فينسل من الدين، انسلال الشعرة من العجين! وإنما ذلك، لأن عجزه في نفسه خيّل إليه نقصا في الدين، وهيهات!".(2)
__________
(1) الإحياء (3/17) ط. دار المعرفة.
(2) المصدر السابق.(1/41)
وهو يصف عصابة الحق وأهل السنة في مقدمة كتاب (الاقتصاد في الاعتقاد) بأنهم وحدهم: الذين اهتدوا إلى أسرار ما أنزل الله على رسوله، واطلعوا على طريق التلفيق(1)بين مقتضيات الشرائع وموجبات العقول، وتحققوا أن لا معاندة بين الشرع المنقول والحق المعقول، وعرفوا أن من ظن من الحشوية وجوب الجمود على التقليد واتباع الظواهر، ما أُتوا إلا من ضعف العقول، وقلة البصائر، وأن من تغلغل من الفلاسفة و(غلاة) المعتزلة في تصرف العقل، حتى صادموا به قواطع الشرع(2)، ما أُتوا إلا من خبث الضمائر، فميل أولئك إلى التفريط وميل هؤلاء إلى الإفراط، وكلاهما بعيد عن الحزم والاحتياط، بل الواجب المحتوم في قواعد الاعتقاد ملائمة الاقتصاد، والاعتماد على الصراط المستقيم".
ويذكر الغزالي هنا مثالا للعقل والشرع، فمثال العقل: البصر السليم من الآفات، ومثال القرآن: الشمس المنتشرة الضياء، ولا يستغني أحدهما عن الآخر، إلا من كان في غمار الأغبياء" فالمعرض عن العقل مكتفيا بنور القرآن مثاله المتعرض لنور الشمس، مغمضا للأجفان، فلا فرق بينه وبين العميان، فالعقل مع الشرع نور على نور، والملاحظ بالعين العوراء لأحدهما متدلٍّ بحبل غرور".(3)
فلا يجوز إذن نصب العقل عدوا للشرع، ولا نصب الشرع عدوا للعقل.
__________
(1) كلمة (التلفيق) يعني بها: ما نعنيه بكلمة (التوفيق) وليس يعني بها ما يوحي به اللفظ في عرفنا اليوم من الاحتيال على الجمع بين متنافرين.
(2) أنكر د. عادل العوا في تقديم كتاب (الاقتصاد في الاعتقاد) على الغزالي ضمه المعتزلة إلى الفلاسفة في العزوف عن الاستضاءة بنور الشرع وقال: إنهم متكلمون، والمتكلمون هم حراس العقيدة بالعقل، ولكن عبارة الغزالي لا تشمل كل المعتزلة، بل الغلاة منهم، فلا وجه للاعتراض.
(3) من مقدمة كتاب (الاقتصاد في الاعتقاد).(1/42)
ولا يتصور أن يثبت الشرع ما ينفيه العقل (أي ما يقطع باستحالته)، ولا أن ينفي ما يثبته العقل، أي ما يقيم البراهين اليقينية على وجوده.
والعكس ثابت أيضا، بمعنى أن العقل لا يتصور أن يثبت ما يقطع الشرع بنفيه، ولا أن ينفي ما يقطع الشرع بثوبته.
وبعبارة موجزة يرى الغزالي: أن العقل لا يمكن أن يثبت حقيقة ينفيها الشرع، وأن الشرع لا يمكنه أن يأتي بعقيدة يحيلها العقل.
وإذا وقع شيء من ذلك، فلا بد أن يكون من جاهل متوهم على العقل، أو متوهم على الشرع.(1)
إننا نعتب على كثير من المسلمين أنهم وضعوا عقولهم في (ثلاجة) فجمدوها حتى لا تفكر، أو كأنما منحوها إجازة من عناء التفكير، ولذلك راجت في ساحتهم الخزعبلات، وغاب عنهم (فقه السنن)، فقبلوا من الخوارق وما سموه (الكرامات) ما لا يصدقه عقل، ولا ينتظم به حال مجتمع، مثل ما يذكره الشعراني في (طبقات الصوفية) عن خوارق الذين اعتبرهم أولياء، كأن الكون يمضي بغير نظام، ولا ميزان ولا حسبان!.
فلا غرو أن تخلفوا وتقدم غيرهم، وجمدوا وتحرك غيرهم، وناموا واستيقظ غيرهم.
هذا والقرآن يخاطبهم بأولي الألباب، ويدعوهم ليقوموا لله مثنى وفرادى ثم يتفكروا، ويبين لهم الآيات لعلهم يتفكرون، ويبين لهم أن في كونه (آيات لقوم يعقلون) أو (لقوم يتفكرون) أو (لقوم يفقهون) وينكر بشدة على الذين ألغوا عقولهم ليفكروا برؤوس غيرهم (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله قالوا: حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون) المائدة: 104.
__________
(1) انظر كتابنا: الإمام الغزالي بين مادحيه وناقديه ص 42-44.(1/43)
بل نرى كثيرا من علمائهم الذين تعلموا علم الدين، وظلوا سنوات طوالا يتلقون هذا العلم، لا يجرؤون أن يفكروا برؤوسهم لمطالب عصرهم وبيئتهم، فلا بد أن يرجعوا إلى الموتى ليفتوهم فيما وقع لهم، وربما لم يجدوا عند هؤلاء الموتى خبرا بهذه النوازل الجديدة التي لم يشهدها في عصرهم. ومن هنا لا يستطيع هؤلاء أن يفكروا لأنفسهم، وإذا وجد عالم فكر بنفسه، واستقل بعلمه، ووصل إلى اجتهاد مصيب أو مخطئ: أوسعوه ذما وتجريحا، وصبوا عليه جام غضبهم، ورموه بمسموم سهامهم، وربما سقط جريحا أو قتيلا.
هذا وهم يقرأون ما قرره علماؤنا الأقدمون من أهمية العقل مع النقل، وأنه لا غنى عن العقل الصريح، مع النقل الصحيح، كما قال الإمام الغزالي.
2ـ يحرص على المعاصرة ويتمسك بالأصالة
ومن خصائص خطابنا الديني الإسلامي في عصر العولمة: أنه يحرص على المعاصرة، ويتشرب روح العصر، وخصوصا في وسائله وآلياته. ولا يتجاهل في دعوته إذا دعا، ولا في فتواه إذا أفتى: تيارات العصر، ومذاهبه الفلسفية، ومدارسه الفكرية، واتجاهاته الأدبية، وانحرافاته السلوكية، ومشكلاته الواقعية.
فلا يعيش في الكتب القديمة وحدها، ولا يتقوقع على الماضي وحده، بل لا بد أن يعلم أن الدنيا تغيرت، والحياة تطورت، فهو ابن زمانه ومكانه وبيئته. وفيما أثر عن السلف: رحم الله امرءا عرف زانه واستقامت طريقته.
وفيما ينسب إلى صحف إبراهيم: ينبغي للعاقل أن يكون عارفا بزمانه، مقبلا على شانه، حافظا للسانه.
ولقد قرر المحققون من فقهائنا: أن الفتوى تتغير بموجبات شتى، منها: تغير الزمان، وتغير المكان، وتغير العرف والحال وغيرها.
وهذا سر كثير من الخلاف بين الإمام أبي حنيفة وصاحبيه أبي يوسف ومحمد ـ رحمهم الله جميعا ـ وفي هذا يقول علماء الحنفية: إنه اختلاف عصر وزمان، وليس اختلاف حجة وبرهان.(1/44)
بل هذا من أسباب اختلاف رأي الفقيه في المسألة الواحدة بين زمن وآخر، كاختلاف الإمام الشافعي في مذهبه الجديد بعد أن استقر في مصر، ومذهبه القديم قبل أن يستقر فيها، في كثير من مسائل الفقه، ويقول علماء الشافعية: قال الشافعي في القديم، وقال الشافعي في الجديد. فقد اختلف المكان، واختلف الزمان، فزمان النضج غير زمان التكوين.
ولعل هذا أيضا من أسباب اختلاف الروايات عن الإمام مالك، والإمام أحمد، فربما عرضت عليه المسألة في زمن، فأجاب فيها برأي، وسئل عنها في زمن آخر، فأجاب عنها برأي مخالف.
من سمات المعاصرة:
والمعاصرة لها سمات معينة، يجب أن تراعى في وعظ الواعظ، وفي تعليم المعلم، وفي فتوى المفتي، وفي قضاء القاضي.
العقلية العلمية:
من هذه السمات: (العقلية العلمية) التي ترد كل شيء إلى العلم، وتزن كل شيء بالمنطق، ولا تقبل أي دعوى بلا برهان، وترفض التسليم للأباطيل، وقبول المبالغات والتهاويل، ولا تستسلم للدجالين والكهنة والمتلاعبين بعقول الجماهير باسم الدين، فالدين براء من هؤلاء. وهو يعتبر تصديق الكهنة والعرافين كفرا بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
وفي الحقيقة إن (العقلية العلمية) ليست من اختراع العصر، ولا من مستوردات الغرب، بل هي العقلية التي ينشئها القرآن الكريم بآياته وتعاليمه، فهو يرفض الظن في مقام اليقين، ويذم المشركين بقوله: (إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا) النجم: 28.
كما يرفض اتباع العواطف والأهواء في البحث عن الحقيقة (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله) القصص: 50.
ويعلن حملته على الجمود والتقليد للآباء أو للسادة والكبراء، أو لعامة الناس. وقد تحدثنا عن ذلك في الخصيصة السابقة.
التجديد:(1/45)
ومن سمات المعاصرة: (التجديد) فلا يقبل المسلم المعاصر: أن يظل القديم على قدمه، ولا يقبل تجميد الحياة والفكر والعلم والاجتهاد. فالماء إذا توقف أسن، والريح إذا ركدت كاد الناس يختنقون، والكون كله يتحرك، والأرض تدور، والفلك يسير، والشمس والقمر والنجوم كلها في حركة دائمة، فلا يجوز أن يقف الإنسان أو يجمد مكانه، والكون كله من حوله يتحرك (كل في فلك يسبحون).
لا يجوز تجميد العلم أو الفكر بدعوى قولهم: ما ترك الأول لآخر شيئا، فكم ترك الأول للآخر. ولا بقولهم: ليس في الإمكان أبدع مما كان، فكم في الإمكان أبدع مما كان من بدائع وروائع (إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد. وما ذلك على الله بعزيز) إبراهيم: 19 وفاطر: 16.
وقد بين لنا رسول الإسلام أن الدين يتجدد، حين قال: "إن الله تعالى يبعث على رأس كل مائة سنة لهذه الأمة: من يجدد لها دينها".(1)
وسواء كان هذا المجدد فردا أم جماعة ومدرسة، كما تفيده كلمة (من) التي تصلح للمفرد، وتصلح للجميع، فقد أفادنا الحديث شرعية التجديد للدين، فإذا كان الدين ـ وشأنه غالبا الثبات ـ يتجدد، فما بالك بغير الدين من شؤون الحياة، وأمور العلم والفكر والأدب والثقافة والصناعة والفن؟!
التجديد لا يعني التنكر للقديم:
ولكن التجديد المنشود لا يعني الانفصال عن التراث، والتنكر للقديم، فليس كل قديم سيئا، كما ليس كل جديد حسنا، فكم من قديم نافع كل النفع، مبارك كل البركة، وكم من جديد لا خير فيه، بل هو ضرر وشر أكيد.
على أن كلا من القدم والجدة أمر نسبي، فقديم اليوم كان جديد الأمس، وجديد اليوم سيصبح قديم الغد.
وليس من التجديد في شيء: التبرم بكل قديم، وفتح الذراعين لكل جديد، وقد سخر أديب العربية والإسلام مصطفى صادق الرافعي من بعض مجدد زمنه، الذين قال: إنهم يريدون أن يجددوا كل شيء، حتى الدين واللغة والشمس والقمر!
__________
(1) رواه أبو داود في الملاحم من سننه عن أبي هريرة (3740) وصححه عدد من الأئمة.(1/46)
وهؤلاء هم الذين سخر منهم شوقي في قصيدته عن (الأزهر) حتى صوب سهام نقده إلى الذين نالوا من مكانة الأزهر ورسالته ودوره لمجرد أنه (قديم) فقال:
دع عنك قول عصابة مفتونة يجدون كل قديم أمر منكرا
ولو استطاعوا في المجامع أنكروا من مات من أبائهم أو عمرا
من كل ساع في القديم وهدمه وإذا تقدم للبناية قصرا
وأتى الحضارة بالصناعة رثة والعلم نزرا، والبيان مثرثرا
وهم الذين انتقدهم الفيلسوف المسلم الشاعر ـ شاعر الإسلام في الهند ـ محمد إقبال، فقال لهم: إن الكعبة لا تجدد، بجلب حجارة لها من أوربا! بمعنى أن هناك أشياء عظمتها في قدمها، مثل الكعبة، فميزتها أنها (البيت العتيق) فمن أراد أن يجددها بجلب حجارة لها من أوربا غير حجارتها الأصيلة السوداء، فهذا ليس بتجديد، ولكنه تخريب وتبديد. وهذا ما يجب أن يعيه الخطاب الديني المعاصر، من ضرورة تحديد المفاهيم، والتمييز بين المتشابهات.
المرونة:
ومن سمات المعاصرة: (المرونة وقابلية التطور) فلا يجوز تثبيت كل شيء، وتجميد كل شيء، فهذا يؤدي إلى الموت والهلاك.
لقد تطور العلم، وتطورت الصناعة، وتطورت معهما الأفكار والتقاليد، لقد تطورت وسائل النقل من الحمار إلى الصاروخ، وتطورت وسائل الكتابة من القلم في اليد إلى المطبعة المتطورة، وتطورت وسائل الحرب من السيف والنبل إلى القنبلة النووية. فلا ينبغي أن يظل الإنسان كما هو، وكل شيء حوله تغير، ولا أن يظل الفكر كما هو، والدنيا كلها تبدلت.
ولا شك أن الدنيا تطورت وتغيرت، ولكن جوهر الأشياء بقي كما هو، ازداد عمران الأرض وقامت ناطحات السحاب، ولكن السماء والأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال بقت كما هي.
وتغير ما حول الإنسان، كما تغيرت معارف الإنسان، وتغيرت إمكانات الإنسان، ولكن بقي جوهر الإنسان كما هو بخيره وشره، وفجوره وتقواه (ونفس وما سواها. فألهمها فجورها وتقواها. قد أفلح من زكاها. وقد خاب من دساها) الشمس: 7-10.(1/47)
ثبات الأهداف وتطور الوسائل:
ومن هنا نقول: إن الخطاب الديني يجب أن يركز على (ثبات الأهداف) إلى جوار (تطور الوسائل) فهو يجمع بين الثبات والمرونة، فهو يجري على سنة الكون: الحركة الدائبة في إطار ثابت، وحول محور ثابت، كما قال سيد قطب رحمه الله.(1)
فخطابنا الديني الإسلامي: يلتزم المرونة في الدعوة والفقه والتعليم والفتوى، ولكنه حين يدعو أو يعلم أو يفتي أو يقضي أو يجتهد: منضبط بضوابط، ومحدود بحدود، ومقيد بقواعد، يعمل في إطارها وفي دائرتها. وهي دائرة واسعة، ولكن لها أسوارها التي تحدها.
فالمرونة في جانب الوسائل والآليات والجزئيات التي تختلف باختلاف البيئات والأزمان والأحوال، بل قد تختلف باختلاف الأشخاص.
والثبات يكون في الأهداف والغايات والمبادئ والمنطلقات التي ترسي الأسس، وتحدد الفكرة، وترسم الطريق.
3ـ يدعو إلى الروحانية ولا يهمل المادية
من خصائص خطابنا الإسلامي في عصر التقارب العالمي، أو ما يسمونه (عصر العولمة): أنه يدعو إلى (الروحانية) التي هي جوهر الدين ولبه، ولكنه لا يهمل الجانب المادي من الحياة ويعتبره رجسا من عمل الشيطان.
ذلك: أن الله خلق الإنسان كائنا مزدوج الطبيعة، فيه قبضة من طين الأرض، ونفخة من روح الله، وهذه النفحة الربانية هي التي ميزته عن سائر الحيوانات، وجعلته أهلا لأن يأمر الله الملائكة بالسجود تكريما له (إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين. فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) ص: 71،72.
__________
(1) في كتابه (خصائص التصور الإسلامي ومقوماته) خصيصة (الثبات).(1/48)
فإذا عني الإنسان بعنصره الروحي ـ وأصله سماوي ـ سما وارتقى حتى يلتحق بأفق الملائكة، وإذا عاش أسيرا وخادما لعنصره الطيني ـ وأصله أرضي ـ هبط وأخلد إلى الأرض، فينزل إلى حضيض الأنعام، وربما كان أضل منها وأسوأ درجة (أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا. أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا) الفرقان: 43،44.
لهذا كان الجانب الروحي في الدين هو الغاية وهو الجوهر، وكل الجوانب الأخرى لمساعدته وخدمته.
ماذا يعني الجانب الروحي؟
والجانب الروحي يشمل:
1ـ الإيمان بالله تعالى وتوحيده، فلا عبادة إلا له، ولا استعانة إلا به، ولا إذعان إلا لأمره، فهو الخالق المنعم بجلائل النعم ودقائقها، فلا يستحق أن يعبد غيره (ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل) الأنعام: 102.
2ـ الإيمان بالآخرة، دار الجزاء والخلود، التي توفى فيها كل نفس ما كسبت، وتجزى بما عملت (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره. ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) الزلزلة: 7،8 (فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا. فإن الجحيم هي المأوى. وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى. فإن الجنة هي المأوى) النازعات: 37-41.
3ـ عبادة الله تعالى وتقواه، بأداء فرائضه، وإقامة شعائره، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، وإحلال حلاله، وتحريم حرامه. وقد قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون. ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون. إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين) الذاريات: 58.
ولا سيما أركان الإسلام من الصلاة والزكاة والصيام وحج البيت.
والإسلام هو الديانة الوحيدة التي تجعل المسلم على موعد مع ربه كل يوم خمس مرات، فهي بمثابة حمام يومي يغتسل فيه من خطاياه وأدرانه وغفلته، ليخرج منها نظيفا طاهرا، في حين لا تطب أديان كثيرة من أتباعها إلا زيارة واحدة للمعبد كل أسبوع.(1/49)
4ـ التقرب إلى الله تعالى بالنوافل والتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والدعاء والاستغفار، ليظل المسلم موصول الحبال بربه في الخلوة والجلوة، في العمل وفي البيت، في العافية والبلاء (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا) الأحزاب: 41،42 (والذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم) آل عمران: 191.
5ـ تطهير القلب من الآفات النفسية والخلقية ومن أمراض القلوب، التي تجعله عشا للشيطان، يبيض فيه ويفرخ، وهي التي سماها الإمام الغزالي في إحيائه (المهلكات) من الكبر والعجب والغرور والرياء وحب الدنيا، وحب المال، وحب الجاه، والغضب والحقد والحسد والبغضاء. وينبغي للمسلم أن يجاهد نفسه حتى تصفو من كدرها، وتخرج من الظلمات إلى النور، حتى يصبح القلب (قلبا سليما) من الشرك والنفاق والكبر والآفات، ويصبح قلبا منيبا إلى الله، وهذا أساس النجاة والفوز عند الله. يقول تعالى على لسان إبراهيم: (ولا تخزني يوم يبعثون. يوم لا ينفع مال ولا بنون. إلا من أتى الله بقلب سليم) الشعراء: 87-89 ويقول: (وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد. هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ. من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب) ق: 31-33.
وروى مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله لا ينظر إلى أجسامكم وصوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم".(1)
__________
(1) رواه مسلم (4650) عن أبي هريرة.(1/50)
6ـ التقرب إلى الله تعالى بفعل الخيرات، والإحسان إلى الناس، والرحمة بالمخلوقات، وإسداء المعروف، وإغاثة الملهوف، وتفريج كربة المكروب، ومسح دمعة المحزون، كل هذه تعتبر من (عمل الصالحات) ومن القربات إلى الله تعالى، سواء قدمها للمسلمين أم غيرهم، وقد جاء في وصف الأبرار المرضيين عند الله تعالى: (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا. إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا) الإنسان: 8،9 وكان الأسرى في ذلك الوقت من المشركين المحاربين.
بل جاء في الأحاديث الصحاح أن الرحمة بالحيوان، والمساعدة في دفع جوعه وعطشه: من أعظم القرب إلى الله تعالى، حتى صح في الحديث: أن بغيا سقت كلبا يأكل الثرى من العطش، فغفر الله لها.(1)ولا شيء يكثر على الله تعالى. فقد قال تعالى: (لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم) الزمر: 53.
كما أن رجلا سقى كلبا فشكر الله له فغفر له، كما جاء في الحديث الصحيح. فقالت الصحابة: أئن لنا في البهائم لأجرا يا رسول الله؟ قال: "في كل كبد رطبة أجر".(2)
لم يكن يخطر في بالهم أن الإحسان إلى البهيمة العجماء يستوجب أجرا، حتى بين لهم الرسول قيمة هذا العمل الدينية والأخلاقية، وأن الرحمة بكل (كبد رطبة) وهي كناية عن كل (كائن حي) يثاب عليها من قام بها، فإن الله لا يضيع عنده مثقال ذرة، وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما.
لا إغفال للجانب المادي:
ومع هذه العناية البالغة بالجانب الروحي في الإسلام، التي يجب أن يركز عليها خطابنا في عصر العولمة: ينبغي ألا ينسى هذا الخطاب الجانب الآخر: الجانب المادي، فإنما يقوم الإنسان بعنصريه: الطيني والروحي.
الاهتمام بالدنيا وعمارتها:
__________
(1) رواه مسلم (4163) عن أبي هريرة.
(2) رواه البخاري (2190) ومسلم (4162) عن أبي هريرة.(1/51)
ومن مظاهر الاهتمام بالجانب المادي: الاهتمام بالدنيا، فهي التي استخلفنا الله فيها، وكلفنا فيها عبادته، وعمارة أرضه، (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها) هود: 61 وهي التي سخر لنا كل ما فيها من نعم لخدمتنا، وتسهيل مهمتنا (ألم ترو أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة) لقمان: 20 وقال تعالى: (الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار. وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار. وآتاكم من كل ما سألتموه، وإن تعدو نعمة الله لا تحصوها) إبراهيم: 32-34.
ومن هنا لم يحظر الإسلام على المسلم أن يعمل للدنيا، وأن يملكها، وأن يحسنها ويجمّلها، حتى يملك الحسنتين: حسنة الدنيا وحسنة الآخرة، كما قال تعالى في مدح قوم (ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) البقرة: 201 وكان الرسول أكثر ما يدعو بهذا الدعاء.
الإسلام يعتبر العمل لعمارة الدنيا عملا صالحا: إذا توافرت فيه النية الصالحة، وأخذ حظه من الإتقان، ولم يجر فيه على حق أحد، ولم يشغل عن عبادة الله تعالى، كما وصف الله رواد بيوته بقوله: (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة) النور: 37.
الخطر هو: إيثار الآخرة على الدنيا، وأن يجعل الدنيا أكبر همه، ومبلغ علمه، كالذين ذمهم الله بقوله: (فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا. ذلك مبلغهم من العلم) النجم: 30 (فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا. فإن الجحيم هي المأوى) النازعات: 37-39.
ومن المؤمنين من رزقهم الله ثواب الدنيا قبل الآخرة، كما قال تعالى: (فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين) آل عمران: 148.(1/52)
وقد آتى الله بعض رسله من الدنيا ما آتاهم، مثل يوسف وداود وسليمان، فقد آتاهم الله الملك، وآتى سليمان ملكا لا ينبغي لأحد من بعده.
المهم أن يملك المؤمن الدنيا ولا تملكه، وأن يجعلها في يده، ولا يسكنها في قلبه.
نعم المال الصالح للعبد الصالح:
ومن دلائل العناية بالجانب المادي: أن الإسلام لا يعتبر المال شرا، بل يعتبره خيرا ونعمة إذا أخذ من حله، وأنفق في حله، ولم يبخل به عن حقه. وقد كان النبي الكريم يدعو الله فيقول: "اللهم إني أسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى".(1)وامتن الله عليه تعالى: (ووجدك عائلا فأغنى) الضحى: 8 وقال: "ما نفعني مال كمال أبي بكر"(2)ودعا لخادمه أنس: أن يكثر الله ماله(3). وقال لسعد بن أبي وقاص: "إنك إن تذر ورثتك أغنياء: خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس".(4)
وكان من العشرة المبشرين بالجنة والمرشحين للخلافة، أو الذين استخلفوا بالفعل أغنياء، مثل: أبي بكر، وعثمان، وعبد الرحمن بن عوف، والزبير بن العوام.
ولا ينظر الإسلام إلى المال والغنى نظرة المسيحية إليه، فالإنجيل يقول: لا يدخل الجنة غني، حتى يدخل الجمل في سم الخياط" ويقول: "إنكم لا تستطيعون أن تجمعوا بين الله والمال".
أما رسول الإسلام فيقول: "نعم المال الصالح للمرء الصالح"(5)ويقول تعالى: (فقلت: استغفروا ربكم إنه كان غفارا. يرسل السماء عليكم مدرارا. ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا) نوح: 10-12.
__________
(1) رواه مسلم (4898) عن عبد الله بن مسعود.
(2) رواه الترمذي (3594) وقال: حسن غريب، عن أبي هريرة.
(3) رواه البخاري (5859) ومسلم (1055) عن أنس.
(4) رواه البخاري (1313) ومسلم (3076) عن سعد بن أبي وقاص.
(5) رواه أحمد عن عمرو بن العاص.(1/53)
ولقد جاءت نصوص وأحكام القرآن والسنة تنظم شأن المال والتعامل فيه، وتعتبره عصب الحياة، مثل قوله تعالى: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما) النساء: 5، بل أنزل الله تعالى أطول آية في كتابه لينظم شأنا غير كبير يتعلق بالمال وهو كتابة الدين (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه... الآية) البقرة: 282.
كما أن أركان الإسلام فيها ركن يتعلق بالمال وتوزيعه لمستحقيه، وهو الزكاة.
كما أن الموبقات السبع تتضمن كبيرتين تتعلقان بالمال، وهما : "أكل الربا، وأكل مال اليتيم".
وفي وصايا سورة الإسراء، نجد جملة منها تتعلق بأمر المال، مثل قوله تعالى:(وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا، إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين) الإسراء: 27.
وقوله تعالى: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا) الإسراء: 29، وقوله سبحانه: (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده) الإسراء: 34.
وفي الأرباع الأخيرة من سورة البقرة كزت على المال وإنفاقه وتوزيعه وكسبه وتنميته، وحملت على الذين يأكلون الربا، وأنذرتهم إنذارا شديدا (فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله) البقرة: 279.
وأحكام المعاملات المالية تأخذ مساحة كبيرة من الفقه الإسلامي، حتى يستقيم التعامل على أساس العدل والوضوح، بعيدا عن الظلم والغرر والميسر.
ومن مظاهر المادية: الاستمتاع بطيبات الحياة، فإن الله لم يحرم على الناس طيبا مما خلقه الله لهم، بل كان عنوان رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل: أنه (يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث) الأعراف: 157.(1/54)
وأنكر القرآن بشدة على الذين يحرمون زينة الله والطبيات من الرزق، فقال بصيغة الاستفهام الإنكاري: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) الأعراف: 32، وكذا قوله: (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا) الأعراف: 31.
فلا حرج على المسلم المتدين أن يأكل من طيبات الدنيا، ويستمتع بزينتها الحلال، وقد سماها القرآن (زينة الله) التي أخرج لعباده، تشريفا لها، وترغيبا فيها.
وقال رسول الإسلام: "إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده"(1).
وسمع أحد الصحابة الرسول يقول: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر" فقال: يا رسول الله، إني رجل أولعت بالجمال في كل شيء، ولا أحب أن يفوتني أحد بشراك نعل، فهل هذا من الكبر؟ فقال: "إن الله جميل يحب الجمال! الكبر بطر الحق وغمط الناس".(2)
إنما يكره الإسلام الاستغراق في هذا الاستمتاع حتى يصل إلى درجة الترف، الذي يفسد الحياة، ويفسد الإنسان، ويصيب المجتمع بالانحلال، كما قال تعالى: (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا) الإسراء: 16.
العناية بالجسم:
ومن مظاهر الاهتمام بالجانب المادي: العناية بالجسم، والحفاظ عليه: من ناحية الصحة والسلامة، ومن ناحية النظافة والتجميل، ومن ناحية القوة والمرونة.
__________
(1) رواه الترمذي (2744) وقال: حديث حسن، عن عبد الله بن عمرو.
(2) رواه مسلم (131) عن ابن مسعود.(1/55)
ولأول مرة يسمع الناس في جو الدين هذه الكلمة المعبرة: "إن لبدنك عليك حقا" قالها محمد عليه الصلاة والسلام لأحد أصحابه حين بالغ في العبادة على حساب جسده، وواصل صيام النهار وقيام الليل، وتلاوة القرآن، فأراد الرسول الكريم أن يوقفه عند الحد الوسط، والمنهج الوسط، فقال له: "إن لبدنك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا، وإن لأهلك عليك حقا، وإن لزورك (أي زوارك) عليك حقا"(1)أي فأعط كل ذي حق حقه.
وبهذا علمه الوسطية والموازنة بين الحقوق بعضها وبعض، ومنها حق جسده عليه، ومن حقه عليه: أن يطعمه إذا جاع، وأن يسقيه إذا ظمئ، وأن يريحه إذا تعب، وأن ينظفه إذا اتسخ، وأن يقويه إذا ضعف، وأن يداويه إذا مرض.
ومن توجيهاته صلى الله عليه وسلم: "ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء".(2)
وقد حل مشكلة عويصة عند أهل الدين، وهي علاقة الدواء البشري بالقدر الإلهي، فقد سئل عليه الصلاة والسلام: يا رسول الله أرأيت أدوية نتداوى بها، وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئا؟ فقال: "هي من قدر الله".(3)
فما أصدق هذا الجواب وما أحكمه وما أروعه! فالذي قدر الداء، قدر الدواء، والناس يتصورون الأدواء والأمراض من قدر الله، ولا يتصورون أدويتها من قدر الله، فعلمهم: أن الكل بقدر الله، الداء بقدر الله، والدواء بقدر الله، والمؤمن يدفع قدر الله بقدر الله.
ونصح الرسول بعض من اشتكى من فواده: أن يذهب إلى الحارث بن كلدة، الطبيب الثقفي المعروف، وقالوا: إنه لم يكن أسلم حينئذ، فدل على جواز العلاج عند غير المسلم ما دام مأمونا.
وقد شرع الإسلام رياضات متنوعة، لتقوية الجسم مثل السباحة والرماية، وركوب الخيل، وغيرها من ألعاب الفروسية.
__________
(1) متفق عليه عن ابن عمرو.
(2) رواه مسلم (2204) عن جابر بن عبد الله.
(3) رواه الترمذي (2065) وابن ماجه (3437) عن أبي خزامة.(1/56)
وتعاليم الإسلام كلها: تحافظ على الجسم، من العبادات والطهارات، وتحريم المسكرات والمخدرات، وتناول كل ما يضر بالأجسام، إذ لا ضرر ولا ضرار.
وهذا الاهتمام بالجسم انفرد به دين الإسلام، في حين أن هناك ديانات وفلسفات، تقوم على فكرة تعذيب الجسم من أجل نقاء الروح، فقد يعذبه بالجوع أو بعدم النظافة، أو بتعريضه للأذى، أو بحرمانه من الطيبات، وهذا معروف عند البراهمة في الهندوسية، وعند البوذية الأسيوية، والمانوية الفارسية، والرواقية الرومانية، والرهبانية المسيحية، وغيرها، قد جاء الإسلام بالمنهج الوسط للأمة الوسط (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) البقرة: 143.
4ـ يتبنى العالمية ولا يغفل المحلية
لا بد للخطاب الديني في عصرنا هذا ـ عصر العولمة ـ: أن يتبنى عالمية الدعوة والتوجه، وإن لم يغفل الجوانب المحلية والإقليمية، وهذا ما نادينا به ولا زلنا، وذلك لسببين أساسيين:
أولهما: أن هذه هي طبيعة الدعوة الإسلامية، فهي ليست دعوة عربية، ولا دعوة شرقية، وليست دعوة عرقية ولا إقليمية بحال. بل هي دعوة (للعالمين).
أعلنت عن ذلك منذ فجرها في مكة، وأتباعها قليل مستضعفون في الأرض يخافون أن يتخطفهم الناس، فقال تعالى لرسوله في سورة الأنبياء، وهي مكية (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) الآية: 107. وقال في سورة الفرقان وهي مكية (تبارك الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا) الآية: 1. وفي سورة ص وهي مكية (إن هو إلا ذكر للعالمين ولتعلمن نبأه بعد حين) وتكرر وصف القرآن في أكثر من سورة مكية بأنه (ذكر للعالمين) أو (ذكرى للعالمين).
وفي سورة الأعراف ـ وهي مكية ـ أمر من الله لرسوله (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا) الآية: 158.
وعدد الرسول الكريم خصائصه التي تميز بها على من قبله من الأنبياء، فكان منها "وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة" متفق عليه من حديث جابر.(1/57)
وفي أول فرصة أتيحت لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلح الحديبية: وجه رسائله إلى كسرى وقيصر وغيرهما من ملوك الأرض القريبين من جزيرة العرب، يدعوهم فيها إلى الإسلام.
وعالمية الإسلام من الثوابت اليقينية التي لا نزاع فيها.
والسبب الثاني: أن العزلة الآن لم تعد ممكنة، لم يعد في إمكان عالم أو داعية أن يغلق أبواب مسجده أو معهده على نفسه وعلى مصليه أو تلاميذه، ويقول لهم ما يود أن يقوله دون أن يسمع به أحد.
فقد تقارب العالم وتقارب حتى أصبح شبه قرية واحدة، وسماه بعضهم (قريتنا الكبرى). وأنا أقول: إنه لم يعد قرية كبرى، بل قرية صغرى. فإن القرية الكبرى لم يكن يعرف الناس في شرقها ما يجري في غربها إلا بعد يوم أو أكثر، أما العالم اليوم، فنحن نعلم ما يحدث فيه بعد لحظات من وقوعه، بل قد تتابع الحدث وهو يحدث في مكانه لحظة بلحظة، نتيجة لثورة الاتصالات الحالية.
فلهذا ينبغي علينا أن نعلم أن ما يقال على منبر في قرية نائية في إندونيسيا أو في نيجيريا، أو في المغرب أو في السودان: قد تتناقله وكالات الأنباء في العالم، وتذيعه في أقطار الأرض كلها.
في السنة الماضية كنا في مؤتمر إسلامي كبير، وقام أحد المتحدثين، وقال كلاما على عكس اتجاه المؤتمر، يدعو إلى التعصب لا التسامح، والانغلاق لا الانفتاح، ويقول: إنه لا يوجد دين غير الإسلام، فالله تعالى يقول: (إن الدين عند الله الإسلام) آل عمران: 19 ولا يوجد حوار بيننا وبين الآخرين، إنما هي دعوتهم فقط إلى الإسلام.
وقلت لرئيس المؤتمر، وكان يجلس بجانبي: إن كلام هذا الرجل خطير، ويهدم كل ما نبنيه، ويجب أن يُرد عليه. قال: إنه يقوله فيما بيننا.(1/58)
قلت: وإن كان يقوله فيما بيننا، فليس كلاما صحيحا. كيف يقول: لا يوجد دين آخر، والله تعالى يقول للمشركين الوثنيين: (لكم دينكم ولي دين) الكافرون: 6، ويخاطب أهل الكتاب فيقول: (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم) النساء: 171 ويذم أهل الكفر (الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا) الأعراف: 51 إلى آخره.
ثم كيف ينكر الحوار، ونحن مأمورون به شرعا في قوله تعالى: (وجادلهم بالتي هي أحسن) النحل: 125.
ومن ناحية أخرى: لا يوجد شيء اسمه (فيما بيننا) فكل ما نقوله يعرف ويذاع على الناس.
ولا يقبل منطق الإسلام أن يكون لنا إسلامان: إسلام نتداوله بيننا نكتمه عن الناس، وإسلام نعلنه على الملأ، ونواجه به العالم. إنما هو إسلام واحد، مصدره القرآن والسنة، نعمل به في أنفسنا، وندعو إليه غيرنا، ونغالي به، ونباهي بإعلانه (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا قال إنني من المسلمين) فصلت:33.
الاهتمام بالواقع المحلي:
ومع دعوة الخطاب الإسلامي للعالمية، وانفتاحه على الكون: لا ينسى الواقع الإقليمي والمحلي من حوله، فالأقربون أولى بالمعروف، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول".(1)
والقرآن يقول: (يسألونك ماذا ينفقون؟ قل ما أنفتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل) البقرة: 215.
فبدأ بالوالدين والأقربين، لأنهم أحق من غيرهم وأولى.
والإسلام ـ إن كان يعتبر الأمة الإسلامية أمة واحدة ـ يرى توزيع زكاة كل إقليم في فقراء الإقليم نفسه. ولما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذا بن جبل إلى اليمن قال له: "أخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، لترد على فقرائهم".(2)
وبهذا سبق الإسلام ما يحرص عليه العالم المتحضر من فكرة (اللامركزية) ونظام (الإدارة المحلية) بدل (المركزية) الصارمة التي تتبع في بعض الأنظمة.
__________
(1) رواه مسلم (997) عن جابر.
(2) متفق عليه من حديث ابن عباس.(1/59)
والإسلام يبدأ بالتنبيه على حق الأسرة، ويعنى بها: الأسرة الموسعة التي تشمل الزوجين والأبناء والبنات والأحفاد، والوالدين، والأجداد، ثم تتسع لتشمل أولي القربى وذوي الأرحام: الإخوة والأخوات، وبنيهم وبناتهم، والأعمام والعمات، والأخوال والخالات، وأولادهم. ويفرض الإسلام لهؤلاء حقوقا من الصلة والبر، قد تصل إلى النفقة على القريب بشروط معينة، كما أن القريب قد يرث قريبه إذا مات بشروط معينة.
ثم يمتد اهتمام المسلم إلى جيرانه الأقرب فالأقرب، حتى يشمل الحي كله، أو القرية كلها جيرانا له. وهؤلاء لهم حقوق يجب أن ترعى، وفي الحديث: "ليس بمؤمن من بات شبعان وجاره إلى جنبه جائع".(1)
وهناك حقوق مفصلة للجار على جاره، يرجع إليها في كتب الحديث والفقه والآداب الشرعية.
ثم أهل الإقليم الواحد لهم حقوق لبعضهم على بعض، إلى أن ينتهي إلى الأمة كلها، باعتبار أن المؤمنين إخوة كما قال الله تعالى: (إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم) الحجرات: .
وأنهم جميعا (أمة واحدة) وإن اختلفت أوطانهم، واختلفت أعراقهم، واختلفت ألسنتهم (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) الأنبياء: 92 (وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون) المؤمنون: 52.
و"المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه".(2)
و"المسلمون يسعى بذمتهم أدناهم وهو يد على من سواهم".(3)
5ـ يستشرف المستقبل، ولا يتنكر للماضي
ومن خصائص خطابنا الإسلامي المعاصر: أن يخرج من التقوقع على الماضي، والانكفاء على التراث، ليتطلع إلى المستقبل، ويستشرف آفاقه.
__________
(1) رواه الحاكم (4/184) عن ابن عباس.
(2) رواه البخاري (2442) عن ابن عمرو، ومسلم (2564) عن أبي هريرة.
(3) رواه أبو داود (2751) والنسائي (4734) عن عبد الله بن عمرو.(1/60)
وقد أصبح تحرك الناس إلى المستقبل في عصرنا سريعا حثيث الخُطا، حتى لا يكاد الإنسان يصدق ما يحدث من تغير هائل في الماديات والمعنويات، بسرعة مذهلة، نتيجة للثورات العلمية التي فرضت نفسها على العالم: الثورة الإلكترونية، والثورة البيولوجية، والثورة النووية، والثورة الفضائية، وثورة الاتصالات، وثورة المعلومات. ومنطق الإسلام في قرآنه وسنته يفرض علينا أن نوجه اهتمامنا إلى المستقبل، ولا نعيش أسرى الماضي.
القرآن الكريم والمستقبل:
فالمتدبر للقرآن الكريم يجده ـ منذ العهد المكي ـ يوجه أنظار المسلمين إلى الغد المأمول، والمستقبل المرتجى، ويبين لهم أن الفلك يتحرك، والعالم يتغير، والأحوال تتحول، فالمهزوم قد ينتصر، والمنتصر قد ينهزم، والضعيف قد يقوى، والقوي قد يضعف، والدوائر تدور، سواء كان ذلك على المستوى المحلي أم العالمي، وفقا لسنة (التداول) التي أشار إليها القرآن بقوله تعالى: (وتلك الأيام نداولها بين الناس) آل عمران: 140.
وعلى المسلمين أن يهيئوا أنفسهم، ويرتبوا بيتهم، لما يتمخض عنه الغد القريب أو البعيد، فكل آت قريب.
نقرأ سورة (القمر) المكية، فنجد فيها قول الله تعالى عن المشركين، وهم أولو القوة والشوكة، والعدد والعدة: (سيهزم الجمع ويولون الدبر. بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر) القمر: 45،46.
ذكر ابن كثير في تفسيره عن ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: لما نزلت (سيهزم الجمع ويولون الدبر) قال عمر: أي جمع يهزم؟ أي جمع يغلب؟. فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع، وهو يقول: "سيهزم الجمع ويولون الدبر" فعرفت تأويلها يومئذ.(1)
وروى البخاري عن عائشة قالت: نزل على محمد صلى الله عليه وسلم بمكة، وإني لجارية ألعب: (بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر).
__________
(1) تفسير ابن كثير (4/266) طبعة الحلبي.(1/61)
فكان المقصود بهذه الآية وأمثالها تهيئة الذهنية المسلمة، والنفسية المسلمة، للتغير الحتمي، والغد المرتقب.
وعلى المستوى العالمي نجد آيات الكتاب العزيز تتحدث عن ذلك الصراع التاريخي بين الدولتين العظميين: فارس والروم ـ وقد كان صراعا اهتم له الفريقان في مكة: المسلمون والمشركون ـ فتبشر الآيات الجماعة المؤمنة بأن المستقبل للروم من أهل الكتاب، على الفرس المجوس عباد النار، وأنهم ـ وإن غُلبوا اليوم ـ سيغلبون في بضع سنين، وفي هذا تقول السورة جازمة: (الم. غلبت الروم. في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون. في بضع سنين. لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون. بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الحكيم) الروم: 1-5.
وهذه الآيات الكريمة من كتاب الله تعالى تدلنا على أمرين:
1ـ مدى وعي المجموعة المسلمة ـ على قلتها وضعفها المادي ـ بأحداث العالم الكبرى، وصراع العمالقة من حولها، وأثره عليها إيجابا وسلبا.
2ـ تسجيل القرآن لهذه الأحداث، وتوجيه النظر إلى عوامل التغير، والانتقال من الواقع إلى المتوقع في ضوء السنن.
والعبرة من هذا: ألا يعيش المسلمون في هموم يومهم، ومشكلات حاضرهم، غافلين عن إمكانات المستقبل، وآفاقه المرتقبة، وإرهاصاته، ومبشراته أو نذره، فيفاجئوا بما لم يكن في حسبانهم، ولم يخطر في بالهم.
وفي سورة المزمل المكية، نقرأ الآية الأخيرة من السورة التي تتضمن تخفيف الله عن نبيه ومن معه في قيام الليل وقراءة القرآن، لما ينتظرهم من مهام جسيمة في المستقبل، فسيواجهون أعداء يقاتلونهم ويصدونهم عن سبيل الله. فليوفروا بعض قوتهم لهذا اللقاء المفروض عليهم، والذي يقتضي التخفيف عنهم.(1/62)
يقول تعالى: (إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك، والله يقدر الليل والنهار، علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن، علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله، فاقرءوا ما تيسر منه) المزمل: 20.
الرسول والمستقبل:
والقارئ المتأمل لسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبين له أنه لم يكن غافلا عن مستقبل دعوته، بل كان يفكر فيه، ويخطط له، في حدود ما هيأ الله له من فرص، وما آتاه من أدوات وأسباب.
ويكفي أن نقرأ عن جهده ونشاطه صلى الله عليه وسلم في مواسم الحج التي تجمع ممثلين من جميع قبائل العرب، وكيف كان عليه الصلاة والسلام يعرض دعوته عليهم، ويطلب نصرتهم، ويعدهم بوراثة ملك كسرى وقيصر، ليعلم إلى أي أفق كان يرنو بصره صلى الله عليه وسلم.
وكان الرسول الكريم مؤمنا بمبدأين أساسيين:
الأول: أن هذا الواقع لا بد أن يزول، لأنه يحمل عوامل زواله، وأن البديل له هو الإسلام، وأن ليل الجاهلية الحالك والجاثم سيعقبه فجر صادق، وما على المؤمنين إلا أن يصمدوا ويصبروا ولا يستعجلوا الثمرة قبل إبانها.
لما اشتد الأذى بالصحابة في مكة، وخصوصا المستضعفين منهم، جاء خبّاب بن الأرتّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو إليه ويستنجد به، وهو متوسد رداءه في ظل الكعبة. فقال بلسانه ولسان المعذبين من أمثاله: ألا تسنتصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين! ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه! والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، فلا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون".(1)
__________
(1) رواه البخاري (3612) عن خباب بن الأرت.(1/63)
الثاني: أن هذا المستقبل المنشود إنما يتحقق وفق سنن الله في رعاية الأسباب، وتهيئة الخطط، وإعداد المستطاع من العدة، وإزاحة العوائق من الطريق، وترك ما عدا ذلك للإرادة الإلهية، فما يعجز عنه البشر لا تعجز عنه القدرة المطلقة.
تجد ذلك واضحا كل الوضوح في الهجرة إلى المدينة، فقد خُطِّط لها بإحكام، قدر ما يتيسر للبشر.
فقد اختار الرسول الكريم مهجره داخل جزيرة العرب لا خارجها ـ كالحبشة مثلا ـ فاختار يثرب، إذ الإسلام لا بد أن ينطلق من أرض العرب. فهذا هو الموقع المناسب، واختار أنصاره من العرب الخلص، الذين بايعوه على أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم وذرياتهم، فكانوا الأوس والخزرج. إذ لا بد أن يكون أنصار الإسلام الأولون عربا. وقدم هجرة أصحابه على هجرته، ليكون ذلك أمكن لهم، وأليق بمقدمه بعدهم.
وهيأ للهجرة بعد إذن الله له: الرواحل التي يمتطيها في رحلته الشاقة. والرفيق الذي يأنس إليه ويطمئن بصحبته ورأيه، فكان أبا بكر. والدليل الذي يعرف الطريق، ويؤتمن على السر، فكان عبد الله بن أريقط، وهو مشرك مأمون. والغار الذي يتوارى فيه حتى يهدأ الطلب، ويفتر الحماس.
وأحاط ذلك كله بما يمكن للبشر من أخذ الحذر والكتمان، وأسباب التوقي والاحتياط.
وترك للإرادة الإلهية بعد ذلك ما لا حليلة له فيه، ولذا لم يخامره صلى الله عليه وسلم أدنى شك في أن الله ناصره.
وعندما قال أبو بكر له، وهما في الغار: يا رسول الله، لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا! قال: يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ ونزل في ذلك قوله تعالى: (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم) التوبة: 40.(1/64)
وكان من أوائل ما صنعه لإقامة المجتمع الإسلامي بالمدينة: أن بنى مسجده للصلاة وعبادة الله، ولقاء المؤمنين.
وأنشأ سوقا تجاريا، بديلا عن سوق بني قينقاع التي يتحكم فيها اليهود.
وعقد معاهدة مع يهود المدينة ليتفرغ للجبهة الوثنية التي لن تدعه يشعر بالهدوء والراحة.
وبدأ يرسل السرايا حول المدينة لإثبات الوجود، وتدريب الطاقات، وتخويف الطامعين، وإرساله رسالة إلى مشركي مكة: إننا هنا.
ومما فعله صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة: أنه قال: أحصوا لي عدد من يلفظ بالإسلام. فأحصوا له، فكانوا ألفا وخمسمائة رجل. وفي رواية: اكتبوا لي.
فهو إحصاء كتابي يراد تدوينه وتثبيته، وهي خطوة تقدمية في هذا العصر المبكر. فهو يريد بهذا الإحصاء، أن يعرف مقدار (القوة الضاربة) عنده في هذا الوقت، ليرتب عليها أموره فيما بعد.
وقد تبين لنا من معارف عصرنا: أن (الإحصاء) مقدمة ضرورية لأي تخطيط علمي سليم، لمواجهة المستقبل واحتمالاته.
لا يتنكر للماضي:
ومع اهتمام خطابنا الديني بالمستقبل، واستشرافه له، ومحاولة استكشافه بعين مسلمة، ورؤية مؤمنة: لا يتنكر للماضي، ولا يهيل التراب على التراث، ولا يحاول أن يقلد أولئك الذين يريدون أن ينسلخوا من ماضيهم، أو من الانتساب إلى آبائهم.
إنهم يريدون أن يحذفوا (الأمس) من الزمن، وأن يحذفوا (الفعل الماضي) من اللغة، ويحذفوا التاريخ من العلوم، وهذا خبل في العقل، وقصور في الرؤية، وخلل في التوازن، فالزمن ماض وحاضر ومستقبل.
والله تعالى خلق للإنسان ذاكرة تختزن الماضي، كما خلق له مخيلة تستشف المستقبل. والإنسان الذي يصاب بفقد ذاكرته يعتبر مريضا في نظر الطب وفي نظر المجتمع، ولا يستطيع أن يبني حاضره أو مستقبله إلا على أساس ماضيه.
ويقول شوقي رحمه الله:
مثل القوم نسوا تاريخهم كلقيط عيّ في الحي انتسابا
أو كمغلوب على ذاكرة يشتكي من صلة الماضي انقضابا(1/65)
ولهذا رأينا القرآن يذكر قصص الأولين، لنتخذ منها الدروس والعبر، كما قال تعالى: (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب) يوسف: 111 وقال: (وكلا نقصص عليكم من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك) هود: 120.
كما نرى القرآن يذكر المؤمنين بما جرى لهم من أحداث ظهر فيها فضل الله عليهم (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم) المائدة: 11. يذكرهم بما كان من كيد بني قيقناع من اليهود.
ويقول: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها) الأحزاب: 9 يذكرهم بما كان من كيد قريش وغطفان، حين غزوا المدينة وانضم إليهم يهود بني قريظة.
ويقول سبحانه (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره) الأنفال: 26 يذكرهم بنصر بدر بعد استضعافهم في مكة.
ويقول تعالى: (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم: أنى هذا؟ قل: هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير) آل عمران: 165 يذكرهم بما أصباهم في أحد من الانكسار بعد ما أصابوا من النصر في بدر، وسبب ذلك يرجع إلى أنفسهم، وعصيانهم أمر الرسول، وتركهم موقعهم على الجبل.
وهكذا لا بد من تذكر الماضي، لتنتفع به في بناء المستقبل.
6ـ يتبنى التيسير في الفتوى والتبشير في الدعوة
وينبغي للخطاب الديني اليوم: أن يتبنى منهج التيسير في الفتوى، والتبشير في الدعوة، اتباعا للمنهج النبوي الذي علمه أصحابه، كما رواه عنه أنس أنه قال: "يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا".(1)
ولما أرسل معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري إلى اليمن، أوصاهما بوصية مختصرة جامعة، فقال: "يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا".(2)
ترجيح التيسير على التعسير في الفقه:
__________
(1) متفق عليه عن أنس.
(2) متفق عليه عن أبي موسى الأشعري.(1/66)
ومن هنا كان على خطابنا الإسلامي أن يراعي هذه الطريقة النبوية، فيتخد ـ في مجال الآراء الفقهية المتعلقة بأحوال الأسرة من الزواج والطلاق وما يتعلق بهما، أو بالمجتمع وسياسته واقتصاده وقوانينه ومعاملاته، وعلاقاته الدولية ـ خط التيسير، لا التعسير، والتسهيل لا التعقيد والتشديد.
وذلك لجملة أسباب:
أولها: أن الشريعة مبناها على اليسر، ورفع الحرج، والتخفيف، والرحمة والسماحة، كما دلت على ذلك النصوص الغزيرة والوفيرة.
يقول تعالى في آية الصيام: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) البقرة: 185، وفي ختام آية الطهارة: (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج) المائدة: 6، وعقب أحكام النكاح والمحرمات: (يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا) النساء: 28، وفي أحكام القصاص والعفو فيه: (ذلك تخفيف من ربكم ورحمة) البقرة: 178.
وقد ذكرنا حديث الرسول الكريم الذي يقول: "يسروا ولا تعسروا"(1)وحديثه لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما إلى اليمن: "يسرا ولا تعسرا"(2)ويقول: "بعثت بحنيفية سمحة".(3)
ولما أصابت عمرو بن العاص جنابة في ليلة باردة، فصلى دون اغتسال، فشكاه من معه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ذكرت قول الله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما) النساء: 29، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم.(4)وتبسمه صلى الله عليه وسلم تعني: إقراره على ما صنعه. على حين أنكر أشد الإنكار على جماعة أفتوا مجروحا أصابته جنابة بضرورة الاغتسال، فاغتسل فمات بسبب فتواهم المعنتة، فقال: قتلوه، قتلهم الله! هلا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال، إنما كن يكفيه أن يربط على جرحه ويتيمم".(5)
__________
(1) متفق عليه عن أنس.
(2) متفق عليه عن أبي موسى.
(3) رواه أحمد عن عائشة.
(4) رواه أبو داود (334) عن عمرو بن العاص.
(5) رواه أبو داود عن جابر، ورواه أحمد وأبو داود والحاكم عن ابن عباس، كما في صحيح الجامع الصغير (4363،4364).(1/67)
ثانيا: أن الناس في عصرنا أحوج ما يكونون إلى التيسير عليهم، والتخفيف عنهم، رفقا بهم، ومراعاة لحالهم، حيث ضعفت الهمم، وغلب على الناس التكاسل عن الخيرات، وكثرت فيهم العوائق عن الخير، والمرغبات في الشر. وخصوصا بعد اختلاط المجتمع الإسلامي بغيره من المجتمعات، وتأثره بكثير من الأفكار والأعراف، إذ لم تعد العزلة ممكنة في عصرنا.
فالأولى أن يفتوا بالرخص أكثر من العزائم، وبالتسهيل أكثر من التشديد. كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم مع حدثاء العهد بالإسلام، ومع الأعراب من أهل البادية، فهو يقبل ممن أقسم ألا يزيد على الفرائض شيئا من السنن أو التطوع ولا ينقص منها، ويقول: "أفلح إن صدق" أو "دخل الجنة إن صدق" أو "من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا".
كما رفق بالأعرابي الذي بال في المسجد، وهَمَّ به أصحابه، فأمرهم ألا يقطعوا عليه بولته، وأن يضعوا عليها ذنوبا من ماء، قائلا: "إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين".(1)وكان ذلك رفقا به، ومراعاة لحاله.
ثالثا: إن الفرد بوسعه أن يشدد على نفسه إن شاء، ويأخذها بالعزائم إن كان من أهلها، مع أن الأولى هو الاعتدال والتوازن، كما في الحديث: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته".(2)
ولكن لا ينبغي للفقيه أن يشدد على جمهور الناس في الأمور التي تهم جمهورهم، وتتصل بحياتهم الاجتماعية، مراعيا أن فيهم: الضعيف، والكبير، والمريض، وصاحب العذر، كما جاء في الإمامة في الصلاة: "من أَمَّ الناس فليخفف فإن من ورائه الكبير والمريض وذا الحاجة".(3)
والصلاة رمز لشؤون الحياة المختلفة.
__________
(1) رواه البخاري (220) عن أبي هريرة.
(2) رواه أحمد وابن حبان والبيهقي في الشعب عن ابن عمر، وهو في صحيح الجامع الصغير (1886).
(3) رواه البخاري (704) ومسلم (466) عن أبي مسعود الأنصاري.(1/68)
ولهذا يحسن بالخطاب الديني المعاصر: ألا يتبنى الآراء المتشددة التي تضيق ولا توسع، وتجنح إلى التحريم أكثر من التحليل، في القضايا المتعلقة بالمرأة والأسرة واللهو والفنون ونحوها.
وفي مجال الاقتصاد، ومحال التشريع: يجب تبني آراء شيخ الإسلام ابن تيمية في تضييق وقوع الطلاق، حفاظا على مؤسسة الأسرة.
ومثل ذلك الآراء المتعلقة بالمعاملات، فالأصل فيها الإباحة والإذن لا المنع والتحريم، كما أن الأصل فيها: النظر إلى المعاني والمقاصد، لا مجرد الوقوف عند ظواهر النصوص، كما قرر ذلك الإمام الشاطبي في (الموافقات) ودلل عليه.
وكذلك قوانين العقوبات، ينبغي الأخذ بالأقوال الميسرة فيها، كالقول الذي يرى أن التوبة تسقط الحد، وأن عقوبة الخمر عقوبة تعزيرية(1) ... وهكذا.
وأود أن يكون شعارنا في هذه المرحلة قول الإمام سفيان الثوري: "إنما الفقه الرخصة من ثقة، أما التشديد فيحسنه كل أحد".(2)
التشديد في الأصول:
والتيسير الذي يتبناه الخطاب الإسلامي في عصر العولمة: إنما هو تيسير في الفروع، التي هي مجال رحب للاجتهاد والاختلاف.
ولكن الأصول التي هي أساس الدين ومحوره، والتي يقدم عليها بنيانه، وتشاد عليها أركانه، لا ينبغي التساهل فيها، فهي التي تحمي الأمة من الانفراط والذوبان.
ونعني بهذا الأصول: العقائد الأساسية التي هي عمدة الدين في الإلهيات والنبوات والسمعيات. والتي لا تقبل الاجتهاد ولا التجديد ولا التطور، ومن خالف فيها كفر أو فسق.
__________
(1) انظر في ذلك: رسالتنا (عوامل السعة والمرونة في الشريعة الإسلامية) العامل الخامس: تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والحال.
(2) انظر: كتابنا (أولويات الحركة الإسلامية) فصل (فكر وسطي).(1/69)
أما العقائد الفرعية، وما جرى فيها من خلاف، عبر عنه بعض السلف بقوله: هؤلاء قوم عظموا الله، وهؤلاء قوم نزهوا الله! فهذه للاجتهاد فيها مدخل، وللاختلاف فيها مجال، والمختلفون فيها دائرون بين الأجر والأجرين. فمن أصاب فله أجران، ومن أخطأ فله أجر. وهذا من فضل الله تعالى ورحمته، ومن روائع الإسلام أن يؤجر المجتهد وإن أخطأ، وإنما كان أجره نتيجة اجتهاده وتحريه.
ولقد حقق ابن تيمية وابن القيم ومن وافقهما: أن الأجر يشمل الاجتهاد في القضايا العلمية الأصولية، والقضايا العملية الفروعية، ولم يؤثر فرق بينهما. وهو الصحيح الذي تؤيده كل الأدلة.
التبشير في الدعوة:
وكما تبنى الخطاب الديني التيسير في مجال الفقه والفتوى، ينبغي أن يتبنى التبشير في مجال الدعوة والتعليم، ليكتمل المنهج النبوي المأمور به، فكما اتبعنا منهجه في قوله: "يسروا ولا تعسروا" علينا أن نتبعه في قوله: "وبشروا ولا تنفروا".
وعصرنا هذا أولى من غيره بالتزام التبشير، والبعد عن التنفير.
و"التبشير" مصدر بشَّر يبشِّر، وأصله الإخبار بأمر سارٍّ يظهر أثره على بشرة الإنسان، ثم استعمل فيما يقابل الإنذار، ولهذا كان رسل الله (مبشرين ومنذرين) يبشرون من آمن بالله وأطاع رسله بالجنة، والحياة الطيبة، وينذرون من كفر بالله وعصى رسله بالنار في الآخرة، والدمار في الدنيا.
والمراد بالتبشير هنا: كل دعوة تحبب الله تعالى إلى عباده، وترغبهم في عبادته وطاعته، وتقودهم بحب ورفق إلى اتباع صراطه المستقيم.
فالتبشير في نظري يتعلق بجانب الدعوة، كما أن التيسير يتعلق بجانب الفتوى، وإذا وفق العالم المسلم إلى اتباع منهج التيسير في الفتوى، والتبشير في الدعوة، فقد آوى إلى ركن ركين، وهدي إلى صراط مستقيم.(1/70)
ومعنى " لا تنفروا" أي لا تتبعوا النهج الذي ينفر الناس من شرع الله، ومن الالتزام بمنهجه القويم، مثل منهج الترهيب الدائم، والتخويف المستمر من الله تبارك وتعالى، بذكر آيات الوعيد والعذاب والبطش من الله، دون آيات الوعد والنعيم والرحمة منه سبحانه.
قال العلامة العيني في شرح الحديث في عمدة القاري: في قوله: "ولا تنفروا" يعني: بذكر التخويف وأنواع الوعيد، فيُتألف من قرب إسلامه بترك التشديد عليه، وكذلك من قارب البلوغ من الصبيان، ومن بلغ وتاب من المعاصي، يتلطف بجميعهم بأنواع الطاعة قليلا قليلا، كما كانت أمور الإسلام على التدريج، في التكليف شيئا بعد شيء، لأنه متى يسر على الداخل في الطاعة، أو المريد للدخول فيها، سهلت عليه وتزايد فيها غالبا، وإذا عسر عليه أوشك ألا يدخل فيها، وإن دخل أوشك ألا يدوم، أو لا يستحملها(1).أ.هـ.
فينبغي على الدعاة أن يقودوا الناس إلى الله تعالى بزمام الحب، بدل أن يسوقهم بسوط الخوف.
وينبغي البعد عن المبالغة في الترغيب والترهيب والتخويف، الذي يتبعه كثير من الوعاظ، لأن هذا الأسلوب يرضي العوام، وإن كان ينفر المثقفين من الدين ومن رجاله ودعاته.
وكثيرا ما يقوم هذا الأسلوب الترهيبي المبالغ على الإسرائيليات والأحاديث الموضوعة والواهية، وهذه لا تصلح أن تكون مصادر لداعية في القرن الحادي والعشرين.
وبهذا نرى أن التيسير وعدم التعسير، يؤدي إلى التبشير وعدم التنفير، فهما يتداخلان أو يتلازمان.
7ـ ينادي بالاجتهاد ولا يتعدى الثوابت
ومن خصائص خطابنا الإسلامي في عصرنا هذا: أنه ينادي بالاجتهاد جزئيا وكليا، انتقائيا وإنشائيا، بوصفه طريقا شرعه الإسلام لاستنباط الأحكام من النصوص، ومما لا نص فيه.
ولا يقيم حربا بين نصوص الشريعة ومقاصدها، بل يفهم النصوص الجزئية في إطار المقاصد الكلية.
__________
(1) عمدة القاري ي شرح صحيح البخاري للعيني ج2 /47، طبع دار الفكر – بيروت.(1/71)
لا يقبل خطابنا الإسلامي المعاصر: مقولة (سد باب الاجتهاد) التي شاعت في بعض الأزمان، فقد كانت هذه دعوى لها أسبابها وبواعثها، وهي: سد الطريق على المتلاعبين بالدين، الذين أردوا أن يطوعوا الفقه لخدمة الأمراء، وإن لم يقل بذلك الأئمة السابقون فقال المورعون من العلماء: لا حق لكم في الاجتهاد، أرادوا أن يغلقوا الباب دونهم، حتى لا يتجاوزوا الحدود.
ومع هذا لم يخل عصر من العصور من المجتهدين في المذاهب المختلفة.
ففي القرن الثامن الهجري ظهرت مدرسة شيخ الإسلام ابن تيمية التجديدية باجتهاداتها التي خالفت فيها المألوف، والمأثور في الطلاق وغيره، ودخل ابن تيمية وابن القيم السجن من أجل فتاويهما التي زعم خصومهم أنهم خرقوا فيها الإجماع.
وفي هذا القرن كان في المغرب الأندلسي الإمام الأصولي أبو اسحاق الشاطبي (ت797هـ) صاحب (الموافقات) و (الاعتصام) وغيرهما، كما ظهر ابن خلدون الفيلسوف الاجتماعي مؤسس علم الاجتماع، وهو مجتهد من نوع جديد.
وفي القرن التاسع ظهر في مصر الإمام السيوطي الذى ادعى (الاجتهاد المطلق) وانكر عليه معاصروه دعواه، فرد عليهم برسالته القيمة (الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض) واثبت في كتابه هذا من وصلوا إلى مرتبة الاجتهاد من العلماء، ومن خالفوا تداعيهم في عدد من المسائل، وقال السيوطي: أن الناس يدعون اجتهادا واحدا، وأنا ادعى اجتهادات ثلاثة،: اجتهاد في اللغة، واجتهاد في الحديث، واجتهادا في الفقه، وتوفي السيوطي في القرن العاشر سنة (911هـ) .
وفي القرن الثاني عشر ظهر في الهند حكيم الإسلام العلامة ولي الله الدهلوي (ت 1176هـ) ليجلو الصدأ عن الفقه الإسلامي في الهند، ويحيي علوم الحديث، ويخفف من التعصب للمذهب الحنفي، وصنف جملة كتب في هذا الاتجاه، أهمها كتابه الفريد (حجة الله البالغة) في أسرار الحديث، وأسرار الشريعة.(1/72)
وفي نفس العصر ظهر علامة اليمن المجتهد المطلق العلامة محمد ابن إسماعيل الأمير الشهير بـ(الصنعاني) صاحب (سبل السلام) وحاشية العدة على العمدة، أي عمدة الأحكام للمقدسي، الذي شرحه ابن دقيق العيد في كتابه (الإحكام في شرح عمدة الأحكام).
وفي القرن الثالث عشر ظهر علامة اليمن العملاق محمد على الشوكاني (ت1250هـ) الذي ملأ الدنيا علما في الأصول والفروع، وترك وراءه آثارا علميه تجديدية، تشير إليه، وتدل عليه، مثل: (نيل الأوطار) و (السيل الجرار) و (الدراري المضيئة) و(إرشاد الفحول) في علم الأصول، و (فتح القدير) الجامع بين الرواية والدراية في التفسير، وغيرها.
إن الاجتهاد باب فتحه رسول الله صلى الله عليه وسلم لفهم الشرع الشريف، فلا يملك أحد أن يغلقه. المهم أن يدخل هذا الباب من كان أهلا له، ومن يملك الشروط التي اتفق عليها العلماء لمن يريد الاجتهاد: من المعرفة العميقة بالقرآن وعلومه، والحديث وعلومه، واللغة وعلومها، والفقه وأصوله، وأن يكون لديه الملكة التي تؤهله للدخول في هذا الميدان، فليس الباب مفتوحا لكل من هب ودرج من الناس، وليس كل من قرأ بعض كتب الحديث، أو بعض كتب الفقه بأهل لأن يحشر نفسه في زمرة المجتهدين.
وإن عصرنا هذا لهو أولى العصور بتجديد الاجتهاد فيه، لما جد فيه من مسائل لم تخطر للأئمة السابقين على بال، ولأن التغيرات فيه كثيرة جدا، وسريعة جدا، وهامة جدا، وهي تقتضي من أهل العلم الشرعي أن يبدوا رأيهم فيها، ولا ينتظروا من الموتى أن يطلبوا عليهم من القبور ليعطوهم فيها رأيا.
إننا نؤمن بأن الإسلام هو دين الله الخاتم، وأن شريعته خالدة، وأنها صالحة لكل زمان ومكان، وهذا أمر متفق عليه، وإنما تصلح الشريعة للتطبيق في كل زمان: إذا واجهت مشاكل المجتمعات بوصف الحلول الشرعية لها، فالاجتهاد في هذا العصر لحل مشكلاته، وبيان الحكم الشرعي فيها: فريضة وضرورة، فريضة يوجبها الدين، وضرورة يحتمها الواقع.(1/73)
ومن فضل الله تعالى: أن الشريعة لا تضيق ذرعا بأي جديد، فعندها لكل حادث حديث، ولكل مرض علاج، ولكل مشكلة حل.
وقد دخلت الشريعة قديما بلاد الحضارات: بلاد الفرس والروم ومصر والهند، فما ضاق صدرها بمشكلة، ولا توقف قفهاؤها في مسألة، بل أجتهد أئمتها بما يناسب كل بيئة، وتركوا لنا تراثا هائلا تراكم على توالي الأعصار.
الخطر هنا يكمن، حين يدخل الاجتهاد من ليس أهله، أو يكون الاجتهاد في غير محله.
(الدخلاء) على العلم الشرعي هم الذين يفسدون حيث يزعمون أنهم يصلحون، ويهدمون من حيث يعلنون أنهم يشيدون.
إن أحدهم ربما لا يستطيع أن يقرأ سطر واحد دون أن يلحن مرة ومرتين، وربما لم يسمع بعلم النحو أو الصرف أو الاشتقاق، ولعله يقرأ كتابا واحدا في علم أصول الفقه، أو علم أصول الدين، أو علم أصول التفسير، أو علم أصول الحديث، ومع هذا يقتحم في الاجتهاد، ويحرف الكلم عن مواضعه، ويجترئ على تفسير كلام الله بما لم يقل به عالم سابق أو لاحق، ويشذ عن الأمة كلها، وهي لا تجتمع على ضلالة، ويخرج لنا في النهاية بدين جديد، غير دين الإسلام الذي عرفه المسلمون خلف عن سلف.
خطر (الدخلاء) هؤلاء هو الخطر الحقيقي، لأن وراءهم جهات مشبوهة تروج لأفكارهم، وتسوق كتبهم، وتفتح لهم الأبواب ليظهروا على الشاشات في القنوات الفضائية.
ولن يكون هناك اجتهاد حقيقي إلا إذا انتقلنا من فقه (الظواهر) إلى فقه (المقاصد) أما إذا مشينا وراء (الظاهرية الجدد) وتمسكنا بـ (حرفية) النص، وأهملنا النظر في الحكم والأسرار والمعاني التي من أجلها جاء النص، ولم نراع المقاصد الكلية العليا التي أنزل الله شرائعه لتحققها في حياة الناس من العدل والإحسان والرحمة والإخاء والحب والتكافل والتعاون على البر والتقوى. وبرعايتها تزكو النفس، ويصلح الأفراد، وتسعد الأسر، وتتلاحم المجتمعات، وترقى الأمم، وتتعارف الإنسانية.(1/74)
إن مشكلة (الحرْفيين): أنهم في غالبهم مخلصون طيبون متدينون، ولكنهم ضيقو الأفق، في فهم النصوص، وفي فهم الواقع، ولا يبالون بتغير الزمان والمكان والإنسان. وهم مستعدون أن يقاتلون دون رأيهم، وأن يخوضوا المعارك لإبقاء كل قديم على قدمه. فليس في الإمكان أبدع مما كان، وما ترك الأول للآخر شيئا. وأول أسلحتهم في معركتهم: الاتهام لكل من عارضهم بقلة الدين، واتباع غير سبيل المؤمنين. وأسرع الكلمات إلى ألسنتهم إذا خطبوا، وإلى أقلامهم إذا كتبوا: (التبديع) و(التفسيق) بل (التكفير).
ولديهم قدرة فائقة على التشويش و(التهويش) وكسب العوام السطحيين، الذين يعجزون عن التمييز بين دقائق الأمور، والذين تستهويهم الألفاظ البراقة، وإن لم يكن وراءها حقائق علمية أو دينية، ولا يستطيعون أن يفرقوا بين الأصلي والفرعي، ولا بين القطعي والظني، ولا بين المحكم والمتشابه.
معالم وضوابط للاجتهاد المعاصر:
ولقد تحدثت في كتابي (الاجتهاد المعاصر بين الانضباط والانفراط) عن جملة معالم وضوابط لاجتهاد معاصر قويم، حتى يستقيم ولا يزيغ، وينضبط ولا ينفرط، ويمكن أن نلخص هذه الضوابط هنا.
أولا: لا اجتهاد بغير استفراغ الوسع:
يجب أن نذكر أن الاجتهاد ـ كما عرفه الأصوليون ـ هو استفراغ الفقيه وسعه في نيل الأحكام الشرعية بطريق الاستنباط.
فلا اجتهاد إلا بعد (استفراغ الوسع) ومعناه: بذل أقصى الجهد في تتبع الأدلة، والبحث عنها في مظانها، وبيان منزلتها والموازنة بينها إذا تعارضت، بالاستفادة مما وضعه أهل الأصول من قواعد التعادل والترجيح. حتى اشترط بعض الأصوليين في تعريف الاجتهاد: أن يحس بالعجز عن مزيد طلب، أي بلغ الغاية في البحث، ولم يعد عنده أي احتمال للزيادة.(1/75)
وإذن، لا يكون من الاجتهاد المعتبر شرعا: ما يفتي به المتسرعون الذين اجترءوا على اقتحام الفتوى لجراءاتهم على النار! حتى إنهم ليفتون بما ينفيه صريح القرآن. أو يكذبه صحيح الحديث، أو يخالف إجماع المسلمين.
ثانيا: لا محل للاجتهاد في المسائل القطعية:
يجب أن نذكر أن مجال الاجتهاد هو الأحكام الظنية الدليل، أما ما كان دليله قطعيا فلا سبيل إلى الاجتهاد فيه، وإنما تأتي ظنية الدليل من جهة ثبوته، أو من جهة دلالته، أو من جهتهما معا.
فلا يجوز إذن فتح باب الاجتهاد في حكم ثبت بدلالة القرآن القاطعة، مثل فرضية الصيام على الأمة، أو تحريم الخمر، أو لحم الخنزير، أو أكل الربا، ونحو ذلك من أحكام القرآن والسنة اليقينة، التي أجمعت عليها الأمة، وأصبحت معلومة من الدين بالضرورة، وصارت هي عماد الوحدة الفكرية والسلوكية للأمة.
ومقتضى هذا ألا ننساق وراء المتلاعبين الذين يريدون تحويل محكمات النصوص إلى متشابهات، وقطعيات الأحكام إلى ظنيات.
ثالثا: لا يجوز أن نجعل الظنيات قطعيات:
ويجب أن تظل مراتب الأحكام كما جاءتنا، القطعي يجب أن يظل قطعيا والظني يجب أن يستمر ظنيا، فكما لم نجز تحويل القطعي إلى ظني، لا نجيز أيضا تحويل الظني إلى قطعي، وندعي الإجماع فيما ثبت فيه الخلاف، مع أن حجية الإجماع ذاته ليست موضع إجماع!.
فلا يجوز أن نشهر هذا السيف ـ سيف الإجماع المزعوم ـ في وجه كل مجتهد في قضية، ملوحين به ومهددين، مع ما ورد عن الإمام أحمد أنه قال: "من ادعى الإجماع فقد كذب، وما يدريه! لعل الناس اختلفوا وهو لا يعلم!".
رابعا: الوصل بين الفقه والحديث:
يجب أن نمد جسرا واصلا بين الفقه والحديث، وأن تزول الفجوة القائمة بين المدرستين: المدرسة الفقهية والمدرسة الحديثية.(1/76)
فالمشاهد أن أغلب المشتغلين بالحديث لا يهتمون كثيرا بالدراسات الفقهية والأصولية، ولا يوجهون همتهم إلى علل الأحكام، وقواعد الشريعة ومقاصدها. وهي التربة اللازمة لنمو بذرة الاجتهاد، وبلوغها غايتها، وخصوصا ما يتعلق باختلاف الفقهاء وتنوع مشاربهم، وتعدد منازعهم في الاستنباط والاستدلال، وأهميتها في تكوين الملكة الاجتهاد، حتى جاء عن أكثر من واحد من علماء السلف: من لم يعرف اختلاف الفقهاء لم يشم أنفه رائحة الفقه!.
وفي مقابل هؤلاء نجد لدى أغلب المشتغلين بالفقه وأصوله ودراساته ضعفا ظاهرا في الحديث وعلومه ورجاله، حتى إنهم ليستدلوا أحيانا بالأحاديث الواهية أو التي لا أصل لها، وقد يردون بعض الأحاديث وهي صحيحة متفق عليها.
خامسا: الحذر من الوقوع تحت ضغط الواقع:
ينبغي أن نحذر من الوقوع تحت ضغط الواقع القائم في مجتمعاتنا المعاصرة وهو واقع لم يصنعه الإسلام بعقيدته وشريعته وأخلاقه، ولم يصنعه المسلمون بإرادتهم وعقولهم وأيديهم، إنما هو واقع صُنع لهم، وفُرض عليهم، في زمن غفلة وضعف وتفكك منهم، وزمن قوة ويقظة وتمكن من عدوهم المستعمر، فلم يملكوا أيامها أن يغيروه أو يتخلصوا منه، ثم ورثه الأبناء من الآباء، والأحفاد من الأجداد، وبقي الأمر كما كان.
فليس معنى الاجتهاد أن نحاول تبرير هذا الواقع على ما به، وجر النصوص من تلابيبها لتأييده، وافتعال الفتاوى لإضفاء الشرعية على وجوده، والاعتراف بنسبه مع أنه دعي زنيم.
سادسا: الترحيب بالجديد النافع:
لا ينبغي أن نجعل أكبر همنا مقاومة كل جديد، وإن كان نافعا، ولا مطاردة كل غريب وإن كان صالحا، وإنما يجب أن نفرق بين ما يحسن اقتباسه وما لا يحسن، وما يجب مقاومته وما لا يجب، وأن نميز بين ما يلزم فيها الثبات والتشدد، وما تقبل فيه المرونة والتطور.(1/77)
ومعنى هذا أن نميز بين الأصول والفروع، وبين الكليات والجزئيات، بين الغايات والوسائل، ففي الأولى نكون في صلابة الحديد، وفي الثانية نكون في ليونة الحرير، كما قال إقبال رحمه الله، مرحبين بكل جديد نافع، محتفظين بكل قديم صالح.
سابعا: ألا نغفل روح العصر وحاجاته:
ألا ننسى أننا في القرن الخامس عشر الهجري، لا في القرن العاشر، ولا ما قبله، وأن لنا حاجاتنا ومشكلاتنا التي لم تعرض لمن قبلنا من سلف الأمة وخلفها، وأننا مطالبون بأن نجتهد لأنفسنا، لا أن يجتهد لنا قوم ماتوا قبلنا بعدة قرون، ولو أنهم عاشوا عصرنا اليوم، وعانوا ما عانينا، لرجعوا عن كثير من أقوالهم، وغيروا كثيرا من اجتهاداتهم، لأنها قيلت لزمانهم، وليس لزماننا.
وقد رأينا أصحاب الأئمة وتلاميذهم يخالفونهم بعد موتهم ـ وهم متبعون لأصولهم ـ لتغير العصر اللاحق عن العصر السابق، رغم قرب المدة، وقصر الزمان.
بل رأينا إماما كالشافعي يغير اجتهاده في عصرين قريبين، قبل أن يستقر في مصر، وبعد أن استقر في مصر، وعرف تاريخ الفقه مذهبه القديم، ومذهبه الجديد، وأصبح معروفا في كتب المذهب: قال الشافعي في القديم، وقال الشافعي في الجديد.
فكيف بعصرنا، وقد تغير فيه كل شيء، بعد عصر الانقلاب الصناعي، ثم عصر التقدم التكنولوجي، عصر غزو الكواكب و(الكمبيوتر) وثورة البيولوجيا التي تكاد تغير مستقبل الإنسان؟!!
ثامنا: الانتقال إلى الاجتهاد الجماعي:
ينبغي في القضايا الجديدة الكبيرة ألا نكتفي بالاجتهاد الفردي، وأن ننتقل من الاجتهاد الفردي إلى الاجتهاد الجماعي، الذي يتشاور فيه أهل العلم في القضايا المطروحة، وخصوصا فيما يكون له طابع العموم، ويهم جمهور الناس.(1/78)
فرأي الجماعة أقرب إلى الصواب من رأي الفرد، مهما علا كعبه في العلم، فقد يلمح شخص جانبا في الموضوع لا ينتبه له آخر، وقد يحفظ شخص ما يغيب عن غيره. وقد تبرز المناقشة نقاطا كانت خافية، أو تجلي أمورا كانت غامضة، أو تذكر بأشياء كانت منسية. وهذه من بركات الشورى، ومن ثمار العمل الجماعي دائما: عمل الفريق، أو عمل المؤسسة، بلد عمل الأفراد.
وقد روى الطبراني في الأوسط عن علي بن أبي طالب قال: قلت: "يا رسول الله إن عرض لي أمر لم ينزل فيه قضاء في أمره، ولا سنة، كيف تأمرني؟ قال: تجعلونه شورى بين أهل الفقه والعابدين من المؤمنين، ولا تقض فيه برأيك خاصة"(1)وهذا هو الاجتهاد الجماعي.
هذا الاجتهاد الجماعي يتمثل في صورة مجمع علمي إسلامي عالمي يضم الكفايات العليا من فقهاء المسلمين في العالم، دون نظر إلى إقليمية أو مذهبية، أو جنسية، فإنما يرشح الشخص لعضوية هذا المجمع فقهه وورعه، لا ولاؤه لهذه الحكومة أو ذلك النظام، أو قرابته أو قربه من الحاكم أو الزعيم.
على أن هذا الاجتهاد الجماعي لا يقضي على اجتهاد الأفراد ولا يغني عنه. ذلك أن الذي ينير الطريق للاجتهاد الجماعي هو البحوث الأصيلة المخدومة التي يقدمها أفراد المجتهدين، لتناقش مناقشة جماعية ويصدر فيها بعد البحث والحوار قرار المجمع المذكور بالإجماع أو الأغلبية.
تاسعا: لنفسح صدورنا لخطأ المجتهد:
لا بد أن تتسع صدورنا لأخطاء المجتهدين، كما اتسعت صدور الأولين، فالمجتهد بشر يفكر ويستنبط ويخطئ ويصيب، ولن يكون مجتهدو اليوم أفضل من مجتهدي الأمس، وقد وسع بعضهم بعضا فيما رأوا أنه أخطأ فيه. وهكذا ينبغي أن يكون موقفنا من المجتهد إذا افترضنا أنه أخطأ، وتبين لنا خطؤه بيقين. وذلك منوط بشرطين:
أ ـ أن يملك أدوات الاجتهاد ـ وهي معروفة مذكورة في أصول الفقه ـ فليس كل من اشتغل بالفقه أو ألف فيه أو حفظ مجموعة من الأحاديث يعد مجتهدا.
__________
(1) تفسير المنار (5/196).(1/79)
ب ـ أن يكون عدلا مرضي السيرة. وهو ما يطلب في قبول الشاهد في معاملات الناس، فكيف بقبول من يفتي باجتهاده في شريعة الله؟.
فهذا إن أخطأ فهو معذور، بل مأجور أجرا واحدا على اجتهاده وتحريه، ومن يدري لعل الرأي الذي يظنه الأكثرون اليوم خطأ هو الصواب بعينه، كما يدل على ذلك تاريخ الاجتهاد وتغير الفتوى.
تلك هي المعالم والضوابط الضرورية في نظرنا، التي ينبغي أن يراعيها الاجتهاد في عصرنا الحافل بشتى التيارات والمؤثرات، سواء كان اجتهادا ترجيح وانتقاء، أم اجتهاد إبداع وإنشاء.
8ـ ينكر الإرهاب الممنوع ويؤيد الجهاد المشروع
ومن خصائص الخطاب الإسلامي في عصر العولمة: أنه يوضح الفرق بين الإرهاب الممنوع والجهاد المشروع الذي فرضه الإسلام، ويبين مدى حرص الإسلام على مسالمة من يسالمه، حرصه على معاداة من يعاديه، فهو ينكر الإرهاب، ويدعو إلى الجهاد.
الإرهاب المرفوض والإرهاب المفروض:
لقد أعلنت أمريكا الحرب على الإرهاب، وجندت العالم الغربي معها ـ بل تريد أن تجند كله معها، وتجندنا نحن العرب والمسلمين أيضا ـ لتحارب ما سمته هي (الإرهاب).
وتركت مفهوم الإرهاب مائعا رجراجا، لتفسره هي كما يحلو لها، وتصف به من تشاء من الدول، ومن تريد من المنظمات والجماعات والأفراد.
فمن غضبت عليه أمريكا لأي سبب ـ أو لغير سبب ـ فهو إرهابي أثيم، يجب أن يحارب ويطارد ويتعقب، ويعاقب بكل أنواع العقوبات: العسكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ونحن المسلمين نقرأ في قرآننا قول الله تعالى: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) الأنفال: 60.
فهذا الإرهاب لأعداء الله وأعداء الأمة مشروع.(1/80)
إنما الإرهاب غير المشروع هو الذي يروع الآمنين، ويأخذ البرآء بذنب غيرهم، ولا يبالي ما سفك من دماء، ولا ما دمر من منازل، ولا ما استحل من حرمات. وقد جاء في الحديث في رحل تسبب في فزع مسلم، أخذ منها نعله وهو نائم، على سبيل المداعبة، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لمسلم أن يروع مسلما".(1)
وحتى في الحروب الإسلامية التي تلتحم فيها الجيوش بعضها مع بعض: لا يتقل إلا من يقاتل، ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم: امرأة مقتولة في إحدى الغزوات، أنكر ذلك، ونهى عن قتل النساء والصبيان.
فمن هدف إلى قتل أناس أبرياء، لا ناقة لهم ولا جمل في الحرب أو في السياسة، فعمله مجرّم ومحظور شرعا. فهذا موقفنا المبدئي الذي يفرضه الإسلام علينا.
إننا ندين الإرهاب بكل صوره، مهما كانت دوافعه ومنطلقاته خيرة في نظر أصحابه. فرأيي أن الإسلام يرفض الفلسفة التي تقول: الغاية تبرر الوسيلة. فالإسلام يلتزم ويلزم بشرف الغاية وطهر الوسيلة معا، ولا يجيز بحال الوصول إلى الغايات الشريفة بطرق غير نظيفة، لا يجيز للمسلم أن يأخذ الرشوة مثلا، أو يختلس المال، ليبني به مسجدا أو يقيم به مشروعا خيريا "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا".(2)
ونحن كما ندين الإرهاب: ندين العنف وننكره باسم الشرع. ولكن ما العنف الذي نكره؟ وما الإرهاب؟ وما الفرق بينهما؟ إن تحديد المفاهيم هنا (ضرورة علمية) حتى لا تبقى هذه الكلمات الخطيرة مائعة ورجراجة يفسرها كل فريق بما يحلو له.
__________
(1) رواه أبو داود (5004) عن عبد الرحمن بن أبي ليلى مرسلا.
(2) رواه مسلم (1015) عن أبي هريرة.(1/81)
العنف ـ فيما أرى ـ: أن تستخدم فئة القوة المادية في غير موضعها، وتستخدمها بغير ضابط من خُلُق أو شرع أو قانون. ومعنى (في غير موضعها): أن تستخدم حيث يمكن أن تستخدم الحجة أو الإقناع بالكلمة والدعوة والحوار بالتي هي أحسن، وهي حين تستخدم القوة لا تبالي من تقتل من الناس، ولا تسأل نفسها: أيجوز قتلهم أم لا؟ وهي تعطي نفسها سلطة المفتي والقاضي والشرطي.
هذا هو العنف، أما الإرهاب فهو: أن تستخدم العنف فيمن ليس بينك وبينه قضية، وإنما هو وسيلة لإرهاب الآخرين وإيذائهم بوجه من الوجوه، وإجبارهم على أن يخضعوا لمطالبك، وإن كانت عادلة في رأيك.
... ويدخل في ذلك: خطف الطائرات، فليس بين الخاطف وركاب الطائرة ـ عادة ـ قضية، ولا خلاف بينه وبينهم، إنما يتخذهم وسيلة للضغط جهة معينة، مثل: على حكومة الطائرة المخطوفة، لتحقيق مطالب له: كإطلاق مساجين أو دفع فدية، أو نحو ذلك، وإلا قتلوا من قتلوا من ركاب الطائرة، أو فجروها بمن فيها.
... كما يدخل في ذلك: احتجاز رهائن لديه، لا يعرفهم ولا يعرفونه، ولكن يتخذهم وسيلة ضغط: لتحقيق مطالبه أو يقتل منهم من يقتل، كما فعل جماعة أبو سياف في جنوب الفلبين وغيرهم.
... ومن ذلك: قتل السياح في مصر، كما في مذبحة الأقصر، لضرب الاقتصاد المصري، للضغط على الحكومة المصرية.
... ويدخل في هذا: ما حدث في جزيرة (بالي) في إندونيسيا منذ أيام، فليس هناك مشكلة بين الذين ارتكبوا هذه الجريمة وهؤلاء السياح.
... ومن ذلك: ما حدث في 11سبتمبر 2001 في نيويورك وواشنطن، من اختطاف الطائرات المدنية بركابها: من المدنيين الذين ليس بينهم وبين خاطفيها مشكلة أو نزاع، واستخدامها (آلة هجوم) وتفجيرها بمن فيها، للضغط والتأثير على السياسة الأمريكية.(1/82)
... وكذلك ضرب المدنيين البرآء: في برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك، وفيهم: أناس لا علاقة لهم باتخاذ القرار السياسي، وكلهم مواطنون يؤدون عملهم اليومي الذي يعيشون منه، ومنهم مسلمون وغيرهم.
... وإذا كنا ندين العنف بصفة عامة، فنحن ندين الإرهاب بصفة خاصة، لما فيه من اعتداء على أناس ليس لهم أدنى ذنب يؤاخذون به. (ولا تزر وازرة وزر أخرى) ولما فيه من ترويع البرآء الآمنين، وترويعهم في نظر الإسلام: ظلم عظيم.
... وقد أصدرت فتوى ـ منذ بضعة عشر عاما ـ: بتحريم خطف الطائرات، وذلك بعد حادثة خطف الطائرة الكويتية، وبقاء ركابها فيها محبوسين: ستة عشر يوما، كما قتلوا واحدا أو اثنين من ركابها.
... كما أفتيت بتحريم حجز الرهائن والتهديد بقتلهم، إنكارا على ما اقترفته جماعة (أبو سياف).
... وكذلك أصدرت بيانا ـ عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر ـ دِنْتُ فيه هذا العمل ومقترفيه، أيا كان دينهم، أو جنسهم أو وطنهم.
... وأيضا: دنت الإرهاب بوضوح ـ في خطبي، ومحاضراتي، ومقالاتي، وكتبي ـ ومن ذلك: ما ذكرته في كلمتي التي ألقيتها في مؤتمر القمة الإسلامية المسيحية، الذي عقد في روما في أكتوبر 2001م.
... وأول إرهاب يجب أن يدان: هو إرهاب الدولة الصهيونية المتجبرة في الأرض، التي بنيت على الإرهاب قبل أن تقوم، وتبنته بعد أن قامت، وهي تستبيح الحرمات، وتستحل سفك الدماء، وتدمر المنازل، وإحراق المزارع، وتخريب كل شيء، فلا تتورع عن قتل طفل صغير، أو شيخ كبير أو امرأة في بيتها.(1/83)
... ولكن ليس من الإرهاب في شيء: أن يدافع الإنسان عن وطنه، ويقاتل محتليه وغاصبيه، المعتدين عليه، المستندين إلى ترسانتهم العسكرية الجبارة، وأن يقاتل أعداءه بما يملكه من قوة، كأن يجعل من نفسه قبنلة بشرية، ويفجر نفسه في أعدائه الطغاة المستكبرين في الأرض بغير الحق، فهو يضع روحه على كفه، ويضحي بنفسه فداء لأمته وقضيته، وهذا سلاح ملكه الله للضعفاء في مواجهة المدلين بالقوة الطاغية. فهذه العمليات الاستشهادية المشروعة، للدفاع عن النفس والدين والأرض والعرض والمقدسات.
... فإذا كان النظام العالمي الجديد جادا حقا في محاربة الإرهاب، فعليه أن يدين الإرهاب الحقيقي أولا، وأن يقلم أظفاره، ويخمد ناره، وأن يقف بجوار الشعوب المقهورة، التي تقاوم عدوها المحتل لأرضها بما تستطيعه وتملكه من وسائل وأدوات، هي جهد المقل، وطاقة العاجز.
... ومن ذلك: أن نبحث عن أسباب الإرهاب في العالم، ونجتهد أن نجتثها من جذورها، وأعظم أسباب الإرهاب هو: الظلم والطغيان والاستكبار في الأرض على الناس المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا.
ولكن هنا يحق لنا أن نسأل عن العنف والإرهاب: هل هو ظاهرة إسلامية؟ أو هو ظاهرة عالمية؟ فبعض أبواق الإعلام الغربي ـ ومن يدور في فلكها في ديارنا ـ تريد أن يبرز الإرهاب، وكأنه مقصور على المسلمين، أو كأن جنسيته إسلامية، وخصوصا بعد أحداث 11 سبتمبر، وهذا خطأ فاحش، بل ظلم مبين.
... لقد وجدنا العنف في أقطار ودول شتى: في أنحاء العالم. لقد وجدناه في كل القارات: في بريطانيا، وفي اليابان، وفي أمريكا نفسها، وفي الهند، وفي إسرائيل. فلماذا ألصق بالمسلمين وحدهم دون غيرهم؟ إنه الإعلام الغربي والأمريكي والصهيوني، الذي يكتم الحق، ويشيع الباطل، ويقولون على الناس الكذب وهم يعلمون.(1/84)
... والحق أن أمريكا التي ساندت الدولة التي قامت على الدم والإرهاب من أول يوم، ومن قبل أن تقوم: دولة بني صهيون، تمارس هي نوعا من الإرهاب كما تحدده هي، كما تشاء، وبلا معقب، معلنة: أن من ليس معها، فهو مع الإرهاب!!
9ـ يحفظ حقوق الأقلية ولا يحيف على الأكثرية
ومن خصائص الخطاب الديني الإسلامي في عصر العولمة: أنه يحرص كل الحرص على حقوق الأقليات الدينية في الوطن العربي والإسلامي، ويحفظ لها كيانها الخاص، ويصون شخصيتها الدينية، ويرعى حرمات معابدها وشعائرها، ولا يتدخل في هذه الشؤون الخاصة بها، ولا يفرض عليها شيئا من عباداته أو فرائضه التي لها طابع ديني، رعاية لمشاعرهم وأحاسيسهم.
وخصوصا الأقليات الدينية في الوطن العربي، فهم من أهل الكتاب الذين ميزهم الإسلام بوضع خاص، فأجاز أكل طعامهم وذبائحهم، كما أجاز الإصهار إليهم والتزوج من نسائهم، كما قال تعالى: (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) المائدة: 6.
والنصارى منهم لهم وضع أخص، كما أشار إليه القرآن بقوله: (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون) المائدة: 82.
ومنذ فجر الإسلام أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يهاجروا إلى الحبشة، لأنهم نصارى، فهم أقرب إلى المسلمين، وكان ملكهم النجاشي رجلا عادلا مؤمنا بدينه، فآواهم وأجارهم، وأبى أن يسلمهم إلى قريش.
وقد عرضنا لموقف الإسلام من الأقليات في أكثر من كتاب، منها (غير المسلمين في المجتمع الإسلامي) ورسالة (الأقليات الدينية والحل الإسلامي) وكتاب (أولويات الحركة الإسلامية) وبعض الفتاوى والبحوث في كتابنا (فتاوى معاصرة) الجزء الثاني، وكتابنا (من فقه الدولة في الإسلام). كما بينا ذلك في محاضرات شتى في أكثر من بلد.(1/85)
وأعتقد أن اجتهادنا في هذه القضية الكبيرة قد استبانت معالمه، واتضحت صورته في ضوء الأدلة الشرعية، ولقي القبول من جمهرة العلماء والدعاة، وتبناه الكثيرون منهم، وإن كان بعضهم لم ينسب الاجتهاد لصاحبه، كما قال السلف: من بركة القول أن يسند إلى قائله.
كيف تحل مشكلة الأقليات الدينية؟:
ويمكن أن أقتبس بعض ما كتبته هنا، لإيضاح موقف الاجتهاد الإسلامي المعاصر من هذه القضية الخطيرة، التي يستغلها أعداء الأمة بين الحين والحين، لأغراض في أنفسهم، لإثارة الفتنة الطائفية، حتى إنهم في أمريكا اليوم –بتأثير اللوبي الصهيوني- يزعمون أن الأقباط مضطهدون دينيا في مصر، وهو زعم لا أساس له يكذبه الأقباط أنفسهم.
ويتلخص موقفنا فيما يلي:
1- لا وجه لدعوى بعض الناس وجلهم من العلمانيين الذين لا يوالون الإسلام ولا المسيحية: أن الاتجاه إلى الحل الإسلامي والشرع الإسلامي ينافي مبدأ الحرية لغير المسلمين، وهو مبدأ مقرر دوليا وإسلاميا، فقد نسوا أو تناسوا أمرا أهم وأخطر، وهو أن الإعراض عن الشرع الإسلامي والحل الإسلامي من أجل غير المسلمين - - وهم أقلية- ينافي مبدأ الحرية للمسلمين في العمل بما يوجبه عليهم دينهم، وهم أكثرية. بل الواقع أن المسلمين ليسوا أحرارا ولا مخيرين في العمل بموجب شريعتهم، بل هو فريضة عليهم من ربهم.
وإذا تعارض حق الأقلية وحق الأكثرية، فأيهما نقدم؟
إن منطق الديموقراطية - - التي يؤمنون بها ويدعون إليها- أن يقدَّم حق الأكثرية على حق الأقلية.
هذا هو السائد في كل أقطار الدنيا، فليس هناك نظام يرضي عنه كل الناس، فالناس خلقوا متفاوتين مختلفين. وإنما بحسب نظام ما أن ينال قبول الأكثرية ورضاهم، بشرط ألا يحيف على الأقلين ويظلمهم ويعتدى على حرماتهم، وليس على المسيحيين ولا غيرهم بأس ولا حرج أن يتنازلوا عن حقهم لمواطنيهم المسلمين ليحكموا أنفسهم بدينهم، وينفذوا شريعة ربهم حتى يرضى الله عنهم.(1/86)
ولو لم تفعل الأقلية الدينية ذلك، وتمسكت بأن تنبذ الأكثرية ما تعتقده دينا يعاقب الله على تركه بالنار، لكان معنى هذا أن تفرض الأقلية ديكتاتورية على الأكثرية، وأن يتحكم مثلا ثلاثة ملايين أو أقل، في أربعين مليونا أو أكثر. وهذا ما لا يقبله منطق ديني ولا علماني.
2- وهذا على تسليمنا بأن هنا تعارضا بين حق الأكثرية المسلمة وحق الأقلية غير المسلمة.
والواقع أنه لا تعارض بينهما. فالمسيحي الذي يقبل أن يحكم حكما عِلمانيا لادينيا، لا يضيره أن يحكم حكما إسلاميا. بل المسيحي الذي يفهم دينه ويحرص عليه حقيقة، ينبغي أن يرحب بحكم الإسلام، لأنه حكم يقوم على الإيمان بالله ورسالات السماء، والجزاء في الآخرة. كما تقوم على تثبيت القيم الإيمانية، والمثل الأخلاقية، التي دعا إليها الأنبياء جميعا، ثم هو يحترم المسيح وأمه والإنجيل، وينظر إلى أهل الكتاب نظرة خاصة، فكيف يكون هذا الحكم- بطابعه الرباني الأخلاقي الإنساني- مصدر خوف وإزعاج لصاحب دين يؤمن بالله ورسله واليوم الآخر؟ على حين لا يزعجه حكم لاديني علماني يحتقر الأديان جميعا، ولا يسمح بوجودها- - إن سمح- إلا في ركن ضيق من أركان الحياة؟!
من الخير للمسيحي المخلص أن يقبل حكم الإسلام، ونظامه للحياة، فيأخذه على أنه نظام وقانون ككل القوانين والأنظمة، ويأخذه المسلم على أنه دين يرضي به ربه، ويتقرب به إليه.
ومن الخير للمسيحي- كما قال الأستاذ حسن الهضيبي رحمه الله- أن يأخذه المسلمون على أنه دين، لأن هذه الفكرة تعصمهم من الزلل في تنفيذه، وعين الله ترقبهم، لا رهبة الحاكم التي يمكن التخلص منها في كثير من الأحيان.(1)
__________
(1) من رسالة (دستورنا) للأستاذ حسن الهضيبي المرشد العام السابق للإخوان المسلمين.(1/87)
ومن هنا رحب العقلاء الواسعو الأفق من المسيحيين بالنظام الإسلامي بوصفه السد المنيع في وجه المادية الملحدة التي تهدد الديانات كلها على يد الشيوعية العالمية، كما نقلنا ذلك من كلام العلامة فارس الخوري.(1)
وأود أن أصحح هنا خطأ يقع فيه كثيرون، وهو الظن بأن القوانين الوضعية المستوردة من الغرب المسيحي قوانين لها رحم موصولة بالمسيحية، فهذا خطأ مؤكد، والدارسون لأصول القوانين ومصادرها التاريخية يعرفون ذلك جيدا. بل الثابت بلا مراء أن الفقه الإسلامي أقرب إلى المسيحية والمسيحيين في أوطاننا من تلك القوانين، لأصوله الدينية من ناحية، ولتأثره بالبيئة المحيطة التي هم جزء منها.
3- والإدعاء بأن سيادة النظام الإسلامي فيه إرغام لغير المسلمين على ما يخالف دينهم، إدعاء غير صحيح.
فالإسلام ذو شعب أربع: عقيدة، وعبادة، وأخلاق، وشريعة. فأما العقيدة والعبادة فلا يفرضهما الإسلام على أحد. وفي ذلك نزلت آيتان صريحتان حاسمتان من كتاب الله: إحداهما مكية والأخرى مدنية، في الأولى يقول تعالى مخاطبا رسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم - : (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) يونس 99 وفي الثانية يقول سبحانه وتعالى في أسلوب جازم: (لا إكراه في الدين) البقرة 256.
وجاء عن الصحابة في أهل الذمة: " اتركوهم وما يدينون".
ومنذ عهد الخلفاء الراشدين، واليهود والنصارى يؤدون عباداتهم ويقيمون شعائرهم، في حرية وأمان، كما هو منصوص عليه في العهود التي كُتبت في عهد أبي بكر وعمر، مثل عهد الصلح بين الفاروق وأهل إيلياء (القدس).
__________
(1) انظر: كلامه في كتابنا (بينات الحل الإسلامي) ص258-261، ورسالتنا الأقليات الدينية والحل الإسلامي). وفارس الخوري من كبار الشخصيات المسيحية، وقد كان رئيس وزراء سورية في بعض الأوقات.(1/88)
ومن شدة حساسية الإسلام أنه لم يفرض الزكاة ولا الجهاد على غير المسلمين، لما لهما من صبغة دينية، باعتبارهما من عبادات الإسلام الكبرى- مع أن الزكاة ضريبة مالية، والجهاد خدمة عسكرية- وكلفهم مقابل ذلك ضريبة أخرى على الرؤوس، أعفى منها النساء والأطفال والفقراء والعاجزين، وهي ما يسمى (الجزية).
ولئن كان بعض الناس يأنف من إطلاق هذا الإسم، فليسموه ما يشاءون. فإن نصارى بني تغلب من العرب طلبوا من عمر أن يدفعوا مثل المسلمين صدقة مضاعفة ولا يدفعوا هذه الجزية، وقبل منهم عمر، وعقد معهم صلحا على ذلك، وقال في ذلك: هؤلاء القوم حمقى، رضوا بالمعنى، وأبوا الإسم!.(1)
أما شعبة الأخلاق فهي ـ في أصولها ـ لا تختلف بين الأديان السماوية بعضها وبعض.
بقيت شعبة الشريعة بالمعنى الخاص: معنى القانون الذين ينظم علائق الناس بعضهم ببعض: علاقة الفرد بأمته، وعلاقته بالمجتمع، وعلاقته بالدولة، وعلاقة الدولة بالرعية، وبالدول الأخرى.
فأما العلاقات الأسرية فيما يتعلق بالزواج والطلاق ونحو ذلك، فهم مخيرون بين الاحتكام إلى دينهم والاحتكام إلى شرعنا، ولا يجبرون على شرع الإسلام.
فمن اختار منهم نظام الإسلام في المواريث مثلا- كما في بعض البلاد العربية- فله ذلك، ومن لم يرد فهو وما يختار.
وأما ما عدا ذلك من التشريعات المدنية والتجارية والإدارية ونحوها فشأنهم في ذلك كشأنهم في أية تشريعات أخرى تقتبس من الغرب أو الشرق، وترتضيها الأغلبية.
وبعض المذاهب الإسلامية لا تلزم أهل الذمة أو غير المسلمين بالتشريع الجنائي مثل إقامة الحدود والعقوبات الشرعية، كقطع يد السارق، وجلد الزاني أو القاذف، ونحو ذلك. وإنما فيها التعزير.
__________
(1) انظر: المغني لابن قدامة ج9م335،336. ط. مطبعة العاصمة، شارع الفلكي بالقاهرة.(1/89)
وتستطيع الدولة الإسلامية الأخذ بهذا المذهب إذا وجدت فيه تحقيق مصلحة، أو درء مفسدة، كما فعلت ذلك جمهورية السودان الإسلامية، بالنسبة للمناطق التي تسكنها أغلبية غير إسلامية.
ومن هنا كان لأهل الذمة محاكمهم الخاصة يحتكمون إليها إن شاءوا، وإلا لجأوا إلى القضاء الإسلامي، كما سجل ذلك التاريخ.
وبهذا نرى أن الإسلام لم يجبرهم على ترك أمر يرونه في دينهم واجبا، ولا على فعل أمر يرونه عندهم حراما، ولا على اعتناق أمر ديني لا يرون اعتقاده بمحض اختيارهم.
كل ما في الأمر: أن هناك أشياء يحرمها الإسلام مثل الخمر والخنزير، وهم يرونها حلالا، والأمر الحلال للإنسان سعة في تركه، فللمسيحي أن يدع شرب الخمر ولا حرج عليه في دينه، بل لا أظن دينا يشجع شرب الخمور، ويبارك حياة السكر والعربدة. وكل ما في كتبهم: أن قليلا من الخمر يصلح المعدة،(1)ولهذا اختلف المسيحيون أنفسهم في موقفهم من الخمر والسكر.
وكذلك بوسع المسيحي أن يعيش عمره كله ولا يأكل لحم الخنزير، فأكله ليس شعيرة في الدين، ولا سنة من سنن النبيين، بل هو محرم في اليهودية قبل الإسلام. ومع هذا نرى جمهرة من فقهاء الإسلام أباحوا لأهل الذمة من النصارى أن يأكلوا الخنزير، ويشربوا الخمر، ويتاجروا فيهما فيما بينهم، وفي القرى التي تخصهم، على ألا يظهروا ذلك في البيئات الإسلامية، ولا يتحَدّوْا مشاعر المسلمين. وهذه قمة في التسامح لا مثيل لها.(2)
__________
(1) هو من أقوال بولس، وليس من قول المسيح عليه السلام.
(2) انظر: فصل (الأقليات الدينية والحل الإسلامي) من كتابنا (بينات الحل الإسلامي وشبهات العلمانيين والمتغربين). وقد نشرت في رسالة مستقلة. من (رسائل ترشيد الصحوة)، وانظر أيضاً: كتابنا (غير المسلمين في المجتمع الإسلامي).(1/90)
ومنذ عدة سنوات دعيت من قبل نقابة الأطباء في مصر لندوة حول (المشروع الحضاري الإسلامي) في (دار الحكمة) بالقاهرة، وكان المفروض أن يشاركني أحد الأساتذة المعروفين،(1)ولكنه اعتذر، فانفردت بإلقاء الموضوع، وبيان مقومات مشروعنا الحضاري الإسلامي والذي يعمل على إصلاح الفرد، وإسعاد الأسرة، وترقية المجتمع، وبناء الأمة الفاضلة، وإقامة الدولة العادلة، وإنشاء عالم متعارف وعلاقات إنسانية سوية.
وبعد ذلك كانت أسئلة ونقاشات وتعليقات. وكان من أبرز هذه الأسئلة: سؤال من الأخ الدكتور جورج إسحق الذي سأل بصراحة: أين موقعنا، يا دكتور قرضاوي- نحن الأقباط- في هذا المشروع؟ هل نظل أهل ذمة؟ أو نحن مواطنون؟ هل ستطالبنا بدفع الجزية أو ندفع ما يدفع المسلمون؟ هل نحرم من وظائف الوطن أو يأخذها من يستحقها منا بأهليته؟ .. إلخ هذا النوع من الأسئلة.
وقلت للدكتور إسحاق: إن المشروع الحضاري هو لأهل دار الإسلام جميعا، المسلمين منهم وغير المسلمين، وفقهاء المسلمين متفقون على أن أهل الذمة من (أهل الدار) أي دار الإسلام، وإن لم يكونوا من (أهل الملة) ومعنى أنهم من أهل الدار أنهم مواطنون، ينتمون إلى الوطن الإسلامي، فهم مسلمون بحكم انتمائهم إلى الدار: أو الثقافة والحضارة. وهذا ما عبر عنه الزعيم المصري القبطي المعروف مكرم عبيد حين قال: أنا نصراني دينا، مسلم وطنا! وهذا ما قلته للدكتور لويس عوض حين زارنا في الدوحة مشاركا في إحدى الندوات، وطُلِب مني أن أعقب على الندوة، فقلت له: أنا مسلم بمقتضى العقيدة والملة، وأنت مسلم بمقتضى الثقافة والحضارة. ومعنى هذا أن المسيحي المصري أو العربي يحمل (الجنسية الإسلامية) أي جنسية (دار الإسلام)، وهو بحكم عروبته وثقافته يحمل الانتماء الثقافي والحضاري لأمة الإسلام.
__________
(1) هو الأستاذ الدكتور إسماعيل صبري عبد الله وزير التخطيط في عهد عبد الناصر، ومن ممثلي الفكر اليساري في مصر.(1/91)
وكلمة (الذمة) كثيرا ما تُفهم خطأ، ويظن بعض الناس أنها كلمة ذم أو انتقاص، مع أن معناها: العهد والضمان أي أنهم في عهد الله ورسوله وجماعة المسلمين وفي ضمانهم، لا يجوز أن ينتقض عهدهم أو تخفر ذمتهم من أحد.
وإذا كانت كلمة (أهل الذمة) تؤذي الأقباط وأمثالهم، فإن الله لم يتعبدنا بها، وقد حذف الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ما هو أهم منها، (كما ذكرنا من قبل) وهو كلمة (الجزية) المذكورة في القرآن، حين طلب بنو تغلب ذلك، وقالوا: يا أمير المؤمنين، نحن عرب، ونأنف من كلمة (جزية) ونريد أن تأخذ منا ما تأخذ باسم الزكاة أو الصدقة، كما تأخذ من المسلمين، فقبل منهم ذلك، ونظر إلى أصحابه وقال: هؤلاء القوم حمقى، رضوا بالمعنى، وأبوا الإسم.(1)
وفي عصرنا يتأذى إخواننا من المسيحيين وغيرهم من هذه التسمية، فلا مبرر للإصرار على بقائها، والعبرة للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني.
ولقد ذهبت من قديم في كتابي (فقه الزكاة)(2)إلى أن ولي الأمر المسلم يجوز له أن يأخذ من غير المسلمين في الدولة الإسلامية ضريبة تساوي فريضة الزكاة، ولنُسمها (ضريبة التكافل) توحيدا للميزانية والإجراءات بين أبناء الوطن الواحد والدار الواحدة، وأيدت ذلك بأدلة شرعية من داخل الفقه الإسلامي، وهذا ما أخذت به جمهورية السودان منذ عهد نميري.
وقد ذكرت في (فقه الزكاة)(3)أن من فقهاء المسلمين عددا أجازوا دفع الزكاة لغير المسلمين، وقد نقل ذلك عن عمر - رضي الله عنه - .
ومما يذكره التاريخ أن عناصر من أهل الكتاب أسهمت في بناء الحضارة الإسلامية أيام ازدهارها، لا تزال أسماء بعضهم معروفة مشهورة، ولم يمنعها دينها أن يكون لها دور تؤديه في خدمة العلوم والفنون والصناعات المختلفة.
__________
(1) انظر:كتابنا (السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها) ص 216 نشر مكتبة وهبة.
(2) جـ1/112-117. طبعة وهبة الحادية والعشرون.
(3) جـ2/712-714.(1/92)
ولقد وصل بعضهم إلى منصب الوزارة (وزارة التنفيذ)، وهو ما قرره القاضي الماوردي وغيره من فقهاء السياسة الشرعية.
والعامل المهم هنا هو: وجود الثقة المتبادلة بين الفريقين، وألا يتطلع غير المسلمين إلى المناصب التي لها طبيعة دينية، كما لا يجوز للمسلمين أن يتدخلوا في الشؤون الدينية لغير المسلمين، أو يضيقوا عليهم فيها بغير حق.
والأصل العام في التعامل هو هذه القاعدة التي يتناقلها المسلمون خاصتهم وعامتهم: لهم ما لنا، وعليهم ما علينا.
وهذا، فيما عدا ما اقتضاه الاختلاف أو التميز الديني بطبيعة الحال لكل من الطرفين، فهم غير مطالبين بالصلاة ولا بالصيام ولا بزكاة الفطر ولا بالكفارات، ولا بالحج وغيرها من فرائض الإسلام.
ومن المهم جدا أن يكون من حق الأكثرية المسلمة أن تحتكم إلى شريعة ربها، وتطبقها في شؤونها، على ألا تحيف على حقوق الأقلية. ويجب على الأقلية ألا تضيق صدرا بذلك، وهو ما كان عليه الأقباط طوال العصور الماضية والحديثة، قبل كيد الاستعمار ومكره، ولم نرهم يتبرمون بالنص على أن دين الدولة الإسلام، بل رأيت كثيرا من عقلاء المسيحيين في مصر وفي غيرها طالبوا مخلصين بوجوب تطبيق الشريعة وأحكامها وحدودها، ورأوا في ذلك العلاج الناجع للجرائم والرذائل في مجتمعاتنا.
وكما أن الأقلية رضيت بالقوانين المستوردة من الخارج، ولم تجد في ذلك حرجا، فأولى بها أن ترضى بشريعة الإسلام، فهي قطعا أقرب إلى المثل العليا التي جاءت بها المسيحية من القوانين الأجنبية، ثم هي قوانين (الدار) التي تعيش فيها الأقلية وتتعامل معها، فالمسلم يتقبل الشريعة على أنها دين وانقياد لله، وغير المسلم يتقبلها على أنها قانون ونظام رضيته الأغلبية، شأنه شأن سائر الأنظمة والقوانين.(1/93)
قلت هذا الكلام أو نحوه في الإجابة عن سؤال د. جورج إسحاق، وصفق الحاضرون إعجابا وقبولا، وبعد انتهاء الندوة، جاء الدكتور إسحاق يشد على يدي، ويقول لي: ليتك يا دكتور قرضاوي تأتي إلى الكنيسة لتقول هذا للأقباط في عقر دارهم، فإن عندهم هواجس ومخاوف كثيرة من تطبيق شريعة الإسلام، وربما ساهم في هذا الخوف بعض المتشددين من المسلمين.
وقلت للدكتور: أنا لا أمتنع عن هذا إذا دعيت، والواجب علينا البيان والبلاغ حتى لا تلتبس الأمور، وتفهم الحقائق على غير وجوهها، ويستغل أعداء الأمة ذلك، ليوقدوا نار الفتنة، ويضربوا أبناء الأمة الواحدة بعضهم ببعض، وهم المستفيدون أولا وآخرا.
أما الآراء المتشددة والمضيقة، والتي تتمسك بحرفية ما جاء في بعض الكتب التي كتبت في زمن غير زمننا، ولمجتمع غير مجتمعنا، وفي ظروف غير ظروفنا، فهي لا تلزمنا، وقد قرر المحققون من علمائنا: أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعرف والحال، وقد تغير كل شيء في حياتنا كماًّ وكيفا، عما كان عليه أيام هؤلاء الفقهاء.
وأما حديث "لا تبدأوهم بالسلام، واضطروهم إلى أضيق الطريق" فهذا مقيد بأيام الصراع والحروب، لا بأيام الاستقرار والسلام، وقد كان بعض الصحابة يقرأ السلام على كل من لقيه من مسلم وغير مسلم، عملا بالأمر بإفشاء السلام.
وهل من المعقول أن يبيح الإسلام للمسلم الزواج بالمسيحية ولا يبيح له أن يسلم عليها؟ وهل يمنع الولد أن يسلم على أمه أو على خاله أو خالته أو جده أو جدته؟وقد أمره الله بصلة الرحم، وإيتاء ذي القربى؟.
وحسبنا هذا النص القرآني العام المحكم: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلونكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) الممتحنة: 8.
10ـ ينصف المرأة ولا يجور على الرجل(1/94)
ومن خصائص خطابنا الإسلامي في عصر العولمة: أنه ينصف المرأة، ويقف بجانبها، ويحررها من ظلم الجاهليات المختلفة، سواء كانت جاهلية عصور التخلف والتراجع الحضاري عند المسلمين، حين حبسوها في البيت، وحرموا عليها أن تذهب إلى المسجد، أو المدرسة أو الكتاب، وزوجوها بغير إذنها، وحرموها في كثير من البلاد من ميراثها، وأشاعوا حولها أحاديث مكذوبة مثل: "شاوروهن وخالفوهن" ومثل: "لا تسكنوهن الغرف، ولا تعلموهن الكتابة".
أم كانت جاهلية القرن العشرين الوافدة من الغرب، التي تريد أن تخرج المرأة من فطرتها، وأن تسلخها من جلدها، وأن تجعل منها رجلا أو كالرجل، وأن يتيح لها كل شيء، وأن يجعلها تتمرد على الزوجية وعلى الأمومة، وعلى الأنوثة، وحرضتها على التبرج والعري، والتمرد على الرجل والأسرة، والاكتفاء بزواج النساء بالنساء ... إلخ.
الخطاب الإسلامي يتبنى موقفا غير موقف هؤلاء وهؤلاء، وهو موقف يستمده من فهمه المتوازن للإسلام، من ينابيعه الصافية، من كتاب الإسلام، ومن سنة نبي الإسلام، ومن صحابة الرسول الكرام، وهو موقف يعطي المرأة حقها، كما يعطي الرجل حقه. ولا يعتبر هناك صراعا بينهما.
فالمرأة هي أم الرجل، وهي ابنته، وهي زوجته، وهي أخته، وهي عمته وخالته، فلماذا يفترض الناس خصومة أو معركة بينهما.
إن هذه الخصومة بعيدة كل البعد عن العقيدة الإسلامية، وعن الشريعة الإسلامية، وعن الحضارة الإسلامية. ربما كان ذلك في نحل أو فلسفات أخرى تنظر إلى المرأة نظرة فيها توجس أو ريبة.
جاء الإسلام وبعض الناس ينكرون إنسانية المرأة، وآخرون يرتابون فيها، وغيرهم يعترف بإنسانيتها، ولكنه يعتبرها مخلوقا خُلِق لخدمة الرجل.(1/95)
فكان من فضل الإسلام أنه كرم المرأة، وأكد إنسانيتها، وأهليتها للتكليف والمسئولية والجزاء ودخول الجنة، واعتبرها إنسانا كريما، له كل ما للرجل من حقوق إنسانية. لأنهما فرعان من شجرة واحدة، وأخوان ولدهما أب واحد هو آدم، وأم واحدة هي حواء.
فهما متساويان في أصل النشأة، متساويان في الخصائص الإنسانية العامة، متساويان في التكليف والمسئولية، متساويان في الجزاء والمصير.
وفي ذلك يقول القرآن: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام، إن الله كان عليكم رقيبا) النساء: 1.
وإذا كان الناس ـ كل الناس ـ رجالا ونساءً، خلقهم ربهم من نفس واحدة، وجعل من هذه النفس زوجا تكمّلها وتكتمل بها كما قال في آية أخرى: (وجعل منها زوجها ليسكن إليها) الأعراف: 189 وبَثَّ من هذه الأسرة الواحدة رجالا كثيرا ونساء، كلهم عباد لرب واحد، وأولاد لأب واحد وأم واحدة، فالأخوة تجمعهم.
ولهذا أمرت الآية الناس بتقوى الله ـ ربهم ـ ورعاية الرحم الواشجة بينهم: (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام).
فالرجل ـ بهذا النص ـ أخو المرأة، والمرأة شقيقة الرجل. وفي هذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنما النساء شقائق الرجال".(1)
__________
(1) رواه عن عائشة أحمد (6/ 256) ، وأبو داود (236) والترمذي (113) والدرامي (1/195)، كما رواه أحمد عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن جدته أم سليم (6/377)، قال الهيثمي (1/ 168) : ولم يسمع إسحاق من جدته. كما نسبه إلى البزار عن أنس في "صحيح الجامع الصغير وزيادته" الحديث رقم (2333).(1/96)
وفي مساواة المرأة للرجل في التكليف والتدين والعبادة، يقول القرآن: (إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما) الأحزاب: 35.
وفي التكاليف الدينية والاجتماعية الأساسية يسوِّي القرآن بين الجنسين بقوله تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله، أولئك سيرحمهم الله) التوبة: 71.
وفي قصة آدم توجَّه التكليف الإلهي إليه وإلى زوجه سواء: (يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين) البقرة: 35.
ولكن الجديد في هذه القصة ـ كما ذكرها القرآن ـ إنها نسبت الإغواء إلى الشيطان لا إلى حواء ـ كما فعلت التوراة ـ: (فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه) البقرة: 36.
ولم تنفرد حواء بالأكل من الشجرة ولا كانت البادئة، بلك كان الخطأ منهما معا، كما كان الندم والتوبة منهما جميعا: (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) الأعراف: 23.
بل في بعض الآيات نسبة الخطأ إلى آدم بالذات وبالأصالة: (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى ولم نجد له عزما) طه: 115... (فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى) طه:120... (عصى آدم ربه فغوى) طه: 121. كما نسب إليه التوبة وحده أيضا: (ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى) طه: 122 مما يفيد أنه الأصل في المعصية، والمرأة له تبع.(1/97)
ومهما يكن الأمر فإن خطيئته حواء لا يحمل تبعتها إلا هي، وبناتها منها براء من إثمها، ولا تزر وازرة وزر أخرى: (تلك أمة قد خلت، لها ما كسبت ولكم ما كسبتم، ولا تسألون عما كانوا يعملون) البقرة: 134،141.
وفي مساواة المرأة للرجل في الجزاء ودخول الجنة يقول الله تعالى: (فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى، بعضكم من بعض) آل عمران: 195.
فنص القرآن في صراحة على أن الأعمال لا تضيع عند الله، سواء أكان العامل ذكرا أم أنثى، فالجميع بعضهم من بعض، من طينة واحدة، وطبيعة واحدة. ويقول: (فلنحيينه حياة طيبة، ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) النحل: 97، (ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا) النساء: 124.
وفي الحقوق المالية للمرأة، أبطل الإسلام ما كان عليه كثير من الأمم ـ عربا وعجما ـ من حرمان النساء من التملك والميراث، أو التضييق عليهن في التصرف فيما يملكن، واستبداد الأزواج بأموال المتزوجات منهن، فأثبت لهن حق الملك بأنواعه وفروعه، وحق التصرف بأنواعه المشروعة. فشرع الوصية والإرث لهن كالرجال، وأعطاهن حق البيع والشراء والإجارة والهبة والإعارة والوقف والصدقة والكفالة والحوالة والرهن... وغير ذلك من العقود والأعمال.
ويتبع ذلك حقوق الدفاع عن مالها ـ كالدفاع عن نفسها ـ بالتقاضي وغيره من الأعمال المشروعة.
كما جعل للمرأة حق طلب العلم كالرجل، بل الواقع أنه اعتبر طلب العلم فريضة عليها. كما جاء في الحديث: "طلب العلم فريضة على كل مسلم" والمراد: كل إنسان مسلم، رجلا كان أو امرأة، وهذا بالإجماع.(1/98)
وكذلك للمرأة حق صلاة الجماعة في المسجد، فهي مطالبة بالفرائض والعبادات كما يطالب الرجل: الصلاة والصيام والزكاة والحج وسائر أركان الإسلام، وهي مثابة عليها كما يثاب الرجل، وهي معاقبة على تركها كما يعاقب الرجل، وهي مطالبة بالواجبات الاجتماعية كما يطالب الرجل، كما في قوله تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) التوبة: 71.
ومن حقها أن تجير من استجار بها، وأن تُحترم إجارتها، كما فعلت أم هانئ بنت أبي طالب يوم فتح مكة، فقد أجارت بعض المشركين من أحمائها، وأرد أحد أخوتها أن يقتله، فشكت ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقالت: يا رسول الله ؛ زعم ابن أمي أنه قاتل رجلا قد أجرته: فلان بن هبيرة! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ".(1)
__________
(1) متفق عليه عن أم هانئ، انظر: اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان لمحمد فؤاد عبد الباقي برقم (193).(1/99)
بسم الله الرحمن الرحيم
دور المؤسسات الإسلامية في أوروبا
في عملية الاندماج
شكيب بن مخلوف
رئيس اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا
سراييفو (البوسنة والهرسك) ـ غرة جمادى الأولى 1428 هـ / 17 مايو 2007 هـ
المحتويات
توطئة: دور المؤسسات الإسلامية في تعزيز فكرة الاندماج الإيجابي
دور المؤسسات الإسلامية في عملية الاندماج
أولاً) على المستوى المفاهيمي
ثانياً) على مستوى المقاربة الواقعية:
أ) صلة الاندماج بالحوار
ب) صلة الاندماج بالمشاركة
جـ) صلة الاندماج بتكافؤ الفرص
ثالثاً) على المستوى العملي:
1) الاندماج في بيئة مؤسسية معقّدة
2) الاندماج الداخلي حلقة من حلقات الاندماج
3) الاندماج مسؤولية مشتركة
توطئة: دور المؤسسات الإسلامية في تعزيز فكرة الاندماج الإيجابي
لم تنشأ فكرة "الاندماج" بالنسبة لمسلمي أوروبا من فراغ. فعلى إثر التحولات الديمغرافية (السكانية) التي أفرزتها الهجرة في المقام الأول، برزت تساؤلاتٌ في عديد البلدان الأوروبية الغربية، عن كيفية إدارة العلاقة بين مكوِّنات مجتمعات القارّة الذي باتت أكثر تعدّدية.
ولم تكن تلك التساؤلات بمنأى عن بعض مكامن القلق، الناشئة من مخافة تَبلوُر مجتمعات موازية أو جيوب معزولة عن الإطار العام للمجتمع، جرى أحياناً التعبير عنها مجازاً بلفظة "الغيتو"، ذات الوقع السلبي في التجربة التاريخية الأوروبية.
وإذا كانت تلك التساؤلات قد تعلّقت ابتداءً بمن يُوصَفون بأنهم "أجانب" أو "مهاجرين" بشكل عام؛ فإنّ المسلمين قد وُضعوا في أحيان كثيرة في بؤرتها، خاصة بالنظر إلى ذلك الانطباع التقليدي الواهي، التي يعتبر الشرق الإسلامي والمتحدرين منه مقابلاً للغرب الأوروبي وقاطنيه الأصليين.(1/1)
ورغم أنّ تلك المقابلة، أو حتى التضاد، لا ينهضان على أرضية صلبة من الحجج، بالنظر إلى المشترك القائم في الماضي والحاضر بين "الشرق" و"الغرب"، وبعض صور التداخل، والتواصل الإيجابي في ما بينهما؛ فإنّ مسلمي أوروبا، وفي الأساس المتحدرون منهم من خلفية هجرة، باتوا، ربما أكثر من غيرهم، في مواجهة استحقاق الاندماج، أسوة بغيرهم من فئات المجتمع الأخرى التي لا يُرجَى تقوقعها على ذاتها أو تمركزها في الهامش.
ومن نافلة القول؛ أنّ فكرة الاندماج، على نحو مبسّط، تنهض على أرضية الحاجة إلى إبقاء المجتمع في حالة تواصل داخلي بين شتى قطاعاته، وبحيث ينضوي المجموع في نطاق مشترك من القيم العامة والنظم المرعية. ومن الواضح أنّ الاندماج باعتباره مفهوماً فضفاضاً وغير محدّد؛ يبقى مثيراً للتفسيرات والتأويلات، بما أنشأ حالة واضحة من التفاوت في المقصود به، من مدرسة فكرية أو فلسفية إلى أخرى، ومن خط سياسيّ أو مجتمعيّ إلى آخر. ولعلّ ذلك ما دفع المؤسسات الإسلامية التي تناولت فكرة الاندماج إلى إلحاقه بوصف "الإيجابي"، بحيث أصبح "الاندماج الإيجابي" هدفاً من الأهداف التي يسترعيها طيفٌ واسع من مؤسسات المسلمين في القارة الأوروبية، والتي تمثل بدورها التيار الرئيس في أوساطهم.
وإنّ منظور المؤسسات الإسلامية للاندماج، تلتقي في واقع الأمر، وبدرجة كبيرة، مع ما تنادي به العديد من الأطراف والأصوات في الفضاء المجتمعي، وحتى السياسي أحياناً، في المشهد الأوروبي العام. ويبقى الحوار والتواصل، وفعل الحضور والمشاركة، سبيلاً لا غنى عنه للتوافق على تصوّرات جامعة وبرامج عمل مشتركة والوصول إلى كلمة سواء، في ما يتعلق بعملية الاندماج، وبما يتفرع عنها أو يتصل بها من مسائل.(1/2)
وإذ لا يخفى أنّ مسألة الاندماج هي من الشواغل المتجدِّدة للمسلمين في أوروبا. فإننا في "اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا"، نُعرِب عن ثقتنا بأنّ المسلمين في هذه القارة، بصفتهم مواطنين أوروبيين، يعتبرون أنّ من واجبهم أن يعملوا من أجل الصالحِ العام، وأن يكون حرصُهم على أداء واجباتهم كحرصهم على المطالبة بحقوقهم. ونحن ندرِكُ في هذا السياق؛ أنّ من مقتضياتِ الفهمِ الإسلاميِّ السليم؛ أن يكون المسلمُ مواطناً فاعلاً في الحياة الاجتماعية، منتجاً ومبادراً وساعياً لنفع غيره.
ويودّ "اتحادُ المنظمات الإسلامية في أوروبا"، أن يؤكِّدَ موقفَه المبدئيّ الذي طالما عبّر عنه، من أنّ المسلمين مدعوّون إلى الاندماج الإيجابي في مجتمعاتهم، اندماجاً يقوم على التوازن بين الحفاظ على هويتهم الدينية ومقتضيات المواطنة.
ومن نافلة القول؛ أنّ المسلمين في أوروبا، وهم يعيشون في مجتمعات متعددة المذاهب الدينية والفلسفية؛ يؤكدون احترامَهم لهذه التعددية، وهم يعتقدون بأنّ الإسلام يُقِرّ مبدأَ التنوّع والاختلاف بين الناس، ولا يضيق بواقع التعددية القائم بينهم، بل يدعو إلى التعارف والتعاون والتكامل بين أبناء المجتمع الواحد.
إنّ هذا الطرح الذي أسلفت ليس خواطر عابرة؛ بل يتعلق الأمر بمنطلقات وتوجهات، أكدناها في الاتحاد، وشدّدنا عليها مع شركائنا في ساحة المؤسسات الإسلامية على امتداد القارة، مثل ما ورد بصفة خاصة في "ميثاق المسلمين في أوروبا".
دور المؤسّسات الإسلامية في عملية الاندماج:
يمكن تحديد دور المؤسسات الإسلامية في الاندماج، ضمن ثلاثة مستويات، هي:
? المستوى المفاهبمي.
? مستوى المقاربة الواقعية.
? المستوى العملي.
وفي ما يلي تناولٌ لملامح من دور المؤسسات الإسلامية في عملية الاندماج عبر تلك المستويات، مع التمثيل لذلك ببعض النماذج الموجزة.
أولاً) على المستوى المفاهيمي:(1/3)
يتمثّل دور المؤسسات الإسلامية في ما يتعلق بعملية الاندماج على الصعيد المفاهيمي؛ في الإسهام في صياغة المفهوم المتعلق بالاندماج من جوانبه المتعددة.
فالاندماج شأنه شأن عديد المفاهيم الأخرى، التي تحتاج إلى توضيحٍ لكُنهها، وتحديد للمراد بها، وتفسير لمقاصدها. وإنّ ذلك ليستدعي إسهاماً من جانب المؤسسات الإسلامية في صياغة المفهوم المتعلق بالاندماج، كي لا تتحوّل هذه المُفرَدةُ إلى عنوانٍ بلا فحوى أو شعارٍ بلا مضمون.
وفي واقع الأمر؛ فإنّ المؤسسات الإسلامية في أوروبا لم تتخلّ عن دورها في هذا الاتجاه، بل تناولت الاندماج في مدارساتها وأدبياتها ومؤتمراتها وندواتها وإصداراتها، وهو ما يتضح بشكل جلي بالنسبة لاتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا ومؤسساته الأعضاء منذ خمسة عشر عاماً على الأقل.
وقد تطوّر التناولُ لموضوع الاندماج وتعمّق، فأصبح هناك نسقٌ من المفردات والمفاهيم ذات الصلة به، كـ"التوطين" (توطين الحضور المسلم في الواقع الأوروبي) و"المواطنة" (المواطنة الصالحة للمسلم في مجتمعه الأوروبي الذي ينتمي إليه)، و"المشاركة" (المشاركة المجتمعية وكذلك المشاركة السياسية)، و"تكافؤ الفرص". وقد انتقل الأمر من حيِّز المداولات التي تجري في فضاءات مسلمة أوروبية متفرِّقة؛ إلى المدارسات والمشاورات في الفضاء المسلم الأوروبي العريض، حيث صدرت إعلاناتٌ عدّة، وانتهى الأمرُ إلى مواثيق، نستحضر منها "ميثاق المسلمين في أوروبا" لعام 1427 هـ / موافق 2006 م.(1/4)
ولعلّ من بين ما يلفت الانتباه؛ أنّ المؤسسات الإسلامية لم تنكفئ على الذات خلال إسهامها في صياغة المفهوم، بل هي في الوقت الذي أخذت تقدِّم فيه تصوّراتٍ ومقترحات كأرضيةٍ للنقاش؛ فإنها سعت قدر الوسع إلى توفير بعض الأطر والمنابر لأهل العلم والنظر، وأصحاب الفكر والرأي، من المسلمين وغير المسلمين، لإنضاج التداول بشأن مسألة الاندماج وما يتفرّع عنها أو يتّصل بها من مسائل. ويتضح ذلك، على سبيل المثال، في الدور الذي اضطلعت به المؤتمراتُ والندواتُ، وكذلك حلقات النقاش والأيام الدراسية وحتى ورش العمل، التي التأمت طوال عقد ونصف العقد من الزمن، فضلاً عن عديد الإصدارات المطبوعة التي كانت أشبه بمنابر لتناولِ هذه المسائل من زوايا عدّة.
وأحسب أنّ واحداً من أنصع النماذج على ذلك الإسهام المتعلق بصياغة المفهوم؛ هو قيام "المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث"، الذي يفتتح اليوم عشريته الثانية المباركة بعونه تعالى، خاصة وأنّ مجالات اهتمام المجلس تتّصل بمطلب "التأصيل"، الذي لا يمكن المضيُّ في نهج اندماجِ المسلمين ومواطنتهم بمعزل عنه.
ثانياً) على مستوى المقاربة الواقعيّة:
على صعيد المقاربة بين المفهوم والواقع؛ فإنّ ما ينبغي استحضارُه ابتداءً؛ أنّ المفاهيم المجرّدة عن الواقع، أو المعزولة عنه، لا تتأهّل لملامسته أو التأثير فيه. ولذا فإنّ مفهوم الاندماج، وما يتفرّع عنه أو يتّصل به؛ لا ينبغي أن يكون حبيس الأَروِقة أو أسيرَ النُّخَب (الصفوة)، بل ينبغي أن ينطلق أيضاً من الواقع ويتنزّل عليه كذلك بحكمة.(1/5)
وأحسب أنّ فكرة الاندماج، كما حضرت على الأقلّ في تناول المؤسسات الإسلامية الوسطية في هذه القارة؛ لم تحتجب عن واقعها أو تنقطع عنه، خاصة وأنها في الأصل شاغلٌ من الشواغل العامة التي تعيشها الأسرة المسلمة في أوروبا مثلاً، ويواجهها الشاب والفتاة الناشئان في مجتمع لا تتطابق ملامحه مع مجتمع النشأة الذي عرفه الآباء والأجداد. أي أنّ ما يمكن وصفه مجازاً بـ"الموقف من المجتمع" أو "مسألة الانتماء"، هو سؤال قد يُطرَح في الفضاء المجتمعي لمسلمي أوروبا بشكل اعتيادي وتلقائي، تبعاً لمسألة الهوية، أو حتى لمجرد كون الاندماج مادةً للجدل العام في الساحتين السياسية والمجتمعية في عديد البلدان الأوروبية الغربية والوسطى، منذ مطلع التسعينيات من القرن العشرين وحتى اليوم.
ولكنّ ذلك لا ينهض وحدُه بمطلب المقاربة الواقعية؛ إذ:
ـ لا بدّ من أن يراعي مفهومُ الاندماج؛ الواقعَ موضع الاهتمام، بأبعاده المتشعِّبه وتفاصيله.
ـ ولا بدّ من تكييف المقاربة النظرية مع الواقع العملي، وتهيئتها لأن تتنزل على أرض الواقع بطريقة سليمة وبما ينسجم مع المقصد.
ـ ولا بدّ أيضاً من استمرار النظر والمعالجة للمفهوم، أخذاً بعين الاعتبار ما يستجدّ أو يطرأ، وهو ما يكتسب أهمية خاصة بالنظر إلى بعض التطوّرات والمنعطفات التي عرفها الوجودُ المسلم في أوروبا منذ سنة 2001.
ـ كما يتوجب، زيادة على ما سبق، إدراكُ أنّ الاندماج له متطلباته واستحقاقاته، وطريقه مفروشة بالتحديات وربما بالعوائق والمشاقّ أحياناً، لكن هناك محفزِّات تحفزه وعوامل تنشطه بالمقابل. وإنّ من مقتضيات تنزيل الفكرة على الواقع وتكييفها معه؛ أن يجري التعرّف على تلك العوامل والموثِّرات وأخذها بعناية على محمل الجدّ، والسعي للتعامل معها حسب ما يتطلّب الأمر. ولا بدّ من طرح التساؤلات الجادة والناقدة، الرامية لتوصيف المشكلات والعوائق والصعوبات، بما يتيح المجال لمعالجتها بكيفية أنجع.(1/6)
وكمثال على المقاربة الواقعية؛ فإنه لا مناص من ربط مطلب الاندماج بأبعاد، أو أدوار، ينبغي النظرُ إليها باعتبارها وثيقة الصلة بتحقّق الاندماج الإيجابي المنشود والتمكين له، وقطع الطريق على نذر العزلة والتقوقع، أو الذوبان وتلاشي الحضور الإيجابي. ومن هذه الأبعاد، على سبيل المثال لا الحصر، صلة الاندماج بالحوار، وصلته بالمشاركة، وكذلك بتكافؤ الفرص:
أ) صلة الاندماج بالحوار:
إنّ الحوار لازمة لا غنى عنها لعملية الاندماج، في شتى مراحلها ومستوياتها. فالاندماج بدءاً من كونه فكرة، إنما ينبغي إنضاجها على المستوى المفهومي على أرضية الحوار الذي يتيح اتساعاً في الرؤية وانفتاحاً للمعالجة على واقع حافل بالتشابك وربما بالتعقيد. وسواء تعلّق الأمر بالمؤسسات الإسلامية، أم بصانعي القرار على المستوى السياسي مثلاً؛ فإنّ استبعاد الحوار من مسعى الاندماج لا يُقرِّب من المقصد الإيجابي بل يُباعِد المسافات عنه، ويؤدي إلى حالات مؤسفة من الانسداد في قنوات التواصل والتفاهم ضمن المجتمع الكبير.
ومن الاستحقاقات التي يرتبها الحوار أيضاً؛ أن يتم التواصل المنفتح مع قطاعات الجمهور المعني كافة خلال أطوار عملية الاندماج. ولا ريب أنّ ذلك يُفيد، أيّما إفادة بإذن الله، في جعل توجّهاتِ الاندماج منسجمةً مع الواقع، علاوة على أنّ الحوار يعين على تقبّل الجمهور للفكرة وإقباله عليها والمضيّ في ما يستتبعها من استحقاقات والتزامات وأدوار.
ب) صلة الاندماج بالمشاركة:(1/7)
إنّ التوجّه إلى الاندماج الإيجابي، يقتضي تفاعلاً إيجابياً من قبيل "المشاركة". ويشمل مطلبُ المشاركة؛ الانتشارَ الحميدَ في شتى مجالات الفعل المجتمعي البنّاء، بما في ذلك المشاركة السياسية. ولا ريب أنّ المشاركة تقتضي، من جانبٍ، إقبالاً عليها، ومن جانب آخر، تذليل أية صعاب يمكن أن تكمن في طريقها، بحيث يجري إفساحُ المجال أمام حالةٍ إيجابية ومُثمرةٍ من المشاركة الفاعلة في شتى المجالات.
وليس من المبالغة الإقرارُ بأنّ المشاركةَ فضلاً عن كونها سبيلاً لا غنى عنه من سبل الاندماج الإيجابي؛ فإنها كذلك تمثل مؤشراً أساسياً على نجاحه. ولعلّ ذلك تحديداً ما يشير إلى معيارٍ هام من معايير التفريق بين الاندماج الحميد والذوبان الذميم، فالأخير يَطمس الأثرَ ويُلغي الخصوصيات ويمحو التنوّع ويُقطع الطريقَ على الإثراء المتبادل ضمن النطاق المجتمعيّ العريض.
جـ) صلة الاندماج بتكافؤ الفرص:
إذا تبيّن ما تُمثِّله المشاركةُ من أهميةٍ للنهوض بالاندماج الإيجابي والتمكين له؛ فإنّ ذلك لا بدّ وأن يلفتَ الانتباهَ إلى أهميةِ العنايةِ بمطلب تكافؤ الفرص في المجتمع الواحد. إذ لا يخفى أنّ الاندماج على نحو عام والمشاركة على نحو خاص؛ يقتضيان ضمانَ الفرصِ المتكافئة للجميع، للتمكّن من الإسهام المستمر في شتى المجالات وعلى نحوٍ لائقٍ.
ومن الواضح أنّ تكافؤَ الفرص ليس بالمطلب المتيسِّر في غالب الأحوال، وهو ما يقتضي انصرافَ الاهتمام إلى العنايةِ بهذا المطلب الهام وتضافر الجهود لتعزيزه. فالفرصُ المتاحة لأعضاء أي مجتمع، ترتبطُ بعوامل عدة، من بينها الخصوصيات التعليمية والثقافية، والمقدرات الاقتصادية والتمويلية، ومواصفات التموضع المجتمعي (حسب الشرائح والفئات داخل المجتمع الواحد)، فضلاً عن مواصفات البيئة السياسية والمجتمعية العامة.(1/8)
ومن نافلة القول؛ أنّ المؤسسات الإسلامية في أوروبا، معنيةٌ بأن تشجِّع كافةَ الجهود الرامية للتحقّق من تكافؤ الفرص وتعزيزها في شتى المجالات، بما في ذلك إعلان الاتحاد الأوروبي عن العام الجاري (2007) باعتباره "السنة الأوروبية لتكافؤ الفرص للجميع"، وهو ما يقابله اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا بالترحيب، وينظر إليه باهتمام خاص.
ثالثاً) على المستوى العملي:
لعلّ أولى الخطوات العملية في أداء المؤسسات الإسلامية في ما يتعلق بالاندماج؛ هو التعريف بالفكرة وما هو مقصود منها، بناءً على الصياغة المفاهيمية المتحققة والمقاربة الواقعية التي ترتّبت على ذلك.
أي أنّ المؤسساتِ الإسلامية مُطالََبةٌ في هذا الصدد بإشاعة الفكرة الإيجابية والتعبير عن الموقف بصورة مؤثرة وحكيمة، ثم أن تبدأ بتنزيل مقتضياتها في واقعها هي ابتداءً، بالتعبير عن هذا المنظور وذلك الموقف في توجّهاتها وأدبيّاتها، وترجمةِ القولِ إلى فعل والشعار إلى مُمارَسة.
أما في خِضَمّ الأداء؛ فإنّ مطلب الاندماج، بشكل عام وعلى نحو تفصيليّ أيضاً، يُرتِّب جملةً من الأدوار والمسؤوليات على عاتق المؤسسات الإسلامية في أوروبا، يمكن إيجاز بعضها في ما يلي:
1) الاندماج في بيئة مؤسسية معقّدة:
إذا كان الطابعُ المؤسسيّ من الخصائص الملموسة للبيئة الأوروبية، فإنّ ذلك مما لا يجدر تجاهلُه في سياق عملية الاندماج. فاندماج مجموعة بشرية، أو "طائفة" ما، في بلد أوروبي؛ لا يتحقّق بترك "الأفراد" وحيدين لينخرط كل منهم فرادى في النسق المجتمعي الزاخر بشكل يورث الفرد التيه وفقدان الرؤية أحياناً. بل إنّ الأمر يتطلّب قدراً من التواصل والتعاون بين الأفراد، و"انخراطاً مؤسسياً" أيضاً. ويعني ذلك في حالة مسلمي أوروبا، قدرتَهم على التفاعل مع بيئةٍ تحفل بالمؤسسات وتقوم في عديد مساراتها على العمل المؤسسيّ.(1/9)
ويقضي ذلك الانخراطُ المقصود، بالعناية ببعض المتطلبات التي تشجِّع عملية الاندماج من هذا الوجه، من قبيل:
أ) تهيئة الفرد المسلم على التعامل مع المؤسسات من حوله، والتفاعل معها، بصورة فاعلة وواعية:
فالبيئة المؤسسية الفاعلة؛ يُفترض فيها أنها تتيح المجال أمام استيعاب اهتمامات الجمهور وملاحظاتهم وانطباعاتهم، وكذلك مقترحاتهم وشكاواهم، أو حتى اعتراضاتهم بالطريقة الحسنة على ما لا يروق لهم. ولا ريب أنّ قدرةَ الأفراد على التعبير عن مكنوناتهم بطريقة سليمةٍ وبنّاءة، عبر المسالك المنظورة لذلك؛ لهو مؤشِّرٌ من مؤشِّرات اندماجهم الإيجابي في مجتمعهم واكتراثهم بالتفاعل مع المحيط الذي يعيشون فيه.
ب ـ انتشار المسلمين في بيئة العمل المؤسسي القائمة وحضورهم فيها، وسعيهم لأداء أدوار إيجابية وخدمة الصالح العام من خلالها أيضاً:
ومن الشواهد على ذلك، على سبيل المثال؛ تقلّد مواقع خدمية أو مسؤولية في مؤسسات عامة، والحضور في الهيئات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وعدم الانعزال عن الأوساط المؤسسية العامة والخاصة ومن قطاعات عدة، وغير ذلك. وإنّ هذا الانتشار يرجى منه أن يعبِّر أيضاً عن شخصية تفاعلية مسؤولة، تبني وتنهض بالمجتمع، وترشِّد وتصوِّب وتساهم في الإصلاح والتطوير والنصح كلما لزم.
جـ ـ نهوض بيئة مؤسسية معبِّرة عن المسلمين، في الفضاء المجتمعي العام:(1/10)
فـ"الانخراط المؤسسي" يقتضي أن يكون للمسلمين حضورهم في المجتمع المدني (المجتمع الأهلي). ولا يتوقف الأمر على وجود مؤسسات إسلامية فاعلة وحسب؛ بل وأن تتوفر المؤسسات ذات الاهتمامات الجامعة، وتلك ذات الاهتمامات التخصصية أيضاً، بما تغطي مجالات الحاجة كافة، وينهض بالمتطلبات المتراكمة على شتى المسارات. كما أنّ نهوض أطر تمثيلية فاعلة للمسلمين، أو هيئات تعبِّر عن "الشخصية القانونية أو الاعتبارية للطائفة المسلمة" في التعامل مع الدولة والمجتمع؛ هو مطلب أساسيّ في هذا السياق.
د ـ تشكيل أطر معنية بالتواصل والتعاون، وكذلك التنسيق والشراكة:
والمُنتظر من تلك الأطر، أساساً، أن تجمعَ المؤسساتِ الإسلامية على مستوى الدول والأقاليم والمستوى الأوروبيّ القاريّ ككل، وكذلك وجود أطر أخرى تجمع المؤسسات الإسلامية بشركائها في المجتمع العريض على شتى المستويات، محلياً وقطرياً وقارياً، وهو ما يعزِّز من اندماج المؤسسات الإسلامية في النسيج المؤسسي المدني في البيئة الأوروبية.
2) "الاندماج الداخلي" حلقة من حلقات الاندماج:
ويُعني بذلك أنّ المؤسسات الإسلامية ينبغي وهي تمضي إلى تحفيز الاندماج الإيجابي للمسلمين في مجتمعاتهم الأوروبية؛ أن لا تتجاهل مطلب انفتاحها هي (المؤسسات) على شرائح الوجود المسلم، وقدرتها على التعبير عن تلك الشرائح في أطرها وهياكلها المؤسسية. ويقتضي ذلك، على سبيل المثال، ضمان التواصل الإيجابي بين الأجيال، في واقع المؤسسات الإسلامية، وكذلك حضور المرأة المسلمة في هذه المؤسسات، فضلاً عن تحاشي ما يمكن أن نصفه بـ "التموضع الطبقي" للمؤسسات الإسلامية، بل أن تكون أبوابها ومساراتها ومسالكها مفتوحة لجمهرة المسلمين في البيئات الأوروبية التي تعمل بها، بحيث لا تتحوّل إلى أطر صفوية (نخبوية) منغلقة على من فيها، أو ربما مفترقة إلى الشفافية والتجدّد.(1/11)
وليس من فراغ يمكن للشكوك أن تثور بشأن قابلية المساهمة في تحقيق الاندماج إن لم تكن الأطر المؤسسية قادرة على التعبير عن جمهور متنوِّع. ومن هنا؛ فإنّ "اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا"، يولي عناية خاصة لمطلب التواصل بين الأجيال، أو ما يسمى أحياناً بـ"التوريث"، وتعزيز مساهمة المرأة المسلمة وكذلك الانفتاح على الجمهور وتلمّس اهتماماته واحتياجاته والتعبير عنها، وهو ما يفرض مزيداً من التطوير والجهود. ونرى أنّ ذلك، بالإجمال، يفرض تحدياً جادّاً على عاتق المؤسسات الإسلامية في أوروبا، إذا ما نشدت الدفع بعملية الاندماج قدماً.
3) الاندماج مسؤولية مشتركة:
لا ريب أنّ النهوض بعملية الاندماج، يقتضي إدراك طبيعتها التي تُرتِّب مسؤولياتٍ عدّة على عديد الأطراف، داخل ساحة المسلمين، وخارجها. ومن هنا؛ فإنّ تضافر هذه الأطراف وتعاونها، وقيامها بمسؤولياتها بشكل رشيد؛ يبقى مطلباً لا غنى عنه للمضي في هذه العملية، بما يستتبعها من متطلبات وما ينبني عليها من استحقاقات.
وفي كلّ الأحوال؛ فإنّ التزامات جادّة تقع على عاتق المؤسسات الإسلامية لجهة مسؤوليتها في النهوض بالاندماج الإيجابي للمسلمين في مجتمعاتهم الأوروبية، إلى جانب المسؤوليات المترتبة على شركاء الفضاء المجتمعي الكبير رسمياً وشعبياً، سياسياً ومدنياً، وفي شتى المجالات.
والله الموفق لما يحبّ ويرضى، وهو الهادي إلى سواء السبيل،،
سراييفو، غرّة جمادى الأولى 1428 هـ
موافق: السابع عشر من مايو 2007 م(1/12)
دور المرأة في الدعوة و إصلاح المجتمع
الدكتور طاهر مهدي البلّيلي
عضو المجلس الأوربي للإفتاء و البحوث
أستاذ الفقه المقارن و الأصول و المقاصد أكاديمية العلوم الإسلامية بروكسل
قبل الحديث عن دور المرأة في الدعوة لا بد من تعريف المرأة حتى نستطيع أن ننسب لها دورا يكون بمستواها. ثم إن الحكم على الشيء جزء من تصوره ما يجعل معرفة حقيقة المرأة أمرا من أولى الأولويات.
عندما نتتبع التطور الحاصل في حياة المرأة منذ زمن بعيد إلى يومنا هذا نجد أنه محكوم بنظرة أحادية الجانب يملكها الرجل فقط و لا تشاركه المرأة فيها. نعم من الحقيقة بمكان أن نعترف أن هناك تغيرات طرأت على المرأة بشكل عام و ذلك حسب الثقافات و العادات و الأديان، و لكن ظل الرجل هو الذي يحدد للمرأة واجباتها و حقوقها.
و حتى أمد ليس بالبعيد لا يوجد مصادر عن المرأة كتبت من طرف المراة نفسها، و هذا الغياب التام للمراة من الحياة العامة فيما يتعلق بحقوقها و واحباتها سببه انحسار نشاطها في المجال الخاص جدا حيث لا يتعدى ذلك النشاط العائلة، من هنا كانت الصعوبة في الحصول على مصادر محايدة في تاريخ المرأة بشكل عام، لأن كل ما لدينا من تلك المصادر إنما كتبت بنظرة تحكمها العقلية الذكورية.
فكل ما لدى المؤرخ إنما هي كثير من الصور التي لا تعترف بالمرأة إلا مضافة إلى غيرها مما يقلل من شأنها و يعطيها شخصية وهمية أو مجازية في أغلب الأحيان، وهي صور من صنيع خيال الرجل مثل آلهة اليونان؛ أفروديت، أثينا، ديان و غيرها كثير. أو مثل جان دارك أو ماريان اللتان تمثلان الجمهورية و الوطن في الثقافة الفرنسية. و كذلك فيما يتعلق بالشخصيات النسوية في الكتاب المقدس مثل حواء، مريم، مريم المجدلية، و هن شخصيات متضادة غالبا و متناقضة حيث تجاذبت عبر التاريخ قرابين و صلوات أو تهكم و اشمئزاز شديد.(1/1)
إن هذا التناقض الوجداني في النظرة إلى الجنس اللطيف في المجتمع الغربي المسيحي سببه هو الاعتقاد بأن المرأة هي سبب الذنب البشري من ناحية و من من ناحية ثانية هي تلك النظرة التي تعتبر المرأة هي أصل الحياة و الذي تمثله مريم عليها السلام.
إنه لمن الصعوبة أن نعطي تعريفا للمرأة نحن المسلمين أيضا لأن نظرة الرجل إليها لا تزال محكومة بالمفهوم الذكوري الذي أقرب ما يكون منه إلى النظرة الجاهلية التي جاء الاسلام لتغييرها باعتبارها نظرة خاطئة تاريخيا. و حتى بعد أن قال القرآن الكريم :» يا ايها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى ... « و » و من يعمل من الصالحات من ذكر و أنثى و هو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة و لا يظلمون فتيلا« و » فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض« ، ظل المسلمون يميزون بين الرجل و المرأة على أساس الذكورة و الأنوثة، و هذه نظرة مخطئة لا محالة بصريح القرآن الكريم، فالحكم هو العمل الصالح و التقوى لا غير.
الآن فقط يمكننا ان نعطي تعريفا تقريبيا للمرأة يبرز كونها كائنا مستقلا عن المضافات التعريفية.
تعريف المرأة: هي ذلك الكائن اللطيف، الذي يتحد مع الرجل في أصل الخلقة و يختلف معه في البنية الفسيولوجية.
قال - عز وجل - :» و ليس الذكر كالأنثى« أي في البناء الفسيولوجي و بالتالي في المهام التي تسند لكل.
تعريف الدعوة إلى الله: هي تقديم منهج حياة متكامل إلى المسلمين و غيرهم يسعدهم في الدنيا و الآخرة. قال الله - عز وجل - :» قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا و من اتبعني« » إن الدين عند الله الاسلام« » و من يبتغي غير الاسلام دينا فلن يقبل منه و هو في الآخرة من الخاسرين«.(1/2)
دور المرأة في الدعوة: أولا و قبل أن استطرد في الموضوع يجب أن نفهم ما هو مجال الدعوة الذي نريد من المرأة أن تعمل به؟ نعم إنه المجتمع كله، لأن هذا الدور لا يتحقق إلا إذا شمل المجتمع، الذي بحياته تحيى الأمة و بموته تموت. والله - عز وجل - عندما يقول: » المؤمنون و المؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر و يؤمنون بالله« فهو سبحانه يعني ما يقول حيث ان الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لا يتحققان إلا في المجتمع المفتوح الذي يجعل المرأة تساهم بدورها إلى جانب الرجل.
و دور المرأة في إصلاح المجتمع و هو ما يطلق عليه القرآن الكريم الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر أمر لا شك فيه و لا ينكره إلا مكابر. إن هدي الرسول الكريم في الحياة الاجتماعية لهو دليل قاطع على أن المرأة المسلمة كانت حاضرة إلى جانب الرجل و على كل المستويات.
و هنا أجدني مضطرا إلى اختصار بعض الأدلة التي تبين ذلك الحضور الدائم و المستمر في حياة النبي I و بعده في العصور المنفتحة و التي كانت تمثل أرقى عصر على طول التاريخ الإسلامي.
1) دعوة المرأة في المسجد:
كانت المرأة كثيفة الحضور و مستمرة الاشتراك في المسجد على عهد رسول الله I لتتعلم و تدعو إلى الإسلام. عن عبد الله ابن عباس قال كانت امرأة تصلي خلف النبي و كانت حسناء من أحسن الناس، و كان بعض من القوم يتقدم حتى يكون في الصف الأول لئلا يراها، و البعض يتأخر حتى يكون في الصف الآخر فإذا رجع نظر من تحت إبطيه، فنزل قوله - عز وجل - : » و لقد علمنا المستقدمين منكم و لقد علمنا المستأخرين«(1).
__________
(1) الترمذي تفسير الحجر حديث 5128.(1/3)
فرغم وجود أشخاص يحبون أن يتقربوا من النساء و تهفوا أفئدتهم إليها بصورة أو بأخرى فإن النبي I لم يغير مسجده، بل لم يمنع النساء من الصلاة و لا أقام الجدران الفاصلة بين الجنسين، ولا أسبل الأستر العازلة، إيمانا منه أن القضية قضية تربية و إقناع و ليست قضية قمع و ترهيب، كما يفعل اليوم في كثير من البلدان.
و مع أن ذهاب النساء إلى المسجد كان يثير غيرة الأزواج فإنه لم يجرؤ أحد على منع المؤمنات من مشاركة المؤمنين خير الصلوات الجماعية و خير الاستماع إلى خطب الجمعة بعد أن قال I : » لا تمنعوا إماء الله بيوت الله«(البخاري، جمعة 849)
و قد روي أن عمر ابن الخطاب كان يختصم مع زوجته عاتكة حيث كانت كثيرة الصلاة في المسجد و كان عمر يقول لها :» و الله إنك تعلمين أني لا أحب هذا، فقالت و الله لا أنتهي حتى تنهاني، قال: إني لا أنهاك، يقول الراوي: و لقد طعن عمر و هي في المسجد«(1).
إن المتمعن في هذه المعاملة الطيبة للمرأة في العصور الاسلامية الأولى يجد أن الرغبة النبوية في مشاركتها في إقامة الصلوات و التعلم و التعليم و الدعوة إلى الله دليل قاطع على أن المرأة ليست كما يظن عوام الناس اليوم عورة، و شر لا بد من إقصائها من الحياة.
2) دور المرأة في مجال السياسة و العهود:
كانت المرأة تشارك مشاركة واسعة في النشاكات السياسية المختلفة و هي في حد ذاتها دعوة إلى إصلاح المجتمع و تخفيف من أعباء الرجل السياسية. كان النبي I قد فتح مكة بعد ثمان سنين من الهجرة إلى المدينة، و كان قبل ذلك قد حكم بالإعدام على بعض المجرمين من أهلها. و عند رجوعه لفتح مكة هرب هؤلاء المجرمون خوفا من حكم العدالة، و لكن إبن هبيرة قد استجار بأم هانئ ابنة عم الرسول فأجارته، فاعترض بعض الصحابة على هذا العهد النسوي و احتجوا بالويلات التي ذاقوها من أمثال ابن هبيرة.
__________
(1) المصنف لعبد الرزاق الجزء 3 صفحة 148.(1/4)
فجاءت أم هانئ إلى النبي I فقالت:»يا رسول الله زعم ابن أمي، تقصد شقيقها عليا، أنه قاتل رجلا قد أجرته، إنه ابن هبيرة يا رسول الله، فقال النبي : قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ«(1).
ها هو الرسول I يحترم عهدا أعطته امرأة لأحد المطلوبين للعدالة، و لم يخذلها أبدا فهل يعتبر هؤلاء الذين يقولون أن المرأة لا قيمة لها في الإسلام و هم كثر، و هل يتقون الله و يتبعون هدي النبي الكريم.
3) دور المراة في الحوار العام و المفاوضات من أجل الحقوق:
إن مواقف النساء في حوارهن و مناقشاتهن لكثير من الأمور التي تهم المجتمع أما النبي و بحضرة الرجال كثير لا تكاد تعد، و هذا يرفع الحرج عليهن من أجل المشاركة الكاملة إلى جانب الرجل، و من تلك المواقف ما يلي:
عن مسلم بن عبيد أن أسماء بنت يزيد الانصارية أتت النبي I و هو جالس بين أصحابه فقالت: »بأبي أنت و أمي يارسول الله، أنا وافدة النساء إليك، إن الله - عز وجل - بعثك إلى الرجال و النساء كافة، فآمنا بك و بإلهك، و إنا معشر النساء محصورات مقصورات، قواعد بيوتكم، و مقضى شهواتكم، و حاملات اولادكم، الخ ثم قالت: أفما نشارككم في هذا الاجرو الخير؟« فالتفت النبي إلى أصحابه بوجهه كله ثم قال لهم:» هل سمعتم مقالة امرأة قط أحسن من مساءلتها في أمر دينها احسن من هذه؟« فقالوا : يار سول الله، ما ظننّا أن امرأة تهتدي إلى مثل هذا«(2)
4) دور المرأة و حضورها في المناسبات العامة:
__________
(1) البخاري كتاب فرض الخمس، باب أمان النساء و جوارهن، فتح الباري جزء 7 صفحة 83.
(2) إبن كثير أسد الغابة جزء 5 صفحة 398.(1/5)
لقد كانت احتماعات العيدين حاشدة بالناس الذين يأتون من كل حدب و صوب، و كان النبي I يشرف بنفسه على انشطة مهرجان العيد، الذي لم يكن صلاة فحسب كما يظن عوام المسلمين اليوم إنما كان يوم صلاة و رياضة و و مصارعة و مبارزة. كان النبي I يأمر جميع المسلمين بحضور هذه الأيام لما فيها من الخير و التواصل بين أفراد الأمة المسلمة. فمن الألعاب التي كانت تنظم أيام العيد لعب الحبشة بالدرق و الحراب، و كانت عائشة تتابع هذه الألعاب مع النبي I.
قالت أم عطية الأنصارية أن النبي I قال يوم العيد:» لتخرج العواتق و ذوات الخدور، و الحيّض، فيشهدن الخير و دعوة المسلمين«(1).
و هكذا فقد جعل النبي I من أيام العيدين معرضا إسلاميا يلتقي فيه المسلمون جميعا رجالا و نساء، شيوخا و أطفالا دون تمييز، و حتى النساء الحائضات أوجب الرسول عليهن الخروج إلى صلاة العيد و إن كن لا يصلين. اعتذرت إحدى النساء للنبي I بأنها لا تملك جلبابا، فقال لها الرسول الكريم: » لتلبسها صاحبتها من جلبابها، و لتشهد الخير و دعوة المؤمنين«(2).
أليس هذا النص دليلا على ملهما للمسلمين ليخففوا الوطأة على نسائهم كي يشاركن في الحياة الاجتماعية و المناسبات الدينية و الوطنية، أيكونون أغير على المرأة من رسول الله حين يدّعون أن الزمان قد فسد و أن الناس قد تغيرت؟
5) المرأة في العمل:
__________
(1) بخاري، كتاب العيدين، باب اعتزال الحيّض المصلى.
(2) البخاري، كتاب العيدين، باب إذا لم يكن لها جلباب في العيد.(1/6)
كانت المرأة تعمل على عهد رسول الله I و تكتسب مالا تعول به نفسها و زوجها و أولادها. فهذه ريطة بنت عبد الله الثقفية زوجة عبد الله بن مسعود كانت امرأة صناعا تعمل و تصرف على زوجها و أولادها، جاءت إلى النبي فقالت له:» إني امرأة ذات صنعة، فأبيع و ليس لأولادي و لا لزوجي مالا فيشغلونني عن الصدقة، فهل لي في النفقة عليهم أجر؟« فقال لها رسول الله I:» لك في ذلك أجر ما أنفقت عليهم«(1).
و كانت هناك امرأة بالمدينة يقال لها الحولاء العطارة، فكان النبي I يانس بها و يزورها و كانت تبيع العطور، كان I إذا دخل بيته قال:» أين الحولاء العطارة؟ إني لأجد ريح العطارة هل ابتعتم منها اليوم شيئا«(2).
و العجب العجاب أن هناك الكثير من رجال اليوم يدعون لأنفسهم حق القوامة على النساء و هم لا يعملون، و لا يتركون زوجاتهم تعمل بحجة أن مكان المرأة الطبيعي هو البيت. علما أن الكثيرات من هؤلاء الزوجات يتمتعن بشهادات عالية تمكنهن من إفادة المجتمع و بذلك يقدمن خير مثال للمرأة العاملة و المنتجة التي هي خير خلف لخير سلف كما تدل عليه الآثار التي قدمناها.
6) دور المرأة الدعوي في الطبابة، و القتال:
لقد كانت المرأة المسلمة أيام الرسول I و في العهد الراشدي تقاتل إلى جانب الرجل بكل شدة و صلابة.
__________
(1) البخاري قصة أم سلمة مع قومها، نفقات، 4950، و كذلك قصة هند بنت عتبة. أبن الأثير أسد الغابة، جزء 5 صفحة 461.
(2) ابن الأثير أسد الغابة، جزء 5 صفحة 432.(1/7)
فالربيع بنت معوذ كانت تغزو مع الرسول I فتداي الجرحى(1). و صفية بنت عبد المطلب رأت يوم الخندق رجلا يهوديا يتجسس على المدينة فضربته بعمود فقتلته و كانت وحدها. و أم العلاء الأنصارية كانت تعالج الصحابة المرضى، و عولج عندها عثمان بن مظعون حتى توفي(2). و أما رفيدة الأسلمية فحدث و لا حرج أمر لها النبي I بخيمة فكانت تداوي الجرحى بعد معركة الخندق، و داوت سعد بن معاذ(3).
7) دور المرأة الدعوي بالإناشيد و الكلام الملتزم:
تروي الفقيهة المجتهدة عائشة رضي الله عنها، فتقول:» دخل علي النبي I و عندي جاريتان تغنيان غناء بعاث، فاضطجع على الفراش و حول وجهه و دخل أبو بكر فانتهرني، و قال أمزمارة الشيطان عند رسول الله؟ فأقبل عليه النبي فقال: دعهما، تقول عائشة، فلما غفل غمزتهما فخرجتا«(4).
و في رواية أخرى قال النبي لأبي بكر:»يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا و هذا عيدنا«(5).
و في رواية أخرى تقول عائشة:» و عندي جاريتان تدففان و تضربان«(6).
إن الحديث الذي يذكر الغناء و الضرب بالدف أمام النبي I تكرر أكثر من اثنتي عشرة مرة عند البخاري و مسلم و أكثر من 50 مرة في الكتب التسعة، و ذكر ابن حجر العسقلاني المغنية في كتابه الإصابة و ترجم لها بـ »حمامة المغنية«.
__________
(1) أسد الغابة ابن الأثير، 5/450.
(2) البخاري فضائل الصحابة، باب مقدم النبي على المدينة.
(3) فتح الباري حديث رقم 3813.
(4) البخاري، 1/العيدين، الحراب و الدرق.
(5) البخاري، سنة العيدين، حديث 909.
(6) المصدر نفسه حديث 944.(1/8)
فرغم هذه النصوص المتواترة الكثيرة في دلالات الحديث ظل الفقهاء يطاردون كل غناء ملتزم من النساء الملتزمات و كأنه عار و إثم لا مثيل له. و هكذا أغلق الباب في وجه الغناء الملتزم الأمر الذي أفسح المجال أما الغناء الهابط الذي لا يبالي بالفضائل ولا بالقيم، فقدم هؤلاء المتشددين خدمة جليلة للفسق و الفجور لأنهم أجهزوا على منافس قوي كان بإمكانه أن يقلب الموازين و يملأ فراغا ملأه الفحش و التفحش.
بل إن قوما أعماهم التشدد حتى حرموا الأناشيد الإسلامية و كأن الإسلام جاء فقط للمآتم و التعازي. كل هذا دون إقامة وزن للأحاديث المذكورة و التي هي نصوص في مجالها.
و لقد تصدى الإمام ابن حزم قديما إلى كل من يحرم الغناء المحتشم الملتزم في كتابه العظيم المحلى، و برهن بعلمه و حنكته الناقدة و الجريئة أنه لا يوجد حديث واحد يعول عليه في التحريم(1).
و قد صح أن النبي I كان يحث المسلمين على اللهو البريء فيقول:»يا عائشة، هل معكم لهو فإن نساء الأنصار يعجبهن اللهو«(2). و كان يقول في عرس:» هل بعثتم معها جارية تضرب بالدف و تغني؟«(3).
و في الأخير فإن مشاركة المرأة في الدعوة كان نتيجة لحضورها المستمر في كل مجالات الحياة، و نجحت في ذلك نجاحا باهرا حتى سجل التاريخ لها مواقف دعوية من أروع ما يكون.
المراجع
1) القرآن الكريم و تفاسيره CD صخر للمعلوماتية
2) الحديث الشريف و شروحه CD صخر موسوعة الحديث
3) أونكارتا الموسوعة الفرنسية
4) تحرير المرأة في عصر الرسالة أبو شقة.
5) موقعنا على الشبكة المعلوماتية www.taharmahdi.com
__________
(1) ابن حزم، المحلى كتاب البيوع، مسألة 1567.
(2) البخاري، كتاب النكاح، باب النساء يزففن العروس لأهلها.
(3) فتح الباري، 11/133.(1/9)
عضل الولي في بلاد الغرب صوره وأحكامه
ومواقف أئمة المساجد والمراكز الإسلامية والقاضي منه
بقلم
الخمار البقالي
بحث مقدم إلى الدورة الثانية عشرة للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث المنعقدة بتاريخ
20 جمادى الأولى 1425 هـ الموافق: 07-07-2004م
إلى 24 جمادى الأولى 1425هـ، الموافق: 11-07-2004م
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
إن موضوع الولاية في الزواج من القضايا التي أثارت جدلا بين فقهاء التشريع الإسلامي منذ بزوغ الفقه الإسلامي، تبعا للنصوص الواردة في مجالها، من حيث الثبوت أولا، ثم من حيث الدلالة ثانيا، حيث اعتبر أغلب الفقهاء الولاية ركنا من أركان عقد النكاح، بينما اكتفى البعض باعتبارها شرطا فقط.
ومما زاد هذا الموضوع جدلا واختلافا تأثر أفراد المجتمعات الإسلامية بثقافات وتشريعات نظم غير إسلامية، عندما فُتِح العالم الإسلامي على غيره من الثقافات والتشريعات، وخصوصا لما استعمرت أرضه، ثم انبهرت عقول بعض أبنائه بما عند الغير، فانبرت تقلده وتنقل منه دون غربلة ولا تمحيص، واتسع هذا النقل والتقليد حتى شمل مجال تشريع نظام الأسرة. ثم تطور على مستوى الشك والارتياب في صلاحية ذاك التشريع للحكم والتطبيق، خصوصا لما هاجرت مجموعات لا يستهان بها من المسلمين من بلدانهم الأصلية إلى مجتمعات غير إسلامية، فوجدوا أنفسهم في مجتمعات لا تؤمن بنفس المبادئ، ولا تخضع لنفس التقنينات التي يخضع لها المسلمون. مما أتاح فرصةً لهجوم الغير على هذا التشريع من جهة، وتَفَلُّتَ بعض أبناء المسلمين من الاحتكام إلى التشريع الإسلامي، جهلا به أو رفضا له من جهة ثانية.(1/1)
وأمام هذا الواقع ـ حياة المسليمن في غير المجتمعات الإسلامية ـ الذي لا يمكن رفضه ولا الانفلات منه، إضافة إلى ضعف الوازع الديني لدىبعض الشرائح الإسلامية، ولجوء بعض المسلمين إلى الاحتكام إلى قوانين غير إسلامية. ظانين أنها أعدل من التشريع الإسلامي، أو جهلا بتلك التشريعات بالأحرى. يلزمنا كفقهاء باحثين، وخطباء موجهين، وأئمة يقتدى بهم ويسمع لفتاواهم ونصائحهم، مدارسة هذا الموضوع، انطلاقا من الأسس الشرعية التي انبنى عليها، ومراعاة للواقع المعيش الذي احتوى هذه الشريحة من أبناء المسلمين. أملا في ربط المسلمين بدينهم، وإسعادهم بشرع ربهم، وحفاظا على الحقوق المتبادلة بينهم من الضياع، وحرصا عليهم من التفلت من قوالب الشرع الإسلامي التي قد تفضي لا قدر الله إلى الانسلاخ من الدين كليا.
تلبية لهذه الاحتياجات تاتي هذه المساهمة بهذا الموضوع في مدارسة محور "الولاية في الزواج، وتطبيقاتها لدى المسلمين المقيمين في غير المجتمعات الإسلامية" التي اضطلع بدراستها " المجلس الأوروبي للإفتاء" الذي ما فتئ يعالج هموم وقضايا المسلمين في هذه الديار التي قضت مضاجع الكثير منهم.
وقد اخترت جانبا من محور الولاية في الزواج في الشرع الإسلامي، ألا وهو جانب العضل فيها، كيف نفهمه، وما مجالاته، وكيف تعامل الفقه الإسلامي معه، وما العلاج إن وقع ذلك التعسف، وما النتائج المفضية إليه، وكيفية تجاوز سلبياتها، والاستفادة من فوائده إن كانت فيه فوائد.(1/2)
وقد قسمت بحثي إلى: مقدمة وأربعة فصول، تناولت في الفصل الأول، مفهوم الولاية وأسبابها وأنواعها ومراتبها وما للولي وما عليه، ثم انتقلت في الفصل الثاني إلى تعريف معنى الإجبار والعضل والفرق بينهما، ومجال الإجبار، ومن له حق ممارسته، وعلى من يمارَس، وسنده الشرعي، والقائل به من المذاهب الفقهية، ثم توقفت عند مفهوم العضل وحكمه ، ومتى يكون الولي عاضلا. أما الفصل الثالث فخصصته للحديث عن صور العضل الواقعة بين المسلمين في بلاد الغرب ونتائجها، كما تعرضت لعلاج ظاهرة العضل، ودور الأئمة ورؤساء المراكز الإسلامية في ذلك في الفصل الرابع. راجيا من الله الصواب في القول والسداد في العمل وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الفصل الأول: الولاية في الزواج وفيه مبحثان
المبحث الأول: الولاية في الزواج مفهومها، أسبابها، أنواعها، ومراتبها، ، وفيه أربعة مطالب.
المطلب الأول: مفهوم الولاية.
المطلب الثاني: أسباب الولاية
المطلب الثالث: أنواع الولاية .
المطلب الرابع: مراتب الولاية .
مسألة في حكم تزويج المرأة من لدن وليين.
المبحث الثاني ما للولي وما عليه، ومذاهب الفقهاء من الولاية وفيه أربعة مطالب.
المطلب الأول: شروط الولي.
المطلب الثاني: حقوق الولي وواجباته.
المطلب الثالث: مذاهب الفقهاء من الولاية، وهل هي شرط في صحة النكاح.
المطلب الرابع: حكم عقد المرأة نكاحها دون تدخل وليها.
المبحث الأول: الولاية في الزواج ؛ مفهومها، أسبابها، أنواعها، ومراتبها، وفيه أربعة مطالب.
المطلب الأول:مفهوم الولاية.
تاتي الولاية في الاصطلاح اللغوي بمعان أهمها: تدبير الأمر وإصلاحه، وامتلاكه والتعلق به حبا ونصرة، كما تاتي بمعنى المصاهرة والقرابة. والولي: كل من ولي أمرا أو قام به، وولي اليتيم: هو الذي يلي أمره ويقوم بكفايته(1).
__________
(1) ـ انظر : لسان العرب، والمعجم الوسيط مادة "ولي" والكليات لأبي البقاء ص 940.(1/3)
أما في الاصطلاح الشرعي، فقد عرفها عبد القاهر الجرجاني بقوله: ( تنفيذ القول على الغير، شاء الغير أم أبى(1). كما عرفها أحد المعاصرين "الدكتور عبد الكريم زيدان"بأنها: (قدرة الشخص شرعا على إنشاء التصرف الصحيح النافذ على نفسه أو ماله أو على نفس الغير أو ماله(2).
وهذا تعريف عام للولاية في الاصطلاح الشرعي، وهي ضربان؛ ولاية قاصرة، وولاية متعدية. فالولاية القاصرة هي: قدرة الشخص شرعا على إنشاء التصرف الصحيح النافذ على نفسه. والولاية المتعدية هي قدرة الشخص شرعا على إنشاء التصرف الصحيح النافذ لغيره.
والولاية المتعدية أيضا قسمان: ولاية على المال، وولاية على النفس(3). والولاية على الزواج هي من باب الولاية على النفس.
والولاية على النفس تشمل مجموعة من التصرفات المتعلقة بشخص المولى عليه وهي بهذا المعنى: ( سلطة يملكها الولي على المولى عليه؛ تخوله الحق في: تزويجه، وتأديبه، وتعليمه، وتطبيبه، والعناية به في كل ما تحتاجه نفسه مادام تحت الولاية شاء المولى عليه ذلك أم أبى، وذلك توفيرا لمصلحة المولى عليه نفسه(4). فيدخل فيها الولاية الخاصة بالزواج.
ولعل هذا ما عناه الزيلعي في تبيين الحقائق لما قال: (الأولياء جمع ولي، وهو من الولاية "أي الولاية المتعدية على النفس" وهي تنفيذ الحكم على الغير شاء أم أبى(5).
__________
(1) ـ انظر: التعريفات للجرجاني ص 329.
(2) ـ انظر: المفصل في أحكام الأسرة والبيت لعبد الكريم زيدان 6/339مؤسسة الرسالة.
(3) ـ نفس المصدر والجزء والصفحة.
(4) ـ انظر: الأحوال الشخصية للدكتور أحمد الحجي الكردي. ص72 الطبعة السابعة منشورات جامعة دمشق
(5) ـ انظر: أنيس الفقهاء للشيخ قاسم القونوي. ص 148 دار الوفاء للنشر والتوزيع السعودية جدة.(1/4)
ومن تعريف الولاية يؤخذ تعريف الولي في مسألة الزواج. حيث عرفها الفقيه المالكي ابن عرفة فقال: (الولي من له على المرأة ملك أو أبوة أو تعصيب أو إيصاء أو كفالة أو سلطنة أو ذو إسلام(1).
المطلب الثاني: أسباب الولاية.
أشارت بعض كتب الفقه إلى أسباب الولاية مثل ما ورد في تعريف ابن عرفة، وهي: (إما ملك، أو أبوة، أو تعصيب، أو إيصاء، أو كفالة، أو سَلطنة، أو ذو إسلام). إلا ان هذه الأسباب منها ما زال قائما وموجودا بين الناس في زماننا ، ومنها ما اندثر ولم يعد له وجود. وبالتالي فلا يحتاج إلى التوقف عنده أو الاهتمام به.وذلك مثل سبب "الملك" فهو غير موجود في عصرنا لانتفاء ملك الرقيق.
وأما سبب الأبوة فواضح.
وأما سبب التعصيب فقداشترط أكثر الفقهاء أن تكون القرابة بين المرأة ووليها قرابة عصوبة، وذهب بعض الفقهاء إلى القول بأن مطلق القرابة يكفي، كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله.
وأما سبب الإيصاء فناشئ عمن أسند إليه الإيصاءَ أبٌ أو وصي. وقد اختلف الفقهاء في قوة سبب الوصاية، أي: هل يكون الوصي وليا في التزويج أم لا ؟.
وهذا ملخص ما ذهبت إليه المذاهب الفقهية كما ذكر أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمان الدمشقي العثماني في كتابه رحمة الأمة في اختلاف الأئمة قال: (وتصح الوصية بالنكاح عند مالك. ويكون الولي أولى بذلك. وقال أبو حنيفة: بأن القاضي يزوج. وقال الإمام الشافعي: لا ولاية لوصي مع ولي، لأن عارها لا يلحقه. قال القاضي عبد الوهاب: هذا الإطلاق في التعطيل فاسد، فإن الحاكم إذا زوج المرأة لا يلحقه ما قاله(2).
__________
(1) ـ انظر: شرح حدود ابن عرفة للرصاع. ص 218 طبع وزارة الأقاف المغربية 1412 - 1992
(2) ـ من كتاب رحمة الأمة في اختلاف الأئمة لأبي عبد الله محمد بن عبد الرحمان الدمشقي العثماني. ص 212، طبعة دار الكتب العلمية(1/5)
بقي من أسباب الولاية "ولاية الكفالة، وولاية السلطنة، وولاية عامة المسلمين، سأتناولها في مطلب انواع الولاية ومراتبها إن شاء الله.
المطلب الثالث: أنواع الولاية .
حصر الفقهاء أنواع ولاية التزويج في ثلاثة أنواع:
1– ولاية الإجبار، وتعني أن الولي ينفرد برأيه في تزويج من تحت ولايته دون أن يكون للمولى عليه حق الرفض والاعتراض.
2 – ولاية الندب والاستحباب وتعني أن المرأة يستحب لها أن تأذن لوليها بأن يزوجها أي يباشر عقد تزويجها بإذنها وموافقتها.
3 – ولاية الشركة، وتعني أن لا بد من اشتراك الولي وموليته في الرضا بالزواج. فلا ينفرد الولي ولا يستبد بتزويج موليته كما في ولاية الإجبار، بل لابد من رضا موليته وإذنها في الزواج، ولا تنفرد هي بالعقد، بل الولي هو الذي ينشئ بعبارته عقد الزواج عليها.
وسيأتي بيان هذه الأنواع في مفهوم الاجبار، ومن يمارسه، وعلى من يمارس.
المطلب الرابع: مراتب الولاية.
أما مراتب الولاية فالمقصود منها ترتيب الأولياء وتقدم بعضهم على بعض في استحقاق الولاية عند تعددهم بحيث يعرف من هو الأول في استحقاق الولاية والتقدم على غيره. وقد اختلفت مذاهب الأئمة في هذه المسألة وهذا ملخص ما ورد فيها.(1/6)
أولا مذهب المالكية: قال الشيخ خليل في المختصر: (وقدم ابن، فابنه، فأب، فأخ فابنه، فجد، فعم، فابنه، وقدم الشقيق على الأصح والمختارِ، فمولى، ثم هل الأسفل، وبه فسرت أو لا وصحح، فكافل، وهل إن كفل عشرا " أي عشر سنين" أو أربعا"أي أربع سنين" أو ما يشفق"أي أن الكفالة لا حد لزمانها، إلا ما يوجب الحنان والشفقة" تردد، وظاهرها" أي ظاهر المدونة" شرط الدناءة، "أي أن الدناءة شرط في قبول ولاية الكفالة" فحاكم، فولاية عامة مسلم، وصح بها" أي بالولاية العامة" في دنيئة مع خاص لم يجبر "أي مع الولي الخاص غير المجبر" ،كشريفة دخل وطال "أي إن دخل بها وطال صحت الولاية العامة مع وجود الولي الخاص"(1). ثانيا مذهب الشافعية قال النووي في منهج الطالبين: (وأحق الأولياء أب، ثم جد، ثم أبوه"يعني جد الآب" ثم أخ لأبوين أو لأب، ثم ابنه، وإن سفل، ثم عم، ثم ابنه، وإن سفل، ثم سائر العصبة كالإرث. ويقدم أخ لأبوين على أخ لأب في الأظهر، ولا يزوج ابن ببنوة، فإن كان ابن ابن عم أو معتقا أو قاضيا زوج به، فإن لم يوجد نسيب زوج المعتق ثم عصبته كالإرث. إلى أن قال: فإن فقد المعتق وعصبته زوج السلطان، وكذلك يزوج إذا عضل القريب(2).
__________
(1) ـ انظر : مختصر الشيخ خليل 1/110.
(2) ـ انظر : منهاج الطالبين للإمام النووي مع حاشيتي قليوبي وعميرة الجزء الثالث، المجلد الثاني، ص 224-225.(1/7)
ثالثاً: مذهب الحنفية: قال الكاساني في بدائع الصنائع مبينا مراتب الأولياء: (فصل، وأما شرط التقدم فشيئان: أحدهما العصوبة عند أبي حنيفة، فتقدم العصبة على ذوي الرحم سواء كانت العصبة أقرب أو أبعد، وعندهما هي شرط ثبوت أصل الولاية على ما مر. والثاني: قرب القرابة، يتقدم الأقرب على الأبعد، سواء كان في العصبات أو في غيرها على أصل أبي حنيفة. وعلى أصلهما هذا شرط التقدم لكن في العصبات خاصة بناء على أن العصبات شرط ثبوت أصل الولاية عندهما. وعندهم هي شرط التقدم على غيرهم من القرابات فمادام ثمة عصبة فالولاية لهم يتقدم الأقرب منهم على الأبعد، وعند عدم العصبات تثبت الولاية لذوي الرحم الأقرب منهم يتقدم على الأبعد. وإنما اعتبر الأقرب فالأقرب في الولاية لأن هذه ولاية نظر. وتصرف الأقرب أنظر في حق المولى عليه لأنه أشفق فكان هو أولى من الأبعد إلى أن قال: وإذا عرف هذا فنقول: إذا اجتمع الأب والجد في الصغير والصغيرة والمجنون الكبير والمجنونة الكبيرة، فالأب أولى من الجد (أب الأب) لوجود العصوبة والقرب. والجد (أب الأب) وإن علا أولى من الأخ لأب وأم، والأخ أولى من العم وهكذا، وعند أبي يوسف ومحمد الجد والأب سواء كما في الميراث. فإن الأخ لا يرث مع الجد عنده فكان بمنزلة الأجنبي، وعندهما يشتركان في الميراث فكانا كالأخوين. وإن اجتمع الأب والابن في المجنونة فالابن أولى عند أبي يوسف، وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي قول أبي حنيفة مع قول أبي يوسف. وروى المعلى عن أبي يوسف أنه قال: أيهما زوج جاز، وإن اجتمعا قلت للأب زوج. وقال محمد الأب أولى به. وبعد توجيبه القولين قال:وأما من غير العصبات فكل من يرث مزوج عند أبي حنيفة، ومن لا فلا. وبيان من يرث منهم ومن لا يرث يعرف في كتاب الفرائض(1).
__________
(1) ـ انظر: بدائع الصانع للكاساني. المجلد الثاني ص 209 فما بعدها(1/8)
وبعد مرتبة القرابة تأتي مرتبة الولاء(1)، وبعدها ولاية الإمامة. فالإمام يزوج إن لم يكن هناك ولي أصلا، أو حصل من الولي عضل فتنتقل الولاية إليه لدفع الضرر. وليس للوصي ولاية الإنكاح.
رابعاً: مذهب الحنابلة: قال ابن قدامة في متن المقنع: (وأحق الناس بنكاح المرأة الحرة أبوها ُثم أبوه وإن علا، ثم ابنها وابنه وإن سفل، ثم أخوها لأمها وأبيها، والأخ للأب مثله، ثم أولادهم وإن سفلوا، ثم العمومة ثم أولادهم وإن سفلوا، ثم عمومة الأب،ثم الولي المسلم ثم أقرب عصبته به ثم السلطان. ووكيل كل واحد من هؤلاء يقوم مقامه وإن كان حاضرا. وإذا كان الأقرب من عصبتها طفلا أو كافرا أو عبدا، زوجها الأبعد من عصبتها.
قال في الشرح: فإن لم يوجد للمرأة ولي ولا ذو سلطان، فعن أحمد ما يدل على أنه يزوجها رجل عدل بإذنها(2).
هذه مراتب الولاية عند الفقهاء اتفاقاً واختلافاً، وفي بعض الحالات لا تراعى هذه المراتب بل تنتقل الولاية من الأقرب إلى الأبعد، وذلك إما بسبب فقد بعض شروط الولاية في الولي الأقرب، وإما بسبب غيبة الولي الأقرب بحيث يكون في مكان لا يمكن الاتصال به أو مراجعته واستطلاع رأيه إما لتعذر السفر إليه، أو لعدم إمكان السفر إليه أصلا لأي سبب كان، أو لاختفائه وعدم معرفة مكانه ويخشى من انتظاره حصول ضرر للمرأة، فإن الولاية حينئذ تنتقل إلى الولي الأبعد. وإما بسبب عضل الولي الأقرب موليته أي منعها من التزويج. وسيأتي الكلام في العضل مفصلا إن شاء الله تعالى.
__________
(1) ـ وهذه المرتبة من الولاية لم يعد لها وجود فلا حاجة إلى التوقف عندها .
(2) ـ انظر: المغني والشرح الكبير. المجلد السابع ص 346 فما بعدها. دار الفكر.(1/9)
هذا والمقصود من ذكر مراتب الولاية باختصار هو مجرد الإشارة إلى أن ولاية الزواج عند من يشترطها ليست ولاية سائبة كما يعتقده ويطبقه الكثير من أئمة المراكز والمساجد حيث يعقدون بحضور أي ولي، بغض النظر عن مرتبته وقربه أو بعده، بل بغض النظر عن أهليته أو عدم أهليته.
والحقيقة أنهم بين أمرين: إما أن يأخذوا بمذهب مَن لا يشترط حضور الولي في عقد النكاح، ولهم في ذلك سعة.
وإما أن يأخذوا بمذهب من يشترط حضور الولي وإذنه في عقد النكاح، وعليه فينبغي وضع كل إنسان في مرتبته إما وجوباً وإما ندباً.
مسألة في حكم تزويج المرأة من لدن وليين.
اختلفت المذاهب الفقهية في من له حق امتلاك عصمة امرأة عقد عليها وليان لها، دون علم أحدهما بعقد الآخر، لمن تكون، هل للزوج الأول أم الثاني؟. فذهب المالكية إلى أنه إذا زوج المرأة وليان كل واحد لا يعلم بتزويج الآخر كان العقد للأول، إلا أن يدخل بها فالثاني يكون أحق بها(1).
__________
(1) ـ انظر : التاج والإكليل ، شرح مختصر خليل لأبي عبد الله محمد بن يوسف العبدري 5/211.(1/10)
بينما ذهب الحنفية والشافعية إلى أن الأول أحق بها على كل حال دخل بها الثاني أو لم يدخل، قال االشيرازي في المهذب: (وإن علم السابق وتعين فالنكاح هو الأول والثاني باطل(1). وقال الكاساني في البدائع: (وإن علم السابق منهما من اللاحق جاز الأول ولم يجز الآخر(2)، واحتج أصحابهما بحديث سمرة بن جندب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أيما امرأة زوجها وليان فهي للأول منهما، ومن باع بيعا من رجلين فهو للأول منهما(3). انتهى ملخصا من كتاب "تهذيب السالك في نصرة مذهب مالك(4)"
المبحث الثاني ما للولي وما عليه ومذاهب الفقهاء من الولاية وفيه ثلاثة مطالب.
المطلب الأول: شروط الولي.
يشترط في الولي الذي يتولى عقد الزواج شروط لابد من توافرها، وإلا سقط حقه في الولاية وانتقلت إلى من بعده في الدرجة كأنه لم يكن، وتختلف هذه الشروط كثرة وقوة من مذهب إلى مذهب.
فهي عند المالكية ستة شروط:
1 _ الذكورة فلا يصح العقد من أنثى، سواء كانت اما أو بنتا أو أختا. فإن كانت الأنثى وصية، فإنها توكل ذكرا يتولى عنها العقد للمتزوجة ولو كان وكيل الوصية أجنبيا منها ومن الموكل عليها. ويتم العقد مع حضور الولية. هذا إذا كان الأمر يتعلق بتزويج الأنثى، أما في حالة تزويج الذكر فإن الأنثى الوصية عليه تلي تزويجه، والفرق هو: أن الولي المعتبر في صحة النكاح إنما هو الولي من قبل المرأة.
2 _ البلوغ فلا يصح العقد من صبي لعدم أهليته.
__________
(1) ـ انظر : المهذب للشيرازي 2/39 .
(2) ـ انظر : بدائع الصنائع للكاساني 2/252.
(3) ـ أخرجه الترمذي في سننه 2/288 عن سمرة بن جندب وحسنه. وبنحوه أخرجه أبو داوود في سننه 2/230، والبغوي في شرح السنة 9/ 56 ، وقال هذا حديث حسن.
(4) ـ رسالة دكتوراة تحقيق الدكتور أحمد البوشيخي، والكتاب هو : "تهذيب السالك في نصرة مذهب مالك" لأبي الحجاج يوسف بن دوناس الفندلاوي 4/30(1/11)
3 – العقل فلا يصح من مجنون ومعتوه وسكران.
4 – الإسلام وهذا الشرط في خصوص المسلمة فلا يصح أن يتولى عقد نكاحها كافر ولو كان أباها. وأما الكافرة الكابية يتزوجها مسلم فإنه يجوز لأبيها الكافر أن يعقد لها عليه لقوله تعالى: (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض(1). ولا يكون المسلم وليا لكافرة فإن عقد لابنته الكافرة لكافر فلا نتعرض لفسخه وقد ظلم المسلم نفسه، وأما لو عقد لكتابية على مسلم فإنه يفسخ أبداً.
5 – خلو الولي من الإحرام بحج أو عمرة.
6 – عدم الإكراه فلا يصح العقد من مكره إلا أن الاكراه لا يختص بولي عقد النكاح بل هو عام في جميع العقود الشرعية.
ولا يشترط في الولي العدالة إذ فسقه لا يخرجه عن الولاية. ولا يشترط فيه الرشد فيصح عقد السفيه لمجبرته وغيرها بإذنها، ووجه صحة عقده أن السفيه غير محجور عليه في ذلك وأن الولاية عليه إنما هي في ماله(2).
وعند الشافعية تفهم شروط الولاية من موانع ولاية النكاح التي أشار إليها النووي في منهج الطالبين بقوله: (فصل لا ولاية لرقيق، وصبي، ومجنون، ومختل النظر بهرم أو خبل، وكذا محجور عليه بسفه على المذهب. ومتى كان بالأقرب بعض هذه الصفات فالولاية للأبعد، والإغماء إن كان لا يدوم غالبا انتظر إفاقته، وإن كان يدوم أياما انتظر، وقيل الولاية للأبعد، ولا يقدح العمى في الأصح، ولا ولاية لفاسق على المذهب، ويلي الكافر كافرة، وإحرام أحد العاقدين أو الزوجة يمنع صحة النكاح(3).
فشروط الولي عند الشافعية سبعة وهي: الحرية، البلوغ، العقل، الرشد، العدالة، الإسلام، الخلو من الإحرام.
__________
(1) ـ سورة الأنفال. الآية 73
(2) ـ انتهى ملخصا من الفقه المالكي وأدلته للحبيب بن طاهر3/226 و 227 مؤسسة المعارف بيروت لبنان.
(3) ـ انظر: منهاج الطالبين للنووي 1/96.(1/12)
أما عند الحنابلة فلا تتجاوز الستة، وهي التي نص عليها ابن قدامة المقدسي لما قال: (وتعتبر لثبوت الولاية لمن سمينا ستة شروط: العقل، والحرية، والإسلام، والذكورية، والبلوغ، والعدالة على اختلاف نذكره.
فأما العقل فلا خلاف في اعتباره، وبعد توجيه ذلك قال:
الشرط الثاني الحرية فلا ولاية لعبد في قول جماعة أهل العلم.
الشرط الثالث: الإسلام ولا يثبت لكافر ولاية على مسلمة وهو قول عامة أهل العلم أيضا.
الشرط الرابع: الذكورية شرط للولاية في قول الجميع.
الشرط الخامس: البلوغ شرط في ظاهر المذهب.
الشرط السادس: العدالة، وفي كونها شرطا روايتان، إحداهما هي شرط، والرواية الأخرى
ليست بشرط، وهو قول مالك وأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي(1).
بينما نوع الحنفية شروط ولاية النكاح إلى نوعين، هما: شرط ثبوت أصل الولاية، وشرط تقدم الولاية. وهذا ما نص عليه الكاساني في بدائع الصنائع لما قال: (وأما شرط ثبوت هذه الولاية فنوعان في الأصل. نوع هو شرط ثبوت أصل الولاية، ونوع هو شرط التقدم(2).ثم انبرى الكاساني يقسم أنواع شروط ثبوت أصل الولاية فقال: ( أما شروط ثبوت أصل الولاية فأنواع بعضها يرجع إلى الولي، وبعضها يرجع إلى المولى عليه، وبعضها يرجع إلى نفس التصرف.
أما الذي يرجع إلى الولي فأنواع: منها عقل الولي، ومنها بلوغه، ومنها أن يكون ممن يرث، فيخرج عليه مسائل فنقول: لا ولاية للمملوك على أحد، ولا ولاية للمرتد على أحد؛ لا على مسلم ولا على كافر ولا على مرتد مثله، ولا ولاية للكافر على المسلم.
وأما إسلام الولي _ أي ولي الكافر _ فليس بشرط لثبوت الولاية في الجملة. فيلي الكافرعلى الكافر. قال الله عز وجل: (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض(3).
__________
(1) ـ انتهى ملخصا من كتاب المغني المجلد السابع صفحات 355 و356 و 357.
(2) ـ انظر : بدائع الصنائع 2/239 .
(3) ـ سورة الأنفال، الآية 73.(1/13)
وكذا العدالة ليست بشرط لثبوت الولاية عند أصحابنا. وللفاسق أن يزوج ابنه وابنته الصغيرين. وعند الشافعي شرط وليس للفاسق ولاية التزويج.
وأما كون الولي من العصبات فهل هو شرط ثبوت الولاية أم لا، فنقول وبالله التوفيق: جملة الكلام فيه أنه لا خلاف في أن للأب والجد ولاية الإنكاح، ولا خلاف بين أصحابنا في أن لغير الأب والجد من العصبات ولاية الإنكاح والأقرب فالأقرب على ترتيب العصبات في الميراث، واختلفوا في غير العصبات، قال أبو يوسف ومحمد: لا يجوز إنكاحه حتى لم يتوارثا بذلك النكاح، ويقف على إجازة العصبة. وعن أبي حنيفة روايتان، وهذا يرجع إلى ما ذكرنا أن عصوبة الولي هل هي شرط لثبوت الولاية مع اتفاقهم على أنها شرط التقديم فعندهما هي شرط ثبوت أصل الولاية وهي رواية الحسن عن أبي حنيفة فإنه قد روي عنه أنه قال: لا يزوج الصغيرة إلا العصبة. وروى أبو يوسف ومحمد عن أبي حنيفة أنها ليست بشرط لثبوت أصل الولاية وإنما هي شرط التقدم على قرابة الرحم حتى إنه إذا كان هناك عصبة لا تثبت لغير العصبة ولاية الإنكاح وإن لم تكن ثمة عصبة فلغير العصبة من القرابات من الرجال والنساء نحو الأم والأخت والخالة ولاية التزويج الأقرب فالأقرب إذا كان المزوج ممن يرث المزوج وهي الرواية المشهورة عن أبي حنيفة(1).
وأما الذي يرجع إلى نفس التصرف فهو أن يكون التصرف نافعا في حق المولى عليه لا ضارا في حقه(2).
وبالنظر إلى شروط الولاية عند مختلف المذاهب نجد أنهم قد اتفقوا على بعض الشروط، وانفردت بعض المذاهب بشروط دون غيرها.
فاتفقوا على شرط الإسلام والبلوغ والذكورة واختلفوا فيما عدا ذلك.
__________
(1) ـ انتهى باختصار شديد من بدائع الصنائع. المجلد الثاني، الصفحات 239 و 240.
(2) ـ انظر: بدائع الصنائع. المجلد الثاني، صفحة 245.(1/14)
ومن هذا ندرك أنه ليس كل قريب للمرأة يصلح للولاية بل من توفرت فيه مجموع الشروط المعتبرة، وأهمها أن يكون تصرف الولي نافعا للمرأة لا ضارا بها، فتصرفات الولي منوطة بشرط المصلحة للمولي عليه لأنها لمصلحته وجبت وليس لمصلحة الولي فهي نعمة للمولى عليه مسئولية للولي. فإذا تصرف الولي على غير وفق مصلحة المولى عليه كان متعديا.
ووجوه المصلحة وشروطها تختلف باختلاف نوع التصرف فيختلف الحكم وفقاً لذلك كما يختلف باختلاف درجة الولي قرباً وبعداً.
ففي الزواج مثلا لا يجوز للولي أن يزوج الفتاة الصغيرة من غير الكفء، فإذا زوجها من غير الكفء لم يكن زواجها صحيحاً، هذا إذا لم يكن الولي أبا أو جداً، فإذا كان هو الأب أو الجد كان زواجه صحيحاً، وذلك لأنَّ غلبة شفقة الأب يغلب على الظن معها قيام مصلحة غالبة في هذا الزواج، وكذلك الزواج بغبن فاحش بأن يزوج الفتاة بأقل من مهر مثلها والفتى بأكثر من مهر مثله، فإذا كان الولي الأب أو الجد جاز النكاح ولزم لغلبة الشفقة وهي مظنة توافر المصلحة وإن كان غيرهما لم يصح(1).
وحتى في مسألة الولي الذي هو أب أو جد يشترط أن لا يتعسف الولي في استعمال الحق المخول له فيعامل ابنته كسلعة مربحة أو وسيلة يحقق بها مصالحه أو يكسب بها رضا بعض أقاربه دون اعتبار لرضاها ولا اهتمام بما يحقق سعادتها، بل ربما ارتكب ما يدوس كرامتها وينغص عليها حياتها وراحتها فما أشقاه من ولي وما أتعس من كان في ولاية هذا النوع من الناس. فهل يجيز الإسلام ولاية أمثال هؤلاء؟.
__________
(1) ـ انظر: الأحوال الشخصية. لأحمد الحجي الكردي. صفحة 78(1/15)
أول ما يمكن الاعتماد عليه في رفض ولاية هذا النوع من المستغلِّين لمن في ولايتهم ولو كانوا فلذات أكبادهم ما أخرجه البيهقي موقوفاً عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لا نكاح إلا بولي أو سلطان، فإن أنكحها سفيه أو مسخوط عليه فلا نكاح له(1). كما أخرجه الدارقطني وابن حجر والبيهقي في رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا بلفظ: لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل فإن أنكحها ولي مسخوط عليه فنكاحها باطل(2). فالولي المسخوط عليه الذي يحرص على مصلحته ولا يعير اهتماما لمصلحة موليته يحسن أن ينزع منه حق الولاية ولو كان أبا، وتسند إلى غيره من الأولياء حسب ترتيبهم، فإن فُقدوا أو كانوا من نفس المنزلة فإلى قاضي المسلمين كما نص الفقهاء على ذلك(3).
وبهذا ينتفي زعم من زعم أو يزعم أن الولاية تسلط مطلق وأنها ضد مصلحة المولي عليه إلى غير ذلك مما يقال في هذا المجال، وقد رأينا الشروط القاسية التي اشترطها الفقهاء في الولي مما يضمن سلامة تصرفه بما يحصل المنفعة للمولي عليه ويقيه المساوئ والمفاسد.
المطلب الثاني حقوق الولي وواجباته.
حقوق الولي مقررة لمصلحته ومصلحة المولى عليه. فمن حقوق الولي التي يستمدها من ولايته في التزويج، حقه في اختيار الزوج الكفء لمن هي تحت ولايته. وقد لوحظ في ذلك مصلحة الولي والمولى عليه.
__________
(1) ـ انظر: السنن الكبرى للبيهقي 7 /124 رقم 134
(2) ـ انظر سنن الدارقطني 3 / 212 والسنن الكبرى للبيهقي 7/124 وتلخيص الحبير 3/126 رقم 1512
(3) ـ انتهى من كتاب فقه الأسرة المسلمة في المهاجر للدكتور محمد الكدي العمراني . المجلد الأول ، صفحة 314.(1/16)
أما بالنسبة للمولى عليه كالصغيرة مثلا فلتحصيل الرجل الكفء، لأن الظفر بالزوج الكفء لا يكون ميسورا دائما، والزوج الكفء ضروري لتحقيق مقاصد النكاح. إذ بالكفء تصلح الحياة الزوجية غالبا، لأنه يعرف متطلباتها وحقوقها وواجباتها مما يؤدي إلى دوامها واستمرارها، وتحصيل الكفء يكون عن طريق الولي لصغر المولى عليها، وكذلك بالنسبة للبالغة عند من يقول إذن الولي لابد منه لنكاحها، فإن الولي أقدر منها على معرفة الكفء وتمييز الصفات اللازمة في الرجل المناسب لها.
هذا بالنسبة للمولى عليه، وأما ملاحظة مصلحة الولي نفسه في تقرير هذه الحقوق له فتظهر في أن الزواج في الحقيقة لا يقتصر على ارتباط الزوجين، بل يتعداهما إلى ذويهما وعائلتهما وأقاربهما عموما، فمن مصلحة الولي وهو قريب المرأة عادة أن يكون الزوج مرضيا وكفؤا. وهذا يحمله على الجهد الصادق لمعرفة الزوج الكفء لموليته.
وبناء على ما تقدم فمن حق الولي أن يختار الكفء لمن تحت ولايته وأن يرفض نكاح المرأة البالغة العاقلة إن زوجت نفسها من غير كفء عند من يقول بصحة نكاحها نفسها لأن مثل هذا النكاح يمس مصلحة الولي واعتباره كما يمس مصلحة من هي تحت ولايته.
أما واجبات الولي فهي كحقوقه مقررة لمصلحته ومصلحة المولى عليه، لأن من هذه الواجبات تحصيل الزوج الصالح لموليته. وفي تحقيق هذا الغرض مصلحة مؤكدة لها وله أيضا.
ويمكن إجمال واجبات الولي بأن يزوج موليته بالمرضي دينا وخلقا وبالمرضي خلقة، وأن يسرع في تزويجها إذا بلغت وأن يمتنع من عضلها إذا رغبت في الزواج وكان الزوج مرضيا(1).
المطلب الثالث: مذاهب الفقهاء من الولاية و هل هي شرط في صحة النكاح أم ركن فيه؟
__________
(1) ـ انتهى باختصار من كتاب: المفصل في أحكام المرأة والبيت المسلم في الشريعة الإسلامية. للدكتور عبد الكريم زيدان 6 /352 و 353.(1/17)
ذهب جمهور الفقهاء و المحدثين إلى اشتراط الولي في صحة عقد النكاح، و ذهب بعضهم إلى عدم اشتراطه، كما ذهب بعضهم إلى اعتباره ركنا من أركان النكاح.
قال ابن رشد في بداية المجتهد: (اختلف العلماء هل الولاية شرط من شروط صحة النكاح أم ليست بشرط؛ فذهب مالك إلى أنه لا يكون النكاح إلا بولي وأنها شرط في الصحة في رواية أشهب عنه. وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة وزفر والشعبي والزهري: إذا عقدت المرأة نكاحها بغير ولي وكان كفؤا جاز. وفرق داود بين البكر والثيب فقال باشتراط الولي في البكر وعدم اشتراطه في الثيب. ويتخرج على رواية ابن القاسم عن مالك في المسالة قول رابع: أن اشتراطها سنة لا فرض. وذلك أنه روي عنه أنه كان يرى الميراث بين الزوجين بغير ولي وأنه يجوز للمرأة غير الشريفة أن تستخلف رجلا من الناس على إنكاحها، وكان يستحب أن تقدم الثيب وليها ليعقد عليها، فكأنه عنده من شروط التمام لا من شروط الصحة، بخلاف عبارة البغداديين من أصحاب مالك، أعني أنهم يقولون إنها من شروط الصحة لا من شروط التمام(1).
وقال ابن قدامة في "المغني" في مسألة: ولا نكاح إلا بولي وشاهدين من المسلمين: ( في هذه المسألة أربعة فصول:
الفصل الأول: أن النكاح لا يصح إلا بولي، ولا تملك المرأة تزويج نفسها ولا غيرها، ولا توكيل غير وليها في تزويجها. فإن فعلت، لم يصح النكاح. روي هذا عن عمر، وعلي ، وابن مسعود، وابن عباس، وأبي هريرة، وعائشة رضي الله عنهم . وإليه ذهب سعيد بن المسيب، والحسن، وعمر بن عبد العزيز، وجابر بن زيد، والثوري، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وابن المبارك، وعبيد الله العنبري، والشافعي، وإسحاق، وأبو عبيد.
__________
(1) ـ انظر: كتاب الهداية في تخريج أحاديث البداية. لأبي الفيض أحمد بن الصديق الغماري 6/ 370-371(1/18)
وروي عن ابن سيرين، والقاسم بن محمد، والحسن بن صالح، وأبي يوسف: لا يجوز لها ذلك بغير إذن الولي، فإن فعلت كان موقوفا على إجازته. وقال أبو حنيفة: لها أن تزوج نفسها وغيرها، وتوكل في النكاح.
و بعد أن ذكر أدلة الكل و ناقشها قال: فصل فإن حكم بصحة هذا العقد حاكم، أو كان المتولي لعقده حاكما، لم يجز نقضه وكذلك سائر الأنكحة الفاسدة.
و قال النووي في "شرح مسلم" في باب: استئذان الثيب في النكاح بالنطق والبكر بالسكوت:
واختلف العلماء في اشتراط الولي في صحة النكاح، فقال مالك والشافعي: يشترط ولا يصح نكاح الا بولي، وقال أبو حنيفة: لا يشترط في الثيب ولا في البكر البالغة بل لها أن تزوج نفسها بغير إذن وليها، وقال أبو ثور: يجوز أن تزوج نفسها بإذن وليها ولا يجوز بغير إذنه، وقال داود: يشترط الولي في تزويج البكر دون الثيب(1).
هذه باختصار أقوال العلماء في هذه المسألة فما هو سبب الخلاف؟ و ما هي أدلة كل قول؟
قال ابن رشد في "بداية المجتهد": (وسبب اختلافهم أنه لم تأت آية ولا سنة هي ظاهرة في اشتراط الولاية في النكاح فضلا عن أن يكون في ذلك نص، بل الآيات والسنن التي جرت العادة بالاحتجاج بها عند من يشترطها هي كلها محتملة. وكذلك الآيات والسنن التي يحتج بها من يشترط إسقاطها هي أيضا محتملة في ذلك والأحاديث مع كونها محتملة في ألفاظها مختلف في صحتها إلا حديث ابن عباس وإن كان المسقط لها ليس عليه دليل – أي لا يحتاج إلى دليل- لأن الأصل براءة الذمة، ونحن نورد مشهور ما احتج به الفريقان ونبين وجه الاحتمال في ذلك:
فمن أظهر ما يحتج به من الكتاب من اشترط الولاية قوله تعالى: ”فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن" قالوا: وهذا خطاب للأولياء ولو لم يكن لهم حق في الولاية لما نهوا عن العضل، وقوله تعالى: "ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا" قالوا وهذا خطاب للأولياء أيضا.
__________
(1) ـ انظر : المغني لابن قدامة المقدسي 5/ 222 درار الحديث.(1/19)
ومن أشهر ما احتج به هؤلاء من الأحاديث ما رواه الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل ثلاث مرات، وإن دخل بها فالمهر لها بما أصاب منها، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له(1).
وأما ما احتج به من لم يشترط الولاية فمن الكتاب: قوله تعالى "فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف" قالوا وهذا دليل على جواز تصرفها في العقد على نفسها. قالوا وقد أضاف إليهن في غير ما آية من الكتاب الفعل فقال:"أن ينكحن أزواجهن" وقال "حتى تنكح زوجا غيره" ومن السنة حديث ابن عباس رضي الله عنهما المتفق على صحته وهو قوله عليه الصلاة والسلام (الأيم أحق بنفسها من وليها والبكر تستأمر في نفسها وإذنها صماتها) وبهذا الحديث احتج داود في الفرق عنده بين الثيب والبكر في هذا المعنى فهذا مشهور ما احتج به الفريقان من السماع.
ثم ناقش ابن رشد أدلة الفريقين و بين وجه الاحتمال فيها و خلص في النهاية إلى أنه يجب أن يعتقد أحد أمرين:
* إما أنه ليست الولاية شرطا في صحة النكاح وإنما للأولياء الحسبة في ذلك.
* وأما إن كان شرطاً فليس من صحتها تمييز صفات الولي وأصنافهم ومراتبهم، ولذلك يضعف قول من يبطل عقد الولي الأبعد مع وجود الأقرب(2) أھ.
__________
(1) ـ أخرجه أبو داود 2/229 والترمذي وقال:"حديث حسن"3/407 وابن ماجة 1/605 والإمام احمد 6/47 .
(2) ـ انظر: الهداية في تخريج احاديث البداية 6/271ـ385.(1/20)
و قال النووي في "شرح مسلم": واحتج مالك والشافعي بالحديث المشهور (لا نكاح إلا بولي) وهذا يقتضى نفي الصحة. واحتج داود بأن الحديث المذكور في مسلم صريح في الفرق بين البكر والثيب، وأن الثيب أحق بنفسها والبكر تستأذن، وأجاب أصحابنا عنه بأنها أحق أي شريكة في الحق بمعنى أنها لا تجبر وهي أيضا أحق في تعيين الزوج، واحتج أبو حنيفة بالقياس على البيع وغيره فإنها تستقل فيه بلا ولي. وحمل الأحاديث الواردة في اشتراط الولى على الأمة والصغيرة ، وخص عمومها بهذا القياس، وتخصيص العموم بالقياس جائز عند الكثير من أهل الأصول، واحتج أبو ثور بالحديث المشهور: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل"، ولأن الولي إنما يراد ليختار كفؤا لدفع العار وذلك يحصل بإذنه.
قال العلماء: ناقض داود مذهبه في شرط الولي في البكر دون الثيب لأنه إحداث قول في مسألة مختلف فيها ولم يسبق إليه، ومذهبه أنه لا يجوز إحداث مثل هذا والله أعلم(1).
وقد استوفى أدلة المالكية "وهي أيضا أدلة الجمهور على اشتراط الولي في صحة النكاح" الحبيب بن طاهر في كتابه: " الفقه المالكي و أدلته"(2)حيث قال: ( ودليل ركنية الولي وتوقف العقد عليه:
أ- قوله تعالى: (ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا(3) ووجه الاستدلال أن الخطاب موجه
للأولياء و لو لم يكن لهم في العقد حق لما خاطبهم بذلك. و هذا يدل على أن المرأة ليس لها أن تنكح نفسها.
__________
(1) ـ انظر : شرح النووي على مسلم 5/222
(2) ـ انظرالجزء الثالث من الكتاب، ص 207-209
(3) ـ سورة البقرة آية 221(1/21)
ب- قوله تعالى: (فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف(1). و العضل المنع. وسبب نزول هذه الآية ما روى معقل بن يسار رضي الله عنه قال: زوجت أختا لي من رجل فطلقها، حتى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها، فقلت له: زوجتك و فرشتك و وأكرمتك فطلقتها ثم جئت تخطبها، لا و الله لا تعود إليك أبدا. و كان رجلا لا بأس به و كانت المرأة تريد أن ترجع إليه فأنزل الله الآية: فلا تعضلوهن. فقلت الآن أفعل يا رسول الله، قال: فزوجها إياه(2).
ووجه الاستدلال أن الخطاب موجه للأولياء. وقد نهتهم الآية عن الامتناع من إنكاح ولاياتهم. وهذا يدل على أن العقد يتوقف على الولي و إلا لم تحتج أخت معقل إلى أخيها، و لا توقفت في الرجوع إلى زوجها على موافقة أخيها، وهي تريد زوجها وهو يريدها. فتبين أن العضل إنما يصح ممن إليه عقد النكاح. ولو كان للمرأة أن تعقد على نفسها لم يكن امتناع وليها عضلا لها ولما نهي عنه وهو نص في المسألة(3).
ج- قوله تعالى: (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ(4). ووجه الاستدلال أن شعيبا عليه السلام تولى العقد لابنته على موسى دونها لأنه وليها وهذا استدلال بشرع من قبلنا(5).
د ـ قوله تعالى: (وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ(6) ووجه الاستدلال أن الخطاب في الآية للأولياء أيضا. وسيأتي زيادة بيان لمعناها في دلالتها على جبر الأب لابنته(7).
__________
(1) ـ سورة البقرة آية 232
(2) ـ أخرجه البخاري في النكاح، باب من قال: لا نكاح إلا بولي.
(3) 6 ـ انظر: الإشراف 2/89 و المنتقى 3/268 و المقدمات 1/472 وبداية المجتهد 2/11 و تقييد التهذيب 2/71 والعارضة 5/13
(4) ـ سورة القصص: 27
(5) ـ انظر: أحكام ابن العربي 3/1476
(6) ـ سورة النور: 32.
(7) ـ المقدمات 1/47 و الذخيرة 4/201(1/22)
ھ ـ حديث عائشة المتقدم وفيه قوله صلى الله عليه وسلم : "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل ... " الحديث، ووجه الاستدلال أن الحديث عام في كل امرأة بكرا كانت أو ثيبا لأن لفظ "أي" في "أيما" شرطية تفيد العموم، ودالة على تأكيده. كما أن بطلان العقد بدون ولي مؤكد بتكرار لفظ "باطل" و بذلك يكون الحديث قد أثبت للولي حق العقد على وليته من حيث منعه عنها(1).
و- عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: "لا نكاح إلا بولي"(2)، وقد استدل به التلمساني في مفتاح الوصول(3).
ز- عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: "الأيم أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن في نفسها و إذنها صماتها"(4)، ووجه الاستدلال من قوله صلى الله عليه و سلم "الأيم أحق بنفسها من وليها" أن لفظ "أحق" من أبنية المبالغة، وذلك يشعرأن للولي حقا ما مع المرأة. والمراد بحقها هو إرادتها في تعيين الأزواج لا في تولي العقد، وأما الحق الذي هو للولي فهو تولي العقد. وليس ما يمكن أن يكون من حقه في أمر نكاح الثيب إلا تولي العقد(5). وأما قوله: "و البكر تستأذن في نفسها" فسيأتي معناه.
__________
(1) ـ انظر: الإشراف 2/61 و 77 و 89 ، الذخيرة 4/203
(2) ـ أخرجه أبو داود في النكاح، باب الولي، و الترمذي في النكاح، باب لا نكاح إلا بولي، و ابن ماجة في النكاح، باب لا نكاح إلا بولي.
(3) ـ انظر: مفتاح الوصول ص 23.
(4) ـ انظر: أخرجه مالك في النكاح، باب استئذان البكر و الأيم في أنفسهما، و مسلم في النكاح، باب استئذان الثيب في النكاح
(5) ـ انظر: المعلم 2/142 و المقدمات 1/472 و إحكام الفصول ص 747 و الذخيرة 4/216(1/23)
ح ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (لا تزوج المرأة المرأة و لا تزوج المرأة نفسها. فإن الزانية هي التي تزوج نفسها(1)، و الحديث نص في الباب.
ط- حديث زواج النبي صلى الله عليه و سلم بأم سلمة. وفيه قول أم سلمة لابنها: يا عمر، قم فزوج رسول الله صلى الله عليه و سلم فزوجه(2).
ي ـ عن سعيد بن المسيب أنه قال، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا تنكح المرأة إلا بإذن وليها أو ذي الرأي من أهلها أو السلطان(3)، ومعنى ذلك أنها لا تنكح نفسها ولا ينكحها من الناس من ليس بولي لها(4).
ك ـ أنه لم يثبت قط أن امرأة من السلف و لا من الخلف باشرت نكاحها(5).
ل ـ أن وجه دخول الولي في عقد نكاح وليته، هو لنفي الضرر و المعرة عن نفسه و عنها بوضع نفسها في غير كفء(6)اهـ.
و هذه الأدلة التي ذكرها هذا الفقيه و ذكر بعضها غيره يؤخذ منها أرجحية مذهب الجمهور، والذي هو أن المرأة لا تزوج نفسها.
والعلة في منعها كما قال في المغني: صيانتها عن مباشرة ما يشعر بوقاحتها ورعونتها وميلها إلى الرجال وذلك ينافي حال أهل الصيانة و المروءة و الله أعلم.
__________
(1) ـ أخرجه ابن ماجة في النكاح، باب لا نكاح إلا بولي.
(2) ـ أخرجه النسائي في النكاح، باب إنكاح إلابن أمه
(3) ـ سبق تخريجه
(4) ـ انظر: المتقى 3/267
(5) ـ انظر: القبس 2/289
(6) ـ انظر: المعلم 2/145 و الإشراف 2/90 و الذخيرة 4/201(1/24)
ونظرا لأهمية الولي في النكاح، وحفاظا على أعراض المسلمين من التهتك، يميل الدارسون المعاصرون إلى ركنيته، أو على الأقل اشتراطه في عقد النكاح حتى لا تقع النساء والفتيات عديمات التجربة في فخاخ العابثين المتلاعبين بأعراض الناس، وهذا ما اختاره الدكتور سالم بن عبد الغني الرافعي في كتابه "أحكام الأحوال الشخصية للمسلمين في دار الغرب(1)"قال: (والحقيقة أن جوهر الخلاف في هذه المسألة هو هل يجوز للمرأة أن تزوج نفسها من رجل بغير إذن و ليها و لا موافقته؟ والجواب عندي أن الشريعة تأبى ذلك أشد الإباء، لأن المرأة سريعة الاغترار و قوية العاطفة و قد يجرها ذلك إلى الانخداع و الوقوع في حبائل الماكرين و أهل السوء والدغل(2).
ثم تابع التدليل بالواقع على اهمية ركنية الولي في عقد النكاح فقال: (ومغبة ذلك لا ترجع عليها وحدها وإنما يرجع على أسرتها وأوليائها ولذلك احتاطت الشريعة للمرأة وتواردت النصوص بمنعها عن النكاح بغير إذن وليها، وذلك من أجل مصلحتها ومنفعتها. وقد أدرك أبو حنيفة –رحمه الله- هذه المسألة و هو وإن أفتى للمرأة أن تنكح بغير إذن وليها إلا أنه اشترط أن يكون الرجل الذي تختاره كفؤا و جعل لوليها حق الفسخ إن لم يكن الزوج كفؤا. ولكن هذ الطريق الذي اختاره الإمام لا يخلو من مصاعب لأن الفسخ لا يقع قبل أن يحكم به القاضي وقد يكون الزوج دخل بها ووقع الضرر(3).
__________
(1) ـ دراسة أنجزها على الواقع الألماني نال بها درجة الدكتوراة من جامعة سنة
(2) ـ انظر أحكام الأحوال الشخصية للمسلمين في دار الغرب : ص 249
(3) ـ نفس المصدر ص: 249 و250.(1/25)
و أختم هذه المسألة و هي مسألة مذاهب الفقهاء من الولاية بقرار المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث و هو قرار رقم ¾ فتوى 12 من المجموعة الثانية من قرارات و فتاوى المجلس الأوربي للإفتاء و البحوث(1)، و أرى و الله أعلم أنه القول الفصل في هذه المسألة:
المطلب الرابع: حكم قيام المرأة بعقد نكاحها دون تدخل وليها
قرار المجلس: يعتبر عقد الزواج من أهم العقود لما يترتب عليه من قيام أسرة جديدة في المجتمع و إنجاب الأولاد و حقوق وواجبات تتعلق بكل من الزوجين.
ولما كان كل واحد من الزوجين طرفا في العقد، ناط الشارع إبرامه بهما و جعله متوقفا على إرادتهما و رضاهما، فلم يجعل للأب و لا لغيره على المرأة ولاية إجبار و لا إكراه في تزويجها ممن لا تريد، بل جعل لها الحق التام في قبول أو رفض من يتقدم لخطبتها فقد روى ابن عباس رضي الله عنهما أن جارية "فتاة صغيرة السن" أتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوَّجها و هي كارهة فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم(2)، وجاءت النصوص النبوية الأخرى تؤكد للمرأة ذلك الحق فقال عليه الصلاة و السلام: "لا تنكح البكر حتى تستأذن و لا الأيم حتى تستأمر"(3)وقال: "البكر يستأذنها أبوها"(4).
__________
(1) ـ انظر: قرارات وفتاوى المجلس الوروبي للإفتاء المجموعة الثانية ص 121-124
(2) ـ حديث صحيح: أخرجه أحمد (رقم: 2469) و أبو داود (رقم: 2096) و النسائي في "السنن الكبرى (رقم: 5387) و ابن ماجة (رقم: 1875) من حديث عبد الله بن عباس و صححه ابن القطان و ابن حزم وقواه الخطيب البغدادي و ابن القيم و ابن حجر.
(3) ـ متفق عليه: أخرجه البخاري (رقم: 3843، 6567، 6569) وسملم (رقم: 1419) من حديث أبي هريرة. و الأيم: الثيب، وهي التي سبق زواجها.
(4) ـ أخرجه مسلم في "صحيحه" (رقم:1421/68)، البيهقي في "السنن الكبرى" (7/115) من حديث ابن عباس، و هذا في أحد ألفاظ حديثه.(1/26)
وبهذا جعل الإسلام عقد الزواج قائما على المودة و الرحمة، و الألفة و المحبة، قال تعالى: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(1)، و من المحال ـ عادة ـ تحقيق تلك المقاصد الكريمة بزواج قائم على الإكراه و الإجبار.
لكن لما كانت المرأة ـ رغم إرادتها المستقلة التي جعلها الإسلام لها- عرضة لأطماع الطامعين، واستغلال المستغلين فقد شرع من الأحكام ما يحفظ حقوقها و يدفع استغلال المستغلين عنها فجعل لموافقة وليها على عقد زواجها اعتبارا هاما يتناسب مع أهمية هذا العقد لما يعكسه من أثر طيب يخيم على الأسرة الجديدة ويبقى على وشائج القربى بين الفتاة و أوليائها، بخلاف ما لو تم بدون رضاهم فإنه يترتب عليه الشقاق و الخلاف فينجم عنه عكس المقصود منه. ومع أنه لا خلاف بين أهل العلم في أن رضا ولي المرأة هو الأولى و الأفضل، غير أنهم اختلفوا في جعله شرطا من شروط صحة العقد:
فذهب جمهور الفقهاء إلى أن رضا ولي المرأة شرط من شروط صحة العقد لا يصح بدونه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل"(2)وقوله أيضا أيضا: "لا نكاح إلا بولي"(3).
__________
(1) ـ سورة الروم آية 21.
(2) ـ أخرجه أحمد (6/47، 66، 165) و أبو داود (رقم: 2083) و الترمذي (رقم: 1102) و ابن ماجة (رقم: 1879) من حديث عائشة و حسنه الترمذي و صححه ابن حبان (رقم: 4074) و الحاكم (2/168)
(3) ـ أخرجه أحمد (19518، 19710، 19746) و أبو داود (رقم: 2085) و الترمذي (رقم:1101) و ابن ماجة (رقم: 1881) من حديث أبي موسى الأشعري. و صححه علي بن المديني شيخ البخاري، و قواه البخاري و الترمذي و الحاكم و البيهقي و غيرهم.(1/27)
وذهب الحنفية إلى عدم اشتراط ذلك مستدلين بأدلة كثيرة، منها ما رواه مسلم والأربعة أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: "الأيم أحق بنفسها، والبكر تستأذن في نفسها و إذنها صماتها(1)" ، وحملوا أحاديث اشتراط الولي على من كانت دون البلوغ، وقالوا : لو زوجت البالغة العاقلة نفسها كان زواجها صحيحا إن استوفى العقد شروطه الأخرى، ويجوز لوليها أن يتظلم إلى القاضي فيطلب فسخ العقد إذا كان هذا الزواج من غير كفء، وعلى القاضي إجابة طلبه إن تحقق من ذلك.
وإن المجلس يوصي النساء بعدم تجاوز أولياء أمورهن لحرصهم على مصلحتهن و رغبتهم في الأزواج الصالحين لهن و حمايتهن من تلاعب بعض الخطاب بهن.
كما يوصي الآباء بتيسير زواج بناتهن و التشاور معهن فيمن يرغب في الزواج منهن دون تعسف في استعمال الحق و ليتذكروا قول النبي صلى الله عليه وسلم "إذا جاءكم من ترضون دينه و خلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض و فساد كبير(2)"
وليعلموا أن عضلهن من الظلم المنهي عنه و الظلم محرم في الإسلام، كما يوصي المجلس المراكز الإسلامية مراعاة ما تقدم، لأنه أسلم و أحكم إلا إذا لم يوجد للمرأة ولي فيكون المركز الإسلامي وليها في البلاد التي ليس فيها قضاء إسلامي و مع هذا يرى المجلس أن البالغة العاقلة لو زوجت نفسها ممن يرضى دينه و خلقه فزواجها صحيح.
القرار 3/4
الفصل الثاني: مفهوم الإجبار والعضل والعلاقة بينهما،وفيه مبحثان:
__________
(1) ـ أخرجه مالك في "الموطأ" (رقم:1493) و أحمد (رقم: 1888 ومواضع أخرى) ومسلم (رقم:1421) و أبو داود (2098) و الترمذي (رقم: 1108) و النسائي (6/84-85) و ابن ماجة (رقم: 1870) من حديث ابن عباس.
(2) ـ أخرجه البخاري في "الكنى" (ص:26) و الترمذي (رقم:1085) و آخرون من حديث أبي حاتم المزني. و حسنه الترمذي. و عامة الرواة يذكره بلفظ (و فساد عريض) بدل (كبير) إلا ما ورد في بعض شواهد الحديث.(1/28)
المبحث الأول: الإجبار: مفهومه، مجالاته، ومن يمارسه وعلى من يمارس؟وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: مفهوم الإجبار، والإكراه ، لغة وشرعاً، والفرق بينهما.
المطلب الثاني: مجالات الإكراه.
المطلب الثاني: من له حق الإجبار في مختلف المذاهب الفقهية؟
المطلب الثالث: على من يمارس الإجبار، وما هي علته؟
المطلب الرابع: سند القائلين بالإجبار والقول الذي ينبغي المصير إليه والعمل به.
المبحث الثاني:مفهوم العضل ، وفيه مطلبان
المطلب الأول: العضل لغة وشرعا.
المطلب الثاني: متى يكون الولي عاضلا، واختلاف العلماء في ذلك.
المبحث الأول: الإجبار؛ مفهومه،مجالاته،من يمارسه وعلى من يمارس،وفيه أربعة مطالب.
المطلب الأول : مفهوم الإجبار والإكراه والفرق بينهما.
الإجبار لغة واصطلاحاً: ورد في لسان العرب مادة جبر: أجبرت فلانا على كذا فهو مجبر وهو كلام عامة العرب.أي أكرهته عليه، وتميم تقول جبرته على الأمر أجبرته جبرا وجبورا. قال الأزهري وهي لغة معروفة. وورد في المصباح: وأجبرته على كذا بالألف:حملته عليه قهرا وغلية فهو مجبر(1).
والمعنى اللغوي للإجبار هو المراد شرعا عند من قال به من الفقهاء(2).
ومن المصطلحات المرادفة للإجبار الإكراه، وحتى تتكامل المعاني وتتناسق الدلالات، علينا ان نقف عند معاني ودلالات الإكراه. فالإكراه لغة: مشتق من الجذر اللغوي "كره" وتدور مواد هذا الجذر على معاني الكره المنافي للمحبة والرضا كما تدور على معاني المشقة والإجبار والقبح والشدة والقهر(3).
أما الإكراه اصطلاحاً، فللفقهاء في بيان حقيقته تعريفات كثيرة، إلا أنها مع كثرتها لا تختلف اختلافاً كثيراً.
__________
(1) ـ انظر: لسان العرب مادة جبر، وا لمصباح المنير مادة جبر.
(2) ـ. نقلا عن فقه الأسرة المسلمة في المهاجر الدكتور محمد العمراني المجلد الأول ص 325 .
(3) ـ انظر: المصباح المنير مادة "كره" ص : 203 .والمعجم الوسيط ص: 785.(1/29)
عرفه من الحنفية الإمام السرخسي في المبسوط بأنه: (اسم لفعل يفعله المرء بغيره فينتفي به رضاه أو يفسد به اختياره من غير أن تنعدم به الأهلية في حق المكره أو يسقط عنه الخطاب(1).كما عرفه من الحنفية أيضا علاء الدين البخاري بأنه: (حمل الغير على أمر يمتنع عنه بتخويف يقدر الحامل على إيقاعه ويصير الغير خائفا فائت الرضا بالمباشرة(2). وعرفه الحطَّاب من المالكية بأنه: (ما يفعل بالمرء مما يضره ويؤلمه(3) .
وبعد توضيح معنى الإجبار والإكراه يحسن الإشارة إلى الفرق بينهما.
الفرق بين الإكراه والإجبار.
لقد فرق الفقهاء بين الإكراه على الأمر الممنوع شرعا كالكفر والقتل والزنا والسرقة وشرب الخمر وما إلى ذلك. وبين الإكراه على الأمر المأمور به شرعا كإكراه المرتد على الإيمان من جديد وإكراه المسلم المتهاون على أداء الصلاة وإلزام أداء الزكاة في حق من وجبت عليه وامتنع من أدائها. وإنكاح الفتيات والفتيان الصغار وحتى الفتاة البالغة عند بعض الفقهاء على الزواج ممن هو كفء لها. فسموا النوع الأول إكراها، والثاني إجبارا. وموضوعنا يندرج ضمن النوع الثاني المسمى بولاية الإجبار أو ولاية الحتم والإيجاب. أو ولاية الاستبداد. وهي مصطلحات رغم إفادتها معنى الالزام والقهر لكنها أخف في وقعها من مصطلح الإكراه الممجوج حتى في السمع. كما أنها تحتضن معنى السعي في مصلحة المجبر(4).
المطلب الثاني: مجالات الإكراه.
__________
(1) ـ انظر : المبسوط للسرخسي 24/38
(2) ـ انظر: الإكراه وأثره في التصرفات للدكتور عيسى زكي عيسى محمد شقره ص 40_41
(3) ـ نفس المصدر والصفحة.
(4) ـ نقلاً عن فقه الأسرة المسلمة في المهاجر، للدكتور محمد الكدي العمراني، ج1 ص 326.(1/30)
تتلخص مجالات الإكراه في: مجال الاعتقادات- مجال العبادات- مجال الأحوال الشخصية من نكاح وطلاق ورجعة وظهار، ومجال المعاملات والتصرفات المالية. مجال الالتزامات والإقرار وانعقاد الأيمان. وغير ذلك من المجالات، والذي يعنينا في هذا الموضوع هو: الإكراه في مجال الأحوال الشخصية وبالأخص في موضوع النكاح الذي يوقعه أحد الأولياء سواء من لهم حق الإجبار أو من لا يتمتعون بهذا الحق.
وبناء على التفريق بين الإجبار والإكراه قسم الفقهاء الولاية إلى قسمين:
القسم الأول: ولاية اختيار وهي التي لا يستبد الولي فيها بإنشاء العقد بدون إذن المولى عليه ورضاه. بل لابد من مرعاة إذنه واختياره فالولي يشارك المولى عليه في الاختيار وينفرد عنه بتولي صيغة العقد دونه ومن هنا سميت ولاية مشاركة واختيار.
القسم الثاني: ولاية إجبار، وهي التي يستبد فيها الولي بإنشاء عقد الزواج على المولى عليه ولو دون إذنه ورضاه. فمن من الأولياء له حق الإجبار؟ وعلى من يمارس؟ وما هي علة الإجبار
عند القائلين به من الفقهاء؟ هذا ما سنبينه في المطالب التالية.
المطلب الثاني: من له حق الإجبار في مختلف المذاهب الفقهية؟
اتفقت كل المذاهب الفقهية على أن الأب يملك هذا الحق ثم اختلفت فيمن يشاركه في هذا الامتياز. وهذه مذاهب الفقهاء في الموضوع.(1/31)
أولا: المذهب المالكي، ذهب فقهاء المذهب المالكي إلى أن الولي المجبر هو الأب ووصيه دون سائر الأولياء. جاء في الشرح الكبير للدردير ممزوجاً بالمتن: (وجبر وصي وإن نزل كوصي الوصي أمره أب به، أي بالجبر ولو ضمنا، كزوِّجها قبل البلوغ وبعده، أو لم يأمره به ولكن عين له الزوج، ولكن لا جبر للوصي إلا إذا بذل الزوج مهر المثل ولم يكن فاسقا فليس هو كالأب من كل وجه. وإذا لم يأمره الأب بالإجبار ولا عين له الزوجَ بأن قال له أنت وصيي على بناتي أو بنتي فلانة أو زوجها ممن أحببت فخلاف والراجع الجبر(1).
ثانيا: المذهب الشافعي أنزل فقهاء المذهب الشافعي الجد منزلة الأب عند عدمه. جاء في منهج الطالبين للنووي ممزوجا بشرح جلال الدين المحلي. (وللأب تزويج البكر صغيرة وكبيرة بغير إذنها لكمال شفقته ويستحب استئذانها أي الكبيرة تطييبا لخاطرها، وليس له تزويج ثيب إلا بإذنها فإن كانت صغيرة لم تزوج حتى تبلغ لأن الصغيرة لا إذن لها والجد كالأب عند عدمه في جميع ما ذكر(2).
__________
(1) ـ انظر: حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير، ج2 ص 223-224، دار الفكر.
(2) ـ انظر:منهاج الطالبين للإمام النووي بشرح جلال الدين المحلي، وحاشية قليوبي وعميرة، ج3 ص 222-223.(1/32)
ثالثا: المذهب الحنبلي، جاء في كتاب الروض المربع شرح زاد المستقنع: (الشرط الثاني رضاهما فلا يصح إن أكره أحدهما بغير حق كالبيع إلا البالغ المجنون فيزوجه أبوه أو وصيه في النكاح وإلا المجنونة أو الصغير والبكر ولو مكلفة إلا الثيب إذا تم لها تسع سنين. فإن الأب ووصيه في النكاح يزوجانهم بغير إذنهم كثيب دون تسع لعدم اعتبار إذنهم..... ولا يزوج باقي الأولياء كالجد والأخ والعم صغيرة دون تسع بحال بكرا كانت أو ثيبا. ولا يزوج غير الأب ووصيه في النكاح صغيرا إلا الحاكم لحاجة، ولا يزوج غبر الأب ووصيه فيه كبيرة عاقلة بكرا أو ثيبا ولا بنت تسع سنين كذلك إلا بإذنهما(1).
يستفاد من هذا أن الوصي عند الحنابلة كالأب وهو يوافق في ذلك مذهب المالكية، وفي
مذهب أحمد رواية أخرى أن الوصي ليس كالأب في النكاح. جاء في المغنى وشرحه: (مسألة: قال: وليس هذا لغير الأب يعني ليس لغير الأب إجبار كبيرة ولا تزويج صغيرة جدا كان أو غيره)(2).
رابعا : المذهب الحنفي: قسم الحنفية الولاية بالنسبة للمولى عليه إلى نوعين: ولاية حتم وإيجاب ، وولاية ندب واستحباب . أو ولاية استبداد ، وولاية شركة.
وهذه الولاية بنوعيها ثابتة لكل الأولياء حسب درجاتهم في التقدم. إلا أن للأب والجد اعتبارا خاصا حيث لا خيار للصغير والصغيرة في فسخ النكاح المعقود من طرف الأب والجد بعد البلوغ. قال ابن نجيم في البحر الرائق شرح كنز الدقائق عقب قول المصنف ولهما خيار الفسخ بالبلوغ في غير الأب والجد ما نصه : ( بخلاف إذا زوجهما الأب والجد فإنه لا خيار لهما بعد بلوغهما لأنهما (الأب والجد) كاملا الرأي وافرا الشفقة فيلزم العقد بمباشرتهما كما إذا باشراه برضاهما بعد البلوغ(3).
__________
(1) ـ انظر: الروض المربع شرح زاد المستنقع 3/70ـ71.
(2) ـ انظر : المغني والشرح الكبير 7/382
(3) ـ نقلا عن فقه الأسرة للدكتور العمراني، 1/382.(1/33)
وإذا عرفنا مذاهب الفقهاء فيمن له حق الإجبار، فعلى من يمارس؟
المطلب الثالث: على من يمارس الإجبار وما هي علته؟ وما هو سنده عند القائلين به؟ وما هو القول الذي ينبغي المصير إليه والعمل به؟
إن أقوال العلماء في هذا الموضوع تتلخص في أن أهل العلم اتفقوا على أن تزويج الثيب البالغة العاقلة لا يجوز دون إذنها، فإن زوجها وليها دون إذنها ورضاها فالنكاح مردود. وأما البكر البالغ العاقل إذا زوجها وليها قبل الاستئذان فاختلف أهل العلم فيه على قولين: أحدهما أن للأب إجبار ابنته البكر البالغ على النكاح وهو مذهب مالك والشافعي ورواية عن أحمد ، والقول الثاني: لا يجبرها، وهو مذهب أبي حنيفة ورواية عن أحمد، وإليه ذهب الأوزاعي وسفيان الثوري.
كما اختلفوا أيضا في إجبار الثيب الصغيرة.
أما بالنسبة للبكر الصغيرة فقد نقل سعدي أبو جيب الإجماع على جواز تزويج الأب ابنته الصغيرة البكر فقال: (أجمع المسلمون على أنه يجوز للأب تزويج ابنته الصغيرة البكر ولو كانت لا يوطأ مثلها، ولا يستأمرها، وقد أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أنه يجوز له أي الأب تزويجها مع كراهيتها وامتناعها إذا كان الزوج كفؤاً(1).
وحيث أن قوانين الأحوال الشخصية في أغلب الدول الإسلامية تمنع زواج الصغيرة فلا حاجة لمزيد كلام في هذه المسألة.
__________
(1) ـ انظر: فقه الأسرة للدكتور العمراني نقلا عن موسوعة الإجماع لسعدي أبو جيب 2/1068،1069(1/34)
وأما بالنسبة للثيب البالغ، والبكر البالغ والثيب الصغيرة فقال ابن رشد في بداية المجتهد ونهاية المقتصد: ( وأما النساء اللاتي يعتبر رضاهن في النكاح فاتفقوا على اعتبار رضا الثيب البالغ لقوله عليه الصلاة والسلام:" الثيب تعرب عن نفسها" إلا ما حكي عن الحسن البصري، واختلفوا في البكر البالغ وفي الثيب الغير البالغ ما لم يكن ظهر منها الفساد. فأما البكر البالغ فقال مالك والشافعي وابن أبي ليلى : للأب فقط أن يجبرها على النكاح. وقال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي وأبو ثور وجماعة لابد من اعتبار رضاها. ووافقهم مالك في البكر المعنسة على أحد القولين عنه.
وسبب اختلافهم معارضة دليل الخطاب في هذا للعموم. وذلك أن ما روي عنه عليه الصلاة والسلام من قوله:" لا تنكح اليتيمة إلا بإذنها" وقوله: "تستأمر اليتيمة في نفسها" خرجه أبو داود. والمفهوم منه بدليل الخطاب أن ذات الأب بخلاف اليتيمة. وقوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عباس المشهور:"والبكر تستأمر" يوجب بعمومه استئمار كل بكر.
والعموم أقوى من دليل الخطاب. وهو نص في موضع الخلاف مع أنه خرج مسلم في حديث ابن عباس زيادة وهو أنه قال عليه الصلاة والسلام:" والبكر يستأذنها أبوها".
وأما الثيب الغير البالغ، فإن مالكاً وأبا حنيفة قالا: يجبرها الأب على النكاح. وقال الشافعي: لا يجبرها. وقال المتأخرون: إن في المذهب ( أي المذهب المالكي) ثلاثة أقوال : قول إن الأب يجبرها ما لم تبلغ بعد الطلاق، وهو قول أشهب. وقول إنه يجبرها وإن بلغت، وهو قول سحنون. وقول إنه لا يجبرها وإن لم تبلغ ، وهو قول أبي تمام. والذي حكيناه عن مالك هو الذي حكاه أهل مسائل الخلاف كابن القصار وغيره عنه.(1/35)
وسبب اختلافهم معارضة دليل الخطاب للعموم، وذلك أن قوله عليه الصلاة والسلام: "تُسْتَأْمَرُ اليَتيمة في نفسها ولا تُنكحُ اليَتيمةُ إلاَّ بإذنها" يفهم منه أن ذات الأب لا تستأمر إلا ما أجمع عليه الجمهور من استئمار الثيب البالغ، وعموم قوله عليه الصلاة والسلام "الثيب أحق بنفسها من وليها، يتناول البالغ وغير البالغ، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تُنْكحُ الأيمُ حتَّى تُستَأْمرُ ولا تُنكحُ حتى تُستَأذَن" يدل بعمومه على ما قاله الشافعي. ولاختلافهم في هاتين المسألتين سبب آخر، وهو استنباط القياس من موضع الإجماع، وذلك أنهم لما أجمعوا على أن الأب يجبر البكر غير البالغ، وأنه لا يجبر الثيب البالغ إلا خلافا شاذا فيهما جميعا كما قلنا اختلفوا في موجب الإجبار هل هو البكارة أو الصغر؟ فمن قال الصغر قال: لا تجبر البكر البالغ، ومن قال البكارة قال: تجبر البكر البالغ ولا تجبر الثيب الصغيرة؛ ومن قال كل واحد منهما يوجب الإجبار إذا انفرد قال: تجبر البكر البالغ والثيب الغير البالغ، والتعليل الأول تعليل أبي حنيفة، والثاني تعليل الشافعي، والثالث تعليل مالك، والأصول أكثر شهادة لتعليل أبي حنيفة، واختلفوا في الثيوبة التي ترفع الإجبار وتوجب النطق بالرضا أو الرد، فذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنها الثيوبة التي تكون بنكاح صحيح أو شبهة نكاح أو ملك، وأنها لا تكون بزنى ولا بغصب، وقال الشافعي: كل ثيوبة ترفع الإجبار.(1/36)
وسبب اختلافهم هل يتعلق الحكم بقوله عليه الصلاة والسلام: (الثيب أحق بنفسها من وليها) بالثيوبة الشرعية أم بالثيوبة اللغوية؟ واتفقوا على أن الأب يجبر ابنه الصغير على النكاح، وكذلك ابنته الصغيرة البكر، ولا يستأمرها لما ثبت ( أن الرسول صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة رضي الله عنها بنت ست أو سبع وبنى بها بنت تسع بإنكاح أبي بكر أبيها رضي الله عنه)، إلا ما روي من الخلاف عن ابن شبرمة، اهـ منه بلفظه(1).
وهو كلام كافٍ في بيان ما اتفق عليه الفقهاء وما اختلفوا فيه فيمن يمارس عليه الإجبار وما هي علته.
وقد جرت عادة الفقهاء أنهم عندما يتناولون هذا الموضوع موضوع الإجبار يتسع مجالهم ليشمل الذكور والإناث الصغار والكبار والثيبات والأبكار والمجانين الخ.
لكن الذي يهمنا نحن في الواقع الذي نعيش فيه هو قضية إجبار الأولياء بناتهم على الزواج بمن لا يرضين، حيث لا تزال التقاليد عند الكثير من الأولياء تكاد تسلب الفتاة حريتها في اختيار الزوج، والأغلب أن يُفرض من يريده الأب أو ترضاه الأم، ولا يقبل من الفتاة اعتراضها على إرادة أبيها وأمها.
وكثيراً ما فشل هذا الزواج وجر وراءه مآسي كثيرة رأينا منها مئات الحالات حيث يرغم الأهل الفتاة بطريقة أو بأخرى على أن تتزوج بابن عمها أو عمتها أو خالها أو خالتها من أجل الحصول على حق الإقامة في البلد الأوربي الذي تعيش فيه الفتاة وهي لا تريد ذلك ولا ترضاه، فيفشل هذا الزواج في أوله أحياناً قبل الدخول، وأحياناً بعده مباشرة أو بشهور أو سنوات.
المهم هو أن نجاح مثل هذا الزواج قليل، هذا إن حصل وإلا ففي كثير من الحالات يحصل أن تترك البنت بيت أهلها وتهرب إلى حيث لا يعلمون.
__________
(1) ـ انظر الهداية في تخريج أحاديث البداية لأحمد بن الصديق الغماري المجلد 6- ص 362 ـ 367.(1/37)