ويقول فيمن تابع من حكم بغير ما انزل معتقدا حل حكمه : هؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله ، وتحريم ما أحل الله إن علموا أنهم بدلوا دين الله ، فتابعوهم على التبديل ، واعتقدوا تحليل ما حرم الله ، وتحريم ما أحل الله اتباعا لرؤسائهم ، مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل فهذا كفر ، وقد جعله الله ورسوله شركا ، وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون لهم ، فكان من اتبع غيره في خلاف الدين ، مع علمه أنه خلاف الدين واعتقد ما قاله ذلك ، دون ما قاله الله ورسوله ، مشركا مثل هؤلاء (3).
ويقول أيضا : ومتى ترك العالم ما علمه من كتاب الله وسنة رسوله ، واتبع حكم الحاكم المخالف لحكم الله ورسوله كان مرتدا كافرا ، يستحق العقوبة في الدنيا والآخرة ، قال تعالى : " المص ، كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين ، اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون " (4).
ويقول الإمام ابن كثير في قوله تعالى : " أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون " (1) ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله تعالى المحكم المشتمل على كل خير ، الناهي عن كل شر وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان الذي وضع لهم الياسق وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى : من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها ، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه فصارت في بنيه شرعا متبعا يقدمونه على الحكم بالكتاب وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمن فعل ذلك منهم فهو كافر (2).(1/50)
ثم إن القوانين الوضعية تبديل ودين جديد : فقد نبه العلامة الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى إلى أن القوانين التي حكمت في رقاب المسلمين إنما هي تبديل لدين الله ، وتغيير لشرع الله .
يقول رحمه الله تعالى في ذلك : هذه القوانين التي فرضها على المسلمين أعداء الإسلام السافر العداوة ، هي في حقيقتها دين آخر ، جعلوه دينا للمسلمين بدلا من دينهم النقي السامي ، لأنهم أوجبوا عليهم طاعتها ، وغرسوا في قلوبهم حبها وتقديسها والعصبية لها ، حتى لقد تجري على الألسنة والأقلام كثيرا كلمات " تقديس القانون " ، " حرمة المحكمة " ، وأمثال ذلك من الكلمات التي يأبون أن توصف بها الشريعة الإسلامية ، وآراء الفقهاء الإسلاميين ، بل هم حينئذ يصفونها بكلمة " الرجعية " " الجمود " ، " الكهنوت " ، " شريعة الغاب " ، إلى أمثال ما ترى من المنكرات في الصحف والمجلات والكتب العصرية ، التي يكتبها أتباع أولئك الوثنيين .
وبين الشيخ أن القوانين الوضعية تعتبر تشريعا جديدا ودينا جديدا سواء منها ما وافق الشرع أو خالفه فيقول : وصار هذا الدين الجديد هو القاعدة الأساسية التي يتحاكم إليها المسلمون في أكثر بلاد الإسلام ويحكمون بها ، سواء منها ما وافق في بعض أحكامه شيئا من أحكام الشريعة وما خالفها وكله باطل وخروج ؛ لأن ما وافق الشريعة إنما وافقها مصادفة ، لا اتباعا لها ، ولا طاعة لأمر الله وأمر رسوله ، ، فالموافق والمخالف كلاهما مرتكس في حمأة الضلالة ، يقود صاحبه إلى النار ، لا يجوز لمسلم أن يخضع له أو يرضى به .
فهو يقرر أن هذه الشرائع كلها باطلة ، وهي خروج على الدين الإسلامي ، ولا عبرة بما جاء فيها موافقا لأحكام الشريعة الإسلامية لأن هذه الموافقة جاءت مصادفة ، والتشريع الإسلامي يؤخذ من حيث كونه منزلا من عند الله دون سواه .(1/51)
ثم بين كيف تدرج الأمر بالمسلمين فصاروا يطلقون على هذه القوانين ودراستها كلمة " الفقه " ، "والفقيه " و " التشريع " ، " والمشرع " وما إلى ذلك من الكلمات التي يطلقها علماء الإسلام على الشريعة وعلمائها .
ثم بين أن المسلمين انحدروا درجة وتجرأوا على الموازنة بين دين الإسلام وشريعته وبين دينهم المفترى الجديد .
ثم بين كيف وصل الحال بهم إلى الدرك الأسفل فنفوا شريعتهم الإسلامية عن كل شيء وصرح كثير منهم في كثير من أحكامها القطعية الثبوت والدلالة بأنها لا تناسب هذا العصر ، وأنها شرعت لقوم بدائيين ، غير متمدنين ، فلا تصلح لهذا العصر الإفرنجي الوثني !! خصوصا في الحدود المنصوصة في الكتاب والعقوبات الثابتة في السنة (1).
وانتهى إلى القول : وصار هذا الدين الجديد هو القواعد الأساسية التي يتحاكم إليها المسلمون في أكثر بلاد الإسلام ، سواء منها ما وافق في بعض أحكامه شيئا من أحكام الشريعة وما خالفها (2).
وقال في موضع آخر : والذين نحن فيه اليوم ، هو هجرة لأحكام الله عامة بلا استثناء وإيثار أحكام غير حكمه في كتابه وسنة نبيه ، وتعطيل لكل ما في شريعة الله (3).
وينبه الشيخ إلى قضية جديرة بالنظر وهي استمراء القوانين والاندماج فيها وحبها وهذا حال أسوأ من حال التتار وقانون الياسق ، فيقول : الشيء الغريب المدهش أن الإسلام غلب التتار ثم مزجهم فأدخلهم في شرعته ، وزال أثر ما صنعوا بثبات المسلمين على دينهم وإن هذا الحكم السيئ الجائر كان مصدره الفريق الحاكم إذ ذاك ، لم يندمج فيه أحد من أفراد الأمم الإسلامية المحكومة ، ولم يتعلموه ، ولم يعلموه أبنائهم ، فما أسرع مازال أثره .
والمسلمون الآن أسوأ حالا ، وأشد ظلما وظلاما من حالهم في ذلك العصر ؛ لأن أكثر الأمم الإسلامية الآن تكاد تندمج في هذه القوانين المخالفة للشريعة ، والتي هي أشبه شيء بذلك " الياسق " الذي اصطنعه رجل كافر ظاهر الكفر (1).(1/52)
الحكم بغير ما أنزل الله غير المخرج من الملة :
ــــــــــــــــــــــــ
غالب حال الأمة الإسلامية اليوم الحكم بغير ما أنزل الله مغلوبة مقهورة مكرهة عليه ، وهذا ليس عذرا في جميع الأحوال والظروف ، وهو وإن كان من كبائر وعظائم الأمور إلا أنه لا يخرج من الملة ، لاعتقاد المسلم خلافه ، وإنما يؤاخذ المسلم على اعتقاده وفي هذا يقول محمد بن أبي العز شارح الطحاوية : إن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفرا ينقل عن الملة ، وقد يكون معصية : كبيرة أو صغيرة ، ويكون كفرا : إما مجازيا ، وإما كفرا أصغر ، على القولين المذكورين .
وذلك بحسب حال الحاكم : فإنه إن اعتقد أن الحكم بما أنزل الله غير واجب ، وأنه مخير فيه أو استهان به مع تيقنه أنه حكم الله : فهذا وإن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله ، وعلمه في هذه الواقعة ، وعدل عنه مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة ، فهذا عاص ، ويسمى كافرا كفرا مجازيا ، أو كفرا أصغر ، وإن جهل حكم الله فيها ، مع بذل جهده واستفراغ وسعه في معرفة الحكم وأخطأه ، فهذا مخطئ ، له أجر على اجتهاده ، وخطؤه مغفور (2).
وتحدث الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية الأسبق رحمه الله تعالى عن هذا النوع من الكفر فقال : وأما القسم الثاني من قسمي كفر الحاكم بغير ما أنزل الله ، وهو الذي لا يخرج عن الملة ففي تفسير ابن عباس رضي الله عنهما لقول الله عز وجل : " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " (3)، وقد شمل هذا القسم ، وذلك في قوله رضي الله عنه " كفر دون كفر " وقوله أيضا : " ليس بالكفر الذي تذهبون إليه " ، وذلك أن تحمله شهوته وهواه على الحكم في القضية بغير ما أنزل الله ، مع اعتقاده أن حكم الله ورسوله هو الحق ، واعترافه على نفسه بالخطأ ، ومجانبة الهوى .(1/53)
فهذا وإن لم يخرجه كفره عن الملة ، فإنه معصية عظمى أكبر من الكبائر ، كالزنا ، وشرب الخمر والسرقة واليمين الغموس ، وغيرها ، فإن معصية سماها الله في كتابه كفرا ، أعظم من معصية لم يسمها كفرا ، نسأل الله أن يجمع المسلمين على التحاكم إلى كتابه انقيادا ورضاء ، إنه ولي ذلك والقادر عليه (1).
حرمة التحاكم الدولي :
ـــــــــــ
مما سبق يظهر حرمة الحكم بغير ما أنزل الله ، وينبني عليه حرمة تحاكم المسلمين فيما بينهم أو فيما بينهم وبين غير المسلمين إلى محكمة دولية لا تحكم بالشريعة الإسلامية سواء أكان قضاتها كلهم مسلمون أو كلهم غير مسلمين ، أو كانوا مسلمين وغير مسلمين .
وأدلة تحريم التحاكم بخصوصه كثيرة ومتضافرة ، وقبل ذكر الأدلة لا بد من تحرير محل الكلام في الموضوع ، فإن محل الخلاف هو التحاكم إلى محكمة دولية يمثل فيها قاض أو أكثر ، غير مسلمين كلهم أو بعضهم ، ويطبق قانون وضعي في أمور التشريع أو غيرها ، وقد يطبق فيها ما يوافق الشريعة ، وبهذا لا يدخل معنا التحالف ، إذ الإسلام يقره وقد شارك رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه فقال : " شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم ، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت " (2)، فالحلف جائز ما دام تعاونا على البر والتقوى والأخذ على يد الظالم ، وإنصاف المظلوم ، ورد الحقوق إلى أصحابها فالأطراف فيه متكافئة ولا حكم فيه لرفع نزاع بين طرفين أو أكثر حتى يكون تحيكما أو تحاكما .
ومن هذا أيضا المعاهدات والاتفاقات الدولية ، وهي اتفاق دولي يحقق مصالح دولتين أو أكثر والعبرة بمضمون المعاهدة ، فإن كان مشروعا كالاتفاقات أو المعاهدات التجارية والثقافية ونحوها فلا ريب في جوازها وإن كانت معاهدات أو اتفاقات موضوعها محرم شرعا كالمتاجرة بالمحرمات أو إباحة المحرمات فإنه محرم الدخول في هذه المعاهدات أو الاتفاقيات قطعا .(1/54)
بعد هذا نذكر بعض أدلة تحريم التحكيم فيما يأتي :-
قوله تعالى : " وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه " (3).
وقوله تعالى : " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس " (1).
قوله تعالى : " فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى " (2).
وقال تعالى : " فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين " (3).
وقوله تعالى : " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم " (4).
ووجه الدلالة من هذه الآيات أنها نص جلي لا يحتمل الخلاف في أن الغاية في إنزال القرآن الكريم إنما هي الحكم بين الناس ، وترك الحكم بالهوى ، والهوى كل ما تبع فيه الإنسان رأيه واجتهاده مقطوع الصلة عن هدى الله عزل وجل ، ثم إن التحاكم إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لفض النزاع بين المؤمنين دليل الإيمان ، والتحاكم إلى غيرهما ينزع عنهم صفة الإيمان حتى يرجعوا إلى حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .
ولم يكتف القرآن بتحديد جهة التحاكم واشتراط أن تكون إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، بل أمرنا بنبذ أحكام الكفر واعتبرها طاغوتا فكيف يلجأ المسلم إلى الطاغوت لأخذ الحكم قال تعالى : " ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا " (5).
يقول الإمام بن القيم : " من تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فقد حكم الطاغوت وتحاكم إليه والطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، أو يعبدونه من دون الله أو يتبعونه على غير بصيرة من الله أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله (6).(1/55)
قال ابن كثير في الآية : هذا إنكار من الله عز وجل على من يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم ، وعلى الأنبياء الأقدمين ، وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم (1).
وما اشتراط الإسلام في القضاة فهذا مما أجمع عليه الفقهاء فاشترطوا في القاضي الإسلام والمحكم كالقاضي (2) لما له من الولاية قال تعالى : " ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا " (3)، ولا ريب أن حكم غير المسلمين على المسلمين سبيل لهم علينا ، فيكون منهيا عنه بظاهر الآية .
هذا وهناك اتجاه يرى أصحابه جواز لجوء الدول الإسلامية إلى محكمة العدل الدولية قال الدكتور وهبة الزحبلي : لا مانع من تطبيق القانون الدولي " قواعد الحق والعدالة " في التحكيم لأن الرسول حدد مقدما لسعد بن معاذ في قضية التمكين في يهود بني قريضة القواعد التي يقضي بها وقواعد التمكين في محكمة العدل الدولية لا تخرج عن كونها إما اتفاقا دوليا أو عرفا عاما سارت الدول على مقتضاه ، أو قاعدة من قواعد العدل والإنصاف ، فإذا أضرت قاعدة بالمسلمين كانوا بالخيار كما هو المقرر دوليا في عدم عرض النزاع على محكمة العدل (4).(1/56)
وهذا رأي يحتاج إلى دليل يسنده فقياس قواعد التمكين في محكمة العدل الدولية على قواعد التمكين عند سعد بن معاذ رضي الله عنه قياس مع فارق واضح ، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو الذي حكم سعد بن معاذ ، وسعد هو من هو مكانة بين المسلمين ، ولن يحكم إلا بهدى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ومقاصد الشرع وقواعده . ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : " حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات " ولا ريب أن مرجع الاتفاقات والأحكام الدولية إلى القوانين الدولية ثم إن القضاة من غير المسلمين ، كيف وقد أجمع الفقهاء على اشتراط الإسلام في القاضي ، بل هم الآن يشترطون في المحكمين أن يكونوا من كبار القضاة ، والتحكيم الدولي قضاء .
ومن جانب آخر فقد نصت المادة ( 38 ) من مواد القانون الواجب التطبيق في محكمة العدل الدولية - كما سبقت الإشارة - على التالي :-
الاتفاقات الدولية ، سواء كانت عامة أو خاصة ، التي تقرر قواعد تعترف بها صراحة الدولة المتنازعة .
العادات الدولية المتواترة ، المقبولة بمثابة قانون .
المبادئ القانونية العامة التي اعترفت بها الأمم المتمدنة .
أحكام القضاء وآراء جهابذة القانونيين في مختلف الأمم ، على أن يكون الاعتماد عليها بصفة تبعية .
وهذه المادة صريحة في أن القضاة ملزمون بالحكم بالاتفاقات الدولية والأعراف الدولية والمبادئ القانونية العامة ، وأحكام القضاة وليس شيء من ذلك يمت إلى شرع الله بصلة ، فقد تكون اتفاقات أو مبادئ مخالفة لنصوص قطعية ، أو أعراف فاسدة في حكم الشرع ، وما وافق منها حكم الشرع فلا يغير من وصف هذه الأحكام شيئا حتى يضفي عليها القبول الشرعي .(1/57)
وهناك رأي آخر يحاول الوسطية بين الرأيين فيرى : أن اللجوء إلى المحكمين يقتضي أن يكون بينهم مسلمون ، وأن يلتزم بأحكام الشريعة الإسلامية في التحكيم أو أن لا يكون القانون أو القواعد التي يلجأ إليها المحكمون متعارضة مع نص الشريعة الإسلامية أو مقاصدها الشرعية ، لا سيما وأن فيها من البنود ما يجعل وضع قواعد التحكيم متروكا للدولتين المتنازعتين (1).
وما سبق من ردود يأتي هنا ويضاف عليه أن وجود بعض القضاة من المسلمين لا يكفي في وصف الشرعية للحكم ، فإن الحكم يصدر باسم المحكمين مسلمين وغير مسلمين ، وهذا يجعل لغير المسلمين ولاية وسبيلا ، كما أن موافقة بعض النصوص لأحكام الشريعة ومقاصدها لا يغير من الأمر شيئا ، فإن وصف الحكم بحيثياته وديباجته وما يبنى عليه من أسس ، والحكم في محكمة العدل الدولية ديباجة قانونية بحتة مبنية على فقرات القانون الواجب التطبيق السابق ذكره فلا توصف بالشرعية ، إذ ليس في الديباجة من مثل : بناء على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو قوله تعالى كذا أو قوله صلى الله عليه وسلم كذا ، وهذا أمر لا ينفك عن وصف الحكم الصادر بالشرعية الإسلامية ، أو القانونية الدولية .
التحاكم الدولي على خلاف الأصل في وحدة الدولة والتشريع :
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
مما لا شك فيه أن وحدت الدولة الإسلامية واجبة ، ووحدة الدولة من وحدت المسلمين ، فلا يقر الإسلام تعدد الدولة ، وإن حكمت كل منها بالشريعة الإسلامية ، فإن ذلك مظهر من مظاهر التفرق ومظنة للخلاف والشحناء بين المسلمين وقد قال تعالى : " واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا " (1) وقال تعالى : " ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم " (2)، وقال الماوردي فيه تأويلان : أحدهما أن المراد بالريح الدولة ، والثاني أن المراد بها القوة (3).(1/58)
وقد أجمع الفقهاء على أن الأصل وحدة الدولة واستندوا إلى أدلة كثيرة منها ما رواه عرفجة بن شرع قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من أتاكم وأمركم جميعا على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه " (4)، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ومن بايع إماما فأعطاه صفقة يده ، وثمرة قلبه فليعطه إن استطاع فإن جاء آخر ينازعه ، فاضربوا عنق الآخر " (5)، وعن أبى سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما " (6).
فدلالة هذه الأحاديث نص في حرمة مبايعة خليفتين ، أو إقرار خليفتين للمسلمين ولذا قال الماوردي : " إذا عقدت الإمامة لإمامين في بلدين لم تنعقد إمامتهما ، لأنه لا يجوز أن يكون للأمة إمامان في وقت واحد ، وإن شذ قوم فجوزوه " (7) وحين خرج المسلمون عن هذا الأصل ، فتعددت الخلافة أو الإمامة فيهم إلى اثنتين أو ثلاث أو أربع أو أكثر من ذلك ، فكان ضعفهم جميعا ، وكان الخلاف ، بل كانت الحروب بينهم مستعرة ، حتى وصل الأمر بينهم أن يستعينوا بالكفار على بعضهم البعض .
ولقد اتجه بعض الفقهاء المعاصرين إلى جواز تعدد الدول الإسلامية وتعدد الإمامة فقال " لا مانع من تعدد الحكومات في بلاد الإسلام ، وقد أفتى الفقهاء بجواز تعدد الإمامة عند اتساع المدى وتباعد الأقطار " (1).
والصواب الناصع أن هذا من الخطأ البين إذ الجواز يقتض إباحة تجزؤ كلمة المسلمين وتشتت قوتهم وذهاب ريحهم ، لكن إن كان القصد قبول الواقع وإقرار كل حاكم على ما تحت يده ، لنبذهم الاجتماع والتوحد تحت راية إمام واحد ، فهذا قبول للواقع ونفس الأمر ، ولا يعني أنه أصل مقر ثابت .(1/59)
وقد يقال : أن العبرة بتحكيم شرع الله ولو تعددت الدول ، مادامت تحقق هدفا واحدا ، وتسير في خطة واحدة يقول الأستاذ عبد القادر عودة : " يظن البعض أن تقسيم العالم دار إسلام ودار حرب يقتضي أن تكون البلاد الإسلامية كلها تحت حكم دولة واحدة والبلاد الأجنبية تحت حكم دولة واحدة وهو ظن لا أساس له من الواقع ، فالنظريات الإسلامية لم توضع على أساس أن تكون محكومة بحكومة واحدة ، إنما وضعت على أساس ما يقتضيه الإسلام ، والإسلام يقتضي أن يكون المسلمون في كل بقاع الأرض يدا واحدة يتجهون اتجاها واحدا وتسوسهم سياسة واحدة وأبسط الصور وأكفلها بتحقيق هذه الغاية أن تكون كل بلاد الإسلام تحت حكم دولة واحدة لكن ليست هذه هي الصورة الوحيدة التي تحقق أهداف الإسلام ، إذ من الممكن تحقيق هذه الأهداف مع قيام دول متعددة في دار الإسلام ما دامت تتجه اتجاها واحدا وتسير على سياسة واحدة ، والإسلام لا يتنافى مع نظام كنظام الولايات المتحدة ، ولا مع نظام كنظام الولايات القائم في روسيا ولا مع نظام كنظام الدومنيون الإنجليزي ولا يتنافى مع النظام القائم الآن في البلاد العربية " (2)، فالمقصود من تقسيم العالم إلى دار إسلام ودار حرب ليس جعل العالم تحت حكم دولتين أو وحدتين سياسيتين .(1/60)
هذا الكلام يصح في حكم الواقع ، والواقع ليس دليلا على أصل الحكم الشرعي خاصة إن خالف النصوص ، ويبعد عن الصواب كثيرا القول بأن النظريات الإسلامية لم توضع على أساس أن تكون محكومة بحكومة واحدة ، إنما وضعت على أساس ما يقتضيه الإسلام . فإن النظريات في الإسلام مبنية على النصوص ، ولا نجد نصا واحدا يجعل الأصل هو تعدد الخلفاء والدول مع اتحاد اليد والسياسة الواحدة ، وهذا يصح أن لو كان المقصود إمام واحد وحكام ولايات إسلامية يأتمرون بأمره وهذا لا يمنع أن تعطى لهم الصلاحيات التي تحقق مقاصد الشرع في حفظ الدين والنفوس والأموال والأعراض والعقول ، فحينئذ لا بأس بنظام الولايات القائم في هذا العصر
لكن أن يكون لكل دولة إمامها، وصلاحيته المطلقة ، فلا يستقيم والنصوص وروح الشريعة ومصالحها ومقاصدها هذا من حيث الأصل ، لكن لو كان بحكم ضعف المسلمين وتوزع كلمتهم فهو مقبول وخير لا ريب من التحاكم للقوانين الوضعية .
التحاكم للضرورة :
ـــــــــ
لا شك أن التحاكم محرم إذا كان تحاكم المسلمين إلى محكمة غير إسلامية قولا واحدا لا يسع خلافه للأدلة الصريحة السابقة ، لكن حل تدخله الضرورة فتغير حكمه إذ الضرورات تبيح المحظورات ، الضرورة إذا كانت كلية قطعية بحيث يؤدي تفويت التحكيم فيها إلى مفاسد يقينية تلحق بالمسلمين ، وتفوت مصالح يقينية كلية فإن الأمر يحتمل النظر ، وحينئذ يتقيد بحد الضرورة ، فإذا أمكن أن يكون القضاة كلهم أو جلهم مسلمين فيجب المصير لذلك ، وإذا اقتضى اشتراك العديد الأقل فكذلك .
ويعمل على استخلاص الأحكام غير المعارضة للنصوص والمقاصد والمصالح الشرعية ويشترط قبل هذا انتقاء وجود محكمة عدل إسلامية ، وهي الآن قائمة تحتاج إلى تنشيط لتزاول مهامها إن وجدت وعليه فلا ضرورة لرفع التحاكم إلى محكمة العدل الدولية أو غيرها .(1/61)
ويمكن أن يستأنس للضرورة بما قاله بعض المالكية ، فقد أجاز بعض المالكية كالإمام الخرشي اشتراط الكفار في عقد المهادنة أن يحكموا بين المسلم وغير المسلم إذا دعت لذلك ضرورة فيقول في شرحه لمتن خليل عند استعراضه لشروط المهادنة : ويجب أن يخلو عقدها من شرط فاسد وإلا لم يجز كشرط بقاء مسلم أسيرا بأيديهم ، أو بقاء قرية للمسلمين خالية منهم ، وأن يحكموا بين مسلم وكافر وأن يأخذوا منا مالا ، إلا لخوف ، فيجوز كل ما منع (1).
التحكيم بين المسلمين فى البلاد غير الإسلام
من المعلوم أن أحكام الشريعة تلزم المسلم سواء أكان فى البلاد الإسلامية التى تلتزم تطبيق أحكام الشريعة ’أوتلك التى لاتلتزمها ’أم كان فى البلاد التى لا تدين بدين الإسلام .
وهذه الأحكام منها ما هو فى العقائد والواجبات والأركان والآداب و غيرها ’وكلها محل الإلتزام ’ سواء فى جانب الفعل أو الترك . فلا يسع المسلم ترك الصلاة أو الزكاة أو الصوم ’ او الحج ’ أو الوقوع فى الشرك أو الكفر ’ وفعل المنكرات من نحو السرقة و الزنا والكذب والخيانة والغدر ’بحجة أن الدولة غير إسلامية ’فإن وصل الأمر فى بلد منع أداء الواجبات فلا يسع القادر على ترك البلادإلا أن ينتقل إلى غيرها ’ وإلا كان ظالما لنفسه ’ مالم يكن مستضعفا لايجد بلدا يؤويه’ ومع ذلك لايسقط ذلك عنه الواجبات والأركان والإلتزام بأصول العقيدة والشريعة . قال الله تعالى :" إن الذين توفاهم الملائكة ظالمى أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنامستضعفين فى الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيعا فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا .إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لايستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا . فأولائك عسى الله أن يعفوا عنهم وكان الله عفوا غفورا " .(97’98’99) .(1/62)
وكثير من المسلمين اليوم لم يجدوا بدا من الهجرة من بلاد أهلها مسلمون ودينها الإسلام اسما ’فتضيق ذرعا بالمسلمين ’إما لدعوتهم للعودة إلى الإسلام عقيدة وشريعة حقا وصدقا ’وإما لضيق ذات أيديهم فيضربون فى أرض الله ابتغاء السعة ’ أو ربما كفاءة علمية لم تجد من يقدرها حسن تقديرها’فيجد هؤلاء وغيرهم سعة فى أرض الله عند غير المسلمين فيهاجروا إليها’ ولا حول ولا قوة إلا بالله .
واليوم فإن هؤلاء المسلمين المهجرين او المهاجرين أكبر الأقليات ’أو هم على أقل تقدير أقلية لها وجود وتأثير . ولقد أصبح وجود المسلمين هناك أجدى لهم بل وأنفع للإسلام من عودة كثير منهم إلى ديارهم ؛ لما يمكنهم وجودهم من نشر الدعوة وترسيخ وجودها فالإقامة فيها غدت أفضل من العودة إلى ديار للمسلمين لايقام لهم فيها شرع .يقول الإمام الماوردى :"إذا قدر المسلم على إظهار الدين فى بلد من بلاد الكفار ’فقد صار البلد به دار الإسلام " .
ولا شك أن وجود المسلمين فى تلك الديار يحتاج إلى من يتدبر تهيئة تطبيق أحكام الشرع فيما لايسعهم إلا تطبيقه منها كالعبادات والزواج والطلاق والعدة والنسب والمحرمات والإرث والوصية ونحو ذلك مما يتعبدون الله به أداء والتزاما بشروط صحته ولزومه . وكذا فض المنازعات الناشئة فيما بينهم ’ أومع غير المسلين ’إذا ارتضوا التحاكم إلينا .
ومن هنا فإن اللجوء إلى التحكيم فى الأغلب الأعم من القضايا حتم لازم إذ محل القضاء حال الضرورة ’وهى حينئذ تقدر بقدرها . فما يلزم أو يسع فيه الحكم لا يلجأ فيه إلى القضاء .
ودول العالم اليوم تعتد بالتحكيم وسيلة لفض المنازاعات ’ كما أنها تعتد بالصلح وتجيز التحكيم فيما يجوز فيه الصلح ’وهذا الجواز فى التحكيم والصلح مخرج واسع لإجراء الأحكام الشرعية على المسلمين إما بصفة تحكيم الشريعة الإسلامية إذا سمحت نظم الدول النص على ذلك فى عقد التحكيم ’أو بصفة الصلح عند عدم جواز النص .(1/63)
وعلى هذا يمكن تقسيم تقاضى أو تحاكم المسلمين فى البلاد الأجنبية إلى أحوال :
أولاً : إذا سمح نظام الدولة للمسلمين بالتحكيم فى عقودهم ومنازعاتهم . فواجب المسلمين فى هذه الديار أن يوحدوا ملجأ التحكيم بواسطة مؤسساتهم الكثيرة ’ وبخاصة اتحاداتهم الدعوية أو الثقافية أو الخيرية أو غيرها . ويلزم أن تتفق الجالية الإسلامية على من يختارهم أهل الرأى والقرار للتحكيم ولا يبعد الإلزام الشرعى لهذا الاختيار أو التعيين ؛ لئلا يخلوا المسلمون من تطبيق حكم الله حيث أمكنهم ’وللحيلولة دون اللجوء إلى المحاكم الأجنبية. وقد نص الفقهاء على ذلك فقال ابن أبى الدم :"إن القيام بالقضاء بين المسلمين والانتصار للمظلومين وقطع الخصومة الناسئة بين المتخاصمين من أركان الدين ’ وهو أهم الفرو المعنوية بالكفاية ’ فإذا قام به الصالح له سقط الفرض عن الباقين ’وإن امتنع كل الصالحين له أثموا " . ( أدب القضاء 1/290 ) ونقل ابن فرحون عن المازرى قوله : "القضاء ينعقد بأحد وجهين :أحدهما عقد أمير المؤمنين ..والثانى عقد ذوى الرأى وأهل العلم والمعرفة والعدالة لرجل منهم كملت فيه شروط القضاء.. " (تبصرة الحكام 1/15) وقال الماوردى : "لو لو خلا بلد من قاض فقلد أهل البلد على أنفسهم قاضيا منهم كان تقليدهم له باطلا إن كان فى العصر إمام لافتياتهم عليه فيما هو أحق به " . (أدب القضاء 1/139 ).
ولا يضير حكم المحكمين المسلمين اشتراط اعتماد الحكم من السلطات القضائية فى البلاد بعد ذلك ؛ لأنه يكسبه صفة الإلزام التنفيذية .(1/64)
ثانياً : إذا لم يسمح نظام الدولة بصلاحية التحكيم للمسلمين ’فيطبق حد الضرورة فى اللجوء إلى المحاكم غير الإسلامية ’ والضرورة حينئذ أظهر منها مما يقال من الضرورة أو عموم البلوى فى التحاكم إلى القوانين الأجنبية فى البلاد الإسلامية ’ ولكن لاتسع المسلمين الضرورة فيما يتعلق بعقائدهم وواجباتهم وأركان دينهم وأحوالهم الشخصية أو كل ماكان حكما تكليفيا أوحكما وضعيا –أى ما كان بشرط شرعى أوسبب شرعى أو مانع شرعى – وبخاصة الأحوال الشخصية من الزواج وحقوق الزوجية والطلاق والعدة والنسب والميراث والوصية وماإلى ذلك فيلزم تحكيم من يرضونه دينا وعلما ’ويلزم المؤسسات والاتحادات الإسلامية أن تضطلع بدور التحكيم والصلح ’ وأن تضع لذلك نظاما محكما يلتزم أحكام الشريعة ’ ولا يصادم النظام العام فى البلاد . أ(1/65)
التفريق القضائي من خلال قنوات
مجلس الشريعة الإسلامية
تقديم
بقلم
الدكتور / صهيب حسن
للمجلس الأوروبى للأفتاء والبحوث في دورته الثالثة عشرة بتاريخ
20 جمادي الأولى 1425هـ الموافق: 07-07-2004م
إلى 24 جمادي الأولى 1425هـ الموافق: 11-07-2004م
بسم الله الرحمن الرحيم
التفريق القضائي من خلال قنوات مجلس الشريعة الإسلامية
المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد،
فتقدر الجالية المسلمة في بريطانيا بأكثر من مليون ونصف مليون نسمة حسب آخر احصائية قامت بها الحكومة وقد واجهت هذه الجالية – ولا تزال تواجه – عديداً من المسائل في ميادين الحياة المختلفة ومنها ما حلت ومنها ما كان في طريقها إلى الحل، وكانت الحاجة ماسة إلى مجلس يكون مرجعاً للمسلمين لحلّ المسائل الآتية:
1- إصدار فتاوى بخصوص المسائل المتشابكة العويصة
2- القيام بالتحكيم في الزوجين المتخاصمين وكذلك بين الطرفين المتنازعين على أمور مالية أو إجتماعية أو غيرها.
3- النظر في مسائل الخلع والطلاق والفسخ وإصدار حكم فيها
وبعد عديد من المشاورات والاجتماعات تمّ إنشاء مجلس الشريعة الإسلامية في عام 1982م من قبل ممثلين لعشرة مراكز وجميعات إسلامية وذلك في قاعة المسجد الجامع بمدينة برمنجهاهم.
وكان للمجلس إسهام في المجلات الثلاث غير أن المجال الثالث غلب عليه حتى صار شغله الشاغل ومهمته الرئيسية وهذا إذا دلّ على شيئ فإنما يدلّ على فراغ هائل في هذا الميدان فسدّه المجلس إلى حدّ كبير، وقد يثار هذا السؤال: لماذا اشتدت الحاجة إلى القيام بمثل هذا الأمر مع وجود محاكم بريطانية تفصل في أمور النكاح والطلاق،
ونقول رداً على هذا السؤال أن الحاجة كانت قائمة لمثل هذا النشاط للأسباب التالية:(1/1)
أ- ... إن الأنكحة عادةً تعقد في المساجد أو في أماكن خاصة ثم تسجل عند مسجل الزواج الحكومى، فكما أن الزواج المسجل لدى الحكومة لا يمكن أن ينقض إلا في المحاكم فكذلك ينبغى أن يكون هناك نهاية لهذا النكاح بطريق إسلامي.
ب- ... هناك كثير من الناس لا يسجّلون الزواج عند المسجل الحكومي أصلا فإذا كانت هناك خلافات بين الزوجين وأرادت المرأة أن تخالع فلا بد أن يكون هناك مرجع لإتخاذ إجراءات الخلع أو الفسخ.
ج- ... هناك عدد كبير من الأنكحة التي عقدت في بلد مسلم مثل باكستان أو مصر أو صوماليا أو بنغلاديش ثم جاء أحد الزوجين إلى هذه البلاد ليستقر مع الزوج الآخر، فإذا استدعى الأمر إلى إنهاء هذا الزواج جاز لهما الترافع إلى المحكمة البريطانية إذا شاءا، ولكن أحد الطرفين تفضل أن يتم الطلاق أو الفسخ بطريق إسلامي نظراً إلى أصل النكاح الذي وقع في بلد مسلم.
وهناك سؤال آخر يحتاج إلى إجابة:
من أين يستمد المجلس السلطة للفصل بين الزوجين خاصة علماً بأن المجلس سجّل رسمياً عند السلطات البريطانية كمنظمة خيرية إسلامية ومن بين أهدافها القيام بالأمر المشار إليه؟
ونُورِدُ رداً على هذا السؤال النصوص التالية لعدة فقهاء،
قال ابن نجيم " أما في بلاد عليها ولاة الكفر فيجوز للمسلمين إقامة الجمع والأعياد ويصير القاضي قاضياً بتراضى المسلمين ويجب عليهم طلب والٍ مسلم". (1)
وقال ابن الهمام " إذا لم يكن سلطان ولا من يجوز التقلّد منه كما هو بعض بلاد المسلمين غلب عليهم الكفار كقرطبة في بلاد المغرب الآن وبلنسية وبلاد الحبشة ...... يجب عليهم أن يتفقوا على واحد منهم يجعلونه والياً فيولّى قاضياً أو يكون هو الذي يقضى بينهم". (2)
ومن فتاوى المعيار المعرب ما يلي ما يتصل بهذا الموضوع:
(إذا لم يكن بالبلد قاض زوّج صالحو البلد من أراد التزويج)(1/2)
وسئل أبو جعفرأحمد بن نصر الداودي عن امرأة أرادت النكاح وهي ثيب ولا حاكم بالبلد وأولياؤها غيّب ترفع أمرها إلى فقهاء البلد فيأمروا من يزوجها، وكيف إن لم يكن بالبلد عالم ولا قاضٍ أترفع أمرها إلى عدول البلد في البكر والثيب؟
فأجاب: إذا لم يكن في البلد قاضٍ فيجتمع صالحو البلد ويأمرون بتزويجها.
(كل بلد لا سلطان فيه فعدول البلد وأهل العلم يقومون مقامه في إقامة الأحكام)
وسئل أيضاً عن بلاد المصامدة ربما لم يكن عندهم سلطان وتجب الحدود على السواق وشربة الخمر وغيرهم من أهل الفساد، هل لعدول ذلك الموضع وفقهائه أن يقيموا الحدود إذا لم يكن سلطان، وينظروا في أموال اليتامى والغيب والسفهاء؟
فأجاب : بأن قال: ذلك لهم، وكل بلد لا سلطان فيه أو فيه سلطان يضيع الحدود أو السلطان غير عدل فعدول الموضع وأهل العلم يقومون في جميع ذلك مقام السلطان.
وسئل أيضاً عن بلد لا قاضي فيه ولا سلطان أيجوز فعل عدوله في بيوعهم وأشريتهم ونكاحهم؟
فأجاب: بأن العدول يقومون مقام القاضي والوالي في المكان الذي لا إمام فيه ولا قاضٍ. قال أبو عمران الفاسي: أحكام الجماعة الذين تمتد إليهم الأمور عند عدم السلطان نافذ منها كل ماجرى على الصواب والسداد في كل ما يجوز فيه حكم السلطان. وكذلك كل ما حكم فيه عمال المنازل من الصواب ينفذ للإقامة إياهم الحكم.(3)
(إذا كان للمسلمين في غير بلاد الإسلام ناظر مضى حكمه ولزم)
وسئل القابسي عن رجل توفي ببلد السودان من غير وصية ولا خلافة، فقام رجل فأخذ مفتاح مخزنه فأقام المفتاح بيده أياماً فتبين أنه غير مأمون، وفي البلد رجل مسلم ولاه ملك البلد النظر بين المسلمين ورضي به المسلمون لأنفسهم، فرفع إليه الجماعة أمر هذا الميت وأمر الذي أخذ المفتاح من يده وعيّن رجلاً من جماعة ببيع التركة، فباع واجتهد وأتى بما صح له من الثمن إلى الناظر، فقال وارث الميت: البائع متعد ولا أجيز مما فعل الناظر شيئاً.(1/3)
فأجاب : إذا كان هذا المكان الذي دار فيه هذا الأمر مستقراً للمسلمين سكنوه وأقاموا فيه فلا بدًَّ لهم ممن ينظر في أمورهم ويحكم بينهم وتكون لهم يد يقوي بها على من عصى الحكم ويأمر بها من الغالب على المكان، إذ لا يمكن أن يفتات على الملوك في سلطانهم، ولا سيما سلطان الكفر والعداوة. فإن كان ناظر المسلمين منهم يحكم فيهم بأحكام المسلمين، فحكمه ماضٍ إذا أصاب وجه الحكم ولازم لمن رضي أن يدخل في سلطانه ويقيم تحت نظره من مقيم أو مجتاز. ومن أقامه لحوطة مال ميت ولبيع تركته إن كان كتاب من حكام المسلمين في بلدان الإسلام، فهذا القيم كالقيم في بلد الإسلام بإذن قاضي المسلمين لاعداء قبله من أجل أنه تولاه بإذن هذا الناظر. هذا مما لا يجد الناس عليه بداً إذا ابتلوا بالسفر إلى ذلك البلد. ولو نظر في هذا بالعداء على من قام في هذا لضاعت تركة من مات، ثم من ذا الذي يودعها أو يضع يده عليها إذا كان العداء يلزمه على بسط يده إليها، ليس كما قال هذا الوارث إذا لم تكن له حجة أن لا يرد نظر هذا الناظر المسلم، وبالله التوفيق.(4)
ولا بأس هنا من إيراد وضع مسلمي الهند أيام الإستعمار الإنجليزي بخصوص القضاء في مسائل تتعلق بالأحوال الشخصية فقد ألف أحد مشاهير العلماء في الهند، ألا وهو الشيخ أشرف على تهانوي كتاباً بعنوان " الحيلة الناجزة للحليلة العاجزة"، ألفه عام 1351هـ أي قبل خمسة
وسبعين سنة ، استشهد فيه بفتاوي العلماء المالكية لإيجاد مخرج لبعض الصور العويصة التي يعسر حلها حسب المذهب الحنفي مثل حكم امرآة المفقود والمجنون والغائب، وذكر في ضمن هذه المباحث مسألة نصب هئية تحكيم أو فصل في الأمور من قبل جماعة المسلمين إذا عدم في بلد قاض مسلم.(1/4)
قال : الأمر سهل بالنسبة للولايات الهندية التي يوجدبها قاض مسلم، أما المناطق التي تتبع الحكومة ولا يوجد فيها قاض شرعي، يقوم فيها القاضي المعيين من قبل الحكومة بإصدار حكمه بشرط أن يكون مسلماً وأن يكون حكمه موافقاً لقاعدة شرعية فيقبل حكمه مثل قضاء القاضي المسلم لما في الدر المختارويجوز تقلد القضاء من السلطان العادل والجائر ولو كافراً ذكره مسكين وغيره"، أما إذا كان الحكم صادراً من حاكم غير مسلم فغير مقبول تماماً، ولا يتم الفسخ بحكمه أبداً لأن الكافر ليس بأهل للقضاء على المسلم كما هو مصرحٌ في جميع كتب الفقه.
ثم قال : إذا كان الفصل بيد جماعة كما هو المتبع احياناً أن الأمر يحال إلى عدد من القضاة أو إلى هئية تحكيم أو إلى لجنة مكونة من عدد من الأشخاص وجب أن يكون جميع الأعضاء من المسلمين، وإذا وجد فيهم غير مسلم لم يقبل قضاءهم ولم يصح التفريق من قولهم".
وإذا إنعدم الحاكم المسلم في مكان أو تعذر المرافعة إلى محكمة قاض مسلم أو لم يكن القضاء حسب قواعد الشريعة من قبل القاضي المسلم، لم يبق – حسب المذهب الحنفي – أي حيلة للمرأة الطالبة للفراق إلا أن يطلقها الرجل أو يرضى بالخلع.(5)(1/5)
ولكن إذا امتنع الرجل من ايقاع الطلاق أو لم يمكن الإتصال به لأجل غيابه أو فقده أو جنونه وكانت المرأة غير قادرة على الصبر، صار هناك مخرج لها – حسب المذهب المالكي – بأن ترفع أمرها إلى هئية تحكيم مسلمة لأن المالكية يجوزون هذه الصورة إذا انعدم القاضي في مكان، كما أفتى به العلامة الصالح التونسي المدرس في المسجد النبوي بالمدينة المنورة حيث قال: الذي عليه الجمهور وبه العمل وهو المشهور أن ذالك التفريق ووسائله وما يتعلق به للحاكم فأن عدم حسا أو اعتباراً فجماعة المسلمين الثلاثة فما فوق تقوم مقامه ولا يكفي الواحد في مثل هذا وانما نسب ذلك للأجهوري في احدى الروايتين عنه وتبعه بعض الشراح من المصريين والأول هو الذي عليه المعول وعليه فلا لزوم لتعريف معرفة هذا الواحد ولا لبيان المهمات التي يرجع فيها إليه على أن ذالك واضح وهي كفاية عن كونه عالماً عاقلاً مرجعاً لأهل حجة في حل مشكلاتهم مطلقاً. (6)
ولنا أسوة في " الأمارة الشرعية بمنطقة بيهار " بالهند وأقامها المسلمون أيام الاستعمار الإنجليزي للفصل بين المسلمين في أقضيتهم ولا تزال هذه الأمارة تواصل عملها حتى بعد
استقلال الهند لأن عمل هذه الإمارة تعتبر مساندة لعمل المحاكم الهندية التي تعاني من ضغط شديد عليها من جراء كثرة المرافعات لديها فجاءت هذه الأمارة لتخفف عنها بعض الشيء.
ومن الجدير بالذكر أن عمل المجلس لا يقتصر على اصدار الفتاوي وإجراء أحكام الخلع والطلاق والفسخ بل يشمل النواحى الآتية أيضاً.
1- ... إجراء عقود النكاح.
2- ... الفصل بين النزاعات بالاضافة إلى ما مر بيانه من محاولة إيقاع الصلح بين الزوجين المتخاصمين.
3- ... ابداء الرأي الشرعي في المسائل التي تبعث إليه من قبل المحامين أو المحاكم البريطانية.
4- ... المثول شخصياً من قبل أحد أعضاء المجلس في المحاكم للإدلاء بالرأي الشرعي في الموضوع المسئول عنه.(1/6)
... ومما سئلنا عنه موضوع الزواج السرى وحق حضانة الأولاد ومدى شرعية شهادات الزواج في بلاد أخرى وجواز تأديب الأب أولاده في أمر الدين.
5- ... ترجمة عقود النكاح إلى اللغة الإنجليزية وذالك إذا كانت باللغة العربية أو الأوردية أو البنغالية أو الفارسية.
6- ... ولدى المجلس مشروع حالياً وهو توفير قانون الأحوال الشخصية باللغة الإنجليزية مع مراعاة ظروف الجالية المسلمة المقيمة في بريطانيا وغيرها من دول أوروباء.
والمجلس له صلة وثيقة بالمركز الثقافي الإسلامي في لندن حيث يعقد اجتماع شهري لأعضاء المجلس للفصل في قضايا الخلع والطلاق.
_________________________
فصل
أسباب التفريق القضائي بالمحاكم الإنجليزية
ولأجل الوصول إلى الحكم الشرعي بخصوص الأحكام الصادرة من قبل المحاكم الإنجليزية في مجالات النكاح والطلاق يتحتم علينا معرفة أسباب التفريق القضائي بهذه المحاكم.
هناك سبب واحد رئيسي في القانون الإنجليزي لإنهاء عشّ الزواج وهو إنهيار الزواج إنهيارا تاماً لا إمكانية فيه للصلح ومن الممكن إثبات هذا الشيئ على احدى المستندات التالية:
1- إرتكاب الفاحثة.
2- سلوك سيء غير مبرّر.
3- مفارقة الزوج لزوجه.
4- الزوجان يعيشان منفصلين لمدة سنتين مع رضى الطرف الآخر.
5- الزوجان مفترقان منذ خمس سنوات بدون رضىً من الطرف الآخر.
المستند الثناني يحتاج إلى شيئ من التفصيل وهو "سلوك سيئ غير مبرّر" وهو يتمثّل في الآتي:
1- شرب الخمر.
2- استعمال المخدرات.
3- اللعب بالقمار.
4- الغلّو في الإنفاق وتبذير الأموال.
5- الإمتناع من الجماع أو رغبة جامحة فيه من أحد الزوجين.
6- عدم الإتزاّن العقلى.
7- التحريش بالزوج بلا مبرّر.
8- الطعن والسخرية بالآخر.
9- الإمتناع من إنجاب الأولاد.
10- إنحراف في الخلق الجنسي.
11- إهمال.
12- ليست بينهما مصلحة مشتركة.
أما المفارقة فلا بدّ أن يكون هناك فراق من زوج لزوجه لمدة لا تقّل عن سنتين بدون رضى الطرف الآخر.(1/7)
* ... إجراءات المحكمة:
يصدر القاضي – في قضايا لا يدافع فيها الزواج (أي أحد الطّرفين)- حكمه بالطلاق المبدئي أو الطلاق المعلق (Decree Nisi) والمراد به أن هناك فرصة للزوجين للتصالح بينهما أو سحب قضيتهما خلال ستة أسابيع من تاريخ الحكم، ويعتبر عقد الزواج باقياً خلال هذه المدة، ويحق لكل من الطرفين مطالبة المحكمة بإصدار الطلاق النهائي بعد هذه المدة وتنظر المحكمة عادةً في الأمور المتعلقة بالزوجين مثل كفالة الأولاد أو الحقوق المالية قبل إصدار الطلاق النهائي (Decree Absolute).(7)
* ... نقاط الخلاف بين إجراءات القانون الإنجليزي والقانون الإسلامي:
1- ... إرتكاب الفاحشة أحد الأسباب الداعية إلى التفريق بين الزوجين في القانون الإنجليزي ولا بدّ أن يقر المتهم بالزنا أو يأتي المدّعى بشهادة مقنعة على إثبات الزنا على الطرف الآخر على أن هذا الحادث وقع خلال ستة شهور ماضية من تاريخ الفراق بينهما ولا ينظر في الدعوى إذا كان في تاريخ لأكثر من ستة شهور.
أما القانون الإسلامي فهناك الفصل بالفراق بطريق اللعان إذا كانت المرأة متهمة بالفاحشة وحملت من جرّاءها وهناك إيقاع الحدّ على الزوج إذا ثبت عليه الزنا قبل أن يطلق عليه.
2- ... حسب القانون الإنجليزي ينظر إلى طلب الطلاق من كل من الزوجين على حد سواء بينما يقر القانون الإسلامي بحق الزوج في الطلاق وبحق المخالعة للزوجة، وما دام القانون الإنجليزي لا يعترف بالخلع لا اعتبار لديه للمهر فلا يمكن للمرأة أن تطالب به إذا كان الزوج هو الطالب للطلاق ولا للرجل أن يستردّه من الزوجة إذا كانت هي الطالبة للطلاق.
3- ... بخصوص السلوك السيء غير المبرّر " ذكرت أسباب عديدة وهي تلتقي بما في الشريعة الإسلامية من أسباب داعية إلى التفريق غير أن هناك أسباباً مثل الإمتناع من الجماع أو رغبة جامحة فيه من أحد الزوجين والتحريش بالزوج بلا مبرّر والطعن والسخرية بالآخر مما يتطلب(1/8)
إلى ضرورة إصلاح بين الزوجين بدون اللجوء إلى الطلاق إلا إذا تعذّر الاصلاح تماماً ووصل الكره من أحد الزوجين للآخر إلى مداه.
4- ... ما أكثر ما يحكم به القاضى الإنجليزي بتنصيف الممتلكات بين الزوجين بدون مراعاة الملكية الحقيقية لهما من قبل أحدهما.
5- ... يجبر الزوج على اإنفاق على الزوجة إذا كان قادراً على ذالك حتى بعد صدور الطلاق بينما تحدد الشريعة الإسلامية هذه النفقة لمدة العدة فقط.
6- ... بخصوص حضانة الأولاد يميل القانون الإنجليزي إلى أعطاء النساء هذا الحق بدون تحديد أية مدة بينما تراعى الشريعة الإسلامية عمر الأولاد عند الفصل في هذا الأمر.
7- ... يوجد في القضاء الإنجليزي ما يسمى بالمفارقة القانونية بين الزوجين بحيث يجوزلهما أن يعيشا منفصلين مع بقاء الزوجية بينهما وهذا ما لا يقرّه الإسلام.
8- كما لا يقرّ القانون الإنجليزي بحق الرجل في إيقاع الطلاق، كذلك لا يقرّ بحق المرأة إذا فوض إليها الرجل أمر الطلاق كما هو المعروف في الفقة الحنفى خاصة.
_________________________
فصل
إجراءات الطلاق لدى مجلس الشريعة الإسلامية
طلب الطلاق المرفوع إلى المجلس قد يسبقه صدور طلاق مدنى من قبل المحكمة الإنجليزية فلذلك ينظر في هذا الطلب في ضوء كيفية هذا الطلاق على الصفة التالية:
1- ... إذا كان الرجل مدعياً للطلاق في المحكمة وصدر الطلاق نهائياً من قبل المحكمة:
يرى المجلس أن هذا الطلاق في حكم الطلاق البائن لأنه صادر عن رغبة الزوج أصلاً في الطلاق والمجلس يتأكد من ضرورة استيفاء المرأة حقها في المهر قبل إصدار شهادة الطلاق الإسلامي.(1/9)
2- ... إذا كانت المرأة مدعية للطلاق ولم يدافع الرجل القضية في المحكمة إلى أن صدر الطلاق: يتأكد المجلس من أمر عدم الدفاع من قبل الرجل وذالك بالنظر في أوراق القضية ومن بينهما ورقة صادرة من المحكمة موجهة إلى الزوج بحيث يقرّ فيها بتوقيعه أنه لا يريد أن يدافع عن هذه القضية في المحكمة، كما أن المجلس يتأكد أيضاً من استيفاء الرجل حقه في إسترداد المهر والمحجوهرات التي دفعها إلى الزوجة عند العقد، على طريق المخالعة.
3- ... إذا كانت المرأة مدعية للطلاق في المحكمة غير أن الزوج دافع هذه القضية أو غاب عند الحضور أصلاً:
يعامل المجلس هذه القضية من بدايتها بدون اعتبار للحكم الصادر من المحكمة ويراعى فيها الأمور التالية:
أ- استدعاء الفريقين إلى إجتماع مرة واحدة أو أكثر لأجل الصلح بينهما فاذا إصطلحا على شروط سجلت هذه الشروط وطولب الطرفان بالوفاء بها، فإذا لم يف بها أحد الطرفين قام المجلس بالتفريق بعد انقضاء المدة المتفق عليها في عقد الصلح.
ب- يتم استدعاء الفريقين إلى أحد من أعضاء المجلس أو ممثليه في احدى المدن البريطانية لمعرفة أسباب الشقاق فإذا أصرت الزوجة على الطلاق ولم ترض بالصلح إطلاقاً يقوم العضو المذكور بابداء رأيه في القضية ومدى إقتناعه بصدور شهادة الطلاق.
ج- يقوم المجلس بمكاتبة الفريقين ومعرفة رأيهما في النقاط الخلافية التى تثار عادة من قبل احد الزوجين ضد الآخر وذالك للوصول إلى معرفة الحق ومدى استحقاق الزوجة للطلاق، وقد تطول المدة الزمنية قبل إصدار الحكم لأجل التطويل في المكاتبات المذكورة.
تعرض القضية أخيراً على أعضاء المجلس في إجتماعة الشهري ولا يفصل فيها إلا بعد التأكد من الأمور الآتية:
أ- ... في حالة عدم الإجابة من الزوج على مكاتبات المجلس: هل استلم خطاباتنا أم لا، وهل تأكد لدينا صحة عنوانه من مصدر آخر غير الزوجة لأنها قد تخفى علينا عنوانه الصحيح حتى لا يعلم بالقضية أصلاً.(1/10)
ب- ... في حالة تواجد الزوج في بريطانيا أو بلد أوروبى آخر مثل آيرلندا أو هولندا أو دنمارك: هل دعى الزوج إلى المقابلة مع ممثل المجلس الذي هو عادة إمام من أئمة المساجد المحلية أو المراكز الإسلامية.
ج- ... هل رضيت الزوجة برّد المهر والمحجوهرات التي استلمتها من عائلة الزوج عند عقد النكاح إلى زوجها تعويضاً له على الخسارة التي تلحقه من جراء التفريق بينهما علماً بأن الزوج – وإن لم يرض بالخلع – يستحق في نظر المجلس أن يعوض بشيء من الأموال لأن المجلس يقضى بالتفريق بينهما على رغم أنفه.
د- ... في حالة وجود الأولاد: هل ترضى الزوجة بالإذن للزوج أن يرى الأولاد على صفة منتظمة إما مباشرة أو بطريق أشخاص آخرين مؤتمنين مثل العامل الإجتماعي المعين من قبل السلطات المحلية.
أما مسألة حضانة الأولاد فإنا ننصح الزوج أن يرفع الأمر إلى المحاكم لأنها هي التي تستطيع أن تفرض على الزوجة قراراً في صالحه إذا رأت ذالك ولكنها عادة تقضى في صالح المرأة، أما إذا رضيت المرأة أن تقبل الحكم الشرعي في حضانة الأولاد فالأمر يتم بدون اللجوء إلى المحاكم.
ر- ... في حالة إقرار المرأة بأنها تعيش مع رجل أجنبي منذ الانفصال من زوجها: تؤمر بالانفصال فوراً من ذالك الرجل وتثبت لنا أنّها إنفصلت فعلاً عنه فإذا ثبت ذالك قام المجلس بإصدار حكمه في القضية.
ز- ... في حالة تطليق الرجل للمرأة: هل قام بدفع المهر إلى زوجته أم لا؟
ويعد التأكد من الأمور المذكورة يقوم المجلس بإصدار قراره الخاص بالتفريق بين الزوجين إما بدون أي مطالبة مالية إذا لم يكن هناك مهر يستحق الذكر أو بسؤال المرأة ردّ المهر والمحجوهرات إلى زوجها أو على طريقة المباراة بأن يدفع كل من الزوجين إلى الآخر ما يستحقه من أثاث البيت أو المحجوهرات أو قطعة أرض سجلت باسم المرأة من قبل الزوج عند عقد النكاح.(1/11)
وهناك مئات من القضايا التي تمكن فيها المجلس من ردّ المهر والمحجوهرات إلى الزوج عند الفصل بين الزوجين ومن أبرزها قضية شخصي محلي ردّ إلى زوجته مبلغاً قدره ثلاثون ألف جنية بطريق المجلس.
كما أن هناك عشرات القضايا التي فرّج فيها المجلس عن هم الزوج حيث أتاح له فرصة رؤية الأولاد والاجتماع بهم بعد أن تعنّت الزوجة سابقاً من الإذن له برؤية أولاده.
وهناك عدد قليل من القضايا التي رضيت فيها الزوجة بالحكم الشرعى في حضانة الأولاد فسلّمت الأولاد إلى الزوج بعد سن معين،
وقد يقال: لماذا لا يصدر المجلس حكماً شرعياً الزامياً بخصوص حضانة الأولاد كما يصدر حكمة في التفريق بين الزوجين؟
ورداً على ذالك نقول بأن المجلس ليست له صفة الزامية قانونياً وإنما هو يحاول قدر الجهد في تقديم حلول لنزاعات الناس سواءً كانت خاصةً بالأمور العائلية أو بأمور أخرى وهو يجد إعراضاً عادة من الطرف المتضرر أو مجابهة عنيفة أحياناً أو تهديداً برفع الدعوى ضد المجلس لدى المحاكم.
وقد لقي كاتب هذه السطور – وهو سكرتير المجلس منذ عام 1988م عند ما توفي السكرتير الأول للمجلس في حادث مرور – معاناةً من جراء حكم في حضانة الأولاد روعى فيه العدل في حق كل من الزوج والزوجة فتعدى الرجل عليه بإيقاع الضرر في بدنه حتى وصل الأمر إلى المحكمة.
أما التهديد والسبّ والشتم لأعضاء المجلس من قبل الطرف المتضرر فلم ينج منه أحد من أعضاء المجلس، وهم يحتسبون الأجر من الله تعالى في ذالك لأنه لسيت هناك منفعة مادية
تعود إليهم من عمل المجلس وأنما يقومون به اداءً لمهمة إنسانية فيها تفريج كرب مئات بل آلاف من النساء المتضررات من تصرفات أزواجهن.(1/12)
ومن القضايا الكبيرة التي فصلت فيها المجلس قديماً قضية ثرى عربى ترك ميراثاً هائلاً أوصى فيه بالثلث لجهة خيرية وقد بلغ هذا الثلث عدة ملايين من الدولارات وتنازع في هذا الثلث أولاده من زوجتين ومثل فيها محام قادم من امريكا من قبل الفريق المخاصم وقد أصدر المجلس قراره حسب الشريعة الإسلامية ولم يكن متوقعاً أن يقبله الطرف المتخاصم في حال من الأحوال لأنه يفرض عليه رد مبلغ كبير إلى مستحقه غير أن نفس القضية رفعت إلى محكمة في السعودية أيضاً واستأنست المحكمة الشرعية في السعودية بحكم مجلس الشريعة وقضت به أيضاً.
__________________________
فصل
أسباب التفريق القضائي من حيث واقع المسلمين في الغرب
ذكرنا في الفصل السابق عمل مجلس الشريعة الإسلامية في الفصل بين الزوجين على طريق الخلع إذا رضى الزوج أو على طريق التفريق بينهما إذا لم يرض الزوج، ونريد في هذا الفصل الإشارة إلى الأسباب التي ينبنى عليها قرار المجلس وترى شرعية هذا القرار،
ومن المعروف أن حق القاضي الشرعى في التفريق بين الزوجين دائر في تضييق شديد عند بعض الفقهاء وفي شئ من التوسع والإنفتاح عند البعض الآخر،
فقد ذكر الشيخ محمد تقي عثماني معبراً عن رأى الحنفية أن الفقهاء اتفقوا على أن القاضي له حق التفريق في الحالات الخمس الآتية:
إذا جن الزوج أو أمتنع عن أداء النفقة أو كان غنياً أو كان مفقوداً أو كان غائباً غير مفقود وليس له حق التفريق فيما عدا ذالك اطلاقاً (8).
ووسع القول فيه الدكتور عبده بن عبد الله الأهدل وكيل كلية التربية بجامعة الحديدة في الجمهورية العربية اليمنية حيث أوصلها إلى ثلاث عشرة صورة وهي كالتالي (9):
1- ... عدم حضور الشهود عند النكاح لحديث عائشة مرفوعا: " لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل" (10) وذلك عن من يرى أن وجود الشاهدين شرط الصحة وليس شرط وجوب.
2- ... تزويج الولييين للمرأة،(1/13)
والمرأة في مثل هذا للزوج الأول كما هو مروي عن على بن طالب (11) ولأن الزوج الثاني تزوج إمراة قد أصبحت في عصمة رجل آخر فكان زواجه بها باطلاً كما لو علم أن لها زوجاً.
3- ... إذا تزوج الكافر إحدى محارمه وأسلموا:
يفرق القاضي بينهما لعدم جواز هذا النكاح ابتداءً وكذلك لو تزوج الكافر معتدة الغير، وهذا كما يراه المالكية، أما الإمام أبو حنيفة فذهب إلى عدم التفريق لأن الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة.
4- ... إسلام أحد الزوجين قبل صاحبه:
واختلف في هذه المسألة حتى أفرد فيها المجلس الأوروبى للأفتاء والبحوث بحوثاً فيرجع إليها أما مذهب التفريق بينهما إذا لم يسلم الزواج حالة عدة المرأة المسلمة أو أن الزوجة كانت غير كتابية ولم تسلم فينسب إلى كل من عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس والحسن البصري وسعيد بن جبير وعطاء وطاووس وقتادة وعمر بن عبد العزيز وإبن شبرمة وأبو ثور.(12)
5- ... التفريق للعيب:
وهو مذهب الجمهور لقول عمر: أيما رجل تزوج إمرأة وبها جنون أو جذام أو برص فمسها – دخل بها – لها صداقها كاملاً وذلك لزوجها غرم على وليهاً(13). قالوا: لأن مثل هذا القول من عمر لا يكون من قبل الإجتهاد في الرأي بل من قبل أن يكون سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ممن سمعه منه.
وذهب إلى عدم فسخ النكاح لأجل عيب من العيوب كل من عبد الله بن مسعود وعلى بن أبي طالب وعمر بن عبد العزيز وإبراهيم النخعي وعطاء وأبي الزناد وإبن أبي ليلى وبه قال أهل الظاهر. وقصر الأحناف العيوب التي تجوز التفريق على العيوب التناسليه الثلاثة وهي الجب والعنة والخصاء.
أما المالكية والشافعية والحنابلة فقد وسعوا دائرة هذه العيوب ومعظمها عيوب تناسلية بالإضافة إلى الجنون والجذام والبرص.(1/14)
أما المذهب الراجح لدى الباحث فهو مذهب الزهري وشريح وقال به إبن القيم: أي يجوز التفريق من كل عيب منفرّ بأحد الزوجين سواءً كان مستحكماً أم لا كالعقم والخرس والعرج والطرش وقطع اليدين أو الرجلين أو أحداهما لأن هذه الأمور من أعظم المنفرات وقد ثبت أن عمر بعث رجلاً على بعض السعاية فتزوج إمرأة وكان عقيماً فقال له عمر: أعلمتها ؟ فقال : لا ، قال: فانطلق فأعلمها ثم خيّرها(14)، فقد أثبت التخيير في الفراق بالعقم وهو أقل تنفيراً من قطع الرجلين ونحو ذالك.
6- ... التطليق للشقاق والضّرر:
وذلك مثل الطعن في الكرامة أو إيذاء الطرف الآخر بالقول أو الفعل كالشتم المقذع والتقبيح المخّل بالكرامة والضرب المبّرح والحمل على فعل ما حرم الله والاعراض والهجر بدون سبب يبيحه، وذهب الجمهور إلى عدم الجواز ولكن جاز التفريق للأسباب المذكورة عند الحنفية.
7- ... الخلع:
االخلاف فقط على جواز كونه دون إذن السلطان كما هو رأي الجمهور أو لا بد من إذنه كما هو رأي محمد بن سيرين وسعيد بن جبير والحسن البصري، وذلك لاجل نسبة الخوف إلى غير الزوج والزوجة – وهم الولاة والحكام – في الآيتين:
"فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به "(البقرة 229)
وقوله تعالى: وإن خفتم شقاق بينهما فأبعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها"(النساء 35).
8- ... التطليق على المولى:
وهذا في حق الرجل الذي حلف على عدم وطء زوجته أكثر من أربعة أشهر، فكان من حق المرأة بعد مضى أربعة أشهر أن تطالبه لدى القاضي بالعودة إلى الجماع والتكفير عن يمينه أو الطلاق فإن رفض الأمرين فهل يطلق الحاكم المرأة نيابة عن الزوج أم أنّها تبين منه بمجرد مضى الأربعة الأشهر؟
وقد رجح الباحث مذهب الجمهور القائل بجواز تطليق الحاكم على المولى طلقة رجعية.
9- ... التطليق على المظاهر:
رجح الباحث مذهب المالكية في اعتبار المظاهر كالمولى فيحق للقاضى التطليق عليه لإزالة الضرر.(1/15)
10- ... التفريق بين المتلاعنين:
رجح الباحث مذهب الحنفية أنه لا يقع الفرقة بينهما إلا من قبل الحاكم لحديث عبد الله بن عمر "لا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين رجل من الأنصار وامرأته وفرق بينهما"(15) حيث أضاف التفريق إليه.
وحديثه الثاني " أنه صلى الله عليه وسلم قال للرجل " لا سبيل لك عليها(16).
ولحديث سهل بن سعد الساعدى أنه عندما إنتهى عويمر العجلاني وزوجته من اللعان قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها فطلقها ثلاثاً قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم (17).
11- ... التطليق على المفقود:
ومن المعلوم أن مذهب المالكية هو أعدل المذاهب في هذه المسألة حيث أجازوا للقاضى أن يطلق على الزوج بعد مضى أربع سنوات من تاريخ فقده طبقاً لما قضى به عمر بن الخطاب وبه أخذ الحنابلة وأختاره المتأخرون من الأحناف حسب ما ذكرنا سابقاً من قول احد علماء الهند وهو الشيخ أشرف على تهانوي.
12- ... التطليق للعجز عن النفقة:
مذهب الجمهور هو الجواز خلافاً للحنفية للادلة التالية:
أ- ... قوله تعالى: ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا (البقرة 231)، وإمساك المرأة بدون إنفاق عليها إضرار بها.
ب- ... قوله تعالى: فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان (البقرة 229)، وليس الإمساك مع ترك الإنفاق إمساكاً بمعروف فيتعين التسريح.
ج- أن سعيد بن ألمسيب سئل عن رجل لا يجد ما ينفق على إمرأته قال: يفرق بينهما فقيل له سنة؟ قال: نعم سنة يقصد سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم (18).
د- ولأن عمر بن الخطاب كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نساءهم فأمرهم أن يأخذوهم بأن ينفقوا أو يطلقوا فإن طلّقوا بعثوا بنفقة ما حبسوا (19).
ر- ولأنه يجوزلها الفسخ بالعجز عن الوطء – بالجبّ والعنّة – وهو أقل ضرراً فيجوز لها بالعجز عن النفقة من باب أولى لأن البدن لا يقوم بدونها بخلاف الوطء.(1/16)
13- ... التطليق بالإعسار بالمهر إذا أعسر الزوج بالمهر فهل يجوز أن يطلق عليه الحاكم إذا طلبت الزوجة ذالك.
... جوّزه المالكية والشافعية وذلك إذا طلبت المرأة ذالك قبل الدخول أما بعد الدخول فليس لها الحق في طلب الفراق لتلف المعوض – البكارة – وصيرورة العوض ديناً في الذّمة (20).
... ولم يجوّزه الحنابلة في أصح الأوجه عندهم فقالوا: لا يجوز فسخ بالاعسار بالمهر لأنه يعد ديناً فلا يفسخ النكاح به.
مناقشة هذه الآراء :
... أما القول بأن القاضي لا يحق له التفريق بين الزوجين إلا من خمسة أسباب عند الفقهاء فإنه لا تسانده الآراء الفقهية المعتمدة فقد زاد عليها السباعى في كتاب " شرح قانون الأحوال الشخصية " ما يأتي (21):
1- التفريق للعلل الجنسية أو العيوب المنفرة التي يصعب معها استمرارية الزواج مع اشتراط أن المرأة لم تكن عالمة بهذه العيوب عند عقد النكاح أو رضيت بالزوج بعد العلم ولم ترفع أمرها إلى القاضي،
أما بالنسبة للرجل – إذا وجد العيب في المرأة – فالطلاق بيده يطلق متى يشاء.
2- التفريق لأجل الشقاق والضرر بعد أن يقوم الحكمان بمحاولة إيقاع الصلح بين الزوجين فإذا فشلا قام القاضي بالتفريق.
وقد ذكر طلاق التعسف وهو أن يطلق الرجل زوجته في مرض موته أو كان في حالة يغلب فيها الهلاك ثم هلك فعلاً فيجب ألا تحرم زوجته من الإرث وذكر كذالك صورة أخرى وهي أن يطلق المرأة بدون سبب وتبين للقاضى أن الزوجة فقيرة أو تتعرض للبؤس والفاقة بسبب هذا الطلاق فيحكم القاضي على مطلقها بالتعويض بنسبة التعسف ودرجته.
ولا تدخل هذه الصورة طبعاً في مسائل التفريق ولكن ناسب ذكره لأجل الآثار التي تترتب على هذا الطلاق.(1/17)
وذكر السيد تنزيل الرحمن قاضى محكمة "سندهـ " (باكستان) سابقاً في كتابه "مجموعة قوانين إسلام " (22)، الأسباب الخمسة الأولى ثم زاد عليها التفريق بسب العيوب والعلل الجنسية وبسبب الشقاق والضرر،كما أنه أضاف شيئاً آخر لم تذكره المصادر التي سبق ذكرها وهو التفريق بسبب ارتداد الزوج والزوجة وذكر عن جواز تنسيخ النكاح إذا أسلمت امرأة ولم يسلم زوجها، وذكر كذالك حق القاضي في التفريق بين المتلاعنين غير انه اكتفى بذكر الحكم الشرعى بخصوص الإيلاء واللعان بدون أن يكون للقاضي فيه حق التدخل.
ووجدت لدى السيد محمد شفيق انصارى صاحب كتاب (مسلم برسنل لاء أي قانون الأحوال الشخصية الإسلامي) ضرورة عناية المحاكم بحق المرأة في طلاق التفويض وفي خيار البلوغ إذا وجدا.(23)
ومن الجدير بالذكر أن وثيقة النكاح المعمول بها في باكستان تضمّ في بنودها الكثيرة بنداً خاصاً بحق المرأة في التفويض فإذا أعطاه الزوج للمرأة عند النكاح نصّ عليه في هذه الوثيقة بالاضافة إلى أي شرط آخر رضى به الزوجان.
_________________________
الخاتمة
يتلخّص مما سبق أن هناك ثماني عشرة صورة يمكن أن تكون من أسباب الطلاق أو التفريق لدى محكمة إسلامية أو لدى مجلس شرعى في بلاد غير مسلمة، ولنا عليها التعقيبات الآتية في ضوء تعاملنا الطويل من خلال قنوات مجلس الشريعة الإسلامية.
1- ... النكاح بلا شهود:(1/18)
... قد يكون من المناسب أن يسمى نكاح السّر ويدخل فيه النكاح بلا شهود أو النكاح بلا ولي ولا ريب أن المذهب الحنفي يجيز للمرأة البالغة النكاح بلا ولي بشرط أن تتزوج كفوءًا وعلى مهر يناسب مستواها، غير أن الفساد الحاصل من جرّاء هروب الفتيات من البيت وزواجهن بمن يرغبن من الفتيان في المحاكم المدنية يتطلب إعادة النظر في هذا الرأى، ونرى أن مذهب الجمهور أسلم وأحكم في هذه المسألة وخاصة هناك مخرج للفتيات اللواتي يرغبن في أزواج صالحين مع تعنت أولياء هن وذلك بإعمال هذا النص (السلطان ولي من لا ولي له)(24) في حقهن، فيرجعن في بلاد غير مسلمة إلى شخص يتمتع بمكانة مرموقة بين المسلمين كإمام مسجد أو رئيس جميعة إسلامية أو شخص مسلم معروف بين أوساط المسلمين فيرضينه ولياً لها فيعقد لها الزواج وهذا مما يجنبها الإستهتمار بالقيم الدينية والتعرض للغش والخداع من قبل الفسّاق.
2- ... تزويج الولييّن للمرأة:
... هذا مما لم يصادفنا ولا مرة واحدة في تاريخ المجلس ويكتفى ببيان الحكم الشرعي في هذه المسألة.
3- ... إذا تزوج الكافر احدى محارمة:
... لم ترفع إلينا في المجلس هذه القضية أيضاً فكأنها نادر الوجود فلا داعى لذكره.
4- ... إسلام أحد الزوجين قبل صاحبه:
... ينظر فيه حسب قرار المجلس الأوروبي للافتاء والبحوث غير أننا نرى رأى الجمهور في التفريق بين الزوجين إذا كانت المرأة هي التي اسلمت ولم يسلم زوجها خلال العدّة، أو أسلم الرجل بينما كانت المرآة مشركة غير كتابية.
5- ... التفريق لأجل العيوب:
... وذلك إذا جهلت المرأة هذه العيوب المذكورة سابقاً عند العقد أو لم ترض بها لما علمت بعد الزواج فينبغى للقاضي أن يمهل الزوج بخصوص العنة وبخصوص الامراض والعيوب التي يرجى برؤها مدة سنة أو مدة مناسبة للعلاج وفرق بينهما إذا لم يفلح العلاج.
6- ... التطليق للشقاق والضرر:
... هناك صور كثيرة للشقاق والضرر ولكن لا بأس أن نذكر منها صوراً نادرةً وجدناها في المجتمع الغربي.(1/19)
أ- لجوء الفتاة المتزوجة إلى الملاجئ الخاصة – حكومية كانت أو غير حكومية – من جرّاء الشقاق أو الضرب فيستدعى الأمر إلى ضرورة التعجّل في التفريق بينهما حتى تكون المرأة في عصمة رجل آخر يتزوجها بعد انقضاء عدتها فتكون آمنة مطمئنة في بيتها. وقد حدث أن قام شقيق امرأة بالبحث عن مكانها في إحدى الملاجئ الخاصة ثم استطاع أن يختطفها وهي في طريقها في أخذ الأولاد من المدرسة ثم ذهب بها إلى البيت وطعنها عدة طعنات أمام أفراد أسرتها حتى ما تت بحجة أنها أخلّت بشرف البيت عندما هربت من بيت الزوجية.
ب- أساءة المعاملة من الزوج لزوجته إرضاءً لأمّه وأبيه وأفراد بيته وخاصة إذا كانوا بعيشون في نفس البيت، وهذا السبب موجود عامة غير أنه من الممكن تفاديه لأجل مقدرة الزوج على حصول بيت مستقل له ولزوجته في هذه البلاد.
ج- عدم القيام بالعدل بين الزوجتين علماً بأن الزوجة الثانية لا تتمتع عادة ً بالحقوق التي تكفل للزوجة الأولى التى سجّل زواجها رسمياً لدى السلطات المدينة.
د- كره الزوجة لزوجها لأجل علاقاته المحّرمة شرعياً مع نساء أخريات، وقد وجد العكس كذالك الا أنه قليل الوقوع – وكذلك لأجل فسق الرجل بتعاطيه الخمر أو المقامرة، وقد وجدت حالات اتهم فيها الرجل بعلاقات مشبوهة مع ربائبه أو حتى مع بناته من صلبه.
ر- وقد يكون سبب الشقاق اختلاف الثقافتين فمثلاً تربت الفتاة في الغرب ودرست في مدارسها المختلطة ثم عملت مع الرجال في المكاتب ، بينما فرض عليها الزواج بإبن عمّها أو خالتها الذي تربّى في بلد مسلم ولا يزال يحافظ على شعائر الإسلام وقد يكون أدنى منها في المستوى التعليمي فيستحيل الإجتماع بينهما. وهناك حالات على العكس أيضاً إلا أنها قليلة.
7- ... الخلع:(1/20)
... وأنما الكلام فيه من ناحية جواز تحققه بدون تدخل من القاضي أم لا ، ونقول أن الأمر لا يرفع إلى القاضي أو إلى المجالس الشرعية إلا إذا تعذّر الحصول على الخلع من الزوج مباشرة فلذلك لا بد من تدخل للمجلس في هذه القضية.
8- ... التطليق على المولى:
... لم تصادفنا قضيته من هذا النوع غير أن هناك كثيراً من القضايا التي تشكو فيها النساء من اعراض أزواجهن عنهن تماماً لآماد بعيدة بدون أن يكون هناك قسم من الزوج على امتناعه من زوجته، فإذاً صار من الضرورة التفريق لأجل هذا السبب إذا أصرّ الزوج على معاملته بدون أي مبرّر.
9- ... التطليق على المظاهر:
... هذه الصورة كذلك من الصور النادرة والظاهر أن يكتفي فيها بإصدار الفتوى حسب الحكم الشرعي.
10- ... التفريق بين المتلاعنين:
... كذلك من الصور النادرة وقد عرضت علينا مرة أو مرتين في مجلس الشريعة ولا بدّ من التفريق إذا حصل اللعان.
11- ... التطليق على المفقود:
... الرأي الذي مال إليه متأخروا الحنفية هو رأي المالكية في ضرب أجل مدته أربع سنوات من رفع المرأة القضية إلى المحكمة غير أن هناك قولاً لدى المالكية بخصوص التقليل من هذه المدة إلى سنة واحدة فقط، وهناك حوادث عديدة من هذا القبيل وخاصة بالنسبة للصوماليات اللاتي هاجرن إلى بلاد الغرب من جرّاء الحرب الأهلية في بلادهن ويشتكين من فقد أزواجهن إما في الحرب وإما عقب الحرب فلذلك نرى أنه لا بأس بالأخذ بالرأي الآخر وحتى برأي الإمام أحمد الذي يرى التفريق ولو بعد مضى ستة أشهر.
12- ... العجز عن إداء النفقة:
... هناك اختلاف الآراء بخصوص المدة التي يمهل للزوج في تحسين حالة إرتزاقه حتى يتمكن من الإنفاق على زوجته فمنهم من قال : يمهل ستة أشهر ومنهم من يرى أن لا يزاد على ثلاثة أشهر.
ولكن يعكر عليه إذا كانت المرأة مكفولة لها المعيشة من قبل الضمان الإجتماعي المعمول به في هذه البلاد ونرى الاّ يتسرع القاضي أو المجلس بالتفريق في مثل هذه الصورة.(1/21)
13- ... الإعسار بالمهر:
... المهر إما أن يكون مدفوعاً عند العقد ام غير مدفوع، وصار من الأعراف المتبعة لدى الجالية المسلمة أنه لا يدفع الا إذا آل الأمر إلى الطلاق فهو دين في ذمة الرجل على أكبر تقدير فيجب ألا يكون سبباً داعياً إلى التفريق.
14- ... التفريق للغيبة:
... وفرّقوا إذا كانت الغيبة لأمر محمود مثل طلب العلم أو الجهاد أو العمل المتواصل في بلاد أخرى وقد رضيت به الزوجة، أما إذا كانت لأمر آخر وطالت الغيبة حق للمرأة أن تطلب الفراق ويدخل فيها الحبس لمدة ثلاث سنوات عند البعض أو حتى لسنة واحدة إذا كانت المرأة متضررة، واعتبروا هذا الطلاق رجعياً.
15- ... إرتداد الزوج:
... وذالك إذا اعترف الزوج بالارتداد عن دين الإسلام أو أثبتت المرأة بشهادة شهود أن الرجل سبّ الدين أو نبىّ الإسلام ولم يتب فانفسخ النكاح تلقائياً بإرتداده ولكن من الأفضل أن يصدر القاضي أو المجلس شهادة بذلك حتى يتمكن المرأة من عقد زواج جديد إذا رأت ذالك.
... وقد رأي فقهاء الأحناف عدم انفساخ النكاح إذا إرتدّت المرأة وآلت إلى دين غير دين أهل الكتاب فأبقوا هذا الزواج بناءً على رأي لعلماء سمر قند وبلخ في زمن قديم (25).
وأرى أن رأي الشافعية والحنابلة في فسخ هذا الزواج – إذا رفضت المرأة قبول الإسلام من جديد – أقرب إلى النص: "ولا تمسكوا بعصم الكوافر" (الممتحنة،10) وإلى غيرها من الآيات في هذا الباب.
16- ... إعمال حق المرأة في طلاق التفويض:
... للمرأة حق في تطليق نفسها إذا رضى الزوج بإعطاءها هذا الحق عند عقد النكاح ودور القاضي أو المجلس هو في إثبات هذا الطلاق رسمياً حتى لا تصار شبهة على المرأة.
17- ... إعمال حق المرأة في خيار البلوغ:
... هذا حق ثابت للمرأة التي زوّجها وليها وهي صغيرة فإذا أرادت فسخ هذا النكاح أعلنت عن رغبتها عند القاضي أو المجلس حتى يسجّل رسمياً.
... ونضيف إلى ما سبق سبباً آخر يمكن أن يكون سبباً مستقلاً وهو مستفاد من أوضاع المسلمين في الغرب وهو،(1/22)
18- ... عدم إمكانية الجمع بين الزوجين:
... وصورته أن المرأة يزوجها وليها لشخص في بلد مسلم كباكستان مثلاً والقصد من الزواج هو استقدام الزوج إلى بريطانيا ليستقر هنا حيث توجد عائلتها كلها وحيث توجد فرص طيبة للزوج في مجال العمل غير أنه يرفض تأشيرة الدخول من قبل القنصلية البريطانية بحجة أن الزواج ليس حقيقياً بل انما يهدف إلى إستقدام الزوج إلى بريطانيا فقط لتحسين مستواه الإقتصادي، وعند ئذ تقوم المرأة بتسجيل استئناف لطلبها الأول في منح الزوج تأشيرة الدخول فإذا رفض الطلب مرة أخرى لم يبق هناك طريق آخر لإستقدامه وهي لا ترض في حال من الأحوال الإستقرار مع الزوج في بلده هو لأجل اختلاف البيئة أو وضعه المادّي المتدهور، وعندئذ تقدم المرأة طلباً إلى المجلس للحصول على الطلاق.
... وهناك صورة أخرى أن الرجل تزوج ثانية بدون علم الزوجة الأولي فلما علمت رفضت أن تبقى في عصمته إلا إذا طلق الزوجة الثانية كما أنها رفضت كل المحاولات للصلح بين الزوجين، وأبى الرجل أن يستجيب لطلبها فتقدمت بطلب الطلاق من هذا الرجل إلى المجلس. والظاهر انه ليس هناك إضرار بالمرأة ولا هناك شقاق إلا أنه صار من المستحيل الإجتماع بينهما لأجل زواج الرجل بالزوجة الثانية.
... فهذه هي الأسباب التي رأيناها وجيهة في هذا الباب من خلال تجربتنا في مجلس الشريعة الإسلامية،
... والمجلس إذ تقوم بالفصل في المسائل العائلية يرى ضرورة السعى في إيجاد حلول للمسائل الآتية:
أ- إعتراف الحكومات الإسلامية بشهادات الطلاق أو الفسخ الصادرة من المجلس.
ب- ربط حكم حضانة الأولاد مع حكم الطلاق أو الفسخ حتى لا تضيع حقوق الزوج في حضانة أولاده.
ج- اعتراف القانون البريطاني وكذلك القوانين في الدول الأوروبية بقانون الأحوال الشخصية الإسلامية حتى يطمئن المسلم من ناحية تمسكه بأهداب الشريعة الإسلامية في شئون النكاح والطلاق والميراث خاصة.(1/23)
وصلى الله تعالى على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
******************
******
المراجع
1- الفتاوى الهندية: 1/36.
2- فتح القدير: 6/365
3- أحمد بن يحيى الونشريسي " المعيار المُعرب " 10/102-103.
4- المصدر السابق . 10/135.
5- أشرف على تهانوي: الحيلة الناجزة للحليلة العاجزة: ص 33. (النصّ مترجم من اللغة الأوردية)
6- المصدر السابق : ص 127.
7- Divorce, Law Pack Publishing Ltd.19-21
8- محمد تقي عثماني " اسلام مين خلع كي حقيقت (الخلع في الإسلام) " طبع مع الحيلة الناجزة – ص 243.
9- عبده بن عبد الله الأهدل : الصور التي ينقض فيها الحكم النكاح بين الزوجين (مجلة البحوث الإسلامية: العدد 57).
10- صحيح إبن حبان حديث 1247، البيهقي 7/125.
11- مصنف عبد الرزاق 6/231.
12- المغنى 6/616، فتح الباري 9/420.
13- المؤطا 2/526، مصنف عبد الرزاق 6/244، مصنف إبن إبي شيبة 4/175.
14- مصنف عبد الرزاق 6/162.
15- صحيح البخاري 6/181، صحيح مسلم حديث رقم 1493.
16- المصدران السابقان.
17- صحيح البخاري 6/178، صحيح مسلم حديث رقم 1492.
18- مسند الشافعى 2/65، وعنه البيهقي 7/469.
19- نفس المصدر السابق.
20- الكافى 2/560، مغنى المحتاج 3/442.
21- د/ مصطفى السباعى: شرح قانون الأحوال الشخصية : ص 229-243.
22- تنزيل الرحمن : مجموعة قوانين إسلام – المجلّد الثاني.
23- محمد شفيق أنصاري: مسلم برسنل لاء ، ص 156.
24- سنن أبى داؤد: حديث رقم 2083 باب في الولى. سنن النسائى: حديث رقم 1102، باب(ما جاء لا نكاح إلا بولى).
25- تنزيل الرحمن: 2: 721.
***************
المحتوى
المقدمة: ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 2
فصل: أسباب التفريق القضائى بالمحاكم الإنجليزية ... ... ... ... 7
فصل: اجراءات الطلاق لدى مجلس الشريعة الإسلامية ... ... ... 10
فصل: أسباب التفريق القضائى من حيث واقع المسلمين في الغرب ... ... 13
الخاتمة: ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 18
المراجع: ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... 23
______________________________(1/24)
بسم الله الرحمن الرحيم
الجنس
والتربية الجنسيّة
في ضوء
الشريعة الإسلاميّة
إعداد
الأستاذ الدكتور
محمد الهواري
1425هـ / 2004 م
بسم الله الرحمن الرحيم
الجنس
والتربية الجنسية
في ضوء الشريعة الإسلامية
1. ... تقديم :
يعيش عالمنا اليوم ثورة جنسية طاغية، تجاوزت كل الحدود والقيود والقيم مما جعل القضية تطرح على أنها أبرز إحدى القضايا وأشدها أثراً وخطراً على الكيان البشري برمّته.
وفي كتابه عن " الثورة الجنسية " يقول العالم جورج بالوشي هورفت: ( والآن وبعد أن كادت أذهاننا تكفّ عن الخوف من الخطر الذّري ووجود عنصر السترونسيوم90((Sr90 المشعّ في عظامنا وعظام أطفالنا؛ لا يفتقر العالم اليوم إلى عناصر بشرية تقلق للأهمية المتزايدة التي يكتسبها الجنس في حياتنا اليومية. ونشعرُ بالخطر إذ نرى موجة العُري وغارات الجنس لا تنقطع، ينشغل هؤلاء الناس انشغالاً جادّاً بالقوة الهائلة التي يمكن أن تصل إليها الحاجة الجنسية إذا لم يحدّها الخوف من الجحيم، أو الأمراض السَّارية والحمل... وفي رأيهم أن أطناناً من القنابل الجنسية تتفجر كل يوم، ويترتب عليها آثارٌ تدعو إلى القلق، قد لا يجعل أطفالنا وحوشاً أخلاقية فحسب، بل قد تُشَوّه مجتمعات بأسرها).
وكتب جيمس رستون James Restone في مجلة نيويورك تايمس New York Times: " إن خطر الطاقة الجنسية قد يكون في نهاية الأمر أكبر من خطرالطاقة الذرية ".
ويلفت المؤرخ أرنولد توينبي Arnold Toynbee النظرَ إلى أن سيطرة الجنس يمكن أن تؤدي إلى تدهور الحضارات.
وهذا ما أكده الإسلام من قبل حيث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " لم تظهر الفاحشة في قومٍ قط، حتى يعلنوا بها، إلا فَشَا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضَوْا(1)".
__________
(1) . رواه ابن ماجة وأبو نعيم عن عبد الله بن عمر ...(1/1)
تشهد أوربا وأمريكا وغيرهما من بلاد العالم منذ عدة سنوات جنوناً جنسياً محموماً، سواء في عالم الأزياء والتجميل أو في عالم الكتب والمجلات أو في وسائل الإعلام وخاصة في التلفزيون والقنوات الفضائية وأفلام السينما أو في غيرها من عالم الواقع على كل صعيد..... حتى غدا الجنس الشغل الشاغل لمعظم افراد المجموعة البشرية، بل أضحت ممارسته والإغراق فيه غاية الحياة وقمة الأمنيات لدى كثير من الناس.
فلم يعد الجنس تلك العلاقة الحسيّة بين زوجين اثنين، أو حتى بين شخصين لا يربطهما عقد شرعي او قانوني، بل أضحى عالماً واسعاً بكل ما فيه من فنون ووسائل ومثيرات....
غدا الجنس كالطعام مختلفةٌ ألوانهُ ومتعددةٌ توابلُه ومقبلاته، لا يخضع لذوق أو مزاج او قاعدة، فضلاً عن تحرّرٍ من كل عُرفٍ أو قيد.
يستحيل اليوم السيرُ في أي مدينة كبيرة دون التعرض ( للقصف الجنسي ) الحقيقي؛ إعلاناتٌ من كل حجم، وأغلفة مصوّرة، أفلام سينمائية، صور معروضة في مداخل علب الليل، وآلاف من الفتيات والنساء يرتدين ثياباً كان يمكن أن توصف بقلة الحشمة من أمدٍ قريب.
إن اللواط والسِّحاق والممارسات الجماعية للجنس والزواج التجريبي أو الحب السابق للزواج، وإن نوادي الشذوذ ونوادي العري وعلب الليل وغيرها، وإن المجلات الماجنة والأفلام الجنسية والصور الخليعة.... إلخ كلّ هذه وغيرُها باتت السّمةَ المميزة للمجتمعات البشرية في شتى أنحاء الأرض.
لا شك أن هذه الثورة الجنسية المحمومة التي بدأت طلائعها منذ سنوات كانت حصادَ أوضاع وقيم عقائدية وفكرية وأخلاقية معينة، ولم تكن هذه الظاهرة وليدةَ الصدفة أبداً، وإنما كانت نتيجة واقع، وثمرة شجرة نمَتْ وتغذّت من هذا الواقع.(1/2)
يتكون الإنسان من نوازع ماديةٍ وروحيةٍ ومتطلبات نفسية وبدنية، ولا يمكن له أن ينعم بالطمأنينة ما لم يحقق إشباع احتياجاته الفطرية كلها، وإنسانُ القرن العشرين يلهثُ وراء إشباعاته العضوية الغريزية دون أن يتمكن من تحقيق هذه الإشباعات.
عودةٌ سريعة إلى التاريخ: ففي نيسان/ أبريل من عام 1964 أثيرتْ ضجّةٌ كبرى عندما وجّهَ (140) من الأطباء المرموقين السويديين مذكرةً إلى البرلمان والملك السويدي يطلبون فيها اتخاذَ الإجراءات العاجلة للحدّ من الفوضى الجنسية التي تُهدّد حقاً حيوية الأمة وصحتها، وطالب الأطباء أن تُسنَّ قوانين صارمة ضد الانحلال الجنسي.
وفي أيار/ مايو من العام نفسه قامت أكثر من (2000) امرأة انجليزية بحملة لتنظيف موجات الإذاعة وشاشات التلفزيون من الوحل الذي يلطخها من خلال ما تشيعه من الجنس الرخيص.
وفي سنة 1962 صرح الرئيس جون كينيدي بأن مستقبل أمريكا في خطر، لأن شبابها مائع منحل غارق في الشهوات لا يُقدّر المسؤولية الملقاة على عاتقه، وإن من بين كل سبعة شباب يتقدمون للتجنيد يوجد ستة غير صالحين.....لأن الشهوات التي غرقوا فيها أفسدت لياقتهم الطبية والنفسية.
إن تصحيح الواقع الاجتماعي والأخلاقي لا يتحقق بمجرد استهجان القبيح واستنكاره، وإنما بتقويم المجتمع وبنائه في كافة مرافقه وشؤونه وفق نظام أخلاقي متناسق.
2. ... الأخلاق والجنس
للأخلاق في نظر الماديين مفاهيم غريبة لا تتفق مع ما تعارف عليه الناس ومع ما جاءت به الأديان، بل حتى مع الحسّ والذوق الفطريين.
تعتبر المذاهبُ المادية جمعاء الجنسَ عمليةً ( بيولوجية ) بحتة لا علاقة لها بالأخلاق، كما تعتبر أن السياسةَ هي سياسة بحتة كذلك ولا علاقة لها بالأخلاق.(1/3)
يقول دوركهايم: " إن الأخلاقيين يتخذون واجبات المرء نحو نفسه أساساً للأخلاق. وكذا الأمر فيما يتعلق بالدين، فإن الناس يرون أنه وليدُ الخواطر التي تُثيرها القوى الطبيعية الكبرى أو بعض الشخصيات الفذّة ( يعني الرسل ) لدى الإنسان، ولكن ليس من الممكن تطبيق هذه الطريقة على هذه الظواهر الاجتماعية اللهم إلا إذا أردنا تشويه الطبيعة "(1).
ويقول فرويد: " إن الإنسان لا يحقق ذاته بغير الإشباع الجنسي.... وكل قيد من دين أو أخلاق أو مجتمع أو تقاليد هو قيدٌ باطل أو مدمّر لطاقة الإنسان وهو كبتٌ غير مشروع".
وجاء في بروتوكولات حكماء صهيون Protocoles des Sages de Sions:
" يجب أن نعمل لتنهار الأخلاق في كل مكان فتَسْهُلُ سيطرَتُنَا..... إن فرويد منّا وسيظل يعرض العلاقات الجنسية في ضوء الشمس لكي لا يبقى في نظر الشباب شيءٌ مقدس، ويصبح همّه الأكبر هو إرواء غرائزه الجنسية وعندئذ تنهار أخلاقه."
وجاء فيها أيضاً:
" لقد رتبنا نجاح دارون وماركس ونيتشه بالترويج لآرائهم، وإن الأثر الهدّام للأخلاق الذي تنشئه علومهم في الفكر اليهودي واضح لنا بكل تأكيد. "
تقوم الفلسفة الأخلاقية في الإسلام على أساس توفيق تصريف الغرائز، كلّ الغرائز، وتنظيم العلائق والتصرفات، كل العلائق والتصرفات البشرية، وفقَ تصوّر الإسلام العقيدي ووفق النظام المنبثق عن هذا التصور.
إنه الإطار الذي يعمل على تقنين جميع شؤون الحياة الاجتماعية منها والاقتصادية والسياسية، الفردية منها والجماعية وفق أسس أخلاقية ليكون التعامل بها، وليكون الأثر الناتج عنها أخلاقياً. والإسلام حين يضع للغريزة ضوابط أخلاقية معينة فإنما يفعل ذلك في ضوء تقديره لطبيعة الكائن البشري ولطبيعة احتياجاته العضوية والنفسية، ولطبيعة متطلباته الروحية والبدنية، تماماً كما يفعل بالنسبة لغرائزه الأخرى.
3.المراهقة
__________
(1) . ... قواعد المنهج في علم الاجتماع لدوركهايم ...(1/4)
بالرغم من أن التغيُّرات البدنية والنفسية التي تصاحب المراهقة، لا تحدث بالضرورة في وقت واحد لدى جميع المراهقين، فإنه يمكن تقسيم طور المراهقة إلى ثلاث مراحل، تتداخل بدرجات متفاوتة:
* ... المراهقة المبكرة : 10-14 ... سنة من العمر
* ... المراهقة المتوسطة: ... 15-17 ... سنة من العمر
* ... المراهقة المتأخرة : ... 18-19 ... سنة من العمر.
ونستطيع فيما يلي أن نبيّن أوصافَ المراحل الرئيسية الثلاث وفقاً لنوع التغيُّر الذي يحدث في هذه المراحل، ويمكن أن نجملَ هذه التغيرات بما يلي:
* ... النمو البدني
* ... النضج البيولوجي / الجنسي
* ... التغيُّر الاجتماعي – النفسي
ويبلغ النمو البدني معدلاً عالياً في المرحلتين المبكرة والمتوسطة من المراهقة، ( ولا يفوقه في معدَّل النمو إلا النموّ في الطفولة)؛ ويشمل ذلك ما يسمّى بطفرة البلوغ إذ تحدث زيادات إضافية في الطول والوزن ونمو العضلات ( ولا سيما في الفتيان، إذ تصبح أكتافهم أعرض من أكتاف الفتيات). على حين يتسع الحوض بالتدريج في الفتيات عنه في الفتيان. ويكتمل النمو البدني الافتراضي للفتيات في سنّ الثامنة عشرة من عمرهن، بما في ذلك النموّ الخطّي للعظام الطويلة، ولو أن كتلة العظام لا تبلغ ذروتها إلا بعد ذلك ببضع سنوات ( في سن العشرين عادة).(1/5)
ويبدأ النضج البيولوجي أو الجنسي أثناء المرحلة المبكرة للمراهقَة بتأثير الهرمونات. ومن التغيّرات الواضحة ظهور الخصائص الجنسية الثانوية، وتشمل نمو شعر الإبط والعانة. وابتداءً من المرحلة المبكرة للمراهقَة، يأخذ حجم الأعضاء التناسلية، والثديين في الفتيات بالتزايد. ويبدأ الاحتلام لدى المراهقين والأحلام الجنسية لدى المراهقات. ويبدأ الحيض لدى الفتيات بين سن التاسعة والسادسة عشرة ( بمتوسط 13 سنة عادة ). وقد يتأخر الحيض في حالات نقص التغذية الشديد. ويبدأ الشعر ينبت في وجوه المراهقين وتغلّظ أصواتهم. ويشعر الأطفال والمراهقون باللذة عند ملامسة أعضائهم التناسلية أو مداعبتها. ويزداد فضول المراهقين لمعرفة كيفية تكوّن الوليد، وكيفية خروجه إلى الوجود.
وتتحكم الهرمونات الجنسية وغيرها من الهرمونات في هذه التغيُّرات البيولوجية والجنسية، وقد ينتج عن ذلك مشكلة تقضّ مضجع المراهقين والمراهقات، ألا وهي مشكلة العُدّ ( أي حب الشباب).
ويكتمل النضج الجنسي تماماً في المرحلة المتأخرة من المراهقًة، أي في سن الثامنة عشرة أو التاسعة عشرة، حين يبلغ المراهقون والمراهقات درجةً من النضج البدني والنفسي والاجتماعي تمكِّنهم من تحمّل مسؤوليات الزواج، ويوسَم الزواج في هذه السن بأنه زواج مبكر لأنه يعقب النضج مباشرة. ولكنّ هذه السن تمثِّل أفضل سن للزواج، لأنها تلبّي احتياجات الزوجين الجنسية، وتعصمها من الوقوع في معصية الفاحشة والوقوع في براثن الأمراض المنقولة جنسياً. غير أن من الحكمة أن يعمل الزوجان على تأجيل مجيء الطفل الأول إلى ما بعد بلوغهم سن العشرين، لذلك ينبغي تثقيف أمثال هذين الزوجين حول وسائل منع الحمل.(1/6)
ويكون النموّ البدني والبيولوجي والجنسي مصحوباً بتغيرات نفسية واجتماعية بعيدة المدى، إذا لم تعالج معالجة مناسبة فقد يترتّب عليها آثارٌ سيئة في المستقبل. وعادة ما يبحث المراهقون عن جماعات من أقرانهم ينضمون إليهم، والمعهود أنه بحلول مرحلة المراهَقَة المتوسطة تحدد جماعات الأقران قواعدَ سلوك أفرادها. وأثناء هذه المرحلة الحرجة قد يولَعُ بعض المراهقين بالتدخين؛ والمخاطرة، معرضين أنفسهم للحوادث والعنف؛ والتمرد على السلطة، ومعاقرة المخدرات والمسكرات؛ والتورّط في ممارسات جنسية قبل الزواج ( مع ما يترتب على ذلك من مخاطر الإصابة بالأمراض المنقولة جنسياً ).
وفي مرحلة المراهَقَة المتأخرة هذه، تتبلور في العادة الهوية الفكرية للمراهق، وتتحول العلاقة بينه وبين والديه من علاقة بين طفل ووالد إلى علاقة بين بالغ وبالغ. وينحسر جزئياً أو كلياً تأثيرُ جماعات الأقران وتتحول العلاقة بين أفرادها إلى علاقة صداقة فردية. وقد تنشأ أسئلة جنسية لدى الراغبين في الزواج، فمن الشواغل التقليدية في هذا الصدد بكارة الفتاة وإثبات عذريّتها.
إشارة تراثية فريدة إلى مراحل نموّ الإنسان:
من المثير حقاً أن نجد إشارة من القرن الثامن الهجري ( القرن الرابع عشر الميلادي ) إلى مراحل نمو الإنسان، مع تخصيص ألفاظ خاصة بها بالعربية. فهذا ابن القيّم الجوزية، أحد كبار فقهاء القرن الثامن الهجري والمتوفى عام 751 للهجرة ( 1350 للميلاد ) يذكر في كتابه " تحفة المودود في أحكام المولود مراحل النمو كما يأتي ( بتصرّف):
? الرضيع، أي من كان في سن الرضاعة
? الفطيم، أي الذي بلغ سن الفطام
? الدارج، أي الذي يدبّ ويدْرُج على الأرض مستقلاً
? المميّز، إذا بلغ السابعة والمترعرع إذا بلغ العاشرة
? البالغ، إذا بلغ الحُلُم، والباقل إذا طرّ ( ظهر ) شاربه
? الشابّ بين سنّ 20 – 40
? الكاهل بين سن 40 – 60
? الشيخ، إذا تجاوز الستين(1/7)
? الهرم، إذا زادت شيخوخته واشتعل رأسه شيباً وانحطت قواه قليلاً
? أرذل العمر، إذا انحطت قواه وتغيّرت أحواله وظهر نقصه.
ويجدربالتنويه أن هذه المراحل التي وصفها ابن القيم ما هي إلا تفسير للآية الكريمة التي تتحدث عن المراحل المتعاقبة للخلق والنموّ:
" اللهُ الذي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ، ثمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ فُوّةً، ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوّةٍ ضَعْفَاً وَشَيْبَةً" [ سورة الروم : الآية 54 ].
ونلخص في الجدول التالي النموّ والنضج أثناء مراحل المراهَقَة الثلاث:
...
النموّ والنضج أثناء مراحل المراهَقَة الثلاث
المراهقة المبكرة (10-14) ... المراهقة المتوسطة (15-17) ... المراهقة المتأخرة (18-19)
النمو البدني ... - يتسارع معدل النموّ ويشمل طفرة البلوغ. ... - يتباطأ معدل النمو قليلاً ولكن المراهق يصل إلى ما يزيد على 90 % من قامة البالغ. ... - يوشك النمو أن يكتمل.
- يستمر نمو العضلات في الفتيان بينما يتوزع الدهن في الفتيات على نحو يجعلهن يتخذن الشكل النسائي المعهود.
- يزداد الطول والوزن. ... - لا يكتمل النمو الخطي، ولا سيما العظام الطويلة إلا في سنّ 18 ( في الفتيات) ولا تبلغ كتلة العظام ذروتها إلا بعد ذلك بعامين أو أكثر.
- يتسع الحوض في الفتيات
- تنمو العضلات ويزداد عرض الكتفين في الفتيان عن الفتيات .
- يعتبر الزواج في هذه السن سابقاً لأوانه ويصنّف الحمل في هذه السن عالمياً بأنه شديد الاختطار.
- قد يبدأ نموّ الفتيات قبل الفتيان بعام.
النضج البيولوجي أو ... - تظهر الخصائص الجنسية الثانوية. ... - يظهر الشعر على الوجه ( الفتيان ) ... - يكتمل النضج الجنسي.
الجنسي
- ينمو الشعر في الإبط وفي العانة وحول الأعضاء التناسلية. ... - يتغير الصوت ( الفتيان ) ... - هذه سن مناسبة للزواج.
- الإحساس باللذة عند مسح الأعضاء التناسلية أو مداعبتها.
- يبدأ نهود الثديين في الفتيات.
- يزداد الفضول حول كيفية الحمل والولادة.(1/8)
- يبدأ الاحتلام ( الفتيان)،
والأحلام الجنسية ( الفتيات ). ... - قد يصبح العُدّ ( حب الشباب ) مشكلة
- يبدأ الحيض وسطيا في سن الـ ( 13 )
التغير النفسي – ... - يبدأ الانخراط في جماعات من الزملاء. ... - تحدد جماعات الزملاء قواعد سلوك أفرادها. ... - يقلّ تأثير الزملاء وتتحول العلاقات إلى صداقات فردية.
الاجتماعي
- تصاحب التغيرات المورفولوجية تغيرات نفسية، وتزيد أحلام اليقظة، والتخوف من المجهول. ... - يزداد الفضول حول أفراد الجنس الآخر. ... - يزيد التفكير في المستقبل.
- قد يقارن الطفل أعضاءه التناسلية بأشقائه أو بزملائه الأكبر سناً وقد يعاني من الاكتئاب أوالفضول. ... - يصبح التفكير أكثر تجريداً. ... - تتشكل الهوية الفكرية
- تزداد أحلام اليقظة والرومانسية والانشغال الذهني بها .
- يزيد إغراء التدخين والمخاطرة والعنف ومعاقرة المخدرات، والتعرض للأمراض المنقولة جنسياً، بما في ذلك العدوى بفيروس الأيدز، والحوادث ، والسلوك الانتحاري
التغيرات الطارئة على جسم الفتى ( تشريح أعضاء الإنجاب في الذكور ):
عندما يبلغ الفتى الحُلُم، قد يستيقظ ذات صباح فيجد ملابسه الداخلية وملاءة الفراش مبللة بمادة لزجة مبيضّة اللون كاللبن الحليب أو مصفَرّة. هذه المادة هي المني الذي يخرج من القضيب (عضو الذكورة) أثناء الجماع أو الاحتلام الليلي. ويتساءل الفتي عما يجري داخل جسمه ليحدث ما حدث. ولتوضيح ذلك لا بد من معرفة نبذة عن أعضاء الإنجاب لديه:
الخصيتان : Testicle(1/9)
هما الغدتان الجنسيتان اللتان تنتجان نطاف الذكر ( الحيوانات المنوية Sperm)، وهما غدتان بيضاويتان تتدليان خارج الجسم وداخل كيس جلدي يقال له الصّفَنScrotum . وهما تفرزان الهرمون الجنسي الذكري المسمّى ( التستوسترون Testosterone). وعند البلوغ تبدآن في إنتاج نطاف الذكر( الحيوانات المنوية ) التي تحمل كلٌّ منها الخصائص الوراثية (الجينية) لصاحبها. وتستمر عملية إنتاج النطف مدى الحياة ما دام الشخص صحيحاً. وتتمثّل كل نطفة ذكرية ( أو حيوان منوي ) في خلية بالغة الصغر ذات رأس وذيل، وهي المسؤولة في الذكر عن عملية التوالد، باختراق بيضة الأنثى أو البويضة. ويطلق على عملية التحام النطفة بالبويضة اسم الإخصابFecundation ، ويحدث ذلك بعد رحلة النطاف الذكرية والبُوَيضات إلى بُوقَيْ الأنثى.
وهكذا تنتقل النطفة من الخصيتين عبر الحويصلات المنوية ثم الأسْهَر ( الوعاء الناقل للنطاف Vas Deferens) وهو أنبوب طويل يبدأ داخل الخصية ( واحد في كل جانب ) ثم يدور حول المثانة إلى البروستاتة ( الموثة Prostate )، وهي غُدّة واقعة عند قاعدة المثانة تضيف إلى النطاف الذكريّة سائلاً لبني القوام يحتوي على مغذيات لهذه النطاف. وبعد هذه الإضافة يتحوّل السائل المحتوي على النطاف إلى سائل يقال له المنيSperm (وتضاف له سوائل أخرى من قِبَل غدد صغيرة أخرى). ويصبُّ المني القادم من الأسهر في الإحليل Urethra أو مجرى البول (القادم من المثانة) وهذا الإحليل يتابع مسيره عبر القضيب ( عضو الذكورة Penis ) محاطاً بأوردة غزيرة على شكل نسيج اسفنجي قابل للتمدّد والتوسّع، ثم يَنْفَتح ( الإحليل ) على خارج الجسم.(1/10)
وعندما يثار الذكر جنسياً ( أثناء فعل جنسي، أو تفكير جنسي ) يتدفق مزيد من الدم إلى النسيج الإسفنجي للقضيب مسبباً تضخمه وصلابته، وهو ما يعرف بالانتصاب أو الانتعاظ Erection. وعند بلوغ قمة الإثارة تدفع الانقباضات العضلية بالمني إلى الخارج في دفقات متوالية، وهو ما يعرف بالدّفق Ejaculation .
ومن الجدير بالملاحظة أن الإحليل جزءٌ من الجهاز البولي ( فهو الذي يوصل البول من المثانة عبر القضيب إلى الخارج وتعرف هذه العملية باسم التبوّل)، فضلاً عن كونه جزءاً من الجهاز التناسلي في الذكر نظراً لأنه يحمل المني من الأسهر والبروستاتة إلى الخارج. وأثناء الجماع تحدث في البروستاتة بعض الانقباضات التي تحول دون مرور البول من المثانة إلى الإحليل، بحيث لا يمتزج المني الذي يمرّ عبر الإحليل بالبول. ولا تخرج النطاف الذكريّة إلا في حالة الإثارة، وإلا تظلّ مخزونة في المستودع الأنبوبيِّ الشكل الذي يقع بين الخصية وبين الأسْهَر ويسمى ( البَرْبَخ Epididymis).
وواضح من الملاحظة السالفة أنه متى وصل جسم الفتى إلى طور البلوغ Puberty وبدأ في دفق المني، فإنه يصبح قادراً على إحداث الحمل في الأنثى. ويمكن أن يؤدي وصول قطرة ضئيلة من المني إلى مهبل الأنثى إلى الحمل، إذا كانت الأنثى قد بدأت الإباضة والحيض. وينتج عن الدفق المنتظم حوالي ملء ملعقة صغيرة، تحتوى على الملايين والملايين من النطاف الذكرية(1). وتكفي نطفة ذكرية واحدة ( أو قل: حيوان منوي واحد ) لإخصاب البويضة ( وهي النطفة الأنثوية Ovule ) وحدوث الحمل Pregnancy.
التغيرات الطارئة على جسم الأنثى ( تشريح أعضاء الإنجاب في الإناث):
(1) ... المبيضان Ovary :
__________
(1) . ... يحتوي الميلي ليتر ( سم3) الواحد من المني وسطياً على ( 80 ) مليون حيوان منوي في الحالة الطبيعية وقد يصل إلى ما يزيد عن (100) مليون أو أكثر.(1/11)
وهما غدتان تقع كل منهما على أحد جانبي الرّحِم. وهما يقومان بإنتاج البُوَيْضات منذ البلوغ وحتى الإياس Menopause. كما يفرز المبيضان الهرمونات الجنسية.
(2) ... البوقان: Oviduct
أنبوب تتسع نهايته على شكل البوق على كل جانب من جانبي الرحم. ووظيفتهما تَلقُّفُ البويضة بمجرد إنقذافها من المبيض والاحتفاظ بها ريثما يقوم الحيوان المنوي بإخصابها. وبعبارة أخرى، فإن الإخصاب يحدث في البوق حيث تصعد النُّطفَةُ الذّكرية إلى داخل المهبل، ثم إلى داخل الرحم ومنه إلى داخل البوق. وبعد الإخصاب تنتقل البويضة المخصّبَة إلى الرحم حيث تستقر في بطانته الداخلية " فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ".
(3) ... الرّحِم : Uterus
جهاز عضلي يتزايد حجمه أثناء الحمل بنموّ الجنين فيه. وتنمو بطانته كل شهر، بفعل هرمونات المبيض، كلَّ شهر، استعداداً لاحتضان البويضة المخصّبة، فإذا لم يحدث الحمل انسلخت هذه البطانة بما فيها من أوعية دموية وخرجت من الرحم على شكل دَمٍ يقال له الطّمْث Menorrhea أو دم الحيض.
(4) ... عنق الرحم :Cervix Uteri
... هو فوهة الرحم التي تنفتح في المهبل.
(5) ... المهبل: Vagina
... هو القناة الواصلة بين الرحم وبين الفرج.
(6) ... غشاء البكارة: Hymen
غمد رقيق في نهاية المهبل ذو فتحة واحدة أو فتحات متعددة للسماح بمرور دم الحيض. ويتمزق هذا الغشاء عند أول جماع أو عند الافتضاض.
(7) ... الفَرْج : Vulva
وهو العضو التناسلي الظاهر في الأنثى ويتألف من ثنيات جلدية أربع تدعى الشفرين الكبيرين Labium Majus Pudendi والشفرين الصغيرين L.Minus Pudendi، ومن جسم اسفنجي صغير قابل للانتعاظ يقال له البَظَر Clitoris ويكون مستوراً بغطاء جلدي يدعى قُلفَة البظر Prepuce ، كما تشتمل جدران الفرج على مجموعة من الغدد الصغيرة.
(8) ... الثديان : Mamma(1/12)
ويزداد حجمهما أثناء البلوغ والمراهقة إلى أن يصلا إلى الحجم المُشاهَد في المرأة البالغة، وقد يكون أحدهما أكبر حجماً من الآخر، أو متدلياً أكثر من الآخر.
(9) ... دورة الحيض أو الطمث:
... يحدث الحيض كل شهر منذ البلوغ وحتى الإياس( سن اليأس )، اللهم إلا في فترة الحمل،
... وفي فترة النفاس التي تتراوح بين 3 و 6 أشهر أو أكثر أو أقل بعد الولادة.
وفيما يلي شرح مبسط لمراحل الحيض المتوالية:
? تنضج البويضة في أحد المبيضين. ويتم تخزين المغذيات والدم في بطانة الرحم استعداداً للحمل.
يستغرق ذلك ( 6- 12 ) يوماً بعد الحيض.
? الإباضة(1): تنْقذف البويضة خارج المبيض فيتلقّفهَا البوق ( بويضة كل + 28 يوماً أو كل شهر قمري ).
? تحدث الإباضة قبل ( 13 – 15 ) يوماً من الحيض التالي. وقد يحدث شيءٌ من عدم الانتظام في التوقيت.
? تتحرك البويضة عبر البوق نحو الرحم. فإذا تمَّ إخصابها من قِبَل النطفة فإنها تتعلق ببطانة الرحم وتستعمل المغذيات المخزونة. ويستغرق ذلك حوالي ( 14 ) يوماً.
? في حالة عدم إخصاب البويضة لا يحدث حمل ولا تكون هناك حاجة إلى الدم المخزون فينطرح حينئذ في شكل طمث.
? تستمر فترة الحيض ( 3-7 ) أيام. ويعتبرأول أيام هذه الفترة هو اليوم الأول للدورة الحيضية.
4.النظرية الجنسية في الإسلام:
ينظر الإسلام إلى الإنسان نظرة شاملة. ينظر إليه جسماً وعقلاً وروحاً: وذلك من خلال تكوينه الفطري، ثم هو ينظم حياته ويعالجه على أساس هذه النظرة.
فالإسلام لم ينظر إلى الإنسان نظرةً مادية مجرّدةً لا تتعدى هيكله الجسدي ومتطلباته الغريزية شأن المذاهب المادية، في حين لم يحرمه حقوقه البدنية وحاجاته العضوية.
__________
(1) . ... ينتج مبيض المرأة وسطيا ما لا يزيد عن ( 400) بويضة خلال حياة المرأة كلها(1/13)
لم يكن الإسلام إيبيقورياً Epicurien في إطلاق الغرائز والشهوات من غير تنظيم ولا تكييف، ولم يكن كذلك رواقياً Stoicien في فرض المثاليات وإعدام المتطلبات الحسية في الإنسان(1).
والإسلام بناءً على تصوّره لطبيعة الإنسان ولاحتياجاته الفطرية ولضرورة تحقق التوازن في إشباعاته النفسية والحسية يعتبر الغريزة الجنسية إحدى الطاقات الفطرية في تركيب الإنسان التي يجب أن يتمَّ تصريفُهَا والانتفاعُ بها في إطار الدور المحدّد لها، شأنها في ذلك شأن سائر الغرائز الأخرى.
ولا شكّ أن استخراجَ هذه الطاقة من جسم الإنسان أمرٌ ضروريٌ جداً، وبالعكس فإن اختزانها فيه مضرٌّ جداً وغيرُ طبيعي، ولكن بشرط الانتفاع بها وتحقيق مقاصدها الإنسانية.
وحين يعترف الإسلام بوجود الطاقة الجنسية في الكائن البشري، فإنه يحدّد لهذا الكائن الطريق السليم لتصريف هذه الطاقة، وهو طريق الزواج الذي يُعتبَرُ الطريقَ الأوحد المؤدي إلى الإشباع الجنسي للفرد من غير إضرار بالمجتمع.
ويتصوّرُ الإسلام وجودَ علاقة بين الرجل والمرأة على أنها الشيء الطبيعي الذي ينبغي أن يكون. فهو يُقرُّ بأن الله قد جعل في قلب كل منهما هوىً للآخر وميلاً إليه. ولكنه يذكّرهما بأنهما يلتقيان لهدف هو حفظ النوع. وتلك حقيقة لا نحسبها موضعَ جدالٍ. فمن المسلّم به لدى أهل العلم أن للوظيفة الجنسية هدفاً معلوماً، وليست هي هدفاً بذاتها. يقول القرآن الكريم : " نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ "]سورة البقرة : الآية 223 [، فيحدد بذلك هدف العلاقة بين الجنسين بتلك الصور الموحية.
__________
(1) . ... تعتبر الفلسفة الإيبيقورية أن اللذة أساس الأخلاق وأنها وحدها غاية الإنسان وهي وحدها الخير ، وقد وضع إيبيقور هذه الفلسفة عام 343 ق.م
أما الفلسفة الرواقية فقد وضعها زينون Zenon عام 342 ق.م وهي تعتبر أن الشهور شرٌّ مجض يجب إبادته، وسمي أتباعه بالرواقيين لأنهم كانوا يجتمعون تحت الرواق.(1/14)
وربما خطر في فكر سائل أن يقول: إن هدف الحياة من هذه الشهوة أن يتحقق سواء تيقّظَ إليه الفرد أو كان غارقاً في الشهوة العمياء، فما الفرق بين هذا وذاك؟
ولكن الحقيقة أن هناك فارقاً هائلاً بين النظريتين في واقع الشعور. فحين يؤمنُ الإنسان بأن للعمل الغريزي هدفاً أسمى منه، وليس هو هدفاً في ذاته، يخفّ سلطان الشهوة الطاغية في شعوره، فلا يتخذ تلك الصورة الجامحة التي تُعذّب الحسّ أكثر مما تتيح له المتعة والارتياح. وليس معنى ذلك أنه يُقلل من لذتها الجسدية، ولكنه على التحقيق يمنع الإسراف الذي لا يقف عند الحدّ المأمون.
ففي حدود الأسرة وفي نطاق الزوجية يتيحُ الإسلام للطاقة الجنسية مجالهَا الطبيعي المعقول، ولكنه لا يتيح لها المجال في الشارع ؛ خلسة أو علانية. وهو يرى ببصيرته كيف تنحلّ الأمم وتسقط حين تترك أفرادها يتهاوَوْن في الرذيلة دون أن تأخذ بحجزهم وتمنعهم من الانحدار.
يقول الدكتور فريدريك كان Frederic Kahn: إن الزواجَ هو الطريق الصحيح لتصريف الطاقة الجنسية، وهو الحلُّ الأوحد الجذري للمشكلة الجنسية. ويقول في كتابه (حياتنا الجنسية): "كان البشر في الماضي يتزوجون في سنّ مبكرة، وكان ذلك حلاً صحيحاً للمشكلة الجنسية، أما اليوم فقد أخذ سنُّ الزواج يتأخر، كما أن هناك أشخاصاً لا يتوانَوْن عن تبديل خواتم الخطبة مراراً عديدة. فالحكومات التي ستنجح في سنّ قوانين تسهّل بها الزواج المبكر، ستكون الحكومات الجديرة بالتقدير، لأنها تكتشف بذلك أعظم حلّ لمشكلة الجنس في عصرنا هذا. "
والإسلام حينما يعتبر الزواج الطريق الفطري الذي يحقق للطاقة الجنسية هدفهَا الإنساني، فضلاً عن تحقيقه اللذة الآنيّة منها، فإنه يتوجّه بقوة للحضّ على الزواج وتسهيله وتيسير أسبابه.(1/15)
وإلى أن تتهيأ للشباب فُرَصُ الزواج وأسبابه، فإن الإسلام يدعو إلى الاستعفاف، وهو علاج مقبول وطبيعي في مجتمع لا يترك الإنسان فريسة للقصف الغريزي المدمّر، كما هو مشاهد اليوم في المجتمعات البشرية كافة.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: " يا معشرَ الشبَابِ منِ استَطاعَ مِنكمُ الباءةَ فليتزوّجْ، فإنه أغضُّ للبصر، وأحصنُ للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصّوم فإنه له وِجَاء "(1).
ويقول عليه الصلاة والسلاّم: " إذا تزوجَ العَبدُ فقد استكملَ نصفَ دينه، فليتقّ الله في النصف الباقي"(2).
ويقول صلى الله عليه وسلم: " ثلاثٌ حقّ على الله عونُهم : المجاهد في سبيل الله، والمكاتبُ الذي يريد الأداء ، والناكح الذي يريد العفاف "(3).
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: " من كان موسِراً لأنْ ينكحَ ثم لم ينكحْ فليس مني "(4).
5. ... الموقف الإسلامي من العلاقات الجنسية
يعطي الإسلام توجيهاتٍ عمليةً مفيدةً في جميع شؤون الحياة بما في ذلك العلاقات الجنسية البشرية.(5)
فالزواج هو القناة الوحيدة التي يُسمَحُ فيها بالعلاقة الجنسية بين الجنسين. والعلاقات الجنسية محرّمة تماماً خارج إطار عقد الزوجية وتستوجب في الشريعة الإسلامية عقوبة دنيوية وعقوبة أخروية.
ويشدد الإسلام على الوقاية من الجرائم الاجتماعية، وكذلك الأمر بالنسبة للظروف والعوامل التي تساعد على انتشار هذه الجرائم، وتنصّ الشريعة الإسلامية على عقوباتٍ شديدة ضدّ جرائم الجنس كالزنا واللواط والاغتصاب، التي يَنظرُ إليها مخالفةً للشرائع المتعلقة بالمجتمع والعائلة.
__________
(1) . ... رواه البخاري ( 5066) ، ومسلم ( 1400)، وأبو داود ( 2046)، والترمذي ( 1081) ، والنسائي ( 6/58)
(2) . ... رواه البيهقي
(3) . ... رواه الترمذي
(4) . ... رواه الطبراني
(5) . ... انظر كتاب:
Sex Education, The Muslim Perspective, by Gulam Sarwar Third Edition, The muslim Education Trust(1/16)
يقول الله تعالى: " الزَّانيَةُ والزَّاني فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأخُذْكُمْ بِهِمَا رَأفَةٌ في دِينِ اللهِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، وَليَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنينَ " ] سورة النور: 2[ .
ويقول تعالى: " وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إنََّهُ كانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبيلاً " ] سورة الإسراء : 32 [.
ويقول تعالى: " وَلا تَقْرَبُوا الفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَ مَا بَطَنَ " [ سورة الأنعام : الآية 151].
ويشدد قانون العقوبات الإسلامي على استقرار وأمن العائلة والحياة الاجتماعية على حساب الحريّة الفردية غير المحدودة. ويعتمد في ذلك على التوجيهات والحكمة الإلهية التي تُعتَبَرُ أحسنَ طريق لإيجاد المجتمع الآمن والسليم.
ومن أهم معالم الإسلام التي أسسها النبي صلى الله عليه وسلم أنه جعل الطهارة نصف الإيمان، ولا غرابة أن يستوجب القرآن الكريم الغسل بعد الحيض والنِّفاس والاحتلام والجماع بين الزوجين.
والإسلام ينظر إلى العلاقة الجنسية بين الزوجين على أنها لا تهدف إلى التناسل وحفظ النوع فقط، بل هي استمتاع فيزيائي وإشباع غريزي. والإسلام وصف الزوجين وشبّه كلاً منهما بأنه لباس للآخر.
يقول الله تعالى: " أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إلى نِسَائِكمْ، هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ " ]سورة البقرة: 187 [.
6. ترتيبات الزواج في الإسلام :
يقول الله تعالى: " يَا أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُم مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرَاً وَنِسَاءً واتَّقُوا اللهَ الّذي تَسَاءّلونَ بِهِ وَالأرْحامَ إنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبَاً" ]سورة النساء: 1 [.(1/17)
ويقول الله تعالى: " حُرَِمَتْ عليْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُم وَأخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَناَتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأخْتِ وَأمَّهَاتُكُمُ اللائِي أَرْضَعْنَكُم وَأَخَوَاتُكُم مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبِكُمْ اللاتي في حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ، فَإنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عِلَيْكُمْ ، وَحَلائِلُ أبْنائِكُمُ الّذينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْن إلا مَا قَدْ سَلَفَ، إنَّ اللهَ كانَ غَفُورَاً رَحِيمَاً " ] سورة النساء: 23[.
الزواج في الإسلام هو الحجر الأساس في بناء العائلة وهو بالتالي أساس استقرار المجتمع. والزواج نفسه عقد شرعي قانوني بين المرأة والرجل يتعاهدان فيه على الحياة المشتركة وفقاً للشريعة التي يؤمنون بها، وعليهم أن يتذكروا دائماً واجبهم نحو الله تعالى وحقوقَ كل منهما تجاه الآخر.
ينظر غير المسلمين إلى الطريقة التي يختار فيها المسلم زوجته على أنها طريقة عتيقة. وبما أن الإسلام يؤكد على العفّة والحياء، فمن الطبيعي أن لا تكون هناك أية ضرورة للاختلاط الاجتماعي بين الجنسين على الصورة التي يراها غير المسلمين على أنها طبيعية، فليس هناك صورة من ضرب المواعيد واللقاءات الخاصة المعتادة عند غير المسلمين قبل عقد الزواج. وإنّ السلوكَ الجنسي وجميع الأفعال الجنسية وَمقَدِّماتها ليست مشروعةً إلا تحت مظلة الزواج الشرعي. وعلى هذا لا يجوز أن تجري أية اختبارات جنسية قبل الزواج، حيث يعتبر الإسلام العفّة والإخلاصَ من الجواهر الأساسية في الحياة الزوجية.
لكلٍّ من المرأة والرجل الحقّ الكامل في التعبير الحرّ عن الرغبة والرضا بالزواج من الطرف الآخر، وكلّ زواج بالقهر والضغط على أحد الطرفين دون اقتناع أو الرضا هو أمرٌ مخالفٌ لجميع تعاليم الإسلام.(1/18)
فالشرع يتطلب من ألأبوين أن يُعطوا الحريةَ الكاملة دون أدنى ضغطٍ أو إكراه ليختارَ القرينُ قرينه مع كامل الرضى لأن هذا أدعى لدوام السعادة والوفاق بينهما، وخاصةً حينما يتعلق الأمر بأخذ موافقة الزوجة على الزواج من الرجل المتقدم لخطبتها.
تدلّ الدراسات الاجتماعية والإحصائية على أن الزواج المرتّب الذي يتم من خلال استعدادات يساهم فيها كل من الخطيبَيْن هو الزواجُ الأكثرُ دواماً والأكثرُ استقراراً والأكثرُ سعادةً من الزواج الذي يتم بناءً على نَزْوةٍ عاطفية عارضَة.
ولقد لفتَ النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهمّ الصفات التي تدعو إلى نكاح المرأة، فقد أورد البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تُنْكَحُ المرأةُ لأرْبَعٍ: لِمَالِهَا وَنَسَبِهَا وَجَمَالِهَا وَدِينِهَا، فاظفَرْ بذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ )(1).
وقال عليه الصلاة والسلام: ( لا تَزَوَّجُوا النساءَ لِحُسْنِهِنَّ، فعسَى حُسْنُهُنَّ أنْ يُرْدِيَهُنَّ، ولا تَزَوَّجوهُنَّ لأموَالِهِنَ، فعسى أمْوَالُهُنَّ أن تَطْغَيَهُنَّ، ولكن تَزَوَّجُوهُنَّ على الدّين، وَلأمَةٌ خَرْمَاءُ سودَاءُ ذاتُ دِينٍ أفضل )(2).
ومن شروط الموافقة على الزواج الإسلامي دفع المهر Dot، وهو المال الذي يدفعه الرجل للمرأة، وليس العكس كما هي الحال في عادات بعض الشعوب، وهذا المَهْر هو من حق المرأة ولها أن تتصرفَ فيه كما تشاء. ويمكن لهذا المهر أن يكون نقداً أو من الحلي أو أن يكون تعليماً لجزء من القرآن، ويرتبط تقديره بحسب الوضع الاجتماعي للمرأة، ومن حقها أن تتنازل عن جزءٍ منه دونَ أن يكون هناك أيّ إلزام أو قهر. ويعتمد مبدأ المهر على حقّ التملك الفردي للمرأة وحقّ التصرف بمالها.
7. واجبات الزوج والزوجة:
__________
(1) . ... رواه البخاري ومسلم وغيرهما ...
(2) . ... صحيح ابن ماجة : الحديث 1864(1/19)
ينطلق الإسلام من مبادئ تستند على الاختلافات الطبيعية بين المرأة والرجل مع العلم بأنهما قُرَنَاء لبعضهما البعض ولهما دور واضح في إطار الأسرة المشتركة.
فالزوج مسؤولٌ عن الجانب الاقتصادي للأسرة، بينما المسؤولية العائلية مسؤولية مشتركة بينهما. ويعترف الإسلام بِقَوامة الرجل في العائلة. والمرأة ليست مسؤولة عن الجانب الاقتصادي للأسرة حتى ولو كانت أكثرَ مالاً من زوجها. ولكنها إذا رغبتْ من نفسها بالمشاركة فلها أن تفعل. وعلى المرأة أن تساندَ زوجَها في كل أموره وتطيعه إلاّ في معصية، وبالمقابل فإن على الرجل أن يرعى زوجته وأن يَفِيَهَا حقّها في كل شيء بما في ذلك كل ما يتعلق بالشؤون الجنسية.
والمرأة المسلمة، زوجة كانت أم عازبة، تحتفظ بشخصيتها الحقوقية كاملة، فليست هي مجرد ملحقة بالزوج أو ألأب أو الأخ، فالإسلام سبق القوانين الغربية بأكثر من(14) قرناً حينما أقرَّ بالحقوق الشخصية للمرأة بما في ذلك كسبها المشروع، ومتاجرتها بمالها، حتى بعد الزواج، ولو اشتركت ببعض مالها مع الزوج فلها كاملُ الحقّ في اتخاذ القرار الذي تراه حول الموضوع.
والصورة النمطية Stereotype التي تعتبر المرأةَ المسلمةَ خادمةً للأبد في المطبخ أو التنظيف أو ما شابه، وهي مخلوقٌ فاقدٌ للقيم الروحية والذاتية الشخصية وعديمة الفائدة، وليس لها الحق في الحياة الشخصية أو الذاتية، كلُّ هذا ليس له أصل في الشريعة الإسلامية. فالمرأة والرجل كل منهما يكمّل الآخرَ، وهما متساويان في المسؤولية أمام الله عزّ وجلّ، ومع ذلك فهذه المسؤولية لا تعني أبداً التساوي من الناحية الفيزيولوجية، ولا يُنْقِص هذا الاختلاف من قيمة المرأة ولا من نصيبها من حيث المحاسبة والجزاء في الدنيا والآخرة.(1/20)
ومن الشائع أن يُتهََم الإسلام بأنه لا يعامل الرجل والمرأة بالتساوي وخاصة فيما يتعلق بالميراث، لأن تعاليم الإسلام تفرض للرجل نصيباً مضاعفاً عن نصيب المرأة. ولكنْ إذا أخذنا بعين الاعتبار ما ذكرناه آنفاً عن مسؤولية الرجل عن المرأة والبيت من ناحية النفقة، تتضح لنا الحكمة من هذا التوزيع العادل.
وما أكثر وصايا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بالمرأة والإحسان إليها ومعاملتها بالرفق والاحترام والمحبة والإخلاص؛ ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: ( استَوْصُوا بالنسَاءِ خيرَاً )(1).
وللمرأة والرجل الحق بالمشاركة في المجتمع بما يحفظ لهما كيانَ الأسرة وفي الحدود التي أباحتها الشريعة، كالمشاركة في التعليم والطبّ والأعمال الاجتماعية، حتى أن المرأة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم شاركتْ الرجلَ في الدفاع عن الإسلام والمسلمين في معارك شتى. وكانت المرأة تُسْتَشارُ من الرجال في كثيرٍ من الشؤون التي تخصّ الأمة، فلقد كانت أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها حُجّةً ومرجعاً في كثير من القضايا والأحكام الشرعية.
وأجمل الصور عن الزواج الإسلامي يعرضها القرآن الكريم في قوله تعالى:
" وَمِنْ ْآيَاتِهِ أنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أنْفُسِكُمْ أزْواجَاً لِتِسْكُنُوا إليْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً، إنَّ في ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" ] سورة الروم : 21 [ .
حيث يبين الله تعالى الاحترامَ المتبادَل والرفقَ والحبَّ والعاطفةَ والمعاشرةَ بالحسنى بين الزوج والزوجة.
__________
(1) . ... حديث متفق عليه(1/21)
إن ما تقوم به الزوجة من تدبير الشؤون المنزلية، ليس مفروضاً عليها ولا إلزاماً، وإنما هو من باب الاحترام والتعاون المشترك والتواصي بالمعروف بين الزوجين، وتقديراً من الزوجة لعمل زوجها وسعيه وشقاوته خارج البيت. وإذا كان أحد الزوجين خارج البيت، فالآخر هو الذي يقوم برعاية الأطفال. وإذا ما كان الزوج في البيت فعليه أن يُعينَ زوجته في أعمالها البيتية اتّبَاعاً لهدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي إذا ما كان في البيت، كانَ في مِهْنَة أهله، أي يقوم بأعمالها ومساعدتها على التدبير المنزلي بمختلف أشكاله.
وفي الحياة الزوجية؛ على كل من الزوجين أن يستجيب للحاجات الجنسية للآخر، ذلك أن الإسلام يُحَرّم أي نشاط جنسي خارج عقد الزوجية، ولا يسمح الإسلام بأي نشاط من هذا النوع لغير المتزوجين. ويعتبر الزنا والمقارفات الجنسية جريمةً بشعةً في حقّ المرأة والرجل، وفي حق المجتمع الإسلامي الطاهر النظيف، ولذلك يعَاقَبُ الجناةُ بأشدّ العقوبات حمايةً للأفراد والأسرة وحماية للمجتمع.
يقول الله تعالى: " الزَّانيَةُ والزَّاني فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَ لا تَأخُذْكُمْ بِهِمَا رَأفَةٌ في دِينِ اللهِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، وَليَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ المُؤْمِنينَ " ] سورة النور: 2[ .(1/22)
إن كلّ عمل يؤدي إلى زَعْزعة الكيان العائلي يؤدّي بالتالي إلى هزّ كيان المجتمع، ولذا كانت العقوبة التي يفرضها الإسلام لمثل هذه الجنايات عقوبةً شديدةً صارمةً. والعقوبة المذكورة في الآية الكريمة هي في حقّ الرجل والمرأة غير المحصنَيْن. أما الزّناة المحصنون(أي المتزوجون) فتطبّق بحقهما عقوبة الرّجْم حتى الموت. فقد ورد في صحيح مسلم عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( خُذوا عني خُذوا عني؛ قد جعلَ الله لهنَّ سبيلاً، البِكرُ بالبكرِ جَلْدُ مائةٍ ونَفيُ سنة، والثيّبُ بالثيِّبِ جلدُ مائة والرَّجم)(1).
وفي الحديث إشارة إلى قول الله تعالى: " فَأمْسِكُوهُنَّ فِي البيُوتِ حتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ المَوْتُ أو يجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سبيلاً " ] سورة النساء: الآية 15 [، فبيّن النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن هذا هو السبيل.
والبكر بالبكر والثيب بالثيب ليس هو على سبيل الاشتراط بل حدّ البكر الجلد والتغريب سواء زنى ببكر أم بثيّب، وحدّ الثيّب الرّجم سواء زنى بثيّب أم ببكر.
ومن الجدير بالذكر التنبيه إلى أن إقامة الحدود هي من اختصاص الحاكم المسلم، ولا يحق لأحد أن يتخذ لنفسه هذا الحق، ومن اقترف معصية وأراد أن يتطهر فعليه بالتوبة فبابها مفتوح وأمره إلى الله.
وإذا اتهمَ أحدٌ شخصاً بالزنى باطلاً ولم تكن لديه بيّنة على قوله عُوقِبَ بالجَلد ثمانين جَلدَة، حماية لأعراض الناس حتى لا تُرمَى بالباطل.
__________
(1) . ... صحيح مسلم : الحديث 1690 ...(1/23)
يقول الله تعالى: " وَالذينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَات ثمَّ لمْ يأتُوا بِأرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أبداً وَأولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ * إلاّ الّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وأصْلَحُوا فَإنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * والذينَ يَرْمُونَ أزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يِكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إلاّ أنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أحَدَهِمْ أرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقينَ* والخَامِسَةُ أنَّ لعْنَةَ اللهِ عَلَيْهِ إنْ كان مِنَ الكاذِبِينَ * وَيَدْرأُ عنْهَا العَذَابَ أنْ تَشْهَدَ أرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إنَّهُ لَمِنَ الكاذِبينَ * والخامِسَةَ أنَّ غَضَبَ اللهِ عَليْهَا إنْ كانَ مِنَ الصَّادِقينَ* ولَولا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ*"] سورة النور : الآيات 4-10[ .
والرسول صلى الله عليه وسلم يُحَذّر من كل سببٍ يمكن أن يُوقعَ في الزنا، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قالَ: ( كُتِبَ على ابنِ آدم نَصيبُهُ من الزِّنَا مُدركٌ ذلكَ لا محَالةَ: العينانِ زناهُمَا النظرُ، والأذنانِ زنَاهُما الاستماع، واللسانُ زناه الكلام، والقلبُ يهوى ويتمنّى، ويصدّقُ ذلك الفرجُ أو يكذّبُهُ )(1).
...
ويجدر بنا أن نذكر في هذا المقام أنَّ هذا التشريع ورد في الشرائع السابقة للإسلام كاليهودية والنصرانية، ونسوق على سبيل المثال بعض النصوص التي ذكرها العهد القديم والعهد الجديد المرتبطة بهذا الموضوع:
} لا تَزْنِ * لا تسْرق * لا تشهدْ على قريبك شهادةَ زور * لا تَشْتَهِ امرأةَ قريبِكَ ولا عبدَه ولا أمَتَهُ ولا ثورَه ولا حمارَه ولا شيئاً مما لقريبك(2){.
__________
(1) . ... حديث متفق عليه ، وهذا لفظ مسلم
(2) ... سفر الخروج : 20/ 14-16(1/24)
} إذا وُجِدَ رجلٌ مضطجِعَاً مع امرأةٍ زوجةِ بعلٍ يُقْتَلُ الاثنانِ الرَّجُلُ المضطَجِعُ مع المرأةِ والمرأةُ. فتنزع الشرَّ من اسرائيل* {.
} إذا كانت فتاةٌ عذراءُ مخطوبةً لرجلٍ فَوَجَدَها رجلٌ في المدينة واضطجَعَ معها، فأخرجوهما كليْهما إلى باب المدينة وارجموهما بالحجارة حتى يموتا، الفتاة من أجل أنها لم تصرَخ في المدينة، والرجل من أجل أنه أذلَّ امرأةَ صاحبه. فتنزع الشرَّ من وسطكَ * {(1).
} فقال يسوع: لا تقتل، لا تزنِ، لا تسرق، لا تشهد بالزور(2){.
} أنت تعرف الوصايا: لا تزن، لا تقتل، لا تسرق، لا تشهد بالزور(3){.
8.الطلاق:
خلافا لما هو شائع في الغرب، فإن الإسلام ينظر إلى الزواج على أنه استمرارٌ للحياة الزوجية الطيبة بين الزوجين من حيث الحب والاحترام والتعامل بالمعروف، وأن على الزوجين أن ينمِّيَا هذه العلاقة دائما نحو الأحسن.
ولا يمكن أن يَتصَوَّر الإسلامُ أن تبقى هذه العلاقة على أحسن ما يرام دائما، فلا بدَّ أن ينالهَا من وقت لآخر بعضُ الاضطراب من توتّرٍ وغضَبٍ وانزعاج وخِصامٍ .... إلى ما هنالك من الأمور الطبيعية في الحياة اليومية. ولكنَّ الإسلام يؤكدُ على التغلب على هذه العقبات الطارئة بإصلاح ذات البين فيما بينهما أو باللجوء إلى حَكَمٍ من أهلها وحكم من أهله للإصلاح.
وإذا تعذّرَ الإصلاح واستمرّ الخلاف، وأصبحت الحياة الزوجية غير ممكنة لأن تستمرَّ بين الطرفين، فقد شرع الإسلام الطلاق بالمعروف، على الرغم من أنه من الأمور التي يبغضها الله تعالى، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( أبغَضُ الحلال إلى الله الطلاقُ )(4).
9.آداب المعاشرة الجنسية :
__________
(1) . ... سفر التثنية : 22/ 22- 24
(2) . ... انجيل متى : 19/18
(3) . ... انجيل مرقس: 10/19 ) و (انجيل لوقا : 18/20
(4) ... رواه أبو داود وابن ماجة في سننهما(1/25)
لا نقصد في هذه الدراسة أن نعطي تفصيلات عن طبيعة العلاقة بين الزوجين، ولكننا نحب أن نشير إلى بعض المبادئ الرئيسية في السلوك الجنسي بين القرينين:
(1) ... لا توجد علاقة جنسية خارج عقد الزوجية في الإسلام الذي يعتبر عقداً مقدساً وإرادياً بين المرأة والرجل يتمّ باسم الله وعلى بركة الله. ولا يسمح الإسلام على الإطلاق بعلاقات جنسية خارج هذا الإطار.
(2) ... الزوج والزوجة هما خليفتان لله في الأرض وعليهما أن يطيعا أوامر ربهما كما وردت في القرآن والكريم والسنة المطهّرة .
(3) ... تهدف العلاقة الجنسية بين الزوجين إلى:
... - ... التكاثر؛
... - ... إشباع الرغبة الغريزية للطرفين؛
... - ... تبادل الحب والعواطف؛
... - ... الشعور بالدفء وحرارة العلاقة بين الزوجين؛
... - ... بناء حياة سعيدة ومستقرة ومتجانسة لصالح الأسرة.
(4) العلاقة الجنسية بين الزوجين يُؤجَرُ عليها الزوجان في الآخرة، فعن أبي ذرّ رضي الله عنه أن أناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ذهبَ أهلُ الدّثور بالأجور، يُصَلّون كما نصَلّي ويصومون كما نصوم، يتصدّقون بفضول أموالهم. قال: " أوَ ليسَ قدْ جعلَ لكم ما تصَدَّقون؟ إنّ بكلّ تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وفي بُضْعِ أحدكم صدقة." قالوا يا رسولَ الله أيأتي أحَدُنَا شَهْوتَه ويكونُ لهُ فيها أجرٌ؟ قال: " أرأيتم لوْ وَضَعَها في حَرَام أكانَ عليْهِ وِزْرٌ؟ فكذلكَ إذا وضَعََها في الحلال كانَ لهُ أجرٌ "(1)[.
__________
(1) . ... رواه مسلم في صحيحه : كتاب الزكاة (53) ، وأحمد (5/167)(1/26)
... والمقصود بكلمة البُضْعِ كنايةً عن الجِمَاع، ويطلق على الفرج نفسه، وكلاهما تصحُّ إرادته هنا، وفي هذا دليلٌ على أن المباحات تصير طاعات بالنيات الصادقات، فالجماع يكون عبادةً إذا نوى به قضاءَ حقّ الزوجة ومعاشَرَتَها بالمعروف الذي امرَ الله تعالى به، أو طلب ولد صالح، أو إعفاف نفسه، أو إعفاف الزوجة، ومنعهما جميعاً من النظر إلى الحرام أو التفكر فيه أو الهمّ به أو غير ذلك من المقاصد الصالحة.
(5) يسنّ أن يبتدئ الجماع بين الزوجين بالدّعاء الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم: " باسم الله، اللهُمَّ جّنِّبْنَا الشيطانَ وجنِّبِ الشيطانَ ما رزقتنا، فإن قضى الله بينهما ولداً لم يضرُّهُ الشيطانُ أبداً. "(1).
(6) يجب أن تتم العلاقة الجنسية في صورة كاملة من الحياء والملاطفة والملاعبة وأن يتصرف كل منهما مع الآخر تصرفَ اللياقة والكياسة، ولا يتعجَّلا الاتصال الجنسي قبل مُقَدِّماتٍ من الحب والعطف والحنان.
وفي هذا المجال نحب أن نلفت النظر إلى أن الإسلام لم يُغْفِل أو يهْمِلْ حتى دقائقَ الأمور وتفصيلات السلوك البشري الخاص والعام لتكون متوافقة ومنسجمةً مع القواعد الاعتقادية والأخلاقية التي جاء لتحقيقها. لذلك نجد أن الإسلام وضع للعملية الجنسية ( الجماع ) ما تحتاجه من توجيه وتنظيم.
فهو يدرك أن الجماع كيما يكون مثالياً محققاً الغايةَ الفطرية منه، يجب أن يكونَ منسجماً في العمل والاستجابة، مؤدياً إلى الاستمتاع والاتحاد الحسيين والنفسيين بين الزوجين.
والاستعداد النفسي والتحضير العاطفيّ خيرُ سبيل للبلوغ بين الزوجين معاً الإشباعَ المطلوبَ...وإلى ذلك يشير الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: " لا يَقَعَنَّ أحَدُكُمْ على امرأته كما تقعُ البهيمةُ، ولْيَكُنْ بينهما رَسولٌ " قيلَ وما الرسولُ يا رسولَ الله؟ قال: " القُبْلَة والكلام ! "(2).
__________
(1) . ... ]رواه البخاري [
(2) . ... رواه الديلمي في مسند الفردوس(1/27)
ويقول عليه الصلاة والسلام: " ثلاثٌ من العجْز في الرجل: الأولُ أن يلقى منْ يحبّ معرفَتَه فيفارقه قبل أن يعلمَ اسمه ونسبه، والثاني أن يُكرمَه أحدٌ فيردَّ عليه كرامته، والثالث أن يقاربَ الرجلُ جاريتَه أو زوجَتَه فيصيبُهَا قبل أن يحدّثَها ويؤانسها."(1).
وقد ورد حول هذا المعنى كلام للإمام أبي حامد الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين جاء فيه: ( ثم إذا قضى وطرَه فليتمهّلْ على أهله حتى تقضيَ هي نهْمَتَهَا، فإنما إنزالُها ربَّما يتأخرُ فيهيّجُ شهوتَها. ثم القعودُ عنها إيذاءٌ لها. والاختلاف في طبع الإنزال يوجب التنافرَ مهما كانَ الزوجُ سابقاً إلى الإنزال. والتوافق في الإنزال ألذّ عندها )(2).
إن الاتحاد الجنسي الذي يحرص الإسلام على تحقيقه بين الزوجين أثناء الجماع له فوائده الكثيرة التي لا تخفى على من لهم إلمام في العلوم النفسية والجنسية، ويكفي أنه يضمنُ الإشباعَ الكاملَ للطرفين مما يتحقق معه إحصانُهما وتوثيق عرى الحب والمودة .
إن كثيراً من الدراسات الجنسية الحديثة تشير إلى أن الانحرافات والخيانات والمشاكل التي تصيب الحياة الزوجية إنما تعود في معظم الحالات إلى عدم التجانس الجنسي والنفسي بين الزوجين، وعدم بلوغهما درجة الاتحاد.
(
__________
(1) . ... رواه الديلمي في مسند الفردوس
(2) . ... إحياء علوم الدين : أدب المعاشرة ص 50(1/28)
7) يجب أن تتم العلاقة الجنسية بين الطرفين في سريّةٍ تامةٍ وبعيدةٍ عن أعين الناس وسمعهم ومراقبتهم، ولا يجوز لأحدهما أن يُفشي أيّ شيءٍ من أسرار علاقته الجنسية مع الآخر امتثالاً لهدي النبي صلى الله عليه وسلم. فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن أسماء بنت يزيد أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم والرجالُ والنساءُ قعودٌ، فقالَ: " لعلّ رَجُلاً يقولُ ما يفعلُهُ بأهله! ولعلَّ امرأةً تُخْبِرُ بما فعلتْ معَ زَوْجها"! . فَأرِمَ القومُ ( أي سكتوا ولم يُجيبوا)، فقلتُ أي والله يا رسول الله، إنهنَّ لَيَفْعَلْنَ، وإنهم ليفْعَلونَهُ، قال: " فلا تفعلوا ! إنما ذلك الشيطانُ لقيَ شيطانةً في طريقها فغشيَهَا، والناسُ ينظرون "(1).
وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنّ من أشرّ الناس عند الله منزلة يوم القيامة : الرجلُ يُفضي إلى امرأته وتفضي إليه‘ ثم ينشر أحدهما سرّ صاحبه)(2).
ويتضح في هذا تربية الإسلام لأتباعه على الأدب والحياء، وإبعادهم عن الوقاحة، والبذاءة، والجهر بالحديث من فعل الجماع أو وصفه، ومراعاة الأذواق السليمة والمشاعر المرهفة للمؤمنين الكمّل.
(8) يمكن للرجل أن يأتيَ زوجته بالهيأة والكيفية التي تلائمهما وبالوضعية التي تؤدي إلى إتمام العمل الجنسي الكامل. وقد سألَتْهُ صلى الله عليه وسلم امرأةٌ من الأنصار عن التَّجْبِيَة Levrette ( وهي وطءُ المرأة في قبلها من ناحية دبرها ) فتلا عليها قولَه تعالى: " نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنَّى شِئُْمْ(3)" ] سورة البقرة : الآية 223 ].
...
__________
(1) . ... رواه أحمد في مسنده
(2) . ... رواه مسلم ( 1437)، وأبو داود ( 4870) .
(3) . ... أخرجه أحمد ( 6/305 ، 310 ، 318 )(1/29)
وسأله عمر رضي الله عنه فقال: يا رسولَ الله هلكتُ، قال: " وما أهلككَ؟ " قال: حوّلتُ رحلي البارحة، فلم يردّ عليه شيئاً، فأوحى الله إلى رسوله: " نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ ... لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أنَّى شِئُْمْ*، أقبِلْ وأدبرْ واتقوا الحَيْضَةَ والدُّبُرَ "(1).
... ويجب أن ينتبه إلى أن الإسلام يُحَرّمُ أنْ يأتي الرجلُ زوجَتَهُ في دُبُرهَا لقوله عليه ... الصلاة والسلام: " لا ينْظُرُ اللهُ إلى رجلٍ يأتي امرأته في دُبُرها "(2).
ولقوله صلى الله عليه وسلم: " من أتى حائضاً أو امرأةً في دبرها، أو كاهناً فصدَّقهُ بما يقول، فقد كفر بما أُنْزِلَ على مُحَمّد "(3). وقال عليه الصلاة والسلام في الذي يأتي امرأته في الدُّبُر "هي اللوطيّة الصغرى "(4).
(9) لا يجوز أن يأتي الرجلُ زوجَتَه وهي حائض أو النِّفاس بعد الولادة، ويسمح الإسلام بما وراء ذلك من التقبيل واللمس وما شابه لقوله صلى الله عليه وسلم الذي سبق ذكره ولما رواه أبو داود والبيهقي: " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد من الحائض شيئاً ألقى على فرجها ثوباً ثم صنع ما أراد".(5)
...
... وكان من عادة اليهود ومن قلّدهم من العرب في الجاهلية أنهم لا يؤاكلون الحائض ... ولا يساكنوها، فنهى الإسلام عن ذلك، ولكنه حرّمَ إتيانَ الحائض، وسمح بالتمتع ... دون الفرج. وبذلك كان الإسلام وسطاً بين إفراط اليهود وتفريط الذين يبيحون ... جماعها في الحيض.
والحيض بالنسبة للمرأة ظاهرة فيزيولوجية طبيعية. ولا ينظر الإسلام إلى المرأة ... الحائض على أنها إنسان نجسٌ قذِرٌ لا يجوز الاقتراب منه، بل هي إنسان طبيعي يقوم بجميع واجباته الحياتية ما عدا بعض الأمور العبادية التي نصَّ عليها الشرع.
__________
(1) . ... أخرجه الترمذي (2/162)
(2) . ... رواه النسائي.
(3) . ... رواه أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة وهو حديث صحيح
(4) . ... أخرجه أحمد (2/182 ، 210 )
(5) . ... رواه البيهقي وأبو داود وهو حديث صحيح.(1/30)
وكذلك شأن الجنابة بالنسبة للمرأة والرجل. فالجنابة لا تجعل المؤمن نجساً. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيَه في بعض طريق المدينة وهو جُنُبٌ ( أي أبو هريرة )، فأخذَ بيدي، فمشيت معه حتى قعدَ فانخَنَسْتُ منه، فذهبَ فاغتسلَ ثم جاء ( وفي رواية: ثم جئتُ وهو قاعدٌ)، فقالَ أين كنتَ يا أبا هريرة؟ قال: كنتُ جنُبَاً فكرهْتُ أن أُجَالسَكَ وأنا على غير طهارة! فقال سبحانَ الله ِ]يا أبا هريرة ![ إنّ المؤمنَ لا ينجس "(1).
(10) على الرجل أن يعاملَ زوجته بكل عطف وحنان، وخاصة حينما تأخذها آلامُ الحيض أو يعتَريَهَا مرَضٌ آخر، ويمتنعَ عن إيذائها ويكبت جماحَ شهوته حتى تبرأ من كل أوجاعها. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " خيْرُكُم خيركم لأهله، وأنا خيرُكم لأهلي "(2).
(11) يؤدي الجماع إلى جنابة الزوجين، وعليهما أن يتطهرا ويغتسلا بعد كل جماع. وكذلك على المرأة أن تغتسل بعد الانتهاء من دورة الحيض أو تنتهي من النفاس، لأن ذلك يمنعها من أداء بعض العبادات كالصلاة والصيام وحمل المصحف. يقول الله تعالى: " وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبَاً فَاطَّهَرُوا " ] سورة المائدة : الآية 6 [.
... ويقول الله عزّ وجلّ: " يَا أيُّهَا الّذينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاة وَأنْتُمْ سُكارَى حتّى ... تَعْلَمُوا مَا تَقُولونَ، وَ لا جُنُبَاً إلاّ عَابِري سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا " ] سورة النساء : الآية 43[.
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قالَ:( إذا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الأرْبَعِ ثمَّ جَهَدَهَا فقد وجبَ الغسْلُ )(3).
...
ولقوله صلى الله عليه وسلم:" إذا التقى الخِتَانَان فقد وجبَ الغُسْلُ وإنْ لمْ يُنْزِلْ"(4).
(
__________
(1) . ... رواه البخاري
(2) . ... رواه الترمذي في سننه
(3) . ... رواه البخاري في صحيحه
(4) . ... رواه مسلم في صحيحه(1/31)
12) ويستحبّ للمرء إذا أراد معاودة جماع زوجته أن يتوضّأ وضوءه للصلاة بين الجماعين، وكذلك إذا أراد النوم غسلَ ذكَرهُ وتوضأ ثم نامَ. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا أتى أَحَدُكُم أهْلَهُ ثمّ أرادَ أن يَعُودَ، فليَتَوضَّأ وضوءَهُ للصلاة"(1)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أرادَ أن يأكلَ أو ينام وهو جنُنُبٌ، غسَلَ فرجَه وتوضّأ وضوءه للصلاة "(2).
...
وقد ورد أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم كانَ ينامُ وهو جُنُبٌ من غير أن يغتسل، قالت عائشة رضي الله عنها: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام وهو جنبٌ من غير أن يمسَّ ماءً حتى يقومَ بعدَ ذلك فيغتسل."(3).
...
... ويستفاد من هذه الأحاديث أن الغسلَ غير مطلوب مباشرة بعد الجماع، وإنما يجب ... قبل الصلاة المقبلة.
(13) لا يجوز للمرأة أن تمتنعَ عن طلب زوجها للجماع بدون عُذرمقبول. فقد ورد أن النبي ... صلى الله عليه وسلم قال: " إذا دعا الرجلُ امرأتَهُ إلى فراشه، فلم تأته، فباتَ غضْبَانَ عليها، لعنتهَا الملائكةُ حتى تُصْبِحَ "(4).
وبالمقابل فإنّ على الرجل أن لا ينسى أنّ لزوجته عليه حقاً في تلبية حاجاتها الجنسية.
(14) لا يجيز أكثر علماء المسلمين الاستمناءَ باليد استناداً لقوله تعالى: " والّذينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ * إلاّ عَلَى أزْوَاجِهِم أوْ مَا مَلَكَتْ أيْمانُهُمْ فإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ*فمَنِ ابْتَغَى وَراءَ ذَلِكَ فَأولَئِكَ هُمُ العَادونَ*"]سورة المؤمنون: الآية5-7[.
بينما يرى الإمام أحمد ابن حنبل والإمام ابن حزم جوازَ الاستمناء باليد في حالتين:
- أولاهما أن يفعلَ ذلك خشية أن يقع في الزنا.
- والثانية ضيقُ ذات اليد التي تمنع من الزواج.
__________
(1) . ... رواه مسلم في صحيحه
(2) . ... رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما .
(3) . ... رواه أبو داود والترمذي في سننهما .
(4) . ... رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما(1/32)
ومع ذلك فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حضّه على الزواج أنه قال: "يا معشرَ الشبَابِ منِ استَطاعَ مِنكمُ الباءةَ فليتزوّجْ، فإنه أغضُّ للبَصَر، وأحصنُ للفرج، ومن لم يستطعْ فعليه بالصّوم فإنه له وِجَاء"(1).
والمقصود بالباءَة الجماعُ، فهو محمولٌ على المعنى الأعمّ بقدرته على مؤن النكاح، ومعنى الوِجَاء أنه قاطع لشهوته، وأصله رضُّ الأنثَيَيْن (أي الخصيتين) لتذهب شهوة الجماع.
(15) ... الاسترقاق Servage والجَلْدُ Fouettement والسّاديّة Sadomasochisme ... وكل ما يؤدي إلى التلذذ الجنسي بصورة منحرفة وعنيفة، كل ذلك يتنافى مع ما ... تهدف إليه العلاقة الجنسية النبيلة بين المرء وزوجه.
(
__________
(1) . ... رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما.(1/33)
16) ... عندما تخالط المرأة غير المحارم، عليها أن ترتدي ثياباً ساترة لا تكون رقيقة بحيث تشفُّ ما تحتها ولا تكون ضيّقةٌ تُظْهِرُ معالمَ وتقاطيع جسم المرأة فذلك أدعى لتجنُّب الفتنة والإغرَاء. استجابة لقول الله تعالى: " قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ... وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ* وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أََبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِ رْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* " ] سورة النور: الآية 30-31[.
(17) يقصد بالعَوْرَة الأقسامُ من المرأة والرجل التي يطلب الإسلام سَتْرَهُمَا عِفّةً وحياءً. وعورة الرجل من السرّة إلى الركبة.أما عورة المرأة فهو جميع بدنها ما عدا الوجه واليدين.(1/34)
ولا يجوز للرجل أن يبدي عورته لأحدٍ إلا لزوجته والعكس بالعكس. وبالإضافة إلى ذلك لا يجوز للمرأة أن تكشف أي جزءٍ من بدنها من الصدر إلى الركبة لأحدٍ حتى لمحارمها كأبيها وإخوتها وأبنائها وعمومها وأخوالها وأبناء إخوتها أو أخواتها....إلخ ولكنها تستطيع كشف رأسها أو ذراعيها أمام جميع من ذكرنا من المحارم إذا رغبت بذلك. وعلاوة على ذلك لا يجوز للمرأة أن تكشف أي جزءٍ من بدنها ما بين السرة والركبة أمام المرأة المسلمة. ولا يجوز لها أن تكشف أي قسم من عورتها أمام المرأة غير المسلمة.
(18) ... الخلاعية والإباحية Pornographie محرّمة في الإسلام، وكذلك عرض كل ما ... يخدش الحياء من صور عارية وصور العمليات الجنسية وكل ما يمتّ إلى ذلك ... بصلة.
...
(19) ... العائلة ركن أساسي في المجتمع الإسلامي، والعلاقات بين الجنسين التي تضبطها ... قواعد الشريعة الإسلامية تهدف إلى حماية المجتمع من إشاعة الفاحشة بين الأفراد ... كالزنا واللواط وما شابه. وكما ذكرنا فإن على الرجل والمرأة أن يتصفا بالحشمة ... والحياء. ولا يُشجّع الإسلام على الاختلاط الحرّ بين الجنسين وذلك للوقاية من ... الوقوع في المخالفات الشرعية.
(20) العلاقات الجنوسية ( الشذوذ الجنسي) Homosexualité
يُحَرّم الإسلام العلاقات الجنوسية (المثلية) بين الرجلين أو بين الإمرأتين ويعتبر ذلك من الكبائر. وفي المجتمع الإسلامي يُعَاقبُ مرتكبو هذه الفاحشة عقاباً شديداً.(1/35)
يطلق تعبير الشذوذ الجنسي على العلاقة الجنسية بين رجل ورجل، وهذا هو اللواط Sodomy ، أو بين امرأة وامرأة وهذا هو السحاق Lesbianism . وقد انتشر الشذوذ في المجتمعات الغربية انتشاراً كبيراً، وأعلنوا به وجاهروا به على الملأ، واعتبر البعض أنه شيء موروث غير إرادي، ولم يعد الشواذ يستحيون من التبجُّح بأنهم يمارسون اللواط أو السحاق، حتى إن بعض الآباء والأمهات تقبلوا ذلك عن أبنائهم وبناتهم، وحتى إن هؤلاء الشواذ يعلنون أنهم تزوجوا ( رجل برجل أو أنثى بأنثى)، ويعقد العقد علناً، وفي بعض الحالات في كنائس معينة أو في دار البلدية رسمياً. ودخل الشذوذ الجنسي في كثير من الأفلام والأدب والشعر والفن في الغرب وأصبح له جمعيات تروّج له وتدافع عمّا يُسمّى بحقوق الشواذ Gay Rights.
ثم جاء الأيدز فأصاب أول ما أصاب الشواذ جنسياً (الذكور) ثم انتقل منهم إلى مقترفي العلاقات الجنسية بين الجنسين.
ومعنى ذلك أن الفاحشة وهي الزنى واللواط والسحاق انتشرت في الغرب وأعلن الغرب بها، ثم جاء الطاعون الحديث ( مرض الأيدز) فتفشى بينهم وهو مرض لم يحدث في أسلافهم الذين سبقوهم، وهذا مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لم تظهَر الفاحشة في قومٍ قطّ، حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا)(1).
يقول الله تعالى: " وَلُوطَاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ ... العَالَمِينَ*إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قِوْمٌ مُسْرِفُونَ*] ... سورة الأعراف : الآية 80-81[.
... ويقول تعالى: " أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ العَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ ... أِزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ*" ] سورة الشعراء : الآية 161-162[.
__________
(1) . ... رواه ابن ماجة وأبو نعيم عن عبد الله بن عمر.(1/36)
ويقول تعالى: " وَلُوطَاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ*" ]سورة النمل : الآية 54-55[ .
...
... وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه إذا رؤيَ أحدٌ يفعل فِعلَ قوم لوط أن
يُقْتَلَ الفاعلُ والمفعولُ به.(1)
...
... تذكر الآيات السابقة قصة قوم لوط الذين حذّرهم لوطٌ عليه السلام من فعل المنكر ... وإتيان هذه الفاحشة، فتنكروا لِنُصْحهِ وأصروا على جريمتهم، فأمره الله تعالى أن ... يخرج من هذه المدينة وأن يصطحب أهله معه، ثم أمرَ اللهُ الملائكة بتدمير المدينة ... وأن يقلبوها عالِيَهَا سافِلَهَا جزاءَ ما ارتكبوا من المعصية والفحشاء.
وللوقاية من العلاقات الجنوسية، لا يهدف الإسلام إلى منع الاختلاط بين الرجال أومنع الاختلاط بين النساء، ولكنه يضع القواعد لهذا الاختلاط والمعاشرة كما أوضح ذلك القرآن الكريم والسنّة المطهرة. وإن الذين يشعرون في أنفسهم ميلاً ورغبةً في العلاقات الجنوسية يدمّرون البنية الأساسية للمجتمع، والإسلام يدين كل هذا النوع من الممارسات المنحرفة.
... وبهذه المناسبة يجدر أن نتحدث عن تعبيرين شائعين هما :
... ... - ... التخوّف من العلاقات الجنوسية Homophobie
... ... - ... الإنجذاب الجنسي الغيري Hétérosexisme ...
فالنظرة الإسلامية في تحريم العلاقات الجنوسية لا تنبني على فكرة التخوّف من هذه العلاقة ، فمن المعلوم أن عدم الإقرار بالشئ مختلف عن الرُّهَاب منه.
__________
(1) . ... رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة والترمذي.(1/37)
أما الإنجذاب الغيري فيُعَرَّف بأنه الاعتقاد بأن جنسه متفوق على الآخر، وهو ما ... يحقق الرغبة بالسيطرة على هذا الجنس الآخر. وفي الإسلام لا مجال للبحث في ... قضية التفوق والاستعلاء Supériorité أو الدونيّة Infériorité ، ولكن الأمر في ... الإسلام هو حكمه الأخلاقي على هذه الأشياء، مثله في ذلك حكمه على السرقة بأنها خطأ، وبأن القتلَ هو جريمة تستحق العقاب.
ولما كان الإسلام يحرّم العلاقات الجنوسية، ويتعامل مع هذه الجريمة بقسوة فائقة في المجتمع الإسلامي، إلا أنه لا ينشد استئصال هؤلاء الذين تظهر عندهم هذه الرغبة، بل يعزلهم ويضبط رغباتهم بحيث تمنعهم من ممارسة هذا الانحراف.
وبنفس الأسلوب يتصرّف الإسلام مع الذين تبدو عندهم الرغبة في ممارسة الجنس ... مع القاصرين أو مع الذين تربطهم بهم قرابة قوية كالأخوات وبنات الأخ أوالأخت ... وما شابه. فالإسلام يهدف أول ما يهدف إلى سدّ الطرق التي تؤدّي إلى الانحراف ... الجنسي ويمنع كل أسلوب في الحياة يهدم المجتمع الإسلامي ويسير به نحو الفساد ... الأخلاقي.
هذا وقد نددت الأديان الأخرى بالشذوذ الجنسي، ففي العهد الجديد من رسالة بولس إلى تيموثاوس : { إن الناموس ( القانون) لم يوضع للبارِّ، بل للزناة مضاجعي الذكور}(1).
ومن رسالته إلى أهل رومية : { غضَبُ الله معلنٌ في السماء على جميع فجور الناس وإثمهم .... لأن أناثهم استبدلن الاستعمالَ الطبيعي بالذي خلاف الطبيعة، وكذلك الذكور أيضاً، تاركين استعمال الأنثى الطبيعي اشتغلوا بشهواتهم بعضهم لبعض، فاعلين الفاحشة ذكوراً بذكور}.(2)
(
__________
(1) . ... تيموثاوس 1 : 9-10
(2) . ... أهل رومية 1 : 18-32.(1/38)
21) يحرّم الإسلام إتيان البهيمة ( مجامعة الحيوانات )، والسحاق ( مجامعة النساء )، والكَلَف بالأشياء ( إتيان الجنس عن طريق أشياء محددة قد تكون ملابس نسائية داخلية)، والساديّة ( الحصول على اللذة من خلال التعرض للعذاب والآلام)، وكل ما يمتّ إلى ظواهر الإنحرافات الجنسية التي تُعتَبر وليدةَ نفوس مريضة وتصوراتٍ مريضة مشوهة سقيمة. وفي المجتمع السليم لا يمكن بحال وجود مثل هذه الآفات، ولئن وُجِدت ففي نطاق ضيق محدود ثم لا تلبث أن تُسْتَأصل.
(22) الزنا والعدوى بالآفات التناسلية:
يؤدي الزنا واللواط إلى أمراض جنسية خطيرة وعديدة جداً. وفي المجتمع الإسلامي الذي يجب أن يتصف بالعفَّة والأمانة، نادراً ما تحدث مثل هذه الإصابات. ومن أخطر الأمراض التناسلية الشائعة نذكر: الزُّهري Syphilis ونقص المناعة البشرية ( الأيدز AIDS) وداء السيلان القيحيGonorrhea . وتدل الدراسات أن هذه الأمراض شائعةٌ جداً في المجتمعات التي تكثر فيها الاتصالات الجنسية خارج عقد الزواج كما هي الحال في المجتمعات الغربية وبعض المجتمعات الأفريقية والشرق أسيوية. ويبدو أن الشباب الذين تنحصر أعمارهم بين (16-24) سنة هم أقل الناس حذراً وأكثرهم تعرضاً لمثل هذه الإصابات بسبب نشاطهم الجنسي غير المشروع.
10. مضادات الحمل:
تشتمل التربية الجنسية على إعطاء معلومات حول الوسائل المستعملة في منع الحمل. ويرى كثيرٌ من علماء التربية المعاصرين وخاصة الغربيين منهم أن موانع الحمل هي أفضل وسيلة يستند إليها شباب اليوم في علاقاتهم الجنسية والتي تجنبهم الوقوع في الحمل غير المتوقع. ولا شك أنهم ينطلقون في رؤيتهم هذه من إباحتهم للعلاقات الجنسية المتحررة من كل قيد.(1/39)
يدخل استعمال موانع الحمل في ما يسمى بتنظيم العائلة Planification de la Famille أو تنظيم النسل والذي يُقصد منه الحدُّ من التناسل. وممن يشجع على استعمال هذه الموانع مؤسسة النقد الدولية، والبنك الدولي، ومنظمة اليونيسكو التي تحثُّ بعض المجتمعات إلى تنظيم نسلها لغايات اقتصادية أو سياسية.
في المجتمعات الإسلامية التي تحرم العلاقات الجنسية خارج عقد الزوجية والتي تنظم الاختلاط الحرَّ بين الجنسين، يبدو أن استعمال موانع الحمل أقل ضرورة منه في المجتمعات الأخرى. والإسلام يسمح باستعمال موانع الحمل لأسباب جليَّة، كوجود خطر على حياة الأم إذا حملت.
والذين يخشون إن حملت أزواجهم أن لا يستطيعوا إعالة أولادهم، عليهم أن يعتمدوا على وعد الله عزَّ وجلَّ في القرآن الكريم حين يقول: " لا تُكلَّفُ نَفْسٌ إلا وُسْعَهَا، لا تُضَارَّ وَالدَةٌ بوَلَدهَا، ولا مَوْلُودٌ لَهُ بوَلَده." [ سورة البقرة: الآية 233] .
وقد يصبح من الضَّار لصحة الولد إرضاعه إذا أصبحت مرضعته حاملاً. وإذا أراد الزوجان الاستمرار في العلاقة الجنسية، ويريدان تجنُّبَ الحمل، فيمكنهما اللجوء إلى إرضاع الطفل بالوسائل العصرية المعروفة.
يجب أن لا يلجأ إلى استعمال موانع الحمل لتشجيع العلاقات الجنسية غير المشروعة أو التخلص من المسؤولية. ويجب أن لا يغيب عن البال أن موانع الحمل ليست سليمة العواقب دائماً، من حيث منع الحمل أو الوقاية من العدوى بالأمراض السارية؛ وكذلك الرّفال Condom أيضاً ليس مأموناً دوماً بنسبة 100%.
ويرى بعض العلماء جواز استعمال موانع الحمل استناداً إلى بعض أقوال النبي صلى الله عليه وسلم باللجوء إلى العزل Coitus Interruptus. ومن الضروري أن نعرف أن استعمال حبوب منع الحمل Pillules anticonceptionnellesلا يخلو من بعض الأضرار لما ثبت من علاقة ازدياد نسبة سرطان الثدي باستعمال هذه الحبوب كتأثير جانبي.
11.الإجهاض :(1/40)
يمنع الإسلام استخدام أي وسيلة لإيقاف الحمل؛ لاعتباره أن الحياة الإنسانية حيَّةٌ مقدسة لا يجوز الاعتداء عليها.
يقول الله تعالى: " وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ التي حَرَّمَ اللهُ إلا بالحَق." [سورة الإسراء: الآية 33].
ويقول تعالى: " من أجْل ذلكَ كَتَبْنَا علَى بَني إسْرائيلَ أنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسَاً بغَيْر نَفْس أوْ فَسَاد في الأرْض فَكأنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جميعَاً وَمَنْ أحْيَاها فَكَأَنَّمَا أحْيَا النَّاسَ جميعاً". [ سورة المائدة: الآية 32].
والإسلام يحرّم تدخل الإنسان لإيقاف الحمل، وليس الإجهاض إلا العمل المقصود لإيقاف الحمل. ويعتبر الإجهاض اعتداءً إجرامياً على الحياة الإنسانية. ولقد دلت الدراسات الحديثة أن الجنين يأخذ جميع المواصفات الخلقية للإنسان في غضون الأسابيع الثمانية الأولى من الحمل. ولا يعتبر توقف الحمل لأسباب حيوية أو مرضية إجهاضاً، لأن ذلك يحدث بدون تدخل الإنسان المقصود.
وإذا تبين أن استمرار الحمل يكون خطراً على حياة الأم، فحياة الأم مقدمة على حياة الجنين، وحينئذ يسمح بالإجهاض، ولا شك أن هذا الفعل لا يؤثر عملياً على كيان الأسرة، فالاعتداء على جنين لم يلد بعد لا يمكن مقارنته بالتضحية بالأم التي تعتبر الركن الأساسي في كيان الأسرة.
ويلفت الإمام الغزالي رحمه الله ( 1058-1111 م ) النظر إلى الفرق بين منع الحمل والإجهاض؛ فيقول: ( ليس هذا كالإجهاض والوأد؛ لأن ذلك جناية على موجود حاصل، وله أيضاً مراتب، وأول مراتب الوجود بأن تقع النطفة في الرحم، وتختلط بماء المرأة وتستعد لقبول الحياة، وإفساد ذلك جنايةٌ. فإن صارت مضغةً وعلقةً، كانت الجناية أفحش، وإنْ نُفخَ فيه الروح واستوت الخلقة، ازدادت الجناية تفاحشاً، ومنتهى التفاحش في الجناية بعد الانفصال حياً.(1)
__________
(1) . ... إحياء علوم الدين : كتاب النكاح.(1/41)
وفي الجاهلية قبل الإسلام، كان من عادات العرب أن يئدوا البنات (أي يدفنوهن أحياء) ولقد حرَّمَ الإسلامُ هذه العادة المشينة بصورة قطعية، فقال تعالى: " وَلا تَقْتُلُوا أوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إمْلاق، نحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإيَّاكُمْ، إنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خطْئَاً كبيراً " [سورة الإسراء : الآية 31] .
ويقول تعالى: " وَإذَا المَوْؤُدَةُ سُئلَتْ* بأَي ذَنْب قُتلَتْ* " [ سورة التكوير : الآية 8-9 ] .
ويرُدُّ بعض العلماء على الذين يبيحون الإجهاض بحجة أن المرأة لها الحرية بأن تفعل في جسدها ما تشاء، فيقولون بأن هناك فرقاً بين أن تفعل في جسدها ما تشاء وأن تقضي على جسد جنينها الذي يتمتع بحياة مستقلة تماماً عن حياتها، ولا يحق لها أبدا الاعتداء على حياة الغير بدون سبب مشروع. ولا يُقرُّ الإسلام إباحة الإجهاض الذي تسمح به بعض الدول لأي سبب من الأسباب، ويدين هذا الفعل إدانة كاملةً. ويكفي أن نذكر أنه يجري في الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من مليوني عملية إجهاض سنوياً، وأنه يجري في بريطانيا أكثر من (500) عملية إجهاض يومياً.(1)بينما يُقَدَّر عدد عمليات الإجهاض الإرادية في فرنسا بـ (600) عملية يومياً مقابل (2000) عملية إجهاض غير معلنة قبل صدور قانون S.Veil .(2)
وتقول الإحصاءات أن ما لا يقل عن ( 13) امرأة على الأقل تذهبن إلى إسبانيا أو هولندة أو الدانمارك أو النروج للإجهاض يومياً.
11.التربية الجنسية في المدارس :
__________
(1) . ... صحيفة الـ Independent 23/7/1966
(2) ... مجلة : Le point – Special : 26/9/1997(1/42)
لا شك أن الإنسان قد أُودعَ في غريزته أن يتعرَّفَ نوعاً ما على حياته الجنسية بما يتفق مع نموه وتطوره. والإنسان حينما يمرُّ بمرحلة المراهقة يحتاج أن يعرف بعض المعلومات الخاصة عن التكاثر والحيض والولادة والزواج.... إلخ. ولقد أشار القرآن الكريم حين حديثه عن آداب الجنس عن خَلْق الإنسان. يقول تعالى: " يَا أيُّهَا النَّاسُ إنْ كُنْتُمْ في رَيْب منَ البَعْث فَإنَّا خَلَقْنَاكُمْ منْ تُرَاب ثُمَّ منْ نُطْفَة ثُمَّ منْ عَلَقَة ثُمَّ منْ مُضْغَة مُخَلَّقَة وَغَيْر مُخَلَّقَة لنُبَيّنَ لكُمْ، وَنُقرُّ في الأرْحَام مَا نَشَاءُ إلى أَجَل مُسَمىً ثُمَ نُخْرجُكُمْ طفْلاً ثُمَّ لتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ، ومنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إلى أرْذَل العُمُر لكَيْلا يَعْلَمَ منْ بَعْد علْم شَيْئاً. " [ سورة الحج: الآية 5 ] .
ويقول تعالى: " إقْرَأْ باسْم رَبكَ الَّذي خَلَقَ* خَلَقَ الإنْسَانَ منْ عَلَق." [ سورة العلق: الأية 1-2] .
ومن الجدير بالذكر أن العلوم الحديثة أكَّدتْ هذه الصورة الرائعة التي ذكرها القرآن الكريم عن خلق الإنسان قبل خمسة عشر قرناً.
بالرغم من أن كثيراً من الآباء يجدون حرجاً في التحدث مع أبنائهم في المواضيع الجنسية حياءً منهم، إلا أن الواعين منهم يدركون أهمية الحديث في مثل هذه المواضيع الحساسة والضرورية جداً.(1/43)
ومن المناسب أن ننَُوّهَ إلى أن القانون البريطاني يضع التربية الجنسية في منهاج التعليم للمدارس الرسمية الثانوية، تحت القسم الثاني من المنهاج المطوَّر لعام ( 1988) والذي تمَّ تعديله في القسم(241/1) من القانون الصادر في عام 1993م. كما نصَّ القانون- مع شيء من التحفظ – على معالم التربية الجنسية في المدارس الرسمية الإبتدائية في القسم (18/2) من القانون الصادر في عام 1986م. ومن الأسباب الموجبة لهذه القوانين أنها تريد تعويض النقص الذي يعانيه الأبناء من المعلومات المناسبة عن التربية الجنسية.
وعن كتب الجنس المقررة تقول صحيفة تريبيون Tribune : " إن الأطفال في سنّ الثامنة أصبحوا يتلقون التربية الجنسية في بعض المدارس المختارة من المدارس الإنكليزية، وهناك خمسة من الكتب الجنسية يختلف بعضها عن بعض في المستوى ويتعلم منها التلاميذ والتلميذات منذ هذا السنّ الحملَ عند الإنسان والحيوان.
والكتابان الثاني والثالث منها مخصصان لتلاميذ وتلميذات السنة العاشرة من العمر إلى الرابعة عشرة، ويُعَلمان الفروق بين الذكورة والأنوثة.
أما الكتابان الرابع والخامس قيعلمان الأمراض السارية، والمسؤولية الاجتماعية الجنسية، والانحراف الجنسي ، ثم لمن هم فوق السادسة عشرة من العمر يعلمان طرقَ الوقاية من الحمل."(1/44)
ولا ريب أن المسلم الذي يريد أن يبحث في قواعد التربية الجنسية عليه أن يضع في مقدمة البحث أن كل ما يتعلق بالعلاقات الجنسية إنما يجري ضمن العائلة في إطار الزوجية الشرعية، وأن يؤكد على أهمية العائلة ودورها في بناء المجتمع، وأهمية الأخلاق والحشمة Decence وأن يركز بصورة خاصة على الأخطار الناجمة عن العلاقات الجنسية خارج الإطار الزوجي. والمسلمون الذين يعيشون في مجتمع غير إسلامي هم أكثر الناس حاجة لمثل هذا النوع من التربية والتوجيه في هذا المجتمع الذي يعيش حياة حرةً إباحية تسمح بالسلوك الجنسي المتحرر من كل الضوابط المتنافية مع التعاليم الإسلامية .
ولننظر إلى بريطانيا التي طبَّقتْ مناهج التعليم الجنسي، فلقد صدر فيها في السنوات الأخيرة دراسة نسائية تهاجم تعليم الجنس وترفضه بشدة لمردوده الخطير على الناشئة. والكتاب من تأليف سيدتين متخصصتين هما الدكتورة (مارغريت وايت) والدكتورة (جانيت كيد). ومما جاء فيه: " إن الرجل مهما كان تفكيره يفضل أن يتزوج من فتاة لم تجعل نفسها في متناول الآخرين، وإن القول بأن (الموضة) هو تعلم الجنس وإباحة الحديث عنه وإطلاق اسم الواقعية عليه، هذا الأسلوب هو مجرد هراء ولغو فارغ. "
وقد طلبت المؤلفتان من كل فتاة رفض دعوة أي رجل تشمُ منه رائحة ممارسة حياة الفوضى .... وطالبتا الآباء بأن يربُّوا أولادهم منذ الصغر على الحياء في مناقشة الأمور الجنسية، والابتعاد عن الموجة المُدمّرة التي تطالب باسم (الموضة) بنشر التعليم الجنسي في المدارس، والذي بدأ فعلاً في العديد من المدارس الأوروبية.
13. محتوى التربية الجنسية:(1/45)
يعتبر الزواج في الإسلام أساس الحياة العائلية والعلاقات الجنسية على خلاف المجتمع الغربي الذي نعيش فيه والذي ينظر إلى العلاقات الجنسية خارج الإطار الزوجي ليس فقط أنها مباحة، ولكنها أصبحت المعيار الطبيعي للحياة الجنسية. ولهذا فإن على المسلمين أن يطالبوا بإلحاح أن تكون التربية الجنسية في المدارس مبنية على القيم الأخلاقية التي تنص عليها القوانين من حيث الأصل. ومن الضروري جداً أن تهيّءَ المدارس نسخاً عن المعلومات الجنسية المقدمة للأبناء ليطّلع عليها الآباء بصورة مفصلة وأن يُبْدُوا آراءَهُم وملاحظاتهم عن محتواها وأسلوب تعليمها. وأنه لايجوز بحال أن يجري تعليم التربية الجنسية بعيداً عن آراء الآباء المسلمين وغير المسلمين على حدّ سواء. ويجب أن يُزْرَعَ في عقل الطفل أهمية وقيمة الحياة العائلية المستقرّة، وأن الزواج هو الطريق الوحيد لمثل هذه العائلة. ومن الضروري أيضاً أن يُلفَتَ النظر إلى الغرائز الطبيعية والعواطف التي تتكون عند الأبناء، والأخطار الناجمة عن بعض صور السلوك الجنسي، وأن على الجنسين أن يدركوا مسؤليتهم حيال المواضيع الجنسية .
وبناءً على ذلك يجب أن تؤخذ احتياطات خاصة عند التعليم الجنسي في المدارس الابتدائية وأن تكون المعلومات المقدمة متناسبة مع درجة النضوج الجنسي للطفل وتطوره الفيزيائي والفيزيولوجي والعاطفي حسب تقدم العمر.
14. أسئلة وأحداث تشغل بال المراهقين
(1) أسئلة يطرحها المراهقون حول المسائل البيولوجية:
1. ... يسأل أحد المراهقين عن السبب في كون الخصيتين محمولتين داخل كيس خاص (الصفن) خارج الجسم!(1/46)
... النطاف خلايا رقيقة جداً شديدة التأثر بالتغييرات في درجة الحرارة، ويتم إنتاجها داخل الخصية في درجة (36ْ) مئوية أي أقل بدرجة واحدة عن درجة حرارة الجسم الطبيعية البالغة (37ْ) مئوية. وعليه فإن الصفن يحتفظ بهذه الدرجة الأبرد لكونه بعيداً عن الجسم. ويقوم الصفن بدور منظم حراري إلى حدٍّ ما، فيقرِّب الخصيتين من الجسم في الطقس البارد ويبعدهما في الطقس الحار.
2. يسأل أحدهم هل هناك عددٌ ثابت من الخلايا النطفية لكل عمر أم أن احتياطي النطاف ينضب في كل مرة يحدث فيها الدفق؟
إن إنتاج الخصيتين للخلايا النطفية لا يتوقف عند عمر معيّن كما لا يوجد عدد محدّد منها لكل عمر. ومع ذلك فإن الإصابة بعدوى مثل سُلِّ الخصيتين أو سُلِّ البربخ، يمكن أن يُؤثر على هذه الوظيفة، كما يمكن أن يؤثر عليها سرطان الخصيتين وسائر الأمراض المعدية فيهما.
ويلاحظ أن الدفقة الواحدة تخرج ملايين النطاف التي تقوم الخصيتان بتعويضهما. ويصبح هذا التعويض أبطأ في الشيخوخة. ولا خطر من عدم دفق النطاف، فالزائد منها يخرج في الاحتلام.
3. فتى يعرب عن قلقه لأن إحدى خصيتيه أكثر تدلياً أو أكبر حجما من الأخرى، كما يعرب عن خوفه لأن قضيبه صغير، مما يخشى معه من العجز عن إرضاء زوجته في المستقبل.
بالنسبة للخصيتين فالأمر طبيعي ولا يعني ذلك وجود خلَلٍ ما .
وكذلك يختلف الفتيان من حيث حجم أعضاء الذكورة، مثلما يختلفون في حجم أجزاء الجسم الأخرى. وهذا أمر طبيعي، وسوف يكون حجم العضو عند الانتصاب كافيا لإتمام الجماع بعد الزواج.
4. يسأل أحد المراهقين عن العنانة ( العجز عن الحفاظ على الانتصاب) وما هو سببها؟(1/47)
العنانة حالة تثير فزع الرجال. وتحدث أحيانا بلا سبب معروف لتكون مستديمة في العادة. وتحدث في أحيان أخرى نتيجة لأحوال مرضية ينبغي معالجتها، كما يكون مردّها إلى الشيخوخة في بعض الأحوال. وأكثر أشكال العنانة شيوعاً هو العنانة غير المحددة الأسباب. وقد جرت محاولات لاستخدام وسائل ميكانيكية تؤدي إلى نعوظ القضيب. ومنذ وقت قريب جداً (عام 1998)، طرحت أدوية جديدة ( حقن أو حبوب) لإحداث الانتصاب، ولكنها لا تزال قيد التجارب النهائية للتأكد من عدم وجود آثار جانبية لها. ويحتمل أن تتوافر لدينا في السنوات القادمة حبوب مأمونة بأسعار معقولة لعلاج العنانة.
(2) أسئلة عن البكارة والحمل:
1. ... يقصّ أحد الشباب قصة رجل طلّق زوجته ليلة الزفاف لعدم خروج ما يقال له (دم العِرْض) أو ( الشرف) من غشاء البكارة لدى زوجته! فهل لهذا التصرف ما يبرره؟
... لا ليس لهذا التصرّف ما يبرره. فهناك حالات لا يخرج فيها هذا الدم مع أن الزوجة محافظة على عفّتها:
? فبعض الفتيات خُلِقْنَ من دون غشاء بكارة، ولذا لا يخرج الدم ليلة الزفاف عند الجماع الأول.
? وبعض أغشية البكارة من نوع مُتَمَطِّط ، يتمدد بدلاً من أن يتمزق عند الجماع الأول ليلة الزفاف، ولذا لا يخرج الدم.
? وبعض أغشية البكارة ذات فوهة واسعة جداً ، ولذا لا يخرج الدم إثر الجماع الأول ليلة الزفاف.
? وأحيانا لا يؤدي تمزق غشاء البكارة إثر الجماع الأول ليلة الزفاف إلا إلى خروج بضع قطرات من الدم لا تكفي لتلطيخ المنديل الذي يوضع تحت العروس لهذا الغرض.
2. هل يمكن للفتاة أن تحمل من فتى رغم بقاء غشاء البكارة سليماً؟
نعم. فأيّ قطرة من المني تصل إلى مهبل الفتاة يمكن أن تؤدي إلى الحمل، حتى ولو كان ذلك بدون جماع، ولا ننسَ أن ديننا يحرّم ممارسة أي نشاط جنسي مهما كان نوعه خارج إطار الزواج.
(3) أسئلة عن الأمراض المنقولة جنسياً: ...(1/48)
1. ... هل يمكن أن يصاب المراهق بمرض منقول جنسياً بسبب معاشرته فتاةٌ تبدو نظيفة ومعافاة ؟ ...
...
... نعم. فالأمراض المنقولة جنسياً قد تكون صامتة ( أي لا تُحدِث أعراضاً ) ولا سيّما في الأنثى رغم أنها تكون موجودة فيها ويمكن أن تعدي الذكور، كما يمكن أن تُحدث مضاعفات خطيرة في الإناث ولو لم تظهر لها أعراض. إن الحماية المثلى من الأمراض المنقولة جنسياً ليست هي سلامة مظهر الفتاة وإنما هي العفّة إلى حين الزواج. وقطرة المني إذا وصلت إلى مهبل الفتاة لا تسبب الحمل فقط، بل قد تسبب الأمراض المنقولة جنسيا كذلك.
2. ... يُعرب أحد المراهقين عن شعوره بأن التقدم المحقَّق في مجال الطب يمكن أن يشفي من جميع الأمراض المنقولة جنسياً!
...
... هذا إحساس خاطئ تماماً ومدمّر للذات. فأولاً هناك ما لا يقل عن ثلاثة أمراض معروفة وخطيرة من الأمراض المنقولة جنسياً، لا يوجد لها علاج حتى الآن هي الأيدز والحلأ (الهربس) والتهاب الكبد الفيروسي البائي. ثم إن الأمراض المنقولة جنسياً يمكن أن تُحدِث ضرراً بالغاً قبل اكتشافها ومعالجتها، ومن جهة ثالثة فإن معالجة مرض مثل الأيدز تستغرق وقتاً طويلاً، وتتطلب تناول عدة أدوية باهظة الثمن طوال المدة الباقية من عمر المريض دون وجود ما يضمن إمكانية تحقيق الشفاء التام. ولا شك أن درهم وقاية بالاستعفاف خير من قنطار علاج ... إنْ وُجِدَ علاجٌ !
(4) أسئلة عن العقم :
1. ... شاب تجاوز الخامسة والعشرين وهومتزوج منذ خمس سنوات ولم ينجب، ويلقي بتبعة العجز عن الإنجاب على زوجته !
...
هذه إحدى حالات العقم الممكنة الحدوث التي تصيب حوالي (10%) من الأزواج والزوجات، وهناك خمسة مبادئ ينبغي مراعاتها في التعامل مع هذا الوضع الذي يشغل البال وهي :
? تقع المسؤولية على الزوجة في ما لا يزيد على حوالي (40%) من الحالات، وعلى الزوج في (40%) أخرى ، أما في العشرين بالمائة المتبقية فإما أن يكون كلاهما مسؤولاً أو يكون السبب مجهولاً.(1/49)
? ينبغي استقصاء جميع حالات العقم بدقة بحيث يخضع الزوجان للفحص السريري والمختبري وذلك بغرض العثور على السبب ومعالجته، فذلك أفضل من إلقاء اللوم على أيّ من الزوجين.
? يمكن علاج كثير من الأسباب.
? في ظل التقدم الذي تحقق حالياً في مجال التقنية الطبية والوراثية، هناك طرائق للمساعدة على تحقيق الخصوبة هي :
أ ) العلاجات الدوائية
ب ) الإمناء الاصطناعي
ت ) أطفال الأنابيب.
وفي الطريقتين الأخيرتين لا يجوز أن تستخدم سوى النطاف المأخوذة من الزوج والبويضات المأخوذة من الزوجة.
ويحرّم الشرع استخدام المتبرعين أو اللجوء إلى بنوك النطاف أو استخدام نطفة الزوج المجمدة ، بعد وفاته أو بعد الطلاق.
كذلك يحرّم الشرع حمل المرأة لجنين امرأة أخرى.
? هناك حاجة إلى قدر كبير من التوعية النفسية والعائلية لمواجهة مشكلة العقم، ويتقبل بعض الأزواج والزوجات هذه المشكلة باعتبارها قَدَراَ مقدوراً، بينما لا يرى البعض الآخر الأمر كذلك.
(5) أسئلة عن الإفرازات والحيض:
1. ... فتاة تعاني من نجيح ( إفراز) من المهبل مائل إلى البياض أو الصفرة وبكميات صغيرة، وتخشى أن يكون هناك خلل ما!
هذا أمر طبيعي بالنسبة للفتيات وهو نتيجة لمحاولة المهبل تنظيف نفسه. أما إذا كانت كمية النجيح كبيرة أو كان لونه أقْتَم ( أغمق) من المعتاد أو كان مصحوباً برائحة كريهة فيمكن أن تكون هناك عدوى تستدعي اللجوء إلى الطبيب، لا سيما إذا صاحَبَ ذلك ألمٌ عند التبوّل أو ألم في المهبل أو في أسفل البطن.
2. ... قد لا تعرف الفتاة معنى الحيض إلا عندما تحيض، فتصاب بصدمة وفزع وحيرة بسبب ما يحدث لها!
ينبغي أن لا تظل الفتاة جاهلةً معنى الحيض إلى أن تحيض. وأن لا يقتصر الأمر على إعلامها بأن الحيض أمرٌ طبيعي بالنسبة للمرأة، وإنما ينبغي كذلك إعدادُها لهذا الحدَث وتعليمها الإجراءات المتعلقة بكيفية التعامل مع تدفّق الدم مع الاستمرار في الذهاب إلى المدرسة في الوقت نفسه.(1/50)
3. قد تلاحظ الفتاة أن حدوث الحيض غالباً ما يسبقه ألم شديد في البطن، ومغص وانتفاخ
وانزعاج وصداع، وأحياناً قيءٌ وألم في الثديين أيضاً، وهو أمر يجعلها تعاني كثيراً!
... تحدث هذه الأعراض لبعض الفتيات قبل عدد قليل أو كثير من أدوار الحيض، ويطلق على هذه الحالة اسم الأعراض أو المتلازمة السابقة للحيض. وينبغي إذا كانت هذه الأعراض بالغة الشدة أو كثيرة الحدوث، استعمال دواء تحت إشراف الأطباء.
4. ... قد يكون الطمث ( دم الحيض) لدى الفتاة أغزر من المعتاد مما تخشى معه أن لا يكون الأمر طبيعياً أو أن يعني ذلك وجود خلل ما ! ...
يكون الطمث عند بعض الفتيات أغزر منه عند غيرهن. كما يكون عند بعضهن أحياناً أغزر من المعتاد لديهن. فإذا ترافقت هذه الحالة بوجود رائحة كريهة، فيحتمل أن تكون هناك عدوى ينبغي معها اللجوء إلى الأطباء.
5. ... فتاة تخاف الاستحمام أثناء الحيض!
بالعكس، فإنها ينبغي أن تستحم أثناء الحيض لتتنظف. هذا فضلاً بالطبع عن الاغتسال بعد الحيض الذي أمر به الشرع.
6.فتاة متزوجة تعتقد أنها لا يمكن أن تحمل نتيجة للجماع أثناء الحيض!
... هذه الفتاة مخطئة لسببين :
... أولهما : أن الجماع أثناء الحيض حرام شرعاً
وثانيهما: أنها يمكن أن تحمل إذا كانت البويضة لا تزال حية وخُصِّبَت من قِبَل حيوان منوي.
15. السلوك الجنسي للمراهقين والأمراض المنقولة جنسياً:
إن أنماط الحياة التي يتّبعها المراهقون والشباب مسؤولة إلى حدّ بعيد عن خطر الإصابة بالأمراض المنقولة جنسياً والعدوى بفَيْروس الأيدز. ومما يلفت النظر أن هذه المجموعات العمرية عرضة للعدوى بشدة. فالمجموعة العمرية (20-24) مثلاً ذات أعلى معدّل للإصابة بعدوى فيروس الأيدز تليها المجموعة العمرية (15-19).
وهناك ثلاث صور للسلوك الجنسي عند المراهقين:(1/51)
? أولهما سلوك جنسي ينتمي إلى ثقافة محافظة يلتزم فيها المراهقون، وبتوجيه من الأسرة، بالقيم الدينية التي تتمثل في الاستعفاف إلى أن يحين الزواج.
? وثانيهما السلوك الجنسي لدى المجموعة المفتونة بالغرب، التي تقلد السلوك الإباحيّ لبعض مراهقي أمريكا وأوروبا، من حيث بناء علاقات مع أفراد الجنس الآخر، وشرب الخمر، وتعاطي المخدرات، والتورّط بممارسة الجنس قبل الزواج. وهذه المجموعة معرّضَة للإصابة بالأمراض المنقولة جنسياً بما في ذلك العدوى بفيروس الأيدز بسبب العلاقات الجنسية غير الشرعية.
? أما المجموعة الثالثة فذات سلوك يجمع بين المجموعتين السابقتين، إذ أنها لا تبلغ من الالتزام مبلغ المجموعة الأولى، ولا من الإباحية مبلغ المجموعة الثانية، وهي أقل من المجموعة الثانية تعرّضاً للأمراض المنقولة جنسياً، وإن لم تكن بمنأى عن الخطر. ومما يؤسف له أن أعداد هذه المجموعة آخذٌ بالازدياد.
إن من الأهمية بمكان أن يتلقّى الفتيان والفتيات وبشيء من التفصيل معلومات وافية عن أنواع الأملراض المنقولة جنسياً التي يمكن أن تصيبهم أثناء فترة المراهقة، وعن أعراضها ومضاعفاتها ومدى قابليتها للشفاء، وهو ما يمكن أن نلخصه في الجدول الذي سنورده فيما بعد.
16. ... عشر حقائق مفزعة عن الأملااض المنقولة جنسياً:
1) ... الأمراض المنقولة جنسياً من اللعنات التي تحيق بالبشر فهي تجلب الخزي والعار على ضحاياها.
2) ... هذه الأمراض يمكن أن تصيب أي شخص، لا فرق في ذلك بين ذكر وأنثى، أو صغير أو كبير أو غني أو فقير.
3) ... هذه الأمراض يمكن أن تحدث نتيجة لاتصال جنسي واحد لا غير.
... ...
... 4) ... يمكن التقاط هذه الأمراض من أشخاص مصابين بالعدوى رغم ما يوحي مظهرهم من النظافة والثقافة والثراء.
... 5) ... قد لا تكون أعراض هذه الأمراض ظاهرة على بعض الأشخاص المصابين بها.
... 6) ... يمكن أن يكون الشخص مصاباً بأكثر من واحد من هذه الأمراض في نفس الوقت.
...(1/52)
... 7) ... من بين الضحايا الأبرياء الذين يمكن أن يلتقطوا هذا المرض الزوجات الغافلات للمصابين بالعدوى، والجنين المصاب بالعدوى بسبب دم أمه المصابة ( مثل الأيدز والزهري) أو أثناء الولادة ( وصول المكورات البُنّيّة لعين الوليد مما قد يسبب له العمى).
... 8) ... لا يوجد حتى الآن علاج يشفي من الأيدز أو الحلأ (الهِرْبِس) أو التهاب الكبد الفيروسي البائي .
... 9) ... في حالة الاشتباه بتعرُّض فتى أو فتاة لأحد هذه الأمراض بطريق الخطأ أو بالإكراه (الاغتصاب) فإنه يجب السعي للحصول على الرعاية الطبية والنفسية الفورية والعاجلة.
10) كذاك يوصى في حالة تشخيص الأمراض المنقولة جنسياً في أحد الزوجين بمعالجة كلا الزوجين، وإلا عادت العدوى من جديد.
العلامات التي يتعيّن البحث عنها
للتأكد من الإصابة بالأمراض المنقولة جنسيا
أو عدم الإصابة بها
علامات الأمراض المنقولة جنسياً
في الفتاة ... في الفتى
خروج مفرزات من المهبل ... انبعاث رائحة كريهة من منطقة الأعضاء التناسلية
خروج دم بين فترات الحيض ... خروج مفرزات غير عادية من القضيب
انبعاث رائحة كريهة ... الإحساس بألم وحكة في منطقة الأعضاء التناسلية
الإحساس بألم في منطقة الحوض بين السرّة وبين منطقة الأعضاء التناسلية ( مغص شاذ)
الإحساس بحرقة أو حكة حول المهبل
الإحساس بألم في أعماق المهبل
في كل من الفتى والفتاة
وجود احمرار أو طفح أو قرحات أو فقاقيع أو ثآليل في الأعضاء التناسلية أو حولها
الإحساس بحرقة عند التبوّل أو التبرز
الإحساس بحكة حول الأعضاء التناسلية
وجود تورّم في المنطقة المحيطة بالأعضاء التناسلية
الإحساس بما يشبه الإصابة بالنزلة الوافدة ( الأنفلوانزا) مع حمى ونَوافِض (بردية) وصداع بعد أيام من الجماع
تعرّق ليلي
هزال
تعب زائد
التهاب رئوي في حالات نادرة
تصبّغ الجلد بشكل غير عادي
أهم الأمراض المنقولة جنسيا في المراهقين
المرض ... العلامات التي يتعين البحث عنها ... عواقب عدم المعالجة(1/53)
السيلان ... بعد 2-21 يوما من مجامعة شخص مصاب: ... * إصابة أعضاء التوالد بالعدوى مما يؤدي إلى الإصابة بالعقم في المصابين من الرجال والنساء
Gonorrhea ... * خروج نجيح (إفرازات) من القضيب أو المهبل
* الإحساس بحرقة عند التبوّل
العامل المسبب: ... * كثرة التبوّل
(المكوّرة البنيّة) ... * الإحساس بمغص في أسفل البطن ( إناث)
* معظم النساء والرجال لا تظهر عليهم الأعراض ولكنهم يصابون بمضاعفات ويصيبون غيرهم بالعدوى.
* فحص مخبري للتأكد من الإصابة مع ذكر تاريخ التعرّض
الزهري (الإفرنجي) ... الأولي: بعد 3-12 يوما من مجامعة شخص مصاب ... * يمكن أن تعدي الأم وليدها
Syphilis ... * قرحات غير مؤلمة على الفم، والأعضاء التناسلية والثديين والأصابع. ... * مضاعفات خطيرة :
العامل المسبب: ... * تستمر القرحات مدة 1-5 أسابيع ثم تزول ... - مرض القلب
(اللولبية الشاحبة) ... الثانوي: بعد 1- أشهر من اختفاء (زوال) القرحة : ... - تلف الدماغ
* أحاسيس بما يشبه النزلة الوافدة ( ألأنفلوانزا) ... - العمى
* المرض العضوي: يمكن أن يصيب أي عضو في الجسم كالقلب أو الدماغ أو الجهاز العصبي أو العين ..... ... - مرض العظم
* إيجابية اختبار الدم بالإضافة إلى تاريخ التعرض. ... - أمراض الكبد
- الوفاة
- يمكن إعداء الآخرين عن طريق
العلاقات الجنسية أو نقل الدم.
- يمكن الشفاء منه بالمضادات
الحيوية.
التهاب الكبد ... بعد 1-9 أشهر من مجامعة شخص مصاب بالعدوى: ... * يمكن أن تعدي الأم الوليد
الفيروسي البائي ... * إحساس بما يشبه الإصابة بالنزلة الوافدة يستمر مدة طويلة ... * مرض الكبد
Viral Hepatitis B ... * تعب لا يمكن تفسيره بأسباب أخرى ... * بقاء العدوى مدة طويلة في بعض
* يَرَقَان ( اصفرار الجلد والعين ) ... المرضى مع احتمال زوالها في
العامل المسبب: ... * قتامة لون البول مع براز بلون الصلصال الفاتح ... البعض الآخر
(فيروس) ... * كثير من الأشخاص لا تظهر عليهم أعراض المرض ولكن ... * لا يوجد علاج شافٍ ولكن يمكن
((1/54)
التهاب الكبد) ... يمكن أن يُعْدُوا غيرهم ويصابوا بمضاعفات. ... الوقاية باللقاح.
* إجراء عدة فحوص مخبرية بالإضافة إلى تاريخ التعرّض
للجنس أو الإبر الملوثة بالعدوى.
الحلأ ( الهربس) ... بعد 1-30 يوماً من مجامعة شخص مصاب بالعدوى: ... * يمكن أن تعدي الأم وليدها أثناء
Herpes ... * إحساس بما يشبه الإصابة بالنزلة الوافدة( أنفلوانزا) أو عدم ... الولادة .
وجود أعراض
العامل المسبب: ... * ظهور فقاقيع مؤلمة صغيرة على الأعضاء التناسلية مع ... * لا يوجد علاج شافٍ
(فيروس الحلأ) ... حكة وحرقة قبل ظهور الفقاقيع.
* تستمر الفقاقيع ما بين أسبوع وثلاثة أسابيع
* قد تزول الفقاقيع ولكن يمكن أن تعود إلى الظهور
عدوى ... بعد 7-21 يوماً من مجامعة شخص مصاب بالعدوى: ... * عدوى حوضية أكثر خطورة يمكن
المتدثّرات ... * خروج نجيح من المهبل أو نجيح أصفر مائي من القضيب ... أن تسبب العقم في الرجال والنساء.
Clamydia ... * نزف من المهبل بين أدوار الحيض
* ألم عند التبول ... * يمكن معالجتها ولكنها قد ترجع مرة
العامل المسبب: ... * ألم في أسفل البطن في الإناث (عندما تصل العدوى إلى الحوض) ... أخرى.
( المتدثّرات) ... * حمى وغثيان أحياناً
وهي جراثيم ... * أحيانا تكون الإصابة صامتة ( بلا أعراض) مع إمكانية إعداء الآخرين وحدوث مضاعفات
داخل الخلايا
المرض ... العلامات التي يتعين البحث عنها ... عواقب عدم المعالجة
داء المشعّرات ... * حكة أو حرقة أو ألم في المهبل ... * يمكن معالجته
المهبلي ... * خروج نجيح من المهبل
Vaginal Trichomoniasis ... * انبعاث رائحة كريهة من النجيح
العامل المسبب: ... * الشعور بعدم الارتياح
( المُشَعَّرة المهبلية) ... * يمكن أن تصيب المشعّرة في الرجال القضيب أو غدة
وهي إحدى الحيوانات السوطية الدنيا ... البروستاتة أو الإحليل.
مرض الأيدز ... * العدوى عن طريق مجامعة شخص إيجابي لفيروس الأيدز ... * نتائج شديدة الخطورة للعدوى على
AIDS ... أو إبر أو نواتج دم ملوثة بالعدوى ( نقل دم ) ... النحو السالف الذكر(1/55)
* من الأم إلى الطفل ... * مميت دائما تقريباً
العامل المسبب: ... * بعد التعرض بما يتراوح بين عدة شهور وعدة سنوات: ... * يمكن استعمال أدوية متعددة في
(فيروس الأيدز) ... - تعرّق ليلي ... في حالة العدوى الإيجابية لفيروس
- فقد الوزن لسبب غير مفهوم ... الأيدز لإرجاء ظهور الأعراض
- إسهال مزمن معنّد ... ( الوقاية )
- بقع بيضاء أو سُلاق في الفم ... * استعمال أدوية متعددة لتأخير ترقّي
- تضخم العقد اللمفية المؤلم ... المرض ( المعالجة )
- عدوى الخميرة ( المبيضّات ) في النساء ... * معالجة الأعراض عند ظهورها
- آفات سرطانية في الجلد ( غَرَن كابوزي) ... * معالجة الإسهال، والالتهاب الرئوي
- الالتهاب الرئوي ، السلّ ... * المرضى عاجزون طوال المرض
- أعراض دماغية وخَرَف ... * لا يوجد حتى الآن علاج شافٍ أو
* يمكن أن يكون موجوداً لأعوام كثيرة دون ظهور أعراض ... لقاح.
الثآليل التناسلية ... * تظهر بعد 1-8 أشهر من التعرض في شكل ثآليل صغيرة على الأعضاء التناسلية. ... * يمكن معالجتها
Genial Warts ... * حكة أو حرقة حول الأعضاء التناسلية
* يمكن أن تعود الثآليل إلى الظهور
العامل المسبب: ... * ثآليل مشوِّهة
(فيروس) ... * التشخيص بالفحوص المختبرية بالإضافة إلى تاريخ
التعرّض
وخلاصة القول:(1/56)
فإن المراهقة هي العقد الثاني الحرج من عمر الإنسان، الذي يمثل حلقة الوصل بين دور الطفولة المستعد ومشارف الشباب وبين البالغية . وتتميز هذه الفترة بحدوث تغيرات عميقة، ومع ذلك فإنها مهملة غالباً من قبل المجتمع والآباء والمدرسين وغيرهم من المهنيين الصحيين. فالمراهقون لا يدخلون في مجال طب الأطفال ولا في طبّ البالغين. مع أن المراهقة فترة غليان حافلة بالتغيرات البدنية والجنسية الثنائية والنفسية والاجتماعية العنيفة. إذ تزيد احتياجات المراهقين التغذوية ويتشكل نمط حياتهم على نحو يمكن أن يساهم في أمراضهم في الحاضر أو المستقبل. وقد تبدأ حياتهم الإنجابية مبكرة بينما تكون قدراتهم العقلية وملكاتهم المعرفية والوجدانية في طور التشكيل بعد. وقد تنشأ لديهم مشكلات صحية نفسية بعيدة المدى ( مثل الإكتئاب والسلوك المعادي للمجتمع ونقص التحصيل العلمي )، كما أنهم يكونون عرضة لمخاطر التدخين وإدمان المخدرات وتعاطي المسكرات والعنف. وكذلك فإن مرحلة المراهقة مرحلة اختطار كبير لالتقاط الأمراض المنقولة جنسياً بما فيها الإيدز. وجميع هذه التغيرات أعنف من أن يتفهمها المراهق أو يواجهها بنفسه مواجهة مناسبة من دون إعداد وقائي مناسب.
... ويمثل النضج الجنسي أعتى هذه التغيرات، لا بالنسبة للمراهق فحسب، وإنما بالنسبة للآباء والمدرسين والمهنيين الصحيين والمجتمع ككل. وبعض الآباء يتنصلون بشكلٍ ما من مسؤولية الحوار مع أطفالهم بدعوى الحرج أو الجهل أو كثرة الأشغال، وذلك دون أن يدركوا عذاب النمو الذي يستشعره أولادهم. كما قد يلقون بهذه المسؤولية، وبارتياح كامل، على عاتق المدرسين الذين يشعرون بدورهم أن هذه المسؤولية مسؤولية الأسرة لا المدرسة. وفي غمرة هذه الفوضى تعرض مصادر أخرى للمعلومات نفسها متمثلة في جماعة الزملاء، والإخوة الأكبر سنّاً، وأحاديث الشارع ووسائل الإعلام.(1/57)
... ولذا ينبغي أن تصبح صحة المراهقين اهتماماً شرعياً وواضحاً لمختلف الأطراف المساهمة في هذا المجال بما في ذلك الآباء والمدرسون والمهنيون الصحيون وعلماء الدين، ووسائل الإعلام، والمنظمات المجتمعية الأخرى. وينبغي أن تكون رعاية المراهقين جزءاً لا يتجزأ من اهتمامات النوادي الاجتماعية والرياضية ومنظمات الشباب. ونؤكد بأن جميع الأنشطة المتعلقة برعاية المراهقين يجب أن تكون في حدود القيم الثقافية الدينية وتزويدهم دائما بوسائل المناعة التي تحميهم من تأثير وسائل الإعلام أو القرناء الجاهلين المضللين أو التطبيقات المتزمتة لبعض التقاليد البالية أو التقليد الأعمى لقيَم الغرب أو أنماط الحياة الغربية.
... ونرى أن يقف الأبوان من أولادهما موقفاً إيجابياً يتمثل في توجيههم أثناء نموهم البدني والجنسي السريع، وتحمّل مسؤولية نقل المعارف البيولوجية والبدنية والجنسية إليهم في أوقات مناسبة. كما أنهما مسؤولان عن تأكيد القيم الدينية لا سيما ترسيخ نظام الزواج والأسرة، ذلك أن فضيلة الاستعفاف قبل الزواج وبعده، فضيلة راسخة ثقافياً ويجب أن يدعمها الأبوان.
... ولا شك لكي يتمكن الأبوان من أداء هذه المهمة عليهما الاستعانة على هذا العمل بقراءة الكتب العلمية والدلائل الإرشادية والمؤلفات الدينية، وإشراك أفراد الأسرة المتعلمين أو ذوي النفوذ أو كليهما واستشارة علماء الدين في كل ذلك.
... ومما يحسّن أداء هذه المهمة التعاون بين الأبوين والمدرسين مما يحقق الانسجام بين التعليمات والتأكيد على الرسالات الصحية، والتوسل إلى الدخول في الموضوع بالمعرفة المتعلقة بالمخلوقات الأخرى وكيفية تناسلها، تفادياً للإثارة المقترنة بمناقشة النشاط الجنسي للإنسان.(1/58)
... ولا يغيبن عن البال أنه ينبغي على الأبوين أن يجيبا إجابات صحيحة عن اسنفسارات الأطفال والمراهقين عن القضايا الإنجابية والجنسية او عن الإشارات الجنسية الموجودة في كتب الدين، ولكن بما يناسب سنهم ودرجة تعليمهم، وأن يدركوا أن إحاطة الأمور الجنسية بهالة من الغموض في مناقشات الأسرة تؤدي إلى نتائج عكسية، فهناك مصادر أخرى مستعدة تماماً لملء هذا الفراغ ولتزويد المراهقين بمعلومات قد تكون ناقصة أو بالغة الإثارة أو مضللة.
... وعندما يقرب المراهقون من البلوغ ينبغي تعليمهم الشعائر الدينية المتصلة بذلك كالاغتسال بعد الاحتلام أو الحيض، والتلطف في تذكيرهم بأنهم أصبحوا قادرين على الإنسال وأن وصول قطرة من المني إلى مهبل الفتاة يمكن أن يحدث الحمل حتى من دون جماع.
... وعلى الآباء أن يتذكروا الهدي النبوي في التفريق بين المراهقين في المضاجع، وذلك بأن يخصص لكل مراهق غرفة أو سرير أو فراش أو غطاء، وذلك تحقيقاً للاستقلال الشخصي للمراهق وتفرده، وتحاشيا لأي تصرف جنسي خاطئ.
وبعد:
فإن الإسلام حين يعالج ويواجه المشكلة الجنسية، فإنما يواجهها في نطاق مواجهته الشاملة لقضايا ومشكلات الفرد والمجتمع جميعاً، ولا ينظر إليها منفصلة أو يتناول كلاً منها على حدة، وحينما يعالجها ضمن هذا المركب الإسلامي الشامل.
... إن جسم المجتمع كجسم الإنسان متداخل التركيب، تتأثر أعضاؤه ببعضها البعض، وعافيةُ المجتمع كعافية الإنسان لا تتحقق إلا أن تكون أعضاؤه كلّها سليمة. فالمجتمع الذي تحكمه أنظمة وقوانين فاسدة، ويُربَّى أفرادُه وفق مناهج فاسدة، وتقوم وسائل الإعلام فيه على قواعد فاسدة، لا يمكن أن تنفع معه جرعة من جرعات المجتمع الإسلامي، بل لابدّ له من أخذ العلاج كاملاً.(1/59)
إنه بحاجة إلى عملية تطبيب تتناول أفكاره ومعتقداته ونظمه وتشريعاته وأخلاقه وعاداته. وكم نتمنى أن تنعكف الحضارة الغربية على نفسها وتراجع قوانينها الوضعية وفلسفاتها المادية لترى أن الحلّ السليم الفطري كامنٌ في نظام الإسلام للحياة، لأنه نظام رباني يقود المجتمعات إلى برّ السلامة والنجاة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
...(1/60)
الدِّين والسياسة
(تأصيل ورد شبهات)
بقلم
الأستاذ الدكتور
يوسف القرضاوي
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله وكفى، وسلام على رسله الذين اصطفى، وعلى خاتم النبيين المجتبى، محمد وآله وصحبه أئمة الهُدى، ومن بهم اقتدى فاهتدى.
(أما بعد)
فهذا بحث كتبته عن (الدِّين والسياسة) استجابة لما طلبته مني الأمانة العامة للمجلس الأوربي للإفتاء والبحوث، لأفتتح به الندوة التي سيعقدها المجلس في دورته المقبلة في أوائل الشهر السابع تموز أو يوليو 2006م حول (الفقه السياسي للأقليات المسلمة في أوربا).
وما كنت أحسب أن البحث سيطول معي إلى الحد الذي وصل إليه. ولكن هكذا كان، والخير فيما وقع.
وها أنذا أعرضه على إخواني، ليصوِّبوني إذا أخطأت، ويردوني إلى الجادة إذا شردت، فليس في العلم كبير، وفوق كل ذي علم عليم.
ولعلي بهذه الصحائف قد قلتُ كلمة ترشد إلى هُدَى، أو ترد عن رَدَى، أو تنصر حقا، أو تفضح باطلا، أو توضح غامضا، أو تفصِّل مجملا، أو تكشف عن حكمة مجهولة.
هذا وقد أمسى منهجي واضحا لكل قرائي، والحمد لله، فلا ألقي القول على عواهنه، ولا أقلِّد أحدا فيما أرى من رأي، لا من أئمتنا الأقدمين، ولا ممَّن اتخذهم الناس أئمة في عصرنا من الغربيين الذين غزت حضارتهم العالم، ومنه عالمنا الإسلامي.
ومنهجي هو الاعتماد على النص الصحيح في ثبوته الصريح في دلالته، وربطه بالواقع المعيش دون افتعال أو اعتساف، معتمدا أسلوب المناقشة والترجيح بالأدلة.
ولم أعتمد فيما كتبت إلا على آية محكمة، أو حديث صحيح، أو دليل شرعي معتبر، أو منطق عقلي سليم، مسترشدًا بأقوال من يُعْتَد بهم من العلماء، ليشدوا أزري، حتى لا أقف وحدي، لا على أن أقوالهم في ذاتها حجة، فلا حجة في قول البشر إلا قول محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي أرسله الله رحمة، ومنحه العصمة، وهدى به الأمة.(1/1)
وقد بدأت بتحديد مفهوم كل من الدين والسياسة، ثم بيان العلاقة بينهما عند كل من العلمانين والإسلاميين، والعلمانيون يفصلون تماما بين الدين والسياسة أو الدين والدولة، والإسلاميون يقولون بوجوب اجتماعهما، ويردون على من قالوا: لا دين في السياسة، ولا سياسة في الدِّين.
فإن كان ما كتبته صوابا، أو خيرا فمن الله وحده، إذ الفضل منه وإليه، وما كان من خطأ، أو شرود، أو قصور، أو تقصير، فمن نفسي ومن الشيطان، وأستغفر الله منه، وأسأله تعالى أن يهديني إلى تصويب نفسي، ولا يحرمني أجر المجتهد المخطئ؛ إذا حرمت من أجري المجتهد المصيب. وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
{رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8].
الدوحة في: ... ربيع الآخر 1427هـ ... ... الفقير إلى عفو ربه ... ... ... ... مايو (أيار) 2006م ... ... ... يوسف القرضاوي ... ... ... ... ... ... ...
الدِّين والسياسة
تحديد المفاهيم أولا:
قبل أن نتعرض لموقف الدِّين من السياسة أو موقف السياسة من الدِّين، والعلاقة بينهما هل هي -من الناحية النظرية- الترادف أو التباين أو التناقض؟ وهل هي -من الناحية العملية- التعارف أو التناكر؟ التقارب أو التباعد؟ التعاون أو التشاحن؟
لا بُد لنا قبل ذلك: أن نحدد مفهوم كل من الدِّين، ومن السياسة، إذ الحُكْم على الشيء -كما يقول علماء المنطق- فرع عن تصوره.
فما معنى كلمة (الدِّين) حين ننطق بها، ونستعملها في حياتنا أفرادًا وجماعات وأُمما؟(1/2)
وأيضا: ما معنى (السياسة) التي أصبحت تتحكم في مصايرنا(1)، وتقودنا طوعًا أو كرهًا إلى ما يريد فلاسفتها النظريون، ومنفذوها التطبيقيون، والقادة السياسيون؟
مفهوم كلمة (الدِّين)
إذا بحثنا عن مفهوم كلمة (الدِّين) في اللغة: وجدنا لها معاني كثيرة مختلفة، قد لا نخرج منها بطائل، وهو الذي جعل شيخنا العلاَّمة الدكتور محمد عبد الله دراز يعلن ضيقه بالمعاجم العربية التي لا تُعطي مفهوما حاسما في هذا الأمر وأمثاله.
ولكن شيخنا وجد: أن المعاني الكثيرة تعود في نهاية الأمر إلى ثلاثة معان تكاد تكون متلازمة، بل نجد أن التفاوت اليسير بين هذه المعاني الثلاثة مردُّه في الحقيقة إلى أن الكلمة التي يُراد شرحها ليست كلمة واحدة، بل ثلاث كلمات، أو بعبارة أدق: أنها تتضمن ثلاثة أفعال بالتناوب.
بيانه: أن كلمة (الدِّين) تؤخذ تارة من فعل مُتعدٍ بنفسه: (دانه يدينه)، وتارة من فعل متعدٍ باللام: (دان له)، وتارة من فعل متعدٍ بالباء: (دان به)، وباختلاف الاشتقاق تختلف الصورة المعنوية التي تعطيها الصيغة.
__________
(1) - مصايرنا: جمع مصير، وبعض الناس ينطقونها: مصائرنا. وهو غلط شائع لدى الكثيرين. فالمادة أصلها يائي، فر تهمز في الجمع، كما قال تعالى: {وجعلنا لكم فيها معايش} [الأعراف:10]. ومثلها: مكايد ومصايد ومشايخ، ونحوها.(1/3)
1. فإذا قلنا: (دانه دِينًا) عنينا بذلك أنه مَلَكَه، وحَكَمَه، وساسه، ودبره، وقهره، وحاسبه، وقضى في شأنه، وجازاه، وكافأه. فالدِّين في هذا الاستعمال يدور على معنى المُلك والتصرف بما هو من شأن الملوك؛ من السياسة والتدبير، والحكم والقهر، والمحاسبة والمجازاة. ومن ذلك: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]، أي يوم المحاسبة والجزاء. وفي الحديث: "الكَيِّسُ من دان نفسه"(1)، أي حَكَمَها وضَبَطَها. و(الديَّان) الحَكَم القاضي.
2. وإذا قلنا: (دان له) أردنا أنه أطاعه، وخضع له. فالدِّين هنا هو الخضوع والطاعة، والعبادة والورع. وكلمة: (الدِّين لله) يصح أن منها كلا المعنيين: الحُكم لله، أو الخضوع لله.
وواضح أن هذا المعنى الثاني ملازم للأول ومطاوع له. (دانه فدان له) أي قهره على الطاعة فخضع وأطاع.
3. وإذا قلنا: (دان بالشيء) كان معناه أنه اتخذه دينا ومذهبا، أي اعتقده أو اعتاده أو تخلَّق به. فالدِّين على هذا هو المذهب والطريقة التي يسير عليها المرء نظريًا أو عمليًا. فالمذهب العملي لكل امرئ هو عادته وسيرته؛ كما يقال: (هذا دِيني ودَيْدَني). والمذهب النظري عنده هو عقيدته ورأيه الذي يعتنقه. ومن ذلك قولهم: (ديَّنت الرجل) أي وَكَلْتُه إلى دينه، ولم أعترض عليه فيما يراه سائغا في اعتقاده.
ولا يخفى أن هذا الاستعمال الثالث تابع أيضًا للاستعمالين قبله، لأن العادة أو العقيدة التي يدان بها، لها من السلطان على صاحبها ما يجعله ينقاد لها، ويلتزم اتِّباعها.
__________
(1) - رواه أحمد في المسند (17123) عن شداد بن أوس، وقال محققوه: إسناده ضعيف لضعف أبي بكر ابن أبي مريم، وباقي رجال الإسناد ثقات، والترمذي في صفة القيامة والرقائق والورع (2459)، وقال: حديث حسن، وابن ماجه في الزهد (4260)، والحاكم في المستدرك كتاب التوبة (4/280)، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.(1/4)
وجملة القول في هذه المعاني: اللغوية أن كلمة (الدِّين) عند العرب تشير إلى علاقة بين طرفين يعظِّم أحدهما الآخر ويخضع له. فإذا وصف بها الطرف الأول كانت خضوعا وانقيادًا، وإذا وصف بها الطرف الثاني كانت أمرًا وسلطانًا، وحُكْمًا وإلزامًا، وإذا نظر بها إلى الرباط الجامع بين الطرفين كانت هي الدستور المنظم لتلك العلاقة، أو المظهر الذي يعبر عنها.
ونستطيع أن نقول: إن المادة كلها تدور على معنى لزوم الانقياد، ففي الاستعمال الأول، الدِّين هو: إلزام الانقياد، وفي الاستعمال الثاني، هو: التزام الانقياد، وفي الاستعمال الثالث، هو المبدأ الذي يُلتزم الانقياد له.
وهكذا يظهر لنا جليًا أن هذه المادة بكل معانيها أصيلة في اللغة العربية، وأن ما ظنه بعض المستشرقين(1)من أنها دخيلة، مُعرَّبة عن العبرية أو الفارسية في كل استعمالاتها أو في أكثرها: بعيد كل البعد. ولعلها نزعة شعوبية تريد تجريد العرب من كل فضيلة، حتى فضيلة البيان التي هي أعز مفاخرهم!
ونعود إلى موضوعنا فنقول: إن الذي يعنينا من كل هذه الاستعمالات هو الاستعمالان الأخيران، وعلى الأخص الاستعمال الثالث. فكلمة الدِّين التي تستعمل في تاريخ الأديان لها معنيان لا غير. (أحدهما) هذه الحالة النفسيةetat subjectif التي نسميها التدين religiosite. (والآخر) تلك الحقيقة الخارجية fait odjectif التي يمكن الرجوع إليها في العادات الخارجية، أو الآثار الخارجية، أو الروايات المأثورة، ومعناها: جملة المبادئ التي تدين بها أمة من الأمم، اعتقادا أو عملا. doctrine religieuse وهذا المعنى أكثر وأغلب(2)اهـ.
الدِّين اصطلاحا:
__________
(1) - انظر: دائرة معارف الإسلام المترجمة جـ9 صـ368، 369.
(2) - انظر: الدين لشيخنا د. محمد عبد الله دراز صـ29- 32.(1/5)
على أن المعنى اللغوي لا يعطينا تمامًا: المفهوم الذي يعرفه الناس ويستخدمونه في أعرافهم ومصطلحاتهم، وقد عرّفه بعض العلماء الإسلاميين بتعريفات متقاربة.
فقال ابن الكمال: الدِّين وضع إلهي يدعو أصحاب العقول إلى قبول ما هو عن الرسول.
وقال غيره: وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى الخير بالذات(1).
وقال أبو البقاء في (كلياته): الدِّين وضع إلهي سائق لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى الخير بالذات، قلبيا كان أو قالبيا (أي معنويا أو مادِّيا) كالاعتقاد والعلم والصلاة.
وقد يُتجوَّز فيه، فيطلق على الأصول خاصة، فيكون بمعنى المِلَّة، وعليه قوله تعالى: {دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [الأنعام:161].
وقد يُتجوَّز فيه أيضًا، فيطلق على الفروع خاصة، وعليه قوله تعالى: {الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5](2).
وأشهر تعريف تناقله الإسلاميون عن الدِّين ما ذكره صاحب (كشاف اصطلاحات العلوم والفنون): أنه وضع إلهيٌ سائق لذوي العقول السليمة باختيارهم، إلى الصلاح في الحال، والفلاح في المآل(3).
وقد لخصه شيخنا د. دراز بقوله: الدِّين وضع إلهي يرشد إلى الحق في الاعتقادات، وإلى الخير في السلوك والمعاملات(4).
وأحسب أن تلخيص شيخنا د. دراز ينقصه أن يتضمن (العبادات) مع (الاعتقادات) إلا أن تدخل في عموم السلوك، سواء كان مع الله، أم مع خَلقه.
وقد نقل شيخنا دراز عن الغربيين تعريفات عن الدِّين، يلتقي معظمها في الأصل مع المفهوم الاصطلاحي للدين عند علماء المسلمين.
ولا بأس أن نذكر هنا بعض هذه التعريفات.
__________
(1) - انظر: الزبيدي في (تاج العروس) جـ9 صـ208 مادة (دين) طبعة دار صادر. بيروت.
(2) - انظر: الكليات لأبي البقاء صـ433 طبعة مؤسسة الرسالة. بيروت.
(3) - كشاف اصطلاحات العلوم والفنون للتهانوي صـ403.
(4) - انظر: الدين للدكتور دراز صـ33 طبعة دار القلم. الكويت.(1/6)
يقول سيسرون، في كتابه (عن القوانين): (الدِّين هو الرباط الذي يصل الإنسان بالله).
ويقول في كتابه (الدِّين في حدود العقل): (الدِّين هو الشعور بواجباتنا من حيث كونها قائمة على أوامر إلهية).
ويقول شلاير ماخر، في (مقالات عن الديانة): (قوام حقيقة الدِّين شعورنا بالحاجة والتبعية المطلقة).
ويقول الأب شاتل، في كتاب (قانون الإنسانية): (الدِّين هو مجموعة واجبات المخلوق نحو الخالق: واجبات الإنسان نحو الله، وواجباته نحو الجماعة، وواجباته نحو نفسه).
ويقول روبرت سبنسر، في خاتمة كتاب (المبادئ الأولية): (الإيمان بقوة لا
يمكن تصور نهايتها الزمانية ولا المكانية، هو العنصر الرئيسي في الدِّين)(1).
مفهوم كلمة (الدِّين) في القرآن:
ومن تتبع كلمة (الدِّين) في القرآن الكريم، مُعَرَّفة أو منكرة، مجردة أو مضافة: يجد لها معاني كثيرة يحددها السياق.
فأحيانا يُراد بها الجزاء، مثل: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4].
وأحيانا يُراد بها: الطاعة، كما في قوله تعالى: {وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ} [النساء:164].
وأحيانا يُراد به: أصول الدِّين وعقائده، كما في قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى:13].
فالذي شرع الله لأمة محمد من الدِّين: هو ما وصَّى به أولي العزم من الرسل: نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم، وهو: أن يقيموا الدِّين ولا يتفرقوا فيه.
__________
(1) - انظر: الدين للدكتور دراز صـ34 وما بعدها.(1/7)
والدِّين هنا الذي جاءت به الرسل كلهم -كما قال الحافظ بن كثير- هو: عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]. وفي الحديث: "نحن -معشر الأنبياء- أولاد علات، ديننا واحد"(1). أي القدر المشترك بينهم، هو: عبادة الله وحده لا شريك له، وإن اختلفت شرائعهم ومناهجهم، كقوله جل جلاله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة:48]. لهذا قال تعالى ههنا: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13]، أي وصَّى الله تعالى جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالائتلاف والجماعة، ونهاهم عن الافتراق والاختلاف(2)اهـ.
وقد يُراد بالدِّين إذا ذكر في القرآن: الإسلام خاصة، كقوله تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} [آل عمران:83]، وقوله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} [التوبة: 33، الفتح:28، الصف:9].
كما قد يُراد به العقيدة التي يدين بها قوم من الأقوام، وإن كانت باطلة، كما في أمره تعالى لرسوله أن يقول للمشركين الكافرين: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6].
كلمة الدِّين لا تقتصر على الدِّين الحق:
ومن هنا نتبين: أن إطلاق كلمة (الدِّين) لا تعني (الدِّين الحق) وحده، بل تعني: ما يدين به الناس ويعتقدونه، حقا كان أم باطلا.
__________
(1) - رواه البخاري في أحاديث الأنبياء (3442) عن أبي هريرة، ومسلم في الفضائل (2365)، وأحمد في المسند (9270)، وأبو داود في السنة (4675) بألفاظ مختلفة قريبة من هذا اللفظ.
(2) - تفسير ابن كثير (4/109) طبعة عيسى الحلبي.(1/8)
ولقد أنكرتُ ما ذكره أحد العلماء في مؤتمر حضره عدد كبير من المدعويين، كان الحديث فيه عن حوار الأديان، والتقريب بين أهلها ... إلخ، وكان المؤتمر يدور حول هذه المعاني التي تحدث فيها المتحدثون والمشاركون. ولكن هذا العالم قام وقال بصراحة: لا يوجد هناك دين إلا دين واحد، وهو الإسلام، وهو الذي قال القرآن فيه: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} [آل عمران:19]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85]، حتى ما يُسَمَّى (الأديان الكتابية) لا يُعْتَد بها، ولا تُعْتبر دينا، بعد أن حرفها أهلها، وجاء الإسلام فنسخها.
وقد ألزمني الواجب أن أرد على هذا الكلام الذي ينسف كل ما قيل في المؤتمر، بل جهود الحوار والتقارب بين الأديان والحضارات. وقلتُ فيما قلتُ:
أن هذا الكلام يخالف صراحة ما جاء به القرآن، فالقرآن يعتبر أن هناك أديانا أخرى غير الإسلام، وإن كنا نعتبرها أديانا باطلة، ولكنها أديان يدين بها أصحابها.
والآية التي استشهد بها المتحدث ترد عليه، وهي قوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً ...} الآية، فقد سماه الله دينا.
وقال تعالى في شأن أهل الكتاب: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ...} [النساء:171]، بل أمر نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - في شأن الوثنيين من المشركين أن يقول لهم: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6].
وقال عز وجل في شأن الكافرين: {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الأعراف:51].(1/9)
فالدِّين يشمل ما هو حق، مثل ما بعث الله به محمدا - صلى الله عليه وسلم - وما هو باطل، كالأديان التي جاء بنسخها والظهور عليها، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة:33، الفتح:28، الصف:9]، فما أرسل الله به محمدا هو (دين الحق) الذي وعد الله أن يظهره على (الدِّين كله) أي الأديان كلها، فهي أديان لم يعد لها أحقية بعد ظهور الإسلام. أي أنه أبطلها.
الدِّين والإسلام:
ومن الضروري هنا أن نقرِّر: أن مفهوم كلمة (الدِّين) ليس هو مفهوم كلمة (الإسلام) كما يتصور ذلك كثير من الكتاب المعاصرين.
نعم يمكن أن يكونا شيئا واحدا، إذا أضفنا الدِّين إلى الإسلام أو إلى الله، فنقول (دين الإسلام) أو (دين الله) جاء بكذا أو كذا، أو هو الدِّين الذي بعث الله به خاتم رسله: محمدا - صلى الله عليه وسلم - وأنزل به آخر كتبه: القرآن الكريم.
ولكن إذا ذكرت كلمة (دين) مجردة من الإضافة أو الوصف، فهي أضيق مفهوما من كلمة الإسلام، لأن (الدِّين) في الحقيقة إنما هو جزء من الإسلام.
ومن هنا رأينا الأصوليين والفقهاء وعلماء المسلمين يُقَسِّمون المصالح التي جاءت شريعة الإسلام لتحقيقها في الحياة إلى: ضروريات وحاجيات وتحسينات. ويَحْصُرون الضروريات التي لا تقوم حياة الناس إلا بها في خمسة أشياء، وهي: الدِّين والنفس والنسل والعقل والمال. وأضاف بعضهم سادسة، وهي: العرض.
فالشريعة الإسلامية من مقاصدها الأساسية: أن تُقِيم (الدِّين) وتحافظ عليه، لأنه سر الوجود، وجوهر الحياة، ومن أجله خَلق الله الناس، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذريات:56].(1/10)
بل أعلن القرآن أن الله لم يخلق هذا العالم عُلْويَّه وسُفْليَّه، بسمواته وأرضه، إلا ليعرفه خَلقه، فيؤدوا إليه حقه، كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [الطلاق:12].
فالدِّين إذن هو ما يحدد العلاقة بين الله سبحانه وخَلقه من المكلَّفين، من حيث معرفته وتوحيده، والإيمان به إيمانا صحيحا بعيدا عن ضلالات الشرك، وأباطيل السحرة، وأوهام العوام. ومن حيث إفراده جل شأنه بالعبادة والاستعانة، فلا يُتوجه بالعبادة إلا إليه، ولا يستعان -خارج الأسباب المعتادة- إلا به سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].
ومن هنا نرى كلمة (الإسلام) أوسع دائرة من كلمة (الدِّين). ولهذا نقول: الإسلام دين ودنيا، عقيدة وشريعة، عبادة ومعاملة، دعوة ودولة، خُلُق وقوة.
ورأينا من أدعية نبينا - صلى الله عليه وسلم - : "اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي"(1).
وهكذا رأينا: (الدِّين) يقابل بـ(الدنيا)، ورأينا الفقهاء يقولون عن بعض أعمال المكلَّفين: تجوز دينًا أو ديانة، ولا تجوز قضاء أو العكس.
ورأينا الكلام عن (الدِّين والسياسة)، أو (الدِّين والدولة) في كلام كثير من العلماء على تنوع اختصاصهم.
مفهوم كلمة (السياسة) لغة واصطلاحا.
السياسة في اللغة: مصدر ساس يسوس سياسة.
فيقال: ساس الدابة أو الفرس: إذا قام على أمرها من العَلَف والسقي والترويض والتنظيف وغير ذلك.
__________
(1) - رواه مسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2720) عن أبي هريرة.(1/11)
وأحسب أن هذا المعنى هو الأصل الذي أُخِذ منه سياسة البشر. فكأن الإنسان بعد أن تمرس في سياسة الدواب، ارتقى إلى سياسة الناس، وقيادتهم في تدبير أمورهم. ولذا قال شارح القاموس: ومن المجاز: سُسْتُ الرعية سياسة: أمرتهم ونهيتهم. وساس الأمر سياسة: قام به. والسياسة: القيام على الشيء بما يصلحه(1).
وتعرِّفها موسوعة العلوم السياسية الصادرة عن جامعة الكويت -نقلا عن معجم (روبير)- بأنها: (فن إدارة المجتمعات الإنسانية).
وحسب معجم (كامل): (تتعلَّق السياسة بالحكم والإدارة في المجتمع المدني).
وتبعا لمعجم العلوم الاجتماعية: تشير السياسة إلى: (أفعال البشر التي تتَّصل بنشوب الصراع أو حسمه حول الصالح العام، والذي يتضمن دائما: استخدام القوة، أو النضال في سبيلها).
ويذهب المعجم القانوني إلى تعريف السياسة أنها: (أصول أو فن إدارة الشؤون العامة)(2).
كلمة (السياسة) في تراثنا الإسلامي
إذا عرفنا مفهوم كلمة (السياسة) لغة واصطلاحا، فينبغي أن نبحث عنها في تراثنا الإسلامي، وفي فقهنا وفكرنا الإسلامي، وفي مصادرنا الإسلامية.
هل نجدها في القرآن الكريم، وفي السنة النبوية، وفي فقه المذاهب المتبوعة، أو غيره من الفقه الحر؟ وهل نجدها عند غير الفقهاء من المتكلمين والمتصوفة والحكماء والفلاسفة؟
وكيف تحدث هؤلاء وأولئك عن السياسة؟ وما الموقف الشرعي المستمد من الكتاب والسنة من هذا كله؟
كلمة (السياسة) لم ترد في القرآن:
كلمة (السياسة) لم ترد في القرآن الكريم، لا في مكيِّه، ولا في مدنيِّه، ولا أي لفظة مشتقة منها وصفا أو فعلا. ومن قرأ (المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم) يتبين له هذا. ولهذا لم يذكرها الراغب في (مفرداته). ولا (معجم ألفاظ القرآن) الذي أصدره مجمع اللغة العربية.
__________
(1) - انظر: مادة (سوس) في تاج العروس (4/169) طبعة دار صادر. بيروت.
(2) - انظر: موسوعة العلوم السياسية. إصدار جامعة الكويت صـ102 فقرة (78).(1/12)
وقد يتخذ بعضهم من هذا دليلا على أن القرآن -أو الإسلام- لا يعني بالسياسة ولا يلتفت إليها.
ولا ريب أن هذا القول ضَرْب من المغالطة، فقد لا يوجد لفظ ما في القرآن الكريم، ولكن معناه ومضمونه مبثوث في القرآن.
أضرب مثلا لذلك بكلمة (العقيدة) فهي لا توجد في القرآن، ومع هذا مضمون العقيدة موجود في القرآن كله، من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، بل العقيدة هي المحور الأول الذي تدور عليه آيات القرآن الكريم.
ومثل ذلك كلمة (الفضيلة) فهي لا توجد في القرآن، ولكن القرآن مملوء من أوله إلى آخره بالحثِّ على الفضيلة، واجتناب الرذيلة.
فالقرآن وإن لم يجئ بلفظ (السياسة) جاء بما يدل عليها، وينبئ عنها، مثل كلمة (المُلك) الذي يعني حكم الناس وأمرهم ونهيهم وقيادتهم في أمورهم.
جاء ذلك في القرآن بصيغ وأساليب شتَّى، بعضها مدح، وبعضها ذم. فهناك المُلك العادل، وهناك المُلك الظالم، المُلك الشُورِي، والمُلك المستبد.
ذكر القرآن في المُلك الممدوح: {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً} [النساء:54].
وذكر من آل إبراهيم: يوسف الذي ناجى ربه فقال: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ} [يوسف:101]، وإنما قال من المُلك، لأنه لم يكن مستقلا بالحكم، بل كان فوقه مَلِك، هو الذي قال له: {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف:54].
وممَّن آتاهم الله المُلك: طالوت، الذي بعثه الله مَلِكا لبني إسرائيل، ليقاتلوا تحت لوائه، {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً} [البقرة:247].
وذكر القرآن من قصته مع جالوت التي أنهاها القرآن بقوله: {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ} [البقرة:251].
وكذلك سليمان الذي آتاه الله مُلْكا لا ينبغي لأحد من بعده.(1/13)
وممَّن ذكره القرآن من الملوك: ذو القرنين الذي مكَّنه الله في الأرض وآتاه الله من كل شيء سببا، واتسع مُلكه من المغرب إلى المشرق، وذكر الله تعالى قصته في سورة الكهف، مثنيا عليه.
وممَّن ذكره القرآن: مَلِكة سبأ التي قام مُلْكها على الشورى لا على الاستبداد {مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ} [النمل:32].
وفي مقابل هذا ذم القرآن المُلك الظالم والمتجبر، المسلط على خَلق الله، مثل: مُلك النمروذ، الذي حاجَّ إبراهيم في ربه أن آتاه الله المُلك.
ومثل: مُلك فرعون الذي علا في الأرض وجعل أهلها شِيَعًا، يستضعف طائفة منهم، يذبح أبناءهم، ويستحيي نساءهم، إنه كان من المفسدين.
وبعض الملوك لم يمدحهم القرآن ولم يذمهم، مثل مَلِك مصر في عهد يوسف، وهو الذي ولَّى يوسف على خزائن الأرض. وإن كان في حديث القرآن عن بعض تصرفاته ما ينبني عن حسن سياسته في مُلكه.
فهذا كله حديث عن السياسة والسياسيين تحت كلمة غير (السياسة).
ما ورد عن السياسة في السنة:
على أن السنة النبوية قد وجدت فيها حديثا تضمَّن ما اشتقَّ من السياسة، وهو الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون". قالوا: فما تأمرنا؟ قال: "فُوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم الذي جعل الله لهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم"(1).
أول استخدام لكلمة سياسة في معنى الولاية والحكم في تراثنا:
__________
(1) - رواه البخاري في أحاديث الأنبياء (3455) عن أبي هريرة، ومسلم في الإمارة (1842)، وأحمد في المسند (7960)، وابن ماجه في الجهاد (2871).(1/14)
وقد جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية في مادة (سياسة)(1)قولها: لعل أقدم نص وردت فيه كلمة (السياسة) بالمعنى المتعلِّق بالحكم هو: قول عمرو ابن العاص لأبي موسى الأشعري في وصف معاوية: إني وجدته ولي عثمانَ الخليفة المظلوم، والطالب بدمه، الحسن السياسة، الحسن التدبير(2).
وهذا مقبول إن كان المقصود كلمة (السياسة) مصدرا. أما المادة نفسها باعتبارها فعلا، فقد وردت كما ذكرناه في الحديث السابق المتفق عليه عن أبي هريرة، وكما وردت بعد ذلك منذ عهد سيدنا عمر رضي الله عنه، بوصفها فعلا مضارعا.
روى ابن أبي شيبة في مصنفه، والحاكم في مستدركه، عن المستظل ابن حصين، قال: خطبنا عمر بن الخطاب فقال: قد علمتُ -ورب الكعبة- متى تهلك العرب! فقام إليه رجل من المسلمين، فقال: متى يهلكون يا أمير المؤمنين؟ قال: حين يسوس أمرهم من لم يعالج أمر الجاهلية، ولم يصحب الرسول(3).
وكذلك رويت نفس الصيغة (صيغة الفعل المضارع) عن سيدنا علي رضي الله عنه. روى ابن أبي شيبة في مصنفه وابن الجعد في مسنده: قال علي: يا أهل الكوفة! والله لَتَجِدُّنَّ في أمر الله، ولتُقاتِلُنَّ على طاعة الله، أو ليَسُوسَنَّكم أقوام أنتم أقرب إلى الحق منهم، فليعذبنكم ثم ليعذبنهم(4).
السياسة عند الفقهاء
__________
(1) - الموسوعة الفقهية الكويتية (25/295، 296).
(2) - تاريخ الطبري (5/68) طبعة دار المعارف. القاهرة.
(3) - رواه ابن أبي شيبة في المصنف كتاب الفضائل (6/410) عن المستظل بن حصين، والحاكم في المستدرك كتاب الفتن والملاحم (4/475)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، والبيهقي في الشعب (6/69).
(4) - رواه ابن أبي شيبة في المصنف كتاب الفتن (7/504) عن المستظل بن حصين، ووقع في المصنف (ليسوا منكم) وهو تصحيف، وابن الجعد في مسنده (1/327) بتحقيق عامر أحمد حيدر. وابن الجعد هو علي ابن الجعد بن عبيد، أبو الحسن الجوهري البغدادي.(1/15)
وتحدث فقهاء المذاهب المختلفة في كتبهم عن السياسة، بمناسبات شتَّى، وخصوصا عند حديثهم عن التعزير: وهو العقوبة غير المقدرة بالنص.
السياسة عند المالكية والشافعية:
وكان منهم المُوَسِّع في السياسة، والمُضَيِّق فيها، ويبدو أن الشافعية كانوا هم المضيقين في هذا الجانب، أكثر من غيرهم، لأنهم لا يقولون بالمصالح المرسلة. وإن كان الإمام شهاب الدِّين القرافي المالكي (ت684هـ) يذكر في كتابه (تنقيح الفصول): أن كل فقهاء المذاهب قالوا بالمصالح. يقول رحمه الله:
(وإذا افتقدت المذاهب وجدتهم إذا قاسوا أو جمعوا أو فرَّقوا بين المسألتين لا يطلبون شاهدا بالاعتبار لذلك المعنى الذي جمعوا أو فرَّقوا، بل يكتفون بمطلق المناسبة، وهذا هو المصلحة المرسلة، فهي حينئذ في جميع المذاهب)(1).
وهذا هو التحقيق، فالذي يطالع كتب المذاهب الأخرى يجد فيها عشرات ومئات من المسائل إنما يعللونها بتعليلات مصلحية، وإن كان الحنفية والحنابلة أكثر من الشافعية في ذلك.
ويذكر القرافي: أن إمام الحرمين -عبد الملك بن عبد الله الجويني (ت478هـ)- قرَّر في كتابه المسمى بـ(الغياثي) أمورا وجوَّزها وأفتى بها -والمالكية بعيدون عنها- وجسر عليها، وقالها للمصلحة المطلقة(2)، وكذلك الغزالي في (شفاء الغليل) مع أن الاثنين شديدا الإنكار علينا -يعني المالكية- في المصلحة المرسلة(3).
__________
(1) - شرح تنقيح الفصول: صـ181.
(2) - أعتقد أنه يريد ما جوزه من فرض ضرائب على القادرين، إذا خلا بيت المال، وأصبحت حاجة الجهاد والدفاع تحتم إيجاد موارد للجند المدافعين، حتى لا تتعرض بلاد المسلمين كلها للخطر. وهو ما ذكره في (الغياثي) فقرة رقم (370) وما بعدها.
(3) - شرح تنقيح الفصول: صـ199.(1/16)
وإمام الحرمين والغزالي شافعيان. ولكن المعروف أن الغزالي في (المستصفى) يعتبر المصلحة من (الأصول الموهومة)، وأن شيخه إمام الحرمين يضيق في السياسة الشرعية، ولا يجيز أي زيادة على المنصوص عليه في العقوبات.
تضييق إمام الحرمين في السياسة:
وقد نقل الأستاذ الدكتور عبد العظيم الديب -في تحقيقه لكتاب (الغياثي) لإمام الحرمين والتقديم له، وكتابة دراسة قَيِّمة عنه- ما يوضح موقف الإمام رحمه الله، من قضية التوسع في التعزيرات، كما أجازه آخرون باسم السياسة للردع والزجر. وكان مما نقله عنه قوله: (ومما يتعين الاعتناء به الآن، وهو مقصود الفصل: أن أبناء الزمان ذهبوا إلى أن مناصب السلطنة والولاية لا تَسْتَدُّ (من السداد) إلا على رأي مالك رضي الله عنه، وكان يرى الازدياد على مبالغ الحدود في التعزيرات، ويسوغ للوالي أن يقتل في التعزير.
ونقل النقلة عنه أنه قال: للإمام أن يقتل ثلث الأمة في استصلاح ثلثيها(1)!
__________
(1) - لم يذكر لنا إمام الحرمين هنا ولا في كتابه الأصولي الشهير (البرهان): أين نقل هذا عن مالك، فلم يذكره في (الموطأ) ولم يرد في (المدونة)، ولا في غيرها من كتب مذهبه، ولم ينقل هذا أحد من العلماء المعروفين، الذين عنوا بنقل أقوال الأئمة وفقهاء السلف، مثل: عبد الرزاق، وابن أبي شيبة في مصنفيهما، والطحاوي والبيهقي في كتبهما. وقد أنكر هذا القول علماء المالكية بشدة، كما في منح الجليل شرح مختصر خليل، حيث قال:
(في التوضيح (أي من كتب المالكية): أبو المعالي (وهو إمام الحرمين قال): الإمام مالك رضي الله تعالى عنه، كثيرا ما يبني مذهبه على المصالح، وقد نقل عنه قتل ثلث العامة لإصلاح الثلثين. المازري: ما حكاه أبو المعالي عن مالك صحيح. زاد الحطاب بعده عن شرح (المحصول): ما ذكره إمام الحرمين عن مالك لم يوجد في كتب المالكية.
البُناني: شيخ شيوخنا المحقق محمد بن عبد القادر: هذا الكلام لا يجوز أن يسطر في الكتب؛ لئلا يغتر به بعض ضعفة الطلباء، وهذا لا يوافق شيئا من القواعد الشرعية.
الشهاب القرافي: ما نقله إمام الحرمين عن مالك: أنكره المالكية إنكارا شديدا، ولم يوجد في كتبهم. ابن الشماع: ما نقله إمام الحرمين لم ينقله أحد من علماء المذهب، ولم يخبر أنه رواه نقلته، إنما ألزمه ذلك، وقد اضطرب إمام الحرمين في ذكره ذلك عنه، كما اتضح ذلك من كتاب (البرهان). وقول المازري: ما حكاه أبو المعالي صحيح: راجع لأول الكلام. وهو: أنه كثيرا ما يبني مذهبه على المصالح، لا إلى قوله: نقل عنه قتل الثلث إلخ، أو أنه حمله على تترس الكفار ببعض المسلمين، وقوله: مالك يبني مذهبه على المصالح كثيرا: فيه نظر؛ لإنكار المالكية ذلك إلا على وجه مخصوص حسبما تقرر في الأصول، ولا يصح حمله على الإطلاق والعموم حتى يجري في الفتن التي تقع بين المسلمين وما يشبهها. وقد أشبع الكلام في هذا شيخ شيوخنا العلامة المحقق أبو عبد الله سيدي العربي الفاسي في جواب له طويل، وقد نقلت منه ما قيدته أعلاه، وهو تنبيه مهم تنبغي المحافظة عليه لئلا يغتر بما في التوضيح اهـ. وأما تأويل "ز" بأن المراد قتل ثلث المفسدين إذا تعين طريقا لإصلاح بقيتهم فغير صحيح، ولا يحل القول به، فإن الشارع إنما وضع لإصلاح المفسدين الحدود عند ثبوت موجباتها، ومن لم تصلحه السنة فلا أصلحه الله تعالى، ومثل هذا التأويل الفاسد هو الذي يوقع كثيرا من الظلمة المفسدين في سفك دماء المسلمين نعوذ بالله من شرور الفساد). انظر: منح الجليل شرح مختصر خليل باب في بيان أحكام الإجارة وكراء الدواب وغيرها صـ514، 515. وانظر: كلام إمام الحرمين في البرهان (2/733، 783، 785).(1/17)
وذهب بعض الجهلة عن غِرة وغباوة: أن ما جرى في صدر الاسلام من التخفيفات، كان سببها أنهم كانوا على قرب عهد بصفوة الإسلام، وكان يكفي في ردعهم التنبيه اليسير، والمقدار القريب من التعزير، وأما الآن، فقد قست القلوب، وبعدت العهود، ووهنت العقود، وصار متشبث عامة الخَلق الرغبات والرهبات، فلو وقع الاقتصار على ما كان من العقوبات، لما استمرت السياسات)(1).
ويرد ذلك الرأي بعنف، ويدفعه بقوة، قائلا: (وهذا الفن قد يستهين به الأغبياء، وهو على الحقيقة تسببٌ إلى مضادة ما ابتُعِث به سيد الأنبياء)(2).
ويستمر في تسفيه هذا الرأي قائلا: (وعلى الجملة من ظنَّ أن الشريعة تُتلقى من استصلاح العقلاء، ومقتضى رأي الحكماء، فقد رد الشريعة، واتخذ كلامه هذا إلى رد الشرائع ذريعة)(3).
ويعود لتأكيد نفس المعنى، فيقول: (وهذه الفنون في رجم الظنون، ولو تسلطت على قواعد الدِّين، لاتخذ كل مَن يرجع إلى مُسكة من عقل فكره شرعا، ولانتحاه ردعًا ومنعًا، فتنتهض هواجس النفوس حالَّة محل الوحي إلى الرسل، ثم يختلف ذلك باختلاف الأزمنة والأمكنة؛ فلا يبقى للشرع مستقر وثبات)(4).
ثم يبين السر في هذا الداء، فيقول: (هيهات هيهات. ثقل الاتِّباع على بعض بني الدهر؛ فرام أن يجعل عقله المعقول عن مدارك الرشاد في دين الله أساسا، ولاستصوابه راسا، حتى ينفض مِذرَويه، ويلتفت في عطفيه اختيالاً وشماسًا. فإذا لا مزيد على ما ذكرناه في مبالغ التعزير)(5).
ثم يصرح بتفشي هذا الداء -مجاوزة الحد في العقوبات- في زمانه، ويجأر بالشكوى، وكأنه يعتذر عن إطالته في هذا الموضوع، فيقول: (وإنما أرخيت في هذا الفصل فضل زمامي، وجاوزت حد الاقتصاد في كلامي، لأني تخيلت انبثاث هذا الداء العضال في صدور الرجال)(6).
__________
(1) - فقرة: 321، 322. من (غياث الأمم).
(2) - فقرة: 323.
(3) - فقرة: 323.
(4) - فقرة: 324.
(5) - فقرة: 324.
(6) - فقرة: 326.(1/18)
ويرى أن أصحاب السياسات لم يحيطوا فَهما بمحاسن الشريعة، ولذا يزعمون أن التعزير المحطوط عن الحدود لا يزع ولا يدفع، وأن هذا منهم جهل وسوء قصد. قال:
(والذي يبديه أصحاب السياسات أن التعزير المحطوط عن الحد لا يزع ولا يدفع، وغايتهم أن يزيدوا على مواقف الشريعة، ويتعدّوها ليتوصلوا بزعمهم إلى أغراض رأوها في الإيالة ... وإنما ينسل عن ضبط الشرع، من لم يحط بمحاسنه، ولم يطلع على خفاياه ومكامنه، فلا يسبق إلى مكرمة سابق إلا ولو بحث عن الشريعة، لألفاها أو خيرًا منها في وضع الشرع ... فهذا مسلك السداد، ومنهج الرشاد والاقتصاد، وما عداه سرف ومجاوزة حد، وغلوٌّ وعتوٌّ)(1).
ولا يفوته في هذا المقام أن يقف في وجه رجال الأمن الذين (يرون ردع أصحاب التهم، قبل إلمامهم بالهنات والسيئات)، ويقول: (إن الشرع لا يرخص في ذلك)(2).
هذا هو رأي إمام الحرمين، في تشديده وتضييقه، وإن كان يخالف ما ذكره القرافي! وهو هنا يمثل فقه الشافعية، وكيف لا، وهو الذي تشير إليه كتب المذهب بـ(الإمام) فإذا قالوا: قال الإمام، فليس غير إمام الحرمين.
وأما مذهب مالك، فقد نقل ابن فرحون في (تبصرة الحكام) عن القرافي قوله: إن التوسعة على الحكام في الأحكام السياسية ليس مخالفا للشرع، بل تشهد له الأدلة، وتشهد له القواعد. ومن أهمها كثرة الفساد وانتشاره، والمصلحة المرسلة التي قال بها مالك وجمع من العلماء(3).
ولا ريب أنَّ أخذ الإمام مالك بالمصلحة المرسلة، واشتهاره بها، وتوسُّعه فيها أكثر من غيره، يجعل له رخصة في مساحة أرحب في التفكير السياسي، والتصرف السياسي، للأئمة والأمراء.
__________
(1) - فقرة: 333، 332.
(2) - فقرة:334.
(3) - انظر: تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام (2/150 - 152) طبعة الحلبي. مصر.(1/19)
ولهذا نجد الإمام القرافي في كتابه (تنقيح الفصول) حين استدل على شرعية المصلحة المرسلة، اتخذ أمثلته وشواهده، من تصرفات الصحابة، ولا سيما الخلفاء الراشدين، وأنهم عملوا أمورا لمطلق المصلحة، لا لتقدم شاهد بالاعتبار، نحو كتابة أبي بكر للمصحف، ولم يتقدم فيه أمر ولا نظير، وولاية العهد من أبي بكر لعمر، ولم يتقدم فيها أمر ولا نظير، وكذلك ترك الخلافة شورى (بين ستة)، وتدوين الداواوين، وعمل السِّكة (النقود)، واتخاذ السجن، فعل ذلك عمر رضي الله عنه، وهدّ الأوقاف التي بإزاء مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والتوسعة بها في المسجد عند ضيقه، فعله عثمان رضي الله عنه(1).
وأيضا ما فعله عمر من اتخاذ تاريخ خاص للمسلمين، إلى سائر (أَوَّلياته) التي عُرف بها. ومثله جمع عثمان الناس على مصحف واحد، وإحراق ما عداه، وتضمين علي للصناع المحترفين، ما بأيديهم من أموال الناس، حتى يثبتوا أنها هلكت بغير إهمال ولا تعدٍّ منهم ... إلخ.
فهذه كلها من أعمال السياسة الشرعية للإمام أو الحاكم قام بها لمقتضى المصلحة للجماعة أو للأمة.
كل ما هو مطلوب هنا: ألا نصادم نصا مُحْكما من نصوص الشرع، ولا قاعدة مقطوعا بها من قواعده.
وربما كان أوسع المذاهب في ذلك مذهب الحنابلة، كما سنرى فيما ذكره الإمام ابن عقيل، وعلَّق عليه الإمام ابن القيم.
السياسة في الفقه الحنفي:
وقد تكلم علماء المذهب الحنفي عن السياسة -أكثر ما تكلموا- عند حديثهم عن حد الزنى، وما ورد فيه من حديث نفي الزاني غير المحصن وتغريبه سنة عن بلده الذي حدثت فيه جريمة الزنى، فقد فسروا هذا التغريب: بأنه نوع من (السياسة) أو التعزير. فلا مانع أن يفعله الإمام أو القاضي النائب عنه للردع والتأديب إذا رأى في ذلك مصلحة، ولم يخشَ من ورائه فتنة. فهو من (السياسة الشرعية) المبرَّرة والمبنية على قواعد الشرع.
__________
(1) - انظر: تنقيح الفصول للقرافي صـ199.(1/20)
وهنا تعرض علماء المذهب بهذه المناسبة للكلام عن السياسة. وقد استوفى ذلك علاّمة المتأخرين ابن عابدين في حاشيته الشهيرة، (رد المحتار على الدر المختار) ونقل فيها عن القُهستانيّ قوله: (السياسة لا تختص بالزنى، بل تجوز في كل جناية، والرأي فيها إلى الإمام -على ما في (الكافي)- كقَتْل مبتدع يُتَوَهَم منه انتشار بدعته وإن لم يُحكم بكفره، كما في (التمهيد)، وهي مصدر: ساس الوالي الرعية: أَمرَهم ونهاهم، كما في (القاموس) وغيره، فالسياسة استصلاح الخَلق بإرشادهم إلى الطريق المُنَجِّي في الدنيا والآخرة، فهي من الأنبياء على الخاصة والعامة في ظاهرهم وباطنهم، ومن السلاطين والملوك على كل منهم في ظاهره لا غير، ومن العلماء ورثة الأنبياء على الخاصة في باطنهم لا غير، كما في (المفردات)(1)وغيرها) اهـ، ومثله في (الدر المنتقى)(2).
__________
(1) - إن كان يعني (مفردات القرآن) للراغب الأصفهاني، فلا توجد فيه مادة (سياسة) ومشتقاتها، لأنها ليست كلمة قرآنية، كما ذكرنا. فلا أدري ماذا يعني بـ (المفردات)!
(2) - الدر المنتقى: كتاب الحدود (1/590). هامش مجمع الأنهر.(1/21)
قلتُ: (ابن عابدين) وهذا تعريف للسياسة العامة الصادقة على جميع ما شرعه الله تعالى لعباده من الأحكام الشرعية، وتستعمل أخص من ذلك مما فيه زجر وتأديب ولو بالقتل، كما قالوا في اللوطي والسارق والخنَّاق: إذا تكرر منهم ذلك حلَّ قتلهم سياسة، وكما مر في المبتدع، ولذا عرَّفها بعضهم: بأنها تغليظ جناية لها حكم شرعي حسما لمادة الفساد، وقوله: لها حكم شرعي معناه: أنها داخلة تحت قواعد الشرع وإن لم يُنَصَّ عليها بخصوصها، فإن مدار الشريعة بعد قواعد الإيمان على حسم مواد الفساد لبقاء العالم. ولذا قال في (البحر)(1): (وظاهر كلامهم أن السياسة هي فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها، وإن لم يَرِد بذلك الفعل دليل جزئي) اهـ وفي (حاشية مسكين) عن (الحموي): (السياسة شرع مُغَلَّظ، وهي نوعان: سياسة ظالمة، فالشريعة تحرمها، وسياسة عادلة تُخرج الحق من الظالم، وتدفع كثيرا من المظالم. وتردع أهل الفساد، وتُوصِل إلى المقاصد الشرعية، فالشريعة توجب المصير إليها والاعتماد في إظهار الحق عليها، وهي باب واسع، فمن أراد تفصيلها فعليه بمراجعة كتاب (مُعين الحكام) للقاضي (علاء الدِّين الأسود الطرابلسي الحنفي)) اهـ.
__________
(1) - البحر لابن نجيم: كتاب الحدود (5/11).(1/22)
قلتُ: (ابن عابدين) (والظاهر أن السياسة والتَّعزير مترادفان، ولذا عطفوا أحدهما على الآخر لبيان التفسير، كما وقع في (الهداية) و(الزيلعي) وغيرهما، بل اقتصر في (الجوهرة) على تسميته تعزيرا، وسيأتي أن التعزير تأديب دون الحد، من العَزْر بمعنى الرَّد والردع، وأنه يكون بالضرب وغيره، ولا يلزم أن يكون بمقابلة معصية، ولذا يضرب ابن عشر سنين على الصلاة، وكذلك السياسة كما مر في نفي (عمر) لـ (نصر بن حجاج)، فإنه ورد أنه قال لـ (عمر): ما ذنبي يا أمير المؤمنين؟ فقال: لا ذنب لك، وإنما الذنب لي؛ حيث لا أطهر دار الهجرة منك(1).
__________
(1) - كان في نفسي شيء من فعل سيدنا عمر رضي الله عنه، الذي اشتهر بإقامة العدل، وإنصاف المظلوم من ظالمه، ولو كان واليا من ولاته. فكيف يعاقب رجلا لا ذنب له، إلا أن الله خلقه جميلا، يخرجه من داره، لمجرد أن امرأة ذكرته في شعرها! وإذا كان يخاف منه على نساء المدينة، أفلا يخاف منه على نساء البصرة؟
ثم ترجَّح عندي أن أبحث عن سند القصة، فلعلها -رغم شهرتها- لم تثبت بطريق صحيح على منهج المحدثين. وبعد الرجوع إلى أسانيد القصة: وُجد أن أصح طرقها لم يروها أحد شاهدها أو عاصرها من الصحابة أو التابعين، كما أنها لم ترو بسند صحيح متصل. وقد روى القصة اثنان من التابعين:
الأول: الشعبي، (رواها أبو نعيم في الحلية: 4/322)، وقد مات عمر وعمره أربع سنوات، ولذا قال الذهبي وغيره: لم يسمع من عمر، على أن السند إلى الشعبي فيه عدد من الضعفاء، حتى إن منهم من اتهم بالكذب! والثاني: عبد الله بن بريدة، (رواها ابن سعد في الطبقات: 3/285)، وهو لم يشهد القصة أيضا، فقد مات عمر وهو في السابعة من عمره، ولذا قالوا: لم يسمع من عمر. على أن ابن بريدة ذاته كان في نفس الإمام أحمد منه شيء، وبعض من روى عنه فيه كلام كثير.
وهناك طرق أخرى كلها أضعف من هاتين الطريقين، رواها ابن عساكر، ولهذا لم نذكرها.
وبهذا لم تثبت هذه القصة بسند تقوم به الحجة، وتصبح من المسلمات التاريخية، وتحسب على الإمام العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه.(1/23)
فقد نفاه؛ لافتتان النساء به، وإن لم يكن بصنعه، فهو فِعلٌ لمصلحة، وهي قطع الافتتان بسببه في دار الهجرة التي هي من أشرف البقاع، ففيه رَد وردع عن منكر واجب الإزالة! وقالوا: إن التعزير موكول إلى رأي الإمام.
فقد ظهر لك بهذا أن باب التعزير هو المتكفل لأحكام السياسة، وسيأتي بيانه، وبه عُلِم أن فعل السياسة يكون من القاضي أيضا، والتعبير بالإمام ليس للاحتراز عن القاضي، بل لكونه هو الأصل والقاضي نائب عنه في تنفيذ الأحكام)(1).
ويبدو من كلام فقهاء الحنفية: أن السياسة تتعلَّق بجانب العقوبات والتأديب لا تتعداه. ولذا قالوا: إن السياسة والتعزير مترادفان.
والذي أرجحه: أن السياسة أعم من التعزير، فهي تدخل في أكثر من مجال في شؤون العادات والمعاملات: من الإدارة والاقتصاد والسلم والحرب والعلاقات الاجتماعية والدستورية والدولية وغيرها.
وسنرى أن تعريف الإمام ابن عقيل للسياسة أوسع وأوفى مما ذكره من ذكره من علماء الحنفية وغيرهم. فقد عرف السياسة بأنها: كل تصرف من ولي الأمر يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يأت به الشرع، بشرط ألا يخالف ما جاء به الشرع. وهو ما سنبحث عنه في ما يلي.
دور ابن القيم في توضيح السياسة الشرعية:
والحق أني لم أجد من الفقهاء في تاريخنا، من تكلم عن السياسة الشرعية وشرحها فأحسن شرحها، وكَشَف اللثام عن مفهومها، وبين الفرق بين السياسة العادلة، والسياسة الظالمة، وأن الأولى إنما هي جزء من الشريعة، وليست خارجة عنها، ولا قسيما لها، مثل الإمام ابن القيم (ت751هـ) رحمه الله، في كتابين من كتبه: (إعلام الموقعين) و(الطُّرق الحُكمية). ويحسن بنا أن ننقل كلامه هنا لما فيه من قوة الحجة، ونصاعة البيان، المؤيد بالبرهان.
__________
(1) - انظر: حاشية ابن عابدين جـ12 صـ49 – 52 طبعة دار الثقافة والتراث. دمشق سورية. بتحقيق د. حسام الدين فرفور.(1/24)
يقول رحمه الله في (الطُّرق الحُكمية) مُعلِّقا على ما قاله الإمام الحنبلي أبو الوفا ابن عقيل (ت513هـ)، الذي قال عنه ابن تيمية: كان من أذكياء العالم. وكل الذين درسوا ابن عقيل يعلمون أنه رجل بالغ الذكاء، موسوعي المعرفة، حُرُّ التفكير. قال: (قال ابن عقيل في (الفنون): جرى في جواز العمل في السلطنة بالسياسة الشرعية: أنه هو الحزم. ولا يخلو من القول به إمام.
فقال شافعي: لا سياسة إلا ما وافق الشرع.
فقال ابن عقيل: السياسة ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول، ولا نزل به وحي.
فإن أردت بقولك: (إلا ما وافق الشرع) أي لم يخالف ما نطق به الشرع؛ فصحيح.
وإن أردت: لا سياسة إلا ما نطق به الشرع: فغلط، وتغليط للصحابة. فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والتمثيل ما لا يجحده عالم بالسنن. ولو لم يكن إلا تحريق عثمان المصاحف(1)، فإنه كان رأيا اعتمدوا فيه على مصلحة الأمة، وتحريق علي رضي الله عنه، الزنادقة في الأخاديد، فقال:
لما رأيت الأمر أمرا منكرا ... ... أججت ناري ودعوت قُنْبرا(2)
ونفي عمر رضي الله عنه لنصر بن حجاج اهـ.
قال ابن القيم مُعلِّقا:
(وهذا موضع مَزَلَّة أقدام، ومَضَلَّة أفهام. وهو مقام ضنك، ومعترك صعب.
__________
(1) - وذلك لما أدخل بعض الصحابة في مصاحفهم تفسير بعض الكلمات، ثم أخذ القراء ينقلون هذه المصاحف، وبعضهم لا يفرق المُفَسَّر من المُفَسِّر، جمع عثمان المصاحف كلها وأحرقها بموافقة الصحابة، وكتب المصحف الإمام. وألزم الناس ألا يأخذوا إلا عنه.
(2) - هو غلام علي رضي الله عنه، وانظر: التمهيد لابن عبد البر: 5/318، وتاريخ دمشق: 42/476.(1/25)
فرط فيه طائفة: فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق، وجرَّؤوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد، محتاجة إلى غيرها. وسدوا على نفوسهم طُرُقا صحيحة من طُرُق معرفة الحق والتنفيذ له، وعطلوها، مع علمهم وعلم غيرهم قطعا: أنها حق مطابق للواقع، ظنا منهم منافاتها لقواعد الشرع. ولَعَمْرُ الله! إنها لم تناف ما جاء به الرسول، وإن نَفَتْ ما فهموه هم من شريعته باجتهادهم.
والذي أوجب ذلك:
1. نوع تقصير في معرفة الشريعة.
2. وتقصير في معرفة الواقع.
3. وتنزيل أحدهما على الآخر.
فلما رأى ولاة الأمور ذلك، وأن الناس لا يستقيم لهم أمر، إلا بأمر وراء ما فهمه هؤلاء من الشريعة: أحدثوا من أوضاع سياستهم شرّا طويلا، وفسادا عريضا. فتفاقم الأمر، وتعذر استدراكه، وعزَّ على العالمين بحقائق الشرع تخليص النفوس من ذلك، واستنقاذها من تلك المهالك.
وأفرطت طائفة أخرى، قابلت هذه الطائفة، فسوغت من ذلك ما ينافي حكم الله وحكم رسوله.
وكلا(1)الطائفتين أُتيت من تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله، وأنزل به كتابه. فإن الله سبحانه أرسل رسله، وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به الأرض والسماوات. فإن ظهرت أمارات العدل، وأسفر وجهه بأي طريق كان: فثَمَّ شرع الله ودينه. والله سبحانه أعلم وأحكم وأعدل أن يخص طُرُق العدل وأماراته وأعلامه بشيء، ثم ينفي ما هو أظهر منها وأقوى دلالة، وأبين أمارة، فلا يجعله منها، ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها. بل قد بيَّن سبحانه بما شرعه من الطُّرُق: أن مقصوده إقامة العدل بين عباده، وقيام الناس بالقسط: فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدِّين، ليست مخالفة له) اهـ.
__________
(1) - المعروف في ذلك أن يقال: كلتا الطائفتين. كما قال الله تعالى: { كلتا الجنتين آتت أكلها} [الكهف:33].(1/26)
وصدق ابن القيم حين بيَّن أن العيب ليس في الشريعة، وإنما في الذين يسدون كل باب لرعاية المصالح، والنظر في المقاصد، والتدبر في المآلات والموازنات والأولويات، ويضيقون على الناس ما وسع الله عليهم، ويضيعون على الأمة مصالح كثيرة بسوء فَهمهم وتزمتهم وجمودهم.
وفي مقابلهم: المفَرّطون المتسيبون الذين لا يقفون عند حدود الله، ولا يتقيدون بنصوص القرآن والسنة، وقد رأينا في عصرنا منهم الكثير، فهم يزينون للأمراء والحكام ما يريدون، ويجعلون الشريعة عجينة لينة في أيديهم، يشكلونها بأهوائهم وأهواء سادتهم، كما يحلو لهم.
والحق بين تضييع هؤلاء، وغلو أولئك.
ونعود لنستكمل مقولة ابن القيم، فهو يقول:
(فلا يقال: إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع، بل هي موافقة لما جاء به، بل هي جزء من أجزائه. ونحن نسميها (سياسة) تبعا لمصطلحكم. وإنما هي عدل الله ورسوله، ظهر بهذه الأمارات والعلامات.
فقد حبس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تهمة(1).
وعاقب في تهمة لما ظهرت أمارات الريبة على المتهم.
فمن أطلق كل متهم وحلَّفه وخلَّى سبيله -مع علمه باشتهاره بالفساد في الأرض، وكثرة سرقاته، وقال: لا آخذه إلا بشاهدي عدل- فقوله مخالف للسياسة الشرعية.
__________
(1) - إشارة إلى حديث: "أن النبي حبس رجلا في تهمة"، وقد رواه أحمد في المسند (20019) عن معاوية ابن حيدة، وقال محققوه: إسناده حسن، وأبو داود في الأقضية (3630)، والترمذي في الديات (1417)، وقال: حديث حسن، والنسائي في قطع السارق (4875)، والحاكم في المستدرك كتاب الأحكام (4/114)، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وعند أحمد والنسائي: "حبس ناسا".(1/27)
وقد منع النبي - صلى الله عليه وسلم - الغالَّ من الغنيمة سهمه، وحرَّق متاعه هو وخلفاؤه من بعده(1).
ومنع القاتل من السلب لما أساء شافعه على أمير السرية فعاقب المشفوع له عقوبة للشفيع(2).
وعزم على تحريق بيوت تاركي الجمعة والجماعة(3).
__________
(1) - إشارة إلى حديث: "إذا وجدتم الرجل قد غلَّ فأحرقوا متاعه واضربوه"، وقد رواه أبو داود في الجهاد (2713) عن عمر، والترمذي في الحدود (1461)، وقال: حديث غريب، والحاكم في المستدرك كتاب الجهاد (2/138) وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، والبيهقي في الكبرى كتاب السير (9/102) وضعفه، وأبو يعلى في المسند (1/180).
(2) - إشارة إلى حديث: قتل رجل من حمير رجلا من العدو فأراد سلبه، فمنعه خالد بن الوليد وكان واليا عليهم، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عوف بن مالك فأخبره، فقال لخالد: "ما منعك أن تعطيه سلبه؟" قال: استكثرته يا رسول الله. قال: "ادفعه إليه". فمر خالد بعوف فجر بردائه، ثم قال: هل أنجزت لك ما ذكرت لك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فسمعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستغضب، فقال: "لا تعطه يا خالد لا تعطه يا خالد، هل أنتم تاركون لي أمرائي؟ إنما أنا مثلكم ومثلهم كمثل رجل استرعى إبلا أو غنما فرعاها، ثم تحين سقيها فأوردها حوضا فشرعت فيه فشربت صفوه وتركت كدره، فصفوه لكم وكدره عليهم"، وقد رواه مسلم في الجهاد والسير (1753) عن عوف بن مالك، وأحمد في المسند (23987).
(3) - إشارة إلى حديث: "لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم أخالف إلى منازل قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم"، وقد رواه البخاري في الخصومات (2420) عن أبي هريرة، ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة (651)، وأبو داود في الصلاة (549)، والترمذي في الصلاة (217)، والنسائي في الإمامة (848).(1/28)
وأضعف الغرم على كاتم الضالة عن صاحبها(1).
وقال في تاركي الزكاة: "إنا آخذوها منه وشطر ماله، عَزْمة من عزمات ربنا"(2).
وأمر بكسر دنان الخمر(3)، وأمر بكسر القدور التي طبخ فيها اللحم الحرام. ثم نسخ عنهم الكسر، وأمرهم بالغسل(4).
وأمر المرأة التي لعنت ناقتها أن تخلي سبيلها)(5)اهـ.
__________
(1) - إشارة إلى حديث: "ضالة الإبل المكتومة غرامتها ومثلها معها"، وقد رواه أبو داود في اللقطة (1718) عن أبي هريرة، وعبد الرزاق في المصنف كتاب اللقطة (10/129)، والبيهقي في الكبرى كتاب اللقطة (6/191)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (1511).
(2) - رواه أحمد في المسند (20053) عن معاوية بن حيدة، وقال محققوه: إسناده حسن، وأبو داود في الزكاة (1575) والنسائي في الزكاة (2444) والحاكم في المستدرك كتاب الزكاة (1/554) وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
(3) - إشارة إلى حديث: "أهرق الخمر واكسر الدنان"، وقد رواه الترمذي في البيوع (1293) عن أبي طلحة، والطبراني في الكبير (5/99)، والدارقطني في السنن كتاب الأشربة وغيرها (4/265)، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (1039).
(4) - إشارة إلى حديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى نيرانا توقد يوم خيبر قال: "على ما توقد هذه النيران؟" قالوا: على الحمر الإنسية. قال: "اكسروها وأهرقوها" قالوا: ألا نهريقها ونغسلها؟ قال: "اغسلوا"، وقد رواه البخاري في المظالم (2477) عن سلمة بن الأكوع، ومسلم في الجهاد والسير (1802).
(5) - إشارة إلى حديث: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره، وامرأة من الأنصار على ناقة فضجرت فلعنتها، فسمع ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "خذوا ما عليها ودعوها فإنها ملعونة"، وقد رواه مسلم في البر والصلة والآداب (2595) عن عمران بن حصين، وأحمد في المسند (19870)، وأبو داود في الجهاد (2561).(1/29)
إلى غير ذلك مما ثبت بصحاح الأحاديث. من سياسته - صلى الله عليه وسلم - .
وسلك أصحابه وخلفاؤه من بعده ما هو معروف لمن طلبه، فمن ذلك:
أن أبا بكر رضي الله عنه، حرق اللوطية، وأذاقهم حَرَّ النار في الدنيا قبل الآخرة.
وحرق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حانوت الخمار بما فيه. وحرق قرية يباع فيها الخمر.
وحرق قصر سعد بن أبي وقاص لما احتجب في قصره عن الرعية.
وحلق عمر رأس نصر بن حجاج، ونفاه من المدينة لتشبيب النساء به(1).
وضرب صَبِيغ بن عِسْل على رأسه، لما سأل عما لا يعنيه.
وصادر عماله. فأخذ شطر أموالهم لما اكتسبوا بجاه العمل، واختلط ما يختصون به بذلك. فجعل أموالهم بينهم وبين المسلمين شطرين.
وألزم الصحابة أن يُقِلُّوا الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما اشتغلوا به عن القرآن، سياسة منه، إلى غير ذلك من سياساته التي ساس بها الأمة رضي الله عنه.
ومن ذلك: جمع عثمان رضي الله عنه، الناس على حرف واحد من الأحرف السبعة التي أطلق لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القراءة بها، لما كان في ذلك مصلحة، فلما خاف الصحابة رضي الله عنهم، على الأمة أن يختلفوا في القرآن، ورأوا أن جمعهم على حرف واحد أسلم، وأبعد من وقوع الاختلاف: فعلوا ذلك، ومنعوا الناس من القراءة بغيره.
ومن ذلك: تحريق علي رضي الله عنه، الزنادقة الرافضة، وهو يعلم سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قتل الكافر، ولكن لما رأى أمرا عظيما جعل عقوبته من أعظم العقوبات، ليزجر الناس عن مثله. ولذلك قال:
... لما رأيت الأمر أمرا منكرا ... ... أججت ناري ودعوت قُنْبرا
مرونة السياسة الشرعية وقابليتها للتغيير:
ثم قال ابن القيم:
(
__________
(1) - سبق الكلام عن سند هذه القصة وما في النفس منها.(1/30)
والمقصود: أن هذا وأمثاله سياسة جزئية بحسب المصلحة، تختلف باختلاف الأزمنة، فظنها من ظنها شرائع عامة لازمة للأمة إلى يوم القيامة. ولكل عذر وأجر. ومن اجتهد في طاعة الله ورسوله فهو دائر بين الأجر والأجرين.
وهذه السياسة التي ساسوا بها الأمة وأضعافُها هي من تأويل القرآن والسنة. ولكن هل هي من الشرائع الكلية التي لا تتغير بتغير الأزمنة، أم من السياسات الجزئية التابعة للمصالح، فتتقيد بها زمانا ومكانا؟)(1)اهـ.
ولا ريب أنها سياسات جزئية اقتضتها المصالح في زمانها ومكانها وحالها، فإذا تغيَّر الزمان أو تبدَّل المكان أو تطوَّر الحال: وجب النظر في الأحكام القديمة في ضوء الظروف الجديدة. وهنا يمكن أن تعدَّل أو تغير، وفق الظروف والمصالح المستحدثة. ولا يجوز الجمود على القديم، وإن كان من وراء ذلك من الضرر على المجتمع والأمة ما فيه، بدعوى أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان. فالواقع أن في إمكان الإنسان أن يفعل الكثير، إذا توافر له العلم والإرادة، ولا سيما في عصرنا الذي منح الإنسان طاقات وقدرات هائلة، لم تدر بخلده من قبل.
ومن المعلوم أن ما أقرَّه ابن القيم في كلامه عن سياسة التعزير بالعقوبات المالية -وهو مذهب الحنابلة- خالفته مذاهب أخرى، وإن كان ما ذكره ابن القيم هو الراجح للأدلة التي استند إليها.
وفي هذا الاختلاف بين المذاهب والفقهاء سَعَة ورحمة للأمة، بصفة عامة، وفي مجال السياسة بصفة خاصة. لا لننظر في الأقوال ونأخذ منها ما نشتهي وما يحلو لنا، دون ترجيح بأي معيار، فهذا ليس إلا اتِّباعا للهوى. ولكن هذه الثروة الكبيرة تتيح فرصة أوسع للانتقاء، والترجيح بين الآراء.
تعقيب عام على السياسة عند الفقهاء:
__________
(1) - انظر: الطرق الحكمية صـ41 – 50 طبعة المكتب الإسلامي ببيروت، وانظر: إعلام الموقعين (4/372 - 375) طبعة مطبعة السعادة بمصر. بتحقيق محمد محي الدين عبد الحميد.(1/31)
ما ذكرناه في الصحائف السابقة يتعلَّق بموقف الفقهاء من مصطلح (السياسة) وتحديد مفهومها، ونظرتهم إليها بين موسِّع ومضيِّق.
ولكن إذا نظرنا إلى (السياسة) من حيث (المضمون) وهو: ما يتعلَّق بتدبير أمور الرعية، وأداء الحقوق والأمانات إليهم، ونحو ذلك، فقد تحدث الفقهاء عن ذلك حديثا أطول، بعضه في داخل كتب الفقه في أبواب معروفة مثل: باب الأمانة، والقضاء، والحدود، والجهاد، وغيرها. وبعضه في كتب خاصة عنيت بموضوعات الحكم والسياسة والإدارة والمال وغيرها، كما رأينا في كتب معروفة، مثل: (الأحكام السلطانية) لأبي الحسن الماوردي الشافعي (ت450هـ)، ومثله بنفس العنوان لأبي يعلى الفراء الحنبلي (ت456هـ)، و(غياث الأمم في التياث الظلم) أو (الغِياثي) لإمام الحرمين الجويني الشافعي (ت476هـ)، و(السياسة الشرعية) لابن تيمية الحنبلي (ت728هـ)، و(الطُّرق الحُكمية) لابن القيم (ت751هـ)، وتبصرة الحكام لابن فرحون المالكي (ت799هـ)، وتحرير الأحكام لابن جماعة (ت819هـ)، ومُعِين الحكام للطرابلسي الحنفي (ت844هـ) وغير ذلك مما أُلِّف ليكون مرجعا للقضاة والحكام.
وهناك الكتب التي تتعلَّق بسياسة المال خاصة، مثل: (الخراج) لأبي يوسف أكبر أصحاب أبي حنيفة (ت182هـ) صنفه لهارون الرشيد ليسير عليه في سياسته المالية. وكذلك (الخراج) ليحيى بن آدم (ت203هـ)، و(الأموال) لأبي عبيد القاسم بن سلام (ت224هـ)، وهو أعظم ما أُلِّف في الفقه المالي في الإسلام. و(الأموال) لابن زنجويه (ت248هـ)، و(الاستخراج في أحكام الخراج) لابن رجب الحنبلي (ت795هـ).(1/32)
هذا بالإضافة إلى ما كتبه العلماء عن السياسة في كتب العقائد أو كتب (علم الكلام) كما كان يسمى، فقد اضطر أهل السنة أن يكتبوا عن الإمامة وشروطها ووظائفها وغير ذلك في كتب العقيدة، لأن الشيعة يعتبرون (الإمامة) في مذهبهم من أصول العقيدة، فيتحدثون عنها في كتبها. فلهذا خاض علماء أهل السنة في هذا الموضوع ليثبتوا موقفهم المخالف في هذه القضية، من حيث أن الإمام لا يشترط أن يكون من أهل البيت، وإن اشترط أكثرهم أن يكون من قريش، وأن الإمام يختار من الأمة، وأنه ليس بمعصوم من الخطأ ولا الخطيئة، وأنه يؤخذ منه ويرد عليه.
كما أن من علماء أهل السنة من تعرض لأمر السياسة في كتب (التصوف)، كما رأينا الإمام أبي حامد الغزالي (ت505هـ) يتعرض لذلك في موسوعته الشهيرة (إحياء علوم الدِّين)، إضافة إلى تعرضه لها في كتب علم الكلام مثل (الاقتصاد في الاعتقاد).
من ذلك ما كتبه في (كتاب العلم) من الإحياء عن الفقه والسياسة، أو العلاقة بين الفقيه والسياسي، فهو يجعل الفقه من علوم الحياة أو علوم الدنيا، وهنا يذكر أن الناس لو تناولوا أمور الدنيا بالعدل لانقطعت الخصومات، وتعطل الفقهاء! ولكنهم تناولوها بالشهوات، فتولدت منها الخصومات، فمست الحاجة إلى سلطان يسوسهم، واحتاج السلطان إلى قانون يسوسهم به.
(فالفقيه هو العالم بقانون السياسة وطريق التوسط بين الخَلق إذا تنازعوا بحكم الشهوات فكان الفقيه معلم السلطان ومرشده إلى طُرُق سياسة الخَلق وضبطهم لينتظم باستقامتهم أمورهم في الدنيا ولعَمْرِي إنه متعلِّق أيضا بالدِّين لكن لا بنفسه بل بواسطة الدنيا فإن الدنيا مزرعة الآخرة ولا يتم الدِّين إلا بالدنيا والمُلك والدِّين توأمان فالدِّين أصل والسلطان حارس وما لا أصل له فمهدوم وما لا حارس له فضائع ولا يتم المُلك والضبط إلا بالسلطان وطريق الضبط في فصل الحكومات بالفقه)(1).
__________
(1) - انظر: الإحياء (1/17) طبعة دار المعرفة. بيروت.(1/33)
السياسة عند الحكماء
وكما عني علماء الإسلام -من فقهاء وأصوليين ومتكلمين- بأمر السياسة، وتحدثوا عنها: عني بها الفلاسفة والحكماء(1)، من أمثال أبي نصر الفارابي الفيلسوف المشَّائي (نسبة إلى المدرسة المشَّائية المنسوبة لأرسطو)، الذي لقَّبه أهل الفلسفة بالمعلم الثاني (ت339هـ)، حيث لقَّبوا (أرسطو) بـ(المعلم الأول) ... وله في الفلسفة كتابه المعروف (آراء أهل المدينة الفاضلة). وهو شبيه بكتاب (أفلاطون) الشهير (جمهورية أفلاطون)، ورسالتا (تحصيل السعادة) و(رسالة السياسة) وكتاب (الفصول المدنية)، وقد أطلق عليه بعض الباحثين (أبو الفلسفة السياسية الإسلامية)، لأنه أول فيلسوف إسلامي توسَّع في تناول هذا الموضوع(2).
وبعده الفيلسوف الكبير أبو علي ابن سينا (ت428هـ)، الذي تأثر بالفارابي وفكره، ولكنه لم يفرد لـ(السياسة) بحثا كافيا، شأنه في القضايا الأخرى، لكنه قدَّم مجموعة آراء موزَّعة في كتابه (الشفاء) تعكس صورا من العصر الذي عاش فيه.
والسياسة عند ابن سينا تعني: حسن التدبير وإصلاح الفساد. ويرى أن الملوك هم أحق الناس بإتقانها ... لكنه يرى أن السياسة ليست محصورة في الملك وأصحاب السلطان، فكل إنسان بطبيعته في حاجة إلى السياسة مهما كان مركزه الاجتماعي.
ولهذا تحدث عن سياسة الرجل نفسه ... سياسة الرجل دخله وخَرجه ... سياسة الرجل أهله ... سياسة الرجل ولده ... سياسة الرجل خدمه.
__________
(1) - كان المسلمون قديما يعبرون عن الفلسفة بالحكمة، وعن الفلاسفة بالحكماء، وقد قالوا: الفلسفة مبناها: حب الحكمة، ولهذا ألَّف الفارابي كتابا يوفق فيه بين آراء الحكيمين: أفلاطون وأرسطو.
(2) - انظر: علم السياسة: د. حسن صعب دار العلم للملايين بيروت صـ84 وما بعدها.(1/34)
وعلى كل حال، فإن فلاسفة المدرسة المشَّائية الإسلامية، ينطلقون من نظرة فلسفية عقلية، متأثرة بالفلسفة اليونانية، وخصوصا: المدرسة الأرسطية. ولم نجد عندهم ثقافة إسلامية تربطهم بالشريعة ومصادرها، أصولها ومقاصدها.
إلا ما كان عند الفيلسوف العملاق: أبي الوليد ابن رشد الحفيد (ت595هـ)، فهو حين تحدث في السياسة اعتمد على الشريعة منطلقا له، باعتباره رجلا جمع بين الفقه والفلسفة، أو بين الشريعة والحكمة، على حد تعبيره(1).
الحكماء الأخلاقيون:
وهناك نوع من الحكماء -وإن شئنا قلنا: الفلاسفة- يتميزون بالنظر الفلسفي العميق، الموصول بالشريعة، وبالكتاب والسنة، والأوامر والنواهي، وإن لم يخل من تأثر بالمصدر اليوناني.
وأذكر من هؤلاء اثنين:
أولهما: الفيلسوف الأخلاقي الشهير: مسكويه، أو ابن مسكويه كما يقال أحيانا، الذي رأينا في كتابه (تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق) -وهو كتاب في فلسفة الأخلاق- استمدادا من الدِّين، واتصالا به في بعض الأحيان، كقوله عن المُلك:
(والقائم بحفظ هذه السنة وغيرها من وظائف الشرع حتى لا تزول عن أوضاعها هو الإمام، وصناعته هي صناعة المُلك، والأوائل لا يسمون بالملك إلا من حرس الدِّين وقام بحفظ مراتبه وأوامره وزواجره. وأما من أعرض عن ذلك فيسمونه متغلبًا، ولا يؤهلونه لاسم الملك. وذلك أن الدِّين هو وضع إلهي يسوق الناس باختيارهم إلى السعادة القصوى، والمُلك هو حارس هذا الوضع الإلهي حافظ على الناس ما أخذوا به.
__________
(1) - انظر: ما كتبته (موسوعة العلوم السياسية) الكويتية عن هؤلاء الثلاثة: الفارابي وابن سينا وابن رشد في الفقرات: 122 صـ180 – 182، و123 صـ182 – 184، 136 صـ204 – 207، وانظر: علم السياسة لحسن صعب صـ84- 87.(1/35)
وقد قال حكيم الفرس ومَلِكهم أزدشير: إن الدِّين والمُلْك أخوان توأمان، لا يتم أحدهما إلا بالآخر، فالدِّين أسّ والمُلك حارس، وكل ما لا أسّ له فمهدوم، وكل ما لا حارس له فضائع)(1).
وأما الحكيم الآخر: فهو أقرب إلى الدِّين منه إلى الفلسفة، وإن كان في نظراته عمق الفيلسوف الأصيل، ولكنه فيلسوف ديني، تصدر أفكاره معبِّرة عن الثقافة الإسلامية.
ذلك هو الإمام الحسن بن محمد بن المفضَّل المعروف بـ(الراغب الأصفهاني) صاحب كتاب (مفردات القرآن) -المعترف بفضله وقدره في (علوم القرآن)- وكتاب (تفصيل النشأتين) وغيرهما.
وقد تحدَّث عن (السياسة) في كتابه الفريد (الذريعة إلى مكارم الشريعة)، وهو أيضا كتاب في فلسفة الأخلاق، التي سماها (مكارم الشريعة). قال رحمه الله:
(والسياسة ضربان: أحدهما: سياسة الإنسان نفسه وبدنه وما يختص به.
والثاني: سياسة غيره من ذويه وأهل بلده، ولا يصلح لسياسة غيره مَن لا يصلح لسياسة نفسه، ولهذا ذمَّ الله تعالى من ترشَّح لسياسة غيره، فأمر بالمعروف ونهى عن المكر، وهو غير مهذب في نفسه، فقال: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:3،2]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } [المائدة: 105]، أي هذِّبوها قبل التَّرشح لتهذيب غيركم.
__________
(1) - انظر: تهذيب الأخلاق صـ129 من منشورات مكتبة الحياة. بيروت. طبعة ثانية، ويلاحظ أن عبارة أزدشير: قد اقتبسها الإمام الغزالي وأودعها كتابه إحياء علوم الدين (1/17) طبعة دار المعرفة. بيروت.(1/36)
وبهذا النظر قيل: تفقهوا قبل أن تسودوا(1)، تنبيها أنكم لا تصلحون للسيادة قبل معرفة الفقه والسياسة العامة، ولأن السائس يجري من المسوس مجرى ذي الظل من الظل، ومن المحال أن يستوي الظل وذو الظل أعوج، ولاستحالة أن يهتدي المسوس مع كون السائس ضالا، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النور:26]، فحكم أنه محال أن يكون مع اتباع الشيطان يأمر إلا بالفحشاء والمنكر...)(2).
فيلسوف الاجتماع ابن خلدون:
ولا بد لنا هنا أن نُعرِّج على رأي فيلسوف الاجتماع، بل مؤسس علم الاجتماع في الحقيقة: عبد الرحمن بن خلدون (ت808هـ)، الذي أثبته في مقدمته، وهو أثر الدِّين عند العرب في إقامة المُلك وتثبيته، مع سوء رأيه في العرب، وأنهم أقرب إلى التَّوحش منهم إلى العمران والحضارة(3)، ومع هذا قرَّر: أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصفة دينية، من نبوة أو ولاية (لله) أو أثر عظيم من الدِّين على الجملة.
__________
(1) - رواه البخاري معلقا بصيغة الجزم في العلم باب الاغتباط في العلم والحكمة عن عمر موقوفا، وابن أبي شيبة في المصنف كتاب الأدب (5/284)، والدارمي في المقدمة (250)، والبيهقي في الشعب (2/253).
(2) - انظر: (الذريعة إلى مكارم الشريعة) للراغب الأصفهاني بتحقيق د. أبو اليزيد العجمي صـ92، 93 طبعة دار الوفاء. مصر.
(3) - يرى البحَّاثة الكبير د. علي عبد الواحد وافي رحمه الله في تحقيقه للمقدمة، وتقديمه لها: أن المراد بالعرب عند ابن خلدون، هم: البدو، ودلَّل على ذلك من أقوال ابن خلدون نفسه في المقدمة، فليراجع. المقدمة طبعة دار البيان العربي.(1/37)
قال: (والسبب في ذلك: أنهم لخُلُق التَّوحش الذي فيهم، أصعبُ الأمم انقيادًا بعضهم لبعض للغلظة والأَنَفَة، وبُعد الهمَّة والمنافسة في الرِّياسة؛ فقلَّما تجتمع أهواؤهم. فإذا كان الدِّين بالنبوة أو الولاية (أي الولاية لله بالتقوى)، كان الوازع لهم من أنفسهم، وذهب خُلُق الكِبر والمنافسة منهم، فسهُل انقيادهم واجتماعهم، وذلك بما يشملهم من الدِّين المُذْهِب للغِلظة والأَنَفَة، والوازع عن التَّحاسد والتَّنافس. فإذا كان فيهم النَّبي أو الوَلِي الذي يبعثهم على القيام بأمر الله، ويُذهب عنهم مذمومات الأخلاق ويأخذهم بمحمودها، ويؤلِّف كلمتهم لإظهار الحق، تمَّ اجتماعهم، وحصل لهم التَّغلب والمُلك. وهم مع ذلك أسرع الناس قَبولا للحق والهُدى لسلامة طباعهم من عِوَج المَلَكات، وبراءتها من ذميم الأخلاق، إلا ما كان من خُلُق التَّوحش القريب المعاناة، المُتهيِّئ لقَبول الخير، ببقائه على الفطرة الأولى، وبُعده عمَّا ينطبع في النفوس من قبيح العوائد وسوء المَلَكات فإن كل مولود يولد على الفطرة(1)، كما ورد في الحديث)(2).
__________
(1) - إشارة إلى حديث: "ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه، كما تَنْتِجُون البهيمة، هل تجدون فيها من جدعاء؟ ..."، وقد رواه البخاري في القدر (6599) عن أبي هريرة، ومسلم في القدر (2658)، وأحمد في المسند (8179)، والترمذي في القدر (2138)، وأبو داود في السنة (4714).
(2) - مقدمة ابن خلدون صـ160 طبع مؤسسة الرسالة ناشرون. دمشق – بيروت.(1/38)
كما عقد ابن خلدون فصلا أكَّد فيه: أن الدعوة الدينية تزيد الدولة في أصلها قوة على قوة العصبية التي كانت لها من عددها. قال: (والسبب في ذلك -كما قدمناه: أن الصبغة الدِّينية تذهب بالتَّنافس والتَّحاسد الذي في أهل العصبية، وتُفرد الوجهة إلى الحق. فإذا حصل لهم الاستبصار في أمرهم: لم يقف لهم شيء؛ لأن الوجهة واحدة، والمطلوب متساوٍ عندهم، وهم مستميتون عليه، وأهل الدَّولة التي هم طالبوها -إن كانوا أضعافهم- فأغراضهم متباينة بالباطل، وتخاذلهم لِتَقيَّة الموت حاصل، فلا يُقاومونهم وإن كانوا أكثر منهم، بل يغلبون عليهم، ويُعاجلهم الفناء بما فيهم من الترف والذُّل كما قدمناه.
وهذا كما وقع للعرب صدر الإسلام في الفتوحات. فكانت جيوش المسلمين بالقادسية واليرموك بضعة وثلاثين ألفا في كل معسكر، وجموع فارس مائة وعشرين ألفا بالقادسية، وجموع هِرَقل -على ما قاله الواقدي- أربعمائة ألف! فلم يقف للعرب أحد من الجانبين، وهزموهم وغلبوهم على ما بأيديهم.
واعتبرْ ذلك أيضا في دولة لَمْتُونة ودولة الموحدين. فقد كان بالمغرب من القبائل كثير ممَّن يقاومهم في العدد والعصبية أو يَشِف(1)عليهم، إلا أن الاجتماع الدِّيني (عند الموحدين) ضاعف قوة عصبيتهم بالاستبصار والاستماتة كما قلناه، فلم يقف لهم شيء)(2).
__________
(1) - يشفُّ: يزيد (القاموس المحيط: صـ1066): شَفَفَ.
(2) - المقدمة صـ167.(1/39)
شغل ابن خلدون بالسياسة الواقعية، ولم يحلق وراء الطوبويات كجمهورية أفلاطون أو مدينة الفارابي، وعني باكتشاف القوانين الطبيعية التي تحكم الأمم والمجتمعات، والتي سماها (طبائع العمران)، فهو أبو علم (العمران السياسي) أو علم (الاجتماع السياسي)، وهو باعتراف الغربيين أنفسهم أول من كتب في هذا العلم، حتى ذكر الشيخ رفاعة الطهطاوي في كتابه (تخليص الإبريز إلى تلخيص باريز) أنه سمع العلماء في فرنسا حين إقامته في النصف الأول من القرن التاسع عشر يدعون ابن خلدون (منتسكيو الشرق أو الإسلام) ويسمون منتسكيو (ابن خلدون الفرنج)، ولا غرو أن أُطلق عليه: رائد علم الاجتماع السياسي الحديث(1).
السياسة عند الغربيين
ولا بد لنا هنا لنستكمل الحديث عن السياسة: أن نتحدث -لو بإيجاز- عن السياسة عند الغربيين، فقد أمسى الغرب هو المُهيمن على عالمنا المعاصر، وخصوصًا في عصر التفرُّد الأمريكي، وأضحت ثقافة الغرب هي الثقافة التي تريد أن تفرض نفسها على العالم، وأن تكون هي وحدها (الثقافة الكونية).
ونحن لا نستطيع أن نتجاهل هذا أو نُغفله، وإن كنا نرفض سياسة الهيمنة، وثقافة الهيمنة، ونؤمن بالتنوع والتعدُّدية في كل الأمور: التعدُّدية العِرقية، والتعدُّدية الُلغوية، والتعدُّدية الدِّينية، والتعدُّدية السياسية.
وعلى أية حال، شئنا أم أبينا، لا زالت جامعاتنا ومؤسساتنا الثقافية والفكرية متأثرة بالغرب، ولا زالت مصادر أساتذتنا ومثقفينا غربية في معظمها.
وفي جميع دراساتنا الإنسانية والاجتماعية -ولا سيما السياسية- نأخذ عن الغرب، وقلَّ منا مَن يقف موقف النقد والتحليل، بحيث يأخذ ويَدَع، وينتقي ويترك، تبعًا لمعاييره هو، ومعايير أمته وحضارته، لا معايير الغرب وحضارته.
المُهم هنا، أن نُعرِّف: ما هو مفهوم السياسة عند الغربيين؟
__________
(1) - انظر: علم السياسة لحسن صعب صـ87 – 90.(1/40)
هنا نجد تعريفات كثيرة لكلمة (السياسة) تختلف باختلاف الاتجاهات وزوايا الرؤى: فالسياسة عند الليبراليين، غيرها عند التَدَخُلِيين، والسياسة عند دعاة المذهب الفردي، غيرها عند دعاة المذهب الجماعي، والسياسة عند دعاة الاقتصاد الحر، أو اقتصاد السوق، غيرها عند الماركسيين أو دعاة التخطيط المركزي وسيطرة الدولة على الإنتاج والتوزيع.
السياسة عند رجال الدِّين الجامدين الذين يرون مقاومة الأمراض والأوبئة: مقاومة لإرادة الله، غير السياسة عند الأطباء ورجال الصحة الذين يرون توفير الصحة العامة، والأدوية وما يتصل بها لكل مريض.
السياسة عند دعاة الدِّين والقِيَم الأخلاقية الذين لا يبيحون الإجهاض بإطلاق، ولا يرون إشاعة الفاحشة في المجتمع من الزنى واللواط والسِّحاق، غير السياسة عند الذين يطلقون العنان للشهوات والغرائز الدنيا، لتقود الإنسان، وتَحكُم الحياة، حتى إنهم يباركون الزواج المثلي، ويؤيدون العُري والشذوذ، ممَّا ترفضه كل الأديان الكتابية. ولهذا تفاوتت التعريفات للسياسة عند كل فريق.
نذكر هنا نماذج من هذه التعريفات:
قول هانس مورغنتاو: (السياسة: صراع من أجل القوة والسيطرة(1)!).
قول هارولد لاسويل: (السياسة هي: السلطة أو النفوذ، الذي يحدِّد: مَن يحصل على ماذا؟ ومتى؟ وكيف؟)(2).
وقول وليم روبسون: (إن علم السياسة يقوم على دراسة السُلطة في المجتمع، وعلى دراسة أُسسها، وعملية ممارستها وأهدافها ونتائجها)(3).
صحيح أنه يتكلم عن (علم السياسة) لا عن السياسة، ولكن نفهم من موضوع العلم مفهوم السياسة التي يعالجها.
فكل هذه التعريفات تدور حول (السلطة) والقوة والسيطرة.
__________
(1) - انظر: السياسة بين الأمم صـ13 لهانس مورغنتاو. نيويورك 1948م.
(2) - انظر: المنهجية والسياسة صـ44 لملحم قربان. بيروت. الطبعة الأولى 1986م.
(3) - انظر: مدخل إلى علم السياسة صـ86 لجان مينو ترجمة جورج يونس. منشورات عوبدات. بيروت 1983م.(1/41)
ويسأل جان باري دانكان في الفصل الثاني من كتابه (علم السياسة) سؤالا أساسيا: ما هي السياسة؟
ويجيب الكاتب عن السؤال بتفصيل وتحليل وتعميق، استغرق (32) صفحة، وكان مما قاله: (إن هناك استعمالات نوعية لكلمة السياسة، واستعمالات غير نوعية).
ويعني بغير النوعية: تلك التي من السهل أن تستبدل فيه كلمة سياسة بمرادفاتها، ويذكر هنا ثلاثة استعمالات:
(الأول: أن كلمة (سياسة) تعادل تقريبا كلمة (الإدارة)، وخصوصا الأمور الجزئية، مثل سياسة النقل، وسياسة الطاقة، وسياسة صناعة السيارات، ونحوها.
الاستعمال الثاني: كلمة السياسة تُعادل كلمة (الاستراتيجية) مثل: سياسة الحزب، أو سياسة النقابة، أو سياسة الحكومة ... إلخ.
والاستعمال الثالث: تتضمَّن كلمة السياسة قِيمة تحقيرية بشكل واضح، حيث تفكر بفكرة العمل المكيافللي، المراوغ والضال.
فهنا ينظر إلى (السياسة) باعتبارها عالما مثيرا للاشمئزاز. والكلمة تستعمل بشكل شائع من أجل الحط من قيمة من تطلق عليه. فعبارة: (هذا من فعل السياسة) هي عبارة تحقيريَّة، وليست تعريفًا)(1).
وفي الاستعمال النوعي لكلمة السياسة يذكر دانكان: أنه يجب التفريق جيدًا بين السياسة وبين أمور أخرى تتداخل معها وتختلط بها، ولكنها متميزة عنها، مثل التكنوقراط، ومثل السياسة والاقتصاد، أو السياسي والاقتصادي، ومثل السياسة والأخلاق. وقد تحدث المؤلف بتفصيل مميزًا بين هذه المفاهيم بعضها البعض، فليرجع إليه(2).
وعلى كل حال، تدور السياسة في الغرب حول محورين أو هدفين أساسيين:
أحدهما: القوة والسيطرة.
وثانيهما: المصلحة والمنفعة.
__________
(1) - انظر: كتاب (علم السياسة) تأليف جان ماري دانكان، ترجمة د. محمد عرب صاصيلا. طبعة المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع. بيروت. صـ 23-30.
(2) - المصدر السابق صـ 30 وما بعدها.(1/42)
ولا مانع من طلب القوة والحصول عليها، ولكن لتكون أداة في خدمة الحق، لا غاية تُنشد لذاتها، والأمة المسلمة يجب أن تكون أبدًا مع قوة الحق لا مع حق القوة. والقوة إذا انفصلت عن الحق أصبحت خطرًا يُهدِّد الضعفاء، ويبطش بكل مَن لا ظفر له ولا ناب، كما حدثنا القرآن عن عاد قوم هود {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت:15].
وكان الغرور بالقوة هو الذي صدَّهم عن اتباع نبيهم الذي بعثه الله إليهم، ليُخرجهم من الوثنية إلى التوحيد، ومن طغيان القوة إلى الالتزام بالحق، ولما لم يُجد فيهم النصح، ولم يصغوا إلى إنذار رسولهم: أخذهم الله بعذابه، فأرسل عليهم الريح العقيم، ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم.
وأما المصلحة، فهي مُعتبرة في الشريعة الإسلامية، بل ما شرع الله الأحكام إلا لمصلحة العباد في المعاش والمعاد، وكل مسألة خرجت من المصلحة إلى المفسدة، فليست من الشريعة في شيء وإن أدخلت فيها بالتأويل، كما قال المحققون.
والمصلحة المرسلة، أي التي لم يَرِد في الشرع دليل باعتبارها ولا بإلغائها: تُعدُّ دليلاً من أدلة الشرع، كما صرح بذلك الإمام مالك، وكما هو الحال في المذاهب الأخرى، كما بيَّن ذلك الإمام شهاب الدين القرافي في كتابه (تنقيح الفصول).
ولكن المصلحة التي ترتبط بها السياسة في نظر الإسلام، والتي يتحدث عنها الغربيون وغيرهم، ليست هي كل ما يُحقِّق اللذة للإنسان، أو يجمع بها لنفسه أكبر قدر من حظوظ الدنيا، ولو كان ذلك على حساب غيره، أو على حساب القِيَم والأخلاق.
بل إن الشارع بيَّن المصالح المنشودة، وربطها بمقاصد تحققها في الدين والنفس والنسل والعقل والمال. وسنذكر ذلك في حديثنا عن (النص والمصلحة).(1/43)
العلاقة بين الدِّين والسياسة
إذا عرفنا مفهوم كل من الدِّين والسياسة: أمكننا أن نفهم علاقة كل منهما بالآخر. هل هي علاقة تضاد وتصادم، بحيث إذا وجد أحدهما انتفى الآخر؟
أو هي علاقة تواصل وتلاحم، بحيث لا يستغني أحدهما عن الآخر، ولا ينفصل عن الآخر.
أو هي علاقة تعايش وتفاهم، كما يتفاهم الشخصان المختلفان-دينا أو مذهبا أو عرقا أو وطنا- على عمل مشترك بينهما، أو كما تتفاهم الدول المختلفة أيديولجيا على التعايش السلمي المشترك؟
موقف الحداثيين والعلمانيين:
أما الحداثيون والماركسيون والعلمانيون، فلا يرون العلاقة بين الدِّين والسياسة إلا علاقة التضاد والتصادم، وأن الدِّين شيء، والسياسة خصم له، وأنهما لا يلتقيان. فالدِّين من الله، والسياسة من الإنسان. والدِّين نقاء واستقامة وطهر، والسياسة خبث والتواء وغدر. فينبغي أن يترك الدِّين لأهله، وتترك السياسة لأهلها.
وهم ينكرون فكرة الشمول والتكامل في الإسلام، الذي تبناه كل الدعاة والمُصلحين الإسلاميين في عصرنا؛ فهم يريدونه عقيدة بلا شريعة، وعبادة بلا معاملة، ودينا بلا دنيا، ودعوة بلا دولة، وحقا بلا قوة.
وقد رتبوا على هذا آثارا فكرية وعملية تبنوها، وجعلوها مرتكزات لهم، منها:
1. فصل الدِّين عن السياسة، والسياسة عن الدِّين، وإشاعة مقولة: (لا دين في السياسة ولا سياسة في الدِّين).
2. ادعاء أن الدِّين يقيد السياسة بحرفية النصوص، ولا يعول على المصلحة، وبذلك يفوت على الأمة مصالح كثيرة بسبب هذه النظرة الضيقة.
4. حرمان الدِّين أن تكون له دولة، تتبنى فكرته، وتطبق شريعته، وتبلغ دعوته، وتحمي أمته.
5. الترويج لفكرة زائفة: أن الدِّين يُجَمِّد الحياة، ويقاوم الإبداع والتطور.(1/44)
6. إشاعة أن الدولة الإسلامية: دولة دينية (ثيوقراطية) كدولة الكنيسة الغربية في العصور الوسطى. وهي دولة تحكم بالحق الإلهي، ويتحكم فيها (رجال الدِّين) الذين يتكلمون في الأرض باسم السماء، وتقوم على فكرة (الحاكمية الإلهية).
7. ترويج دعوى: أن الدولة الإسلامية تجور على الأقليات الدِّينية، ولا تعطيهم حقوقهم، وتعتبرهم (أهل ذمة) أو مواطنين من الدرجة الثانية!
8. أن الدولة الإسلامية -بقيمها ومفاهيمها وتشريعاتها وآدابها- تتعارض مع حقوق الإنسان، وخصوصا حق الحرية.
9. أن الحل الوحيد للأمة العربية والإسلامية في عصرنا، هو (العلمانية) بمفهومها الغربي، أي فصل الدِّين عن الدولة، والدولة عن الدِّين، فـ(العلمانية هي الحل)، وليس (الإسلام هو الحل) كما يتنادى بذلك الكثيرون في أوطاننا.
10. حرمان أهل الدِّين أن يكون لهم حق تكوين حزب سياسي، يعبر عن رؤاهم ومواقفهم، كما أعطي هذا الحق لغيرهم من التيارات الأخرى.
وسنناقش هذه النتائج والآثار، أو الموضوعات كلها، واحدة واحدة، ونُبَيِّن مدى ما فيها من تهافت، وما يعوزها من بينات، ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيّ عن بينة.
وسنبدأ بمناقشة ما أنكروه ورفضوه من فكرة (الشمول والتكامل) في الإسلام، وهي التي يتبناها كل المُصلحين والمجددين في الأمة.
فكرة شمول الإسلام
لماذا مزج المُصلحون الإسلاميون السياسة بالدِّين؟:(1/45)
أما مسألة (شمول الإسلام) التي ينكرها ويرفضها الحداثيون والعلمانيون والماركسيون بصفة عامة، فهي فكرة متفق عليها بين علماء الإسلام كافة. ورأينا المُصلحين الإسلاميين في العصر الحديث، ابتداء بابن عبد الوهاب، والمهدي، وخير الدين التونسي، والسنوسي، والأمير عبد القادر، وجمال الدِّين الأفغاني، ومرورا بالكواكبي، ومحمد عبده، وشكيب أرسلان، ورشيد رضا، وحسن البنا في مصر، وابن باديس وإخوانه في الجزائر، وعلال الفاسي في المغرب، والمودودي في باكستان، وغيرهم، كلهم يتبَنَّوْن شمول الإسلام للعقيدة والشريعة، والدعوة والدولة، والدِّين والسياسة. ولم يكتفوا بتقرير ذلك نظريًا، بل خاضوا غمار السياسة عمليًا، وواجهوا مخاطرها ومتاعبها، وعانوا محنها وشدائدها. وإنما فعلوا ذلك لأسباب ثلاثة:
1. شمول تعاليم الإسلام:
الأول: أن الإسلام الذي شرعه الله لم يدع جانبا من جوانب الحياة إلا وتعهده بالتشريع والتوجيه، فهو -بطبيعته- شامل لكل نواحي الحياة، مادية وروحية، وفردية واجتماعية، وقد خاطب الله تعالى رسوله بقوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل:89].(1/46)
والقرآن الذي يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ...} [البقرة:183]، هو نفسه الذي يقول في نفس السورة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ...} [البقرة:178]، وهو الذي يقول فيها: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ...} [البقرة:180]، ويقول في ذات السورة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ...} [البقرة:216]، عبَّر القرآن عن فرضية هذه الأمور كلها بعبارة واحدة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ}.
فهذه الأمور كلها مما كتبه الله على المؤمنين أي فرضه عليهم: الصيام من الأمور التعبدية، والقصاص في القوانين الجنائية، والوصية فيما يسمى (الأحوال الشخصية)، والقتال في العلاقات الدولية.
وكلها تكاليف شرعية يتعبد بتنفيذها المؤمنون، ويتقربون بها إلى الله، فلا يتصور من مسلم قبول فرضية الصيام، ورفض فرضية القصاص أو الوصية أو القتال.
إن الشريعة الإسلامية حاكمة على جميع أفعال المكلَّفين، فلا يخلو فعل ولا واقعة من الوقائع إلا ولها فيها حكم من الأحكام الشرعية الخمسة (الوجوب، أو الاستحباب، أو الحرمة، أو الكراهية، أو الإجازة). كما قرَّر ذلك الأصوليون والفقهاء من كل الطوائف والمذاهب المنتسبة إلى المِلَّة.
وقد دل على هذا الشمول القرآن والسنة، فقد قال تعالى مخاطبا رسوله - صلى الله عليه وسلم - : {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل:89]. ويقول عن القرآن: {مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف:111].(1/47)
وقد ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ترك أمرا يقربنا من الله إلا وأمرنا به، ولا ترك أمرا يبعدنا عن الله إلا نهانا عنه، حتى تركنا على المحجة البيضاء: "ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك"(1).
فالإسلام هو رسالة الحياة كلها، ورسالة الإنسان كله، كما أنه رسالة العالم كله، ورسالة الزمان كله(2).
ومن قرأ كتب الشريعة الإسلامية، أعني كتب الفقه الإسلامي، في مختلف مذاهبه: وجدها تشتمل على شؤون الحياة كلها، من فقه الطهارة، إلى فقه الأسرة، إلى فقه المجتمع، إلى فقه الدولة، وهذا في غاية الوضوح لكل طالب مبتدئ، ناهيك بالعالم المتمكِّن.
2. الإسلام يرفض تجزئة أحكامه:
الثاني: أن الإسلام نفسه يرفض تجزئة أحكامه وتعاليمه، وأخذ بعضها دون بعض.
وقد اشتد القرآن في إنكار هذا المسلك على بني إسرائيل، فقال تعالى في خطابهم: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:85].
__________
(1) - رواه أحمد في المسند (17142) عن العرباض بن سارية، وقال محققوه: حديث صحيح بطرقه وشواهده وهذا إسناد حسن، وابن ماجه في الإيمان (43)، والحاكم في المستدرك كتاب العلم (1/175)، والطبراني في الكبير (18/247)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4369).
(2) - انظر في ذلك: خصيصة (الشمول) من كتابنا (الخصائص العامة للإسلام) صـ95، وكذلك: (الفَهم الشمولي للإسلام والتحذير من تجزئة الإسلام) من كتابنا (الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي والإسلامي) صـ68 - 98.(1/48)
ولما أحب بعض اليهود أن يدخلوا في الإسلام بشرط أن يحتفظوا ببعض الشرائع اليهودية، مثل تحريم يوم السبت، أَبَى الرسول عليهم ذلك إلا أن يدخلوا في شرائع الإسلام كافة(1).
وفي ذلك نزل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة:208](2).
وخاطب الله سبحانه رسوله - صلى الله عليه وسلم - فقال: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة:49].
فهنا يحذر الله رسوله من غير المسلمين: أن يصرفوه عن بعض أحكام الإسلام، وهو خطاب لكل مَن يقوم بأمر الأمة من بعده.
والحقيقة أن تعاليم الإسلام وأحكامه في العقيدة والشريعة والأخلاق والعبادات والمعاملات: لا تؤتي أكلها إلا إذا أخذت متكاملة، فإن بعضها لازم لبعض، وهي أشبه (بوصفة طبية) كاملة مكوَّنة من غذاء متكامل، ودواء متنوع، وحِمْية وامتناع من بعض الأشياء، وممارسة لبعض التمرينات ... فلكي تحقق هذه الوصفة هدفها، لا بد من تنفيذها جميعا. فإنَّ تَرْك جزء منها قد يؤثر في النتيجة كلها.
3 . الحياة وحدة لا تتجزأ ولا تنقسم وكذلك الإنسان:
الثالث: أن الحياة وحدة لا تنقسم، وكل لا يتجزأ.
ولا يمكن أن تصلح الحياة إذا تولى الإسلام جزءا منها كالمساجد والزوايا يحكمها ويوجهها، وتُركت جوانب الحياة الأخرى لمذاهب وضعية، وأفكار بشرية، وفلسفات أرضية، توجهها وتقودها.
__________
(1) - تفسير الطبري (2/335).
(2) - يقول ابن كثير في تفسير الآية: (يقول الله تعالى آمرا عباده المؤمنين به، المصدقين برسوله، أن يأخذوا بجميع عُرا الإسلام وشرائعه، والعمل بجميع أوامره، وترك جميع زواجره، ما استطاعوا من ذلك). تفسير ابن كثير جـ1 صـ247 طبعة دار إحياء التراث العربي. بيروت.(1/49)
لا يمكن أن يكون للإسلام المسجد، ويكون للعلمانية المدرسة والجامعة والمحكمة والإذاعة والتلفاز والصحافة والمسرح والسينما والسوق والشارع، وبعبارة أخرى: الحياة كلها!
كما لا يمكن أن يصلح الإنسان إذا كان توجيه الجانب الروحي له من اختصاص جهة كالدِّين، والجانب المادي والعقلي والعاطفي من اختصاص جهة أخرى كالدولة اللادينية.
فالواقع أن لا مثنوية في الإنسان ولا في الحياة، فليس فيه ولا فيها انقسام ولا انفصال.
إنه هو الإنسان بروحه ومادته، بعقله وعاطفته، بغريزته وضميره، فلا فصل ولا تفريق، كما يؤيد ذلك العلم الحديث نفسه. وكذلك الحياة.
إن الإنسان لا ينقسم، والحياة لا تنقسم.
وكل الفلسفات والمذاهب الثورية أو (الأيديولوجيات) الانقلابية في التاريخ وفي عصرنا ذات طابع كلي شمولي، ولهذا ترفض تجزئة الحياة، وتأبى أن تسيطر على جزء منها دون جزء، بل لا بد أن تقودها كلها، وتوجهها جميعا وفقا لفلسفتها، ونظرتها الكلية للوجود وللمعرفة وللقيم، ولله والكون والإنسان والتاريخ.
يقول أحد الاشتراكيين العرب المعروفين(1)في تبرير هذا الاتجاه:
(إن فَهم الاشتراكية على أنها نظام اقتصادي فحسب، هو فَهم خاطئ؛ فالاشتراكية تقدِّم حلولا اقتصادية لمسائل كثيرة، ولكن هذه الحلول جميعا ليست إلا ناحية واحدة من نواحي الاشتراكية، وفَهمها على أساس هذه الناحية الواحدة فَهم خاطئ لا ينفذ إلى الأعماق، ولا يتعرف إلى الأسس التي تقوم عليها الاشتراكية، ولا يتطلع إلى الآمال البعيدة التي تذهب إليها الاشتراكية.
__________
(1) - هو د. منيف الرزار، الذي انتخب زمنا ما أمينا عاما لحزب البعث الاشتراكي العربي في كتاب (دراسات في الاشتراكية) الذي صدر عام 1960م، ويحمل مقالات لعدد من قادة (البعث).(1/50)
فالاشتراكية مذهب للحياة، لا مذهب للاقتصاد، مذهب يمتد إلى الاقتصاد والسياسة والتربية والتعليم والاجتماع والصحة والأخلاق والأدب والعلم والتاريخ، وإلى كل أوجه الحياة كبيرها وصغيرها.
وأن تكون اشتراكيا يعني أن يكون لك فَهم اشتراكي لكل هذا الذي ذكرت، وأن يكون لك كفاح اشتراكي يضم كل هذا الذي ذكرت).
ثم يؤكد الكاتب أن هذه النظرة الشاملة ليست مقصورة على الاشتراكية، وإنما هي الأساس في المذاهب الاجتماعية الأخرى.
ولقد برَّر الكاتب شمول المذاهب الاجتماعية، واتساع نطاقها بحيث تتسع إلى كل المجالات، وأن تضع الحلول لكل المشكلات بأن:
(سبب هذه النظرة الشاملة؛ أن الحياة نفسها شيء واحد ... تيار واحد لا يعرف هذا التقسيم الذي يخترعه عقلنا، لكي يسهِّل على نفسه إدراك حقائق الحياة، ثم ينسى أنه هو نفسه الذي قام بهذا التقسيم، ويظن أن الحياة كانت مقسَّمة هكذا منذ الأزل.
فالحياة لا تعرف شيئا اسمه الاقتصاد، منفصلا عن شيء اسمه الاجتماع، وشيء آخر اسمه السياسة.
الحياة شيء متكامل متصل، ولكن عقلنا العاجز المغرم بالتحليل والدرس، لن يتمكن من القيام بهذا التحليل والدرس، إذا واجه الحياة ككل قائم بذاته، فهو مضطر إلى أن يقسم الحياة إلى أوجه، وإلى ألوان، وإلى أنواع من العلاقات، فيُسمِّي بعضها اقتصادا، ويسمي بعضها الآخر سياسة، وبعضها اجتماعا، وأخلاقا، ودينا، وأدبا، وعلما ... إلى آخر هذه السلسلة إن كان لها آخر ...
الحياة ... كالنهر، شيء واحد متصل مستمر ... وكذلك حياة أي مجتمع، كبير أو صغير، أمة أو أسرة، حكومة أو حزب.
فموقف أي مجتمع إزاء الحريات السياسية يقرِّر موقفه من الاقتصاد، وموقفه من النظم الاقتصادية يقرِّر موقفه من الحريات السياسية، وكذلك من الاستعمار ومن الأخلاق ومن التعليم ومن الأدب ومن التاريخ ... إلى آخر تلك السلسلة التي لا تنتهي).
ويخلص الكاتب من ذلك إلى تأكيد الصفة الشاملة للاشتراكية فيقول:
((1/51)
بهذا المعنى، تصبح كلمة الاشتراكية إذن كلمة لا تقتصر على التعبير عن حالة اقتصادية معينة فحسب، بل هي تعبير عن نوع من الحياة بأكملها، بجميع وجوهها) اهـ.
هذه هي طبيعة الأيديولوجيات الانقلابية كلها، فلماذا يُراد للإسلام وحده -وهو بطبيعته رسالة شاملة: عقيدة وشريعة وأخلاقا وحضارة- أن يقصر رسالته على المساجد والمحاكم الشرعية؟!
ولعله لو رضي بذلك، ما تركوه يستقل بهذه المساجد يوجهها كما يريد، ولا تلك المحاكم يقضي فيها بما يشاء(1).
إن المسيحية التي يقول إنجيلها: (دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله)(2)حين وجدت الفرصة والقوة، لم يسعها أن تدع شيئا لقيصر، ولم تستطع إلا أن تسود، وتوجه الحياة كلها الوجهة التي تؤمن بها، مثل كل الأيديولوجيات الدِّينية والعلمانية قديما وحديثا.
فإذا كان هذا شأن المسيحية، فكيف بالإسلام الذي يأبى أن يقسم الإنسان بين مادة وروح منفصلتين، أو يقسم الحياة بين الله وقيصر، وإنما يجعل قيصر وما لقيصر لله الواحد الأحد؟!
{أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً} [الأنعام:114].
{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50](3).
و يقول أستاذنا الدكتور محمد البهي مُعقبا على قول علي عبد الرازق في كتابه (الإسلام وأصول الحكم):
(ولاية الرسول على قومه: ولاية روحية، منشؤها إيمان القلب، وخضوعه خضوعا صادقا تاما يتبعه خضوع الجسم.
__________
(1) - في عدد من بلاد المسلمين اعتدت الحكومات العلمانية على الجزء الباقي لهم من التشريع، وهو المتعلق بالأسرة أو ما سمي (الأحوال الشخصية)، كما أن المسجد لم يعد حرا في أن يقول كلمة الإسلام كما يشاء، بل كما تشاء السلطة.
(2) - إنجيل متى: (22/21).
(3) - انظر: كتابنا (شمول الإسلام) صـ43 - 50.(1/52)
وولاية الحاكم: ولاية مادية، تعتمد إخضاع الجسم من غير أن يكون لها بالقلب اتصال.
تلك ولاية هداية إلى الله وإرشاد إليه، وهذه ولاية تدبير لمصالح الحياة وعمارة الأرض، تلك للدين وهذه للدنيا، تلك لله وهذه للناس، تلك زعامة دينية، وهذه زعامة سياسية ... وما أبعد ما بين السياسة والدِّين)(1)!!
وهذا المعنى الذي يجيب به الكتاب على سؤاله السابق، يقوم على أساس من (مثنوية) تفكير القرون الوسطى فيما يتصل بالإنسان ... وهو التفكير الذي ساد الغربيين عند فصلهم بين (الكنيسة) و(الدولة).
و(مثنوية) الإنسان معناها: أن هناك (انفصالا) بين جسمه وروحه، وأنه ليس أحدهما تابعا للآخر، فضلا عن أن يكونا (وحدة) واحدة!! وتفكير القرون الوسطى في المشاكل الفلسفية: الإلهية والإنسانية، يستوي في التعبير عنه ما يوجد عند فلاسفة المسلمين أو فلاسفة المسيحيين من الآباء والمدرسين ... لأن قوامه هنا وهناك ما خلفه الإغريق، وورَّثوه للمسلمين والمسيحيين على السواء!
و (مثنوية) الإنسان يعدها العلم الحديث، وهو البحث النفسي التجريبي، تصورا نظريا لا يركن إليه الرأي السليم في قيادة الإنسان وتوجيهه. والإنسان الآن -في نظر البحث العلمي- وحدة واحدة: لا انفصال بين جسمه ونفسه، ولذا يستحيل أن يوزع بين اختصاصين متقابلين وسلطتين مختلفتين ... والأضمن إذن في سلامة توجيهه أن تكون قيادته واحدة.
__________
(1) - الإسلام وأصول الحكم صـ141 بتعليق د. ممدوح حقي عليه، طبعة دار مكتبة الحياة. بيروت.(1/53)
وتجربة توزيع السلطة في الغرب بين (الكنيسة) و(الدولة) -وهو ما يعرف بالفصل بين (الدِّين) و(الدولة)- لم تثمر الاحتكاك بين السلطتين فقط، بل كان من ثمراتها إخضاع إحدى السلطتين للأخرى في النهاية، وفي واقع الأمر كان هو إخضاع (الدولة) للكنيسة! فـ (الدولة) الغربية الحديثة في أوربا وأمريكا تعتمد على النظام الديمقراطي، وهو نظام التصويت الشعبي ... وفي معركة التصويت الشعبي يتفوق الحزب السياسي الذي يبذل -لتنفيذ اتجاه الكنيسة- من الوعود والعهود أكثرها، إذا ما وصل إلى كرسي الحكم!!
ومع أن (مثنوية) الإنسان التي قام عليها الفصل بين الدِّين والدولة تعتبر فكرة غير سليمة من الوجهة العلمية، وغير عملية من الوجهة التطبيقية، فإن دعاة -أو أدعياء- (التجديد) في الفكر الإسلامي الحديث: لم يزالوا يرون (الوحدة) في الإنسان وفي القيادة تخلفا، لأنها من أصول الإسلام(1)!!
4. أهمية الدولة في تحقيق الأهداف:
الرابع: وهو سبب عملي لا ينبغي أن يُنازَع فيه، وهو: أن الناس من قديم أدركوا أهمية الدولة أو السلطة السياسية في تحقيق الأهداف، وتنفيذ الأحكام، وتعليم الأمة، ووقايتها المنكر والفساد، ولذا قال الخليفة الثالث عثمان رضي الله عنه: "إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"(2).
__________
(1) - انظر: الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي للدكتور محمد البهي صـ266 - 268.
(2) - البداية والنهاية لابن كثير (2/10)، وروى الخطيب في تاريخه، عن عمر بن الخطاب قوله: لما يزع الله بالسلطان أعظم مما يزع بالقرآن (4/107).(1/54)
ولا سيما أن الدولة في عصرنا أمست تملك أَزِمَّة الحياة كلها في أيديها، من التعليم إلى القضاء، إلى الثقافة، إلى الإعلام، إلى المساجد، إلى الاقتصاد والاجتماع، فلا يمكن لمُصلح أن يتجاوزها، ويدعها للقوى العلمانية، تفعل ما تشاء، وهي قادرة على أن تهدم كل ما يبنيه أهل الإصلاح بسهولة ويسر. ولا سيما أن الهدم عادة أسهل من البناء. فكيف بمن يهدم بالألغام الناسفة، التي تستطيع أن تجعل العمارة الشاهقة كومة من تراب في دقائق معدودات؟!
ولم تكن الدولة قديما تملك كل هذا السلطان والتأثير في يدها. بل هو من خصائص عصرنا، كما قال برتراند راسل في أحد كتبه.
ولقد ذكرت في كتابي (تاريخنا المفترى عليه): أن الدولة ومعها الخليفة الأعظم، خلال تاريخنا الإسلامي الطويل، ما كانت تملك من شؤون الأمة والمجتمع الشيء الكثير. بل كانت الدولة محصورة في إطار معين في العاصمة وربما المدن الكبرى. أما الأمة بشعوبها وجماهيرها المختلفة، فكانت في واد غير وادي السلطة، تمارس حياتها في ظل الإسلام، وبقيادة العلماء في غالب الأحوال.
كان التعليم بيد العلماء، يعلمون الناس الإسلام واللغة والآداب والتاريخ والمعارف المختلفة، كما يشاؤون.
وكان القضاء بيد العلماء، يقضون بأحكام الشريعة على الخاصة والعامة، كما يحبون.
وكانت الفتوى كذلك بأيدي العلماء، يلجأ إليهم الناس مختارين، ليجيبوهم عما يسألون في أمور الدِّين والحياة.
وكانت الأوقاف الخيرية بأيدي العلماء، ينفقون من ريعها على أبواب الخير المتنوعة، ومنها: المساجد والمدارس، أي الدعوة والتعليم كما شرط الواقفون.(1/55)
فقد ظلت الأمة مستمسكة بدينها، حين انحرف الأمراء والسلاطين، وظلت متماسكة حين انفرط عقد الخلافة والسلطنة، وظلت الأمة قوية حصينة بمؤسساتها المدنية والأهلية والاجتماعية، حين ضعفت وتفككت السلطة التنفيذية، وظل المجتمع (المدني) -كما يقال اليوم- مشدودا إلى أصله الدِّيني، متمسكا بعروته الوثقى، وإن وهت حبال الدولة أو السلطة من حوله.
وفي عصرنا انتقلت القوة من الأمة إلى الدولة، وأضحت هي المتحكمة في معظم الأمور، كما أشرنا إلى ذلك، من تعليم وإعلام وثقافة وصحة وقضاء وشؤون دينية وأمنية وعسكرية واقتصادية.
فكيف يمكن للمصلح أن يباشر الإصلاح إذا كانت الدولة مضادة لاتجاهه، فهو يحيي وهي تميت، وهو يجمع وهي تفرق، وهو يُشرّق وهي تُغرّب؟
سارت مُغرِّبة وسرت مشرِّقا ... شتان بين مشرِّق ومغرِّب!
أو كما قال الشاعر الآخر:
متى يبلغ البنيان يوما تمامه ... ... إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم؟
فكيف إذا كان الذي يهدم هو الدولة ذاتها، بما تملك من إمكانات فائقة، وآليات كبيرة؟!
وهذا ما جعل المصلحين ومؤسسي الحركات الإسلامية يدخلون معترك السياسة، ويلتمسون الإصلاح عن طريق (إقامة دولة إسلامية) التي تحقق ما قاله الله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41]
ليس من الضروري أن يكونوا هم حكام هذه الدولة، إذا وجدوا من يقيم هذه الدولة المنشودة بأركانها وشروطها. فلو قام الحكام الحاليون بذلك فما أسعدهم بذلك.
وإن رفضوا ذلك أو عجزوا عنه -كما هو الواقع الماثل- فقد وجب على أهل الدعوة والإصلاح والتغيير: أن يقوموا هم بالمهمة المطلوبة.
(1)
فصل الدِّين عن السياسة(1/56)
أول ما رتبه العلمانيون على نظريتهم في العلاقة بين السياسة والدِّين: أنهم فصلوا السياسة عن الدِّين، والدِّين عن السياسة فصلا تاما، وأشاعوا المقولة الشهيرة: لا دين في السياسة ولا سياسة في الدِّين! وهي مقولة لا تثبت على محكِّ النقد والمناقشة.
مناقشة مقولة: لا دين في السياسة:
فما معنى: لا دين في السياسة: أتعني: أن السياسة لا دين لها، فلا تلتزم بالقِيَم والقواعد الدِّينية، وإنما هي (براجماتية) تتبع المنفعة حيث كانت، والمنفعة المادية، والمنفعة الحزبية أو القومية، والمنفعة الآنية، وترى أن المصلحة المادية العاجلة فوق الدِّين ومبادئه، وأن (الله) وأمره ونهيه وحسابه، لا مكان له في دنيا السياسة.
وهي أيضا تتبع نظرية مكيا فللي(1)، التي تفصل السياسة عن الأخلاق، وترى أن (الغاية تبرِّر الوسيلة)، وهي النظرية التي يبرِّر بها الطغاة والمستبدون مطامعهم وجرائمهم ضد شعوبهم، وخصوصا المعارضين لهم، فلا يبالون بضرب الأعناق، وقطع الأرزاق، وتضييق الخناق، بدعوى الحفاظ على أمن الدولة، واستقرار الأوضاع ... إلى آخر المبرِّرات المعروفة.
ولكن هل هذه هي السياسة التي يطمح إليها البشر؟ والتي يصلح بها البشر؟
__________
(1) - نقولو مكيا فللي: كاتب سياسي إيطالي (ت1642م)، اشتهر بكتابه (الأمير) الذي ذاع صيته في عالم السياسة، لما انفرد به من أفكار لا تبالي بالقِيم والأخلاق في بناء الدول وسياستها، فلا مانع عنده من استعمال النذالة والخيانة والغدر والتضليل والخداع والغش في سبيل الوصول إلى الهدف، وهو المحافظة على الدولة وقوتها، وشن الحرب دائما لحمايتها، ومهاجمة خصومها.
نقله إلى العربية خيري حماد، وقد نشرته دار الأوقاف الجديدة في بيروت (الطبعة الرابعة والعشرون 2002م) مع تعليق مطول للمحامي د. فاروق سعد، حول تراث الفكر السياسي قبل (الأمير) وبعده.(1/57)
إن البشر لا يصلح لهم إلا سياسة تضبطها قِيَم الدِّين وقواعد الأخلاق، وتلتزم بمعايير الخير والشر، وموازين الحق والباطل.
إن السياسة حين ترتبط بالدِّين، تعني: العدل في الرعية، والقسمة بالسوية، والانتصار للمظلوم على الظالم، وأخذ الضعيف حقه من القوي، وإتاحة فرص متكافئة للناس، ورعاية الفئات المسحوقة من المجتمع: كاليتامى والمساكين وأبناء السبيل، ورعاية الحقوق الأساسية للإنسان بصفة عامة.
إن دخول الدِّين في السياسة ليس -كما يصوره الماديون والعلمانيون- شرا على السياسة، وشرا على الدِّين نفسه.
إن الدِّين الحق إذا دخل في السياسة: دخل دخول المُوجِّه للخير، الهادي إلى الرشد، المبين للحق، العاصم من الضلال والغي.
فهو لا يرضى عن ظلم، وهو لا يتغاضى عن زيف، ولا يسكت عن غي، ولا يقر تسلط الأقوياء على الضعفاء، ولا يقبل أن يعاقب السارق الصغير، ويكرم السارق الكبير!!
والدِّين إذا دخل في السياسة: هداها إلى الغايات العليا للحياة وللإنسان: توحيد الله، وتزكية النفس، وسمو الروح، واستقامة الخُلق. وتحقيق مقاصد الله من خلق الإنسان: عبادة الله، وخلافته في الأرض، وعمارتها بالحق والعدل، بالإضافة إلى ترابط الأسرة، وتكامل المجتمع، وتماسك الأمة، وعدالة الدولة، وتعارف البشرية.
ومع الهداية إلى أشرف الغايات، وأسمى الأهداف: يهديها كذلك إلى أقوم المناهج، لتحقيق هذه الغايات وجعلها واقعا في يعيشه الناس، وليست مجرد أفكار نظرية، أو مثاليات تجريدية.(1/58)
والدِّين يمنح في الوقت نفسه رجال السياسة: الحوافز التي تدفعهم إلى الخير، وتقفهم عند الحق، وتشجعهم على نصرة الحق وإغاثة الملهوف، وتقوية الضعيف، والأخذ بيد المظلوم، والأخذ على يد الظالم حتى يرتدع عن ظلمه، كما جاء في الحديث الصحيح: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما". قالوا: يارسول الله، ننصره مظلوما، فكيف ننصره ظالما؟ قال: "تمنعه من الظلم، فذلك نصر له"(1).
والدِّين يمنح السياسي الضمير الحي أو (النفس اللوامة) التي تزجره أن يأكل الحرام من المال، أو يستحل الحرام من المجد، أو يأكل المال العام بالباطل، أو يأخذ الرشوة باسم الهدية أو العمولة. وهو الذي يجعل الحاكم يُحَرّض الناس على نصحه وتقويمه، (إن أسأت فقوموني)(2)، (من رأى منكم فيَّ اعوجاجا فليقومني)(3).
__________
(1) - رواه البخاري في المظالم (2444) عن أنس، وأحمد في المسند (11994).
(2) - جزء من خطبة أبي بكر بعد توليه الخلافة، رواها عبد الرزاق في المصنف كتاب الجامع (11/336)، وابن سعد في الطبقات (3/183)، والطبري في التاريخ (2/238)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (30/301)، وقال ابن كثير في البداية والنهاية: هذا إسناد صحيح (5/248).
(3) - روى ابن أبي شيبة في المصنف كتاب الزهد عن حذيفة قال: دخلت على عمر وهو قاعد على جذع في داره وهو يحدث نفسه، فدنوت منه فقلت: ما الذي أهمك يا أمير المؤمنين؟ فقال هكذا بيده وأشار بها، قال: قلت: الذي يهمك والله لو رأينا منك أمرا ننكره لقومناك قال: آلله الذي لا إله إلا هو لو رأيتم مني أمرا تنكرونه لقومتموه؟ فقلت: الله الذي لا إله إلا هو لو رأينا منك أمرا ننكره لقومناك. قال: ففرح بذلك فرحا شديدا وقال: الحمد لله الذي جعل فيكم -أصحاب محمد- من الذي إذا رأى مني أمرا ينكره قومني.(1/59)
والدِّين يجرِّئ الجماهير المؤمنة أن تقول كلمة الحق، وتنصح للحاكم وتحاسبه، وتقومه إذا اعوج. لا تخاف في الله لومة لائم، حتى لا يدخلوا فيما حذر منه القرآن: {واتّقُوا فتْنةً لا تُصيبَنَّ الذينَ ظَلمُوا منْكُم خاصَّة واعْلمُوا أنَّ اللهَ شَديدُ العقابِ} [الأنفال: 25]، وفيما حذر منه الرسول الكريم أمته: "إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم: يا ظالم، فقد تُوُدِّعَ منهم"(1)، أي لا خير فيهم حينئذ ويستوي وجودهم وعدمهم.
والسياسي حين يعتصم بالدِّين، فإنما يعتصم بالعروة الوثقى، ويحميه الدِّين من مساوئ الأخلاق، ورذائل النفاق، فإذا حدث لم يكذب، وإذا وعد لم يخلف، وإذا اؤتمن لم يخن، وإذا عاهد لم يغدر، وإذا خاصم لم يفجر، إنه مقيد بالمثل العليا ومكارم الأخلاق.
__________
(1) - رواه أحمد في المسند (6786) عن عبد الله بن عمرو، وقال محققوه إسناده ضعيف لانقطاعه، والبزار في المسند (6/362)، والحاكم في فضائل القرآن (4/108)، وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، والبيهقي في الكبرى كتاب الغصب (6/95)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد والبزار بإسنادين ورجال أحد إسنادي البزار رجال الصحيح وكذلك رجال أحمد (7/518)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (501).(1/60)
كما جاء عن محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي رفض معاونة من عرض عليه العون على المشركين، وله معهم عهد، فقال: "نفي لهم ونستعين الله عليهم"(1)، وأنكر قتل امرأة في إحدى الغزوات، قائلا: "ما كانت هذه لتقاتل"(2). ونهى عن قتل النساء والصبيان(3).
أما تسمية الخداع والكذب والغدر والنفاق (سياسة)، فهذا مصطلح لا نوافق عليه، فهذه هي سياسة الأشرار والفجار، التي يجب على كل أهل الخير أن يطاردوها ويرفضوها.
إن تجريد السياسة من الدِّين يعني تجريدها من بواعث الخير، وروادع الشر. تجريدها من عوامل البر والتقوى، وتركها لدواعي الإثم والعدوان.
__________
(1) - رواه مسلم في الجهاد والسير (1787) عن حذيفة بن اليمان، وابن أبي شيبة في المصنف كتاب المغازي (7/363)، والطبراني في الأوسط (8/213)، والحاكم في المستدرك كتاب معرفة الصحابة (3/222)، والبيهقي في الكبرى كتاب السير (9/145). وأول الحديث:حدثنا حذيفة بن اليمان ما معنى أن أشهد بدرا إلا أني خرجت أنا وأبي (حُسَيلٌ) قال: فأخذنا كفار قريش، قالوا: إنكم تريدون محمدا؟ فقلنا: ما نريده، ما نريد إلا المدينة، فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه، فأتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرناه الخبر فقال: "انصرفا نفي بعهدهم ونستعين الله عليهم".
(2) - رواه أحمد في المسند (15992) عن رباح بن الربيع، وقال محققوه: صحيح لغيره، وهذا إسناد حسن، وأبو داود في الجهاد (2669)، وابن ماجه في الجهاد (2842)، وعبد الرزاق في المصنف كتاب أهل الكتاب (6/132)، وأبو يعلى في المسند (3/115)، والطبراني في الكبير (5/72)، والبيهقي في الكبرى كتاب السير (9/82).
(3) - رواه البخاري في الجهاد والسير (3014- 3015) عن عبد الله بن عمر، ومسلم في الجهاد والسير (1744)، وأبو داود في الجهاد (2668)، والترمذي في السير (1569)، وابن ماجه في الجهاد (2841).(1/61)
وربط السياسة بالدِّين يعطي الدولة قدرة على تجنيد (الطاقة الإيمانية) أو (الطاقة الروحية) في خدمة المجتمع، وتوجيه سياسته الداخلية إلى الرشد لا الغي، وإلى الاستقامة لا الانحراف، وإلى الطهارة لا التلوث بالحرام.
وكذلك تجنيد هذه الطاقة في السياسة الخارجية للدفاع عن الوطن، ومواجهة أعدائه والمتربصين به، والاستماتة في سبيل تحريره إذا احتلت أرضه، أو اغتصبت حقوقه، أو ديست كرامته.
ولقد رأينا المسلمين في عصورهم الذهبية حين ارتبطت سياستهم بالدِّين، فتحوا الفتوح، وانتصروا على الإمبراطوريات الكبرى، وأقاموا دولة العدل والإحسان، ثم شادوا حضارة العلم والإيمان، مستظلين براية القرآن.
وها نحن نرى اليوم: الدولة الصهيونية المغتصبة (إسرائيل) كيف وظفت الدِّين اليهودي في إقامة دولتها، وتجميع اليهود على نصرتها، حتى العلمانيون من ساسة الصهيونية، كانوا يؤمنون بضرورة الاستفادة من الدِّين، وهم لا يؤمنون به مرجعا موجها للحياة.
ونرى كذلك الرئيس الأمريكي الحالي (بوش) وجماعته من أتباع اليمين المسيحي المتطرف، كيف يستخدمون الدِّين في تأييد سياستهم الطغيانية المستكبرة في الأرض بغير الحق، حتى رأينا (بوش) يتحدث وكأنه نبي يوحى إليه: أمرني ربي أن أحارب في العراق، أمرني ربي أن أحارب في أفغانستان ... إلى آخر ما أعلنه من صدور أوامر إلهية إليه!!
ورأينا أحزابا علمانية الفكر في أوربا تحاول أن تتقوَّى بالدين، فتنسب نفسها إليه، أي إلى المسيحية، فرأينا أحزابا مسيحية: ديمقراطية واشتراكية تقوم في عدد من دول أوربا، وتحصل على أكثرية أصوات الناخبين، وتتولى الحكم عدة مرات.
فلماذا يُراد للمسلمين وحدهم أن يَفْصلوا السياسة عن الدِّين، لتمضي الأمة وحدها معزولة عن سر قوتها، مهيضة الجناح، منزوعة السلاح، لا حول لها ولا طول؟!
وقد أجمع كل الحكماء من المسلمين على أن ارتباط الملك أو الحُكم أو الدولة بالدين لا يثمر إلا الخير والقوة للدولة.(1/62)
يقول العلاَّمة البيروني في كتابة الشهير (تحقيق ما للهند من مقولة): (إن المُلك إذا استند إلى جانب من جوانب مِلَّة (أي دين) فقد توافى فيه التوأمان، وكمل فيه الأمر باجتماع الملك والدين). وابن خلدون في مقدمته بفرق بين نوعين من المجتمعات: مجتمع دنيوي محض، ومجتمع دنيوي ديني، وهو أزكى وأفضل من المجتمع الأول، فهو يقر بأثر الدين في الحياة الاجتماعية، الذي لا يقل أهمية عن أثر العصبية، ومن ثَمَّ كانت الصورة المثلى للدولة عنده، هي التي يتآخى فيها الدين والدولة(1).
مناقشة مقولة: لا سياسة في الدِّين:
وما معنى (لا سياسة في الدِّين): إن كان معناها: أن الدِّين لا يعنى بسياسة الناس ألبتَّة، ولا يشغل نفسه بمشكلات حياتهم العامة، وتدبير أمورهم المعيشية، وعلاقة بعضهم ببعض، فهذا ليس بصحيح. فكل الأديان لها توجيهات في هذا الجانب، تَقْصر في دين، وتَطُول في آخر. والإسلام هو أطول الأديان باعا في هذا المجال، وله في ذلك نصوص كثيرة من القرآن والسنة، وله تراث حافل من فقه الشريعة، وشروح مذاهبها، واختلاف مشاربها.
ولقد ذكر الشيخ علي عبد الرازق في كتابه (الإسلام وأصول الحكم): أن الدنيا أهون عند الله من أن ينزل في تدبير شؤونها نصوصا من وحيه(2)!!
ونسي الشيخ أو تناسى أن الله أنزل أطول آية في كتابه (القرآن) في شأن من شؤون الدنيا، وهو كتابة الدَّين وتوثيقه. وذلك في الآية (282) من سورة البقرة، المعروفة بآية المداينة. وأن (آيات الأحكام) التي عني بها المفسرون والفقهاء تعد بالمئات.
وكل أصحاب الأديان كان لهم مشاركات في توجيه الحياة السياسية، حتى الكنيسة المسيحية التي قرأت قول الإنجيل: (دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله)، لم تأخذه بحرفيته، وحاولت أن تتدخل في شأن قيصر وأن توجهه، وربما نزعت السلطة منه.
__________
(1) - انظر: (موسوعة العلوم السياسية) الصادرة عن جامعة الكويت: فقرة (103) صـ144، 145.
(2) - انظر: الإسلام وأصول الحكم صـ154.(1/63)
ضلالة فصل الدِّين عن السياسة:
وقد اختار شيخنا العلامة محمد الخضر حسين -شيخ الأزهر في زمانه- أن يعبر عن فصل الدِّين عن السياسة -الذي دعا إليه أحد الكُتَّاب- بعبارة (ضلالة) وهو تعبير شرعي صحيح، لأنه أمر مُحْدث ومبتدع في الأمة، وكل بدعة ضلالة، كما في الحديث الصحيح.
وقد كتب في ذلك مقالة طويلة نشرها في مجلة (نور الإسلام)(1)، ثم وضعها في كتابه (رسائل الإصلاح).
ومما قاله الشيخ في هذه المقالة العلمية الرصينة:
(نعرف أن الذين يدعون إلى فصل الدِّين عن السياسة فريقان:
1. فريق يعترفون بأن للدين أحكاما وأصولا تتصل بالقضاء والسياسة، ولكنهم يُنْكرون أن تكون هذه الأحكام والأصول كافلة بالمصالح، آخذة بالسياسة إلى أحسن العواقب. ولم يبال هؤلاء أن يجهروا بالطعن في أحكام الدِّين وأصوله، وقبلوا أن يسميهم المسلمون ملاحدة؛ لأنهم مُقِرُّون بأنهم لا يؤمنون بالقرآن ولا بمن نزل عليه القرآن.
2. ورأى فريق أن الاعتراف بأن في الدِّين أصولا قضائية وأخرى سياسية، ثم الطعن في صلاحها، إيذان بالانفصال عن الدِّين، وإذا دعا المنفصل عن الدِّين إلى فصل الدِّين عن السياسة، كان قصده مفضوحا، وسعيه خائبا، فاخترع هؤلاء طريقا حسبوه أقرب إلى نجاحهم، وهو أن يَدَّعوا أن الإسلام توحيد وعبادات، ويجحدوا أن يكون في حقائقه ما له مدخل في القضاء والسياسة، وجمعوا على هذا ما استطاعوا من الشُّبه، لعلهم يجدون في الناس جهالة أو غباوة فيتم لهم ما بيتوا.
هذان مسلكان لمن ينادي بفصل الدِّين عن السياسة، وكلاهما يبغي من أصحاب السلطان: أن يضعوا للأمة الإسلامية قوانين تناقض شريعتها، ويسلكوا بها مذاهب لا توافق ما ارتضاه الله في إصلاحها. وكلا المسلكين وليد الافتتان بسياسة الشهوات، وقصور النظر عما لشريعة الإسلام من حِكَم بالغات.
__________
(1) - الذي كان يرأس تحريرها، وكانت هي مجلة علماء الأزهر، وقد بدل اسمها بعد ذلك، وسميت (مجلة الأزهر).(1/64)
أما أنَّ الإسلام قد جاء بأحكام وأصول قضائية، ووضع في فم السياسة لجاما من الحكمة، فإنما ينكره من تجاهل القرآن والسنة، ولم يحفل بسيرة الخلفاء الراشدين، إذ كانوا يزنون الحوادث بقسطاس الشريعة، ويرجعون عند الاختلاف إلى كتاب الله أو سنة رسوله.
وبين الشيخ أن في القرآن شواهد كثيرة على أن دعوته تدخل في المعاملات المدنية، وتتولى إرشاد السلطة السياسية، قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50]، وكل حكم يخالف شرع الله، فهو من فصيلة أحكام الجاهلية، وفي قوله تعالى: { لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}، إيماء إلى أن غير الموقنين قد ينازعون في حُسْن أحكام رب البرية، وتهوى أنفسهم تبدُّلها بمثل أحكام الجاهلية، ذلك لأنهم في غطاء من تقليد قوم كبروا في أعينهم، ولم يستطيعوا أن يميزوا سيئاتهم من حسناتهم، وقال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة:49]، فرض في هذه الآية أن يكون فصل القضايا على مقتضى كتاب الله، ونبه على أن مَن لم يدخل الإيمان في قلوبهم يبتغون من الحاكم أن يخلق أحكامه من طينة ما يوافق أهواءهم، وأردف هذا بتحذير الحاكم من أن يفتنه أسرى الشهوات عن بعض ما أنزل الله، وفتنتهم له في أن يسمع لقولهم، ويضع مكان حكم الله حكما يلائم بغيتهم، قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45]، وفي آية: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47]، وفي آية ثالثة: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44].(1/65)
وفي القرآن أحكام كثيرة ليست من التوحيد ولا من العبادات، كأحكام البيع والربا والرهن والإشهاد، وأحكام النكاح والطلاق واللعان والولاء والظهار والحجر على الأيتام والوصايا والمواريث، وأحكام القصاص والدية وقطع يد السارق وجلد الزاني وقاذف المحصنات، وجزاء الساعي في الأرض فسادا).
وذكر الشيخ آيات تتعلَّق بالحرب والسلم والمعاهدات والعلاقات الدولية.
ثم قال: (وفي السنة الصحيحة أحكام مفصلة في أبواب من المعاملات والجنايات إلى نحو هذا مما يدلك على أن مَن يدعو إلى فصل الدِّين عن السياسة إنما تصور دينا آخر غير الإسلام.
وفي سيرة أصحاب رسول الله -وهم أعلم الناس بمقاصد الشريعة- ما يدل دلالة قاطعة على أن للدين سلطانا في السياسة، فإنهم كانوا يأخذون على الخليفة عند مبايعته شرط العمل بكتاب الله وسنة رسول الله.
ولولا علمهم بأن السياسة لا تنفصل عن الدِّين لبايعوه على أن يسوسهم بما يراه أو يراه مجلس شوراه مصلحة، وفي صحيح البخاري: "كانت الأئمة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها، فإذا وضح الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلى غيره اقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - "(1).
__________
(1) - هو من كلام البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب قول الله تعالى: {وأمرهم شورى بينهم} [الشورى:38].(1/66)
ومن شواهد هذا: محاورة أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب في قتال مانعي الزكاة، فإنها كانت تدور على التفقه في حديث: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله"(1). فعمر بن الخطاب يستدل على عدم قتالهم بقوله في الحديث: "فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم". وأبو بكر يحتج بقوله في الحديث: "إلا بحقها" ويقول: الزكاة من حق الأموال، ولو لم يكونوا على يقين أن السياسة لا يسوغ لها أن تخطو خطوة إلا أن يأذن لها الدِّين بأن تخطوها، ما أورد عمر ابن الخطاب هذا الحديث، أو لوجد أبو بكر عندما احتج عمر بالحديث فسحة في أن يقول له: ذلك حديث رسول الله، وقتال مانعي الزكاة من شؤون السياسة!
ومن شواهد أن ربط السياسة بالدِّين أمر عرفه خاصة الصحابة وعامتهم: قصة عمر بن الخطاب، إذ بدا له أن يضع لمهور النساء حدا، فتَلَت عليه امرأة قوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} [النساء:20]، فما زاد على أن قال: رجل أخطأ، وامرأة أصابت(2). ونبذ رأيه وراء ظهره، ولم يقل لها: ذلك دين وهذه سياسة!
وكتب السنة والآثار مملوءة بأمثال هذه الشواهد، ولم يوجد -حتى في الأمراء المعروفين بالفجور- من حاول أن يمس اتصال السياسة بالدِّين من الوِجهة العملية، وإن جروا في كثير من تصرفاتهم على غير ما أذن الله به، جهالة منهم أو طغيانا.
__________
(1) - رواه البخاري في الزكاة (1400) عن أبي هريرة، ومسلم في الإيمان (21)، وأبو داود في الزكاة (1556)، والترمذي في الإيمان (2606)، والنسائي في الزكاة (2443)، وابن ماجه في الفتن (3927).
(2) - رويت القصة مع اختلاف في تعليق عمر على قول المرأة، رواها عبد الرزاق في المصنف كتاب النكاح (6/180) وفيها: فقال عمر: إن امرأة خاصمت عمر فخصمته، وسعيد بن منصور في السنن (1/166)، والبيهقي في الكبرى كتاب الصداق (7/233) وفيهما: فقال عمر: كل أحد أفقه من عمر. مرتين أو ثلاثا.(1/67)
أراد الحجاج أن يأخذ رجلا بجريمة بعض أقاربه، فذكَّره الرجل بقوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، فتركه(1)، ولم يخطر على باله -وهو ذلك الطاغية- أن يقول له: ما تلوته دين، وما سأفعله سياسة!).
ثم قال الشيخ رحمه الله:
(فصل الدِّين عن السياسة هدم لمعظم حقائق الدِّين، ولا يقدم عليه المسلمون إلا بعد أن يكونوا غير مسلمين، وليست هذه الجناية بأقل مما يعتدي به الأجنبي على الدِّين إذا جاس خلال الديار، وقد رأينا الذين فصلوا الدِّين عن السياسة علنا كيف صاروا أشد الناس عداوة لهداية القرآن، ورأينا كيف كان بعض المبتلين بالاستعمار الأجنبي أقرب إلى الحرية في الدِّين ممَّن أصيبوا بسلطانهم، ونحن على ثقة من أن الفئة التي ترتاح لمثل مقال الكاتب لو ملكت قوة لألغت محاكم يقضى فيها بأصول الإسلام، وقلبت معاهد تدرس فيها علوم شريعته الغراء إلى معاهد لهو ومجون، بل لم يجدوا في أنفسهم ما يتباطأ بهم عن التصرف في مساجد يذكر فيها اسم الله تصرف من لا يرجو لله وقارا)(2).
الدِّين ليس دائما مقصورا على الروحانية:
وإذا نظرنا نظرة أخرى في مقولة: (لا سياسة في الدِّين ولا دين في السياسة) نرى أنها لا تصدق على كل دين. ومن التبسيط المخل -وربما من الكذب المكشوف- اعتبار الأديان كلها بعيدة عن السياسة، والسياسات كلها بعيدة عن الدِّين.
فليست الأديان كلها مقصورة على الجانب الروحاني أو اللاهوتي، ولا صلة لها بشؤون الحياة، فهذا يصدق في بعض الأديان ولا يصدق في البعض الآخر.
__________
(1) - انظر: تاريخ دمشق (12/145)، والبداية والنهاية (9/124).
(2) - انظر: مقالة (ضلالة فصل الدِّين عن السياسة) من (رسائل الإصلاح) صـ159 – 173 طبعة المطبعة التعاونية بدمشق.(1/68)
فمن الأديان ما يتصل بالحياة ويشرِّع لها، كما في ديانة موسى عليه السلام (اليهودية)، كما يبدو ذلك من الأحكام التي جاءت في التوراة، التي تسمى (الناموس). وهو ما أعلن المسيح عليه السلام أنه ما جاء لينقض الناموس، فقال: (ما جئت لأنقض الناموس، بل لأتمم)(1).
ففي التوراة تشريعات مختلفة، بعضها يتعلَّق بالأسرة، وبعضها يتعلَّق بالمجتمع، وبعضها يتعلَّق بالعقوبات: (السن بالسن، والعين بالعين، ...)(2)، وبعضها يتعلَّق بالعلاقات الدولية.
ودين الإسلام جاء بوصايا أخلاقية، وتشريعات قانونية تتعلَّق بأمر الدنيا والحياة، مبثوثة في آيات القرآن، وأحاديث الرسول، وعُني بتفسيرها وشرحها علماء الأمة فيما عرف بـ(آيات الأحكام) و(أحاديث الأحكام). وفصَّلها فقهاء المذاهب في كتبهم، التي شملت أمور الإنسان فردا وأسرة ومجتمعا ودولة، من أدب الاستنجاء، وأدب المائدة، إلى بناء الدولة، وعلاقاتها مع الأمم والدول الأخرى.
فكيف يقال هنا: لا سياسة في الدِّين!
إن أحد أركان الإسلام هو الزكاة، وهو ركن مالي اجتماعي سياسي، لأن الأصل فيها أنها تنظيم تشرف عليه الدولة، تأخذها من الأغنياء وتردها على الفقراء، فالدولة أو السلطة هي التي تجمعها، وهي التي تصرفها في مصارفها الشرعية بواسطة جهاز إداري ومالي، سماه القرآن (العاملين عليها).
ومن مصارف الزكاة (المؤلفة قلوبهم) وهو مصرف سياسي في أصله، يتصرف فيه الإمام (أي الدولة) ليشتري ولاء بعض القبائل والقوى الاجتماعية أو السياسية، أو يحبب إليهم الإسلام، أو يكف شرهم عن المسلمين، أو ليقطع الطريق على أعداء الإسلام أن يستميلوهم إليهم. كل ذلك عن طريق ما يعطى لهم لاستمالة قلوبهم. وهذا في معظمه غرض سياسي محض.
__________
(1) - إنجيل متى: (5/17).
(2) - سفر اللاويين: (14/14).(1/69)
ثم إن المسلم يستطيع أن يدخل في السياسة، وهو في قلب صلاته التي يتعبد لربه بها، بأن يقرأ آيات في صميم السياسة من القرآن، أو يدعو على المستعمرين والحكام الطغاة بدعاء القنوت، وهو ما يعرف عند الفقهاء بـ(قنوت النوازل). ويعنون بالنوازل: المحن والشدائد التي تنزل بالأمة، مثل: احتلال الغزاة لأرضها، ووقوع الكوارث والزلازل ونحوها.
وأذكر أن الإمام الشهيد حسن البنا في سنة 1946 أو 1947م، كتب في حديثه الأسبوعي في صحيفة جماعته اليومية (الإخوان المسلمون): حديث الجمعة عن (قنوت النوازل)، وطلب من الأئمة والخطباء، أن يقنتوا بهذا القنوت، ويدعوا على الانجليز المستعمرين، ووضع لهم صيغة لم يلزمهم بالدعاء بها، ولكن قال: بمثل هذه الصيغة فادعوا على أعدائكم.
وأذكر من هذه الصيغة:
اللهم رب العالمين، وأمان الخائفين، ومذل المتكبرين، وقاصم الجبارين، تقبَّل دعاءنا، وأجب نداءنا ...
اللهم إنك تعلم أن هؤلاء الغاصبين من البريطانيين، قد احتلوا أرضنا، وغصبوا حقنا، وطغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد. اللهم فردَّ عنا كيدهم، وفلَّ حدَّهم ... وأدل دولتهم، واذهب عن أرضك سلطانهم، ولا تدع لهم سبيلا على أحد من عباد المؤمنين. آمين(1).
وقد التزم الكثيرون من المتدينين بأن يدعوا على الانجليز المحتلين المستكبرين في صلواتهم، وخصوصا الجهرية منها، بهذا الدعاء وأمثاله. وكان ذلك لونا من التعبئة الفكرية والشعورية والعملية ضد الاحتلال المدل بقوته العسكرية، وقوته الاقتصادية.
والسياسة ليست دائما علمانية:
وإذا ثبت لنا أن الدِّين ليس دائما روحانيا خالصا، نستطيع هنا أن نقول بكل وضوح: إن السياسة ليست دائما علمانية، أو لا دينية.
__________
(1) - انظر: جريدة (الإخوان المسلمين) اليومية العدد 135 الصفحة الأولى. نقلا عن (أحاديث الجمعة) صـ83 – 85 لعصام تليمة.(1/70)
فكم رأينا من سياسات تتبنى الدِّين وتدافع عنه، وتتحمل أعباء الدعوة إليه، وتذود عن حماه. ثبت ذلك في التاريخ القديم، وثبت ذلك في العصر الحديث.
عرف التاريخ القديم المَلِك قسطنطين إمبراطور روما المعروف الذي كان وثنيا، ثم اعتنق النصرانية، وانتصر لمذهب المؤلهين للمسيح ضد آريوس ومن وافقه في التمسك بعقيدة التوحيد.
المهم أنه تبنى العقيدة المسيحية على مذهبه، وطارد أعداءها وأعداءه عقودا من السنين. وظلت الكنيسة في الغرب توجه الدِّين لعدة قرون، حتى قامت الثورة الفرنسية ثائرة على الكنيسة ورجالها الذين وقفوا مع الجمود ضد التحرُّر، ومع الخرافات ضد العلم، ومع الملوك ضد الشعوب، ومع الإقطاعيين ضد الفلاحين. لهذا ثارت عليهم الجماهير الغاضبة، منادية: اشنقوا آخر مَلِك بأمعاء آخر قسيس!
وفي التاريخ الإسلامي -خصوصا عهد الراشدين- كانت السياسة في خدمة الدِّين، وكان الدِّين هو الموجه الأول للفكر، والمحرك الأول للمشاعر، والمؤثر الأول في السلوك.
بل كان هذا هو الاتجاه العام في التاريخ الإسلامي كله، على تفاوت في الدرجة، ولكن لم يغب الدِّين -أو الإسلام- عن الساحة، ولم يدع السياسة وشأنها تفعل ما تشاء، وتحكم ما تريد. بل كان الإسلام هو أساس القضاء في المحاكم، وأساس الفتوى لجماهير الشعب، وأساس التعليم في المدارس والكتاتيب والجامعات. كما دلَّلنا على ذلك في كتابنا (تاريخنا المفترى عليه).
وفي عصرنا لا زالت هناك سياسات تتبنى الدِّين، وتجمع الجماهير عليه، وتعلن انتصارها له، وحماسها في تبليغ رسالته.
وقد ذكرنا من قريب: كيف قامت سياسة دولة بني صهيون على توظيف الدِّين في إقامة الدولة، ثم في حراستها وتثبيتها، واستغلال الجانب الدِّيني عند المسيحين لتأييدها ونصرتها.
كما ذكرنا الرئيس الأمريكي بوش الابن، وتبنيه لليمين المسيحي المتطرف المتصهين في توجيه سياسة أمريكا اليوم.(1/71)
وقد كان هذا الالتزام! الديني الواضح من بوش من الأسباب الرئيسة لفوزه في انتخابات الرئاسة على خَصمه (كيري) الذي كان يتبنى خطًا مخالفا لتعاليم الدين المسيحي.
وهذا ينقض المقولات التي تزعم أن كل السياسات علمانية، ولا مدخل للدين فيها.
(2)
تهمة الإسلام السياسي
ومن التعبيرات التي يُشنِّع بها العلمانيون والحداثيون: تعبير (الإسلام السياسي)، وهي عبارة دخيلة على مجتمعنا الإسلامي بلا ريب، ويعنون به الإسلام الذي يُعنى بشئون الأمة الإسلامية وعلاقاتها في الداخل والخارج، والعمل على تحريرها من كل سلطان أجنبي يتحكَّم في رقابها، ويُوجِّه أمورها المادية والأدبية كما يريد، ثم العمل كذلك على تحريرها من رواسب الاستعمار الغربي الثقافية والاجتماعية والتشريعية، لتعود من جديد إلى تحكيم شرع الله تعالى في مختلف جوانب حياتها ...
وهم يطلقون هذه الكلمة (الإسلام السياسي) للتنفير من مضمونها، ومن الدعاة الصادقين، الذين يدعون إلى الإسلام الشامل، باعتباره عقيدة وشريعة، وعبادة ومعاملة، ودعوة ودولة.
وقد كنت رددت على هذه الدعوة، وفنَّدت هذه التسمية، في فتوى مطوَّلة، ظهرت في الجزء الثاني من كتابي: (فتاوى معاصرة)، يحسن بي أن أقتبس فقرات منها فيما يلي:
أولاً: هذه التسمية مرفوضة:
وذلك لأنها تطبيق لخُطة وضعها خصوم الإسلام، تقوم على تجزئة الإسلام وتفتيته بحسب تقسيمات مختلفة، فليس هو إسلامًا واحدًا كما أنزله الله، وكما ندين به نحن المسلمين.
بل هو (إسلامات) متعدِّدة مختلفة كما يحب هؤلاء.
فهو ينقسم أحيانًا بحسب الأقاليم: فهناك الإسلام الآسيوي، والإسلام الإفريقي.
وأحيانًا بحسب العصور: فهناك الإسلام النبوي، والإسلام الراشدي، والإسلام الأُموي، والإسلام العباسي، والإسلام العثماني، والإسلام الحديث.
وأحيانًا بحسب الأجناس: فهناك الإسلام العربي، والإسلام الهندي، والإسلام التركي، والإسلام الماليزي ... إلخ.(1/72)
وأحيانًا بحسب المذهب: هناك الإسلام السُّني، والإسلام الشيعي، وقد يقسمون السُّني إلى أقسام، والشيعي إلى أقسام أيضًا.
وزادوا على ذلك تقسيمات جديدة : فهناك الإسلام الثوري، والإسلام الرجعي أو الراديكالي، والكلاسيكي، والإسلام اليميني، والإسلام اليساري، والإسلام المُتزمِّت، والإسلام المُنفتح.
وأخيرًا الإسلام السياسي، والإسلام الروحي، والإسلام الزمني، والإسلام اللاهوتي!
ولا ندري ماذا يخترعون لنا من تقسيمات يُخبِّئها ضمير الغد؟!
تقسيمات مرفوضة:
والحق أن هذه التقسيمات كلَّها مرفوضة في نظر المسلم، فليس هناك إلا إسلام واحد لا شريك له، ولا اعتراف بغيره، هو (الإسلام الأول) إسلام القرآن والسنة.
الإسلام كما فهمه أفضل أجيال الأمة، وخير قرونها، من الصحابة ومن تبعهم بإحسان، ممَّن أثنى الله عليهم ورسوله.
فهذا هو الإسلام الصحيح، قبل أن تشُوبه الشوائب، وتلوِّث صفاءه تُرَّهَات المِلَل وتطرفات النِحَل، وشطحات الفلسفات، وابتداعات الفِرَق، وأهواء المُجادلين، وانتحالات المُبطلين، وتعقيدات المُتنطِّعين، وتعسُّفات المُتأوِّلين الجاهلين.
ثانيًا: الإسلام لا يكون إلا سياسيًا:
يجب أن أُعلنها صريحة مدوية: إن الإسلام الحق -كما شرعه الله- لا يمكن أن يكون إلا سياسيًا، وإذا جرَّدت الإسلام من السياسة، فقد جعلته دينًا آخر يمكن أن يكون بوذية أو نصرانية، أو غير ذلك، أما أن يكون هو الإسلام فلا.
وذلك لسببين رئيسين :
الأول: الإسلام يوجِّه الحياة كلها:
إن للإسلام موقفًا واضحًا، وحكمًا صريحًا في كثير من الأمور التي تُعتبر من صُلب السياسة.
فالإسلام ليس عقيدة لاهوتية، أو شعائر تعبُّدية فحسب، أعني أنه ليس مجرد علاقة بين الإنسان وربه، ولا صلة له بتنظيم الحياة، وتوجيه المجتمع والدولة.(1/73)
كلا ... إنه عقيدة وعبادة، وخلق وشريعة متكاملة، وبعبارة أخرى: هو منهاج كامل للحياة، بما وضع من مبادئ، وما أصَّل من قواعد، وما سنَّ من تشريعات وما بيَّن من توجيهات، تتَّصل بحياة الفرد، وشؤون الأسرة، وأوضاع المجتمع، وأُسس الدولة، وعلاقات العالم.
ومن قرأ القرآن الكريم والسنة المطهرة، وكتب الفقه الإسلامي بمختلف مذاهبه، وجد هذا واضحًا كل الوضوح.
حتى إن قسم العبادات من الفقه ليس بعيدًا عن السياسة، فالمسلمون مُجْمِعُون على أن ترك الصلاة، ومنع الزكاة، والمجاهرة بالفطر في رمضان، وإهمال فريضة الحج مما يوجب العقوبة، والتعزير، وقد يقتضي القتال إذا تظاهرت عليه فئة ذات شوكة، كما فعل أبو بكر رضي الله عنه مع مانعي الزكاة.
إن فكرة التوحيد في الإسلام تقوم على أن المسلم لا يبغي غير الله ربًا، ولا يتَّخذ غير الله وليًا، ولا يبتغي غير الله حَكَمًا، كما بيَّنت ذلك سورة التوحيد الكبرى المعرفة باسم (سورة الأنعام).
وعقيدة التوحيد في حقيقتها ما هي إلا ثورة لتحقيق الحرية والمساواة والأخوَّة للبشر، حتى لا يتخذَّ بعض الناس بعضًا أربابًا من دون الله، وتُبطل عبودية الإنسان للإنسان، ولذا كان الرسول الكريم صلوات الله عليه يختم رسائله إلى ملوك أهل الكتاب بهذه الآية الكريمة من سورة آل عمران: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64].
وهذا سر وقوف المشركين وكبراء مكة في وجه الدعوة الإسلامية، من أول يوم، بمجرد رفع راية (لا إله إلا الله) فقد كانوا يُدركون ماذا وراءها، وماذا تحمل من معاني التغيير للحياة الاجتماعية والسياسية، بجانب التغيير الديني المعلوم بلا ريب.(1/74)
السبب الثاني: شخصية المسلم شخصية سياسية:
إن شخصية المسلم -كما كوَّنها الإسلام وصنعتها عقيدته وشريعته وعبادته وتربيته- لا يمكن إلا أن تكون سياسية، إلا إذا ساء فَهمها للإسلام، أو ساء تطبيقها له.
فالإسلام يضع في عنق كل مسلم فريضة اسمها: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر وقد يُعبِّر عنها بعنوان: النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم، وهي التي صحَّ في الحديث اعتبارها الدِّين كله(1)، وقد يُعبر عنها بالتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، وهما من الشروط الأساسية للنجاة من خُسر الدنيا والآخرة، كما وضَّحت ذلك (سورة العصر).
ويُحرِّض الرسول - صلى الله عليه وسلم - المسلم على مقاومة الفساد في الداخل، ويعتبره أفضل من مقاومة الغزو من الخارج، فيقول حين سئل عن أفضل الجهاد : "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر"(2)، وذلك لأن فساد الداخل هو الذي يمهِّد السبيل لعدوان الخارج.
ويعتبر الشهادة هنا من أعلى أنواع الشهادة في سبيل الله: "سيد الشهداء حمزة، ثم رجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله"(3).
__________
(1) - إشارة إلى حديث: "الدين النصيحة"، وقد رواه مسلم في الإيمان (55)، وأحمد في المسند (19640)، وأبو داود في الأدب (4944)، والبيعة (4197)، عن تميم الداري.
(2) - رواه أحمد في المسند (11035)، وذكر محققوه لقوله: "ألا ان أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر" شاهدين وقالوا: بهذين الشاهدين حسن لغيره، وأبو داود في الملاحم (4344)، والترمذي في الفتن (2174)، وقال: حديث حسن غريب من هذا الوجه، وابن ماجه في الفتن (4011)، عن أبي سعيد الخدري.
(3) - رواه الحاكم في المستدرك كتاب معرفة الصحابة (3/215)، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، عن جابر، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (3675).(1/75)
ويغرس في نفس المسلم رفض الظلم، والتمرُّد على الظالمين حتى إنه ليقول في دعاء القنوت المروي عن ابن مسعود، وهو المعمول به في المذهب الحنفي وغيره: "نشكرك الله ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يَفجرُك"(1).
ويُرغِّب في القتال لإنقاذ المُضطهدين، والمُستضعفين في الأرض، بأبلغ عبارات الحثِّ والتحريض، فيقول: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} [النساء:75].
ويصبُّ جام غضبه، وشديد إنكاره على الذين يقبلون الضَّيم، ويرضون بالإقامة في أرض يهانون فيها ويظلمون، ولديهم القدرة على الهجرة منها والفرار إلى أرض سواها، فيقول: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [النساء:97-99].
حتى هؤلاء العجزة والضعفاء قال القرآن في شأنهم: {عََسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ}، فجعل ذلك في مَظِنَة الرجاء من الله تعالى، زجرًا عن الرضا بالذل والظلم ما وجد المسلم إلى رفضه سبيلاً.
__________
(1) - رواه عبد الرزاق في المصنف كتاب الصلاة (3/110)، وابن أبي شيبة في المصنف كتاب الصلاة (2/106)، والبيهقي في الكبرى جماع أبواب صفة الصلاة (2/210)، عن عمر موقوفا.(1/76)
وحديث القرآن المُتكرِّر عن المُتجبرين في الأرض من أمثال فرعون، وهامان، وقارون وأعوانهم وجنودهم، حديث يملأ قلب المسلم بالنقمة عليهم، والإنكار لسيرتهم، والبغض لطغيانهم، والانتصار -فكريًا وشعوريًا- لضحاياهم من المظلومين والمستضعفين.
وحديث القرآن والسنة عن السكوت على المنكر، والوقوف موقف السلب من مقترفيه -حكامًا أو محكومين- حديث يُزلزل كل من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان.
يقول القرآن : {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون} [المائدة :78،79].
ويقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : "من رأى منكم منكرًا فليُغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"(1).
ومن الخطأ الظن بأن المنكر ينحصر في الزنى، وشرب الخمر، وما في معناهما.
إن الاستهانة بكرامة الشعب منكر أي منكر، وتزوير الانتخابات منكر أي منكر، والقعود عن الإدلاء بالشهادة في الانتخابات منكر أي منكر، لأنه كتمان للشهادة، وتوسيد الأمر إلى غير أهله منكر أي منكر، وسرقة المال العام منكر أي منكر، واحتكار السلع التي يحتاج إليها الناس لصالح فرد أو فئة منكر أي منكر، واعتقال الناس بغير جريمة حكم بها القضاء العادل منكر أي منكر، وتعذيب الناس داخل السجون والمعتقلات منكر أي منكر، ودفع الرشوة وقبولها والتوسط فيها منكر أي منكر، وتملُّق الحكام بالباطل وإحراق البخور بين أيديهم منكر أي منكر، وموالاة أعداء الله وأعداء الأمة من دون المؤمنين منكر أي منكر.
__________
(1) - رواه مسلم في الإيمان (49)، وأحمد في المسند (11150)، وأبو داود في الصلاة (1140)، والترمذي في الفتن (2172)، والنسائي في الإيمان وشرائعه (5008)، وابن ماجه الفتن (4012)، عن أبي سعيد.(1/77)
وهكذا نجد دائرة المنكرات تتَّسع وتتَّسع لتشمل كثيرًا مما يعدُّه الناس في صُلب السياسة.
فهل يَسَع المسلم الشحيح بدينه، الحريص على مرضاة ربه، أن يقف صامتًا؟ أو ينسحب من الميدان هاربًا، أمام هذه المنكرات وغيرها ... خوفًا أو طمعًا، أو إيثارًا للسلامة؟
إن مثل هذه الروح إن شاعت في الأمة فقد انتهت رسالتها، وحُكِم عليها بالفناء، لأنها غَدَت أمة أخرى، غير الأمة التي وصفها الله بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110].
ولا عجب أن نسمع هذا النذير النبوي للأمة في هذا الموقف إذ يقول: "إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم : يا ظالم فقد تُودِّع منهم"(1). أي فقدوا أهلية الحياة.
إن المسلم مطالب -بمقتضى إيمانه- ألا يقف موقف المتفرج من المنكر، أيًا كان نوعه : سياسيًا كان أو اقتصاديًا أو اجتماعيًا أو ثقافيًا، بل عليه أن يقاومه ويعمل على تغييره باليد، إن استطاع، وإلا فباللسان والبيان، فإن عجز عن التغيير باللسان انتقل إلى آخر المراحل وأدناها، وهي التغيير بالقلب، وهي التي جعلها الحديث : "أضعف الإيمان".
__________
(1) - رواه أحمد في المسند (6521)، وقال محققوه: إسناده ضعيف، رجاله ثقات رجال الصحيح، إلا أن أبا الزبير لم يسمع من عبد الله بن عمرو فيما قال أبو حاتم في المراسيل، ونقله أيضا عن ابن معين، ونقل ابن عدي في الكامل قوله: لم يسمع أبو الزبير من عبد الله بن عمرو ولم يره، والبزار في المسند (6/362)، والحاكم في المستدرك كتاب الأحكام (4/108)، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، والبيهقي في الكبرى كتاب الغصب (6/95)، عن عبد الله بن عمرو، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد والبزار والطبراني وأحد إسنادي البزار رجاله رجال الصحيح وكذلك إسناد أحمد إلا أنه وقع فيه في الأصل غلط (7/531).(1/78)
وإنما سماه الرسول - صلى الله عليه وسلم - تغييرًا بالقلب، لأنه تعبئة نفسية وشعورية ضد المنكر وأهله وحماته، وهذه التعبئة ليست أمرًا سلبيًا محضًا، كما يتوهم، ولو كانت كذلك ما سماها الحديث (تغييرًا).
وهذا التعبئة المستمرة للأنفس، والمشاعر، والضمائر لا بد لها أن تتنفَّس يومًا ما، في عمل إيجابي، قد يكون ثورة عارمة أو انفجارًا لا يُبقى ولا يُذر، فإن توالى الضغط لا بد أن يُولِّد الانفجار، سنة الله في خلقه.
وإذا كان هذا الحديث سمي هذا الموقف (تغييرًا بالقلب)، فإن حديثًا نبويًا آخر سماه (جهاد القلب)، وهي آخر درجات الجهاد، كما أنها آخر درجات الإيمان وأضعفها، فقد روى مسلم عن ابن مسعود مرفوعًا: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خُلُوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمَن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومَن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومَن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، ليس ذلك من الإيمان حبة خردل"(1).
وقد يعجز الفرد وحده عن مقاومة المنكر، وخصوصًا إذا انتشر شراره واشتد أواره، وقَوِي فاعلوه، أو كان المنكر من قِبَل الأمراء الذين يفترض فيهم أن يكونوا هم أول المحاربين له، لا أصحابه وحرَّاسه، وهنا يكون الأمر كما قال المثل : حاميها حراميها، أو كما قال الشاعر :
وراعي الشاة يحمي الذئب عنها فكيف إذا الرعاة لها ذئاب؟!
وهنا يكون التعاون على تغيير المنكر واجبًا لا ريب فيه، لأنه تعاون على البر والتقوى، ويكون العمل الجماعي عن طريق الجمعيات أو الأحزاب، وغيرها من القنوات المتاحة، فريضة أوجبها الدِّين، كما أنه ضرورة يُحتِّمها الواقع.
بين الحق والواجب:
__________
(1) - رواه مسلم في الإيمان (50)، وأحمد في المسند (4379)، عن ابن مسعود.(1/79)
إن ما يُعتبر في الفلسفات والأنظمة المعاصرة (حقًا) للإنسان في التعبير والنقد والمعارضة، يَرقى به الإسلام ليجعله فريضة مقدسة يبوء بالإثم، ويستحق عقاب الله إذا فرَّط فيها.
وفرق كبير بين (الحق) الذي يدخل في دائرة (الإباحة)، أو (التخيير) الذي يكون الإنسان في حِلٍ من تركه إن شاء، وبين (الواجب) أو (الفرض) الذي لا خيار للمكلف في تركه أو إغفاله بغير عذر يقبله الشرع.
وممَّا يجعل المسلم سياسيًا دائمًا: أنه مطالب بمقتضى إيمانه ألا يعيش لنفسه وحدها، دون اهتمام بمشكلات الآخرين وهمومهم، وخصوصًا المؤمنين منهم، بحكم أُخوة الإيمان: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10].
وفي الحديث : "مَن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، ومَن لم يصبح ناصحًا لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم فليس منهم"(1)، "وأيما أهل عَرْصَة بات فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة الله وذمة رسوله"(2).
__________
(1) - رواه الطبراني في الصغير (2/131)، والأوسط (7/270)، عن حذيفة بن اليمان، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني في الأوسط والصغير وفيه عبد الله بن أبي جعفر الرازي ضعفه محمد بن حميد ووثقه أبو حاتم وأبو زرعة وابن حبان (1/264).
(2) - رواه أحمد في المسند (4880)، وقال محققوه: إسناده ضعيف لجهالة أبي بشر، وأبو يعلى في المسند (10/115)، والطبراني في الأوسط (8/210)، والحاكم في المستدرك كتاب البيوع (2/14)، وقال الذهبي: عمرو بن الحصين العقيلي تركوه، وأصبغ بن زيد الجهني فيه لين، عن ابن عمر، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني في الأوسط وفيه أبو بشر الأملوكي ضعفه ابن معين (4/180).(1/80)
والقرآن كما يفرض على المسلم أن يُطعم المسكين، يفرض على أن يحضَّ الآخرين على إطعامه ... ولا يكون كأهل الجاهلية الذين ذمَّهم القرآن بقوله: {كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الفجر:17،18]، ويجعل القرآن التفريط في هذا الأمر من دلائل التكذيب بالدِّين: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الماعون:1-3].
وهذا في المجتمعات الرأسمالية والإقطاعية المضيعة لحقوق المساكين والضعفاء تحريض على الثورة، وحضٌّ على الوقوف مع الفقراء في مواجهة الأغنياء.
وكما أن المسلم مطالَب بمقاومة الظلم الاجتماعي، فهو مطالَب أيضًا بمحاربة الظلم السياسي، وكل ظلم أيًا كان اسمه ونوعه ... والسكوت عن الظلم والتهاون فيه، يوجب العذاب على الأمة كلها: الظالم والساكت عنه، كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25].
وقد ذمَّ القرآن الأقوام الذين أطاعوا الجبابرة الطغاة وساروا في ركابهم كقوله عن قوم نوح: {وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَاراً} [نوح:21].
بل جعل القرآن مُجرَّد الركون والميل النفسي إلى الظالمين موجبًا لعذاب الله: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} [هود:113].
ويُحمِّل الإسلام كل مسلم مسئولية سياسية: أن يعيش في دولة يقودها إمام مسلم يحكم بكتاب الله، ويبايعه الناس على ذلك، وإلا التحق بأهل الجاهلية، ففي الحديث الصحيح : "من مات وليس في عنقه بيعة لإمام مات ميتة جاهلية"(1).
الصلاة والسياسة:(1/81)
وكما ذكرنا من قب أن المسلم قد يكون في قلب الصلاة، ومع هذا يخوض في بحر السياسة حين يتلو من كتاب الله الكريم آيات تتعلق بأمور تدخل في صُلب ما يسميه الناس (سياسة).
فمن يقرأ في سورة المائدة: الآيات التي تأمر بالحُكم بما أنزل الله، وتدمغ من لم يحكم بما أنزل الله سبحانه بالكفر والظلم والفسوق : {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47]، يكون قد دخل في السياسة، وربما اعتُبر من المعارضة المُتطرفة، لأنه بتلاوة هذه الآيات يُوجه الاتِّهام إلى النظام الحاكم، ويُحرض عليه، لأنه موصوف بالكفر أو الظلم أو الفسق أو بها كلها.
ومثل ذلك من يقرأ الآيات التي تُحذر من موالاة غير المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً} [النساء:144].
ومن قَنَتَ (قنوت النوازل) المُقرَّر في الفقه، وهو الدعاء الذي يُدعى به في الصلوات بعد الرفع من الركعة الأخيرة، وخصوصًا في الصلاة الجهرية، وهو مشروع عندما تنزل بالمسلمين نازلة، كغزو عدو، أو وقوع زلزال، أو فيضان أو مجاعة عامة، أو نحو ذلك ...
وهكذا كنا ندخل في مُعترك السياسة، ونخوض غِماره، ونحن في محراب الصلاة متبتلون خاشعون ... فهذه هي طبيعة الإسلام، لا ينعزل فيه دين عن دنيا، ولا تنفصل فيه دنيا عن دين، ولا يعرف قرآنه ولا سنته ولا تاريخه دينًا بلا دولة، ولا دولة بلا دين ...
الساسة يدخلون الدِّين في السياسة متى أرادوا!(1/82)
الذين زعموا أن الدِّين لا علاقة له بالسياسة من قبل، والذين اخترعوا أكذوبة (لا دين في السياسة، ولا سياسة في الدِّين) من بعد، أول من كذَّبوها بأقوالهم وأفعالهم.
فطالما لجأ هؤلاء إلى الدِّين ليتخذوا منه أداة في خدمة سياستهم، والتنكيل بخصومهم، وطالما استخدموا بعض الضعفاء والمهازيل من المنسوبين إلى علم الدِّين، ليستصدروا منهم فتاوى ضدَّ من يُعارض سياستهم الباطلة دينا، والعاطلة دنيا.
لا زلت أذكر كيف صدرت الفتاوى ونحن في معتقل الطور سنة 1948م، 1949 م بأننا -نحن الدعاة إلى تحكيم القرآن وتطبيق الإسلام- نحارب الله ورسوله ونسعى في الأرض فسادًا فحقنا أن نُقتل أو نُصلب، أو تُقطَّع أيدينا وأرجلنا من خِلاف، أو ننفى من الأرض!
وتكرَّر هذا في أكثر من عهد، تتكرَّر المسرحية وإن تغيرت الوجوه!
ولازلت أذكر -ويذكر الناس- كيف طلب من أهل الفتوى أن يصدروا فتواهم بمشروعية الصلح مع إسرائيل، تأييدًا لسياستهم الانهزامية، بعد أن أصدرت الفتوى من قبل بتحريم الصلح معها، واعتبار ذلك خيانة لله ولرسوله وللمؤمنين!
ولا زال الحكام يلجأون إلى علماء الدِّين، ليفرضوا عليهم فتاوى تخدم أغراضهم السياسية، وآخرها محاولات تحليل فوائد البنوك وشهادات الاستثمار، فيستجيب لهم كل رخو العود -ممن قلَّ فقههم أو قلَّ دينهم- ويأبى عليهم العلماء الراسخون : {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} [الأحزاب:39].
(3)
السياسة بين النص والمصلحة
ومن النقاط المهمة التي يتحدث عنها كثيرون من الحداثيين والعلمانيين: أن السياسة إذا ارتبطت بالدِّين، فإن الدِّين يقيدها، ويعوقها عن الانطلاق، وخصوصا إذا فُهم الدِّين على أنه التزام بالنصوص الجزئية والتفصيلية من الكتاب والسنة.(1/83)
فالسياسة تحتاج إلى أن تتحرك في فضاء واسع من النظر في المصالح والمفاسد والموازنة بينهما إذا تعارضتا. وكثيرا ما تحتاج السياسة إلى الكر والفر، وإلى نوع من الدهاء والمكر مع الأعداء. وقد لا يبيح الدِّين لأصحابه كل هذا القدر من التوسع والترخص. وبذلك تكون الغلبة لأعداء الدِّين، حيث يكونون هم في حِل من الالتزام بأية قيود، ونكون -نحن المسلمين- المكبلين بالأوامر والنواهي.
وهذا ما لم نتخذ طريقا آخر في فَهم الدِّين، وهو النظر إلى المقاصد الكلية للدين، لا إلى النصوص الجزئية له. على وفق ما فعل عمر الخليفة الثاني، الذي عطل بعض النصوص لتحقيق مصالح المسلمين، فيما زعموا.
وبدون هذا يظل الدِّين -في إطاره القديم وفَهمه التقليدي- عقبة أو حجر عثرة في طريق السياسة، أو طريق الدولة الحديثة، في عالمنا المتشابك.
وهذا الكلام فيه خلط ولبس كثير، إن أحسنا الظن بقائله، وفيه تلبيس شديد، إن لم نحسن الظن.
لقد بينا -بمنطق الشرع والعقل- أن الدِّين منارة تهدي، وليس قيدا يعوق. وأن الشريعة -كما قال ابن القيم- عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجَور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل(1)!
ومن ثَمَّ تكون الآفة في أفهام المسلمين للإسلام وشريعته، وليست في الإسلام نفسه.
ولهذا كان من الواجب الدعوة إلى حسن فَهم الإسلام وأحكامه، لا إلى تنحيته من الطريق، لتمضي السياسة حرة، لا تتقيد إلا بالمصلحة، كما يراها من يراها من الناس.
إن بعض الناس ينظر إلى الإسلام نظرة مثالية لا تمت إلى الحقيقة بصلة، فهو يتخيل إسلاما يحلق بأصحابه في أجواء مجنحة، ولا ينزل إلى أرض الواقع.
__________
(1) - إعلام الموقعين: 3/3 ط. دار الجيل – بيروت. 1973م.(1/84)
وهذا غير صحيح، فالإسلام -مع مثاليته الرفيعة- يعالج الواقع كما هو، بخيره وشره، وحلوه ومره، ويجيز استعمال المكر والدهاء مع أهل المكر والدهاء، ويقول: الحرب خدعة، ويرى أن الضرورات تبيح المحظورات، وأنه يجوز في وقت الضيق والاضطرار، ما لا يجوز في وقت السَّعَة والاختيار. ومن قواعده: ارتكاب أخف الضررين، وأهون الشرين، واحتمال الضرر الخاص لدفع الضرر العام، وقبول الضرر الأدنى لدفع الضرر الأعلى، وتفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما. وكلها من النظرة الواقعية التي هي من خصائص الإسلام وشريعته(1).
أما (النظرة المقاصدية) للدين وللشريعة، فنحن في مقدمة الداعين إليها، والأحفياء بها، ولكن الذي نحذر منه أبدا: أن تتخذ النظرة المقاصدية واعتبار المصالح ذريعة لتعطيل النصوص من الكتاب والسنة، وخصوصا إذا كانت النصوص مُحكمة قاطعة؛ فهذه لا يملك المؤمن أمامها إلا أن يقول: (سمعنا وأطعنا). والقرآن صريح كل الصراحة في ذلك، وأن هذا الإذعان هو مقتضى الإيمان، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51].
والذي ندعو إليه دائما هو: الموازنة بين المقاصد الكلية والنصوص الجزئية، أو بعبارة أخرى: النظر إلى النصوص الجزئية في ضوء المقاصد الكلية(2)، ولا يجوز أن نضرب إحداهما بالأخرى، فهي تتكامل ولا تتناقض.
__________
(1) - انظر: خصيصة (الواقعية) من كتابنا (الخصائص العامة للإسلام) صـ144، والواقعية من كتابنا (مدخل لدراسة الشريعة) صـ119.
(2) - انظر: كتابنا (مقاصد الشريعة) تحت الطبع.(1/85)
وقد ذكرنا في كتابنا عن مقاصد الشريعة: أن هناك مدارس ثلاثا في هذه القضية:
الأولى: المدرسة الحرفية: أو من سميتهم (الظاهرية الجدد) الذين يركزون على النص الجزئي، ويفهمونه فَهما حرفيا، ولا يكادون يفهمون أي وزن للمقصد الكلي. وبهذا يصطدمون بالواقع، ويضيقون على الناس فيما وسع الله فيه، ويعسرون ما يسر الله.
والثانية: المدرسة المقابلة لتلك، وهي التي تُغفل النصوص تماما، ولا تعيرها أي التفات، بدعوى أنها تنظر إلى المقاصد، وتهتم بالفحوى. وهم الذين سميتهم (المدرسة المعطلة). فقد كان هناك قديما من سماهم علماؤنا (المعطلة) ولكن كان تعطيلهم في مجال العقيدة، وهؤلاء الجدد تعطيلهم في مجال الشريعة.
وهؤلاء الذين يريدون أن يلغوا تحريم الربا في مجال الاقتصاد، ويلغوا الحدود في مجال العقوبات، ويلغوا الطلاق وتعدد الزوجات في مجال الأسرة، ويلغوا الاحتشام (الحجاب) في مجال المرأة، ويلغوا الجهاد في مجال الدفاع عن الدعوة والأمة ... إلخ.
والثالثة: هي التي تنظر إلى النص الجزئي والمقصد الكلي نظرة متوازنة، وهي المدرسة الوسطية، التي ينبغي أن نعتمد نظرتها إلى الشريعة وإلى الواقع. وهي التي يمكن أن يرتضيها جمهور المسلمين، والمدرستان الأخريان لا تحظيان عمليا بالقَبول. ناهيك بأنهما -من الناحية العلمية المحض- غير مُسلَّمتين.
والعلمانيون يتبنون المدرسة الثانية -مدرسة التعطيل للنصوص- ويتكئون على مقولات تزعم أن عمر بن الخطاب عطل النصوص القرآنية باسم المصالح. وإننا نعيذ عمر أن يفعل ذلك. وقد كان وقافا عبد كتاب الله. وقد ردت عليه امرأة في مسألة مهور النساء، فانصاع لقولها، وقال: أصابت امرأة وأخطأ عمر!(1/86)
وقد كانت رعية عمر من الصحابة الكرام، من المهاجرين والأنصار، الذين جاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، والذين لا يقبلون بحال: أن يُعطَّل كتاب الله، وأن يبدَّل شرع الله، وهم ساكنون. لو افترضنا أن عمر فعل ذلك -وما هو بفاعل- ما قَبِل هؤلاء أبدًا، وفيهم عرق ينبِض.
ومما نأسف له: أن مفكرا معتدلا مثل د. عابد الجابري، سار في هذا الدرب، وقال ما قاله دعاة (العلمانية) التي ينكرها ولا يقرها. فقد ذكر في كتابه (الدِّين والدولة وتطبيق الشريعة): أن الصحابة كثيرا ما نجدهم يتصرفون بحسب ما تمليه المصلحة، صارفين النظر عن النص، ولو كان صريحا قطعيا! إذا كانت الظروف الخاصة تقتضي مثل هذا التأجيل للنص(1).
ولقد ذكر د. الجابري بعد ذلك: أن الممارسة الاجتهادية للصحابة كانت تتخذ المصلحة مبدءا ومنطلقا، فإذا تعارضت المصلحة مع النص في حالة من الحالات، وجدناهم يعتبرون المصلحة، ويحكمون بما تقتضيه، ويؤجلون العمل بمنطوق النص فيها(2).
وهذه دعوى خطيرة على الصحابة الذين كانوا يحتكمون إلى النصوص إذا اختلفوا، كما قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59]، وإذا ووجه أحدهم بالنص، لم يسعه إلا أن ينقاد له بلا تلكُّؤ ولا تردد.
ولقد ذكر الدكتور الجابري من أدلة ذلك: ما جرى من أبي بكر وعمر، حول أداء الزكاة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . هل تؤدى للدولة أو تترك للأفراد يؤديها كل منهم كما يشاء؟
كان رأي سيدنا أبي بكر أن تؤدى الزكاة إليه، وإلى ولاته وعماله، كما كان الحال في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن لم يفعلوا قاتلهم الخليفة من أجل هذا الحق المعلوم، الذي هو الركن الثالث من أركان الإسلام.
__________
(1) - انظر: الدين والدولة صـ12 طبعة مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت. طبعة أولى.
(2) - انظر: الدين والدولة صـ32.(1/87)
وهنا توقف عمر في قتالهم، وقال لأبي بكر: كيف نقاتل الناس، وقد قالوا: لا إله إلا الله؟ وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: (لا إله إلا الله) فإذا قالوها فقد عصموا من دمائهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله". فقال أبو بكر: إن الزكاة حق المال. والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم على منعه(1)!
وهنا نجد المناقشة بين الصحابيين الكبيرين تقوم كلها على الاحتجاج بالنصوص، لا الاستدلال بالمصالح كما يقول الدكتور. رأينا عمر يعتمد على نص الحديث، وينسى القيد الذي فيه (إلا بحقها)، فذكَّره أبو بكر: أن الزكاة حق المال، ثم أكد ذلك بأن الزكاة كالصلاة يقاتل عليها، كما قال تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [لتوبة:5].
وزاد ذلك تأكيدا بأنه متبع وليس بمبتدع، فما كان في عهد رسول الله، يجب أن يستمر.
وما قاله الجابري من أن عمر كان ينظر إلى المسألة من جهة الدِّين وأن أبا بكر كان ينظر إليها من جهة الدولة(2): قول لا دليل عليه من حياة الرجلين. والزعم بأن الزكاة رمز للولاء السياسي ليس هو الدافع لأبي بكر إلى قتال مانعي الزكاة، كما قاتل المرتدين.
__________
(1) - سبق تخريجه.
(2) - انظر: الدين والدولة صـ44 وما بعدها.(1/88)
بل نظر أبو بكر إلى الزكاة من خلال نصوص القرآن، وسنة الرسول القولية والعملية، فوجد أنها من مسؤولية الدولة أو الخلافة. لهذا قال القرآن: {خُذْ مِن أموَالِهِم صَدقَةً تُطهِّرهُم وتُزَكِّيهِم بهَا} [التوبة:103]، وفي الحديث المتفق عليه: "تؤخذ من أغنيائهم، لترد على فقرائهم"(1)، وجعل القرآن من مصارف الزكاة: مصرف (العاملين عليها). فهي فريضة دينية اجتماعية تشرف عليها الدولة، وتأخذها من أصحابها طوعا، وإلا أخذتها كرها، فإن تمردوا وكانوا ذوي شوكة، قاتلهم الإمام حتى يؤدوها. وبهذا كانت الدولة الإسلامية أول دولة في التاريخ تقاتل من أجل حقوق الفقراء والمساكين. وكل ما كان يؤدى في عهد رسول الله يجب أن يظل يؤدى، ولو كان عقال بعير.
وكل ما ذكره د. الجابري عن عمر، وزعم مع من زعم أنه عطل فيه النص لأجل المصلحة، من مثل: إلغاء سهم (المؤلفة قلوبهم)، وإيقاف تنفيذ (حد السرقة) في عام المجاعة، ومنع -أو كراهية- الزواج من الكتابيات ... إلى آخر الدعاوى المعروفة في هذا الجانب ... كلها لا تثبت على محكِّ النقد العلمي، وهي مبنية على سوء الفَهم لموقف عمر رضي الله عنه. وقد رددنا عليها بالتفصيل، وبالأدلة المحكمة الناصعة في كتابنا (السياسة الشرعية بين نصوص الشريعة ومقاصدها)(2).
أكتفي هنا بإيراد مثل واحد من الأمثلة التي ذكروها عن عمر، وادَّعو فيها أنه عطَّل النص من أجل المصلحة. ولعل أشهر الأمثلة التي يردِّدونها باستمرار، هو ما عبَّروا عنه بقولهم: (إلغاء سهم المؤلفة قلوبهم) وهو منصوص عليه في القرآن.
__________
(1) - رواه البخاري في الزكاة (1395) عن ابن عباس، ومسلم في الإيمان (19)، وأحمد في المسند (2071)، وأبو داود (1584)، والترمذي (625)، والنسائي (2435)، وابن ماجه (1783) أربعتهم في الزكاة.
(2) - انظر: كتابنا (السياسة الشرعية) صـ181 - 222 طبعة مكتبة وهبة.(1/89)
ونود أن نذكر هنا: أن المصلحة الحقيقية لا يمكن أن تتعارض مع نص شرعي قطعي الثبوت والدلالة. وهذا أمر مجمع عليه بين المسلمين كافة في جميع الأعصار.
والذين ادَّعوا أن نجم الدِّين الطوفي قدَّم المصلحة على النص القطعي: قوَّلوا الرجل ما لم يقل، بل قال عكسه تماما، فكل كلامه على النصوص الظنية ثبوتا أو دلالة، وإنما قال من قال ذلك، لأنهم لم يستوعبوا كلامه كله، وإنما اختطفوا جزءا منه ولم يستكملوه، وقد وضحنا ذلك ونقلنا من نصوصه ما يدفع هذا الوهم بيقين، في كتابنا (السياسة الشرعية)(1).
ومما قاله في هذا السياق عن النص:
(وأما النص، فهو إما متواتر أو آحاد، وعلى التقديرين فهو إما صريح في الحكم، أو محتمل، فهي أربعة أقسام، فإن كان متواترا صريحا فهو قاطع من جهة متنه ودلالته، لكن قد يكون محتملا من جهة عموم أو إطلاق، وذلك يقدح في كونه قاطعا مطلقا. فإن فرض عدم احتماله من جهة العموم والإطلاق ونحوه، وحصلت فيه القطعية من كل جهة بحيث لا يتطرق إليه احتمال بوجه. منعنا أن مثل هذا يخالف المصلحة، فيعود إلى الوفاق. وإن كان آحادا محتملا فلا قطع، وكذا إن كان متواترا محتملا، أو آحادا صريحا لا احتمالا في دلالته بوجه، لفوات قطعيته من أحد طرفيه إما متنه أو سنده)(2)اهـ.
فهو هنا يمنع صراحة أن يخالف النص القطعي في سنده وفي دلالته: المصلحة.
ومما لا نزاع فيه بين أهل العلم عامة: أن المصلحة اليقينية (القطعية) لا يمكن أن تناقض النص القطعي أو يناقضها بحال من الأحوال. وهو ما أكده علماء الأمة قديما وحديثا.
وإذا تُوهم هذا التناقض، فلا بد من أحد أمرين:
__________
(1) - انظر: السياسة الشرعية صـ160 – 165.
(2) - انظر: كتاب المعين في شرح الأربعين للطوفي. في شرح حديث: "لا ضرر ولا ضرار".(1/90)
إما أن تكون المصلحة مظنونة أو موهومة، مثل مصلحة إباحة الربا لطمأنة الأجانب، أو الخمر لاجتذاب السياحة، أو الزنى للترفيه عن العزاب، أو إيقاف الحدود، مراعاة لأفكار العصر، أو غير ذلك مما يموِّه به مموهون من عبيد الفكر الغربي.
وإما أن يكون النص الذي يتحدثون عنه غير قطعي، وهو ما وقع فيه كثير من الباحثين، ولا سيما من غير المتخصصين والمتضلعين في علوم الشريعة وأسرارها، من أساتذة الحقوق والاقتصاد والآداب، فحسبوا بعض النصوص قطعية، وليست كذلك(1).
المصلحة في نظر الشريعة أوسع وأعمق من المصلحة عند الغربيين:
ومن الضروري هنا: أن نبيِّن أن المصلحة التي يتحدث عنها علماء الشريعة الإسلامية، ليست هي المصلحة التي يتحدث عنها الغربيون ... إن المصلحة عند الغربيين تدور حول (اللذة) كما يذهب كثير من الفلاسفة، أو حول (القوة) كما يذهب إلى ذلك منظرو السياسة. وليس هناك ضوابط لتحصيل القوة عند هؤلاء أو اللذة عند أولئك.
والأفراد يتنافسون في ذلك، وكذلك الأقوام والأمم تتنافس في ذلك، بدون ضابط من وازع ديني أو أخلاقي.
المصلحة هنا مصلحة مادية لا روحية، دنيوية لا أخروية، فردية لا اجتماعية، آنية لا مستقبلية، قومية لا إنسانية.
__________
(1) - انظر: كتابنا (السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها) صـ267، 268.(1/91)
أمَّا المصلحة التي قصدت الشريعة إلى إقامتها وحفظها، فهي أشمل من ذلك وأوسع. فهي ليست المصلحة الدنيوية فحسب، كما يدعو خصوم الدِّين، ولا المصلحة المادية فقط، كما يريد أعداء الروحية، ولا المصلحة الفردية وحدها، كما ينادي عشَّاق الوجودية وأنصار الرأسمالية، ولا مصلحة الجماعة أو البرولتاريا، كما يدعو إلى ذلك أتباع الماركسية والمذاهب الجماعية، ولا الملصلحة الإقليمية العنصرية كما ينادي بذلك دعاة العصبية، ولا المصلحة الآنية للجيل الحاضر وحده، كما تتصور بعض النظرات السطحية. إنما المصلحة التي قامت عليها الشريعة في كلياتها وجزئياتها، وراعتها في عامة أحكامها، هي المصلحة التي تسع الدنيا والآخرة، وتشمل المادة والروح، وتوازن بين الفرد والمجتمع، وبين الطبقة والأمة، وبين المصلحة القومية الخاصة والمصلحة الإنسانية العامة، وبين مصلحة الجيل الحاضر ومصلحة الأجيال المستقبلة، والموازنة بالقسط بين هذه المصالح المتقابلة المتضاربة في كثير من الأحيان لا ينهض بها علم بشر، وحكمة بشر، وقدرة بشر.
فالبشر أعجز من أن يحيط بكُنْه هذه المصالح ويوفِّق بينها، ويعطي كل ذي حق منها حقه بالقسطاس المستقيم. وعجزه يأتي من ناحيتين:
1. ناحية محدودية عقله وعلمه، وذلك تابع لطبيعته البشرية المخلوقة الفانية المتأثرة -حتما- بالزمان والمكان والمحيط والوراثة.
2. وناحية تأثير الميول والأهواء والنزعات عليه، سواء أكانت ميولا شخصية أم أُسْرية أم إقليمية أم طبقية أم حزبية أم قومية. وكل واحدة من هذه لا تخلو من تأثير عليه من حيث يشعر أو لا يشعر. والمعصوم من عصمه الله.
وفي هذا المعنى يقول الإمام الشاطبي:
((1/92)
أن المصالح التي تقوم بها أحوال العبد: لا يعرفها حق معرفتها إلا خالقها وواضعها، وليس للعبد بها علم إلا من بعض الوجوه، والذي يخفى عليه منها أكثر من الذي يبدو له، فقد يكون ساعيًا فى مصلحة نفسه من وجه لا يوصِّله إليها، أو يوصِّله إليها عاجلا لا آجلا، أو يوصِّله إليها ناقصة لا كاملة، أو يكون فيها مفسدة تُربي -فى الموازنة- على المصلحة، فلا يقوم خيرها بشرها.
وكم من مدبر أمرًا لا يتمُّ له على كماله أصلا، ولا يجنى منه ثمرة أصلا، وهو معلوم مشاهد بين العقلاء، فلهذا بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، فإذا كان كذلك فالرجوع إلى الوجه الذي وضعه الشارع، رجوع إلى وجه حصول المصلحة ... بخلاف الرجوع إلى ما خالفه ...)(1).
ولهذا كانت رعاية المصالح كلها (فردية واجتماعية) للإنسان كله (جسمه وروحه وعقله)، وللطبقات كلها (أغنياء وفقراء، وحكاما ومحكومين، وعمالا وأرباب عمل)، وللإنسانية كلها (بيضا وسودا، ووطنين وأجانب)، وللأجيال كلها (حاضرة ومستقبلة)، لا يقدر عليها إلا رب الناس، ملك الناس، إله الناس.
وهذا المعنى هو ما جعل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يتوقف في توزيع الأرض المفتوحة على الفاتحين، لأنه رأى إغداقا على الجيل الحاضر في زمنه -جيل الفتح- على حساب الأجيال اللاحقة من أبناء الأمة، ولهذا كان يقول: إنني إن قسمتها بينكم جاء آخر الناس وليس لهم شيء.
وقد وجد عمر بعد طول تأمُّل في كتاب الله ما يؤيد وجهة نظره في سورة الحشر، حيث أشارت الآيات في مصرف الفيء -بعد المهاجرين والأنصار- وهم الجيل الحاضر آنذاك، إلى الذين يجيئون بعدهم من الأجيال، ذلك في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ} [الحشر:10].
__________
(1) - الموافقات جـ1 صـ243 طبعة منير الدمشقي.(1/93)
وبهذه الآيات وجد عمر الحجة على مخالفيه من الصحابة رضي الله عنهم جميعا. قال عمر: ما أرى هذه الآية إلا عمت الخلق كلهم(1). وقال للذين عارضوه: تريدون أن يأتي آخر الناس ليس لهم شيء؟ فما لمن بعدكم(2)؟ ويقول: لولا آخر الناس ما فتحت قرية(3)... إلخ، فقد فهم عمر من كتاب ربه وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ومقاصد شريعته: أن مصالح الأجيال كلها يجب أن تراعى ولا يستأثر جيل واحد أو جيلان بالخير والرفاهية على حساب من بعدهم، ولهذا كان ينظر إلى آخر الناس (الأجيال اللاحقة التي يخبئها الغيب) ويعمل لصالحها كالأجيال الحاضرة.
__________
(1) - ذكره ابن رشد في بداية المجتهد (1/529).
(2) - رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (2/197) عن عمر.
(3) - رواه البخاري في المغازي (4235) عن عمر، وأحمد في المسند (284)، وأبو داود في الخراج والإمارة والفيء (3020)، ونص الحديث: أما والذي نفسي بيده، لولا أن أترك آخر الناس بَبَّانًا ليس لهم شيء، ما فتحت علي قرية إلا قسمتها، كما قسم النبي خيبر، ولكني أتركها خزانة لهم يقتسمونها.(1/94)
ولقد كان معاذ -الفقيه الأنصاري الجليل وأعلم الصحابة بالحلال والحرام كما في الحديث(1)- من أنصار عمر في رأيه، وقد قال محذرا من الاستجابة إلى رغبة المطالبين بالقسمة: إنك إن قسمتها صار الريع العظيم في أيدي هؤلاء القوم، ثم يبيدون فيصير ذلك إلى الرجل الواحد أو المرأة (أي أنه ينبِّه في هذا الوقت المبكر إلى خطر الملكية العقارية الواسعة) ثم يأتي من بعدهم قوم يسدُّون من الإسلام مسدًا (أي يبلون في الدفاع عنه بلاء حسنا) وهم لا يجدون شيئا، فانظر أمرا يسع أولهم وآخرهم(2).
والمقصود هنا: أن الشريعة ترعى مصالح المكلفين بهذا الشمول المتوازن، أو بهذا التوازن الشامل، فمن أراد أن يفهم المصلحة في الشريعة فليفهمها في ضوء هذا التصور(3).
(4)
الدِّين والدولة في الإسلام
مما يُصِرُّ العلمانيون عليه -على اختلاف ألوانهم وانتماءاتهم- أن لا تكون للإسلام دولة، تتحدث باسمه، وترفع رايته في الأرض، وتطبق أحكام شريعته على المؤمنين به، وتبلغ رسالته إلى العالمين، وتدافع عن أرضه وأمته في مواجهة الغزاة والمعتدين.
ولم يعرف المسلمون طوال تاريخهم الطويل هذا الانفصال -أو الفصام- بين الدِّين والدنيا، أو بين الدِّين والسياسة، أو بين الدِّين والدولة.
__________
(1) - رواه أحمد في المسند (13990) عن أنس، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين، والترمذي في المناقب (3791)، وقال: حديث حسن صحيح، وابن ماجه في المقدمة (154).
(2) - انظر: الخراج لأبي يوسف صـ24، 27، والخراج ليحيى بن آدم صـ18، 43، والأموال لأبي عبيد صـ56 وما بعدها.
(3) - انظر: كتابنا (مدخل إلى دراسة الشريعة) صـ61 – 65 طبعة مؤسسة الرسالة ببيروت، ومكتبة وهبة بالقاهرة.(1/95)
لقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - جامعا للسلطتين: الدِّينية والدنيوية، ولهذا قسم الفقهاء تصرفاته بوصفه نبيا مبلغا عن الله، وبوصفه قاضيا يفصل بين الناس، وبوصفه إماما يتصرف في قضايا الأمة(1).
وكذلك كان الخلفاء الراشدون والأُمويون والعباسيون والعثمانيون وغيرهم، إلى أن ألغيت الخلافة في سنة 1924م.
ورأينا العلماء يعرفون الخلافة بأنها: النيابة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حراسة الدِّين وسياسة الدنيا به.
ورأينا كل خليفة أو أمير أو سلطان طوال التاريخ الإسلامي: يرى نفسه مسؤولا عن التمكين للدين في الأرض، والدفاع عنه. وهذا ما قرَّره القرآن بجلاء، حين قال: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41]، ولهذا كان هؤلاء الخلفاء والسلاطين يُبايَعون من الأمة على كتاب الله، وعلى سنة رسول الله.
وكان هؤلاء الخلفاء والأمراء لا يفرقون بين الدِّين والدنيا، أو بين الدِّين والسياسة، كما يقولون اليوم.
مدح الشاعر عبد الله بن أبي السمط: الخليفة المأمون بقصيدة كان فيها بيت يقول:
أضحى إمام الهُدى المأمون مشتغلا ... بالدِّين والناس بالدنيا مشاغيل!
__________
(1) - يقول الإمام القرافي في الفرق السادس والثلاثين بين قاعدة تصرفه صلى الله عليه وسلم بالقضاء وبين قاعدة تصرفه بالفتوى وهي التبليغ وبين قاعدة تصرفه بالإمامة: (اعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الإمام الأعظم والمفتي الأعلم، فهو صلى الله عليه وسلم إمام الأئمة وقاضي القضاة وعالم العلماء، فجميع المناصب الدينية فوضها الله تعالى إليه في رسالته ...) إلخ. الفروق: 1/205، 206 طبعة دار المعرفة بيروت.(1/96)
فأعرض عنه المأمون، ونظر إليه نظرا شزرا، وكان الشاعر معتزا ببيته هذا، فشكا إلى شاعر آخر (عُمارة حفيد جَرير): أن أمير المؤمنين لا يعرف الشعر! وأنشد له البيت، فقال له عُمارة: والله، لقد حلم عليك إذ لم يؤدبك عليه، ويلك! وإذا لم يشتغل بالدنيا، فمن يدبر أمرها؟ ألا قلتَ كما قال جدي في عبد العزيز بن مروان:
فلا هو في الدنيا مضيع نصيبه ... ولا عرض الدنيا عن الدِّين شاغله!
... قال: الآن علمت أني أخطأت(1).
فهكذا كانوا ينظرون إلى امتزاج الدِّين بالدنيا، ومنها السياسة.
أولى محاولات العلمانية لاقتحام الأزهر:
ومن بدهيات التاريخ الإسلامي: أنه لم يعرف يوما دولة بلا دين، ولا دينا بلا دولة. ولم يدر هذا الخاطر في فكر أحد من أبنائه، حتى ظهر علي عبد الرازق بكتابه أو كُتيّبه العجيب في آخر الربع الأول للقرن العشرين الميلادي (1925م) الذي ادَّعى فيه دعاوى شاذة عن مسار الأمة وعن عقيدتها وشريعتها ووجهتها العامة، وزعم أن الرسول لم يؤسس دولة، وأن الإسلام لا شأن له بالدولة والحكم والسياسة، وأنه مجرد رسالة روحية، وهو ما رد عليه علماء الأمة كلها بالأدلة الشرعية القاطعة، وسقط الكتاب من الناحية العلمية. وإن كان الخصوم الدِّينيون والفكريون والسياسيون قد رحبوا بالكتاب أبلغ ترحيب، وفتحوا له صدورهم وأذرعتهم. وجعلوه سلاحا في أيديهم في معركتهم ضد الإسلام وأمته.
وكانت هذه أول مرة تحاول العلمانية فيها: أن تقتحم على الأزهر داره، وتغزو فكر أحد علمائه، ولكن الأزهر رفض ذلك بقوة، وفند دعوى الرجل علميا، وجرده من نسبه الأزهري، وأخرجه من زمرة العلماء.
وإن كان الشيخ علي بعد ذلك لم يحاول نشر الكتاب، أو ترويجه أو الحديث عنه طوال حياته، بل حتى ورثته من بعده.
دعوى علي عبد الرازق منقوضة:
__________
(1) - انظر: العقد الفريد (5/368)، والخبر في الطبري (5/203)، وتاريخ بغداد (10/189)، وتاريخ دمشق (36/374)، والبداية والنهاية (10/276)، وغيرها.(1/97)
زعم الشيخ علي عبد الرازق: أنه لا يجد دليلا على أن الإسلام يدعو إلى تأسيس دولة أو إقامة حكومة. وأنه ليس إلا دعوة دينية خالصة، لا صلة لها بالمُلك الذي هو من أمور الدنيا، المضادة للدين.
ونحن هنا سنبين الأدلة على أن (إقامة الدولة) من صميم الإسلام، وأن القول بخلاف ذلك، إنما هو قول مُحْدث، لم يعرفه المسلمون خلال تاريخهم الطويل.
الأدلة على أن الدولة من صحيح الإسلام:
وسنختار أدلة ثلاثة أساسية: من نصوص الإسلام، ومن تاريخه، ومن طبيعته.
1. الدليل من نصوص الإسلام:
أما نصوص الإسلام، فحسبنا منها آيتان من سورة النساء: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59،58].
فالخطاب في الآية الأولى للولاة والحكام: أن يراعوا الأمانات ويحكموا بالعدل، فإن إضاعة الأمانة والعدل نذير بهلاك الأمة وخراب الديار. ففي الصحيح: "إذا ضُيِّعَتِ الأمانة فانتظر الساعة"(1).
والخطاب في الآية الثانية للرعية المؤمنين: أن يطيعوا { وَأُولِي الْأَمْرِ} بشرط أن يكونوا (منهم) وجعل هذه الطاعة بعد طاعة الله وطاعة الرسول، وأمر عند التنازع برد الخلاف إلى الله ورسوله، أي الكتاب والسنة. وهذا يفترض أن يكون للمسلمين دولة تُهَيْمِن وتُطاع، وإلا لكان هذا الأمر عبثا.
وفي ضوء هاتين الآيتين المذكورتين ألَّف شيخ الإسلام ابن تيمية كتابه المعروف (السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية) والكتاب مبني على الآيتين الكريمتين.
__________
(1) - رواه البخاري في العلم (59) عن أبي هريرة، وأحمد في المسند (8729).(1/98)
وفي القرآن آيات كثيرة تتعلَّق بشؤون الاجتماع والاقتصاد والجهاد والسياسة، معروفة مدروسة فيما عرف باسم (آيات الأحكام) وعنى بها العلماء الذين ألفوا في (أحكام القرآن) مثل الرازي الجصاص الحنفي (ت370هـ) وابن العربي المالكي (ت453هـ).
وإذا ذهبنا إلى السنة، رأينا الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية"(1). ولا ريب أن من المحرَّم على المسلم أن يبايع أي حاكم لا يلتزم بالإسلام. فالبيعة التي تنجيه من الإثم أن يبايع مَن يحكم بما أنزل الله ... فإذا لم يوجد فالمسلمون آثمون حتى يتحقق الحكم الإسلامي، وتتحقق البيعة المطلوبة. ولا ينجي المسلم من هذا الإثم إلا أمران:
الإنكار -ولو بالقلب- على هذا الوضع المنحرف المخالف لشريعة الإسلام.
والسعي الدائب لاستئناف حياة إسلامية قويمة، يوجهها حكم إسلامي رشيد.
وجاءت عشرات الأحاديث الصحيحة -إن لم تكن مئاتها- في دواوين السنة المختلفة، عن الخلافة والإمارة والقضاء والأئمة وصفاتهم وحقوقهم من الموالاة والمعاونة على البر، والنصيحة لهم وطاعتهم في المنشط والمكره، والصبر عليهم، وحدود هذه الطاعة وهذا الصبر، وتحديد واجباتهم من إقامة حدود الله ورعاية حقوق الناس، ومشاورة أهل الرأي، وتولية الأقوياء الأمناء، واتخاذ البطانة الصالحة، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ... إلى غير ذلك من أمور الدولة وشؤون الحكم والإدارة والسياسة.
__________
(1) - رواه مسلم في الإمارة (1851) عن ابن عمر، والبيهقي في الكبرى كتاب قتال أهل البغي (8/156).(1/99)
ولهذا رأينا شؤون الإمامة والخلافة تُذكر في كتب تفسير القرآن الكريم، وفي شروح الحديث الشريف، وكذلك تذكر في كتب العقائد وأصول الدِّين، كما رأيناها تُذكر في كتب الفقه، كما رأينا كُتُبا خاصة بشؤون الدولة الدستورية والإدارية والمالية والسياسية، كالأحكام السلطانية للماوردي، ومثله لأبي يعلى، والغياثي لإمام الحرمين، والسياسة الشرعية لابن تيمية، وغيرها، مما سبق الإشارة إليها(1).
2. الدليل من تاريخ الإسلام:
أما تاريخ الإسلام، فينبئنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعى بكل ما استطاع من قوة وفكر -مؤيدا بهداية الوحي- إلى إقامة دولة الإسلام، ووطن لدعوته، خالص لأهله، ليس لأحد عليهم فيه سلطان، إلا سلطان الشريعة. ولهذا كان يعرض نفسه على القبائل ليؤمنوا به ويمنعوه ويحموا دعوته، حتى وفق الله قبيلتي الأوس والخزرج إلى الإيمان برسالته، فبعث إليهم مصعب بن عمير يتلو عليهم القرآن ويعلمهم الإسلام، فلما انتشر فيهم الإسلام جاء وفد منهم إلى موسم الحج مكون من (73) ثلاثة وسبعين رجلا وامرأتين، فبايعوه - صلى الله عليه وسلم - على أن يمنعوه مما يمنعون أنفسهم وأزواجهم وأبناءهم، وعلى السمع والطاعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ... إلخ، فبايعوه على ذلك ... وكانت الهجرة إلى المدينة ليست إلا سعيا لإقامة المجتمع المسلم المتميِّز، تشرف عليه دولة متميزة.
__________
(1) - انظر: عنوان (تعقيب عام على السياسة عند الفقهاء) من هذا الكتاب.(1/100)
كانت (المدينة) هي (دار الإسلام) وقاعدة الدولة الإسلامية الجديدة، التي كان يرأسها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو قائد المسلمين وإمامهم، كما أنه نبيهم ورسول الله إليهم. ولهذا جعل الفقهاء من أنواع تصرفات الرسول: تصرفه بمقتضى الإمامة أو الرئاسة للدولة، وذكروا ما يترتب على ذلك من أحكام(1).
وكان الانضمام إلى هذه الدولة، لشد أزرها، والعيش في ظلالها، والجهاد تحت لوائها، فريضة على كل داخل في دين الله حينذاك. فلا يتم إيمانه إلا بالهجرة إلى دار الإسلام، والخروج من دار الكفر والعداوة للإسلام، والانتظام في سلك الجماعة المؤمنة المجاهدة التي رماها العالَم عن قوس واحدة.
يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال:72]. ويقول في شأن قوم: {فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء:79](2).
__________
(1) - انظر: (الإحكام) للقرافي صـ86 - 106، و(الفروق) له أيضا جـ1 صـ 205 - 209، وانظر: كتابنا (شريعة الإسلام صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان) صـ116 وما بعدها طبعة مكتبة وهبة. القاهرة.
(2) - إن بديل الهجرة إلى الدولة المسلمة اليوم هو: الانضمام إلى الجماعة المسلمة التي تعمل لإقامة دولة الإسلام، فهو فريضة على كل مسلم بحسب وسعه، إذ العمل الفردي لا يُمكِّنه من تحقيق هذا الهدف الكبير.(1/101)
كما نزل القرآن الكريم يندد أبلغ تنديد بأولئك الذين يعيشون مختارين في دار الكفر والحرب، دون أن يتمكنوا من إقامة دينهم وأداء واجباتهم وشعائرهم: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [النساء:97-99].
وعند وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أول ما شغل أصحابه رضي الله عنهم، أن يختاروا (إماما) لهم، حتى إنهم قدَّموا ذلك على دفنه - صلى الله عليه وسلم - فبادروا إلى بيعة أبي بكر، وتسليم النظر إليه في أمورهم، وكذا في كل عصر من بعد ذلك، وبهذا الإجماع التاريخي ابتداءً من الصحابة والتابعين -مع ما ذكرنا من نصوص- استدل علماء الإسلام على وجوب نصب الإمام الذي هو رمز الدولة وعنوانها.(1/102)
ولم يعرف المسلمون في تاريخهم انفصالا بين الدِّين والدولة، إلا عندما نجم قرن العلمانية في هذا العصر، وهو ما حذَّر الرسول - صلى الله عليه وسلم - منه، وأمر بمقاومته كما في حديث معاذ: "ألا إن رحى الإسلام دائرة، فدوروا مع الإسلام حيث دار، ألا إن القرآن والسلطان سيفترقان (أي الدِّين والدولة) فلا تفارقوا الكتاب، ألا إنه سيكون عليكم أمراء يقضون لأنفسهم ما لا يقضون لكم، فإن عصيتموهم قتلوكم، وإن أطعتموهم أضلوكم". قالوا: وماذا نصنع يا رسول الله؟ قال: "كما صنع أصحاب عيسى ابن مريم: نشروا بالمناشير، وحُمِلوا على الخُشب. موت في طاعة الله خير من حياة في معصية الله"(1).
لم يعرف تاريخنا دينا بلا دولة ولا دولة بلا دين:
هنا أنقل كلمة المفكر المغربي المتزن (محمد عابد الجابري) عن علاقة الدِّين بالدولة من خلال مرجعيتنا التراثية، فيقول عن ثنائية الدِّين والدولة: (إنها إذا طرحت بمضمونها الأصلي، الأوربي الذي يفيد المطالبة بفصل الدِّين عن الدولة، إنها إذا طرحت بهذا المضمون في مرجعيتنا التراثية تلك، فإن هذا الطرح سيفهم حتمًا على أنه (اعتداء على الإسلام) ومحاولة مكشوفة لـ(القضاء) عليه.
لماذ؟
للجواب عن هذا السؤال، جوابا مثمرا، يجب تجنب الاتهامات المجانية من قبيل الرمي بالتعصب وضيق الأفق ... إلخ، فضررها أكثر من نفعها، فضلا عن كونها تنمُّ عن عدم فَهم، أو على الأقل عن عدم تفهُّم لمحددات تفكير من يصدر عن المرجعية التراثية.
__________
(1) - رواه الطبراني في الكبير (20/90) عن معاذ، وفي الصغير (2/42)، وفي مسند الشاميين (1/379)، وأبو نعيم في الحلية (5/165)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني، ويزيد بن مرثد لم يسمع معاذ، والوضين بن عطاء وثقه ابن حبان وغيره وبقية رجاله ثقات (5/428).(1/103)
لننظر إذن إلى الكيفية التي تفهم بها عبارة (فصل الدِّين عن الدولة) داخل مرجعيتنا التراثية، المرجعية التي لا تحتمل هذه الثنائية (ثنائية دين / دولة) لأنه لم يكن هناك في التاريخ الإسلامي بمجمله (دين) متميز -أو يقبل التمييز والفصل- عن الدولة، كما لم يكن هناك قط (دولة) تقبل أن يفصل الدِّين عنها.
فعلا كان هناك حكام اتهموا بالتساهل في أمر من أمور الدِّين كالجهاد أو مقاومة البدع ... إلخ، ولكن لا أحد من الحكام في التاريخ الإسلامي استغنى -أو كان في إمكانه أن يستغني- عن إعلان التمسك بالدِّين، لأنه لا أحد منهم كان يستطيع أن يلتمس الشرعية لحكمه خارج شرعية الإعلان عن خدمة الدِّين، والرفع من شأنه.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى لم يكن هناك في التاريخ الإسلامي، في أي فترة من فتراته، مؤسسة خاصة بالدِّين متميزة من الدولة، فلم يكن الفقهاء يشكلون مؤسسة، بل كانوا أفرادا يجتهدون في الدِّين ويفتون فيما يعرض عليهم من النوازل، أو تفرزه تطورات المجتمع من مشاكل.
وإذن فعبارة (فصل الدِّين عن الدولة) أو (فصل الدولة عن الدِّين) ستعني بالضرورة -داخل المرجعية التراثية- أحد أمرين أو كليهما معا: إما إنشاء دولة ملحدة غير إسلامية، وإما حرمان الإسلام من (السلطة) التي يجب أن تتولى تنفيذ الأحكام.
نعم يمكن أن تنجح في إقناع من يفكر من داخل المرجعية التراثية وحدها بأن الأمر لا يتعلَّق قط بإنشاء دولة ملحدة، ولا بنزع الصبغة الإسلامية عن المجتمع، يمكن أن تحلف له بأغلظ الأيمان بأن المقصود ليس هو هذا ولا ذاك، وسيكتفي بالقول: (الله أعلم) ويسكت. ولكنك لا تستطيع أبدا أن تقنعه بأن (فصل الدِّين عن الدولة) ليس معناه حرمان الإسلام من (السلطة) التي يجب أن تتولى تنفيذ الأحكام. وإذن فيجب البدء بالتمييز بين السلطة المنفذة للأحكام الشرعية وبين الهيئة الاجتماعية المسماة: الدولة.
لماذا؟(1/104)
لأن الدِّين في نظره يشتمل على أحكام يجب أن تنفذ، وأن الدولة هي (السلطة) التي يجب أن تتولى التنفيذ)(1).
3. الدليل من طبيعة الإسلام:
أما طبيعة الإسلام ورسالته، فذلك أنه دين عام، ومنهج حياة، وشريعة شاملة، فتستوعب شؤون الدنيا والآخرة، والفرد والمجتمع، وشريعة هذه طبيعتها لا بد أن تتغلغل في كل نواحي الحياة، لتصلحها وترقى بها، بالتوجيه والتشريع لها، والدولة إحدى الوسائل الهامة في ذلك، ولا يتصور أن تهمل شأن المجتمع والدولة، وتدع أمرها لمن لا يؤمن برسالة الدين في البناء والإصلاح. وربما كان من الذين يسعون إلى تنحية الدين من التشريع والتوجيه أصلا.
__________
(1) - انظر: الدين والدولة صـ60 – 63.(1/105)
كما أن هذا الدِّين يدعو إلى التنظيم وتحديد المسئولية، ويكره الاضطراب والفوضى في كل شيء، حتى رأينا الرسول - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا في الصلاة أن نسوِّي الصفوف(1)، وأن يؤمنا أعلمنا(2)، وفي السفر يقول: "أَمِّرُوا أحدكم"(3).
__________
(1) - إشارة إلى حديث: "سووا صفوفكم فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة"، وقد رواه البخاري في الأذان (723) عن أنس، ومسلم في الصلاة (433)، وأحمد في المسند (12813)، وأبو داود في الصلاة (668)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (993).
(2) - إشارة إلى حديث: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سلما ..."، وقد رواه أحمد في المسند (17138) عن أبي مسعود الأنصاري، وقال مخرجوه: إسناده صحيح على شرط مسلم، والترمذي في أبواب الصلاة (235)، والنسائي في الإمامة (780)، والطبراني في الكبير (17/218)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (8011).
(3) - رواه الطبراني في الكبير (9/185) عن ابن مسعود موقوفا، وابن الجعد في المسند (1/78)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح (5/449)، وحسن العراقي إسناده في تخريج أحاديث الإحياء (2/217).(1/106)
يقول الإمام ابن تيمية في (السياسة الشرعية): (يجب أن يُعرف أن ولاية أمر الناس أمر من أعظم واجبات الدِّين، بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها فإنَّ بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع، لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد عند الاجتماع من رأس. حتى قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : "إذا خرج ثلاثة في سفر، فليؤمِّروا أحدهم"(1). وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يحل لثلاثة أن يكونوا بفلاة من الأرض إلا أمَّروا عليهم أحدهم"(2)، فأوجب تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر، تنبيها على سائر أنواع الاجتماع.
ولأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة، وكذلك سائر ما أوجبه الله من الجهاد والعدل، وإقامة الحج والجُمَع والأعياد، ونصرة المظلوم، وإقامة الحدود، لا تتم إلا بالقوة والإمارة. ولهذا رُوي: "إن السلطان ظل الله في الأرض"(3). ولهذا كان السلف: كالفضيل بن عياض وأحمد ابن حنبل وغيرهما يقولون: لو كانت لنا دعوة مجابة، لدعونا بها للسلطان)(4)اهـ. وذلك أن الله يُصلح بصلاحه خَلقا كثيرا.
__________
(1) - رواه أبو داود في الجهاد (2608) عن أبي سعيد الخدري، والطبراني في الأوسط (8/99)، والبيهقي في الكبرى كتاب الحج (5/257)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2272).
(2) - رواه أحمد في المسند (6647) عن عبد الله بن عمرو، وقال مخرجوه: صحيح لغيره إلا حديث الإمارة فحسن، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد والطبراني وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن وبقية رجال أحمد رجال الصحيح (4/145).
(3) - رواه البيهقي في الشعب (6/18) عن أنس، وفي الكبرى كتاب قتال أهل البغي (8/162)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (3349).
(4) - السياسة الشرعية، ضمن مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية جـ28 صـ390، 391.(1/107)
ثم إن طبيعة الإسلام باعتباره منهجا يريد أن يُوجه الحياة، ويحكم المجتمع، ويضبط سير البشر وفق أوامر الله: لا يُظن به أن يكتفي بالخطابة والتذكير والموعظة الحسنة، ولا أن يدع أحكامه ووصاياه وتعليماته في شتَّى المجالات إلى ضمائر الأفراد وحدها، فإذا سقمت هذه الضمائر أو ماتت، سقمت معها وماتت تلك الأحكام والتعاليم. وقد نقلنا عن الخليفة الثالث قوله: "إن الله ليَزع بالسلطان ما لا يَزع بالقرآن"(1).
فمن الناس مَن يهديه الكتاب والميزان، ومنهم مَن لا يردعه إلا الحديد والسنان. ولذا قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد:25].
قال ابن تيمية: (فمن عَدَل عن الكتاب عُدِّل بالحديد، ولهذا كان قوام الدِّين بالمصحف والسيف)(2).
وقال الإمام الغزالي في (إحيائه): الدنيا مزرعة الآخرة، ولا يتم الدِّين إلا بالدنيا، والمُلك والدِّين توأمان، فالدِّين أصل، والسلطان حارس، وما لا أصل له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع، ولا يتم المُلك والضبط إلا بالسلطان(3).
إن نصوص الإسلام لو لم تجئ صريحة بوجوب إقامة دولة للإسلام، ولم يجئ تاريخ الرسول وأصحابه تطبيقا عمليا لما دعت إليه هذه النصوص، لكانت طبيعة الرسالة الإسلامية نفسها تحتم أن تقوم للإسلام دولة أو دار، يتميَّز فيها بعقائده وشعائره وتعاليمه ومفاهيمه، وأخلاقه وفضائله، وتقاليده وتشريعاته.
__________
(1) - البداية والنهاية (2/10).
(2) - مجموع الفتاوى (28/264).
(3) - إحياء علوم الدين (1/71) كتاب العلم، وقد روى مسكويه في كتابه (تهذيب الأخلاق) هذه العبارة عن أزدشير.(1/108)
فلا غنى للإسلام عن هذه الدولة المسئولة في أي عصر، ولكنه أحوج ما يكون إليها في هذا العصر خاصة. هذا العصر الذي برزت في (الدولة الأيديولوجية) وهي الدولة التي تتبنى فكرة، يقوم بناؤها كله على أساسها، من تعليم وثقافة وتشريع وقضاء واقتصاد، إلى غير ذلك من الشؤون الداخلية والسياسية الخارجية. كما نرى ذلك واضحا في الدولة الشيوعية والاشتراكية. وأصبح العلم الحديث بما وفره للدولة من تقدم تكنولوجي في خدمة الدولة، وأصبحت الدولة بذلك قادرة على التأثير في عقائد المجتمع وأفكاره وعواطفه وأذواقه وسلوكه بصورة فعَّالة، لم يُعرف لها مثيل من قبل. بل تستطيع الدولة بأجهزتها الحديثة الموجهة أن تغيِّر قِيَم المجتمع ومُثُله وأخلاقه رأسا على عقب، إذا لم تقم في سبيلها مقاومة أشد.
إن دولة الإسلام دولة تقوم على عقيدة وفكرة ورسالة ومنهج، فليست مجرد (جهاز أمن) أو (دفاع) يحفظ الأمة من الاعتداء الداخلي أو الغزو الخارجي، بل إن وظيفتها لأعمق من ذلك وأكبر. وظيفتها تعليم الأمة وتربيتها على تعاليم ومبادئ الإسلام، وتهيئة الجو الإيجابي، والمناخ الملائم، لتحويل عقائد الإسلام وأفكاره وتعاليمه إلى واقع ملموس، يكون قدوة لكل مَن يلتمس الهُدى، وحجة على كل سالك سبيل الرَّدَى.
ولهذا يُعرِّف ابن خلدون (الخلافة) بأنها: حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة. فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدِّين وسياسة الدنيا به(1).
__________
(1) - مقدمة ابن خلدون جـ2 صـ518 طبعة لجنة البيان العربي بتحقيق د. علي عبد الواحد وافي.(1/109)
ولهذا وصف الله المؤمنين حين يمكَّن لهم في الأرض، وبتعبير آخر حين تقوم لهم دولة، فقال: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41].
ثم إن هذه الدولة العقائدية ليست ذات صفة محلية، ولكنها دولة ذات رسالة عالمية، لأن الله حمَّل أمة الإسلام دعوة البشرية إلى ما لديها من هُدى ونور، وكلَّفها الشهادة على الناس، والهداية للأمم، فهي أمة لم تنشأ بنفسها ولا لنفسها فحسب، بل أخرجت للناس، أخرجها الله الذي جعلها خير أمة وخاطبها بقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143].
ومن هنا وجدنا النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أتيحت له أول فرصة -بعد صلح الحديبية- كتب إلى ملوك وأمراء الأقطار في أركان الأرض يدعوهم إلى الله، والانضواء تحت راية التوحيد، وحمَّلهم إثم أنفسهم وإثم رعيتهم إذا تخلفوا عن ركب الإيمان، وكان يختم رسائله بهذه الآية: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64].
إن شعار دولة الإسلام ما قاله ربعي بن عامر لرستم قائد الفرس(1): إنَّ الله ابتعثنا لنُخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جَور الأديان إلى عدل الإسلام(2).
__________
(1) - تاريخ الطبري (2/401).
(2) - انظر: شمول الإسلام صـ55 - 63.(1/110)
وإذا كانت هذه الأهمية كلها للدولة وقدراتها المعاصرة، فكيف يدعها الإسلام في يد العلمانين والشيوعيين وغيرهم، يوجهونها إلى ما يضاد عقيدة الأمة وشريعتها وقِيَمها، ويفرغها -بطول الزمن- من رسالتها التي هي أساس وجودها؟
العلمانية تحاول اقتحام الأزهر مرة أخرى:
ومن الوقائع الهامة التي ينبغي أن تسجل هنا: أن الأزهر -قلعة العلم والاسلام الكبرى- قد غزي في عقر داره مرتين، لا غزوا ماديا، كما فعل الفرنسيون حين ضربوه بالمدافع والقذائف، حتى تصدعت جدرانه، ثم دخلوا بخيلهم الأزهر، ودنَّسوا أرضه الطاهرة، وانتهكوا حرمة الإسلام وأهله.
بل هو غزو معنوي أشد خطرا من اقتحام الخيل صحن الأزهر. وهو دخول الدعوى العلمانية المستوردة، التي خلاصتها فصل الدِّين عن الدولة، بل عن الحياة والمجتمع بصفة عامة. وبعبارة أخرى: عزل الله تعالى عن التشريع لخَلقه، والخضوع لأحكام وضعية من صنع البشر. وهو سبحانه القائل: {أَفَغيرَ اللهِ أَبتَغِي حَكَمًا وهُو الَّذي أَنْزلَ إِلَيكُم الكِتابَ مُفصَّلاً} [الأنعام:114]
المرة الأولى: كانت على يد الشيخ علي عبد الرزاق وقد تحدثنا عن كتابه الصغير الحجم، الكبير الخطر سنة 1925م والذي هاجمه عليه علماء الأزهر، وسحبوا منه شهادة (العالمية) وأخرجوه من زمرة العلماء. ورد عليه كبارهم بردود علمية حاسمة. مثل رد علامة الفقه الشيخ محمد بخيت المطيعي مفتي مصر في ذلك الزمان(1)، ورد العلامة الكبير الشيخ محمد خضر حسين(2)، الذي أصبح بعد ذلك شيخا للأزهر.
__________
(1) - في كتابه (حقيقة الإسلام وأصول الحكم).
(2) - في كتابه (نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم).(1/111)
كما رد عليه كثيرون بعد ذلك منهم، الدكتور محمد ضياء الدِّين الريس(1)، والدكتور محمد البهي(2)، والدكتور محمد عمارة(3).
والمرة الأخرى: كانت على يد الشيخ خالد محمد خالد، الذي ألف كتابه (من هنا نبدأ) في سنة 1950م، والذي رحبت به وروجت له دوائر شتى: صليبية وشيوعية وليبرالية وعلمانية، وقاومته كل الاتجاهات الإسلامية. وقد تصدى له كثيرون بالرد، أشهرهم شيخنا الشيخ محمد الغزالي -الذي كان صديقا للشيخ خالد- في كتابه (من هنا نعلم) الذي فند فيه مقولات الشيخ خالد بأسلوب علمي هادئ، لم يبق لباطله شبهة إلا دفعها بالحق، كما قال تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء:18]
ومما يذكر هنا للشيخ خالد رحمه الله: أنه بعد مدة من الزمن تبين له خطأ ما ذهب إليه من قبل، وأنه تجاوز فيه الحقيقة، فما كان منه إلا أن أعلن في شجاعة رائعة ونادرة: رجوعه عن رأيه القديم، وتبنّيه للرأي المخالف، وأصدر في ذلك كتابا سماه (الدولة في الإسلام) قال في مقدمته:
(في عام 1950م ظهر أول كتاب لي، وكان عنوانه: (من هنا نبدأ). وكان ينتظم أربعة فصول، كان ثالثها بعنوان: (قومية الحكم).
وفي هذا الفصل ذهبت أقرِّر أن الإسلام دين لا دولة، وأنه ليس في حاجة إلى أن يكون دولة ... وأن الدِّين علامات تضيئ لنا الطريق إلى الله وليس قوة سياسية تتحكم في الناس، وتأخذهم بالقوة إلى سواء السبيل. ما على الدِّين إلا البلاغ وليس من حقه أن يقود بالعصا من يريد لهم الهُدى وحسن ثواب.
__________
(1) - في كتابه (الإسلام والخلافة في العصر الحديث) طبعة الدر السعودية للنشر. جدة.
(2) - في كتابه (الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي).
(3) - في كتابه (معركة الإسلام وأصول الحكم) طبعة دار الشروق. القاهرة.(1/112)
وقلتُ: إن الدِّين حين يتحول إلى (حكومة)، فإن هذه الحكومة الدِّينية تتحول إلى عبء لا يطاق. وذهبت أعدد يومئذ ما أسميته: (غرائز الحكومة الدِّينية) وزعمت لنفسي القدرة على إقامة البراهين على أنها -أعني- الحكومة الدِّينية في تسع وتسعين في المائة من حالاتها جحيم وفوضى، وأنها إحدى المؤسسات التاريخية التي استنفذت أغراضها ولم يعد لها في التاريخ الحديث دور تؤديه.
وكان خطئي أنني عممت الحديث حتى شمل الحكومة الإسلامية.
وهكذا ذهبت أنعت وأهدم ما أسميته يومها بالحكومة الدِّينية! ولم أكن يومئذ أخدع نفسي ولا أزيف اقتناعي، فليس ذلك والحمد لله من طبيعتي. إنما كنت مقتنعا بما أكتب مؤمنا بصوابه.
وحين أرجع بذاكرتي إلى الأيام التي سطرت فيها هذا الرأي وهذه الكلمات لا أخطئ التعرف إلى العوامل التي تغشتني بهذا التفكير ... والكاتب حين يحيا بفكر مفتوح بعيدا عن ظلام التعصب وغواشي العناد، فإنه يستطيع دائما أو غالبا أن يهتدي إلى الصواب ويقترب من الحقيقة ويعانقها في يقين جديد، وحبور أكيد، ونحن مطالبون بأن نفكر دائما، ونراجع أفكارنا، وننكر ذواتنا ونتخلى عن كبريائنا أمام الحقائق الوافدة ...
وأود -أولا- أن أشير إلى أن تسمية (الحكومة الإسلامية) بالحكومة الدِّينية فيه تجنّ وخطأ. فعبارة (الحكومة الدِّينية) لها مدلول تاريخي يتمثل في كيان كهنوتي قام فعلا، وطال مكثه. وكان الدِّين المسيحي يستغل أبشع استغلال في دعمه وفي إخضاع الناس له.
فالحكومة الدِّينية مؤسسة تاريخية نهضت على سلطان ديني بينما كانت أغراضها سياسية، وأَصلَت الناس سعيرا بسوء تصرفاتها وتحكمها ... وهي في المسيحية واضحة كل الوضوح، بينما الإسلام لم يشهد في فترات استغلاله ما شهدته وما تكبدته المسيحية، ولا سيما في العصور الوسطى، عصور الظلام!!(1/113)
ولعل أول خطأ تغشَّى منهجي الذي عالجت به قديما قضية الحكومة الدِّينية، كان تأثري الشديد بما قرأته عن الحكومات الدِّينية التي قامت في أوربا، والتي اتخذت من الدِّين المسيحي دثارا تغطي به عريها وعارها ...
إلى هذا السبب الجوهري أرد خطئي فيما أصدرته -قديما- من حكم ضد الحكومة في الإسلام، هذه التي أسميتها بالحكومة الدِّينية)(1).
(5)
دولة الإسلام دولة مدنية مرجعيتها الإسلام
ومما يلزم مما اتفق عليه العلمانيون من حرمان الإسلام من حق إقامة دولة: ما نفَّقوه من مزاعم حول طبيعة هذه الدولة المرجوة، فقد تقولوا عليها الأقاويل، وصوروها تصويرا مليئا بالأخيلة والتهاويل.
قالوا إنها دولة (دينية) ويعنون بالدِّينية: أنها دولة كهنوتية، تتحكم في أهل الأرض باسم السماء، وتتحكم في دنيا الناس باسم الله، ويدعون أن (حاكمية الله) التي قال بها داعيان كبيران من دعاة العصر: أبو الأعلى المودودي في باكستان، وسيد قطب في مصر: توجب أن تكون هذه الدولة دينية.
وهذه الدولة في رأيهم، إنما يملك زمامها (رجال الدِّين) الذين ليس لأحد غيرهم أن يفسر الدِّين أو يصدر الأحكام، وهم يفسرون الدِّين من منطلق الجمود والأفق الضيق، ويرجعون إلى الأوراق القديمة، ولا ينظرون إلى الآفاق الجديدة.
وهذه كلها دعاوى ما أنزل الله بها من سلطان، ولا قام عليها برهان.
فالحق أن الدولة الإسلامية: دولة مدنية، ككل الدول المدنية، لا يميزها عن غيرها إلا أن مرجعيتها الشريعة الإسلامية.
__________
(1) - انظر: كتاب الدولة في الإسلام صـ9 – 16. دار ثابت للنشر والتوزيع. القاهرة.(1/114)
ومعنى (مدنية الدولة): أنها تقوم على أساس اختيار القوي الأمين، المؤهل للقيادة، الجامع لشروطها، يختاره بكل حرية: أهل الحل والعقد، كما تقوم على البيعة العامة من الأمة، وعلى وجوب الشورى بعد ذلك، ونزول الأمير أو الإمام على رأي الأمة، أو مجلس شوراها، كما تقوم كذلك على مسؤولية الحاكم أمام الأمة وحق كل فرد في الرعية أن ينصح له، ويشير عليه، ويأمره بالمعروف، وينهاه عن المنكر. بل يعتبر الإسلام ذلك فرض كفاية على الأمة، وقد يصبح فرض عين على المسلم، إذا قدر عليه، وعجز غيره عنه، أو تقاعس عن أدائه.
إن الإمام أو الحاكم في الإسلام مجرد فرد عادي من الناس، ليس له عصمة ولا قداسة. وكما قال الخليفة الأول: إني وليت عليكم ولست بخيركم(1). وكما قال عمر بن عبد العزيز: إنما أنا واحد منكم، غير أن الله تعالى جعلني أثقلكم حملا(2).
هذا الحاكم في الإسلام مقيد غير مطلق، هناك شريعة تحكمه، وقيم توجهه، وأحكام تقيده، وهي أحكام لم يضعها هو ولا حزبه أو حاشيته، بل وضعها له ولغيره من المكلَّفين: رب الناس، مَلِك الناس، إله الناس. ولا يستطيع هو ولا غيره من الناس أن يلغوا هذه الأحكام، ولا أن يُجمِّدوها. ولا أن يأخذوا منها ويدعوا بأهوائهم. {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [الأحزاب:36].
__________
(1) - جزء من خطبة أبي بكر وقد سبق تخريجها.
(2) - رواه ابن سعد في الطبقات (5/340)، والدارمي في المقدمة (433)، وأبو نعيم في الحلية (5/296)، وابن عساكرفي تاريخ دمشق (23/264).(1/115)
وهناك أمة هي التي اختارت هذا الحاكم، وهي التي تحاسبه، وتقومه إذا اعوج، وتعزله إذا أصر على عوجه، ومن حق أي فرد فيها أن يرفض طاعته إذا أمر بأمر فيه معصية بيّنة لله تعالى. بل من واجبه أن يفعل ذلك، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وفي الحديث الصحيح المتفق عليه: "السمع والطاعة حق على المرء المسلم فيما أحب وكره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة"(1)، والقرآن الكريم حين ذكر بيعة النساء للنبي، وفيها طاعة النبي وعدم معصيته: قيد ذلك بقوله: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة:12]. هذا وهو المعصوم المؤيد بالوحي، فغيره أولى أن تكون طاعته مقيدة.
ولم نر أحدا من الخلفاء في تاريخ الإسلام، أضفى على نفسه، أو أضفى عليه المسلمون: نوعا من القداسة، بحيث لا ينقد ولا يُقَوَّم، ولا يؤمر ولا ينهى.
بل تراهم جرَّأوا الناس على أن ينصحوهم ويقوّموهم، كما قال أبو بكر في أول خطبة له: إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوِّموني. أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم(2).
وكان عمر يقول: مرحبا بالناصح أبد الدهر. مرحبا بالناصح غدوا وعشيا(3). وقال قولته المعروفة: من رأى منكم في اعوجاجا فليقومني(4).
__________
(1) - رواه البخاري في الجهاد والسير (2955) عن ابن عمر، ومسلم في الإمارة (1839)، وأحمد في المسند (6278)، وأبو داود في الجهاد (2626)، والترمذي في الجهاد (1707)، والنسائي في البيعة (4206).
(2) - جزء من خطبة أبي بكر وقد سبق تخريجها.
(3) - رواه الطبري في التاريخ (2/579).
(4) - سبق تخريجه.(1/116)
أتمثل هذه الدولة -وهذا منهاجها، وهؤلاء أفرادها- دولة دينية تحكم بالحق الإلهي؟ أم هي دولة يحكمها بشر غير معصومين، تقيدهم شريعة الله، وتراقبهم الأمة، وتحاسبهم، وتعتبرهم أجراء عندها كما قال أبو مسلم الخولاني لمعاوية(1). وقد نظم ذلك أبو العلاء بقوله:
مُلَّ المقامُ فكم أعاشرُ أمةً ... أمرَتْ بغير صلاحِها أمراؤها
ظلموا الرعية واستجازوا كيدَها ... وعدَوْا مصالحها وهمُ أُجَراؤها
وقولنا: إن الدولة الإسلامية دولة مدنية، قاله من قبلنا الإمام محمد عبده في رده الشهير على فرح أنطون في كتابه الأصيل المعروف: (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية). قال الأستاذ الإمام:
(
__________
(1) - دخل أبو مسلم على معاوية، فقال: السلام عليك أيها الأجير. فقيل له: مه. فقال معاوية: دعوا أبا مسلم فإنه أعرف بما يريد. فتقدم أبو مسلم فقال: السلام عليك أيها الأجير فقال: معاوية وعليك السلام يا أبا مسلم. فقال أبو مسلم: يا معاوية اعلم أنه ليس من راع استرعى رعية إلا ورب أجره سائله عنها، فإن كان داوى مرضاها، وهنأ جرباها، وجبر كسراها، ورد أولاها على أخراها، ووضعها في أنف من الكلأ وصفو من الماء، وفاه الله تعالى أجره، وإن كان لم يفعل حرمه، فانظر يا معاوية اين أنت من ذلك؟ فقال له معاوية: يرحمك الله يا أبا مسلم الأمر على ذلك. انظر: تاريخ دمشق (27/223).(1/117)
إن الإسلام لم يعرف تلك السلطة الدِّينية ... التي عرفتها أوربا ... فليس في الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة، والدعوة إلى الخير، والتنفير عن الشر ... وهي سلطة خوَّلها الله لكل المسلمين، أدناهم وأعلاهم ... والأمة هي التي تولي الحاكم ... وهي صاحبة الحق في السيطرة عليه، وهي تخلعه متى رأت ذلك من مصلحتها، فهو حاكم مدني من جميع الوجوه. ولا يجوز لصحيح النظر أن يخلط الخليفة، عند المسلمين، بما يسميه الأفرنج (ثيوكرتيك)، أي سلطان إلهي ... فليس للخليفة -بل ولا للقاضي، أو المفتي، أو شيخ الإسلام- أدنى سلطة على العقائد وتحرير الأحكام، وكل سلطة تناولها واحد من هؤلاء فهي سلطة مدنية، قدرها الشرع الإسلامي ... فليس في الإسلام سلطة دينية بوجه من الوجوه ... بل إن قلب السلطة الدِّينية، والإتيان عليها من الأساس، هو أصل من أجَلِّ أصول الإسلام؟!)(1).
لكن نفي (الوصف الدِّيني) -أعني الكهنوتي والثيوقراطي والحكم بالحق الإلهي بواسطة طبقة بعينها- لا يعني نفي (الوصف الإسلامي) عنها. فهي دولة (مدنية) مرجعيتها الشريعة الإسلامية.
وذلك (لأن الإسلام -كما يقول الأستاذ الإمام: دين وشرع، فهو قد وضع حدودا، ورسم حقوقا ... ولا تكتمل الحكمة من تشريع الأحكام إلا إذا وجدت قوة لإقامة الحدود، وتنفيذ حكم القاضي بالحق، وصون نظام الجماعة ... والإسلام لم يدع ما لقيصر لقيصر، بل كان شأنه أن يحاسب قيصر على ما له، ويأخذ على يده في عمله ... فكان الإسلام: كمالا للشخص ... وألفة في البيت ... ونظاما للمُلك)(2).
الدولة الإسلامية ورجال الدِّين:
__________
(1) - الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده جـ1 صـ107.
(2) - المصدر السابق.(1/118)
ومن الأوهام المعششة في كثير من الأذهان والتي يروجها دعاة العلمانية: أن الدولة الإسلامية هي دولة المشايخ ورجال الدِّين. وربما اقتبسوا هذه الصورة من حكم الكنيسة الغربية قديما، وهو الحكم الثيوقراطي المعروف. وربما ذكر بعضهم دولة الملالي وآيات الله وحجج الاسلام، في الجمهورية الإسلامية في إيران.
وقياس الإسلام على المسيحية قياس باطل من أساسه، فالمسيحية تقوم على نظام كهنوتي معترف به، له سلطانه ونفوذه وأملاكه، ورجاله، على اختلاف مراتبهم ودرجاتهم في سلم القيادة المسيحية. ولا يوجد هذا في الإسلام.
فالمسلم يستطيع أن يؤدي عبادته من صلاة وصيام وزكاة وحج، بدون وساطة كاهن، وليس بينه وبين الله وساطة، وباب الله مفتوح له في كل حين، وكل حال، ليس عليه حاجب ولا بواب. {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186].
وحكم الملالي والآيات في إيران ليس لازما، وإن رشحتهم للقيادة أكثر من غيرهم: نظرية (ولاية الفقيه). ولكن رأينا أول رئيس للجمهورية بعد انتصار الثورة، وبإقرار الإمام الخميني نفسه: كان مدنيا، هو الحسن بني صدر. وإن حدث خلاف معه بعد ذلك.
ورأينا رئيس الجمهورية الحالي محمود أحمدي نجاد ينتصر في الانتخابات على أحد مشايخ الدِّين، ورموز النظام، وهو حجة الإسلام رفسنجاني.
وفي كل المذاهب الإسلامية -ومذهب أهل السنة خاصة- يرشح الشخص للمنصب: صفتان أساسيتان: القوة والأمانة، كما أشار إلى ذلك القرآن: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص:26]
والقوة تعني: الكفاية والقدرة على أداء العمل بجدارة، بما لدى الشخص من مواهب وثقافة وخبرة وقدرة. فهذا يعني: الجانب العلمي والفني.
والأمانة: تعني الجانب الخُلُقي، بحيث يخشى الله في عمله، لا يغش ولا يخون، ولا يهمل، ولا يتعدى حدا من حدود الله، ولا يجور على حق من حقوق الناس.(1/119)
فهذا هو المطلوب في رجل الدولة المسلمة، قبل أي شيء آخر. وتعجبني كلمات قالها شيخنا الشيخ محمد الغزالي رحمه الله حين كان يرد على الشيخ خالد محمد خالد، تحت عنوان (شبهات حول الحكم الدِّيني). أحببت أن أسجلها هنا لما فيها من روعة البيان وقوة الحجة. قال رحمه الله:
(يقع في الوهم أن الحكم الدِّيني إذا أقيم فسيكون رجاله هم أنفسهم أولئك الذين نسميهم الآن (رجال الدِّين) وقد تثبت في الخيال صور لعمائم كبيرة ولحى موفورة وأردية فضفاضة.
وقد تتوارد هذه الصور وملابساتها الساخرة فنظن أن الوزراء في هذه الحكومة سيديرون عجلة الحياة إلى الوراء، وينشغلون بأمور لا تمت إلى حقائق الدنيا وشئون العمران بصلة.
ومن يدري؟ فقد يشتغلون بالوعظ ومحاربة البدع والاستعداد للحياة الآخرة.
وحسبهم ذلك من الظفر بالحكم!
وهذا وهم مضحك، ولعله بالنسبة إلى الإسلام خطأ شائن.
فنحن لا نعرف نظاما من الكهنوت يحمل هذا الاصطلاح المريب (رجال الدِّين).
وقد يوجد فريق من الناس يختص بنوع من الدراسات العلمية المتعلِّقة بالكتاب والسنة، ولكن هذا النوع من الدراسات لا يعدو أن يكون ناحية محدودة من آفاق الثقافة الإسلامية الواسعة، تلك الثقافة التي تشمل فنونا لا آخر لها من حقائق الحياتين ومن المعرفة المادية وغير المادية.
والعلماء بالكتاب والسنة يمثلون فريقا من المسلمين قد يكون مثل غيره أو دونه أو فوقه، ولم يكن التقدم الفقهي مُرشِحا للحكم في أزهى عصور الإسلام.
وقد كان أبو هريرة وابن عمر وابن مسعود من أعرف الصحابة بالكتاب والسنة، ومن أكثرهم تحديثا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فهل كانت منزلتهم في بناء الدولة الإسلامية منزلة الخلفاء الأربعة أو منزلة سعد بن أبي وقاص أو خالد بن الوليد أو أبي عبيدة بن الجراح؟(1/120)
الواقع أن المسلمين كافة رجال لدينهم -أو ذلك ما يجب أن يكون -والذي يخدم دينه في ميدان القتال أو السياسة أو الحكم أو الصناعة أو العلم هو لا ريب رجل لدينه لا غبار عليه.
وليس أحد أحق من أحد بهذا الوصف، ولا كان احتكارا لطائفة دون أخرى يوما ما.
والصورة الصادقة للحكومة -كما يقيمها الإسلام- صورة رجال أحرار الضمائر والعقول، يفنون أشخاصهم ومآربهم في سبيل دينهم وأمتهم.
صورة كفايات خارقة، وثروات عريضة، من بعد النظر، ودقة الفَهم، وعظم الأمانة، تسعد بها المبادئ والشعوب.
صورة أفراد لهم مهارة عبد الرحمن بن عوف في التجارة، وابن الوليد في القيادة، وابن الخطاب في الحكم؛ قد يولدون في أوساط مجهولة فلا تبرزهم إلا مواهبهم ومَلَكاتهم في مناحي الدنيا وميادين العمل.
إن الحكم الدِّيني ليس مجموعة من الدراويش والمتصوفة والمنتفعين في ظل الخرافات المقدسة ... ويوم يكون كذلك فالإسلام منه بريء)(1).
قيام الدولة الإسلامية على عقيدة الحاكمية لا يعني: أنها دولة دينية:
وأما من استدل من الكتاب المعاصرين على أن الدولة الإسلامية دولة دينية -على معنى أنها تحكم بالحق الإلهي- بأنها تقوم على عقيدة الحاكمية الإلهية، التي دعا إليها بقوة: أبو الأعلى المودودي في باكستان، وسيد قطب في مصر. وهي نفس الفكرة التي دعا إليها الخوارج قديما.
فالحق أن فكرة الحاكمية أساء فَهمها الكثيرون، وأدخلوا في مفهومها ما لم يرده أصحابها.
وأود أن أنبه هنا على جملة ملاحظات حول هذه القضية:
__________
(1) - انظر: (من هنا نعلم) صـ27 - 29.(1/121)
1- الملاحظة الأولى: أن أكثر من كتبوا عن (الحاكمية) التي نادى بها المودودي وأخذها عنه سيد قطب، ردوا أصل هذه الفكرة إلى (الخوارج) الذين اعترضوا على علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قبوله فكرة التحكيم من أساسها، وقالوا كلمتهم الشهيرة: (لا حكم إلا لله)، ورد عليهم الإمام بكلمته التاريخية البليغة الحكيمة حين قال: كلمة حق يُراد بها باطل! نعم، لا حكم إلا لله، ولكن هؤلاء يقولون: لا إمرة إلى لله! ولا بد للناس من أمير بر أو فاجر(1)!
وهذا المعنى الساذج للحكم أو الحاكمية أصبح في ذمة التاريخ، ولم يعد أحد يقول به، حتى الخوارج أنفسهم وما تفرع عنهم من الفرق، فهم طلبوا الإمارة وقاتلوا في سبيلها، وأقاموها بالفعل، في بعض المناطق، فترات من الزمان.
أما الحاكمية بالمعنى التشريعي، ومفهومها: أن الله سبحانه هو المُشرَّع لخَلقه، وهو الذي يأمرهم وينهاهم، ويحل لهم ويحرم عليهم، فهذا ليس من ابتكار المودودي ولا سيد قطب، بل هو أمر مقرَّر عند المسلمين جميعا. ولهذا لم يعترض على رضي الله عنه على المبدأ، وإنما اعترض على الباعث والهدف المقصود من وراء الكلمة. وهذا معنى قوله: "كلمة حق يُراد بها باطل".
وقد بحث في هذه القضية علماء (أصول الفقه) في مقدماتهم الأصولية التي بحثوا فيها عن الحكم الشرعي، والحاكم، والمحكوم به، والمحكوم عليه.
فها نحن نجد إماما أصوليا مثل حجة الإسلام أبي حامد الغزالي، يقول في مقدمات كتابه الشهير (المستصفى من علم الأصول) عن (الحكم) الذي هو أول مباحث العلم، وهو عبارة عن خطاب الشرع، ولا حكم قبل ورود الشرع، وله تعلُّق بالحاكم، وهو الشارع، وبالمحكوم عليه، وهو المكلف، وبالمحكوم فيه، وهو فعل المكلف...
__________
(1) - رواه ابن أبي شيبة في المصنف كتاب الجَمَل (7/557) عن علي، والبيهقي في الكبرى كتاب قتال أهل البغي (8/184).(1/122)
ثم يقول: (وفي البحث عن الحاكم يتبين أن (لا حكم إلا لله) وأن لا حكم للرسول، ولا للسيد على العبد، ولا لمخلوق على مخلوق، بل كل ذلك حكم الله تعالى ووضعه لا حكم لغيره)(1).
ثم يعود إلى الحديث عن (الحاكم) وهو صاحب الخطاب الموجه إلى المكلَّفين، فيقول: (أما استحقاق نفوذ الحكم فليس إلا لمن له الخَلق والأمر، فإنما النافذ حكم المالك على مملوكه، ولا مالك إلا الخالق، فلا حكم ولا أمر إلا له، أما النبي - صلى الله عليه وسلم - والسلطان والسيد والأب والزوج، فإذا أمروا وأوجبوا لم يجب شيء بإيجابهم، بل بإيجاب من الله تعالى طاعتهم، ولولا ذلك لكان كل مخلوق أوجب على غيره شيئا، كان للموجب عليه أن يقلب عليه الإيجاب، إذ ليس أحدهما أولى من الآخر، فإذن الواجب طاعة الله تعالى، وطاعة من أوجب الله تعالى طاعته)(2).
__________
(1) - المستصفى (1/8) طبع دار صادر ببيروت، مصورة عن طبعة بولاق.
(2) - المستصفى (1/83)، وفي فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت المطبوع مع المستصفى: مسألة: لا حكم إلا من الله تعالى، بإجماع الأمة، لا كما في كتب المشايخ: أن هذا عندنا، وعند بعض المعتزلة: الحاكم العقل، فإن هذا مما لا يجترئ عليه أحد ممن يدعي الإسلام، بل إنما يقولون: إن العقل معرف لبعض الأحكام الإلهية، سواء ورد به الشرع أم لا، وهذا مأثور عن أكابر مشايخنا أيضا (يعني الماتريدية) فواتح الرحموت مع المستصفى صـ25.(1/123)
الملاحظة الثانية: أن (الحاكمية) التي قال بها المودودي وقطب، وجعلاها لله وحده، لا تعني أن الله تعالى هو الذي يولي العلماء والأمراء، يحكمون باسمه، بل المقصود بها الحاكمية التشريعية فحسب، أما سند السلطة السياسية فمرجعه إلى الأمة، هي التي تختار حكامها، وهي التي تحاسبهم، وتراقبهم، بل تعزلهم. والتفريق بين الأمرين مهم والخلط بينهما موهم ومضلل، كما أشار إلى ذلك الدكتور أحمد كمال أبو المجد، بحق(1).
فليس معنى الحاكمية الدعوة إلى دولة ثيوقراطية، بل هذا ما نفاه كل من سيد قطب والمودودي رحمهما الله.
أما سيد قطب، فقال في (معالمه):
(ومملكة الله في الأرض لا تقوم بأن يتولى الحاكمية في الأرض رجال بأعيانهم -هم رجال الدِّين- كما كان الأمر في سلطان الكنيسة، ولا رجال ينطقون باسم الآلهة، كما كان الحال فيما يعرف باسم (الثيوقراطية) أو الحكم الإلهي المقدس!! ولكنها تقوم بأن تكون شريعة الله هي الحاكمة، وأن يكون مردُّ الأمر إلى الله وفق ما قرَّره من شريعة مبينة)(2).
وأما المودودي، فقد أخذ بعض الناس جزءا من كلامه وفهموه على غير ما يريد، ورتبوا عليه أحكاما ونتائج لم يقل بها، ولا تتفق مع سائر أفكاره ومفاهيم دعوته، التي فصَّلها في عشرات الكتب والرسائل والمقالات والمحاضرات. وهذا ما يحدث مع كلام الله تعالى وكلام رسوله، إذا أخذ جزء منه معزولا عن سياقه وسباقه، وعن غيره مما يكمله أو يبينه أو يقيده، فكيف بكلام غيرهما من البشر؟
فقد ذكر المودودي خصائص الديمقراطية الغربية ثم قال: (وأنت ترى أنها ليست من الإسلام في شيء. فلا يصح إطلاق كلمة (الديمقراطية) على نظام الدولة الإسلامية، بل أصدق منها تعبيرا كلمة (الحكومة الإلهية أو الثيوقراطية)).
__________
(1) - انظر: عنوان (أبو المجد ينادي بإسقاط الدعوة إلى العلمانية) من هذا الكتاب.
(2) - معالم في الطريق للشهيد سيد قطب صـ60 طبعة دار الشروق. القاهرة.(1/124)
ثم استدرك فقال: (ولكن الثيوقراطية الأوروبية تختلف عنها الحكومة الإلهية (الثيوقراطية الإسلامية) اختلافا كليا، فإن أوروبا لم تعرف منها إلا التي تقوم فيها طبقة من السدنة مخصوصة يشرعون للناس قانونا من عند أنفسهم(1)، حسب ما شاءت أهوائهم وأغراضهم، ويسلطون ألوهيتهم على عامة أهل البلاد متسترين وراء القانون الإلهي، فما أجدر مثل هذه الحكومة أن تسمى بالحكومة الشيطانية منها بالحكومة الإلهية!
وأما الثيوقراطية التي جاء بها الإسلام فلا تستبد بأمرها طبقة من السدنة أو المشايخ، بل هي التي تكون في أيدي المسلمين عامة، وهم الذين يتولون أمرها والقيام بشئونها وفق ما ورد به كتاب الله وسنة رسوله. ولئن سمحتم لي بابتداع مصطلح جديد لآثرت كلمة (الثيوقراطية الديمقراطية) أو (الحكومة الإلهية الديمقراطية) لهذا الطراز من نظم الحكم، لأنه قد خوَّل فيها للمسلمين حاكمية شعبية مقيدة. وذلك تحت سلطة الله القاهرة وحكمه الذي لا يغلب، ولا تتألف السلطة التنفيذية إلا بآراء المسلمين، وبيدهم يكون عزلها من نصبها، وكذلك جميع الشئون التي يوجد عنها في الشريعة حكم صريح، لا يقطع فيها بشيء إلا بإجماع المسلمين.
وكلما مست الحاجة إلى إيضاح قانون أو شرح نص من نصوص الشرع، لا يقوم ببيانه طبقة أو أسرة مخصوصة فحسب، بل يتولى شرحه وبيانه كل مَن بلغ درجة الاجتهاد من عامة المسلمين.
__________
(1) - لم يكن عند البابوات القساوسة المسيحيين شيء من الشريعة إلا مواعظ خلقية مأثورة عن المسيح عليه السلام، ولأجل ذلك كانوا يشرعون القوانين حسب ما تقتضيه شهوات أنفسهم، ثم ينفذونها في البلاد قائلين إنها من عند الله، كما ورد في التنزيل: {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله} [البقرة:79]. المودودي.(1/125)
فمن هذه الوجهة يعد الحكم الإسلامي (ديمقراطيا))(1).
فهذا ما يُفهم من مجموع كلام المودودي، وإن كان لنا تحفظ على تسميته الحكومة الإسلامية (ثيوقراطية) لما فيه من إيهام التشابه بـ(الثيوقراطيات) المعروفة في التاريخ، وإن نفى هو ذلك.
2- الملاحظة الثالثة: أن الحاكمية التشريعية التي يجب أن تكون لله وحده، ليست لأحد من خَلقه، هي الحاكمية (العليا) و(المطلقة) التي لا يحدها ولا يقيدها شيء، فهي من دلائل وحدانية الألوهية.
وهذه الحاكمية -بهذا المعنى- لا تنفي أن يكون للبشر قدر من التشريع أذن به الله لهم. إنما هي تمنع أن يكون لهم استقلال بالتشريع غير مأذون به من الله، وذلك مثل التشريع الدِّيني المحض، كالتشريع في أمر العبادات بإنشاء عبادات وشعائر من عند أنفسهم، أو بالزيادة فيما شرع لهم باتِّباع الهوى. أو بالنقص منه كما أو كيفا، أو بالتحويل والتبديل فيه زمانا أو مكانا أو صورة. ومثل ذلك التشريع في أمر الحلال والحرام، كأن يحلوا ما حرم الله ويحرموا ما أحل لله، وهو ما اعتبره النبي - صلى الله عليه وسلم - نوعا من (الربوبية) وفسر به قوله تعالى في شأن أهل الكتاب: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31].
وكذلك التشريع فيما يصادم النصوص الصحيحة الصريحة كالقوانين التي تقر المنكرات، أو تشيع الفواحش ما ظهر منها وما بطن، أو تعطل الفرائض المحتَّمة، أو تلغي العقوبات اللازمة، أو تتعدى حدود الله المعلومة.
__________
(1) - نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور لأبي الأعلى المودودي صـ34 – 36 طبعة دار الفكر.(1/126)
أما فيما عدا ذلك فمن حق المسلمين أن يشرعوا لأنفسهم. وذلك في دائرة ما لا نص فيه أصلا وهو كثير، وهو المسكوت عنه الذي جاء فيه حديث: "وما سكت عنه فهو عفو"(1)، وهو يشمل منطقة فسيحة من حياة الناس.
ومثل ذلك ما نص فيه على المبادئ والقواعد العامة دون الأحكام الجزئية والتفصيلية.
ومن ثَمَّ يستطيع المسلمون أن يشرعوا لأنفسهم بإذن من دينهم في مناطق واسعة من حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، غير مقيدين إلا بمقاصد الشريعة الكلية، وقواعدها العامة. وكلها تراعي جلب المصالح، ودرء المفاسد، ورعاية حاجات الناس أفرادا وجماعات.
وكثير من القوانين التفصيلية المعاصرة لا تتنافى مع الشريعة في مقاصدها الكلية، ولا أحكامها الجزئية، لأنها قامت على جلب المنفعة، ودفع المضرة، ورعاية الأعراف السائدة.
وذلك مثل قوانين المرور أو الملاحة أو الطيران، أو العمل والعمال، أو الصحة أو الزراعة، أو غير ذلك مما يدخل في باب السياسة الشرعية، وهو باب واسع(2).
ومن ذلك تقييد المباحات تقييدا جزئيا ومؤقتا، كما منع سيدنا عمر الذبح في بعض الأيام، وكما كره لبعض الصحابة الزواج من غير المسلمات، حتى لا يقتدى بهم الناس، ويكون في ذلك فتنة على المسلمات.
__________
(1) - رواه الدارقطني في السنن كتاب الزكاة (2/137) عن أبي الدرداء، والحاكم في المستدرك كتاب التفسير (2/406)، وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، والبيهقي في الكبرى كتاب الضحايا (10/12)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2256).
(2) - انظر: كتابنا (الحل الإسلامي فريضة وضرورة) صـ86 وما بعدها صبعة مكتبة وهبة. القاهرة.(1/127)
والأستاذ المودودي -وهو أشهر من نادى بالحاكمية، وتشدد فيها- قد بيَّن في كلامه أن للناس متسعا في التشريع فيما وراء القطعيات والأحكام الثابتة والحدود المقرَّرة. وذلك عن طريق تأويل النصوص وتفسيرها، وعن طريق القياس، وطريق الاستحسان، وطريق الاجتهاد(1).
(6)
الدولة الإسلامية وحقوق الأقليات
ومما يذكره هنا الحداثيون والعلمانيون: أن الدولة الإسلامية حين تقوم، يترتب على قيامها الجَور على حقوق الأقليات الدِّينية (المسيحية خاصة) بسبب طبيعتها الإسلامية. وذلك يتجلى في عدة صور:
1. اعتبار هؤلاء الأقليات من (أهل الذمة) وهذا يعني تهميشهم في المجتمع، والنظر إليهم نظرة دونية.
2. فرض الجزية عليهم كما أمر القرآن: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29].
3. فرض أحكام وقوانين دينية عليهم، مما توجبه الشريعة الإسلامية التي لا يؤمنون بها.
4. حرمانهم من وظائف معينة، مباحة للمسلمين، محرمة عليهم.
ومن الضروري هنا: أن نناقش هذه الدعاوى، ونرد عليها واحدة واحدة، بالأدلة الشرعية المستقاة من المنابع الصافية، المؤيدة بالمنطق العلمي السليم.
1. مسألة أهل الذمة:
أما مسألة (أهل الذمة) فالذمة معناها: الضمان والعهد، أي أنهم في ضمان الله ورسوله وجماعة المسلمين وعهدهم، لا يجوز دينا إخفار ذمتهم، أو نقض عهدهم المؤبد، الذي يصون حرماتهم، ويحفظ دينهم وأنفسهم وأعراضهم وأموالهم. والأصل في ذلك هو القاعدة التي يتناقلها المسلمون خاصتهم وعامتهم: لهم ما لنا وعليهم ما علينا.
__________
(1) - انظر: مجموعة (نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور) صـ171 وما بعدها.(1/128)
ومع هذا، إن كان هذا المصطلح (أهل الذمة) يعطي انطباعا غير حسن عند إخواننا المسيحيين ويستاؤون منه، فإن الله لم يتعبدنا به، ويمكننا أن نستبدل به مصطلح (المواطنة) و(المواطنين). ومما يؤيد ذلك: أن فقهاء الشريعة في جميع المذاهب، اعتبروا أهل الذمة من (أهل دار الإسلام) ومعنى (أهل الدار): أي أهل الوطن، بمعنى أنهم مواطنون مشتركون مع المسلمين في المواطنة.
2. مسألة الجزية:
وأما مسألة (الجزية) فقد كانت غاية للقتال: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]، ومعنى الصغار هنا: خضوعهم لدولة الإسلام، ودلالة ذلك: دفع هذا المبلغ الزهيد الذي يعبر عن إذعانهم لسلطان الدولة. وفي مقابله تقوم الدولة بحمايتهم والدفاع عنهم، والكفالة المعيشية للعاجزين منهم، كما فعل سيدنا عمر حين فرض ليهودي محتاج، ما يكفيه وعياله من بيت مال المسلمين(1).
وقد كانت هذه الجزية بدلا من فريضة الجهاد، وهي فريضة دينية تعبدية، فلم يُرِد الإسلام -لفرط حساسيته- أن يفرض على غير المسلمين ما يعتبره المسلمون عبادة وقربة دينية، بل أعظم القربات عند الله.
ولقد طلبت قبيلة (تغلب) العربية الكبيرة من أمير المؤمنين عمر: أن يسقط عنهم (الجزية) لأنهم قوم عرب يأنفون من قبول كلمة (جزية) وليأخذ منهم ما يشاء باسم الزكاة أو الصدقة، وقد تردد في أول الأمر، ثم قَبِل ذلك؛ لأن المقصود أن يدفعوا للدولة ما يثبت ولاءهم ومشاركتهم لها في الأعباء. ومن هنا رأى أن العبرة بالمسميات والمضامين، لا بالأسماء والعناوين.
وهو اجتهاد عُمَري يجب اعتماده في هذه القضية وفي أمثالها. وهو ما جعله رضي الله عنه، يغض الطرف عن هذا المصطلح الذي جاء في القرآن، ما دام قد حقق المقصود منه، فكيف بمصطلحات لم تجئ في قرآن ولا سنة؟!
__________
(1) - انظر: كتابنا (غير المسلمين في المجتمع الإسلامي) صـ51 طبعة مكتبة وهبة. القاهرة، والأثرذكره أبو يوسف في الخراج صـ26.(1/129)
وقد قرَّر الفقهاء أن الذمي إذا شارك في الدفاع ومحاربة الأعداء سقطت عنه الجزية.
واليوم بعد أن أصبح التجنيد الإجباري مفروضا على كل المواطنين -مسلمين وغير مسلمين- لم يعد هناك مجال لدفع أي مال، لا باسم جزية، ولا غيرها.
3. فرض القوانين الدِّينية:
وأما ما يقال عن فرض الأحكام والقوانين الدِّينية على غير المسلمين في المجتمعات الإسلامية، فهذا يحتاج إلى بيان.
أولا: أن الأحكام والقوانين الدِّينية لا تفرض أبدا على غير المسلمين، فلا تفرض عليهم الأحكام المتعلِّقة بالعبادات والفرائض الدِّينية من الصلاة والصيام والزكاة والحج وغيرها.
حتى الزكاة لم يفرضها عليهم، لأن فيها معنى العبادة، ومعنى الحق المالي، فراعى جانب العبادة فيها، ولم يفرضها عليهم، احتياطا في رعاية شعورهم.
وإن كان لي رأي في الموضوع: أنه لا مانع من أن تفرض عليهم ضريبة مساوية للزكاة، تسمى (ضريبة التكافل) توحيدا للمعاملة المالية بين أبناء الوطن الواحد. وقد وضحت ذلك بأدلته في كتابي فقه الزكاة(1).
ومما يلحق بالقوانين الدِّينية: القوانين الخاصة بالأحوال الشخصية من الزواج والطلاق والمواريث وغيرها، فهذه تعامل معاملة الأمور الدِّينية الخالصة، ونترك لهم حرية تنظيمها وتقنينها بما يتناسب وعقائدهم. وقد أمرنا أن نتركهم وما يدينون.
ومما سجله التاريخ الإسلامي: أن المسيحين كانت لهم محاكمهم الخاصة، وفيها قضاة منهم، تفصل بينهم وفقا لأحكام ملتهم.
أما القوانين المدنية والجنائية وغيرها، فيجري عليهم فيها ما يجري على المسلمين، تسوية بين أهل البلد الواحد. والحكم هنا يدور مع الأكثرية، كما تقضي بذلك مبادئ الديمقراطية، بشرط أن لا تجور الأكثرية على حقوق الأقلية.
__________
(1) - انظر: كتابنا (فقه الزكاة) جـ1 صـ116 طبعة مكتبة وهبة. القاهرة.(1/130)
وأعتقد أن رجوع المسيحيين إلى قوانين الأكثرية المسلمة: لا يتعارض مع أي معتقد عندهم، وخصوصا أن المسيحية لا تحتوي على تشريعات ملزمة لهم، ويستوي عندهم أن يكون القانون الذي يحكمهم: قانون نابليون أو قانون محمد.
بل أرى أن قانون محمد في الواقع: أقرب إليهم من قانون نابليون لأمرين:
الأول: أن قانون محمد قانون يراعي القيم الأخلاقية، والمثل العليا، التي جاء بها رسل الله جميعا، وحرصت عليها كل رسالات السماء، ومنها رسالة المسيح. بخلاف قانون نابليون الذي تغلب عليه النزعة النفعية والمادية والدنيوية.
والثاني: أن قانون محمد أو قانون المسلمين قانون نابع من المنطقة نفسها، معبر عنها وعن حاجاتها ومطالبها، معالج لمشكلاتها، فهو منها وإليها. بخلاف قانون نابليون المستورد من خارج المنطقة، ولا صلة له بثقافتها ولا بحضارتها، ولا بمفاهيمها ولا بتقاليدها.
وأخيرا أقول: إن مصلحة غير المسلمين: أن يحتكم المسلمون إلى شريعتهم التي تتجلى فيها طاعتهم لربهم، وإذعانهم لحكمه. فهذا أدعى أن يرعوا فيها حقوق الناس وحدود الله تعالى.
وبهذا يأخذ غير المسلمين أحكام الشريعة على أنها قانون عادي، ويأخذها المسلمون على أنها تنفيذ لشرع الله، وامتثال لأمر الله، وفي هذا من الخير ما فيه.
هذا مع ملاحظة: أن بعض القوانين الجنائية المفروضة على المسلمين، لا تفرض على غيرهم، مثل عقوبة شرب الخمر، لأنها غير محرمة في دينهم. وهناك خلاف في تطبيق بعض الحدود على غير المسلمين. وأنا أرى هنا: الأخذ بالأيسر والأوسع في هذا المجال.
4. الحرمان من الوظائف:
وأما حرمان الأقلية الدِّينية من وظائف الدولة، فنود أن نبين هنا: أن وظائف الدولة أنواع ومستويات.
فمنها: وظائف لها طابع ديني لا يفكر المسيحي ولا اليهودي أن يكون له حظ فيها، مثل وظائف الإمامة والخطابة والأذان وخدمة المسجد، ونحو ذلك.(1/131)
ومثل ذلك: الوظائف المتعلِّقة بأركان الإسلام الأخرى، مثل: الزكاة والحج وغيرها. وإن كان هناك من الفقهاء من أجاز للذمي أن يكون من (العاملين) على الزكاة، ويأخذ أجرته منها، وهذا قمة في التسامح.
وهناك وظائف تحتاج إلى تخصص في الشريعة وفقهها، مثل (القضاء) فلهذا اشترط الفقهاء فيما مضى: أن يكون القاضي مسلما، إذْ لا بد له أن يكون عالما بالقرآن والسنة، عالما بالفقه وأصوله. وهذا مما يتعسر -إن لم يتعذر- على غير المسلم.
وقد يتغير الاجتهاد في عصرنا الذي أصبح فيه القضاء جماعيا، وغدت فيه المحكمة تتكون من عدة قضاة، وهنا يمكن أن يقال: لا مانع من أن يكون بعض القضاة من غير المسلمين، إذا مَلَك من المؤهلات ما يمكِّنه من هذا.
على أن يترك القضاء في الأحوال الشخصية للقضاة المسلمين، لما ذكرنا: أن هذه الأحوال لصيقة بالجانب الدِّيني، ولهذا قلنا: يجب أن تكون لغير المسلمين فيها محاكمهم الخاصة.
وقد تثار هنا قضية رئاسة الدولة، وهل تحرم منها الأقلية؟(1/132)
والواقع أن الدولة في الإسلام: دولة عقائدية، دولة فكرة ورسالة، وهي موصولة بالدِّين، غير منفصلة عنه. ومن أول مسؤولياتها: التمكين لدين الله، والذود عنه، ورئاسة الدولة في الإسلام لها اختصاصات ذات علاقة بالشأن الدِّيني، وبعضها لا يجوز أن يقوم به إلا مسلم، مثل إمامة الناس في الصلاة، فالإمام أو الحاكم المسلم هو إمام الناس في الصلاة، وقائدهم في المواجهة، وقاضيهم في الخصومات، والنائب عن رسول الله في حراسة الدِّين وسياسة الدنيا به، كما قال العلماء. فهو المسؤول الأول عن حمل الإسلام: عقيدة وشريعة، عبادة ومعاملة، دعوة ودولة، قرآنا وسلطانا، دينا ودنيا. كما قال الله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِِ} [الحج:41]، فجعل أول أعمال الممكنين في الأرض: إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وهذا شأن المسلمين.
ولا مانع من أن يكون أحد نائبي الرئيس أو نوابه من غير المسلمين، وخصوصا إذا كانت الأقلية غير المسلمة كبيرة، كما هو حاصل في السودان اليوم.
وما عدا هذا المنصب الحساس، فالمجال مفتوح لغير المسلمين في كل ما يحصلون شروطه، ويمتلكون مؤهلاته. ومن ذلك منصب (الوزارة) كما ذكر الإمامان: أبو الحسن الماوردي، وأبو يعلى الفرَّاء في (الأحكام السلطانية) من تولي أهل الذمة (وزارة التنفيذ). وهناك بعض الوزارات لها حساسيات واعتبارات معيَّنة، مثل: وزارة الدفاع، ووزارة الداخلية.
المهم هنا هو توافر الثقة بين الجميع، فإذا توافرت، وشاع جو الأخوة والتسامح بين أبناء الشعب الواحد: انحلت كل المشكلات.(1/133)
وقد رأيت الأستاذ فارس الخوري المسيحي السوري، يرأس مجلس وزراء سوريا فترة من الزمن، وكان من أفضل رؤساء الوزارات، وكان الوزراء المسلمون على تعاون كامل معه، وكان جمهور المسلمين راضٍ عنه. وكان من أكثر الناس إيمانا بوجوب تطبيق الشريعة الإسلامية، وأنها وحدها القادرة على حلِّ مشكلات العصر، وقطع دابر الجرائم، وقد نقلت بعض أقواله في كتابي (بينات الحل الإسلامي وشبهات العلمانيين والمتغربين)(1).
(7)
الدولة الإسلامية وحقوق الإنسان
ومما أثاره الحداثيون والعلمانيون من يمينيين ويساريين: ادِّعاؤهم أن قيام الدولة الإسلامية التي تحكم بالشريعة الإسلامية يتعارض مع ميثاق حقوق الإنسان، الذي صدر عن الأمم المتحدة، وتلقَّاه العالم بالقَبول.
فهم يرون حكم الشريعة الإسلامية يتعارض مع حقوق الإنسان في عدة مجالات:
1. منها: مجال الحرية الدِّينية، التي تفرض على من دخل في الإسلام: ألا يخرج منه، وإلا كانت عقوبته القتل على جريمة الرِّدَّة عن الإسلام.
2. ومنها: مجال حقوق المرأة، التي يجعلها الإسلام -فيما زعموا- في مرتبة دون مرتبة الرجال، ومن ذلك: أنها لا تتزوج إلا بإذن وليها، وأنها إذا تزوجت كان الرجل قواما عليها، وكان الطلاق بيده، وإذا ورثت كان نصيبها كما قال القرآن: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء:11]، ولهذا توقف عدد من الدول الإسلامية في قبول اتفاقية إزالة كافة أشكال التمييز ضد المرأة.
3. ومنها: مجال حقوق الشواذ والعراة والإباحيين، التي تتعارض مع أحكام الشريعة في تحريم الزواج المثلي، وتحريم اللواط والسحاق، وتحريم الزنى، والتبرج والخلاعة.
4. ومنها: مجال حقوق الأقليات الدِّينية، وقد أفردناها بالحديث.
عناية الإسلام بحقوق الإنسان:
__________
(1) - صـ241 – 145 طبعة مكتبة وهبة بالقاهرة، ومؤسسة الرسالة ببيروت.(1/134)
ويهمنا أن نبين في هذا المقام أنه لا يوجد دين كالإسلام عُني بالإنسان، وقرَّر أن الله كرمه: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70]، وأنه جعله في الأرض خليفة، وأنه سخر له ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة، وأنه خلقه في أحسن تقويم، وعلمه البيان، ومنحه العقل والإرادة، وأنزل له الكتب، وبعث له الرسل. كل هذا من كرامته على الله سبحانه.
كما عُني الإسلام بحقوق الإنسان التي جعلها في معظم الأحيان فرائض وواجبات، إذ الحق يجوز للإنسان أن يتنازل عنه، أما الفرض والواجب اللازم، فلا يجوز فيه ذلك.
وبخاصة حقوق الضعفاء لدى الأقوياء: حقوق الفرد لدى المجتمع ... حقوق الشعوب لدى الحُكَّام ... حقوق الفقراء لدى الأغنياء ... حقوق الأُجَرَاء لدى المُلاَّك ... حقوق العمال لدى أرباب العمل ... حقوق النساء لدى الرجال ... حقوق الأطفال لدى الآباء والأمهات ... حتى حقوق الحيوان لدى الإنسان!
ونوَّع هذه الحقوق بين مادي وعقلي، وفردي وجماعي، وآني ومستقبلي، وجعل من ضمير كل إنسان حارسا على حقوقه، يطالب بها، ويدافع عنها، ويتعاون مع غيره في الذود عنها. ويهاجر من الأرض التي تضيع فيها، ولا يجد له وليا ولا نصيرا.
ولقد كتب الكثيرون في موضوع حقوق الإنسان، وأُلِّفت فيه كتب(1)، وقُدمت فيه أو في بعضه رسائل جامعية للماجستير والدكتوراه، وأُشبع بحثا ودراسة.
ولكني أكتفي هنا بخلاصة ذكرتها في كتابي (الثقافة العربية والإسلامية بين الأصالة والمعاصرة)(2).
__________
(1) - منها كتب د. علي عبد الواحد وافي (حقوق الإنسان في الإسلام)، والشيخ الغزالي (حقوق الإنسان بين الإسلام وميثاق الأمم المتحدة)، ود. محمد فتحي عثمان (حقوق الإنسان بين الشريعة الإسلامية والفكر القانوني الغربي)، ود. القطب محمد طبليّة (الإسلام وحقوق الإنسان)، ود. محمد عمارة بهذا العنوان، ود. جمال عطية.
(2) - انظر: الصفحات 155 – 160.(1/135)
وهذه الخلاصة مقتبسة من كتاب الأستاذ الدكتور محمد فتحي عثمان بعنوان (حقوق الإنسان بين الشريعة الإسلامية والفكر القانوني الغربي). وهي خلاصة علمية موثَّقة بالأدلة الشرعية والتاريخية المستقاة من مصادرها الأصيلة.
(وفيها بيَّن أن تقرير حقوق الإنسان في الإسلام، استوعب الاتجاهات الوضعية كلها قديما وحديثا وتفوَّق عليها، مؤكدا ما يلي:
1. أن تقرير حقوق الإنسان في الإسلام قد شمل الحقوق الشخصية الذاتية والفكرية والسياسية والقانونية والاجتماعية والاقتصادية، وأكَّد الحريات العامة المتنوعة والمساواة.
2. وقد شمل تقرير حقوق الإنسان في الإسلام: الرجال والنساء اللائي هن "شقائق الرجال"(1)، كما ورد في الحديث، والأطفال وهم (الذرية الضعاف) الذين تمتعوا بالرعاية الشرعية من جانب كل المؤسسات القائمة في المجتمع الإسلامي: الأسرة والجماعة والدولة.
3. كما شمل تقرير حقوق الإنسان في الإسلام: المسلمين وغير المسلمين في داخل دولة الإسلام وخارجها، لأن (البر) في الإسلام إنساني وعالمي: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8].
__________
(1) - رواه أحمد في المسند (26195) عن عائشة، وقال محققوه: حديث حسن لغيره، وهذا إسناد ضعيف لضعف عبد الله وهو ابن عمر العمري، وأبو داود في الطهارة (236)، والترمذي في الطهارة (113)، وأبو يعلى في المسند (8/149)، والبيهقي في الكبرى كتاب الطهارة (1/168)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1983).(1/136)
4. وحقوق الإنسان الشاملة في الإسلام هي في ضمان الفرد والجماعة والدولة على السواء، لأن (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) هو واجب هؤلاء جميعا: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [التوبة:71].
5. ومما يتجلى فيه تفوُّق حكم الله على وضع البشر بالنسبة لتقرير حقوق الإنسان وحرياته العامة: أن تقرير الحقوق في الإسلام يستند إلى (عقيدة الإيمان)، وهي في عمقها وشمولها ودوامها لا تقارن بفكرة (القانون الطبيعي) أو (العدالة) أو (العقد الاجتماعي) أو (المذهب الفردي) ... إلخ. فـ(الله) مصدر تقرير الحقوق في دين الإسلام، حقيقة ثابتة، لا مجرد افتراض غامض، والعقيدة في الله ترتكز إلى أصولها في الفكر والنفس، ولها آثارها الواسعة الشاملة المستمرة في سلوك الفرد والجماعة والدولة.(1/137)
6. إن استناد تقرير الحق إلى الله عز وجل وشريعته يؤدي إلى اقتران الحق بالواجب، واقتران حق الفرد بحق الجماعة، واقتران الحقوق الفكرية والسياسية بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية. فكل ما هو حق للفرد هو واجب على غيره: سواء أكان الغير فردا آخر أم الجماعة أم الدولة، وهكذا لا مجال في المجتمع الإسلامي للأنانية والفردية، ففي الحديث: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"(1)، "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض"(2)، والقرآن يعبِّر في جلاء أن الأخوة ثمرة الإيمان الصحيح: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10].
__________
(1) - رواه البخاري في الإيمان (13) عن أنس، ومسلم في الإيمان (45)، وأحمد في المسند (12801)، والترمذي في صفة القيامة والرقائق والورع (2515)، والنسائي في الإيمان وشرائعه (5016)، وابن ماجه في المقدمة (66).
(2) - رواه البخاري في العلم (121) عن جرير بن عبد الله البجلي، ومسلم في الإيمان (65)، وأحمد في المسند (19167)، والنسائي في تحريم الدم (4131)، وابن ماجه في الفتن (3942).(1/138)
7. بل إن تقرير حقوق الإنسان من قِبَل خالق الإنسان عز وجل قد جعل إحقاق الحق واجبًا على صاحب الحق نفسه، كما هو واجب على الذي عليه الحق، فعلى صاحب الحق أن يطالب به ويحرص عليه، ويناضل لأجله إن كان المانع مماطلاً أو باغيًا أو غاصبًا. ففي الحديث: "مَن قُتل دون دمه فهو شهيد، ومَن قُتل دون عرضه فهو شهيد، ومَن قُتل دون ماله فهو شهيد"(1)، والمؤمنون أفرادا وجماعة ودولة في أي مكان مأمورون بمظاهرة صاحب الحق في طلبه والنضال لأجله: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات:9]. والمؤمن مأمور ألاَّ يفرط في حقوقه، وبخاصة ما يمسُّ إنسانيته وفكره واعتقاده، حتى ولو اضطر إلى ترك الأرض التي عاش فيها وارتبط بها وأَلِفها.
وهكذا تكون الهجرة أو (الالتجاء) بالاصطلاح القانوني المعاصر واجبا على المضطهد وليست حقًا فحسب. كما أن من واجبه النضال والجهاد حيثما كان.
8. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في شريعة الإسلام يعني إحقاق الحق ومقاومة البغي، وهو التزام فذٌّ يفرضه الإسلام على الفرد والجماعة والدولة، وهو واجب ديني شرعي يرتكز إلى العقيدة، ويتغلغل إلى أعماق ضمير المؤمن، وهو مقرون بالإيمان نفسه في عدد من آيات القرآن.
__________
(1) - رواه أحمد في المسند (1652) عن سعيد بن زيد، وقال محققوه: ، والترمذي في السنة (4772)، والترمذي في الديات (1421)، وقال حديث حسن صحيح، والنسائي في تحريم الدم (4094)، وابن ماجه في الحدود (2580) مختصرا، ورواه البخاري في المظالم (2480) عن عبد الله بن عمرو، ومسلم في الإيمان (141)، وأحمد في المسند (6522) واقتصرا على ذكر المال.(1/139)
9. وإن الإسلام ليرتضي في مجال الاجتهاد والسياسة الشرعية كل ما يتوصَّل إليه التفكير والتجربة من إجراءات محكمة مخلصة ناجعة، لضمان حقوق الإنسان ومنع المساس بها والاعتداء عليها. وفي حدود ما ورد من نصوص القرآن والسنة وما وقع في تاريخ الإسلام، يمكن القول بوجود الضمانات التالية:
أ. واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المُلقَى على عاتق الفرد والجماعة والدولة في الإسلام، والذي يعني حراسة هؤلاء جميعا للحق في مختلف صوره ومدافعتهم للبغي في مختلف صوره. ومن الوسائل التي عرفها تاريخ الإسلام في هذا الصدد وظيفة المُحتَسب بالنسبة للحكومة، ودعوى الحسبة بالنسبة للأفراد، ويمكن إدخال مراقبة رعاية حقوق الإنسان في نطاق كليهما.
ب. كذلك من اختصاص والي المظالم -وهو اختصاص القاضي قبل ذلك وعندما لا يوجد مثل هذا المنصب- النظر في تعدي الولاة على الرعية وأخذهم بالعسف في السيرة. فهذا من لوازم النظر في المظالم التي لا تقف على ظلامة متظلم، فيكون لسيرة الولاة متصفحًا، وعن أحوالهم مستكشفًا، ليقويهم إن أنصفوا، ويكفُّهم إن عسفوا، ويستبدل بهم إن لم ينصفوا.
ج. ولا مانع أن يقوم قضاء داخل الدولة الإسلامية على أعلى مستوى لحماية حقوق الإنسان: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59].
د. ومن الإجراءات المعروفة في شريعة الإسلام وتاريخه (التحكيم) لمحاولة الإصلاح بين طرفي النزاع، سواء أكان ذلك على المستوى الداخلي أو العالمي. والنص صريح في مجال الأسرة، ولا مانع من تعديته إلى الجماعة داخل الدولة والجماعة الإنسانية الدولية، يقول تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35].(1/140)
ه. والإسلام يشرع الجهاد لحماية حقوق الإنسان، ومنع استضعافه، والبغي على ذاته وحقوقه: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} [النساء:75].
و. وحق الهجرة الالتجاء مكفول للفرد، للفرار بنفسه وعقيدته وفكره من الاضطهاد، وكل ما يمكن أن يستحدث من وسائل لحماية الحق وكفالة العدل ومقاومة البغي، فإن الإسلام يرتضيها ويحتويها(1).
هذه هي حقوق الإنسان في الإسلام، واضحة بيِّنة موثَّقة من أصوله ومصادره.
ولكن الذي نؤكده هنا: أن الإسلام يمتاز عن الفكر الغربي بما قرَّره من التوازن بين الحقوق والواجبات. فالإنسان في حضارة الغرب يركض أبدا وراء ما هو له، ولا يهتم كثيرًا بما هو عليه. والإنسان في الإسلام مشدود إلى ما يجب عليه أولاً، الإنسان في نظر الغرب مُطالِب سائل، وفي نظر الإسلام مُطالَب مسؤول. وفرق كبير بين الموقفين، فرق بين مَن يقول: ماذا لي؟ ومَن يقول: ماذا عليَّ؟ فالأول يدور حول حاجته، والآخر يدور حول قيمة أخلاقية. ومن خلال أداء الواجبات تُرعى الحقوق؛ إذ ما من حق لفرد أو جماعة إلا كان واجبا على غيره. فحقوق المحكومين إنما هي واجبات على الحُكَّام، وحقوق المستأجرين إنما هي واجبات على المالكين، وحقوق الأولاد إنما هي واجبات على الوالدين وهكذا اهـ.
وأما ما قيل من أن هناك بعض القضايا والأحكام الإسلامية تتعارض مع حقوق الإنسان، فسنرد عليها واحدة واحدة:
1. الحرية الدِّينية:
أما مجال الحرية الدِّينية، فالواقع أن من المبادئ الأساسية في الإسلام، التي لا يختلف عليها اثنان: أنه {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256].
__________
(1) - انظر: حقوق الإنسان بين الشريعة الإسلامية والفكر القانوني الغربي للدكتور محمد فتحي عثمان صـ174 – 192، طبع دار الشروق. القاهرة.(1/141)
بل لا يُتصور أن يقبل الإسلام إيمان امرئ مكره، لأن شرط الإيمان أن يكون عن اختيار حر، واقتناع ذاتي، ولهذا رفض القرآن إيمان فرعون عند الغرق، ورفض إيمان الأمم حين ينزل بها بأس الله وعقوبته: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر: 85].
فحرية الاعتقاد مكفولة للجميع: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} [يونس:108].
أما الكلام عن حرية الارتداد عن الدِّين، فهذا الذي يحتاج إلى بيان. فالإسلام لا يريد أن يتخذ الناس الدِّين ملعبة، يدخله اليوم ويخرج منه غدا. أو كما قالت طائفة من اليهود في عهد النبوة: {آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران:72].
وهو هنا لا يحجر على تفكير الإنسان، إذا اختار غير الإسلام، ولكنه يحجر عليه الدعوة لتكفير غيره، وإشاعة الفتنة في صفوف الأمة. ومن حق كل نظام: أن يضع من التشريعات ما يحميه، ويوفر له الحياة والبقاء والانتشار.
والرِّدَّة إذا انتشرت وأمست جماعية: فإنها تهدد المجتمع كله بالخطر، ولا بد أن تقاوم، كما قاومها سيدنا أبو بكر والصحابة معه. ولو تركوا هذه الرِّدَّة وقادتها من المتنبئين الكذابين أمثال: مُسيلِمة وسَجَاح والأسود وغيرهم، لاجتُثَّ الإسلام من أصله.(1/142)
وقد رأينا في عصرنا ماذا فعلت الرِّدَّة بجماعة من العسكريين الأفغان، أرسلوا في بعثة إلى روسيا، فاعتنقوا الشيوعية التي هي ضد الإسلام، وضد الأديان بصفة عامة، ثم جاءوا، فقاموا بانقلاب، واستولوا على الحكم، وأرادوا فرض النظام الشيوعي على المجتمع الأفغاني المسلم، فرفضهم المجتمع، وقاومهم بما في يديه من أسلحة قديمة ضعيفة، فاستعانت الطائفة المرتدة على قومهم بالسوفييت، يضربونهم بالطائرات من فوق، وبالدبابات من تحت، وقتلوا منهم نحو مليونين، ولا تزال المأساة الأفغانية قائمة إلى اليوم، من جراء تلك الرِّدَّة وأهلها!!
والرِّدَّة ليست مجرد موقف عقلي، إنها تعني: نقل الولاء والانتماء من أمة إلى أمة أخرى مخالفة، فهي -بمعيار الدِّين- لون من الخيانة ونقض العهد، كما أن نقل الولاء من وطن إلى وطن -بمعيار الوطنية- يعتبر من الخيانة العظمى، ولا يقبل أحد أن يُعطَى الفرد حق تغيير ولائه لوطنه، فيصبح مواليًا للدولة المستعمرة، كأن يصبح الجزائري مواليًا لفرنسا المستعمرة، أو الفلسطيني مواليًا لإسرائيل.
على أن عقوبة المرتد بالقتل ليست أمرًا متفقًا عليه، فقد جاء عن عمر من الصحابة، وعن النَّخَعِي من التابعين، وعن الثوري من الأئمة: العقوبة بالسَّجن ونحوه. والحوار وطلب التوبة منه دائما(1).
2. مجال حقوق المرأة:
وأما مجال حقوق المرأة، فلا ينكر أحد عَرَف الإسلام من مصادره الأصيلة: أن الإسلام أول من حرَّر المرأة وأنصفها وكرمها: إنسانا وأنثى وبنتا وزوجة وأما وعضوا في المجتمع.
وهذا ما قرَّرته آيات القرآن الكريم، وأحاديث الرسول القولية، وسنته العملية، وما طبقه الصحابة والخلفاء الراشدون.
__________
(1) - انظر: كتابنا (جريمة الردة وعقوبة المرتد) من سلسلة (رسائل ترشيد الصحوة) صـ44 وما بعدها.(1/143)
وحسبنا أن القرآن يسويها بالرجل في الوظائف الدِّينية: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب:35].
ويسوي بينهما في الوظائف الاجتماعية والسياسية: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ...} [التوبة:71]، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وظيفة اجتماعية وسياسية معا.
ويسوي بينهما في أصل الخَلق والتكليف: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:195]، ومعنى بعضكم من بعض: أنّ الرجل من المرأة، والمرأة من الرجل، لا يستغني عنها، ولا تستغني عنه.
يؤكد هذا الحديث النبوي: "إنما النساء شقائق الرجال"(1).
وقد كانت المرأة تشارك الرجل في عبادة الصلاة في المسجد، ولها صفوفها خلف الرجال، وفي جلسات العلم مشاركة مع الرجال، ومنفردة بالرسول، وفي الحج والعمرة، وفي الغزوات في خدمة الجيش وإسعاف الجرحى، وفي حمل السيف أحيانا إذا اقتضى الحال.
وكانت تشير على ولي الأمر بما يأخذ به ولا يهمله، كما فعلت أم سلمة في الحديبية، وترد على ولي الأمر أحيانا ما تراه خطأ، ولو كان فوق المنبر، كما حدث في عهد عمر.
__________
(1) - انظر: كتابنا (مركز المرأة في الحياة الإسلامية) من رسائل ترشيد الصحوة، والحديث سبق تخريجه.(1/144)
وكانت المرأة تعمل محتسبة على السوق، -كالشفاء بنت عبد الله العدوية في عهد عمر- لإيقاف الناس رجالا ونساء عند حدود الشرع في البيع والشراء والتعامل. ووظيفة المحتسب تجمع بين التنبيه والرقابة والتأديب، ولها سلطة التنفيذ.
وقد أجاز أبو حنيفة أن تعمل المرأة قاضية في غير الجنايات، وأجاز الطبري والظاهرية: أن تكون قاضية في كل شيء، وأن تتولى الوظائف ما عدا الإمامة العظمى، أي رئاسة الدولة. بل ربما قيل: إن الإمامة العظمى ليست مجرد رئاسة دولة إقليمية، فهذه أشبه بوالي الولاية. أما الإمامة العظمى -أو الخلافة- فهي رئاسة عامة على الأمة الإسلامية كلها!
وقد أصدرت فتوى منذ سنين وضحت فيها مشروعية قيام المرأة بالإدلاء بصوتها في الانتخاب، لأنه لا يعدو أن يكون شهادة، والله تعالى يقول: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق:2]، وإذا كان مطلوبا منها الشهادة في الحقوق الشخصية حتى لا تضيع كما قال القرآن: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة:282]، فكيف لا تشهد فيما يتصل بحقوق المجتمع أو الأمة كلها؟
وكذلك أجزت لها أن ترشح نفسها لمجلس الشورى أو النواب إذا كانت أهلا لذلك، ورددت على دعاوى الغلاة والمتشددين في هذا الأمر(1).
وأما القول بأنه لا يجوز أن تزوج نفسها إلا بإذن وليها، فهذا أمر ليس متفقا عليه، فمذهب أبي حنيفة وأصحابه يجيز لها أن تزوج نفسها بمن هو كفء لها. وظاهر القرآن يؤيد ذلك، حيث نسب النكاح إليها. والأحاديث الواردة في اشتراط الوليّ ليست في الصحيحين، وهي ليست محل اتفاق بين العلماء.
وأما جعل الطلاق بيد الرجل، فلحكمة لا تخفى على المنصف، وهو أن الرجل أبصر بالعواقب، وأكثر تحكما من المرأة في عواطفه، ومع هذا وضع الشرع قيودا كثيرة على الطلاق، حتى لا يقع إلا في أضيق نطاق.
__________
(1) - انظر: كتابنا (فتاوى معاصرة) جـ2 صـ383.(1/145)
وبعض الفقهاء أعطى المرأة حق طلب أن تكون العصمة بيدها، إذا أصرت على ذلك، وقَبِل الرجل، فتكون هي صاحبة الحل والعقد في ذلك.
وإذا لم يكن فقد أعطاها الشرع مقابل الطلاق: حق التحكيم عند الخلاف {فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} [النساء:35]، وحق الخلع، ومن الفقهاء من يرى إجبار الرجل على قبوله إذا تمسكت به المرأة، وأنا أرجح ذلك. وهناك حق القاضي في التطليق للضرر إذا وقع بالمرأة. ومن الفقهاء من أجاز للمرأة أن تشترط في العقد ما تشاء من الشروط لحفظ حقوقها، وضمان مستقبلها.
وأما قضية القوامة على الأسرة {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34]، فليس لأن الرجل أفضل من المرأة، فلم يأت في القرآن ولا السنة نص صريح بذلك. وإنما الزواج شركة لا بد لها من مدير، والرجل هو الأولى بالإدارة من المرأة؛ بما فضل به من التبصر والأناة، كما أشرنا، ولأنه الذي ينفق على الأسرة في تأسيسها وفي استمرارها، فإذا انهدَّ هذا البناء، انهدَّ على أم رأسه، وهو الخاسر في كل حال. وليس معنى القوامة على الأسرة: أن يستبد الرجل بكل شيء، ولا يستشير زوجته في أمر، فليس هذا شأن المؤمنين، فالمؤمنون يشاور بعضهم بعضا: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38]، ولا خاب من استخار، ولا ندم من استشار.
وأما الميراث وتفاوته بين الرجل والمرأة، فهو مبنيّ على تفاوت الأعباء والتكاليف المالية بين الرجل والمرأة، كما شرحناه في موضعه.
على أن ميثاق حقوق الإنسان ينبغي أن يقبل في الجملة، أما في الجزئيات والتفاصيل، فمن الواجب أن نراعي خصوصيات الأمم والأقوام، إذ لا يجوز أن نجبر أمة كبرى (مليار وثلث المليار) على أن تتخلى عن أحكام دينها وشريعتها من أجل الأمم المتحدة!!(1/146)
ولهذا كان للجهات الإسلامية موقف من اتفاقية إلغاء جميع أشكال التمييز ضد المرأة، فقد قبلت أكثرَ بنودها، ورفضت أقلَّها، لأنها لا تتفق مع قواطع الأحكام، وثوابت الشريعة.
حقوق العراة والشواذ:
بقي ما يقال عن موقف الإسلام المتصلب مما يسمى (حقوق العراة والشواذ) الذي وصفه بعضهم بأنه موقف عدواني من هذه الفئات، حيث حرم عليها أن تشبع شهواتها، كما تريد، ما دام ذلك بالتراضي. ولماذا يمنع الإسلام أن يستمتع الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل كما يشتهيان؟ ولماذا لا يتمتع الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة؟ لماذا لا يتزوج كل منهما الآخر؟ ويكوِّنان أسرة مثلية؟!!
وأعتقد أن موقف الإسلام هنا ليس موقفا منفردا، فكل الأديان السماوية -على الأقل- تقف موقف الإسلام، تحرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، كلها تحرم الزنى أي التقاء الرجل بالمرأة لمجرد الشهوة، على غير عقد معلوم مشهود.
ومن قرأ أسفار العهد القديم (التوراة) وجد فيها الوصايا العشر المشهورة: (لا تقتل، لا تسرق، لا تزن ...)(1)، فحرم الاعتداء على النفس بالقتل، وعلى الأموال بالسرقة، وعلى الأعراض بالزنى. وكلها تريد أن ترتفع بالإنسان حتى لا يكون عبدا لشهواته، إنما عليه أن يزكي نفسه، حتى ترتقي بالفضائل.
وقد جاء في الإنجيل عن المسيح أنه قال لتلاميذه: لقد كان من قبلكم يقولون: لا تزن، وأنا أقول لكم: من نظر إلى امرأة يشتهيها بقلبه فقد زنى(2)!
__________
(1) - سفر الخروج (20/13، 14، 15).
(2) - إنجيل متى: (5/28).(1/147)
حتى النظرة يعتبرها نوعا من الزنى، وهو يلتقي مع ما جاء به محمد نبي الإسلام: "العينان تزنيان، وزناهما النظر، واليدان تزنيان، وزناهما البطش، والرجلان يزنيان، وزناهما المشي، والفم يزني، وزناه القُبَل، والقلب يهوي ويتمنى، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه"(1).
كما حرم (الكتاب المقدس) عند المسيحين عمل قوم لوط، وهو الفاحشة التي ابتكرها هؤلاء، وعبر عنها القرآن بقوله: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء:166،165].
وجاء في القرآن كما جاء في التوراة: أن الله عاقبهم عقوبة شديدة، وأهلكهم ودمر قريتهم عليهم، تطهيرا للأرض من رجسهم.
فموقف الإسلام هنا هو موقف اليهودية والمسيحية، وموقف القرآن هو موقف التوراة والإنجيل.
ومن هنا لا يجيز الإسلام ما يسمُّونه الزواج المثلي: الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة، فهذا في الحقيقة ليس زواجًا، لأن الزواج أو الزوجية لا تكون إلا بين الشيء ومقابله: الذكر والأنثى، الموجب والسالب، لا بين الشيء ومثله، وهو الذي جاء منه قول الله تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذريات:49]، ولهذا كان هذا التصرف ضد الفطرة التي فطر الله الناس عليها، ولو استسلمت البشرية لهذه النزعة، لهلك العالم الإنساني بعد جيل أو جيلين، إذ النسل لا يتم إلا بالتقاء ذكر وأنثى، كما تقضي بذلك الفطرة البشرية، وسنة الله الكونية، وقوانينه الشرعية.
(8)
الدِّين والإبداع والتطور
__________
(1) - رواه أحمد في المسند (8356) عن أبي هريرة، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم، وأبو داود في النكاح (2153)، وأبو يعلى في المسند (11/309)، وابن حبان في صحيحه كتاب الحدود (10/267) والبيهقي في الكبرى كتاب النكاح (7/89).(1/148)
ومما أثاروه من الشبهات التي رتَّبوها على صلة الدِّين بالسياسة: أن اللجوء إلى الدِّين في شؤون السياسة والحكم وإدارة الدولة، يصيب الحياة بالجمود والعفن، ويجعلها كماء البِرَك الآسن، لا تتطور ولا تتحسن ولا تتجدد، لأن طبيعة الدِّين (الثبات) وطبيعة الحياة (التغير). بل نرى نصوص الدِّين تعتبر كل تغيير أو إحداث أو تجديد: بدعة في الدِّين، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ولهذا يجب على أهل الدِّين أن يقاوموها، ولا يسكتوا عليها.
وهذا الكلام يشتمل على كثير من الخلط والتلبيس. ولا يتفق مع حقائق الإسلام الناصعة، وأحكامه القاطعة، وتعاليمه المحكمة. كما لا يتفق مع حقائق الحياة أيضا.
فالإسلام يدعو إلى الاجتهاد والتجديد في الدِّين، والعلماء يعتبرون الاجتهاد في الدِّين من (فرائض الكفاية) التي تجب على الأمة متضامنة، بحيث إذا توافر لها عدد من المجتهدين يلبون الحاجة، ويسدون الثغرة، ويؤدون الواجب، فيما يعتري الأمة من مشكلات مستجدة، تتطلب الحل، وواقعات لم يسبق لعلمائنا الماضين أن عرفوها، فهنا تكون الأمة قد أدت ما عليها وبرئت من الإثم. وإلا أثمت الأمة عامة، وأولو الأمر والشأن فيها خاصة.
ويجب على الأمة أن تتخذ من الوسائل والأسباب والآليات العلمية والتربوية والعملية والإدارية: ما يكفل ظهور هؤلاء المجتهدين الذين يعرفون شريعتهم، ويعرفون عصرهم، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وقد قرأنا الحديث النبوي الذي يقول: "إن الله يبعث على رأس كل مائة عام لهذه الأمة: من يجدد لها دينها"(1).
نبي الإسلام هو الذي شرع التجديد للدين ودعا إليه، وبشَّرنا بأن الله يهيئ في كل قرن من يقوم بتجديد هذا الدِّين.
__________
(1) - رواه أبو داود في الملاحم (4291) عن أبي هريرة، والحاكم في المستدرك كتاب الفتن والملاحم (4/567)، والطبراني في الأوسط (6/324)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1874).(1/149)
وإذا كان التجديد في أمر الدِّين مطلوبا ومحمودا، فكيف يُرفض التجديد في أمر الدنيا وشؤون الحياة؟
أما ما جاء من ذم (الإحداث) فمقصود به الإحداث في الدِّين، وما يتعلَّق بالعبادات المحضة، وهي التي جاءت فيها النصوص المانعة والذامَّة، مثل قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : "من أحدث في أمرنا -أي ديننا- ما ليس فيه فهو رد"(1)، و"من عمل عملا ليس عليه أمرنا"(2)، أي مردود عليه، لا يقبل منه.
وقوله عليه الصلاة والسلام: "إن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار"(3).
والمراد بالمُحْدث أو المُحْدثة هنا: ما أحدث في أمر الدِّين والعبادات المحضة من الزيادة على الدِّين والتغيير فيه، بما لم يجئ به نص من كتاب ولا سنة، ولم يسنه الراشدون المهديون رضي الله عنهم. وهذا أمر مهم، بل ضروري لحفظ الدِّين. بخلاف أمر الدنيا.
ومن هنا جعلنا من ركائز (الفقه الحضاري) -في كتابنا (السنة مصدرا للمعرفة والحضارة)- هذا المبدأ أو هذه القاعدة الهامة، التي يجب أن يعيها أبناء أمتنا، وهي: الاتِّباع في الدِّين، والابتداع في الدنيا! وقد قلتُ في شرحها وإيضاحها:
(
__________
(1) - رواه البخاري في الصلح (2697) عن عائشة، ومسلم في الأقضية (1718)، وأحمد في المسند (26033)، وأبو داود في السنة (4606)، وابن ماجه في المقدمة.
(2) - رواه مسلم في الأقضية (1718) عن عائشة، وأحمد في المسند (25171)، والدارقطني في السنن كتاب عمر (4/227).
(3) - رواه مسلم في الجمعة (867) عن جابر، وأحمد في المسند (14334)، والنسائي في صلاة العيدين (1578)، وابن ماجه في المقدمة (45).(1/150)
من مفاهيم هذا الفقه الحضاري: أن الأصل في أمور الدِّين هو الاتِّباع، وفي شؤون الدنيا هو الابتداع. فالدِّين قد أكمله الله تعالى، وأتمم به النعمة، فلا يقبل الزيادة، كما لا يقبل النقصان: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3].
والتعبد لله يقوم على أصلين كبيرين:
الأول: ألا يعبد إلا الله تعالى، وكل ما عبده الناس من نجم في السماء أو صنم في الأرض، أو نبات أو حيوان أو إنسان فهو باطل، وهذا ما جاء به كل رسل الله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25].
والثاني: ألا يعبد الله تعالى إلا بما شرعه في كتابه وعلى لسان رسوله، وكل مَن أحدث في دين الله أمرًا لم يجئ به قرآن ولا سنة، فهو مردود على صاحبه، كما في الحديث الصحيح: "من أحدث في أمرنا ما ليس فيه فهو رد"(1)، "من عمل عملا ليس عليه أمرنا"(2).
وفي الحديث الآخر: "إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة"(3).
وبهذا حمى النبي - صلى الله عليه وسلم - الدِّين من المحدثات والمبتدعات التي دخلت على الأديان السابقة فحرَّفتها، وأضافت إليها ما ليس منها، وعسَّرت منها ما يسَّره الله، وحرَّمت ما أحلَّه، وأحلَّت ما حرَّمه.
__________
(1) - سبق تخريجه.
(2) - سبق تخريجه.
(3) - رواه أحمد في المسند (17144) عن العرباض بن سارية، وقال محققوه: حديث صحيح ورجاله ثقات، وأبو داود في السنة (4607)، والترمذي في العلم (2676) وقال حديث صحيح، وابن ماجه في المقدمة (43).(1/151)
وحسبنا مثلا على ذلك: ما ابتدعه النصارى من الرهبانية العاتية، التي صادروا بها فطرة الله التي فطر الناس عليها، فحرَّموا الزواج، وزينة الله التي أخرج لعباده، والطيبات من الرزق. وغلا بعضهم حتى حرم على نفسه من الماء والنظافة، واعتبروا البقاء على القذارة أقرب إلى الله، والنظافة أدنى إلى الشيطان. حتى قال أحد رهبان العصور الوسطى في أوربا متحسرًا: لقد كان من قبلنا يعيش أحدهم طول عمره لا يبل أطرافه بالماء، ولكننا -واأسفاه- أصبحنا في زمن يدخل فيه الناس الحمامات(1)!
ويبدو أن دخول الحمامات تلك عدوى انتقلت إليهم من المسلمين في الأندلس! فقد ذكروا أنه كان يوجد في قرطبة ستمائة حمام(2)!
وهذا التشديد على النفس، هو ما حذَّرت منه السنة. فعن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "لا تشددوا على أنفسكم، فيشدد الله عليكم، فإن قوما شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديار {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد:27]"(3).
وفي مقابل هذا التشديد في أمر الدِّين، وإيجاب الاتِّباع فيه، كان التسهيل في أمر الدنيا، وفتح باب الإبداع والابتكار في كل ما يتعلَّق بها.
__________
(1) - انظر: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين للعلامة أبي الحسن الندوي صـ185 دار القلم. الكويت.
(2) - بل عدها بعضهم تسعمائة حمام، ذكر ذلك المقري التلمساني في نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب (1/540)، وأكثر من هذا ما ذكره الخطيب في تاريخه: أن حمامات بغداد بلغت ستين ألف حمام (1/117).
(3) - رواه أبو داود في الأدب (4904) عن أنس، وأبو يعلى في المسند (6/365)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح غير سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء وهو ثقة (6/390)، وضعفه الألباني في الجامع الصغير (14381).(1/152)
ولا غرو أن حثَّ الرسول الكريم على ابتكار مناهج الخير، واختراع ما تجود به القرائح المبدعة من صور العمران، والإصلاح والتجديد، في العلم والعمل والفن. وفي هذا جاء الحديث الصحيح: "من سنَّ في الإسلام سُنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء"(1).
وهذا ما مضى عليه الصحابة والمسلمون في القرون الأولى: نجد الصحابة فعلوا أشياء لم يفعلها الرسول - صلى الله عليه وسلم - اقتضاها تطور الحياة في زمنهم، ووجدوا فيها الخير والمصلحة للأمة، ولم يتقدم بها أمر ولا نظير، مثل كتابة المصاحف، وجعل الخلافة شورى(2)، وضرب النقود، واتخاذ السجن، وغير ذلك، مما استدل به الأصوليون على حجية المصلحة المرسلة(3).
وعمر له في خلافته القِدْح المُعلَّى في الابتكارات. ولذا قيل: هو أول من دوَّن الدواوين، ومصَّر الأمصار، واتخذ التاريخ ... إلخ ما عرف من أوَّلياته رضي الله عنه. وعلى هذا المنهج: مضى خير قرون الأمة.
قاوموا المُحْدَثات في العقيدة، والمبتدعات في العبادة، وحافظوا على جوهر الدِّين من الشوائب والطفيليات الغريبة. وفي الوقت نفسه ابتكروا علوما جديدة لخدمة الدِّين، مثل: علوم النحو والصرف والبلاغة، ووضعوا معاجم اللغة، وطوروا علوم الفقه والتفسير والحديث ودوَّنوها، وابتكروا علوما خادمة لها، لضبط قواعدها، وردِّ فروعها إلى أصولها. فكان علم أصول الفقه، وأصول الحديث، وأصول التفسير، وعلوم القرآن.
__________
(1) - رواه مسلم في الزكاة (1017) عن جرير بن عبد الله، وأحمد في المسند (19200)، والنسائي في الزكاة (2554)، وابن ماجه في المقدمة (203).
(2) - أي بين ستة كما فعل سيدنا عمر رضي الله عنه.
(3) - انظر: شرح تنقيح الفصول للقرافي صـ199.(1/153)
وترجموا علوم الأمم الأخرى، فاقتبسوا منها، وعدَّلوا فيها، وأضافوا إليها، ونبغ منهم أعداد لا تُحصى في علوم الطب والفلك والفيزياء والكيمياء والبصريات والرياضيات وتقويم البلدان، وغيرها من أنواع المعارف والعلوم. وابتكروا علوما أخرى لم تعرفها الأمم السابقة كاليونان وغيرهم، مثل (علم الجبر) الذي اخترعه العلامة الخُوارزِمي، وهو يؤلف رسالة في علم المواريث والوصايا.
ولما تخلف المسلمون: انعكست الآية عندهم، فابتدعوا في أمور الدِّين، وجمدوا في أمور الدنيا!!)(1).
دعوى ثبات الدِّين وتغير الحياة:
وقد ناقشنا في كتابنا (الإسلام والعلمانية) دعوى ثبات الدِّين وتغير الحياة، بأنها دعوى غير مسلمة، فليس كل الدِّين ثابتا، ولا كل الحياة متغيرة.
بل الثابت في الدِّين: العقائد والشعائر العبادية والقيم والفضائل والأحكام القطعية، التي عليها تجتمع الأمة، وتتجسد فيها وحدتها العَقَدِيَّة والفكرية والشعورية والعملية. وهي تمثل (ثوابت الأمة) التي لا يجوز اختراقها ولا تجاوزها. وربما كانت هي قليلة جدا، ولكنها مهمة جدا.
أما معظم أحكام الشريعة فهي ظنية، وهي قابلة للاجتهاد والتجديد واختلاف الآراء، وفيها يتغير الاجتهاد، وتتغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والعرف والحال. ففي هذا المجال الرحب يعمل العقل الإسلامي، ويصول ويجول مهتديا بما أنزل الله من الكتاب والميزان.
ولا غرو أن اختلفت المذاهب والمشارب، واختلف أهل المذهب الواحد فيما بينهم في مسائل شتَّى، واختلف قول الإمام الواحد في المسألة الواحدة ما بين فترة وأخرى، وكان ذلك موضع قبول وترحيب من علماء الأمة الذين أعلنوا بكل وضوح: أن اختلاف العلماء رحمة واسعة، كما أن اتفاقهم حجة قاطعة(2).
__________
(1) - انظر: كتابنا (السنة مصدرًا للمعرفة والحضارة) صـ245 – 247 طبعة دار الشروق الثانية.
(2) - كما قال ذلك ابن قدامة في مقدمة كتابة المغني (1/4) طبعة هجر. القاهرة.(1/154)
ولهذا دخلت الشريعة بلاد الحضارات المختلفة في الفرس والعراق والشام ومصر والهند وغيرها، فما عجزت عن علاج مشكلة، ولا ضاق صدرها بجديد يعرض عليها، بل وجدت في سَعَة نصوصها، وشمول قواعدها، وعموم مقاصدها: ما يفي بكل مطلب، وما يجيب على كل تساؤل.
لقد علمنا الإسلام -بمُحكمات نصوصه، وكليات قواعده- أن نفرق بين المقاصد والوسائل، وبين الأصول والفروع، وبين الكليات والجزئيات، فنحرص على الثبات في المقاصد والغايات، وعلى المرونة في الوسائل والآليات، على الثبات في الأصول والكليات، وعلى المرونة في الفروع والجزئيات. وبهذا لا نقف في وجه التطور والإبداع، إلا إذا كان مسخا لهوية الأمة وذاتيتها باسم التطور.
هذه نظرتنا إلى الدِّين، فيه ثبات وفيه تغير، فإذا نظرنا إلى الحياة لم نجد الحياة كلها متغيرة كما زعم الزاعمون. بل جوهر الحياة ثابت، وجوهر الإنسان ثابت، وجوهر الكون ثابت. والأعراض هي التي تتغير.
إن السماء هي السماء، والأرض هي الأرض، والبحار هي البحار، والشمس والقمر والنجوم لا تزال تسير في أفلاكها مسخرة بأمر ربها، تحكمها سسن ثابتة لا تتغير ولا تتحول: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر:43].
قد تتغير بعض الأشياء تغيرا جزئيا وعَرَضِيا، كأن ينجح الإنسان في تخضير الصحراء، وقد يغلب التصحر الإنسان فيأكل الأرض الخضراء، وقد يطغى البحر على اليابسة فيأخذ منها، وقد يردم الإنسان جزءا من البحر، فيضمه إلى اليابسة، وقد يحول الإنسان ماء البحر الملح الأجاج إلى عذب فرات سائغ شرابه ... إلى غير ذلك من التغيرات المحدودة، التي لا تنال من ثبات جوهر الكون والحياة.(1/155)
والإنسان قد تغيرت قدراته وإمكاناته، وتغيرت معارفه ومعلوماته، فأمسى يحلق في الهواء كالطير، ويغوص في البحار كالحوت، ويختصر المسافات، ويضاعف القدرات، ويهتدي إلى الثورات العلمية الهائلة: الإلكترونية والتكنولوجية والبيولوجية والنووية والفضائية، وثورة الاتصالات، وثورة المعلومات.
ومع هذا كله، ظل الإنسان هو الإنسان في جوهره وحقيقته، بعقله وعاطفته وضميره، وجسمه وروحه، باستعداده للخير والشر، وللفجور والتقوى.
بقي الإنسان الخَيِّر الطيب الذي تمثل في ابن آدم الأول الذي سُمي (هابيل)، وبقي كذلك الإنسان الشرير الخبيث الذي تمثل في ابن آدم الثاني الذي سُمي (قابيل).
نعم، تطورت أدوات القتل وأساليبه عما كانت من قبل، وأصبح في استطاعة الإنسان أن يخفي جثة القتيل بإذابتها بواسطة محاليل كيميائية معينة، ولكن جوهر الخير والشر ظلاَّ كما هما في إنسان عصرنا كما كانا في العصر الأول.
ومن هنا سقطت دعوى أن الدِّين كله ثابت، وأن الحياة كلها متغيرة.
وأود أن أنبه هنا إلى: أن الإسلام لا يمنع تطور الحياة، وانتقالها من السيئ إلى الحسن، ومن الحسن إلى الأحسن. بل نرى الإسلام أبدا يشوق المسلم إلى (التي هي أحسن) في كثير من الأمور، فهو يحاور بالتي هي أحسن، ويدفع إساءة المسيء بالتي هي أحسن، ويقرب مال اليتيم بالتي هي أحسن.
و يتطلع دائما إلى (الأحسن) في كل شيء، كيف لا وقد علمه القرآن ذلك حين قال: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزمر:55]، وقال تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر:17،18].(1/156)
ولقد رأينا الرسول الكريم يعني بأمر (الإحصاء) قبل أن يهتم به البشر، فطلب من أصحابه أن يحصوا له عدد مَنْ يلفظ بالإسلام فأحصوا له، فكانوا ألفا وخمسمائة رجل(1).
وفي بعض الروايات: "اكتبوا لي ... "(2)، فهو إحصاء يُراد تدوينه وكتابته.
وهو عليه الصلاة والسلام، يقدر التجربة في شؤون الدنيا، ويبني عليها نتائجها، فحين رأى في بعض أمور الزراعة أمرا، وأظهرت النتائج خلافه، قال لهم بكل وضوح: "أنتم أعلم بأمر دنياكم"(3).
وهو لم يكتفِ بدعوتهم إلى العمل لدنياهم: {فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:10]، {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [المُلك:15].
بل حثَّهم على أن يحسنوا العمل، ويَبْلُغُوا به درجة الإتقان والإحكام، وجعل ذلك فريضة دينية مكتوبة عليهم، فقال - صلى الله عليه وسلم - : "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة"(4).
ومن توجيهات القرآن الاقتصادية الرائعة: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام:152، الإسراء:34].
__________
(1) - رواه مسلم في الإيمان (149) عن حذيفة، وأحمد في المسند (23259)، والنسائي في الكبرى كتاب السير (5/276).
(2) - رواه البخاري في الجهاد والسير (3060) عن حذيفة، والبيهقي في الكبرى كتاب قسم الفيء والغنيمة (6/363).
(3) - رواه مسلم في الفضائل (2363) عن أنس، وأحمد في المسند (12544)، وابن ماجه في الرهون (2471).
(4) - رواه مسلم في الصيد والذبائح (1955) عن شداد بن أوس، وأحمد في المسند (17113)، وأبو داود في الضحايا (2815)، والترمذي في الديات (1409)، والنسائي في الضحايا (4405)، وابن ماجه في الذبائح (3170).(1/157)
على معنى أن يبحث وليّ اليتيم عن أمثل الطُّرُق للمحافظة على مال اليتيم من جهة، وعلى تثميره وتنميته من جهة أخرى، بحيث يبقى أصله سليما، وتتابع ثمراته باستمرار. وفي هذا يتنافس أهل المعرفة بالمال، والخبرة بالاقتصاد، والعارفون بطُرُق التشغيل والاستثمار. فلو وجدت طريقة أو أكثر لتنمية مال اليتيم، طريقة حسنة، وطريقة أحسن منها، فالقرآن ينهى أن يُقْتَرَب من هذا المال إلا بالطريقة الأحسن والأفضل.
وإنما وصَّى بمال اليتيم خاصة، لأن الناس -بطبيعتهم وفطرتهم- مهتمُّون بتثمير أموالهم الخاصة، وقد يهملون أمر مال اليتيم، فنُبِّهوا عليه، حتى لا يغفلوا عنه.
(9)
ليست العلمانية هي الحل
أما دعوى بعض الحداثيين والليبراليين الجدد: أن العلمانية هي الحل أو هي العلاج الكافي، والدواء الشافي، لمعضلات مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وليس (الإسلام هو الحل) كما تنادي بذلك تيارات ضخمة في أوطاننا، فهذه دعوى متهافتة، ويكفي أنها مرفوضة من أغلبية الأمة، التي ترى فيها عدوانا على شريعتها، ومناقضة لمسلماتها.
كما ترى أنها دعوى دخيلة عليها، ليس بها حاجة إليها، إنما قامت العلمانية في الغرب لأسباب تاريخية معروفة، تتمثل في تحكُّم الكنيسة الغربية ورجالها في الدولة، وفي حياة الناس، وتسلطها عليهم في الأرض باسم السماء، وليس من حق أحد أن يحاسبهم أو ينتقدهم، فلهم من (القداسة) ما يحول دون ذلك.
وعندما ضاق الناس ذرعًا بذلك، وبدأ عصر التنوير، ثار الناس على جمود الكنيسة وطغيانها، ومحاكم تفتيشها وما اقترفت من مظالم وجرائم في حق العلم والعلماء. ووقوفها مع الملوك ضد الشعوب، ومع الإقطاعيين ضد الفلاحين، ومع الخرافات ضد العلم، ومع الظلام ضد النور، وأسقطوا حكم الكنيسة الذي كان يحكم تحت غطاء الدِّين، وكان هذا أمرا لا بد أن يحدث، لأنه يتماشى مع سنن الله في الكون والمجتمع.(1/158)
نحن في الإسلام ليس لدينا كنيسة، ولا سلطة دينية كهنوتية، ولا كاهن يتحكم في ضمائر الناس، ويحتكر الوساطة بيننا وبين ربنا، بل ليس عندنا طبقة كهنوتية تسمى (رجال الدِّين) يجب أن نذهب إليهم إذا أذنبنا، ونعترف لهم بما اقترفنا، ونلتمس منهم الغفران لخطايانا، وإلا هلكنا! بل المقرَّر عندنا أن كل الناس رجال لدينهم. عندنا فقط علماء يخدمون الدِّين بما تعلموه وفقهوه. كما قال الله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122].
لا حاجة لنا إذن إلى العلمانية التي تعني تاريخيا: التحرُّر من سلطان الكنيسة، التي لا وجود لها عندنا.
العلمانية كانت (حلاًّ) لمشكلة المجتمع الأوربي، وكانت ضرورة ليصل إلى التحرُّر المنشود. ولكنها عندنا ليست ضرورة، بل ضررا، وليست حلا بل مشكلة.
وقد ناقشت قضية (العلمانية) وصلتها بالإسلام في أكثر من كتاب لي، منها: (الإسلام والعلمانية وجها لوجه) و(التطرف العلماني في مواجهة الإسلام) و(بينات الحل الإسلامي وشبهات العلمانيين والمتغربين). ولا أريد أن أعيد بحثها هنا اليوم. فمن أراد فليرجع إلى هذه الكتب.
ولكني أكتفي هنا ببعض النقول من مفكرَين مدنيَّين ليسا محسوبين على علماء الدِّين، حتى يتهموا بالتعصب والانغلاق، ومعاداة الغرب ... إلخ.
الجابري يقول: العلمانية في العالم العربي مسألة مزيفة:
يسرني أولا أن أنقل هنا: ما كتبه المفكر المغربي د. محمد عابد الجابري عن (العلمانية) أو (اللائكية) التي يطرحها بعضهم كمرتكز للتغيير والإصلاح في وطننا العربي، ويرى الجابري: أن العلمانية طرحت في بعض المراحل لأسباب لم تعد قائمة اليوم. فقد طالب بها نصارى الشام حين أرادوا الاستقلال عن الدولة العثمانية. فعبروا بذلك عن إرادتهم الاستقلال عن الترك.(1/159)
وحين تبنى الفكر القومي العربي شعار العلمانية: كانت دلالته ملتبسة بمضمون شعار الاستقلال والوحدة. ذلك باختصار هو الإطار الأصلي الذي طرح فيه شعار العلمانية في بلاد الشام (سورية الكبرى).
ولا بد من ملاحظة أن هذا الشعار لم يرفع قط في بلدان المغرب العربي، ولا في بلدان الجزيرة، ولربما لم يرفع بمثل هذه الحدة في مصر نفسها حيث توجد أقلية قبطية مهمة ... وعندما استقلت الأقطار العربية، وبدأ التنظير لفكرة العروبة و(القومية العربية)، طرح شعار (العلمانية) من جديد، وخصوصًا في الأقطار العربية التي توجد فيها أقليات دينية (مسيحية بصفة خاصة).
وهذا الطرح كان يبرِّره شعور هذه الأقليات بأن الدولة العربية الواحدة التي تنادي بها القومية العربية ستكون الأغلبية الساحقة فيها من المسلمين، الشيء الذي قد يفرز من جديد وضعا شبيهًا بالوضع الذي كان قائما خلال الحكم العثماني. وإذن فالدلالة الحقيقية لشعار (العلمانية)، في هذا الإطار الجديد، إطار التنظير لدولة الوحدة كانت مرتبطة ارتباطا عضويا بمشكلة حقوق الأقليات الدِّينية، وبكيفية خاصة حقها في أن لا تكون محكومة بدين الأغلبية، وبالتالي فـ(العلمانية) على هذا الاعتبار كانت تعني بناء الدولة على أساس ديمقراطي عقلاني وليس على أساس الهيمنة الدِّينية. وفي خضم الجدل السياسي الأيديولوجي بين الأحزاب والتيارات الفكرية، عبَّر بعضهم عن هذا المعنى بعبارة (فصل الدِّين عن الدولة)، وهي عبارة غير مستساغة إطلاقا في مجتمع إسلامي، لأنه لا معنى في الإسلام لإقامة التعارض بين الدِّين والدولة. إن هذا التعارض لا يكون له معنى إلا حيث يتولى أمور الدِّين هيئة منظمة تدَّعي لنفسها الحق في ممارسة سلطة روحية على الناس، في مقابل سلطة زمنية تمارسها الهيئة السياسية: الدولة.(1/160)
ثم يقول الجابري: مسألة (العلمانية) في العالم العربي مسألة مزيفة، بمعنى أنها تعبر عن حاجات بمضامين غير متطابقة مع تلك الحاجات: إن الحاجة إلى الاستقلال في إطار هوية قومية واحدة، والحاجة إلى الديمقراطية التي تحترم حقوق الأقليات، والحاجة إلى الممارسة العقلانية للسياسة، هي حاجات موضوعية فعلا، إنها مطالب معقولة وضرورية في عالمنا العربي، ولكنها تفقد معقوليتها وضروريتها، بل مشروعيتها عندما يعبَّر عنها بشعار ملتبس كشعار (العلمانية).
وما نريد أن نخلص إليه هو: أن الفكر العربي مطالب بمراجعة مفاهيمه، بتدقيقها وجعل مضامينها مطابقة للحاجات الموضوعية المطروحة. وفي رأيي: أنه من الواجب استبعاد شعار العلمانية من قاموس الفكر العربي وتعويضه بشعاري (الديمقراطية) و(العقلانية)، فهما اللذان يعبران تعبيرا مطابقا عن حاجات المجتمع العربي: الديمقراطية تعني حفظ الحقوق: حقوق الأفراد وحقوق الجماعات، والعقلانية تعني: الصدور في الممارسة السياسية عن العقل ومعاييره المنطقية والأخلاقية، وليس عن الهوى والتعصب وتقلبات المزاج.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإنه لا الديمقراطية، ولا العقلانية، تعنيان بصورة من الصور: استبعاد الإسلام، كلا. إن الأخذ بالمعطيات الموضوعية وحدها يقتضي منا القول: إنه إذا كان العرب هم (مادة الإسلام) حقًا، فإن الإسلام هو روح العرب. ومن هنا ضرورة اعتبار الإسلام مقوِّمًا أساسيًّا للوجود العربي: الإسلام الروحي بالنسبة للعرب المسلمين، والإسلام الحضاري بالنسبة للعرب جميعًا مسلمين وغير مسلمين.(1/161)
إعادة تأسيس الفكر القومي على مبدأي الديمقراطية والعقلانية، بدل مبدأ العلمانية، وإحلال الإسلام المكانة التي يجب أن يحتلها في النظرية والممارسة، تلك من جملة الأسس التي يجب أن تنطلق منها عملية إعادة بناء الفكر القومي العربي، الفكر الذي يرفع شعار الوحدة العربية والوطن العربي الواحد من المحيط إلى الخليج(1)اهـ.
أبو المجد ينادي بإسقاط الدعوة إلى (العلمانية):
وما نادي به المفكر المغربي الدكتور الجابري من وجوب استبعاد شعار العلمانية من قاموس الفكر العربي المعاصر، نادى به كذلك من قِبَل مفكر مصري، هو الدكتور أحمد كمال أبو المجد، وذلك في ورقته التي قدمها في ندوة (الإسلام والقومية العربية)، التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية بالقاهرة، والتي شارك فيها عدد لا بأس به من الباحثين والمفكرين العرب من القوميين والإسلاميين.
قال أبو المجد:
(والقوميون العرب مطالبون فوق ذلك بإسقاط الدعوة إلى (علمنة القومية) وموضوع (العلمانية) موضوع دقيق ويحتاج إلى دراسة مستقلة. والعلمانية مصطلح نلح بشدة على تغييره والعدول عنه، لشدة غموضه أولًا، ولاشتماله على إيحاءات غير صحيحة تتعلَّق بالتقابل والتناقض بين الدِّين والعلم.
إن (العلمانية) تحمل في الواقع سلسلة من المعاني والمبادئ لعل من أهمها:
1. نفي الصفة الدِّينية عن السلطة السياسية في الدولة.
2. الفصل بين الدِّين والدولة.
ويجمع البعض هذين العنصرين في عبارة واحدة هي: (حياد الدولة تجاه الدِّين، كل دين، بحيث لا تلزم الدولة نفسها بأي معتقد ديني أو دين، ولا تخص أي دين باعتراف خاص به أو بعطف خاص به)(2).
__________
(1) - الدين والدولة للجابري فصل (بدلا من العلمانية: الديمقراطية والعقلانية) صـ108 - 114. طبعة مركز دراسات الوحدة العربية. بيروت. لبنان.
(2) - العروبة والعلمانية لجوزيف مغيزل. دار النهار للنشر. بيروت. 1980م.(1/162)
3. المساواة بين أتباع الأديان في المعاملة السياسية والإدارية والاجتماعية.
4. تطوير الأوضاع والأنظمة الاجتماعية على أساس عقلاني مستمد من التجربة والنظر العقلي، بعيدا عن النصوص والمبادئ الدِّينية.
إن فيما يسمى العلمانية عناصر لا نعتقد أنها تتعارض بالضرورة مع الإسلام، كاعتبار السلطة السياسية ذات أساس مدني مستمد من رضا المحكومين، ونفي الصفة الثيوقراطية عنها. وكالتسليم بحق أتباع الديانات المختلفة في ممارسة شعائرهم الدِّينية بحرية، إلا إذا صادمت ما يعرف بالنظام العام والآداب العامة. وهي فكرة ترتبط (بالدولة) ولا ترتبط (بالإسلام) ...
أما قضية فصل الدِّين عن الدولة، بمعنى إقصاء الدِّين عن أن يكون له دور في تنظيم أمور المجتمع، فإنها المكوِّن الرئيسي من مكونات (العلمانية) الذي لا يسع مسلما قبوله.
ودون توسع في عرض هذه المشكلة: نلاحظ مع كثير من الباحثين: أن الدعوة إلى (العلمانية) في إطار التوجه القومي، تخلق من المشاكل والصعاب أكثر كثيرا مما تحل وتحسم. إنها في الحقيقة تلبي حاجة واحدة، هي حاجة الأقليات المسيحية في الوطن العربي للشعور بالاطمئنان، وبالمساواة داخل المجتمع العربي المسلم، ولكنها:
أولاً: لا تنشئ موقفا حياديًا بين الأديان. إذ هي من وجهة نظر المسيحية تتفق تماما مع قاعدة (أعطوا ما لله لله وما لقيصر لقيصر) ... ولكنها تضع العربي المسلم في تناقض مع شمول الإسلام وتنظيمه الواضح -إجمالاً وتفصيلا- لأمور المجتمع. وبذلك تكون الدعوة إلى العلمانية -في الواقع- منحازة لرؤية الأقلية الدِّينية على حساب رؤية الأغلبية.
ثانيًا: إنها تستعير صيغة مستمدة من تاريخ الصراع بين الكنيسة والدولة في أوربا وتحاول فرضها على مجتمع لا يعرف تاريخه صراعا مشابها.(1/163)
إن الدعوة إلى (علمنة) القومية ... وعلمنة (الدولة) في هذا الوقت بالذات، مسلك بعيد تمامًا عن الحكمة، ما دام مصطلح (العلمنة، والعلمانية) يحمل في ثناياه هذه المكونات التي يتعارض بعضها مع أساسيات التصور الإسلامي العام.
إن إيجاد المخرج النفسي والاجتماعي للأقليات المسيحية في المجتمعات العربية لا يجوز أبدًا أن يتم من خلال صيغة تحمل كل هذه المحاذير، وتهدد بوضع التوجه القومي كله في صراع مع التوجه الإسلامي، الذي تتعاظم موجته، ويزداد أنصاره عددًا وقوة.
إن ملف (العلمانية) ينبغي أن يفتح، ومكوناتها تحتاج إلى تحديد وإعادة نظر، واستعمالها كمصطلح، والدعوة إليها: يحسن -فيما نرى- أن تتوقف)(1).
وبهذا اتفقت دعوة أبو المجد في المشرق، ودعوة الجابري في المغرب، على استبعاد شعار العلمانية من قاموس دعاة العروبة، لأنه يهدم أكثر مما يبني، ويثير من الإشكالات أكثر مما يقدم من حلول. ثم هو مرفوض أصلا من أغلبية الأمة، التي تراه متعارضا مع دينها وتراثها.
العقلانية والديمقراطية تتفقان مع جوهر الإسلام
رأينا اتفاق الدكتور أحمد كمال أبو المجد من المشرق العربي، والدكتور محمد عابد الجابري من المغرب العربي، على ضرورة تخلي دعاة القومية عن شعار العلمانية، الذي لم يعد له مبرِّر في حياتنا الحاضرة، ودعا كل منهما إلى ضرورة التنادي بأمرين أساسيين، لا تستطيع الأمة أن تنهض وتتقدم بغيرهما، وهما: العقلانية والديمقراطية.
وأنا أؤيدهما في هذه الدعوة المخلصة، بشرط أن نفسر بجلاء المقصود من كل منهما.
فما المراد بـ(العقلانية)؟ وما المراد بـ(الديمقراطية)؟
العقلانية المنشودة:
__________
(1) - انظر: القومية العربية والإسلام: بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية. بحث د. كمال أبو المجد (نحو صيغة جديدة للعلاقة بين العروبة والإسلام) صـ529 – 531.(1/164)
أما (العقلانية) فنحن نرحب بها، لكن هذه المصطلحات باتت لها (مفهومات) عند الغربيين، تختلف كثيرًا أو قليلاً عما ندركه نحن منها.
فالعقلانية عند الغربيين: اتجاه أو مذهب يعتمد على العقل وحده في فَهم اللون والإنسان والحياة في مقابل (الحسِّ) أو (التَّجرِبة)، فالعقليون لهم وجههم وطريقهم، والتجريبيون لهم وجههم وطريقهم.
وقد يكون هذا الاتجاه أو هذا المذهب في مقابلة الذين يعتمدون على مصادر أخرى، مثل الوحي عند الكتابيين (اليهود والنصارى والمسلمين)، ومثل الذين يعتمدون على الإلهام والذوق من الصوفية، والباطنية وغيرهم. فالعقلانية هنا تعني: المادية والحسية.
وقد تستعمل العقلانية في المذهب الذي يرى أنه لا يجوز الوثوق إلا بالعقل، ولا يجوز التسليم إلا بما يعترف به العقل بأنه منطقي وكاف وفقا للنور الطبيعي (الفطري). وهذا ما يقول به الدِّينيون، فلا يرون تعارضا بين العقل والوحي إذا ثبت الوحي بطريق النقل بصفة قطعية. وهنا يعطي فسحة للروح والحدس والشعور، أي للصوفية(1).
وقد تستخدم (العقلانية) في مقابلة الاتجاه إلى تصديق الخرافات والأوهام والشعوذة، وهذا ما يرحب به كل مؤمن وكل عاقل.
وإذا نظرنا إلى العقلانية عندنا -نحن العرب والمسلمين- نجد أن هذا اللفظ من الناحية اللغوية يسمى (مصدرًا صناعيًا) منسوبا إلى العقل، زيدت فيه الألف والنون، كما زيدت في نحو الربانية، نسبة إلى الرب، والروحانية نسبة إلى الروح.
ولم يستخدم هذا التعبير -فيما أعلم- في تراثنا، ولكن الاتجاه العقلي -بصفة عامة- معروف في تراث الأمة، عُرف به الفلاسفة، وعُرف به علماء الكلام عامة، والمعتزلة منهم خاصة.
وهناك فرق كبير بين الفلاسفة والمتكلمين -ومنهم المعتزلة- فالفلاسفة ينطلقون من مجرد العقل، والمتكلمون ينطلقون من العقل المؤمن بالدِّين.
__________
(1) - انظر: موسوعة لالاند: المجلد الثالث صـ1172، 1173 منشورات عويدات للطباعة والنشر. بيروت – باريس.(1/165)
على أن قولنا: أن الفلاسفة ينطلقون من مجرد العقل، قد يُعترض عليه معترضون كثيرون، فإنهم ينطلقون من العقل المؤمن بالفلسفة اليونانية، ولا سيما فلسفة أرسطو طاليس، الذي سمَّوه المعلم الأول، وأضفوا على مقولاته هالة من التقديس.
على أن مجال العقل في تراثنا مجال واسع، فالمتكلمون -حتى الأشاعرة والماتريدية منهم- يعتبرون العقل أساس النقل، فلولا العقل ما قام النقل ولا ثبت الوحي، ولا تأسَّس الدين. فبالعقل ثبتت أعظم قضيتين في الدِّين: قضية وجود الله تعالى، وقضية إثبات النبوة، فإثبات النبوة لا يتمُّ إلا بالعقل عن طريق الآيات البينات، التي يؤيد الله بها إلى رسله، ومنها: المعجزة.
والله سبحانه قد دلَّنا على نفسه بما بثَّ من آيات دالة في الأنفس والآفاق، ولا زال يُري خلقه من هذه الآيات ما يبهر العقول، ويبيِّن الحق: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53].
ولا تجد كتابا دينيا -غير القرآن- كرَّم العقل، وأشاد به، وحضَّ على الرجوع إليه، وذمَّ الذين يعطلونه بالجمود أو التقليد، أو اتباع الظنون والأهواء. كما حفل بكل المفردات من (عائلة العقل) مثل: التفكُّر والنظر والتدبُّر والاعتبار، والبرهان والحجَّة والحكمة والتعلُّم والتفقُّه والتذكُّر.
وإن كان مما يؤسف له: أن كثيرا من المسلمين في عالم اليوم غيَّبوا عقولهم، واستسلموا للأوهام أو الجهالات، أو ألقَوا عقولهم وغدَوا يفكرون بعقول الموتى.
والعقلانية التي ننشدها تعني: أن نعتمد على عقولنا في تسخير قوى الكون لصالحنا، والانتفاع بخيراته للنهوض بأمتنا، والخروج بها من سجن التخلف إلى باحة التقدم، واستخدام طاقات العلم ووثباته الهائلة، وثوراته الكبرى في خدمة أمتنا خاصة، والإنسانية عامة. وأن تكون هذه منهجية الأمة في تعليمها وثقافتها وإعلامها.(1/166)
وليس هذا جديدا على أمتنا، فقد شادت حضارة شامخة جمعت بين العلم والإيمان، وبين الإبداع المادي والسمو الروحي والأخلاقي، ولم يعرف في تاريخها صراع بين الدِّين العلم، بل كان الدِّين عندها علما، والعلم عندها دينا.
وقد شارك رجال كبار من علماء الدِّين في علوم الكون والطبيعة مثل: ابن رشد الحفيد، والفخر الرازي، وابن النفيس، وغيرهم.
وليس هذا بغريب على أمة يجعل دينها التفكير فريضة، والنظر في آيات الله في الآفاق والأنفس عبادة، ويعمل قرآنه على إنشاء العقلية العلمية، ويرفض الظن والهوى والتقليد في تأسيس الحقائق، وينادي بإقامة البرهان في كل دعوى(1). ويرى علماء الشريعة فيه: أن إتقان علوم الدنيا فرض كفاية على الأمة في مجموعها، مثل علوم الدِّين. فإن وجد بها عدد كاف في كل علم ديني أو دنيوي، يلبي الحاجة، ويغطي مطالب الخَلق، فقد رفع عنها الإثم والحرج، وإلا باءت الأمة كلها بالإثم.
سيادة الروح العلمية:
لقد كان مما عبته على الصحوة الإسلامية المعاصرة: غلبة العاطفة والغوغائية على كثير من فصائلها، وتغييب العقلانية والعلمية عنها. وقد كان من أبرز ما ناديت به لكي تنتقل الصحوة من المراهقة إلى الرشد: أن تنتقل من العاطفية والارتجالية إلى العقلانية والعلمية. ومما ركَّزت عليه في هذا المقام:
تأكيد ما ذكرته من قديم في كتابي: (الحل الإسلامي فريضة وضرورة) وبعد ذلك في كتابي: (أولويات الحركة الإسلامية) في فصل (فكر علمي) وهو: أن يسود (التفكير العلمي) و(الروح العلمية) مسيرتنا كلها.
__________
(1) - انظر: كتابنا (العقل والعلم في القرآن الكريم) فصل (تكوين العقلية العلمية في القرآن) صـ249- 282.(1/167)
نريد أن يسود: (التفكير العلمي)، وتسود (الروح العلمية): كل علاقاتنا ومواقفنا وشؤون حياتنا، بحيث ننظر إلى الأشياء والأشخاص والأعمال، والقضايا والمواقف: (نظرة علمية)، ونصدر قراراتنا الاستراتيجية والتكتكية، في الاقتصاد والسياسة والتعليم وغيرها: بعقلية علمية، وبروح علمية، بعيدًا عن الارتجالية، والذاتية، والانفعالية، والعاطفية، والغوغائية، والتحكمية، والتبريرية: التي تسود مناخنا اليوم، وتصبغ تصرفاتنا إلى حد بعيد. فمن سلم من أصحاب القرار من اتِّباع هواه الشخصي، أو هوى فئته وحزبه: كان أكبر همه اتِّباع ما يرضي أهواء الجماهير، لا ما يحقِّق مصالحها، ويؤمِّن مستقبلها، في وطنها الصغير، ووطنها الكبير، والأكبر.
و(للروح العلمية) دلائل ومظاهر أو سمات، كنت أشرت إليها، أو إلى أهمها في كتابي: (الحل الإسلامي فريضة وضرورة)، في مجال (النقد الذاتي) للحركة الإسلامية، يحسن بي أن أُذكِّر بها هنا، في مجال تأكيد حاجة الأمة إليها، وفي بعض الإعادة إفادة.
سمات الروح العلمية المطلوبة:
أبرز هذه السمات:
1. النظرة الموضوعية: إلى المواقف والأشياء، والأقوال، بغضِّ النظر عن الأشخاص، كما قال علي بن أبي طالب: لا تعرف الحق بالرجال، أعرف الحق تعرف أهله(1).
2. احترام الاختصاصات، كما قال القرآن: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43، الأنبياء:7]، {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} [الفرقان:59]، {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:14]. فللدِّين أهله، وللاقتصاد أهله، وللعسكرية أهلها، ولكل فن رجاله، وخاصة في عصرنا، عصر التخصص الدقيق، أما الذي يعرف في الدِّين، والسياسة، والفنون، والشؤون الاقتصادية والعسكرية، ويفتي في كل شيء: فهو في حقيقته لا يعرف شيئا.
__________
(1) - فيض القدير للمناوي : 1/17.(1/168)
3. القدرة على نقد الذات، والاعتراف بالخطأ، والاستفادة منه، وتقويم تجارب الماضي تقويما عادلاً، بعيدًا عن النظرة (المَنْقَبِيَّة): التي تنظر إلى الماضي عبى أنه كله مناقب وأمجاد! أو النظرة (التبريرية): التي تحاول أن تبرر كل خطأ أو انحراف، ولو بطريقة غير مقبولة، لا شرعا ولا وضعا.
4. استخدام أحدث الأساليب وأقدرها على تحقيق الغاية، والاستفادة من تجارب الغير حتى الخصوم، فالحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها: فهو أحق الناس بها(1). وبخاصة ما يتعلق بالوسائل والآليات، كالتقنيات ونحوها، فنحن في سَعَة من استخدامها: ما دامت تخدم مقاصدنا وغايتنا الشرعية.
5. إخضاع كل شيء -فيما عدا المُسلَّمات الدِّينية والعقلية: للفحص والاختبار، والرضا بالنتائج: كانت للإنسان أو عليه.
6. عدم التعجل في إصدار الأحكام والقرارات، وتبنِّي المواقف: إلا بعد دراسة متأنِّية مبنية على الاستقراء والإحصاء، وبعد حوار بنَّاء، تظهر معه المزايا، وتنكشف المآخذ والعيوب.
7. تقدير وجهات النظر الأخرى، واحترام آراء المخالفين في القضايا ذات الوجوه المتعددة، في الفقه وغيره، ما دام لكل دليله ووجهته، وما دامت المسألة لم يثبت فيها نص حاسم يقطع النزاع، ومن المقرَّر عند علمائنا: أن لا إنكار في المسائل الاجتهادية، إذ لا فضل لمجتهد على آخر، ولا يمنع هذا من الحوار البنَّاء، والتحقيق العلمي النزيه: في ظل التسامح والحب.
__________
(1) - إشارة إلى حديث: "الكلمة الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها"، وقد رواه الترمذي في العلم (2687) عن أبي هريرة، وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وابن ماجه في الزهد (4169)، وضعفه الألباني في ضعيف الترمذي (506).(1/169)
8. أن تتكون لدى أجيالنا خاصة: (العقلية العلمية)، التي حرصت تعاليم القرآن على إنشائها وتكوينها لدى المسلم. لا (العقلية العامية) الخرافية، التي تقبل كل ما يُلقى إليها، ولو كان من الأباطيل والأوهام(1).
وإذا كانت العقلانية مطلوبة في فَهم الحياة وسننها، فهي مطلوبة كذلك في فَهم الدِّين وأحكامه، فليس هناك دين منطقي يقوم على مخاطبة العقل، ويعلل أحكامه وتشريعاته، وأوامره ونواهيه، كدين الإسلام. وهو لا يتعارض فيه نقل صحيح مع عقل صريح. وما ظنه بعض الناس كذلك فهو مرفوض، ولا بد أن يكون ما حسب من العقل ليس بعقل في الواقع، أو ما حسب من الدِّين ليس بدين في الحقيقة.
وطالما نادينا علماء الأمة أن يركنوا إلى (فقه جديد) حثَّ عليه القرآن من قديم حين قال: {قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} [الأنعام:98]، {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام:65]، ووصف القرآن الذين كفروا بأنهم: {لا يَفْقَهُونَ} [الأنفال:65]، كما وصف المنافقين بقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الحشر:13]. والمراد بهذا الفقه: فقه سنن الله في الكون والمجتمع، وآياته في الأنفس والآفاق.
ونحن ندعو في فقه الدِّين فقها نيّرا صحيحا، إلى أنواع من الفقه لا بد منها، لتهتدي الأمة صراطا مستقيما.
منها: فقه مقاصد الشريعة، وعدم الوقوف عند ظاهر النص وحرفيته، ووجوب الغوص على الحكم والأسرار التي هدف النص إلى تحقيقها بما فيها مصالح العباد في الدنيا والآخرة(2).
__________
(1) - انظر: كتابنا (الصحوة الإسلامية من المراهقة إلى الرشد) فصل (من العاطفية والغوغائية إلى العقلانية والعلمية) صـ84 – 115 طبعة دار الشروق بالقاهرة.
(2) - راجع ما كتبناه في فصل (السياسة بين النص والمصلحة) صـ64 وما بعدها.(1/170)
ومنها: فقه المآلات، أي النتائج والآثار التي تترتب على الحكم أو التكليف، فقد ينتهي ذلك إلى المنع من أمر مباح، لما قد يؤدي إليه من مفسدة، كما يشير إليه قوله: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:108].
ومما نأسف له: أن هذا الفقه غاب عن بعض إخواننا من أهل العلم الشرعي، الذين شنوا عليَّ الغارة، حينما ذهبت مع وفد من العلماء والدعاة إلى دولة أفغانستان لمقابلة علماء (طالبان) لنقنعهم بترك تماثيل بوذا، التي صمموا على هدمها وإزالتها. وكان هدفنا: الدفاع عنهم قبل كل شيء، لا الدفاع عن التماثيل والأصنام، كما اتهمنا من اتهمنا بأننا جئنا لنحمي الأصنام، ولندافع عنها.
ونحن لم يكن همنا إلا الدفاع عن إخواننا، الذين عاداهم أهل الغرب، فأردنا إلا يستعدوا عليهم أهل الشرق، من أتباع بوذا، وهم بمئات الملايين. ولا سيما أن هذه الأصنام كانت موجودة عند الفتح الإسلامي وبعده بقرون، فلم يفكر أحد في إزالتها، أو تشويهها، ويسعنا ما وسعهم.
وقد اقترح بعض الصحابة على النبي - صلى الله عليه وسلم - : أن يقتل رأس النفاق في المدينة: عبد الله بن أُبَي ومن معه، ويستريح من شرهم وكيدهم، فكان جوابه: أخشى أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه!!
أي أنه خشي من حملة إعلامية يقودها خصومه، تشوه ما فعله الرسول، وتصوره بصورة سيئة تخوِّف الناس من محمد الذي لا يأمن أحد على نفسه عنده حتى أصحابه.
وهناك: فقه الموازانات، وفقه الأولويات، وفقه الاختلاف. وكلها ألوان ضرورية من الفقه المطلوب. وكلها توحي بتحرُّر الفكر الإسلامي والفقه الإسلامي من الجمود والتقليد، والتمسك بفتاوى وأحكام صنعها (العقل المسلم) لزمنه وبيئته وحل مشكلاته، فلم تعد تلزمنا اليوم، لتغير الزمان والمكان والإنسان.(1/171)
إن على الفقيه المسلم اليوم: أن ينظرفي الفقه الموروث(1)نظرة عميقة جديدة، ليتخير منه ما يلائم عصرنا ومحيطنا، ويعزل ما كان ابن مكانه وزمانه، وأن يقف مع الآراء المختلفة والمذاهب المتنوعة: وقفة الموازنة والمقارنة بين الأدلة: ليختار منها ما كان أقوم قيلا، وأهدى سبيلا، وأرجح دليلا، مراعيا مقاصد الشرع، ومصالح الخَلق، ولا يتعبد ببعض الأسماء والمصطلحات التي لم يعد لها قبول في عصرنا، مثل مصطلح (أهل الذمة) أو (الجزية) فالمدار على المسميات لا على الأسماء. وقد قال علماؤنا: العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني.
ولننظر فيما سماه الأقدمون (جهاد الطلب) وهو يقوم على التوسع والتوغل في أرض الأعداء، من باب ما يسمونه الآن: حرب الوقاية، فلم نعد في حاجة إليه اليوم، بعد ميثاق الأمم المتحدة، واتفاق العالم على احترام حدود الدول الإقليمية، والعمل على حلِّ مشاكل النزاع فيما بينها بالوسائل السلمية.
وإن قال بعضهم: إن المقصود بهذا الجهاد نشر الإسلام، فإنا نستطيع نشر الإسلام بوسائل غير عسكرية، مثل الإذاعات الموجهة، والقنوات الفضائية، والإنترنت وغيرها. فنحن في حاجة إلى جيوش جرارة من المعلمين والدعاة والإعلاميين المدربين على مخاطبة الأمم بألسنتها المختلفة ليبينوا لهم، وليس عندنا واحد من الألف من المطلوب منا!!
__________
(1) - انظر: كتابنا (شريعة الإسلام صالحة للتطبيق في كل زمان ومكان) فصل: (كيف نختار من تراثنا الفقهي؟) صـ79- 104. طبعة وهبة الخامسة 1997م.(1/172)
وعليه أن ينظر في الأمور المستجدة -وما أكثرها- في ضوء فقه الواقع، موازنا بين النصوص الجزئية والمقاصد الكلية للشريعة، فلا يهمل النصوص الجزئية، كما يدعو إلى ذلك العلمانيون والحداثيون، ولا يغفل المقاصد الكلية، كما يدعو إلى ذلك الحرفيون والجامدون. وليستنَّ بفقه الصحابة رضي الله عنهم، الذين كانوا أفقه الناس للإسلام، وأفهمهم لروحه، وأعرفهم بمقاصده، وأبصرهم بحاجات الناس، ومصالح العباد، وأكثرهم تيسيرا على الخَلق، مهتدين بالمنهج القرآني: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، و{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، وبالمنهج النبوي: "يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا"(1).
الديمقراطية المنشودة:
وإذا كنا نرحب بـ(العقلانية) كما أوجزنا في شرحها، فنحن نرحب أيضا بـ(الديمقراطية).
ونعني بالديقراطية في هذا المقام: الديمقراطية السياسية. أما الديمقراطية الاقتصادية، فتعني (الرأسمالية) بما لها من أنياب ومخالب، فإننا نتحفظ عليها. وكذلك الديمقراطية الاجتماعية التي تعني (الليبرالية) بما يُحمّلونها من حرية مطلقة، فإننا كذلك نتحفظ عليها.
__________
(1) - رواه البخاري في العلم (69) عن أنس، ومسلم في الجهاد والسير (1734)، وأحمد في المسند (13175)، وأبو داود في الأدب (4794).(1/173)
إن الرأسمالية (القارونية) مرفوضة عندنا، لأنها تقوم على فكرة الرأسمالي الذي يقول عن ماله: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص:78]، أو كما قال قوم شعيب له: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} [هود:87]، والفكرة الإسلامية أن الإنسان مستخلف في مال الله، {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7]، وأن المالك الحقيقي للمال هو الله، والغني أمين على هذا المال، وكيل عن مالكه الحقيقي، فملكيته مقيدة، عليها تكاليف وواجبات، وتقيدها قيود في الاستهلاك والتنمية والتوزيع والتبادل. وتفرض عليها الزكاة التي عدت من أركان الإسلام، كما يُمنع المالك من السرف والترف والكنز وغيرها.
وبهذه الوصايا والقوانين وأمثالها، نعلم أخطار الرأسمالية، حتى نحقق العدالة الاجتماعية، ونرعى الفئات الضعيفة في المجتمع من اليتامى والمساكين وأبناء السبيل، ونعمل على حسن توزيع المال {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر:7].
والليبرالية التي تعني (الحرية المطلقة) مرفوضة أيضا عندنا، فليس في الوجود كله حرية مطلقة، كل حرية في الدنيا لها قيود تحدها، من هذه القيود: حقوق الآخرين، ومنها: حق الفرد نفسه، ومنها: قيود دينية تتعلَّق بحق الله سبحانه، ومنها: قيود أخلاقية.
إن البواخر في المحيطات الواسعة مقيدة في سيرها بخطوط معروفة، تحددها الخارطة و(البوصلة). ومثل ذلك الطائرات في جو السماء، لا تذهب يمنة ويسرة، كما يشاء قائدها، بل له خط سير يجب أن يتبعه ولا يحيد عنه.(1/174)
الذي يعنينا من الديمقراطية هو الجانب السياسي منها، وجوهره أن تختار الشعوب من يحكمها ويقود مسيرتها، ولا يفرض عليها حاكم يقودها رغم أنفها. وهو ما قرَّره الإسلام عن طريق الأمر بالشورى والبيعة، وذم الفراعنة والجبابرة، واختيار القوي الأمين، الحفيظ العليم، والأمر باتِّباع السواد الأعظم، وأن يد الله مع الجماعة، وقول الرسول لأبي بكر وعمر: "لو اتفقتما على رأي ما خالفتكما"(1)، إذ سيكون صوتان أمام واحد.
ومن حق كل امرئ في الشعب أن ينصح للحاكم، ويأمره بالمعروف، وينهاه عن المنكر، مراعيا الأدب الواجب في ذلك. وأن يطيعه في المعروف، ويرفض الطاعة في المعصية المجمع عليها، أي المعصية الصريحة البينة، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
والذي يهمنا اقتباسه من الديمقراطية هو ضماناتها وآلياتها التي تمنع أن تزيف وتروج على الناس بالباطل. فكم من بلاد تحسب على الديمقراطية، والاستبداد يغمرها من قرنها إلى قدمها، وكم من رئيس يحصل على (99%) تسعة وتسعين في المائة، وهو مكروه كل الكراهية من شعبه.
__________
(1) - رواه أحمد في المسند (17994) عن عبد الرحمن بن غَنم، وقال محققوه: إسناده ضعيف لضعف شهر ابن حوشب، وحديث عبد الرحمن بن غَنم عن النبي مرسل، والطبراني في الأوسط (7/212) عن البراء ابن عازب، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني في الأوسط وفيه حبيب بن أبي حبيب كاتب مالك وهو متروك (9/38).(1/175)
إن أسلوب الانتخابات والترجيح بأغلبية الأصوات، الذي انتهت إليه الديمقراطية هو آلية صحيحة في الجملة، وإن لم تَخْل من عيوب، لكنها أسلم وأمثل من غيرها(1). ويجب الحرص عليها وحراستها من الكذابين والمنافقين والمُدلِّسين.
أما دعوى بعض المتدينين: أن الديمقراطية تعارض حكم الله، لأنها حكم الشعب، فنقول لهم: إن المراد بحكم الشعب هنا: أنه ضد حكم الفرد المطلق، أي حكم الديكتاتور، وليس معناها أنها ضد حكم الله، لأن حديثنا عن الديمقراطية في المجتمع المسلم، وهو الذي يحتكم إلى شريعة الله(2).
الديمقراطية وصلتها بالإسلام
ويحسن بنا بمناسبة حديثنا عن الديمقراطية: أن نذكر هنا موقف الإسلام من الديمقراطية، فقد رأينا الذين يتحدثون عن الديمقراطية وصلتها بالإسلام عدة أصناف متباينة:
1. الرافضون للديمقراطية باسم الإسلام:
صنف يرى أن الإسلام والديمقراطية ضدَّان لا يلتقيان، لعدة أسباب:
__________
(1) - من عيوب الأكثرية البرلمانية: أنها قد لا تكون معبِّرة عن أغلبية حقيقية، فقد تُعرض قضية يُطلب التصويت عليها في المجلس، فإذا كان معها 51% من الحاضرين، فقد رجحت وأقرت. فإذا نظرنا إلى الواقع: وجدنا الحزب صاحب الأغلبية في البرلمان، قد صوت على مشروع القرار في الحزب، وقد اختلف الأعضاء فيه، ولكن نجح القرار في الحزب بأغلبية 51%، ونظام الحزب يلزم أعضاءه جميعا -الموافقين والمخالفين- بالتصويت مع أغلبية الحزب. ومعنى هذا في النهاية: أن المصوتين الحقيقيين لا يزيدون عن الربع كثيرا، فإذا أدخلنا اعتبار الغائبين، كانت النسبة أقل وأقل، فإذا تصورنا أن النواب أنفسهم فازوا بنسبة 51% من مجموع الناخبين، وربما كانوا 30% أو أقل: عرفنا قيمة التمثيل الحقيقي للشعب. ومع هذا لا يوجد بديل أدنى إلى القبول من هذا!
(2) - انظر: فصل (الإسلام والديمقراطية) من كتابنا (من فقه الدولة في الإسلام) صـ130- 146 طبعة دار الشروق. القاهرة.(1/176)
أ أن الإسلام من الله والديمقراطية من البشر.
ب وأن الديمقراطية تعني حكم الشعب للشعب، والإسلام يعني حكم الله.
ت وأن الديمقراطية تقوم على تحكيم الأكثرية في العدد، وليست الأكثرية دائما على صواب.
ث وأن الديمقراطية أمر مُحدَث وابتداع في الدِّين، ليس له سلف من الأمة، وفي الحديث: "مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"(1)، و"مَن عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد"(2).
ج وأن الديمقراطية مبدأ مستورد من الغرب النصراني أو العلماني الذي لا يؤمن بسلطان الدِّين على الحياة، أو الملحد الذي لا يؤمن بنبوة ولا ألوهية ولا جزاء، فكيف نتخذه لنا إماما؟
على هذا يرفض هؤلاء الديمقراطية رفضا باتًا، وينكرون على مَن ينادي بها أو يدعو إليها في ديارنا، بل قد يتهمونه بالكفر والمروق من الإسلام. فقد صرَّح بعضهم بأن الديمقراطية كفر!
2. القائلون بالديمقراطية بلا قيود:
على عكس هؤلاء، آخرون يرون أن الديمقراطية الغربية هي العلاج الشافي لأوطاننا ودولنا وشعوبنا، بكل ما تحمله من معاني الليبرالية الاجتماعية، والرأسمالية الاقتصادية، والحرية السياسية.
ولا يقيد هؤلاء هذه الديمقراطية بشيء، وهم يريدونها في بلادنا، كما هي في بلاد الغربيين، لا تستند إلى عقيدة، ولا تحثُّ على عبادة، ولا تستمد من شريعة، ولا تؤمن بقِيَم ثابتة، بل هي تفصل بين العلم والأخلاق، وبين الاقتصاد والأخلاق، وبين السياسة والأخلاق، وبين الحرب والأخلاق.
وهذا هو منطق (التغربيين) الذين نادوا من قديم، بأن نسير مسيرة الغربيين، ونأخذ حضارتهم بخيرها وشرِّها، وحلوها ومرها(3)!
3. الوسطيون المتوازنون:
وبين هؤلاء وأولئك: تقف فئة الوسط التي ترى أن خير ما في الديمقراطية -أو قل: جوهر الديمقراطية- متفق مع جوهر تعاليم الإسلام.
__________
(1) - سبق تخريجه.
(2) - سبق تخريجه.
(3) - انظر: مستقبل الثقافة في مصرلطه حسين صـ54 طبعة دار الكتاب اللبناني. بيروت.(1/177)
جوهر الديمقراطية: أن يختار الناس مَن يحكمهم، ولا يُفرض عليهم حاكم يكرهونه ويرفضونه يقودهم بعصاه أو سيفه. وأن يكون لديهم من الوسائل: ما يقوِّمون به عوجه، ويردونه إلى الصواب إذا أخطأ الطريق، وأن تكون لديهم القدرة على إنذاره إذا لم يرتدع، ثم عزله بعد ذلك.
وإذا اختلف معه أهل الحل والعقد -أو مجلس الأمة أو الشعب أو مجلس النواب، سمِّه ما شئت- فإن كان في أمر شرعي: رُدَّ التنازع إلى الله ورسوله كما أمر القرآن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء:59]، وقد أجمع العلماء على أن المراد بالرد إلى الله: الرد إلى كتابه. وبالرد إلى رسول الله: الرد إلى سنته.
والذين يرجع إليهم في هذا هم الراسخون في العلم، الخبراء وأهل الذكر في العلم الشرعي: علم الكتاب والسنة والفقه وأصوله، الذين يجمعون بين فقه النصوص الجزئية وفقه المقاصد الكلية، والذين يجمعون بين فقه الشرع وفقه الواقع، أعني فقه العصر الذي يعيشون فيه وما فيه من تيارات ومشكلات وعلاقات، كما قال تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83].
وأما في أمور الحياة المختلفة: التي تدخل في دائرة المباحات، فعند الاختلاف في شأنها -كما هو شأن البشر في الأمور الاجتهادية- لا بد من مرجِّح، والمرجِّح هو الأغلبية، فإن رأي الاثنين أقرب إلى الصواب من رأي الفرد. وهناك أدلة شرعية على ذلك، لا يتسع المقام لسردها. فلتراجع في كتابنا (من فقه الدولة في الإسلام).(1/178)
ولا يعيب الديمقراطية أنها من اجتهادات البشر، فليس كل ما جاء عن البشر مذموما، كيف وقد أمرنا الله أن نُعمِل عقولنا، فنفكِّر وننظر، ونتدبَّر ونعتبر، ونجتهد ونستنبط؟ ولكن يُنظَر في هذا الاجتهاد: أهو مناقض لما جاء من عند الله أم لا يتعارض معه، بل يمشي في ضوئه؟ وقد رأينا الديمقراطية تجسِّد مبادئ الشورى، والنصيحة في الدِّين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتواصي بالحق والصبر، وإقامة العدل، ورفع الظلم، وتحقيق المصالح ودفع المفاسد ... وغيرها.
وما قيل من أن الديمقراطية تعني حكم الشعب، فليس يعني: أنه في مقابلة حكم الله، بل حكم الشعب في مقابلة حكم الفرد المطلق.
وما قيل: إنه مبدأ مستورد، فالاستيراد في ذاته ليس محظورا، إنما المحظور أن تستورد ما يضرك ولا ينفعك، وأن تستورد بضاعة عندك مثلها أو خير منها، ونحن نستورد من الديمقراطية: آلياتها وضماناتها، ولا نأخذ كل فلسفتها التي تغلو في تضخيم الفرد على حساب الجماعة، وتبالغ في تقرير الحرية ولو على حساب القِيَم والأخلاق، وتعطي الأكثرية الحق في تغيير كل شيء، حتى الديمقراطية ذاتها!!
نحن نريد ديمقراطية المجتمع المسلم، والأمة المسلمة، بحيث تراعي هذه الديمقراطية عقائد هذا المجتمع وقِيمه وأسسه الدِّينية والثقافية والأخلاقية، فهي من الثوابت التي لا تقبل التطور ولا التغيير بالتصويت عليها.
الشورى والديمقراطية:
وكثير من الذين يتحدثون عن الديمقراطية، وأن لها في أحكام الإسلام أصولا وجذورا: يركِّزون على قاعدة (الشورى) في الإسلام، ويعتبرون الشورى هي البديل الإسلامي للديمقراطية، وهي أيضا الدليل الشرعي للديمقراطية.
وفي رأيي أننا نستطيع أن ندعم القضية بأكثر من ذلك، وأن الشورى وحدها قد لا تكفي هنا لسببين:(1/179)
أولهما: أن هناك من الفقهاء من زعم أن الشورى ليست واجبة، وإنما هي من قبيل المندوبات والمستحبات، فهي من المكملات وليست من المؤسِّسات. خلافا لما قاله المحققون من أمثال العلاَّمة ابن عطية، وأقرَّه الإمام القرطبي في تفسيره: (الشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، ومَن لا يستشير أهل العلم والدِّين، فعزله واجب، وهذا ما لا خلاف فيه)(1).
وثانيهما: أن هناك من الفقهاء أيضا من قالوا: إن الشورى معلمة وليست ملزمة. وحتى من سلَّم أن الشورى واجبة وفريضة دينية، يقول: أن الواجب على الحاكم أو الإمام أن يستشير أهل الرأي والبصيرة والخبرة، حتى إذا استنار له الطريق، مضى في سبيله بما يراه وتحمَّل المسؤولية وحدة، مستدلين بقوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159].
ونحن لا نقر هذين الأمرين، ولنا رد على كل منهما مذكور في مواضعه من كتبنا، ولكن مجرد إثارتهما يضعف من الاعتماد على الشورى وحدها.
ورأيي أن الواجب علينا هنا: أن نضيف مبادئ أو مؤيدات أخرى تؤكذ شرعية الديمقراطية الحقيقية وقربها من جوهر الإسلام.
من هذه المؤيدات:
1. رفض سلطان الجبابرة والفراعنة:
أول هذه المبادئ المؤيدة لشرعية الديمقراطية، وحكم الشعوب لنفسها، واختيارها مَن يحكمها ويقودها: أن القرآن الكريم ينكر أبلغ الإنكار، بل يذم أبلغ الذم: الجبابرة الذين يتسلطون على الشعوب، ويحكمونها رغم أنوفها، ويقودونها طوعا أو كرها -بل غالبا ما يقودونها كرها- إلى ما يريدون.
__________
(1) - تفسير القرطبي (4/249) طبعة دار الكتب المصرية، وانظر: المحرر الوجيز لابن عطية الأندلسي (1/534).(1/180)
وفي هذا ذم القرآن مُلك صاحب إبراهيم -الذي يسمونه (نمروذ): {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ...} [البقرة:258].
وقد ذكر المفسرون: أنه جاء برجلين من عرض الطريق، فحكم عليهما بالإعدام، ثم نفذ الحكم في أحدهما وضربه بالسيف، وقال: ها أنا قد أمتُّه! وعفا عن الآخر، وقال: ها أنا ذا قد أحييته!
ومثل ذلك حكم فرعون الذي قال القرآن في شأنه: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4].
كما ذم القرآن تسلط الجبابرة في الأرض بصفة عامة، فقال: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [ابراهيم:15]، وقال: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر:35].
وذم كذلك الشعوب التي تسير في ركاب الجبابرة المستكبرين في الأرض وتنقاد لهم طائعة، كما قال عن فرعون: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} [الزخرف:54]، وقال عن ملأ فرعون أيضا: {فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ * يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} [هود:98،97].
وذم القرآن عادا قوم هود لتفريطهم في حريتهم وكرامتهم واتباعهم الجبابرة المتسلطين، فقال: {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [هود:59].(1/181)
وحكى القرآن نصيحة نبي الله صالح لقومه ثمود إذ قال لهم: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} [الشعراء:152،151،150].
وبهذا نرى أن من مبادئ القرآن وأهدافه: أن يحرر الأقوام والشعوب من تسلط الفراعنة والجبابرة المتألهين في الأرض، وأن يرفع جباههم فلا تسجد إلا لله الذي خلقهم، ويعلي رؤوسهم فلا تنحني إلا له سبحانه. فلا يحكم الناس ولا يقودهم نمروذ ولا فرعون، وإنما يقودهم رجل منهم، هم الذين يختارونه، وهم الذين يراقبونه ويحاسبونه، وهم الذين يعزلونه -عند انحرافه- ويسقطونه. كما قال أبو بكر الخليفة الأول في أول خطبة له بعد تولية الخلافة: إن رأيتموني على حق فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسدِّدوني، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم(1)اهـ.
2. اتباع الجماعة والسواد الأعظم:
وهناك نصوص شرعية، وأحاديث نبوية، تأمر المسلمين أن يكونوا مع الجماعة، فيد الله مع الجماعة، وأن يتبعوا السواد الأعظم، أي جمهور الناس، وأن يهتموا برؤية المؤمنين للأشياء والوقائع والأشخاص، فإن رؤيتهم معتبرة عند الله وعند الناس، كما قال الله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105]، فجعل رؤيتهم للعمل مقارنة لرؤية الله ورسوله.
__________
(1) - جزء من خطبة أبي بكر سبق تخريجها.(1/182)
ولذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: ما رآه المسلمون حسنا، فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحا، فهو عند الله قبيح(1)
وقال في آية أخرى: {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:35]، فجعل مقت الذين آمنوا وسخطهم بجوار مقت الله تعالى.
3. عدم قبول صلاة الإمام الذي يكرهه المأمومون:
ثبت عن رسول الله صلى عليه وسلم أنه قال: "ثلاثة لا ترتفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبرا (وهذا كناية عن عدم قبولها عند الله): رجل أمَّ قوما وهم له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وأخوان متصارمان"(2).
ومعنى هذا: أن الإمام في الصلاة يجب أن يكون ممن يحبهم المأمومون، وإذا أحسَّ بغير ذلك: يجب أن يتخلى عن هذه الإمامة، وإلا ارتدت صلاته عليه، أو بقيت معلقة لا تقبل عند الله.
فإذا كان هذا في الإمامة الصغرى، فكيف بالإمامة الكبرى! إمامة الأمة في شؤونها كلها، التي تشمل دينها ودنياها؟
__________
(1) - رواه أحمد في المسند (3600) عن ابن مسعود موقوفا، وقال محققوه: إسناده حسن، والطيالسي في المسند (1/33)، والبزار في المسند (5/212)، والطبراني في الكبير (9/112)، والحاكم في المستدرك كتاب معرفة الصحابة (3/83)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير ورجاله موثقون (1/428).
(2) - رواه ابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها (971) عن ابن عباس، وابن حبان في صحيحه كتاب الصلاة (5/53) وقال الأرناؤوط: إسناده حسن، والطبراني في الكبير (11/449).(1/183)
وفي الحديث الصحيح: "خيار أئمتكم: الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم (أي يدعون لكم وتدعون لهم)، وشرار أئمتكم: الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنوهم ويلعنونكم"(1)، فأساس الصلة بين الحاكم والمحكومين: هو الثقة والمحبة المتبادلة بينهم. لا التباغض ولا التلاعن، الملازم للحكم المستبد الذي يقوم على القهر والجبروت.
وأحيل القرئ الكريم إلى أن يقرأ ما كتبته عن الديمقراطية وصلتها بالإسلام في كتابي (من فقه الدولة في الإسلام)(2).
كلمتان مطلوبتان:
بقيت هنا كلمتان حول العلمانية يحسن بي أن أقولهما: كلمة حول ما سماه بعضهم (العلمانية الإسلامية)! وكلمة حول ما ادعي على الفقيه والفيلسوف الإسلامي ابن رشد الحفيد: أنه من دعاة العلمانية!!
العلمانية الإسلامية!!
ومن غرائب ما ذكره بعض الليبراليين الجدد، ممَّن يعيشون في أمريكا، ويدورون في فلكها الفكري والسياسي: ما يسمونه (العلمانية الإسلامية)!!
ولا أدري كيف تكون العلمانية إسلامية؟! هل يقبل أن نقول: الشيوعية الإسلامية؟!! أو (اللادينية الإسلامية)؟!!
إن العلمانية معناها: فصل الدِّين عن الدولة، بل فصل الدِّين عن حياة المجتمع، بحيث يبقى المجتمع معزولا عن الدِّين وتوجيهاته وتشريعاته، فهذا هو مفهوم العلمانية المعروف عند الناس في الشرق والغرب. فكيف يكون هذا المفهوم إسلاميا؟
هل يقر الإسلام على نفسه أن يُعزل عن توجيه الدولة والتشريع لها، بل عن حياة الناس والمجتمع كله، وتبقى الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بغير دين؟
__________
(1) - رواه مسلم في الإمارة (1855) عن عوف بن مالك، وأحمد في المسند (23981).
(2) - نشر دار الشروق بالقاهرة.(1/184)
تذكر (موسوعة العلوم السياسية) الكويتية: أن العلماني عكس الدِّيني، ويستخدم اصطلاحًا للإشارة إلى: مدخل للحياة ينفصل تمامًا عن الدِّين، ويتشكل كلية باهتمامات زمنية دنيوية. وهي على المستوى الشخصي تعني: استبعاد الحسِّ والشعور الدِّيني من نظرة الفرد إلى جميع الأمور التي تتعلَّق بحياته وعلاقاته وسلوكياته، ومعاملاته السياسية وغيرها.
والعلمانية على المستوى العام هي: المذهب الذي يؤمن بضرورة إبعاد المؤسسات والمضامين الدينية عن ممارسة أي تأثير في أي من مجالات الحياة! بما في ذلك التعليم والتشريع والإدارة(1).
وهكذا ترى جميع الباحثين من كل الاتجاهات يرون التناقض بين العلمانية والدِّين، لأن العلمانية هي (اللادين) فكيف تلتقي مع الدِّين؟!
يقول هذا المُدَّعي:
(
__________
(1) - انظر: موسوعة العلوم السياسية: مادة (العلمانية) فقرة (204) صـ298، 299.(1/185)
العلمانية الإسلامية مصطلح جديد نطرحه اليوم(1). وهو مصطلح مُفزع ومقلق لكثير من رجال الدِّين وبعض الليبراليين الرومانسيين. وهو مصطلح جديد في التسمية ولكنه قديم في التطبيق. نري أن العمل به الآن هو الدواء الناجع والواقعي والعملي للرد علي بعض رجال الدِّين من اتهام العلمانية والعلمانيين العرب بالإلحاد. ومن ذلك قول راشد الغنوشي من أن الطرح العلماني لعلاقة الدِّين بالدولة متأثر بالنمط الغربي ولا سيما في صورته الفرنسية والشيوعية المتطرفة (مبادئ الحكم والسلطة في الإسلام) وقول الشيخ يوسف القرضاوي من أن العلمانية إلحاد كما في كتابه (الإسلام والعلمانية وجهًا لوجه، 1987م).
فإذا أردنا الإصلاح العلماني السياسي علي وجه الخصوص، فليكن من داخل الإسلام وليس من خارجه. والعلمانية هي طريق الإصلاح. ولا طريق لعلمانية تطبيقية غير طريق العلمانية الإسلامية التي نجح في تطبيقها أول الحكام العلمانيين العرب المسلمين، وهو الخليفة معاوية بن أبي سفيان)(2).
وهذا القول الذي قاله الكاتب الذي يلقي الكلام على عواهنه دون تمحيص ولا تدقيق: مليء بالأخطاء، بل الأكاذيب.
__________
(1) - قائل هذا هو شاكر النابلسي الأردني الذي يعيش في أمريكا، والذي نصب نفسه محاميا عن سياسة أمريكا المتحيزة للصهيونية، وخصوصا سياسة اليمين المتطرف المتصهين، وعلى رأسه بوش، الذي يتصرف وكأنه يوحى إليه من السماء. ومقال الكاتب ملئ بالجهالات والافتراءات والمغالطات، ولأنه يعلم أن مقاله لا يكاد يقرأه أحد، يقول ما يشاء، فلن يعنى أحد بالرد عليه.
(2) - عن صحيفة (الراية) القطرية. الثلاثاء 14/3/2006م. ومما نأسف له أن تفتح الصحيفة أبوابها لمثل هذا الهراء.(1/186)
1. فقد ادعى عليَّ أني أقول: إن العلمانية إلحاد، ونسب ذلك إلى كتابي (الإسلام والعلمانية وجها لوجه) ومن قرأ ما كتبته في فقرة (العلمانية والإلحاد) وجد قولي صريحا: أن العلمانية لا تعني بالضرورة الإلحاد، فهو ليس من اللوازم الذاتية لفكرة العلمانية كما نشأت في الغرب. فإن الذين نادوا بها لم يكونوا ملاحدة ينكرون وجود الله، بل هم ينكرون تسلط الكنيسة على شؤون العلم والحياة فحسب ... الخ
كل ما قلتُه: أن المسلم العربي الذي يقبل العلمانية يكون في جبهة المعارضة للإسلام، وخصوصا فيما يتعلَّق بتحكيم الشريعة ... وقد تنتهي به علمانيته إلى الكفر إذا أنكر ما هو معلوم من الدِّين بالضرورة(1). وهذا غير ما يدعيه عليَّ الكاتب الأمريكاني!!
2. وزعم الرجل أن أول من نجح في تطبيقه العلمانية الإسلامية، هو معاوية ابن أبي سفيان، أول الحكام العلمانيين المسلمين في رأيه.
وهذا افتراء على معاوية، كما بينا ذلك في كتابنا (تاريخنا المفترى عليه) فكيف يقبل المجتمع المسلم في عصر الصحابة والتابعين: العلمانية، وهو في (خير القرون) التي أثنى عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ ولو رضي بذلك معاوية ما رضي بذلك المجتمع المسلم في ذلك العهد.
وإذا كان معاوية علمانيا، مخالفا لنهج الرسول وخيرة أصحابه، كما يزعم الكاتب، فكيف نتخذه أسوة لنا، وقد حرف الدِّين واتبع غير سبيل الراشدين؟! وكيف يكون الفلاح في هذا المنهج المنحرف؟؟
__________
(1) - انظر: كتابنا (الإسلام والعلمانية وجها لوجه) صـ63 - 64.(1/187)
3. ولم يكتف هذا الرجل بالكذب على معاوية، فقد كذب على عثمان، الخليفة الثالث، صهر رسول الله، والمبشر بالجنة، وأحد السابقين الأولين من المهاجرين، الذين أثنى عليهم القرآن في سورة التوبة(1)، وأحد الباذلين في سبيل نصرة الإسلام. واتهمه الكاتب بالعلمانية، وأنه كان يعذب المعارضين لسياسته مثل أبي ذر الذي نفاه إلى الربذة، وكتب التاريخ تقول: أن أبا ذر هو الذي طلب منه ذلك. واتهمه أيضا بأنه هو الذي صنع تاج بني أمية، ووضعه على رأس معاوية، الذي أكمل علمانية عثمان وزاد عليها.
4. وأكثر من ذلك: أن هذا الكاتب تطاول على الرسول الكريم نفسه، وزعم أنه وزع غنائم حنين على أهله وعشيرته وحرم الأنصار، أي اتهمه بالمحاباة والظلم، وجعل من قبيلته قريش صاحبة الحق الوحيدة في الخلافة عندما قال: "الأئمة منا أهل البيت" (لم يصح ذلك عنه)، وكذلك: "الأئمة من قريش". انتهى.
وهذا كلام غير دقيق عن رسول الله، فهو لم يعط أحدا من أهله وعشيرته من بني هاشم، أو بني عبد مناف، بل أعطى بعض الناس من قريش كما أعطى غيرهم من قبائل العرب كغَطَفَان وفَزَارَة وغيرهم، من باب تأليف القلوب، وهو ما جعله القرآن مصرفًا من مصارف الزكاة.
__________
(1) - في قوله تعالى: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه} [التوبة:100]، ولا خلاف أن عثمان من هؤلاء السابقين الذين لم يكتف القرآن بالثناء عليهم، بل أثنى على من اتبعهم بإحسان، وأعلن رضا الله عنهم، ورضاهم عن الله ... إلى آخر الآية.(1/188)
أما حديث: "الأئمة من قريش" فقد اشتهر بين العلماء، ولكن الشهرة لا تعني دائما: الصحة، ومما يشكِّك في ثبوته: أنه لو كان معروفا لدى الأنصار، ما قال قائلهم يوم السقيفة: منا أمير ومنكم أمير. وهم ليسوا من قريش، ولو كان معروفًا لدى المهاجرين، لردَّ به عليهم أبو بكر، وكفى به حجَّة لو صحَّ. ولكنه لجأ إلى ترجيح المهاجرين باعتبارات اجتماعية، كقوله: إن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش!
وعلى كل حال لم يرد الحديث في الصحيحين ولا أحدهما، وإنما ورد بأسانيد لم يسلم سند فيها من مقال، وإنما صحَّحه من صحَّحه بكثرة طرقه وشواهده. كما قال محققو المسند في تخريج الحديث (12307) عن أنس: إن إسناده ضعيف لجهالة راويه: بكير بن وهب الجزري ... ولكن صحَّحوه بكثرة طرقه الضعيفة!
ورأيي: أن الأحاديث الخطيرة التي تقرِّر مبادئ وأصولاً هامة للحياة الإسلامية، لا يجوز أن يقبل فيها ما كان ضعيفا بأصله، وإنما صُحِّح بكثرة طرقه، ولا سيما أن الأئمة المتقدمين مثل: ابن مهدي وابن المديني وابن معين والبخاري وغيرهم، ما كانوا يعتمدون على كثرة الطرق هذه، إنما اشتهرت بين المتأخرين.
وهذا الحديث بألفاظه المختلفة هو عمدة القائلين باشتراط القرشية في نسب الإمام أو الخليفة، وخالف في ذلك الخوارج وبعض المعتزلة وغيرهم. وزعم بعضهم أنهم خالفوا الإجماع في ذلك.
وردَّ عليهم ابن حجر بأنه عَمِل بهذا القول: من قام بالخلافة من الخوارج على بني أمية كقَطريّ، ودامت فتنتهم أكثر من عشرين سنة، حتى أبيدوا، وكذا من تسمى بأمير المؤمنين من غير الخوارج كابن الأشعث، ثم من قام في قطر من الأقطار في وقت ما فتسمى بالخلافة، وليس من قريش، كبني عبَّاد وغيرهم بالأندلس، وكعبد المؤمن وذريته، ببلاد المغرب كلها، وهؤلاء ضاهَوا الخوارج في هذا، ولم يقولوا بأقوالهم، ولا تمذهبوا بمذهبهم، بل كانوا من أهل السنة الداعين إليها.(1/189)
قال عِياض: اشتراط كون الإمام قرشيا مذهب كافة العلماء، وقد عدُّوها في مسائل الإجماع، ولا اعتداد بقول الخوارج وبعض المعتزلة.
قال ابن حجر: ويحتاج من نقل الإجماع إلى تأويل ما جاء عن عمر، فقد أخرج أحمد عنه بسند رجاله ثقات، أنه قال: إن أدركني أجلي وأبو عبيدة حي استخلفته، فإن أدركني أجلي بعده استخلفت معاذ بن جبل(الحديث رقم: 108). ومعاذ أنصاري لا قرشي، فيحتمل أن يقال: لعل الإجماع انعقد بعد عمر أو رجع عمر. (فتح الباري:13/119). على أن هذا الإجماع لو صح قد يكون سنده ارتباط المصلحة في ذلك الزمن بكون الخليفة من قريش، لِمَا كان لهم من المكانة والغلبة على غيرهم من العرب، أي أنهم أهل الحماية والعصبية، كما شرح ذلك ابن خلدون في مقدمته، والإجماع إذا كان سنده مصلحة زمنية لا يكون حجَّة مُلزِمة على وجه الدوام.
ولهذا نرى أن دعوى الكاتب فيما سمَّاه (العلمانية الإسلامية) لا أساس لها من العلم أو الدين أو التاريخ.
ولو دعا هذا الكاتب إلى (العلمية) لنتخذها منهاجا للأمة بدل الغوغائية والارتجالية، والعشوائية، لكنا أول المرحبين بذلك. وقد دعونا إلى ذلك في كثير من كتبنا(1). أما الدعوة إلى العلمانية، ووصفها بـ(الإسلامية) فهو قول ينقض آخره أوله، ولا يقوم على أساس، وهو كما يقول الله تعالى: {ومِنَ النَّاس مَنْ يُجادِلُ في اللهِ بغَيرِ عِلْم ولا هُدًى ولا كِتَاب مُنِير * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عن سَبِيل الله} [الحج:8،9].
ابن رشد والعلمانية:
__________
(1) - انظر على سبيل المثال: كتابنا (الصحوة الإسلامية من المراهقة إلى الرشد) فصل: من العاطفة والغوغائية إلى العقلانية والعلمية صـ84 - 115 وانظر: كتابنا (العقل والعلم في القرآن الكريم) وكتابنا (الرسول والعلم).(1/190)
ومن أغرب ما قرأت من دعاوي العلمانيين والحداثيين: ادعاؤهم أن العلامة الكبير أبا الوليد بن رشد الحفيد (ت595هـ) كان علمانيا!! لأنه كان يؤمن بأن هناك حقيقتين في الوجود: حقيقة عقلية تتضمنها الفلسفة، وحقيقة دينية جاء بها الوحي، وأن لكل منهما مجاله وأهله. ولهذا حاربه الفقهاء، ووجد من السلاطين ورجال المُلك من أمر بإحراق كتبه.
وهذه إحدى دعاوى القوم الذين لم يحسنوا قراءة ابن رشد، ولم يستوعبوا تراثه، ولم يعرفوا ماذا كان عمله في المجتمع.
لقد جهل هؤلاء أن ابن رشد يعرف بـ(القاضي ابن رشد)، أي أن الدولة وظفته قاضيا يحتكم إليه الناس، فيحكم بينهم بأحكام الشريعة. وأن هذا الرجل كان من الموسوعيين القلائل الذين عرفهم تاريخنا، فقد اجتمعت له:
(الثقافة الشرعية) التي مثلها كتابه الفريد (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) وهو يعد من أعظم ما كتب في الفقه المقارن بين المذاهب المتبوعة. وقد درس الفقه عن أبيه وجده سميه (ابن رشد الجد) صاحب المقدمات والبيان والتحصيل، وأحد العقول الكبيرة في الفقه المالكي.
و(الثقافة الفلسفية)، فهو يعد أعظم شراح أرسطو، ومن خلال شروحه عرفت أوربا أرسطو، واستفادت بذلك في نهضتها. وله كتابان من أعظم ما كتب فيما يسمى (الفلسفة الإسلامية) وهما: فصل المقال، وكشف الأدلة عن مناهج أهل المِلَّة.
و(الثقافة العلمية) الطبية، فقد كان له كتاب (الكليات) في الطب، الذي ترجم إلى اللاتينية، وانتفعت به أوربا قرونا، وله رسائل أخرى في المجال العلمي(1).
__________
(1) - منها: شرح الأرجوزة لابن سينا في الطب، وشرح كتاب السماء والعالم لأرسطو، وشرح كتاب النفس، والحيوان، والكليات في الطب، وغيرها.(1/191)
ولم يكن يجد ابن رشد في هذه الثقافات تعارضا ولا تناقضا، بل رآها يغذي بعضها بعضا، ويكمل بعضها بعضا، ولم يثر ابن رشد الفيلسوف على ابن رشد الفقيه، ولا العكس. ولم يقل يوما: إن هناك حقيقتين مختلفتين أو متعارضتين: إحداهما فلسفية، والأخرى شرعية، بل كان يراهما حقيقة واحدة، لأن الحق لا يعارض الحق، والحقائق القطعية لا تتناقض، ولذا عني أن يدلل على ذلك، بكتابه (فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من اتصال).
وحينما كفر الإمام أبو حامد الغزالي الفلاسفة في ثلاث قضايا، وخطأهم في سبع عشرة: في كتاب (تهافت الفلاسفة) حاول ابن رشد أن يدافع عن الفلاسفة، ويرد على الغزالي في كتابه (تهافت التهافت)، الذي يثبت فيه أن الفلاسفة المسلمين، ولا سيما (المشَّائين) منهم، مثل الكندي والفارابي وابن سينا، ليسوا كفارا، وإنما هم مسلمون. واجتهد أن يتأول مقولاتهم على وجه لا يخرجهم من الإسلام.
إن اتهام القاضي الفقيه ابن رشد بأنه (علماني) غلط واضح، وجهل فاضح، وجهالة فجَّة من جهالات الذين يقحمون أنفسهم على التراث، ولم يبذلوا يوما جهدا في هضمه وحسن فَهمه، ورد بعضه إلى بعض، وبخاصة تراث العباقرة والأفذاذ من أمثال الغزالي وابن رشد وابن تيمية وابن الوزير والشاطبي وابن خلدون وغيرهم.
كل ما في الأمر: أن جماعة من حساد ابن رشد كادوا له عند الأمير الذي كان يجله ويقدمه، زوروا عليه أشياء لم يقلها، فصدقهم الأمير وغضب على ابن رشد، وأمر بإحراق كتبه، كما أحرقت كتب الغزالي في وقت من الأوقات.
ولكن الرجل مشهود له من أهل عصره وأهل بلده، بالعلم والفضل وحسن السيرة والأمانة والنبوغ في العقليات والشرعيات. ونقل الذهبي عن ابن الأبَّار في (تكملته) أنه قال: لم ينشأ في الأندلس مثله كمالا وعلما وفضلا، وكان متواضعا منخفض الجناح.(1/192)
وقالوا: كان يفزع إلى فتواه في الطب، كما يفزع إلى فتواه في الفقه. ولي قضاء قرطبة فحمدت سيرته(1).
(10)
حرمان الإسلاميين من تأسيس حزب سياسي
ومما يتصل بقضية الدِّين والسياسة: ما انتهجته بعض الأنظمة الحاكمة وحرض عليه العلمانيون، أو رحبوا به، من حرمان الاتجاهات الإسلامية من تأسيس حزب سياسي، وتحريم ذلك عليهم تحريما مطلقا، متذرعين بحجج ليست في الواقع إلا شبهات واهية أوهن من بيت العنكبوت.
1. قالوا -أولا- إن الدِّين أطهر وأنقى وأعلى من أن يتدنس بالسياسة، لهذا لا يجوز إنشاء حزب سياسي على أساس الدِّين.
2. وقالوا -ثانيا- إن هذا الحزب لو سمح له أن ينشأ، سيزعم أنه يحكم بالحق الإلهي، وباسم السماء، فلا يجوز لأحد أن ينقده أو يعارضه، وإلا كان كافرا أو فاسقا.
3. وقالوا -ثالثا- إننا لو سمحنا للإسلاميين بتكوين حزب إسلامي، لا بد في بلد كمصر: أن تسمح للأقباط بتكوين حزب مسيحي. وهذا سيكون مدعاة لإثارة الفتن الطائفية، التي لا تؤمن عواقبها.
4. وقالو -رابعا- إن الحزب الإسلامي سيستخدم المساجد للدعاية السياسية، في حين لا يستخدمها غيره.
وهذه كلها مردود عليها، ولا تثبت على محكِّ النقد.
1. فاعتقاد أن السياسة دنس ورجس من عمل الشيطان: اعتقاد لا أساس له من الدِّين ولا من العلم.
وإذا كانت السياسة عمل العقل في تدبير شؤون الخَلق بما يصلحهم ويرقى بهم في ضوء الشريعة، أو كما عرفها بعضهم: كل عمل يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، فليست في ذاتها دنسا ولا رذيلة ولا حراما ولا رجسا، إنما الدنس في نفوس الذين يستغلون السياسة للإثراء الحرام، والإفساد في الأرض، والطغيان على عباد الله.
وكم رأينا من الساسة والقادة من أقام العدل، وأيد الحق، ودعا إلى الخير، وأحيا الله به البلاد، وأصلح به العباد.
__________
(1) - سير أعلام النبلاء للذهبي (21/207 - 210).(1/193)
2. ودعوى أن الحزب الإسلامي سيزعم أنه يحكم بالحق الإلهي، ويتكلم باسم السماء: دعوى غير صحيحة ولا صادقة. والحزب الإسلامي لا يرخص له بتكوين حزبه إلا بعد أن يقدم برنامجه، ويحدد فيه رؤيته ورسالته، ويبين أهدافه ووسائله، ومناهجه في إصلاح المجتمع من نواحيه المختلفة (اقتصادية واجتماعية وثقافية وتربوية وسياسية وأخلاقية ... إلخ) فإذا كان في هذا البرنامج دعوى الحكم بالحق الإلهي: رفض طلبه. وإن كان شأنه شأن غيره من الأحزاب يعمل في ظل الدستور، ويستمد مرجعيته من الشريعة الإسلامية السمحة، مقرونة بالاجتهاد والتجديد، المرتبط بفقه المقاصد والموازنات والأولويات، فليس من حقنا أن نُقوِّله ما لم يقل، ونرميه بتهمة ليس عليها دليل ولا برهان.
إن علي بن أبي طالب سمح لجماعة الخوارج المعارضين لحكمه: أن يكون لهم وجودهم الحزبي والسياسي، مع أفكارهم المعارضة، بشرط أن لا يبدأوا المسلمين بقتال.
3. ودعوى أن إعطاء الإسلاميين حق تكوين حزب: يفتح الباب لمطالبة الأقباط بحزب لهم: دعوى مرفوضة أيضا، فما المانع أن يكون للأقباط حزب سياسي يعمل في وضح النهار، بدل أن يتهمهم من يتهمهم بأنهم يعملون بالسياسة من خلال الكنيسة، بدون حزب مرخص.
4. وادعاء أن الحزب الإسلامي سيستخدم المساجد للدعاية السياسية: ليس مُسلما، فالمسجد ليس للإسلاميين وحدهم، إنما هو مسجد المسلمين جميعا. ويجب أن يتجنب المسجد الدعاية للأشخاص، والمهاترات الحزبية والشخصية.
لكن لا نستطيع أن نمنع المساجد وخطباءه أن يؤيد من يتبنى الشريعة الإسلامية، وأن يرفضوا من رفضها، دون تحديد ولا تعيين. فهذا من باب النصيحة في الدين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي تميزت به هذه الأمة.
وأخشى أن يزيد العلمانيون في دعاواهم لحرمان الإسلاميين من حزب سياسي: أنهم يستدلون بآيات القرآن وأحاديث الرسول، التي تؤثر في جماهير الشعب، على حين لا يستطيع خصومهم أن يفعلوا ذلك.(1/194)
هذا، مع أن القرآن فرآن الجميع، والرسول رسول الجميع، ولا يقدر أحد أن يمنع أي مسلم من استعمال الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في تأييد وجهته، ما دام يضعها في موضعها الصحيح.
على أن هذه الدعاوى قد سقطت من الناحية العملية، فهناك عدد من البلاد فيها أحزاب إسلامية: في الأردن، وفي المغرب، وفي اليمن، وفي فلسطين، وفي تركيا، وفي ماليزيا، وفي إندونسيا، وفي غيرها، وقد خاضت معارك الانتخابات، وحصلت على نسبة كبيرة من المقاعد، ولم يشتك الشاكون من وقوع هذه الاتهامات التي ألصقوها جزافا بالحزب السياسي الإسلامي.
إضاءات ضرورية:
وأود أن أذكر بعض الإضاءات في هذه القضية:
الأولى: أنه لا يجوز أن يحرم بعض المواطنين من حقهم في المشاركة السياسية في بناء وطنهم وإصلاحه وتطويره، لمجرد أنهم متدينون، أو لأن لهم رؤية في الإصلاح والتغيير منبثقة عن دينهم وتراثهم.
وقد أعطينا الحق للتيارات المختلفة لإنشاء أحزاب سياسية: العلمانيين والليبراليين والقوميين والشيوعيين وغيرهم، فلماذا يحرم الإسلاميون من هذا الحق دون غيرهم؟
إن هذا يخالف الدستور الذي قرَّر المساواة بين جميع المواطنين، وهذه تفرقة لا مبرِّر لها.
وهو أيضا مخالف للمواثيق الدولية، وميثاق حقوق الإنسان، وغيرها.
الثانية: أنهم يقولون: لا يجوز تكوين أحزاب دينية، والإسلاميون لا يريدون إنشاء حزب ديني، بل حزب إسلامي. وفرق بين الدِّيني والإسلامي. فالدِّين في عرف الناس يعني الجانب العقدي والتعبدي والروحي، أما الإسلامي فهو أشمل وأجمع، وهو يضم الاقتصاد والسياسة والثقافة والتربية والإدارة ... إلخ.
ولا مانع لدى الإسلاميين أن يدخل في هذا الحزب أشخاص من غير المسلمين، لأن برنامجهم للجميع لا للمسلمين وحدهم.
الثالثة: أن الأحزاب السياسية تمثل قوى شعبية سياسية موجودة على أرض الواقع، من حقها أن يكون لها رأي في سياسة بلدها.(1/195)
والإسلاميون قوة سياسية موجودة وبارزة، وظاهرة التأثير، ومسموعة الكلمة.
وقد أثبتت الانتخابات في أكثر من بلد: أنها القوة الأولى المؤيَّدة من جماهير الشعوب في منطقتنا.
فكيف يمكن تجاهلها، وإهالة التراب عليها حية، {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8،9]، في حين يعطى حق الشرعية لأحزاب لا يكاد يسمع لها صوت، أو يحس لها بأثر؟!
(11)
الأقليات الإسلامية والسياسة
ما قلناه في الفصول السابقة يتعلَّق بـ(الدِّين والسياسة) بصفة عامة، أي في البلاد التي يسميها الفقهاء (دار الإسلام) ويكون المسلمون فيها أغلبية لهم الحق في أن يعيشوا في ظل الإسلام، توجههم عقيدته، وتحكمهم شريعته، وتسودهم مفاهيمه وقيمه وأخلاقه وتقاليده.
الوجود الإسلامي في الغرب:
بقي هنا كلمة لا بد منها حول ما ينبغي للأقليات المسلمة في المجتمعات غير الإسلامية أن تفعله، وهذه الأقليات المسلمة هي التي تُمثل الوجود الإسلامي في البلاد غير الإسلامية، ولا سيما في بلاد الغرب.
وأبادر فأقول: أن من الخير للمسلمين، ومن الخير للغربيين: أن يكون هناك وجود إسلامي في الغرب، يتعامل الغربيون معه مباشرة دون وسيط، على خلاف ما يراه بعض المتشددين من المسلمين: أنه لا يجوز الإقامة في هذه البلاد (بلاد الكفر كما يسميها)، كما لا يجوز الحصول على جنسيتها، التي يعتبرها من كبائر الإثم.(1/196)
ولقد عقدت في فرنسا منذ بضعة عشر عاما: ندوة فقهية علمية حضرها عدد من كبار العلماء(1)، وكان لي شرف المشاركة فيها، ناقشنا فيها هذه القضايا: مثل الإقامة في ديار الغرب، والحصول على جنسيتها، وكان رأي الأغلبية إجازة ذلك بشروطه(2)، وأن هذا يتفق مع عالمية الرسالة الإسلامية، ويتفق مع تقارب العالم الذي أمسى قرية واحدة، ويتفق مع مسعى العقلاء من الغربيين: المسلمين والغربيين إلى التفاهم والتقارب وإزالة الجفوة، والتحرُّر من رواسب التاريخ، والعمل على إقامة تعايش مشترك، يقوم على التسامح لا التعصب، والتعارف لا التناكر، والحوار لا الصدام، والتعاون لا التشاحن.
والحمد لله أن قام الوجود الإسلامي في الغرب بأقدار إلهيَّة، وأسباب طبيعية، يسَّرت وجوده، دون تخطيط ولا ترتيب منا نحن المسلمين، فينبغي لنا أن نعمل على أن يكون هذا الوجود الإسلامي همزة الوصل بيننا وبين الغربيين، تعين على تواصل المسلمين بغيرهم، وتمحو الأفكار الخاطئة الراسبة في أذهان البعض منهم، وتردُّ على الشبهات التي قد تَعرض لهم.
__________
(1) - كان في هذه الندوة: العلاَّمة الشيخ مصطفى الزرقا، والشيخ عبد الفتاح أبو غدة، والشيخ عبد الله بن بيَّة، والشيخ منَّاع القطان، والشيخ فيصل مولوي، والشيخ محمد العجلان، والشيخ سيد الدرش، وغيرهم.
(2) - ومن شروط ذلك: أن يأمن المسلم على نفسه وذريته في دينه وهُويته، بحيث لو شعر بخطر على ذلك، وجب عليه أن يعود من حيث أتى، حفاظًا على دينه ودين أولاده، الذي هو أغلى من كل ما يحرص الناس عليه.(1/197)
وهذا ما يقوم به المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث منذ تأسيسه إلى اليوم، في فتاواه التي يصدرها، وتوصياته التي يوجهها، وبياناته التي يعلنها في كل دورة من دوراته، ينصح فيها المسلمين في الغرب: أن يكونوا أقليَّة فاعلة ناشطة مؤدِّية لواجباتها، خادمة لمجتمعاتها، غير مُنعزلة عنها، ولا مُنسحبة منها، ومن قرأ فتاوى المجلس وقراراته وتوصياته وبياناته خلال الدورات التي عقدها: تبيَّن له بجلاء صحة ما نقول.
ولقد رددت على بعض المتشددين من العلماء والدعاة الذين يرفضون الوجود الإسلامي في الغرب، وفي غيره من البلاد المختلفة التي يعيش فيها غير المسلمين، في الشرق والغرب، سواء كانوا من أهل الكتاب كالمسيحين، أم من الوثنيين، مُنبِّها هنا إلى أمر مهم، وهو: أن الوجود الإسلامي لكثير من الأقليات، هو وجود أصلي، أعني: أنهم من أهل البلاد الأصليين، وليسوا طارئين ، مثل الأقليات الإسلامية في الهند والصين وتايلاند وبورما وغيرها من بلاد آسيا، ومثل كثير من الأقليات الإسلامية في عدد من أقطار إفريقيا.
(أعتقد أن من الضروري للإسلام في هذا العصر أن يكون له وجود في تلك المجتمعات المؤثرة على سياسة العالم.
الوجود الإسلامي ضرورة في أوربا والأمريكتين وأستراليا من عدة أوجه:
ضرورة تبيلغ الإسلام، وإسماع صوته، ودعوة غير المسلمين إليه. بالكلمة والحوار والأسوة.
وهو ضرورة لحضانة مَن يدخل في الإسلام ومتابعته وتنمية إيمانه، وتهيئة مناخ إسلامي يساعد على الحياة الإسلامية الصحية.
وهو ضرورة لاستقبال الوافدين و(المهاجرين) حتى يجدوا لهم (أنصارا) يحبون مَن هاجر إليهم، ويهيئون لهم جوًّا يتنفسون فيه الإسلام.
وهو ضرورة للدفاع عن قضايا الأمة الإسلامية، والأرض الإسلامية، في مواجهة القوى والتيارات المعادية والمضللة.
ولا بد أن يكون للمسلمين تجمعاتهم الخاصة في ولايات ومدن معروفة، وأن تكون لهم مؤسساتهم الدينية، والتعليمية، بل والترويحية.(1/198)
وأن يكون لهم علماؤهم وشيوخهم، الذين يجيبونهم إذا سألوا، ويرشدونهم إذا جهلوا، ويوفقون بينهم إذا اختلفوا.
محافظة دون انغلاق، وانفتاح دون ذوبان:
وقد قلتُ للإخوة في ديار الغربة: حاولوا أن يكون لكم مجتمعكم الصغير داخل المجتمع الكبير، وإلا ذُبتم فيه كما يذوب الملح في الماء.
اجتهدوا أن يكون لكم مؤسساتكم الدِّينية، والتربوية، والثقافية، والاجتماعية، والتروحيَّة، وهذا لا يتمُّ إلا بالتحابِّ والتعاون، فالمرء قليل بنفسه، كثير بإخوانه، ويد الله مع الجماعة.
إن الذي حافظ على شخصية اليهود طوال التاريخ الماضي هو مجتمعهم الصغير المتميز بأفكاره وشعائره، وهو (حارة اليهود)، فاعملوا على إيجاد (حارة المسلمين).
لا أدعو إلى انغلاق على الذات، وعزلة عن المجتمع، فهذا والموت سواء، ولكن المطلوب هو انفتاح دون ذوبان، هو انفتاح صاحب الدعوة الذي يريد أن يفعل ويؤثر، لا المُقلد المستسلم الذي غدا كل همه أن يساير ويتأثر، ويتبع سَنن القوم شبرا بشبر، وذراعا بذراع!
إننا نشكو من مدة من نزيف العقول العربية والإسلامية، من العقول المهاجرة من النوابغ والعبقريات في مختلف التخصصات الحيوية والهامة، التي وجدت لها مكانا في ديار الاغتراب، ولم تجد لها مكانا في أوطانها.
فإذا كانت هذه حقيقة واقعة، فلا يجوز لنا بحال أن ندع هذه العقول الكبيرة تنسى عقيدتها، وأمتها وتراثها، ودارها، ولا مفر لنا من بذل الجهد معها حتى تكون عقولها وقلوبها مع أوطانها وشعوبها، مع أهليهم وإخوتهم وأخواتهم، دون أن تفرط في حق الوطن الذي تعيش فيه وتنتسب إليه.
وإنما يتحقق ذلك إذا ظلَّ ولاؤهم لله ولرسوله وللمؤمنين، وظلت هموم أمتهم تؤرقهم، ولم تشغلهم مصالحهم الخاصة عن قضايا أمتهم العامة، كما يفعل ذلك يهود العالم أينما كانوا من أجل إسرائيل.(1/199)
وهذا هو واجب الحركة الإسلامية: ألا تدع هؤلاء لدوامة التيار المادي والنفعي السائد في الغرب، تبتلعهم، وأن يُذكَّروا دائما بأصلهم الذي يحنون دائما إليه)(1).
وإذا كان الوجود الإسلامي قائما في بلاد الغرب، وله حضوره الدِّيني والثقافي والاجتماعي، وأحيانا الاقتصادي، فمن الطبيعي والمنطقي أن يحاول استكمال حضوره السياسي. إذ أصبحت السياسة تتدخل في كل شيء، وإذا تركنا السياسة، فإن السياسة لا تتركنا.
لهذا كان لا بد من الإجابة على تساؤلات عدة هنا تطرحها الأقليات الإسلامية التي تعيش في الغرب، وبعضها من أهل البلاد، وبعضها مهاجرون استوطنوا وحصلوا على جنسية البلاد، وباتوا جزءا من أهلها.
هل تكتفي بالدِّين وتنعزل عن السياسة؟ أو تتمسك بالدِّين وتدخل في السياسة؟ وإذا دخلت في السياسة فهل تدخل فيها مشاركة لغيرها من الأحزاب، أو مستقلة بذاتها؟ فهل يجوز المشاركة في الأحزاب العلمانية؟ وهل يجوز إنشاء حزب يفرض عليه أن يلتزم بدستور البلاد؟ وهل يجوز للمسلم الترشح للمجالس النيابية على أساس هذه الأوضاع؟ ثم إن دخول المسلم في السياسة، يلزم منه الإقرار بالدساتير الوضعية القائمة في الدول الغربية وغيرها؟
وإذا نجح المسلم في الانتخابات، ودخل المجلس النيابي: يلزم منه أن يقسم على احترام النظام العام والعمل بالدستور، فهل يتفق هذا مع عقيدة الإسلام؟ ومع أحكام الشريعة؟
هذه تساؤلات تطرح في ساحة الأقليات في كل مكان في أوربا وغيرها.
بل أقول: إن هذه التساؤلات نفسها تطرحها بعض الفصائل الإسلامية في كثير من أقطار الإسلام ذاتها.
ومن هذه الفئات: من يرى تحريم تكوين الأحزاب السياسية، ويعدها بدعة محدثة، وضلالة في الدِّين.
__________
(1) - انظر: أولويات الحركة الإسلامية صـ146 – 148 نشر مكتبة وهبة. القاهرة.(1/200)
ومنهم من يرى تحريم الدخول في الانتخابات، والسعي إلى عضوية المجالس النيابية، بل بعضهم يراها ضد العقيدة، ويسميها (المجالس الشركية) وبعضهم ألف رسالة سماها (القول السديد في أن دخول المجلس (النيابي) ينافي التوحيد)!
وبعضهم يعترض على صيغة القسم التي يقسمها الأعضاء على احترام الدستور، وإطاعته إلخ. وبعض الإسلاميين حلَّ هذا الإشكال، بقوله بعد كلمة الطاعة في القسم: (في غير معصية)، يقولها بصوت مسموع.
فإذا كان هذا يقال في داخل بلادنا الإسلامية، فماذا عسى أن يقال في خارج البلاد الإسلامية؟
ومن هنا لا ينبغي أن تستمد الأقلية المسلمة فقهها السياسي من هذه الفئات التي بَعُدَ بها (الغلو) عن سواء الصراط، فهذه الفئات ترى الوجود الإسلامي في هذه البلاد محظورا لا يجاز إلا من باب الضرورات، وهي ترى العيش في هذه البلاد من باب الاضطرار، كما يضطر المرء إلى استخدام المراحيض، برغم ما بها من نجاسة! كما قال بعضهم!
ومن هؤلاء من يُحرِّم على المسلم الحصول على جنسية هذه الدول، وقد يكفّر من حصل عليها، لأنه يعتبرها من الولاء للكفار(1)، وقد قال تعالى: {ومَنْ يَتوَلَّهُم مِنكُم فإنَّهُ مِنهُم} [المائدة:51].
ومنهم من يحرم مجرد الإقامة في هذه البلاد إلا لضرورة، والضرورة تقدر يقدرها. ولهم في ذلك شبهات رد عليها المحققون من العلماء.
__________
(1) - في بعض الأوقات أصدر علماء تونس: فتوى تحكم بالردة على من يحصل على الجنسية الفرنسية من التونسيين، لأن تونس كانت ترزح تحت نير الاستعمار الفرنسي الظالم المتجبر، وكان الحصول على الجنسية حينئذ بمثابة إعلان الولاء والتأييد للمستعمر الكافر، فهو ردة دينية، وخيانة وطنية، بخلاف حصول المسلم على الجنسية اليوم، فهي تقوي المسلم، وتشد أزره، وتمنحه قوة –مع إخوانه– في المحافظة على هويته، وتمكنه من تبليغ دعوته، وتعطيه امتيازات كثيرة، منها: حق الانتخاب والترشيح، دون أن يفرط في شيء من دينه.(1/201)
إن مزية الشريعة الإسلامية: أنها شريعة واقعية، تراعي حاجات الإنسان ومطالبه، روحية كانت أو مادية، دينية كانت أو سياسية، ثقافية كانت أو اقتصادية، سواء كان يعيش في المجتمع المسلم أم خارج المجتمع المسلم، وأنها في كل ما شرعته من أحكام: تيسر ولا تعسر، وترفع الحرج، وتمنع الضرر والضرار، ولا سيما من يعيش خارج المجتمع المسلم، فهو أولى بالتخفيف ورعاية الحاجات.
ومن حاجة الأقلية المسلمة: أن تعيش متمسكة بدينها وعقيدتها وشعائرها وقيمها وآدابها، ما دامت لا تؤذي غيرها، وأن تندمج في المجتمع الذي تحيا فيه، تُنتج وتُبدع، وتبني وترقى، وتُشارك في كل أنشطته، تفعل الخير، وتُشيع الهداية، وتدعو إلى الفضيلة، وتقاوم الرذيلة، وتؤثر في المجتمع بالأسوة والدعوة ما استطاعت، ولا تذوب فيه، بحيث تفرط في مقوماتها وخصائصها العقائدية والدِّينية.
وليست كل الأقليات الإسلامية مهاجرة، فبعضها من أهل البلاد الأصليين، كلهم أو بعضهم. حتى يقول بعض الناس: يجب أن يعودوا إلى ديارهم.
ولهذا تحتاج الأقلية في أي بلد إلى أصوات تعبر عنها في المجالس التشريعية، وتدافع عن حقوقها حتى لا تصدر تشريعات تجور عليها، وتحرم عليها ما أحل الله، أو تعوقها عن أداء ما فرض الله، أو تلزمها بأمور ينكرها الشرع.
ومن الخير وجود مسلمين منتخبين في هذه المجالس –مستقلين أو منضمين إلى حزب معين– يعملون للذود عن حرماتهم، والمحاماة عن حقوقهم، باعتبارهم أقلية، لهم الحق في ممارسة حياتهم الدِّينية، وشعائرهم التعبدية، بما لا يضر الآخرين، وهم سيستميلون معهم وإلى صفهم الأحرار والمنصفين، الذين يناصرون العدل والحرية في كل زمان ومكان.
وعندنا هنا جملة قواعد شرعية ترشدنا في هذه المسيرة:
1. قاعدة (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) فإذا كان حصول المسلمين على حقوقهم الدِّينية والثقافية وغيرها، لا يتم إلا بالمشاركة في السياسة، ودخول الانتخابات، فإن هذا يصبح واجبا عليهم.(1/202)
2. قاعدة (الأمور بمقاصدها) وهي قاعدة متفق عليها، مأخوذة من الحديث المشهور: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى"(1). فمن قصد بالمشاركة السياسية: الدفاع عن حقوق المسلمين، وحريتهم الدِّينية، وهويتهم الثقافية، فهو مأجور على ذلك عند الله، ومحمود عند المسلمين.
3. قاعدة (سد الذرائع) فإذا كان اعتزال الأقلية للسياسة، وعدم مشاركتها فيها، يشكل خطرا على وجودهم الدِّيني والجماعي، ويجعلهم مهمَّشين، ويحرمهم من مزايا كثيررة، ويوقعهم في مآزق ومفاسد قد يعرف أولها ولا يعرف آخرها، فإن من المطلوب منهم: أن يسدوا الذرائع إلى هذه الأخطار، ويتوقوا هذه المفاسد والآفات، وفي الحديث: "من يتوق الشر يوقه"(2).
4. قاعدة (الضرورات تبيح المحظورات، والحاجة تنزل منزلة الضرورة، خاصة كانت أو عامة) فإذا كان بالجماعة المسلمة في غير المجتمعات الإسلامية ضرورة أو حاجة إلى من يدافع عن حقوقها في بلاد الديمقراطيات، وكان من وراء ذلك بعض ما يخشى من المحظورات مثل القسم على احترام الدستور -الذي قد يتضمن ما يخالف الشرع- ونحو ذلك، مما يتحرج منه بعض المتدينين، فإن هذا الحظر يرفع بحكم الضرورة أو الحاجة {فََمَنِ اضْطُرَّ غيرَ باغٍ ولا عادٍ فلاَ إثمَ علَيه إنَّ اللهَ غفُورٌ رحِيم} [البقرة:173].
__________
(1) - روا البخاري في بدء الوحي (1) عن عمر بن الخطاب، ومسلم في الإمارة (1907)، وأبو داود في الطلاق (2201)، والترمذي في فضائل الجهاد (1647)، والنسائي في الطهارة، وابن ماجه في الزهد (4227).
(2) - رواه الطبراني في الأوسط (3/118) عن أبي الدرداء، والدارقطني في العلل (6/219)، وأبو نعيم في الحلية (5/174)، والبيهقي في الشعب (7/398)، وقال العراقي في تخريج أحاديث الإحياء: أخرجه الطبراني والدارقطني في العلل من حديث أبي الدرداء بسند ضعيف (3/141)، وحسنه الألباني في الصحيحة (342).(1/203)
5. قاعدة (المصالح المرسلة) وهي المصالح التي لم ينص الشرع على اعتبارها ولا إلغائها، ولكنها إذا عرضت على العقول تلقتها بالقَبول، وتحقق فائدة، مادية أو معنوية، للجماعة المسلمة. وقد اعتبرها الصحابة في كثير من الأمور، المهم ألا تصادم نصا قطعيا، ولا قاعدة شرعية قطعية. وأن يكون فيها للجماعة المسلمة نفع حقيقي لا متوهم.
وفي ضوء هذه القواعد: نرى أن الأولى بالمسلمين أن يشاركوا في السياسة، تحقيقا لمصلحتهم الدِّينية والجماعية، ودرءا للأخطار والمفاسد عنهم، ولا سيما أنهم إذا تركوا السياسة فإن السياسة لا تتركهم.
يستطيع المسلمون أن ينشئوا حزبا يطالب بحقوقهم وحقوق غيرهم إذا كان لهم عدد وقوة وقدرات تكفي لقيام حزب مستقل، وكان الدستور والقانون يسمحان لهم بذلك.
ويمكن للمسلمين أن يقدموا برنامجا للإصلاح والترشيد، مقتبسا من أصول فكرتهم الإسلامية، ومطعما بالنظرة والتجربة الغربية وما فيها من آفاق جديدة، تتفق مع مقاصد الشريعة وروح الإسلام.
ولا مانع أن ينضم إلى هذا الحزب أعضاء من غير المسلمين، فهو مقدم للمسلمين خاصة، وللمواطنين عامة. والمفترض في النظام الإسلامي: أنه يقدم الخير والمصلحة الحقيقية للناس كافة، مسلمين وغير مسلمين.
ويستطيع المسلمون أن ينضموا إلى أي حزب من الأحزاب السياسية التي تعمل على الساحة، ويختاروا منها ما كان أقرب إلى المبادئ الإسلامية من ناحية، وما كان أكثر تعاطفا مع المسلمين ومصالحهم من ناحية أخرى. وما كان فيه من أشياء تخالف الإسلام، يتحفظون عليها.
ولا بد أن يكون ذلك بعد دراسة علمية عملية موضوعية، يقوم بها خبراء ومتخصصون، وأن تناقش هذه الدراسة بين أهل الحل والعقد من الأقلية المسلمة في البلد. وبعد الدراسة والمناقشة والمقارنة، يقرِّر المسلمون: أيهما أفضل لهم دينا ودنيا: أهو تكوين حزب لهم أم الدخول في حزب قائم؟ وأي الأحزاب أقرب إليهم وأولى بهم؟(1/204)
وقد يجدون الأولى من ذلك كله: ألا يكونوا حزبا، ولا يدخلوا في حزب، ولكن يبقون كتلة حرة مؤثرة في الانتخابات: تؤيد هذا أو ذاك، وتعطي أصواتها لهذا المرشح أو ذاك.
وعند ذاك يخطب المرشحون ودها، ويتقربون إليها، لأن هذه الأقلية، كثيرا ما يكون لها تأثير كبير في ترجيح بعض المرشحين على بعض، ولا سيما من يكون الفرق بينهما غير كبير، فتأتي أصوات الأقلية مع أحدهما، فترجح كفة ميزانه، ويفوز على خصمه.
خاتمة
الآن حصحص الحق، وأسفر الصبح لذي عينين، وتبين لكل منصف لم يعم عينه الهوى، ولم يصم سمعه التعصب: أنه لا انفصال للسياسة عن الدِّين، ولا للدين عن السياسة. وأن من الخير أن يدخل الدِّين في السياسة فيوجهها إلى الحق، ويرشدها إلى الخير، ويهديها سواء السبيل، ويعصمها من الغرور والانحراف، ويمد أصحابها بالخسية من الله، ولا سيما أن السلطة تغري بالفساد، والقوة تغري بالفجور والطغيان: {كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6،7].
ومن الخير كذلك: أن تدخل السياسة في الدِّين، لا لتتخذه مطية تركبها، أو أداة تستغلها، ولكن لتجعله قوة هادية تضيء لها طريق العدل والشورى والتكافل، وقوة حافزة تبعثها لنصرة الحق، وفعل الخير، والدعوة إليه، وقوة ضابطة، تمنعها من اقتراف الشرور، والإعانة على الفجور.
وإذا كان هذا يقال في الأديان بصفة عامة، فإن الإسلام -بصفة خاصة- لا يقبل هذا الفصام، بين الدِّين والسياسة، أو بين العقيدة والشريعة، أو بين العبادات والمعاملات، أو بين المسجد والسوق، أو بين الإيمان والحياة.
وهذا ما مضى عليه تاريخنا ثلاثة عشر قرنا أو تزيد، حتى دخل الاستعمار الغربي بلاد المسلمين، وتحكَّم في مصايرها، وملك أزِمَّة التشريع والتثقيف والتعليم والإعلام، التي توجه حياتها، وتلونها كما تشاء.(1/205)
ولكن الصحوة الإسلامية المعاصرة، قذفت بحقها على باطل الاستعمار، فدمغته، فإذا هو زاهق، وبرزت قوة الإسلام الذاتية في أمته من جديد، وتقررت سنة الله في أن العاقبة للحق، والبقاء للأزكى والأصلح، {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17].
ولا عجب أن رأينا المفكرين المدنيين -من غير المشايخ وعلماء الدِّين- مَن ينادي جهرا بإسقاط شعار العلمانية المستوردة، التي تقوم دعوتها في الأساس على فصل الدِّين عن السياسة، أو الدِّين عن الدولة. فلم يعد بعد لدعوة العلمانية من مكان ولا حاجة في ديارنا، وقد كانت الحاجة إليها في الغرب لأسباب تاريخية معروفة، وليس لهذه الأسباب وجود عندنا.
كما بينا في هذه الصحائف كيف تدخل الأقلية المسلمة في السياسة، وكيف تنتفع بها لخدمة وجودها الدِّيني وهويتها الثقافية. وكيف تتجنب مزالقها.
والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
الفهرس
الدِّين والسياسة ... 0
مقدمة ... 1
الدِّين والسياسة ... 3
تحديد المفاهيم أولا: ... 3
مفهوم كلمة (الدِّين) ... 4
الدِّين اصطلاحا: ... 6
مفهوم كلمة (الدِّين) في القرآن: ... 8
كلمة الدِّين لا تقتصر على الدِّين الحق: ... 9
الدِّين والإسلام: ... 10
مفهوم كلمة (السياسة) لغة واصطلاحا. ... 12
كلمة (السياسة) في تراثنا الإسلامي ... 13
كلمة (السياسة) لم ترد في القرآن: ... 13
ما ورد عن السياسة في السنة: ... 15
أول استخدام لكلمة سياسة في معنى الولاية والحكم في تراثنا: ... 15
السياسة عند الفقهاء ... 17
السياسة عند المالكية والشافعية: ... 17
تضييق إمام الحرمين في السياسة: ... 18
السياسة في الفقه الحنفي: ... 22
دور ابن القيم في توضيح السياسة الشرعية: ... 24
مرونة السياسة الشرعية وقابليتها للتغيير: ... 30
تعقيب عام على السياسة عند الفقهاء: ... 31
السياسة عند الحكماء ... 33
الحكماء الأخلاقيون: ... 34
فيلسوف الاجتماع ابن خلدون: ... 36
السياسة عند الغربيين ... 39(1/206)
العلاقة بين الدِّين والسياسة ... 43
موقف الحداثيين والعلمانيين: ... 43
فكرة شمول الإسلام ... 45
لماذا مزج المُصلحون الإسلاميون السياسة بالدِّين؟: ... 45
1. شمول تعاليم الإسلام: ... 45
3 . الحياة وحدة لا تتجزأ ولا تنقسم وكذلك الإنسان: ... 48
4. أهمية الدولة في تحقيق الأهداف: ... 52
فصل الدِّين عن السياسة ... 55
مناقشة مقولة: لا دين في السياسة: ... 55
مناقشة مقولة: لا سياسة في الدِّين: ... 60
ضلالة فصل الدِّين عن السياسة: ... 61
الدِّين ليس دائما مقصورا على الروحانية: ... 65
والسياسة ليست دائما علمانية: ... 67
(2) ... 69
تهمة الإسلام السياسي ... 69
أولاً: هذه التسمية مرفوضة: ... 69
تقسيمات مرفوضة: ... 70
ثانيًا: الإسلام لا يكون إلا سياسيًا: ... 71
الأول: الإسلام يوجِّه الحياة كلها: ... 71
السبب الثاني: شخصية المسلم شخصية سياسية: ... 72
بين الحق والواجب: ... 77
الصلاة والسياسة: ... 78
الساسة يدخلون الدِّين في السياسة متى أرادوا! ... 79
(3) ... 81
السياسة بين النص والمصلحة ... 81
(4) ... 91
الدِّين والدولة في الإسلام ... 91
أولى محاولات العلمانية لاقتحام الأزهر: ... 92
دعوى علي عبد الرازق منقوضة: ... 93
الأدلة على أن الدولة من صحيح الإسلام: ... 93
1. الدليل من نصوص الإسلام: ... 93
2. الدليل من تاريخ الإسلام: ... 95
لم يعرف تاريخنا دينا بلا دولة ولا دولة بلا دين: ... 97
3. الدليل من طبيعة الإسلام: ... 99
العلمانية تحاول اقتحام الأزهر مرة أخرى: ... 103
دولة الإسلام دولة مدنية مرجعيتها الإسلام ... 106
الدولة الإسلامية ورجال الدِّين: ... 109
قيام الدولة الإسلامية على عقيدة الحاكمية لا يعني: أنها دولة دينية: ... 112
(6) ... 118
الدولة الإسلامية وحقوق الأقليات ... 118
1. مسألة أهل الذمة: ... 118
2. مسألة الجزية: ... 119
3. فرض القوانين الدِّينية: ... 120
4. الحرمان من الوظائف: ... 122
(7) ... 124
الدولة الإسلامية وحقوق الإنسان ... 124
عناية الإسلام بحقوق الإنسان: ... 125
1. ... الحرية الدِّينية: ... 130
2. ... مجال حقوق المرأة: ... 131
3. حقوق العراة والشواذ: ... 135
(8) ... 137(1/207)
الدِّين والإبداع والتطور ... 137
دعوى ثبات الدِّين وتغير الحياة: ... 142
(9) ... 142
ليست العلمانية هي الحل ... 142
الجابري يقول: العلمانية في العالم العربي مسألة مزيفة: ... 142
أبو المجد ينادي بإسقاط الدعوة إلى (العلمانية): ... 142
العقلانية والديمقراطية تتفقان مع جوهر الإسلام ... 142
العقلانية المنشودة: ... 142
سيادة الروح العلمية: ... 142
سمات الروح العلمية المطلوبة: ... 142
الديمقراطية المنشودة: ... 142
الديمقراطية وصلتها بالإسلام ... 142
1. الرافضون للديمقراطية باسم الإسلام: ... 142
2. القائلون بالديمقراطية بلا قيود: ... 142
3. الوسطيون المتوازنون: ... 142
الشورى والديمقراطية: ... 142
1. رفض سلطان الجبابرة والفراعنة: ... 142
2. اتباع الجماعة والسواد الأعظم: ... 142
3. عدم قبول صلاة الإمام الذي يكرهه المأمومون: ... 142
ابن رشد والعلمانية: ... 142
(10) ... 142
حرمان الإسلاميين من تأسيس حزب سياسي ... 142
إضاءات ضرورية: ... 142
(11) ... 142
الأقليات الإسلامية والسياسة ... 142
الوجود الإسلامي في الغرب: ... 142
محافظة دون انغلاق، وانفتاح دون ذوبان: ... 142
خاتمة ... 142
الفهرس ... 142(1/208)
الكتاب :السلام على أهل الكتاب
المؤلف :فيصل مولوي
مصدر الكتاب :www.ikhwan.net
[ الكتاب : مرقم آليا غير موافق للمطبوع ، قام بفهرسته الأخ عزالدين بوطرنيخ غفر الله له و لوالديه](/)
مقدّمة
السلام على أهل الكتاب، من الموضوعات التي تلقى أهمية كبيرة في بلد كلبنان، وفي بلاد أخرى كثيرة لا يشكّل فيها المسلمون أكثرية عددية، رغم أن هذا الموضوع لا يقلّ في رأينا أهمية في البلاد ذات الأكثرية الإسلامية، لأنه أحد الأسباب التي يدخل منها العدو الخارجي من أجل تفتيت المجتمع من الداخل، عن طريق افتعال أنواع من العداوة تمزّق الشرائح الاجتماعية، وتكبّر الخلافات القائمة بينها.
ولقد تجاوز المسلمون في لبنان بواقعهم هذه المسألة منذ زمن بعيد، فكانت التحيّة المتبادلة بينهم وبين غير المسلمين سبباً في زيادة التآلف وشيوع روح التسامح بين جميع اللبنانيين، ولو أن بعضهم كان يستعمل ألفاظاً أخرى، غير التحية المعتمدة بين المسلمين(السلام عليكم ورحمة الله وبركاته). إلاّ أنه مع نموّ ظاهرة الصحوة الإسلامية، ظهرت مجموعات من الشباب المسلم الملتزم، في نطاق الحركات الإسلامية المعروفة أو الجمعيّات الإسلامية المتناثرة هنا وهناك، تقف من هذا الموضوع أمام نصّ واحد هو الحديث الصحيح المشهور: (لا تبدأو اليهود والنصارى بالسلام ـ وإذا سلّموا عليكم فقولوا: وعليكم) وهو حديث كثرت رواياته الصحيحة ولكنها كلها وردت في مناسبات متقاربة كان يطغى فيها الحقد اليهودي - رغم وجود العهود معهم - فيقولون للمسلمين عند التحية: (السام عليكم) والسام هو الموت. هذا النص فهمه كثير من العلماء، من خلال الحرب التاريخية التي كان يعيشها المسلمون، فاعتبروه النص الحاكم الذي يدفع إلى تأويل النصوص الأخرى المعارضة أو تخصيصها، وأخذه بعض المسلمين اليوم بهذا الفهم الخاطئ.(1/1)
ولذلك رأيت من الضروري، أن أتناول هذا الموضوع من زاوية علمية محضة، فأبدأ بمناقشة هذا الرأي، ثم أضع هذه القضية الجزئية في إطارها العام، ثم أتناول ما ورد فيها من نصوص عامة وخاصة وأحاول الجمع بينها لتشكّل لكل مسلم ثقافة شرعية متكاملة غير متناقضة. وصدق الله العظيم القائل عن كتابه الكريم: { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً }
أولاً : أسباب منع المسلم من ابتداء أهل الكتاب بالسلام :
لقد انتشر في تراثنا الفقهي الإسلامي القول بعدم جواز ابتداء غير المسلم بالسلام، وذلك استناداً لحديث (لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام). ونظراً لغرابة هذا القول في ظل العلاقات الإنسانية الطبيعية بين المسلمين وغيرهم، لجأ بعض العلماء إلى تحليل أسباب ذلك فقالوا :
1. السلام على أهل الذمة مكروه لما فيه من تعظيمهم، ولا بأس أن يسلّم على الذمّي إن كانت له حاجة، لأن السلام عندئذ لأجل الحاجة لا لتعظيمه. (ابن عابدين في الحاشية 5/264 الطبعة المصرية).
2. السلام تحية، والكافر ليس من أهلها. (حاشية العدوي على الخرشي 3/110 طبعة بولاق).
3. الابتداء بالسلام نوع من الإكرام، وهو بسط له وإيناس وإظهار ودّ، والله تعالى يقول: { لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله ..} [سورة المجادلة].(نهاية المحتاج 8/49 طبعة المكتبة الإسلامية).
4. لا يجوز فعل ما يستدعي مودة الكافر ومحبّته لأن المسلم مأمور بمعاداة الكافر. (فتح الباري 11/19). وإفشاء السلام يؤدّي إلى التحابب لقول رسول الله : (ألا أدلّكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشو السلام بينكم) [رواه الطبراني عن أبي موسى الأشعري وعن ابن مسعود]. وفي الروايتين ضعف لكن تؤيّده رواية أخرى في كتاب التوبة، وحديث آخر عن ابن الزبير في نفس المعنى رواه البزار بإسناد جيد.
وجوابنا على ذلك :(1/2)
1. أن السلام بالنسبة للمسلم هو التحية المعروفة بين جميع الشعوب، ولا علاقة له بالتعظيم. وقد روي أن رسول الله قال: (تحية المسلم السلام). وكان هو يسلّم على اليهود، ولم يمتنع إلاّ عندما حوّروا هم كلمة السلام إلى السام. ومع ذلك كان يرد عليهم بكلمة (وعليكم)، وهذا الرد لا يمكن أن يكون تعظيماً لهم. والله تعالى يقول: }وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا{ والتعارف لا يكون إلاّ بنوع من التحية. والمسلم لا يحيد عن تحيّته الخاصة (السلام) إلاّ لسبب وهو وجود الحرب، لأن السلام تأمين، وهو لا يكون مع الحرب. ويجمع الفقهاء على وجوب رد تحية الكافر بأحسن منها أو مثلها استناداً للآية الكريمة { وإذا حُيّيتم بتحيّة فحيّوا بأحسنَ منها أو رُدّوها..} [سورة النساء، الآية 86].
2. السلام تحية. هذا صحيح. ولكن القول أن الكافر ليس من أهلها لا يمكن أن يكون مقبولاً، لأنه يناقض الآية السابقة { وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ..} ويناقض فعل الرسول الثابت أنه كان يسلّم على غير المسلمين ويردّ عليهم السلام، ويناقض فعل الصحابة والسلف وسيأتي بيان ذلك.
3. الابتداء بالسلام ليس إكراماً للمسلَّم عليه، بل هو إكرام للمسلِّم نفسه، لقول الرسول : (إن أولى الناس بالله من بدأهم بالسلام) [رواه أبو داود والترمذي وحسّنه].
أما أنه بسط وإيناس لهم، فليس هذا مستغرباً على المسلم، إنه داعية إلى الله. ومن واجب الداعية أن يتلطّف في دعوته ويرفق بالناس، ويؤنسهم ويتباسط معهم، وإلاّ فما هي الحكمة والموعظة الحسنة التي أمر الداعية بها؟(1/3)
وليس ضرورياً أن يكون السلام إظهار ودّ. بل قد يكون مجرّد تحية للتعارف. على أن المودّة المنهي عنها هي مودّة الكافرين المحاربين، وليس كل كافر. فالآية الكريمة تنهى عن مودة من يحادّ الله { لا تجدُ قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله ..} [سورة المجادلة]. وهؤلاء جمعوا مع الكفر المحاربة. والآية الثانية التي نهت عن مودّة الكافر قوله تعالى: {.. لا تتخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء، تلقون إليهم بالمودة، وقد كفروا بما جاءكم من الحق، يخرجون الرسول وإيّاكم..} فهؤلاء أيضاً قد جمعوا بين الكفر والمحاربة.
أما مجرّد الكفر، فقد يوجد معه سبب للمودّة، كما في حال الزوجة الكتابية، فقد يودّها زوجها ولو كانت كتابية، والله تعالى يقول: { وجعل بينكم مودّة ورحمة } فإذا وجدت المودّة من الزوج المسلم لزوجته الكتابية لا ينهى عن ذلك، على أن ينتبه المسلم أن المودّة المشروعة هنا هي بسبب رباط الزوجية وما إذا كانت تقوم بحقها، وليس لكفرها.
4. أما القول بأنه لا يجوز للمسلم فعل ما يستدعي مودّة الكافر ومحبّته اعتماداً على أن (إفشاء السلام يؤدي إلى التحابب) فهو منقوض بقول رسول الله : (تهادوا .. تحابّوا ..) فالتهادي أيضاً يؤدي إلى التحابب.
ومن الثابت أن رسول الله (أهدى إلى أبي سفيان تمر عجوة حين كان بمكة محارباً، واستهداه أدماً) [ذكر ذلك السرخسي في المبسوط 10/92]. واتفق الأئمة الأربعة على صحة الهبة للحربي وهي هدية، كما أجاز جمهور الفقهاء قبول الهدية من الكفّار الحربيين لأن النبي قبل هدية المقوقس عظيم القبط، وأهدى له كسرى وقيصر فقبل منهما، وأهدت له الملوك فقبل منها كما روى أحمد والترمذي.(1/4)
فتبين أن التهادي مع الكفار ليس ممنوعاً، وإن أدّى إلى شيء من الحب، لأن الحب الممنوع هو الذي يتعلّق بالكفر، أما إذا كان للحب سبب آخر فليس ممنوعاً. كحب الرجل زوجته الكتابية، وحب المسلم لأقربائه الكفّار. والله تعالى لم يطلب من المسلم الامتناع عن الحب البشري وهو حب الآباء والأولاد والأزواج والعشيرة والأموال، بل طلب أن يكون حب الله ورسوله هو الأقوى عند التعارض { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحبّ إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربّصوا حتى يأتي الله بأمره، والله لا يهدي القوم الفاسقين} [سورة التوبة، الآية 24]. ومن المعروف أن الآباء والأبناء والإخوان الزوجات والعشيرة يمكن أن يكونوا كفاراً. وأن الأموال والتجارة والمساكن يمكن أن تكون في بلاد غير إسلامية فيحب المسلم هذه البلاد لوجود أمواله وتجارته ومساكنه فيها. ولكن عند التعارض يجب أن يتغلّب حبّ الله ورسوله ولو تخلّى المسلم عن كل هؤلاء.
الفصل الثاني: القضية جزء من تصوّر عام :
إن مسألة السلام أو التحية هي جزء بسيط من تصوّر عام يتناول العلاقات الإنسانية. ونحن نلخّص موقف الإسلام من ذلك في النقاط التالية :
1. الإنسان هو خليفة الله في الأرض. قال تعالى: { وإذ قال ربّك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك؟ قال إني أعلم ما لا تعلمون } [البقرة، الآية 30].
ومهمته هي عمارة هذه الأرض. قال تعالى: { هو أنشأكم من الأرض .. واستعمركم فيها ..} [سورة هود، الآية 61] أي طلب منكم عمارتها.
وعمارة الأرض يشترك فيها المسلم وغير المسلم .. لذلك كان التعاون بين الجميع أمراً لازماً لتحقيق هذا الهدف، والتعاون لا يكون إلاّ في ظل العلاقات الإنسانية السلمية.(1/5)
2. عمارة الأرض إذاً هي مهمة الإنسان مسلماً كان أو غير مسلم. أما رسالة الإنسان في الحياة فهي تختلف بين المسلم وغير المسلم. فالإنسان الذي يقبل الإسلام ديناً تصبح رسالته الدعوة لهذا الإسلام والالتزام به. قال تعالى: { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ..} [سورة المائدة، الآية 3]. فإذا كانت مهمة عمارة الأرض إلزامية بحق جميع الناس، فإن حمل الرسالة الإسلامية وتبليغها مهمة اختيارية. قال تعالى: { لا إكراه في الدين، قد تبيّن الرشد من الغي ..} [سورة البقرة، الآية 256].
3. حمل رسالة الإسلام للناس هو الدعوة إلى الله تعالى، وهذه لا توجد إلاّ ضمن القواعد الشرعية التالية:
أ. حق الإنسان في الاختيار، وبالتالي قبول هذه الدعوة أو رفضها. فالإجبار على اعتناق الإسلام غير مطلوب وغير ممكن بل هو مستنكر. قال تعالى مخاطباً نبيّه : {.. أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين؟ } [سورة يونس، الآية 99].
ب. وجود علاقات سلمية بين المسلمين وغير المسلمين تسمح بالحوار والإقناع، طالما أن الإكراه غير جائز. هذه العلاقات تقوم على تكريم الإنسان { ولقد كرّمنا بني آدم ..} [سورة الإسراء، الآية 70]. واحترام خياراته { لكم دينكم ولي دين ..} [سورة الكافرون، الآية 6]. وعلى التعايش السلمي بين الشعوب { وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ..} [سورة الحجرات، الآية 13]. هذا التعايش الذي يدعو الإسلام إليه على قاعدتي: الأخلاق والعدل { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم ..} [سورة الممتحنة، الآية 7].(1/6)
ت. إن السلام هو أفضل الظروف لانتشار أي دعوة فكرية، هذه قاعدة يثبتها تاريخ كل الدعوات الفكرية وخاصة الإسلام. ولذلك فلو لم يكن السلام هو الأصل في العلاقات الإنسانية من وجهة النظر الشرعية كما يظن بعض الناس، فينبغي أن يعتبر كذلك على الأقل من باب المصلحة الشرعية، وهي (نجاح الدعوة). أما نحن فنعتقد أن السلام بين الناس جميعاً هو الأصل الشرعي الثابت { يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافّة ..} [سورة البقرة، الآية 208].
4. هذه كلها أقرب إلى البديهيات. لكني أضيف إليها ما يقرأه كل مسلم في أي كتاب من كتب الفقه وعلى أي مذهب من المذاهب من تنظيم التعايش بين المسلمين وغير المسلمين سواء في دار الإسلام بموجب عقد الذمة وما يعطيه لغير المسلم من حقوق، وما يفرضه عليه من واجبات، ثم بموجب حقوق الجوار حين يعيش الذمي في جوار المسلم. أو بموجب أحكام الاستئمان التي تبيح للحربي أن يدخل دار الإسلام بأمان من أحد المسلمين، وليس فقط من الحاكم. (كما تفعل الدول المعاصرة في إعطاء التأشيرة لمن يرغب دخول أراضيها). وهذا دليل على مدى رغبة الإسلام بالتعايش السلمي بين الناس مهما اختلفت أفكارهم وأديانهم. كما تبيح للمسلم أن يدخل دار الحرب بأمان، وتحدد له عند ذلك حقوقه وواجباته.
5. أمام هذه الأحكام كلها نقول :
1. هل يعقل إذا التقى مسلم بغير مسلم ألاّ يبدأه بالتحية، وهو الذي يجب عليه أن يبادره بالدعوة؟ وهل هذه هي (الحكمة) و(الموعظة الحسنة) التي أمرنا بها؟ { ادع إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة ..} [سورة النحل، الآية 125].
2. وإذا كان من واجب المسلم المبادرة إلى كل خير { فاستبقوا الخيرات ..} [سورة البقرة، الآية 148].
وإذا كانت التحية من هذا الخير، باعتبارها مدخلاً طبيعياً للدعوة ..
فما هو الفرق بين أن تكون التحية بشعار غير المسلم (صباح الخير، مرحباً ..إلخ)؟
أو بشعار المسلم (السلام عليكم)؟(1/7)
مع أن شعار المسلم (السلام) أصدق تعبيراً عن الحالة النفسية الممهدة للدعوة.
فضلاً عن النصوص والوقائع التي تؤيد ذلك وسنذكرها فيما بعد.
3. وقد ذكر الله تعالى لنا في القرآن الكريم أن غير المسلم هو الذي يبدأ بالسيئة :
- { ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة ..} [سورة الرعد، الآية 6] والكلام موجّه لرسول الله عن قومه.
- { قال يا قوم: لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة ..} [سورة النحل، الآية 46] والكلام لصالح مع قومه.
أما المسلم فهو يدرأ السيئة بالحسنة :
- { ويدرؤون بالحسنة السيئة ..} [سورة الرعد، الآية 22].
- { أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرؤون بالحسنة السيئة ..} [سورة القصص، الآية 54].
ومن باب أولى أنه يبدأ دائماً بالحسن، وخاصة في كلامه ومنه التحية:
- {.. وقولوا للناس حسنا ..} [سورة البقرة، الآية 83].
- { وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن ..} [سورة الإسراء، الآية 53].
- { ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن ..} [سورة العنكبوت، الآية 46].
ثالثاً : نصوص من القرآن الكريم :
1. { يا أيّها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتّى تستأنسوا وتسلّموا على أهلها ..} [سورة النور، الآية 27]
{.. فإذا دخلتم بيوتاً فسلّموا على أنفسكم، تحية من عند الله مباركة طيّبة، كذلك يبيّن الله لكم الآيات لعلّكم تعقلون} [سورة النور، الآية 61].
فكلمة (بيوت) هنا تشمل أي بيت ندخل إليه سواء كان بيت مسلم أو غير مسلم.
وكلمة (أنفسكم) استعملها القرآن بمعنى الناس جميعاً وليس فقط المسلمين. قال تعالى مخاطباً العرب المشركين: { لقد جاءكم رسول من أنفسكم }.
فالآية نص عام في وجوب السلام عند دخول البيوت سواء على مسلمين أو غير مسلمين.
وقد ذكر الطبري في تفسير هذه الآية عن إبراهيم: إذا دخلت بيتاً فيه يهود فقل: السلام عليكم. وإن لم يكن فيه أحد فقولوا: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.(1/8)
2. { وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه، وقالوا: لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين } [سورة القصص، الآية 55].
فهذه الآية نص عام في كل مسلم يستمع من غير المسلمين إلى حديث لا يرضي الله، عليه أن يفارقهم ولا يبقى في هذا المجلس. قال بعض المفسّرين: السلام هنا للمتاركة لا للتحية. ونقول: إن المتاركة يمكن أن تكون مع الشتائم، ويمكن أن تكون على الأقل بدون هذه الكلمة الطيبة (السلام) ولكن الله تعالى شرع لنا عند مفارقة الكفّار أن نقول لهم: سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين.
وإذا كانت تحية المتاركة (السلام) فتحية الاستقبال كذلك من باب أولى، لأن الرسول (ص) يقول: (ليست الأولى بأحق من الأخيرة) [رواه أبو داود والترمذي وحسّنه النسائي].
3. { وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا: سلاماً } [سورة الفرقان، الآية 63]
أورد القرطبي في تفسير هذه الآية قول بعض العلماء أنها منسوخة بآية السيف. ثم ذكر قول ابن العربي: ( لم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلّموا على المشركين، ولا نهوا عن ذلك. بل أمروا بالصفح والهجر الجميل. وقد كان عليه الصلاة والسلام يقف على أنديتهم ويحيّيهم ويدانيهم ولا يداهنهم). ورجح القرطبي، رأي ابن العربي فقال: قلت: هذا القول ـ أي قول ابن العربي ـ أشبه بدلائل السنّة. وقد بيّنا في سورة مريم اختلاف العلماء في جواز التسليم على الكفّار. فلا حاجة إلى دعوى النسخ والله أعلم.
4. { وقيله : يا رب، إنّ هؤلاء قوم لا يؤمنون. فاصفح عنهم وقل : سلام، فسوف يعلمون ..} [سورة الزخرف، الآية 89].(1/9)
يقول الشنقيطي في تفسير هذه الآية في أضواء البيان أنها: "تضمّنت ثلاثة أمور منها: أن يقول للكفار: سلام. وقد بيّن الله تعالى أن السلام للكفّار هو شأن عباده الطيّبين. ومعلوم أنه سيّدهم، قال تعالى: {… وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا: سلاماً } [سورة الفرقان، الآية 63]. {… سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين …} [سورة القصص، الآية 55]. وقال إبراهيم لأبيه: {.. سلام عليك }.
ومعنى السلام في الآيات المذكورة، إخبارهم بسلامة الكفّار من أذاهم. ومن مجازاتهم لهم بالسوء. أي سلمتم منّا لا نسافهكم، ولا نعاملكم بمثل ما تعاملوننا.
وكثير من أهل العلم يقولون: إن قوله تعالى: { فاصفح عنهم …} وما في معناه منسوخ بآيات السيف. وجماعات من المحققين يقولون: هو ليس بمنسوخ.
والقتال في المحل الذي يجب فيه القتال، والصفح عن الجهلة، والإعراض عنهم، وصف كريم، وأدب سماوي لا يتعارض مع ذلك".
5. { قال : سلام عليك. سأستغفر لك ربّي، إنّه كان بي حفيّاً } [سورة مريم، الآية 47].
ذكر القرطبي في تفسير هذه الآية: (الجمهور على أن المراد بسلامه المسالمة التي هي المتاركة، لا التحية. وعلى هذا لا يبدأ الكافر بالسلام. وقال بعضهم تسليمه: هو تحية مفارق. وأجاز تحيّة الكافر، وأن يبدأ بها. وقيل لابن عيينة: هل يجوز السلام على الكافر؟ قال نعم، قال الله تعالى: { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم. إن الله يحبّ المقسطين } [سورة الممتحنة، الآية 7]. وقال تعالى: { لقد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم ..} { وقال إبراهيم لأبيه : سلام عليك}.
ورجّح القرطبي قول سفيان بن عيينة في جواز التحية للكافر، وذكر ممن يرى ذلك: الطبري ونسبه إلى السلف، وابن مسعود وأبو أمامة والحسن البصري والأوزاعي.(1/10)
6. أما التفريق في التحية بين المسلم (السلام عليكم) وبين غير المسلم (مرحباً أو سواها) فهي مخالفة للأدب القرآني. فقد نصّ الله تعالى على التحية للمسلم فقال: { وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا، فقل : سلام عليكم ..} [سورة الأنعام، الآية 54]. وذكر نفس النص في تحية غير المسلمين { سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين ..} بالإضافة للآيات الأخرى المذكورة سابقاً.
7. ومن أعجب الأمور قول بعض المسلمين بعدم جواز رد التحية على غير المسلم بلفظ السلام. مع أن الله تعالى يقول: { وإذا حيّيتم بتحية فحيّوا بأحسن منها أو ردّوها ..} [سورة النساء، الآية 86].
وجمهور الفقهاء يوجبون ردّ التحية بأحسن منها أو بمثلها. وقد ذكر الشيخ رشيد رضا في تفسير هذه الآية : "التحية مصدر حيّاه، إذا قال له حيّاك الله. هذا هو الأصل، ثم صارت التحية اسماً لكل ما يقوله المرء لمن يلاقيه أو يقبل عليه … وجعلت تحية المسلمين السلام، للإشعار بأن دينهم دين السلام والأمان، وأنهم أهل السلم ومحبّو السلامة …"
علم من الآية أن الجواب عن التحية له مرتبتان: أدناهما ردها بعينها، وأعلاهما الجواب عنها بأحسن منها. فالمجيب مخيّر، وله أن يجعل الأحسن لكرام الناس كالعلماء والفضلاء،ورد عين التحية لمن دونهم.
وروي عن قتادة وابن زيد: أن جواب التحية بأحسن منها للمسلمين، وردّها بعينها لأهل الكتاب، وقيل للكفّار عامّة. ولا دليل على هذه التفرقة من لفظ الآية ولا من السنّة. وقد روى ابن جرير عن ابن عباس أنه قال: من سلّم عليك من خلق الله فاردد عليه وإن كان مجوسياً، فإن الله يقول: { وإذا حيّيتم بتحية فحيّوا بأحسن منها أو ردّوها } [مجمع الزوائد - كتاب الأدب. قال الهيثمي: رواه أبو يعلى، ورجاله رجال الصحيح غير إسحق بن أبي إسرائيل وهو ثقة].(1/11)
أقول - والكلام للشيخ رشيد رضا - وقد نزلت هذه الآية في سياق أحكام الحرب ومعاملة المحاربين والمنافقين. - راجع سورة النساء من الآية 74 حتى 94 - ومن قال لخصمه السلام عليكم فقد أمّنه على نفسه، وكانت العرب تقصد هذا المعنى، والوفاء من أخلاقهم الراسخة. ولذلك عدّ الإمام - الشيخ محمد عبده - ذكر التحية مناسباً للسياق، بكونها من وسائل السلام.
ومن آداب الإسلام التي كانت فاشية في عهد النبوّة إفشاء السلام إلاّ مع المحاربين، لأن من سلّم على أحد فقد أمّنه. فإذا فتك به بعد ذلك كان خائناً ناكثاً للعهد. وكان اليهود يسلّمون على النبي فيرد عليهم السلام، حتى كان من بعض سفهائهم تحريف السلام بلفظ (السام) أي الموت، فكان النبي يجيبهم بقوله (وعليكم). وسمعت عائشة واحداً منهم يقول له: السام عليكم. فقالت له: وعليك السام واللعنة. فانتهرها عليه الصلاة والسلام مبيّناً لها أن المسلم لا يكون فاحشاً ولا سبّاباً، وأن الموت علينا وعليهم.
وروي عن بعض الصحابة كابن عباس أنه كان يقول للذّمي: السلام عليك. وعن الشعبي عن أئمة السلف أنه قال لنصراني سلّم عليه: وعليك السلام ورحمة الله تعالى. فقيل له في ذلك فقال: أليس في رحمة الله يعيش؟ وروى ابن المنذر عن الحسن أنه قال: فحيّوا بأحسن منها (للمسلمين) وردّوها (لأهل الكتاب). وعليه يقال للكتابي في رد السلام عين ما يقوله وإن كان فيه ذكر الرحمة" .(1/12)
قال ابن القيّم متحدثاً عن ردّ للسلام على الكتابي إذا بدأ هو به: (الذي تقتضيه الأدلّة الشرعية وقواعد الشريعة أن يقال له: وعليك السلام. فإن هذا من باب العدل، والله يأمر بالعدل والإحسان. وقد قال تعالى: }وإذا حيّيتم بتحية فحيّوا بأحسن منها أو ردّوها{. فندب إلى الفضل وأوجب العدل. ولا ينافي هذا شيئاً من أحاديث الباب بوجه ما، فإنه إنما أمر بالاقتصار على قول الرد (وعليكم) بناءً على السبب المذكور الذي كانوا يعتمدونه في تحيّتهم - وهو قولهم السام عليكم - … فإذا زال هذا السبب، وقال الكتابي: السلام عليكم ورحمة الله، فالعدل في التحيّة يقتضي أن يردّ عليه نظير سلامه).
رابعاً : نصوص من السنّة المطهّرة :
أ ـ الأحاديث العامَة :
1. سئل رسول الله أيّ الإسلام خير؟ قال: (تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف) [رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه].
تطعم الطعام: أي تكثر من إطعام الضيوف، سواء كانوا مسلمين أم كافرين كما قال الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب.
تقرأ السلام: أي تحيي بتحية الإسلام وهي (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) وظاهر الحديث يشمل المسلم والكافر، ولكن أكثر العلماء خصّصوه بالمسلم ومنعوا ابتداء الكافر بالسلام لحديث: (لا تبدأوا اليهود ولا النصارى بالسلام) وسيأتي معنا أن هذا التخصيص محصور في حالة الحرب فقط. فيبقى الحديث على عمومه في سائر الحالات.
2. عن أبي هريرة أن رسول الله قال: (لمّا خلق الله آدم، قال اذهب فسلّم على أولئك النفر من الملائكة جلوس، فاستمع ما يحيّونك، فإنها تحيّتك وتحية ذريّتك. فقال: السلام عليكم. فقالوا: السلام عليك ورحمة الله ..) [رواه الشيخان].(1/13)
وهو نص صريح في أن السلام تحية آدم وتحية ذرّيته. ومن المعروف أن ذرية آدم منها المسلم ومنها الكافر، فيكون السلام هو تحية الجميع، سواء في الابتداء أو في الرد. والأصل في المسلم أن يلتزم بهذه التحية مع المسلم أو غير المسلم إلاّ عند وجود سبب مانع وهو (الحرب بالنسبة لغير المسلمين) لأن السلام أمان، والحرب تناقضه.
ب ـ أحاديث إفشاء السلام وهي كثيرة جداً :
بعضها عام ومن ذلك :
· حديث البراء أن رسول الله قال: (أفشوا السلام، تسلموا) [رواه ابن حبّان في صحيحه].
· وحديث عبد الله بن سلام قال: سمعت رسول الله يقول: (يا أيها الناس. أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام) [رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح].
· حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : (اعبدوا الرحمن، وأفشوا السلام، وأطعموا الطعام، تدخلوا الجنان) [رواه الترمذي وصحّحه، وابن حبّان في صحيحه. واللفظ له].
· حديث أبي شريح أنه قال: يا رسول الله. أخبرني بشيء يوجب لي الجنة. قال: (طيب الكلام، وبذل السلام، وإطعام الطعام) [رواه الطبراني وابن حبّان في صحيحه، والحاكم وصححه].
· حديث أبي الدرداء قال: قال رسول الله: (أفشوا السلام كي تعلو) [رواه الطبراني بإسناد حسن] وتعلو: أي تسمو وترقى أخلاقكم.
· حديث أبي أمامة قال: قال رسول الله: (إن أولى الناس بالله من بدأهم بالسلام) [رواه أبو داود والترمذي وحسّنه].
وظاهر هذا الحديث يوجب على المسلم إذا التقى بغير المسلم أن يبدأ بالسلام، لأنه هو الأولى بالله تعالى.
· حديث عبد الله بن مسعود ، عن النبي قال: (السلام اسم من أسماء الله تعالى، وضعه في الأرض، فأفشوه بينكم ..) [رواه البزار والطبراني. وأحد إسنادي البزار جيّد قوي].(1/14)
ومعنى الحديث أن السلام اسم من أسماء الله تعالى وضعه في الأرض كلها، ولكن غير المسلمين أهملوه، وعلى المسلمين أن يفشوه بينهم. وهذا لا يمنع استعماله بين غير المسلمين، ولا أن يحيّي به المسلمون غيرهم، لأن الأصل فيه أنه وضع في الأرض كلها.
وبعض أحاديث إفشاء السلام وردت خاصة بالمسلمين منها :
- حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله: (لا تدخلوا الجنّة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا، ألا أدلّكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم) [رواه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه].
- وحديث ابن الزبير رضي الله عنهما أن رسول الله قال: (دبّ إليكم داء الأمم قبلكم: البغضاء والحسد .. والذي نفسي بيده، لا تدخلون الجنّة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا، ألا أنبئكم بما يثبت لكم ذلك؟ أفشوا السلام بينكم) [رواه البزار بإسناد جيد].
- وحديث أبي هريرة أن رسول الله قال: (حق المسلم على المسلم ست) وعدّ منها (إذا لقيته فسلّم عليه) [رواه مسلم].
ويفهم من جميع هذه الأحاديث أن السلام في الأصل هو تحية الناس جميعاً، تحية ذرية آدم كلها، وأن الله وضعه في الأرض كلها. ولكن المسلمين هم أولى الناس به، وعليهم إفشاءه فيما بينهم أولاً، وتجاه كل الناس ثانياً، ولا يستثنى من ذلك إلا حالة الحرب القائمة كما ذكر الشيخ رشيد رضا رحمه الله.
ج ـ الأحاديث الخاصة :(1/15)
1. وقد كان الصحابة يتعاملون مع الناس وفق هذه النصوص العامة من الكتاب الكريم والسنّة المطهّرة، ولا يجدون أي حرج في إلقاء السلام، وفي ردّه على اليهود الذين كانوا يقيمون معهم في المدينة المنورة، حتى كان يوم قريظة. ذكر أبو بصرة أن رسول الله قال: (إنّا غادون على يهود، فلا تبدؤوهم بالسلام، فإذا سلّموا عليكم فقولوا: وعليكم) [رواه أحمد والطبراني في الكبير، وأحد إسنادي أحمد والطبراني رجاله رجال الصحيح. وزاد الطبراني: (فلمّا جئناهم سلّموا علينا فقلنا: وعليكم)، مجمع الزوائد للهيثمي كتاب الأدب]. وقد ذكر الإمام أحمد في مسنده عن أبي عبد الرحمن الجهني قال: قال رسول الله : (إني راكب غذاً إلى يهود فلا تبدؤوهم بالسلام، فإذا سلّموا عليكم فقولوا: وعليكم) [جاء في الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد أن هذا الحديث صحيح].
ونقل العسقلاني في فتح الباري رواية البخاري - في الأدب المفرد - والنسائي من حديث أبي بصرة نفسه أن النبي قال: (إني راكب غداً إلى اليهود، فلا تبدؤوهم بالسلام).
وذكر ابن القيّم في زاد المعاد في فصل (هديه في السلام على أهل الكتاب): (صحّ عنه أنه قال: لا تبدؤوهم بالسلام ..) لكن قد قيل: إن هذا كان في قضية خاصة لمّا ساروا إلى بني قريظة قال: لا تبدؤوهم السلام. فهل هذا حكم عام لأهل الذمة مطلقاً، أو يختصّ بمن كانت حاله بمثل حال أولئك؟ واختار الترجيح أن هذا الحكم عام بناء على حديث أبي هريرة في صحيح مسلم: (لا تبدأوا اليهود ولا النصارى بالسلام ..) وسيأتي ذكره فيما بعد، لكننا نقلنا هنا قول ابن القيّم لبيان أن بعض السلف كانوا يعتقدون بأن عدم البدء بإلقاء السلام كان في قضية خاصة هي حصار بني قريظة.
2. لكن وردت رواية أخرى في صحيح مسلم. وقد رواها أيضاً أبو داود والترمذي وفيها: (لا تبدأوا اليهود ولا النصارى بالسلام ..).(1/16)
وفي رواية أبي داود، قال سهيل ابن أبي صالح: خرجت مع أبي إلى الشام، فجعلوا يمرّون بصوامع فيها نصارى، فيسلّمون عليهم. فقال أبي: لا تبدؤوهم بالسلام، فإن أبا هريرة حدّثنا عن رسول الله قال: (لا تبدؤوهم بالسلام ..).
الجمع بين الروايتين : ونلاحظ هنا ما يلي :
أ. أن الرواية الثانية لم تربط منع الابتداء بالسلام بحادثة معيّنة بل تركت الأمر على الإطلاق. فكأنّ سبب المنع هو كونه يهودياً أو نصرانياً، وبغض النظر عن وجود حالة حرب أو هدنة أو ذمة.
فالأخذ بهذه الرواية على ظاهرها، يؤدي إلى إلغاء العمل بالرواية الأولى، التي يعلّل فيها رسول الله النهي عن البدء بالسلام، بوجود حالة الحرب، إذ عند وجود المنع المطلق، لا حاجة للتعليل بظرف طارئ.
بينما لو أخذنا بالرواية الأولى، لما احتجنا إلى إلغاء العمل بالثانية، ولكننا خصّصناه فقط في حالة الحرب.
وهذه الطريقة في الجمع بين الأدلة عن طريق إعمالها كلّها هي طريقة الأصوليين، وقاعدتهم في ذلك أن (إعمال الكلام خير من إهماله).
ب. إذا قيل بأن الرواية الثانية تنسخ الرواية الأولى فالأمر يحتاج إلى توفّر شروط النسخ ومنها إثبات تاريخي يؤكّد أن الثانية قيلت في زمن متأخر عن الأولى. مثل هذا الإثبات غير موجود، أو على الأقلّ لم نطلع نحن عليه، ولكن الثابت في السنّة - كما سيأتي فيما بعد - أن الرسول كان يراسل الملوك حتى وفاته فيلقي السلام أحياناً بشكل مطلق فيقول: سلم أنتم. ويقيّده أحياناً فيقول: والسلام على من اتبع الهدى. هذا بالإضافة إلى أن الرواية الثانية لم تنسخ الأولى بل أكّدتها وزادت عليها.(1/17)
ت. إن الروايتين تؤكّدان أن المسلمين كانوا يبدؤون بالسلام التزاماً بالنصوص العامّة التي ذكرناها آنفاً من القرآن الكريم والسنّة المطهرة، ثم جاء النهي عن ذلك. والسلام ليس من المسائل التعبّدية غير المعلّلة، بل هو من المسائل التي تقبل التعليل. فإذا جاء النهي معلّلاً بحالة الحرب كان غير مناقض للنصوص العامة بل هو مخصص لها بما لا يناقض أهدافها. أما إذا جاء غير معلّل، فهو مخصص للنصوص العامة بما يناقض أهدافها. وهذا لا يصح إلاّ مع النسخ. والنسخ غير ثابت. فلم يبق أمامنا من سبيل لمنع ادعاء حصول التناقض إلاّ الجمع بين الروايتين الصحيحتين، واعتبار أن منع ابتداء غير المسلمين بالسلام سببه وجود حالة الحرب، وهذا الرأي هو الذي قال به الشيخ رشيد رضا (في تفسير المنار الآية 84 من سورة النساء) قال: روى أحمد عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله : (إني راكب غداً إلى يهود، فلا تبدؤوهم بالسلام، وإذا سلّموا عليكم فقولوا: وعليكم). فيظهر هنا أنه نهاهم أن يبدؤوهم لأن السلام تأمين، وما كان يحب أن يؤمّنهم وهو غير أمين منهم، لما تكرر من غدرهم ونكثهم بالعهد … وقد نقل النووي في شرح مسلم جواز ابتدائهم بالسلام عن ابن عباس وأبي أمامة وابن محيريز. قال: وهو وجه لأصحابنا. كما نقل عن الأوزاعي قوله: إن سلّمت فقد سلّم الصالحون، وإن تركت فقد ترك الصالحون. وقال - أي النووي -: حكى القاضي عياض عن جماعة أنه يجوز ابتداؤهم بالسلام للضرورة والحاجة أو لسبب، وهو قول علقمة والنخعي.
ونقل العسقلاني في فتح الباري الجزء الحادي عشر صفحة 33 عن ابن أبي شيبة عن طريق عون بن عبد الله عن محمد بن كعب أنه سأل عمر بن عبد العزيز عن ابتداء أهل الذمة بالسلام فقال: نرد عليهم ولا نبدأهم. قال عون: فقلت له: كيف تقول أنت؟ قال: ما أرى بأساً أن نبدأهم. قلت: لم؟ قال: لقوله تعالى: {فاصفح عنهم وقل سلام } [سورة الزخرف، الآية 89].(1/18)
ث. وقد يقال هنا إن القاعدة الأصولية أن (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) وأن لفظ (لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام ..) عام. وحتى لو صحّ أنه قيل في ظرف خاص هو نقض بني قريظة العهد ودخول الرسول معهم في حرب، إلاّ أنه يجب أن يؤخذ بعمومه وفق هذه القاعدة.
وهنا أشير إلى فائدة أصولية :
إن (السبب) في هذه القاعدة يعني، (المناسبة التي قيل فيها هذا اللفظ)، ولا يعني (السبب) الذي يكون علة للحكم.
فإذا كان السبب هو المناسبة التي قيل فيها النص، فالعبرة عند ذلك بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ومثال ذلك حكم الأنفال، فهو نزل بمناسبة وقوع الخلاف بين الصحابة حول توزيعها. فهذا الحكم ليس خاصاً بأنفال بدر، ولو أنه نزل بسببها، لأن السبب هنا هو المناسبة التي قيل فيها النص.
أما إذا كان السبب هو علة الحكم - وليس المناسبة التي نزل فيها - فالقاعدة الأصولية الثابتة أن (الحكم يدور مع علته) وأنه إذا زال السبب زال حكمه. ومثال ذلك قول ابن القيّم: إن الكتابي إذا قال لك: (السلام عليكم ورحمة الله) فالعدل في التحية يقتضي أن يردّ عليه نظير سلامه، أي تقول له: (وعليكم والسلام ورحمة الله). ولا تكتفي بالقول (وعليكم) لأن هذا القول له سبب وهو أن اليهود كانوا يقولون للمسلمين (السام عليكم) فأمروا بالردّ عليهم بهذا النص (وعليكم). فإذا زال هذا السبب فقالوا: (السلام عليكم ورحمة الله) زال الحكم المذكور، ورجعنا إلى الحكم الأصلي. فالسبب هنا هو علة الحكم وليس فقط المناسبة التي نزل فيها.
3. في حديث أنس بن مالك أن النبي قال: (إذا سلّم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم) [رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه].
وفي رواية لمسلم وأبي داود أن أصحاب النبي قالوا له: (إن أهل الكتاب يسلّمون علينا فكيف نرد عليهم؟ قال: وعليكم).(1/19)
وفي رواية للبخاري قال: مرّ يهودي برسول الله فقال: السام عليك. فقال الرسول : وعليك. ثم قال: أتدرون ماذا قال هذا؟ قال: السام عليك. قالوا يا رسول الله: ألا نقتله؟ قال: لا. إذا سلّم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم.
قال النووي في شرح هذا الحديث : اتفق العلماء على الردّ على أهل الكتاب إذا سلّموا. لكن لا يقال لهم وعليكم السلام، بل يقال عليكم فقط أو وعليكم.
وفي حديث عائشة رضي الله عنها أن اليهود عندما قالوا لرسول الله السام عليكم قالت: السام عليكم يا إخوان القردة والخنازير ولعنة الله وغضبه. فقال لها الرسول :(يا عائشة: مه. لم يدخل الرفق في شيء إلاّ زانه، ولم ينزع من شيء إلاّ شانه).
نستخلص من هذه الروايات ما يلي :
1- أن السلام كان معروفاً بين المسلمين واليهود ابتداءً ورداً باللفظ المعروف.
2- أن اليهود حرّفوا كلمة (السلام) إلى (السام) وأصبحوا يبدؤون أو يردون بذلك.
3- كان ردّ الفعل الطبيعي منع المسلمين من ابتدائهم بالسلام، ورد تحيّتهم بـ (وعليكم)، فإن ألقوا السلام ردّ عليهم بالسلام. وإن ألقوا السام ردّ عليهم بالسام.
4- منع المسلمون أن يردّوا على التحيّة السيئة بأسوأ منها، بل يكتفوا برد السيئة بمثلها كما ورد عن الرسول من نهي عائشة عن الزيادة عندما قالت لهم: وعليكم السام واللعنة. فأمرها أن تكتفي بـ (وعليكم).
5- إذا زال السبب - وهو أن أهل الكتاب يقولون للمسلمين (السام عليكم) وجب على المسلمين أن يعودوا إلى الأصل فيبدؤون بالسلام، ويردون التحية بمثلها أو أحسن منها وليس فقط بكلمة (عليكم) لأن الحكم يدور مع علته، وإذا زال سبب الحكم الاستثنائي رجعنا إلى الحكم الأصلي.
4. وحديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما (أن النبي مرّ بمجلس فيه أخلاط من اليهود والمسلمين فسلّم عليهم) [رواه البخاري ومسلم والترمذي].(1/20)
وقد تعسّف بعض العلماء، فقالوا: إنه ينبغي في مثل هذه الحالة أن يقصد بسلامه المسلمين فقط. مع أنه لا يوجد في كل روايات هذا الحديث ما يشير إلى أن الرسول قصد المسلمين فقط بسلامه. وربما دفعهم إلى ذلك الخشية من تساؤل البعض: إذا صحّ جواز السلام على غير المسلمين وهم في مجلس مع المسلمين، فلماذا لا يصح إذا كانوا منفردين؟ وما هو الفرق بين الحالتين؟
5. روى الطبراني في الصغير عن أبي هريرة عن النبي قال: (السلام اسم من أسماء الله تعالى، وضعه في الأرض تحيّة لأهل ديننا، وأماناً لأهل ذمّتنا).
وروى الطبراني في الأوسط والبيهقي عن أبي أمامة قال: سمعت رسول الله يقول: (إن الله عزّ وجلّ جعل السلام تحية لأمّتنا وأماناً لأهل ذمّتنا).
وفي الحديثين ضعف في السند، ولكن تقوّيهما النصوص العامة الكثيرة المذكورة آنفاً. وعمل الكثير من السلف بذلك كما ذكر الشيخ رشيد رضا.
6. في حياة الصحابة الجزء الأول : أخرج أبو يعلى عن حرب بن سريح قال: حدثني رجل من بلعدوية، قال: حدثني جدي، قال: انطلقت إلى المدينة فنزلت الوادي، فإذا رجلان بينهما عنز واحدة، وإذا المشتري يقول للبائع: أحسن مبايعتي. قال: فقلت في نفسي: هذا الهاشمي الذي قد أضلّ الناس، أهو هو؟ قال: فنظرت، فإذا رجل حسن الجسم، عظيم الجبهة، دقيق الأنف، دقيق الحاجبين … قال: فدنا منّا (أي الرسول ) فقال: السلام عليكم، فرددنا عليه … إلى آخر الحديث وفيه حوار طويل بين هذا الرجل الكافر وبين رسول الله (صلى الله عليه وسلَم).(1/21)
وأخرج أبو نعيم في حلية الأولياء (1/310) عن الطفيل بن أبي كعب أنه كان يأتي عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فيغدو معه إلى السوق، قال: فإذا غدونا إلى السوق لم يمرر عبد الله بن عمر على سقاط (هو الذي يبيع سقط المتاع) ولا صاحب بيعة ولا مسكين ولا أحد إلاّ وسلّم عليه. قال الطفيل: فجئت عبد الله بن عمر يوماً فاستتبعني إلى السوق. فقلت: ما تصنع بالسوق، وأنت لا تقف على البيع، ولا تسأل عن السلع، ولا تسوم بها، ولا تجلس في مجالس السوق؟ قال: وأقول، اجلس ها هنا نتحدث، فقال لي عبد الله: إنما نغدو من أجل السلام فسلّم على من لقيت. وأخرجه أيضاً البخاري في الأدب (ص 148).
وأخرج الطبراني عن أبي أمامة الباهلي أنه كان يسلّم على كل من لقيه. قال: فما علمت أحداً سبقه بالسلام، إلاّ يهودياً مرة اختبأ له خلف اسطوانة، فخرج فسلّم عليه. فقال له أبو أمامة: ويحك يا يهودي ما حملك على ما صنعت؟ قال له: رأيتك رجلاً تكثر السلام، فعلمت أنه فضل، فأردت أن آخذ منه. فقال له أبو أمامة: ويحك إني سمعت رسول الله r يقول: (إن الله جعل السلام تحية لأمتنا وأماناً لأهل ذمّتنا).
وعند أبي نعيم في الحلية (6/112) عن محمد بن زياد قال: كنت آخذ بيد أبي أمامة، وهو منصرف إلى بيته، فلا يمر على أحد، مسلم ولا نصراني ولا صغير ولا كبير إلاّ قال: سلام عليكم، سلام عليكم.
7. رسائل رسول الله :
1- رسالته إلى النجاشي الأصحم ملك الحبشة قبل أن يسلم وقد افتتحها بقوله: سلم أنت ثم دعاه فيها إلى الله وحده لا شريك له. ثم ختمها بقوله: والسلام على من اتبع الهدى
2- رسالته إلى أسقف إيلة وأهلها وقد افتتحها بقوله: سلم أنتم، ثم دعاه للإسلام.
3- رسالته إلى العباد الاسبذبين وقد افتتحها أيضاً بقوله: سلم أنتم، وقبل هديّتهم، وفصّل لهم واجباتهم وختمها بقوله: والسلام على من اتبع الهدى.(1/22)
4- رسالته إلى الهلال صاحب البحرين افتتحها بقوله: سلم أنت، ثم دعاه إلى الله، وختمها بقوله: والسلام على من اتبع الهدى.
وخلاصة القول :
إن أرجح الأقوال في المذاهب عدم جواز ابتداء أهل الذمة بالسلام. إلاّ أن القول بالجواز قال به جمهور كبير من العلماء حتى داخل كل مذهب.
- نقل ابن عابدين في حاشيته 5/264 عن بعض المشايخ أنه (لا بأس بلا تفصيل) وهو المذكور في الخانيّة. وإن رجّح هو أنه مكروه إلاّ عند وجود الحاجة إليه.
- ونقل النووي في شرح صحيح مسلم 14/145 عن الماوردي (وجهاً لبعض أصحابنا أنه يجوز ابتداؤهم بالسلام) وقد رجّح النووي التحريم.
- ونقل ابن مفلح في الآداب الشرعية 1/412 عن بعض العلماء القول بعدم التحريم.
وقد روي هذا القول ـ أي عدم التحريم ـ عن ابن عباس وابن مسعود وأبي أمامة وابن محيريز وعمر بن عبد العزيز وسفيان بن عيينة والشعبي والأوزاعي، ونقل القرطبي في تفسيره (11/112) عن الطبري قوله: وقد روي عن السلف أنهم كانوا يسلمون على أهل الكتاب، كما ذكر القرطبي نفسه عن ابن مسعود أنه فعله بدهقان صحبه في طريقه، قال علقمة: فقلت له: يا أبا بعد الرحمن أليس يكره أن يبدؤوا بالسلام؟ قال: نعم. ولكن حق الصحبة. كما اختار هذا القول السيد رشيد رضا في (تفسير المنار) والشيخ الشنقيطي في (أضواء البيان).
من كل ما تقدّم نستنتج :
1. أن الإسلام يحثّ المسلمين على المبادرة إلى طرح التحية تجاه جميع الناس وبلفظ (السلام عليكم) بدليل أحاديث إفشاء السلام العامة وهي كثيرة وصحيحة.
2. أن الإسلام يأمر بردّ التحية بأحسن منها أو مثلها حين يبادر الآخرون بها لقوله تعالى: }وإذا حيّيتم بتحية فحيّوا بأحسن منها أو ردّوها ..{. فإذا ابتدأ الكتابي بالسلام يُردّ عليه بمثله على الأقل.
3. إذا بدأ الآخرون بتحية سيّئة يجوز للمسلم ردّها بمثلها فقط، بدليل قول الرسول (ص) لأصحابه حين كان اليهود يبدؤونهم بالقول: (السام عليكم) قولوا: وعليكم.(1/23)
- ويجوز الصفح عنهم ورد التحية السيئة بأحسن منها لعموم قوله تعالى: { ويدرؤون بالحسنة السيئة} [سورة الرعد، الآية 22]. وقوله في رد التحية: }فحيّوا بأحسن منها ..{ وقوله في التعامل مع أهل الحرب: { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتهم لهو خير للصابرين } [سورة النحل، الآية 126]. وقوله تعالى: { فاصفح عنهم .. وقل سلام ..} [سورة الزخرف، الآية 19].
- ولا يجوز الزيادة عن المثل في (التحية السيئة) لما ثبت أن الرسول (ص) لم يوافق عائشة رضي الله عنها على هذه الزيادة. وذلك في الحديث الصحيح عندما قال اليهود: السام عليكم، فردت عليهم: وعليكم السام واللعنة. فنهاها عن ذلك وأمرها بالرفق وأن تكتفي بالرد: وعليكم. [الرواية متفق عليها].
هذه صورة من أخلاق المسلم. وصدق رسول الله (ص): (إنما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق).(1/24)
...
بحث
السياسة والدين
بين المبادئ والتاريخ
د. سعيد عبدالله حارب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
ندوة
الفقه السياسي للأقليات المسلمة بأوروبا
إسطنبول/ 4– 6 يوليو2006م
السياسة و الدين
بين المبادئ والتاريخ
شهدت العقود المتأخرة نقاشاً واسعاً حول علاقة الدين بالسياسة، ومدى تأثر كل منها بالآخر، وإذا كان هذا النقاش تجدد ما بعد سقوط الخلافة العثمانية في العشرينات من القرن الماضي، إلا أن قرب العهد بنظام حمل اسم "الخلافة الإسلامية" حصر الحوار في صورة هذا النظام الإسلامي وهل هو خلافة أم صورة أخرى، بل إن سقوط الخلافة العثمانية دفع بكثير من المفكرين المسلمين إلى إعادة صياغة رؤيتهم للنظام السياسي الإسلامي في محاولة لاستدراك ما أدى إليه سقوط الخلافة، ونشأت من أثر ذلك اتجاهات فكرية كما نشأت جماعات وحركات تعمل لإعادة النظام السياسي الإسلامي إلى الصدارة مرة أخرى، لكن مع طغيان المد القومي منذ ثلاثينات القرن الماضي وسيطرة الدولة الوطنية التي حملت شعارات مختلفة ترددت بين القومية والاشتراكية والإسلامية، ومع تراجع الفكر الإسلامي خلال ذلك المرحلة ـ كل ذلك ـ دفع بالحديث عن النظام السياسي الإسلامي إلى المقاعد الخلفية من الاهتمام ليعود مرة أخرى بعد عودة الروح إلى النشاط الإسلامي بصفة عامة، حيث أصبحت التيارات الإسلامية والاتجاهات الفكرية الإسلامية حاضرة على الساحة المحلية والدولية، مما أدى للإهتمام بها وإعادة طرح الأفكار التي حملتها خلال مسيرتها التاريخية، لكن إعادة الطرح جاءت بصورة تختلف عما كانت عليه عند بداية القرن الماضي إذ لم تعد المرحلة التاريخية تفرض نفسها على الساحة السياسية والفكرية، بل برزت قضايا جديدة حول النظام السياسي الإسلامي، وحتى الحضور الإسلامي الذي أصبح واضحاً ومؤثراً في الحياة العامة، و يتم طرحه كبديل لكثير من الأوضاع القائمة ولكن بأساليب تتناسب مع معطيات العصر وآلياته .(1/1)
وإذا كان الحضور الإسلامي بكافة صوره الرسمية والشعبية والفكرية يمثل حالة أخذت في الاتساع والزيادة، فإن المواجهة التي يتلقاها هذا الحضور تزداد حدّة ـ خاصة ـ في ظل الأحداث التي مر بها العالم خلال السنوات الأخيرة، ووضعت "الفعل" الإسلامي في مقدمة الاهتمام.
منذ ذلك الحين خضعت الاتجاهات والحركات والأفكار الإسلامية بل والإسلام ذاته إلى مزيد من النقد والتحليل والهجوم والقبول والرفض بل والعدوانية العملية والفكرية، إلا أن ذلك لم يخل من فائدة دفعت بأصحاب الفكر الإسلامي إلى دراسة أفكارهم وإعادة صياغتها وفقاً للأصول الإسلامية والمتغيرات والمستجدات الحديثة التي يمرون بها، ولعل من أكثر القضايا نقاشاً وتجاذباً هي قضية النظام السياسي الإسلامي، إذ تعتبر هذه القضية محوراً أساسياً في العلاقة بين الطرفين، إذ تجاوز الخلاف الدور الديني أو الأخلاقي أو الاجتماعي بل والاقتصادي، ليقف عند الجانب السياسي، فالمعارضون للاتجاه الإسلامي لم يلقوا بالاً لكل تلك الجوانب فقد يقبلون بها ويعملون مع غيرهم من أجل الاهتمام بها بل قد يستفيدون منها!! مثلما وجدنا في ظاهرة الاقتصاد الإسلامي، إذا خرجت هذه المسألة من يد "الإسلاميين" الملتزمين عند نشأتها لتكون حالة يتسارع الجميع من أجل مساندتها والاستفادة منها!! وذلك أقصى ما يتمناه "الإسلاميون" حين تنتقل أفكارهم ورؤاهم لتصبح حالة مجتمعية وطنية عامة بل حالة عالمية كما وجدنا في الاقتصاد الإسلامي.(1/2)
أما النظام السياسي الإسلامي فإنه مازال عصياً على كثير من أصحاب الرأي والقرار والفكر سواء كانوا داخل بنية المجتمعات الإسلامية أم خارجها، بل عمل هؤلاء على عزل هذا الجانب من الظاهرة الإسلامية المتجددة عن بقية الجوانب فيما سمى بـ"الإسلام السياسي" في محاولة للتفريق بين ما هو سياسي وما هو غير سياسي في الحياة الإسلامية، منطلقين من مواقف فكرية وسياسية أو تاريخية باعتبار أنه لا وجود لنظام سياسي إسلامي، أو أنه في أحسن الأحوال كان هذا النظام صالحاً لمرحلة تاريخية معينة .
وعلى الرغم من كل المحاولات التي بذلت أو تبذل في عزل هذا الجانب إلا أن الحضور الإسلامي على المستوى السياسي سواء كان في الجانب الفكري أو المشاركات السياسية في البلدان الإسلامية، جعل النظام السياسي الإسلامي ميدانا واسعا للدراسة و البحث ، لذا اجتاحت الندوات والمؤتمرات والدراسات ومراكز الأبحاث في كثير من أرجاء العالم "حمى" البحث في القضية السياسية الإسلامية ، وإذا كانت حالة" الممانعة" أو الرفض في التعامل مع الجانب السياسي في الإسلام متصورة عند من لا يأخذ بفكرة الإسلام الشامل، أي الإسلام باعتباره منهج حياة، فإن من غير المتصور أن يأتي الرفض من داخل بنية الفكر الإسلامي ذاته،لكن ذلك حدث فقد جاءت "ممانعة" أخرى من بعض العاملين في الحقل الإسلامي ،أي من بعض الفقهاء والباحثين وعلماء الدين ألإسلامي ، إذ يرفض هؤلاء الأخذ بفكرة النظام السياسي الإسلامي تارة بدعوى عدم وجود نظام سياسي إسلامي كما ذهب إلى ذلك الشيخ علي عبد الرازق – رحمه الله- في كتابه "الإسلام وأصول الحكم" الذي كان بداية لانطلاق الفكرة والتي استمرت لدى بعض الفقهاء وعلماء الدين الذين غلب على كثير منهم رفض الفكرة لا لطبيعتها بل للآثار المترتبة على طرحها فآثروا السلامية وانشغلوا بقضايا فقهية أخرى.(1/3)
ويشير العلاّمة الشيخ يوسف القرضاوي إلى أن هذه الحالة ليست وليدة العصور المتأخرة فقط بل " شكا الإمام ابن القيم في عصره (القرن الثامن الهجري) من جمود فقهاء زمنه، حتى إنهم اضطروا أمراء عصرهم إلى أن يستحدثوا (قوانين سياسية) بمعزل عن الشرع، وحمل ابن القيم الفقهاء الجامدين تبعة انحراف الأمراء والحكام، وشرودهم عن منهج الشريعة السمحة. وربما يعتبر هذا أول تسلسل للقوانين الوضعية لتحل محل أحكام الشريعة الإسلامية.
ما زال لهؤلاء الجامدين من أهل الفقه أخلاف في عصرنا، يعيشون في القرن الخامس عشر الهجري ولكنهم يفكرون بعقول علماء ماتوا من قرون، وقد تغير كل شيء تقريبا في الحياة عما كان عليه الحال في عهود أولئك العملاء. ونسي هؤلاء أن الإمام الشافعي غير مذهبه في مدة وجيزة، فكان له مذهب جديد، ومذهب قديم. وأن أصحاب أبي حنيفة خالفوه في أكثر من ثلث المذهب، لاختلاف عصرهم عن عصره، وقالوا: لو رأى صاحبنا ما رأينا، لقال بمثل ما قلنا أو أكثر... والإمام أحمد تُروَى عنه في المسألة الواحدة روايات قد تبلغ سبعاً، أو أكثر وما ذلك إلا لاختلاف الأحوال والملابسات، وتغير الظروف والأوضاع في غالب الأحيان"(1).
وجاء الرفض ـ الثاني ـ من تيار آخر من المسلمين لا يرى إمكانية العمل بالنظام الإسلامي في ظل الأوضاع القائمة لأنها – كما يراها – غير إسلامية ومخالفة "بجملتها" للإسلام، ولا يمكن بهذه الحالة طرح جانب من الإسلام (أي النظام السياسي) للتطبيق في بيئة غير صالحة له، ولذا فهو يعمل على تغيير الواقع ـ بجملته ـ ليكون مهيئاً لتطبيق النظام السياسي الإسلامي، وأخذ هؤلاء طريقاً أخر اتسم بالقوة والعنف والتشدد في تعاملهم مع الواقع الذي يعيشونه في بلاد الإسلام، ولم يهتموا ببحث أي جانب جزئي من الإسلام قبل تغيير الواقع كما يرون.(1/4)
و لذا فإن كلاً من الطرفين لا يعطيان أهمية للعمل السياسي الإسلامي، بل يدعوا إلى نبذ ذلك والابتعاد عنه سواء كان ذلك زهداً أم انتظاراً للتغيير.
وبين الطرفين يبرز تيار إسلامي واسع تزداد مساحة تأثيره يوماً بعد يوم يدعوا لولوج الشأن العام والعمل في الجانب السياسي وطرح البديل الإسلامي بالطرق السليمة ومن خلال التعامل مع الواقع لا بقبوله أو رفضه، ولكن بإصلاحه وتطويره وصولاً إلى الرؤية الإسلامية في كافة جوانب الحياة ومن بينها الجانب السياسي.(1/5)
إن البحث في النظام السياسي الإسلامي لم يأخذ مكاناً واضحً متميزاً في كتب التراث وخاصة كتب الفقه، حيث توزعت أحكامه في أبواب كثيرة من كتب الحديث والفقه ، و لم يحظ إلا بالقليل من الكتابات المتخصصة ، مثلما وجدنا في كتابي "الأحكام السلطانية" للماوردي ، ولأبي يعلى الفراء، والغياثي لإمام الحرمين، والإمامة والسياسة المعروف بـ "تاريخ الخلفاء" لابن قتيبه الدينوري وكتاب مآثر الأنافة، في معالم الخلافة، للقلقشندي، وكتاب السياسة الشرعية لابن تيمية، وغيرهم من الفقهاء والكتاب، إلا أن ذلك لا يقارن بما كتب في أبواب الفقه الأخرى كما لا يقارن بما كتب في العصور المتأخرة حول النظام السياسي في الإسلام،حيث شهد ـ هذا ـ الميدان من الدراسات ألإسلامية إهتماماً واضحا من الفقهاء والباحثين والدارسين ، ومع هذا فلم تتبلور تلك الكتابات في مشروع فكري يحدد معالم هذا النظام برؤية معاصرة وقابلة للتطبيق، فالخلاف حول المشاركة السياسية بين رافض وموافق ومشترط ، وحكم دخول البرلمانات والمجالس النيابية، ومشروعية دخول المرأة للحقل السياسي، والعلاقة مع الآخر، سواء كان الآخر القريب داخل في المجتمع الإسلامي أم الآخر البعيد عنه، كل ذلك وغيره من المسائل ، مازالت مثار خلاف وجدال وحوار بين الباحثين والمجتهدين ورجال الفكر والسياسة داخل المجتمعات الإسلامية، وإذا كانت بعض القوى والتيارات الإسلامية قد حسمت أمرها في مثل هذه القضايا إلا أن غيرها مازال مشتبكاً معها دون حسم مما يتطلب دراسة وبحث واجتهاد جديد.(1/6)
وإذا كانت هذه المشكلات تعيق الرؤية نحو النظام السياسي الإسلامي المعاصر، فإن هذا النظام مازال مثقلاً بإرث تاريخي يمنعه من التحرك والانطلاق ويجد من مسيرته نحو التطبيق المعاصر، فقد ارتبط النظام السياسي في حياة البشرية ، بالتاريخ أكثر مما ارتبط بالنصوص، وليس ذلك حكراً على دين دون آخر، أو ملة دون غيرها، أو شعب دون سواء، بل هو نسق عام شمل مختلف الأزمنة والدول والبيئات.
والنظام السياسي الإسلامي واحد من هذه الأنظمة التي ارتبط بالتاريخ كثير إلا أنه يختلف عن غيره من الأنظمة بمرجعيته الشرعية أو (الدينية) الثابتة والمستقر – مما يحفظ له ديمومته واستمراره كما يحفظ له ملائمته للأزمنة والأمكنة والبيئات بقدرته على المحافظة على ثوابته والتطور في متغيراته.
ومع هذا فإن الباحث في النظام السياسي الإسلامي يجد غلبة "التأريخية" عليه أكثر من غلبة "الشرعية" أو "الدينية" مما يتطلب معالجة جوانب هذه "الغلبة" والعودة بهذا النظام إلى نسقه الطبيعي الذي يجمع بين أصوله وفروعه.
ـ الإسلام والسياسة :
إذا كان الفقهاء المعاصرون للشيخ علي عبد الرازق، أمثال الشيخ محمد الخضر حسنين، شيخ الأزهر، والشيخ محمد بخيت المطيعني مفتي الديار المصرية، وغيرهم قد ردوا على الشيخ علي عبد الرزاق في كتابه الإسلام وأصول الحكم، فإن الواقع المعاصر قد تجاوز الخلاف حول الدين أو الإسلام والسياسة، إذا أصبح الأمر أوسع من أن يحصر أو يتجاهل فعلاقة الإسلام والسياسة علاقة واضحة ، ولا ينكر ذلك إلا غائب عن الوعي الفكري أو الثقافي، أو غير دارس لواقع المجتمعات والشعوب الإسلامية، ، حتى تلك المقولة التي كان يرددها البعض حول " لا دين في السياسة، ولا سياسة في الدين" أصبحت شيئاً من الماضي الذي يجب أن لا يلتفت إليه للآن البحث في علاقة الإسلام بالسياسة من حيث المنشأ، أي هل في الإسلام سياسة؟! بحث سبقته الأحداث والوقائع.(1/7)
بيإن الممانعة أو الرفض لفكرة علاقة الإسلام بالسياسة لا تأتي إلا من غير مدرك لحقيقة الإسلام ودوره ورسالته في الحياة، وأنه لم يطلع على الإسلام بشموليته ـ وهذا في أحسن الأحوال ـ أو تأتي الممانعة من "غير راغب" في أن يجد للإسلام موضعاً في سياسة الأمة وإدارة شؤونها إما حفظاً لمصالح ذاتية أو استجابة لرغبة خارجية، أو صاحب موقف معاد الإسلام، وقد عاب الله سبحانه وتعالى على اليهود حين أخذوا شيئاً من الدين وتركوا شيئاً أخر، فقال تعالى " أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ "(2).
ولسنا بحاجة إلى إثبات علاقة ألإسلام بالسياسة، فقد اجتهد علماء الأمة وفقهائها في العصر المتأخر، وبينوا ذلك بصورة جلية .(3)
ولعل مما يمكن الاستشهاد به هنا للتأكيد على توافق السلف والخلف على أهمية النظام السياسي في الإسلام قول الإمام الغزالي: "إنه لا يتمارى عاقل في أن الخلق على اختلاف طبقاتهم وما هم عليه من تشتت الأحوال ، ما لم يكن لهم رئيس مطاع يجمع شتاتهم لهلكوا جميعاً، فإن السلطان ضروري لنظام الدنيا، ونظام الدنيا ضروري في نظام الدين، ونظام الدين ضروري في الفوز بسعادة الآخرة، وهو مقصود الأنبياء قطعاً، فكان وجوب الإمام من ضروريات الشرع قطعاً "(4).
ويقول الماوردي: "إن الإمام يقوم بأمور شرعية قد كان مجوزاً في العقل ألا يرد التعبد بها؛ ولذلك فوض الشرع الأمور إلى وليه في الدين"(5).
وقال ابن تيميه: "يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عن الاجتماع من رأي، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم" رواه أبو داوود."(6).
ويقول القلعي: "أجمعت الأمة قاطبة إلا من لا يتعد بخلافه على وجوب نصب الإمام على الإطلاق وإن اختلفوا في أوصافه وشرائطه"(7).(1/8)
ويقول ابن خلدون : "إن الشارع أعلم بمصالح الكافة حتى في الملك الذي هو طبيعي للاجتماع البشري، ولذلك أجراه على منهاج الدين ليكون محوطاً بنظره"(8).
وهكذا نجد أن التأصيل التاريخي يشير إلى أن الفقهاء الأوائل قد أكدوا على وجوب وجود نظام إسلامي سياسي، بل إن بعضهم كان يبحث في تفاصيل هذا النظام، ومدى وجوب نصب الإمام (الحاكم) من عدمه، وكذلك شروطه واختصاصه وعزله، وغيرها من الأحكام المتعلقة بـ (شخص) الحاكم، بل إن بعضهم قد تجاوز البحث عن فكرة هل في الإسلام نظام سياسي لأنه اعتبر ذلك من القضايا المسلمة التي لا خلاف عليها، وإنما الخلاف في التفاصيل التي تلي ذلك، ولذا وجدنا أن ابن تيميه –مثلاً – يضع فصل (وجوب اتخاذ الإمارة) في آخر كتابه (السياسة الشرعية) بعد أن بحث في تفاصيل هذه (الإمارة) نظام الحكم ، وكأنه بذلك يشير إلى أن هذه القضية لا يجب أن تتصدر البحث لأنها قضية مسلمه !!.
بل إن بعض الفقهاء انشغل بتفاصيل النظام ذاته كالبحث في الشورى وأحكام الولاية والوزارة والقضاء، وهي ما يطلق عليه اليوم السلطات الثلاث (السلطة التشريعية ، والسلطة التنفيذية، والسلطة القضائية).
لكن في العصور المتأخرة أُعيد طرح الأمر، أي هل هناك سياسة في الإسلام، وكأن الأمر حادث مستجد، لا راسخ مستمد، ولذا ثار جدل واسع بين الباحثين والفقهاء، خاصة مع الحملة التي يشنها لمعارضون للقول بوجود نظام إسلامي سياسي حيث طرحت على أرض الواقع نماذج مختلفة من أنظمة الحكم في البلاد الإسلامية، شط بعضها عن الاقتراب من الإسلام فتبنى الفكر الشيوعي أو المادي الملحد الذي لا يرى للدين دور في الحياة عدا أن يكون في السياسة، وتراوحت نماذج أخرى إلى تبني صورة العلمانية كنظام للحياة بما فيها الجانب السياسي، فأعلنها صراحة ، بينما مارسها لبعض ممارسة مخفية، وفي كلا الأمرين لم يرفض الإسلام كدين لكنه رفض كنظام حاكم للسياسة والشأن العام في تلك الدول.(1/9)
وقد قام الرفض لفكرة السياسة في الإسلام على أساس عدم وجود نصوص محددة لذلك الأمر أو على أساس عدم ملائمة النظام السياسي للإسلام للواقع، بينما ذهب البعض إلى طرح تفصيلات داخل فكرة النظام باعتبارها معوق لتطبيقه أو غير قابلة للتطبيق فأثيرت مشكلات عدة يرجع معظمها إلى التاريخ أكثر مما يرجع للفقه أو للأحكام المرتبطة بالنظام السياسي الإسلامي، ولعل من أبرز هذه الحالات :-
أولاً :موقع السياسة في الفقه الإسلامي :
كما أشرنا فإن مسألة وجود فكرة السياسة في الإسلام أصبحت أمراً واقعاً إلا أن التساؤل الذي يطرحه البعض هو : أين موقع ذلك "الوجود" من التراث الإسلامي الكبير الذي تركه لنا الفقهاء؟ فهذا التراث لا يتناسب مع العصر، كما أنه لا يناسب القوالب المطبقة حالياً من أنظمة ومؤسسات وقوانين تجاوزت ما كان عليه المسلمون في العهود السابقة؟!
إن من الخطأ التعامل مع النظام السياسي الإسلامي في أحكامه أو تطبيقاته كما يتم التعامل مع الأحكام الفقهية الأخرى التي تمتلئ بها أبواب الفقه الإسلامي، فمن حيث التأصيل، فإن أحكام السياسة في الإسلام هي من الأحكام العامة التي لا تعتمد على الأحكام التفصيلية وإنما تعتمد على القواعد العامة، أو ما يسمى في لغة القانون بـ (القانون العام).
يقول الدكتور السنهوري في رسالته حول فقه الخلافة : "تدخل أحكام الخلافة (نظام الحكومة) بطبيعتها في نطاق علم الفروع – وعلى وجه التحديد في شق المتعلق بالقانون العام (والقانون الدستوري) رغم أن الفقهاء يعتبرونها من مباحث علم الكلام .(1/10)
ونحن لا نشك في وجود (قانون عام) في الفقه الإسلامي، وإن كان فقهاؤنا لم يستعملوا هذه المصطلحات ولم يقروا بوضوح التفرقة الموجودة في القوانين الحديثة بين القانون العام والقانون الخاص، بل ساروا على بحث المسائل المتعلقة بهذين الفرعين معاً دون تمييز كل منهما عن الآخر فنجدهم يدرسون العقود مع الحدود إلى جانب الإدارة ونظام القضاء والولايات (ومن بينها ولاية الحكم ونظام الحكومة)، لذلك فإن تحديد نطاق (القانون العام) في الفقه الإسلامي واستنباط قواعد التنظيم الدستوري أو الإداري، أو الدولي، على أسس مستقلة ومتميزة عن القانون الخاص، مهمة شاقة وعسيرة لأنها محاولة جديدة على الفقه الإسلامي.
وهناك عامل آخر يزيد من صعوبة هذه المهمة هو أن مسائل القانون العام لم تحظ من الفقهاء المسلمين في العصور السابقة بنفس العناية التي بذلوها لمسائل القانون الخاص"(9).(1/11)
ومن هنا فإن من الخطأ البحث في الفقه الإسلامي عن جوانب السياسة بصورتها التفصيلية القديمة منها والمعاصرة، وهذا ما وقع فيه كثير من الباحثين المسلمين وغيرهم، المقتنعين بفكرة النظام السياسي الإسلامي والرافض لها حين استخدموا قوالب وأدوات محددة للبحث في هذا الشأن فغلب عليهم التاريخ أكثر من غلبة الفقه، إذ أن معظم ما تم استخلاصه من النظام السياسي الإسلامي هو وقائع تاريخية يمكن موافقتها للقاعدة الشرعية العامة (التي هي الأصل في أحكام السياسة) ويمكن مخالفتها، وهذا ما ذهب إليه بعض الباحثين المسلمين حين اعتمد على التاريخ وجعل أفعال الخلفاء والحكام والسلاطين بمنزلة الحكم الشرعي أو الأصل في المسألة على الرغم من مخالفة ذلك للقواعد الإسلامية العامة، ويبدوا الحرج الأكبر عند محاولة إنزال هذه الوقائع (الأحكام) التاريخية منزلة التطبيق العملي المعاصر، إذ لا يأتي الرفض من خارج هذه الوقائع باعتبارها إسلامية فقط (لدى الرافضين) بل يأتي الرفض من داخل بنية الواقع ذاتها التي لم تعد صالحة للتطبيق، وكمثال على ذلك نجد في أحكام أهل الذمة نصوص لم تعد صالحة لهذا العصر كقول بعض الفقهاء (أن أهل الذمة يمنعون من ركوب الحمر النفيسة)!!، ومقابل هذا فإن استخدام أدوات وقوالب معاصرة ونفي وجودها في الإسلام كدليل على نفي وجود نظام سياسي، يحقق للرافضين غرضهم من الرفض هو خطأ كذلك ، في المقدمات والنتائج إذ يعتمد هؤلاء أما على مقارنة خاطئة لتطبيقات مشابهة كالزعم بأن الشورى مناقضة للديمقراطية – مثلاً – لعدم وجود نظام انتخابي في الإسلام، أو لأن الشورى في الإسلام هي ملهمة وليست ملزمه كما هي في النظم السياسية المعاصرة، أو القول بأن الإسلام لم يعرف النظام السياسي لأنه لم يعرف الدستور المتفق عليه، وأن القول بدستورية القرآن الكريم هو قول لا يمكن تطبيقه في الوقت المعاصر لوجود دساتير مكتوبة ومتفق عليها، ولذلك نجد عند هؤلاء الباحثين(1/12)
اهتمام واضح في القضايا (المشكلة) في النظام السياسي الإسلامي وليس في القواعد العامة التي يمكن أن تخرج المسألة من (المشكلة) إلى (الحل) – إن محاولة كهذه هي دفع للنظام الإسلامي السياسي للتحول إلى صورة من الأنظمة الأخرى وتفريغه من مضمونه الديني (الشرعي) الذي يميزه عن غيره، أو فصل هذه الجانب من الإسلام ( فيما يسمى بالإسلام السياسي )عن بقية الجوانب والتعامل معه معاملة أخرى تختلف عن بقية الجوانب كالجانب العقدي أو العبادي أو الأخلاقي التي لا تجد مثل هذا الرفض بل نجد الاهتمام والعناية بها وفي كلا الحالتين يتحقق الهدف المطلوب وهو القول بعدم وجود نظام سياسي إسلامي. إن فهم هذا النظام لا يمكن أن يتم إلا بفهم شمولي للإسلام ، فالأحكام السياسية الإسلامية وإن كانت قائمة على القواعد العامة دون تفصيلاتها إلا أنها مرتبطة بالجوانب الأخرى ارتباطاً مباشرة إذ أن ذات النصوص والأحكام والقواعد العامة التي تحكم جوانب العقيدة والعبادة والأخلاق، هي ذاتها التي تحكم المعاملات والسياسة لأن مرجعيتها واحدة وهي الكتاب والسنة النبوية، وإذا كانت جوانب العقيدة والعبادة والأخلاق قد شملتها الأحكام التفصيلية أكثر من المعاملات والسياسة فلأن الأولى أكثر استقراراً وثباتاً من الأخرى (وخاصة السياسة) التي من طبيعتها التغير والتبدل داخل الإطار الأوسع وهو القواعد العامة.(1/13)
وإذا تبين موقع السياسة في النظام الإسلامي الشامل نجد أن من الصعوبة مقارنته بأنظمة أخرى يمكن اجتزائها وفصلها عن سياق المجتمع، إذ لا يمنع النظام العلماني – مثلا – أن تكون السياسة ملتزمة بالديمقراطية في مجتمع لا ديني أو مجتمع لا تأثير للدين فيه، بل يمكن الفصل بين السياسة والحياة بمجملها بحيث تحكم السياسة ضوابط ومبادئ ليست هي الضوابط والمبادئ ذاتها التي تضبط المجتمع، فعلاقة السياسة – مثلا – بالأخلاق في المجتمعات غير الإسلامية هي علاقة واهية إذ تغلب المصلحة على السياسة أكثر من غلبة الأخلاق بينما يكون للأخلاق شأن أوسع في معاملات الناس وعلاقتهم ببعضهم البعض،أما في الإسلام فإن السياسة و ألأخلاق ترتبطان إرتباطاً عضويا ، ومن هنا فإن هذه "التجرئة" غير ممكنة في النظام السياسي الإسلامي لأنه جزء من كل يرتبط ارتباطاً وثيقاً مع بقية مكونات الإسلام.
إن الأنظمة السياسية هي جزء من فلسفة المجتمع التي يسير عليها، وحيث أن فلسفة المجتمع الإسلامي قائمة على الإسلام فمن غير المتصور فصل الجانب السياسي في المجتمع الإسلامي وجعله وفقاً لفلسفة مجتمعات أخرى، وليست هذه دعوة لرفض الاستفادة من الآليات والقوالب والأدوات و النماذج المتبعة في النظم السياسة الأخرى ولكن محاولة لفهم الجذور التي يقوم عليها المجتمع بحيث يستمد النظام السياسي فلسفته منها حتى لا يقع تعارض بين السياسة والمجتمع أو بين السياسة و الدين .
إن محاولة وضع النظام السياسي الإسلامي في نسق معرفي قائمة على مرجعية وفلسفة مختلفة هو محاولة لتفريغ هذا النظام من مضمونه، وفي هذه الحالة تصبح الحاجة إليه ضئيلة، إذ يمكن استبداله بغيره من الأنظمة، خاصة مع دعوى عدم التأصيل (كما فعل الشيخ على عبد الرازق) أو عدم الملائمة كما يفعل (الليبراليون والعلمانيون).(1/14)
لذا فإن فهم النظام السياسي الإسلامي لايمكن أن يتم إلا من خلال نظرية المعرفة الإسلامية القائمة على النصوص الشرعية سواء كانت تفصيلية (كما هي في العقيدة والعبادة والأخلاق) أو من خلال الأدلة والقواعد العامة كما هي في السياسة.
فقد جاء القرآن الكريم والسنة النبوية ، بأحكام عامة تحتاج إلى أحكام تفصيلية التفصيلية ومن ذلك قوله تعالى " وأمرهم شورى بينهم"(10).
وقوله تعالى: " وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ"(11).
فهي من الأحكام العامة التي لم تفصل طريقة الشورى ولا كيفيتها ولا أحكامها، وإنما أوجبت الشورى كحكم عام وتركت بيان ذلك إلى الأحكام التفصيلية الأخرى، ومثال ذلك ـ أيضا ـ قوله تعالى : " وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ" (12) .
وقوله تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ" (13) .
كما جاءت آيات أخرى لتعطي أحكاماً عامة في غير الشأن السياسي كقوله تعالى : " وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ"(14) .
فلم تشر الآية إلى تفصيل هذا التعاون وإنما أشارت إلى قاعدة عامة في ذلك أي أن يقوم على البر والتقوى ويتجنب الإثم والعدوان.
ومثل تلك الآيات تتكرر كثيرا في القرآن الكريم، لتعطي المسلمين حرية الاجتهاد والبحث فيها وإنزالها إلى الواقع وفقاً للظروف والبيئات بما لا يخرجها عن نسقها العام.
ولعل من رحمة الله بالمسلمين أن الجانب السياسي يدخل ضمن هذا النوع من الأحكام لأنه أكثر الأحكام حاجة للتغيير والتطوير وفقاً لحاجات الناس ومصالحهم وأمكنتهم وبيئاتهم.(1/15)
ثم جاءت القواعد الكلية في الفقه الإسلامي لتضع إطاراً للعمل السياسي يستطيع السياسي والفقيه التحرك من خلال ذلك الإطار اجتهاداً وبحثاً وإعمالاً للنصوص وتقديراً للمصلحة وفقاً لتلك القواعد ، فهي كما يعرفها بن نجيم بأنها "حكم كلي ينطبق على جميع جزيئاته أو أكثرها لتعرف أحكامها منه" وذكر عدداً من القواعد التي تسع العمل السياسي كقاعدة الأمور بمقاصدها، وقاعدة الأصل في الأشياء الإباحة، وقاعدة العادة محكمة ، وقاعدة تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة، وغيرها من القواعد التي تؤصل للأحكام التفصيلية في النظام السياسي (15).
يقول الأستاذ مصطفى الزرقا ـ رحمه الله ـ "القواعد الفقهية هي من قبيل المبادئ العامة في الفقه الإسلامي التي تتضمن أحكاماً شرعية عامة تنطبق على الوقائع والحوادث التي تدخل تحت موضوعاتها".(16)(1/16)
إن البحث في النظام السياسي الإسلامي يجب أن لا يقف عند النصوص وحدها بل لابد له من استدلال الحكم الشرعي ـ للفعل السياسي ـ من خلال القاعدة العامة وإنزالها منزلة التطبيق التفصيلي، بما يحقق المصلحة، إذ المصلحة مقدرة في الشريعة الإسلامية ما لم تعارض حكماً صريحاً، ولا شك أن ذلك البحث يتأتى إلا من خلال فتح باب الاجتهاد أو توسيعه في الشأن السياسي إذ أن إغلاق هذا الباب أو تضييقه حرم الأمة الإسلامية من تطوير نظامها السياسي بما يوافق الشرع ويتلائم مع الواقع ويحقق المصلحة الشرعية ، وقد وقع المسلمون بسبب ذلك في حرج جعلهم يبحثون عن حاجاتهم السياسية أما من خلال وقائع تاريخية أو من خلال مقارنة ذلك بما عند الآخرين فمازال المسلمون يتساءلون إلى اليوم أيهما أولى في طريقة اختيار الإمام (الحاكم) هل هي الاستخلاف كما فعل أبو بكر الصديق رضى الله عنه باستخلافه لعمر بن الخطاب رضى الله عنه ؟ ، أم عن طريق الاختيار كما فعل عمر رضى الله عنه باختيار ستة من الصحابة يتم الاختيار من بينهم بل إن الخلاف ليضيق حول كم عدد الذين يمكن أن يتم الاختيار بينهم هل هم كما حددهم عمر رضي الله عنه أم أكثر من ذلك!!.
ونسي هؤلاء أن هذه من الوقائع التاريخية إذ أن كِلا الأمرين كان صالحاً في وقته فاستخلاف أبي بكر لعمر رضى الله عنهما جاء بسبب الظروف التي مرت بها الدولة الإسلامية عند تولي أبي بكر رضي الله عنه الخلافة ، وما تبع ذلك من حروب الردة التي كادت تؤدي بالدولة و بالنظام السياسي فيها ، بينما جاء فعل عمر رضى الله عنه موافقاً للمرحلة التاريخية التي كان المسلمون يعيشونها عبر استقرار الدولة واتساعها وتعدد مصادر المشاركة فيها.
ولذا فإن الوقوف عند هذه الوقائع التاريخية أو غيرها وعدم الاجتهاد جعل الفقه السياسي يجمد عند تلك الوقائع التاريخية أو غيرها ، ولم يبدأ تحركه إلا مع المواجهة التي شهدها بعد سقوط الخلافة العثمانية.(1/17)
لذلك فليس من المناسب أن نعيد الوقائع التاريخية أو أن نجعلها قياساً ثابتاً أو حتى حكماً شرعياً لا يمكن مخالفته، وفي هذا إجابة لكثير من التساؤلات مثل هل في الإسلام انتخابات، وما شكلها، وما شروط الناخب والمنتخب، ومدة المجلس وفترة رئاسة الحاكم، وغيرها من التساؤلات التي لن نجد لها إجابة تفصيلية في الفقه السياسي الإسلامي.
وهنا تبرز أهمية الاجتهاد في الفقه السياسي الإسلامي، ولعل الاجتهاد في هذا الباب من الأوليات المعاصرة في حياة المسلمين، حتى يتم ملء الفراغ (الفقهي) الذي مروا به خلال العصور المتأخرة إذ أن الفقه السياسي الإسلامي، ليس قائماً على الأدلة القطعية ـ كما بينا ـ بل هو متردد بين النفي والإثبات كما يقول الإمام الشاطبي رحمه الله "مجال الاجتهاد المعتبر هو ما تردد بين طرفين وضح في كل منهما قصد الشارع في الإثبات في أحدهما، والنفي في الآخر، فلم تنصرف آليته ـ إلى طرف النفي ولا إلى طرف الإثبات".(17)
ويقول الإمام الغزالي رحمه الله (المجتَهَد فيه: كل حكم شرعي ليس فيه دليل قطعي، وما اتفقت عليه الأمة من جليات الشرع، وفيها أدلة قطعية يأثم فيها المخالف، فليس ذلك محل اجتهاد".(18)
بل إن عالماً كشيخ الإسلام ابن تيمية جعل الاجتهاد جزء مما اشتمل علم الشرع فيقول:
"لفظ الشرع في هذه الأزمنة ثلاثة أقسام:
- أحدهما الشرع المنزل، وهو الكتاب والسنة، واتباعه واجب من خرج عنه وجب قتله، ويدخل فيه أصول الدين وفروعه، وسياسة الأمراء وولاة المال، وحكم الحكام، ومشيخة الشيوخ، وغير ذلك فليس لأحد من الأولين، والآخرين خروج عن طاعة الله ورسوله.
- والثاني الشرع المؤل وهو موارد النزاع والاجتهاد بين الأمة، فمن أخذ فيما يسوغ فيه الاجتهاد أقر عليه، ولم تجب على جميع الخلق موافقته، إلا بحجة لا مرد لها من الكتاب والسنة.(1/18)
- والثالث: الشرع المبدل، مثل ما يثبت من شهادات الزور، أو يحكم فيه بالجهل والظلم بغير العدل، والحق حكماً بغير ما أنزل الله.(19)
ويشرح ابن القيم رحمه الله الحكم المؤول بقوله: "وأما الحكم المؤول، فهو أقوال المجتهدين المختلفة التي لا يجب إتباعها، ولا يكفر ولا يفسق من خالفها، فإن أصحابها لم يقولوا: هذا حكم الله ورسوله، بل قالوا: اجتهدنا برأينا، فمن شاء قبله، ومن شاء لم يقبله، ولم يلزموا به الأمة".(20)
ولهذا يقرر إمام الحرمين ـ رحمه الله ـ أن الإمامة أي السياسة هي موطن اجتهاد فيقول:
"لا ينبغي أن تُطلب مسائل الإمامة من أدلة العقل، بل تعرض على القواطع السمعية. ولا مطمع في وجدان نص من كتاب الله تعالى في تفاصيل الإمامة. والخبر المتواتر معوز أيضاً، فآل مآل الطلب في تصحيح المذهب إلى الإجماع، فكل مقتضى ألفيناه معتضداً بإجماع السابقين، فهو مقطوع به، فكل ما لم يصادف فيه إجماعاً اعتقدناه واقعة من أحكام الشرع، وعرضناه على مسالك الظنون عرضنا سائرَ الوقائع، وليست الإمامة من قواعد العقائد، بل هي ولاية تامة، وعبارة معظم القول في الولاة والولايات العامة والخاصة مظنونة في محل التأَخِّي والتحري، ومن وفقه الله تعالى وتقدس، للوقوف على هذه الأسطر، واتخذها في المعوصات مآبه ومثابة، لم يعتض عليه معضل، ولم يخف عليه مشكل،وسرد المقصود على موجب الصواب بأجمعه، وضع كل معلوم ومظنون في موضعه وموقعه".(21)
ومن هنا يتبين أن قول القائلين بأن النظام السياسي الإسلامي لا حقيقة له لعدم وجود نصوص محددة تصف مكوناته قول مردود، مثله مثل الذين يضعون صورة واحدة لهذا النظام كأن يشترطوا لإسلامية النظام السياسي أن يكون نظام خلافة!!.
إن النظام السياسي الإسلامي قائم على الإجتهاد من خلال الأحكام والقواعد العامة.
ثانياً: طبيعة النظام السياسي الإسلامي:(1/19)
من القضايا التي تداخل التاريخ فيها بالدين طبيعة النظام السياسي الإسلامي، أو بتعبير أدق شكل الدولة الإسلامية، هل هو نظام خلافة أم إمارة، أم سلطة، أو مُلك، أم غير ذلك من المصطلحات التي استخدمت عبر التاريخ الإسلامي ؟.
واليوم يعاد السؤال ولكن بطريقة أكثر دقة، أي ما هي صورة النظام السياسي الإسلامي هل هو ديمقراطي، أم ديكتاتوري، فردي أم جماعي (شعبي) ؟، إلى غير ذلك من التساؤلات التي تعاد صياغتها بما يتناسب من الواقع الذي تعيشه تلك المرحلة، وهنا يعود الأشكال ـ مرة أخرى ـ وهو أن أدوات القياس والتقويم لأي شيء وليدة فلسفة وفكر،وهذه المقاييس التي يراد بها قياس النظام السياسي الإسلامي تصلح لقياس الأشكال لا المحتوى، إذ لا يقال هل في النظام السياسي الإسلامي مشاركة سياسية أم لا؟ وهل في النظام الإسلامي مؤسسات دستورية أم لا، وهل في النظام السياسي الإسلامي فصل للسلطات أم؟. وما هي قواعد النظام السياسي الإسلامي، إن الإجابة على هذه الأسئلة ستحدد طبيعة النظام السياسي ثم يحكم عليه بعد ذلك إن كان يتوافق مع الديمقراطية أم الدكتاتورية، وإن كان فردياً أم جماعياً (شعبياً)، وهذا إذا تجاوزنا القول بأن النظام السياسي الإسلامي له صفة خاصة به يمكن أن تقاربه بغيرها لكن لا يمكن مطابقتها مع هذا الغير!!.
إن محاولة صب الأنظمة السياسية في قوال موحدة هو مخالف لطبيعة الأشياء والحياة، القائمة على التنوع والتمايز والتغير بل المدافعة والتطوير التي وصفها (تويني) في نطريته حول (التحدي والاستجابة) والتي نتعامل معها إسلامياً من خلال نظرية المدافعة انطلاقاً من قوله تعالى (ولولا دفع الله الناس).(1/20)
ولذا فإن عملية المقارنة ليست ضرورة بحد ذاتها لتحديد طبيعة النظام الإسلامي بل ـ أعتقد ـ أن من المهم إبراز طبيعة النظام الإسلامي وتميزه عن الآخرين باعتباره نموذجاً قابلاً للتطبيق مثله مثل الأنظمة الأخرى التي تستمد أصولها من الإسلام مثل النظام الاقتصادي والنظام الاجتماعي والنظام المالي، وليس بالضرورة أن يكون هذا النظام ديمقراطياً أم دكتاتورياً فردياً أم جماعياً، جمهورياً أم ملكياً!!، بل المهم أن تتحقق فيه المقاصد العامة للإسلام باعتباره نظاماً سياسياً إسلامياً.
لقد ارتبطت صورة النظام السياسي الإسلامي في أذهان المسلمين عبر نظام الخلافة، وترسخ في مفهومهم أن أي مسمى لهذا النظام غير الخلافة هو نظام مخالف للإسلام،وترتب على ذلك أحكاماً عدة كالقول بتكفير بعض الأنظمة في بلاد المسلمين لأنها ليست نظام خلافة!، أوالسعي لإقامة هذه الخلافة من خلال التجمعات والحركات والجماعات والأحزاب التي نشأت في البلاد الإسلامية.
والواقع أن صورة النظام السياسي الإسلامي لا يمكن حصرها في مسمى الخلافة فقط على الرغم من شيوع هذا المسمى وارتباطه بالممارسات والوقائع التاريخية التي عاشها المسلمون عبر التاريخ كما ارتبطت به عواطفهم ومشاعرهم لأنه نظام تميز عن بقية الأنظمة الكسروية والبيزنطية التي كانت قائمة آنذاك، كما أنه يعبر عن مرحلة تاريخية اتسمت بالتفوق والعزة والمجد، على الرغم مما حوته في بعض صفحات التاريخ فيها من نكسات أو حتى مخالفات للأسس التي جب أن يقوم عليها النظام السياسي الإسلامي، كتحولها من خلافة راشدة إلى ملك عضوض، أو سيادة الجور والطغيان عند بعض خلفائها أو حكامها، إلا أن ذلك لا ينفي عنها ارتباطها في أذهان المسلمين بالخلافة الإسلامية.(1/21)
لكن هذه الصورة للنظام السياسي الإسلامي لا يمكن الجزم بأنها الصورة الوحيدة المعبرة عن نظام الإسلام في الساسة و الحكم ، لأنها ارتبطت بالتاريخ أكثر من ارتباطها بالنصوص القطعية، يقول الأستاذ السنهوري ـ رحمه الله ـ "إن حكومة الخلافة تتميز عن الحكومات الأخرى بالخصائص الثلاث الآتية:
1 – إن اختصاصات الحكومة (الخليفة) عامة أي أن تقوم على التكامل بين الشؤون الدنيوية والدينية.
2 – إن حكومة الخلافة ملزمة بتنفيذ أحكام الشريعة الإسلامية.
إن الخلافة تقوم على وحدة العالم الإسلامي.
ومتى اجتمعت هذه الخصائص في الحكومة الإسلامية أصبحت حكومة شرعية مهما يكن شكلها واستحقت أن توصف بأنها حكومة (الخلافة).(22)
وإذا كان الأستاذ السنهوري يقرر ذلك في مرحلة متأخرة من تاريخ المسلمين ـ عند سقوط الخلافة العثمانية ـ فإن الواقع اليوم يشير إلى أن أهمية أن يطرح النظام السياسي الإسلامي نظاماً قابلاً للتطبيق سواء حمل مسمى الخلافة أم غيرها، بل أنه ـ السنهوري ـ سعى من خلال رسالته المتميزة (فقه الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أم شرقية) إلى تطوير فكرة الخلافة الإسلامية بروح جديدة تحافظ على الأصول وتوافق العصر،وهو عين ما ذهب إليه الأستاذ مالك بن نبي ـ رحمه الله ـ في كتابه (نحو كومنولث إسلامي).(23)
ويقول الأستاذ محمد أسد ـ رحمه الله ـ "إن الشريعة الإسلامية لا تضع نموذجاً محدداً يجب على الدولة الإسلامية أن تتشكل على أمثاله، ولا هي تضع لنا خطة مفصلة لنظرية دستورية هذا على الرغم من أن النظام السياسي الذي ينبثق عن القرآن والسنة، ليس وهماً ولا خيالاً، بل إنه واضح المعالم، وهو يرسم لنا صوراً جلية لمنهاج سياسي صالح للنفاذ والتطبيق في كل الأزمنة والظروف".(24)(1/22)
ويقول الدكتور محمد ضياء الدين الريس: "إذا كان دور الخلافة قد انتهى، فإن من واجب المسلمين أن يعملوا لبدء الدور الجديد لها، وليس المهم الاحتفاظ بلفظ خليفة أو خلافة، فالإسلام لا تهمه الأسماء ولا الألقاب، وإنما تهمه الحقيقة والجوهر، وإذا بحثنا عن حقيقة الخلافة فإنها، قيادة عامة للأمة تمثل وحدتها وتحفظ كيانها وتحقق مصالحها، ومن الممكن بل من الواجب أن يطور النظام السياسي للإسلام في العصر الحديث، وهذا التطور تجيزه مبادئ الإسلام أيضاً".(25)
ويقول الدكتور محمد سليم العوا: "لا يعترض بمسألة نظام الخلافة، لأن هذا اللفظ الذي أصبح منذ تدوير العلوم الإسلامية، لا يعني في مدلوله السياسي أو الدستوري أكثر من تنظيم رئاسة الدولة الإسلامية تنظيماً يشمل اختيار رئيسها وتحديد حقوقه وواجباتها، على نحو يشير إلى محاولة الصحابة الذين ابتكروا لفظ الخلافة، السعي إلى محاولة إتباع المثل الأعلى الذي كان قائماً في بداية نشوء الدولة الإسلامية التي تولى رسول الله صلى الله عليه وسلم رئاستها، ولذلك لم تستقر التسمية نفسها، فلقب أبو بكر بالخلافة (خليفة رسول الله) ثم لقب عمر بإمرة المؤمنين (أمير المؤمنين) ثم استعمل الفقهاء لفظ الإمام في بحوثهم المتعلقة بالتولية والعزل والخروج على الحاكم (البغي) وما إليها".(26)
ومن هنا يتبين أن حصرالنظام السياسي الإسلامي في صورة أو (شكل) واحد وهو الخلافة، إنما هو جمود عند الأشكال دون المحتوى وتضييق لهذا النظام الذي يتسع ليشمل أشكالاً وصوراً متعددة تتوافق مع العصر والبيئة لكنها تلتزم بالمضمون والمنهاج، بل الواقع يشير إلى أن الفقهاء قد استخدموا في دراساتهم حول النظام السياسي الإسلامي ألفاظاً عدة كالخلافة (الخليفة) والإمامة (الإمام) والإمارة (أمير المؤمنين) .. بل والسلطنة والمُلك، وغيرها من الألفاظ.(1/23)
إن أهمية الأمر تبدو عند الانشغال (بشكل) النظام دون طبيعته وهذا ما حدث عبر التاريخ الإسلامي، إذ تم الاحتفاظ بـ(شكل) الخلافة، وأفرغت من كثير من مضامينها وغاياتها وأصولها وقواعدها الشرعية.
" فمن خلال النظر في مصطلح "الخلافة" ـ نرى ـ كيف يخلط العقل الإسلامي المعاصر بين "المحتوى الموضوعي" للخلافة الذي يعني في الإسلام وجوب أن تنشا حكومة تمارس الحكم بمنهاج الإسلام، وبين "نسق شكلي" بعينه يمكن أن تتمثل فيه تلك الحكومة.
إذ الخلافة "كمحتوى موضوعي" وبغض النظر عن إلزامية الاسم، هي فريضة لازمة بنصوص الإسلام. أما الخلافة "كنسق شكلي" ف الإسلام. كما أن الذي أفرزه التاريخ في الحقيقة لم يكن "نسقاً شكلياً" واحداً ومضطرداًن بل "أنساقاً" متعددة ومختلفة في . (27)
والناظر في النصوص الشرعية يجدها تؤكد ذلك ، فقد وردت مشتقات كلمة (خَلَفَ) في مواضع كثيرة في القرآن الكريم ، إلا أن لفظ ( خلافة ) لم يرد في أي منها .
قال تعالى :
"وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُم الْفَاسِقُونَ".(28)(1/24)
قال ابن كثير في تفسير الآية : "هذا وعد من الله تعالى لرسوله صلوات الله و سلامه عليه بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض أي أئمة الناس و الولاة عليهم و بهم تصلح البلاد و تخضع لهم العباد و ليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً و حكماً فيهم و قد فعله تبارك و تعالى و له الحمد و المنة : فإنه صلى الله عليه و سلم لم يمت حتى فتح الله عليه مكة و خيبر و البحرين و سائر جزيرة العرب و أرض اليمن بكمالها و أخذ الجزية من مجوس هجر و من بعض أطراف الشام و هاداه هرقل ملك الروم و صاحب مصر و إلإسكندرية و هو المقوقس و ملوك عمان و النجاشي ملك الحبشة الذي تملّك بعد أصحمة رحمه الله و أكرمه ثم لما مات رسول الله صلى الله عليه و سلم و اختار الله له ما عنده من الكرامة ، قام بالأمر بعده خليفته أبوبكر الصّدّيق فلمّ شعث ما وهى بعد موته صلى الله عليه و سلم و أخذ جزيرة العرب و مهّدها ، و توفّاه الله عز و جل و اختار له ما عنده من الكرامة ، و منّ على أهل الإسلام بأن ألهم الصدّيق أن يستخلف عمر الفاروق فقام بالأمر بعده قياماً تاماً لم يُدر الفُلك بعد الأنبي مثله
في قوة سيرته و كمال عدله" .(29)(1/25)
و قال الطبري في تفسيرها : "نزلت هذه الآية ، و أظهر الله نبيّه على جزيرة العرب فوضعوا السلاح و أمنوا . قال النحاس : فكان في هذه الآية دلالة على نبوّة رسول الله صلى الله عليه و سلم ؛ لأن الله عز و جل أنجز ذلك الوعد . قال الضحّاك في كتاب النقاش : هذه تتضمن خلافة أبي بكر و عمر و عثمان و علي ؛ لأنهم أهل الإيمان و عملوا الصالحات . و قد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : (الخلافة ثلاثون) . و إلى هذا القول ذهب ابن العربي في أحكامه ، و اختاره ، قال : قال علماؤنا هذه الآية دليل على خلافة الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم ، و أن الله استخلفهم و رضي أمانتهم ، و كانوا على الدين الذي ارتضى لهم ، لأنهم لم يتقدمهم أحد في الفضيلة إلى يومنا هذا ، فاستقرّ الأمر لهم ، و قاموا بسياسة المسلمين و ذبّوا عن حوزة الدين فنفذ الوعد فيهم ، و إذا لم يكن هذا الوعد لهم نجز و فيهم نفذ ، و عليهم ورد ، ففيمن يكون إذن ، و ليس بعهم مثلهم إلى يومنا هذا ، و لا يكون فيما بعده رضي الله عنهم .
و حكى هذا القول القشيري عن ابن عباس و احتجوا بما رواه سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : (الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكاً) .(30)
و الواضح من الأدلة أن مفردات الخلافة أو الاستخلاف التي وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية لا تشير إلى المعنى السياسي للكلمة ، و إنما تعطي معاني عامة يمكن الاستدلال منها على ذلك المعنى ، و هذا ما فعله المفسرون ، و يستفاد من ذلك أن النصوص لا تسعفنا لتحديد اسم النظام السياسي في الإسلام لكنها تضع لنا الأطر و القواعد العامة التي يمكن من خلالها تحديد طبيعة هذا النظام .
و ربما كانت الأدلة من السنة أكثر تحديداً في استخدام كلمة "الخلافة" إذ وردت هذه الكلمة في بعض الأحاديث النبوية الشريفة .(1/26)
فقد روى الإمام أحمد في مسنده قال : "حدّثنا سليمان بن داود الطيالسي حدثني داود بن إبراهيم الواسطي حدثني حبيب بن سالم عن النعمان بن بشير قال كنا قعوداً في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه و سلم وكان بشير رجلاً يكفّ حديثه فجاء أبو ثعلبة الخشني فقال يا بشير بن سعد أتحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم في الأمراء فقال حذيفة أنا أحفظ خطبته فجلس أبو ثعلبة فقال حذيفة قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها ثم تكون ملكاً عاضّاً فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون ملكاً جبرية
فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ثم سكت"
و روى الإمام أحمد في مسنده قال : "قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ثم ملكاً بعد ذلك" . (31)
و روى أبو داود في سننه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : "الخلافة في أمتي ثلاثون سنة ثم ملكاً بعد ذلك" (32)
قال أبوداود في شرحه للحديث " قال المناوي : أي بعد انقضاء زمان خلافة النبوة يكون ملكا لأن اسم الخلافة إنما هو لمن صدق عليه هذا الاسم بعمله للسنة والمخالفون ملوك لا خلفاء , وإنما تسموا بالخلفاء لخلفهم الماضي ".(33)(1/27)
والواقع أن هذين الحديثين هما أوضح ما ورد في السنة من الإشارة إلى كلمة الخلافة و قد تكررا في سنن أبي داود و مسند الإمام أحمد بن حنبل ، لكن كلا الحديثين لم يشيرا الى أن هذه الكلمة هي المعبر الوحيد عن النظام السياسي الإسلامي ، فقد أشار كلا الحديثين إلى أن مرحلة ما بعد الخلافة يكون الأمر(ملكا عاضا ) أو( ملكا جبريا) وفي كلا الحالتين لم ينف عنهما صفة ( الإسلامية ) وإن لم يقر أياً منهما ، لا باعتبارهما (مصطلحهما) أو إسمهما ولكن باعتبار محتواهما ، وحتى عندما تحول النظام السياسي الإسلامي ـ عبر مراحله التاريخية ـ من خلافة راشدة إلى ملك (عضوض) أو(جبري) بقي يحمل أسم النظام السياسي الإسلامي.
ولعل في كلا الحديثين دلالة أخرى على أن المقصود بكلمة ( الخلافة ) هو المحتوى و المنهاج وليس المصطلح ، إذ حُددت مدة الخلافة بثلاثين سنة ، ولم يقل أحد من الفقهاء أن المرحلة التاريخية بعد تلك ( الثلاثين سنه) ، والتي غاب فيه منهاج الخلافة وطبيعتها ، وإن لم يغب اسمها ـ لم يقل أحد ـ أنها لم تكن إسلامية ، بل إن الحديث الذي رواه أحمد ، والذي بشر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعودة الخلافة ، أشار إلى أنها ستكون ( على منهاج النبوة ) .
إن ذلك لا يعني رفض فكرة النظام الإسلامي ، من خلال رفض فكرة الخلافة ـ كما فعل البعض ـ ولكن تأكيدا على وجود هذا النظام ومرونته وقدرته على تلبية حاجة المسلمين في نظام سياسي قائم على قواعد الإسلام دون اشتراط أن يحمل أسم الخلافة ، إذ الوقوف عند الاسم قد دفع بالرافظين لفكرة النظام السياسي الإسلامي ، إلى رفض الفكرة انطلاقا من رفضهم لصورتها التاريخية المتمثلة بـ (الخلافة ) ، خاصة حين يعمد هؤلاء إلى انتقاء مراحل تاريخية معينة ، غابت فيها روح النظام السياسي الإسلامي (الخلافة ) وأهدافه وغاياته ليظهروها على أنها النموذج التطبيقي للخلافة !!
ثالثاً : دولة دينية أم مدنية ؟:(1/28)
هذه المسألة من المسائل التي اختلط فيها الفقه بالتاريخ، بل طغى الجانب التاريخي كثير على الجانب الفقهي، وعلى الرغم من المحاولات التي بذلها الفقهاء والباحثون المسلمون في العصور الأخيرة لبيان الأمر إلا أنه مازال شائكاً ومختلطاً، ولعل مرجع ذلك عائد إلى أمرين: -
الأول : قياس النظام السياسي في الإسلام بما كانت عليه أوروبا خلال القرون الوسطى وما تلى ذلك من سيطرة الدولة الدينية أو الدولة "الثيوقراطية" أو دولة الحكم الإلهي التي استمرت إلى عهود قريبة، وسيطر فيها رجال الدين المسيحي سيطرة تامة على شؤون الدولة، وساسوها بما يخالف القواعد العامة لأي نظام حكم من إقامة العدل والمساواة والحرية وغيرها من المبادئ السياسية، فأعطوا صورة سيئة عن هذا النظام في الدول الغربية، ولذا قامت الثورات على الكنيسة لا بسبب دورها الديني بل بسبب دورها التاريخي حتى تراجعت المسيحية داخل أسوار الكنائس ولم يعد لها شأن في الحياة عدا أن يكون لها شأن في السياسة.
أما في النظام السياسي الإسلامي فلا توجد سيطرة لرجال الدين لأن هذه الفئة (رجال الدين) غير موجودة في الإسلام حتى تتحكم بشؤون الدين أو الدولة، هناك من يتفقه في الدين من الفقهاء والعلماء والمختصين، ولكن هؤلاء لا يسيطرون على الدولة أو على شؤون الحياة، فدورهم مثل دور أي فئة أخرى من المختصين كالمعلمين والأطباء والمهندسين وغيرهم، ولا توجد وصاية –في الإسلام- على أي شأن من شؤون الحياة ، بل المرجع في ذلك إلى نصوص الشريعة، وما جاءت به من أحكام، ولذا فإن النظام السياسي الإسلامي لا يستمد مشروعيته من أشخاص محدودين، وإنما يستمد ذلك من قواعد عامة في الفقه الإسلامي، وكما يستمدها من اجتهادات الفقهاء والعلماء على مر التاريخ، ولذا فإن قياس النظام السياسي في الإسلامي على الدولة (الثيوقراطية) قياس باطل.(1/29)
الثاني : أن العقل البحثي عند بعض الباحثين المسلمين تأثر بالمنهج البحث الغربي الذي نشأ وفق الرؤية السابقة، فلم يتصور دول العالم إلا نموذجين، نموذج الدولة الدينية (الثيوقراطية) التي يكون الحاكم فيها (مفوضاً) من الله بإدارة شؤون الدولة!! ونموذج الدولة المدنية (بصورتها الغربية العلمانية) التي لا شأن للدين في سياستها بل في نظم الحياة كافة، وبتطبيق هذين المنهجين جنح هؤلاء الباحثون إلى القول بأن الدولة الإسلامية دولة دينية!! وبنوا أحكامهم ورؤيتهم حول هذه الدولة من خلال تلك الرؤية.
ولقد كان للتاريخ أثر واضح في هذه المسألة، إذ أن الرافضين لفكرة الدولة الإسلامية أو النظام السياسي الإسلامي، استندوا في دعواتهم إلى التاريخ الإسلامي الذي لم يخلو من بعض الممارسات والنصوص التي تشير إلى أن الدولة الإسلامية دولة دينية!! ومن ذلك استشهادهم بما رواه الطبراني في الكبير والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "السلطان ظل الله في الأرض من أكرمه، أكرمه الله، ومن أهانه أهانه الله"(34)
وما رواه البيهقي – كذلك- في شعب الإيمان: "السلطان ظل الله في الأرض يأوي إليه كل مظلوم من عباده، فإن عدل كان له الأجر، وكان على الرعية الشكر، وإن جار أو خاف أو ظلم، كان عليه الوزر وعلى الرعية الصبر، وإذا جارت الولاة قحطت السماء، وإذا منعت الزكاة هلكت المواشي، وإذا ظهر الفقر والمسكنة، وإذا أضفرت الذمة، أُديل الكفار" .
قال في مجمع الزوائد فيه: سعيد بن سنان أبو مهدي، وهو متروك (35)، أي لا يؤخذ بروايته وقد ورد لفظ (السلطان ظل الله أو الرحمة في الأرض) في بعض الروايات، إلا أنه يلاحظ عليها أن أياً منها لم يرد في كتب الصحاح المعتمدة، وأمر كهذا الأمر العظيم، لا نعتقد أن كتب الصحاح ستغفل عنه، لذا فإن الروايات الواردة في ذلك لا ترقى إلى الصحة مما يشكك في يضعف الاستدلال بها.(1/30)
وحتى لو صحت فإنها لا تدل على مفهوم الدولة الدينية، فالقول أن السلطان ظل الله في الأرض لا يعني أن السلطان أو الحاكم يحكم نيابة عن الله سبحانه وتعالى (كما هي في النظام الثيوقراطي)، بل إن الحديث يشير إلى غير ذلك إذ يحدد دور الحاكم (السلطان) بالعدل (فإن عدل كان له الأجر)، بل حمله وزر الظلم (فإن خان أو ظلم، كان عليه الوزر). وهذا مناف لنظرية الحكم الإلهي إذ لو كان الحاكم (السلطان) نائباً أو مفوضاً من الله لما أمكن محاسبته على الظلم أو الجور أو الخيانة، فإنه –وفقاً لهذه النظرية- معصوم عن الخطأ ولا تجب مسائلته!!
وهنا يمكننا القول إن الباحثين عن النصوص الشرعية من مصادرها الأصلية (الكتاب والسنة) لن يجدوا ما يسعفهم للقول بأن الدولة الإسلامية دولة دينية ولذا عمدوا إلى التاريخ يبحثون عن ما يحقق مبتغاهم، فتجاوزوا أوائل الصحابة والتابعين التي تشير إلى أن الدولة الإسلامية هي دولة مدنية إسلامية. فقد تجاوزوا حادثة اختيار الخليفة الأول أبو بكر الصديق عندما ناداه الصحابة ساعة مبايعته بقولهم (يا خليفة الله) فقال (بل أنا خليفة رسول الله) فقطع بذلك فكرة النظام السياسي الديني في الإسلام، فهو خليفة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم –في حياته- بدورين: دور الرسالة ودور القيادة ،وبعد وفاته عليه الصلاة والسلام انقطع دور الرسالة، بكل ما تضمنته من الوحي والتصويب من الله للرسول صلى الله عليه وسلم، وعصمته عليه الصلاة والسلام، وبقي دور القيادة (الحكم) التي ليس لها من تلك (الضمانات) شيء فهي قابلة للصواب، والخطأ والمحاسبة والإحسان، والشورى والمشاركة، وغيرها من ضوابط القيادة السياسية التي تشترك فيها مع أي قيادة بشرية.(1/31)
إن مثل هذه الروايات ـ التي تثبت مدنية الدولة ـ كثيرة في تاريخ المسلمين، إلا أنه الرافضين لفكرة النظام السياسي الإسلامي بحثوا في النصوص التاريخية التي تخدم مطلبهم مثل أقوال بعض المسلمين في مرحلة تاريخية معينة، كقال بعض فقهاء الشام في عهد الأمويين" إن الإمام تجب طاعته في كل شيء، وأن الله إذا استخلف إماماً تقبل منه الحسنات، وتجاوز له عن السيئات". وقولهم "إن طاعة الخلفاء جائزة في معصية الله".(36)
على الرغم من أن ذلك مخالف لنص شرعي بقوله عليه الصلاة والسلام "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق".(37)
بل تجاوز الأمر إلى حد تعظيم الخلفاء والملوك وإنزالهم منزلة القدسية، قال الإمام مالك (دخلت على المنصور العباسي والهاشميون يقبلون يده ورجله، فعصمني الله من ذلك". (38)
وقول المنصور ذاته بمكة حين دخلها "أيه الناس إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتسديده وتأييده ، وحارسه على ماله، أعمل فيه بمشيئته وإرادته، وأعطيه بإذنه فقد جعلني الله عليه قفلاً إن شاء أن يفتحني فتحني لإعطائكم وقسم أرزاقكم وإن شاء أن يقفلني عليها أقفلني".(39)
وهذه الرواية التي رواها ابن عبد ربه في العقد الفريد ـ إن صحت ـ لا يمكن بناء حكم شرعي عليها، فليست هي من اجتهاد الفقهاء، أو أحكامهم عدا أن تكون من النصوص الشرعية بل هي مخالفة لقواعد الشريعة الإسلامية ولذلك لا يعتد بها، لكن القائلين بـ "دينية" الدولة الإسلامية يعتمدون على مثل هذه الأقوال وغيرها من الأقوال والتصرفات لبعض الولاة والخلفاء والسلاطين والحكام المسلمين ليؤكدوا مقولتهم أن الدولة الإسلامية دولة دينية، وأن لدعوة لها في هذا العصر إنما هي دعوة للعودة إلى سيطرة رجال الدين وتحكمهم في شئون الأمة.(1/32)
والدارس للتاريخ الإسلامي يجد أن "رجال" علماء الدين المسلمين، كانوا هم الذين يقفون أمام استبداد الحكام وتسلطهم وإعطاء أنفسهم مكانة غير التي وضعهم الإسلام فيها، والتاريخ ملئ بالأحداث والروايات التي تشير إلى ذلك.
ومن هنا يمكننا التقرير أن النظام السياسي الإسلامي لم يشهد فكرة الدولة الدينية في أي مرحلة من مراحله بل جاءت الأدلة لتؤكد على أن الطاعة المطلقة هي لما أمر الله سبحانه وتعالى به ثم لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، أما طاعة للنظام السياسي (الحاكم ) أو (ولي الأمر ) فهي موقوفة على طاعة الله ورسوله ، أي أنها ليست مطلقة ، ولو كانت سلطة النظام " دينية " مطلقة لما جاز تقييدها ولأصبحت كطاعة الله ورسوله و هذا ما لم يقل به أحد من السلف أو الخلف إلإ من شذ ، ممن لا يعتدّ برأيه .
قال تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً " (40)(1/33)
قال القرطبي في تفسير هذه الآية "وأما طاعة السلطان فتجب فيما كان لله فيه طاعة، ولا تجب فيما كان لله فيه معصية ، ولذلك قلنا: إن ولاة زماننا لا تجوز طاعتهم ولا معاونتهم ولا تعظيمهم ، ويجب الغزو معهم متى غزوا، والحكم من قبلهم وتولية الإمامة والحسبة وإقامة ذلك على وجه الشريعة. وإن صلوا بنا وكانوا فَسَقَه من جهة المعاصي جازت الصلاة معهم وإن كانوا مبتدعة لم تجز الصلاة معهم إلا أن يُخافوا فيصلى معهم تقية وتعاد الصلاة . قلت: روي عن علي بن أبي طالب رضي عنه أنه قال : حق على الإمام أن يحكم بالعدل، ويؤدي الأمانة، فإذا فعل ذلك وجب على المسلمين أن يطيعوه لأن الله تعالى أمرنا بأداء الأمانة والعدل، ثم أمر بطاعته، وقال جابر بن عبد الله و مجاهد : وأولي الأمر أهل القرآن والعلم وهو اختيار مالك رحمه الله ، ونحوه قول الضحاك قال: يعني الفقهاء والعلماء في الدين " ( 41 ) .
و قال الطبري " : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: هم الأمراء والولاة، لصحة الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمر بطاعة الأئمة والولاة فيما كان الله طاعة،وللمسلمين مصلحة، sحدثني علي بن مسلم الطوسي قال، حدثنا ابن أبي فديك قال، حدثني عبد الله بن محمد بن عروة ، عن هشام بن عروة ، عن أبي صالح السمان ، عن أبي هريرة:" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سيليكم بعدي ولاة، فيليكم البر ببره، والفاجر بفجوره، فاسمعوا لهم وأطيعوا في كل مكان ما وافق الحق، وصلوا وراءهم. فإن أحسنوا فلكم ولهم،وإن أساؤوا فلكم وعليهم ".
حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا يحيى ، عن عبيد الله قال، أخبرني نافع ، عن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: على المرء المسلم، الطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية فمن أمر بمعصية فلا طاعة.
حدثنا ابن المثنى قال، حدثني خالد ، عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.(1/34)
فإذ كان معلوماً أنه لا طاعة واجبة لأحد غير الله أو رسوله أو إمام عادل، وكان الله قد أمر بقوله: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم بطاعة ذوي أمرنا، كان معلوماً أن الذين أمر بطاعتهم تعالى ذكره من ذوي أمرنا، هم الأئمة ومن ولوه المسلمين، دون غيرهم من الناس، وإن كان فرضاً القبول من كل من أمر بترك معصية الله ودعا إلى طاعة الله، وأنه لا طاعة تجب لأحد فيما أمر ونهى فيما لم تقم حجة وجوبه ، إلا للأئمة الذين ألزم الله عباده طاعتهم فيما أمروا به رعيتهم مما هو مصلحة لعامة الرعية، فان على من أمروه بذلك طاعتهم، وكذلك في كل ما لم يكن لله معصية. " ( 42 )
وقال صاحب فتح القدير " لما أمر سبحانه القضاة والولاة إذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالحق، أمر الناس بطاعتهم ها هنا، وطاعة الله عز وجل هي امتثال أوامره ونواهيه، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم هي فيما أمر به ونهى عنه. وأولي الأمر: هم الأئمة والسلاطين والقضاة وكل من كانت له ولاية شرعية لا ولاية طاغوتية، والمراد طاعتهم فيما يأمرون به وينهون عنه ما لم تكن معصية، فلا طاعة لمخلوق في معصية الله كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال جابر بن عبد الله ومجاهد : إن أولي الأمر: هم أهل القرآن والعلم، وبه قال مالك والضحاك. وقال ابن كيسان هم أهل العقل والرأي ". ( 43 )
كما أن الباحث في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم يرى أنه كان يمارس الدور السياسي المدني بكافة صوره وأشكاله وهو النبي الذي يوحى إليه من ربه، ومع ذلك كان يشاور الصحابة رضوان الله عليه جميعاً وكان يقول لصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما "لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما فيه"(44).
وينزل في موقعة بدر فيقول له أحد صحابته وهو الحباب بن المنذر، رضي الله عنه : "أهو منزل أنزلك الله إياه أم هو الرأي والمكيدة ؟ فيقول بل هو الرأي والحرب والمكيدة" ثم ينزل على ما رآه الصحابي".(45).(1/35)
ويقبل برأي الصحابة في حفر الخندق، بل كان يقول "أنتم أدرى بشؤون دنياكم"(46).
ولو كان الأمر منصوص عليه في لما استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، والتزم بما يراه، لكنه كان يُعَلِم أمته أن الشأن الدنيوي هو شأن عام يديره الناس وفقاً للقواعد العامة في الإسلام، ولما فيه تحقيق المصلحة العليا للمسلمين.
وإذا كان هذا فعله وهو النبي صلى الله عليه وسلم، فإن من جاء بعده لا يملك سلطة "دينية" يمارسها على المسلمين، بل هو فعل بشري أو "مدني" قابل للخطأ والصواب، وهو اجتهاد بشري يحتاج إلى من يراقبه ويوجهه حتى يحقق الغرض منه.
وقد كان هذا الأمر واضحاً جلياً لدى الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم إذا كانوا يؤكدون على أن طاعتهم إنما هي فيما وافق شرع الله، ولذا كانت أو خطبة في الخلافة الراشدة محددة لهذا المعنى حين قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في حطبته المشهورة "أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم".
بل إن أول حادثة وقعت في الخلافة الراشدة والتي حددت مسار النظام السياسي الإسلامي بينت ذلك حين أطلق بعض الصحابة على الخليفة الأول، لقب "خليفة الله" فاستنكر أبو بكر ذلك وقال "بل خليفة رسول الله" للدلالة على أنه لا يملك سلطة "إلهية" بل هي خلافة من رسول الله في جانب إدارة شؤون الأمة.
واليوم حين يزعم الزاعمون أن النظام السياسي الإسلامي نظام "إلهي" "ثيوقراطي" أو "ديني" فإنما يجهلون حقائق الإسلام ودلالات النصوص .(1/36)
وإذا كانت النصوص تؤكد فكرة عدم "دينية" الدولة بالمفهوم الغربي، فإن ممارسة الدولة كنظام سياسي تؤكد ذلك، فقد شهدت الدولة الإسلامية منذ عصر النبوة تعاملات وعلاقات داخل الدولة مع مواطنيها من غير المسلمين، بل إن أول نظام (دستوري) تم في الإسلام كان مع بداية الدولة الإسلامية عند قيام الرسول صلى الله عليه وسلم بعقد ما عرف بـ"وثيقة المدنية" التي تنظم الشأن الداخلي للدولة، وكان اليهود طرفاً رئيسياً في هذه الاتفاقية، فقد أعطتهم حق المواطنة ما التزموا بالأنظمة والقوانين (المدنية)، حيث أن الوثيقة لم تتعرض لهم "دينياً" ولم تتدخل في شأنهم الديني "اليهودية" بل حمت حقهم في ذلك وتركته لهم يتعاملون معه وفق معتقدهم، وإنما بحثت الشأن المشترك بينهم وبين المسلمين، فقد جاء في الفقرة (25) من الوثيقة "أن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتع إلا نفسه وأهل بيته"(47).
بل أصبح اليهود –بهذه الوثيقة- جزء من المجتمع الإسلامي في المدينة فقد جاء في الفقرة (37) منها " وأن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم"(48).
ولو كانت الدولة "دينية" خالصة للمسلمين، لما جاز إشراك غيرهم في شؤونها من المشاركة المالية والدفاع عنها، بل والتناصح والبر مع مواطنيهم "اليهود"، وحين تم إخراج اليهود من المدينة لم يكن بسبب دينهم "اليهودية" إذ لو كان هذا سبباً لتم إخراجهم من اليوم الأول، بل كان سبب إخراجهم هو نقضهم لوثيقة المدينة وخيانتهم لوطنهم (المدينة) وتآمرهم مع أعداء الدولة الذين كانوا يحشدون القوات لمهاجمتها، أي لـ(خيانتهم العظمى ) كما يعبر عنه بالمصطلح السياسي والقانوني المعاصر.(1/37)
والقول بـ "دينية" الدولة الإسلامية، يفترض أن الخروج عليها هو خروج على الدين، ولم يقل ذلك أحد ممن سبق من الفقهاء والعلماء والمسلمين، بل كانوا يعتبرون مواطنين خرجوا لأسباب سياسية وليست دينية، وهذا ما عبر عنه علي ابن أبي طالب –رضي الله عنه- بشأن الخوارج الذين خرجوا عليه وحاربوه: فقال: " إخواننا بغوا علينا"، فلم ينظر إلى خروجهم باعتباره فعلاً دينياً وإنما باعتباره فعلاً سياسياً، تتم معالجته، بعيداً عن ميدان الإيمان والكفر.
لذا لم تكن مشكلة الدولة (دينية أم مدنية) مطروحة خلال التاريخ الإسلامي، ولا نجد لها موقعاً في كتب التراث، فالفقهاء لم يفرقوا بين ما هو ديني وما هو مدني بالمنظور العلماني المعاصر، فحتى الأفكار "الدهرية" التي تقترب من الفكر العلماني المعاصر، لم تطرح (دينية الدولة) بصورة واضحة لعدم وجود المشكلة ذاتها ولأن النظام في ذلك الوقت كان يأخذ صبغة (الإسلامية) في كافة جوانب الحياة.
لكن هذه الفكرة ارتفعت عقيرتها في السنوات الأخيرة بسبب تصاعد موجة العودة للإسلام وبروز الاتجاهات والقيادات الإسلامية على الساحة السياسية والاجتماعية، ودخولها في مفاصل مهمة من المجتمع، كالمجالس النيابية والوزارات ومؤسسات الدولة، فارتفعت الصيحات محذرة من الدولة الدينية، على الرغم من أن الباحثين والفقهاء، والعلماء المسلمين المتأخرين قد بينوا بصورة جلية موقف الإسلام من الدولة الدينية أو المدنية.
فهذا الشيخ محمد عبده –رحمه الله- يقول : "ليس في الإسلام ما يُسمى عند القوم بالسلطة الدينية بوجه من الوجوه، ولا يجوز لصحيح النظر أن يخلط الخليفة عند المسلمين بما يسميه الأفرنج "ثيوكراتيك" فإن عندهم هو الذي ينفرد بتلقي الشريعة عن الله، وله حق الأثرة في التشريع، وله في رقاب الناس حق الطاعة ، لا بالتبعية وما تقتضيه من العدل وحماية الحوزة ، بل بمقتضى حق الإيمان (49).(1/38)
وهذا الشيخ رشيد رضا –رحمه الله- يقول: "الإسلام هداية روحية وسياسة اجتماعية مدنية، أكمل الله به دين الأنبياء وما أقام عليه نظام الاجتماع البشري من سنن الارتقاء، فأما الهداية الدينية المحضة فقد جاءت تامة أصلاً وفرعاً، وفرضاً ونفلاً إذا كان مدارها على نصوص الوحي، وبيان الرسول صلى الله عليه وسلم لها بالقول والفعل، وأما السياسة الاجتماعية المدنية فقد وضع الإسلام أساسها وقواعدها وشرع للأمة الرأي والاجتهاد فيها، لأنها تختلف باختلاف الزمان والمكان وترتقي بارتقاء العمران وفنون العرفان، ومن قواعده فيها أن سلطة الأمة لها، وأمرها شورى بينها، وأن حكومتها ضرب من الجمهورية، وخليفة الرسول فيها لا يمتاز في أحكامها على أضعف أفراد الرعية، وإنما هو منفذ لحكم الشرع ورأي الأمة، وأنها حافظة للدين ومصالح الدنيا، وجامعة بين الفضائل الأدبية، والمنافع المادية، وممهدة لتعميم الأخوة الإنسانية، بتوحيد مقومات الأمم الصورية والمعنوية، ولما طرأ الضعف على المسلمين قصروا في إقامة القواعد والعمل بالأصول، ولو أقاموها لوضعوا لكل عصر ما يليق به من النظم والفروع"(50).
ويقول العلامة الشيخ/ يوسف القرضاوي : "إنها دولة مدنية تحكم بالإسلام، وتقوم على البيعة والشورى ويختار رجالها من كل قوى أمين، حفيظ عليم، فمن فقد شرط القوة والعلم، أو شرط الأمانة والحفظ فلا يصح أن يكون من أهلها، إلا من باب الضرورات التي تبيح المحظورات"(51).(1/39)
لكن القول بمدنية الدولة الإسلامية، لا يعني مفهوم المدنية العلمانية التي سادت في الغرب ومعظم بلاد الشرق، والقائم على فصل الدين عن الدولة، أو عن نظام الحياة، بل مفهومه المدنية الإسلامية قائم على أن نظام الحكم في الإسلام نظام بشري يستمد مرجعيته الأساسية من القواعد العامة التي جاءت بها النصوص الشرعية، ولذا فإن كافة أعمالها ومؤسساتها تخضع لمبادئ النظم السياسية البشرية ، كالمشاركة فيها والرقابة على أعمالها ومحاسبة القائمين عليها وتغييرها وفق الأسس المتفق عليها ضمن القوانين والأنظمة المقررة من أفراد الشعب وبما لايخالف القواعد العام في الإسلام.
رابعا: السيادة:
يعتبر مصطلح السيادة من المصطلحات التي برزت في العصور المتأخرة حين تم وضع الدساتير والقوانين الحديثة على الرغم من مفهوم السيادة قد بحث وإن كان بمسميات مختلفة ، وقد كان التاريخ سبباً مباشراً في نشوء الصراع حول مفهوم السيادة مما أدى إلى بروز هذا المصطلح، فقد ظهرت الفكرة ـ تاريخياً ـ مع الرومان في بداية عهدهم، لإعطاء الإمبراطور سلطة واسعة بل مطلقة في إدارة شئون الإمبراطورية، وإضفاء قدسية دينية على هذه السلطة، وقد ترسخ هذا المفهوم مع الفكر المسيحي ، فبرزت فكرة الحق الإلهي، أو التفويض الإلهي في الحكم، التي جعلت "القيصر" أو الإمبراطور يستعين برجال الدين لغرض هذه الفكرة وتوسيع سيطرته على الإمبراطورية وقد استمر هذا المفهوم لمصطلح السيادة حتى بدايات عصر النهضة الأوروبية.
وقد ساند ذلك فكر سياسي واسع كان من أبرز رجاله "ميكافيللي" في إيطاليا الذي نادى عام 1513م في كتابه "الأمير" بنطريته في أهمية السيادة بالقوة للأمير حتى يستطيع أن يسيطر على الدولة ويحافظ على وحدتها، وفي فرنسا، كان "جيهان بودان عام 1576م الذي دافع عن سيادة الدولة، حيث جعلها "تسمو على القانون" بل جعل الديمقراطية أسوأ نظم الحكم والنظام الملكي المطلق أكثر صلاحا !!ً.(1/40)
ثم ظهر الفيلسوف الإنجليزي "هوبز" حيث أسس لفكرة العقد الاجتماعي، ثم جاء بعده "لوك" وختمت هذه المرحلة بظهور نظرية العقد الاجتماعي على يد الفيلسوف الفرنسي، جان جاك روسو، وهكذا انتشرت فكرة السيادة للأمة من خلال تلك النظريات وما أسفرت عنه من ثورات في عدد من الدولة الأوربية كان في مقدمتها ثورة عام 1688م في إنجلترا، التي نقلت السيادة المطلقة من يد الملك لتكون سلطة مشتركة بينه وبين الشعب ثم جاءت الثورة الفرنسية عام 1789 وأنهت السيادة المطلقة للملك وجعلتها بيد الأمة، وقد أكدت وثيقة الاستقلال الأميركية على أن السيادة للشعب.(52)
إن هذه الخلفية التاريخية ـ الموجزة ـ تبين أن فكرة السيادة نشأت ـ في الغرب ـ بسبب موروث تاريخي من الصراع بين السلطة الحاكمة والشعب أو الأمة وتنازعهما فيمن له حق السيادة أو التشريع، وقد استعان أحد الأطراف ـ السلطة ـ بقوة مساندة خلال مرحلة تاريخية معينة مكنته من بسط سيادته ونفوذه وسلطانه على الأمة باسم الدين، وقد انتهت هذه المرحلة بانتصار الأمة على ـ السلطة ـ وانتزعت منها السيادة، وألغت سلطة (الدين) الذي كان مسانداً بل متسلطاً على الأمة.(1/41)
لكن ـ مثل ـ هذا الصراع لم ينشأ في التاريخ الإسلامي إلا في العصور المتأخرة حين حاول بعض الباحثين وأساتذة الفكر في البلاد الإسلامية تطبيق مفهوم السيادة ـ بصورته الغربية ـ مع البلاد الإسلامية متأثراً بمدارس القانون الدستوري لديهم، ومحاولاً اصطناع صراع على السيادة بين الدين والأمة، وهو منهج يشبه ـ إلى حد ما ـ الصراع الذي نشأ في البلاد الإسلامية عبر التاريخ من خلال حول مفهوم "الحاكمية" الذي يمكن أن يشبه مفهوم السيادة في الفكر الغربي، حيث بدأ الخلاف منذ عصر الفتنة حين انتقلت الفكرة من جانبها السياسي لتصبح جزءاً من العقيدة كما هي عند الخوارج، فقالوا قولتهم المشهورة "لا حكم إلا لله"، وقد أدرك ألإمام علي رضي الله عنه ، ومن معه دلالة الفكرة وأثرها على حياة المسلمين ومستقبلهم، إذ لم يكن الخلاف بينه وبين الخوارج أو مع غير ه ممن خالفه خلافاً عقدياً بل خلاف سياسي، لذلك رد عليهم بكلمته المشهورة "كلمة حق يراد بها باطل" فقد قرر مبدأ "الحاكمية" أي المرجعية العليا في كل شأن من شئون الحياة سواء كان من جانب العقيدة أو العبادة أو الأخلاق أو المعاملات أو السياسة أو غيرها، فإن مرجعيته إلى الله، لا كما فهمها الخوارج بأن كل أمر "تفصيلي" مرجعه إلى الله.(1/42)
ولم تكن مسألة الحاكمية هي المسألة السياسية الوحيدة التي انتقلت إلى العقيدة أن في تلك المرحلة. بل كانت هناك مسائل أخرى مثل "الأمامة" عند الشيعة إذ عدّوها من قضايا العقيدة، وألزموا بوجوب الإيمان بها، وعلى الرغم من هذه الخلافات إلا أن مفهوم "الحاكمية" أو "السيادة" كمفهوم سياسي لم تكن تدور حوله خلافات كثيرة، إذ كانت الشريعة الإسلامية هي السائدة بصفة عامة في حياة المسلمين وخاصة في أحكامهم وأقضيتهم وشئون حياتهم، ولم ينازعها في ذلك قانون أو نظام آخر، ولذلك كان ينظر إلى مفهوم السيادة أو " الحاكمية" نظرة واحدة باعتبار الشريعة الإسلامية هي المصدر الذي تشْتق منه الأحكام فمصادر الشريعة الأصلية وهما القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، والمصادر الفرعية أو المختلف منها كالإجماع و القياس و المصالح المرسلة أو غيرها من المصادر الفرعية ، كانت هي السائدة في التشريعات والأحكام، إذا لا يوجد مصدر آخر تؤخذ منه الأحكام، وما وقع من خلاف بين الفقهاء، إنما كان داخل هذه الدائرة
ولهذا كان مصطلح "الحاكمية" ومفهومها ـ كمرجعية عليا ـ واضح الدلالة لدى الفقهاء قال الإمام ألآمدي ـ رحمه الله ـ "أعلم أنه لا حاكم سوى الله ولا حكم إلا ما حكم الله به".( 53 )
وقال الإمام الغزالي "لا حكم ولا أمر إلا الله، أما النبي صلى الله عليه وسلم والسلطان والسيد والأب والزوج فإذا أمروا وأوجبوا لم يجب شيء بإيجابهم بل بإيجاب الله تعالى طاعتهم، ولولا ذلك لكان لكل مخلوق أوجب على غيره شيئاً كان للموجب عليه أن يقلب عليه ألإيجاب إذ ليس أحدهما أولى من ألآخر ، فإذا الواجب طاعة الله تعالى وطاعة من أوجب الله طاعته.(54)(1/43)
وإذ كانت هذه الرؤية واضحة عند الفقهاء قديماً، فإن ـالصراع ـ حول مفهوم السيادة أو الحاكمية تجدد في العصور المتأخرة، لأسباب تاريخية يرجع بعضها إلى غياب المؤسسة الإسلامية الحاكمة المعبرة عن الشريعة الإسلامية (الخلافة ـ الإمارة ـ الدولة ـ الجمهورية) ونشوء حركات ودعوات تسعى لعودة السياة للشريعة من خلال نظام إسلامي يجعل الحاكمية أو السيادة للشرع، لكن الخلاف وقع أيضاً في دلالة و مفهوم مصطلح " الحاكمية " فقد تشدد بعض المفكرين، والباحثين، كأبي الأعلى المودودي وسيد قطب رحمهما الله، في مفهوم الحاكمية وفاضت كتاباتهما بدلالات هذا الفهم للحاكمية، بل طوّر سيد قطب ـ رحمه الله ـ "مفهوم الحاكمية إلى درجة عالية في فكرة السياسي حتى أصبحت كلمة لا إله إلا الله تعني أن الحاكم الوحيد هو الله جل شأنه وأن السلطة له، وهو رحمه الله لم يميز في هذا بين معنى حاكمية الله في الحكم السياسي، وبين حاكميته جل شأنه للحكم الكوني، أو القضائي، بل فعل كما فعل المودودي حين جعل حاكمية الله في مواجهة حاكمية البشر المتناقضة والمتضاربة والمتعارضة مع عبودية الله جل شأنه وألوهية الله للبشرية، فألغى المودودي أي دور للفرد أو الجماعة في الحاكمية، غير دور التلقي والتطبيق باعتبار أن الله وحده هو الحاكم.(55)
وعلى الرغم من الدراسات والردود والإيضاحات التي بينت الرؤية من الحاكمية، إلا أن هذا المفهوم مازال سائداً عند طائفتين إحداهما تجعل من الحاكمية منهجاً لعملها السياسي إذ بنت فكرها وسلوكها وتصرفاتها على فكرة الحاكمية حتى وصلت عند البعض حد التكفير للمجتمع بل ومحاربته ومقاومته لأنه استولى على" الحاكمية " وصرفها عن مدلولها الحقيقي ـ كما يفهمونه ـ ولذا وجبت محاربتهم ومواجهتهم ولو بالقوة، وقد رأينا آثار هذا الفكر ظاهرةً في بعض الأقطار الإسلامية وفي حركات العنف التي اجتاحت أرجاء واسعة من تلك الأقطار.(1/44)
وعلى الطرف الآخر يقف الرافضون لفكرة النظام السياسي الإسلامي بزعم أن هذا النظام لا يجعل للأمة د ور في صياغة شؤنها وأنه نظام أحادي لا وجود للرأي الآخر فيه و يحمل الناس على غير ما يشتهون، وإنه سيفرض العقوبات والحدود على أفراد الشعب حتى ولو كان بينهم مواطنون من غير المسلمين!!، ويستند هؤلاء على دعواهم تلك بالقول إنه لا توجد فكرة لسيادة الأمة في النظام السياسي الإسلامي، وإن " الحاكمية " هي الفكرة المسيطرة على هذا النظام وهي فكرة تقوم على التفويض الإلهي.
ومن هنا فإن هذا الخلل في الفهم للسيادة في النظام الإسلامي والخلط بين سيادة الأمة والحاكمية قد أدى إلى غياب الرؤية الإسلامية الواضحة لطرح النظام السياسي الإسلامي كنظام قابل للتطبيق في البلاد الإسلامية ، و لعل في مقدمة ما يجب تحريره هو مفهوم " الحاكمية " كمشروعية عليا في النظام السياسي الإسلامي ،(56) حتى يحسم الخلاف حولها ، ثم تحديد دور الأمة في التشريع و مدى سيادتها على التشريعات الحاكمة للشأن العام ، فقد اتجه الفقهاء المسلمون في العصر المتأخرة في رؤيتهم للسيادة إلى ثلاثة آراء :
الأول : أن السيادة لله عز و جل دون أن يكون لأحد غيره من الشعب أو الأمة أي صورة من السيادة ، و هذا ما رأيناه عند القائلين بأن الحاكمية لله .
الثاني : السيادة المزدوجة : و يقوم هذا الرأي على أن السيادة لله فيما ورد فيه نص قطعي من الكتاب و السنة ، و ما لم يرد فيه نص ، أو نص يحتمل التأويل ، فإن السيادة تكون لجماعة المسلمين (الأمة) .(1/45)
و الواقع أن هذا الرأي ـ مع وجاهته ـ تشوبه بعض العيوب ، و منها فكرة أن التقسيم التي ربما أدت إلى إشكالية المساواة بين الطرفين ، و هذا يوقع في خلاف عقدي أكثر منه خلاف سياسي ، أما الأمر الثاني فإن الأحكام القطعية من الكتاب و السنة لا خلاف عليها ، و على وجوب العمل بها ، و ليس هناك حاجة للاجتهاد فيها ، أما الخلاف محل الاجتهاد فهو في دلالات النصوص وفي الحوادث و القضايا المتجددة ـ و كما أشرنا سابقاً ـ فإن معظم أحكام النظام السياسي الإسلامي ليست نصوصاً قطعية ، بل هي مستنبطة من القواعد العامة التي جاءت بها النصوص و الإعمال فيها يكون من خلال الاجتهاد الذي يتولاه أهل الاختصاص ، و الذي يكون معبّراً عنه بأهل الحل و العقد ، والتعبير المعاصر من خلال ممثلي الأمة الذين يتم اختيارهم أو انتخابهم لتولي هذه المسألة نيابة عن الأمة و يمارسون السيادة للأمة في ظل الشريعة الإسلامية الحاكمة للجميع
الثالث : يذهب أصحاب هذا الرأي إلى أن السيادة للأمة ، فهي صاحبة السيادة و منبع السلطات في الدولة الإسلامية ، و أصحاب هذا الرأي لا يقولون بإطلاق السيادة للأمة فهي مقيدة بأحكام الشريعة الإسلامية ، فإذا خالفت السيادة هذه الأحكام فقدت أساس مشروعيتها ، و يتبين من هذا الرأي أن السلطة لا تستند إلى تفويض إلهي ، كما أن تصرفات الحاكم و المؤسسات الدستورية الأخرى مقيدة بأحكام الشريعة ، و هذا الرأي أقرب إلى النظام الديمقراطي ، إلا أنه يختلف عنه بالإطار العام للسلطة و القواعد العامة التي تتيح الاجتهاد ضمنها ، أما في النظام الديمقراطي فإنها غير مقيدة بأي إطار ، فللأمة مطلق الحق في أن تقر ما تشاء ، حتى و لو خالف القواعد الإنسانية القائمة على الفطرة البشرية مثل التشريعات المنظمة للعلاقة بين المحارم أو غيرها من القوانين التي تخالف الفطرة البشرية عدا عن مخالفتها للشرائع الدينية .(1/46)
إن هذا الخلاف هو الفارق الأساس بين السيادة في الشريعة الإسلامية و النظم الأخرى ، و لا نجد خلافاً ـ غير ذلك ـ يعتدّ به و يمكن أن يكون فارقاً بين النظام السياسي الإسلامي و النظم السياسية القائمة على المشاركة و حرية الرأي و حقوق الإنسان و تحقيق المساواة و العدالة ، و كلها مبادئ يقوم النظام الإسلامي على أساسها .
و لا شك أن وجود مرجعية عليا حاكمة لتصرفات الأفراد و المؤسسات و الجماعات داخل الدولة له تأثيرات كثيرة من أبرزها :
1. استقرار القواعد العامة للأنظمة و التشريعات و القوانين التي تسن لتحقيق المصلحة العليا للدولة ، فهذه المرجعية تحمي هذه النظم من التغيير و التبديل في أهدافها و غاياتها ، و تسمح لها بالتطور و التغيير في تفصيلاتها ، و هذا ما يتحقق من خلال استقرار المرجعية و التعامل مع المتغيرات وفقاً لتغير البيئات و الظروف و الأزمنة .
2. تحقيق مبدأ العدالة و المساواة بين كافة فئات الأمة لوجود أعراق و انتماءات قومية و مذهبية مختلفة ، بل في حال وجود أديان أخرى داخل المجتمع الإسلامي ، إذ أن الجميع يرجع لمرجعية واحدة تحقق الأهداف العامة لأي نظام سياسي ، كما تحدّ من طغيان الأكثرية على الأقلية في النظام البرلماني ، إذ أن كل القرارات و التصرفات و القوانين و الأنظمة التي يتم إصدارها تتحقق فيها المبادئ العامة لنظم الحكم من الشورى أو المشاركة كما تتحقق فيها الحرية و العدالة و المساواة .(1/47)
3. الملائمة لكافة النظم السياسية ، سواء كانت قائمة على ( التأريخية الإسلامية ) كالخلافة أو الإمامة ، أو كانت معاصرة كالأنظمة الجمهورية البرلمانية أو الرئاسية ، أو كانت أنظمة ملكية دستورية ، و سواء كانت صورة الدولة ذات نظام اتحادي أم شبه اتحادي أو نظام الدولة الموحدة أو الكيانات المتعددة ضمن نظام عام (الكومنولث) فإن النظام الإسلامي يحقق لها الملائمة ، لأنه في ظل النظام الاتحادي مثلا فإن أقاليم (وحدات) الاتحاد تستقل بجزء من التشريعات خاصة ما يتعلق بشأنها الداخلي ، بينما تترك للإدارة الإتحادية تولي الشأن العام ، و في مثل هذه الحالة يحدث بعض التنازع على الصلاحيات القانونية لكل طرف ، لكن في ظل مرجعية عليا يقل أو ينعدم مثل هذا التنازع لأن كلا الطرفين يرجع إلى مرجعية واحدة .
4. الرقابة الدائمة على أعمال الدولة إذ يعطي النظام السياسي الإسلامي للأمة مجتمعة أو ممثلة بنوابها بل بأفرادها حق الرقابة على تصرفات الدولة بمؤسساتها و أشخاصها ، فمن خلال هذه الرقابة يمكن تصحيح مسيرة الدولة و تجاوز العقبات التي تواجهها ، و نظراً لأهمية هذا الأمر فإنه لا بد له من أدوات و آليات تعبر عن هذه الرقابة التي يجب أن تكون محكومة بأنظمة و تشريعات تحقق لها أهدافا و تحافظ عليها من الزيغ أو الزلل أو الاستغلال ، و في ظل المشروعية أو السيادة العليا للشريعة فإن الجميع ـ المراقِب و المراقََب ـ يلتزم بقواعد هذه المشروعية العليا و لا يكون هناك مجال للصراع على الأدوار التي يمكن أن يقوم بها كل طرف .(1/48)
لقد كانت فكرة السيادة للأمة واضحاً عند كثير من فقهاء الأمة المتأخرين و المعاصرين حيث أكدوا على ذلك ، فهذا الشيخ عبدالوهاب خلاّف يشير إلى أن " التشريع يراد به أحد معنيين : أحدهما إيجاد شرع مبتدأً ، وثانيهما بيان حكم تقتضيه شريعة قائمة ، فالتشريع بالمعنى الأول في الإسلام ليس إلا لله ، فهو سبحانه ابتدأ شرعا بما أنزله في قرآنه ، وما أقر عليه رسوله ، وما نصبه من دلائل ، وبهذا المعنى لا تشريع إلا لله .
أما التشريع بالمعنى الثاني ، وهو بيان حكم تقتضيه شريعة قائمة ، فهذا هو الذي تولاه بعد رسول الله خلفاؤه من علماء الصحابة ، ثم خلفائهم من فقهاء التابعين وتابعيهم من ألأمة المجتهدين ، فهؤلاء لم يشرعوا أحكاما مبتدأة ، وإنما استمدوا ألأحكام من نصوص الكتاب و السنة ، وما نصبه الشارع من الأدلة وما قدره من القواعد العامة " . (57)
ويقول الدكتور السنهوري : " ان الله الذي هو الرحمن الرحيم القوي القادر لم يتركنا بغير مرشد بعد وفاة الرسول ، بل استخلفنا في ألأرض ، ومنحنا شرف خلافته ، بأن اعتبر إرادة ألأمة مستمدة من إرادة الله وجعل إجماع الأمة شريعة ملزمة ، فكأن السيادة ألإلهية والحق في التشريع أصبح بعد انقطاع الوحي وديعة في يد مجموع ألأمة ، لا في يد الطغاة من الحكام أو الملوك ، كما كان الشأن في الدول المسيحية التي ادعى ملوكها حقا إلهيا.
وبذلك يمكن القول بأن السيادة في ألإسلام لا يملكها فرد مهما تكن مكانته ، سواء كان خليفة أو أميرا أو ملكا أو حاكما ، أو هيئة من أي نوع ، وإنما هي لله القدير الذي فوضها للأمة في مجموعها ".(58)
و يبين ألإمام محمد عبده أن " أهل الحل و العقد من المؤمنين إذا اجتمعوا على أمر من مصالح ألأمة ليس فيه نص عن الشارع مختارين في ذلك غير مكرهين عليه بقوة أحد ولا نفوذه فطاعتهم واجبة ، ويصح أن يقال هم معصومون في هذا ألإجماع ولذلك أطلق ألأمر بطاعتهم بلا شرط " . (59)(1/49)
ويقول العلامة الشيخ يوسف القرضاوي: " وإلإجماع الذي يصدر عن هذه ألأمة الكبيرة ( أو ممثليها من المجتهدين و العلماء ) هو وحده الذي يعتبر مصدرا للأحكام الشرعية ، ويجب على الشعوب التي تتكون منه هذه ألأمة و على من يتكلمون باسمها أن يحترموا هذا ألإجماع ، لأنه يمثل سيادة ألأمة " .(60)
و بهذا يتبين أن فكرة السيادة للأمة ليست فكرة غريبة على النظام السياسي الإسلامي ، إذا فهمت وفقاً للرؤية الإسلامية الصحيحة و تمّ قياسها وفق مقاييس مناسبة للبيئة التي نشأت فيها و المجتمع الذي تطبق عليه ، لا بالمقاييس الأخرى ، و لذا فإننا لا نجد مبرراً للنزاع ، فالسيادة للأمة في إطار الشريعة.
خامسا: تقسيم العالم :
لعل قضية تقسيم العالم إلى دارين ( دار الإسلام ودار الحرب ) من أبرز القضايا التي سيطر فيها التاريخ على الفقه فقد استخدم الفقهاء قديماً مصطلح دار الحرب ودار الإسلام للتفريق بين بلاد المسلمين والبلاد الأخرى حيث كان المسلمون بصفة عامة يعيشون داخل منطقة جغرافية محددة لها صفاتها ومكنوناتها القائمة على العقيدة الإسلامية، وقد استخدم هذا المصطلح في سياق السياسة الشرعية ، وقد اختلف الفقهاء في تعريف المصطلحين إلى:
أولاً : دار الإسلام. قال الجمهور دار الإسلام هي التي نزلها المسلمون وجرت عليها أحكام الإسلام، وما لم تجر عليه أحكام الإسلام لم يكن دار إسلام وإن لاصقها.(61)
وقد عرفها الكاساني بقوله "تصير دار إسلام بظهور أحكام الإسلام فيها. (62)
وعلى هذا فدار الإسلام هي الدار التي تسود فيها أحكام الإسلام ويمارس فيها المسلمون شعائرهم الإسلامية دون خوف أو فتنة. وهذه الدار يجب أن يحافظ عليها المسلمون ويدافعوا عنها.
واشترط الفقهاء أن تكون الدار محكومة بالإسلام ولم يشترطوا أن يكون جميع سكانها من المسلمين.(1/50)
بل ذهب بعض الفقهاء إلى أن الدار قد تكون دار إسلام "حتى لو لم يكن فيها مواطن مسلم ما دام حاكمها مسلماً ويطبق أحكام الإسلام، وفي هذا المعنى يقول بعض الشافعية "وليس من شرط دار الإسلام أن يكون فيها مسلمون بل يكفي كونها في يد الإمام وإسلامه"(63).
"وتعتبر الدار دار إسلام حتى ولو كان أهلها فاسقين، فما دامت شعائر الإسلام ظاهرة بها، فإنه لا يسلبها هذه الصفة أن يفسق أهلها"(64).
وبهذا يتبين رأي الجمهور بأن الدار لا تعد دار إسلام إلا بظهور أحكام الإسلام عليها.
وذهب أبو حنيفة ومن معه إلى أنها تعتبر دار إسلام إذ كان فيها مسلمون يأمنون على أنفسهم وأعراضهم وكانت هذه الدار متاخمة لدار الإسلام.
أما إذا انتفى الأمان ولم تكن الدار ملاصقة لدار الإسلام فتعتبر دار حرب(65)
والواقع المعاصر يشير إلى أنه لا أهمية للمجاورة والملاصقة فقد تغيرت سبل الاتصال إذ يستطيع الإنسان أن يصل إلى أبعد نقطة في العالم في أقرب وقت كما أن هيبة الأمم والدول لم تعد بمظاهر القوة التي يراها الناس، بل أصبحت القوة العسكرية أحد عناصر القوة ، وليست جميعها، فقوة الدول تقاس بقوة اقتصادها ودورها السياسي، وعلاقاتها بالدول الأخرى، وقوتها العلمية وتقدمها التقني وغير ذلك من أسباب القوة.
ثانياً: دار الحرب. وهي الدار التي لا تسودها أحكام الإسلام الدينية والسياسية ولا يكون فيها السلطان للحاكم المسلم، بل يكون فيها السلطان والمنعة للكفار وظهرت فيها أحكام الكفر. و ذهب المتأخرون إلى اشتراط أن لا يكون بينها وبين الدولة الإسلامية عهد أو علاقات سلمية، وقد اختلف الفقهاء في تعريف دار الحرب إلى رأيين:
الرأي الأول : يرى أن دار الحرب هي التي تظهر فيها أحكام الكفر ولا يكون السلطان والمنعة فيها للمسلمين ولا تطبق فيها أحكام الإسلام وليس بينها وبين دار الإسلام عهد، وهذا رأي الجمهور(66)
يقول الكاساني: "تصير دار الكفر بظهور أحكام الكفر فيها" (67).(1/51)
ويقول ابن القيم: "وما لم تجر عليه أحكام الإسلام لم يكن دار إسلام وإن لاصقها"(68).
وعلى هذا الرأي فإن الاختلاف بين دار الإسلام ودار الحرب يكون بظهور المنعة والسلطان فأيما دولة ظهرت للإسلام فيها منعة وسلطان فهي (دار الإسلام) وإن لم تظهر للإسلام قوة أو سلطان فهي (دار الحرب).
الرأي الثاني: وقد ذهب إلى هذا الرأي أبو حنيفة والزيدية ومذهبهم من ذلك أن الدار لا تصير دار حرب إذا كانت المنعة والسلطان لغير المسلمين، بل لا بد أن تتوافر فيها ثلاثة شروط:
أ- أن تظهر فيها أحكام الكفر.
ب- أن تكون متصلة بدار الحرب.
ج- أن لا يبقى فيها مسلم أو ذمي آمناً بالأمان الأول (أي بالأمان الإسلامي الأول)(69) .
ولم ينظر أصحاب هذا الرأي إلى المنعة والقوة والسلطان وإنما نظروا إلى الأمان بالنسبة للمسلم وللذمي، ويترتب على هذا الرأي أن هناك نوعاً من الديار لا ينطبق عليهم حكم دار الإسلام ولا دار الحرب وهي:
أ - الدار التي لا يتحقق للمسلمين فيها سلطان أو منعة.
ب - الدار التي تتاخم المسلمين.
ثالثاً: دار العهد. ظهرت فكرة دار العهد بعد استقرار الدولة الإسلامية وتنظيم أمورها، وتطورت هذه الفكرة مع طور علاقاتها وبظهور أحكام وظروف جديدة للدولة الإسلامية .. فبعد أن كانت الحروب قائمة ولم يكن للدولة الإسلامية علاقات (غير حربية) مع الدول الأخرى نشأت ظروف جديدة كان من بينها استقرار الدولة الإسلامية واتساع رقعتها واتصالها بدول وشعوب مختلفة،ولذا فقد توجه الفقهاء لبحث هذه الحالة، فهذه "الدار" لم يحكمها المسلمون حتى تطبق فيها شريعتهم، ولكن أهلها دخلوا في عهد المسلمين على شرائط اشترطت وقواعد عينت فتحتفظ بما فيها من شريعة أحكام، وتكون شبيهة بالدول التي لم تتمتع بكامل استقلالها لوجود معاهدة معها.(1/52)
وترتبط دار العهد -أو دور العهود- بالدولة الإسلامية بمواثيق وعهود ، كما تنصرف تسمية دار العهد إلى البلاد التي لم تحارب المسلمين أو تعاديهم بحيث تشمل دور العهد جميع البلاد التي ترتبط بمواثيق تنظم العلاقة بين الدولة الإسلامية وغيرها إلى جانب أنها تشمل البلاد الأخرى التي لا توجد بينها وبين المسلمين عهود أو مواثيق إلا أنها لم تحاربهم أو تساعد محاربيهم(70).
وإذا كان هذا رأي الفقهاء قديماً، فما هي الرؤية نحو تقسيم العالم إلى دار إسلام ودار حرب؟ نجد من المهم طرح بعض التساؤلات للإجابة عليها حتى تلامس واقع المسلمين بعيداً عن الفهم المحدد للمصطلح دار الحرب ودار الإسلام، ومن ذلك مدى ضرورة الإلتزام بهذا التقسيم أي هل إن تقسيم العالم إلى دار حرب ودار إسلام يدخل في أبواب الأحكام الشرعية الثابتة التي لا تجوز مخالفتها؟!
فقد ذهب عدد من الفقهاء إلى أن هذا التقسيم لا دليل عليه من الكتاب والسنة وإنما استمد قوته من الواقع التاريخي الذي عاشه المسلمون الأوائل حيث فرضت عليهم الظروف التي مر بها المسلمون ودولتهم الناشئة وما واجهته من حروب وكذلك سيادة الحرب بصفة عامة بين الدول في تلك الحقيقة التاريخية إلى أن يقسموا العالم إلى دار إسلام ودار حرب (71).(1/53)
"إن هذا التقسيم مبني على أساس الواقع، لا على أساس الشرع ومن محض صنيع الفقهاء في القرن الثاني الهجري، وأنه من أجل ترتيب بعض الأحكام الشرعية في المعاملات ونحوها، وأن الحرب هي السبب في هذا التقسيم، فيمكننا أن نقول: إن دار الحرب هي مجرد منطقة حرب ومسرح معركة بالنسبة لدار الإسلام التي فرضت عليها الأوضاع في الماضي أن تتكتل، وأن تعتبر البلاد غير الإسلامية في مركز العدو الذي برهنت الأحداث على نظراته العدائية للمسلمين، فهو تقسيم طارئ بسبب قيام حالة الحرب أو الحرب نفسها، فهو ينتهي بانتهاء الأسباب التي دعت إليه. والحقيقة أن الدنيا بحسب الأصل هي دار واحدة كما هو رأي الشافعي.
فليس المراد من التقسيم أن يجعل العالم تحت حكم دولتين، أو كتلتين سياسيتين: إحداهما: تشمل بلاد الإسلام تحت حكم دولة واحدة، والأخرى: تشمل البلاد الأجنبية في ظل حكم دولة واحدة، وإنما هو تقسيم بحسب توافر الأمن والسلام للمسلمين في دارهم، ووجود الخوف والعداء"(72) .
ويدل على ذلك أن الفقهاء عدلوا عن التقسيم "الثنائي" للعالم إلى تقسيم "ثلاثي" وهو دار الإسلام ودار الحرب ودار العهد، ولو كان الأمر حكماً لازماً لما تجاوزه الفقهاء، وهنا يأتي السؤال الأخر هل يجب الوقوف عند هذا التقسيم؟ أم يمكن الاجتهاد فيه وإعادة بحث دلالته، إذ طرح بعض الفقهاء المتأخرين تقسيمات جدية مثل أمة الدعوة وأمة الإجابة، ونظر إلى العلاقة بين المسلمين وغيرهم باعتبارها علاقة دعوة قائمة على تبليغ الرسالة الإسلامية فالسلام والحرب ليسا هما العلاقة الطبيعية بين المسلمين وغيرهم وإنما هما منهجان في العلاقات الدولية قديماً وحديثاً يأخذ بهم المسلمون وفقاً للحاجة في ضوء الضوابط الشرعية الحاكمة لهما.(1/54)
كما طرح آخرون مصطلح دار الإسلام حكماً وحقيقة ودار الإسلام حكماً لا حقيقة، ودار الحرب(73) باعتبارها تقسيماً جديد في زمن حدثت فيه تحولات كثيرة في العلاقات الدولية المعاصرة تأثر بها المسلمون سواء كانوا في بلدانهم أم في البلدان الأخرى مثل البلاد التي يعيش فيها المسلمون باعتبارهم أقلية فيها على الرغم من كثافتهم وعددهم الذي يتجاوز عدد المسلمين في مجموعة من الدول الإسلامية مثل المسلمين في الهند والصين وروسيا وغيرها من بلدان العالم كما أن هناك حالة من الهجرة والتنقل لأسباب شتى يصبح فيها المسلمون مواطنون في بلدان غير إسلامية، ويقوم هذا التقسيم على المزج بين الرؤية القديمة للعالم والرؤية المعاصرة، إذ نظر إلى العالم بفئات ثلاث، وهي البلاد الإسلامية التي يعيش فيه المسلمون ويتعاملون فيما بينهم معاملات إسلامية وتطبيق أحكاماً إسلامية في معظم أو بعض جوانب الحياة كالاقتصاد والقانون والأسرة وغيرها، فأطلقوا عليها مصطلح (دار الإسلام حقيقة وحكماً) أي أنها دار إسلامية في حقيقتها وحكمها، أما الدار الأخرى، وهي الدار التي لا يكون غالبية سكانها من المسلمين، ولا تطبق فيها أحكام الإسلام السياسية أو الاقتصادية أو القانونية أو الاجتماعية، لكن المسلمين الذين يقيمون فيها يتمتعون بحقوق تمنحهم ممارسة عقائدهم وعباداتهم، ومعاملاتهم الشخصية، كما أن القوانين والأنظمة السائدة في تلك الدار لا تجبرهم على مخالفة دينهم، فنظر الفقهاء إلى هذه الدار باعتبارها (دار إسلام حكماً لا حقيقة) أي أنها ليست دار إسلام حقيقة لكننا نعاملها حكماً معاملة دار الإسلام للوصف السابق لها، وهذا النوع من الدور يمكن أن يطبق على البلدان التي تقيم فيها الأقليات الإسلامية، مثل الدول الغربية التي يعيش فيها مجموعات من المسلمين لا يشكلون أغلبية، وفي هذه الحالة فإن تطبيق هذا التقسيم يلزمهم بالتعامل مع هذه الدول معاملة إسلامية من حيث الالتزام(1/55)
بالقوانين والأنظمة وعدم مخالفتها مع احتفاظهم بشخصيتهم الدينية، إن هذا التقسيم يخرج المسلمين في الغرب والدول الأخرى التي يشكلون فيها أقلية من العزلة التي فرضت عليهم بسبب تقسيم العالم إلى دار إسلام ودار حرب، إذ أنهم بسبب ذلك يعيشون حالة من الاضطراب فهم يعيشون في دول ومجتمعات توصف بأنها مجتمعات غير إسلامية ، كما أنها لا تمنعهم من ممارسة حقوقهم سواء كانوا من مواطنيها أو من المهاجرين المقيمين فيها، إن هذا التقسيم دفع ببعض المسلمين إلى استغلال حالة الاضطراب، واختاروا وصف (دار الحرب) على البلدان التي تقيم فيها الأقليات الإسلامية مما يعني ممارسة أحكام دار الحرب، من استخدام للعنف والقتل والتدمير، وهذا ما حدث في بعض البلدان الغربية ودفع بالمسلمين –هناك- إلى ساحة المواجهة مع مجتمعاتهم أو العزلة عنها بل –هذا الفعل- أساء للإسلام والمسلمين بصفة عامة، إن دراسة وافية لهذه المصطلح الجديد (دار الإسلام حكماً لا حقيقة) تشكل بداية لمشروعية الوجود الإسلامي في الغرب، وحل لمشكلة الانتماء والهوية لدى المسلمين الغربيين الذين تتنازعهم هوية الانتماء الجغرافي لأوطانهم وهوية الانتماء الديني لإسلامهم.(1/56)
وإلى جانب الأقليات يمكن تطبيق هذا التقسيم على البلدان الإسلامية التي وقعت تحت سيطرة القوى الاستعمارية أو الاحتلال المباشر وتكون السيادة فيها لغير المسلمين وهي الأراضي التي يطلق عليها الفقهاء مصطلح (دار الاسترداد) أي أنها تفقد صفة دار الإسلام بصفة مؤقتة ويعمل المسلمون على استردادها فمثل هذه الديار يمكن أن تطبق عليها أحكام (دار الإسلام حكماً لا حقيقة) ومثل ذلك أيضاً المناطق التي تسيطر عليها القوى الخارجة على النظام السياسي أو ما يسميه الفقهاء بـ (البغاة) وما يصطلح عليه حالياً بالقوى الانفصالية التي تفرض سيطرتها على تلك المناطق وتطبق فيها أنظمتها وقوانينها في محاولة للانفصال غير المشروع عن الدولة الأم، إن مثل هذه الحالات يمكن أن يطبق عليها أحكام (دار الإسلام حكماً لا حقيقة)، ولعل سائل يسأل: ما أهمية هذا التقسيم ونحن نعيش في عالم تداخلت فيه الأنظمة والقوى ولم يعد هناك فرق كبير بين أقسام العالم؟ والإجابة على ذلك تعيدنا إلى القول بأن هذا التقسيم تترتب عليه أحكام لدى المسلمين فهمها بعضهم فهماً خاطئاً يتطلب تحديها ووصفها الوصف الشرعي الصحيح حتى لا ينحرف فيها الفهم وتختل الموازين ويبرز من يبرر تطبيق أحكام لم تشرع أصلاً لمثل تلك الحالات، فيطبق أحكام خاصة بوقت الحرب على المجتمعات الإسلامية أو المجتمعات الأخرى التي ليست بدار حرب وليس بينها وبين المسلمين حرب بل يجد فيها المسلمون أمنهم وأمانهم ومثل هذه الدعوات برزت بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر حين تم تقسيم العالم إلى (فسطاطين) فسطاط الحق وفسطاط الباطل، وأن على المسلمين أن يختاروا بين الفريقين، وترتب ذلك أحكاماً أباحت دماء الغربيين كافة بزعم أنهم جميعاً (صليبيين) أعداء للإسلام!! وأن قتلهم واجب سواء من حارب منهم أم لم يحارب!! بل تم توجيه المسلمين في الغرب إلى (التمايز) عن (الكفار) في السكن والعمل والعلاقة حتى لا يصيبهم ما يصيب (الكفار)(1/57)
من القتل والجرح والأذى.
مثل هذه الدعوات لقيت صدى عند بعض المسلمين الذين ساءهم ما يلقون من ظلم واضطهاد في أماكن كثيرة، مثل فلسطين وغيرها من البلاد الإسلامية، واستجاب لدعوات العنف والقتل والتدمير.
إن الموقف ناشئ عن فهم خاطيء للأحكام الشرعية، ولا بد من الرجوع إلى مصادر هذه الأحكام والتيقن منها والحرص الشديد على عدم الاستجابة لدعوات تعطي جانباً من الحكم وتغفل جوانب كثيرة.
إن هذا الالتزام نابع من حرص المسلم على أن يعمل بالإسلام وأحكامه كما شرعها الله سبحانه وتعالى وأن لا يتبع هواه أو أهواء الأخرين، كما أن التزامه ليس ردة فعل، لعمل الأخرين فهو لا ينظر إلى تقسيم العالم إلى (محور الشر) و(محور الخير) ولا يكون موقفه من الأخر قائم على أن (من ليس معنا فهو ضدنا). بل ينطلق موقفه من الحكم الشرعي القائم على الدليل.
إن مثل هذه الآراء وغيرها تدفع بالمسلمين إلى الاجتهاد مرة أخرى في رؤيتهم للعالم وما قام عليه التقسيم القديم (دار الإسلام) و(دار الحرب)، بل تعيد النظر في التقسيم ذاته ومدى ملائمته للواقع المعاصر للمسلمين ولغيرهم من الشعوب .
""إن فاعلية هذا التقسيم (دار الإسلام ودار الحرب) حتى هذا الزمن غير مانعة من مراجعته وإعادة النظر فيه، من غير أن يحسب البعض أن ذلك انتهاكاً لحكم شرعي، فتغير البيئة الدولية وبروز متغيرات في النظام الدولي تتطلب جملة من العناصر الدافعة إلى المراجعة المنهجية، وتشير إلى مبررات حاسمة قد تدفع إلى ضرورة البحث في عناصر قسمة جديدة تستلهم عناصر "الواقع" وأصول الشريعة. لا شك أن بروز الدول القومية والمسألة الشرقية وانيهار الدولة العثمانية والخلافة التي ارتبطت بها، وتبدل عناصر ومفاصل حاسمة تفرض (قسمة جديدة) والتفكير بها تفكيراً منهاجياً عميقاً.(1/58)
" إن التقسيم الدولي للمعمورة ليس كما يتصور تقسيم حدود ولكنه أعمق من ذلك وأوسع، فربما تكون فكرة الحدود أحد عناصره، ولكن تظل النقطة الجوهرية فيه هو أنه يشير إلى تصورات (أوصاف) وحالات (علاقات) وممألآ (تغيرات)، ومن ثم يجب إعادة النظر في هذه الرؤية ضمن رؤى خاصة بالنظام الاقتصادي الدولي، وعمليات الاعتماد المتبادل، ورؤى التبعية ومسالك الاستعمار الجديد، والمنظمات الدولية غير الحكومية وتغير مفهوم الحدود والدولة القومية والسيادة، وبزوغ مفاهيم مساندة لفكرة الكونية والعالمية، من المواطنة العالمية، والتعليم من أجل السلام، ومؤتمرات دولية النشاط والرؤى : السكان –التنمية الاجتماعية- المدن، والمجتمع المدني–والتدخل الدولي لحقوق الإنسان، وثورة المعلومات وسلطة المعرفة"(74).
إن الفهم الصحيح لمصطلحي دار الإسلام ودار الحرب، وإنزالها منزلتها الحقيقية في الواقع يحقق للمسلمين حضورهم المعاصر ويجنبهم كثيراً من المشكلات.(1/59)
وبغير هذا سيتم توظيف مصطلحا دار الإسلام ودار الحرب لتطبيق أحكام خاصة بظروف وحالات معينة على جميع الحالات، إذ أن تقسيم العالم إلى دار إسلام ودار حرب يترتب عليه بعض الأحكام التي ذكر الفقهاء كثيراً منها ، مثل العقود التي يعقدها المسلمون مع غيرهم في دار الحرب وهي يجب على المسلم الوفاء بها أم لا؟ أو العقود الفاسدة التي يعقدها (الحربيين) في دار الإسلام كالتعامل بالربا وغيره ..(1/60)
وكذلك إقامة المسلم في دار الحرب وإقامة غير المسلم في دار الإسلام ، ومدى التزام كل طرف بالحقوق الواجبة عليه نحو الأخر كالدين والوكالة والكفالة وغيرها، والعقوبات التي يجب تطبيقها على غير المسلم (الحربي) في دار الإسلام وكذا العقوبات التي يلتزم بها المسلم في دار الحرب وهل يجب على المسلم التقاضي في دار الحرب والموقف من أحكام القاضي الذي يوليه غير المسلمين في حالة ضعفهم وخضوعهم لغير المسلمين، وغير ذلك من الأحكام التي بنى عليها بعض المسلمين اليوم رؤيتهم للآخرين فأفتوا بحل دماء وأموال غير المسلمين واستباحوا سرقة أموالهم وهتك أعراضهم وقتلهم على الرغم من أنهم مواطنون في بلاد المسلمين وهم "أهل ذمة" كما يطلق عليهم في الشريعة الإسلامية، وامتد الأمر إلى البلاد غير الإسلامية التي يعيش فيها مسلمون ويمارسون حياتهم وعقائدهم وعباداتهم دون تدخل من تلك الدول أو قمع فأباحوا التهرب من دفع الضرائب باعتبارها "مكوساً" في دار الحرب، والامتناع عن كل التزام مالي تجاه الدولة أو الخدمات التي توفرها لهم برسوم مالية، كما أباحوا الاستفادة من العقود المحرمة مثل التعامل بالربا وبيع الخمور ولحم الخنزير وغيرها من المعاملات بحجة أنهم في دار حرب، وامتد هذا الفهم إلى طريقة التعامل مع مواطنين تلك الدول فأفتوا لأنفسهم بحل دمائهم لأن حكوماتهم ليست حكومات إسلامية وأن بعضها يحتل بعض بلاد المسلمين أو أن تلك الحكومات تعين "إسرائيل" أو غير ذلك من الأسباب فأفتوا بإباحة دماء سكان تلك البلاد بزعم أنهم شركاء مع حكوماتهم في تلك الجرائم على الرغم من أن كثيراً من مواطني تلك الدول لا يقبل بسياسة حكومته ويعارض مواقفها ضد المسلمين وكثيراً ما خرج مواطنوا تلك الدول في مظاهرات ومسيرات وكتبوا وتحدثوا عن معارضتهم لما تقوم به حكوماتهم .. ومع ذلك فقد اعتبرهم بعض المسلمين (حربيين) تنطبق عليهم أحكام الحربيين .(1/61)
إن اجتهاداً جديداً لطبيعة العلاقة بين المسلمين وغيرهم سيعيد هذه العلاقة إلى أصولها الشرعية وسيحقق رسالة الإسلام في الوصول إلى الناس ودعوتهم إليه بالحكمة والموعظة الحسنة ويجعل للمسلمين حضوراً إنسانيا وعالمياً واضحاً في العلاقات الإنسانية الدولية، إن ذلك لا يعني أن يذوب المسلمون في غيرهم أو يكونوا تبعاً لهم أو يغيروا من معتقداتهم وعباداتهم وأخلاقهم بل يعني أن ينقل المسلمون رسالتهم إلى الناس كافة تنفيذاً لقوله تعالى: " وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ" (75).
سادسا : ألأمة و الدولة :
إذا إن فكرة تقسيم العالم إلى دارين أو ثلاث فكرة يصعب اعتمادها طريقة وحيدة للتعامل مع العالم، فإن تطبيقها يخالف واقع المسلمين، إذ أن هذا التقسيم قام على وحدة الأمة ووحدة الدولة، أي أن المسلمين كانوا يعيشون في دولة واحدة تمثل أمة واحدة تعبر هذه الأمة أو الدولة عن حالة واحدة يعيشها المسلمون في كافة أرجائها ، فحتى في فترات ضعف الدولة(الأمة) وقيام كيانات شبه مستقلة داخل هذه الدولة، لم تكن هذه الكيانات تعبر عن حالة جديدة، أو دولة أو أمة جديدة، بل كانت تعبر عن موقف يتخذه حاكم أو حكام هذه الأقاليم التي اصطلح عليها تاريخيا بالدول لكنها في واقع الحال كانت تعتبر نفسها جزءً من الدولة (الأمة) وكان يعبر عنها بمواقف عدة أبرزها الدعاء (لخليفة المسلين) الحاكم العام في تلك المرحلة باعتباره ممثلاً للدولة (الأمة) ولم تكن هذه الأقاليم أو الدول شبه المستقلة داخل الدولة الإسلامية الواحدة تمارس دوراً سيادياً أو تعبر عن حالة منفصلة لدولة ذات شخصية قانونية مستقلة.(1/62)
ولعل مما يشير إلى هذا المفهوم (الدولة-الأمة) أن الانتماء إلى الدين (الإسلامي) كان يمثل جنسية الأشخاص المنتسبين لهذه الدولة، فلم يكن هناك جنسية مرتبطة بالإقليم وإنما كانت الجنسية مرتبطة بدين الدولة حتى عند غير المسلمين من رعايا الدولة الإسلامية فإن تسميتهم بـ(أهل الذمة) وهو مصطلح ديني إسلامي كان يعبر عن جنسيتهم أو انتمائهم إلى الدولة الإسلامية لأن غيرهم كانوا يحملون صفة أخرى مثل المستأمنين أو المحاربين أو المعاهدين وكانوا ينسبون إلى أقاليمهم.
لكن نظرة إلى الواقع تشير إلى غياب مفهوم (الدولة-الأمة) إذ انفصل المصطلحين ليغطيا دلالات متعددة فمفهوم الأمة الإسلامية المعاصر لا يدل على وحدة الدولة وإنما هو رباط يقوم على أساس الدين ويجمع دولاً مختلفة ذات سيادة تلتقي في مصالحها أحياناً مع غيرها من الدول الإسلامية وتختلف في مواضع أخرى بل يصل الخلاف أحياناً إلى الحرب والاقتتال مثلما حدث بين إيران والعراق ما بين 1980 – 1988م، والحرب التي دارت بين باكستان وبنغلاديش (والتي كانت تسمى باكستان الشرقية قديماً) وذلك عام 1971م، وغيرها من الحروب والصراعات التي نشبت بين الدول الإسلامية، ولعل الصورة التي تعبر عن تجمع المسلمين ودولهم تمثلت في قيام منظمة هي منظمة المؤتمر الإسلامي التي تجمع معظم الدول الإسلامية، لكن المنظمة لا تمثل (الأمة) بمفهومها السياسي والسيادي، بل تمثل نقطة التقاء بين المسلمين شأنها شأن المنظمات الدولية الأخرى.
والواقع أن الخلاف بين مفهوم وحدة الأمة والدولة أو افتراقها يرتبط بالتاريخ والسيرورة العملية لحياة المسلمين أكثر من ارتباطه بالنصوص القطعية، إذ أن ورود النصوص الشرعية بوحدة الأمة كقوله تعالى: " إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ"(76).(1/63)
يمكن أن يستدل به كلا المعنيين، أي أن الأمة والدولة هما شيء واحد، وأن الأمة بمعناها الواسع الذي يفيد الانتماء إلى الدين وليس الإقليم، والفيصل في كلا الأمرين هو التطبيق العملي لهذا المفهوم والإسلامي لا يمنع أو ينفي قيام الدولة على أساس مفهوم الأمة الواحدة وإن اختلفت مكوناتها الجغرافية والبشرية ، بل يطلب ذلك ويعمل له، و التاريخ المعاصر شاهد على قيام الأمة ـ الدولة ـ فهذه الولايات المتحدة الأمريكية، وكندا والهند والصين وروسيا، وكلها أرضا شاسعة مترامية الأطراف متعددة الأجناس والديانات ومختلفة الأقاليم، و مع ذلك فيه دولة واحدة ، وإن اختلف تكوينها السياسي بين الدولة الموحدة ( الصين ـ مثلا ) ، والدولة الإتحادية ( الولايات المتحدة ألأمريكية ـ مثلا ) ، أي أن القول بالدولة الأمة، أو الدولة الواسعة أمر واقعي، لكن ذلك أيضاً لا يمنع من قيام الدول المتعددة ذات الانتماء إلى الأمة الواحدة ( الإتحاد ألأوروبي ـ نموذجا )وكما هو الحال بالنسبة للدول الإسلامية اليوم والقول ، إن القول بوجوب وحدة الأمة الإسلامية في دولة واحدة يعني عدم مشروعية الدول الإسلامية القائمة حالياً، وهذا ما لم يقل به أحد من الفقهاء المعاصرين لأن القول بعدم المشروعية يترتب عليه أحكام كثيرة، وهذا ما وقع فيه بعض أبناء الإسلام حين اعتمدوا أساليب العنف والتشدد والتطرف انطلاقاً من عدم مشروعية الواقع القائم البلدان المسلين وقد أدى هذا الخلل إلى شيوع مصطلحات كثيرة كالتكفير ووجوب الهجرة إلى دار الإسلام أو جماعة المسلمين التي يسعى هؤلاء لإقامتها، أو إلى التجمعات التي أقاموها وأعطوها حكم دار الإسلام ووصفوا غيرها بدار الكفر أو الحرب أو الردة.(1/64)
ولقد بحث عدد من الفقهاء المتقدمين و المتأخرين حالة تعدد الدول الإسلامية مع انتمائها إلى أمة الإسلام، فهذا إمام الحرمين الجويني يقول (.. والذي عندي فيه أن عقد الإمامة لشخصين في صقيع واحد متضايق الخطط والمخالف (أي متقارب المسافات والحدود) غير جائز، وقد حصل الإجماع عليه، وأما إذا بعد المدى وتخلل بين الإمامين شسوع النوى (أي تباعدت المسافات بين البلدان) فللاحتمال في ذلك مجال، وهو خارج عن القواطع)(77) .
يقول الشيخ محمد أبو زهرة: "لا يمكن في هذا العصر أن تتكون حكومة إسلامية واحدة، بل لكل إقليم دولته، وتلتقي جميعها على كلمة من الله تعالى: تنشر التعاون بين الناس، وتربط العلاقات على أسس من الوحدة الإنسانية العامة، ويكون المسلمون فيها دعاة حق يتحد اقتصادهم وتتحد سياستهم وتتحد أو تتقارب جيوشهم، وكل إقليم له رئيسه المختار اختياراً حراً من شعبه من غير أن تكون له موالاة لغير المسلمين(78) .
ويقول الدكتور/ محمد طلعت الغنيمي: "إن الدولة الإسلامية الواحدة من قبيل المندوب في الإسلام وليس من قبيل الواجبات، إن الذي يأمر به الإسلام هو الأخوة بين المسلمين، والأخوة لا تستدعي حتماً ولزاماً الوحدة، ومن ثم فإن نوعاً من الرابطة التي تقوم على التآخي والود والمحبة هو الذي يربط بين الدول الإسلامية وذلك هو الفرض على الدول الإسلامية، أما ما يتجاوز ذلك إلى رابطة أقوى فهو من الأمور التي ندب إليها المسلمون"(79) .(1/65)
ويقول الأستاذ عبد القادر عوده ـ رحمه الله ـ : "قد يظن البعض أن هذا يقتضي أن تكون البلاد الإسلامية كلها تحت حكم دولة واحدة، والبلاد الأجنبية كلها تحت حكم دولة واحدة وهو ظن لا أساس له من الواقع، فالنظريات الإسلامية لم توضع على أسس أن تكون البلاد الإسلامية محكومة بحكومة واحدة، وإنما وضعت على أساس ما يقتضيه الإسلام، والإسلام يقتضي أن يكون المسلمون في كل بقاع الأرض يد واحدة، يتجهون اتجاهاً واحدة وتسوسهم سياسة واحدة وأبسط الصور وأكفلها بتحقيق هذه الغاية أن تكون كل بلاد الإسلام تحت حكم دولة واحدة ولكن ليست هذه هي الصورة الوحيدة التي تحقق الإسلام، لأن هذه الأهداف يمكن أن تحقق مع قيام دول متعددة في دار الإسلام ما دامت هذه الدول تتجه اتجاهاً واحداً، وتسير على سياسة واحدة، ولا يتنافى هذا مع النظام القائم الآن في البلاد العربية بعد قيام جامعة الدول العربية التي تعمل على توحيد الاتجاهات والسياسات في الدول العربية المختلفة.
ولا يتنافى مع قيام جامعة إسلامية تتكون من كل الدول الإسلامية وتشرف عليها وتعمل على توحيد أغراضها واتجاهاتها، وعلى حل ما يثور فيها من نزاع داخلي، ولا يتنافى الإسلام مع أي نظام آخر ما دام هذا النظام يحقق الأهداف الإسلامية، وأن هذه الأهداف هي أن يكون المسلمون يداً واحدة على من عاداهم، وأن يكون اتجاههم واحد وسياستهم واحدة"(80) .(1/66)
ولعل النموذج الأوروبي في التوحد من خلال الاتحاد الأوروبي يمثل صورة يمكن القياس عليها حيث احتفظت الدول بسيادتها وشخصيتها القانونية في ظل سياسة عامة متقاربة أحياناً ومتطابقة أحياناً في القضايا الداخلية والخارجية مع احتفاظ كل دولة بهامش من الحرية في اتخاذ القرارات والأنظمة والقوانين الخاصة بها، ويمكن أن تكون للعرب أو المسلمين تجربتهم الخاصة بهم لتحقيق صورة من صور التوحد في السياسات والمواقف مع احتفاظ كل إقليم بسيادته وشخصيته القانونية، وهنا يأتي دور المؤسسات المشتركة التي تصبح محور رسم السياسة العامة لهذه الصورة من العلاقة بين الدول والمجتمعات الإسلامية، أما أن يتم القفز على الواقع أو تجاهله أو إطلاق الأحكام العامة بعدم مشروعية الواقع باعتباره يخالف ما سار عليه المسلمون خلال مرحلة تاريخية حين كانت ألأمة والدولة متحدتان ، فإن ذلك لن يعالج واقع المسلمين ولن يحل مشكلاتهم بل يمكن أن نقول أنه يخالف ما قام عليه الإسلام من التعددية والتنوع في ظل الوحدة الدينية والفكرية.
الخاتمة و التوصيات :
1. إن النظام السياسي الإسلامي لم يحظ بالبحث والدراسة كبقية جوانب الفقه الإسلامي ، و لذا لا بد من الاهتمام بدراسة هذا النظام و بيان الجوانب المختلفة فيه ، خاصة تلك القضايا المرتبطة بتغيرات العصر و التي تحتاج إلى بحث و اجتهاد جديدين .
2. لقد ارتبط النظام السياسي الإسلامي في دراسته و البحث فيه بالتاريخ أكثر من ارتباطه بالقواعد و النصوص الشرعية ، فمن ألأهمية أن يعاد النظر في كثير من القضايا التاريخية و دراستها في ضوء تلك القواعد و النصوص ، حتى لا يتم بناء أحكام فقهية استناداً إلى وقائع تاريخية محددة.(1/67)
3. ليست هناك صورة محددة للنظام الإسلامي يجب الالتزام بها و العمل على تطبيقها ، و لذا فإن البحث يجب أن يتجه إلى مقاصد النظام السياسي و ليس إلى صورته ، و لا بد من تجاوز الخلاف حول وجوب إقامة الخلافة إلى وجوب إقامة النظام السياسي الإسلامي .
4. هناك من القضايا المهمة في السياسة الشرعية أو النظام السياسي الإسلامي تحتاج إلى إعادة بحث و دراسة ، و من ذلك فكرة تقسيم العالم إلى دارين ، و كذلك وجوب وحدة الأمة و الدولة الإسلامية ، فمثل هاتين القضيتين لا بد لهما من اجتهاد جديد .
5. مقارنة النظام السياسي الإسلامي بالأنظمة الأخرى يجب أن لا تكون من خلال المقاييس و القوالب و الأدوات وفق المناهج القائمة على الفكر الغربي ، بل لا بد من وجود مقاييس جديدة تقوم على مقارنة الأهداف و الغايات لا الصور و الأشكال ، حتى يمكن إعطاء حكم صحيح على مقارنة النظام السياسي الإسلامي بغيره .
6. النظام السياسي الإسلامي له مواصفات خاصة قائمة على الأصول الشرعية و مستمدة من المفاهيم و القيم الإسلامية ، و لذلك لابد من إبراز هذا النظام بصيغته المستقلة و ليس باعتباره صورة للنظم الأخرى .
7. ليس هناك ما يمنع ـ شرعاً ـ من الأخذ بالأساليب الحديثة في أنظمة الحكم كوجود الدساتير المكتوبة و المؤسسات الدستورية و الإجراءات التطبيقية كالترشيح و الانتخاب و غيرها من الصور الحديثة ، ما دامت موافقة للقواعد العامة في الإسلام .
8. إن اختلاط المصطلحات و المفاهيم قد أوجد حرجاً و مشكلات كثيرة في المجتمعات الإسلامية ، فلابد من دراسة هذه المصطلحات مثل "الحاكمية" و "السيادة" و "سلطة الأمة" و غيرها من المصطلحات في ضوء النصوص الشرعية و التطبيق العلمي لها حتى لا يساء استخدامها .(1/68)
9. لقد تعددت الجهود الإسلامية في العصور المتأخرة لإبراز الجانب السياسي في الإسلام ، لكن هذه الجهود و الدراسات موزعة في مراكز البحث و و الجامعات و غيرها ، و لذا فإن تضافر الجهود من أجل التعاون بينها يعتبر خطوة مهمة تستدعي إقامة مركز يعنى بدراسات النظام السياسي الإسلامي ، أو تكليف أحد المراكز القائمة حالياً بتولي مهمة التنسيق و جمع الأعمال المتعلقة بذلك بحيث يصبح مرجعا للباحثين و الدارسين لهذا النظام.
10. إن تعدد الدراسات و البحوث و الكتابات في الشأن السياسي الإسلامي ـ خلال العقود المتأخرة ـ قد أبرز هذا الجانب ، إلا أن ذلك لم يتبلور في مشروع متكامل ، و لذا فإن من المهم وجود مشروع للنظام السياسي الإسلامي يدرس كافة التفاصيل المتعلقة به ، دراسة شرعية تأصيلية ، كما يدرسها على ضوء الواقع المعاصر ، مع الاهتمام بالجوانب التطبيقية منها حتى يكون ـ المشروع ـ شاملاً و قابلاً للتطبيق .
و الله الموفق
الهوامش:
1. منفقه الدولة في الإسلام – د. يوسف القرضاوي ص 7.
2. سورة البقرة ـ الاية 85 .
3. أنظر: 1- من فقه الدولة – د. يوسف القرضاوي.
2- في الفقه السياسي ـ فريد عبدالخالق .
3-الإسلام و الدولة ـ القطب محمد طبليه .
4-دراسة في منهج الإسلام السياسي ـ سعدي أبوجيب
5-الدولة القانونية و النظام السياسي ألإسلامي ـ منير حميد البياتي .
6- رياسة الدولة في الإسلام ـ د. محمد رأفت عثمان .
7- النظام السياسي للدولة ألإسلامية ـ د.محمد سليم العوا .
وغيرهم من الباحثين .....
4. الاقتصاد في معرفة ألأعتقاد ـ أبو حامد الغزالي ص113 .
5. ألأحكام السلطانية ـ الماوردي ص171 .
6. السياسة الشرعية ـ أبن تيمية ص169 .
7. تهذيب الرياسة وترتيب السياسة ـ أبي علي القلعي ص74 .
8. مقدمة أبن خلدون ـ الفصل الخامس .
9. فقه الخلافة وتطورها ـ دز عبدالرزاق السنهوري ص46 .
10. سورة الشورى ـ الآية 38 .
11. سورة آل عمران ـ الآية 159 .(1/69)
12. سورة النساء ـ الآية 58 .
13. سورة المائدة ـ الآية 1 .
14. سورة المائدة ـ الاية 2 .
15. أنظر: ألأشباه و النظائر ـ أبن نجيم .
16. المدخل الفقهي العام . د . مصطفى الزرقا ص633 .
17. الموافقات ـ للشاطبي ج4 ص 155.
18. المستصفى ـ ألأمام الغزالي ج2 ص354 .
19. مجموعة فتاوى ابن تيمية ـ ج 35 ص395
20. الروح ـ ابن القيم ص 276 .
21. الغياثي ـ أمام الحرمين الجوبني ـ ص61 .
22. فقه الخلافة ـ السنهوري ص66 .
23. المرجع السابق ص16 .
24. منهاج ألإسلام ـ محمد أسد ص54
25. النظريات السياسية في ألإسلام ـ محمد ضياء الدين الريس ض210 .
26. االنظام السياسي في ألإسلام – د. محمد سليم العوا ص106.
27. السلطة في الإسلام ـ عبدالجواد ياسين ص20 .
28. سورة النور ـ ألآية 55 .
29. تفسير ابن كثير .
30. تفسير الطبري .
31. مسند ألإمام أحمد بن حنبل .
32. سنن أبي داود .
33. عون المعبود شرح سنن أبي داود .
34. كنز العمال ج6 ص4 .
35. المرجع السابق .
36. منهاج السنة النبوية ـ ابن تيمية ج1 ص232 .
37. مسند ألإمام أحمد .
38. سير أعلام النبلاء ـ الذهبي ج8 ص67 .
39. العقد الفريد ـ ابن عبدربه ج2 ص179
40. سورة النساء ـ الآية 59 .
41. تفسير القرطبي .
42. تفسير الطبري .
43. فتح القدير .
44. مسند ألإمام أحمد بن حنبل .
45. غزوة بدر الكبرى ـ محمد أحمد باشميل ص145 .
46. سنن ابن ماجة .
47. مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي و الخلافة الراشدة ـ محمد حميدالله ص44.
48. المصدر السابق ص 45.
49. ألإسلام و النصرانية ـ الشيخ محمد عبده ص71 .
50. الخلافة ـ الشيخ محمد رشيد رضا ص9
51. من فقه الدولة في ألإسلام ـ د. يوسف القرضاوي ص30 .
52. أنظر النظم السياسية ـ د. ثروت بدوي ص139 ، والقانون الدستوري و ألأنظمة السياسية ـ د. عبدالحميد متولي ص163 .
53. ألإحكام في أصول ألأحكام ـ الآمدي ج1 ص113 .
54. المستصفى ـ ألإمام الغزالي 83 .(1/70)
55. الأبعاد السياية لمفهوم الحاكمية ـ هشام أحمد عوض جعفر ( المقدمة ـ د. طه جابر العلواني ) ص29 .
56. لمزيد من التفصيل : أنظر المرجع السابق .
57. السلطات الثلاث في الإسلام ـ الشيخ عبدالوهاب خلاّف ـ نقلا عن : نظام الدولة والقضاء و العرف في ألإسلام ـ سمير عالية ص48 .
58. فقه الخلافة وتطورها ـ السنهوري ص56 .
59. تفسير المنار ـ الشيخ رشيد رضا ج5 ص 181 .
60. من فقه الدولة في ألإسلام ـ د. يوسف القرضاوي ص 38 .
61. أحكام أهل الذمة- ابن القيم الجوزية- ص366
62. بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع- للكاساني- ج7- ص130
63. فتح العزيز- شرح الوجيز- للدافعي- ج8- ص14
64. مصنفه النظم الإسلامية- مصطفى كمال وصفي- ص286
65. انظر: حاشية ابن عابدين- ج4- ص175- وبدائع الصنائع للكاساني- ج7- ص130- وآثار الحرب للزحيلي ص170- والعلاقات الدولية في الإسلام- محمد أبو زهرة- ص53
66. انظر: المقنع- لابن قدامه ج1- ص415، والفتاوي الكبرى- ج4- ص331
67. بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع – للكاساني- ج7 – ص130
68. أحكام أهل الذمة- ابن قيم الجوزية – ج2- ص366
69. انظر: بدائع الصنائع- للكاساني- ج7- ص131، وحاشية ابن عابدين- ج2- ص175، والفتاوى الهندية- ج2- ص232
70. انظر: موسوعة الفقه الإسلامي- د. فؤاد النادي- ص154
71. انظر: آثار الحرب- وهبة الزحيلي- ص167- والعلاقات الدولية في الإسلام- محمد أبو زهرة: ص51
72. آثار الحرب في افقه الإسلامي- وهبة الزحيلي ص196
73. انظر : العلاقات الدولية في الإسلام – مدخل القيم- ج2- د. سيف عبد الفتاح- ص 372
74. المرجع السابق ص364 .
75. سورة سبأ- الآية 28
76. سورة الأنبياء- الآية (92)
77. كتاب الإرشاد في قواطع الاعتقاد- إمام الحرمين الجويني- ص425
78. المجتمع الإنساني في ظل الإسلام- الشيخ محمد أبو زهرة- ص120
79. الأحكام العامة في قانون الأمم- محمد طلعت الغيمي- ص51(1/71)
80. التشريع الجنائي الإسلامي- عبد القادر عوده- ج1- ص290(1/72)
السياسة والدين
في الغرب الحديث
إعداد
الدكتور
رقيق عبدالسلام
بحث مقدم
للدورة السادسة عشرة للمجلس - اسطنبول
جمادى الأخرة 1427 هـ / يوليو 2006 م
بسم الله الرحمن الرحيم
1 ـ الحروب الدينية والعلاج العلماني
من المهم لفت الانتباه إلى أن علاقة الدين بالسياسة عامة، وبالدولة خاصة لا يمكن فهمها بمعزل عن سياقات التاريخ السياسي الغربي، كما أن الحديث عن المسألة الدينية في الغرب الحديث لا ينفصل عما يمكن تسميته بالحل العلماني الذي فرض نفسه على الفضاء السياسي الغربي خلال القرنين الأخيرين على الأقل، مع تفاوت في درجة الأخذ بهذا الحل من بلد غربي إلى آخر.
كانت العلمانية في صورتها العامة عبارة عن تسويات تاريخية فرضتها أجواء الحروب الدينية التي شقت القارة الأوروبية بدءا من القرن السادس عشر، بما جعل من غير الممكن استمرار الوضع على ما كان عليه، أو العودة به إلى ما قبل مرحلة الحروب الدينية . فقد حاولت الكنيسة البابوية في روما مثلا إعادة فرض الانسجام الداخلي المفقود بقوة الحديد والنار، ولكن الشروخ التي فتحتها موجة الحروب الدينية أخذت من الاتساع مأخذا يفوق إرادة الرتق البابوي. وهذا لا يعني أن تاريخ المسيحية عامة، والمسيحية الأوروبية خاصة، كان تاريخ الموادعة والسلم، أو أن حروب القرن السادس عشر كانت مجرد حدث استثنائي وعابر في مسار التاريخ الكنسي، فقد كان التاريخ المسيحي في صورته الغالبة عبارة عن حالة دائمة من الصراعات والمنازعات الباردة والساخنة بين مختلف الطوائف المسيحية وغيرها، ولكن ما ميز الحروب الدينية للقرن السادس عشر قياسا بسابقاتها هو اتساع الشرخ الذي فتحته داخل المسيحية الكاثوليكية مع عجز الكنيسة عن استعادة زمام المبادرة، بما جعل البروتستانتية تتحول من مجرد "هرطقة" ناشزة، إلى "دين" جديد منازع للدين الرسمي.(1/1)
لئن تمكنت الكنيسة البابوية ومنذ وقت مبكر (أي منذ أن احتضنتها الدولة الرومانية) من فرض نوع من الانسجام والاستقرار الداخليين في عموم أوروبا المسيحية، إلا أن ذلك لم يكن بمنأى عن استخدام ضروب شتى من القهر الديني والكبت الفكري. كانت الكنيسة البابوية مهووسة بإدارة حرب دائمة لا هوادة فيها ضد من أسمتهم هراطقة الداخل، أي مختلف النحل المسيحية التي لا تنسجم تأويلاتها الدينية مع التأويل الرسمي للكنيسة البابوية في روما، وضد وثنيي وكفرة الخارج الذين يهددون أتباع الصليب والكنيسة، أي ضد اليهود والوثنيين ثم المسلمين. ولعل هذا ما حدا بالمؤرخ الفرنسي داليمو إلى القول بأن سر عبقرية الغرب المسيحي الأوروبي، إن كانت هنالك عبقرية أصلا، إنما تكمن أساسا في قدرته الخارقة على الاستمرار والتعايش مع موجات القتل والحروب المرعبة التي كان لها أن تطمس وجوده وتخسف كيانه من الأساس. فمأساة الحروب الدينية وما صحبها من أوبئة مفنية وأمراض مهلكة للحرث والنسل، والتي كان من الممكن أن تنهي أي معنى للحياة المدنية، هي نفسها التي دفعت بالأوروبيين إلى البحث عن الخروج من هذا النفق المظلم عبر انتهاج الحل العلماني، وقد بد أ هذا الحل اجتراجا عمليا لوفاقات دينية بين مختلف الطوائف المتنازعة، قبل أن يكتسب الحل دلالة فكرية أو سياسية محددة المعالم فيما بعد.[4](1/2)
مرت أوروبا وعلى امتداد مائة وثلاثين سنة متتالية ( 1559-1689)، أي منذ ظهور الحركة البروتستانتية في الشمال الأوروبي وتمدّدها نحو الوسط بحالة واسعة من الاضطرابات السياسية والحروب الدينية المفزعة. ففرنسا مثلا امتدت حروبها الدينية زهاء ستة وثلاثين سنة تقريبا (ما بين 1562 إلى1598 ) قبل أن تتجدد مرة أخرى في القرن السابع عشر، مخلفة وراءها ركاما هائلا من القتل والتدمير والانتقام المتبادل بين الكاثوليك والطائفة البروتستانتية الكالفينية. أما ألمانيا فقد امتدت حربها الدينية هي الأخرى ما بين 1618 و 1648 في إطار ما عرف وقتها بحرب الثلاثين سنة. ورغم أن حروب بريطانيا وثوراتها الداخلية لم تكن لأسباب دينية محضة إلا أن العامل الديني لم يكن غائبا منها تماما، سواء أكان ذلك فيما عرف وقتها بالثورة الطهورية التي امتدت من 1660 إلى غاية 1688، ثم ثورة المجد ما بين سنتي 1688 –1689. كما مرت أسبانيا والنمسا وأغلب ممالك أوروبا الغربية بأجواء مشابهة تقريبا. وفعلا تمكنت الكالفينية وفي أقل من ثلاثة عقود من الزمن من السيطرة على سكوتلندا والأراضي الشمالية للبلاد الأسكوندينافية، وتمكنت بصورة مؤقتة من الاستيلاء على السلطة في بريطانيا مع محاولات مماثلة في فرنسا وألمانيا وبولونيا وهنجاريا[5].(1/3)
وفي مواجهة ذلك حاولت الكنيسة الكاثوليكية، ومنذ أواسط القرن السادس عشر وإلى غاية منتصف القرن السابع عشر استعادة وحدة المسيحية البابوية بكل ما هو متاح من أدوات القتل والانتقام وألوان التنكيل التي يشيب لهولها الولدان... من ذلك أنه أضحى غير كاف عدم المجاهرة بالعداء للكنيسة بل لا بد من الكشف عن السرائر و"شق" الصدور، في إطار ما أطلق عليه فيما بعد اسم محاكم التفتيش. ولكن مع كل هذه المحاولات المضنية التي قامت بها الكنيسة البابوية بهدف إلغاء حالة الانقسام التي شقت الكنيسة بقوة الإكراه والعنف، ظل الشرخ عميقا ولم تقدر على رأبه أو إلغائه. فقد غطى الانقسام الطائفي جميع المستويات الاجتماعية والسياسية: الأمم والمدن والقرى والعائلات، وعليه زادت الكنيسة في استفحال الأزمة بدل مداواتها، وتبعا لذلك فقدت قدرتها على التوحيد الاجتماعي والنظم السياسي. ومن أعماق هذه الأزمة الواسعة بدأت تتخلق بذور التعايش بين مختلف الطوائف المسيحية، ومن أتون هذه الحروب الدامية بدأت تتبلور مقولة التسامح الديني، أي فكرة التعايش السلمي مع حالة التعدد الديني والتنوع الطائفي، وقد اقتضى ذلك جهدا كبيرا في إعادة تأويل مصادر التفكير المسيحي .(1/4)
والخلاصة من كل ذلك، أن العلمانية السياسية، بما هي فصل الكنيسة عن الدولة لم تكن خيارا أيديولوجيا بقدر ما كانت حلا إجرائيا فرضته الصراعات الدينية، في حالة تاريخية كانت مطبوعة بالتصدع والأزمات الخانقة بما جعل من غير الممكن تأسيس الاجتماع السياسي والثقافة العامة على أساس وحدة الدين، وقد اقتضى ذلك إعادة بناء التفكير الديني على ضوء الموازنات الجديدة التي أفرزتها هذه الحروب الدينية. ومن هنا يمكننا أن نفهم لماذا تجد العلمانيات الغربية إلى يومنا هذا صعوبات كبيرة في التعاطي مع الوجود الإسلامي الناشئ –كما وجدت قبل ذلك صعوبة في التعامل مع الأقليات اليهودية – على كثرة ما يرفع من شعارات التسامح والتعايش الديني والثقافي، فمبعث ذلك يعود إلى كون مفهوم التسامح الذي نشأ في مناخات الحروب الدينية لا يعدو أن يكون استجابة لمعالجة الانقسام الحاصل داخل الكنيسة بالأساس، ولم يكن معالجة لمشكلة التعددية الدينية بإطلاق، ومن ثم لم يكن من اليسير تمديد هذا المفهوم ليشمل طوائف دينية ومذهبية أخرى خارج إطار الكنيسة الرسمية أو الديانة المهيمنة، وإن كان ذلك لا ينفي وجود محاولات محتشمة يبذلها اليوم بعض رجال الدين من ذوي التوجهات الليبرالية لتمديد فكرة الخلاص الديني لتشمل الديانات المغايرة بدل اقتصارها على أتباع المسيح المخلص، كما أن هناك محاولات يبذلها بعض المفكرين الليبراليين لتوسيع نطاق فكرة التسامح لتشمل المسلمين.(1/5)
قامت الإصلاحية البروتستانتية دون وعي منها بزرع بذور العلمنة السياسية في عموم القارة الأوروبية وخاصة في الشق الشمالي منه، أين تمكنت اللوثرية والكالفينية من مد جذورها وتثبيت أقدامها. ولا يعني ذلك أن الإصلاحية البروتستانتية التي نادت بالعودة إلى أصول الكتب المقدسة وما أسمته بالآباء الروحيين بديلا عن التأويلات الكنسية الرسمية، لا يعني أنها كانت تهدف بمحض إرادتها إلى تحفيز حركة العلمنة، أو الانعطاف عن الدين بقدر ما تمخضت هذه الحركة عن جملة من التداعيات السياسية والاجتماعية لم تكن هي نفسها واعية بمآلاتها ونهاياتها، ومن أهمّ تلك التداعيات الممهّدة للعلمانية ما يلي:.
أولا تفجير عرى النظام السياسي والاجتماعي"الوسيط" الذي كانت تقوم البابوية الكاثوليكية على شد عراه، ولحم سداه، وذلك بحلّ الترابط الوثيق الذي كان يربط الكنيسة البابوية بالدولة الإقطاعية، فضلا عن الادعاءات التيوقراطية المقدسة التي كان يتأسس عليها النظام السياسي الاجتماعي وقتها. كانت البروتستانتية بمثابة الفتيل الذي أشعل لهيب حروب دينية وطائفية واسعة النطاق، الأمر الذي أدخل النظام الإقطاعي الكنسي في أتون أزمة خانقة لم يقدر على تجاوز مخلفاتها، ولا تدارك ذيولها، ومن ثم فتحت هذه الحروب الأفق التاريخي أمام العلاج العلماني دون وعي منها، فمن رحم الحروب الدينية تشكلت مقولة الفصل بين الكنيسة والدولة، ثم مطلب تموضع هذه الأخيرة فوق الصراعات الطائفية باعتبارها حامية السلم المدني، مع إخضاع الكنيسة لسيادة الدولة القومية.(1/6)
ثانيا وفرت البروتستانتية الشروط التاريخية، والمسوغات الدينية والكلامية التي ساعدت على تعاظم سلطة الدولة الزمنية، التي ستصبح تدريجيا أهم قوة محركة للعلمنة في الفضاء السياسي والثقافي الغربي. فقد عملت الدولة الزمنية على افتكاك الكثير من الوظائف السياسية والاجتماعية التي كانت تستأثر بها الكنيسة، كما قامت على صهر المختزنات المسيحية ضمن وعاء المشاعر القومية المتمركزة حول فكرة الأمة، وفكرةو المجد القومي المطبوعتين بروح دنيوية معلمنة[6]. بل إن الدولة القومية الحديثة قد أخذت الكثير من الطقوس والبنى التي كانت حاضرة في الكنيسة ضمن وعاء معلمن بما يعزز شرعيتها الرمزية وسلطانها الفعلي على الأرض.
لقد حرص الإصلاحيون البروتستانت وفي معرض تبرمهم من الكنيسة البابوية، وسعيهم إلى توهين نفوذها على منح الحكام الزمنيين والسلط "العلمانية" شرعية كاملة وصلاحية مطلقة في إدارة الشأن الدنيوي، وفي مقدمة ذلك تسويغ استخدام السيف بهدف فرض الاستقرار المدني بين الناس المدفوعين بطبائعهم الشريرة إلى ارتكاب الآثام، والإقدام على الظلم والعدوان على ما يقول لوثر مثلا. ومن المعلوم هنا أن نظرة الآباء الإصلاحيين للاجتماع السياسي تتأسس على تصور قاتم ومخيف للذات البشرية، إذ هي تكاد تتطابق عندهم مع غريزة الاستحواذ والعدوان، وهي نفس الوجهة التي سيعمل بعض الفلاسفة السياسيين المنعوتين بالواقعيين وخصوصا هوبس في القرن السابع عشر على دفعها إلى حدودها القصوى[9].كما نادت الإصلاحية عامة بضرورة طاعة الحاكم، وإلى الخضوع للسلطة الزمنية مهما كانت أخطاؤها وانحرافاتها، وذلك باعتبارها ضامنة السلم المدني،وصاحبة السيادة الشرعية على أجساد المؤمنين.(1/7)
ولم يكتف لوثر بتفكيك أسس الشرعية الدينية والكلامية التي تتأسس عليها سلطة الكنيسة البابوية، بل أكثر من ذلك عمل على ملء الفراغ الديني والسياسي الذي تركته البابوية، وذلك عبر مقولة حق الأمراء في إدارة الشؤون الزمنية والدينية على السواء، بما في ذلك حقهم في ممارسة سلطتهم الإكراهية على الكنيسة نفسها، كما دافع لوثر عن مقولة الطاعة المطلقة للحكام الزمنيين، حتى وإن كانوا من صنف الحكام الظلمة والمتجبرين. صحيح أن النموذج الأمثل الذي ينشده لوثر هو نموذج من أسماهم بالأمراء الربانيين الذين يديرون شؤون الرعية برأفة وعدل، ولكن في حالة انعدام هذا النموذج الأمثل (وفعلا أضحى هذا النموذج غائبا في عصره) فإن مبدأ الضرورة السياسية- أي ضرورة فرض السلم المدني ومنع العدوان- فرض عليه إعطاء الأولوية للطاعة والانضباط المطلقين على المطالب الأخلاقية المثالية.
ثالثا ـ عملت البروتستانتية على نزع الغطاء الديني عن الكنيسة البابوية من خلال دمغها بالمروق الديني والفساد المالي، ومن ثم تجريدها من مشروعية التحكم في أرواح المؤمنين وأجسادهم، ومثال ذلك أن مقولة الخلاص الديني عند الإصلاحيين البروتستانت أضحت مرتبطة بدواخل المؤمن وإرادة الرب، وما عاد لها علاقة مباشرة بالكنيسة ورجالاتها. فالخلاص الديني عند لوثر وكالفن وبقية تلاميذهما يتأسس على الانتداب أو الاصطفاء الربوبي في تخليص من يشاء من عباده ولا صلة له بالكنيسة من قريب أو من بعيد، كما عملت البروتستانتية بالتزامن مع ذلك على نفي فكرة حق الكنائس التدخل المباشر في مجال السلطة السياسية الزمنية[8].(1/8)
ورغم أن لوثر أعاد الاعتبار لثنائية المتكلم المسيحي أوجستين الراجعة للقرن الرابع ميلادية، تلك الثنائية القائمة على مملكة الرب الروحية ومملكة الإنسان الزمنية الفانية، إلا أن المملكة الروحية عنده وخلافا لأوجستين تتعلق بالمجال الباطني الروحي للمؤمن أساسا ولا تتعداه إلى المجال الزمني.
رابعا:ساهمت الحركة الإصلاحية في تعميق نزعة استقلالية جهوية عن الكنيسة البابوية في روما، ومن ثم إعطاء زخم جديد للروح القومية الآخذة في التبلور، وعلى هذا الأساس أصبحت البروتستانتية حاملا لمشاعر قومية وإن كان ذلك ضمن وعاء لغة دينية ورموز إنجيلية. فاللوثرية في ألمانيا، والكالفينية في سويسرا لم تكتف بالحمل على البابوية واتهامها بالفساد الأخلاقي والديني، بل عملت فضلا عن ذلك على إقامة كنائسها الخاصة في المواقع الجغرافية التي سيطرت عليها، وانتزعتها من بين أيدي السلطة البابوية في روما...وفعلا تحولت هذه الكنائس بشكل أو بآخر إلى خزان حامل لمشاعر جهوية انفصالية، مهدت الطريق لما عرف لاحقا بتشكل بالروح القومية[10].(1/9)
ما سبق ذكره أعلاه يبين أنه لا يمكن تقديم قراءة جادة لحركة العلمنة في السياق الغربي بمعزل عن القوى الفاعلة والمحركة لهذه الظاهرة، ومن ذلك خطل تلك المقولة الرائجة في أوساط الكثير من المثقفين العرب والمسلمين والتي مفادها أن الغرب المسيحي قد سار على درب العلمانية لمجرد كون المسيحية قد نادت بإعطاء ما لله لله وما لقيصر لقيصر، أو لمجرد وجود خطاب فلسفي منافح عن قيم العلمنة أو الإلحاد، دونما انتباه يذكر إلى الطابع المركب والمعقد سواء للمسيحية- نصوصا ومواريث كلامية- أو للتجربة تاريخية. صحيح أن النصوص الدينية المسيحية قد تم استدعاؤها وإعادة تأويلها بما يخدم خيار العلمنة السياسية، كما استعملت سندا قويا سواء لتبرير فصل الكنائس عن الدولة أو لإخضاعها بالكامل لسلطة الدولة الزمنية، ولكن مع ذلك يبدو لي أنه ما كان من الممكن الاتكاء على هذه المسوغات الإنجيلية والكلامية لولا ظهور الدولة الزمنية والقوى الاجتماعية العلمانية كقوى منافسة للكنائس ورجال الدين.(1/10)
وعلى هذا الأساس لا يمكن فهم حركة العلمنة من خلال التبريرات الكلامية أو المسوغات النظرية التي قامت عليها، بمعزل عن البواعث التاريخية والقوى الاجتماعية الدافعة لها.. فالعلمانية تظل في جوهرها حركة اجتماعية تاريخية لها بواعثها الموضوعية، وحملتها الاجتماعيون قبل أن تكون منتجا آليا للنصوص الإنجيلية، أو إفرازا لمدونات اللاهوتيين أو تنظيرات الفلاسفة . ومثال ذلك أن مقولة إعطاء ما لله لله وما لقيصر لقيصر التي وردت في الأناجيل نقلا عن السيد المسيح عليه السلام، كانت هي نفسها تفهم ضمن السياق المسيحي الوسيط باعتبارها دعوة للجمع بين الديني والسياسي، وهي نفسها أصبحت تفهم في أجواء "الأزمنة الحديثة" وصعود قوى العلمنة بدءا من القرن السادس عشر على أنها دعوة للفصل بين الكنيسة والدولة. وهذا الأمر يدل على أن عملية تأويل النصوص الدينية لا تنفصل في حقيقة الأمر عن طبيعة الأوضاع التاريخية التي تتنزل ضمنها، وعن الأجواء الثقافية والمشاغل السياسية للمؤولين.
وعلى الجملة يمكن القول إن العلمانية كانت في محصلتها النهائية تعبيرا عن انكسار المعادلة التاريخية التقليدية القائمة على الكنيسة المستحوذة على الدولة لصالح معادلة جديدة تحتل فيها الدولة اليد العليا فوق الكنيسة، أو لنقل الدولة المستحوذة على الكنيسة، الأمر الذي حفز القوى الجديدة من خارج الكنيسة أولا، ثم من داخلها فيما بعد على إعادة تأويل النصوص الدينية بما لا يصادم المعادلة الجديدة التي استقرت لصالح الدولة الزمنية، وقوى العلمنة على حساب القوى الكنسية. ورغم أنه لا يمكن نكران دور الخطاب الفلسفي والأكاديمي في تحريك قاطرة العلمنة، ومدها بالمستندات النظرية التي تحتاجها، وخصوصا خلال القرنين الأخيرين، ولكن يبدو لي أنه من المبالغة إرجاع كل شيء للفكر وبنى الوعي.(1/11)
ولا يمكن فهم حالة الدفق الهائل التي شهدتها حركة العلمنة خلال القرنين الماضيين بمعزل عن التحولات الواسعة التي خضع لها الواقع الغربي في مجال الاجتماع والاقتصاد ووسائل العيش، وما جلبته معها من تبدلات في أنماط الحياة وأشكال الرؤية للعالم ولنظام القيم، من ذلك مثلا تزايد نسب سكان الحواضر والمدن على حساب الأرياف والبوادي، والتحول من الاقتصاد الزراعي البسيط إلى الاقتصاد الصناعي القائم على مكنة الآلة، فضلا عن ارتفاع نسب التعليم وشيوع الثقافة العالمة التي تقوم على التعليم الإجباري في المدرسة محل ثقافة الكنيسة. كما أنه لا يمكن فهم التحولات التي تجري بين ناظرينا اليوم وبمعزل عن التحولات التقنية وأدوات التواصل المستجدة، وما تحملها معها من تغيرات اجتماعية وثقافية واسعة. صحيح أن القراءة الماركسية وكذا الأمر بالنسبة للفيبرية (نسبة إلى ماكس فيبر) التي تميل إلى تفسير كل شيء بالاقتصاد وبنى الاجتماع كثيرا ما تسقط في النمطية والادعاءات الشمولية، وتكون أخطاؤها أشد فداحة حينما يتم تعميم النموذج العلماني الغربي والارتقاء به إلى مستوى الكونية ، ولكنها مع ذلك تظل لها مقدرة تفسيرية لا يمكن الاستهانة بها، مهما كان وعينا بمحدوديتها ونسبيتها.
2 ـ نماذج الدولة العلمانية في علاقتها بالدين.
يمكن القول على سبيل الإجمال إن خيار العلمانية كان في صورته الغالبة مستجيبا لمطلب تحرير الدولة القومية من سيطرة الكنائس التي كانت تقاسمها النفوذ السياسي تارة، وتنازعها أخرى على مر قرون متتالية، وقد تراوحت هذه العلاقة بين ثلاثة وجوه مختلفة.(1/12)
أولا ـ خيار مصادمة الدين والاستيلاء عليه بقوة الدولة كما هو حال التجربة اليعقوبية الفرنسية والشيوعية عامة، وهو نموذج يتسم بوجهة تدخلية ثقيلة، ونزعة تسلطية هائلة، إذ لا تكتفي الدولة هنا بإضعاف الدين ورده إلى حدود الكنائس ودور العبادة، بل تعمل أكثر من ذلك على تطهير مناهج التعليم والثقافة العامة من أي حضور ديني، وإحلال الروح الدهرية محلها، فضلا عن المراهنة على تخليص المؤسسات الاجتماعية والسياسية من أي أثر من آثار الدين. وبالنظر إلى ثقل الدور المؤسسي للكنيسة البابوية في فرنسا والاورتدوكسية في روسيا، ثم التوجهات المعادية للدين التي طبعت كلا منهما، فقد حاولت الدولة العلمانية التخلص من سيطرة الكنيسة عبر الصدمات العنيفة، مع ما رافق ذلك من صراع وتدابر متبادل بين الطرفين. فالعلمانية هنا لا تكتفي بتحرير الدولة أو الفضاء السياسي عامة من سيطرة الكنيسة بقدر ما تعمل على إحلال دين علماني وضعي محل الديانات القائمة، أي فرض رؤية دهريه و غرس قيم ومسلكيات علمانية صلبة تحل محل التصورات والقيم الدينية وذلك بقوة الدولة وأجهزتها الإيديولوجية والعنفية.(1/13)
ثانيا ـ خيار الانفصال الوظيفي بين الدولة والكنيسة مع الالتزام بحيادية الدولة إزاء الشأن الديني، كما هو حال بعض البلاد السكوندينافية . ولكن من المهم التنبيه هنا إلى أن مسألة الحياد هذه تظل مقولة نسبية بل مشكوكا في صدقيتها في الكثير من الأحيان. إذ يتبين عند التحقيق التاريخي أنه لا توجد دولة "سلبية" بإطلاق، وليس لها أجندتها الثقافية وسياساتها الدينية الخاصة بها التي تعمل على فرضها،رغبا ورهبا، على المجتمع. هذا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن إحدى الملامح الأساسية التي تطبع العصر الحديث تتمثل في ظهور الدولة الدهرية كفاعل أعظم في توجيه حياة الأفراد والجماعات، وفي صنع أذواقهم وأنماط معاشهم، فهي التي تحتكر أدوات العنف وتنفرد بشرعية استخدامه على نحو ما بين ذلك عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، وهي التي تحدد أنظمة التعليم وأدوات صياغة الوعي العام ، وهي التي ترسم الحدود الفاصلة بين دائرة المشروع وغير المشروع. وقد تعاظم نفوذ هذه الدولة أكثر فأكثر، وتقوت أذرع سيطرتها بما هو أشدّ مع التطور الهائل وغير المسبوق الذي أتاحته التقنيات الحديثة ومعها أدوات الرقابة بالغة التطور، مثل الحاسوب والكاميرا والالكترونيات بأنواعها المختلفة، ثم أخيرا وليس آخرا التقنيات الرقمية الموصولة بالأقمار الصناعية، والعلوم البيولوجية الجينية التي توظف كلها من طرف الدولة المركزية الحديثة، إلى الحد الذي تحول فيه "المواطن" الحر والرشيد الذي تتحدث عنه الأدبيات الليبرالية بصورة حالمة إلى مجرد خزان معلوماتي ورقمي مبسوط أمام أعين وآذان الدولة –الرقيب، واستحال أمره إلى ما يشبه العجينة الطيعة والقابلة "للتصميم" الاصطناعي على أيدي الدولة وخبرائها المهرة.(1/14)
وبغض النظر عن علاقة الدولة الغربية الحديثة بالدين والكنيسة، وعما إذا كانت موصولة بالدين والكنيسة أو منفصلة عنهما، وما إذا كانت "ديمقراطية" أو شمولية فالثابت في كل ذلك أن هذه الدولة قد أضحت اللاعب الأكبر، بعد أن فرضت سيادتها العلوية والقاهرة فوق جميع القوى والجماعات المنظمة، بما في ذلك الكنائس والهيئات الدينية، وأجبرتها طوعا وكرها على التسليم بسلطتها الفوقية والمطلقة، وفي هذا الإطار نفهم مقولة شهيرة ظل يرددها منظرو الدولة الحديثة وهي أن" الكنيسة في الدولة، أما الدولة فهي فوق الكنيسة".
وأخلص من ذلك إلى القول بأن الدولة الحديثة بما في ذلك شكلها الليبرالي الناعم والتي غالبا ما تدعي الحيادية ليست في حقيقة الأمر حيادية إلا بمقادير نسبية، هذا إذا ما علمنا أن الدولة "الحيادية" هي نفسها التي تقوم على ضبط حدود الديني ورسم مجالاته وفق رؤاها وأولوياتها ، وهي التي تفرض ثقافتها وإيديولوجيتها الخاصة- فوق أي ثقافة أخرى سواء أكانت دينية أم وضعية. كما أن مقولة الحياد هذه لا تعني التزام الدولة على نحو ما تدعي المساواة بين كل الديانات والطوائف الدينية،
ثالثا:خيار الربط الوظيفي بين الكنيسة والدولة كما هو الحال في بريطانيا وايطاليا وايرلندا واليونان وإلى حد ما أمريكا التي فصلت دستورا ولكنها ربطت واقعا ربطا وثيقا بين الجانبين.(1/15)
يتسم هذا النموذج في صورته الغالبة بإعطاء دور متقدم للدين والكنيسة في الفضاء العام والحياة السياسية ، وتبدو هذه العلاقة أقرب ما يكون إلى الوفاق والتناغم منها إلى التأميم والتصادم..هكذا تتيح الدولة للكنيسة والدين عامة دورا متقدما في مجالات التعليم والثقافة، وتمكنهما من ممارسة حضور نشيط في مجال المجتمع المدني، مقابل ذلك توفر الكنيسة للدولة نوعا من الإسناد ومددا بالشرعية الرمزية،كما هو واقع الحال في بريطانيا حيث يتيح النظام الملكي نوعا من الامتياز الخاص للكنيسة الانجليكانية، ولا تتردد هذه الأخيرة في إسناد الملكية بطقوسها ورمزياتها الدينية. أما في الولايات المتحدة الأمريكية ، فينص الدستور على فصل الكنيسة عن الدولة، إلا أن الثقافة السياسية في هذا البلد ، وطريقة حياة الأمريكيين وأعرافهم الاجتماعية لا تشهد بذلك. كما أن الكنائس في هذا البلد مازالت تتمتع بحضور قوي وفاعل في مختلف مناحي الحياة الأمريكية بما في ذلك في الحياة السياسية وفي قلب الأحزاب الكبرى، إذ يطبع الدين مختلف مناحي المجتمع الأمريكي ومفرداته.وفي بلد مثل إيطاليا مازال الفاتيكان يتمتع بنفوذ سياسي قوي إذ كثيرا ما يتدخل في تعيين وزرائه في الحكومة وفي الإطاحة بآخرين غير مرغوب فيهم، هذا إذا ما علمنا أن الكنيسة الكاثوليكية تعد جزء مكينا من الهوية القومية والأمجاد التاريخية للايطاليين.
3 ـ الخصوصية الفرنسية في علاقة الدين بالدولة(1/16)
غالبا ما تتم قراءة التجارب السياسية الغربية بصيغة الجمع دون تمييز ما بينها من تباينات واختلافات، سواء من جهة التشريعات القانونية أو من جهة اشتغالها على أرض الواقع، ولسوء حظنا نحن العرب والمسلمين فإننا كثيرا ما نقرأ التجربة الغربية في علاقة الدولة بالدين بالغة الثراء والتنوع من خلال النافذة الفرنسية الضيقة، أو كما تقدم التجربة الفرنسية لنا نفسها من خلال أدبيات بعض الفلاسفة والكتاب الفرنسيين، أو بعض "الوكلاء" الايديولوجيين، والوسطاء السطحيين العرب الفاقدين لعمق الفهم وحس النقد، فلم نمتلك ما يكفي من ناصية المعرفة والإدراك للتجربة الفرنسية، فضلا عن تجارب الآخرين.
بيد أنه لو تفحصنا المسألة العلمانية بعيدا عن النماذج النظرية الجاهزة، والتعميمات السائدة لتبين لنا أنها أكثر تعقيدا مما يعنّ للكثير من لمثقفين والسياسيين العرب والمسلمين. فلو تأملنا المسألة من الزاوية التشريعية مثلا -التي تعد التعبير الأكثر إفصاحا في موضوع العلمانية وصلة الدين بالدولة- لتبين أن علاقة الديني بالسياسي في الغرب هي علاقة شديدة التنوع وبالغة التركيب بما لا يسمح بالركون إلى نموذج نمطي جاهز .(1/17)
تعد فرنسا البلد الأوروبي الوحيد من بين الاثني عشر دولة مكونة تقليديا للاتحاد الأوروبي (أي قبل انضمام أوروبا الشرقية للاتحاد) الذي نصّ صراحة على لائكية الدولة مع الامتناع عن الإشارة إلى الديانة الرسمية، وقد كان ذلك لأول مرة في دستور 1905، أي بعد ما يربو عن القرن والربع من اندلاع الثورة الفرنسية، هذا إذا استثنينا الفصل السابع من القانون الأساسي الألماني الذي اكتفى بالتنصيص على لائكية المدرسة. أما الدنمارك وبريطانيا فقد اتسم كل منهما بنوع من الربط الوثيق بين الكنيسة والدولة، وهي الكنيسة الإنجيلية اللوثرية في الحالة الأولى والكنيسة الأنجليكانية البروتستانتية في الحالة الثانية، ومثال ذلك أن ملكة بريطانيا مازالت إلى يومنا هذا تتمتع بتمثيل التاج البريطاني إلى جانب رئاسة الكنيسية الانجليكانية ، في حين نصت اليونان وإيطاليا على الدين الرسمي للدولة، وهو الأورتودوكسية في الحالة اليونانية والكاثولوكية في الحالة الإيطالية. أما ايرلندا فقد اكتفت بالتنصيص على قدسية الرب والتثليث دون أن تذكر الدين الرسمي على سبيل الحصر.
وجماع القول أن القراءة المتأنية للحالة العلمانية بما في ذلك في أوروبا الغربية التي تعد أكثر مواطن العالم علمنة تُبين أنّ دول أوروبا الغربية-إذا استثنينا الحالة الفرنسية- تراوح أمرها بين ملازمة الصمت إزاء المرجعية الدينية للدولة، وبين تنصيص واضح وصريح على الدين الرسمي، وهذا يعني أن فرنسا تظل حالة فريدة من نوعها واستثنائية حتى بالمقاييس الغربية عامة والأوروبية خاصة. وإذا استثنينا التجارب الشيوعية ذات التوجهات العلمانية الجذرية، والتي نص بعضها على توجه إلحادي للدولة فإن بقية التجارب الغربية بوجهيها الأوروبي والأطلسي كانت في حقيقة الأمر أقرب إلى الاحتواء والمزاوجة بين الديني والسياسي منها إلى المصادمة والمفاصلة.(1/18)
لقد تضافرت جملة من العوامل التاريخية والفكرية في تشكيل ملامح الخصوصية الفرنسية على نحو ما جسدتها ثورتها العنيفة والصاخبة، ومن ذلك: أولا، وجود دولة مركزية شديدة أخذت تتعاظم مع ظهور الملكيات الإطلاقية بما جعل التاريخ السياسي الفرنسي ينطبع بتسلطية سياسية بالغة القسوة والجبروت. وثانيا، وجود مؤسسة كاثوليكية شديدة الوطأة والنزوع التدخلي، وذات اندماج بملكيات إطلاقية إلى الحد الذي لا يمكن معه تصور الانفصال بينهما دون أن يتداعي أحدهما أو كلاهما للسقوط. وثالثا، عدم التسامح مع بقية الطوائف الدينية وخاصة مع الأقلية البروتستانتية بما صبغ التاريخ الديني الفرنسي بطابع انفجاري وصراعي مستديم.
كان لمجموع هذه المعطيات التي ذكرنا كبير الأثر في توجيه فلسفة الأنوار الفرنسية نحو وجهة معادية للدين عامة، والكنيسة خاصة، كما أضفت عليها نزعة مادية وإلحادية جلية، وذلك خلافا للجارين الألماني والانجليزي، فضلا عن الولايات المتحدة الأمريكية التي نهجت منهج المواءمة والتوفيق بين الديني والسياسي بدل نهج الصدام والقطيعة .
لقد اتسمت الثورة الفرنسية بنزعة عدائية واضحة للدين عامة والكنيسة الكاثوليكية خاصة، وذلك ضمن مسعى رجالات الثورة إلى الإطاحة "بالنظام القديم" وتفكيك مرتكزاته الايديولوجية والمؤسسية، وعلى رأس ذلك فكرة الحق الإلهي على نحو ما صاغ معالمها متكلمو الكنيسة، ثم العمل على إحلال نظام جديد محله يقوم على مبادئ العقل وقوانين الطبيعة الكونية. فقد بدأت الثورة الفرنسية منذ مراحلها الأولى بمصادرة واسعة لممتلكات الكنيسة من أرض وعقار، مع تصميم على إلغاء دورها من المجال السياسي والمدني لصالح الدولة الزمنية، وكان ذلك مصحوبا بتصميم لا يلين على " تطهير" المجتمع الفرنسي من الموجّهات المسيحية الكنسية.(1/19)
ثم تعمقت القطيعة بين الثورة الفرنسية والكنيسة أكثر فأكثر مع الانتفاضة المضادة التي قادتها الكنيسة سنة 1792 ضد الثورة في محاولة لاستعادة سلطانها السياسي والديني المفقودين، وقد لحق ذلك جملة من القرارات والإجراءات السياسية لامست دور الكنيسة في الصميم، من ذلك إلغاء تجمعات العبادة ، ومنع الكنيسة من تسجيل المواليد وحالات الزواج والوفايات لصالح الهيئات البلدية المدنية، والسماح بالطلاق خلافا للتعاليم الكاثولكية الكنسية، ومنع رجال الدين من ارتداء أزيائهم الدينية الرسمية خارج حدود الكنيسة. وفي هذا الإطار صدر سنة 1793 مرسوم باستبدال التاريخ المسيحي "الجريجوري" الرسمي، بما سمي وقتها "اليومية الثورية" التي أعادت تحقيب التاريخ على ضوء حادثة الثورة، باعتبارها السنة الصفر في مسار الزمن.
ومن بين هذه الاجراءات المناهضة للكنيسة التي أقدمت عليها الثورة إصدار المجلس الباريسي يوم 24 نوفمبر من نفس السنة قرارا بإغلاق جميع كنائس العاصمة أمام كل أشكال التجمع الديني وممارسات العبادة، مشفوعا بحركة استيلاء واسعة على أملاك الكنيسة وتحويلها إلى مستشفيات ومدارس ومحلات تجارية، فضلا عن إزالة التماثيل الدينية والصلبان من الأماكن العام واستبدال الصلبان بأعلام الثورة ورموزها السياسية في المقابر، وقد دفعت هذه الإجراءات المعادية للمسحية والكنيسة، عددا كبيرا من رجال الدين إما إلى الاختفاء، أوالهجرة إلى البلاد الأوروبية المجاورة لفرنسا[11].(1/20)
لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تعداه إلى محاولة إحلال كنائس وضعية تقوم على عبادة العقل والحرية محل الكنائس الكاثوليكية. ورغم أن روبسبيير حاول كبح جماح هذه الحركة اللائكية التطهيرية خشية المبالغة في استفزاز المشاعر الدينية وما عساه ينجر عن ذلك من إضعاف شرعية الثورة في صفوف المتدينين، وذلك عبر إصداره مرسوما سنة 1794 يقر بأن "الشعب الفرنسي يعترف بوجود الكائن الأسمى وأزلية الروح" ، بيد أن ذلك لم يحل دون تحويل الكنائس إلى مراكز وضعية لعبادة الكائن الأسمى (أي العقل والحرية) وتحويل الطقوس الكاثوليكية إلى مراسم احتفالية ثورية،إذ تم التقاط هذا الاعتراف الرسمي بوحود الكائن الأسمى لإضفاء شرعية على الكنائس الوضعية باعتبارها مراكز روحية لعبادة كائن مبهم وغير منضبط المعنى يسمى بالكائن الأسمى.
ما سبق ذكره يبين كم هي مركبة ومعقدة علاقة الدين بالسياسة عامة، وعلاقته بالكنيسة خاصة سواء كان ذلك في السياق الأوروبي عامة، أو في التجربة الفرنسية حصرا، إلى الحد الذي يجعل من التبسيط المخل قراءة الوضع الديني وحركة العلمنة من خلال النافذة الفرنسية التي تمثل حتى ضمن المقاييس الأوروبية والغربية حالة استثنائية، قبل أن نتحدث هنا عن الحالة الدينية في مختلف مناحي المعمورة الكونية التي هي بكل تأكيد أكثر تعقيدا وأشد تشعبا.(1/21)
فخلافا للتجربة الفرنسية التي اتسمت بمنزع علماني مصادم للدين والكنيسة فإن الولايات المتحدة الأمريكية مثلا انطبعت بروح دينية بروتستانتية واضحة المعالم، إلى الحد الذي لا يمكن معه فهم التاريخ الأمريكي، أوسبر أغوار المجتمع الأمريكي دون التوقف عند دور الكنيسة البروتستنانتية والرموز المسيحية التي ألهمت "الآباء المؤسسين" وصبغت الروح الأمريكية العامة. ورغم أن الدستور الأمريكي أقر بالفصل بين الكنيسة والدولة في إطار ما أسماه بعض الباحثين الأمريكان بإقامة خط جفرسون الفاصل بين الكنيسة والدولة، وذلك تجنبا لآفة الانقسام الديني والطائفي الذي صاحب الحرب الأهلية الأمريكية، إلا أن الروح البروتستانتية مع ذلك ظلت منبثة في مختلف مفاصل المجتمع الأمريكي ومنغرسة في شتى مؤسساته الحيوية: من التعليم، إلى التشريع القانوني، إلى الأخلاق "المدنية"، إلى الثقافة السياسية إلى الاقتصاد، بل إن المسيحية البروتستانتية بما في ذلك ضمن شكلها اليميني المهود مازالت تلعب دورا بالغ الفاعلية في الحقل السياسي وفي الفضاء العام في الولايات المتحدة الأمريكية .
وهنا يجب التمييز عند قراءة الحالة الأمريكية والغربية عامة بين العلاقة الحصرية والضيقة التي تخص صلة الكنيسة بالدولة وبين علاقة الدين بالسياسة وبالمجتمع عامة التي هي أكثر تركيبا وتشعبا مما يظن الكثر. فلئن اتجهت أغلب الدول الغربية إلى الإقرار بنوع من الانفصال الوظيفي بين الكنيسة والدولة حيث استقل كل منهما بمجاله الخاص ، إلا أن الدين بقي فاعلا مهما سواء كثقافة عامة تطبع المجتمع ومسالك الأفراد وفي بعض الأحيان مؤثرا فاعلا في مجال السياسة، وعليه يبدو من الخطإ المجحف قراءة الوضع الديني من خلال الزاوية الحصرية ممثلة في ثنائية كنيسة-دولة، لأن هذه الزاوية الضيقة لا تقدم صورة كاشفة لواقع الدين ولا لمسار العلمنة على السواء[14].(1/22)
بل إن التجربة الفرنسية نفسها ورغم ما رافقها من سياسات بالغة الضراوة والحدة على نحو ما بيناه أعلاه إلا أنها لم تخل بدورها من تعرجات ومن حركة مساومة مع الكنيسة والمواريث الكاثوليكية، ودليل ذلك أن لائكية الدولة لم تعلن رسميا إلا بعد ما يزيد عن القرن والربع، وفي إطار أجواء معقدة تراوحت بين المنازلات والمعارك الساخنة وبين الجنوح إلى المساومات والتنازلات المتبادلة.
4 ـ كيف نقرأ حركة العلمنة في علاقتها بالدين؟
من الخطإ المنهجي والعلمي قراءة حركة العلمنة في الفضاء الغربي من خلال المنظومة العلمانية ومسلماتها الوثوقية، التي هي أقرب ما يكون إلى المدونة الثيولوجية (الكلامية) المغلقة منها إلى نظرية علمية على ما يقول عالم الاجتماع البريطاني دايفد مارتن [15]، كما أنه من الاختزال والتعميم قراءة الواقع الديني في المجتمعات الغربية من خلال أدبيات بعض المفكرين والأكاديميين الليبراليين والعدميين الذين لا يكفون عن ترديد مقولة انتفاء الدين لصالح القيم الوضعية والإلحادية الجذرية.
فثمة مسافة شاسعة بين نظرية العلمنة التي يكتفي أصحابها غالبا بالتشديد على الطابع الانتصاري للعلمانية وتراجع الأديان والعقائد، وبين واقع الدين الذي يتسم بالتعرج والتركيب، كما أن هنالك مسافة شاسعة بين النزعة العدمية والتفكيكية التي تطبع خطاب بعض المفكرين والكتاب الغربيين، وبين عامة الناس الذين يميلون عادة إلى إطفاء جوعة الضمير بنوع من التوليف بين متطلبات الحياة اليومية المعلمنة وبين ما تبقى من مختزنات دينية وروحية بما يجنبهم قسوة الشعور بالفراغ وانتفاء المعنى. يجب أن نميز هنا بين تلك العلمانية الإلحادية والعدمية على نحو ما ينافح عنها منظروها من أرباب الأكاديميا والفكر، وبين تلك العلمانية الاجرائية والبراجماتية التي يتعايش فيها الديني مع العلماني عل نحو ما هو غالب على الفئات الشعبية.(1/23)
لم يكن غريبا أن يفاجأ المراقبون والمحللون السياسيون بالانفجار الديني في هذه المناسبة أو تلك، بما يناقض قراءاتهم وتوقعاتهم الوثوقية. من ذلك ما حظيت به وفاة البابا يوحنا بولس الثاني مثلا من اهتمام غير مسبوق، فضلا عما أثاره هذا الحدث من مشاعر دينية وطقوس كنسية كان الكثير يظن أنها قد انقضت إلى غير رجعة بانقضاء "العصور الكنسية" الوسطى. هذا لا يعني أن أوروبا المعلمنة هي بصدد القطع مع تقاليدها العلمانية تماما، أو هي بصدد الانعطاف الكامل باتجاه المواريث المسيحية الكنسية على نحو ما كان عليه الأمر قبل ثلاثة أو أربعة قرون خلت، إذ لا يتعلق الأمر بحركة تواصل رتيب وجامد، كما أنه لا يتعلق بحركة قطع وانتقال كاملين، فحركة الفكر وبنيات المجتمع أكثر تركيبا وتعقيدا مما تعبر عنه النماذج النظرية الجاهزة سواء تلك التي تقول بمطلق القطع الانفصالي أو تلك التي تقول بالتواصل الرتيب.
مما ريب فيه أن الفضاء الغربي بشقيه الأوروبي والأطلسي قد خضع لمسار علمنة واسع النطاق لامس مجمل البناء الاجتماعي والسياسي، كما طبع مجال المنظورات والقيم، ولكن ذلك لا يفضي ضرورة إلى القول باختفاء الحضور الديني أو حتى تراجعه المتتالي على ما تقول أدبيات العلمانيين الوثوقيين. فكما أن حركة العلمنة بنية خفية وليست بالضرورة مخططات واضحة وواعية على نحو ما يذكر المفكر المصري عبد الوهاب المسيري، فكذا هو الأمر بالنسبة للمجال الديني الذي قد يأخذ تعبيرات مؤسسية واضحة المعالم كما يأخذ تعبيرات نفسية ورمزية خفية[16].(1/24)
لقد تعود علماء الاجتماع الغربيين الحديث الاحتفائي عن الانتصار الكاسح لحركة العلمنة من خلال التأكيد على تدني نسبة المتدينين ومرتادي الكنائس وتراجع الحضور الديني في مجال الحياة العامة، وغالبا ما يستند هؤلاء إلى معطيات الرصد الحسابي والجداول الإحصائية التي تثبت دعواهم، ولكن مع ذلك لا تقدم هذه المعطيات صورة كاشفة وشاملة عن دور الدين ومجال فعله سواء في الحياة الخاصة أو في الهيئة الاجتماعية والسياسية العامة؛ ذلك أن المتابعة الدقيقة تبين أن الدين سواء في أشكاله الخفية أوالمعلنة -وحتى في أكثر المجتمعات خضوعا لسياسات علمنة جذرية – مازال يتمتع بحضور متزايد.
وخلافا لقراءات وتوقعات العلمانيين نلاحظ اليوم أن الدين يشهد نوعا من الانتعاش والصعود قياسا لما كان عليه الأمر قبل عقد أو عقدين من الزمن، بما في ذلك في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. هذا ما نلاحظه بصورة جلية في روسيا ودول أوروبا الشرقية والولايات المتحدة الأمريكية وبلاد أمريكا الجنوبية قبل أن نتحدث عن العالم الإسلامي أصلا. صحيح أن هنالك تراجعا ملحوظا ومتزايدا للنشاط الديني المؤسسي في البلاد الغربية وخاصة في الشق الأوروبي الغربي لصالح الممارسة الدينية الفردية، ولصالح أنماط جديدة من الديانات الأغنوصية والوضعية، إلا أن ذلك يجب ألا يحجب عنا حقيقتين اثنتين.(1/25)
أولاهما أن الإيمان الديني ليس متساوقا بالضرورة مع التعبير المؤسسي، إذ يمكن للمؤسسة الدينية أن تكون في حالة تراجع في حين ترتفع معدلات التدين، بمعنى ارتفاع مستوى الاعتقاد والمسلكيات الدينية سواء في دائرة السلوك الفردي أو الحياة العامة، والعكس صحيح أيضا، أي يمكن للمؤسسة الدينية أن تكون قوية ومتماسكة ولكن بالتوازي مع ذلك يشهد الدين نوعا من الضعف والتراجع. من ذلك مثلا أن الاعتقاد في وجود خالق وحياة آخرة، والاعتقاد في أهمية الأخلاق والمعايير الدينية تزداد معدلاتها ارتفاعا في المجتمعات الغربية قياسا بالتصورات الدهرية الالحادية، رغم ضعف الإقبال على الكنائس والمعابد. وربما يعود ذلك إلى كون الإنسان الغربي صار يجد في المعاني الروحية والقيم الدينية نوعا من الحماية من زحمة الرأسمالية الصاخبة وموجات التفكيك الدهرية المخيفة، وتداعياتها المدمرة عل الأفراد والجماعات، خاصة في هذه الحقبة التي بلغ فيها النظام الرأسمالي المعولم درجة عالية من التوحش والذرائعية.
وثانيهما أن الكنيسة لم تختف من المشهد الثقافي والاجتماعي عل نحو ما بشرت بذلك أدبيات العلمانيين الدهريين بقدر ما فرضت عليها تحولات الحداثة وأزماتها الراهنة تحويل الجزء الأكبر من نشاطها من المجال الحصري للدولة أو الحدود الضيقة للمباني الكنسية إلى الحقل الاجتماعي العام وإلى الفضاء السياسي بمعناه الواسع...وعليه غدت الكنيسة جزءا مكينا مما يسمى اليوم بالمجتمع المدني حيث تتولى الدفاع عن فئات المحرومين والمهمشين، وتشد أزر المتساقطين من ضحايا الآلة الرأسمالية القاسية والعلمانية الكالحة، وهي إلى جانب ذلك مازالت تلعب دورا بارزا في مجال التعليم والثقافة.(1/26)
أما على صعيد التجربة العملية فيكفي أن يتأمل المرء حالة الحماية والدعم الذين توفرهما الدول الغربية للتعليم الديني الكنسي بما في ذلك تلك الدول الموصوفة بالعلمانية الجذرية مثل فرنسا، وأن يتأمل دور الكنائس والجماعات الدينية في الحياة السياسية في بلد مثل الولايات المتحدة الأمريكية حيث تتحكم الكنائس بل الجماعات الأصولية المسيحية المهودة في مسار الأحزاب ومستقبل الانتخابات وفي تصعيد السياسيين و إسقاطهم، فضلا عن توجيه السياسات الخارجية والعلاقات الدولية حتى يدرك هذه الحقيقة.
صحيح أن الكنيسة في الغرب الحديث كفت عن أن تكون صاحبة السلطة العليا في مجال السياسة ونمط الاجتماع بعدما زاحمتها قوى كثيرة وجبارة وعلى رأس ذلك الدولة القومية، وسلطة السوق الرأسمالية إلا أن ذلك لا يعني انتفاء دورها سواء في الحقل السياسي أو في المجتمع المدني، وهذا ما نلاحظه على وجه الخصوص في الدول البروتستانتية-كما هو شأن الولايات المتحدة الأمريكية وإلى حد ما بريطانيا- التي لعبت فيها الكنيسة الإصلاحية دورا أساسيا في زعزعة الكنيسة الرومانية وإعادة بناء الحقل السياسي المدني، إلى الحد الذي لا يكاد ينفصل عندها الديني عن المدني، كما أنه ليس بخاف الدور البارز الذي قامت به الكنيسة خلال الحرب الباردة في زعزعة المنظومة الشيوعية وهزها من القواعد أو ما تقوم به اليوم من أدوار تبشيرية وسياسية متزايدة في إفريقيا وآسيا ومختلف مناطق العالم.(1/27)
إن التأمل الثاقب في واقع المجتمعات الغربية يظهر فعلا نوعا من الدفق القوي لحركة العلمنة خاصة مع شيوع قيم السوق الراسمالية، وتفكك الروابط الاجتماعية العضوية لصالح الفردية المتذررة، وتزايد سطوة الدولة البيروقراطية، والانفجار الإعلامي الهائل الذي داهم أخص خواص الحياة الفردية، ولكن هذا الأمر يجب ألا يحجب عنا الوجه الآخر من المسألة، ألا وهو استمرار الحضور الديني سواء كمخزون ثقافي أو كنظام قيم عامة، وإن كان ذلك في شكل مدني معلمن، إلى جانب بقاء الكنيسة والمؤسسات الدينية، عناصر فاعلة وموجهة في مجال المجتمع المدني، وحتى في الحياة السياسية العامة.
لعله مما يحفظ بعضا من توازن المجتمعات الغربية ويحميها من مخاطر التمزق الكامل، وتجنب الحالة الذئبية المخيفة التي تحدث عنها هوبس ما بقي من ترسبات مسيحية دينية سواء كان ذلك في شكلها المباشر أو في شكلها المدني المعلمن، وفي مقدمة ذلك مؤسسة الأسرة والعلاقات الزوجية، ومعنى الواجب الأخلاقي والالتزام الاجتماعي سواء كان ذلك بتأسيس ديني مباشر أو باستلهام مضمر. وقد رأينا كيف ساهمت حركة العلمنة الجامحة في الاتحاد السوفياتي ودول أوروبا الشرقية في تفاقم أزماتها وتزايد أعطابها بما أودى بها إلى الانهيار السريع، بسبب ما رافق هذه العلمانية الجذرية من طابع تفكيكي وهدمي مريع.(1/28)
وهنا أقول إن حياة علمانية كاملة على نحو ما نظّر لذلك نيتشه وأتباعه مثلا هي حياة لا تحتمل، كما أن عالما معلمنا بالكامل على نحو ما نظر لذلك فيبر ومن قبله ماركس تبدو بالغة الكلفة على الأفراد والمجموعات، وذلك بالنظر إلى ما يرافق هذه العلمانيات الجذرية عادة من نزعات عدمية مدمرة. صحيح أن ثمة نخبة من الأفراد أو المجموعات لا تجد غضاضة في "التعايش" مع حالة الفراغ العدمي مع ما يصحب ذلك من قلق وزلزلة في الضمير، بل قد يجعل بعضها من هذه الحالة العدمية والإلحادية موضعا للتفكير والتأمل الثاقبين، ولكن مع ذلك ليس بمقدور عامة الناس احتمال مثل هذا الفراغ العدمي، كما أنه ليس بمكنة المجتمعات تحمل الكلفة الباهظة لهذه العدمية لما يصحب ذلك من زعزعة استقرار المؤسسات وتصرم العمران.
ولعل هذا الشعور المتزايد بقسوة العلمنة وجدب الروح هو الذي دفع ويدفع بالكثير من الناس في قلب المجتمعات الغربية نفسها إلى إعادة اكتشاف "المقدس" والنهل من معين المنابع الروحية للأديان والعقائد، بما في ذلك ديانات آسيا البعيدة من مثل البوذية والهندوسية، والديانات الأرواحية القديمة فضلا عن اتجاه قوي نحو التصوف الأغنوصي، وهي ذات الأسباب التي تدفع بالكثير من الدول الغربية إلى إعادة الاعتبار للثقافة الدينية في المدارس ومناهج التعليم لغايات نفعية عملية، وهذا ما حدا ببعض الباحثين الغربيين الحديث عن "انفجار" المقدس وما شابه ذلك، كما اجترح بعضهم الآخر مصطلح ما بعد العلمانية دلالة على تهافت المقولات العلمانية على نحو ما راج منذ بدايات القرن التاسع عشر.(1/29)
والخلاصة من كل ذلك: كما أنه من التبسيط المخل وصف المجتمعات الغربية بأنها مسيحية كتابية على النحو الذي تصوره الأدبيات الإسلامية التقليدية في معرض مقارنتها بين "الشرق الشيوعي الكافر" والغرب "المسيحي الكتابي"، فإنه من التسطيح المشط اعتبارها علمانية كاملة على نحو ما تصور أدبيات الكثير من العلمانيين عندنا، وكأن هذه المجتمعات حالة غفل ومقطوعة الصلة بالتاريخ والمواريث المسيحية الغائرة..والحقيقة أنه من غير الدقيق اعتبار الغرب الحديث علمانيا خالصا، ومن غير الصحيح أيضا تصنيفه بالمسيحي الخالص بل الواجب قراءته من هذين الوجهين معا. فالغرب الحديث يتداخل فيه البعد الديني المسيحي مع الوثني الروماني والإغريقي مع الوجه العلماني الدهري إلى الحد الذي لا يمكن فصل هذه العناصر عن بعضها البعض.
د رفيق عبد السلام
باحث في الفكر السياسي والعلاقات الدولية
لندن. المملكة المتحدة
---
[1] Weber M., The Protestant Ethic and the Spirit of Capitalism, translated by T. Parsons; introduction by A. Giddens, (London, 1998)
[2] Rawls J., A Theory of Justice, (Cambridge, 1971).
[3] Rorty R., Philosophy and Social Hope, (London, 1999)
[4] Delumeau J., La peur en Occident (XIV eme-XVIII eme siècles), (Paris, 1978)
[5] See Richard S. Dunn The Age of Religious Wars 1559-1689
[6] See George H Sabine, A History of Political Theory (London, Sydny Toronto, Bombay 1949), pp. 304-318.
[7] See, J. P. Whitney, Reformation Essays (London, 1939) Essay 5, pp.133-67
[8] See R. W. Southern, Western Society (London, 1967) p133.
[9] Skinner Q., The Foundations of Modern Political Thought, Vol. I The Rrenaissance, (London, 1979)
[10] نفس المصدر
[11] Jean-Louis Ormière, Politique et Religion en France ( Paris,2002(
[(1/30)
12] Jean-Louis Ormière Politique et Religion en France ( Paris,2002 p.42-43
[13] Ibid p.50-92
[14] See peter Berger and the Study of Religion , Edited by Linda Woodhead with Paul Heelas and David Martin (London and New York, 2001)
[15]Martin D., The Religious and The Secular, (London, 1964)
[16] عبد الوهاب المسيري العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة (دار الشروق، مصر، 2002)
[17] أنظر منير شفيق: الديمقراطية والعلمانية في التجربة الغربية (رؤية إسلامية)، المركز المغاربي للبحوث والترجمة (لندن، بيروت 2001)
[18] Gadamer H. G., Philosophical Hermeneutics, translated and edited by D. E. Linge, (California, 1977)(1/31)
الشورى في سياق التأصيل و المعاصرة
للدكتور / عصام أحمد البشير
تمهيد
... إن الحديث تحت عنوان الموضوع المحدد لي جعلني أنطلق من أن : الذي اختار الموضوع يشعر بوجود ظاهرة اجتماعية متمثلة في وجود مسلمين في أوروبا لهم مشكلات ويراد البحث عن كيفية قيام المؤسسات الإسلامية وغيرها بالتأثير عليهم بقصد الاندماج الإيجابي في المجتمعات الأوروبية والوصول بهم إلى المواطنة الصالحة .
... ونظراً لأن مثل هذه الموضوعات التي تعالج ظواهر اجتماعية بعينها ، فلا بد لها من أبحاث ميدانية على فترات زمنية محددة من ناحية ، واشتراك الجهات الموجهة للأوضاع الاجتماعية والتثقيفية والتعليمية بدرجات فاعلة من جهة أخرى ، وهذه لا يمكن أن تتوفر لباحث واحد يقوم بمعالجة هذه الظاهرة مهما كانت إمكاناته العلمية والعملية خلال فترة محدودة بأربعة أشهر ، وعليه فإنني سأعتمد على الدراسة التحليلية لبعض الظواهر والكتابات وربما الدراسات التي توفرت لديَّ خلال فترة عملي في عدد من المؤسسات الإسلامية التي وُجِدَتْ في الغرب لفترة لا تقل عن ثلاثة عقود ..
... ولا يفوتني هنا في هذه المقدمة أن أشير إلى حاجة مثل هذه الأبحاث إلى تحديد المفاهيم والمصطلحات الواردة ، وخاصة التي لها علاقة بالموضوع ، حتى يمكن البناء على هذه المفاهيم والمعاني ، فلا يحدث الالتباس وعدم الوضوح أثناء معالجة الظاهرة والبحث عن حلول لها ..(1/1)
... وسأنطلق هنا من إسلامي الذي حدد غاية وجود الإنسان في أي مكان ولكل زمان ، والذي جاء في قول الله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] وأن هذا الإنسان العابد يعيش في مجتمع أوروبي ، وهو في بحثنا هذا مجتمع غربي غير إسلامي باستثناء تركيا وكوسوفو ، وقد حدد الله تعالى لهذا المسلم ضوابط عامة لا بدَّ له من الحركة والتعامل على أساسها في مجالات الحياة المختلفة - ليس المجال هنا لعرضها بالتفصيل - لا بدّ من الإشارة إليها في قول الله عزَّ وجلَّ - على سبيل المثال لا الحصر - : { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }
[ النحل : 90 ] ، وقوله سبحانه : { إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } [ الأحزاب : 72 ] ، وقوله تباركت أسماؤه : { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ ... } [ النساء : 58 ] .(1/2)
... وأن كل مولود من أبٍ مسلمٍ فهو مسلم ؛ والأصل أن يحافظ الأب على إسلام هذا المولود تَنْشِأةً وتربية وتعليماً ، والأسرة في التنشئة والتربية هنا أساس ، وأما في الغرب فكثير من الأسر فضلاً عن أنها تعيش في مجتمعات غير إسلامية قد تكون مختلطة أي ” الأب مسلم والأم كتابية “ ، والجدير بالذكر هنا أنه قد جاء في الصحيح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « كلُّ مَوْلَودٍ يُولَدُ على الفِطْرَةِ(1) ؛ فأبَوَاهُ يُهوِّدانهِ ، أوْ يُنَصِّرانِهِ ، أوْ يُمَجِّسانِه ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ ؟! »(2) ، والفطرة في الحديث هي الإسلام .
... كما أن صورة الإسلام في الغرب قد تأثرت سلبياً بعد أحداث سبتمبر 2001م ، بل إن هذه الصورة في الأصل قبل هذه الأحداث المؤسفة والمؤلمة لم تكن وردية ، ففي استطلاع للرأي أجرته مؤسسة ( The pew glabalattitudesproject ) أظهر حقائق مذهلة(3) :
1- في السؤال عن تقييم طبيعة العلاقة بين المسلمين والغربيين كانت الآراء المستطلعة وفق النسب الآتية :
البلد ... ... ... ... علاقة جيدة ... ... ... علاقة سيئة
... ... أمريكا ... ... ... ... 32% ... ... ... 55%
... ... ألمانيا ... ... ... ... 23% ... ... ... 70%
... ... أسبانيا ... ... ... ... 14% ... ... ... 61%
... ... بريطانيا ... ... ... ... 28% ... ... ... 61%
... ... روسيا ... ... ... ... 18% ... ... ... 53%
2- وحول مدى احترام المسلمين للمرأة جاءت النتائج على النحو الآتي :
البلد ... ... ... ... المرأة محترمة ... ... المرأة غير محترمة
أمريكا ... ... ... ... 19% ... ... ... 69%
... ... ألمانيا ... ... ... ... 17% ... ... ... 80%
... ... أسبانيا ... ... ... ... 12% ... ... ... 83%
__________
(1) الفطرة هنا بمعنى الإسلام كما يرى كثير من أهل العلم ، ولذلك لم يرد قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث أو يسلمانه .
(2) الحديث رواه الإمام البخاري في صحيحه .
(3) مجلة الحياة الطيبة ، العدد عشرون ( 20 ) ، السنة السادسة ، خريف 2006م/1427هـ ، لبنان - بيروت -
ص . ب : 302/25 ، ص9 و 10 .(1/3)
... ... بريطانيا ... ... ... ... 26% ... ... ... 59%
... ... فرنسا ... ... ... ... 23% ... ... ... 77%
3- وحول التقييم لشخصية المسلم من وجهة النظر الغربية كانت :
البلد ... ... ... متعصب ... ... عنيف ... ... متعجرف ...
أمريكا ... ... ... 43% ... ... 45% ... ... 35%
... ... ألمانيا ... ... 78% ... 52% ... ... 28%
... ... أسبانيا ... ... ... 83% ... ... 60% ... ... 42%
... ... بريطانيا ... ... ... 48% ... ... 32% ... ... 35%
... ... فرنسا ... ... ... 50% ... ... 41% ... ... 38%
... من هذه الإحصاءات ؛ ومما يبث ويكتب في وسائل الإعلام الغربية يومياً عن الإسلام والمسلمين ما يظهر صورة غير طيبة ، وعليه فمن الطبيعي أننا معشر المسلمين علينا أن نقوم بأدوار وجهود جبارة لإظهار صورة الإسلام الحقيقية والوصول بالمسلمين إلى الصورة الحقيقية لتطبيق الإسلام وخاصة في المجتمعات الغربية التي تجنّس كثير من المسلمين الذين يعيشون فيها .
... فإذا علمنا أن عدد سكان الاتحاد الأوروبي اقترب من 600 مليون نسمة وهو في تزايد بانضمام بلاد أخرى ، وأن نسبة المسلمين في هذه المجتمعات أيضاً في ازدياد فقد كانت قبل فترة قصيرة حوالي 5% ولكنها الآن لا تقل عن 7% من السكان ، وهي تصل في بعض البلدان مثل ألمانيا الاتحادية أكثر من ثلاثة ملايين ، وفي بلد مثل فرنسا يقترب العدد من ستة ملايين .
... ونخلص من هذا العرض التمهيدي إلى ما يأتي :(1/4)
... أولاً : هناك مشكلات عديدة في حياة المسلمين في الغرب تجعلهم يترددون بين العزلة ( عدم الاندماج ) والاندماج ، وصعوبات كبيرة تواجه الأقليات المسلمة عند محاولتها الاحتفاظ بثقافتها الدينية من ذلك القوانين التي تضيق عليها مثل قانون منع الحجاب وعدم السماح بإنشاء مدارس دينية ؛ مع العلم بأن دساتير البلاد تسمح بالحرية الدينية ، وحرية التعبير ، إلا أننا بدأنا نسمع عن التنصط على الخطب المنبرية والمكالمات الهاتفية ومراقبة المراكز الإسلامية والمؤسسات الإسلامية الأخرى . بصفة عامة هناك خوف على الهوية الإسلامية ،في نفس الوقت حرص عليها من الذوبان الذي أصبح هاجساً لدى كثير من المسلمين في بلاد أوروبا ، وخاصة الأجيال التي حصلت على جنسيات البلاد التي تعيش فيها .
... ثانياً : ضعف الإمكانات المادية ، ونقص الدعاة المتخصصين ، والحياة الاجتماعية الصعبة لكثير من الأسر المسلمة ، فكثير منهم يعيشون في أحزمة البؤس خارج المدن الأوروبية الكبيرة مثل المسلمين الذين يعيشون في ضواحي باريس وما حدث معهم مؤخراً وما يمكن أن يحدث معهم إذا نجح المرشح سركوزي في انتخابات الرئاسة الفرنسية ، وما تتعرض له الأسر التي تتركز الآن في المساكن الاقتصادية ( الاجتماعية ) في ألمانيا وهولندا وغيرها .
... ثالثاً : قلة أو ضعف مؤسسات التكوين الشرعي أو التربية الدينية فهي إما منعدمة لأن المدارس الرسمية لا تقوم بتقديمها وحتى البلاد الأوروبية التي تعترف بالدين الإسلامي لم تقم أو تسمح حتى الآن بتدريس الدين الإسلامي في المدارس بالصورة الفاعلة والصحيحة ، بل على العكس فإن الكتب المدرسية التي تدرس في عدد من العلوم المدرسية إذا تعرضت للدين الإسلامي فهي تتعرض له بصورة مشوهة كما ثبت من دراسة ميدانية تمت في ألمانيا قبل عدد من السنوات قام بها الإيراني الأستاذ الدكتور عبد الجواد فلتوري - الذي توفي قبل فترة - .(1/5)
... وسوف تركز هذه الدراسة على تحديد الدور المطلوب في ظل هذه الظروف مع بيان التحديات التي قد توجد أو تنشأ ، ووضع الحلول البديلة للإنتقال من الموجود إلى المأمول والله وحده هو الموفق إلى سواء السبيل .
الفصل الأول
المؤسسات ذات التأثير في حياة المسلمين
أولاً : ضعف تأثير المؤسسات الإسلامية وفاعلية الغربية
... هناك مؤسسات فاعلة كثيرة ذات تأثير ملموس في توجهات وسلوك أبناء المسلمين في الغرب ، حيث لا يحتك الطفل المسلم في الغرب بمؤسسات الدعوة الإسلامية فقط ، وبالتالي المؤسسات التي تمنع الطفل والشاب المسلم من أن يكون مواطناً صالحاً فاعلاً في مؤسسات المجتمع من حوله كثيرة ، بل وهناك أسباب متعددة تمنع من اندماجه اندماجاً إيجابياً ، بل وربما تؤدي إلى ذوبانه وفقدانه لهويته الإسلامية ، وسأشير إليها بإيجاز على النحو الآتي :
... ( عدم وجود المحاضن التي تحضن الطفل المسلم وتنشئه على الثقافة الإسلامية ؛ فيتأثر الأطفال في الصغر سلبياً بذلك ، وعندما تتقدم بهم السن يتأثرون بعادات وقيم المربيات والأطفال الذين يمضون يومياً وقتاً طويلاً معهم ، فيتعلمون منهم منذ نعومة أظفارهم السلوك غير الإسلامي ، بل السلوك الذي ينتج عنه الانسلاخ عن العادات والتقاليد الإسلامية التي قد يكون نشأ عليها في البيت إن كان البيت متمسكاً بهذه العادات والتقاليد ، أو ينسلخ عن المبادئ الإسلامية التي يكون قد تعلمها في البيت أو المسجد والمؤسسة التي زارها إن كان يسكن في منطقة يوجد فيها مسجدٌ أو مؤسسة إسلامية .(1/6)
... ( إذا لم يتحول الطفل تلقائياً في روضة الأطفال أو المدرسة الإبتدائية ؛ فإنه قد يصاب بما يعرف بالانبهار بالترتيبات وحسن النظام الذي يفتقده في البيت والمؤسسة الإسلامية غالباً ، ويجده في المدارس التي يتعلم فيها إذا حظي بالتعليم الثانوي ، أو عندما يصل إلى المستويات الثقافية والتعليمية الأعلى ، أو يحتك بمستويات إدارية وتنظيمية في البلد الذي يعيش فيه وخاصة إذا وصل لمستوى عقد المقارنات بين البلاد الأوروبية والبلاد العربية والإسلامية .
... ( المؤسسات العاملة في مجال الدعوة الإسلامية : وهي التي يُعَوّل عليها بالقيام بتنمية مهارات الشباب المسلم التي تمكنهم من تحقيق المواطنة والاندماج الإيجابي ، فإن واقعها العملي ، وانتماءاتها الجهوية لهذا البلد أو ذاك ، وانتماءاتها المذهبية والحزبية ، لا يجعلها قادرة على القيام بأنشطة فاعلة في مجال التربية الإسلامية الصافية والتوجيه لالتزام الشباب الإسلامي بالإسلام الحق كما أنزله الله تعالى في القرآن والسنة ، وأحياناً سلوك هذه المؤسسات يدفع الشباب المسلم إلى عدم الالتحاق بها واستبدالها بمؤسسات المجتمع غير الإسلامية .
... ( ظهور جماعات الغلو والتطرف الإسلامي في معظم بلاد أوروبا وأمريكا الشمالية ؛ بل وقيام بعض عناصرها بأعمال لا يقبلها الإسلام وتؤذي المواطنين ، مما شجعت المسؤولين لإظهار العداء للإسلام والمؤسسات الإسلامية التي تلتزم الوسطية والاعتدال ، بل ربما تشجع أعمال هذه الجماعات على إلصاق تهمة الإرهاب للإسلام نفسه فضلاً عن المسلمين ، ولقد صادف هذا الأمر رغبة بعض المؤسسات الغربية مثل اليمين المتطرّف لتخويف المجتمعات ، مما أدى إلى ظهور ظاهرة تعرف ب « إسلاموفوبيا » في المجتمعات الغربية بين الغربيين .(1/7)
... ( عدم توفر قدوات إسلامية بالقدر الكافي ؛ مع افتقاد الزعامة السياسية من علماء المسلمين القادرين على التأثير الفاعل في كل دولة من الدول الأوروبية ، فضلاً عن الافتقار إلى وجود مؤسسة فاعلة جامعة قادرة على أن تكون المرجعية المباشرة للحياة اليومية والتي تتصل مباشرة بالشباب الإسلامي ، وتكون عملية الاتصال بها من جهة الشباب سهلة وميسورة عند الحاجة إليها ، ولا شك أن ظهور المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث – بدون مجاملة – قد سدّ ثغرة كبيرة في مجال عمله على مستوى هذه الحاجة والحمد لله تعالى ، وإن كنت أسجل هنا أهمية وضرورة ظهور مؤسسات متخصصة إسلامية لسدّ النقص والحاجة الملحّة إليها .
... ( عدم توفر المال الكافي لإنشاء المؤسسات الإسلامية التي يحتاج إليها الشباب في الغرب ؛ مما يجعل بعض المؤسسات الإسلامية التي تعمل في الغرب تتأثر بتوجهات جهات التمويل التي ربما تمنع عنها التمويل عند الحاجة الملحّة إليه إذا لم تلتزم بما تمليه عليها ، وربما يُفْقِدُ هذا السلوك المؤسسة المرتبطة القدرة على إصدار الفتوى المناسبة ، أو القيام بنشاط معين لا ترضى عنه جهة التمويل وخاصة إذا تعلق الأمر بالمؤسسات الضرورية جداً مثل رياض الأطفال والمدارس والمدرسين والموجهين وربما الخطباء في المساجد .
... ( عدم توفر جماعات الضغط السياسي الإسلامية ؛ مع أن عدد المسلمين في أوروبا أضعاف أضعاف عدد اليهود ، وإمكانات المسلمين المادية ليست أقل من إمكانات اليهود ، إلا أن جماعات الضغط السياسي اليهودية قادرة على التأثير على متخذي القرار في أوروبا وأمريكا الشمالية ، ولا يمكن مقارنتها بقدرة جماعات الضغط الإسلامية – إن وجدت – وبالتالي ليس هناك إمكانية التأثير على السياسات المرسومة من قبل غير المسلمين وتطبق على المسلمين .(1/8)
... ( غياب وسائل الإعلام الإسلامية الفاعلة ؛ وخاصة تلك القادرة على ردّ الافتراءات الباطلة ضد الإسلام . والتي تصدرعن مؤسسات يقف من ورائها أعداء الإسلام في الماضي والحاضر ، سواء المستشرقين أو رجال السياسة ووسائل الإعلام ؛ فضلاً عن عدم توفر وسائل التعريف بالإسلام وعرضه بصورته الحقيقية للنخب والعامة في أوروبا بالقدر الكافي ، وبالفاعليّة المطلوبة .
... ( وأخيراً لا بدّ من التأكيد على عدم توفر المؤسسات المتخصصة ؛ وخاصة تلك القادرة على حلّ المشكلات الاجتماعية لأبناء الجاليات الإسلامية في بلاد أوروبا وأمريكا الشمالية ، مما يؤدي إلى تفسخ كثير من الأسر المسلمة ، وضياع كثير من الأجيال التي ولدت ونشأت في الغرب ، حتى أنه ظهرت أخيراً مؤسسة سمّت نفسها « المجلس الأعلى للمرتدين عن الإسلام » والتي تضمّ في عضويتها من كان مسلماً وخرج من الإسلام ؛ وكم اهتمت الصحافة بهذه المؤسسة حين أعلن عن تأسيسها في برلين عاصمة ألمانيا الاتحادية قبل شهرين ، والملاحظ أن أكثر أعضاء هذه المؤسسة من النساء الإيرانيات . ومن أغرب ما كتبت صحيفة « كولنر اشتاد أنسايجر » وهي صحيفة تصدر في مدينة كولونيا بولاية رينانيا وسفاليا ؛ في أول تصريح لرئيسة هذه المؤسسة قولها : « إن هذه المؤسسة تعبر عن عدد ثلاثة ملايين مسلم في ألمانيا » ؛ ولكل عاقل أن يعجب لمثل هذا التصريح أن المرتدين عن الإسلام يعبرون عن المسلمين في ألمانيا الاتحادية ؟! أي لا يعبرون عن أنفسهم فقط ، وإنما يعبرون عن جميع المسلمين !!! .
ثانياً : الحاجة إلى مؤسسات إسلامية تعليمية تربوية :(1/9)
... إن المؤسسات التعليمية والتربوية ضروريّة جداً ، والغريب أن أي جالية أوروبية في بلد أجنبي يكون لها دار أو دوراً للحضانة ومدرسة أو أكثر ليلتحق بها أبناء رعاياها ، إلا أن هذه الظاهرة بالنسبة للبلاد الإسلامية في الغرب غير موجودة ، وإذا وجدت فهي نادرة جداً لعدد من البلاد الإسلامية البترولية في عدد محدود جداً من بلاد أوروبا ، والأصل في مثل هذه المؤسسات هو مساعدة المسلمين في تعليم أبنائهم في البلاد الأوروبية الإسلام ولغة القرآن الكريم إن أمكن إذ أن :
... ( الأصل أن يجتهد المسلم - أينما كان وفي كل حين - في أن يتعلم ويعلم الأبناء العلم النافع والعمل الصالح ، فهذا هو سبيل الفوز والنجاح في الدنيا والآخرة ، قال الله عزَّ وجلَّ : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ } [ الجمعة : 2 ] .
ومما عَلَّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمسلمين خاصة ؛ أن يضرع المسلم بالدعاء قائلاً : « اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ ، وَمِنْ قَلْبٍ لاَ يَخْشَعُ ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لاَ يُسْتَجَابُ لَهَا » رواه مسلم في صحيحه .(1/10)
ولما كان تحقيق مثل هذه المهمة لا يكون بالأمنيات فقط ، وفي ذات الوقت لا توجد برامج غربية توصل إليه ، فلا بد للجاليات المسلمة في الغرب من اتخاذ الأسباب وتوفير الوسائل والإمكانات اللازمة لتحقيق ذلك ؛ فالمسلم يقرأ قول الله تعالى : { لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا - وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا } [ النساء : 123-124 ] ؛ وقال عزَّ وجلَّّ : { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } [ البقرة : 78 ] .
وبناء على ذلك يلزم توفر الدعاة العاملين ، والذين يقومون بدور القدوات السلوكية ، إلى جانب عمل الأسر المسلمة على تربية الأبناء وإعدادهم الإعداد الصحيح ، وأخيراً العمل على تأسيس المؤسسات الرياضية والتربوية الفاعلة ، والتي تقوم على العملية المساعدة في التوجيه والإرشاد والتربية .
(الوحي الذي أنزله الله تعالى وأخرج به خير أمة في الماضي ، محفوظ بحفظ الله عزَّ وجلَّ وجهود المؤمنين الصالحين ، وهو قادر على إعادة وجود هذه الأمة الصالحة الفاعلة مرة أخرى مصداق قول الله تعالى في القرآن الكريم : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ... } [ آل عمران : 110 ] ، وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : « بَدَأَ الإِسْلاَمُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ » رواه مسلم .(1/11)
ولكن تحقق ذلك يستلزم وجود طائفة صادقة تتمتع برؤية مستوعبة شاملة ، وتبذل الجهود المتواصلة لإعادة ظهور الإسلام مرة أخرى ، منطلقة من قول الله سبحانه : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } [ العلق : 1 ] وهدفها الوصول إلى الغاية بتحقيق قول الخالق عزَّ وجلَّ : { ... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا ... } [ المائدة : 3 ] .
((1/12)
لا بدَّ من إدراك العاملين للإسلام أنه ستزداد حملات التشكيك في الإسلام والتحذير من خطر وجود المسلمين المتنامي في الغرب ،وقد مُهِّدَ لذلك منذ فترة غير قليلة ، بالنقاشات والكتابات التي ظهرت - ولا زالت مستمرة - في وسائل الإعلام الغربية ؛ حول التشكيك في الإسلام وإظهاره بأنه غير صالح للتطبيق في الغرب لأنه يسمح بتعدد الزوجات ، ويظلم المرأة ، ويجبر الفتيات والنساء على الحجاب ، وإثارة مشكلة ختان الإناث ؛ بل والتنفير من التعليم الديني الذي يصرون بالحديث عنه تحت اسم « المدارس القرآنية » ، ويزعمون أن هذه التربية لها آثار سيئة على أبناء المسلمين ، وكل ذلك كان له التأثير السلبي عند بعض الشباب الذين انحرفوا في سلوكهم ، ومنهم من فكر في اتخاذ موقف سلبي - وفي الغالب - نظراً لأنه لا يستطيع المناظرة - بالحجة - فبدلاً من أن ينفذ قول الله تعالى : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاّ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا ... } [ آل عمران : 64 ] ؛ بدل ذلك يقوم بعمليات تفجير القطارات أو الحافلات مثل الذي حدث في أسبانيا وإنجلترا ، وبالرغم من أن هذه الأعمال مرفوضة بنصوص القرآن والسنة من مثل قول الله سبحانه : { ... أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ... } [ المائدة : 32 ] ، إلا أن المنظرين والباحثين في الغرب لا يقفون كثيراً أو قليلاً أمام هذه النصوص ، وإنما يحلل بعضهم ويصنف مُظْهراً الموضوعية والمنهجية فيزيد الطين بِلّة ، وسأكتفي هنا بنقل واحد حيث جاء فيه : { ويميز هالداي بين نوعين من العداء للمسلمين : أحدهما ( استراتيجي ) والآخر ( شعبي ) ؛ النوع الأول : موجود في الولايات المتحدة ويرتبط ويتغذى من مسائل مثل : واردات البترول ، الأسلحة النووية والإرهاب .(1/13)
ويعود تاريخ هذا النوع إلى سبعينات - القرن الماضي - كنتيجة لارتفاع أسعار النفط من قبل منظمة أوبك ، والثورة الإيرانية وأزمة الرهائن الأمريكيين في طهران ، وتفجير مركز التجارة العالمي عام 1993م - ومؤخراً تفجيرات سبتمبر عام 2001م - والتحليل المتحيّز اللاحق لهذه الأحداث من قبل الصحافة . ورغم إمكانية وجود هذا النوع من العداء للمسلمين في أوروبا أيضاً . إلا أن النوع الثاني الشعبي هو السائد هنا . فقد ظهر هذا النوع كردة فعل وهو يتعلق بمسائل تتصل بوجود المسلمين في المجتمعات الأوروبية مثل : الاستيعاب ، الدمج العنصري ، العِرق ، الحجاب ، ومسائل أخرى ؛ ويؤكد هالداي على فرضية أن هذا النوع من العداء للمسلمين قد أصبح منذ الثمانينات - من القرن الماضي - جزءاً من موقف عام مناهض للمهاجرين في أوروبا ، ولقد تمّ توجيه هذه المشاعر السلبية نحو رفض الحجاب ، وإقامة مدارس إسلامية ومساجد ، وهي مطالب تضمنتها بوضوح برامج الأحزاب السياسية اليمينية والعنصرية »(1) .
( إن تحسين الأوضاع وتقديم صورة الإسلام الحق الذي أنزله الله عزَّ وجلَّ لتتحقق الرحمة بين العالمين ، يتطلب قيام المؤسسات العاملة للإسلام في الغرب بعمل حوارات ولقاءات للتفاهم وبيان حقيقة الإسلام ، ولا بدّ للمسلمين من اتخاذ الأسباب والوسائل التي تعمل على إزالة التوتر القائم ؛ إذ أن الاحتفاظ بعلاقات متوترة مبنية على فرضيات مثل : صراع الحضارات ، وعدم انسجام الإسلام مع الفكرة الغربية والديمقراطية ، والرفض المبدئي للحركات السياسية الإسلامية ، لا يخدم تحقيق تفاهم بين المسلمين وغير المسلمين ؛ ومما يساعد على ذلك :
(
__________
(1) الصورة السلبية للإسلام والمسلمين في الغرب : أسباب وحلول ، الحياة الطيبة ، العدد (20) ، خريف
2006م/1427هـ ، لبنان - بيروت ، ص 17 .(1/14)
أ ) تطبيق مبدأ قبول الآخر ؛ على سبيل المثال : « إنه يتعين على بلدان الغرب أن تقرّ بأن الديمقراطية لا تبنى بالضرورة على نظام الشخص الواحد والصوت الواحد .. وبأن الفردانية ( مذهب يقول بأن مصالح الفرد هي أخلاقياً فوق كل اعتبار ) ليست فلسفة كونية ولا هي متفوقة أخلاقياً ، والجماعية ( جماعات متعايشة ) ما زالت صالحة لتحول دون حكم سلطوي وحكم استبدادي .
من هنا ، فإن حماية الأقليات ينبغي أن تكون جزءاً من أية مقاربة . لقد وفر الإسلام تاريخياً ، الصيغ الملائمة للإبقاء على هيئات تشريعية متعددة ضمن الدولة تطبق على أفراد على أساس انتمائهم الديني . فإذا كان المسلمون يحكمون حسب الشريعة الإسلامية ، فإن غير المسلمين لهم الحق بأن يحكموا حسب تشريعاتهم وتقاليدهم . إن العودة لتلك الصيغة الفريدة من التعددية القانونية والاجتماعية ، هي أسهل وربما أكثر إلحاحاً من خلق تعددية على النمط الأوروبي »(1) .
(
__________
(1) المرجع السابق ص 25 .(1/15)
ب ) تحقيق مبدأ حق الآخر بالاختلاف ؛ يرى البعض(1) : « العثور على نقاط الالتقاء المحتملة بين المعايير الديمقراطية الليبرالية الغربية والإسلام السياسي ربما يكون صعباً ومثيراً للجدل ، كما كان الحال بين الديمقراطية الليبرالية والماركسية اللينينية ، وعلى سبيل المثال لن يكون هناك حل سهل لمشكلة تكيف الدنيوية ( غير الدينية ) مع الأطر المعيارية الدينية ، لكن ورغم هذه الصعوبات ، فإن الرد الملائم على الإسلام السياسي لا يكون بإحياء سياسة ( الاحتواء ) الغربية لمواجهة هذا ( الخطر ) أينما وكلما أطلّ برأسه ، ما يثبت انقساماً مفاهيمياً بين قوتين سياسيتين غير متصالحتين .. وإنما يكون الردّ في محاولة حقيقية للاعتراف بأن النقد الإسلامي للمعايير الديمقراطية الليبرالية الغربية ملائم للمجمتعات الحديثة . إن الانتقادات الإسلامية هي بالضرورة محاولات لإعادة فتح النقاش حول ( نهاية التاريخ ) من خلال فكرة ( أطروحة إلتقاء جديدة ) مثل هذه المساعي لن تكون سهلة ، خاصة إذا أخذنا بالاعتبار فرضيات الانتصار في الحرب الباردة التي تشكل جزءاً مهماً من صناعة السياسة الخارجية الغربية » .
(ت ) التسليم بمبدأ التسامح الذي يتوافق مع أيدلوجية النسبية الثقافية ؛ يعتقد البعض(2) أن : التسامح مع المنشقين أو الذين لديهم آراء ثقافية مختلفة ، يلعب اليوم دوراً هاماً في النقاشات حول موقع المسلمين في الغرب . وهذه النقاشات موجهة بالدرجة الأولى نحو العثور على أسس اجتماعية ، واحتمالات قانونية للقبول ببعض قيمهم ومعاييرهم الثقافية التي لا غنى عنها لتلبية واجباتهم الدينية والحفاظ على هويتهم الثقافية » .
__________
(1) المرجع السابق ص 25 .
(2) المرجع السابق ص 26 .(1/16)
إن لدى المسلمين قيم إنسانية مشتركة يحتاج إليها كل إنسان ، فالحق والعدل والإحسان قيم إنسانية مطلقة لا يختلف عليها إثنان ولا ينتطح فيها عنزان - كما يقال - . فعلى المؤسسات الإسلامية الكبرى ، والتي تتحاور مع الغرب أن تتخذ الأسباب لطرح مثل هذه الموضوعات للحوار ؛ بل ودعوة حكومات البلاد الإسلامية والمنظمات الفاعلة في هذا المجال بالقيام بهذا الدور المهم في حوار الثقافات والأديان ، لما لذلك من آثار إيجابية على وجود الجاليات الإسلامية في الغرب من ناحية ، وعلاقة من تجنس منهم بالمجتمعات التي يحمل جنسيتها من جهة أخرى .
الفصل الثاني
الدور الدعوي وآثاره في تحقيق المواطنة
أولاً : تحليل الواقع واستخلاص النتائج والتعرف على المشكلات
1- تعريف وبيان
الدور معناه الطبقة من الشيء أو البناء إذا كان مكوناً من طبقات .
وعند المناطقة إذا كان في الأشياء فالدور هو : توقف كل من الشيئين على الآخر .
ونظراً لأن الدعوة رسالة يقدمها الداعية للمدعوين فيكون المقصود من الدور الدعوي ما تقوم به مؤسسات الدعوة من أنشطة وأعمال للتأثير على المسلمين في مجال معين ، وقد تحدد المجال هنا في تحقيق المواطنة في المجتمع الأوروبي مع احتفاظ المسلم بهويته الإسلامية .
ولا شك أن الأنشطة الدعوية قد تكون من أفراد أو مؤسسات ووسائل مستوطنة في أوروبا أو كتب وأشرطة ورسالة إذاعية أو ( تلفزيونية ) من دعاة يعيشون في أي مكان خارج أوروبا ولا بدّ لاستيعاب الرسالة الإعلامية أن تكون باللغة التي يفهمها المدعو .. ولا شك أن الدعوة قد تنشط في مواسم وأوقات من العام وفي أيام من الأسبوع ، مثل العطلات الأسبوعية والموسمية .. إلخ .(1/17)
ومن المفيد التذكير بحاجة الجاليات الإسلامية في الغرب في هذه الأيام خاصة إلى الفعاليات الإسلامية لأسباب كثيرة منها ازدياد أعداد المسلمين في الغرب ، وازدياد الضغوط الأوروبية عليهم بسبب ظاهرة الإرهاب التي تحاول وسائل الإعلام الغربية إلصاقها بالإسلام واتهام المسلمين بها بعد تفجيرات القطارات في أسبانيا والمترو في إنجلترا وأحداث سبتمبر سنة 2001م في نيويورك من ناحية أخرى .
نعم ، هناك اختلافات في طرق التعامل بين المسلمين وغير المسلمين في بلاد الاتحاد الأوروبي ، إذ أن السياسة المحلية لكل دولة من دول الاتحاد ربما تختلف عن السياسات الأخرى في التعامل ؛ وخاصة من ناحية الاعتراف بالدين الإسلامي من عدمه ، ومن ناحية إقامة المسلم في الغرب هل هي مواطنة ، أم إقامة مؤقتة بسبب الدراسة أو العلاج أو السياحة .. إلخ ؛ فالسؤال المطروح بإلحاح في هذه الأيام : « كيف يمكن للدعاة والمؤسسات الإسلامية في أوروبا إقامة وتطوير علاقات طيبة بين المسلمين وخاصة الذين استوطنوا وحصلوا على جنسية البلد الأوروبي الذي يعيشون فيه والأوروبيين أبناء البلاد الأصليين ؟ » .
مع الأخذ في الاعتبار بالإضافة إلى ظاهرة الإرهاب هناك مشكلات وأزمات ناتجة عن الهجرة غير القانونية ، ووجود جماعات التهريب والتجارة بالممنوعات ، والتي ازدهرت بعد التحولات في البلاد الاشتراكية في العقد الأخير من القرن الماضي ؛ ولكن ظل السؤال الملح والمطروح بشدة : لماذا فشلت أوروبا في منع التطرف من النشوء في وسط الجاليات المسلمة ؟!
والجدير بالذكر أن هذه الغاية لا تدرك بالأماني وإنما تدرك بالدعوة .
... ونوجز فيما يلي الإشارة إلى عدد من الحقائق التي لها علاقة بالدعوة :
( جعل الخالق - سبحانه وتعالى - البلاغ المبين ، والهداية إلى الصراط المستقيم ، والتزام(1/18)
الحق وعمل الصالحات ، أحسن القول وأفضل العمل ، فقال - سبحانه وتعالى - : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ } [ فصلت : 33 ] ، كما جعل تحقق الهداية بفعل فاعل للخير أعظم المكسب ، ويتجلى ذلك في قول الرسول صلى الله عليه وسلم : « لأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرُ النَّعَمِ » متفق عليه .
فإذا قام الأب المسلم برعاية أسرته وتربية أبنائه على الإسلام في بلاد الغرب ، كان ذلك له ولهم عصمة في الحياة الدنيا من الوقوع في أحبال شياطين الإنس والجن ، وفي ذات الوقت سبيلاً للنجاة في الآخرة ، قال الله عزَّ وجلَّ : { قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنْ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا - إِلاَّ بَلاَغًا مِنْ اللَّهِ وَرِسَالاَتِهِ ... } [ الجن : 22-23 ] ؛ وقال - سبحانه وتعالى - : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ... } [ التحريم : 6 ] .
( إنني أعتقد أن الواقع القائم للجالية الإسلامية في الغرب يحتاج إلى تفعيل ،
للخروج من واقع يغلب عليه الجمود والأعمال الارتجالية - وربما يعتمد على ردود الأفعال التي تستنزف الطاقات في أعمال محدودة ومعارك جزئية - ولا يكون هذا التفعيل إلا بالتفكير المنظم من خلال مخطط له أهداف وغاية ، وذلك مع إدراك السنن الاجتماعية من ناحية وسنة التدافع بين الحق والباطل من ناحية أخرى ، فتتحدد المراحل بدقة ، ومع حصر إمكانات الدعوة والعمل ، وتقدير مآلات الأعمال وتبصر العواقب دون استفزاز أو إثارة ، كل ذلك يساعد على تحديد الأهداف المرحلية واتخاذ الوسائل اللازمة على ضوء الواقع والإمكانات .
((1/19)
ينبغي أن ينصب التوجه في الدعوة على تشكيل عقلية الشباب الإسلامي في الغرب - بحسب الإمكان - عن طريق التربية والمعلومات التي تقدم لهم في البيت ومدرسة نهاية الأسبوع والجمعية أو مؤسسة المسجد ، فالمسلمون الأوائل تشكلوا من خلال الخطاب الإسلامي أو بعبارة مختصرة من خلال كتاب ، فكان القرآن ولا يزال ، خطاب عقيدة وعلم ووعي وفكر وثقافة ، لأنه يخاطب الإنسان من حيث هو إنسان بكل صفاته ومكوناته ، قال الله عزَّ وجلَّ : { ... فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ } [ ق : 45 ] ، وقال - سبحانه وتعالى - : { فَلاَ تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا } [ الفرقان : 52 ] .
والغريب أن واقع أهل الغرب الآن في محاربة القرآن هو نفسه الذي فعله
الكفار في مكة والمدينة ، متمثلاً في الهرب من التمكين للخطاب القرآني ، والعمل على إقامة الحواجز دون وصوله إلى الأسماع ، والشغب عليه والتواصي بعدم سماعه تماماً كما أخبر الله تعالى عن ذلك بقوله على لسان الكفار : { ... لاَ تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } [ فصلت : 21 ] .
( بالرغم من وجود أسلحة كثيرة متطورة فإن الحروب العسكرية والغزو المسلح لم يحسم المعارك في السنوات الأخيرة بدون الإعلام وخطاب إعلامي فاعل ، فمن باب أولى فإن عملية التثقيف والتربية - وهي التي تقوم على المعلومة - تحتاج إلى إعلام وقدرة على الوصول بالمعلومة إلى الإنسان الذي نقوم على تثقيفه وتربيته بطريقة فاعلة وقادرة على التأثير ، وهنا لا بدّ لنا من تدبر قول الله تعالى : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ }
[ يوسف : 108 ] ؛ وبين لنا سبحانه كيفية القول للآخرين فقال عزَّ من قائل :
{ ...(1/20)
وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ... } [ البقرة : 83 ] ، ولا يفوتني هنا أن أذكر بأن الله عزَّ وجلَّ أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو أهل الكتاب من غير المسلمين ، بأن يناظرهم ويحاورهم بالحسنى فقال تعالى : { وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [ العنكبوت : 46 ] .
( إذا كان التثقيف والتعليم يحتاج إلى الإحاطة بالفكرة ، والأمانة والصدق في
نقلها ، وامتلاك الوسيلة الفعالة لنقلها والإقناع بها .. فلا بدّ أن يبقى الهاجس التربوي حاضراً دائماً ومستمراً لدى الوالد تجاه أولاده ؛ ولعل من الأولويات المطلوبة في هذا المجال ، والقضية التي تستدعي المناقشة والإيضاح والحسم هي : معرفة الوحي في القرآن والسنة الصحيحة حتى نسعى إلى التثقيف والتعليم بهما ، وعدم الخلط بينهما وبين وسائل وأساليب توصيلهما وإبلاغهما ، وعلى أن يبقى الملف الدعوي مفتوحاً وخاضعاً للنظر والدرس والمراجعة والمناقشة والمشاورة والمذاكرة والمتابعة والتقويم ؛ بحيث يتم تقديم ما يقدم للأبناء وغيرهم بعبارة سهلة من إنسان رحيم وبغير غلظة ، ولنتذكر قول الله عزَّ وجلَّ في شأن المبعوث رحمة للعالمين : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ... } [ آل عمران : 159 ] .
((1/21)
إدراك أن مواصفات الدعوة في بلاد الغرب تختلف عن الدعوة في بلاد المسلمين ، فالخطاب في الغرب ينصب على مرحلة الدعوة ، أي الخطاب التربوي في مجال تحرير مفاهيم الولاء والبراء وإقامة العلاقات الاجتماعية مع غير المسلمين على أساس البر والقسط ، وكل ذلك يحتاج إلى البلاغ المبين والحوار والمناظرة القائم على البرهان والدليل ، والدعوة إلى كلمة سواء ، وضرب الأمثال ، والترغيب والترهيب ، والتبصير بالعواقب والمآلات ، مع الاستفادة من توظيف الحدث التاريخي ، ولفت النظر إلى السنن الاجتماعية الحاكمة في الحياة ، من خلال القصص والتذكير بما حدث مع الأمم السابقة وعواقب أعمالها .
إن القرآن الكريم غطى بخطابه جميع الجوانب الإنسانية .. خاطب العقل والوجدان والضمير والعاطفة ، وحثّ على تفعيل الدوافع الفطرية الخيرة ، وحذر من النوازع الشريرة ، وقدم نماذج ونتائج النزوع إلى الشر ؛ وكل ذلك يساعد في العملية التربوية باستخدام أسلوب الترغيب والترهيب .
( لا بد من مراعاة حال الأجيال المخاطبة بالشريعة وحاجاتهم وظروفهم ،
وتجدر الإشارة هنا إلى بعض الأحاديث وهي جزء من كمّ كثير ولكنها إشارات فقط منها ، قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - لمن جاءه يستأذنه في الجهاد : « أَحَيٌّ وَالِدَاكَ ؟ » قال : نعم . قال : « فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ » متفق عليه .(1/22)
وأقبل رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : أُبَايِعُكَ عَلَى الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ ، أَبْتَغِي الأَجْرَ مِنْ اللَّهِ ، فقال : « فَهَلْ مِنْ وَالِدَيْكَ أَحَدٌ حَيٌّ ؟ » قَالَ نَعَمْ ، كِلاَهُمَا . قال : « فَتَبْتَغِي الأَجْرَ مِنْ اللَّهِ ؟ » قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : « فَارْجِعْ إِلَى وَالِدَيْكَ فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا » رواه مسلم في صحيحه . وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - أَوْصِنِي بِشَيْءٍ ، وَلاَ تُكْثِرْ عَلَيَّ لَعَلِّي أَعِيهِ. قال : « لاَ تَغْضَبْ » رواه البخاري في صحيحه .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن أعرابياً جاء إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله! دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ ، قَالَ : « تَعْبُدُ اللَّهَ لاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ، وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ الْمَكْتُوبَةَ ، وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ » قَالَ : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ أَزِيدُ عَلَى هَذَا شَيْئًا أَبَدًا وَلاَ أَنْقُصُ مِنْهُ ، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : « مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا » رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما .
وقد أجاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بأجوبة مختلفة عدداً من الصحابة رضوان الله عليهم سألوا سؤالاً واحداً ، أي أجاب كل سائل بما يناسبه .
( علينا أن ندرك دور اللسان وأهميته في الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ ، فضلاً عن(1/23)
استيعاب الواقع وضرورة ربط الخطاب بالواقع والقضايا المعاصرة ، قال الله تعالى : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ } [ آل عمران : 164 ] ؛ وقال عزَّ وجلَّ : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ... } [ إبراهيم : 4 ] .
هذا ولا بدّ من فهم الواقع لاختيار الخطاب المناسب لأهل هذا الواقع ، حتى يمكن الارتقاء بهذا الواقع وتغييره إذا كان في حاجة إلى تغيير ، فالله تعالى لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .
2- وسوف أتناول في هذا الفصل بعض المؤشرات والتعليق عليها :
( هناك أعمال يقوم بها المسلمون دون مشكلات وربما كان مرحباً بهم في القيام بها ؛ وهي : الأعمال في مجال الفن والرياضة وقيادة وسائل المواصلات وأعمال النظافة والعمل في الأسواق .. إلخ أي أعمال لا يرغب الأوروبي في القيام بها في الغالب إلا إذا اضطر ؛ وهذه يسمح للأجانب بمزاولتها دون مضايقات .
والأعمال التخصصية النادرة مثل أعمال الأطباء والفنيين في الحاسب الآلي والمترجمين ، وأعمال التجسس على الأجانب بلغة بلادهم وخاصة التجسس على المؤسسات الإسلامية ، فهي أيضاً مسموح بها للأجانب ؛ وهنا ينبغي مراعاة الحلال والحرام عند مزاولتها .
((1/24)
هناك محاولات بالرغم من أنها نادرة إلا أنها تحمل دلالات نحتاج إلى استيعابها والاستفادة منها ؛ فقد ذكر ( ديمتريس أنتونيو )(1) أن اليونان قامت بإنشاء مسجد مركزي مع مركز ثقافي بهدف أن تشكل نقطة تجمع للمسلمين ، بالرغم من قلة عدد أفراد الجالية المسلمة إذا قارناها بالمهاجرين من جنسيات أخرى ، إذ لم تتجاوز نسبة طلبات الهجرة من قبل مسلمين 4% - في السنوات الأخيرة – من مجموع طلبات الهجرة لليونان .
وفي إيطاليا وصل عدد المسلمين بها أكثر من مليون مسلم ، يضاف إليهم 80 ألف مسلم إيطالي ، وأنشأ هؤلاء 450 مسجداً ورغم ذلك فإن الحكومة الإيطالية لا تزال لم تعترف بالإسلام كدين رسمي ، ولا شك أن هذا الأمر في إيطاليا وفي غيرها من البلاد الأوروبية التي لم تعترف بالإسلام كدين رسمي ، يحدث صراع نفسي عند الأجيال التي تولد في الغرب من المسلمين ، ولا يدفعهم إلى الاندماج الإيجابي في المجتمع الأوروبي ، فضلاً عن أنه يؤدي إلى عدم تجانس الجالية المسلمة عرقياً وقوميا .
(
__________
(1) الجزيرة نت ، الثلاثاء 11/07/1426هـ - 16/08/2005م ، المهاجرون العرب والشرق أوسطيون في أوروبا ، ص 1 من 3 .(1/25)
أما في هولندا وبعد ما قتل أحد المغاربة رئيس حزب اليمين المتطرف ، فقضية الوجود الإسلامي مطروحة بقوة ، رغم أن السلطات الهولندية منذ فترة سمحت بإنشاء أعداد من المدارس الخاصة بتعليم الدين الإسلامي وساهمت في تمويلها ، إلا أن رئيس وزرائها « بيتر بالكنيد » دعا منذ فترة قصيرة إلى إغلاق المدارس الإسلامية وقد وصل عددها إلى 35 مدرسة ، بدعوى أنها لا تشجع على اندماج الأطفال المسلمين داخل المجتمع الهولاندي ، فهناك حوالي مليون مسلم أغلبهم مغاربة وأتراك ويرجع الوجود الإسلامي إلى حوالي نصف قرن من الزمان إلا أن كل من ( هانس فان أمر سفورت ) و ( بورين دوميرنيك ) يؤكدان(1) أن الجالية المسلمة في هولندا غير مندمجة في المجتمع الهولندي وثمة إنعزال وتهميش مزدوج ، ذاتي من الجالية ، وخارجي من قبل المجتمع المضيف ، وهناك نسبة قليلة من المسلمين تعبر عن رفضها الكلي للمجتمع الأوروبي ، إلا أن قابلية الاندماج عند الجيل الثاني ليست مشجعة .
( أما في النمسا فإن الإسلام يحظى باعتراف قانوني كدين منذ اعترف الامبراطور النمساوي « فرانز جوزيف » عام 1908م بالإسلام كدين رسمي ، - وهو أقدم اعتراف رسمي بالإسلام في أوروبا - ؛ ورغم ذلك فإن أول جمعية إسلامية دينية أنشئت كانت في فيينا 1979م ، ولم يتم تدريس التربية الدينية لأبناء المسلمين إلا عام 1982م .
__________
(1) المرجع السابق ، ص 2 من 3 .(1/26)
وبناء على مقابلة مع مدير مكتب الدعوة بالمجمع الإسلامي الثقافي في النمسا ورد فيها(1) : « يعيش في النمسا نحو 450 ألف مسلم من جنسيات مختلفة يحظون بمعاملة طيبة من جميع فئات الشعب النمساوي ، وتتميز العاصمة النمساوية فيينا بكثافة الوجود الإسلامي حيث يعيش فيها نحو 130.000 مسلم يحمل عدد كبير منهم الجنسية النمساوية ، ويوجد في العاصمة النمساوية وحدها 55 مسجداً ، ويعمل المسلمون هناك على تحقيق الاندماج الإيجابي والمواطنة الصالحة للمسلمين في مختلف مجالات المجتمع النمساوي ، إلى جانب دفع عجلة الحوار والتعاون مع مؤسسات المجتمع » .
هذا وغالبية المسلمين من الأتراك الذين كانت بداية هجرتهم في ستينات القرن الماضي ، ووجود مساجد تسيطر عليها مؤسسات تركية رسمية وشبه رسمية فالأئمة والعلماء يعينون من قبل الدولة التركية ؛ إلا أن الاندماج الإيجابي في المجتمع ضعيف وليس بالحماسة المطلوبة .
( وفي ألمانيا الاتحادية هناك وجود إسلامي قوي حيث تذكر الاحصائيات بأن العدد أكثر من ثلاثة ملايين معظمهم من الأتراك ، وقد ذكر الأستاذ رجمان بن عبد الله الغامدي في بحثه عن الأقليات المسلمة في العالم أن العدد يصل إلى أربعة ملايين ، وهذا الوجود الإسلامي فتحت له ألمانيا أبوابها عندما احتاجت إلى أيدي عاملة للإعمار بعد الحرب العالمية الثانية ، وكانوا يلقبون ب ( العمال الضيوف Gastarbeiter ) ؛ بيد أن من كان مرحباً بهم في وقت سابق أصبحوا في نظر كثير من الألمان عبئاً على المجتمع الألماني ، ليس من الناحية الاقتصادية فقط ، بل من ناحية اختلافهم الأثني والديني والثقافي .
__________
(1) مجلة الرابطة ، رابطة العالم الإسلامي ، العدد 490 ربيع الأول 1428هـ - مارس 2006م ، ص 32-40 .(1/27)
وهناك دراسات(1) أثبتت وجود فروقا بين الجيل الأول الذي ظل مرتبطاً بالوطن الأم تركيا ، ولم يقبل الاندماج في المجتمع الألماني بل وحتى لا يتكلم بعضهم اللغة الألمانية إلا قليلاً جداً ، أما الأجيال التي ولدت في ألمانيا فهي تشعر بالولاء المزدوج لتركيا وألمانيا في ذات الوقت .
__________
(1) Aus Politik und Zeitgeschichte, 20/2005, Der Islam in deutschen Medien von S. Schiffer, ( ) Beilage zur Wochenzeitung: Das Parlament, 17.05.2005.(1/28)
نعم الأجيال الجديدة من أبناء الأتراك لا تفكر في العودة إلى تركيا ، التي لا يعرفها أكثرهم أصلاً ، لكنهم يعانون من تأزمات الهوية ، ومشكلات في الحصول على العمل ، مع الأخذ في الاعتبار نشوء بعض التيارات المتطرفة ، إلا أن هناك مسؤولية من نوع خاص تقع على المسؤولين الألمان ، إذ أنني كمراقب يعيش في ألمانيا منذ أكثر من 33 سنة أدرك أن الجو السياسي والاجتماعي لا يسمح باندماج الأتراك أو غيرهم من المسلمين الأجانب في الحياة العامة رغم الحاجة لوجود الأجانب في ألمانيا بسبب قلة عدد المواليد عن عدد الوفيات ، فالمجتمع الألماني منذ سنوات يتناقص سنوياً بضع عشرات آلاف ، وكما يشير بحث « سايمون غرين »(1) فإنه رغم الإقامة الطويلة لأعداد كبيرة من الأتراك تصل لمئات الألوف ، فإن ثلثهم فقط حصل على المواطنة ، وما زال كثيرون يشعرون بأنهم على هامش المجتمع فعلياً وقانونياً ، غير أن إحدى القنوات التي يرى بعض الباحثين أنها تفيد في الاندماج المباشر وغير المباشر للجالية التركية في المجتمع الألماني تتمثل في الأعمال الحرّة الصغيرة التي ينشئها الأتراك أنفسهم في نطاق جاليتهم أولاً لتأخذ في الاتساع تالياً ، فهذه الأعمال الاقتصادية البسيطة توسع دائرة الاعتماد المالي على النفس ، ثم تأخذ في التوسع وتؤدي إلى الاندماج التدريجي في المجتمع المضيف ، وإن كان مثل هذه الأعمال لها دور معاكس من ناحية أخرى - وخاصة إذا كانت موجهة للأتراك فقط - فهي في نهاية الأمر تشجع على عقلية الانعزال وتكوين ما يعرف ب « الجيتو » وبالتالي لا تفيد في تحقيق الانخراط المطلوب مع المجتمع المضيف أي الاندماج الإيجابي .
(
__________
(1) الجزيرة نت ، مرجع سابق ، ص 2 من 3 .(1/29)
في فرنسا يربو عدد المسلمين على ستة ملايين وأغلبهم من البلاد المغاربية وخاصة الجزائر ، وقد جاء الجيل الأول منهم إلى فرنسا ممن يسمون ب « الحركيين » في عقد الستينيات بعد إغراءات كثيرة كان الفرنسيون يقدمونها للمهاجرين ، وطمعاً من الضيوف في الحياة الأفضل والدخل الأوفر ، وكان السبب الحقيقي في استقدام هذه الأيدي الأجنبية الحاجة إليها ، كما كان الحال في ألمانيا إلا أن فرنسا اعتمدت على مستعمراتها في استجلاب من كانت في حاجة إليهم .
ويبلغ عدد المساجد 1.300 مسجد ، وحوالي 600 جمعية ، كما توجد إذاعات محلية إضافة إلى وجود أكثر من 100 ألف مسلم من أصل فرنسي . ونشرت مجلة « لوموند » الشهيرة تعليقاً على ظاهرة إسلام الفرنسيين بعد إسلام « بيير بونارد » رئيس الغرفة التجارية في باريس أن معتنقي الإسلام في فرناس سيشكلون النموذج المرتقب لما سيكون عليه مستقبل الإسلام في فرنسا .
وتشير الإحصاءات أن 40% من الجاليات المغربية يحصلون سنوياً على الجنسية الفرنسية ، في حين يفوق الذين هم دون سن الرابعة عشرة من هذه الجالية 40% ، وذلك يعني أن مستقبل المواطنة الفرنسية لذوي الأصول الإسلامية واعد ، والمعروف أن الدستور الفرنسي لا يسمح للحكومة بالتدخل في شؤون الطوائف الدينية لعلمانية الدولة ، كما لا يتيح للدولة الفرنسية التدخل لمساعدة الأديان أو الإشراف على مؤسساتها .(1/30)
ويوجد ارتباك ملحوظ في سياسة الدولة الفرنسية تجاه المسلمين بالنسبة لقضية الاندماج ، ووجود افتقار لسياسات واضحة لإدماج المهاجرين ، لذلك احتلت قضية المهاجرين حيّزاً كبيراً في الانتخابات الرئاسية في فرنسا ، وكان السبب في صعود اليمين المتطرف بزعامة جان لوبن بسبب تعهده بالحد من الهجرة الأجنبية لفرنسا ، حيث أوضحت صناديق الاقتراع حجم كراهية الأجانب من جانب قطاع كبير من الشعب الفرنسي ، لهذا بدأت الحكومة تنتهج سياسة جديدة للحد من الكراهية للأجانب تجسدت في إعلانات تلفزيونية تظهر ضرورة السماحة مع الملونين ، وتنتهي هذه الإعلانات بعبارة « بدون عنصرية فرنسا أفضل » .
... كما قامت الحكومة الفرنسية بمساعدة المهاجرين على الاندماج في المجتمع وأنشأت وزارة خاصة بالتنمية المستديمة والاندماج ، وعينت وزيرة من أصل جزائري على رأسها هي تقية صيفي ، من مهامها مساعدة المهاجرين على الاندماج ، كما قامت الداخلية الفرنسية بعقد لقاءات مع مسؤولي منظمات وهيئات إسلامية في فرنسا تمهيداً لتشكيل مجلس تمثيلي لمسلمي فرنسا يمثل المسلمين لدى السلطات .
ويلاحظ أن العمال الذين كانوا يسمون ب » العمال الضيوف « يواجهون في الوقت الحالي مجموعة من المشكلات الكبرى ، من أهمها الوضع القانوني والاعتراف بهم وخاصة فيما يتعلق بالعمل والإقامة ؛ وبخلاف جيل الآباء الذي جاء بناء على رغبة وطلب من المسؤولين ولحاجة المجتمع إليهم ، فإن جيل الأبناء يُنْظَر إليهم نظرة عدائية ، فإن كان عاملاً يعتبر مغتصباً لموقع عمل من فرنسي أصلي ، وإن كان عاطلاً فإنه عالة على المجتمع ويعتمد في معيشته على الإعانة الحكومية .(1/31)
غير أن تلك العوائق القانونية والحقوقية ليست هي نهاية المعضلات ، بل هناك مجال آخر واسع من المعاناة كما تقول : » سوفي ديتشزن (1)« في مقاربتها عن المسلمين في فرنسا ، وذلك يتمثل في النظرة إليهم ، حيث تقول الباحثة : » إن تعدد النظرة لمفهوم المواطنة ومفهوم الهوية ينعكس على نظرة الفرنسيين لأفراد الجالية المسلمة « .
( في بريطانيا(2) يشكل المسلمون في بريطانيا أكثر من 5% من مجموع السكان ، إذ يزيد عددهم على مليوني نسمة يشكل ذوي الأصول الهندية ثلثهم ، ويوجد للمسلمين 600 مسجد مسجلة كوحدات خيرية دينية . كذلك يوجد 1400 جمعية إسلامية . ويتميز المسلمون في بريطانيا بأنهم أكثر امتلاكاً للعنصر الشبابي من البريطانيين أنفسهم ، لارتفاع نسبة الخصوبة بين المسلمين ، ومعدل المواليد المرتفع نسبياً ، ويبلغ نسبة المسلمين بريطانيي المولد حوالي 55% من مجموع المسلمين ، إضافة إلى وجود سياسي في مجلس العموم واللوردات وعلى مستوى البلديات كذلك يوجد حزب إسلامي . ويعد مفهوم الجنسية في بريطانيا محدود القدرة كوسيلة لتحقيق الاندماج في المجتمع لجميع حاملي الجنسية ؛ فحمل الجواز لا يعني الحصول على الشعور الكامل بالمواطنة ؛ إذ لا تعد الجنسية البريطانية بمثابة مفهوم متجانس التكوين ؛ فالدولة البريطانية متعددة القوميات والأعراق فهناك الأسكتلدنيون والأيرلنديون ، وسكان ويلز ، وغيرهم وهؤلاء يشكلون الأمة الإنجليزية .
__________
(1) المرجع السابق ، ص 3 من 3 .
(2) إسلام أون لاين ، نت ، دعوة ودعاة ، الصفحة الرئيسية ، مسلمو أوروبا وقضية الاندماج ، ص 2 من 3 .(1/32)
ومن ثم فإن القانون البريطاني ينظر إلى الجماعات العرقية المختلفة نظرة إيجابية ، ويسمح لها بقدر من التمايز ؛ فالعرق في بريطانيا يشير إلى وضع قانوني وليس إلى شيء مذموم ، وفي ظل الحرية المسموحة للتعبير عن الهوية السياسية للقوميات استطاع المسلمون أن يعبروا عن أنفسهم في النظام السياسي ، وذلك لاكتساب وضعية محلية موازية للوضعية التي تحظى بها القوميات الأخرى ، ومن ثم فإن مسلمي بريطانيا في طور تشكيل أمة محتملة تحت حماية مفهوم المواطنة نفسه والذي يحتوي في داخله كل الوافدين الجدد تحت مسمى العرق أو الدين أو كليهما معا .
وقد سعى مسلمو بريطانيا لإبراز هويتهم الدينية والثقافية من خلال آليات متعددة منها التدخل في العملية التعليمية من أجل فرض ما يجب تعليمه لأطفال المسلمين ، وتشكيل جماعات ضغط من المسلمين في الانتخابات البلدية والتشريعية تهدف لوضع مصالح المسلمين في الحسبان ، وفتح قنوات للحوار مع الحكومة لتحقيق حمايتهم من الهجمات العنصرية ، والاعتراف بالزواج الشرعي الإسلامي أمام المحاكم البريطانية ، إلا أن الحكومة ما زالت تكتفي بالحديث عن تراث الإسلام وجدية المسلمين في العمل .
بالنسبة لتجربة وجود المسلمين فيها ، فكما يقول الباحث » رومين غاربادي «(1) في دراسته ؛ فإنها تختلف بعض الشيء عن كثير من البلاد الأوروبية الأخرى من نواحي عدة :
(
__________
(1) الجزيرة نت ، مرجع سابق ، ص 3 من 3 .(1/33)
أ ) يرجع الاختلاف الأول إلى اعتبار بريطانيا أن مواطني الدول الخاضعة للتاج البريطاني من رعايا ذلك التاج ، ويحق لهم بالتالي دخول بريطانيا والإقامة فيها ، وهو ما أقره قانون الهجرة البريطاني عام 1948م ، ونتج عنه تدفق هجرات في عقد الخمسينات ، أي أسبق بعقد كامل من الهجرات التي وصلت ألمانيا وفرنسا ، واستمر التدفق في العقد الذي يليه ، وكانت تلك الهجرات قادمة من شبه الجزيرة الهندية ، ومن منطقة المحيط الكاريبي بالدرجة الأولى ، والمهاجرون العرب والشرق أوسطيون لا يمثلون حتى الآن إلا نسبة ضئيلة لا تتجاوز 6% من المجموع الكلي للمهاجرين من المسلمين وغير المسلمين .
(ب ) أما الاختلاف المميز للتجربة البريطانية فيكمن في سياسة التعددية الثقافية التي تبنتها بريطانيا ، بأن تركت الجاليات الإثنية على حالها الثقافي من دون تدخل ، أو محاولة إلغاء خصوصيتها الدينية والثقافية ، ولم يكن هاجس الدمج وجعل المهاجرين مواطنين بريطانيين سياسة تطبق على المهاجرين . بل صيغت العلاقة معهم في إطار الحقوق القانونية والواجبات تجاه الوطن ، ومنح من رغب في المواطنة الحق حسب القانون .
غير أن السؤال المطروح على القادة والساسة بعد تفجيرات مترو الأنفاق هو : هل فشلت التعددية الثقافية في منع التطرف من الظهور في أوساط الجاليات المسلمة عندما تركت دون تدخل من السلطات والساسة ؟!
( وهناك مشكلة كبرى - خاصةً في البلاد التي فيها جاليات كبيرة مثل فرنسا وألمانيا(1) - ؛ وتتجسد هذه المشكلة في تمثيل المسلمين ، بالاتفاق على مؤسسة تتحدث باسم الجميع مع الدولة من جهة ، وتهتم بمصالح المسلمين جميعاً واتخاذ الأسباب والوسائل للدفاع عن قضاياهم والبحث عن حلول لمشكلاتهم من جهة أخرى ، ولقد نتج عن وجود هذه المشكلة تشتيت لكثير من الجهود والانصراف إلى أعمال لا تنفع ، وقد تضر في بعض الأحيان ، ومن ذلك ما يأتي :
(
__________
(1) المرجع السابق ، ص 3 من 3 .(1/34)
أ ) التنافس داخل الجالية الواحدة مثل الأتراك أو العرب أو الأفغان على من الذي له حق التمثيل ، وعادة ما يكون التنافس بين مؤسسات رسمية أو شبه رسمية لحساب حكومة بلد الجالية أو حكومة البلد الأوروبي بنية العمل على اندماج الجالية وفق نظرية » إسلام أوروبي « يبتعد عن الإسلام الذي أنزله الله عزَّ وجلَّ في القرآن الكريم وصحيح السنة المطهرة ؛ وفي المقابل توجد مؤسسات أخرى أهلية ترفض النمط السابق للاندماج ، وتعمل على نوع آخرمن الاندماج يتمتع فيه المسلم بتطبيقه للإسلام كما أُنزل فهو يحافظ على هويته الإسلامية ، مع التأهل لقيامه بدوره في المجتمع الذي يعيش فيه بوصفه مواطناً صالحاً وهي الصورة التي تحققت في مجتمع المدينة المنورة بعد الهجرة إليها في أول الأمر ، والصورة التي طبقها المهاجرون الأوائل في الحبشة أيام النجاشي ، وكذلك هي الصورة التي عاشها التجار المسلمون حين وصلوا إلى جنوب شرق آسيا .
(ب ) والمشكلة الثانية تتمثل في أن أوروبا فصلت الدين عن الدولة ؛ فكيف تسمح لمؤسسات دينية تمثل المسلمين بأن تتحاور مع المسؤولين السياسيين ، حيث لا يعرف حتى الآن على وجه الدقة : كيف تتعامل الدول الأوروبية مع مؤسسات إسلامية قائمة على أساس ديني وتمثل جاليات إثنية ، في الوقت الذي لا يمكن لهذه الحكومات أن تغض النظر عن هذه المؤسسات الموجودة في الغرب وتمثل الجالية الإسلامية ، وتتعامل مع حكومات الدول التي جاءت منها هذه الجاليات ، ويتعقد الأمر كلما ازدادت أعداد المسلمين الذين يتجنسون ويحملون جنسية البلد الأوروبي وتنقطع صلتهم بالبلد الأصلي !!
((1/35)
هناك دراسة أجرتها السيدة » كاميلي حامدي (1)« ، أثبتت من خلالها أن عدداً من المؤسسات الإسلامية في الغرب » غير ديمقراطية « من الداخل ، ولا تشجع على ثقافة التعددية ، ولذلك فهي مؤسسات - كما تزعم الدراسة - تساعد على ترسيخ الانعزال وعدم الاندماج في المجتمعات الأوروبية .
ومن كل ما سبقت الإشارة إليه من خلال تحليل الواقع واستخلاص النتائج وتحديد المشكلات ، طرحت السيدة « ريفا كاسوريانو »(2) سؤالاً اعتبرته مهماً وملحاً ، وقد صاغته على النحو الآتي : « كيف يمكن للإسلام - بأيديولوجيته - واثنياته ، وتقسيماته الوطنية أن يندرج وينخرط في الإطار المؤسسي للدولة ، في فرنسا وألمانيا من ناحية ؟ وأن يندرج في المجتمعات الغربية والذهنيات السائدة من ناحية أخرى ؟ » .
ولكنني أقول بأن لكل مسلم أن يطرح سؤالاً ملحاً ومهماً ، بل هو السؤال المركزي : ما الذي يمنع من أن يحتفظ المسلم بهويته الإسلامية في بلاد الغرب كما يحتفظ كل غربي بهويته حينما يذهب ليقيم في دولة من الدول الإسلامية ، بل وكما عاش النصارى واليهود في دولة الإسلام في الأندلس لقرون ؟ ولماذا لا يريد الساسة ورجال الكنيسة في الغرب أن يعترفوا للمسلمين بهويتهم الدينية ؟ إذ أنني أعتقد أنه إذا تمّ الاعتراف للمسلمين بهويتهم وخصوصيتهم فإنهم قادرون على الاندماج في المجتمعات الغربية .
وأمر آخر مهم وتجدر الإشارة إليه وهو إذا انتهى احتلال واستعمار الغرب لعدد من البلاد الإسلامية والتوقف عن نهب الثروات واستغلال الشعوب فإن ذلك ستكون له آثاره الإيجابية على وجود المسلمين في الغرب .
ثانياً : غاية الدعوة وإقرار أسس تحقيق المواطنة الإيجابية ...
... أعتقد أن تحقيق المواطنة الإيجابية يتوقف على أمرين هامين وهما :
... الأول : تحديد غاية الدعوة في الغرب وإقناع المسلمين بهذه الغاية .
__________
(1) المرجع السابق ، ص 3 من 3 .
(2) المرجع السابق ص 3 من 3 .(1/36)
... الثاني : وضع الأسس اللازمة لتحقيق المواطنة .
وسأقوم بإيجاز هذين الأمرين على النحو الآتي :
1- غاية الدعوة بين الجاليات المسلمة في الغرب كما حددها الإسلام هي :
دعوة المسلمين إلى فهم العقيدة الإسلامية ، ونشرها بين الأجيال ، وتزويد الأطفال والشباب بالمثل الإسلامية العليا وتعاليم الإسلام كما أنزله الله تعالى في القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة ؛ واكتساب كل مسلم عن طريق التربية المعارف والمهارات المختلفة ، والعمل على تنمية الاتجاهات السلوكية الفاضلة ، والمساهمة في تطوير المجتمع الذي يعيش فيه المسلم اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً ، وتهيئة كل مسلم ليكون عضواً نافعاً في بناء المجتمع الذي يعيش فيه .
2- الأسس التي تحكم تحقيق المواطنة الإيجابية
ينبغي أن يربى المسلم في البيت والمسجد والمدرسة العربية أو الإسلامية إن وجدت على عدد من الأسس والمبادئ ذات الأثر في حياة المسلم في الدنيا ، والتي لها تأثير إيجابي على حياة المسلم في الدار الآخرة ، وهذه نوجزها فيما يأتي :
(1) الإيمان بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً ، فهذه سيسأل عنها كل مسلم بعد الموت في قبره .
(2) التصور الإسلامي الكامل للكون والإنسان والحياة ضروري ، وعلاقة ذلك بالخالق سبحانه ، فالوجود كله خاضع لله تعالى الخالق ، وهذا أساس ليقوم كل مخلوق بوظيفته دون خلل أو اضطراب ، فكل ميسر لما خلق له .
(3) الحياة الدنيا - أينما كان الإنسان - هي مرحلة العمل والإنتاج ، فعلى المسلم أن يستثمر فيها طاقاته عن إيمان ويقين ، فاليوم عمل ولا حساب ، وغداً حساب ولا عمل .
(4) الرسالة الإسلامية التي بلغها خاتم الأنبياء والمرسلين هي المنهج الأقوم للحياة الفاضلة ، التي تتحقق بها السعادة في الدنيا والآخرة .
((1/37)
5) على المسلم - وخاصة الذي يعيش في الغرب - أن يستفيد من جميع المعارف الإنسانية النافعة للفرد والأسرة والمجتمع ، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أولى الناس بها .
(6) التفاعل البصير والواعي مع التطورات الحضارية العالمية في ميادين العلوم المختلفة والثقافة والآداب ، بتتبعها ، والمشاركة فيها ما أمكن وتوجيهها إن كان الإنسان من أهل الموهبة والاختصاص ، بما يعود على المجتمع الذي يعيش فيه والإنسانية إن أمكن بالخير والنفع والتقدم .
(7) الثقة الكاملة بالأمة الإسلامية ، والإيمان بوحدتها على اختلاف أجناسها وألوانها وتباين وجود أبنائها مصداق قول الله تعالى : { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 92 ] .
(8) الاستفادة من المؤسسات الإسلامية الموجودة في أوروبا ككل ، وفي كل قطر أوروبي ، وحتى التي توجد خارج أوروبا ما أمكن في تحقيق :
i. التعاون في القواسم المشتركة تنفيذاً لقول الله عزَّ وجلَّ :
{ ... وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ... } [ المائدة : 2 ] .
ii. موالاة المسلمين بعضهم بعضاً ، ونصرة بعضهم بعضاً وفقاً لتعاليم الإسلام .
iii. التكامل والتضامن في ميادين النقص والحاجة ، ووفق جدول أولويات .
iv. التناصح والتشاور وتمحيص الرأي الاجتهادي للوصول إلى ما هو أرضى لله تعالى .
(9) الاستفادة من القوى الإسلامية خارج الحدود عن طريق :
i. توطيد العلاقات مع أصحاب الخبرات ، والاستفادة من الوسائل التي يضعها العصر تحت الأيدي ، فقد أصبحنا نعيش في عالم تلاشت فيه الحدود والمسافات وبالتالي تسهل الاستفادة من الخبرات المفقودة في مكان إذا كانت متوفرة في مكان آخر .
ii. تكامل الإمكانات التي تتوفر في عدد من البلاد ويسهل الاستفادة منها .
الفصل الثالث
الأنشطة التعليمية والبيئة وأثر ذلك على الاندماج(1/38)
... لكل أمة مؤسساتها وأجهزتها التي تسخرها لاستقطاب الشباب والتأثير عليهم ، ولها وسائلها التي تستخدمها في غرس المبادئ والاتجاهات التي تعمل على تعميق الإيمان بالنظرية أو « الأيديولوجية » التي تتبعها البلد ، ففي غرب أوروبا نجد هذه المؤسسات الموجودة في ألمانيا الاتحادية وبرلين الغربية مثلاً تختلف عنها في فرنسا وانجلترا والدانمارك وبلجيكا وهولندا .. إلخ .
ولا شك أن هذه المؤسسات لها تأثيرها على المسلمين الذين يعيشون في هذه البلاد ، وينعكس ذلك على كل مؤسسات توجيه وإعداد وتربية الشباب من المسلمين ، وسوف أوجز في هذا الفصل بعض النماذج في خطوط عامة مشتركة ، إذ أن دراسة الأوضاع بالدقة والتحليل يحتاج إلى دراسات ميدانية متخصصة أسأل الله تعالى أن تنال هذه الدراسات من الإخوة العاملين الاهتمام في المستقبل القريب .
أولاً : دور التعليم في تنشئة أبناء المسلمين واندماجهم
للتعليم آثاره البعيدة المدى في تربية الأجيال وإعدادها ، وللتدليل على ذلك أسوق المثال الآتي : إنسان يتعلم السباحة في مستنقع ماء فيه من الجراثيم والميكروبات غير قليل ، لا شك أن هذا الإنسان سيتعلم السباحة ، ولكن الجسم سيصاب بالعديد من الأمراض ؛ وهكذا التعليم في مؤسسات الغرب أو وفق مناهج الغرب ، سيتعلم الشاب معارف معينة ولكنه سيصاب في أخلاقه وسلوكه وعقيدته ، بما يجعله ينحرف عن الإسلام .
والجدير بالذكر أن اللوم لا يوجه إلى القائمين على هذه المؤسسات فهؤلاء إما نصارى أو يهود ، ولكن اللوم يوجه إلى من أنعم الله عليهم بنعمة الإيمان ولكنهم لم يحافظوا عليها ؛ وسوف أوجز فيما يلي ما يصنع مع الأطفال منذ نعومة أظفارهم ، مع الإشارة إلى ما يخطط لتذويب أبناء المسلمين في الغرب :
1- تربية وتعليم أبناء المسلمين في الغرب(1/39)
تبدأ المدارس الإبتدائية في الغرب عند أعمار مختلفة للأطفال ، ففي البلاد الإسكندنافية تبدأ عند سن السابعة وفي معظم بلاد أوروبا تبدأ عند السادسة وفي بريطانيا تبدأ عند الخامسة ، فإذا كانت عملية إعداد الطفل للمدارس الإبتدائية تبدأ من سن ثلاث سنوات ، فإن فترة ما قبل المدرسة تكون من 3 إلى 5 في بلد مثل بريطانيا ، ومن 3 إلى 7 في دول الشمال من أوروبا ، وباقي دول أوروبا من 3 إلى 6 سنوات .
وخلال هذه الفترة يتعرض أبناء المسلمين لأنظمة مختلفة من الإعداد للمدارس الإبتدائية ، فضلاً عن برامج تربوية هي في أفضل الأحوال معادية للإسلام ، ودون التفصيل في معالجة هذه الأنظمة ، يمكن لفت النظر إلى عبارات لها مضمونها في تشكيل وصياغة عقلية الطفل ونفسيته ، وهي مسميات لمؤسسات مثل : عبارة Créches أي روضة الحضانة ، حيث يكون الهدف هو رعاية الأطفال في غياب أمهاتهم في العمل ؛ وعبارة Kindergarten أي روضة الأطفال ، أو Play-groups مجموعات اللعب ، حيث يكون الهدف مجرد تطبيع الأطفال اجتماعياً وتطوير قدراتهم الحسّية والحركية من خلال اللعب ، وعبارة Vorschulkindergarten أو Nursery School أي مدرسة الحضانة الإعدادية ، حيث يكون الهدف خاصاً بإعداد الأطفال لدخول المرحلة الإبتدائية الإلزامية ، وهذه تشمل تطوير القدرات اللغوية والحسابية .
وليس الهدف هنا الحديث عن مضمون هذه العبارات وعن الخلفية التربوية لهذه المؤسسات ، فهي جميعاً تصدر عن النظام الغربي ، الذي هو في أفضل الأحوال لا يحترم الإسلام ولا يُقَدِّر أهله ، ولكنني ألفت نظر القائمين على تربية أطفال المسلمين إلى خطورة هذه المؤسسات وعدم التفرقة بين واحدة وأخرى .. فقد شهد شاهد من أهلها فقال :
«(1/40)
هناك بعض التداخل بين رياض الحضانة Créches ورياض الأطفال Kindergarten ، كما أن حدود الفصل بين رياض الأطفال ومدارس الحضانة Nursery School تزداد التباسا . وبالفعل فإن واحداً من الاتجاهات المشتركة التي سوف نجدها عبرت عنها فنلندا في ورقة العمل التي قدمتها إلى الحلقة الدراسية لمجلس أوروبا عام 1971م بالكلمات الآتية : لقد تحولت رياض الأطفال إلى ما يشبه مدارس الحضانة »(1) .
2- التوسع في التربية والتعليم خارج البيت
قدمت دراسات في أوروبا حول هذا الموضوع تبين منها ما يأتي(2) :
(1) الاتجاه العام في أوروبا نحو تعميم مدرسة الحضانة كجزء أساسي من الخبرة التربوية لكافة الأطفال .
(2) يعاني أطفال المناطق الريفية في أوروبا ، وأحياناً الأطفال الذين يعيشون بالقرب من مراكز المدن الكبيرة ، من عدم تكافؤ الفرص التعليمية خلال فترة ما قبل المدرسة .
(3) مجموعات كبيرة من الأطفال من طبقات اجتماعية معينة وخاصة فقراء الريف والمدن ، تحتاج إلى تربية تعويضية في مدارس الحضانة ، إذا أريد لهم - في عملية توازن التربية بين المنزل والمدرسة خلال فترة حياة الطفل المبكرة - ألاّ يعوّقوا بصورة أساسية في تقدمهم عبر النظام التعليمي .
(4) ظهر من التجربة الأوروبية أنه ، حيث تترك تربية ما قبل المدرسة للهيئات الخاصة ، وتُموّل إلى حدٍّ كبير عن طريق دفع الرسوم ، فإن الأطفال الذين هم بأمسّ الحاجة إلى هذه التربية يندر أن يحصلوا عليها .
(
__________
(1) الأستاذان بيترسون وهولز ، تعليم الناشئة في أوروبا ، ترجمة حسن جميل طه ، ومراجعة يوسف عبد المعطي ، دار
البحوث العلمية ، الكويت 1976م ، ص 30 .
(2) المرجع السابق ، من ص 31 إلى 38 .(1/41)
5) في دراسة تقويمية جرت في أمريكا عام 1969م على أطفال سن الخامسة من المحرومين وغير المحرومين اقتصادياً ، وُجدت فروق ذات دلالة في درجات المفردات والمهارات الحركية البصرية واليدوية التي تعتبر مهمة بشكل خاص للنجاح في المدرسة الإبتدائية .
(6) الحاجة إلى سلسلة غير متقطعة يمكن من خلالها إزالة التوتر بين الحاجة إلى التعليم لأغراض التوجيه الفكري في فترة ما قبل المدرسة من جهة ، وبين حاجة الأطفال إلى الابتكار والتوجيه الذاتي واللعب من جهة أخرى ، وذلك عن طريق تقديم التوجيه الفكري في إطار يتركز حول اللعب في مرحلة مبكرة ، ومدّ نشاطات الابتكار والتوجيه الذاتي واللعب لفترة أطول في حياة الطفل الدراسية .
(7) إن الاتجاه العام في جميع البلدان الأوروبية - مع تفاوتها في بروز هذا الاتجاه وفي انطلاقها من نقاط بداية مختلفة - هو نحو التوسع في تعميم التعليم على الأقل لأطفال سن الرابعة أو الخامسة ، مع تكامل أوثق بين تربية ما قبل المدرسة وبين التعليم الإبتدائي المعمم والموجود أصلاً ، في مجالات : طرق التعليم والأهداف ، وفي تدريب المعلمين وأوضاعهم ، وفي الوضع القانوني للمدارس . وفي إطار عملية التكامل هذه ، فإن لمدرسة الحضانة من التأثير في الطبيعة المتغيرة للمدرسة الإبتدائية ما للمدرسة الإبتدائية من تأثير في مدرسة الحضانة .
((1/42)
8) أما عن ارتباط الوالدين بتربية وتعليم أطفالهم ، فإن كثيراً من الدراسات عن المحرومين الذين يطالب المربّون من أجلهم بتربية تعويضية فيما قبل المدرسة ، قد كشفت عن الدور الذي تلعبه ( الأسرة المُعلِّمة ) . ويبدو بصورة خاصة أن هناك عدداً من التجارب ، تتفاوت في مدى نجاحها ، تجري في الولايات المتحدة وبريطانيا على برامج تعويضية ، شاركت فيها الأمهات عن طريق تعليمهنّ أنسب الطرق في تربية أطفالهن فيما قبل المدرسة . حتى أنه أُقترحَ بالنسبة لمراكز المدن حيث ترتفع تكاليف الأبنية المخصصة لتربية ما قبل المدرسة ، أنه ربما كان من الأرخص تدريب الأمهات ودفع الأجور لهنّ لتعليم أطفالهن في المنازل ، بدلاً من إنشاء مدارس حضانة رسمية ..
3- إخفاق كثير من أبناء المسلمين في التعليم
بمراجعة الإحصاءات التي تنشر في بعض بلاد أوروبا عن أوضاع أبناء المسلمين التعليمية وباستقراء الواقع يتبين : الفشل النهائي في الدراسة ، أو التخلف بشكل واضح ، أو الاتجاه نحو التعليم قصير الأمد والذي لا يحتاج إلى إتقان اللغة الأوروبية بشكل خاص ، وفيما يلي بعض الإحصاءات التي تبين هذا المشار إليه بوضوح(1) :
(1) إحصائية تبين ارتفاع نسبة تأخر التلاميذ الأجانب بصفة عامة والمسلمين بصفة خاصة :
الجنسية ... ... ... ... المعدل المئوي
الأجانب عموماً ... ... ... %40,58
منها : الإيطاليون ... ... ... %35,11
... الأسبان ... ... ... %33,11 ...
... البرتغال ... ... ... %34,09 ... ...
... الأتراك ... ... ... %57,57
... المغاربة ( شمال أفريقيا ) ... %49,16
(2) نسبة أطفال المسلمين ( من الأتراك والمغاربة ) الذين دون الخامسة من العمر سنة 1985م في مدينة بروكسل تصل إلى %44 ، وتنخفض هذه النسبة إلى %17 إذا أخذنا الأطفال والشباب دون سن الخامسة والعشرين ، ومن ذلك يتبين ارتفاع نسبة المواليد من أطفال المسلمين .
(
__________
(1) راجع أ- Source: Ministére de l´Education Nationale (1980-81)
ب- Source: Etudes et documents No 8 (1985)(1/43)
3) نسبة الأطفال الذين لم يسجلوا في روضة الأطفال من المسلمين هي : %8,5 من المغاربة و %19,5 من الأتراك ، ونسبة الذين سجلوا واجتازوا المرحلة بالكامل من المسلمين وغيرهم هي :
الجنسية ... ... الذين أتموا مرحلة الحضانة ... نسبة الذين لم يتموا
البلجيك
والإسبان ... ... ... %75 ... ... ... %25
والإيطاليين ... ...
المغاربة ... ... ... %60 ... ... ... %40 ...
الأتراك ... ... ... %42 %58
... ومن ذلك يتبين أن نسبة الذين لم يتموا مرحلة الحضانة في روضة الأطفال
مرتفعة بين أطفال المسلمين وخاصة الأتراك حيث تزيد عن النصف ب %8 .
(4) نسبة الرسوب في السنة الأولى في المدارس الإبتدائية سنة 1985م هي : %25 من الأتراك و %21,6 من المغاربة ، بينما تنخفض إلى %14 بين أطفال الأجانب الأسبان والإيطاليين .
(5) كان توزع التلاميذ على المدارس في الثانوي العام والمهني والتقني سنة 1985م على النحو الآتي :
الجنسية ... الثانوي العام الثانوي المهني ... الثانوي التقني
المغاربة ... ... %36,7 ... ... %28,4 ... ... %31,5
الأتراك ... ... %25,5 ... ... %37,8 ... ... %35,4
البلجيك ... ... %54,6 ... ... %15,6 ... ... %26,6
ومن هذا التوزيع يتبين :
(توجه أطفال المسلمين نحو التعليم قصير الأمد ، الذي لا يحتاج إلى اللغة الأوروبية بدرجة
كبيرة من ناحية ، والذي لا يعتمد على التفكير وإنما يعتمد على قوة الجسم من ناحية أخرى ..
? النظرة قصيرة الأمد وعدم التفكير في المستقبل البعيد .
وبتأمل الإحصاءات السابقة جميعاً يتبين لنا ما يأتي :
( الفشل الظاهر سواء كان كلياً بالتخلف عن الدراسة أو جزئياً بالاكتفاء بالمستوى الأقل من التعليم ، فمن النادر أن يصل أبناء المسلمين الذين ولدوا في أوروبا إلى نهاية التعليم الجامعي .
( إذا نظرنا إلى ازدياد عدد المواليد من أبناء المسلمين لتجلى لنا توفر الفرصة الطيبة ، إذا وُجِدَت العناية والرعاية والتوجيه الإسلامي السديد .(1/44)
وأما إذا سألنا عن أسباب هذه المشكلات ، إذا كانت هناك الرغبة في اتخاذ الأسباب والوسائل للعلاج ، فيمكن إيجاز هذه الأسباب فيما يأتي :
- عدم استقرار الأسرة التي ترجع إلى : التفكير المتأرجح بين البقاء أو العودة ، ضعف الدخل وخاصة بين العمال ، الشعور بالغربة ، ظروف السكن غير المريح ..
- مواقف الرفض من الأوروبيين للمسلمين في كل مكان ( في المدرسة ، الشارع ، المؤسسات الاجتماعية الأخرى .. ) .
- عدم التمكن من اللغات الأوروبية والمعرفة السطحية بثقافة البلاد ..
- اهتمام المدرسين بالتلاميذ المتفوقين .
4- عدم التمكن من لغة الأمّ ولغة القرآن
بالرغم من أن مدارس الحضانة الفرنسية تقوم بتجارب لإدخال الخبرات الأولية للغة الأجنبية في هذه المرحلة ، على أساس أنه يسهل على الأطفال في هذه السن أن يسمعوا ويلفظوا الأصوات التي لا وجود لها في لغتهم الأم(1) . فإن أبناء المسلمين لا يتقنون لغة الأم ولغة القرآن الكريم ، ولم تبدأ محاولات تعليم اللغة العربية إلا مؤخراً ، فضلاً عن أنها محاولات جدّ متواضعة(2) .
__________
(1) المرجع الأسبق ص 34 .
(2) راجع محاضرة الأستاذ الدكتور محمد الهواري في المؤتمر الثالث عشر للمركز الإسلامي في آخن ( مسجد بلال )
واتحاد الطلبة المسلمين في أوروبا لعام 1988م .(1/45)
وتجدر الإشارة إلى أن الاتفاقات التي تمت بين بلاد أوروبا والبلاد الإسلامية لتنظيم علاقة التعامل مع العمال المهاجرين ، لم يرد فيها نص يتعلق بتعليم أبنائهم لغة الأمّ ولغة القرآن ، حيث أن منظمة العمل الدولية لم تعالج هذه القضية في اتفاقاتها الأولى ، على سبيل المثال : { فإن الاتفاق رقم 97 الذي وقعت مراجعته في عام 1949م ، والمتعلق بالعمال المهاجرين لم ينص على عدالة المعاملة بين المواطنين الأصليين والمهاجرين . لذلك وجب انتظار ظهور الاتفاق رقم 143 لعام 1975م ، الذي ينص في بنده الثاني عشر على أنه : « يجب على الدول التي تقر بهذا الاتفاق أن تفعل كل شيء لإعادة تشجيع جهود العمال المهاجرين وعائلاتهم من أجل المحافظة على هويتهم الوطنية والأخلاقية ، وكذلك روابطهم الثقافية مع بلدهم الأصلي ، وتمكين الأطفال من تعلم اللغة الأمّ(1) » } .
ومما يستلفت النظر انتقاء الكلمات التي يشم منها روح العداء للدين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم !!
وعموماً يمكن القول بأن السبب في عدم تمكن أطفال المسلمين من تعلم اللغة العربية يرجع إلى :
(1) لم تهتم بلاد المسلمين إلا مؤخراً بهذه القضية ، وحتى الاهتمام الذي وجد مؤخراً ليس بالمستوى الكافي ..
(2) عدم توفر المدرسين المؤهلين والمناهج الدراسية المناسبة .
(
__________
(1) راجع المجلة العربية للتربية ، المنظمة العربية للتربية والثقافة . ج7 العدد الثاني - سبتمبر 1978م مشاكل وقضايا تعليم
المهاجرين العرب في أوروبا ، مع التركيز على فرنسا ، ص 83 ، نقلاً عن عبد الله بودهرين . « الوضع التشريعي لتعليم
اللغة العربية لأبناء العمال المهاجرين » ندوة تعليم أبناء العمال المهاجرين في أوروبا ، يناير سنة 1983م .(1/46)
3) عجز المراكز والروابط والمنظمات الإسلامية الموجودة في بلاد الغرب عن القيام بدورها في هذا الميدان على المستوى المطلوب ، وذلك لعدم توفر الإمكانات المادية والبشرية فضلاً عن عدم توفر المناهج الدراسية إلى حدٍّ كبير .
(4) عدم قدرة الوالدين على تقديم شيء في هذا الميدان لأطفالهم ، حيث أثبتت الإحصاءات أن حوالي 80% من هؤلاء الآباء غير متعلم ، وكما يقال : « فاقد الشيء لا يعطيه » ؛ هذا عندما يتوفر الوقت عند الوالدين أو أحدهما ، فما بالك إذا لم يكن الوقت متوفرا !!
(5) كما أن كثيراً من المشكلات الاجتماعية الاخرى – والتي سنشير إليها فيما بعد – تضغط على الأبناء نفسياً واجتماعياً بما يجعلهم يرفضون اللغة العربية .
ثانياً : البيئة الأوروبية وآثارها في الاندماج
نظراً لأن أهم المشكلات التي ظهرت في أوروبا بالنسبة لأبناء المسلمين من الجيل الثاني والثالث هي : عدم الاندماج الكامل وبالصورة التي تحقق أهداف الغرب تماماً ، فقد بذلت جهود لمعرفة أسباب ذلك ، ثم بذلت جهود أخرى لتذليل العقبات ابتغاء الوصول إلى الهدف .
وليس معنى أن الأطفال لا يندمجون اندماجاً كاملاً في المجتمعات الغربية ، أنهم جميعاً يحافظون على شخصيتهم الإسلامية ، فهم في الحقيقة مثل الذي ينزل منزلة بين المنزلتين ، وحتى هذا الوضع له آثاره السلبية في المستقبل إن استمر على ما هو عليه ، فهؤلاء الشباب الذين ينشؤون على هذا الأساس يقضون حياتهم غرباء ، فهم غرباء إذا عادوا إلى مجتمعاتهم الأصلية ، وهم غرباء في المجتمعات الأوروبية التي يعيشون فيها حتى ولو حصلوا على الجنسية الأوروبية ..(1/47)
ومما يستلفت الانتباه أن الجهود التي تبذل من جانب الأوروبيين ، أكثر تأثيراً من الجهود التي تبذل من جانب الجاليات الإسلامية ، ففي دراسة من قبل لجنة متخصصة تابعة لإدارة مدينة كولونيا - في ألمانيا الاتحادية - بعنوان : « نصائح تربوية للأطفال الأتراك ذوي الاضطرابات السلوكية » ، تبين الجهد الكبير المبذول على مدى ثلاث سنوات(1) .
ومما جاء في هذه الدراسة ما يأتي : « أخذت المشكلة المسماة باندماج العمال الأجانب وعائلاتهم وأولادهم مجالاً كبيراً ، وبشكل خاص الجيل الثاني ، وانتشر الحديث عنها كثيراً منذ منتصف الستينات .. فبينما نجد التفكير عند الجيل القديم ( الآباء ) في العودة إلى الوطن الأم يوماً ما ؛ نجد أن الجيل الثاني لا يفكر هذا التفكير ، وإنما يخططون غالباً للبقاء في ألمانيا ، وفي هذه الحالة لا بدّ لهم من وظيفة مناسبة ، واندماج اجتماعي منسجم ، يمكن من التغلب على العقبات النفسية والمرضية التي تنشأ عن الشعور بالغربة .. » .
ومن أجل برنامج شامل قابل للتطبيق ، يهدف إلى دمج أبناء الأجانب في المجتمع الألماني ، قامت مدينة كولونيا بتجربة نموذجية لإعطاء « نصائح تربوية من أجل أولاد الأتراك ذوي الاضطرابات السلوكية » واستمرت هذه التجربة ثلاث سنوات من 01/01/1979م إلى 31/12/1981م .
وقد وردت البيانات التالية في تقرير عن هذه التجربة :
«
__________
(1) - Landesinstitut für Schule und Weiterbildung NRW, Integration der turkischen Schul- Kinder, eine Studie von 01.01.1979 bis 31.12.1981.(1/48)
في سنة 1977م كان يعيش في مدينة كولونيا 48.000 نسمة يحملون الجنسية التركية ، ثم ارتفع هذا العدد في سنة 1981م إلى 66.000 نسمة وكان عدد الأطفال والشباب الكلي في مدينة كولونيا سنة 1981م هو 153.000 فرد ، من بينهم 29.000 طفل وشاب أتراك أي أن نسبة الأطفال الأتراك إلى عدد الأطفال الكلي في كولونيا يقترب من 20% » ، فإذا أضفنا إلى هذه النسبة ما يمثله أبناء المسلمين من الجنسيات الأخرى غير التركية لربما ارتفعت النسبة إلى أكثر من 30% .
تجدر الملاحظة هنا أن مدينة كولونيا نفسها ساعدت عدداً من النساء المسلمات على تكوين مؤسسة بعنوان : ( مركز النساء المسلمات للتقابل ومتابعة التكوين - رابطة مسجلة Begegnungs-und Fortbilungszentrum muslimisher Frauen e.V. ) ؛ والهدف الأساسي لهذا المركز هو إدماج الفتيات المسلمات في المجتمع الأوروبي ، وبمناسبة مرور عشر سنوات على وجود هذا المركز صدر كتيب في نهاية 2006م حول الأنشطة التي تمت خلال هذه الفترة ، وكان من بين هذه الأنشطة » محاولة الحصول على شهادة متوسطة للفتيات اللاتي توقفن عن الدراسة قبل الحصول على هذه الشهادة المتوسطة « ، وبناء على تطبيق هذا المشروع من سنة 2003م إلى 2006م كانت النتيجة على النحو الآتي(1) :
... ( ... 38% من المتقدمات حصلن على الشهادة التي تمكنهن من المتابعة .
... ( ... 13% تأهلن بشهادة تمكنهم من العمل .
... ( ... 10% فضلن العمل على إتمام هذه الدراسة .
... ( ... 45% لم يبقين في الدراسة لأسباب مختلفة مثل الزواج أو الرحيل من كولونيا
أو لأسباب خاصة وانقطعن .
... ( ... 35% فضلن متابعة الدراسة المهنية .
__________
(1) - Begegnungs- und Fortbildungszentrum muslimischer Frauen e.V., Liebig-Str. 120b, 50823 K?ln, Seite 14.(1/49)
أما في فرنسا : ففي ندوة حول تجربة تربوية ثقافية في يونيو سنة 1982م(1) : « أكّد السيد جون بباكوستا - مدير ديوان وزير التربية القومية في فرنسا آنذاك - على أن حضور الأطفال الأجانب إلى جانب الأطفال المواطنين لا يمكن اعتباره ظاهرة هامشية محدودة ، وإن كان أولئك الأطفال يحملون قيماً مخالفة للثقافة الفرنسية ، بل يجب على المجتمع الفرنسي أن يأخذ بعين الاعتبار هذا الاختلاف الذي يمثلونه » .
ولا شك أن هذا الكلام الذي أعلن في ذلك الحين قد سبقته مقدمات وتدابير ، ومن هذه التدابير على سبيل المثال : « قد تمّ فيما بين عامي 1975م و1982م إنشاء أربعة عشر مركزاً للتكوين والإعلام ، بهدف العناية بتدريس أبناء المهاجرين والمساهمة في التكوين الأولي ( أي الإعداد الأصلي ) الجديد للمعلمين »(2) .
وقد اهتمت وزارة التربية القومية الفرنسية بتحسين قدرة النظام التربوي على الاستجابة لمشكلات الأطفال المغتربين ، وذلك لإدماجهم في المجتمع الفرنسي وتعليمهم تعليماً متساوياً مع الأطفال الفرنسيين ، فقد أشار السيد آلان سافري - وزير سابق للتربية في فرنسا - في خطاب ألقاه بمناسبة افتتاح ندوة ستراسبورج - معايشة التعددية اللغوية الأوروبية - إلى ضرورة تعلم الأجانب في الغرب فقال : « إن الأطفال المغتربين يحتاجون بلا شك إلى تعلم لغة البلد الذي يقيمون فيه ، ويجب على الأنظمة التربوية أن تمد لهم لهذا الغرض كل مساعدة مطلوبة ، ولكن في الوقت نفسه يريد هؤلاء المغتربون الحفاظ على ارتباطهم اللغوي والثقافي الأصلي وتطويره ، فالأمر يتعلق إذن بهويتهم وبتاريخهم وبتراثهم »(3) .
__________
(1) مجلة « المجلة » العدد 530 بتاريخ 10/04/1990م ، تحقيق صحفي بعنوان : « الحرب العنصرية في فرنسا » .
(2) المرجع السابق .
(3) المرجع السابق .(1/50)
نعم أخي المسلم ، إن البلاد الأوروبية تتخذ الأسباب والوسائل لتذويب أبناء المسلمين ودمجهم في المجتمع الأوروبي وفي ذات الوقت لا تتخذ الأسباب لتعليمهم الإسلام ولغة القرآن! ، فمن لهؤلاء يربيهم على الإسلام ويحافظ على تنشئتهم تنشئة صالحة تحقق لهم الخير والسعادة في الدنيا والآخرة ؟! .
الفصل الرابع
أثر البيئة المحيطة بأبناء المسلمين ومعالجة الاندماج
أولاً : تأثير البيئة المحيطة على علاقات أبناء المسلمين
... لا شك أن لكل من البيئة الثقافية والاجتماعية التي يعيشها الشاب ويتفاعل معها تأثيرها الكبير في ثقافته وسلوكه ، فالثقافة ليست حشداً للمعلومات فقط ، وإنما هي تفاعل بين الإنسان وما يؤمن به ، وهي التي توجه وتنمي الفكر وطريقة التفكير ، وبالتالي تظهر آثار ذلك في السلوك واتخاذ المواقف .. ولقد لفتنا الله تعالى إلى ذلك في كتابه الكريم فقال سبحانه : { ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] ، فالمتقون هم الذين ينتفعون بالقرآن الكريم . وقال عزَّ وجلَّ في موضع آخر : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ البقرة : 6 ] فمن انقعد قلبه وعقله على الكفر لا تنفعه النصيحة ولا الموعظة ولا التذكير ..
وعليه فقد تصادف إنساناً لديه معارف متعددة وربما يحفظ كثيراً من آيات القرآن الكريم ويحفظ من أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولكن سلوكه الاجتماعي غير مقبول ونظرته للناس مرفوضة ، واتخاذه للمواقف مبني على حب الذات والأنانية ..
وتطبيقاً لذلك أقول : إن كثيراً من المستشرقين درسوا الإسلام ، لا للانتفاع به وتبين الحق والتزامه ، وإنما درسوه في كثير من الأحيان للطعن فيه والتشكيك والدسّ فهل من معتبر ؟(1/51)
وسأتعرض فيما يلي لبعض الظواهر التي تعكس وجود مشكلات تحول دون تحقيق الشباب المسلمين لأهدافهم في بلاد الغرب ، ومن أهم هذه المظاهر ما يأتي :
1- عدم التوازن الفردي والاجتماعي عند الأجانب ، والذي يؤدي في النهاية إلى جنوح كثير منهم ، فقد نشرت صحيفة « اللوموند » بتاريخ 19/12/1985م أن : « عدد الذين اعتقلوا من الأجانب في فرنسا عام 1984م هو 23.584 شخصاً منهم %77,8 من شمال أفريقيا ، وهذه النسبة تمثل 18.348 شخصاً وهؤلاء من العرب المسلمين ، كما نشر في مجلة ( المجلة ) العدد 422 بتاريخ 18-24/05/1988م أن أكثر من سبعة آلاف من الشباب العرب المسلمين في سجون فرنسا » .
وفي إحصاء نشر في بلجيكا عن المعهد القومي للإحصاء(1) ذكر أن عدد حالات الإجرام في أوساط الشباب من سن 15 إلى سن 19 سنة بلغت بين الشباب المسلمين من شمال أفريقيا 7.912 حالة ، كما بلغت في أوساط الشباب المسلمين الأتراك 4.720 حالة .
وتبدأ هذه الحالات باعتقاد الأجنبي أنه مرفوض في المجتمع الأوروبي فينعزل ، ويقوم بعضهم بتكوين تجمعات مغلقة ، وعادة ما تكون في مواقع سكنية سيئة لا يسكنها أهل البلاد الأصليين ، ثم تصل إلى تكوين مجموعات إجرامية .
__________
(1)
( ) - Source: Statistiques I.N.S. Tableou(1/52)
ويرجع السبب في ذلك إلى أن العلاقة بين المغتربين وسكان البلاد الأصليين بقيت في إطار العلاقات السطحية وغير المنتظمة ، فضلاً عن أن المجتمعات الأوروبية لا تتقبل اندماج أنماط ذات ثقافة إسلامية سواء على الصعيد الثقافي أو الاجتماعي أو الخلقي بسهولة ، لشعورهم بالأخطار التي قد تنجم عن وجود الأجانب - وخاصة المسلمين - في بلادهم ، مما يؤدي إلى رفض المسلمين الأجانب .. فإذا أضيف إلى ذلك ظهور التيارات الفكرية ذات النزعة العرقية ( العنصرية ) التي تؤكد أن التأقلم ما بين الأجانب والمجتمعات الأوروبية من الصعب تحقيقه ، تبين صعوبة المشكلة ، علماً بأن هذه النزعة تزداد كلما ازدادت البطالة وأزمة المساكن وارتفاع أسعار السلع والخدمات(1) .
2- ارتفاع نسبة المصابين بالأمراض النفسية والعصبية ، فقد نشر في البحث الذي أعدته مدينة كولونيا(2) أنه : بينما تصل عدد حالات المصابين باضطرابات عصبية بين أطفال الألمان إلى 20% يحتاج الربع منهم أي 5% إلى علاج وحديث مع الوالدين أو أحدهما ، نجد أن هذه النسب بين أطفال المسلمين الأتراك ترتفع إلى 70% يحتاج أكثر من النصف منهم أي 40% إلى علاج وحديث مع الوالدين أو أحدهما .
وتذكر الدراسة أن حالات الشبيبة والشباب الذين عرضوا أنفسهم على المكتب المخصص لذلك ، تبين منها أن السبب في هذه العقد النفسية والمشكلات يرجع إلى ما يأتي :
(1) التنازع بين ثقافتين ، أو الوقوف في منزلة بين المنزلتين ، فالأجيال التي ولدت في الغرب ، لا تعاني مشكلة الاغتراب عن ثقافة البلد الأوروبي الذي وجدت فيه فحسب ، بل تعاني أيضاً من مشكلة الاغتراب عن الثقافة الإسلامية في وطنه الأم ، فإذا خرج الشاب إلى المجتمع الأوروبي يشعر أنه أجنبي ، وإذا سافر إلى وطنه الأم شعر أنه أجنبي ..
(
__________
(1) - Source: Ministére de l´Education Nationale (1980-81) ( )
(2) - Landesinstitut für Schule und Weiterbildung NRW, S. 33 ( )(1/53)
2) التمزق بين الرغبة في الاندماج مع المجتمع الأوروبي ، والحفاظ على النسق الحياتي الذي نشأ عليه في الأسرة .. أخيراً يتولد عنده الشعور بالنقص أمام أقرانه الأوروبيين وبأنه أقل منهم .. وبناءاً عليه يتولد عند الشباب الرفض لكل عادات وتقاليد ومبادئ الأخلاق التي تستند إلى الدين ، ويميل إلى المجتمع الغربي بانحطاطه ومظاهره السيئة ، ورفض المجتمع الأصل للوالد بكل مواصفاته من عادات وتقاليد ، ويظهر الميل للحداثة والمدنية ، فيتأزم الموقف بين الجيلين ، ويأتي التهديد والوعيد من قبل الوالدين والحبس والعقاب .. إلخ ، فبالتالي تظهر الأعراض المرضية عند الشبيبة والشباب .
3- ازدياد أعداد المتعطلين عن العمل من أبناء المهاجرين المسلمين وخاصة الشباب ، وذلك من فترة طويلة ، وما يترتب على هذه الظاهرة من مشكلات اجتماعية ، قد تصل إلى السجن أو الترحيل إلى خارج بلاد أوروبا أو قد يتخلص الشاب من نفسه بالانتحار ..
ففي بحث للدكتورين المنوزي وبوطعام ورد ما يأتي : » تمّ إحصاء 218.140 باحثاً عن العمل بين المهاجرين - في فرنسا سنة 1981م – تُشكل النساء بينهم الثلث ، وتمس البطالة أساساً الشباب حيث أن 30% من المهاجرين العاطلين لا يتجاوز سنهم 25 سنة في حين أن مجموع العاطلين عن العمل لا يشكلون إلا 14% من مجموع المهاجرين ، وبفحص الإحصاءات تبين أن نسبة البطالة عند العمال المهاجرين مرتفعة جداً في مختلف الأعمار . ولكنها أكثر حدّة عند الشباب ، فهي بين الذكور الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و 19سنة تمثل 40% ، وتصل إلى 7,50 % بين الإناث لنفس فئة العمر .. (1)«.
__________
(1) - Source: Etudes et documents No 8 *1985) ( )(1/54)
وفي دراسة أخرى يُرَدُّ السبب في ذلك إلى : » أن المؤهلات التي حصل عليها الشباب المغترب ، لا تمكنهم من الحصول على عمل بسهولة ، بالإضافة إلى أنهم لا يقبلون ظروف العمل التي عمل فيها آباؤهم ، لأنها في نظرهم غير ملائمة لهم ، أضف إلى ذلك انخفاض الأجر ، فهم أكثر حساسية لمشكلة المساواة في الأجور وفرص التوظف مع المواطنين الأصليين(1)«) .
فإذا أضفنا إلى أن الشاب العاطل عن العمل لا يمكنه أن يحصل من والديه على ما يحتاجه من النقود التي تلزمه لتغطية احتياجاته ، فإنه لا شك سيلجأ إلى مغادرة البيت ، فتتلقفه أيدي السوء ، وتحيط به صحبة الشرّ والانحراف ، فيتحول إلى إنسان مفسد ، يشكل خطراً على نفسه وأسرته والمجتمع الذي يعيش فيه .
4- علاقة الشباب بأسرهم والعلاقة مع غير المسلمين ؛ العلاقات التي تنشأ بين الشباب وأفراد الأسرة ، وبينهم وبين المؤسسات التي يحتكون بها ، لها تأثيرها الكبير على سلوك الفرد ونمو شخصيته ، ويقول علماء الاجتماع أن هذا النوع من العلاقات إما أن يكون علاقة ضاغطة أي تضغط على الشاب وخاصة إذا كان ضعيفاً وليس له شخصية قوية ، أو تكون علاقة خارجة ، إذا كان الشاب صاحب إمكانات وشخصية قوية ، أو مشتركة بينهما ويمكن تمثيلها على النحو الآتي :
(1) الضاغطة ( مركزية )
(2) الخارجة ( مركزية )
(3) المشتركة ( مركزية )
ويمكن تمثيل أهم جهات العلاقات على الرسم التوضيحي الآتي :
ثانياً : معالجة الاندماج ونتائج ذلك
__________
(1) مقال للكاتب بعنوان « ماذا يحدث للعرب والمسلمين في فرنسا ؟ » مجلة الرائد ، العدد 127 ، شوال 1410هـ -
أيار/مايو 1983م ص38 .(1/55)
... تشغل قضية اندماج المسلمين في المجتمعات الأوروبية حيّزاً كبيراً من الاهتمام من جانب الحكومات الأوروبية والمسلمين أنفسهم على حدٍّ سواء ، وذلك بعد ما أصبح تزايد أعداد المسلمين في الغرب ظاهرة قائمة بشكل غير مسبوق ، وأصبح هؤلاء المسلمون يشكلون أقلية دينية تأتي في المرتبة الثانية بعد أتباع الديانة المسيحية في كثير من الدول الأوروبية
1- معالجة الاندماج
الواقع أن مصطلح الاندماج من المصطلحات الملتبسة والتي تخضع لتفسيرات متباينة ، والغرب إذا أطلقه يقصد به التماثل والتجانس أو الذوبان ، وقد سبق لمؤسسة » رينمند ترست « - وهي منظمة غير حكومية مقرها لندن - سبق لها أن دعت الحكومة البريطانية إلى اتخاذ الإجراءات لضمان اندماج المسلمين في المجتمع البريطاني ، ويؤكد كتاب » استراتيجية العمل الثقافي في الغرب « - الذي أصدرته المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة » إيسسكو « - ، على أن مخطط إدماج الأقليات المسلمة في الكيان الثقافي الغربي ، هذا المخطط يلقى في الغالب معارضة ومقاومة كبيرة من المسلم ، بسبب حرص الجاليات والأقليات المسلمة على التمسك بذاتيتها الثقافية ، وخصوصيتها الإسلامية ، غير أن هذا الحرص لا يعني الانغلاق على الذات والانعزال عن المجتمعات الغربية ، ويتجلى هذا الأمر على النحو الآتي :
((1/56)
1) تواصل المسلمين مع غير المسلمين ومحاورتهم : فالمسلمون ينطلقون من التوجيه القرآني لهم في قول الله عزَّ وجلَّ : { وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ... } [ العنكبوت : 46 ] وقد اهتموا منذ عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ومروراً بالعصور التالية حتى العصر الحاضر ، وتكللت الحركة الفكرية الإسلامية بظهور عدد من المؤلفات في فترات تاريخية مبكرة ، ومن الكتب القيمة التي ظهرت عبر التاريخ ، كتاب ابن حزم الأندلسي : » الفصل في الملل والأهواء والنحل « ، والذي عالج فيه عدداً من الظواهر الجدلية على صعيد العلاقات بين المسلمين وغيرهم من أصحاب الديانات الأخرى ..
(أ ) ولا بدَّ للحوار من أهداف يروم تحقيقها ، وإلا أصبح ترفاً فكرياً ، وعبثاً لا طائل من ورائه ، ويمكن أن يكون من أهدافه :
- إظهار الحقائق المدعمة بالأدلة والبراهين .
- التفاهم والتعاون على تحقيق المشترك للخروج من الأزمات .
- الترقي بالذات والتلاقح الحضاري ، وحل الخلافات والنزاعات إن وجدت .
(ب ) والحوار الناجح يقوم على الأسس الآتية :
- الاعتراف بظاهرة التنوع والاختلاف بين البشر ، لأن الخالق - سبحانه وتعالى - أراد ذلك ، ولو شاء - سبحانه وتعالى - لجعلهم أمة واحدة .
- لا بدَّ من فقه طبيعة الخلاف المسموح به وغير المسموح به ، بين المسلمين أنفسهم ، وبين المسلمين وغير المسلمين من ناحية أخرى .
- تأكيد روح التعايش والتسامح بين البشر بوجه عام » شعوباً وقبائل لتعارفوا « و » لكم دينكم ولي دين « .
- تحقيق الاجتماع والألفة بين المسلمين وبعضهم ، وذلك بالاعتصام بحبل الله جميعاً ، وضرورة التزام العدل والإنصاف والإحسان مع الإقرار لكل صاحب حق بحقه ، وذلك مع المخالف من غير المسلمين .(1/57)
2- مستقبل واعد : بمراقبة تطور أعداد المسلمين في أوروبا – وخصوصاً من يحمل جنسية أوروبية – تكشف أن الإسلام يتحرك بقوة ، ويشق طريقاً ومساراً يصعب إيقافه أو تغييره إلى الأسوأ ، إذ أن معدلات النمو كبيرة وتتزايد ، فالمسلمون في أوروبا يمثلون قوة يجب أخذها في الحسبان ، بحيث لو حافظ التزايد على النسب الحالية فإن عدد المسلمين في عام 2020م سيشكل حوالي 10% من مجموع سكان أوروبا .
ويدور الآن بين المسؤولين والساسة حديث طويل عن الإسلام الأوروبي ، الذي أصبح مكوناً داخلياً لملايين من المسلمين المواطنين في أوروبا .
والجدير بالذكر أن أعداداً من المسلمين المتجنسين قد انخرطوا في الأحزاب السياسية ، ومنهم من وصل إلى عضوية البرلمان ، وهؤلاء يشعرون بانتماءاتهم لأوروبا ، ولذلك تحتل قضية الاندماج مكانها المتميز في حركة الإسلام في أوروبا .
3- حدث تغير نوعي في زيادة عدد المتجنسين : من أبرز مظاهر التغير النوعي في الوجود الإسلامي في الغرب ، تحول الهجرة المؤقتة من قبل المسلمين إلى هجرة دائمة ، وتغيرت نوعية المهاجرين من عمال بسطاء إلى هجرة عقول وكفاءات ، بالإضافة إلى مظهر هام يتمثل في دخول أعداد كثيرة من الأوروبيين الإسلام ، وانتشار الإسلام في طبقات مختلفة من المجتمع ، وعدم اقتصاره على إسلام بعض أفراد النخبة الأوروبية .
وبقراءة الواقع الإسلامي في أوروبا ، نكتشف أن الإسلام يتحرك بقوة ، ويشق طريقاً ومساراً يصعب إيقافه أو تغييره ، ورغم كثرة الضجيج المفتعل حول هذه المسيرة ، فإن عملية انتشار الإسلام هناك قد نجحت في عقود قليلة ، والرهان حالياً حول نتائج وحصاد التجربة .
ثالثاً : الخلاصة والنتائج
... بعد أن أظهرت الدراسة والتحليل في الفصلين السابقين هذه النتائج غير الإيجابية بالنسبة لأبناء المسلمين أجد أنه من الضروري أن يتحقق ما يأتي :
((1/58)
لا بدّ لأبناء المسلمين من تعليم مصاحب في الفترة من سن السادسة إلى العشرين ؛ على أن تكون العملية التعليمية المصاحبة وفق مخطط مدروس ولها مناهج واضحة الأهداف والوسائل ، غاية هذه العملية التعليمية المصاحبة هي تقديم ما يلزم أن يقدم للأطفال والشباب في هذه المرحلة ، ولا يمكن للمدارس الأوروبية أن تقدمه ؛ من دروس في العقيدة الإسلامية لغرسها في قلوب أبناء المسلمين وعقولهم ؛ وتعليمهم أركان الإسلام بشكل واضح ومفصل ، مع مساعدتهم على تطبيق ما يتعلمونه في هذه المدارس المصاحبة في واقع الحياة .
( لا بدّ أن يتوفر في برنامج التعليم المصاحب التدرج الذي يجعله مناسباً للأعمار والظروف ، مع توفير المدرسين الذين لديهم التأهيل الكافي للقيام بتقديم هذه البرامج التعليمية الدينية بطريقة غير مخلّة ولا مملة ، وفي ذات الوقت يكونون قدوات سلوكية تطبيقية للأجيال التي ولدت وتولد في الغرب ، بحيث لا يظهر من هؤلاء المدرسين المسلمين في عملية الاحتكاك والمعايشة إلا كل خير وانضباط بالشريعة الإسلامية .
((1/59)
على كل الذين لهم علاقة بالتعليم والتوجيه في الأسرة أو المدرسة التكميلية أو القائمين على الأنشطة في المؤسسات الإسلامية الفاعلة والتي لها علاقة بتعليم وتربية وتوجيه أبناء المسلمين ؛ على كل هؤلاء مراعاة الخصائص النفسية والفكرية للأطفال والشباب موضع الرعاية والتوجيه والعناية ، وذلك ليكون لديهم حب لهذه الأنشطة الإسلامية ، ويتوفر لديهم الرغبة في المسارعة إلى حضور الأنشطة والحرص عليها ، بما يؤصل في قلوبهم قول الله تعالى : { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } [ آل عمران : 133 ] ، وترغيبهم في تحقيق قول الله عزَّ وجلَّ : { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمْ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ البقرة : 148 ] ؛ وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : » بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ ، يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا ، ويُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا ، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا « [ رواه مسلم في الإيمان برقم 186 ، وغير مسلم ] .
( أن يختار القائمون على الأنشطة الإسلامية ؛ والمنفذون للعملية التربوية أنفع وأجدى الوسائل الموجودة في الغرب ، وأن لا يعتمدوا على الوسائل النمطية الجامدة ، مع القدرة على عرض ومقارنة الإسلام بالمناهج الفكرية والعقدية الأخرى ليتمكن الشباب من إدراك أفضلية الإسلام على المناهج الوضعية المطبقة في بلاد العالم ، فينطلق الشباب المسلم من تطبيق قول الله - سبحانه وتعالى - : { ... فَبَشِّرْ عِبَادِ - الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ... } [ الزمر : 17-18 ] .
((1/60)
من أهم ما يتواصى به كل القائمين والمشاركين في العملية التربوية وتوجيه الأطفال والشباب وارشادهم ، في الأسرة ومدرسة آخر الأسبوع الإسلامية ، هو الاتصال الفاعل بالمؤسسات الغربية والتي لها تأثير على الأبناء في الغرب من روضة الأطفال والمدرسة الإبتدائية والثانوية ، فهذه المرحلة العمرية ذات شأن وتأثير كبير في حياة هؤلاء الأبناء ، وخاصة أن التعامل معهم في هذه المرحلة العمرية يحتاج إلى الرفق واللين ، الذي لا يصدر عن ضعف ، ويتطلب كذلك معاملتهم بحزم ، الذي ليس هو بالشدة والغلظة ، وإنما ينطلق من حكمة وموعظة حسنة .
( العلم بأن الأنشطة العملية والواقعية في هذه المرحلة العمرية ، والتي تتميز في حياة الشباب بالحيوية والحماسة والفاعلية ، لا بدّ أن تكون أنشطة هادفة ومنبثقة من روح الإسلام ومهتدية بهداه ؛ وأن تكون سائر النشاطات في الأسرة ومدرسة آخر الأسبوع والمؤسسة الإسلامية بينها تعاون وتنسيق ؛ فكل نشاط له دوره الخاص في تحقيق الهدف منه ، ودوره المشترك في تحقيق الهدف العام من تربية أطفال المسلمين في الغرب ، فيكون هناك نشاط اجتماعي ، ونشاط رياضي ، ونشاط لغوي ، ونشاط فكري ثقافي ، وتكون هناك الندوات والمطالعات الحرة وزيارة المكتبة الإسلامية ، والاطلاع على صحيفة الجدار الأسبوعية ، والتي يمكن للشباب أن يشاركوا في تحريرها ، فيتمرنون على إعداد الموضوعات الخاصة بهم والتي تعالج مشكلاتهم ، وبالتالي يعبرون عن ذواتهم .
( وأخيراً الأمر يحتاج إلى تكاتف الجهود لتكوين الشباب المسلم وجعل التحصيل التربوي سلوكي ، والعلم والعمل بالإسلام أساس ، فلا تكون مهمة الأسرة ومدرسة نهاية الأسبوع والمؤسسات الإسلامية في الغرب محصورة فقط في تقديم المعلومات ، وشرح الحقائق ، دون التثبت من الاعتقاد بها والاجتهاد في العمل والسلوك وفق ما تهدي إليه .
والله عزَّ وجلَّ أسأل التوفيق والسداد(1/61)
الشورى
والمؤسسات التشريعية الحديثة
إستخلاص من كتاب (الشورى- مراجعات في الفقه والسياسة والثقافة)
للأستاذ الدكتور أحمد علي الإمام
بحث مقدم
للدورة السادسة عشرة للمجلس - اسطنبول
جمادى الأخرة 1427 هـ / يوليو 2006 م
المقدمة :
الحمد لله رب العالمين جعلنا على نهج نبينا - صلى الله عليه وسلم - على شريعة متبعة هادية للتي هي أقوم، وأفضل الصلاة وأتم السلام على الرسول الصادق الأمين المبعوث رحمة للعالمين..
ثم أما بعد، فإن: الشورى هي نظام إسلامي شامل تقوم عليه السياسة الشرعية، علاوة على أنها منهاج للحياة الاجتماعية والنشاط الاقتصادي، والعمل الثقافي .. وقد استندت حجية الشورى ، بهذا المفهوم الشامل، إلى الأصول المرجعية في القرآن الكريم، والسنة المطهرة ، والخلافة الراشدة.
ولابد لأي بحث حول الشورى أن يبسط وجوه الحكمة من مشروعية الشورى، وأن يعد الاجتهاد الفقهي الجماعي من صميم مبدأ الشورى، وأن يفرق منهجياً بين الشورى الجماعية وبين الاستشارة الخاصة، وأن يعرض تأصيلاً للنظام السياسي في ضوء مبادئ الشورى.
والشورى ليست نظاماً سياسياً فحسب، وليست شكلاً للحكم فحسب، وإنما الشورى في جوهرها ممارسة للحوار الجامع، يستهدف استخلاص الرأي الراجح أو الجامع..
والشورى في النظام الإسلامي لا تنتهي عند اختيار الحاكم ، وإنما تمتد لتكون ممارسة واسعة للمشاركة في اتخاذ القرار ، وللرقابة على تنفيذه ، وللمحاسبة على أدائه .. ذلك بأن الشورى هي نظام الحرية الذي يقابل فيه الحق الواجب – حق إبداء الرأي وواجب حسن الممارسة لإبداء الرأي .. وهو أوضح تعبير عن الحرية عندما تصاحبها المسؤولية.. وعلى ذلك فإن الشورى هي في صدارة حقوق الإنسان الأساسية التي تقابلها واجباته الضرورية.(1/1)
وهناك مباحث حيوية منبثقة عن الشورى ، كالتوفيق بين حق الشورى وواجب الطاعة لأولي الأمر، وكإلزامية الشورى العامة عندما تكون تعاقداً سياسياً ودستورياً، وكاختيارية الاستشارة الخاصة في سبيل الحصول على رأي أهل الخبرة والاختصاص، وكالمساواة في الحقوق الشورية من غير تفريق بسبب اختلاف الدين في ظل عقد المواطنة، ثم الإجراءات والمؤسسات كضرورة لتنظيم الممارسة الشورية..
وهكذا لابد من إقامة الأسس النظرية والتطبيقية للنظام السياسي في الإسلام.
جعل الله اجتهادنا في جملة العلم النافع والعمل الصالح.
مدلول الشورى
المدلول اللغوي:
الشورى في الأصل من شار العسل، إذا استخرجه واستصفى خلاصته، واجتناه من خلاياه ومواضعه. وهو أقرب المدلولات اللغوية إلى مرادنا من مفهوم الشورى حيث يقابل استصفاء الشهد استخلاص الرأي الراجح من الشورى..
وقد تضمن المدلول اللغوي للشورى:
(1) إبداء الشئ (الرأي) وعرضه.
(2) وإظهاره ، وهي مرحلة أعلى من الإبداء.
(3) واتصاف الرأي المعروض بالحسن والاستنارة.
المدلول الاصطلاحي:
اجتماع الناس على أمر ما لتدوال الرأي، واستخلاص الصواب في المسائل المعروضة لاستصدار القرار.
الشورى في القرآن الكريم(1/2)
والمرجعية الأولى في استمداد مبادئ الشورى هي القرآن الكريم، لقوله تعالى: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين } (1). يأمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يشاور أصحابه، وهو أمر للوجوب كما يدل السياق.. وقال تعالى في وصف المسلمين بأن جعل الشورى من صفاتهم: { وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون } (2). ولعظمة الأمر بالشورى جعلها الإسلام صفة من صفات المسلمين وقرنها بالصلاة الركن الثاني ، إذ قرنها بالإيمان والصلاة والزكاة .. كما أن المشاركة في المال شطر من المشاركة في الرأي ، وبذلك ارتبطت الشورى بالعدالة الاجتماعية ، مما جعلها مبدأً اجتماعياً شاملاً وليس مجرد مبدأ سياسي ، ولذلك لابدّ أن يتربى عليها الإنسان .
والأمر بالشورى عام يشمل كل الشؤون العامة في حياة الأفراد والجماعات والدول ، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها ..
الشورى في السنة النبوية
__________
(1) سورة آل عمران الآية 159
(2) سورة الشورى ، آية 38 .(1/3)
أما المرجعية الثانية في تأصيل الشورى فهي السنة النبوية ، فقد أسس النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم للشورى نظاماً ومنهجاً وسنة عملية.. وقد كان في ذلك موضع الأسوة والقدوة، حتى قال عنه أصحابه، على لسان أبي هريرة ،(ما رأيت أحداً أكثر مشورة لأصحابه من النبي صلى الله عليه وسلم)(1).. وعن ابن عباس قال : لما نزلت: ((وشاروهم)) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أما أن الله ورسوله لغنيان عنها ، ولكن جعلها الله رحمة لأمتي فمن استشار منهم لم يعدم رشداً ومن تركها لم يعدم غياً)(2)..
وعن قتادة (أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يشاور أصحابه في الأمور وهو يأتيه وحي السماء لأنه أطيب لأنفس القوم ، أو أن تكون سنة بعده لأمته)(3)..
وقد ثبت أنه شاور أصحابه في شتى الشؤون ، فقد شاورهم في بدر، وفي أحد، وفي الخندق، وفي خيبر، وفي تبوك، كما شاورهم في الأسرى والسبي، وفي سن الأذان، وفي إقامة المنبر، وغير ذلك من الأمور..
ومن السنن العملية أن الشورى إذا كانت في الأمور التشريعية فالحجة لقوة الدليل، وإذا كانت في الأمور الفنية فالحجة لأهل الخبرة والاختصاص .. أما في طلب الرأي الذي يرشد إلى القيام بعمل من الأعمال كانتخاب رئيس أو والٍ أو إقرار مشروع فيرجح رأي الأكثرية .. وهنا يقول الآمدي ((إن الكثرة يحصل بها الترجيح))(4) .
وللشورى من حيث إلزاميتها واختياريتها ضروب لا تخرج في جوهرها عن حكمة مشروعيتها ، وإن تعددت هذه الضروب بتعدد الأقضية .. فهناك الشورى الجماعية ذات الإلزام ، والشورى الاختيارية التي تطلب من أهل الاختصاص ، علاوة على الفتوى الفقهية الاستشارية ..
__________
(1) الترمذي ، 1/320، والبيهقي السنن الكبرى ،7/4645.
(2) أخرجه ابن العربي والبيهقي في شعب الإيمان بسند صحيح ، والألوسي ، روح المعاني 4/94 .
(3) هكذا جاء في تفسير الطبري ، ج 4 ، ص 152 .
(4) الآمدي في الأحكام ، 1/340 .(1/4)
وتعد الفتوى والاجتهاد الشرعي باباً من أبواب الشورى.. فكل ما هو خاضع للاجتهاد خاضع للشورى، إذ الشورى اجتهاد جماعي، يصل به الباحثون المستشارون إلى معرفة الحكم في المسائل التي لا يتوافر عنها نص صريح أو إجماع بيِّن.. وفي المسائل الفقهية إنما يسأل أهل العلم بالأحكام الشرعية والفقه فيها..
ومتغيرات العصر ومستجدات الحياة تواجه المسلمين بأقضية جديدة تحتاج لاجتهاد جماعي ، علاوة على أنهم في تجديدهم لأمر الدين يحتاجون إلى تأصيل سائر مناهج الحياة وأنساق القوانين والنظم ، سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية ، سواءً في نشاط الدولة أو حركة المجتمع ، وذلك ، بردهما جميعاً إلى أصول الدين وأحكام الشريعة .. وهذا يقتضي تنظيم الاجتهاد الجماعي بتأسيس المجالس وعقد المجامع ، وهي تضم العلماء والخبراء ، والذين يهتدون بمنهاج الاجتهاد ، وفقه المقاصد ، وفقه المصالح ..
الشورى عند الخلفاء الراشدين
أما المرجعية الثالثة لمشروعية الشورى فهي سنة الخلفاء الراشدين في اتباعهم للكتاب والسنة، (فقد كان الأئمة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها فإذا وضح الكتاب والسنة لم يتعدوهما إلى غيرهما اقتداءً بالرسول صلى الله عليه وسلم ))(1) ، وقد سار الخلفاء الراشدون سيرة السنة في ممارسة الشورى والحض عليها والقبول بها ..
حكمة مشروعية الشورى
أما الحكمة من تشريع الشورى فذات وجوه عدة أبرزها:
1- الوصول إلى وجه الصواب .
2- منع الاستبداد بالرأي .
3- إرشاد الحكام ولاة الأمر .
4- إعزاز كرامة العقول .
5- تأليف القلوب وتطييبها.
6- ضمان النجاح في تنفيذ القرارات .
7- الإفادة من المعرفة والخبرة .
8- الكشف عن الكفايات والقدرات .
9- إقامة الحجة على المخالفين الرأي .
10- تمييز الناصحين الخالصين .
__________
(1) صحيح البخاري ، ج 6 ، باب قول الله تعالى (وأمرهم شورى بينهم) ، ص 2682 .(1/5)
والشورى لا تقف عند اختيار الحكام ، وإنما تمتد إلى سائر ضروب النشاط الإنساني ، ووجوه الحياة العامة .. كما أنها أوسع نطاقاً من مجرد الوصول إلى رأي الأغلبية ، وإنما المعول عليه الوصول إلى هذا الرأي عن طريق الحوار الناصح والمجادلة الحسنة .. بل هي واجب مفروض ، طاعةً لله واتباعاً للسنة في أداء النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
والشورى بهذا وذاك من أكبر حقوق الإنسان بل إنها تتجاوزها لتكون من أكبر واجبات الإنسان ، حيث الحق يقابله الواجب - حق الإنسان في الشورى ، وواجبه في حسن أدائها ..
الشورى ومؤسساتها وإجراءاتها في العصر الحديث
ومن الاجتهادات المشروعة في إعمال أحكام الشورى تكوين مجلس الشورى ، وصلاحياته ، ووظائفه ، ونظام عمله .
فقد طلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل بيعة العقبة الثانية أن يختاروا وكلاء عنهم فقال (أخرجوا إلىّ منكم اثني عشر نقيباً يكونون على قومهم بمن فيهم)، فكان مجلس شورى لأنصار المدينة ثم لحق بهم المهاجرون .
أما صلاحيات مجلس الشورى فهي في عمومها الرقابة على شرعية (دستورية) النظم والقوانين والقرارات ، علاوة على الرقابة على أداء الدولة وفق هذه المرجعيات ..
ومن أطر الشورى الاستفتاء العام لاختيار الحاكم (الرئاسة) والبيعة له ، علاوة على الدوائر والكليات الانتخابية لاختيار عضوية مجالس الشورى والقيادات العليا .
ويحق أن يكون في عضوية مجالس الشورى كل وكيل عن الناس في إبداء الرأي ، حيث أن أعضاء هذه المجالس محكومون في أنفسهم بالمرجعيات الشرعية من دستور وقانون خاصة إذا كان الدستور ينص على الحاكمية لله والسيادة للشعب يمارسها عبادة وطاعة لله.
الشورى والمؤسسات التشريعية الحديثة(1/6)
ولإدخال الشورى بمبادئها وقيمها في المؤسسات التشريعية الحديثة يمكن الأخذ بتحديث الوسائل والنظم طالما أنها تخدم هذه المبادئ والقيم، دون تفريط في جوهرها ومقصدها من إشاعة المناصحة والمراقبة والمحاسبة.. وذلك على النحو التالي:
[1] الفصل في الشورى:
وإذا جرت الشورى فلم تحقق إجماعاً، لجأ النّاس إلى الفصل في الأمر برأي الأكثرية الراجح .
يرى الماوردي أنّه : (إذا اختلف النّاس على إمام للمسجد في المساجد غير السلطانية ، فإنّ الإمام من يختاره الأكثرية)(1).
ونُقل عن الإمام الشافعي أنه إنْ لم يكن على القول دلالة من كتاب ولا سنة؛ كان قول الخلفاء الراشدين أحب إليه من قول غيرهم ، فإنْ اختلفوا صار إلى القول الذي عليه دلالة ، وقلما نجد اختلافهم من ذلك، وإنْ اختلفوا بالأدلة نظر إلى الأكثر، فإنْ تكافأوا نظر أحسن أقاويلهم مخرجاً(2).
واختيار الإمام رأياً غالباً ما يحسم الخلاف : (فالقول ما حكم به الحاكم –رئيس الدولة- على الأوضاع الشرعية) .
وهو اختيار مؤسس على طاعة الله تعالى: (ولا يجوز لرئيس الدولة، ولا لأحدٍ، أنْ ينشئ حكماً بالهوى واتباع الشهوات، بل لابدّ من أنْ يكون ذلك القول الذي حكم به قال به إمام معتبر).
وإنّما كان ذلك: (لأنّ الإمام –رأس الدولة- هو الذي فوّضت له السياسة العامة في الخلائق).
وأيضاً: (لأنّ حكم الحاكم في مسائل الاجتهاد يرفع الخلاف).
وعليه، فالإمام هو صاحب الصلاحية في ترجيح جانب الصواب عند الاختلاف، ورأيه في ذلك هو الذي يمنح الرأي القوة القانونية لتنفيذه وسريان أحكامه .
__________
(1) الماوردي: الأحكام السلطانية الولايات الدينية، ص102.
(2) انظر : ابن قيم الجوزية : أعلام الموقعين عن رب العالمين ، دار الجيل للنشر والطباعة ، 4/122.(1/7)
وإنّ المشاورة إنما تكون قبل العزم والتبيُّن لقوله تعالى : { فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ } ، أي: فإذا عزم الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يكن لبشرٍ التقدُّم على الله ورسوله .
{ فَتَوَكَّلْ عَلى اللهِ } : لإمضاء ما عزمت.
قال الرازي: دلّت الآية على أنّه ليس التوكل أنْ يُهْمِل الإنسان نفسه، كما يقول بعض الجُهّال. وإلا لكان الأمر بالمشاورة منافياً للأمر بالتوكل، بل التوكل هو: أنْ يتخذ الإنسان الأسباب الظاهرة، ولكن لا يعوّل بقلبه عليها، بل يعوّل بما فيه التوكل على الله { إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ } .
- ويجوز الاعتماد على رأي الفرد في الأمور الفقهية المحدّدة لا سيّما تلك التي يتعلق التمحيص بدلالتها أو إيراد الثبت في صحة سند ورد بشأنها إذا كان ذلك الفرد عالماً بما اتفق عليه سادة الأنصار ، وكان الأنصار أَوْلَى بالمشورة فهم أصحاب النخيل التي طلبت غطفان نصف ثمرها .
[2] مشاركة المرأة في الشورى:
ومما يدل على جواز مشاركة المرأة في الشأن العام قوله تعالى: { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [التوبة : 71] وهذا يعني مشاركتها في أمر الشورى ... وفيما يلي دلالات هذه المشاركة.
[(1/8)
1] يجوز اشتراك المرأة في مجالس الشورى، حيث لا مانع شرعاً، والواقع أنّه لا أثر لشيء من الذكورة أو الأنوثة في مسألة الشورى والفتوى والتعليم ، إذ كل المطلوب هو: العلم والأمانة والرأي السديد ، وربما كانت المرأة أكثر علماً كما يدل على ذلك حديث أبي بردة بن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أنّه قال: (ما أشكل علينا أمر فسألنا عنه عائشة إلا وجدنا عندها فيه علماً)(1)..
وقال عطاء: ( كانت عائشة أفقه النّاس وأعلم النّاس وأحسن النّاس)(2).
فما الذي يمنع المرأة من الشورى، وهي مأمورة بأنْ تنصح لله وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، بل في السيرة النبوية ما يدل على استشارتها والأخذ بمشورتها كما كان من أم سلمة يوم الحديبية.
ومن خبر الصحابة - رضي الله عنهم - في ممارستهم للشورى في اختيار الحاكم، أنّ عبد الرحمن ابن عوف - رضي الله عنه - بقي يشاور ثلاثة أيام وأخبر أنّ النّاس لا يعدلون بعثمان، وأنه شاور حتى العذارى في خدورهنّ(3).
ولعله يؤخذ من مبايعة النبي - صلى الله عليه وسلم - للنساء مبايعة خاصة مستقلة عن الرجال أنّ الإسلام يعتبرهنّ مسؤولات عن أنفسهنّ مسؤولية مستقلة عن الرجال .
__________
(1) سنن الترمذي المُجَلَّد الخَامِس. أبواب المَنَاقِب عَن رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّم. باب ما جَاءَ في فضل من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه. الحديث رقم: 3970..
(2) ابن حجر العسقلاني: الإصابة في تمييز الصحابة، 4/392 .
(3) ابن تيمية : منهاج السنة، 3/233 ، وابن كثير: البداية والنهاية، 1/146 (حتى خلص إلى النساء المخدرات في حجابهنّ).(1/9)
عن عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِي اللَّه عَنْهمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ. قَالَ: وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ: وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)(1).
[
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب الجمعة، برقم 844 .(1/10)
2] ودلالة حديث أم هانئ: (قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ)(1). أنّ المرأة لها حق الإجارة، فهي مسؤولة كالرجل في تكافؤ الدماء والسعي بالذمة: (كما في حديث عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : (الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ ..)(2).
[3] وفي تاريخ الطبري : ما أشارت به نائلة بنت الفرافصة الكلبية لزوجها عثمان - رضي الله عنه - : (تتقي الله وحده ، وتتبع سنة صاحبيك من قبلك)(3).
[
__________
(1) أخرجه الشيخان: البخاري في كتاب الصلاة برقم 344، ومسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها، برقم 1179. ونص الحديث كما في صحيح البخاري: (عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّ أَبَا مُرَّةَ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أُمَّ هَانِئٍ بِنْتَ أَبِي طَالِبٍ تَقُولُ: ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَامَ الْفَتْحِ فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ وَفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ، قَالَتْ: فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ. فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ فَقُلْتُ: أَنَا أُمُّ هَانِئٍ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ؟ فَقَالَ: مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِئٍ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ غُسْلِهِ قَامَ فَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ مُلْتَحِفًا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ زَعَمَ ابْنُ أُمِّي أَنَّهُ قَاتِلٌ رَجُلاً قَدْ أَجَرْتُهُ فُلانَ ابْنَ هُبَيْرَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : (قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ) قَالَتْ أُمُّ هَانِئٍ: وَذَاكَ ضُحًى.
(2) أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الجهاد، برقم 2371.
(3) الطبري: تاريخ الأمم والملوك، دار الكتب العلمية، بيروت، ط/1، 1407هـ، 2/659..(1/11)
4] عن ابن سيرين قال : (كان عمر - رضي الله عنه - يستشير في الأمر، حتى إنّه كان يستشير المرأة، فربما أبصر في قولها الشيء فيستحسنه فيأخذ به)(1).
وليس فيما صح عن سُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ما يدل صراحة أو يشير بوضوح، إلى أنّ المرأة لا حق لها في الشورى. ولم يُعْرَف قط أنه - عليه السلام - تعمّد أنْ يتجنب مشاورة النساء في بعض ما يشاور فيه الرجال.
أخرج البخاري في صحيحه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل يوم الحديبية على أم سلمة ، يشكو إليها أنه أمر الصحابة بنحر هداياهم وحلق رؤوسهم فلم يفعلوا !.. فقالت: يا رسول الله أتحب ذلك ؟ اخرج ولا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك. فخرج رسول الله وفعل ما أشارت به أم سلمة(2).
ومما لا ريب فيه أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غنى - بما منحه الله من دراية وحكمة في معالجة الأمور وحل المشكلات - عن استشارة أم سلمة وغيرها - رضي الله عنهن -ولكنه - كما قال الحسن البصري وغيره: أحب أنْ يقتدي الناس به في ذلك ونحوه وأنْ لا يلقى أحد منهم معرة في مشاورة امرأة، قد يرى نفسه أوفر منها دراية وأنفذ بصيرة وفهماً.
وقد صَحّ أنّ عمر كان يحيل على السيدة عائشة كل ما يتعلق بأحكام النساء وبأحوال بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - . وقد استشار - رضي الله عنه - ابنته حفصة في المدة التي لا تستطيع الزوجة أنْ تصبر فيها عن بُعدِ زوجها عنها، فأمضى كلامها، واتخذ من رأيها في ذلك أجلاً أقصى، للمكوث في الثغور ومواقع الرباط في الغزوات ونحوها.
وقد كان عثمان بن عفان - رضي الله عنه - يستشير في خلافته النساء، وما أكثر ما استشار أم سلمة فأشارت عليه فأنس برأيها وأخذ به.
__________
(1) البيهقي: السنن الكبرى، طبعة دار الفكر ، 10/113 .
(2) انظر نص الحديث كاملاً في صفحة 27 وما بعدها من هذا الكتاب.(1/12)
ويرى جمهور الفقهاء أنّ الشورى تلتقي مع (الفتوى) في مناط واحد فكل من جاز له أنْ يفتي - بأن توافر لديه العلم بما يفتي به واتصف بالأمانة والاستقامة – جاز له أنْ يشير ، وجاز للإمام وللقاضي أنْ يستشيره ويأخذ برأيه .
ومعلوم أنّ الذكورة ليست شرطاً في صحة الفتوى ولا منصبها عند بعض الفقهاء .
فكل من صح له أنْ يفتي في الشرع ، جاز له أنْ يشاوره القاضي في الأحكام. فتعتبر فيه شروط المفتي ولا تعتبر فيه شروط القاضي، فيجوز أنْ يشاوِر المرأة، إذ يجوز أنْ تستفتى وتفتي.
أما الحنفية ، فهم يجيزون للمرأة أنْ تتولى القضاء أيضاً ، في كل ما يحق لها أنْ تشهد فيه ، فضلاًَ عن الفتوى والشورى . ويقول صاحب "بدائع الصنائع"(1): [وأما الذكورة فليست من شرط جواز التقليد ـ أي تقليد القضاء ـ في الجملة، لأنّ المرأة من أهل الشهادات في الجملة، إلا أنها لا تقضي في الحدود والقصاص ، لأنه لا شهادة لها في ذلك. وأهلية القضاء تدور مع أهلية الشهادة] .
وهذا مذهب الظاهرية أيضاً كما نص على ذلك ابن حزم .
ولهذا فإنّه لا أصلّ لمقولة متداولة بين الناس: (شاوروهنّ وخالفوهنّ).
وحول اشتراك المرأة في مؤسسات الشورى؛ يرى بعض الفقهاء المعاصرين أنّ الأرجح عنده هو (الجواز بإطلاق، أي أنْ تكون المرأة ناخبة ومنتخبة، لأنّ كونها ناخبة لا يعدو أنْ تكون شاهدة، وهي أهل للشهادة باتفاق. وأما كونها منتخبة فهو لا يفوق في أهميته أمر إفتاء المرأة واجتهادها، وهو جائز بالإجماع)(2).
__________
(1) الكاساني: بدائع الصنائع، دار الكتب العلمية، بيروت، ط/2، 1406هـ- 1986م، 7/3.
(2) د. أحمد عبيد الكبيسي: رأي الإسلام في إشراك المرأة في مؤسسات الشورى ، كتاب الشورى في الإسلام، المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية ، عمان ، 1989م ، 1106 .(1/13)
فتلك الأحداث والأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين - رضي الله عنهم - ، وهذه النصوص والنقول من أمهات كتب الشريعة الإسلامية وأمثلة ذلك كثيرة في سائر المصادر الفقهية على اختلاف المذاهب .
[3] أهلية الشورى:
أهلية الشورى في المسائل العامة لا تقتصر على الذكورة أو الأنوثة أو الخبرة أو التخصص أو السن، بل كل فئات المجتمع الإسلامي يمكن أنْ يُستشاروا حتى الأطفال والصبيان:
[1] كان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - إذا ورد عليه حكم، نظر في كتاب الله تعالى، فإذا وجد ما يقضي به قضى به، وإنْ لم يجد في كتاب الله نظر في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإنْ علمها قضى بها ، فإنْ أعياه ذلك جزع فسأل النّاس: (هل علمتم أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى فيه بقضاء ؟ فربما قام إليه القوم فيقولون : قضى فيه رسول الله بكذا. فيأخذ بقضاء رسول الله ويقول عند ذلك : "الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا" ، فإن لم يجد سنّة سنّها النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع رؤساء النّاس فاستشارهم فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به(1)، وهذا من استشارة العلماء والعامة.
[2] فقد كَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَشُورَةِ عُمَرَ كُهُولًا كَانُوا أَوْ شُبَّانًا(2).
[3] وعن يوسف بن الماجشون قال : قال لي ابن شهاب ولأخ لي وابن عم لي ونحن صبيان :(لا تستحقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم ، فإنّ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان إذا أعياه الأمر المعضل دعا الأحداث فاستشارهم لحدة عقولهم)(3).
[4] المؤسسات الشورية المعاصرة:
أما الأطر المؤسسية التي تقتضي ممارسة الشورى فهي :
[
__________
(1) البيهقي : السنن الكبرى ، طبعة دار الفكر ، 10/114-115 ، وكنز العمال ، 5/60 .
(2) البخاري في كتاب الاعتصام باب وأمرهم شورى بينهم، 3/194 .
(3) ابن الجوزي : تاريخ عمر بن الخطاب ، 101 .(1/14)
أ ] المجلس التشريعي الرقابي القومي مهما كان اسمه، ثم مجالس الولايات، وهذه هي المحالّ الأساسية للشورى في الشأن العام .
[ ب ] والمجالس التنفيذية من حيث التداول والنظر وتبادل الآراء يجب أنْ تكون محكومة بأدب الشورى ومنهجها.
[ ج ] مجالس الخبراء التي تجتمع - أو يجب أنْ يكون الشأن جمعها - للتداول حول أمر من أمور السياسات العامة صفته التخصص، ولكن آراء الخبراء وأهل الدراية فيه مختلفة، وهذه شورى علماء لا تلجأ إلى عدّ الأصوات ، ولكنها تؤدي إلى التمهيد لتبني سياسة عامة في الدولة أو المجتمع.
[ د ] المؤتمرات التي تُدْعى لشؤون التخطيط والسياسة .
[ هـ ] الجمعيات، سياسية كانت أو اجتماعية ، أحزاباً أو مؤسسات للنفع العام ، أو تجمعات مفتوحة للراغبين من أهل فن معين ، أو همّ مشترك .
ومما سبق؛ يتضح أنّ هناك أطراً للشورى على الدولة إنشاؤها ، وإعمارها بالعضوية بشكل منتظم ، وإلزامها بالتشاور وأنْ يلتزم أولو الأمر من بعد بنشرها.
كما أنّ هناك مجالس للشورى لا تكوِّنها الدولة ، ولكنها تأذن لها بالعمل ، فلا بد أنْ يرتبط هذا الأذن باشتراط ممارسة الشورى فيها جهد المستطاع .
[5] النظم الإجرائية لعملية الشورى:
هناك نظم إجرائية تجعل عملية الشورى ميسورة وفاعلة ، منها ما يلي :
- إتاحة الفرصة كاملة لرأي الأقليّة ليجد حظه من النظر والنقاش .
- جعل الإجراءات في خدمة الرأي ، تمهد له العرض السليم والنقاش المفيد ، لا سيّدة عليه تمنعه إذا شاءت أو تتحايل على حجبه متى شاءت .
- إبطال هيمنة القيد الزمني على حق إبداء الرأي ، وذلك بإتاحة الفرصة كاملة للأعضاء للتعرف على المعروض عليهم من قضايا ، يُهيأ لها قبل وقت كافٍ من لحظة اتخاذ القرار.(1/15)
- ترشيد المؤسسات الممهدّة للشورى، وأهمها الصحافة حتى تكون عوناً للأداء الشورى السليم ، بأدائها للدور التمهيدي المنوط بها من تعريف بالآراء والقضايا، بدون تزييف أو تضليل ، أو إخفاء وإبداء حسب المصلحة .
- الابتعاد فيما يوضع من لوائح من أية بنود أو مواد لإعلاء كفة الرؤساء وأهل النفوذ المؤسسي على سائر الأعضاء إلا بالصوت المرجح وإلا بالفرصة الأرحب في العرض .
- إتاحة ما من شأنه أنْ يعين العضو على الجهر برأيه الخاص ويجنبه التسليم برأي العصبية، من شاكلة سرية التصويت أو علنيته وعدم إفضاء أية محاسبة أو عقوبة تترتب على محض إبداء الرأي.
- إقامة دوائر الشورى الممهدة للتداول الشُّوري القويم .
[6] الشورى مؤسسياً:
والشورى تستوجب وضع القواعد المنظَّمة لممارستها ، وكذلك تبرز الحاجة إلى الأطر المؤسسية والإجرائية، التي تواكب متغيرات العصر وتحافظ على مقتضيات الأصل، وهي مما يدخل في دائرة الاجتهادات المشروعة التي تتصل بتطوير الوسائل نحو بلوغ الغايات.
ولا بُدّ من عناية بها. لأنّ تنظيم شكل ممارسة الشورى يضمن لها الفاعلية، وغياب هذا التنظيم قد يحولها إما إلى شورى صورية لا حقيقة لها، وإما إلى فوضى في الرأي لا غناء لها.
= والتنظيم المقصود للشورى يرتكز على أنّ الإقرار بحقّ الفرد في الشورى يجب أنْ يقابله الالتزام بواجب الفرد في الالتزام أولاًَ بممارستها في محلها، وأخيراً بما تسفر عنه من رأي إنْ كان مخالفاً لما هو عليه من رأي .
= الدرس الشوري المستفاد من العمل برأي الأكثرية أنْ تتحمّل نتائج تبعة العمل واتخاذ القرار ولحسم التردد بعد اتخاذ القرار .
= ويجيء الأمر بالتزام الشورى كمنهج مهما كانت النتائج .. والمراد تربية الأمة على الشورى.(1/16)
وهكذا لا بد للشورى - في كل عصر ومصر أو بحسب الظروف المكانية والزمانية - من مؤسسات وإجراءات تناسبها من حيث هي مناهج لتحقيق المقاصد، مع احتفاظ الشورى بجوهرها في كونها ممارسة حرة لإبداء الرأي وتبادله بغية الوصول لإجماع أو ما يقاربه. وهذه الوسائل من الاجتهادات المشروعة في إعمال أحكام الشورى على متغيرات العصر . ويمكن استخلاص الاجتهاد في استحداث مجالس الشورى التشريعية والرقابية من الآية الكريمة : { وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [الشورى : 38] ، وذلك على النحو التالي:
[أ] يؤخذ من لفظ { وَأَمْرُهُمْ } ، أي: الأمر الموكول إلى الناس ، وليس أمر الله الذي نزل به الوحي الثابت النص والدلالة ، اللهم إلا ما كان من الشورى حول وسائل تنفيذ هذا الأمر الإلهي .
[ب] كما يؤخذ من لفظ { بَيْنَهُمْ } ، أي: بين العامة والخاصة. وذلك حول اختيار إمام المسلمين من خلال البيعة الخاصة ثم البيعة العامة ، وربما كان كما أسلفنا يمثلها في هذا العصر الانتخابات الرئاسية علاوة على الشورى في الأمور العامة بين ممثلي الأمة ، مما يقتضي اختيار مجالس الشورى بالانتخاب العام ، وهي مجالس للتشريع والرقابة تحول دون استبداد الحكم الفردي .
[ج] ويمكن أنْ يُتوخى في الانتخابات الرئاسية والتشريعية الإجماع ، وإلا فالرأي العام الغالب والراجح . وكذلك الأمر في مجالس الشورى التشريعية والتنفيذية لقوله - صلى الله عليه وسلم - : (عَلَيْكُمْ بِالسَّوَادِ الأَعْظَمِ)(1).
مشروعية مجلس الشورى
__________
(1) من حديث أبي أمامة الباهلي الذي رواه الإمام أحمد في مسند الكوفيين برقم 17722..(1/17)
ويمكن التأصيل لمجالس الشورى من السيرة النبوية، حيث طلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل بيعة العقبة الثانية أنْ يختاروا وكلاء عنهم فقال : (أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيباً، يكونون على قومهم بما فيهم).
والنقيب: كبير القوم المعني بشؤونهم ، فكان مجلس شورى لأنصار المدينة ، ثم لحق بهم المهاجرون .
صلاحيات مجلس الشورى:
- الرقابة على شرعية النظم والأحكام، ودستورية القوانين وشرعيتها، وهي مهمة العلماء وأهل الاختصاص .
- المحاسبة وأداء واجب النصيحة وفقاً للمشروعية وممارسة حق الرقابة.
- إظهار عدم الرضا عن المعاونين والولاة .
- حق حصر المرشحين للرئاسة وغيرها من المناصب .
وظائف الشورى:
كما يستفاد من العرض السابق كله فإنّ للشورى وظائف أساسية نستطيع إجمالها فيما يلي :
[1] اختيار من يلي أمور البلاد والعباد ولاية كبرى (الرئاسة) ، ومن يقوم مقامه في مستويات أدنى (الولاة) .
[2] اختيار مجلس التشريع والرقابة العامة على كل المستويات (المستوى القومي ، المستوى الولائي ، المستوى المحلي) .
[3] إقرار أو تعديل عقد الحكم العام (الدستور) .
[4] التوصل إلى قرار في القضايا المصيرية للبلاد .
"وهذه الأمور الأربعة تفرض للشورى العامة"
[5] الوصول إلى قرار داخل جميع الأجهزة .
حسم الخلاف عند تعدُّد الآراء:
والخلاف عند تعدد الآراء يجري حسمه إما بالرجوع إلى الأصول الحاكمة، وإما باستخلاص الرأي الجامع، قال - صلى الله عليه وسلم - : (لا تجتمع أمتي على ضلالة)(1).
__________
(1) كشف الخفاء : العجلوني ، 2/488 حديث رقم 2999 ، وفي مسند الإمام أحمد، مسند القبائل، برقم 25966 ولفظه: (سَأَلْتُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ لا يَجْمَعَ أُمَّتِي عَلَى ضَلالَةٍ فَأَعْطَانِيهَا).(1/18)
وروى أحمد في كتاب السنة عن ابن مسعود : (ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن)(1).
- الشورى هي المعرض العام للرأي حتى ولو لم يترتب عليه قرار .
- استجماع الإرادة السياسية للأمة ينفي صفة الاستبداد عند إصدار القرارات الصعبة.
- توبيخ المخالفين بمنحهم الحق والفرصة في إبداء رأيهم ونزع رغبات التطرف من صدورهم.
- إدارة المناظرة العامة في المجتمع ، تنويراً له ، وتعويداً على الأناة والتروي والتماس الرأي الحسن عند الغير.
- التقرب إلى الله، والتزام الأمر، والتماس بركة الطاعة وعزها.
عضوية مجلس الشورى
يحق أنْ يكون في عضوية مجلس الشورى كل وكيل عن النّاس في إبداء الرأي ، حيث إنّ أعضاء مجلس الشورى محكومون في أنفسهم بالدستور وأصل الأصول في أنْ يكون الاحتكام إلى شرع الله تعالى ، خاصة والدستور السُّوداني ينص على أنّ الحاكمية لله تعالى ، وأنّ السيادة يمارسها الشعب عبادة لله وطاعة .
__________
(1) انظر: العجلوني: كشف الخفاء ، 2/263 رقم 2214 . وانظر: مسند الإمام أحمد، مسند المكثرين من الصحابة، برقم 3418 بلفظ: (إِنَّ اللَّهَ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ فَوَجَدَ قَلْبَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ فَاصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ فَابْتَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ، ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ بَعْدَ قَلْبِ مُحَمَّدٍ فَوَجَدَ قُلُوبَ أَصْحَابِهِ خَيْرَ قُلُوبِ الْعِبَادِ فَجَعَلَهُمْ وُزَرَاءَ نَبِيِّهِ يُقَاتِلُونَ عَلَى دِينِهِ، فَمَا رَأَى الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ، وَمَا رَأَوْا سَيِّئًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ سَيِّئٌ).(1/19)
عن علي - رضي الله عنه - قال:قلتُ: يا رسول الله إنْ نزل بنا أمر ليس فيه بيان أمر ولا نهي فما تأمرنا؟ قال: (شاوروا فيه الفقهاء والعابدين ولا تمضوا فيه برأي خاصة)(1).
حقوق غير المسلمين في المجتمع التعددي
وهو الذي تعايش فيه الجماعة المسلمة أقلية غير مسلمة على قاعدة (لهم ما لنا وعليهم ما علينا) في حقوق المواطنة التي أرست قواعدها صحيفة المدينة المنوّرة، وهي أول دستور لتنظيم مجتمع تعددي في التاريخ على قواعد العدل والإحسان. وعليه فإنّ قيمة الشورى تتسع لسائر المواطنين ، في كل شأن عام يمس المصلحة العامة ، فلا يتدخل المواطنون المسلمون فيما يجريه المواطنون غير المسلمين من شورى في شؤون عقيدتهم ، ولا يتدخل المواطنون غير المسلمين فيما يمارسه المسلمون من شورى في شؤون عقيدتهم ، اللهم إلا ما كان أدخل في القواعد المشتركة بينهما من قيم إنسانية، وقواعد أخلاقية، وشؤون فنية وإدارية.
لهذا يحق لغير المسلم أنْ يبدي رأيه في تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية عليه ، وفيما يلحق به من ظلم الحكام . وهذا ما ذهب إليه بعض الفقهاء المعاصرين، حيث يقول د. عبد الكريم زيدان:
(أمّا انتخاب ممثليهم في مجلس الأمة وترشيح أنفسهم لعضويته فنرى جواز ذلك أيضاً، لأنّ العضوية في مجلس الأمة تفيد إبداء الرأي وتقديم النصح للحكومة وعرض مشاكل الناخبين ونحو ذلك ، وهذه الأمور لا مانع من قيام الذميين بها ومساهمتهم فيها)(2).
__________
(1) الهيثمي : مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، 1/187، رواه الطبراني في الأوسط ورجاله موثوقون من أهل الصحيح .
(2) د. عبد الكريم زيدان : أحكام الذميين ، 84 .(1/20)
ودولة الإسلام حصن حصين للأقليات التي تعيش في كنفها وبين مواطنيها، لا سيما حين تكون هذه الأقليات أهل كتاب أو أهل ذمة كما يسميهم الإسلام. وأهل الذمة من غير المسلمين هم من كانت حقوقهم مصانة في ذمة المسلمين . والمسلمون مأمورون بحماية الحرية الدينية والدفاع عنها لأنفسهم ولغيرهم . وهو أمر منصوص عليه فيما يقرءونه في كتاب الله تعالى من سياق آيات مشروعية الجهاد {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}[الحج : 39-40] .
ومن ذلك العهد للنصارى كما يلي: للسيد الحارث بن كعب، ولأهل ملته، ولجميع من ينتحل دعوة النصرانية في شرق الأرض وغربها. أعطيهم عهد الله وميثاقه أنْ أحفظ أقاصيهم، وأحمي جانبهم، وأذب عنهم وعن كنائسهم وبيعهم وبيوت صلواتهم ، وأنْ أدخلهم في ذمتي وأماني، ولا يهدم بيت من بيوت بيعهم ، ولا يدخل شيء من بنائهم في شيء من أبنية المساجد ولا منازل المسلمين، فمن فعل ذلك فقد نكث عهد الله وخالف رسوله"(1).
عهد عمر لنصارى المدائن وفارس:
(
__________
(1) د. محمد حميد الله: مجموعة الوثائق السياسية في العهد النبوي والخلافة الراشدة، دار النفائس، ط/4، 1403هـ - 1983م، ص 175-176.(1/21)
أما بعد، فإني أعطيتكم عهد الله وميثاقه، على أنفسكم وأموالكم وعيالكم ورجالكم، وأعطيتكم أماني من كل أذى، وألزمت نفسي أنْ أكون من ورائكم ذاباً عنكم كل عدو يريدني بسوء وإياكم، وأنْ أعزل عنكم كل أذى، ولا يغير أسقف من أساقفتكم ولا رئيس من رؤسائكم، ولا يهدم بيت من بيوت صلواتكم، ولا يدخل شيء من بنائكم إلى بناء المساجد ولا إلى منازل المسلمين، ولا تكلفوا الخروج مع المسلمين إلى عدوهم لملاقاة الحرب، ولا يجبر أحد من النصارى على الإسلام عملاً بما أنزل الله في كتابه { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ } [البقرة: 256]. ولي شرط عليهم: ألاّ يكون أحد منهم عيناً لأهل الحرب على أحد من المسلمين في سر ولا علانية، ولا يؤوا في منازلهم عدواً للمسلمين، ولا يدلوا أحداً من الأعداء ولا يكاتبوه..إلخ")(1).
وهذا هو (أزبك خان) وهو أول من أدخل الإسلام إلى روسيا وكان شديد التحمس له، ودائب الدعوة إليه، علّمه الإسلام كيف يكون التسامح وغرس فضيلته في فؤاده فتسامح مع رعاياه من المسيحيين ومنحهم الحرية التامة في إقامة شعائرهم، وسمح لهم بالتبشير بدينهم ونشره في بلاده، وحرّر بهذا وثيقة تقول: " إنّ كنيسة بطرس مقدسة، ولا يحل لأحد أنْ يتعرض لها، أو لأحد من رجالها بسوء، ولا أنْ يستولي على شيء من عقارها أو متاعها، ولا أنْ يتدخل في أمورها. ومن خالف أمرنا هذا بالتعدي عليها فهو مجرم أمام الله، وجزاؤه منا القتل"(2).
ومن قواعد الشورى المؤسسية:
[1] التزام الأقلية برأي الأغلبية في التخطيط والتنفيذ اتباعاً للسُنّة النبوية وسُنّة الخلافة الراشدة (الشورى في واقعة أُحُد ، والشورى في حروب الردة) .
[2] ثم إنّ الحاكم مسؤول عن أخطائه يحاسب عليها .
__________
(1) د. محمد حميد الله : مجموعة الوثائق السياسية في العهد النبوي والخلافة الراشدة، المصدر نفسه، ص 488.
(2) انظر د. حسن إبراهيم ، التاريخ السياسي للإسلام، ج/1.(1/22)
وقد استقرّت هذه القواعد في تجربتنا السودانية دستوراً وممارسةً وتطبيقاً وقانوناً ونظاماً ولوائح، حتى أنّ نصّ البيعة يتضمن التزام الرئيس بالشورى ، وهكذا أداء القَسَم للرئيس ومن يليه من كل ذي ولاية ومسؤولية.
[7] الشورى والبيعة:
... تُعَدّ البيعة من مباحث الشورى ، من حيث يجري اختيار الحاكم وفق الشورى سواء في البيعة الخاصة من أهل الحل والعقد، وهذه تقتضي الشورى الخاصة بينهم ، أو في البيعة العامة وهي تعبير عن الشورى العامة.
والمعوّل عليه هو أنْ تكون الشورى مقدمة للبيعة ، حتى يكون اختيار الحاكم عن رضا وقبول من الخاصة والكافة . وفي عقد البيعة نفسه ما يحد من استبداد الحكم الفردي ، حيث يلتزم الحاكم بطاعة الله تعالى وذلك بطاعة أمره في الشرع، قرآناً وسُنّة وإجماعاً ، كما يلتزم المحكومون بطاعة ولي الأمر ما دام هو طائعاً لله تعالى.
وقد عَبَّرَ الخليفة الأول أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - عن عقد البيعة بقوله من خطبته الأولى عقيب مبايعته: [أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإنْ عصيته فلا طاعة لي عليكم](1).
وهو عقد من أرفع مبادئ الحكم الصالح ، حيث الحاكم والمحكوم كلاهما محتكمان لمرجعية (دستورية) واحدة ، هي مناط العدل والإحسان.
والمراد بالبيعة في هذا المقام؛ أنها عقد وميثاق وعهد بالقول (وربما مع المصافحة، أو الكتابة) على التزام الطاعة واجتناب المعصية.
والناظر في السيرة النبوية يجد فيها أنّ البيعة تقع بثلاث صور:
الأولى: بيعة المقالة، وتكون بالقول، وهي الأصل والغالب في البيعات، وقد تكون معها مصافحة، أو معاهدة برفع الأيدي.
__________
(1) عبد العزيز الثعالبي: خلافة الصديق والفاروق - رضي الله عنهما -، تحقيق الدكتور صالح الخرفي ، دار ابن كثير دمشق - بيروت، الطبعة الأولى 1418هـ – 1998م ، ص62 .(1/23)
والثانية: بيعة الوكالة، ولها أمثلة كبيعة العقبة، وبيعة ضماد - رضي الله عنه - عن قومه، فقد جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: (هَاتِ يَدَكَ أُبَايِعْكَ عَلَى الإِسْلامِ، قَالَ: فَبَايَعَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : وَعَلَى قَوْمِكَ؟ قَالَ: وَعَلَى قَوْمِي)(1).
والثالثة: بيعة الكتابة، كبيعة عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - لعبد الملك بن مروان حيث كتب إليه يعلن له ببيعته وبيعة أبنائه، فقال في كتابه: "إِنِّي أُقِرُّ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِعَبْدِ اللَّهِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ فِيمَا اسْتَطَعْتُ، وَإِنَّ بَنِيَّ قَدْ أَقَرُّوا بِذَلِكَ"(2).
ثم إنّ هذه البيعة يمكن تكرارها وتجديد العهد بها بين الناس من وقت لآخر ومكان لآخر، على أنّ انعقاد البيعة العامة بصيغها المعروفة واجتماع الناس عليها لا يمنع من تأكيدها وتجديدها باستخدام كل وسائل قياس الرأي، والانتخاب، والاختيار، والاستفتاء، وخاصة إذا كان ذلك مما التزمه الناس أو اعتادوه أو استحسنوه.
والبيعة على تعدد صيغها ومناسباتها محكومة كلها ببيعة الإمام ذي السلطان والشوكة والقوة، الحارس للثغور، المطبق لأحكام الشريعة الإسلامية، المقيم لحدود الله، وهو الذي تجب طاعته في المنشط والمكره، وطاعته حينئذ من طاعة الله تعالى وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
وتُعَدُّ البيعة لجماعة إسلامية من أجل رَدّ الأمة إلى أصولها وتحكيم شرع الله من باب البيعة الصغرى.
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، برقم 8436.
(2) صحيح البخاري ، كتاب الأحكام، باب كيف يبايع الإمام الناس، برقم 6665.(1/24)
وعليه: فمتى قامت الدولة، وبُويع إمامها، لزم الجماعة نفسها وقيادتها، بالغاً ما بلغ جهدهم في قيام هذه الدولة، لزمهم جميعاً الدخول في هذه البيعة الكبرى والتزام أحكامها ومقتضياتها، لكونها حاكمة على البيعة الصغرى وما اتصل بها من العهود والمواثيق.
ويجب على المسلم الوفاء بالعهد، ولا يجوز لمن بايع أنْ ينقض عهده { وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً } [الإسراء: 34]. و { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ } [المائدة: 1]. و { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ } [النساء: 59].
ومتى استنفر الإمام قوماً وجب أنْ يلبوا دعوته ويستجيبوا لأمره دون مراجعة أو استئذان من الوالدين أو غيرهما ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : (لا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا)(1).
وكما أنّ هذه البيعة العامة ملزمة وحاكمة للعامة فإنها كذلك تفرض على الإمام المبايع واجباً هو أعظم التزاماً من التزام الناس نحوه، وهو أنْ يقوم بواجب البيعة تحكيماً لها وحدها لا لمصالح حزبه الذي يتقوى به أو جاء به إلى موقع المسؤولية، فإنها مسؤولية عامة، وأمانة هو مسؤول عنها عن الأمة كلها، وذلك مقتضى العدل بين الناس كلهم، وأداء الأمانات لأصحابها كما يأمرنا الله تعالى { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا } [النساء: 58].
__________
(1) أخرجه الشيخان: البخاري ، كتاب الجهاد والسِّيْر، باب وجوب النفير وما يجب من الجهاد والنية برقم 2613، ومسلم، كتاب الإمارة، باب المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام والجهاد، برقم 3467.(1/25)
ولا يجوز بعد المبايعة أنْ يُنَازع الإمام في ولايته بل يكون له السمع والطاعة ما أطاع الله تعالى ورسوله لقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عنه عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي عُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَمَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا وَأَنْ لا نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ وَأَنْ نَقُومَ بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كَانَ لا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لائِمٍ)(1).
وعند تنازع اثنين في البيعة بأنْ يُبايع للأول ثم يقوم آخر فيطلبها لنفسه أو يدعيها؛ فإنّ الحسم والحزم يقتضيان ما قضت به السنة النبوية كما في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - : (إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ فَاقْتُلُوا الآخَرَ مِنْهُمَا)(2). فيدفع الآخر بالتي هي أحسن: وذلك يكون بالتذكير بالله واليوم الآخر، والزجر، والإعراض، وصرف الناس عنه.. وبكل ما تندفع به غوائل الفتنة ونذر الشر، وذلك مما يقتله معنوياً.. ولعل هذا هو مقصود الشارع بما ورد في الأمر بذلك..
ثم يكون آخر الدواء الكي.
وعليه: فليس المراد بالأمر بالقتل في الحديث البدء بالقتل الحسي أو جعله غاية قبل استنفاد الوسائل الأخرى.
وهذا ما ذهب إليه الأئمة المحدثون وشراح الحديث كالإمام النووي حيث قال: "هذا - أي الأمر بالقتل - محمول على ما إذا لم يندفع إلاّ بقتله"(3).
__________
(1) ورد هذا الحديث بألفاظ عدة عند أصحاب السنن، وهذا اللفظ أخرجه النسائي في كتاب البيعة برقم 4084. وانظر: ابن هشام: السيرة النبوية، 2/99. والطبري: تاريخ الأمم والملوك، 2/368.
(2) أخرجه مسلم ، كتاب الإمارة، باب إذا بويع لخليفتين، برقم 3444.
(3) انظر: شرح النووي على مسلم، 12/242.(1/26)
فمعنى كلامه: بذل الوسائل الأخرى قبل الوصول إلى ذلك ، وعدم الوصول إلى ذلك إلاّ بعد استنفاد كل الوسائل.
وقال الإمام ابن حجر العسقلاني: "وإنْ كان بعضهم قد أَوَّله - أي: الأمر بالقتل - بالخلع والإعراض عنه فيصير كمن قتل، وكذا قال الخطابي في قول عمر في حق سعد: اقتلوه، أي: اجعلوه كمن قتل"(1). فجعل الخطابي القتل معنوياً.
والحق إنما تقاتل الجماعة الخارجة إذا خرجت عن الطاعة، وأعلنت العصيان، وحملت السلاح.
ومع جواز مناصحة من ولاه الله الأمر العام بل وجوب أداء النصيحة له، إلا أنه لا يجوز الخروج على إمام مبايع إلا أنْ يرى المسلمون كفراً بواحاً، أي: ظاهراً صريحاً، عندهم عليه من الله برهان، أي: نصّ آية أو خبر صحيح لا يحتمل التأويل، ومقتضاه أنه لا يجوز الخروج عليه ما دام فعله يحتمل التأويل،كما في حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - لمن عاده مريضاً من إخوانه، فَعَنْ جُنَادَةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَهُوَ مَرِيضٌ، قُلْنَا: أَصْلَحَكَ اللَّهُ حَدِّثْ بِحَدِيثٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهِ سَمِعْتَهُ مِنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: دَعَانَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَبَايَعْنَاهُ، فَقَالَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا: أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا، وَأَثَرَةً عَلَيْنَا، وَأَنْ لا نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ إِلا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ"(2).
__________
(1) ابن حجر: فتح الباري، 12/156.
(2) أخرجه الشيخان: البخاري، كتاب الفتن، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - سترون بعدى أمورا تنكرونها، برقم 6532، ومسلم ، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها، برقم 3427.(1/27)
وعن عوف بن مالك الاشجعي - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : (خِيَارُ أَئِمَّتِكُمْ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ، وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمْ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ، وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلا نُنَابِذُهُمْ بِالسَّيْفِ؟ فَقَالَ: لا مَا أَقَامُوا فِيكُمْ الصَّلاةَ، وَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْ وُلاتِكُمْ شَيْئًا تَكْرَهُونَهُ فَاكْرَهُوا عَمَلَهُ، وَلا تَنْزِعُوا يَدًا مِنْ طَاعَةٍ"(1). فالبيعة إذن التزام قائم وعقد موثق وعهد واجب الوفاء بين طرفين على طاعة الله تعالى واتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وإنها بيعة على قول الحق، وهو معروف، واتباع الحق والدعوة إليه من أعظم المعروف، والأقربون أَوْلَى الناس بالمعروف، ولهذا فليُبْذل لهم النصح الخالص، وليقبلوه، وإنْ كان اتباع الحق عليهم مُرّاً.
وعليه: فلا ينبغي أنْ يسكت المخلصون عن قول الحق أو يتركوه لمن لا يحسنون أداءه أو ممن أكبر همهم أنْ يعلو شأنهم وينازعوا به أولي الأمر إتّباعاً للأهواء. والذي يقول الحق يملك من الشجاعة ما يسمع به أيضاً قولة الحق ويطيعه ويحتمله ولو على نفسه. ولهذا فهو لا يخاف في الله لومة لائم شأنه في ذلك شأن { الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا } [الأحزاب : 39].
[8] البيعة ومؤسسات الشورى الحديثة:
وهناك بيعتان للإمام (رأس الدولة):
[أ] بيعة خاصة من أهل الخبرة والاختصاص (الحل والعقد).
[ب] وبيعة عامة من عامة المسلمين.
__________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الإمارة ، باب خيار الأئمة وشرارهم، برقم 3447.(1/28)
وقد كان الخلفاء الراشدون يتلقون البيعتين ، فقد تمت الخلافة لأبي بكر بالبيعة من بعض المسلمين يوم السقيفة ومن بقيتهم في اليوم الثاني، ثم توالت البيعة من الأنحاء. صحيح أنّ عمر بن الخطاب هو الذي بدأ بالبيعة وصمم عليها. ولكن ذلك لا يعني أنها كانت بيعة فرد بل كانت بيعة أمة. بيعة المهاجرين والأنصار الذين كانوا قد بايعوا الرسول من قبل وآزروه ونصروه.
يقول ابن تيمية في كتابه "منهاج السنة"(1): ولو قُدّر أنّ عمر وطائفة معه بايعوا أبا بكر وامتنع سائر الصحابة عن البيعة لم يصر أبو بكر إماماً بذلك، وإنما صار إماماً بمبايعة جمهور الصحابة الذين هم أهل القدرة والشوكة.
وأمير المؤمنين عمر نفسه يدرك ذلك ويحض الأمة على أنْ تحتفظ بحقها في الاختيار، وفي الخطبة الشهيرة التي ألقاها عقب عودته من موسم الحج قال: "فمن بايع رجلاً غير مشورة المسلمين، فإنه لا بيعة له هو ولا الذي بايعه"(2).
يقول ابن تيمية: "إنّ عثمان لم يصر إماماً باختيار بعضهم، بل بمبايعة الناس له. وجميع المسلمين بايعوا عثمان بن عفان ولم يتخلف عن بيعته أحد. قال الإمام أحمد: ما كان في القوم من بيعة عثمان كانت بإجماعهم، وإلاّ لو قدر أنّ عبد الرحمن بن عوف بايعه ثم لم يبايعه علي ولا غيره من الصحابة أهل الشوكة لم يصر إماماً. ثم إنّ ابن عوف حلف أنه أقام ثلاثاً لم يغتمض فيها بنوم يشاور السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان ويشاور أمراء الأنصار فأشار عليه المسلمون بولاية عثمان. وقدموا عثمان وبايعوه لا عن رغبة أعطاهم إياها ولا عن رهبة أخافهم بها"(3).
والاجتهاد الذي يقيس الأوضاع الراهنة بتلك الظروف التاريخية والأصول الشرعية ، يعطي النتائج التالية :
[
__________
(1) ابن تيمية: منهاج السنة النبوية، 1/530.
(2) خالد محمد خالد: الدولة في الإسلام، دار ثابت للنشر والتوزيع، مصر، ص 65-66.
(3) ابن تيمية: منهاج السنة النبوية، 1/532ـ533.(1/29)
1] بيعة الإمامة من أهل (الحل والعقد)، أي: (البيعة الخاصة) تشابه ترشيح رئيس الجمهورية مثلاً ، من تنظيمه السياسي الذي يبايعه على مبادئ الترشيح ، على اعتبار أنّ النظام الرئاسي هو أقرب النظم السياسية الحديثة إلى نظام الخلافة .
[2] أما بيعة الإمامة العامة فتشابه انتخاب رئيس الجمهورية بالاقتراع العام من عامة الناخبين في الدولة .
[3] أما تحديد مدة الرئاسة فمن المسائل الاجتهادية التي اقتضاها حكم الوقت ، وتعد إعادة انتخاب الرئيس بمثابة تجديد.
النتائج والاستخلاصات
وفيما يلي نرصد الاستخلاصات الجوهرية التي انتهت إليها الدراسة، تاركة للعلماء والدارسين متسعاً للاستزادة من بحث قيم الشورى التي لا تنتهي الكلمة الفاصلة حول التعبير عنها، ولا تنقضي عجائب الإبداع التشريعي والفكري في بحثها:
[1] الشورى أمر إلهي صريح موجّهٌ للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم، على عصمته بالوحي، وكمال شمائله في التخلّق بأخلاق القرآن الكريم ليأتمر به ويقتدي به صحابته ومن تبعهم بإحسان ، ولا شك في أن هذا الأمر في حق من هو دونه من بعده أوجب وألزم {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ} [الشورى : 38].
[2] والخلفاء الراشدون ، عليهم رضوان الله ، قد كانوا مَثَلاً لحسن الاتباع له في الالتزام بالشورى، منهجاً للحكم.
[3] وقد رفع القرآن الكريم منزلة الشورى حين قرنها بالصلاة والزكاة من أركان الإسلام الخمسة ، فوضعها بينهما ، وذلك في وصف المؤمنين المستجيبين لداعي الحق سبحانه وتعالى بأنهم يجعلون أمرهم كله ، فيما لم ينزل به وحي ، شورى بينهم كلهم بدون حجر أو إقصاء {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} .
[(1/30)
4] والشورى ، من ثم ، تعد دعامة من دعامات الحكم الصالح ، حيث إنها تجنب نظام الحكم الاستبداد بالرأي والاحتكار لصنع القرار .
[5] والشورى من لوازم العدل ... فإذا كان العدل هو إعطاء كل ذي حق حقه ، فالشورى تعطي لكل مواطن حقه في المشاركة بالرأي في إدارة الشؤون العامة.
والشورى لا تبلغ مقاصدها إلا إذا كانت في إطار نظام متكامل للعدل والعدالة ، ومن ذلك استقلال القضاء. وقد أحسن التعبير عن ذلك من قال: (1) " ولعل أهم دعامة في الشريعة لحقوق الإنسان هي استقلال القضاء، فالقاضي لا يرجع إلا إلى الشريعة.. يدل على ذلك الرسالة التي أرسلها أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه إلى واليه معاوية حاكم سوريا وفلسطين قال فيها: [ إنه لا سبيل لك على عبادة الصامت]، وكان عبادة قاضياً لفلسطين من قبل الخليفة، وهنا يضع عمر حداً لتدخل الولاة في شأن القضاة ".
[6] والتجديد لنظام الشورى في حياتنا المعاصرة يستوجب التأصيل لنظام الحكم والإدارة، بحيث تأخذ قيم الشورى في (البيعة ، وعقد الإمامة، وطاعة أولي الأمر، واستشارة المقدمين في المجتمع من العلماء والخبراء ممن يصطلح على تسميتهم بأهل الحل والعقد) وبذلك تأخذ الشورى مدلولاتها الحديثة التي تلبي حاجات الإنسان المعاصر، وتحافظ على مضمون الشورى في المشاركة بالرأي .
[7] وإذا كانت الشورى هي استخلاص الرأي الجامع فهي مقصودة لذاتها في تحقيق كرامة الإنسان بحفظ كرامة فكره ، مما لا يغني عنه انفراد بالرأي مهما كان صائباً أو حكيماً ، ولا تحول دونه نتائج الممارسة له مهما كانت سالبة أو خاسرة.
[
__________
(1) الشيخ عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيَّه ، مصدر سابق ، ص65 .(1/31)
8] ونظام الشورى ، وهو يتعلق بجوهر الممارسة ، يمكن أن يؤلف بينه وبين خير ما في النظام الديمقراطي الذي يُعنى بشكل الممارسة، وذلك في سياق واحد(1).
[9] وفي عملية التجديد لنظام الشورى، والتأصيل لنظام الحكم، نملك أنْ نطور المؤسسات والإجراءات لتحقيق مقاصد الشورى، وذلك من باب تحديث الوسائل لتحقيق الغايات .
[10] وإلزامية الشورى في الشؤون العامة التي يجري وفقها التعاقد الدستوري والقانوني، لا تتناقض مع اختيارية الشورى، في الشؤون الخاصة، التي تعتمد على الخبرة والمعرفة لدى أهل الاختصاص الفني أو الفقهي.. وحتى في هذا النمط من الشورى الخاصة كانت السيرة النبوية أسوة في إمضاء الرأي الصائب الذي يقبله العقل الحكيم والوجدان السليم، مهما كان هذا الرأي جماعياً أو فردياً.
ولا تناقض بين أن تكون هناك شورى خاصة لأهل الاختصاص، وهي غير ملزمة، وشوى عامة لكل الناس، وهي ملزمة، فقد جمعت السُنّة النبوية الشريفة وسيرة الخلفاء الراشدة كلا النمطين.
[11] ومن باب أَوْلَى أنْ تمتد الشورى إلى الاجتهاد الفقهي الجماعي فيما لم ينزل به وحي بحكم قطعي ، ثابت النص أو ثابت الدلالة، فإنّ ذلك بحق من أوسع أبواب الشورى التي توفي بالحكمة من مشروعيتها.
[12] والشورى منهاج لممارسة النشاط الاجتماعي قبل أنْ تكون منهاجاً لممارسة النشاط السياسي، فقد نزل من الآيات ما يحث الناس عليها في الفترة المكية، إبان تأسيس المجتمع الراشد، وذلك قبل نزول الأمر بالتزامها في المدينة عند تأسيس الحكم الصالح.
[
__________
(1) وهو ما اتجه إليه دستور السُّودان، إذ لا يقيد حرية التنظيم السياسي إلاّ بشرط (الشورى والديمقراطية) بنص الدستور. راجع: البند (2) من المادة (26) دستور جمهورية السُّودان 1419هـ ـ 1998م، وانظر: ص 62 من هذا الكتاب.(1/32)
13] وتتسع المشاركة في ممارسة الشورى، سواء في الشؤون العامة أو الشؤون الخاصة ، فتشمل النساء أفراداً أو جماعات، وذلك بحكم اشتراك المرأة مع الرجل في الخطاب التكليفي العام، وفي تحمل المسؤولية العامة.. ثم بحكم مشاركتها للرجل في فضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي ذلك نقرأ قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[التوبة : 71] ويتصل بذلك ما هو متاح لها من الإدلاء بالفتوى والرأي العلمي.
[14] يتمتع غير المسلمين في الدولة المسلمة بحقوقهم الدينية والوطنية حتى إن المسلم يجاهد بنفسه وماله من أجل حماية الحرية الدينية لنفسه ولغيره وخاصة من أهل الكتاب، ونقرأ في ذلك ما تقرره آيات مشروعية الجهاد من قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج : 39-41] .
[(1/33)
15] وتمتد الشورى لتكون منهاجاً للحياة الخاصة في التربية والتنشئة السليمة ، ومن ذلك الشورى التي يجريها الزوجان في شؤون الأسرة ، بل ويجريها سائر أفراد الأسرة حول الأمور الماسة بمصير الأسرة ... سواء كان أفراد الأسرة بالغين أو قاصرين ، فقد عرف عن الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - استشارته حتى للصبيان توسماً لسلامة فطرتهم . ومبدأ تقسيم الوظائف (تقسيم العمل) الذي أعطى الزوج وظيفة القيادة (القوامة) للأسرة ، يقتضيه ممارسة الشورى مع الزوجة ومع سائر أفراد الأسرة ... فكما أنّ الشورى هي أحد أكبر أركان الحكم الصالح ، فإنها كذلك أحد أهم مقومات الأسرة الفاضلة ، وتمتد فضيلتها إلى سائر شؤون المجتمع بين سائر مجموعاته .
[16] والشريعة الإسلامية تأمر بالشورى في سائر شؤون الحياة الخاصة ، وبخاصة لفض نزاعاتها ، فتُدخل الحكماء من المجتمع لإصلاح ذات البين بين الزوجين، تجنباً لانهيار نظام الأسرة بالطلاق ، وذلك من خلال الشورى التي يجريها الحَكَمَان لإزالة عوامل الشقاق . { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا }(1).
[17] وتمتد قيمة الشورى، كذلك لفض سائر النزاعات في المجتمع، حيث تتضمن عمليات الإصلاح بين أي طائفتين متنازعتين ممارسة الشورى في التحكيم بينهما.. وذلك حيث أنّ نتائج الشورى في سائر هذه العمليات الإصلاحية قمينة بإزالة عوامل النزاع.
[
__________
(1) سورة النساء : الآية (35) .(1/34)
18] وللشورى قواعدها وآدابها ووسائل ممارستها.. وهي جميعاً تتوخى العدل وتنحو إلى الإحسان، فتوسع دائرة الحوار، وتبادل الرأي، وصولاً للرأي الجامع، فإنْ لم يكن فالرأي الراجح. وهي في نهاية الممارسة الشورية تلزم سائر الأطراف بتنفيذ الرأي الجامع أو الرأي الراجح، حيث يعقب عقد العزم على الرأي التوكل على الله تعالى في تنفيذه.
[19] وقيمة الشورى تقتضي فضيلة المناصحة. فلا تقوم الشورى بحسن ممارستها ، وحسن نتائجها، إلا إذا كان دافعها إسداء النصيحة، وهي الإخلاص في القول المقرون بالعمل وذلك بأن طبيعة الشورى تختلف عن النقد العلني والتجريح الفاضح، بل هي بحث هادئ، ورأي سديد وسيلته الحسنى وغايته الصالح العام. ونظام الشورى يمكن أن يصحح الممارسة الديمقراطية الجارية اليوم في العالم.
[20] والشورى، هي أنجع المناهج لإرساء السلام المحلي والإقليمي والعالمي، سواء لفض الخلافات أو لتطوير العلاقات.. وبذلك تصير الشورى أقرب إلى المنهاج العالمي، تحمله الدولة الراشدة والمجتمع الصالح إلى ساحة العلاقات الدولية.
الخاتمة
إنّ سنة الله تعالى في الأمم والحضارات ماضية إلى غاياتها المعلومة من زوال النظم الجائرة التي طغت وبغت بما ملكت من قوتها المادَّية والعسكرية كما قال تعالى { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ } [يونس: 13].
وقال تعالى: { وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوماً آخرين } [الأنبياء:11]..
وهذه الأنظمة تتآكل بفعل عوامل التعرية الداخلية مع قيام سُنَّة التدافع ، والأرض لله تعالى يورثها من يشاء عباده الصالحون كما بيّن لنا القرآن الكريم { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ } [الأنبياء: 105].(1/35)
ونحن على يقين من أن المستقبل للإسلام في قيادة البشرية كما بشرنا بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : (إِنَّ اللَّهَ زَوَى لِيَ الأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا، وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ الأَحْمَرَ وَالأَبْيَضَ، وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لأُمَّتِي أَنْ لا يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ عَامَّةٍ وَأَنْ لا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ وَإِنَّ رَبِّي قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لا يُرَدُّ وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لأُمَّتِكَ أَنْ لا أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَنْ لا أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا - أَوْ قَالَ مَنْ بَيْنَ أَقْطَارِهَا - حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا)(1)، وهو وعد حق غير مكذوب يستحث الخطى بنهضة شاملة يتعلم فيها المسلمون بالتجربة أنه لا سبيل لنجاتهم إلاّ باتحاد كلمتهم واجتماع صفهم وائتلاف قلوبهم على توحيد الله تعالى، وما يقتضيه من التسامح فيما بينهم وفق منهاج الشورى وأدب التناصح حتى تتآخى المذاهب الإسلامية وتتناصر المجموعات العرقية والجهوية على القضايا الكلية.
لِمَ لا؟ وعوامل وحدة هذه الأمة أكبر من أسباب تمزقها وتفرّقها، فهي:
[1] أمة واحدة كما جاء بذلك القرآن الكريم { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } [الأنبياء: 92] .
[
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة برقم 5144 .(1/36)
2] ودينها واحد، ورسالاتها واحدة { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ } [الشورى: 13] .
[3] وتعبد إلهاً واحداً، تخلص له الدين وتصلي إلى قبلة واحدة.
[4] وهي تتلقى ثقافة واحدة مصدرها كتاب الله المجيد والسُنَّة النبوية
المطهرة ، وفي صدر هذه الثقافة الشورى لتوحيد الكلمة وتقريب الرؤية..
والذي يقرأ القرآن يجد تحذير الله تعالى من التفرق والتنازع كما في:
[1] قوله تعالى { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون } [آل عمران: 103].
[2] وقوله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُون } [الأنعام: 159].
[3] وقوله تعالى { مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } [الروم: 31ـ32].
فأيّ عاقل ذلكم الذي يرضى للأمة الإسلامية من بعد هذا الوعيد الشديد أن تنحدر إلى هوة الشقاق أو تصطلي بنيران الاحتراب وأتون النزاع، والشورى فيما بين مجموعاتها غائبة أو منقوصة.(1/37)
إنّ الأمة الإسلامية اليوم مدعوة أكثر من أي وقت مضى لأنّ تتوحد بكل مذاهبها تحت راية التوحيد نصرة للدين وإحقاقاً للحق وإبطالاً للباطل.
وكل ذلك هو مؤدَّى إحياء الشورى للحوار الإسلامي بين المسلمين أنفسهم ليمتد الحوار من بعد في صدق مع الآخرين. فما أحرانا أن نصلح دواخلنا بإقامة حكم الشورى، وإدارة الحوار بين المذاهب والجماعات بالشورى.
هدانا الله وهدى بنا لممارسة الشورى في سائر شؤوننا. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(1/38)
بسم الله الرحمن الرحيم
الضوابط المنهجية لفقه الأقليات المسلمة
إعداد. د. صلاح الدين سلطان
------------
مقدمة
الحمد لله حمدا يليق بجلاله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وصحبه وآله،وبعد
فأحسب أننا نحتاج إلى جهود عديدة في وضع الضوابط والمعايير التي تحكم عملية الاجتهاد في فقه الأقليات، ولقد حرصت من خلال معايشتي لكتب أصول الفقه والقواعد والمقاصد مع معايشة يومية وزيارات ميدانية للمسلمين في أمريكا وأوروبا والهند والصين وغيرها على أن أساهم في رؤية متواضعة بين يدي أساتذتي وإخواني العلماء في المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث لعلي أحظى بتقويمهم وأنعم بدعائهم.
وقد اخترت لفظ الضوابط قاصدا به الإطار الذي يحكم عملية الاجتهاد للأقليات المسلمة، وحرصت ألا أكتبها القواعد حتى تناقش وتنقح، أما كونها منهجية لأنها ترسم الطريق في عقل ووجدان المجتهد أن يستصحب هذه الأطر والضوابط عند الاجتهاد، والفقه هو العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية، أما الأقليات المسلمة فهم في نظري حقيقة نوعان:-
- أولاً: أقلية عددية في أوروبا وأمريكا والهند والصين على سبيل المثال لا الحصر.
ثانيا: أقلية في الحقوق القانونية بما يمارس عليهم من اضطهاد مثل مسلمي كشمير والشيشان وأوزبكستان وأذربيجان وقرقيزيا ..إلخ وقد يدخل فيها بعض الدول الإسلامية التي لا تحظى فيها الأكثرية المسلمة بحقوق الأقلية غير المسلمة، ويطارد فيها الدعاة والمصلحون، ويعيشون ظروفا أسوأ بكثير والمسلم الذي يعيش في الغرب.
أدعو الله العظيم رب العرش الكريم أن يلهمنا رشدنا وأن يوفقنا لحمل الأمانة وأداء الرسالة كما أنزلها الله تعالى حنيفية سمحة كالمحجة البيضاء.
الضابط الأول: تعميق الشعور بالموطنة:(1/1)
من فطرة الإنسان السوي أن يحب الوطن الذي تنسم هواه و تضلع بمائه و تشبع بطعامه و تنعم بخيراته و اعتز بتراثه و الفقه لا يصادم الفطرة السوية بل يحرص على أن يمدها بالتزكية و الاعتدال.
و إذا كان المسلمون الأقلية لا يشعرون بالانتماء إلى بلد استوطنوه فإن هذا يعد خدشا في المروءة و طعنا في الكرامة و يفتح باب الذرائع أن تتوجس الأكثرية من هذه الأقلية فينفونهم أو يضطهدونهم.
و إذا كان الفقه يعالج و اقعا قائما فنحن أما ما يلي:-
1- المسلمون في أمريكا أكثر من 8 ملايين منهم 22.4 % أميريكيون أصليون و 77.6% مهاجرون استوطنوا أمريكا حسب ما نشرته وزارة الخارجية الأمريكية عن "الإسلام في أمريكا" و نسبة المهاجرين منهم أكثر من 40% هم أبناء إما أتوا صغارا أو ولدوا في البلد نفسه و صلة هؤلاء ببلاد آبائهم صلة حنين و متعة يثيرها الآباء في الأبناء بالحديث عن الوطن و الجد و الجدة و العم و الخال لكن هؤلاء يشعرون أن أمريكا هي بلدهم و هي جزء من حياتهم و قلوبهم
2- المسلمون في أوروبا (شرقية و غربية) يعيشون المشاعر ذاتها و أغلبهم لا يملك إمكانية العودة إلى دياره الأولى تحت ضغط الفقر و القهر.
3- المسلمون في الصين أكثر من 150 مليون هم جميعا أصليون
4- المسلمون في الهند أكثرمن 200 مليون مسلم هم من نخاع الهند
5- المسلمون في دول شرق آسيا هم أصليون أغلبية أو أقلية في أوزباكستان و طاجكستان و كازاخستان و قيرقيزيا و أذربيجان و تايلاند و سنغافورة و سيريلانكا.
6- المسلمون الأقلية في أفريقيا هم مواطنون ليس لهم دار غير دارهم في تنزانيا و أوغندا و كينيا و غانا و النيجر و جنوب افريقيا.(1/2)
لمثل هؤلاء و غيرهم في اليابان و استراليا و ..... يجب أن يصدر المجتهدون و الفقهاء و الأئمة و المصلحون من فقه المواطن لا المهاجر، القيم لا الراحل، ابن البلد و ليس الدخيل ؛ لأن هذا هو الواقع أولا، ولأن الوفاء للمكان الذي فيه درجت أو احتميت أو ارتويت بعد ظمأ أو شبعت بعد جوع و تعلمت بعد جهل أو تحركت بعد كبت يوجب خلق الوفاء أن يشعر بحق هذا البلد عليه في الإصلاح و المشاركة الجادة في نموها و استقرارها، و هذا لا يمنع من الحنين إلى الموطن الأصلي إن وجد لدى "المهاجرين" كما كان –صلى الله عليه وسلم- تدمع عيناه أصيلا يمدح مكة و كذا بلال و غيره لكنهم استوطنوا المدينة وأقاموا بها و حولت إلى مهد للخير و النور في الأرض كلها ودعا النبي –صلى الله عليه وسلم- للمدينة أن يبارك في صاعها ومدها و أن ينقل حماها إلى الجحفة فصارت يثرب طيبة في هوائها و مائها وغرسها و أهلها.
ولست أعني هنا أن يشعر المسلم المقيم في دول غير إسلامية بما كان يشعر به الصحابة نحو المدينة حيث اجتمع فيها النص الشرعي مع التطبيق العملي في سلطة شرعية و دولة إسلامية صارت نورا للبشرية ولكن أعني أن الحنين إلى بلد الولادة و المنشأ لا حرج فيه و لا يمنع من المقام في بلد آخر، و إصلاحه و الحنين إليه أيضا و الوفاء لحقه هذا مع الأخذ بالاعتبار أن النسبة الأكثر في الأقلية المسلمة هم مولودون أو ترعرعوا في بلاد عير إسلامية إذا أضفنا الأبنا ء إلى الأصليين.(1/3)
و إذا كانت قضية المواطنة في البلاد غير الإسلامية موضع خلاف حتى الآن فإن الذين يصلحون للفتوى و الاجتهاد هم أولئك الذين يرون صحة أو استحباب أو وجوب الإقامة و التوطن في البلاد غير الإسلامية حملا للأمانة و تبليغا للرسالة و ابتعاثا في الخير كما نص القرآن (كنتم خير أمة أخرجت للناس)، و قال النبي –صلى الله عليه و سلم- (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) و قد هيمنت فكرة الابتعاث إلى الخير حتى على الأعراب مقولة ربعي بن عامر: "إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد غلى عبادة رب العباد و من جور الأديان غلى عدل الإسلام و من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا و الآخرة".
و في جميع الأحوال لو أجمع فقهاء الأرض الآن على عدم صحة الإقامة و المواطنة فلن يغير هذا من الواقع البلاد التي بها أصليون، و لن يرحل أكثر المهاجرين إلى بلادهم التي عانوا منها، فهل من وظيفة الفقه أن يؤثم الناس ، أم يرفع عنهم إصرهم و الأغلال التي كانت عليهم؟!
ولذا يبدو لي أنه يظهر المسلم في أي بلد أنه مواطن يحب بلده و يكره من يفسدها و يعاديها و هو حام لحماها حريص على حاضرها و مستقبلها و هذا لا يعني الولاء للأديان التي علت بفسادها أو الأفراد الذين يفسدون في الأرض و لا يصلحون أو الحكومات التي تسن القوانين المخالفة للإسلام بل هو ولاء للبلد الذي يحمل صاحبه على التفكير الجاد في أن يقدم الخير لشعبها و أرضها حتى يحقق فيها رحمة الإسلام للعالمين، ويبذر الخير للناس أجمعين.
وعليه فلا حرج حتى على المهاجرين أن يقول أنا مسلم فرنسي أو مريكي أوياباني من أصل شامي أو مغربي أو مصري أو هندي ....إلخ كما أنه لا حرج أن يعتز ابن البلد الأصلي ببلده لا بحكومتها و لا بقوانينها المخالفة لدينه و أن يقول كل لأخيه :
خليلي إنا مقيمان ها هنا ... وكل مقيم للمقيم ينسب
وليس كما قال الشاعر
خليلي إنا غريببان ها هنا ... وكل غريب للغريب ينسب(1/4)
الضابط الثاني: تأكيد المسؤولية عن إصلاح الوطن:
يجب أن يكون الاجتهاد لفقه الأقليات دافعا إلى تأكيد دور المسلم في إصلاح وطنه و مجتمعه و عالمه لا أن ينحصر في فقه الحماية من الفتن و الوقاية من المحن، مثل من يدعون إلى وجوب إنشاء المدارس الإسلامية حماية لأبنائنا من الفتن لكن لا يوجد فكر قيادي إصلاحي لبناء قيادات حية من أبنائنا تنفع المجتمع و تقوده إلى رشده و مثل من يدعو إلى المشاركة في الانتخابات حتى لا تضيع حقوق الأقلية و تمنع الحكومات و لو جزئيا من التمييز العنصري أو مساندة الظلم العالمي على فلسطين أو العراق أو أفغانستان أو كشمير أو الشيشان، هذا الفقه ضيق عن استيعاب الرسالة كلها، أو الدور الكامل للمسلم أن ينفع نفسه و أهله وفي الوقت ذاته يصل خيره إلى مجتمعه صالحا أو طالحا، و بلده حتى لو كانت تحكم بالشر لأن هذا هو الميدان الحقيقي للدعوة و إلا فأين مجال الإصلاح الذي أوجبه الله علينا؟
و من الدلالة على وجوب تبني اجتهادات فقهية للأقليات تدفعهم إلى إصلاح بلدهم و مجتمعهم ما يلي:
أولا: قوله تعالى "فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم و اتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه و كانوا مجرمين، و ما كان ربك مهلك القرى بظلم و أهلها مصلحون" هود:116 ، 117
هاتان الآيتان هما خلاصة سورة هود في رسالة الأنبياء حتى لا يدركهم الهلاك، و الآية الأولى تتحدث عن قوم أولي بقية من عقل أو دين كما يذكر القرطبي يقومون بواجب الإصلاح و البيان و النهي الفساد عن الأرض و ليس في ديار الإسلام فقط، و أن قيام هؤلاء بواجب الإصلاح هو العاصم من القواصم و الحافظ من الإهلاك في الآية الثانية(1/5)
ثانيا: لقد شغل سيدنا إبراهيم عن البشرى الكبيرة أن يرزق بولد "إسحاق" من زوجته الأولى "سارة" شغل عن هذا كله بالجدال مع الملائكة عن قوم لوط ألا يعجلوا عليهم في العقوبة لإعطاء فرصة أخرى لإصلاحهم و لقد صور القرآن هذا المشهد المؤثر في حرص الداعية و المصلح على قومه حتى لو كانوا لوطيين في هذه الآيات: "فلما ذهب عن إبراهيم الروع و جاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط إن إبراهيم لحليم أواه منيب، يا إبراهيم أعرض عن هذا إن قد جاء أمر ربك و إنهم آتيهم عذاب غير مردود." هذا الموقف المهيب الذي يقف فيه سيدنا إبراهيم يجادل عن قوم لوط ووصفه الله تعالى بالحلم و هي صفة ضرورية للمصلحين و امتدحت حرصه، لكن جاء الأمر الرباني بأن هؤلاء قد استنفذوا كل الوسائل و انتكست فطرهم و إنهم آتيهم عذاب غير مردود.
ثالتا: ما رواه البخاري بسنده عن عروة عن عائشة فالت سألت النبي –صلى الله عليه و سلم-: هل مر عليك يوم أشد من هذا اليوم "يوم أحد" فذكر لها يوم أن اشتد إيذاء قومه له فجاءه جبريل ومعه ملك الجبال بعرض عليه –صلى الله عليه و سلم- أن يهلك أهل مكة جميعا فقل –صلى الله عليه و سلم-: لا بل أدعو الله لهم: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون، عسى الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله عز و جل". هذا الموقف النبيل من النبي - صلى الله عليه و سلم- في الوقت الذي أمعنت فيه قريش في الإيذاء، و كانت تملأ المسجد الحرام أصناما حول الكعبة، و تطوف النساء و الرجال عرايا و تقول المرأة:
اليوم يبدو كله أو بعضه ** فما يبدو منه فلا أحله(1/6)
وإذا خرجت من المسجد الحرام فستجد في مكة نفسها بيوتا للدعارة عليها رايات حمراء كما جاء في حديث البخاري عن عائشة أيضا، بالإضافة إلى ظلم الأغنياء للفقراء و السادة للعبيد، والقوي للضعيف و الرجل للمرأة ، لكن هذا كله لم يدفع النبي إلى طلب هلاكهم، بل سعى لإصلاحهم و دخل كثير منهم في دين الله أفواجا، و صاروا مادة للإسلام و عونا للمسلمين.
رابعا: ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لقد دعيت إلى حلف في الجاهلية "حلف الفضول" لو دعيت لمثله في الإسلام لأجبت، يبين بجلاء أنه إذا وجد المسلم سبيلا إلى إنشاء أو المشاركة في مؤسسات ذات هدف أخلاقي أو مبدأ إنساني، أو قصد إصلاحي يجب أن يبادر المسلم إليه.
خامسا: قوله تعالى "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله" (آل عمران: 110) توضح أننا أمة لا تتقوقع حول نفسها، ولا تنحصر في ذاتها بل هي أمة ابتعاث وإخراج إلى الناس بنور القرآن والسنة، أمة تمشي بالنور في الناس وليس في المسلمين فقط، أمة أمرها الله تعالى بالسير في الأرض كلها اثنتى عشرة مرة، وبالضرب في الأرض أربع مرات، وبالمشي فيها أربعا أخرى، أي عشرين مرة سيرا وضربا ومشيا.
وإذا جئنا من هذه النصوص الجلية إلى أوضاعنا الحالية فسنجد أن مجتمعاته الغربية صارت فيها الحرية جزءا من الهواء الذي يتنفسونه وهي فرصته كما قال الشاعر:
وعاجز الرأي مضياع لفرصته حتى إذا فاته أمر عاتب القدرا(1/7)
وإذا كان نكسون قد كتب كتابه "الفرصة السانحة" فهي أيضا فرصته لنا أن نتقدم ببرامج إصلاحية لنا وللمجتمع الذي نعيش فيه وأضرب على ذلك مثالاً: شكل وزير التعليم الأمريكي "تيربل بل" عام 1981م لجنة من ثمانية عشر عضوا من الخبراء في التعليم والتربية والاقتصاد والاجتماع و... لدراسة كيفية النهوض بالتعليم في أمريكا، وأجرت اللجنة حوارا مفتوحا مع الآباء والأمهات وأساتذة المدارس والجامعات والطلاب والطالبات و... انتهت إلى تقرير أن أمريكا أقل دولة في مستوى التعليم بين 19 دولة متطورة تم إجراء استبيان فيها مرارا وأن هناك 23 مليون أمريكي أميون ونصف الموهوبين لا يحققون مستوى علميا يتناسب مع مواهبهم، و40% من طلاب المدارس في سن سبعة عشر لا يستطيعون نسخ مادة مكتوبة، وذكر التقرير أنه لو أرادت قوة معادية أن تفرض أداء تعليميا قليل الجودة على الشعب الأمريكي لاعتبر ذلك مدعاة لإعلان الحرب لكن ذلك يحدث من خلالنا، لقد بددنا هذه المكاسب التي حصلنا عليها في رفع حصلنا عليها في رفع المستوى العلمي لطلابنا بعد التحدي الذي واجهناه بإطلاق القمر الصناعي "سبوتينك" ودعت الجميع إلى المشاركة في إصلاح التعليم.
وأقول: ماذا لو شارك المسلمون في هذا الحوار وقدموا رؤية تعليمية تربوية فيها التوازن بين الروح والجسد، الأخلاق والواقع، الفرد والمجتمع، دور الرجل والمرأة، طرق محاربة الجريمة، بل كم من الخير لو تبنى المسلمون محو أمية 23 مليون أمريكي كم يمكن أن يسلم لله تعالى أو يحمل الخير للإسلام والمسلمين أو يكون حياديا.(1/8)
لذا يجب أن تسير الفتاوى والاجتهادات الفقهية إلى دفع المسلم أن يكون مواطنا مصلحا وإنسانا نافعا، لا يتردد في إنشاء مؤسسات أو المشاركة إن وجدت والتعاون مع أبناء بلده مسلمين وغير مسلمين لوقف الظلم ووقف الحروب والحفاظ على البيئة، ووقف العنف الاجتماعي، وإحياء الأمومة والأبوة والاهتمام بالمرضى والأيتام والفقراء و المساكين، والتأكيد على النظافة وتعميم الخدمات الصحية والرفق بالحيوان ومحاربة المخدرات والتدخين، ورعاية فقراء العالم والمتضررين من الحروب واللاجئين.
إنني أرجو ألا يغالي علينا أعداء الإسلام بأن المسلمين بيننا قوم نفعيون قد أفادوا من المال والعلم والحرية لأنفسهم لكنهم لم يقدموا لبلادهم أوموطنهم شيئا! بل يكون واقعنا العملي "خير الناس أنفعهم للناس".
الضابط الثالث: ضرورة فقه النص والواقع معا:
لا أعلم مخالفا من علماء المسلمين أن الفتوى أو الاجتهاد يجب أن يصدر ممن جمع فقه النص والواقع وأن يجيد إنزال النص على الواقع، والحق أن مجتمع الأقليات المسلمة مبتلى في هذا الجانب بلاء شديدا وعلى سبيل المثال:-
في أمريكا حسب إعلان وزارة الخارجية الأمريكية أكثر من 2000 مركز إسلامي، وروادها حسب دراسة أجرتها جامعة هارتفورد مستعينة بعدد من المؤسسات الإسلامية أكثر من 2 مليون مسلم، والواقع أكثر من هذا ولكن:
أ . لا يوجد أئمة عندهم مؤهل شرعي (فقهي، دعوي، دراسات إسلامية عامة) إلا 240 إماما والباقون غير متخصصين، وبعضهم فيه نبوغ علمي وشرعي ولكن كثيرا منهم يحمل فكرا عشوائيا، فهو يحضر موضوعا لخطبة أو درس أو يقرأ في باب لأنه استفتى فيه، أما الدراسة المنظمة لعلوم القرآن والحديث وأصول الفقه حتى يصل من الجزئيات إلى مقاصد الشريعة ويتكون لديه الحس الفقهي أو فقيه النفس فهذا أمر نادر جدا.(1/9)
ب . كثير من هؤلاء الأئمة رغم فضلهم وشرفهم وسمو رسالتهم ودورهم إما لم تؤهلهم مدارسهم الشرعية التأهيل الكافي، أو تمت عمليات تسطيح فكري تحت ضغط ظروف المصلين المتعجلين فصار الاجترار أكثر من الابتكار، وآفة العلم الترك فنسي بعضهم ما تعلمه ودار في فلك المواعظ والخطب التي تشبه الأكلات السريعة.
ت . أن الجميع في حاجة إلى فقه المجتمع الأمريكي تاريخا وتحديات وآمالا ومشكلات وجرائم وحلولا وهو أمر لا غنى عنه حتى يستطيع أن يشارك في بناء الشخصية الإسلامية الحية في مجتمعها التي تحمل الاعتدال لا الاعتداء أو الاعتزال، هؤلاء جميعا بحاجة إلى دراسات منظمة وليست قراءات عشوائية، ودورات متدرجة ليرتفع إلى المستوى الذي ابتلى بالإصلاح فيه.
والحق أن علوم الإدارة قد تطورت وصارت تعتمد التخطيط للحاضر والمستقبل ولا بد أن يبنى التخطيط على فهم وعلم بأدوار أربعة جمعوها في (SWOT) هى:
(1) معرفة عناصر القوة في المجتمع (Strength)
(2) معرفة عناصر الضعف (Weakness)
(3) معرفة الفرص المتاحة (Opportunities)
(4) معرفة التهديدات (Threat)
هذه فقط مجرد قاعدة بيانات قبل وضع الهدف الكلي والأهداف التفصيلية ثم وضع الوسائل العملية ثم تنزيلها في فترات زمنية وخطوات مرحلية (قصيرة وبعيدة المدى) ثم المتابعة الميدانية والتغذية الارتجاعية، وفي إطار هذا توضع الميزانية ويتم اجتلاب الأكفاء ذوي التخصصات العلمية. فهل يجوز لنا أن نتقدم لإصلاح دنيا الناس وآخرتهم مع الغفلة عن هذه الجوانب الحيوية في واقع الناس حولنا.
أحسب أن عملية التأهيل لفقه النص والواقع والتدريب على الفتوى التي تعالج آلام الواقع ولا تنقل هموما تاريخية أو بعيدة مكانا إلى موقع يمتلئ بالأزمات ويحتاج إلى مفتي أو فقيه شجاع يخوض بعلم وخشية من الله كي يصلح واقعه.(1/10)
يبدو لي أن نجاح فقهائنا ارتبط بهذا المستوى الرفيع من فقه النص والواقع الذي جعل سيدنا عمربن الخطاب لا يتردد في فتاوى وقرارات إدارية شرعية كان قد أشاربغيرها على سيدنا أبي بكر، وواجه قضايا جديدة بفقه فريد، وتبعه علي بن أبي طالب حيث رد حد الشارب إلى أربعين ،وهو الذي أشار على عمر بن الخطاب بثمانين قياسا على حد القذف ، وكان عمر بن عبد العزيز يفتي في المدينة بشاهد واحد ويمين لصاحب الحق ، وجاء تلاميذ أبي حنيفة أبو يوسف والشيباني وابن أبي ليلى ليخالفوا إمامهم اختلاف عصر وزمان ، وليس اختلاف حجة وبرهان ،وكان للشافعي فقهه في العراق ،وآخر في مصر . وناقش ابن تيمية وابن القيم قضايا فقهية قيل فيها إجماع الفقهاء على حكم اجتهادي لا نص قطعي ولم يترددوا في طرح قضايا جديدة تناسب واقعهم وكتب ابن القيم في هذا بما لم يسبق إليه في اختلاف الفتوى لتغير الزمان والمكان والأحوال. وبحق يجب أن تأخذ بنصيحة د. المقري الإدريسي المغربي لا يجوز نقل الفتوى في الفروع إلا بعد اعادة الاجتهاد فيها إذا مر عليها خمسون عاما أو تغير المكان ألف ميل وهي اشارة جلية إلى أن كل عرف له أحكامه في الفروع لا الثوابت والأصول. والقضية قطعية لا تحتاج إلى مزيد أدلة لكنها تحتاج إلى جهد جهيد لتحقيق مناطها في واقع المجالس الفقهية وتدريب الأئمة والقيادات الإسلامية حتى تصدر الفتوى من امتزاج فقه النصوص ومقاصدها الشرعية مع واقع المشكلات الحقيقية.
الضابط الرابع: الإحاطة إلى الاجتهاد الجماعي في القضايا العامة:(1/11)
هناك قضايا جزئية أو فردية يمكن لعالم أو إمام أن يفتي فيها وحده سواء ناقلا للفتوى أو مجتهدا أصالة ، لكن القضايا العامة أو بعبارة الفقهاء مما عمت بها البلوى الأصل أن تحال إلى العقل الفقهي الجماعي ، كما ينبغي أن يتحرج أي عالم أو إمام أن يفتي فيها وحده ، وذلك اقتداء بسلفنا الصالح الذي كان يبني الفتوى على هذا التشاور للعقل الجماعي لا الفردي ومنه:
1 - ما قاله الإمام أبو عبيدة معمر بن المثنى البصري في كتاب القضاء: كان أبو بكر إذا ورد عليه حكم نظر في كتاب الله تعالى ، فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به ، وإن لم يجد في كتاب الله نظر في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن وجد فيها ما يقضي قضى به ، فإن أعياه ذلك ، سأل الناس: هل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيه بقضاء؟ فربما قام إليه القوم فيقولون: قضى فيه بكذا وكذا ، فإن لم يجد سنة سنها النبي صلى الله عليه وسلم جمع رؤساء الناس فاستشارهم ، فإذا اجتمع رأيهم على شئ قضى به.
2- ذكر الإمام الدارمي في سننه بسنده عن المسيب بن رافع أن الصحابة كانوا إذا نزلت بهم قضية ليس فيها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر اجتمعوا لها ، وأجمعوا ، فالحق فيما رأوا ...
3 - وذكر ابن القيم في إعلام الموقعين أن عمر بن الخطاب كان يجمع علماء الصحابة يستشيرهم فيما ليس فيه نص ، فإذا اجتمع رأيهم على شئ قضى به ، ولما سير أبا موسى الأشعري إلى البصرة أوصاه بذلك.
4- وروى الطبراني في الأوسط بسنده عن علي بن أبي طالب أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن عرض لي ما لم ينزل فيه قضاء في كتاب ولا سنة ، فكيف تأمرني؟ قال: تجعلونه شورى بين أهل الفقه والعابدين من المؤمنين ، ولا تقضي فيه برأيك خاصة.
ولهذا نجد الإمام الماوردي في صفحاته الأولى من كتابه الأحكام السلطانية يؤكد على هذا المعنى بإيراده قول الشاعر:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا(1/12)
وأحسب أن من اللزوم الضرورية في الاجتهاد الجماعي ما تأسس في المجامع الفقهية من استصحاب ذوي العلم في التخصصات العلمية مثل الطب والفلك والاقتصاد والسياسة والاجتماع والقانون و... وذلك للتطور والتعقد الذي اصطبغت به الحياة المعاصرة وصار تطور كل جانب يقاس بمدى اتساع آفاقه وفروعه وجوانبه خلافا لبساطة الحياة وسهولتها من قبل حيث كان العالم الشرعي يلم بأصول الحياة التي تمكنه من الفتوى دون حرج ، لكن الآن يستحيل أن يحيط علماء الشريعة وحدهم بجوانب الحياة المختلفة مما يوجب الاستعانة بالخبراء في المجال الذي يتصل بالفتوى أو موضوع الاجتهاد ، ليس من باب الاستئناس بل من باب التأسيس.
ولا مانع هنا شرعا ولا عقلا أن يكون هؤلاء الخبراء غير مسلمين ، مع ضرروة الإشارة إلى تكوين علماء وفقهاء ومتخصصين من أبناء البلاد الأصليين من الأمريكيين والأوروبيين و... ليكونوا جزءا من المجامع الفقهية بعد اعدادهم دون تعجل ، لكنه أمر يجب أن يوضع في الحسبان ، وأن توضع له البرامج التي تخرجه إلى حيز الوافع العملي.
الضابط الخامس:اجتماع الخشية القلبية مع الحجة الشرعية في الاجتهاد:(1/13)
لعل أكثر الناس حاجة إلى تقوى القلب هم العلماء والأئمة لأن زلة العالم يضل بها عالم ، واجتماع الخشية القلبية مع الحجة الشرعية أمر لا مناص منه في الاجتهاد الصحيح ، لأن غياب الحجة الشرعية يؤدي إلى ضعف الاجتهاد وارتباك الفتوى ، ويؤدي إلى أن يضع الانسان نفسه على حافة جهنم والعياذ بالله من أفتى بغير علم فليتبوأ مقعده من النار. ابن القيم يذكر أن كثرة الفتوى من كثرة العلم أو قلته. أما الخشية القلبية فهي واضحة جلية في النصوص الشرعية حيث يقول الله تعالى: الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله" ( الأحزاب: ) ويقول سبحانه: ( إنما يخشى الله من عباده العلماء. ) والأحاديث كثيرة عن الذين يكبهم الله على وجوههم لأنهم خافوا الناس مع علمهم فسكتوا أو أفتوا بغير ما يعلمون ويقول الله تعالى لهم : كنت إياي أحق أن تخشى ويكب على وجهه في النار.
هذه في الواقع صارت ضرورة بعد أن كانت غالبة في علمائنا حيث ابتلى الأئمة الأربعة وصبروا على البلاء وأبى كل أن يداهن أو يقول بخلاف ما يعلم ، وكذا ابن تيمية والعز بن عبد السلام كان يصدع بالحق حتى جعل الله تعالى على يديه صناعة الأمراء ومنهم سيف الدين قطز وكان هذا سببا في مواجهة جيوش المغول التى أحرقت الأخضر واليابس وقتلت وهتكت الأعراض وأهدرت تراثا علميا رائدا لم يكن هدا الفتح من تحصيل العلوم والمعارف في لبنات العقل فقط بل صاحبه انكسار في القلب من خشية الله دفعتهم إلى قول الحق ولو كان مرا وهذا الذي يجعل العامة توقر العلماء أو تقتدي بالأئمة وتحول القضايا الأساسية من النخبوية إلى الشعبية حتى يشيع الخير ويتم التغيير والإصلاح.(1/14)
على أن هناك جانبا آخر لهده القضية وهى التى تجعل من هؤلاء العلماء والأئمة أصحاب رسالة مؤثرة تخرج من جدران المجامع والجوامع إلى جميع المواقع هى أن يكون هؤلاء صمام أمان من انفلات المتهورين أو انعزال المتوجسين ليدفعوا بالناس إلى التوسط والاعتدال وحسن الحوار والجدال ولذا قال أستاذنا العلامة الشيخ القرضاوي عبارته الدقيقة في المجلس الأوروبي للإفتاء في دروته المنعقدة في فرنسا : إن اتباع أهواء العامة لا يقل عن اتباع أهواء السلاطين حيث يقترب بعض الدعاة أو الأئمة مما يسمى بـ ما يطلبه المستمعون" فإن وجد من حوله يميلون إلى مذهب معين زكاه على غيره ، أو جماعة معينة رفع من قدرها على حساب غيرها، أو يميلون إلى التشديد والعنف يخشى أن يفتى باليسر. أو وجد بين قوم متساهلين يفتى لهم بالرخص في كل مذهب. وهذا كائن في الغرب خاصة لأن مشايخنا غالبا ما تخضع رواتبهم لمجالس إدارات مختلفة في أمزجتها واتجاهاتها وتضيع معالم الاجتهاد الإصلاحي ليظهر الاجتهاد التسويفي وبهذا يضعف دور العلماء في الشرق باتباع أهواء السلاطين وفي الغرب باتباع أهواء العامة من المسلمين إلا من رحم الله ورزقه قوة في عمله ويقينا في قلبه وشجاعة في نفسه لينهض بواجبه في تقدير المصالح والمفاسد وتحرى الأسباب والمقاصد ويفتى الناس بما يرضي رب الناس. ويحسن التوكل عليه ملتمسا منه الحفظ والأمان فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين. فإن ابتلى صبر موقنا أنه بصبره وتوكله على الله سوف تصل رسالته إلي نياط القلوب الحية والعقول الدكية فتؤتى ثمارها بإذن ربها كما ننهل الآن من علم أئمتنا الأعلام مع تباعد الزمان . وهده من سنن الرحمن التى لا تتخلف في أي زمان أو مكان.
الضابط السادس: اعتماد فقه المقاصد في العبادات والمعاملات:(1/15)
مما لا شك فيه أن أفعال الله تعالى وأوامره تخلو من العبث بل لكل أمر هدف أو أهداف ومقاصد تدركها العقول أو لا تدركها و نحن في فقه الأقليات يلزم أن نرجع الى تراثنا الفقهي وسنجد أن فقهاءنا لا يكاد يخلو أحدهم من فقه المقاصد والتعليل إلا ما ورد عن ابن حزم ومدرسته الظاهرية لكن الجمهور يقولون بالتعليل والمقاصد وإن كان بعضهم كتب مشيرا أو مؤصلا أو منظرا لكن أغلبهم في التطبيق العملي عند الإفتاء والاجتهاد يأخد بالمصالح والمقاصد وإلا ما ظهر القياس وهو جوهر التعليل المحدد والمصالح وهو التعليل الموسع والاستحسان وسد الذرائع والحيل الشرعية وهى في مجملها تدور حول فقه المقاصد.(1/16)
ولذا يبدو لي أن من الأهمية إعادة دراسة من كتب مشيرا أو منظرا مثل ما كتبه أبو منصور الماتريدي في مأخد الشرائع أو ما كتبه القفال الكبير أبو بكر في محاسن الشريعة وما كتبه أبو بكر الأبهري المالكي في مسألة الجواب والدلائل والعلل وما كتبه الباقلاني في الأحكام والعلل والمقنع في أصول الفقه وما كتبه الجويني في البرهان والغياثي وما كتبه الغزالي في المستضعف وشفاء العليل والإحياء والنحول وما كتبه فخر الدين الرازي في التفسير الكبير وما كتبه الآمدي في الأحكام في أصول الأحكام وما كتبه ابن الحاجب في منتهى الوصول والأمل في علمى الأصول والجدل وما كتبه البيضاوي في منهاج الوصول إلى علم الأصول وما كتبه الإسنوى في نهاية السول في شرح منهاج الأصول وما كتبه العز بن عبد السلام في شجرة المعارف وقواعد الأحكام في مصالح الأنام وما كتبه شهاب الدين القرافي في الفروق وما كتبه نجم الدين الطوفي في المصلحة رغم جنوحه أحيانا. وما كتبه ابن تيمية في الفتاوى وما كتبه تلميذه ابن القيم في أعلام الموقعين عن رب العالمين والطرق الحكمية في اصلاح الراعي والرعية وبدائع الفوائد وما كتبه ابن السبكي في جمع الجوامع بحاشية البناني وما كتبه وأصله وفرعه الإمام أبو إسحاق الشاطبيفي الموافقات والاعتصام وما كتبه الشوكاني في إرشاد الفحول ونيل الأوطار وما كتبه شاه الله الدهلوي.
وما كتبه الشيخ محمد عبده وتلميده الشيخ محمد رشيد رضا في المنار وما كتبه ابن عاشور في المقاصد الشرعية والتحرير والتنوير وما كتبه علاء الفاسي عن المقاصد الشرعية وما كتب على يد أعلام الفقه المعاصر مثل شيخنا أبي زهرة والخضري وعلى حسب الله والشيخ القرضاوي ود. عبد المجيد النجار ود. إسماعيل الحسني وأحمد الريسوني ود. يوسف العالم ود. طه العلواني ود. محمد البلتاجي وآخرون.
هده الثروة الهائلة تحتاج إلى دراسة ووعي وهضم يجعل للمقاصد مكانها في العبادات والمعاملات.(1/17)
وإني هنا لا أفرق بين العبادات والمعاملات في فقه المقاصد وإمكانية إدراكه فقد تخفى على فقيه دون غيره لكن لكل مقصد قد تدرك كثيرا منه في المعاملات ويكون أقل في العبادات لكن عدم العلم لا ينفي الوجود ولذا لم يكن هناك بأس من صلاة التراويح في المسجد أيام عمر وجعلها عشرين وزادها سيدنا عثمان غلى ست وثلاثين وأحدث أذانا في الزوراء وجاز إخراج زكاة الفطر نقدا أو من غالب قوت أهل البلد وجاز في الرجم اختيار أيسر الأوقات للنساء والضعفاء وأصحاب العلات. لكن فقه المقاصد لا يعنى تجاوز نص قطعي في حكم جزئي لمخالفته في ذهن المجتهد مقصدا عاما بل الأولى إعمال النص لا إهماله والجمع وليس النسخ أو الترجيح من أول بادرة لأن المقصد الكلي أخد من نصوص جزئية ويستحيل تعارض الجزئي مع الكلي في النصوص الشرعية ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا.
ولعل أكثر الفقهاء الأول الذين جمعوا العمل بالنص في الأمر الجزئي والمقصد الكلي سيدنا عمر بن الخطاب حيث توقف في تقبيل الحجر الأسود والاصطباع والرمل مع النص ، وتوسع في الاجتهاد المقاصدي في سهم المؤلفة قلوبهم في مصادر الزكاة وقطع يد السارق في باب العقوبات والإلزام بالطلقات الثلاث ، ومنع أبي حديفة من الزواج بالكتابية ومنع توزيع أرض السواد وورث الأم الثلث الباقي بعد الزوج ليعطي للأب ضعف الأم والعول والمسألة المشتركة و... مما أجاب عنه أستاذي الدكتور محمد بلتاجي في منهج عمر بن الخطاب في التشريع في أن سيدنا عمر كان ممن ينحو نحو فقه المقاصد والمصالح في جميع الأحكام والأقضية.(1/18)
ولعلنا لا نبعد إذا قلنا إن حادثة صلاة العصر في بني قريظة كانت اجتهادا مقاصديا في أمر تعبدي فيه نص قطعي دلالة وثبوتا لكن الذين صلوا في الطريق هم سلف أهل المعاني والقياس والذين صلوا في بني قريظة هم سلف أهل الظاهر كما ذكر ابن القيم وهما نمطان فكريان وتبقى أن تجتمع القلوب مهما اختلفت العقول فإن اختلاف العقول ثراء واختلاف القلوب وباء.
الضابط السابع: مراعاة الأولويات وفقا للإمكانات الداخلية والظروف الخارجية:
من الواجب حقا أن تراعى الأولويات وفقا لهذين المعيارين "الإمكانات الداخلية والظروف الخارجية" اقتداء بالهدى النبوي والنص القرآني مما لا يخطئه البصير بكل مرحلة من مراحل الدعوة . ففي المرحلة الأولى كان إخفاء الدعوة ولم يعلن عن أسماء المسلمين حتى أسلم حمزة وعمر وكانت علانية الدعوة واستمر إخفاء أسماء الضعفاء وهاجر قوم إلى الحبشة منعا للصدام وفتحا للحوار وللدعوة في أرض لا يظلم فيها أحد وكان المنهج "كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة".(1/19)
ولم يستجب النبي صلى الله عليه وسلم للظروف الخارجية من الإيذاء والتعذيب والاستهزاء حتى قتلت سمية بنت خياط بضربة في قبلها وقتل زوجها ياسر والنبي يقول: صبرا آل ياسر إن موعدكم الجنة. ونهى سعدا أن يستعجل أمرا قبل أوانه لقوله تعالى : ولا يستخفنك الدين لا يوقنون" لكن النبي لما صارت عنده دولة لم يسكت على مجرد كشف عورة امرأة مسلمة في سوق بني قينقاع وهو أمر أيسر كثيرا مما حدث مع سمية ، لكن الآن معه دولة بعد أن كانت جماعة مطاردة ، ومع هذا واجه بني قينقاع وعلمنا العدل بعدم تعرضه لكل اليهود وكان بجوارهم بنو النضير وبنو قريظة لم يتعرض لهم حيث لم تبد منهم خيانة آنئد. لكن النبي مع وجود الدولة كان مستعدا للتفاوض مع بعض قبائل بني غطفان وغيرهم على أن يعطوا ثلث ثمار المدينة عندما جاء عشرة آلاف مقاتل إلى المدينة لاستئصال شأفة المسلمين ، ومع حفر الخندق لم يعد هناك حماية بعد خيانة يهود بنى قريظة من ناحية الجنوب فصارت المدينة بلا حماية ، ولولا رفض قيادات المدينة لكان الأمر قد تم.(1/20)
وتساهل أيضا في بعض الكلمات والبنود في صلح الحديبية مثل كتابة باسمك اللهم ، ورسول الله ، أو شرط رد المسلم إلى الكفار إن وصل إلى المدينة وذلك لأولوية أكبر وهي الانتشار الدعوي داخل الجزيرة وخارجها ولم يدفعه جلد المؤمنين وبيعتهم على الموت والجهاد وصلف الكافرين في ردهم لهم عن المسجد الحرام أو الشروط لأن هناك أولوية أكبر وهى الانتشار الدعوى داخل وخارج الجزيرة ولم يصغ الى حمية عمر بن الخطاب وغيره ولم يتراجع عندما توقف الأصحاب عن التحلل بالحلق والذبح بل مضى غير مجامل ولا تابع لهده الرغبات العارمة ويزداد الأمر وضوحا في سيرته عندما دخل مكة فاتحا ودخل الناس في دين الله أفواجا لكنه لم يهدم الكعبة ليبهينها على قواعد إبراهيم خشية أن يرتد حديثو العهد بالاسلام ولم يقتل المنافقين مراعاة لأولوية جمع الصف ولم الشمل وألا يصد هذا أحدا عن الدخول في الإسلام وهو نفس المبدأ المستفاد من موقف سيدنا هارون مع بني اسرائيل لما عبدوا العجل وعاتبه سيدنا موسى .
هذه بعض الأدلة على مراعاة الأولويات وهو ما أصله استادنا العلامة الشيخ القرضاوي في فقه الأقليات والأولويات والمآلات والموازنات وشاركه عدد من العلماء مما يحتاج إلى مزيد تأصيل وتعميق وتوسيع حتى يكون جذرا من جذور الاجتهاد في كل اجتهاد خاصة فقه الأقليات.
ويبدو لي وهدا يحتاج الى اجتهاد جماعي أن أولويات المسلمين في الغرب تترتب كما يلي:
أولا: التوازن بين بناء الرجال والنساء وبناء المؤسسات.
ثانيا: اعداد قيادات حية من أبناء البلد الأصليين.
ثالثا: استيعاب الشباب والفتيات في برامج تربوية ودعوية متدرجة.
رابعا: الوحدة الإسلامية بين الجماعات والجنسيات.
خامسا: السعى لبناء الوقف الخيري لاستقرار المؤسسات الإسلامية.
سادسا: انشاء قنوات فضائية ومؤسسات اعلامية باللغات الحية في العالم.
سابعا: فتح الحوار والجدال بالحسنى مع غير المسلمين وتقديم النفع لهم.(1/21)
ثامنا: انشاء مشاريع اقتصادية على أسس اسلامية توقف استمرار أموال المسلمين تروسا في عملية الاقتصاد الربوي.
هذه مجرد رؤية عامة تحتاج الى نظر فقهي جماعي كما أنها لا تلغي خصوصات كل بلد واقليم ومدينة فأهل مكة أعلم بشعابها ولا شك أن أولويات مسلمي أمريكا وأوربا الذين يتمتعون بحريات كبيرة غير أولويات مسلمي الهند وكشمير والشيشان بل ودولنا الأسلامية تختلف حيث تأتي الأولوية هنا المطالبة بالحريات وحق العيش الكريم ووقف العنصرية والاعتداء على الحرمات والمقدسات.
ولا شك أيضا أن أولويات الأمة عامة نحو القضية الفلسطينية تختلف عن مسلمي الداخل في فلسطين الدين فرضت عليهم ألوان من الظلم والقهر والقتل التخريب مما فرض عليهم المواجهة على حين يجب على بقية الأمة المساندة.
الضابط الثامن: التقريب بين المذاهب والانتقاء أو الابداع في الاجتهاد:
هناك مغالاة في قضية المداهب بين من يدعو الى الغاءها "اسلام بلا مداهب" أو العصبية المدهبية في التقيد بآراء المذهب وإن كانت أضعف استدلالا، أو أبعد مناسبة للمتغيرات الزمانية والمكانية والوسط في كل شئ أعدله وهو التقريب بين المذاهب كما طرق الشيخ أبو زهرة في الوصية عند الجعفرية وذكر أن المذاهب مثل الجداول الصغيرة التى يجب أن تصب في نهر الأسلام الكبير، ومن الخطأ الكبير اعتبار المذهب هو الدين أو نهر الأسلام الوحيد والمسلمون مع تقارب الكرة الأرضية من بعضها حتى صارت مثل القرية الصغيرة أو الفندق الكبير لم يعد ممكنا ولا مقبولا بقاء مثل هذه العصبية المذهبية ونحتاج هنا أن نستحضر هذه الصور الحية في قبول الرأي الآخر منها ما يلي:(1/22)
أولا: ما روى عن عمربن الخطاب أنه سئل عن أمر فرد السائل علي سيدنا علي بن أبي طالب فلما رجع بعد الاستفتاء سأله عن الجواب فأخبره فقال له: لو أفتيتك لقلت بغير هذا. فقال الرجل: وما يمنعك وأنت أمير المؤمنين؟ فقال سيدنا عمر: لو كنت أردك الى كتاب أو سنة لفعلت ولكن أردك إلى الرأى والرأي مشترك.
ثانيا: ما روى أن ابا حنيفة استفتى في مسألة لا نص فيها فأفتى برأيه فقال له السائل: أو ما تفتى به هو الحق الذي غيره الحق، أن نظن الا ظنا وما نحن بمستيقنين" ولذا خالفه تلاميذه النجباء أبو يوسف واين أبي ليلى ومحمد بن الحسن الشيباني وخالف بعضهم بعضا وبقى اختلاف ثراء في العقول وليس وباء في القلوب.
رابعأ: ما استقر عليه العرف الفقهي من تعريف الاجتهاد بأنه بذل الفقيه أقصى جهده في استنباط حكم شرعي ظني. والظن لا يلغي حق الغير في اعادة الاجتهاد واستنباط حكم آخر.
5)صار من المعلوم من الواقع بالضرورة في بلادنا الإسلامية الأخذ من جميع المذاهب دون عصبية أو حساسية ومنه ما يلي :
أ-أخذت مصر والأردن وسوريا والمغرب بالوصية الواجبة من الفقه الشيعي الجعفري .
ب- أخذت أغلب الدول الإسلامية بترجيح ابن القيم وغيره في اعتبارالطلاق الثلاث في مجلس واحد طلقة واحدة ، خلافا لرأي الأئمة الأربعة مجتمعين.
ج- أخذت كثير من الدول بالحرمان من الميراث للقتل الخطأ خلافا لأغلبية الناس في بلادها الذين يتبعون المذاهب التي ترى أن القتل العدواني فقط هو المانع من الإرث، وذلك لشيوع الفساد والاحتيال في إخفاء قتل العمد.(1/23)
د- صارت جميع المجامع الفقهية تعتمد الاختيار والانتقاء من المذاهب الثمانية ( الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي والظاهري والزيدي والجعفري والإباضي ) ، فهل يبقى المسلمون في الغرب أو الشرق وهم أقلية بعيدا عن هذا التسامح واتساع الأفق . إن أية أقلية ستجد فيها جميع المذاهب ،ولذا يجب أن تسود روح التسامح في الأخذ بالأقوى دليلا والأنسب حالا من أي مذهب ، وقد يضطر المسلمون إلى الاخذ بالمذهب المرجوح لمصلحة أكبر ، ولذا ، لا يصح الإنكار على المجلس الأوربي للإفتاء في فتواه بجواز ميراث المسلم من غير المسلم ، مع موافقة ذلك لرأي معاذ بن جبل ، ومعاوية بن أبي سفيان ، ومحمد بن الحسن ، وسعيد بن المسيب ، ومسروق ويحيى بن يعمر وإسحاق بن راهوية وابن تيمية وابن القيم مع خلاف هذا لما اتفق عليه الأئمة الأربعة ، كما لا يصح الإنكار في الفتوى بجواز بقاء المرأة المسلمة لدى زوجها الذي لم يسلم لورود الخلا ف فيها وتحقق مصالح شرعية ودعوية عديدة ، وإن كان هذا خلاف الرأي السائد لدى جمهور الفقهاء.
الضابط التاسع : تبني فقه التيسير ومراعاة التدرج :(1/24)
من خصائص الإسلام اليسر ، ومن قواعده رفع الحرج ومنع الضرر ، ومن سماته الرحمة ، وهذه يجب أن تبقى معالم وقواعد تحكم الاجتهاد مهما قيل إنه تساهل وترخص وتحلل من عروة الدين، لأن هذا هو جوهر الشريعة ، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما مالم يكن إثما ، ولم تكن هناك دلالة على مراعاةم اليسر قبل حادثة المحترق الذي جامع أهله في نهار رمضان ، والأعرابي الذي بال في المسجد ، وفي كل كانت كل خصائص الرحمة واليسر ورفع الحرج تتعامل مع الموقف ليس كحالة بل ظاهرة ، ومنهج في التيسير ورفع الحرج، بل جامع الرجل أهله ولم يقدر على الصوم شهرين أو الإنفاق والإطعام واكتفى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله :"أطعم أهلك ولا تعد"، بعد أن أخذ قدرا كبيرا من التمر بعد كل ما فعله.
لعل هذا هو ماحدا بأستاذنا الشيخ العلامة الشيخ القرضاوي إلى استقراء التاريخ الفقهي ولاحظ أن أعلى درجات التيسير ورفع الحرج والتدرج كانت في فقه النبي صلى الله عليه وسلم ثم الصحابة من بعده ، وبدأ الأخذ بالاحتياط شيئا فشيئا حتى كادت أن تغلق بالاحتياط كل أبواب التسير، والأولى العودة إلى سلف الأمة وصدر عهدها.
ولقد كان الشاطبي بارعا في بحث علاقة التخفيف بالمشقةم تحت عنوان مقصد اشارع من وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها ، فذكر أن الشارع يعمد إلى المشقة والتشديد عند الانحلال والتفسخ ( العقوبات ) والتيسير عند الغلو في الدين مثل صيام وقيام عبدالله بن عمرو بن العاص ، ورغبة سعد في التصدق بكل ماله ، لكن بين هذين هناك التوسط والاعتدال في فرض الصلاة والزكاةم والصيام والجهاد ، وارتبطت المشقة بالمصالح ، فهناك مشقة محدودة بالتكليف بصلاة الفجر ومشقة بالغة في التكليف بالجهاد ،وبينهما مشقة الحج والرع يراعي هناك حجم المصالح المترتبة، فيقدم التكليف مع ما فيه من مشقة ، ولكن إذا انعدم هذا القدر من المصالح ، فالأصل هوالتيسير.(1/25)
أما مراعاة التدرج خاصة مع المسلم الجديد ، والمسلم التائب بعد حياة بعيدة ، ولا يعني هذا إن سأل عن حكم شيء أن نخالف المقطوع به شرعا ، بل هناك فرق بين أن يعرف الطبيب المؤمن أن المخدرات محرمة ومدمرة ، وبين أن يتدرج معه في العلاج حتى يدع تعاطيها .
الضابط العاشر: الاجتهاد في ايجاد بدائل مشروعة للمنهى عنه في واقع الأقليات:
من الضروري الا يغيب عن الفقيه أو الأمام أن يوجد للمسلمين بدائل شرعية للأوضاع النهى عنها شرعا ، والا يكتفى ببيان الحرمة أو الكراهة ، ومن الأمثلة على ذلك في واقع الأقليات ما يلي:
أولا: ادا بالغ الزوج في ايداء زوجته والاضرار بها وطلبت اليه زوجته الوحيدة في الغرب ان نلجأ معا إلى التحكيم الشرعي فأبى فليس على الفقيه أو الإمام أن يفتيها بالذهاب الى المحكمة في الدولة غير الأسلامية.
ثانبا: أذا كان الأب معيلا ولا يجد من يقرضه قرضا حسنا أو يشاركه في ثمن منزل بالطريق الشرعي فليس من حرج على الامام أن يفتيه بشراء بيت بالقرض الربوي إذا لم يجد سبيلا غيره وكانت الأسرة معرضة للشتات.
ثالثا: إذا كانت الاعتداءات على مؤسسات وبيوت المسلمين في الهند لا تتوقف فلا حرج فيما انتهى اليه المجمع الفقهي بالهند الى جواز التأمين على هذه المؤسسات أو البيوت مع اقرارهم بما فيه من ربا وقمار وغرر... حتى يستطيع المسلمون مواصلة الحياة والا شردوا.
هذه أمثلة لا تفيد الحصر ولا تعنى أن يكون البديل هو الأخذ بالرخصة أو ارتكاب المحرم للضرورة التى تقدر بقدرها فبعض من أرادوا شراء بيوت وهم موضع ثقة طلبت منهم أن يذهبوا الى بعض الموسرين ويشتركوا في شراء منزل ويستأجر حصتهم ثم يكون في العقد حق شراء حصة واحد وراء الآخر بسعر يوم الشراء وتم ذلك والحمد لله والأقليات اذا كثرت في تجمع واحد يمكن أن يباشروا الذبح الحلال لكنه لا يكون بديلا في أماكن أخرى.(1/26)
هذه اجمالا رؤية متواضعة فيها جهد المقل وأدعوا الله أن يكتب لي أجر الاجتهاد المضاعف فيما أصبت والآجر الكامل فيما أخطأت والله تعالى من وراء القصد وهو نعم المولى ونعم النصير.(1/27)
الطلاق وأحكامه
– الشيخ حسين حلاوة –
بحث مقدم للدورة الخامسة عشرة للمجلس جمادى الأولى 1426هـ يونيو 2005م
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا وقدوتنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه إلي يوم الدين وبعد
فإن الإسلام قد أولى الأسرة عناية خاصة فشرع لها من الأحكام ما يضمن سلامتها من التفكك ويحفظ كيانها من الضياع ويجعلها لبنة قوية تقوم عليها الأمة ، وقد أفردت مؤلفات جمة في أحكام الأسرة بل ما يخلو كتاب من كتب الفقه أو الحديث إلا وفيه كتاب يسمى كتاب"النكاح" او "الزواج" يحمل بين جنباته أحكام الأسرة بدءً من الحث على الزواج استجابة لأمر الله تعالى "وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم أن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم" مروراً بأحكام الخطبة والعقد والحقوق المترتبة عليه وانتهاء بفرق الزواج وأحكامه والتي منها موضوع هذا البحث والذي جاء تحت عنوان " أحكام الطلاق في الشريعة الإسلامية" حاولت البحث في أهم النقاط التي تدور حول الطلاق مثل حكم الطلاق والحكمة من تشريعه، ولم كان بيد الرجل لأرد فيه على المشككين الذين يحاولون النيل من الإسلام في مثل هذه المسائل ثم عرجت على أركان الطلاق وشروط كل ركن ثم تحدثت عن أقسام الطلاق من حيث صفته والأثر الناتج عنه ومن حيث الصيغة المستعملة فيه وزمن وقوعه مدعماً بآراء أهل العلم وادلتهم ثم ختمته بنصائح للحد من الطلاق وهذا العمل المتواضع أتقدم به بين يدي شيوخي وأساتذتي رئيس و أعضاء المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث في الدورة الثالثة عشرة للمجلس والتي تدور حول الأسرة ومشكلاتها في الغرب والحلول الشرعية فإن أحسنت فمن الله وحده وإن أخطأت فمن نفسي وما أبري نفسي.
هذا وقد قسمت البحث في: مقدمة وأربعة فصول:
المقدمة.
الفصل الأول: الحكم التكليفي للطلاق.
? المبحث الأول: تعريفه.(1/1)
? المبحث الثاني: الفرق بين الطلاق والفسخ.
? المبحث الثالث: مشروعيته وحكمه.
o المطلب الأول: مشروعيته
o المطلب الثاني: حكمة مشروعيته
o المطلب الثالث: حكم الطلاق
الفصل الثاني: أركان الطلاق.
? المبحث الأول: الزوج"المطلْق"
? المبحث الثاني: الزوجة"المطلَّقة".
? المبحث الثالث: الصيغة.
الفصل الثالث: أقسام الطلاق
? المبحث الأول : الطلاق من حيث صفته
o المطلب الأول: الطلاق السني.
o المطلب الثاني: الطلاق البدعي.
? المبحث الثاني: الطلاق من حيث الأثر الناتج عنه.
o المطلب الأول: الطلاق الرجعي.
o المطلب الثاني: الطلاق البائن.
? المبحث الثالث: الطلاق من حيث الصيغة المستعملة.
o المطلب الأول: الطلاق الصريح.
o المطلب الثاني: الطلاق الكناية.
? المبحث الرابع: الطلاق من حيث زمن وقوعه
o المطلب الأول: الطلاق المنجز.
o المطلب الثاني: الطلاق المعلق.
الفصل الرابع: كيف نحد من الطلاق.
كتبه
الشيخ حسين حلاوة
دبلن في 17 جمادى الأولى 1426هـ
- - - - -
الفصل الأول
الحكم التكليفي للطلاق
المبحث الأول: تعريف الطلاق
توطئه:
العقد الذي تقوم عليه الزوجية عقد له قدسيتة في الإسلام سماه الله تعالى في كتابه الحكيم بالميثاق الغليظ حين قال: { وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً }(1)وهذا العقد كسائر العقود الشرعية له التزامات وواجبات وحقوق يجب على الطرفين الوفاء بها استجابة لقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود }(2)وخص عقد الزواج بالحث على الوفاء به فقال - صلى الله عليه وسلم - :"أحق ما أوفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج"(3)فإذا أُريد لهذا العقد أن يفرق فلا خلاف بين الفقهاء في ان الفرقة تكون
__________
(1) سورة النساء 21
(2) سورة المائدة الآية 1
(3) رواه البخاري ومسلم.(1/2)
بالطلاق أو الفسخ وان اندرج تحت كل قسم من هذين القسمين أنواع قد يكون بعضها بحكم القاضي أو لا وقد يكون بعضها برضا الطرفين أو أحدهما وسوف ابدأ بتعريف الطلاق لغة واصطلاحاً ثم تعريف الفسخ كذلك لغة واصطلاحاً والفرق بين ما يعتبر طلاقاً وما يعتبر فسخاً.
الطلاق في اللغة:
رفع القيد مطلقاً سواء أكان حسياً أم معنوياً جاء في مختار الصحاح "أطلق الأسير خلاه وأطلق الناقة من عقالها فطلقت، والطليق الأسير الذي اطلق عنه اساره وخلي سبيله" وجاء فيه ايضاً طلق امرأته تطليقاً وطلقت هي تطلق بالضم طلاقاً فهي طالق وطالقة أيضاً قال الأخفش ولا يقال طُلقت بالضم(1).
وقال الراغب أصل الطلاق التخلية من الوثاق ويقال أطلقت البعير من عقاله إذا تركته بلا قيد ومنه استعير طلقت المرأة نحو خليتها فهي طالق اي مخلاة عن حبالة النكاح(2).
الطلاق في الشرع:
عرفه الحنفية: بقولهم "رفع قيد النكاح في الحال أو المآل بلفظ مخصوص.(3)
وعرفه المالكية:بأنه إزالة القيد وارسال العصمة وقيل حل العصمة المنعقدة بين الزوجين.(4)
وعند الشافعية: هو اسم لحل قيد النكاح بلفظ الطلاق ونحوه.(5)وأما الحنابلة فقد عرفوه بأنه حل قيد النكاح.(6)
ويمكن أن نعرف الطلاق تعريفاً أشمل لشروطه وأركانه بأنه حل عقد الزواج الصحيح في الحال أو المآل بالصيغة الدالة على ذلك(7).
المبحث الثاني: الفرق بين الطلاق والفسخ.
الفسخ لغة:
النقض يقال فسخ البيع والعزم فانفسخ أي:نقضه فانتقض.
الفسخ أصطلاحاً:
__________
(1) مختار الصحاح .
(2) المفردات في غريب القرآن 306.
(3) الدر المختار 426
(4) حاشية العدوي ج2ص102
(5) كفاية الأخبار ص 517.
(6) المغني لابن قدامة ج8ص233
(7) المفصل لإي أحكام المرأة ج7ص347.(1/3)
اعلان ترتفع به أحكام عقد الزواج في الحال ولا يؤثر على ماكان قبله(1)أي: إن الفسخ لا يؤثر في صحة نسب الأولاد الحاصلين للزوجية قبل الفسخ ولا تعتبر المعاشرة الزوجية التي حصلت بين الزوجين قبل الفسخ فعلاً آثماً.
الفرق بين الطلاق والفسخ:
1- الطلاق إنما يكون من زواج صحيح ويعتبر انهاءً له في الحال أو المآل أما الفسخ فهو نقض لعقد ظهر أن فيه خللاً عند نشوئه، كما لو ظهر أن الزوجة كانت محرمة عليه عند العقد بالرضاعة مثلاً، أو طرأ على عقد الزواج الصحيح أمرٌ عارض منع بقاءه صحيحاً كما لو ارتد أحد الزوجين.وقد يكون من زوج صحيح كما في الخلع عند من يرى أنه فسخ.
2- الطلاق حق يملكه الزوج ويملك ايقاعه متى شاء أو تفويض أو توكيل من شاء ليوقعه، أما الفسخ فيكون لأسباب قارنت العقد أو طرأت عليه.
3- الطلاق ينقص العدد الذي يملكه الزوج على زوجه من الطلقات أما الفسخ فلا ينقص من العدد شيئاً.
4- الطلاق منه الرجعي الذي يملك فيه الزوج حق الرجعة قبل انقضاء عدتها، ومنه البائن بينونة صغرى ويحق للزوجين أن يعودا إلى عش الزوجية بعقد جديد ومهر جديد، ومنه البائن بينونة كبرى والذي لا تحل فيه الزوجة لزوجها حتى تنكح زوجاً غيره، أما الفسخ فهو رفع للعقد من الأصل وجعله كأن لم يكن.
5- الطلاق قبل الدخول يوجب نصف المهر أما الفسخ قبل الدخول فلا يوجب شيئاً للمرأة.
المبحث الثالث: مشروعيته وحكمه.
المطلب الأول: مشروعيته ...
الطلاق مشروع بنص القرآن الحكيم والسنة المطهرة واجماع الأمة: أما القرآن الكريم فقد وردت نصوص عدة تدل على مشروعيته منها قوله تعالى: { الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان }(2)وقد سميت سورة في القرآن بسورة الطلاق وجاء فيها قوله تعالى: { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن }(3).
__________
(1) احكام الزواج والطلاق والميراث ص 154
(2) سورة البقرة الآية 229.
(3) سورة الطلاق الآية 1.(1/4)
وفي السنة أخبار كثيرة تدل على مشروعيته كذلك منها حديث عمر "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طلق حفصة ثم راجعها"(1)،وجاء في الصحيحين "أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض فسأل عمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :"مره فليراجعها ثم ليتركها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد وأن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء"(2). وقد اجمعت الأمة على مشروعيته وما يخلوكتاب من كتب الأحاديث أو الفقه الجامعة إلا وفيها باب يتحدث عن الطلاق بل إن هناك من العلماء من أفرده بمؤلف خاص.
عدد الطلقات:
__________
(1) أخرجه أبو داود ج2ص712، والحاكم ج2ص197. وصححه ووافقه الذهبي على ذلك.
(2) متفق عليه واللفظ(1/5)
كان الطلاق في الجاهلية غير محصور بعدد يطلقها ما شاء وله أن يراجعها مالم تنتهي عدتها يقول الإمام القرطبي عند تفسير قوله تعالى { الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره }(1):ثبت أن أهل الجاهلية لم يكن عندهم للطلاق عدد وكانت عندهم العدة معلومة مقدرة وكان هذا في أول الإسلام برهة يطلق الرجل امرآته ما شاء من الطلاق فإذا كادت أن تحل راجعها ما شاء فقال رجل لامرأته على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لا آويك ولا أدعك تحلين قالت وكيف قال: أطلقك فإذا دنا مضي عدتك راجعتك فشكت المرأة ذلك لعائشة فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله تعالى هذه الآية بياناً لعدد الطلاق الذي للمرء أن يرتجع دون تجديد مهر وولي ونسخ ما كانوا عليه(2)وقد حددت الآية عدد الطلقات التي يملكها الزوج على زوجته بثلاث لحكمة سامية، وهذا من رحمة الله تعالى بعباده وسمو تشريعه.
المطلب الثاني: حكمة مشروعيته
__________
(1) سورة البقرة الآية 229 وما بعدها.
(2) تفسير القرطبي ج2ص111.(1/6)
حين شرع الإسلام الزواج وضع الضوابط التي تجعله سعيداً قائماً على المودة والرحمة وحسن العشرة كما قال تعالى: { ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة }(1)فحث على حسن اختيار كل من الزوجين لصاحبه يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - " تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك"(2)وفي صحيح مسلم يقول المعصوم - صلى الله عليه وسلم - : "الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة"(3)وقال - صلى الله عليه وسلم - : "إن جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير"(4). كما شرع الإسلام الخطبة كمقدمة للزواج يرى الرجل فيها شريكة حياته وترى المرأة شريك حياتها قبل العقد حتى يطمئن كل منهما إلى أن في الآخر ما يرغبه في التزوج به والحياة الطويلة معه فعن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - قال خطبت امرأة فقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم - "هل نظرت إليها قلت لا قال أنظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما"(5)، وعن جابر - رضي الله عنه - قال :قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل" قال جابر: فخطبت جارية فكنت أتخبأ لها حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها وتزوجها فتزوجتها"(6)،
__________
(1) سورة الروم الآية 121.
(2) متفق عليه.
(3) رواه مسلم والنسائي والترمذي.
(5) أخرجه الترمذي والنسائي واسناده صحيح.
(6) أخرجه أحمد وأبوداود وحسنة الحافظ في الفتح وقال في بلوغ المرام رجاله ثقات..(1/7)
وكذلك المرأة من حقها أن تنظر إلى من يتقدم لزواجها ولها كامل الحق والحرية في أختيار شريك حياتها دون ضغط عليها أو اكراه من أحد، ،ففي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:" لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا تنكح البكر حتى تستأذن قالوا يا رسول الله وكيف إذنها قال أن تسكت"(1)وقد حدث زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما حكت عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنه - أنه جاءت فتاة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت يارسول الله: إن أبي زوجني ابن أخيه يرفع بي خسيسته فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمر إليها قالت: فإني أجزت ما صنع أبي"(2)ولكن أرادت أن تعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شئ .
وكما يبحث الرجل عن الجمال والحسن فإن المرأة كذلك تبحث عما يبحث عنه الرجل قال عمر - رضي الله عنه - :"لا تزوجوا بناتكم من الرجل الذميم فإنه يعجبهن منهم مايعجبه منهن"(3).
وحث الإسلام كذلك على حسن معاملة كل من الزوجين لصاحبه فقال - صلى الله عليه وسلم - مخاطباً الأزواج:" خيركم خيركم لأهله"(4). وضرب - صلى الله عليه وسلم - المثل الأعلى والقدوة العليا في حياته مع أزواجه حتى أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يعاون أهله في المنزل ويكون في حاجتهم كما كان جميل العشرة دائم البشر يداعب أهله ويتلطف بهم ويوسعهم نفقة ويضاحك نساءه حتى إنه كان إذا صلى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلاً قبل أن ينام يؤانسهم بذلك"(5).وهذا تطبيق عملي منه - صلى الله عليه وسلم - لقوله تعالى: { وعاشروهن بالمعروف }(6).
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2) أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه.
(3) المجموع للنووي
(4) سنن ابن ماجه ج1ص636.
(5) تفسير ابن كثير ج1ص466
(6) سورة النساء الآية 19.(1/8)
ورغب كذلك الزوجة في حسن معاشرة زوجها فقد روى الإمام الترمذي عن أم سلمة - رضي الله عنه - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أيما امرأة باتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة"(1)، ويقول الإمام الشوكاني في تعليقه على هذا الحديث: "وفيه الترغيب العظيم إلى طاعة الزوج وطلب مرضاته وأنها موجبة للجنة"(2)، وجعل الإسلام الحقوق والواجبات بين الزوجين مشتركة كل له حقوق على الآخر وعليه واجبات تجاهه فقال تعالى: { ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف }(3). ورغم هذا راعى طبيعة البشرية في الإنسان واختلاف الطباع بين الزوجين فقد يحدث بينهما ما يعكر الصفو ويكدر الحياة وقد يكون السبب في ذلك الزوج أو الزوجة أو هما معاً فقدم القرآن الكريم من الادواء ما يعالج ذلك كله فقال تعالى: { وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو أعراضاً فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً والصلح خير }(4). وقال تعالى: { واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً إن الله كان علياً كبيراً }(5)، وقال تعالى : { وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا أصلاحاً يوفق الله بينهما }(6)
__________
(1) الترمذي ج4ص325.
(2) نيل الاوطار ج6ص2201.
(3) سورة البقرة الآية 34.
(4) سورة النساء الآية 128.
(5) سورة النساء الآية 34.
(6) سورة النساء الآية(1/9)
ومع هذا كله قد تستحيل العشرة وتتحول الحياة إلى جحيم لا يطاق وبدلاً من السكن والمودة والرحمة يصبح الشقاق والخصام وسوء الأخلاق ويقع الضرر المحقق على الزوجين أو أحدهما ومعهما الأولاد ومن حولهما الأهل والأصحاب وبهذا تفوت الحكمة التي من أجلها شرع الزواج فإما أن يأمر الشرع بالابقاء على الزوجة وهنا قد تحدث فتنة وجرائم تصل أحياناً إلى أن يفكر كل واحد من الزوجين بالتخلص من صاحبه ولو بالقتل أو يعمد إلى الخيانة الزوجية تنفيساً عن نفسه كا يحدث في المجتمعات التي تمنع الطلاق وإما أن يتعامل الإسلام بروح الواقعية ويراعي المفاسد والمصالح بأن يقدم الضرر الأخف على الضرر الأشد ويختار أهون الشرين ويبيح الطلاق ويضع الضوابط والأصول التي تحفظ الحقوق لكل منهما. يقول ابن قدامة الحنبلي رحمه الله:" ربما فسدت الحال بين الزوجين فيصير بقاء النكاح مفسدة وضرراً محضاً بإلزام الزوج النفقة والسكنى وحبس المرأة مع سوء العشرة والخصومة الدائمة من غير فائدة فاقتضى ذلك شرع ما يزيل النكاح لتزول المفسدة الحاصلة منه"(1)ويقول العلامة الكاساني رحمه الله :" شرع الطلاق في الأصل لمكان المصلحة لأن الزوجين قد تختلف أخلاقهما وعند اختلاف الأخلاق لا يبقى النكاح مصلحة لأنه لا يبقى وسيلة إلى المقاصد –أي مقاصد النكاح- فتغلب المصلحة إلى الطلاق ليصل كل واحد منهما إلى زوج يوافقه فيستوفي مصالح النكاح منه"(2)، وهذا ماحدا بكثير من البلاد الأوروبية التي كانت تحرم الطلاق وفقاً لمذهبها ودينها أن تتراجع أمام الاشكاليات الكثيرة التي تقع نتيجة لتحريم الطلاق وتصدر القوانين التي تسمح بالانفصال والطلاق.
__________
(1) المغني لابن قدامة ج8ص234.
(2) البدائع ج3 ص112.(1/10)
(1)
__________
(1) مثل أيرلندا والسويد وغيرها من الدول المسيحية وقد نشرت جريدة الأهرام المصرية في تاريخ 17/12/1967م خبراً تحت عنوان مشكلة الطلاق بين الحكومة والكنيسة الإيطالية مانصه: لأول مرة منذ عشرين سنة تجرؤ الحكومة الإيطالية على التدخل في مسالة تخص الكنيسة وحدها وهي مشكلة الطلاق ففي البرلمان مشروع قانون يطالب بإباحة الطلاق في أيطاليا هذا المشروع مقدم منذ سنتين ولكن لم يبث في أمره بسبب المذكرة التي رفعها البابا بولس السادس يرفض فيها رفضاً باتاً دراسة أي موضوع يخص الفاتيكان وحده وخاصة إذا كان هذا الموضوع يتعلق بالطلاق ولكن لم ييأس أصحاب المشروع ظلوا يعقدون الاجتماعات والندوات ويصدرون النشرات ويعلنون أن هناك خمسة ملايين امرأة منفصلة عن زوجها بسبب الفشل في الحياة الزوجية وأن هناك نصف مليون رجل يعيش مع امرأة غير زوجته وأن 300 طفل غير شرعي يولدون عن هذه العلاقات وأخيراً خرج مشروع القانون الخاص بإباحة الطلاق إلى الضو من جديد ومازالت المعارك الحامية تدور حوله داخل البرلمان نفسه وينص المشروع بإباحة الطلاق في حالات معينة منها الإصابة بالجنون والحكم بالسجن لمدة لا تقل عن خمس سنوات والسجن بسبب ارتكاب جريمة جنسية والهجر لمدة خمس سنوات" وقد صدر القانون بموافقة مجلس الشيوخ أولاً ثم المجلس النيابي في مساء يوم 1/11/1970م صحيفة الأنوار اللبنانية تاريخ 2/11/1970 العدد 3622.(1/11)
لكن الإسلام حين شرع الطلاق دلل على فهمه للطبيعة البشرية ونظرته العميقة إلى المشاكل التي تقع ومع هذا فقد تدرج الإسلام في استعمال أخر الدواء وهو الطلاق فجعله ثلاثاً يستطيع الرجل أن يراجع اهله دون عقد أو مهر جديدين بعد الطلقة الأولى أو الثانية قبل انقضاء العدة كما حرم الطلاق أثناء الحيض أو في طهر حصل فيه لقاء بين الرجل وزوجه(1)كل ذلك حتى يفسح المجال لمزيد من التفكير ومحاولة لجمع الشمل ورأب الصدع بل أمر أن تبقى المطلقة في بيت زوجها طيلة فترة العدة لعل النفس تهدأ ويعود إليها صفاؤها فتعود المياه إلى مجاريها ويراجع الرجل زوجه أثناء العدة فإن باءت الرجعة بالفشل فتسريح بإحسان وقد أستعمل القرآن الكريم أثناء عرضه لأحكام الطلاق من أساليب الأيحاء بصفات الله تعالى من الحلم والرحمة والمغفرة والعلم وأساليب الوعد والوعيد والترغيب والترهيب والتذكير بنعم الله تعالى وآلائه والتحذير من تجاوز حدوده مايلفت المسلم الواعي ويجعله يحسب ألف حساب وحساب حين يقدم على هذا الأمر(2).قال تعالى: { وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولاتتخذوا آيات الله هزوا واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شئ عليم }(3).
المطلب الثالث: حكم الطلاق.
القول الأول.
__________
(1) يأتي توضيج ذلك عند الحديث عن حكم طلاق البدعة.
(2) الإسلام وبناء المجتمع ص262.
(3) سورة البقرة 231.(1/12)
أختلف العلماء في الحكم الأصلي للطلاق هل هو الإباحة أو الحظر فهناك من يرى أن الأصل فيه الإباحة وإلى هذا ذهب الإمام القرطبي فقال عند تفسيره لقوله تعالى: { الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان }(1)دل الكتاب والسنة واجماع الأمة على أن الطلاق مباح غير محظور وقال ابن المنذر وليس في المنع منه خبر يثبت(2). وجاء في المبسوط للإمام السرخسي" وايقاع الطلاق مباح وإن كان مبغضاً في الأصل عند عامة العلماء"(3)وفي رد المختار "وايقاعه مباح عند العامة لاطلاق الآيات"(4).
وقد استدل القائلون بالإباحة بأدلة منها:
1. قوله تعالى: { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء }(5)فالتعبير القرآني "لا جناح عليكم" يفيد رفع الحرج عن الأمة وهو ما يعني الإباحة.
2. وقوله تعالى: { يا أيها النبي إذا طلقتم الناس فطلقوهن لعدتهن }(6)فالآية تفيد طريقة ايقاع الطلاق أما حكم الطلاق فلم نتحدث عنه مما يعني إباحته ولو لم يكن مباحاً لما ذكرت الآية طريقة ايقاعه.
3. فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد طلق حفصة - رضي الله عنه - حتى نزل عليه الوحي يأمره بأن يراجعها"(7)والنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يفعل ما فيه حظر على الأمة إلا إذا دل دليل على خصوصيته - صلى الله عليه وسلم - بذلك كوصل الصيام ولا يوجد هنا دليل يصرف فعله - صلى الله عليه وسلم - عن الإباحة.
4. فعل الصحابة - رضي الله عنهم - فقد طلق عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - زوجه أم عاصم وفعل ذلك غيره كعبدالرحمن بن عوف والمغيرة بن شعبة والحسن بن علي - رضي الله عنهم - جميعاً.
القول الثاني.
__________
(1) سورة البقرة الآية 229.
(2) تفسير القرطبي ج2ص111
(3) المبسوط ج6ص2.
(4) رد المختار ج4ص427.
(5) سورة البقرة الآية 236.
(6) سورة الطلاق الآية 1
(7) رواه ابن ماجه في سننه 1/650.(1/13)
وذهب فريق آخر إلى أن الأصل فيه الحظر وإنما أبيح لحاجة قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ان الأصل في الطلاق الحظر وإنما ابيح منه قدر الحاجة"(1)ويقول في موضع آخر: "ولولا أن الحاجة داعية إلى الطلاق لكان الدليل يقتضي تحريمه كما دلت عليه الآثار والأصول ولكن الله تعالى أباحه رحمة منه بعباده لحاجتهم إليه أحياناً"(2).
وإلى هذا ذهب الأحناف على الأرجح من اقوالهم يقول العلامة ابن عابدين "وأما الطلاق فالأصل فيه الحظر بمعنى أنه محظور إلا لعارض يبيحه وهو معنى قولهم الأصل فيه الحظر والإباحة للحاجة إلى الخلاص فإذا كان بلا سبب أصلاً لم يكن فيه حاجة إلى الخلاص بل يكون حمقاً وسفاهة رأي ومجرد كفران النعمة واخلاص الايذاء بها وبأهلها وأولادها"(3)وجاء في كشف القناع "ويباح الطلاق عند الحاجة إليه ويكره الطلاق من غير حاجة إليه"(4)
وقد استدل القائلون بهذا الرأي بأدلة منها:
1. حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة"(5)ولولا أنه محظور ما استحقت المرأة هذا العقاب الشديد.
2. من عمل السحرة والشياطين التفريق بين المرء وزوجه قال تعالى: { فيتعلمون منهما مايفرقون به بين المرء وزوجه }(6). وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:" إن الشيطان ينصب عرشه على البحر ويبعث جنوده فأقربهم إليه منزلة أعظمهم فتنة فيأتي أحدهم فيقول مازلت به حتى شرب الخمر فيقول الساعة يتوب ويأتي الآخر فيقول مازلت به حتى فرقت بينه وبين امرأته فيقبله بين عينه ويقول أنت أنت"(7).
__________
(1) الفتاوى ج3ص16.
(2) الفتاوى ج3ص62
(3) رد المختار لابن عابدين ج3ص228.
(4) كشاف القناع ج3ص139
(5) رواه
(6) سورة البقرة الآية
(7) رواه(1/14)
3. الزواج نعمة من نعم الله تعالى على الإنسان وآية من آياته تعالى قال تعالى: { ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة }(1)وفي الطلاق من غير حاجة كفران للنعمة وجحود بها.
4. حرم الله تعالى الظلم فقال تعالى في الحديث القدسي:"يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا"،ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الضرر والضرار فقال "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام"(2)، والطلاق من غير بأس ظلم للمرأة وضرر بها وبأهلها وأولادها بل هو من أكبر الظلم.
تحقيق المسألة :
الأولى أن يقال إن الطلاق كالزواج تعتريه الأحكام الخمسة حسب الظروف والأحوال التي ترافقه جاء في المغني لابن قدامة"والطلاق على خمسة أضرب واجب ومكروه ومباح ومندوب إليه ومحظور"(3). وجاء في الشرح الكبير للدردير"إن الطلاق من حيث هو جائز قد تعتريه الأحكام الأربعة من حرمة وكراهة ووجوب وندب"(4).
وعليه يحمل ما ورد من أدلة يبدوا ظاهرها الإباحة المحضة مثل قوله تعالى: { لاجناح عليكم ان طلقتم النساء }(5)، وما وقع منه - صلى الله عليه وسلم - ومن أصحابه الكرام أن ذلك إنما كان لحاجة ولهذا قال تعالى: { فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن الله كان علياً كبيرا }(6)، يقول الإمام القرطبي في تفسيره { فإن أطعنكم } أي: تركوا النشوز { فلا تبغوا عليهن سبيلا } أي: لا تجنوا عليهن بقول أو فعل وهذا نهي عن ظلمهن"(7)، وهل ثمة ظلم وجناية على المرأة أكبر من طلاقها من غير سبب ولذلك فقد يكون:
__________
(1) سورة الروم.
(2) رواه أحمد وابن ماجه والبيهقي.
(3) المغني لابن قدامة ج8ص234.
(4) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ج3ص239.
(5) سورة البقرة الآية 236.
(6) سورة النساء الآية 34.
(7) القرطبي ج3ص157.(1/15)
1. واجباً كطلاق المولى بعد التربص وعدم الفيئة على رأي الجمهور، أما الأحناف فإنهم يوقعون الفرقة بانتهاء المدة حكماً وكذلك طلاق الحكمين في الشقاق إذ رأيا ذلك أصلح للزوجين وكل طلاق تكون الحياة بدونه فيها ضرر لا يحتمل ومفسدتها أكبر من مصلحتها.
2. قد يكون مكروهاً وهو الطلاق من غير حاجة وقيل هو حرام لأنه ضرر بنفسه وبزوجه واعدام للمصلحة القائمة بينهما من غير حاجة.
3. قد يكون مباحاً عند الحاجة إليه لسوء خلق زوجة وسوء عشرتها مع عدم نفع النصح والموعظة وتماديها في ذلك.
4. قد يكون مندوباً إذا فرطت المرأة في حقوق الله تعالى الواجبة عليها مثل ترك الصلاة ونحو ذلك إذا لم يجد معها وسائل الاصلاح والتقويم وخشى على نفسه وولده.
5. قد يكون حراماً وهو الطلاق في الحيض أو في طهر جامعها فيه وهو المسمى عند الفقهاء بطلاق البدعة وكذلك الطلاق من غير سبب.
- - - - -
الفصل الثاني
أركان الطلاق
المبحث الأول: الزوج "المطلِّق".
وهو من بينه وبين المطلقة عقد زواج صحيح(1)وهو الذي يملك حق ايقاع الطلاق ثمة سؤال يدور كثيراً في أروقة العلمانيين وفي دهاليز المستشرقين وعلى ألسنة المشككين ويسأله غير المسلمين.
__________
(1) الموسوعة الفقهية ج29ص14.(1/16)
لماذا لم جعل الإسلام الطلاق بيد الزوج؟ اليس ذلك اجحافاً للمرأة وظلماً لها؟ وللإجابة على هذا السؤال نقول: إن لكل سفينة رباناً يقودها ولكل مؤسسة مديراً يرعى شئونها ويسلم الناس طائعين له والإسلام ينظر إلى الاسرة على أنها أعظم المؤسسات قدراً واكثرها أهمية في المجتمع لأنها أساس بنائه وقوامه وصلاحه وبضياعها يضيع وقد أناط الإسلام بالمسئولية في الأسرة للرجل فقال تعالى: { الرجال قوامون على النساء بما فضل الله به بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم }(1)والقوامة في الإسلام تكليف لا تشريف ومسئولية وأعباء يحاسب عنها بين يدي الله تعالى يقول - صلى الله عليه وسلم - :"الرجل في بيته راع ومسئول عن رعيته" ومن هذه المسئولية ان جعل في يده حل عقد الزواج حين لا يكون هناك سبيل إلا الطلاق ووضع الشرع الحنيف ضوابط حتى لا يسئ الزوج استعماله وإنما جعله بيده لأن الإسلام جعل الانفاق على الأسرة من مسئولية الزوج وحده كما رتب على حل عقد الزواج أموراً مالية مثل نفقة العدة ومتعة الطلاق ومؤخر المهر وغير ذلك –ليس على المرأة شئ من ذلك- مما يجعله يحسب ألف حساب وحساب قبل الشروع في الطلاق .
لكن إن كان الإسلام جعل الطلاق بيد الرجل فقد أعطى المرأة كذلك حق أن تنهي عقد الزواج إذا تضررت وذلك عن طريق الخُلْع كما أذن لها أن ترفع أمرها إلى القاضي لفسخ العقد عند الضرر المادي أو المعنوي كما أن من حقها اشتراط أن يكون الطلاق بيدها عند عقد الزواج هذا كله في إطار المسئولية المشتركة كل في إطار اختصاصه وما خلق له ومن هنا يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - :"والمرأة في بيت زوجها راعية ومسئولة عن رعيتها" وفي ختام الحديث يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - "وإن الله سائل كل راعٍ عما استرعى حفظ أم ضيع"(2)
وحتى يقع الطلاق من الزوج ثمة شروط تتعلق به نذكرها في النقاط التالية:
1-البلوغ :
__________
(1) سورة النساء 34.
(2) رواه البخاري.(1/17)
لأن الصبي غير مخاطب بالتكاليف الشرعية ومما هو معلوم من كليات الشريعة أن التصرفات لا تصح إلا ممن له أهلية التصرف وأمر الصبي في التصرفات إلى وليه ولذلك ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية إلى أن طلاق الصبي لا يقع مميزاً كان أو غير مميز وخالف الحنابلة فأجازوا وقوع طلاق الصبي المميز ولو كان دون العشر سنين(1)ودليل الجمهور حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - :"رفع القلم عن ثلاث.."(2)وذكر منه - صلى الله عليه وسلم - "الصبي حتى يبلغ" والحجة مع الجمهور إذ الصبي غير قادر غالباً على مراعاة مصلحته خاصة والأصل في الطلاق الحظر وإنما أبيح لحاجة لا يدركها الصبي غالباً وإن كان بعض الصبية قادراً على التمييز فذلك نادر والأحكام تبنى على الغالب لا على النادر إذ النادر لا حكم له كما قرر الفقهاء.
2-العقل:
وهو مناط التكليف فالمجنون غير مكلف شرعاً للحديث"رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يحتلم وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق"(3)ومن هنا أجمع أهل العلم أن طلاق المجنون لا يقع وكذلك كل فاقد للعقل بسبب يعزر عليه مثل المعتوه والمغمى عليه والمدهوش بغير سكر والنائم جاء في المغني لابن قدامة:"أجمع أهل العلم على أن زائل العقل بغير سكر أو ما في معناه لا يقع طلاقه وسواء زال عقله لجنون أو اغماء أو نوم أو شرب دواء أو أكره على شرب الخمر فكل هذا يمنع وقوع الطلاق ولا نعلم فيه خلافاً"(4)، ولكن لو ذهب العقل بالسُكر هل يقع الطلاق أم لا هذا ما نوضحه في المسألة التالية.
طلاق السكران:
__________
(1) البدائع ج3ص100. بداية المجتهد ج2ص81 ،82، المغني ج6ص
(2) اخرجه أحمد وأبو داوود.
(3) سبق تخريجه
(4) المغني لابن قدامه ج7ص113.(1/18)
اختلف أهل العلم في الذي يذهب عقله بإرادته كأن يشرب خمراً أو دواءاً يعلم أنه مسكر هل يقع طلاقه أم لا ذهب الجمهور من الحنفية والشافعية والمالكية ورواية عن أحمد والزيدية إلى أن طلاق السكران يقع لأنه أذهب عقله بنفسه طائعاً مختاراً فكان جزاؤه أن يقع الطلاق عقوبة له وقد أوقع الصحابة عليه الطلاق(1)روى ذلك أبو عبيدة عن عمر ومعاوية ورواه غيره عن ابن عباس قال أبو عبيد حدثنا يزيد بن هارون عن جرير بن حازم عن الزبير بن الحارث عن أبي لبيد أن رجلاً طلق امرأته وهو سكران فرفع إلى عمر بن الخطاب وشهد عليه أربع نسوة ففرق عمر بينهما وعن سعيد بن المسيب أن معاوية أجاز طلاق السكران.
وذهب(2)زفر والطحاوي من الحنفية واحمد في رواية عنه والمزني من الشافعية وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وهو قول عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وعمر بن عبد العزيز والقاسم وطاووس وربيعة ويحي الانصاري والليث واسحاق إلى أن طلاق السكران لا يقع وقد روى البخاري في صحيحه "وقال عثمان ليس لمجنون ولا سكران طلاق وقال ابن عباس طلاق السكران والمستكره ليس بجائز"(3). وقد افاض شيخ الإسلام في كتابه الفتاوى وكذلك ابن القيم في كتابيه زاد المعاد واغاثة اللهفان والشوكاني في كتابه نيل الأوطار بسرد أدلة كلا الفريقين ورجحوا رأي من قال بعدم وقوع طلاق السكران. كما أن شيخنا العلامة الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي – رئيس المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث - له فتوى حول طلاق السكران ذهب فيها إلى أن طلاق السكران لا يقع معضداً رأيه بما رآه راجحاً من الأدلة كما فند فيها أدلة القائلين بوقوع الطلاق ورد عليهم أحببت أن أثبتها هنا لمزيد الفائدة وقد جاء في الفتوى:
هناك اتجاهان في الفقه الإسلامي من قديم:
__________
(1) زاد المعاد ج5ص211 ،212.
(2) الفقه الإسلامي وأدلته.
(3) صحيح البخاري شرخ العسقلاني ج9ص388.(1/19)
الأول: يميل إلى التوسع في إيقاع الطلاق، حتى وجد من يقول بإيقاع طلاق المعتوه، ومن يوقع طلاق المكره، والمخطيء والناسي والهازل، والغضبان أيا كان غضبه، وحتى قال بعضهم من طلق امرأته في نفسه طلقت عليه وإن لم يتلفظ بكلمة الطلاق، فلا عجب أن يوجد من يقول بوقوع طلاق السكران، مادام سكره باختياره.
الثاني: يميل إلى التضييق في إيقاع الطلاق . فلا يقع الطلاق إلا مع تمام الوعي به والقصد إليه مع شروط أخرى.
ومن أصحاب هذا الاتجاه من المتقدمين الإمام البخاري صاحب الصحيح فقد عقد بابًا في جامعه، ترجمه بقوله: باب الطلاق في الإغلاق (الظاهر من صنيع البخاري أنه يريد بالإغلاق الغضب، ولهذا عطف المكره عليه، فهو غير الإكراه) والمكره (الإكراه) والسكران والمجنون وأمرهما، والغلط والنسيان في الطلاق والشرك وغيره . . (علق الحافظ في الفتح على هذه الترجمة بقوله: اشتملت هذه الترجمة على أحكام يجمعها أن الحكم إنما يتوجه على العاقل المختار العامد الذاكر) ومراده: أن الطلاق لا يقع في هذه المواطن كلها . لأن الحكم إنما يتوجه على العاقل المختار العامد الذاكر . وذكر لذلك أدلة منها:
1 - حديث: " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امريء ما نوى " وغير العاقل المختار - كالمجنون والسكران وأشباههما - لانية له فيما يقول أو يفعل . وكذلك الغالط والناسي، والذي يكره على الشيء . (كما قال الحافظ).(1/20)
2 - أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤاخذ حمزة على فعله وقوله - حينما سكر - فعقر بعيري ابن أخيه علي . فلما لامه النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: وهل أنتم إلا عبيد لأبي ؟ وهي كلمة لو قالها صاحيًا لأفضت به إلى الكفر . ولكن عرف النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ثمل، فلم يصنع به شيئًا . فدل هذا على أن السكران لا يؤاخذ بما يقع منه في حال سكره من طلاق وغيره. (اعترض بعضهم على هذا الاستدلال، بأن الخمر كانت حينئذ مباحة، قال: فبذلك سقط عنه حكم ما نطق به في تلك الحالة.
قال الحافظ بن حجر: وفيما قال نظر، فإن الاحتجاج من هذه القصة إنما هو بعدم مؤاخذة السكران بما يصدر منه ولا يفترق الحال بين أن يكون الشرب مباحًا أولاً . ا هـ).
3 - ما جاء عن عثمان أنه قال: " ليس لمجنون ولا لسكران طلاق " . رواه البخاري معلقًا . وهو تأييد لما جاء في قصة حمزة.
ووصله ابن أبي شيبة عن الزهري قال: قال رجل لعمر بن عبد العزيز: طلقت امرأتي وأنا سكران . فكان رأي عمر بن عبد العزيز مع رأينا: أن يجلده ويفرق بينه وبين امرأته . حتى حدثه أبان بن عثمان بن عفان عن أبيه أنه قال: ليس على المجنون ولا على السكران طلاق . فقال عمر: تأمرونني وهذا يحدثني عن عثمان ؟ فجلده ورد إليه امرأته.
4 - ما رواه البخاري معلقًا عن ابن عباس: " أن طلاق السكران والمستكره ليس بجائز " أي بواقع إذ لا عقل للسكران ولا اختيار للمستكره، قال ابن حجر ووصله عنه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور بلفظ: " ليس لسكران ولا مضطهد طلاق " والمضطهد: المغلوب المقهور.
5 - ما جاء عن ابن عباس أيضًا أنه قال: " الطلاق عن وطر، والعتاق ما أريد به وجه الله . والوطر الحاجة . أي عن غرض من المطلق في وقوعه . السكران لا وطر له، لأنه يهذي بما لا يعرف.(1/21)
6 - ما جاء عن علي: " كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه " والمعتوه: الناقص العقل، فيدخل فيه الطفل والمجنون والسكران، قال الحافظ: والجمهور على عدم اعتبار ما يصدر منه.
هذا ما استدل به الإمام البخاري لعدم وقوع طلاق السكران، وإلى هذا ذهب جماعة من أئمة السلف . منهم أبو الشعثاء وعطاء وطاووس، وعكرمة، والقاسم، وعمر بن عبد العزيز ذكره عنهم ابن أبي شيبة بأسانيد صحيحة، وبه قال ربيعة والليث وإسحاق والمزني واختاره الطحاوي، واحتج بأنهم أجمعوا على أن طلاق المعتوه لا يقع . قال: والسكران معتوه بسكره . (نقل ذلك الحافظ في الفتح جـ11، ص 308 ط. الحلبي).
وهذا القول هو الذي رجع إليه الإمام أحمد أخيرًا فقد روى عنه عبد الملك الميموني قوله: قد كنت أقول: إن طلاق السكران يجوز (أي يقع) حتى تبينته، فغلب على أن لا يجوز طلاقه، لأنه لو أقر لم يلزمه، ولو باع لم يجز بيعه . قال وألزمه الجناية، وما كان غير ذلك فلا يلزمه. (من إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان - لابن القيم، ص 17).
قال ابن القيم: هو اختيار الطحاوي وأبي الحسن الكرخي (من الحنفية) وإمام الحرمين (من الشافعية) وشيخ الإسلام ابن تيمية (من الحنابلة) وأحد قولي الشافعي. (من إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان - لابن القيم، ص 17).
وقال بوقوع طلاق السكران طائفة من التابعين كسعيد بن المسيب والحسن وإبراهيم والزهري والشعبي، وبه قال الأوزاعي والثوري ومالك وأبو حنيفة وعن الشافعي قولان، المصحح منهما وقوعه . وقال ابن الرابط: إذا تيقنا ذهاب عقل السكران لم يلزمه طلاق، وإلا لزمه، وقد جعل الله حد السكر الذي تبطل به الصلاة ألا يعلم ما يقول. (فتح الباري، جـ 11، ص 208، ص 209).
قال ابن حجر: وهذا التفضيل لا يأباه من يقول بعدم طلاقه. (فتح الباري، جـ 11، ص 208، ص 209). . ا هـ وفيه نظر سنذكره.
واستدل من قال بوقوع طلاق السكران وصحة تصرفاته عمومًا بجملة أمور أهمها مأخذان:(1/22)
الأول: إن هذا عقوبة له على ما جناه باختياره وإرادته.
وضعف ابن تيمية هذا المأخذ.
( أ ) بأن الشريعة لم تعاقب أحدًا بهذا الجنس من إيقاع الطلاق أو عدم إيقاعه.
( ب ) ولأن في هذا من الضرر على زوجته البريئة وغيرها - كالأولاد إن كان له منها أولاد - ما لا يجوز أن يعاقب الشخص بذنب غيره.
(جـ) ولأن السكران عقوبته ما جاءت به الشريعة من الجلد وغيره، فعقوبته بغير ذلك تغيير لحدود الشريعة. (فتاوى ابن تيمية، جـ 2 ص 124، ط. مطبعة كردستان . القاهرة).
الثاني: أن حكم التكليف جار عليه، وليس كالمجنون أو النائم الذي رفع عنهما القلم، وعبر عن ذلك بعضهم بأنه عاص بفعله لم يزل عنه الخطاب بذلك ولا الإثم، لأنه يؤمر بقضاء الصلوات وغيرها مما وجب عليه قبل وقوعه في السكر أو فيه.
وأجاب عن ذلك الطحاوي من أئمة الحنفية بأن أحكام فاقد العقل لا يختلف بين أن يكون ذهاب عقله بسبب من جهته أو من جهة غيره . إذ لا فرق بين من عجز عن القيام في الصلاة بسبب من قبل الله أو من قبل نفسه . كمن كسر رجل نفسه، فإنه يسقط عنه فرض القيام. (فتح الباري، جـ 11، ص 209).
يعني أنه يكون آثمًا بإضراره نفسه، ولكن هذا لا ينفي الأحكام المترتبة على عجزه الواقع بالفعل، ومثل ذلك لو شرب شيئًا أدى إلى جنونه، فإنه يكون آثما بشربه في ساعة وعيه، ولكن لا يمنع من ترتب أحكام الجنون عليه.
وكذلك قال الإمام ابن قدامة الحنبلي: لو ضربت امرأة بطنها فنفست سقطت عنها الصلاة، ولو ضرب رأسه فجن سقط التكليف. (انظر المغني، جـ 7، ص 113، مطبعة الإمام).
واستدل شيخ الإسلام ابن تيمية على عدم صحة تصرفات السكران - ومنها وقوع طلاقه - بوجوه:
أحدها: ما رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر بن سمرة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر باستنكاه ماعز بن مالك، حين أقر عنده بالزنى، ومعنى استنكاهه: شم رائحة فمه، ليعلم هل به سكر أم لا . ومقتضى هذا أنه لو كان به سكر، لم يعتبر إقراره.(1/23)
الثاني: أن عبادته كالصلاة لا تصح بالنص والإجماع فقد قال تعالى (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون) وكل من بطلت عبادته لعدم عقله، فبطلان عقوده وتصرفاته أولى وأحرى . إذ قد تصح عبادة من لا يصح تصرفه لنقص عقله كالصبي والمحجور عليه لسفه. (ملخص من فتاوى ابن تيمية، جـ 2، ص 125 - 126).
الثالث: أن جميع الأقوال والعقود مشروطة بوجود التمييز والعقل، فمن لا تمييز له ولا عقل، ليس لكلامه في الشرع اعتبار أصلاً.
وهذا معلوم بالعقل مع تقرير الشارع له.
الرابع: أن العقود وغيرها من التصرفات مشروطة بالقصد، كما في الحديث: " إنما الأعمال بالنيات . . . . " فكل لفظ صدر بغير قصد من المتكلم، لسهو وسبق لسان أو عدم عقل، فإنه لا يترتب عليه حكم. (ملخص من فتاوى ابن تيمية، جـ 2، ص 125 - 126).
وإذا أضيفت هذه الأدلة إلى ما نقلناه من قبل عن الإمام البخاري تبين لنا بوضوح أن المذهب الصحيح الذي يشهد له القرآن والسنة وقول اثنين من الصحابة لا يعرف لهما مخالف من وجه صحيح - عثمان وابن عباس - وتؤيده أصول الشرع وقواعده الكلية: أن طلاق السكران لا يقع، لأن العلم والتمييز والقصد معدوم فيه.
بقى هنا شيء أختم به هذه الفتوى، وهو حقيقة السكر ما هي، فقد أفهم ما حكاه الحافظ عن ابن المرابط: أن السكران من زال عقله، وعدم تمييزه بالكلية، وليس ذلك بلازم عند الأكثرين كما قال ابن القيم . بل قد قال الإمام أحمد وغيره: إنه هو الذي يخلط في كلامه ولا يعرف رداءه من رداء غيره، وفعله من فعل غيره.
قال ابن القيم: والسنة الصريحة الصحيحة تدل عليه، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أن يستنكه من أقر بالزنى، مع أنه حاضر العقل والذهن، يتكلم بكلام مفهوم ومنتظم، صحيح الحركة . ومع هذا فجوز النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يكون به سكر يحول بينه وبين كمال عقله وعلمه، فأمر باستنكاهه. (إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان لابن القيم، ص 31).(1/24)
بعد هذا كله نطمئن الأخت المسلمة السائلة إلى أن ما صدر عن زوجها من طلاق في حال سكره ونشوته غير معتبر في نظر الشرع، سائلين الله أن يتوب على الزوج العاصي، وأن يعين الزوجة المؤمنة في محنتها . وأن يوفق أولي الأمر في بلاد الإسلام لمنع أم الخبائث ومعاقبة من شربها أو أعان عليها بوجه من الوجوه ومنه العون وبه التوفيق(1).
3-الاختيار والقصد:
الإرادة والاختيار أساس في التكليف ومن فقدها فقد الأهلية ولذلك أعتبر الشرع المكره غير مسئول عن تصرفاته لأنه مسلوب الإرادة فلو اسلم شخص مكرهاً لا يعتبر بإسلامه لقوله تعالى: { لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي(2)} ولذلك لو كفر مكرهاً لا يعتد بكفره لقوله تعالى: { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان }(3)ولقوله - صلى الله عليه وسلم - :" رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما أستكرهوا عليه"(4)وكذلك مدار صحة أفعال العباد وأقوالهم متوقف على النية لقوله - صلى الله عليه وسلم - "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ مانوى"(5)يقول القسطلاني في شرحه للحديث "إنما الأعمال البدنية أقوالها وأفعالها فرضها ونفلها قليلها وكثيرها الصادرة من المؤمنين المكلفين صحيحة أو مجزئة بالنيات قيل قدره الحنفية انما الأعمال الكاملة والأول أولى لأن الصحة أكثر لزوماً للحقيقة من الكمال.(6). والطلاق فعل من افعال العباد يحتاج إلى النية والتي تعني القصد والعزم ولذلك يقول الله تعالى: { فإن عزموا الطلاق } لكن هل تكفي النية فقط لوقوع الطلاق دون التلفظ وهل يكفي اللفظ في الطلاق دون النية هذا ما يتضح في النقاط التالي:
أ- نية الطلاق:
__________
(1) * فتاوى معاصرة ج1
(2) سورة الآية البقرة الآية 256.
(3) سورة النحل الآية 106.
(4) رواه ابن ماجه والحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
(5) البخاري ومسلم.
(6) إرشاد الساري ج1ص89.(1/25)
لو نوى الزوج في نفسه تطليق زوجته أو طلقها في نفسه دون أن ينطق بلفظ يدل على الطلاق قاصداً إياه فإن الطلاق لا يقع عند الجمهور يقول صاحب المغني: أن الطلاق لا يقع إلا بلفظ فلو نواه بقلبه من غير لفظ لم يقع في قول عامة أهل العلم منهم عطاء وجابر بن زيد وسعيد بن جبير ويحي ابن كثير والشافعي واسحاق وروى أيضاً عن القاسم وسالم والحسن والشعبي(1)واستند الجمهور إلى حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم" وقال قتادة إذا طلق في نفسه ليس بشئ(2)وقد توقف ابن سرين في المسألة كما نقل عبدالرازق عن معمر سئل ابن سرين عمن طلق في نفسه فقال أليس قد علم الله ما في نفسك قال بلى قال فلا أقول فيها شيئاً(3)وذهب إلى وقوعه الإمام مالك في رواية أشهب عنه وقد سئل إذا نوى الرجل الطلاق بقلبه ولم يتلفظ به لسانه فقال يلزمه كما يكون مؤمناً بقلبه وكافراً بقلبه"(4)وروى وقوعه عن الزهري كذلك وحجة هذا القول قوله تعالى: { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله }(5)وكذلك حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى"(6).
القول الراجح:
__________
(1) المغني ج8 ص163.
(2) البخاري شرح القسطلاني ج12ص42.
(3) زاد المعاد ج4ص203.
(4) تفسير القرطبي ج8ص210.
(5) سورة البقرة الآية 284.
(6) رواه البخاري ومسلم.(1/26)
قول جمهور الفقهاء هو الراجح لوضوح دليلهم وقوته أما ما استدل به غيرهم فلا حجة لهم به من وجوه، الوجه الأول: قوله تعالى { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } فليس فيها أن من المحاسبة بما يخفيه العبد إلزامه بأحكامه بالشرع وانما فيها محاسبته بما يبديه أو يخفيه ثم هو مغفور له أو معذب فأين هذا من وقوع الطلاق بالنية(1). الوجه الثاني: لما نزلت هذه الآية اشتد ذلك على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والحج وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها فقال - صلى الله عليه وسلم - : أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم " سمعنا وعصينا" قولوا "سمعنا وأطعنا" فلما قرأها القوم وجرت بها ألسنتهم أنزل الله تعالى { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه } ونسخها الله تعالى فأنزل { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما أكتسبت }(2)فهي إذن منسوخة ولا دليل لهم فيها. والوجه الثالث: أن حديث "إنما الأعمال بالنيات" فهو حجة عليهم لا لهم لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر فيه أن العمل مع النية هو المعتبر لا النية وحدها وأما قولهم من أعتقد الكفر بقلبه أو شك فهو كافر لزوال الإيمان الذي هو عقد القلب مع الاقرار فإذا زال العقد الجازم كان نفس زواله كفراً فإن الايمان أمر وجودي ثابت قائم بالقلب.(3)بخلاف الطلاق.
ب - طلاق المكره.
__________
(1) زاد المعاد ج4ص204.
(2) الحديث أخرجه مسلم وانظر أسباب النزول للواحدي ص51.
(3) زاد المعاد ج4ص203.(1/27)
ذهب جمهور الفقهاء إلى عدم وقوع طلاق المكره وروي ذلك عن عمر وعلي وابن عمر وابن عباس وابن الزبير وجابر بن سمرة وبه قال عبدالله بن عبيد بن عمير وعكرمة والحسن وجابر بن زيد وشريح وعطاء وطاووس وعمر بن عبد العزيز وابن عون وأيوب السخستاني ومالك والاوزاعي والشافعي واسحاق وأبو ثور وأبو عبيد(1)وقد استدل هؤلاء بما يلي:
? حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "رفع عن امتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"(2)
? أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عباس قوله:" طلاق السكران والمستكره غير جائز"(3)
? حديث عائشة - رضي الله عنه - قالت سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:" لا طلاق في اغلاق قال أبو عبيد والقتيبي معناه في اكراه وقال أبو بكر سألت ابن دريد النحوي فقال يريد الإكراه لأن إذا أكره انغلق عليه رأيه(4)وقالوا إن طلاق المكره هو قول حمل عليه صاحبه بغير حق فلم يثبت له حكم ككلمة الكفر إذا أكره عليها أحد.
هذا في الإكراه بغير حق أما لو أكره بحق نحو إكراه الحاكم المولى على الطلاق بعد التربص إذا لم يفئ(5)ويدخل في هذا الزوج الذي يسئ عشرة زوجه اساءة يتحقق بها الضرر وتستحيل معها العشرة ويأبى الخلع أو الطلاق فإن أكرهه الحاكم على الطلاق وقع لدفع الضرر عن الزوجة ولحديث "لا ضرر ولا ضرار".
وذهب الإمام أبو حنيفة وأصحابه وأبو قلابة والشعبي والنخعي والزهري والثوري إلى وقوع طلاق المكره.(6)وقالوا أنه طلاق من مكلف في محل يملكه فينفذ كطلاق غير المكره ولا شك أن حجة الجمهور وقولهم أصح والله أعلم.
جـ - طلاق الغضبان.
__________
(1) المغني ج8ص259.
(2) سبق تخريجه.
(3) البخاري
(4) المغني ج8 ص259 والحديث رواه أبو داود والأثرم
(5) المغني ج8 ص259، 260
(6) المصدر السابق(1/28)
الغضب حالة من الاضطراب العصبي وعدم التوازن الفكري تحل بالإنسان إذا عدا عليه احد بالكلام أو غيره روى أبو داود بسنده في سننه أن أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنه - قالت: "سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا طلاق ولا عتاق في اغلاق"قال أبو داود: الغلاق أظنه الغضب"(1)وهو تفسير الإمام أحمد كما حكاه عنه الخلال(2)وقد حكى الإمام ابن القيم عن شيخ الإسلام ابن تيمية قوله وحقيقة الاغلاق أن يغلق على الرجل قلبه فلا يقصد الكلام ولا يعلم به كأنه انغلق عليه قصده وإرادته(3).
وحالة الاضطراب هذه درجات بعضها لا شك أشد من بعض فهل يقع طلاق الغضبان على الاطلاق أم لا أم ثمة تفصيل في المسألة، قسم الإمام ابن القيم الغضب على ثلاثة أقسام فقال : والغضب على ثلاثة أقسام:
أحدها: مايزيل العقل فلا يشعر صاحبه بما قال وهذا لا يقع طلاقه بلا نزاع.
الثاني:ما يكون في مبادية بحيث لا يمنع صاحبه من تصور ما يقول وقصده فهذا يقع طلاقه.
الثالث: أن يستحكم ويشتد به فلا يزيل عقله بالكلية ولكن يحول بينه وبين نيته بحيث يندم على ما فرط منه إذا زال فهذا محل نظر وعدم الوقوع في هذه الحالة قوي متجه.(4)وهو محل الخلاف بين الفقهاء ولكن الأرجح عدم وقوعه، يقول ابن عابدين في حاشية رد المختار والذي يظهر لي أن كلاً من المدهوش والغضبان لا يلزم فيه أن يكون بحيث لا يعلم ما يقول بل يكتفي فيه بغلبة الهذيان واختلاط الجد بالهزل ثم يقول رحمه الله فالذي ينبغي التعويل عليه في المدهوش ونحوه إناطة الحكم بغلبة الخلل في أقواله وأفعاله الخارجة عن عادته.(5)
د - طلاق الهازل:
__________
(1) سنن أبو داود ج2ص642.
(2) زاد المعاد ج5 ص214.
(3) المصدر السابق.
(4) زاد المعاد ج5ص215.
(5) حاشية ابن عابدين ج3 ص268 ،269.(1/29)
الهازل هو الذي يتكلم بالكلام على سبيل المزاح أو المداعبة واللعب ويقابله الجاد. وقد ذهب جمهور الفقهاء إلى وقوع طلاق الهازل جاء في المغني لابن قدامه :"فمتى أتى بصريح الطلاق وقع نواه أو لم ينوه وجملة ذلك أن الصريح لا يحتاج إلى نية بل يقع من غير قصد فمتى قال أنت طالق أو مطلقة أو طلقتك وقع من غير نية بغير خلاف لأنه ما يعتبر له القول يكتفي فيه من غير نية إذا كان صريحاً فيه كالبيع سواء قصد المزاح او الجد لقوله - صلى الله عليه وسلم - :"ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة" رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أحد جد الطلاق وهزله سواء كما روي أيضاً عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وابن مسعود - رضي الله عنه - ونحوه عن عطاء وعبيده وبه قال الشافعي وأبو عبيد وهو قول سفيان وأهل العراق(1)ويقول ابن القيم بعد أن ذكر حديث "ثلاث جدهن جد" المكلف إذا هزل بالطلاق أو النكاح أو الرجعة لزمه ما هزل به" ويعلل ذلك بأن الهازل قاصد للفظ غير مريد حكمه وذلك ليس إليه فإنما إلى المكلف الأسباب وأما ترتب مسبباتها وأحكامها فهو إلى الشارع قصد المكلف أولم يقصده.(2)
__________
(1) المغني ج8ص275.
(2) زاد المعاد ج5ص204.(1/30)
القول الثاني: هو أن طلاق الهازل لا يقع وهو قول في مذهب أحمد ومالك وإليه ذهب الباقر والصادق والناصر(1)حيث أن هؤلاء يشترطون لوقوع الطلاق القصد عند التلفظ به وإرادته والعلم بمعناه فإذا انتفت النية والقصد فلا عبرة باللفظ واستدلوا بقوله تعالى: { وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم }(2)كما استدلوا بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ مانوى"(3)والهازل لا عزم له ولا نية ومما يؤيد هذا القول حديث البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهم - :" الطلاق عن وطر" قال العسقلاني لا يطلق الرجل إلا عند النشوز والحاجة"(4).
طلاق المخطئ:
ذهب جمهور الفقهاء إلى عدم وقوع طلاق المخطئ وهو من سبق لسانه بلفظ الطلاق من غير قصد له واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم }(5). وحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :"إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" وفي رواية "أن الله تجاوز عن امتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه"(6). وذهب الاحناف أن الطلاق يقع قضاءً ولا يقع ديانة(7)إذا علم من نفسه أنه أخطأ ولم يقصد الطلاق وذلك حتى لا يتخذ وسيلة إلى إحلال ما حرم الله بأن يطلق ثم يدعي الخطأ.
طلاق الوكيل
__________
(1) نيل الاوطار
(2) سورة البقرة الآية 227.
(3) متفق عليه.
(4) ارشاد الساري شرح صحيح البخاري ج12 ص37.
(5) سورة الاحزاب الآية 5.
(6) سنن ابن ماجه ج1ص659.
(7) حاشية بن عابدين ج4ص462.(1/31)
الأصل أن الطلاق بيد الزوج فهو يملك ايقاعه بنفسه ولكن هل يجوز له أن يوكل غيره في ايقاعه ذهب الجمهور إلى أن للزوج أن يوكل غيره من باب من صح تصرفه في شئ لنفسه مما تجوز الوكالة فيه صح توكيله فيه. والوكيل بالطلاق مقيد بالعمل برآي الموكل فإذا تجاوزه لم ينفذ تصرفه إلا بإجازة الموكل وللوكيل أن يطلق متى شاء مالم يقيده الموكل بزمن معين(1). وذهب الظاهرية إلى عدم جواز الوكالة في الطلاق قال ابن حزم الظاهري" ولا تجوز الوكالة في الطلاق ولم يأتي في طلاق أحد عن أحد بتوكيله إياه قرآن ولا سنة والمخالفون لنا أصحاب القياس بزعمهم فبالضرورة يدري كل أحد أن الطلاق كلام والظهار كلام واللعان كلام والإلاء كلام ولا يختلفون في أنه لا يجوز أن يظاهر أحد عن أحد ولا أن يلاعن أحد عن أحد ولا أن يولي أحد عن أحد لا بوكالة ولا بغيرها(2)، وقد رد الشيخ على الخفيف على مخالفة الظاهرية لجمهور الفقهاء فقال رحمه الله: ولست أدري أن الطلاق كالظهارأو كاللعان والإيلاء فالإلاء واللعان أيمان ولا تجوز النيابة في الأيمان اتفاقاً إذ لا يصح أن يقسم شخص بالنيابة عن آخر أما الظهار فالاقدام عليه جريمة لأنه باطل من القول وزور فلا تجوز الوكالة فيه.(3)
الزواج بنية الطلاق
__________
(1) الفقه الإسلامي وأدلته ج9ص6941
(2) المحلى ج10ص196.
(3) فرق الزواج للشيخ الخفيف ص63,32 .(1/32)
كثيراً ما يحدث ان يأتي شباب ليدرس بالغرب وأمام مغريات الحياة وما يقابله الشباب من فتن يفكر في الزواج ويبحث عن شريكة حياته وقد لا يجد المواصفات التي يريدها في شريكة حياته وقد تكون هناك أمور في بلده تمنعه من الزواج فيلجأ إلي أن يفكر في أن يرتبط بزوجه فترة بقائه للدراسة أو للعمل ثم يتركها بعد ذلك فهو عازم على طلاقها وفراقها حين انتهاء دراسته أو عمله وهذا يسمى عند الفقهاء الزواج بنية الطلاق وحتى نعرف حكمه لابد أن نذكر أن الفقهاء اشترطوا للزواج الصحيح أن يكون غير محدد بمدة معينة وإلا كان نكاح متعة وهو محرم أما ان كان في نيته طلاقها فالنكاح صحيح عند عامة أهل العلم وخالف الإمام الأوزاعي وقال: انه نكاح متعة وبهذا يكون حراماً باطلاً نظراً للمشاكل التي تترتب على الزواج بنية الطلاق وما يحدث للمرأة من ضرر وغش وخداع وخاصة حين يكون ثمة أولاد من هذا الزواج .
يقول الشيخ رشيد رضا في تعليقه على رأي الإمام الأوزاعي في تفسير المنار هذا وان تشديد علماء السلف والخلف في منع المتعة يقتضي منع النكاح بنية الطلاق وان كان الفقهاء يقولون ان عقد النكاح صحيحاً إذا نوى الزواج التوقيت ولم يشترطه في صيغة العقد ولكن كتمانه إياه يعد خداعاً وغشاً وهو أجدر بالبطلان من العقد الذي يشترط فيه التوقيت الذي يكون بالتراضي بين الرجل والمرأة ووليها ولا يكون فيه من المفسدة إلا العبث بهذه الرابطة العظيمة والميثاق الغليظ وإيثار التنقل في مراتع الشهوات بين الذواقين والذوقات وما يترتب على ذلك من المنكرات ومالا يشترط فيه ذلك يكون على اشتماله على ذلك غشاً وخداعاً تترتب عليه مفاسد أخرى من العداوة والبغضاء وذهاب الثقة حتى بالصادقين الذين يريدون الزواج حقيقة وهواحصان كل الزوجين للآخر وتحقيق الأمن والطمأنية وتوافر الاخلاص والنية الصادقة لبناء أسرة مسلمة وبيت صالح من بيوت الأمة.
طلاق القاضي غير المسلم(1/33)
من الاشكاليات التي تقابل الأسرة المسلمة في الغرب عندما تتصدع ولا تجد مصلحاً يوفق بينهما أو يكون الفراق هو آخر الدواء وقد يلجأ أحد الزوجين أو كلاهما إلى المحاكم الغربية طلباً للطلاق وقد يحكم القاضي بالطلاق فهل حكمه نافذ حسب الشريعة الإسلاميةأم لا ؟ ناقش المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث هذه المسألة باستفاضة وقدمت فيها عدة بحوث وفي ختام المناقشات أصدر المجلس الفتوى التالية:
القرار 3/5
حكم تطليق القاضي غير المسلم
الأصل أن المسلم لا يرجع في قضائه إلا إلى قاض مسلم أو من يقوم مقامه، غير أنه بسبب غياب قضاء إسلامي حتى الآن يتحاكم إليه المسلمون في غير البلاد الإسلامية، فإنه يتعين على المسلم الذي أجرى عقد زواجه وفق قوانين هذه البلاد، تنفيذ قرار القاضي غير المسلم بالطلاق، لأن هذا المسلم لما عقد زواجه وفق هذا القانون غير الإسلامي، فقد رضي ضمناً بنتائجه، ومنها أن هذا العقد لا يحل عروته إلا القاضي. وهو ما يمكن اعتباره تفويضاً من الزوج جائزاً له شرعاً عند الجمهور، ولو لم يصرح بذلك. لأن القاعدة الفقهية تقول (المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً). وتنفيذ أحكام القضاء ولو كان غير إسلامي جائز من باب جلب المصالح ودفع المفاسد وحسماً للفوضى، كما أفاده كلام غير واحد من حذاق العلماء كالعز بن عبدالسلام وابن تيمية والشاطبي.
الاشهاد على الطلاق:(1/34)
مما لا شك فيه أن الطلاق حق من حقوق الزوج لقوله تعالى :" يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن"(1)فنسب الطلاق إلى الأزواج وقد ذهب جمهور العلماء أن الزواج لا ينعقد حتى يكون الشهود حضوراً حالة العقد لحديث عائشة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:" لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل"(2)وفي موطأ مالك أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أُتي بنكاح لم يشهد عليه إلا رجل وامرأة فقال هذا نكاح السر ولا أجيزه ولو كنت تقدمت فيه لرجمت"(3).
ولكن هل يشترط الاشهاد على الطلاق؟ كذلك اختلف الفقهاء في ذلك فقد ذهب الجمهور إلى أن الطلاق يقع من غير إشهاد لأنه حق الزوج ولا يحتاج إلى اشهاد ولم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدل على مشروعيته وحملوا الأمر في قوله تعالى:" فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم"(4)، على الاستحباب أو انصرف الاشهاد إلى الإمساك لا إلى الطلاق.
وذهب الإمام على - رضي الله عنه - وعمران بن الحصين - رضي الله عنه - من الصحابة ومن التابعين الإمام محمد الباقر وجعفر الصادق وكذلك عطاء وابن جريج وابن سيرين والظاهيرية إلى وجوب الإشهاد على الطلاق.
وقد قال الإمام ابن حزم الظاهري: قرن الله عز وجل بين المراجعة والطلاق والإشهاد فلا يجوز افراد بعض ذلك عن بعض وكان كل من طلق ولم يشهد ذوي عدل أو يراجع ولم يشهد ذوي عدل متعدياً لحدود الله تعالى وقال - صلى الله عليه وسلم - من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"(5).
الاختيار في المسألة.
__________
(1) الاحزاب 49.
(2) سنن الدارقطني كتاب النكاح.
(3) كتاب النكاح باب جامع ما لا يجوز فيه النكاح.
(4) سورة الطلاق
(5) المحلي لابن حزم ج 10.(1/35)
في اطار الأسباب التي دعت الفقهاء لذين يقولون بوجوب الاشهاد على الرجعة أو استحبابها وهي كما ذكر القرطبي في تفسيره "ألا يقع بينهما التجاحد وأن لا يتهم في إمساكها وألا يموت أحدهما فيدعي الباقي ثبوت الزوجية ليرث"(1). تبقى نفس هذه المحاذير في حالة عدم الاشهاد على الطلاق ولذلك أميل إلى القول بوجوب الاشهاد على الطلاق للأدلة التالية:
1. قوله تعالى:" فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم" فإن ظاهر الأمر في عرف الشرع يقتضي الوجوب وحمل ما ظاهره الوجوب على الاستحباب فضلاً عن إلغائه بالكلية خروج عن عرف الشرع من غير دليل كما أن الآية الكريمة لم تفرق بين الطلاق أو الرجعة في الإشهاد.
2. ما رواه أبو داود وابن ماجه عن عمران بن الحصين أنه سئل عن الرجل يطلق المرأة ثم يقع بها ولم يشهد على طلاقها ولا على رجعتها فقال طلقت لغير سنة وراجعت لغير سنة وأشهد على طلاقها وعلى رجعتها ولا تعد"(2)ومما هو معروف عند علماء الأصول أن قول الصحابي من السنة كذا في حكم المرفوع للنبي - صلى الله عليه وسلم - .
3. ما ذكره ابن كثير في تفسيره عن عطاء أنه كان يقول في قوله تعالى" وأشهدوا ذوي عدل منكم" قال لا يجوز نكاح ولا طلاق ولا رجاع إلا شاهدا عدل كما قال الله عز وجل إلا أن يكون من عذر(3).
4. أخرج السيوطي في كتابه الدر المنثور عن عبد الرازق وعبدالله بن حميد عن عطاء قال: النكاح بالشهود والطلاق بالشهود والرجعة بالشهود"(4).
5. عن علي - رضي الله عنه - أنه قال لمن سأله عن طلاق أشهدت عليه عدلين كما أمر الله تعالى قال لا قال اذهب فليس طلاقك بطلاق.(5)وقد ذهب إلى ذلك من العلماء المحديثين أحمد شاكر وابو زهرة والشيخ الغزالي رحمهم الله تعالى.
المبحث الثاني: الزوجة "المطلَّقة.
__________
(1) تفسير القرطبي ج9
(2) ابو داود واب ماجه والبيهقي.
(3) تفسير ابن كثير ج4.
(4) الدر المنثور للسيوطي ج
(5) جواهر الكلام.(1/36)
وهي التي يقع عليها الطلاق ويشترط لصحة وقوع الطلاق عليها شروط:
1. قيام الزوجية على أساس عقد نكاح صحيح عند وقوع الطلاق فإن المرأة في عقد النكاح الفاسد لا تصلح أن تكون محلاً للطلاق، وكذلك المرأة الاجنبية لأنها لا ترتبط برباط الزوجية مع المطلق وبالتالي يكون كلامه لغواً وكذلك لو قال أن تزوجت فلانة فهي طالق فإن الطلاق لا يصح منه ولا يقع لحديث عمر بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:" لا نذر لابن آدم فيما لا يملك ولا عتق له فيما لا يملك ولا طلاق فيما لا يملك"(1)
2. لابد من تعيين المطلقة بالإشارة أو بالصفة أو بالنية تعيناً لا يحتمل الشك ولا اللبس إن كان له أكثر من زوجة
3. أن لا تكون معتدة من فسخ الزواج بسبب عدم الكفاءة أو لنقص المهر عن المثل أو لخيار البلوغ أو لظهور فساد العقد بسبب فقد شرط من شروط صحته.(2)
4. أن لا تكون مطلقة منه قبل الدخول بها فإن كان قد طلقها قبل الدخول بها فلا يقع عليها طلاق آخر لأنها بانت منه.
__________
(1) رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح.
(2) فقه السنة ج2ص14 ،15.(1/37)
5. أن لا تكون معتدة من طلاق بائن بينونة كبرى أما إذا كانت معتدة من طلاق رجعي فإن جمهور الفقهاء يرون أن الطلاق يقع عليها ما دامت في العدة جاء في المغني"والرجعية" أي المطلقة طلاقاً رجعياً زوجة يلحقها طلاقه وظهاره وإيلاؤه ولعانه ويرث أحدهما الآخر.(1)وفي البدائع فإن كانت معتدة من طلاق رجعي يقع الطلاق عليها سواء كان صريحي أو كناية.(2)وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أنها لا يلحقها طلاق حيث قال: والرجعية لا يلحقها الطلاق وإن كانت في العدة(3)أما المعتدة من طلاق بائن بينونة صغرى فإن الجمهور يرون أن الطلاق لا يلحقها جاء في المغني وجملة ذلك أن المختلعة لا يلحقها طلاق وبه قال ابن عباس وابن الزبير وعكرمة وجابر بن زيد والحسن والشعبي ومالك والشافعي واسحاق وأبو ثور(4)وخالف الاحناف فقالوا بوقوع الطلاق حتى وإن كانت مختلعة يقول الإمام علاء الدين الكاساني :وإن كانت معتدة من طلاق بائن أو خلع فيلحقها صريح الطلاق عند أصاحبنا(5).
6. أن لا تكون حائضاً أو في طهر جامعها فيه حال وقوع الطلاق عليها وهذا الشرط عند من يرى عدم وقوع الطلاق البدعي وسيأتي بيانه.
المبحث الثالث: الصيغة.
صيغة الطلاق هي اللفظ المعبر به عنه إلا أنه قد يستعاض عن اللفظ في أحوال بالكتابة أو بالإشارة(6).
أولاً اللفظ :
هو المعبر عن إرادة الزوج وقوع الطلاق ويشترط فيه شروط هي:
1. القطع بمعرفة معنى اللفظ الذي نطق به قاصداً الطلاق سواء كان هذا اللفظ بالعربية أو بغيرها فإن لم يدرك معنى اللفظ بأن لا يفهم معناه فلا عبرة به .
2. الجزم بحصول اللفظ فلو شك أنطق بالطلاق أم لا. لا يقع الطلاق.
3. الجزم بالعدد الذي قصده فإن شك في العدد بنى على الأقل لأنه به يحصل اليقين.
ثانياً الكتابة.
__________
(1) المغني ج8ص
(2) البدائع ج3ص143.
(3) الاختيارات الفقهية من فتاوى شيخ الإسلام ص256.
(4) المغني لابن قدامه ج8ص
(5) البدائع ج3ص134.
(6) الموسوعة الفقهية ج21ص22(1/38)
اتفق الفقهاء على وقوع الطلاق بالكتابة ولو كان الكاتب قادراً على النطق واشترط الفقهاء لذلك شروطاً منها:
1. أن تكون الكتابة واضحة تقرأ وهو ما يعبر عنه الفقهاء بلفظ "مستبينة" مكتوبة في صحيفة أو نحو ذلك.
2. أن تكون مصدرة للزوجة باسمها ومعنوناً لها أما إذا لم يكن موجهاً لها فلا يقع الطلاق عندئذ إلا بالنية.
3. أن يقصد بالكتابة الطلاق فإن كتب مثلاً زوجتي طالق من غير قصد للطلاق فإن زوجته لا تطلق لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث عمر - رضي الله عنه - :"إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ من نوى"(1)، ولاحتمال أن يكون كتبه لتحسين خطه ورسمه.
ثالثاً الإشارة.
جمهور الفقهاء على عدم صحة الطلاق بالإشارة من القادر على الكلام وخالف المالكية فقالوا يقع الطلاق بإشارة القادر على الكلام كالأخرس إن كان إشارته مفهمة وأن لم تكن مفهمة لم يقع الطلاق عند الاكثر وفي قول لبعض المالكية يقع بها الطلاق بالنية(2)، أما الاخرس والعاجز عن النطق والبيان فإن جمهور الفقهاء على وقوع الطلاق منه لأن الاشارة تقوم مقام الكلام عند هؤلاء وذلك بشرط أن تكون الإشارة مفهمة للمقصود ولا تحتمل تأويلاً وإلا كانت كناية تحتاج إلى نية واشترط بعض الشافعية والأحناف عدم معرفة الاخرس بالكتابة وإلا لا تصح اشارته كما صرح ابن عابدين حيث قال: فإن كان الأخرس لا يكتب وكان له اشارة تعرف في طلاقه ونكاحه وشرائه وبيعه فهو جائز. وإن لم يعرف ذلك منه أو شط فهو باطل.(3)
- - - -
الفصل الثالث
أقسام الطلاق
المبحث الأول: الطلاق من حيث صفته.
ينقسم الطلاق من حيث صفته إلى قسمين: سني وبدعي وعلى هذا جمهور الفقهاء خلافاً للأحناف الذين قسموا السني إلى حسن وأحسن وقبل الحديث عن كل قسم من هذين القسمين نذكر تعريف السنة والبدعة:
تعريف السنة:
__________
(1) البخاري ومسلم.
(2) الموسوعة الفقهية ج ص25
(3) رد المختار ج1ص241.(1/39)
السنة في اللغة تطلق على السيرة والطريقة حسنة كانت أو سيئة قال - صلى الله عليه وسلم - :من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شئ ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شئ"(1).
وفي اصطلاح الفقهاء ماثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غير افتراض ولا وجوب وتقابل الواجب وغيره من الأحكام الخمسة وقد تطلق عندهم على مايقابل البدعة.(2)
تعريف البدعة:
البدعة في اللغة هي اختراع الشئ على غير مثال.
وتعرف كذلك بالحدث في الدين بعد الإكمال(3)ومنه حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة"(4).
وشرعاً تطلق في مقابل السنة وعند الحنفية هي اعتقاد خلاف المعروف عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا بمعاندة بل بنوع شبهة وقال الحسين الصنعاني هي الذهاب إلى قول لم يدل عليه دليل(5)
المطلب الأول: طلاق السنة.
أولاً: تعريفه.
لا يعني الفقهاء بالطلاق السني ما يقابل الفرض أو الواجب أي أنه سنة فلم يقل بذلك أحد من أهل العلم حتى الذين صاروا إلى أن حكم الطلاق عامة الإباحة ولكن يعنون بالسني ما وافق سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهديه في طريقة إيقاعه.
ثانياً: صورته.
__________
(1) رواه مسلم.
(2) السنة ومكانتها في التشريع ص48.
(3) مختار الصحاح ص44.
(4) أخرجه أحمد وأبو داود وصححه الحاكم
(5) القاموس الفقهي.(1/40)
أن يطلق الزوج امرأته في طهر لم يمسها فيه طلقة واحدة ويتركها حتى تنقضي عدتها فتصير هذه الطلقة الرجعية طلقة واحدة بائنة بعد انقضاء عدتها وتبين المرأة من زوجها بينونة صغرى إن لم تكن هذه الطلقة مكملة للطلاق الثلاث(1)وبهذا يكون الطلاق السني من ناحية العدد أن يوقع عليها طلقة واحدة ومن ناحية الزمان أن لا تكون حائضاً أو حاملاً مستيقناً حملها أو في طهر جامعها فيه أو نفساء فقد ألحق العلماء النفساء بالحائض(2). وبهذا جاءت الأدلة من الكتاب والسنة ففي سورة الطلاق يقول سبحانه: { ياأيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة }(3).
__________
(1) المفصل في أحكام المرأة والبيت المسلم ج7ص414 ،415.
(2) يقول ابن حزم معللاً ذلك:" وطلاق النفساء كطلاق في الحيض وبرهان ذلك أنه ليس إلا حيض أو طهر وقد ذكرنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن الطلاق في الحيض وأمر بالطلاق في طهر لم يجامعها فيه أو حاملاً ولا خلاف في أن دم النفساء ليس طهراً ولا هو حمل فلم يبقى إلا الحيض فهو حيض بل لا خلاف في أنه له حكم الحيض من ترك الصلاة والصوم والوط" المحلى ج10ص176
(3) سورة الطلاق الآية 1.(1/41)
وفي صحيحي البخاري ومسلم عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهم - أن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهم - طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء"(1)وهذا بيان لقوله تعالى": { ياأيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة } ،وورد عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: طلاق السنة تطليقة وهي طاهر في غير جماع فإذا حاضت وطهرت طلقها أخرى فإذا حاضت وطهرت طلقها أخرى ثم تعتد بعد ذلك بحيضة"(2)وهو بهذا يقصر العدة على المرأة فيقل تضررها من الطلاق.
ثالثاً: حكمه.
لا خلاف بين أهل العلم أن الطلاق السني يقع وذلك إذا استوفى بقية شروطه التي ذكرها الفقهاء لوقوع الطلاق سواء الخاصة منها بالزوج أو بالزوجة أو الصيغة.
المطلب الثاني: طلاق البدعة.
أولاً: تعريفه.
الطلاق البدعي هو ما خالف السنة في طريقة وقوعه.
ثانياً: صورته.
وصوره خلاف بين العلماء في بعضها نتحدث عنها عند الحديث عن حكم كل صورة على حدة وهي:
1. أن يطلق الرجل زوجه في طهر جامعها فيه.
2. أن يطلقها في حالة الحيض أو النفاس.
3. أن يطلقها أكثر من طلقة واحدة في مجلس واحد أو ثلاثاً بكلمة واحدة(3).
ثالثاً: حكمه.
__________
(1) متفق عليه
(2) المغني لابن قدامة ج8ص والأثر أخرجه البخاري والنسائي ص60ص140
(3) يرى الشافعية أن الطلاق ثلاثاً في طهر لم يجامعها فيه ليس بدعياً وهو رواية عند الحنابلة.(1/42)
لا خلاف بين أهل العلم على أن الطلاق البدعي حرام وأن فاعله آثم ولكن هل تجب عليه عليه مراجعة زوجه؟ ذهب الأحناف إلى وجوب مراجعتها في الأصح عندهم(1)، وذهب المالكية إلى تقسيم البدعي إلى حرام ومكروه فالحرام عندهم ما وقع في الحيض أو النفاس من الطلاق مطلقاً والمكروه ما وقع في غير الحيض والنفاس كما لو أوقعها في طهر جامعها فيه وعلى هذا فعند المالكية يجبر المطلق في الحيض والنفاس على الرجعة رفعاً للحرمة ولا يجبر غيره على الرجعة وإن كان بدعياً(2). وذهب الحنابلة إلى استحباب الرجعة فنص صاحب المغني على ذلك بقوله: "ويستحب أن يراجعها لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بمراجعتها وأقل أحوال الأمر الاستحباب ولأنه بالرجعة يزيل المعنى الذي حرم الطلاق ولا يجب ذلك في ظاهر المذهب وهو قول الثوري والأوزاعي والشافعي وابن أبي ليلى"(3)، وهذا كله أن كان الطلاق الأول أو الثاني أما إذا كان الطلاق الثالث فقد ذهب جمهور الفقهاء أنه لا يحل مراجعتها حتى تنكح زوجاً غيره كما سيأتي. ولكن هل يقع طلاق البدعة؟ أم لا خلاف بين العلماء سنبينه في كل صورة من صوره.
المسألة الأولى طلاق الرجل زوجته وهي حائض أوالنفساء أو في طهر جامعها فيه.
قال الإمام النووي - رضي الله عنه - :"أجمعت الأمة على تحريم طلاق الحائض"(4)،وجاء في مواهب الجليل " أن الطلاق في الحيض حرام بالاجماع"(5)،وقال صاحب المغني فإن طلق للبدعة وهو أن يطلقها حائضاً أو في طهر أصابها فيه أثم"(6).
حكمة تحريم طلاق الحائض:
__________
(1) رد المختار ج4ص435.
(2) الدسوقي ج2ص361، 362.
(3) المغني لابن قدامة ج8ص238.
(4) صحيح مسلم شرح النووي ج10ص64.
(5) مواهب الجليل شرح مختصر خليل للحطاب ج4ص39.
(6) المغني لابن قدامة ج8ص237.(1/43)
والحكمة من تحريم الطلاق في الحيض يرجع إلى أمرين: الأمر الأول لئلا تطول عدة المرأة المطلقة وفي إطالتها ضرر عليها والأمر الثاني لغرض التأكد من أن الطلاق كان لحاجة الزوج إليه وليس مرده إلى نزوة طارئة وغضب سريع وقرار متعجل وبيان ذلك أن الرجل عادة لا يميل إلى زوجه وهي حائض الميل الطبيعي المعتاد نظراً لحرمة وطئها في الحيض وربما يدعوه ذلك إلى العجلة في تطليقها لأتفه الأسباب ولأقل غضب(1)ولذلك استثنى جمهور العلماء من حظر طلاق المرآة في الحيض حالات هي :
1. غير المدخول بها لأنها لاعدة عليها فيكون طلاقها على أي حال لقوله تعالى: { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء مالم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة }(2)، ولقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها }(3). قال ابن عبد البر:" أجمع العلماء أن طلاق السنة إنما في المدخول بها أما غير المدخول بها فليس لطلاقها سنة ولا بدعة إلا في عدد الطلاق على أختلاف بينهم فيه"(4).
__________
(1) المفصل في احكام المرأة والبيت المسلم ج7ص419.
(2) سورة البقرة الآية 236.
(3) سورة الأحزاب الآية 49.
(4) المغني لابن قدامة ج8ص249.(1/44)
2. كما استثنى الخلع عند من يرى أنه طلاق لحديث ابن عباس - رضي الله عنهم - أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت يا رسول الله ثابت ما أعتب عليه في خلق ولا دين ولكني أكره الكفر في الإسلام فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :"أتردين عليه حديقته قالت: نعم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أقبل الحديقة وطلقها تطليقة"(1)، ووجه الاستشهاد بالحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يسألها أهي حائض أم لا فدل على جواز الخلع في الحيض والطهر وذلك لأن المرأة هي التي تطلب الخلع وتسعى إليه وقد جاء في مغني المحتاج في فقه الشافعية "ويجوز خلعها في الحيض والنفاس لا طلاق قوله تعالى: { فلا جناح عليهما فيما افتدت به } ولحاجتها إلى الخلاص بالمفارقة حيث افتدت بالمال"(2).
3. واستثنوا كذلك تطليق القاضي في الإيلاء إذا رفض الزوج الفيء قبل مضي مدة الايلاء وهي أربعة أشهر ووقع تطليق القاضي حال الحيض لعموم قوله تعالى: { للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإذا فاءوا فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم }(3).
حكم طلاق الحائض:
وهل يقع الطلاق أم لا ؟ هذه المسألة من المسائل التي سار حولها جدل كثير بين مثبت لوقوع الطلاق ونافِ له وامتحن بسببها أئمة كبار وعلماء عظام والخلاف طويل وقد أسهب كثير من العلماء في تحريره وجمع أدلته وايضاح ما استشكل منها كالسيد العلامة محمد بن إبراهيم الوزير الذي له مصنف حافل وللإمام الشوكاني رسالة ذكر فيها أدلة الطرفين وما يرجح منها اضافة إلى ماذكره في كتابه نيل الأوطار هذا بالإضافة إلى ما كتبه ابن حزم وابن تيمية وابن القيم.
وخلاصة المسألة يعود إلى قولين:
القول الأول:
__________
(1) البخاري كتاب الطلاق باب الخلع والنسائي كتاب الطلاق.
(2) مغني المحتاج ج3ص308.
(3) سورة البقرة الآيات 227،226.(1/45)
ذهب جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والزيدية وغيرهم إلى وقوعه واستدلوا بما يلي:
1. الطلاق في الحيض داخل تحت عموم قوله تعالى: { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره }(1)، وقوله تعالى" { والمطلقات يتربص بأنفسهن ثلاثة قروء }(2)، وحجتهم في ذلك أن الآيات لم تفرق بين مطلقة في حيض وبين مطلقة في طهر وكذلك العموميات الأخرى الواردة في القرآن الكريم بشأن المطلقات يدخل فيها المطلقات في الحيض إذ لا يجوز إخراج بعض المطلقات من هذا العموم الوراد في هذه الآيات إلا بنص أو اجماع ولا يوجد نص ولا اجماع في أخراج المطلقات في الحيض من هذا العموم"(3).
2. أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يراجع عبدالله بن عمر - رضي الله عنهم - زوجه ولو لم يقع الطلاق لم يأمره بإرجاعها وكذلك تصريح عبدالله بن عمر في بعض الروايات أنها حسبت طلقة فعن ابن عمر - رضي الله عنهم - أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهرثم إن شاء أمسك بعد ذلك وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله سبحانه أن تطلق لها النساء"(4)وفي لفظ للبخاري قال ابن عمر: حسبت عليّ تطليقة"(5).
__________
(1) سورة البقرة الآية
(2) سورة البقرة الآية 228.
(3) زاد المعاد ج5ص229 ،230 بتصرف.
(4) مسلم كتاب الطلاق باب تحريم طلاق الحائض.
(5) صحيح البخاري شرح العسقلاني ج9ص351.(1/46)
3. كون الطلاق في الحيض محرماً لا يمنع ترتيب أثره وحكمه عليه والدليل على ذلك أن الظهار وبه تقع الفرقة بين الزوجين وصفه القرآن الكريم بأنه منكر من القول وزور وهو محرم بلا شك ومع ذلك فإن أثره يترتب عليه وهو تحريم الزوجة إلى أن يعطي المظاهر الكفارة فكذلك الطلاق البدعي كالطلاق في الحيض هو محرم ولكن يترتب عليه أثره إلى أن تحصل الرجعة فيه وكذلك طلاق الهازل يقع مع أن الهزل فيه محرم"(1).
4. الطلاق في الحيض طلاق من مكلف في محل الطلاق فيقع كطلاق الحامل ولأنه ليس بقربة فيعتبر لوقوعه موافقة السنة بل هو إزالة عصمة وقطع ملك فإيقاعه في زمن البدعة أولى تغليظاً عليه وعقوبة له أما غير الزوج فلا يملك الطلاق والزوج يملكه بملكه محله(2).
القول الثاني:
وأصحاب هذا القول يرون أن من طلق امرأته وهي حائض أو في طهر جامعها فيه فإن طلاقه لا يقع وإلى هذا القول ذهب الإمام الباقر والصادق والناصر وطاووس وسعيد بن المسيب وابن علية وابن حزم وابن تيمية وابن القيم والشوكاني ومحمد بن الوزير ومحمد بن اسماعيل الصنعاني(3)
وقد أستدل أصحاب هذا الرأي بما يلي:
1. قول الله سبحانه وتعالى { ياأيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقهن لعدتهن }(4)والطلاق حال الحيض أو الطهر الذي جامعها فيه ليس طلاقاً للعدة التي أمر الله سبحانه وتعالى بها ومما هو مقرر عند الأصوليين أن الأمر بالشئ نهي عن ضده.
2. قوله تعالى: { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } ومن أن المعلوم أن الطلاق في الحيض أو في الطهر الذي جامع الرجل زوجه فيه ليس من الاحسان للمرأة بل هو إساءة لها وضرر بها حيث تطول عدتها.
__________
(1) المفصل في أحكام المرأة والأسرة ج7ص442 نقلاً عن زاد المعاد..
(2) المغني لابن قدامة ج8ص238.
(3) نيل الأوطار للشوكاني ج6ص
(4) سورة الطلاق الآية 1(1/47)
3. أخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي عن ابن عمر بلفظ "طلق عبدالله بن عمر امرأته وهي حائض قال عبدالله فردها عليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يرها شيئاً وهو حديث صحيح.
4. حديث الإمام مسلم عن عائشة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:" من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" والطلاق في حال الحيض مخالف لأمر الشرع فيكون مردوداً لا أثر له.
5. روى ابن حزم في المحلى بإسناده عن نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه قال في رجل طلق امرأته وهي حائض قال ابن عمر لا يعتد بذلك(1). وروى عبدالرازق في مصنفه عن ابن جريح عن ابن طاووس عن أبيه أنه قال: كان لا يرى طلاقاً ما خالف وجه الطلاق ووجه العدة وكان يقول وجه الطلاق أن يطلقها طاهراً من غير جماع وإذا استبان حملها.(2)
الأختيار في المسألة:
من الواضح خلال البحث أن المسألة أخذت جدلاً كبيراً ومناقشات بين العلماء وحاول كل فريق اثبات حجيتة وأدلتة وابطال أدلة الآخرين والرد عليها وجار آخرون في المسألة حتى أن عالماً كبيراً كالإمام محمد بن إسماعيل الصنعاني يتردد بين إيقاع الطلاق وعدمه حتى تستقر عنده الفتوى بعدم وقوع الطلاق يقول الصنعاني: وقد كنا نفتي بعدم الوقوع وكتبنا فيه رسالة وتوقفنا مدة ثم رأينا وقوعه ثم أنه قوى عندي ما كنت أفتي به أولاً من عدم الوقوع لأدلة قوية سقتها في الرسالة سميناها الدليل الشرعي في عدم وقوع الطلاق البدعي.(3).
__________
(1) المحلى ج10 ص163 ورجاله ثقات.
(2) المصنف 1923 ورجاله ثقات نقلاً عن زاد المعاد ج5 ص222.
(3) سبل السلام ج3 ص180.(1/48)
وهذا الرأي يتناسب مع الأتجاه إلى التضييق في إيقاع الطلاق حفاظاً على الكيان الأسري من الضياع والتفكك فلا يزال النكاح إلا بيقين من كتاب أو سنة أو اجماع وليس ثمة أدلة يقينية تزيل عقد النكاح الذي عُقد بيقين وليس ثمة اجماع في المسألة يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تقدم من حكاية النزاع ما يعلم معه بطلان دعوى الإجماع(1)
المسألة الثانية: حكم الطلاق الثلاث في طهر واحد بكلمة واحدة أو كلمات.
تقدم أن طلاق السنة هو أن يطلقها طلقة واحدة في طهر لم يمسها فيه ثم يتركها حتى تنقضي عدتها فإذا جمع الرجل الطلقات الثلاث في كلمة واحدة مثل أن يقول لها أنت طالق ثلاثاً أو في كلمات كأن يقول لها أنت طالق أنت طالق أنت طالق أو أنت طالق وطالق وطالق أو ماشابه ذلك وكان في طهر واحد يكون قد خالف السنة ويكون بدعياً في قول الحنفية والمالكية وابن تيمية وابن القيم ولايكره ذلك عند الشافعية والحنابلة في الراجح من الروايات وكذا عند أبي ثور وداود الظاهري وإنما يكون تاركاً للأفضل ولكن هل يقع الطلاق أم لا ثمة آراء أربع في المسألة:
الرأي الأول:
لا يقع ولا يلزم منه شئ وهو منقول عن بعض المعتزلة والشيعة وبعض الظاهرية وقد أستدل هؤلاء بالأدلة نفسها التي أستدل بها على عدم وقوع الطلاق في الحيض لأن كلاً منها بدعي غير مشروع.
الرأي الثاني:
يقع ثلاث طلقات سواء كانت المرأة مدخول بها أم لا وإلى ذلك ذهب الجمهور ومنهم أئمة المذاهب الأربعة وبعض من الصحابة كأبي هريرة - رضي الله عنه - وابن مسعود وابن عمرو وغيرهم وقد استدل هؤلاء بأدلة من الكتاب والسنة والآثار منها:
1. قوله تعالى: { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره }(2).
2. وقوله تعالى : { وإن طلقتموهن من قبل ان تمسوهن }(3).
__________
(1) زاد المعاد ج5ص234
(2) سورة البقرة الآية 230.
(3) سورة البقرة الآية 236.(1/49)
3. وقوله تعالى: { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء }(1).
ظاهر هذه الآيات أنها لم تفرق بين ايقاع الطلاق واحدة أو ثنتين أو ثلاث.
4. أخرج أبو داود في سننه أن ركانة بن عبديزيد طلق امرأته البتة فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك وقال والله ما أردت إلا واحدة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والله ما أردت إلا واحدة فقال ركانة: والله ما أردت إلا واحدة فردها إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فطلقها ثانية في زمان عمر بن الخطاب والثالثة في زمان عثمان"(2)وهو يدل على أنه لو أراد الثلاث لوقعن.
الرأي الثالث:
يقع واحدة ولا تأثير للفظ وهو قول ابن عباس على الأصح وابن اسحاق وعطاء وعكرمة وطاووس كما أفتى به محمد بن أسحاق وحلاس بن عمرو وهو قول الزيدية وبعض الظاهرية وابن تيمية وابن القيم. وقد حكاه ابن المغيث(3)في كتاب الوثائق عن علي وابن مسعود وعبدالرحمن بن عوف والزبير وحكاه أيضاً عن جماعة من مشايخ قرطبة ونقله ابن المنذر عن أصحاب ابن عباس وقد استدل أصحاب هذا القول بأدلة خالفوا بها جمهور الفقهاء والأئمة الأربعة وقد أطال بعض العلماء من أصحاب هذا الرأي في ذكر الأدلة وتفنيد حجج المخالفين لهم(4)منهم شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهم وأدلة هؤلاء:
__________
(1) سورة البقرة الآية 237.
(2) سنن أبي داودوالترمذي وابن حبان والحاكم وفي اسناده الزبير بن سعد الهاشمي وقد ضعفه غير واحد وفي اسناده ايضاً نافع بن عجيل وهو مجهول ومتنه مضطرب كما قال البخاري ففي لفظ منه أنه طلقها ثلاثاً وفي لفظ واحدة وفي لفظ البتة قال أحمد طرقه كلها ضعيفة.
(3) ذكر ذلك ابن القيم في اغاثة اللهفان ج1ص329، 330.
(4) يراجع في ذلك اعلام الموقعين واغاثة اللهفان لابن القيم والفتاوى لابن تيمية ونيل الأوطار للشوكاني وسبل السلام للصنعاني.(1/50)
1. قوله تعالى: { الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أوتسريح بإحسان } فهذه الآية دلت على أن الطلاق المشروع هو أن يكون مرة بعد مرة وعقب كل مرة يكون للزوج حق ارجاعها أما طلاقها الثلاثة فيجعلها تبين منه ولا يحل له ارجاعها حتى تنكح زوجاًغيره { فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره } .
2. حديث ابن عباس - رضي الله عنه - قال كان الطلاق على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر - رضي الله عنه - طلاق الثلاث واحدة فقال عمر - رضي الله عنه - إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناه فلوأمضيناه عليهم فأمضاه عليهم وفي رواية لمسلم عن طاووس أن أبا الحصباء قال لابن عباس أتعلم أنما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وثلاثاً من امارة عمر فقال ابن عباس نعم(1).
3. حديث ابن عباس - رضي الله عنه - عن ركانة أنه طلق امرأته ثلاثاً في مجلس واحد فحزن عليها حزناً شديداً فسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كيف طلقتها قال طلقتها ثلاثاً في مجلس واحد فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انما تلك واحد فارتجعها.(2)
الرأي الرابع:
وهو قول يفرق بين المرأة البكر التي لم يدخل بها زوجها وبين الثيب التي دخل بها زوجها فيوقعون على البكر واحدة وعلى المدخول بها ثلاثاً وهو قول جماعة من اصحاب ابن عباس وهو مذهب اسحاق بن راهويه فيما ذكره عنه محمد بن نصر المروزي في كتاب أختلاف العلماء ، وأدلة هؤلاء:
__________
(1) رواه مسلم كتاب الطلاق.
(2) اخرجه أحمد وأبو يعلي وصححه ابو داود.(1/51)
1. قال أصحاب هذا الرأي أن غير المدخول بها لا عدة عليها بنص القرآن الكريم { يا ايها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فمالكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحاً جميلاً }(1)فإذا أوقع عليها ثلاث طلقات بانت منه بالأولى ويكون ما بعدها لغو لا أثر له يقول الإمام القرطبي في تفسيره:"وربما اعتلوا فقالوا غير المدخول بها لا عدة عليها فإذا قال أنت طالق ثلاثاً فقد بانت بنفس فراغه من قوله أنت طالق فيرد ثلاثاً عليها وهي بائن فلا يؤثر شيئاً ولأن قوله أنت طالق مستقل بنفسه فوجب ان لا تقف البينونة في غير المدخول بها على مايأتي بعد أنت طالق"(2).
2. روى أبو داوود عن طاووس أن رجلاً يقال له أبو الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس قال أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثاً قبل ان يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وابي بكر وصدراً من خلافة عمر قال ابن عباس: بلى كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثاً قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وصدراً من امارة عمر فلما رأى الناس قد تتابعوا فيها قال أجيزوهن عليهم" وقد تمسك بهذه الرواية من ذهب إلى أن المطلقة ان كانت مدخول بها وقعت الثلاث وإن لم تكن مدخولاً بها فواحدة.(3)
الاختيار في المسألة:
مع كثرة الآراء بين من يعد الطلاق الثلاث في مجلس واحد أو في كلمة واحدة طلاقاً واقعاً وتبين منه امرأته بينونة كبرى وبين من لا يراه شيئاً البتة ومن يراه في المدخول بها خلاف التي لم يدخل بها يأتي الرأي الوسط وهو أن الطلاق يقع طلقة واحدة ولا تأثير للفظ والعدد ويؤيد ذلك اضافة إلى ما ذكرنا من أدلة ما يأتي:
__________
(1) سورة الاحزاب الآية 49.
(2) تفسير القرطبي ج3ص133,.
(3) عون المعبود شرح سنن أبي داوود ج6.(1/52)
1. الاستشهاد بالأيات الكريمة التي سيقت للدلالة على وقوع الطلاق بحجة أن اطلاق القرآن الكريم للفظ الطلاق يشمل الواحدة والثنتين أو الثلاث دعوة غير مقبولة بل باطلة كما يقول الإمام ابن القيم إذ أن ذلك لا يعم جائزه ومحرمه كما لا يدخل تحته طلاق الحائض وطلاق الموطوءة في طهرها ومعلوم أن القرآن الكريم لم يدل على جواز كل طلاق وإنما دل على أحكام الطلاق والمبين عن الله تعالى بين حلاله وحرامه.(1)
2. البدهي من لغة العرب أن وصف اللفظ بالعدد أنما هو أخبار عن وقوع الموصوف في الخارج بهذا اللفظ كما في قوله تعالى "فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله انه لمن الصادقين"(2)فإنه لا يصح أن يقول أشهد بالله أربع شهادات بل يجب ان يكرر الشهادة أربع مرات وكذلك أمره - صلى الله عليه وسلم - بالتسبيح والتحميد والتكبير دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين مرة لا يصح أن يقول سبحان الله ثلاثاً وثلاثين وإنما يجب العدد سبحان الله سبحان الله. وهكذا من يقول لزوحه أنت طالق ثلاثاً لا يكون إلا مرة واحدة.
المبحث الثاني: الطلاق من حيث الأثر الناتج عنه.
ينقسم الطلاق من حيث الأثر الناتج على الحياة الزوجية إلى قسمين رجعي وبائن.
المطلب الأول: الطلاق الرجعي.
تعريفه: هو الطلاق الذي يوقعه الزوج على زوجته التي دخل بها حقيقة إيقاعاً مجرداً عن أن يكون في مقابلة مال ولم يكن مسبوقاً بطلقة أصلاً أو كان مسبوقاً بطلقة واحدة(3).
والدليل عليه قوله تعالى: { الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان }(4)
__________
(1) زاد المعاد ج5ص260.
(2) سورة النور الآية 6.
(3) فقه السنة ج3ص33.
(4) سورة البقرة الآية 229.(1/53)
وفي الآية بيان أن الطلاق المشروع يكون مرة بعد مرة وللزوج الحق أن يراجع زوجه بعد الطلقة الأولى او الثانية ما لم تنقضي عدتها والإمساك بالمعروف معناه مراجعتها ويقول الله سبحانه وتعالى: { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن ارادوا اصلاحاً }(1)، وفي الحديث الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعمر حينما أخبره أن أبنه عبدالله طلق زوجه وهي حائض فقال له:"مره فليراجعها"(2).
شروط وقوع الطلاق الرجعي:
1. أن يكون في نكاح صحيح.
2. أن يكون الزوج قد بنى بزوجه التي أوقع عليها الطلاق لأن المطلقة قبل الدخول تبين من زوجها ولا عدة عليها لقوله تعالى: { ياأيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحاً جميلاً }(3).وعند الحنفية والمالكية والشافعية لا تقوم الخلوة الصحيحة مقام الدخول بالنسبة لحق الزوج في إرجاع زوجه إذا طلقها بعد الخلوة الصحيحة دون دخول بها حقيقة ولهذا يقع الطلاق عندهم في هذه الحالة طلاقاً بائناً وعند الحنابلة الخلوة الصحيحة تقوم مقام الدخول حتى لو أنه طلقها قبل الدخول بها لكن بعد الخلوة الصحيحة بها جاز له إرجاعها باعتبار أن طلاقه طلاق رجعي.(4)
3. أن لا يكون الطلاق مقابل عوض من الزوجه لأنه يصير عندئذ خلعاً ولا يحق له مراجعتها إلا بموافقتها وبمهر جديد وعقد جديد كما في باب الخلع. قال صاحب المغني:" أجمع أهل العلم على أن الحر إذا طلق الحرة بعد الدخول بها أقل من ثلاث بغير عوض ولا أمر يقتضي بينونتها فله عليها الرجعة ما كانت في عدتها"(5).
__________
(1) سورة البقرة الآية 228.
(2) البخاري ومسلم
(3) سورة الأحزاب الآية 49.
(4) المفصل في احكام المرأة ج8ص9.
(5) المغني ج8.(1/54)
4. أن لا يكون مكملاً للثلاث ولأن الزوج من حقه إرجاع زوجه بعد الطلقة الأولى والثانية أما بعد الثالثة فلا يصح له حتى تنكح زوجاً غيره وهو الطلاق البائن كما سيأتي.
حكم الطلاق الرجعي:
1. للزوج حق ارجاع زوجه ما دامت في عدتها بدون عقد جديد لقوله تعالى: { وبعولتهن أحق بردهن في ذلك أن أرادوا اصلاحاً }(1)ولا يشترط في ذلك رضا الزوجة ولا علمها وإن استحب ذلك وتصح مراجعتها بالقول مثل أن يقول راجعتك أو بالفعل كالجماع ودواعيه.
2. الطلاق الرجعي لا يزيل الزوجية القائمة ما دامت الزوجة في العدة ففي الآية السابقة سمى الله تعالى المطلقات أزواجاً بعد الطلاق "وبعولتهن" ولا يكون ذلك إلا إذا كانت الزوجية قائمة ولذلك جاء في المغني لابن قدامه قوله:"والرجعية يلحقها طلاقه وظهاره وإيلاؤه ولعانه مادامت في العدة ويرث أحدهما الآخر إذا حصلت وفاة أحدهما وهي في العدة وإن خالعها صح خلعه.(2)
3. لا يحل بالطلاق الرجعي المؤجل من المهر لأحد الأجلين وإنما يحل ذلك بعد انقضاء العدة.
4. الطلاق الرجعي ينقص عدد الطلقات التي يملكها الزوج على زوجه فإن الزوج يملك ايقاع ثلاث طلقات على زوجه فإن طلق واحدة احتسبت وبقيت له ثنتان وإن طلق الثانية احتسبت وبقيت له واحدة تبين بعدها.
مسألة:
لو أراد الزوج مراجعة زوجه من طلاق رجعي أثناء العدة فادعت أنقضاء عدتها نظر فإن كان الوقت الذي ادعت فيه تنقضي فيه العدة عادة قبل قولها لقوله تعالى" { ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن أن كنَّ يؤمن بالله واليوم الآخر }(3)
فلولا أن قولها مقبول لما نهاهن الله تعالى عن الكتمان والمطالبة بإظهاره هنا هو الحيض والحمل كما نص على ذلك اهل العلم وان ادعت انقضاء العدة في مدة لا تنقضي فيها العدة حتى على أقل مدة عند الفقهاء فالقول عندئذ قول الزوج لظهور عدم صحة قولها.
المطلب الثاني: الطلاق البائن.
__________
(1) سورة الآية
(2) المغني ج8ص
(3) سورة البقرة الآية 228.(1/55)
إذا لم يكن للزوج حق الرجعة سمى الطلاق بائناً وينقسم إلى قسمين: بائن بينونة صغرى وبائن بينونة كبرى.
أولاً:البائن بينونة صغرى.
تعريفه:
هو الطلاق الذي لا يملك الزوج فيه حق الرجعة إلا بعقد جديد ومهر جديد سواء كان أثناء العدة أم بعدها.
حالاته:
أ الطلاق قبل الدخول إذ لا يملك الزوج في هذه الحالة إذا أراد أن يراجع زوجه إلا أن يعقد عليها عقداً جديداً ويسمي لها مهراً.
ب الطلاق على عوض والمسمى في الفقه بالخلع لأن المرأة ما دفعت العوض إلا لتتخلص من قيد الزوجية وتملك أمر نفسها وبه لا يملك الزوج ارجاع زوجه إلا برضاها وعقد جديد ومهر جديد.
ت بعض الحالات التي يفرق فيها القاضي كتفريق القاضي بسبب الشقاق بين الزوجين أو تضرر الزوجة من غيبة الزوج أو حبسه.
ث المطلقة رجعياً إذا أنقضت عدتها ولم يراجعها زوجها.
حكمه:
أ الطلاق البائن بينونة صغرى يزيل قيد الزوجية بمجرد وقوعه فتصبح الزوجة أجنبية عن زوجها فلا يحل له الاستمتاع بها ولا يرث أحدهما الآخر إذا مات أثناء العدة أو بعدها.
ب لا يحتاج الطلاق البائن بينونة صغرى لمحلل بمعنى أنه لا يشترط لحلها لزوجها أن تنكح زوجاً غيره وإنما يكتفي بمهر جديد وعقد جديد.
ت يحل بالطلاق البائن مؤخر الصداق المؤجل لأقرب الأجلين.
ث لا يملك الزوج حق إرجاع زوجه إلا برضاها ومهر جديد وعقد جديد.
ج ينقص الطلاق البائن بينونة صغرى عدد الطلقات التي يملكها الزوج على زوجه فإذا رجعت إليه بعقد جديد ومهر جديد عادت إليه بما بقى من الطلقات.
وقد اتفق الفقهاء على أن المطلقة الرجعية إذا اراد زوجها إرجاعها وكذلك البائن بينونة صغرى إذا عقد عليها زوجها عقداً جديداً قبل أن تتزوج بزوج آخر تعود إليه بما بقى له من الطلقات الثلاث واحدة أو اثنتين.
ثانياً: البائن بينونة كبرى.
تعريفه:(1/56)
هو الطلاق الذي لا يملك الزوج فيه حق الرجعة إلا بعقد جديد ومهر جديد بعد أن تنكح زوجاً آخر ويدخل بها ثم يفارقها بموته أو بالطلاق وتنتهي عدتها.
حالاته:
يقع الطلاق بائناً بينونة كبرى إذا كان مكملاً الثلاث لقوله تعلى: { الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما أفتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره }(1). ولقوله - صلى الله عليه وسلم - لامرأة رفاعة وقد طلقها زوجها ثلاثاً وأرادت أن تعود إليه بعد أن تزوجت بآخر لكن دون معاشرة زوجية "لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك وهذا القول كناية عن الوطء"(2).
حكمه:
يأخذ جميع أحكام الطلاق البائن بينونة صغرى التي ذكرت من قبل إلا أنه يزيل قيد الزوجية والحل أي أن الزوجة المطلقة ثلاثاً لا تحل لزوجها حتى تنكح زوجاً غيره ثم يفارقها بموت أو طلاق وتنقضي عدتها ثم إذا شاء زوجها الأول أن يعقد عليها برضاها كان له ذلك ولكن بعقد جديد ومهر جديد.
شروط النكاح الذي تحل به المطلقة ثلاثاً للزوج الأول:
أ يشترط في النكاح الذي تحل به المطلقة ثلاثاً للزوج الأول أن يكون صحيحاً ظاهراً وباطناً بأن يكون مستوفياً لشروطه وأركانه وأن يكون المقصود منه اقامة البيت وتحقيق أغراض الزواج في الإسلام.
ب اشترط جمهور الفقهاء الوطء فلا يكفي مجرد العقد الصحيح وذلك لحديث عائشة - رضي الله عنهم - أن رفاعة القرظي تزوج امرأة ثم طلقها فتزوجت آخر فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت له أنه لا يأتيها وأنه ليس معه إلا مثل هدبة الثوب فقال لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك"(3)
مسألة الهدم.
__________
(1) سورة البقرة الآية 229 ،230.
(2) رواه البخاري.
(3) رواه البخاري.(1/57)
إذا تزوجت المطلقة ثلاثاً "المبانة بينونة كبرى" ثم طلقت من زوجها وعادت إلى زوجها الأول بعد انقضاء عدتها فإنها تعود إليه بثلاث تطليقات يملكها عليها قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن الحر إذا طلق زوجته ثلاثاً ثم انقضت عدتها ونكحت زوجاً أخر ودخل بها ثم فارقها وانقضت عدتها ثم نحكت زوجها الأول أنها تكون عنده على ثلاث تطليقات.(1)
أما المبانة بينونة صغرى إذا تزوجت ثم طلقها زوجها وعادت إلى زوجها الأول فقد أختلف أهل العلم في ذلك إلى أقوال ثلاث القول الأول وهو قول أبراهيم النخعي ان كان دخل بها الأخير فطلاق جديد ونكاح جديد وإن لم يكن دخل بها فعلى ما بقى(2). والقول الثاني: وهو قول عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعمران بن الحصين وأبو هريرة ويروى ذلك عن زيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وعبدالله بن عمرو بن العاص وبه قال عبيدة السلماني وسعيد بن المسيب والحسن البصري ومالك وسفيان الثوري وابن أبي ليلة والشافعي وأحمد واسحاق وأبو عبيد وأبو ثور ومحمد بن الحسن وابن نصر وهؤلاء يقولون أنها ترجع إليه بما بقى من طلاقها . والقول الثالث: قول ابن عمر وابن عباس وبه قال عطاء والنخعي وشريح والنعمان ويعقوب وهو أن الزواج جديد والطلاق جديد وقد ذكر أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا أبو معاوية ووكيع عن الأعمش عن إبراهيم قال كان أصحاب عبدالله يقولون أيهدم الزوج الثلاث ولا يهدم الواحدة والاثنين.(3)وهذا القول هو الأظهر في المسألة والله أعلم.
المبحث الثالث: الطلاق من حيث الصيغة المستعملة
ينقسم الطلاق من حيث الصيغة المستعملة إلى طلاق صريح وكنائي:
المطلب الأول الطلاق الصريح.
أولاُ معناه.
الطلاق الصريح هو الذي يكون بلفظ لا يحتمل غير الطلاق مثل أنت طالق ومطلقة باللغة العربية وكذلك الألفاظ التي تؤدي معنى الطلاق الصريح في اللغات الأخرى.
ثانيا ألفاظه.
__________
(1) القرطبي ج3ص131.
(2) القرطبي ج3ص132
(3) القرطبي ج3ص131، فقه السنة ج3ص38.(1/58)
ذهب الفقهاء إلى أن الألفاظ الصريحة في الطلاق هي مادة "طلق" وما اشتق منها لغة وعرفاً مثل طلقتك وأنت طالق(1)وكذلك الالفاظ التي تؤدي معنى الطلاق الصريح في اللغات الأخرى وقد ذهب الشافعية إلى أن الصريح ثلاثة ألفاظ الطلاق والفراق والسراح(2)وهي الألفاظ التي أستعملها القرآن الكريم في الحديث عن فرق الزواج.
ثالثاً حكمه.
ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الطلاق يقع باللفظ الصريح دون حاجة إلى نية أو دالة حال(3)وخالف الظاهرية فقالوا يقع الطلاق بلفظ الطلاق أو السرح أو الفراق إذا نوى به الطلاق فإن قال في شئ من ذلك كله لم أنو الطلاق صدق في الفتيا ولم يصدق في القضاء في لفظ الطلاق وما تصرف منه وصدق في سائر ذلك في القضاء أيضاً(4)ولعل هذا ما يتفق مع ما ذكرنا سابقاً من حيث اشتراط النية والقصد في الطلاق لقوله تعالى:" وإن عزموا الطلاق" ولقوله - صلى الله عليه وسلم - :"إنما الأعمال بالنيات"
المطلب الثاني الطلاق بالكناية.
أولاً تعريفه.
هو فك عرى الزواج بلفظ يحتمل الطلاق وغيره.
ثانياً ألفاظه.
كل لفظ يحتمل الطلاق وغيره مثل قول الرجل لزوجه أنت بائن فهو لفظ يحتمل البينونة عن النكاح والبينونة عن الخير والشر ومثل قول الحقي بأهلك.
ثالثاً حكمه.
__________
(1) الموسوعة الفقهية ج29ص27.
(2) كفاية الأخيار ص518
(3) الفقه الإسلامي وأدلته ج9ص6899
(4) المحلى ج10ص185 نقلاً عن أحكام الأسرة(1/59)
الجمهور على وقوع الطلاق بالفاظ الكناية إن نوى الطلاق وقصده وذلك لحديث عائشة - رضي الله عنه - عند البخاري في كتاب الطلاق أن ابنة الجون لما دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودنا منها قالت أعوذ بالله منك فقال لها عذت بعظيم الحقي بأهلك وفي الصحيحين وغيرهما في حديث تخلف كعب بن مالك عن غزوة تبوك لما قيل له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرك أن تعتزل امرأتك فقال أطلقها أم ماذا أفعل قال بل اعتزلها فلا تقربها فقال لامرأته الحقي بأهلك فقد أستعملت لفظة "الحقي بأهلك" مرة قصد بها الطلاق ومرة لم يقصد بها الطلاق. وهذا عند جمهور الفقهاء ومنهم الحنفية والشافعية والحنابلة والمالكية والزيدية وخالف الظاهرية فذهبوا إلى أن طلاق الكناية لا يقع قال ابن حزم:" ومن قال لأمرأته أنت عليّ حرام أو زاد على ذلك فقال كالميتة والدم ولحم الخنزير أو قال من ذلك فهو كله باطل وكذب ولا تكون بذلك عليه حرام وهي امرأته كما كانت نوى بذلك طلاقاً أو لم ينوه وقال وماعدا هذه الألفاظ الطلاق والسراح والفراق لا يقع بها طلاق البتة نوى بها طلاقاً أو لم ينوه لا في فتيا ولا في قضاء"(1)
المبحث الرابع: الطلاق من حيث زمن وقوع أثره
المطلب الأول الطلاق المنجز.
أولاً تعريفه.
هو الطلاق الخالي من صيغة عن التعليق والإضافة(2).
ثانياً حكمه.
يقع الطلاق المنجز في الحال وتترتب عليه أثاره متى صدر من أهله وصادف محلاً له وكان مستوفياً لشروطه.
المطلب الثاني الطلاق المعلق.
أولاً تعريفه.
هو ما جعل فيه الزوج حصول الطلاق معلقاً على شرط محتمل الوجود أما إذا علق على مستحيل فهو لغو ليس بطلاق.
ثانياً أقسامه.
ينقسم الطلاق المعلق إلى قسمين:
القسم الأول.
هو ما يقصد به الحمل على فعل شئ أو تركه أو تأكيد خبر ويسمى التعليق القسمي مثل ان يقول لزوحه أن فعلت كذا فأنت طالق قاصداً منعها من الفعل.
__________
(1) المحلى ج10ص124.
(2) الكوسوعة الفقهية ج29ص36.(1/60)
القسم الثاني.
هو ما يقصد به ايقاع الطلاق عند حصول الشرط ويسمى الشرطي مثل أن يقول لزوجته أن أبرأتني من مؤخر صداقك فأنت طالق(1).
ثالثاً حكمه.
أختلف أهل العلم هل يقع الطلاق المعلق بقسميه أم لا؟
1- ذهب جمهور الفقهاء إلى وقوع الطلاق المعلق بنوعيه بشروط:
أ أن تكون المرأة في عصمة الزوج حال وقوع الطلاق المعلق.
ب أن يكون التعليق على أمر معدوم حال صدور الطلاق المعلق ويمكن وقوعه أما إذا علقه على حاصل فهو في حكم الطلاق المنجز وإذا علقه على مستحيل فهو لغو لا يقع به طلاقه.
ت ألا يفصل بين الصيغة والشرط بكلام أو بزمن من غير عذر.
وقد أستدل الجمهور بما يلي:
أ لم تفرق الآيات بين المنجز والمعلق حين ذكرت الطلاق مثل قوله تعالى:" الطلاق مرتان".
ب تعليق الطلاق على شرط داخل تحت عموم حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - "المسلمون عند شروطهم إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً" وليس في تعليق الطلاق هنا تحليل حرام أو تحريم حلال.
ت روى البيهقي عن أبن مسعود - رضي الله عنه - في رجل قال لامرأته أن فعلت كذا أو كذا فأنت طالق ففعلته فقال هي واحدة وهو أحق بها.
ث روى البيهقي عن ابن عباس - رضي الله عنه - في رجل قال لامرأته هي طالق إلى سنة قال يستمتع بها سنة.
2- ذهب الظاهرية والإمامية إلى أن طلاق المعلق لا يقع سواء وجد الشرط أم لا وسواء كان يميناً أم لا.
وقد أستدل القائلون بهذا الرأي بما يلي:
أ قال ابن حزم الظاهري من قال إذا جاء رأس الشهر فأنت طالق أو ذكر وقتاً ما فلا تكون طالقاً بذلك لا الآن ولا إذا جاء رأس الشهر برهان ذلك أنه لم يأت قرآن ولا سنة بوقوع الطلاق بذلك وقد علمنا الله الطلاق على المدخول بها وفي غير المدخول بها وليس هذا فيما علمنا(2).
__________
(1) فقه السنة ج3ص23. ...
(2) المحلىج10ص213.(1/61)
ب تعليق الطلاق يمين واليمين بغير الله لا تجوز لقوله - صلى الله عليه وسلم - "من كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله"(1).
3- فصل ابن تيمية وابن القيم في المسألة فقالا ان كان التعليق قسمياً أو على وجه اليمين ووجد المعلق عليه لا يقع ويجزيه عند ابن تيمية كفارة يمين ان حنث في يمينه ولا كفارة عليه عند ابن القيم وأما إن كان التعليق شرطياً أو على غير وجه اليمين فيقع الطلاق عند حصول الشرط.(2)
وقد استدل ابن تيمية وابن القيم بما يلي:
أ حديث البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنه - "الطلاق عن وطر والعتق ما تبتغى به وجه الله تعالى" فبين ابن عباس أن الطلاق انما يقع بمن غرضه ان يوقعه لا لمن يكره وقوعه كالحلف به والمكره عليه.(3)
ب الطلاق القسمي إن كان المقصود منه الحث على فعل شئ أو تركه فهو في معنى اليمين وتجري عليه أحكام اليمين عند الحنث.
والاختيار في المسألة:
هذا النوع من الطلاق مما عمت به البلوى حتى لا يكاد يسلم منه إلا من رحم ربي مما يجعلنا نميل إلى ما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية فلا يقع الطلاق بصيغة التعليق إذا كان القصد من هذا التعليق الحلف بالطلاق أو معنى اليمين وهو الحث على فعل شئ أو ترك شئ أو لحمل السامع على التصديق بشئ أو تكذيبه أو قصد التهديد ولم يكن القصد من التعليق أيقاع الطلاق عند تحقق الشرط وما نقل عن بعض الصحابة أو السلف ايقاع الطلاق المعلق فذلك محمول على التعليق المحض الذي لا يقصد به اليمين أما الذي بمعنى اليمين فلا يحفظ عن صحابي أنه أفتى بوقوعه عند وقوع الشرط كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم(4).
__________
(1) رواه أبو عبيد عن ابن عمر نقلاً عن كتاب الفقه الإسلامي وأدلته ج9ص6974.
(2) الفقه الإسلامي وأدلته ج9ص6972.
(3) مجموع الفتاوى لابن تيمية ج33ص38.
(4) الاسرة المسلمة ج7ص484 واعلام الموقعين ج3ص54 ومجموع الفتاوى ج33ص36.(1/62)
ومما عمت به البلوى في عصرنا استخدام كثير من الناس ألفاظ الطلاق في معاملاتهم سواء كان ذلك داخل البيت حين يريد الزوج ان يمنع زوجه من أمر أو يحثها على شئ فكثيراً ما نرى الأزواج يستعملون صيغ الطلاق المعلق ان فعلت كذا – إن ذهبت إلى كذا ثم ما يلبث أن يرى الزوج نفسه أنه قد اخطأ وضيق على نفسه وأهله بيمينه هذه مما حدا بكثير من المحاكم الشرعية أن تأخذ بفتوى شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم كما في مصر وسوريا وغيرهما على الرغم من أن المذهب الحنفي هو السائد في هذه البلاد.
وهذا ما ذهب إليه شيخنا علامة العصر الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي حيث قال في اجابة عن سؤال حول الطلاق المعلق:
إن المذهب الذي اعتمده وأدين الله تعالى به وأفتي به منذ سنين طويلة هو أن الطلاق المعلق الذي يراد به الحمل على شئ معين أو المنع منه ليس هو الطلاق الذي شرعه الله تعالى لقطع العلاقة الزوجية بالفراق عند تعذر الوفاق وإنما يعامل معاملة اليمين فإذا لم يحدث ما علق به كان فيه كفارة يمين(اطعام عشرة مساكين أو كسوتهم) وهذا هو مذهب بعض السلف الذي رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وهو الذي أختاره وارجحه وارى أنه الأوفق بروح الإسلام وهو الذي عليه كثير من أهل العلم والفتوى في عصرنا(1)
- - - - -
الفصل الرابع
كيف نحد من الطلاق
__________
(1) فتاوى معاصرة .(1/63)
ذكرنا مما سبق أن الطلاق أخر الدواء ولم يشرعه الإسلام إلا حينما تفشل كل سبل الإصلاح عندها " وإن يتفرقا يغني الله كلاً من سعته"(1)لكن المسلم يبقى دائماً مؤملاً في الاصلاح "والصلح خير" لا يترك المشكلات تتراتكم حتى تستفحل وإنما يسعى دائماً إلى صفو الحياة وعلاج المشكلات خاصة والإسلام والحمد لله جعل لكل داء دواء ومن هنا رأيت أن يكون هذا الفصل محاولة للحد من أنتشار الطلاق وعلاجاً في نفس الوقت لكثير من المشكلات التي تعترض الحياة الزوجية وسوف ألمح إلى نقاط في عجالة أراها مهمة في طريق تضييق الخناق على الطلاق والحد من تفسخ الأسرة وانهيارها .
أولاً قبل الزواج.
1: حسن الاختيار.
__________
(1) سورة النساء الآية 130(1/64)
أمر الإسلام كلاً من الزوجين أن يحسن اختيار صاحبه على أسس وقواعد شرعها ذكرت فيما سبق لكن تحت ظروف معينة قد يضطر الرجل أن يتزوج أي امرأة لا لتكون شريكة حياته ولكن ليقضي منها حاجة وقد تضطر المرأة أن تقبل أي رجل تحت أي ظرف من الظروف دون تفكير منها وروية ودون البحث عن الزوجة الصالحة والزوج الصالح ولا أعني بالصالح هنا العابد الملتزم فقط وإنما أعني الصالح لأن يكون شريك حياة لصاحبه اضافة إلى تدينه والتزامه قد يكون هناك تباعد في الثقافة والفكر وبالتالي ينتج عنه تباعد في الرؤى نظراً لاختلاف اهتمامات كل منهما وإذا انضم إلى ذلك اختلاف البيئة والذي يعني أختلافاً في العادات والتقاليد فما يكون عيباً في هذه البيئة قد لا يكون عيباً في الأخرى وما يكون التزاماً في الحياة في بيئةلا يكون إلتزاماً في البيئة الأخرى ومثال على ذلك البيئة الغربية التي تعتبر مثلاً الرجل شريك المرأة في كل شئ حتى في رعاية الطفل فعليه مثل ما عليها وكما يعبرون 50:50 الرجل عليه أن يقوم من الليل ليرعى الطفل عند بكائه ويغير له ثيابه والرجل مطالب كذلك بأن يعد الطعام كما تعد المرأة وأن يغسل الملابس كما تغسل وأن ينظف المنزل كما تنظف سواء كانت المرأة تعمل أم لا وسواء كان الرجل يعمل أم لا فتلك نقرة وهذه أخرى كما يقولون(1)وبالتالي تكثر المشاكل وقد لا يدوم الزواج في مثل هذه الحالات وكذلك أختلاف الدين ومع أن الإسلام أباح للرجل أن يتزوج من أهل الكتاب بقوله تعالى:" والمحصنات من اللذين أُوتوا الكتاب"(2)إلا أن ثمة اشكالية كبرى فالمسلم له من الشعائر التي يقيمها مثل الصلاة والصيام والعيدين ورغبته في تنشئة الأولاد على الإسلام مما يشعره بالغربة في بيئة ومع أهله كذلك فهي تريد أن تقيم طقوس دينها وتحتفل
__________
(1) قد تكون هناك حالات لا يطلب فيها من الزوج على سبيل الإلزام فعل هذه الأشياء وهذه حالات نادرة والنادر لا حكم له
(2) سورة المائدة الآية 5(1/65)
بأعيادها والإسلام وإن كان أباح لها أن تفعل ذلك وفق قوله تعال:"لكم دينكم ولي دين"(1)إلا أنها تشعر بالغربة كذلك في بيتها لأنها لا تجد من يشاركها في أعيادها ولذلك قد تجذب ابناءها ليشاركوها طقوسها وعبادتها في غفلة عن زوجها.
ومن هنا وجب على كل من الزوجين أن يفكرا كثيراً قبل الزواج وأن يستخيرا الله تعالى وأن يكون الإيمان والخلق الصالح أساس الاختيار حتى تكون هناك مرجعية عند الخلاف لا قدر الله تعالى.
2- الوقوف على فقه المعاملة الزوجية.
إن الإنسان قبل أن يبدأ أي مشروع في حياته الدنيوية يقوم بدراسته دراسة جيدة يقف خلالها على أسباب نجاحه وفشله والوسائل التي تنميه وتزيده وليس ثمة أهم من مشروع بناء الأسرة المسلمة التي تقوم عليها الأمة فإن كانت الأسرة ناجحة قوية متماسكة كانت الأمة كذلك وإن كانت الأسرة ضعيفة متهالكة يسودها الشقاق والخلاف كانت الأمة ضعيفة لذلك كان حرياً بالمسلم أن يتفقه في أمر دينه خاصة ما يخص الأسرة وقد حثنا الإسلام على طلب العلم وجعله فريضة فقال - صلى الله عليه وسلم - :" طلب العلم فريضة على كل مسلم"(2)وقال - صلى الله عليه وسلم - :" من يرد الله به خيراص يفقهه في الدين" وكثيراً ما تأتي الخلافات نتيجة لقلة الفقه والجهل بأمور الشريعة فيما يخص الأسرة فالزوج لايعرف ما عليه من واجبات تجاه زوجته وأولاده فيقصر والزوجة تجهل ما عليها من واجبات تجاه زوجها وأولادها فتقصر ومن هنا تبدأ الاشكاليات ويدب الخلاف ولذلك أنصح المراكز الإسلامية والمساجد بإقامت دورات بين الحين والآخر في فقه المعاملات الأسرية خاصة للمتزوجين الجدد أو لمن هم مقدمون على الزواج.
3- وضوح الهدف من الزواج.
__________
(1) سورة الكافرون
(2) رواه البخاري(1/66)
الهدف الأسمى من الزواج اقامة البيت المسلم المستقر الذي يخرج للأمة أجيال المستقبل التي تحمل على كاهلها متابعة عمارة الأرض فالأسرة محضن لبناء الأجيال والتناسل والتكاثر وسيلة لتحقيق ذلك قال - صلى الله عليه وسلم - :" تناكحوا تناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة".
ولكن في الغرب قد يختلف الهدف أحياناً عند بعض الرجال أو النساء عن هذا وتكون هناك مصالح يرجوها كل واحد من الآخر لا علاقة لها بما ذكرنا ويقوم الزواج على هذه المصالح فإذا انتهت المصلحة أو حصل كل واحد على مايريد من صاحبه سقطت الأسرة وهوت فقد يتزوج الشاب الفتاة حتى يحصل على أوراق الاقامة أو الجنسية أو طمعاً في مال وقد تتزوج الفتاة الشاب كذلك طمعاً في العيش في الغرب أو لمال لديه مع قناعة كل منهما أن صاحبه ليس الشخص المناسب لأن يكون شريك الحياة مثل هذا الزواج لا يدوم فبمجرد حصول أحدهما على مبتغاه تبدأ الصراعات والنزعات ويسقط القناع وكثيراً مارأينا أسراً هدمت \ بعدحصول الرجل على الجنسية أو المرأة وكثيراً ما يكون بينهما أبناء بل إن هناك من يتاجر بعقود الزواج من أجل الحصول على الإقامة أو الجنسية وهذا لا شك أمر غير جائز شرعاً لأنه عبث بأوثق المواثيق ولعب بسنة من سنن الله وأية من آياته ولذلك جاءت فتوى المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث رداً على سؤال حول صحة مثل هذه العقود بما يلي:
السؤال: ما هو الحكم الشرعي فيما يسمى بزواج المصلحة، وصورة هذا الزواج متعددة فيما يبدو لي، ومنها على سبيل المثال:(1/67)
? يتفق رجل وامرأة على عقد زواج مقابل مبلغ من المال يدفعه إليها، وقد يكون هذا المبلغ مقطوعاً أو موزعاً على سنوات - حسب الاتفاق - وذلك في مقابل أن تذهب معه إلى مصلحة شرطة الأجانب عند تجديد الإقامة كل سنة، إلى أن يحصل على الإقامة الرسمية، ومن ثم يفسخ العقد، وفي تلك الأثناء إما أن يعيش الرجل مع هذه المرأة عيشة الزوجين، بمعنى أنه يضمهما بيت واحد يتعاشران فيه معاشرة الأزواج، إلا أنهما يتفقان على فسخ العقد عند حصول الزوج على الإقامة الرسمية، وهذا الاتفاق لا يصرح به طبعاً عند الجهة العاقدة، لأن القانون لا يسمح بذلك.
? وفي بعض الصور لا يعيش الرجل مع المرأة التي عقد عليها أمام السلطات ولا يخالطها ولا تخالطه، بل يتفقان أن تذهب معه عند تجديد الإقامة كل سنة، كي تقول للسلطات إنها مرتبطة به كزوج، وتأخذ المبلغ المتفق عليه، ويذهب بعد ذلك كل واحدٍ إلى حال سبيله. مع العلم بأن هذا اللون من ألوان الزواج قد يقدم عليه الرجل لأجل أن يحصل هو على الإقامة، وبالمقابل قد تفعله المرأة مع الرجل لتحصل هي على الإقامة، ويمكن أن يكون أحدهما غير مسلم، ويمكن أن يكون الاثنان مسلمين!!! وفي كل الأحوال فإنه من خلال هذه المدة تكون الزوجة محسوبةً على زوجها من الناحية القانونية، ويكون هو محسوباً عليها من الناحية القانونية كذلك. ولو افترضنا أن هذه المرأة قد عاشرت رجلاً آخر، وأنجبت منه، فإن المولود يسجل باسم هذا الزوج المؤقت، ولو جاء هو يطالبها بحق المعاشرة الزوجية فإنها لا تستطيع أن تمتنع عن ذلك قانوناً، وخاصة إذا كانت هي المحتاجة إلى الإقامة.
وهذا العقد بصورتيه المذكورتين إنما يتم في البلدية كسائر العقود المدنية في هذا البلد.
وقد يكون عقداً شرعياً بشروطه الشرعية المعتبرة، ولكن الجانبين لا يصرحان بذلك الاتفاق في صلب العقد. وإنما هو اتفاق بينهما بحضور بعض أفراد العائلتين (عائلة الزوج وعائلة الزوجة).(1/68)
? وهنالك صورة أخرى من صور الزواج في بلاد الغرب، أوردها كما يلي:
يتزوج الرجل المرأة بصداق، ولكنه مضمر في نفسه، ويصرح لأصدقائه وأقاربه أن غرضه ليس الزواج وإنما هو الحصول على الإقامة، فمتى حصل على الإقامة طلق زوجته هذه، وهو لا يستطيع أن يصرح بهذا أمام المرأة، خوفاً من أن تطرده قبل الحصول على الإقامة.
الجواب:
الصورة الأولى حرام يأثمان عليه، وذلك بسبب منافاة هذا العقد لمقصد الشريعة في الزواج، إذ هو عقد صوري مقصود به أمر آخر غير الزواج، فهو لو استوفى شروط العقد فإنه لا يحل لهذا المعنى، وكذلك لأجل أن قانون البلاد لا يسمح به، يتأكد المنع بمجيء هذه الصورة مخالفة لقانون البلد، والقانون هنا متفق مع المقصد الشرعي. كما أن هذه الصورة لا تخلو من شبه بنكاح المتعة الذي حرمه النبي صلى الله عليه وسلم(1)، من جهة التوقيت الذي فيه إلى فترة الحصول على الإقامة ثم يفسخ العقد بعد ذلك كما عبر السائل.
والصورة الثانية مثل الأولى في التحريم، وفيها قضية مقطوع بحرمتها وهي زواج المسلمة من غير مسلم، فإن مجرد العقد فاسد سواء للغاية المذكورة في السؤال أو لمجرد الزواج.
__________
(1) كما في حديث سبرة بن معبد، أنه كان مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أيها الناس، إني قد كنت أذنتُ لكم في الاستمتاع من النساء، وإن اللَّه قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخلِّ سبيله، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً» أخرجه مسلم (رقم: 1406) وغيره.
والأحاديث في الباب عديدة عن جماعة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم.(1/69)
وأما الصورة الثالثة فالعقد وإن كانت صورته صحيحة، ولكن الزوج آثم بغشه المرأة؛ وذلك لإضماره نية الطلاق من حين العقد، والزواج في الإسلام يعني الديمومة والبقاء والاستقرار للحياة الزوجية، والطلاق طارئ بعد العقد، ولهذا السبب حرم الزواج المؤقت واعتبر فاسداً. كذلك فإن الإيجاب والقبول في الزواج شرطان أساسيان فيه، والمرأة حين قبلته زوجاً فإنما كان مقصدها حقيقة الزواج، ولو علمت أنه قبلها زوجة مؤقتة يطلقها متى شاء لرفضت ذلك، فإذا كان عازماً الطلاق عند العقد أثر ذلك في صحة العقد، لأن المرأة بنت قبولها على غير ما أراد. [الدورة الثانية]
ثانياً: بعد الزواج.
1- مراقبة الله تعالى.
نعني بمراقبة الله تعالى أن يراقب كل من الزوج والزوجة ربه سبحانه وتعالى في تعامله مع الآخر وأن يتخلق معه بخلق الإسلام الذي أمرنا أن نحسن التعامل مع الناس جميعاً فما بال الزوج مع زوجته والزوجة مع زوجها وقد قال تعالى مبيناً العلاقة بينهما:" ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها"(1)فالتعبير بقوله تعالى"من أنفسكم" يوحي في النفس أن الزوجة قطعة من الزوج وجزء منه فكيف يتعامل معها وكيف تتعامل معه وفي قوله تعالى "هن لباسن لكم وأنتم لباس لهن" اشارة إلى قوة العلاقة بين الزوج وزوجه هذه العلاقة تحتاج إلى زاد دائم لتبقى قوية متماسكة وهذا الزاد هو الذي عبر عنه القرآن الكريم بقوله تعالى" وجعل بينكم مودة ورحمة" وهو بحاجة لشحنات دائمة تدفعه وتقويه وإلى دليل يراقبه حتى لا يتطرق إليه أي فساد ومراقبة الله تعالى في تعامل كل من الزوجين لصاحبه هي خير دليل لذلك خاصة عندما يذكر كل منهما قوله تعالى في مطلع سورة النساء" ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والارحام إن الله كان عليكم رقيباً"(2).
__________
(1) سورة النساء الآية
(2) سورة النساء الآية 1.(1/70)
2- حسن المعاشرة.
نعني بحسن المعاشرة هنا أن يحسنِ كل من الزوجين معاشرة الآخر والتلطف معه ويكون ذلك بعدة أمور منها:
أ- التحلي بالأخلاق الإسلامية خاصة المتعلقة بالتعامل مع الآخرين مثل الصبر والإيثار والتواضع والكرم والحلم والرفق فصاحب الخلق الحسن أقرب الناس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة حيث جاء في الحديث "أقربكم مني منازل يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً"(1)
ب- بذل الواجب قبل المطالبة بالحق.
حتى تنجح مؤسسة الأسرة لابد لكل الزوجين أن يحرصا على ديمومتها وسعادتها ومن هذا الحرص أن ينظر كل من الزوجين في الواجبات التي عليه تجاه الآخر فيؤديها باحسان قبل أن يطلب حقه ومن هنا سيسعد كل من الزوجين بأخذ حقه واعطائه ما عليه من واجب سواء كانت هذه الواجبات مادية كالتي على الزوج من حسن الانفاق والسكن والرعاية وعليه أن يتعبد الله تعالى بهذه النفقة فهي لا شك من أفضل القربات إلى الله تعالى كما جاء في الحديث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:" دينار أنفقته في سبيل الله ودينار أنفقته في رقبة ودينار تصدقت به على مسكين ودينار أنفقته على أهلك أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك"(2).
أو كانت هذه الواجبات مشتركة بين الزوجين كاستمتاع كل من الزوجين بالآخر كما قال تعالى:" هن لباس لكم وأنتم لباس لهن"(3)فتلك واجبات متبادلة بين الزوجين "ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف".(4)
__________
(1) رواه أحمد
(2) صحيح مسلم بشرح النووي ج4ص70.
(3) سورة البقرة الآية
(4) سورة البقرة الآية 228.(1/71)
وما تعلمه كل منهما من فقه المعاملة الزوجية عليه أن يطبقه في حياته يبتغي الرجل بحسن عشرته لزوجه وجه الله تعالى والثواب الجزيل من الله تعالى كما قال - صلى الله عليه وسلم - : "أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً وخياركم خياركم لنسائهم"(1). ولقد كان - صلى الله عليه وسلم - يمزح مع أهله ويداعبهم ويسابقهم كما ذكرنا ذلك من قبل وكان يقول:" خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي"(2). وكان عمر - رضي الله عنه - مع هيبته يقول ينبغي للرجل أن يكون في أهله مثل الصبي التمسوا ما عنده وجد رجلاً ووصفت اعرابية زوجها بعد موته فقال" والله لقد كان ضحوكاً إذ ولج سكيناً إذا خرج آكلاً ما وجد غير مسائل عما فقد"(3). وتلك المعاملة استجابة لقوله تعالى:" وعاشرهن بالمعروف"(4).
كما تبتغي المرأة بحسن عشرتها ومعاملتها وطاعتها لزوجها رضا الله تعالى وما عنده من عظيم الثواب والمنن فحق زوجها عليها من اعظم الحقوق كما قال - صلى الله عليه وسلم - لعائشة - رضي الله عنه - حين سألته "أي الناس أعظم حقاً على المرأة قال زوجها"(5)ولها جزاء ذلك من الأجر العظيم كما أخبر بذلك الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين قال:" إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها وأطاعت زوجها قيل لها ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت"(6).
3- الوقوف على أسباب الشقاق.
__________
(1) رواه ابو داود والترمذي وقال حسن صحيح.
(2) رواه الترمذي من حديث عائشة - رضي الله عنه - .
(3) المهذب من احياء علوم الدين ج1ص321.
(4) سورة النساء الآية 19.
(5) رواه الحاكم وقال حديث صحيح.
(6) رواه أحمد في مسنده.(1/72)
مما لا شك فيه أن لكل خلاف يقع بين الزوجين أسباباً والوقوف على هذه الأسباب ومعرفة حجمها يقلل من الوقوع في الطلاق فقد يدب خلاف كبير وتتفكك الأسرة وتنهار من غير أسباب تذكر وقد تكون الأسباب واهية ولذلك لو عرف السبب استطاع كل من الزوجين حل المشكلة فقد يكون السبب من الزوج كأن يكون بخيلاً لا ينفق أو مضيعاً لحقوق أهله وأولاده أو يكون غليظاً في معاملته وطباعه أو غير مراعياً لشعور زوجه وقد يكون السبب من الزوجة كإهمالها في حق زوجها وأولادها أو عدم تقديرها لزوجها وقد يكون منهما معاً حيث لم يتعرف كل منهما على ما يغضب صاحبه وما يجرح شعوره أو يكون بسبب تدخل الأهل من كلا الطرفين في شئون الأسرة تدخلاً يفسد المعيشة ويعكر الصفو ومن هنا لابد من معرفة الأسباب والوقوف عليها وتجنبها في تعامل كل من الزوجين لصاحبه.
4- اتباع الوسائل الشرعية في حل الخلافات الزوجية.(1/73)
وضع الإسلام وسائل لإصلاح ما قد يعكر صفو الأسرة سواء كان السبب من قبل الزوج أو من قبل الزوجة أو منهما معاً فشرع لكل حالة ما يناسبها من العلاج لكن عليه أن يعرف أولاً أن كل إنسان يحمل بين جنباته من الخير والشر وعليه أن يوازن فلا ينسى في غضبه عليها أن فيها من الحسنات ما قد يمحو السيئات "لا يفرك مكؤمن مؤمنة ان كره منها خلقاً رضي منها خلقاً آخر"(1)وعليه أن يتدرج في الإصلاح بلطف قال تعالى:" واللائي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجرهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً إن الله كان علياً كبيرا"(2)والوعظ هو أن يذكرها بالله وينبهها إلى الثواب الذي اعده الله تعالى للمرأة الطائعة لزوجها والعقاب للمخالفة. وليس للوعظ مدة محددة انما هو حسب الحالة فإن لم يصلح الوعظ فالهجر ويكون في الفراش وأما هجرها في الكلام فلا يزيد عن ثلاثة أيام لما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:" لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة ايام"(3). ومع أن القرآن الكريم ذكر الضرب كوسيلة من وسائل التقويم إلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:" ولا يضرب خياركم" . وإن كان الشقاق ناتجاً عن سوء فهم بين الطرفين ولم يستطيعا الاصلاح بأنفسهما فإن الله تعالى قال:" وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا اصلاحاً يوفق الله بينهما"(4)ويشترط في الحكمين أن يكون عندهما إرادة وعزيمة على الاصلاح حتى يستحقا توفيق الله وعونه كما ذكر سبحانه.
اما في الغرب فإني ادعو المراكز الإسلامية والمساجد أن تقوم بدورها في توعية الأسرة بواجباتها وعواقب الخلاف والشقاق وأن تكون هناك لجاناً للإصلاح والتوفيق من أهل اعلم والخبرة تقوم بهذا العمل.
5- تجديد العلاقات الزوجية.
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الرضاع.
(2) سورة النساء الآية 34.
(3) متفق عليه.
(4) سورة النساء الآية 35.(1/74)
مما يضيق الخناق على المشاكل الاسرية تجديد العلاقات الزوجية وأعني بذلك استحداث برامج وأنشطة أسرية كالرحلات مثلاً وتحديد أوقات للراحة والجلوس سوياً للتفاهم والتناقش في امور الحياة واستغلال الأجازات استغلالاً جيداً يقوي أواصر المودة والمحبة بين الزوجين وفوق هذا وذاك الاجتماع ولو اسبوعياً على طاعة الله تعالى في حلقة ذكر أو قيام ليل ولقد أوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - علياً وقاطمة - رضي الله عنه - بقوله:" إذا أويتما إلى فراشكما فسبحا الله ثلاثاُ وثلاثين وحمداه ثلاثاً وثلاثين وكبره ثلاثاً ثلاثين"(1).
ثالثاً: بعد الطلاق.
1- قضاء المرأة عدتها في بيت الزوجية.
أوجب الإسلام على المرأة المطلقة أن تبقى فترة عدتها في بيت الزوجية وذلك طمعاً في أن يراجع كل من الزوجين نفسه لعل ذلك يؤدي إلى الاصلاح وعودة المياه إلى مجاريها ووآم الأسرة بعد تفككها يقول الله تعالى:" يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه"(2). وقد اتفق الفقهاء على أن المطلقة طلاقاً رجعياً تستحق النفقة والكسوة وهذا يصب كذلك في باب الاصلاح.
2- يجب على الزوجين بعد الوقوع في الطلاق سؤال أهل العلم عن حكم الطلاق فأحياناً يظن الزوجان أن الطلاق قد وقع ولزمت الفرقة في حين أنه يمين لغو أو لم يستوف شروط الطلاق وبالعكس قد يظن انه ليس بشئ وهو طلاق واقع وقد حثنا سبحانه وتعالى على سؤال أهل العلم فقال جل شأنه:" فسألوا اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون"(3)وعليهم أن يتخيروا أهل الفقه والبصيرة يقول الإمام الحسن البصري - رضي الله عنه - إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم".
- - - - -
__________
(1) رواه تحفة الذاكرين.
(2) سورة الطلاق الآية 1
(3) سورة النمل الآية 43.(1/75)
العلاج الجيني
من منظور الفقه الإسلامي
بقلم :
أ . د . علي محي الدين القره داغي
أستاذ ورئيس قسم الفقه والأصول / جامعة قطر
والخبير بمجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة ، وجدة
وعو مجلس الإفتاء الأوربي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله القائل في كتابه الكريم ( وفي أنفسكم أفلا تبصرون )(1)، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الحكيم القائل : ( إن الله لم ينزل داءً إلاّ أنزل له شفاءً )(2)، وعلى آله ومن تبع هداه إلى يوم الدين وبعد :
فإن العالم اليوم يسير بسرعة هائلة نحو الاكتشافات العلمية العظيمة في شتى مجالات الحياة بل تقفز قفزات كبيرة على مختلف الأصعدة ، وأصبح يعيش ثورات بيولوجية هائلة وثورات في عالم الالكترونيات والكومبيوترات ، والانترنيت ، والاتصالات ، فما تمّ إنجازه خلال العقود الأخيرة قد يعادل جميع الإنجازات العلمية التي تحققت في القرون السابقة .
وقد خطا العلم خَطوات كبيرة في عالم الخلايا والجينات حتى اكتشفت الخريطة الجينية للإنسان ما يقرب من سنتين ، وبذلك قد فتحت آفاق جديدة وانتصارات عظيمة على كثير مما تعانيه البشرية ، حيث يمكن عن طريقها التعرف على كثير من أمراض صاحب الخريطة وصفاته ، واكتشاف أمراض الجينات ، وعاهات الأجنة في وقت مبكر ، إضافة إلى تحسين الإنتاج وتكثيره في عالم النبات والحيوان ، والاستفادة منها لزراعة الأعضاء ونحوها .
والبحوث والمختبرات العليمة قد خَطت خُطوات متقدمة نحو العلاج الجيني عن طريق إصلاح هذه الجينات ، أو استئصال الجين المسبب للمرض وتغييره بجين سليم ، ومع هذا التقدم الكبير يقول العلماء : إنه لم يكتشف من أسرار DNA سوى 10% وصدق قوله تعالى : ( وما أوتيتم من العلم إلاّ قليلا )(3).
__________
(1) سورة الذاريات / الآية ( 21 )
(2) الحديث رواه البخاري في صحيحه فتح الباري ( 10/134 )
(3) سورة الإسراء / الآية ( 85 )(1/1)
وبما أن الشريعة الإسلامية خالدة ودائمة وشاملة فإنها استطاعت بنصوصها العامة ومبادئها الكلية وقواعدها وضوابطها أن تستجيب لكل المستجدات وتحل جميع المشاكل وتضع لها الضوابط التي تحقق المصالح وتدرأ المفاسد.
وقد أشار القرآن الكريم إلى أهمية النظر والبحث في أسرار النفس الإنسانية والكون كله ، فقال تعالى : ( وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون وفي السماء رزقكم وما توعدون فوربّ السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون )(1). بل بيّن الله تعالى أنه يريهم آيات وأسراراً عن النفس ، والكون يوماً بعد يوم حتى يتبين لهم أن الله هو الحق المطلق ، وأن قرآنه صدق لم يأته الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، لأنه تنزيل من عزيز حكيم حميد فقال تعالى : ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد )(2).
وحقاً إنه مع التقدم العلمي الرهيب وكل مجالات الكون والإنسان والحياة لم يظهر أي تناقض بين قول إلهي ثابت في الكتاب والسنة الصحيحة وبين قاعدة وحقيقية علمية ثابتة ، بل إن القرآن الكريم قد تطرق إلى مجموعة من الحقائق العلمية اكتشف بعضها العلم الحديث فوجدها في غاية من الدقة سواء كانت في مجال مراحل الأجنة وكيفية خلقها ، أو في مجالات كيفية خلق الكون ، وأصله وعناصره الأساسية ونحو ذلك ، وهذا دليل آخر على وجود الله تعالى وصدق رسالته .
__________
(1) ... سورة الذاريات / الآية ( 20 ـ 23 )
(2) سورة فصلت / الآية ( 53 )(1/2)
وكما كانت آيات الله تعالى سبقت العلم الحديث في كشفها حقائق علمية وأسرار النفس ، فإن شريعته كذلك قادرة على التواصل مع هذه الحقائق ، وذلك لأن كل ذلك يعود إلى أمر الله تعالى الشامل للأمر التكويني ، والأمر القولي ، ولذلك لم تجد الأمة الإسلامية منذ نزول هذه الشريعة مشكلة استعصت عن الحل والعلاج الناجح على الرغم من اختلاف الحضارات التي قابلها الإسلام ، وعلى الرغم من تقدم العلوم وظهور المشاكل المعاصرة ، وهذا دليل آخر على صلاحية هذه الشريعة لكل زمان ومكان ، وعلى شموليتها وقدرتها على البقاء والاستمرار ، ومواكبة العصر مهما تطور وتقدم .
ونحن في هذه الدراسة المتواضعة نلقي الأضواء على موضوع جديد جداً وهو ( العلاج الجيني ـ من منظور الفقه الإسلامي ) حيث نتطرق إلى التعريف بالعلاج الجيني ، وأنواعه ، والحكم الشرعي للعلاج الجيني وأنواعه ، والآثار السلبية الاجتماعية والأخلاقية وكيفية تفاديها ، والضوابط الشرعية للعلاج الجيني ، والله نسأل أن يكتب لنا التوفيق والسداد ويجعل أعمالنا كلها خالصة لوجهه الكريم إنه مولانا فنعم المولى ونعم النصير .
كتبه : أ . د . علي محي الدين القره داغي
الدوحة ـ غرة رجب الخير 1422هـ
تمهيد :(1/3)
أراد الله تعالى للإنسان أن يكون خليفة في الأرض من دون الملائكة وغيرهم أجمعين ليعمر هذا الكون ، فقال تعالى : ( إني جاعل في الأرض خليفة )(1)ولما استفسر الملائكة عن أسباب هذا الاختيار مستغربين من اختيار هذا الصنف الذي يقع منهم الكفر والعصيان ، والقتل وسفك الدم، والفساد ... أجاب الله تعالى بقوله : ( إني أعلم ما لا تعلمون )(2)ثم علم آدم الأسماء كلها ، فتبيّن من ذلك أن أحد أسباب هذا الاختيار يعود إلى أن الله تعالى أعطى لهذا المخلوق عقلاً قادراً على التعلم والاكتشاف والاستنباط ، وبهذا ميّزه عن سائر المخلوقات ، ومن ذلك اليوم الذي نزل فيه آدم على الأرض ظل يبحث عن معرفة نفسه ومحيطه ، وتطوير عقله ومعارفه وعلومه ، وأصبح يميط كل يوم لثاماً ويكتشف في كل ساعة أسراراً ، فاستطاع أن يفك أسرار الحروف ويفهم الكتاب المقروء ، كما بذل كل جهده لفك أسرار الكون الذي هو في حقيقته كتاب كامل عظيم معقد يحتوي من الأسرار مالا يعدُّ ولا يحصى ، بل حينما التفت نحو نفسه التي هي أقرب الأشياء إليه وجدها أيضاً تحتوي من الأسرار والغرائب التي يعجز اللسان عن التعبير عنها .
__________
(1) سورة البقرة / الآية ( 30 )
(2) سورة البقرة / الآية ( 30 )(1/4)
وظل الإنسان كادحاً مجاهداً باحثاً عن الحقائق الكونية والشرعية ، كاشفاً في كل يوم عن بعض الحقائق ، ساعد في ذلك الوحي الإلهي ولا سيما في صورته الأخيرة المتمثلة بالإسلام ، حيث وضعه على الطريق الصحيح ليس على نطاق أمور الدين ، بل حتى في نطاق اكتشاف أسرار النفس والكون ، لذلك سار المسلمون على المنهج التجريبي الذي قفز بالحضارة والعلوم قفزة هائلة ، ثم أصابهم الجمود ، فجاء دور الغربيين فبنوا على هذا المنهج التجريبي الكثير ، ودفعوا بالعلوم إلى مراحل متطورة نستطيع القول بأن ما حصل عليه الإنسان من العلوم والإبداعات في القرن الأخير يزيد على كل ما حصل عليه في تأريخه الطويل بل إن المعرفة الإنسانية في العقود الأخيرة تتضاعف كل خمس سنوات ، فمن عصر الثورة الصناعية إلى عصر ثورة المعلوماتية ، إلى عصر الكومبيوترات والانترنيت وثورة الاتصالات .
قراءة حروف الإنسان:
ومما أولى له العلم الحديث اهتمامه الكبير هو البحث عن قراءة الإنسان قراءة عميقة بحيث يقرأ كل جزئياته وجيناته كما يقرأ الكتاب بحروفه وحركاته وسكناته وأصواته ومخارج حروفه ، فتقدمت علوم التشريح واخترع المجهر الذي بيّن أن أنسجة الجسم كلها تتكون من خلايا ، وفي كل خلية نواة هي المسئولة عن حياة الخلية ووظيفتها ، وأن نواة كل خلية تشمل على الحصيلة الإرثية من حيث الخواص المشتركة بين البشر جميعاً ، أو بين السلالات المتقاربة ، ومن حيث الصفات المميزة لكل شخص لا يشترك معها فيها شخص آخر(1).
__________
(1) د . حسان حتحوت : بحثه عن "دور البصمة الوراثية في اختبارات البوة " المقدم إلى ندوة الوراثة والهندسة الوراثية بالكويت في 13 ـ 15 /10/1998م(1/5)
وهذه المادة الإرثية المعبأة في نواة الخلية تتكون من ستة وأربعين كرموسوماً ، ثلاثة وعشرون منها من الأب ، وثلاثة وعشرون من الأم ، كما عبر القرآن الكريم عن هذا الخلط بقوله تعالى : ( من نطفة أمشاج )(1).
فالأسرار الوراثية كامنة فيما يعرف بالجينات ، التي هي جزء من الحامض النووي منزوع الأوكسجين DNA الموجود في الكروموسوم ، فالجين يحوي كل المعلومات لتكوين سلسلة من الأحماض الأمينية ( الببتايد ) أو جزء من البروتين ، وبما أن الخمائر ( الأنزيمات ) نوع من البروتين ، فإن الجين هو المسؤول عن صنع هذا البروتين ، فمثلاً يتم صنع الأنسولين بواسطة جين معين موجود في سلسلة ( الدنا ) على الكروموسوم رقم (611) ، و( الدنا ) مكون من زوجين نايتروجينين هما : دنين وثايمين ، والجوانين والسايتوزين بواسطة قواعد هيدروجينية ، كما يتصل كل واحد منهما بأحد السكريات الخماسية الناقصة الأوكسجين كما يتصل بمجموعة فسفورية ، ويقدر مجموع ( الدنا ) في كل خلية بشرية على شكل شريط من كاسيت طوله 2800كم ، ويتكون الجين من سلسلة من هذه القواعد النتروجينية بتوابعها ( السكر الخماسي ، والمركب الفسفوري ) تبلغ في المعدل ثلاثين ألف زوج قاعدي نتروجيني ، فتصل مجموع القواعد النتروجينية إلى ستة بلايين ، وأن السلاسل المكونة للحامض النووي منزوع الأوكسجين (الدنا) مزدوجة ، وأن ما هو موجود في سلسلة واحدة يمثل ثلاثة بلايين من الأزواج القاعدية ، فالجينات تشكل ما يقرب من 70% من مجموع طول ( الدنا ) ولا تزال وظائف البقية الباقية منه مجهولة .
__________
(1) سورة الإنسان / الآية ( 2 )(1/6)
وهذه السلاسل تكوّن الكروموسومات ( الصبغيات ) التي تصل في الإنسان إلى ثلاثة وعشرين زوجاً منها زوج واحد يختص بالذكورة والأنوثة ، وأما غيره فيختص ببقية وظائف البدن(1). وتتراوح عدد الجينات الأساسية داخل خلية واحدة ما بين ستين وسبعين ألفاً وأن 20% منها تعمل وتقوم بالوظائف الحيوية المشابهة ، في حين تختلف 80% حسب الوظيفة والموقع والزمن .
مشروع الجينوم البشري(2):
يبذل العلماء جهود مكثفة لمعرفة الجينات البشرية ، واكتشاف مزيد من أسرارها يستعينون لتحقيق هذا الهدف العظيم بالمختبرات الحديثة المزودة بأحدث التقنيات ، وأضخم الكمبيوترات ، وهو مشروع رصدت له أمريكا خمسة مليارات من الدولارات ، وقد تحق كثير من النتائج العظيمة حتى الآن ، وآخر هذه النتائج هو كشف الخريطة الجينومية للإنسان .
ولا يمر يوم إلاّ ويتم فيه معرفة عدد هذه الجينات وموقعها على الخريطة الجينومية وحجمها وعدد القواعد النتروجينية المكونة له ، والبروتينات التي يصنعها بأمر خالقه ، وعدد الأحماض الأمنية المكونة لهذا البروتين ، ووظائفه ، والأمراض التي تصيب الإنسان عند نقص ذلك البروتين .
__________
(1) أ . د . محمد علي البار : بحثه عن " نظرة فاحصة للفحوصات الطبية " المقدم إلى المجمع الفقهي للرابطة في دورته الخامسة عشرة ، ود . صديقة العوضي ، ود . رزق النجار : بحثهما عن " دور البصمة الوراثية " المقدم إلى ندوة الوراثة السابق ذكرها ، ود . نجم عبدالله عبدالواحد : بحثه عن " البصمة الوراثية " المقدم إلى الدورة الخامسة عشرة للمجمع الفقهي بمكة المكرمة .
(2) كلمة ( جينوم ) مركب : من كلمة جين وكروموسوم ، ويعبر بها عن كتلة المادة الوراثية جميعها ، ولكنها مسجلة تفصيلياً بحروف هجائها الأساسية ، انظر د . حسان حتحوت : بحثه السابق (ص5 )(1/7)
وقد شاء الله تعالى أن يؤدي أي خلل يسير في تسلسل القواعد النتروجينية في الجين المتحكم في البروتين إلى مرض خطير ، ولكن لا يظهر المرض إلاّ عندما يرث الشخص هذا الجين المعطوب من كلا الأبوين ، أما إذا كان لديه جين واحد مصاب والجين الآخر سليماً فإنه يعتبر حاملاً للمرض فقط ، ولا تظهر عليه أي أعراض مرضية ، ولكن عندما يتزوج هذا من امرأة حاصلة على هذا الجين تكون نسبة ظهور المرض في ذريتهما 25% أي واحد من أربعة ، وهنا يأتي دور الفحص الطبي .
ولكن هناك العديد من الأمراض الوراثية تنتقل عبر جين واحد منتقل من أحد الأبوين ، أو كليهما ، حيث حصرها بعض العلماء عام 1994م في (6678) مرضاً وراثياً ، غير أن (4458) مرضاً منها يصاب نصف الذرية ، و (1750) مرضاً يصاب ربع الذرية ، وأوصلها العلماء في عام 1998م إلى اكثر من ثمانية آلاف مرض وراثي(1).
لمعرفة الجينوم " ايجابيات وسلبيات " :
لا شك أن إدراك أسرار الجينات يحقق مصالح كبيرة للبشرية ، ولكنه مع ذلك إذا أطلق عنانها دون ضوابط ، منها أنه لو اشترطت جهات العمل الكشف الجيني لأدى ذلك إلى أن المصابين بالأمراض المحققة أو المحتملة لن يتم تعيينهم ، والأمر أشد في التأمين الصحي ، أو التأمين على الحياة ، ومنها كشف أسرار الإنسان ، وغير ذلك من السلبيات ، لذلك لا بدّ من وضع ضوابط دينية وأخلاقية في هذا المجال(2).
__________
(1) د . محمد علي البار : بحثه القيم السابق الإشارة إليه ، ود . حسان حتحوت : بحثه المشار إليه سابقاً
(2) المراجع السابقة(1/8)
وصدرت توصية من الندوة الحادية عشرة للمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية التي عقدت في الكويت في 23 ـ 25/جمادى الآخرة 1419هـ الموافق 13 ـ 15/10/1998م نصت على : ( أن مشروع قراءة الجينوم البشري ـ وهو رسم خريطة الجينات الكاملة للإنسان ، وهو جزء من تعرف الإنسان على نفسه ، واستكناه سنة الله في خلقه وإعمال للآية الكريمة ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم )(1)ومثيلاتها الآيات الأخرى .
ولما كانت قراءة الجينوم وسيلة للتعرف على بعض الأمراض الوراثية أو القابلية لها ، فهي إضافة قيمة إلى العلوم الصحية والطبية في مسعاها لمنع الأمراض ، أو علاجها مما يدخل في باب الفروض الكفائية في المجتمع .
ويتوقع العلماء أن هذا المشروع يستهدف تحقيق الغايات التالية :
1. التعرف على أسباب الأمراض الوراثية .
2. التعرف على التركيب الوراثي لأي إنسان من حيث خريطته الجينية ومن حيث القابلية لحدوث أمراض معينة كضغط الدم والنوبات القلبية والسكر ونحوها .
3. العلاج الجيني للأمراض الوراثية .
4. إنتاج مواد بيولوجية وهرمونات يحتاجها الإنسان للنمو والعلاج .
العلاج الجيني :
هو إصلاح الخلل في الجينات ، أو تطويرها ، أو استئصال الجين المسبب للمرض واستبدال جين سليم به ، وذلك بإحدى الطريقتين التاليتين :
الطريقة الأُولى : عن طريق الخلية العادية ، وذلك بإدخال التعديلات المطلوبة وحقنها للمصاب ، فإدخال الجين إلى الكروموسوم في الخلية يجب أن يكون في موقع محدد ، لأن الإدخال العشوائي قد يترتب عليه أضرار كبيرة .
__________
(1) سورة فصلت / الآية ( 53 )(1/9)
ومن المعلوم أن توصيل الجينات يمكن أن يتم بطرق كيميائية ، أو فيزيائية ، أو بالفيروسات ، أما الطريقة الكيميائية فيتم دمج عدة نسخ من DNA الحامل للجين السليم بمادة مثل فوسفات الكالسيوم ، ثم يفرغ ذلك في الخلية المستقبلية حيث تعمل المادة الكيميائية على تحطيم غشاء الخلية ، وتنقل بالتالي المادة الوراثية إلى الداخل(1).
وهناك طريقة أخرى لتوصيل الجينات عن طريق الحقن المجهري حيث يتم دخول المادة الوراثية إلى السيتوبلازم ، أو النواة .
وطريقة استخدام الفيروسات هي الأكثر قبولاً وتطبيقاً ، وذلك باستخدام الفيروسات كنواقل أو عربات شحن في النقل الجيني ، وهناك نوعان من الفيروسات ، أحدهما مادته الوراثية DNA والنوع الآخر RNA وعلى الرغم من أنهما مختلفان كيميائياً لكنهما يجمعهما أنهما من وحدات نيوكيلوتيده ، وأنهما يشملان شفرات منتظمة بالإضافة إلى تسلسل دقيق للقواعد النيتروجينية ، فقد أثبتت التجارب العملية أن الجين المسؤول عن تكوين بيتاجلوبين البشري يمكن إدخاله في خلايا عظام الفأر بواسطة الفيروسات التراجعية كنواقل ، وكانت النتيجة جيدة ، واستخدم البعض الفيروسات التراجعية لإدخال جين مسؤول عن عامل النمو البشري إلى أرومات ليفية ، وطبقت كذلك على أجنة التجارب بواسطة خلايا الكبد والعضلات .
__________
(1) د . صالح عبدالعزيز كريم : " الكائنات وهندسة المورثات " بحث مقدم إلى ندوة المنظمة الحادية عشرة (ص17) والبحوث السابقة أيضاً .(1/10)
وبعد التجارب المعملية خرجت التطبيقات منها إلى الإنسان مباشرة حيث كانت التجربة الأولى على الطفلتين ( سبنتيا ) و ( أشانتي ) اللتين ولدتا وهما تعانيان من عيب وراثي وهو عدم إنتاج أنزيم أدينوزين ديمتاز يعمل نقصه على موت خلايا الدم التائية المسماة بالخلايا النائبة (T – Cells ) مما يؤدي إلى التأثير على جهاز المناعة وفي سبتمبر 1990 بدأت رحلة العلاج الجيني بحقن الطفلة (أشانتي ) بالخلايا المعالجة وراثياً ثم أخضعت الطفلة الثانية في يناير 1991 وكانت نتيجة علاجهما جيدة(1).
الطريقة الثانية : عن طريق إدخال تعديلات مطلوبة على الحيوان المنوي ، أو البويضة .
وقد أثيرت الشبهات حول الطريقتين ، حيث أثيرت على الأُولى شبهة أخلاقية وهي : هل البصمة الوراثية لهذا الشخص ستكون مطابقة لابنه ؟ كما أثيرت على الثانية شبهة تأثير إدخال التعديلات على الحيوان المنوي ، أو البويضة ؟(2).
ولذلك لا بدّ من التأكيد على هذا الجانب الأخلاقي وهو أن العلاج في الحالتين لا بدَّ أن لا يؤدي بأية حالة من الأحوال إلى التأثير في البنية الجينية ، والسلالة الوراثية .
ومن جانب آخر فإن للاسترشاد الوراثي ، والهندسة الوراثية دوراً رائداً في منع المرض وتطبيق قاعدة : الوقاية خير من العلاج .
والعلاج الجيني لا يقتصر دوره على الإنسان بل له دوره الأكبر في عالم النبات والحيوان مثل تغيير وتعديل التركيب الوراثي للكائنات ، أو ما يعرف بهندسة المورثات في الكائنات من مثل التحور الجيني في النبات والاستزراع الجيني في الكائنات الدقيقة مثل البكتريا ، وهندسة الحيوانات وراثياً .
مستقبل العلاج الجيني :
__________
(1) د . صالح كريم : بحثه السابق (ص19)
(2) د . أحمد رجائي الجندي " لمحة حول ندوة الوراثة والهندسة الوراثية " ، ج1 (ص28)(1/11)
تشير النتائج والأبحاث إلى أن مستقبلاً زاهراً ينتظر العلاج الجيني ، وأنه يستفاد منه لعلاج أمراض واسعة الانتشار تطال الملايين من مرضى العالم مثل السرطان ، والتهاب الكبد الفيروسي ، والايدز ، وفرط الكولوسترول العائلي ، وتصلب الشرايين ، والأمراض العصبية مثل داء باركتسون ومرض الزهايمر ، إضافة إلى معالجة الأجنة قبل ولادتها ، وتشخيص الأمراض الوراثية قبل الزواج .
منافع العلاج الجيني :
هناك فوائد كبيرة ، ومنافع كثيرة تتحقق من خلال العلاج الجيني يمكن أن نذكر أهمها :
1. الاكتشاف المبكر للأمراض الوراثية ، وحينئذٍ التمكن من منع وقوعها أصلاً بإذن الله ، أو الإسراع بعلاجها ، أو التخفيف عنها قبل استفحاله ، حيث بلغت الأمراض الوراثية المكتشفة أكثر من ستة آلاف مرض ، وبالتالي استفادة الملايين من العلاج الجيني .
2. تقليل دائرة المرض داخل المجتمع وذلك عن طريق الاسترشاد الجيني ، والاستشارة الوراثية .
3. إثراء المعرفة العلمية عن طريق التعرف على المكونات الوراثية ، ومعرفة التركيب الوراثي للإنسان بما فيه القابلية لحدوث أمراض معينة كضغط الدم والنوبات القلبية ، والسكر ونحوها .
4. الحد من اقتران حاملي الجينات المريضة ، وبالتالي الحد من الولادات المشوهة .
5. إنتاج مواد بيولوجية ، وهرمونات يحتاجها جسم الإنسان للنمو والعلاج(1).
سلبيات العلاج الجيني وأخطاره :
تترتب على العلاج الجيني بعض السلبيات في عدة نواحي اجتماعية ونفسية ، منها :
__________
(1) د . محمد علي البار " نظرة فاحصة للفحوصات الطبية " ، ود . حسان حتحوت " قراءة الجينوم البشري " ، ود . ناصر الميمان " الإرشاد الجيني " بحث مقدم إلى الندوة الحادية عشرة للمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية المنعقدة في الكويت عام 1419هـ ، ود . عجيل النشمي " الوصف الشرعي للجينوم البشري " بحث مقدم إلى الندوة الآنفة الذكر ، ود . عمر الألفي " الجينوم البشري " .(1/12)
1. من خلال كشف بعض الأمراض الوراثية للفرد يترتب عليه آثار كبيرة على حياته الخاصة ، فيتعرض لعدم القبول في الوظائف ، أو التأمين بصورة عامة ، والامتناع عن الزواج منه رجلاً كان أو امرأة ، فقراءة جينومه تؤثر فعلاً على عمله الوظيفي ، وعلى زواجه ، وعلى كثير من أموره الخاصة به ، مما يترتب عليه إضرار به دون ذنب اقترفه ، بل قد لا يصبح مريضاً مع انه حامل الفيروس ، أو جين مريض ، فليس كل حامل للمرض مريض ، ولا كل مرض متوقع يتحتم وقوعه.
2. التأثير على ثقة الإنسان بنفسه ، والخوف والهلع من المستقبل المظلم مما يترتب عليه أمراض نفسية خطيرة قد تقضي عليه بسبب الهموم ، مع أن الإنسان مكرم لا يجوز إهدار كرامته ، وخصوصيته الشخصية وأسراره .
3. ان هناك عوامل أخرى بجانب الوراثة لها تأثير كبير على إحداث الأمراض الناتجة عن تفاعل البيئة ونمط الحياة ، إضافة إلى الطفرات الجينية التي تحدث في البويضة أو الحيوان المنوي ، أو فيهما بعد التلقيح(1).
4. وهناك مفاسد أخرى إذا تناول العلاج الجيني الصفات الخلقية ـ بفتح القاف ـ من الطول والقصر ، والبياض والسواد ، والشكل ، ونحو ذلك ، أو ما يسمى بتحسين السلالة البشرية ، مما يدخل في باب تغير خلق الله المحرم .
__________
(1) المراجع السابقة أنفسها ، ود . عمر الألفي " الجينوم البشري " ضمن بحوث الندوة السابقة(1/13)
والعالم المتقدم اليوم ( وبالأخص أمريكا ) في تسابق خطير وتسارع إلى تسجيل الجديد في هذا المجال الخطير وبالأخص ما يتعلق بالإنسان فيوجد الآن أكثر من 250 معملاً ومختبراً متخصصاً في عالم الجينات فلا يُطلِع مختبر الآخر على نتائجه الجديدة ، ولذلك لا يستبعد في يوم من الأيام خروج شيء من تلك الكائنات المهندسة وراثياً ويحمل إمّا أمراضاً جديدة ، أو جراثيم بيولوجية مدمرة ، وخاصة ليست هناك ضمانات قانونية ولا أخلاقية لكثير من هذه المعامل ، ولذلك أنشئت هيئة الهندسة البيولوجية الجزيئية في فرنسا ، ولكنها غير كافية ، وهذه الأخطار تتعلق بما يأتي :
1. أخطار تتعلق بتطبيقات الهندسة الوراثية في النبات والحيوان والأحياء الدقيقة ، إضافة إلى أن بعض الحيوانات المحورة وراثياً تحمل جينة غريبة يمكن أن تعرض الصحة البشرية ، أو البيئة للخطر.
2. أخطار تتعلق بالمعالجة الجينية من النواحي الآتية :
أ ـ النقل الجيني في الخلايا الجرثومية التي ستولد خلايا جنسية لدى البالغين (حيوانات منوية وبويضات) وذلك لأن التلاعب الوراثي لهذه الخلايا يمكن أن يوجد نسلاً جديداً غامض الهوية ضائع النسب .
ب ـ الدمج الخلوي بين خلايا الأجنة في الأطوار المبكرة .
ج ـ احتمالية الضرر ، أو الوفاة بسبب الفيروسات التي تستخدم في النقل الجيني .
د ـ الفشل في تحديد موقع الجينة على الشريط الصبغي للمريض حيث قد يسبب مرضاً آخر ربما أشد ضرراً .
هـ ـ احتمال أن تُسبب الجينة المزروعة نمواً سرطانياً .
و ـ استخدام المنظار الجيني في معالجة الأجنة قبل ولادتها قد يؤدي ذلك إلى مضاعفات خطيرة على حياة الأم والجنين .
ز ـ أخطار أخرى تخص الجينة المزروعة ، والكائنات الدقيقة المهندسة وراثياً(1).
ح ـ استخدام العلاج الجيني في صنع سلالات تستخدم في الحروب البيولوجية المدمرة .
الحكم الشرعي للعلاج الجيني :
__________
(1) ... د . صالح عبدالعزيز كريم : بحثه السابق (23 ـ 25 )(1/14)
ينظر إلى العلاج الجيني من خلال اعتبارين : اعتبار عام من حيث هو علاج للأمراض ، واعتبار خاص يتعلق بخصوصيته وماله من آثار وإجراءات .
أ ـ من حيث هو علاج للأمراض الوراثية فيطبق عليه من حيث المبدأ ، الحكم الشرعي التكليفي للعلاج .
فمن الناحية الفقهية قد اختلف الفقهاء في حكم العلاج على عدة أقوال(1)، والذي تشهد له الأدلة الشرعية ومقاصد الشريعة هو أن الأحكام التكليفية الخمسة ( الوجوب ، والندب ، والتحريم ، والكراهة ، والإباحة ) ترد عليه .
__________
(1) يراجع لتفصيل ذلك : بحث الدكتور علي المحمدي بعنوان " حكم التداوي في الإسلام " المنشور في مجلة المجمع العدد السابع ، ج3 (ص602)(1/15)
فالعلاج واجب إذا ترتب على عدم العلاج هلاك النفس بشهادة الأطباء العدول ، لأن الحفاظ على النفس من الضروريات الخمس التي يجب الحفاظ عليها ، وكذلك يجب العلاج في حالة كون المرض معدياً مثل مرض السل ، والدفتريا ( الخناق ) والتيفود الكوليرا(1)للنصوص الدالة على دفع الضرر وأنه ( لا ضرر ولا ضرار )(2)، بل إن بعض الفقهاء ـ منهم جماعة من الشافعية،وبعض الحنابلة(3)ـ يذهبون إلى أن العلاج واجب مطلقاً وقيده بعضهم بأن يظن نفعه ، بل ذهب الحنفية(4)إلى وجوبه إن كان السبب المزيل للمرض مقطوعاً به وذلك كما أن شرب الماء واجب لدفع ضرر العطش ، وأكل الخبز لدفع ضرر الجوع ، وتركهما محرّم عند خوف الموت ، وهكذا الأمر بالنسبة للعلاج والتداوي . جاء في الفتاوى الهندية : ( اعلم بأن الأسباب المزيلة للضرر تنقسم إلى مقطوع به كالماء المزيل لضرر العطش ، والخبز المزيل لضرر الجوع ... أما المقطوع به فليس تركه من التوكل ، بل تركه حرام عند خوف الموت )(5).
__________
(1) د . محمد علي البار : بحثه بعنوان " العلاج الطبي " المنشور في مجلة المجمع ، العدد السابع ، ج3 (ص570)
(2) الحديث رواه مالك في الموطأ ، كتاب الأقضية (ص464) ، وأحمد في مسنده ( 1/313، 5/327 ) ، وابن ماجه (2/784 ) وهو حديث صحيح صححه البعض منهم الألباني في الإرواء الحديث (896)
(3) مجموع الفتاوى لابن تيمية ط . الرياض ( 24/269 ، 21/564 ) ، وإحياء علوم الدين ط . عيسى البابي الحلبي (4/279 ) ، والآداب الشرعية لابن مفلح ( 2/361 )
(4) الفتاوى الهندية ( 5/355 )
(5) المرجع السابق(1/16)
وقد استدل هؤلاء الفقهاء بالأحاديث الآمرة بالتداوي مثل حديث أسامة بن شريك قال : (أتيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه كأنما على رؤوسهم الطير ، فسلمت ، ثم قعدت ، فجاء الأعراب من ههنا وههنا ، فقالوا : يا رسول الله أنتداوى ؟ فقال : تداووا فإن الله تعالى لم يضع داءً إلاّ وضع له دواء غير داء واحد الهرم )(1)، ولحديث أبي الدرداء : ( قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إن الله أنزل الداء والدواء وجعل لكل داء دواء فتداووا ، ولا تتداووا بحرام )(2)، فإذا كان العلاج واجباً فيكون تركه حراماً كما في حالة كون المرض معدياً ، أكون الشخص مهدداً بالموت أو بضرر كبير إذا لم يتم العلاج .
وأن التداوي مستحب إذا كان التداوي بما يمكن الاستشفاء به حسب الظن وليس اليقين(3)، وذلك اقتداءً بتداوي الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قوله ، وفعله(4)، وفيما عدا ذلك فهو مباح مشروع وهذا رأي جمهور الفقهاء(5)، قال حجة الإسلام أبو حامد الغزالي : ( اعلم أن الذين تداووا من السلف لا ينحصرون ، ولكن قد ترك التداوي أيضاً جماعة من الأكابر ) ثم ذكر بأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ تداوى ، ولو كان نقصاناً لتركه ، إذ لا يكون حال غيره في التوكل أكمل من حاله )(6).
__________
(1) رواه أبو داود في سننه مع عون المعبود ( 10/334 ) ، والترمذي وقال : حسن صحيح ، تحفة الأحوذي ( 6/190 ) ورواه النسائي ، وابن ماجه ، والحاكم وصححه .
(2) رواه أبو داود في سننه ـ مع عون المعبود ـ ( 10/351 )
(3) يراجع : الفتاوى الهندية ( 5/255 )
(4) يراجع : سنن أبي داود ـ مع عون المعبود ـ ( 10/339 ، 341 ، 349 ) ، وفتح الباري ( 10/147،150 ) حيث روى البخاري وغيره أنه صلى الله عليه وسلم احتجم .
(5) الفواكه الدواني ( 2/442 ) ، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي ( 10/199 ) ود . علي المحمدي : بحثه السابق
(6) إحياء علوم الدين ( 4/283 )(1/17)
وقد ردّ الغزالي على من قال بأن التداوي يخالف التوكل بأن ذلك نوع من المغالطة ، لأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ تداوى وهو سيد المتوكلين ، وأمر به في أكثر من حديث ، ثم إن التداوي مثل استعمال الماء للعطشان ، والأكل لدفع الجوع فلا فرق بين هذه الدرجات ، فإن جميع ذلك أسباب رتبها مسبب الأسباب سبحانه وتعالى ، وأجرى بها سنته(1)، ويدل على أن ذلك ليس من شرط التوكل ما روي عن عمر ـ رضي الله عنه ـ وعن الصحابة في قصة الطاعون ـ فإنهم لما قصدوا الشام وانتهوا إلى الجابية بلغهم الخبر أن به موتاً عظيماً ووباءً ذريعاً فافترق الناس فرقتين ، فقال بعضهم لا ندخل على الوباء فنلقي بأيدينا إلى التهلكة ، وقالت طائفة أخرى : بل ندخل ونتوكل على الله ولا نهرب من قدر الله تعالى ، ولا نفرّ من الموت كمن قال الله تعالى في حقهم : ( ألم ترَ إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت ... )(2)، فرجعوا إلى عمر فسألوه عن رأيه ، فقال : نرجع ولا ندخل على الوباء ، فقال له المخالفون لرأيه : أنفرّ من قدر الله تعالى ؟ قال عمر : نعم ، نفرُّ من قدر الله تعالى إلى قدر الله تعالى ... . فلما أصبحوا جاء عبدالرحمن فسأله عمر عن ذلك ؟ فقال : عندي فيه يا أمير المؤمنين شيء سمعته من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : ( إذا سمعتم به ـ أي بالطاعون ـ بأرض فلا تقدموا عليه ، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه )(3).
فالعلاج سبب من الأسباب يؤخذ به كما يؤخذ بالأسباب في كل الأمور الأخرى ، بل إن تركها إذا ترتب عليه ضرر يكون محرماً وقد أكد هذه المعاني ابن القيّم في الطب النبوي وبيّن بأن العلاج سبب مشروع ، وقدر من قدر الله تعالى ، وسنة من سننه .
__________
(1) المرجع السابق ( 4/283 )
(2) سورة البقرة / الآية ( 243 )
(3) الحديث صحيح متفق عليه انظر : صحيح البخاري ـ مع فتح الباري ـ ( 10/179 ) ، ومسلم الحديث رقم (2219) ( 4/1740 )(1/18)
ويكون التداوي مباحاً جائزاً تركه ، إذا كان العلاج لا يجدي نفعاً وأن الدواء لا ينفعه ، حيث ذكر الغزالي خمسة أسباب لترك التداوي منها أن تكون العلة مزمنة ، والدواء الذي يؤمر به موهوم النفع(1).
ب ـ النظر إلى العلاج الجيني من حيث ما له من خصوصية ، وما له من آثار وما يترتب عليه من مصالح أو مفاسد أو مخالفات للنصوص الشرعية .
فبهذا الاعتبار لا ينبغي أن نصدر حكماً عاماً لجميع أنواع العلاج الجيني وحالاته وذلك لأن الحكم الشرعي إنما يكون دقيقاً إذا كان متعلق الحكم معلوماً مبيناً واضحاً ، لأن الحكم على الشيء فرع من تصوره .
وإضافة إلى هذه الأدلة الخاصة بالعلاج والتداوي فهناك عدة قواعد عامة ، ومبادئ معتبرة تتحكم في العلاج بصورة عامة ، وفي العلاج الجيني بصورة خاصة وهي :
1ـ مقاصد الشريعة في رعاية المصالح الضرورية والحاجية ، والتحسينية ، والموازنة بين المصالح والمفاسد والقواعد المتفرقة منها مثل درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة وأنه يتحمل الضرر الأخف في سبيل درء الضرر الأكبر ، وأن الضرر يزال ، وأن الضرر لا يزال بمثله ، وأن الضرورات تبيح المحظورات ، وأن الضرورات تقدر بقدرها ، وأنه يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام ، وأن الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف ، وأنه إذا تعارضت مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً ، وأنه يختار أهون الشريّن ، وأن الضرر يدفع بقدر الإمكان ، وأن الحاجة تنزل منزلة الضرورة ، وأن الاضطرار لا يبطل حق الغير ، وأن المشقة تجلب التيسير ، وأنه إذا ضاق الأمر اتسع ، وأنه لا ضرر ولا ضرار(2).
__________
(1) إحياء علوم الدين ( 4/279 )(1/19)
2ـ اعتبار الوسائل والذرائع ، فالوسيلة المحرمة محرمة ولو كانت الغاية شريفة ، فلا يجوز استعمال أية وسيلة محرمة في العلاج الجيني أو غيره إلاّ للضرورة التي تبيح المحظورات(1)وقد جعل ابن القيم قاعدة سد الذرائع ربع الدين والفقه الإسلامي(2).
3ـ رعاية المألات والغايات والنتائج والآثار المترتبة على العلاج قال الشاطبي : ( النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً سواء كانت الأفعال موافقة أو مخالفة ، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو الإحجام إلاّ بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل مشروعاً لمصلحة فيه تستجلب ، أو مفسدة تدرأ ، ولكن له مآل على خلاف ذلك ، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوى المصلحة أو تزيد عليها ، فيكون هذا مانعاً من إطلاق القول بالمشروعية ، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي ، أو تزيد فلا يصح القول بعدم المشروعية )(3)، وقاعدة المآلات هي الأصل العام الذي تنبني عليها مجموعة من القواعد الأساسية(4).
4ـ النظر إلى العلاج الجيني بصورة خاصة من خلال أنواعه ، وحالاته ، حتى يكون الحكم دقيقاً صحيحاً بقدر الإمكان ، وذلك لأن الحكم الصحيح على الشيء فرع من تصوره وفهمه فهماً دقيقاً ، ولذلك نفصل القول حسب الأنواع المتاحة لنا :
__________
(1) قال لشاطبي في الموافقات ( 4/556 ) = ( لأن حقيقتها التوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة ) .
(2) ... إعلام الموقعين ط . النهضة الجديدة بالقاهرة ( 3/134 ـ 159 )
(3) ... الموافقات ( 4/552 ـ 553 )
(4) المرجع السابق ( 4/556 )(1/20)
أ ـ حكم العلاج الجيني بالنوعين المذكورين إنما يجوز إذا لم يترتب عليه الأضرار والمفاسد التي ذكرناها سابقاً ، وقد صدر قرار من المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته الخامسة عشرة تضمّن مجموعة من الأحكام والضوابط ، حيث نصّ على : ( أن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في دورته الخامسة عشرة المنعقدة في مكة المكرمة التي بدأت 11رجب 1419هـ الموافق 31 اكتوبر 1998م قد نظر في موضوع استفادة المسلمين من علم الهندسة الوراثية التي تحتل اليوم مكانة مهمة في مجال العلوم ، وتثار حول استخدامها أسئلة كثيرة ، وقد تبين للمجلس أن محور علم الهندسة الوراثية هو التعرف على الجينات ( المورثات ) وعلى تركيبها ، والتحكم فيها من خلال حذف بعضها ـ لمرض أو لغيره ـ أو إضافتها أو دمجها بعضها مع بعض لتغيير الصفات الوراثية الخلقية .
وبعد النظر والتدارس والمناقشة فيما كتب حولها ، وفي بعض القرارات والتوصيات التي تمخضت عنها المؤتمرات والندوات العلمية . يقرر المجلس ما يلي :
أولاً : تأكيد القرار الصادر عن مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بشأن الاستنساخ برقم 100/2/د/10 في الدورة العاشرة المنعقدة بجدة في الفترة من 23ـ28صفر 1418هـ .
ثانياً : الاستفادة من علم الهندسة الوراثية في الوقاية من المرض أو علاجه ، أو تخفيف ضرره بشرط أن لا يترتب على ذلك ضرر اكبر .
ثالثاً : لا يجوز استخدام أي من أدوات علم الهندسة الوراثية ووسائله في الأغراض الشريرة وفي كل ما يحرم شرعاً .
رابعاً : لا يجوز استخدام أي من أدوات علم الهندسة الوراثية ووسائله للعبث بشخصية الإنسان ، ومسؤوليته الفردية ، أو للتدخل في بنية المورثات ( الجينات ) بدعوى تحسين السلالة البشرية .(1/21)
خامساً : لا يجوز إجراء أي بحث ، أو القيام بأية معالجة ، أو تشخيص يتعلق بمورثات إنسان ما إلاّ بعد إجراء تقويم دقيق وسابق للأخطار والفوائد المحتملة المرتبطة بهذه الأنشطة ، وبعد الحصول على الموافقة المقبولة شرعاً مع الحفاظ على السرية الكاملة للنتائج ، ورعاية أحكام الشريعة الإسلامية الغراء القاضية باحترام حقوق الإنسان وكرامته .
سادساً : يجوز استخدام أدوات علم الهندسة الوراثية ووسائله في حقل الزراعة وتربية الحيوان شريطة الأخذ بكل الاحتياطات لمنع حدوث أي ضرر ـ ولو على المدى البعيد ـ بالإنسان ، او الحيوان ، أو البيئة .
سابعاً : يدعو المجلس الشركات والمصانع المنتجة للمواد الغذائية والطبية وغيرهما من المواد المستفيدة من علم الهندسة الوراثية إلى البيان عن تركيب هذه المواد ليتم التعامل والاستعمال عن بينة حذراً مما يضرُّ أو يحرم شرعاً .
ثامناً : يوصي المجلس الأطباء وأصحاب المعامل والمختبرات بتقوى الله تعالى واستشعار رقابته والبعد عن الإضرار بالفرد والمجتمع والبيئة ) .
ب ـ حكم المسح الوراثي : يجوز شرعاً المسح الوراثي بشرط أن تكون الوسائل المستعملة فيه مباحة آمنة لا تضرُّ بالإنسان والبيئة ، وذلك لأن هذه الطريقة تهدف إلى تقليل الأمراض الوراثية ، وتساعد الأطباء على وضع البرامج الوقائية لحماية الإنسان وابتكار الأدوية ، كما تساعد على دفع الضرر قبل وقوعه .
ويجوز للدولة الإجبار على هذه الطريقة إذا انتشر الوباء في بلد معين ، أو اقتضته المصالح العامة ، ولكن يجب الحفاظ على نتائج المسح وعدم إظاهرها إلاّ بقدر ما تقتضيه الضرورة أو الحاجة الملحة حماية لأسرار الناس التي هي من مقاصد الشريعة .
ج ـ حكم تغيير الخلقة عن طريق العلاج الجيني :(1/22)
تناول الفقهاء قديماً وحديثاً موضوع تغيير الخلقة ، أو تغيير خلق الله من خلال عمليات التجميل ، وإزالة العيب أو الخلل البدني المسبب لإيذاء مادي ومعنوي ، وقد صدر قرار من الندوة الثالثة للمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية ينصُّّّ على أن :
( 1ـ الجراحات التي يكون الهدف منها علاج المرض الخلقي والحادث بعد الولادة لإعادة شكل أو وظيفة العضو السوية المعهودة له ، جائز شرعاً ويرى الأكثرية أنه يعتبر في حكم هذا العلاج إصلاح عيب أو دمامة تسبب للشخص أذى عضوياً أو نفسياً.
2 ـ لا تجوز الجراحات التي تخرج بالجسم أو العضو عن خلقته السوية ، أو يقصد بها التنكر فراراً من العدالة ، أو التدليس ، أو بمجرد اتباع الهوى .
3 ـ ما ظهر في بعض المجتمعات من جراحات تسمى عمليات تغيير الجنس استجابة للأهواء المنحرفة حرام قطعاً ، ويجوز إجراء عمليات لاستجلاء حقيقة الجنس في الجنس. ) .
ولكن هناك فرق بين ذلك التغيير الحاصل على بعض أجزاء البدن والتغيير عن طريق العلاج الجيني ، فالأول يتم عن طريق إجراء عمليات تجميلية واقعة على الأعضاء المصابة بالآفة أو القبح ، أما العلاج الجيني فيتم عن طريق التحكم في المصادر المتحكمة والأجهزة المتحكمة في الأعضاء ، والمسؤولة عنها شكلاً ولوناً وكيفاً وكمّاً حسب سنة الله ، وذلك بالتدخل في الجينات ، أو الاستئصال أو التبديل بين جزئياتها .
ولكن هذا الفرق غير مؤثر في عموم الحكم الخاص بتغيير الخلقة ، ومن هنا نقول :
أولاً ـ إن أي علاج جيني يستهدف علاج الجينات المريضة والمشوهة لإعادتها إلى شكل أو وظيفة العضو السوية المعهودة له جائز شرعاً ، وكذلك العلاج الجيني الذي يستهدف إصلاح عيب أو دمامة تسبب للشخص أذى عضوياً أو نفسياً .
ثانياً ـ لا يجوز العلاج الجيني الذي يستهدف خروج الجسم أو العضو عن خلقته السوية .(1/23)
ثالثاً ـ لا يجوز تغيير الجنس ، أو اللون ، أو الشكل ، لأنها من آيات الله تعالى التي تقوم على الحكم والتوازن والموازنات والسنن الربانية .
ومسألة التغيير في خلق الله بيّن الله تعالى في القرآن الحكيم أنه من فعل الشيطان وأوليائه فقال الله تعالى : ( إن يدعون من دونه إلاّ إناثاً وإن يدعون إلاّ شيطاناً مريداً ، لعنه الله وقال لأتخذنَّ من عبادك نصيباً مفروضاً ولأضلنهم ولأمنينهم فليبتكّن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله )(1)وقال تعالى : ( فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيّم ولكن أكثر الناس لا يعلمون )(2).
ولكن المفسرين اختلفوا في تفسير التغيير والتبديل ، قال الإمام الرازي : ( وللمفسرين ههنا قولان: القول الأول : أن المراد من تغيير خلق الله تغيير دين الله وهو قول سعيد بن جبير ، وسعيد بن المسيب ، والحسن ، والضحاك ، ومجاهد ، والسدي ، والنخعي ، وقتادة ، وفي تقرير هذا القول وجهان : الوجه الأول : أن الله تعالى فطر الخلق على الإسلام يوم أخرجهم من ظهر آدم كالذر وأشهدهم على أنفسهم أنه ربهم وآمنوا به ، فمن كفر فقد غيّر فطرة الله التي فطر الناس عليها ، وهذا معنى ( كل مولود يولد علىالفطر ة ... ... .)(3). والوجه الثاني : أن المراد من تغيير دين الله هو تبديل الحلال حراماً ، أو الحرام حلالاً .
__________
(1) ... سورة النساء / الآية ( 117 ـ 119 )
(2) سورة الروم / الآية ( 30 )
(3) الحديث متفق عليه ، انظر صحيح البخاري مع فتح الباري ( 8/512 )(1/24)
القول الثاني : حمل هذا التغيير على تغيير أحوال كلها تتعلق بالظاهر ، وذكروا فيها وجوهاً مثل الوصل ، والوشم ، والاخصاء ، وقطع الآذان ، وفقء العيون ، والتخنث ، أو جعل الأنعام بحائر وسوابق ، مع أن الله خلقها لتوكل وتركب ، ثم قال الرازي : ( اعلم أن عمدة أمر الشيطان إنما هو بإلقاء الأماني في القلب ، وأما تبتيك الآذان وتغيير الخلقة فذاك من نتائج إلقاء الأماني في القلب ومن آثاره )(1)، ولذلك قال الله تعالى في الآية اللاحقة مباشرة : ( يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلاّ غروراً )(2).
وقال ابن عطية : (( قال ابن عباس ، وإبراهيم ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة وغيرهم : أراد: يغيرون دين الله ، وذهبوا في ذلك إلى الاحتجاج بقوله تعالى ( فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ) أي لدين الله ، والتبديل يقع موقعه التغيير ، وإن كان التغيير أعم منه )) ثم ذكر أراءً أخرى منها أن التغيير في الشكل والهيئة مثل الإخصاء ، والوشم ، ومنها جعل المخلوقات آلهة تعبد مع أنها خلقت لينتفع بها(3).
وقال في الآية الثانية : ( الذي يعتمد عليه في تفسير هذه اللفظة ( فطرة الله ) أنها الخلقة والهيئة التي في نفس الطفل التي هي معدودة مهيأة لأن يميز بها مصنوعات الله تعالى ، ويستدل بها على ربه جلّ وعلا ، ويعرف شرائعه ، ويؤمن به ، فكأنه تعالى قال : أقم وجهك للدين الحنيف ، وهو فطرة الله الذي على الإعداد له فطر البشر ، لكن تعرضهم العوارض )(4).
__________
(1) ... التفسير الكبير للرازي ط . دار إحياء التراث العربي ببيروت ( 11/48 ـ 50 )
(2) سورة النساء / الآية ( 120 )
(3) المحرر الوجيز لابن عطية ، ط . قطر ( 4/ 232 )
(4) المحرر الوجيز ( 11/453 )(1/25)
وقد فسر الإمام البخاري قوله تعالى : ( لا تبديل لخلق الله ) بدين الله ، والفطرة بالإسلام ، ثم بيّن بأن هذا هو تفسير الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وذلك في صحيحه ، كتاب التفسير ، باب : ( لا تبديل لخلق الله ) : لدين الله .. ، والفطرة : الإسلام ، ثم روى بسنده عن أبي هريرة أن رسول الله ـ صلىالله عليه وسلم ـ قال : ( ما من مولود إلاّ يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه ، أو ينصرانه ، أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تحسون فيها جدعاء ثم يقول : ( فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم )(1).
والراجح أن تفسير الآية الثانية هو ما ذكره البخاري وغيره من أن المراد بخلق الله دين الله الذي فطر الناس عليها ، حيث فسره الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك ، والسياق يدل على ذلك .
وأن الراجح في تفسير الآية الأولى ( فليغيرنَّ خلق الله ) هو يشمل المعنيين أي التغيير في فطرة الدين ، والتغير في الشكل الطبيعي للإنسان والحيوان ، وأنه على ضوء المعنى الأخير يكون التغيير في الشكل الطبيعي ، وهو أيضاً يمثل الفطرة السليمة ، وقد وضع ابن عطية معياراً رائعاً للتغيير المباح ، والتغيير غير المشروع فقال : ( وملاك تفسير هذه الآية أن كل تغيير ضار فهو في الآية ، وكل تغيير نافع فهو مباح )(2).
فعلى ضوء ذلك أن أيَّ تغيير أو تبديل في الجينات ، أو ما يترتب عليه من آثار إن كان في حدود العلاج أو منع المرض ، أو إصلاح الخلل ، أو العيب وعدم تغيير الشكل الفطري فهو جائز ، وإن كان فيه عبث بالجينات ، أو تغيير للهيئة ، أو الشكل واللون ، والطول والقصر فهو محرم .
وكل هذه الأحكام خاصة بالعلاج الجيني الجسدي الذي يكون في المستوى الأول حيث يتم معالجة أعراض المرض للفرد نفسه دون التعرض للأجيال التالية .
__________
(1) ... صحيح البخاري مع فتح الباري ( 8/512 ـ 513 )
(2) المحرر الوجيز ( 4/ 232 )(1/26)
والمستوى الثاني للعلاج الجيني هو أن يتم العلاج في جينات داخل خلايا مشيجية ، ومن هنا يمكن أن ينتقل العلاج إلى الأبناء ، فهذا العلاج غير جائز شرعاً لما فيه من غموض وعدم معرفة بالنتائج التي تترتب عليه ، ولما يمكن أن يترتب عليه من عواقب وخيمة سواء كانت من النواحي الأخلاقية ، وإلى آلية يمكن أن تعرف بها آثارها الإيجابية أو العلمية ، ولكن إذا توصل العلم إلى منع الأضرار والآثار السلبية على الإنسان والأجيال اللاحقة فإنه لا يمنع منه شرعاً ، فالمنع يدور مع الضرر المحقق ، والجواز يدور حول المصلحة ودرء المفسدة. ومع ذلك فلا أرى مانعاً من إجراء التجارب على الحيوانات إذا كان هناك أمل في الوصول إلى تحقيق نتائج إيجابية ، لأن الكون كله مخلوق لخدمة الإنسان ومسخر له ولكن بالضوابط الدينية والأخلاقية وبما لا يترتب عليه ضرر أكبر بالإنسان والبيئة . هذا والله أعلم .
مدى اشتراط الإذن في العلاج الجيني :(1/27)
تهتم الشريعة الإسلامية بإرادة الإنسان ورضاه في كل ما يخصه إلاّ ما استثنى من ذلك بدليل خاص ، ولذلك يعتبر الطبيب ملزماً بأخذ الإذن من المريض لأجل العلاج ، أو الجراحة ، أو الاختبار إذا كان عاقلاً ، وبإذن وليّ أمره إذا كان قاصراً ، أو مغمى عليه ، سواء كان الإذن مطلقاً أو مقيداً وأن يكون الإذن معبراً عنه بإحدى وسائل التعبير من النطق ، أو الكتابة ، أو الإشارة الواضحة ، وإلاّ فيكون الطبيب آثماً ، لأنه تصرف فيما يخص غيره دون رضاه ، إذ ليس له الحق في التصرف ببدنه إلاّ بإذنه ، فيكون ضامناً لو نتج عنه أي ضرر مهما بذل من جهد ، ومهما كانت نيته طيبة ، ومهما كان حاذقاً متخصصاً ، وهذا ما عليه فقهاء المذاهب الأربعة(1)، وخالفهم في ذلك ابن حزم الظاهري إذا كان الطبيب عارفاً بالطب حاذقاً(2).
__________
(1) الفتاوى الهندية ( 4/499 ) ، وجواهر الاكليل ( 2/296 ) ، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي ( 4/355 ) ، وروضة الطالبين (9/180 ) ، والإنصاف ( 6/75 ) ، ومنار السبيل ( 1/422 ) ، ويراجع : د . قيس بن محمد آل الشيخ : " التداوي والمسؤولية الطبية " ط . مكتبة الفارابي بدمشق عام 1991 (ص202 )
(2) المحلى ( 10/444 )(1/28)
والذي يظهر لنا رجحانه هو رأي جماهير الفقهاء ، لأنه يتفق مع كرامة الإنسان وحقوقه ، ويتلاءم مع مقاصد الشريعة ، ويدل على ذلك أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عاقب كل من فعل اللَدود(1)به ، لأنه لم يأذن به ، بل نهاه عنه حيث روى البخاري ومسلم بسندهما عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت : ( لددناه في مرضه فجعل يشير إلينا أن لا تلدوني ، فقلنا : كراهية المريض للدواء ، فلما أفاق ، قال : ألم أنهكم أن تلدوني ؟ قلنا : كراهية المريض للدواء ، فقال : لا يبقى في البيت أحد إلاّ لُدّ وأنا أنظر ، إلاّ العباس فإنه لم يشهدكم )(2)فالحديث يدل على أنه لا يجوز مخالفة أمر المريض ـ كقاعدة عامة ـ وأن من يفعل شيئاً من ذلك دون موافقته يستحق العقاب والتعزير ، وذلك لأن إرادة الإنسان محترمة فلا يجوز إهدارها ، وهذا ما نصَّ عليه نظام مزاولة مهنة الطب البشري وطب الأسنان السعودي ، ولائحته في المادة (21) حيث نصت على أنه : ( يجب أن يتم أي عمل طبي لإنسان برضاه أو بموافقة من يمثله إذا لم يعتد بإرادة المريض... )
ولا يستثنى من هذا المبدأ العام ، والقاعدة العامة إلاّ بعض حالات تقتضيها الضرورات منها :
1. الحالات المرضية التي يتعدى ضررها إلى الآخرين كالأمراض المعدية السارية ، والأمراض الجنسية المعدية حيث لا تحتاج إلى موافقة المريض ، لأن آثار مرضه تتجاوز إلى المجتمع ، فحينئذٍ يحل الإذن الحكومي المتمثل في قرارات الجهة المتخصصة ( كوزارة الصحة ) محل إذنه ، حيث تحدد الجهة المختصة بترتيب مستشفيات أو أقسام خاصة بتلك الأمراض ، وتوجب التبليغ عنها ، ومداواتها ومتابعتها(3).
__________
(1) 3 ) اللَدود بفتح اللام الدواء الذي يصب في أحد جانبي فم المريض وبضم اللام الفعل نفسه . انظر : فتح الباري(10/166)
(2) صحيح البخاري مع فتح الباري / كتاب الطب ( 10/166 )
(3) د . محمد علي البار : بحثه السابق في مجلة المجمع (ص572)(1/29)
2. الحالات النفسية أو العصبية الخطيرة التي قد يضر صاحبها بنفسه أو بغيره .
3. حالات الطوارئ والحوادث التي تستدعي تدخلاً طبياً بصفة فورية لإنقاذ حياة المصاب ، أو إنقاذ عضو من أعضائه وتعذر الحصول على موافقة المريض أو من يمثله في الوقت المناسب ، حيث يجب في هذه الحالات إجراء العمل الطبي دون انتظار الحصول على موافقة المريض أو من يمثله وهذا جزء من نص المادة (21) من النظام السعودي الخاص بمزاولة مهنة الطب .
وقد اشترطت القوانين الغربية بأن يؤخذ رضا المريض بعد إخباره بآثار وأضرار العلاج الطبي ، ومدى نجاحه سواء كان بالتداوي ، أو العمل الجراحي ، وأن يقوم الطبيب بشرح ذلك ، وإلاّ فيتحمّل المسؤولية(1)وقد نصت الفقرة (2) من المادة (21) على أنه : ( يتعين على الطبيب أن يقدم الشرح الكافي للمريض ، أو ولي أمره عن طبيعة العمل الطبي أو الجراحي الذي ينوي القيام به ) وقد اشترط مجمع الفقه الإسلامي في نقل الأعضاء اشتراط كون الباذل كامل الأهلية وبرضاه التام(2).
وإضافة إلى هذا الإذن من المريض لا بدّ من الإذن من وليّ أمر المسلمين المتمثل في الجهة الصحيحة المختصة بأن تأذن للطبيب مزاولة مهنة الطب ، وسماه ابن القيّم بإذن الشارع حيث ذكر بأن فعله لا بدّ أن يكون مأذوناً من جهة الشارع(3).
ضوابط العلاج الجيني :
__________
(1) د . محمد علي البار : المرجع السابق (ص573)
(2) قرار مجمع الفقه الإسلامي في دورته الرابعة ( د4/08/88 )
(3) الطب النبوي ( ص(1/30)
1ـ الجواز الشرعي مرتبط بأخذ كل الاحتياطات العلمية والتقنية والفنية والمعملية والاحترازية لتفادي كل الأضرار التي يمكن أن تترتب على العلاج الجيني وضرورة تفادي ما يترتب على الحيوانات المحورة وراثياً من الجينات الغريبة ، فهذه الشريعة الإسلامية مبنية على تحقيق المصالح ودرء المفاسد ( فأينما تكن المصلحة الحقيقية فثَمَّ شرع الله تعالى فهي عدل كلها ، ورحمة كلها ، وخير كلها ، فأي شيء فيه الضرر والقسوة ، أو الظلم والجور ، أو المفسدة والمضرة فليس من هذه الشريعة .
2ـ أن تكون المنافع المتوخاة من العلاج محققة في حدود الظن الغالب ، أما إذا كانت آثاره الإيجابية مشكوكاً فيها ، أو بعبارة الفقهاء ( مصالح موهومة ) فلا يجوز إجراؤه على الإنسان .
3ـ أن تكون نتائج العلاج الجيني مأمونة لا يترتب عليه ضرر أكبر ، فلا يؤدي إلى هلاك أو ضرر بالبدن ، أو العقل ، أو النسل ، أو النسب .
4ـ أن يكون العلاج في حدود الأغراض الشريفة ، وأن يكون بعيداً عن العبث والفوضى وذلك بأن لا يكون لأجل إثبات قوة العلم فقط دون أن يترتب عليه منافع للبشرية .
5ـ أن لا يكون العلاج الجيني في مجال التأثير على السلالة البشرية وعلى فطرة الإنسان السليمة شكلاً وموضوعاً ، وبعبارة أخرى لا يؤدي إلى تغيير خلق الله ـ كما سبق ـ لأن الله تعالى خلق هذا الكون على موازين ومقادير وموازنات ثابتة فلا يجوز التلاعب بها فقال تعالى : ( وكل شيء عنده بمقدار )(1)وقال تعالى : ( وأنبتنا فيها من كل شيء موزون )(2)وقال تعالى : ( إنّا كل شيء خلقناه بقدر )(3).
6ـ أن يكون العلاج بالطيبات لا بالمحرمات إلاّ في حالات الضرورة التي تقدر بقدرها .
__________
(1) سورة الرعد / الآية ( 8 )
(2) سورة الحجر / الآية ( 19 )
(3) سورة القمر / الآية ( 49 )(1/31)
7ـ أن لا يؤدي العلاج إلى الإضرار بالبيئة ، وإلى تعذيب الحيوان ، لأن الله تعالى وصف المجرمين الظالمين بقوله تعالى : ( وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد )(1).
8 ـ أن لا يتجاوز التعامل بالعلاج الجيني حدود الاعتدال فلا يصل إلى حدود التبذير والإسراف .
9ـ أن لا يجري أي علاج جيني على الإنسان إلاّ بعد التأكد من نجاحه بنسبة كبيرة .
10ـ أن يكون القائمون بهذه التجارب وبالعلاج الجيني من ذوي الإخلاص والاختصاص والتجربة والخبرة(2).
11 ـ أن تكون المختبرات الخاصة بالجينات والعلاج تحت مراقبة وإشراف الدولة . ، أو الجهات الموثوق بها ، وذلك لخطورة هذه الاختبارات الجينية وآثارها المدمرة إن لم تكن تحت المراقبة ، حتى إن بعض العلماء يخافون من هذه الاختبارات أكثر من مجال الذرة .
هذا والله الموفق وهو المسؤول أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم ويسدد خطانا على طريق الحق والعلم والتقدم وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين .
__________
(1) سورة البقرة / الآية ( 205 )
(2) يراجع د . محمد الروكي : "الاستفادة من الهندسة الوراثية في الحيوان والنبات " بحثه المقدم إلى الندوة الحادية عشرة للمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية (ص9)(1/32)
الفحص الطبي قبل الزواج
من منظور الفقه الإسلامي
ـ دراسة علمية فقهية ـ
بقلم :
أ . د . علي محي الدين القره داغي
أستاذ ورئيس قسم الفقه والأصول / جامعة قطر
والخبير بمجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة ، وجدة
وعضو المجلس الأوروبي الإفتاء والبحوث
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين
وبعد
مما لا يخفى أن الإسلام أولى عناية منقطعة النظير بالأسرة من حيث تكوينها وحمايتها ، ورعايتها ، وتحقيق التآلف والمحبة فيما بينها ، فبيّن أحكامها ، وفصّل فيها أكثر مما فصل في أحكام بعض الشعائر مثل الصلاة والزكاة ، حتى وصل القرآن بنفسه إلى بيان حكم امرأة تخاف النشوز من بعلها فقال تعالى : (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً)(1).
وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أهمية الأسرة في الإسلام باعتبارها اللبنة الأولى للمجتمع إن صلحت صلح المجتمع ، وإن قويت قوي المجتمع ، وإن تطورت تطور المجتمع ، وإن سعدت سعد المجتمع ، وعلى العكس إن فسدت فسد المجتمع ، وإن ضعفت ضعف المجتمع ، وإن تخلفت وتمزقت ، تخلف المجتمع وتمزق ، وهكذا .
ولذلك أحاط الإسلام الحياة الزوجية بسياج عظيم يشمل كل الجوانب النفسية والاجتماعية والإنسانية والصحية ، وهيأ لتنشئتها نشأة صحية ومتوازنة كل عناصر النجاح حيث أرشد إلى كيفية الاختبار ، ومعايير الاختبار ، وكيفية الحفاظ على العلاقة الزوجية ، وبيان سبلها وطرقها النفسية والاجتماعية والعملية .
__________
(1) سورة النساء/الآية 128(1/1)
وجعل الإسلام من أهم مقاصد الشريعة في الزواج الألفة والمودة والمحبة والرحمة والستر ، لخصها بكلمة عظيمة وهو (لستكنوا إليها) بحيث يصبح كل واحد من الزوجين سكناً حقيقياً للآخر ، وسكنى نفسية وستراً ولباساً ، وذلك لبقاء نسل الإنسان محفوظاً ، ومحفوفاً بمنتهى وسائل الحماية ، والعواطف ، ولتحقيق هذه المقاصد العظيمة شرع الإسلام كل ما يحققها ويكون وسيلة لأدائها ، ولذلك شرع النظر إلى المخطوبة ثلاث مرات ، بل أمر به ، ودعا إلى اختيار الولود الودود ، وإلى التخيير للنطفة ، واختيار سليمة البدن والعقل قوية البنيان ، صحيحة الجسم التي تنجب أولاداً أصحاء وهكذا الأمر تماماً بالنسبة للمرأة التي عليها أن تختار شريك حياتها بالمواصفات المطلوبة ، وملاحظة أن العرق دساس ، وغير ذلك مما يأتي تفصيل بعضها في هذا البحث .
ومن هذا الباب يأتي موضوع الفحص الطبي قبل الزواج وقبل كتب الكتاب ، حيث نحاول الإجابة عن مجموعة من الأسئلة حوله ، وهي : هل إن الفحص الطبي قبل الزواج يتفق مع مقاصد الشريعة ، ويتسق معها ويتناسق ويتناغم مع أهداف الزواج؟ وألا يتعارض مع القيم والمبادئ الإسلامية ؟ وما موقف الإسلام من العدوى ؟ وهل يتعارض مع التوكل والإيمان بالقضاء والقدر ؟ وما فوائد هذا الفحص ، وسلبياته ؟ وهل هذا الفحص لكل الأمراض؟ وما هي الأمراض الوراثية التي يمكن الكشف عن حاملها قبل الزواج ؟ وما هي انواع الفحوصات المطلوبة ؟ وهل هناك علاقة بين الأمراض والزواج من الأقارب؟ وأخيراً ما موقف الفقه الإسلامي من الفحص الطبي قبل الزواج ، ومشروعيته ، أو إلزامه؟ وما هي البدائل عن الفحص الطبي قبل الزواج ؟ ومن الذي يتحمل تكاليف مصاريف الفحص الطبي لكلا الخاطبين ؟(1/2)
هاذ ما سنحاول الإجابة عنه وعن غيره ، والخوض في تفاصيل الفحص الجيني بقدر ما يسمح به البحث ، من خلال الاعتماد على المبادئ العامة والقواعد الكلية ، ومقاصد الشريعة ، وفقه المآلات ، وسد الذرائع ، وما ذكره الفقهاء في مجال العيوب العضوية ، أو الأمراض المعدية من حيث ثبوت حق الفسخ للطرف الآخر ، سائلين الله تعالى أن يلهمنا الصواب ، ويعصمنا من الزلل والخلل في العقيدة والقول والعمل ، إنه حسبنا ومولانا ، فنعم المولى ونعم الموفق والنصير .
كتبه الفقير إلى ربه
أ.د. علي محيى الدين القره داغي
الدوحة غرة جمادى الأولى 1425هـ
التعريف بالفحص الطبي قبل الزواج :
فالمراد بالفحص لغة هو : الكشف ، يقال : فحص الطبيب أي كشفه ، وحسه ليعرف ما به من علة ، وفحص الكتاب ، أي دقق النظر فيه ليعلم كنهه(1).
والطبي ، نسبة إلى الطب ، وهو من طبّ فلان طباً أي مهر ، وحذق ، وطب المريض أي داواه وعالجه(2).
والمراد بالفحص الطبي هو القيام بالكشف على الجسم بكل الوسائل المتاحة (من الأشعة ، والكشف المختبري والحص الجيني ونحوها) لمعرفة ما به من مرض .
__________
(1) القاموس المحيط ، ولسان العرب ، والمعجم الوسيط ، مادة (فحص)
(2) المصادر السابقة مادة (طبب)(1/3)
وهنا يتم هذا الفحص عند الرغبة في الزواج وقبل كتب الكتاب ، وعقد النكاح ، وذلك لمعرفة ما لدى الزوجين من أمراض خطيرة ، وقد يتم بعده ، تقول الدكتورة مينا نيازي ، خبيرة الوراثة البشرية : قد يتم هذا الفحص قبل الزواج ولا سيما إذا كان الزوجان من الأقارب ، أو بعد الزواج مباشرة إذا ظهرت مشكلة تتعلق بالإنجاب ، أو قبل الحمل أو بعده في حالة وجود تأريخ وراثي عائلي إيجابي لبعض الأمراض في شجرة الوراثة العائلية ، أو في حالة الإجهاض المتكرر ، وعقب الولادة مباشرة إذا كان المولود يعاني من تشوهات وراثية ظاهرية معيبة ، مثل الصغر الملحوظ في حجم الرأس أو الاستسقاء الدماغي أو متلازمة دوان (الطفل المنغولي) أو الشفة الأرنبية ، او الأذن الخفاشية وغيرها من التشوهات غير المألوفة أو النادرة ، وكذلك إذا تأخرت البنت عن البلوغ ، هنا يجب إجراء الفحص الوراثي ، فهذه الفحوصات قبل الزواج تجنب الكثير من المشاكل المتعلقة بالأمراض الوراثية ، التي تمثل منطقة الشرق الأوسط النسبة العلى ، مثل التخلف العقلي الوراثي بأنواعه ، وأمراض فقر الدم التحللي الوراثي ، ومن أشهرها تكور كرات الدم الحمراء ومرض الثلاسيما والأنيميا المنجلية ، ونقص إنزيم جلوكوز 6 فوسفات ، وهذه المجموعة من الأمراض تؤدي إلى سرعة تكسير كرات الدم الحمراء مما يؤدي إلى الإصابة بنوبات متكررة من الانيميا الحادة المعروفة بفقر الدم التحللي ، وتؤكد د.(1/4)
نيازي ان تقديم النصيحة للمقبلين على الزواج بضرورة إجراء الفحص قبل الزواج تأتي عندما يكون هناك تأريخ وراثي لشجرة العائلة أو النسب لدى كل من العروسين إيجابي لبعض الأمراض الوراثية بصفة سائدة او متنحية ، حيث ترتفع نسبة ظهورها في الأنباء ، لأن كلا من الزوجين يحمل الصفة المرضية وراثياً ، وفي حالة تجميعهما معاً (أي الصفتان المرضيتان) فقد يظهر المرض في الأنباء بصورة مركزة مؤكدة الحدوث ، وتعتبر نتائج الفحص مؤكدة وموثقة من واقع الفحص الدقيق الذي يتطور يوماً بعد يوم ، وتتحدد خطة العلاج بعد تشخيص المرض(1).
أنواع الأمراض والعلاج بالنسبة للفحص قبل الزواج :
هناك أمراض معدية ، وأمراض غير معدية ، فالأمراض المعدية مثل : السل ، والجدري ، والتهاب الكبد الوبائي ، ومرض نقص المناعة المكتسبة (الآيدز) ونحوها . وأمراض غير معدية مثل أمراض السكر والقلب ونحوهما .
ومن جانب آخر فإن هناك أمراضاً وراثية تنتقل من خلال الجينات ، وهي ثلاثة أنواع :
1. أمراض الدم الوراثية وعلى رأسها فقر الدم المنجلي(الانيميا المنجلية) و فقر دم البحر المتوسط .
2. الأمراض الإستقلابية ، وهي امراض متعددة تتجاوز 400 مرض منها
3. أمراض متفرقة حسب العوائل وأمراضها حيث تختلف من شعب لآخر ، من عائلة لأخرى .
__________
(1) انظر : موقع : باب على الانتريت(1/5)
والعلاج كذلك أنواع منها العلاج العادي المتمثل في الأدوية ، والعمليات الجراحية ، ونحوهما ومنا العلاج الجيني(1).
الأمراض التي تؤثر في الزواج :
الأمراض التي ينبغي الابتعاد عن صاحبها هي :
1. الأمراض التي تنتقل إلى الآخر مثل الآيدز والسل ، والتهاب الكبد الوبائي ...فهذه الأمراض يجب فيها شرعاً ما يسمى بالحجر الصحي .
__________
(1) يراجع لهذا الموضوع والمسائل المتعلقة به : الكتاب الحادي عشر للمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية المعاصرة ، ثبت كامل لأعمال ندوة (الوراثة ، والهندسة الوراثية ، والجينوم البشري ، والعلاج الجيني ، رؤية إسلامية) المنعقدة في الكويت في الفترة 23 ـ 25 جمادى الآخرة 1419هـ الموافق 13 ـ 15 اكتوبر 1998 ، الجزء 2 ، وبالأخص بحوث : د. محمد علي البار و. محسن بن علي الحازمي و.عبدالله محمد عبدالله ود.محمد الزحيلي ود.ناصر عبدالله الميمان ود. نجوي عبدالمجيد ود.محمد رأفت عثمان ود. حمداني ماء العينين ود.محمد عبدالغفار الشريف ، ويراجع : د.علي القره داغي : العلاج الجيني من منظور الفقه الإسلامي ، بحث مقدم إلى ندوة الانعاكسات الأخلاقية ، المنعقدة بجامعة قطر في الفترة 20 ـ 22 اكتوبر 2001 ، ود. حسان حنحوت : دور البصمة الوراثية في اختبارات البنوة ، بحث مقدم إلى ندوة الكويت المذكورة آنفاً ، ومصادر أخرى تذكر في وقتها .(1/6)
2. الأمراض الوراثية التي أصابت الطرفين (الخاطب والمخطوبة) أما إذا كانت الإصابة بمرض وراثي لأحدهما فإن نسبة انتقال المرض إلى الأولاد قليلة ، أو نادرة بإذن الله تعالى ومع وجود الإصابة بالمرض لدى الطرفين فإن الحكم الفقهي هو كراهة الإقدام على هذا الزواج ، ولا أعتقد أنه يصل إلى الحرمة إلاّ في مرض الآيدز ونحوه ، لأن انتقال المرض وإن كان حسب الظن الغالب ، لكنه ليس قطعياً كما يقول الأطباء ولكن في حالة إقدامها على هذا الزواج يكونان على علم ومعرفة بهذا الاحتمال الراجح ، وبالتالي فإن هذا العلم به يقوي من ترابطهما ، والبحث عن علاج طفلهما في أبكر وقت مناسب وذلك بفحص البويضة الملقحة لمعرفة ما إذا كانت مصابة أو سليمة ، والأجدر هو إتمام ذلك عن طريق زراعة الأنابيب التي تكون خارج الرحم في البداية ، بحيث إذا ظهر أنها مصابة لن تغرس في الرحم ، حيث إن هذا العمل ليس محرماً ، أما إذا كانت سليمة فتغرس ، أما إذا تركت البويضة الملقحة في الرحم ، ثم اكتشف أنها مصابة فإن حكمه الشرعي يختلف من قبل 42 إلى ما بعدها على تفصيل ليس هذا محله(1).
3. الأمراض التي تؤثر على قدرة أحد الزوجين في القيام بدوره بالشكل المطلوب ، وهذه الأمراض تشمل الأمراض النفسية ، والأمراض العضوية .
فمن الأمراض العضوية النفسية الخطيرة مرض انفصام الشخصية ، وإن لم يصل إلى حد الجنون ، ومرض الاكتئاب المزمن ، ونحو ذلك .
ومن الأمراض العضوية ما يتعلق بالأعضاء التناسلية للطرفين ، وقد تنبه إلى ذلك فقهاؤنا الكرام منذ زمن مبكر ـ كما سيأتي إن شاء الله ـ ومن هنا ما يتعلق ببعض الأعضاء ، بحيث يعيق أحد الزوجين عن أداء ما عليه ، مثل الإصابة في العمود الفقري حيث تعيقه عن أداء الحقوق الزوجية على الشكل المطلوب .
مدى إمكانية علاج هذه الأمراض :
__________
(1) يراجع : مجلة مجمع الفقه الإسلامي الدولي : ع 8 ج3 ص 9 وما بعدها ، ع 6 ج3(1/7)
هناك بعض الأمراض قابلة للعلاج ، وأخرى غير قابلة من حيث الواقع الحالي اليوم ، وحتى الأمراض الوراثية منها ما هو قابل للعلاج الجيني ، ومنها ما هو غير قابل في الوقت الحاضر ، والطب في هذا المجال يتقدم ، ولذلك نترك التفصيل فيه ، والذي يهمنا أن ما أمكن علاجه علاجاً شافياً ـ بإذن الله تعالى ـ وعولج فهو يلحق بعدم وجوده...
فوائد الفحص الطبي قبل الزواج وأهدافه :
لاشك أن هناك فوائد كثيرة للفحص الطبي قبل الزواج ، من أهمها ما يأتي :
1. معرفة مدى قدرة الخاطب ، والخطوبة بدنياً على إتمام الزواج .
2. الاطلاع على وجود الأمراض المعدية الموجودة في كلا الطرفين أو عدم وجودها ، حيث إذا تبين خلوهما عن هذه الأمراض فإنهما يكونان أكثر اطمئناناً ، وإذا تبين وجودهما فيهما أو في أحدهما فإن الخاطبين ينظران في الخيارات الأخرى ، والبحث عن شريك ، أو شريكة الحياة غير المصاب .
3. الكشف عما في أحدهما ، أو كليهما من عقم ، أو عجز جنسي كامل أو ناقص ، ومن الأمراض التناسلية ، والوراثية مثل السكر ...
4. الكشف عن الأمراض النفسية المؤثرة في العلاقة بين الطرفين .
5. الكشف عن أمراض لا تمنع ، ولكن تؤثر في الحمل والولادة ، والذرية مثل عامل الريسوس Rh ومرض القطط والكلاب .
6. حماية الزوجين من الأمراض المعدية الخطيرة قبل الزواج حيث تنتقل بعض هذه الأمراض عن طريق الاتصال الجنسي مثل الآيدز ، وبعضها بمجرد المجاورة والاحتكاك...
7. الحد من انتشار الأمراض المعدية ، والتقليل من ولادة أطفال مشوهين ، أو معاقين بقدر الإمكان .
8. تحقيق الاطمئنان والسكنى من خلال معرفة الطرفين بخلوهما عن الأمراض المعدية ، والأمراض الوراثية .
9. العلاج المبكر لهذه الأمراض ما دام ذلك ممكناً(1).
10.المحافظة على الزواج نفسه ، وعلى كيان الزوجية ، حيث إن كيانه قد ينهدم إذا فوجئ أحدهما بالإصابة بهذه الأمراض .
__________
(1) المراجع السابقة(1/8)
11.المحافظة على صحة النسل ، وعلى صحة الذرية ، وهذا الهدف هو من الضروريات ، والكليات الست .
سلبيات الفحص الطبي قبل الزواج ومحاذيره :
هناك سلبيات ومحاذير للفحص الطبي قبل الزواج ، يمكن تلخيص أهمها فيما يأتي :
وقوع الزوجين أو أحدهما في حالة من القلق والاضطراب والاكتئاب ، وربما اليأس ، مثل ما ذكر الأستاذ الدكتور حسان حتحوت : أنه هل في صالح الإنسان أن يعلم عن نفسه أموراً نعتبرها الآن في حوزة المستقبل ، وما شعوره إن علم أن سيموت في حوالي سن الأربعين ، أو أنه سيصاب بمرض شلل العضلات الذي يظهر في حوالي الخمسين...فليس هذا رجماً بالغيب بطبيعة الحال ولا ادعاء بمعرفة المستقبل ، ولكنه كما ترى الهلال في أول الشهر فتقول : إنه سيكون بدراً بعد اسبوعين ، فقراءة الجين حاضر معلوم ينبئ بقادم محتوم ،وتوقع البلاء خير من انتظاره كما تقول الحكمة العربية ...وبالتالي يظل المريض حائراً أيتزوج أو يحجم؟ أو يتجنب أم يمتنع ؟ أو يهلع أم يطمئن؟(1).
إضافة إلى خطورة تعميم قراءة الجينوم لحالة التوظيف ، والتأمين ، وبالتالي يطبق الدنيا ظلاماً على من اكتشف جيناته ، وخطورة وصول المعلومات الجينية المسجلة على قرص الكومبيوتر إذا سطا عليه المتطفلون من الناس أو الشركات أو الحكومات .....
وكذلك خطورة إفشاء هذا السر من خلال الفحص الطبي لأجل التفكير في الزواج ، فمن الذي يضمن الحفاظ على هذه الأسرار ، ولا سيما فإن الحديث يثار كثيراً عندما لا يتم الزواج ، وتثور الشبهات الأخلاقية ، مما يدعو إلى بيان أن السبب هو المرض وليس الجانب الأخلاقي إضافة إلى مشاكل كثيرة ذكرها الباحثون(2)والتكاليف المادية الباهضة ، وغير ذلك .
__________
(1) د. حسان حنحوت في بحثه : قراءة في الجينوم البشري ص 7 ، ود محمد عبدالغفار الشريف ، بحثه السابق ، ود. محمد علي البار ، بحثه السابق ، بشيء من التصرف .
(2) المراجع السابقة أنفسها(1/9)
الأمراض المنتشرة في العالم الإسلامي :
هناك أمراض وراثية كثيرة في عالمنا الإسلامي ، ولكن لم يكتشف منها إلاّ القليل بسبب عدم وجود التقنيات المطلوبة ، وشح المعلومات الدقيقة والموثقة عن هذه الأمراض ، ولكن بشكل عام فهناك أمراض وراثية منتشرة ، منها أمراض الدم الوراثية (فقر الدم المنجلي ، وفقر دم البحر الأبيض المتوسط ، وأنيميا....) ومنها أمراض الجهاز العصبي كمرض ضمور العضلات الجذعي ، ومنه أمراض التمثيل الغذائي المعروفة بالأمراض الاستقلابية التي تنتج بسبب نقص أنزيمات معينة ، ومنها أمراض الغدد الصماء وبالأخص أمراض الغدة الدرقية(1).
تقسيم الأمراض من حيث الوراثة :
فقد قسم الأطباء أسباب العيوب الخلقية والأمراض الوراثية إلى أربعة أقسام رئيسية :
القسم الأول : هي الأمراض المتعلقة بالكرموسومات (الصبغيات) وهذا النوع في العادة ليس له علاقة بالقرابة، و أسباب حدوثها في الغالب غير معروفه. ومن اشهر أمراض هذا القسم متلازمة داون (او كما يعرف عند العامة بالطفل المنغولي) . و متلازمة داون ناتجة عن زيادة في عدد الكروموسومات إلى 47 بدل من العدد الطبيعي 46.
القسم الثاني : من العيوب الخلقية و الأمراض الوراثية تلك الأمراض الناتجة عن خلل في الجينات. ويتفرع من هذا القسم أربعة أنواع من الأمراض :الأمراض المتنحية, والأمراض السائدة , و الأمراض المرتبطة بالجنس المتنحية و الأمراض المرتبطة بالجنس السائدة .
__________
(1) يراجع : المصادر السابقة ، وموقع الوراثة على الانترنيت(1/10)
الأمراض المتنحية هي أمراض تصيب الذكور و الإناث بالتساوي ويكون كلا الأبوين حاملاً للمرض مع أنهما لا يعانيان من أي مشاكل صحية لها علاقة بالمرض. وفي العادة يكون عندما يكون بين الزوجين صله قرابة.ولذلك تنتشر هذه الأمراض في المناطق التي يكثر فيها زواج الأقارب كبعض المناطق في العالم العربي . ومن اشهر هذه الأمراض أمراض الدم الوراثية، خاصة مرض فقر الدم المنجلي (الأنيميا المنجلية) وفقر دم البحر المتوسط (الثلاسيميا ) و أمراض التمثيل الغذائي بأنواعها.
أما الأمراض السائدة فإنها في العادة ليس لها علاقة بالقرابة, وتتميز بإصابة أحد الوالدين بنفس المرض واشهر أمراض هذا النوع متلازمة مارفان.و مع أن هذا النوع من الأمراض ليس له علاقة بالقرابة, ولكن عند زواج اثنين مصابين بنفس المرض (وقد يكون بينهما صلة نسب ) فقد تكون الإصابة في أطفالهم اشد او اخطر وذلك لحصول الطفل على جرعتين من المرض من كلا والديه.
والنوع الثالث من أمراض الجينات هي الأمراض المرتبطة بالجنس المتنحية. وهذا النوع من الأمراض ينتقل من الأم الحاملة للمرض فيصيب أطفالها الذكور فقط. واشهر هذه الأمراض مرض نقص خميرة G6PD (أو ما يسمى بأنيميا الفول) وهذا النوع في العادة ليس لها علاقة بزواج الأقارب، ولكن المرض قد يصيب البنات إذا تزوج رجل مصاب بالمرض بإحدى قريباته الحاملة للمرض.
النوع الرابع و الأخير هو الأمراض المرتبطة بالجنس السائدة هي أنواع من الأمراض النادرة والتي في العادة تنتقل من الأم إلى أطفالها الذكور و الإناث, وقد يكون شديداً في الذكور مقارنه بالإناث.(1/11)
أما القسم الثالث من العيوب الخلقية و الأمراض الوراثية هي الأمراض المتعددة الأسباب ومعظم الأمراض تدخل تحت هذا القسم, فمثلا مرض السكر, وارتفاع ضغط الدم, والربو,و الظهر المشقوق(الصلب المشقوق), و الشفة الأرنبية وغيرها من الأمراض كلها تدخل تحت هذا الباب . إن الأسباب وراء هذه الأمراض في العادة غير معروفه ولكن جميع هذه الأمراض لا تحدث إلا في الأشخاص الذين لديهم استعداد وراثي وتعرضوا إلى سبب ما في البيئة المحيطة بهم. في العادة ليس لزواج الأقارب علاقة في حدوث هذه الأمراض ولكن إذا تزوج شخصان مصابان بأي نوع من هذه الأمراض يزيد من احتمال إصابة الأطفال مقارنه بإصابة احد الوالدين فقط مصاب بالمرض.
القسم الرابع و الأخير من العيوب الخلقية و الأمراض الوراثية هي مجموعه من الأمراض المتفرقة والتي يصعب حصرها ومن اشهر هذه الأمراض, الأمراض المرتبطة بالميتوكندريا والتي تنتقل من الأم فقط إلى بقيه أطفالها(1).
لغة الإحصائيات :
يتوقع إحصائيا أن يصاب طفل واحد من كل 25 طفل بمرض وراثي ناتج عن خلل في الجينات أو بمرض له عوامل وراثية خلال الخمس وعشرين سنه من عمره .و يتوقع أن يصاب طفل واحد لكل 33 حالة ولادة لطفل حي بعيب خلقي شديد. كما يصاب نفس العدد بمشكلات تأخر في المهارات و تأخر عقلي. وتسعه من هؤلاء المصابين بهذه الأمراض يتوفون مبكرا أو يحتاجون إلي البقاء في المستشفيات لمده طويلة أو بشكل متكرر ولها تبعات مالية واجتماعيه و نفسيه . وهذه الأعداد لها تبعات عظيمة و معقدة على الأسرة وبقيه المجتمع(2).
مدى قبول الفحص الطبي بين الشباب ؟
__________
(1) موقع : وراثة على الانترنيت والمصادر السابقة
(2) المصادر السابقة(1/12)
تبين الاحصائيات ، والاستبيانات حول موضوع الفحص الطبي قبل الزواج خلافاً شديداً في الآراء ، وانقسام المجتمع حول الموضوع بين مؤيد ، ورافض ، ومتوقف ، ومنفصل ، وهنا نذكر بحثاً ميدانياً في هذا المجال ، فقد قامت الباحثتان منيرة العصيمي ورويدة نجار من الإشراف التمريضي بمديرية الشؤون الصحية بمدينة جدة بالسعودية بإجراء دراسة على المقدمين على الزواج لمعرفة الآراء والمقترحات حول افحص الطبي قبل الزواج ، وقد اختيرت عينة عشوائية مكونة من مائة وسبعين فرداً منهم 66 ذكراً و 104 إناث وبأعمار مختلفة لتدوين آرائهم من خلال استبيان ، وقد أكد 69% من العينة أهمية الفحص لتجنب أمراض العصر ، وذكر 52% منهم أنهم مروا بتجربة تعرض أحد أقرابهم أو معارفهم لمشاكل صحية لعدم التوافق بين الزوجين صحياً وعدم إجراء فحص قبل الزواج ، وأقر 80% من العينة بإمكانية الانفصال عن مخطوبته أو مخطوبها إذا اكتشفوا عدم التوافق صحياً ، وقال 73% منهم أنهم لا يعرفون رأي الدين في الموضوع ، أما النسبة الباقية والتي تمثل 3.26% فذكرت الحديث النبوي الشريف (تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس) ، وأكد 39% من العينة بأن سبب إهمال المجتمع لهذا النوع من الفحص يرجع إلى أسباب اجتماعية ، وقال 34% منهم بأنه يرجع إلى أسباب اجتماعية ، اقتصادية ، ثقافية ، فالبعض منهم يرفضها جهلاً بأهميتها ، وفوائد تطبيقها ، والبعض الآخر يجد صعوبة في إجرائها ، حيث إن سعر هذا النوع من الفحوصات يكلف ما يقارب مبلغ 2000 ريال للشخص الواحد بالمستشفيات الأهلية ، والبعض الآخر يعتبر هذا النوع من الفحص كشفاً لأمور شخصية ربما يرفضها الخاطب أو يرفضها أهل المخطوبة .(1/13)
وعن كيفية معالجة المجتمع التقصير الحاصل في موضوع الفحص قبل الزواج ، أفادت الآراء المكتوبة حسبما ذكر بالاستبيان أن تكون بتوعية المواطنين ثقافياً وطبياً وعمل ندوات ومطويات عبر الإعلام ، وفتح عيادات في جميع المستشفيات لهذا الغرض ، وتسهيل إجراءات الفحص ، ومراعاة شعور المراجعين نظراً لحساسية الموضوع وتوعية الشباب أثناء المراحل الدراسية ، وأن يكون الفحص إلزامياً قبل عقد الزواج ، ووضع تسهيلات من قبل وزارة الصحة بالفحص المجاني لكل من هو مقبل على الزواج .
التشريعات الصادرة بشان الفحص الطبي قبل الزواج :
وقد سنت بعض الدول العربية تشريعات ،و أنظمة لتطبيق الفحص الطبي قبل الزواج إجبارياً مثل الأردن التي سنت قانوناً بإلزام الراغبين في الزواج بإجراء الفحص الطبي ، واختيارياً مثل المملكة العربية السعودية ، والبحرين ، وغيرها ، كما أوصت جامعة الدول العربية بسن تشريعات تخص هذا الجانب نظراً لأهميته ، وخطورة آثاره إن ترك الحبل على الغارب .
كيفية الفحص وأنواعه :
هناك أنواع كثيرة للفحص الطبي ، وكشف الأمراض ، ومن أهمها مجال الفحص الطبي للراغبين في الزواج من الجنسين :
1-الفحص الكشفي عن مرض فقر الدم المنجلي.
2- الفحص للكشف لإعتلالات الهيموغلوبين مثل الثلاميا وأمراض الدم الاخرى .
3- اختبار أنزيم (G6BD) لكشف أمراض الدم الانزيمية عند وجود تاريخ عائلي للمرض أو مؤشرات طبية داله عليه .
4- الفحص الكشفي لاختلال سلاسل صبغة الهيموغلوبين (الثلاسيميا) عن طرق التحليل لعناصر الكبد وتقدير نسبة صبغة الهيموغلوبين A2&F .
5-اختبار نشاط عامل التخثر الثامن والتاسع للكشف عن الهيموفلايا (أ ب) عند وجود تاريخ عائلي للمرض أو مؤشرات طبية دالة عليه .
6- اختبار (RPR) للكشف عن مرض الزهري وفحص (TPHA) لتأكيد النتائج الإيجابية .
7-الفحص الكشفي (والتأكيدي إذا لزم الأمر) عن فيروس نقص المناعة المكتسب (AIDS) .(1/14)
8-اختبارات فحص التهابات الكبد الفيروسية بنوعيها (C ، B)(1).
9- الفحص الجيني الذي سيأتي تفصيله فيما بعد .
هل إتمام هذه الفحوصات يعني سلامة الزوجين من الأمراض ؟
إذا تمت هذه الكشوفات المختبرية والجينية فإن النتائج في الغالب تدل على السلامة بوجه عام ، أو بعبارة الفقهاء (حسب الظن الغالب) أما القطع فبعيد ، وبالأخص في مجال الأمراض الوراثية ، وذلك لأن هناك حوالي ثلاثين ألف جين لم تعرف بعد ولم تكتشف خصائصها .
ومن جانب آخر فإن هناك أمراً آخر بجانب الفحص الطبي له دور عظيم ـ بعد الله تعالى ـ في إنجاب ذرية سليمة وصالحة ، وهو متابعة برامج وخطط لتفادي الأمراض والعيوب الخلقية بشكل عام ، ومن أهمها التخطيط الصحيح للحمل وتناول المرأة حمض الفوليك لتفادي عيوب الأنبوب العصبي الذي يصيب طفلاً واحداً من كل ألف حالة ولادة وتؤدي إلى شلل الأطراف السفلى ، ومشاكل في الجهاز الهضمي ، والمسالك البولية ، كذلك ضرورة قيام المرأة المصابة بالسكر ، وضغط الدم المتابعة مع الطبيبة قبل الحمل وبعده ، والكشف على المولود حينئذٍ للتأكد من خلوه من الأمراض وإجراء تحليل لهرمون الغدة الدرقية ، والأمراض الأخرى .
تقسيم الفحوصات من حيث الرجل ، والمرأة الراغبين في الزواج
وهناك فحوصات تجرى للرجل ، وأخرى للمرأة كالآتي :
تحاليل المعمل (للرجل):
1 ـ فحص البول والبراز وصورة الدم الكاملة وسرعة الترسيب، وهذه الاختبارات تظهر نصف أمراض الانسان (تقريباً).
2 ـ تحليل المني عند الرجل، بعد ما فيه من خلايا المني، التي يجب ألا تقل عن مائة مليون في كل سنتيمتر مكعب (100مليون/ سم3).
وإذا قلت عن 30 مليون/ سم3، فتدل قلتها على عيب في الهرمونات، يجب علاجه قبل إتمام الزواج.
__________
(1) المصادر السابقة ، وموقع الوراثة ـ، ويبدو أنه موقع علمي للملكة العربية السعودية ، لأنه يتحدث عن الفحص الطبي فيها .(1/15)
وتتأثر خلايا المني (عدداً وشكلاً ونوعاً) بثلاثة هرمونات تأتي من الغدة النخامية Petuitary ، وهرمون رابع من الخصية. ولذلك تحدد نسبة الهرمونات.
3 ـ فحص البروستاتا، بتحليل السائل المعصور من البروستاتا، لعلاج ما فيه من أمراض قبل الزواج.
وإذا تم الزواج قبل علاج البرستاتا، ينقل الرجل إلى امرأته ما عنده من أمراض .
4 ـ مرض السكر، هو أخطر الأمراض الوراثية. ولا يصح أن يتزوج مريض السكر امرأة مريضة بالسكر، لأن طفلهما سيكون أكثر تعرضاً للإصابة بهذا المرض الوراثي الخطير. وتظهر الأمراض الوراثية في الأطفال المولودين حسب نسب حسابية معروفة محددة ثابتة .
ومن الخطأ أن يطلب إنسان الاكتفاء بتحليل نسبة السكر عنده صائماً (السكر صائماً)، بل يجب تحديد نسبة السكر بعد الأكل بساعتين، فالاختبار الثاني (بعد تناول السكر أو الطعام) هو الأهم في كشف مرض السكر وتحديد نسبته.
5 ـ فحص الكبد والكلى والقلب قبل الزواج، لعلاج أمراضها.
6 ـ اختبار الزهري (فاسرمان)، لعلاجه إن كان المرض موجوداً.
7 ـ تحديد نوع عامل الريسوس Rh ، لتجنب عواقبه في الأطفال المولودين بعد أول طفل.
تحاليل المرأة:
1 ـ تختبر المرأة في المعمل الاختبارات العامة (الزهري والبول والبراز وصورة الدم الكاملة وسرعة الترسيب). وتحديد نسبة الهرمونات.
2 ـ واختبار عامل الريسوس Rh في الدم هو أهم اختبار للمرأة، لأنه يؤثر في الحمل، وفي حياة أولادها.
وإذا كانت المرأة سلبية (Rh-) كان حملها الأول طبيعياً عادياً سوياً. ولكن يجب عليها (إن كانت سلبية) أن تحقن بالدواء المضاد Anti-D في أول وضع، حتى لا تحدث عندها مضاعفات Rh-Ve.
وإذا لم تحقن المرأة السلبية هذه الحقنة Anti-D في الوقت المحدد (خلال 48 ساعة من الولادة)، فسوف يحدث عندها إجهاض متكرر بعد أول حمل. ولن ينفعها علاج.(1/16)
ولكن حين تحقن المرأة السلبية (سلبية Rh) بهذه الحقنة في وقتها المحدد، تحفظ الأطفال القادمين التالين (الأطفال الثاني والثالث والرابع والخامس... إلخ) من حدوث تكسر كرات الدم الحمر مما يتلف خلايا مخ الطفل.
3 ـ ومن الاختبارات الخاصة بالمرأة اختبار توكسوبالزموزس الخاص بمرض القطط والكلاب. وتصاب المرأة بالإجهاض إذا أصابها هذا المرض.
4 ـ وقد يعمل اختبار بالموجات الصوتية للرحم والمبيض وقناتي البيض(1).
الفحص الطبي الجيني :
بين القرآن الكريم بأن الجنين يتكون من نطفة متكونة من الحيوان المنوي ، والبييضة فقال تعالى : (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج)(2)والمشج هو الخلط بين شيئين ، حيث يقول اللغويون : 0المشج ، والمشيج : كل شيئين مختلطين ....وجمعه أمشاج)(3).
__________
(1) المصدر : البلاغ كوم ، وموقع : ايجبتي على الانترنيت
(2) سورة الإنسان / الآية 2
(3) المعجم الوسيط (2/870) ويراجع لسان العرب ، والقاموس المحيط مادة (مشج)(1/17)
وقد أثبت العلم الحديث تأكيداً لما جاء في القرآن الكريم أن النطفة تتكون فعلاً من 46 كروموسوماً (أي صبغياً ، أو جُسيْماً ملوناً) 23 منها من الحيوان المنوي للأب ، و 23 منها من البيضة للأم(1)، وأن هذه الجسيمات الملونة (الكرموسومات) هي المسؤولة عن نشاط الخلية ، وتدبير أمورها ، فهي العقل الموجه الحاكم على الخلية ،و أنها على صغرها ودقتها ـ حيث لا تخضع حتى لمقياس الأنجستروم (واحد على البليون من المتر) تحمل أسرار التكوين ، وأسرار الوراثة ، وأسرار الخلية التي تختلف من واحدة إلى أخرى ، حيث إن لكل خلية أسرارها التي لا تشاركها بقية الخلايا ، وإن كانت تجاورها ، فالخلية الشفافة في قرنية العين تختلف في أسرارها وتكوينها عن الخلية الأخرى ، وهكذا(2).
__________
(1) يراجع : د.محمد علي البار : خلق الإنسان بين الطب والقرآن ص 124 ،، ود.على القره داغي : العلاج الجيني من منظور الفقه الإسلامي ، بحث مقدم إلى ندوة الانعكاسات الأخلاقية للعلاج الجيني المنعقدة في جامعة قطر 20ـ22 اكتوبر 2001 ود. محمد عبدالغفار الشريف : حكم الكشف الإجباري ، منشور في في كتاب المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية المعاصرة ، ثبت كامل لأعمال ندوة الوراثة والهندسة الوراثية ...بالكويت 1419هـ ص 962 ، ود. سعد الدين مسعد هلالي : البصمة الوراثية وعلاقتها الشرعية ط.جامعة الكويت ص 28 ، ود. دانييل كيفلس ، وليري هود : الشفرة الوراثية للإنسان ، ترجمة د.أحمد مستجير ص 217 ، وجميع بحوث الندوة الوراثية الهندسية التي عقدت بالكويت 13ـ15 اكتوبر 1998
(2) المراجع السابقة(1/18)
وهذه الجسيمات الملونة أو الصبغيات (الكروموسومات) تظهر على شكل 23 زوجاً ، أي كل واحدة ملصوقة بالأخرى ، أو على التعبير القرآني الدقيق (من نطفة أمشاج) حيث أتى اللفظ القرآني بصيغة الجمع ، أي ليس شيئاً واحداً ، وإنما مجموعة من الأشياء المخلوطة من الأب والأم ، أصبح 22 عضواً منها مسؤولاً عن بنيان الجسم ، وصفاته ،وواحد منها مسؤولاً عن تعيين الجنس ذكراً أو أنثى وأن هذا الزوج من الكروموسومات تختلف في الذكر حيث يتكون من x وy في حين هو متماثل في الأنثى x وx وهذه التفرقة الطبيعية من حيث الكرموسوم بين الرجل والمرأة تظل داخلة في ملايين من الخلايا التي توضح تلك الحقيقة الفاصلة بين الجنسين في خلايا الجلد ، وخلايا الشعر، وخلايا الفم ، وخلايا الدم والمخ والعظام ، وفي كل ذرة من ذرات تكوينه ، وفي هرموناته المختلفة ، وفي تشريحه الجسماني ناهيك عن الجهاز التناسلي ، وتكوين العظام ، والعضلات والأوتار(1)، وهذا هو تطبيق لقوله تعالى (وليس الذكر كالأنثى) هذا ليس تنقيصاً للمرأة أبداً ،وإنما بيان للفروق الجوهرية التي بعضها لصالح المرأة ، وبعضها لصالح الرجل لتحقيق التوازن والتكامل والزوجية الحقيقية .
وهذه الجسيمات (الكروموسومات) لها شريط ، أو خيط يتكون من سلسلتين من حمض الدنا DNA أي الحامض النووي تلتفان حول البعض بشكل حلزوني ، وتكونان لولباً مزدوجاً على شكل شريط كاسيت طوله 2800كم فيه مئات الآلاف من الجينات التي تتحكم في الصفات الوراثية من طول الجسم وقصره ، وشكله ولونه ، حتى نبرة الصوت ، ولون العين ، وكذلك الإصابة بالأمراض الوراثية ، وبذلك يتكون حمض الدنا في الخلية الواحدة يحتوي على مائة ألف جين يتألف من ثلاثة بلايين زوج من القواعد(2).
تشخيص الأمراض الوراثية عن طريق الفحص الجيني :
__________
(1) المراجع السابقة
(2) المصادر السابقة ، وتوماس كاسكي : طب أساسه الدنا ، الوقاية والعلاج ص 132(1/19)
أدى التقدم الكبير في مجال الطب وبالأخص في مجال الجينوم البشري ، حيث استطاع الطب الحديث إحراز تقدم كبير في مجال الوقاية والعلاج من خلال الجينات ، حيث أدت معرفة تركيب المادة الوراثية إلى إحراز تقدم ملحوظ في مجال التشخيص المختبري للأمراض الوراثية ، حيث بذلت الدول المتقدمة جهوداً وأموالاً عظيمة في مشروع الجينوم البشري والعلاج الجيني .
مشروع الجينوم البشري(1):
يبذل العلماء جهود مكثفة لمعرفة الجينات البشرية ، واكتشاف مزيد من أسرارها يستعينون لتحقيق هذا الهدف العظيم بالمختبرات الحديثة المزودة بأحدث التقنيات ، وأضخم الكمبيوترات ، وهو مشروع رصدت له أمريكا خمسة مليارات من الدولارات ، وقد تحق كثير من النتائج العظيمة حتى الآن ، وآخر هذه النتائج هو كشف الخريطة الجينومية للإنسان .
ولا يمر يوم إلاّ ويتم فيه معرفة عدد هذه الجينات وموقعها على الخريطة الجينومية وحجمها وعدد القواعد النتروجينية المكونة له ، والبروتينات التي يصنعها بأمر خالقه ، وعدد الأحماض الأمنية المكونة لهذا البروتين ، ووظائفه ، والأمراض التي تصيب الإنسان عند نقص ذلك البروتين .
وقد شاء الله تعالى أن يؤدي أي خلل يسير في تسلسل القواعد النتروجينية في الجين المتحكم في البروتين إلى مرض خطير ، ولكن لا يظهر المرض إلاّ عندما يرث الشخص هذا الجين المعطوب من كلا الأبوين ، أما إذا كان لديه جين واحد مصاب والجين الآخر سليماً فإنه يعتبر حاملاً للمرض فقط ، ولا تظهر عليه أي أعراض مرضية ، ولكن عندما يتزوج هذا من امرأة حاصلة على هذا الجين تكون نسبة ظهور المرض في ذريتهما 25% أي واحد من أربعة ، وهنا يأتي دور الفحص الطبي .
__________
(1) كلمة ( جينوم ) مركب : من كلمة جين وكروموسوم ، ويعبر بها عن كتلة المادة الوراثية جميعها ، ولكنها مسجلة تفصيلياً بحروف هجائها الأساسية ، انظر د . حسان حتحوت : بحثه السابق (ص5 )(1/20)
ولكن هناك العديد من الأمراض الوراثية تنتقل عبر جين واحد منتقل من أحد الأبوين،أو كليهما،حيث حصرها بعض العلماء عام 1994م في(6678) مرضاً وراثياً،غير أن(4458)مرضاً منها يصاب نصف الذرية،و(1750) مرضاً يصاب ربع الذرية ، وأوصلها العلماء في عام 1998م إلى اكثر من ثمانية آلاف مرض وراثي(1).
لمعرفة الجينوم " ايجابيات وسلبيات " :
لا شك أن إدراك أسرار الجينات يحقق مصالح كبيرة للبشرية ، ولكنه مع ذلك إذا أطلق عنانها دون ضوابط ، منها أنه لو اشترطت جهات العمل الكشف الجيني لأدى ذلك إلى أن المصابين بالأمراض المحققة أو المحتملة لن يتم تعيينهم ، والأمر أشد في التأمين الصحي ، أو التأمين على الحياة ، ومنها كشف أسرار الإنسان ، وغير ذلك من السلبيات ، لذلك لا بدّ من وضع ضوابط دينية وأخلاقية في هذا المجال(2).
وصدرت توصية من الندوة الحادية عشرة للمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية التي عقدت في الكويت في 23 ـ 25/جمادى الآخرة 1419هـ الموافق 13 ـ 15/10/1998م نصت على : ( أن مشروع قراءة الجينوم البشري ـ وهو رسم خريطة الجينات الكاملة للإنسان ، وهو جزء من تعرف الإنسان على نفسه ، واستكناه سنة الله في خلقه وإعمال للآية الكريمة ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم )(3)ومثيلاتها الآيات الأخرى .
ولما كانت قراءة الجينوم وسيلة للتعرف على بعض الأمراض الوراثية أو القابلية لها ، فهي إضافة قيمة إلى العلوم الصحية والطبية في مسعاها لمنع الأمراض ، أو علاجها مما يدخل في باب الفروض الكفائية في المجتمع .
ويتوقع العلماء أن هذا المشروع يستهدف تحقيق الغايات التالية :
1. التعرف على أسباب الأمراض الوراثية .
__________
(1) د . محمد علي البار : بحثه القيم السابق الإشارة إليه ، ود . حسان حتحوت : بحثه المشار إليه سابقا
(2) المراجع السابقة
(3) سورة فصلت / الآية ( 53 )(1/21)
2. التعرف على التركيب الوراثي لأي إنسان من حيث خريطته الجينية ومن حيث القابلية لحدوث أمراض معينة كضغط الدم والنوبات القلبية والسكر ونحوها .
3. العلاج الجيني للأمراض الوراثية .
4. إنتاج مواد بيولوجية وهرمونات يحتاجها الإنسان للنمو والعلاج .
العلاج الجيني :
هو إصلاح الخلل في الجينات ، أو تطويرها ، أو استئصال الجين المسبب للمرض واستبدال جين سليم به ، وذلك بإحدى الطريقتين التاليتين :
الطريقة الأُولى :
عن طريق الخلية ، وذلك بإدخال التعديلات المطلوبة وحقنها للمصاب ، فإدخال الجين إلى الكروموسوم في الخلية يجب أن يكون في موقع محدد ، لأن الإدخال العشوائي قد يترتب عليه أضرار كبيرة .
ومن المعلوم أن توصيل الجينات يمكن أن يتم بطرق كيميائية،أو فيزيائية،أو بالفيروسات،أما الطريقة الكيميائية فيتم دمج عدة نسخ من DNA الحامل للجين السليم بمادة مثل فوسفات الكالسيوم،ثم يفرغ ذلك في الخلية المستقبلية حيث تعمل المادة الكيميائية على تحطيم غشاء الخلية،وتنقل بالتالي المادة الوراثية إلى الداخل(1).
وهناك طريقة أخرى لتوصيل الجينات عن طريق الحقن المجهري حيث يتم دخول المادة الوراثية إلى السيتوبلازم ، أو النواة .
__________
(1) د . صالح عبدالعزيز كريم:الكائنات وهندسة المورثات " بحث مقدم إلى ندوة المنظمة الحادية عشرة (ص17) والبحوث السابقة أيضاً(1/22)
وطريقة استخدام الفيروسات هي الأكثر قبولاً وتطبيقاً ، وذلك باستخدام الفيروسات كنواقل أو عربات شحن في النقل الجيني ، وهناك نوعان من الفيروسات ، أحدهما مادته الوراثية DNA والنوع الآخر RNA وعلى الرغم من أنهما مختلفان كيميائياً لكنهما يجمعهما أنهما من وحدات نيوكيلوتيده ، وأنهما يشملان شفرات منتظمة بالإضافة إلى تسلسل دقيق للقواعد النيتروجينية ، فقد أثبتت التجارب العملية أن الجين المسؤول عن تكوين بيتاجلوبين البشري يمكن إدخاله في خلايا عظام الفأر بواسطة الفيروسات التراجعية كنواقل ، وكانت النتيجة جيدة ، واستخدم البعض الفيروسات التراجعية لإدخال جين مسؤول عن عامل النمو البشري إلى أرومات ليفية ، وطبقت كذلك على أجنة التجارب بواسطة خلايا الكبد والعضلات .
وبعد التجارب المعملية خرجت التطبيقات منها إلى الإنسان مباشرة حيث كانت التجربة الأولى على الطفلتين (سبنتيا)و(أشانتي) اللتين ولدتا وهما تعانيان من عيب وراثي وهو عدم إنتاج أنزيم أدينوزين ديمتاز يعمل نقصه على موت خلايا الدم التائية المسماة بالخلايا النائبة (T – Cells) مما يؤدي إلى التأثير على جهاز المناعة وفي سبتمبر 1990 بدأت رحلة العلاج الجيني بحقن الطفلة (أشانتي) بالخلايا المعالجة وراثياً ثم أخضعت الطفلة الثانية في يناير 1991 وكانت نتيجة علاجهما جيدة(1).
الطريقة الثانية :عن طريق إدخال تعديلات مطلوبة على الحيوان المنوي ، أو البويضة.
وقد أثيرت الشبهات حول الطريقتين ، حيث أثيرت على الأُولى شبهة أخلاقية وهي : هل البصمة الوراثية لهذا الشخص ستكون مطابقة لابنه ؟ كما أثيرت على الثانية شبهة تأثير إدخال التعديلات على الحيوان المنوي ،أو البويضة ؟(2). ولذلك لا يجوز العلاج بهذه الحالة من حيث المبدأ .
__________
(1) د . صالح كريم : بحثه السابق (ص19)
(2) د . أحمد رجائي الجندي " لمحة حول ندوة الوراثة والهندسة الوراثية " ، ج1 (ص28)(1/23)
ولذلك لا بدّ من التأكيد على هذا الجانب الأخلاقي وهو أن العلاج في الحالتين لا بدَّ أن لا يؤدي بأية حالة من الأحوال إلى التأثير في البنية الجينية ، والسلالة الوراثية .
ومن جانب آخر فإن للاسترشاد الوراثي ، والهندسة الوراثية دوراً رائداً في منع المرض وتطبيق قاعدة : الوقاية خير من العلاج .
والعلاج الجيني لا يقتصر دوره على الإنسان بل له دوره الأكبر في عالم النبات والحيوان مثل تغيير وتعديل التركيب الوراثي للكائنات ، أو ما يعرف بهندسة المورثات في الكائنات من مثل التحور الجيني في النبات والاستزراع الجيني في الكائنات الدقيقة مثل البكتريا ، وهندسة الحيوانات وراثياً .
مستقبل العلاج الجيني :
تشير النتائج والأبحاث إلى أن مستقبلاً زاهراً ينتظر العلاج الجيني ، وأنه يستفاد منه لعلاج أمراض واسعة الانتشار تطال الملايين من مرضى العالم مثل السرطان ، والتهاب الكبد الفيروسي ، والايدز ، وفرط الكولوسترول العائلي ، وتصلب الشرايين ، والأمراض العصبية مثل داء باركتسون ومرض الزهايمر ، إضافة إلى معالجة الأجنة قبل ولادتها ، وتشخيص الأمراض الوراثية قبل الزواج .
منافع العلاج الجيني :
هناك فوائد كبيرة ، ومنافع كثيرة تتحقق من خلال العلاج الجيني يمكن أن نذكر أهمها :
1. الاكتشاف المبكر للأمراض الوراثية ، وحينئذٍ التمكن من منع وقوعها أصلاً بإذن الله ، أو الإسراع بعلاجها ، أو التخفيف عنها قبل استفحاله ، حيث بلغت الأمراض الوراثية المكتشفة أكثر من ستة آلاف مرض ، وبالتالي استفادة الملايين من العلاج الجيني .
2. تقليل دائرة المرض داخل المجتمع وذلك عن طريق الاسترشاد الجيني ، والاستشارة الوراثية .
3. إثراء المعرفة العلمية عن طريق التعرف على المكونات الوراثية ، ومعرفة التركيب الوراثي للإنسان بما فيه القابلية لحدوث أمراض معينة كضغط الدم والنوبات القلبية ، والسكر ونحوها .(1/24)
4. الحد من اقتران حاملي الجينات المريضة ، وبالتالي الحد من الولادات المريضة .
5. إنتاج مواد بيولوجية ، وهرمونات يحتاجها جسم الإنسان للنمو والعلاج(1).
سلبيات العلاج الجيني وأخطاره :
تترتب على العلاج الجيني بعض السلبيات في عدة نواحي اجتماعية ونفسية ، منها :
1. من خلال كشف بعض الأمراض الوراثية للفرد يترتب عليه آثار كبيرة على حياته الخاصة ، فيتعرض لعدم القبول في الوظائف ، أو التأمين بصورة عامة ، والامتناع عن الزواج منه رجلاً كان أو امرأة ، فقراءة جينومه تؤثر فعلاً على عمله الوظيفي ، وعلى زواجه ، وعلى كثير من أموره الخاصة به ، مما يترتب عليه إضرار به دون ذنب اقترفه ، بل قد لا يصبح مريضاً مع انه حامل الفيروس ، أو جين مريض ، فليس كل حامل للمرض مريض ، ولا كل مرض متوقع يتحتم وقوعه.
2. التأثير على ثقة الإنسان بنفسه ، والخوف والهلع من المستقبل المظلم مما يترتب عليه أمراض نفسية خطيرة قد تقضي عليه بسبب الهموم ، مع أن الإنسان مكرم لا يجوز إهدار كرامته ، وخصوصيته الشخصية وأسراره .
3. ان هناك عوامل أخرى بجانب الوراثة لها تأثير كبير على إحداث الأمراض الناتجة عن تفاعل البيئة ونمط الحياة ، إضافة إلى الطفرات الجينية التي تحدث في البويضة أو الحيوان المنوي ، أو فيهما بعد التلقيح(2).
__________
(1) د . محمد علي البار " نظرة فاحصة للفحوصات الطبية " ، ود . حسان حتحوت " قراءة الجينوم البشري " ، ود . ناصر الميمان " الإرشاد الجيني " بحث مقدم إلى الندوة الحادية عشرة للمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية المنعقدة في الكويت عام 1419هـ ، ود . عجيل النشمي " الوصف الشرعي للجينوم البشري " بحث مقدم إلى الندوة الآنفة الذكر ، ود . عمر الألفي " الجينوم البشري "
(2) المراجع السابقة أنفسها ، ود . عمر الألفي " الجينوم البشري " ضمن بحوث الندوة السابقة(1/25)
4. وهناك مفاسد أخرى إذا تناول العلاج الجيني الصفات الخلقية ـ بفتح القاف ـ من الطول والقصر ، والبياض والسواد ، والشكل ، ونحو ذلك ، أو ما يسمى بتحسين السلالة البشرية ، مما يدخل في باب تغير خلق الله المحرم .
والعالم المتقدم اليوم ( وبالأخص أمريكا ) في تسابق خطير وتسارع إلى تسجيل الجديد في هذا المجال الخطير وبالأخص ما يتعلق بالإنسان فيوجد الآن أكثر من 250 معملاً ومختبراً متخصصاً في عالم الجينات فلا يُطلِع مختبر الآخر على نتائجه الجديدة ، ولذلك لا يستبعد في يوم من الأيام خروج شيء من تلك الكائنات المهندسة وراثياً ويحمل إمّا أمراضاً جديدة ، أو جراثيم بيولوجية مدمرة ، وخاصة ليست هناك ضمانات قانونية ولا أخلاقية لكثير من هذه المعامل ، ولذلك أنشئت هيئة الهندسة البيولوجية الجزيئية في فرنسا ، ولكنها غير كافية ، وهذه الأخطار تتعلق بما يأتي :
1. أخطار تتعلق بتطبيقات الهندسة الوراثية في النبات والحيوان والأحياء الدقيقة ، إضافة إلى أن بعض الحيوانات المحورة وراثياً تحمل جينة غريبة يمكن أن تعرض الصحة البشرية ، أو البيئة للخطر.
2. أخطار تتعلق بالمعالجة الجينية من النواحي الآتية :
أ ـ النقل الجيني في الخلايا الجرثومية التي ستولد خلايا جنسية لدى البالغين (حيوانات منوية وبويضات) وذلك لأن التلاعب الوراثي لهذه الخلايا يمكن أن يوجد نسلاً جديداً غامض الهوية ضائع النسب .
ب ـ الدمج الخلوي بين خلايا الأجنة في الأطوار المبكرة .
ج ـ احتمالية الضرر،أو الوفاة بسبب الفيروسات التي تستخدم في النقل الجيني.
د ـ الفشل في تحديد موقع الجينة على الشريط الصبغي للمريض حيث قد يسبب مرضاً آخر ربما أشد ضرراً .
هـ ـ احتمال أن تُسبب الجينة المزروعة نمواً سرطانياً .
و ـ استخدام المنظار الجيني في معالجة الأجنة قبل ولادتها قد يؤدي ذلك إلى مضاعفات خطيرة على حياة الأم والجنين .(1/26)
ز ـ أخطار أخرى تخص الجينة المزروعة،والكائنات الدقيقة المهندسة وراثياً(1).
ح ـ استخدام العلاج الجيني في صنع سلالات تستخدم في الحروب البيولوجية المدمرة .
الحكم الشرعي للتداوي بصورة عامة ، والعلاج الجيني :
ينظر إلى العلاج الجيني من خلال اعتبارين : اعتبار عام من حيث هو علاج للأمراض ، واعتبار خاص يتعلق بخصوصيته وماله من آثار وإجراءات .
أ ـ من حيث هو علاج للأمراض الوراثية فيطبق عليه من حيث المبدأ ، الحكم الشرعي التكليفي للعلاج .
فمن الناحية الفقهية قد اختلف الفقهاء في حكم العلاج على عدة أقوال(2)، والذي تشهد له الأدلة الشرعية ومقاصد الشريعة هو أن الأحكام التكليفية الخمسة (الوجوب ، والندب ، والتحريم ، والكراهة ، والإباحة) ترد عليه .
__________
(1) د . صالح عبدالعزيز كريم : بحثه السابق (23 ـ 25 )
(2) يراجع لتفصيل ذلك : بحث الدكتور علي المحمدي بعنوان " حكم التداوي في الإسلام " المنشور في مجلة المجمع العدد السابع ، ج3 (ص602)(1/27)
فالعلاج واجب إذا ترتب على عدم العلاج هلاك النفس بشهادة الأطباء العدول ، لأن الحفاظ على النفس من الضروريات الخمس التي يجب الحفاظ عليها ، وكذلك يجب العلاج في حالة كون المرض معدياً مثل مرض السل ، والدفتريا (الخناق) والتيفود الكوليرا(1)للنصوص الدالة على دفع الضرر وأنه ( لا ضرر ولا ضرار)(2)، بل إن بعض الفقهاء ـ منهم جماعة من الشافعية،وبعض الحنابلة(3)ـ يذهبون إلى أن العلاج واجب مطلقاً وقيده بعضهم بأن يظن نفعه ، بل ذهب الحنفية(4)إلى وجوبه إن كان السبب المزيل للمرض مقطوعاً به وذلك كما أن شرب الماء واجب لدفع ضرر العطش ، وأكل الخبز لدفع ضرر الجوع ، وتركهما محرّم عند خوف الموت ، وهكذا الأمر بالنسبة للعلاج والتداوي . جاء في الفتاوى الهندية : ( اعلم بأن الأسباب المزيلة للضرر تنقسم إلى مقطوع به كالماء المزيل لضرر العطش ، والخبز المزيل لضرر الجوع ... أما المقطوع به فليس تركه من التوكل ، بل تركه حرام عند خوف الموت )(5).
__________
(1) د . محمد علي البار : بحثه بعنوان " العلاج الطبي " المنشور في مجلة المجمع ، العدد السابع ، ج3 (ص570)
(2) الحديث رواه مالك في الموطأ ، كتاب الأقضية (ص464) ، وأحمد في مسنده ( 1/313، 5/327 ) ، وابن ماجه (2/784 ) وهو حديث صحيح صححه البعض منهم الألباني في الإرواء الحديث (896)
(3) مجموع الفتاوى لابن تيمية ط . الرياض ( 24/269 ، 21/564 ) ، وإحياء علوم الدين ط . عيسى البابي الحلبي (4/279 ) ، والآداب الشرعية لابن مفلح ( 2/361 )
(4) الفتاوى الهندية ( 5/355 )
(5) المرجع السابق(1/28)
وقد استدل هؤلاء الفقهاء بقوله تعالى : ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)(1)وقوله تعالى : (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً)(2)، وبالأحاديث الآمرة بالتداوي مثل حديث أسامة بن شريك قال : (أتيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه كأنما على رؤوسهم الطير ، فسلمت ، ثم قعدت ، فجاء الأعراب من ههنا وههنا ، فقالوا : يا رسول الله أنتداوى ؟ فقال : تداووا فإن الله تعالى لم يضع داءً إلاّ وضع له دواء غير داء واحد الهرم )(3)، ولحديث أبي الدرداء : ( قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إن الله أنزل الداء والدواء وجعل لكل داء دواء فتداووا ، ولا تتداووا بحرام )(4)، فإذا كان العلاج واجباً فيكون تركه حراماً كما في حالة كون المرض معدياً ، أو يكون الشخص مهدداً بالموت أو بضرر كبير إذا لم يتم العلاج ، ويدل كذلك حديث جابر قال : ( خرجنا في سفر ، فأصاب رجلاً منا حجر ، فشجه في رأسه ، ثم احتلم فسأل أصحابه ، فقال : هل تجدون لي رخصة في التيمم ؟ قالوا : ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء ، فاغتسل ، فمات ، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك ، فقال : : قتلوه قاتهلم الله ، ألا سألوا إذ لم يعلموا ؟ فإنما شفاء العيّ السؤال...
__________
(3) رواه أبو داود في سننه مع عون المعبود ( 10/334 ) ، والترمذي وقال : حسن صحيح ، تحفة الأحوذي ( 6/190 ) ورواه النسائي ، وابن ماجه ، والحاكم وصححه
(4) رواه أبو داود في سننه ـ مع عون المعبود ـ ( 10/351 )(1/29)
)(1).
وأن التداوي مستحب إذا كان التداوي بما يمكن الاستشفاء به حسب الظن وليس اليقين(2)، وذلك اقتداءً بتداوي الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قوله ، وفعله(3)، وفيما عدا ذلك فهو مباح مشروع وهذا رأي جمهور الفقهاء(4)، قال حجة الإسلام أبو حامد الغزالي :( اعلم أن الذين تداووا من السلف لا ينحصرون ، ولكن قد ترك التداوي أيضاً جماعة من الأكابر) ثم ذكر بأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ تداوى ، ولو كان نقصاناً لتركه ، إذ لا يكون حال غيره في التوكل أكمل من حاله )(5).
__________
(1) رواه أبو داود ، والدارقطني (69) والبيهقي (1/228) ورواه عن ابن عباس أبو داود أيضاً ، والبيهقي ، وابن حبان ، والحاكم وأبو نعيم في الحلية (3/317) قال الحافظ في بلوغ المرام مع سبل السلام (1/161) : ( رواه أبو داود بسند فيه ضعف) ولكن الحديث له طرق كثيرة ولذلك صححه ابن سكن ،ورواه ابن خزيمة في صحيحه (1/138) وابن حبان في صحيحه (2/304) والحاكم في المستدرك (1/165)
(2) يراجع : الفتاوى الهندية ( 5/255 )
(3) يراجع : سنن أبي داود ـ مع عون المعبود ـ ( 10/339 ، 341 ، 349 ) ، وفتح الباري ( 10/147،150 ) حيث روى البخاري وغيره أنه صلى الله عليه وسلم احتجم
(4) الفواكه الدواني ( 2/442 ) ، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي ( 10/199 ) ود . علي المحمدي : بحثه السابق
(5) إحياء علوم الدين ( 4/283 )(1/30)
وقد ردّ الغزالي على من قال بأن التداوي يخالف التوكل بأن ذلك نوع من المغالطة ، لأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ تداوى وهو سيد المتوكلين ، وأمر به في أكثر من حديث ، ثم إن التداوي مثل استعمال الماء للعطشان ، والأكل لدفع الجوع فلا فرق بين هذه الدرجات ، فإن جميع ذلك أسباب رتبها مسبب الأسباب سبحانه وتعالى ، وأجرى بها سنته(1)، ويدل على أن ذلك ليس من شرط التوكل ما روي عن عمر ـ رضي الله عنه ـ وعن الصحابة في قصة الطاعون ـ فإنهم لما قصدوا الشام وانتهوا إلى الجابية بلغهم الخبر أن به موتاً عظيماً ووباءً ذريعاً فافترق الناس فرقتين ، فقال بعضهم لا ندخل على الوباء فنلقي بأيدينا إلى التهلكة ، وقالت طائفة أخرى : بل ندخل ونتوكل على الله ولا نهرب من قدر الله تعالى ، ولا نفرّ من الموت كمن قال الله تعالى في حقهم : ( ألم ترَ إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت ... )(2)، فرجعوا إلى عمر فسألوه عن رأيه ، فقال : نرجع ولا ندخل على الوباء ، فقال له المخالفون لرأيه : أنفرّ من قدر الله تعالى ؟ قال عمر : نعم ، نفرُّ من قدر الله تعالى إلى قدر الله تعالى ... . فلما أصبحوا جاء عبدالرحمن فسأله عمر عن ذلك ؟ فقال : عندي فيه يا أمير المؤمنين شيء سمعته من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : ( إذا سمعتم به ـ أي بالطاعون ـ بأرض فلا تقدموا عليه ، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه )(3).
فالعلاج سبب من الأسباب يؤخذ به كما يؤخذ بالأسباب في كل الأمور الأخرى ، بل إن تركه إذا ترتب عليه ضرر يكون محرماً وقد أكد هذه المعاني ابن القيّم في الطب النبوي وبيّن بأن العلاج سبب مشروع ، وقدر من قدر الله تعالى ، وسنة من سننه .
__________
(1) المرجع السابق ( 4/283 )
(2) سورة البقرة / الآية ( 243 )
(3) الحديث صحيح متفق عليه انظر : صحيح البخاري ـ مع فتح الباري ـ (10/179 )، ومسلم الحديث رقم (2219) ( 4/1740 )(1/31)