فتاوى و بحوث وبيانات المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث
[1] البيانات الختامية
البيان الختامي 2
بتاريخ: 27-6-2008
البيان الختامي
للدورة العادية الثانية للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث
المنعقدة في الفترة من 9/10/98م إلى 11/10/98م
بالمركز الثقافي الإسلامي أيرلندا- دبلن
بفضل الله و حسن توفيقه أنهى المجلس الأوروبي للإفتاء و البحوث دورته العادية الثانية برئاسة سماحة العلامة الدكتور/ يوسف القرضاوي و بحضور أكثر أعضائه، و ذلك باستضافة هيئة المكتوم الخيرية في المركز الثقافي الإسلامي- أيرلندا.
و قد تم في هذه الدورة مناقشة الأسئلة المطروحة على المجلس خلال العام الماضي و الإجابة عنها، و قد عهد المجلس للأمانة العامة بإعداد الإجابات و البحوث و إرسالها إلى المستفتين، ثم طباعتها و نشرها لتعميم النفع بها.
و من خلال ما طرح على المجلس من استفتاءات و مشكلات أصدر مجموعةً من التوصيات:
1. يوصي المجلس المسلمين المقيمين في أوروبا بالعمل الجاد للحصول على اعتراف الدول التي يقيمون فيها بالإسلام ديناً، و بالمسلمين أقليةً دينيةً على غرار الأقليات الدينية الأخرى في التمتع بحقوقهم كاملة و في تنظيم أحوالهم الشخصية كالزواج و الطلاق...
2. و من أجل ذلك فإن المجلس يوصي المسلمين بتشكيل هيئات شرعية تتولى تنظيم أحوالهم الشخصية وفق أحكام الشريعة الإسلامية الغراء مع مراعاة الالتزام بالقوانين السائدة.
كما يوصي المجلس الإخوة المسلمين و يشدد في الوصية بالالتزام بما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة و بما أجمع عليه فقهاء الإسلام من وجوب الوفاء بمقتضيات عهد الأمان و شروط الإقامة و المواطنة في البلاد الأوروبيةالتي يعيشون فيها و من أهم ما يجب عليهم الوفاء به:
· أن يعتقدوا أن أرواح و أموال و أعراض غير المسلمين معصومةٌ بمقتضى ذلك العهد الذي دخلوا به هذه البلاد و الذي لولاه لما سُمِحَ لهم بدخولها أو استمرار الإقامة فيها و قد قال تعالى:] وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا[ .(1/1)
· أن يحترموا قوانين هذه البلاد التي آوتهم و حمتهم و مكنتهم من التمتع بكل ضمانات العيش الكريم، و قد قال تعالى:] هل جزاء الإحسان إلا الإحسان
· أن يجتنبوا كل أساليب الكسب الحرام على أختلاف أنواعها و منها سعي بعض المسلمين للحصول على معونة الضمان الاجتماعي مع أنهم يعملون أو يتاجرون.
· أن يبذلوا أقصى الوسع في تنشئة الجيل-بنين وبنات- تنشئة إسلامية معاصرة، و ذلك بتأسيس المدارس و المراكز التربوية والترفيهية لحمايتهم من الانحراف.
3. كما يوصي المجلس المسلمين عامة والمقيمين في ديار الغرب خاصة بالاعتصام بحبل الله و الأخوة و السماحة و الوسطية و التعاون على البر والتقوى و التزام الحوار الهادئ و الأساليب السلمية في معالجة قضايا الخلاف بعيداً عن مناهج التشدد و مسالك التطرف التي تُشوِّه صورة الإسلام و تسيء أبلغ الإساءة إلى المسلمين عامةً و إلى الأقليات المسلمة خاصةً فيتلقفها أعداء الإسلام و الجاهلون به للتشنيع عليه و التخويف منه و من أهله و استعداء الأمم عليهم و قد قال تعالى:] ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة و جادلهم بالتي هي أحسن.. [ .
هذا و قد اتخذ المجلس القرارات التالية:
1. إسناد الأمانة العامة للمجلس اعتباراً من 11/10/1998م إلى فضيلة الشيخ الأستاذ/ عبدالله يوسف الجديع مع تقديم الشكر للأمين السابق فضيلة الشيخ الدكتور/ محمد سعيد البادنجكي على ما قام به من جهود في الفترة الماضية.
2. تشكيل لجان فرعية للفتوى في أكثر من بلد أوروبي، وقد تم اعتماد لجنتين:
أ - الأولى في فرنسا، هاتف: (0033386794062) فاكس: (003338680119).
ب - الثانية في بريطانيا، هاتف:( 00441614344544 )، فاكس: (00441614914469) .
3. عقد الدورة القادمة في شهر مايو 1999م.
وفي الختام يتقدم المجلس بالشكر والعرفان لهيئة المكتوم الخيرية والعاملين بالمركز الثقافي الإسلامي لاستضافة هذا اللقاء.(1/2)
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث
11/10/1998م(1/3)
البيان الختامي 3
بتاريخ: 27-6-2008
البيان الختامي
للدورة العادية الثالثة للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث
المنعقدة في مدينة كولون بألمانيا
في الفترة 4-7صفر1420هـ الموفق19-22 مايو1999م
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اتعقدت الدورة العادية الثالثة للمجلس الأوروبي ففإفتاء والبحوث بدعوة رسمية من جمعيات ملي جوروش التركية في مدينة كولون بألمانيا في الفترة 4-7صفر1420هـ الموافق19-22مايو1999م برئاسة فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي وبحضور معظم الأعضاء.
وقد استعرض المجلس جملة من الأمور الإدارية والمالة المتعلقة بأعماله واتخذ بشأنها القرارات اللازمة. ثم تدارس مجموعة من الموضوعات المعروضة عليه واتخذ بشأنها القرارات المناسبة ومن أبرزها:
1- إثبات الشهور القمرية، وخصوصاً شهر رمضان للدخول في الصيام وشهر شوال للخروج منه، وهل للحساب الفلكي دخل فيه.
وقد خلص المجلس بعد استعراض الأبحاث المقدمة والمداولة المستفيضة بشأنها إلى القرار التالي:
يثبت دخول شهر رمضان أو الخروج منه بالرؤية البصرية، سواء كانت بالعين المجردة لأم بواسطة المراصد، إذا ثبتت في أي بلد إسلامي بطريق شرعي معتبر، عملاً بالامر النبوي الكريم الذي جاء به الحديث الصحيح:" إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا"، "وصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته".
وهذا بشرط ألا ينفي الحساب الفلكي العلمي القطعي إمكان الرؤية في أي قطر من الأقطار. فإذا جزم هذا الحساب باستحالة الرؤية المعتبرة شرعاً في أي بلد، فلا عبرة بشهادة الشهود التي تفيذ القطع، وتحمل على الوهم أو الغلط أو الكذب، وذلك لأن شهادة الشهود ظنية، وجزم الحساب قطع، والظني لا يقاوم القطعي، فضلاً عن أن يقدم عليه، باتفاق العلماء.(1/4)
ويؤكد المجلس هذا، أنه لا يعني بالحساب الفلكي: علم التنجيم المذموم والمرفوض شرعاً، كما لا يعني به المدون في( الرزنامات) المعروفة في البلاد الإسلامية، كما قد يتوهم بعض أهل العلم الشرعي. إنما نعني بالحساب: ثمرة علم الفلك المعاصر القائم على أسس رياصية علمية قاطعة، والذي بلغ في عصرنا مبلغاً عظيماً، استطاع به الإنسان أن يصل إلى القمر والكواكب الأخرى وبرز فيه كثير من علماء المسلمين في بلدان شتى.
2- الحكم الشرعي في لحوم الأنعام والدواجن المعروضة في الأسواق والمطاعم الأوروبية.
ناقش المجلس باستفاضة تامة هذا الموضوع الهام الذي أثار كثيراً من الجدل والخلاف حول مدى شرعيته، وتوصل إلى ضرورة حرص المسلمين على الالتزام بشروط التذكية كما جاءت بها الشريعة الغسلامية، إرضاءً للرب سبحانه، ومحافظة على شخصيتهم الدينية مما تتعرض له من أخطار، وصوناً لأنفسهم من تناول المحرمات.
وبعد استعراض طرائق الذبح المتبعة وما يتضمنه الكثير منها من مخالفات شرعية تؤدي إلى موت عدد غير قليل من الحيوانات، لا سيما الدجاج فقد قرر المجلس عدم جواز تناول لحوم الدواجن والأبقار، بخلاف الأغنام والعجول الصغيرة فإن طريقة ذبحها لا تتنافى مع شروط الذكاة الشرعية في بعض البلدان. هذا ويوصي المجلس أن يتخذ المسلمون في ديار الغرب مذابح خاصة بهم حتى ترتاح ضمائرهم ويحافظوا على شخصيتهم الدينية والحضارية. ويدعوا المجلس الدول الغربية إلى الأعتراف بالخصوصيات الدينية للمسلمين ومنها تمكنهم من الذبح حسب الشريعة الإسلامية أسوة بغيرهم من الجماعات الدينية الأخرى كاليهود. كما يدعو الدول الإسلامية إلى استيراد اللحوم الحلال التي تخضع لمراقبة شرعية من قبل المراكز الإسلامية الموثوق بها في ديار الغرب.
3- حكم الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء لتأخر وقت العشاء أو انعدام علامته الشرعية في بعض البلاد.(1/5)
انتهى المجلس إلى جواز الجمع بين هاتين الصلاتين في اوروبا في فترة الصيف حين يتأخر وقت العشاء إلى منتصف الليل أو تنعدم علامته كلياً، دفعاً للحرج المرفوع عن الأمة بنص القرآن، ولما ثبت من حديث ابن عباس في صحيح مسلم:"أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء من غير خوف ولا مطر. قيل لابن عباس: ما أراد إلى ذلك؟ قال: أراد ألا يحرج أمته". كما يجوز الجمع في تلك البلاد في فصل الشتاء أيضاً بين الظهر والعصر لقصر النهار وصعوبة أداء كل صلاة في وقتها للعاملين في مؤسساتهم إلا بمشقة وحرج. وينبه المجلس على أن لا يلجأ المسلم إلى الجمع من غير حاجة، وعلى أن لا يتخذه له عادة.
4- حكم صلاة الجمعة قبل الزوال وبعد العصر.
وقد خلص المجلس إلى أن وقت الجمعة المتفق عليه هو بعد الزوال إلى العصر وهو الأولى والأحوط والواجب على أئمة المسلمين أن يحرصوا دائماً على الخروج من المختلف فيه إلى المتفق عليه ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً. أما إذا تعارض ذلك مع ظروف المسلمين في بعض البلدان، أو في بعض الأوقات أو في بعض الأحوال فلا حرج في الأخذ بالمذهب الحنبلي بإقامة صلاة الجمعة قبل الزوال، وكذلك في الأخذ بالمذهب المالكي بجواز تأخير الصلاة إلى وقت صلاة العصر تقديراً للحاجة، وتحقيقاً لهذه المصلحة الدينية.
5- حكم جمع الزكاة وتوزيعها بواسطة المؤسسات الخيرية.(1/6)
تدارس المجلس هذا الموضوع وانتهى إلى مشروعية تحصيل هذه المؤسسات للزكاة من أصحابها وصرفها في مصارفها الثمانية أو من وجد منهم، لا سيما أن المسلمين مأمورون بتنظيم حياتهم ولو كانوا ثلاثة كما جاء في الحديث النبوي: "إذا كنتم ثلاثة في سفر فأمروا أحدكم" وأن ذلك من التعاون على البر والتقوى. كما أنه إحياء لركن الإسلام لا يتوقف على وجود الخليفة لقوله تعالى:" فاتقوا الله ما استطعتم" وقوله صلى الله عليه وسلم:" إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم". فإذا لم نستطع إقامة الخلافة واستطعنا أداء ما يخصنا من فرائض وواجبات فعلينا أن نؤديها كما أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. وسقوط بعض الواجبات عنا للعذر لا يكون سبباً فيغسقاط الكل. وقد كان المسلمون في العهد المكي يؤتون الزكاة التي وصف الله بها المؤمنين والمحسنسن في كتابه الكريم في السور المكية وذلك قبل قيام دولة المدينة (ونعني بها الزكاة المطلقة، قبل تحديد الأنصبة والمقادير).
ويغتنم المجلس هذه الفرصة ليؤكد ما أوصى به المسلمين في دورته السابقة وما ارتآه في هذه الدورة من الأمور التالية:
1- المحافظة على هويتهم الإسلامية، وشخصيتهم الدينية، وذلك بالتزام شرع ربهم في ما أمر ونهى وأحل وحرّم في عباداتهم ومعاملاتهم وأخلاقهم ومآكلهم ومشاربهم وعلاقاتهم الأسرية والاجتماعية وحسن التعامل مع غيرهم.(1/7)
2- يوصي المجلس المسلمين المقيمين في أوروبا بالعمل الجاد للحصول على اعتراف الدول التي يقيمون فيها بالإسلام ديناً، وبالمسلمين أقلية دينية على غرار الأقليات الدينية الأخرى في التمتع بحقوقهم كاملة وفي تنظيم أحوالهم الشخصية كالزواج والطلاق والميراث. ويناشد الدول الأوروبية الاعتراف بالدين الإسلامي وحقوق المسلمين على غرار ما قامت به بعضها كبلجيكا وإسبانيا والنمسا والمجر. ومن أجل ذلك فإن المجلس يوصي المسلمين بتشكيل هيئات شرعية تتولى تنظيم أحوالهم الشخصية وفق أحكام الشريعة الإسلامية الغراء، مع مراعاة الالتزام بالقوانين السائدة.
3- كما يوصي المجلس هؤلاء الإخوة المسلمين ويشدد في الوصية بالالتزام بما دلت عليه نصوص الكتاب والسنّة وبما أجمع عليه فقهاء الإسلام من وجوب الوفاء بمقتضيات عهد الأمان وشروط الإقامة والمواطنة في البلاد الأوروبية التي يعيشون فيها، ومن أهم ما يجب عليهم:
أ - أن يعتقدوا أن أرواح غير المسلمين وأموالهم وأعراضهم معصومة بمقتضى ذلك العهد الذي دخلوا به هذه البلاد، والذي لولاه لما سمح لهم بدخولها أو استمرار الإقامة فيها، وقد قال الله تعالى: (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا).
ب - أن يحترموا قوانين هذه البلاد التي آوتهم وحمتهم ومكنتهم من التمتع بكل ضمانات العيش الكريم، وقد قال تعالى: (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان).
ج - أن يجتنبوا كل أساليب الكسب الحرام على اختلاف أنواعها، ومنها سعي بعض المسلمين للحصول على معونة الضمان الاجتماعي مع أنهم يعملون أو يتاجرون.
د - أن يبذلوا أقصى الوسع في تنشئة الجيل الجديد - بنين وبنات - تنشئة إسلامية معاصرة، وذلك بتأسيس المدارس والمراكز التربوية والترفيهية لحمايتهم من الانحراف.(1/8)
4- كما يوصي المجلس المسلمين عامة والمقيمين في ديار الغرب خاصة بالاعتصام بحبل الله والأخوّة والسماحة والاعتدال والتعاون على البر والتقوى والتزام الحوار الهادئ والأساليب السلمية في معالجة قضايا الخلاف، بعيداً عن مناهج التشدد ومسالك التطرف التي تشوّه صورة الإسلام وتسيء أبلغ الإساءة إلى المسلمين عامة وإلى الأقليات المسلمة خاصة فيتلقفها أعداء الإسلام والجاهلون به للتشنيع عليه والتخويف منه ومن أهله واستعداء الأمم عليهما، وقد قال الله تعالى: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن).
ويطيب لرئيس المجلس وأعضائه أن يتوجهوا بخالص الشكر والامتنان لجمعيات ملّى جورش في ألمانيا والقائمين عليهما على استضافتهم لهذه الدورة وما بذلوه من كرم الضيافة وجميل الحفاوة وحسن الاستقبال ومن جهد تنظيمي مقدر ، كما يشكر اتحاد المنظمات الإسلامية في اوروبا على ما قام به من جهد في سبيل ذلك، والحكومة الألمانية التي منحت تأشيرات السفر لأعضاء المجلس حتى يسّرت انعقاده على أراضيها على الوجه المرضي.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
والحمد لله رب العالمين(1/9)
البيان الختامي 4
بتاريخ: 27-6-2008
البيان الختامي
للدورة العادية الرابعة للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
انعقدت الدورة الرابعة للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث بالمركز الثقافي الإسلامي بدبلن بايرلندا في الفترة من 18-22 رجب 1420 هـ الموافق 27-31 أكتوبر 1999 برئاسة فضيلة الشيخ الدكتور / يوسف القرضاوي رئيس المجلس و بحضور غالبية الأعضاء 0
و قد استعرض المجلس جدول أعماله المشتمل على التقرير الدوري للأمانة العامة ، واتخذ القرارات اللازمة للأعمال الإدارية والمالية ثم تدارس مجموعة من الموضوعات الواردة إليه ، واتخذ بشأنها القرارات المناسبة و من أبرزها :(1/10)
القرار 1/ 4: حكم الحوار بين الأديان :
يستعمل الكثيرون عبارة " التقريب بين الأديان " والأولى استخدام كلمات أخرى مثل الحوار والاشتراك والتعاون، وبخصوص ذلك ينبه المجلس إلى أنه إذا كان المقصود به إذابة الفوارق بينها من أجل اللقاء في منطقة وسطى جمعا بين التوحيد والتثليث والتنزيه و التشبيه مثلا ، فذلك مما يأباه الدين الخاتم الكامل قال تعالى: "و أن احكم بينهم بما انزل الله ، ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك "
غير أن للحوار والاشتراك والتعاون بين رسالة الإسلام والرسالات السماوية الأخرى معاني مقبولة ، لأمر الله تعالى بقوله " وجادلهم بالتي هي أحسن " ، ولقوله عز وجل " يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله "، وتأسيا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحوار مع نصارى أهل نجران وغيرهم ، وذلك اعتبارا لأصول الإسلام ، في وحدة الألوهية والنبوات والأصل الإنساني ، وفي عموم الرسالة وواجب الدعوة إلى الله عز وجل عن طريق الحوار والمجادلة بالتي هي أحسن، بعيدا عن كل ضروب الإكراه والإجبار والنيل من مشاعر المخالف في الملة، ذلك أنه ولئن تباينت رسالة الإسلام والرسالات(1/11)
السماوية الأخرى في أصول وفروع معروفة، فقد اشتركت معها في أخرى معتبرة ، مثل عموم الإيمان بالله تعالى والنبوات واليوم الآخر وأصول الأخلاق، وأسس البناء الاجتماعي كالأسرة والمحافظة على البيئة وقضايا حقوق الإنسان والشعوب المستضعفة والتصدي للطغيان والمظالم على كل المستويات القطرية والدولية، وإشاعة روح التسامح ونبذ التعصب وحروب الإبادة والعدوان.
ويؤكد هذه المعاني للتقارب مع أهل الملل الأخرى اشتداد عواصف الفلسفة المادية والإباحية والإلحاد والتفكيك لأواصر المجتمعات في ظل ثورة الاتصال التي جعلت من العالم قرية صغيرة توشك أن تشترك في المصير، بما يعزز مساعي الحوار والتعاون مع أهل الملل الأخرى ولا سيما مع أهل الكتاب إبرازا للمشترك ودفاعا عنه، بدل النكء المستمر لجراح الاختلاف، قال تعالى:" يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، ولقد شهد صاحب الدعوة عليه السلام أن عباد الله كلهم اخوة، وقال تعالى: "وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " 0(1/12)
القرار 2 / 4: حكم شراء المنازل بقرض بنكي ربوي للمسلمين في غير بلاد الإسلام :
نظر المجلس في القضية التي عمت بها البلوى في أوروبا وفي بلاد الغرب كلها ، وهي قضية المنازل التي تشترى بقرض ربوي بواسطة البنوك التقليدية 0
وقد قدمت الى المجلس عدة أوراق في الموضوع ما بين مؤيد ومعارض ، قرئت على المجلس ، ثم ناقشها جميع الأعضاء مناقشة مستفيضة ، انتهى بعدها المجلس بأغلبية أعضائه إلى ما يلي :
1 - يؤكد المجلس على ما أجمعت عليه الأمة من حرمة الربا ، وأنه من السبع الموبقات ، ومن الكبائر التي تؤذن بحرب من الله ورسوله ، ويؤكد ما قررته المجامع الفقهية الإسلامية من أن فؤائد البنوك هي الربا الحرام 0
2 - يناشد المجلس أبناء المسلمين في الغرب أن يجتهدوا في إيجاد البدائل الشرعية ، التي لا شبهة فيها ، ما استطاعوا الى ذلك سبيلا ، مثل (بيع المرابحة) الذي تستخدمه البنوك الإسلامية ، ومثل تأسيس شركات إسلامية تنشئ مثل هذه البيوت بشروط ميسرة مقدورة لجمهور المسلمين ، وغير ذلك 0
3 - كما يدعو التجمعات الإسلامية في أوروبا أن تفاوض البنوك الأوروبية التقليدية ، لتحويل هذه المعاملة إلى صيغة مقبولة شرعا ، مثل (بيع التقسيط) الذي يزاد فيه الثمن مقابل الزيادة في الأجل ، فإن هذا سيجلب لهم عددا كبيرا من المسلمين يتعامل معهم على أساس هذه الطريقة ، وهو ما يجري به العمل في بعض الأقطار الأوروبية ، وقد رأينا عددا من البنوك الغربية الكبرى تفتح فروعا لها في بلادنا العربية تتعامل وفق الشريعة الإسلامية ، كما في البحرين وغيرها 0
ويمكن للمجلس أن يساعد في ذلك بإرسال نداء الى هذه البنوك ، لتعديل سلوكها مع المسلمين 0(1/13)
4 - وإذا لم يكن هذا ولا ذاك ميسرا في الوقت الحاضر ، فإن المجلس في ضوء الأدلة والقواعد والاعتبارات الشرعية ، لا يرى بأسا من اللجوء إلى هذه الوسيلة ، وهي القرض الربوي لشراء بيت يحتاج اليه المسلم لسكناه هو وأسرته ، بشرط ألا يكون لديه بيت آخر يغنيه ، وأن يكون هو مسكنه الأساسي ، وألا يكون عنده من فائض المال ما يمكّنه من شرائه بغير هذه الوسيلة ، وقد اعتمد المجلس في فتواه على مرتكزين أساسيين :
المرتكز الأول : قاعدة (الضرورات تبيح المحظورات) : وهي قاعدة متفق عليها ، مأخوذة من نصوص القرآن في خمسة مواضع ، منها قوله تعالى في سورة الأنعام : " وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه " ، ومنها قوله تعالى في نفس السورة بعد ذكر محرمات الأطعمة : " فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم " ، ومما قرره الفقهاء هنا أن الحاجة قد تنزل منزلة الضرورة ، خاصة كانت أو عامة 0
والحاجة هي التي إذا لم تتحقق يكون المسلم في حرج وإن كان يستطيع أن يعيش ، بخلاف الضرورة التي لا يستطيع أن يعيش بدونها ، والله تعالى رفع الحرج عن هذه الأمة بنصوص القرآن كما في قوله تعالى في سورة الحج : " وما جعل عليكم في الدين من حرج " وفي سورة المائدة : " ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج " .
والمسكن الذي يدفع عن المسلم الحرج هو المسكن المناسب له في موقعه وفي سعته وفي مرافقه ، بحيث يكون سكنا حقا.
وإذا كان المجلس قد اعتمد على قاعدة الضرورة أو الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة ، فإنه لم ينس القاعدة الأخرى الضابطة والمكملة لها ، وهي أن ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها ، فلم يجز تملك البيوت للتجارة ونحوها 0(1/14)
والمسكن ولا شك ضرورة للفرد المسلم وللأسرة المسلمة ، وقد امتن الله بذلك على عباده حين قال : " والله جعل لكم من بيوتكم سكنا " ، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم السكن الواسع عنصرا من عناصر السعادة الأربعة أو الثلاثة ، والمسكن المستأجر لا يلبي كل حاجة المسلم ، ولا يشعره بالأمان ، وإن كان يكلف المسلم كثيرا بما يدفعه لغير المسلم ، ويظل سنوات وسنوات يدفع أجرته ولا يملك منه حجرا واحدا ، ومع هذا يظل المسلم عرضة للطرد من هذا المسكن إذا كثر عياله أو كثر ضيوفه ، كما أنه إذا كبرت سنه أو قل دخله أو انقطع يصبح عرضة لأن يرمى به في الطريق 0
وتملك المسكن يكفي المسلم هذا الهم ، كما أنه يمكّنه أن يختار المسكن قريبا من المسجد والمركز الإسلامي ، والمدرسة الإسلامية ، ويهيئ فرصة للمجموعة المسلمة أن تتقارب في مساكنها عسى أن تنشئ لها مجتمعا إسلاميا صغيرا داخل المجتمع الكبير ، فيتعارف فيه أبناؤهم ، وتقوى روابطهم ، ويتعاونون على العيش في ظل مفاهيم الإسلام.
كما أن هذا يمكّن المسلم من إعداد بيته وترتيبه بما يلبي حاجته الدينية والاجتماعية ، ما دام مملوكا له.
وهناك إلى جانب هذه الحاجة الفردية لكل مسلم ، الحاجة العامة لجماعة المسلمين الذين يعيشون أقلية خارج دار الإسلام ، وهي تتمثل في تحسين أحوالهم المعيشية ، حتى يرتفع مستواهم ، ويكونوا أهلا للانتماء إلى خير أمة أخرجت للناس ، ويغدوا صورة مشرقة للإسلام أمام غير المسلمين ، كما تتمثل في أن يتحرروا من الضغوط الاقتصادية عليهم ، ليقوموا بواجب الدعوة ويساهموا في بناء المجتمع العام، وهذا يقتضي ألا يظل المسلم يكد وينصب طول عمره من أجل دفع قيمة إيجار بيته ونفقات عيشه، ولا يجد فرصة لخدمة مجتمعه، أو نشر دعوته 0(1/15)
المرتكز الثاني : هو ما ذهب إليه أبو حنيفة وصاحبه محمد بن الحسن الشيباني - وهو المفتى به في المذهب الحنفي - وكذلك سفيان الثوري وإبراهيم النخعي، وهو رواية عن أحمد، ورجحها ابن تيمية، فيما ذكره بعض الحنابلة من جواز التعامل بالربا - وغيره من العقود الفاسدة - بين المسلمين وغيرهم في دار الحرب، ولهم في ذلك أدلة ذكرها الإمام الطحاوي وغيره، لا يتسع المقام لذكرها 0
والمراد بدار الحرب عند الحنفية ما ليس بدار إسلام، فالتقسيم عندهم ثنائي وليس ثلاثيا، فيدخل فيها ما يسمى عند غيرهم دار عهد، أو دار أمان، ولهذا نفضل التعبير عن هذا المعنى بقولنا : التعامل خارج دار الإسلام 0
ويرجح الأخذ بهذا المذهب هنا عدة اعتبارات، منها :
1 - أن المسلم غير مكلف شرعا أن يقيم أحكام الشرع المدنية والمالية والسياسية ونحوها مما يتعلق بالنظام العام في مجتمع لا يؤمن بالإسلام، لأن هذا ليس في وسعه ، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها ، وتحريم الربا هو من هذه الأحكام التي تتعلق بهوية المجتمع ، وفلسفة الدولة ، و اتجاهها الاجتماعي والاقتصادي 0
وإنما يطالب المسلم بإقامة الأحكام التي تخصه فردا ، مثل أحكام العبادات ، وأحكام المطعومات والمشروبات والملبوسات وما يتعلق بالزواج والطلاق والرجعة والعدة والميراث وغيرها من الأحوال الشخصية ، بحيث لو ضيق عليه في هذه الأمور ، ولم يستطع بحال إقامة دينه فيها لوجب عليه أن يهاجر إلى أرض الله الواسعة ما وجد إلى ذلك سبيلا0(1/16)
2 - أن المسلم إذا لم يتعامل بهذه العقود الفاسدة - ومنها عقد الربا - في دار القوم ، سيؤدي ذلك بالمسلم إلى أن يكون التزامه بالإسلام سببا لضعفه اقتصاديا، وخسارته ماليا، والمفروض أن الإسلام يقوي المسلم ولا يضعفه ، ويزيده ولا ينقصه، وينفعه ولا يضره ، وقد احتج بعض علماء السلف على جواز توريث المسلم من الكافر بحديث " الإسلام يزيد ولا ينقص " أي يزيد المسلم ولا ينقصه ، ومثله حديث " الإسلام يعلو ولا يُعلى " ، وهو إذا لم يتعامل بهذه العقود التي يتراضونها بينهم ، سيضطر إلى أن يعطي ما يطلب منه ، ولا يأخذ مقابله ، فهو ينفذ هذه القوانين والعقود فيما يكون عليه من مغارم ، ولا ينفذها فيما يكون له من مغانم ، فعليه الغُرم دائما وليس له الغُنْم ، وبهذا يظل المسلم أبدا مظلوما ماليا ، بسبب التزامه بالإسلام ، والإسلام لا يقصد أبدا إلى أن يظلم المسلم بالتزامه به ، وأن يتركه - في غير دار الإسلام - لغير المسلم ، يمتصه ويستفيد منه ، في حين يحرم على المسلم أن ينتفع من معاملة غير المسلم في المقابل في ضوء العقود السائدة ، والمعترف بها عندهم.
وما يقال من أن مذهب الحنفية إنما يجيز التعامل بالربا في حالة الأخذ لا الإعطاء ، لأنه لا فائدة للمسلم في الإعطاء وهم لا يجيزون التعامل بالعقود الفاسدة إلا بشرطين:
الأول : أن يكون فيها منفعة للمسلم ،
والثاني : ألا يكون فيها غدر ولا خيانة لغير المسلم ، وهنا لم تتحقق المنفعة للمسلم ، والجواب : أن هذا غير مسلّم ، مما يدل على ذلك قول محمد بن الحسن الشيباني في السير الكبير، وإطلاق المتقدمين من علماء المذاهب، كما أن المسلم وإن كان يعطي الفائدة هنا فهو المستفيد ، إذ به يتملك المنزل في النهاية 0(1/17)
وقد أكد المسلمون الذين يعيشون في هذه الديار بالسماع المباشر منهم وبالمراسلة: أن الأقساط التي يدفعونها للبنك بقدر الأجرة التي يدفعونها للمالك ، بل أحيانا تكون أقل ، ومعنى هذا أننا إذا حرّمنا التعامل هنا بالفائدة مع البنك حرمنا المسلم من امتلاك مسكن له ولأسرته ، وهو من الحاجات الأصلية للإنسان كما يعبر الفقهاء ، وربما يظل عشرين أو ثلاثين سنة أو أكثر ، يدفع إيجارا شهريا أو سنويا ، ولا يملك شيئا ، على حين كان يمكنه في خلال عشرين سنة - وربما أقل - أن يملك البيت 0
فلو لم يكن هذا التعامل جائزا على مذهب أبي حنيفة ومن وافقه ، لكان جائزا عند الجميع للحاجة التي تنزل أحيانا منزلة الضرورة ، في إباحة المحظور بها 0
ولا سيما أن المسلم هنا ، إنما يؤكل الربا ولا يأكله ، أي هو يعطي الفائدة ولا يأخذها ، والأصل في التحريم منصب على (أكل الربا) كما نطقت به آيات القرآن ، إنما حرم الإيكال سدا للذريعة، كما حرمت الكتابة له والشهادة عليه، فهو من باب تحريم الوسائل لا تحريم المقاصد 0
ومن المعلوم أن أكل الربا المحرم لا يجوز بحال، أما إيكاله - بمعنى إعطاء الفائدة - فيجوز للحاجة ، وقد نص على ذلك الفقهاء ، وأجازوا الاستقراض بالربا للحاجة إذا سدت في وجهه أبواب الحلال.
ومن القواعد الشهيرة هنا : أن ما حرم لذاته لا يباح إلا للضرورة، وما حرم لسد الذريعة يباح للحاجة، والله الموفق.(1/18)
مسائل حول موضوع المرأة والعلاقات الزوجية :
القرار 3 / 4: هل للمرأة الحق في أن تبرم عقد زواجها دون تدخل وليها ؟
يعتبر عقد الزواج من أهم العقود ، لما يترتب عليه من قيام أسرة جديدة في المجتمع ، وإنجاب أولاد وحقوق وواجبات تتعلق بكل من الزوجين 0
ولما كان كل واحد من الزوجين طرفا في العقد ناط الشارع إبرامه بهما ، وجعله متوقفا على إرادتهما ورضاهما فلم يجعل للأب ولا لغيره على المرأة ولاية إجبار ولا إكراه في تزويجها ممن لا تريد بل جعل لها الحق التام في قبول أو رفض من يتقدم لخطبتها ، فقد روى ابن عباس رضي الله عنهما أن جارية (فتاة صغيرة السن) أتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة ، فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم - أخرجه الإمام أحمد بإسناد صحيح.
وجاءت النصوص النبوية الأخرى تؤكد للمرأة ذلك الحق فقال عليه الصلاة والسلام : "لا تنكح البكر حتى تستأذن ولا الأيم حتى تستأمر" ، وقال : " والبكر يستأذنها أبوها " 0
وبهذا جعل الإسلام عقد الزواج قائما على المودة والرحمة ، والألفة والمحبة ، قال الله تعالى : " ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها ، وجعل بينكم مودة ورحمة " ، ومن المحال - عادة - تحقيق تلك المقاصد الكريمة بزواج قائم على الإكراه والإجبار 0
لكن لما كانت المرأة - رغم إرادتها المستقلة التي جعلها الإسلام لها - عرضة لأطماع الطامعين ، واستغلال المستغلين فقد شرع من الأحكام ما يحفظ حقوقها ، ويدفع استغلال المستغلين عنها ، فجعل لموافقة وليها على عقد زواجها اعتبارا هاما يتناسب مع أهمية هذا العقد ، لما يعكسه من أثر طيب يخيم على الأسرة الجديدة ، ويبقي على وشائج القربى بين الفتاة وأوليائها ، بخلاف ما لو تم بدون رضاهم ، فانه يترتب عليه الشقاق والخلاف ، فينجم عنه عكس المقصود منه 0(1/19)
ومع أنه لا خلاف بين أهل العلم في أن رضى ولي المرأة هو الأولى والأفضل ، غير أنهم اختلفوا في جعله شرطا من شروط صحة العقد :
- فذهب جمهور الفقهاء الى أن رضى ولي المرأة شرط من شروط صحة العقد لا يصح بدونه ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل "، وقوله أيضا : " لا نكاح إلا بولي "
- وذهب الحنفية الى عدم اشتراط ذلك مستدلين بأدلة كثيرة منها ما رواه مسلم والأربعة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الأيم أحق بنفسها ، والبكر تستأذن في نفسها ، وإذنها صماتها" ، وحملوا أحاديث اشتراط الولي على من كانت دون البلوغ ، وقالوا : لو زوجت البالغة العاقلة نفسها كان زواجها صحيحا إن استوفى العقد شروطه الأخرى ، ويجوز لوليها أن يتظلم إلى القاضي فيطلب فسخ العقد إذا كان هذا الزواج من غير كفء ، وعلى القاضي إجابة طلبه إن تحقق من ذلك 0
وان المجلس يوصي النساء بعدم تجاوز أولياء أمورهن ، لحرصهم على مصلحتهن ، ورغبتهم في الأزواج الصالحين لهن وحمايتهن من تلاعب بعض الخطاب بهن 0
كما يوصي الآباء بتيسير زواج بناتهن ، والتشاور معهن فيمن يرغب في الزواج منهن دون تعسف في استعمال الحق وليتذكروا قول النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه ، الا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير " ، وليعلموا أن عضلهن من الظلم المنهي عنه ، والظلم محرم في الإسلام 0
كما يوصي المجلس المراكز الإسلامية مراعاة ما تقدم لأنه أسلم وأحكم إلا اذا لم يوجد للمرأة ولي فيكون المركز الإسلامي وليها في البلاد التي ليس فيها قضاء إسلامي ، ومع هذا يرى المجلس أن البالغة العاقلة لو زوجت نفسها ممن يرضى دينه وخلقه فزواجها صحيح 0(1/20)
القرار 4 / 4: رخصة الزواج من أربع نسوة وسوء استخدامها :
كان الناس قبل الإسلام يتزوجون من شاءوا من النساء بغير قيد ولا شرط، حتى ذكروا أن داود عليه السلام كان عنده ثلاثمائة امرأة بين زوجة وسرية، وأن سليمان كان عنده سبعمائة امرأة كذلك.
فلما جاء الإسلام وضع لهذا التعدد حداً وشرط له شرطاً.
فأما الحد فجعل أقصى العدد أربعاً لا يزاد عليهن بحال: "فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع" ولما أسلم رجل من ثقيف ومعه عشرة نسوة، أمره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يختار منهن أربعاً، ويطلق الباقي.
وأما الشرط، فيتمثل في ثقة الرجل في نفسه بالعدل، وإلا حرم عليه الزواج بالمرأة الأخرى: "فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة".
وهذا إلى جوار توافر الشروط الأخرى لأي زواج، مثل: القدرة على الإنفاق، والقدرة على الإحصان.
وإنما أباح الإسلام ذلك لأنه دين واقعي، لا يحلّق في مثاليات حالمة، ويترك مشكلات الحياة دون علاج مقدور عليه. فالزواج الثاني قد يحل مشكلة عند الرجل الذي لا تنجب امرأته، أو تطول عندها فترة الحيض، وهو قوي الشهوة، أو يصيبها المرض، ويستمر معها، ولا يريد أن يطلقها، إلى غير ذلك.
وقد يحل مشكلة عند المرأة الأرملة التي يموت زوجها ولا تطمع في الزواج من شاب لا زوجة له، ومثلها المطلقة وهي شابة، وخصوصاً لو كان لها طفل أو أكثر.
وقد يحل مشكلة عند المجتمع كله، عندما يزيد عدد النساء الصالحات للزواج عن عدد الرجال القادرين على النكاح، وهذا قائم باستمرار، ويزداد تفاقماً بعد الحروب ونحوها.
فماذا نفعل بالعدد الفائض من النساء؟ إنها واحدة من ثلاث:
1- إما أن يقضين العمر كله محرومات من حياة الزوجية والأمومة، وهذا ظلم لهن.
2- وإما أن يشبعن غرائزهن من وراء ظهر الدين والأخلاق، وهذا ضياع لهن.
3- وإما أن يقبلن الزواج من رجل متزوج قادر على النفقة والإحصان، واثق بالعدل، وهذا هو الحل المناسب.
أما سوء استعمال هذه الرخصة أو هذا الحق، فكم من حقوق يساء استخدامها، ويتعسف في استعمالها، ولا يؤدي ذلك إلى إسقاطها وإلغائها. الزواج الأول نفسه كم يساء استخدامه، فهل نلغيه؟ الحرية كم يساء استخدامها، فهل نلغيها؟ الانتخابات يساء استخدامها، فهل نلغيها؟ السلطة.. أياً كانت يساء استخدامها، فهل نلغيها وندع الحياة فوضى؟
إن الأولى - بدل أن ننادي بإلغاء الحق - أن نضع الضوابط لاستخدامه، ونعاقب من يسئ في ذلك، قدر ما نستطيع.(1/21)
قرار 5 / 4: زواج الرجل ممن زنى بها:
الزاني والزانية إذا تابا إلى الله تعالى، وأرادا أن يخرجا من الحرام إلى الحلال، ومن حياة التلوث إلى حياة الطهارة، فزواجهما صحيح بالإجماع، وجمهور الفقهاء لا يشترطون التوبة لصحة النكاح من الزانية، كما روي أن عمر رضي الله عنه ضرب رجلاً وامرأة في الزنى، وحرص على أن يجمع بينهما.
والحنابلة هم الذين اشترطوا التوبة، لقوله تعالى: "الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة، والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك، وحرم ذلك على المؤمنين".
أما موضوع (العدة) وهل يجب على الزانية أن تعتد أو لا؟ ففي هذا خلاف بين الفقهاء.
والذي نختاره هو: ما ذهب إليه الحنفية والشافعية والثوري: أن الزانية لا عدة لها. ولو كانت حاملاً من الزنى، وهو المروي عن ثلاثة من الصحابة الخلفاء: أبي بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم. وقد استدلوا بالحديث المتفق عليه: "الولد للفراش، وللعاهر الحَجَر" ولأن العدة شرعت لاستبراء الرحم حفظاً للنسب، والزنى لا يتعلق به ثبوت النسب، فلا يوجب العدة.
وإذا تزوج الرجل امرأة حاملاً من الزنى من غيره صح عند أبي حنيفة وصاحبه محمد، وعليه الفتوى في المذهب الحنفي. ولكن لا يجوز له وطؤها حتى تضع، لحديث: "لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر، أن يسقي ماءه زرع غيره".
وهذا بخلاف ما إذا كان الحمل من الزاني نفسه، فإن نكاحها جائز باتفاق الحنفية ومن يجوزون نكاحها، ويحل وطؤها عندهم جميعاً إذ الزرع زرعه، والحمل منه.(1/22)
القرار 6 / 4: التساوي بين الزوجين في العلاقة الزوجية :
تعد الزوجة مساوية للزوج في العلاقة الزوجية، حتى إن القرآن يسمي كلاً منهما (زوجاً) فالرجل زوج، والمرأة زوج، لأن كلاً منهما - وإن كان فرداً في ذاته- يحمل هموم الآخر وحاجاته، فهو (زوج) في الحقيقة.
ونرى قوله تعالى:" ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة"، "والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً، وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات" هذا الخطاب في الآيتين للرجال والنساء جميعاً، إذ لا دليل على اختصاص الخطاب بالرجال.
وفي الآية التي خاطب الله بها الرجال خاصة، ذكر بعدها ما يفيد تساوي الجنسين في العلاقة الزوجية، وذلك قوله تعالى: "أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نساءكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن". فالمرأة بمنزلة اللباس للرجل والرجل بمنزلة اللباس للمرأة، بما توحي به كلمة (اللباس) من القرب واللصوق والدفء والستر والزينة.
وهذا التساوي في الأصل لا ينفي أن يختص الرجل ببعض ما يتميز به عن المرأة، مثل (القوامة) على الأسرة، كما قال تعالى: "الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم".
ومن روائع البيان القرآني هنا: أنه لم يقل (بما فضلهم على النساء) بل قال (بما فضل الله بعضهم على بعض)، أي أن الرجل مفضل من بعض الأوجه، والمرأة مفضلة من أوجه أخرى كالجانب العاطفي، والرجل هو الذي يدفع المهر ويؤسس البيت وينفق عليه، فإذا حاول أن يهدم الأسرة فإنما بهدمها على أم رأسه.
وقد أرشد القرآن إلى أن الحقوق بين الطرفين مساوية للواجبات إلا ما استثني، وذلك قوله تعالى: "ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة". وجاء عن ابن عباس: أتجمل لامرأتي كما تتجمل هي لي، واستدل بالآية الكريمة. وقد فسر الإمام الطبري (الدرجة) في الآية بمزيد من الأعباء المطلوبة من الرجل، وفسرها غيره بدرجة (القوامة) على الأسرة وكلاهما تفسير صحيح. والنبي صلى الله عليه وسلم يحمّل كلا من الزوجين المسؤولية، كما في حديث ابن عمر المتفق عليه "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته… والرجل راع في أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسؤولة عن رعيتها".(1/23)
ومسؤولية المرأة في بيت زوجها توجب عليها أن يكون لها دور توجيهي أو إرشادي تجاه زوجها، يقوم على النصح له وحب الخير والسداد له، ودعوته إلى الخير وأمره بالمعروف إذا قصر فيه، ونهيه عن المنكر إذا وقع فيه، فهذا واجب على كل مسلم تجاه المسلم، حتى الابن مع أبيه، والتلميذ مع أستاذه، والمحكوم مع الحاكم، وكذلك الزوجة مع زوجها، ولكن في حدود وضوابط معينة ذكرها العلماء في مظانها. والله تعالى يقول: "والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر"، والعلاقة الزوجية لا تسقط فرضية الأمر والنهي بل تؤكدها.
وقد كانت المرأة من نساء السلف تقول لزوجها إذا خرج من البيت للتجارة والضرب في الأرض: يا أبا فلان، إياك وكسب الحرام فإنا نصبر على الجوع والطوى ولا نصبر على حر النار وغضب الجبار!
ولو وجدت المرأة زوجها يقصر في أداء الصلاة المفروضة، فالواجب عليها أن تأمره بالرفق وبالموعظة الحسنة أن يحافظ على صلاته، ولو وجدته يشرب الخمر، فعليها أن تنهاه عن أم الخبائث وتنصحه أن يحافظ على دينه ونفسه وماله وولده باجتناب هذا الرجس من عمل الشيطان ، ولو وجدته يهمل رعاية أولاده أو النفقة عليهم، فيلزمها أن تنصحه وتحضه أن يقوم بواجبه.
فإن قيل: هل للزوج سلطة على زوجته وإلى أي حد؟ فالجواب: أن للزوج سلطة (القوامة) ولكنها ليست سلطة مطلقة، بل هي سلطة مقيدة بأحكام الشرع ومقتضيات العرف. فأحكام الأسرة مقيدة - في القرآن الكريم - بقيدين:
أحدهما: رباني، وهو ما سماه القرآن (حدود الله) وقد تكررت كثيراً في شأن الأسرة.(1/24)
والثاني: إنساني، وهو ما سماه القرآن (المعروف) وهو ما تعرفه الفطر السليمة والعقول الرشيدة وأهل الفضل من الناس. نقرأ في القيد الأول قوله تعالى في شأن الطلاق:"تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون". وفي مقام آخر بقوله: "تلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون"، وفي سورة الطلاق بقوله: "تلك حدود الله ومن يتعد حدود فقد ظلم نفسه".
وفي القيد الإنساني بقوله تعالى: "وعاشروهن بالمعروف"، وقوله: "وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف" (البقرة: )، وقوله: "فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف"، وقوله: "وللمطلقات متاع بالمعروف".
والأصل: أن يتم أمر الأسرة بالتشاور فيما بين الزوجين، والتشاور لا يثمر إلا خيراً، وقد أشار إلى ذلك القرآن في قضية فطام الطفل الرضيع، كما قال تعالى: "فإن أرادا فصالاً عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما". فإن اختلفا فالزوج هو صاحب السلطة في إطار (المعروف)، ولا يجوز له أن يفرض على المرأة أهواءه باسم الطاعة الواجبة، فإنما يطاع في (المعروف) لا في غيره. وهذا أولى من تعبير (في غير معصية)، بل الأدق أن نقول: عليها الطاعة في المعروف لا في غيره، بدليل قوله تعالى في بيعة النساء لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولا يعصينك في معروف"، وفي الحديث المتفق عليه "إنما الطاعة في المعروف".(1/25)
القرار 7 / 4 : حكم الخل المصنوع من الخمر :
قرر المجلس أن الخمر إذا تخللت - أي تحولت إلى خل - بنفسها فهي حلال وطاهرة بالإجماع، وإذا كانت تخللت بمعالجة وعمل متعمد، كوضع ملح أو خبز أو بصل أو خل أو مادة كيميائية معينة، فقد اختلف فيها الفقهاء، فمنهم من قال : تطهر ويحل الانتفاع بها، لانقلاب عينها وزوال الوصف المفسد فيها، ومنهم من قال : لا تطهر، ولا يحل الانتفاع بها، لأنا أمرنا باجتنابها، وفي التحليل اقتراب منها، فلا يجوز.
وبعد أن استعرض المجلس أدلة الفريقين خلص إلى ترجيح المذهب الأول وهو طهارة الخل وحل الانتفاع به وذلك لأن التخليل - مثل التخلل - يزيل الوصف المفسد وهو الاسكار ، ويثبت وصف الصلاحية ، لأن فيه مصلحة التغذي والتداوي وغيرهما ، ولأن علة التنجيس والتحريم هي الإسكار ، وقد زالت ، والحكم يدور مع علته وجودا وعدما، تأكد هذا بقوله عليه الصلاة والسلام : " نعم الإدام الخل " من غير تفريق بين خل وآخر ، ولا طلب منا البحث عن أصله ماذا كان.
وما روي بخلاف ذلك مما يدل على المنع من تخليلها فإنما هو من باب الردع والتشديد عليهم في أول الأمر، حتى لا يتهاونوا فيها بحال.(1/26)
التوصيات:
أولا : يناشد المجلس الأمم المتحدة والهيئات المتفرعة عنها :
أن تراعي خصوصيات الأمم الدينية والثقافية ، ولا تفرض عليها باسم العولمة ، ما ينافي عقائدها وقيمها ومقومات حياتها ، ومن ذلك : محاولة تجريم عقوبة القصاص بكل صورها ، ولو كانت على قاتل معتد متعمد 0
والإسلام يعتبر القصاص من القاتل العامد فريضة كتبها الله على المؤمنين ، كما قال تعالى : " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى " ، وبين الله تعالى أثره فقال : " ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون " 0
ويؤكد المجلس ما قررته الشريعة الإسلامية من وجوب المحاكمة العادلة لكل منهم ، وتوفير كل الضمانات له ، وحقه في الدفاع عن نفسه ، وأمام قاضيه الطبيعي ، دون عسف ولا إعنات ، وأن من حق ولي الدم أن يعفو عن القاتل ببدل أو من غير بدل ، كما قال تعالى : " فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة "
ثانيا : لاقتراب حلول شهر رمضان المبارك فإن المجلس يذكر المسلمين بقراره الصادر في دورته الثالثة ، والذي نصه:(1/27)
" يثبت دخول شهر رمضان أو الخروج منه بالرؤية البصرية، سواء كانت بالعين المجردة أم بواسطة المراصد، إذا ثبتت في أي بلد إسلامي بطريق شرعي معتبر، عملاً بالأمر النبوي الكريم الذي جاء به الحديث الصحيح: "إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا"و "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته".
وهذا بشرط ألا ينفي الحساب الفلكي العلمي القطعي إمكان الرؤية في أي قطر من الأقطار. فإذا جزم هذا الحساب باستحالة الرؤية المعتبرة شرعاً في أي بلد، فلا عبرة بشهادة الشهود التي لا تفيد القطع، وتحمل على الوهم أو الغلط أو الكذب، وذلك لأن شهادة الشهود ظنية، وجزم الحساب قطعي، والظني لا يقاوم القطعي، فضلاً عن أن يقدم عليه، باتفاق العلماء.
ويؤكد المجلس هنا أنه لا يعني بالحساب الفلكي: علم التنجيم المذموم والمرفوض شرعاً، كما لا يعني به المدون في (الرزنامات) المعروفة في البلاد الإسلامية، كما قد يتوهم بعض أهل العلم الشرعي. إنما نعني بالحساب: ثمرة علم الفلك المعاصر القائم على أسس رياضية علمية قاطعة، والذي بلغ في عصرنا مبلغاً عظيماً، استطاع به الإنسان أن يصل إلى القمر والكواكب الأخرى وبرز فيه كثير من علماء المسلمين في بلدان شتى".
ثالثا : التأكيد على ما سبق للمجلس أن أوصى به المسلمين في دورتيه السابقتين وما ارتآه في هذه الدورة مما يلي:
1- المحافظة على هويتهم الإسلامية، وشخصيتهم الدينية، وذلك بالتزام شرع ربهم في ما أمر ونهى وأحل وحرّم في عباداتهم ومعاملاتهم وأخلاقهم ومآكلهم ومشاربهم وعلاقاتهم الأسرية والاجتماعية وحسن التعامل مع غيرهم.(1/28)
2- يوصي المجلس المسلمين المقيمين في أوروبا بالعمل الجاد للحصول على اعتراف الدول التي يقيمون فيها بالإسلام ديناً، وبالمسلمين أقلية دينية على غرار الأقليات الدينية الأخرى في التمتع بحقوقهم كاملة وفي تنظيم أحوالهم الشخصية كالزواج والطلاق والميراث. ويناشد الدول الأوروبية الاعتراف بالدين الإسلامي وحقوق المسلمين على غرار ما قامت به بعضها كبلجيكا وإسبانيا والنمسا والمجر. ومن أجل ذلك فإن المجلس يوصي المسلمين بتشكيل هيئات شرعية تتولى تنظيم أحوالهم الشخصية وفق أحكام الشريعة الإسلامية الغراء، مع مراعاة الالتزام بالقوانين السائدة.
3- كما يوصي المجلس هؤلاء الإخوة المسلمين ويشدد في الوصية بالالتزام بما دلت عليه نصوص الكتاب والسنّة وبما أجمع عليه فقهاء الإسلام من وجوب الوفاء بمقتضيات عهد الأمان وشروط الإقامة والمواطنة في البلاد الأوروبية التي يعيشون فيها، ومن أهم ما يجب عليهم:
أ - أن يعتقدوا أن أرواح غير المسلمين وأموالهم وأعراضهم معصومة بمقتضى ذلك العهد الذي دخلوا به هذه البلاد، والذي لولاه لما سمح لهم بدخولها أو استمرار الإقامة فيها، وقد قال الله تعالى: (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا).
ب - أن يحترموا قوانين هذه البلاد التي آوتهم وحمتهم ومكنتهم من التمتع بكل ضمانات العيش الكريم، وقد قال تعالى: (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان).
ج - أن يجتنبوا كل أساليب الكسب الحرام على اختلاف أنواعها، ومنها سعي بعض المسلمين للحصول على معونة الضمان الاجتماعي مع أنهم يعملون أو يتاجرون.
د - أن يبذلوا أقصى الوسع في تنشئة الجيل الجديد - بنين وبنات - تنشئة إسلامية معاصرة، وذلك بتأسيس المدارس والمراكز التربوية والترفيهية لحمايتهم من الانحراف.(1/29)
4- كما يوصي المجلس المسلمين عامة والمقيمين في ديار الغرب خاصة بالاعتصام بحبل الله والأخوّة والسماحة والاعتدال والتعاون على البر والتقوى والتزام الحوار الهادئ والأساليب السلمية في معالجة قضايا الخلاف، بعيداً عن مناهج التشدد ومسالك التطرف التي تشوّه صورة الإسلام وتسيء أبلغ الإساءة إلى المسلمين عامة وإلى الأقليات المسلمة خاصة فيتلقفها أعداء الإسلام والجاهلون به للتشنيع عليه والتخويف منه ومن أهله واستعداء الأمم عليهما، وقد قال الله تعالى: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن).
ويطيب لرئيس المجلس وأعضائه أن يتوجهوا بخالص الشكر والامتنان لأمانته العامة على ما تقوم به من جهد لإنجاح أعمال المجلس ، ولهيئة المكتوم الخيرية وللمركز الثقافي الإسلامي في ايرلندا والقائمين عليهما على استضافتهم لهذه الدورة وما بذلوه من كرم الضيافة وجميل الحفاوة وحسن الاستقبال ومن جهد تنظيمي مقدر ، وكذلك على ما أبدوه من استعداد لاستضافة دورات المجلس القادمة في المركز المذكور، كما يتقدم المجلس بالشكر للحكومة الايرلندية التي منحت تأشيرات السفر لأعضاء المجلس حتى يسّرت انعقاده على أراضيها على الوجه المرضي.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
والحمد لله رب العالمين(1/30)
البيان الختامى 5
بتاريخ: 29-7-2008
البيان الختامي
للدورة العادية الخامسة للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث
المنعقدة في المركز الثقافي الإسلامي بدبلن
في الفترة 30 محرم ـ 3 صفر 1421هـ الموافق 4 - 7 مايو 2000م
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد..
فقد انعقدت على بركة الله الدورة العادية الخامسة للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث في المركز الثقافي الإسلامي بدبلن (جمهورية أيرلندا) فيما بين30 محرم ـ 3 صفر 1421هـ الموافق 4 - 7 مايو 2000م برئاسة فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي رئيس المجلس حفظه الله، وبحضور غالبية الأعضاء.
وقد استعرض المجلس جدول أعماله المشتمل على التقرير الدوري للأمانة العامة، واتخذ القرارات اللازمة للأعمال الإدارية والمالية، ومن أهمها نقل مسؤولية الأمين العام من فضيلة الشيخ عبدالله بن يوسف الجديع مع تثمين جهوده في تطوير المؤسسة إلى فضيلة الشيخ حسين محمد حلاوة، ونقل مقر الأمانة إلى أيرلندا. ثم تدارس مجموعة من الموضوعات المدرجة على جدول أعماله واتخذ بشأنها القرارات المناسبة، ومن أبرزها:(1/31)
القرار 1/ 5:
توريث المسلم من أقاربه غير المسلمين
يرى المجلس عدم حرمان المسلمين ميراثهم من أقاربهم غير المسلمين ومما يوصون لهم به. وأنه ليس في ذلك ما يعارض الحديث الصحيح: "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم" الذي يتجه حمله على الكافر الحربي، مع التنبيه إلى أنه في أول الإسلام لم يحرم المسلمون من ميراث أقاربهم من غير المسلمين. وهو ما ذهب إليه من الصحابة معاذ بن جبل ومعاوية بن أبي سفيان ومن التابعين جماعة منهم سعيد بن المسيب ومحمد بن الحنفية وأبو جعفر الباقر ومسروق بن الأجدع، ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم.(1/32)
القرار 2/5:
طلاق المرأة نفسها
وفي مسألة مدى جواز طلاق المرأة نفسها، فإن المجلس قد قرر بعد بحث مستفيض ما يلي:
أولاً: أن الطلاق من حيث الأساس حق أعطاه الإسلام للرجل.
ثانياً: يمكن أن تطلق المرأة نفسها إذا اشترطت ذلك في عقد الزواج أو إذا فوضها زوجها بذلك بعد العقد.
ثالثاً: يمكن للمرأة أن تخالع زوجها إذا رغبت في ذلك أمام القاضي الذي يجب عليه أن يبذل كل جهد ممكن للإصلاح بينهما، فإن يئس قضى بالخلع.
رابعاً: يمكن للمرأة أن تتفق مع زوجها على الطلاق ضمن أي شروط مشروعة يتراضيان عليها.
خامساً: يمكن للمرأة أن تطلب من القاضي التفريق بسبب الضرر المعتبر شرعاً، وله أن يحكم بذلك إذا أثبتت الزوجة ادعاءها، وبعد أن يبذل جهده في الإصلاح بين الزوجين كما أمر الله تعالى، وخاصة اختيار حكمين يساعدانه في هذه المهمة.(1/33)
القرار 3/5:
حكم تطليق القاضي غير المسلم
الأصل أن المسلم لا يرجع في قضائه إلا إلى قاض مسلم أو من يقوم مقامه، غير أنه بسبب غياب قضاء إسلامي حتى الآن يتحاكم إليه المسلمون في غير البلاد الإسلامية، فإنه يتعين على المسلم الذي أجرى عقد زواجه وفق قوانين هذه البلاد، تنفيذ قرار القاضي غير المسلم بالطلاق، لأن هذا المسلم لما عقد زواجه وفق هذا القانون غير الإسلامي، فقد رضي ضمناً بنتائجه، ومنها أن هذا العقد لا يحل عروته إلا القاضي. وهو ما يمكن اعتباره تفويضاً من الزوج جائزاً له شرعاً عند الجمهور، ولو لم يصرح بذلك. لأن القاعدة الفقهية تقول (المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً). وتنفيذ أحكام القضاء ولو كان غير إسلامي جائز من باب جلب المصالح ودفع المفاسد وحسماً للفوضى، كما أفاده كلام غير واحد من حذاق العلماء كالعز بن عبدالسلام وابن تيمية والشاطبي.(1/34)
القرار 4/5:
حكم كشف المرأة المسلمة عورتها أمام غير المسلمة
أجاب المجلس عن سؤال حول عورة المسلمات أمام غير المسلمات واشتراكهن في مسبح آمن خاص بهن، بأنه لا مانع من هذا الاشتراك وأن عورة المسلمة تجاه غير المسلمة هي كعورة الرجل أمام الرجل، أي من السرة إلى الركبة، على ما هو المذهب المعتمد عند الحنابلة وقول صحيح في المذاهب الثلاثة. ويوصي المجلس الأخوات الصالحات بالحرص على غض البصر عما يظهر من العورات وعلى أن يتخذن من بينهن من تدربهن على السباحة، ونظراً لما بدا من حرص هؤلاء النسوة غير المسلمات على صورة من صور الحشمة في الابتعاد عن خلطة الرجال في هذا الموضع، فإن على المسلمات الاستفادة من ذلك في دعوتهن إلى الإسلام وقيمه.(1/35)
القرار 5/5:
مشاركة المرأة في العمل العام
نبه المجلس إلى المكانة المتميزة التي خولها الإسلام المرأة إذ جعلها شقيقة للرجل، مساوية له في الإنسانية وفي حمل أمانة الله في تكامل بين الحقوق والواجبات (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف). ولا ريب أن المرأة تعرضت قديماً وحديثاً لمظالم شتى إفراطاً وتفريطاً، وما أنصفها غير الإسلام.
وفيما يخص مشاركة المرأة في العمل العام، فإن المجلس قد أكد أن لها حقاً قد يرتفع أحياناً إلى درجة الواجب في أن تؤسس أو تشارك في تأسيس وإدارة المراكز الإسلامية والجمعيات الخيرية فتنهض بدعوة المسلمين وغيرهم وتقدم الخدمات إليهم لا سيما لبنات جنسها. كما أن لها أن تشارك في الأعمال المنظمة بقصد استئناف الحياة الإسلامية، كما لها المشاركة في العمل السياسي انتخاباً وترشيحاً، وكل ذلك مشروط بأن يكون وفق أحكام الشريعة الإسلامية الغراء وآدابها في جميع الأحوال.(1/36)
القرار 6/5:
كما تداول المجلس القضايا التالية واستمع إلى الأبحاث المقدمة فيها وناقشها باستفاضة، وهي: موضوع التأمين وما يتعلق به، وموضوع البورصة، ومسألة المرأة تسلم وزوجها باق على دينه، فرأى تأجيل البت فيها لمزيد من البحث والاستقصاء.
التوصيات:
يؤكد المجلس ما سبق أن أوصى به المسلمين في الدورات السابقة وما ارتآه في هذه الدورة مما يلي:
1. يطالب المجلس المسلمين في أوروبا وفي سائر البلاد غير الإسلامية بالسعي الجاد للاعتراف بهم كمجموعة دينية خاصة، وإتاحة المجال أمامهم للرجوع في أحوالهم الشخصية إلى أحكامهم الشرعية، خاصة وأن غير المسلمين في البلاد الإسلامية يتمتعون بحرية في تطبيق أحكامهم الدينية في هذا المجال منذ قيام الدولة الإسلامية وحتى اليوم.
كما يطالب السلطات الأوروبية بالاعتراف للمسلمين بهذا الحق، باعتباره يمثل أهم حقوق الإنسان كفرد، وأهم حقوق الجماعات الإنسانية المختلفة. وريثما يتم ذلك فإن المجلس يطالب المسلمين بالحرص على تطبيق أحكامهم الخاصة في أحوالهم الشخصية ما أمكنهم ذلك وفي حدود القوانين النافذة.
2. كما يوصيهم بالمحافظة على هويتهم الإسلامية، وشخصيتهم الدينية، وذلك بالتزام شرع ربهم في ما أمر ونهى وأحل وحرّم في عباداتهم ومعاملاتهم وأخلاقهم ومآكلهم ومشاربهم وعلاقاتهم الأسرية والاجتماعية وحسن التعامل مع غيرهم.
3. ويوصيهم - ويشدد في الوصية - بالالتزام بما دلت عليه نصوص الكتاب والسنّة وبما أجمع عليه فقهاء الإسلام من وجوب الوفاء بمقتضيات عهد الأمان وشروط الإقامة والمواطنة في البلاد الأوروبية التي يعيشون فيها، ومن أهم ما يجب عليهم:
أ . أن يعتقدوا أن أرواح غير المسلمين وأموالهم وأعراضهم معصومة بمقتضى ذلك العهد الذي دخلوا به هذه البلاد، والذي لولاه لما سمح لهم بدخولها أو استمرار الإقامة فيها، وقد قال الله تعالى: (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً).
ب . أن يحترموا قوانين هذه البلاد التي يقطنونها والتي مكنتهم من التمتع بكل ضمانات العيش الكريم، وقد قال الله تعالى: (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان.(1/37)
ج . أن يجتنبوا كل أساليب الكسب الحرام على اختلاف أنواعها، ومنها سعيهم للحصول على معونة الضمان الاجتماعي مع أنهم يعملون أو يتاجرون.
د . أن يبذلوا أقصى الوسع في تنشئة الجيل الجديد ـ بنين وبنات ـ تنشئة إسلامية معاصرة، وذلك بتأسيس المدارس والمراكز التربوية والترفيهية لحمايتهم من الانحراف وحتى يكونوا عناصر صالحة ومؤثرة في المجتمع.
4. كما يوصي المجلس المسلمين عامة والمقيمين في ديار الغرب خاصة بالاعتصام بحبل الله والأخوّة والسماحة والاعتدال والتعاون على البر والتقوى والتزام الحوار الهادئ والأساليب السلمية في معالجة قضايا الخلاف، بعيداً عن مناهج التشدد ومسالك التطرف التي تشوّه صورة الإسلام وتسيء أبلغ الإساءة إلى المسلمين عامة وإلى الأقليات المسلمة خاصة فيتلقفها أعداء الإسلام والجاهلون به للتشنيع عليه والتخويف منه ومن أهله واستعداء الأمم عليهما، وقد قال الله تعالى: )ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن(.
ويطيب لرئيس المجلس وأعضائه أن يتوجهوا بخالص الشكر لهيئة المكتوم الخيرية وللمركز الثقافي الإسلامي في ايرلندا والقائمين عليهما على استضافتهم لهذه الدورة وما بذلوه من كرم الضيافة وجميل الحفاوة وحسن الاستقبال ومن جهد تنظيمي مقدر، كما يتقدم المجلس بالشكر للحكومة الأيرلندية التي منحت تأشيرات السفر لأعضاء المجلس حتى يسّرت انعقاده على أراضيها على الوجه المرضي.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
والحمد لله رب العالمين(1/38)
البيان الختامى 6
بتاريخ: 29-7-2008
البيان الختامي
للدورة العادية السادسة للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث
المنعقدة في مقره بالمركز الثقافي الإسلامي بدبلن
في الفترة 28 جمادى الاولى - 3 جمادى الآخرة 1421هـ الموافق 28 أغسطس - 1 سبتمبر 2000م
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد..
فقد انعقدت على بركة الله تعالى وبرعايته الدورة العادية السادسة للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث في مقره بالمركز الثقافي الإسلامي بدبلن (جمهورية أيرلندا) فيما بين 28 جمادى الأولى ـ 3 جمادى الآخرة 1421هـ الموافق 28اغسطس -1 سبتمبر 2000م برئاسة فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي رئيس المجلس حفظه الله، وبحضور غالبية الأعضاء.
كما شارك في جلسة الافتتاح سعادة السيد ميرزا الصايغ رئيس هيئة المكتوم الخيرية، وأثنى في كلمته على الدور الإيجابي الذي يقوم به المجلس للمسلمين في بلاد الغرب، وأكد التزام هيئة المكتوم بتحمل جميع التكاليف المالية التي يتطلبها استمرار أعمال المجلس وعقد دوراته. وقد شكر رئيس المجلس في كلمته الافتتاحية تلك البادرة الطيبة، ودعا بحسن الجزاء لراعيها سمو الشيخ حمدان بن راشد آل مكتوم نائب حاكم دبي وزير المالية والصناعة بدولة الإمارات العربية المتحدة.(1/39)
وقد استعرض المجلس جدول أعماله المشتمل على التقرير الدوري للأمانة العامة، واتخذ القرارات اللازمة للأعمال الإدارية والمالية، ومن أهمها تشكيل لجنه للبحوث برئاسة فضيلة الدكتور عبد المجيد النجار وأخرى للإفتاء برئاسة فضيلة الشيخ عبد الله بن يوسف الجديع، وتعيينه مقررا لدورات المجلس.كما تجدر الإشارة إلى أن مجموعة من أعضاء المجلس المتخصصين في الأمور المالية عقدوا اجتماعا مع بعض مسئولي أحد البنوك الأيرلندية وتداولوا معهم إمكانية إيجاد بدائل إسلامية عن المعاملات الربوية الجارية وتم الاتفاق على مواصلة التعاون مع المجلس بهذا الصدد.
ثم تدارس المجلس مجموعة من الأعمال اتخذ بشأنها القرارات المناسبة، والتي كان بعضها بالإجماع، والبعض الآخر بالأغلبية، ومن أبرزها:(1/40)
القرار 1/ 6:
التنازل عن القدس خيانة لله ولرسوله وللمؤمنين
لا يجوز لأحد أن يتنازل عن أي جزء من أرض الإسلام، فأرض الإسلام ليست حقًا لرئيس ولا لأمير ولا لوزير ولا لجماعة من الناس، حتى تتنازل عنها تحت أي ضغط أو ظرف. وإنما الواجب على الأفراد والجماعات أن يسعوا بكل الوسائل لمقاومة الاحتلال وتحرير القدس الشريف، واستعادتها إلى دار الإسلام.
وإذا عجز جيل من أجيال الأمة أو تقاعس، فلا يجوز له أن يفرض عجزه أو تقاعسه على كل أجيال الأمة القادمة إلى يوم القيامة، فيتنازل عما لا يجوز له التنازل عنه.
و لهذا يفتي المجلس بتحريم بيع الأرض للأعداء في القدس أو غيرها من أرض فلسطين أو قبول التعويض عنها بالنسبة للاجئين المشردين. لأن أوطان الإسلام لا تقبل التنازل أو التعويض عنها بحال من الأحوال، ومن فعل ذلك فقد خان الله ورسوله وجماعة المؤمنين.(1/41)
و إذا كان هذا الحكم في شأن أي أرض إسلامية، فكيف إذا كانت هذه الأرض في القدس الشريف، أولى القبلتين، وبلد المسجد الأقصى، وثالث المدن المعظمة في الإسلام بعد مكة والمدينة، والأرض التي انتهى إليها الإسراء، وابتدأ منها المعراج. وحسبنا في فضلها قول الله تعالى : (( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا )) الإسراء :1.
و لهذا كان للقدس مكان في قلب كل مسلم، في المشرق أو المغرب، تمس شغافه، وتتغلغل في أعماقه، حبّاً لها، وحرصا عليها، وغيرة على حرماتها، واهتماما بشأنها. ومن أجلها أصبحت قضية فلسطين هي قضية المسلمين الأولى، لها يفزعون، وعليها يحافظون، وفي سبيلها يدافعون ويقاتلون، ولا يضنون عليها بنفس ولا نفيس.
إن القدس ليست للفلسطينيين وحدهم، إنها للمسلمين جميعا، عربهم وعجمهم، كما أنها للعرب كافة، مسلمهم ومسيحيهم.
و لا يجوز للفلسطينيين وحدهم أن يتصرفوا في مصير القدس، ويفتئتوا على المسلمين في أنحاء الأرض. وهذا بالتالي يوجب على المسلمين - حيثما كانوا - أن يقوموا بواجبهم ويبذلوا ما في وسعهم في الدفاع عن بيت المقدس، والمسجد الأقصى، وهذا فرض عليهم جميعا، يتكافلون في الذود عنه بأنفسهم وأموالهم وكل ما ملكت أيديهم، وإلا حقت عليهم عقوبة الله تعالى (( يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم : انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض، أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة، فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل. إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوماً غيركم، ولا تضروه شيئاً، والله على كل شيء قدير )) التوبة : 38،39.
و حينما احتل الصليبيون القدس قديماً، كان الذين عملوا على تحريرها مسلمين من غير العرب، مثل عماد الدين زنكي التركي، وابنه نور الدين محمود الشهيد، وتلميذه صلاح الدين الأيوبي الكردي، الذي حرر الله القدس على يديه.(1/42)
و لا يزال المسلمون في كل مكان - أكثر من مليار وثلث - مستعدين للبذل والتضحية من اجل القدس العزيز، وهذا شيء يلمسه كل أحد لدى الشعوب الإسلامية، ابتداء من الفليبين وإندونيسيا في الشرق إلى موريتانيا في المغرب العربي، وإن لم ينعكس هذا بصورة قوية وواضحة لدى بعض حكام المسلمين للأسف.
إن القدس جزء عزيز من دار الإسلام، وأرض الإسلام، ووطن الإسلام، وقد صار للمسلمين فيها أربعة عشر قرناً من الزمان، ولم يأخذوها من اليهود، فقد انتهى الوجود اليهودي فيها منذ مئات السنين، كما انتهت دولتهم قبل ذلك بمئات السنين، فلم تقم لليهود دولة في فلسطين إلا بضع مئات من السنين، وكان العرب اليبوسيون وغيرهم فيها منذ آلاف السنين.
لقد تسلم عمر بن الخطاب القدس من (بطريركها) النصراني صفرنيوس، وكان مما شارطه عليه عمر : ألا يساكنهم فيها يهود !
إن السيادة على القدس يجب أن تكون إسلامية عربية فلسطينية وهذا لا يمنع المسيحي، كما لا يمنع اليهودي، أن يقيم شعائر دينه فيها بكل حرية وسماحة، عرف بها الإسلام على توالي العصور.
(( والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون)).(1/43)
القرار 2/6:
نقل الأعضاء
1. حكم نقل الأعضاء وحالاته:
( أ ) يؤكد المجلس قرار المجمع الفقهي الإسلامي بمكة (التابع لرابطة العالم الإسلامي) رقم...... وقرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة (المنبثق عن منظمة المؤتمر العالم الإسلامي) رقم 26 (1/4) بشأن انتفاع الإنسان بأعضاء جسم إنسان آخر حياً كان أو ميتاً, ونصه:
من حيث التعريف والتقسيم:
أولاً: يقصد هنا بالعضو أي جزء من الإنسان, من أنسجة وخلايا ودماء ونحوها, كقرنية العين. سواء أكان متصلا به, أم انفصل عنه.
ثانياً: الانتفاع الذي هو محل البحث, هو استفادة دعت ضرورة المستفيد لاستبقاء أصل الحياة, أو المحافظة على وظيفة أساسية من وظائف الجسم كالبصر ونحوه. على أن يكون المستفيد يتمتع بحياة محترمة شرعاً.(1/44)
ثالثاً: تنقسم صور الانتفاع هذه إلى الأقسام التالية:
1- نقل العضو من حي.
2- نقل العضو من ميت.
3- النقل من الأجنة.
الصورة الأولى: وهي نقل العضو من حي, تشمل الحالات التالية:
أ - نقل العضومن مكان من الجسد إلى مكان آخر من الجسد نفسه, كنقل الجلد والغضاريف والعظام والأوردة والدم ونحوها.
ب - نقل العضو من جسم إنسان حي إلى جسم إنسان آخر. وينقسم العضو في هذه الحالة إلى ما تتوقف عليه الحياة وما لا تتوقف عليه.
أما ما تتوقف عليه الحياة, فقد يكون فردياً, وقد يكون غير فردي, فالأول كالقلب والكبد, والثاني كالكلية والرئتين.
وأما ما تتوقف عليه الحياة, فمنه ما يقوم بوظيفة أساسية في الجسم ومنه ما لا يقوم بها. ومنه ما يتجدد تلقائياً كالدم, ومنه ما لا يتجدد, ومنه ما له تأثير على الأنساب والمورِّثات, والشخصية العامة, كالخصية والمبيض وخلايا الجهاز العصبي, ومنه ما لا تأثير له على شيء من ذلك.
الصورة الثانية : وهي نقل العضو من ميت:
ويلاحظ أن الموت يشمل حالتين:
الحالة الأولى: موت الدماغ بتعطل جميع وظائفه تعطلاً نهائياً لا رجعة فيه طبياً.
الحالة الثانية: توقف القلب والتنفس توقفاً تاماً لا رجعة فيه طبياً. وقد روعي في كلتا الحالتين قرار المجمع في دورته الثالثة:
الصورة الثالثة: وهي النقل من الأجنة, وتتم الاستفادة منها في ثلاث حالات:
حالة الأجنة الني تسقط تلقائياً.
حالة الأجنة التي تسقط لعامل طبي أو جنائي.
حالة "اللقائح المستنبتة خارج الرحم".
من حيث الأحكام الشرعية:
أولاً: يجوز نقل العضو من جسم الإنسان إلى مكان آخر من جسمه, مع مراعاة التأكد من أن النفع المتوقع من هذه العملية أرجح من الضرر المترتب عليها, وبشرط أن يكون ذلك لإيجاد عضو مفقود أو لإعادة شكله أو وظيفته المعهودة له, أو لإصلاح عيب أو إزالة دمامة تسبب للشخص أذى نفسياً أو عضوياً.(1/45)
ثانيا: يجوز نقل العضو من جسم إنسان إلى جسم إنسان آخر, إن كان هذا العضو يتجدد تلقائياً, كالدم والجلد, ويراعى في ذلك كون الباذل كامل الأهلية, وتحقق الشرعية المعتبرة.
ثالثاً: تجوز الاستفادة من جزء من العضو الذي استؤصل من الجسم لعلة مرضية لشخص آخر, كأخذ قرنية العين لإنسان ما عند استئصال العين لعلة مرضية.
رابعاً: يحرم نقل عضو تتوقف عليه الحياة كالقلب من إنسان إلى إنسان آخر.
خامساً: يحرم نقل عضو من إنسان حي يعطل زواله وظيفة أساسية في حياته وإن لم تتوقف سلامة أصل الحياة عليها، كنقل قرنية العينين كلتيهما, أما إن كان النقل يعطل جزءاً من وظيفة أساسية فهو محل بحث ونظر كما يأتي في الفقرة الثامنة.
سادساً: يجوز نقل عضو من ميت إلى حي تتوقف حياته على ذلك العضو, أو تتوقف سلامة وظيفة أساسية فيه على ذلك, بشرط أن يأذن الميت قبل موته أو ورثته بعد موته, أو بشرط موافقة وليّ أمر المسلمين إن كان المتوفى مجهول الهوية أو لا ورثة له.
سابعاً: وينبغي ملاحظة: أن الاتفاق على جواز نقل العضو في الحالات التي تم بيانها, مشروط بأن لا يتم ذلك بوساطة بيع العضو، إذ لا يجوز إخضاع الإنسان للبيع بحال ما.
أما بذل المال من المستفيد, ابتغاء الحصول على العضو المطلوب عند الضرورة أو مكافأة وتكريماً, فمحل اجتهاد ونظر.
ثامناً: كل ما عدا الحالات والصور المذكورة, مما يدخل في أصل الموضوع, فهو محل بحث ونظر, ويجب طرحه للدراسة والبحث في دورة قادمة, على ضوء المعطيات الطبية والأحكام الشرعية.
(ب) يؤكد المجلس أيضاً قرار مجمع الفقه الاسلامي الدولي بجدة رقم 57(8/6) بشأن زراعة الأعضاء التناسلية, ونصه:
أولاً :زرع الغدد التناسلية : بما أن الخصية والمبيض يستمران في حمل وإفراز الصفات الوراثية ( الشفرة الوراثية ) للمنقول منه حتى بعد زرعهما في متلقّ جديد، فإن زرعهما محرم شرعاً.(1/46)
ثانيا : زرع أعضاء الجهاز التناسلي :زرع بعض أعضاء الجهاز التناسلي التى لا تنقل الصفات الوراثية - ما عدا العورات المغلظة - جائز لضرروة مشروعة وفق الضوابط والمعايير الشرعية المبينة في القرار رقم 26 (1 \ 4 ) لهذا المجمع، والله أعلم.
(ج) يؤكد المجلس أيضاً قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة رقم 54 ( 5\6 ) بشأن زراعة خلايا المخ والجهاز العصبي ونصه :
أولاً: إذا كان المصدر للحصول على الأنسجة هو الغدة الكظرية للمريض نفسه وفيه ميزة القبول المناعي؛ لأن الخلايا من الجسم نفسه فلا بأس من ذلك شرعاً.
ثانياً: إذا كان المصدر هو أخذها من جنين حيواني فلا مانع من هذه الطريقة إن أمكن نجاحها ولم يترتب على ذلك محاذير شرعية. وقد ذكر الأطباء أن هذه الطريقة نجحت بين فصائل مختلفة من الحيوان، ومن المأمول نجاحها باتخاذ الاحتياطات الطبية اللازمة لتفادي الرفض المناعي.
ثالثاً : إذا كان المصدر للحصول على الأنسجة هو خلايا حية من مخ جنين باكر (في الأسبوع العاشر أو الحادي عشر) فيختلف الحكم على النحو التالي.
ا : الطريقة الأولى : أخذها مباشرة من الجنين الإنساني في بطن أمه، بفتح الرحم جراحياً، وتستتبع هذه الطريقة إماتة الجنين بمجرد أخذ الخلايا من مخه، ويحرم ذلك شرعاً إلا إذا كان بعد إجهاض طبعي غير متعمد أو إجهاض مشروع لإنقاذ حياة الأم وتحقق موت الجنين، مع مراعاة الشروط التي سترد في موضوع الاستفادة من الأجنة في القرار رقم 95 ( 8/6 ) لهذه الدورة.
ب : الطريقة الثانية وهي طريقة قد يحملها المستقبل القريب في طياته باستزراع خلايا المخ في مزارع للإفادة منها ولابأس في ذلك شرعاً إذا كان المصدر للخلايا المستزرعة مشروعاً، وتم الحصول عليها على الوجه المشروع.(1/47)
رابعاً : المولود اللادماغي : طالما ولد حياً، لا يجوز التعرض له بأخذ شيء من أعضائه إلى أن يتحقق موته بموت جذع دماغه، ولا فرق بينه وبين غيره من الأسوياء في هذا الموضوع، فإذا مات فإن الأخذ من أعضائه تراعى فيه الأحكام والشروط المعتبرة في نقل أعضاء الموتى من الإذن المعتبر، وعدم وجود البديل وتحقق الضرورة وغيرها، ومما تضمنه القرار رقم 26 (1/4 ) من قرارات الدورة الرابعة لهذا المجمع. ولا مانع شرعاً من إبقاء هذا المولود اللادماغي على أجهزة الانعاش إلى ما بعد موت جذع المخ - والذي يمكن تشخيصه - للمحافظة على حيوية الأعضاء الصالحة للنقل، توطئة للاستفادة منها بنقلها إلى غيره بالشروط المشار إليها.
- تحديد المنتفع بالأعضاء، ووسيلة ذلك :
هذا وقد استكمل المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث بعد المناقشة المسائل الآتية التي تتعلق بنقل الأعضاء، وهي:
(أ ) إذا حدد المتبرع أو ورثته شخصاً معيناً للانتفاع بالعضو المتبرع به أو فوض جهة معينة بتحديد الشخص المنتفع به فيجب الالتزام بذلك ما أمكن، فإن لم يمكن لسبب إرادي أو طبي فإنه يرجع في ذلك إلى ورثة المتبرع، فإن لم يتيسر فيرجع إلى الجهة المعنية بمصالح المسلمين في البلاد غير الإسلامية.
(ب ) إذا كتب الشخص وثيقة للتبرع بعضو من أعضائه بعد وفاته فتطبق على ذلك أحكام الوصية، ولا يجوز للورثة أو غيرهم تبديل الوصية.
(ج) في حالة وجود قانون بأن من لم يصرح بعدم الرغبة في أن ينتفع بأعضائه بعد وفاته يعتبر موافقاً؛ فإن عدم التصريح بالرفض يعتبر موافقة ضمنية.(1/48)
القرار 3/6:
تهنئة غير المسلمين بأعيادهم
مما لا شك أن القضية قضية مهمة وحساسة خاصة للمسلمين المقيمين في بلاد الغرب، وقد ورد إلى المجلس أسئلة كثيرة من الإخوة والأخوات، الذين يعيشون في تلك الديار، ويعايشون أهلها من غير المسلمين، وتنعقد بينهم وبين كثير منهم روابط تفرضها الحياة، مثل الجوار في المنزل، والرفقة في العمل، والزمالة في الدراسة، وقد يشعر المسلم بفضل غير المسلم عليه في ظروف معينة، مثل المشرف الذي يساعد الطالب المسلم بإخلاص، والطبيب الذي يعالج المريض المسلم بإخلاص، وغيرهما. وكما قيل: إن الإنسان أسير الإحسان، وقال الشاعر:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ!
ما موقف المسلم من هؤلاء (غير المسلمين) المسالمين لهم، الذين لا يعادون المسلمين، ولا يقاتلونهم في دينهم، ولم يخرجوهم من ديارهم أو يظاهروا على إخراجهم؟
إن القرآن الكريم قد وضع دستور العلاقة بين المسلمين وغيرهم في آيتين من كتاب الله تعالى في سورة الممتحنة، وقد نزلت في شأن المشركين الوثنيين، فقال تعالى: ((لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين. إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم، وظاهروا على إخراجكم، أن تولوهم، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون)) الممتحنة: 8-9.
ففرقت الآيتان بين المسالمين للمسلمين والمحاربين لهم:
فالأولون (المسالمون) شرعت الآية الكريمة برهم والإقساط إليهم، والقسط يعني: العدل، والبر يعني: الإحسان والفضل، وهو فوق العدل، فالعدل: أن تأخذ حقك، والبر: أن تتنازل عن بعض حقك. العدل أو القسط: أن تعطي الشخص حقه لا تنقص منه. والبر: أن تزيده على حقه فضلا وإحسانا.(1/49)
وأما الآخرون الذين نهت الآية الأخرى عن موالاتهم، فهم الذين عادوا المسلمين وقاتلوهم، وأخرجوهم من أوطانهم بغير حق إلا أن يقولوا: ربنا الله، كما فعلت قريش ومشركو مكة بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه.
وقد اختار القرآن للتعامل مع المسالمين كلمة (البر) حين قال: (أن تبروهم) وهي الكلمة المستخدمة في أعظم حق على الإنسان بعد حق الله تعالى، وهو (بر الوالدين).
وقد روى الشيخان عن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنها - أنها جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن أمي قدمت علي وهي مشركة، وهي راغبة (أي في صلتها والإهداء إليها) أفأصلها؟ قال: "صلي أمك".
هذا وهي مشركة، ومعلوم أن موقف الإسلام من أهل الكتاب أخف من موقفه من المشركين الوثنيين.
حتى إن القرآن أجاز مؤاكلتهم ومصاهرتهم، بمعنى: أن يأكل من ذبائحهم ويتزوج من نسائهم، كما قال تعالى في سورة المائدة: ((وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم، والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم)) المائدة:5.(1/50)
البيان الختامى 7
بتاريخ: 29-7-2008
البيان الختامي
للدورة العادية السابعة للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث
المنعقدة في مقره بالمركز الثقافي الإسلامي بدبلن
في الفترة 29 شوال - 3 ذي القعدة 1421هـ الموافق 24 - 27 يناير 2001 م
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
و بعد..
فقد انعقدت على بركة الله تعالى ورعايته الدورة العادية السابعة للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث في مقره بالمركز الثقافي الإسلامي بدبلن (جمهورية أيرلندا) ما بين 29 شوال - 3 ذي القعدة 1421هـ الموافق 24 يناير - 27 يناير 2001 م برئاسة فضيلة الإمام الدكتور يوسف القرضاوي رئيس المجلس حفظه الله، وبحضور غالبية الأعضاء.
وقد استعرض المجلس جدول أعماله المشتمل على التقرير الدوري للأمانة العامة، واتخذ القرارات اللازمة للأعمال الإدارية والمالية. ثم تدارس مجموعة من القضايا والمسائل المدرجة على جدول أعماله واتخذ بشأنها القرارات والتوصيات المناسبة ، ومن أبرزها :(1/51)
1. التأصيل لفقه الأقليات، حيث قدم بحثان دار حولهما حوار معمق، أفضى إلى إقرار عدد من الأسس لهذا الفقه، من أبرزها الحفاظ على هوية المجموعات الإسلامية في أوروبا، وضوابط انفتاحها على محيطها وتأثيرها الإيجابي فيه، كالمحافظة على وحدتها وشخصيتها الجماعية، وتنمية بعد المواطنة لديها. غير أنه أجل البت في هذا المبحث لمزيد من الدراسة، موصياً بإعداد دراسة حول المواطنة الأوروبية والإسلام.
2. قضية إسلام المرأة وزوجها باق على دينه:
وقد حظيت المسألة ببحث مستفيض من خلال أربع دراسات دار حولها الحوار، قد اتجهت اتجاهات متباينة، ونظراً لأهمية الموضوع وخطورته فقد أرجئ اتخاذ قرار فيه لمزيد من المراجعة. وأوصى المجلس باستطلاع آراء آخرين من أهل العلم في ذلك.(1/52)
3. وفي قضية "التحكيم":
قدم عرض تفصيلي حول أهمية هذا الموضوع بالنسبة للمسلمين في الغرب، لما يحققه من مصالح في فض نزاعاتهم الأسرية ومعاملاتهم التجارية، واتنهى المجلس إلى تكليف أحد أعضائه المتخصصين بإعداد لائحة تنظيمية لهذا الشأن.
4. فتاوى متفرقة:
أجاب المجلس عن عدد من الاستفتاءات الموجهة إليه من عموم المسلمين في مسائل مختلفة، من أهمها:
أ . حكم احتراف الرياضة.
وأجاب المجلس بتوكيد قاعدة "أن احتراف المباح مباح" إلا ما استثني بدليله، والرياضة مباحة في نفسها على اقل تقدير إن لم تكن مندوبة أو واجبة ، وقد حث رسول الله صلى الله عليه وسلم الامة على بعض انواع الرياضة التي تحفظ صحة الانسان وقوة الأمة وهذا ما لم تفض إلى ضرر
ب - حول مدى ضرورة اشتراط مراعاة السن في الأضحية:
فأجاب بأن اعتبار السن المحدد للأضحية في الضأن والبقر هو للتحقق من الإنتفاع بها ليكون ما يضحى به مجزئاً، والسن هو علامة أو أمارة على ذلك ، سواء أتم ذلك بنمو طبيعي أم باستخدام طرق التسمين، فإن التضحية بها جائزة تحقيقاً للمقصود الشرعي من اشتراط السن، وقد أفتى بهذا بعض مشاهير المالكية، وينبغي مراعاة المتطلبات الصحية لتجنب الأضرار التي قد تحدث من ذبائح مريضة أو مشتملة على موانع معروفة، مثل جنون البقر، والله أعلم.
وبالمناسبة فإن المجلس ينبه المسلمين إلى ما يلي:
q الحرص على الالتزام بالقوانين الصحية التي تشترط رقابة الطبيب البيطري على الذبائح في المسالخ الرسمية.
q يجوز شرعاً أن يوكِّل المسلم غيره بذبح أضحيته عنه، ولو في بلد آخر، خاصة في البلاد التي يتعرض فيها المسلمون للاضطهاد أو المجاعة أو الحاجة الملحة.
q في حال تعذر حصول المضحي على أضحية من المسلخ في اليوم الأول من أيام العيد، فلا مانع أن يكون ذلك إلى اليوم الرابع من أيام العيد.(1/53)
جـ - مدى حق الموظف في استخدام الأدوات العامة لديه لمصلحته الشخصية:
الأصل في المال العام أو شبه العام ونعني به مال الدولة والمؤسسات العامة والشركات الخاصة هو المنع، وخصوصاً أن نصوص الكتاب والسنة قد شددت الوعيد في تناول المال العام بغير حق، وقد جعل الفقهاء المال العام بمنزلة مال اليتيم في وجوب المحافظة عليه وشدة تحريم الأخذ منه، ويستثنى من ذلك ما تعارف الناس على التسامح فيه من الأشياء الاستهلاكية فيعفى عنه باعتباره مأذوناً فيه ضمناً، على أن لا يتوسع في ذلك، مراعاة لأصل المنع، على أن الورع أولى بالمسلم الحريص على دينه، و"من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه".(1/54)
د - ضوابط التعامل عن اللقاء بين الجنسين:
اللقاء والتعاون والتكامل بين الرجال والنساء أمر فطري، ولا يمكن منعه واقعاً، ولم يرد في دين الفطرة ما يحجره بإطلاق، وإنما أحاطه بالضوابط التالية:
q ترك الخلوة (وهي وجود رجل وامرأة أجنبية عنه في موضوع لا يراهما فيه أحد) امتثالاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما".
q توقي التماس (وهو التلاصق والتراص بالأبدان بين الرجل والمرأة الأجنبية عنه) حذر الإثارة والفتنة.
q تجنب التبرج (وهو الكشف عما أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بستره من البدن)، إذ يجب على المرأة حين اجتماعها بالرجال غير المحارم أن تستر كل جسدها ما عدا الوجه واليدين، على مذهب جمهور الفقهاء.
q التزام المرأة الحشمة في حديثها وحركاتها، فلا تتصنع من الكلام والحركات ما يؤدي إلى إثارة الغرائز، قال تعالى: (إن اتقيتنَّ فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض، وقلن قولاً معروفاً)، وقال تعالى: (ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن).
وعليه، فإذا التزم الرجال والنساء في أي لقاء أو نشاط بهذه الضوابط الشرعية، فلا حرج عليهم في ذلك، ما كان موضوع اللقاء أوالنشاط جدياً، سواء أكان علمياً أم ثقافياً ونحو ذلك.
ولا فرق في ضرورة الالتزام بهذه الضوابط بين أن يتعلق الأمر بفتيات مسلمات أو غير مسلمات، لأن الإثارة محتملة في الحالتين، على أن الانفصال في المجلس الواحد في المقاعد بين الرجال والنساء هو الأفضل، خاصة إذا لم تكن هناك حاجة إلى خلافه.(1/55)
هـ - حكم استفادة الهيثات الخيرية من عوائد الحسابات الربوية من الأفراد والبنوك، وما يرتبط بذلك من الدعاية لها، وفتح حساب خاص لهذه الأموال:
عموم المسلمين في الغرب لا يجدون مناصاً من فتح حسابات في البنوك الربوية، ومعلوم أن هذه الحسابات تترتب عليها زيادات ربوية تلحق بحساباتهم، فيجدون أنفسهم بين خيارين: إما ترك هذه الفوائد للبنك، وفي هذا تفويت مصلحة للمسلمين وربما كانت عوناً لمؤسسات تبشيرية، وإما أن يصرفوها في وجوه الخير العامة، وبما أن الحكم لا يتعلق بعين المال وإنما بطريقة تحصيله أو صرفه، فما كان منه حراماً فحرمته في حق من اكتسبه أو صرفه بطريقة غير مشروعة، فالذي يحرم في شأن هذا المال الربوي هو أن ينتفع به الشخص لنفسه، أما بالنسبة لغيره فلا يكون حراماً.
وبناء على ذلك، فإن المجلس لا يرى بأساً من أن تسأل المؤسسة الخيرية أصحاب هذه الحسابات أن يمكنوها من تلك الأموال، كما لا يجد فرقاً في تحصيل هذه الأموال من أي جهة أخرى كالمؤسسات والبنوك وغير ذلك.
وينبغي للمؤسسة أن تتحاشى ما وسعها ذكر اسم البنك المتبرع على وجه الدعاية له، بسبب عدم مشروعية أصل عمله.
ولا مانع كذلك من أن يفتح حساب خاص تودع فيه تلك الأموال.(1/56)
5. وكان من ضمن الاستفتاءات التي أجاب عنها المجلس: مسألة الاختلاط بين الجنسين في المنتديات واللقاءات العامة، والمرابحة التي تزاولها بعض البنوك في الغرب، والتأمين، ومعاش التقاعد، واستفادة الجمعيات الخيرية من فوائد البنوك.
6. كما عهد المجلس إلى بعض أعضائه بمعالجة بعض المشكلات الأسرية التي وردت إليه من خلال الاتصال المباشر بأصحابها.
7. واعتمد فتوى مقاطعة البضائع الاسرائيلية والامريكية التي كان قد أصدرها من قبل فضيلة رئيس المجلس، وحظيت بتوقيع مئات من علماء المسلمين.
8. كما ناقش المجلس خطة العمل المقدمة من لجنة البحوث وأقرها مع ضبط ميزانية خاصة لإنجاز مشاريعها، ومن أهمها:
أ - اعداد وطبع العدد الأول من مجلة البحوث ؛ وهي نشرية نصف سنوية، تنشر فيها البحوث المتعلقة بالقضايا التي يطرحها المجلس ، أو التي تندرج ضمن اهتماماته .
ب - إنشاء موقع للمجلس على الأنترنت ، تنشر فيه كل أعماله من بحوث وفتاوى وقرارات ، مع فتح ركن لاستقبال الاستفتاءات والاستفسارات والإيفادات ليكون مرآة تعكس واقع الاقليات الأسلامية في أوروبا واهتماماتهم وقضاياهم .
ج - القيام بإنجاز ندوتين سنويتين.
د - إعداد جملة من البحوث المتعلقة بأعمال المجلس، وبأوضواع الأقلية المسلمة في أوروبا وما يواجهها من تحديات في المستوى السياسي والاقتصادي والديني.
9. ونظراً لغياب بعض أصحاب الفضيلة أعضاء المجلس الذين قدموا أبحاثاً حول البورصة ، والتأمين على الحياة ، ولحوم الانعام ، والحقوق المعنوية للبرامج واحكام نسخها ، فقد تقرركذلك تأجيل هذه الموضوعات إلى الدورات القادمة .(1/57)
10. وفي ختام أعمال الدورة اتفق الأعضاء بالتنسيق مع الأمانة العامة على تأكيد موعد الدورة القادمة على النحو التالي:
24 - 28 ربيع الآخر 1422هـ الموافق 18-22 يوليو 2001،
11. ولا يفوت المجلس أن يذكر المسلمين مرة أخرى بما كان قد أوصى به في دوراته السابقة المسلمين في الغرب من توجيهات.
وقد ختم رئيس المجلس أعمال الدورة بتوجيه خالص الشكر للإخوة العاملين في المركز الثقافي الإسلامي في إيرلندا على ما بذلوه من كرم الضيافة وجميل الحفاوة وحسن الاستقبال ومن جهد تنظيمي مقدر، كما يتقدم بالشكر لهيئة المكتوم الخيرة على دعمها المتواصل للمجلس وكذلك شكره للأمين العام كما يتقدم المجلس بالشكر للحكومة الإيرلندية التي منحت تأشيرات السفر لأعضاء المجلس حتى يسّرت انعقاده على أراضيها على الوجه المرضي.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
والحمد لله رب العالمين(1/58)
البيان الختامى 8
بتاريخ: 29-7-2008
البيان الختامي
للدورة العادية الثامنة للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث
المنعقدة في ا لمركز الثقافي الإسلامي بمدينة بلنسية في أسبانيا
في الفترة 26ربيع الآخر-1جمادى الأولى1422هـ الموافق18-22 يوليو2001 م
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد..
فقد انعقدت على بركة الله تعالى وبرعايته الدورة العادية الثامنة للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث في ا لمركز الثقافي الإسلامي بمدينة بلنسية في أسبانيا في الفترة 26ربيع الآخر-1جمادى الأولى1422هـ الموافق18-22يوليو2001 م
برئاسة فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي رئيس المجلس حفظه الله، وبحضور غالبية الأعضاء وفي حفل الافتتاح الذي شارك فيه السيد خوسيه هيرري حاكم مقاطعة بلنسية مندوبا عن الحكومة الأسبانية وكذلك مندوبون عن المؤسسات والقطاعات الرسمية وجمع غفير من المسلمين.
رحب فضيلة الشيخ عبد الرحيم الطويل إمام المركز وعضو المجلس بإخوانه رئيس وأعضاء المجلس بعقدهم الدورة الثامنة للمجلس ببلنسية كما ألقى السيد رئيس البلدية كلمة رحب فيها باسم الحكومة الأسبانية بالمجلس في أسبانيا ثم ألقى فضيلة العلامة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي رئيس المجلس حفظه الله كلمة شكر فيها المركز الثقافي الإسلامي ببلنسية على استضافتهم لأعمال المجلس وحكومة أسبانيا على التسهيلات التي قدمتها حتى تم إقامة الدورة الثامنة للمجلس على أراضيها كما دعا فضيلته في كلمته إلي تعزيز قيم الحوار .
وقد استعرض المجلس جدول أعماله المشتمل على التقرير الدوري للأمانة العامة، واتخذ القرارات اللازمة للأعمال الإدارية والمالية، ومن أهمها إقرار التعديلات المقترحة على النظام الأساسي.
ثم تدارس المجلس عدداً من القضايا المدرجة على جدول أعماله، واتخذ بخصوص ذلك القرارات التالية:(1/59)
القرار 1/ 8: الحقوق المعنوية ( برامج الكمبيوتر) والتصرف فيها وحمايتها
قرار المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث في موضوع "الحقوق المعنوية
( برامج الكمبيوتر) والتصرف فيها وحمايتها"
بعد اطلاع المجلس على البحوث المقدمة في موضوع " الحقوق المعنوية
( برامج الكمبيوتر) والتصرف فيها وحمايتها" ومناقشة الأبحاث المقدمة واستعراض الآراء الفقهية في الموضوع ، وأدلتها باستفاضة مع الربط بين الأدلة الفقهية وقواعد الفقه وأصوله والمصالح ومقاصد الشرع قرر مايلي:
أولاً: يؤكد المجلس ما جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي في مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأولى 1309 الموافق 10 إلى 15 ديسمبر 1988 م قرار رقم 43 (5/5) ونصه :
أولاً : الاسم التجاري ، والعنوان التجاري ، والعلامة التجارية ، والتأليف،والاختراع والابتكار هي حقوق خاصة لأصحابها ، أصبح لها في العرف المعاصر قيمة مالية لتمول الناس لها ، وهذه الحقوق يعتد بها شرعاً ، فلا يجوز الاعتداء عليها .
ثانياً : يجوز التصرف في الاسم التجاري ، أو العنوان التجاري ، أو العلامة التجارية ، ونقل أي منها بعوض مالي إذا انتفى الغرر والتدليس والغش باعتبار أن ذلك أصبح حقاً مالياً .
ثالثاً: حقوق التأليف والاختراع والابتكار مصونة شرعاً ، ولأصحابها حق التصرف فيها ولا يجوز الاعتداء عليها " انتهى قرار المجمع .(1/60)
ثانياً : إن برامج الحاسب الآلي ( سواء أ كانت برامج تشغيلية أم برامج تطبيقية ، أم تخزينية وسواء أكانت برامج المصدر المهيمنة على جميع عمليات التخزين والإدخال والإخراج للبيانات أو المحررة بإحدى لغات الحاسوب ) لها قيمة مالية يعتد بها شرعاً ، فيجوز التصرف فيها لأصحابها من المنتجين أو الوكلاء بالبيع والشراء والإجارة ونحوها إذا انتفى الغرر والتدليس .
ثالثاً : بما أن هذه البرامج حق مالي لأصحابها ، فهي مصونة شرعاً فلا يجوز الاعتداء عليها رعاية لحقوق الآخرين الذين بذلوا جهوداً وأموالاً في إنتاجها ، ومنعاً لأكل أموال الناس بالباطل .
رابعاً : يجب على مشتري البرامج أن يلتزم بالشروط التي لا تخالف الشرع والقوانين المنظمة لتداولها للنصوص الدالة على وجوب الوفاء بالعقود والالتزام بالشروط، فلا يجوز استنساخه للغير ما دام العقد لا يسمح بذلك.
خامساً :لا يجوز شراء البرامج التي علم أنها مسروقة أو مستنسخة بوجه غير مشروع ، ولا المتاجرة بها.
سادساً : يجوز لمشتري البرنامج أن يستنسخ منها لاستعماله الشخصي.
سابعاً : على الشركات المنتجة والوكلاء عدم المبالغة في أثمان البرامج.(1/61)
القرار 2/8:
التأمين على الحياة
ناقش المجلس البحوث المقدمة إليه حول التأمين على الحياة، واطلع عل ما صدر عن المجامع الفقهية والمؤتمرات والندوات العلمية بهذا الشأن.
وبعد المناقشة والتحاور حول جوانب هذا الموضوع وما عليه أحوال المسلمين في أوروبا وسائر البلاد غير الإسلامية، ومع مراعاة ما يجري عليه العمل في شركات التأمين التجاري والتأمين التعاوني في أوروبا انتهى إلى ما يأتي:
أولاً: تأكيد ما صدر عن المجلس في دورته السادسة حول موضوع التأمين وإعادة التأمين .
ثانياً: تأكيد ما صدر عن بعض المجامع الفقهية من حرمة التأمين التجاري على الحياة ، وجواز التأمين التعاوني إذا خلا عن الربا والمحظورات الشرعية ، وعلى ما صدر من الندوة الفقهية الثالثة لبيت التمويل الكويتي التي حضرها ثلة من الفقهاء المعاصرين والاقتصاديين في 1413 هـ - 1992 م وانتهت إلى إصدار الفتوى التالية :(1/62)
1 - التأمين على الحياة بصورته التقليدية القائمة على المعاوضة بين الأقساط والمبالغ المستحدثة عند وقوع الخطر أو المستردة مع فوائدها عند عدم وقوعه هو من المعاملات الممنوعة شرعاً لاشتماله على الغرر الكثير ، والربا والجهالة .
2 - لا مانع شرعاً في التأمين على الحياة إذا أقيم على أساس التأمين التعاوني (التكافلي) وذلك من خلال التزام المتبرع بأقساط غير مرتجعة[1] ، وتنظيم تغطية الأخطار التي تقع على المشتركين من الصندوق المخصص لهذا الغرض ، وهو ما يتناوله عموم الأدلة الشرعية التي تحض على التعاون وعلى البر والتقوى وإغاثة الملهوف ورعاية حقوق المسلمين والمبدأ الذي لا يتعارض مع نصوص الشريعة وقواعدها العامة.
ثالثاً: ومع ما سبق فإن حالات الإلزام قانونياً ، أو وظيفياً، مسموح بها شرعاً ، إضافة إلى ما سبق استفتاؤه في قرارات الدورة السادسة .(1/63)
القرار 3/8: إسلام المرأة وبقاء زوجها على دينه
قرار المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث في موضوع "إسلام المرأة وبقاء زوجها على دينه"
بعد اطلاع المجلس على البحوث والدراسات المختلفة في توجهاتها والتي تناولت الموضوع بتعميق وتفصيل في دورات ثلاث متتالية واستعراض الآراء الفقهية وأدلتها مع ربطها بقواعد الفقه وأصوله ومقاصد الشرع، ومع مراعاة الظروف الخاصة التي تعيشها المسلمات الجديدات في الغرب حين بقاء أزواجهن على أديانهم، فإن المجلس يؤكد أنه يحرم على المسلمة أن تتزوج ابتداء من غير المسلم، وعلى هذا إجماع الأمة سلفاً وخلفاً، أما إذا كان الزواج قبل إسلامها فقد قرر المجلس في ذلك ما يلي:
أولاً: إذا أسلم الزوجان معا ولم تكن الزوجة ممن يحرم عليه الزواج بها ابتداء (كالمحرمة عليه حرمة مؤبدة بنسب أو رضاع) فهما على نكاحهما .
ثانياً: إذا اسلم الزوج وحده ، ولم يكن بينهما سبب من أسباب التحريم وكانت الزوجة من أهل الكتاب فهما على نكاحهما .
ثالثاً: إذا أسلمت الزوجة وبقى الزوج على دينه فيرى المجلس :
أ - إن كان إسلامها قبل الدخول بها فتجب الفرقة حالاً.
ب - إن كان إسلامها بعد الدخول وأسلم الزوج قبل انقضاء عدتها ،فهما على نكاحهما.(1/64)
ج - إن كان إسلامها بعد الدخول، وانقضت العدة, فلها أن تنتظر إسلامه ولو طالت المدة ، فإن أسلم فهما على نكاحهما الأول دون حاجة إلى تجديد له.
د- إذا اختارت الزوجة نكاح غير زوجها بعد انقضاء العدة فيلزمها طلب فسخ النكاح عن طريق القضاء.
خامساً: لا يجوز للزوجة عند المذاهب الأربعة بعد انقضاء عدتها البقاء عند زوجها، أو تمكينه من نفسها. ويرى بعض العلماء أنه يجوز لها أن تمكث مع زوجها بكامل الحقوق والواجبات الزوجية إذا كان لا يضيرها في دينها وتطمع في إسلامه, وذلك لعدم تنفير النساء من الدخول في الإسلام إذا علمن أنهن سيفارقن أزواجهن ويتركن أسرهن, ويستندون في ذلك إلى قضاء أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في تخيير المرأة في الحيرة التي أسلمت ولم يسلم زوجها: "إن شاءت فارقته وإن شاءت قرت عنده", وهي رواية ثابتة عن يزيد بن عبد الله الخطمي. كما يستندون إلى رأي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إذا أسلمت النصرانية امرأة اليهودي أو النصراني كان أحق ببضعها لأن له عهداً, وهي أيضاً رواية ثابتة. وثبت مثل هذا القول عن إبراهيم النخعي والشعبي وحماد بن أبي سليمان .
· كما أجاب المجلس عن جملة من الأسئلة الواردة إلى الأمانة العامة في قضايا مختلفة.
التوصيات:
1 - يوصي المجلس المسلمين برعاية الحقوق كلها ، وإعطاء الصورة الطيبة والقدوة الحسنة ، كما يوصيهم بالإبداع والابتكار وتشجيع ذلك على كافة المستويات. والله الموفق.
2 - يوصي جميع المسلمين الذين يعيشون على أرض أوروبا أن يسعوا جادين لإنشاء شركات ومؤسسات مالية في مجال التأمين التعاوني وغيره ، والاتصال بشركات التأمين التعاوني السائدة في الغرب للاتفاق معها على إزالة المحظورات الشرعية (كالربا) للوصول إلى إيجاد صناديق تعاونية تخلو منها.(1/65)
3 - يوصي المجلس المسلمين في أوروبا بالعمل الجاد للحصول على اعتراف الدولة التي يقيمون فيها بالإسلام ديناً ، وبالمسلمين أقلية دينية على غرار الأقليات الدينية الأخرى في التمتع بحقوقهم كاملة ، وفي تنظيم أحوالهم الشخصية كالزواج والطلاق وفقاً لأحكام دينهم ومن أجل ذلك فإن المجلس يوصي المسلمين بتشكيل هيئات شرعية تتولى تنظيم أحوالهم الشخصية وفق أحكام الشريعة الإسلامية الغراء مع مراعاة الالتزام بالقوانين السائدة . .
4 - كما يوصي المجلس هؤلاء الأخوة المسلمين ويشدد في الوصية بالالتزام بما دلت علية نصوص الكتاب والسنة وبما أجمع عليه فقهاء الإسلام من وجوب بالوفاء بمقتضيات عهد الأمان وشروط المواطنة والإقامة في البلاد الأوروبية التي يعيشون فيها ومن أهم ما يجب عليهم الوفاء به :
أ - أن يعتقدوا أن أرواح وأموال وأعراض غير المسلمين مصونة بمقتضى ذلك العهد الذي دخلوا به هذه البلاد والذي لولاه لما سمح لهم بدخولها أو استمرار الإقامة فيها وقد قال الله تعالى:" وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً " .
ب - أن يحترموا قوانين هذه البلاد التي آوتهم وحمتهم ومكنتهم من التمتع بكل ضمانات العيش الكريم ، وقد قال تعالى :" هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ".
جـ - أن يجتنبوا كل أساليب الكسب الحرام على اختلاف أنواعه ، ومنها سعي بعض المسلمين للحصول على معونة الضمان الاجتماعي مع أنهم يعملون أو يتاجرون .
د - أن يبذلوا أقصى الوسع في تنشئة الجيل الجديد -بنين وبنات - تنشئة إسلامية معاصرة ، وذلك بتأسيس المدارس والمراكز التربوية والترفيهية لحمايتهم من الانحراف .(1/66)
5 - كما يوصي المجلس المسلمين عامة والمقيمين في بلاد الغرب خاصة بالاعتصام بحبل الله والاخوة والسماحة والوسطية والتعاون على البر والتقوى والتزام الحوار الهادئ والأساليب السليمة في معالجة قضايا الخلاف ، بعيداً عن مناهج التشدد ومسالك التطرف التي تشوه صور الإسلام وتسئ أبلغ الإساءة إلى المسلمين عامة وعلى الأقليات المسلمة خاصة فيتلقفها أعداء الإسلام والجاهلون به للتشنيع عليه والتخويف منه ومن أهله واستعداء الأمم عليها . وقد قال الله تعالى:" ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن "
والمجلس إذ يعقد هذه الدورة في مدينة بلنسية بأسبانيا ليعتبر هذا الأمر فاتحاً لحوارِ إيجابي بين الحضارتين الإسلامية والغربية ويهدف إلى إنهاء الصراع التاريخي السابق وفتح صفحة جديدة في حوار الحضارات من أجل تعارف عالمي وتفاهم مشترك في ظل الأخلاق الإنسانية والقيم الروحية .
ختام أعمال هذه الدورة:
وقبل ختام أعمال الدورة اتفق الأعضاء بالتنسيق مع الأمانة العامة على تحديد موعد الدورتين القادمتين على النحو التالي:
الدورة التاسعة في باريس بفرنسا من 23- 27 ذو القعدة 1422هـ الموافق 6-10 فبراير 2002م.
الدورة العاشرة في استكهولم بالسويد من 19-23 جمادى الآخرة 1423هـ الموافق 28 أغسطس-1 سبتمبر 2002م.(1/67)
وختم رئيس المجلس أعمال الدورة بتوجيه خالص الشكر للأخوة العاملين في المركز الثقافي الإسلامي في بلنسية على استضافتهم لهذه الدورة وما بذلوه من كرم الضيافة وجميل الحفاوة وحسن الاستقبال ومن جهد تنظيمي مقدر، كما يتقدم المجلس بالشكر للحكومة الأسبانية التي منحت تأشيرات السفر لأعضاء المجلس حتى يسّرت انعقاده على أراضيها على الوجه المرضي وكذلك التقدير للسلطات الحكومية والهيئات الأمنية وسلطات المطار ببلنسية على حسن الاستقبال وجميل الحفاوة وكذلك وسائل الإعلام الأسبانية من صحافة وتلفزيون وكذلك جريدة {الشرق الأوسط}ومجلة {الأوروبية} كما لا يفوت المجلس أن يكرر الشكر والتقدير لهيئة المكتوم لدعمها وتحملها المستمر لنفقات المجلس .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
والحمد لله رب العالمين
---------
[1] أي أنها لا ترتجع بالكامل ، وإذا ارجع شئ فهو ما يسمى بالفائض الذي يوزع في أخر العام(1/68)
البيان الختامى 9
بتاريخ: 29-7-2008
البيان الختامي
للدورة العادية التاسعة للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث
المنعقدة في مقر اتحاد المنظمات الإسلامية بفرنسا بمدينة باريس
في الفترة 3-7 جمادى الأولى 1423هـ الموافق 13- 17يوليو 2002م
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد..
فقد انعقدت على بركة الله تعالى وبرعايته الدورة العادية التاسعة للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث في مقر اتحاد المنظمات الإسلامية بفرنسا بمدينة باريس في الفترة 3-7 جمادى الأولى 1423هـ الموافق 13 - 17 يوليو 2002 م برئاسة فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي رئيس المجلس حفظه الله، وبحضور غالبية الأعضاء وفي حفل الافتتاح الذي شارك فيه مسئولو اتحاد المنظمات الإسلامية بفرنسا وكذلك مندوبون عن المؤسسات والقطاعات والمراكز الإسلامية وجمع غفير من المسلمين.
رحب الأستاذ الفاصل الحاج التهامي رئيس الاتحاد بإخوانه رئيس وأعضاء المجلس بعقدهم الدورة التاسعة للمجلس بباريس كما ألقى الأستاذ عبد الله منصور كلمة نيابة عن السيد رئيس اتحاد المنظمات الإسلامية بأوروبا رحب فيها باسم الاتحاد بالمجلس في فرنسا ثم ألقى صاحب الفضيلة الإمام العلامة الدكتور يوسف القرضاوي رئيس المجلس حفظه الله كلمة شكر فيها اتحاد المنظمات الإسلامية بفرنسا على استضافتهم للدورة التاسعة للمجلس، وحكومة فرنسا على التسهيلات التي قدمتها حتى تمت إقامة هذه الدورة للمجلس على أراضيها كما دعا فضيلته في كلمته إلي تعزيز قيم الحوار .(1/69)
وقد استعرض المجلس جدول أعماله ثم استمع إلى التقرير الدوري للأمانة العامة، واتخذ القرارات اللازمة للأعمال الإدارية ، ومن أهمها إقرار التعديلات المقترحة على النظام الأساسي، كما استمع إلى تقرير لجنة البحوث وقدم الشكر لكل من ساهم في إخراج العدد الأول من المجلة العلمية الخاصة بالمجلس وخص بالشكر صاحب الفضيلة نائب رئيس المجلس وفضيلة الأمين العام وفضيلة رئيس لجنة البحوث وأصحاب الفضيلة أعضاء اللجنة على جهودهم المشكورة في إصدار هذا العدد، وكذلك خالص الشكر لأصحاب الفضيلة الذين خصوا المجلة بأبحاثهم، جزى الله الجميع كل خير.
وقد صدرت مجموعة من القرارات خاصة بالمجلة من أهمها تكوين هيئة التحرير من أصحاب الفضيلة رئيس لجنة البحوث والدراسات رئيسا، وعضوية السادة أعضاء اللجنة، كما شكلت لجنة إدارية للمجلة من فضيلة نائب رئيس المجلس رئيسا وعضوية كل من الأمين العام ورئيس لجنة البحوث والدراسات والأستاذ عبد الله منصور رئيس قسم الإعلام في اتحاد المنظمات الإسلامية.وأووصى بتشكيل لجنة استشارية للمجلة من الباحثين والعلماء من أعضاء المجلس.
كما اتخذ المجلس قرارا بضم كل من أصحاب الفضيلة الأستاذ الدكتور حسين حامد والأستاذ الدكتور صلاح سلطان إلى عضويته.
ثم تدارس المجلس عدداً من القضايا المدرجة على جدول أعماله، واتخذ بخصوص ذلك القرارات التالية:(1/70)
القرار 1/9:
التحكيم في المنازعات
اطّلع المجلس على الدراسات المقدمة إليه من قبل أصحاب الفضيلة أعضاء المجلس حول التحكيم الشرعي في بلاد الغرب وبعد المناقشة والمداولة قرّر ما يلي:
1- يدعو المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث المسلمين في أوروبا إلى اللجوء إلى التحكيم وفقاً للشريعة الإسلامية في كلّ ما لا يتعارض مع القوانين السارية في البلاد الأوروبيّة ولاسيما في أحوالهم الشخصيّة ومعاملاتهم الماليّة، وذلك من أجل الإسراع في حسم منازعاتهم والتخفيف عن المحاكم الرسمية.(1/71)
2- يمكن أن يتمّ التحكيم عن طريق الاشتراط في العقد، أو عن طريق وضع اتّفاق تحكيمي عند حصول الخلاف، ومن الأفضل توثيق العقد الأصلي أو الاتفاق التحكيمي لدى كاتب العدل أو أيّ جهة رسميّة أخرى.
3- يمكن أن يختار الأطراف محكّماً واحداً، رجلاً كان أو امرأة، أو هيئة تحكيميّة من عدّة أفراد، ويجب أن يكون عددهم وتراً حتّى يمكنهم اتخاذ القرار بالأغلبيّة، ويشترط في المحكّمين أن يكون من بينهم من لديه إلمام بالأحكام الشرعية والقوانين السارية وأن يكونوا معروفين بالنزاهة والاستقامة.
4- يكون قرار التحكيم ملزِماً لجميع الأطراف بناءً على تعهدهم، وعليهم تنفيذه.
5- قرّر المجلس إعداد لائحة تفصيليّة توضّح إجراءات التحكيم الشرعيّة بما يتوافق مع القوانين الأوروبيّة وترجمتها إلى مختلف اللغات لمساعدة المسلمين على سلوك هذا الطريق، وكذلك إعداد نموذج لصكّ التحكيم على أن يتمّ إنجاز ذلك في الدورة القادمة.
6- يوصي المجلس الكليّات الشرعيّة والمراكز الإسلاميّة أن تقيم دورات تأهيل للمحكّمين بالتعاون مع أقسام الدراسات القانونيّة في الجامعات الأوروبيّة.(1/72)
القرار 2/9:
تحديد هلال شهر ذي الحجة
بعد مناقشة الموضوع وتداول الآراء حوله قرر المجلس ما يلي:
تأكيد ما جاء في قراره المتخذ في الدورة العادية الثالثة المتعلقة بإثبات الشهور القمرية وخصوصاً شهر رمضان بأنه" يثبت دخول شهر رمضان والخروج منه بالرؤية البصرية سواءً كانت بالعين المجردة أم بواسطة المراصد، إذا ثبت في أي بلد إسلامي بطريق شرعي معتبر عملاً بالأمر النبوي الكريم الذي جاء به الحديث الشريف الصحيح: إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا . وحديث : صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته. وهذا بشرط ألا ينفي الحساب الفلكي العلمي القطعي إمكانية الرؤية في أي قطر من الأقطار؛ فإذا جزم هذا الحساب باستحالة الرؤية المعتبرة شرعاً في أي بلد فلا عبرة بشهادة الشهود التي لا تفيد القطع وتحمل على الوهم أو الغلط أو الكذب وذلك لأن شهادة الشهود ظنية وجَزم الحساب قطعي والظني لا يقاوم القطعي فضلاً عن أن يقدم عليه باتفاق العلماء".
بناء على هذا يرى المجلس أن هذا المبدأ وهو "اعتماد الرؤية البصرية بشرط عدم نفي الحساب القطعي لها" ينطبق على إثبات دخول جميع الشهور القمرية ومنها شهر ذي الحجة وما يتعلق به من صوم عرفة وشعائر عيد الأضحى .
أما الذين يوجدون في مكة المكرمة لأداء فريضة الحج فيلتزمون - باتفاق العلماء - بالإثبات الشرعي الذي تصدره الجهات المختصة في المملكة العربية السعودية.
على أنه إذا وقع إثبات هلال ذي الحجة بمجرد الرؤية البصرية في مكة المكرمة مع مخالفته الحساب القطعي، وأخذ به مَنْ هم في خارج مواطن الحج كالبلاد الأوروبية؛ فإنه لا يسوغ الإنكار عليهم لأنه أمر اجتهادي مختلف فيه، ومن المقرر لدى الفقهاء أنه لا إنكار في المسائل المختلف فيها. والتنازع والاختلاف المؤدي إلى الفرقة والجدل منهي عنه شرعاً بقوله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) وبقوله تعالى: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ربحكم).(1/73)
القرار 3/:9
حكم الصلاة في الكنيسة
ورد إلى المجلس سؤال من مجموعة من أئمة السجون بخصوص هذا الموضوع، وبعد المناقشة المستفيضة قرر المجلس ما يلي:
تأكيد ما جاء في القرار الصادر عن مجمع الفقه الإسلامي الدولي رقم 23 [ 11/3] في جواب السؤال التاسع عشر وهو "استئجار الكنائس للصلاة لا مانع منه شرعاً عند الحاجة كما في الحالة المعروضة في السؤال وتجتنب الصلاة إلى التماثيل والصور وتستر بحائل إذا كانت باتجاه القبلة" ويرى المجلس أن الحاجة محققة في الحالة المعروضة في السؤال أما الستر للتماثيل والصور بحائل هو في حالة الإمكان، فإن تعسر ذلك فالصلاة صحيحة استدلالاً بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة إلى الكعبة وحولها الأصنام، وعليه فلا أثر للرموز المسيحية في الكنيسة على صحة الصلاة. هذا وإن الصلاة صحيحة إذا أديت في السجن لقوله صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض مسجداً وطهورا"، كما أنها صحيحة في المكان المشترك المخصص للعبادة للمسلمين وغيرهم، ويشمل الحكم الصلوات الخمس وصلاة الجماعة والجمعة وخطبتها وكذلك الدروس.وينبغي مطالبة المسئولين بتوفير أماكن للعبادة.(1/74)
القرار 4/9:
حكم دفن أكثر من ميت في قبر واحد
قرر المجلس مايلي:
ليس هناك مانع شرعي من دفن أكثر من شخص في قبر واحد على أي صفة كان؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في أحُد، على أن الأصل أن يدفن كل شخص في قبر منفرد إذا لم يوجد حرج ولا مشقة في ذلك.
القرار 5/:9
موضوعات مؤجلة
تداول المجلس جملة من القضايا وبعد والاستماع إلى الأبحاث المقدمة فيها من قبل أصحاب الفضيلة أعضاء المجلس ومناقشة تلك الابحاث أرجأ إصدار القرارات فيها لمزيد من البحث والدراسة كما كلف مجموعة من أصحاب الفضيلة الأعضاء بإعداد مزيد من الأبحاث حول القضايا التالية:
1) البورصة (الأسواق المالية).
2) المواقيت .
3) بنوك الحليب الخاصة برضاعة الأطفال.
4) مشروع لائحة التحكيم.(1/75)
كما أدرج المجلس على جدول أعماله المواضيع التالية للدورة القادمة إن شاء الله تعالى.
1. موت الشفقة
2. الاستنساخ
3. الافتئات على الأمة
4. فقه الأقليات وضوابط الفتوى فيه
5. الجهاد
6. مفهوم الإرهاب
7. الخطاب الديني وضرورة تغيره والمقصود بذلك
8. الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة وضوابط تقبيقاتها على فقه الأقليات
9. مآلات الأفعال وأثرها في فقه الأقليات
التوصيات:
1 - يوصي المجلس المسلمين برعاية الحقوق كلها ، وإعطاء الصورة الطيبة والقدوة الحسنة ، كما يوصيهم بالإبداع والابتكار وتشجيع ذلك على كافة المستويات.
2 - يوصي جميع المسلمين الذين يعيشون على أرض أوروبا أن يسعوا جادين لإنشاء شركات ومؤسسات مالية في مجالات المختلفة، والاتصال بشركات التأمين الاستثمار والمؤسسات المالية السائدة في الغرب للاتفاق معها على إزالة المحذورات الشرعية (كالربا) .
3 - يوصي المجلس المسلمين في أوروبا بالعمل الجاد للحصول على اعتراف الدولة التي يقيمون فيها بالإسلام ديناً ، وبالمسلمين أقلية دينية على غرار الأقليات الدينية الأخرى في التمتع بحقوقهم كاملة ، وفي تنظيم أحوالهم الشخصية كالزواج والطلاق وفقاً لأحكام دينهم ومن أجل ذلك فإن المجلس يوصي المسلمين بتشكيل هيئات شرعية تتولى تنظيم أحوالهم الشخصية وفق أحكام الشريعة الإسلامية الغراء مع مراعاة الالتزام بالقوانين السائدة . .
4 - كما يوصي المجلس هؤلاء الأخوة المسلمين ويشدد في الوصية بالالتزام بما دلت علية نصوص الكتاب والسنة وبما أجمع عليه فقهاء الإسلام من وجوب بالوفاء بمقتضيات عهد الأمان وشروط المواطنة والإقامة في البلاد الأوروبية التي يعيشون فيها ومن أهم ما يجب عليهم الوفاء به :(1/76)
أ - أن يعتقدوا أن أرواح غير المسلمين وأموالهم وأعراضهم مصونة بمقتضى ذلك العهد الذي دخلوا به هذه البلاد وأن يلتزموا بذلك في سلوكهم والذيعلى أساسه سمح لهم بدخولها واستمرار الإقامة فيها،وقد قال الله تعالى:" وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً " .
ب - أن يحترموا قوانين هذه البلاد التي آوتهم وحمتهم ومكنتهم من التمتع بكل ضمانات العيش الكريم ، وقد قال تعالى :" هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ".
جـ - أن يجتنبوا كل أساليب الكسب الحرام على اختلاف أنواعه ، ومنها سعي بعض المسلمين للحصول على معونة الضمان الاجتماعي مع أنهم يعملون أو يتاجرون .
د - أن يبذلوا أقصى الوسع في تنشئة الجيل الجديد - بنين وبنات - تنشئة إسلامية معاصرة ، وذلك بتأسيس المدارس والمراكز التربوية والترفيهية لحمايتهم من الانحراف .
5 - كما يوصي المجلس المسلمين عامة والمقيمين في بلاد الغرب خاصة بالاعتصام بحبل الله والاخوة والسماحة والوسطية والتعاون على البر والتقوى والتزام الحوار الهادئ والأساليب السليمة في معالجة قضايا الخلاف ، بعيداً عن مناهج التشدد ومسالك التطرف التي تشوه صور الإسلام وتسئ أبلغ الإساءة إلى المسلمين عامة وعلى الأقليات المسلمة خاصة فيتلقفها أعداء الإسلام والجاهلون به للتشنيع عليه والتخويف منه ومن أهله واستعداء الأمم عليها . وقد قال الله تعالى:" ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن .."
6-يؤكد المجلس على أن الإسلام دين السلام للبشرية كلها على اختلاف أجناسها وألوانها وأعراقها وأديانها ولذلك ينبذ العنف والترعيب مهما كانت أشكاله ومن أي جهة كان، ويدعو العالم إلى مراعاة قيم الحضارة الإنسانية والعدل والمساواة بين الشعوب وحقوق الإنسان التي طالما نادت بها القوانين والمواثيق الدولية وأوجبتها الأديان السماوية.(1/77)
ختام أعمال هذه الدورة:
وقبل ختام أعمال الدورة اتفق الأعضاء بالتنسيق مع الأمانة العامة على تحديد موعد الدورتين القادمتين على النحو التالي:
الدورة العاشرة في مقر المجلس بدبلن -أيرلندا من 19- 25 ذي القعدة 1423هـ الموافق 22-28 يناير 2003م.
الدورة الحادية عشرة في استكهولم بالسويد من 3-9 جمادى الأولى 1424هـ الموافق 2-8 يوليو 2003م.
وختم صاحب الفضيلة الإمام العلامة الدكتور رئيس المجلس أعمال الدورة بتوجيه خالص الشكر للاخوة العاملين في اتحاد المنظمات الإسلامية بفرنسا على استضافتهم لهذه الدورة وما بذلوه من كرم الضيافة وجميل الحفاوة وحسن الاستقبال ومن جهد تنظيمي مقدر، كما تقدم المجلس بالشكر للحكومة الفرنسية التي منحت تأشيرات السفر لأعضاء المجلس حتى يسّرت انعقاده على أراضيها على الوجه المرضي وكذلك مجلة "الأوروبية" لتغطيتها أعمال الدورة كما لا يفوت المجلس أن يكرر الشكر والتقدير لهيئة المكتوم لدعمها وتحملها المستمر لنفقات المجلس .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
والحمد لله رب العالمين(1/78)
البيان الختامى 10
بتاريخ: 30-7-2008
البيان الختامي
للدورة العادية العاشرة للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث
المنعقدة في مقره بدبلن
في الفترة من 19 -26 ذي القعدة 1423هـ الموافق 22-26 يناير2003
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد..(1/79)
فقد انعقدت على بركة الله تعالى وبرعايته الدورة العادية العاشرة للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث في مقره بدبلن (جمهورية أيرلندا) في الفترة من 19 -26 ذي القعدة 1423هـ الموافق 22-26 يناير2003 . برئاسة فضيلة العلامة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي رئيس المجلس حفظه الله، وبحضور أغلبية الأعضاء، وقد استهل المجلس جلساته بتلاوة من كتاب الله تعالى،ثم ألقى فضيلته كلمة توجيهية شاملة تناولت أهمية انعقاد المجلس في هذه الفترة وأهمية الموضوعات المدرجة على جدول الاعمال، وقد دعا فضيلته المسلمين إلى التزام الإسلام، وهو كبرى نعم الله على البشر، وأوضح أن من خصائص الأمة الإسلامية أنها لا تجتمع على ضلالة، وأن الله تعالى قد قيض لها في كل عصر من ينفي عن الإسلام انتحال المبطلين وتحريف الغالين وتأويل الجاهلين.كما أكد فضيلته على وسطية الإسلام التي تدعو إلى تجنب الإفراط والتفريط وكذلك على خصيصة اليسر في تعاليمه، وأنه باستقراء التراث الفقهي وجد فضيلته أن أكثر الميسرين هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ثم الصحابة والتابعين، وأن كل جيل قد أضاف تشددات وتحوطات مما جعل بعض الناس ينسى أن من خصائص رسالة المصطفى صلى الله عليه وسلم أنه "يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم" [الأعراف157]. وأن القاعدة الذهبية هي التيسير في الفتوى والتبشير في الدعوة،وأوضح فضيلته أن الشريعة الإسلامية قد دخلت بلاداً شتى وحضارات مختلفة ،فلم تضق صدراً بما استجد من مسائل وأصبح في المذاهب الفقهية سعة ورحمة للأمة ،وأن المسلمين اليوم في حاجة إلى "الاجتهاد المنضبط" الذي يجمع بين فهم الفقه ومعرفة الواقع، من خلال الموازنة بين النصوص الجزئية والمقاصد الكلية المعتبرة لدى الأمة.(1/80)
وبعد ذلك استعرض المجلس جدول أعماله المشتمل على التقرير الدوري للأمانة العامة، وتقرير لجنة البحوث ،وموضوعات أخرى، واتخذ القرارات اللازمة للأعمال الإدارية والمالية .
هذا وقد سعد المجلس باستضافة البروفسور بيتر كوننجسفيلد رئيس قسم تاريخ الأديان بجامعة ليدن ومدير معهد دراسات الأديان بهولندا ، الذي ألقى كلمة خلال جلسات المجلس نالت استحسان فضيلة رئيس المجلس وأعضائه، كما أبدى مشكوراً استعداد جامعته للتعاون مع المجلس في المجالات العلمية المختلفة التي تهم المؤسستين، كما حضر مجموعة من تلاميذه بصحبته.
وناقش المجلس من منطلقه الأخلاقي والإنساني ووقوفه ضد العنف والإرهاب والعدوان أياً كان مصدره الأوضاع الدولية المتوترة من خلال الاستعدادات التي تجري لضرب الشعب العراقي وما يترتب على ذلك من قتل للأبرياء واضطراب للعلاقات وخلل في التوازن ثم أصدر بياناً يستنكر فيه الحرب وانعكاساتها وضرب الأبرياء والاعتداء على الشعوب .
وقد تدارس المجلس مجموعة من الموضوعات اتخذ بشأنها القرارات والفتاوى والتوصيات المناسبة،ومن أبرزها:(1/81)
القرار1/10:
حكم الاستنساخ
بعد استعراض المجلس للأبحاث المقدمة من أصحاب الفضيلة أعضاء المجلس حول هذا الموضوع وبعد مناقشات مستفيضة. قرر المجلس مايلي :
أولاً : يتبنى المجلس ما صدر من مجمع الفقه الإسلامي الدولي من تحريم الاستنساخ البشري وهو القرار رقم 94(2/10) الذي يتضمن مايأتي :
لقد خلق الله الانسان في أحسن تقويم ، وكرمه غاية التكريم فقال عز من قائل : "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبت وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا " [ الإسراء : 70 ] زينه بالعقل، وشرفه بالتكيلف،وجعله خليفة في الارض، واستعمره فيها، وأكرمه بحمل رسالته التي تنسجم مع فطرته بل هي الفطرة بعينها لقوله سبحانه : " فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم " [ الروم : 30 ].
وقد علم الله الإنسان ما لم يكن يعلم، وأمره بالبحث والنظر والتفكر والتدبر مخاطباً إياه في آيات عديدة :"أفلا يرون" ، "أفلا ينظرون" ، "أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة" ، "إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون" ، "إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون" ، " إن في ذلك لذكرى لأولى الألباب" ، "إقرا باسم ربك الذي خلق".
والإسلام لا يضع حجراً ولا قيداً على حرية البحث العلمي إذ هو من باب استكناه سنة الله في خلقه، ولكن الإسلام يقضي كذلك بأن لا يترك الباب مفتوحاً بدون ضوابط أمام دخول تطبيقات نتائج البحث العلمي إلى الساحة العامة بغير أن تمر على مصفاة الشريعة ، لتمرر المباح وتحجز الحرام، فلا يسمح بتنفيد شيء لمجرد أنه قابل للتنفيد، بل لا بد أن يكون علماً نافعاً جالباً لمصالح العباد، ودارئاً لمفاسدهم، ولا بد أن يحفظ هذا العلم كرامة الإنسان، ومكانته والغاية التي خلقه الله من أجلها، فلا يتخذ حقلاً للتجريب ، ولا يعتدى على ذاتية الفرد وخصوصيته وتميزه، ولا يؤدي إلى خلخلة الهكيل الاجتماعي المستقر أو يعصف بأسس القرابات والأنساب وصلات الأرحام والهياكل الأسرية المتعارف عليها على مدى التاريخ الإنساني في ظلال شرع الله وعلى أساس وطيد من أحكامه .(1/82)
وقد كان مما استجد للناس من علم في هذا العصر ،ما ضجت به وسائل الإعلام في العالم كله باسم الاستنساخ، وكان لا بد من بيان حكم الشرع فيه بعد عرض تفاصليه من قبل نخبة من خبراء المسلمين وعلمائهم في هذا المجال .
تعريف الاستنساخ وفق قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي:
من المعلوم أن سنة الله في الخلق أن ينشأ المخلوق البشري من اجتماع نطفتين اثنتين تشتمل نواة كل منهما على عدد من الصبغيات
( الكروموسومات ) يبلغ نصف عدد الصبغيات التي في الخلايا الجسدية للإنسان .فإذا اتحدت نطفة الأب ( الزوج ) التي تسمى الحيوان المنوي بنطفة الأم ( الزوجة ) التي تسمى البييضة ، تحولتا معاً إلى نطفة أمشاج أو لقيحة ، تشتمل على حقيبة وراثية كاملة وتمتلك طاقة التكاثر . فإذا انغرست في رحم الأم تنامت وتكاملت وولدت مخلوقاً مكتملاً بإذن الله،وهي في مسيرتها تلك تتضاعف فتصير خليتين متماثلتين فأربعاً فثمانيةً ... ثم تواصل تضاعفها حتى تبلغ مرحلة تبدأ عندها بالتمايز والتخصص . فإذا انشطرت إحدى خلايا اللقيحة في مرحلة ما قبل التمايز إلى شطرين متماثلين تولد منهما توأمان متماثلان . وقد أمكن في الحيوان إجراء فصل اصطناعي لأمثال هذه اللقائح فتولدت منها توائم متماثلة .ولم يبلّغ بعد عن حدوث مثل ذلك في الإنسان .وقد عُدّ ذلك نوعاً من الاستنساح أو التنسيل ، لأنه يولد نسخاً أو نسائل متماثلة، وأطلق عليه اسم الاستنساخ بالتشطير .(1/83)
وثمة طريقة أخرى لاستنساخ مخلوق كامل، تقوم على أخذ الحقيبة الوارثية الكاملة على شكل نواة من خلية من الخلايا الجسدية، وإيداعها في خلية بييضة منزوعة النواة فتتألف بذلك لقيحة تشتمل على حقيبة وراثية كاملة، وهي في الوقت نفسه تمتلك طاقة التكاثر. فإذا غرست في رحم الأم تنامت وتكاملت وولدت مخلوقاً مكتملاً بإذن الله. وهذا النمط من الاستنساخ الذي يعرف باسم (النقل النووي) أو (الإحلال النووي للخلية البييضية ) وهو الذي يفهم من كلمة الاستنساخ إذا أطلقت، وهو الذي حدث في النعجة " دولي " . على أن هذا المخلوق الجديد ليس نسخة طبق الأصل ، لأن بييضة الأم المنزوعة النواة تظل مشتملة على بقايا نووية في الجزء الذي يحيط بالنواة المنزوعة. ولهذه البقايا أثر ملحوظ في تحوير الصفات التي ورثت من الخلية الجسدية ، ولم يبلغ أيضاً عن حصول ذلك في الإنسان [1].
فالاستنساخ إذن هو : توليد كائن حي أو أكثر إما بنقل النواة من خلية جسدية إلى بييضة منزوعة ، وإما بتشطير بييضة مخصبة في مرحلة تسبق تمايز الانسجة والأعضاء .
بعد هذا التعريف أكد المجمع أن : الاستنساخ ليس خلقا(1/84)
وأضاف المجمع في قراره: ولا يخفى أن هذه العمليات وأمثالها لا تمثل خلقا أو بعض خلق قال الله عز وجل : "أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قُل الله خالقُ كل شيء وهو الواحد القهار" ]الرعد 16[ وقال تعالى :"أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشأكم فيما لا تعلمون ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون" [الواقعة 58-62 ]وقال سبحانه:" أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون" [يس 77-82 ].
وقال تعالى: ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ) [المؤمنون 12-14 ].
قرارات مجمع الفقه الدولي:
وبناء على ما سبق من البحوث والمناقشات والمبادئ الشرعية التي طُرحت على مجلس المجمع قرر ما يلي:
1- تحريم الاستنساخ البشري بطريقتيه المذكورتين أو بأي طريقة أخرى تؤدي إلى التكاثر البشري.
2- إذا حصل تجاوز للحكم الشرعي المبين في الفقرة (1) فإن آثار تلك الحالات تُعرض لبيان أحكامها الشرعية.
3- تحريم كل الحالات التي يُقحم فيها طرفٌ ثالث على العلاقة الزوجية سواء أكان رَحما أم بُييضة أم حيوانا منويا أم خلية جسدية للاستنساخ .
4- يجوز شرعاً الأخذ بتقنيات الاستنساخ والهندسة الوراثية في مجالات الجراثيم وسائر الأحياء الدقيقة والنبات والحيوان في حدود الضوابط الشرعية بما يحقق المصالح ويدرأ المفاسد.(1/85)
5- مناشدة الدول الإسلامية إصدار القوانين والأنظمة اللازمة لإغلاق الأبواب المباشرة وغير المباشرة أمام الجهات المحلية أو الأجنبية والمؤسسات البحثية والخبراء الأجانب للحيلولة دون اتخاذ البلاد الإسلامية ميدانا لتجارب الاستنساخ البشري والترويج لها.
6- المتابعة المشتركة من قبل كل من مجمع الفقه الإسلامي والمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية لموضوع الاستنساخ ومستجداته العلمية وضبط مصطلحاته وعقد الندوات واللقاءات اللازمة لبيان الأحكام الشرعية المتعلقة به.
7- الدعوة إلى تشكيل لجان متخصصة تضم الخبراء وعلماء الشريعة لوضع الضوابط الخلقية في مجال بحوث علوم الأحياء (البيولوجيا)لاعتمادها في الدول الإسلامية .
8- الدعوة إلى إنشاء ودعم المعاهد والمؤسسات العلمية التي تقوم بإجراء البحوث في مجال علوم الأحياء (البيولوجيا) والهندسة الوراثية في غير مجال الاستنساخ البشري وفق الضوابط الشرعية حتى لا يظل العالم الإسلامي عالة على غيره وتبعا في هذا المجال .
9- تأصيل التعامل مع المستجدات العلمية بنظرة إسلامية، ودعوة أجهزةالإعلام لاعتماد النظرة الإيمانية في التعامل مع هذه القضايا، وتجنب توظيفها بما يناقض الإسلام،وتوعية الرأي العام للتثبت قبل اتخاذ أي موقف استجابة لقول الله تعالى :( وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم)[ النساء 83 ]. انتهى.
ثانيا : يرى المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث جواز الأخذ بتقنيات الاستنساخ في مجالات العلاج الطبي، باستخدام الخلايا الأرومية"الخلايا الجذعية /Stem Cells Cellule Souches" لتكوين أعضاء سليمة يمكن أن تحل محل الأعضاء المعيبة على ألا يؤدي ذلك إلى إتلاف جنين بلغ أربعين يوما .(1/86)
ثالثاً: توضيحاً للفقرة الرابعة من قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي السابق بشأن جواز الاستنساخ في مجال الحيوان ، انتهى المجلس إلى أن من أهم الضوابط الشرعية لذلك مايأتي:
أ - أن تكون هناك مصلحة معتبرة شرعاً.
ب - أن لا تعارض هذه المصلحةَ مفسدةٌ أعظم منها.
ج- أن لا يترتب على ذلك تعذيب للحيوان ، أو تغيير لخلقه.
رابعاً: يثمن المجلس توجه ممثلي الأديان الأخرى وبعض الدول في منع الاستنساخ البشري بما يمهد لاعتباره جريمة متفقاً عليها بين أهل الأديان المختلفة مما يؤدي إلى الاتفاق على تحريمها في القوانين الدولية.
التوصيات:
يوصي المجلس بمايأتي:
1. انطلاقاً من الفقرة الثالثة من قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي، التي نصت على"تحريم كل الحالات التي يقحم فيها طرف ثالث على العلاقة الزوجية" يوصي المجلس بإعداد دراسات علمية وشرعية معمقة في حال الاستنساخ الذي يمكن أن يجري بين الزوجين دون تدخل طرف ثالث.
2. إعداد دراسات فقهية وقانونية بشأن الآثار المترتبة على الاستنساخ البشري(الحكم الوضعي) بصرف النظر عن حكمه التكليفي ولا سيما في مجالات النسب والنكاح والإرث ونحوها.
3. التعاون مع الجهات المعنية بالضوابط الأخلاقية لإخضاع الممارسات العلمية والطبية لهذه الضوابط.
4. دعوة المؤسسات الدولية ذات الصلة بالموضوع إلى إصدار قرارات دولية بمنع وتجريم الاستنساخ البشري باعتباره عبثاً بفطرة الله تعالى التي فطر الناس عليها.(1/87)
قرار2/10:
الإرهاب
استمع المجلس إلى الأبحاث المقدمة حول هذا الموضوع وبعد المناقشات والحوار تم الاتفاق على النقاط التالية:
1. لا علاقة البتة بين مفهوم الجهاد الإسلامي والإرهاب.
2. إن الارهاب يشير إلى الاستخدام المنهجي للعنف غير المشروع ،أو التهديد به،وتعمد قتل أو إيذاء المدنيين،أو تحطيم المنشآت المدنية ،أو الإضرار بالبيئة.
3. إن مفهوم الإرهاب ينطبق على الأفراد والجماعات والحكومات، سواء من ناحية ارتكابه منهم أو وقوعه عليهم.
4. ان الإرهاب لا يشمل المقاومة المشروعة (أو الدفاع المشروع) ضد الاحتلال الأجنبي وذلك بشتى الوسائل المتاحة،بما في ذلك المقاومة المسلحة وبخاصة أن جميع القوانين الدولية تنص على ذلك.
ومن أجل تعميق البحث في جميع الجوانب المتعلقة بالارهاب وصولاً إلى تعريف محدد له تقرر استكمال البحث في هذا الموضوع في الجلسة القادمة إن شاء الله.
قرار 3/10: المواقيت في البلاد التي تغيب فيها العلامات
ناقش المجلس موضوع المواقيت في البلاد التي تغيب فيها العلامات، واستمع إلى الأبحاث المقدمة في هذا الموضوع، وقرر استكمال مناقشاته حول الموضوع في الجلسة المقبلة إن شاء الله تعالى.(1/88)
فتاوى الدورة العاشرة
وقد أجاب المجلس على مجموعة من الأسئلة المعروضة عليه وكان من أبرزها مايلي:
فتوى 1/10:
حول تأجير المرأة لرحمها لكي تحمل جنيناً
قرر المجلس مايلي:
لا يجوز شرعا تأجير المرأة رحمها لكي تحمل جنينا، بل لا يجوز ذلك ولو بدون مقابل، لأن في هذا استدخال نطفة من رجل أجنبي عنها، وفيه خلط في النسب، لأنها بولادته تصير أما له لقوله تعالى : " إن أمهاتهم إلا اللآئي ولدنهم " مع أن ذلك الجنين ليس من بييضتها الملقحة من زوجها، ولا يقاس هذا على إرضاع المرأة ولد غيرها، فإن ذلك عبارة عن تغذية خارجية للرضيع وليس فيه احتواء له بين أحشائها، فضلا عن أن الإرضاع وردت نصوص بمشروعيتة في الكتاب والسنة.
وقد صدر بتأكيد تحريم هذه الحالة التي تسمى الرحم الظئر قرار من مجمع الفقه الإسلامي الدولي.
وكون المرأة فقيرة لا يبيح لها هذا الأمر المحرم، وعليها أن تلتمس الرزق في غيره من الأمور المباحة . وأن تستحضر قول الله تعالى: "وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله"]التوبة : 28 [ و ما ترك إنسان شيئا محرما إلا عوضه الله عنه بالحلال الطيب.(1/89)
فتوى 2/10:
حول عقد الزواج من نصرانية تم في الكنيسة
أجاب المجلس بمايلي:
عقد الزواج في الكنيسة غير مستحسن شرعاً وهو حرام إذا كان يشتمل على مشاركة لهم في الطقوس المتصلة بعقيدتهم ،أو إذا كان الزواج في الكنيسة يترتب عليه أمر محرم شرعاً كاشتراط تعهد الزوج بتربية الأولاد على أسس غير اسلامية.
ومع هذا فإنه ينعقد الزواج إذا تحققت فيه أركانه وشروطه الشرعية ويعتبر النكاح بذلك صحيحاً وتترتب عليه جميع آثاره ، وللاحتياط ينبغي لمن اضطر إلى ذلك أن يجدد العقد خارج الكنيسة لتحقيق إعلان النكاح بين المسلمين، ويهم المجلس أن ينصح الشباب المسلم بعدم الوقوع في مثل هذا المحظور الذي يعبر عن مسايرة الزوج لزوجته فيما لا يرضي الله تعالى.كما يعرضه لخطر الموافقة على شروط تتعلق بتربية أولاده على أسس غير إسلامية.(1/90)
فتوى3 /10:
حول استعمال بعض موانع الحمل
أجاب المجلس بمايلي:
لامانع شرعاً من استخدام مايمنع الإنجاب مؤقتاً، ولا عبرة بعمر المرأة ، وعليه فإن استخدام اللولب لا مانع منه، أما ربط المبيض مثلاً فلا يجوز لأنه يقطع الإنجاب نهائياً ولا يجوز ذلك إلا في حالة وجود ضرورة طبية.
فتوى 4/10:
حول إجهاض الجنين المصاب بعاهات خطيرة
أجاب المجلس مايلي:
لا يجوز إجهاض الجنين بعد أربعة أشهر ولو ثبت تشوهه. ولو كانت تتوقف الحياة بعد ولادته على بقائه على أجهزة الإنعاش، على أنه يجوز عند ذلك نزع تلك الاجهزة إذا لم يكن وضعها للعلاج وإنما لإطالة بقائه حياً. وقد صدرت بشأن الأمرين (حرمة الاجهاض لأربعة اشهر للتشوه - وجواز نزع أجهزة الإنعاش عن أي مريض لم توضع له لمواصلة العلاج المفيد)، قرارات من إحدى ندوات المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية و التي تبناها مجمع الفقه الإسلامي .(1/91)
فتوى 5/10:
حول التأمين على الممتلكات والأماكن العامة، والتأمين الجماعي لدفن الموتى أجاب المجلس مايلي:
الأصل في التأمين لدى شركات التأمين التجارية أنه حرام، لوجود الغرر وهو التردد بين حصول الشئ وعدم حصوله، إذ قد يستفيد المستأمن من التعويض بعد أقساط قليلة وقد يدفع أقساطاً كثيرة ولا يحصل له التعويض لعدم وقوع الخطر وكذلك الحال بالنسبة للشركة. ولذا يصنفه القانونيون ضمن العقود الاحتمالية. وهو يشتمل على غرر كثير وفي معاملة أساسها المعاوضة (المبادلة بقصد المكسب).
والبديل هو التأمين الإسلامي القائم على أساس التبرع بين مجموع من حملة وثائق التأمين، والاستفادة بينهم من التعويضات المتبرع بها أيضاً ورد الفائض إليهم.
ومع وجود الغرر في هذا التأمين الإسلامي فإنه يغتفر لأن العملية من قبيل التبرعات التي يغتفر فيها الغرر كثيراً كان أو يسيراً.
ويمكن اللجوء في أوروبا إلى شركات التأمين التعاوني ولو لم تكن شركات إسلامية لأنها أقرب إليه. على أنه إذا لم يتوافر البديل في بيئة ما وظهرت الحاجة إلى التأمين لدى شركات التأمين التجارية فإنه يجوز للحاجة لأن الغرر يتجاوز عنه عند الحاجة، لعدم وجود البديل.
وقد نص الفقهاء على أن الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة في حق آحاد الناس. يقول الإمام الشافعي "بنيت الأصول على أن الأشياء إذا ضاقت اتسعت". وفي مجلة الأحكام العدلية المادة 32 "الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة " ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية "الشريعة جميعها مبنية على أن المفسدة المقتضية للتحريم إذا عارضتها حاجة راجحة أبيح المحرم (مجموع الفتاوي 21/49)" ويقول الزيلعي الحنفي في تبيين الحقائق (4/87): "كل ما اشتدت الحاجة إليه كانت التوسعة فيه أكثر".(1/92)
وبما أن دفن موتى المسلمين في بلاد الغرب أصبح مشكلة وعبئاً كبيراً تعجزالأكثرية عن تغطية نفقاته أو نقل جثامينهم إلى بلدانهم الأصلية فلا مانع شرعا من اللجوء إلى التأمين الجماعي لدى الشركات التجارية إلى أن يهيئ الله تعالى لهم الشركات الإسلامية للتأمين
والمجلس يؤكد توصيته المذكورة في فتواه رقم 27، ونصها : "يوصي المجلس أصحاب المال والفكر بالسعي الحثيث لإقامة المؤسسات المالية الإسلامية وشركات التأمين التكافلي الإسلامي ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً"
موضوعات الدورة المقبلة
وقد اتفق أعضاء المجلس أن يشتمل جدول أعمال الدورة القادمة على الموضوعات التالية:
1) المواقيت.
2) الاستنساخ بين الزوجين والأحكام الوضعية التي تترتب على ذلك.
3) الأسهم .
4) موت الرحمة.
5) الخطاب الديني.
6) مفهوم الجهاد في الإسلام.
7) الإرهاب.
8) لائحة التحكيم.
9) اللائحة الداخلية.
التوصيات:
1 - يوصي المجلس المسلمين عامة والمقيمين في الغرب بصورة خاصة برعاية الحقوق كلها ، وإعطاء الصورة الطيبة والقدوة الحسنة من خلال اقوالهم وتصرفاتهم وسلوكياتهم، كما يوصيهم بالإبداع والابتكار وتشجيع ذلك على كافة المستويات.
2 - يوصي جميع المسلمين الذين يعيشون على أرض أوروبا أن يسعوا جادين لإنشاء شركات ومؤسسات مالية في مجال التأمين التعاوني وغيره ، والاتصال بشركات التأمين التعاوني السائدة في الغرب للاتفاق معها على إزالة المحظورات الشرعية (كالربا) للوصول إلى إيجاد صناديق تعاونية تخلو منها.
3 - يوصي(1/93)
البيان الختامى 11
بتاريخ: 30-7-2008
البيان الختامي
للدورة العادية الحادية عشرة للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث
المنعقدة في مقر الرابطة الإسلامية بالسويد بالمركز الإسلامي {ستوكهولم - السويد}
في الفترة 1-7 جمادى الأولى 1424هـ الموافق 1 - 7 يوليو/تموز 2003 م
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد..
فقد انعقدت على بركة الله تعالى وبرعايته الدورة العادية الحادية عشرة للمجلس الأوروبي للإفتاء البحوث بدعوة كريمة من الرابطة الإسلامية بالسويد بالمركز الإسلامي {ستوكهولم - السويد}في الفترة 1-7 جمادى الأولى 1424هـ الموافق 1 - 7 يوليو/ تموز 2003 م برئاسة فضيلة الإمام العلامة الدكتور يوسف القرضاوي رئيس المجلس حفظه الله، وبحضور غالبية الأعضاء.
وفي حفل الافتتاح الذي شارك فيه مسؤولو الرابطة الإسلامية بالسويد، وكذلك مندوبون عن السلك الدبلوماسي والمؤسسات والقطاعات والمراكز الإسلامية وجمع غفير من المسلمين، رحّب الأستاذ الفاضل أحمد غانم رئيس الرابطة بإخوانه رئيس وأعضاء المجلس بعقدهم الدورة الحادية عشرة للمجلس بالسويد، وأشاد فيها بجهود المجلس على الساحة الأوروبية في مجال الإفتاء والبحوث، ومنهجيته الوسطية والتي انعكس أثرها الطيب على المسلمين في الغرب.(1/94)
ثم ألقى صاحب الفضيلة الإمام العلامة الدكتور يوسف القرضاوي رئيس المجلس حفظه الله كلمة، شكَر فيها الرابطة الإسلامية في السويد على استضافتهم للدورة الحادية عشرة للمجلس، وحكومة السويد على التسهيلات التي قدمتها حتى تمت إقامة هذه الدورة للمجلس على أراضيها، كما دعا فضيلته في كلمته المسلمين إلى الالتزام بدينهم الذي هو أكبر نعم الله على البشر، وأوضح أن من خصائص الأمة الإسلامية أنها لا تجتمع على ضلالة، وأن الله تعالى قد قيض لها في كل عصر من ينفي عن الإسلام انتحال المبطلين وتحريف الغالين وتأويل الجاهلين. كما أكّد فضيلته على وسطية الإسلام التي تدعو إلى تجنب الإفراط والتفريط، وكذلك على خصيصة اليسر في تعاليمه، وأنه باستقراء التراث الفقهي يتأكد لنا أن قدوة الميسّرين هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم سادة الصحابة والتابعين، وأن القاعدة الذهبية هي التيسير في الفتوى والتبشير في الدعوة، وأن الشريعة الإسلامية قد دخلت بلاداً شتى وحضارات مختلفة، فلم تضق صدراً بما استجد من مسائل وأصبح في المذاهب الفقهية سعة ورحمة للأمة، وأن المسلمين اليوم في حاجة إلى "الاجتهاد المنضبط" الذي يجمع بين فهم الفقه ومعرفة الواقع، من خلال الموازنة بين النصوص الجزئية والمقاصد الكلية المعتبرة لدى الأمة.
واستعرض المجلس جدول أعماله واستمع إلى التقرير الدوري للأمانة العامة، واتخذ القرارات اللازمة للأعمال الإدارية، ومنها: تشكيل لجنة للحوار الديني، كما استمع إلى تقرير لجنة البحوث، وقدم الشكر لكل من ساهم في إخراج العدد الثالث من المجلة العلمية الخاصة بالمجلس، ثم تدارس المجلس عدداً من القضايا المدرجة على جدول أعماله وأجاب عن عدد من الأسئلة المقدمة إليه واتخذ بذلك القرارات والفتاوى التالية:(1/95)
أولاً: القرارات
القرار1/11:
تحديد مواقيت الصلاة في المناطق الفاقدة للعلامات الشرعية
اطلع المجلس على البحوث والدراسات التي قدمها أعضاؤه حول تحديد مواقيت الصلوات في المناطق الفاقدة لبعض العلامات المعتبرة شرعاً، وبعد المناقشة والمداولة قرر المجلس ما يلي:
أولاً: لا مانع شرعاً من الاستمرار في الاعتماد على الاجتهادات المعمول بها حالياً في أوروبا، مثل الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء، ومثل الذي أقره المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في قراره باعتبار التقدير النسبي الذي يعتمد على درجة 18 للفجر، و 17 للعشاء والمطبق في معظم البلاد الأوروبية، وكذلك الاجتهاد القائم على الاعتماد على درجة 12 لصلاتي الفجر والعشاء والمطبق حالياً في بعض البلاد الأوروبية.
ثانياً: يؤكد المجلس قرار المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي رقم 6 في 12 رجب 1406هـ الموافق 23مارس 1986م المتعلق بالمنطقة القطبية، الذي ينص على: "أن تقدر جميع الأوقات بالقياس الزمني في خط عرض 45 درجة، وذلك بأن تقسم الأربع والعشرون ساعة في المنطقة من 66 درجة إلى القطبين، كما تقسم الأوقات في خط عرض 45 درجة" أي التقدير النسبي.
ثالثاً: نظراً لحاجة هذه البلاد إلى تطبيق عملي لحساب مواقيت الصلاة في المناطق المختلفة التي تفتقد فيه بعض العلامات، أو معظمها فقد كلّف المجلس بعض أعضائه المتخصصين بإعداد دراسة حديثية فقهية ودراسات علمية رياضية مقارنة بين الاجتهادات المختلفة، وتقديمها إلى المجلس في دورته المقبلة ليتخذ بشأنها القرار الشامل المناسب. والله أعلم.(1/96)
القرار 2/11:
الاستنساخ من الزوجين
تناول المجلس استكمالاً لبحثه لموضوع الاستنساخ في دورته السابقة مسألة الاستنساخ من الزوجين التي أُجل بحثها للدورة الحالية. وبعد استعراض الدراسات والأبحاث المعدة حول الموضوع ومناقشتها:
يؤكد المجلس قراره السابق الذي يقضي بتحريم الاستنساخ البشري. ولا يستثني من ذلك الاستنساخ من الزوجين، وذلك بقاء على أصل الحكم بمنع الاستنساخ البشري، ولعدم وجود دليل يبرر الاستثناء.
وإذا ما استجدّ في الأمر ما يدعو إلى النظر فإن المجلس سيدرسه في حينه ويصدر فيه القرار المناسب.(1/97)
القرار 3/11:
قتل المرحمة
Euthanasia
استعرض المجلس الدراسات المقدمة إليه بخصوص هذا الموضوع، وبعد مناقشتها خلَص إلى ما يلي:
أولاً: تعريف قتل المرحمة أو الأوتانازيا:
كلمة الـ ( Euthanasia ) كلمة إغريقية الأصل وتتألف من مقطعين:
- السابقة Eu وتعني الحَسَن أو الطيب أو الرحيم أو الميسر.
- واللاحقة Tathanos وتعني الموت أو القتل.
وعليه فإن كلمة الأوتانازيا تعني لغوياً الموت أو القتل الرحيم أو الموت الحسَن أو الموت الميسّر.
أما في التعبير العلمي المعاصر فتعني كلمة (الأوتانازيا): "تسهيل موت الشخص المريض الميؤوس من شفائه بناء على طلب مُلِحٍّ منه مقدم للطبيب المعالج".
ثانياً: أنواع قتل الرحمة
لقتل الرحمة صور تطبيقية مختلفة هي:
1- القتل الفعال Euthanasie Directe أو القتل المباشر أو المتعمد:
ويتم بإعطاء المريض جُرعةً قاتلة من دواء كالمورفين أو الكورار Curare أو الباربيتوريات Barbiturates أو غيرها من مشتقات السيانيدCyanide بنيّة القتل.
وهو على ثلاثة أحوال:
الحالة الأولى: الحالة الاختيارية أو الإرادية، حيث تتم العملية بناءً على طلب ملحٍّ من المريض الراغب في الموت وهو في حالة الوعي أو بناءً على وصية مكتوبة مسبقاً.
الحالة الثانية: الحالة اللاإرادية، وهي حالة المريض البالغ العاقل الذي فقد الوعي، حينئذ تتم العملية بتقدير الطبيب الذي يعتقد بأن القتل في صالح المريض، أو بناءً على قرار من ولي أمر المريض أو أقربائه الذين يرون أن القتل في صالح المريض.(1/98)
الحالة الثالثة: وهي حالة لا إرادية يكون فيها المريض غير عاقل، صبياً كان أو معتوهاً، وتتم بناءً على قرار من الطبيب المعالج.
2- المساعدة على الانتحار Aide au suicide:
وفي هذه الحالة يقوم المريض بعملية القتل بنفسه بناءً على توجيهات قدمت إليه من شخص آخر الذي يوفّر له المعلومات أو الوسائل التي تساعده على الموت.
3- القتل غير المباشر Euthanasie Indirecte:
ويتم بإعطاء المريض جرعات من عقاقير مسكنة لتهدئة الآلام المبرحة، وبمرور الوقت يضطر الطبيب المعالج إلى مضاعفة الجرعات للسيطرة على الآلام، وهو عمل يستحسنه القائمون على العلاج الطبي، إلا أن الجرعات الكبيرة قد تؤدي إلى إحباط التنفس وتراجع عمل عضلة القلب فتفضي إلى الموت الذي لم يكن مقصوداً بذاته ولو أنه متوقّع مسبقاً.
4- القتل غير الفعال أو المنفعل Euthanasie Passive:
ويتم برفض أو إيقاف العلاج اللازم للمحافظة على الحياة، ويلحق به رفع أجهزة التنفس الاصطناعي عن المريض الموجود في غرفة الإنعاش والذي حُكِمَ بموت دماغه، ولا أمل في أن يستعيد وعيه.
ثالثاً: ومع أن التقاليد الطبية السائدة في بلدان العالم والكثرة الغالبة من الأطباء ما زالت ترفض وتنفر بشدة مما يسمى قتل الرحمة، ومع أن القوانين السارية في معظم بلدان العالم تعتبر قتل الإنسان بأي صورة ولأي سبب جريمة يعاقب عليها القانون، إلا أن قتل الرحمة أخذ يُمارس بصورة متزايدة في عدد من البلدان الأوروبية مستتراً تحت أسماء مضللة تجعل السلطات تغض الطرف عنها أو تمتنع المحاكم من إيقاع العقوبات القانونية في حق مرتكبيها. وتكاد هذه الأمور تصبح ممارسة يومية في بلد كهولندا، حتى أصبح الأمر مُقنّناً من قبل السلطات التشريعية.
رابعاً: يبدو أن الممارسين للقتل يقيمون على بعض المبررات منها:(1/99)
· الفلسفة اللادينية السائدة في الغرب التي تقيس قيمة الحياة بمساهمة الإنسان في المجتمع من إنتاج وإبداع، فإذا أصبح عالة على الغير فموته أولى.
· أن القتل الرحيم يُريح المريض ويخلصه من المعاناة والعذاب والآلام التي لا يطيق الصبر عليها.
· في القتل الرحيم تخفيف للمعاناة التي يتحملها أهل المريض وأصدقاؤه ومن يتولون رعايته، وكذلك توفير للتكاليف المادية والأعباء الاقتصادية التي تتحملها الأسرة أو المجتمع. كما أن المؤيدين للقتل الرحم يرون أن للمريض حقاً ذاتياً في تقرير مصيره وله الحق في أن يُقتل إذا طلب ذلك.
خامساً: وبعد أن اطلع المجلس على المواقف القانونية المختلفة التي تتخذها الدول الغربية من القتل الرحيم بصورة متباينة ما بين مؤيد ومعارض، قرر المجلس ما يلي:
1- تحريم قتل الرحمة الفعال المباشر وغير المباشر وتحريم الانتحار والمساعدة عليه، ذلك أن قتل المريض الميؤوس من شفائه ليس قراراً متاحاً من الناحية الشرعية للطبيب أو لأسرة المريض أو المريض نفسه.
فالمريض أيّاً كان مرضه وكيف كانت حالة مرضه لا يجوز قتله لليأس من شفائه أو لمنع انتقال مرضه إلى غيره، ومن يقوم بذلك يكون قاتلاً عمداً، والنص القرآني قاطع في الدلالة على أن قتل النفس محرّم قطعاً لقوله تعالى: (ولا تَقتُلوا النَّفْسَ التي حَرَّمَ اللهُ إلا بالحَقِّ) ]الأنعام:151[، ولقوله تعالى: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلى بَني إسْرَائيلَ أنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسَاً بغَِيْرِ نَفْسٍ أوْ فَسَادٍ في الأَرْضِ فَكَأنمَّا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) ]المائدة : 32[.(1/100)
2- يحرُمُ على المريض أن يقتلَ نفسَه ويحرُم على غيره أن يقتله حتى لو أذن له في قتله، فالأول انتحار والثاني عدوان على الغير بالقتل، وإذنه لا يُحل الحرام، فهو لا يملك روحه حتى يأذن لغيره أن يقضي عليها. والحديث معروف في تحريم الانتحار عامة، فالمنتحر يُعذّب في النار بالصورة التي انتحر بها، إن استحَلَّ ذلك فقد كفر وجزاؤه الخلود في العذاب، وإن لم يستحله عُذّب عَذاباً شديداً.
3- لا يجوز قتل المريض الذي يُخْشى انتقالُ مرضه إلى غيره بالعدوى، حتى لو كان ميؤوساً من شفائه (كمريض الإيدز مثلاً)، فلا يجوز قتله لمنع ضرره، ذلك لأن هناك وسائل عديدة لمنع ضرره كالحَجْر الصحي ومنع الاختلاط بالمريض، بل يجب المحافظة عليه كآدمي يقدّمُ له كل ما يتطلب من الغذاء والدواء حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً، وفي الحديث الذي يرويه البخاري ومسلم: "ما أنزلَ الله من دَاءِ إلا أنزلَ له شِفاءً"، وفي الحديث الذي رواه الترمذي "يا عبادَ الله، تَدَاوَوا، فإنَّ الله لم يَضَع داءً إلا وضَع له دواءً"، وفي الحديث الذي رواه أحمد: "إن الله لم ينزل داءً إلا أنزَل له شِفاءً، عَلِمَه منْ علمه، وجهله من جهله". فهذه الأحاديث تعطينا أملاً في اكتشاف دواءٍ لمثل هذه الأمراض، كما اكتشفت أدوية لأمراض ظنَّ الناس أن شفاءها ميؤوسٌ منه، فلا يصحّ قتلُ حامله لليأس من شفائه، ولا لمنع الضرر عن الأصحاء.(1/101)
4- وبالنسبة لتيسير الموت بإيقاف أجهزة الإنعاش الاصطناعي عن المريض الذي يعتبر في نظر الطب "ميتاً" أو في "حكم الميت" وذلك لتلف جذع الدماغ أو المخ، الذي به يحيا الإنسان ويحسّ ويشعر، وإذا كان عمل الطبيب مجرد إيقاف أجهزة العلاج فلا يخرج عن كونه تركاً للتداوي، فهو أمر مشروع ولا حرج فيه، وبخاصة أن هذه الأجهزة تُبقي عليه هذه الحياةَ الظاهرية - المتمثلة في التنفس والدورة الدموية - وإن كان المريض ميتاً بالفعل، فهو لا يعي ولا يحس ولا يشعر، نظراً لتلف مصدر ذلك كله وهو المخ.
وبقاء المريض على هذه الحالة يتكلف نفقات كثيرة دون طائل ويحجز أجهزة قد يحتاج إليها غيره مما يجدي معه العلاج. والله أعلم.(1/102)
القرار 4/11:
التحكيم في المنازعات
اطّلع المجلس على الدراسات المقدمة إليه من قبل أصحاب الفضيلة أعضاء المجلس حول التحكيم الشرعي في بلاد الغرب وبعد المناقشة والمداولة قرّر ما يلي:
أولاً: أقرَّ المجلس لائحة التحكيم (المرافقة مع الفتوى) على أن تعرض على خبراء قانونيين، وفي حالة اقتراحهم إجراء تعديلات عليها تُعرَض هذه التعديلات على المجلس في دورة لاحقة.
ثانياً: الأصل أن يختار المسلم عند حاجته إلى تحكيم محكمين مسلمين، أو مراكز تحكيم ملتزمة بأحكام الشريعة الإسلامية، وإذا لم يمكن ذلك فيجوز الاحتكام إلى جهات تحكيم غير إسلامية توصلا لما هو مطلوب شرعاً.
ثالثاً: لا يجوز التحكيم في كل ما هو حق لله تعالى، ولا فيما استلزم الحكم فيه إثبات حكم أو نفيه بالنسبة لغير المتعاملين ممن لا ولاية للمحكم عليه، ولا فيما ينفرد القضاء به دون غيره بالنظر فيه. والله أعلم.(1/103)
القرار 5/11:
الخطاب الإسلامي في عصر العولمة
تداول المجلس موضوع الخطاب الإسلامي في عصر العولمة، وبعد استعراضه للبحوث والدراسات، وتداول المناقشات حوله خلص إلى:
أن خطابنا الإسلامي في عصر العولمة بحاجة ملحة إلى تغيير وتطوير، وهذا لا يعني تغيير الثوابت والأهداف الإسلامية، بل تغيير أساليب الدعوة وطرائق البيان وفنون التعليم، وذلك لأننا تعودنا الحديث إلى أنفسنا وأن غيرنا لا يسمع صوتنا، أما الآن فما يقال في مكان يصل إلى أطراف العالم كله في نفس اللحظة؛ لأن العالم صار بمنزلة قرية صغيرة، وما يقال للمسلمين من أحكام فقهية غير ما يقال لغير المسلمين من البدء بالعقيدة الإسلامية ثم التدرج معه، وما يقال للمسلم الجديد غير ما يقال للمسلم العريق، كما أن الحوار أو الخطاب يختلف باختلاف المدرسة التي ينتمي إليها الداعية ويعبّر عنها، والأولى أن يجمعَ الخطابُ بين روحانية المتصوف وتمسك الأثري، وعقلانية المتكلم، وعلمية الفقيه، يأخذ من كل صنف خيرَ ما عنده، وإننا بحاجة إلى مراعاة الانتقال من الشكل الغوغائي والمظهر إلى الحقيقة والجوهر، ومن الكلام والجدل إلى العطاء والعمل، ومن العاطفية إلى العقلانية العلمية، ومن الفروع والذيول إلى الرؤوس والأصول، ومن التعسير والتنفير إلى التيسير والتبشير، ومن الجمود والتقليد إلى الاجتهاد والتجديد، ومن التعصب والانغلاق إلى التسامح والانطلاق، ومن الغلو والانحلال إلى الوسطية والاعتدال، ومن العنف والنقمة إلى الرفق والرحمة، ومن الاختلاف والتشرذم إلى الائتلاف والتضامن.
أما عن منهجية الخطاب الديني كما رسمه القرآن الكريم فإنه يتضح من النقاط التالية:
أولاً: وجوب الدعوة على كل مسلم؛ للأدلة الشرعية على هذا الوجوب، كلّ حسب استطاعته.
ثانياً: ربانية الدعوة، فهي دعوة إلى الله عز وجل لا إلى قوم أو عصبية أو لغة، ويلزم أن يتحرر الناس من ربوبية بعضهم لبعض وأن يكونوا جميعاً عباداً لله وحده.
ثالثاً: دعوة المسلمين بالحكمة والموعظة الحسنة.
والحكمة تعني ما يلي:
أ - استيعاب الأدلة العلمية المقنعة والبراهين العقلية الساطعة.(1/104)
ب- أن نكلّم الناس بلسانهم، ليس بلغتهم فقط، بل لأن نحدّث كلّ قوم بما يناسبهم وواقعهم ومشكلاتهم ومستوياتهم وتحدياتهم وآلامهم وآمالهم.
ج- الرفق بتبني منهج التيسير في الفتوى والتبشير في الدعوة.
د- ترتيب الأصول والأولويات ثم ندعو إلى الفروع بعدها.
هـ- التدرج من العقائد والأخلاق إلى الفروع والأطراف.
أما الموعظة الحسنة فهي:
مخاطبة القلوب والعواطف النبيلة لتحريكها نحو الخير، وقد أكد القرآن على أهمية الموعظة الحسنة، وهي التي تصدر بأسلوب جميل، وبحسن اختيار الموضوع، والأسلوب والتوازن بين الترغيب والترهيب بالصحيح من النصوص، وليس بالقصص الخيالية والروايات المختلفة، وليس بتخويف العوام من الموت وعذاب القبر حتى توصله إلى الفزع واليأس والقنوط. وليس من المواعظ الحسنة الأدعية الاستفزازية كالدعاء بأن يهلك الله جميع المشركين واليهود والنصارى وأن ييتّم أطفالهم ويرمّل نساءهم، مما لا نعرف نصاً صحيحاً يجيز مثل هذا التجاوز في الدعاء.
رابعاً: حوار المخالفين بالتي هي أحسن:
وهي من المعالم الواقعية في الإسلام، حيث أمر بالموعظة الحسنة مع المسلمين، والحوار مع غير المسلمين بالتي هي أحسن، أي الأفضل والأرقى والأسمى والأرقّ، ومنه أيضاً اختيار الجوامع المشتركة مع المخالفين، وهي كثيرة، منها: مواجهة موجات الإلحاد والإباحية، والجريمة، وتلوّث البيئة، وحقوق الإنسان والحريات، والأسرة والأمومة والطفولة، والقواسم الأخلاقية الإنسانية، ولا نركّز على نقاط الخلاف، ومواضع التباين.
ومن الحوار بالتي هي أحسن عدم التحامل على المخالف وتوهين معتقداته وآرائه، وعدم إشعاره بالهزيمة والنشوة بالانتصار عليه.(1/105)
خامساً: التمسك بالثوابت والأصول في عرض الإسلام، فليس من تجديد الخطاب الديني تقديم الإسلام مكسور الجناح منزوع السلاح، أو أنه علاقة شخصية بين العبد وربه فقط وليس منهجَ حياة كاملة للفرد والأسرة والمجتمع والدولة، وليس منه حذف الآيات المتحدثة عن بعض المخالفين لنا، أو حذف الحدود من النظام الجنائي، أو الجهاد من العلاقات الدولية، أو حذف الغزوات من السيرة.
سادساً: تغيير بعض المسميات بما لا يغير الجوهر، ومنه الحديث عند اللقاء بأنهم "غير المسلمين" فهذا لا يغير من الحقيقة شيئاً، خاصة وأن القرآن لم يتحدث عن أهل الكتاب إلا بأرقى الأساليب، ولم يخاطب غير المسلمين بالكفار إلا في آيتين لظروف خاصة تتعلق في خلط العقائد والاشتراك في عبادة الله يوماً وإلههم في يوم آخر، وقد عدّل سيدنا عمر تسمية الجزية على نصارى تَغْلِب فسماها زادة أو صدقة وضاعفها عليهم، والعبرة بالمقاصد والمعاني وليس بالألفاظ والمباني.
ومنه أيضاً استعمال لفظ "مواطنون" بدلاً من أهل الذمة، والتعبير عن العلاقات الإنسانية بالأخوة، فإن جميع الأنبياء خاطبوا قومهم بلغة الأخوة، ووقف النبي صلى الله عليه وسلم لجنازة يهودي وقال أليست نفساً. ولا يوجد أي حرج شرعي في التعامل مع غير المسلمين على أنهم أخوة في الإنسانية أو المواطنة، وأن توجد علاقات معهم حتى يروا محاسن الإسلام وشمائل المسلمين، لأن منهج الإسلام هو الرحمة والرفق بالخلق أجمعين ما لم يكونوا محاربين معتدين.
أما عن خصائص الخطاب الإسلامي في عصر العولمة:
فينبغي أن يراعى مكان المخاطبين وزمانهم وظروفهم ولسان قومهم حتى يكون بلاغاً مبيناً كما نصّ القرآن مراراً، ويراعى طبيعة التقارب الذي جعل العالم كله قرية واحدة، مما يلزم تحري اختيار العبارات والموضوعات، هذا مع جمع الخصائص التالية:
1. يؤمن بالوحي، ولا يغيّب العقل.
2. يحرص على المعاصرة، ويتمسك بالأصالة.(1/106)
3. يدعو إلى الروحانية، ولا يهمل المادية.
4. يدعو إلى الجد والاستقامة، ولا ينسى اللهو والترويح.
5. يتبنى العالمية، ولا يغفل المحلية.
6. يستشرف المستقبل، ولا يتنكر للماضي.
7. يتبنى التيسير في الفتوى والتبشير في الدعوة.
8. ينصف المرأة، ولا يجور على الرجل.
9. ينكر الإرهاب الممنوع، ويؤيد الجهاد المشروع.
10. يصون حقوق الأقلية، ولا يحيف على الأكثرية.
11. ينادي بالاجتهاد، ولا يتعدى الثوابت.(1/107)
البيان الختامى 12
بتاريخ: 30-7-2008
البيان الختامي
للدورة العادية الثانية عشرة للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث
المنعقدة في مقره بدبلن في الفترة
من 6 - 10 ذي القعدة 1424هـ الموافق 31/12/2003 - 4 يناير 2004
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد..
فقد انعقدت بعون الله وتوفيقه الدورة العادية الثانية عشرة للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث في مقره بدبلن (جمهورية أيرلندا) في الفترة من 6-10 ذي القعدة 1423هـ الموافق 31/12/2003 - 4 يناير 2004م، برئاسة سماحة العلامة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي رئيس المجلس حفظه الله، وبحضور أغلبية الأعضاء، وبعد أن استهل المجلس جلساته بتلاوة من كتاب الله تعالى، ألقى سماحة رئيس المجلس كلمة توجيهية شاملة، رحب فيها بأصحاب الفضيلة أعضاء المجلس والسادة الضيوف والإعلاميين الذين حضروا لتغطية أعمال الدورة، والإخوة والأخوات الذين حضروا جلسة الافتتاح، كما أشاد سماحته بدور المجلس وما يقدمه في فتاواه من منهج مستنير، جعل المسلمين في أوربا ينتظرون هذه الفتاوى التي لا تشبع نهم الطالبين والراغبين، على الرغم من كثرتها، وأشار سماحته إلى أن المجلس يعقد اجتماعه هذا في آخر أيام عام 2003 الذي حمل الكثير من الأهوال والكروب والحروب والمفاجآت والذي قاست الأمة فيه وعانت كثيراً، معرباً عن أمله في أن يكون العام 2004 عام سلام وأمن على الشعوب عامة.
وأبرز ما تحدث عنه سماحته من مفاجآت العام المنصرم قضية الحجاب، وذلك فيما صدر من دعوة الرئيس الفرنسي جاك شيراك لإصدار قرار يحظر على المسلمات ارتداء الحجاب.(1/108)
وأشار سماحته إلى أن الأمر ليس بالجديد على فرنسا، فقد أثير عام 1994م، وتردد الكلام أن الحجاب رمز، وقد أجاب عن ذلك منذ زمن بقوله: "إن المرأة المحجبة تستجيب لأمر ربها، ولا تقصد بالحجاب أي رمز، وأشار إلى أن ما يلبسه الرجل والمرأة في عرف الفكر العلماني هو حرية شخصية، ولا علاقة بين ارتداء الحجاب والتدخل في شئون الدولة"، وتساءل: "ما علاقة أن تلبس المرأة غطاء رأسها بسياسة الدولة العامة؟".
وقال: إن "قضية الحجاب حرية شخصية ودينية، وإن كانت فرنسا لا تمنع العري والإباحية، فلماذا تمنع المسلمات من الحجاب؟"، واستشهد سماحته بقول شيراك: "إن حرية المعتقد مكفولة لكل مواطن وكل إنسان، والتعبير عن حرية المعتقد مكفول أيضاً".
وأضاف سماحته أن "التعبير عن المعتقد قد يكون بالكلام وقد يكون بالسلوك، والمرأة تعبر عن إيمانها بالحجاب، وإلا فمعنى هذا أن التعبير عن حرية المعتقد التي نادى بها شيراك حبر على ورق، أو كلام أجوف لا فائدة منه".
وتابع قائلاً: "إذا كان الإسلام يدعو أبناءه أن يتسامحوا مع الآخرين، فلماذا لا يتسامح غير المسلمين مع المسلمين، إن كلام شيراك دعوة للمسلمات أن يُطعنَ أمرهُ هو، وأن يَعْصِينَ الله تعالى".
وأضاف: "نحن المسلمين في شريعتنا لا نضيّق على المخالفين فيما أبيح لهم في شريعتهم، فلهم أن يأكلوا لحم الخنزير، وهو محرم بنص القرآن عندنا، وأن يشربوا الخمر، وهي أم الخبائث في الإسلام، حتى إن الإمام أبا حنيفة قال: من أتلف خمراً لذمي غرم قيمتها، لأنها مال متقوَّم عنده".
وأبدى سماحة رئيس المجلس أسفه لما بدر من بعض المسلمين إزاء مسألة الحجاب في فرنسا من موقف سلبي، معتبراً أن "بعض من ينتسبون للإسلام يقولون كلاماً لا يعقل ولا يفهم، ولا يقوم على أي تصوّر إسلامي".(1/109)
ثم تناول سماحته قضية الوسطية وأبان عن كونها المنهج الذي يتبناه المجلس منذ قيامه، وتُنادي الأوساط الدولية اليوم - على اختلاف مستوياتها في الغرب والشرق، من المسلمين وغير المسلمين - بتبنيه، وأبدى تخوفه من أن تكون "الدعوة إلى الوسطية موجهة لغير أهلها، أو توضع في غير محلها، أو تستخدم لأغراض شخصية أو استبدادية، ليست في صالح الشعوب الإسلامية، وإنما للسعي وراء تحقيق بعض المكاسب السياسية تحت غطاء الوسطية".
وحرصاً على أن يكون منهج الوسطية منهجاً مستقيماً يؤتي ثماره، ولا يستغل في أغراض بعيدة عن نشأته، وضع سماحته عشرين ضابطاً لمنهج الوسطية، تبرز ملامحه وتحدد معالمه، وتحسم منطلقاته وأهدافه، وتميزه عن غيره من التيارات، تتمثل فيما يلي:
1- الملاءمة بين ثوابت الشرع ومتغيرات العصر.
2- فهم النصوص الجزئية للقرآن والسنة في ضوء مقاصدها الكلية.
3- التيسير في الفتوى، والتبشير في الدعوة.
4- التشديد في الأصول والكليات، والتيسير في الفروع والجزئيات.
5- الثبات في الأهداف، والمرونة في الوسائل.
6- الحرص على الجوهر قبل الشكل، وعلى الباطن قبل الظاهر، وعلى أعمال القلوب قبل أعمال الجوارح.
7- الفهم التكاملي للإسلام بوصفه: عقيدة وشريعة، ديناً ودنيا، ودعوة ودولة.
8- دعوة المسلمين بالحكمة، وحوار الآخرين بالحسنى.
9- الجمع بين الولاء للمؤمنين، والتسامح مع المخالفين.
10- الجهاد والإعداد للمعتدين، والمسالمة لمن جنحوا للسلم.
11- التعاون بين الفئات الإسلامية في المتفق عليه، والتسامح في المختلف فيه.
12- ملاحظة تغير أثر الزمان والمكان والإنسان في الفتوى والدعوة والتعليم والقضاء.
13- اتخاذ منهج التدرج الحكيم في الدعوة والتعليم والإفتاء والتغيير.
14- الجمع بين العلم والإيمان وبين الإبداع المادي والسمو الروحي، وبين القوة الاقتصادية والقوة الأخلاقية.(1/110)
15- التركيز على المبادئ والقيم الإنسانية والاجتماعية، كالعدل والشورى والحرية وحقوق الإنسان.
16- تحرير المرأة من رواسب عصور التخلف، ومن آثار الغزو الحضاري الغربي.
17- الدعوة إلى تجديد الدين من داخله، وإحياء فريضة الاجتهاد من أهله في محله.
18- الحرص على البناء لا الهدم، وعلى الجمع لا التفريق، وعلى التقريب لا المباعدة.
19- الاستفادة بأفضل ما في تراثنا كله: من عقلانية المتكلمين، وروحانية المتصوفين، واتباع الأثريين، وانضباط الفقهاء والأصوليين.
20- الجمع بين استلهام الماضي، ومعايشة الحاضر، واستشراف المستقبل.
وفي ختام كلمته دعا سماحته المسلمين إلى التزام الإسلام، وهو كبرى نعم الله على البشر، وعدم التفرق والتشرذم، كما دعاهم إلى التعاون على البر والتقوى، اتباعاً لقوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} [المائدة: 2].
وبعد جلسة الافتتاح عقد المجلس جلسة إدارية استعرض فيها جدول أعماله المشتمل على التقرير الدوري للأمانة العامة، وموضوعات أخرى، واتخذ القرارات اللازمة للأعمال الإدارية والمالية.
وفي الأيام التالية توالت جلسات العمل، والتي سعد المجلس فيها باستضافة البروفسور بيتر كوننجسفيلد رئيس قسم تاريخ الأديان بجامعة ليدن ومدير معهد دراسات الأديان بهولندا، والبروفيسور داوود جريل دينس رئيس قسم الدراسات الإسلامية بجامعة إكس في فرنسا، واللذَين كانت لهما مشاركات مشكورة خلال جلسات المجلس نالت استحسان سماحة رئيس المجلس وأعضائه، كما حضر الجلسات عدد من الباحثين والباحثات و طلاب العلم الشرعي.
وتدارس المجلس مجموعة من الموضوعات المدرجة على جدول أعماله، واتخذ بشأنها القرارات والفتاوى والتوصيات المناسبة، أبرزها ما يلي:(1/111)
أولاً: القرارات
القرار رقم (1/12):
حول حق المرأة المسلمة في ارتداء الحجاب
تناول المجلس هذا الموضوع الخطير بسبب تداعيات توجه الحكومة الفرنسية إلى منع ما سمي بـ(الرموز الدينية)، والذي يتناول المسلمات في فرنسا، وبعد مناقشات مستفيضة أصدر المجلس بخصوص ذلك البيان المرفق، كما شكل لجنة لمتابعة الحوار حول الموضوع برئاسة معالي العلامة الشيخ عبدالله بن بيّة وزير العدل الأسبق بمورتانيا عضو المجلس.
القرار رقم (2/12):
حول مواقيت الصلاة والصيام في البلاد ذات خطوط العرض العالية
تداول أعضاء المجلس في موضوع مواقيت الصلاة والصيام في البلاد ذات خطوط العرض العالية، واستمعوا إلى الدراسات الشرعية والفلكية المقدمة من بعض الأعضاء، والعروض التوضيحية للجوانب الفنية ذات الصلة التي تمت التوصية بها في الدورة الحادية عشرة للمجلس، وقرر ما يلي:
أولاً: تأكيد القرار السادس الصادر عن المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي بشأن مواقيت الصلاة والصيام في البلاد ذات خطوط العرض العالية ونصه:
"الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، سيدنا ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - .
أما بعد: فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي في دورته التاسعة المنعقدة بمبنى رابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة في الفترة من يوم السبت 12 رجب 1406 هـ إلى يوم السبت 19 رجب 1406هـ قد نظر في موضوع "أوقات الصلاة والصيام لسكان المناطق ذات الدرجات العالية".
ومراعاة لروح الشريعة المبنية على التيسير ورفع الحرج وبناءً على ما أفادت به لجنة الخبراء الفلكيين، قرر المجلس في هذا الموضوع ما يلي:
أولا. دفعاً للاضطرابات الناتجة عن تعدد طرق الحساب، يحدد لكل وقت من أوقات الصلاة العلامات الفلكية التي تتفق مع ما أشارت الشريعة إليه، ومع ما أوضحه علماء الميقات الشرعي في تحويل هذه العلامات إلى حسابات فلكية متصلة بموقع الشمس فوق الأفق أو تحته، كما يلي:(1/112)
(1) الفجر: ويوافق بزوغ أول خيط من النور الأبيض وانتشاره عرضاً في الأفق "الفجر الصادق" ويوافق الزاوية (18ْ) تحت الأفق الشرقي.
(2) الشروق: ويوافق ابتداء ظهور الحافة العليا لقرص الشمس من تحت الأفق الشرقي ويقدر بزاوية تبلغ (50َ) دقيقة زاوية تحت الأفق.
(3) الظهر: ويوافق عبور الشمس لدائرة الزوال ويمثل أعلى ارتفاع يومي للشمس يقابله أقصر ظل للأجسام الرأسية.
(4) العصر: ويوافق موقع الشمس الذي يصبح معه ظل الشيء مساوياً لطوله مضاف إليه فيء الزوال، وزاوية هذا الموقع متغيرة بتغير الزمان والمكان.
(5) المغرب: ويوافق اختفاء كامل قرص الشمس تحت الأفق الغربي، وتقدر زاويته بـ(50َ) دقيقة زاوية تحت الأفق.
(6) العشاء: ويوافق غياب الشفق الأحمر حيث تقع الشمس على زاوية قدرها (17ْ) تحت الأفق الغربي.
ثانياً. عند التمكين للأوقات يكتفى بإضافة دقيقتين زمنيتين على كل من أوقات الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وإنقاص دقيقتين زمنيتين من كل من وقتي الفجر والشروق.
ثالثاً. تقسم المناطق ذات الدرجات العالية إلى ثلاثة أقسام:
المنطقة الأولى: وهي التي تقع ما بين خطي العرض (45ْ) درجة و(48ْ) درجة شمالاً وجنوباً، وتتميز فيه العلامات الظاهرة للأوقات في أربع وعشرين ساعة طالت الأوقات أو قصرت.
المنطقة الثانية: وتقع ما بين خطي عرض (48ْ) درجة و(66ْ) درجة شمالاً وجنوباً، وتنعدم فيها بعض العلامات الفلكية للأوقات في عدد من أيام السنة، كأن لا يغيب الشفق الذي به يبتدئ العشاء وتمتد نهاية وقت المغرب حتى يتداخل مع الفجر.
المنطقة الثالثة: وتقع فوق خط عرض (66ْ) درجة شمالاً وجنوباً إلى القطبين، وتنعدم فيها العلامات الظاهرة للأوقات في فترة طويلة من السنة نهاراً أو ليلاً.(1/113)
رابعاً. والحكم في المنطقة الأولى: أن يلتزم أهلها في الصلاة بأوقاتها الشرعية، وفي الصوم بوقته الشرعي من تبيّن الفجر الصادق إلى غروب الشمس عملاً بالنصوص الشرعية في أوقات الصلاة والصوم، ومن عجز عن صيام يوم أو إتمامه لطول الوقت أفطر وقضى في الأيام المناسبة.
خامساً. والحكم في المنطقة الثانية أن يعيّن وقت صلاة العشاء والفجر بالقياس النسبي على نظيريهما في ليل أقرب مكان تتميّز فيه علامات وقتي العشاء والفجر، ويقترح مجلس المجمع خط (45ْ) باعتباره أقرب الأماكن التي تتيسر فيها العبادة أو التمييز، فإذا كان العشاء يبدأ مثلاً بعد ثلث الليل في خط عرض (45ْ) درجة يبدأ كذلك بالنسبة إلى ليل خط عرض المكان المراد تعيين الوقت فيه، ومثل هذا يقال في الفجر.
سادساً. والحكم في المنطقة الثالثة أن تقدر جميع الأوقات بالقياس الزمني على نظائرها في خط عرض (45ْ) درجة، وذلك بأن تقسم الأربع والعشرين ساعة في المنطقة من (66ْ) درجة إلى القطبين، كما تقسم الأوقات في خط عرض (45ْ) درجة.
فإذا كان طول الليل في خط عرض (45ْ) يساوي (8) ساعات، وكانت الشمس تغرب في الساعة الثامنة، وكان العشاء في الساعة الحادية عشرة جعل نظير ذلك في البلد المراد تعيين الوقت فيه، وإذا كان وقت الفجر في خط عرض (45ْ) درجة في الساعة الثانية صباحاً كان الفجر كذلك في البلد المراد تعيين الوقت فيه وبُدئ الصوم منه حتى وقت المغرب المقدّر.
وذلك قياساً على التقدير الوارد في حديث الدجّال الذي جاء فيه: (قلنا: يا رسول الله وما لبثه في الأرض - أي الدجال - قال: أربعون يوماً، يوم كسنة ويوم كشهر، ويوم كجمعة . . . إلى أن قال: قلنا يا رسول الله: هذا اليوم كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم وليلة؟ قال: لا، اقدروا له قدره) [ أخرجه مسلم وأبو داود في كتاب الملاحم ]. والله ولي التوفيق، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين". انتهى قرار المجمع الفقهي.(1/114)
ثانياً: نظراً إلى أن هذه القضية اجتهادية وليست فيها نصوص قطعية فلا يرى المجلس حرجاً في الاعتماد على تقديرات أخرى صادرة من هيئات فتوى إسلامية مثل الاعتماد على درجة انحطاط الشمس بدرجة (12) الموافقة لصلاتي الفجر والعشاء ومثل تحديد الفارق الزمني بين وقتي المغرب والعشاء ووقت الفجر وشروق الشمس بساعة ونصف.
وينصح المجلس الجهات الإسلامية المسئولة في المساجد والمراكز الإسلامية باتباع الطريقة التي ذكرها المجلس والمتفقة مع ما انتهى إليه المجمع الفقهي الإسلامي في مكة المكرمة كما ذكر أعلاه.
ثالثاً: يؤكد المجلس قراره السابق رقم (3/3) بشأن مشروعية الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء عند ضياع علامة العشاء أو تأخر وقتها، رفعاً للحرج وتيسيراً على المسلمين المقيمين في ديار الغرب، والله أعلم.(1/115)
القرار رقم (3/12):
بشأن انتفاع الأطفال من لبن بنوك الحليب القائمة في البلاد الغربية
تداول أعضاء المجلس في موضوع انتفاع أطفال المسلمين - ولا سيما الخدَّج وناقصي الوزن عند الولادة - من لبن بنوك الحليب المنتشرة في المجتمعات الغربية، والتي يحتاجها هؤلاء الأطفال إنقاذاً لحياتهم.
وبعد الاطلاع على القرار رقم 6(6/2) الصادر عن مجمع الفقه الإسلامي الدولي بشأن إنشاء بنوك الحليب في العالم الإسلامي وحرمة الرضاع منها، استعرض المجلس الدراسات الفنية والشرعية المقدمة من بعض أعضائه حول بنوك الحليب، ونظراً لتغير الحيثيات التي استند إليها قرار المجمع الفقهي الدولي وبخاصة ما يتعلق بالمسلمين المقيمين في ديار الغرب، حيث إن هناك بنوكاً للحليب قائمة منذ زمن وتأخذ بالتزايد والانتشار من قطر إلى آخر، إضافة إلى تزايد أعداد المسلمين المقيمين في الغرب وعدم توافر المرضعات المعروفات كما هو الشأن في العالم الإسلامي فإن المجلس يقرر ما يلي:
أولاً : لا مانع شرعاً من الانتفاع من لبن بنوك الحليب عند الحاجة.
ثانياً: لا يترتب على هذا الانتفاع التحريم بسبب الرضاعة؛ لعدم معرفة عدد الرضعات، ولاختلاط الحليب، ولجهالة المرضعات بسبب المنع القانوني المطبَّق في هذه البنوك من الإفصاح عن أسماء مُعْطِيات الحليب، فضلاً عن وفرة عدد هؤلاء المعطِيات الذي يتعذر حصره؛ وذلك استئناساً بما قرره الفقهاء من عدم انتشار الحرمة فيمن يرضع من امرأة مجهولة في قرية، لتعذر التحديد، ولأن الحليب المقدم من تلك البنوك هو خليط من لبن العديد من المرضعات المجهولات ولا تعرف النسبة الغالبة فيه، والله أعلم(1/116)
القرار رقم (4/12):
بشأن الأسواق المالية وتطبيقاتها
تداول أعضاء المجلس في موضوع الأسواق المالية (البورصة) والتطبيقات التي تجري فيها والتعامل بأسهم الشركات المساهمة واستمعوا إلى الدراسات الشرعية والاقتصادية المقدمة من بعض الأعضاء والمناقشات التي دارت حولها، ومن ثَمَّ قرر ما يلي:
يؤكد المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث القرار رقم 63(1/7) الصادر عن مجمع الفقه الإسلامي الدولي بشأن الأسواق المالية، مع إضافة بعض وجهات النظر الشرعية التي اختارها المجلس، وذلك على النحو التالي:
قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي:
"أولاً الأسهم:
1 - الإسهام في الشركات:
أ - بما أن الأصل في المعاملات الحل فإن تأسيس شركة مساهمة ذات أغراض وأنشطة مشروعة أمر جائز.
ب - لا خلاف في حرمة الإسهام في شركات غرضها الأساسي محرم، كالتعامل بالربا أو إنتاج المحرمات أو المتاجرة بها.
ج - الأصل حرمة الإسهام في شركات تتعامل أحياناً بالمحرمات، كالربا ونحوه، بالرغم من أن أنشطتها الأساسية مشروعة".
قرار تكميلي من المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث:(1/117)
قرر المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث بالنسبة للأقليات الإسلامية في الغرب - حيث لا تتوفر المؤسسات الإسلامية والشركات ذات الأغراض والأنشطة المشروعة - أنه: لا مانع من تعاملها بأسهم الشركات المساهمة التي غرضها الأساسي مشروع وتتجنب الأغراض المحرمة، مثل الخمور والخنزير والقمار، ولو كانت لها إيداعات أو قروض ربوية أو موجودات ثانوية غير مشروعة، شريطة مراعاة الضوابط التي قررتها الهيئات الشرعية وصدرت بها فتاوى في الندوات المصرفية، وهي:
أ - عدم تجاوز القروض من البنوك التقليدية ثلث موجودات الشركة.
ب - وعدم تجاوز الفوائد 5% من العوائد.
ج - وعدم تجاوز الموجودات غير المشروعة 10% من الموجودات.
على أن يتم التخلص من الفوائد والكسب غير المشروع مهما كانت نسبتها، بصرف ذلك في وجوه الخير، وأن يكون التداول في حالة زيادة الموجودات العينية والمنافع، على الديون والنقود.
ويرجع إلى الجهات المعتمدة من الهيئات الشرعية لتصنيف الشركات المقبولة، مثل مؤشر داو جونز الإسلامي المعتمد من الهيئة الشرعية للمؤشر وغيره.
بقية قرار مجمع الفقه الإسلامي الذي يؤكده المجلس:
"2 - ضمان الإصدار (UNDER WRITING):
ضمان الإصدار هو: الاتفاق عند تأسيس شركة مع من يلتزم بضمان جميع الإصدار من الأسهم أو جزء من ذلك الإصدار، وهو تعهد من الملتزم بالاكتتاب في كل ما تبقى مما لم يكتتب فيه غيره.
وهذا لا مانع منه شرعاً إذا كان تعهد الملتزم بالاكتتاب بالقيمة الاسمية بدون مقابل لقاء التعهد، ويجوز أن يحصل الملتزم على مقابل عن عمل يؤديه - غير الضمان - مثل: إعداد الدراسات، أو تسويق الأسهم .(1/118)
3 - تقسيط سداد قيمة السهم عند الاكتتاب:
لا مانع شرعاً من أداء قسط من قيمة السهم المكتتب فيه، وتأجيل سداد بقية الأقساط؛ لأن ذلك يعتبر من الاشتراك بما عجل دفعه والتواعد على زيادة رأس المال، ولا يترتب على ذلك محظور؛ لأن هذا يشمل جميع الأسهم، وتظل مسؤولية الشركة بكامل رأس مالها المعلن بالنسبة للغير؛ لأنه هو القدر الذي حصل العلم والرضا به من المتعاملين مع الشركة.
4 - السهم لحامله:
بما أن المبيع في (السهم لحامله) هو حصة شائعة في موجودات الشركة، وأن شهادة السهم هي وثيقة لإثبات هذا الاستحقاق في الحصة، فلا مانع شرعاً من إصدار أسهم في الشركة بهذه الطريقة وتداولها.
5 - محل العقد في بيع السهم:
إن المحل المتعاقد عليه في بيع السهم هو الحصة الشائعة من أصول الشركة، وشهادة السهم عبارة عن وثيقة للحق في تلك الحصة.
6 - الأسهم الممتازة:
لا يجوز إصدار أسهم ممتازة لها خصائص مالية تؤدي إلى ضمان رأس المال، أو ضمان قدر من الربح، أو تقديمها عند التصفية، أو عند توزيع الأرباح.
ويجوز إعطاء بعض الأسهم خصائص تتعلق بالأمور الإجرائية أو الإدارية.
7 - التعامل في الأسهم بطريقة ربوية:
أ - لا يجوز شراء السهم بقرض ربوي يقدمه السمسار أو غيره للمشتري لقاء رهن السهم، لما في ذلك من المراباة وتوثيقها بالرهن، وهما من الأعمال المحرمة بالنص على لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه.
ب - لا يجوز أيضاً بيع سهم لا يملكه البائع، وإنما يتلقى وعداً من السمسار بإقراضه السهم في موعد التسليم؛ لأنه من بيع مالا يملك البائع، ويقوى المنع إذا اشترط إقباض الثمن للسمسار لينتفع به، بإيداعه بفائدة للحصول على مقابل الإقراض.
8 - بيع السهم أو رهنه:
يجوز بيع السهم أو رهنه مع مراعاة ما يقضي به نظام الشركة، كما لو تضمن النظام تسويغ البيع مطلقاً، أو مشروطاً بمراعاة أولوية المساهمين القدامى في الشراء، وكذلك يعتبر النص في النظام على إمكان الرهن من الشركاء برهن الحصة المشاعة.(1/119)
9 - إصدار أسهم مع رسوم إصدار:
إن إضافة نسبة معينة مع قيمة السهم لتغطية مصاريف الإصدار لا مانع منها شرعاً ما دامت هذه النسبة مقدرة تقديراً مناسباً.
10 - إصدار أسهم بعلاوة إصدار أو حسم (خصم) إصدار:
يجوز إصدار أسهم جديدة لزيادة رأس مال الشركة إذا أصدرت بالقيمة الحقيقية للأسهم القديمة (حسب تقويم الخبراء لأصول الشركة)، أو بالقيمة السوقية".
11 - ضمان الشركة شراء الأسهم (المؤجل حكمه في قرار المجمع):
قرر المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث أنه يجوز أن تصدر الشركة وعداً ملزماً بشراء الأسهم من بعض حملتها خلال مدتها، أو عند التصفية بالقيمة السوقية، أو بما يتفق عليه عند الشراء، ولا يجوز الوعد بالشراء بالقيمة الاسمية.
بقية قرار مجمع الفقه الإسلامي الذي يؤكده المجلس:
"12 - تحديد مسؤولية الشركة المساهمة المحدودة:
لا مانع شرعاً من إنشاء شركة مساهمة ذات مسؤولية محدودة برأس مالها؛ لأن ذلك معلوم للمتعاملين مع الشركة، وبحصول العلم ينتفي الغرر عمن يتعامل مع الشركة.
كما لا مانع شرعاً من أن تكون مسؤولية بعض المساهمين غير محدودة بالنسبة للدائنين بدون مقابل لقاء هذا الالتزام، وهي الشركات التي فيها شركاء متضامنون وشركاء محدودو المسؤولية.
13 - حصر تداول الأسهم بسماسرة مرخصين، واشتراط رسوم للتعامل في أسواقها:
يجوز للجهات الرسمية المختصة أن تنظم تداول بعض الأسهم، بأن لا يتم إلا بواسطة سماسرة مخصوصين ومرخصين بذلك العمل؛ لأن هذا من التصرفات الرسمية المحققة لمصالح مشروعة.
وكذلك يجوز اشتراط رسوم لعضوية المتعامل في الأسواق المالية؛ لأن هذا من الأمور التنظيمية المنوطة بتحقيق المصالح المشروعة.
14 - حق الأولوية:
يرى المجلس تأجيل البت في هذا الموضوع إلى دورة قادمة لمزيد من البحث والدراسة.
15 - شهادة حق التملك:
يرى المجلس تأجيل البت في هذا الموضوع إلى دورة قادمة لمزيد من البحث والدراسة.(1/120)
ثانياً: بيع الاختيارات:
صورة العقد:
إن المقصود بعقود الاختيارات: الاعتياض عن الالتزام ببيع شيء محدد موصوف، أو شرائه بسعر محدد خلال فترة زمنية معينة أو في وقت معين، إما مباشرة أو من خلال هيئة ضامنة لحقوق الطرفين.
حكمه الشرعي:
إن عقود الاختيارات - كما تجري اليوم في الأسواق المالية العالمية - هي عقود مستحدثة لا تنضوي تحت أي عقد من العقود الشرعية المسماة.
وبما أن المعقود عليه ليس مالاً ولا منفعة ولا حقاً مالياً يجوز الاعتياض عنه، فإنه عقد غير جائز شرعاً.
وبما أن هذه العقود لا تجوز ابتداءً فلا يجوز تداولها.
ثالثاً: التعامل بالسلع والعملات والمؤشرات في الأسواق المنظمة:
1 - السلع:
يتم التعامل بالسلع في الأسواق المنظمة بإحدى أربع طرق هي التالية:
الطريقة الأولى:
أن يتضمن العقد حق تسلم المبيع وتسلم الثمن في الحال مع وجود السلع أو إيصالات ممثلة لها في ملك البائع وقبضه.
وهذا العقد جائز شرعاً بشروط البيع المعروفة.
الطريقة الثانية:
أن يتضمن العقد حق تسلم المبيع وتسلم الثمن في الحال مع إمكانهما بضمان هيئة السوق.
وهذا العقد جائز شرعاً بشروط البيع المعروفة.
الطريقة الثالثة:
أن يكون العقد على تسليم سلعة موصوفة في الذمة في موعد آجل ودفع الثمن عند التسليم وأن يتضمن شرطاً يقتضي أن ينتهي فعلاً بالتسليم والتسلم.
وهذا العقد غير جائز لتأجيل البدلين، ويمكن أن يعدل ليستوفي شروط السلم المعروفة، فإذا استوفى شروط السلم جاز.
وكذلك لا يجوز بيع السلعة المشتراة سلماً قبل قبضها.
الطريقة الرابعة:
أن يكون العقد على تسليم سلعة موصوفة في الذمة في موعد آجل ودفع الثمن عند التسليم، دون أن يتضمن العقد شرطاً يقتضي أن ينتهي بالتسليم والتسلم الفعليين، بل يمكن تصفيته بعقد معاكس.
وهذا هو النوع الأكثر شيوعاً في أسواق السلع، وهذا العقد غير جائز أصلاً.(1/121)
2 - التعامل بالعملات:
يتم التعامل بالعملات في الأسواق المنظمة بإحدى الطرق الأربع المذكورة في التعامل بالسلع.
ولا يجوز شراء العملات وبيعها بالطريقتين الثالثة والرابعة.
أما الطريقتان الأولى والثانية فيجوز فيهما شراء العملات وبيعها بشرط استيفاء شروط الصرف المعروفة.
3 - التعامل المؤشر:
المؤشر هو: رقم حسابي يحسب بطريقة إحصائية خاصة، يقصد منه معرفة حجم التغير في سوق معينة، وتجري عليه مبايعات في بعض الأسواق العالمية.
ولا يجوز بيع وشراء المؤشر لأنه مقامرة بحتة، وهو بيع شيء خيالي لا يمكن وجوده.
4 - البديل الشرعي للمعاملات المحرمة في السلع والعملات:
ينبغي تنظيم سوق إسلامية للسلع والعملات على أساس المعاملات الشرعية، وبخاصة بيع السلم، والصرف، والوعد بالبيع في وقت آجل، والاستصناع، وغيرها.
ويرى المجمع ضرورة القيام بدراسة وافية لشروط هذه البدائل وطرائق تطبيقها في سوق إسلامية منظمة".(1/122)
القرار رقم (5/12):
حول فقه الأقليات
بحث المجلس على مدار يوم كامل محور فقه الأقليات، الموضوع الذي يوليه أهمية خاصة؛ من أجل ما ينبني على مراعاته من فهم واقع الوجود الإسلامي في غير البلاد الإسلامية، وتنزيل الأحكام الشرعية المناسبة على ذلك الواقع، وتم في هذا اللقاء استعراض الأبحاث التالية:
1 - في فقه الأقليات، لسماحة العلامة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي رئيس المجلس.
2 - الفرق بين الضرورة والحاجة، لسماحة العلامة الشيخ الدكتور عبدالله بن بية عضو المجلس.
3 - مدخل إلى فقه الأقليات، لفضيلة الدكتور طه جابر العلواني عضو المجلس.
4 - مآلات الأفعال وأثرها في فقه الأقليات، لفضيلة الدكتور عبدالمجيد النجار عضو المجلس.
5 - نظرات في فقه الأقليات المسلمة، لفضيلة الشيخ العربي البشري عضو المجلس.
6 - الضوابط المنهجية لفقه الأقليات المسلمة، لفضيلة الدكتور صلاح الدين سلطان عضو المجلس.
واستقر المجلس على صحة استعمال مصطلح (فقه الأقليات) حيث لا مشاحة في الاصطلاح، وقد درج العمل عليه في الخطاب المعاصر، إضافة إلى كون العرف الدولي يستعمل لفظ (الأقليات) كمصطلح سياسي يقصد به: "مجموعات أو فئات من رعايا دولة تنتمي من حيث العرق أو اللغة أو الدين إلى غير ما تنتمي إليه الأغلبية".
كما استقر رأي المجلس على أن موضوع (فقه الأقليات) هو: الأحكام الفقهية المتعلقة بالمسلم الذي يعيش خارج بلاد الإسلام.(1/123)
ثانياً: الفتاوى
ورد إلى المجلس كم من الأسئلة، تناول طائفة منها بالإجابة، من أبرزها ما يلي:
الفتوى (1/12) : خطبة الجمعة بغير اللغة العربية
السؤال:
نحن هنا في بريطانيا، يحضر المسجد عندنا لشهود الجمعة من يفهم اللغة العربية ومن لا يفهمها، والجميع أو الأكثر يفهم لغة أهل البلد، فهل يجوز لنا إلقاء خطبة الجمعة بلغة المخاطبين وإن كانت غير العربية؟
الجواب:
حيث إن المقصود بخطبة الجمعة هو التعليم والإرشاد، فمراعاة لغة المخاطبين هو الأصل في خطابهم، ونبه القرآن الكريم على هذا المعنى في الإبانة عن وظيفة الرسل، فقال تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبيِّنَ لهم} [إبراهيم: 4]، وقال عز وجل: {فهل على الرسل إلا البلاغ المبين} [النحل: 35]، والبلاغ لا يكون مبيناً إلا إذا كان بلسان يفهمه المخاطب.
والأصل في خطبة الجمعة أن تكون باللغة العربية إذا غلب على المخاطبين فهمها، وذلك من أجل حاجة الخطبة إلى الاستدلال بالآية من القرآن، والحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، وذكر الله تعالى، ليحصل بذلك الغرض منها، والأبلغ في كل ذلك أن يكون بالعربية، ثم تحقق حاجة من لا يفهمها بالترجمة له حسب ما تيسر.
والأشبه أن يكون هذا هو المراد في رأي جمهور الفقهاء الذين ذهبوا إلى أن تكون الخطبة بالعربية.
فإن قل أو انعدم من يفهم العربية من الحاضرين، فلا مانع في أن تكون بلغتهم، وهو مذهب الإمام أبي حنيفة حيث أجاز الخطبة بغير العربية.(1/124)
الفتوى (2/12) : حكم التصرف في أموال المتبرعين
السؤال:
يقع للقائمين على بعض المؤسسات الإسلامية، كالمراكز أو المساجد أو الجهات الخيرية، أنهم يدعون المسلمين إلى التبرع لصالح مشروع معين، ثم يفضل من المال شيء بعد تنفيذ المشروع، أو يلغى ذلك المشروع أصلاً، فما الحكم في تلك الأموال؟ هل للقائمين على تلك المؤسسة حق التصرف فيها في مصالح عامة أخرى دون إعلام المتبرعين؟ وإذا لزمهم إعلام المتبرعين، فكيف العمل في حال تعذر ذلك؟
الجواب:
يُنْظر: فما أمكن تعيين كونه مال زكاة مفروضة، فإن المعطي لزكاة ماله لا يملك حق الاشتراط فيها أن تنفق في وجه مخصوص، وإنما محلها حيث مصارفها المبينة في كتاب الله تعالى بقوله: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل، فريضة من الله} [التوبة: 60]، فهذا يجعله القائمون على تلك المؤسسات في مصارفه باجتهادهم فيما يحقق مصلحة مجتمعهم.
وما لم يتعين كونه مال زكاة مفروضة، فالمتبرع قصد به ذلك المشروع المحدد الذي دعي إلى التبرع لأجله، فهو بتبرعه بمنزلة الواقف، والأصل التزام شرط الواقف، فلا يصرف ذلك المال إلا حيث أراد، وعليه: فإن عُرِفَ المتبرع بعينه وأمكن استئذانه فالواجب فعل بذلك، وإن تعذر وأمكن استئذان جماعة المتبرعين، شأن الأموال التي تجمع من المصلين في المساجد مثلاً، فيفعل ذلك، فإن تعذر فعل شيء من ذلك، فلا مانع من صرف المال في مشروع مشابه للمشروع الذي جمع لأجله، والأصل في ذلك كله قوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16].(1/125)
الفتوى (3/12): حكم قطرة الأنف في رمضان
السؤال:
أعاني من زكام مزمن لا يفارقني طول أيام العام، ولا أستطيع ترك استعمال قطرة الأنف خلال النهار، فماذا أصنع بشأن الصيام في رمضان؟ هل يصح صومي مع استعمالي لذلك، علماً بأني أبتلع تلك القطرة ولا أقدر على تجنب ذلك، كما أني لا أستطيع الفدية لو كان ذلك يفطرني؟
الجواب:
لا حرج عليك في الصوم على ما وصفت من الحال، وصومك صحيح، إذ الصوم إنما هو الإمساك عن الشهوات، كما قال الله تعالى في الحديث القدسي: "يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي" (متفق عليه)، وقطرة الأنف ليست شهوة، وليست غذاءً، كما أن تعاطيها ليس بحاصل من منفذ الغذاء المعتاد.(1/126)
الفتوى (4/12): حكم عقد الزواج بدون ولي و لا شهود في الغرب
السؤال:
تعرفت على امرأة غربية اعتنقت الإسلام، وبسبب عدم إمكان التقائنا للزواج في بلدي، سافرت للقائها في بلد آخر، ففوجئنا في تلك البلاد بتعذر إجراء عقد الزواج لنا لأسباب قانونية، فقيل لنا بأننا يمكن أن نزوج أنفسنا ونشهد الله على ذلك، عائلتي وعائلتها يعلمان بزواجنا، وكنت طلبت يدها من أمها فوافقت على الزواج، فتزوجنا دون ولي ولا شهود، ظناً منا بصحة ذلك، وعليه تعاشرنا عشرة الأزواج، فما الحكم فيما قمنا به؟
الجواب:
هذا العقد على ما وصف السائل عقد فاسد لفقدانه الشروط الشرعية، فقد تم بغير ولي ولا شهود، ولم يقل بصحته على هذا النحو أحد من الأئمة المتبوعين، فالذين قالوا بعدم اشتراط الولي، وأن للمسلمة أن تزوج نفسها وهم الأحناف ومن قال بقولهم اشترطوا أن يكون ذلك بحضور الشهود، والذين لم يشترطوا الشهادة على العقد واشترطوها عند الدخول وهم المالكية اشترطوا أن يتم العقد بحضور الولي الشرعي للمسلمة، فإذا فقد لموته أو شرعاً (لعدم إسلامه) فالولاية تنتقل إلى غيره من المسلمين.
وعليه، فالواجب عليكما الامتناع عن المعاشرة الجنسية، حتى تقوما بإجراء عقد جديد بحضور الشهود من المسلمين وولي للمرأة إن وجد، فإذا فقد فيكفي في تزويجها من تقوم هي بتوكيله من المسلمين، وما أقدمتما عليه من المعاشرة قبل العلم بهذا الحكم فالواجب عليكما الاستغفار منه.(1/127)
الفتوى (5/12): لبس المعطف المصنوع من جلد الخنزير؟
السؤال:
هل يحل لبس المعطف المصنوع من جلد الخنزير؟
الجواب:
ما يتخذ من جلد الخنزير بعد دباغته هل يدخل في حكم الجلد النجس، أم يطهر بالدباغ؟
الذي تدل عليه الأدلة أن جميع الجلود النجسة تطهر إذا دبغت؛ لقوله r: "إذا دبغ الإهاب فقد طهر" (رواه مسلم في صحيحه عن ابن عباس)، وفي رواية: "أيما إهاب دبغ فقد طهر" (رواه الترمذي)، فأفاد هذا الحديث بروايتيه أن الدباغ مطهر لجلد ميتة كل حيوان، وذلك أن لفظ (أي) و(إهاب) لفظان عامان، فيشمل كل إهاب، ولم يأت من ذلك استثناء خنزير أو ميتة.
وعليه فلا حرج في استخدام جلد الخنزير المدبوغ في اللباس ونحوه.(1/128)
الفتوى (6/12): صفات الفقير الذي تصرف له زكاة المال؟
السؤال:
ما هي صفات الفقير الذي تصرف له زكاة المال؟
الجواب:
الفقير الذي جعله الله سبحانه وتعالى من الأصناف التي تصرف لها الزكاة في قوله: {إنما الصدقات للفقراء} [التوبة: 60]، اختلف في وصفه الفقهاء، والصحيح من أقوالهم: أنه الذي لا يملك مالا يكفيه في مطعمه وملبسه ومسكنه وسائر ما لا بد منه لنفسه ولمن تلزمه نفقته، من غير إسراف ولا تقتير، كمن يحتاج إلى عشرة ماركات ألمانية ولا يجد إلا ثلاثة أو اثنين.
على أننا ننبه إلى أن من كان ظاهر حاله الفقر، فلا مانع أن تعطى له الزكاة. وكذلك من ادعى أنه فقير فيصدق في قوله وتعطى له الزكاة. إلا إذا كان ظاهر حاله يدل على خلاف ذلك.(1/129)
الفتوى (7/12): حكم رصد بعض الشركات لجوائز لزبائنها
السؤال:
تقوم بعض الشركات من باب الدعاية لمنتجاتها بإرفاق بعض الصور بها، فإذا قام شخص بتجميع بعض هذه الصور وإرسالها إلى الشركة فقد يحصل على جائزة رصدتها الشركة لمن يفعل ذلك، فهل لأحد أن يقوم بذلك لنيل تلك الجائزة؟
الجواب :
هذه الجوائز المذكورة لا حرج على المسلم في أخذها؛ وذلك لأنها تتم من طرف واحد وهي الشركة المانحة لها دون اشتراط زيادة في سعر السلعة، وإنما هو من باب الترويج لبضائعها ولا يتحمل الطرف الثاني (المشتري) أي خسارة تدخله في أحكام القمار المحرم شرعاً.
والممنوع فقط في هذه المسألة أن يشتري المسلم هذه السلع لغرض الحصول على هذه الجوائز، فهذا القصد يدخله في القمار المحرم.(1/130)
الفتوى (8/12): حكم العمل في الترجمة
السؤال:
أنا مقيم في المملكة المتحدة وأعمل مترجماً لمراكز صحية، خدمات اجتماعية، معونات مالية، إلى غير ذلك، وأواجه مشكلة في عملي، وهي: أن بعض الزبائن يأتون إليّ للقيام بترجمة أقوالهم، فأفعل ذلك وأنا أعلم أنهم يكذبون فيما يقولون، وليس لدي حق التدخل لتكذيب أقوالهم، فهل أنا مذنب بسكوتي عن ذلك؟
الجواب:
عمل المترجم مشروع فيما تجوز ترجمته، ومن ذلك ما ينقله المترجم من أقوال الناس إلى مؤسسات الدولة، كدار القضاء ومراكز الخدمات الصحية والاجتماعية وغيرها.
فإذا كنت موظفاً في مؤسسة من هذه المؤسسات ويأتيك الناس لترجمة ما يصرحون به لهذه المؤسسات، فلا تكلف نفسك البحث في صدق هذه الأقوال؛ لأن الله لم يكلفك بذلك، وليس هو من مشمولات وظيفتك، فلا حرج عليك فيما تترجم من أقوال وإن كان أصحابها غير صادقين فيها، وغاية ما يطلب منك هنا إذا تحققت من كذبهم أن تنصح لهم، إذا كان ذلك لا يؤدي إلى مفسدة أكبر من مفسدة الكذب، ولا يتسبب في مخالفة قانونية.
وكذلك إذا كنت مترجماً خاصاً، فأنت غير مكلف بالبحث عن صدق زبائنك، ولا يجوز لك تتبع عوراتهم أو تسيء الظن بهم. فإن حصل لك علم يقيني أن القول الذي تترجمه كذب يؤدي إلى اقتطاع حق معصوم عاماً كان أو خاصاً، فلا يجوز لك أن تعين صاحبه على ذلك، لقوله تعلى: {وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} [المائدة: 2].(1/131)
الفتوى (9/12): حكم التأمين على ما يقع تحت مسؤوليتنا
السؤال: ما هو حكم التأمين على ما يقع تحت مسؤوليتنا من الأماكن التي يرتادها الجمهور، كالمكتبات والمراكز وشبهها، والتي قد يسبب وقوع بعض الحوادث فيها عجزنا عن التعويضات المترتبة على ذلك؟
الجواب:
إن عقود التأمين التقليدي (المطبقة في الغرب) الأصل فيها أنها ممنوعة شرعاً بسبب قيام التأمين التقليدي على أساس المعاوضة بتملك الشركة الأقساط لصالحها والتزامها بالتعويضات، وفي ذلك غرر بسبب عدم الجزم بوقوع الخطر، بحيث يقع الاحتمال في حصول التعويض أو عدمه، وكذلك الاحتمال في استفادة الشركة من الأقساط أو خسارتها مع غيرها.
والبديل الشرعي لذلك هو التأمين التكافلي القائم على تكوين محفظة تأمينية لصالح حملة وثائق التأمين، بحيث يكون لهم الغنم وعليهم الغرم، ويقتصر دور الشركة على الإدارة بأجر، واستثمار موجودات التأمين بأجر أو بحصة على أساس المضاربة. وإذا حصل فائض من الأقساط وعوائدها بعد دفع التعويضات فهو حق خالص لحملة الوثائق، وما في التأمين التكافلي من غرر يعتبر مغتفراً؛ لأن أساس هذا التأمين هو التعاون والتبرع المنظم، والغرر يتجاوز عنه في التبرعات.
وبما أن التأمين التكافلي لا يزال حديث النشأة ومحدود الانتشار وغير قادر على التأمينات الكبيرة فقد أفتت الهيئات الشرعية للمؤسسات المالية الإسلامية بجواز اللجوء إلى التأمين التقليدي في حال الحاجة الماسة إلى حماية الموجودات وتأمين الأنشطة، وذلك على أساس أن الغرر يغتفر للحاجة.
وعليه: فلا مانع من الدخول في عقود التأمين المتاحة في الغرب في حال فقدان التأمين التكافلي، أو عدم إمكانية تغطيته لبعض المخاطر.(1/132)
ثالثاً: التوصيات
يوصي المجلس المسلمين المقيمين في بلاد الغرب بما يلي:
1 - أن يراعوا الحقوق كلها، ويعطوا الصورة الطيبة والقدوة الحسنة من خلال أقوالهم وتصرفاتهم وسلوكهم.
2 - أن يقوموا بدورهم بالإبداع والابتكار، وتشجيع ذلك على كافة المستويات.
3 - أن يبذلوا أقصى الوسع في تنشئة الجيل الجديد - بنين وبنات - تنشئة إسلامية معاصرة، وذلك بتأسيس المدارس والمراكز التربوية والترفيهية لحمايتهم من الانحراف.
4 - أن يسعوا جادين لإنشاء شركات ومؤسسات مالية تخلو من المخالفات الشرعية.(1/133)
5 - أن يعملوا على تشكيل هيئات شرعية تتولى تنظيم أحوالهم الشخصية وفق أحكام الشريعة الإسلامية، مع مراعاة الالتزام بالقوانين السائدة.
6 - أن يبذلوا وسعهم للحصول على اعتراف الدولة التي يقيمون فيها بالإسلام ديناً، وبالمسلمين أقلية دينية على غرار الأقليات الدينية الأخرى في التمتع بحقوقهم كاملة، وفي تنظيم أحوالهم الشخصية كالزواج والطلاق وفقاً لأحكام دينهم.
7 - أن يلتزموا ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وأجمع عليه فقهاء الإسلام، من وجوب الوفاء بمقتضيات عهد الأمان وشروط المواطنة والإقامة في البلاد التي يعيشون فيها، ومن أهم ما يجب عليهم الوفاء به ما يلي:
أ - أن يعتقدوا أن أرواح وأموال وأعراض غير المسلمين مصونة بمقتضى ذلك العهد الذي دخلوا به هذه البلاد، والذي لولاه لما سمح لهم بدخولها أو استمرار الإقامة فيها، وقد قال الله تعالى: {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولاً} ]الإسراء: 34[.
ب - أن يحترموا قوانين هذه البلاد التي آوتهم وحمتهم، ومكنتهم من التمتع بكل ضمانات العيش الكريم، وقد قال تعالى: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} ]الرحمن: 60[.
ج - أن يجتنبوا كل أساليب الكسب الحرام على اختلاف أنواعه، ومنها سعي بعض المسلمين للحصول على معونة الضمان الاجتماعي بمخالفة القانون.(1/134)
كما يوصي المجلس المسلمين عامة والمقيمين في بلاد الغرب خاصة بالاعتصام بحبل الله، والأخوّة، والسماحة، والوسطية، والتعاون على البر والتقوى، والتزام الحوار الهادئ والأساليب السليمة في معالجة قضايا الخلاف، بعيداً عن مناهج التشدد ومسالك التطرف التي تشوه صورة الإسلام، وتسيء أبلغ الإساءة إلى المسلمين عامة وإلى الأقليات المسلمة خاصة، فيتلقفها أعداء الإسلام والجاهلون به للتشنيع عليه والتخويف منه ومن أهله واستعداء الأمم عليهم، وقد قال الله تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} ]النحل: 125[.
نهاية أعمال هذه الدورة
الدورة التالية للمجلس:
اتفق أعضاء المجلس بالتنسيق مع الأمانة العامة على تحديد موعد الدورة الثالثة عشرة، وذلك مساء يوم الأربعاء 20 من جمادى الأولى 1425هـ الموافق 7/7/2004 حتى مساء يوم الأحد 24 من جمادى الأولى 1425هـ الموافق 11/7/2004م، إن شاء الله.
وسيكون جدول أعمالها مركّزاً على مشكلات الأسرة المسلمة في الغرب والحلول الشرعية لها.
ختام أعمال هذه الدورة:
ختم سماحة العلامة رئيس المجلس أعمال هذه الدورة بتوجيه خالص الشكر لهيئة آل المكتوم الخيرية على دعمها المستمر للمجلس، وللإخوة العاملين في المركز الثقافي الإسلامي في أيرلندا على ما بذلوه من كرم الضيافة وجميل الحفاوة وحسن الاستقبال ومن جهد تنظيمي مثمن، وكذلك الشكر لقناة "الجزيرة" الفضائية ومؤسسة "إسلام أون لاين" ومجلة "الأوروبية" على تغطيتهم الشاملة لوقائع الجلسات، والشكر للإخوة المراقبين والأخوات على حضورهم ومشاركتهم.
كما يتقدم المجلس بالشكر للحكومة الأيرلندية التي منحت تأشيرات السفر لأعضاء المجلس حتى يسّرت انعقاده على أراضيها على الوجه المرضي.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
والحمد لله رب العالمين(1/135)
بيان :
حول مسألة الحجاب في فرنسا
إن المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث بصفته ممثلا للمرجعية الدينية الكبرى للمسلمين في أوروبا قد فوجئ ، كما فوجئ المسلمون في العالم بالتوجه لمنع ارتداء ما يسمى "بالرموز الدينية" في فرنسا ، والذي سيؤثر بالدرجة الأولى على حق المسلمات في فرنسا في ارتداء الحجاب في المدارس والمؤسسات العامة.
وإن المجلس إذ يثمن اعتراف فرنسا بالمجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، وإذ يشيد بمواقف فرنسا العادلة تجاه قضايا عربية وإسلامية أساسية وبوقوفها ضد العولمة المهيمنة ودعوتها المتكررة إلى احترام التنوع الحضاري والثقافي والتعايش بين الثقافات والحضارات والديانات، وإذ يتفهم كذلك قلق قطاع كبير من المجتمع الفرنسي إزاء بروز بعض الشعائر والتقاليد الإسلامية غير المعهودة في ثقافته ومحاولته أن يتعامل مع هذه الظاهرة بما يحفظ وحدته وهويته، ويحقق التعايش بين مكوناته، فإن المجلس يود أن يوضح الأمور التالية:
1- أن التعايش بالنسبة للمسلم يعتبر أصلا في بناء المجتمعات الإنسانية، ويقتضي الاعتراف بالتعددية والتنوع ، في إطار الوحدة القومية والإنسانية ، وإشاعة أجواء الحوار بين الثقافات والتعاون بين ومع الجماعات الدينية والعرقية المختلفة، والمحافظة على السلم الاجتماعي . ولطالما أكد المجلس في كل بياناته على حث المسلمين في أوروبا على العيش المشترك والاندماج في المجتمعات التي يعيشون فيها دون فقدان هويتهم ، والإسهام في رقيّ وتقدم وأمن هذه المجتمعات ، وذلك انطلاقا من إيمانهم بالله تعالى رب الجميع وبأواصر الأخوة الإنسانية وما بينها من قواسم مشتركة رغم تنوعها الثقافي والحضاري.(1/136)
2- أن المبادئ السابقة للعيش المشترك لا يمكن أن تطبق إلا باحترام الحريات الشخصية للأفراد والجماعات والحفاظ على حقوق الإنسان . وقد كان للثورة الفرنسية دورا مهما في ترسيخ هذه المفاهيم مما جعل فرنسا توصف بأنها "أم الحريات" ومن أهم البلاد التى يحافظ فيها على حقوق الإنسان.
3- أنه ليس هناك تعارض حقيقي بين مقتضيات التعددية والتنوع البشري وبين مقتضيات الوحدة الوطنية والتى لا يجوز أن تكون مبررا لمصادرة الحريات الشخصية والدينية
أوتهديد فرص المسلمين الفرنسيين أو غيرهم في التعليم والتكسب وتهميش دورهم كمواطنين، وبالتالي الدفع بهم إلى مزيد من العزلة بدلا من التلاحم على إخوانهم المواطنين الفرنسيين ،
كما لا يجوز أن تكون العلمانية الليبرالية مبررا لسن "قوانين صارمة" من شأنها الانقضاض على أهم حقوق الإنسان وحرياته وهما الحرية الشخصية والدينية . ولا يجوز كذلك أن تتخذ بعض التجاوزات في سلوك بعض المسلمين أو غيرهم بما لا يتفق ومتطلبات العيش المشترك كمسوغ لحرمان خمسة ملايين مسلم في فرنسا من حقوقهم المشروعة. إن احترام التنوع والمحافظة على الحريات هو الأساس المتين والضمان الأكبر للوحدة الوطنية والأمن العالمي وخاصة في الأمد البعيد.(1/137)
4- أن ارتداء الحجاب أمر تعبدي وواجب شرعي وليس مجرد رمز ديني أو سياسي وهو أمر تعتبره المرأة المسلمة جزءا مهما من ممارستها المشروعة لتعاليم دينها، وأن هذا الالتزام أمر غير مرهون بأي مكان عام سواء أكان من أماكن العبادة أم كان من المؤسسات الرسمية أو غير الرسمية، فإن تعاليم الإسلام بطبيعتها لا تعرف التناقض والتجزؤ في حياة المسلم الملتزم بدينه. وهو أمر أجمعت عليه كل المذاهب الإسلامية قديما وحديثا، وأقره أهل التخصص من علماء المسلمين في جميع أنحاء العالم. ويدخل في ذلك موقف فضيلة شيخ الجامع الأزهر الذي صرح بوضوح أن الحجاب الإسلامي فريضة شرعية وليس "رمزا دينيا". أما ما نسب إليه من حق فرنسا كدولة ذات سيادة في سن ما تراه مناسبا من قوانين وتشريعات فهو أمر وارد ومقبول دوليا، ولكننا نحسب أنه كان من المفيد كذلك أن يضيف فضيلته أن هذا الحق مشروط كذلك بمواثيق حقوق الإنسان والمعاهدات الدولية وميثاق الأمم المتحدة، فلا يتصور أن تكون سيادة أي دولة مبررا لتشريعات تناقض حقوق الإنسان وحريته الشخصية والدينية. ولعل هذا التوضيح من فضيلته كان حريّا بأن يمنع سوء تأويل موقفه الذي ظنّه البعض تخليا عن واجبه في معاضدة إخوانه المسلمين. أو غيرهم في المطالبة بحقوقهم المشروعة وأداء واجباتهم الدينية وبذلك يكون موقفه مطابقا لما أجمع عليه علماء الأمة بشتى مذاهبها في القديم والحديث.(1/138)
5- أن إكراه المسلمة على خلع حجابها المعبّرعن ضميرها الديني واختيارها الحر يعتبر من أشد أنواع الاضطهاد للمرأة بما لا يتفق مع القيم الفرنسية الداعية إلى احترام كرامة المرأة وحريتها الشخصية والإنسانية والدينية. وإن المجلس ليؤكد على أن ارتداء المرأة المسلمة للحجاب يجب أن يكون مؤسَّسا على القناعة الشخصية والفهم ، وإلا فقد قيمته الدينية، وبالمثل فإنه لا يجوز إجبار المرأة المسلمة على خلع حجابها كثمن لتعليمها أو استفادتها المشروعة بمرافق الدولة.
6- أن هذا القانون المقترح وإن بدا أنه يشمل كل "الرموز الدينية" فإنه في المحصلة يستهدف تحديدا الحجاب الإسلامي مما يمثل تفرقة دينية ضد المسلمين، و يخالف كل الدساتير والأعراف في ما يسمى بالعالم الحر.
7- أن المجلس ينصح المسلمين في فرنسا في مطالبتهم بحقوقهم المشروعة ومعارضتهم لمثل هذا القانون الظالم أن يلتزموا بالوسائل السلمية والقانونية ، قولا وعملا ، في إطار الديمقراطية وبالأسلوب الحضاري، وأن يثمّنوا إسهام إخوانهم وأخواتهم من المسلمين الذين أيّدوهم رغم اختلافهم معهم في موضوع ارتداء الحجاب، وكذلك إخوانهم وأخواتهم من غير المسلمين الذين وقفوا معهم دفاعا عن حريتهم الشخصية والدينية والإنسانية وإن لم يشاركوهم في اعتقادهم وممارساتهم الدينية، فإن قضية الحريات الأساسية لا تتجزأ.
8- وفي النهاية يدعو المجلس المسؤولين في فرنسا على شتى المستويات أن يعيدوا النظر في هذا المشروع بما يتفق مع غايات الوحدة الوطنية والأمن الاجتماعي والتعاون والتلاحم بين شتى قطاعات المجتمع الفرنسي في عصر حوار الحضارات لا صراعها.
9- ولمتابعة هذا الأمر شكل المجلس لجنة من أعضائه لعرض رؤية المجلس على الجهات المعنية في فرنسا وذل(1/139)
البيان الختامى 13
بتاريخ: 30-7-2008
البيان الختامي
للدورة العادية الثالثة عشرة للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث
المنعقد بلندن في الفترة
من: 20 جمادى الأولى 1425 إلى: 23 منه الموافق لـ 07 يوليو 2004 إلى 10 منه.
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمّا بعد.
فقد انعقدت بعون من الله وتوفيق منه الدّورةُ العادية الثالثة عشرة للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث بلندن ( المملكة المتّحدة ) في الفترة من: 20 جمادى الأولى 1425 إلى: 23 منه الموافق لـ 07 يوليو 2004 إلى 10 منه، برئاسة فضيلة الشيخ الدكتور العلاّمة يوسف القرضاوي رئيس المجلس وبحضور أغلبية أعضائه وعدد من الضيوف من العلماء، وعدد من المراقبين. وقد استغرقت أعمال المجلس عشر جلسات بما فيها الافتتاح والاختتام والجلسة الإدارية.
وقد عقدت الجلسة الافتتاحية بمقرّ بلدية لندن وبضيافة عمدتها السيّد كِن لفنجستون Ken Livingstone، حيث ألقى السيّد العمدة كلمة جاء فيها:" أودّ أن أرحّب برئيس وأعضاء المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث الذي يعقد دورته في مدينة لندن، وأتمنّى لهم النجاح والتوفيق والإقامة الطيّبة. كما أودّ أن أرحّب على وجه الخصوص بفضيلة العلاّمة الشيخ يوسف القرضاوي رئيس المجلس في لندن، والحقّ أنّني فخور بالدور الذي لعبه ولا يزال يلعبه المسلمون وبالمكانة المرموقة التي باتوا يحتلّونها في المجتمع البريطاني، ويشرّفني أن أتعاون مع المسلمين. لذا فإنّ موقفنا حيال قضية الحجاب موقف مبدئي نناصر فيه المرأة المسلمة التي ترغب في ارتداء الحجاب ممارسة لشعائر دينها، وقد كان لي حوار مع رئيس الوزراء الفرنسي أعربت فيه عن موقفي هذا وعن انزعاجي لقانون حظر الحجاب الذي سُنّ في فرنسا مؤخّرا.(1/140)
كما أنّ موقفنا في مناصرة قضية فلسطين واضح ومؤيّد لموقف المسلمين في بريطانيا، ومناهض للجرائم التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي بشكل يومي، وآخرها قضية الجدار العازل الذي يناقض كلّ قانون وكلّ عرف دولي. وقد كان لنا أيضا موقف واضح في معارضة الحرب على العراق ووقفنا جنبا إلى جنب مع المسلمين ومع الشعب البريطاني ندين قرار الحكومة البريطانية في الاشتراك مع الولايات المتّحدة في حربها الظالمة واللاّقانونية على العراق".
ثمّ ألقى الأستاذ أحمد الشيخ رئيس الرّابطة الإسلامية بالمملكة المتّحدة كلمة رحّب فيها بالضيوف جميعا، شاكرا لعمدة لندن استضافته للجلسة الافتتاحية، ومعبّرا عن اعتزازه بأن تستضيف الرّابطة المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث في دورته الثالثة عشرة داعيا لها بالتوفيق والنجاح.
ثمّ ألقى الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي كلمة شكر في مستهلّها عمدة لندن لاستقباله الكريم له وللمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، ورحّب بالضيوف وكلّ الحاضرين، ثمّ شرح بإيجاز مهمّة المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث والجهود التي قام بها في خدمة المسلمين بأوروبا والعمل على اندماجهم الإيجابي في المجتمع الأوروبي الذي يحافظون فيه على هويّتهم ويشاركون في الحياة العامّة بما ينفع الجميع، ثمّ بيّن أنّ الموضوع المخصّص لهذه الدّورة هو موضوع الأسرة لما لقضايا الأسرة من أهمّية في الحياة الاجتماعية بصفة عامّة، وفي حياة المسلمين بأوروبا بصفة خاصّة، وذلك بالنّظر إلى ما تواجهه هذه الأسرة من تحدّيات كثيرة تهدّدها بأخطار كبيرة.
وقد خصّص المجلس هذه الدورة لبحث قضايا الأسرة المسلمة في الغرب؛ لأهمية هذه القضايا ودورِها في الحفاظ على هوية المسلمين وأثرها في التربية والتوجيه والاندماج المتوازن مع المجتمع.(1/141)
وفي الجلسة الإدارية قدم الأمين العام تقريره الدوري عن سير عمل المجلس خلال الفترة الماضية، كما قدم رؤساء لجان الفتوى في بريطانيا وفرنسا ولجنة البحوث تقريرا موجزا عن نشاط لجانهم منذ الدورة السابقة، وفي هذا الصدد عرض رئيس لجنة الحوار فضيلة الشيخ عبدالله بن بية ما قامت به اللجنة من اتصالات مباشرة وغير مباشرة في شأن قانون منع الحجاب بفرنسا وما وجدته من تجاوب في ذلك من جهات فرنسية وأوروبية متعددة.
وبلغ عدد البحوث التي عرضت ونوقشت عشرة بحوث هي التالية:
1 - بحث بعنوان "تعليقات على بحث فقه الأقليات للدكتور طه جابر العلواني" للدكتور عجيل النشمي، تناول فيها الآراء المعروضة في هذا البحث وعلّق عليها، ومن ذلك القول بأن الأصوليين قد شرّكوا بين الكتاب والسنة وسوّوا بين لغتيهما، فنبّه إلى أن الأصوليين متفقون على عدم التشريك من كل وجه، ومنها أن السنة لا تنسخ القرآن، فنبه إلى أن جمهور الأصوليين عدا الإمام الشافعي يرون نسخ القرآن بالسنة، ومنها أن السنة مبينة للأحكام وليست منشئة لها، فردّ ذلك مناقشاً له باستفاضة معتبراً إياه أخطر ما في البحث، مستشهداً بأقوال الإمام الشافعي وغيره.
2 - بحث بعنوان "الملامح الأساسية للأسرة في الإسلام" للدكتور محمد الهواري، قدم فيه الباحث رسالة موجزة موجَّهة لأبناء المسلمين في الغرب لتعريفهم بالأسرة المسلمة ومقوماتها والفوائد الناجمة عنها، وأشارت الدراسة إلى حض الإسلام على الزواج وتيسيره وكيفية اختيار أحد الزوجين للآخر، ومقاصد الزواج، وتحريم أي علاقة بين المرأة والرجل خارج إطار الزوجية. وتطرق البحث إلى آداب العلاقة الزوجية والحقوق المتبادلة بين الزوجين، وأشار إلى أهمية الطفولة وحقوق الأبناء وأنماط السلوك التي ينبغي إرشادهم إليها، كما تعرض البحث إلى مواضيع الطلاق والإجهاض وبنوك الحليب والتلقيح الاصطناعي والاستنساخ والهندسة الوراثية وموقف المجلس منها.(1/142)
3 - بحث بعنوان "نظام الأسرة في الإسلام وأثره في بناء المجتمع الراشد" للدكتور أحمد الإمام، بيّن فيه أن الأسرة هي اللبنة الأولى في بناء المجتمع الراشد حيث يكون حسن الاختيار بين الزوجين على هدي الشريعة الإسلامية لتحقيق السكينة والمودة والرحمة، وتكون الشورى سائدة في حياة الأسرة. وليعلم الناشئة فقه الشريعة الإسلامية مع التركيز على ما تمسّ إليه الحاجة مع تعليم اللغة العربية فهي لغة القرآن الكريم، وإتقانها يمكّن من تلاوته وفهمه ويوثّق الصلة بعلوم الشريعة والتراث الإسلامي المدون باللغة العربية، وهي لغة مشتركة للتواصل بين المسلمين حتى إنها لتعد مكملة للتدين، وهي إلى جانب ذلك لغة جميلة وغنية بالمعاني.
4 - بحث بعنوان "مقاصد الشريعة الإسلامية في أحكام الأسرة توجيهاً لأحكام الأسرة المسلمة بالغرب" للدكتور عبدالمجيد النجار، بيّن فيه أن لأحكام الأسرة في الشريعة مقاصد ينبغي الاستهداء بها عند الاجتهاد فيها، منها حفظ النوع، والإفضاء النفسي والجنسي، والتماسك الاجتماعي، والشهادة على الناس. وهذه المقاصد ينبغي مراعاتها في حال الأسرة بصفة عامة، وفي الأسرة المسلمة بالغرب بصفة خاصة، وتوجيهها بحسب خصوصية هذه الأسرة فيما تواجهه من تحديات.
5 - بحث بعنوان "الفحص الطبي قبل الزواج" للدكتور علي القره داغي، بيّن فيه أنّ من مقاصد الشريعة في الزواج السكن والألفة والتآلف والإفضاء والإنجاب، وأن مما يحقق ذلك سلامة الوضع الصحي للزوجين، كما بين أن مما يندرج في ذلك إجراء الفحص الطبي للزوجين لمعرفة ما بهما من أمراض، ومنها الأمراض المعدية، ومنها الأمراض الجنسية، وبيّن أنّ في الكشف عن هذه الأمراض فوائد كثيرة، كما أن فيها بعض السلبيات، وانتهى البحث إلى أنه يجوز للدولة إصدار تشريع يجبر الراغبين في الزواج على الفحص الطبي بشرط أن يكون الفحص للأمراض المعدية الخطيرة وأن لا يجعل هذا الإجراء شرطاً لصحة عقد النكاح.(1/143)
6 - بحث بعنوان "الكفاءة في الزواج" للدكتور عبدالستار أبو غدة، مضمَّناً رسالة محققَّة في الموضوع للإمام قاسم بن قطلوبغا، وقد بيّن الباحث في بحثه الأسس التي تعتبر في الكفاءة بين الزوجين بمقاييس الشرع وما للعرف من اعتبار في ذلك، موضّحا أنّ التديّن هو المقياس الذي يحكم كلّ المقاييس الأخرى في اعتبار الكفاءة.
7 - بحث بعنوان " الولاية في النكاح وعضل الوليّ " للشيخ البقالي الخمار بيّن فيه أنّه يجب الحرص على موافقة الولي على زواج موليته لما لذلك من أهمّية دينية واجتماعية، ولكن إذا أُجري العقد بدون وليّ فإنّه يعتبر عقدا صحيحا، ولا يجوز للولي أن يعضل وليّته إذا خطبها الكفء بصداق مثلها.
8 - بحث بعنوان "امتياز المرأة على الرجل في الميراث والنفقة" للدكتور صلاح سلطان، بين فيه بإحصائيات وجداول وافية أن المرأة في الأحكام الشرعية تظفر بقسط من الميراث قد تتساوى فيه أحياناً مع نظيرها الرجل، وقد تفوقه في بعض الصور، وتظفر في النفقة بما يزيد على ما هو مخصص لنظيرها الرجل، وهذه الأحكام في جملتها إذا ما ضُمّ فيها الميراث إلى النفقة فإنّها تضمن عدلاً كاملاً بين الرجل والمرأة، وهو ما يدفع الشبهات التي يثيرها بعض الناس.
9 - بحث بعنوان "الأسرة المسلمة في أوربا بين تأثيرات البيئة الاجتماعية والعادات الأسرية" للدكتور أحمد جاء بالله، بين فيه المؤثرات الاجتماعية التي تتعرض لها الأسرة المسلمة في الغرب، وما يكون لذلك من نتائج سلبية عليها، وكذلك المؤثرات الموروثة من عادات المجتمعات الإسلامية وما يكون لها من آثار سلبية أيضاً على استقرار الأسرة. وانتهى البحث إلى جملة من المقترحات التربوية والإجرائية التي من شأنها أن تقاوم هذه المؤثرات السلبية.(1/144)
10 - بحث بعنوان "حكم الزواج بين العقد العرفي والعقد المدني" للشيخ أنيس قرقاح، تناول فيه أهمّ الأسباب التي يتعلل بها كثير من المسلمين لتأخير عقد الزواج المدني، كما تناول المقارنة بين الشروط في العقد الشرعي والعقد المدني، ورأى أن عقد الزواج هو عقد مدني بأركانه غير أنّ فيه شائبة دينية، كما تناول الإشكاليات التي تنتج عن تقديم العقد الشرعي على العقد المدني، وذلك ممنوع قانوناً في بعض البلاد الأوروبية.
وقد تناول أعضاء المجلس بالمناقشة المستفيضة هذه البحوث، وقرر تأجيل اصدار القرارات المتعلقة بها إلى الدورة التالية حتى يتسنى له عرض ومناقشة بقية البحوث المتعلقة بالأسرة وهي:
1. " الزواج من الكتابية في أوروبا " للشيخ مصطفى ملاّ أوغلو.
2. " العنف الأسري وعلاجه " للدكتور علي القره داغي.
3. " فتاوى حول الأسرة " للشيخ الدكتور يوسف القرضاوي.
4. " التعويض على الضرر المعنوي في حالة الطلاق " للدكتور علي القره داغي.
5. " التربية الجنسية في ضوء الشريعة الإسلامية " للدكتور محمّد الهواري.
6. " التفريق للشقاق " للشيخ سالم الشيخي.
7. " التفريق القضائي " للشيخ صهيب حسن.
8. " أحكام الطلاق في الإسلام " للشيخ حسين حلاوة.
9. " وسائل الوقاية من الوقوع في الطلاق " للدكتور علي القره داغي.
وبعد تداول المجلس في جملة من القضايا المعروضة عليه وعدد من الاستفتاءات الواردة أصدر الفتاوى والتوصيات التالية:(1/145)
أوّلا: الفتاوى
فتوى رقم 1/13 : حكم إدخال كراسي المعوِّقين في قاعات الصلاة
السؤال: ما هو الحكم الشرعي في إدخال كراسي المعوِّقين في قاعات الصلاة؟
الجواب: الأصل في تلك الأماكن الطهارة، والأصل في إدخال تلك الكراسي محالّ الصلاة الجواز، لكن يؤخذ بالاعتبار أن فرش المساجد اليوم بالسجّاد وشبهه يدعو إلى اتّقاء ما قد تحمله عجلات هذه الكراسي من رطوبة أو طين ونحوه وإن كانت طاهرة. وعلى المسئولين عن مساجد المسلمين أن يقيموا التجهيزات اللاّزمة لاستقبال إخوانهم المعوَّقين، لأنّ الاهتمام بهم وتمكينهم من أداء ما فُرض عليهم في دينهم واجب، وبخاصّة إذا كان تمويل تلك التجهيزات يصرف من المال العام في الدولة كما هو الأمر في أكثر البلاد الأوروبية، وهو ممّا يتعيّن على مسئولي المساجد بقدر استطاعتهم القيام به وذلك لما تولَّوا من أمر المسلمين، لقول النبيّ صلى الله عليه وسلّم:" كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته".(1/146)
فتوى رقم 2/13: حكم التصرف في أموال التبرعات في غير غرضها
نحن ممن يقيم في بلاد أوروبية، قام المركز الثقافي لدينا بجمع التبرّعات من طرف المصلّين بقصد شراء مسجد في المنطقة حيث إنّ المكان الموجود حالياً لا يتّسع للعدد، ولكن طلب منّا الإمام أن نؤدّي عنه مبلغا من المال إلى رجل قام له بتسوية وضعه فيما يخصّ الحصول على أوراق إقامته في هذه البلاد، ونشير إلى أنّ هذا القدر من المال تسدّد به المصاريف التي تؤدّى للدولة. فهل يجوز ذلك؟ مع العلم أنّ المصلّين قد يرفضون هذا التصرّف من طرف مجلس الإدارة، وقد يتسبّب هذا الأمر في إيجاد مشاكل لا تحمد عقباها؟
الجواب: إذا كانت التبرّعات قد جمعت بقصد شراء مسجد فإنّه يجب صرفها حصرا في ذلك الغرض، لأنّ قيام المركز بتلقّي تلك التبرّعات من مقدّميها هو على أساس الوكالة عنهم، والوكالة إذا صدرت مقيّدة فإنّه يجب مراعاة قيودها، إلاّ إذا تعذّر فيجب الرجوع إلى الموكِّل. على أنّه إذا فاض شيء من المبالغ المجموعة بقصد شراء المسجد فإنّه يجب صرف ذلك الفائض في مصالح المسجد، ويمكن اعتبار تأمين بقاء إمام المسجد مندرجا في تلك المصالح بعد تقرير ذلك من اللّجنة القائمة بمشروع المسجد. إنّ تسوية وضع الإمام من المبالغ المشار إليها مباشرة قبل تحقيق الغرض غير سائغ، إلاّ إذا كان وجود الإمام عنصرا أساسيا في مشروع إنشاء المسجد.(1/147)
فتوى رقم 3/13: حكم اتخاذ بناء كمسجد اشتري بقرض ربوي
السؤال:
مسلمان اشتريا بيتا بقرض ربوي، وهذا البيت يضمّ معه مكانا متّسعا، أراد هذان الشخصان أن يوقفاه ليكون مسجدا لجماعة المسلمين، وعامّة النّاس على علم بأنّه مشترى بقرض ربوي فهل يجوز ذلك؟
الجواب:
هذا المكان وإن كان صاحباه قد حصلا عليه بطريق القرض الربوي المحرم، فإنه دخل في ملكهما، وقيامهما بوقفه كمسجد مشروع صحيح لكونهما وقفا ما يملكانه، والصلاة في ذلك المحل صحيحة، ويرجى أن يكون تبرّع هذين الشخصين بذلك سبباً في تكفير ما وقع منهما من تقصير وأن يكتب لهما به الأجر.(1/148)
فتوى رقم 4/13: حكم نقل رفات الموتى
السؤال:
هل يجوز نقل جثمان الميّت المسلم في حال الحاجة إلى المقبرة لطريق أو غيره، وذلك في حال أنّ المسلمين في الدّنمارك عرضت عليهم البلدية قطعة أرض لتكون لهم مقبرة واشترطت عليهم أنّه إذا اقتضت الحاجة العامّة فإنّها ستشقّ طريقا في هذه الأرض بعد أن تصير مقبرة؟
الجواب:
لا مانع شرعا من نقل رفات موتى المسلمين إلى مقبرة أخرى إذا دعت الحاجة إلى ذلك كشقّ طريق عام، أو إذا كان لمشروع يعود نفعه على المسلمين، لأنّ الحاجة العامّة تنزّل منزلة الضّرورة. وعليه يجوز أن يقبل مسلمو الدنمارك هذا الشرط لمنح قطعة أرض للمقبرة الجديدة، وهذا شرط جائز لأنّ الأصل في الشروط الإباحة. وينبغي أن يكون نقل الرّفات برفق وحفظ وعناية حفاظا على كرامة الميّت.(1/149)
فتوى رقم 5/13: استعمال الأدوية لتخفيف حدّة الشهوة
سؤال: هل يجوز استعمال الأدوية لتخفيف حدّة الشهوة إذا لم يؤثّر في ذلك الصيام؟
الجواب: نحرّض أولاً السائل على السعي في الزواج إذا كان في استطاعته، وأما استعمال مثل هذه الأدوية فإنّه إذا ثبت أنّها لا تضرّ به ولا تقطع الشهوة بصفة دائمة حسب شهادة الخبراء فيجوز له استعمالها، لأنّ الحفاظ على العفّة واجب بكلّ الوسائل المتاحة.
فتوى رقم 6/13 : الثقة بين الزوجين
السؤال: تزوّجت منذ سنة من فتاة متدينة منذ أربع عشرة سنة، وبعدها سمعت أنّها كانت تريد شخصا فاسقاً كان يعمل معها، وحين كلّمت زوجتي أقسمت أنّه كاذب، وهو يدّعي أنّها كانت تجري وراءه، فاهتزّت ثقتي بها ولا أستطيع تحمّل هذا الحال لأنّي لا أعرف الصادق منهما من الكاذب. فماذا أصنع؟
الجواب: إنّ هذا السّائل سمع قالة سوء عن زوجته ولمّا سألها أنكرت وأقسمت على كذب ما قيل عنها، ويمكن أن تكون المسألة كيدية وافتراء على هذه الزوجة، وإذا لم يكن لدى الزّوج دليل على صدق هذا الاتّهام فإنّ حسن الظنّ بالمسلم أمر واجب، وضروري بالنسبة للزّوجين للقاعدة الشرعية: الأصل في الذمّة البراءة، واليقين لا يزول بالشك. وينبغي أن يتوقّف الزّوج عن قبول ما قاله هذا الإنسان الذي وصفه بالفاسق، كما يجب أن نستحضر الضوابط الشرعية في سورة النور حول اتّهام المحصنات من ضرورة وجود الشهود أو الاعتراف. كما يرجى أن تنصح الزوجة بعمل في مكان آخر لا يجمعها بذلك الرّجل لدرء الفتنة واستعادة الثقة بين الزّوجين.(1/150)
فتوى رقم 7/13: الطلاق المعلّق على شرط
السؤال: ما حكم الطلاق المعلّق على شرط، هل يقع بوقوع الشرط أم لا. والأمر الثاني عند الحلف بالله على الزوجة أنّها إذا فعلت فعلا ما سوف تصبح طالقا ثمّ تقوم بذلك الفعل هل يقع الطلاق أم لا؟
الجواب: الطلاق المعلّق على شرط تقع به طلقة واحدة رجعية إذا تحقّق الشرط.
والحلف بالله على الزوجة أنّها طالق إذا فعلت هذا الأمر يعتبر من أنواع الطلاق المعلّق عند الجمهور وبالتالي فهو يقع إذا تحقّق الشرط، غير أنّ ابن تيمية نقل عن بعض علماء السلف أنّ هذا الطلاق لا يقع إلاّ إذا كان صاحبه ينويه فعلا ورجّح هذا الرأي وانتصر له. أمّا إذا كان الزوج يريد من هذا الحلف منع زوجته من فعل هذا الأمر مع عدم نيّة الطلاق إذا فعلته فإنّه لا يعتبر طلاقا بل هو يمين تجب فيه كفّارة اليمين إذا فعلته الزوجة. وقد أخذ كثير من العلماء المعاصرين برأي ابن تيمية ومن سبقه، وكذلك كثير من القوانين الشرعية المعمول بها في هذا العصر، وهو ينسجم مع عموم الحديث الصحيح المشهور "إنّما الأعمال بالنيات ".(1/151)
فتوى رقم 8/13: حكم طلاق السكران
السؤال: رجل مدمن على الخمر ـ بكلّ معنى الكلمة ـ يقول لزوجته في حالة الغضب: أنت طالق بالثلاث، ويكرّرها، ثمّ يأتي إليه في اليوم التالي أحد أبنائه ويقول له: هل تعلم ما قلت؟ هل تقصد ذلك؟ فيجيب: نعم، هي طالق بالثلاث. ثمّ يسأل بعد يومين نفس السؤال فيجيب نفس الإجابة. هل تعتبر زوجته طالقا؟ وما هو نوع الطلاق؟
الجواب: أمّا كون الرّجل المطلِّق مدمنا على الخمر فهو لا يؤثّر هنا، لأنّ الطلاق لم يقع أثناء السّكر، أمّا أنّه طلّق في حالة الغضب فالأصل عند جمهور الفقهاء أنّ طلاق الغضبان صحيح إلاّ إذا وصل إلى درجة الدهش عند الأحناف وهي التي تتميّز بالخلل في أقواله وأفعاله ، أو إذا وصل إلى درجة الإغلاق أو الغضب الشديد عند سائر الفقهاء بحيث لا يعلم فيها ما يقول ولا مايريد مدلوله. لكن الظّاهر من السؤال أنّ المطلّق في اليوم الثاني ثمّ الثّالث أكّد أنّه كان يريد الطلاق ويقصده، وبالتالي فإنّ الطلاق واقع عند الجميع.
والمذاهب الأربعة تعتبر هذا الطلاق بائنا بينونة كبرى، أي أنّها توقع الطلقات الثلاث ولو قيلت بلفظ واحد في مرّة واحدة، إلاّ أنّ شيخ الإسلام ابن تيمية يعتبره طلقة واحدة، وبهذا الرأي أخذت بعض القوانين الإسلامية المعاصرة، فلا يعتبر عنده بائنا البينونة الكبرى إلاّ إذا سبقته طلقتان أخريان، ونحن نرى أنّه يمكن الأخذ برأي ابن تيمية خاصّة وأنّ السائل لم يبيّن القانون الذي تمّ على أساسه الزواج، وهل هو قانون مدني غربي أم قانون شرعي إسلامي، لذلك اكتفينا بالجواب حسب أقوال الفقهاء، وننصح السائل بمراجعة أحد العلماء في منطقته لمعرفة ظروف القضية بشكل أوضح.(1/152)
فتوى رقم 9/13: حكم طلب الزوحة الطلاق
السؤال: امرأة وقع بينها وبين زوجها خصام، فطلبت منه الطلاق، وكررت الطلب وهو يأبى أن يلبي لها طلبها، فهددت بالخروج من البيت والذهاب حيث لا يصح، إن هو لم يطلقها، فطلقها ثم راجعها قبل تمام العدة، ثم تكرر الأمر للمرة الثانية، فطلقها ثم راجعها قبل تمام العدة، والآن وللمرة الثالثة طلبت منه الطلاق وألحت في الطلب، فأبى لأنه يعرف أنه لا يصح أن يرجعها، فهددته إن هو لم يطلقها فستقتل نفسها، وجاءت بسكين ووضعتها على بطنها، وخوفا من ذلك كتب لها ورقة طلاق بلا تلفظ بالطلاق. والسؤال هو: هل يعتبر الطلاق طلاق إكراه فلا يلزم، أو لا أثر للإكراه هنا فيلزم الطلاق؟
الجواب: الطلاقان الأول والثاني صحيحان بلا إشكال. أما الطلاق الثالث فيقتضي بحث مسألتين:
الأولى: الطلاق بالكتابة: وقد اتفق الفقهاء أنه يقع ولو لم يتلفظ بالطلاق، ولو لم ينو الطلاق واشترطوا لصحة وقوع الطلاق في هذه الحالة أن تكون الكتابة مستبينة مرسومة وأن تكون قد وصلت إلى المطلَّقة.
الثانية: الطلاق بالإكراه: وقد ذهب جمهور الفقهاء إلى عدم وقوع طلاق المكره إذا كان الإكراه شديدا، كالقتل أو الضرب المبرح أو القطع وما إلى ذلك، ودليلهم الحديث المشهور: "إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه". أخرجه ابن ماجه والحاكم وصحح إسناده ووافقه الذهبي.
والظاهر من السؤال أن الزوجة كانت جادة في التهديد بقتل نفسها إن لم يطلقها بدليل أنها وضعت السكين على بطنها فهو في هذه الحالة مكره وطلاقه لا يقع، ذلك لأن التهديد بقتل نفسها يشبه التهديد بقتله هو، من حيث إن القتل ينال نفسا معصومة، بالإضافة إلى أن قتل الزوجة نفسها يمكن أن يوقع زوجها في مشاكل كثيرة.(1/153)
فتوى رقم 10/13: حكم أخذ التركة من مال فيه شبهة الحرام
السؤال: أنا سيّدة متزوّجة ولي طفلتان والحمد لله وزوجي ذو إمكانيات مادية وسط والحمد لله. توفّيت أمي وهي تمتلك مالا وذهبا وبيتا في بلدها. وكلّ هذا، أي ما تمتلكه أمّي رحمها الله كان هدايا من أبي لها. ولكن مال أبي يُشكّ بأنّه حرام، مع أنّه أنكر ذلك. لكن عند تلقّي أمي لهذه الهدايا وهذا المال ـ وهي لم تأخذه إلاّ عندما أنكر والدي أنّه مال حرام ـ وأمي عند أخذها لهذا المال لم تستخدمه في شيء محرّم، بل على العكس كانت تساعدنا وكانت تصرف منه في أوجه الخير، لكن العيب الوحيد أنّها كانت تضعه في بنك ربوي، وذلك لسوء ثقافتها الدينية وعدم معرفة الحلال والحرام. وسؤالي هنا هل نأخذ الميراث ونتصدّق بجزء منه لنكفّر عن الشكّ فيه؟ أم لا نأخذه أبدا، مع العلم أنّنا نحتاجه. وأيضا سؤالي نحن سبع بنات مع والدنا، كلّنا متزوّجات إلاّ واحدة هل يشاركنا الميراث إخوة أمي أم لا؟
الجواب: أمّا الميراث فتأخذونه حلالا لكم. فوالدكم أنكر أنّ ماله حرام، وليس عندكم دليل على أنّه حرام. وأمّكم أخذت هذا المال منه كهدية أو لأيّ سبب آخر مشروع، فيبقى حلالاً لها، أما وضعها له في بنك ربوي فأصل المال باق على أصل الحل ولو وضع في بنك ربوي، إذ الإثم في وضعه في البنك الربوي لا يجعله حراما، لكن الحرام هو الفوائد الناتجة عنه باعتبارها ربا لهذا المال. وحتى هذه الفوائد بالنسبة لكم ترثونها حلالا بسبب تبدّل اليد، ولأنّ الحرام لا ينتقل إلى ذمّتين إذا كان المال ليس محرّم العين وانتقل إلى الذمّة الثانية بسبب مشروع، وأنتم قد استفدتموه بطريق مشروع هو الميراث، وإن كان الأفضل صرفها إلى الفقراء، مع وجوب سحب هذه الأموال من البنك الربوي.
أمّا توزيع التركة على الورثة فإنّ نصيب البنات السبعة هو ثلثا التركة، والباقي وهو الثلث يعود لإخوة المتوفاة ويوزّع بينهم للذكر مثل حظّ الأنثيين، فإن كانوا ذكورا فقط أو إناثا فقط فإنّهم يأخذون الثلث بالتساوي بينهم.(1/154)
فتوى رقم 11/13: حكم الإدخار
السؤال:
لديّ في عملي برنامج اسمه " الادخار "، وهو عبارة عن استقطاع شهري من الرّاتب بواقع 5 % وكلّما زاد عدد سِنِيِّ الاشتراك يتمّ احتساب مكافأة. فمثلا لو سحبت رصيدي الادخاري بعد ثلاث سنوات أستحقّ مكافأة قدرها 30 % مع مبلغ الادّخار وهكذا بعد أربع سنوات يصبح قدرها 40%...حتى تصل إلى 200 % عند بلوغ العشرين سنة في الاشتراك. مع العلم أنّني لا أستحقّ كامل المكافأة إلاّ عند التقاعد أو انتهاء الخدمة، أمّا في حالة رغبتي في فسخ العقد فسأحصل على نصف المكافأة فقط. أفيدوني حفظكم الله: هل يدخل هذا البرنامج في نظام الربا؟
الجواب:
إذا كان هذا هو نظام الادّخار في المؤسّسة أو الشركة أو نظام الدّولة في مؤسّساتها، فلا نرى مانعا من المشاركة فيه لأنّه نظام تعاوني اجتماعي.(1/155)
ثانياً: التوصيات
أوصى المجلس لجنة الحوار بأن تواصل القيام بدورها فيما يتعلّق بالحجاب، عاملة على أن تكثّف اتّصالاتها بمن يهمّه الأمر لرفع القوانين المانعة للحجاب في البلاد التي سُنّت فيها وللحيلولة دون سنّ ذات القوانين في بلاد أخرى، وبهذا الصدد ناشد المجلس الحكومة الفرنسية أن تتراجع عن قانون منع الحجاب، كما ناشد الدول التي تفكّر في سنّ قوانين مشابهة ألاّ تفعل ذلك، احتراما لعقيدة المسلمين ومشاعرهم.
كما أوصى المجلس العاملين للإسلام بأوروبا أن يسعوا السعي الحثيث لاستيعاب المسلمين الجدد تعليما وتربية واندماجا اجتماعيا في المجتمع الذي نشأوا فيه ليكونوا لبنات حيّة متميّزة في مجتمعهم.
وأوصى المجلس المسلمين في أوروبا عامّة وفي بريطانيا بصفة خاصّة بعدم اللجوء إلى العنف بجميع أشكاله بأيّ حال من الأحوال إزاء أيّ استفزاز يوجّه إليهم فيما يتعلّق بأمر دينهم وتقاليدهم الإسلامية، وأن يخاطبوا الناس بالتي هي أحسن كما أمر به ربّهم وكما تقتضيه القوانين في البلدان التي يعيشون فيها والظروف السائدة في الآونة الأخيرة.(1/156)
ويوصي المجلس المسلمين المقيمين في بلاد الغرب بما يلي:
1 - أن يراعوا الحقوق كلها، ويعطوا الصورة الطيبة والقدوة الحسنة من خلال أقوالهم وتصرفاتهم وسلوكهم.
2 - أن يقوموا بدورهم بالإبداع والابتكار، وتشجيع ذلك على كافة المستويات.
3 - أن يبذلوا أقصى الوسع في تنشئة الجيل الجديد - بنين وبنات - تنشئة إسلامية معاصرة، وذلك بتأسيس المدارس والمراكز التربوية والترفيهية لحمايتهم من الانحراف.
4 - أن يسعوا جادين لإنشاء شركات ومؤسسات مالية تخلو من المخالفات الشرعية.
5 - أن يعملوا على تشكيل هيئات شرعية تتولى تنظيم أحوالهم الشخصية وفق أحكام الشريعة الإسلامية، مع مراعاة الالتزام بالقوانين السائدة.
6 - أن يبذلوا وسعهم للحصول على اعتراف الدولة التي يقيمون فيها بالإسلام ديناً، وبالمسلمين أقلية دينية على غرار الأقليات الدينية الأخرى في التمتع بحقوقهم كاملة، وفي تنظيم أحوالهم الشخصية كالزواج والطلاق وفقاً لأحكام دينهم.
7 - أن يلتزموا ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وأجمع عليه فقهاء الإسلام، من وجوب الوفاء بمقتضيات عهد الأمان وشروط المواطنة والإقامة في البلاد التي يعيشون فيها، ومن أهم ما يجب عليهم الوفاء به ما يلي:
أ - أن يعتقدوا أن أرواح وأموال وأعراض غير المسلمين مصونة بمقتضى ذلك العهد الذي دخلوا به هذه البلاد أو استوطنوها، والذي لولاه لما سمح لهم بدخولها أو استمرار الإقامة فيها، وقد قال الله تعالى: ] وَأَوْفُوا بِالعَهدِ إِنَّ العَهدَ كَانَ مَسئُولاً [ ]الإسراء: 34[.
ب - أن يحترموا النظام العامّ في هذه البلاد التي آوتهم وحمتهم، ومكنتهم من التمتع بكل ضمانات العيش الكريم، وقد قال تعالى :] هَلْ جَزاءُ الإِحسَانِ إِلاَّ الإِحسَان [ [الرحمن: 60[.
ج - أن يجتنبوا كل أساليب الكسب الحرام على اختلاف أنواعه، ومنها سعي بعض المسلمين للحصول على معونة الضمان الاجتماعي بمخالفة القانون.(1/157)
كما يوصي المجلس المسلمين عامة والمقيمين في بلاد الغرب خاصة بالاعتصام بحبل الله، والأخوّة، والسماحة، والوسطية، والتعاون على البر والتقوى، والتزام الحوار الهادئ والأساليب السليمة في معالجة قضايا الخلاف، بعيداً عن مناهج التشدد ومسالك التطرف التي تشوه صورة الإسلام، وتسيء أبلغ الإساءة إلى المسلمين عامة وإلى الأقليات المسلمة خاصة، فيتلقفها خصوم الإسلام والجاهلون به للتشنيع عليه والتخويف منه ومن أهله واستعداء الأمم عليهم، وقد قال الله تعالى:] ادعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكمَةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحسَن [ ]النحل: 125[.
وبعد انتهاء المداولات العلمية للمجلس تقرّر أن يكون انعقاد الدورة القادمة يوم الإربعاء 14 محرم 1426 إلى 18 منه الموافق لـ 23 فبراير 2005 إلى يوم 27 منه.
والمجلس في ختام دورته يتقدّم بالشكر الجزيل للرابطة الإسلامية بأنجلترا على دعوتها لعقد هذه الدورة في لندن، وعلى الجهود المقدّرة التي بذلها المشرفون عليها في تهيئة الظروف المناسبة لعقدها، كما يتقدّم بالشكر والتقدير للحكومة البريطانية على التسهيلات التي قدّمتها لتيسير انعقاد هذه الدورة من تأشيرات دخول وغيرها، ويخصّ بالشكر السيد عمدة لندن على استضافته جلسة الافتتاح في مقرّ البلدية، وعلى كلمته المعبّرة عن احترامه وتقديره للمجلس، كما يتقدّم بخالص الشكر والتقدير لهيئة المكتوم على دعمها المادّي والمعنوي المتواصل الذي تقدّمه للمجلس.
وقد اختتم المجلس أعماله بمثل ما افتتح به من حمد الله تعالى وطلب عونه وتوفيقه .(1/158)
البيان الختامى 14
بتاريخ: 30-7-2008
البيان الختامي
للدورة العادية الرابعة عشرة للمجلسالأوروبي للإفتاء والبحوث
المنعقدة بمقر الأمانة العامة بدبلن
في الفترة من: 14 محرم 1426 إلى: 18 منه الموافق لـ 23 فبراير 2005 إلى 27 منه
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمّا بعد.
فقد انعقدت بتيسير الله وتوفيق منه الدّورة العادية الرابعة عشرة للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث بمقر الأمانة العامة بدبلن ( جمهورية أيرلندا ) في الفترة من: 14 محرم 1426 إلى: 18 منه الموافق لـ 23 فبراير 2005 إلى 27 منه، برئاسة سماحة الشيخ الدكتور العلاّمة يوسف القرضاوي رئيس المجلس وبحضور أغلبية أعضائه وعدد من الضيوف والمراقبين.
افتتحت جلسات الدورة بكلمة لسماحة الرئيس أكد فيها على أهداف المجلس وغاياته الرامية إلى تحقيق المرجعية للمسلمين في الغرب في قضاياهم المختلفة، مظهراً ما امتاز به هذا المجلس من وسطية المنهج ومراعاة رفع الحرج في إطار دلالات نصوص الكتاب الكريم والسنة المطهرة، مع إظهار المتانة في منهجية اتخاذ القرار في هذا المجلس فيما يصدر عنه من قرارات وفتاوى وتوصيات، حيث يجتهد في إعطاء القضايا التي يتناولها حظها من البحث والدراسة والمناقشة حتى تصير إلى أقصى مرحلة من النضج والوضوح.
ومن ثم توالت جلسات المجلس في هذه الدورة في إتمام عرض ومناقشة الأبحاث المقدمة حول "فقه الأسرة المسلمة في بلاد الغرب" استكمالاً لما كان ابتدأه في الدورة السابقة، تخلل ذلك جلسة إدارية قدم فيها الأمين العام تقريره الدوري عن سير عمل المجلس خلال الفترة الماضية، كما قدم رؤساء لجان الفتوى في بريطانيا وفرنسا ولجنة البحوث تقارير موجزة عن نشاط لجانهم منذ الدورة الماضية.
وكانت البحوث التي عرضت وتمت مناقشتها في هذه الدورة كالتالي:(1/159)
1 - الأسرة المسلمة في الغرب بين التشريع الإسلامي والقوانين الوضعية. للدكتور محمد العمراني.
2 - العنف الأسري وعلاجه. للدكتور علي القره داغي.
3 - الطريقة الشرعية لحساب النفقات. للدكتور عبد الستار أبو غدة.
4 - التعويض عن الضرر المعنوي. للدكتور علي القره داغي.
5 - وسائل الوقاية من الطلاق. للدكتور علي القره داغي.
6 - التحديات التي تواجه المرأة المسلمة في أوربا. للأستاذة لينا لارشن.
7 - زواج المسلم بغير المسلمة. للدكتور يوسف القرضاوي.
8 - الزواج من الكتابيات. للشيخ مصطفى ملا أغلو.
9 - حق الزوجة الكارهة. للدكتور يوسف القرضاوي.
10 - حق الزوجة في النفقة الملائمة لحالها وحال زوجها. للدكتور يوسف القرضاوي.
وبناء على ما جرى استعراضه ومناقشته في هذه الدورة والتي سبقتها من أبحاث متنوعة تعرضت إلى وضع الأسرة في بلاد الغرب، فقد أصدر المجلس القرارات التالية:(1/160)
أولاً: القرارات
قرار 1/14:
الكفاءة في الزواج
استعرض المجلس موضوع "الكفاءة في الزواج"، وبعد المداولة والمناقشة للبحث المقدم في ذلك قرر ما يلي:
أولاً: توافر الكفاءة بين الزوجين يحقّق الانسجام بينهما والتوافق واستمرار العشرة دون نفور أو مشكلات تنشأ بسبب الاختلافات البيئية والفروق الاجتماعية.
ثانياً: لقد جمعت الشريعة الإسلامية بين اعتبار ما عليه بعض المجتمعات من مراعاة الفروق والمستويات لتحقيق الاستقرار العائلي، وبين ما جاءت به من قِيم ومُثل تعتمد التفاضل بالتقوى وتحصيل الفضائل والمزايا المكتسبة، مع تأكيد المقرّرات الشرعية على تذويب تلك الفروق وإبراز التفاضل القائم على العمل الصالح والتقوى، وذلك بأسلوب التقويم والإصلاح والحكمة.
ثالثاً: إن ما اشتملت عليه الاجتهادات الفقهية لعلماء المسلمين من التعداد لصفات الكفاءة كان مراعاة للواقع المعيش في كلّ عصر، باعتبار ما لذلك من أثر على متانة العلاقة الزوجية والأسرية، ولم تغفل تلك الاجتهادات التأكيد على أن الكفاءة السلوكية تحلّ محلّ الكفاءة الاجتماعية العُرفِية.
رابعاً: لا خلاف أن أعلى صفات الكفاءة هي التديّن.(1/161)
قرار 2/14:
الفحص الطبي قبل الزواج
استعرض المجلس موضوع "الفحص الطبي" الذي هو الكشف بالوسائل المتاحة (من أشعة وتحليل وكشف جيني ونحوه) لمعرفة ما بأحد الخاطبين من أمراض معدية أو مؤثرة في مقاصد الزواج، وبعد المداولة والمناقشة للبحث المقدم في ذلك قرر المجلس ما يلي:
أولاً: إن للفحص الطبي قبل الزواج فوائد من حيث التعرف على الأمراض المعدية أو المؤثرة وبالتالي الامتناع عن الزواج ولكن له - وبالأخص للفحص الجيني - سلبيات ومحاذير من حيث كشف المستور، وما يترتب على ذلك من أضرار بنفسية الآخر المصاب ومستقبله.
ثانياً: لا مانع شرعاً من الفحص الطبي بما فيه الفحص الجيني للاستفادة منه للعلاج مع مراعاة الستر.
ثالثاً: لا مانع من اشتراط أحد الخاطبين على الآخر إجراء الفحص الجيني قبل الزواج.
رابعاً: لا مانع من اتفاقهما على إجراء الفحص الطبي (غير الجيني) قبل الزواج على أن يلتزما بآداب الإسلام في الستر وعدم الإضرار بالآخر.
خامساً: لا يجوز لأحدهما أن يكتم عن الآخر عند الزواج ما به من أمراض معدية أو مؤثرة إن وجدت، وفي حالة كتمانه ذلك وتحقق إصابة أحدهما أو موته بسبب ذلك فإن الطرف المتسبب يتحمل كل ما يترتب عليه من عقوبات وتعويضات حسب أحكام الشرع وضوابطه.
سادساً: يحق لكليهما المطالبة بالفسخ بعد عقد النكاح إذا ثبت أن الطرف الآخر مصاب بالأمراض المعدية أو المؤثرة في مقاصد الزواج .(1/162)
قرار 3/14:
الولاية في النكاح
استعرض المجلس موضوع "الولاية في النكاح" وما قدم فيها من البحث، وبعد المداولة والنظر قرر ما يلي:
موقف فقهاء المسلمين من الولاية في النكاح على مذهبين:
الأول: أن الولي شرط في عقد النكاح، عملاً بحديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا نكاح إلا بولي".
وهذا مذهب جمهور العلماء من المحدثين والفقهاء، ومنهم من قال: هو ركن في العقد.
والثاني: ليس شرطاً يصح بدونه العقد إذا تزوجت من كفء. وهو مذهب بعض الفقهاء كالحنفية، واستدلوا لمذهبهم بأدلة أخرى.
والخلاف في ذلك خلاف معتبر، وقد ذهب المجلس بعد مداولاته إلى أن الحرص على موافقة الولي عند إجراء عقد الزواج مطلوب دينياً واجتماعياً، لكن إن اقتضى الحال تزويج المرأة بدون ولي لظروف معينة كتعذر إذنه أو كعضله، فلا بأس من العمل بقول من لا يشترط الولي لابتداء العقد، وأما إذا تم العقد دون ولي فإنه عقد صحيح، مراعاة لقول المخالف.
ومما ينبه عليه المجلس أنه ليس كل قريب يصلح أن يكون ولياً للمرأة لعقد نكاحها، بل من توفرت فيه مجموعة الشروط المعتبرة، ومن أهمها أن يكون تصرفه نافعاً لها لا ضاراً بها.(1/163)
قرار 4/14:
الإجبار على الزواج
استعرض المجلس موضوع الإجبار على الزواج والبحث الذي تناوله، وبعد المداولة والنظر قرر ما يلي:
أن القول الذي يجب المصير إليه والعمل به أنه يجب على الآباء أو الأولياء استئمار البنت في أمر زواجها، فإن وافقت عليه صح العقد، وإلا فلا، لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن"، قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنها ؟ قال: "أن تسكت"، رواه البخاري. وعن عبدالله بن عباس: أن جارية بكراً أتت النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم. وفي لفظ: فرد النبي صلى الله عليه وسلم نكاحها[1].(1/164)
قرار 5/14:
عضل الولي
استعرض المجلس موضوع "عضل الولي"، وهو: (منع موليته من الزواج) والبحث الذي تناوله، وبعد المداولة والنظر قرر ما يلي:
أنه لا يحل للولي أن يعضل (أي يمنع) وليته إذا أرادت الزواج من كفءٍ بصداق مثلها، فإذا منعها وليها القريب انتقلت الولاية إلى من يليه في الولاية، أو إلى القاضي، أو من ينوب عن جماعة المسلمين إن لم يكن قاض كالقائمين على المراكز الإسلامية والمساجد في الغرب ممن يعود إليهم المسلمون في شؤونهم الدينية؛ لأن تأخير الزواج ووقوع العضل من بعض الأولياء سبب في مفاسد خطيرة على الفرد والمجتمع. وحيث إن ظاهرة العضل متفشية فيجب العمل على علاجها في المجتمع المسلم بما يحد منها أو يمنعها، وأهم ما يلاحظ في ذلك الفصل بين الأحكام الشرعية وبين التقاليد والأعراف، ثم توعية المسلمين بفوائد الالتزام بأحكام الشرع الذي شرعه الله لهم في شكل نشرات ودورات متخصصة، والعمل على تكوين مجالس تحكيم يمكن الرجوع إليها في مثل هذا الأمر.(1/165)
قرار 6/14:
الزواج من الكتابية
استعرض المجلس موضوع "الزواج من الكتابية" والأبحاث التي تناولته، وبعد المداولة والنظر قرر ما يلي:
أولاً: الكتابية، هي: من تؤمن بدين سماوي الأصل كاليهودية والنصرانية، فهي مؤمنة - في الجملة - بالله ورسالاته والدار الآخرة. وليست ملحدة أو مرتدة عن دينها، ولا مؤمنة بدين ليس له نسب معروف إلى السماء.
وقد ذهب جمهور علماء المسلمين إلى إباحة الزواج من الكتابية، لقوله تعالى في سورة المائدة، وهي من أواخر ما نزل من القرآن الكريم: ]اليوم أحل لكم الطيبات، وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم، والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان[[المائدة: 5].
وذهب بعض السلف إلى كراهة أو منع الزواج من الكتابية كعبدالله بن عمر من الصحابة، والصواب رأي الجمهور لصراحة الآية.(1/166)
ثانياً: ضوابط يجب مراعاتها عند الزواج من الكتابية:
الأول: الاستيثاق من كونها "كتابية" على المعنى المتقدم ذكره.
ومن المعلوم في الغرب الآن أنه ليست كل فتاة تولد من أبوين مسيحيين مثلاً مسيحية. ولا كل من نشأت في بيئة مسيحية تكون مسيحية بالضرورة. فقد تكون شيوعية مادية، وقد تكون على نحلة مرفوضة أساسًا في نظر الإسلام كالبهائية ونحوها.
الثاني: أن تكون عفيفة محصنة، فإن الله لم يبح كل كتابية، بل قيد في آياته الإباحة نفسها بالإحصان. والإحصان هو العفة عن الزنا كان ذلك أصالة أو بتوبة.
الثالث: ألا تكون من قوم معادين للإسلام وأهله ما لم يثبت أنها ليست على موقف قومها. قال تعالى: ]لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله[ [المجادلة: 22]، والزواج يوجب المودة كما قال تعالى: ]ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة[ [الروم: 21].
الرابع: ألا يكون من وراء الزواج من الكتابية فتنة ولا ضرر محقق أو مرجح، فإن استعمال المباحات كلها مقيد بعدم الضرر، فإذا تبين أن في إطلاق استعمالها ضررًا عامًا منعت منعًا عامًا، أو ضررًا خاصًا منعت منعًا خاصًا، وكلما عظم الضرر تأكد المنع والتحريم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار"[2].
والضرر المخوف بزواج غير المسلمة يتحقق في صور كثيرة منها: أن ينتشر الزواج من غير المسلمات، بحيث يؤثر على الفتيات المسلمات الصالحات للزواج. ومنها: أن يتساهل بعض الناس في مراعاة شرط الإحصان - العفاف - الذي قيد به القرآن حل الزواج منهن، ومنها: الخوف على الذرية من الانحراف، وما يلحق من عواقب في حق الزوج في حياته بتأثره بما عليه زوجته غير المسلمة، والتصرف ببدنه وتركته بعد موته.(1/167)
قرار 7/14:
النفقة على الزوجة
استعرض المجلس موضوع "النفقة على الزوجة" والأبحاث التي تناولته، وبعد المداولة والنظر قرر ما يلي:
لم يحدد الشرع في النفقة مقداراً معيناً من المال، ولكنه أوجب على الرجل كفاية حاجات زوجته بالمعروف.
والضابط في ذلك مراعاة نفقة مثيلاتها من النساء وما يقتضيه العصر والبيئة.
فيجب للزوجة كل ما اعتادت عليه في بيئتها دون إسراف ولا تقتير لقوله تعالى: ]لينفق ذو سعة من سعته، ومن قُدِرَ عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله، لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها، سيجعل الله بعد عسر يسراً[ [الطلاق: 7].
ومما يجب للزوجة أيضاً كل ما يتعلق بمسكنها ومداواتها وملبسها ومأكلها وكذلك كل ما من شأنه تسهيل مهام البيت من أثاث وآلات وغيرها.
أما ما يترتب من النفقات بسبب خروج الزوجة للعمل مثلا فلا يجب على الزوج، وتتحمل الزوجة العاملة وحدها تلك النفقات.
إما إذا كان الزوج بخيلاً وممسكاً فللزوجة حق الأخذ من مال زوجها بقدر كفايتها وحاجة أولادها لقوله صلى الله عليه وسلم لهند امرأة أبي سفيان: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" متفق عليه.
وفي حال ما إذا كان الزوج فقيراً وكانت الزوجة موسرة وتعمل وأرادت أن تتكفل بنفقات البيت فذلك تكرم منها وتفضل، وهو أمر محمود تنال به الأجر والثواب وتستحق عليه الشكر والثناء.(1/168)
قرار 8/14:
العنف الأسري وعلاجه
استعرض المجلس موضوع "العنف الأسري وعلاجه" والأبحاث التي تناولته، وبعد المداولة والنظر خلص إلى ما يلي:
المقصود بالعنف الأسري:
أولاً: العنف هو: استخدام القوة المادية أو المعنوية لإلحاق الأذى بآخر استخداماً غير مشروعٍ.
ثانياً: أن العنف الأسري يشمل عنف الزوج تجاه زوجته، وعنف الزوجة تجاه زوجها، وعنف الوالدين تجاه الأولاد وبالعكس، كما أنه يشمل العنف الجسدي والجنسي واللفظي وبالتهديد، والعنف الاجتماعي والفكري، وأخطر أنواعه ما يسمى بـ(قتل الشرف).
ثالثاً: للعنف أسبابه التي يمكن تلخيصها في التالي:
أ - ضعف الوازع الديني وسوء الفهم.
ب - سوء التربية والنشأة في بيئة عنيفة.(1/169)
ج - غياب ثقافة الحوار والتشاور داخل الأسرة.
د - سوء الاختيار وعدم التناسب بين الزوجين في مختلف الجوانب بما فيها الفكرية.
هـ - ظروف المعيشة الصعبة كالفقر والبطالة.
رابعاً: يترتب على العنف الأسري آثار خطيرة على الزوجين والأولاد والمجتمع.
ولخطورة ذلك فإن المجلس قرر أن العنف الأسري بجميع أنواعه وصنوفه نهت عنه الشريعة فلا يجوز الإقدام عليه للنصوص الكثيرة الدالة على تحريم الظلم والإيذاء بجميع أنواعه، فضلاً عن الإيذاء داخل الأسرة التي تقوم على الرحمة والمودة والسكن.
كذلك أكد المجلس على ما شرعه الإسلام من وسائل لدرء العنف الأسري والتي أهمها:
1. تقوية الوازع الديني والتربية الصحيحة والتأكيد على ثقافة الحوار والتشاور داخل الأسرة.
2. اختيار كل من الزوجين للآخر على أساس صحيح.
3. اعتماد أساليب الوعظ والإرشاد في بيان خطورة الظلم والضرب والشتم والإهانة.
4. اللجوء إلى الحكمين لمنع العنف وعلاجه.
5. اختيار الطلاق وسيلة أخيرة لإنهاء عقد الزواج سواء عن طريق القضاء أو حكم الحكمين إذا تمادى أحد الزوجين ولم تنفع الوسائل السابقة.
ويوصي المجلس الأقلية المسلمة بالابتعاد عن استعمال وسيلة الضرب في نطاق الأسرة اقتداء بالرسول صلى الله علية وسلم الذي لم يضرب في حياته امرأة، وقال: "لن يضرب خياركم"، وتجنباً للأضرار الناتجة عن ذلك بما فيها مخالفة القانون.(1/170)
قرار 9/14:
الوقاية من الطلاق
ناقش المجلس البحوث المقدمة حول "وسائل الوقاية من الطلاق"، وبعد المداولة والمناقشات المستفيضة انتهى إلى ما يلي:
أولاً: إن الإسلام قد حرص أشد الحرص من خلال تشريعاته الخاصة بالأسرة على الحفاظ عليها ومنعها من التفكك والانهيار؛ لذلك سمى الرابطة الزوجية ميثاقاً غليظاً، وحث على استمرار الحياة الزوجية حتى مع كراهة الزوج لزوجته، فقال تعالى: ]وعاشروهن بالمعروف، فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً[ [النساء: 19].
ثانياً: وبناء على ذلك يبين المجلس وسائل للوقاية من الطلاق، من أهمها:
1. تقوية الجانب الإيماني واستشعار الخوف من الله تعالى ومراقبته عند وقوع الظلم وإيذاء أحد الطرفين للآخر، ولذلك صاحب الأمر بالتقوى معظم الآيات الخاصة بالأسرة.(1/171)
2. حسن الخلق في التعامل بين الزوجين وصبر كل منهما على الآخر في مقابل ما له من أخلاق وصفات طيبة أخرى.
3. رعاية الجوانب النفسية في كون كل واحد من الزوجين لباساً وسكناً ومودة ورحمة، وأنهما من نفس واحدة، والنظر من كليها للآخر نظرة تقدير واحترام ومساواة.
4. اختيار الشريك الصالح أو الزوجة الصالحة من حيث توافر الصفات المطلوبة شرعاً في الطرفين، والالتزام بالوسائل التي شرعها الإسلام لاستمرار الزوجية كرؤية الخاطبين أحدهما للآخر والمحادثة بينهما بضوابطها الشرعية.
5. تنمية ثقافة الحوار والتشاور لحل جميع المشاكل فيما بين الزوجين، كما عبر عن ذلك قوله تعالى: ]عن تراضٍ منهما وتشاور[ [البقرة: 233].
6. الحرص على أن يؤدي كل من الزوجين حقوق الآخر المادية والمعنوية على أساس العدل والإحسان.
7. الحرص من كل من الزوجين على إرضاء الآخر، ولذلك لم يعتبر كاذباً من حدث زوجه بما يرضيه ويحقق التصالح معه حتى لو فهم منه أنه مخالف للواقع.
8. استعمال جميع الوسائل المؤثرة في النفوس من الوعظ ونحوه.
9. تدخل مجلس الأسرة من خلال الحكمين لتحقيق الإصلاح فيما بين الزوجين، إذ قال تعالى: ]وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها، إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما[ [النساء: 35].(1/172)
قرار 10/14:
التعويض عن الضرر المعنوي بسبب الطلاق
استعرض المجلس موضوع "التعويض عن الضرر المعنوي ( الأدبي )" الذي هو: دفع ما وجب من بدل مالي أو نحوه بسبب إلحاق أذى بنفسية شخص أو شرفه أو اعتباره أو مشاعره، النّاتج عن أي اعتداء أو إتلاف أو عمل غير مشروع".
وبعد المداولة والنظر قرر ما يلي:
لا مانع شرعاً من المطالبة بالتعويض عن الضرر المعنوي الذي أصاب أحد الزوجين بسبب الطلاق أو التطليق إذا صاحبه ضرر أدّى إلى إلحاق الأذى بنفسية الطرف الآخر أو شرفه أو مشاعره، وذلك للأدلّة الدّالة على حرمة الإيذاء ودفع الضّرر، وذلك إذا توفّرت الشروط التّالية:
1 - أن يكون الضرر المعنوي قد أحدث أثراً فعلياً.
2 - أن يكون الضرر المعنوي محقّق الوقوع تشهد عليه الأدلّة والقرائن.
3 - أن لا يرفع الأمر إلى القضاء إلا بعد إعطاء مهلة للتصالح والتراضي.(1/173)
قرار 11/14:
حول رسالة مقدمة من اللجنة الإسلامية للمرأة والطفل بالمجلس العالمي للدعوة والإغاثة
اطلع المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث على الرسالة المقدمة من السيدة المهندسة كاميليا حلمي، مدير عام اللجنة الإسلامية العالمية للمرأة والطفل بالمجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة، والمتعلقة بإبداء الرأي حول المواضيع الواردة فيما بعد، لعرضه على الجلسة التاسعة والأربعين للجنة مركز المرأة بالأمم المتحدة التي تنعقد في نيويورك بتاريخ 28 فبراير - 11 مارس 2005:
1- إتاحة خدمات الصحة الإنجابية والجنسية لكل الأفراد وكل الأعمار بما في ذلك الأطفال، وتشمل:
أ) تدريس مادة الجنس الآمن Safe Sex في المدارس الابتدائية ضمن برامج التربية الجنسيةSex Education التي تطالب بها الوثائق الدولية الخاصة بالمرأة والطفل (مثل وثيقتي بكين،والسكان) بالإضافة إلى إدراج هذه المادة ضمن البرامج الإعلامية الموجهة للطفل، وذلك لتعليم الأطفال الممارسين للجنس كيفية التوقّي من حدوث الحمل، وكيفية الوقاية من انتقال عدوى مرض الأيدز.
ب) توزيع وسائل منع الحمل على الأطفال في المدارس.
ج) المطالبة بإباحة الإجهاض (وتسميته بالإجهاض الآمن) لكل الأفراد كوسيلة للتخلص من الحمل غير المرغوب فيه.(1/174)
2- مساواة الجندرGender Equality وذلك بهدف إلغاء الفوارق - حتى البيولوجية منها - بين الجنسين بدعوى ضمان حصول المرأة على حقوقها.
وقد انتهى المجلس بعد البحث والمناقشة إلى رأي هذه خلاصته:
أولاً) إن وثيقة بكين وجميع البيانات والاتفاقيات التي صدرت عن الأمم المتحدة إنما تعكس قلقاً متزايداً على أوضاع المرأة في العالمَ؛ وهي تحاول تحسين تلك الأوضاع وتغييرها نحو الأفضل من خلال الرعاية الصحية ومحو الأمية ومشاركة المرأة في الحياة العامة.
ولا تزال هناك حاجة ماسة لمضاعفة الجهود لرفع المعاناة عن النساء والأطفال وحلّ المشكلات الناتجة عن ظاهرة تفكك الأسرة وارتفاع نسبة الطلاق وضعف الإقبال على الزواج والاستعاضة عنه بالعلاقات الأخرى وما تؤدي إليه من تفشّي ظاهرة المواليد غير الشرعيين، وتشرّد الأطفال وحرمانهم من الرعاية وانحرافهم خلقياً فضلاً عن استغلالهم في تجارة المخدرات والدعارة، ناهيك عن الاستغلال السيئ لجسد المرأة في الدعاية والإعلام، إلى جانب تفاقم الانحلال الخلقي، وما يترتب عليه من ممارسات جنسية خارج نطاق الزواج والممارسات الشاذة التي تنتشر في سنّ المراهقة فينجم عنها أمراض نفسية وجنسية خطيرة كالأيدز؛ أضف إلى ذلك تزايد ظاهرة حمل المراهقات، وتفشي الإجهاض، وتهرّب الفتيات من التعليم.
ثانياً) والمجلس يؤكد ابتداءً أن الإسلام يعتبر الصحة والمعافاة أكبر نعمة بعد الإيمان، ولذلك دعا بشدة إلى الرعاية الصحية بجميع أشكالها البدنية والنفسية والاجتماعية والروحية، والصحة الإنجابية جزءٌ منها، وهي التي نعني بها حالة من المعافاة الكاملة بدنياً ونفسياً واجتماعياً في كل ما يتعلق بالجهاز الإنجابي ووظائفه وعملياته، وهذا يعني توفير كل العوامل التي من شأنها تمتّع الإنسان بحياة صحية مأمونة وسليمة، بما في ذلك كل ما يتعلق بمسألة التكاثر والإنجاب.(1/175)
ثالثاً) والإسلام شأنه كشأن بقية الأديان السماوية يعتبر أن الأسرة هي اللبنة أو الوحدة الاجتماعية الأساسية، وأن الزواج هو الطريق الوحيد لتكوين الأسرة. وهو الوسيلة الوحيدة المقبولة لتلبية الاحتياجات الجنسية للشباب، وتوقي الحمل خارج إطار الزواج الشرعي والوقاية من الأمراض المنقولة جنسياً. والعلاقات الجنسية الحلال التي تلبي هذه الاحتياجات تعتبر عبادة يؤجر عليها الزوجان إذا احتسبا.
رابعاً) كل علاقة جنسية خارج إطار الزواج الشرعي مرفوضة في الإسلام، ولهذا يضع للتربية الجنسية قواعد وأهدافاً ترعى الجانب الصحي إلى جانب ترسيخ مفهوم الأسرة والتأكيد على أن الزواج هو الطريق الوحيد لتصريف هذه الطاقة الجنسية. ويضع لهذه التربية برامج تتناسب مع الأعمار والتطور البيولوجي الطبيعي لكلا الجنسين في إطار من الحشمة والتوجيه الصالح العفيف.
ولا يجيز الإسلام بحال من الأحوال أن تشتمل التربية الجنسية على أي صورة من الممارسات التطبيقية مهما كان نوعها، ويربي الشباب ويوجههم إلى الاستعفاف والإقبال على العبادة عندما لا تتاح لهم فرصة الزواج.
ومن هنا لا يرى المجلس أي مسوّغ لتوزيع وسائل منع الحمل على الأطفال في المدارس، بل يعتبر هذا الفعل وسيلة للإفساد وإشاعة المنكر.
كما أن المجلس لا يقرّ ما يسمى بالإجهاض الآمن، الذي يعني إباحة الإجهاض لكل فرد من الأفراد كوسيلة للتخلص من الحمل غير المرغوب فيه؛ فالإجهاض في حكم الإسلام له أحكام شرعية لا يجوز أن يباح بدون قيد أو شرط.(1/176)
خامساً) يؤكد المجلس على أن الإسلام قد نادى بالمساواة بين الجنسين في الحقوق والواجبات الإنسانية العامة واعترف بالأهلية الكاملة للمرأة وذمتها المستقلة وإنسانيتها الكاملة، وأقرّ بحقها في التعليم والعمل والرعاية والمشاركة في الحياة العامة، ورفض أي تمييز بين الجنسين وعدم تأسيس الحقوق على الأنوثة والذكورة؛ وندد بتفضيل الذكر على الأنثى والعكس، وأكد على أن لكل من الجنسين الخصائص المميزة له عن الجنس الآخر دون أن يكون أحدهما مفضلاً بإطلاق على الآخر.
ولقد ندد الإسلام بكل الممارسات الظالمة التي كانت تمارس ضد المرأة؛ كوأد البنات والإكراه في الزواج، والحرمان من الميراث، وحرّم التعدي عليهنّ أو الإضرار بهنّ بأية صورة من الصور.
والإسلام بطبيعته يحترم التعددية الدينية والثقافية والهوية الخاصة بالشعوب، ويدعو إلى المساواة في إطار مفهوم العدالة والإنصاف.
سادساً) يدعو المجلس الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية المهتمة بشؤون المرأة والطفل أن لا تتدخل في الخصوصيات الثقافية والدينية للشعوب وما يترتب عليها من أمور تتعلق بالسلوك الشخصي وأن تترك ذلك لاختيار هذه الشعوب بما يتناسب مع تعاليم دينها وثقافتها وهويتها الذاتية.(1/177)
ثانياً: الفتاوى
فتوى 1/14:
حول حكم التدخين والمتاجرة بالتبغ
ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن التدخين سبب لأمراض متعددة قاتلة، وقد اتجهت فيه كل المنظمات الصحية في العالم إلى التحذير من أضراره، وتابعتها في ذلك أغلب دول العالم للحد منه والتضييق على تعاطيه والمتاجرة بمادته، كما ثبت أيضاً أن ضرره متعد إلى الغير بما يسمى بـ(التدخين القسري)، فهو من باب الخبائث، والله تعالى يقول في وصف نبيه صلى الله عليه وسلم: ]ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث[ [الأعراف: 157]، وللاتفاق على أن تناول الإنسان ما يضره محرم شرعاً. كذلك هو ضرب من إضاعة المال بما لا ينفع الإنسان في دنياه ولا أخراه، وهو منهي عنه، كما أن فيه ضرراً نفسياً مؤكداً بما يصير إليه من استعباد إرادة متعاطيه. والذي يقرره المجلس بناء على اعتبار مقاصد الشرع وأصوله هو تحريم تعاطيه والمتاجرة به، وذلك لقاعدة: "لا ضرر ولا ضرر"، وقاعدة: "الضرر يزال".(1/178)
فتوى 2/14:
حول الزكاة
السؤال : كنت قد أعطيت ديناً لأخي وأختي في فلسطين منذ أكثر من 7 سنوات، ولا يخفى عليكم ما هم فيه من ضيق العيش، وقد كان حالهم حتى قبل الانتفاضة صعباً وهو الآن أشد صعوبة، مع العلم أنني لا أدخر جهداً في مساعدتهم وإرسال الأموال إليهم، وأرغب أن أسقط ديوني عنهم، لكنني من متوسطي الدخل، وأنا مغترب أسكن البوسنة منذ زمن، ولا أملك بيتاً ولا عقاراً لا هنا ولا في فلسطين، فهل يجوز لي شرعاً أن أحتسب ما لي عند أخي وأختي من دين من أموال الزكاة السنوية حتى ينقضي ما عليهم من دين؟ وهذا الدين قيمته 7000 دولار، وأنا في أحسن الأحوال لا أخرج أكثر من ألف دينار سنوياً كأموال زكاة. وإذا كان ذلك لا يجوز فهل لي أن آخذ ديني مما يتجمع لدي من أموال أقوم شخصياً على جمعها من أهل الخير من أجل إرسالها لمقاصد الخير المختلفة في فلسطين؛ علماً بأن هذه الأموال يكون منها التبرع العام ومنها أموال زكاة؟(1/179)
الجواب: الزكاة حق لله تعالى في أموال المسلمين المالكين للنصاب وحق لأهلها من المستحقين، قال عز وجل: ]والذين في أموالهم حق معلوم. للسائل والمحروم[ [المعارج: 25]، كما وصف الحق سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بأنهم ]الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة[ [المائدة: 55]، ووجههم لصرفها في مصارفها التي حددها قوله سبحانه: ]إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل[ [التوبة: 60].
وقد اتفق جمهور الفقهاء على جواز صرف الزكاة كلها أو بعضها على أحد المستحقين لها من الأصناف الثمانية ما دامت حاجته إليها كبيرة، ويرجح المجلس من بين خلاف العلماء جواز إسقاط الديون التي عن أخيك وأختك بنية احتساب هذا الدين من الزكاة، تحقيقاً للمصلحة واعتباراً للمقاصد الشرعية، أما الأموال التي تتجمع لديك من أهل الخير لإرسالها للمستحقين من أهل فلسطين فلا يجوز لك التصرف فيها لمثل هذا الغرض، بل يجب عليك توصيلها إلى مستحقيها.(1/180)
ثالثاً: التوصيات
مما يتصل بشأن الأسرة المسلمة تناول المجلس بالبحث صيغاً للزواج مستحدثة وسمي بتسميات مختلفة، لئن توفرت تلك الصيغ على أركان الزواج المعروفة إلا أنها بسبب إعفائها للزوج من واجباته في توفير السكن والنفقة للزوجة التي تنازلت عن هذه الحقوق، وذلك بقصد تيسير الحلال والاستعفاف، فإن المجلس لا يشجع على تلك الصيغ، بل يناشد المسلمين بالحرص على تيسير الزواج المبكر وتجنب كل أشكال الإسراف في المهور والولائم وتأثيث بيت الزوجية، بما يحقق مقاصد الإسلام في الاستعفاف والسكينة والاستقرار والمحضن الجيد محضن التقوى؛ لتنشئة جيل إسلامي صالح. كما نوصي الشباب المسلم من أبناء وبنات بالاستفادة من الفرص التي تتيحها لهم الأنظمة في أوربا لإعانة المتزوجين ليعملوا على إنشاء حياة زوجية مبكرة لتعصمهم من الانحرافات.(1/181)
كذلك يوصي المجلس المسلمين المقيمين في بلاد الغرب بما يلي:
1 - أن يراعوا الحقوق كلها، ويعطوا الصورة الطيبة والقدوة الحسنة من خلال أقوالهم وتصرفاتهم وسلوكهم.
2 - أن يقوموا بدورهم بالإبداع والابتكار، وتشجيع ذلك على كافة المستويات.
3 - أن يبذلوا أقصى الوسع في تنشئة الجيل الجديد - بنين وبنات - تنشئة إسلامية معاصرة، وذلك بتأسيس المدارس والمراكز التربوية والترفيهية لحمايتهم من الانحراف.
4 - أن يسعوا جادين لإنشاء شركات ومؤسسات مالية تخلو من المخالفات الشرعية.
5 - أن يعملوا على تشكيل هيئات شرعية تتولى تنظيم أحوالهم الشخصية وفق أحكام الشريعة الإسلامية، مع مراعاة الالتزام بالقوانين السائدة.
6 - أن يبذلوا وسعهم للحصول على اعتراف الدولة التي يقيمون فيها بالإسلام ديناً، وبالمسلمين أقلية دينية على غرار الأقليات الدينية الأخرى في التمتع بحقوقهم كاملة، وفي تنظيم أحوالهم الشخصية كالزواج والطلاق وفقاً لأحكام دينهم.
7 - أن يلتزموا ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وأجمع عليه فقهاء الإسلام، من وجوب الوفاء بمقتضيات عهد الأمان وشروط المواطنة والإقامة واحترام النظام العام في البلاد التي يعيشون فيها.
8 - أن يجتنبوا كل أساليب الكسب الحرام على اختلاف أنواعه، ومنها سعي بعض الناس للحصول على معونة الضمان الاجتماعي بما يخالف القانون.
9 - أن يتجنبوا العنف بكل صوره ومظاهره، وأن يكون أسلوبهم الرفق والرحمة والحكمة في التعامل مع الناس جميعاً كما يأمرهم الإسلام، وأن ينكروا على كل من حاد عن هذا الطريق الإسلامي السوي.(1/182)
كما يوصي المجلس المسلمين عامة والمقيمين في بلاد الغرب خاصة بالاعتصام بحبل الله، والأخوّة، والسماحة، والوسطية، والتعاون على البر والتقوى، والتزام الحوار الهادئ والأساليب السليمة في معالجة قضايا الخلاف، بعيداً عن مناهج التشدد ومسالك التطرف التي تشوه صورة الإسلام، وتسيء أبلغ الإساءة إلى المسلمين عامة وإلى الأقليات المسلمة خاصة، فيتلقفها خصوم الإسلام والجاهلون به للتشنيع عليه والتخويف منه ومن أهله واستعداء الأمم عليهم، وقد قال الله تعالى:]ادعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكمَةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحسَن[ ]النحل: 125[.
وبعد انتهاء المداولات العلمية للمجلس تقرّر أن يكون انعقاد الدورة القادمة يوم الأربعاء 29 يونيو 2005 إلى يوم 3 يوليو 2005 في مدينة أوربية تحددها الأمانة العامة بالتشاور مع رئيس المجلس.
والمجلس في ختام دورته يتقدّم بخالص الشكر الموصول بالدعاء لهيئة المكتوم الخيرية على دعمها المادّي والمعنوي المتواصل الذي تقدّمه للمجلس.
ويشكر للحكومة الأيرلندية دورها في تيسير انعقاد هذه الدورة على أرضها، متمثلاً في حسن تجاوبها مع الأمانة العامة للمجلس وتسهيل إجراءات الدخول لأراضيها لأعضاء المجلس.
كما يشكر الأمانة العامة للمجلس وجميع من قام من الإخوة والأخوات في العمل على إنجاح أعمال هذه الدورة من العاملين في المركز الثقافي الإسلامي بدبلن وغيرهم.
والحمد لله أولاً وآخراً.
---------
[1] أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي في "السنن الكبرى" وابن ماجة، واللفظ الثاني للنسائي.
[2] أخرجه الإمام مالك في الموطأ ، وغيره.(1/183)
البيان الختامى 15
بتاريخ: 30-7-2008
البيان الختامي
للدورة العادية الخامسة عشرة للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث المنعقد باستانبول
في الفترة: 22-26 جمادى الأولى 1426 الموافق: 29 يونيو - 3 يوليو 2005م
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمّا بعد.
فقد انعقدت بعون الله وتوفيقه الدّورةُ العادية الخامسة عشرة للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث بمدينة استانبول ( تركيا ) في الفترة: 22-26 جمادى الأولى 1426 الموافق: 29 يونيو - 3 يوليو 2005م، برئاسة فضيلة الشيخ الدكتور العلاّمة يوسف القرضاوي رئيس المجلس وبحضور أغلبية أعضائه وعدد من الضيوف والمراقبين. وقد استغرقت أعمال المجلس ثلاث عشرة جلسة بما فيها الافتتاح والاختتام والجلسة الإدارية.
وقد عقدت الجلسة الافتتاحية في حفل كبير حضره نحو ألف من العلماء والمسئولين الأتراك وعدد من الإخوة والأخوات ذوي الاهتمام بالقضايا الفقهية والفكرية المتعلقة بالمسلمين في بلاد الغرب، كما اشتمل برنامجه على كلمات ترحيب بالمجلس، تقدمتها كلمة رئيس مؤسسة الحكمة الأستاذ جمال الدين كريم، كذلك كلمة للدكتور علي أوزاك عميد كلية الإلهيات الأسبق. وتضمنت أيضاً كلمة تعريفية بالمجلس قدمها فضيلة نائب رئيس المجلس الشيخ المستشار فيصل مولوي، وختمت بكلمة فضيلة العلامة الدكتور يوسف القرضاوي رئيس المجلس.
ثم باشر المجلس أعماله بجلسة إدارية، استمع فيها إلى "مقترح بتصور مستقبلي لأداء المجلس" مقدم من الأمين العام المساعد فضيلة الأستاذ الدكتور عبدالمجيد النجار، وإلى تقرير الأمين العام فضيلة الشيخ حسين حلاوة عن سير عمل المجلس خلال الفترة الماضية، كذلك قدم رؤساء اللجان التابعة للمجلس لجنتي الفتوى في بريطانيا وفرنسا ولجنة البحوث تقارير موجزة عن نشاط اللجان منذ الدورة السابقة.(1/184)
وكانت أعمال هذه الدورة منصبة على استكمال ما بدأه المجلس منذ دورتين سابقتين من الدراسات والأبحاث حول أحكام الأسرة المسلمة في الغرب.
وبلغت الأبحاث المقدمة في هذه الدورة اثني عشر بحثاً، هي على النحو التالي:
1. "الكفاءة في النكاح" للمستشار الشيخ فيصل مولوي.
2. "الحياة الزوجية في الغرب، مشكلات واقعية وحلول عملية" للدكتور صلاح الدين سلطان.
3. "الحوار الأسري، تحديات تواجه الأسرة" للدكتور طاهر مهدي.
4. "أحكام الطلاق في الشريعة الإسلامية" للشيخ حسين حلاوة.
5. "التفريق بين الزوجين بسبب الشقاق" للشيخ سالم الشيخي.
6. "التفريق القضائي من خلال قنوات مجلس الشريعة الإسلامية" للدكتور صهيب حسن.
7. "أثر القصد والرضا في الطلاق" للأستاذ الدكتور علي القره داغي.
8. "الإشهاد على الطلاق" للشيخ يوسف إبرام.
9. "الخلع وأحكامه الشرعية، وتطبيقاته بالنسبة للمسلمين المقيمين في بلاد غير إسلامية" للمستشار الشيخ فيصل مولوي.
10. "مسائل في الحضانة" للشيخ سالم الشيخي.
11. "الحضانة" لسماحة الشيخ عبدالله بن بية.
12. "الزواج العرفي" للشيخ العربي البشري.
وبعد استعراض هذه الأبحاث ومناقشتها مناقشات مستفيضة، انتهى المجلس منها إلى القرارات والتوصيات التالية:(1/185)
أولا: القرارات
قرار 1/15:
الكفاءة في الزواج
(قرار بإضافة فقرة إلى القرار السابق 1/14)
خامساً: كفاءة الرجل للزواج من امرأة، اختلف الفقهاء في اعتبارها شرطاً للصحة، أو شرطاً للزوم، والراجح من أقوالهم أنها شرط للزوم عقد الزواج، بحيث يحق لكل من الزوجة والولي طلب فسخه إذا تبين بعد العقد عدم توافر أهم خصالها، وهي التدين وحسن الخلق، وهذا ما لم تحمل المرأة، فإن حملت سقط حق الفسخ. وبالنسبة للمسلمين في أوربا فإن المجلس يرجح أن الكفاءة مستحبة مطلوبة يجدر بالطرفين مراعاتها قبل الزواج؛ وذلك لضمان استقرار واستمرار الحياة الزوجية، ولتحقيق أهم المقاصد الشرعية منها، وهو بناء الأسرة المسلمة المتماسكة.(1/186)
قرار 2/15:
القصد والنية في النكاح والطلاق
استعرض المجلس موضوع "دور القصد والنية في النكاح والطلاق ونحوهما" وبعد المداولة والمناقشة للبحوث المقدمة في ذلك قرر ما يلي:
أولاً: أن مناط صحة العقود هو صحة الإرادة والقصد إلى الشيء قصداً لا يشوبه عيب من عيوب الإرادة من الغلط والإكراه والتدليس والغش.
فبناء على ذلك لا يصح طلاق ولا نكاح من المخطئ، والناسي، والمكره، والغضبان الذي وصل إلى مرحلة الإغلاق (أي الذي دفعه الغضب إلى ذلك دون قصد الطلاق).
ثانياً: إن النية (وهي القصد من الشيء) هي مناط الثواب والعقاب، فلا ثواب ولا عقاب إلا مع نية، وأما أثرها على العقود من حيث الصحة والبطلان فمحل خلاف بين الفقهاء، والراجح عدم صحة نكاح التحليل، وطلاق الفار (المريض مرض الموت) الذي يريد بطلاقه قبل موته حرمان زوجته من الإرث.
ثالثاً: هناك موضوعات أخرى ذات علاقة بالموضوع، مثل النكاح مع إضمار نية الطلاق، وعقود الهازل (الزواج والطلاق والرجعة)، أرجئ البت فيها لمزيد من الدراسة والبحث والاطلاع على المشكلات الواقعة والتطبيقات العملية في الغرب.(1/187)
قرار 3/15:
حكم الخلع
استعرض المجلس موضوع "الخلع" والأبحاث التي تناولته، وبعد المداولة والنظر قرر ما يلي:
الخلع هو تراضي الزوجين على الفراق بعوض، وقد ثبتت مشروعيته بالقرآن الكريم والسنة الصحيحة.
وحكمته: إزالة الضرر عن المرأة إذا تعذر عليها المقام مع زوجها لبغضها له أو لعدم قيامه بحقوقها.
ومن أهم أركان الخلع العوض الذي تدفعه الزوجة إلى زوجها مقابل طلاقها، وهو جائز إلا إذا أقدم الزوج على الإضرار بزوجته حتى يضطرها للتنازل عن مهرها أو بعضه، قال الله تعالى: {ولا تَعْضُلوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إلاَّ أن يأتينَ بفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19].
وسواء اعتبرنا الخلع طلاقاً أو فسخاً فإن المرأة تبين به بينونة صغرى (ليس لزوجها مراجعتها إلا بعقد ومهر جديدين). فإذا تم الخلع وجب على الزوجة أن تعتد عدتها الشرعية.
والخلع لا يحتاج إلى إذن القاضي أو السلطان، فهو يقع وتجب أحكامه الشرعية في حق الطرفين بمجرد اتفاقهما، لكن يجب تسجيله لدى السلطات الرسمية.
وفي البلاد غير الإسلامية التي لا تعرف الخلع أصلاً، إذا كان الزواج قد تم وفق قوانينها، فمن واجب الزوجين القيام بإجراءات الطلاق الرسمي وفق إجراءاته القانونية. ولا يصح للزوجة بعد انتهاء عدتها الشرعية أن تتزوج زوجاً آخر إلا بعد انتهاء الإجراءات الرسمية للطلاق وفق القانون الذي تم عقد الزواج السابق في ظله.(1/188)
قرار 4/15:
الإشهاد على الطلاق
استعرض المجلس موضوع "الإشهاد على الطلاق" والأبحاث التي تناولته، وبعد المداولة والنظر قرر ما يلي:
بما أن الزواج ميثاق غليظ ورباط وثيق فقد قيده الإسلام بشروط وأحكام وآداب للحفاظ عليه ودوام استمراره طلبا للعفة وحفاظا على الأنساب وعمارة الأرض فكل ما يحافظ على رباط الزواج مرغوب وكل ما يفسده مذموم، ونظرا لما يترتب على الطلاق من حقوق وواجبات بين الزوجين ودفعا للإنكار والجحد فقد شرع الإسلام الإشهاد على الطلاق بقوله تعالى: {فَإذا بَلَغْنَ أجَلَهُنَّ فأمْسِكوهُنَّ بمعرُوفٍ أو فارِقوهُنَّ بمعرُوفٍ وَأشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ منكم وَأقيمُوا الشَّهادَةَ لله} [الطلاق: 2]، وبعدما استعرض المجلس مذاهب العلماء في ذلك، (من قال باستحباب الإشهاد كالجمهور، ومن قال بوجوبه من الفقهاء كابن حزم وبعض المعاصرين)، فقد قرر المجلس اختيار الرأي القائل بوجوب الإشهاد، مع وقوع الطلاق عند عدمه لأنه ليس شرطاً. ويوصي المجلس الأسرة المسلمة في بلاد الغرب بتقوى الله في السر والعلن والاجتهاد في الحفاظ على أسرهم وأولادهم بالتربية والتعليم، وعدم التساهل في أمر الطلاق، كما يوصي المجلس كل المسلمين بضرورة مراعاة الإشهاد على الطلاق لدى السلطات الحكومية الغربية أو لدى السفارات والقنصليات الإسلامية حماية للحقوق.(1/189)
قرار 5/15:
أحكام الحضانة
استعرض المجلس موضوع "الحضانة" والأبحاث التي تناولته، وبعد المداولة والنظر قرر ما يلي:
أولاً: الحضانة، هي: حفظ الولد في بيته ذهابه ومجيئه والقيام بمصالحه، أي في طعامه ولباسه وتنظيفه.
ثانياً: حكم الحضانة.
الحضانة فرض عين في حق أحد الوالدين أو أقربائهم ضمن أولويات ذكرها الفقهاء تفصيلاً، فإن لم يوجد من تجب عليه الحضانة أو وجد ولكنه امتنع لأي سبب، فإن الحضانة تصبح فرض عين على المسلمين. وتحقيقاً لهذا الواجب فإن على المراكز الإسلامية القيام به بإعداد المحاضن المناسبة.
ثالثاً: الأصل في أحكام الحضانة رعاية الأصلح للمحضون، وعليه فكل أمر يعود بالفساد على المحضون في دينه وعرضه وبدنه ونفسه وغير ذلك، ينبغي أن يمنع؛ لأنه مخالف لمقاصد الشريعة عامة، ولمقصد أحكام الحضانة خاصة.(1/190)
رابعاً: الأصل في الحضانة أنها للنساء، فقد فطرن على نوع من الحنان والشفقة لا يوجد في الرجال، وهن أرفق وأهدى وأصبر على القيام بما يعود بالمصلحة على المحضون، وعليه كانت الحضانة للأم ما لم تتزوج، لقوله صلى الله عليه وسلم للمرأة التي طالبت بحضانة ولدها: "أنت أحق به ما لم تنكحي".
خامساً: الحضانة حق مشترك بين الأم والولد، فلها أن تتنازل عن حقها بشرط عدم ضياعه، ولا تجبر عليها إلا إذا ترتب على تركها ضياع مصلحة المحضون.
سادساً: شروط الحضانة:
ذكر الفقهاء - رحمهم الله - شروطاً كثيرة يجب توافرها فيمن تثبت له الحضانة، وكلها تدور على مقصد واحد، وهو توفير البيئة الصالحة لرعاية المحضون. والذي يراه المجلس وجوب اعتماد الشرطين التاليين:
1. استقامة السلوك.
فلا حضانة في حال الانحراف السلوكي الظاهر المؤثر في رعاية المحضون. أما اختلاف الدين بين الوالدين فليس مؤثراً على القول الصحيح.
2. القدرة على أداء مهام الحضانة.
فإذا كان اشتغال الحاضن خارج البيت بعمل ونحوه مضيعاً للمحضون، فهذا سبب كاف لإسقاط حق الحضانة عنه.
سابعاً: زواج الأم الحاضنة.
ذهب جمهور العلماء إلى أن زواج الأم الحاضنة يسقط حقها في الحضانة، للحديث السابق ذكره، مع مراعاة القيود الآتية:
1. قدرة الأب أو من تنتقل له الحضانة بعد الأم على القيام بشئون المحضون.
2. أن لا يترتب على ذلك نقل المحضون عن بلد أمه؛ لأن في ذلك تفريقاً بينها وبين ولدها.
3. عدم سكوت الأب عن المطالبة بحقه بإسقاط الحضانة عن الأم المتزوجة لمدة معينة تُظهر رضاه بذلك.
4. أن يتم الدخول بالأم الحاضنة، ولا يسقط حقها بمجرد عقد الزواج.
ثامناً: رؤية المحضون.(1/191)
يؤكد المجلس على حرمة منع أحد الوالدين في حال الطلاق أو التفريق من رؤية الأولاد، ويوصي لمنع ذلك بالآتي:
1. على الأب أو الأم الاتفاق ابتداءً - في إطار الأحكام الشرعية - على تنظيم العلاقة في حال الحضانة إذ هو الضمان الوحيد لكل الحقوق، ولا سيما أن القضاة في المحاكم المدنية يحبذون الاتفاق بين الأبوين على كل ما يعود على المحضون بالمصلحة والحفظ.
2. إذا كان المحضون صغيراً دون سن التعليم القانونية ولا يستطيع البقاء مع أبيه، أو كان الأب عاجزاً عن القيام بشؤون طعامه وشرابه وتنظيفه، فعلى الحاضن تهيئة الظروف المناسبة لرؤية المحضون.
3. إذا كان المحضون في سن التعليم فعلى الأب أن يأخذه للتعليم والتأديب بشرط أن يبيت في بيت الحاضنة، وأن يكون ذلك بالاتفاق بينهما.
4. على الأب أن يراعي آداب الزيارة للمحضون، كعدم حدوث خلوة بين الأبوين المفترقين بعد العدة، وعدم إطالة المكث، واختيار الوقت المناسب منعاً للشُّبه، واستئذان صاحب البيت للدخول، فإن لم يُؤذن له أُخرِج الولد إليه ليستطيع رؤيته.
5. تكون الرؤية على ما جرت به العادة كيومي عطلة الأسبوع أو أكثر وكل ذلك بحسب الاتفاق بين الأبوين.
6. التنبيه على حرمة تلقين المحضون قطيعة الرحم وعقوق الوالدين، والتحذير من منع المحضون من زيارة أرحامه وأقاربه سواء من جهة الأب أو جهة الأم.
7. التعاون الكامل بين الأبوين على كل ما يحافظ على دين المحضون وأخلاقه في هذه الديار، وذلك كالتردد على المساجد والمراكز الإسلامية وحضور الجمع والجماعات وحلقات تحفيظ القرآن.
تاسعاً: وهناك موضوعات أخرى متصلة بالحضانة أرجئ البت فيها لمزيد من الدراسة والتطبيقات العملية في الغرب.(1/192)
قرار 6/15:
موضوعات مؤجلة
واستعرض المجلس موضوعات أخرى تتصل بالأسرة، أرجأ اتخاذ القرار فيها لمزيد من الدراسة، هي على النحو التالي:
1 - الزواج بنية الطلاق.
2 - أثر الهزل في الزواج والطلاق والرجعة.
3 - الزواج المدني والزواج خارج المؤسسات المدنية الرسمية.
4 - الأحكام المتعلقة بمدة الحضانة ونفقتها.
5 - التطليق للضرر والضرار.
ثانياً: التوصيات
يوصي المجلس بخصوص شئون الأسرة تأكيداً لما أصدره من قرارات وتوصيات في هذه الدورة وسابقاتها بما يلي:
1. على القائمين على المساجد والمراكز أن يسعوا إلى الحصول على ترخيص لإبرام عقود الزواج وإعطائها الصفة الرسمية التي تحفظ بها حقوق الزوجين.
2. المرأة التي لا ولي لها كالمسلمات حديثاً يُختار لها ولي يرعى أمر زواجها كإمام مسجد أو مسئول جمعية إسلامية أو من أسلمت على يده أو من تختاره من المسلمين.(1/193)
3. على مجالس التحكيم أن لا تتسرع بإيقاع الفرقة بين الزوجين إلا بعد استنفاد الوسع في الإصلاح، فإن لم يمكن ذلك فعليها أن تأخذ تعهد الطرفين بإعطاء الحقوق المترتبة على هذه الفرقة.
4. على المراكز الإسلامية السعي الحثيث لتحصيل موافقة الجهات الرسمية في أوربا على إعطاء قرارات التحكيم الصادرة عن لجان الإصلاح والتحكيم صفة التنفيذ من الجهات القضائية.
5. التعاون مع مؤسسات البحث العلمي الاجتماعي في الغرب لمعرفة الواقع الحالي للأسرة الغربية عامة والمسلمة خاصة وتقديم حلول عملية من خلال رصد هذا الواقع.
6. أن يضطلع أئمة المساجد ومسئولو المراكز بدور أكبر في التربية الإسلامية والتوجيه للأسرة من خلال المحاضرات والدورات التدريبية قبل وبعد الزواج.
7. أن يسعوا لإنشاء مؤسسات اجتماعية تساعد في الجوانب التالية:
أ. تأهيل الشباب ذكوراً وإناثاً للحياة الزوجية المستقرة من خلال إقامة دورات لتدريبهم وتربيتهم على أصول وقواعد الإسلام في بناء الأسرة.
ب. التحكيم الشرعي لحل المشكلات اليومية للأسرة المسلمة.
ج. دراسة عادات وموروثات بعض المسلمين التي لا تقرها الشريعة الإسلامية واتخاذ التدابير المناسبة لمعالجتها.
8. أن يقوم أئمة المساجد ومسئولو المراكز بالرصد العلمي للحالات التي تعرض عليهم وتقديم بحوث عملية من خلال هذه الظواهر اليومية للأسرة المسلمة تجمع بين فقه النص والواقع معا.(1/194)
ثالثاً: الفتاوى
استعرض المجلس جملة من الاستفتاءات الواردة إليه وأجاب عنها بما يلي:
فتوى رقم 1/15: الزواج من الكتابية
السؤال: أنا مهندس موفد إلى رومانيا للدراسة، وأنا شاب أعزب عمري 32 سنة، وأنا والحمد لله أقيم الصلاة ومحافظ على ديني قدر استطاعتي. وأجد عنتاً شديداً، فلو أني تزوجت امرأة من بلدي الذي قدمت منه فإن السلطات الرومانية ترفض منح الزوجة تأشيرة للإقامة معي مدة دراستي، والحصول على زوجة مسلمة صالحة في رومانيا أمر في غاية الصعوبة، وقد خطبت امرأة مسلمة هنا ولكن أوضاعي المالية كانت سبب رفض تزويجي، ولا أحتمل البقاء أعزب، والمغريات حولي كبيرة. سؤالي هو: هل يجوز لي الزواج من فتاة رومانية خلال مدة دراستي؛ علماً بأن الفتيات الرومانيات على الأغلب لا يحتفظن ببكارتهن بعد سن الخامسة عشرة، ونيتي استمرار الزواج إذا صلح أمرها والتزمت؟ وهل يمكن أن أتزوج منها بغير إذن وليها، حيث إن أباها يرفض تزويجها من عربي أو مسلم؟
الجواب: أباح الله تعالى الزواج من الكتابية المحصنة بقوله عز وجل: {وَالمحصَناتُ من المؤمِناتِ، والمحصَناتُ من الَّذينَ أوتُوا الكِتابَ . . } الآية [المائدة: 5}.(1/195)
والمرأة المحصنة هنا هي العفيفة غير الزانية، كما يقول جمهور المفسرين، والله تعالى نهى عن الزواج بالزانية ولو كانت مسلمة. واتفق الجمهور على أن الزانية المسلمة إن تابت يجوز نكاحها، ويظهر أن الزانية الكتابية كالزانية المسلمة في هذا الحكم، فيجوز الزواج منها إن أقلعت عن الزنا. أما إذا كانت مصرة عليه فلا يجوز الزواج منها. فإن كان الحرج الذي تتعرض له بسبب الإقامة في رومانيا وصعوبة الزواج كما ذكرت، فلا بأس من اختيار فتاة رومانية كتابية، بشرط إقلاعها عن الزنا وأن تستبرئ رحمها بحيضة.
أما الزواج من الفتاة بغير إذن وليها، فهو غير صحيح عند جمهور العلماء إذا كانت مسلمة ووليها مسلم. كذلك جمهور الفقهاء يراعون هذا الشرط في الكتابية عند زواجها من مسلم. وذلك راجع إلى أن موافقة ولي الزوجة كانت عرفاً حتى في غير المجتمعات الإسلامية، وإن كان الحال قد اختلف في المجتمعات المعاصرة لغير المسلمين فصارت أكثر قوانينهم لا تعتبر موافقة الولي شرطاً لصحة النكاح. وعقد الزواج الذي تعقده على رومانية يخضع للقانون الروماني، فإن كانت موافقة وليها ليست شرطاً في ذلك القانون فلا بأس بذلك، وإلا وجب عليك الالتزام به. وفي جميع الأحوال فالنصيحة لك أن تحرص على موافقة أهلها ما أمكن فذلك أولى لدوام الصلة.(1/196)
فتوى رقم 2/15: حكم العقد على امرأة بغرض وثائق الإقامة
السؤال: لدي صديقة إنجليزية مسلمة متزوجة من إنجليزي مسلم بعقد إسلامي لم يسجل في البلدية، ولزوجها المسلم صديق عربي يريد الإقامة في هذه البلاد وليس له حل إلا الزواج من إنجليزية، فعرض زوجها عليها أن تسجل في البلدية بأنها زوجته، وتم العقد المدني وبشهود، فهل هذا الزواج صحيح شرعاً؟ وهل يؤثر على زواجها الأول؟ نرجو الرد لتكرر مثل هذه الحالات من بعض المسلمين في هذه البلاد.
الجواب: عقد الزواج الذي تم في البلدية عقد باطل، ولا يترتب عليه شرعاً شيء من آثار النكاح. وكل ما نتج عنه فهو باطل، وصاحبه عاص آثم، وهنا جميع من شارك في تسهيل أو تتميم هذا العقد وهو يعلم أن هذه المرأة متزوجة مشارك في هذه المعصية، متعد لحدود الله. وفيما ذكر الله عز وجل في المحرم نكاحهن قال: (والمحصَناتُ من النِّساء) [النساء: 24] والمحصنة هنا: المرأة المتزوجة، حرم الله الزواج منها ما دامت متزوجة.
ومن الناس من يظن أن إجراء عقد الزواج في البلدية لا يجعل العقد صحيحاً، فيتساهلون لذلك، ويظنون أن العقد الصحيح هو ما يكون في المسجد أو المركز الإسلامي، وهذا فهم مغلوط فاسد، بل عقد النكاح أينما كان إذا اكتملت أركانه واستوفى شروطه فهو عقد صحيح. وهذا العقد المسئول عنه والذي تم في البلدية لو كان على هذه المرأة وهي غير متزوجة لكان عقداً صحيحاً.
فحيث إن هذا العقد باطل فإن الواجب العمل على إنهائه وإبطاله من الناحية القانونية بأسرع وقت، وعدم الاستمرار على إبقائه، لما يترتب على ذلك من المحذورات الشرعية بسبب صحته من الناحية القانونية، فهو العقد الذي له صيغة الإلزام في نظر القانون.
ولا يجوز التذرع بحاجة شخص إلى الإقامة في هذه البلاد بمثل هذه الذريعة المنكرة التي تستحل بها المحرمات، وتخالف بها الشريعة، وتضيع بسببها الحقوق، وتختلط الأمور. والواجب أن يحذر المسلم من ممارسة مثل هذا العمل الذي يقوم على المخادعة والكذب.(1/197)
فتوى رقم 3/15: حكم العقد المدني بمقابل للإقامة في الغرب
السؤال: أنا تزوجت زواجاً مدنياً بمقابل ولمساعدة شخص مسلم على الإقامة هنا، ولم نتقابل من يومها ولا أعرف عنه شيئاً، ثم تعرفت على شاب مسلم وتزوجنا زواجاً إسلامياً في أحد المراكز، فهل ما قمت به يجوز في الشرع الإسلامي؟
الجواب: لا، لا يجوز ذلك، والزواج الأول وإن كان صحيحاً فصاحبه آثم. أما العقد الذي جرى في المركز فعقد باطل وإن سمي إسلامياً، فليس بإسلامي، ويجب الكف عما استبيح بسبب هذا العقد حتى يتم إنهاء العقد المسجل عند الدولة أولاً بالطلاق الذي يسجل قانوناً أيضاً، ثم يمكن لك وللشخص الذي ترغبين فيه أن تعقدا عقد زواج جديد حيث لا اعتداد بالعقد الذي تم في المركز الإسلامي، لأنك تزوجت شخصاً في الوقت الذي أنت متزوجة فيه من آخر، حتى وإن لم يكن بينك وبين ذلك الشخص الأول غير ورقة الزواج، وقد حرم الله عز وجل ذلك في كتابه حين قال في سياق عد المحرم الزواج منهن: (والمحصنات من النساء) [النساء: 24]، وهن ذوات الأزواج.
والواجب على المراكز والقائمين عليها أن يتقوا الله ولا يقوموا بعقد الزواج إلا بعد التوثق من كون المرأة غير متزوجة في مكاتب البلدية أو في غيرها.(1/198)
فتوى رقم 4/15: حكم زواج المرأة قبل إرسال ورقة الطلاق من زوجها الأول من بلد آخر
السؤال:
ابنتي عربية تزوجت من شاب عربي كان يدرس في هذه البلاد ثم اختلفت معه وغادر البلاد على نية أن يبعث لها بورقة الطلاق، ولم يبعث لها بشيء، وبعد مدة تقدم لها رجل آخر وذهبت معه للشيخ وأجرت عقداً وعاشت معه، ولم تخبر الشيخ بقصة زواجها الأول، فماذا نفعل؟ نحن في مأزق. أفتونا أريحونا أراحكم الله.
الجواب: عقدها على شخص آخر وهي لم تزل في عصمة زوج يجعل عقدها على الآخر باطلاً، وهي فيما صنعت عاصية آثمة، وكذلك كل من علم بأمرها فأقرها عليه من أهلها وهذا الشخص الثاني الذي عقد عليها، هي حرام عليه، وهو حرام عليها، فقد حرم الله تعالى نكاح المتزوجات في كتابه، فقال: (حرمت عليكم أمهاتكم) حتى قال: (والمحصنات من النساء) أي المتزوجات حرم عليكم الزواج منهن. فيجب عليهما الإقلاع عن أي صلة انبنت على هذا العقد، ولو استمرت علاقة الفراش بينهما بعد هذا البيان فهما زانيان، وعليهما التوبة مما كان، ولا تحل له حتى تفارق زوجها الذي هي معه في عقد زواج لا زال قائماً مستمراً، فتعمل على الحصول على الطلاق منه أو الاختلاع أو ترفع أمرها إلى القضاء لتنهي عقد زواجها منه، ثم إن شاءت نكحت هذا الثاني بعد أن تعتد عدة الطلاق من زوجها الشرعي.(1/199)
فتوى رقم 5/15: حق حضانة الأولاد
السؤال: أنا شاب مسلم، لدي طفل من مطلقتي المسلمة التي تعيش مع طفلي في نفس المدينة التي أعيش فيها. وكنت أرى طفلي يوماً في الأسبوع، ثم تزوجت مطلقتي وسافرت بطفلي إلى مدينة أخرى وعندها طالبت بحقي في حضانة ابني لأنها تزوجت وابتعدت بالطفل عني وأنا لم أتزوج (وبحسب ما أعلم أن الحضانة تعود للأب في هذه الحالة)، ومطلقتي وزوجها يقولان لا حق لي في أخذه، وعلي أن آتي بفتوى من جهة شرعية مختصة بالفتاوى تؤكد زعمي بحقي بحضانة ابني وحرمة منع ابني عني، وتؤكد لهم عدم جواز هذا الفعل إلا برضا مني وتنازل عن الحضانة. فأرجو منكم جواباً شافياً عن مشكلتي، فلم أر ابني منذ وقت طويل.(1/200)
الجواب: لا يحل شرعاً أن يُمنع الوالد رؤية ولده لغير سبب، والأصل أن لك الحق في رؤية ابنك وأن تكون قريباً من معرفة أمره والاطلاع عليه والإنفاق عليه. ولا يجوز للأم أن تحجبه عنك دون سبب معتبر شرعاً. هذا لو لم تكن تزوجت، فأما وقد تزوجت فإن حق الحضانة للأم ينتقل عنها، لما ثبت من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص: أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني وأراد أن ينتزعه مني، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنت أحق به ما لم تنكحي" أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم وصححه. فهذا الحديث يجعل الحق للأب في الحضانة، ما لم يتفق مع الأم على ما يكون الأصلح لولدهما، وللعلماء في انتقال حق الحضانة مذاهب كلها تراعي مصلحة الولد، وذلك في انتقال الحضانة إلى أقرب أرحامه من النساء، كالجدة أم الأم، والجدة أم الأب، والخالة، لكونها بمنزلة الأم. وذلك من جهة معنى الأمومة، لكن ليس في هذا الترتيب لزوم شرعي، وللأب أن يأخذه ويرعاه.
وليعلم أنه ليس من حق زوج الأم التدخل في شأن ابنك فليس هذا من شأنه.(1/201)
فتوى رقم 6/15: حق الزوجة من العاطفة و الحب
السؤال: تزوجت رجلاً يكبرني بأكثر من عشرين عامًا، ولم أكن أعتبر فارق السن بيني وبينه حاجزًا يبعدني عنه، أو ينفرني منه، لو أنه أعطاني من وجهه ولسانه وقلبه ما ينسيني هذا الفارق، ولكنه - للأسف - حرمني من هذا كله: من الوجه البشوش، والكلام الحلو، والعاطفة الحية، التي تشعر المرأة بكيانها وأنوثتها، ومكانتها في قلب زوجها.
إنه لا يبخل علي بالنفقة ولا بالكسوة، كما أنه لا يؤذيني. ولكن ليس هذا كل ما تريده المرأة من زوجها. إني لا أرى نفسي بالنسبة إليه إلا مجرد طاهية طعام، أو آلة للاستمتاع عندما يريد الاستمتاع. وهذا ما جعلني أمل وأسأم وأحس بالفراغ، وأضيق بنفسي وبحياتي. وخصوصًا عندما أنظر إلى نظيراتي وزميلاتي ممن يعشن مع أزواج يملأون عليهن الحياة بالحب والأنس والسعادة.
ولقد شكوت إليه مرة من هذه المعاملة، فقال: هل قصرت في حقك في شيء ؟ هل بخلت عليك بنفقة أو كساء؟
وهذا ما أريد أن أسأل عنه ليعرفه الأزواج والزوجات: هل المطالب المادية من الأكل والشرب واللبس والسكن هو كل ما على الزوج للزوجة شرعًا؟ وهل الناحية النفسية لا قيمة لها في نظر الشريعة الإسلامية الغراء؟ إنني بفطرتي وفي حدود ثقافتي المتواضعة لا أعتقد ذلك. لهذا أرجو أن توضحوا هذه الناحية في الحياة الزوجية، لما لها من أثر بالغ في سعادة الأسرة المسلمة واستقرارها.
الجواب: ما أدركته الأخت صاحبة السؤال بفطرتها السليمة، وثقافتها المتواضعة هو الصواب الذي جاءت به الشريعة الإسلامية الغراء.
فالشريعة أوجبت على الزوج أن يوفر لامرأته المطالب المادية من النفقة والكسوة والمسكن والعلاج ونحوها، بحسب حاله وحالها، أو كما قال القرآن {بالمعروف}.(1/202)
ولكنها لم تغفل أبداً الحاجات النفسية التي لا يكون الإنسان إنساناً إلا بها. بل إن القرآن الكريم يذكر الزواج باعتباره آية من آيات الله في الكون ونعمة من نعمه تعالى على عباده. فيقول: {وَمِن آياتهِ أنْ خلَقَ لكم من أنفُسِكم أزواجاً لتَسْكُنوا إليها وَجَعَلَ بينكم مَوَدَّةً وَرَحْمَةً، إنَّ في ذلكَ لآياتٍ لقَوْمٍ يَتَفَكَّرونَ) [الروم: 21]. فالآية تجعل أهداف الحياة الزوجية أو مقوماتها هي السكون النفسي والمودة والرحمة بين الزوجين، وهذه كلها مقومات نفسية لا مادية، ولا معنى للحياة الزوجية إذا تجردت من هذه المعاني وأصبحت مجرد أجسام متقاربة، وأرواح متباعدة.
ومن هنا يخطئ كثير من الأزواج - الطيبين في أنفسهم - حين يظنون أن كل ما عليهم لأزواجهم نفقة وكسوة ومبيت، ولا شيء وراء ذلك. ناسين أن المرأة كما تحتاج إلى الطعام والشراب واللباس وغيرها من مطالب الحياة المادية، تحتاج مثلها - بل أكثر منها - إلى الكلمة الطيبة، والبسمة المشرقة، واللمسة الحانية، والقبلة المؤنسة، والمعاملة الودودة، والمداعبة اللطيفة، التي تطيب بها النفس، ويذهب بها الهم، وتسعد بها الحياة.
والمثل الأعلى في حسن عشرة الزوجة هو النبي صلى الله عليه وسلم. فرغم همومه الكبيرة، ومشاغله الجمة، في نشر الدعوة، وإقامة الدين، وتربية الجماعة، وتوطيد دعائم الدولة في الداخل، وحمايتها من الأعداء المتربصين في الخارج . فضلاً عن تعلقه بربه، وحرصه على دوام عبادته بالصيام والقيام والتلاوة والذكر، حتى أنه كان يصلي بالليل حتى تتورم قدماه من طول القيام، ويبكي حتى تبلل دموعه لحيته.
برغم هذا كله، لم يغفل حق زوجاته عليه، ولم ينسه الجانب الرباني فيه، الجانب الإنساني فيهن، من تغذية العواطف والمشاعر التي لا يغني عنها تغذية البطون، وكسوة الأبدان.(1/203)
قال الإمام ابن القيم في بيان هديه صلى الله عليه وسلم مع أزواجه: "كانت سيرته مع أزواجه: حسن المعاشرة، وحسن الخلق، وكان يُسَرِّب إلى عائشة بنات الأنصار يلعبن معها. وكانت إذا هويت شيئاً لا محذور فيه تابعها عليه. وكانت إذا شربت من الإناء أخذه فوضع فمه موضع فمها وشرب، وكان إذا تعرقت عَرْقًا - وهو العظم الذي عليه لحم - أخذه فوضع فمه موضع فمها. وكان يتكئ في حِجْرها، ويقرأ القرآن ورأسه في حجرها وربما كانت حائضاً. وكان يأمرها وهي حائض فتتزر (تلبس الإزار، لتكون المباشرة من فوق الثياب) ثم يباشرها. وكان يقبلها وهو صائم. وكان من لطفه وحسن خلقه أنه يمكنها من اللعب ويريها الحبشة، وهم يلعبون في مسجده، وهي متكئة على منكبيه تنظر، وسابَقها في السير على الأقدام مرتين، وتدافعا في خروجهما من المنزل مرة. وكان يقول: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي". وكان إذا صلى العصر دار على نسائه، فدنا منهن واستقرأ أحوالهن. فإذا جاء الليل انقلب إلى صاحبة النوبة خصها بالليل. وقالت عائشة: كان لا يفضِّل بعضَنا على بعض في مكثه عندهن في القَسْم، وقل يوم إلا كان يطوف علينا جميعاً، فيدنو من كل امرأة من غير مسيس، حتى يبلغ التي هو في نوبتها، فيبيت عندها"[1].(1/204)
وإذا تأملنا هذا من هديه صلى الله عليه وسلم في معاملة نسائه، نجد أنه كان يهتم بهن جميعاً، ويسأل عنهن جميعاً، ويدنو منهن جميعاً. ولكنه كان يخص عائشة بشيء زائد من الاهتمام، ولم يكن ذلك عبثاً ولا محاباة، بل رعاية لبكارتها، وحداثة سنِّها، فقد تزوجها بكراً صغيرة لم تعرف رجلاً غيره عليه السلام. وحاجة مثل هذه الفتاة ومطالبها من الرجل أكبر حتماً من حاجة المرأة الثيب الكبيرة المجربة منه. وليست الحاجة هنا مجرد النفقة أو الكسوة أو حتى الصلة الجنسية. بل حاجة النفس والمشاعر أهم وأعمق من ذلك كله. ولا غرو أن رأينا النبي صلى الله عليه وسلم ينتبه إلى ذلك الجانب ويعطيه حقه، ولا يغفل عنه، في زحمة أعبائه الضخمة، نحو سياسة الدعوة، وتكوين الأمة، وإقامة الدولة. {لقد كانَ لكم في رَسولِ الله أسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21].(1/205)
فتوى رقم 7/15: حكم ترك صلاة الجمعة أحيانا بسبب العمل
السؤال: أنا مدرس مقيم في بريطانيا لمدة دراسة، وتعاقدت مع إحدى الجهات التعليمية على أن أشرف على امتحانات دورات علمية في تخصصي وعلى أن يطلبوني وقت حاجتهم إلي، وحصل أن طلبوني يوم الجمعة للإشراف على دورة في وقت الصلاة، ولا حل أمامي إلا ترك صلاة الجمعة؛ علماً أن هذا لا يتكرر دائماً، إنما أحياناً. وللعلم وللأمانة أنا محتاج ولست مضطراً، فأرجو أن تفتوني مأجورين.
الجواب: ما دام ذلك يحصل عارضاً من غير ترتيب، ودون أن يقترن به قصد تفويت الجمعة، وما دام الأصل عندك الاجتهاد في عدم التخلف عن الجمعة؛ فلا حرج عليك في التخلف عن الجمعة لمثل السبب المذكور. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "من ترك الجمعة ثلاث مرات تهاوناً بها طبع الله على قلبه" أخرجه أصحاب السنن، وقال الترمذي: "حديث حسن". فحيث لا يوجد هذا الوصف في حالتك واقتضت حاجتك مثل هذا العمل فلا بأس عليك فيه.(1/206)
فتوى رقم 8/15: القرض بالربا لبناء مسجد
السؤال: يوجد لدينا حالياً مبنى من خمسة طوابق يقع فيه المركز الإسلامي إلاّ أنّ هذا المبنى قديم وليس عليه أي طابع من هندسة إسلامية. وقد عزمت إدارة المركز على هدم المبنى وبناء عمارة جديدة بطابع إسلامي متميّز، غير أنّ التكلفة عالية جداً وتقدّر بأربعين مليون كروناً (خمسة ملايين دولار)، واستطعنا إلى الآن وبعد جهد جهيد جمع ربع هذا المبلغ من الجالية، وبما أنّه من الصعب الحصول على هذا المبلغ من أي جهة إسلامية عالمية أردنا أن نستقرضه من البنك بموجب معاهدة مالية مبنية على الربا. وبما أن المجلس أفتى سابقاً بجواز شراء المنازل بطريقة الاستقراض من البنوك التقليدية لعلة الضرورة، فهل يجوز لنا الاستقراض بهذا الطريق بنفس الحجة؟ علماً بأن لدينا المبررات التالية:
1- المركز من أقدم المراكز في البلد ويقع في موقع متميز قريب من مراكز المواصلات العامة، ووجوده بالطابع الإسلامي بمثابة دعوة إلى الإسلام، وذلك بجلب أنظار الناس إليه.
2- هناك عدة مساجد أقيمت بعد هذا المركز في أحياء سكنية وأصحابها من المبتدعة وقد استطاعوا أن يبنوا هذه المساجد بأموال ربوية وهي الآن محط أنظار غير المسلمين إذا أرادوا زيارة المسجد بينما لا يوجد عند أصحاب هذه المساجد أي برنامج للدعوة.
3- إذا لم نبدأ العمل الآن، يسحب منا ترخيص البناء ويصْعُب علينا الحصول على الترخيص مرة أخرى، مع العلم أن تكلفة البناء تزداد يوماً بعد يوم.
الجواب: من المستحسن أن تكون عمارة مركز إسلامي في بلد من بلاد الغرب ذات طابع إسلامي متميز بحيث تستجلب أنظار الناس فيتطلعون إلى معرفة الإسلام وقد يدخل أحدهم في الدين بهذه الطريقة، غير أن هذا الهدف يجب أن يتم بطريقة مشروعة، فإن المساجد أنما تبنى لذكر الله وعبادته، ويجب أن تتسم بيوت الله بالطيب منذ نشأتها؛ فإن الله طيب لا يقبل إلا طيباً. ونرى أن الضرورة منتفية في الصورة التي ذكرت في السؤال للأسباب التالية:(1/207)
1. مبنى المركز الحالي على قدمه يفي بحاجات الناس، فإنه يسع لإقامة الصلوات وعقد اجتماعات بمناسبات دينية وتدريس الأطفال.
2. وجود المركز في مثل مدينة أوسلو ضرورة من الضرورات، ولكنها لا تستدعي بذل هذه الأموال الهائلة بحجة منافسته للمساجد الأخرى التي بنيت بأموال ربوية.
3. أنه لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وهذا كما يتناول الفرد المسلم فإنه يتناول الأمة المسلمة أيضاً؛ إذ هي مطالبة بإقامة شعائر الله في حدود استطاعتها.
وننصح القائمين على المركز المذكور بالبحث عن البدائل المشروعة، مثل تقليص حجم المشروع حتى يكون في حدود استطاعتهم، أو ترميم المبنى الحالي بحيث يصبح ذا طابع إسلامي، أو مواصلة الجهد للحصول على تبرعات من جهات أخرى حتى يكتمل المشروع.(1/208)
ختام أعمال الدورة:
ختم المجلس أعمال دورته الخامسة عشرة بالتأكيد على ما اعتاد أن يوصي به المسلمين المقيمين في بلاد الغرب وذلك بما يلي:
1. أن يراعوا الحقوق كلها، ويعطوا الصورة الطيبة والقدوة الحسنة من خلال أقوالهم وتصرفاتهم وسلوكهم.
2. أن يقوموا بدورهم بالإبداع والابتكار، وتشجيع ذلك على كافة المستويات.
3. أن يبذلوا أقصى الوسع في تنشئة الجيل الجديد - بنين وبنات - تنشئة إسلامية معاصرة، وذلك بتأسيس المدارس والمراكز التربوية والترفيهية لحمايتهم من الانحراف.
4. أن يسعوا جادين لإنشاء شركات ومؤسسات مالية تخلو من المخالفات الشرعية.
5. أن يعملوا على تشكيل هيئات شرعية تتولى تنظيم أحوالهم الشخصية وفق أحكام الشريعة الإسلامية، مع مراعاة الالتزام بالقوانين السائدة.
6. أن يبذلوا وسعهم للحصول على اعتراف الدولة التي يقيمون فيها بالإسلام ديناً، وبالمسلمين أقلية دينية على غرار الأقليات الدينية الأخرى في التمتع بحقوقهم كاملة، وفي تنظيم أحوالهم الشخصية كالزواج والطلاق وفقاً لأحكام دينهم.(1/209)
7. أن يلتزموا ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وأجمع عليه فقهاء الإسلام، من وجوب الوفاء بمقتضيات عهد الأمان وشروط المواطنة والإقامة في البلاد التي يعيشون فيها.
كما يوصي المجلس المسلمين عامة والمقيمين في بلاد الغرب خاصة بالاعتصام بحبل الله، والأخوّة، والسماحة، والوسطية، والتعاون على البر والتقوى، والتزام الحوار الهادئ والأساليب السليمة في معالجة قضايا الخلاف، بعيداً عن مناهج التشدد ومسالك التطرف التي تشوه صورة الإسلام، وتسيء أبلغ الإساءة إلى المسلمين عامة وإلى الأقليات المسلمة خاصة، فيتلقفها خصوم الإسلام والجاهلون به للتشنيع عليه والتخويف منه ومن أهله واستعداء الأمم عليهم، وقد قال الله تعالى:[ادعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكمَةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحسَن] [النحل: 125].
وبعد انتهاء المداولات العلمية للمجلس تقرّر إن شاء الله أن يكون انعقاد الدورة القادمة يوم الاثنين 7-13 جمادى الآخرة 1427 الموافق لـ 3-9 تموز (يوليو) 2006م وأن يكون موضوعها "الفقه السياسي للأقليات المسلمة في أوربا" مع استكمال الموضوعات المؤجلة في شئون الأسرة.
والمجلس في ختام دورته يتقدّم بالشكر الجزيل لكل من أسهم في إنجاح هذه الدورة، وبخاصة الجهات الحكومية في تركيا بما فيها بلدية استانبول، وكذلك مؤسسة الحكمة وشركة كريم لما لقيناه من تسهيلات وجهود مقدرة في تهيئة الظروف المناسبة لعقد هذه الدورة، كما يشكر لهيئة المكتوم الخيرية دعمها المادّي والمعنوي المتواصل الذي تقدّمه للمجلس.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
---------
[1] زاد المعاد، جـ1، ص78، 79، ط. السنة المحمدية.(1/210)
البيان الختامى 16
بتاريخ: 30-7-2008
البيان الختامي
للدورة العادية السادسة عشرة
للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث المنعقدة بمدينة استانبول في تركيا
في الفترة من: 7-13 جمادى الآخرة1427هـ الموافق لـ 3-9 تموز (يوليو) 2006م
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أمّا بعد.
فقد انعقدت بتيسير الله وتوفيقه الدّورة العادية السادسة عشرة للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث بمدينة استانبول بتركيا في الفترة من السابع حتى الثالث عشر من شهر جمادى الآخرة سنة 1427هـ، الموافق للثالث حتى التاسع من شهر تموز (يوليو) سنة 2006م، برئاسة سماحة الشيخ الدكتور العلاّمة يوسف القرضاوي رئيس المجلس وبحضور أغلبية أعضائه وعدد من الضيوف والمراقبين.
افتتحت أعمال هذه الدورة بحفل حضره جمع كبير من المسلمين في مدينة استانبول، ألقى فيه فضيلة المستشار الشيخ فيصل مولوي نائب رئيس المجلس كلمة، تعرَّض فيها إلى تاريخ المجلس ودوره في إيجاد حلول شرعية وسطية لمشكلات المسلمين في المجتمع الأوربي، تلتها كلمة سماحة رئيس المجلس فضيلة العلامة الدكتور يوسف القرضاوي، أبان فيها عن رسالة المجلس الأساسية ومنهجه، وحرصه على مدى دوراته الخمس عشرة الماضية على دفع المسلمين في أوروبا إلى تحقيق التعايش والاندماج الإيجابي الذي لا يعتمد على الترخص والذوبان، بل على الأصول والثوابت مع المرونة في الفروع، وأن منهج المجلس قام على مراعاة فقه التيسير في الفتوى، والذي هو منهج قرآني ونبوي. ثم تناول سماحته المأساة التي تجري اليوم في أرض فلسطين على يد الصهاينة المعتدين، تحت سمع وبصر العالم أجمعين، من قتل للأبرياء من النساء والأطفال وغيرهم، وأبانَ عن الواجب في الإنكار لهذا الاعتداء والظلم.(1/211)
ثم توالت أعمال المجلس لهذه الدورة، حيث بدأت بندوة فقهية حول موضوع (الفقه السياسي للمسلمين في أوروبا)، تناولت المحاور التالية:
المحور الأول: الدين والسياسة بين الإسلام وأوروبا.
تم فيه استعراض البحوث التالية:
1 - الدين والسياسة في الإسلام تأصيلاً ورد شبهات. للدكتور يوسف القرضاوي.
2 - السياسة والدين بين المبادئ والتاريخ. للدكتور سعيد حارب.
3 - موقع الدين في النظم السياسية الأوربية. للدكتور جون بوبرو.
4 - السياسة والدين في ظل العلمانية في أوروبا. للدكتور رفيق عبدالسلام.
المحور الثاني: مراجعات في الفقه السياسي الإسلامي.
تم فيه استعراض البحوث التالية:
1 - تقييم عام للفقه السياسي الإسلامي. للدكتور صلاح الدين أرقه دان.
2 - مراجعات في الفقه السياسي الإسلامي. للدكتور عبدالستار أبو غدة.
3 - تجديد فقه السياسة الشرعية. للدكتور عبدالمجيد النجار.
4 - الشورى بين الأصول الإسلامية ومجريات الواقع. للدكتور أحمد علي الإمام.
5 - التعددية في الفقه السياسي الإسلامي. للشيخ راشد الغنوشي.
6 - المشاركة السياسية لغير المسلمين في المجتمع الإسلامي (القضاء). للدكتور عصام البشير.
7 - الخلافة أو الديمقراطية. للدكتور صهيب حسن.
8 - الشورى والديمقراطية، الوفاق والفراق. للشيخ حسين حلاوة.
المحور الثالث: المسلمون والسياسة في أوروبا.
تم فيه استعراض البحوث التالية:
1 - تأصيل الموقف الشرعي للعمل السياسي للأقليات المسلمة بأوروبا. للشيخ فيصل مولوي.
1 - الآفاق المستقبلية للعمل السياسي للأقليات المسلمة بأوروبا. للأستاذ أحمد رمضان.
2 - حيثيات التغيير النوعي لإدارة المشروع الإسلامي في أوروبا. للدكتور خالد محمود.
المحور الرابع: العمل السياسي للأقليات المسلمة في أوروبا.
تم فيه استعراض البحوث التالية:
1 - أصول الفقه السياسي للأقليات المسلمة بأوروبا. للدكتورة نادية محمود مصطفى.(1/212)
2 - العمل السياسي الإسلامي في تركيا بين مبادئ الإسلام ومقتضيات العلمانية. للأستاذ ياسين أكتاي.
3 - المشاركة السياسية للمسلمين في أوروبا من منظور أوربي. للدكتور أوليفي روا.
المحور الخامس: الضوابط الشرعية والأخلاقية للمشاركة السياسية للأقليات المسلمة.
تم فيه استعراض البحوث التالية:
1 - الأصول والقواعد الشرعية الضابطة للعمل السياسي بأروبا. للدكتور علي القره داغي.
2 - ضوابط الانتخابات للأقليات المسلمة بالغرب. للدكتور صلاح سلطان.
3 - العمل السياسي للأقليات المسلمة بأوروبا بين ضوابط الشريعة ومقتضيات العلمانية. للدكتور أحمد جابالله.
المحور السادس: التكييف الفقهي للمشاركة السياسية للمسلمين في أوروبا.
تم فيه استعراض البحوث التالية:
1 - الولاء السياسي للمسلمين في أوروبا بين المقتضيات العقدية والمقتضيات الوطنية. للشيخ عبدالله بن بية.
2 - تقسيم الدور في النظر الفقهي وأثره في الواقع. للشيخ عبدالله بن يوسف الجديع.
3 - المبادئ الأخلاقية الضابطة للعمل السياسي الإسلامي بأوروبا. للشيخ مصطفى أغلو.
4 - المسلمون في أوروبا ومناصرة قضايا المسلمين، أحكام وضوابط. للشيخ سالم الشيخي.
وقد ألقيت هذه البحوث العلمية، ودارت حولها نقاشات ثرية، وكان من مستخلصاتها الفكرية ما يلي:
أولاً: السياسة في الإسلام، هي: تحقيق مصالح الناس وفق الأحكام الشرعية التي تستنبط من النص أو الاجتهاد، وتشمل الفرد والمجتمع فيما يتصل بشأن الدنيا والآخرة.(1/213)
ثانياً: السياسة جزء من الإسلام الذي يشمل كل جوانب الحياة عقيدة وأخلاقاً ومنهجاً وتشريعاً، في العبادات، أو المعاملات الدولية والدستورية، أو الإدارية والقضائية والاجتماعية والتعليمية. وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين السلطتين الدينية والدنيوية ورسالته صلى الله عليه وسلم مشروع شامل لإصلاح المجتمعات الإنسانية لتحقيق عبادة الله وعمارة الأرض؛ لذا يؤمن المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها بأن هناك مزجاً بين الدين والسياسة لشمولية الإسلام الذي يرفض تجزئة أحكامه.
ثالثاً: الديمقراطية في المنظور الإسلامي جوهرها تأكيد للشورى مع التزام بالثوابت والقطعيات بما يحقق استقرار النظام السياسي الإسلامي، كما تحقق العدالة والمساواة بين كافة المواطنين، والرقابة على أعمال الدولة.
رابعاً: العمل السياسي في الإسلام فرض كفاية وقد يتعين أحياناً؛ لأنه داخل فيما أمر الله به من نشر الخير والدعوة إليه، ومعارضة ما يضر بالمجتمع، وهو يرتكز على قواعد ومبادئ أساسية.
وبناء على ما جرى استعراضه ومناقشته في هذه الندوة، فقد أصدر المجلس ما يلي:(1/214)
أولاً: القرارات
قرار 1/16:
المسلمون مواطنون ومقيمون في أوروبا
مما تحصَّل من بعض الأبحاث التي تناولت موضوع تقسيم العالم إلى (دار إسلام) و(دار حرب) و(دار عهد)، قرر المجلس ما يلي:
أولاً: إن تقسيم الدور في الفقه الإسلامي إلى (دار إسلام) و(دار حرب) و(دار عهد) يعود إلى الصدر الأول وفي سياق حالة الحرب، وهي حالة استثنائية، إذ أن الإسلام يقرر أن الأصل في العلاقة بين المسلمين وغيرهم هو التعايش السلمي.
ثانياً: جميع ما تضمنه الفقه الإسلامي من آثار ذلك التقسيم والأحكام الشرعية التي ترتبت عليه، كان تبعاً للحالة القائمة يومئذ بين الدولة الإسلامية وسائر العالم من حولها.(1/215)
ثالثاً: واقع المسلمين اليوم في الدول الأوربية أنهم يعيشون في بلاد التعددية الدينية والثقافية والإثنية القائمة على السلم المحقق للأمن والكافل للحقوق المشتركة، وهم صنفان:
الأول: مواطنون، قد ضمنت لهم القوانين جميع حقوق المواطنة، ومنها حرية التدين والمحافظة عليه، والتمكين من التعريف به، فهؤلاء عليهم المحافظة على ما يقتضيه عقد المواطنة من التزام قوانين البلاد. وقد قال الله تعالى: )يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أوْفُوا بِالعُقُودِ( [المائدة: 1].
والثاني: مقيمون، وحيث إن طبيعة هذا الصنف أنه لا يمنح الإقامة إلا بتأشيرة الدخول، فهو يدخل في صيغة تعهد وتعاقد توجب التزام قوانين البلاد. وذلك وفاء بالعهد الذي قال الله تعالى فيه: )وَأوْفُوا بِالْعَهْدِ، إنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْئُولاً( [الإسراء: 34].
رابعاً: على المسلمين جميعاً الالتزام بأخلاقيات الإسلام، بما فيها أحكام الحلال والحرام، سواء كانت إقامتهم في بلاد المسلمين أو غيرها.(1/216)
قرار 2/16:
قرار في ولاء المسلم في البلاد الأوربية
بعد استعراض الأبحاث التي تناولت موضوع الولاء وأثره على المسلم المواطن أو المهاجر المقيم في أوروبا، قرر المجلس ما يلي:
أن الولاء رباط وثيق، يربط الإنسان بعلاقة خاصة ووشيجة حميمة، تنشأ عنها التزامات وحقوق وواجبات، وهذه العلاقة ذات أوجه مختلفة، وأبعاد متعددة: فالولاء قد يكون للعقيدة. وقد يكون للنسب والقوم. وقد يكون بالعهد والعقد. وقد أشار القرآن والسنة إلى هذه المعاني جميعاً.
وأعلى هذه الولاءات منزلة الولاء للعقيدة الذي يدخل فيه الإيمان بأركانه، وما يترتب على ذلك من ممارسة الشعائر، والالتزام بالأخلاق الفاضلة. وهذا الولاء لا يتناقض مع الولاء للوطن الذي يرتبط معه الإنسان بعقد المواطنة، فيدافع عن حوزته ضد أي اعتداء.(1/217)
قرار 3/16:
قرار في حكم الإقامة في غير البلاد الإسلامية
تناولت بعض الأبحاث حكم إقامة المسلم في بلاد غير إسلامية، وذلك في ضوء نصوص الكتاب والسنة ومذاهب فقهاء الإسلام، وخلص إلى توكيد فتوى سابقة له في مشروعية الإقامة في غير البلاد الإسلامية، مع إضافة ما يلي:
أولاً: متى وُجد الأمن للمسلم في نفسه ودينه في بقعة من الأرض، ينال فيها حقوقه التي تمكّنه من ممارسة شعائر دينه، دون إضرار به، فإقامته في تلك البقعة تتردد بين أحكام ثلاثة حسب مقتضيات الحال:
الأول: الجواز، وذلك في حالة تساوي إقامته فيها مع إقامته في غيرها.
الثاني: الاستحباب، وذلك في حالة تمكنه من المشاركة الإيجابية في المجتمع والتعريف بمحاسن دينه ومكارم الأخلاق والقيم الفاضلة، بأكثر مما يكون في غيرها.
والثالث: الوجوب، وذلك في حالة ما إذا ترتب على هجرته ضرر أو فساد محقق، وكان قادراً على رفعه ورده.
ثانياً: إن الهجرة من مكان إلى آخر بحسب مفهومها الشرعي ليست مطلوبة شرعاً إلا إذا خاف المسلم على دينه، وأوذي بسبب ممارسة شعائر دينه، وتضرر بذلك في نفسه أو أهله أو ماله.(1/218)
قرار 4/16:
قرار بشأن المواءمة بين التقيد بالثوابت وبين مقتضيات المواطنة
اطلع المجلس على القرار رقم 155 (4/17) المتصل بهذا الموضوع، والصادر عن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته السابعة عشرة، ومما جاء في نص القرار ويؤكد عليه المجلس ما يلي:
"يقصد بالمواطنة: الانتماء إلى دولة معينة أرضاً وواقعاً، وحمل جنسيتها. ويقصد بالثوابت الإسلامية: الأحكام الشرعية الاعتقادية والعملية والأخلاقية التي جاءت بها النصوص الشرعية القطعية، أو أجمعت عليها الأمة الإسلامية، ويشمل ذلك ما يتعلق بحفظ الضروريات الخمس، وهي: حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال".
ومشروعية "إسهام المسلمين في غير الدول الإسلامية في الأنشطة الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية، التي لا تتعارض مع الثوابت المتقدمة، ولا سيما إذا اقتضت المواطنة ذلك، شريطة ألا تهدد هويتهم وشخصيتهم الإسلامية".
وأن "لا يصار في الفتاوى إلى مبدأ الاستثناء بشأن المسلمين في غير الدول الإسلامية، إلا عند تحقق موجبات الضرورة، أو الحاجة، مع الالتزام بالتقدير بقدرهما".(1/219)
قرار 5/16:
المشاركة السياسية أحكامها وضوابطها
بعد تدارس البحوث المقدمة المتعلقة بهذا الموضوع، قرر المجلس ما يلي:
أولاً: هدف المشاركة السياسية هو صيانة الحقوق والحريات والدفاع عن القيم الخلقية والروحية، وعن وجود المسلمين في ذلك البلد ومصالحهم المشروعة.
ثانياً: الأصل مشروعية المشاركة السياسية للمسلمين في أوروبا، وهي تتردد بين الإباحة والندب والوجوب، وهذا مما يدل عليه قوله تعالى: )وَتَعاوَنُوا على البِرِّ والتَّقْوى، وَلا تَعاوَنُوا على الإثْمِ وَالعُدْوانِ( [المائدة: 2]، كما أنه يعتبر من مقتضيات المواطنة.
ثالثاً: المشاركة السياسية تشمل الانخراط في مؤسسات المجتمع المدني والالتحاق بالأحزاب، وتكوين التوجهات، والمشاركة في الانتخابات تصويتاً وترشيحاً.
رابعاً: من أهم ضوابط المشاركة السياسية الالتزام بالأخلاق الإسلامية، كالصدق والعدل والوفاء والأمانة، واحترام التعددية والرأي المخالف، والتنافس النزيه مع المعارضين، وتجنب العنف.
خامساً: من أهم ضوابط المشاركة السياسية: التصويت في الانتخابات، بشرط الالتزام بالقواعد الشرعية والأخلاقية والقانونية، ومنها وضوح المقاصد في خدمة مصالح المجتمع، والبعد عن التزوير أو التشهير، والتجرد من الهواء الشخصية.
سادساً: جواز بذل المال للحملة الانتخابية، حتى لو كان المرشح غير مسلم، ما دام أقدر على تحقيق الصالح العام.
سابعاً: مشروعية المشاركة تنطبق على المرأة المسلمة، كالرجل.(1/220)
قرار 6/16:
مناصرة القضايا العادلة للمظلومين
أولاً: المناصرة هي إعانة المظلومين في الوصول إلى حقوقهم، وتأييدهم على الخلاص والنجاة من الظلم باستعمال الوسائل القانونية والمشروعة، وإغاثتهم بكل ممكن يدفع عنهم الظلم.
ثانياً: مناصرة المسلم لأخيه المسلم واجبة، إمَّا وجوباً كفائياً عندما تتحقق الكفاية بغيره، أو وجوباً عينيًّا عندما لا يكفي غيره لأداء الواجب، ويكون هو قادراً عليها.
ثالثاً: الأصل مشروعية كل وسيلة للمناصرة تحقق المقاصد المشروعة، سواء كانت سياسيةً أو ماليةً أو إعلاميَّةً، وذلك بشروط ثلاثة:
الأول: أن تكون الوسيلة مشروعة في نفسها.
الثاني: أن لا يفضي استعمالها إلى فساد، فلا يحل أن تكون سبباً في الاعتداء على أنفس الأبرياء وأموالهم.
الثالث: أن تكون في إطار القوانين المعمول بها في البلاد الأوربية.
والرابع: أن لا تكون على حساب التفريط بواجبات آكد منها.(1/221)
ثانياً: الفتاوى
فتوى 1/16:
في معاملة مالية
السؤال: لديّ علاقة تجارية مع إحدى الشركات الأوروبية الواعدة التي نشاطها بيع الملابس النسائية الجاهزة، ويملكها شخصان أوربيان، ونحن ممثلون للشركة في منطقة الشرق الأوسط، ونقوم بتسويق منتجاتها في المنطقة، وذلك بإيجاد منافذ للبيع لها داخل السوق العربية. قد عرضت الشركة علينا أن تبيعنا حصة منها بنسبة 25%. ولا يخفى ما فيها من النفع الكبير، وبخاصة أن الشركة تتميز بخبرتها الجيدة في هذا المجال، وجودة صناعتها ومنافستها في السعر. فهل يجوز شراء هذه الحصة؟ علماً بأن شركائي الأوروبيين مصادر أموالهم مختلفة، قد يكون تمويلها بنكياً أو غير ذلك، ولكن بطرق مشروعة قانونياً، حيث يتمتع الشركاء بسمعة طيبة داخل البلد.(1/222)
وفي حالة الدخول في الشركة، فإن علاقتها وطيدة مع البنوك من حيث التسهيلات البنكية من سيولة وغيرها، فهل في هذا حرج في الناحية العملية للشركة؟ علماً بأن نشاط الشركة تصميم وصناعة وبيع الملابس النسائية في هذه الشركة هو بطريقة الفرانشايز وهي كالتالي:
أ- أن تفتح اسم الشركة نظير رسم.
ب - يقدم ضمان بنكي بنصف قيمة البضاعة.
ج - تأجير مساحة مناسبة حسب طلب الشركة.
د - بمواصفات وخبرات محددة.
وبعد ذلك تقوم الشركة بتمويل المعرض بالبضاعة طوال فترة وجود المعرض بمقابل يتمثل بنسبة من المبيعات، وإذا تبقت بضاعة يمكن إرجاعها للشركة الأم، ثم ترسل بضاعة أخرى وهكذا.
علماً بأننا من خلال علاقتنا الجيدة بهم استطعنا تعديل بعض شروط العقد التي كانت تفرض نسبة زيادة في الرسوم في حال تأخر السداد من صاحب المعرض. كذلك كان لعلاقتنا التجارية من الناحية الثقافية أثر كبير في تغيير مفاهيم أصحاب الشركة وموظفيها عن الإسلام والثقافة الإسلامية، وإنا نرجو الله أن يكون ذلك بداية خير معهم.
الجواب:
أولاً: لا مانع من الإسهام في شركة غرضها تجاري - كالشركة المشار إليها - ولو كانت مصادر أموال الشركاء مختلفة ما بين أموال مكتسبة بوجه حلال، أو مقترضة بالفائدة؛ لأن مسئولية الاقتراض الحرام هي على أولئك الشركاء، ولكن يشترط أن لا تكون تلك القروض موثقة برهن على محل المشاركة؛ لأنه بالدخول في الشركة يظل الرهن قائماً، ويكون المساهم الملتزم بالشريعة كفيلاً لذلك القرض المحرم، ومن المعلوم حرمة هذا الاقتراض وحرمة المعونة عليه ولو بالكتابة والشهادة، على أن الرهن والكفالة أشد في المعونة.(1/223)
ثانياً: يجب أن يكون للشريك المسلم السلطة في إدارة الشركة أو ضبط تعاملاتها لتكون متفقة مع الشريعة الإسلامية، ومن ذلك تحويل التسهيلات البنكية بفائدة، إلى الحصول على تمويلات متفقة مع الشريعة، كالشراء بالأجل والسلم ونحوها.
ثالثاً: الدخول في عملية الفرنشايز (نقل الترخيص بالامتياز بمقابل) لا مانع منه شرعاً؛ لأنه من قبيل استئجار حق معنوي، وقد صدر قرار من مجمع الفقه الإسلامي الدولي بأن الحقوق المعنوية يجوز شراؤها واستئجارها. كما أن الالتزام باستخدام الأدوات والآليات والطرق المتبقية من الشركة المانحة للامتياز هو من قبيل التعهد الذي يجب الوفاء به، للمحافظة على مستوى إنتاج الشركة. أما شراء المواد الخام ونحوها من تلك الشركة فهو أيضاً للغرض نفسه، وهو تنفيذ للتعهد نفسه.
رابعاً: إن سعي الشريك الملتزم بتصحيح شروط تعامل الشركة بإلغاء فوائد التأخير ونحوها هو من تغيير المنكر، وهو مأمور به.(1/224)
فتوى 2/16:
في قضية زواج في العدة
السؤال: زوجة لها أبناء واختصمت مع زوجها فطلقها ثلاث تطليقات منفصلات، والزوج في كامل وعيه، وكان الطلاق شفوياً غير مكتوب. وبعد التطليقة الثالثة وقبل انقضاء العدة تزوجت المرأة من زوج آخر زواجاً عرفياً، ومكثت معه مدة ثم طلقها شفوياً أيضاً. ثم حفظاً لأبنائها اتصلت بزوجها الأول وتوافقا على الرجوع إلى بعضهما بزواج جديد، فهل يصح هذا الزواج الجديد، وكيف يكون إتمامه؟
الجواب:
قال تعالى: (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحْسَانٍ)، حتَّى قال: (فَإنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ، فَإنْ طَلَّقَها فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَرَاجَعا إنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [البقرة: 229-230].(1/225)
أما زواج المرأة برجل آخر زواجاً عرفياً وهي في عدتها، فإن هذا الزواج فاسد، حتى لو كان الطلاق ثلاثاً. وعلى هذه المرأة ومن تزوج بها في عدتها أن يستغفرا الله تعالى ويتوبا إليه من هذا الفعل الذي وقع منهما، ولعل ذلك سببه الجهل بالدين الذي يقتضي من أهل العلم والأئمة أن يفقهوا المسلمين في خطبهم ومحاضراتهم في مسائل فقه الأسرة كما هو الحال في فقه العبادات.
فهذه المرأة إذا أرادت أن ترجع إلى زوجها الذي طلقها ثلاثاً فلا بد من أن تتزوج غيره زواجاً صحيحاً، ويدخل بها الزوج الجديد دخولاً حقيقياً، ويكون ذلك بنية الزواج لا بقصد التحليل لزوجها الأول، فإن توفي أو طلقها فيجوز لها بعد ذلك أن تعود إلى زوجها الأول بعقد جديد بعد أن تنتهي عدتها من زوجها الثاني.(1/226)
فتوى 3/16:
حق النساء في حضور المساجد
السؤال: إننا في الجمعية الثقافية العربية في مدينة أرغوس في الدانمارك، لدينا مسجد ضيق، ونحن مقبلون على شهر رمضان، حيث رواد المسجد من الشيوخ والشباب والرجال والنساء، وهذا اضطرنا إلى أن نقيم خيمة ونستأجر حمامات خاصة للنساء مما يسهل مشاركة النساء مع الرجال، ولكن بعض الإخوة اعترض بأنه لا ينبغي أن نكلف أنفسنا ذلك؛ لأن المرأة ليس مطلوباً منها حضور الصلوات في المسجد، وصلاتها في بيتها خير لها. أفتونا بارك الله فيكم.
الجواب:
بل على الجمعية أن تقوم بتوفير مكان للنساء ما دام ذلك ممكناً؛ وذلك لحقهن في حضور صلاة الجماعة والجمعة وصلاة التراويح، والمشاركة في الدروس والمحاضرات التي تلقى في المسجد، وذلك لعدة اعتبارات، منها:
أولاً: نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن منعهن من المسجد حيث قال: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله" متفق عليه. وفيه إثبات حقهن في مشاركة الرجال في المساجد، والأصل في الأحكام التكليفية أن النساء شقائق الرجال، إلا ما استثناه الشارع مراعاة لخصائص كل من الجنسين.
ثانياً: ما جرى عليه العمل في حياته صلى الله عليه وسلم، ومن بعده من عمل المسلمين في عهد الخلفاء الراشدين، فقد كان للنساء يخرجن إلى المساجد ويشهدنها للجماعة والجمعة، وغير ذلك.
ثالثاً: حاجة النساء في البيئة الأوربية إلى أن يكون لهن حقهن من الزاد الروحي والتربوي، وأن يشاركن في دور فاعل في المجتمع المسلم، الأمر الذي لا يتحقق في مكان كما يكون في المساجد. وشهر رمضان موسم عظيم لتحقيق ذلك.(1/227)
فتوى 4/16:
في الذبائح
السؤال: نحن في بلد غربي، ومما لاحظته أنه من المتعارف عليه في هذه البلاد أثناء ذبح الحيوانات في عيد الأضحى حتى من قبل المسلمين، أن الذابح بعد أن يذبح الأضحية بقليل، يدخل السكين ويقطع النخاع الشوكي لكي لا تعذبه الأضحية بحركتها بعد ذبحها، ومما لا شك فيه أن الحيوان تشل حركته تماماً بعد قطع النخاع الشوكي الرقبي منه، وهذه العملية تمنع من خروج الدم بأكبر كمية من جسم الأضحية، فمن الطبيعي أن حركة الحيوان بعد ذبحه تساعد على إخراج الدم من جسمه بأكبر كم ممكن، فما الحكم في ذلك؟
الجواب:
إذا تمّ الذبح مع مراعاة الشروط المطلوبة شرعاً، فلا حرج من أن يقوم الذابح بوخز الحيوان وقطع النخاع الشوكي لتخفيف أو إيقاف حركة المذبوح.
أما خروج الدم من الذبيحة فلا علاقة له بالنخاع الشوكي، وإنما يخرج بتأثير ضربات القلب الذي يستمر في نبضه بعد الذبح بتأثير الجملة العصبية الخاصة بالقلب، وهذه الصفة المميزة هي التي سمحت بنقل القلب من ميت إلى حيّ.(1/228)
فتوى 5/16:
في المكاسب
السؤال: طلبت مني أخت أن أقوم بتعليم النساء، وهي تأخذ منهن أجراً مقابل ذلك، وتدفع لي مبلغاً رمزياً قدره (100 €)، فهل يجوز لي أن أتقاضى منها ذلك مع عدم إعلام الدولة بالأمر؟ لأن الدولة لا تعترف بتعليم اللغة العربية، ولن تقبل ذلك كعمل، مع العلم أني لا أعمل، وأتقاضى راتباً من الدولة. وهل يؤثر في الحكم فيما لو أخذته، وأنفقته في سبيل الله؟
الجواب:
أولاً: لا نعلم دولة غربية تمنع تعليم اللغات، ومنها العربية، بل العكس هو الصحيح حيث يوجد تشجيع عام لتعلم اللغات، واليوم لا تستغني دولة عن ذلك في أجواء العولمة.
ثانياً: لا مانع من العمل لتعليم اللغة العربية، وإذا أخذت أجراً على ذلك فيجب إعلام الدولة، ولا يجوز ملء استمارات البطالة مع وجود عمل، ولو كان الأجر يسيراً. بل الأصل هو الشفافية في التعامل مع النظم في كل القضايا، ومنها المالية، ويوصي المجلس دائماً المسلمين بهذه الشفافية والوضوح، ويؤكد على حرمة الكذب في تقارير البطالة للحصول على المنح من الدولة.
لكن إذا كان المبلغ يسيراً في حدود ما تسمح به الدولة، فلك أخذه.
ثالثاً: إذا كان الأمر كما ذكرت، أنك تنفقين هذا المبلغ في سبيل الله، فلماذا لا تجعلين عملك تطوعاً، وتوجهين صاحبة العمل إلى بذل هذه الهدية أو المكافأة في أبواب الخير التي ترغبين فيها؟ فهذا أسلم لك من الناحيتين الشرعية والقانونية.(1/229)
ثالثاً: التوصيات
يوصي المجلس بما يلي:
1 - أن يعمل المسلمون في أوروبا على إنشاء مراكز أبحاث متخصصة في الفقه السياسي.
2 - السعي إلى التعايش والاندماج في المجتمع الأوروبي اندماجاً سمته محافظة دون انغلاق، وانفتاح دون ذوبان، اندماج يسعى فيه المجتمع لمستقبل مشترك يحقق مصالح الجميع وتحترم فيه كل الأديان والثقافات.
3 - أن يتبنى المسلمون في كل بلد أوروبي أو غربي مشروعاً سياسياً تراعى فيه كل الضوابط الشرعية التي تسعى إلى مصلحة المجتمعات؛ لتحقيق عبادة الله، وعمارة الأرض.
4 - أن يقوم الأئمة وقادة المنظمات الإسلامية بحث المسلمين على المشاركة في الانتخابات التي تجري في الدول الأوربية، وتسجيل أنفسهم في كشوف الناخبين، والتجاوب مع الانتخابات المحلية والعامة.(1/230)
5 - دعوة المسلمين المقيمين في أوروبا إلى التناصح والتشاور فيما بينهم في تقويم مؤهلات المرشحين والتوصية بانتخاب أصلحهم، وذلك من أجل تحقيق أكبر قدر ممكن من الوحدة بينهم، وتجسيد معنى الشورى الذي أمر به الإسلام.
6 - دفع نوابغ الطلاب إلى دراسة القانون والعلوم السياسية حتى يكون منهم ممثلون للمسلمين ولمجتمعهم بشكل حرفي مميز.
كذلك يوصي المجلس المسلمين المقيمين في أوروبا بما اعتاد أن يوصي به ويؤكد عليه:
1 - أن يراعوا الحقوق كلها، وأن يعطوا الصورة الطيبة والقدوة الحسنة من خلال أقوالهم وتصرفاتهم وسلوكهم.
2 - أن يقوموا بدورهم بالإبداع والابتكار، وتشجيع ذلك على كافة المستويات.
3 - أن يبذلوا أقصى الوسع في تنشئة أبنائهم وبناتهم تنشئة إسلامية معاصرة، وذلك بتأسيس المدارس والمراكز التربوية والترفيهية لحمايتهم من الانحراف.
4 - أن يسعوا جادين لإنشاء شركات ومؤسسات مالية تخلو من المخالفات الشرعية.
5 - أن يعملوا على تشكيل هيئات شرعية تتولى تنظيم أحوالهم الشخصية وفق أحكام الشريعة الإسلامية، مع مراعاة الالتزام بالقوانين السائدة.
6 - أن يبذلوا وسعهم للحصول على اعتراف الدولة التي ينتمون إليها أو يقيمون فيها بالإسلام ديناً، وبالمسلمين أقلية دينية على غرار الأقليات الدينية الأخرى في التمتع بحقوقهم كاملة، وفي تنظيم أحوالهم الشخصية كالزواج والطلاق وفقاً لأحكام دينهم.
7 - أن يلتزموا ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وأجمع عليه فقهاء الإسلام، من وجوب الوفاء بمقتضيات المواطنة أو عقد الإقامة، والالتزام بالقانون والنظام العام في البلاد التي يعيشون فيها.
8 - أن يتجنبوا العنف بكل صوره ومظاهره، وأن يكون أسلوبهم الرفق والرحمة والحكمة في التعامل مع الناس جميعاً كما يأمرهم الإسلام، وأن ينكروا على كل من حاد عن هذا الطريق الإسلامي السوي.(1/231)
كما يوصي المجلس المسلمين عامة والمقيمين في أوروبا خاصة بالاعتصام بحبل الله، والأخوّة، والسماحة، والوسطية، والتعاون على البر والتقوى، والتزام الحوار الهادئ والأساليب السليمة في معالجة قضايا الخلاف، بعيداً عن مناهج التشدد ومسالك التطرف التي تشوه صورة الإسلام، وتسيء أبلغ الإساءة إلى المسلمين عامة وإلى الأقليات المسلمة خاصة، فيتلقفها خصوم الإسلام والجاهلون به للتشنيع عليه والتخويف منه ومن أهله واستعداء الأمم عليهم، وقد قال الله تعالى: (ادعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكمَةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحسَن) [النحل: 125].
وانطلاقاً مما قرره المجلس بخصوص نصرة القضايا العادلة، فإزاء ما يجري في فلسطين المحتلة من عدوان وحشي على السكان الأبرياء، وتدمير منظم لمقومات حياتهم، وهدر لكل القيم الإنسانية على يد سلطات الاحتلال، فإن المجلس يعبر باسم المسلمين الأوربيين عن بالغ القلق والاستنكار لهذا العدوان.
ومع ملاحظة التميز لمواقف دول ومؤسسات أوربية، إذ يقدرها المجلس، يرجو أن تكون أكثر حزماً في شجب العدوان وإيقافه ووضع حد للحصار الظالم. ويهيب المجلس بالمسلمين وكل الشعوب الحرة ودول العالم أن يبادروا إلى نصرة شعب فلسطين المنكوب، سياسياً ومالياً، وكسر الحصار الظالم المضروب عليه، وقد قال الله تعالى: (وَتَعاوَنُوا على البِرِّ والتَّقْوى، وَلا تَعاوَنُوا على الإثْمِ وَالعُدْوان) [المائدة: 2].(1/232)
وبعد انتهاء المداولات العلمية للمجلس فقد تقرّر أن يكون انعقاد الدورة القادمة في النصف الثاني من شهر مايو سنة 2007م.
والمجلس في ختام دورته يتقدّم بخالص الشكر الموصول بالدعاء لهيئة المكتوم الخيرية على دعمها المادّي والمعنوي المتواصل الذي تقدّمه للمجلس.
ويشكر للحكومة التركية دورها في تيسير انعقاد هذه الدورة على أرضها، متمثلاً في حسن تجاوبها مع الأمانة العامة للمجلس وتسهيل إجراءات الدخول لأراضيها لأعضاء المجلس.
كما يشكر الأمانة العامة للمجلس وجميع من قام من الإخوة والأخوات في العمل على إنجاح أعمال هذه الدورة من العاملين في جمعية الحكمة وشركة كريم وغيرهم.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(1/233)
البيان الختامى 17
بتاريخ: 30-7-2008
البيان الختامي
للدورة العادية السابعة عشرة
للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث المنعقدة بمدينة سراييفو بدولة البوسنة والهرسك
في الفترة من: 28 ربيع الآخر - 2 جمادى الأولى 1428هـ الموافق لـ 15-19 أيار (مايو) 2007م
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أمّا بعد. فقد انعقدت بتيسير الله وتوفيقه الدّورة العادية السابعة عشرة للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث في مدينة سراييفو - دولة البوسنة والهرسك، في الفترة من الثامن والعشرين من شهر ربيع الآخر حتى الثاني من جمادى الأولى سنة 1428هـ، الموافق للخامس عشر حتى التاسع عشر من شهر أيار (مايو) سنة 2007م، برئاسة سماحة الشيخ الدكتور العلاّمة يوسف القرضاوي رئيس المجلس وبحضور أغلبية أعضائه وعدد من الضيوف والمراقبين.
وحيث إن هذه الدورة وافقت مرور عشر سنوات على تأسيس المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث، فقد جرى افتتاح أعمالها بحفل كبير عقد في (مركز الملك فهد الإسلامي) وشارك فيه إضافة إلى أعضاء المجلس عدد كبير من الضيوف من علماء البوسنة والمشيخة الإسلامية، وعدد من العلماء من بلاد شتى، كما مثل الحكومة البوسنية معالي وزير حقوق الإنسان وشؤون اللاجئين السيد صفوت خليلوفيتش، وحضره ممثلون عن المجموعات الدينية في البوسنة، اليهودية والمسيحية الكاثوليكية والأرثوذكسية، وعدد من ممثلي بعض البعثات الدبلوماسية للدول الإسلامية، وضيوف آخرون من الشعب البوسني.(1/234)
واشتمل الحفل على عدد من الكلمات لبعض الضيوف والحضور رحبت بالمجلس الأوربي للإفتاء والبحوث وأشادت بدوره المهم وإنجازاته للمسلمين خلال السنوات العشر المنصرمة من عمره، من جملتها كلمة لسعادة ممثل الحكومة البوسنية الوزير صفوت خليلوفيتش، وكلمة ترحيبية لسعادة الدكتور عبدالعزيز العقيلي مدير مركز الملك فهد، وكلمة المجامع الفقهية لفضيلة الأمين العام المساعد لمجمع البحوث بالأزهر الدكتور علي عبدالباقي، وكلمة لسعادة رئيس اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا الأستاذ شكيب بن مخلوف، وكلمة الضيوف لفضيلة الدكتور أحمد العسال، ثم كلمة معبرة لفضيلة مفتي البوسنة والهرسك الدكتور مصطفى تسيريتش، كما اشتمل الحفل على بعض الفعاليات المعبرة عن الابتهاج بهذه المناسبة.
وختم بكلمة رئيس المجلس سماحة الإمام العلامة الدكتور يوسف القرضاوي، بين فيه ما للمجلس من دور كبير في تبصير المسلمين في أوروبا بدينهم، وما قدمه خلال السنوات العشر من أعمال لتحقيق هذا الغرض. كما تعرض في كلمته إلى عموم رسالة الإسلام، وما للحوار مع غير المسلمين من الأثر في بناء علاقات تقوم على التعايش السلمي بين المسلمين وغيرهم، خصوصاً أهل الكتاب، الذين يلتقون مع المسلمين في أصل الإيمان بالله، ومبادئ الأخلاق، والعدل. بل دعاهم إلى العمل مع المسلمين في إطار هذه الكليات المشتركة.
ثم توالت أعمال المجلس لهذه الدورة، حيث بدأت بندوة علمية حول موضوع (المسلمون في أوروبا: المواطنة والاندماج)، عُرض فيها ثمانية عشر بحثاً في هذا الموضوع، وتخللت العروض مناقشات وتعقيبات واسعة، وقد توزعت البحوث على خمسة محاور:
المحور الأول: الإطار الشرعي للمواطنة والاندماج.
واستعرض فيه البحثان التاليان:
1 - الإطار العقدي والمقاصدي للمواطنة والاندماج. للدكتور يوسف القرضاوي.
2 - الولاء بين الدين والمواطنة. للشيخ عبدالله بن بية.(1/235)
وانتهت خلاصة البحثين إلى أن مواطنة المسلمين في المجتمع الأوروبي واندماجَهم فيه أمر مشروع من حيث المبدأ، تسعه مقاصد هذا الدين، إذ هذه المواطنة تمثل جسراً بين العالم الأوروبي والعالم الإسلامي مما يعود على العلاقة بين الطرفين بالخير. ولا يتعارض اندماج المسلمين مع مبدأ الولاء والبراء، فهذا إذا ما أعيد إلى معناه الأصلي الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة فإنه لا يكون معارِضاً لمواطنة المسلمين وتفاعلهم مع المجتمع الأوروبي.
المحور الثاني: الواقع الأوروبي مسرحاً للمواطنة.
واستعرضت فيه البحوث التالية:
1 - حقوق الأقليات غير المسلمة في الدولة العثمانية. للشيخ مصطفى ملا أوغلو.
2 - التجربة التاريخية للاندماج من خلال مدرسة الغازي خُسْرَو بك. للدكتور مصطفى تسيريتش.
3 - واقع الوجود الإسلامي بأوروبا. للدكتور محمد الهواري.
شرحت هذه البحوث واقع المسلمين في أوروبا من حيث العدد والنمو والأوضاع العامة، وأن وجودهم يتطور في كيفه نحو الثبات والاستقرار، وأورد البحث الأخير دراسة إحصائية عن عدد المسلمين في أوروبا الذي يبلغ ما يزيد عن 37 مليوناً، وأكد أن الإسلام أصبح حقيقة واقعية أحد مكونات المجتمع الغربي.
وطالب المناقشون بإنجاز المزيد من البحوث العلمية الميدانية الإحصائية للواقع الأوروبي بصفة عامة، ولواقع المسلمين بصفة خاصة، وذلك ليتم تحقيق الاندماج على بينة من معرفة الواقع المراد معالجته، كما قُدِّم في هذا المحور تجربة تاريخية لاندماج غير المسلمين في المجتمع الإسلامي كما تم في الدولة العثمانية، وكما قامت به المدارس الإسلامية في بلاد البلقان، واستخرجت من هذه التجربة ما يمكن أن يُستهدى به في الاندماج المستقبلي.
المحور الثالث: الأهداف المستقبلية للاندماج والمواطنة.
واستعرضت فيه البحوث التالية:
1 - أثر اندماج المسلمين في أمريكا الشمالية. للدكتور جمال بدوي.(1/236)
2 - المواطنة في ديار غير إسلامية بين النافين والمثبتين. للدكتور صلاح سلطان.
3 - الشراكة الحضارية مدخلاً للاندماج. للدكتور عبدالمجيد النجار.
ورأت البحوث المُدرجة في هذا المحور أن الاندماج المعني هو الاندماج الإيجابي. وانتهى بعضها إلى أن هدف المشاركة الحضارية على معنى الانخراط في التنمية الحضارية أخذاً وإعطاءً من شأنه حين يُصبح ثقافة للمسلمين، أن يُيسر الاندماج الإيجابي والمواطنة الصالحة.
وقد أكدت المناقشات والتعقيبات على أن اندماج المسلمين ينبغي أن يكون اندماجاً فاعلاً، يقدمون لمجتمعهم الخير المادي والمعنوي، ولكن سُجلت مداخلاتٌ كثيرة تُظهر قصور المسلمين إلى حد الآن في هذا الشأن، وغفلتهم عن هذا الهدف الذي هو أحد المداخل المهمة للاندماج.
المحور الرابع: قواعد وضوابط الاندماج.
واستعرضت فيه البحوث التالية:
1 - السياسات الأوربية ودورها في اندماج المسلمين (بالإنجليزية). للدكتور مَوْريتس بِيرخَر.
2 - قواعد الاندماج الإيجابي. للشيخ حسين حلاوة.
3 - المسلم مواطناً في أوروبا. للشيخ فيصل مولوي.
ولاحظت البحوث المقدمة في هذا الشأن أن الاندماج موضوع البحث محفوف بالمزالق، وأنه مُعرض إلى أن ينتهي بالذوبان كما حدث في تجارب سابقة للمسلمين؛ لذلك ينبغي أن تُحدَّد للاندماج ضوابط وقواعد تسير به في مساره الوسط المُنتج، وتعصمه من الانعزال أو الذوبان، وقد عرضت البحوث في هذا المحور عدداً من الضوابط والقواعد في ضبط الاندماج، ومنها:
أ - تحديد معنى الاندماج المطلوب، وتحديد محتواه، بحيث يتميز عما يُراد منه من قبل بعض الجهات حيث تعني به الذوبان. وقد دعا في هذا الصدد بعض المشاركين إلى أن يسعى المجلس إلى التحاور مع المؤسسات الأوروبية للاتفاق على مفهوم مشترك للاندماج.(1/237)
ب - أن يكون مُقيّداً بالمحافظة على خصوصية المسلم الممثلة في العقيدة والشعائر والأخلاق والأحكام الشرعية خصوصاً ما كان منها قطعياً، وأن تكون المرونة فيه في سياق ما هو قابل للاجتهاد من أحكام الدين.
ج - أن يتم من خلال احترام القوانين التي تُنظم المجتمعات الأوروبية. وأُشير في هذا الصدد إلى أن هذه القوانين فيها سعة للاندماج الإيجابي ولكنها غير مستثمرة من قبل المسلمين.
د - أن يكون مبنياً على أساس من البحث العلمي للواقع الأوروبي.
هـ - أن يقوم على استثمار الفرص والإمكانات الكثيرة المُتاحة في المجتمع الأوروبي.
و - أن يكون قائماً على أساس من الحوار المستمر مع مُكونات المُجتمع الأوروبي الثقافية والسياسية والاجتماعية.
المحور الخامس: سُبُل الاندماج وآلياته.
واستعرضت فيه البحوث التالية:
1 - المسلمون بأوروبا بين واجب المواطنة وحفظ الهوية. للدكتور أحمد جابالله.
2 - حكم مشاركة المسلمين في مجتمعات الأقليات اجتماعياً وسياسياً. للدكتور حمزة بن حسين الشريف.
3 - الدور الدعوي في تحقيق المواطنة. للشيخ متولي موسى.
4 - دور الحوار في المواطنة والاندماج. للشيخ راشد الغنوشي.
5 - دور الأسرة المسلمة في الاندماج. للشيخ سالم الشيخي.
6 - المواطنة من خلال مبدأ تزكية وإصلاح الجماعة. للدكتور أحمد علي الإمام.
7 - دور المنظمات الإسلامية في الاندماج. للأستاذ شكيب بن مخلوف.
وانتهت البحوث في هذا المحور إلى أهمية القيام بوظيفة الدعوة في تحقيق الاندماج الإيجابي، ونَبّهت إلى أن تكون مراعية لمقتضيات الواقع الأوروبي، مشيرة إلى الأخطاء الكثيرة الحاصلة اليوم في هذا الشأن، ومُوجِّهة إلى وجوب تلافيها.(1/238)
كما نبهت البحوث إلى وجوب تأكيد الاهتمام بالتعريف بدين الإسلام وأسسه وقيمه لدى أهل الغرب؛ توطئة لقبولهم اندماج المسلمين بصفة إيجابية. وأن من أهم آليات الاندماج وأسبابه: تزكيةَ الفرد والجماعة المسلمة؛ وذلك للارتقاء به وبها إلى مستوى المثالية والقدوة في المجتمع الأوربي.
ومن سُبُل الاندماج الإيجابي الاعتناء بالدور المهم لمؤسسة الأسرة، إذ هي المحضن الذي يتربى فيه الفرد على هويته الإسلامية، وعلى العلاقة بمجتمعه الذي يعيش فيه بالتفاعل المثمر. كذلك هي المحضن الأول لتمكين صفة المواطنة الصحيحة المقتضية احترام المُجتمع والسعي في تحقيق مصلحته، مع بذل الجهد في تأهيل الأسرة المسلمة لتقوم بدورها الفاعل في القيام بدور الاندماج الإيجابي.
وتأتي سائر المحاضن المؤثرة في تكوين شخصية المسلم، كالمدرسة الإسلامية، والمركز، والمسجد، والنادي، جميعها في سياق التأهيل لاندماج إيجابي في المجتمع الأوروبي.
كذلك أوردت البحوث وكثير من المناقشات أهمية المنظمات الإسلامية في أوروبا في الاندماج الإيجابي، وذلك بدءًا بالتوعية بالمفهوم الصحيح للاندماج، والتمكين لثقافة "المؤسسة" في المسلم الأوروبي، إذ هذا المجتمع الذي يعيش فيه مجتمع مؤسسي، ولا يمكن الاندماج فيه إلا من خلال هذه الثقافة التي تمكِّن المسلم من التعامل مع المجتمع تعامل المشاركة المنتجة التي هي باب مهم من أبواب المجتمع. ولا يخفى ما للمؤسسات من دور مهم في الانفتاح على المجتمع الأوروبي فيعرَّف من خلالها بالإسلام وقيمه، وتكون جسراً بينه وبين المسلمين في أوروبا، وهذا سبب لتحقيق الاندماج الفاعل.(1/239)
لقد تناولت البحوث السابقة المقدمة في هذه الندوة، وما تخللها من المناقشات والتعقيبات، أغلب جوانب موضوع الاندماج والمواطنة، ومع ذلك فقد بقيت بعض المسائل في هذا الموضوع لم تحظ بما يكفي من البيان، من ذلك مسألة البعد القانوني والفلسفي للاندماج والمواطنة، فلم يزل قابلاً للبحث لتكتمل جميع جوانبه.
ثم تتابعت أعمال هذه الدورة، لتتناول بعض ما ورد المجلس من استفتاءات، وصدرت عنه الفتاوى بخصوصها.
وأعطى المجلس فقرة خاصة للاعتناء بموضوع (الأهِلَّة)، وذلك من أجل إصدار صيغة مناسبة تدفع عن المسلمين في أوروبا العنت وتحد من الاختلاف الذي يتكرر وروده كل عام، خصوصاً في بدء شهري رمضان وشوال، وتم تناول ذلك بأبحاث خاصة في الموضوع، وهي حسب ما يلي:
1 - تعيين أوائل الشهور القمرية بين الرؤية والحساب. للدكتور محمد الهواري.
2 - ثلاث مسائل حول الهلال. للشيخ عبدالله الجديع.
3 - السبب الشرعي لوجوب صيام رمضان: هل هو دخول الشهر أم رؤية الهلال؟ للشيخ فيصل مولوي.
4 - رؤية علمية وتربوية حول رؤية الأهلة. للدكتور صلاح سلطان.
وبناء على ما جرى استعراضه ومناقشته في هذه الدورة، فإن المجلس يصدر ما يلي:(1/240)
أولاً: القرارات
قرار 1/17:
المواطنة ومقتضياتها
تم استعراض ومناقشة عدد من البحوث العلمية في قضية المواطنة، وحيث إن المجلس قد أصدر قراراً سابقاً (قرار 3/16)، فإنه خلص إلى توكيده، مع إضافة ما يلي:
الصواب صحة المواطنة في غير ديار الإسلام سواءٌ للمسلم الأصلي أم المتجنس، وأدلة المانعين إما صحيحة لا تدل على المنع أو أحاديث غير صحيحة لا يعتد بها في الاستدلال الفقهي.
ورأى أن المواطنة لا تخالف الولاء الشرعي، إذ لا يلزم من وجود المسلم في غير ديار الإسلام الالتزام بما يخالف دينه من مقتضيات المواطنة، كالدفاع عنها إذا اعتدي عليها، والأصل أن يكون المسلمون في مقدمة من يدفع الضرر عن بلده، كما لا يحل له أن يشارك في أي اعتداء تقوم به بلده على أي بلد آخر سواء كان إسلامياً أم لا.
ومن واجبات المواطنة التعايش واحترام الآخر، والتزام القيم الأخلاقية كالعدالة والتعاون على الخير، والنصح من خلال القوانين السائدة لإصلاح ما يضر البلاد أو العباد.(1/241)
قرار 2/17:
تحديد مفهوم الاندماج ومقتضياته
مما تحصَّل من الأبحاث والمناقشات التي تناولت موضوعات الدورة، قرر المجلس ما يلي:
إن سياسات "الاندماج" المتبعة في الدول الأوروبية تتراوح بين اتجاهين:
اتجاه يغلّب جانب الانصهار في المجتمع ولو أدّى ذلك إلى التخلي عن الخصوصيات الدينية والثقافية للفئات المندمجة.
واتجاه آخر يرى ضرورة الموازنة بين مقتضيات الاندماج ومقتضيات الحفاظ على الخصوصيات الثقافية والدينية.
ويرى المجلس أن الاتجاه الثاني هو الذي يعبّر عن الاندماج الإيجابي، الذي يجب أن تحدد مقتضياته بوضوح: أن مقتضيات اندماج المسلمين في المجتمعات الأوروبية مسؤولية مشتركة بين المسلمين أفراداً ومؤسسات من جانب، وبقية المجتمع الأوروبي أفراداً ومؤسسات من جانب آخر. وإن من أهم مقتضيات الاندماج التي تُطلب من المسلمين، التي لا حرج فيها عليهم، بل إن الإسلام يحث عليها، ما يلي:
أ - ضرورة معرفة لغة المجتمع الأوروبي وأعرافه ونظمه، والالتزام تبعاً لذلك بالقوانين العامة، في ضوء قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) [المائدة: 1].
ب - المشاركة في شؤون المجتمع والحرص على خدمة الصالح العام، عملا بالتوجيه القرآني: (وافعلوا الخير لعلكم تفلحون) [الحج: 77].(1/242)
ج - العمل على الخروج من وضع البطالة؛ ليكون المسلم فاعلاً منتجاً يكفي نفسه وينفع غيره، عملاً بالهدي النبوي الشريف: "اليد العليا خير من اليد السفلى، فاليد العليا هي المنفقة، واليد السفلى هي السائلة" (متفق عليه من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما).
وإن من أهم مقتضيات الاندماج التي نرجو أن يحققها المجتمع:
أ - العمل على إقامة العدل وتحقيق المساواة بين جميع المواطنين في سائر الحقوق والواجبات، وبالخصوص حماية حرية التعبير والممارسة الدينية، وكفالة الحقوق الاجتماعية وعلى رأسها حق العمل وضمان تكافؤ الفرص.
ب - مقاومة مظاهر العنصرية والحدّ من العوامل المغذية لمعاداة الإسلام، وخصوصاً في مجال الإعلام.
ج - تشجيع مبادرات التعارف الديني والثقافي بين المسلمين وغيرهم بما يحقق التفاعل بين أبناء المجتمع الواحد.
ولتحقيق الاندماج الإيجابي المتوازن:
ـ يدعو المجلس المسلمين إلى العمل على حفظ شخصيتهم الإسلامية دون انغلاق وانعزال أو تحلل وذوبان في المجتمع، وإلى إقامة المؤسسات الدعوية والتربوية والاجتماعية اللازمة لذلك.
ـ ويدعو المجتمعات الأوروبية، وخصوصاً الهيئات المعنية بقضية الاندماج، إلى الانفتاح على المسلمين والتواصل مع المؤسسات الإسلامية، كالمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، لدراسة مقتضيات الاندماج وتيسير السبل المحققة له، بما يفيد المجتمع ويدعم استقراره وازدهاره، وبما يمكّن المسلمين من الحفاظ على هويتهم الإسلامية الأوروبية.(1/243)
قرار 3/17:
تشكيل لجنة لمتابعة ملف الاندماج
قرر المجلس تشكيل لجنة من أعضائه لمتابعة ملف الاندماج سواء للمسلمين أم للجهات الرسمية ومؤسسات المجتمع المدني.
قرار 4/17:
إثبات دخول الشهور القمرية
استعرض المجلس مجموعة من الأبحاث بخصوص هذا الموضوع، وقرر بعد المناقشات المستفيضة ما يلي:
1. أن الحساب الفلكي أصبح أحد العلوم المعاصرة التي وصلت إلى درجة عالية من الدقة بكل ما يتعلق بحركة الكواكب السيارة وبخاصة حركة القمر والأرض ومعرفة مواضعها بالنسبة للقبة السماوية، وحساب مواضعها بالنسبة لبعضها البعض في كل لحظة من لحظات الزمن بصورة قطعية لا تقبل الشك.
2. أن لحظة اجتماع الشمس والأرض والقمر أو ما يعبر عنها بالاقتران أو الاستسرار أو المحاق لحظة كونية تحصل في لحظة واحدة، ويستطيع علم الفلك أن يحسب وقتها بدقة فائقة بصورة مسبقة قبل وقوعها لعدد من السنين، وهي تعني انتهاء الشهر المنصرم وابتداء الشهر الجديد فلكياً. والاقتران يمكن أن يحدث في أي لحظة من لحظات الليل والنهار.
3. يثبت دخول الشهر الجديد شرعياً إذا توافر ما يلي:
أولاً) أن يكون الاقتران قد حدث فعلاً.
ثانياً) أن يتأخر غروب القمر عن غروب الشمس ولو بلحظة واحدة مما يعني دخول الشهر الجديد، وهو قول قال به علماء معتبرون ويتوافق مع الظواهر الفلكية المعتبرة.
ثالثاً) اختيار موقع مكة المكرمة الجغرافي أساساً للشرطين المذكورين.
4. على البلاد الأوروبية أن تأخذ بهذه القاعدة في دخول الشهور القمرية والخروج منها وبخاصة شهرا رمضان وشوال وتحديد مواعيد هذه الشهور بصورة مسبقة، مما يساعد على تأدية المسلمين عباداتهم وما يتعلق بها من أعياد ومناسبات وتنظيم ذلك مع ارتباطاتها في المجتمع الذي تعيش فيه.
5. يوصي المجلس أعضاءه وأئمة المساجد وعلماء الشريعة في المجتمعات الإسلامية وغيرها بالعمل على ترسيخ ثقافة احترام ما انتهى إليه القطعي من علوم الحساب الفلكي عندما يقرر عدم إمكانية الرؤية، بسبب عدم حدوث الاقتران، أن لا يُدعى إلى ترائي الهلال، ولا يقبل ادعاء رؤيته.
6. سيصدر المجلس - إن شاء الله - تقويماً سنوياً يحدد بداية الشهور القمرية ونهايتها استناداً إلى هذا القرار.(1/244)
ثانياً: الفتاوى
فتوى 1/17:
المطلوب لبناء مجتمع إسلامي في بلاد الغرب
السؤال: ما هي الطريقة السليمة للمحافظة على المجموعة المسلمة هنا في قريتنا في الغرب حيث يوجد 3 أشخاص من طلبة العلم لكنّهم غير حريصين على واجبهم بينما الأقلية الإسلامية بما فيها أنا ليس لديها العلم الكافي.
الجواب(1/245)
حول ما نشرعن فضيلة العلامة الإمام يوسف القرضاوي
بتاريخ: 23-9-2008
بسم الله الرحمن الرحيم
بيان
حول ما نشرعن فضيلة العلامة الإمام يوسف القرضاوي
في بعض وسائل الإعلام
في الوقت الذي تعيش فيه الأمة الإسلامية ظرفا من أحلك عصورها وأشدها وطأة على الإسلام والمسلمين إذ تتعرض الأمة لسهام الأعداء من كل حدب وصوب، وبدلاً من أن تتكاتف الجهود لوحدة الصف ولم الشمل وجمع الكلمة تعرّض فضيلة الشيخ الإمام يوسف القرضاوي رئيس المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث خلال الأيام الأخيرة إلى هجوم ظالم من قِبل جهات شيعية متعددة، وذلك بسبب تصريح أدلى به إلى صحيفة مصرية ينتقد فيه الجهود الحثيثة الرامية إلى نشر التشيع في البلاد السنية الخالصة، ومتطرّقا إلى ما يراه من مظاهر البدعة عند بعض الشيعة. ولم تقتصر تلك الهجمة على جهات إعلامية إيرانية شبه رسمية، وإنما شارك فيها أيضا بعض علماء الشيعة الذين يحظون بقدر من الاحترام في العالم السني، منهم الشيخ محمد علي التسخيري، ومحمد حسين فضل الله.
وقد كان فضيلة الشيخ القرضاوي فيما قال يعبّر عن رأي طالما صدع به سابقا ليس في الأوساط السنية فحسب وإنما في الأوساط الشيعية أيضا، وذلك في مقام الحجاج فيما يتعلق بوحدة المسلمين على اختلاف مذاهبهم، وكان بعض منتقديه في هذه الهجمة يسلّم له ببعض ما يقول في مقامات الحجاج من أجل الوحدة الإسلامية المنشودة.(1/246)
وإذ قد عُرف الإمام الشيخ القرضاوي بدفاعه المستميت عن المسلمين كافة على اختلاف مذاهبهم، وعمله الدؤوب على توحيدهم ضمن إطار الأخوّة الإسلامية الجامعة، وانتصاره لقضاياهم العادلة بما في ذلك وقوفه مدافعا عن الجمهورية الإسلامية الإيرانية في صراعها مع قوى الاستكبار العالمي، وعن حزب الله الشيعي اللبناني في مقاومته للأعداء، وتعرّضه لفتاوى مجحفة من قِبل بعض علماء السنة، وإذ لم يكن يعدو ما صرّح به أن يكون غايته حفظ وحدة المسلمين، وتجنيبهم أن يزجّوا بأنفسهم في ساحة جديدة من ساحات الصراع الداخلي بينهم، فإن الأمانة العامة للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث باسم المجلس.
1 _ تشجب ما يتعرض له الشيخ من هجوم ظالم، وتستغرب أن يسهم فيه علماء عُرفوا بعلاقاتهم الطيبة معه، ومنهم أحد نوابه في الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.
2 _ تدعو كل الجهات التي أسهمت في هذا الهجوم على فضيلة الشيخ الإمام إلى الكفّ عن هذا الصنيع احتراما لجهاده في سبيل قضايا المسلمين على اختلاف مذاهبهم، وجهوده العظيمة في خدمة الأمة علما ودعوة ونصرة.
3 _ تدعو إلى أن يؤول الأمر في مثل هذه المواضيع إلى الحوار العلمي الجادّ من قبل كل الأطراف للوصول إلى ما فيه خير الإسلام والمسلمين.
والله الموفق لما فيه الخير
الأمانة العامة(1/247)
[2] الفتاوى الصادرة من المجلس
1- حكم بيع لحم الخنزير
بتاريخ: 16-8-2008
أنا مسلم أعمل في ما يعرف بمحلات الماكدونالدز، وهي محلات تبيع الأطعمة والمأكولات الخفيفة، وفي الواقع فإن هذا المحل يبيع لحوم الخنزير، وكما تعلمون فإنه ليس من السهل أن يجد المرء عملاً آخر يقتات منه، وذلك بسبب ضعف المرتبات، علماً بأن لدي زوجة على وشك أن تضع مولوداً، وأنا الوحيد الذي أعمل من أجل أن أعولها.
كذلك أود أن أشير إلى أن المحل يبيع مأكولات أخرى مثل السندوتشات المحشوة بالبيض أو البيرجر. فهل يتوجب علي أن أترك هذه الوظيفة وأبحث عن غيرها؟
الجواب:
إن اللَّه عز وجل حرم أكل لحم الخنزير بنصوص قطعية صريحة في كتابه، أما بيعه فإنه مما ثبت في السنة تحريمه، فعن جابر بن عبداللَّه رضي اللَّه عنهما أنه سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول عام الفتح وهو بمكة: «إن اللَّه ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام»( ).
فالأصل في هذا العمل المقترن ببيع الخنزير تحريمه بنص حديث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فالواجب عليك أن تبحث عن سبب آخر للرزق، فإن لم تجد عملاً حلالاً ولا مصدراً طيباً لكسب رزقك، فإن كان لا يضر بك أن تطلب من المسؤولين عن العمل أن يعفوك من بيع الخنزير فيجب عليك أن تفعل ذلك، أو تطلب من عامل آخر غير مسلم ممن يعمل معك أن يكفيك هذا الأمر وتعمل أنت فيما سوى ذلك من الأعمال التي ليس فيها حرمة، فإن تعسر عليك كل ذلك فلا بأس باستمرارك في العمل الحالي إذا لم يكن عندك من الدخل ما يقوم بكفايتك، مع بذل الوسع في الحصول على عمل آخر يخلو من الحرام(1/248)
2- حكم الشراء بvisa card
بتاريخ: 16-8-2008
إن بعض البنوك تصدر بطاقات ائتمان مثل الفيزا VISA ، بحيث يشتري حامل البطاقة بواسطتها من الأسواق ما يريد، وفى آخر الشهر يرسل البنك إلى حامل بطاقة فيزا VISA كشف حساب ليسدد ما عليه خلال خمسين يوماً، فإذا سدد قبل نهاية الخمسين يوماً فإنه لا يدفع سوى ما صرفه فعلاً دون أي فائدة ربوية، وإذا تأخر عن الخمسين يوماً فإن البنك يقوم بتحميله فوائد ربوية عن المدة التي تأخرها. ومعظم المسلمين في الغرب يحملون هذه البطاقات، ويشترون بواسطتها، ويسددون قبل نهاية المدة المتاحة، وبذلك لا يستحق عليهم أي فوائد ربوية. والإيجابيات لحامل بطاقة فيزا VISA أنه لا يحمل نقوداً تتعرض للضياع أو السرقة في بلد إقامته أو سفره، ويشتري بواسطتها من معظم دول العالم دون الحاجة لتصريف العملة، وهى قرض حسن لمدة (50) يوماً.
والإيجابيات للبنك الذي يصدر بطاقة فيزا VISA هي أن يأخذ من البائع الذي اشترى منه حامل بطاقة الفيزا VISAنسبة 2% من قيمة المشتريات. ويأخذ فوائد ربوية من حاملي بطاقة فيزا الذين لا يسددون حسابهم خلال الخمسين يوماً.(1/249)
وهناك عرض من أحد البنوك لإصدار بطاقة الفيزا باسم الهيئة الخيرية، بحيث يظهر اسم الهيئة مكان اسم البنك، وبذلك تظهر الهيئة كمصدرة لهذه البطاقة. وإدارياً لا تقوم الهيئة بأي جهد مطلقاً، فالبنك يقوم بكل ذلك.
والإيجابيات للهيئة الخيرية هي أنها تحصل على نسبة كأرباح من البنك كلما استعمل حامل البطاقة بطاقته فيزا VISA، ولا تتحمل الهيئة الخيرية أو حامل بطاقة الفيزا أي مصروفات تجاه هذا المشروع. وكل ما هو مطلوب من الهيئة الخيرية هو تزويد هذا البنك بعناوين متبرعي الهيئة ليرغبهم باقتناء بطاقة فيزا VISA، ومن الممكن أن توزع الهيئة حملاتها البريدية عن طريق البريد الصادر من البنك شهرياً لحملة البطاقات، وبذلك توفر أجور البريد. وعلى حامل بطاقة الفيزا VISA توقيع اتفاقية مع البنك تشير أحد بنوده إلى أن حامل البطاقة VISA عليه دفع فوائد ربوية إذا مضت مدة الخمسين يوماً الممنوحة له ولم يسدد حسابه قبل نهاية تلك المدة.
والسؤال هو: هل يجوز لهذه الهيئة الخيرية أن تكون وكيلاً عن البنك بتسويق بطاقات فيزا VISA وذلك مقابل فرصة لدعم المشاريع الخيرية من ذلك البنك؟
الجواب:
في عدد من البلاد الإسلامية قامت المصارف الإسلامية بإصدار (بطاقة فيزا) شرعية، خالية من الشبهات، بعيدة عن الفوائد واحتمالاتها، كما في (بيت التمويل الكويتي) و(مصرف قطر الإسلامي) و(بنك قطر الدولي الإسلامي) و(شركة الراجحي بالسعودية)، وغيرها من المؤسسات المالية الإسلامية.
وهذه لا حرج في استخدامها بعد أن أجازتها هيئات الرقابة الشرعية في تلك البنوك.
ولكن يبقى السؤال عن وضع هذه البطاقات خارج العالم الإسلامي، وفي البلاد التي لا توجد فيها بنوك إسلامية: ما حكم هذه البطاقات؟(1/250)
والذي عليه الفتوى من أكثر علماء العصر فيما نعلم، هو: إجازة استخدامها للحاجة الماسة إليها مع لزوم تسديد الحساب المطلوب قبل نهاية المدة الممنوحة له، حتى لا تترتب عليه فوائد التأخير، فيدخل في إثم مؤكل الربا. وهو الذي جرى عليه تعامل عامة المسلمين في بلاد الغرب، من غير نكير عليهم من أحد يعتد به. ويشترط فيمن يستخدم هذه البطاقة أن لا يستخدمها إذا لم يكن له رصيد في حسابه.
وإذا كانت الفتوى المعتمدة هي جواز استخدام هذه البطاقات للأفراد، فلا مانع أن تقوم بعض الهيئات الخيرية الإسلامية بالوكالة عن البنك بتسويق هذه البطاقات بين متبرعيها وأن تصدر هذه البطاقات باسمها، بحيث تظهر الهيئة كأنها المصدرة لهذه البطاقة، ما دامت لا تتحمل الفوائد، ولا يترتب عليها أية مسؤولية في ذلك، ولا تتحمل أي مصروفات تجاه هذا المشروع.
وستحصل الهيئة على نسبة مئوية بوصفها أرباحاً من البنك، كلما استعمل حامل البطاقة بطاقته.
فالبنك يستفيد لنفسه، ويفيد الهيئة بإعطائها نسبة معينة من ربحه.
ويشترط فيمن يستخدم هذه البطاقة أن لا يسحب بها أموالاً نقدية إذا لم يكن في حسابه ما يغطيها(1/251)
3- تبرع غير المسلمين لصالح بناء المسجد
بتاريخ: 16-8-2008
بعض الأغنياء ممن لا تخلو أموالهم من شبهة إذا تبرعوا لبناء مسجد كلاً أو بعضاً، فما هو الحكم الشرعي في قبول ذلك منهم؟ ولو تبرعت جمعية أو جهة أخرى من غير المسلمين لصالح بناء المسجد، فهل يقبل منهم ذلك؟
الجواب:
نعم يجوز قبول التبرع من الأفراد أو المؤسسات أو الحكومات مسلمة كانت أو غير مسلمة، حتى ولو غلب على ظننا أنها أموال غير مشروعة من وجهة النظر الإسلامية، إلا إذا كانت محرمة العين مثل الخمر والخنزير، وذلك لأن قبول التبرع منهم بمنزلة قبول الهدية، إذ التبرع نوع منها، هذا عند جمهور الفقهاء، وعندما تنتقل هذه التبرعات إلينا يصبح من الواجب أن تخضع للأحكام الشرعية.
وفي حالة حصول التبرع من غير المسلمين يستثنى من القبول حالتان:
الأولى: ما إذا كان هذا التبرع يؤدي إلى إضعاف ولاء المسلم للإسلام وأهله.
الثانية: ما إذا كان هذا التبرع مشروطاً بما يضر بمصالح المسلمين.(1/252)
4- فوائد البنوك والزكاة
بتاريخ: 16-8-2008
أنا طالب كنت أدرس منذ سنتين في بريطانيا، وكنت أتقاضى منحة دراسية من بلدي عن طريق أحد البنوك، وكما تعلمون فإن البنوك تعطي فائدة بسيطة، ولم أقم في ذلك الوقت بخصم هذه الفائدة من أموالي لأني لم أكن أعرف قيمتها بالضبط، ولا كيفية خصمها، حيث إنها لم تكن ذات قيمة ثابتة، ولقد قمت بالتصرف في كل مالي تقريباً عدا القليل الذي ما يزال بحسابي بالبنك.
? والسؤال هو: هل يجوز لي خصم هذه الفائدة الآن، وكيف يمكنني أن أفعل ذلك؟ وهل يمكنني تقدير قيمة الفائدة وبالتالي خصمها من المال بالعملة المحلية لبلدي؟
? والسؤال الثاني: بخصوص المال المتبقي في حسابي (حوالي 1000 دولار أمريكي) منذ سنتين وهو ثابت القيمة، هل يجوز لي أن أستخرج الزكاة على هذا المال كلما مر عليه الحول، مع العلم بأني أدخر هذا المال لدفع رسوم دخول الامتحانات في بريطانيا في المستقبل.
الجواب:
بالنسبة إلى التصرف بالفائدة، فاجتهد في طلب معرفتها عن طريق حسابك في البنك، فإن تعسر عليك ذلك، فلا بأس أن تقدرها بالتقريب والظن، وتحتاط في ذلك التقدير بما تحسب أن ذمتك قد برئت به، ولا يكلف اللَّه نفساً إلا وسعها، وحين تحدد مبلغ الفائدة فيجب عليك صرفها للفقراء، ولا تنتفع بها لنفسك.
أما ما سألت عنه بخصوص الزكاة على المبلغ المذكور، فإن نصاب المال هو ما يعادل (85) غراماً من الذهب الخالص والذي يعلن عنه عادة في الصحف وأسواق المال، فإذا بلغ مالك قيمة النصاب المذكور ومرت عليه في حسابك سنة وجبت عليك فيه الزكاة. والظاهر من السؤال أنه لا زكاةَ عليه، حيثُ إن المبلغ المدخر مرصود لحوائجه الأصلية.(1/253)
5- هل يجوز دفع الزكاة على دفعات ؟
بتاريخ: 16-8-2008
يجوز لنا أن نجمع الزكاة من المسلمين المقيمين في هذه البلاد، ثم نقوم بعد ذلك بتوزيعها على المستحقين في صورة دفعات تستمر لسنة كاملة، وليس على دفعة واحدة في حالة معرفتنا أنه قد ينفد المال الذي يصل إلى المستحق ثم يحتاج ولا يجد من يعاونه، أو أنه يحتاج إلى هذا المال في مواسم معينة؟
الجواب:
نعم يجوز جمع أموال الزكاة وحبسها لتعطى إلى الفقراء على شكل دفعات بحسب ما يتناسب مع حاجتهم، حتى المزكي نفسه يمكنه أن يفعل ذلك إذا رأى مصلحة الفقير فيه، لكن عليه أن يعزل ذلك المال من سائر ماله وأن لا ينتفع به انتفاعاً خاصاً(1/254)
6- هل تجوز الصلاة على الغائب ؟
بتاريخ: 16-8-2008
كثيراً ما يحدث عندنا أن ينقل إلينا خبر وفاة شخص ما في أحد الأقطار الإسلامية فيطلب منا أن نصلي عليه صلاة الغائب، وذلك ابتغاء للأجر، وقد تكرر هذا الأمر كثيراً، فاعترض علينا بعض الإخوة بعدم جواز هذه الصلاة، وذلك لأن المتوفى قد صُلي عليه في بلده، ولأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يثبت عنه أنه صلى على ميت صلاتين، وبناءً على ذلك يكون عملنا من قبيل الابتداع في دين اللَّه تعالى.
فسؤالنا هو: هل يجوز لنا أن نصلي صلاة الغائب على شخص قد صليت عليه صلاة الجنازة في بلده؟
الجواب:
لا خلاف بين أهل العلم أن الأصل في صلاة الجنازة أن تكون على ميت حاضر، وأن توضع بين يدي الإمام والمصلين معه، كما ثبت ذلك في السنة القولية والفعلية والتقريرية. فأما الصلاة عليه وهو غائب فقد ثبتت أحاديث صحاح مشهورة متفق عليها: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على النجاشي حين مات بأرض الحبشة، فنعاه إلى المسلمين وقال: «قد توفي اليوم رجل صالح من الحبش، فهلم فصلوا عليه»، قال جابر بن عبداللَّه: فصففنا، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم عليه ونحن صفوف. وفي رواية قال: «إن أخاً لكم قد مات، فقوموا فصلوا عليه»( ).
والصلاة على الميت دعاء ورحمة، ينتفع بها الغائب كما ينتفع بها الحاضر، وهذا معنى صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي وهو غائب، وهو مذهب الشافعية والمعتمد عند الحنابلة.
ولا يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على النجاشي لأنه لم يصل عليه أحد، فإنه لم يأت في الأحاديث أنه لم يصل عليه أحد، بل عللت الصلاة عليه بكونه رجلاً صالحاً، ولم تعلل بكونه لم يصل عليه أحد.(1/255)
7- من تصح إمامته ؟
بتاريخ: 16-8-2008
هل يجوز أن يؤم المسلمين في الصلاة رجل عنده بعض المخالفات الشرعية؟
الجواب:
نقول: من صحت صلاته لنفسه صحت صلاته بغيره، والأصل في أدب الإمامة قول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب اللَّه، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سناً، ولا يَؤُمَّنَّ الرجلُ الرجلَ في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه»( ).
والمخالفات الشرعية لا تمنع من صحة الصلاة، ومن اعتقاد أهل السنة أنهم يرون الصلاة خلف كل بر وفاجر من المسلمين، على أن أكثر ما يعده الناس من المخالفات في أئمة الصلاة هي مما يعود إلى الاجتهاد، وليست من المخالفات المقطوع بها من دين الإسلام، كالصلاة خلف من نزل ثوبه أسفل من كعبيه، ومن يحلق لحيته، إلى نحو ذلك من المسائل التي يتأول فيها الناس وتختلف بها الفتوى، فهذا النمط من المسائل لا يجوز في مثله الإنكار على المخالف، وإنما يمكن مذاكرته أو مناصحته، ولعلك تجد عنده من العلم بتلك المسألة ما ليس عندك، وإذا قلنا: لا يجوز في مثل هذا الإنكار فمن الأولى أن نقول: تصح الصلاة خلفه.(1/256)
8- هل الكلاب طاهرة ؟
بتاريخ: 16-8-2008
دائماً ما نتعرض للنقد الشديد من الأوروبيين الذين يقتنون الكلاب، لأننا نخاف من نجاستها أن تصيب ثيابنا أو ما إلى ذلك، والسؤال: هل هناك مذهب فقهي يقول بطهارة الكلاب يرفع عنا الحرج؟
الجواب:
نعم مذهب الإمام مالك بن أنس طهارة الكلاب، وأبدانها طاهرة في الأصح عند الحنفية، وإنما النجاسة مقصورة على رطوبة الفم وما يخرج من فضلاتها(1/257)
9- الحجاب والمرأة التى دخلت فى الإسلام ؟
بتاريخ: 16-8-2008
إذا كانت المرأة التي دخلت في الإسلام تشعر بحرج ومشقة من استعمال غطاء الرأس الشرعي (الخمار) فهل نلزمها بذلك ونشدد عليها، وإن أدى ذلك في النهاية إلى أن تبتعد نهائياً عن الإسلام؟
الجواب:
يجب علينا أن نقنع المسلمة بأن تغطية رأسها فريضة دينية، أمر بها اللَّه تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمعت عليها الأمة، قال اللَّه تعالى: ?وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن، ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها، وليضربن بخمرهن على جيوبهن? [النور: 13]. وقال سبحانه: ?يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يُدْنين عليهنّ من جلابيبهنّ، ذلك أدنى أن يُعْرَفْنَ فلا يُؤْذَيْنَ? [الأحزاب: 59]. فقد أوجب اللَّه هذا الاحتشام والتستر على المسلمة حتى تتميز عن غير المسلمة، وعن غير المتدينة، فمجرد زيها يعطي انطباعاً أنها امرأة جادة مستقيمة، ليست لعوباً ولا عابثة، فلا تؤذي بلسان ولا بحركة، ولا يطمع فيها الذي في قلبه مرض.
ويجب علينا أن نحوطها بأخواتها المسلمات الصالحات، حتى تتخذ منهن أسوة، كما يجب علينا أن نأخذها بالرفق لا بالعنف، فإن اللَّه يعطي على الرفق ما لا يعطى على العنف.(1/258)
ومع أن لبس الخمار أو غطاء الرأس أو الحجاب - كما يسمى اليوم - فريضة على المسلمة، ولكنه يظل فرعاً من فروع الدين، فإذا كان التشدد في شأنه، والتغليظ على المرأة من أجله سينفرها من الدين بالكلية، ويجعلها تهجر الدين أساساً، فليس من الشرع أن نضيع أصلاً بسب فرع، فكيف بأصل الأصول كلها، وهو الإسلام ذاته؟
إن فقه الموازنات يوجب علينا أن نسكت عن هذا المنكر مخافة وقوع منكر أكبر منه، وهذا مبدأ معروف ومقرر شرعاً.
ومع سكوتنا على هذا المنكر فلا نيأس من عودة هذه المسلمة إلى الطريق المستقيم، سائلين اللَّه لها الهداية والتوبة، معاملين لها بالحسنى، ولا سيما أن هذا المنكر وإن كان حراماً بلا شك فهو من الصغائر وليس من الكبائر، إذ الكبيرة هنا هي الزنى، وكل هذه المحرمات إنما هي مقدمات إلى الكبيرة، والصغائر يتسامح فيها ما لا يتسامح في الكبيرة، كما قال تعالى: ?إن تجتنبوا كبائرَ ما تُنْهَوْنَ عنه نُكَفِّرْ عنكم سيئاتِكم وندخِلْكم مُدْخَلاً كريماً? [النساء: 31].(1/259)
كذلك الصلاة على من صُلّي عليه مشروعة أيضاً، كما ثبت عن يزيد بن ثابت أخي زيدٍ قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فلما وردنا البقيع إذا هو بقبر جديد، فسأل عنه، فقيل: فلانة فعرفها. فقال: «ألا آذنتموني بها »؟ قالوا: يا رسول اللَّه كنت قائلاً( ) صائماً، فكرهنا أن نؤذيك. فقال: «لا تفعلوا، لا يموتن فيكم ميت ما كنت بين أظهركم إلا آذنتموني به، فإن صلاتي عليه رحمة» ثم أتى القبر، فصففنا خلفه، وكبر عليها أربعاً( ).
فرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كرر الصلاة على ميت بعد دفنه بعد أن صلى عليه أصحابه.
فخلاصة الذي نراه جواز الصلاة على الغائب ما لم يتخذ عادة، واتخاذه عادة غير مشروع فإن الأمة لم تعرف الصلاة على كل ميت غائب، إنما كانوا يفعلون ذلك لمن كان له اعتبار خاص عند المسلمين، كالنجاشي لما له من نصرة المسلمين الذي هاجروا إليه للحبشة، وكالمرأة السوداء التي كانت تنظف مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لما لها من المعروف للمسلمين( ).
ونذكر إخواننا بأن هذه المسألة من مسائل الخلاف، فلا ينكر فيها على المخالف ولا يصح وصفها بالبدعة.(1/260)
10- هل يلزم المسلم أو المسلمة الجديدة اتباع مذهب فقهى معين ؟
بتاريخ: 16-8-2008
هل يلزم المسلم أو المسلمة الجديدة اتباع مذهب معين من مذاهب الفقه المعروفة: حنفي أو مالكي أو شافعي أو حنبلي؟ وإذا لزِمَ ذلك فهل يجوز له أو لها اختيار المذهب الفقهي كما يريدان؟ وماذا عن مذهب المرأة، هل تُلزَم عند الزواج باتباع المذهب الفقهي للزوج؟
الجواب:
اتباع مذهب من المذاهب الفقهية (الأربعة أو غير الأربعة) ليس بلازم ولا واجب شرعاً، إذ لا واجب إلا ما أوجبه اللَّه تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يوجب اللَّه ولا رسوله اتباع أبي حنيفة أو مالك أو غيرهما. إنما أوجب اتباع الكتاب والسنة، فهما المصدران المعصومان اللذان لا يضلان ولا يخطئان، وكل أحد بعد ذلك يؤخذ من كلامه ويترك.
وقد ثبت أن الأئمة المتبوعين أنفسهم نهوا عن تقليدهم.
على أنه من المقرر لدى الفقهاء: أن العامي لا مذهب له، وإنما مذهبه مذهب من يفتيه.
ويراد بالعامي: من لم يبلغ درجة النظر في أدلة الأحكام، والقدرة على الموازنة بينها، ومعرفة قويها من ضعيفها، فهذا ليس له مذهب، لأن اختيار مذهب يعنى ترجيح أصوله على أصول غيره، وهذا لا يقدر عليه إلا العالم المتمكن الذي بلغ درجة النظر والترجيح. وأما من عداه فهو العامي الذي قالوا: إن مذهبه مذهب من يفتيه من العلماء، فكلما عرضت له قضية يجهل حكمها سأل عنها أي عالم من علماء الشرع المعتبرين، فأفتاه بحكمها وفق اجتهاده إن كان مجتهداً، أو وفق مذهبه إن كان مقلداً، فعلى السائل أن يأخذ بفتواه ويتبعه فيما أجابه فيه، كما قال تعالى: ?فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون? [النحل: 43]، وقال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في شأن قوم: «ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العِيّ السؤال»( ).(1/261)
11- هل يفسر القتل بأنه مصادرة لحرية الاعتقاد؟
بتاريخ: 16-8-2008
أحد الذين أسلموا من البولون، سأله أحد الخبثاء الملحدين عن عقوبة المرتد في دين اللَّه تعالى، فبماذا يجيب؟ وهو يفسر القتل بأنه مصادرة لحرية الاعتقاد.
الجواب:
قضية قتل المرتد من مهام الدولة، ويعود تقديره إلى الحكومة الإسلامية، وليست المؤسسات والجمعيات والمراكز الإسلامية معنية بذلك، وقد ذهب جماعة من السلف والأئمة إلى أنه ليس كل مرتد يقتل، وإنما يقتل من كان مجاهراً بردته أو داعياً إلى فتنة أو معلناً بأذى اللَّه ورسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وقتله من أجل حماية الدين والمجتمع من فساده، وليس ذلك من مصادرة الحريات لما في فعله من التعدي على حق غيره، ومصلحة الدولة والمجتمع مقدمتان على المصلحة الفردية الذاتية، وهذه القضية في الحقيقة شبيهة بما يصطلح عليه في القوانين المعاصرة بـ(الخيانة العظمى) بسبب ما يترتب على ذلك من الضرر العام.(1/262)
12- ماذا يفعل مثلي كي يطهر نفسه؟
بتاريخ: 16-8-2008
أنا شاب مسلم جئت إلى ألمانيا ملتزماً، والتزمت بالإسلام عدة سنوات، ولكني انزلقت بعد ذلك في مستنقع الرذيلة، فاتخذت صاحبة، وضاجعتها مرات ومرات، ووصل بي الأمر إلى أن شربت الخمر التي حرمها اللَّه تعالى.
والآن ومنذ بداية شَهر رمضان المبارك، عزمت على تجديد التوبة، وشمرت عن ساعد الجد، ووفقني اللَّه تعالى في ذلك، فإذا بي أصلي وأصوم، وأسأل المولى تعالى أن تكون هذه التوبة توبة نصوحاً.
والآن وبعد هذه التوبة وددت لو أطهر نفسي من الرذيلة، أعني وددت لو أن هناك خليفة للمسلمين يقيم حد اللَّه على ظهري، فتطهر نفسي، ويزكو قلبي.
وما يؤرقني ويقض مضجعي أنني قد زنيت مرات ومرات، فماذا يفعل مثلي كي يطهر نفسه؟
الجواب:
نحييك على هذه الروح الطيبة والتوبة الصادقة، وذلك كاف إن شاء اللَّه لتطهيرك من آثار الخطيئة، واجتهد لئلا تعود إلى ذلك أبداً، واللَّه يوفقك، وأما إقامة الحد فليس بواجب عليك، وإنما يكفيك أن تستتر بستر اللَّه ولا تحدث بذلك الذنب، مع ملازمة ما ذكرت من التوبة والعمل الصالح.(1/263)
13- من هى الفرقة الناجية ؟
بتاريخ: 16-8-2008
نرجو من أعضاء المجلس الموقر أن يتعرضوا بالشرح لتوضيح مسألة الفرقة الناجية الواردة في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، وذلك لما ابتلي به المسلمون هنا من ادعاء طائفة من الناس بأنها هي الفرقة الناجية، وأن باقي المسلمين هلكى، وقد شاعت هذه الفتنة وانتشرت، ولا شك أن بيان المجلس في هذا الشأن له قيمته ووزنه.
الجواب:
المقصود به حديث معاوية بن أبي سفيان، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: «إن أهل الكتاب افترقوا في دينهم على اثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة، كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة»( ).
وروي كذلك عن آخرين من الصحابة، وفي أكثر الروايات (فرقة) بدل (ملة)، كما أن في بعضها عدم ذكر (كلها في النار إلا واحدة)، واختلف علماء الحديث في صحته، وجوابنا عن معناه على مذهب من صححه كما يلي:
ذكر الحديثُ الافتراقَ على العدد المذكور ولم يعين فرقة من تلك الفرق، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم جميع تلك الفرق من أمته، وكأنه عليه الصلاة والسلام قصد إلى التحذير من التفرق بعده وأمر بالاعتصام بالجماعة، فجاء الوعيد (كلها في النار) لذلك، وورود الوعيد بالنار على عمل يواقعه المسلم من الأعمال غير الصالحة لا يعني الخلود فيها كما يخلد الكفار، بل يدخلونها كما يدخلها عصاة الموحدين، وقد يشفع لهم شفيع من الأنبياء أو الملائكة أو آحاد المؤمنين، وقد يكون لهم من الحسنات الماحية والمحن والمصائب المكفرة ما يدرأ عنهم العذاب، كما قد يعفو اللَّه تبارك وتعالى عنهم بفضله وكرمه، لا سيما إذا كانوا قد بذلوا وسعهم في معرفة الحق ولكن لم يوفقوا فيه فأخطأوا الطريق، وقد وضع اللَّه عن هذه الأمة الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه.(1/264)
14- حكم جمع الزكاة وتوزيعها بواسطة المؤسسات الخيرية
بتاريخ: 16-8-2008
تدارس المجلس هذا الموضوع وانتهى إلى مشروعية تحصيل هذه المؤسسات للزكاة من أصحابها وصرفها في مصارفها الثمانية أو من وجد منهم، لا سيما أن المسلمين مأمورون بتنظيم حياتهم ولو كانوا ثلاثة كما جاء في الحديث النبوي: «إذا كنتم ثلاثة في سفر فأمّروا أحدكم»، وأن ذلك من التعاون على البر والتقوى. كما أنّه إحياء لركن من أركان الإسلام لا يتوقف على وجود الخليفة لقوله تعالى: ?فاتقوا اللَّه ما استطعتم?، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم». فإذا لم نستطع إقامة الخلافة واستطعنا أداء ما يخصنا من فرائض وواجبات فعلينا أن نؤديها كما أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. وسقوط بعض الواجبات عنا للعذر لا يكون سبباً في إسقاط الكل. وقد كان المسلمون في العهد المكي يؤتون الزكاة التي وصف الله بها المؤمنين والمحسنين في كتابه الكريم في السور المكية وذلك قبل قيام دولة المدينة (ونعني بها الزكاة المطلقة، قبل تحديد الأنصبة والمقادير).(1/265)
15- حكم الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء
بتاريخ: 16-8-2008
حكم الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء لتأخر وقت العشاء أو انعدام علامته الشرعية في بعض البلاد
انتهى المجلس إلى جواز الجمع بين هاتين الصلاتين في أوروبا في فترة الصيف حين يتأخر وقت العشاء إلى منتصف الليل أو تنعدم علامته كلياً، دفعاً للحرج المرفوع عن الأمة بنص القرآن، ولما ثبت من حديث ابن عباس في صحيح مسلم «أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء من غير خوف ولا مطر. قيل لابن عباس: ما أراد إلى ذلك؟ قال: أراد ألا يحرج أمته».
كما يجوز الجمع في تلك البلاد في فصل الشتاء أيضاً بين الظهر والعصر لقصر النهار وصعوبة أداء كل صلاة في وقتها للعاملين في مؤسساتهم إلا بمشقة وحرج.
وينبه المجلس على أن لا يلجأ المسلم إلى الجمع من غير حاجة، وعلى أن لا يتخذه له عادة(1/266)
16- اللحوم المعروضة فى الأسواق الأوروبية
بتاريخ: 16-8-2008
الحكم الشرعي في لحوم الأنعام والدجاج المعروضة في الأسواق والمطاعم الأوروبية
ناقش المجلس باستفاضة تامة هذا الموضوع الهام الذي أثار كثيراً من الجدل والخلاف حول مدى شرعيته، وتوصل إلى ضرورة حرص المسلمين على الالتزام بشروط التذكية كما جاءت بها الشريعة الإسلامية، إرضاءً للرب سبحانه، ومحافظة على شخصيتهم الدينية مما تتعرض له من أخطار، وصوناً لأنفسهم من تناول المحرمات.
وبعد استعراض طرائق الذبح المتبعة وما يتضمنه الكثير منها من مخالفات شرعية تؤدي إلى موت عدد غير قليل من الحيوانات، لا سيما الدجاج فقد قرر المجلس عدم جواز تناول لحوم الدجاج والأبقار، بخلاف الأغنام والعجول الصغيرة فإن طريقة ذبحها لا تتنافى مع شروط الذكاة الشرعية في بعض البلدان. هذا ويوصي المجلس أن يتخذ المسلمون في ديار الغرب مذابح خاصة بهم حتى ترتاح ضمائرهم ويحافظوا على شخصيتهم الدينية والحضارية. ويدعو المجلس الدول الغربية إلى الاعتراف بالخصوصيات الدينية للمسلمين ومنها تمكينهم من الذبح حسب الشريعة الإسلامية أسوة بغيرهم من الجماعات الدينية الأخرى كاليهود. كما يدعو الدول الإسلامية إلى استيراد اللحوم الحلال التي تخضع لمراقبة شرعية من قبل المراكز الإسلامية الموثوق بها في ديار الغرب.(1/267)
17- إثبات الشهور القمرية، وخصوصاً شهر رمضان
بتاريخ: 16-8-2008
- إثبات الشهور القمرية، وخصوصاً شهر رمضان للدخول في الصيام وشهر شوال للخروج منه، وهل للحساب الفلكي دخل فيه.
وقد خلص المجلس بعد استعراض الأبحاث المقدمة والمداولة المستفيضة بشأنها إلى القرار التالي:
يثبت دخول شهر رمضان أو الخروج منه بالرؤية البصرية، سواء كانت بالعين المجردة أم بواسطة المراصد، إذا ثبتت في أي بلد إسلامي بطريق شرعي معتبر، عملاً بالأمر النبوي الكريم الذي جاء به الحديث الصحيح: «إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا» و«صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته».
وهذا بشرط ألا ينفي الحساب الفلكي العلمي القطعي إمكان الرؤية في أي قطر من الأقطار. فإذا جزم هذا الحساب باستحالة الرؤية المعتبرة شرعاً في أي بلد، فلا عبرة بشهادة الشهود التي لا تفيد القطع، وتحمل على الوهم أو الغلط أو الكذب، وذلك لأن شهادة الشهود ظنية، وجزم الحساب قطعي، والظني لا يقاوم القطعي، فضلاً عن أن يقدم عليه، باتفاق العلماء.
ويؤكد المجلس هذا، أنه لا يعني بالحساب الفلكي: علم التنجيم المذموم والمرفوض شرعاً، كما لا يعني به المدون في (الرزنامات) المعروفة في البلاد الإسلامية، كما قد يتوهم بعض أهل العلم الشرعي. إنما نعني بالحساب: ثمرة علم الفلك المعاصر القائم على أسس رياضية علمية قاطعة، والذي بلغ في عصرنا مبلغاً عظيماً، استطاع به الإنسان أن يصل إلى القمر والكواكب الأخرى وبرز فيه كثير من علماء المسلمين في بلدان شتى(1/268)
18- إقامة المسلم في بلاد الكفر
بتاريخ: 27-6-2008
السؤال: أرجو من العلماء الفضلاء أن يفتونا مأجورين فيما يتعلق بإقامة المسلم في بلاد الكفر، وأتمنى أن تكون الإجابة مدعمة بالدليل الشرعي من الكتاب الكريم وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وأقوال أهل العلم الفضلاء، ومفصلة بعض الشيء، وذلك لأنني أقيم في بروكسل حالياً وأود أن أعرف حكم الشريعة الغراء في ذلك.
الجواب:
لقد كثر الحديث وطال عن موضوع إقامة المسلم خارج ديار الإسلام، وسمعنا مذاهب تتسم بالتشدد المطلق، بحيث توجب على كل من يعيش في هذه البلاد من المسلمين أن يرحل فوراً، اعتماداً على حديث يروى في ذلك يتضمن البراءة ممن يقيم بين أظهر المشركين سنأتي على بيان درجته ومعناه، وهذه المذاهب أوردت حرجاً على كثير من المسلمين.
والذي نراه في هذه المسألة التفصيل، فنقول: لا شك أنه لا يحل للمسلم أن يعيش بين غير المسلمين بغير هويته الإسلامية، إلا لإنسان تقطعت به الحيل ولم يجد سبيلاً للخلاص، والسبب في ذلك يعود إلى التمكين أو عدم التمكين للمسلم من وقاية نفسه ودينه ومن هو مسؤول عنهم كأهل بيته وأولاده، فإذا كان في بيئة يخاف منها على دينه أو نفسه وعياله فالواجب عليه أن يهاجر منها إلى بيئة يجد فيها تمكيناً له من حفظ ذلك، ولم يحل له المكث في البيئة التي يخشى فيها على الدين الفساد أو على النفس الهلاك.
قال اللَّه تعالى: ]إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض، قالوا ألم تكن أرض اللَّه واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً * إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً * فأولئك عسى اللَّه أن يعفو عنهم، وكان اللَّه عفواً غفوراً * ومن يهاجر في سبيل اللَّه يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة[ [النساء: 97-100].(1/269)
فجعلت الآية من ظلم الإنسان لنفسه قبوله العيش في كنف الذل مع قدرته على الانتقال إلى أرض أخرى يجد فيها حريته وأمنه وأسباب عيشه، ولم تستثن من الوعيد الذي ينتظر هؤلاء إلا العاجزين الذين لا قدرة لهم ولا حيلة عندهم.
فالهجرة تكون مشروعة صحيحة إذا كانت إلى بيئة يقع له فيها تمكين أكثر للقيام بشعائر الدين، بل هذه الهجرة مطلوبة مرغوبة، كما تكون مشروعة من بيئة إلى أخرى لا تضر الإقامة فيها على الدين.
ومن ذلك الهجرة إلى الحبشة التي وقعت بإذن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم للمستضعفين من أصحابه بمكة، هاجروا من بيئة كفر وظلم إلى بيئة غير إسلامية لكنها كانت عادلة، آوتهم وحمتهم وأقاموا فيها بين قوم نصارى لم يكونوا مسلمين، فأحسنوا البقاء بين أظهرهم، وحافظوا على دينهم وأنفسهم ومن كان معهم من أهليهم، ومكثوا بينهم إلى أن مكّن اللَّه تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وأظهره على الكفار، فحين رأوا استقرار أمر دولة الإسلام رجعوا باختيارهم لا بأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
فالعبرة إذاً بالقيام بالدين والمحافظة عليه ووقاية النفس من الظلم والأذى، فإذا كانت تلك الإقامة في بلد ما مساعدة على ذلك فإنه لا يمتنع أن تكون في بلاد غير إسلامية أسوة بمهاجرة الحبشة، وإن كانت تضر بالدين وجبت الهجرة منها إلى بلاد يقدر الإنسان فيها على حفظ دينه ونفسه وأهله.(1/270)
وأما الحديث الذي يتعلق به المشددون، وهو حديث جرير بن عبداللَّه البجلي قال: بعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سرية إلى خثعم فاعتصم ناس منهم بالسجود، فأسرع فيهم القتل، قال: فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمر لهم بنصف العقل، وقال: «أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين» قالوا: يا رسول اللَّه لِمَ؟ قال: «لا تراءى ناراهما». فهذا حديث لا يصح()، ولو ثبت فإن سبب وروده مفسر لمعناه، وهو أن أناساً أسلموا ومكثوا مع قومهم الكفار ولم يهاجروا إلى بلد الإسلام، حتى إذا وقعت مواجهة بين المسلمين وأولئك الكفار لم يتميز أمر أولئك المسلمين من بين سائر قومهم الكفار، فيقتلهم المسلمون في المعركة لعدم معرفتهم بهم حيث لم تميزهم علامة، فالبراءة منهم من جهة أن المسلمين لو قتلوهم فلا تبعة عليهم بذلك، وهذا المعنى لا وجود له اليوم، فتنزيل هذا الحديث على الواقع ممتنع، واقتطاع طائفة من الناس طرفاً من الحديث دون سائره وسببه من أكبر الآفات المفسدة للفهم الصحيح، نسأل اللَّه أن يلهمنا وإخواننا الهدى والصواب.(1/271)
ومن الواجب ملاحظته: أنه لا يجوز إلحاق الوعيد بالنار بطائفة معينة من طوائف المسلمين، لأن الحديث لم يعين ذكر هذه الطائفة أو تلك، وكما لا يجوز تعيين طائفة بالنار لا يجوز تعيين طائفة بالنجاة يوم القيامة.
والذي على المسلمين هو الاجتهاد بالبعد عن أسباب التفرق والاختلاف، وأن يكونوا إخواناً كما أمرهم اللَّه تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويقصدوا إلى إصابة الحق من دينهم من كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، وينصحوا لعموم المسلمين.
ولا يحل لأحد أن يستعمل هذا الحديث لإثارة المشاكل بين المسلمين، فإن النصوص من الكتاب والسنة صريحة قاطعة بوجوب الولاء للمسلمين وحبهم والصدق في النصيحة لهم، فلا يجوز ترك هذا الأمر المقطوع به من دين الإسلام والتعلق بفهم خاطئ في تفسير هذا الحديث.
قال تعالى: ?ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى اللَّه وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين? [فصلت: 33].(1/272)
وإذا نشأ المسلم العامي في بلد ووجد كل علمائه يتبعون مذهباً معيناً فلا مانع أن يتبع المذهب السائد في بلده، لأنه في الواقع يتبع علماء البلدة، وهذا مذهبهم.
ولكن يجب عليه ألا يتعصب لمذهبه، ولا ينتقص المذاهب الأخرى، وإذا ظهر له ضعف مذهبه، ووهن أدلته في مسألة من المسائل، وقوة مذهب آخر، فعليه أن يدع مذهبه في هذه المسألة الضعيفة الدليل، ويتبع المذهب القوي والراجح، فالمسلم الحق أسير الدليل يتبعه حيثما كان.
وقد روي عن أبي حنيفة قوله: هذا رأينا، فمن جاءنا بأحسن منه قبلناه. وقال مالك: كل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا صاحب هذا القبر (وأشار إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم). وقال الشافعي: إذا صح الحديث فخذوا به واضربوا بقولي الحائط.
وكل مسلم حُرٌّ في اختيار المذهب الذي يراه أوفق وأولى، وليس من اللازم أن يتبع الابن أباه، أو تتبع المرأة زوجها في مذهبه.
والذي نرجحه ونراه أرفق بالمسلمين الجدد: ألا يلتزموا بمذهب معين، فهذا قد يُضَيِّق عليهم كثيراً مما وسع اللَّه فيه، ولا مبررَ لأن نفرض عليهم المذهبية الضيقة، وحسبهم الدخول في الإسلام الرحب بنصوصه ومقاصده، فقد يضيق بهم مذهب ويسعهم آخر، ويعسّر عليهم مذهب وييسّر عليهم غيره. ونحن مأمورون بالتيسير لا التعسير، والتبشير لا التنفير، وخصوصاً مع الداخلين الجدد في دين اللَّه تعالى.
والخلاصة أن المسلم الجديد أو المسلمة الجديدة ليسا مُلْزَمَيْنِ بالتمذهب، وإن تمذهبا لسبب أو لآخر، فليس بلازم أن تتبع الزوجة مذهب زوجها.(1/273)
19- اعطاء الصدقة للفقراء فى الغرب
بتاريخ: 17-8-2008
نحن نعيش في بلد النصارى, ونجد من يسألنا الصدقة عند مرورنا بالفقراء, وأحياناً يسألوننا بالله. فهل يجوز أن نعطيهم صدقة أو مساعدة؟ وهل نؤجر على ذلك؟
يجيب عليها : د. حمد بن إبراهيم الحيدري
الجواب
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
فقد قال الله تعالى: "لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِن دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" [الممتحنة:8].
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "في كل كبد رطبة أجر" صحيح البخاري (2363)، وصحيح مسلم (2244).
وبناء على ذلك فتستحب الصدقة حتى على غير المسلمين، وقد يكون في ذلك تأليف لهم وترغيب في الإسلام، لكن لو كانوا يستعينون بذلك على أذى المسلمين فحينئذٍ لا تجوز الصدقة عليهم. والله تعالى أعلم.(1/274)
[3] البحوث الصادرة عن المجلس(1/275)
ورقة مقدمة إلى:
الدورة السادسة عشرة للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث
اسطنبول 3 - 9 تموز (يوليو) 2006
آفاق مستقبلية
للعمل السياسي لمسلمي أوروبا
(خصائص الأداء السياسي ومكامن القوة والضعف)
...
Ahmed Ramadan
Director of Quds Press International News Agency
London - UK
أحمد رمضان
المدير العام لوكالة قدس برس إنترناشيونال للأنباء
لندن - المملكة المتحدة
آفاق مستقبلية للعمل السياسي لمسلمي أوروبا
(خصائص الأداء السياسي ومكامن القوة والضعف)
... ... أحمد رمضان
توطئة
عند الحديث عن المسلمين في البلاد الأوروبية، لا بد أن يتم التطرق إلى تاريخ الوجود الإسلامي في تلك الديار، وتحديد ظروف دخول الإسلام وانتشاره في كل بقعة من بقاع القارة الأوروبية، وما صاحب ذلك من هجرات من بلاد عربية وإسلامية بحكم العمل أو لأسباب تتصل بمراحل الغزو والاستعمار الغربي لأغلب بلاد العالم الإسلامي.
ولعل من الأهمية الإشارة إلى أن استعراض الحالة الإسلامية الناشئة في كل بلد أوروبي، على اختلاف ظروفها، وتباين أوضاعها، يعين الدارس في تحديد النقاط التي تميز حالة عن أخرى، وبالتالي وضع تقديرات خاصة بها.
ففي مناطق شرق أوروبا يعتبر الإسلام أكثر تجذراً وعمقاً من ناحية الحضور التاريخي، ولا يمكن وصف المسلمين بأنهم أقليات طارئة أو حديثة العهد، أو أنهم لاجئون لظروف العمل، وإنما هم في الغالب سكان أصليون لتلك المناطق التي شهدت في مراحل تاريخية سلسلة من المواجهات والتغيرات الجيوسياسية أدت إلى تشكيلات وضعت مجموعات من المسلمين في إطار نظم بدوا فيها كأقلية دينية أو عرقية (نمو ... ذج بعض دول البلقان)، وخاصة بعد انهيار الدولة العثمانية، ووجد هؤلاء أنفسهم يعيشون تحت حكم أنظمة أغلبها كان معادياً للدين لتبنيها الفكر الماركسي الإلحادي.(1/1)
غير أنه في دول غرب أوروبا فإن أوضاع المسلمين تبدو مختلفة، فبينما يبدو الحضور الإسلامي في دول شمال القارة حديثا بعض الشيء ومحدود النمو، فإن دولاً أخرى مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا يكتسب فيها الوجود الإسلامي عمقا أكبر، وانتشارا أوسع، بفعل الهجرات القديمة من ناحية، وعمليات التواصل المستمرة بين الأجيال المهاجرة والوطن الأم مما جعل هؤلاء في حاجة للاستجابة للمتطلبات الطبيعية للنمو الديموغرافي ونشوء أجيال جديدة من المسلمين.
إن الحديث عن وجود اختلافات داخل الحالة الأوروبية بالنسبة لظروف الوجود الإسلامي ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار عند الحديث عن صياغات جامعة للعمل السياسي بالنسبة لمسلمي أوروبا، إذ أنه على الرغم من وجود قواسم عديدة مشتركة بين الأوروبيين أنفسهم وخاصة في المسائل السياسية والاقتصادية، إلا أنه جدير بالإشارة إلى أن ثمة عوامل عديدة، ومنها اجتماعية وثقافية وأحيانا سياسية، تميز بين المجتمعات الأوروبية نفسها، وبين الأنظمة الحاكمة فيها، إزاء تعاملها مع الأقليات المسلمة الموجودة في بلدانها.(1/2)
ومن الأهمية الإشارة هنا إلى الاختلاف القائم في تعامل كل من النظامين السياسيين الفرنسي والبريطاني مع مسلمي كل بلد، فبينما يكافح المسلمون الفرنسيون (البالغ عددهم قرابة ستة ملايين نسمة، ويشكل الإسلام الدين الثاني بعد الكاثوليكية)، للحصول على حقوقهم الدينية الأساسية (مثل ارتداء الحجاب للمرأة المسلمة)، ويسعون للحصول على تمثيل معقول في المجالس البلدية والبرلمان (الجمعية الوطنية)، حيث تقف الهياكل الانتخابية والتحالفات السياسية عائقا أمام ذلك، فإن مسلمي بريطانيا (البالغ عددهم ثلاثة ملايين نسمة ويشكلون الديانة الثالثة بعد البروتستانت والكاثوليك) يبدون في ظروف أفضل للغاية، حيث حصلوا على اعتراف سياسي بهم، ونجحوا في الوصول إلى مجالس بلدية منتخبة، وباتت بعض قياداتهم أعضاء في البرلمان (مجلس العموم) أو اختيروا أعضاء لمجلس اللوردات، ولا تواجه المرأة المسلمة أي إشكالية في ممارسة شعائرها الدينية، ويسمح بفتح مدارس إسلامية خاصة يلقى بعضها الدعم والتمويل الحكومي.
إن تلك المفارقة بين بلدين أوروبيين أساسيين وجارين، لا تعتبر استثناء بقدر ما هي إحدى مؤشرات التباين التي ما زالت تحكم الوضع الأوروبي رغم التقدم الحاصل في مجال الاقتراب بين النظم والقوانين المؤطرة للحريات العامة، والناظمة للعمل السياسي.(1/3)
وهنا لا بدّ من ملاحظة أن بعض بلدان القارة الأوروبية تحكمها نظم علمانية مغرقة في تشددها إزاء الدّين (خاصة إذا كان مخالفا للأغلبية مثل نموذج فرنسا الداعمة للكاثوليكية والمتحسّسة من الإسلام)، بينما تتبنى دول أخرى المنهج الليبرالي وتميل إلى الإيمان بتعدد الثقافات ومحاولة إيجاد مستوى من التعايش الآمن بينها، مثل بريطانيا التي تفتخر بأن عدد اللغات التي تنتشر في لندن على سبيل المثال يزيد عن مائتي لغة، وتحرص السلطات على أن تضمّن كثيراً من الإرشادات الصادرة عن المؤسسات الرسمية (مثل المستشفيات وهيئات الداخلية والشرطة والعمل) اللغات التي تمثل الأقليات العرقية إلى جانب اللغة الإنكليزية، كما تحرص على توظيف أعداد كبيرة من أبناء الأقليات لضمان تعامل أفضل معهم، وتفادي تفشي العنصرية في حال اقتصار الوظائف على عنصر واحد، هم السكان الأصليون.
وفي مقابل نموذجي العلمانية والليبرالية توجد دول أخرى، وخاصة في شرق أوروبا تلعب الكنيسة فيها دوراً أوسع، بفعل عوامل التحرر من الشيوعية، وعدم نضج النظام الديمقراطي بعد في تلك الدول، ويعود نجاح المسلمين السياسي إلى مدى كفاءتهم في إقامة قنوات اتصال مع مراكز صنع القرار السياسي، وقوى الثقل الاجتماعي، بينما تتوفر أخرى، لم تنجح بعد في حسم رؤيتها تجاه المسلمين ككيان اجتماعي وسياسي، وما زالت في طور التشكل، كما هو حاصل في بعض بلدان شمال القارة، التي فاجأتها الحالة الإسلامية بعد تطورات السنوات الأخيرة.
المسلمون في أوروبا بين واقعين(1/4)
إذا استثنينا الاستغراق في الجانب التاريخي للوجود الإسلامي في أوروبا، بحكم أن الدراسة تتحدث عن الآفاق المستقبلية، وتناولنا الحقبة المعاصرة لمسلمي أوروبا، فإنه يمكن التمييز بين مرحلتين مهمتين مرّ بهما الوجود الإسلامي، الأولى قبل أحداث أيلول (سبتمبر) 2001 والهجمات على مركزي التجارة العالمي في نيويورك وما تلاها، والثانية بعد تلك الأحداث التي شهدت أيضا اندلاع الحرب على أفغانستان ومن ثم العراق، وبدء الحديث عن صراع حضارات بين الغرب والمسلمين.
إن المرحلة التي عاش فيها المسلمون على نحو آمن في المجتمعات الأوروبية قبل أحداث سبتمبر في الولايات المتحدة، يمكن وصفها بأنها مرحلة ازدهار العمل الإسلامي من ناحية الانتشار داخل الجاليات المسلمة، ونشوء المؤسسات وبدء تكوين هياكل للتواصل مع مراكز القرار السياسي، وإن كان الحضور الإسلامي لم يكن ذا طابع سياسي خلال تلك الفترة باستثناء مراحل شهدت عمليات شد وجذب مثل قضية الروائي البريطاني (الهندي الأصل) سلمان رشدي عام 1989، والفتوى التي أصدرها الزعيم الديني الإيراني آية الله الخميني بإباحة دمه وما صاحبها من هجمات إعلامية ضد المسلمين ودينهم وثقافتهم.
غير أنه في ظل عدم وجود استهداف سياسي مبرمج من قبل الأنظمة وأجهزتها الحاكمة، التي لم تكن تستشعر وجود خطر من التمدد الإسلامي داخلها، كان بالإمكان استيعاب التطورات الحادة بما فيها قضية مثل قضية سلمان رشدي، التي استغلت حينها سياسيا لـ "شيطنة" النظام السياسي الإيراني الذي كانت واشنطن ولندن تقفان ضده بعد أن نجح في إزاحة أهم حليف لهما في الشرق الأوسط وهو شاه إيران محمد رضا بهلوي عام 1979.(1/5)
بيد أن أحداث 11 سبتمبر، وانطلاق شرارة الهجوم على الإسلام من قبل قوى عديدة يشكل اليمين المسيحي المحافظ في الولايات المتحدة ركيزتها الأساسية، ويتحالف معه اليمين واليمين المتطرف في أوروبا، والذي كان يهيمن على أغلب الحكومات خلال تلك الفترة، وضعت المجتمعات المسلمة في أوروبا أمام مرحلة جديدة من الاستهداف السياسي والقانوني، لم تكن مهيأة لها، أو قادرة على استيعابها، ووجد المسلمون أنفسهم أمام مرحلة يوشكون فيها على فقدان إنجازاتهم، إن صحّ التعبير، ومرغمون على الإجابة على أسئلة كبيرة طالما تحاشوا التطرق إليها، من قبيل المواطنة والموقف من "الإرهاب" والجماعات التي تمارس العنف، والموقف من المقاومة (العمليات الفدائية/ الانتحارية)، إلى جانب قضايا عديدة تمس الخطاب الإسلامي إزاء الديمقراطية والمرأة والموقف من غير المسلمين.
لقد وجد المسلمون منذ عام 2001 أنفسهم أمام استهداف نوعي تشارك فيه مؤسسات أمنية وسياسية وتشريعية، مستفيدة من حالة الانقسام الداخلي بين المجموعات المسلمة، ومستغلة حالة فقدان التوازن التي صاحبت الصدمة التي عانى منها المسلمون إثر أحداث 11 سبتمبر (لا تزال نسبة كبيرة من المسلمين في الغرب وخارجه لا تصدق أن منفذي تلك الهجمات كانوا من العرب)، وقد سارعت غالبية الدول الأوروبية لسنّ تشريعات تحت عنوان "مكافحة الإرهاب" الهدف الأساس منها التضييق على النشاط الإسلامي بما فيها مراقبة المساجد، والاعتقال دون تهمة لفترات طويلة، عدا عن عمليات الرقابة والتدقيق في المطارات للمسافرين المسلمين بغض النظر عن جنسياتهم، والسعي إلى تجريد بعض من اتهموا بالتحريض من الجنسية، واعتقال بعضهم وطرد آخرين (كما حصل في كل من فرنسا وألمانيا وبريطانيا).(1/6)
وشهدت تلك الفترة عمليات تضييق طالت على نحو أساس المرأة المسلمة، التي كانت تخشى في كثير من الأحيان التحرك لوحدها خارج منزلها خشية التعرض لتحرشات عنصرية من قبل قوى متطرفة، واضطرت بعض المدارس والمؤسسات الإسلامية لإقامة تحصينات حول مبانيها، وإنشاء خط اتصال ساخن مع الشرطة للتصدي لأي عمليات اعتداء، وبات التحريض الإعلامي ضد المسلمين، بوصفهم مهاجرين يعيشون عالة على غيرهم، ولا يشاركون في الدورة الاقتصادية للدول التي يعيشون فيها، بارزة في الأداء الإعلامي الأوروبي، ولم يكن ذلك منطلقا من فراغ، بقدر ما استند إلى نماذج مشوهة ساعدت في إذكاء الماكنة الإعلامية التي جرى توظيفها للضغط على المسلمين وتحجيم دورهم وحركتهم.
لقد أدرك المسلمون عقب أحداث 11 سبتمبر الحاجة إلى استدراك ما فاتهم خلال العقود الماضية التي شهدت استرخاء في الأداء السياسي، وتركيزا على العمل الاجتماعي، فسعوا إلى التواصل مع الآخرين، فكريا وسياسيا وثقافيا، أغلبية وأقليات، وبدا أن المجتمعات المسلمة التي طالما عانت من عزلة شبه اختيارية، في حاجة ماسة إلى إيجاد روابط مشتركة مع الأقليات الأخرى، التي تقاسمها جزءاً من الهموم، ولديها الخشية من أن يؤدي سنّ قوانين جديدة في مجال "مكافحة الإرهاب" إلى التضييق عليها أيضاً.
وإذا كانت السنوات الأربع الماضية شهدت تحركاً ملموساً في مجال الحوار مع الآخرين، بما في ذلك ممثلو التجمعات العرقية والدينية، فإن إشكالية الخطاب الإسلامي المتجانس ما زالت قائمة، إلى جانب تباين الطروحات التي تراوحت بين فكرة الاندماج الكلي للمسلم ضمن مجتمعه الأوروبي، يصل إلى حدّ الحديث عن إسلام أوروبي، كما هو حاصل في فرنسا، وبين مقابل متطرف يرفض الفكرة جملة وتفصيلاً ويميل إلى العزلة والحفاظ على الخصائص الدينية والعرقية، والمستجلب بعضها بحكم الهجرة من الخارج.(1/7)
لقد كشفت السنوات الأخيرة عن عمق الأزمة داخل المجتمعات المسلمة في أوروبا، ومستويات التباين الفكري والثقافي، والاختلافات التي استغلتها النظم السياسية في خدمة أجندتها الداخلية والخارجية، وحشر الأقليات المسلمة في خانة الدفاع المطلق، وتصويرها على أنها ما زالت ترفض الإقرار بقيم الديمقراطية والتعددية، كما حصل في أزمة الرسوم المسيئة للرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، والتي بدأتها صحيفة دنمركية، غير أنها سرعان ما انتشرت في معظم دول القارة الأوروبية وخارجها.
وقد بدا أن إدارة الأزمة من الطرف الإسلامي يعتريها كثير من الخلل في الأداء والتقويم، ونجحت بعض الدول في استجلاب مواقف تجهض التحرك الإسلامي العام، وتضرّ بالرؤية الإسلامية الساعية إلى كسب إقرار قانوني وسياسي بعد التعرض للمقدس الإسلامي أسوة بغيره من المقدسات التي تحظى بحصانة قانونية في الإطار الأوروبي.
مسلمو أوروبا .. تحديات وعوائق
إن مسلمي أوروبا الغربية الذين يناهز عددهم نحو 26 مليون نسمة (يضاف إليهم نحو 30 مليون نسمة في أوروبا الشرقية) يشكلون حضوراً قوياً في القارة، غير أن ثقلهم السياسي لا يوازي البتة نموهم الديموغرافي، ويعود ذلك إلى وجود جملة من العوائق والتحديات التي ينبغي تشخيصها ومعالجتها والتعامل معها بفاعلية وكفاءة. ومن ضمنها:
1) الاختلافات التي تطبع العمل العام داخل الأقليات المسلمة، والتي تجد انعكاسها في تعدد المؤسسات وضآلة خيوط الاتصال والتعاون فيما بينها، وأحياناً التعارض والانشغال بالخلافات الجانبية.
2) عزوف قطاعات واسعة من الأجيال الشابة عن المشاركة في الأنشطة العامة بسبب عدم قدرة النظم والإدارات على استيعاب هؤلاء على نحو بناء، وإحداث تواصل كفء بين مختلف الأجيال التي بلغ عددها الآن أربعة أجيال في بعض الأقليات، وتبدو الخيوط أحيانا منقطعة فيما بينها.(1/8)
3) انشغال المسلمين بقضايا بلدانهم الأصلية على حساب المشكلات التي تعترض المجتمعات الأوروبية، بما في ذلك الحرص على أن يستهلك الاهتمام بالشأن الخارجي جلّ الاهتمام الخاص والعام، مما جعل النظرة للمسلمين وكأنهم مجرد لوبي طارئ يعمل لخدمة جهات خارجية، ولا يهمّه إبداء الرأي إزاء القضايا الكبرى التي تشغل بال المواطن الأوروبي ومنها مسائل اقتصادية واجتماعية.
4) حالة الاحتقان التي تكتنف المسلمين في مختلف أنحاء العالم، وبضمنهم مسلمو أوروبا، من سياسات الإجحاف والظلم التي تتبناها الدول الغربية إزاء قضايا التحرر، ومنها قضايا فلسطين والعراق وكشمير.
5) مساعي قوى متطرفة من الجانبين المسلم والأوروبي لإذكاء مفهوم "صراع الحضارات" وانعكاس ذلك على الصعيد الإعلامي، ولدى الشارع العام، مما يقلل من فرص الحوار والتعايش السلمي، ويحد من جهود الانخراط الإسلامي في الفضاء الأوروبي العام.
6) عدم اهتمام الأقليات المسلمة بتطوير مهارات أفرادها، وتنمية الوعي بأهمية المشاركة السياسية، وخاصة المساهمة في عملية الاقتراع، في مقابل استمرار أزمة البطالة بين الشبان المسلمين، وركون بعضهم للعيش على المساعدات الحكومية، واستغلال الإعلام ذلك لتشويه صورة المسلمين.
7) الانقسامات العرقية والمذهبية والتي تجد انعكاسا لها أحيانا في قضايا بسيطة، مثل الإقرار ببداية شهر الصوم، أو الاتفاق على مواعيد الصلاة، أو الاحتفال بمناسبات دينية معينة.
8) إخفاق غالبية المجتمعات المشكلة للأقليات المسلمة في تقديم النموذج الحضاري للإسلام للمواطن الأوروبي غير المسلم، مما يعمق الهوّة بين الجانبين، ويصور المسلمين على قطاعات متخلفة عن ركب الحضارة، ولا يبدون مختلفين عما تصورهم عليه وسائل الإعلام والأفلام السينمائية التي تنتجها هوليود.
خصائص العمل السياسي في الدول الغربية(1/9)
إذا كان العمل السياسي ضمن أحد مفاهيمه هو (الأنشطة والفعاليات التي تقوم بها مجموعات منظمة بهدف التأثير على قرار سياسي أو موقف عام)، فإن هذا النشاط في الإطار الغربي تحكمه مجموعة من القواعد والأطر الناظمة له بفعل القانون أو العُرف أو التفاهمات التي تحكم مسيرة المجتمعات الغربية فكريا وثقافيا، وهي محددات ينبغي الإقرار بها والتعامل معها، لتفادي الاصطدام بالإطار العام.
1) الإقرار بمفهوم التعددية السياسية والفكرية، وحرية التعبير، وحقوق المواطنة، وعدم استخدام العنف لمواجهة الرأي المقابل مهما بلغت حدته.
2) استخدام سلطة القانون عند التعرض لتشويه سياسي أو إعلامي، والإفادة من ذلك في حده الأقصى وفق ما تتيحه التشريعات والنظم.
3) عدم وجود تأثير مباشر للدين في العمل السياسي، أي عدم استخدام سلطة الدين عند اتخاذ مواقف سياسية معينة بما في ذلك التحالفات الانتخابية.
4) الاهتمام بالحاجات الخاصة للمجتمعات الأوروبية، وخاصة مسائل النمو الاقتصادي والرفاهية والتطور، مع تناول للشأن الخارجي المتصل بالبعد الداخلي (مثال الحرب التي تكون الدولة مشاركة فيها – نموذج العراق).
5) مبدأ التنافس في العمل السياسي، وخاصة بين الحكومة والمعارضة، وإبان الانتخابات، حيث تستخدم كافة الوسائل للإطاحة بالمنافس السياسي، بما فيها أحيانا وسائل لا يقرها القانون ويعاقب عليها.
6) استخدام الإعلام على نحو مكثف في شرح المواقف السياسية للجمهور، وفي الإضرار بالخصم السياسي وتشويه مواقفه ورموزه بعيداً عن الإطار الأخلاقي المعتاد.
7) اعتبار التحالفات جزءاً أساسياً من الأداء السياسي، سواء لكسب الأصوات، أو للمشاركة في السلطة السياسية، أو لإجهاض قوانين وإقرار أخرى.
8) إنشاء لوبيات لخدمة قضايا خاصة أو عامة، تتولى التأثير على الطبقة السياسية، ودفعها لتبني بعض المواقف السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية.(1/10)
9) تفادي المواقف الحدّية التي تؤدي إما لتحقيق كسب ساحق، أو الانتحار السياسي نتيجة الفشل الذريع، وربط الإخفاقات بالأفراد والتضحية بهم مهما علا منصبهم.
10) التدرج في العمل السياسي، وتدريب الكوادر على مخاطبة أنواع مختلفة من الجمهور وفي ظروف متباينة (يبدأ تدريب الأفراد وتأهيلهم في سن العشرين).
إن الخصائص التي تنظم العمل السياسي العام في المجتمعات الأوروبية تشكل لازمة مهمة للعمل الإسلامي الذي يودّ الانخراط في منظومة العمل السياسي، فلا بد من الاهتمام بمبدأ التحالفات السياسية، والسعي لتدريب الكوادر الشابة على العمل السياسي المحترف، والانفتاح على الآخرين مهما كانت عقائدهم وآراؤهم، وإقامة جسور اتصال وتفاهم مع المجتمعات الأخرى، والنأي عن المواقف المتشنّجة، ومحاولة اختراق مراكز صنع القرار سواء في البرلمان أو الهيئات الحكومية، والانخراط في النشاط العام وحضور الفعاليات المختلفة، وليس فقط الاحتجاجات والاعتصامات، وإنشاء أدوات إعلامية خاصة، والاهتمام بطموحات المواطن الأوروبي العادي، وإتقان مهارات التنافس السياسي، ودراسة القوانين والتشريعات والإفادة منها، وغير ذلك من الجوانب التي تحتاجها الأقليات المسلمة لإدارة شؤونها على نحو قوي وفاعل، وبما يحقق لها الانتقال من حالة الانكفاء والدفاع عن النفس إلى الانطلاق ومحاصرة قوى التطرف المقابلة.
مكامن القوة السياسية(1/11)
إن أي أداء سياسي ناجح ينبغي أن يحقق حضوره من خلال مجموعة الكوامن الأساسية التي تؤشر إلى مدى قوة الجهة التي تنظم وتدير ذلك الأداء، فعلى سبيل المثال إن أي أداء سياسي لعقود لا يثمر عن حضور جليّ في مراكز صنع القرار، ولا يترجم ذاته في عناصر مباشرة للتأثير، إنما هو عمل يعتريه خلل منهجي وعملي، وغالباً ما تحكمه أطر بيروقراطية تفقده القدرة على التفاعل مع المحيط والتعبير عن منهجه بأسلوب يتقبله الرأي العام، ويصل بسلاسة إلى الآخرين على اختلاف طبقاتهم ومستوياتهم ومواقعهم.
إن قدرة الأحزاب السياسية في الغرب على الوصول إلى السلطة من خلال صناديق الاقتراع تكمن أساساً في قدرتها على إقناع المقترع ببرنامجها الانتخابي، وجذبه لتأييدها، وبناء تحالفات لتحقيق أوسع قدر من الكسب في حالات الانقسام الحدّي بين القوى السياسية، ومن الأهمية الإشارة إلى أن مكامن القوة السياسية لأي طرف سياسي تبرز في الأطر التالية:
القوة الانتخابية: كسب قطاعات واسعة من الجمهور في الانتخابات البلدية أو البرلمانية أو الرئاسية، والتحكم فيما يسمى الماكنة الانتخابية التي تحول دون فقدان التأييد في اللحظات الحاسمة أو الحرجة، ويقتضي ذلك التواصل مع الرأي العام في مختلف الظروف وليس في لحظات الانتخاب فقط.(1/12)
القوة الإعلامية: امتلاك أدوات إعلامية من صحف ومجلات ومحطات تلفزة وإذاعات ووكالات أنباء تتيح التواصل مع الجمهور والتأثير في قناعاته، وأيضا الإضرار بالمنافس/ الخصم السياسي وتقويض الالتفاف الشعبي حوله وحول برامجه السياسية. وفي النموذج الغربي فإن بعض وسائل الإعلام ذات التأثير الجماهيري الواسع تعتبر المتحكم الرئيس في توجيه مواقف الجمهور خلال الانتخابات (يعزو بعض المراقبين فوز طوني بلير في الانتخابات البريطانية ومجيء حزب العمال للسلطة إلى موقف صحيفة "ذي صن" المؤيد له والمناوئ لخصمه المحافظ جون ميجور - توزع الصحيفة نحو أربعة ملايين نسخة ويقرؤها قرابة عشرة ملايين شخص يوميا).
القوة المالية: تعتبر الإمكانات المالية في الغرب شرطاً جوهرياً لنجاح أي طرف سياسي، لأنها تتحكم في مستويات الدعاية السياسية، ونشر الإعلانات في الصحافة والتلفزة، وتحريك الأطقم في مناطق متعددة، وتوفير البنية اللازمة لمخاطبة الجمهور، إلى جانب الاستعانة بإعلاميين بارزين وخبراء في مجال الاتصال الجماهيري والعلاقات العامة، وفي بعض الأحيان دعم مرشحين قريبين ماليا لتمكينهم من الفوز على خصومهم ومنافسيهم.
قوة التمثيل السياسي (البلدي – البرلماني): وتتمثل في امتلاك طرف سياسي لمستوى من التمثيل في البلديات من خلال الفوز في الانتخابات المحلية، التي تتيح للحزب العمل المباشر لخدمة الجمهور، أو الانتخابات البرلمانية التي تؤثر في صنع القرارات المتعددة، ولا ينبغي الاستهانة بعدد المقاعد التي يحققها الحزب خلال الانتخابات مهما قلّ عددها، إذ قد تشكل عنصرا هاما يتحكم بمسار العملية السياسية في حالات الاستقطاب وعدم وجود أغلبية برلمانية واضحة.(1/13)
قوة التمثيل النقابي: القدرة على الدخول إلى المستويات المؤثرة في النقابات العامة، والتي تتحكم عادة بمواقف قطاعات واسعة من الطبقة العاملة، ويمكنها أن تصوت في النهاية لمن تعتقد أنه يحقق لها مصالحها، وفي الغالب نجد أن أحزاب العمال هي التي تحظى بتأييد النقابات بسبب سعيها لحمل مطالبها إلى البرلمان، وإرغام الحكومة على الاستجابة لها.
قوة التأثير الثقافي: وتتمثل في إفراز رموز وشخصيات أدبية وفكرية لها قدرة التأثير على المكون الثقافي للجمهور على نطاق عام، وليس شخصيات مؤثرة فقط في الجالية المسلمة، ومن هنا تبدو أهمية الاهتمام بعنصر اللغة والبناء الفكري والثقافي للمجتمع الذي يعيش معه المسلمون.
أين المسلمون من مكامن القوة؟
إن نظرة عامة لواقع المسلمين في أوروبا اليوم تظهر أن مكامن القوة والتأثير غير متوفرة في الغالب، وما زال هناك شوط بعيد دون الإمساك ببعض منها، فالقوة الانتخابية يعتريها الانقسام في المواقف وتقدير المصالح، وفي بعض الأحيان يمكن أن تذهب أصوات المسلمين سدى بسبب نزاع حول مقعد انتخابي والإخفاق في التوصل إلى تفاهم يحقق الصالح العام، كما حصل في الانتخابات البريطانية عام 2005، عندما استخدمت بعض الأحزاب مرشحين مسلمين ضد بعضهم بعضاً في منطقة واحدة، مما شتت الصورة المسلم وأفقده القدرة على التأثير.(1/14)
أما القوة الإعلامية، فلا حظ للمسلمين بها، إذ غالباً ما تشكل وسائل الإعلام حالة من الصداع المزمن للمؤسسات الإسلامية بسبب الحملات الضارية التي تشنها عليها، إلى جانب عمليات استهداف الشخصيات الإسلامية البارزة والسعي لتحجيمها أو تحطيمها، ودفعها للانزواء، بينما لا تملك الأقليات المسلمة في أوروبا وسيلة مؤثرة لمخاطبة جمهورها بله الجمهور العام في بلدها، ولعل خسارة المواجهات الإعلامية باتت علامة بارزة للأداء العام للنشاط السياسي الإسلامي، دون أن يتم التنبه إلى أهمية الاهتمام بتوظيف الطاقات البشرية والمادية للعمل في مجال الإعلام وفق المعايير المهنية المعمول بها في النطاق الأوروبي، وباستخدام اللغات المحلية، وعدم الاقتصار على الإعلام باللغة العربية.
ولا يبدو حظ المسلمين في حيازة قوة التمثيل في البلديات والبرلمان والنقابات أفضل من غيره، إذ ما يزال محجوبا في بعض الأقطار، بينما هو محدود في أخرى، ولم يدخل بعد حيّز التخطيط طويل المدى الذي يضمن تثمير المشاركة السياسية لتصل إلى مستوى مقبول في غضون عشر أو خمس عشرة سنة، وغالباً ما تفيق القوى الممثلة للأقلية المسلمة قبيل الانتخابات بقليل لتقرر برنامج عملها ورسم خارطة تحالفاتها – إن وجدت – مما يجعل العمل السياسي الانتخابي أقرب إلى العفوية منه إلى الأداء المخطط والمبرمج.
"المشروع السياسي لمسلمي أوروبا"
دفعت الأحداث والتطورات الأخيرة مسلمي البلاد الأوروبية إلى واجهة الاهتمام الإعلامي والسياسي، وباتت كثير من القوى تنظر إليهم كإحدى قوى التأثير ضمن الأقليات الأساسية، كما يجد المسلمون أنفسهم معنيين بالإجابة عن التساؤلات الجوهرية التي تطرح عليهم، وفي بعض الأحيان تحاصرهم تجارب سلبية لدول أو جماعات إسلامية، كما حصل من ارتداد لتجربة "طالبان" في أفغانستان، ومن إشاعة لنموذج تحمل المسلمون في مختلف أنحاء العالم الكثير من أوزاره رغم اختلافهم معه.(1/15)
ولعل الاندفاع النشط لعموم الأقليات المسلمة في أوروبا نحو المشاركة في العمل السياسي من خلال الانتخابات بصورة رئيسة، والتمهيد لذلك بالدخول في تحالفات مع قوى تشاطر المسلمين قدراً وافراً من همومهم، يحتم العمل على صياغة "مشروع سياسي" لمسلمي أوروبا، يتناول تأطيراً لقضايا أساسية، من قبيل الموقف من الديمقراطية، وغير المسلمين، ويحسم مواطنة المسلم في بلده الأوروبي، وقضية المرأة، والتمييز بين العنف و"الإرهاب" والمقاومة المشروعة ضد الاحتلال داخل البلد المحتل، وقضايا الحريات، والمشاركة السياسية، إلى جانب مسائل تهم عموم المجتمعات الأوروبية، بحيث تشكل مرجعاً فكرياً يسترشد به الناشطون في ميدان العمل السياسي، ويحدّ من تأثير التجارب الخارجية عليهم.
إن جملة من الأنشطة التي تبناها مؤخراً اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا تصب في هذا الاتجاه، ومنها المؤتمر الخاص بالأئمة والمرشدين الدينيين في فيينا، ولعل تلك التحركات تلتقي في نهاية المطاف لينبثق عنها مشروع سياسي متكامل، يشكل أرضية قوية لعمل سياسي يستند إلى مرجعية إسلامية واضحة، تحدّ من تأثير "الفتاوى" المتطرفة الذي يصدرها بين حين وآخر أفراد لا حظّ لهم من العلم أو الفكر أو الفهم السياسي، أو تتبوؤها جماعات صغيرة اعتادت إحداث الفُرقة والانقسام في صفوف العمل الإسلامي من خلال دفع الأقلية المسلمة نحو الانعزال بزعم أن هذا المجتمع "كافر" وأنه ينبغي التصرف معه على أنه مجتمع مناوئ.(1/16)
إن العمل الإسلامي في المرحلة الراهنة بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى تضافر الجهود، وجمع الطاقات، وتقوية العُرى، وتحقيق الانسجام بين أطيافه، وتجاوز خلاف الآراء، وتنابذ الأفكار، وصراع المصالح الضيقة، وأزمة الانتماء العرقي والمذهبي، والسعي إلى تأسيس كيانات جامعة تسترشد بما يصدر من فتاوى وتصورات عن هيئات علمية معتبرة، مثل المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ولعل وحدة الصف الإسلامي إزاء القضايا الجوهرية تعتبر في مقدمة الأهداف التي ينبغي العمل عليها.
رؤية للمستقبل
إن مستقبل العمل السياسي لمسلمي أوروبا مرهون بمدى قدرة الأقلية المسلمة على تجميع قواها وصبّها في الاتجاه الصحيح، وبناء مؤسسات وهيئات قوية ومتماسكة على المستوى الوطني والأوروبي، والاهتمام بجانب التخطيط واستشراف المستقبل، وتهيئة الكوادر اللازمة لسدّ الفراغات، والدفع بكفاءات مميزة لتصدر العمل السياسي، والقراءة الثاقبة للواقع الأوروبي الداخلي واتجاهات التطور داخله، وتأثير المتغيرات الإقليمية والدولية على السياسات الأوروبية، بما ينعكس على الأقلية المسلمة من ناحية تمتعها بالحريات الأساسية، أو ممارستها للعمل السياسي المفتوح.
إن من الأهمية بمكان أن يدرك عموم المسلمين الأوروبيين أن مستقبلهم منوط بمدى قدرتهم على الانسجام مع مجتمعاتهم، وحمل همومها، والتواصل مع أطيافها، والتعايش مع مختلف الآراء، وبالتالي فإنه ينبغي أن يُصار إلى صياغة محددات للعمل الإسلامي الأوروبي لا تحمل أوزار الآخرين، ولا تدافع عن أخطائهم، ولا تظهر المسلمين على أنهم ظلٌ لغيرهم، أو امتداد لأزمات ومشكلات العالم الإسلامي، وإنما يتبنون من القضايا ما يرون فيها مصلحة وضرورة لتحسين مكانتهم داخل بلدانهم، وينافحون في الوقت نفسه عن المجتمع الإسلامي العام، ويخففون من ضرر السياسات الخارجية المجحفة للأنظمة الغربية.(1/17)
إن الحاجة تبدو ماسّة إلى أن يتحول المسلمون في أوروبا من مهاجرين طارئين إلى مواطنين أصليين بعد قرون من العيش في تلك المنطقة، وأن ينزعوا عن أنفسهم مشاعر العزلة والانطواء ويتحركوا نحو التعايش الاجتماعي والاندماج السياسي والاقتصادي والحضور البناء في مختلف مؤسسات الدولة وهياكلها بما يعكس وزنهم الفعلي، ويبرز دورهم الإيجابي كمساهمين أساسيين في بناء تلك المجتمعات.
لقد استغرقت بعض الأقليات في أوروبا أكثر من قرنين حتى استطاعت إثبات نفسها وحماية مصالحها، وآن للمسلمين أيضا أن يبذلوا جهدا مضاعفا لاختصار المسافة وتعظيم الإنجاز وصولا إلى أن تكون مساهمتهم تعبيرا صادقا عما يكتنزه الإسلام من رؤية حضارية وعطاء إنساني تستفيد منه البشرية كلها وليس مجتمعات بعينها، ولذا فإن العبء الذي يقع على قيادتهم يبدو مضاعفا في تلك الفترة، حيث تكثف القوى المناوئة من غاراتها على المسلمين، خشية أن يتجاوزوا آثار النوازل التي وقعت بهم، ويحولوا النوائب التي تعصف بديارهم إلى حالة من الكسب السياسي والإنساني تعيد لهم دورهم الحضاري المرموق.
والله ولي التوفيق(1/18)
بسم الله الرحمن الرحيم
إسلام المرأة وبقاء زوجها على دينه
الشيخ فيصل مولوي
المقدّمة:
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
هذه الدراسة تقتصر على موضوع إسلام المرأة وبقاء زوجها على دينه، ولا تتعرّض لإسلام الرجل وبقاء زوجته على دينها، لأنّ الموضوع المطروح على المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث يختصّ بالمرأة دون الرجل.
وقد قرأت الدراسة المستفيضة للأخ الكريم الشيخ عبد الله الجديع، كما قرأت ملخّصها بالكثير من التمعّن، ووجدت فيها الكثير من المسائل الجديدة والمفيدة، لكنّني لم أستطع قبول النتيجة التي توصّل إليها، رغم كلّ ما أجهد نفسه في إقامة الأدلّة على ما ذهب إليه.
ونظراً لأنّ دراسته مسهبة، فإنّي لا أريد في هذا البحث أن أتعقّب كلّ مسألة قالها بالتأييد أو بالنقض، ولكنّي سأقف فقط عند الخلاصة التي وصل إليها والأدلّة التي طرحها فأناقشها واحداً بعد آخر.
كما اطلعت على ما كتبه أستاذنا الشيخ يوسف القرضاوي، وعلى الدراسة المقدّمة من الأخ الكريم الدكتور أحمد علي الإمام، وسيرد في هذا البحث الإشارة إلى هاتين الدراستين.
أمّا النتيجة التي وصلت إليها بعد التدقيق في هذه الأبحاث المقدّمة، والرجوع إلى كثير من المصادر الشرعية فهي التأكيد على ما كنت قد كتبته في دراستي الموجزة السابقة، ولكن مع شيء من التفصيل ومزيد من الاستدلال، ومناقشة للآراء المطروحة. وخلاصته أنّ المرأة إذا أسلمت وبقي زوجها على دينه، يحرم عليها الوطء فوراً، ويجوز لها بعد انتهاء عدّتها أن تنكح زوجاً غيره، كما يجوز لها أن تنتظره حتّى يسلم فتعود الحياة الزوجية بينهما. أمّا فسخ العقد فلا يكون إلاّ إذا تراضيا عليه، أو إذا حكم به القضاء سواء في دار الإسلام أو خارجه. ويجب عليها أن تطلب فسخ العقد بعد انتهاء عدّتها إذا لم يسلم.(1/1)
وقد ختمت هذه الدراسة باقتراح نصّ للفتوى التي يمكن أن تصدر عن المجلس، أقدّمها كخلاصة للنظر فيها وتعديلها بما ترون.
أسأل الله تعالى أن يعصمنا من الزلل وأن يسدّد آراءنا للصواب وأن يثيب الجميع على ما بذلوه من جهد، فمنه وحده النور الهادي إلى سواء السبيل، ومن كرمه حفظ الأجر للمجتهد سواء أصاب أم أخطأ ..
وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.
نتائج دراسة الشيخ عبد الله الجديع كما لخّصها هو:
1. ليس في المسألة نصّ قاطع.
2. ليس فيها إجماع.
3. عقود النكاح الواقعة قبل الإسلام صحيحة معتبرة بعد الإسلام، لا تبطُل إلاّ بيقين، وليس اختلاف الدين مبطلاً بيقين، لعدم النصّ ولوجود الخلاف.
4. أفادت الأدلّة من الكتاب والسنّة أنّ مكث الزوج مع زوجته مع اختلاف الدين الطارئ بعد الزواج لا يقدح في أصل الدين، ولا توصف به العلاقة بينهما بالفساد.
5. إبطال العلاقة بين الزوجين لاختلاف الدين بإسلام أحدهما بعد الزواج لا يقع بمجرّد الإسلام.
6. على كثرة من دخل الإسلام في عهد النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ، فإنّه لم يأت ولا في سُنّة عمليّة واحدة أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فرّق بين امرأة وزوجها، أو رجل وامرأته لكون أحدهما أسلم دون الآخر، أو قبل الآخر، كما لم يأت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنّه كان يأمر بذلك، بل صحّ عنه خلاف ذلك، كما في شأن ابنته زينب، فإنّها مكثت في عصمة زوجها أبي العاص حتّى أسلم قُبيل فتح مكّة بعدما نزلت آية الممتحنة، وغاية ما وقع أنّها هاجرت وتركته بمكّة بعد غزوة بدر، وما أبطلت الهجرة عقد النكاح بينهما.
7. التعلّق بآية الممتحنة في إبطال العلاقة الزوجيّة باختلاف الدين ليس صواباً، إنّما الآية في قطع العلاقات بين المسلمة والزوج المحارب لدينها، وبين المسلم وزوجته المحاربة لدينه، لا في مطلق الكفّار.(1/2)
8. رفعت آية الممتحنة الجُناح في نكاح المؤمنة المهاجرة إن كانت ذات زوج كافر محارب، ولم تُلزم بذلك، لما وقع في قصّة زينب ابنة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ، فدلّ على أنّ عقد النكاح مع الزوج الكافر يتحوّل من عقد لازم إلى عقد جائز، والعلّة: تعذّر رجوعها إلى زوجها المحارب وما يَرِدُ عليها من الحرج بفوات الزوج.
9. منعت الآية إمساك الرجل المسلم زوجته الكافرة التي لم تهاجر إليه من دار الكفر إلى دار الإسلام، أو هربت منه مرتدّة إلى الكفّار المحاربين، والمعنى: خشية أن تبقي علاقة الزوجيّة من الميل إلى الكفّار كالذي وقع من حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى المشركين بسرّ المسلمين بسبب أرحام له بمكّة، كذلك لما يقع به من ضرر بها بتعليقها دون زوج.
10. إذا أسلم أحد الزوجين وليس الكافر منهما محارباً جاز مكثهما جميعاً لا يفرّق بينهما بمجرّد اختلاف الدين، كما دلّ عليه العمل في حقّ من أسلم قبل الهجرة بمكّة، ومن أسلم في فتح مكّة، وبه قضى أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب في خلافته دون مخالف، وأفتى به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.
11. اختلاف الدين بإسلام أحد الزوجين سبب يُجيز فسخ عقد النكاح بينهما ولا يوجبه، كما دلّ عليه قضاء عمر وإقرار الصحابة.
12. مقتضى إباحة مُكث الزوج بعد إسلامه مع زوجة كافرة غير محاربة لدينه، أو مُكث الزوجة بعد إسلامها مع زوج كافر غير محارب لدينها: أنّ عشرتهما الزوجيّة مباحة، لأنّ الإبقاء على صحّة عقد النكاح بينهما يوجب العشرة بالمعروف، والوطء من ذلك.
مناقشة النتائج التي انتهى إليها الشيخ الجديع:
الفصل الأول
هل يوجد في هذه المسألة نصّ قاطع؟
أقول: ... في المسألة نصّان واضحان كلّ الوضوح وهما: آية البقرة وآية الممتحنة، وإن حاول البعض إخراج المسألة المطروحة من حكم هذين النصّين بالتأويل، وسأذكر فيما يلي مرتكزات هذا التأويل الفاسد.
النصّ الأول: ... آية البقرة:(1/3)
قال تعالى: {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}(1).
دلّت هذه الآية على حكمين:
الأول: تحريم زواج المسلم من المشركة حتّى ولو أعجبته، وطالما بقيت على شركها.
الثاني: تحريم زواج المسلمة من المشرك حتّى ولو أعجبها وأعجب أهلها، وطالما بقي على شركه.
وعلّة التحريم في الحالتين هي الشرك باعتباره الوصف المؤثّر.
أمّا الحكم الأول فقد ورد تخصيصه بآية المائدة {.. وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ..}(2). فقد أباح الله تعالى بموجب هذه الآية للمسلم الزواج من الكتابية، واتفق على ذلك العلماء، فبقي الزواج من سائر المشركات محرّماً بنصّ الآية الأولى، وقد أجمع العلماء على ذلك فيما نعلم.
أمّا الحكم الثاني وهو زواج المسلمة من المشرك، فبقي محرّماً على إطلاقه، شاملاً غير المسلمين جميعاً سواء كانوا كتابيين أو غير كتابيين، ويظهر أنّ الإجماع منعقد على ذلك أيضاً.
__________
(1) 1 - سورة البقرة، الآية 221
(2) 2 - سورة المائدة، الآية 5(1/4)
لكن المقولة التي يطرحها أستاذنا الشيخ القرضاوي: (نحن منهيّون ابتداءً أن نزوّج المرأة المسلمة لكافر، كما قال تعالى: {.. وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا ..} وهذا ممّا لا يجوز التهاون فيه، فلا تزوج المسلمة ابتداءً لغير مسلم. ولكن نحن هنا لم نزوّجها بل وجدناها متزوّجة قبل أن تدخل في ديننا ويحكم عليها شرعنا، وهنا يختلف الأمر في البقاء عنه في الابتداء، إذ من المقرّر المعلوم: أنّه يغتفر في البقاء ما لا يغتفر في الابتداء، وهذه قاعدة فقهية مقرّرة، ولها تطبيقات فروعية كثيرة).
أمّا الشيخ الجديع فيطرح المسألة من زاوية ثانية ويقول:
(إنّ حالة استمرار العقد الواقع قبل الإسلام على الصحّة، لم تشملها الآية بحكم إبطال، إنّما دلّت على إبطال الشروع في النكاح على تلك الصفة المذكورة فيها).
ويستدلّ على ذلك بالتطبيق العملي في الحياة النبوية بعد نزول الآية، وأنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لم يُبطل العقود الزوجية التي كانت صحيحة قبل الإسلام بسبب اختلاف الدين بإسلام أحد الزوجين.
وسأناقش هاتين المقولتين من خلال الشرح التالي:
أولاً: ... حول معنى النكاح:(1/5)
منعت الآية الكريمة نكاح المسلمة من غير المسلم. والنكاح لغة يعني العقد ويعني الوطء، كما جاء في لسان العرب. وقد وردت لفظة النكاح في المصطلح الشرعي بالمعنيين أيضاً، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ..}(1). فأراد بالنكاح هنا العقد بدليل { مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ}. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يجوز للرجل أن يتمتّع به من زوجته الحائض: (افعلوا كلّ شيء إلاّ النكاح)(2)فأراد بالنكاح هنا الوطء. وهذان المعنيان متلازمان. إذ لا يجوز الوطء إلاّ بعقد شرعي، ومجرّد العقد يبيح الوطء ضمن الضوابط الشرعية.
فالآية الكريمة عندما تمنع نكاح المسلمة من غير المسلم، تمنع العقد والوطء معاً. فإذا أسلمت المرأة وكانت مرتبطة بعقد زواج سابق صحيح، لم يعد الأمر في الآية متعلّقاً بمنع إجراء العقد، لأنهّ قائم والبحث يدور حول شرعية استمراره أو وجوب إبطاله. فإذا كان استمراره مشروعاً بقي الوطء مباحاً. وإذا كان استمراره غير مشروع صار الوطء حراماً، حتّى ولو ظلّ العقد قائماً ولم يكن بالإمكان فسخه.
ثانياً: ... حول أثر التحريم:
التحريم يعني منع القيام بعمل في المستقبل. أمّا ما وقع المسلم فيه من حرام قبل ورود التحريم، أو قبل إسلام المسلم فهو معفوّ عنه.
لكن إذا كان الحرام السابق من الأعمال أو العقود المستمرّة، فهل يجوز استمراره بحجّة أنّه نتيجة لعمل أو عقد سابق، أو يجب منع استمراره؟
__________
(1) 1 – سورة الأحزاب، الآية 49
(2) 2 – رواه مسلم(1/6)
? الظاهر القاطع أنّ التحريم والمنع يتناول المستقبل بلا جدال. ومقتضى ذلك أيضاً أنّه يشمل ما يقع في المستقبل ولو كان استمراراً لعمل أو عقد سابق، لأنّ إباحة الاستمرار تعني هنا مناقضة النصّ. ولأنّ التحريم هنا حُدّد إلى غاية وهي الإيمان {..وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا..} فلا يجوز النكاح بين المسلمة وغير المسلم حتّى يدخل في الإسلام. فحين يستمرّ النكاح السابق دون إسلام المشرك نكون قد وقعنا في مخالفة صريحة للنصّ القاطع (إلاّ أن يكون هناك دليل على تخصيص هذا النصّ أو تقييده).
? يقول الأصوليون: إنّ النهي يقتضي الانتهاء على الفور والتكرار والدوام(1). والانتهاء على الفور يقتضي التوقّف عن العمل أو العقد السابق المحرّم.
__________
(1) 1 – التمهيد في أصول الفقه. أبو الخطاب الحنبلي – مؤسسة الريّان – بيروت.(1/7)
? عندما حرّم الله الربا، وكان بعض المسلمين قد وقعوا في عقود ربوية سابقة واستحقّوا الفوائد الربوية، مُنعوا من استيفائها لأنّها أصبحت حراماً، ولو كانت مبنية على عقود سابقة للتحريم، لكن ما قبضوه قبل التحريم لم يؤمروا بإرجاعه، بل شُرع لهم استيفاؤه لقوله تعالى: {.. فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ ..}(1)، أمّا بعد التحريم فلا يجوز قبض الربا المحرّم. قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ}(2). وقال عليه الصلاة والسلام: (ربا الجاهلية موضوع. وأول ربا أضع ربانا: ربا عباس بن عبد المطلب فإنّه موضوع كلّه)(3). وقال النووي في شرحه: (المراد بالوضع الرد والإبطال) أي أنّ العقد الربوي المعقود قبل التحريم يجب إبطاله بعد التحريم. واتفقت المذاهب الثلاثة وجمهور الفقهاء أنّه يجب فسخ عقد الربا فوراً. بينما يرى الأحناف أنّه يجب إلغاء الربا منه فيصبح عقد بيع جائزاً. فعندما نزل تحريم الربا، لم تُمنع العقود الجديدة فقط، وإنّما أيضاً أُبطلت العقود القديمة، وأُمِر الدائنون باسترجاع رؤوس أموالهم فقط.
? إنّ علّة التحريم لنكاح المسلمة بغير المسلم هي اختلاف الدين بدليل قوله تعالى: {أولئك يدعون إلى النّار ..}، وهذه العلّة المشار إليها في آخر الآية، موجودة في عقود الزواج السابقة إذا أسلمت المرأة وبقي زوجها على دينه. والحكم كما هو معروف، يدور مع علّته وجوداً وعدماً، فيقتضي لذلك إبطال العقود السابقة لهذا السبب، كما يجب منع العقود الجديدة.
__________
(1) 2 – سورة البقرة، الآية 275
(2) 3 – سورة البقرة، الآيتان 278 – 279
(3) 4 – رواه مسلم.(1/8)
? من المعلوم أنّ الشريعة صحّحت من حيث الأصل عقود الزواج المعقودة بين الكفّار، ولكن إذا أسلم الزوجان يصبح العقد خاضعاً للأحكام الشرعية، وإذا أسلم أحدهما فقط يصبح العقد خاضعاً للأحكام الشرعية بالنسبة له، وعليه أن يسعى لتصحيح العقد أو إبطاله بحسب هذه الأحكام.
وقد اتفق العلماء على تصحيح العقد السابق إذا كان فساده مبنياً على انتفاء أحد شروطه كالولي أو الشاهدين، وأجمعوا على إبطال عقود الزواج السابقة إذا كان سبب فساده راجعاً لحرمة المحل، كما لو كانت الزوجة من أقرباء الزوج بالنسب أو بالمصاهرة قرابة تجعلها محرّمة عليه، أو كان للزوج أكثر من أربع زوجات فيجب عليه أن يستبقي أربعة منهنّ ويفارق الباقي، أو كان يجمع بين زوجتين لا يحلّ له الجمع بينهما فيخيّر في استبقاء إحداهنّ .. وقد وردت في أكثر هذه المسائل نصوص نبوية صحيحة. ولا أظنّ أنّ شيخنا القرضاوي أو الشيخ الجديع يعارضان في أيّ من هذه المسائل.
وكان من الطبيعي أن يلحق علماؤنا مسألة المرأة إذا أسلمت وبقي زوجها على دينه، بالعقود التي ينبغي إبطالها لحرمة المحلّ أسوة بسائر العقود المطلوب إبطالها لنفس السبب. وقد أجمع على ذلك الجمهور الأكبر منهم، وخالف العدد القليل. ومال الشيخان القرضاوي والجديع إلى هذا الرأي المخالف لأسباب سنناقشها فيما بعد، لكن ما أردت هنا أن أقوله هو:
* ... إنّ آية البقرة تحرّم نكاح المسلمة من غير المسلم.
* ... وهذا التحريم كما هو للمستقبل يقتضي أن يتناول العقود الماضية.
* ... وأنّ السنّة الصحيحة لم تصحّح من عقود الزواج بين الكفّار إذا أسلموا ما كان سبب فساده راجعاً لحرمة المحل، واختلاف الدين يدخل في هذه الأسباب.
ثالثاً: ... التحريم يشمل إنشاء العقود الجديدة ومنع استمرار العقود القديمة:
وذلك للأسباب التالية:(1/9)
1 - ... إنّ عموم الآية يقتضي شمول حكمها للعقود السابقة، لأنّ المطلق يجري على إطلاقه ما لم يأت تخصيص لذلك، ولم يأت مثل هذا التخصيص إطلاقاً، وسنرى فيما بعد أنّ آية الممتحنة تأكيد للحكم في إحدى حالاته، وليست تخصيصاً. وسنرى أيضاً أنّ كلّ ما ورد في السنّة الصحيحة هو تأكيد لهذا الحكم وليس تخصيصاً.
2 - ... أمّا القاعدة الفقهية المعروفة (البقاء أسهل من الابتداء)(1)و(يُغْتَفَر في البقاء ما لا يُغْتَفَر في الابتداء)(2)فقد ذكرها الفقهاء في أنواع التصرّفات المالية، وقد راجعت ما ورد من شروح لهاتين المادّتين في (شرح أحكام المجلّة لعلي حيدر، وشرح سليم باز)، وشرح القواعد الفقهية للشيخ أحمد الزرقا، فوجدتها جميعاً تضرب الأمثلة لهذه القاعدة حول (هبة الحصّة الشائعة وأنّها لا تصحّ ابتداءً، ولا تبطل إذا كانت صحيحة ثمّ طرأ عليها الشيوع، وحول عدم جواز توكيل الوكيل لشخص آخر بالبيع إذا لم يكن مفوضاً بذلك، وإذا فعل لا يصحّ بيعه. لكن لو أنّ فضولياً باع فأجاز الوكيل ذلك صحّت الإجازة ونفذ البيع). إلى غير ذلك من الأمثلة التي تتناول البيع والثمن والخيارات.
وقد ضرب الشيخ أحمد الزرقا بعض الأمثلة على هذه القاعدة في مجال الأنكحة مثل:
? لو اعترفت المرأة بالعدّة تُمنع من التزوّج. لكن لو تزوّجت ثمّ ادعت العدّة لا يُلتفت إليها.
? لو عقدت المرأة النكاح على أنّه لا مهر لها لم يصحّ تنازلها عن المهر ووجب لها مهر المثل. لكن لو تنازلت عن المهر بعد العقد صحّ وبرئ الزوج من المهر.
__________
(1) 1 – مجلّة الأحكام العدلية – المادّة 56
(2) 2 – مجلّة الأحكام العدلية – المادّة 55(1/10)
3 - ... وقد أعمل الفقهاء هذه القاعدة في عقود الكفّار إذا أسلم أحد الزوجين فيما إذا كان سبب إبطال الزواج يعود إلى أمور لا تتعلّق بصلب العقد، وذلك لعدم وجود النصّ الذي يمنع إعمال هذه القاعدة، كما لو تمّ عقد الزواج في زمن الكفر بلا ولي أو بلا شاهدين أو في فترة العدّة.. فأجازوا استمرار هذه العقود إذا أسلم الزوج وظلّت الزوجة على دينها الكتابي، أو أسلمت الزوجة بعد إسلام الزوج.
أمّا إذا كان سبب البطلان يعود إلى صلب العقد، كأن تكون المرأة غير صالحة لتكون محلاً للزواج من هذا الرجل، كما لو كانت محرّمة عليه بسبب القرابة أو الرضاعة أو الزيادة عن أربع زوجات أو الجمع بين زوجتين لا يجوز الجمع بينهما، فقد اتفق جمهور الفقهاء على إبطال مثل هذه الزيجات إذا أسلم أحد الزوجين.
وبالنسبة لموضوعنا، فإنّ منع نكاح المسلمة من مشرك يتعلّق بصلب العقد، وبأهلية المرأة لأن تكون محلاً للزواج من رجل غير مسلم. فإذا أعملنا هنا قاعدة "البقاء أسهل من الابتداء" فقد وقعنا في مخالفة النصّ الصريح الذي يمنع نكاح المسلمة من غير المسلم وهو آية البقرة. لكن حتّى لو سلّمنا أنّه لم يرد نصّ في هذه الحالة بعينها، أو أنّ النصوص الواردة قابلة للتأويل، فإنّ قياس هذه الحالة على حالات منع استمرار العقود الزوجية لحرمة المحلّ، أولى من قياسها على حالة إباحة استمرار هذه العقود إذا كانت أسباب فسادها لا تتعلّق بصلب العقد.
النصّ الثاني: آية الممتحنة:(1/11)
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ، اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ، فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ، لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ، وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا، وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ، وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِر،ِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا، ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}(1).
أولاً: ... حول سبب النزول:
اتفقت الروايات أنّ هذه الآية الكريمة نزلت بعد صلح الحديبية بين النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ومشركي قريش. وقد جرى في هذا الصلح الاتفاق على أنّ من لحق بالكفّار من المسلمين لم يردّوه، ومن لحق من الكفّار بالمسلمين رُدّ إليهم. وهو نصّ عام يشمل الرجال والنساء. فكلّ من لحق بالمسلمين من الرجال ردّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى قريش التزاماً بالعهد كأبي جندل وأبي بصير. لكن عندما لحقت بعض النساء بالمسلمين نزلت هذه الآية فأبى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يردّهنّ إلى المشركين، وكان منهنّ أمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وهي غير متزوّجة، وسبيعة بنت الحارث الأسلمية وكانت متزوّجة، وبذلك اعتبر صلح الحديبية خاصّاً بالرجال دون النساء.
ثانياً: ... ما تضمّنته الآية من أحكام:
1 - ... أنّ المرأة المسلمة إذا جاءت مهاجرة فيجب امتحان إيمانها، فإذا علمناها مؤمنة فلا يجوز إرجاعها إلى الكفّار. { فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ}.
2 - ... علّة هذا الحكم {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} أي عدم جواز التناكح بإطلاق.
__________
(1) 1 – سورة الممتحنة، الآية 10(1/12)
3 - ... وبما أنّ سبب التفريق هذا يعود للمرأة، فيجب على المسلمين أن يعيدوا إلى زوجها ما أنفق عليها من مهر.
4 - ... وإعادة المهر تعني فسخ عقد الزواج، وهكذا أباحت الآية لهذه المرأة أن تتزوّج من أيّ مسلم تريد على أن يدفع لها مهرها.
5 - ... وفي المقابل لا يحوز للمسلمين أن يتمسّكوا بزوجاتهم الكافرات – غير الكتابيات – ولذلك لمّا نزلت هذه الآية طلّق عمر زوجتين له بمكّة.
6 - ... وإقراراً للعدالة يجب تبادل المهور بين المسلمين والكفّار. فالمرأة الكافرة التي طلّقها زوجها المسلم، عليها أن تعيد إليه المهر. والمرأة المسلمة التي هاجرت إلى دار الإسلام فانفسخ زواجها (بالإسلام أو بمرور العدّة أو بزواجها من آخر) عليها أن تعيد مهرها لزوجها الكافر.
ثالثاً: ... موقع آية الممتحنة من آية البقرة:
آية البقرة تمنع النكاح إطلاقاً بين المسلمين والمشركات، وبين المشركين والمسلمات، وقد جاء الإذن بعد ذلك (بآية المائدة) بزواج المسلمين من الكتابيات، وبقي المنع يشمل الباقي من النساء الكافرات أو المشركات. أمّا زواج المسلمة من غير المسلم فقد بقي ممنوعاً عملاً بعموم آية البقرة. وانعقد على ذلك الإجماع كما هو معروف، ولم تخرج الدراسات المقدّمة إلى هذا المجلس عن هذا الرأي.
وجاءت آية الممتحنة تتناول عقود الزواج السابقة على الإسلام، ويهمّنا في هذا البحث المرأة إذا أسلمت وبقي زوجها على دينه، وتركت بلادها – دار الكفر – والتحقت بدار الإسلام والهجرة. لقد نصّت الآية بوضوح {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ}. وبيّنت علّة ذلك وهي عدم الحلّية بين المؤمنات والكافرين.
إذاً: ... آية البقرة منعت ابتداء النكاح بين المسلمة والكافر.
... وآية الممتحنة أكّدت هذا المنع بالنسبة للعقود السابقة، وللعقود الجديدة {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ} - ولو بموجب عقود سابقة – {وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُن}َّ بموجب عقود جديدة.(1/13)
وإذا كانت آية الممتحنة نزلت بمناسبة هجرة بعض المسلمات إلى المدينة، وجاء النهي عن إرجاعهنّ إلى الكفّار، فإنّ تعليل هذا النهي لم يأت مبنياً على ظرف معيّن يقع فيه الإيذاء أو التعذيب أو الضغط على المرأة المسلمة من زوجها الكافر، وإنّما جاء النهي معلّلاً (بعدم الحلّية) وهذا أمر لا علاقة له باختلاف الدار ولا بالتعرّض للأذى المحتمل.
فآية البقرة تمنع إنشاء عقود جديدة.
وآية الممتحنة تمنع استمرار العقود القديمة.
رابعاً: ... دلالات آية الممتحنة:
أتناول في هذه المسألة أربعة أمور طرحها الأخ الكريم الشيخ عبد الله الجديع:
الأول: ... أنّ لفظ {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} لا يصحّ حمله على إطلاقه بل لا بدّ من تقييده بالكافر المحارب. والحجّة في ذلك:
اعتبار الوحدة الموضوعية في السورة ومراعاة الترابط في السياق، فالآيتان السابقتان لهذه الآية ميّزت بين الكفّار المحاربين فمنعت تولّيهم، وبين الكفّار غير المحاربين فأمرت ببرّهم والإقساط إليهم، ولذلك كان يقتضي في هذه الآية أيضاً إخراج الزوج الكافر أو الزوجة الكافرة غير المحاربين من أن يكونا مُرادَيْن بهذه الآية. قال تعالى: {لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ.
إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ.
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ..} إلخ.
وأجيب على هذا الأمر فأقول:
تنصّ المادّة (64) من القواعد الفقهية المقرّرة في مقدّمة مجلّة الأحكام العدلية على أنّ:
((1/14)
المطلق يجري على إطلاقه، إذا لم يقم دليل التقييد نصاً أو دلالة). واتفق على ذلك جمهور الأصوليين.
ولفظ الكفّار لم يرد تقييده بالنصّ. ولا يصحّ الاستدلال على تقييده بالنصّ السابق له. فالآيتان السابقتان تتناولان العلاقات الاجتماعية العامّة بين الناس فتميّز بين الكافر المحارب فتنهى عن تولّيه، وبين الكافر غير المحارب فتسمح ببرّه والإقساط إليه. أمّا الآية الثالثة فتتناول العلاقات الزوجية، والفرق كبير في الأحكام الشرعية بين العلاقات الاجتماعية الإنسانية والتي تُبنى في الأصل على التعارف والتعايش والتسامح والقسط كما تؤكّد ذلك كثير من الآيات، وبين العلاقات الزوجية التي تُبنى في الأصل على منع التزاوج مع الاختلاف في الدين إلاّ زواج المسلم من الكتابية، فقد أُبيح استثناءً من الأصل المقرّر لأنّ تأثيره في مناقضة مقاصد الزواج أقلّ، وربّما أدّى إلى دخول الكتابيات في الإسلام عن طريق هذا الزواج. ومن الأمور اليقينية التي لا يجوز الاختلاف فيها: أنّ مقاصد الشريعة من إباحة الاجتماع الإنساني في صوره المختلفة، ومن تشريع العلاقات الإنسانية رغم اختلاف الدين، ومن إباحة اللقاء والتزاور، والأمر بالحوار، وإباحة التعاون والمتاجرة وغير ذلك. كلّ ذلك يختلف تماماً عن مقاصد الشريعة في الزواج، وهي كما نعلم التناسل والتكاثر وإقامة الأحكام الشرعية في البيت، وتربية الأولاد على ذلك، وهذه لا تتحقّق بشكل معقول إلاّ أن يختار الزوج شريك حياته على أساس الالتزام الحقيقي بالإسلام، وليس مجرّد الانتماء الاسمي، وهذا ما أكّد عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما أمر الرجل بالزواج بذات الدين وأمر المرأة وأهلها أن يقبلوا صاحب الدين.
الثاني: ... أنّ إلحاق الكافر غير المحارب بالمحارب، قياس للأدنى على الأعلى، وهو باطل. بل هو هنا في مقابلة النصّ، حيث فرّقت الآيتان السابقتان بينهما. هذا قول الشيخ الجديع.
وأقول:(1/15)
إنّ الحكم الأصلي المنصوص عليه في آية البقرة منع زواج المسلمة من غير المسلم بإطلاق. وآية الممتحنة ألحقت الكافر المحارب صاحب العقد السابق بهذا الحكم ومنعت استمرار عقد زواجه، وعلّلت ذلك بكفره لا بحربيّته، فهي لم تنشئ حكماً جديداً وإنّما طبّقت الحكم الأصلي. ولذلك كان من الطبيعي أن يبقى الكافر غير المحارب ملحقاً بحكم الآية الأولى بالتزام النصّ وليس بالقياس، ومن الخطأ الفادح إلحاقه بآية الممتحنة، لأنّ هذا الإلحاق لا يتمّ إلاّ بعد تحقّق أمرين:
الأول: ... تقييد لفظ الكفّار الوارد في الآية: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} بالمحاربين، وهذا موضع خلاف.
والثاني: ... استعمال مفهوم المخالفة مع وجود النصّ وهو أن تقول: إنّ الله تعالى منع إرجاع المسلمة المهاجرة إلى الكفّار المحاربين، فإذا لم يكونوا محاربين يصبح من الجائز إرجاعهم. وهذا يعني أنّ المتزوّجة منهم ترجع إلى زوجها الكافر فيعاشرها معاشرة الأزواج. ومن المعروف أنّ كثيراً من الفقهاء لا يأخذون أصلاً بمفهوم المخالفة، وأنّ الذين يعتدّون بذلك يشترطون أن لا يكون في الأمر نصّ آخر يتناول الحالة المخالفة. وفي هذا الموضوع فإنّ النصّ الآخر المعارض لما يُفهم من الآية حسب مفهوم المخالفة موجود، وهو آية البقرة. ممّا يجعل الأخذ بمفهوم المخالفة مرفوضاً عند جميع الأصوليين.
نحن إذاً لم نقس الأدنى – وهو الكافر غير المحارب – على الأعلى وهو الكافر المحارب.
إنّما ألحقنا الاثنين بحكم التحريم الأصلي الوارد في آية البقرة.
واعتبرنا آية الممتحنة تأكيداً وتنفيذاً لهذا الحكم في إحدى حالاته.
وهي لا تمنع وجوب تنفيذه في سائر الحالات لا نصّاً ولا دلالة.
الثالث: ... ما هو سبب المنع عن إرجاع المهاجرات إلى الكفّار في قوله تعالى: { فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ}؟
- هل هو إبطال النكاح بينهنّ وبين أزواجهنّ؟(1/16)
- أو هو إبطال هجرتها، وتمكين العدوّ المحارب منها، وتعريضها للفتنة في دينها ممّا يجعل استمرار العلاقة الزوجية متعذّراً؟
لا أدري لماذا حصر الشيخ الجديع سبب منع إرجاع المهاجرات إلى الكفّار بهذين الاحتمالين، فأبطل الاحتمال الأول، ولم يعد أمامه إلاّ الاحتمال الثاني؟
أقول:
إنّ سبب منع إرجاع المهاجرات إلى الكفّار ذكره الله تعالى بالنصّ الواضح وفي أعقاب المنع مباشرة حيث يقول: {.. فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ، لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ..}. يقول الإمام الشوكاني في فتح القدير: "إنّ عبارة {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} تعليل للنهي عن إرجاعهنّ، وفيه دليل على أنّ المؤمنة لا تحلّ لكافر، وأنّ إسلام المرأة يوجب فرقتها من زوجها لا مجرّد هجرتها، والتكرير لتأكيد الحرمة، أو الأول لبيان زوال النكاح، والثاني لامتناع النكاح الجديد"(1).
إنّ اعتبار (عدم الحلّية بين المسلمة وغير المسلم) هي علّة المنع من إرجاعهنّ إلى الكفّار إذا خرجن مهاجرات إلى بلاد المسلمين، أو هي سبب هذا المنع، لا يصحّ أن يكون موضع خلاف، لأنّ من له أدنى إلمام بالعربية يفهم هذا الأمر من النصّ. أمّا الخلاف الذي وقع بين العلماء فهو يدور حول:
1 - ... هل عدم الحلّية يؤدّي إلى اعتبار النكاح باطلاً فور إعلان الزوجة إسلامها؟
2 - ... أو يؤدّي إلى اعتبار النكاح باطلاً من حين هجرتها؟
3 - ... أو يؤدّي لاعتباره باطلاً فور انتهاء عدّتها دون أن يسلم زوجها؟
4 - ... أو يؤدّي لطلب إبطاله من السلطان؟
5 - ... أو يؤدّي لاعتباره عقداً موقوفاً حتّى يدخل الزوج في الإسلام أو تتزوّج المرأة غيره (بعد انتهاء عدّتها)؟
__________
(1) 1 – فتح القدير للشوكاني، الجزء الخامس – ص 205(1/17)
وسنعرض فيما بعد رأينا في هذا الموضوع. لكنّنا هنا نؤكّد، أنّ عدم اعتبار النكاح باطلاً لا بالإسلام ولا بالهجرة لا ينفي القول بوجوب العمل على إبطاله، وهو الرأي الذي نختاره، ولا جواز العمل على إبطاله، وهو مقتضى رأي من يقول ببقاء الزوجيّة حتّى يحكم بإبطالها ذو سلطان.
أمّا القول بأنّ سبب المنع عن إرجاع المهاجرات إلى الكفّار (ما في ذلك من إبطال لهجرتها وقد أتت هاربة بدينها، وتمكين للعدوّ المحارب منها، إذ ستنال منه ما لا تطيق، ممّا قد يصير بها إلى الفتنة في دينها، فكان من المتعذّر أن تستمرّ بينه وبينها علاقة زوجيّة مع هذا الاعتبار).
أقول:
هذا الكلام وإن كان واقعاً لكنّه لا يمكن أن يكون سبب المنع في إرجاع المهاجرات إلى الكفّار. لأنّه إذا أخذنا بهذا التفسير أصبح قوله تعالى: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} زيادة لا فائدة منها ولا معنى لها (تعالى الله عن ذلك). إذ لو اكتفى النصّ القرآني الكريم بالقول: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} لفهم الناس من هذا أنّ الإرجاع لا يجوز لأنّه يبطل هجرة المهاجرة، ويمكّن العدوّ المحارب منها، وستنال منه ما لا تطيق، وقد يفتنها عن دينها، وأنهّ من المتعذّر أن تستمرّ بينهما علاقة زوجيّة، فلماذا عقّب الله بعبارة: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} إن لم يكن يقصد معنى إضافياً آخر؟ وهل يجوز أن يكون معنى هذه العبارة هو نفس المعنى الواضح من سياق العبارة السابقة؟
كما أنّ هذا التفسير يناقض صراحة النصّ القرآني، إذ أنّه يعتبر أنّ العلاقة الزوجيّة أصبحت متعذّرة بين الزوجين، بسبب تعرّض الزوجة للإيذاء من زوجها وفتنتها عن دينها، ولذلك فهو يمنع إرجاعها. بينما النصّ القرآني يحدّد السبب بأنّه: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}.
هل نأخذ بالسبب المستنتج من أول العبارة، والذي تنقضه العبارة الثانية؟(1/18)
أم نأخذ بالسبب المنصوص عليه بوضوح قاطع في العبارة الثانية؟
بل هل يجوز أصلاً أن نستنتج سبب الحكم الشرعي إذا كان النصّ يحدّد بوضوح هذا السبب؟
ومن المعروف عند الأصوليين أنّ علّة الحكم الشرعي إذا كانت ثابتة بالنصّ فإنّه لا يصحّ استنباطها بالقرائن.
أمّا الجواب على تساؤلات الشيخ الجديع في هذا المجال، فهذه خلاصته:
1 - ... العلاقة الزوجية التي كانت قبل نزول آية المهاجرات، وكان اختلاف الدين موجوداً.
الجواب: كان اختلاف الدين موجوداً، ولكن لم يكن قد نزل حكم منع زواج المسلمة من غير المسلم، ثمّ نزل هذا الحكم بعد ذلك، كما هو شأن كثير من الأحكام الشرعية. فهل هناك مشكلة إذا قلنا: إنّ هذا الأمر لم يكن ممنوعاً ثمّ منع؟ ألا يمكن اعتبار هذا الأمر من نوع التدرّج في التشريع الذي كان سمة هذا الدين، والشيخ الجديع نفسه يشير إلى ذلك في كتابه (تيسير أصول الفقه).
2 - ... كيف تُوصف علاقة النساء المسلمات المستضعفات اللواتي تعذّر عليهنّ الهجرة من مكّة، وبقين مع أزواجهنّ الكفّار؟
الجواب: ... أنّهنّ معذورات لأنّهنّ مستضعفات كما وصفهنّ الله في سورة النساء. وقد عذرهنّ بنصّ الآية الكريمة: {..إِلاًَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً. فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ، وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا}. ومن المعروف عند الفقهاء أنّ (الضرورات تبيح المحظورات).
وهل يُعقل أن نقول: طالما أنّ العلاقة الزوجية بالنسبة للنساء المستضعفات مع أزواجهنّ الكفّار كانت مباحة لأنّهنّ مضطرّات، فلنجعل الإباحة حكماً دائماً حتّى في غير ضرورة؟ هل يمكن أن يصبح الحكم الاستثنائي قاعدة أصلية يُقاس عليها؟
الرابع: ... سبب النزول:(1/19)
يقول الشيخ الجديع: إنّ الآية تحدّثت عن وضع خاص: مسلمة هربت بدينها ممّن يسعون إلى فتنتها فيه وهم الكفّار المحاربون، إلى من اعتقدت أنّهم ينصرونها فيها وهم مسلمون ... هذا الوضع اقتضى شرائع مناسبة، فأوجب إيواء المؤمنة الهاربة بدينها، ومنع من تمكين العدوّ منها بإرجاعها إليه.
فحاصل النظر في سبب نزول الآية وما احتفّ بها من حيثيّات: عدم قطعيّة سبب المنع من إرجاع المهاجرات إلى الكفّار. وإذا كان الاحتمال على دلالة هذه الآية وارداً، فإنّ ذلك يدلّ على أنّ للاجتهاد فيها مجالاً.
أقول:
(العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) كما يقول الأصوليون.
أي أنّ العام يبقى على عمومه وإن كان وروده بسبب خاص. فالعبرة بالنصوص وما اشتملت عليه من أحكام، وليست العبرة بالأسباب التي دعت إلى مجيء هذه النصوص. يقول الإمام الشافعي: (السبب لا يصنع شيئاً، إنّما تصنع الألفاظ). وأكثر عمومات القرآن والسُنّة جاءت بسبب وقائع تحدث أو جواباً على سؤال.(1/20)
على أنّنا أمام آية الممتحنة نجد النصّ القرآني يعطي علاجاً للواقعة الحادثة وهي (مسلمة هاجرت بدينها من مكّة إلى المدينة، فيطلب امتحانها، ويمنع إرجاعها للكفّار، ويأمر بردّ مهرها إليهم. وكافرة بقيت في مكّة ولم تلحق بزوجها المسلم، أو ارتدّت عن الإسلام ولحقت بمكّة، فينهى عن إمساك عصمتها). ولكنّه عندما أراد بيان العلّة في هذا الحكم، لم يلجأ إلى التعليل بالظروف القائمة، وإنّما رجع إلى التعليل بالحكم الشرعي الأساسي، وهو عدم جواز التناكح أصلاً بين المسلمات وغير المسلمين الثابت بآية البقرة. ومن البديهي القول: إنّ هذا الحكم الأساسي لم يتنزّل بسبب الواقعة الحادثة، إنّما أمر الله تعالى بتطبيقه فيها. لذلك فإنّه حتّى لو لم نأخذ بقاعدة (العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب) فإنّ اللفظ هنا {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} يتضمّن حكماً عامّاً ثبت بآية البقرة وليس ناشئاً عن سبب النزول.
الفصل الثاني
ما هي حقيقة الإجماع في هذه المسألة؟
لقد استعرض الشيخ الجديع مذاهب الصحابة، وتبيّن له أنّ مذهب أميري المؤمنين عمر وعلي (أنّ المرأة إذا أسلمت وهي تحت كافر غير محارب يمكن أن تمكث تحته إن شاءت).
ثمّ استعرض مذاهب التابعين والفقهاء فوجدها ثلاثة عشر قولاً وذكرها مع نسبة كلّ قول إلى صاحبه، ممّا يؤكّد وجود الخلاف في هذه المسألة، فكيف تستساغ دعوى الإجماع؟
وأقول:(1/21)
فلنسلّم بالنتيجة التي وصل إليها الشيخ الجديع، وبصحّة الروايات التي صحّحها وبعدم وجود روايات أخرى في الموضوع، فقد بذل جهداً كبيراً في البحث والتحقيق، ولنقل: إنّه ليس في هذه المسألة إجماع رغم ما نقله كثير من العلماء عن انعقاد الإجماع فيها. إذ يظهر أنّ الإجماع انعقد على تحريم زواج المسلمة من غير المسلم ابتداءً، أمّا من أسلمت وزوجها غير مسلم وبقي على دينه فلم ينعقد على وجوب التفريق في وقت محدّد إجماع. لكن في الحقيقة انعقد الإجماع على مبدأ التفريق الحسّي، وبقي الخلاف حول إبطال العقد وكيف يتمّ ومتى يتمّ. فإذا دقّقنا في الأقوال الثلاثة عشر التي ذكرها الشيخ الجديع – وكان ابن القيّم قد ذكر أنّ الخلاف في هذه المسألة على تسعة أقوال(1)_ وجدنا أنّ هذه الأقوال جميعها ترجع عند التدقيق إلى ثلاثة فقط:
الأول: ... بطلان عقد النكاح السابق بين المسلمة وغير المسلم، والخلاف ضمن هذا القول على وقت البطلان فقط وهو يشمل الأقوال التي ذكرها الشيخ الجديع من 1 إلى 8، والقول الحادي عشر أيضاً وهو أنّه لا يبطل عقد النكاح إلاّ بقضاء القاضي أو بانتهاء العدّة، فهو يتوافق في النهاية مع من يقول ببطلان العقد بانتهاء العدّة.
الثاني: ... لا يبطل عقد النكاح السابق إلاّ بقضاء القاضي مطلقاً أو في دار الإسلام فقط، هذا هو القول التاسع والعاشر والحادي عشر أيضاً.
الثالث: ... ينتقل العقد السابق من عقد لازم إلى عقد جائز، يجيز لها أن تفارقه وتنكح زوجاً غيره إن شاءت، ولا يجوز له أن يطأها مطلقاً في دار الحرب أو في دار الإسلام وفق القول الثاني عشر – قول ابن القيّم – ويجوز الوطء بينهما ما دامت في دار الإسلام وفق القول الثالث عشر – قول عمر وعلي، والذي تبنّاه فيما بعد عامر الشعبي وإبراهيم النخعي وحمّاد بن أبي سليمان.
__________
(1) 1 – أحكام أهل الذمّة لابن القيّم الجوزية – دار العلم للملايين – بيروت. الجزء الأول، صفحة 317 وما بعدها.(1/22)
من هذا التلخيص يتبيّن لنا:
أنّه إذا لم يكن هناك إجماع بالمعنى الأصولي، فإنّ هناك رأي الأكثرية الساحقة من العلماء الذي استقرّ على وجوب إبطال عقد النكاح، وعلى عدم جواز استمرار العلاقة الزوجية.
أمّا رأي ابن تيميه وابن القيّم وهو القول الثاني عشر، فهو يلتقي مع هذا الرأي في تحريم الوطء. ولا يوجب على المرأة إبطال عقد النكاح، بل يجيز لها ذلك، ونحن نؤخّر مناقشته إلى القسم الأخير من هذه الدراسة. وأمّا الرأي المنسوب إلى أميري المؤمنين عمر بن الخطّاب وعلي بن أبي رضي طالب رضي الله عنهما فسنناقشه فيما يلي:
أ - ... مناقشة الرأي المنسوب لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب:
وأقول: (الرأي المنسوب) لا لأنّي أشكّك في صحّة نسبته من حيث السند، فقد بذل الشيخ الجديع جهداً كبيراً، وأثبت صحّة سنده. ومن قبله جميع العلماء الذين نقلوا الكلام عن علي في هذا الصدد قالوا بصحّة سند هذا الرأي إليه.
ولكنّي أشكّك بصحّة المتن، بل أكاد أجزم ببطلانه، لمناقضته للمسلّمات الشرعية المبدئية المأخوذة من آيتي البقرة والممتحنة ولا أريد أن أكرّرها، ولسبب آخر إضافي يؤكّد هذا الأمر وأوضّحه فيما يلي:
أولاً: ... إنّ الروايات المنقولة عن علي - رضي الله عنهم - أربعة هي:
1 – عن عامر الشعبي عن علي - رضي الله عنهم - قال: (إذا أسلمت النصرانية امرأة اليهودي، أو النصراني، كان أحقّ ببضعها، لأنّ له عهداً).
2 – وفي لفظ: (هو أحقّ بها ما لم يخرجها من مصرها).
3 - ... وفي رواية سعيد بن المسيّب عن علي قال: (هو أحقّ بها ما داما في دار الهجرة).
4 - ... وفي لفظ: (هو أحقّ بنكاحها ما كانت في دار هجرتها).
وكلّها تتفق على أنّ للزوجة الذمّية إذا أسلمت وبقي زوجها على دينه، أن تبقى في عصمته مع كامل حقوق ومقتضيات الزوجية طالما أنّهما جميعاً في دار الإسلام، وهو ملتزم عهد الذمّة.
ثانياً: ... في مناقشة هذا الرأي وشرحه وتعليله وبيان حكمته أقول:(1/23)
المسألة الأولى: ... كلّ الروايات ترجع إلى تعليل واحد باللفظ (لأنّ له عهداً) أو بالإشارة (ما لم يخرجها من مصرها)، (ما داما في دار الهجرة)، (ما كانت في دار هجرتها) والمقصود (عهد الذمّة الذي يبقى قائماً ما داما في دار الهجرة، أو ما كانت هي في دار الهجرة ولم يخرجها منها).
فهل عهد الذمّة يصلح تعليلاً لمخالفة حكم شرعي؟
1 - ... اتفق جمهور الفقهاء على أنّه يُشترط في عقد الذمّة (قبول التزام أحكام الإسلام في غير العبادات) فهم في المعاملات والتصرّفات المالية كالمسلمين – باستثناء إباحة التعامل فيما بينهم بالخمر والخنزير – أمّا سائر المعاملات المالية فهم ملزمون بأحكام الإسلام فيها. وهم ملزمون كذلك بأحكام الحدود الشرعية باستثناء شرب الخمر لاعتقادهم حلّها. وهم خاضعون لولاية القضاء العامّة إجمالاً(1).
ولم يرد عن أيّ من الفقهاء أنّ عهد الذمّة يبيح لهم مخالفة أحكامنا الشرعية، بل أصل العقد لا يكون إلاّ بالتزامهم أحكام الإسلام كما هو معروف. ومنها عدم جواز التناكح بين رجالهم ونسائنا.
__________
(1) 1 – راجع تفصيل ذلك في الموسوعة الفقهية الصادرة عن وزارة الأوقاف بالكويت – مصطلح أهل الذمّة – الجزء السابع.(1/24)
2 - ... إنّ سبب نزول آية الممتحنة كما هو معروف، صلح الحديبية الذي قبل فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شرط قريش عليه (أنّ من جاءه من قريش مسلماً ردّه إليهم) ولمّا جاءت المسلمات مهاجرات طالبت قريش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتنفيذ هذا الشرط وردّ المسلمات إليهم، فنزلت هذه الآية، واستثنت النساء من هذا الشرط. أي أنّها أخرجت النساء من العهد بين المسلمين والمشركين، وبيّنت علّة ذلك بقوله تعالى: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} ومعنى ذلك بوضوح: إنّ عدم حلّية المسلمة لغير مسلم، غلبت التزام المسلمين بالعهد (وهو هنا صلح الحديبية)، وذلك مع وجود نصّ عامّ فيه يلزم المسلمين بإعادة من يخرج إليهم من قريش. فكيف إذا لم يكن أصلاً في عقد الذمّة ما يلزم بذلك، بل فيه إلزامهم بعكس ذلك تماماً وهو خضوعهم لأحكام الإسلام؟
المسألة الثانية: ... أنّ فقه الإمام علي - رضي الله عنهم - ، وهو من أفقه الصحابة، تعرّض لكثير من التشويه والتحريف والطمس. ذلك أنّ الأمويين الذين حكموا بلاد الإسلام أكثر من مائة سنة، ازدهر فيها الفقه وانتشرت العلوم الإسلامية، كانوا يجيزون لأنفسهم سبّ علي على المنابر، ومن باب أولى أن يتلاعبوا بفقهه وأن يحاولوا طمسه(1). ولو أنّ هذا الرأي الثابت عنه من حيث السند كان رأيه حقيقة، ومعه عمر بن الخطّاب، لما أمكن أن نجد شبه إجماع عند التابعين على مخالفته. بل إنّنا لا نتصوّر أن يكون هذا هو رأيه، ولا يعرفه أقرب الناس إليه عبد الله بن عبّاس، ولو كان ابن عبّاس قد سمع بهذا الرأي لعلي لكان من الطبيعي أن يشير إليه وهو يدلي برأيه المخالف.
__________
(1) 2 - راجع كتاب جعفر الصادق للشيخ محمد أبي زهرة رحمه الله.(1/25)
ومن جهة ثانية، نحن نعلم أنّ الشيعة الجعفرية كانوا مهتمّين جداً بفقه الإمام علي، وكانوا حريصين كلّ الحرص إذا وجدوا عنده رأياً مخالفاً لجمهور الصحابة والعلماء أن ينشروه، بل إنّهم ينسبون إليه أحياناً آراء تخالف ما عليه الجمهور، وهي غير صحيحة، فكيف لو كان أمامهم رأي ثبتت صحّة نسبته إليه؟ ومع ذلك فإنّنا لم نجد لهذا الرأي أثراً في فقه الجعفرية ولا يشيرون إليه من قريب أو بعيد.
... وأنقل هنا نصّ السيد محمد مكّي العاملي(1)يقول: (ولو أسلم زوج الكتابية دونها فالنكاح بحاله، قبل الدخول وبعده، دائماً ومنقطعاً – يشير بالمنقطع إلى زواج المتعة – كتابياً كان الزوج أو وثنياً، جوّزنا نكاحها للمسلم ابتداءً أم لا – يشير إلى القول بعدم جواز النكاح بين مسلم وكتابية –. ولو أسلمت دونه بعد الدخول، وقف الفسخ على انقضاء العدّة، وهي عدّة الطلاق من حين إسلامها، فإن انقضت ولم يسلم تبيّن أنّها بانت منه حين إسلامها، وإن أسلم قبل انقضائها تبيّن بقاء النكاح. هذا هو المشهور بين الأصحاب وعليه الفتوى. وللشيخ رحمه الله قول بأنّ النكاح لا ينفسخ بانقضاء العدّة إذا كان الزوج ذمّياً، لكن لا يمكّن من الدخول عليها ليلاً، ولا من الخلوة بها، ولا من إخراجها إلى دار الحرب ما دام قائماً بشرائط الذمّة ..). وقد نَسب هذا القول لشيخه، ولم ينسبه للإمام علي، وليس في كتب الشيعة كلّها ما يُشير إلى ذلك.
ب - ... مناقشة الرأي المنسوب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب:
في تحقيق الشيخ الجديع ثبت عنده أنّ المنقول عن عمر بن الخطّاب في هذه المسألة رأيان:
الأول: ... تخيير المرأة بين مفارقة زوجها أو القرار عنده. وروايته صحيحة، وكان قد صحّحها قبله ابن حجر في الفتح وابن حزم في المحلّى.
__________
(1) 1 – ... كتاب الروضة البهيّة شرح اللمعة الدمشقية _ إصدار جامعة النجف الدينية. وهو كتاب موسّع في الفقه الجعفري من تسع مجلّدات، ومن أهمّ الكتب الموثّقة عندهم.(1/26)
الثاني: ... التفريق إذا أبى الزوج أن يسلم. وروايته ضعيفة لأنّها تؤول إلى السفّاح بن مطر وداود بن كردوس، أو يزيد بن علقمة وكلّهم مجهولون.
وفي تحديد الفارق بين القصّتين يقول الشيخ الجديع:
(في القصّة الأولى لم تطلب الزوجة ولا أولياؤها التفريق، وإنّما أراد الناس أن ينزعوها من زوجها، فرحل أهلها إلى عمر – كما في رواية الحسن البصري – فخيّرها. وفي القصّة الثانية رفعت المرأة أو ذووها الأمر إلى السلطان، فرأى التفريق عند إباء الزوج الإسلام قضاء برغبة الزوجة. ويستنتج من ذلك:
1 – أنّ إسلام الزوجة دون الزوج من الأسباب المسوغة لفسخ عقد النكاح.
2 – وأنّ عقد الزواج ينتقل من لازم إلى جائز).
أقول:
إنّ الذي أستنتجه من تحقيق الشيخ الجديع حول هاتين القصّتين يختلف عمّا توصّل إليه في الأمور التالية:
1 - ... في القصّة الثانية يقول: (إنّ المرأة أو ذووها رفعوا الأمر بأنفسهم إلى السلطان راغبين في قضائه، فرأى التفريق عند إباء الزوج الإسلام قضاء برغبة الزوجة).
مع أنّ النصوص التي أوردها لا تؤدّي إلى ذلك.
... الرواية الأولى نصّها: (.. وكان عبّاد نصرانياً، فأسلمت امرأته، وأبى أن يسلم، ففرّق عمر بينهما).
والرواية الثانية تقول: (إنّ القضية رُفعت إلى عمر، فقال للرجل: أسلمت وإلاّ فرّقت بينكما .. ففرّق عمر بينهما). وليس هناك أيّة إشارة إلى أنّ المرأة نفسها هي التي رفعت القضية، أو أهلها. ومن المكن أن يرفع القضية أيّ واحد من المسلمين لأنّها من دعاوى الحسبة. وإنّما أراد الشيخ الجديع أن يقول إنّها هي التي رفعت الدعوى، ليشير أنّها تريد التفريق، وأنّ عمر بالتالي فرّق بناءً لرغبتها، وليس لأنّ الحكم الشرعي يلزمه بالتفريق، وذلك ليوائم بين هذه الرواية والرواية الأولى التي ترك فيها عمر الخيار للزوجة. وهو جمعٌ بين الروايتين مناسب، ولكن تفسير الرواية الثانية كما ذكره محتمل وليس مؤكّداً.(1/27)
2 - ... إنّ اعتبار القصّة الثانية ضعيفة من حيث الرواية، وبالتالي لا يُحتجّ بها، غير مسلّم. فابن حزم نفسه الذي قال عن الرواة (أبو إسحق لم يدرك عمر. والسفّاح وداود بن كردوس أو يزيد بن علقمة مجهولون) هو الذي قبل هذه الرواية(1)فقال بالحرف الواحد:
(.. وأمّا قولنا فمروي عن طائفة من الصحابة رضي الله عنهم، كما روينا من طريق شعبة، أخبرني أبو إسحق الشيباني قال: سمعت يزيد بن علقمة، أنّ جدّه وجدّته كانا نصرانيين، فأسلمت جدّته، ففرّق عمر بن الخطّاب بينهما ..) ثمّ ذكر سائر الروايات عن الصحابة والتابعين التي تؤيّد رأيه.
وكذلك ابن القيّم يقول بالنصّ(2): (وكذلك صحّ عنه – أي عمر بن الخطّاب – أنّ نصرانياً أسلمت امرأته، فقال عمر: إن أسلم فهي امرأته، وإن لم يسلم فرّق بينهما، فلم يسلم ففرّق بينهما، وكذلك قال لعبادة بن النعمان التغلبي وقد أسلمت امرأته: إمّا أن تُسلم وإلاّ نزعتها منك، فأبى، فنزعها منه).
3 - ... وفي القصّة الأولى: ذكر الشيخ الجديع في تخيير عمر للمرأة النصّ التالي: (.. إن شاءت فارقته، وإن شاءت قرّت عنده). لكن ابن القيّم أورد نصاً آخر يقول: (.. إن شاءت فارقته، وإن شاءت أقامت عليه)(3).
وشرح عبارة "أقامت عليه" فقال: (ليس معناها أن تقيم تحته وهو نصراني، بل تنتظر وتتربّص، فمتى أسلم فهي امرأته ولو مكثت سنين)(4).
... وابن حزم أورد نفس النص (.. إن شاءت فارقته، وإن شاءت أقامت عليه)(5).
__________
(1) 1 - في نفس الصفحة 314 – المحلّى – دار الآفاق الحديثة – بيروت.
(2) 2 – زاد المعاد لابن القيّم – الجزء الخامس – ص 139 – طبعة مؤسسة الرسالة – بيروت.
(3) 3 – زاد المعاد لابن القيّم – الجزء الخامس – ص 139 – طبعة مؤسسة الرسالة – بيروت.
(4) 1 – أحكام أهل الذمّة لابن القيّم – الجزء الأول – ص 320 – دار العلم للملايين – بيروت.
(5) 2 – المحلّى لابن حزم – الجزء السابع – ص 313 – دار الآفاق الحديثة – بيروت.(1/28)
... ومن الواضح أنّ عبارة (أقامت عليه) يمكن تفسيرها بالانتظار والمحافظة على عقد الزوجية، دون وطء بخلاف عبارة (قرّت عنده) التي تعني القرار في بيته كزوجة بكامل الحقوق والواجبات ومنها الوطء. فإذا أخذنا بالعبارة الأولى (أقامت عليه) وبتفسير ابن القيّم لها، يمكننا أن نفهم مذهب أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب في هذه المسألة وهو (التفريق الحسّي بين الزوجين لعدم حلّ المقاربة الزوجية، وعدم فسخ العقد إلاّ إذا شاءت الزوجة ذلك، ويكون هذا الجمع بين الروايتين اللتين تتعارضان في الظاهر هو الأصحّ.
ج - ... رأي عامر الشعبي – إبراهيم النخعي – حمّاد بن أبي سليمان:
وقد ذكر الشيخ الجديع من يرى من التابعين بقاء عقد النكاح بين المرأة إذا أسلمت، وبقي زوجها غير مسلم، وتحوّله من عقد لازم إلى عقد جائز، وتبيّن له من التحقيق:
? أنّ الشعبي يقول: (هو أحقّ بها ما كانت في المصر) وهي رواية صحيحة.
? وأنّ النخعي يقول: (هو أحقّ بها ما لم يخرجها من دار هجرتها)
أو (يُقَرّان على نكاحهما) وهما روايتان صحيحتان.
ونقل عنه قول آخر أنّه (.. يُعرض الإسلام على الزوج ... وإن أبى أن يسلم فُرِّق بينهما) وسواء كان الزوجان نصرانيين أو يهوديين أو مجوسيين.
وقال الجديع عن هذه الرواية إنّها أثر حسن.
ووفّق بين النقلين، باعتبار بقائها عند زوجها جائزاً، والتفريق بينهما سائغ لا واجب.
لكن من الواضح أنّ نصّ القول الثاني لا يقبل هذا التوفيق فهو يقرّر التفريق إذا أبى الزوج الإسلام.
وإذا كان التوفيق متعذّراً فهو يرى ترجيح القول الأول لأنّه أصحّ سنداً.
? أمّا حماد بن أبي سليمان فلم يذكر الشيخ الجديع عنه إلاّ أنّه كان يروي قول النخعي ويفتي به، ولم أطلع فيما قرأت على أكثر من ذلك.
أقول:
? لم ينقل الشيخ الجديع عن الشعبي إلاّ رواية واحدة هي المذكورة أعلاه. لكن ابن حزم ذكر مرّتين أنّ قول الشعبي غير ذلك.(1/29)
فقد ذكر في الصفحة (312) من يرى أنّ النكاح ينفسخ ساعة إسلامه .. وعدّ منهم الشعبي.
ثمّ ذكر في الصفحة (314) (وعن الحسن ثابت أيضاً: أيّهما أسلم فرّق الإسلام بينهما، وروي أيضاً عن الشعبي).
وابن حزم يقف عند ظاهر النصوص كما هو معلوم، ويجتهد في تحقيق أسانيدها وفهم متونها. ويبعد أن ينسب هذين القولين للشعبي دون أن يكون مطلعاً على رواياتهما.
? أمّا النخعي فلم أطلع بشأنه فيما قرأت إلاّ على رواية واحدة (يُقَرّان على نكاحهما).
والظاهر من النصوص الواردة عن الشعبي والنخعي أنّهما يقولان برأي الإمام على بن أبي طالب بل إنّ الشعبي هو الذي روى قول الإمام علي في هذه المسألة.
لكن ماذا عن سائر التابعين؟
الروايات التي أوردها الشيخ الجديع عن الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح وطاووس بن كيسان اليماني وسعيد بن جبير ومجاهد بن جبر المكّي وعكرمة مولى ابن عبّاس وعمر بن عبد العزيز وقتادة بن دعامة الدوسي والحكم بن عتيبة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وابن شهاب الزهري. وهؤلاء أحد عشر من كبار التابعين يرون جميعاً أنّ النكاح ينقطع بالإسلام، أو يرون وجوب التفريق بطلقة بائنة، أي إنّهم يرون عدم حلّية استمرار النكاح بين مسلمة وغير مسلم.
د - ... أقوال المذاهب وسائر الفقهاء:(1/30)
أولاً: ... مذهب الشافعية والحنابلة والمالكية والجعفرية(1)والزيدية(2)ومعهم عبد الله بن شبرمة والأوزاعي والليث بن سعد وإسحق بن راهويه: إنّ الفرقة تقع إذا انقضت عدّة الزوجة دون أن يسلم الزوج، مع الخلاف حول عرض الإسلام عليه أم لا.
ثانياً: ... مذهب الحنفية وسفيان الثوري ... – في دار الحرب: إذا انقضت عدّة المرأة ولم يسلم زوجها وقعت الفرقة. وفي دار الإسلام: يُرفع الأمر للقاضي فيعرض الإسلام على الزوج، فإن أبى فرّق القاضي بينهما، وإن لم يفرّق فهي زوجته.
ثالثاً: ... مذهب الظاهرية وابن ثور: ينفسخ النكاح لحظة إسلام الزوجة.
رابعاً: ... مذهب ابن تيميه وابن القيّم، وهو قول عند الجعفرية(3): التفريق الحسّي، لكن العقد باق ما لم تنكح غيره.
__________
(1) 1 - ... جاء في كتاب اللمعة الدمشقية شرح الروضة البهية، وهو من أهم الكتب المعتمدة في المذهب الجعفري، تأليف السيد محمد مكّي العاملي: (وإن أسلمت دونه بعد الدخول، وقف الفسخ على انقضاء العدّة، وهي عدّة الطلاق من حين إسلامها، فإن انقضت ولم يسلم تبيّن أنّها بانت عنه حين إسلامها. وهذا هو المشهور بين الأصحاب وعليه الفتوى). جـ 5 ص 230
(2) 2 - ... يراجع المفصّل في أحكام المرأة – د. عبد الكريم زيدان – جـ 9 ص 100. فقد نقل رأي الزيدية عن (شرح الأزهار – جـ 2 ص 324 – 325).
(3) 1 - ... يقول السيد محمد مكّي العاملي في كتاب اللمعة الدمشقية. جـ 5 ص 230: (وللشيخ رحمه الله قول بأنّ النكاح لا ينفسخ بانقضاء العدّة إذا كان الزوج ذمّياً، لكن لا يمكّن من الدخول عليها ليلاً، ولا من الخلوة بها، ولا من إخراجها إلى دار الحرب ما دام قائماً بشرائط الذمّة).
ويروي شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي في كتابه "تهذيب الأحكام" جـ 7 ص 300 عن أبي جعفر عليه السلام قال: (إنّ أهل الكتاب وجميع من له ذمّة، إذا أسلم أحد الزوجين فهما على نكاحهما، وليس له أن يخرجها من دار الإسلام إلى غيرها، ولا يبيت معها، ولكنّه يأتيها بالنهار).(1/31)
خامساً: ... التفريق للسلطان، نصّ عليه الحنفية وسفيان الثوري وابن شهاب الزهري، وهو مقتضى قول طاووس وسعيد بن جبير والحكم بن عتيبة وعمر بن عبد العزيز، والمقصود: القاضي المسلم.
هـ - ... الخلاصة من أقوال الصحابة والتابعين والفقهاء والمذاهب:
الصحابة:
? مذهب ابن عبّاس: - الرواية الأولى: التفريق بين المسلمة وزوجها إذا بقي على دينه.
- ... ووردت عنه رواية أنّها (أملك بنفسها) ومقتضى ذلك أنّ لها أن تختار التفريق أو البقاء مع زوجها. وهذه الرواية وإن كانت صحيحة من حيث السند، إلاّ أنّ المشهور عن ابن عبّاس الرواية الأولى.
? مذهب عمر بن الخطّاب: وردت عنه روايتان:
- ... تخيير الزوجة بين التفريق أو البقاء مع زوجها (إن كان ذمّياً في دار الإسلام).
- ... التفريق بينها وبين زوجها.
? مذهب علي بن أبي طالب: تخييرها في البقاء مع زوجها ما دام ذمّياً في دار الإسلام.
التابعون:
لم يأخذ بمذهب أميري المؤمنين عمر بن الخطّاب وعلي بن أبي طالب إلاّ عامر الشعبي ورواية عن إبراهيم النخعي، وأجمع التابعون الأحد عشر الذين نقل أقوالهم الشيخ الجديع على التفريق أو إبطال العقد فوراً أو بعد العدّة، مباشرة أو بقرار من السلطان.
المذاهب والفقهاء الآخرون:
أجمعوا على عدم حلّية الحياة الزوجية بين المسلمة وزوجها غير المسلم، وبقي الخلاف بينهم حول إبطال العقد فوراً لحظة إسلامها، أو بعد انقضاء العدّة دون أن يسلم، مباشرة أو بقرار من السلطان، أو بنكاحها زوجاً آخر.(1/32)
هذا هو المقصود من قول كثير من العلماء وفي مقدّمتهم ابن عبد البرّ أنّه (لم يختلف العلماء أنّ الكافرة إذا أسلمت ثمّ انقضت عدّتها أنّه لا سبيل لزوجها إليها إلاّ شيئاً روي عن إبراهيم النخعي شذّ فيه عن جماعة العلماء، ولم يتبعه عليه أحد من الفقهاء إلاّ بعض أهل الظاهر)(1). ويُلاحظ هنا أنّ ابن عبد البرّ لم يقل إنّ الإجماع انعقد على فسخ النكاح أو إبطاله أو التفريق بين الزوجين، وإنّما قال إنّ العلماء لم يختلفوا أنّه لا سبيل لزوجها إليها. وهذا صحيح بعد عصر الصحابة والتابعين كما يظهر.
وقول الشافعي: (ولم أعلم خلافاً في أنّ المتخلّف عن الإسلام منهما، إذا انقضت عدّة المرأة قبل أن يسلم، انقطعت العصمة بينهما)(2). ويظهر أنّ الشافعي لم يصحّ عنده ما نُسب إلى عمر بن الخطّاب وعلي بن أبي طالب وعامر الشعبي وإبراهيم النخعي وحمّاد.
وقول القرطبي: (وأجمعت الأمّة على أنّ المشرك لا يطأ المؤمنة بوجه ..)(3)
ويقول الطحاوي الحنفي: (إنّ الإسلام الطارئ على النكاح، كلّ قد أجمع أنّ فرقة تجب فيه)(4). مع أنّه يعلم بلا شكّ أنّ حمّاد شيخ أبي حنيفة كان يفتي بخلاف ذلك. ولكن يظهر أنّ الإجماع المقصود هو الذي انعقد بين جميع الفقهاء والمذاهب بعد عصر التابعين.
و - ... هل يشترط لتحقّق الإجماع أن يكون في جميع العصور؟
هذا الشرط محال لأنّ معناه الانتظار إلى يوم القيامة حتّى نتحقّق من إجماع جميع المجتهدين، وإذا تحقّق مثل هذا الإجماع فلا فائدة منه بعد نهاية الحياة.
__________
(1) 2 – التمهيد لابن عبد البرّ 12/23
(2) 1 – الأمّ 10/149
(3) 2 – تفسير القرطبي – المجلد الثاني – الجزء الثالث – صفحة 67
(4) 3 – شرح معاني الآثار 3/259.(1/33)
ولذلك اتفق علماء الأصول على (أنّ الإجماع هو اتفاق جميع المجتهدين في عصر من العصور على حكم شرعي). وموضوع حلّ المسلمة لغير مسلم بابتداء عقد زواج لم تقع إباحته فيما نعلم من أيّ من المجتهدين منذ وفاة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - . أمّا العقد الذي كان قائماً، ثمّ أسلمت المرأة بعده، هل يمكن استمراره أو يفسخ؟
أمير المؤمنين علي يرى جواز استمرار العقد إذا كان الزوج ذمّياً، وروي عن عمر ما يفيد جواز ذلك، وما يفيد التفريق.
ثمّ لم يروِ مثل هذا القول من التابعين إلاّ الشعبي والنخعي.
ولم يُفتِ به أحد من العلماء إلاّ حمّاد بن أبي سليمان.
ولم يروَ بعد ذلك عن أحد من العلماء إلاّ جواز استمرار العقد مع اعتباره موقوفاً وعدم حلّ الوطء به. وهذا هو القول المنقول عن ابن تيميه وابن القيّم وعن الشيعة الجعفرية.
معنى ذلك:
أنّ الإجماع منعقد فعلاً بين جميع المذاهب السنّية الأربعة والظاهرية مع الشيعة الجعفرية والزيدية، ولم نسمع ما يخالف ذلك عن أحد من العلماء المجتهدين منذ وفاة حمّاد بن أبي سليمان أنّ المسلمة لا تحلّ لغير مسلم لا بعقد جديد، ولا باستمرار عقد قديم، والخلاف محصور في حال وجود عقد قديم بين من يرى فسخه وإبطاله، ومن يرى اعتباره قائماً ولكنّه موقوف يمنع الوطء به حتّى يسلم الزوج.
أمّا الرأي القديم المنسوب للإمام علي بن أبي طالب، فلم يأخذ به علماء السنّة والشيعة في جميع مذاهبهم، رغم جنوح الشيعة في الكثير من آرائهم الفقهية لمخالفة السنّة، حتّى ولو لم تكن عندهم رواية عن علي - رضي الله عنهم - ، فكيف تكون الرواية موجودة، ويصحّحها السنّة أنفسهم، ثمّ لا يأخذ بها الشيعة. وهذا ممّا يدلّ بشكل قاطع على أنّ الرواية غير صحيحة عن الإمام علي ولو صحّت سنداً. أو أنّها شاذّة فعلاً.(1/34)
أمّا ما رُوي عن عمر بن الخطّاب فهو متناقض ويُسقط بعضه بعضاً، ونحن نستغرب أن يقبل المسلمون كلّ آراء عمر وأقواله، ويتناقلها العلماء والمذاهب جيلاً بعد جيل، إلاّ هذا القول، فلا يجد من يتبنّاه من المذاهب أو العلماء بعد الشعبي والنخعي وحمّاد، ممّا يدلّ على عدم صحّة الرواية المنسوبة إليه بتخيير المرأة، وإن صحّت فهي أيضاً شاذّة لم يأخذ بها أحد من العلماء أو المذاهب.
ومن الطبيعي أن نقول إنّ اعتقادنا بشذوذ هذا الرأي المنسوب لأميري المؤمنين عمر وعلي، لا يؤثّر على حبّنا وتقديرنا لهما واحترامنا لفتاويهما، لأنّنا أولاً لا نسلّم بصدوره عنهما ولو كان السند صحيحاً، ولأنّه رأي يخالف صراحة النصوص القرآنية كما فهمناها، وكما فهمها الجمهور الغالب من العلماء في عصر الصحابة والتابعين، وجميع العلماء والمذاهب بعد عصر التابعين إلى يومنا هذا، ممّا يؤكّد صحّة هذا الفهم للنصوص. وكتاب الله تعالى أولى بالاتباع من رأي يناقضه، أو يؤوّله على وجه لا تقبله أساليب اللغة العربية، ولو كان منسوباً لخليفتين وبسند صحيح، فكيف إذا كانت هناك نقول صحيحة كثيرة عن الصحابة والتابعين تعارض هذا القول؟
ز - ... وفي ضوء ما تقدّم نجد أنّ الأخذ بالقول المنسوب إلى عمر بن الخطّاب وعلي بن أبي طالب والإفتاء به لا يصحّ لأنّه يخالف الإجماع المنعقد بعده بين العلماء والمذاهب، ولأنّنا نشكّ في صحّة نسبة هذا القول إليهما من حيث المتن كما سبق وذكرنا. وإنّ ما أراده ابن القيّم في (إعلام الموقّعين) وما يريده شيخنا القرضاوي هو ترجيح الأخذ بفتاوى الصحابة والتابعين إذا تعارضت مع من يأتي بعدهم بالإجمال لا بالتفصيل، وعندما تعارض الفتوى منهم بأخرى من غيرهم. أمّا عندما يعارضها إجماع، أو حتّى جمهور كبير من العلماء، فالأمر يقتضي التوقّف، فكيف إذا كانت معارضة أيضاً بفتوى صحابيّ آخر كابن عبّاس ترجمان القرآن؟
الفصل الثالث(1/35)
أدلّة الشيخ الجديع على جواز بقاء المرأة بعد إسلامها مع زوجها غير المسلم
الدليل الأول: ... شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد في شرعنا ما ينسخه، واختلاف الدين لم يوجب على نوح ولوط مفارقة زوجتيهما الكافرتين، ولم يوجب على آسية مفارقة زوجها فرعون.
الدليل الثاني: ... إنّ أنكحة الكفّار فيما بينهم صحيحة، ولا تبطل إذا أسلم الزوجان، إلاّ إذا كانت المرأة لا تحلّ لزوجها حسب أحكامنا الشرعية، ولا يُؤمر الزوجان بتجديد النكاح.
الدليل الثالث: ... ما جرى عليه العمل بين المسلمين قبل الهجرة، وأنّ عقود النكاح السابقة كانت على الصحّة، وبقي الناس عليها بعد الإسلام، فهذا دليل على أنّ تغيير الدين لم يكن مؤثّراً في صحّة عقد النكاح السابق.(1/36)
الدليل الرابع: ... ما جرى عليه العمل بعد الهجرة، فبقاء طائفة من المؤمنين بمكّة أمر مقطوع به لقوله تعالى: {..إِلاّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ ..}(1)ولقوله تعالى: {..وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ..}(2). ومن المحتمل أن يكون بين هؤلاء امرأة مسلمة مع زوج كافر، أو رجل مسلم مع زوجة كافرة. بل ما يؤكّد وقوع ذلك قصّة أمّ الفضل لبابة بنت الحارث الهلالية زوجة العبّاس بن عبد المطّلب، وقد أسلمت قبله وبقيت عنده، وقال عبد الله بن عبّاس: (كنت أنا وأمّي من المستضعفين، أنا من الولدان، وأمّي من النساء) رواه البخاري، وقال عن ابن عبّاس إنّه (لم يكن مع أبيه على دين قومه). وعلّق المؤرّخ الذهبي على ذلك بقوله: (فهذا يؤذن بأنّهما أسلما قبل العبّاس وعجزا عن الهجرة)(3). وكذلك قصّة زينب بنت النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ومكثها تحت زوجها أبي العاص بن الربيع، وهي مسلمة وهو يومئذ كافر. هاتان القصّتان دلّتا أنّه بعد الهجرة استمرّ العمل على أنّ اختلاف الدين لم يكن يفرّق بين المرأة وزوجها، وأنهّ لم تأت الشريعة بما يضادّ ذلك قبل آية الممتحنة.
الدليل الخامس: ... آية الممتحنة لم تقل أنّ عقد النكاح قد انقطع بين المهاجرة وزوجها الكافر المحارب، إنّما أباحت لها النكاح. وجاءت قصّة زينب فأثبتت استمرار العقد القديم. ونفي الحلّ لا يعني إبطال العقد السابق لأنّه لم يبطل عقد زواج زينب، وإنّما يعني منع تمكين العدوّ الكافر المحارب من المسلمة.
__________
(1) 1 – سورة النساء، الآية 98
(2) 2 – سورة الفتح، الآية 25
(3) 3 – سير أعلام النبلاء – الذهبي 2/315(1/37)
الدليل السادس: ... إقدام عمر على طلاق زوجتيه المشركتين بمكّة عندما نزل قوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}، ولو انقطع الزواج بهذه الآية لما احتاج للطلاق، ولو لم يطلّق لوقع في المحذور لكن لم تطلق عليه امرأته.
الدليل السابع: ... وقد أشار إليه الشيخ الجديع واعتبره يقوّي رأيه وهو [أنّ التفريق بمجرّده لا يحقّق مصلحة، بل هو مفسدة. ولا يناسب التبشير بدين الإسلام، ونقل قول ابن تيميه: (إنّ المرأة إذا علمت أو الزوج، أنّه بمجرّد إسلامه يزول النكاح ويفارق من يحبّ، ولم يبقَ له عليها سبيل إلاّ برضاها ورضا وليّها ومهر جديد، نفر عن الدخول في الإسلام. بخلاف ما إذا علم كلّ منهما أنّه متى أسلم فالنكاح بحاله، ولا فراق بينهما إلاّ أن يختار هو المفارقة، كان في ذلك من الترغيب في الإسلام ومحبّته ما هو أدعى إلى الدخول فيه)].
... وذكر الشيخ الجديع أنّ رأيه الذي استخلصه من الدراسة أبعد في تحقيق مقصد تأليف القلوب. فقد اعتبر ابن تيميه النكاح قائماً لكنّه موقوف. أمّا الشيخ الجديع فيرى أنّه نافذ، ويجوز لهما أن يقيما معاً إن شاء المسلم منهما ذلك، ما لم يضرّ بدينه، ورجاء أن يشرح الله صدر صاحبه للإسلام، وهذا أعظم في تأليف القلوب.
... وكان الشيخ الجديع قد أشار إلى هذا المعنى في مقدّمة دراسته وذكر سلبيّات التفريق بين الزوجة التي أسلمت وزوجها الباقي على دينه، ومنها:
? أنّ المسلمين في ديار الغربة لا يملكون القدرة على إيواء المسلمين الجدد وكفالتهم، فلو أسلم أحد الزوجين وترتّب على ذلك إلزامه بمفارقة قرينه، فإلى أين يصير؟
? وإذا كان بين الزوجين حبّ ووئام وحسن عشرة قبل الإسلام، ثمّ أسلم أحدهما وألزمناه بمفارقة زوجه، فكيف سيكون ظنّه بدين جديد يفرّق بينه وبين من يحبّ؟
? وكيف إذا كانت بينهما ذرّية، فيجد الجميع أنّ الإسلام فرّق أسرتهم. والله تعالى يعتبر التفريق بين المرء وزوجه من أخلاق الشياطين والسحرة.(1/38)
وأجيب على هذه الأدلّة باختصار فأقول:
الجواب على الدليل الأول: ...
مأخوذ من الدليل نفسه، فالشيخ الجديع يقول (شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد في شرعنا ما ينسخه). وهل هناك شكّ عند أحد من أهل العلم أنّ آية البقرة نسخت الشرائع السابقة بوضوح قاطع؟ والشيخ الجديع نفسه يقول إنّ هذه الآية (دلّت على إبطال الشروع في النكاح على تلك الصفة المذكورة) وشيخنا القرضاوي يقول (فنحن منهيّون ابتداءً أن نزوّج المرأة لكافر، وهذا ممّا لا يجوز التهاون فيه).
وطالما أنّ النسخ صحّ بهذه الآية الواضحة القاطعة، ثمّ أجمع عليه المسلمون بعد ذلك فقد سقط الاستدلال بقصّة امرأتي نوح ولوط وآسية زوجة فرعون. ... مع الإشارة إلى أنّ زوجة فرعون كانت مكرهة، وبالتالي فإنّ اعتبار الإكراه حالة تبيح للزوجة المسلمة أن تظلّ مع زوجها الكافر هي حالة موجودة عندنا لدى النساء المستضعفات في مكّة، وقد عذرهنّ الله تعالى كما بيّنا سابقاً. يدلّ على إكراه آسية زوجة فرعون قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}(1)
الجواب على الدليل الثاني: ...
أنّ أنكحة الكفّار فيما بينهم صحيحة بإطلاق طالما هم على الكفر، لكنّها ليست صحيحة إذا أسلم الزوجان أو أحدهما، بل هي أنواع:
النوع الأول: ... أن لا يكون في أنكحة الكفّار، إذا أسلموا أو أسلم أحد الزوجين، أيّ سبب من أسباب الفساد لو أردنا إجراءها الآن، فهذه تستمرّ على الصحّة بلا خلاف.
__________
(1) 1 – سورة التحريم، الآية 11(1/39)
النوع الثاني: ... أن يكون في أنكحة الكفّار، إذا أسلموا أو أسلم أحد الزوجين، سبب فساد يرجع إلى حرمة المحلّ، أي أنّ هذه المرأة لا يحلّ لها الزواج من هذا الرجل لو أردنا إجراء عقدها الآن، كأن تكون محرّمة عليه بالقرابة أو بالمصاهرة أو بالرضاع، أو أن يكون للزوج عندما أسلم أكثر من أربع زوجات، أو أن تكون ممّن لا يحلّ للرجل أن يجمع بينها وبين زوجة ثانية. ففي هذه الحالة يجب فسخ النكاح بين الرجل والمرأة المحرّمة عليه، وبينه وبين ما يزيد عن الأربع زوجات، وبينه وبين إحدى الزوجتين التي لا يجوز الجمع بينهما. وبالتالي يجب التفريق بين الزوجين إذا أسلما أو أسلم أحدهما، وكلّ ذلك ثابت بالسنّة الصحيحة ولا خلاف عليه.
النوع الثالث: ... أن يكون في أنكحة الكفّار سبب فساد، ولكنّه لا يرجع إلى حرمة المحلّ، كأن يكون العقد قد تمّ بغير شهود أو بدون إذن الولي، بحيث أنّنا لو أردنا عقد الزواج الآن يمكننا أن نستدرك هذه الأسباب فنأتي بالشهود أو نحصل على موافقة الولي، ففي مثل هذه الحالة تعتبر عقود الكفّار صحيحة، بناءً على أصل الاستصحاب. أي أنّها كانت تُعتبر صحيحة عندما كانوا كفّاراً، ولو أنّها عُقدت مع بعض المخالفات الشرعية، لأنّهم غير مخاطبين بفروع الشريعة. فلمّا أسلموا أو أسلم أحدهم، أخضعنا هذه العقود لحكم الشريعة، فوجدنا أنّ هذه المخالفات ليست سبب فساد يؤدّي إلى إبطال هذه العقود، وأنّه لا حاجة لتجديدها وذلك محافظة على استقرار العلاقة الزوجيّة، وهنا فقط يمكن الاستدلال بالقاعدة الفقهية (البقاء أسهل من الابتداء).
هذه الأنواع الثلاثة ممّا وقع حوله الإجماع فيما نعلم لوجود الأدلّة القاطعة عليه. أمّا(1/40)
النوع الرابع: ... موضوع بحثنا، فهو أن يكون سبب الفساد راجعاً إلى اختلاف الدين، كما لو أسلمت المرأة وبقي زوجها على دينه. وكنّا نظنّ أنّ الإجماع أيضاً منعقد على أنّ هذا السبب يوجب التفريق بين الزوجين، ولكن خالف في ذلك بعض الصحابة والتابعين، إلاّ أن جميع العلماء وجميع المذاهب بعد عصر التابعين يتفقون على إلحاق هذا السبب بأسباب الفساد العائدة إلى حرمة المحلّ والمؤدّية إلى وجوب التفريق بين الزوجين. وممّا لا شكّ فيه أنّ إلحاق هذا النوع الرابع بالنوع الثاني أكثر منطقية وانسجاماً مع الأصول من إلحاقه بالنوع الثالث، وذلك فيما لو لم ترد فيه نصوص واضحة قاطعة، فكيف وقد وردت مثل هذه النصوص في آيتي البقرة والممتحنة.
الجواب على الدليل الثالث: ...
وهو أنّ العمل بين المسلمين قبل الهجرة كان على صحّة العقود السابقة للإسلام، وبقائها بعد الإسلام ممّا يدلّ أنّ تغيير الدين لم يكن مؤثّراً في صحّة عقود النكاح السابقة.
ونقول: ...
هذا صحيح، ولكنّه ليس دليلاً في موضع النزاع لأنّ الذين يقولون بإبطال العقود السابقة بسبب اختلاف الدين، أو الذين يقولون بوجوب التفريق بين الزوجين إذا أسلمت المرأة وبقي زوجها على دينه، يستندون إلى آيتي البقرة والممتحنة، إذ هي التي تبيّن الحكم الشرعي في هذه المسألة، ومن المعروف أنّ القرآن الكريم نزل منجّماً، وأنّ الأحكام الشرعية وردت أيضاً بالتدريج، ولا يخالف أيّ من العلماء في أنّ تحريم زواج المسلمة من غير المسلم شُرع بعد الهجرة مع نزول آية البقرة، ولا يقول أحد إنّ تحريم بقاء المسلمة مع زوج غير مسلم كان قبل نزول آية الممتحنة.
نعم. إنّ تغيير الدين لم يكن قبل الهجرة مؤثّراً على صحّة عقود النكاح السابقة لأنّه لم يكن قد ورد الدليل المخالف لذلك، وأصبح مؤثّراً ومؤدّياً إلى التفريق بين الزوجين بعد نزول آية الممتحنة كما ذكرنا.
الجواب على الدليل الرابع: ...(1/41)
وهو أنّ العمل بعد الهجرة استمرّ على أنّ اختلاف الدين لم يكن يفرّق بين المرأة وزوجها، بدليل بقاء المستضعفات في مكّة مع أزواجهنّ، ومنهنّ أمّ الفضل زوجة العباّس، وزينب بنت النبيّ - صلى الله عليه وسلم - زوجة أبي العاص بن الربيع.
ونقول:
1 - ... أماّ أمّ الفضل لبابة بنت الحارث زوجة العبّاس بن عبد المطّلب، فهي أسلمت كما هو معروف قبل العبّاس، وكان ابنها عبد الله بن عبّاس مسلماً تبعاً لها وهو من الولدان، وقد صحّ عنه أنّه قال: (كنت أنا وأمّي من المستضعفين، أنا من الولدان وهي من النساء) رواه البخاري وغيره وعلّق عليه الذهبي بقوله: (فهذا يؤذن بأنّهما أسلما قبل العبّاس وعجزا عن الهجرة)(1).
__________
(1) 1 – سير أعلام النبلاء 2/315(1/42)
... وهذا يعني أنّ أمّ الفضل كانت مع العبّاس مسلمة وهو كافر، قبل أن ينزل حكم وجوب التفريق بين الزوجين باختلاف الدين، فلا حرج عليها. وإن كانت قد بقيت عنده بعد نزول هذا الحكم ومعرفتها به - إذ ربّما نزل الحكم ولم تعرف به لأنّها ليست في دار الإسلام - فهي معذورة لأنّها كانت مستضعفة. والإعذار هنا حكم عام مبني على رفع الحرج في هذا الدين. لكن ورد النصّ على هذا الإعذار في نفس الآية، ممّا يعني أنّه لولا الاستضعاف لوقع المسلمون في المعصية. وأنّه بسبب الاستضعاف فهم يأملون بعفو الله ومغفرته. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ، قَالُوا: فِيمَ كُنتُم؟ْ قَالُوا: كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْض.ِ قَالُوا. أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا؟ فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا. إِلاًَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً. فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ، وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا}(1).
... إنّ تاريخ إسلام أمّ الفضل ليس معروفاً بدقّة، لكنّه كان يقيناً قبل الهجرة، أمّا تاريخ إسلام العبّاس، فهو في أسوأ الاحتمالات عند فتح مكّة. وبناءً على ذلك يمكننا أن نقول: إنّ اختلاف الدين لم يكن يفرّق بين المرأة وزوجها بعد الهجرة بالنسبة للمستضعفات في مكّة. لكن من الواضح أنّ هذا استثناء تفرضه الضرورة، وهو لا يلغي القاعدة الأساسية بل يثبتها.
__________
(1) 1 – سورة النساء، الآيات 97-98-99(1/43)
2 - ... أمّا زينب بنت النبيّ - صلى الله عليه وسلم - زوجة أبي العاص بن الربيع، فمن الثابت كما أكّد الشيخ الجديع نفسه في تحقيقه الدقيق أنّها هاجرت بعد رجوع زوجها من أسره ببدر، وكان ذلك يقيناً قبل نزول آية البقرة وآية الممتحنة. فعندما كانت مع زوجها في مكّة لم يكن حكم التفريق بسبب اختلاف الدين قد نزل، وعندما نزل هذا الحكم كانت أصلاً مفترقة عن زوجها هي في المدينة وهو في مكّة. هذا الافتراق يعني انقطاع الحياة الزوجية ولو بقي العقد معلّقاً موقوفاً، وإذا كانت رواية ابن إسحق عن أسر أبي العاص وإجارته من قِبَل زوجته زينب وقبول رسول الله هذا الجوار وقوله لها: (أي بُنيّة، أكرمي مثواه ولا يخلصنّ إليك، فإنّك لا تحلّين له) رواية ضعيفة وفق تحقيق الشيخ الجديع، إلاّ أنّها هنا لم تنشئ حكماً جديداً حتّى نحتاج إلى توثيقها، بل هي تأكيد للحكم الثابت بالنصّ: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}، ولأنّه حتّى ولو لم ترد هذه الرواية أصلاً، فإنّ مفارقة زينب لزوجها بعد بدر وانقطاع الحياة الزوجية بينهما فعلاً، ونزول آيتي البقرة والممتحنة قبل ذلك يجعل التفريق بين زينب وأبي العاص أمراً ظاهراً، وإن لم يتمّ بعد فسخ العقد نهائياً. وعلى من يريد القول (إنّ جوار زينب لأبي العاص وإطلاق أسره أدّى إلى عودة العلاقة الزوجية بينهما أثناء وجوده في المدينة وهو على كفره)، أن يثبت ذلك لأنّه ادعاء خلاف الظاهر. والصحيح أنّه لم ترد أيّة رواية ولو ضعيفة تتحدّث عن هذا الأمر، فتبقى رواية (.. لا يخلصنّ إليك فإنّك لا تحلّين له) مقبولة ولو كانت ضعيفة، لأنّها متوافقة مع النصوص ومع الواقع، وهي لم تشرّع حكماً جديداً ولكنّها تأكيد لحكم ثابت.(1/44)
... إنّ قصّة زينب تؤكّد إذاً أنّ اختلاف الدين فرّق بينها وبين زوجها ولو حصل ذلك بعد سنوات طويلة من حياتهما المشتركة، ويزيد ذلك تأكيداً ما ثبت أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ردّ زينب إلى زوجها أبي العاص بعد إسلامه بالنكاح الأول. فلماذا الردّ إذا لم تكن الفرقة حاصلة؟
3 - ... من العجيب أن يقول الشيخ الجديع إنّ العمل استمرّ بعد الهجرة على أنّ اختلاف الدين لم يكن يفرّق بين المرأة وزوجها، وهو لم يستدلّ على ذلك إلاّ بهاتين القصّتين، وقد بيّنا أنّ أمّ لبابة معذورة لأنّها كانت من المستضعفات بمكّة، وأنّ زينب كانت مفترقة عن زوجها أبي العاص.
... بينما نجد أنّ كثيراً من الروايات الصحيحة تؤكّد أنّ العمل بعد الهجرة – وخاصّة بعد نزول آيتي البقرة والممتحنة – على أنّ اختلاف الدين يفرّق بين المرأة وزوجها. وحسبنا من هذه الروايات ما ذكره البخاري في صحيحه عن ابن عبّاس (كان المشركون على منزلتين من النبيّ - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين. كانوا مشركي أهل حرب يقاتلهم ويقاتلونه، فكان إذا هاجرت امرأة من أهل الحرب لم تُخطب حتّى تحيض وتطهر، فإذا طهرت حلّ لها النكاح، فإن هاجر زوجها قبل أن تُنكح رُدّت إليه..)(1).
... وما أخرجه أبو داود والترمذي عن ابن عبّاس (أنّ رجلاً جاء مسلماً على عهد النبيّ - صلى الله عليه وسلم - ثمّ جاءت امرأته مسلمة بعده، فقال زوجها: يا رسول الله، إنّها كانت قد أسلمت معي، فردّها عليه)(2). وهذا يؤكّد أنّ العمل بين المسلمين كان على أنّ الهجرة بسبب اختلاف الدين تؤدّي للتفريق بين الزوجين، وأنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اكتفى بتصريح الزوج أنّها أسلمت معه ليردّها عليه. والردّ لا يكون إلاّ بعد فرقة.
الجواب على الدليل الخامس:
__________
(1) 1 – فقه الإمام البخاري – محمد أبو فارس. دار الفرقان، عمّان – الجزء الثاني – صفحة 577
(2) 2 - جامع الأصول لابن الأثير الجزري – الجزء الحادي عشر – صفحة 509(1/45)
1 - ... إنّ آية الممتحنة لم تقل باللفظ إنّ عقد النكاح السابق على الإسلام قد انقطع هذا صحيح. ولكنّها أباحت للزوجة المسلمة المهاجرة أن تنكح زوجاً آخر، وهذا لا يمكن أن يكون إلاّ بعد إنهاء العقد السابق، والسؤال المطروح هنا: هل أنّ إنهاء العقد السابق واجب عليها أم هو جائز فقط؟ الظاهر من قوله تعالى: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} أنّ إنهاء العقد السابق واجب لعدم الحلّية. يؤيّد ذلك قوله تعالى: {وآتوهم ما أنفقوا ..} فإنّ إرجاع المهور إلى الأزواج الكفّار دليل على إنهاء العقود. والخطاب كان بفعل الأمر. وهو يتناول جميع العقود السابقة لنساء مسلمات مهاجرات، ممّا يعني أنّ السعي لإنهاء العقد السابق واجب على المرأة المسلمة، وليس جائزاً فقط. ولا يُعارض هذا رأي ابن القيّم أنّها يمكن أن تتزوّج غيره، أو أن تنتظره حتّى يسلم فتعود إليه.
2 - ... قصّة زينب وزوجها أبي العاص لم تثبت استمرار العقد القديم بكلّ مفاعيله، إنّما أثبتت أنّ العقد لا يزال موجوداً باعتبار أنّه لم ينقض لا بطلب منها ولا بقرار القاضي، ولكنّه كان موقوفاً عن التنفيذ، وكانت العلاقة الزوجية منتفية تماماً (وانتفاؤها هو أدنى درجات عدم الحلّية). يؤكّد ذلك أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (ردّ زينب ابنته على زوجها أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول ولم يحدث شيئاً) وهذه هي الرواية الصحيحة كما حقّق الشيخ الجديع. فما معنى الردّ؟ ببساطة متناهية نفهم أنّ العلاقة الزوجية كانت منقطعة وعندما ردّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - زينب إلى زوجها عادت العلاقة الزوجية بينهما. ولو كانت العلاقة مستمرّة لما كانت هناك حاجة إلى الردّ.
... إذاً قصّة زينب تؤكّد انقطاع العلاقة الزوجية، أمّا انقطاع العقد أو استمراره أو توقيفه فهو وحده محلّ الخلاف.(1/46)
3 - ... نفي الحلّ في قوله تعالى: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} لا يعني إبطال العقد أو انفساخه بذاته، هذا صحيح، ولكنّه إشعار للمؤمنين بأنّ العلاقة الزوجية بين المرأة المسلمة وزوجها الكافر ليست حلالاً إلاّ أن يؤمن، وبالتالي يجب عليها السعي لفسخ هذا العقد. أمّا القول (إنّ عدم الحلّية يعني عدم تمكين الكافر المحارب من زوجته المسلمة المهاجرة) فقد ناقشناه سابقاً ولا ضرورة للإعادة.
الجواب على الدليل السادس:
إنّ إقدام عمر بن الخطّاب على طلاق زوجتيه المشركتين المقيمتين في مكّة تنفيذاً للأمر الإلهي {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} قد يعني أنّ العقد لم ينقطع بمجرّد الأمر الإلهي، وأنّه لا بدّ أن ينفّذ المسلم هذا الأمر، فإن كان الرجل هو المسلم والمرأة كافرة – غير كتابية – فعليه أن يطلّقها، وهذا معنى الآية {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ}. وإن كانت المرأة مسلمة وزوجها غير مسلم فعليها أن تطلب التفريق من الجهة التي يمكنها ذلك وهذا معنى قوله: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}. فإن كانت في دار الإسلام فهي تطلب التفريق من القاضي المسلم، وعليه أن يجيبها لطلبها إذا عرض عليه الإسلام وأبى طالما هو ينفّذ الأحكام الشرعية. وإن كانت خارج دار الإسلام فعليها أن تطلب من الجهة القضائية المختصّة التفريق، وإذا كان هذا الأمر ممكناً فهو يرفع عنها واجب الهجرة لأنّها عند ذلك تستطيع أن تبقى في وطنها دون أن تتعرّض لأذى أو فتنة أو إجبار على معصية أمر الله.
والشيخ الجديع يقول: إنّه لو لم ينفّذ عمر الأمر القرآني لكان مواقعاً للمحذور، ولكن لا تطلق عليه امرأته.(1/47)
هذا كلام صحيح، ونحن نقول مثله في حقّ المرأة المسلمة التي لا تطلب التفريق عن زوجها الكافر، وتعيش معه حياة زوجيّة كاملة أنّها وقعت في المحذور. أمّا التفريق فهو لا يقع في نظرنا إلاّ باتفاق الزوجين، أو بقرار من القاضي. ذلك لأنّ التفريق بين الزوجين هو فسخ للعقد القائم. والعقد لا يقوم إلاّ بالتراضي بين الطرفين، وهو يُفسخ أيضاً بالتراضي. وحين يكون فسخه واجباً تنفيذاً لأمر شرعي فلا يمكن أن يتمّ إلاّ من قِبَل القضاء. والقاعدة العامّة في العقود – كما يقول السنهوري في كتابه نظرية العقد – أنّ الفسخ لا يتمّ إلاّ بالتراضي أو بالقضاء.
بل نقول: إنّه لو لم يكن هناك نصّ في حقّ المرأة المسلمة يوجب عليها طلب التفريق من زوجها غير المسلم، فإنّ القياس على هذا النصّ {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} هو قياس من باب أولى. لأنّه إذا كان مطلوباً من الرجل المسلم أن يطلّق زوجته غير الكتابية بسبب اختلاف الدين، وهو صاحب القوامة وربّ العائلة، فمن باب أولى أن تؤمر المرأة المسلمة بطلب التفريق من زوجها غير المسلم بسبب اختلاف الدين، لأنّ القوامة له وهو ربّ العائلة ومن الطبيعي أن يقيم البيت وفق نظرته المخالفة للإسلام، حتّى ولو لم يقهرها شخصياً على الوقوع في المحرّمات.
الجواب على الدليل السابع:
وهو أنّ التفريق لا يحقّق مصلحة، بل هو مفسدة، لأنّه ينفّر من الدخول في الإسلام:
أقول:
1 - ... اتفق جمهور العلماء على أنّ الشرع إذا أمر بشيء فهو مصلحة، وإذا نهى عن شيء فهو مفسدة، ولو لم يدرك ذلك الناس بعقولهم، لأنّ المصلحة أو المفسدة تتبع النصّ الشرعي إن وُجِد. وإذا ظنّ الناس وجود مصلحة في مخالفة النصّ فهي مصلحة مُتوهّمة، وليست حقيقيّة.(1/48)
... كما اتفقوا فيما نعلم أنّ البحث في وجوه المصلحة أو المفسدة، لا يكون إلاّ في الأمور غير المنصوص عليها، والتي يكون حكمها الشرعي الاجتهادي متأثّراً بما فيها من مصالح أو مفاسد، حسب تقديرات المجتهدين.
2 - ... إذا علمت المرأة أنّها ستفترق عن زوجها إن هي أسلمت، نفرت من الإسلام، وإذا علمت أنّ النكاح يبقى بحاله شجّعها ذلك على الدخول في الإسلام.
... لو سلّمنا بهذا الكلام فماذا نقول إذا أسلمت المرأة وكانت متزوّجة من أحد أقربائها الذين يُمنع عليهم التزوّج بها؟ أو بمن ثبت رضاعه معها من امرأة واحدة رضاعاً محرّماً. هل نغيّر الحكم الشرعي في حقّها حتّى نشجّعها على الدخول في الإسلام؟
... وماذا نقول لو أسلمت المرأة، وكانت قد عقدت زواجاً مع امرأة أخرى تحبّها، وقد أصبح زواج الجنس الواحد مشروعاً في بعض الدول غير الإسلامية؟ هل نقول لها: إنّ الإسلام لا يقرّ هذا الزواج ويجب أن يحصل التفريق بينكما، أو نغيّر هذا الحكم الشرعي حتّى نشجّعها على الدخول في الإسلام؟(1/49)
3 - ... أمّا السؤال: لو أسلم أحد الزوجين، وترتّب على ذلك إلزامه بمفارقة قرينه، فإلى أين يصير؟ فهو سؤال غريب، لأنّ المعروف اليوم في دول العالم – غير الإسلامي – أنّ الدولة تكفل مواطنيها. وأنّ المرأة إذا أسلمت لا تخسر جنسيّتها، وبالتالي فستظلّ مكفولة من الدولة بشكل أفضل بكثير من بلادنا الإسلامية. ثمّ هي تستطيع إن شاءت أن لا تتزوّج رجلاً آخر، وتنتظر زوجها السابق حتّى يسلم، كما يمكنها أن تتزوّج أحد المسلمين، فمصيرها في جميع الأحوال ليس فيه حرج لا يُحتمل. وإن وُجِد هذا الحرج في حالات خاصّة فليس معقولاً أن نبني عليه حكماً عامّاً. ولو أسلمت المرأة وبقيت تعيش مع زوجها غير المسلم وهي عاصية بذلك، وقد تكون معذورة عند الله، وقد يغفر لها الله. ولكن تغيير الحكم الشرعي الأساسي بحقّ جميع المسلمات، وما يترتّب عليه من إقامة بيوت غير إسلامية، ومن إنجاب ذرّية جديدة ضائعة بين أمّ مسلمة وأب غير مسلم، ومن اضطرار المرأة المسلمة - مسايرة لزوجها غير المسلم - إلى التساهل في كثير من الأحكام الشرعية بعدما قبلت من حيث الأصل أن تعيش زوجة لرجل غير مسلم. كلّ هذه النتائج تترتّب على هذا القول الخاطئ.
4 - ... وهذه زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كانت تعيش مع زوجها أبي العاص في منتهى الحبّ والوئام وحسن العشرة، ومع ذلك فقد فارقت زوجها، ولم ترجع إليه إلاّ بعد أن أسلم، وهذا ما صحّ عند الشيخ الجديع نفسه (أنّ رسول الله ردّ زينب إلى زوجها بالنكاح الأول) فهو قد ردّها لأنّها كانت مفارقة له، ولم يردّها إليه إلاّ بعد أن أسلم وهاجر. لقد فرّق الإسلام بين زينب وبين زوجها الذي تحبّ، ورضيت هي بذلك، وهو لم يزدد نفوراً من الإسلام، لأنّها بقيت تعامله حتّى بعد الافتراق بالوفاء الواجب أملاً بإسلامه، ولم يمنعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك.(1/50)
5 - ... وماذا عن المرتدّ؟ إنّ عقده الأصلي مع زوجته المسلمة عقد صحيح، ومع ذلك فإنّ ردّته توجب فسخ هذا العقد، ولا يُلتفت إلى إمكان خراب العائلة، لأنّ خرابها بردّته أكبر بكثير. ومهما كان بينه وبين زوجته المسلمة من مودّة وألفة، فإنّ الردّة ينبغي أن تُبطِل ذلك.
6 - ... وإذا كانت هناك ذرّية، فإنّ الإسلام يحرص على جمع الأسرة لتقيم حدود الله، وإذا كان اجتماعها لمعصية الله فهو غير مطلوب. هذا من البدهيّات التي أشارت إليها كثير من النصوص الشرعية. والأسرة يجب أن تقوم أولاً وفق أحكام الشريعة، لتستطيع بعدها إقامة هذه الأحكام. وممّا لا شكّ فيه، أنّه إذا لم يكن هنا أولاد، فإنّ التفريق بين الزوجين بسبب الإسلام لا يترتّب عليه أيّ ضرر، اللهمّ إلاّ مفارقة الزوجة لزوجها الذي قد تحبّ. أمّا حين يوجد الأولاد فمسؤولية الزوجة تجاههم قائمة، تفرضها الفطرة ويفرضها الإسلام، وعليها أن تقوم بهذه المسؤولية حتّى مع الافتراق عن زوجها، وضمن حدود الضوابط الشرعية. إنّ مسؤولية الزوجة تجاه أولادها ليست فقط الاعتناء بأمورهم المادّية، ولكن أيضاً وقايتهم من النار وهذا لا يتمّ إلاّ بالإيمان والطاعة، وهو لا يقوم في بيت يكون الأب فيه غير مؤمن أصلاً، والتفريق يساعد الأبناء على التعرّف على الإسلام ليس فقط من خلال انفصال الأبوين، وإنّما أيضاً من خلال اختلاف كلّ منهما، ومن خلال التساؤل عن العقيدة التي كانت سبب التفريق، وإشعارهم أنّ عقيدة الإنسان هي أهمّ شيء في حياته على الإطلاق.
... ولا يمكن قياس هذا التفريق بسبب اختلاف الدين، على تفريق السحرة والشياطين، الذي ليس له هدف إلاّ تهديم العائلات، أمّا التفريق بالإسلام فهدفه الأصلي بناء العائلة على أسس متينة، وأول هذه الأسس وحدة الدين.(1/51)
7 - ... ولو أنّ الشيخ الجديع وقف في مقصد تأليف القلوب والتبشير بالإسلام عند الحدّ الذي وقف عليه ابن تيميه وابن القيّم وأيّدهم فيه كثير من المحقّقين منهم الصنعاني في "سُبُل السلام"(1)والشوكاني في "نيل الأوطار"(2)والسيد سابق في "فقه السنّة"(3)الذي نقل أيضاً قول صاحب "الروضة النديّة" في تأييد هذا الرأي، والشيخ خالد عبد القادر(4)في "فقه الأقلّيات المسلمة حيث قال: إنّ هذا هو مذهب علي وابن عبّاس والنخعي والزهري وابن تيميه، لكان الأمر مقبولاً، ولو أنّه يخالف المعمول به في المذاهب المعتبرة، لأنّ هؤلاء قالوا بعدم إبطال عقد النكاح، واكتفوا بوقفه أي منعوا المعاشرة الزوجية. فلم يخرقوا الإجماع المنعقد على ذلك بعد عصر التابعين فيما نرجّح. أمّا الشيخ الجديع فقد ذهب إلى بقاء العقد السابق مع جميع مفاعيله ومنها الوطء، فخالف النصوص الواضحة، وأوّل ما لا يقبل التأويل.
قصّة زينب رضي الله عنها: ...
فيما تقدّم تناولنا أطرافاً من قصّة زينب رضي الله عنها – وهي كما يبدو أهمّ حدث في السنّة النبويّة يبيّن فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحكم الشرعي في هذه المسألة بشيء من التفصيل – ولذلك رأيت ذكرها بالتفصيل مع مناقشة ما استنتجه الشيخ الجديع منها.
خلاصة القصّة:
1 - ... أنّ زينب أسلمت مع أمّها خديجة منذ بعثة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد حكّى ابن حزم الإجماع في ذلك كما نقله عنه ابن القيّم في أحكام أهل الذمّة(5).
__________
(1) 1 - ... سبل السلام – الجزء الثالث – صفحة 132
(2) 2 - ... نيل الأوطار – الجزء السادس – صفحة 185
(3) 3 - ... فقه السنّة – الجزء الثاني – صفحة 240
(4) 4 - ... فقه الأقليّات المسلمة – دار الإيمان – طرابلس لبنان – صفحة 463 – الطبعة الأولى 1998
(5) 1 – ... أحكام أهل الذمّة – ابن القيّم – الجزء الأول – صفحة 330(1/52)
2 - ... أنّها بقيت مع زوجها أبي العاص بن الربيع في مكّة وهو على شركه، لم تهاجر إلى المدينة مع أبيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . ومن المفيد هنا أن ننقل ما ذكره ابن إسحق في سيرة ابن هشام: (وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد زوّج عتبة بن أبي لهب رقيّة أو أمّ كلثوم – ويروي سُهيل أنّها رقيّة وأنّ أمّ كلثوم كانت زوجة عتبة – فلمّا بادى قريشاً بأمر الله تعالى وبالعداوة، قالوا: إنّكم قد فرّغتم محمداً من همّه، فرُدّوا عليه بناته فاشغلوه بهنّ. ومشوا إلى أبي العاص وقالوا له: فارق صاحبتك ونحن نزوّجك أيّ امرأة من قريش شئت. قال: لا والله، إنّي لا أفارق صاحبتي، وما أحبّ أنّ لي بامرأتي امرأة من قريش، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يثني عليه في صهره خيراً فيما بلغني ..)
... يقول صاحب الفتح الربّاني في ترتيب مسند الإمام أحمد: (وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يثني عليه - أي أبي العاص - في صهره فيما بلغني. قال الحافظ بن كثير في تاريخه: الحديث بذلك في الثناء عليه ثابت في الصحيح).
... يُفهم من جميع هذه الروايات أنّ زينب لم تكن تتعرّض عند زوجها أبي العاص لأيّ أذى أو ضرر أو فتنة، بل كانت مكرّمة محترمة.
3 - ... في غزوة بدر خرج زوجها مقاتلاً مع المشركين فأسره المسلمون، (فبعثت زينب في فدائه بمال، وبعثت فيه بقلادة لها كانت خديجة أدخلتها بها على أبي العاص حين بنى بها، فلمّا رآها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رقّ لها رقّة شديدة وقال: إن أردتم أن تطلقوا لها أسيرها، وتردّوا عليها مالها فافعلوا. فقالوا: نعم يا رسول الله. فأطلقوه، وردّوا عليها الذي لها)(1).
__________
(1) 2 – ذكر الشيخ الجديع عن هذه الرواية أنّها حديث حسن أخرجه أحمد وأبو داود والطبراني والبيهقي والحاكم وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم.(1/53)
4 - ... قال ابن إسحق في سيرة ابن هشام: (وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أخذ عليه، أو وعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك، أن يخلي سبيل زينب إليه، أو كان فيما شرط عليه في إطلاقه، ولم يظهر ذلك منه ولا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قال الشيخ الجديع: هذا لم يثبت إسناده. غير أنّه بغضّ النظر عمّا إذا كان بوعد من أبي العاص للنبيّ - صلى الله عليه وسلم - أو مجرّد رغبة من زينب بالهجرة، فإنّها خرجت من مكّة مهاجرة إلى أبيها بُعيد رجوع زوجها من الأسر فيما يبدو، وذكر تفصيل هجرتها حسب الروايات، وفيها أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسل زيد بن حارثة ليأتيه بزينب، وأرسل معه خاتمه، والتقى زيد راعياً لأبي العاص يرعى غنماً لزينب، فأعطاه الخاتم ليعطيه لزينب، فلمّا رأته خرجت حتّى وصلت إليه، وركبت وراءه حتّى أوصلها إلى المدينة، وكانت قد خرجت قبل ذلك ولكن أرجعها المشركون بالقوّة، وروّعها هبّار بن الأسود حتّى ألقت ما في بطنها.
... يقول الشيخ الجديع عن هذه الروايات أنّها حديث حسن. وهذا قرينة واضحة على صحّة الروايات الأولى عن طلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أبي العاص إطلاق ابنته زينب، وعن وعد أبي العاص بذلك. وإلاّ فكيف يمكن أن نفهم أنّ خروج زينب إلى مكان معيّن، وإرسال زيد بن حارثة للمجيء بها، ولقاؤهما معاً في مكان محدّد، وركوبها معه، كلّ ذلك حصل بدون ترتيب مسبق.(1/54)
... إنّ رواية اشتراط الرسول على أبي العاص إخلاء سبيل زينب، ووعد أبي العاص بذلك، لو فرضنا أنّها غير مسندة، فإنّها تتقوّى بهذا الحديث الحسن. وتكون هذه القصّة دليلاً على أنّ زينب لم تهاجر بمجرّد رغبتها، وإنّما بطلب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . والرسول لم يطلب منها ذلك خوفاً عليها من فتنتها في دينها، لأنّ كلّ الروايات تشير إلى أنّ أبا العاص كان يكرمها ويحترمها، وكان نعم الصهر كما قال عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . ولم تكن آية البقرة أو آية الممتحنة قد نزلت بعد، ولعلّ هذا الطلب كان إرهاصاً من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإشارة إلى حكم شرعي في هذا الموضوع سيتنزّل فيما بعد.
5 - ... أمّا قصّة أسره، وطلبه من زينب أن تجيره، وموافقتها على ذلك، وقبول هذا الجوار من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين، فقد وردت فيها روايات متعدّدة منها:
الأولى: ... أنّه (خرج تاجراً إلى الشام بمال له وأموال لرجال من قريش، وفي طريق رجوعه لقيته سريّة لرسول الله من الأنصار – وهي سريّة زيد بن حارثة إلى العيص، في جمادى الأولى سنة ستّ من الهجرة – فأخذوا الأموال، وأسروا أناساً ممّن كان في العير، منهم أبو العاص بن الربيع، وقدموا بهم إلى المدينة، فاستجار أبو العاص بزوجته زينب بنت رسول الله فأجارته، وقبل الرسول إجارتها، وردّ عليه ما أُخذ منه، وجاء إلى مكّة وأدّى إلى كلّ ذي حقّ حقّه ثم نطق بالشهادتين، ثمّ رجع إلى المدينة، فردّ عليه الرسول زينب بذلك النكاح الأول)(1).
__________
(1) 1 - ... السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية – د. مهدي أحمد. مركز الملك فيصل – ط أولى 1992 ص 471. وقد نقل هذه الرواية عن ابن سعد وابن هشام والواقدي وغيرهم وكلّها بأسانيد ضعيفة. ويلفت المؤلّف إلى أنّ ابن كثير في البداية والنهاية يرى أنّ إسلام أبي العاص كان سنة ثمانية للهجرة سنة الفتح، لا كما ذكر الواقدي في هذه الرواية أنهّ كان سنة ستّ.(1/55)
الثانية: ... أنّ الذين اعترضوه هم أبو جندل وأبو بصير وأصحابهما، وأنّهم أخذوا الأموال وأسروا الرجال إلاّ أبا العاص فقد خلّوا سبيله، فقدم على امرأته زينب بالمدينة، فكلّمها في أصحابه الذين أسرهم أبو جندل وأبو بصير وما أخذوا منهم، فكلّمت رسول الله أن يجيرهم، فسأل الناس ذلك فقالوا: نعم، فلمّا بلغ ذلك أبا جندل وأصحابه، ردّ إليهم كلّ شيء أّخذ منهم(1).
الثالثة: ... ما ذكره ابن هشام عن ابن إسحق، أنّ أبا العاص لمّا فرغ من تجارته وأقبل قافلاً (لقيته سريّة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأصابوا ما معه، وأعجزهم هارباً، فلمّا قدمت السريّة بما أصابوا من ماله، أقبل أبو العاص تحت الليل حتّى دخل على زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستجار بها فأجارته) وقبل رسول الله إجارتها وقال لها: (أي بُنيّة، أكرمي مثواه، ولا يخلصنّ إليك، فإنّك لا تحلّين له)(2).
من هذه الروايات الثلاثة يتضح لنا ما يأتي:
1 - ... هناك خلاف في تاريخ هذا الحدث هل هو في سريّة زيد بن حارثة إلى العيص في شهر جمادى الأولى سنة ستّ من الهجرة (أي قبل صلح الحديبية ونزول آية {فلا ترجعوهنّ إلى الكفّار}، وصلح الحديبية كما هو معروف وقع في شهر ذي القعدة من نفس السنة أي بعد ستّة أشهر تقريباً، كما روى البخاري وغيره) هذه رواية الواقدي. أو أنّ هذا الحدث كان بعد الحديبية على يد أبي جندل ومن معه، وكانوا أيضاً في ناحية العيص كما في رواية الزهري وابن عساكر التي رجّحها الشيخ الجديع، ومعنى ذلك أنّه وقع في السنة السابعة للهجرة بعد نزول آية الممتحنة {فلا ترجعوهنّ إلى الكفّار}.
__________
(1) 2 – هذه خلاصة الرواية التي ذكرها الشيخ الجديع، وقال إنّها لا تثبت من حيث الإسناد.
(2) 3 – السيرة النبوية – ابن هشام – المجلّد الأول – دار الكنوز الأدبية – صفحة 657 – 658(1/56)
2 - ... الخلاف الثاني: هل أُسِر أبو العاص بن الربيع وبقي في الأسر حتّى أجارته زينب، وقد ذكر الشيخ الجديع أنّ هذا حديث حسن، أم أنّ أبا العاص هرب من الأسر، أو أنّه أُطلق لقرابته من الرسول - صلى الله عليه وسلم - ودخل المدينة وطلب جوار زينب ليسترجع المال الذي أُخذ منه ويعيده إلى أصحابه، وهو خلاف لا تأثير له على موضوعنا.
3 - ... الخلاف الثالث حول العبارة الواردة في آخر القصّة أنّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال لابنته زينب: (أي بُنيّة أكرمي مثواه، ولا يخلصنّ إليك، فإنّك لا تحلّين له). وقد وردت هذه العبارة في سيرة ابن هشام، وأخرجها الطبراني في (الكبير) والبيهقي في (الكبرى) وابن جرير في (تاريخه) وابن سعد في (الطبقات) .. وقد ذكر الشيخ الجديع أنّ جميع هذه الروايات تعود إلى يزيد بن رومان، وهو تابعي صغير مراسيله كالمعضلات لأنّ أكثر ما يرويه عن التابعين.
... لكنّ الحاكم أخرج هذا الحديث بهذه العبارة في كتاب المغازي منقطعاً، أمّا في كتاب المستدرك فقد أخرجه عن يزيد بن رومان عن عروة عن عائشة.
... واعتبر الشيخ الجديع أنّ ما ذكره الحاكم في المستدرك هو الخطأ، وأنّ الصواب ما ورد في المغازي. وأنّ سبب الخطأ هو الوهم الذي وقع فيه الحاكم عندما ذكر روايات ابن إسحق لقصّة زينب، ومنها ما هو مرسل ومنها ما هو مفصّل ومنها ما هو مسند، فظنّ أنّ هذه العبارة تتبع أقرب ما ساقه ابن إسحق من إسناد قُبيل ذلك.
أقول: ... هذا اتهام للحاكم لا يمكن التسليم به. والأصل عنده في كتاب المستدرك أن يحرص على السند ويتحقّق منه أكثر من كتاب المغازي.(1/57)
6 - ... اتفقت جميع الروايات أنّ أبا العاص رجع بأمواله وتجارته إلى مكّة، فأدّى إلى كلّ ذي حقّ حقّه، ثمّ أسلم وهاجر إلى المدينة قبل فتح مكّة في السنة السادسة للهجرة حسب رواية الواقدي، وفي السنة الثامنة حسب رواية ابن كثير، وأنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ردّ إليه ابنته زينب، بالنكاح الأول في رواية عبد الله بن عبّاس وهي الأصحّ، أو بعقد جديد كما في رواية عمرو بن شعيب، واستؤنفت بينهما الحياة الزوجية. وذكر ابن جرير عن الواقدي أنّ ردّ زينب إلى زوجها أبي العاص حصل في شهر المحرّم من السنة السابعة للهجرة، وأنّها تُوفّيت في السنة الثامنة. وأيّاً ما كان موعد إسلام أبي العاص وهجرته وردّ زينب إليه، فإنّه من الثابت سنداً أنّ ردّها إليه كان بالعقد الأول. ولذلك لن نناقش في مسألة ردّها بعقد جديد ومهر جديد. ولكنّنا سنتناول المدّة التي انفصلت عنه فيها بالتوضيحات التالية:
? ثبت أنّ زينب هاجرت وانفصلت عن زوجها بعد غزوة بدر الكبرى أي في السنة الثانية للهجرة.
? يُقال أنّ زينب رُدّت إلى زوجها في السنة السادسة للهجرة على أقلّ الروايات – لأنّ سريّة زيد بن حارثة إلى العيص كانت في جمادى الأولى من هذه السنة – فيكون انفصالها عنه أربع سنوات. أو أنّها رُدّت إليه في السنة الثامنة للهجرة قُبيل فتح مكّة إذا قلنا برواية اعتراض أبي جندل لقافلته في العيص، وفي هذه الحالة تكون مدّة انفصالها عنه ستّ سنوات.
? في حالة الرواية الأولى، يكون قد أسلم ورُدّت زوجته إليه قبل نزول آية الممتحنة التي منعت إرجاع المسلمات إلى أزواجهم الكافرين لعدم الحلّية. ويكون الانفصال بالهجرة والرجوع بالإسلام تطبيقاً لآية البقرة، أو تشريعاً مبتدئاً من الرسول - صلى الله عليه وسلم - .(1/58)
? في حالة الرواية الثانية، تكون المدّة بين انفصال زينب عن زوجها ورجوعها إليه ستّ سنوات منذ هاجرت وبقي زوجها في مكّة. وسنتان منذ نزول آية الممتحنة، هاتان السنتان أوجدتا الإشكال عند من يرى أنّ عقد الزواج السابق بين غير المسلمين يبطل بإسلام الزوجة، فوراً أو بعد العدّة، وبالتالي فلا يمكن إرجاع زينب بعقد باطل، بل لا بدّ من عقد جديد. ولكن هذا الإشكال يزول حسب رأينا، أنّ العقود السابقة لا تبطل بالنصّ القرآني ولا بهجرة الزوجة ولا بإسلامها. إنّما يجب إبطالها باتفاق الطرفين أو بقرار من القاضي. وإذا لم يتمّ ذلك لأيّ سبب، فهي عقود قائمة، ولكنّها لا تبيح المعاشرة الزوجية المحرّمة بالنصّ. فإذا استمرّ بقاؤها حتّى أسلم الزوج، لم تعد هناك حاجة لإبطالها فتُستأنف المعاشرة الزوجية بالعقد القديم كما حصل مع زينب وأبي العاص.(1/59)
? بيّنت قصّة زينب أن تصحيح أنكحة الجاهلية ليس على إطلاقه، بل إنّه إذا كان النكاح قائماً ثمّ أسلمت الزوجة وبقي الزوج على دينه، يجب الانفصال حتّى ولو كان الزوج لا يؤذي زوجته ولا يفتنها عن دينها. دلّ على ذلك اشتراط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي العاص عندما أطلقه أن يعيد إليه زينب كما تأكّد ذلك بالقرائن الواضحة، حتّى قبل نزول آية الممتحنة. لكن الانفصال الحسّي بين الزوجين لا يؤدّي بالضرورة إلى إبطال العقد. وبعد نزول آية الممتحنة تأكّد الأمر بالانفصال الحسّي ومنع الإرجاع، وعُلّل ذلك بعدم الحلّية بين الزوجة المسلمة وزوجها غير المسلم. فتكون هذه الآية قد منعت الاستمرار على أنكحة الجاهلية السابقة بعد الإسلام والهجرة، لكن مع ذلك لم يقع إبطال عقد نكاح زينب وأبي العاص. فهي لم تطلب ذلك لأنّها لا تزال تنتظر إسلام أبي العاص، ولم يلزمها رسول الله بإبطال العقد، وقد رُوي أنّ عمر بن الخطّاب خطبها من أبيها الذي استشارها في ذلك فقالت له: (إنّ أبا العاص منك كما قد علمت وإن شئت أن تنتظره، فسكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ). هذا العرض من الرسول - صلى الله عليه وسلم - يعني أنّ العقد السابق وإن كان صحيحاً من حيث الأصل، إلاّ أنّه لم يعد قائماً، أو أنّه قائم ولكنّه موقوف كما يرى ابن القيّم، وبالتالي فهو باطل أو قابل للإبطال، فإذا تمّ الزواج الجديد فقد أبطل العقد السابق، وإذا لم يتمّ بقي العقد السابق قائماً وموقوفاً ولكنّه قابل للإبطال.
? ممّا يؤيّد هذا التفسير أنّ قصّة زينب في جميع الروايات الصحيحة والضعيفة تنصّ على (ردّ رسول الله لها إلى زوجها أبي العاص) ولا معنى للردّ إذا لم يكن هناك انفصال حسّي على أقلّ تقدير.
الفصل الرابع
وجوب فسخ عقد النكاح السابق إذا أسلمت الزوجة
أولاً: ... كيفية فسخ العقد:
إنّ عقد النكاح السابق لإسلام الزوجة كان صحيحاً، ولكنّه بعد الإسلام يُصبح واجب الفسخ.(1/60)
ولا يجوز لها أن تقرّ عنده على أيّ حال، ولو لم يكن محارباً لدينها، ولو كانت ترغب في إسلامه، لأنّ النصّ جاء مطلقاً {لا هنّ حِلٌّ لهم ولا هُم يَحِلّونَ لَهُنَّ}.
وإذا قرّت عنده – بعذر أو بدون عذر – فلا يجوز لها أن تمكّنه من نفسها لأنّها لا تحلّ له.
أمّا طريقة فسخ العقد فهي رفع الأمر إلى القضاء في جميع الحالات.
? ففي دار الإسلام يُعرض الإسلام على الزوج فإن أبى يفرّق القاضي بينه وبين زوجته.
? وفي دار الحرب تطلب الزوجة التفريق لأيّ سبب ينسجم مع قوانين بلادها، وعادة تحكم المحاكم بالتفريق ولو بعد زمن طويل.
? في الفترة الممتدّة بين إسلام الزوجة وبين صدور حكم التفريق عن زوجها، تُعتبر الزوجيّة قائمة، وقد نصّت المادة /126/ من الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية على مذهب أبي حنيفة أنّه (ما لم يفرّق القاضي بينهما فالزوجية باقية) وأيّد هذا الرأي الأبياني في شرحه لهذه الأحكام وهو الرأي المعمول به في المذهب الحنفي. إلاّ أنّ هذه المادّة تشير إلى بقاء الزوجيّة في دار الإسلام باعتبار أنّ القضاء لم يكن يتأخّر في إصدار حكم التفريق. إلاّ أنّه الآن من المرجّح أن يتأخّر الحكم إلى ما بعد انتهاء فترة العدّة بسبب طول الإجراءات القضائية الحديثة، فهل تبقى الزوجيّة قائمة بكلّ مفاعيلها بما فيها حقّ الوطء؟ لم أجد فيما قرأت جواباً على هذا السؤال. لكن في مذهب الأحناف (أنّ الزوجة إذا أسلمت في دار الحرب أو في دار الإسلام تبين عن زوجها إذا لم يسلم عند انتهاء فترة العدّة)(1). ولكن لا بدّ أن تكرّس البينونة بحكم القضاء، فمقتضى مذهب الأحناف أنّ القاضي المسلم لو تأخّر في التفريق، فإنّ الزوجيّة باقية كعقد، لكن بدون أن يكون له حقّ الوطء.
__________
(1) 1 – الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/256(1/61)
? أمّا خارج دار الإسلام فإنّ تفريق المرأة المسلمة عن زوجها غير المسلم يستغرق سنوات طويلة قد تصل أحياناً إلى عشر سنوات. فالقوانين المدنية الحاكمة في أكثر البلاد المسيحية تشترط أن يسبق التفريق الرسمي هجر بين الزوجين لمدّة خمس سنوات، ولا يمكن رفع طلب التفريق إلاّ بعد مرور هذه المدّة، وإذا رفض الزوج التفريق فقد يتأخّر حكم البداية ثمّ الاستئناف إلى سنوات.
فهل يصحّ أن تبقى المرأة حين تسلم معلّقة مع زوجها غير المسلم، لا تستطيع الافتراق عنه سنوات طويلة؟ وبالتالي لا تستطيع نكاح زوج آخر – ولو كان ذلك مباحاً لها شرعاً بعد انتهاء العدّة – ولا تستطيع مقاربة زوجها غير المسلم؟ إنّ الله تعالى نهى الرجل المسلم أن يميل إلى إحدى زوجتيه ميلاً كلّياً ويذر الأخرى كالمعلّقة، أي ليست بذات زوج ولا مطلّقة كما يقول العلماء.
هذا بلا شكّ حرج حقيقي كبير ينبغي معالجته.
لكن لا تكون معالجته بإباحة الحرام ابتداءً، ومخالفة النصوص الواضحة.
وإنّما يمكن أن يُباح من قبيل الضرورة الشرعية. والضرورات تُبيح المحظورات. وإشباع الغريزة الجنسية قد يكون ضرورة تفوق ضرورة الأكل عند بعض الناس، وقد يستطيع البعض الآخر أن يصبر عليها.
فإذا قلنا إنّ الحكم الشرعي الأصلي تحريم الوطء بين المسلمة وغير المسلم.
فإنّنا يمكن أن نقول: إنّه إذا طال الوقت ولم يصدر حكم التفريق، ولم تستطع المرأة الصبر على الانتظار، وتعرّضت بذلك للوقوع في الحرام، فإنّ معاشرتها الزوجيّة لزوجها غير المسلم جائزة من قبيل الضرورة. هذه قد تكون فتوى فردية لظروف يقدّرها المفتي، ولا يمكن أن تكون حكماً عامّاً.(1/62)
وهنا فإنّنا نؤيّد مقالة الشيخ الجديع أنّ معاشرة المرأة المسلمة لزوجها غير المسلم في مثل هذه الظروف ليست من الزنا لوجود شبهة العقد السابق، وبقائه نافذاً، أو تحوّله إلى عقد جائز موقوف، وقد أيّد هو ذلك بقول الإمام الشافعي: (ولو أسلم الرجل ولم تسلم امرأته في العدّة، فأصابها. كانت الإصابة محرّمة عليه لاختلاف الدينين ... لأنّنا علمنا أنّه أصابها وهي امرأته، وإن كان جماعها محرّماً ... وهكذا لو كانت هي المسلمة وهو الثابت على الكفر ... )(1).
ثانياً: ... أسباب فسخ العقد:
ونحن نرى بناءً على ما سبق أنّ سعي المرأة المسلمة لفسخ عقد زواجها القائم مع غير مسلم، واجب عليها، وليس مجرّد خيار لها وذلك للأسباب التالية:
1 - ... الالتزام بالنصّ الشرعي الواضح القاطع {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}. إذا لا معنى لعدم الحلّية هنا، إلاّ عدم حلّية التناكح. فالعقد قائم، ومقتضاه أنّ النكاح مباح. لذلك لا بدّ من فسخ هذا العقد حتّى يتمّ تنفيذ حكم الله بعدم التناكح.
2 - ... إنّ المسلمة مطالبة بتنفيذ حكم الله – وهو هنا عدم الحلّية لغير المسلم – وهي مطالبة أيضاً بالوفاء بالعقود، وبموجب عقد الزواج عليها تلبية طلب زوجها للمعاشرة الجنسية. ولا يمكن التوفيق بين الأمرين إلاّ بمخالفة أحدهما، أو بإلغائه. وبما أنّ حكم الله لا يقبل التغيير أو الإلغاء، فلم يعد هناك خيار أمام المسلمة إلاّ فسخ العقد لتتحرّر من واجب الوفاء به.
__________
(1) 1 – كتاب الأمّ للشافعي 10/156(1/63)
3 - ... تطبيقاً لمبدأ عدم الحلّية، أمر الله تعالى الرجال المسلمين بطلاق زوجاتهم المشركات من غير الكتابيّات، فقال: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِر} وكان لعُمَر امرأتين مشركتين فطلّقهما امتثالاً لأمر الله، ولم يكن طلاقهما سبباً لنزول الآية بل كان تنفيذاً لها. وأجمع العلماء فيما نعلم على إطلاق هذا الحكم، إلاّ ما قرّره الشيخ الجديع من تقييد النساء الكوافر هنا بالحربيّات، ودليله على ذلك أنّ تنفيذ هذا الحكم عند نزول الآية لم يتناول إلاّ الحربيّات. وهذا ليس دليلاً كافياً كما هو معروف.
ونقول: إنّه حتّى لو لم يوجد مثل هذا النصّ في حقّ النساء المسلمات وهو قوله تعالى: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} فإنّ قياس النساء على الرجال يكون هنا من باب أولى، ولذلك قلنا إنّه لا يجوز للمرأة المسلمة أن تتمسّك بزوج كافر، وعليها أن تبادر إلى طلب فسخ زواجها منه وتفريقها عنه.
4 - ... إنّ رأي الإمام ابن القيّم وشيخه ابن تيميه، وهو أنّ الزواج موقوف حتّى تنكح زوجاً غيره، على وجاهته غير ممكن التطبيق في العصر الحاضر. إذ لا يُسمح للمرأة الزواج من رجل آخر إلاّ بعد فسخ عقد زواجها السابق. وليس مقبولاً في قوانين جميع الدول، ومنها قوانين الدول الإسلامية المستمدّة من الأحكام الشرعية، أن يُباح للمرأة عقد زواج ثانٍ وهي لا تزال على عصمة زوجها الأول بحجّة أنّ الزواج الأول ينحلّ حين يُعقد الزواج الثاني. فإذا كان من حقّها بعد انتهاء العدّة أن تنكح زوجاً آخر، فإنّ هذا الحقّ لا تستطيع ممارسته قانونياً إلاّ بعد فسخ عقدها السابق. فيكون هذا الفسخ واجباً على أقلّ تقدير لتمكينها من ممارسة حقّها الشرعي بالزواج من آخر.(1/64)
ونحن نقول بالوجوب وليس فقط الجواز، مراعاة لمصلحة المرأة المسلمة نفسها إذ أنّها لو انتظرت إسلام زوجها سنوات، ثمّ قطعت الأمل من ذلك وأرادت الزواج بغيره، وأرادت أن تبدأ إجراءات فسخ العقد بعد ذلك، فإنّ هذا التأخّر يزيد فترة بقائها غير ذات زوج سنوات أخرى. هذا الضرر عليها قد لا تنتبه له عند إسلامها، لأنّها تكون قادرة على انتظار زوجها حتّى يُسلم، ثمّ تنتبه له بعد انتظار سنوات.
ملخّص هذه الدراسة:
أولاً: ... في هذه المسألة نصّان واضحان قاطعان يكمل أحدهما الآخر، آية البقرة وآية الممتحنة:
... قوله تعالى: {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}(1).
... وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ، اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ، فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ، لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ، وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا، وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ، وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِر،ِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا، ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}(2)
1 - ... والنكاح في الأصل يشمل العقد والوطء.
__________
(1) 1 - سورة البقرة، الآية 221
(2) 2 – سورة الممتحنة، الآية 10(1/65)
2 - ... وتحريمه بين المسلمة وغير المسلم يقتضي الانتهاء عنه على الفور، مثل تحريم الربا.
3 - ... والتحريم يشمل إنشاء العقود الجديدة، ومنع استمرار العقود القديمة، لأنّ المطلق يجري على إطلاقه
4 - ... وأنّ عقود الكفّار الزوجية السابقة على الإسلام صحيحة إلاّ إذا كانت المرأة – وهي محلّ العقد - لا تحلّ لزوجها شرعاً. ومن هذه الحالات اختلاف دين زوجها عن دينها.
5 - ... ولا يصحّ تقييد الكافر (في قوله تعالى: { فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ}) بالكافر المحارب، لأنّ هذا القيد غير منصوص عليه، ولأنّ استنتاجه من الآيات السابقة غير صحيح، فتلك الآيات تتحدّث عن العلاقات الاجتماعية وهذه يمكن أن تقوم مع اختلاف الدين، وهذه الآية تتحدّث عن العلاقات الزوجية، وهذه لا تكون من حيث الأصل مع اختلاف الدين.
6 - ... وسبب منع إرجاع المهاجرات إلى الكفّار، أو علّة ذلك محدّدة بالنصّ وهي منع الحلّية {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}. ولا يصحّ لنا استنتاج سبب آخر يخالف صراحة السبب المنصوص عليه.
7 - ... وأنّ العلاقة الزوجية بين المسلمات والكفّار كانت مشروعة قبل نزول التحريم بآيتي البقرة والممتحنة، بالنسبة للنساء المستضعفات في مكّة سواء قبل الهجرة أو بعدها.
8 - ... وأنّ سبب النزول لا يقصر الحكم على حالة واحدة، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ثانياً: ... حقيقة الإجماع في هذه المسألة:
1 - ... إذا صحّت نسبة القول (إذا أسلمت النصرانية، كان زوجها أحقّ ببضعها لأنّ له عهداً) إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب من حيث السند، فإنّه غير مقبول من حيث المتن:
? لأنّ عهد الذمّة لا يصلح تعليلاً لمخالفة حكم شرعي، وهو لا يُعقد أصلاً إلاّ على شرط خضوعهم لأحكامنا الشرعية في غير العبادات.
? ولأنّ آية الممتحنة نزلت بمناسبة صلح الحديبية لتبيّن عدم جواز تنفيذ العهد في هذه المسألة.(1/66)
? ولأنّ الشيعة بكلّ مذاهبهم – فضلاً عن السُنّة – لم يأخذوا بهذا القول، ووافقوا المذاهب السنّية على تحريم بقاء المسلمة عند غير مسلم، وهم الذين يقيمون الكثير من آرائهم على مخالفة أهل السُنّة.
2 - ... الروايات المنسوبة لأمير المؤمنين عمر بن الخطّاب متناقضة، فبعضها يخيّر المرأة المسلمة بين مفارقة زوجها أو القرار عنده. والبعض الآخر يحكم بالتفريق إذا أبى الزوج أن يسلم. والروايتان لا يمكن التوفيق بينهما. وإذا كان الترجيح من حيث السند عند الشيخ الجديع قد انتهى إلى صحّة رؤية التخيير وضعف رواية التفريق، فإنّنا نرى من حيث المتن ترجيح رواية التفريق، لانسجامها مع النصوص، ولقبولها من جمهور العلماء والمذاهب، ولأنّ رواية التخيير نفسها تختلف ألفاظها بين (قرّت عنده) و (أقامت عليه). وقد فسّر العلماء ومنهم ابن القيّم (أقامت عليه) بأنّها تبقى زوجته بالعقد ولا يحلّ لها أن تقربه.
3 - ... الرواية الصحيحة والأكثر شهرة عن ابن عبّاس التفريق.
4 - ... أمّا التابعون فقد أخذ جمهورهم برواية ابن عبّاس، ولم يأخذ برواية التخيير المنسوبة إلى عمر وعلي إلاّ النخعي والشعبي وحمّاد.
5 - ... حتّى إذا انقضى عصر التابعين، لم نعلم لدى جميع العلماء والمذاهب السُنّية والجعفرية والزيدية والظاهرية من قال بجواز حِلّ المعاشرة الزوجيّة بينها وبين زوجها غير المسلم. لذلك يصحّ أن نقول: إنّ الإجماع انعقد بعد عصر التابعين على هذه المسألة، لم نعلم في ذلك خلافاً، وعلى من يدّعي غير ذلك أن يأتينا بقول واحد يؤيّد رأيه.
... ومن المعروف عند الأصوليين أنّ الإجماع لا يُشترط فيه أن يكون في جميع العصور، بل يكفي أن يكون في عصر واحد.
ثالثاً: ... الردّ على أدلّة الشيخ الجديع:
1 - ... شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد في شرعنا ما ينسخه، وقد ورد عندنا الناسخ وهو آية البقرة.
2 - ... أنكحة الكفّار ليست صحيحة إذا أسلم أحد الزوجين، وكان أحدهما محرّماً على الآخر.(1/67)
3 - ... العمل قبل الهجرة على صحّة العقود السابقة إذا أسلمت المرأة وحدها صحيح وسببه أنّه لم يكن التحريم قد نزل بعد.
4 - ... أمّا بعد الهجرة وبعد نزول التحريم فقد كانت المسلمات مستضعفات. والاستضعاف والإكراه ليس دليلاً إلاّ في حقّ المكره وحده، ومن هو في مثل حالته.
5 - ... آية الممتحنة لم تقل صراحة بفسخ عقد النكاح، ولكنّها قرّرت عدم الحلّية، وهذا يقتضي فسخ العقد. وقرّرت إباحة الزواج للمسلمة المهاجرة من زوج آخر، وهذا يقتضي فسخ العقد الأول. وقصّة زينب أثبتت أنّ العقد لا يزال موجوداً ولكنّ التفريق الحسّي عن زوجها كان قائماً، ولذلك ردّها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى زوجها بعد إسلامه، فالعقد موجود لكن التفريق الحسّي واجب ريثما يتمّ فسخه أو يسلم الزوج.
6 - ... إنّ تطليق عمر لزوجتيه المشركتين المقيمتين بمكّة، يدلّ أنّ الأمر الإلهي بالطلاق ليس طلاقاً مباشراً، بل لا بدّ أن ينفّذ المسلم هذا الأمر ويطلّق، فإن لم يفعل فقد وقع في المحذور. ومثل هذا الحكم ينطبق على المرأة المرتبطة بعقد سابق حين تسلم ويبقى زوجها على دينه.
7 - ... تفريق المرأة المسلمة عن زوجها غير المسلم هو المصلحة لأنّه أمر الله. وهو لا ينفّر من الدخول في الإسلام أكثر من تفريق المرأة المسلمة إذا كانت محرّمة على زوجها الكافر بسبب القرابة أو المصاهرة أو الرضاع أو غير ذلك. وهذه زينب فرّقها الإسلام عن زوجها أبي العاص ولم ينفر بل دخل في دين الله حين قُدّرت له الهداية.
... وإذا كانت هناك ذرّية بين الزوجين، فعلى المرأة المسلمة أن تقوم بواجباتها الفطرية والشرعية نحو أولادها رغم مفارقة زوجها.(1/68)
رابعاً: ... رأينا: وجوب فسخ عقد الزواج السابق إذا أسلمت المرأة، ولم يسلم زوجها خلال العدّة. وهذا الفسخ لا يتمّ إلاّ بواسطة القضاء، سواء في بلادنا الإسلامية أو خارجها، وريثما يتمّ هذا الفسخ، يجب عليها المفارقة الحسّية، وإذا تأخّر الفسخ كثيراً كما في البلاد غير الإسلامية، فالله تعالى يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}(1){لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}(2)وإباحة المحرّم عند الضرورة مبدأ مجمع عليه بين الفقهاء. وإذا وقعت المقاربة الجنسية بين المرأة المسلمة وزوجها غير المسلم في فترة المطالبة بفسخ العقد، فلا تُعتبر من الزنا، بل هي وقوع في حرام قد يغفره الله تعالى بسبب الضرورة.
الشيخ فيصل مولوي
__________
(1) 1 – سورة التغابن، الآية 16
(2) 2 – سورة البقرة، الآية 286(1/69)
إقناع الأُمّة بتحريم
« كتابة القرآن بالحروف اللاّتينية »
بالكتاب والسُّنّة ، وأقوال الأئمة
بقلم
الشيخ صالح العَوْد
بحث مقدم
للدورة الثامنة عشرة للمجلس - دبلن
جمادى الثانية/ رجب 1429 هـ / يوليو 2008 م
كتابة القرآن بالحروف اللاّتينية(1)
[ سورة الزّخرف / آية 3 ]
[ سورة الكهف / آية 1 ]
[ سورة فصّلت / آية 44 ]
[ سورة الكهف / آية 27 ]
1)- تمهيد :
منذ ظهر الإسلام والنّاس يدخلون فيه أفرادا وأفواجا من جميع الأجناس : عرب .. فرس .. روم .. حبش ، وإن كان هؤلاء قليلي العدد يومئذ بالنّسبة للأكثريّة العربيّة.
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلي بنفسه من يُسلم من العرب أو غيرهم، فيلقّنه كلمة « التّوحيد »، ويعلّمه « فرائض الإسلام »، وما نزل عليه من « القرآن »، وأحيانا كان - صلى الله عليه وسلم - يدفعه إلى أحد أصحابه فيفعل معه مثل ما كان يفعله - صلى الله عليه وسلم - :
__________
(1) وهو ما يُعرف بالفونيتيك (LA TRANSCRIPTION PHONETIQUE) أي : الرسّم الصّوتي للآيات القرآنيّة بالحروف اللاتينية ؛ بمعنى : تُكتب الآية أو السّورة بالحروف الإفرنجيّة وتُنطق باللغة العربيّة .
... وهذا الموضوع الذي أكتُب فيه ليس موضوع « ترجمة تفسير القرآن الكريم إلى اللغات الأجنبيّة » والتي أجازها العلماء ، وإنّما موضوع هذا المقال هو : استبدال (القرآن الكريم) من الحرف العربي الذي أنزِل به إلى الحرف اللاتيني أو غيره مِن سائر حروف اللغات الأخرى ، وهذا مُجمع على تحريمه، عند الراسخين في العلم ، لأنّ فيه تحريفا بيّنا ، ومساسا بقدسيّته ، ومَن قال بغير هذا الحُكم فهو جاهل وليس بِعالِم .(1/1)
- أخرج الطّبرانيّ عن سعد بن جنادة - رضي الله عنه - قال : كنت في أوّل من أتى النّبي - صلى الله عليه وسلم - من أهل الطّائف، فخرجت من أعلى الطّائف من السّراتي غُدوة، فأتيت مِنى عند العصر فتصاعدت في الجبل، ثمّ هبطت فأتيت النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فأسلمت، وعلّمني { قل هو الله أحد } و { إذا زلزلت } ، وعلّمني هؤلاء الكلمات : « سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاّ الله، والله أكبر »، وقال : « هنّ الباقيات الصّالحات ».
- وأخرج ابن جرير عن جرير قال : جاء أعرابي إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال : عَلّمني الإسلام، قال : « تشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمدا عبده ورسوله، وتقيم الصّلاة، وتؤتي الزّكاة، وتصوم رمضان، وتحجّ البيت، وتحبّ للنّاس ما تحبّ لنفسك، وتكره لهم ما تكره لنفسك ».
- وأخرج بن سعد عن محمد بن عمارة بن خزيمة بن ثابت - رضي الله عنه - قال : قدم فَروة بن مُسَيك المرادي - رضي الله عنه - وافدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مفارقا لملوك كِنده، ومتابعا للنّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فنزل على سعد بن عبادة، وكان يتعلّم القرآن وفرائض الإسلام وشرائعه. ( فذكر الحديث ).
- وأخرج الطّبراني في الكبير والبزّار عن أبي مالك الأشجعيّ عن أبيه - رضي الله عنه - قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أسلم الرّجل كان أوّلَ ما يعلّمنا الصّلاة أو قال : علّمه الصّلاة.(1/2)
- وأخرج الإمام أحمد عن شهاب بن عبّاد أنّه سمع بعض وَفْد عبد القيس وهو يقول : قدمنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاشتدّ فرحهم بنا، فلمّا انتهينا إلى القوم أوسعوا لنا فقعدنا، فرحّب بنا النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ودعا لنا ثمّ نظر إلينا. قال : ثمّ أقبل على الأنصار فقال : « يا معشر الأنصار! أكْرِموا إخوانكم، فإنّهم أشباهُكم في الإسلام، وأشبه شيء بكم أشعارًا وأبشارًا، أسلَموا طائعين غير مكروهين ولا موتورين » .. فلمّا أن أصبحوا قال - صلى الله عليه وسلم - : « كيف رأيتم كرامة إخوانكم لكم، وضيافتَهم إيّاكم ؟ » قالوا : خير إخوان، ألانوا فرشنا، وأطابوا مطعمنا، وباتوا وأصبحوا يعلّموننا كتاب ربّنا وسنّة نبيّنا، فأعجبت النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وفرح بها ؛ ثمّ أقبل علينا رجلا رجلا يعرضنا على ما تعلّمنا وعُلِّمنا، فمنّا من تعلّم التّحيّات، وأمّ الكتاب، والسّورة والسّورتين، والسّنّة والسّنّتين. ( فذكر الحديث بطوله ).
- وأخرج ابن عساكر عن أبي ثعلبة - رضي الله عنه - قال : لقيت - صلى الله عليه وسلم - فقلت : يا رسول الله ادفعني إلى رجل حسن التّعليم، فدفعني إلى أبي عبيدة بن الجرّاح - رضي الله عنه - ، ثمّ قال : « دفعتك إلى رجل يُحْسِن تعليمك وأدبك ».
- وأخرج الطّبرانيّ والحاكم والبيهقيّ عن عبادة بن الصّامت - رضي الله عنه - قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُشْغَلُ، فإذا قَدِم الرّجل مهاجرا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دفعه إلى رجل منّا يعلّمه القرآن، فدفع إليّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلا، كان معي في البيت : أُعشّيه عَشاء البيت، وكنت أقرئه القرآن. الحديث
فهذه النّصوص على قلّتها - لأنّي لم أستوعب كثيرا منها - ترشدنا إلى :(1/3)
1- « الرّعاية » بالّذين يدخلون في الإسلام : (ترحيبا)، و(تكريما)، وهو ما لقيه وفد عبد القيس من حسن استقبال من لدن الرّسول - صلى الله عليه وسلم - وقالوا : فرحّب بنا النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ودعا لنا.
كما أثنوا على كرم الصّحابة لهم وقالوا : « ألانوا فرشنا، وأطابوا مطعمنا، وباتوا وأصبحوا يعلّموننا كتاب ربّنا وسنّة نبيّنا ».
2- « العناية » بتعليم الّذين أسلموا فرائض الدّين، والقرآن الكريم، على وجه الخصوص ، لأنّه دستور السّلوك ، وحتّى يقرأه المسلم « صحيحا » بلا أخطاء ، « سليما » دون زيادة أو نقصان ، « مهذّبا » من كلّ الألحان(1)، عملا بقوله تعالى : { ورتّل القرآن ترتيلا } [ المزّمّل آية 4 ].
قال فضيلة الشّيخ خالد العكّ (ت 1420هـ=1999م) « التّرتيل » : هو تبيّن حروف القرآن الكريم عند النّطق به، و « التّجويد » هو تحسين أداء التّلاوة لآياته(2)؛ وبحديث النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - :
« اقرؤوا القرآن بِلُحُون العرب وأصواتها »(3)،
__________
(1) جمع لَحْنٍ وهو الخطأ ، وضدّه الصّواب .
(2) تاريخ توثيق نصّ القرآن الكريم له .
(3) خرّجه الإمام السّيوطي في كتابه (الجامع الصّغير مِن أحاديث البشير النّذير) ، ثمّ عزاه إلى الإمامين : الطّبراني في الأوسط ، والبيهقي في شُعب الإيمان ، ولم يرمُز إليه بشيء على عادته . وأنا أقول : والعُهدَة عليه رحمه الله .
... ... قال الإمام زين الدين محمد بن أبي بكر الرّازي في كتابه (مختار الصّحاح) : « (اللَّحْنُ) أيضا واحدُ (الألحان) و (اللحون) ، وقد (لَحَن) في قراءته مِن باب قطع إذا طرَّب بها وغرَّد ، وهو ألحن النّاس : إذا كان أحسنهم قراءة أو غناء » . وانظر أيضا كتاب (النّهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير ) مادّة : (لحَن) .
... ... قال العلاّمة المحدّث عبد الرّؤوف الْمُناوي في كتابه (فيض القدير في شرح الجامع الصّغير ج2 ص65) : « عُلِم ممّا تقرّر أنّه لا تلازم بين التّلحين المذموم وتحسين الصّوت المطلوب ، وأنّ التّلحين المذموم والأنغام المنهيّ عنها ، هو إخراج الحروف عمّا يجوز له في الأداء ، كما يُصرِّح به كلام جمهور الأئمّة ، ومنهم : الإمام أحمد ، فإنّه سُئلَ عنه في القرآن فمنعه ، فقيل له : لِم ؟ فقال : ما اسمُك ؟ قال : محمد ، قال : أيُعجِبُك أن يُقال لك : يا محآمّد ؟ » .اهـ(1/4)
ومعناه : تحسين القراءة وتجويدها.
... يقول إمام الدّعاة فضيلة الشيخ محمد متولي الشّعراوي (ت 1419هـ=1998م) : « القرآن أصله : « السّماع » ، فلا يجوز أن تقرَأه إلاّ بعد أن تسمَعَه ، لتعرف أنّ هذه تُقرأ : { الم } ، والثّانية تقرأ ، { أَلَمْ } ، مع أنّ الكتابة واحدة في الاثنين ، ولذلك لا بُدّ أن تستمع إلى فقيه يقرأ القرآن قبل أن تقرأه ، والذي يُتعب النّاس أنّهم لم يجلسوا إلى فقيه ولا استمعوا إلى قارئ ، ثمّ بعد ذلك يُريدون أن يقرأوا القرآن كأيّ كتاب . نقول : لا . . القرآن له تميّز خاص ، إنّه ليس كأيّ كتاب تقرأه ، لأنّه مرّة يأتي باسم الحرف ، ومرّة يأتي بمسمّيات الحرف ، وأنت لا يُمكن أن تعرف هذا إلا إذا استمعتَ لقارئ يقرأ القرآن » .
... ثمّ يقول الإمام الشّعراوي : « وكلمة { تبارك } مرّة تكتب بالألف ، ومرّة بغير الألف ؛ ولو أنّ المسألة رتابة في كتابة القرآن لجاءت كلّها على نظام واحد ، ولكنّها جاءت بهذه الطّريقة لتكون « كتابة القرآن » معجزة ، و « ألفاظه » معجزة » . اهـ
2)- منار الإسلام : « العلم والتعليم » ، ورسالته : « الدّعوة إلى الله » :
... كان الجهل وانعدام المعرفة يُخيّم على مجتمع مكّة قبل البعثة ، وهذا المؤرّخ البلاذري يُشخّص حالتها فيقول في كتابه ( فتوح البلدان ) : « دخل الإسلام وفي قريش سبعة عشر رجلا كلّهم يكتبون » .
أمَّا الحالة في المدينة قبل وصول الرّسول - صلى الله عليه وسلم - إليها ، فيقول عنها الإمام الواقديّ : « إنّ الذين كانوا يعرفون الكتابة في المدينة أحد عشر شخصا » .(1/5)
... وهذا يدلّنا على أنّ نسبة المتعلّمين في مكّة أعلى منها في المدينة ، وهو ما يفسّر لنا ما قام به الرّسول - صلى الله عليه وسلم - في غزوة بدر كما جاء في كتاب : (الرَّوض الأُنُف ) : « كان من الأُسارى يوم بدر مَن يكتب ، ولم يكن من الأنصار يومئذ أحد يُحسن الكتابة ، فكان منهم مَن لا مال له ، فيُقبل منه أن يُعلِّم عشرةً من الغِلمان الكتابة ، ويُخَلَّى سبيله، فيومئذ تعلَّم الكتابة : زيد بن ثابت في جماعة من الأنصار » .
... ولمَّا كان الإسلام دين ، « العلم والتَّعليم(1)» ، جاءت أولى آيات القرآن نزولا على الإطلاق ، دعوةً إلى تعلّم القراءة والكتابة بالقلم ، فقال عزّ وجلّ : { اقرأ باسم ربّك الّذي خلق. خلق الإنسان من علق . } الآيات.
... فمِن ثَمّ غدا رسول الله حريصا على « العلم » ، ناشرا له في الآفاق : بحاله ومقاله ، وبواسطة أصحابه :
- روى الحافظ ابن عبد البرّ بإسناده إلى عائشة - رضي الله عنه - قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إذا أتى عليّ يوم لا أزداد فيه علما يُقرّبني من الله ، فلا بُورِك لي في طلوع شمس ذلك اليوم » .
- وروى أيضا بإسناده إلى معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « تعلّموا العلم ، فإنّ تعلّمه لله تعالى خشية ، وطَلبه عبادة ، ومذاكرتَه تسبيح » / الحديث(2).
__________
(1) يقول الأستاذ المفكّر عبد الرّزّاق نوفل (ت 1404هـ=1984م) في كتابه (الإعجاز العددي للقرآن الكريم ج1 ص115) : « تكرّر لفظ العلم ومشتقّاته 782 مرة ، ومرادف العلم : المعرفة وقد تكرّر 29 مرة في القرآن الكريم ، وبذلك يكون العلم ومشتقّاته ، والمعرفة ومشتقّاتها قد تكرّرت في القرآن الكريم 811 مرة ، وهذا نفس ما تكرّر به لفظ الإيمان ومشتقّاته » .
(2) قال الحافظ ابن عبد البرّ في كتابه (جامع بيان العلم وفضله) - بعد روايته هذا الحديث بطوله - : « هو حديث حسن جدّا » .(1/6)
... ومن التّرغيب في العلم ، إلى القيام بتعليم الأصحاب :
- أخرج ابن جرير عن سعد - رضي الله عنه - قال : « كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُعلّمنا هذه الكلمات تعلُّمَ المُكَتِّبِ الغلْمانَ الكتابة » .
- وأخرج أبو نعيم في كتابه ( الحلية ) عن أنس - رضي الله عنه - قال : « أقبل أبو طلحة - رضي الله عنه - يوما ، فإذا النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قائم يُقرئ أصحاب الصُّفَّة ، على بطنه فصيل - أي قطعة - من حجر يقيم به صُلبه من الجوع » .
- وأخرج الحاكم عن عاصم بن عمر [ بن قتادة ] : « أنّ ناسا من عُضاه والقاره ، أتَوْا النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بعد أُحُد، فقالوا : إنّ بأرضنا إسلاما ، فابعث معنا نفرا من أصحابك يُقرئوننا ، ويُفقّهوننا في الإسلام ، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معهم ستّة نفر » .
- وأخرج البخاريّ في صحيحه عن ابن عبّاس - رضي الله عنهم - قال : « قدِم وفد عبد القيس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : « مرحبا بالقوم غير خزايا ولا ندامى » ، فقالوا : يا رسول الله ! إنّ بيننا وبينك المشركين من مُضَر ، وإنّا لا نصل إليك إلاّ في الشّهر الحرام ، فحدِّثنا بجميل من الأمر ، إن عملنا به دخلنا الجنّة ، وندعو إليه مَن وراءنا » . الحديث
3)- للقرآن الكريم عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعند أصحابه - رضي الله عنهم - : مزيد عناية فائقة :(1/7)
ذلك أنّ « القُرآن أفضل من كل شيء »(1)، فهو الدّستور الخالد للمسلم، والأثر الباقي في القارّات الخمس إلى يوم الناس هذا، فمن عرف القرآن عرف الإسلام، وعمل بما جاء فيه من الأحكام، وتحقّق بتوجيهاته فاجتنب جميع الآثام ؛ ومن هنا ما برِح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتعلّمه مع جبريل ويتدارسه، ثمّ يعلّمه للآخرين، بل ويدعو إلى تعلّمه : قال تعالى : { لا تحرّك به لسانك لتعجل به. إنّ علينا جمعه وقرآنه. فإذا قرأناه فاتّبع قرآنه } [القيامة/آية 16-18]
- وفي صحيح البخاريّ أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « أقرأني جبريل على حرف فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتّى انتهى إلى سبعة أحرف ».
- وروى الطّبرانيّ بسند رجاله ثقات عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - أنّه قال : كنت أكتب الوحي عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يملي عليّ، فإذا فرغتُ قال : « اقرأ »، فأقرأه، فإذا كان فيه سَقْطٌ أقامه، ثمّ أخرج به إلى النّاس.
- وأخرج أبو نعيم في الحلية عن ثابت البُناني قال : ذكر أنس بن مالك - رضي الله عنه - سبعين رجلا من الأنصار، كانوا إذا جنّهم اللّيل آووا إلى معلم لهم بالمدينة يبيتون يَدْرُسون القرآن، فإذا أصبحوا فمن كانت عنده قوّة أصاب من الحطب واستعذب من الماء، ومن كانت عنده سعة أصابوا الشّاة فأصلحوها. الحديث
__________
(1) حديث أورده الإمام السّيوطيّ في كتاب : الجامع الكبير ، ونسبه لأبي نصر السجزي في (الإبانة) عن عائشة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ ثمّ قال أبو نصر : هذا من أحسن الحديث وأغربه ، وليس في إسناده إلا مقبول ثقة .(1/8)
- وروى ابن سعد عن ثابت عن أنس قال : جاء ناس إلى النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : ابعث معنا رجالا يعَلّمونا القرآن والسّنّة، فبعث إليهم سبعين رجلا من الأنصار يقال لهم القرّاء، فيهم خالي حرام، كانوا يقرؤون القرآن ويتدارسون باللّيل ويتعلّمون، وكانوا بالنّهار يجيئون بالماء فيضعونه في المسجد، ويحتطبون فيبيعونه ويشترون به الطّعام لأهل الصّفّة والفقراء. الحديث
- وأخرج أبو يعلى وابن عساكر عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - قال : أُتِي بي النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - مَقْدَمه المدينة، فقالوا يا رسول الله! هذا غلام من بني النّجّار وقد قرأ ممّا أنزل عليك سبع عشرة سورة، فقرأت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعجبه ذلك. الحديث
- وأخرج الحاكم عن عروة قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استخلف معاذ بن جبل - رضي الله عنه - على أهل مكّة حين خرج إلى حُنين، وأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُعلّم النّاس القرآن، وأن يفقّههم في الدّين.
- وفي مجمع الزّوائد للهيثمي عن يزيد الرّقاشي قال : كان أنس - رضي الله عنه - ممّا يقول لنا إذا حدّثنا : إنّما كانوا - أي الصّحابة - إذا صلّوا الغداة قعدوا حلقا حلقا يقرؤون القرآن، ويتعلّمون الفرائض والسّنن.
- وأخرج البيهقي عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : كنت في عصابة من المهاجرين جالسا معهم، وإنّ بعضهم ليستتر ببعض من العري، وقارئ لنا يقرأ علينا، فكنّا نسمع إلى كتاب الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - « الحمد لله الّذي جعل من أمّتي من أُمِرت أن أصبر معهم نفسي ».(1/9)
- وأخرج الطّبرانيّ عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أنّه كان يقرأ الرّجل الآية ثُمّ يقول : لهي خير ممّا طلعت عليه الشّمس أو ممّا على الأرض من شيء، حتّى يقول ذلك في القرآن كلّه. وفي رواية : كان ابن مسعود إذا أصبح أتاه النّاس في داره فيقول : على مكانكم، ثمّ يمرّ باللّذين يقرئهم القرآن فيقول : أيا فلان بأيّ سورة أتيت؟ فيخبره في أي آية، فيفتح عليه الآية الّتي تليها، ثمّ يقول تعلّمها فإنّها خير لك ممّا بين السّماء والأرض.
- وأخرج عبد الرّزّاق في مصنّفه عن عمر - رضي الله عنه - قال : لا بدّ للرّجل المسلم من ستّ سور يتعلّمهنّ : سورتين لسورة الصّبح، وسورتين للمغرب، وسورتين لصلاة العشاء.
- وروى البخاري في صحيحه عن عثمان بن عفّان - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « خيركم مَن تعلّم القرآن وعلّمه » ، وفي رواية عند الطّبراني بإسناد جيّد : « خيركم مَن قرأ القرآن وأقرأه » .
قال الإمام ابن الجزري في كتابه (النّشر في القراءات العَشر ج1/ص3) : إنّ الإمام أبا عبد الرّحمان السُّلَمي التّابعيّ الجليل ، كان يقول لمّا يروي هذا الحديث عن عثمان عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - : « خيركم مَن تعلَّم القرآن وعلّمه » : هذا الذي أقعدني مقعدي هذا .
يُشيرُ إلى كونه جالسا في المسجد الجامع بالكوفة يُعلِّم القرآن ويقرأه ، وبقي على ذلك أكثر مِن أربعين سنة .
- وروى ابن ماجه بإسناد حسن أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي ذرّ الغِفاري : « يا أبا ذرّ ! لأن تغدو فتَعلَّم آية من كتاب الله خير مِن أن تصلّي مائة ركعة » .
- وروى البخاري بإسناده إلى ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : « والله لقد أخذتُ من في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضعًا وسبعين سورة » .(1/10)
... يقول فضيلة الشيخ خالد العكّ في كتابه (تاريخ توثيق نصّ القرآن الكريم ص125) : لمّا خصّ الله تعالى مَن شاء من هذه الأمّة الإسلاميّة بشرف حفظه عن ظهر قلب ، أقام له أئمّة ثقات تجرّدوا لرعايته والعناية به ، وبذلوا كلّ غال في حياتهم مِن أجل إتقان حفظه ، وتحسين تلاوته ، وتجويد ترتيله ، متلقّين ذلك كابرا عن كابر مِن شيوخهم حتّى منتهى سدّة سنده المصهر : سيّدنا محمد رسول الله عليه الصّلاة والسّلام إلى أمين الوحي سيّدنا جبريل عليه السّلام ، حرفا حرفا .. وكلمة كلمة .. وآية آية .. وسورة سورة .. مِن غير أن يُهمِلوا منه حركة .. أو سكونا .. أو يَهِموا في شيء مِن ذلك .. فلَم يدخل فيه ما ليس منه ، ولم يخرج عنه ما هو منه !! ونحن الآن نقرؤه كما كان يقرأه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه ، وهم على أشدّ حالة مِن الوعي واليقظة ، فيتلقَّون منه عليه الصّلاة والسّلام كلام الله تعالى مِن فمه الشّريف بعد انفصام الوحي عنه : كلمة كلمة ، وآية آية ، فيحفظونه في صدورهم ، ويكتبونه في مصاحفهم ، ليتعاضد المحفوظ بالمكتوب ، فيتوفّر للقرآن الكريم أكمل عوامل الحفظ والبقاء .
4)- اللغة « العربيّة » هي روح القرآن، وشعار الإسلام، ولسان الفرائض وسائر الشّعائر(1):
... « اللغة العربيّة : لغة قديمة ، عرفت قبل نزول القرآن بأكثر من ألف عام ، مما أهّلها لأن تكون « لغة » خاتم كتب السّماء ». قال الله تعالى : { إنّا أنزلناه قرآنا عربيّا لعلّكم تعقلون } يوسف/آية 2. { كتاب فصّلت آياته قرآنا عربيّا لقوم يعلمون } فصّلت/آية 3. { وهذا كتاب مصدّق لسانا عربيّا } الأحقاف/آية 12.
__________
(1) بدءا بكلمة التوحيد ، فالصّلاة ، فالأذكار ، فالأذان ، فالحجّ ... الخ . قال الإمام السّيوطي : « كان - صلى الله عليه وسلم - يشترط على وفود الأعراب بعد إسلامهم : إقراء القرآن بينهم ، وتعليم أمر الدّين ، وإقامة المؤذّنين » .(1/11)
... « فبديهيّ أن [ يكون ] كتابته في المصحف إنما هي باللغة العربيّة والخطّ العربي » ، لا غيره من سائر حروف اللغات الأخرى ، فالله عزّ وجلّ ارتضى في الأزل جعل هذا القرآن بلسان عربيّ مبين ، ثمّ أنزله تعالى بعلمه وفقا لما قضى وقدّر .
... يقول الإمام محمد بن إدريس الشّافعي (ت 204هـ=819م) في كتابه (الرسالة) : « إنّ اللسان الذي اختاره الله عزّ وجلّ « لسان العرب » فأنزل به كتابه العزيز، وجعله لسان خاتم أنبيائه محمد - صلى الله عليه وسلم - » .
... إذًا ، فإنّ اللغة العربيّة هي : « اللسان » لقراءة القرآن ، وفهم الدين ، وأداء الفرائض ، وإقامة الشّعائر ، وبالتّالي فهي قناعة رسول الله وأصحابه ، والتّابعون لهم بإحسان ، بل ويجب أن تكون قناعة كلّ مسلم عربيّ أو أعجميّ في كلّ مكان وزمان ، فهاهو الخليفة الثّاني عمر بن الخطّاب رضي الله عنه - كما يروي ابن أبي شيبة عن عمر بن يزيد - أنّه قال : كتب عمر بن الخطّاب إلى أبي موسى الأشعري : أمّا بعد ، فتفقّهوا في السُّنَّة ، وتفقّهوا في العربيّة . وفي رواية أخرى له عن عمر أنّه قال : تعلّموا العربيّة فإنّها من دينكم .
... ويقول بهذا الخصوص الإمام الشّافعيّ في كتابه (الرّسالة ص48) : على كلّ مسلم أن يتعلّم مِن لسان العرب ما بلغه جهده ، حتّى يشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمد عبده ورسوله ، ويتلو كتاب الله تعالى .
... ويذهب شيخ الإسلام أحمد بن تيمية (ت 728هـ=1327م) إلى أبعد مِن ذلك فيقول في كتابه (اقتضاء الصّراط المستقيم ص207) : إنّ اللغة العربيّة مِن الدّين ، ومعرفتها فرض واجب .(1/12)
... قال الإمام أبو منصور الثّعالبي (ت 430هـ=1038م) في كتابه (فقه اللغة ص21) : « مَن أحب الله تعالى أحب رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - ، ومن أحبّ الرّسول العربيّ أحبّ العرب ، ومن أحب العرب أحب العربيّة ، التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب ، ومن أحبّ العربية عُني بها ، وثابر عليها ، وصرف همّته إليها ، ومَن هداه الله للإسلام ، وشرح صدره للإيمان ، وآتاه حسن سريرة فيه ، اعتقد أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - خير الرّسل ، والإسلام خير الملل ، والعرب خير الأمم ، والعربيّة خير اللغات والألسنة ، والإقبال على تفهّمها من الديانة ، إذ هي أداتُ العلم ، ومفتاح التّفقّه في الدين ... » .
... وإلى مثل ذلك ذهب أيضا الشّيخ الإمام أبو إسحاق الشّاطبي (ت 790هـ=1388م) في كتابَيه (الإعتصام ، والموافقات) .
... يقول الإمام محمد عبده (ت 1323هـ=1905م) : إنّ إصلاح لساننا هو الوسيلة المفردة لإصلاح عقائدنا ، وجهل المسلمين بلسانهم ، هو الذي صدّهم عن فهم ما جاء في كتاب دينهم وأقوال أسلافهم .
... ويقول شيخ الأزهر محمد الخضر حسين (ت 1378هـ=1958م) في كتابه (بلاغة القرآن ص18) : كانت اللغة العربيّة تجرّ رداءها أينما رفعوا رايتهم ، وتنتشر في كل واد وطئته أقدامهم ، فلم يشعروا في دعوتهم إلى الإسلام بحاجة إلى نقل معاني القرآن إلى اللغات الأجنبيّة ، وربّما كان عدم نقلها إلى غير العربيّة ، وهم في تلك العزّة والسّلطان من أسباب إقبال غير العرب على معرفة لسان العرب ، حتّى صارت أوطان أعجميّة إلى النّطق بالعربيّة .
ويقول العلامة محمد أبو زهرة (ت 1394هـ=1974م) أستاذ الدّراسات الإسلاميّة بجامعة القاهرة وعضو بمجمع البحوث الإسلاميّة : إنّ الإسلام لا يمكن فهمه إلاّ باللّغة الفصحى، والقرآن كذلك، ومن هنا كانت محاولة ضرب اللّغة العربيّة الفصحى حتّى لا يفهم القرآن.(1/13)
ويقول عملاق الفكر الإسلامي الأستاذ الكبير أنور الجندي (ت 1423هـ=2002م) في كتابه ( جوهر الإسلام / ص 27 ) : لقد اعتقد المسلمون على مدى القرون - وهو الحقّ - أنّ لغتهم جزء من حقيقة الإسلام .. فالقرآن لا يُسَمّى قرآنا إلاّ بها، والصّلاة لا تسمّى صلاة إلاّ بها.
ويقول أيضا في كتابه ( اللّغة / ص 31 ) : اللّغة العربيّة هي أساسًا الفكر الإسلامي الّذي كتبه تُرْكٌ وفُرْسٌ وبَرْبَرٌ وعَرَبٌ، فاللّغة بمثابة الوعاء الّتي تتشكّل فيه وتحفظ فيه، وينتقل بواسطة أفكار الأمّة .. من أجل هذا فهِم المسلمون الأوائل أهميّة اللّغة العربيّة على وجهها، وقاموا بنشرها بكل ما أوتوا من قوّة، وفي كلّ مكان حلّ الدّين حلّت معه اللّغة لأنّها مفتاح الدّين ؛ ومن هنا كانت محاولة الاستعمار في حجب اللّغة العربيّة عن البلاد الّتي اتّسع فيها الإسلام حتّى تظلّ عقيدتهم ناقصة، لأنّ كمالها في فهم خصائص اللّغة الّتي هي مصدر الشّريعة وزبدتها.
ويقول الأستاذ الشّيخ منّاع القطّان (ت 1420هـ=1999م) مدير المعهد العالي للقضاء بالرّياض في كتابه ( مباحث في علوم القرآن/ص 312 ) : لا شكّ أنّ اللّغة العربيّة تحيا بحياة أمّتها وتموت بموتها، فكانت نشأة الدّولة الإسلاميّة على هذا النّحو حياة للغة العرب، فالقرآن وحي الإسلام، والإسلام دين الله المفروض، ولم يتأتّى معرفة أصوله وأسسه إلاّ إذا فُهِمَ القرآن بلغته، فأخذت موجة الفتح الإسلامي تمتدّ إلى الألسنة الأخرى الأعجميّة، فتعرّبُهَا بالإسلام وصار لزاما على كلّ من يدخل في حوزة هذا الدّين الجديد أن يستجيب له في لغة كتابه باطنا وظاهرا وحتّى يستطيع القيام بواجباته، ولم يكن هناك حاجة إلى ترجمة القرآن له ما دام القرآن قد ترجم لسانه، وعرّبه إيمانا وتسليما.(1/14)
ويقول د. عليّ حسني الخَرْبُوطي في كتابه ( الحضارة الإسلاميّة / ص 32-33 ) : كان الجيل المعاصر للفتوح العربيّة أكثر إقبالا على اللّغة العربيّة، في حين كان الجيل الثّاني أكثر إقبالا على الإسلام .. فهي تتيح لمن يتعلّمها قراءة القرآن الكريم، وتفهّم الأحاديث النّبويّة الشّريفة، فيقف على سموّ الإسلام، ويتحضّر بحضارته.
ويقول د. عبد الله يوسف عليّ(1)- بعد أن أقام بمدينة لندن مدّة طويلة - : إنّ المسلم العالم باللّغة العربيّة أفضل إسلاما من غيره.
ويقول د. مراد هوفمان - (سفير ألمانيا في الرّباط ، بعد ما أسلم) - في كتابه (الإسلام كبديل / ص 42) : قد يرفض المسلم مضمون القرآن، لكنّه لا يستطيع إنكار إعجابه وتأثّره بروعة النّصّ القرآنيّ، وأسر نظمه المُحكم، وبلاغته وفصاحته الآخذة بالألباب، والّتي سحرت وبهرت حتّى مَن لسانه أعجميّ، مثل : غوته، وفريد ريش ريكارت.
ويقول كبير المستشرقين كارل بروكمان (ت 1376هـ=1956م) صاحب كتاب ( تاريخ الأدب العربي، في خمس مجلّدات ) : إنّه بفضل القرآن بلغت العربيّة من الاتّساع مدًا لا تكاد تعرفه أيّ لغة من لغات الدّنيا، والمسلمون جميعا يؤمنون بأنّ العربيّة هي وحدها اللّسان الّذي أُحِلّ لهم أن يستعملوه في صلواتهم، وبهذا اكتسبت العربيّة منذ زمان طويل : مكانة رفيعة، فاقت جميع لغات الدّنيا الأخرى.
ويقول المستعرب الكبير جاك بيرك (ت 1416هـ=1995م) : إنّ اللّغة العربيّة هي أقوى القوى الّتي قاومت الاستعمار الفرنسي في المغرب، بل هي اللّغة العربيّة الكلاسيكيّة الفصحى بالذّات .. وقد كانت هذه الكلاسيكيّة العربيّة عاملا قويّا في بقاء الشّعوب العربيّة.
5)- ماذا ترى : هل نُعَرّب أم نُغَرّب ؟
__________
(1) ولد في الهند عام (1238هـ=1822م) وعمل عميد الكلية الإسلاميّة بمدينة لاهور . قام بـ « ترجمة تفسير القرآن الكريم » إلى اللغة الانجليزيّة .(1/15)
أُجِيبُ سريعا وأقول : نُعَرّب(1)اللّسان، ولا نُغَرّبُ القُرْآن ..
وانظر إلى ما قاله المستشرق هاميلتون جبّ (ت 1391هـ=1971م) : إنّ حركة التّغريب كانت بعيدة المدى بإنزال الإسلام عن عرشه في الحياة الاجتماعيّة. فاعظم بها من شهادة لأحد كبار الحاقدين على الإسلام .
على أنّ في التّعريب فوائد جمّة، وفي أسلمة المعرفة مكاسب للإسلام، ومنافع للمسلمين، حتّى نصل بذلك إلى تصويب نظرة « الآخَر » إلينا، وتصحيح ما عَلِقَ بذهنه من أباطيل وتُرّهات عن الإسلام.
__________
(1) كان الدكتور أحمد السكندري - أحد مؤسسي مجمع اللغة العربية - يقول : لا يجوز التعريب إلا إذا تحقق العجز في نقل أسماء ومصطلحات الفنون والصناعات وأنواع النبات والحيوان والجماد . يقول عنه أنور الجندي : كان مؤمنا بمبدء لا يتزعزع أنّ اللغة تكونت من عناصر تمت للأبدية والخلود .(1/16)
ومِن ثَمَّ يصبح هذا « الآخَرُ » يقرأ فِعْلا بلغتين وليس بلغة واحدة، ويستمع إلى وقائع ما يجري في العالم بأذنين لا بأذن واحدة، ويرى ما يَحْدُث حوله عن قرب أو بعد بعينين(1)
__________
(1) وليس معنى هذا أن يبقى المسلم منغلقا في دائرة لغة واحدة فقط ، لا ، فإنّ الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - أمر زيد بن ثابت - رضي الله عنه - بتعلم السُّريانية، كما روى ابن أبي داود وابن عساكر عن زيد قال : قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إنها تأتيني كتب لا أحب أن يقرأها كل أحد ، فهل تستطيع أن تتعلّم كتاب العبرانيّة - أو قال السريانية - » فقلت : نعم ، فتعلّمتها في سبع عشرة ليلة . وهذا عبد الله بن الزبير - رضي الله عنه - كان يعرف لغات غلمانه : أخرج الحاكم في المستدرك وأبو نعيم في الحلية عن عمر بن قيس قال : كان لابن الزبير - رضي الله عنه - مائة غلام يتكلّم كل غلام منهم بلغة أخرى ، فكان ابن الزبير يكلّم كل واحد منهم بلغته ، فكنتُ إذا نظرت إليه في أمر دنياه قلت : هذا رجل لم يرد الله طرفة عين ، وإذا نظرت إليه في أمر آخرته قلت : هذا رجل لم يرد الدنيا طرفة عين . وأيضا سلمان الفارسي - رضي الله عنه - (داعية أهل فارس) لم يتخلّ عن لغته الأمّ : « الفارسيّة ». أخرج أبو نعيم في الحلية عن أبي البَختري : أنّ جيشا من جيوش المسلمين كان أميرهم سلمان الفارسي - رضي الله عنه - ، فحاصروا قصرا من قصور فارس، فقالوا : يا أبا عبد الله! أَلا نَنْهَد إليهم - بمعنى : ألا ننهض إليهم إلى القتال -؟ قال : دعوني أدعوهم كما سمِعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعوهم، فقال لهم : أنا رجل منكم فارسيّ، أَتَرون العرب تطيعني، فإن أسلمتم فلكم مثل الّذي لنا، وعليكم مثل الّذي علينا، وإن أبيتم إلاّ دينَكم، تركناكم عليه وأعطيتمونا الجزية عن يدٍ وأنتم صاغرون - قال وَرَطَن إليهم بالفارسيّة وأنتم غير محمودين - وإن أبيتم نابذناكم على سواء..(1/17)
لا بعين واحدة.
وهنا أنقل كلاما للدّاعية الكبير فضيلة الشّيخ محمد الغزالي (ت 1416هـ=1996م) من كتابه ( الدّعوة الإسلاميّة تستقبل قرنها الخامس عشر )(1)، وهو وإن كان طويلا لكنّه نفيس كقائله رحمه الله وغفر له، يقول الشّيخ :
[ المسلمون في هذا العصر يكادون يجهلون أنّ لهم رسالة عالميّة، بل إنّ حياتهم وِفقَ شرائع دينهم وشعائره مَوْضِع ريبة، وقد تكون موضع مساومة ..
إنّ ذلك يوجب علينا الإحساس المضاعف بخطئنا وتخلّفنا، ويحمّلنا عبء المسارعة إلى تعليم الجاهل، ومراجعة المخدوع، وتعريف النّاس بربّهم الواحد الأحد الفرد الصّمد، وربطهم بالدّين الّذي حمل رايته جميع الأنبياء، ثمّ نقّاه وشدَّ دَعائمه، وثبّت أهدافه النّبيّ الخَاتَم محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - .
والأمر الثّاني المتّصل بعالميّة الرّسالة، يرجع إلى اللّغة العربيّة، فلغة الرّسالة الخالدة يجب أن تتبوّأ مكانة رفيعة لدى أصحابها ولدى النّاس أجمعين، فإنّ الله باختياره هذه اللّغة وعاء لوحيه الباقي على الزّمان، قد أعلى قدرها وميّزها على سواها.
والواقع أنّ اللّغة العربيّة مهاد القرآن وسياجه، فإذا تضعضعت وأُقصيت عن أن تكون لغة التّخاطب والأداء، ولغة العلم والحضارة، أوشك القرآن نفسه أن يوضع في المتاحف ..
ولهذه الغاية الخاسرة تعمل فئات غفيرة من المستعمرين وأذنابهم، وما أكثر أولئك الأذناب في الجامعات والمجامع، ودُورِ الإذاعات والصّحف، وغيرها .. إنّ آباءنا عليهم الرّضوان نشروا اللّغة العربيّة بكلّ الوسائل المتاحة لهم، وما تأسّست مدرسة لخدمة الدّين إلاّ انقسمت علومها بين مناهج الشّريعة، ومناهج اللّغة والآداب ..
__________
(1) في الصّفحات التّالية : (174 ثمّ 176 ثمّ 177 ثمّ 195).(1/18)
إنّ هناك لغات لَمْ يُشَرّفها الله بوحي، ولم تَصْحَب حضارة إنسانيّة مشرقة، يخدمها أبناؤها بذكاء نادر، فما دَهَى العرَبَ حتّى تركوا لُغَتهم توشك أن تكون من اللّغات، الميتة أو الثّانويّة في هذه الدّنيا!
إنّنا عجزنا عن جعل اللّغة العربيّة لغة أُولَى بين الألف مليون مسلم الّذين يعتنقون الإسلام، وهذا وحده فشل ذريع نُؤَاخَذ به يوم الحساب ؛ ويرجع هذا الفشل إلى أنّ العرب أنفسهم لا يُجِلّون لغتهم، بل لقد استطاع الإستعمار الثّقافي أن يُكَرِّهَهَا لهم، أو يُحَقّرها لديهم، فأيّ بلاء هذا؟
وبقي عنصر أخير فرّطنا فيه كثير، وهو تعليم اللّغة العربيّة، سواء للمسلمين الأعاجم أو لغير المسلمين! إنّ الجهل باللّغة العربيّة يشيع بين ثمانين أو خمس وثمانين في المائة من المسلمين، وأمّا الجهل بها في أرجاء العالم فشيء مفزع، ولا يمكن عدّها لغة عالميّة مع أنّها الوعاء الفذّ للرّسالة العالميّة الوحيدة، الّتي طرقت أبواب العالم، وشاء القدر الأعلى أن تبقى فيه إلى يومه الأخير ]. انتهى كلام الشيخ الغزالي رحمه الله.(1/19)
وبالفعل ، هذا ما قام به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين راسل باسمه الشّريف الملوك والعظماء : يدعوهم إلى الإسلام، ويبيّن لهم الشّرائع والأحكام، وقد كان منهم « عرب » و « عجم »(1)،
__________
(1) أخرج الطّبرانيّ عن المِسور بن مخرمة - رضي الله عنه - قال : بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن حُذافة - رضي الله عنه - إلى كسرى، وبعث سَليطَ بن عَمْرو - رضي الله عنه - إلى هَوْذَة بن عليّ صاحب اليمامة، وبعث العلاء بن الحضرميّ - رضي الله عنه - إلى المُنذر بن ساوى صاحب هَجَر، وبعث عَمرو بن العاص - رضي الله عنه - إلى جَيْفَر وَعَبَّاد بنَي الجُلَنْدى مَلِكي عُمَان، وبعث دحية الكلبي - رضي الله عنه - إلى قيصر، وبعث شجاع بن وهب الأسدي - رضي الله عنه - إلى المنذر بن الحارث بن أبي شِمر الغسّاني، وبعث عمرو بن أميّة الضّمري - رضي الله عنه - إلى النّجاشي ؛ فرجعوا جميعا قبل وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير العلاء بن الحضرمي فإنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توفّي وهو بالبحرين.
وأخرج أحمد والطّبراني عن جابر - رضي الله عنه - قال كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يموت إلى كسرى وقيصر وإلى كلّ جبّار.(1/20)
ومع ذلك لم يكتُب لهم - صلى الله عليه وسلم - آية واحدة بلغاتهم، مع وجود من يترجم له مثل : أُبَيّ، وسَلْمَان، وصُهَيْب، وغيرهم ..(1)
فما هو السّبب يا ترى ؟ في حين أنّهم أعداء له ولدينه، وأنّه قد يُخشى منهم أن لا يهتمّوا بقراءة مكاتيبه؟
والّذي يجيب عن هذا هو الإمام الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني (ت 852هـ=1448م) في كتابه العظيم (فتح الباري في شرح صحيح البخاري ) فيقول : « ليس من سبب سوى أن يسلّطهم على تعليمه ، ولا سبيل إلى ذلك إلاّ العربيّة، فكأنّه عليه السّلام حملهم على تعلّمها، حتّى يفهموا ما جاءهم من عنده من بيان وقرآن ».
وأنا أقول : إنّ ما قاله الحافظ ابن حجر (قديما)، هو الّذي يصار إليه (حديثا)، فيقال لمن يسأل - وإن بعفويّة وبراءة - : ما هو البديل في حقّ من لا يعرف « اللّغة العربيّة » حتّى يقرأ القرآن؟ وجوابه هو : أنّ تلاوة القرآن الكريم « سنّة » ، وأنّ تعلّم اللّغة العربيّة لقراءة القرآن، وإقامة الفرائض وأداء الشّعائر « فرض » ، كما يُفهَم من كلام كثير من الأئمّة السّابقين.
وليس في تعلّم اللّغة العربيّة - أو أيّة لغة أخرى - أيّ غضاضة، لأنّ عصرنا الّذي نحياه اليوم : هو العصر الذّهبيّ لتعلّم اللّغات ونشرها.
__________
(1) بقول العلاّمة المحدّث فضيلة الشّيخ عبد الفتّاح أبو غدّه (ت 1417هـ=1997م)، في كتابه (الرّسول المعلّم وأساليبه في التّعليم/ص214) : « حفظت كتب السّيرة والحديث والتّاريخ نصوص تلك الكتب الكريمة وألفاظها. وقد جمعت تلك الكتب والرّسائل في مجاميع مستقلّة بعضها مطبوع ومُتَدَاوَل، ومن أجمَعها كتاب : (إعلام السّائلين عن كتب سيّد المرسلين - صلى الله عليه وسلم - /لابن طولون الدّمشقي) ؛ ومن الكتب الجامعة في هذا الموضوع كتاب : (مجموعة الوثائق السّياسيّة للعهد النّبوي والخلافة الرّاشدة/للأستاذ الدّكتور محمّد حميد الله). اهـ(1/21)
وإذا كنّا نحن العرَبَ - شعوبا وحكومات - قد عجزنا عن أن نقرّب ثقافتنا الغنيّة بالمعارف إلى غير العرب ولو عن طريق ترجمة نفائسها، - وأذكر هنا بالمناسبة أنّ محصول التّرجمة من العربيّة إلى اللّغات الأجنبيّة على مدار السّنة هزيل جدّا إذا ما قورن بما تقوم به دول الغرب ودوائر التّرجمة سواء على المستوى الرّسمي أو حتّى الشّعبي - ، فلنَسلُك على الأقلّ سبيلا أخرى قد تعضُد الأولى، وهي « تعريب اللّسان » بتعليم اللّغة العربيّة، خصوصا لألئك الّذين يعتنقون الإسلام، فإنّ لهم علينا حقّا في تعريبهم وتعليمهم.
... ويقول بهذا الخصوص د. علي الخربوطلي في كتابه (الحضارة الإسلامية ص31) : كان من اليسير على الأجنبيّ الذي يعيش في الأراضي المفتوحة أن يتعلّم اللغة العربيّة ، وتعلّمها لا ينسخ لغته القوميّة المحلّية ، فمن الممكن للفرد أن يتعلّم عدّة لغات في وقت واحد ؛ وتعلّم لغة جديدة لا يغيّر من حياة الإنسان الاجتماعيّة ، أو لونه الحضاري، أو من أفكاره واتجاهاته . أمّا اعتناق دين جديد ، فمعناه : ترك الدين القديم ، فلا تعدّد في الأديان ، والدين ليس عبادات فحسب ، بل هو معاملات ، واتجاهات حضاريّة وفكريّة ، ونُظم سياسيّة واجتماعيّة . اهـ
... وأخيرا أقول : لقد نبَغ من الأمم الأعجميّة التي رضيت بالله ربّا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمّد نبيّا ورسولا ، رجال فطاحل في علوم الدين ، وأبطال بواسل في الفتوحات التي شرّقت وغرّبت ، حتّى بلغت حدود الصّين ، وصلت إلى نهر السين .
... ولولا خشية الإطالة لجرّدتُ أسماء كثيرين في هذه المقالة .
6)- متى ظهرتْ « فكرة » استبدال الحروف العربيّة بالحروف اللاتينيّة :(1/22)
... يرى المفكّر العملاق الأستاذ أنور الجندي (ت 1423هـ=2002م) أنّ محاربة اللغة العربيّة تمهيدا لإقصائها ، وإحلال حروفها بحروف أخرى ، بدأ منذ الاحتلال الأوربي لبلدان العالم الإسلامي في القرن الثامن عشر الميلادي ، فيقول في كتابه (اللغة ص22) : حُورِبت اللغة العربيّة منذ وصل الاحتلال الغربي إلى بلاد الإسلام .. أمّا في البلاد العربيّة فقد حُورِبت اللغة العربيّة بحصرها في الجوامع ، والاستعاضة باللغة العاميّة الدّارجة ، وكذلك الدّعوة إلى إلغاء الحرف العربي ، والاستعاضة عنه بالحروف اللاتينيّة ، وجرت حملة واسعة بالادّعاء لعجز اللغة العربيّة عن أداء مهمّتها إزاء المصطلحات الحديثة ، وصعوبة تعلّمها . اهـ
... وهذا الذي يقوله الأستاذ أنور الجندي صحيح : « ففي سنة 1883 دعا اللورد دفرين البريطاني إلى محاربة العربيّة والاهتمام باللهجات العاميّة ، وسار على نفس النّهج وليم وديلكوكس سنة 1892 وكان ديلكوكس هذا يعمل مهندسا للريّ في مصر ، وقد دعا إلى العاميّة وهجْر العربيّة ، وخطا باقتراحه خطوة عمليّة بأن ترجم الإنجيل إلى ما أسماه باللغة المصريّة ، ثمّ القاضي الانجليزي ويلمور الذي عاش في مصر وألّف سنة 1902 كتابا باسم (لغة القاهرة)، واقترح فيه قواعد ، نصَح باتخاذها للعلم والأدب ، كما اقترح كتابتها بالحروف اللاتينيّة » .(1)
وممن استحسن هذه النّظريّة ، وتجاوب مع تلك الدّعوة الهدامة : الدكتور عبد العزيز فهمي - زعيم الأحرار الدّستوريين في مصر آنذاك - فقد تقدّم سنة (1361هـ = 1942م) إلى مجمع اللغة العربيّة في القاهرة بمشروع خطير، يدعو فيه إلى « استبدال الحروف العربيّة بالحروف اللاتينيّة » ، لكن سرعان ما قوبِل ذلك بالسّخط الشّديد، والاستنكار العريض، داخل مصر وخارجها .
__________
(1) مجلّة الوعي الإسلامي . العدد 258 - جمادى الآخرة 1406هـ، (ص 32) .(1/23)
ومثله فعل سعيد عقل ، فقد قام هو أيضا يدعو إلى استخدام العاميّة بدل الفصحى ، وكتابتها بالحروف اللاتينيّة ، وكان يقول في صراحة ووقاحة : من أراد لغة القرآن فليذهب إلى أرض القرآن .
... وإذا كانت فكرة « استبدال الحروف العربية بالحروف اللاتينيّة » قد بادت في مصر ، ولم تلق رواجا في دول عربيّة أخرى ، فإنّه قد نبتت لها نابتة في تركيا ، وأندونيسيا ، والصّومال ، والجمهوريات الإسلامية في آسية ، ووجدت صَدًى كبيرا لها هناك .(1/24)
... وهذا ما يؤكّده الكاتب الصَّحَفي الأستاذ فهمي هويدي في مقال له بعنوان : « الحرف الشّريف » ينتظر منقذا ، فيقول : « ... كنتُ في زيارة للمنطقة حديثا ، وأمضيتُ وقتا أطول في جمهوريّة آذربيجان ، وعدتُ غير مصدّق لما رأيتُ وسمعتُ ... إنّ لغات جمهوريّات وسط آسيا كانت تُكتب بالحروف العربيّة في الماضي ، فإنّ السّؤال الذي طرح نفسه على الجميع ، هو : هل تكتب اللغات المحليّة بالحروف العربيّة أم اللاتينيّة ؟ رويتُ قصّة الإجابة في مقالة سابقة في هذا المكان ، وكيف أنّ النُّخب الحاكمة في جمهوريات آسيا الوسطى التي تربّت في أحضان الشّيوعيّة لم ترحِّب بالحروف العربيّة ، ناهيك عن موقفها من القرآن والإسلام ذاته . وهذا الموقف التَقَى مع رغبةٍ تركيّة قويّة في استخدام الحروف اللاتينيّة ، كما فعلت هي في ظلّ الكماليّة ، ولأنّها تعتبر أنّ وسط آسيا هو عمق العالَم التّركي، فإنّها بدت شديدة الحرص على أن تقيم جسورا لغويّة مع ذلك العالم ، خصوصا أن شعوب المنطقة تتحدّث التّركيّة بلكنات مختلفة ، باستثناء جمهوريّة طاجكستان التي تتكلّم اللغة الفارسيّة ، وما زالت تكتبها بحروفها العربيّة ... النّتيجة أنّ « الحرف العربي » تلقّى ضربة قاضية في تلك الجولة ، حيث كان قرار استخدام الحروف اللاتينيّة بدلا منه بمثابة حكم أبدي بإعدام الحرف العربي ، وطرْده من السّاحة الثّقافيّة » .(1)
... لقد اسْتبدلت تركيا « الحروف العربيّة » بالحروف اللاتينيّة في أواخر العشرينات من القرن الميلادي ، وتحديدا في عام (1347عـ=1928) ، وجعلت الأذان الشّرعي باللغة التّركيّة ، ثمّ وصلت جرأتها إلى استصدار أوامر تُلزِم أئمّة المساجد بقراءة الفاتحة في الصّلاة بالتركيّة أيضا .
__________
(1) مجلّة « المجلّة » الأسبوعيّة عدد (874) بتاريخ (10-16/11/1996) . ويقول الأستاذ هويدي : والحرف العربيّ في دُول وسط آسيا والقوقاز يُطلقون عليه « الحرف الشّريف » تعبيرا عن ذلك الاعتزاز .(1/25)
... يقول العلامة عبد الله كنون (ت 1409هـ=1989م) شاهدا عمّا حدث في تركيا : « استنكر ذلك العالم الإسلاميّ بأسره ، وقام في وجه هذا القرار شيخ الإسلام بتركيا الشيخ مصطفى صبري رحمه الله ، فاضطهده الكماليون حتّى اضطُرّ إلى الهجرة من تركيا واستوطن مصر ، وأيّده علماؤها والعلماء في كلّ قطر إسلامي ... وكتب الشيخ مصطفى صبري نفسه كتابا في الموضوع ، وكان هذا الموقف « إجماعا » من علماء الإسلام : (عربا وعجما) ، على أنّ القرآن نزل باللغة العربيّة كما قال تعالى : { بلسان عربيّ مبين } ويجب أن يبقى كتابا عربيّا إلى الأبد ، وأيّ مساس بعربيّته يُعدّ من الإلحاد في الدّين ، والضّلال المبين » .(1)
__________
(1) مِن رسالة العلامة الشّيخ عبد الله كنون يرحمه الله إلى كاتب هذا المقال بتاريخ 12 رمضان 1408هـ .(1/26)
ويقول د. حسن باجودة أستاذ الدّراسات القرآنيّة بجامعة أم القرى بمكّة المكرّمة(1): « فمنذ أكثر من خمسين سنة وتركيّا تتّخذ الحرف اللاّتيني، ولم تستطع حتّى اليوم أن تنقل إليه واحدا في الألف من التّراث التّركي المكتوب بالحرف العربي، وما يزال هذا التّراث مجهولا كلّ الجهل من الجيل الجديد. إنّ المصير الّذي آل إليه الشّعب التّركي من جرّاء استبدال الحروف اللاّتينيّة بالحروف العربيّة، هو الّذي آل إليه كلّ شعب إسلامي استبدل الّذي هو أدنى بالّذي هو خير، وهو الّذي يؤول إليه كلّ من أقدم على هذه المغامرة، وقد قال تعالى { فاعتبروا يا أولي الأبصار } ؛ وإنّ مأساة استبدال الكتابة اللاّتينيّة بكتابة القرآن الكريم تبدو كبيرة حقّا ، حينما نتبيّن أنّ الشّعب التّركيّ الموهوب كان على رأس قائمة الشّعوب الإسلاميّة المبدعة في كتابة المصحف الشّريف وآي الذّكر الحكيم، والتّراث الإسلامي »(2).
__________
(1) في مقاله (خطر الكتابة بالحرف اللاّتيني على الشّعوب الإسلاميّة) / مجلّة المنهل عدد (495) شوّال 1412هـ=أبريل 1992م.
(2) أقول : آخر من رحل من عباقرة الخطّ العربي من الأتراك هو : حامد الآمدي الّذي وافاه الأجل المحتوم عام (1403هـ=1982م)، فكان قمّة إنتاجه : نسخ « المصحف الشّريف » بخطّه الرائع (مرّتين)، ويعتبر ما كتبه من أرقى وأجمل الخطوط في العالم . (انظر ترجمة حياته في كتابي : أعلام من الحاضر).(1/27)
وأعود مرّة أخرى إلى ما كتبه الأستاذ فهمي هويدي لتتبيّن لكل ذي عينين : خطورة استبدال الحروف العربيّة بالحروف اللاّتينيّة خصوصا في « المصحف الشّريف »، فيقول : « في أوزباكستان الّتي هي تقليديّا معقل المذهب الحنفي، وفي داغستان جمهوريّة المذهب الشّافعي، وفي أذربيجان ذات الأغلبيّة الشّيعيّة الجعفريّة، في هذه الجمهوريّات وغيرها يتواجد المبشّرون بكثافة لافتة للنّظر، طبعوا الإنجيل باللّغات المحليّة، وبعض طبعاته كان لها غلاف مماثل لأغلفة المصحف الشّريف، حتّى يبدو الكتاب مثل المصحف في ظاهره، ومن ثَمّ يتقبّله النّاس، ولأنّ نسبة غير قليلة منهم لم تطّلع على المصحف، فإنّما ما بين دفّتي الكتاب يمكن قبوله بيسر، حتّى صار المسلمون يقرؤون الإنجيل على أنه مصحف، وينسلخون من الإسلام بصورة تدريجيّة بدون أن يشعروا. المدهش في الأمر، أنّ ذلك حَدَثَ وَسَط الصّمت التّام من جانب مختلف المؤسّسات الإسلاميّة »(1).اهـ
لكنّي أقول : لا زلنا في الوطن العربي أحسن حالا من هذا الهجوم الماكر الخفيّ والتّحدّي الرّهيب، ويستوقفني هنا موقف رائع من الأديب الكبير واللّغوي العظيم : إبراهيم بن ناصيف اليازجي (ت 1324هـ=1906م) وهو من نصارى لبنان، وكان شديد الغَيرة على اللّغة العربيّة، يحامي عنها ويذود بالنّفس والنّفيس ، وإليه تنسب العبارة الشّهيرة : « أَبَتِ العربيَة أن تَتَنَصَّر ».
و [الخلاصة] : أنّ أخطر هجمات الغزو الفكري الحديث ضدّنا، حين يصل الحال إلى كتابة القرآن الكريم بالحرف اللاّتيني عوضا عن الحرف العربي، وتبَنّي هذه الفكرة الغاشمة من أمكر الوسائل الخبيثة والحاقدة نحو أعظم مقدّسات الإسلام.
__________
(1) المجلّة عدد (874) / ص 29.(1/28)
ورحم الله الأستاذ الدّكتور محمد محمد حسين إذ يقول : « ليس الخطر في الدّعوة إلى العاميّة، ولا الدّعوة في الحروف اللاّتينيّة، إنّ الخطر الحقيقيّ هو في قبول « مبدأ التّطوير » نفسه، لأنّ التّسليم به والأخذ فيه لا ينتهي إلى حدّ معيّن، أو مَدًى معروف يقف عنده المتطوّرون، ولا ريب أنّ التّزحزح عن الحقّ، كالتّفريط في العِرض »(1).
7)- تحريم « كتابة القرآن بالحروف اللاّتينيّة » بلا منازع :
بعد هذه الجولة الواسعة في أرجاء هذا الموضوع الخطير بدءا بالتّمهيد وانتهاء بظهور « فكرة استبدال الحروف العربيّة بالحروف اللاّتينيّة »، نَخْلُصُ إلى أنّ هذه « المؤامرة الدّنيئة » على نصّ القرآن المقدّس، إنّما تستهدف « مصحف المسلمين » في أرجاء العالم، لتجرّده من أعظم خصائصه الّتي أنزله الله بها، وتستبدل الرّسم العثمانيّ الخالد، الّذي كتِب به منذ ما يزيد على أربعة عشر قرنا، والمجمع عليه عند جمهرة أئمّة الدّين، بحروف قاصرة غير عربيّة(2).
والآن، تعالوا معي لنرى ما جرى : فحسب استقرائي القاصر فإنّه ظهر أكثر من مصحف مكتوب بالكامل بلغات غير عربيّة في : تركيّا، وإندونيسيا، وإنجلترا، وفرنسا.
1- مصحف بالحروف التّركيّة، طبع في استانبول سنة (1351هـ=1932م)، نشرته مكتبة إبراهيم حلمي.
__________
(1) أنور الجندي : المؤامرة على الفُصحى (ص 6).
(2) يقول الأستاذ عليّ عبد العظيم في مقال له بعنوان (محاولة دنيئة لكتابة القرآن بالحروف اللاّتينيّة) نشر في مجلّة الإعتصام القاهريّة عدد (104)، جمادى الآخرة 1396هـ=1976م : « [ إنّ في اللّغة العربيّة ] حروفا لا نظير لها في اللاّتينيّة كـ : (ح/ص/ض/ط/ظ/ع/ق)، فهل نلغيها من القرآن الكريم؟! علما أنّ في اللاّتينيّة حروفا متباينة النّطق، فإنّ حرف (C) ينطق سينا حينا وكافا حينا آخر، وحرف (S) ينطق سينا حينا وزايا حينا، وحرفا (CH) ينطقان شينا أو كافا، وحرفا (TH) ينطقان ذالا أو ثاءا ... ».(1/29)
2- مصحف بالحروف الإندونيسية، أخبر عنه أحد مبعوثي إدارات البحوث العلميّة والإفتاء والدّعوة والإرشاد في الرّياض، ظهر في جاكرتا.
3- مصحف بالحروف الإنجليزيّة، أعلمني بذلك مدير مكتب رابطة العالم الإسلامي في باريس : د. عبد الحليم خلدون الكِناني (ت 1410هـ=1989م).
4- مصحف بالحروف الفرنسيّة، وهو يباع في سائر المكتبات بالعاصمة باريس.
... يقول الدّكتور معروف الدّواليبي في مقال له(1)، وهو يتحدّث عن تاريخ نشأة المسيحيّة وما تفرّع عنها من كاثوليكيّة ، فأرثوذكسيّة ، فبروتستانتيّة : « كلّ هذه الأديان الثّلاثة تابعة للأناجيل الأربعة التي قُبلت وحدها من أصل مائة إنجيل في أوّل مؤتمر مسكوني دعا إليه قسطنطين ، ليُتّخذ دينا عامّا للدولة يسمّى الكاثوليكيّة التي تَعني حرفيّا : الدين العام ، تخلّصا من الفرق المسيحيّة التي كثرت وتعدّدت في زمانه ، حتّى بلغت أناجيلها مائة إنجيل ، وكلّ فئة تدّعي أنّ إنجيلها هو الصّحيح » .
فهذا الذي تحدّث عنه الدّكتور الدّواليبي نخشى أن نصل إليه - لا سمح الله - وإن كان ذلك بعيدا ، لكن لا ندري ماذا يُخفيه لنا أعداؤنا ، ومعهم النّاعقون من بني جلدتنا ، الذين لا يرقبون عواقب الأمور في كلّ محظور .
... وقد صدق المفكّر المسلم الأستاذ وحيد الدين خان حين قال : « حين دُوّن القرآن في عهد أبي بكر - رضي الله عنه - بإشراف الدّولة ، أُحرِقت النّسخ الانفرادية الأخرى بسبب هذه الحكمة ، وهي : أنّه لو دُوّن القرآن بجهود انفراديّة لتفجّر خلاف شديد ما كان ليهدأ قبل يوم القيامة ؛ ولعلّ عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - أيضا ، وضع مثل هذه الخطّة لجمع الأحاديث النّبويّة وتدوينها ، ولكنّ هذا العمل لم يتحقّق بإشراف الدّولة الإسلاميّة بسبب موته المبكّر »(2).
__________
(1) نشرته مجلّة المجتمع في عددها العاشر سنة 1399هـ.
(2) كتابه : نحو تدوين جديد للعلوم الإسلاميّة ، ص 18 .(1/30)
فتوحيد دستور المسلمين الخالد إذًا ، نعمة جزيلة ومنّة عظيمة على جميع المسلمين في أنحاء العالم .
... لقد نزل القرآن الكريم بلسان عربي مبين ، ثمّ كُتب باللغة العربيّة على أيدي مهَرَة من كتبة الوحي الذين اصطفاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهذا العمل الجلل ، ولذا حُفظت كتابته من وقت نزوله إلى اليوم ، ووقع الإجماع على هذا في عهود الصّحابة ، والخلفاء الراشدين ، والتابعين ، وأتباع التابعين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين . ومضى الحال على ذلك ، ودخل مَن دخل من الأمم غير العرب في الإسلام ، ولم يُفكّروا يوما في إحالته عن عربيّته : فالمسلمون من غرْب آسيا وشمال إفريقيا استعرَبوا بالإسلام والقرآن ، والهنود والأتراك وأهل فارس والأوربيون (حديثا) ممن دخلوا في دين الله كذلك .
... فلماذا نأتي اليوم بـ « بدعة » جديدة لا أساس لها في الدين لا من قريب ولا من بعيد ؟ وقد سئل الإمام مالك - كما نقله الإمام أبو عمْرو الدّاني عن أشهب - : هل يُكتب المصحف على ما أحدثه النّاس من الهجاء ؟ فقال : لا ، إلاّ على الكِتْبَة الأولى .
... وقال الإمام أحمد بن حنبل : يحرُم مخالفة خطّ مصحف عثمان في واو أو ياء أو ألف ، أو نحو ذلك .
... وذكر الإمام الشُّرُنْبُلالِيّ الحنفي في رسالته المسمّاة (النفحة القدسيّة في أحكام قراءة القرآن وكتابته بالفارسيّة): « إجماع الأئمّة الأربعة ، واتفاق علماء مذاهبهم ، على أنّ اتباع رسم خط المصحف العثماني واجب في كتابة القرآن الكريم ، وأنّ كتابته بعبارة غير عربيّة : حرام ، وكذا كتابته بغير خطّ عربيّ : ممنوع » .
... وقال الإمام الحافظ ابن الجوزي (ت 597هـ=1200م) : « إنّ كتابة الصّحابة للمصحف الكريم مما يدلّ على عظيم فضلهم في علم الهجاء خاصّة ، وثقوب فهمهم في تحقيق كلّ علم »(1).
__________
(1) عبد الحي الكتاني : التراتيب الإداريّة في نظام الحكومة النّبويّة . ط. مصوّرة في بيروت (د. ت.) .(1/31)
... وقال الإمام البيهقيّ (ت 458هـ=1065م) في كتابه (شُعَب الإيمان) : « مَن كتب مصحفا، ينبغي أن يحافظ على الهجاء الّذي كتبوا به تلك المصاحف، ولا يخالفهم فيه، ولا يغيّر ممّا كتبوه شيئا، فإنّهم كانوا أكثر علما، وأصدق قلبا ولسانا، وأعظم أمانة، فلا ينبغي أن نظنّ بأنفسنا استدراكا عليهم ».
... وقال القاضي عَيَّاض(1)(ت 544هـ=1149م) : « أجمع المسلمون أنّ القرآن المتلوّ في جميع أقطار الأرض المكتوب في المصحف بأيدي المسلمين، ممّا جمعُهُ الدّفّتان من أوّل { الحمد لله ربّ العالمين } إلى آخر { قل أعوذ بربّ النّاس } أنّه كلام الله ووحيه المنزّل على نبيّه محمّد - صلى الله عليه وسلم - ، وأنّ جميع ما فيه حقّ، وأنّ من نقّص منه حرفا قاصدا لذلك، أو بدّله بحرف آخر مكانه ، أو زاد فيه حرفا ممّا لم يشتمل عليه المصحف الّذي وقع الإجماع عليه، وأجمع على أنّه ليس من القرآن عامدا لكلّ هذا ، أنّه : كافر ».
... وقال الشّيخ عبد العظيم الزّرقاني من علماء الأزهر(2): « إنّ علماءنا حظروا كتابة القرآن بحروف غير عربيّة، وعلى هذا يجب عند ترجمة القرآن بهذا المعنى إلى أيّة لغة أن تكتب الآيات القرآنيّة إذا كتبت بالحروف العربيّة، كي لا يقع إخلال وتحريف في لفظه ».
... وقال الشّيخ خالد عبد الرحمان العكّ : « ليس في الوجود لغة تستوعب الإعجاز القرآنيّ غير العربيّة .. ولهذا لا يجوز إخراج القرآن عن لغته المعجزة إلى لغات أخرى ثمّ يسمّى قرآنا .. فإذا خرج القرآن عن لغته العربيّة، تأكّد وقوع التّغيّر والتّبديل والتّحريف الّذي يأمل به أعداء الإسلام »(3).
__________
(1) في كتابه (الشّفا /ج2 /ص250) .
(2) في كتابه (مناهل العرفان) .
(3) في كتابه (تاريخ توثيق نصّ القرآن/ص150-146)، مع تقديم وتأخير.(1/32)
... وأختم هذه النّقول الصّارخة بقول فضيلة الأستاذ الدّكتور يوسف القرضاوي - عميد كليّة الشّريعة والدّراسات الإسلاميّة في قطر (سابقا) - : « بقي المصحف برسمه العثماني إلى يومنا هذا، ولم يقبل أحد من المسلمين أن يغيّر رسمه إلى الرّسم الإملائي المعتاد، وإن كان أيسر على النّاس، مبالغة في الحفاظ على النّصّ القرآني من أيّ تغير قد يحدث في المستقبل خطأ أو عمدا ... ومن هنا، ينبغي أن يُفْهَم أنّ الأصل في الفتوى : هو عدم جواز كتابة النّصّ القرآني بغير الحرف العربي »(1).
8)- تحريم « الكتابة » يستتبع تحريم « التّلاوة » :
... لأنّ تحريف الكتابة ينجم عنه سوء القراءة، كما ينبّه العلاّمة المقرئ الشّيخ علاء الدّين السّخاوي في (نونيّته) العصماء قائلا :
لا تحسب التّجويد مدّا مُفْرِطا ... ... أو مدّ ما لا مدّ فيه لواني
أو أن تشدّد بعد مدّ همزةً ... ... أو أن تلوك الحرف كالسّكران
أو أن تفوه بكلمة متهوّعا ... ... فيفرّ سامعها من الغثيان
للحرف ميزان فلا تك طاغيا ... ... فيه ولا تك مخسر الميزان
... قال الإمام الزّركشي : « لا تجوز قراءة القرآن بالعجميّة سواء أحْسن العربيّة أم لا، في الصّلاة وخارجها لقوله تعالى : { إنّا أنزلناه قرآنا عربيّا } وقوله : { ولو جعلناه قرآنا أعجميّا } » .
... وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيميّه (ت728هـ=1327م) : « أمّا القرآن فلا يقرأه بغير العربيّة، سواء قدر عليها أو لم يقدر عند الجمهور، وهو الصّواب الّذي لا ريب فيه »(2).
وأمّا ما نقل عن الإمام أبي حنيفة النّعمان : من جواز القراءة في الصّلاة بالفارسيّة، فقد صحّ تراجعه عنه، وتبعه في ذلك أصحاب مذهبه ؛ ذكر ذلك الكمال بن الهمام ، وشارح المنار ، وصدر الشّريعة في التّوضيح ، وغيرهم، وكلّهم قالوا : الأصحّ أنّه رجع عن هذا القول.
__________
(1) من رسالة فضيلة الشّيخ الدّكتور يوسف القرضاوي إلى كاتب هذا المقال بتاريخ (1/6/1408هـ=20/1/1988م).
(2) في كتابه (اقتضاء الصّراط المستقيم/ص203).(1/33)
وبهذا يكون رأي الأحناف متّفقًا مع رأي جمهور العلماء في التّحريم.(1)
9)- قاعدة « سدّ الذّرائع » : تُدَعِّم حكم تحريم كتابة القرآن بالحروف اللاّتينيّة :
انفرد المالكيّة ومعهم الحنابلة باستخراج أصل من أصول الفقه، وهو ما يُعرف بـ « سدّ الذّرائع »، وهي تعني : الوسائل أو الأسباب الّتي يُتَوَصّل بها إلى شيء محظور (أي : ممنوع).
وقد عرّفها الإمام المازري بقوله : « مَنعُ ما يجوز لئلاّ يتطرّق به إلى مالا يجوز ».
وعقد العلاّمة محمد صدّيق حسن خان القِنّوجي (ت1307هـ=1889م) في كتابه (حصول المأمول من علم الأصول/ص358) بابا بعنوان : (سدّ الذّرائع)، ثمّ عرّفها بقوله : « هي المسألة الّتي ظاهرها الإباحة، ويُتوصّل بها إلى الفعل المحظور .. ومن أحسن ما يُستدلّ به على هذا الباب، قوله - صلى الله عليه وسلم - : « ألا وإنّ حمى الله المعاصي، فمن حام حول الحمى يوشك أن يواقعه » وهو حديث صحيح(2)، ويُلحق به قوله - صلى الله عليه وسلم - : « دَعْ ما يَرِيبُك إلى ما لا يَرِيبُك » وهو حديث صحيح أيضا »(3).اهـ
__________
(1) أمّا كتابة المصحف بالفارسيّة عند فقهاء الأحناف فهي ممنوعة أشدّ المنع. وقد سبق إيراد كلام الإمام الشّرنبلاليّ في ذلك، وهو من أئمّتهم.
(2) أي رواه الإمامان البخاريّ ومسلم عن النّعمان بن البشير - رضي الله عنه - .
(3) أي رواه التّرمذيّ والنّسائيّ.(1/34)
أمّا دليلها من القرآن الكريم، فهو قوله تعالى في آية سورة البقرة : { يا أيّها الّذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم } آية 104. قال العلاّمة الشّيخ حسنين محمّد مخلوف (ت 1410هـ=1990م) : « هذه الآية أصل في سدّ الذّرائع »(1). وقال العلاّمة الإمام الشّيخ محمّد الطّاهر بن عاشور (ت 1393هـ=1973م) في خاتمة تفسيره الآية : « وقد دلّت هذه الآية على مشروعيّة أصل من أصول الفقه - وهو من أصول المذهب المالكي - يلقّب بسدّ الذّرائع، وهي الوسائل الّتي يُتوسَّل بها إلى أمر محظور »(2).
وقال الإمام ابن القيّم : « إنّ سدّ الذّرائع رُبعُ التّكليف ».
وإليك أمثلة لتزداد فهما ومعرفة بـ « قاعدة سدّ الذّرائع » :
- خلوة الرّجل بالمرأة الأجنبيّة، (لا تجوز)، لأنّها قد تفضي إلى الوقوع في المعصية.
- منع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - الوصيّة للوارث، حتّى لا تُتَّخَذ ذريعةً إلى تفضيل بعض الورثة على بعض، وهذا (لا يجوز).
- النّهي عن بناء المساجد على القبور، حتّى لا يُفضي ذلك إلى عبادة الموتى من عظماء النّاس.
- بيع المأكولات الفاسدة، (حرام)، لأنّها قد تؤدّي إلى مرض الآكلين أو موتهم(3).
ومن ذلك ما نحن بصدد الكلام عنه، وهو : منع كتابة القرآن الكريم بالحروف اللاّتينيّة حتّى لا يُفضَى به إلى التّحريف والتّغيير والتّبديل، فقد يكون كلّما خطرت فكرة للعابثين، وللّذين يريدون أن يكون للمصحف فتنة، بكتابته بالحروف اللاّتينيّة عوضا عن الحروف العربيّة.
ولا بدّ أن أشير هنا إلى أنّ « كتابة القليل والكثير » منه في الحكم سواء ، أعني : « التّحريم ».
__________
(1) تفسيره : (صفوة البيان لمعاني القرآن) ج1/ص41.
(2) تفسيره : (التّحرير والتّنوير) ج1/ص652.
(3) وللتفصيل في هذا الموضوع ، ارجع إلى المقال المنشور في مجلّة (الدّعوة السّعوديّة) عدد (929) سنة 1404هـ/ص36.(1/35)
والّذين أجازوا القليل(1)مثل الفاتحة فقط، ثمّ قصار السّور، فإنّا نقول لهم : في سَدّ القليل صَدّ عن الكثير، وبغلْق هذا الباب تطمئنّ ضمائر أولوا الألباب، وتستريح أيادي أولئك الأرباب، من الاقتراب إلى حمى هذا الكتاب، لأنّ دَرْءَ المفاسد مقدَّم على جلب المصالح، هكذا نبّه الفقهاء.
ففي الثّمانينات (أي الميلاديّة)، وجدناهم - أي العابثين - يكتبون الفاتحة، ثمّ خطوا خطوة أخرى فكتبوا قصار السّور، ثمّ واصلوا الكتابة إلى (حزب سبّح)، ثمّ تسابقوا : فمنهم من أخرج (جزء عمّ)، ومنهم من تمادى فأخرج (جزء تبارك)، ثمّ تنافسوا في شناعة العمل ، ليقال : أيهم أحسن عملا، حتّى أخرج كبيرهم مصحفا كاملا باللاّتينيّة.
10)- أدلّة « التّحريم » (قديما) و (حديثا) :
كنت أتابع موضوع « كتابة القرآن بالحروف اللاّتينيّة » منذ العام (1405هـ=1985م) باهتمام بالغ، ولوعة مؤرّقة ، كيف وأنا أرى - يومها - الخرْق يزداد على الرّاقع ويتّسع ، ووجدتُ من العلماء من لا يرعى هذا الموضوع اهتمامه ، بل كان يراه هيّنا ، ولكنّه في الحقيقة عند الله عظيم، حتّى أنّ فضيلة الشّيخ فيصل مولوي المستشار بالمحكمة الشّرعيّة السّنيّة العليا في بيروت - لمّا نزل بمدينة باريس للإقامة فيها في منتصف الثّمانينات - عرضتُ عليه الموضوع وحادثته فيه ، ثمّ أبديت له رغبتي وعزمي على الكتابة فيه ، فقال لي بعفويّته المعهودة : « ماذا ستكتب فيه ؟ » ، إذ كان يرى حفظه الله : أنّ هذه النّازلة بسيطة، ولا تستدعي كلّ هذا القلق .
وفعلا، كتبتُ في الموضوع وفرغت منه في (24/06/1405هـ=15/03/1985م)، ثمّ صدر في باريس بعنوان : (كتابة النّصّ القرآني بالحرف اللاّتيني خطر داهم على المصحف العثماني) عام (1407هـ=1987م).
__________
(1) كان ذلك قبل عشرين سنة، وما أراهم اليوم سيجيزون ذلك بعدما وصل الأمر إلى ظهور مصحف كامل باللاّتينيّة.(1/36)
ثمّ قمت بإرسال رسائل مصحوبة بنسخ منه إلى نخبة من أصحاب الفضيلة العلماء، ودوائر العلم والفتوى في المشرق والمغرب، أستطلع رأيهم في الموضوع ذاته (أوّلا)، ثمّ لأرى انطباعاتهم عن الكتاب المرسل إليهم (ثانيا)، وذلك بمعدّل مائة وعشرين شخصيّة علميّة، لكن كان التّجاوب ضئيلا، والإجابات جدّا قليلة، فعمدتُ إلى وسيلة التّذكير مع الإلحاح على الإجابة، وذكّرتُهم بأهميّة الموضوع وخطورته، وهم أصحاب المسؤوليّة الشّرعيّة : يُسمَع ويُقْرأ لهم، ويُهتدى بآرائهم، فجاءت الحصيلة في المرّة الثّانية أوفى بقليل من الأولى، ولكن يبقى ذلك دون ما كنت آمله.
ولا بدّ لي أن أقول هنا بالمناسبة : إنّ الغرب بعلمائه ودوائره لا يعرف التّجاهل ولا التّناسيَ أو حتّى التّغاضي عن أيّ مكتوب يصلهم مهما كان باعثه ومبعثه، وهم يرون ذلك من أخلاق هذا القرن، وحسن المعاملة والتّواصل بين بني البشر، أمّا نحن العرَبَ فحدّث عن الإغفال وأحيانا الإهمال ولا حرج، فإلى الله المُشتكى(1).
__________
(1) كان العلاّمة الدّكتور محمّد حميد الله يرحمه الله (ت) يشكو إليّ من كثرة الرّسائل الّتي تصله من أنحاء العالم بمختلف اللّغات، ومع ذلك كان يحرص على الرّدّ عليها جميعا بلا تأخير، وإن بسطر واحد أو سطرين، وقد كان حقّا يتأسّى في ذلك بقول الصّحابيّ عبد الله بن عبّاس - رضي الله عنه - : « إنّي لأرى لجواب الكتاب حقّا كردّ السّلام » رواه الإمام البخاريّ في كتابه (الأدب المفرد).(1/37)
وممّن استجاب لي فأجابني - جزاهم الله خيرا وشكر سعيهم في الدّنيا والآخرة - عِلما أنّ منهم من انتقل إلى رحمة الله : ( سيّد محمّد طنطاوي/عبد الحميد طهماز/صلاح الدّين قايا(1)/عبد الرزّاق الحلبي/عبد الله الأنصاري/يوسف البرقاوي/حسين خطّاب/يوسف القرضاوي/عبد العزيز بن باز/محمد بن أحمد الخزرجي/أسعد المدني(2)/عبد الله بن الصدّيق الغُماري/أبو بكر جابر الجزائري/عبد الله كنّون/أحمد محمّد جمال/محمّد الغزالي/محمّد سعيد رمضان البوطي/أحمد العسّال/سيّد سابق/محمّد عليّ الصّابوني/حبيب الرّحمان الأعظمي/محمّد شفيع الّدييوبندي(3)/محمّد عبد الرّحمان(4)/سعيد عبد العزيز الجندول(5)/بدر المتولّي عبد الباسط/محمّد بن عبد الوهّاب أبياط/عبد الغنيّ الرّاجحي(6)/بُدّاه البُوصيري(7)/زينب الغزالي/إبراهيم بن إسماعيل/لطفي دوغان(8).
__________
(1) مفتي استانبول.
(2) رئيس جمعيّة علماء الهند في دلهي.
(3) المفتي الأعظم بباكستان.
(4) مفتي جزر القمر.
(5) مستشار أوّل لوزير الحجّ والأوقاف، والمشرف العامّ على الإدارة العامّة لمراقبة الإنتاج بمجمّع الملك فهد لطباعة المصحف الشّريف بالمدينة المنوّرة.
(6) أستاذ الدّراسات العليا بجامعة الأزهر.
(7) أحد كبار علماء موريتانيا، وخطيب المسجد الكبير في نواكشط.
(8) رئيس الشّؤون الدّينيّة في أنقرة.(1/38)
أمّا دوائر الفتوى ومراكز الشّؤون الدّينيّة، فقد كاتبتُها أيضا لاستصدار فتوى منها في الموضوع، فأجابتْ مشكورة، انطلاقا من موقعها الهامّ في بيان الأحكام الشّرعيّة، وهي على التّوالي : (دار الإفتاء في الرّياض/دار الإفتاء في مصر/دار الإفتاء العامّ في الأردنّ/دار الفتوى في لبنان/الهيئة العامّة للفتوى في الكويت/إدارة الإفتاء في استانبول/دار الإفتاء في بنغلاديش/المجمع الفقهي بمكّة المكرّمة/مجلس القرّاء بدمشق(1)/رئاسة الشّؤون الدّينيّة بتركيّا/جمعيّة علماء الهند).
فكلّ هؤلاء ، - سواء من العلماء ، أو دُور الفتوى ، والمجامع الفقهيّة ، والهيئات الدّينيّة في العالم الإسلامي - قالوا جميعا : « بتحريم كتابة القرآن الكريم بالحروف اللاتينيّة » قولا واحدا بلا استثناء .
وهذا شيء مهمّ ومفيد من حيث بيانُ وجهة علمائنا الصّحيحة والسّديدة في هذا الموضوع الخطير في هذا العصر ، والقول بغير هذا يُعدّ - بلا شكّ - شذوذا وشططا ، خصوصا إذا أضفنا ما ذهب إليه الأجلاّء من أئمّة العلم والفقه قديما ، فهم أيضا يذهبون مذهب « التّحريم » ، ابتداءً من أئمّة الفقه الأربعة المشهورين ، ومن جاء بعدهم على مرّ العصور ، مثل : (الحافظ البيهقي ، والإمام البغوي ، والقاضي أبو بكر بن العربي ، والعلامة نظام الدين النيسابوري ، وشيخ الإسلام ابن تيمية ، والفقيه ابن الحاج العبدري ، والإمام الشّاطبي ، والإمام ابن حزم ، والإمام علي النّوري الصّفاقسي(2) .
__________
(1) الّذي ينعقد أسبوعيّا في محضر كبار القرّاء ومشيختهم بجامع بني أميّة الكبير بدمشق.
(2) صاحب الكتاب الشّهير (غيث النّفع في القراءات السّبع) .(1/39)
ونصوص أقوال السّادة هؤلاء وألئك : القديم منها والحديث ، تجدها مبثوثة في كتبي : (كتابة النّصّ القرآني بالحرف اللاتيني خطر داهم على المصحف العثماني) ، و (تحريم كتابة القرآن الكريم بحروف غير عربيّة) ، و (الامتناع عن كتابة القرآن بالحروف اللاتينيّة أو الأعجميّة بأدلّة الكتاب والسّنّة والإجماع)(1).
... فهل بعد هذا يا ترى ، مَن يطلب المزيد من الإقناع في هذا الموضوع ؛ بل إنّ مجموع نصوص أقوال أولئك العلماء ومراجع الفتوى تُشكّل « إجماعا » حديثا ، يجب أن لا يُخرَق ، ولا يُخرج عنه ، مهما التمست الأعذار أو كيفما كانت المبررات .
و « الإجماع » ، معناه شرعا : اتّفاق جملة من أهل الحلّ والعقد من أمّة محمد - صلى الله عليه وسلم - في عصر من العصور على أمر من الأمور.
ولا يخفى عليك أنّ الإجماع هو أحد ركائز الاستدلال في الشّريعة الإسلاميّة بعد (الكتاب والسّنّة) .
وأنا هنا ، سأقتصر على إيراد (ستة قرارات) تعتبر نصوصا قاطعة في « تحريم مسألة كتابة نصّ القرآن بالحروف اللاتينيّة أو الأعجميّة » ، صدرت عن جهات لها إخلاصها ، ومرجعيّتها الدينية والعلميّة ، ومصداقيّتها عند المسلمين في العالم ، والمسلم البصير والعاقل يكفيه ذلك ، بل ويُغنيه عن أن يلتمس دليلا آخر .
وهذه الجهات هي :
1- هيئة كبار العلماء في المملكة العربيّة السّعوديّة :
__________
(1) وهذه الكتب الثّلاثة مطبوعة ، والأخير منها صدر هذا العام عن دار ابن حزم في بيروت (1426هـ=2005م) ، والحمد لله .(1/40)
... « بسم الله الرّحمان الرّحيم . قرار رقم 67 وتاريخ 21/10/1399هـ . الحمد لله والصّلاة والسّلام على رسوله وآله وصحبه .. وبعد ، ففي الدّورة الرّابعة عشرة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة بمدينة الطّائف في المدّة من العاشر من شهر شوّال سنة 1399هـ إلى الحادي والعشرين منه ، اطّلع المجلس على الخطاب الوارد من مبعوث الرّئاسة بسفارة المملكة العربيّة السّعوديّة بجاكرتا إلى مدير إدارة الدّعوة في الخارج برقم 9/1/15/155 وبدون تاريخ المتضمّن أنّه ظهر في أسواق أندونيسيا مصحف مكتوب بالأحرف اللاتينيّة . وسؤاله عمّا ينبغي اتّخاذه حياله والذي أحيل للأمانة العامّة لهيئة كبار العلماء من سماحة الرّئيس العام لإدارات البحوث العلميّة والإفتاء والدّعوة والإرشاد . خطابه رقم 255/1/د وتاريخ 27/1/99هـ ، واطّلع المجلس على البحث الذي أعدّته اللجنة الدّائمة للبحوث العلميّة والإفتاء في حكم كتابة المصحف بالأحرف اللاتينيّة ، بناء على طلب المجلس في الدّورة الإستثنائيّة الثّالثة لمّا عرض الخطاب في تلك الدّورة ؛ وبعد دراسة الموضوع ومناقشته وتداول الرّأي فيه ، قرّر المجلس بالإجماع : تحريم كتابة القرآن بالحروف اللاتينية أو غيرها من حروف اللغات الأخرى ، وذلك للأسباب التّالية :
1/ إنّ القرآن قد نزل بلسان عربيّ مبين حروفه ومعانيه ، قال تعالى : { وإنّه لتنزيل ربّ العالمين . نزل به الرّوح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين . بلسان عربيّ مبين } . والمكتوب بالحروف اللاتينيّة لا يسمّى قرآنا لقوله تعالى : { وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيّا } ، وقوله : { لسان الذي يُلحدون إليه ءاعجمي وهذا لسان عربي مبين } .(1/41)
2/ إنّ القرآن كُتب حين نزوله وفي جمع أبي بكر وعثمان - رضي الله عنه - بالحروف العربيّة ، ووافق على ذلك سائر الصّحابة - رضي الله عنه - ، وأجمع عليه التّابعون ومَن بعدهم إلى عصرنا رغم وجود الأعاجم ، وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّه قال : « عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الرّاشدين من بعدي ... » .الحديث ؛ فوجبتْ المحافظة على ذلك ، عملا بما كان في عهده - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الرّاشدين - رضي الله عنه - ، وعملا بإجماع الأمّة .
3/ إنّ حروف اللغات من الأمور المصطلح عليها ، فهي قابلة للتغيير مرّات بحروف أخرى ، فيُخشى إذا فتح هذا الباب أن يُفضي إلى التّغيير كلّما اختلف الاصطلاح ، ويُخشى أن تختلف القراءة تبعا لذلك ، ويحصل التّخليط على مرّ الأيّام ، ويجد عدوّ الإسلام مدخلا للطّعن في القرآن للاختلاف والاضطرابات ، كما حصل بالنّسبة للكتب السّابقة ، فوجب أن يُمنع ذلك محافظةً على أصل الإسلام ، وسدّا لذريعة الشّر والفساد .
4/ يُخشى إذا رُخّص في ذلك أو أقرّ أن يصير القرآن أُلعوبة بين أيدي النّاس : فيقترح كلٌّ أن يكتبه بلغته وبما يجدّ من اللغات ، ولا شكّ أنّ ذلك مثار اختلاف وضياع ، فيجب أن يُصان القرآن عن ذلك صيانة للإسلام ، وحفظا لكتاب الله من العبث والاضطرابات .
5/ إنّ كتابة القرآن بغير الحروف العربيّة يُثبِّط المسلمين عن معرفة اللغة العربيّة التي بواسطتها يعبدون ربّهم ويفهمون دينهم ، ويتفقّهون فيه . هذا وبالله التّوفيق ، وصلّى الله على محمد وآله وصحبه وسلّم » .
هيئة كبار العلماء
رئيس الدّورة : عبد الله بن محمد بن حميد(1/42)
محمد بن علي الحركان / عبد الرزاق عفيفي / عبد العزيز بن عبد الله بن باز / سليمان بن عبيد / عبد الله خياط / عبد العزيز بن صالح / راشد بن خنين / محمد بن جبير / إبراهيم بن محمد آل الشّيخ / عبد الله بن غديان / صالح بن غصون / عبد المجيد بن حسن / عبد الله بن قعود / عبد الله بن منيع / صالح بن اللحيدان(1).
2- المجمع الفقهي الإسلامي بمكّة المكرّمة :
... الحمد لله وحده ، والصّلاة والسّلام على من لا نبي بعده ، سيدنا ونبيينا محمد وآله وصحبه أجمعين .
أمّا بعد :
... فإنّ مجلس المجمع الفقهي الإسلامي قد اطّلع على خطاب الشيخ هاشم وهبة عبد العال من جدّة ، الذي ذكر فيه موضوع (تغيير رسم المصحف العثماني إلى الرسم الإملائي) ، وبعد مناقشة هذا الموضوع من قِبل المجلس واستعراض قرار هيئة كبار العلماء بالرياض ، رقم (71/وتاريخ 21/10/1399هـ) الصّادر في هذا الشّأن ، وما جاء فيه من ذكر الأسباب المقتضية بقاء كتابة المصحف بالرّسم العثماني ، وهي :
1- ثبت أنّ كتابة المصحف بالرّسم العثماني كانت في عهد عثمان - رضي الله عنه - ، وأنّه أمر كتبة المصحف أن يكتبوه على رسم معيّن ، ووافقه الصّحابة ، وتابعهم التابعون ومن بعدهم إلى عصرنا هذا ؛ وثبت أن النّبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي » ؛ فالمحافظة على كتابة المصحف بهذا الرّسم هو المتعيّن اقتداء بعثمان وعلي وسائر الصحابة ، وعملا بإجماعهم .
__________
(1) وتحت كلّ هذه الأسماء تواقيع أصحابها ، ما عدا : عبد العزيز بن صالح وإبراهيم بن محمد آل الشيخ .(1/43)
2- إنّ العدول عن الرّسم العثماني إلى الرّسم الإملاي الموجود حاليا بقصد تسهيل القراءة يُفضي إلى تغيير آخر إذا تغيّر الاصطلاح في الكتابة ، لأن الرّسم الإملائيّ نوع من الاصطلاح قابل للتغيير باصطلاح آخر ، وقد يُؤدّي ذلك إلى تحريف القرآن بتبديل بعض الحروف أو زيادتها أو نقصها ، فيقع الاختلاف بين المصاحف على مر السنين ، ويجد أعداء الإسلام مجالاً للطعن في القرآن الكريم ، وقد جاء الإسلام بسدّ ذرائع الشّرّ ومنع أسباب الفتن .
3- ما يُخشى من أنّه إذا لم يُلتزم الرّسم العثماني في كتابة القرآن ، أن يصير كتاب الله ألعوبة بأيدي النّاس كلما عنت لإنسان فكرة في كتابته اقترح تطبيقَها ، فيقترح بعضهم كتابته باللاتينيّة أو غيرها ، وفي هذا ما فيه من الخطر ، ودرء المفاسد أولى من جلب المصالح .
وبعد اطلاع مجلس المجمع الفقهي الإسلامي على ذلك كلّه ، قرّر بالإجماع : تأييد ما جاء في قرار مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية ، من عدم جواز تغيير رسم المصحف العثماني ، ووجوب بقاء رسم المصحف العثماني على ما هو عليه ، ليكون حجّة خالدة على عدم تسرّب أيّ تغيير أو تحريف في النّصّ القرآني ، واتباعا لما كان عليه الصّحابة ، وأئمّة السّلف رضوان الله عليهم أجمعين .(1/44)
أمّا الحاجة إلى تعليم القرآن وتسهيل قراءته على النّاشئة التي اعتادت الرسم الإملائيّ الدّارج ، فإنّها تتحقّق عن طريق تلقين المعلّمين ، إذ لا يستغني تعليم القرآن في جميع الأحوال عن معلّم ، فهو يتولّى تعليم النّاشئين قراءة الكلمات التي يختلف رسمها في الرّسم العثماني عن رسمها في قواعد الإملاء الدّارجة ، ولا سيّما إذا لوحظ أنّ تلك الكلمات عددها قليل ، وتكرار ورودها في القرآن كثير ، ككلمة { الصّلواة } و { السّموات } ونحوهما ؛ فمتى تعلّم الناشئ الكلمة بالرسم العثماني سهُل عليه قراءتها كلما تكرر في المصحف ، كما يجري مثل ذلك تماما في رسم كلمة { هذا } و { ذلك } في قواعد الإملاء الدّارجة أيضا . والله وليّ التّوفيق .
وصلّى الله على سيدنا محمد النبي الأميّ وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا .
رئيس مجلس المجمع الفقهي
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
نائب الرئيس
د. عبد الله عمر نصيف
الأعضاء : عبد الله عبد الرّحمان البسام / صالح بن فوزان بن عبد الله الفوزان / محمد بن عبد الله بن السبيل / مصطفى أحمد الزّرقا / محمد محمود الصواف / صالح بن عثيمين / محمد سالم عدود / محمد رشيد قباني / محمد الشاذلي النيفر / أبو بكر جومي / عبد القدوس الهاشم / محمد رشيدي / محمود شيت خطاب / أبو الحسن علي الحسني النّدْوي / حسنين محمد مخلوف / مبروك العوادي / محمد أحمد قمر : مقرّر مجلس المجمع الفقهي الإسلامي(1).
3- دار الإفتاء المصريّة :
كنت قد بعثتُ في عام (1408هـ) إلى دار الإفتاء المصريّة بالسّؤال التّالي : ما الحكم في « كتابة النّصّ القرآني بالحرف اللاّتيني » تيسيرا لغير العرب، أو المسلمين الجدد، لقراءة القرآن الكريم بلغتهم؟
__________
(1) وتحت كلّ هذه الأسماء تواقيع أصحابها ، ما عدا : محمد سالم عدود ، ومحمود شيت خطاب ، وأبو الحسن الندوي ، وحسنين مخلوف ، ومبروك العوادي فإنهم لم يحضروا .(1/45)
فجاءتني إجابة المفتي آنذاك : فضيلة الشّيخ الدّكتور محمّد سيّد طنطاوي - وهو الآن شيخ الأزهر - ونصّها : « نؤيّد ما جاء في قرار مجلس المجمع الفقه الإسلامي المنعقد في مكّة المكرّمة في تاريخه، والّذي قرّر بإجماع أعضاءه ما جاء في قرارا مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربيّة السّعوديّة : من عدم جواز رسم المصحف العثماني، ووجوب بقاء الرّسم العثماني على ما هو عليه، ليكون حجّة خالدة على عدم تسرّب أيّ تغيير أو تحريف في النّصّ القرآني، واتّباعا لما كان عليه الصّحابة وأئمّة السّلف رضوان الله تعالى عليهم »(1).
4- مجمع البحوث الإسلاميّة في القاهرة ومعه الأزهر الشّريف :
__________
(1) كان تاريخ هذه الفتوى التي وقّع عليها فضيلة مفتي مصر الشّيخ د. محمّد سيّد طنطاوي في(23/04/1408هـ=14/12/1987م) والمسجّلة برقم 97/118.(1/46)
أ / يقول فضيلة الشّيخ جاد الحقّ عليّ جاد الحقّ شيخ جامع الأزهر آنذاك(1)، جوابا عن سؤال وجّهَتْه إليه مجلّة الدّعوة(2)إذ قال : « سبق أنّ قرّر مجلس البحوث الإسلاميّة في جلسته السّادسة بتاريخ (17/01/1970م)، أنّ القرآن الكريم قد وصل إلى المسلمين عبر العصور مكتوبا بالرّسم العثماني الّذي يحافظون عليه ، منعا لأيّ تحريف يطرأ على لفظ القرآن الكريم. كذلك فإنّ ترتيله متوارث جيلا عن جيل بالنّطق الّذي أثِر عن النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ، وقد وضع علماء المسلمين قواعد صريحة محدّدة في علم تجويده هي الّتي تحكم ترتيل القرآن الكريم، وفي أيّ خروج عليها مخالفة لا يقرّها الإسلام ولا يرضاها المجمع. كذلك اتّفق المجمع في جلسته الرّابعة من الدّورة الثّانية والعشرين في (30/01/1986م) على أنّ القرآن الكريم لا يكتب إلاّ بالخطّ العثماني، وأنّه لا يجوز أن يكتب القرآن بالحروف اللاّتينيّة.
وما نشرته الصّحف الّتي أشار السّؤال إليها عن جامعة الأزهر، فقد كان الموضوع لا يعدو كونه مجرّد اقتراح وافد على الجامعة، وقد جُمِّد في وقته » -اهـ.
__________
(1) عُيّن فضيلة الشّيخ جاد الحقّ شيخا للأزهر منذ العام (1403هـ=1982م) بالقرار الجمهوري رقم (129) والصّادر في 17/03/1982م، وظلّ شيخا إلى حين وفاته فجأة عام (1417هـ=1996م). انظر ترجمة حياته في كتابي (أعلام من الحاضر).
(2) في عددها (1087) الصّادر بتاريخ 15/08/1407هـ / ص25.(1/47)
ب / جاء في كتاب (مناهل العرفان ج2/ص134) للشيّخ محمّد عبد العظيم الزرقاني : سئلت لجنة الفتوى في الأزهر عن كتابة القرآن بالحروف اللاّتينيّة؟ فأجابت بعد حمد الله والصّلاة والسّلام على رسوله بما نصّه : « لا شكّ أنّ الحروف اللاّتينيّة المعروفة خالية من عدّة حروف توافق العربيّة فلا تؤدّي جميع ما تؤدّيه الحروف العربيّة، فلو كتب القرآن الكريم بها على طريقة النّظم العربي - كما يفهم من الاستفتاء - لوقع الإخلال والتّحريف في لفظه، ويتبعهما تغيّر المعنى وفساده، وقد قضت نصوص الشّريعة بأن يصان القرآن الكريم من كلّ ما يعرّضه للتّبديل والتّحريف، وأجمع علماء الإسلام سلفا وخلفا على أنّ كلّ تصرّف في القرآن يؤدّي إلى تحريف في لفظه أو تغيير في معناه ممنوع منعا باتّا ومحرّم تحريما قاطعا، وقد التزم الصّحابة رضوان الله عليهم ومن بعدهم إلى يومنا هذا كتابة القرآن بالحروف العربيّة ». اهـ.
ت / في عام (1355هـ=1936م) تشكّلت لجنة في مصر تتكوّن من أفاضل علماء الأزهر للتّشاور في وضع تفسير عربيّ دقيق، تمهيدا لترجمته بواسطة لجنة فنيّة مختارة، تنفيذا لقرار مجلس الوزراء المصري المنعقد في (16/04/1936م) بناء على ما رفعه إليه فضيلة شيخ الأزهر في ذلك الوقت ؛ وقد وضعتْ هذه اللّجنة ضوابط لعملها، وكثيرا من التّحفّظات، كان من أهمّها :
- عدم جواز كتابة القرآن الكريم بحروف غير عربيّة، حذرا من التّحريف في لفظه العربي.
- أن تسمّى التّرجمة ترجمة تفسير القرآن أو تفسير القرآن بلغة (كذا)، ويمتنع أن تسمّى (ترجمة القرآن).
- يحسُن أن تكون التّرجمة مسبوقة بالتّفسير المُترجم، لأنّ هذا أَنْفَى للرّيب، وفيه تحديد للمترجم بأنّه التّفسير لا لفظ القرآن(1).
5- مجلس الإقراء بدمشق :
__________
(1) أفادني بذلك مشكورا الأستاذ محمّد أمين البدوي، مدير عام الشّؤون الفنيّة بمكتب شيخ الأزهر في رسالته إليّ بتاريخ (20/11/1407هـ=16/07/1987م).(1/48)
بسم الله الرحمان الرّحيم. وبعد : فقد اجتمع مجلس الإقراء في دمشق الّذي ينعقد أسبوعيّا في محضر كبار القرّاء ومشيختهم، وعُرض عليهم موضوع الكتاب الّذي هو رسم القرآن العزيز بالحرف اللاّتيني، وتدارسوا ذلك مدارسة علميّة، وحقّقوا في الموضوع من سائر جوانبه، فاتّفقتْ كلمتهم على أنّ عنوان الكتاب (كتابة النّصّ القرآني بالحرف اللاّتيني خطر داهم على المصحف العثماني) المُرسل إليهم لدراسته وإعطاء الرّأي حول هذا الموضوع.(1/49)
كان ترجمة حقيقيّة، وليس فيه إسراف ولا غلُوّ، وقد اطّلع المجلس على الكتاب، ودرسه بدقّة، فقرّر بعد ذلك بالإجماع : أنّ كتابة القرآن العظيم بالأحرف اللاّتينيّة أمر خطير بالغ الخطورة، وهو غير جائز، لأنّ الأحرف العربيّة لا يوجد كثير منها باللاّتينيّة، وهو تحريف للقرآن، وتغيير له عن العربيّة المنزّل بها، وليس هناك مبرّر لكتابته باللاّتينيّة من أجل الّذين دخلوا ويدخلون في الإسلام من غير العرب، فحال هؤلاء كحال الّذين مِن قبلهم من الأمم غير العرب، الّذين لم يفكّروا في يوم من الأيّام أن يكتبوا القرآن بأحرفهم، مع أنّ أكثر المسلمين اليوم في الدّنيا من غير العرب : من أتراك، وعجم، وهند، وباكستان، وأندونيسيا، وإفريقيا، وغيرهم من بلاد المسلمين ؛ فكلّ هذه البلاد الّتي تدين بالإسلام لم تكتب القرآن فيما مضى بغير الحرف العربي، ولو كَتَب القرآنَ كلّ بلغته، وأضافه إلى قطره وبلده لتعدّدت الكتابات، وأدّى ذلك أن يقال في مستقبل الأمر وبعد الاختصار : قرآن هندي، وقرآن تركي، أو غير ذلك، وفيه ما فيه ؛ ولقد رأينا في صفوف الأعاجم من المسلمين اليوم من يقرأ القرآن مرتّلا مجوّدا أحسن من قراءة كثير من العرب، الّذين أنزل القرآن بلغتهم، ويجب أن يكونوا أغير عليهم من غيرهم كما رأينا وشاهدنا في مسابقات القرآن الكريم الدّوليّة، فقد حاز شابّ من أندونيسيا الجائزة الأولى في المسابقة الّتي جرت في سوريا عام (1982م)، وكذلك شاهدنا شباب الأتراك يحفظون القرآن الكريم حفظا متينا مع أنّهم لا يفقهون من معناه شيئا ؛ ولقد حافظ المسلمون الأوّلون على كتابته بالأحرف العربيّة ورسموه بها وذلك في زمن الخليفة الأوّل والثّالث من الخلفاء الرّاشدين، وكان ذك إجماعا منهم على ذلك.(1/50)
وإنّ فكرة كتابته بالأحرف اللاّتينيّة : فكرة هدّامة تجب محاربتها بكلّ الوسائل، اقترحها بعض أعداء الدّين من بعض المستشرقين الهدّامين، الّذين ليس لهم صلة ولا معرفة بالدّين الإسلامي، وتابعهم على ذلك المتمسّكون بأذنابهم ممّن سمّوهم أرباب الفكر، ورفعوهم إلى أعالي المجامع اللّغويّة بغيا أو جهلا.
على أنّ علماء الأمّة الإسلاميّة وعلماء القراءات لم يجيزوا كتابته إلاّ بالرّسم الّذي رُسم به في زمن الخليفة الثّالث سيّدنا عثمان - رضي الله عنه - ، وحافظوا على هذا الرّسم حتّى وصل إلينا بطريق التّواتر :
وإنّما يُسْأل عن الشّيء أهله والخبراء فيه
والآيات القرآنيّة شاهدة بأنّه نزل باللّغة العربيّة، والّذي نعتقده وندين به : أنّه لا تجوز كتابته باللاّتينيّة، ولا بقواعد الإملاء الحديث بالعربيّة، وإنّما على ما كتبه الصّحابة الكرام مع مراعاة الموصول والمفصول، والتّاء المبسوطة والمربوطة، وغير ذلك ممّا نصّ عليه في كتب الرّسم الّتي أقرّها العلماء، وملأت الدّنيا، وعليها عمدة القراءات المتواترة، وأصبحت مرجع الأمّة الإسلاميّة.
شيخ قرّاء الشّام بدمشق : الشّيخ حسين خطّاب
الشّيخ محمّد كريم راجح / الشّيخ محيي الدّين الكردي / الشّيخ محمّد طه سكّر / الشّيخ صادق حبنّكه / خادم القرآن الكريم : الشّيخ عبد الرّزّاق الحلبي / الشّيخ محمّد إحسان السّيّد حسن / الشّيخ محمد الخجا »(1).
6- مركز التّربية الإسلاميّة في باريس والنّدوة العالميّة الأولى لمقاومة تحريف القرآن :
__________
(1) وتحت كلّ هذه الأسماء تواقيع أصحابها ، ما عدا : الشّيخ محمّد إحسان السّيّد حسن، والشّيخ محمّد الخجا. وللعلم فإنّ الشيخ حسين خطاب توفي عقب ذلك بأشهر معدودة ، وتحديدا في عام (1408هـ=1988م) ، رحمه الله وأثابه ، وخلفه الشيخ محمد كريم راجح .(1/51)
انعقدت في عام (1408هـ=1988م) بمدينة باريس « النّدوة العالميّة الأولى لمقاومة تحريف القرآن بكتابته بالحروف اللاّتينيّة أو غيرها من الحروف الأعجميّة » بدعوة من مركز التّربية الإسلاميّة، وقد حضر النّدوة أصحاب الفضيلة العلماء، وأئمّة المساجد، ورؤساء الجمعيّات الدّينيّة، ومدراء المراكز الإسلاميّة في فرنسا وخارجها، ونخصّ بالذّكر الوفود التّالية من :
- المملكة العربيّة السّعوديّة، حيث مُثّلت :
- الجامعة الإسلاميّة/ ومجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشّريف في المدينة المنوّرة، بالشّيخ « عليّ عبد الرحمن الحذيفي » إمام وخطيب المسجد النّبوي الشّريف، وعضو هيئة التّدريس بالجامعة، وعضو الهيئة الإستشاريّة العليا بالمجمع.
- وزارة الحجّ والأوقاف بالشّيخ « سعيد عبد العزيز الجندول » مستشار وزير الحجّ والأوقاف للشّؤون الإسلاميّة، والمشرف العام على مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشّريف.
- رابطة العالم الإسلامي في مكّة المكرّمة بالشّيخ « عبد الله بن عقيل بن سليمان العقيل » الأمين العام المساعد لشؤون المساجد فيها.
- الرئاسة العامّة لإدارات البحوث العلميّة والإفتاء والدّعوة والإرشاد في الرّياض بالشّيخ « محمود مجاهد محمد حسن » مندوبها في بلجيكة.
- الجمهوريّة العربيّة السّوريّة، حيث مُثّلت :
- وزارة الأوقاف : إدارة جامع بني أمية الكبير، ومجلس مشيخة كبار القرّاء في دمشق بالشّيخ « عبد الرزّاق الحلبي » مفتي السّادة الحنفيّة، وعضو مجلس مشيخة كبار القرّاء.
- معهد الفتح الإسلامي في دمشق بالشّيخ « عبد الفتّاح البزم » مدير المعهد.
- المملكة الأردنيّة الهاشميّة، حيث مُثّلت :
- بالشّيخ « يوسف عبد الرحمن البرقاوي » مفتي مدينة الزّرقاء.
- الجمهوريّة التّركيّة، حيث مثّل :
- الوقف لمركز البحوث الإسلاميّة ونشرها في أنقره بالشّيخ « لطفي دوغان » مدير الوقف ورئيس الشّؤون الدّينيّة في أنقره (سابقا).(1/52)
- المملكة المتّحدة (بريطانيا)، حيث مثّلت :
- جمعيّة القرآن في لندن بالشّيخ « شريف أحمد حافظ ».
- فرنسا، حيث مثّلت :
- مركز التّربية الإسلاميّة بالشّيخ « صالح العَوْد ».
- الجامعة العامّة لمسلمي فرنسا بالشّيخ « محمّد أيّوب » رئيسها.
- اتّحاد المنظّمات الإسلاميّة بالشّيخ « أنيس عبد الرحمن قرقاح » مندوب عن الشّيخ « فيصل مولوي ».
- المركز الإسلامي في جزيرة رينيون بالشّيخ « أحمد سعيد انقار » رئيس المركز.
وفي ختام النّدوة أعلن الحاضرون بالإجماع التّوصيات التّالية :
أوّلا : أَيَّد المجتمعون في النّدوة ما صدر من فتاوى شرعيّة بتحريم ومنع كتابة القرآن - كلّه أو بعضه - بأحرف غير عربيّة ، واستنكار كتابة القرآن الكريم أو بعضه بأحرف غير عربيّة ، والاتفاق على تحريم ذلك لما فيه من المخاطر الجسيمة ، والموافقة على ما صدر من الهيئات العلميّة والفقهيّة التي تحرِّم وتمنع كتابة القرآن العظيم أو بعضه بحروف غير عربيّة .
ثانيا : التنبيه على العلماء ، والدّعاة ، وأئمّة المساجد ، للوقوف بحزم أمام هذه المحاولات الخطيرة ، لمنع انتشارها والقضاء عليها في مهدها .
ثالثا : الاهتمام بتعليم القرآن الكريم ونشره بين الصّغار والكبار في المساجد والمدارس .
رابعا : الاهتمام بنشر اللغة العربيّة وتعليمها لأبناء المسلمين في المساجد والمدارس لا سيّما في بلاد المهجر .
خامسا : مطالبة الهيئات والمؤسّسات العلميّة والفقهيّة العالميّة بالدّفاع عن كتاب الله الكريم ، ضدّ محاولات الأعداء .
سادسا : تحذير المطابع والمكتبات ودور النّشر من طباعة أو نشر أيّ مطبوعات فيها إساءة لكلام الله عزّ وجلّ ، ومقاطعتها عند إصرارها .
الموقّعون
علي الحذيفي / سعيد الجندول / عبد الله العقيل / محمود مجاهد / عبد الرزاق الحلبي /
لطفي دوغان / صالح العَوْد / محمد أيّوب / أنيس قرقاح
((1/53)
وختاما) : فاللهَ اللهَ يا (مسلمون) ، في الغَيْرة على هذا القرآن العظيم ، فقد أصبح في بلاد الغرب كاليتيم ، يعبث به الضّالّون كما يشاؤون، ويُحرّفه عن أصله سفلة النّاس ، وبعض جهلة المسلمين ، على مرآى ومَسْمع منّا ، ولا أحد ينهى أو يغيّر هذا المنكر المشين .
ثمّ أين أنتم يا (علماء الأمّة) ، ويا (حملة الشّريعة) ، لماذا لا تدافعون عن كتاب الله : وثيقة الإسلام الخالدة، حتّى لا يتكدّر صفاؤه ، ولا يذهب رونقه ، ولا تذبو قداسته فيصبح أثرا بعد عين .
فالرّجاء وألف رجاء ، أيّها (العلماء) : لا تُحسّنوا عمل أولائك العابثين ، لأنّ فيه غضب الله ورسوله ، وأصحابه والمؤمنين .
وحسبنا الله ونعم الوكيل ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم . اللهم إنّا نجعلك في نحورهم ، ونعوذ بك من شرورهم .
بسم الله الرحمان الرحيم : { فَوَيْلٌ للذِين يَكْتُبُونَ الكِتَابَ بِأَيْدِيهِم ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْد اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا ، فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُون }(1).
روى الإمام أحمد عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « وجُعلت الذّلّة والصَّغار على مَن خالف أمري » .
__________
(1) سورة البقرة آية 79.(1/54)
ذكر العلاّمة الشّيخ رحمة الله الهندي(1): أنّ أميرا من أمراء الانجليز مرّ على معلّم يحفّظ التّلاميذ القرآن الكريم في بلدة سَهَارَنْفُور ، فسأله عن طالب يحفظ القرآن كلّه ، فأشار له المعلّم إلى عدد منهم ، فاختار الأمير واحدا منهم ليمتحنه وكان عمره ثلاثة عشر عاما ، فلمّا تيقّن من حفظه التّامّ تعجّب الأمير وقال : « أشهد أنّه ما ثبت تواتر لكتاب من الكتب كما ثبت للقرآن ، يُمكن كتابته من صدر صبيّ من الصّبيان مع غاية الصّحّة في الألفاظ وضبط الإعراب »(2).
والحمد لله أوّلا وآخرا ؛ وصلى الله على سيّدنا ونبيّنا محمد ، وعلى آله وصحبه وسلّم .
{ المصادر }
- الإسلام كبديل : مراد هوفمان / ط. بيروت 1413هـ=1993م
- الإعجاز العددي للقرآن الكريم : عبد الرزّاق نوفل / ط. دار الشّعب بالقاهرة 1975م
- إعلام البشر بوفاة أعلام القرن الخامس عشر (الهجري) : صالح العَوْد / (مخطوط).
- الامتناع عن كتابة القرآن بالحروف اللاّتينيّة بأدلّة الكتاب والسّنّة والإجماع : صالح العود / ط. بيروت 1426هـ=2005م
- تاريخ القرآن الكريم : صالح العود / (مخطوط)
- تاريخ توثيق نصّ القرآن الكريم : خالد عبد الرحمان العكّ / ط. دمشق (د. ت)
- التّحرير والتّنوير من التّفسير : محمّد الطّاهر بن عاشور / ط. تونس (د. ت)
__________
(1) من كبار علماء المناظرة في القرن (13هـ=19م) ، ومما يشهد له بالتّفّوّق في هذا التّخصّص ، مناظرته الكبرى للقسّيس فَنْدَر في موضوعي (النسخ والتّحريف) ، والتي كانت سببا في تأليف كتابه الّذائع الصّيت : (إظهار الحقّ) ، وقد طُبع وترجم إلى عدّة لغات . توفّي الشيخ رحمة الله في مكّة المكرّمة (22 رمضان 1308هـ=1/5/1891م) عن خمس وسبعين سنة ، ودُفن بجوار قبر السّيّدة خديجة أمّ المؤمنين في مقبرة المعلاّة بمكّة .
(2) د. محمد عبد القادر خليل : المناظرة الكبرى ، ص 454، نقلا عن كتاب إظهار الحقّ .(1/55)
- ترجمات معاني القرآن الكريم : عبد الله عبّاس النّدوي /ط. مكّة 1417هـ (سلسلة دعوة الحقّ عدد 174)
- تفسير الشّعراوي : محمّد متولي الشّعراوي / ط. أخبار اليوم في القاهرة 1991م
- حصول المأمول من علم الأصول : محمّد صدّيق خان القِنَّوْجي / ط. القاهرة 2004م
- الحضارة الإسلاميّة : عليّ الخربوطلي / ط. دار المعارف مصر (سلسلة كتابك رقم 27). (د.ت)
- حياة الصّحابة : محمّد يوسف الكاندهلوي / ط. 2 دار القلم بدمشق 1403هـ=1983م
- الدّعوة الإسلاميّة تستقبل القرن الخامس عشر : محمّد الغزالي / ط. بيروت دار المطبوعات العربيّة (د.ت)
- الرّسالة : محمّد بن إدريس الشّافعي / ط. القاهرة بتحقيق الشيخ أحمد شاكر
- الرّسول المعلّم وأساليبه في التّعليم : عبد الفتّاح أبو غدّه / ط. الثّانية دار البشائر الإسلاميّة بيروت 1417هـ=1997م.
- الشّفا بتعريف حقوق المصطفى : القاضي عياض / ط. بيروت 1416هـ=1996م.
- صفوة البيان لمعاني القرآن : حسنين محمد مخلوف / ط. دار الفكر بيروت (د. ت)
- طلب العلم فريضة : صالح العود / ط. دار ابن حزم بيروت 1426هـ=2005م
- فتح الباري شرح صحيح الإمام البخاري : أحمد بن حجر / ط. المطبعة السّلفيّة بالقاهرة (د. ت.)
- فيض القدير شرح الجامع الصّغير : عبد الرؤوف المناوي / ط. دار المعرفة بيروت 1391هـ=1972م
- كتابة النّصّ القرآني بالحرف اللاّتيني خطر داهم على المصحف العثماني : صالح العَوْد / ط. دار الكتاب النفيس بحلب 1411هـ=1991م
- المؤامرة على الفصحى لغة القرآن : أنور الجندي / ط. القاهرة
- مختار الصّحاح : زين الدين محمّد بن أبي بكر الرّازي / ط. دمشق بيروت 1405هـ=1985م
- مدارج الوصول إلى معرفة علم الأصول : صالح العود / ط. المغرب 1421هـ=2000م.
- المناظرة الكبرى : محمّد خليل / ط. الرّياض 1408هـ.
- نحو تدوين جديد للعلوم الإسلاميّة : وحيد الدّين خان / ط. دار النّفائس بيروت 1398هـ=1978م.(1/56)
- النّهاية في غريب الحديث والأثر : مجد الدّين بن الأثير / ط. المكتبة الإسلاميّة بيروت (د. ت)
{ المجلاّت }
- الدّعوة (مجلّة سعوديّة)
- المجلّة (مجلّة أسبوعيّة)
- المنهل (مجلّة شهريّة)
- الوعي الإسلامي (مجلّة)
{ موجز السّيرة الذّاتيّة }
( صالح العَوْد . من مواليد عام (1374هـ=1954م) .
( متخرّج من جامعة الأزهر تخصّص شريعة إسلاميّة عام (1401هـ=1981م) .
( عمل (إماما وخطيبا) في مساجد باريس وضواحيها ، من منتصف السّبعينات إلى التّسعينات (الميلاديّة).
( علّم (اللغة العربيّة والتّربية الإسلاميّة) في المساجد ومراكز التّعليم لثلاث طبقات من المسلمين : (الآباء) ، ثمّ (أبناءهم) ، ثمّ (أبناء أبنائهم) على مدى (ستِّ وعشرين) عاما .
( حاضَر عن الإسلام ، وكتب بحوثا فقهيّة ودراسات علميّة ، نُشر بعضها في المجلاّت والدّوريّات العربيّة .
( له ما يزيد على (40 كتابا) مطبوعا ، في موضوعات : (دينيّة ، وعلميّة ، وتربويّة) .
( يعمل (الآن) - منذ الثّمانينات - في تحرير البرامج : الدّينيّة والعلميّة ، وتقديمها في الإذاعة العربيّة .
( ( (
بسم الله الرحمن الرّحيم
{ خلاصة البحث }
إقناع الأمّة
بتحريم كتابة القرآن الكريم بالحروف اللاّتينيّة
بالكتاب والسّنّة وأقوال الأئمّة
بقلم : الشيخ صَالح العَوْد
فشت في هذه العصر كتابات التّحريف لِـ « نصّ القرآن الكريم » بحروف غير عربيّة، وصدرت في ذلك : (سور وأحزاب وأجزاء)، حتّى وصل الحال إلى ظهور « مصحف » بالكامل مكتوب بالحروف اللاّتينيّة.
وهذا عمل فظيع ، لأنّ فيه تغييرا لوثيقة القرآن الخالدة الّتي أقرّت على ما هي عليه حتّى اليوم ، منذ عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفّان - رضي الله عنه - .
وأيضا إنّ هذا العمل الذي يجب أن يُوصف بالشّنيع لا تقرّه الشّريعة الإسلاميّة المتمثّلة في الكتاب والسّنّة وإجماع الأمّة.(1/57)
فالقرآن الكريم نزل باللّغة العربيّة، وقد جاءت آيات كثيرة تصفه بأنّه عربيّ، ومن (السّنّة) الّتي هي المصدر الثّاني للتّشريع، إذ أثبتت أنّه لم يؤثر عن الرّسول - صلى الله عليه وسلم - أن كتب أو أمر أو أقرّ أحدا من الصحابة كتابة القرآن بغير الحرف العربي ؛ أمّا (الإجماع) فإنّه منذ عهد الصّحابة - رضي الله عنه - وإلى يومنا هذا، لم يرَخّص أحد منهم ولا من جاء بعدهم - من علماء السّلف ولا فقهاء الخلف ، في كتابة القرآن بغير الحروف العربيّة، وعلى ذلك درج علماء عصرنا، ومجامع الفقه ودور الإفتاء في العالمين : العربي والإسلامي ، فإنّهم جميعا حرّموا : « تغيير حروفه، وتبديل رسمه، والإخلال بضوابطه وقواعده » ، مهما كانت الأسباب والتمست الأعذار، لأنّ « دَرْءَ المفاسد مقدم على جلب المصالح ».
مهّد الباحث لبحثه هذا بمدخل ، كشف فيه مدى عناية الرّسول الكريم بكلّ من يُسلِم : إذ كان - صلى الله عليه وسلم - يلقّنه كلمة التّوحيد، ويعلّمه فرائض الإسلام، وما نزل عليه من القرآن؛ ثمّ انتقل إلى الحديث عن أهمّ خصائص الإسلام وهو : « العلم والتّعليم » ، وأنّ رسالته الأساسيّة في الحياة هي « الدّعوة إلى الله » ... ثمّ أفاض في بيان اهتمام الرّسول - صلى الله عليه وسلم - بتعليم القرآن ، ونشره في الآفاق من خلال بعثات القرّاء من أصحابه الكرام - صلى الله عليه وسلم - ؛ ثمّ بيّن عظمة « اللّغة العربيّة » إذ هي روح القرآن، وشعار الإسلام، ولسان الفرائض، فالواجب على كلّ مسلم ومسلمة أن يتعلّمها حتّى يقرأ بها القرآن، ويؤدّي بها ما افتُرض عليه، فالقرآن لا يسمّى قرءانا إلاّ بها، والصّلاة لا تسمّى صلاة إلاّ بها كذلك . ثمّ عرض إلى قضيّة « التّعريب » وما أدراك ما التّعريب ! ووازن بينها وبين قضيّة « التّغريب » في الألسن والعقول والأفهام ، وقال بالحرف : الأَوْلَى أن نُعَرّب اللّسان، ولا نغرّب القرآن.(1/58)
ثمّ ضرب على الوتر الحسّاس وهو منشأ فكرة « استبدال الحروف العربيّة بالحروف اللاّتينيّة » وبيّن أنّها فكرة مضلّلة ، وفدت على الشّعوب العربيّة والإسلاميّة مع دخول الاستعمار ، بقصد محاربة اللّغة العربيّة تمهيدا لإقصائها، وإحلال حروفها بحروف أخرى أجنبيّة ، حتى وصل الخبث إلى التآمر على « القرآن الكريم » : بتغيير حروفه العربيّة التي كتب بها منذ القرون الأولى .
ثمّ خلَص الباحث إلى إعطاء الحكم الشّرعي في مسألة « كتابة القرآن بالحروف اللاّتينيّة » وهو «التّحريم» قولا واحدا ، مورِدا في ذلك عديد الأدلّة النّقلية والعقلية الّتي لا تقبل الجدل، ثمّ أتبعها بوجهة نظر العلماء الراسخين في العلم قديما وحديثا ، والّتي تذهب كلها مذهب « التّحريم » ؛ ثمّ ختمها بعرض (ستّ قرارات) قاصمة، صدرت عن جهات لها مصداقيّتها ومرجعيّتها الدينيّة عند المسلمين ، وهذه الجهات الست هي :
1/ هيئة كبار العلماء في المملكة العربيّة السّعودية.
2/ المجمع الفقهي الإسلامي بمكّة المكرّمة.
3/ دار الإفتاء المصريّة.
4/ مجمع البحوث الإسلاميّة في القاهرة ومعه الأزهر الشّريف.
5/ مجلس الإقراء بدمشق.
6/ النّدوة العالميّة الأولى لمقاومة تحريف القرآن الكريم المنعقدة في باريس.
وفي الختام، رجا الباحث علماء الأمّة الإسلاميّة أن يدافعوا عن القرآن الكريم، بعد أن أصبح في بلاد الغرب كاليتيم، يعبث به الضّالون، ويحرّفه سفلة النّاس، ويغيّر كتابته بعض الجهلة من المسلمين الذين يحسبون أنّهم يحسنون صنعا .
فَاللهَ اللهَ يا (مسلمون) في الغَيْرة على هذا (القرآن الكريم ، والمقدّسات الإسلاميّة ، وشريعة الله الربّانيّة) ، حتّى يقوم النّاس لربّ العالمين.
وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم.(1/59)
المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث
استحالة النجاسات
وعلاقة أحكامها باستعمال
المحرم والنجس في الغذاء والدواء
إعداد الأستاذ الدكتور / محمد الهواري
1 - الإستحالة في اللغة والاصطلاح:
جاء في معنى حال: " كل شئ تغير عن الإستواء إلى العوج فقد حال في معنى واستحال وهو المستحيل"(1)وأحال الشئ: تحول من حال إلى حال.
ومعنى الإستحالة في الاصطلاح:" انقلاب حقيقة إلى حقيقة أخرى "(2)
وفي المصطلح العلمي الشائع: يُنظر إلى كل تفاعل كيميائي يحول المادة إلى مركب آخر ، على أنه ضرب من استحالة العين إلى عين أخرى ، كتحويل الزيوت والشحوم على اختلاف مصادرها إلى صابون .
2 - حكم أستحالة النجس إلى حقيقة اخرى :
اختلف أهل العلم في استحالة النجاسة إلى حقيقة أخرى بالحرق أو بغيره؛هل تكسب الطهارة أم لا ؟ قولان:
القول الأول: الاستحالة تكسب الطهارة .
ذهب بعض العلماء 'لى القول بالطهارة . وممن قال بذلك أبو حنيفة ومحمد وأكثر الحنفية والمالكية. ولم يفرقوا ما بين ماهو نجس لعينه وماهو نجس لمعنى.
أما الشافعية فوافقوا هذا الرأي في النجس لمعنى كجلد الميتة.
ومن الحنابلة من يقول بالطهارة وهو ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وهو كذلك ماذهب إليه أهل الظاهرية .
أدلة هذا الرأي:
أ ) جاء في البحر الرائق: من الأمور التي يكون بها التطهير انقلاب العين- ومضى إلى أن قال -: وإن كان في غيره -أي الخمر- كالخنزير والميتة تقع في المملحة فتصير ملحاً يؤكل،والسرجين والعذرة تحترق فتصير رماداً تطهرعند محمد(3).
__________
(1) لسان العرب: 14/197 ، وأنظر كذلك القاموس المحيط: 3/363 ، تاج العروس: 7/293 ، متن اللغة: 2/203.
(2) رد المختار :1/191
(3) البحر الرائق 1/239(1/1)
وقال أيضاً: وضم إلى محمد ابا حنيفة في المحيط وكثيراً من المشائخ اختاروا قول محمد، لأن الشرع رتب وصف النجاسة على تلك الحقيقة ، وتنتفي تلك الحقيقة بانتفاء بعض أجزاء مفهومها فكيف بالكل فإن الملح غير العظم واللحم ،فإذا صار ملحاً ترتب حكم الملح ، ونظيره في الشرع النطفة نجسة وتصير علقة وهي نجسة ، وتصير مضغة فتطهر وفي الخلاصة وعليه الفتوى ، وفي الفتح القدير أنه المختار(1).
وفي شرح فتح القدير :العصير طاهر فيصير خمراً فينجس ،ويصير خلاً فيطهر ،فعرفنا أن استحالة العين تستبع زوال الوصف المرتب عليها. وعلى قول محمد فرّعوا الحكم بطهارة صابون صنع من زيت نجس(2).
وذهب الأحناف إلى الاتفاق فيما بينهم على طهارة انقلاب الخمر إلى خل
وجاء في الفتاوى الهندية(3).
? السرقين:إذا أحرق حتى صار رماداً فعند محمد يحكم بطهارته وعليه الفتوى هكذا في الخلاصة وكذا العذرة هكذا في البحرالرائق .
? إذا أحرق رأس الشاة ملطخاً بالدم ، وزال عنه الدم ، يُحكم بطهارته .
? الطين النجس إذا جعل منه الكوز أو القدر فطُبخ فيكون طاهراً، هكذا في المحيط .
? وكذلك اللبن،إذا لبن بالماء النجس واحرق ، كذا في فتاوى الغرائب.
? إذا سعرت المرأة التنور ثم مسحته بخرقة مبتلة نجسة،ثم خبزت فيه فإن كانت حرارة التنور أكلت بلة الماء قبل إلصاق الخبز بالتنور لايتنجس الخبز كذا في المحيط.
? تخلل الخمر في خابية جديدة طهُرت بالاتفاق ،كذا في القنية.
? الخبز الذي عجن بالخمر لا يطهر بالغسل ،ولو صب فيه الخل وذهب أثرها.يطهر ،كذا في الظهيرية .
__________
(1) المرجع السابق:ج1/57 ، وانظر الحاشية لابن عابدين ج1/ 216
(2) شرح فتح القدير ج1/200 ،وانظر ايضاً حاشية المختارلابن عابدين ج1/ 216 .
(3) الفتاوى الهندية: 1/44،45 وانظر أيضاً حاسية رد المختار لابن عابدين ج1/315 ، 316 .(1/2)
? الرغيف إذا ألقي في الخمر ثم صار خلاً فالصحيح أنه طاهر إذا لم تبق رائحة الخمر. وكذا البصل إذا ألقي في الخمر ثم تخلل لأن ما فيه من اجزاء الخمر صار خلاً ، هكذا في فتاوى قاضيخان .
? الخمر إذا وقعت في الماء أو الماء في الخمر ثم صارت خلاً طهر كذا في الخلاصة.
? وإذا صب الخمر في المرقة ،ثم الخل، إن صارت المرقة كالخل في الحموضة طهرت هكذا في الظهيرية .
? الحمار أو الخنزير إذا وقع في المملحة فصار ملحاً أو بئر البلوعة إذا صار طيناً يطهر عندهما ،خلافاً لأبي يوسف رحمة الله ،كذا في المحيط السرى .
? دنّ العصير إذا غلى واشتدّ وقذف بالزبد وسكن عن الغليان وانتقص ثم صار خلاً ، إن ترك الخل فيه حتى طال مكثه وارتفع بخار الخل إلى رأس الدنّ يصير طاهراً ، وكذا الثوب الذي أصابه الخمر إذا غسل بالخل ، كذا في فتاوى قاضيخان .
? جعل الدهن النجس في الصابون يُفتى بطهارته لأنه تغير، كذا في الزاهدي
ب ) وذهب المالكية إلى أن ما استحال إلى صلاح فهو طاهر وأن استحال إلى فساد فهو نجس .جاء في الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه:من الطاهر لبن الأدمي ولو كافراً لاستحالته إلى الصلاح(1)ثم جاء في موضع اخر :إذا تغير القئ وهو الخارج من الطعام بعد استقراره في المعدة كان نجساً وعلة نجاسته الاستحالة إلى فساد ، فإن لم يتغير كان طاهراً(2).
وعليه فإن انقلاب العين النجسة إلى عين أخرى كأن احترقت فصارت رماداً أو دخاناً فهي طاهرة ،قياساً على طهارة الخمر بتخللها ، وسواء في ذلك انقلبت بنفسها أو بفعل فاعل ، وعلى هذا فأي نجاسة عينية إذا تحولت إلى عين أخرى بخصائص تركيبية مخالفة فإنها تعتبر طاهرة ،كانتقال عظام الميتة بعد حرقها إلى أعيان جديدة من دخان ورماد.(3)
__________
(1) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1/50
(2) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 1/57
(3) أسهل المدارك :ج1/40 ، وأنظر القوانين 34 .(1/3)
ج) وذهب الظاهرية إلى أنه إذا استحالت صفات عين النجس أو الحرام فبطل عنه الاسم الذي به ذلك الحكم فيه وانتقل إلى اسم آخر وارد على حلال طاهر .فليس هو ذلك النجس ولا حرام ، بل قد صار شيئاً آخر ذا حكم آخر وكذلك الحال في استحالة صفات العين الحلال إلى نجس أو حرام.
فالخمر إلى خل.والماء إلى بول،والعذرة توهن بها الارض فتعود ثماراً وكوقوع نقطة خمر في ماء أو نقطة ماء في خمر ،فلا يظهر لشئ من ذلك أثر،وهكذا كل شئ والأحكام للأسماء والاسماء تابعة للصفات(1).وإذا احرقت العذرة او الميتة أو تغيرت فصار رماداً أو تراباً فكل ذلك طاهر ،ويتيمم بذلك التراب ،برهان ذلك أن الاحكام إنما هي على ما حكم الله بها فيها مما يقع عليه ذلك الاسم الذي به خاطبنا الله تعالى فيه والعذرة غير التراب وغير الرماد ،وكذلك الخمرة غير الخل والانسان غير الدم الذي خلق منه والميتة غير التراب(2).
د) وجاء في المغني لابن قدامة :ظاهر المذهب أنه لا يطهر من النجاسات بالاستحالة إلا الخمر إذا انقلبت بنفسها خلاً وما عداها لا يطهر كالنجاسات إذا احرقت وصارت رماداً، والخنزير إذا وقع في الملاحة وصار ملحاً والدخان المرتقي من وقود النجاسة ، والبخار المتصاعد من الماء النجس إذا اجتمعت منه نداوة على جسم صقيل ثم قطر فهو نجسٌ .
ثم قال: ويتخرج أن تطهُر النجاسات كلها بالاستحالة قياساً على الخمرة إذا انقلبت وجلود الميتة إذا دبغت والجلالة إذا حبست(3).
__________
(1) المحلى ج1/138
(2) المرجع السابق ج1/128
(3) المغني: ج1/97 باب الآنية ( طبعة هجر/ تحقيق التركي والحلو)(1/4)
هـ)وافق ابن تيمية ما ذهب إليه كل من المالكية والاحناف فقال :وهذا هو الصواب المقطوع به فإن هذه الأعيان لم تتناولها نصوص التحريم ،لا لفظاً ولا معنى فليست محرمة ولا في معنى التحريم فلا وجه لتحريمها بل تتناولها نصوص الحل فإنها من الطيبات وأيضاً في معنى مااتفق على حله فالنص والقياس يقتضي تحليلها وعلى هذا استحالة الدم أو الميتة أو لحم الخنزير ، وكل عين نجسة استحالت إلى عين ثانية.
ورد ابن تيمية على من فرق بين الخمر وغيرهامن النجاسات فقال هذا الفرق ضعيف فإن جميع النجاسات نجسة بالاستحالة فإن الدم مستحيل عن أعيان طاهرة وكذلك العذرة والبول والحيوان النجس مستحيل عن مادة طاهرة مخلوقة ،وأيضاً فإن الله تعالى حرم الخبائث لما قام بها من وصف الخبث كما أنه أباح الطيبات لما قام من وصف الطيب وهذه الأعيان المتنازع فيها ليس فيها شئ من وصف الخبث وإنما فيها وصف الطيبات.(1)
ويذكر ابن تيمية ما مفاده :أن الخمر إذا انقلبت بنفسها حلت باتفاق المسلمين فغيرها من النجاسات أولى أن تطهر بالانقلاب واذا قدر أن قطرة خمر وقعت في خل مسلم بغير اختيار منه فاستحالت كانت أولى بالطهارة وقال : تدلّ على أن الدباغ كالذكاة(2).
__________
(1) مجموعة فتاوى ابن تيمية ج21 /68 .
(2) المرجع السابق ج21 / 516 .(1/5)
إن جميع النجاسات نجست بالاستحالة فإن الانسان يأكل الطعام ويشرب الشراب ،وهي طاهرة ثم تستحيل دماً وبولاً وغائطاً فتنجس وكذلك الحيوان يكون طاهراً فإذا مات احتبست فيه الفضلات وصار حاله بعد الموت خلاف حاله في الحياة فتنجس ولهذا يطهر الجلد بعد الدباغ عند الجمهور وقيل إن الدباغ كالحياة أو انه كالذكاة فإن في ذلك قولين مشهورين للعلماء والسنة وإذا وقعت النجاسة كالدم أو الميتة أو لحم الخنزير في الماء أو غيره واستهلكت ولم يبقى هناك دم ولا لحم خنزير أصلاً كما أن الخمر إذا استحالت بنفسها وصارت خلاً كانت طاهرة باتفاق العلماء ، وهذا عند من يقول إن النجاسة إذا استحالت طهرت ،أقوى كما هو مذهب أبي حنيفة وأهل الظاهر وأحد القولين في مذهب مالك وأحمد فإن انقلاب النجاسة ملحاً أو تراباً أو ماءً أو هواءً ونحو ذلك، والله تعالى قد أباح لنا الطيبات.(1)
و) وحكم الاستحالة عند ابن القيم مبني عى مبدأ التغير ،تغير الوصف الملازم للشئ إذ يقول :"وعلى هذا الأصل فطهارة الخمر بالاستحالة على وفق القياس فإنها نجسة لوصف الخبث فإن زال الموجِب زال الموجَب وهذا أصل الشريعة في مصادرها ومواردها بل وأصل الثواب والعقاب وعلى هذا فالقياس صحيح تعدية ذلك إلى سائر النجاسات إذا استحالت ."
ثم قال :"وقد أخبر الله سبحانه عن اللبن أنه يخرج من بين فرث ودم وقد اجمع المسلمون على أن الدابة إذا علفت بالنجاسة ثم حبست وعلفت بالطاهرات حل لبنها ولحمها وكذلك الزرع والثمار إذا سقيت بالماء النجس ثم سقيت بالطاهر حلت لاستحالة وصف الخبث وتبدله بالطيب .
__________
(1) مجموعة فتاوى ابن تيمية: ج21 / 500 وانظر المراجع السابقة(1/6)
وعكس هذا أن الطيب إذا استحال خبيثاً صار نجساً كالماء والطعام إذا استحال بولاً وعذرة فكيف اثرت الاستحالة في الانقلاب الطيب خبيثاً ولم تؤثر في انقلاب الخبيث طيباً؟ والله تعالى يخرج الطيب من الخبيث والخبيث من الطيب ولا عبرة بالأصل بل يوصف الشئ نفسه ومن الممتنع بقاء حكم الخبث وقد زال اسمه ووصفه والحكم تابع للاسم والوصف دائر معه وجوداً وعدماً فالنصوص المتناولة لتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير والخمر لا تتناول الزروع والثمار والرماد والملح والتراب والخل لا لفظاً ولا معنى ولا نصاً ولا قياساً(1).
ز) وذهب الإمامية الاثنى عشرية إلى أن الخمر تطهر إذا انقلبت خلاً سواء كان انقلابها بعلاج أو من قبل نفسها .
وقالوا أن الغذاء النجس أو المتنجس إذا صار جزءً لحيوان مأكول اللحم أو لبناً أو صار جزءً من الخضروات أو النباتات أو الاشجار أو الثمار فهو طاهر وكذلك الكلب إذا استحال ملحاً وكذا الحكم في غير ذلك مما يعد المستحالُ إليه متولداً من المُستحال منه(2).
والاستحالة إلى جسم أخر يطهر ما أحالته النار رماداً أو دخاناً أو بخاراً سواء كان نجساً أو منتجساً وكذا يطهر ما استحال بخاراً بغير نار أما الإحالة كأن تحيله النار خزفاً أم آجراً أم جصاً فهو باقي على نجاسته(3).
القول الثاني :الاستحالة لاتكسب الطهارة
إن استحالة النجس وزوال أعراض النجاسة عنه وتبدلها بأوصاف طيبة لا تصير طاهراً وممن قال بهذا القول أبو يوسف وهو أحد القولين في مذهب مالك وهو قول الشافعي فيما كانت نجاسته عينية ،واحدى الروايتين في مذهب الامام أحمد .
__________
(1) إعلام الموقعين :ج1/12
(2) المنهاج : ج1/384
(3) المنهاج ج1/156(1/7)
أ ) جاء في فتح القدير ان أبا يوسف يرى أن الاشياء النجسة لا تطهر بانقلاب عينها قال :خشبة اصابها البول فاحترقت ووقع رمادها في بئر يفسد الماء وكذلك رماد العذرة والحمار إذا مات في مملحة لا يؤكل الملح هذا كله قول أبي يوسف(1).
ب ) وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو أحد قولي أصحاب مالك(2).
ج) وقال الشيرازي : ولا يطهر شئ من النجاسات بالاستحالة إلا شيئان احدهما جلد الميتة إذا دبغ والثاني الخمر – ثم قال صاحب المهذب: وإن حرق العذرة والسرجين حتى صار رماداً لم يطهر(3).
وقال الشربيني الخطيب: ولا يطهر نجس العين بغسل ولا باستحالة كالكلب إذا وقع في ملاحة فصار ملحاً أو احترق فصار رماداً(4).
د) وقال ابن قدامة: ظاهر المذهب أنه لا يطهر من النجاسات بالاستحالة إلا الخمرة إذا انقلبت بنفسها خلاً وما عداها لا يطهر، كالنجاسات إذا احترقت وصارت رماداً والخنزير إذا وقع في الملاحة وصار ملحاً والدخان المرتقي من وقود النجاسة ،والبخار المتصاعد من الماء النجس إذا اجتمعت منه نداوة على جسم صقيل ثم قطر فهو نجس(5).
هـ) وقال المرداوي على قول ابن قدامة ولا يطهر شئ من النجاسات بالاستحالة قال: هذا المذهب وعليه جماهير الأصحاب ونصروه(6).
لأن نجاستهما – أي العذرة والسرجين – لعينهما(7).
وأما ابن قدامة فقد استدل لذلك بأنها نجاسة لم تحصل بالاستحالة فلم تطهر كالدم إذا صار قيحاً أو صديداً(8).
3 – خلاصة القول في الاستحالة:
__________
(1) فتح الثدير ج1/139
(2) مجموع الفتاوى ج21/ 72
(3) المهذب ج1/10
(4) مغني المحتاج: ج1/81
(5) المعني ج1 / 97 باب الانية ( طبعة هجر / تحقيق التركي والحلو)
(6) الانصاف ج1/318
(7) المهذب ج1/48
(8) المغني ومعه الشرح ج1 /740(1/8)
يتبين لنا مما سبق في استحالة المادة وانقلابها إلى مادة أخرى ، أن هناك أقولاً بعضها كان موضع اتفاق وهو استحالة الخمر إلى خل وذلك لمورد النص ولو أن البعض اشترط تخللها بنفسها دون مداخلة الغير والبعض تجاوز هذا الشرط .
وبعض الأقوال مختلف فيه :أي تحول من عين إلى عين كتحول عظام الميتة إلى رماد أو دخان بالاحراق أو تحول العذرة إلى رماد بالاحتراق وغيره........إلخ .
وقد لاحظنا أن بعض الفقهاء –الشافعية والحنابلة- يبقيها على ما كانت عليه قبل الاستحالة ، أي أنها تبقى نجسة.
وفريق أخر من الفقهاء –المالكية والاحناف- يرى أن العين النجسة يتغير الحكم عليها باستحالتها إلى عين أخرى بحيث تتغير خصائصها وتصبح ذات مواصفات جديدة مختلفة عن الأصل ولا يمنع هؤلاء الفقهاء من تناول العين الجديدة إلا إذا حملت من خصائصها خبثاً أو ضرراً يؤذي البدن والعقل .
واستناداً إلى ما ذهب إليه الحنفية وغيرهم من المالكية ومن تبعهم ، وما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والإمامية الاثنى عشرية نستطيع ان نستنتج القواعد التالية المتعلقة باستحالة النجاسة.
1. إذا أحرقت العذرة فصارت رماداً أو نحوه أو ترابا فهو طاهر.
2. إذا أحرقت الميتة وصارت رماداً أو نحوه من الاعيان الطاهرة فهو طاهر.
3. إذا استحال الكلب والخنزير وما شابههما إلى عين اخرى كالملح أو مركبات كيميائية أخرى فالناتج طاهر .
4. إذا استحالت عظام الميتة إلى رماد أو دخان أو بخار أو أية مادة كيميائية أخرى فالناتج طاهر.
5. إذا استحال الطيب خبيثاً كاستحالة العصير إلى خمر واستحالة الماء والطعام إلى بول أو عذرة صار نجساً .
6. إذا استحال الخبيث طيباً كاستحالة الخمر إلى خل واستحالة العذرة والسماد الحيواني في ثمار الاشجار ونتاج الأرض فالناتج طاهر .(1/9)
7. ويترتب على ذلك أن الاستحالات التي تطرأ على الاعيان النجسة بتأثير التفاعلات الكيميائية والمداخلات الصناعية تؤدي إلى ناتج طاهر يجوز تناوله ما لم يتحقق الضرر في الناتج الجديد .
8. إن الاحكام إنما هي على حكم الله بها فيها مما يقع عليه ذلك الاسم الذي به خاطبنا الله عز وجل فإذا سقط ذلك الاسم فقد سقط ذلك الحكم وأنه غير الذي حكم الله تعالى فيه ، والعذرة غير التراب وغير الرماد وكذلك الخمر غير الخل والانسان غير الدم الذي خلق منه والميتة غير التراب .
9. إن استخدام المركبات الكيميائية الناتجة عن استحالت النجاسات في الصناعات الدوائية والغذائية يخضع لهذه لهذه القواعد ومادام المستحضر الناتج طيباً ولا يحمل خبثاً أو ضرراً فليس ما يمنع من استعماله وتناوله .
والحمد لله رب العالمين(1/10)
الأسس والمبادئ الإسلامية
للعلاقات الدولية
إعداد
أ.د. علي محي الدين القره داغي
بحث مقدم
للدورة السادسة عشرة للمجلس – اسطنبول
جمادى الأخرة 1427 هـ / يوليو 2006 م
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وخاتم الرسل والنبيين ، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين .
وبعد :
فقد أكرم الله تعالى هذه الأمة بهذه الشريعة الغراء التي نزلت رحمةً وخيراً وسعادة ومصلحة للعباد فقد قال تعالى : (وقيل للذين اتقوا ماذا انزل ربكم قالوا خيراً)(1)وقال تعالى في وصف الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم : (وما أرسلناك إلاّ رحمةً للعالمين)(2)وقال تعالى : (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين)(3).
من هنا أدرك الفقهاء هذه الحقيقة حيث نصوا على أن هذه الشريعة شرعت لتحقيق المصالح ، ودرء المفاسد ، وأينما كانت الشريعة فثم المصلحة ، وأينما كانت المصلحة الحقيقية فثم شرع الله ، يقول العز بن عبدالسلام : (وقد علمنا من موارد الشرع ومصادره أن مطلوب الشرع إنما هو مصالح العباد في دينهم ودنياهم )(4)ويقول ابن القيم : (فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد ، وهي عدل كلها ، ورحمة كلها ، ومصالح كلها ، وحكمة كلها ، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور ، وعن الرحمة إلى ضدها ،وعن المصلحة إلى المفسدة ، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل...)(5).
__________
(1) سورة النحل / الآية (30)
(2) سورة الأنبياء/ الآية (107)
(3) سورة النحل/ الآية (89)
(4) قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام (1/35) ط.الريان بالقاهرة .
(5) إعلام الموقعين ،ط.الأزهرية (3/14)(1/1)
ومن هذا المنطلق عالج الإسلام القضايا المتعلقة بحالات الحرب ، وحقوق الإنسان في خضم المعارك ، والقواعد والأعراف الدولية التي تنظم هذه الأمور ، وتكمن أهمية دراسة هذه المبادئ التي تحكم هذه المسائل في أنها تبرز عظمة الإسلام ورحمته ، وسبق الفقه الإسلامي في تنظيم هذه الأمور ، ولا سيما في وقت يبذل أعداء الإسلام جهوداً كبيرة لتشويه سمعة الإسلام منذ فترة طويلة ، وبالأخص بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر أيلول 2001م .
وقد بذلنا ما في وسعنا من جهد لتوضيح أهم المبادئ والأسس التي تحكم العلاقات الدولية ، وبالأخص في حالات الحرب ، داعياً الله تعالى أن يتقبلها مني ، ويجعلها خالصة لوجهه الكريم ، وان يعصمنا من الخطأ والزلل في العقيدة والقول والعمل ، إنه مولانا فنعم المولى ونعم النصير .
كتبه الفقير إلى ربه
علي بن محي الدين القره داغي
التعريف بالعنوان :
أولاً : الأسس : جمع أساس ، وهو قاعدة البناء التي يقام عليها ، وأصل كل شيء ،و مبدؤه ، ومنه أسا الفكرة ، وأساس البحث(1).
ثانياً : والمبادئ : جمع مبدأ ،ومبدأ الشيء : أوله ومادته التي يتكون منها ، أو يتركب منها ، ومبادئ العلم أو الفن أو الدستور أو القانون : قواعده الأساسية التي يقوم عليها ولا يخرج منها(2)، والمقصود بمبادئ الإسلام وأسسه هي القواعد الأساسية التي يقوم عليها الإسلام .
__________
(1) القاموس المحيط ،ولسان العرب ، والمعجم الوسيط ، مادة : أسس
(2) المصادر السابقة مادة : بدأ(1/2)
ثالثاً : العلاقات الدولية : والمقصود بها هي الأسس التي تحكم العلاقات بين الدول المختلفة دينياً أو عرقياً ، أو إقليميا في حالات السلم والحرب ، وحديثنا يتناول أيضاً بإيجاز العلاقات الإنسانية في ظل القانون الدولي الإنساني الذي يحاول الحد من الاثار التي تحدث أثناء الحرب ، وتجنيب المدنيين من آثار الحرب(1).
الإسلام والعلاقات الدولية : ( نبذة من سيرة الرسول القائد صلى الله عليه وسلم)
نزل الإسلام لتنظيم علاقة الإنسان بربه ، وبأخيه الإنسان مسلماً أو غير مسلم ، وبالكون الذي حوله ، ووضع لذلك منهجاً متكاملاً ، ومبادئ عامة ، وقواعد كلية صالحة لكل زمان ومكان ، لما لها من قابلية للتطوير والمعاصرة مع الحفاظ على الأصالة والثوابت .
وفي الفترة المكية لم تكن هناك دولة ، وإنما كانت العلاقة فردية ، يدعو الرسول صلى الله عليه وسلم الناس جميعاً إلى الدخول في دين الله والاهتداء بصراطه المستقيم ، وإلى التوحيد ، وبناء الإنسان على العقيدة الصحيحة ، والتربية السليمة الشاملة لجوانب الإنسان الروحية والنفسية البدنية والاجتماعية ...
وقد تحمل الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام الكثير والكثير من الأذى النفسي والبدني في سبيل تبليغ الدعوة الحقة ، وكان شعارهم (كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة)(2)والدعاء لهؤلاء المشركين الذين يؤذونهم:(اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون).
وعندما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة وتأسست دولة الإسلام الأولى سعى الرسول صلى الله عليه وسلم إلى تقوية المجتمع المدني والجبهة الداخلية من جانبين أساسين :
__________
(1) أ.د. جعفر عبدالسلام : القانون الدولي الإنساني ، بحث منشور في مجلة كلية الشريعة والقانون بالقاهرة ، العدد الثاني 1406هـ ص 166 ، ود. عبدالغني محمود : القانون الدولي الإنساني ص 5
(2) سورة النساء / الآية (72)(1/3)
أ ـ الجانب الخاص بالمسلمين حيث قام بتوحيد أواصر الاخوة الحقيقية فيما بينهم من خلال التآخي بين المهاجرين بعضهم وبعضهم ، ثم بين المهاجرين والأنصار حيث أشرك الأنصار حقاً إخوانهم المهاجرين في أموالهم ، وفي نخيلهم وثمارهم(1).
ب ـ الجانب العام الشامل كل من يعيش على أرض المدينة من المسلمين واليهود وغيرهم من خلال الوثيقة التي كانت الدستور لتنظيم العلاقة بين أهل المدينة على أساس المساواة في المواطنة في الحقوق والواجبات والدفاع عن المدينة ونحوها(2).
ثم كانت العلاقة بين الدولة الإسلامية الفتية وقريش ، والقبائل المحيطة بها علاقة هجوم وحرب من قبلهم عليها ، وكان موقف الرسول صلى الله عليه وسلم موقف الدفاع عن الإسلام ودولته مع حرصه الشديد على الدعوة أولاً والتصالح معهم ، ولكنهم كانوا لا يلتزمون بعهودهم ومواثيقهم .
وأما موقف الرسول صلى الله عليه وسلم مع الدول المحيطة بالجزيرة هو أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا رؤساءها من خلال رسائل إليهم إلى الدخول في الإسلام ، وحينئذٍ يبقون على حكمهم مع إجراء الإصلاحات والعدالة التي يقتضيها الإسلام .
__________
(1) يراجع : أ.د. أكرم ضياء العمري ، السيرة النبوية الصحيحة ط.قطر (1/240)
(2) المرجع السابق (1/272 – 289)(1/4)
ويمكن تلخيص العلاقة الدولية في حالة السلم ، وفي حالة الحرب في الآيات الثلاث في سورة المتتحنة وهي : (عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين ، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون)(1)، فالآية الأولى تبين أن الإسلام يتطلع إلى إزالة العداوة ، وتحقيق المودة بكل الوسائل المتاحة ، وأما الآية الثالثة تبين العلاقة بين المسلمين وغيرهم في حالة السلم وعدم الاعتداء حيث تقوم على ما يأتي : 1 ـ البر والإحسان 2 ـ والعدل والميزان .
وأما الآية الثانية فتبين العلاقة مع غير المسلم في حالة الحرب والعداوة حيث تقوم على أن يتحد المسلمون ويكون ولاؤهم لله تعالى وللمؤمنين بالمحنة والنصرة ، وأن لا تكون نصرتهم لهؤلاء الكفرة المحاربين ومع ذلك تقوم على العدل والإنصاف حتى في حالة الحرب .
__________
(1) سورة الممتحنة / الآية (9،8،7) ويراجع التفسير الكبير للرازي ط.إحياء التراث العربي (29/303)(1/5)
والعظيم في هذه الآية أنها جاءت في سورة تبدأ بما فعله أعداء الله تعالى مع المسلمين ، وما يريدون أن يفعلوه معهم:(يا أيها الذين امنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل)(1)ثم يقول الله تعالى : (إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون)(2)ومع ذلك أمر الله تعالى فيها بالعدل وعدم الظلم ، كما أكد ذلك قوله تعالى : (لا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى )(3).
والأعظم من ذلك أن سورة الممتحنة نزلت بعد سورة البراءة مما يبعد كل البعد مسألة النسخ ونحوه ، حيث برهنت السورة على أن هؤلاء المشركين كانوا لا يرعون عهودهم ، بل إنهم قد خانوا الله وخانوا المؤمنين ، ومع ذلك تؤكد هذه الآيات على أن يتعامل المسلمون مع غيرهم على قواعد العدل في جميع الأحوال ، وعلى قواعد البر والإحسان أيضاً إذا لم يمارسوا ضد المسلمين الظلم والإخراج والقتل والإرهاب ، فالقاعدة الإسلامية الكبرى في العلاقات الدولية هي جعل المقاطعة والخصومة خاصة بحالة العداء والعدوان وفيما عدا ذلك تكون العلاقة هي البر والإحسان ، فالإسلام ليس براغب في الخصومة ، ولا مقطوع بها كذلك ، وهو في حالة الخصومة ستبقى أسباب الود في النفوس بنظافة السلوك وعدالة المعاملة انتظاراً لليوم الذي تجتمع فيه النفوس على المحبة والسلام .
__________
(1) سورة الممتحنة / الآية (1)
(2) سورة الممتحنة / الآية (2)
(3) سورة المائدة / الآية (2)(1/6)
يقول سيد قطب : (وتلك القاعدة في معاملة غير المسلمين هي أعدل القواعد التي تتفق مع طبيعة هذا الدين ووجهته ونظرته إلى الحياة الإنسانية ، بل نظرته الكلية لهذا الوجود ، الصادر عن إله واحد ، المتجه إلى إله واحد ، المتعاون في تصميمه اللدني وتقديره الأزلي ، من وراء كل اختلاف وتنويع ، وهي أساس شريعته الدولية ، التي تجعل حالة السلم بينه وبين الناس جميعاً هي الحالة الثابتة ، لا يغيرها إلاّ وقوع الاعتداء الحربي وضرورة رده ، أو خوف الخيانة بعد المعاهدة ، وهي تهديد بالاعتداء ؛ أو الوقوف بالقوة في وجه حرية الدعوة وحرية الاعتقاد ، وهو كذلك اعتداء ، وفيما عدا هذا فهي السلم والمودة والبر والعدل للناس أجمعين .
ثم هي القاعدة التي تتفق مع التصور الإسلامي الذي يجعل القضية بين المؤمنين ومخالفيهم هي قضية هذه العقيدة دون غيرها ؛ ويجعل القيمة التي يضن بها المؤمن ويقاتل دونها هي قضية العقيدة وحدها ، فليس بينهم وبين الناس ما يتخاصمون عليه ويتقاتلون إلاّ حرية الدعوة وحرية الاعتقاد ، وتحقيق منهج الله في الأرض ، وإعلاء كلمة الله .
هذا التوجيه يتفق مع اتجاه السورة كلها إلى إبراز قيمة العقيدة ، وجعلها هي الراية الوحيدة التي يقف تحتها المسلمون ، فمن وقف معهم تحتها فهو منهم ، ومن قاتلهم فيها فهو عدوهم ، ومن سالمهم فتركهم لعقيدتهم ودعوتهم ، ولم يصد الناس عنها ، ولم يحل بينهم وبين سماعها ، ولم يفتن المؤمنين بها ، فهو مسالم لا يمنع الإسلام من البر به والقسط معه .
إن المسلم يعيش في هذه الأرض لعقيدته ، ويجعلها قضيته مع نفسه ومع الناس من حوله ، فلا خصومة على مصلحة ، ولا جهاد في عصبية ـ أي عصبية ـ من جنس أو أرض أو عشيرة أو نسب ، إنما الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا ، ولتكون عقيدته هي المنهج المطبق في الحياة)(1).
__________
(1) في ظلال القرآن / سيد قطب ،ط.دار الشروق بالقاهرة 1406هـ ( 6/3544 – 3545)(1/7)
فالإسلام لم يحمل السلاح لفَرض عقيدته بالقوة والإكراه فقال تعالى :(لا إكراه في الدين)(1)كما أن فكرة الهيمنة والاستعلاء فكرة مرفوضة في الإسلام ، فقال تعالى : (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً)(2)فالحرب في الإسلام هو للدفاع عن العدل ورفع الظلم فقال تعالى : ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير)(3)وأنها للدفاع عن المستضعفين فقال تعالى : (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون : ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً )(4).
وقد تشكلت أول دولة إسلامية في المدينة المنورة فقامت على قاعدة المؤاخاة بين المسلمين من المهاجرين والأنصار ، وانهم أمة واحدة من دون الناس ، وأنهم كجسد واحد ، وان يدهم واحدة ضد من عاداهم ، وعلى قاعدة العدل والمواطنة والحقوق والواجبات المتقابلة لغير المسلمين ، حيث كُتب فيما بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين اليهود صحيفة ووثيقة نصّت على حوالي 47 بنداً منها :
1 ـ أن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم ،وان المؤمنين بعضهم موالي بعض من دون الناس .
2 ـ وأنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم .
3 ـ وأن تسلم المسلمين واحدة ، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلاّ على سواء وعدل بينهم .
4 ـ وأن كل غازية غزت معنا يعقب بعضهم بعضا .
5 ـ وأنه مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله ، وإلى محمد .
6 ـ وأن يهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين .
__________
(1) سورة البقرة / الآية (256)
(2) سورة القصص/ الآية (83)
(3) سورة الحج/ الآية (39)
(4) سورة النساء / الآية (75)(1/8)
7 ـ وأن على يهود نفقتهم ، وعلى المسلمين نفقتهم ، وان بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة ، وان بينهم النصح والنصيحة ، والبرّ دون الإثم .
8 ـ وانه لا يأثم امرؤ بحليفه ، وإن النصر للمظلوم .
9 ـ وأنه لا تجار حرمة إلاّ بإذن أهلها .
10 ـ وأن ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبرّه .
11 ـ وأن بينهم النصر من دهم يثرب .
12 ـ وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ، ويلبسونه فإنهم يصالحونه ويلبسونه وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإن لهم على المؤمنين إلاّ من حارب في الدين .
13 ـ على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم .
14 ـ وان يهود الأوس مواليهم وانفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة ، وإن البر دون الإثم لا يكسب كاسب إلاّ على نفسه ، وإن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة ، وأبرّه .
15 ـ وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم ، وانه من خرج آمن ، ومن قعد آمن بالمدينة إلاّ من ظلم وأثم ، وإن الله جار لمن برّ واتقى.....(1).
__________
(1) يراجع نص الوثيقة في : الأستاذ محمد حميد الله في مجموعة الوثائق السياسية ،ط.دار الإرشاد ببيروت 1389هـ ، ص 41 – 47 ، وأستاذنا الدكتور أكرم العمري : السيرة النبوية الصحيحة ، ط.مركز بحوث السنة والسيرة بقطر 1411هـ ص 282 ـ 285 حيث خرج بنودها من المصادر المعتمدة(1/9)
كما أكدت الوثيقة على الحرية الدينية بكل وضوح فنصت على أن للمسلمين دينهم ، ولليهود دينهم ، وحتى حينما حاول بعض الأنصار أن يجبروا بعض أبناء عشيرتهم الذين تهودوا على العودة إلى الإسلام أنزل الله تعالى : (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغيّ)(1)حيث نصت إحدى مواد الصحيفة على ان : (لليهود دينهم ، وللمسلمين دينهم : مواليهم وانفسهم إلاّ من ظلم نفسه وأثم فإنه لا يوتغ إلاّ نفسه...)(2)كما اكدت الوثيقة على المسؤولية الشخصية تأكيداً لقوله تعالى : (ولا تزر وازرة وزر أخرى )(3).
غير أن اليهود لم يحافظا على هذه الوثيقة ومحتواها ، ونقضوا عهودهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصابهم ما أصابهم بظلمهم ونقضهم العهود .
وأما القبائل (وعلى رأسها قريش) وأهل الأديان المحيطة بهذه الدولة فلم تقبل بوجود هذه الدولة ، بل قاومتها بكل وسائل البطش والعدوان ، وبذلت كل جهودها للقضاء عليها قضاءً مبرماً ، ولذلك لم تكن العلاقة فيما بينهم وبين الدولة الإسلامية علاقة ود وتعاون بل كانت علاقة تخاصم وحرب وعداء ، ومع ذلك استطاع الإسلام أن يربي أتباعه على اتباع العدل والقسط ، فكان من الطبيعي أن تدافع هذه الدولة العقدية عن نفسها ، حيث نلاحظ هذه الروح الدفاعية في أول آية نزلت بخصوص تشريع الجهاد : (أذن للذين يقاتلون في بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير)(4).
__________
(1) سورة البقرة / الآية (256)
(2) المراجع السابقة
(3) سورة الأنعام / الآية (164)
(4) سورة الحج / الآية (39)(1/10)
ثم بينت الآية الثانية بأن مبررات الجهاد والقتال هو انهم ظلموا وأنهم أخرجوا من ديارهم ، وبالتالي فهم يدافعون عن أنفسهم ، وعن درء الظلم ، والدفاع عن العقيدة وأماكن العبادة حتى لغير المسلمين فقال تعالى : (الذين اخرجوا من ديارهم بغير حق إلاّ أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز )(1).
ولذلك فالحرب في نظر الإسلام ضرورة لا يلجأ إليها إلاّ عندما تضيق السبل ، وتنسد الطرق على الدعوة وقبول الإسلام ، أو الاعتراف بدولته من خلال ما يسمى بالجزية التي هي مشاركة من غير المسلم في تحمل أعباء الأمن والمواطنة ، كما يتحمل المسلمون اكثر من ذلك من الواجبات المالية من الزكاة ونحوها ولذلك لا يبدأ المسلمون بالحرب ضد غيرهم بل بعرض الدعوة عليهم أولاً ، فإن قبلوها فبها ونعمت،وإلاّ فالجزية،أي المسالمة والصلح .
ويدل على هذه الروح في أسمى معانيها صلح حديبية حيث قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجموعة من الشروط التي في ظاهرها إجحاف واعتساف ، ومع ذلك قال صلى الله عليه وسلم : (والله لا تدعوني قريش إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلاّ أعطيتهم إياها)(2)واعظم من ذلك سمى الله تعالى هذا الصلح بالفتح المبين،نزلت فيه سورة سميت بسورة الفتح.
وقد أكد القرآن الكريم على هذا المنهج في أكثر من آية فقال تعالى : (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله)(3).
__________
(1) سورة الحج / الآية (40)
(2) رواه البخاري مع فتح الباري (5/329)
(3) سورة الأنفال / الآية (61)(1/11)
حتى من الناحية الفقهية فإن جماهير الفقهاء (الحنفية ، والمالكية في قول ، والشافعية والحنابلة)(1)بوجوب الدعوة إلى الإسلام قبل بدء الحرب استدلالاً بقوله تعالى : (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً)(2)وكان منهج الرسول صلى الله عليه وسلم ووصيته لصحبه الكرام عندما يرسلهم في مهمة حتى مع المشركين (...وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى خصال ثلاث ، أو خلال ، فأيهن أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم ، ثم ادعهم إلى الإسلام....)(3).
بل حسم ابن عباس (ترجمان القرآن وحبر الأمة) هذه المسالة بصيغة الحصر فقال : (ما قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً قط حتى يدعوهم إلى الإسلام)(4).
وقد أجيب عن إغارة الرسول صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق بأنهم هم بدؤه بالقتال خلال إعدادهم القوة للإغارة على المدينة المنورة(5)كما أنهم قد بلغتهم الدعوة.
الأسس الفكرية الإسلامية التي تساعد على التعايش وتعضده (بإيجاز) :
أولاً : الإنسانية :
اعترف الإسلام بكرامة الإنسان باعتباره إنساناً مع قطع النظر عن فكره وعقيدته ، فقال تعالى : (ولقد كرمنا آدم)(6).
كما جعل الله تعالى الإنسان خليفة في الأرض وزوده بالإرادة والاختيار فقال تعالى : (إني جاعل في الأرض خليفة)(7)وحينما تدخلت الملائكة لبيان الحكمة من ذلك أثبت لهم بان الإنسان اعلم منهم في مجال الاستخلاف والتعمير .
__________
(1) يراجع : مجمع الأنهر (1/635) والشرح الكبير مع الدسوقي (2/176) وروضة الطالبين (10/239) والمغني لابن قدامة مع الشرح الكبير (10/379)
(2) سورة الإسراء / الآية (15)
(3) صحيح مسلم ، كتاب الجهاد (3/1357)
(4) مسند أحمد (1/231) والسنن الكبرى (9/107)
(5) يراجع : صحيح مسلم ، كتاب الجهاد (3/1356 ) وسيرة ابن هشام (3/228)
(6) سورة الإسراء / الآية (70)
(7) سورة البقرة / الآية (30)(1/12)
وقد أكرم الله تعالى الإنسان بالحرية في مجال العقيدة فقال تعالى : (لا إكراه في الدين)(1)وحرره من رق العبودية لغير الله ، وسعى بكل ما في وسعه لإعتاق العبد ومنع المثلة والتعذيب وحتى الترويع وأعطى حرمة عظيمة لحرمات الإنسان وخصوصياته وحقوقه ، وممتلكاته ، وساوى بين جميع البشر إلاّ من خلال العمل الصالح فقال تعالى : (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم )(2).
وجعل المسؤولية شخصية فقال تعالى : (وأن ليس للإنسان إلاّ ما سعى)(3)وقال تعالى : (ولا تزر وازرة وزر أخرى)(4).
والتحقيق ان الإسلام يعترف بمجموعة من دوائر الارتباط والوشائج وإن كان قد جعل وشيجة العقيدة والاخوة الإيمانية هي الأساس ، حيث يريد من خلال التوسع في هذه الدوائر إيجاد أرضيات مشتركة للتقارب والتعايش والتعاون ، والدعوة ، وتلك الدوائر هي :
أ ـ دائرة الإنسانية حيث الجميع من آدم وحواء ولذلك يجيء الخطاب بـ : يا أيها الناس .
ب ـ دائرة القومية ، حيث عبر القرآن ـ أحدهم صالح ـ .
ج ـ دائرة من هم أهل الكتاب (سورة مريم).
د ـ وأخيراً دائرة الباحثين عن الحق ( وإنا أو إياكم)
ثانياً : وحدة الأديان :
__________
(1) سورة البقرة / الآية (256)
(2) سورة الأنعام / الآية (164)
(3) سورة النجم / الآية (39)
(4) سورة الأنعام / الآية (164)(1/13)
يُرجع الإسلام الأديان السماوية كلها إلى أصل واحد وهو الوحي الإلهي ، وأن شرائع الله تعالى قد انبثقت من مشكاة نور واحد ، ولذلك يدعو الإسلام أتباعه إلى الإيمان بجميع الأنبياء والرسل السابقين ، والكتب السماوية ، والكتب المنزلة السابقة ، فقال تعالى : (آمن الرسول بما انزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير)(1)وقال تعالى : (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون )(2).
ويبين الله تعالى بأنه شرع لهذه الأمة كل الشرائع الأساسية التي شرعها على بقية الأنبياء (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما أوحينا به إلى إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه)(3).
وقد ذم الله تعالى الذين فرقوا دينهم فقال تعالى : (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء)(4).
بل إن القرآن الكريم يدعو اتباعه إلى اتباع سنن المرسلين فقال تعالى : ( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده)(5).
__________
(1) سورة البقرة / الآية 285)
(2) سورة البقرة / الآية (136)
(3) سورة الشورى / الآية (13)
(4) سورة الأنعام / الآية (159)
(5) سورة الأنعام/ الآية (90)(1/14)
وأكثر من ذلك فإن القرآن الكريم جعل لفظ الإسلام اسماً مشتركاً لجميع الأديان وعلى ألسنة أكثر الأنبياء فيقول في شأن إبراهيم : (إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين)(1)وقال في شان يعقوب : (إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون)(2)ويقول تعالى : (إن الدين عند الله الإسلام)(3).
ونتج عن ذلك :
1 ـ الاعتراف بالأديان السماوية الحقة ، وبجميع الرسل والأنبياء الذين ذكرهم القرآن أو الذين لم يذكرهم ، وفسح المجال لأصحاب الأديان أن يعيشوا في ظل الإسلام .
2 ـ التعامل مع غير المسلمين بالتسامح دون الإكراه والاعتداء فقال تعالى (لا إكراه في الدين)(4)وقال تعالى : (فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر)(5)وقال تعالى محدداً وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم (ما على الرسول إلاّ البلاغ)(6)وقال تعالى :(فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما انزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير)(7)وقال تعالى : (لكم دينكم ولي دين)(8)وقد أكد الله تعالى هذه المعاني في الآيات التي نزلت بالمدينة مثل قوله تعالى : (وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد)(9).
__________
(1) سورة البقرة / الآية (131)
(2) سورة البقرة / الآية (133)
(3) سورة آل عمران / الآية (19)
(4) سورة البقرة / الآية (256)
(5) سورة الغاشية / الآية (21)
(6) سورة المائدة / الآية (99)
(7) سورة الشورى / الآية (15)
(8) سورة الكافرون/ الآية (6)
(9) سورة آل عمران / الآية (20)(1/15)
ومن الناحية العملية كانت وثيقة المدينة التي تعتبر بمثابة دستور يحكم أهل المدينة الذين كانوا مختلفين من حيث الدين (الإسلام والشرك واليهودية) ومن حيث الجنس ( القحطانيون والعدنانيون واليهود) حيث سوّت بين الجميع في الحقوق العامة والواجبات من حسن الجوار والتناصر وما يسمى في عصرنا الحاضر بحقوق المواطنة .
ثالثاً : الأصل في الإسلام هو السلام لا الحرب :
الحرب في الإسلام لا يلجأ إليها إلاّ في حالة الضرورة ، فهي ليست محبوبة من حيث المبدأ بل هي مكروهة في نفوس المؤمنين فقال تعالى : (كتب عليكم القتال وهو كره لكم ....)(1).
وقد أكد القرآن الكريم ذلك حيث يقول : (عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم)(2). وقد منّ الله على رسوله محمد وصحبه بأنه منعهم من الوقوع في الحرب فقال تعالى : (وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيدكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم) وردّ الله الذين كفروا لم ينالوا خيراً
وتدل هذه الآية بوضوح على أن الإسلام دين سلام وعقيدة ، ونظام يستهدف أن يظلل العالم كله بظله ، وان يقيم فيه منهجه ، وان يجمع الناس تحت لواء الله اخوة متعارفين متحابين ، وهذا الرجاء من الله تعالى معناه القطع بتحققه ، وهذا ما تحقق فعلاً حيث أسلمت قريش ومعظم القبائل المحيطة ، وأن وقف الجميع تحت لواء واحد ، وان طويت الثارات والمواجد.
رابعاً : تقديم الصلح على الحرب حتى ولو كان الصلح فيه بعض الغبْن :
__________
(1) سورة البقرة / الآية (216)
(2) سورة الممتحنة / الآية (7)(1/16)
وقد أطلق الله تعالى الخير على الصلح فقال : (والصلح خير)(1)وقال تعالى : (...أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس...)(2)ولم يقل بين المؤمنين فقط ، بل عمم الصلح والإصلاح بين الناس جميعاً ، فذلك الخير والأنفع ، وقال تعالى : (لا خير في كثير من نجواهم إلاّ من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً)(3).
وقد بين الإسلام خطورة الإفساد في الأرض وعدم الإصلاح فجعله من الكبائر المحرمات الموبقات ، فقال تعالى : (وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد)(4)وقال تعالى في وصف الكفرة المجرمين : (الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون)(5).
والإصلاح هو رسالة الأنبياء فقال تعالى على لسان شعيب عليه السلام : (إن أريد إلاّ الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلاّ بالله عليه توكلت وإليه أنيب)(6)وقد جعل الله التوفيق حليف إرادة من يريد الإصلاح دائماً فقال تعالى : (إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما)(7).
وربط الله تعالى بين الهلاك والإفساد ، وبين النجاة والإصلاح فقال تعالى : (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون)(8).
__________
(1) سورة النساء/ الآية (128)
(2) سورة البقرة / الآية (224)
(3) سورة البقرة/ الآية (220)
(4) سورة البقرة/ الآية (205)
(5) سورة الشعراء/ الآية (152)
(6) سورة هود الآية (88)
(7) سورة النساء / الآية (35)
(8) سورة هود (117)(1/17)
وليس الصلح والإصلاح في الإسلام مجرد شعار ، وإنما طبقه الرسول صلى الله عليه وسلم في سيرته العطرة حيث حينما جاء للعمرة ومعه عدد كبير من صحبه الكرام منعهم قريش على الرغم من ان كل الدلائل كانت تشير إلى أن الهدف الأساس هو أداء العمرة ، ولذلك أتوا محرمين ،وساقوا الهدي حتى وصلوا حديبية ، حيث بركت ناقته القصواء ..ثم قال : (والذي نفسي بيده ، لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلاّ أعطيتهم إياها)(1)ثم حاول الرسول صلى الله صلى الله عليه وسلم دخول مكة ، ولكن قريش منعته ، فأرسل رسله تترى لبيان موقفه لهم ، حيث أرسل خراش بن أمية الخزاعي ، فأرادت قريش قتله لولا أن منعهم الأحابيش ثم أرسل عثمان بن عفان فأبلغهم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم بأن الهدف هو زيارة الكعبة وتعظيمها ، غيران قريشاً أخرته حتى ظن المسلمون أنها قتلته ، فدعا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى البيعة تحت الشجرة(2)فبايعوه جميعاً على الموت سوى الجد ابن قيس (وكان منافقاً) ثم انتهى الأمر بالصلح الذي في ظاهره تنازل من طرف المسلمين لصالح المشركين ، فمثلاً كتب علي بن أبي طالب عقد الصلح ، وسطر بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بـ : بسم الله الرحمن الرحيم ، فاعترض ممثل قريش سهيل بن عمرو فقال : أما الرحمن فوالله ما أدري ما هي ، ولكن اكتب : باسمك اللهم ، فقال المسلمون : والله لا نكتبها إلاّ باسم الله الرحمن الرحيم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : اكتب باسمك اللهم .
__________
(1) رواه البخاري مع فتح الباري (5/329)
(2) يراجع : فتح الباري شرح صحيح البخاري (7/439) وصحيح مسلم كتاب الإمارة (3/1409) ويراجع للمزيد : أ.د. أكرم ضياء العمري : السيرة النبوية الصحيحة ،ط.قطر (2/434 – 453)(1/18)
ثم اعترض سهيل على عبارة : (هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله ) حيث قال سهيل : (والله لو كنا نعلم انك رسول الله ما صددناك عن البيت ، ولا قاتلناك ، ولكن اكتب : محمد بن عبدالله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (والله إني لرسول الله وإن كذبتموني ، اكتب : محمد بن عبدالله ) فاعتذر علي بن أبي طالب عن مسح كلمة (رسول الله) فأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم الكتاب ، فمحاها بيده(1).
ثم اعترض سهيل على بند : (على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به) حيث قال : (والله لا تحدث العرب انا أخذنا ضغطة)(2).
ثم اشترط شرطاً تعسفياً غير عادل وهو : (أنه لا يأتيك منا رجل ـ وإن كان على دينك ـ إلاّ رددته إلينا) في حين أن من عاد من المسلمين إلى قريش فإنها لا ترده(3).
ومع ذلك قبل الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الاتفاقية مع تذمر المسلمين منها حيث ضاقوا ذرعاً ببنودها ، وأسلوب الإملاء والصياغة ، حتى قال عمر له : (ألست نبي الله حقاً؟ قال : بلى ، قلت ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال : بلى ، قلت فلِم نعطي الدنية في ديننا إذاً ؟ قال : ( إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري)(4).
__________
(1) صحيح مسلم ، كتاب الجهاد (3/1410 – 1411)
(2) مصنف عبدالرزاق (5/343)
(3) صحيح البخاري ـ مع الفتح ـ المغازي (7/453)
(4) صحيح مسلم (3/1412)(1/19)
ومما زاد الطين بلة أنه أثناء الاتفاقية جاء أبو جندل بن سهيل وهو مرسف في قيوده ، وقد خرج من اسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين ، فقال سهيل : هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه ان ترده إليَّ ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (إنا لم نقض الكتاب بعد ، فقال : والله إذاً لم أصالحك على شيء أبداً ، ففي صحيح البخاري : (وأبى سهيل أن يقاضي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ على ذلك ، فكره المؤمنون ذلك وامَّعضوا ، فتكلموا فيه ، فلما أبى سهيل ...كاتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ...ورد أبا جندل إلى أبيه ...ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد من الرجال إلاّ رده في تلك المدة وإن كان مسلماً ....)(1).
وقد غضب المسلمون نفسياً من رد المسلمين الفارين بدينهم حتى قالوا : يا رسول الله تكتب هذا؟ قال :(نعم ، إنه من ذهب إليهم فأبعده الله ، ومن جاء منهم سيجعل الله له فرجاً ومخرجاً)(2).
هذا الصلح الذي أنجزه الرسول صلى الله عليه وسلم وبهذه الشروط وفي ظل حنق المسلمين وغضبهم إن دل على شيء فإنما يدل على مدى أهمية الصلح لدى الرسول صلى الله عليه وسلم بل لدى الإسلام حيث نزلت الآيات من فوق سبع سموات سمته بالفتح (إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ) حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم : (لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس ) ثم قرأ : (إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً)(3).
وحقاً كان هذا الصلح فتحاً عظيماً للقلوب حيث دخل في الإسلام من بعد الصلح عام ست من الهجرة إلى عام فتح مكة في ثمان آلاف مؤلفة ، حيث جاء الرسول صلى الله عليه وسلم في صلح حديبية ومعه حوالي 1500 ، في حين جاء في فتح مكة ومعه ثمانية آلاف .
__________
(1) صحيح البخاري ـ مع الفتح ـ كتاب المغازي (7/453)
(2) صحيح مسلم (3/1412)
(3) صحيح البخاري ـ مع الفتح ـ كتاب المغازي (7/452)(1/20)
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم من أشد المتمسكين بتنفيذ بنود العقود معه ـ كما سبق ـ والمحافظين عليه ، حتى إن بعض شباب قريش الطائشين أرادوا أخذ مسكر المسلمين غرة ، وكان عددهم ثمانين شاباً ، لكنهم أسروا ، فعفا عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأطلق سراحهم(1)مع أنه كان بالإمكان أن يجعل ذلك سبباً لنقض الاتفاقية ، كما عفا عن سبعين أسيراً أسرهم المسلمون بعد الصلح ، وعن أربعة حاولوا الإيقاع بالرسول فأخذهم سلمة بن الأكوع(2).
وروى مسلم في صحيحه بسنده عن انس بن مالك : أن ثمانين رجلاً من أهل مكة هبطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من جبل التنعيم متسللين يريدون غرّة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فأخذهم مسلماً فاستحياهم ، فانزل الله عز وجل : (وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم)(3).
وفي هذه الآية دلالة أخرى على أهمية الصلح وعدم الوقوع في الحرب حيث إن الله تعالى امتن بذلك على المؤمنين ، مما يدل على انه من النعم الكبرى ، وان الحرب من حيث هي ليست محببة في الإسلام .
يقول الشيخ محمد عبدالله دراز : (ومن هنا نرى ان الحرب في نظر الإسلام شرّ لا يلجأ إليه إلا المضطر ، فلأن ينتهي المسلمون بالمفاوضة إلى صلح مجحف بشيء من حقوقهم ، ولكنه في الوقت نفسه يحقن الدماء ، خير من انتصار باهر للحق تزهق فيه الأرواح)(4).
__________
(1) صحيح مسلم ، الجهاد (3/1442)
(2) انظر : تفصيل بنود الصلح في صحيح مسلم (3/1433 – 1441) الحديث 1807 ، والسيرة الصحيحة (2/000446)
(3) صحيح مسلم (3/1442) الحديث 1808 ، والآية من سورة الفتح 24
(4) دراسات إسلامية للدكتور محمد عبدالله دراز ، ط. دار القلم بالكويت عام 1979 ص 142(1/21)
خامساً : مبدأ العدل والقسط(1):
__________
(1) يقول أبو البقاء العكبري في الكليات ، ط.مؤسسة الرسالة ص 150 : (الاعتدال هو توسط حال بين حالين في كم وكيف) ويقول في ص 639 : (العدل ضد الجور ..؛ والعدالة لغة الاستقامة ،وفي الشريعة عبارة عن الاستقامة على الطريق الحق بالاختيار) وذلك بالاجتناب عن الهواء ،ويقول في ص 733 : القسط بالكسر العدل ، وبالضم الجور ) والقسطاس هو الميزان الدقيق للاحتراز عن الزيادة والنقصان ، وجاء في معجم الوسيط ،ط. قطر ص 588 : (العدل : الانصاف ، وهو إعطاء المرء ماله ، وأخذ ما عليه )وفي ص 734 : (القسط : العدل ،وهو من المصادر الموصوف بها ، يوصف به الواحد ، والجمع ، يقال : (ميزان قسط ، وميزانان قسط ، وموازين قسط ...والقسطاس : أضبط الموازين وأقومها)(1/22)
يعتبر هذا المبدأ في الإسلام من اعظم المبادئ التي تقوم عليها الشريعة ، بل تقوم عليه السموات والأرض ، ولذلك تكرر لفظ العدل ومشتقاته في القرآن الكريم ثمان وعشرون مرة ، كما ذكر رديفه (القسط) في القرآن الكريم ....... تناول القرآن الكريم خلالهما أهمية العدل والقسط ، حيث أمر بالعدل والإحسان ، فقال تعالى : (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر )(1)وقال تعالى : (اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله )(2)وقال تعالى : (وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى )(3)وقال تعالى : (وأمرت لأعدل بينكم)(4)وشدد في حرمة عدم العدل مع قوم ولو كانوا أعداء فقال تعالى : (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألاّ تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ..)(5)وأمر المسلمين أن يكون حكمهم قائماً على العدل بين الناس جميعاً ،بل جعل العدل أساساً للحكم الإسلامي ، فقال تعالى : ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل)(6)وشدد الإسلام في اتباع الهواء والرغبات والمصالح الشخصية ليؤدي ذلك إلى ترك العدل فقال تعالى : (فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا)(7)وأمر بالعدل حتى مع البغاة الخارجين على الدولة المقاتلين فقال تعالى :(فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين)(8).
__________
(1) سورة النحل/ الآية (90)
(2) سورة المائدة/ الآية (8)
(3) سورة الأنعام/ الآية (152)
(4) سورة الشورى/ الآية (15)
(5) سورة المائدة / الآية (8)
(6) سورة النساء/ الآية (58)
(7) سورة النساء/ الآية (135)
(8) سورة الحجرات / الآية (9)(1/23)
بل إن الله تعالى نهى عن التعدد بين النساء إذا أدى إلى الجور وعدم العدل فقال تعالى : (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة)(1)وجعل العدل شرطاً في قبول الشهادة والحكم ونحوهما ، فقال تعالى : (واشهدوا ذوي عدل منكم)(2).
وتكرر لفظ (القسط) ومشتقاته في القرآن الكريم سبعاً وعشرين مرة ، حيث أمر الله تعالى فيها بالقسط مطلقاً أي العدل فقال : (يا أيها الذين أمنوا كونوا قوامين بالقسط )(3)وبالقسط في الحكم فقال تعالى : (وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين)(4)، وبالقسط في النزاعات حتى مع الخارجين عن القانون فقال تعالى : (فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين )(5)وجعل الله مصير هؤلاء الذين يقتلون العادلين إلى النار والعذاب الأليم فقال تعالى : (..ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم)(6)وامر ان يكون الوفاء في الكيل والوزن في الماديات والمعنويات بالقسط والعدل فقال تعالى : (وأوفوا الكيل والميزان بالقسط)(7)وقال تعالى : (وزنوا بالقسطاس المستقيم)(8).
ومن الناحية العملية شهدت السيرة النبوية العطرة وتعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع الناس جميعاً أروع الأمثلة في العدل والقسط ، وكذلك سيرة خلفائه الراشدين .
سادساً : الاعتراف بالاختلاف والتنوع :
__________
(1) سورة النساء/ الآية (3)
(2) سورة الطلاق / الآية (2)
(3) سورة النساء/ الآية (135)
(4) سورة المائدة/ الآية (42)
(5) سورة الحجرات/ الآية (9)
(6) سورة آل عمران/ الآية (21)
(7) سورة الأنعام/ الآية (152)
(8) سورة آل عمران/ الآية (35)(1/24)
من واقعية الإسلام اعترافة بالاختلاف في العقائد والأفكار والألوان والأطياف ، على الرغم من انه ينشد وحدة الأمة ويريد لهم الخير كله ، حيث يقول القرآن : (كان الناس أمة واحدة) أي بعد ذلك اختلفوا (فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وانزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه...)(1)وبعد أن ذكر الله تعالى اليهود والنصارى واختلافهم قال : (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات....)(2).
وقد أكد القرآن الكريم أن الاختلاف أحد المقاصد المعتبرة للابتلاء ، فقال تعالى : (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربك ولذلك خلقهم)(3).
وهذه الآيات الكثيرة ومثلها من الأحاديث النبوية تهيئ نفوس المسلمين لقبول الآخرين المختلفين معهم عقدياً وفكرياً وأصولياً وفرعياً ، والتعايش معهم بأمن وأمان ، وهذا ما حدث طوال التأريخ الإسلامي ، حيث عاش غير المسلمين في أكتاف الدولة الإسلامية القوية ، وهم يتمتعون بكامل حقوقهم بل تقلدوا مناصب رفيعة في ظلها ، ولم يحدث مثل ذلك في ظل الإمبراطوريات الدينية الأخرى مثل الدولة الرومانية التي كانت تضطهد اليهود ، وغير النصارى ، ثم لا ينسى التأريخ ما فعل الصليبيون بالمسلمين واليهود في الأندلس .
سابعاً : الحوار بدل الشجار وقوة المنطق بدل منطق القوة .
يركز القرآن الكريم على تعويد الأمة على الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة ، وبالحوار ، والجدال بالتي هي احسن ، دون القهر والاستبداد والصراع ، حيث يقول القرآن الكريم : (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن)(4).
__________
(1) سورة البقرة / الآية (213)
(2) سورة المائدة/ الآية (48)
(3) سورة هود / الآية (118 – 119 )
(4) سورة النحل/ الآية (125)(1/25)
ويؤكد القرآن الكريم مرة أخرى بالنهي عن الجدال مع أهل الكتاب إلاّ بالتي هي احسن فيقول : ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلاّ بالتي هي أحسن)(1).
والقرآن الكريم بنفسه هو كتاب حوار ، حيث استعرض مجموعة رائعة من الحوارات منها حوار الملائكة مع الله تعالى في استخلاف الإنسان ، ومنها حوار الشيطان مع الله تعالى ، ومنها حوار الأنبياء مع الله مثل حوار موسى ، ومنها حوار الأنبياء مع أممهم وشعوبهم ، ومنها حوارات أخرى مثل حوار صاحبي الجنة في سورة الكهف .
ثامناً : الدفاع بدل الصراع هو الأصل في التعامل :
ولم يستعمل القرآن الكريم لفظ الصراع ، وإنما استعمل لفظ الدفع والدفاع والمدافعة بدل الصراع(2)، فقال تعالى : (إن الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور)(3)وقال تعالى : (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ..)(4)وقال تعالى : (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد)(5)حيث تدل هذه الآيات على سنة التدافع ، وانها من سنن الله تعالى حيث يدفع الظالمين ولكنها لا تدل على تأصيل فكرة الصراع في قلوب المسلمين بأن يتخذوا الصراع منهجاً في تعاملهم ، كما هو الحال بالنسبة لسنة الخلاف والاختلاف فهي سنة ، ومع ذلك لا ينبغي للمسلمين أن يتخذوه منهجاً لهم في التعامل .
__________
(1) سورة العنكبوت/ الآية (46)
(2) لم يرد في القرآن الكريم لفظ : صرع ، ولا الصراع ، ولا مشتقاته إلاّ لفظ :صرعى في سورة الحاقة الآية 7 : (فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية)
(3) سورة الحج/ الآية (38)
(4) سورة البقرة/ الآية (251)
(5) سورة الحج/ الآية (40)(1/26)
وإنما الذي اكد عليه القرآن في كيفية التعامل مع المخالفين هو منهج الدفع بالتي هي أحسن فقال تعالى في سورة المؤمنون : (ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون)(1)وفي سورة فصلت : (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقا الله إلاّ الذين صبروا وما يلقاها إلاّ ذو حظ عظيم)(2).
فقد دلت هذه الآيات أن الواجب على الرسول صلى الله عليه وسلم ومن يقتدي به من الدعاة أن يقابل سيئة الكفرة والمنافقين والفسقة بالحسنة سواء كان في نطاق الأقوال حيث يقابل الأقوال حيث القول السيء بالقول الطيب ، او في مجال الأعمال والتصرفات حيث يقابل ذلك بالأعمال الصالحة والتصرفات النافعة الطيبة فقال تعالى في وصف عباد الرحمن (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) فالمسلم ينبغي أن يكون كالشجرة المثمرة التي يرميها الرامي بالحجر فتقابله برمي ثمرة ، وهذا هو الأسلوب الناجح في التعامل وهو الذي له ثمار طيبة حيث تتحول العداوة إلى المحبة ، والإساءة إلى الإحسان ، والقطيعة إلى التواصل والاخوة ، وإن كان هذا الأسلوب ليس سهلاً إلاّ على الصابرين الذين أعطاهم الله حظاً عظيماً من الصبر على الإيذاء ، فيجزيهم الله تعالى بالأجر العظيم والثواب الجزيل في الدنيا والآخرة .
تاسعاً : التعامل عبر موازين الشرع :
وأقصد بذلك أن الإسلام وضع موازين لكل الأمور ، وأن هذه
التطبيقات العملية للعلاقات الدولية في حالة السلم والحرب :
أولاً : في حالة السلم :
__________
(1) سورة المؤمنون / الآية (96)
(2) سورة فصلت / الآية (34 – 35 )(1/27)
يحرص الإسلام كل الحرص على الحفاظ على الأمن والامان ، والسلام ، وعلى العهود والمواثيق التي تمت بين دولة الإسلام ، او المسلمين ، وبين غيرهم دولاً وأفراداً ، فجاءت مجموعة من النصوص الصريحة تأمر بالوفاء بالعهود والعقود والمواثيق ، فقال تعالى : (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود )(1)وقال تعالى : (وأوفوا بالعهد إن العهد كان عنه مسؤولاً )(2)وجعل الوفاء بالعهود والمواثيق من صفات المؤمنين ، ونقضها من صفات الكفرة والمنافقين فقال تعالى في وصف المؤمنين المصلحين : (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون)(3)، بل إن القرآن الكريم لا يجيز للدولة المسلمة نقض العهد مع دولة غير إسلامية بينها عهود ومواثيق ما دامت لم تنقض عهدها .
وقد تضمنت الآيات العشرون (55 – 75) من سورة الأنفال التي هي من أواخر السور التي نزلت على الرسول الكريم صورة واضحة للعلاقات الخارجية بين الدولة المسلمة وما حولها من الدول والطوائف والمعسكرات ، حيث تقرر إمكان إقامة عهود تعايش بين المعسكرات المختلفة ما أمكن أن تصان هذه العهود من النكث بها مع إعطاء هذه العهود الاحترام الكامل والجدية الحقيقة(4)وذلك من خلال المفاهيم الآتية:
1 ـ وجوب صون العهود والمواثيق من النقض والنكوث حيث سمى الناكثين بشر الدواب ، فقال تعالى :، وان شرّ الدواب هم الذين نقضوا عهودهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
__________
(1) سورة المائدة/ الآية (1)
(2) سورة الإسراء/ الآية (34)
(3) سورة المؤمنون/ الآية (8)
(4) سيد قطب : في ظلال القرآن ،ط.دار الشروق (3/1539)(1/28)
2 ـ وأن الدولة المسلمة التي لها عهد مع أناس آخرين إذا خافت من خيانتهم فإنها تنبذ إليهم عهدهم ، وتخبرهم بذلك ، ولا تخونهم ، لأن الله تعالى لا يحب الخائنين ، فالإسلام يريد من العهد الصيانة ، ومن العقد الحفاظ عليه ، ومن المواثيق الالتزام بها ، فإذا وجد المقابل لا يحافظ على عهد ، ولا يفي بعقده بل من طبعه الخيانة والمكر ، فإن المسلمين لا يجوز لهم أن يقابلوا خيانتهم بخيانة ، ونقضهم بنقض ، بل يصارحونه ، ولذلك يرتفع الإسلام بالبشرية إلى آفاق من الشرف والاستقامة ، ويرتقي بهم إلى آفاق الأمن والطمأنينة والاستقرار ، وعدم الخوف من الإغارة والخيانة .
3 ـ ضرورة إعداد القوة حتى لا يطمع الأعداء في الدولة الإسلامية ، وهذه تسمى في الوقت الحاضر نظرية القوة الرادعة .
4 ـ وأنهم إذا جنحوا للسلم فعلى الدولة الإسلامية أن تختار خيار السلام مع التوكل على الله : (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم )(1).
وقد شدد القرآن الكريم في ضرورة الأخذ بالسلام العادل والجنوح له حتى ولو مع الخوف من الخيانة قال تعالى : (وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين)(2).
5 ـ ضرورة توفير الهيبة لهذا الدين ، والإرادة القوية ، والاستعداد الدائم المستمر لحماية الأمة ، وليست للاعتداء لأن الله لا يحب المعتدين .
6 ـ ضرورة التأكيد على مبدأ الموالاة في مقابل موالاة الكافرين بعضهم لبعض ، فلا ينبغي للأمة المسلمة أن تبقى متفرقة ممزقة ، وعدوها متحد يرميها من قوس واحدة ، وأن الفتنة كل الفتنة هي أن لا يستوعب المسلمون قضية الولاء (إلاّ تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)(3).
__________
(1) سورة الأنفال / الآية (61)
(2) سورة الأنفال/ الآية (62)
(3) سورة الأنفال/ الآية (73)(1/29)
7 ـ هؤلاء الذين لا يستطيع أحد ان يطمئن إلى عهدهم وجوارهم وشرورهم ، جزاؤهم تخويفهم ، والضرب على أيديهم بشدة حتى يتركوا هذا الصنيع الفاحش .
8 ـ وجوب قيام العلاقات على الصراحة وحماية العهود والمواثيق ، ونبذ الخيانة ، والميكافيلية ، يقول سيد قطب : ( إن الإسلام يريد للبشرية أن ترتفع ، ويريد للبشرية أن تعف ، فلا تبيح الغدر في سبيل الغلب ، وهو يكافح لأسمى الغايات وأشرف المقاصد ، ولا يسمح للغاية الشريفة أن تستخدم الوسيلة الخسيسة ، إن الإسلام يكره الخيانة ، ويحتقر الخائنين الذين ينقضون العهود ، ومن ثم لا يحب للمسلمين أن يخونوا أمانة العهد في سبيل غاية مهما تكن شريفة ، إن النفس الإنسانية وحدة لا تتجزأ ، ومتى استحلت لنفسها وسيلة خسيسة فلا يمكن أن تظل محافظة على غاية شريفة ، وليس مسلماً كاملاً من يبرر الوسيلة بالغاية ، فهذا المبدأ غريب على الحس الإسلامي والحساسية الإسلامية)(1).
9 ـ من دلائل حفاظ المسلمين على عهودهم مع غيرهم أن بعض المسلمين الذين لم ينضموا إلى الدولة الإسلامية لو استنصروا بها في الدين فعليها النصرة على شرط ألا يخل هذا بعهد من عهود المسلمين مع المعسكر الآخر حتى ولو كان هذا المعسكر معتدياً على أولئك الأفراد في دينهم وعقيدتهم فقال تعالى : (وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلاّ على قوم بينكم وبينهم ميثاق)(2).
ثانياً : في حالة الحرب :
__________
(1) سيد قطب : في ظلال القرآن (3/1542)
(2) سورة الأنفال/ الآية (72)(1/30)
من المعلوم أن الحرب المشروعة في الإسلام هو الجهاد في سبيل الله ، وهو لأجل إعلاء كلمة الله ، وليس لأجل أي غرض دنيوي ، ولذلك فهو ديني اخلاقي في نظر الإسلام ، وهو في حقيقته دفاع ـ بمعناه الواسع ـ عن الدين ، والوطن(1)، وإذا حدث فقد وضع الإسلام قواعد عملية كثيرة تخفف من آثاره وتحدد بإنصاف ما يقتضيه الموقف الدفاعي البحت ، فنهى عن قتل المرأة ، والراهب في معبده ، والفلاح في مزرعته فقال تعالى : (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم)(2)ونهى عن الاعتداء حتى في حالة الحرب وأثناء الحرب فقال تعالى : (ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين)(3)وذلك من خلال الإجراءات الآتية :
1ـ تصديق من يعلن إسلامه ولو كان في ساحة القتال وهو منهزم وقد قتل من المسلمين ، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم : (أمرت ان اقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله ، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلاّ بحق الإيمان ، وحسابهم على الله)(4)وقد قال تعالى : (ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرضاً من الحياة الدنيا)(5)، وبقبول المقاتل مسلماً يعصم دماء ذريته الصغار أيضاً(6).
__________
(1) يراجع : الإسلام والقوة ، بحث لنا منشور في مجلة مركز بحوث السنة والسيرة
(2) سورة البقرة/ الآية (190)
(3) سورة البقرة/ الآية (190)
(4) صحيح البخاري ، كتاب الإيمان ، مع فتح الباري (1/)
(5) سورة النساء/ الآية (94)
(6) المغني مع الشرح الكبير (10/413)(1/31)
2ـ عدم جواز قتل الرسل والرهائن مهما كانت طبيعة الدولة التي أرسلتهم ، فقد روى الحاكم وصححه ، وأبو داود بسندهما عن نعيم بن مسعود قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لرسوليْ مسيلمة حين قرأ كتاب مسيلمة : ما تقولان أنتما ، قالا نقول كما قال ، فقال صلى الله عليه وسلم : (لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما)(1).
3ـ عدم قتل النساء والأطفال وكبار السن والرهبان والفلاحين والعمال والحراثين ، ونحوهم ممن لم يشاركوا في القتال فقال تعالى : (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا)(2).
وقد ترجم الإمام مسلم في صحيحه : باب تحريم قتل النساء والصبيان في الحرب ، ثم روى بسنده عن عن عبدالله أن امرأة وجدت في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم مقتولة فأنكر صلى الله عليه وسلم قتل النساء والصبيان(3).
وروى أبو داود بسنده ان رسول الله قال : (لا تقتلوا فانياً ولا طفلاً صغيراً)(4)وروى أحمد بسنده عن ابن عباس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيوشه قال : (اخرجوا بسم الله ...ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع )(5)، وجاء في وصية أبي بكر ليزيد بن آبي سفيان : (إنك ستجد قوماً حبسوا أنفسهم لله تعالى فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له)(6). وروى ابن ماجه بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تقتلوا ذرية ولا عسيفاً)(7)أي أجيراً .
__________
(1) المستدرك (2/155) وسنن أبي داود (3/83)
(2) سورة البقرة / الآية (190)
(3) صحيح مسلم ، كتاب الجهاد (3/1364)
(4) سنن أبي داود ، كتاب الجهاد (3/371)
(5) مسند احمد (1/300)
(6) معرفة السنن والآثار للبيهقي (13/249)
(7) سنن ابن ماجه ، كتاب الجهاد (2/948)(1/32)
4 ـ كراهة قتل الوالدين وذوي الأرحام إلاّ في حالة الضرورة أو الحاجة وهذا رأي الحنفية والشافعية والزيدية(1)وذلك للأدلة المعتبرة ، اما الوالدان فلقوله تعالى : (وصاحبهما في الدنيا معروفا)(2)وذكر الإمام محمد بن حسن الشيباني في كتابه العظيم أن : (حنظلة بن أبي عامر وعبدالله بن عبدالله بن أبي سلول استأذنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل أبويهما فنهاهما) ثم ذكر بعض روايات قتل الابن أباه في الحرب وسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يدل على أن الابن لا يقصد قتل أبيه ،ولكن إذا اقتضته الضرورة ، أو الحاجة فلا يأثم بقتله(3).
5 ـ عدم التحريق والاغراق وقطع الأشجار ونحوها إلاّ إذا اقتضتها ضرورة الحرب ، أو يترتب على ذلك الإقلال من إراقة الدماء .
6 ـ عدم استعمال أسلحة الدمار الشامل التي يترتب عليها أضرار بغير المقاتلين من النساء والأطفال والحيوانات والأجيال اللاحقة ، حيث الأدلة الشرعية على عدم جواز ذلك متضافرة من الكتاب والسنة .
وقد نص بعض الفقهاء منهم المالكية على عدم جواز استعمال السمّ على الأعداء(4).
7 ـ عدم قتل الحيوانات ، وقد كانت وصية أبي بكر لمن يرسلهم إلى القتال : (لا تعقرن شاةً ولا بعيراً إلاّ لمأكله)(5).
8 ـ عدم الاضرار بالبيئة بقدر الإمكان من عدم قطع الشجر ونحوه إلاّ إذا اقتضته ظروف الحرب ، حيث جاء في وصية أبي بكر رضي الله عنه : (لا تحرقن شجراً ، ولا تقطعن شجراً مثمراً)(6).
__________
(1) يراجع : النتف للسغدي (2/710) ونهاية المحتاج (8/64)
(2) سورة لقمان/ الآية (15)
(3) كتاب السير الكبير ،ط.مطبعة الاعلانات الشرقية (1/106)
(4) مواهب الجليل (3/352)
(5) معرفة السنن للبيهقي (13/249)
(6) المرجع السابق(1/33)
9 ـ الأمان والاستجارة ، حيث أعطى الإسلام الحق لكل مؤمن أن يعطي حق الأمان لأي كافر من حيث المبدأ ، حيث ذكرنا من الأحاديث والآثار الدالة على ذلك منها قوله صلى الله عليه وسلم : (ويسعى بذمتهم أدناهم)(1)وقد قال الله تعالى : (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره....)(2). وقد أفاض الإمام محمد الشيباني في هذا الموضوع إفاضة رائعة(3).
10 ـ الصلح والهدنة ـ حيث ذكرنا أهمية ذلك في نظر الإسلام،وتطبيقه في صلح الحديبية.
ثالثاً : في حالة انتهاء المعركة وانتصار المسلمين ، يتدخل الإسلام في كيفية التعامل مع المهزومين وبالأخص مع الأسرى :
حيث يأمر بالإحسان إليهم ، وتوفير حاجياتهم الأساسية من المأكل والمشرب والمسكن ،حيث جعل الله تعالى إطعام الطعام للأسير من أفضل القربات إلى الله تعالى فقال تعالى : (ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتمياً وأسيراً إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً )(4)، وكذلك يتدخل الإسلام بفرض إكرام جثث القتلى بدفنهم ،و عدم جواز أخذ المقابل للتسليم ، أو الدفن أو نحوهما .
ومن أروع الأمثلة في هذا المجال موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من أهل مكة الذين أذوه وعذبوا أصحابه ،وفعلوا ما فعلوا طوال أكثر من عشرين سنة ، ومع ذلك لم يلجأ إلى الشماتة والتشفي ، بل قال لهم قولته المعروفة :(اذهبوا فأنتم الطلقاء) .
المبادئ الإسلامية والقانون الدولي الإنساني :
يقصد بالقانون الدولي الإنساني : مجموعة القواعد والمبادئ التي تضع قيوداً على استخدام القوة في وقف النزاع المسلح وذلك من اجل :
1 ـ الحد من الآثار التي يحدثها العنف على المقاتلين بما يتجاوز القدر اللازم الذي تقتضيه الضروريات الحربية .
__________
(1) سبق تخريجه
(2) سورة التوبة/ الآية (6)
(3) السير الكبير (2/420)
(4) سورة الإنسان/ الآية (9)(1/34)
2 ـ تجنيب الأشخاص الذين لا يشتركون بشكل مباشر في الأعمال الحربية(1).
ومصطلح القانون الدولي الإنساني حديث النشوء حيث استخدم أول مرة من جانب اللجنة الدولية للصليب الأحمر في الوثائق التي قدمتها إلى مؤتمر الخبراء الحكوميين الذي عقد في دورته الأولى بجنيف عام 1971 والسبب في استخدام هذا المصطلح الجديد هو إبراز الطابع الإنساني الخالص للقواعد الحربية(2).
ولم نجد في الفقه الإسلامي هذا المصطلح ، ولا مصطلح القانون الدولي ، ولكن كما رأينا أن ا لفقه الإسلامي قد سبق القوانين الوضعية بوضع الأسس والمبادئ للعلاقات الدولية والقانون الدول الإنساني ، ولكنه استعمل مصطلح الجهاد ، أو السير ، وكان للأئمة الكرام ، وبالأخص الإمام محمد بن حسن الشيباني المولود في 132هـ والمتوفى في 189هـ الذي ألف سفراً عظيماً في خمسة أجزاء في السير أو بعبارة دقيقة في القانون الدولي ،والقانون الدولي الإنساني ، حيث يعتبر أول رائد من رواد التأليف في القانون الدولي ، حيث سبق بكتابه هذا غروسيوس الهولندي 1583 – 1645م الذي سمي أبا القانون الدولي في عصره .
ومن الإنصاف أن نقول : إن علماء القانون الدولي والمشتغلين به في مختلف بلاد العالم أسسوا جمعية في غوتنجن بألمانيا باسم : (جمعية الشيباني للحقوق الدولية) وانتخب لرئاستها في وقته الفقيه القانوني المصري الدكتور عبدالحميد بدوي ، كما انتخب الدكتور صلاح الدين منجد الذي حقق كتاب السير الكبير للشيباني(3).
__________
(1) أ.د.جعفر عبدالسلام : القانون الدولي الإنساني ، بحث منشور في مجلة كلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر ، العدد الثاني 1406هـ ص 166
(2) المرجع السابق
(3) مقدمة مدير معهد المخطوطات بالقاهرة لكتاب السير الكبير ، ط.شركة الاعلانات الشرقية 1971 (1/3)(1/35)
فالقانون الدولي الإنساني هو مجموعة من المبادئ والأعراف والإجراءات التي توفر الحماية لفئات معينة في حالات الحرب والصراعات المسلحة ، وبالتالي فهو يشمل :
1 ـ قانون لاهاي الذي اقر عام 1899 ،1907م والذي ينظم حقوق وواجبات المقاتلين عند وقوع الحرب.
2 ـ قانون جنيف الذي يستهدف نحو توفير الحماية والمعاملة الإنسانية للمدنين الذين لا يشاركون في الحرب ، حيث يشمل على اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949م الخاصة بضحايا الحرب والبروتوكلين المضافين إليها اللذين أقرا في جنيف عام 1977(1).
وهذه الاتفاقيات تستهدف حماية حقوق الإنسان في حالة الحرب ، وحماية المدنين ، وأن تكون الحرب نفسها مشروعة ، وهكذا ، وقد رأينا علاج الإسلام في هذه المجالات . والله الموفق
__________
(1) د.عبدالغني محمود : القانون الدولي الإنساني ، ص 5(1/36)
الإجارة على منافع الأشخاص
ـ دراسة فقهية مقارنة ـ
في الفقه الإسلامي ، وقانون العمل
بقلم
أ . د . علي محيى الدين القره داغي
أستاذ بكلية الشريعة بجامعة قطر
والحائز على جائزة الدولة ، والخبير بالمجامع الفقهية
وعضو المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث
ورئيس لعدد من الهيئات الشرعية للمؤسسات المالية الإسلامية
بحث مقدم
للدورة الثامنة عشرة للمجلس - باريس
جمادى الثانية/ رجب 1429 هـ / يوليو 2008 م
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيدنا وحبيبنا وقدوتنا محمد المبعوث رحمة للعالمين ، وعلى اخوانه من الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله الطيبين ، وصحبه الميامين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
وبعد
فإن الإجارة بنوعيها ( الإجارة على الأعيان والإجارة على عمل الأشخاص ) تعتبر اليوم من أهم الصيغ الاستثمارية والتمويلية لدى المؤسسات المالية الإسلامية ، وهي كذلك من أهم المنتجات المرنة للأدوات المالية ، حيث تصاغ منها صكوك الإجارة التي تعتبر من أنجح الأوراق المالية وأكثرها مرونة وقدرة على استيعاب متطلبات العصر .
كما أن الإجارة على الأشخاص هي العقد الأساس الذي انبثق منه عقد العمل ، وقانونه الذي ينظم العلاقة بين صاحب العمل ، والعمال ، بل إن جميع الموظفين والمستخدمين في دوائر الدولة ، وفي الشركات والمؤسسات ، والجمعيات وغيرها هم أُجراء في نظر الشرع تطبق عليهم قواعد الإجارة وضوابطها ، وأحكامها .
ومن هنا تأخذ الإدارة على عمل الأشخاص أهمية قصوى في حياتنا اليومية ، ومختلف الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية .
ونحن في هذا البحث نحاول بحث هذا الموضوع على ضوء أحكام الفقه الإسلامي ، وبعض قوانين العمل في الدول العربية ، وخصوصاً الخليجية مبتدءاً بتعريف عقد الإجارة على عمل الأشخاص ، وأركانه ، وشروطه ، وكل ما يدور حوله بقدر ما تسمح به طبيعة البحث .(1/1)
والله تعالى أسأل أن يلهمنا الصواب ، ويعصمنا من الزلل والخلل في العقيدة والقول والعمل ، إنه حسبنا ومولانا ، فنعم المولى ونعم الموفق والنصير .
كتبه الفقير إلى ربه
علي محيى الدين القره داغي
الدوحة / غرة ربيع الأول 1427هـ
? من مشكاة القرآن الكريم :
قال الله تعالى :
{ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ } سورة القصص الآية 26
? ومن مشكاة السنة النبوية المطهرة :
قول النبي صلى الله عليه وسلم
{ أعطوا الأجير أجرهُ قبل أن يجفَّ عرقه } رواه ابن ماجه ، والبيهقي وغيرهما بسند صحيح
التعريف بالعنوان :
الشائع استعمال عقد الإجارة على الأشخاص ، وهناك مصطلح آخر يستعمله الفقهاء ،وهو عقد إجارة الأشخاص ، أو عقد الإجارة على العمل ، أو على منافع الأشخاص .
والمصطلحات الثلاثة وإن كانت صحيحة ، ولكن الأدق منها هو الأخير ، وهو عقد الإجارة على العمل أو منفعة الشخص وأن التحقيق أن العمل هنا هو منفعة الشخص ، إذ أن عقد الإجارة لا يرد على الشخص بذاته ، وإنما يرد على عمله ، وهذا هو رأي جمهور الفقهاء الحنفية والمالية وأكثر الشافعية ، والحنابلة(1)في حين ذهب بعض الشافعية إلى أن محل عقد الإجارة هو العين نفسها ، لأن المنافع معدومة(2)، وذهب ابن تيمية ، وابن القيم إلى أنها ترد على الأعيان المتجددة كلبن المرضعة(3).
الكراء والإجارة :
__________
(1) يراجع لتفصيل هذه المسألة لدى الفقهاء : حاشية ابن عابدين ( 6/54) ودرر الحكام (1/381) وبلغة السالك (2/365) وفتح القدير بهامش المجموع (12/181) والمغني لابن قدامة (2/333)
(2) فتح العزيز ( 12/181)
(3) مجموع الفتاوى لابن تيمية (20/551) و إعلام الموقعين (1/454) ويراجع : د.شرف بن علي الشريف : الإجارة على عمل الأشخاص ط. دار الشروق السعودية 1400هـ ص 47-50(1/2)
ومن حانب آخر فإن الإجارة على عمل الأشخاص هو أحد نوعي الإجارة عند جمهور الفقهاء(1)في حين خصص المالكية لفظ الإجارة للإجارة على عمل الأشخاص ، وعبروا عن الإجارة الواردة على الأعيان بالكراء ، فقالوا : الإجارة تطلق على منافع من يعقل ، وأن الكراء يطلق على العقد الوارد على من لا يعقل ، ونحن هنا نختار هذا العنوان ، وهو عقد الإجارة على عمل أو منافع الأشخاص ، ونعرف بكلماته الأربع :
التعريف بالعقد :
لغة : بمعني الشدّ والربط ، والعهد ونحوها(2).
وفي الاصطلاح : له معنيان عام وخاص ، بمعناه العام : هو كل تعهد يلتزم به الإنسان سواء أكان له مقابل أم لا وسواء أكان التزاماً دنيوياً أم دينياً ، وهذا ما فسر به قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )(3)أي العهود والواجبات كلها .
أما معناه الخاص : فهو الالتزام الناشئ عن ارتباط الإيجاب بالقبول(4).
التعريف بالإجارة :
لغة : الإجارة ( بالكسر وهو المشهور ، وجاز فيها الضم والفتح ) اسم للأجرة ، وهي عوض المنفعة والعمل ، ونقل عن المبرد أنها مصدر أجر إجاراً ، وإجارة(5).
__________
(1) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ط. مؤسسة التأربخ العربي (4/31) وحاشية الدسوقي (4/81) وحاشية القليوبي وعميرة على المحلى (3/81) والمغني مع الشرح الكبير (6/41)
(2) يراجع : القاموس المحيط ، ولسان العرب ، والمعجم الوسيط مادة ( عقد )
(3) سورة المائدة / الآية 1 ويراجع : تفسير الطبري
(4) يراجع لمزيد من التفصيل : رسالتنا الدكتوراه ط.دار البشائر الإسلامية / بيروت (1/11-134) ومصادره المعتمدة
(5) يراجع : القاموس المحيط ، ولسان العرب ، والمعجم الوسيط مادة ( أجر )(1/3)
وفي الاصطلاح الفقهي خصصها المالكية بالعقد الوادر على منافع الإنسان ، أما العقد الوارد على الحيوان والدور والسفن فيسمونه : الكراء(1)، وأما الجمهور فيقولون هي : عقد وارد على تمليك منفعة سواء كانت للأعيان ، أم للأشخاص(2).
التعريف بالعمل والمنفعة :
العمل لغة : هو الفعل(3)... والمراد بها هنا هو الفعل الصادر من الإنسان ، سواء كان من أعمال الجوارح ، أم اللسان ، ويدخل فيه العمل الذهني والفكري الذي يخرج من دائرة الذهن إلى دائرة القول ، أو الكتابة .
والمنفعة لغة : هي كل ما ينفع به ويستفاد منه ، وجمعها : منافع ، والنفع : الخير ، وما يتوصل به الإنسان إلى مطلوبه(4).
التعريف بالأشخاص :
الأشخاص جمع شخص ، وهو في حقيقته هو الإنسان وحده ، ولكن اليوم يطلق عليه وعلى الشخص المعنوي ، حيث اعترفت القوانين المعاصرة بالشخصية الاعتبارية للشركات والمؤسسات ، وأثبتت لها ذمة مالية مستقلة عن ذمم الشركاء والمسؤولين ، وكذلك اعترف بها الفقهاء المعاصرون والمجامع الفقهية(5)، وبالتالي فإن المراد بالأشخاص هنا ، وفي بقية العقود هي الأشخاص الطبيعيون ، والأشخاص المعنويون ( الاعتباريون ، والقانونيون ) وحينئذ يجوز التعامل مع الشركات التي لها شخصية معنوية بعقد الإجارة ، ويمثلها أحد الأشخاص الطبيعيين ، ولذلك فكل ما نذكره في هذا البحث يشمل النوعين إلاّ ما يخص الإنسان ، ولا يتجاوزه إلى الشخص المعنوي مثل ما يخص عوارض الأهلية ونحوه .
__________
(1) حاشية الدسوقي (4/2)
(2) يراجع : كشف الحقائق (2/151) وحاشية ابن عابدين (5/2) والأم (3/250) والمغني لابن قدامة
(3) يراجع : القاموس المحيط ، ولسان العرب ، والمعجم الوسيط مادة ( عمل )
(4) المصادر السابقة ، مادة ( نفع )
(5) يراجع للشخصية المعنوية : د. السنهوري : الوسيط ط. دا رالنهضة بالقاهرة (5/196) ، ود. علي القره داغي : مبدأ الرضا في العقود (1/349-358) ومصادره المعتمدة(1/4)
الخلاصة مع المقارنة بالقانون :
إن المراد بعقد الإجارة على عمل الأشخاص في الفقه الإسلامي هو التزام صادر ، هو العقد الوارد على منفعة شخص في مقابل أجر معلوم .
وهو في تطبيقاته المعاصرة يشمل تقديم الخدمات الطبية ، والتعليمية ، ونحوها لمن يحتاج إليها عن طريق التمويل بالمرابحة في المنافع .
وأما القوانين فتطلق على هذا العقد عقد العمل ، أو نظام العمل في النظام السعودي ، حيث عرفه بأنه : عقد مبرم بين صاحب العمل ، وعامل ، يتعهد الأخير بموجبه ان يعمل تحت إدارة صاحب العمل ، أو إشرافه مقابل أجر ،ويتضمن شروط العمل المتفق عليها بينهما ، وذلك لمدة محددة ، أو غير محددة ، أو من أجل القيام بعمل معين(1).
وهذا الاختلاف في المسمى لدى القوانين ، وما ذكرناه من تخصيص المالكية الإجارة لعمل الإنسان يدخل ضمن الاختلاف في المصطلحات التي لا مشاحة فيها ، وإن كانت التسمية الفقهية أدق ، وذلك لأن لفظ ( العمل ) أعمّ من العمل الخاص بعقد إجارة الأشخاص ، وأن العامل في الاصطلاح الشرعي يطلق على المشرف على جمع الزكاة فقال تعالى : ( ..وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا ....)(2)وعلى جميع الأعمال الشاملة للدنيا والآخرة ، وعلى المضارب ، والعامل في المساقاة ، والمزارعة ، ولذلك فالأجير أدق من العامل .
استبعاد العقود التي لها علاقة بالموضوع ، ولكنها غير داخلة في أصل الماهية :
__________
(1) الوسيط للنسهوري ، ونظام العمل والعمال السعودي ص 23 ، مادة 70
(2) سورة التوبة / الآية 60(1/5)
هناك مجموعة من العقود والمصطلحات لها علاقة قوية باستئجار الأشخاص ، مثل عقد المقاولة ، وعقد الاستصناع ، وعقد النقل البحري ، وعقد النقل الجوي ، وعقد العمل في القانون ، فنحن نستبعد هذه العقود عن موضوعنا سوى عقد العمل ، لأننا نقصد بعقد الإجارة على الأشخاص : الإجارة الخالصة الواردة على العمل فقط دون أي التزام آخر مثل الالتزام بالصنعة ، أو المواد أو بتأجير منفعة العين معه ، أو نحو ذلك في حين أن هذه العقود سوى عقد العمل لا تخلو من ذلك .
مشروعية عقد الإجارة على الأشخاص :
يدل على مشروعية الإجارة على الأشخاص الأدلة المعتبرة من الكتاب والسنة والاجماع ، والمصالح :
أولاً ـ الكتاب :
وإذا نظرنا إلى القرآن الكريم لوجدنا أن جميع الآيات الواردة في شأن الإجارة تخص الإجارة على الأشخاص والعمل ، وهي :
1ـ قوله تعالى : ( فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ )(1)وجه الاستدلال بهذه الآية واضح ، وهو أن الله تعالى أمر إعطاء الأجر للمرضعة على عمل الرضاعة ، وهذا يدل على مشروعية ذلك ، ووجوب الالتزام بدفع الأجر في مقابل العمل في الإجارة ، يقول الإمام الشافعي : ( فأجاز الإجارة على الرضاع ، والرضاع يختلف لكثرة رضاع المولود وقلته ، وكثرة اللبن وقلته ، ولكن لما لم يوجد فيه إلاّ هذا جازت الإجارة عليه ، وإذا جازت عليه جازت على مثله ، وما هو في مثل معناه ، وأحرى أن يكون أبين منه .... )(2).
__________
(1) سورة الطلاق / الآية 6 ويراجع : جامع البيان للطبري ، تحقيق محمود شاكر ط. دار ابن حزم ودار الاعلام (28/181)
(2) الأم ط. دار الباز ( 3/250)(1/6)
ويقول أيضاً في تفسير الآية السابقة : ( ففي كتاب الله عزوجل ثم في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بيان : أن الإجارات جائزة على ما يعرف الناس ، إذ قال : ( فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ )(1)والرضاع يختلف : فيكون صبيّ أكثر رضاعاً من صبيّ ، وتكون امرأة أكثر لبناً من امرأة ، ويختلف لبنها فيقلّ ويكثر ، فتجوز الإجارات على هذا ، لأنه لا يوجد فيه أقرب مما يحيط العلم به : من هذا .... )(2).
2ـ قوله تعالى : ( وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ )(3)فهذه الآية الكريمة تدل على رفع الحرج والجناح على من يستأجر امرأة لارضاع ولده بالأجر ، قال سفيان : (( إذا سلمتم إلى المسترضعة ( وهي الظئر) أجرها بالمعروف))(4)، وفي ذلك دليل على مشروعية إجارة الأشخاص .
3ـ قوله تعالى : ( نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)(5)والمراد بقوله تعالى ( سخرياً ) أي مسخراً بعضكم لبعض بالعمل والخدمة ، قال الرازي : ( أي : إنا فعلنا ذلك لأننا لو سوينا بينهم في كل هذه الأحوال لم يخدم أحد أحداً ، ولم يصر أحد منهم مسخراً لغيره ، وحينئذ يفضى ذلك إلى خراب العالم وفساد نظام الدنيا )(6)فهذه الآية تشير إلى أهمية الإجارة ونحوها في تعمير الأرض ، وتحقيق وظيفة الاستخلاف في الأرض .
__________
(1) سورة الطلاق / الآية 6
(2) أحكام القرآن للشافعي ط. دار الباز للنشر والتوزيع ( 1/263-264)
(3) سورة البقرة / الآية 233
(4) تفسير ابن عطية ( المحرر الوجيز ) ط. قطر 1401هـ (2/299)
(5) سورة الزخرف / الآية 32
(6) التفسير الكبير ط. دار احياء التراث العربي (27/209-210)(1/7)
4ـ قوله تعالى : ( قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ)(1)فهذه الآية واضحة أيضاً في الدلالة على جواز الاستئجار على العمل ، وذلك لأن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ(2)، وعقد البخاري باباً خاصاً ترجم له : باب إذا استأجر أجيراً فبين له الأجل ، ولم يبين له العمل لقوله تعالى : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ )(3).
يقول الحافظ ابن حجر : ( وقد احتج الشافعي بهذه الآية على مشروعية الإجارة )(4)وقال البيهقي : ( قال الشافعي : فذكر الله أن نبياً من أنبيائه أجر نفسه حججاً مسماة ملك بها بضع امرأة ، فدل على تجويز الإجارة )(5).
__________
(1) سورة القصص / الآية 26-28
(2) أحكام القرأن لابن العربي ط. دار المعرفة ببيروت ، تحقيق على البجاوي (3/1468)
(3) صحيح البخاري ـ مع فتح الباري ـ ط. السلفية ، القاهرة (4/444) والآية هي 27-28 من سورة القصص
(4) فتح الباري (4/444)
(5) السنن الكبرى ط. العثمانية الهندية 1352هـ (6/116)(1/8)
5ـ قوله تعالى في قضية موسى مع عبدالله ( الخضر ) : ( ...... قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً)(1)حيث يدل بوضوح على جواز أخذ الأجر على العمل ، وبالتالي مشروعية الإجارة ،وهذا يدخل في أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ .
وقد ترجم البخاري لهذه الآية فقال : ( باب إذا استأجر أجيراً على أن يقيم حائطاًَ يريد أن ينقض ، جاز ) ثم روى بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : حدثني أبيّ بن كعب قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فانطلقا فوجدا جداراً يريد أن ينقض) قال سعيد بيده هكذا ، ورفع يده فاستقام .... ( لو شئت لاتخذت عليه أجراً ) قال سعيد : أجرنا كله)(2).
ثانياً ـ السنة النبوية المشرفة :
هناك أحاديث كثيرة تدل على جواز الإجارة ، حتى عقد البخاري كتاباً سماه : كتاب الإجارة ، تضمن 22 باباً ، واشتمل على ثلاثين حديثاً مرفوعاً ، المعلق منها خمسة ، والبقية موصولة ، ووافقه مسلم على تخريجها سوى حديث أبي هريرة في رعي الغنم ، وحديث ( المسلمون عند شروطهم) وحديث ابن عباس : ( أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله ) وحديث ابن عمر في النهي عن عسب الفحل ، وفيه من الآثار عن الصحابة والتابعين ثمانية عشر أثراً(3).
وقد بدأ البخاري رحمه الله بباب : استئجار الرجل الصالح ، ثم باب : رعي الغنم على قراريط ، وباب : استئجار المشركين عند الضرورة او إذا لم يوجد أهل الإسلام ، وباب : إذا استأجر أجيراً ليعمل له بعد ثلاثة أيام ، أو بعد شهر ، أو بعد سنة ، جاز ، وهما على شرطهما الذي اشترطاه إذا جاء الأجل ، وباب : الأجير في الغزو ، وباب : إذا استأجر أجيراً فبين له الأجل ، ولم يبين العمل ، وهكذا(4).
__________
(1) سورة الكهف / الآية 77
(2) صحيح البخاري ـ مع فتح الباري ـ ( 4/445)
(3) فتح الباري (4/463)
(4) صحيح البخاري ـ مع الفتح ـ (4/439-463)(1/9)
وخصص كذلك أبو داود كتاباً للإجارة ، فبدأه بباب : في كسب المعلم ، وباب في كسب الأطباء ، وباب في كسب الحجام .....(1)، كما أن بقية كتب السنة المشرفة لم تغفل الأحاديث الوارد في الإجارة إما ضمن كتاب البيوع ، أو نحوه .
ونحن هنا نذكر بعض الأحاديث الخاصة الدالة على مشروعية الإجارة على الأشخاص منها :
1ـ حديث عائشة رضي الله عنها في قضية الهجرة ، حيث قالت : ( واستأجر النبي صلى الله عليه وسلم وأبوبكر رجلاً من بني الدّيل ( اسم قبيلته ) هادياً خريتاً ( أي ماهراً ) وهو على دين كفار قريش... )(2).
2ـ حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( قال الله تعالى : ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة :...... ، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره)(3).
3ـ حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ما بعث الله نبياً إلاّ رعى الغنم ، فقال أصحابه : وأنت ؟ فقال : نعم ، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة)(4).
4ـ حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله ...... )(5)وكذلك حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بشأن الرقية في مقابل قطيع من الغنم(6).
__________
(1) سنن أبي داود ، إعداد وتعليق الدعاس ، وعادل السيد ، نشر : محمد علي السيد ، حمص 1971 ( 3/701 وما بعدها )
(2) رواه البخاري في صحيحه ـ مع الفتح ـ كتاب الإجارة (4/443)
(3) رواه البخاري في صحيحه ـ مع الفتح ـ كتاب البيوع ( 4/417) وكتاب الإجارة (4/447)
(4) صحيح البخاري ـ مع الفتح ـ كتاب الإجارة (4/441)
(5) صحيح البخاري ـ مع الفتح ـ (4/452 – 453)
(6) صحيح البخاري ـ مع الفتح ـ ( 4/453)(1/10)
5ـ حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام أجره)(1)، حيث يدل بوضوح على إجارة الأشخاص حتى ولو كانت الإجارة حجامة .
6ـ حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أعطوا الأجير أجره قبل أن يجفّ عرقه)(2).
ثالثاً ـ الاجماع :
وقد انعقد على جواز الإجارة الاجماع في عهد الصحابة ، والتابعين ، وأصحاب المذاهب المعتبرة إلاّ ما روى عن بعض المتأخرين كأبي بكر الأصم ، وابن عليّة حيث قالا بعدم جوازها لما فيها من غرر ، وهو خلاف جاء بعد الاجماع فلا يعتدّ به ، قال الكاساني الحنفي : ( وأما الاجماع فإن الأمة أجمعت على ذلك قبل وجود الأصم ، حيث يعقدون عقد الإجارة من زمن الصحابة إلى يومنا هذا من غير نكير ، فلا يعبأ بخلافه إذ هو خلاف الاجماع )(3).
رابعاً ـ المصالح المعتبرة :
لا شك أن جواز الإجارة تحقق مصالح كثيرة للمؤجر والمستأجر وللمجتمع ، حيث الحاجة ماسة إلى مشروعيتها ، وأن مع منعها يترتب عليه حرج شديد يتنافى مع مقاصد الشريعة في رفع الحرج ، حيث يقول الله تعالى : )َ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ )(4)وقال تعالى : ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ )(5).
__________
(1) صحيح البخاري ـ مع الفتح ـ (4/458)
(2) رواه ابن ماجه الحديث 2443 ، والبيهقي في السنن الكبرى (6/121) بروايتين ، وقال الألباني في الارواء (5/320) صحيح
(3) بدائع الصنائع ط. مؤسسة التأريخ العربي ببيروت 1421هـ (4/16)
(4) سورة البقرة / الآية 185
(5) سورة الحج / الآية 78(1/11)
فالناس محتاجون إلى المنافع كحاجتهم إلى الأعيان ، فالفقير محتاج إلى مال الغني والغني محتاج إلى عمل الفقير بل المسألة أشمل من الغني والفقير ، فالمجتمع بصورة عامة محتاج إلى تبادل بين الأموال والأعمال والمنافع ، وهذا لا يتحقق إلاّ من خلال عقد الإجارة بنوعيه الواردين على الأعيان والأشخاص .
طبيعة عقد الإجارة على الأشخاص :
عقد الإجارة عقد من عقود المعاوضات المالية اللازمة للطرفين ، فلا يجوز فسخها بعد انعقادها إلاّ برضا الطرفين عند جماهير الفقهاء ، واستثنى أبو حنيفة وأصحابه حالة عذر طارئ ، حيث يجوز للمكتري فسخ الإجارة للعذر الطارئ على المستأجر ، مثل أن يستأجر دكاناً يتجر فيه فيحترق متاعه أو يسرق(1).
ويترتب على ذلك أن فيه الخيارات الخاصة بالعقود المالية الملزمة من خيار الشرط ، وخيار المجلس عند من يقول به(2).
وعقد الإجارة على الأشخاص عقد مشروع على وفق القياس عند جماعة من الفقهاء ، منهم جماعة من الحنابلة وانتصر له ابن تيمية ، وابن القيم بقوة ، وذهب جماعة منهم الحنفية(3)إلى أنه عقد وارد على غيرالقياس بناءً على أنه عقد وارد على المعدوم وهو المنفعة(4).
والراجح أن عقد الإجارة عقد جار وفق القياس ، وليس استثناءً ، وذلك لورود أدلة خاصة من الكتاب والسنة بمشروعيته .
أنواع الإجارة على عمل الأشخاص :
التقسيم الأول باعتبار محلها : تقسم الإجارة على الأشخاص باعتبار محلها إلى نوعين هما : الإجارة على منفعة شخص يختص بالمستأجر ، والإجارة على عمل شخص ليس مختصاً بالمستأجر فقط .
__________
(1) الفتاوى الهندية (4/410) والشرح الكبير مع الدسوقي (4/2) والروضة( 5/173) والمغني لابن قدامه مع الشرح الكبير(6/20-21)
(2) يراجع المصادر السبابقة
(3) كشاف القناع (3/547) ومجموع الفتاوى (300/198) وإعلام الموقعين (1/454) ويراجع : د.شرف الشريف : المرجع السابق ص 44
(4) تبيين الحقائق (5/105)(1/12)
النوع الأول : الإجارة على شخص خاص : وهي الإجارة التي يقتضي تنفيذها تسليم الأجير نفسه للمستأجر ليعمل عنده مدة من الزمن ، وذلك مثل أن يتم العقد بينهما على أن يعمل له الخياطة ، أو التجارة ، او السباكة ، أو الخدمة ، أو الإدارة لمدة شهر مثلاً .
فالعقد هنا يحدد أجيراً بذاته فيسلم نفسه إلى صاحب العمل ( المستأجر ) فيعمل لديه لأي عمل مشروع خلال زمن محدد ، وهو ما يسمى الأجير الخاص الذي لا يعمل إلاّ للمستأجر ، كالخادم والموظف ، وأنه يستحق الأجرة بمضي المدة بعد تسليم نفسه إليه .
النوع الثاني : الإجارة الواردة على عمل شخص ليس مختصاً بالمستأجر : وهذا ما يسمى الأجير المشترك أو الأجير العام ، لأنه ليس خاصاً بصاحب العمل ، حيث إن التزامه ينحصر في إكمال العمل الذي طلب منه على الوجه المطلوب ، فهو لا يسلم نفسه إلى المستأجر ، بل يبقى في محله ، كما أنه يتقبل الأعمال من الآخرين(1).
فالمعيار الممّيز في الأجير الخاص والعام هو أن الأجير الخاص عليه أن يسلم نفسه لصاحب العمل ( فرداً أو جماعة أو مؤسسة أو شركة ) ، وأن يحدد له مدة معينة يكون لصاحب العمل الحق في الانتفاع به دون غيره ، وأنه إذا لم يكلف بعمل ، أو لم ينجز العمل دون تقصير فإنه يستحق الأجر المتفق عليه ، فالعقد وارد على الشخص نفسه أصلاً ليقوم بعمل ما ، فيكون العمل تبعاً ، ولكن على الأجير أن لا يصرف من وقته المحدد في عقد الإجارة إلى غير المستأجر .
__________
(1) يراجع في موضوع الأجير الخاص والأجير الشترك : بدائع الصنائع (4/189) والهداية (3/245) والشرح الكبير مع الدسوقي (4/81) وحاشية القليوبي وعميرة على المحلى (3/81) والمغني مع الشرح الكبير (6/41) ود.شرف الشريف ، المرجع السابق ص 59-60 والموسوعة الفقهية الكويتية (1/288)(1/13)
وأما الأجير المشترك فالمعيار فيه هو إتمام العمل المطلوب دون تسليم نفسه إلى صاحب العمل ، وأن صاحب العمل لا يختص به ، فالعقد وارد أصلاً على العمل وليس على الشخص مباشرة ، ولذلك لا يستحق الأجرة إلاّ باتمام العمل وتسليمه إلى صاحب العمل .
التقسيم الثاني باعتبار التعيين ، أو ما في الذمة حيث تقسم الإجارة على الأشخاص إلى نوعين :
النوع الأول : الإجارة الواردة على شخص معين ، وهي التي يلتزم فيها العاقدان بان يكون محل العقد منفعة شخص معين مثل أن يقول المستأجر في الإجارة الخاصة : أجرت زيداً لعمل كذا لمدة كذا ، وكقصة سيدنا موسى عليه السلام ، وفي الإجارة المشتركة يقول : أجرتك أيها الخياط لخياطة هذا الثوب ، قال النووي : ( وكمن استأجر شخصاً بعينه لخياطة ثوب)(1).
النوع الثاني : الإجارة الواردة على الذمة وهي ما يكون محل العقد منفعة موصوفة في الذمة ، وصفاً تنتفى به الجهالة ، وذلك بأن يقول في الإجارة الخاصة ، لزيد ـ مثلاً ـ اتفقت معك على أن تقوم بتخصيص شخص مواصفاته كذا ليقوم بخدمتي أو تطبيبي لمدة سنة بمبلغ كذا ، أو لإجراء عملية جراحية ، أو لتعليم شخص في تخصص كذا ، يكون الأجرة لكل فصل ، أو سنة كذا ، وهكذا : وحينئذ يجوز أن يقوم زيد بهذا الواجب ، أو أي شخص آخر تتوافر فيه المواصفات المطلوبة ، قال النووي : ( وواردة على الذمة كمن استأجر دابة موصوفة للركوب ، أو الحمل ، أو قال : ألزمت ذمتك خياطة هذا الثوب ، او بناء الحائط..... )(2).
والمثال للإجارة المشتركة أن يقول المستأجر : ألزمت ذمتك خياطة هذا الثوب ، أو أن يقول لزيد ـ مثلاً ـ : اتفقت معك على خياطة هذا الثوب ، حسب المواصفات المبينة.
__________
(1) الروضة ( 5/173)
(2) المصدر السابق (5/173-174)(1/14)
فالمعيار في التفرقة بين النوعين هو أن النوع الأول وارد على معين ، ولذلك لا يستبدل بشخص آخر كما أنه يبطل بموت الأجير ، أو فقدانه الأهلية ، في حين أن النوع الثاني وارد على شيء موصوف في الذمة ، فكيفما يتحقق العمل المطلوب حسب المواصفات فقد برأت ذمة الأجير ( خاصاً كان أو عاماً )(1)كما أنه لا يبطل بموته ، ولا بفقدان أهليته .
أحكام الإجارة الواردة على الذمة :
لم يفصل الفقهاء في هذا النوع ، ولذلك نحاول جمع شتاته بقدر الإمكان بادئين بذكر بعض نصوص الفقهاء ، يقول الإمام العمراني الشافعي : ( وما عقد من الإجارة على منفعة في الذمة ،، فيجوز أن تكون المنفعة حالّة ، ............... ، مثل : أن يقول : استأجرتك على تعجيل خياطة هذا الثوب حالاً ، ويجوز أن تكون المنفعة مؤجلة مثل أن يقول : استأجرتك على تحصيل خياطة هذا الثوب إلى أول شهر كذا ، لأن المنفعة في الذمة كالمسلَم فيه ، والمسلَم فيه يصح أن يكون حالاً ومؤجلاً ، وإن أطلق ذلك اقتضى الحلول ، كما قلنا في السلم إذا لم يذكره مؤجلاً .
وتنعقد هذه الإجارة بلفظ السلَم ، فيقول : أسلمت إليك ديناراً في ذمتي ، أو هذا الدينار بمنفعة ظَهْر ، من صفته كذا وكذا ، لأركبه إلى بلد كذا وكذا ،وتنعقد بلفظ الإجارة ، بأن يقول : أجّرني ظهراً من صفته كذا وكذا ، لأركبه إلى موضع كذا .
__________
(1) المصادر السابقة ، ويراجع : الروضة (5/174)(1/15)
وسئل الشيخ أبو حامد عمّن قال : استأجرت منك ظهراً في ذمتك ، من صفته كذا وكذا ، لأركبه شهراً ، أتسلّمه إلى أول الشهر الفلاني غير متصل بالعقد ؟ فتوقف ، وقال : أنا أنظر فيه ، فقال بعض أصحابه : عندي أنه يجوز ، لأن المنفعة في هذه الإجارة يصح أن تقدّر بالمدة والعمل ، فلما جاز أن تتقدر بالعمل ، جاز أن تتقدر بالمدة ، ولا يجوز أن تكون الأجرة هاهنا مؤجلة ؛ لـ : (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الكالئ بالكالئ) و( الكالئُ بالكالئِ ) : هو بيع النسيئة بالنسيئة ، ولأن هذه الإجارة في معنى المسلم فيه ، ورأس مال السلم لا يصح أن يكون مؤجلاً ، وهل يشترط هاهنا قبض الأجرة في المجلس قبل أن يتفرقا ؟ ينظر فيه : فإن عَقدَ الإجارة بلفظ السلم ... اشترط قبض الأجرة قبل أن يتفرقا ، كما قلنا في السلم .
وإن عقد بلفظ الإجارة .. فيه وجهان :
أحدهما : لا يشترط قبضه في المجلس قبل التفرق اعتباراً باللفظ .
والثاني : يشترط قبضه قبل التفرق ، وهو اختيار الشيخ أبي اسحاق اعتباراً بالمعنى ، ومثل هذين الوجهين الوجهان في قبض رأس مال السلم في المجلس إذا عقد السلم بلفظ البيع ، وقد مضى ذكرهما )(1).
ويقول ابن قدامة : ( ولا يجب تسليم أجرة العمل في الذمة حتى يتسلمه إذا استؤجر على عمل ) وجاء في الانصاف النص على أنها تملك بالعقد أيضاً ، ولكن لا يستحق تسلمها إلاّ بفراغ العمل ، وتسليمه لمالكه على الصحيح من المذهب ، وعليه جماهير الأصحاب(2).
__________
(1) البيان في مذهب الإمام الشافعي ط. دار المنهاج بجدة (7/334-335)
(2) الشرح الكبير المطبوع مع المقنع والانصاف بتحقيق أ.د. عبدالله بن عبدالمحسن التركي (14/508)(1/16)
وقال ابن مفلح : ( والإجارة أقسام : ... إجارة عين موصوفة في الذمة فيشترط صفات السلم ، ومتى غصبت أو تلفت أو تعبت لزمه بدلها ، فإن تعذر فللمشتري الفسخ ..... وعقد على منفعة في الذمة في شيء معين ، أو موصوف كخياطة ، ويشترط ضبطه بما لا يختلف .... )(1).
وقد فصل المنهاجي الأسيوطي الشافعي تفصيلاً جيداً ، ورتب له صورة عقد حسب ما كان الشائع في عصره ، فقال : ( ويشترط في الإجارة في الذمة تسليم الأجرة في المجلس ، كتسليم رأس مال السلم في المجلس ، وفي إجارة العين لا يشترط ، ويجوز في الأجرة التعجيل والتأجيل إن كانت في الذمة )(2).
وقال : ( وفي الإجارة في الذمة لا بدّ من ذكر الجنس والنوع ، والذكورة والأنوثة ، وتبيين قدر السير في كل يوم ........ ولا يشترط معرفة جنس الدابة وصفتها ، إن كانت الإجارة في الذمة ، إلاّ إذا كان المحمول زجاجاً ونحوه ، ولا يجوز الاستئجار للعبادات التي لا تنعقد إلاّ بالنية ، ويستثنى الحج وتفرقة الزكاة ، وكذا الجهاد ، ويجوز لتجهيز الميت ودفنه ، وتعليم القرآن )(3).
ثم ذكر التفاصيل الجيدة فقال : ( وفي إجارة الذمة لا تنفسخ بالتلف ، ولا يثبت فيها الخيار بالعيب ، ولكن على المكري الابدال ...... )(4).
صورة الإجارة الموصوفة في الذمة :
__________
(1) الفروع ط. دار الكتب العلمية / بيروت (4/330-331)
(2) جواهر العقود ومعين القضاء والموقعين والشهود ط. دار الكتب العلمية ببيروت1996 (1/209)
(3) المصدر السابق (1/211)
(4) المصدر السابق (1/212)(1/17)
ثم ذكر صورة الإجارة الواردة على الذمة بتأجيل المنفعة وتعجيل الأجرة : ( وصورة الاجارة الواردة على الذمة بتأجيل المنفعة وتعجيل الاجرة: استأجر فلان من فلان.فأجره نفسه على أن يحمل المستأجر المذكور وزوجته فلانة في زوج محاير عجمي ملبد مغطى بثوب جوخ - ويصف ما يحمله لهما من الاحمال والحوائج خاناه والمواهي والزوامل، وما فيها من القماش والاثاث والزاد والماء، ويضبط كل شئ منها بالوزن، ويذكر الخيمة وآلة الطبخ والكراريز، والدست والصاغرة، والمنصب الحديد والتعاليق، وما فيها من الادهان.وقماش البدن، وما يقيهما من الحر والبرد. ويستوفي الكلام في ذكر ما يحتاج إليه الحاج - ثم يقول: من مدينة كذا، إلى مدينة كذا، ثم إلى مكة المشرفة، ثم إلى عرفات، ثم إلى منى، ثم إلى مكة المشرفة، ثم إلى المدينة الشريفة النبوية، على الحال بها أفضل الصلاة والسلام، ثم إلى الينبوع، ثم إلى العقبة، ثم إلى القاهرة المحروسة، على جمال يقيمها من ماله وصلب حاله، صحبة الركب الشريف السلطاني الشامي - أو المصري، أو الحلبي، أو الكوفي، أو الغزاوي - ذهابا وإيابا، وعلى أن يحمل له في الرجعة من التمر والجوز والشاشات، والازر البيارم، والانطاع والجلود الطائفي وغير ذلك من أنواع الهدية المعتادة كذا وكذا - ويضبط كل نوع منها بتقدير وزن معلوم - إجارة صحيحة شرعية بأجرة مبلغها كذا على حكم الحلول، دفعها المستأجر المذكور إلى المؤجر المذكور بحضرة شهوده. فقبضها منه قبضا شرعيا. وهذه الاجرة يجوز تعجيلها وتأجيلها. ولا بد فيها من اعتراف المؤجر بمعرفة ما عاقد عليه المعرفة الشرعية النافية للجهالة. ثم يقول: وعليه الشروع في السفر من استقبال كذا صحبة الركب الشريف المشار إليه مصحوبا بالسلامة.ويكمل على نحو ما سبق)(1).
__________
(1) جواهر العقود ومعين القضاو والموقعين والشهود ط. دار الكتب العلمية ببيروت1996 (1/220-221)(1/18)
ويقول الأسيوطي : ( الإجارة الواردة على الذمة لا يجوز فيها تأجيل الأجرة ، ولا الاستبدال عنها ، ولا الحوالة بها ، ولا الحوالة عليها ، ولا الابراء ، بل يجب التسليم في المجلس ... ، والأولى أن يورد الإجارة على الذمة في البناء والخياطة ، وتعليم الخط والقراءة والحج ، ويكتب : الزم فلان ذمته أن يخيط لفلان كذا .... )(1).
شروط الإجارة الموصوفة في الذمة :
بالاضافة إلى الشروط العامة للإجارة ، هناك شروط للإجارة الموصوفة في الذمة ، وهي:
1- ذكر الأوصاف التي يتم بها ضبط المنفعة ، وبعبارة الفقهاء استيفاء صفات السلم بحيث ينتفى معها الغرر والجهالة .
__________
(1) المصدر السابق (1/234)(1/19)
2- أن يتم تسليم الأجرة في المجلس إن تم العقد بلفظ السلم ، أما إذا تم بلفظ الإجارة أو نحوها فلا يشترط على وجه للشافعية(1)، ووجه راجح للحنابلة(2)، وقد ذكرنا ما نص العمراني الشافعي عليه ، وجاء في المنهاج مع شرح المحلى للنووي : ( ويشترط في إجارة الذمة تسليم الأجرة في المجلس كرأس مال السلم ، لأنها سلم في المنافع ..... ، ويجوز في الإجارة التعجيل والتأجيل إن كانت في الذمة )(3)حيث يفهم من هذا النص أن الإجارة إن كانت بلفظ السلم فيجب تعجيل الثمن في مجلس العقد ، وإن كانت بلفظ الإجارة فلا يجب ذلك ، ومثل ذلك نجده في المذهب الحنبلي ، حيث جاء في شرح منتهى الارادات : (وشرط استقصاء صفات السلم في موصوفة بذمة ، لاختلاف الأغراض باختلاف الصفات ... وإن جرت إجارة موصوفة في الذمة بلفظ " سلم كأسلمتك هذا الدينار في منفعة عبد صفته كذا وكذا لبناء حائط مثلاً وقبل المؤجر اعتبر قبض أجرة بمجلس عقد لئلا يصير بيع دين بدين واعتبر تأجيل نفع إلى أجل معلوم كالسلم ، فدل على أن السلم يكون في المنافع كالأعيان ، فإن لم تكن بلفظ سلم ولا سلف لم يعتبر ذلك ...)(4)وجاء في الكافي : ( وإن شرطا تأجيلها ـ أي الأجرة ـ جاز إلاّ أن يكون العقد على منفعة في الذمة ، ففيه وجهان : أحدهما يجوز لأنه عوض في الإجارة ، فجاز تأجيله ، كما لو كان على عين .... ، والثاني : لا يجوز ، لأنه عقد على ما في الذمة فلم يجز تأجيل عوضه كالسلم )(5).
3- أن تحدد المنفعة المراد تقديمها إلى الطرف الآخر بمدة معلومة مثل الشهر ، أو السنة ، أو ثلاثين يوماً(6).
__________
(1) روضة الطالبين (5/174)
(2) الكافي (2/321)
(3) المنهاج وشرح المحلى مع حاشيتي قليوبي وعميرة (3/68)
(4) شرح منتهى الارادات ط. عالم الكتب ببيروت (2/252)
(5) الكافي لابن قدامة ط. المكتب الاسلامي ببيروت (2/311)
(6) المصادر الفقهية السابقة(1/20)
ومن الحنابلة فصل الشويكي (ت929هـ) في الإجارة الموصوفة في الذمة ، فقال : (والضرب الثاني : عقد على منفعة في الذمة :
1. مضبوطة بما لا يختلف ، كسَلَم .
2. ويلزمه الشروع عقب العقد ، ولا يكون الأجير فيها إلاّ آدمياً ، ويسمى مشتركاً .
3. ولا يصح جمعه بين عمل ومدة ، كقوله : استأجرتك اليوم لعمل معلوم )(1).
وقال : ( ومن استؤجر لعمل شيء في الذمة ، ولم تشترط عليه مباشرة بنفسه ، فمرض ، أقيم مقامه / من يعمله ، والأجرة عليه ، إلاّ ما يختلف فيه القصد ، كنسخ ونحوه فلا ، وإن كانت الإجارة على عينه في مدة أو غيرها ، او شرط عليه مباشرته فيه بنفسه ، لم يقم غيره مقامه ، وإن وجد العين معيبة ، أو حدث بها عيب يظهر به تفاوت الأجرة ، فله الفسخ إن لم يزل بلا ضرر يلحقه والامضاء مجاناً ) ، وقال أيضاً : ( وإن عقد على موصوف ، ذَكَر نوعه وكبره وصغره ) ، وقال : ( وتجب أجرة بنفس عقد ، سواء كانت إجارة عين او ذمة ، وستحتق كاملة بتسليم عين لمستأجر أو بذلها له ، وبفراغ عمل بيد مستأجر ، وبدفعه إليه بعد عمله ، وتستقر بمضي المدة وبفراغ العمل ، إلاّ أن يتفقا على تأخير تسليمها )(2).
تأجير المنفعة المؤجرة إلى الغير بعد تسلمها :
__________
(1) التوضيح في الجمع بين المقنع والتنقيح ، بتحقيق ناصر بن عبدالله الميمان ط.المكتبة المكية 1419هـ ( 2/740-741)
(2) المصدر السابق (2/ 745 ، 747 ، 748)(1/21)
وعلى الرغم من أن الإجارة الموصوفة في الذمة لا تنفسخ بتلف العين المؤجرة المسلمة إلى المستأجر ، فإن المستأجر يحق له تأجير العين المسلمة إليه بناءً على ثبوت ملكية الاختصاص له ، يقول الإمام النووي : ( وإن كانت الإجارة على الذمة ، وسلم دابة وتلفت لم ينفسخ العقد وإن وجد بها عيباً لم يكن له الخيار في فسخ العقد ولكن على المؤجر إبدالها ثم الدابة المسلمة عن الإجارة في الذمة وإن لم ينفسخ العقد بتلفها فإنه ثبت للمستأجر فيها حق الاختصاص حتى يجوز له إجارتها ولو أراد المؤجر إبدالها فهل له ذلك دون إذن المستأجر وجهان أصحهما عند الجمهور المنع لما فيها من حق المستأجر والثاني قاله أبو محمد واختاره الغزالي إن اعتمد باللفظ الدابة بأن قال أجرتك دابة صفتها كذا لم يجز الإبدال وإن لم يعتمدها بل قال التزمت إركابك دابة صفتها كذا جاز . ويتفرع على الوجهين ما إذا أفلس المؤجر بعد تعيين عن إجارة الذمة هل يتقدم المستأجر بمنفعتها على الغرماء وقد ذكرناه في التفليس والأصح التقدم . ولو أراد المستأجر أن يعتاض عن حقه في إجارة الذمة فإن كان قبل أن يتسلم دابة لم يجز لأنه اعتياض عن المسلم فيه وإن كان بعد التسليم جاز لأن هذا الاعتياض عن حق في عين هكذا قاله الأئمة . وفيه دليل على أن القبض يفيد تعلق حق المستأجر بالعين ، فيمتنع الابدال دون رضاه )(1).
الفروق الجوهرية بين الإجارة المعينة في المنافع ، والموصوفة في الذمة :
من خلال النصوص التي ذكرناها يتبين لنا الفروق الآتية بين الإجارة المعينة ، والإجارة الموصوفة في الذمة :
1- إن الإجارة الموصوفة تقع على منفعة (خدمة) موصوفة في الذمة دون تحديد الشخص الذي يقدمها بعينه ، في حين أن الإجارة المعينة تقع على منفعة محددة لشخص معين .
__________
(1) روضة الطالبين (5/223-224)(1/22)
2- إذا مات الأجير الطبيعي ، فإن الإجارة المعينة تنفسخ مطلقاً سواء كان بعد الانتفاع ببعض خدماته أم قبله ، وأما الإجارة الموصوفة في الذمة فلا تنفسخ بموته ، بل على المؤجر أن يقدم الخدمة الموصوفة من خلال شخص آخر .
وإذا تعيب الأجير فإن للمستأجر الحق في فسخ العقد في الإجارة المعينة ، وحق الاستبدال في الإجارة الموصوفة في الذمة .
وإذا كان الأجير شخصاً معنوياً مثل المستشفى ، أو الجامعة ، أو الطيران ، فإن الحكم السابق المفصل يطبق عليه في حالة الهلاك ، او عدم القدرة ، وفي حالة التعيب والنقص .
3- إن خيار العيب ثابت في الإجارة المعينة ، وغير وارد في الإجارة الموصوفة في الذمة لأن المنفعة تستبدل عند العيب ، لأنها ليست معينة .
4- وجوب تقديم المنفعة ( الخدمة) الموصوفة في الذمة بالشكل الذي يتمكن المستأ<ر من الاستفادة منها ، وهذا يستلزم تقديم التوابع الضرورية ، والحاجية التي لا يمكن الانتفاع بالمنفعة إلاّ بعد تحققها ، في حين أن الإجارة المعينة لا تستدعي ذلك إلاّ إذا اشترط .
5- إن الإجارة الموصوفة في الذمة يجوز فيها تأجيلها إلى المستقبل وهو الغالب ( أي الإضافة إلى المستقبل ) في حين أن الإجارة المعينة لا تجوز فيها الاضافة إلى المستقبل ، وهذا عند الشافعية ، أما غيرهم فقد أجازوها .
6- لا يشترط في الإجارة الموصوفة في الذمة وجو الخدمة الموصوفة في الذمة وقت العقد ، ولا وجود الشخص المقدم للخدمة ، حيث تستطيع المؤسسة المالية تقيدمها حسب المواصفات ، في حين أن الإجارة المعينة لا بدّ من وجود الشخص الذي يقدم الخدمة أثناء العقد(1).
التقسيم الثالث باعتبار صيغتها : حيث تقسم الإجارة بهذا الاعتبار إلى إجارة منجزة ، وإجارة مضافة إلى زمن مستقبل ، وإضافة معلقة :
__________
(1) المصادر الفقهية السابقة التي ذكرنا نصوصها(1/23)
النوع الأول : الإجارة المنجزة : هي التي يعبر فيها بصيغة دالة على إنجاز العقد دون تعليق ولا تأقيت ، مثل أن يقول : أجرتك لمدة عام بمبلغ كذا ، حيث تبدأ الإجارة من وقت العقد .
وهذا هو الأصل ، إذا لم يوجد في العقد ما يصرف الصيغة عن التنجيز ، أو لم ينص على بداية العقد ، فإن الإجارة تكون منجزة ، فتبدأ من وقت العقد(1).
النوع الثاني : الإجارة المضافة إلى زمن مستقبل ، مثل أن يقول : أجرتك لمدة عام بدءاً من شهر كذا ، أو أجرتك من يوم كذا إلى كذا ، وذلك بأن يتم التعاقد ، ولكن يؤخر البدء بالإجارة إلى زمن لاحق ، وهكذا .
والإضافة في الإجارة صحيحة بالاجماع في الإجارة الواردة في الذمة ، أما الواردة على الأعيان المعينة فجماهير الفقهاء على صحة الإضافة فيها إلى مستقبل ، وخالفهم أكثرية الشافعية إلاّ في بعض صور مستثناة أجازوا فيها الإضافة مثل أن تكون المدة يسيرة ، أو الاستعداد قائماً ، أو نحو ذلك(2)، لكن الشيخين ( الرافعي والنووي ) قالا : ان التفرقة بين إجارة الذمة ، وإجارة العين لفظية في هذا النطاق لأن كلتيهما واردة على العين أي على منفعتها(3).
وذهب محمد بن الحسن الشيباني في إحدى الروايتين عنه إلى أن الإجارة إذا أضيفت إلى زمن زالت عنها صفة اللزوم ، وأصبحت غير لازمة بحيث يجوز لأحد الطرفين فسخها قبل حلول بدء مدتها(4).
__________
(1) الفتاوى الهندية (4/410) والشرح الصغير (4/30) ونهاية المحتاج (5/26) وشرح المحلى مع حاشية القليوبي وعميرة (3/71) وكشاف القناع (4/3)
(2) شرح المحلى (3/71) ونهاية المحتاج (5/261)
(3) روضة الطالبين (5/182 -184 ) وحاشية القليوبي على شرح المحلى على المنهاج (3/68)
(4) الفتاوى الهندية (4/410)(1/24)
والراجح جواز إضافة الإجارة إلى المستقبل ، حيث ترجم البخاري باباً لهذا سماه : باب إذا استأجر أجيراً ليعمل له بعد ثلاثة أيام ، أو بعد شهر ، أو بعد سنة جاز ، وهما على شرطهما الذي اشترطاه إذا جاء الأجل ، ثم أورد حديث عائشة رضي الله عنها قالت : (واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوبكر رجلاً من بني الدّيل هادياً خريتاً وهو على دين كفار قريش ، فدفعا إله راحلتيهما ، ووعداه غار ثور بعد ثلاث ليال ، فأتاها براحلتيهما صبح ثلاث)(1)قال الحافظ ابن حجر : (والذي ترجم به هو ظاهر القصة ، ومن قال ببطلان الإجارة إذا لم يشرع في العمل من حين الإجارة هو المحتاج إلى دليل .....واستنبط من هذه القصة جواز إجارة الدار مدة معلومة قبل مجيء أول المدة)(2).
أما تعليق الإجارة على حدوث أمر في المستقبل فلم يجزه الجمهور لكن الحنفية والحنابلة في رواية أجازوا ما هو على صورة التعليق مثل لو قال لخياط : (إن خطت هذا الثوب اليوم فبدرهم ، أو غداً فبنصف درهم)(3).
4. محل العقد أو المعقود عليه هو الأجرة والمنفعة ، وليس أصل العين ، وقد أولى العلماء عناية كبيرة ببيان أحكام الأجرة ، والمنفعة ، نذكر أهمها بإيجاز .
النوع الثالث : تعليق الإجارة : إذا قصد بالتعليق تعليق عقد الإجارة على تحقق شيء مثل أن يقول : إن جاء فلان فقد أجرتك ، فهذا التعليق غير جائز في عقد الإجارة باتفاق الفقهاء(4)، وذلك لأنه يؤدي إلى وجود احتمال وغرر في تحقق العقد نفسه ، وهذا غير جائز في الإجارة قياساً على البيع في كونهما من عقود المعاوضات اللازمة ، وأنهما من عقود التمليكات ، بل جماعة من العلماء إلى ادخال الإجارة في البيع ، لأنها في حقيقتها بيع منفعة.
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح ـ كتاب الإجارة ط. السلفية (4/443)
(2) فتح الباري (4/443)
(3) يراجع : الكافي (2/292) ومطالب أولي النهى (3/259) وبدائع الصنايع (5/2586)
(4) المصادر السابقة(1/25)
وأما إذا كان التعليق لا يؤثر في العقد من حيث الاحتمال وإنما الاحتمال يكون في تحديد الزمن والثمن ، بأن يقول : إن خطت هذا الثوب اليوم فبدرهم ، أو غداً فبنصف درهم ، فهذا جائزعند جمهور الفقهاء(1)، لأن هذه الصيغة تدل على إنشاء العقد وتحقيقه ، وليس فيها دلالة على احتمالية العقد من حيث هو ، وإنما الاحتمال في الثمن والمدة ، إضافة إلى أن مثل هذا قد جرى به العرف ، وليس فيه جهالة مؤثرة ، لذلك فلا حرج فيه .
أركان عقد الإجارة على الأشخاص وشروطها :
أركان عقد الإجارة على الأشخاص هي العاقدان ، ـ أي : الأجير والمستأجر ، والصيغة ، أي : الايجاب والقبول ، والمعقود عليه وهو الأجر ، والعمل أي المنفعة ـ ونحن هنا نذكر هذه الأركان بشيء من الشرح والتفصيل ، وبخاصة فيما يتعلق بالمعقود عليه :
الركن الأول : العاقدان وهما : الأجير والمستأجر ، وقد يكون كل واحد منهما فرداً ، أو جماعة(2)وقد يكون شخصاً طبيعياً ، أو شخصاً معنوياً ـ كما سبق ـ ، شروطهما :
أ ـ العقل : يشترط في الأجير والمستأجر أن يكونا عاقلين ، فلا تصح عقود المجنون ، والصبي غير المميز ، ومن زال عقله ولو لفترة قصيرة ما دام العقد يجري في هذه الفترة ، وقد جرى خلاف في عقود السكران ، والراجح الظاهر هو أنها إذا كانت في حالة السكر التام فإنها غير صحيحة(3).
وكذلك يجب أن تكون إرادة العاقدين لا يشوبها عيب من عيوبها من الاكراه ، والتدليس ، والغلط على تفصيل(4).
__________
(1) نتائج الأفكار (7/210) وبداية المجتهد (2/135) ونهاية المحتاج (5/259) والمغني مع الشرح الكبير (6/256)
(2) وقد نصت المادة 570 من مجلة الأحكام العدلية على جواز أن يكون العاقد مجموعة من الناس
(3) يراجع لمزيد من التفصيل : د.علي القره داغي : مبدأ الرضا في العقود (1/342 ـ 374) ومصادره المعتمدة
(4) المرجع السابق (1/409-822) ومصادره المعتمدة(1/26)
ب ـ التمييز : واكتفى جمهور الفقهاء الحنفية ، والمالكية ، والحنابلة ، بأهلية الأداء الناقصة ، وبالتالي أجازوا إجارة الصبي المميز نفسه إن كان مأذوناً من وليه ، وإن لم يكن مأذوناً فيصح العقد موقوفاً على الإجازة عند الحنفية ، والراجح عند المالكية ، وأحمد في رواية ، في حين ذهب المالكية في القول المرجوح ، وأحمد في رواية إلى عدم صحة العقد وانعقاده ، لأن الولاية شرط عندهم لصحة العقد ، وهذا يدخل في موضوع عقود الفضولي(1).
وذهب الشافعية والظاهرية إلى عدم صحة عقود الصبي ولو كان مميزاً(2).
مدى بقاء العقد لازماً ؟
وإذا كان تأجير الصبي المميز نفسه محل خلاف بين الفقهاء فإنهم اتفقوا على جواز قيام وليه بتأجيره إن كانت فيه مصلحة ، ولم توجد مفسدة ، ولكنهم اختلفوا في لزوم هذا العقد إذا بلغ الصبي قبل انتهاء مدة العقد ؟
فذهب الشافعية في قول ، والحنابلة على المذهب إلى بقاء العقد ولزومه إلى نهايته ، وبالتالي فلا يكون مخيراً في الفسخ وعدمه ، لأن العقد تم بإرادة شرعية صحيحة ، فتبقى على حالتها(3).
وذهب الحنفية ، والمالكية ، والشافعية في قول ، والحنابلة في رواية إلى أن العقد يصبح غير لازم ، ويكون الصبي بعد بلوغه مخيراً ، لأن في استبقاء العقد إضراراً به ، لأنه بعد البلوغ تلحقه الأنفة من خدمة الناس ، ولأن المنافع تحدث شيئاً فشيئاً ، وعقد الإجارة وارد على هذه المنافع المتجددة الحادثة فكان له خيار الفسخ(4).
__________
(1) يراجع : البدائع (4/176 – 177) والفتاوى الهندية (4/410-411) والشرح الكبير مع الدسوقي (4/81) والمغني
(2) روضة الطالبين (3/173)
(3) روضة الطالبين (5/250) والمهذب (1/407) والمحلى مع حاشية القليوبي وعميرة (3/68)
(4) بدئاع الصنائع (4/178) والشرح الصغير (4/181) والمغني (6/45)(1/27)
وذهب الشافعية على القول الأصح ، والحنابلة في رواية ثالثة إلى التفرقة بين مدة حددها الولي وكان يعرف أنه يبلغ قبل انتهائها ، حيث يكون للصبي البالغ الخيار ، وبين مدة لم يكن متوقعاً بلوغه فيها ، ولكنه بلغ ، وحينئذ يظل العقد لازماً إلى نهاية المدة(1).
وقد أوضح النووي مذهب الشافعي ، فقال : ( للولي إجارة الطفل وماله ، أبا كان أو وصياً أو قيّماً ، إذا رأى المصلحة فيها ، لكن لا يجاوز مدة بلوغه بالسن ، فلو أجره مدة يبلغ في اثنائها ، بأن كان ابن سبع سنين ، فأجره عشر سنين ، فطريقان ، قال الجمهور : يبطل فيما يزيد على مدة البلوغ ، وفيما لا يزيد قولاً تفريق الصفقة ، والثاني : القطع بالبطلان في الجميع ، وهو الأصح عند البغوي ،،،، قلت : واختاره أيضاً ابن الصباغ والله أعلم ...
ويجوز أن يؤجره مدة لا يبلغ فيها بالسن وان احتمل بلوغه بالاحتلام ، لأن الأصل بقاء الصبّا ، فلو اتفق الاحتلام في أثنائها ، فوجهان ، أصحهما عند صاحب ( المهذب ) والروياني : بقاء الإجارة ، وأصحهما عند الإمام والمتولي : لا تبقى ... قلت : صحح الرافعي في ( المحرر ) الثاني .. والله أعلم )(2).
ويظهر رجحان القول الأخير ، لأنه أعدل الآراء ، وذلك لأن تحويل العقد اللازم إلى عقد غير لازم بالاطلاق الذي قاله أصحاب القول الثاني ليس له ما يبرره ، فالعقد تم بإرادة الوليّ الذي له الولاية الشرعية ، كما أن الأصل في العقود اللازمة بقاؤها على حالتها ، لأنه قد يترتب على إعطاء الحق للصبي البالغ إضرار بالطرف الآخر .
ومن حانب آخر فإن بقاء القعد لازماً لمدة طويلة قد يريدها الولي يترتب عليه إضرار بالصبي ، لذلك فيكون الأقرب إلى القسط والعدالة ، والتوازن هو الرأي الثالث .
المحجور عليه لسفه أو دين :
__________
(1) كشاف القناع (3/475)
(2) روضة الطالبين ( 5/250)(1/28)
واتفق الفقهاء على أن الحجر لسفه ، أو لدين لا يمنع الشخص من تأجير نفسه لغيره إجارة خاصة ، او مشتركة ، لأن في ذلك مصلحة ، ولا تترتب مفسدة بالدائن أو بأموال الأجير نفسه ، بل إن في تأجير نفسه منفعة مادية للدائن أيضاً ، حيث يمكنه دفع جزء من الدين من الأجرة(1).
وأما إذا قام المحجور عليه بسبب الدين بتأجير أجير لخدمته فهذا يمنع منه إلاّ لحالة الضرورة ، أو الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة ، لأن في ذلك إضراراً بالدائن ، أما قيامه بالتأجير للخياطة والصناعة فيخضع لاذن القاضي ، إلاّ في الأمور البسيطة التي يقتضيها العرف .
وأما المحجور عليه لسفه فيجوز تأجير خادم له بإذن وليه إذا كان له مال ، كما أن له الحق في التأجير فيما يحتاج من خياطة وصناعة ونحوهما .
إجارة المرأة :
لا خلاف بين الفقهاء في جواز أن تكون المرأة مستأجرة ، كما لا خلاف في كونها أجيرة ، من حيث المبدأ ، وان كان هناك خلاف في بعض التفاصيل والضوابط ـ كما سيأتي ـ ويدل على جواز التأجير ـ من حيث المبدأ ـ الآيات التي تدل على استئجار المرأة للرضاعة ـ كما سبق ـ والأحاديث الدالة على عمل المرأة .
إجارة غير المسلم للمسلم وبالعكس :
أجمع الفقهاء على جواز أن يستأجر المسلم غير المسلم ، حيث استأجر الرسول صلى الله عليه وسلم مشركاً ليكون دليلاً له في الهجرة ـ كما سبق ـ
__________
(1) يراجع : بدائع الصنائع (4/189) والشرح الكبير ـ مع الدسوقي ـ (4/21) والروضة (5/250) وكشاف القناع (3/459)(1/29)
وأجاز جمهور الفقهاء أن يؤجر المسلم نفسه ( سواء أكان أجيراً خاصاً أو مشتركاً ) لغير المسلم ما دام العمل الذي يقوم به جائزاً ، أما إذا كان العمل غير جائز كعصرالخمر ، أو حملها ، ورعي الخنازير فهذا غير جائز ، وان عقد على ذلك فإن الإجارة ترد وتفسخ إذا كانت قبل العمل ، ولكن ان بدأ بالعمل ، أو فرغ منه فإن الأجرة تؤخذ من الكافر ويتصدق بها ، ولا يستحلها لنفسه إلاّ انه يعذر بالجهل(1).
والشافعية والحنابلة منعوا أن يقوم المسلم بخدمة الكافر الخدمة الشخصية ، والحنفية كرهوا ذلك.
والجميع منعوا ذلك إن كان في الإجارة إذلال للمسلم أو استخدامه في المعصية(2).
الركن الثاني : الصيغة ( الايجاب والقبول ) : وهي الوسيلة التي يعبر العاقدان بها عن إرادتهما ورضاهما ، ولذلك لا بدّ أن تكون صريحة واضحة بذاتها ، أو بالقرائن في الدلالة على التعبير عما هو مقصود ، وذلك يتم عن طريق الألفاظ الدالة على انشاء العقد وقبوله ، أو الكتابة أو المعاطاة ، أو الإشارة المفهمة ، أو السكوت في بعض العقود ، ويجوز أن يتم هذا التعبير عن الإرادة عن طريق الوسائل الحديثة كالتليفون ، والانترنيت ، ونحوها(3)وقد صدر قرار رقم 52(3/6) بجواز اجراء العقود بالآت الاتصال الحديثة(4).
ويشترط في الصيغة ( الايجاب والقبول ) ما يأتي :
1ـ تنجز الصيغة أي أن تكون الصيغة منجزة وهذا هو الأصل ، ولكن قد يجوز أن تكون معلقة ، أو مضافة حسب الضوابط السابقة .
__________
(1) البدائع (4/189) وشرح الخرشي (7/19-20) وشرح المحلى مع حاشيتي القليوبي وعميرة (3/67) والمهذب (1/395) والمغني (6/138 ـ139)
(2) المصادر السابقة
(3) يراجع في تفصيل ذلك : بحثنا : حكم إجراء العقود بآلات الاتصال الحديثة المنشور في مجلة مجمع الفقه الإسلاي الدولي ، العدد 6 (2/923-963) ، و مبدأ الرضا في العقود (2/738 – 916)
(4) يراجع : مجلة مجمع الفقه الإسلاي الدولي ، العدد 6 الجزء 2 ص 785(1/30)
2ـ موافقة القبول للايجاب في جميع جزئياته بأن يقبل ما أوجبه الطرف الأول ، وإلاّ فإن غير فيعتبر ايجاباً جديداً يحتاج إلى قبول الآخر ، فلو قال الأجير : أجرتك شهرياً بألف ، فقال المستأجر : قبلته بخمسمائة ، لم ينعقد العقد إلاّ إذا كان داخلاً في قوله وراضياً به بطريق أولى ، مثل أن يقول : أجرتك بألف فقال : قبلت بألف وخمسمائة أو نحو ذلك فهذا جائز ، لأن الألف داخل في الألف وخمسمائة ، ولأنه راض به بطريق أولى(1).
3ـ اتصال القبول بالابجاب في مجلس العقد ، لأنه جامع المتفرعات إذا كانا حاضرين ، أو في مجلس العلم إن كانا غائبين ، وهناك تفاصيل حول هذه المسألة تذكر في نظرية العقد(2).
والإجارة تنعقد بالكتابة ، وبإشارة المعذور كما تنعقد باللفظ الدال على المطلوب ، وكذلك تنعقد بالبذل والمعاطاة كالركوب في باخرة المسافرين ، وسيارات الأجرة دون تلفظ من أحد العاقدين ، فإن كانت الأجرة معلومة أعطيت ، وإلاّ فأجرة المثل(3).
وكذلك تنعقد بالسكوت كأن يقول المؤجر : أجرتك داري بمائة فسكت المستأجر سكوتاً يفهم منه الموافقة أو قال : لا بل بثمانين ديناراً فسكت المؤجر تم العقد(4).
وتنعقد كذلك إجارة الفضولي عند من يجيز عقوده موقوفة على إجازة من بيده حق التصرف(5).
الركن الثالث : المعقود عليه :
__________
(1) المصدر السابق (2/1021 ، 1075 ، 1095)
(2) مبدأ الرضا في العقود (2/1076)
(3) انظر المادة 437 من مجلةالأحكام العدلية ط. شعاركو ص 84
(4) انظر المادة 438 من مجلة الأحكام العدلية ، ويراجع : مبدأ الرضا في العقود (2/965) وما بعدها
(5) المادة 461 من من مجلة الأحكام العدلية ، ويراجع : مبدأ الرضا في العقود (1/152)(1/31)
ورد عن بعض فقهاء الشافعية أن محل الإجارة : الأعيان المعينة ، أو الموصوفة في الذمة أو الأشخاص(1)، وذلك لبيان مرجع المنفعة وإلاّ فإن الإجارة لا تقع إلاّ على المنفعة ، فهذه هدفها الأساسي ومقصدها الأصلي ، ولكن بما أن هذه المنفعة لا بدّ لها من محل يتعلق به من عين معينة ، أو موصوفة في الذمة ، أو الشخص فقد يعبر عنها بمحلها ومتعلقها ، ولذلك فما يقال من أن محل الإجارة على الأشخاص العمل لا يتعارض مع ما ذكرنا ، لأن العمل أيضاً هو المنفعة والأثر الناتج عن الشخص ، ومن هنا فالمنفعة والأجرة هما طرفا المعقود عليه ، جاء في حاشية القليوبي تعليقاً على قول النووي : واردة على عين : أي على منفعة متعلقة بعين ، كما ذكره بعده فمورد الإجارة المنفعة مطلقاً ، وقيل : موردها في المعين : العين ، قال الشيخان : ( والخلاف لفظي ...)(2).
ونحن هنا نتحدث بايجاز عما يتعلق بالأجرة والمنفعة من حيث الشروط وغيرها في مبحثين :
المبحث الأول : الأجرة :
__________
(1) قال في المغني (5/434) : ( إن المعقود عليه المنافع ، وهذا قول أكثر أهل العلم منهم : مالك أبو حنيفة ، وأكثر أصحاب الشافعي ، وذكر بعضهم أن المعقود عليه العين ، لأنها الموجودة والعقد يضاف إليها فيقول : أجرتك داري كما يقول بعتكها ) .
(2) حاشية القليوبي على شرح المحلى على المنهاج (3/68)(1/32)
القاعدة العامة هنا هي : أن كل ما صح أن يكون ثمناً في البيع صح أن يكون أجرة في الإجارات(1)سواء كان نقداً (دراهم ، ودنانير) ، او عيناً ، او منفعة ، او خدمة ، ولذلك اشترط الجمهور في الأجرة ما اشترط في الثمن(2).
قال الرافعي والنووي : (يجوز أن تكون الأجرة منفعة سواء اتفق الجنس كما إذا أجر داراً بمنفعة ، او اختلف بأن أجرها بمنفعة شخص ، ولا ربا في المنافع أصلاً حتى لو أجرها بمنفعة شخص ، ولا ربا في المنافع أصلاً حتى لو أجر داراً بمنفعة دارين ، او أجر حلي بذهب جاز ، ولا يشترط القبض في المجلس)(3)، منع الحنفية أن تكون الأجرة منافع(4).
الأجرة بجزء شائع من الإنتاج أو من الشيء نفسه :
__________
(1) الذخيرة حيث ذكر هذه الكلية وأسندها إلى الأئمة دون خلاف (5/376) والروضة (5/176) والمغني لابن قدامة (5/441) والبدائع (6/2606)
(2) التاج والاكليل لمختصر خليل بهامش مواهب الجليل ط.دار الكتب العلمية ببيروت (7/494) والفتوى الهندية (4/412) وبدائع الصنايع (6/2606) ونهاية المحتاج (5/322) والمغني لابن قدامة (5/440 ـ 441) والمقنه ، والشرح الكبير ، والانصاف (14/293)
(3) الروضة (5/176)
(4) بدائع الصنايع (6/2608)(1/33)
وقد أجاز المالكية في أحد قوليهم ، وجمهور فقهاء الحنابلة ، وبعض مشايخ بلخ من الحنفية(1)أن تكون الأجرة من نفس الشيء الذي يعمل فيه الأجير مثل أن يستأجره لطحن إردب بدرهم وقفيز من دقيقه ، ولعصر زيتون بنصف الناتج ، لأنهما لا يختلفان بعد العصر ، ولجواز بيع نصفها كذلك ، فإن كان يختلف امتنع ، قال القرافي : (وتمتنع الإجارة على سلخ الشاة بشيء من لحمها لأنه مجهول قبل السلخ...) وعن أبي الحسن : إذا دبغ جلوداً بنصفها قبل الدباغ على أن يدفعها كلها ، فإن فاتت بالدباغ فعلى الدباغ قيمتها يوم قبضها ، وله أجرة المثل في النصف الآخر لحصول العمل ، وإن دبغها بنصفها بعد الدباغ فدبغت فهي كلها لربها ، لفساد العقد بسبب الجهالة بحال المدبوغ ، وللدباغ أجرة مثله ....... .
ويجوز على قول أشهب الإجارة على الذبح ، او السلخ برطل لحم ، لأنه يجوز بيع ذلك اعتماداً على الجنس(2).
وأجاز الظاهرية ذلك مطلقاً وأنسده إلى ابن أبي ليلى ، والأوزاعي والليث ، وابن سيرين ، وعطاء ، والزهري(3)، وقال ابن العربي : ( إن معمر بن الأشد أجاز الاجارة على الغنم بالثلث ، والربه ، وقال ابن سيرين والزهري وعطاء وقتادة ، نسيج الثوب بنصيب منه ، وبه قال أحمد بن حنبل )(4).
وذهب جمهور فقهاء الحنفية ، والشافعية ، والمالكية في قولهم الثاني إلى عدم صحة هذه الإجازة ، لوجود الغرر فيها ، لأنه لا يعلم مقدار الخارج ، ولا صفته(5).
والراجح هو القول الأول لأن الجهالة فيه يسيرة لا تؤدي إلى نزاع ، وذلك لأنها تؤول إلى العلم .
الأجرة بنسبة من رأس المال :
__________
(1) الذخيرة (5/376) شرح منتهى الارادات (2/355) وبدائع الصنائع (4/192)
(2) الذخيرة للقرافي (5/376 ـ 377)
(3) المحلى (9/31)
(4) احكام القرآن (3/1475)
(5) بدائع الصنائع (4/192) ومغني المحتاج (2/335) وحاشية الدسوقي (4/6)(1/34)
وبناء على القول السابق فلا مانع من أن تكون الأجرة نسبة من رأس المال مثل 2% ، وذلك بطريق أولى ، لأنها معلومة ولا جهالة فيها .
استئجار الأجير بطعامه وكسوته :
أجز جماعة من الفقهاء منهم المالكية ، وأحمد في رواية استئجار الأجير بطعامه وكسوته ، وكذلك الظئر ـ المرضعة ـ وذهب أبو حنيفة وأحمد في رواية حصر ذلك في الظئر في حين ذهب الشافعية ، والصاحبان ، وأحمد في رواية إلى المنع مطلقاً(1).
أنواع الأجرة :
اتفق الفقهاء على أن الأجرة قد تكون نقداً ، ومبلغاً من النقود من أي نقد كان ، وقد تكون عيناً من الأعيان ، وقد تكون منفعة من المنافع ، ولكنهم اختلفوا في بعض التفاصيل التي لا يسع المجال الخوض فيها ، وإنما نذكر بعض القضايا ، والمصطلحات الجديدة في هذا المجال ، وذلك مثل إعطاء العامل حصة من الأرباح من خلال إعطائه راتب شهر أو شهرين تحفيزاً له ، ومثل المنحة التي تصرف له في مناسبات عدة ومثل مكافأة الانتاج تقديراً لكفاءته في أدائه العمل أو قدرته في زيادة الإنتاج ، وكذلك ما يسمى بالعمولة التي تعطى للمندوبين ، والممثلين التجاريين ، وكذلك العلاوات ، والأجر الاضافي والاكرامية ، كل ذلك يعتبر من الأجرة في الفقه الإسلامي(2).
تعليق الإجارة على أحد الأمرين ، أو النسبة :
وأجاز بعض الحنفية بعض صورها مثل أن يدفع إلى الحائك غزلاً ينسجه بالنصف حيث أجازه مشايخ بلخ(3)وتوسع الحنابلة في ذلك إذا كان بجزء شائع(4)ومنعه الشافعية وجمهور الحنفية(5).
__________
(1) المصادر السابقة ، والمقنع الشرح الكبير والانصاف (14/277)
(2) د. شرف الشريف : المرجع السابق ص 170
(3) الفتاوى الهندية (4/445)
(4) المغني لابن قدامة (5/442)
(5) الروضة (5/176) والفتاوى الهندية ( 4/445)(1/35)
ومنع المالكية أن تكون الأجرة مترددة بين أمرين بأن يقول إن خطته اليوم فبدرهم ، او غداً فبنصف درهم ، أو خياطة رومية فبدرهم ، او عربية فبنصف درهم ، لأنه كبيعتين في بيعة ، فإن خاط فله أجرة مثله لفساد العقد ، وقيد بعضهم بأن لا تزيد على المسمى ، وعن مالك في أجراء يخيطون مشاهرة فيدفع لأحدهم الثوب على إن خاطه اليوم فله بقية يومه ، وإلاّ فعليه تمامه في يوم آخر ، ولا يحسب له في الشهر : يجوز في اليسير الذي لو اجتهد فيه لأتممه ، ويمتنع في الكثير ، ولو استأجره على تبليغ كتابه إلى بلده ثم قال بعد الإجارة : إن بلغته في يوم كذا فلك زيادة كذا ، فكرهه ، واستحسنه في الخياطة بعد العقد ، قال ابن مسعدة : هما سواء ، وقد أجازهما سحنون وكرههما غيره .
وأما الحنفية فلديهم خلاف وتفصيل في هذه المسألة ، حيث ذهب أو حنيفة رحمه الله إلى أن الشرط الأول (اليوم) صحيح ، والثاني (غداً) فاسد حتى لو خاطه اليوم فله درهم ، وإن خاطه غداً فله مثل أجره ، وقال أبو يوسف : الشرطان جائزان ، وقال زفر : الشرطان باطلان(1).
إذن ففي المسألة أربعة مذاهب :
المذهب الأول / العقد فاسد ، والشرط باطل وهو رأي المالكية ـ على التفصيل السابق ـ والشافعية ، وزفر(2).
المذهب الثاني / العقد صحيح ، والشرطان صحيحان ، وهو رأي الصاحبين وأحمد في رواية(3).
المذهب الثالث / الشرط الأول صحيح ، والثاني فاسد ، وله أجر مثله ، وهو رأي أبي حنيفة ف يظاهر الرواية(4).
المذهب الرابع / مثل الرأي الثالث ، ولكن في اليوم الثاني له أجر مثله لا يزداد على نصف درهم ، وهو إحدى روايتي ابن سماعة في نوادره ، عن أبي يوسف ، وأبي حنيفة(5).
__________
(1) بدائع الصنايع (5/2584)
(2) الذخيرة (5/377) والروضة (5/175) والبدائع (5/2585)
(3) بدائع الصنايع (5/2585)
(4) البدائع (5/2584) والكافي لابن قدامة (2/392) والمغني لابن قدامة .
(5) المصدر السابق نفسه(1/36)
وحجة القائلين بفساد العقد تكمن في أن ذلك يدخل في اجتماع شرطين في العقد ، او صفقتين في صفقة واحدة ، وهذا منهي عنه .
ولكن التحقيق أن المراد بهما هو إجتماع السلف مع البيع أو الإجارة(1).
وأما حجة القائلين بالجواز هو أن هذا الشرط ، أو الشرطين ليس فيه ، او فيهما مخالفة لنص من الكتاب والسنة ، ولا لمقتضى العقد ، ولا يؤدي ذلك إلى غرر ، وجهالة تؤدي إلى نزاع ، لذلك فالأرجح هو المذهب الثاني ، لما ذكرنا ، ولأن الأصل في الشروط الصحة إلاّ دل دليل على فسادها ، ولا دليل هنا على ذلك ، بل يحقق غرضاً مشروعاً ، وقد ذكر الكاساني أن العاقد سمي في اليوم الأول عملاً معلوماً ، وبدلاً معلوماً ، وكذلك في اليوم الثاني ، فلا معنى إذن لفساد الشرط فضلاً عن فساد العقد(2)، ولأنه سمى لكل عمل عوضاً معلوماً كما لو قال كل دلو بثمر ، إضافة إلى أن التعجيل والتأخير مقصودان فينزل منزلة اختلاف النوعين(3).
__________
(1) يراجع للتفصيل في معاني الأحاديث الواردة في هذا المجال بحثنا المنشور في مجلة مركز بحوث السنة والسيرة العدد 8 عام 1415هـ بعنوان : أحاديث النهي عن صفقتين في صفقة واحدة فقهها وتخريجها .
(2) البدائع (5/2585)
(3) العناية شرح الهداية (7/131)(1/37)
وأجاز مالك أن تكون الأجرة الكسوة بأن يستأجره على أن يكسوه أجلاً معلوماً ، وبالمقايضة بأن يدفع خمسين جلداً على أن تدبغ خمسين أخرى مثلاً ، ولم يجيزوا الكراء بمثل ما يتكارى الناس للجهالة ، ولا إكراء الدابة بنصف الكراء ، وإذا عمل فله أجرة مثله ، وأجزه يحيى بن سعيد وكذلك أجاز أن يقول : احتطب على الدابة ، ولي نصف الحطب ، أولي نقلة ، ولك نقلة (والأخيرة أجازها الجميع لأن مقدار النقلة معلوم عادة ، ومقدار الحطب يختلف) ، وجوز ابن القاسم : اعمل عليها اليوم لي ، وغداً لك ، وأجاز أشهب : احمل طعاماً إلى موضع كذا ولك نصفه ، وأجازوا كذلك أن تختلف الأجرة من شهر أو يوم إلى آخر بأن تكون أجرته في الشهر الأول خمسة ، وفي الثاني ستة أو بالعكس(1).
عدم تسمية الأجرة ثم التراضي ، أو عدم تحديد الخدمة :
__________
(1) الذخيرة (5/385)(1/38)
أجاز مالك في رواية لابن يونس عنه عدم ذكر الأجرة في العقد ، ثم إرضاء الأجير(1)، وهذا مبني على العرف ، وعلى أن الأساس هو التراضي كما استند على قصة موسى حيث لم تحدد الخدمة حيث قال تعالى : )عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي)(2)قال ابن العربي : قال مالك : ( إنه ـ أي ذكر الخدمة ـ مطلقاً دون تحديدها جائز ، وتحمل على العرف.... ودليلنا أنه معلوم ، لأنه استحقاق لمنافعه فيما يصرف فيه مثله ، والعرف يشهد لذلك ويقضي به ، فيحمل عليه ، ويعضد هذا بظاهر قصة موسى ، فإنه ذكر إجارة مطلقة ، على أن أهل التفسير ذكروا أنه عيّن له رعية الغنم ، ولم يرووا ذلك من طريق صحيحة ، ولكن قالوا : إن صالح مدين لم يكن له عمل إلاّ رعية الغنم ، فكان ما علم من حاله قائماً مقام تعيين الخدمة فيه ، وعلى كلا الوجهين فإن المسالة لنا ، فإن المخالف يرى أن ما علم من الحال لا يكفي في حصة الإجارة حتى يسمى... وعندنا أنه يكفي ما علم من الحال ، وما قام من دليل العرف ، فلا يحتاج إلى التسمية في الخدمة ، والعرف عندنا أصل من أصول الملة ، ودليل من جملة الأدلة ، وقد مهدناه قبل ، وفي موضعه من الأصول ........... وقال : قال علماؤنا : إن كان أجره على رعاية الغنم فالإجارة على رعاية الغنم على ثلاثة أقسام : إما أن تكون مطلقة أو مسماة بعدة ، أو معينة ، فإن كانت مطلقة جازت عند علماؤنا ، وقال أبو حنيفة والشافعي : إنها لا تجوز لجهالتها ، وعوّل علماؤنا على العرف ، وأنه يعطى على قدر ما تحتمل قوته)(3).
المرونة في تحديد الأجرة(4):
__________
(1) الذخيرة (5/387) ومواهب الجليل (7/494) وأحكام القرآن لابن العربي (3/1472)
(2) سورة القصص / الآية 27
(3) أحكام القرآن (3/1472)
(4) د.عبدالستار أبو غدة : الإجارة ، إصدار دلة البركة ص 34(1/39)
وقد رأينا من خلال ما سبق أن هناك مرونة كبيرة في تحديد الأجرة أكثر من الثمن في البيع ، حيث رأينا جواز تعليق الأجرة وترديدها بين أمرين ، ورأينا في مذهب مالك عدم تسمية الأجرة في العقد ليكون دفعها خاضعاً للعرف وأجرة المثل ، وإرضاء الأجير ، كما أن الأجرة تؤول إلى أجرة المثل عند فساد العقد(1).
والخلاصة أن الشرط الأساسي في الأجرة هو أن تكون معلومة علماً يدرأ جهالة مؤدية إلى النزاع من خلال التعيين ، أو الوصف ببيان الجنس ، والنوع والقدر ، وذلك للأحاديث الواردة في نفي الغرر والجهالة(2)ولكن باب الإجارة في هذا المجال أوسع بكثير من باب البيع ، ففي قصة موسى عليه السلام كانت الأجرة التزويج ، ومناعه ، وهي غير محددة ، كما انها لم يفصح عنها.
الاعتماد على مؤشر معين في تحديد الأجرة :
__________
(1) يراجع لمزيد من التفصيل في أجرة المثل : نظرية عوض المثل وأثرها على الحقوق : د.علي القره داغي ، بحث منشور في حولية كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة قطر ، العد السادس 1408هـ ص 428 ـ 439
(2) يراجع السنن الكبرى للبيهقي (6/120 ـ 121)(1/40)
تعتمد المؤسسات المالية اليوم على عقود الإجارة في كثير من أنشطتها التجارية والتمويلية ، وقد تعترض طريقها مشكلة إبقاء الأجرة على حالتها إذا كانت الإجارة طويلة الأمد ، حيث تتغير الإجارات خلال فترة الإجارة ، ولذلك يثور هذا التساؤل حول مدى جواز الاتفاق بين المؤجر والمستأجر على تحديد مبلغ الأجرة بمؤشر معين مثل (لايبورLIBOR)(1)علماً بأن هذا المؤشر ليس ثابتاً ، وإنما هو متغير وبالتالي مجهول ؟
للجواب عن ذلك أنه يمكن حل ذلك من خلال الحلول الآتية :
أولاً : الاتفاق على المدة المطلوبة (فلنفترض عشر سنوات) دون ذكر الأجرة في بداية العقد ، وتكون الأجرة حسبما يتفق عليه الطرفان ، بحيث تحدد عند بداية كل فترة ، وهذا يدخل فيما ذكرناه في مذهب مالك في رواية لابن يونس عنه حيث أجاز عدم ذكر الأجرة في العقد ، ثم إرضاء الأجير ـ كما سبق ـ .
ثانياً : الاعتماد على أجرة المثل ، واعتماد ذلك المؤشر بمثابة أجر المثل ، وهذا لا أرى فيه مانعاً شرعياً لما يأتي :
1.أن بعض الفقهاء منهم ابن تيمية أجازوا البيع والتأجير بسعر ما يبيعه الناس،او حسب سعر السوق ،بأن يتفق الطرفان على التأجير لمدة محددة،ويجعلان الأجر حسب أجر المثل الذي يحدد فيما بعد،وعلى ضوء ذلك يمكن اعتبار ذلك المؤشر أو نحوه بمثابة أجر المثل.
__________
(1) لايبور: مؤشر يعتد على سعر الإقراض بين البنوك في لندن (The London Inter bank offen Rate ) الذي يلخص بـ (LIBOR ) وهناك مؤشر سايبور أي سعر الإقراض بين السعودية ، وكايبور وهو سعر الإقراض بين البنوك في القاهرة ، يراجع : د. حسين شحاتة : نحو مؤشر إسلامي للمعاملات المالية الآجلة ، بحث منشور في حولية البركة ، العدد الرابع عام 1423هـ ص 211 .(1/41)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : (وقد تنازع الناس في جواز البيع بالسعر) ثم ذكر الإجارة بأجرة المثل ، ثم قال : (وفيه قولان في مذهب أحمد ، والأظهر في الدليل أن هذا جائز ، وانه ليس فيه حظر ، ولا غدر ، لأنه لو أبطل مثل هذا العقد لرددناهم إلى قيمة المثل فقيمة المثل التي تراضوا بها أولى من قيمة مثل لم يتراضيا بها ، والصواب في مثل هذا العقد أنه صحيح لازم ....، ومنهم من قال : إن ذلك (أي البيع بالسعر ، والإجارة بأجرة المثل) لا يلزم ، فإذا تراضيا به جاز ، والله أعلم)(1).
ومن جانب آخر أن الاعتبار بالمؤشر وإن كانت فيه جهالة في البداية ، ولكن هذه الجهالة مما تنتهي بالعلم عند الحاجة ، وبالتالي فلا تؤدي إلى النزاع الذي يجعل العقد فاسداً ، فالمؤشر يعلن عنه في كل يوم ، وهو معلوم في يومه لا يحيطه لبس ولا غموض ، ولا يشوبه غرر ولا جهالة عندما يعلن عنه ، لذلك فالاعتماد على لايبور أو نحوه كمؤشر فقط ولاحتساب الأجر جائز من حيث المبدأ ، , وإنما الاشكال في المعيار نفسه ، حيث يتمنى المسلم أن يكون للعقود الإسلامية ، او البنوك والمؤسسات المالية الإسلامية مؤشر إسلامي معتمد عليه على الأقل في العالم الإسلامي .
وهذا ما نتمناه ، بل بدأت الخطوات التنظيرية حتى العملية تخطو نحو تحقيق ذلك بإذن الله تعالى .
فتوى جماعية حول الاعتماد على المؤشر :
__________
(1) جامع المسائل لابن تيمية ، المجموعة الرابعة ، تحقيق محمد عزيز شمس ط. دار عالم الفوائد بمكة المكرمة ص 336 ـ 337(1/42)
وقد عرض الموضوع السابق على ندوة البركة الحادية عشرة للاقتصاد الإسلامي فأصدرت الفتوى الآتية : (يتحقق العلم بالأجرة في عقد الإجارة الواردة على الأشياء إذا تم الاتفاق على مدة معلومة موزعة على فترات ، مع تحديد مقدار الأجرة عن الفترة الأولى واعتماداً أجرة المثل عن بقية الفترات بشرط أن تكون أجرة المثل منضبطة أو مرتبطة بمعيار معلوم بحيث لا مجال فيه للنزاع ، وذلك بقصد استفادة المتعاقدين من تغير مستوى الأجرة مع استبقاء صفة اللزوم لكامل مدة العقد) .
تسعير الأجرة :
يخضع تسعير أجرة العمل للاختلاف الكبير بين الفقهاء في أصل التسعير(1)والذي نرى رجحانه أنه يجوز أن تتدخل الدولة في تسعير الأجور بما يحقق مصالح المجتمع دون أن يترتب عليه ظلم لأحد ، فقد ذكر ابن القيم أن الدولة يحق لها إجبار الناس على الفلاحة ، والنساجة ، وسائر الصناعات المطلوبة للمجتمع ... بأجر المثل(2)ولكن على الدولة أن تعتمد في تحديد الأجور وتسعيرها على أهل الخبرة والأمانة ، يقول ابن عابدين : ( ان طريق علم القاضي بالزيادة : أن يجتمع رجلان من أهل البصر والأمانة فيؤخذ بقولهما عند محمد ، وعندهما قول الواحد يكفي )(3)ولا مانع في عصرنا أن تشكل لجنة لتحديد الأجور وتسعيرها من أهل الخبرة ، ومن يمثل العمال ، وأرباب العمل ، وأن يلاحظ في تحديد العمل ـ كما يقول شيخنا أبو زهرة ـ قيمة العمل ، وكفاية العامل وأهله بالمعروف(4).
المبحث الثاني : المنفعة ( العمل ) :
ويشترط في المنفعة ( العمل ) التي تكون محلاً للإجارة الشروط التالية :
__________
(1) يراجع للتسعير : الأحكام السلطانية لابي يعلى ص303 والمنتقى شرح الموطأ (5/18) والشرح الكبير مع المغني (6/44) وكشاف القناع (3/187) والمهذب (1/299)
(2) الطرق الحكمية للسياسة الشرعية ص 228
(3) حاشية ابن عابدين (4/404)
(4) كتاب التكافل ص 56(1/43)
1ـ أن تكون معلومة علماً ينفي الجهالة المفضية إلى النزاع ، وتتحقق هذه المعلومية إما برؤية محل العقد أو تعيينه او الإشارة إليه ، او نحو ذلك مما يعد في العرف تعييناً أو بياناً لكيفية الاستعمال ، وكذلك لا بد من بيان المدة إذا كانت الإجارة غير مرتبطة بإنهاء العمل ، وبيان العمل في استئجار الصناع والعمال(1).
ففي نطاق إجارة الأشخاص يتحقق العلم بإحدى الطريقتين الآتيتين :
الأولى : بيان العمل ونوعه ، وكيفيته ، وذلك في الإجارة المشتركة .
الثانية : بيان مدة الإجارة ، كما في الإجارة الخاصة ( الأجير الخاص ) كاستئجار شخص لخدمته ، أو لوظيفة لمدة سنة ، وحينئذٍ يخضع لتنفيذ العمل للاتفاق ، وإلاّ فللعرف ، حيث إن له سلطاناً كبيراً في هذا المجال .
الجمع بين الطريقتين :
إذا كان العلم في الإجارة يتحقق بإحدى الطريقتين السابقتين ، فهل يجوز الجمع بينهما في عقد واحد ؟
__________
(1) يراجع : بدائع الصنايع (5/2596) والذخيرة (5/415) والروضة (5/188) والمغني (5/462)(1/44)
ذهب جمهور الفقهاء ( أبو حنيفة والمالكية في قول ، والشافعية والحنابلة )(1)إلى عدم جواز الجميع بين الزمن ، والمدة ، وفساد العقد به ، وذلك لأن العقد على المدة مع وجود العمل يزيده جهالة وغرراً ، يقول الكاساني في توجيه هذا الرأي : ( إن المعقود عليه مجهول ، لأنه ذكر أمرين ، كل واحد منهما يجوز أن يكون معقوداً عليه " أعني العمل والمدة " ولا يمكن الجمع بينهما في كون كل واحد منهما معقوداً عليه ، لأن حكمهما مختلف ، لأن العقد على المدة يقتضي وجوب الأجر من غير عمل ، لأنه يكون أجيراً خالصاً والعقد على العمل يقتضي وجوب الأجر بالعمل لأنه يصير أجيراً مشتركاً فكان المعقود عليه أحدهما وليس أحدهما بأولى من الآخر فكان مجهولاً ، وجهالة المعقود عليه توجب فساد العقد بخلاف تلك المسألة ، لأن قوله على أن يفرغ منه في يومي هذا ليس جعل الوقت معقوداً عليه بل هو بيان صفة العمل بدليل أنه لو لم يعمل في اليوم وعمل في الغد يستحق أجر المثل )(2).
__________
(1) المبسوط (16/44) وحاشية الدسوقي (4/11) وحاشية الشرواني على تحفة المحتاج (5/301) والمغني مع الشرح الكبير (6/8 ، 9)
(2) بدائع الصنائع (4/33)(1/45)
وذهب إلى جوازه وصحته أبو يوسف ، ومحمد صاحبا أبي حنيفة ، والمالكية في قول ، والشافعية في وجه ، وأحمد في رواية ، واستدلوا بأن : ( المعقود عليه هو العمل ، لأنه هو المقصود ، والعمل معلوم ، فأما ذكر المدة فهو للتعجيل فلم تكن المدة معقوداً عليها فذكرها لا يمنع جواز العقد وإذا وقعت الإجارة على العمل فإن فرغ منه قبل تمام المدة أي اليوم فله كمال الأجر ، وإن لم يفرغ منه في اليوم فعليه أن يعمله في الغد كما إذا دفع إلى خياط ثوباً ليقطعه ويخيطه قميصاً على أن يفرغ منه في يومه هذا أو اكترى من رجل إبلاً إلى مكة على أن يدخله إلى عشرين ليلة كل ليلة بعير بعشرة دنانير مثلاً ولم يزد على هذا ان الإجارة جائزة ثم إن وفى بالشرط أخذ المسمى ، وإن لم يف به فله أجر مثله لا يزاد على ما شرطه)(1).
والذي نرى رجحانه هو القول الثاني ، وذلك لأن الجمع بين الجوازين ، لا ينبغي أن يترتب عليه عدم الجواز ، أو الفساد ، بل ليس بينهما تعارض ، لأن المقصود بتحديد العمل هو تحقيق الصفات المطلوبة التي يريدها المستأجر ، وبتحديد المدة الفراغ منه في الوقت المحدد ، وكلاهما من الأغراض المقصودة المحققة لمصالح الطرفين .
ما يتعلق بالمدة :
إذا وجدت المدة في العقد فلا بد أن تكون معلومة محددة ، وذلك لأن المدة هي المعيار الأساس لعقد الإجارة لذلك تحدث الفقهاء عن أربعة أمور :
الأمر الأول : كيفية تحديد المدة ، حيث قالوا : يمكن تحديدها بالساعة ، أو اليوم ، أو الأسبوع ، أو الشهر ، أو السنة ، أو نحوها واختلفوا في تحديدها بزمن الحصاد أو نحو ذلك مما يمكن الاختلاف عليه ؟(2).
والذي يظهر لنا رجحانه هو عدم الجواز في كل ما يؤدي إلى النزاع ، وأن المعتمد في التفسير والبيان هو العرف السائد فيما لو ربط بمثل هذه الأمور .
__________
(1) المرجع السابق نفسه
(2) المصادر السابقة ، ومواهب الجليل ( 5/440)(1/46)
الأمر الثاني : طول المدة ، حيث ذهب جمهور الفقهاء ( الحنفية والمالكية ، والشافعية على الأصح ، والحنابلة )(1)إلى جواز أن تكون المدة قصيرة أو طويلة ما دامت محددة استدلالاً بقصة موسى عليه السلام ، ولأن المدة الطويلة إذا كانت محددة لا تورث نزاعاً ، وهذا هو الراجح .
وذهب الشافعية على الصحيح إلى أن المدة لا بدّ أن لا تزيد عن ثلاثين سنة ، وهذا مجرد اجتهاد ، وقدرها بعضهم بسنة ، وهذا مخالف لقصة موسى عليه السلام(2).
الأمر الثالث : الإجارة التي لم يحدد لها نهاية ، وذلك بأن يقول : أجرتك لخدمتي ، أو للعمل الفلاني ، كل شهر بألف ريال مثلاً .
وهذا النوع من العقد فيه خلاف بين الفقهاء على عدة آراء :
الرأي الأول : ـ ذهب المالكية ، وأحمد في رواية ابن منصور اختارها الخرقي(3)إلى صحة هذا العقد ، ثم قال المالكية بأن العقد لا يلزم إلاّ إذا نقد المستأجر أي دفع الأجرة نقداً ، وحينئذ يكون العقد لازماً بقدرها ، فلو أجر نفسه على أن يكون له في كل شهر ألف ريال ، ولم يحدد الزمن ، ودفع المستأجر عشرة آلاف ريال ، فهذا يعني أن العقد لازم لمدة عشرة أشهر .
__________
(1) المصادر السابقة ، وتبين الحقائق (5/106)
(2) نهاية المحتاج (5/302)
(3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (4/40-41) والمقنع ، والشرح الكبير مع الانصاف (14/304-305)(1/47)
وأما عند الحنابلة في رواية ابن منصور فيكون العقد لازماً لليوم الأول ، أو الشهر الأول ، وفيما عداه يكون العقد صحيحاً ، ولكنه يجوز لكل واحد منهما حق الفسخ ، جاء في المقنع : ( وان أكراه كل شهر بدرهم ، أو كل دلو بتمرة ، فالمنصوص أنه يصح ، وكلما دخل الشهر لزمهما حكم الإجارة ، ولكل واحد منهما حق الفسخ عند تقضي كل شهر ) وعلق عليه صاحب الإنصاف : ( وهو المذهب ، قال المصنف ، والشارح ، والناظم ، فصاحب الفائق وغيرهم : يلزم الأول بالعقد ، وسائره بالتلبس به.... والصحيح من المذهب أن الفسخ لا يكون إلاّ بعد فراغ الشهر... وان ترك التلبس به فسخ..... )(1).
الرأي الثاني : ـ ذهب جمهور الشافعية،وبعض الحنابلة إلى بطلان هذا العقد للجهالة(2).
الرأي الثالث : ـ ذهب جمهور الحنفية إلى صحة العقد في الشهر الأول وفساده فيما عداه(3).
الرأي الرابع : ـ ذهب بعض مشايخ الحنفية إلى أن العقد صحيح في الشهر الأول والثاني والثالث ، لجريان العرف بذلك ، وفساده فيماعداها(4).
والذي يظهر لنا رجحانه هو القول الأول(5)وداخل القول الأول فالمختار عندي هو مذهب المالكية وهو لزوم العقد بقدر ما دفعه ، لأن دفع المستأجر المبلغ ، وقبوله من قبل الأجير دليل على رضاهما بالصفقة ولزومها بقدر هذا الدفع ، ولأن الأصل في عقد الإجارة اللزوم ، فلا يعدل عنه إلاّ بسبب قوي ، ويبقى الاختيار بعد ذلك بسبب عدم تحديد المدة.
__________
(1) المقنع ، والشرح الكبير ، والانصاف (14/304-307)
(2) نهاية المحتاج (5/278) وحاشية القليوبي وعميرة على المحلى (3/72) والمقنع مع الشرح الكبير والانصاف (14/305)
(3) بدائع النصائع (5/2574)
(4) تبيين الحقائق (5/122-123)
(5) د. شرف بن علي الشريف : المرجع السابق ص 116-117(1/48)
ويدل على صحة هذا العقد ما ورد عن سيدنا علي رضي الله عنه من أنه أجر نفسه ليهوديّ ، ( كل دلو بتمرة ، فعدّ ستة عشر دلواً أو سبعة عشر دلواً ، وأخذ الأجرة كاملة ، وتكرر مثل ذلك من أنصاريّ ، فعلم بهما النبي صلى الله عليه وسلم وأقرهما على ذلك(1).
وقت فسخ هذا العقد الذي لم تحدد له نهاية :
عند من قالوا بصحة هذا العقد فإنهم مختلفون في انتهاء هذا العقد فعلى ضوء الرأي الرابع ينتهي بعد الأشهر الثلاثة ، والرأي الثالث بعد الشهر الأول ،وعلى ضوء رأي المالكية يكون للعاقدين حق الفسخ بعد انتهاء المدة التي دفع فيها الأجرة نقداً ، وعلى ضوء المنصوص عن أحمد هو ما ذكرناه في الرأي الأول .
__________
(1) حديث علي رضي الله عنه رواه ابن ماجه في سننه ، كتاب الرهون (2/818) وفي الزوائد : في إسناده حنش ، واسمه حسين بن قيس ، ضعفه أحمد وغيره ، ورواه ابن ماجه بسند آخر موقوف (2/818) وروى الحديث الأول أحمد في مسنده (1/90) ويراجع إرواء الغليل (5/313)
وحديث الأنصاري رواه ابن ماجه (2/818) وفي الزوائد : في إسناده عبدالله بن سعيد بن كيسان ، ضعفه أحمد وابن معين وغيرهما .(1/49)
ولكن جمهور الفقهاء متفقون على أن الأجير إذا استمر في عمله ، والمستأجر استمر أيضاً في دفع أجرته بعد انتهاء الفترة الزمنية المحددة فإن العقد يستمر استصحاباً ، أو استحساناً وإنما الخلاف في زمن الخيار عند بدء المدة الجديدة كالشهر ، أو السنة مثلاً ، فذهب الحنابلة إلى أن لهما حق الفسخ في أول كل شهر في الحال ، بحيث إذا دخل الشهر الثاني ولم يفسخ العقد لزمهما حكم الإجارة ، قال المرداوي : ( وكلما دخل شهر لزمهما حكم الإجارة ، وهو المذهب ، واختار أبو الخطاب والمصنف ، والشارح ، والفتح تقي الدين : أن الفسخ يكون قبل دخول الشهر الثاني، وصرح به ابن الزاغوني ، فقال : يلزم بقية الشهور إذا شرع في أول الجزء من ذلك الشهر ، فعلى هذا لو أراد الفسخ يقول : فسخت الإجارة في الشهر المستقبل أو نحو ذلك ، والصحيح من المذهب : أن الفسخ لا يكون إلاّ بعد فراغ الشهر ... وقال المصنف : له الفسخ بعد دخول الشهر الثاني ، وقبله أيضاً ، وقال أيضاً : ترك التلبس به فسخ .... فعلى المذهب يكون الفسخ في أول كل شهر في الحال على الصحيح .... )(1).
وللحنفية في هذه المسألة ثلاثة أقوال :
القول الأول : يلزم العقد بالاستمرار في الشهر الثاني ولو ساعة من الزمن ، وهكذا في الشهر الثاني ، والثالث ، وهذا رأي بعض مشايخهم بناءً على القياس .
القول الثاني : هو أن وقت الفسخ هو الأيام الثلاثة الأُول من كل شهر ، قال صاحب البزازية : وعليه الفتوى(2).
__________
(1) المقنع ، والشرح الكبير ، والانصاف (14/304-309) باختصار ، ويراجع د. شرف الشريف : المرجع السابق ص 118
(2) حاشية ابن عابدين ط. مصطفى الحلبي (6/51)(1/50)
القول الثالث : هو أن وقت الفسخ هو اليوم الأول مع ليلته ، كل شهر لجريان العرف والعادة ، وهذا ما اختاره ابن عابدين واعتبره من ظاهر الرواية وأضاف ابن عابدين إلى ذلك مسألة مهمة وهي ان المستأجر إذا سلّم إلى الأجير مبلغاً من المال واستلمه الأجير فليس لأحدهما حق الفسخ حتى ينتهي المبلغ(1)، وهذا هو رأي المالكية ـ كما سبق ـ وهو الرأي الذي رجحناه .
الأمر الرابع : ابتداء المدة وانتهاؤها :
إذا اتفق الطرفان على بداية العقد ونهايته فيجب عليهما الالتزام بهاتين المدتين ، وأما إذا لم تذكر نهاية المدة ، فقد ذكرنا آراء الفقهاء آنفاً .
أما إذا لم تذكر بداية العقد فقد اختلف الفقهاء على عدة آراء :
الرأي الأول : بطلان العقد ، وهذا هو رأي بعض الشافعية وأحمد في رواية لوجود الجهالة المفضية في النزاع(2).
الرأي الثاني : صحة العقد ويكون ابتداؤه من حين العقد وهذا رأي جمهور الفقهاء الحنفية والمالكية ، والراجح عند الشافعية ، وجمهور الحنابلة )(3)وهذا هو الراجح لقصة موسى عليه السلام حيث لم يحدد بداية المدة .
وجود مدتين في الإجارة :
تضمنت قصة موسى عليه السلام وجود مدتين إحداهما التزام ، والآخر تطوع ، وهذا دليل على جواز الجمع بينهما ما دام الزمن الآخر ليس الزامياً(4).
دور العرف في كثير من مسائل الإجارة :
__________
(1) المصدر السابق نفسه
(2) بدائع الصنائع (5/572) وبداية المجتهد (2/256) ومغني المحتاج (2/340) والمقنع والشرح الكبير والانصاف (14/308)
(3) المصادر السابقة نفسها
(4) أحكام القرآن لابن العربي (3/1479)(1/51)
إذا كان للعرف دور كبير في كل العقود المالية فإن دوره أكبر في باب الإجارة ، ولا سيما في نطاق العمل والنقد الذي ذكر في العقد ، فقد ترجم البخاري : باب إذا استأجر أجيراً فبين له الأجل ، ولم يبين العمل(1)، حيث استدل بقصة موسى عليه السلام في قوله تعالى : (إني أريد أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشراً فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين قال ذلك بيني وبينك أيّما الأجلين قضيت فلا عدوان عليّ والله على ما نقول وكيل)(2)، قال الحافظ ابن حجر : ( وقد مال البخاري إلى الجواز ؛ لأنه احتج لذلك ...ووجه الدلالة منه ـ أي من قوله تعالى السابق ـ أنه لم يقع في سياق القصة المذكورة بيان العمل ، وإنما فيه أن موسى عليه السلام أجر نفسه من والد المرأتين)(3).
فالعرف السائد في البلد سواء كان خاصاً أم عاماً وله اعتبار كبير في تحديد المراد والمطلوب .
إجارة المجهول للحاجة (أو الإجارة بالنسبة المئوية)
ذكر ابن رشد أن طائفة من السلف ، وأهل الظاهر ذهبوا إلى جواز إجارة المجهولات مثل أن يعطي دابته لمن يسقي عليها بنصف ما يعود عليه قياساً على المضاربة(4)، وهذا مذهب أحمد وابن سيرين ، وإليه مال البخاري(5).
ويقاس على ذلك تأجير الشخص بطعامه ، وملبسه ، بل قال به جماعة من الفقهاء(6).
__________
(1) صحيح البخاري مع فتح الباري (4/444)
(2) سورة القصص / الآية 28
(3) صحيح البخاري مع فتح الباري (4/444)
(4) بداية المجتهد (2/371)
(5) المغني لابن قدامة (5/446) وصحيح البخاري مع الفتح (4/451)
(6) المقنع مع الشرح الكبير مع الانصاف ، تحقيق د. عبدالله التركي ط. الهجر (14/277)(1/52)
2ـ أن تكون المنفعة متقومة أي ان تكون لها قيمة مقصودة حسب العرف ، فلا تصح إجارة التافه الحقير الذي لا يقابل بالمال ، وذكر بعض الفقهاء من أمثلتها استئجار تفاحة للشم(1).
وفي باب إجارة الأشخاص لا بدّ أن تكون للعمل الذي يقدمه الأجير قيمة ، لذلك لا يجوز استئجار البياع للتلفظ بكلمة واحدة مثلاً إلاّ إذا ذكرها أكثر من مرة(2).
3ـ أن تكون مباحة الاستيفاء ، فلا تكون معصية ممنوعة مثل الاستئجار على رقص المرأة أمام الرجال ، أو للبغاء ، أو لسقي الخمر ، ونحوها من المحرمات ، وكذلك يجب أن لا تكون طاعة واجبة وجوباً عينياً ، وهذا الشرط فيه تفصيل وخلاف(3).
ونحن هنا نذكر أهم هذه المسائل بشيء من الايجاز :
أ ) الاستئجار على أداء الشعائر والعبادات ( القربات يقصد بها العبادات ـ بمعناها الخاص المشهور(4) هي أداء الشعائر التعبدية من النطق بالشهادتين ، والصلاة والزكاة والحج ،والعمرة ،والأذان والاقامة ، والامامة ،وتعليم القرآن ،والعلوم الشرعية ، ونحوها.
والسؤال الوارد هنا : هل يجوز التأجير عليها ؟
للجواب عن ذلك نقول : إن العبادات نوعان : فروض عين ، وفروض كفاية..
ففرض العين لا يجوز الاستئجار عليه بالاجماع ما دام المفروض عليه قادراً ، أما إذا لم يكن قادراً أو مات وعليه هذا الواجب العيني فهل يجوز أداؤه من شخص آخر ، وبالتالي التأجير عليه ؟ فهذا محل خلاف ، والراجح جواز الاستئجار في كل ما يجوز فيه أداؤه من الغير ، مثل الحج والعمرة في حالتي المرض ، والموت .
__________
(1) يراجع : الفتاوى العندية (4/411) والذخيرة (5/400) والروضة (5/177) والمغني لابن قدامة (5/433)
(2) الروضة (5/178)
(3) يراجع : بدئاع الصنائع (5/2561) ومواهب الجليل (7/548) والذخيرة (5/396) وروضة الطالبين (5/184) والمغني (5/549)
(4) العبادات بمعناها العام يقصد بها كل عمل صالح من تعميرالدنيا والآخرة يراد به وجه الله تعالى(1/53)
وأما فروض الكفاية أو سننها فمحل خلاف بين الفقهاء ، ونحن هنا نذكر هذه المسائل الخلافية بإيجاز:
التأجير على فروض الكفاية وسننها : كالجهاد ، والامامة والاذان وتعليم القرآن وقراءته ، ونحوها حيث ثار الخلاف في هذه المسائل على رأيين :
الرأي الأول : المنع ، حيث ذهب أبو حنيفة ومحمد ، وأحمد إلى عدم جواز التأجير عليها ، وهذا مروي عن عطاء ، والضحاك بن قيس وقد استدلوا بعدة أحاديث ، منها :
? حديث عثمان بن أبي العاص قال : إن آخر ما عهد إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن اتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً )(1)لكن هذا الحديث لا يدل على منع الأجر ، لأن الفعل لا دليل فيه على الفعل .
? حديث عبادة بن الصامت قال : ( علّمت ناساً من أهل الصفة القرآن والكتابة ، فأهدى إليّ رجل منهم قوساً ، قال : قلت : قوس ، وليست بمال ، أتقلدها في سبيل الله ، فذكرت ذلك لنبي صلى الله عليه وسلم فقال:( إن سَرّكَ أن يقلدك الله قوساً من نار فاقبلها )(2)وهذا الحديث ضعيف لا ينهض حجة(3).
__________
(1) رواه الترمذي في سننه بتحقيق الشيخ أحمد محمد شاكر ط. مصطفى الحلبي (1/4310) قال الترمذي : حسن صحيح ، وصححه الحاكم في المستدرك (1/199) ، وكذلك صححه أحمد شاكر ، ورواه ابن ماجه في سننه الحديث 714 وأبو داود الحديث 531 والنسائي (1/109) والبيهقي (1/429) وأحمد (4/21،217) وقال الألباني في الارواء (5/216) : صحيح
(2) رواه أبو داود ـ مع العون ـ (3/276) وابن ماجه (2/729) والبيهقي (6/125) وقد اختلف في الحديث كما سيأتي .
(3) ذكر البيهقي (6/125) أن هذا الحديث لا يعرف إلاّ من طريق الأسود بن ثعلبة عن عبادة ، وهو مجهول ، وإضافة إلى ذلك فإنه يخالف الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن طريق ابن عابس وقد روى حديث آخر عن أبي بن كعب رواه ابن ماجه الحديث 2158 والبيهقي (6/125،126) ولكن سنده ضعيف كما قال البويصري )134/2)(1/54)
? حديث عبدالرحمن بن شبل الأنصاري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( اقروا القرآن ، ولا تغلوا فيه ، ولا تجفوا عنه ، ولا تأكلوا به ، ولا تستكثروا به )(1).
واستدلوا بأن هذه الأفعال قربات يختص بها المسلم ، ويتقرب بها إلى الله فلا يجوز الاستئجار عليها .
الرأي الثاني : الجواز ، وهذا رأي مالك ، والشافعي ، وأحمد في رواية ، وبه قال أبو قلابة ، وأبو ثور ، وابن المنذر(2)، وهذا رأي متأخري الحنفية حيث خالفوا المتقدمين منهم ، فأجازوا الإجارة على تعليم القرآن ، وعلى إقامة الشعائر كالامامة ، والاذان استحساناً للحاجة(3)، وقال الصاوي : ( أما الإجارة على أصل القراءة فجائز)(4).
وكذلك أجازوا للمفتي أخذ الأجر إن لم يكن له رزق ، وقالوا : تجوز الإجارة على المندوبات وفروض الكفايات(5).
وقد استدل هؤلاء على جواز الاستئجار لهذه القربات وصحته بأحاديث صحيحه منها :
حديث : ( إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله ) حديث صحيح رواه البخاري كما سبق كما أنه صريح في الدلالة على الجواز ، وقد رأينا الأحاديث التي استدل بها المانعون لا يمكنها معارضة هذا الحديث الصحيح الصريح ، ولذلك فالراجح هو الرأي الثاني .
ب ) الإجارة على المعاصي :
__________
(1) رواه أحمد (3/357) وأبو يعلى ، والطبراني في المعجم الكبير والبيهقي (6/125-126) وقال الهيثمي : رجال أحمد ثقات ، وقال ابن حجر في الفتح : سنده قوي ، يراجع : فيض القدير (2/64) ط. مصطفى محمد
(2) الشرح الصغير (4/34) ونهاية المحتاج (5/289) والمغني لابن قدامة مع الشرح الكبير (6/134-138) والموسوعة الفقهية الكويتية (1/291)
(3) حاشية ابن عابدين (5/34،35)
(4) حاشية الصاوي على الشرح الصغير (4/34)
(5) المصادر السابقة(1/55)
اتفق الفقهاء في الجملة على حرمة الإجارة على المنافع المحرمة كالزني ، والنّوح ، وان العقد عليها باطل لا يستحق به أجرة ، واختلفوا في بعض التفاصيل ، مثل استئجار كاتب ليكتب له غناءً محرماً ، أو نوحاً حيث ذهب الجمهور إلى حرمته وبطلانه ، وذهب أبو حنيفة إلى صحته ، وروى عن أحمد أنه قال : فيمن حمل خنزيراً أو خمراً لنصراني : اني أكره أكل كرائه ، ولكن يقضي للحمال بالكراء ، ولكن المذهب على خلاف هذه الرواية(1).
وقد استدل الجمهور على حرمة الاستئجار على المحرمات أياً كان ، بالكتاب ، والسنة ، والمعقول :
أما الكتاب فقوله تعالى : ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)(2)وجه الاستدلال به هو أن الله تعالى نهي عن أي تعاون على الاثم والعدوان ، وأنه مما لا شك فيه أن الاستئجار على المحرمات حملاً أو نحوه تعاون لتحقيق هذا المحرم ، والاثم ، ومن المعلوم في أصول الفقه أن النهي يقتضي الحرمة ، والفساد على تفصيل فيه(3).
وأما السنة فمنها أن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن حامل الخمر ، والمحمول عليه ، في عدة روايات منها قوله صلى الله عليه وسلم : ( لعن الله الخمر ، شاربها ، وساقيها ، ومبتاعها ، وبائعها ، وعاصرها ، ومعتصرها ، وحاملها ، والمحمولة عليه )(4).
واستدلوا بالمعقول ، وذلك لأن العقل يقتضي أنه إذا نهى الشارع عن شيء وحرمه أن يسد عليه جميع أبوابه ، وإلاّ فيكون النهي دون جدوى .
__________
(1) يراجع : بدائع الصنائع (4/184،191) وكشف الحقائق (2/157) والشرح الصغير (4/10) والمهذب (1/194) والمغني مع الشرح الكبير (6/134)
(2) سورة المائدة / الآية 2
(3) يراجع لمزيد من البحث ، مبدأ الرضا في العقود (1/162-171 )
(4) رواه أبو داود ، الحديث 3674 وابن ماجه 3380 والحاكم (4/145) وصححه(1/56)
ج) استئجار المرأة الأجنبية لخدمة الرجل ، حيث منعه الشافعية مطلقاً سداً للذرائع ، والحنفية قالوا بكراهته للأعزب ، وجوازه بدون الخلوة للمتزوج الذي معه أهله ، ووافقهم المالكية وأضافوا شرطاً آخر وهو كونه مأموناً ، في حين أجازه الحنابلة مطلقاً بشرطين هما عدم الخلوة وعدم النظر إليها(1)، والراجح هو قول المالكية ، لأن الأعزب لا يؤمن من الوقوع في محرم ، وأن اشتراط كون المتزوج مأموناً شرط جيد يدرأ الفساد .
د ) استئجار الوالدين لخدمة الولد ، حيث منعه الحنفية لأنه يتنافى مع برّ الوالدين وتعظيمهما والاحسان إليهما ، وأجازه الشافعية والحنابلة مع الكراهة(2).
4ـ أن تكون مقدورة الاستيفاء حقيقة وشرعاً ، فلا تصح إجارة المغصوب من غير الغاصب(3)ولا يصح كذلك تأجير جاهل لتدريس علوم الشرع ، أو الطب أو نحوهما مما يجهله ، ومثل تأجير الأعمى للحراسة بالبصر ويدخل في غير المقدورة شرعاً تأجير شخص لقتل معصوم الدم ، أو لقلع سن صحيحة ، أو قطع يد بدون وجه حق ،(4).
5: أن لا تستهلك العين المؤجرة بالإجارة ، مثل الطعام ، حيث لا يمكن الانتفاع به إلاّ باستهلاكه(5).
6: أن يتحقق الانتفاع بالعين المأجورة حقيقة ، مثل تأجير مسكن صالح للانتفاع به ، او حكماً مثل تأجير أرض صالحة للانتفاع بها من حيث هي ، وإن لم تكن صالحة إلاّ بالفعل ، ومن هنا فلا يجوز تأجير جزء لا ينتفع به من حيث هو ، مثل قطع غيار السيارات ، أو الطائرات أو نحوها ، لأن ذلك يتنافى مع شرط تحقق المنفعة .
وفي مجال إجارة الأشخاص يجب أن يكون العمل محققاً منفعة للمستأجر ، لأنه تقابله الأجرة .
__________
(1) درر الحكام (1/556) ومواهب الجليل (5/393) وشرح الأنوار (3/72) وكشاف القناع (3/548)
(2) المصادر السابقة
(3) المصادر السابقة نفسها
(4) المصادر السابقة
(5) الفتاوى الهندية (4/411) ومواهب الجليل (7/448) والروضة (5/184) والمغني لابن قدامة (5/552)(1/57)
بطلان عقد الإجارة وفساده :
من المعلوم فقهاً أن الحنفية فرقوا بين الباطل والفاسد ، فقالوا : الباطل : ما كان الخلل في أصله ( أي ركنه ) والفاسد : ما كان الخلل في وصفه ( أي شرطه ) لكن الجمهور لم يفرقوا بينهما فإذا اختلت الأركان أو الشروط ، أو كلاهما فإن الإجارة تصبح باطلة أو فاسدة(1).
الخيارات في عقد الإجارة :
بما أن عقد الإجارات من المعاوضات المالية الملزمة للطرفين فَيَرِدُ عليها عدد من الخيارات مثل خيار المجلس عند الشافعية والحنابلة خلافاً للحنفية والمالكية(2).
ومنها خيار الشرط لزمن اختلف فيه الفقهاء بين محدد بثلاثة أيام ، أو شهرين ، أو أكثر بحيث يكون للشارط حق الخيار في المدة المتفق عليها ويكون العقد غير ملزم بالنسبة له خلال تلك المدة ، ثم إذا لم يفسخ العقد يصبح العقد باتاً ملزماً(3).
ومنها خيار العيب ، حيث يكون للعاقد الحق في الفسخ إذا وجد في المأجور أو في المعمول عيباً تنتقص به المنفعة المقصودة في الإجارة(4).
__________
(1) يراجع لمزيد من التفصيل : مبدأ الرضا في العقود ـ دراسة مقارنة ـ أ.د. علي محيى الدين القره داغي (1/155-177) ومصادره المعتمدة
(2) يراجع : فتح القدير (5/81) وشرح الخرشي (4/109) والمجموع (9/184) والمغني (3/563)
(3) يراجع : فتح القدير (5/110) وشرح الخرشي (4/109) والمجموع (9/225) والمغني (4/520)
(4) يراجع : الفتاوى الهندية (3/72-73) وتكملة المجموع (12/175) والمبسوط (13/105) وبداية المحتهد (2/175) ويراجع للتفصيل : الخيار وأثره في العقود ، د. عبدالستار أبو غدة ط. دلة البركة ص 192 ، ويراجع : مجلة الأحكام العدلية في موادها : 497- 506(1/58)
ومنه خيار الرؤية ، وهو يثبت لمن لم ير الشيء المعقود عليه عند من يقول به ( و هم جمهور الفقهاء ) وعند بعضهم إذا وصفه باوصافه ثم وجد عليها فلا خيار له(1).
جهالة مدة الخيار :
إذا تم عقد الإجارة واتفقا على شرط الخيار لمدة مجهولة مثل قدوم فلان ، أو نزول المطر ، فقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة على أربعة آراء :
1. أن الخيار صحيح وأنه يرجع في تحديده إلى السلطان ( القضاء ) وهذا رأي المالكية(2)بناءً على أنه المرجع عند الخلاف .
2. أن الخيار جائز إلى أن يتحقق الشرط ، وهذا رأي ابن شبرمة ، والثوري ، وأحد القولين للحنابلة(3)محتجين بقول النبي صلى الله عليه وسلم ( المسلمون عند شروطهم)(4).
3. أن الخيار باطل وأن العقد أيضاً باطل ، وهذا رأي الشافعية ، وهو المذهب عند الحنابلة(5)وذلك لأن الغرر مؤثر في عقد الإجارة فيجعله باطلاً .
4. أن العقد فاسد ، ولكن إن أجيز من له الخيار خلال ثلاثة أيام يتحول صحيحاً ، وهذا رأي أبي حنيفة ، قال ابن عابدين : ( لأنه قد زال المفسد قبل تقرره .... ، فإذا أسقطه تحقق زوال المعني المفسد قبل مجيئه ، فيبقى العقد صحيحاً )(6).
حكم العقد بعد مضي مدة الخيار :
__________
(1) يراجع : فتح القدير (5/137) وحاشية الدسوقي (3/27) والمجموع (9/330) والمغني (3/494) ود. عبدالستار أبو غدة : المرجع السابق ص 493
(2) بداية المجتهد (2/235)
(3) الشرح الكبير مع المغني (4/66)
(4) الحديث رواه البخاري تعليقاً بصيغة الجزم مع الفتح الباري ، كتاب الاجارة (4/451) ورواه أبو داود مع عون المعبود (9/516) ورواه الترمذي بلفظ ( المسلمون على شروطهم ....) وقال : حسن صحيح ، تحفة الأحوذي (4/584)
(5) مغني المحتاج ( 2/47) والشرح الكبير مع المغني (4/66)
(6) حاشية ابن عابدين (4/568-569)(1/59)
إذا حددت مدة خيار الشرط ومضت ولم يتعرض من له الخيار إلى الفسخ والإجازة فذهب الجمهور ( الحنفية والشافعية ، والحنابلة )(1)إلى أن العقد يصبح لازماً ، لأن العقد لازم ، وأثر فيه الشرط للفترة المحددة ، وبعدها يعود العقد إلى لزومه ، وخالفهم في ذلك المالكية حيث ذهبوا إلى أن العقد لا يلزم إلاّ بالتصريح بالفسخ ، أو الإجازة(2).
الجمع بين الإجارة وعقود أخرى :
تضمنت قصة موسى عليه السلام مع صالح مدين على الجمع بين النكاح والإجارة في صفقة واحدة ، يقول القاضي ابن العربي : ( هذا اجتماع إجارة ونكاح ، وقد اختلف علماؤنا في ذلك على أربعة أقوال :
الأول ـ قال في ثمانية أبي زيد : يكره ابتداء ، فإن وقع مضى
والثاني ـ قال مالك وابن القاسم في المشهور : لا يجوز ، ويفسخ قبل الدخول ، وبعده
والثالث ـ أجازه أشهب وأصبغ
الرابع ـ قال محمد : قال ابن الماجشون : ان بقى بعد المبيع ، يعني من القيمة ، ربع دينار يقابل البضع جاز النكاح ، وإلاّ لم يجز .
وقد بينا توجيهات هذه الأقوال في كتب المسائل ، والصحيح جوازه ، وعليه تدل الآية ، وقال مالك : النكاح أشبه شيء بالبيوع فأيّ فرق بين أن يجمع بين بيع وإجارة ، أو بين بيع ونكاح ، وهو شبهه إلاّ من جهة الرجلين يجمعان سلعتهما ، وإذا كانت لرجل واحد جاز ، والعاقد هنا واحد ، وهو الوليّ )(3).
__________
(1) حاشية ابن عابدين (4/577) ومغني المحتاج (2/47-48) والشرح الكبير مع المغني (4/69)
(2) الاشراف على مسائل الخلاف (1/251) ويراجع د.شرف الشريف : المرجع السابق ص 131
(3) احكام القرآن (3/1476)(1/60)
وإذا كان فقهاء المالكية قد اختلفوا في هذه المسألة فإن جمهور فقهاء المسلمين أيضاً قد اختلفوا في الجمع بين عقدين ـ مثل الإجارة والبيع ـ في صفقة واحدة ، والذي انتهينا إليه في بحث خاص بالموضوع هو أن الممنوع هو الجمع بين عقد معاوضة مثل البيع والإجارة مع عقد سلف كالقرض ، والسلم ، أما الجمع بين البيع والإجارة ، أو الإجارة والنكاح فهذا مشروع(1).
ضمان الأجير الخاص والمشترك :
تمهيد :
اتفق الفقهاء على أن الأجير ( سواء كان خاصاً أم عاماً ومشتركاً ) يضمن في حالات التعدي والتقصير ومخالفة الشروط ، واتفقوا كذلك على أن الأجير الخاص أمين ، وان يده يد أمانة فلا يضمن إلاّ في الحالات السابقة ، وهذا هو الميزان الشرعي العام الذي يحقق العدالة للطرفين ، وإنما اختلفوا في الأجير المشترك إذا تلف الشيء الملكف بصنعه ، أو عمله على ثلاثة أقوال :
القول الأول : لأبي حنيفة ، وزفر والحسن بن زياد والشافعية على الصحيح والحنابلة في الرواية المنصوص عليها ، وبه قال عطاء وطاووس ، ويرون عدم ضمانه إلاّ في الحالات الثلاث السابقة(2)وهذا مبني على الأصل العام الذي ذكرناه وعلى قياسه على الوكيل ، والمضارب والعامل في المساقاة والمزارعة .
القول الثاني : أنه يضمن إلاّ إذا ثبت أنه لم يتعد ولم يفرط(3).
__________
(1) يراجع لمزيد من التفصيل والبحث : بحثنا بعنوان : أحاديث النهي عن صفقتين في صفقة واحدة ، دراسة حديثية مقارنة ، المنشور في : بحوث في فقه المعاملات المالية المعاصرة ط. دار البشائر الإسلامية ببيروت ص 343- 386
(2) يراجع : بدائع الصنائع (4/210) وتبيين الحقائق (5/124) وحاشية الدسوقي (4/23) ومغني المحتاج (2/351) والمغني مع الشرح الكبير (6/115) ويراجع : د.شرف الشريف : المرجع السابق ص 254 وما بعدها
(3) المصادر السابقة(1/61)
القول الثالث : لأبي يوسف ومحمد ، والحنابلة في رواية والشافعية ، الذين يرون أنه ان كان الهلاك بما يستطيع دفعه فإن الأجير يضمن حتى يثبت عدم تعديه وتقصيره ، وان كان غير قادر على الدفع مثل الغرق العام ، والحريق العام فلا يضمن(1).
والذي نرى رجحانه هو القول الثالث ، لأنه أعدل الأقوال وأوسطها .
آثار العقد والتزاماته :
لعقد الإجارة على منافع الأشخاص آثار والتزامات نذكرها بصورة موجزة مبتدئين بالتزامات المستأجر ثم التزامات الأجير .
التزامات المستأجر :
يجب على المستأجر ما يأتي :
أولاً ـ دفع الأجرة حسب الاتفاق ، أو بعد فراغ العمل كما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فقال : ( أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه ) وهو حديث صحيح كما سبق .
وقت دفع الأجرة :
... ... اتفق الفقهاء على أن للعاقدين الحق في تحديد طريقة الدفع تعجيلاً ، أو تأجيلاً أو مقسطاً ، لكن هناك بعض الحالات يرى بعض الفقهاء وجوب تعجيلها منها :
1ـ إجارة الذمة ، حيث ذهب الشافعية إلى أن أجرتها يجب أن تسلم في مجلس العقد ، والمالكية خلال ثلاثة أيام من حيث المبدأ ، وإلاّ يصبح العقد باطلاً(2)، وذهب الحنفية إلى عدم وجوب تعجيلها ، في حين ذهب الحنابلة إلى أنها إن كانت بلفظ السلم فيجب تعجيلها ، وإلاّ فلا(3).
والذي نرى رجحانه هو عدم وجوب التعجيل ، لأن ذلك خاص بالسلم الذي ورد فيه نص ، فلا تقاس الإجارة عليه .
2ـ إذا كانت الأجرة أعياناً مثل أن تكون الأجرة سيارة أو منزلاً ، حيث اشترط المالكية والشافعية تعجيلها خوفاً من التلف والتغير ، وخالفهم الآخرون(4).
دفع الأجرة عند الاطلاق :
__________
(1) المصادر السابقة
(2) بلغة السالك (2/267) ومواهب الجليل (5/395) ونهاية المحتاج (5/262)
(3) بدائع الصنائع (4/201) والمغني مع الشرح الكبير (6/16)
(4) المصادر الفقهية السابقة(1/62)
... ... ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الأجرة عند الاطلاق تدفع عند انتهاء العمل في الإجارة المشتركة ، وعند نهاية المدة في الإجارة المقيدة بالزمن إلاّ إذا كان العرف يقضي دفعها مشاهرة ، أو مسانهة أو نحو ذلك فحينئذ يكون العرف هو الحكم(1).
وقت تملك الأجرة :
... ... اختلف الفقهاء في وقت تملك الأجرة فذهب الشافعية والحنابلة إلى أن الأجرة تملك بالعقد ملكاً مراعى فيه الزمن بحيث كلما مضى زمن استقر الملك بقدره ، وانها تستقر في ذمة المستأجر عند نهاية المدة ، او تسلم العمل ، قياساًَ على المنفعة(2)وذهب الحنفية والمالكية إلى أن الأجرة لا تملك بالعقد ، وإنما باستيفاء المنافع ، حيث استدلوا بالآيات والأحاديث التي ربطت بين دفع الأجرة والاستيفاء مثل قوله تعالى : ( فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ )(3)وقياساً على الثمن في البيع(4).
والذي يظهر لي رجحانه أن الأجرة تثبت بالعقد ، ولكن الملكية فيها غير مستقرة إلى أن تستوفى ، وذلك لأن أدلة القول الثاني تتحدث عن الوفاء ولا تتحدث عن الملكية .
ضمانات الوفاء بالأجرة ( آثار عدم الدفع ) :
... إذا لم يقم المستأجر بدفع الأجرة المستحقة فإن للأجير الحق في حبس العين المصنوعة في الإجارة القائمة على العمل ، أو الامتناع من استكمال بقية الزمن في الإجارة المحددة بالزمن(5).
__________
(1) المصادر الفقهية السابقة
(2) نهاية المحتاج (5/263) والمغني مع الشرح الكبير (6/14)
(3) سورة الطلاق / الآية 6
(4) تحفة الفقهاء (2/477) والدسوقي (4/4)
(5) يراجع : كشف الحقائق ( 1/396) وحاشية ابن عابدين (6/34) وشرح الخرشي (7/42) ونهاية المحتاج (5/295) والمغني مع الشرح الكبير (6/136)(1/63)
ثانياً ـ تزويد الأجير بمستلزمات عمله ، فإن كان أجيراً مشتركاً يقدم إليه الشيء الذي يراد صنعه ، وإن كان أجيراً خاصاً يبين له المطلوب منه خلال الفترة المتفق عليها ، وهكذا ، وإذا لم يقم بما سبق فإن الأجير الخاص يستحق الأجر على حبسه نفسه لصالحه حتى ولو لم يعمل ، وان الأجير المشترك يكون غير ملزم بإنجاز عمله في الفترة المتفق عليها .
ويدخل كذلك ضمن هذا الالتزام ترتيب مكان العمل ، ومستلزمات المكتب وتهيئة وسائل النقل للعمال ، ووسائل الوقاية من أخطار العمل ونحوها ان كان العمل يقتضي ذلك .
ثالثاً ـ التزامات أخلاقية :
أوجب الإسلام مجموعة من القيم الأخلاقية الرائدة للتعامل مع الناس ، وخص منها العامل بكثير منها ، وهي :
1ـ النظرة إلى العامل والأجير نظرة قائمة على المساواة والاخوة دون إحساس بالتعالي والاهانة ، حيث أصل الإسلام هذا الجانب ، وبين أن الجميع من آدم ، وآدم من تراب ، وان الفضل بالتقوى فقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ...)(1)وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم ، فمن كان اخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل ، وليلبسه مما يلبس ، ولا تكلفوهم ما يغلبهم ، فإن كلفتموهم فأعينوهم )(2)أي ان هؤلاء الذي يخدمونكم اخوانكم في الدين ، إن كانوا مسلمين ، أو في الإنسانية إن كانوا غير مسلمين ، ويقول تعالى : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)(3).
__________
(1) سورة الحجرات / الآية 13
(2) الحديث رواه البخاري ـ مع الفتح ـ كتاب الايمان ( 1/84)
(3) سورة الحجرات / الآية 10(1/64)
2ـ المعاملة الطيبة الحسنة اللائقة بالإنسان في جميع الأحوال بالقول ، والفعل ، والنظرة ، والسماح والمغفرة عند وقوع الخطأ ، قال تعالى : ( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(1).
3ـ عدم تكليف العامل والأجير بما لا يطيقه ، حيث ورد بذلك آيات وأحاديث صحيحة منها قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لاتكلفوهم مالا يطيقون )(2)وقوله صلى الله عليه وسلم : ( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ، ولا يخذله ، ولا يحقره... )(3).
رابعاً ـ التزامات قانونية :
تلزم قواينن العمل في عصرنا الحاضر أرباب العمل مجموعة من الاجراءات مثل :
1. منح الاجازات الاسبوعية ، والسنوية ، والاجازات المرضية .
2. توفير وسائل الاسعافات الطبية والعلاجية ، بل انه في بعض الأحيان إذا زاد عدد العمال يوجب القانون وجود طبيب أو مستشفى لهم .
3. وجود لوائح تنظيمية وجزائية .
فهذه الأمور إذا صدر بها قرار من السلطة الشرعية يصبح ملزماً ، لأن قراراتها في دائرة المصالح ملزمة شرعاً .
4. توفير الخدمات الاجتماعية .
5. ترتيب التأمين الصحي ، والتأمين لحالات الاصابة ، والعجز والهلاك .
وهذا إذا كان عن طريق التأمين التكافلي الإسلامي فهو حلال ، وإلاّ فلا يجوز إلاّ في حالات الضرورة أو وجود قانون ملزم ، وذلك لترتيب تعويض مناسب للعامل في هذه الحالات إما لنفسه ، أو لأهله(4).
__________
(1) سورة آل عمران / الآية 134
(2) نيل الأوطار (7/3)
(3) صحيح مسلم (2/382)
(4) يراجع لمزيد من التفصيل : أ.د. علي القره داغي : التأمين الإسلامي ، دراسة مقارنة ط. دار البشائر الإسلامية ببيروت(1/65)
وقد تطرق فقهاؤنا إلى حالة ضمان الأجير عند هلاكه إذا كان صغيراً ، حيث ذهب المالكية إلى أن صاحب العمل إذا استأجره دون إذن وليه فهلك أثناء المدة فإنه يضمنه إذا كان عمله مما يعطب في مثله(1)، أما إذا لم يكن العمل مما يؤدي إلى هلاك مثله فإنه لا يضمنه ، في حين ذهب جمهورهم ـ كما قال الحافظ ابن حجر ـ إلى أن من استعان بصبي لم يبلغ دون إذن وليه فهلك في ذلك العمل فهو ضامن ، وتكون ديته على عاقلته(2).
وأما الكبير فإذا أصابه شيء فإنما يضمن المستأجر إذا كان بسبب تعديه ، أو تقصيره(3).
وقد اختار الشيخ وهبه الزحيلي : ( أن المحكم في شأن إصابات العمال فقهياً هو القواعد العامة في الضمان ، فيسأل المباشر للضرر وإن لم يتعد ، أو التقصير وعدم التحرز في الإضرار والإهمال )(4).
واليوم ومع وجود التأمين التكافلي أصبح العمال في مأمن بفضل الله تعالى في جميع الحالات ، وهذا أمر يتفق مع مقاصد الشريعة الغراء .
التزامات الأجير :
هناك التزامات على الأجير يجب عليه أداؤها وهي :
أولاً ـ انجاز العمل على الوجه المطلوب المتفق عليه في الإجارة المشتركة وتسليمه إليه ، أو تسليم نفسه في الزمن المحدد في الإجارة الخاصة .
ثانياً ـ قيامه بنفسه ان كانت الإجارة خاصة ، أو مشتركة ، ما دامت على غيرما في الذمة ـ كما سبق ـ وذلك الأصل في الإجارة المعينة أن يقوم الشخص بنفسه بالعمل إلاّ إذا كان الاتفاق يجيز النيابة .
والتحقيق أن هناك ثلاث حالات للإجارة المعينة الخاصة :
الحالة الأولى : النص على أن يقوم الأجير بنفسه ، وحينئذ لا يجوز ان ينيب غيره فيه .
__________
(1) تبصرة الحكام (2/350)
(2) فتح الباري (12/253)
(3) المغني والشرح الكبير (9/570) وفتح الباري (12/352)
(4) د. وهبه الزحيلي : نظرية الضمان ط. دار الفكر 1389هـ ص 257-258(1/66)
الحالة الثانية : النص على الإذن للأجير بأن يقوم بنفسه أو بغيره ففي هذه الحالة تجوز الانابة بلا شك لأن المؤمنين عند شروطهم .
الحالة الثالثة : الاطلاق ، ففي هذه الحالة الأصل أن يقوم الأجير بنفسه ، لأن ذاته قد تكون مطلوبة لدى المستأجر ، ولذلك اختاره ، ولكن بعض الحنفية أجازوا الاستنابة إذا كان المناب عنه أحسن منه(1).
وأما الإجارة الخاصة الواردة على ما في الذمة فلا يشترط فيها أن يقوم العاقد الأجير بالعمل بنفسه ، لأنها واردة على ما في الذمة وحينئذ يكون المطلوب تحقيق الأوصاف وليس تحقيق الذوات والأشخاص .
وأما الإجارة المشتركة فإن كانت واردة على ما في الذمة فلا خلاف في عدم اشتراط قيام الأجير المشترك بالعمل بنفسه ، لأنها واردة على عمل موصوف في الذمة .
وأما الإجارة المشتركة الواردة على غير ما في الذمة فقد اختلف فيها الفقهاء فذهب جمهورهم في جواز أن يعمل بنفسه ، أو أجرائه إذا لم يشترط عليه في العقد أن يعمل بيده(2).
ثالثاً ـ عدم الغياب عن العمل أثناء فترة العمل في الإجارة الخاصة :
إن الأجير الخاص مرتبط بالزمن بالدرجة الأولى في علاقته بالمستأجر ، ولذلك لا يجوز له أن يغيب عن العمل إلاّ بإذن ربّ العمل ، او للضرورة ، أو الحاجة الملحة التي تنزل منزلة الضرورة ، وإلاّ فإن غاب وترتب على غيابه ضرر فإنه يجب عليه تعويضه ، وأن المستأجر له الحق حينئذ أن يرجع عليه بقيمة ما فوّت عليه في جميع الأحوال ، وهذا هو الرأي المعتمد عند الحنابلة(3).
وذهب الحنفية إلى أنه ينقص من أجر الأجير بقدر تقصيره في عمله(4).
__________
(1) حاشية ابن عابدين (6/18) ويراجع : مواهب الجليل (5/395) ومغني المحتاج (2/439) وشرح منتهى الارادات (2/375) والمغني مع الشرح الكبير (6/34) ود. شرف الشريف ص 238
(2) المصادر السابقة ، وبدائع الصنائع (4/228)
(3) المغني و الشرح الكبير (6/37)
(4) حاشية ابن عابدين (6/70)(1/67)
وذهب المالكية إلى أن الأجير إذا قام بعمل بأجرة كانت تلك الأجرة لسمتأجره الأول ، وخيّر صاحب العمل في المدونة بين أجرة الأجير التي حصل عليها من المستأجر الثاني ، وبين اسقاط حصة مدة غيابه من أجرته عنده ، أما إن عمل بالمجان فيسقط من أجرته بقدر ما فوّت على صاحب العمل(1).
وقد حرص العلماء على هذه المسألة حرصاً شديداً ، حتى إنهم اختلفوا في وقت الأكل والنافلة هل يحسب من زمن العمل أم لا ؟ ، قاصدين بذلك التشدد والتحوط في ضرورة احترام زمن الإجارة فلننقل بعض النصوص بهذا الصدد ، حيث جاء في المغني : (وليس له ـ أي الأجير الخاص ـ محادثة غيره حالة النسخ ـ أي نسخ كتاب بالأجرة ـ ولا التشاغل بما يشغل سره ، ويوجب غلطه ، ولا لغيره تحديثه ، وشغله ، وكذلك كل الأعمال التي تخل بشغل السر والقلب ... )(2)وجاء في حاشية الشرقاوي : ( ولو صلى ، ثم قال : كنت محدثاً مكن من الاعادة ، وسقط من الأجر بقدر الصلاة الثانية )(3).
وحدد الفقهاء زمن فعل المكتوبات والنوافل بأقل زمن ممكن ، حيث جاء في حاشية الجمل على شرح المنهج : ( ويستثنى من زمن الإجارة فعل المكتوبة ، ولو جمعة لم يخش فواتها... ، وطهارتها ، وراتبتها ، وزمن الأكل ، وقضاء الحاجة ، وظاهر أن المراد أقل زمن يحتاج إليه فيهما )(4).
والخلاصة ان الوقت الذي حدد في العقد بالنسبة للأجير الخاص يقتضي أن ينشغل بالعمل المطلوب منه دون تضييعه ، ولا التفريط فيه إلاّ ما هو مستثنى لحق الله تعالى كالعبادات ، أو للضروريات والحاجيات التي لا غنى للإنسان عنها مثل الأكل والشرب بالمعروف ، أو لانقاذ آخر كما في حالة الغرق والحرق .
__________
(1) مواهب الجليل (5/426) والدسوقي على الشرح الكبير (4/21)
(2) المغني والشرح الكبير (6/37)
(3) حاشية الشرقاوي (2/58)
(4) حاشية الجمل على شرح المنهج (3/54) بتصرف بسيط(1/68)
والمعيار في العمل هو بذل الرجل المعتاد المتوسط ، فإن قدمت إليه فأنجزه في اليوم ، وبقي من الوقت فإن حق المستأجر لا يسقط في بقية الزمن ، حيث يجب عليه الالتزام بالوقت ، فالموظف الذي حدد له وقت من الساعة الثامنة صباحاً إل الثانية ظهراً ـ مثلا ًـ يجب عليه الحفاظ على البقاء طوال هذا الوقت مع العمل إن وجد ، وأن لا يشغل نفسه إلاّ بمصلحة عمله طوال هذه الفترة سوى الاستثناءات الي ذكرناها وحتى في هذه الاستثناءات يجب مراعاة انجازها بشرعة ، بل إن الفقهاء يقولون : لو كان المسجد بعيداً يستغرق ذهابه إليه وقتاً طويلاً ، وذهب إليه العامل فإنه ينقص من أجرته بمقدار غيابه عن العمل(1)، لأن الأجرة في مقابل المنفعة فتوزع عليها ، أو يقوم الأجير ـ الموظف ـ بتعويض الوقت الذي فات .
رابعاً ـ وجوب الحفاظ على ما تحت رعايته من آلات وأدوات ومعدات وأعمال ، فهذا ما تقتضيه الأمانة والقواعد العامة في الإسلام .
خامساً ـ تنفيذ أوامر ربّ العمل بالقدر الذي يخص العمل ، أو الوقت المحدد بالمعروف ، فإن كان العمل مفصلاً في العقد فالمرجع هو العقد ، وإلاّ فحسب العرف .
سادساً ـ التزامات قانونية مثل الالتزام بلوائح وقوانين العمل ، والاجراءات التنظيمية مما يدخل في السياسة الشرعية القائمة على المصالح المرسلة .
سابعاً ـ التزامات أخلاقية تفرضها الأخلاقيات الإسلامية من الأمانة والصدق ، وعدم الغش ، ومن السعي الحثيث للاتقان ، والابداع وحسن السلوك والأخلاق في تعامله والنصح والارشاد والبيان ، ونحو ذلك .
__________
(1) المغني والشرح الكبير (6/37)(1/69)
ومن أهم هذه الالتزامات الأخلاقية أيضاً عدم قيام الأجير بإفشاء أسرار العمل وربّ العمل ، أو أهله ، أو كل ما يطلع عليه بحكم كونه أجيراً أو عاملاً أو موظفاً ، فلا يجوز له إفشاء كل ما فيه إضرار بمصلحة ربّ العمل من أسرار العمل والصنعة ، والأشياء الخاصة بصاحب العمل ، حيث تدل النصوص الكثيرة على منع أسرار الآخرين(1).
الشروط المقترنة بالإجارة على الأشخاص :
لا يختلف حكم الشروط المقترنة بالإجارة بصورة عامة عن الشروط المقترنة بالبيع ، ولذلك قسمها الفقهاء ـ من حيث الجملة ـ إلى قسمين :
القسم الأول : شروط صحيحة : وقد اختلف فيها الفقهاء بين موسع ، ومتوسط ، ومضيق ، والذي نرى رجحانه هو أن الأصل فيها الاباحة ، وبالتالي فكل شرط في عقد الإجارة صحيح إلاّ إذا تعارض مع نص من الكتاب أو السنة ، أو الاجماع ، أو مقتضى العقد ، وهذا ما تدل عليه الأدلة المعتبرة(2).
القسم الثاني : شروط غير صحيحة : وهي الشروط التي تعارضت مع النصّ ، أو مع مقتضى العقد(3).
ثم إن هذه الشروط نوعان : نوع يؤثر في العقد فيجعله باطلاً وهي الشروط التي تؤثر في العلم بالمعقود عليه فتجعله مجهولاً أو غرراً .
ونوع من الشروط إذا تمّ الاتفاق على إزالته ـ على تفصيل ـ فإن العقد يصبح صحيحاً عند بعض الفقهاء(4).
فسخ الإجارة :
ينفسخ عقد الإجارة بعدة أشياء منها :
1) الاقالة :
__________
(1) يراجع : رياض الصالحين ط. مكتبة المعارف بالمغرب ص 109 ، 230 ومنها قوله صلى الله عليه وسلم : ( ... ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة ) رواه مسلم الحديث 2699 .
(2) يراجع في تفصيل وتأصيل هذه المسألة وأقوال الفقهاء فيها ، وبيان التحقيق في نسبتها إليهم : مبدأ الرضا في العقود (2/1148-1195 )
(3) تبيين الحقائق (5/137) وحاشية الدسوقي (4/28) والمغني مع الشرح الكبير (6/118)
(4) المصادر السابقة(1/70)
إذا كانت الإجارة على عمل أو كانت محددة فلا يحق لأحدهما وحده الفسخ إلاّ برضا الآخر ، لأنها ملزمة عند جمهور الفقهاء ، وأما الذين يقولون بأنها غير ملزمة فيحق لأي واحد منهما الفسخ إلاّ إذا ترتب عله ضرر ـ كما سبق ـ
وأما الإجارة غير محددة المدة فقد سبق الخلاف والتفصيل فيها، والذي رأينا رجحانه هو أنها ملزمة بقدر ما دفع .
وفي جميع الحالات فإذا اشترط أحدهما في العقد حق الفسخ في أي وقت شاء ، أو خلال فترة زمنية مثل شهرين ، فهذا الشرط صحيح كما هو الحال اليوم في معظم عقود العمل حيث تعطى .
2) حدوث عيب مؤثر في الأجير الخاص ، أي مفوت للمنافع المقصودة مثل فقدان البصر ، أو مرض لا يمكنه معه القيام بما التزم به(1)حيث يعطى حق الخيار للمستأجر .
3) وجود أعذار طارئة ، حيث ذهب الكرخي إلى فسخها بالعذر الطارئ على الأجير والمستأجر في حين ذهب الحنفية وابن حزم إلى أن الإجارة تفسخ بالعذر الطارئ على المستأجر فقط مثل أن يستأجر أحداً لتسيير سفينة ، ثم يأتي حاكم يمنع السفر بها، وخالفهم الجمهور حيث قالوا : لا تفسخ بالعذر الطارئ(2)وقد قيدتها بعض الفتاوى المعاصرة بالأعذار القهرية(3).
4) عدم قيام أحد الطرفين بالتزاماته تجاه الآخر التي نص عليها الشرع أو العقد ، أو هي معروفة بالعرف ، ويدخل فيه اعتداء أحدهما على الآخر .
5) حبس غير المستأجر للأجير الخاص ، أو الأجير المشترك الذي اشترط أن يقوم هو بنفسه بالعمل(4).
6) بلوغ الصبي ـ على التفصيل السابق ـ
__________
(1) حاشية ابن عابدين (6/77) والمغني مع الشرح الكبير (6/30) والمهذب (1/412)
(2) تبيين الحقائق (5/145) وبداية المجتهد (2/260) والمهذب (1/412) وحاشية البجيرمي (3/383) وكشاف القناع (4/23)
(3) فتوى بيت التمويل الكويتي رقم 233 ، 253 ، وفتوى الهيئة الشرعية الموحدة للبركة (9/9)
(4) حاشية البجيرمي على شرح المنهج ط. دار الفكر (3/380-381)(1/71)
7) خيانة الأجير ( العامل ) أو سرقته .
8) تغير عمل العامل من قبل المستأجر .
وقد أوضحت قوانين العمل مجموعة من الضوابط لفسخ العقد(1).
والفسخ يتحقق بإرادة الطرفين في هذه الحالات التي ذكرناها ، وعند الاختلاف يرجع الأمر إلى القاضي على تفصيل ليس هذا محله(2)..
انتهاء عقد الإجارة على الأشخاص بنفسها :
يختلف عقد الإجارة الواردة على المعين عن الإجارة الواردة على الذمة ، ولذلك نذكر حكم كل واحد منهما :
أولاً ـ انتهاء الإجارة المعينة ، حيث تنتهي بما يأتي :
1. انتهاء المدة ، أو العمل ـ حسب التفصيل السابق ـ
2. موت الأجير الخاص المعين ، أو فقدانه أهلية الأداء بالكامل مثل الجنون ، وأما موت المستأجر في الإجارة الخاصة فلا يؤثر في العقد عند جمهور الفقهاء خلافاً للحنفية والظاهرية(3).
ثانياً ـ انتهاء الإجارة الواردة على الذمة ، حيث تنتهي بأداء ما التزم به ، ولا تنتهي بموت الأجير ، وهل تنتهي بموت المستأجر ( صاحب العمل ) ؟ .
ذهب الجمهور إلى عدم انتهائها بموته ، في حين ذهب الحنفية والظاهرية إلى انتهائها بموته(4).
والراجح هو قول الجمهور ، لأن موته لا تأثير له في التزاماته السابقة ، وأن الأجرة ستصبح ديناً وبالتالي يجب أداؤها من ماله كما هو الحال في ثمن البيع في حالة موت المشتري قبل دفع الثمن .
ثالثاً ـ فوات محل المنفعة حسّا أو شرعاً ، كأن أجّره لإدارة مدرسة معينة فانهدمت ، أو سحب ترخيصها نهائياً ، وكأن أجّر امرأة لخدمة مسجد لمدة سبعة أيام فحاضت من بدايتها أو نفست(5).
__________
(1) يراجع : د. شرف الشريف : المرجع السابق ص 352 وما بعدها
(2) بدائع الصنائع (4/20) والفتوى الهندية (4/459)
(3) يراجع : حاشية ابن عابدين (6/79) وبداية المجتهد (2/173) وحاشية البجيرمي (3/381) والمغني مع الشرح الكبير (6/50) والمحلى (519 ، 6)
(4) المصادر السابقة
(5) حاشية البجيرمي على شرح المنهج (3/379-380)(1/72)
حكم الإجارة غير الصحيحة :
الإجارة غير الصحيحة تقسم عند الحنفية إلى إجارة باطلة ، وإجارة فاسدة ، فالإجارة الباطلة هي ما كان الخلل في أركانه وشروطه ، أو في أركانه فقط ، والإجارة الفاسدة هي ما كان الخلل في شروطه فقط ، وأما الجمهور فلم يفرقوا بينهما(1).
فالإجارة الباطلة مثل أن يكون أحد العاقدين ليس له أهلية الأداء مطلقاً ، ومثل أن يكون المعقود عليه ( المنفعة ) محرماً حيث حكى ابن رشد الاجماع على بطلان ذلك(2).
والإجارة الفاسدة مثل أن تكون هناك جهالة ، أو اشترط شرط مخالف لمقتضى العقد ، جاء في تبيين الحقائق : ( إذا كان ما وقع عليه عقد الإجارة مجهولاً في نفسه ، أو في أجرة ، أو في مدة الإجارة ، أو في العمل المستأجر عليه ، فالإجارة فاسدة ...)(3).
والإجارة الفاسدة عند الحنفية إذا أزيل سبب فسادها تصبح صحيحة ، وأنه إذا قام الأجير بما عليه فإنه يستحق الأجر في الإجارة الفاسدة باتفاق الفقهاء ، ولكنهم اختلفوا في وقت الاستحقاق وفي مقدار الأجرة .
فذهب جمهور الفقهاء ( المالكية ، والشافعية والحنابلة في رواية )(4)إلى أن الأجرة تجب بالتمكن من استيفاء المنفعة ، وان لم ينتفع ، لأن الأجير قد حبس نفسه ومكن المستأجر من الانتفاع به طوال المدة فيستحق أجر المثل بالغاً ما بلغ .
وذهب الحنفية إلى أن الأجير لا يستحق الأجر إلاّ بتحقق استيفاء المنفعة ، لأن العقد فاسد فلا يستحق الأجرة إلاّ بتحقيق العمل كما في النكاح الفاسد ، وأن أجرته حينئذ ان علمت فلا تزاد على المسمى أي يكون له الأقل من أجر المثل ، ومن المسمى ، وإن لم تعلم فيكون له أجر المثل(5).
__________
(1) يراجع للتفصيل والتأصيل في هذه المسألة : مبدا الرضا في العقود (1/151 - 172)
(2) بداية المجتهد (5/250)
(3) تبيين الحقائق (5/121) مع حاشية الشلبي
(4) حاشية الدسوقي (3/13) وشرح منتهى الارادات (2/381)
(5) حاشية ابن عابدين (6/46)(1/73)
الضمان في الإجارة غير الصحيحة :
الضمان في العقود غير الصحيحة تابعة لأصل العقد ، وبالتالي فيكون حكم ضمان الأجير فيها حكم ضمانه على ضوء التفصيل السابق .
التطبيقات المعاصرة :
تقدم المؤسسات المالية المنافع " الخدمات " بنوعيها : المنفعة " الخدمة " المعَيّنَة ، والمنفعة " الخدمة " الموصوفة في الذمة ، وذلك مثل الدراسة في الجامعات ، أو المعاهد ، أو نحوهما ، ومثل الخدمات الصحية من العلاج ، والعمليات الجراحية التي تقدمها المستشفيات ، أو الأطباء ، أو خدمات النقل عبر الطيران ، أو السفن ، أو السيارات ، فهذه الخدمات إن تم العقد فيها على تعيين الجهة المقدمة " سواء أكانت شخصية معنوية ، أم شخصاً طبيعياً " وتعيين الخدمة المحددة فهي إجارة واردة على منفعة معينة .
أما إذا تم التعاقد فيها على خدمة موصوفة في الذمة دون تحديد من يقدمها فهي إجارة موصوفة في الذمة ـ وإن المهم هو خدمة موصوفة في الذمة ـ .
فالمعيار في الإجارة الموصوفة في الذمة هو تحقيق المواصفات المطلوبة دون النظر إلى الشخص الذي يقدمها بعينه ، في حين أن المعيار في الإجارة المعينة هو الشخص الذي يقدم الخدمة ، فالشخص الأجير بعينه مطلوب هنا ، وليس مطلوباً في الموصوفة في الذمة .
ونذكر هنا نماذج من العقود المطبقة في المؤسسات المالية الاسلامية بنوعيها السابقين :
1- انموذج من عقد الإجارة الواردة على شخص معين :
2- انموذج من عقد الإجارة الموصوفة في الذمة :
الخطوات التنفيذية :
هذه الأعمال والخدمات في حقيقتها هي تدخل ضمن المرابحة في المنافع ، ولذلك نطبق عليها إجراءات المرابحة للآمر بالشراء على ضوء ما يأتي :
1) وجود وعد ملزم من الطرف الطالب بالمنفعة " الخدمة "(1)
__________
(1) شرح المصطلحات المستعملة في العقود المستخدمة في إجارة المنافع والخدمات :
? ... مقدم الخدمة : هو الجامعة ، أو المعهد في خدمة التعليم ، والمستشفى في خدمة الصحة ، وهكذا
? ... طالب الخدمة : هو مستخدم الخدمة والمستفيد منها ، وهو عميل البنك ، وهو الآمر بشراء المنفعة أو الخدمة
? ... البنك : الذي يقدم الخدمة حسب العقد للعميل مباشرة ، لأن البنك يقوم بالتعاقد مع مقدم الخدمة لنفسه ، ثم يقدمها ، أو يبيعها أو يؤجرها تأجيراً من الباطن للعميل في الإجارة المعينة .(1/74)
بشرائها وتأجيرها ... وبعبارة أخرى : التوقيع على اتفاقية تفاهم مشترك ، تذكر فيها الخطوات والالتزامات المتبادلة ، وبيان الخدمة المطلوبة سواء كانت معينة أم موصوفة في الذمة .
2) قيام المؤسسة بالاتفاق مع الجهة صاحبة الخدمة على الشروط والمواصفات المطلوبة من قبل طالب الخدمة .
3) ثم قيام المؤسسة بالتوقيع مع طالب التمويل " العميل " بعد تحديد مدد الأقساط المطلوبة ، والضمانات المطلوبة للسداد .
ويجوز في الإجارة الموصوفة في الذمة أن تقوم المؤسسة المالية مباشرة بالاتفاق والتوقيع على العقد مع طالب الخدمة " العميل " لأن محل العقد يتعلق بالذمة ، ولا يشترط وجوده وقت العقد ، وإنما عند وقت تسليم الخدمة .
ثم بعد الاتفاق مع العميل توقع المؤسسة على العقد مع الجهة المقدمة للخدمة .
فعلى ضوء ذلك فإن المؤسسات المالية الاسلامية تستخدم عقد الإجارة أولاً مع المؤسسة ، ثم تعيد تأجيرها في حالة الإجارة المعينة مع العميل ، أي التأجير من الباطن ، وبعبارة أخرى تستخدم عقد الإجارة في المنافع ، مع عقد الإجارة الموازي.
ولكن يجب عدم الربط بين الإجارة الموصوفة في الذمة التي تم إبرامها مع صاحب الخدمة ، وبين عقد الإجارة مع العميل المستفيد من الخدمة حتى يبتعد تماماً عن الصورية ، وبعض المحظورات الشرعية في المعاملات .
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
وصلى الله على عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين
وعلى آله وصحبه أجمعين(1/75)
المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث
الدورة العاشرة
1 – 6/07/2003م
الإستنساخ بين الزوجين
و الاحكام التي تترتب على ذلك
إعداد عبد الستار أبو غدة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين .
وبعد، فهذا البحث تم إعداده بتكليف من الأمانة العام للمجلس الأوربي للإفتاء والبحوث، ليكون من أعمال الدورة العاشرة للمجلس، وهو يشتمل على البيانات الموطئة لموضوع الاستنساخ بين الزوجين وما يتعلق بذلك التصرف، دون التوسع في الاستنساخ من حيث هو، مع نبذة عن ماهيته، اكتفاء بالأبحاث المقدمة فيه من ذوي الاختصاص الطبي والعلمي بهذا الموضوع .
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل ،،،
د. عبد الستار عبد الكريم أبو غدة
عضو المجلس الأوربي للإفتاء والبحوث
الاستنساخ بين الزوجين
والأحكام التي تترتب على ذلك
تمهيد :
الاستنساخ هو أحد تطبيقات الهندسة الوراثية التي هي واحدة من الخصائص الكونية التي أودعها الله عز وجل في الأجناس المختلفة من مخلوقاته التي منحها الحياة ذات الحس والحركة والإرادة ( الإنسان، والحيوان ) أو ذات النمو ( النبات ) .
وقد ربط بها أسراراً وحكماً يظهر منها كل يوم الجديد والمثير مصداقاً لقوله عز وجل { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } (1) وهذا مما يزيد الإيمان بعظمة الخالق { وهو الخلاق العليم } (2) { أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } (3) .
والكشوف التي حصلت أو ستحصل ما هي إلا مما تعلقت به إرادة الله الكونية، فهو الذي أعطى الإنسان العقل والعلم والمقدرة فاستخدم القوانين والسنن التي أودعها في الكون المسخر للإنسان بسماواته وأراضيه، والمسلم يعتقد أنه لا يقع في ملك الله تعالى إلا ما يريد ولو كان على غير ما شرع لعباده .
__________
(1) ... سورة الذاريات /21
(2) ... سورة يس /81
(3) ... سورة طه /50(1/1)
يقول القرطبي المفسر قد تختلف التجربة وتنكسر العادة ويبقى العلم لله تعالى وحده (1) وفي هذه العبارة المختصرة جواب عن الاشتباه بأن في هذه الممارسات منافاة من القائمين بها لإرادة الله، وإيجاد الموانع من نفاذ المشيئة كما قيل، وهو ادعاء عجيب لأن مراد الله لا يعرف للإنسان إلا بعد وقوعه وإرادته تمضي طبقاً لما يشاء سبحانه ولا راد لأمره وهذا مقتضى العقيدة الإيمانية الصحيحة في مسألة القضاء والقدر : فالعلمُ بالمقدور علماً سابقاً لوقوعه هو مما اختص الله به، ولا يتخلف عنه القضاء الواقع، وإن الذي يقع فعلا - مهما تخللت من أسباب شتى أو قامت من موانع وصوارف - هو المقدور المغيب سواء كان ظهوره إلى عالم الشهادة مباشرة للأسباب الظاهرة أو عقب تدخل أسباب غريبة عن مجرى الأمور المعتادة مما يستدفع به المكروه أو يستجلب به المرغوب .
وما قواعد الوراثة إلا نظم وأسباب كونية أودعها الله في مخلوقاته يرفعها متى تعلقت بذلك إرادته سواء كان ارتفاعها حلالاً أو حراماً، ذلك أن الحرام وازعه هو ما في نفوس المؤمنين من منزلة الخطاب والقوى الرادعة عن عصيانه، وليس هو الموانع القهرية في صورة المعجزة أو العقوبة المعجلة { ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، ولذلك خلقهم } (2) .
والإرادة الإلهية نوعان :
ذو القعدة إرادة كونية نافذة دون حاجة إلى فعل يقدم عليه المخلوق أو كفّ يصدر منه بل يسخر الله من الأسباب ما يكفل نفاذ تلك الإرادة .
ذو القعدة وإرادة أخرى شرعية تقتضيها النصوص الآمرة أو الناهية، وهي نافذة بالاتلزام والمراعاة أو معطلة بالتمرد والعصيان أو الإهمال لأنها مناط التكليف وموضوع الخطاب . وابن تيمية ممن أشار إلى الفرق بين نوعي الإرادة وأوضح اللبس الناشئ عن عدم التمييز بينهما .
__________
(1) ... تفسير القرطبي 7/2 وفيه نماذج 14/82
(2) ... سورة هود 118/و 119(1/2)
ذو القعدة وكمثال شرعي مشابه قضية التحكم في أصل الإنجاب نفسه بالعزل فقد جاء فيه الحديث عن جابر : " أن رجلاً أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن لي جارية هي خادمنا وسانيتنا في النخل وأنا أطوف عليها وأكره أن تحمل، فقال : اعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قُدِّر لها "(1)
ومما سبق يتضح أن هناك جانبين للكلام عن الممارسات في مجال الهندسة الوراثية والاستنساخ، وهما :
- الجانب العقدي، للتأكيد على أن اكتشاف معالم كثيرة كانت خفية من خصائص الوراثة ومكونات الخلية الجينية وإمكانية التحكم فيها لا يزعزع إيمان المسلم بل يبصره بما في نفسه من أسرار في شتى الأطوار . وهذه التصرفات – بصرف النظر عن حكمها – هي ما تتعلق به إرادة الله الكونية، إذ ما هي إلا باستخدام القوانين والسنن التي أودعها في مخلوقاته .
- الجانب التشريعي بالتعرف إلى الإرادة الإلهية الشرعية في الأوامر والنواهي وهذا يشمل النظر في كل من الحكم التكليفي ( المشروعية وعدمها ) والحكم الوضعي (الأثر الشرعي للتصرف) .
ومقتضى الحكم التكليفي يؤدي إلى إحجام الملتزمين بالشريعة عن التصرفات الممنوعة بالمباشرة أو الإذن أو المعونة سواء في مجال الاختبارات أم في مجال المعالجة التي لابد من أن تراعى فيها الأحكام الشرعية، لأن الإقدام على ما هو نافع لا يعفي من التقيد بالحكم الشرعي، لئلا يزول الضرر المادي على حساب لحوق الضرر المعنوي بالتحلل من معيار الحلال والحرام .
والكلام عن الحكم التكليفي يستتبع أيضاً النظر في الحكم الشرعي الوضعي ( الآثار المترتبة على التصرفات ) فيما لو وقعت ممن لا يلتزمون بالشريعة – وهو الأغلب في ظل التخلف عن موكب العلم – كأحكام النسب، والنفقات والإرث .
__________
(1) ... أخرجه مسلم في صحيحه .(1/3)
هذا، ولا بد من مراعاة حكم الشريعة فيما ينجم من آآثار عن أي تصرف، سواء كان جلالاً أم حراماً، ذلك أن ارتكاب ما حرم من أمور لا يعفى من النظر في النتائج المترتبة عليه، فالمحرمات لا يقتصر أثر ضررها على مرتكبيها – وهم من غير المسلمين أو غير الملتزمين – بل يتعدى ليشمل الأفراد الآخرين والمجتمعات . وتترتب على ذلك حلول ومعالجات واعتبارات شرعية تتعلق بالصحة أو الفساد أو البطلان للنسب، فضلاً عن واجبات عديدة تطلب أو لا تثبت، كالنفقات والإرث ونحوها مما له أكبر الخطر وأعظم الأثر في قيام علاقة القرابة أو المصاهرة أو انتفائهما
حفظ النسل من مقاصد الشريعة :
تستمد قضايا الوراثة أهميتها من اتصالها الوثيق بمقصد من مقاصد التشريع، وهو حفظ النسل وصيانة النسب، باعتباره أحد الكليات الخمس التي جاءت الشريعة لصيانتها، وهي : الدين والنفس والعقل والنسل والمال .. ولتوفير ما يناسبها من صون وكلاءة جاءت أنواع شتى من الأحكام الشرعية، بعضها لا مناص من مراعاته، لأنه يمثل (الضروريات) وإلى جانبهما يقوم خط آخر للدفاع يمثل ( الكماليات أو التحسينيات ) وهذه الأحكام تحيط الكليات المخمس – وإحداها : النسل – بسور منيع يتحقق به الإنذار المبكر ودفع الأذى أو رفعه .
ولا يتسع المقام لأكثر من التنويه الدال على عناية الشرعية بما يصون ذات الإنسان ومقوماته ويعزز تكريم آدميته، وأنه مفضل على كثير من الخلق تفضيلاً والغرض من هذا تأكيد وأجب الحفاظ على صحة الأنساب وتمايزها، والتبصر عند الإقدام على أي تصرف من شأنه المساس بهذه القضية الأساسية، وملازمة الطرق الطبيعية المرسومة بالفطرة لابتغاء ما كتب الله للإنسان من نسل صحيح صالح { هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجَعَل منها زوجها لِيسكن إليها، فلما تغشّاها حملت حَملاً خفياً فمرّت به، فلما أثقلتْ دَعَوَا الله ربَّهما : لئن آتيتنا صالحاً لنكونَنَّ من الشاكرين } (1) .
__________
(1) ... سورة الأعراف /189 .(1/4)
ومن هذه الآية وأمثالها يتبين أن الزواج هو السبيل الآمنة التي ألهمها الله خلقه لبقاء النوع الإنساني، وأن فيها وحدها يتحقق السكن والمودة والرحمة وأن العزوف عن هذه الطريق والتنكب عن هذه الجادة يعرض الكلية الأساسية التي هي ( بقاء النسل وحفظ النسب ) إلى هزات عنيفة تجتثها من جذورها فتزهق معها حقائق ذات شأن لأنها يرتكز عليها بقاء المجتمع الإنساني وسعادته كعلاقة الأبوة والأمومة وما يتصل بهما، وقواعد النفقة والميراث، وأصول التكافل الأسري، وهو ما تنظمه أحكام الأحوال الشخصية للإنسان (حقوق العائلة) .
إن الإدراك الإجمالي لموضوع الوراثة قديم جداً، كما دلت على ذلك آثار المصريين القدماء، كما كانت من المسلمات عند العرب ويعبرون عنها بأنها ( نزعة عرق ) كما جاء في الحديث التالي الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه : أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال : " يارسول الله ولد لي غلام أسود، فقال : " هل لك من إبل" " قال : نعم ، قال " ما ألوانها؟ " قال حُمْر قال : " هل فيها من أورق؟ " قال : نعم قال " فأنى ذلك ؟ قال : لعله نزعة عرق قال : " فلعل ابنك هذا نزعه"(1) .
والوراثة – كما عرفت في الطب – هي : انتقال الصفات من الأصول إلى الفروع، أو من السلف إلى الخلف . وهي تشمل إلى جانب الخصائص الأمراض القابلة للتوريث(2).
والأمراض الوراثية – كما قرر المختصون – ليست فقط تلك التي سبق ظهورها في الأسرة، بل لها أسباب عديدة، منها الاختلاف في الكروموسومات عداً أو تركيباً ومنها العيوب في أحد الجينات، سواء أدى إلى مرض وراثي متنح أو سائد أو مرتبط بالجنس أو من طفرة في أحد الجينات .
هذا، وللهندسة الوراثية منافع ومحاذير :
__________
(1) ... أخرجه البخاري ومسلم ( اللؤلؤ والمرجان ، حديث رقم 1957 ) .
(2) ... تاريخ الطب، الدكتور شوكت الشطى 109 طبع جامعة دمشق .(1/5)
- فمن منافعها : منع الأمراض الوراثية، وإنتاج مركبات علاجية هامة، وتطوير اللقاحات والسيطرة على بعض الأوبئة، وتحسين سلالات نباتية عديدة ...الخ.
- ومن المحاذير : اختلاط الأنساب، وإفساد الخلقة، ونشوء بعض الأمراض، وخطورة الأغذية المصنعة بالهندسة الورايثة، والحروب الجرثومية .. الخ
ولموضوع الوراثة أهمية كبيرة من حيث صلته بواحد من المقاصد الخمسة للتشريع وهو ( حفظ النسل ) ويرتكز على ( صيانة النسب ) .
هذا، وان حفظ النسب قد شرعت لحمايته من الإخلال به أحكام كثيرة لاستبعاد وجوده على وجوه غير مشروعة حيث لم يعترف بها الإسلام تحاشياً للمكافأة على جريمة الاعتداء على الأعراض بالزنى ، كما شرعت الوسائل الضامنة لإثباته على وجوه صحيحة لها مسوغاتها ووضعت الشريعة العقوبات الرادعة على التعدي على الأعراض بجريمة الزنى أو القذف ( ومنه الطعن في النسب الصحيح ) .
طرق ثبوت النسب شرعاً :
إن العامل الأساسي في النسب هو علاقة الزواج الصحيح، ويطلق عليها الفقهاء – اقتداء بالحديث النبوي – كلمة ( الفراش ) لقوله صلى الله عليه وسلم " الولد للفراش " وهناك أسباب أخرى احتياطية لثبوت النسب، كالزواج الفاسد، والوطء بشبهة .. الخ ، أو بالإقرار بالنسب، أو الاستلحاق بالشروط والضوابط الشرعية لكل منهما وسيأتي مزيد بيان عن الاستلحاق .
والمراد بالفراش : تعيين المرأة لماء الزوج، بحيث يثبت منه نسب كل ولد تلده وهي في عصمته أي في حال قيام الزواج أو العدة .
وقيام الفراش ملزم للاعتراف بالنسب فلا حاجة لإثباته أو إقرار الزوج به ويثبت النسب من الأم بالولادة، لأنها واقعة مادية بانفصال الولد منها بصرف النظر عن أي أمر آخر حتى لو لم تتم الولادة في ظل فراش الزوجية، وسيأتي تفصيل هذه المسألة .
أما الأبوة فيشترط لثبوتها :
1- كون الزوج ممن يتصور منه الإحبال عادة وهو البالغ المكتمل الذكورة .(1/6)
2- أن يولد الولد بعد ستة أشهر من وقت الزواج عند أبي حنيفة، أو من إمكان الوطء عند جمهور الفقهاء .
3- إمكان تلاقي الزوجين بالإمكان العقلي العادي(1) .
وطرق إثبات النسب، الإقرار، أو البينة بتفصيل معروف في مواطنة من كتب الفقه
ويجوز إثباته بالتسامع ( الشهادة على السماع والشهرة ) .
وقد شرعت وسائل تعتمد القرائن لإلحاق النسب المجهول أو المتنازع فيه منها (القيافة) وبقصد بها لغة تتبع الأثر، والمراد هنا المعرفة بتشابه الناس(2) وجمهور الفقهاء قد أخذوا بمبدأ (القيافة) للحديث الوارد فيها وهو ما روته عائشة رضي الله عنها قالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو مسرور، فقال : يا عائشة " ألم تري أن مجززاً المدلجي دخل فرأى أسامة وزيداً، وعليهما قطيفة قد غطيا رؤوسهما، وبدت أقدامهما،فقال : " إن هذه الأقدام بعضها من بعض "(3) ولا شك أن استخدام معطيات الهندسة الوراثية أولى بالاعتبار .
والتساؤل الوارد الآن : هل ملاحظة الشبه الظاهري بين الأقدام وغيرها من الأعضاء والملامح العضوية التي جاء النص بشأنها لأنها متاحة في كل آن ومكان .. وهو من قبيل العمل بالمظنة فما الحكم إذا وجدت الحقيقة نفسها وهي ما يطلق عليها العلماء (المئنة) التي هي الأصل إذا توافرت مقومات الثبوت باليقين أو بالظن الغالب أم أن الشريعة ربطت هذا الحكم ( ثبوت النسب ) بالأسباب الظاهرة المتاحة دائماً كما هو الحال في إثبات نسب ولد الزنى من الزانية، وبسبب الانفصال الطبيعي، وألغت انتسابه إلى الزاني – ولو حصل التأكد أنه من مائه – بسبب عدم وجود الفراش الذي هو السبب الظاهر .
__________
(1) ... الفقه الإسلامي وأدلته د. وهبة الزحيلي 7/673 .
(2) ... البدائع للكاساني 3/211 الدسوقي 3/412 مغني المحتاج 3/396 المغني لابن قدامة 7/430 بداية المجتهد لابن رشد 2/352 .
(3) ... أخرجه البخاري ومسلم ( اللؤلوة والمرجان، حديث رقم 924 ) .(1/7)
ومما سبق يتبين أن نقل الجينات أو دمجها المؤدي إلى اختلاط الإنساب ممنوع شرعاً، ويورث مشكلات كثيرة بشأن الاعتراف بالنسب، وإجراء الأحكام الشرعية التي تبنى عليه من النفقات وغيرها .
أثر الهدف في الأسباب العلاجية الوراثية :
يختلف الحكم الشرعي على الإجراءات أو التصرفات الواقعة في مجال الوراثة تبعاً للهدف المبتغى من الفعل، وإن مراعاة الغاية هنا مبعثها الموازنة بين المفاسد والمصالح، أو المضار والمنافع، وهي موازنة مطلوبة شرعاً، انطلاقاً مما قرره علماء أصول الشريعة من أنه لا يوجد – إلا نادراً – ما يتمحض للنفع والصلاح دون أن تشوبه شائبة من الضرر في الدين أو البدن أو المال وإنما يكون العبرة بالأغلب، أي حيث تتحقق المصلحة الراجحة على ما يقع من ضرر بفعلها، ويعتبر هذا من ارتكاب أخف الضررين تفادياً لأشدهما .
مراعاة سلامة الوسيلة :
فضلاً عن مشروعية الهدف لابد من مراعاة مشروعية الوسيلة أيضاً بأن تكون أمراً حلالاً يمكن به تجنب الإنسان شيئاً من المخاطر الناتجة عن الوراثة من أبيه وأمه، وهذا السعي لتحصيل النفع مأمور به في نصوص شرعية كثيرة منها الحديث الشريف :" احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز " .
ومن الواضح أن حرص الإسلام على الجمع بين نبل الهدف والوسيلة معاً نابع من اعتبار التكليف مستمراً وشاملاً لأي تصرف معنوي أو مادي . وأنَّ للوسائل والإجراءات حكم المقاصد والغابات، فليس في الإسلام فكرة : الغاية الصالحة تبرر الوسيلة الفاسدة، فإن التعبد والامتثال شامل للنية والفعل .. ولا يعني هذا أن يخلو الإجراء من محاذير، بل المراد أن تكون المصلحة أساسية وأن يربو ما فيها من نفع على ما يستتبع حصولها من محاذير، وأن تكون الوسيلة لتحصيلها هي في ذاتها فعل مشروع بقطع النظر عن اقترانها بالهدف والغاية .(1/8)
ومن هنا يتبين أنه لا يصلح بحال من الأحوال أن يكون هدفاً مشروعاً الرغبة في التكاثر أو التشهي أو العبث أو الإفساد، وهو ما يلحظ استحواذه على معظم التجارب والتصرفات في هذا المجال بسبب بيئات لا تقيم لمعيار الحلال والحرام أي اعتبار.
ونخلص مما سبق إلى أن هناك ضوابط ومنارات تحوط وتنظم أي تحكم يتطلع إليه في معطيات الوراثة . ولعل أهمَّها : البعد عما ينشأ عنه تغيير الخلقة كالتصرفات التي تزيد أو تنقص في الطبيعة الأصلية التي فطر عليها الإنسان بداعي التجميل أو الرغبة في الحسن، أو غير ذلك من أغراض غير مشروعة، ذلك أن هذا التغيير قد وسمته النصوص الشرعية أنه استجابة لأوامر الشيطان { ولآمرنّهم فليغيرن خلق الله } (1) ولا يدخل في هذا ما يقع لتلافي الضرر والأذى اللاحق بالإنسان . أو الناشئ معه بصورة مغايرة للمعتاد في جنسه، أي لا يدخل فيه ما يستهدف به العلاج أو الوقاية .
كذلك يجب الحذر من تبديل الفطرة والسجية التي طبع الله الناس عليها من حيث الميول التي تخلق مع الإنسان قابلة للخير والشر، ومستعدة للتأثير الصالح أو التغيير المفسد، والمراد إدانة تلك التصرفات في السجايا بغير وسائل التقويم المشروعة، مما يخرج الإنسان عن إنسانيته المتكافئة في النوازع، ليتحول إلى الاستخذاء والطاعة العمياء، أو التمرد والجموح الشرس .
حكم الاختبارات في مجال الهندسة الوراثية :
__________
(1) ... سورة النساء /119(1/9)
لا نزاع في مشروعية البحث العلمي في المجالات التي يتوقع منها النفع ولا يشمل ما يتعلق بسلامة الإنسان من الأمراض والعلل أو العلاج المبكر بما يؤمل معه زوال المعافاة أو تخفيفها، وينطبق هذا على أي مشروع تبذل فيه جهود فردية مشتركة، ومن ذلك مشروع الجينوم البشري الذي يهدف إلى معرفة أسباب الأمراض الوراثية والعلاج الجيني لها وبخاصة سرطان الثدي وسرطان المبيض ومعرفة التركيب الوراثي وقابلية حدوث أمراض معينة وإنتاج مواد بيولوجية وهرمونات يحتاجها جسم الإنسان للنمو والعلاج وقائمة الأمراض الوراثية تزداد يومياً باكتشاف المزيد منها بسبب تسارع البحث العلمي .
وإذا كان في بعض الدراسات المتصلة بالعلم من حيث هو التفرقة بين النافع وغيره، فإنها لم يقصد بها إلا اطراح فئة من العلوم قامت على الاستخفاف بعقل الإنسان أو تحدي عقيدة الفطرة .. أما العلم الذي يصلح أن يكون – فضلاً عن نفعه المادي – مدرجة للنظر في الكون والتفكر في مالك الملك فإنه في دائرة التكليف والطلب .
وهذه المنافع كلها مما يندرج في الضروريات التي تؤدي رعايتها إلى حفظ النفس والنسل .
على أن ما يمكن أن يصحب هذه المنافع من المحاذير أو الضرر التي ستأتي مناقشة بعضها بالتفصيل يجب أن تطبق عليها المبادئ الشرعية المتعلقة بالضرر مثل ( الضرر يزال ) و( يتحمل أهون الضررين لتجنب أشدهما ) ..الخ .
وقد قرر العلماء أنه لا يوجد في الكون ما هو مصلحة محضة، إذ في كل أمر جانب نفع وجانب ضرر ( ولو بفوات غرض دنيوي مهما كان شأنه قليلا ) ولذا تجب الموازنة بين المصالح والمفاسد لمعرفة ما هو الأغلب أو الغالب .(1/10)
إن الشريعة بالرغم من تشجيعها البحث العلمي الذي يعتبر وسيلة من وسائل الكشف عن إبداع الخالق، وبالتالي الإقرار بوحدانيته وقدرته – إلا أنها تقضي بتجنب ما لا يتفق مع الأهداف العامة للشريعة، ويتعين من ثم تمحيص مكتسبات العلم الحديث في ضوء القواعد الشرعية، وذلك بالتفرقة بين الأساليب المحرمة لاصطدامها بأصول الشريعة، والأساليب المشروعة المحققة لمصالح معتبرة لا تتعارض مع الشريعة(1) .
هذا وإن الذي يمدنا بالحلول والمعالجات للآنار والنتائج هو ما في الشريعة من غنى مصدره ما بنيت عليه من قواعد ومراعاة معاني النصوص وعللها وهي لا تتناهى ولا تضيق بكل ما يجد من حوادث وقضايا، وعلى سبيل التنويه فإن من الصيغ الشرعية التي تتصل بهذه الموضوعات أحكام النسب إثباتا ونفياً، وأحكام اللعان، واثر الولادة التي ينشأ عنها النسب بصورة طبيعية مهما كانت ملابسات الحمل حتى باستدخال النطفة بتعبير الفقهاء، وقاعدة الولد للفراش وللعاهر الحجر وهو نص حديث صحيح يعتبر على رأس النصوص المنظمة لهذه الزمرة الهامة من أحكام الشريعة .
هذا، وإنه لا بد للتوصل إلى فتوى صحيحة ترك العاطفة جانباً والتعاون بين العلماء المتخصصين في علوم الطب والبيولوجيا وعلوم الفقه والقانون لتبادل المعلومات والوصول إلى نتائج سليمة، لأن حكم الشيء فرع تصوره .
ثم إن البحث المثمر عن حكم مستحدثات الطب والبيولوجيا يقتضي – بعد التقيد بالنصوص القطعية ذات الصلة – الاجتهاد لا التقليد المطلق لما انتهت إليها اجتهادات الفقهاء السابقين ولكن هذا لا يمنع من الاسترشاد بطريقة اجتهادهم لكي نلتزم مثلهم بالقيود الشرعية لاستخراج الأحكام، لأن الاجتهادات فيما اجمل في النصوص يمكن أن تتغير بتغير المعطيات العلمية(2) .
__________
(1) ... أساليب دكتاتورية البيولوجيا في ميزان الشريعة..د. أحمد شرف الدين ، ندوة الإنجاب في ضوء الإسلام 141 – 143 بتصرف .
(2) ... المرجع السابق 144 –145 بتصرف يسير .(1/11)
مصدر الحكم الشرعي لمستجدات الهندسة الوراثية :
القاعدة الشرعية المطبقة هنا – وفي جميع وجوه التعامل في المستجدات من التصرفات والأشياء - هي المصلحة المرسلة، أي ما كان فيه منفعة ولم يرد نص خاص بمشروعيته ولا بتحريمه ويندرج تحت عموم النصوص المبيحة ونحوها . وقاعدة المصالح المرسلة دليل شرعي أساسي في المستجدات، وهذه منها، وبقي البحث في الضوابط التي تحول دون وجود ملابسات محرمة تجعل المفاسد غالبة على المصالح المبتغاة ولا سيما أن المفاسد التي قد تقع تؤدي إلى الإخلال بمقاصد الشريعة في واحد من الضروريات الخمس وهو حفظ النسل .
ونحن – المسلمين – حين نتكلم عن الحكم التكليفي طلباً أو نهياً لا يفوتنا أن ميادين الهندسة الوراثية خارج حوزتنا، وقد يقتصر نصيبنا منها على المتابعة العلمية .. ومع هذا فالحكم الشرعي يتناول تصرفنا تجاه ذلك .. فلا نقدم على ما حرم فعله ولا نقدم للمخلين بالضوابط الشريعة أي معونة من دعم معنوي أو مادي ولا نتيح لهم اتخاذ بيئتنا ساحة لتجاربهم أو لممارساتهم بعد أن اصبح هذا ميسوراً في عصر العلمنة والهيمنة .
والملحوظ أن أكثر هذه القضايا المطروحة في ظروف المسلمين الحاضرة ليس في الوسع سد ذرائعها بمعالجتها عن طريق الحكم التكليفي القاضي بالطلب أو الكف بل إنها تمثل أمامهم من خلال الواقع بخيره وشره ولابد حينئذ من بحث ما يترتب على ذلك من آثار ( وهو ما يسمى بالحكم الوضعي ) يقطع النظر عن كون الفعل حلالاً أو حراماً، ولا يخفي أنه لا تزال أحكام الشريعة هي المطبقة في هذه القضايا في العالم الإسلامي كله لأنها من قطاع الأحوال الشخصية .(1/12)
وإن التبعية للغرب الذي لا يقيم وزناً للحل والحرمة هي العائق عن تناول هذه القضايا في بداياتها قبل أن تتفاقم للتعرف على الحلال البين والترحيب به، والتنبيه إلى الحرام البين واجتنابه، وتبقى بعض المشتبهات التي تتقى ويحتاط في البعد عنها استبراء للدين والعرض كما في الحديث المعروف .
تعريف الاستنساخ بوجه عام :
بالرغم من أن التصور الوافي للاستنساخ تكفل به المختصون فيما قدموه من بحوث علمية في أكثر من مؤتمر أو ندوة فإنه لابد من تقديم تصور موجز للاستنساخ البشري .
التعريف الموجز الذي يمكن به الربط بين الواقعة وحكمها هو أن الاستنساخ أو النسخ يريد به المختصون محاولة تقديم كائن أو خلية أو جزيء يمكنه التكاثر عن غير التلقيح ومن غير نقص أو إضافة للمحتوى الوراثي .
وبعبارة أخرى هو إيجاد خلية جديدة من خلال زرع نواة خلية جسدية ( جلدية مثلا) في سائل خلية بييضية منزوعة نواتها ، بحيث تشرع الخلية الجديدة في الانقسام لينتج عنها كائن حي بصورة مطابقة وراثياً للأصل الذي أخذت منه النواة(1) .
الخطوات التي يتم بها الاستنساخ هي :
1- استخراج خلية جسمية حية ذات صفات ممتازة من رجل أو امرأة .
2- نزع نواة هذه الخلية الجسمية التي تحمل خيط الحياة الحامل للشفرة الوراثية المزدوجة الكاملة .
3- استخراج بويضة حية غير مخصبة من امرأة أو ربما من نفس المرأة ان كانت الخلية الجسمية منها، وكلاهما سيان، بواسطة تقنية خاصة .
4- تفريغ البويضة من نواتها والابقاء فقط على محتواها من المادة الخلوية (السايتوبلازم) ، بمعنى تحويلها إلى حاوية بيولوجية لا تحمل صفات وراثية .
__________
(1) ... بحث حمض النواويك المعاود للالتحام د. ماهر حتحوت 131 و133 من أبحاث ندوة الإنجاب في ضوء الإسلام ، المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية .(1/13)
5- دمج نواة الخلية الجسمية مع البويضة المنزوعة النواة من خلال تعريضهما لذبذبات كهربائية محسوبة، لتكوين خلية جديدة تحمل مورثات وصفات النواة، بينما يستمر انقسام الخلية لتكون علقة .
6- حقن العلقة في رحم المرأة صاحبة البييضة أو حتى رحم امرأة أخرى لاستكمال الحمل، بل يمكن استخدام امرأة واحدة لاتمام العملية كاملة، وفي النهاية يولد ذكر أو أنثى بنفس مواصفات صاحب أو صاحبة النواة الأصلية بدون تزاوج جنسي(1) .
حكم الاستنساخ الحيواني والنباتي :
الاستنساخ إن كان في مجال الحيوان، وبالأولى في النبات، فإنه لون من ألوان التنمية والتثمير لما سخره الله للإنسان وفسح له فيه سبل التصرف مما ليس فيه تعذيب ولا تبديل عابث للخلقة ومن وجوه التحكم هذه صورة كانت في عهد التشريع الأول وشملها حكم التقرير والمشروعية، لأن التصرف في الحيوان والنبات هو تصرف في المال بما يزيده ويجوده، فقد امتن الله على الناس بوجود الخيل والبغال مع أن هذه الأخيرة نتيجة تلاقح مستجلب فيه مخالفة النوع كما ورد الحث على التمكين من عسب الفحل واستنجاب الأعراق وليس هذا من الخلق أو الإبداع في شيء فهو سلوك لأسباب صحيحة مادية يحدث عنها من النتائج ما قدره الله، والكون كله مسخر للإنسان، وقد هداه الله لتدبير وجوه الانتفاع به وتوفير خبراته .
حكم الاستنساخ البشري :
أما الاستنساخ بالنسبة للإنسان فإن قضية النسب المعدودة إحدى الكليات الخمس الموصَى بصيانتها هي إحدى الضوابط الجوهرية التي تعصم من اقتحام المخاطر غير المحصورة والعصية عن السيطرة .
كما لا تخفى خطورة النظر إلى الإنسان كأنه مما يتخذ للتكاثر فيه بما يشبه التمول كأنه من السلع الخاضعة للتنمية، وكذلك خطورة المساس بالعلاقة المتينة التي أوجدها الله في الزواج ليكون من آثاره حصول الأولاد وانتسابهم .
__________
(1) ... الاستنساخ، نشرة المنظمة الإسلامية ص 5 .(1/14)
فالإقدام على تطبيق الاستنساخ في الإنسان لا ينفك عن الوقوع في تجهيل الأنساب وانقطاع التناسل الذي ناط الله به القرابة بأنواعها وقد تناول الحظر صوراً عديدة تؤدي لجهالة النسب أو لإدخال التنازع فيه، فمما حرمه الله :
- نفي الأنساب الثابتة سواء كان النفي من نفس المحمول عليه النسب إذا كان لا يعلم قادحاً في النسب، لكنه نفاه باطلا وزوراً وهو ما كان معروفاً في الجاهلية باسم " الخلع " بفتح الخاء .
وكذلك إذا كان النفي من غيره وهو ما يستوجب عقوبة القذف من الحدود الشرعية المنصوص عليها { والذين يرمون المحصَنات ثم لم يأتوا بأربعة شُهَداء فاجلدوهم ثمانين جلدةً ولا تَقبَلوا لهم شهادةً أبداً وأولئك هم الفاسقون } (1)
- تضييع العائل من هم في عياله – ففي الحديث الذي رواه مسلم " كفي إثماً أن تحبس عمن تملك قوته " وفي رواية لأحمد : " كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت " .
الجدير بالإشارة إليه في شأن الاستنساخ البشري وجذوره في التراث هو أن ابن النفيس في الرسالة الكاملية في السيرة النبوية تعرض لأمور تدخل فيما يسمى بعالم التنبؤ المستقبلي وأشار في أحد فصول كتابه إلى طريقة التولد الذاتي أو التلقائي .. وإذا كانت إشارته هذه تندرج فيما يسمى بالخيال العلمي إلا أنها تنبئ بأنه توقع احتمال التكاثر بدون اتصال جنسي، وهذا التوقع له أهميته حين يصدر ممن جمع بين الطب والفقه والفلسفة وعلوم أخ
رى كثيرة(2) .
? تحريم التبني ، وهو إخراج النسب من الربط بالحقائق الشرعية إلى محض الادعاء والهوى { وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم } (3) .
__________
(1) ... سورة النور / 4
(2) ... الرسالة الكاملية، لابن النفيس .
(3) ... سورة الأحزاب / 4(1/15)
? اختلاط الأنساب : سواء حصل بالزنى { ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا } (1) أو حصل بالزواج بمن لا تزال في عدة الغير وفيه الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماءه زرع غيره " أي إتيان الحبلى من غيره .
? كما تناول التحريم كل ما يؤدي إلى قطع التناسل أو إضعافه أو تغيير طرقه التي وقعت موقع الفطرة، كالاختصاء أو الرهبانية أو شتى أنواع الشذوذ عن التمتع الحلال .
أضف إلى ذلك ما تقتضيه مراعاة مبادئ تكريم البشر الذين سخر الله لهم الكون من أن يكونوا محلاً للتصرفات المهينة .
ومن هذا يظهر بوضوح أن الاستنساخ في مجال الإنسان هو من مواطن الحظر وأن ما يبذل في سبيل ذلك من جهود هي كذلك إلا بالقدر الذي تتطلبه أغراض العلاج والتداوي .
وفي ضوء ما سبق لابد من تحديد إطار هذا الموضوع بشأن الاستنساخ البشرى، وهو أن يكون مستوفياً للشروط التالية ليكون مشروعاً وبعيداً عن المحاذير المشار إليها سابقاً :
1- أن يكون بين زوجين، سواء من حيث استمداد النواة والبييضة أو احتضان الخلية الجديدة .
2- أن يكون بسبب العقم من الزوجين، وتعذر اللجوء إلى طريقة أطفال الأنابيب.
3- أن يكون بطلب أو بموافقة الزوجين .
4- أن يتم التثبت من كون صاحب النواة هو الزوج، وصاحبة البييضة هي الزوجة وذلك من قبل طبيبين أو ثلاثة أطباء ثقات .
موقف الأزهر والملتقيات العالمية من الاستنساخ البشري:
__________
(1) ... سورة الإسراء /32(1/16)
لقد أصدر الأزهر الشريف بيانا حرم فيه الاستنساخ ( ان استنساخ البشر كفر صريح وتغيير لخلق الله ) وأصدر الفاتيكان بيانا استنكر فيه هذه الممارسة ( لقد أصبحت الحياة الإنسانية ألعوبة في يد العلم )، كما توصلت اللجنة الاتحادية التي شكلها الرئيس الأمريكي إلى ضرورة منع الاستنساخ البشري، وهو نفس مفهوم البيانات الصادرة عن أعضاء البرلمان البريطاني ومجلس العموم البريطاني وبيان الرئيس الفرنسي .
وانطلاقا من مسؤولية المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية، ودورها في نشر الثقافة الإسلامية وبحث المستجدات العلمية لتبيان الرأي الإسلامي فيها، فقد دعت المنظمة إلى مؤتمر دولي ، عقد بالرباط في يونيو 1997 بالتعاون مع منظمة العلوم والثقافة الإسلامية ISESCO خصص لبحث الاستنساخ، وحضره نخبة من علماء الدين والطب، وأكدت توصياتهم تحريم الاستنساخ البشري، بينما طالبوا بدراسة إمكانيات تطبيق تقنيات الهندسة الوراثية، في المجالين الحيواني والنباتي وفقا لضوابط شرعية وأخلاقية محددة(1) .
توصيات المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية :
طرح موضوع الاستنساخ من قبل المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية في الندوة التاسعة التي عقدت في الدار البيضاء عام 1418هـ = 1997م وقدمت بشأنه عدة أبحاث طبية وبيولوجية وشرعية وقانونية . انتهت الندوة إلى ما يلي :
- بند (خامساً) في التمهيد : " تأسيسا على هذه الاعتبارات التي أجمع عليها الحاضرون، رأى البعض تحريم الاستنساخ البشري جملة وتفصيلا، بينما رأى آخرون إبقاء فرصة لاستثناءات حاضرة أو مقبلة إن ثبتت لها فائدة واتسعت لها حدود الشريعة .
- نص التوصيات
أولاً : ... تحريم كل الحالات التي يقحم فيها طرف ثالث على العلاقة الزوجية، سواء أكان رحماً أم بييضة أم حيواناً منوياً أم خلية جديدة للاستنساخ .
__________
(1) ... الاستنساخ، نشرة المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية صفحة 7 .(1/17)
ثانياً : ... منع الاستنساخ البشري العادي، فإن ظهرت مستقبلا حالات استثنائية عرضت لبيان حكمها الشرعي من جهة الجواز أو المنع (1).
قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي :
قدمت الأبحاث المعروضة في الندوة التاسعة للمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية في الدورة الثانية لمجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي، مع أبحاث أخرى إضافية، ومناقشات مستفيضة وصدر عن المجمع قرار متفق مع المنظمة في التوصية الأولى لندوتها، وهي :
- تحريم كل الحالات التي يقحم بها طرف ثالث على العلاقة الزوجية .. الخ .
- تحريم الاستنساخ البشري بطريقتيه المذكورتين ( أي في ديباجة القرار ) و بأي طريق أخرى تؤدي إلى التكاثر البشري(2) .
ويتبين من المقارنة بين توصية الندوة وقرار المجمع أن المجمع أوصد الباب نهائياً أمام الاستثناءات في حين ان الندوة تركت فرصة للاستثناء، وهذه الفرصة التي ستتم معالجتها هي وقوع الاستنساخ البشري بين الزوجين من البداية إلى النهاية .
الإشكالات المطروحة على الاستنساخ ولو بين الزوجين :
إن الأبحاث ذات الطابع الشرعي التي عالجت موضوع الاستنساخ لم تفرق بين أن يكون ضمن دائرة الزوجية أو خارجها، لأنها ركزت على الحكم الوضعي ( الآثار الشرعية الناتجة عن وقوع التصرف ) سواء حكم بمشروعيته أو بعدمها .
وقد طرح الباحثون اشكالات مختلفة، على تفاوت في عددها بين باحث وآخر، وهي في الواقع تشعيب أو تفريع استخدم لتأكيد التحريم الذي دار مناطه على أمر أساسي وهو مجافاة الفطرة التي هي تكون الإنسان بالتلقيح بين رجل وامرأة، وفيما يلي بعض هذه الإشكالات، للاستفادة منها في معالجة الآثار ، فيما إذا كان الاستنساخ بين الزوجين جائزاً، وهو ما ترجح عندي، كما سيأتي والاشكالات التي طرحها الشيخ محمد المختار السلامي هي :
__________
(1) ... ندوة الإنجاب في ضوء الإسلام، المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية، توصيات الندوة .
(2) ... قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي رقم 100(2/10)(1/18)
أ هل تكون الأنثى المستنسخة أختا أو بنتا للمأخوذة منها البييضة؟
ب ما علاقة النسخة بالزوج هل هي ربيبة أو أخت له، أو أخت لزوجته مع ان زوجته هي التي ولدتها في حال قيام علاقة الزوجية .
ج- ... هل يكون الذكر المستنسخ ابنا للزوجة أو زوجا لها – مع زوجها الحالي – وقد حملته في بطنها وولدته، أو هو أخ لزوجها ؟
وقد ختم الشيخ محمد المختار السلامي هذه الاشكالات بأن الحكم هو عموم المنع تفادياً لاضطراب الآثار الناتجة عن هذا التصرف(1) .
واشتملت بعض البحوث – بديلاً عن طرح الاشكالات - تقريراً متعجلاً للأحكام، لمجرد الخروج عن الوضع الطبيعي لوجود الإنسان، وهو ما قرره الدكتور حسن الشاذلي بما موجزه(2) :
أ المستنسخ ليس ابنا لصاحب الخلية ( يقصد النواة ) إذ هو نسخة منه، وليس شقيقاً له لأن علاقة الأخوة تدور حول من أنجبه الزوجان من أولاد .
ب المستنسخ ليس ابنا لصاحبة البييضة المفرغة، لأن خواص الأم قد أعدمت بانتزاع نواة البييضة واحتضانها للخلية الجديدة هو للإنماء لا للإنشاء، ولم يتحقق الامتزاج بين خلية الذكور وخلية الأنثى .
ج المستنسخ ليس زوجا لصاحبة البييضة – باعتبار أخذ النواة من الزوج –لأن علاقة الزوجية مثل علاقة الأبوة والنبوة علاقة خاصة بين اثنين .
د على افتراض أخذ خلية من الزوج لاستنساخ ذكر، وأخذ خلية من الزوجة لاستنساخ بنت، هل هما أخوان أو زوجان امتدادا لعلاقة الزوجية.
هـ ... هناك جهالة بشأن موقف المستنسخ من انتمائه النسبي وهي جهالة فاحشة، وجهالة من تصح نسبته إليه من الأصول والفروع، ومن ثم جهالة حقوقه وواجباته.
__________
(1) ... بحثه عن الاستنساخ المقدم لمجمع الفقه الإسلامي الدولي ( مجلة المجمع 10/3/157 .
(2) ... بحثه عن الاستنساخ، مجلة المجمع 10/3/193 .(1/19)
وقد اشتملت المناقشات التي دارت حول أبحاث الاستنساخ على مداخلات منها رأي كل من الدكتور وهبة الزحيلي، والدكتور محمد سليمان الأشقر، والدكتور محمد عبد اللطيف الفرفور وقد انتهوا إلى المنع مطلقاً .
الاتجاه الإيجابي من الاستنساخ بين الزوجين :
ان بحث الشيخ محمد علي التسخيرى(1) تضمن اتجاها إيجابياً تجاه الاستنساخ من حيث الإجابة عن الاشكالات والمخاطر المثارة حوله بوجه عام، فقد قرر ما يلي ، والاشكالات متضمّنة في الردود :
أ حالات الاستنساخ لا تشكل ظاهرة اجتماعية واسعة حتى يخشى على تعطيل طريقة الإنجاب بالزواج .
ب لا مانع من وجود أفراد لا يعلم نسبهم، أو ينتسبون إلى الأم فقط، كولد الشبهة، وعليه لا يلزم من الاستنساخ اختلاط الأنساب، وإنما قد يلزم مجهولية النسب مما يخرجه موضوعا عن أحكام النسب .
ج احتمال إساءة الاستفادة موجود بنفس النسبة في التلقيح الصناعي، وقد أجازته المجامع .
د تغيير الخلقة الممنوع هو عمليات على أسس شيطانية خرافية، فيها إهدار الثروة، واستجابة لغير شرع الله، وليس كل تغيير للخلقة ممنوعاً، مثاله : الختان، ووسم الحيوانات لتمييزها وعمليات التجميل الضرورية ..الخ
هـ ... هناك شبهات واهية مثل الاستغناء عن الزواج، مصير اللقائح الزائدة، تهديم المجتمعات .. الخ .
ثم أضاف الشيخ التسخيري : إن النسب يمكن ضمانه إذا كانت النواة الضيفة مأخوذة من خلية الزوج مثلاً، والبيضة مأخوذة من الزوجة فلا ريب أن المولود ولد لهذين ومن الواضح ان الكثير من النتائج الإيجابية يمكن أن يتم الحصول عليها مع توافر هذه الشروط .
ومما يجاب به عن الاشكالات – فضلاً عما أورده الشيخ التسخيري ان هناك حالات يستعصي فيها تحديد نوع القرابة، وهي حالة الخنثى المشكل هل هو أخ أو أخت ؟ وهل هو ابن أو بنت ؟
__________
(1) ... بحثه عن الاستنساخ ، مجلة المجمع 10/3/222 .(1/20)
وقد استنبط الفقهاء حلولاً لكثير من المشكلات، والشريعة لا تضيق عن إيجاد الأحكام للمستجدات من خلال مصادر الاجتهاد المتعددة .
مدى جواز الإقدام على ما يتعسر إيجاد حَلّ له :
قد يقال : إذا كانت الأحكام الوضعية للاستنساخ، ولو بين الزوجين، ليست واضحة بينة، وفيها خلاف وجدل وعسر في إيجاد الحلّ، فهل للإنسان أن يقدم على ارتكاب السبب الذي يتطلب أثراً شرعياً غير واضح .
والجواب أن الأحكام الوضعية لا تدخّل للمكلف فيها – بخلاف الأحكام التكليفية التي يتعلق بها الفعل أو الترك - ولا يتعلق الخطاب إلا بالتصرف الذي يباشره المكلف، وهو إبرام عقد فاسد مثلاً . هذا ليس من هذا القبيل . فإن التصرفات التي تتم في الاستنساخ بين الزوجين هي أخذ خلية من الزوج، نزع نواتها، أخذ بييضة من الزوجة، تفريغها من نواتها، وضع نواة خلية الزوج في البييضة، وهذه تصرفات مادية لا يظهر فيها ارتكاب محرم، أو ترك واجب، وعلى الفقهاء إيجاد الحل لما ينتج عن ذلك من آثار بشأن النسب والإرث والنفقات، وغيرها وكلها تتفرع من ثبوت النسب وسيأتي الكلام فيه .
ومن الأمثلة التي أوردها الفقهاء وتصلح للاستئناس بها من حيث القيام بأمر يترتب عليه اثر لا يملك الشخص علاجاً له جواز معاشرة الرجل لزوجته وهو متيقن من فقدان الماء للاغتسال، حيث يلجأ إلى التيمم مع أنه هو الذي تسبب في فقدانه الطهارة . بل حتى لو كان التيمم أيضا متعذراً عليه، كما لو حبس في غرفة من الخشب لا تراب فيها ولا يخفى أنه يترتب على ذلك فقدان الطهارة من خلال تسببه في ذلك، ولا مؤاخذة عليه ..
إثبات النسب من الزوج صاحب النواة :
هناك عدة طرق لإثبات النسب المستنسخ بالنواة للزوج المستمدة منه النواة :
أ- ... الفراش :(1/21)
فإن فراش الزوجية قائم، وما ولدته المرأة المتزوجة هو ولد لصاحب الفراش، وهذا ما لم ينف نسبه منه بشروطه، عن طريق الملاعنة، وهذا أمر غير وارد هنا مع أنه ممكن . وقد سبق حديث ( الولد للفراش ) .
ب- ... القيافة :
فلو افترضنا ان هناك من ينازع الزوج في ادعاء نسب المولود بالاستنساخ فإن القيافة دليل لإثبات النسب عند التنازع وفقدان البينة، وهنا ما هو أوضح من القيافة التي هي الشبه، لأن الموجود تماثل تام .
ج- ... الاستلحاق :
على افتراض فقدان الفراش بالنسبة للمستنسخ فإن للزوج صاحب النواة أن يستلحقه لعدم الإخلال بحق غيره، وقد سبق ان الشرع يتشوف لإثبات النسب وفيما يلي خلاصة موجزة عن الاستلحاق :
ذهب اسحاق بن راهويه إلى ان المولود من الزنى إذا لم يكن مولوداً على فراش يدعيه صاحبه، وادعاه الزاني ألحق به، وأول قوله صلى الله عليه وسلم "الولد للفراش" على أنه حكم بذلك عند تنازع الزاني وصاحب الفراش . وهذا مذهب الحسن البصري وعروة بن الزبير وسليمان بن يسار واحتجوا بأن عمر كان يُليط ( ينسب ) أولاد الجاهلية بمن ادعاهم في الإسلام . قال ابن القيم وهذا المذهب كما تراه قوة ووضوحاً، فما المانع من لحوقه بالأب إذا لم يدعه غيره(1) .
ثم أليس في قوله صلى الله عليه وسلم، بمناسبة الحث على اسباغ الغسل : " ان تحت كل شعرة جنابة " إشارة إلى أن المني الذي تبدأ بها أول مراحل تكون الإنسان (النطفة) هو من الجسم كله استمداداً، وان كان له وعاء خاص نشوءاً وبروزاً .
كما ان غرس النواة من خلية الزوج في بييضة الزوجة – ولو كانت منزوعة النواة – هو نوع من التلقيح، بدلالة حصول الأثر نفسه فيما لو انغرس الحيوان المنوي في البييضة التامة .
إثبات النسب من الزوجة صاحبة البييضة :
__________
(1) ... زاد المعاد 5/425، أختيارات ابن تيمية للبعلى 165 المغني لابن قدامة 6/266 .(1/22)
لا تبدو هناك مشكلة في إثبات نسب المستنسخ بالنبوة من الأم، وان المطروح من الشبهات لا يقوى على معارضة الحقيقة الشرعية المقررة في قوله تعالى { إن أمهاتهم إلا اللائى ولدنهم } (1) ، وقوله تعالى { والوالدات يرضعن أولادهن } (2) حيث نسب الأولاد إلى الوالدات لهم .وهذا الثبوت من الحقائق الطبيعية، لأن الانفصال عن جسم المرأة تتحقق به الجزئية التي هي مناط البنوة .
إن ما قيل من ان البييضة بعد نزع نواتها أعدمت وزال أثرها لا صحة له، فإن البييضة ليست هي النواة وحدها، بل هي الخلية بجميع ما تشتمل عليه .
وما طرح من تشعيب وتقليب للافتراضات بالنظر إلى ان الحقيبة الوراثية واحدة وان الكائن الناتج هو أخ أو زوج أو بنت .. الخ كل تلك الطروحات فيها غفلة عن الحقيقة الشرعية المقررة وهي ان الولادة من المرأة تثبت بها بنوة المولود لها حتى لو لم تكن هناك زوجية، فكيف والزوجية قائمة ؟
__________
(1) ... سورة الأحزاب /
(2) ... سورة البقرة /(1/23)
وقد أثار الدكتور أحمد شرف الدين مسألة تعدد الأمومة أو الأبوة، والمسألة – كما قال الشيخ بدر المتولى عبد الباسط - قد حلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله :" الولد للفراش وللعاهر الحجر " فالولد أبوه صاحب الفراش فإن لم يكن صاحب فراش فيكون الولد لا أب له معروفاً ويأخذ حكم اللقيط، فبالرغم من ان ولد الزنى – مثلاً – قد يكون معروفاً أنه ولد من ماء فلان فإنه لا يمكن بأي حال ان ينسب الولد لصاحب الحيوان المنوي لأنه حين وضع في رحم غير الزوجة كان مهدراً فالشرع يلغي هذه الأبوة فإن الولد لا ينسب إليه وينسب إلى صاحب الفراش إلا ان نفاه، وإثبات نسبه إلى صاحب الفراش – بالرغم أنه ليس من مائة – هو من تشّوف الشرع لإثبات النسب، مع إعطاء الفرصة لمن اعتدي على فراشه في أن ينفى نسب ذلك الولد ويلاعن على ذلك إن الأم الحقيقية هي التي ولدت وتغذى منها الجنين وحملته، فهذه هي الأم الحقيقية (والوالدات يرضعن أولادهن) ولم يقل ( الحاضنات ) . اما صاحبه البييضة فلا علاقة للولد بها أبداً ( إن أمهاتهم إلا اللائى ولدتهم ) (1) .
والحمد الله رب العالمين
__________
(1) ... مناقشات ندوة الإنجاب، كلمة الشيخ بدر المتولى عبد الباسط 168 – 169 .(1/24)
الإشهاد في الطلاق
قال الحق سبحانه وتعالى:
" يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا، فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا" سورة الطلاق " آية 1-2
يوسف إبرام
المقدمة:
الزواج ميثاق غليظ، وعقد أحاطه الإسلام بشرائع وآداب تحفظه من الانحلال و الهدم، وهو من آيات الله و نعمه على عباده، به يعف العبد ويستمر النسل وتحفظ الأعراض.قال سبحانه وتعالى "ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها، وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون." الروم آية 21 ،(1/1)
وقد نهي المسلم أن يعرض هذا الميثاق لكل ما يفسده، فحث الأزواج على حسن المعاشرة وحث النساء على حسن التبعل. وكل طلاق من دون بأس فهو ظلم وعدوان إما على النفس أو على الغير، أو عليهما معا لما يعرض الأولاد للسوء. إن الحديث المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم " أبغض الحلال إلى الله الطلاق، ما أحل الله شيئا أبغض إليه من الطلاق" هو حديث ضعيف، ولكنه صحيح المعني، يشهد له الحديث الصحيح "أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس فحرام عليها رائحة الجنة " رواه أبو داود، ويؤكده هذا الحديث "إن الله يوصيكم بالنساء خيرا، إن الله يوصيكم بالنساء خيرا، فإنهن أمهاتكم وبناتكم وخالاتكم، إن الرجل من أهل الكتاب يتزوج المرأة وما يعلق يداها الخيط، فما يرغب واحد منهما عن صاحبه ( حتى يموتا هرما )السلسلة الصحيحة 6/2871.
وعن العلاء الغساني، قال: لقد بلغني: أن من الفواحش التي حرم الله مما بطن، مما لم يتبين ذكرها في القرآن: أن يتزوج الرجل المرأة، فإذا تقادم صحبتهما، وطال عهدهما، ونفضت ما في بطنها؛ طلقها من غير ريبة. قال الشيخ الألباني رحمه الله وهذا إسناد صحيح متصل عندي كما حققته في إرواء الغليل 7/42.
ذهب عامة أهل العلم إلى كراهة الطلاق من غير حاجة، بل ورد عن الإمام أحمد رواية أنه يحرم لأنه ضرر بنفسه وزوجته، وإعدام للمصلحة الحاصلة لهما من غير حاجة إليه، فكان حراماً كإتلاف المال، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار".وقال ابن تيمية : والطلاق في الأصل مما يبغضه الله، وهو أبغض الحلال إلى الله، وإنما أباح منه ما يحتاج إليه الناس كما تباح المحرمات للحاجة. وفي رواية عند أحمد رحمه الله أن الطلاق يدور مع الأحكام التكليفية الخمسة فيكون إما واجبا أو مستحبا وقد يكون محرما أو مكروها أو مباحا. "(1/2)
أما الإمام النووي فلا يرى أن الطلاق يكون مباحا. قال في شرح صحيح مسلم: قال أصحابنا: الطلاق أربعة أقسام: حرام، ومكروه، وواجب، ومندوب، ولا يكون مباحاً مستوي الطرفين. " ج 10ص 52
تعرف المرأة المسلمة كثيرا من صور الظلم نظرا لسوء استعمال ما تبقى من الشريعة الإسلامية، أقصد قوانين الأحوال الشخصية المكتوبة في الغالب بناء على تقليد لمذهب واحد، أو دون مراعاة للجهل المنشر بين المسلمين والمسلمات، ولا لتباين الوضع الحالي المزري للمجتمع الإسلامي مقارنة ببيئة نزول الوحي. لقد نزلت هذه الأحكام الشرعية زمن الخيرية، فالتزم بها المكلفون على أنفسهم وعلى غيرهم، مع أداء الحقوق ومراعاة الأمانات، ومحبة الخير للغير . أما الآن، وفي مجتمعات غلب على أهلها الجهل والفوضى وغمط الحقوق، مع غياب الوازع الديني وتغييب الشريعة ، فعلى أصحاب القرار أن يراعوا في تطبيقهم للأحكام أن لا يظلم الناس رجالا كانوا أو نساء باسم الشرع الحنيف.
وإني أتساءل مستندا إلى واقع النوازل القضائية حاليا، هل تناسب مقادير نفقة الأولاد المخصصة للمطلقات غلاء المعيشة ؟ ففي بعض الدول تعطى المرآة مبلغا لا يكفيها حتى لعيش أيام قليلة،
وهل إخراج المرأة من السكن بعد الطلاق ورميها في الشارع مع أولادها موافق لرحمة الإسلام؟ فكم من مطلقة دفعت قهرا للتسول أو الحرام حتى تطعم أولادها !
وهل الحكم على الزوجة في كل الأحوال بما يسمى " ببيت الطاعة" وإلزامها بالرجوع إلى بيت الزوجية وإن كان الزوج رجل سوء حكم مقبول شرعا ؟
وهل الحكم على زوجة المفقود بوجوب أن تتربص أربع سنوات ثم تعتد(1/3)
أربعة أشهر وعشر حتى تحل للأزواج، وإلزامها بوجوب إحضار البينة على غياب زوجها حكم مقبول عقلا ؟ بل لا تزال بعض المحاكم تلزم زوجة المفقود بانتظار أن يصل سن الزوج الغائب إلى ستين أو سبعين سنة وقيل بتسعين حتى يحكم لها بالطلاق ؟ وأمثلة أخرى تشهد بوجوب إعادة النظر في كثير من الأحكام غير القطعية لمواجهة تحديات العصر وانتشار الجهل، تحقيقا لمقاصد الشرع، وبناء على قواعده الكلية ومن بينها قوله صلى الله عليه وسلم"
لا ضرر ولا ضرار" على العباد، كل العباد رجالا كانوا أو نساء.
لقد وصف الحق سبحانه وتعالى عقد الزواج بأنه ميثاق غليظ، فأتت السنة المطهرة فأكدت هذا الوصف بأن جعلت لصحته توفر شروط محكمة من إيجاب وقبول وحضور ولي الزوجة وشاهدين عدلين، مع انتفاء الموانع مثل التوقيت أو الشغار أو التحليل وغيره.
أما عند الطلاق فأكثر أهل العلم يقول بوقوع الطلاق بمجرد التلفظ بكلمة الطلاق أو الفراق أو التسريح تصريحا أو غيرها كناية مع النية، وسواء كان المطلق جادا أو هازلا أو لاعبا. واستدلوا بحديث " ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة " قال إبن القيم رحمه الله " وتضمن أن المكلف إذا هزل بالطلاق أو النكاح أو الرجعة لزمه ما هزل به فدل ذلك أن كلام الهازل معتبر وإن لم يعتبر كلام النائم والناسي وزائل العقل والمكره" زاد المعاد 5/204 .(1/4)
ولكن الحديث ضعيف كما قال الترمذي عقب الحديث: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لأن في إسناده عبد الرحمن بن حبيب بن أدرك، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم. قال فيه النسائي: منكر الحديث. ووثقه ابن حبان. وقال الحافظ ابن حجر في " التقريب ": مجهول. وقد ضعف الحديث بهذا السند الشيخ الألباني في " الإرواء " (6/225) وحسنه بمجموع طرقه. وذهب الشيخ مصطفى العدوي إلى تضعيف الحديث بجميع طرقه في " جامع أحكام النساء " (4/126) فقال: وللحديث شواهد كلها ضعيفة واهية أشار إليها ابن حجر في " التلخيص " (3/209) ، والشوكاني في " نيل الأوطار " (6/40 ونقل الشيخ مصطفى أقوال أهل العلم في المسألة ما ملخصه :
اختلف أهل العلم في المسألة على قولين :
القول الأول : أن من تلفظ ولو هازلا بصريح لفظ الطلاق فإن طلاقه يقع ودليلهم الحديث الآنف
القول الثاني وهو قول المالكية أن اللفظ الصريح يفتقر إلى النية .
ودليلهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: " إنما الأعمال بالنيات ". وقول الله عز وجل:
" وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم " البقرة: 227 ]
أليس القصد والاختيار وإحضار الشهود أو الذهاب للتوثيق عند القاضي قيود لو روعيت حاليا لما تعرضت البيوت للفساد والأنساب والأولاد للضياع ؟
أليس إلزام الزوج بإحضار الشهود وسيلة لإبعاده عن جو الخصام والصدام عسى بحضورهم أن يذكروه بالله فيندم على ما سيقدم عليه ؟(1/5)
أليس إلزام الناس بتوثيق العقود تحصين لهم من أن يعيشوا في الشبهات حيث أن الرجل قد يطلق زوجته مرات ومرات، لا يدري عددها وهي لا تزال في عصمته وفراشه، وهذا أمر حاصل ومشاهد في واقع المجتمع المسلم. هذه الحالة الأخيرة لا تخفى على من له تجربة في قضايا الزواج والطلاق وسط الأسر المسلمة، فقد سمعت وسمع غيري من زيجات اعترفن أنهن سمعن الطلاق من أزواجهن عددا لا يحصى من المرات. حتى أصبح التلفظ به لا يؤثر فيهن على الإطلاق.
قضية الإشهاد في الطلاق:
يقول الحق سبحانه وتعالى في سورة الطلاق/آية 1-2
" يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا، فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا"
الشهادة عموما:
ذهب جمهور علماء الأمة إلى أن الطلاق يقع من غير إشهاد لأنه حق الزوج وله أن يتصرف في حقه كيف يشاء واستدلوا بأن المسلمين قديما وحديثا كانوا يطلقون ولم يشهدوا على هذا فدل على أن قوله تعالى " وأشهدوا ذوي عدل منكم " إنما للندب مثل قوله تعالى " وأشهدوا إذا تبايعتم " فمن أشهد على طلاقه فحسن ومن لم يشهد فلا شيء عليه. بل هناك من قال أن آية سورة الطلاق ليست إلا للرجعة وليست للطلاق.
أقوال المفسرين:(1/6)
1. ... قال الطبري وقوله: { وأشهدوا ذوي عدل منكم } وأشهدوا على الإمساك إن أمسكتموهن, وذلك هو الرجعة ذوي عدل منكم, وهما اللذان يرضى دينهما وأمانتهما. ولكنه نقل قولا عن إبن عباس يقول بأن الإشهاد للطلاق والرجعة قال: حدثني علي , قال : ثنا أبو صالح , قال : ثني معاوية , عن علي , عن ابن عباس , قال : إن أراد مراجعتها قبل أن تنقضي عدتها , أشهد رجلين كما قال الله { وأشهدوا ذوي عدل منكم } عند الطلاق وعند المراجعة.
وروى قولا آخر عن السدي مثله. ج12/ صفحة 121
2. ... وقال أبن كثير " وَقَوْله تَعَالَى " وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْل مِنْكُمْ " أَيْ عَلَى الرَّجْعَة إِذَا عَزَمْتُمْ عَلَيْهَا
3. ... وقال القرطبي : " فيه ست مسائل : الأولى : قوله تعالى : " وأشهدوا " أمر بالإشهاد على الطلاق . وقيل : على الرجعة . والظاهر رجوعه إلى الرجعة لا إلى الطلاق . فإن راجع من غير إشهاد ففي صحة الرجعة قولان للفقهاء . وقيل : المعنى وأشهدوا عند الرجعة والفرقة جميعا . وهذا الإشهاد مندوب إليه عند أبي حنيفة ; كقوله تعالى : " وأشهدوا إذا تبايعتم " [ البقرة : 282 ] . وعند الشافعي واجب في الرجعة , مندوب إليه في الفرقة . وفائدة الإشهاد ألا يقع بينهما التجاحد , وألا يتهم في إمساكها , ولئلا يموت أحدهما فيدعي الباقي ثبوت الزوجية ليرث ." ج 18/صفحة 104
وللإمام الشافعي رحمه الله قول آخر في القديم يرى أن الإشهاد في الطلاق واجب. قال" فأمر الله عز وجل في الطلاق والرجعة بالشهادة وسمى فيها عدد الشهادة فانتهى إلى شاهدين فدل ذلك على أن كمال الشهادة على الطلاق والرجعة شاهدان فإذا كان ذلك كمالها لم يجز فيها شهادة أقل من شاهدين " الأم ج12/ ص 121
ويرى الشيعة الأمامية فقالوا بأن الأشهاد شرط لصحة الطلاق، قال الطوسي في كتاب الخلاف: كل طلاق لم يحضره شاهدان مسلمان عدلان وإن تكاملت سائر الشروط، فإنه لا يقع.(1/7)
وسبب الخلاف هو: هل الإشهاد يعود إلى الطلاق أي إذا طلقتم النساء فاشهدوا ذوي عدل منكم أو يعود على الرجعة إي إذا أرجعتموهن فأشهدوا على هذه الرجعة. يرى الشيعة أنه يعود إلى الطلاق بدليل أن السورة بكاملها أتت لبيان أحكام الطلاق حيث ذكرت عدة أحكام تخصه وهي - أن يكون الطلاق لعدة النساء. 2- إحصاء العدة.3- عدم إخراج النساء من البيوت.4- خيار الزوج بين الإمساك والمفارقة عند دنو العدة من الانتهاء.5- إشهاد العدول.6- عدة المرتابة .7- عدة من لا تحيض وهي في سن من تحيض.8- عدة المرأة الحامل.
أقوال أهل العلم في هذه المسألة:
1. ... قال شيخ الإسلام إبن تيمية في الفتاوى:
وقال تعالى: { وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله } فأمر بالإشهاد على الرجعة ؛ والإشهاد عليها مأمور به باتفاق الأمة ، قيل : أمر إيجاب . وقيل : أمر استحباب . وقد ظن بعض الناس: أن الإشهاد هو الطلاق، وظن أن الطلاق الذي لا يشهد عليه لا يقع. وهذا خلاف الإجماع، وخلاف الكتاب والسنة، ولم يقل أحد من العلماء المشهورين به؛ فإن الطلاق أذن فيه أولا، ولم يأمر فيه بالإشهاد، وإنما أمر بالإشهاد حين قال: { فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف }. والمراد هنا بالمفارقة: تخلية سبيلها إذا قضت العدة، وهذا ليس بطلاق ولا برجعة ولا نكاح. والإشهاد في هذا باتفاق المسلمين، فعلم أن الإشهاد إنما هو على الرجعة." مجموع الفتاوى م33/صفحة 33
لا أدري كيف جزم شيخ الإسلام رحمه الله بأن القول بعدم وقوع الطلاق خلاف الإجماع وخلاف الكتاب والسنة مع العلم أن الصحابي الجليل عمران بن حصين سئل عن الرجل يطلق المرأة ثم يقع بها ولم يشهد على طلاقها ولا على رجعتها فقال طلقت لغير سنة ورجعت لغير سنة أشهد على طلاقها وعلى رجعتها ولا تعد رواه أبو داود وابن ماجه(1/8)
وقال ابن جريج كان عطاء يقول " وأشهدوا ذوي عدل منكم " قال لا يجوز في نكاح ولا طلاق ولا رجاع إلا شاهدا عدل كما قال الله عز وجل إلا أن يكون من عذر .
2. ... قال إبن فرحون صاحب كتاب تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام :
"واختلف العلماء في قوله تعالى: { فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف. وأشهدوا ذوي عدل منكم } فقال بعض العلماء: هو أمر بالإشهاد على الطلاق، وقيل على الرجعة، وقيل المعنى، وأشهدوا عند الرجعة والفرقة جميعا؛ لأن الله تعالى قال: { وأشهدوا ذوي عدل منكم } عقب ذكر الطلاق والإمساك بالرجعة والمفارقة بانقضاء العدة، فوجب أن يرجع ذلك إلى الجميع رجوعا واحدا إما وجوبا وإما ندبا... و قال ابن رشد: وإذا قلنا إن الإشهاد واجب، فمعنى ذلك أنه يكون بتركه آثما لتضييع الفروج، وما يتعلق به من الحقوق من غير أن يكون شرطا في صحة الطلاق والرجعة " ج3 ص 5
3. ... العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر
يرى الشيخ أحمد محمد شاكر أن الإشهاد شرط لصحة الطلاق فقد أصدر كتابا سنة 1936 سماه نظام الطلاق في الإسلام قال فيه:(1/9)
والظاهر من سياق الآيتين أن قوله: (وأشهدوا) راجع إلى الطلاق وإلى الرجعة معاً والأمر للوجوب، لأنه مدلوله الحقيقي، ولا ينصرف إلى غير الوجوب ـ كالندب - إلا بقرينة ولا قرينة هنا تصرفه عن الوجوب، بل القرائن هنا تؤيد حمله على الوجوب لأن الطلاق عمل استثنائي يقوم الرجل وهو أحد طرفي العقد سواء أوافقته المرأة أم لا كما أوضحنا ذلك مرارا وتترتب عليه حقوق للرجل قِبلَ المرأة وحقوق للمرأة قبل الرجل وكذلك الرجعة ويخش الإنكار من أحدهما فاشهاد الشهود يرفع احتمال الجحد ويثبت لكل منهما حقه قبل الآخر فمن أشهد على طلاقه، فقد أتى بالطلاق على الوجه المأمور به، ومن أشهد على الرجعة فكذلك، ومن لم يفعل فقد تعدى حد الله الذي حده له فوقع عمله باطلاً، لا يترتب عليه أي أثر من آثاره ـ إلى أن قال – وهذا الذي قلنا هو قول ابن عباس فقد روى عنه الطبري في التفسير إن أراد مراجعتها قبل أن تنقضي عدتها أشهد رجلين كما قال الله " وأشهدوا ذوي عدل منكم" عند الطلاق وعند المراجعة. وهو قول عطاء أيضا فقد روى عنه عبد الرزاق وعبد بن حميد قال: " النكاح بالشهود والطلاق بالشهود والمراجعة بالشهود" نقله السيوطي في الدر المنثور " نظام الطلاق في الإسلام ص 118-119
4. ... الشيخ أبو زهرة:
علق الشيخ أبو زهرة على قوله تعالى:"وأشهدوا ذوي عدل منكم" فقال رحمه الله:
" فهذا الأمر بالشهادة جاء بعد ذكر إنشاء الطلاق وجواز الرجعة، فكان المناسب أن يكون رجعاً إليه، وإن تعليل الإشهاد بأنه يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر يرشح ذلك ويقويه، لأن حضور الشهود العدول لا يخلو من موعظة حسنة يزجونها إلى الزوجين، فيكون لهما مخرج من الطلاق الذي هو أبغض الحلال إلى الله سبحانه وتعالى.(1/10)
وأنه لو كان لنا أن نختار للمعمول به في مصر لاخترنا هذا الرأي فيشترط لوقوع الطلاق حضور شاهدين عدلين ليمكنهما مراجعة الزوجين فيضيقا الدائرة ولكيلا يكون الزوج فريسة لهواه ولكي يمكن إثباته في المستقبل فلا تجري فيه المشاحة وينكره المطلق إن لم يكن له دين والمرأة على علم به ولا تستطيع إثباته فتكون في حرج شديد" الأحوال الشخصية ص 431
5. ... الشيخ سيد سابق رحمه الله
قال : " و أخرج السيوطي في الدر المنثور عن عبد الرزاق وعبد بن حميد عن عطاء قال: " النكاح بالشهود والطلاق بالشهود والمراجعة بالشهود" وروى إبن كثير في تفسيره عن ابن جريج أن عطاء كان يقول في قوله تعالى " وأشهدوا دوي عدل منكم" قال لا يجوز في نكاح ولا طلاق ولا إرجاع إلا شاهدا عدل إلا من عذر" فقوله لا يجوز صريح في وجوب الإشهاد على الطلاق عنده رضي الله عنه لمساواته له بالنكاح ومعلوم ما اشترط فيه من البينة.
إذا تبين لك أن وجوب الإشهاد على الطلاق هو مذهب هؤلاء الصحابة والتابعين المذكورين تعلم أن دعوى الإجماع على ندبه المأثورة في بعض كتب الفقه مراد بها الإجماع المذهبي لا الإجماع الأصولي الذي حده الغزالي كما في المستصفى هو " إتفاق أمة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة على أمر من الأمور الدينية " لانتقاضه بخلاف من ذكر من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المجتهدين.
وتبين مما نقلناه عن السيوطي وابن كثير أن وجوب الإشهاد لم ينفرد به علماء آل البيت عليهم السلام كما نقله السيد المرتضى في كتاب الإنتصار بل هو مذهب عطاء وابن سيرين وابن جريج كما أسلفنا.
6. ... الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور
يرى الشيخ أن الأمر بالإشهاد راجع إلى الطلاق والرجعة، ولكن لم يترجح عنده بوضوح هل الإشهاد شرط لصحة الطلاق أم واجب يصح مع الإثم. فقال في المجلد 28/ ص 309:(1/11)
" ظاهر وقوع هذا الأمر بعد ذكر الإمساك أو الفراق، أنه راجع إلى كليهما لأن الإشهاد جعل تتمة للمأمور به في معنى الشرط للإمساك أو الفراق لأن هذا العطف يشبه القيد وإن لم يكن قيدا، وشأن الشروط الواردة بعد جمل أن تعود إلى جميعها.
وظاهر صيغة الأمر الدلالة على الوجوب فيتركب من هذين أن يكون الإشهاد على المراجعة وعلى بت الطلاق واجبا على الأزواج لأن الإشهاد يرفع أشكالا من النوازل وهو قول ابن عباس وأخذ به يحيى بن بكير من المالكية والشافعي في أحد قوليه وابن حنبل في أحد قوليه وروى عن عمران بن حصين وطاووس وإبراهيم وأبي قلابة وعطاء. وقال الجمهور الإشهاد المأمور به الإشهاد على المراجعة دون بت الطلاق.
أما مقتضى صيغة الأمر في قوله تعالى "وأشهدوا ذوي عدل" فقيل هو مستحب وهو قول أبي حنيفة والمشهور عن مالك فيما حكاه ابن القصار ولعل مستند هذا القول عدم جريان العمل بالتزامه بين المسلمين في عصر الصحابة وعصور أهل العلم، وقياسه على الإشهاد بالبيع، فإنهم اتفقوا على عدم وجوبه. وكلا هذين مدخول لأن دعوى العمل بترك الإشهاد دونها منع، ولأن قياس الطلاق والرجعة على البيع قد يقدح فيه بوجود فارق معتبر وهو خطر الطلاق والمراجعة وأهمية ما يترتب عليهما من الخصومات بين الأنساب، وما في البيوعات مما يغني عن الإشهاد وهو التقايض في الاعواض.
وقيل الأمر لوجوب المراجعة دون الفرقة وهو أحد قولي الشافعي وأحمد ونسبه إسماعيل بن حماد من فقهاء المالكية ببغداد إلى مالك وهو ظاهر مذهب ابن بكير.
واتفق الجميع على أن هذا الإشهاد ليس شرطا في صحة المراجعة أو المفارقة لأنه إنما شرع احتياطا لحقهما وتجنبا لنوازل الخصومات خوفا من أن يموت فتدعي أنها زوجة لم تطلق، أو أن تموت هي فيدعي هو ذلك، وكأنهم بنوه على أن الأمر لا يقتضي الفور.... قال الموجبون للإشهاد لو راجع ولم يشهد أو بت الفراق ولم يشهد صحت مراجعته ومفارقته وعليه أن يشهد بعد ذلك.(1/12)
7. ... الشيخ محمد الغزالي رحمه الله
عقد الشيخ الغزالي رحمه الله فصلا في كتابه" قضايا المرأة بين التقاليد الراكدة والوافدة" سماه " التشدد في الطلاق" أبدى فيه استغرابه ممن يتشدد في العبادة الشخصية ولا يتشدد في الطلاق، وكذلك استغرب من فقهاء متربصين لكلمة الطلاق تقال أو تفهم أو تتوهم فإذا هم يحكمون على الحياة الزوجية بالموت كأنما يشتهون تمزيق الشمل وبعثرة كيان الجميع " ص 181 إلى أن قال " من المتناقضات الباعثة على الحزن، أن المسلم ينفق أوقاتا وأموالا في الخطبة والمهر والاثاث والهدايا والعرس قد تكون ألوف الجنهيات في أيام طوال ثم بعد ذلك كله يقول عليه الطلاق إن عاد إلى التدخين ثم يدخن وتذهب امرأته في سيجارة وينهار بيت أنفق في إقامته الكثير."
ولكن قد يضيع المال، ولكن المال والمتاع لا قيمة لهما إذا ما ضاعت الأسرة وانحرف الأولاد وتصدعت أركان المجتمع .
ثم يضيق الشيخ رحمه الله :" لقد رفض إبن حزم جميع أنواع الطلاق المعلق واضطر المشرع في مصر من ستين سنة الى التدخل لوقف هذا البلاء فوضع هذه المادة " لا يقع الطلاق غير المنجٌز إذا قصد به الحمل على فعل شيء أو تركه لا غير."
وجاء في المذكرة الإيضاحية لهذه المادة " إن المشرع أخذ في إلغاء اليمين بالطلاق برأي بعض علماء الحنفية والمالكية والشافعية وأنه أخذ في إلغاء المعلق الذي في معنى اليمين برأي علي بن أبي طالب وشريح القاضي وداود الظاهري وأصحابه "
وأستطيع أن أضم إلى ذلك رفض الطلاق الذي ليس عليه إشهاد، فالشاهدان لابد منهما لقبول العقد والرجعة والطلاق على سواء وخير لنا نحن المسلمين أن تقتبس من تراثنا ما يصون مجتمعنا ويحميه من نزوات الأفراد. أما الزهد في هذا التراث كله فهو الذي فتح الطريق لمحاولات تنصير قوانين الأسرة" " قضايا المرأة بين التقاليد الراكدة والوافدة" ص 184
8. ... علماء من الأزهر الشريف:
8/1 ... رئيس لجنة الفتوى بالأزهر الشريف في مصر سنة 2001،(1/13)
نص الفتوى كما نقلته وسائل الإعلام:
أصدر الشيخ علي أبو الحسن، رئيس لجنة الفتوى بالأزهر الشريف في مصر سنة 2001، فتوى بأنه لا طلاق إلا بالإشهاد عليه. وأوضح أنها فتوى الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه والصحابة، ومعمول بها في المذهب الشيعي.
وأشارت الفتوى إلى انتشار ظاهرة الطلاق بصورة غير عادية بحيث أصبحت تهدد كيان الأسرة المسلمة، ونصت الفتوى على أنه لا بد أن يجتهد علماء أهل السنة وأن يأخذوا من مذهب الزيدية -أحد المذاهب الشيعية المعتمدة- خاصة أن هناك من الأدلة المعتمدة ما يؤكد ما ذهب إليه هذا المذهب، وهو أنه لا طلاق إلا بالإشهاد عليه أو لا بد من الإشهاد على الطلاق، بدليل قول الله تعالى: (وأشهدوا ذوي عدل منكم) والمقصود بالإشهاد هذا، الإشهاد على الطلاق، كما جاء في كتب التفاسير المتعددة، ويؤكد ذلك ما ذهب إليه ابن عباس(رحمه الله) وغيره: (لا طلاق ولا عتاق ولا نكاح إلا بشاهدي عدل).
8/2. ... أمين عام اللجنة العليا للدعوة في الأزهر فقال:
قال الشيخ جمال قطب: " إن الإشهاد على الطلاق شرط مفقود خاصة في هذا الزمان، فقد أصبح الطلاق ظاهرة خطيرة تهدد كيان الأسرة المسلمة ومرضا مستشرياً ينخر في جسد الأمة حيث تتشرد الأسر ويضيع الأطفال....إننا عندما نفتي أو نجتهد لا بد من وضع عدة أمور في حسباننا أهمها أن مقاصد الشريعة الإسلامية هي تحقيق مصلحة العباد ودفع الفساد عنهم وقضاء المصالح، فهل المصلحة أن تتشرد الأسرة ويهدم بنيانها بفعل الطلاق المتسرع
8/3 ... أما الشيخ البدري عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة:
" ليس من المعقول أن يشدد الإسلام في شروط عقد الزواج، وصفه بالميثاق الغليظ وتكون له شروط خمسة: (انعقاد وصحة ولزوم ونفاذ وقانونية) ثم ينقض بكلمة، هذا غير صحيح فالإشهاد شرط أصبح مفقوداً، ولا بد أن نعلم أن الإبلاغ والأخبار ليس إشهادا".
9. ... القانون المصري الجديد:(1/14)
ورد في نص المادة 21 من القانون بأنه " لا يعتد في إثبات الطلاق عند الإنكار إلا بالإشهاد والتوثيق "
حسب هذا القانون الجديد فإن الطلاق لا يعتد به إلا بالإشهاد عليه وتوثيقه وذلك أسوة بالزواج الذي لا يعتد به قانونا إلا بتوثيقه في ورقة رسمية وذلك تلافيا لمشاكل عديدة منها أن بعض الأزواج ينكرون إيقاع الطلاق على الزوجة لأغراض في أنفسهم- أما بهذا النص الجديد المستحدث في هذا القانون فإنه إذا أوقع الزوج الطلاق لفظا على زوجته ورفض توثيقه أو الإشهاد عليه فإن الزوجة لا تعد مطلقة وهذا الأمر يترتب عليه منع الأزواج من استخدام لفظ الطلاق بسهولة ولأسباب غير مناسبة كالتهديد بعدم الخروج أو غيره وبذلك يصبح استخدام لفظ الطلاق في موضوعه الصحيح ألا وهو الاتفاق النهائي على إنهاء العلاقة الزوجية مما يعيد الاحترام لهذه العلاقة ويمنع العبث بها لأسباب تافهة.
10. ... دليل القضاء الأسري المغربي 2003
مند استقلال المغرب والمحاكم الشرعية تطبق ما يعرف بمدونة الأحوال الشخصية المبنية على القول الراجع عند الإمام مالك، ولكن بعد الحملة الشرسة من بعض الجهات اليسارية اضطرت الجهات الرسمية عرض قانون جديد وافقت عليه كل المؤسسات العلمية المغربية وأكثر الجماعات الإسلامية ثم صادق عليه البرلمان المغربي. نص هذا القانون على وجوب الإشهاد في الطلاق فقال :
باب إجراءات الطلاق
" يجب على من يريد الطلاق أن يطلب الإذن من المحكمة بالإشهاد به لدى عدلين منتصبين لذلك، بدائرة نفوذ المحكمة التي يوجد بها بيت الزوجية، أو موطن الزوجة، أو التي أبرم فيها عقد الزواج حسب الترتيب. يتضمن طلب الإذن بالإشهاد على الطلاق، هوية الزوجين ومهنتهما وعنوانهما، وعدد الأطفال عند الاقتضاء، وسنهم ووضعهم الصحي والدراسي. "
الخاتمة:(1/15)
لقد رغب الشارع الحكيم في الزواج والإحصان وأمر الناس أن يحافظوا على هذا الرباط وعدم تعريضه للسوء، كما حث المرء على أن لا يتعجل في قرار الفراق فإن كره من زوجته خلقا رضي منها بآخر وهي كذلك. وقد يطلق تهورا أو لكراهية عارضة ولكن تهوره واستعجاله قد يحرمه من خير غيبي مستقبلا،كما قال " فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه كثيرا" مثل دوام التعفف أو الذرية الصالحة أو احتمال تغير السلوك والطباع أو سعة في الرزق أو الأجر على الصبر . فكل ما يعين على الطلاق مذموم مثل قوله صلى الله عليه وسلم " لعن الله من خبب امرأة عن زوجها " ، وكل ما يعين على استمرارية الزواج محبوب ومنه إحضار الحكمين " إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما " . هذه هي النتيجة ينبغي أن لا ينساها كل من أراد أن يفتي في وقوع الطلاق من عدمه.
فاعتبار الشهود في الطلاق حفاظا على الأسرة ليس إلا أملا في أن الأمر إذا كثرت قيوده عز وجوده. ولعل قوله تعالى" لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا " إشارة إلى أن الذهاب لإحضار الشهود وقت الخصام قد يحدث الله أمرا آخرا من مراجعة النفس ومحاسبتها والتفكير مليا بهدوء وتروي قبل الإقدام على الطلاق.
كما أن إحضار الشهود وسيلة لضمان الحقوق لمن أراد إنكارها أو التلاعب بها فكم من مطلقة ظلت معلقة لأن الزوج أنكر أنه تلفظ بكلمة الطلاق فلا هي ذات زوج ولا هي سرحت سراحا جميلا.
لقد تنبهت كثير من المؤسسات التشريعة في العالم العربي إلى الفوضى القائمة في المجتمع المسلم، فبدأت على استحياء تغيير بعض مواد الأحوال الشخصية درءا للمشاكل المتكاثرة .(1/16)
أما في بلاد الغرب، فلا بد من حسم هذه القضية حيث أن الزوج يتلفظ بالطلاق ثم لا يصرح به لدى الدوائر الحكومية ويبني عليه أحكام الطلاق من ترك البيت والنفقة وعدم الخلوة وغيرها، وتظل المرأة مطلقة شرعا وزوجة رسميا، لأن الزوج يخاف أن تسحب منه أوراق الإقامة إن صرح به أمام القضاء ، وتظل المطلقة حائرة هل تتزوج بناء على الطلاق الشفوي، أو تعتبر نفسها زوجة بناء على العقد الرسمي. بل هناك صور أخرى من صور التلاعب والخداع تفنن فيها كثير من الناس ولا حول ولا قوة إلا بالله.
إن القول بوجوب تسجيل الطلاق لدى الدوائر الحكومية أو عند السلطات القنصلية أو المجالس الشرعية المعترف بها في بعض البلاد الأوربية أو الإشهاد عليه في المراكز الإسلامية سيساعد لا شك في تخفيف المعاناة وتقليل مظاهر الفوضى والظلم المنتشر في الأسرة المسلمة في الغرب.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية": "المقصود من القضاء وصول الحقوق إلى أهلها ، وقطع المخاصمة، فوصول الحقوق هو المصلحة ، وقطع المخاصمة إزالة المفسدة ، فالمقصود هو جلب تلك المصلحة وإزالة هذه المفسدة ، ووصول الحقوق هو من العدل الذي تقوم به السماء والأرض" مجموع الفتاوى 35 / 355
لابد من قرار واضح وصريح يمنع كثيرا من الأزواج من تطليق زوجاتهم شفويا ودون إشهاد، وبدون توثيقه لدى المحاكم الغربية، إما خوفا من سحب رخصة الإقامة. أو بقصد إيذاء المرأة ، فكلما كانت حالة الطلاق بغير تراض إلا وطال الفصل فيها، فقد تصل مدة انتظار حكم القاضي الأوربي إلى أكثر من ثلاث سنوات أو يزيد، أما لو كان الطلاق مبنيا على التراضي فلا يدوم أكثر من ستة إلى ثمانية اشهر. أما الزوج فيجد لنفسه حلا بالزواج ثانيا وثالثا عن طريق الزواج العرفي المنتشر ، وأما المطلقة فليس لها إلا الإنتظار.
والله أعلم(1/17)
بسم الله الرحمن الرحيم
المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث
الاستنساخ البشري
بين الثورة العلمية
والضوابط الأخلاقية والفقهية
الدكتور محمد الهواري
بسم الله الرحمن الرحيم
الاستنساخ البشري
بين الثورة العلمية
والضوابط الأخلاقية والفقهية
الدكتور محمد الهواري
... اتحفت الثورةٌ العلمية المعاصرة البشرية بما ليس في الحسبان في عالم الحيوان والنبات ، ويتوقع أن تؤدي بما تحمله من تقنية عالية، إلى نتائج وثورة في المعرفة قد تقلب الموازين وخاصة في عالم التكاثر البشري. والعلم اليوم لا تحدّه حدود، ولا يتقيد بالقيم، وهو ينطلق في كل المجالات دون أن تحجّر عليه القوانين الوضعية أو التقاليد أو القيم الدينية أو الأخلاقية.
... ولقد تشعّبت المعرفة وتنوعت، وأصبحت التفصيلات فيها تفضي إلى تفصيلات جديدة وغزيرة ومثيرة وعلى مدى زمني متسارع، حتى ما يمرّ يومٌ إلا ويطالعنا بجديد، ولا يلبث أن ينفرط إلى تخصصات تَلدُ بدورها تخصصات أخرى، وذلك ما يمكن أن يعرف بالثورة العلمية المعاصرة، التي لا يعلم إلا الله سبحانه وتعالى مدى ما ستفضي إليه من معرفة وتقانة في المستقبلين القريب والبعيد. وقد يكون موضوع التكاثر البشري والهندسة الوراثية من أهم المواضيع المثيرة التي تشدّ إليها الأنظار، لارتباطها بالأحكام الشرعية والضوابط الأخلاقية والقانونية.
... في الثالث والعشرين من شهر شباط/فبراير عام 1997 م أعلن الباحث الاسكتلندي إيان ويلموت I. WILMUTأنه حقق مع فريقه العلمي خطوة جديدة في طريق التكاثر النوعي، إذ تمكنوا في الضيعة التجريبية التابعة لمؤسسة روزلين Roslin Institute من تطوير تقنيات أدت إلى أن تلد نعجةٌ نسخةً منها دون إلقاح.
1- الخلفية العلمية:
لفهم التقنية العلمية في الحدث السابق الذكر، لا بدّ من مقدمة عن المرتكزات العلمية التي اعتمدت عليها أبحاث ويلموت، ونحن نسوقها هنا بشكل مبسط قريب التناول ليسهل علينا فهم ما جرى.(1/1)
أولاً ) الخلية الجسدية:
يتكون الجسم البشري كله من وحدات متمايزة تدعى بالخلايا كما يتكون البناء من قطع من الحجارة أو الطوب. وتحتوي كل خلية في داخلها على نواة هي سرّ النشاط الحياتي للخلية.ويحيط بالنواة غشاء نووي، وكذلك فإن النواة تحتوي بداخلها على شبكة ملونة تتكون من ( 46 ) شريطاً تلتقط بمجموعها الصبغة القاتمة، ولهذا تسمى بالأجسام الصبغية أو ( الصبغيات Chromosomes ).
أما باقي مساحة الخلية فيما بين النواة وبين غلاف الخلية فمليءٌ بسائل يعرف بالسائل الخلوي ( الهيولى) أو السيتوبلاسما Cytoplasma.
والأجسام الصبغية الـ ( 46 ) هي حوامل الصفات الوراثية على هيئة وحدات من حمض خاص يسمى بالحمض النووي Nucleic Acid . وتسمى هذه الوحدات باسم المورّثات أو الجينات Genes ، وهي مرتبة ترتيباً خاصاً ، فكأنها حروف تؤلف كلمات، وهذه تؤلف رسالة عامة تقرر الصفات الوراثية للجنس البشري عامة. والصفات الوراثية لفرد بذاته لا يطابقها مثيلٌ بين الناس على مدى الزمان والمكان. ومن الجدير بالذكر أن الحقيبة الوراثية للإنسان تحوي ما لا يقلّ عن ( 100 ) ألف مورثة كلٌ منها متخصص بوظيفة معينة، فهذه تحدد لون العيون ، وتلك طول القامة ، وأخرى شكل الأنف ..... وهكذا .
الغشاءالخلوي
النواة
الهيولى
الخلية الجسدية
...
...
النواة والصبغيات ( 23 ) زوجاً
تتكاثر كل خلية بالإنقسام، وبموجبه ينشق كل شريط من هذه الأجسام الصبغية طولياً إلى نصفين، يتمم كل منهما نفسه إلى شريط كامل بالتقاط المواد اللازمة من السائل المحيط به. وهكذا تتكون شبكتان صبغيتان تُغََلَّفُ كلٌ منهما بغلاف نووي لتصبح هناك نواتان تقتسمان السائل الخلوي، ويحيط بكل منهما غشاء خلوي، وتصبح الخلية خليتين، وهكذا أجيالٌ بعد أجيال من الخلايا المتماثلة. فالخلية الجلدية مثلاً تنجب أجيالاً من الخلايا الجلدية، و خلية الكبد تعطي أجيالاً من الخلايا الكبدية ..... وهكذا.
... ...
...(1/2)
انقسام الخلايا الجسدية خلية جسدية
نسيج جلدي خلية جلدية
ويبقى هناك سؤال هام جداً، فإن كانت كل خلية تشتق من خلية مماثلة لها، فلا بدّ أن تكون كل خلايا الجسم ناتجة عن خلية أصلية هي الخلية الأم، فلماذا كانت هناك خلايا جلدية وخلايا كبدية وخلايا عظمية وخلايا عضلية وخلايا دموية وهلمّ جراً... ؟ ما دامت القاعدة أن كل خلية تلد خليتين مشابهتين لها مقتسمتين بالتساوي حصيلتها الإرثية التي تحملها الأجسام الصبغية. وهذا ما سنجيب عليه في الحديث عن الخلايا الجنسية. !
ثانياً ) الخلايا الجنسية:
... تتألف الخلايا الجنسية من نوعين من الخلايا الذكرية والأنثوية:
- فالذكرية هي المنويات التي تفرزها الخصية.
- والأنثوية هي البييضات التي يفرزها المبيض.
والخلايا الجنسية هي كسائر الخلايا؛ إلا أنها تتمتع بخاصيةٍ لا تتصف بها الخلايا الأخرى، ذلك أنها في الإنقسام الأخير الذي تتهيأ به للقدرة على الإخصاب لا ينشطر الشريط الصبغي إلى نصفين يكمّل كل منهما الآخر، بل تبقى الأجسام الصبغية سليمة، ويذهب نصفها ليكوّن نواة خلية، ويذهب النصف الآخر ليكوّن نواة خلية أخرى. فتكون نواة الخلية الجديدة إذن مشتملة على ( 23 ) صبغياً ( كروموزوم)، لا على ( 23 ) زوجاً، لهذا يسمى هذا الإنقسام بالانقسام الاختزالي أو النصفي. فكأن النواة فيما يختص بالحصيلة الإرثية نصف نواة.
والقصد من ذلك أنه إذا أخصب منويٌ ناضج بييضةً ناضجةٌ باختراق جدارها السميك، التحمت نواتاهما ونتجت نواة واحدة ذات ( 23 ) زوجاً لا فرداً ( أي 46 ) من الأجسام الصبغية كما هي الحال في سائر خلايا جسم الإنسان، فكأنهما نصفان التحما في خلية واحدة هي البيضة الملقحة، وهذه أولى مراحل الجنين.(1/3)
وهناك خصوصية للبيضة الملقحة تنفرد بها دون سائر خلايا الجسم..... وسرّ هذه الخصوصية مركوز في السائل الخلوي ( السيتوبلاسما ) الذي يحيط بالنواة، إذ بينما تتكاثر خلايا الجسم كما أسلفنا إلى أجيال لا نهاية لها من الخلايا المتماثلة ( خلايا الكبد أو الجلد أو الدم... مثلاً ) ، فإن البيضة الملقحة تشرع في الإنقسام إلى خلايا متماثلة لعدد محدود من الأجيال، فما تكاد تفضي إلى كتلة من اثنتين وثلاثين ( 32 ) خلية حتى تتفرع خلايا الأجيال التالية إلى اتجاهات وتخصصات شتى ذات وظائف متباينة وتتخلق إلى خلايا الجلد والأعصاب والأمعاء والعظام وأعضاء وغيرها، أي تنحو إلى تكوين جنين ذي أنسجة وأعضاء مختلفة ومتباينة، على الرغم من أنها لا زالت تشبه الخلية الأم التي أنتجتها من حيث مادتها الوراثية ( الأجسام الصبغية أو الكروموزومات )، إذ ينشق كل شريط كروموزومي إلى نصفين يكمّل كلٌ منهما نفسه ويتجه إلى خلية الجيل التالي وهكذا...
وبالرغم من هذا التشابه واحتواء كل نواة خلية على الأزواج الثلاثة والعشرين أي الـ ( 46 ) فرداً من الكروموزومات، فإن طوائف من المورّثات ( الجينات Genes ) تنطفئ بقدرة قادر، فتبقى موجودة لكنها غير فعالة، في تمايزٍ يُتيحُ لكل مجموعة من الخلايا أن تفضي إلى نسيج أو عضو من أنسجة الجسم وأعضائه المتعددة.
بييضة حيوان منوي
2- ما هو الاستنساخ؟
"الاستنساخ " في اللغة مصدرٌ معناه طلبُ عمل نُسخة من كتاب مكتوب، أي مطابق للأصل تماماً. ومنه قوله تعالى: " إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُم تَعمَلونَ " ( الجاثية : 29 ). وقال صاحبُ لسان العرب : معناه نستنسخ ما تكتبه الحفَظَة فَيٌثبَتَ عند الله. وفي التهذيب: أي نأمر بنسخه وإثباته.(1/4)
والاستنساخ في المصطلح العلمي المعاصر هي الكلمة العربية التي وضعت بمقابل كلمة ( Cloning ) الإنكليزية المأخوذة من كلمة (Clone ) والتي تعني : الواحد من مجموعة من الأحياء أُنتجت من غير تلقيح جنسي. وأصل الكلمة من ( Klone ) اليونانية التي تعني ( البرعم الوليد ) .
ونحن هنا نقصد بالاستنساخ الحصول على عدد من النسخ طبق الأصل من نبات أو حيوان أو إنسان بدون حاجة إلى تلاقح خلايا جنسية ذكرية أو أنثوية. ونقصد بنسخة طبق الأصل أنها تحتوي على التراث الإرثي الكامل الموجود في خلايا صاحب الزريعة، فيكون المخلوق الناتج صورةً منه تماماً، كالكتاب الذي نطبع منه آلاف النسخ فتجيء متشابهة تمام الشبه.
وسبق أن ذكرنا أن الذي يحدد وجهة انقسام نواة الخلية، فانقسام الخلية إلى خلايا من نفس النوع أو إلى جنين كامل هو السرّ الكامن في السائل الخلوي ( السيتوبلاسما)؛ فإن كانت السيتوبلاسما لخلية عادية، كانت وجهة الانقسام هي الأولى؛ أي التي تنتج خلايا من نفس النوع، وإن كانت السيتوبلاسما لخلية جنسية ( بييضة ) كانت وجهة الانقسام هي الثانية أي التي تسير إلى تكوين جنين. وعلى هذا فلو جئنا بخلية جنسية ناضجة ( بييضة ) ونزعنا منها نواتها، ثم أتينا بخلية جسدية ( من الجلد مثلاً ) ، وأخذنا منها نواتها وأودعناها داخل البيضة منزوعة النواة ، فإن النواة الضيفة تشرع في انقسام ليس في اتجاه تكوين خلايا جلدية، ولكن في اتجاه تكوين ( جنين ) سيكون نسخة طبق الأصل ممن أخذنا عنه الخلية ، لأن الخلية التي أودعناها النواة الضيفة أصبحت تحوي الكروموزومات الـ ( 46 ) التي تحملها خلايا المعطي، لا الكروموزومات الـ ( 46 ) التي نصفها من الذكر ( المنوي ) ونصفها من الأنثى ( البيضة ) ، فيكون الناتج خليطا منهما.
وبتكرار هذا نستطيع أن نحصل على أي عدد شئنا من النسخ التي تطابق تماماً في تكوينها الوراثي الفردَ صاحبَ تلك الخلايا.(1/5)
ولقد أمكن إنجاز ذلك فعلاً في عدد محدود من الأحياء الدنيا كالضفدعة، أما استعماله في استنساخ السلالات المرغوبة في صناعة تربية الحيوان فلا يزال محدوداً لأسباب اقتصادية.
3- الاستنساخ الجديد:
كشف العالمان جيري هال وروبرت ستلمان خلال اجتماع جمعية الخصوبة الأمريكية بمدينة مونتريال بكندا في شهر تشرين الأول / أكتوبر 1993 م عن طريقة جديدة للاستنساخ أثارت زوبعة كبرى لأنها تناولت جنين الإنسان رأساً، رغم أنها حصلت على جائزة أحسن بحث علمي في ذلك المؤتمر. ولا يعنينا كثيراً أنباء الزوبعة وأسبابها في الوقت الحاضر، وننتقل إلى الوصف العلمي لهذا الإنجاز الخطير.
نعود إلى ما ذكرناه عن البييضة الناضجة ذات الـ ( 23 ) كروموزوماً ، وكيف يوافيها منويٌ ناضجٌ ( 23 كروموزوم ) فيخترقُ جدارَها الخلوي السميك، وتلتحم النواتان في نواةٍ تحملُ الكروموزومات الـ ( 46 ) كالعهد بخلايا الإنسان. ثم يحدث انقسامُ النُّوى، فالخلايا إلى جيلٍ بِكْر من خليتين، وجيلٍ حفيد من ( 4 ) خلايا وأجيال تالية من ( 8 ) و ( 16 ) و ( 32 ) خلية، وهكذا مع الشروع في التخصص والتمايز لتكوين أنسجة وأعضاء.
وخلال الانقسام الأول إلى خليتين يتمزق الجدار الخلوي السميك. وكشف العلماء أنه إذا لم يتمزق هذا الجدار فإن كلاً من الخليتين الناتجتين عن الانقسام الأول تعتبرُ نفسَها أُمّاٌ أصليّة من جديد وتشرعُ في الانقسام لتكوين جنينٍ لوحدها، وهو ما يحدث في الطبيعة في حالات التوائم المتشابهة، أي التي تنتمي إلى خلية أمّ واحدة.(1/6)
واستطاع العلماء أن يُركّبوا من بعض الحشائش البحرية مادةً صناعية تؤدي وظيفة هذا الجدار الخلوي السميك. فإذا كُسِيَتْ به كلُّ خلية من خلايا الجيل الأول ( الإثنتين )، أو الثاني ( الأربع )، أو حتى الثالث ( الثماني )، فإنها تعتبرُ نفسَهَا خليةً أماً من جديد وتشرع في النمو إلى جنين. وتكون تلك التوائم متطابقة في مادتها الوراثية بطبيعة الحال، فهي كالنسخ المتشابهة تماماً.
وبهذه الطريقة استطاع العالمان جيري هال وروبرت ستلمان أن يفصلا خلايا الأجيال الأولى ويكسواها بالجدار الخلوي الاصطناعي، فإذا هما يحصلان من سبعة عشر جنيناً باكراً على ثمانية وأربعين جنيناً كل منها نسخة من خليتها الأم ( بواقع ثلاثة لكل جنين أصيل في المتوسط ). ولم يحاول العالمان زرع تلك الأجنة في أرحام نساء، بل إنهما اختارا من البداية خلايا مَعيبة مقضيٌّ على أجنتها بالموت تلقائياً قبل أن توغل في النمو، وحسبهما أنهما أثبتا نجاح التجربة وسلامة المنهاج.
ولما كانت هذه الطريقة تتوخى في واقع الأمر إيجادَ سلالة من التوائم المتشابهة تنتسب أصلاً إلى بيضة ملقحة واحدة فيمكن أن نطلق على هذه الطريقة اسم "الاستتئام" تمييزاً لها عن طريق الاستنساخ المقصودة في هذا البحث. ...
... استفراد خلية واحدة ( 46 كروموزوم)
الإستتئام
4 - ... الفاتنة دوللي : DOLLY
ذكرنا أن العالم الاسكتلندي إيان ويلموت أعلن في شهر شباط/فبراير من عام 1997 م عن ولادة نعجة أسماها باسم دوللي، المغنية النجمة الأمريكية ذات الصدر الخصب البارز، بما أنها أخذت من ضرع برزَ واحتقن .
خطوات التجربة :
1. تم الحصول على ( 277 ) بييضة ناضجة مما يفرزه مبيض نعجة ذات رأس أسود،وقام الفريق العلمي بتفريغ هذه البييضات من نواتها.
2. أخذ الفريق من ضرع نعجة بيضاء الرأس عمرها ( 6 ) سنوات من فصيلة فان دورست Finn Dorst خلايا عديدة ، وسميت هذه النعجة باسم روزي Rosy )والدة المغنية دوللي(.(1/7)
3. نزعوا من كل خلية من خلايا الضرع النواة الخاصة بها، ثم خدّروا نشاطها.
4. أودعوا نُويَّات خلايا الضرع في البييضات المنزوعة النواة، ثم وُضِعَتْ كل بييضة مع نواتها في أنوب اختبار.
5. سلطوا على الخلية في أنبوب الاختبار صعقةً كهربائيةً مماثلةً للصعقة التي تحدث عند الاندماج الطبيعي بين الثلاثة والعشرين كروموزوماً من الحيوان المنوي والثلاثة والعشرين من البيضة، فساعدت هذه التقنية على تنشيط الانقسام المماثل للانقسام الطبيعي.
6. من أصل (277) بييضة، أَخَذتْ (29) فقط في الانقسام حتى بلغت ما بين (8) و(16) خلية متماثلة.
7. قاموا بزرع هذه العلقة في مكانها من الرحم.
8. ومن بين (29) بييضة متقسمة، أخذت واحدة فقط مداها فولدت السخلة دوللي ( نعجة صغيرة) حية تامة الخلق في شهر تموز/يوليو عام 1996 م وكان وزنها (660ر6 كغ ) وهي مماثلة تماماً لأمها الجسدية (روزي Rosy) ذات الرأس الأبيض.
9. أخذوا يراقبون نموها حتى بلغت شهرَها السابع، فأعلنوا عن نجاحهم العلمي للعالم في شهر شباط/فبراير 1997 م، وتناقلت صورته وسائل الإعلام عبر العالم.
لقد ذكرت مجلة النيوزويك الأمريكية في عددها الصادر في 10/3/1997م أن النعجة دوللي تكلّفَ إنتاجها ( 000 750 ) دولاراً ، وذكرت مجلة الإيكونوميست الصادرة في 1/3/1997م وصفاً كاملاً للتجارب المذكورة ، كما يمكن الرجوع إلى مقال ( ويلموت وزملائه ) المنشور في مجلة الطبيعة Nature الصادرة في 27/3/1997 م من صفحة ( 808 – 810 ) .
النعجة دوللي إيان ويلموت
ملاحظة : أعلن عن وفاة النعجة دوللي بتاريخ يوم الجمعة 14 شباط / فبراير 2003 نظراً لإصابتها بالتهاب الرئة وبعد عمر دام ست سنوات ونصف وقد ظهرت عليها علامات الشيخوخة المبكرة بشكل واضح.هذا وقد تمت الوفاة بإعطاء النعجة حقنة قاتلة .
استمرار نحو مرحلة الجنين
مراحل عملية الاستنساخ
5 - قرود أوريغون Oregon(1/8)
وبعد أقل من أسبوع من الإعلان عن ولادة دوللي، أُعلن أيضا عن نجاح تجربة أخرى في جامعة أوريغون بالولايات المتحدة الأمريكية بتاريخ 2/3/1997م مرت بالمراحل التالية:
1. تمّ تخصيب بييضة منزوعة من قردة أنثى بحيوان منوي من قرد ذكر، ووضعت اللقيحة في أنبوب اختبار .
2. انقسمت اللقيحة إلى اثنتين فأربعة وهكذا...
3. عزلوا من هذه السلسلة المتلاحمة من الخلايا الجنسية الباكرة خلية واحدة، وضمّدوا مكان الانفصال باللجوء إلى تقنيات متقدمة، وحصلوا على خلية مستقلة تحمل (46) كروموزوماً وفيها جميع الحقيبة الوراثية التي في الخلايا الأخرى.
4. وضعوا هذه الخلية التوأم في أنبوب الاختبار، وأجروا عليها جميع التقنيات التي تساعدها على الانقسام.
5. وبعد أن قطعت الخلية شوطاً معيناً من التكاثر، زرعوا المجموعة الأولى في رحم قردة، وزرعوا المجموعة الثانية التوأم في رحم قردة ثانية.
6. نمت كل علقة في الرّحم المزروعة فيه إلى أن وضعت كل قردة ( قريدة ً) توأماً مماثلة للأخرى في جميع خصائصها ومميزاتها، وتحمل حقيبة وراثية مساوية للتوأم.
يقول الباحثون في جامعة أوريغون بأن أهمية البحث تعود إلى أنه أول تجربة ناجحة تجري على الأحياء الأوائل Primates التي ينتمي إليها الإنسان ، بمعنى أنها تفتح باباً للاستنساخ البشري وإمكانية حدوثه في المستقبل. والأمر الآخر الذي توخاه الباحثون من استنساخ قرود متماثلة في حصيلتها الإرثية، هو الحصول على حيوانات متماثلة لإجراء التجارب على الأدوية الحديثة لمعرفة أثرها بشكل أكثر دقة مما لو أجريت هذه التجارب على حيوانات غير متماثلة إرثياً.
6- مزايا وعيوب الاستنساخ الحيواني:
تدل التجارب التي أجريت على الحيوانات على أن مزايا استنساخ الحيوان تفوق عيوبه للأسباب التالية:
1) يمكن استنساخ أعداد هائلة من الخراف والبقر لتوفير الغذاء للعالم.(1/9)
2) استنساخ أبقار تنتج حليباً يعادل حليب الأم، وفي هذا فائدة عظيمة للأطفال المصابين بنزلات معوية أو لديهم حساسية تجاه حليب البقر.
3) يمكن استنساخ حيوانات ثديية ( كالقرود والخنازير) لها قلوب وأكباد يمكن نقلها جراحياً إلى الإنسان دون أن تتعرض لعملية الرفض من الجسم البشري المنقولة إليه.
4) يمكن استنساخ حيوانات ( قردة أو فئران أو غيرها) كل مجموعة منها لها صفات وراثية واحدة، مما يسهل الأبحاث العلمية على مسببات السرطان.
5) يمكن استنساخ بعض فصائل الحيوانات المهددة بالانقراض.
7- ما بعد دوللي:
ساعد التقدم العلمي في الأبحاث الحيوية على تطور تقنية الاستنساخ تطوراً سريعاً وهائلاً. فبعد سنتين من ولادة النعجة دوللي، أعلن علماء من هاواي Hawai في شهر تموز / يوليو 1998أنهم وصلوا إلى طريقة جديدة معدّلة في استنساخ فئران بأسلوب أكثر نجاحاً من أسلوب ويلموت الذي اضطر لأن يجري (276) تجربة لتنجح منها واحدة فقط.
وكذلك أعلن علماء صينيون عن توصلهم لوضع طريقة ناجحة لاستنساخ دببة الباندا Panda النادرة والمهددة بالانقراض، وتوقعوا أن تتم عملية استنساخ الدببة الضخمة خلال عام 2003 م بدعم من الحكومة الصينية.
Panda..
دب الباندا النادر
هذا وقد تمكن العلماء من مزاوجة عملية الاستنساخ مع تقنيات حيوية أخرى معروفة ، كالتقنية التي لجأ إليها إيان ويلموت ومعاونوه العاملون في مؤسسة PPL الدوائية وتمكنوا بذلك من إنتاج النعجة بوللي Polly وهي نعجة تحمل مورّثا بشريا هو العامل (IX ) المساعد على تخثر الدم. والأمل أن تنج النعجة بوللي لبناً يحوي البروتين IX المذكور والذي يمكن استخلاصه من اللبن والاستفادة منه في معالجة الناعور Hemophilie ( مرض عدم تخثر الدم الوراثي ) .
8- الاستنساخ البشري وإمكانية حدوثه :
قبل أن نخوض في البحث، نحب أن نشير إلى نقطتين هامتين:
النقطة الأولى: ما هو حادث في مجال " علوم التكاثر البشري "(1/10)
1) نجاح عملية طفل الأنابيب وزرع البيضة الملقحة في رحم الأم البيولوجية ( الرحم الظئر أو المستعارة )، ولم يعد الحديث عن هذا الموضوع مستغرباً في الأوساط العامة.
2) عملية نقل الجنين من أم إلى أخرى، وهي عملية شبيهة بطفل الأنابيب، إلا أن التلقيح يتمّ داخل قناة رحم صاحبة البيضة، وبعد أيام قليلة يجري غسيلٌ للرحم للحصول على الجنين المتعدد الخلايا الذي يزرع فيما بعد في رحم الأم المستعارة والتي ستحمله حتى الولادة.
3) فصل خلية من جنين متعدد الخلايا (16 خلية مثلاً) وفحصها للتأكد من خلوّها من أمراض وراثية معينة، ثم يزرع باقي الجنين في رحم الأم للنمو حتى تمام الحمل.
النقطة الثانية: ما هو حادث مؤخراً في " علوم التكاثر الحيواني" :
1) ميلاد الشاة دوللي.
2) فصل البيضة الملقحة بعد أول انقسام لها إلى خليتين تنتج كل منهما حيواناً توأماً مستقلاً عن الثاني ( الاستتئام).
3) البيضة الملقحة بعد ( 3-4) انقسامات تصبح جنيناً متعدد الخلايا ( 8- 16 خلية )، ويجري فصل هذه الخلايا، ويزرع كل منها على حدة ليتابع نموّه إلى جنين مستقل.
إن ما يحدث الآن في علوم التكاثر البشري وعلوم التكاثر الحيواني يجعلنا نعتقد أن الاستنساخ البشري قابل للتحقيق، وفي الغالب في وقت أقرب مما نتوقع.
ومن المعلوم أنه لم يعلن حتى اليوم عن نتائج الأبحاث والتجارب في مجال الاستنساخ البشري بصورة مفصلة، لأن مراكز الأبحاث تحيط أعمالها بكثير من السرية. ولقد رأينا أن النعجة دوللي ولدت حقيقة في شهر تموز / يوليو 1996 م، ولم يعلن عن ولادتها إلا في شهر شباط 1997 م. ولقد ذكرت النشرات الاقتصادية أن الشركة PPL الإنكليزية الممولة لأبحاث معهد روزلين ارتفعت قيمة أسهمها بمقدار 13 % في بورصة لندن عشية الإعلان عن هذا الحدث.(1/11)
إن نجاح الاستنساخ في الثدييات العليا كالخراف والقردة يظهر لنا أنه ليس هناك ما يمنع أن تتم عملية الاستنساخ البشري يوماً ما، إن آجلاً أو عاجلاً، فالتقنيات العلمية المتقدمة جداً أسهمت في القيام بتجارب وإنجازات علمية، كانت في يوم من الأيام ضرباً من الخيال.
وعلى الرغم من حظر كثير من الدول من أن تجري التجارب على الاستنساخ البشري، إلا أنه تمَّ الإعلان في شهر كانون الثاني / يناير 2002م عن مشروع خطير لاستنساخ أول جنين بشري من خلال الأبحاث التي يجريها مختبران سرّيان في بلدين مختلفين يشرف عليهما الدكتور بانايوتيس زافوس Panayotis Zavos . وهو طبيب من أصل قبرصي عمره 57 سنة ومتجنس بالجنسية الأمريكية ومتخصص بأبحاث العقم ويعاونه أكثر من (12) متخصصا في هذا المجال.
يقول الدكتور زافوس : في الوقت الذي نعلن فيه عن مشروعنا فإننا فعالون ونشيطون وسنقوم في وقت قريب، قد لا يتعدى نهاية السنة الحالية باستنساخ أول جنين بشري. ولدينا ما يزيد عن عشرة أزواج وزوجات متطوعين لخدمة أبحاثنا, ويمتاز هؤلاء المتطوعين بأنهم عقيمون لا يقدرون على الإنجاب. وصرح بأن فريقه العلمي استطاع أن ينجح بنقل نواة من خلية بشرية إلى بييضة حيوانية ولكنه لم يتمكن بعد من نقل النواة البشرية إلى بييضة بشرية، وهو متفائل جداً في الوصول إلى هذه الغاية.
الدكتور بانايوتيس زافوس
ويخطط الفريق العلمي للحصول على أجنة من خلال نقل نواة من خلية مأخوذة من أحد الأبوين ودمجها في بييضة منزوعة النواة ومأخوذة من امرأة أخرى متطوعة. تترك البيضات اللقيحة لتنضج خلال (3-5) أيام ثم تجمّد في الثلاجة ليتم فحصها فيما بعد ومعرفة ما إذا كانت تبدي عيوباً إرثية أو كيميائية أو فيزيولوجية. وبعد التأكد من خلوّ اللقيحة من العيوب، توضع من جديد في رحم الأم التي أحذت منها الخلية البشرية، وسيكون الوليد الجديد مطابقا تماماً لأحد الأبوين.(1/12)
لقد حذّر كثير من خبراء الاستنساخ الحيواني من القيام بأية محاولة لاستنساخ جنين بشري لأسباب أخلاقية ولضعف الأمل لديهم في نجاح تجربة الاستنساخ في الإطار البشري. وذلك على خلاف الدكتور زافوس الذي يدعى بأن لديه التجربة وجميع الاحتياطات اللازمة لنجاحها.
لقد تقدمت كل من فرنسا وألمانيا بمذكرة تحذيرية إلى الأمانة العامة للأمم المتحدة لتقوم المنظمة بإعداد مشروع اتفاق دولي ضد تجارب الاستنساخ البشري بغية الإخصاب والتوالد. ولكن جدول أعمال المنظمة لا يسمح بفتح ملف الموضوع قبل حلول عام 2003 م.
واعتبرت فرنسا وألمانيا أن كل من يقوم بهذه التجارب هو خارج على القانون مهما كان موطنه وجنسيته.
9- الخلايا الأرومية :Stem Cells
عندما نأخذ خلية جسدية من إنسان ما وننزع منها نواتها، ثم نودعها في بييضة منزوعة النواة مسبقاً؛ فنحصل بذلك على لقيحة قابلة للتكاثر لتعطي جنيناً مشابها للإنسان الذي أخذت منه النواة. تتطور الخلية اللقيحة بالتكاثر لتصل إلى جنين أولي يحوي (6) خلايا. من المعلوم أن جسم الإنسان يشتمل على ملايين الخلايا.
يتألف الجنين الأولي من خلايا تدعى بالخلايا الأرومية، وهي خلايا حيوية نشيطة قادرة على التكاثر وإنتاج الأعضاء المختلفة المكوّنة للكائن الحي.
تهدف الدراسات الحديثة إلى وضع طريقة تستفيد من الخلايا الأرومية لإنتاج أعضاء معينة يمكن أن نستبدلها بأعضاء معيبة موجودة في الكائن الحي. وبالفعل فقد توصل العلماء إلى نتائج مبشرة من خلال التجارب التي أجروها على فئران مريضة وتمكنوا من تعويض بعض الأعضاء المعيبة فيها بأعضاء سليمة ناتجة عن الخلايا الأرومية.(1/13)
وبالمقابل فإن التجارب التي أجريت على أربعين شخصاً مريضاً في جامعة كولومبيا في نيويورك كانت نتائجها مأساوية وغير مشجعة في الوقت الحاضر. ولكن كما هو معلوم فإن السباق العلمي بين مؤسسات البحث المختلفة والموازنات المالية الهائلة الموضوعة تحت تصرفها لا تزال تبعث على الأمل بالرغم من المخاطر التي تكتنفها من خلال التجارب على العنصر البشري.
وتكمن أهمية الموضوع بأن الخلايا الأرومية التي يعود أصلها إلى إنسان مريض، قادرة على إنتاج أعضاء مماثلة تماما لأعضاء الشخص المريض ولها نفس التكوين الوراثي، وبذلك يمكن نقلها إليه بدلاً من الأعضاء المعيبة دون أن يكون هنا أي رفض مناعي للعضو المنقول.
10. المشكلة الأخلاقية:
ينظر العلماء إلى الجنين الأولي بأنه لم يبلغ مرحلة الإنسان الكامل، ولكنه كائن حي يتمتع بفاعلية هائلة جداً. والمسألة المطروحة: " هل يجوز لنا أن نحصل على أجنة أولية مُعَدّة لإنتاج قطع غيار بشرية فقط . فهناك كثير من الهيئات العلمية والمدنية والدينية تعارض هذا الأسلوب في معالجة المرضى وترفض التجارب على الأجنة البشرية.
والأخطر من ذلك أن نجاح التجارب في إنتاج الأعضاء بالاستنساخ العلاجي لا يمكن أن يقف حائلاً دون المضي في الاستنساخ لأغراض إنتاج كائنات بشرية كاملة ( الاستنساخ الإنجابي). فالحصول على جنين أولي يعتبر المرحلة الرئيسية في التكاثر بطريقة طفل الأنابيب حيث يتم نقل هذا الجنين الأولي إلى الرحم ليتابع طريقه إلى مرحلة الإنسان الكامل الذي سيكون صورة طبق الأصل عن أحد أبويه.(1/14)
ومن المعلوم أن مؤسسات البحث العلمي تحاول أن تتجنب الجانب الأخلاقي للموضوع ، بل إنها تريد أن تدفع المؤسسات التشريعية لاستصدار قوانين تساعدها على متابعة طريقها في الاستنساخ البشري. وبهذا يمكنها أن تسيطر على السوق التجاري الهائل لمعالجة كثير من الأمراض المنتشرة في العالم كداء السكري والسرطان والأيدز وداء بيركنسون و ألزهايمر والأمراض الوراثية وغيرها، مما سينعكس ليس فقط على المرضى والصحة العامة بل على الجنس البشري ومستقبله بشكل عام .
ولقد منعت فرنسا إلى اليوم جميع تجارب الاستنساخ العلاجي البشري استجابة لرأي اللجنة الوطنية للأخلاق الحيوية وللمجموعة الأوروبية للأخلاق أيضاً. ويقف بعض الباحثين في الجينات نفس الموقف في المعارضة. وهناك اتجاه لأن يصدر البرلمان الفرنسي تشريعات يسمح بموجبها إجراء التجارب على الخلايا الأرومية المحفوظة بالآلاف في الثلاجات لأغراض علاجية فحسب دون أن يكون هناك أي اتجاه لإنتاج كائن بشري. وموقف ألمانيا مشابه للموقف الفرنسي.
أما في أمريكا فلم تصدر أي تشريعات تمنع البحث في هذا المجال سوى أنها لا يمكن أن تموّل من خزانة الدولة وعلى المؤسسات العلمية أن تؤمن حاجتها المالية بطرقها الخاصة.
11. الاستنساخ البشري لماذا؟ :
1. ترى مؤسسات البحث العلمي أن الاستنساخ البشري يمكن أن يقودنا لدراسة معمّقة حول دور السيتوبلاسما في برمجة عمل النواة، وكذلك دراسة دور سيتوبلاسما البيضة في نقل بعض الأمراض الوراثية.
2. الاستنساخ البشري طريقة تساعد على اصطفاء الأنواع البشرية Eugenique
... والحصول على سلالات ذات صفات متميزة ومبدعة، وهذا ما كانت تسعى إليه السلطات النازية وغيرها من الطوائف الدينية المنحرفة.
3. ويرى بعض العلماء أن الاستنساخ البشرى هو نوع من التغلب على الموت باستنساخ سلالات بشرية متماثلة لا حدود لها، فهو بذلك نوع من الخلود البشري في الحياة.(1/15)
4. الاستنساخ البشري يمكن أن يؤدي في مستقبل قريب جداً إلى تكوين الإنسان الكامل كما صرح بذلك الدكتور بانايوتيس زافوس والدكتور الإيطالي سيفيرينو أنتينوري
Sevirino Antinori .
5. يعتبر الاستنساخ البشري نوعا من التأمين على الحياة والصحة، فإذا حملت الأم بطفل واختزنت منه نسخة تحفظ بالتبريد ، فإن هذه النسخة قد تدعو الحاجة إليها إن مات الطفل وأراد والداه أن يعوّضاه بطفل مماثل له تماماً. أو قد يحتاج الطفل في المستقبل إلى زرع عضو أو نسيج وتعوق ذلك مشكلة المناعة ، إن عزَّ العثور على الزرعة الموائمة فتزرع النسخة التوأم الاحتياطية وتنمو ليؤخذ منها العضو أو النسيج المطلوب، ونظراً للتطابق بينهما فمن المؤكد أن الزرعة سيقبلها الجسم المنقولة إليه دون احتمال رفضها مناعياً. يكون السؤال هنا : هل من الجائز أن تُنْشَأ حياة وتُهدر من أجل إنقاذ حياة أخرى.
6. وهناك من ينظرون إلى الأمر نظرة فلسفية بعيدة الأمد. فإن قدرة الجنس البشري على البقاء في حياته الأرضية تعتمد لدرجة كبير على التنوّع الجيني الفردي، وفتحَ بابُ الاستنساخ خطوةً في عكس الاتجاه ... إذ سيكون الاتجاه إلى إنجاب الذراري المتشابهة جينياً وذات الصفات الوراثية المتميزة، مع الاستغناء عن طريق الإجهاض عن الأجنة التي لا تتمتع بهذه الصفات، مما سيزيد في ترخيص الحياة البشرية خاصة في بلاد مثل أمريكا التي يتم فيها كل عام ما يزيد عن مليون ونصف من عمليات الإجهاض لأسباب تافهة، أو بغير أسباب على الإطلاق وستدخل البشرية حقبة جديدة لا يكون الطفل فيها مرغوباً من ولديه بدافع الغريزة الوالدية، ولأنه ضناهما وفلذة كبديهما، ولكن بشروط ومقاييس وصفات وراثية، إن توفرت فبها ونعمت، وإلا فلهما عنه مندوحة.(1/16)
7. وسيثور سؤال عن ماهية الصفات الوراثية المطلوبة، وما هي الصفات غير المرغوبة، وما هي حدود العلل التي تحتمل، وتلك التي لا تحتمل، ومن الذي يقرر ذلك؟. وهل سيصاب الوالدان بخيبة أمل إن لم تتحقق توقعاتهما التي استقرت منذ عَايَنَا النسخة الجينية لجنينهما، والتي بلغت مرحلة الطفولة أو الشباب؟ فإن الناتج الختامي لا يعتمد على المادة الإرثية فحسب، وإنما على ظروف بيئية كالتربية والتعليم والتغذية والصحة والتنشئة وغيرها..
8. وهل من الصالح استنساخ جنينين توأمين يفصل بين عمريهما سنوات فيرى الصغير مستقبله فيما يعرض لتوأمه من أمراض وراثية يعلم أنها له بالمرصاد.؟
9. وهل من ضير في أن تحمل السيدة بتوأمها إن فصل عنها في الدور الجنيني الباكر، وبقي طيلة السنوات نسخة منها محفوظة بالتبريد؟
وما زالت الهوة بعيدة دون تمكن الحكومات من استنساخ شرائح اجتماعية بأسرها تحمل كل منها صفات تختار لها، فهذه سلالات العبقرية العلمية، وتلك سلالات الموهبة الرياضية والثالثة سلالات الحرب أو الضرب أو الطاعة العمياء التي لا تنزع إلى اجتماع أو اعتراض.
لكن المسألة مسألة زمن إذا استمر المنزلق في انزلاقه دون أن ترسم له السدود والقيود. ويحدد من الآن المسموح من الممنوع، فالعلم سلطان، وهو كأي سلطان يمكن أن يطغى إن لم يحكمه نظام أو يهيمن عليه دستور.
12. مخاطر الاستنساخ البشري:
يرى البروفسور أكسيل كان Axel Kahn أن الاستنساخ البشري طريقة عظيمة الخطورة ، فهي في الواقع عملية تستبدل طريقة التكاثر الجنسي بالطريقة اللاجنسية المأساوية. فمستقبل النوع البشري يتمثل في هذا التنوع الجيني الفطري الطبيعي. ومن جهة أخرى فإن النويات المنقولة كما تخضع لعملية مسخ كروموزومي Mutations Chromosomiques فتؤدي إلى أنواع بشرية غير متوقعة قد تختلف اختلافاً بينا عن الكائنات المعطية للنويات الأصلية.(1/17)
ولو عدنا إلى النعجة دوللي فقد دلت الدراسات التي أجريت عليها بأن عمرها الخلوي أكبر بكثير من عمرها الولادي ، بمعنى أنه أصيبت بتشيّخ مبكر، أي أن الاستنساخ لم يؤدِّ إلى كائنات فتية بل على العكس فكأن الخلايا احتفظت بذاكرتها العمرية وحافظت على عمر الخلية التي انتزعت من النعجة اللأم. وهذا ما جعل الدكتور إيان ويلموت يقف معارضا وبقوة لأي أسلوب من أساليب الاستنساخ البشري ويعتبره انتهاكا للكرامة الإنسانية.
ومن جهة أخرى كان ينظر إلى الأم الطبيعية على أنها تتمتع بصفات إنسانية واجتماعية وحيوية ومن خلال الاستنساخ البشري فستصبح الأم توأما لابنتها ، وبذلك يفقد العنصر البشري كرامته وحريته في التكاثر الطبيعي المعروف ويصبح إنتاجه قسريا لا إرادة له فيه.فالإنسان ليس وسيلة أو قطعة غيار وإنما هو غاية بذاته ومخلوق مكرّم.
ويرى كثير من الباحثين العلميين والاجتماعيين أن هناك سلبيات خطيرة متوقعة للاستنساخ البشري، يمكن أن نذكر بعضها فيما يلي:
أولاً) من ناحية الفرد:
1. تمييع الذاتية : فمن بين النسخ لن يصبح هناك مفهوم " فرد بذاته " .
2. قد تؤدي إلى علاقات لم يسبق اختبارها بين أفراد العائلة.
3. تحديد النسب: هل هو ابنٌ أو توأمٌ ... أو ماذا ؟
ثانياً) من الناحية الاجتماعية:
1. القرابة ستضطرب وتتغير بدرجة كبيرة .
2. ظهور إنجاب بين الجنس الواحد ( Intra-sex) ، وهناك نقاش حول حق المرأتين المرتبطتين بشذوذ جنسي في إنجاب مولودات فيما بينهما عن طريق الاستنساخ : البيضة من واحدة، والنواة من الأخرى.
3. تأثير تغيّر درجة القرابة على المواريث والقانون بما لا عهد للبشرية به، مما يستدعي ترتيباً جديداً لهذه العلاقات، وبالتالي للقوانين التي تنظمها.
ثالثا) من الناحية الإجرامية :
1. استنساخ شخص بدون إذنه .
2. بيع أجنة مستنسخة.
رابعاً) من ناحية العنصرية :
1. تخليق سلالات متميزة تعتبر هي الجنس الأرقى.(1/18)
2. عمل جيش من المستنسخين الذين يحملون مورّثات الضراوة والشراسة والعنف.
3. تخليق طبقة من العبيد تعامل بما تحت المستوى البشري وتقبل بذلك.
13. مواقف الهيئات تجاه أبحث الاستنساخ البشري:
كانت هناك ثلاثة مواقف رئيسية :
1. موقف يشجع الاستنساخ ويرى أن مزاياه، وخاصة في مجال علوم التكاثر البشري تفوق أضراره، وهذا الموقف يتخذه المتخصصون في علاج العقم.
2.والموقف الثاني يعارض أي أبحاث في الاستنساخ البشري، ويرى فيه امتهاناً للإنسانية ولكرامة الإنسان وتهديداً للعلاقات الأسرية السليمة. كما يرى احتمالات مستقبلية لسوء الاستخدام في نواحي التفرقة العنصرية والاستبداد، وقد اتخذ هذا الموقف كل من حكومات ألمانيا وفرنسا وانجلترا، وحكومة كندا في طريقها لاتخاذ قرار مماثل.
4. أما الموقف الثالث فيرى عدم التسرع في الرفض أو القبول، بل يرى تحديد فترة مؤقتة توقف فيها الأبحاث حتى تتم دراسة النواحي الاجتماعية والأخلاقية للاستنساخ، وبعدها يمكن أن يصرّح أو لا يصرّح باستئناف الأبحاث في هذا المجال. وهذا الموقف اتخذته الولايات المتحدة الأمريكية، إذ أوقفت الدعم الحكومي لميزانيات الأبحاث في المؤسسات العلمية المختلفة حتى تتم الدراسة. ولكن لا ننسَ أن القطاع الخاص في الولايات المتحدة الأمريكية لديه من الموارد ما يسمح في استمرار البحث، والحكومة لا تملك أي سلطان لتحديد الحريات في هذا الاتجاه، ما لم يصدر بذلك قانون من الكونغرس الأمريكي.
14. الاستنساخ والأرأيتيون:
" الأرأيتيون" مصطلح يرد أحيانا على ألسنة الفقهاء ... يقصدون به أموراً قد لا تمتّ إلى عالم الواقع ، فيوسعونها بحثاً وجدلاً، وكانوا يظنون أنهم يهدرون الوقت والجهد فيما لا طائل وراءه، قائلين أرأيتَ لو حدثَ كذا وكذا ! فماذا يكون حكمه، وتقابله في كلام الأدباء والمؤرخين المناقشات البزنطية التي كان أهل بيزنطة يغرقون أنفسهم فيها، بينما العدو على الأبواب.(1/19)
ولكن علمتنا العقود القليلة الماضية أن كثيراً مما يندرج تحت الخيال العلمي، يتحول وفي زمن وجيز إلى حقيقة واقعة وممارسة عادية. ولا ننس ما حصل في تقنية أطفال الأنابيب، وما سبقها من جدل لغاية أشهر قليلة من ولادة الطفلة لويزا براون ، الطفلة الأولى بهذه الطريقة ، والتي سمح لها بالتعرف على أبويها منذ أشهر قليلة بعد أن بلغت الثامنة عشر من عمرها. ومن سمات عصرنا أن التقدم العلمي يسير بسرعة مذهلة لا يمكن أن تلحق بها التشريعات القانونية أو الأحكام الأخلاقية، فتولدُ المحدثاتُ العلمية في فراغ منهما وتدخلُ حيّز التطبيق، وما أصبح أمراً واقعاً فإن من العسير أن يصادر.
من هنا كانت الحاجة إلى الأرأيتيين، الذين يتصورون الأمور قبل وقوعها بوقت يسمح لأهل القانون، وأهل الأخلاقيات المهنية بتمحيصها والحكم عليها، فما كان حميداً سُمِحَ له بالتطبيق، وما لم يكن كذلك حُكِمَ عليه بالمنع من قبل أن يجيء.
إن استنساخ نعجة في اسكوتلندة إيذان أكيد بإمكانه في الإنسان ، ورغم أن بعض الدول – سارع في جوّ المفاجأة المذهلة- ففرض حظراً مؤقتاً على التجارب البشرية في هذا المجال، إلا أن حرية البحث العلمي أصبحت من مقدسات الإنسانية ومن ركائز الحضارة المعاصرة منذ تخلصت من قبضة الكنيسة . وأصبح الحلّ لا الوصاية على البحث العلمي، ولكن تصوّر كل ما يفضي إليه من تطبيقات، وهذه هي التي تُسْتّنْبَطُ لها أحكامُ الحِلّ والحرمة ( أو الجواز الأخلاقي أو عدمه ) كلاً على حدة، وتهيئة الغطاء القانوني ليكون جاهزاً عند الحاجة إليه.
وقد تقصّى الأستاذ الدكتور حسان حتحوت في دراسة له طائفةً من المسائل القابلة للحدوث عن طريق تقنية الاستنساخ البشري، لعلّ منها ما يقبل، ومنها ما يرفض، ومنها ما يحتاج إلى الضوابط الشرعية التي تحدد له المسار، فلا يزيغ ولا يميل، ونورد فيما يلي بعضاً من هذه الصور:
الصورة الأولى:(1/20)
لنفترض أن إحدى الخلايا الجسدية ( من الجلد مثلاً ) أُخِذِتْ وعُولجَتْ بقصد إصدار نسخة وراثية طبق الأصل من أحد الأشخاص، وحُفِظَتْ في دور مبكر بالتبريد لمدة مئة عام أو أكثر، وبعد ذلك استمرّ استنباتها وزراعتها في ( رحم ) وولادتُها ونماؤها إلى رجل بالغ. ثم راح هذا " الشخص الجديد " – الجديد ، النسخة طبق الأصل – إلى الأحفاد أو أبنائهم يطالب بالميراث الذي آلَ إليهم متخطياً له وكان له حق فيه.
فما التشريع أو الرأي الفقهي المقترح لمجابهة هذه الحالة؟
الصورة الثانية:
تُتيحُ هذه التقنية الجديدة وللمرة الأولى في التاريخ أن يتم التكاثر البشري " لا تزاوجياً " كما في الميكروبات، فلا يتخلقُ المولود وراثياً من المادتين الوراثيتين للذكر والأنثى، بل لواحد منهما. وفي نطاق الأسرة لن يُسمى الأولادُ " أولادَنَا " ... لكن الذكور نسخة عن الزوج ، والإناث نسخة عن الزوجة من جهة التركيب الوراثي، حتى لو كانت زريعة الزوج اتخذت من رحم الزوجة مسكناً ( رحماً ظئراً ) لحين الميلاد.
فكيف ستكون الروابط الأسرية فيما بعد؟ ..
الصورة الثالثة:
زواجٌ عقيم، لأن الزوجة ليس لها مبيض يفرز بويضات. أُخِذّت خليةٌ من زوجها أو منها لتكون نسخة وراثية، وعولجت ثم أودعت رحمها لحين الولادة. طرفٌ منهما سيحسُّ أن المولود هو فعلاً لا يحوي في تركيبه أيّاً من جيناته. وفي نفس الوقت لم يُقْحَم على عملية الإنجاب طرفٌ غريبٌ على عقد الزواج ( كما يحدث في تقنية أطفال الأنابيب إن دخلها مني غريب أو بويضة غريبة أو رحم غريب) ، يبدو أن هذه الطريقة مخرج من مأزق العقم.
فما الرأي الشرعي فيها ؟.
الصورة الرابعة:(1/21)
عدد من الأشخاص كلهم نسخة طبق الأصل من إنسان واحد. وقعت جريمة قتل، وكان الدليل فيها بصمات الأصابع وتركيب الحمض النووي : وهو دليل يفي بتحديد شخص واحد تماماً حتى الآن. ولكن هذا الدليل آنذاك سينطبق على عدد من الأشخاص كلهم متماثلون لأنهم نسخة طبق الأصل.
هل تنضوي التقنية الجديدة إذاٌ على احتمال تعطيل العدالة ؟ أو تمييع المعاملات مع الناس إن تعاملوا مع أكثر من نسخة في شؤون متفرقة من بيْعٍ أو دَيْنٍ أو وعد أو عهد ؟ .
الصورة الخامسة:
مسألة حمل العذراء: عذراء صُنِعَتْ نسخةٌ لها من إحدى خلاياها ، ثم أودعت الزريعة رحمها لتنمو حتى الميلاد. هل هذا الحمل شرعي وهي لا زوج لها! أو مقبول إذ لم يمسسها بشر؟
الصورة السادسة:
شركات الاستنساخ وحملاتها الإعلانية عن صنع نسخ من ذوي المواهب الخارقة في الرياضة أو العلم أو الموسيقى... رياضي كبير أوصى على خمس نسخ منه ... وكبرت النسخ لكن لم يبق منها واحد بارع في الرياضة... السبب أنها لم تجتز مراحل التدريب والتمرين اللازمة. وقد يكون فيها النحيف والبدين والصحيح والعليل نتيجة عوامل التغذية والبيئة والرعاية الصحية.
هل تُتَّهم تلك الشركات بالتدليس لأنها لم تبين ذلك من قبل بوضوح؟
الصورة السابعة:
أسرة صنعت لولدها نسخة وحفظتها بالتبريد لتكون احتياطاً ، فإذا مات الولد استنبتوا النسخة ليستعيضوه بذاته.
أَمِنَ الجائز تخليق إنسان ليكون وسيلة لغاية ، وليس غاية في ذاته ؟
أو مات الولد فعلاً فسارعوا بأخذ خلاياه لعمل نسخة ثانية منه فكأنه لم يمت ؟
أو احتاج الولد في المقبل من الأيام إلى زرع عضو فإذن تستخدم النسخة في الحصول على هذا العضو ضامنين أن الجسم سيقبلها ولن يطردها.
الصورة الثامنة:(1/22)
كبر الطفل سنوات ولكن نسخا باكرة منه محفوظة بالتبريد متاحة للنساء اللائي يرغبن في الحمل بتقنية الأنابيب . ففي وسع السيدة أن ترى كيف ستكون النسخة بعد سنوات فتنتقي من مجموعة أو ربما من كتالوج وتشتري ما يروق لها.
هل مثل هذه السوق نافعة أو ضارة على المدى القريب أو البعيد؟
الصورة التاسعة:
شخص في الخمسين، ونسخته في الخامسة، وأصيبت النسخة الكبيرة بأحد السرطانات الخطيرة الناجمة عن الوراثة. ويعلم الصغير أن هذا هو مصيره، وقد يشهد النسخة الأولى تعاني العذاب والألم الذي ينتظره في مقبلات الأيام .
أيعتبر ذلك تعذيبا للصغير؟ علما بأن بعض الحالات – لا كلها – يمكن تلافيه بإزالة العضو المماثل قبل أن يتكون به السرطان ( نقول البعض فقط لعدم إمكان تحديد المكان ).
أَنُزيل الكلوة اليمنى أم اليسرى؟ الثدي الأيمن أم الأيسر ؟ ... ومن مواطن السرطان ما لا تجدي إزالته وقائياً بالجراحة كسرطان الدم مثلاً !! وقد لا يحدث السرطان طيلة حياة الصغير فيكون قد عاش في هلع لا مبرر له ... أو أجري له عملية كبرى لا داعي لها ؟؟
هذا وستطول قائمة هذه الصور بفضل الأرأيتيين العلميين كلما تقدم البحث العلمي على هذه الجبهة.
والليالي من الزمان حُبَالى مُثقلاتٌ يلدنَ كل جديد
14. الاستنساخ والأخلاق:
الذي نحب أن نؤكد عليه في بداية الأمر أن عملية الاستنساخ ليست خلقاً جديداً ، وأن تصوّر ما قام به العلماء أنه تحدٍّ للقدرة الإلهية، وأنه خلق كخلق الله ، هو تصور خاطيء يُنبيء عن سذاجة وجهل شديد. وغاية ما قام به العلماء أنهم درسوا قوانين الخلق وقاموا بتطبيقها في المجالات الحيوية المختلفة.(1/23)
ولقد عرف الناس منذ القديم الاستنساخ في عالم النباتات وحصلوا على الفسائل بأخصر طريق وأرخص ثمن، واستطاع العلماء بفضل هذه التقنية- التي تدخل في إطار ما نعرفه بإسم تطعيم النبات ، وما أتاحته أعمال الهندسة الوراثية – أن يطوروا أنواعاً من النباتات كالأصل تماماً، إلا أنها تمتاز بقوتها ومناعتها ووفرة عطائها ومذاقها. ولم يستنكر أحد من الناس هذا ، بل اعتبروه فتحاً جديداً في عالم الإنتاج الزراعي.
ولم تكن الأبحاث في العالم الحيواني باقلّ منها أهمية في العالم النباتي. فقد شرع العلماء في تجربة زرع الأجنة الحيوانية الممتازة المأخوذة من ببيضات أبقار مختارة لسرعة نموها أو لوفرة ما تدرّه من ألبان، أو لمذاق لحمها ، بعد تخصيبها خارج الرحم من فحول ممتازة، فتحمل البقرة اللقيحة لتبلغ بها إلى ولادتها في أمدها. ولقد ابتدأت البحوث منذ عام 1940 م وبلغت نجاحها في عام 1970م ، حتى وصل عدد الأبقار في سنة 1996 م والتي حصلت عليها فرنسا في هذه الطريقة ( 000 27 ) بقرة .
واستفاد العلماء من التقنيات الحيوية الحديثة في عالم الدواء ، حيث استطاعوا أن يعزلوا الجين البشري الذي لبرنامجه تأثير في التعرّض لمرض معيّن ، وبعد معالجته في أنبوب اختبار ، أمكن لحمُهُ مع جين Gene بروتين لبن الثدييات ، فوصلوا بذلك إلى تصنيع جينٍ قادر على أن ينتجَ مع بروتين اللبن بروتيناً علاجياً مرغوباً.
ومع كل هذا فقد نبهت منظمة الصحة العالمية إلى ما يمكن أن يصحب هذا المنهج في التحصيل على الدواء من مضاعفات سلبية قد تكون خطراً على الإنسان ، ومن الصعب بمكان أن نتنبأَ بآثارها المستقبلية.(1/24)
بيد أن الاستنساخ البشري أمرٌ مختلف عن كل هذا تماماً. فاستمرار الحياة البشرية قد تمّ في تاريخ الكون بطريقة واحدة تكمن في تلقيح بييضة الأنثى بالحيوان المنوي داخل الرحم، فتنشأ الخلية الأولى حسب قوانين الخلق حتى تبلغ إنساناً سويّاً. ولم يشذّ عن سنة الخلق هذه إلا آدم عليه السلام، فقد خلق بأمر التكوين من غير أب ولا أم، وحواء زوجه التي خلقت كأول أنثى من ضلع كما ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي أخرجه مسلم والترمذي: " إن المرأة خلقت من ضلع "، وكذلك عيسى عليه السلام الذي ولدته أمه وليس له أب، وكل هذا إعلان بأن التوالد الإنساني يتم على سنة الاتصال الجنسي وليس أمراً يقضي به العقل، ولكنه أمر نُظِّمَ عليه الكون مما يعبر عنه بالقوانين الطبيعية.
ومنذ القرن الماضي أخذ الطب يتدخل في الإنجاب بطرق مختلفة وتطورت حتى وصلت إلى ما وصلت إليه في أيامنا هذه . وقرننا هذا الذي ورث حصاد ما زرعه الفكر الإنساني في حقل المعرفة من أول الكون إلى اليوم قد تمرّدَ فيه العلم تمرداً أعماه عن البصر بدوره الذي هو إسعاد البشرية، فعزلَ الغايةَ، وقصرَ همّّهُ على ذاته فانطلق بدون هدى يهديه ولا قِيَمَ تحكُمُه. و منذ أن فجَّرَ العلماءُ الذرةَ وهم يحصدون إلى اليوم الآثار المدمرة للنفايات الذرية التي يبقى إشعاعها أكثر من ألفي سنة يعبث في مختلف شؤون الحياة الكونية.
لقد قال العالم الذري الألماني " أوبنهايمرOppenheimer " الذي فجعته قنبلة هيروشيما: " اليوم وقع العلم في خطيئة "، وقيل إنه عاش بعدها مخلوط العقل إلى أن قضى.
ويقول تيستار الباحث في الإنجاب : " لا ولا للإنجاب الصناعي ، ولن أزيد ولو خطوة واحدة أبعد مما وصلت إليه " .
ويقول روبرت إدواردز العالم الفيزيولوجي ورائد الإنجاب بتقنية طف الأنابيب : " إن هناك حاجة صارخة إلى وضع إطار للآداب وأخلاقيات هذا الميدان " .(1/25)
لقد دعت الثورة العلمية الحيوية المنظمات الدولية إلى اتخاذ الإجراءات القانونية التي تطلب بأن تلتزم مؤسسات البحث العلمي فيها بالضوابط الخلقية. ولهذا فقد شكل المجلس الأوروبي لجنة للأخلاق تتألف من أطباء وحيويين وقانونيين وعلماء اجتماع وفلاسفة ، وأوكلت إليها مهمة وضع التشريعات والضوابط التي تحكم علوم الحياة والطب. وأن تضع القواعد التي تفرق بين العلوم والأبحاث البحتة والعلوم التطبيقية. ولكن أين الرقابة الحقيقية على هذه المؤسسات التي ضربت من حولها سوراً حديدياً يحيط بالسرية الكاملة كل ما يجري وراء هذه الأسوار.(1/26)
ومن جهة أخرى لا يغيبنّ عن البال أن مفهوم الأخلاق في الغرب أصيح من وضع المجتمعات، وليس له أي ارتباط بالعقائد التي يعتبرها من رواسب طقوس دينية مندثرة، أو من عادات وتقاليد من متخلفات حِكَمٍ قضت عليها التطورات. والمذهب الأخلاقي الذي يتبناه الغرب اليوم هو المذهب الوضعي، وهو من المذاهب التجريبية التي لا تعترف إلا بالواقع المحسوس، فهي تردُّ المعرفة إلى التجربة، وترفض المفاهيم الميتافيزيقية. وبناءً على هذا ترى الوضعيةُ أنه ليس من واجب علم الأخلاق الوضعي أن يضع قواعد أخلاقية للسلوك الإنساني، فذلك في نظر الوضعية أمرٌ غير ممكن، بل غير جائز، وتنحصر مهمة هذا العلم في نظر الوضعيين في تقرير الوقائع الأخلاقية ووصفها وتوضيحها. ومن هنا ترى الوضعية أن الاعتقاد بوجود قواعد أخلاقية ملزمة يرجع – تاريخياً – إلى الاعتقاد بوجود إله، وما يتعلق بذلك من ارتباط هذه العقيدة بوصايا إلهية، ونظراً إلى أن الوضعية ترفض مثل هذه العقيدة، فلا يوجد بالنسبة لها قواعد أخلاقية ملزمة، وبالتالي لا تعترف بأخلاق معيارية. وعلى هذا فإن الوضعيين ينظرون إلى القيم على أنها نسبية ومتغيّرة وأنها قد تختلف من عصر إلى عصر، ومن مجتمع إلى مجتمع من خلال نسبة القيم نفسها وتغيّرها، فالقيم عندهم ليست شيئاً آخر غير ما يترسب من التقييمات. فالناس يتعودون على اتباع قيم معينة لأنها في الغالب نافعة ومفيدة، فإذا حدث أن تغيّرَ الوضع وأصبح إتّباعُ هذه اليم غير نافع وغير مفيد، فإن القيم حينئذ تتغير.
وبناء على ذلك فلن يكون هناك أي ضمانات تُلزِمُ الباحثين في مجال الاستنساخ البشري بالقواعد التي كرّمت بني آدم وأن تجعل منهم أداة تجربة شأنهم كشأن حيوانات المختبرات.
15. الاستنساخ والفقه الإسلامي:(1/27)
اشتد الجدل بين العلماء المسلمين حول الرأي الفقهي في عملية الاستنساخ بصورة عامة والاستنساخ البشري بصورة خاصة. ونشرت وسائل الإعلام كثيراً من الفتاوى الصادرة عن بعض العلماء، ولم يُمَيّز عدد منها ما بين أنواع الاستنساخ وتقنياته المختلفة، لذا كانت الفتاوى متباينة ما بين التحريم القطعي وما بين الجواز بشروطه.
وقد عُقدت ندوة طبية فقهية في الدار البيضاء بالمغرب في الفترة ما بين 14 – 17 حزيران / يونيو 1997م شارك فيها كل من المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية ومجمع الفقه الإسلامي بجدة والمكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية ومؤسسة الحسن الثاني للأبحاث العلمية والطبية عن رمضان والمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة ( الإسيسكو ) بحضور لفيف من الفقهاء والأطباء والصيادلة والباحثين والقانونين وغيرهم. وتدارس المجتمعون موضوع الاستنساخ البشري وأصدروا في نهاية الاجتماعات توصيات تمّ عرضها على مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره العاشر المنعقد بجدة خلال الفترة من ( 23 – 28 ) صفر عام 1418 هـ الموافق لـ 28 حزيران / يونيو - 3 تموز / يوليو 1997م. وبعد الاطلاع على البحوث المقدمة في موضوع الاستنساخ البشري والبحوث والتوصيات الصادرة عن الندوة الفقهية الطبية انتهى المجلس إلى صياغة قراره رقم 100/2/د10 .
وتعميما للفائدة سنذكر أولا توصيات الندوة الفقهية الطبية ثم قرار مجلس مجمع الفقه الإسلامي بجدة.
أولاً ) توصيات الندوة الفقهية الطبية التاسعة
التي عقدت بالدار البيضاء
في الفترة ما بين 14 إلى 17 حزيران / يونيو 1997م
أ-مقدمة:(1/28)
سبق للمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية أن عقدت ندوة عام 1983 م عن " الإنجاب في ضوء الإسلام " عرضت فيها ورقتان لاحتمالات إنجاز الاستنساخ البشري بعد أن نجح الاستنساخ في النبات وفي الضفادع والبحريات الصغيرة. وكانت التوصية التي اتخذت في هذا الصدد تنص على الآتي : " عدم التسرع في إبداء الحكم الشرعي في قضايا الاستنساخ بالنسبة للإنسان ( على نحو ما أدت إليه التجارب في مجال الحيوان ) مع الدعوة إلى مواصلة دراسة هذه القضايا طبياً وشرعياً مع جواز تطبيق تكنولوجيا التكاثر على مستوى الكائنات الدقيقة باستخدام خصائص الحامض النووي المعاود الالتحام لإنتاج مواد علاجية وفيرة " .
والآن عاد الموضوع يطرح نفسه بشكل حاد وعاجل، منذ أن تمّ استنساخ جنين الإنسان بطريق الاستتئام عام 1993 م، ثم في الأشهر الأخيرة حين أعلن عن استنساخ النعجة التي سميت "دوللي " في اسكتلندا في فبراير 1997 م بعد تكتم عن الأمر قرابة ثمانية أشهر، وتلا ذلك الإعلان ُعن استنساخ قردين بطريقة أخرى في جامعة أوريغون. ولما كانت التقانة التي استعملها العلماء للوصول لهذا الإنجاز يفترض أنها وافية بإجراء نفس التجربة على الإنسان، فقد اكتسب الموضوع منحى عاجلاً أثار ردود فعل قوية.
ورغم أنه لم يعلن عن ممارسته في الإنسان بعد، إلا أن الحاجة إلى استباقه بالتعرف على آثاره المتوقعة ووضع ضوابطه الشرعية والقانونية والأخلاقية، حدت بكثير من الدول الغربية إلى منع التجارب البشرية أو تجميدها سنوات حتى تتم الدراسات المطلوبة.
لذلك رأت المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية أن تبادر ببحث هذا الموضوع في هذه الندوة.
ب- تعريف الاستنساخ: Cloning
الاستنساخ هو تكوين مخلوقين أو أكثر كل منهما نسخة إرثية من الآخر.
وهو نوعان:(1/29)
الأول : الاستتئام أو شق البيضة ، ويبدأ ببويضة مخصبة ( بويضة دخلها منوي )، تنقسم إلى خليتين فتحفز كل منهما إلى البدء من جديد وكأنها الخلية الأم وتصير كل منهما جنيناً مستقلاً وإن كانا متماثلين لصدورهما عن بيضة واحدة.
الثاني : الاستنساخ العادي : الذي لا يعتمد على الخلايا الجنسية وإنما يكون بوضع نواة خلية داخل غلاف بويضة منزوعة النواة. وتكاثر الخلية الناتجة إلى جنين هو نسخة إرثية تكاد تكون طبق الأصل من صاحب الخلية الجسدية.
ج- المناقشات :
ناقشت الندوة الجوانب الطبية لهذا الموضوع مناقشة مستفيضة استجلت من خلالها المرتكزات الرئيسة التي يقوم عليها الاستنساخ من حيث الآتي:
1- استنساخ الجنين البشري عام 1993 م عن طريق " الاستتئام " وهو حفز البيضة المخصبة إلى سلوك النهج الذي تتبعه طبيعياً لتكوين التوائم المتماثلة، بحيث تتصرف كل من الخليتين الناجمتين عن أول انقسام للبيضة وكأنها بيضة جديدة من البداية، تأخذ في سلسلة التكاثر بالانقسام في اتجاه تكوين جنين مستقل، فإن أودع الجنينان الرحمَ، وضعت السيدة توأمين متطابقين لأنهما نتاج بيضة واحدة. ولم يستكمل البحث نظراً لتورّع العالمين المبتكرين عن زرعهما في الرحم، بل إنهما اختارا خلية معيبة لا تنهض أن تنقسم إلا لدور مبكر، وذلك لأن التجارب على الجنين البشري أمر حساس وخطير. ولا بدّ من مرور وقت حتى توضع الضوابط الأخلاقية والقانونية.
وترى الندوة أن الطريقة من حيث مبدأ التلقيح سليمة، لكن تقويمها من ناحية النفع والضرر لا يزال في حوزة المستقبل. ومن منافعها القريبة المنال إمكان تطبيق الوسائل التشخيصية على أحد الجنينين أو خلايا منه فإن بانت سلامته سمح أن يودع الحملُ الرحمَ، وكذلك التغلب على بعض مشاكل العقم وينطبق عليها كل الضوابط المتعلقة بطفل الأنابيب.(1/30)
أما التقنية التي أفضت إلى إنتاج النعجة " دوللي " بإيداع نواة خلية جسدية داخل بويضة منزوعة النواة لتشرع في الانقسام متجهة لتكوين جنين، فقد أولتها الندوة بحثا مستفيضا وتوسمت بعض النتائج التي تنجم عن تكوين جنين ( ثم وليد ) جديد يكون نسخة إرثية ( جينية ) طبق الأصل من صاحب الخلية الجسدية، فلا يمنع من تمام التماثل إلا وجود عدد ضئيل من الجينات في سيتوبلازما البيضة المستقبلة.
2- ظهر أن تلك القضية تكتنفها محاذير فادحة إن دخلت حيّز التطبيق، من أبرزها العدوان على ذاتية الفرد وخصوصيته وتميّزه من بين طائفة من أشباهه ( نسخه )، وكذلك خلخلة الهيكل الاجتماعي المستقر والعصف بأسس القرابات والأنساب وصلات الأرحام والهياكل الأسرية المتعارف عليها على مدى التاريخ الإنساني وكما اعتمدتها الشريعة الإسلامية وسائر الأديان أساساً للعلائق بين الأفراد والعائلات والمجتمع كله، بما في ذلك من انعكاسات على أحكام القرابات والزواج والمواريث والقانون المدني والجنائي وغيرها، وسيقت في هذا الباب فرضيات واحتمالات كثيرة.
وقد استبعدت الندوة من البداية بحث كل ما يقحم على عقد الزواج الشرعي القائم طرفاً غريباً عنه فإنه حرام بلا ريب.
وقد تطرّق بعض السادة الفقهاء بالبحث إلى طائفة من الأحكام العقائدية والأخلاقية، والعملية، تكليفية أو وضعية، التي تتصل بموضوع الاستنساخ.(1/31)
3- وقد أخذ في الاعتبار أن الدول الغربية، ومنها التي تجري فيها أبحاث الاستنساخ، قد كان ردّ الفعل فيها قوياً وقائما على الحذر الشديد، فمنها من منعت أبحاث الاستنساخ البشري، ومنها من حرمتها معونةَ ميزانية الدولة، ومنها من جمدتها سنوات حتى تبحثها اللجان المختصة ثم ينظر في أمرها من جديد. لهذا فإن الندوة تخشى أن يسعى رأس المال الخاص وشركات الأدوية إلى تخطّي هذا الحظر بتهيئة الأموال واستمرار الأبحاث في دول العالم الثالث واستغلالها حقلاً للتجارب البشرية كما كان ديدنها في كثير من السوابق.
4- أكدت الندوة أن الإسلام لا يضع حجراً ولا قيداً على حرية البحث العلمي إذ هو من باب استكناه سنة الله في خلقه وهو من تكاليف الشريعة. ولكن الإسلام يقضي كذلك بألاّ يتركَ الباب مفتوحاً بدون ضوابط أمام دخول تطبيقات نتائج البحث العلمي إلى الساحة العامة بغير أن تمرّ على مصفاة الشريعة لتمرر الحلال وتحجز الحرام. فلا يسمح بتنفيذ شيء لمجرد أنه قابل للتنفيذ بل لا بدّ أن يكون خالياً من الضرر وغير مخالف للشرع.
ولما كانت بعض المضارّ لا تظهر قبل مرور وقت طويل، فلا بدّ من عدم التسرّع قبل التثبت والتأكد قدر الاستطاعة.
5- وتأسيساً على هذه الاعتبارات التي أجمع عليها الحاضرون، رأى البعض تحريمَ الاستنساخ البشري جملة وتفصيلاً. بينما رأى آخرون إبقاء فرصة لاستثناءات حاضرة أو مقبلة إن ثبتت لها فائدة واتسعت لها حدود الشريعة على أن تبحث كل حالة على حدة.(1/32)
6- وفي كافة الأحول فإن دخول الاستنساخ البشري إلى حيّز التطبيق سابق لأوانه بزمان طويل. لأن تقدير المصالح والمضارّ الآنية قد يُختلف عليه على المدى البعيد والزمان الطويل، وإن من التجاوز في الوقت الحاضر أن نقولَ إن تطبيقات الهندسة الوراثية في مجال النبات قد أثبتت سلامتها على الإنسان، رغم ما مر من سنوات. في حين لم تكد تدخل التطبيقات الحيوانية من العتبة بعد. ولعلّ المجهول هو أكبر الهموم في هذا الباب..
ولا ينبغي أن تنسى الإنسانية درسها الكبير بالأمس القريب في مجال انشطار الذرة...إذ ظهر له بعد حين من الأضرار الجسيمة ما لم يكن معلوما ولا متوقعاً ، ولا بدّ أن يستمر رصد التجارب النباتية والحيوانية لزمن طويل.
7- ولاحظت الندوة مع الأسف أن عالمنا الإسلامي حتى الآن يعيش عالة وتبعاً للعالم الغربي في ملاحقته لهذه العلوم الحياتية الحديثة. وأكدت أن تكون لدينا المعاهد والمؤسسات العلمية التي تقوم بذلك وفق الضوابط الشرعية.
8- لم ترَ الندوة حرجا في الأخذ بتقنيات الاستنساخ والهندسة الوراثية في مجالي النبات والحيوان في حدود الضوابط المعتبرة.
د- التوصيات:
توصي الندوة بما يلي:
أولاً) تحريم كل الحالات التي يقحم فيها طرف ثالث على العلاقة الزوجية سواء أكان رحماً أم بويضة أم حيواناً منوياً أم خلية جسدية للاستنساخ.
ثانياً) منع الاستنساخ البشري العادي ( نقل نواة جسدية لبويضة منزوعة النواة ) فإن ظهرت مستقبلاً حالات استثنائية عرضت لبيان حكمها الشرعي من جهة الجواز أو المنع.
ثالثاً) مناشدة الدول بسن التشريعات القانونية اللازمة لغلق الأبواب المباشرة وغير المباشرة أمام الجهات الأجنبية والمؤسسات البحثية والخبراء الأجانب للحيلولة دون اتخاذ البلاد الإسلامية ميداناً لتجارب الاستنساخ البشري والممارسات غير الشرعية في مجال الإخصاب البشري والترويج لها.(1/33)
رابعاً) متابعة المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية وغيرها لموضوع الاستنساخ ومستجداته العلمية وضبط مصطلحاته وعقد الندوات واللقاءات اللازمة لبيان الأحكام الشرعية المتعلقة به.
خامساً) الدعوة إلى تشكيل لجان متخصصة في مجال الأخلاقيات الحياتية لاعتماد بروتوكولات الأبحاث في الدول الإسلامية وإعداد وثيقة عن حقوق الجنين تمهيداً لإصدار قانون لحقوق الجنين.
ثانيا) قرار مجلس مجمع الفقه الإسلامي
رقم 100/2/د 10
بشأن الاستنساخ البشري
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره العاشر بجدة بالمملكة العربية السعودية خلال الفترة من 23 إلى 28 صفر 1418 هـ (الموافق 28 يونيو– 3 يوليو 1997م ) بعد اطلاعه على البحوث المقدمة في موضوع الاستنساخ البشري، والدراسات والبحوث والتوصيات الصادرة عن الندوة الفقهية الطبية التاسعة التي عقدتها المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بالتعاون مع المجمع وجهات أخرى ، في الدار البيضاء بالمملكة المغربية في الفترة من 9 – 12 صفر 1418 هـ الموافق 14 – 17 يونيو 1997 م ، واستماعه للمناقشات التي دارت حول الموضوع بمشاركة الفقهاء والأطباء، انتهى إلى ما يلي:
مقدمة:
لقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، وكرمه غاية التكريم فقال عزّ من قائل: " وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ والبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْناَهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً "(الإسراء: 70 )، زيّنه بالعقل، وشرّفه بالتكليف، وجعله خليفة في الأرض واستعمره فيها، وأكرمه بحمل رسالته التي تنسجم مع فطرته بل هي الفطرة بعينها لقوله سبحانه: " فَأَقِمْ وَجْهَكَ للدّينَ حَنيفاً: فِطْرَةَ اللَّهِ التي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ! لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذَلِكَ الدَّينُ القَيِّمُ " (الروم 30).(1/34)
وقد حرص الإسلام على الحفاظ على فطرة الإنسان سويّةً من خلال المحافظة على المقاصد الكلية الخمسة : ( الدين والنفس والعقل والنسل والمال )، وصونها من كل تغيير يفسدها، سواء من حيث السبب أم النتيجة، يدل على ذلك الحديث القدسي الذي رواه مسلم : << إني خلقتُ عبادي حنفاءَ كلهم ، وإن الشياطين أتتهم فاجتالتهم عن دينهم ... إلى قوله: وأمرتهم أن يغيّروا خلقي >> .
وقد عَلَّمَ اللهُ الإنسانَ ما لم يكن يعلم وأمره بالبحث والنظر والتفكر والتدبر مخاطباً إياه في آيات عديدة: " أَفَلا يَرَوْنَ "، " أَفَلا يَنْظرونَ "، " أَوَ لَمْ يرَ الإنسانُ أنَّا خَلَقْنَاهُ منْ نُطْفَةٍ " " إنَّ في ذلكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرونَ "، " إنّ في ذلكَ لآيَاتٍ لقوْمٍ يَعقِلُونَ "؛ " إنّ في ذلكَ لَذِكْرَى لأولي الألبابِ "؛ " إقرأْ باسمِ رَبِّكَ الذي خَلَقَ " ...
والإسلام لم يضع حَجْراً ولا قيداً على حرية البحث العلمي إذ هو من باب استكناه سنة الله في خلقه. ولكن الإسلام يقضي كذلك بأن لا يترك الباب مفتوحاً بدون ضوابط أمام دخول تطبيقات نتائج البحث العلمي إلى الساحة العامة بغير أن تمرّ على مصفاة الشريعة، لتمرر المباح وتحجز الحرام، فلا يسمح بتنفيذ شيءٍ لمجرّد أنه قابل للتنفيذ بل لا بدّ أن يكون علماً نافعاً جالباً لمصالح العباد ودارئاً لمفاسدهم. ولا بد أن يحافظ هذا العلم على كرامة الإنسان ومكانته والغاية التي خلقه الله من أجلها، فلا يُتَّخَذَ حقلاً للتجريب، ولا يُعتدى على ذاتيته وخصوصيته وتميّزه، ولا يؤدي إلى خلخلة الهيكل الاجتماعي المستقر أو يعصف بأسس القرابات والأنساب وصلات الأرحام والهياكل الأسرية المتعارف عليها على مدى التاريخ الإنساني في ظلال شرع الله وعلى أساس وطيد من أحكامه.(1/35)
وقد كان مما استجد للناس من علم في هذا العصر، ما ضجت به وسائل الإعلام في العلم كله باسم الاستنساخ. وكان لابد من بيان حكم الشرع فيه، بعد عرض تفاصيله من نخبة من خبراء المسلمين وعلمائهم في هذا المجال.
تعريف الاستنساخ:
من المعلوم أن سنة الله في الخلق أن ينشأ المخلوق البشري من اجتماع نطفتين اثنتين تشتمل نواة كل منهما على عدد من الصبغيات ( الكروموسومات ) يبلغ نصف عدد الصبغيات التي في الخلايا الجسدية للإنسان. فإذا اتحدت نطفة الأب ( الزوج ) التي تسمى الحيوان المنوي بنطفة الأم ( الزوجة ) التي تسمى البويضة، تحولتا معاً إلى نطفة أمشاج أو لقيحة، تشتمل على حقيبة وراثية كاملة، وتمتلك طاقة التكاثر. فإذا انغرست في رحم الأم تنامت وتكاملت وولدت مخلوقاً مكتملاً بإذن الله. وهي في مسيرتها تلك تتضاعف فتصير خليتين متماثلتين فأربعاً فثمانياً. ثم تواصل تضاعفها حتى تبلغ مرحلة تبدأ عندها بالتمايز والتخصص. فإذا انشطرت إحدى خلايا اللقيحة في مرحلة ما قبل التمايز إلى شطرين متماثلين تولّد منهما توأمان متماثلان. وقد أمكن في الحيوان إجراء فصل اصطناعي لأمثال هذه اللقائح، فتولدت منها توائم متماثلة. ولم يُبَلّغْ بعد عن حدوث مثل ذلك في الإنسان. وقد عدَّ ذلك نوعاً من الاستنساخ أو التنسيل، لأنه يولد نسخاً أو نسائل متماثلة. وأطلق عليه اسم الاستنساخ بالتشطير.(1/36)
وثمة طريقة أخرى لاستنساخ مخلوق كامل، تقوم على أخذ الحقيبة الوراثية الكاملة على شكل نواة من خلية من الخلايا الجسدية، وإيداعها في خلية بويضية منزوعة النواة، فتتألف بذلك لقيحة تشتمل على حقيبة وراثية كاملة، وهي في الوقت نفسه تمتلك طاقة التكاثر. فإذا غرست في رحم الأم تنامت وتكاملت وولدت مخلوقاً مكتملاً بإذن الله. وهذا النمط من الاستنساخ الذي يعرف باسم " النقل النووي " أو " الإحلال النووي للخلية البويضية " هو الذي يفهم من كلمة الاستنساخ إذا أطلقت وهو الذي حدث في النعجة " دوللي ". على أن هذا المخلوق الجديد ليس نسخة طبق الأصل، لأن بويضة الأم المنزوعة النواة تظل مشتملة على بقايا نووية في الجزء الذي يحيط بالنواة المنزوعة. ولهذه البقايا أثر ملحوظ في تحوير الصفات التي وُرِثَتْ من الخلية الجسدية، ولم يُبلَّغ أيضا عن حدوث ذلك في الإنسان.
فالاستنساخ إذن هو عملية توليد كائن حي أو أكثر إما بنقل النواة من خلية جسدية إلى بويضة منزوعة النواة، وإما بتشطير بويضة مخصبة في مرحلة تسبق تمايز الأنسجة والأعضاء.(1/37)
ولا يخفى أن هذه العمليات وأمثالها لا تمثل خَلْقاً أو بعض خلق ، قال الله عزّ وجلّ : " أمْ جَعَلُوا لِلّه شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فتَشَابَهَ الخلْقُ عليهم ؟ قُلْ اللهُ خالِقُ كلِّ شَيْء وهو الواحِدُ القهَّارُ " (سورة الرعد : 16) ، وقوله تعالى : " أفَرَأيْتُم ما تُمْنُونَ ؟ أَأَنْتُمْ تَخْلُقونَهُ أم نحنُ الخالِقُونَ ؟! " نحنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الموتَ ، وما نحنُ بمسْبُوقينَ على أن نُبَدّلَ أمثالكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ في مَا لا تَعْلَمُونَ! ولقَدْ عَلِمْتُمُ النّشْأَةَ الأولى فلوًلا تَذَكَّرونَ : ( سورة الواقعة : 58 – 62 ) . وقوله سبحانه: " أَوَ لَمْ يَرَ الإنْسَانُ أنَّا خَلَقْنَاهُ منْ نُطْفَةٍ فإذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ؟ وضَرَبَ لنا مَثَلاً وَ نَسِيَ خَلْقَهُ، قالَ مَنْ يُحْيي العِظَامَ وَهيَ رميمٌ ؟ قلْ يُحْييهَا الذي أنْشَأَهَا أَوَّل مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ. الذي جعَلَ لكُمْ منَ الَّشجَرِ الأخْضَرِ نَاراً فَإذَا أنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ. أَوَ ليْسَ الذي خَلَقَ السّماواتِ والأرضَ بِقَادِرٍ على أنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم ؟ بلى! : وهو الخلاّق العليمُ. إنّمَا أمْرُهً إذا أرادَ شَيْئَاً أنْ يَقُولَ لهُ كُنْ فَيَكُونَ " ( يس : 77-82 )
وقوله تعالى: " وَلَقدْ خَلَقْنَا الإنْسانَ منْ سُلالةٍ منْ طينٍ ثمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً في قَرَارٍ مَكِينٍ: ثمَّ خَلَقْنا النُّطْفَةَ عَلَقَةً، فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً، فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَاماً، فَكَسَوْنَا العِظَامَ لَحْمَاً، ثمَّ أنشَأْنَاهُ خَلْقَاً آخَرَ؛ فَتَبَارَكَ اللهُ أحْسَنُ الخَالِقينَ " (المؤمنون : 12 – 14 ).
وبناء على ما سبق من البحوث والمناقشات والمباديء الشرعية التي طرحت على مجلس المجمع،
قرر ما يلي:
أولاً ... تحريم الاستنساخ البشري بطريقتيه المذكورتين أو بأي طريقة أخرى تؤدي إلى التكاثر البشري .(1/38)
ثانياً ... إذا حصل تجاوز للحكم الشرعي المبين في الفقرة ( أولا) فإن آثار تلك الحالات تعرض لبيان أحكامها الشرعية.
ثالثاً ... تحريم كل الحالات التي يُقْحم فيها طرف ثالث على العلاقة الزوجية سواء أكان رحماً أم بويضة أم حيواناً منوياً أم خلية جسدية للاستنساخ.
رابعاً ... يجوز شرعاً الأخذ بتقنيات الاستنساخ والهندسة الوراثية في مجالات الجراثيم وسائر الأحياء الدقيقة والنبات والحيوان في حدود الضوابط الشرعية بما يحقق المصالح ويدرأ المفاسد .
خامساً ... مناشدة الدول الإسلامية إصدارَ القوانين والأنظمة اللازمة لغلق الأبواب المباشرة وغير المباشرة أمام الجهات المحلية أو الأجنبية والمؤسسات البحثية والخبراء الأجانب للحيلولة دون اتخاذ البلاد الإسلامية ميداناً لتجارب الاستنساخ البشري والترويج لها.
سادساً ... المتابعة المشتركة من قبل كل من مجمع الفقه الإسلامي والمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية لموضوع الاستنساخ ومستجداته العلمية، وضبط مصطلحاته، وعقد الندوات واللقاءات اللازمة لبيان الأحكام الشرعية المتعلقة به.
سابعاً ... الدعوة إلى تشكيل لجان متخصصة تضم الخبراء وعلماء الشريعة لوضع الضوابط الخلقية في مجال بحوث علوم الأحياء ( البيولوجيا) لاعتمادها في الدول الإسلامية.
ثامناً ... الدعوة إلى إنشاء ودعم المعاهد والمؤسسات العلمية التي تقوم بإجراء البحوث في مجال علوم الأحياء ( البيولوجيا) والهندسة الوراثية في غير مجال الاستنساخ البشري، وفق الضوابط الشرعية، حتى لا يظل العالم الإسلامي عالةً على غيره، وتبعاً في هذا المجال.(1/39)
تاسعاً ... تأصيل التعامل مع المستجدات العلمية بنظرة إسلامية، ودعوة أجهزة الإعلام لاعتماد النظرية الإيمانية في التعامل مع هذه القضايا، وتجنب توظيفها بما يناقض الإسلام، وتوعية الرأي العام للتثبت قبل اتخاذ أي موقف، استجابة لقول الله تعالى: " وإذا جَاءَهُم أمْرٌ منَ الأمْنِ أو الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ، ولوْ رَدُّوهُ إلى الرَّسُولِ وإلى أولي الأمرِ منهم لَعَلِمَهُ الذينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ منهم " ( النساء : 83 ) .
والله أعلم(1/40)
الاندماج التعريف و التأصيل
حسين حلاوة
مقدمة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره من يهدي الله فلا مضل له ومن يضل فلن تجد له ولياً مرشدا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الرحمة المهداة والنعمة المسداة والسراج المنير اللهم صلي وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واتبع سبيله إلى يوم الدين وبعد
فلم يعد الوجود الإسلامي في الغرب مجرد عابر سبيل ولم يعد المسلمون مجرد جالية بل أضحى الوجود الإسلامي حقيقة واقعية وجزءاً لا يتجزأ من المنظومة الاجتماعية والثقافية والحضارية على الساحة الأوروبية وأصبح المسلمون مكوناً ومعلماً من مكونات المجتمع الغربي ولذلك رفض المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث مصطلح الجاليات للتعبير عن المسلمين في الغرب لأنها تعني مما تعني الجلاء والانتهاء وهو ما يخالف الواقع والحقيقة واستعمل المجلس كلمة الأقليات المسلمة لأنها أنسب للواقع وإن كان هناك أقطار أوروبية شرقية كانت أو غربية تجاوز المسلمون فيها الأقلية بل هم في الحقيقة أكثرية كما في البوسنة والهرسك وألبانيا وكوسوفا وغير ذلك من البلدان وهذا الوجود الإسلامي لا شك له قضاياه التي تختلف عن قضايا المسلمين في بلاد الإسلام وأبرز هذه القضايا التي شغلت المسلمين وغيرهم من أبناء الغرب قضية الاندماج وهي قضية أخذت حيزاً كبيراً من اهتمام المعنيين بالجانب الاجتماعي والثقافي والحضاري ولذلك رأينا الحكومات الأوروبية ومراكز الأبحاث والدراسات والجامعات تسعى حثيثاً لإقامة المؤتمرات والندوات حول الاندماج وكل يود أن يوجهه إلى ما يعتقد أنه الصواب من وجهة نظره في معنى الاندماج ومتطلباته ولذا رأى المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث أن تكون دورته السابعة عشرة حول المسلمون بأوروبا: المواطنة والاندماج الإيجابي(1/1)
ويأتي هذا البحث ضمن محور الاندماج الايجابي تحت عنوان قواعد الاندماج الايجابي محاولة لوضع أسس وقواعد يقوم عليها الاندماج الفعال والذي لا يسعى لذوبان الآخر أو محو هويتهوإنما علاقة أساسها التعايش البناء وتعدد الثقافات والحضارات وقد قسمت البحث إلى:
المقدمة:
المبحث الأول: الاندماج التعريف والتأصيل.
المبحث الثاني: قواعد الاندماج الإيجابي.
...
? القاعدة الأولى: معرفة مفهوم الاندماج وتحرير المصطلح.
? القاعدة الثانية: الوقوف على حقوق وواجبات المواطنة.
? القاعدة الثالثة: الاعتزاز بالهوية.
? القاعدة الرابعة: التفاعل وعدم العزلة.
? القاعدة الخامسة: الوقوف على سنن الله.
o سنة الاختلاف .
o سنة التداول.
? القاعدة السادسة: الإيمان بثقافة الحوار.
? القاعدة السابعة: الوفاء بالعهود والمواثيق.
المبحث الثالث: محاضن تحقيق الاندماج.
المبحث الرابع: معوقات في طريق الاندماج الإيجابي.
ختام وتوصيات.
ملاحق
هذا ومنه العون وبالله التوفيق
حسين حلاوة
المبحث الأول
الاندماج التعريف والتأصيل
الاندماج في لغة:
جاء في مختار الصحاح(1)، دمج الشئ؛ أي دخل في غيره واستحكم فيه وأدمج الشئ لفه في ثوبه، وفي القاموص المحيط، دَمَجَ دموجاً؛ دخل في الشئ واستحكم فيه كاندمج وادمج. قال: والتدامج التعاون(2)، وكذلك في لسان العرب(3)، يقول اندمج وادمج بنشديد الدال إذا دخل الشئ في الشئ، واستتر فيه، وأدمجت الشئ إذا لففته في ثوب.
وجاء في القواميس الغربية تعريف كلمة Integrate : أن تجمع شيئين إلى حد أنهما يعملان معاً"، أو تجعل شخصاً مقبولاً كعضو في جماعة اجتماعية خاصة إذا كان هذا الشخص ينتمي إلى ثقافة مختلفة.(4)
__________
(1) مختار الصحاح باب الدال مع الميم
(2) القاموس المحيط ج1 باب الميم فصل الدال
(3) لسان العرب ج2 ص275.
(4) Oxford Dictionary p 675(1/2)
من الملاحظ أن التعريفات اللغوية تصب في قالب واحد ألا وهو جعل الشئ المراد دمجه في الآخر كأنه لم يكن حيث يفقد خواصه ومميزاته ولذلك جاءت التفسيرات اللغوية بمعنى دخل في غيره واستحكم فيه وهذا المعنى ما توحيه كلمة الاندماج، أما التدامج فهو تفاعل ولذلك جاء في القاموس المحيط يمعنى التعاون وهذا المعنى غير مستعمل في موضوعنا هذا على الساحة على الأقل في كثير من الأقطار وإن كنا نأمل أن يكون هو المراد لا المعنى الأول.
الاندماج في الاصطلاح:
مصطلح الاندماج يستخدم في كثير من العلوم كعلوم اللغة والتربية وعلم الاجتماع والاقتصاد وعلم النفس وما يهمنا في هذا البحث هو مدلول اللفظ عند علماء الاجتماع، وهم يعنون به دائماً:
اعادة تكوين كيان ما أو وحدة ما من خلال ربط عدد من البشر لتشكيل وحدة اجتماعية أو ثقافية.
وقد عرفه البروفسور فريدرتشن هيكمان –ضمن أعمال الندوة الأوروبية لدراسات الهجرة – بأنه عملية دمج مجموعات سكانية جديدة في هياكل اجتماعية قائمة. ويشمل: الاندماج الثقافي، والإجتماعي، والشعوري والوجداني، والإنتمائي، والاندماج الهيكلي.
التكيف الشرعي لاقامة المسلم في بلد غير اسلامي
قبل أن نتحدث عن قواعد الإندماج الايجابي، يجدر بنا أن ننظر في الشرع الحنيف لنرى موقفه من بعض المسائل المتعلقة بموضوع الاندماج:
المسألة الأولى: حكم اقامة المسلم في بلد غير إسلامي.
كثر الحديث حول شرعية اقامة المسلم في بلد غير إسلامي، بين مانع لها شرعاً ومؤثم لفاعلها، وبين مجيز لا يرى بأساً ولا حرجاً. وسنعرض كل رأي مع أدلته.
الرأي الأول:
ذهب المالكية، وابن حزم من الظاهرية في المحلى(1)، وبعض العلماء المعاصرين، إلى أنه لا يجوز اقامة المسلم في غير ديار الإسلام، سواء أمن الفتنة، أم لا. واستدل هؤلاء بأدلة منها:
__________
(1) اللبيان والتحصيل ج4 ص171، وملحق المدونة ج5 ص466، والمحلى ج7 ص349.(1/3)
أ- قوله تعالى: "ِإنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً{97} إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً{98} فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً{99} وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً{100}سورة النساء.
قالوا: فجعلت الآية من ظلم الإنسان لنفسه قبوله العيش في كنف الذل، مع قدرته على الإنتقال إلى أرض أخرى، يجد فيها حريته وأمنه وأسباب عيشه، ولم تستثن من الوعيد الذي ينتظر هؤلاء إلا العاجزين، الذين لا قدرة لهم ولا حيلة.
ب- حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أنا برئ من كل مسلم يقيم بين ظهراني المشركين"(1).
وفي الحديث دلالة على وجوب ترك ديار المشركين إلى ديار الإسلام.
ج- قالوا: أن المسلم الذي يقيم في بلاد الكفر، يعرض نفسه للفتن ورؤية المنكرات، حيث الإباحية التي تحميها القوانين. كما أن هناك كثيراً من الشعائر لا يستطيع المسلم أن يقوم بها في هذه البلاد.
الرأي الثاني:
__________
(1) رواه أبو داوود والترمذي عن جرير وصححه الألباني . أنظر صحيح ابي داوود.(1/4)
وإليه ذهب جمهور الفقهاء من: الحنفية، والشافعية، والحنابلة(1)، وكثير من العلماء المعاصرين(2)، وهم يرون جواز الإقامة في البلاد الغير إسلامية؛ إذا استطاع المسلم إقامة شعائر دينه وحافظ على هويته. واستدلوا بالإدلة التالية:
أ- قوله تعالى" {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ }الأنبياء105. قالوا والآية صريحة في أن الأرض لأهل الإيمان والتقى يقيمون عليها حيث شاءوا.
ب- حديث فديك - رضي الله عنه - وكان قد أسلم، وأراد أن يهاجر، فطلب منه قومه -وهم كفار- أن يبقى معهم، واشترطوا له أنهم لن يتعرضوا لدينه، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إنهم يزعمون أنه من لم يهاجر هلك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "يا فديك أقم الصلاة وأهجر السوء واسكن من أرض قومك حيث شئت".(3)
وفي الحديث دلالة على جواز اقامة المسلم في غير بلاد الإسلام إذا استطاع أن يقيم شعائر دينه.
ج- حديث أبي يحي مولى آل الزبير بن العوام عن الزبير بن العوام - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "البلاد بلاد الله، والعباد عباد الله، فحيثما أصبت خيراً فأقم"(4).
وفي هذا الحديث دلالة على أن المسلم حيثما وجد ما ينفعه أقام، دون النظر إلى كون البلاد اسلامية، أو غير إسلامية، فالبلاد كما عبر الحديث بلاد الله.
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص ج2 ص305، وزاد المحتاج شرح المنهاج ج4 ص329، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج28 ص240، المغني لابن قدامة ج10 ص505.
(2) منهم الدكتور يوسف القرضاوي والدكتور وهبة الزحيلي
(3) صحيح ابن حبان كتاب السير باب الهجرة رقم 4861.
(4) رواه أحمد في مسنده رقم 1420، قال الحافظ العراقي وسنده ضعيف.(1/5)
د- هجرة المسلمين الأولى والثانية إلى الحبشة، وبقاؤهم فيها حتى رجوعهم إلى المدينة، ولم يكن يحكم الحبشة أيُّ نظام إسلامي، وكذلك بقاء النجاشي ملك الحبشة بها بعد ما أسلم حتى مات، وصلى عليه الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة صلاة الغائب.(1)
الرأي المختار:
مرّ العالم الإسلامي بأزمات ونكبات ومحن أدت إلى هجرة كثير من المسلمين من بلادهم إما فراراً بدينهم وإما طلباً للعلم وإما بحثاً عن لقمة العيش وحيث أصبح من الصعب على المسلم في كثير من الأحيان أن يذهب إلى بلد اسلامي ويقيم فيها لوجود قوانين صارمة على التأشيرات والإقامة فلم يكن أمامه غلا أن يتجه إلى بلاد الغرب لعله يجد الأمن والأمان والحياة الكريمة واستقر هؤلاء في البلاد التي هاجروا إليها وارتبطت حياتهم بها بل تعاقبت أجيال في بعض البلدان فهناك الجيل الثالث والرابع ولا يستطيع هؤلاء العودة إلى موطنهم الأصلي لأسباب تختلف من انسان لآخر خاصة أولئك المضطهدون في بلادهم.
ولذلك يبقى رأي القائلين بجواز الإقامة أقرب إلى تحقيق المصلحة ودرء المفسدة، خاصة وأن جمهور الفقهاء، وكثير من العلماء المعاصرين، يرون ذلك ويؤيد هذا الرأي ويعضده:
أ- أن الآية التي أستدل بها القائلون بعدم الجواز ليست نصاً صريحاً في منع اقامة المسلم في بلاد غير إسلامية على الإطلاق، ولكن غاية ما في الأمر كما ذكر الإمام ابن كثير في تفسيره "أن الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين، وهو قادر على الهجرة، وليس متمكناً من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه مرتكب حراماً بالإجماع"(2).
__________
(1) انظر الرحيق المختوم ص94، ورحمة للعالمين ج1 ص61..
(2) تفسير ابن كثير ص514.(1/6)
ب- حديث الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - " أنا برئ من كل مسلم يقيم بين ظهراني المشركين" قال عنه الحافظ ابن حجر: "وهذا محمول على من لا يأمن على دينه"(1). ولذلك أذن النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن أسلم أن يقيم في مكة، أو بين قومه إن استطاع اقامة شعائر دينه، كما في حديث فديك، وكما أذن للعباس - رضي الله عنه - كما أن هذا الحديث له معنى آخر ذكر العلامة يوسف القرضاوي وهو أنه - صلى الله عليه وسلم - برئ من ديته إذا قتله المسلمون خطأ لأنه أقام بين المشركين المحاربين للإسلام فحكمه حكمهم فإذا قتل خطئاً فلا يتحمل الرسول ولا المسلمون ديته(2).
ج- ذكر المرحوم الشيخ أبو زهرة في رسالة له عن نظرية الحرب في الإسلام، رأيين للفقهاء في دار الحرب ودار الإسلام، ثم أختار رأي الإمام أبي حنيفة، وهو أن مدار الحكم هو أمن المسلم، فإن كان آمناً بوصف كونه مسلماً فالدار دار إسلام، وإلا فهي دار حرب، وقال: إنه الأقرب إلى معنى الإسلام ويوافق الأصل في فكرة الحروب الإسلامية وأنها لدفع الاعتداء.
ويؤيد هذا ما قاله ابن حجر - رضي الله عنه - نقلاً عن الماوردي: إذا قدر المسلم على اظهار دينه في بلد الكفر فقد صارت البلد به دار إسلام، فالإقامة فيها أفضل من الرحلة منها؛ لما يرتجى من دخول غيره في الإسلام.(3)وإلى هذا ذهب ابن العربي المالكي حين قال: "الهجرة هي الخروج من دار الحرب إلى دار الإسلام، وكانت فرضاً في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ، واستمرت بعده لمن خاف على نفسه.(4)
د- فتوى المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث حول إقامة المسلم في بلد غير إسلامي وهذا نصها:
__________
(1) فتح الباري شرح صحيح البخاري حديث رقم 2825.
(2) فقه الأقليات ص38.
(3) نيل الأوطار ج8 ص29.
(4) نيل الأوطار ج8 ص29.(1/7)
لقد كثر الحديث وطال عن موضوع إقامة المسلم خارج ديار الإسلام، وسمعنا مذاهب تتسم بالتشدد المطلق، بحيث توجب على كل من يعيش في هذه البلاد من المسلمين أن يرحل فوراً، اعتماداً على حديث يروى في ذلك يتضمن البراءة ممن يقيم بين أظهر المشركين سنأتي على بيان درجته ومعناه، وهذه المذاهب أوردت حرجاً على كثير من المسلمين.
والذي نراه في هذه المسألة التفصيل، فنقول: لا شك أنه لا يحل للمسلم أن يعيش بين غير المسلمين بغير هويته الإسلامية، إلا لإنسان تقطعت به الحيل ولم يجد سبيلاً للخلاص، والسبب في ذلك يعود إلى التمكين أو عدم التمكين للمسلم من وقاية نفسه ودينه ومن هو مسؤول عنهم كأهل بيته وأولاده، فإذا كان في بيئة يخاف منها على دينه أو نفسه وعياله فالواجب عليه أن يهاجر منها إلى بيئة يجد فيها تمكيناً له من حفظ ذلك، ولم يحل له المكث في البيئة التي يخشى فيها على الدين الفساد أو على النفس الهلاك.
قال اللَّه تعالى: { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض، قالوا ألم تكن أرض اللَّه واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً * إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً * فأولئك عسى اللَّه أن يعفو عنهم، وكان اللَّه عفواً غفوراً * ومن يهاجر في سبيل اللَّه يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة } [النساء: 97-100].
فجعلت الآية من ظلم الإنسان لنفسه قبوله العيش في كنف الذل مع قدرته على الانتقال إلى أرض أخرى يجد فيها حريته وأمنه وأسباب عيشه، ولم تستثن من الوعيد الذي ينتظر هؤلاء إلا العاجزين الذين لا قدرة لهم ولا حيلة عندهم.
فالهجرة تكون مشروعة صحيحة إذا كانت إلى بيئة يقع له فيها تمكين أكثر للقيام بشعائر الدين، بل هذه الهجرة مطلوبة مرغوبة، كما تكون مشروعة من بيئة إلى أخرى لا تضر الإقامة فيها على الدين.(1/8)
ومن ذلك الهجرة إلى الحبشة التي وقعت بإذن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم للمستضعفين من أصحابه بمكة، هاجروا من بيئة كفر وظلم إلى بيئة غير إسلامية لكنها كانت عادلة، آوتهم وحمتهم وأقاموا فيها بين قوم نصارى لم يكونوا مسلمين، فأحسنوا البقاء بين أظهرهم، وحافظوا على دينهم وأنفسهم ومن كان معهم من أهليهم، ومكثوا بينهم إلى أن مكّن اللَّه تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وأظهره على الكفار، فحين رأوا استقرار أمر دولة الإسلام رجعوا باختيارهم لا بأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
فالعبرة إذاً بالقيام بالدين والمحافظة عليه ووقاية النفس من الظلم والأذى، فإذا كانت تلك الإقامة في بلد ما مساعدة على ذلك فإنه لا يمتنع أن تكون في بلاد غير إسلامية أسوة بمهاجرة الحبشة، وإن كانت تضر بالدين وجبت الهجرة منها إلى بلاد يقدر الإنسان فيها على حفظ دينه ونفسه وأهله.
وأما الحديث الذي يتعلق به المشددون، وهو حديث جرير بن عبداللَّه البجلي قال: بعث رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سرية إلى خثعم فاعتصم ناس منهم بالسجود، فأسرع فيهم القتل، قال: فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمر لهم بنصف العقل، وقال: «أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين» قالوا: يا رسول اللَّه لِمَ؟ قال: «لا تراءى ناراهما». فهذا حديث لا يصح(1)،
__________
(1) أخرجه أبو داود (رقم: 2645) والترمذي (رقم: 1604) من رواية قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبداللَّه.
وحكم البخاري فيما نقله عنه الترمذي ووافقه، بأن الأصح فيه أنه حديث مرسل، والمرسل من أنواع الحديث الضعيف، وكذلك أعله أبو حاتم الرازي (كما في كتاب «علل الحديث» رقم: 942).(1/9)
ولو ثبت فإن سبب وروده مفسر لمعناه، وهو أن أناساً أسلموا ومكثوا مع قومهم الكفار ولم يهاجروا إلى بلد الإسلام، حتى إذا وقعت مواجهة بين المسلمين وأولئك الكفار لم يتميز أمر أولئك المسلمين من بين سائر قومهم الكفار، فيقتلهم المسلمون في المعركة لعدم معرفتهم بهم حيث لم تميزهم علامة، فالبراءة منهم من جهة أن المسلمين لو قتلوهم فلا تبعة عليهم بذلك، وهذا المعنى لا وجود له اليوم، فتنزيل هذا الحديث على الواقع ممتنع، واقتطاع طائفة من الناس طرفاً من الحديث دون سائره وسببه من أكبر الآفات المفسدة للفهم الصحيح، نسأل اللَّه أن يلهمنا وإخواننا الهدى والصواب.
تنبيه:
هذا الاختيار للقول الثاني من أقوال أهل العلم، إذا كان المسلم قادراً على أداء شعائر دينه، محافظاً على هويته، مربياً لأبنائه وبناته، التربية الإسلامية، له رسالة هادفة يقوم عليها، أما إذا خاف على نفسه، أو أولاده، الفتن ولم يأمن الضياع والذوبان، فإن عليه أن يعد عدة الرحيل، إما إلى بلد إسلامي، أو بلد أقل فتنة، فالبلاد الغير إسلامية لا شك تتفاوت فيما بينها فيما يتعرض له المسلم من فتن وذوبان. يقول فضيلة الشيخ عبدالله بن بيّة: "أما إذا كان المسلم معرضاً للفتنة في دينه، ومدعو للإنسلاخ منه بالكلية، فيجب عليه الفرار بدينه، من تلك الديار إلى دار الأمن والأمان، إذا وجد دار إسلام فذلك المطلوب، وإلا فدار غير إسلامية لا يفتن فيها عن دينه" ويقول: ويتأكد طلب الخروج من ديارهم إذا كان لا يستطيع تربية أبنائه تربية إسلامية، أو كان بيته مهدداً بالتحلل الأخلاقي، ووجد سبيلاً إلى الإقامة في بلد إسلامي، فيه بقية من الأخلاق، فالعبرة في الموازنة بين البلدان من حيث الصلاح والفساد.(1)
المسألة الثانية: حكم الحصول على جنسية بلد غير مسلم.
__________
(1) صناعة الفتوى للشيخ العلامة عبدالله بن بيّة.(1/10)
الجنسية مصطلح حديث لم يكن معروفاً من قبل، حتى في بلاد الإسلام حيث كانت الحضارة والتقدم والعلم وإنما نشأ حديثاً ولذلك لما سئل الإمام محمد عبده عن الجنسية قال رحمه الله: " أما الجنسية فليست معروفة عند المسلمين ولا لها أحكام تجري عليها لا في خاصتهم ولا عامتهم وإنما الجنسية عند الأمم الأوروبية تشبه ما كان يسمى عند العرب بالعصبية وهو ارتباط اهل قبيلة واحدة أو عدة قبائل بنسب أو حلف يكون من حق ذلك الارتباط أن ينصر كل منتسب إليه من يشاركه فيه وقد كان لأهل العصبية ذات القوة والشوكة حقوق يمتازون بها على سواهم"(1)وفي العصر الحديث صار لكل بلد جنسيته وجواز سفر خاص به ولم يختلف أحد من أهل العلم على أن المسلم له أن يحمل جنسية وجواز سفر أي بلد مسلم وإنما الخلاف حول جنسية وجواز سفر البلاد الغير إسلامية عندما يحصل عليها المسلم وقد دارت الأراء بين من يرى أنها حرام لا تجوز وبين من يرى الجواز وسأبين الرأيين ودليل كل منهما:
الرأي الأول:
لا يجوز للمسلم أن يتجنس بجنسية دولة غير اسلامية ويحرم عليه ذلك بل قد يصل إلى الكفر والارتداد عن الإسلام – إذا كان حباً في التشبه بأهل الكفاروإيثاراً للحكم الأجنبي على الحكم الإسلامي"(2)وبهذا المعنى أفتى الشيخ على الطنطاوي رحمه الله إذ يقول: "لا يجوز لمسلم أن يتجنس بجنسية دولة كافرة لأن ذلك يوجب عليه الالتزام بقوانينها وأوامرها إلا إذا اضطر إلى ذلك اضطراراً ولم يقل أو يعمل ما يخالف الشرع(3). وقد استدل المانعون بأدلة القائلين بعدم جواز اقامة المسلم في بلد غير اسلامي وقد سبق ذكرها كما أكدوا أدلتهم بما يلي:
__________
(1) فتاوى دار الإفتاء المصرية عام 1922هـ
(2) الأحكام السياسية للأقليات المسلمة في الفقه الإسلامي نقلاً عن مجلة الفقه الإسلامي ج2 ص1156.
(3) فتاوى الشيخ على طنطاوي ص163.(1/11)
1. قوله تعالى: "ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين"المائدة51، وقوله تعالى: "ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون"التوبة 23، ووجه الدلالة أن الذي يحصل على جنسية دولة غير مسلمة أنما يدخل تحت سلطانها وتبعيتها ويترك تبعية الدولة الإسلامية وبذلك يكثر سوادهم ويقوي شوكتهم وهو من أهم صفات الولاء والبراء.
2. الذي يقبل بالتجنس بجنسية غير اسلامية هذا يعني ضمناً أنه رضي بالتحاكم إلى قوانين غير اسلامية في كل المجالات حياته؛الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتحاكم لغير ما أنزل الله تعالى كفر وقد قال تعالى: "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما"النساء65.
الرأي الثاني:
وأصحاب هذا الرأي يرون أنه لابأس من حصول المسلم على جنسية وجواز سفر دولة غير اسلامية إذ لا يقبل أن نجيز له الاقامة في بلد وهذه الاقامة يترتب عليها حقوق وواجبات قد لا يسهل له الحصول عليها إذا إذا كان يحمل جنسية البلد الذي يقيم فيه يقول الدكتور وهبة الزحيلي: "ما دمنا قد قلنا بجواز الاقامة في دار الكفر فإنه يتفرع عنه جواز التجنس لأنه ما هو إلا لتنظيم العلاقة فهي تسهل لهم الأمور وتسهل أيضاً الاستفادة من خدماتهم"(1)وقد استدل هؤلاء بأدلة جواز اقامة المسلم في بلد غير اسلامي اضافة إلى ما يلي:
1. إن الجنسية لا تدخل تحت الموالاة والولاء لأنها لا ترتبط بالدين فولاء المسلم لأمته ودينه لا علاقة له بالمكان الذي يعيش فيه وأما الجنسية فعلاقتها بالوطن الذي يعيش عليه وقد يجمع هذا الوطن ديانات ومذاهب ونحل شتى يجمعهم عقد المواطنة وهو عقد مدني لا ديني بل أن الدول الغير اسلامية والغربية منها على وجه الخصوص تعلن أنها دولة علمانية لا علاقة لها بالدين .
__________
(1) فقه الأقليات المسلمة ص608.(1/12)
2. الجنسية هي وثيقة تكفل له الاقامة الدائمة في البلد الذي منحه اياها وتكفل له حرية الحركة والتنقل كما تكفل له من الحقوق والواجبات التي قد تعينه على الحفاظ على دينه ونفسه وماله وعرضه ونسله وعقله وله حرية الاقامة في بلد الجنسية أو الانتقال إلى أخرى حسب رغبته فإذا وجد المسلم ضيقاً على دينه في البلد التي حصل منها على الجنسية وأراد أن يرحل إلى أخرى فلا أشكالية عليه في ذلك.
الرأي المختار:
مما لا شك فيه أن الأقليات المسلمة اليوم التي تعيش تحت أنظمة غير اسلامية قد تجاوز تعدادهم ثلث المسلمين في العالم تقريباً وقد تطور وجودهم عبر مراحل عاشوها حتى أصبحوا اليوم في عصر جديد للأقليات المسلمة وأهم هذه المراحل:
? مرحلة الشعور بالهوية.
? مرحلة الاستيقاظ.
? مرحلة التحرك.
? مرحلة التجمع.
? مرحلة البناء.
? مرحلة التوطين.
? مرحلة التفاعل.
ونحن الآن في مرحلة التفاعل الايجابي مع المجتمع فلا مجال في هذه المرحلة للعزلة والإنكفاء على الذات والحذر من مواجهة الآخرين فقد غدت الأقليات المسلمة واقفة على أرض صلبة واثقة من نفسها معتزة بذاتها قادرة على التعبير عن هويتها والدفاع عن كينونتها وأبراز خصائصها وتقديم ماعندها من رسالة حضارية للبشرية(1).
__________
(1) فقه الأقليات المسلمة ص23.(1/13)
في هذه المرحلة من مراحل وجود المسلمين في الغرب والتفاعل الحضاري معهم تبرز أهمية حصول المسلم على جنسية البلد الذي يعيش فيه فهي تعطيه قوة مادية وتجعل له حق المواطنة كالمواطنين الأصليين فلا يستطيع أحد طرده كما يشاء وله حق الانتخاب والترشيح وحقوق أخرى كثيرة ومهمة وتستطيع الجماعة المسلمة إذا اتحدوا وتعاونوا أن يكونوا جماعة من جماعات الضغط السياسي"اللوبي" وحينئذ تخطب الأحزاب السياسية ودهم وتحاول كسبهم إلى جانبها ويستطيع المسلمون أن يقوموا بدورهم في الترجيح بين الأحزاب وبين المرشحين ويختاروا منهم من يرونه أقرب إلى قيمهم أو أوعى لمصالحهم وحقوقهم أو قضايا أمنهم الكبرى(1)، وفي هذه الحالات لا تكون الجنسية مجرد أمر جائز أو غير جائز أو غير جائز بل قد تكون واجبة لأنها مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب ويبقى هنا على المسلم عبء ثقيل هو الاهتمام بنفسه وبيته وتنشئة ابنائه على الإسلام والقيام بأمر الدعوة إلى الله تعالى ليحقق معنى الشهادة التي تحدث عنها القرآن الكريم " {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً }البقرة143
- - - - -
المبحث الثاني
قواعد الاندماج الإيجابي
القاعدة الأولى: معرفة مفهوك الاندماج وتحرير المصطلح.
في الحديث حول التعريف رأينا أن المصطلح يدور في قواميس اللغة ما يمكن أن يطلق عليه الذوبان وهذا لا شك ما لا يقبله المسلم أو صاحب عقيدة ولذلك لابد من تحرير معنى ما يراد من الاندماج هل هو الذوبان أو التفاعل الإيجابي والتعايش البناء وقديماً قالوا معرفة الشئ فرع عن تصوره. ومما يؤسف له أنه حتى اليوم ليس هناك تعريف واضح مانع للمصطلح وهو أشبه بمصطلح الإرهاب الذي لم يجتمع العالم اليوم على تعريف له.
__________
(1) المرجع السابق ص25.(1/14)
إن عدم معرفة ما يراد من الاندماج يجعل المسلم في حيرة من أمره وخوف على نفسه وأهله ومستقبله ولا يقبل صاحب دبن متمسك به أن يتنازل عن دينه مقابل العيش في بلد ما لقد رأينا هجرات كثيرة بسبب الاضطهاد الديني وخاصة من المسلمين وإنما المقبول هو التدامج أي التعايش وهو ما يدعو إليه علماء المسلمين وقادة الفكر وكذلك هناك من غير المسلمين من يدعو إلى ذلك.
ففي حوار مع القسم العربي بموقع دوينشه أكد جراومان عضو رآسة المجلس الأعلى لليهود في المانيا على هذا المعنى إذ يقول إن الاندماج من وجهة نظري هو سعي المهاجر إلى التأقلم مع المجتمع الذي يحيا فيه وذلك دون أن يفقد هويته الخاصة ويقول نحن كيهود نرغب في أن نعيش في دولة تحترم هويتنا اليهودية وفي الوقت ذاته يجب على هذه الدولة أن لا تقصينا عن مجريات الحياة في المجتمع وهذا الكلام نفسه هو الذي يجب أن يكون محور المؤتمرات واللقاءات التي تدعو إلى الاندماج.
القاعدة الثانية: الوقوف على حقوق وواجبات المواطنة.
من القواعد المهمة لتحقيق الاندماج الإيجابي ان يعرف الفرد ما عليه من واجبات تجاه وطنه الذي يعيش على أرضه وتجاه الآخرين الذين يعيشون معه وكذلك ما له من حقوق، وهذه الحقوق والواجبات ليست منحه من أحد لأحد وإنما هي توجيهات ربانية وأوامر ألهية جاء بها الانبياء صلوات الله عليهم كما أنها وفق مواثيق وعهود دولية أقرتها منظمة الأمم المتحدة وهيئات حقوق الإنسان الدولية.(1/15)
وهذا ما أكد عليه الإسلام في شريعة السماء ففي مجال التعايش بين البشر يقول سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }الحجرات13" والتعارف تفاعل لا يكون من طرف واحد وإنما من الأطراف كلها كل يؤدي ما عليه تجاه الآخرين من واجبات ليحصل على ما له من حقوق .
وفي هدي القرأن الكريم والسنة النبوية الكثير من التوجيهات للأمة تخاطبهم بأن يؤدوا ما عليهم تجاه الآخرين.(1/16)
ففي مجال العلاقات الأسرية يقول تعالى: " {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً }النساء36 ويقول سبحانه: { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً }النساء19ويقول سبحانه: { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ... }البقرة229، وفي مجالات العلاقات الإجتماعية والدولية يقول الله تعالى: {وقولوا للناس حسناً}البقرة 83، ويقول سبحانه: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }الممتحنة8، ويقول جل ذكره: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ }التوبة6، ويقول سبحانه: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ }النحل91، ويقول جل ذكره {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً }الإسراء34،35. {(1/17)
إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً }النساء58. ويقول جل جلاله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ }الحجرات12.
ومن هدي النبوة يروي لنا الإمام مسلم في صحيحه عن أبي شرع الخزاعي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت"، وغير ذلك كثير صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مجال الحقوق والواجبات.(1/18)
وهذه التوجيهات الربانية والأوامر الإلهية والسنن النبوية هي واجبات على المسلم يجب القيام بها وهي في نفس الوقت حقوق للآخرين بل إن المسلم مطالب بأن يؤدي ما عليه من واجبات سواء أدى الآخرون ما عليهم تجاهه أم لاوالرسول الكريم يقول ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها"(1)كما سأل سلمة بن يزيد الجعفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال يا نبي الله أرأيت أن قامت علينا أمراء يسالوننا حقهم ويمنعوننا حقنا فما تأمرنا فأعرض عنه ثم سأله فقال رسول الله :"اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم"(2).وفي حديث عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :"إنها ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها قالوا يارسول الله كيف تأمر من أدرك منا ذلك قال: "تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون الله الذي لكم"(3)
وفي العصر الحديث قننت حقوق الإنسان وصدرت بها مواثيق دولية نوردها في آخر البحث لأهمية الوقوف عليها وحتى يتعرف المسلم على حقوقه ويعرف واجباته وهي:
? الميثاق العالمي لحقوق الإنسان في الإسلام.
? ميثاق حقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة.
? ميثاق حقوق الإنسان الصادر عن الاتحاد الأوروبي.
? ميثاق حقوق الإنسان الصادر عن الولايات المتحدة الأمريكية.
القاعدة الثالثة: الاعتزاز بالهوية.
__________
(1) رواه البخاري وأحمد والترمذي وأبو داود.
(2) رواه مسلم.
(3) متفق عليه.(1/19)
من الغريب الملفت للنظر أن الصيحات التي تطالب بالاندماج إنما تتوجه للمسلمين فقط دون غيرهم وكأنهم هم فقط المنعزلون عن المجتمعات التي يعيشون فيها رغم أن هناك أقليات أُخر تعيش في الغرب محافظة على عاداتها وتقاليدها ولغاتها ودينها ولم يطلب منهم أحد الاندماج فاليهود مثلاً يعيشون في مجتمعات شبه منعزلة ويسكنون في مناطق أشبه ما تكون بمجتمعات خاصة بهم وهذا دأبهم منذ أمد ففي كل بلد عاشوا فيها كوَّنوا ما يسمى بحارة اليهود ومثلهم الهندوس والسيخ وغيرهم وهذا ما يثير شكوكاً حول طبيعة هذه الدعوات وغايتهم.
وهذا ما حدا إلى ظهور ثلاث اتجاهات بشأن الاندماج.
الاتجاه الأول:
يرى الاندماج الكامل في المجتمع الذي تعيش فيه بكل خصائصه وعيوبه ومن لم يناسبه ذلك فعليه بالرحيل إلى بلد يناسب عاداته وتعاليمه إذ لا يعقل أن يعيش في بلد منعزل أو مميز عن سائر ابنائه بل علينا ان نترك لغتنا وثقافتنا وعاداتنا وتقاليدنا وكثيراً من الاحيان ديننا ونذوب في المجتمع فلا مجال لثقافات ولا لهويات وهذا ما تسعى إليه العولمة اليوم إذ تعمل على "فصل القيم، والغايات الدينية، والأخلاقية، والإنسانية، عن الدولة، وعن مرجعيتها النهائية، وعن حياة الإنسان العامة والخاصة، وتطبيق القانون الطبيعي المادي على كل مناحي الحياة، وتصفية أي ثنائية بحيث تتم تسوية كل الظواهر الإنسانية بالظاهر الطبيعية، فتنزع القداسة تماماً عن العالم، ويتحول إلى مادة استعمالية يمكن إدراكها بالحواس الخمس، كما يمكن لمن عنده القوة الكافية لهزيمة الآخرين أن يوظفها لصالحه، ونتيجة لهذا يظهر العلم والتكنولوجيا المنفصلان عن القيمة والغاية، ويتحول الإنسان من غاية إلى وسيلة.(1)
__________
(1) صحيفة الأهرام المصرية 16/4/2002م. مقال للدكتور عبد الوهاب المسيري.(1/20)
ولا أدل على أن العلمانية تسعى إلى ذلك تلك القوانين التي تصدر عن الأمم المتحدة لمحو الآخرين مثل قانون التجارة الدولية وقانون الجندرة وغير ذلك من القوانين، كذلك وقوف كثير من الحكومات الغربية، والمثقفين، جنباً إلى جنب، للدفاع عن موقف حكومة الدنمارك، التي اتخذت موقفاً سلبياً تجاه الصحيفة التي عرضت صوراً مسيئة للرسول الكريم محمد - صلى الله عليه وسلم - ، مما أثار حفيظة المسلمين في العالم كله، واعتبروا ذلك اساءة إلى الإسلام، لكن تحت مسمى حرية الرأي، وحرية التعبير. دافع هؤلاء عن الصحيفة ولم يرو في الصور أيَّ اساءة أو تطاول على الدين المقدس، وفي هذا السياق نفسه نرى فرنسا التي تتباهى بالعلمانية، وتعتبر نفسها حامية حماها نرى الدولة تتدخل باسم العلمانية لمنع الفتيات المسلمات من ارتداء الحجاب ، وتسن لذلك قانوناً رغم أن الحجاب فريضة دينية، لا علاقة له بالدولة أو السياسة.
الاتجاه الثاني:
يرى أن هذه المجتمعات الغير إسلامية ليست بوطن للمسلمين وإنما يعيش فيها مضطراً لقضاء حاجته التي جاء من أجلها كما أن المشاركة في أي عمل أو نشاط تحت سقف حكومة غير اسلامية ونظام غير اسلامي لا يجوز وبالتالي فالحل هو العزلة الشعورية والبدنية إلا ما اضطر الإنسان إليه وذلك حفاظاً على الدين والهوية وخوفاً من ضياع الذرية وفقدانهم دينهم ولذلك فإن هؤلاء قد لا يذهبون بأولادهم إلى التعليم –خاصة الفتيات- مكتفين بما يعلمونهم في المنازل والمراكز الإسلامية والمساجد كما ترى كثيراً منهم لا يعملون وإنما يعيشون على الضمان الاجتماعي.
الاتجاه الثالث:(1/21)
وهو اتجاه وسط بين الاتجاهين الأول والثاني فهو يرى أن الارض أرض الله وحيثما حل المسلم في أرض نفع وأن الإسلام منذ فجره حدد الله سبحانه وتعالى ماهية رسالة الإسلام فقال سبحانه: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"الانبياء 107 وقال جل شأنه: "وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً" سبأ 28، وعرف الصحابة الكرام ومن بعدهم هذف هذه الرسالة العظيمة فانطلقوا في الارض ليحققوا مراد الله تعالى من الخلق"هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها"هود 61، واختلطوا بشعوبها محققين سنة اللله من وجودهم "ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا" الحجرات 13، فكانوا رسل خير ورحمة للعالمين عاشوا بين الناس متمسكين بدينهم وتعاليم ربهم داعين إلى الله تعالى على بصيرة فصاهروهم وتعايشوا معهم بالبر والقسط عملاً بقوله تعالى: ": {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }الممتحنة8.
ومن خلال هذه المعاني يرون أن المسلم مطالب بأن يتعايش مع المجتمعالذي يعيش على أرضه ويختلط بأهله متمسكاً بدينه عاضاً على هويته مشاركاً نافعاً في المجتمع دون المساس بثوابت دينه وعقيدته ومما يساعد في المحافظة على الهوية:
أ- معرفة الإسلام وخصائصه.(1/22)
كثير من الامسلمين للأسف لا يعرفون عن الإسلام إلا أركان الإسلام وأركان الإيمان يحفظونها حفظهم لفاتحة الكتاب ويقفون عند حدود هذه المعرفة مع أن الإسلام دين ومنهج حياة امتدت حضارته حتى كانت لا تغيب عنها الشمس حتى أن الخليفة العباسي هارون الرشيد كان إذا رأى سحابة قال لها: أمطري هنا أو هناك فحيثما أمطرتي جاءني خراجك" وكان يسوس الناس بالعدل والرحمة والمساواة لا يفرق بين الناس على أساس الدين أو الجنس أو العرق أو اللون الناس أمام القانون سواسية حتى أن ابن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - لما ضرب القبطي زمن ولاية أبيه على مصر وسافر القبطي إلى المدينة المنورة دار الخلافة يومئذ وشكى ابن عمرو بن العاص إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الخليفة الراشد - رضي الله عنه - استدعى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ابن عمرو بن العاص وأباه وأمر القبطي بضرب ابن عمرو بن العاص ثم أمره أن يضرب عمرو بن العاص قائلاً ما ضربك إلا بسلطان أبيه وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يومئذ قولته المشهورة "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً" وهي الجملة التي استفتح بها مواثيق حقوق الإنسان بعد ذلك بقرون عدة.
ولذلك يجب على المسلم أن يقرأ جيداً عن دينه وتاريخه وأن يقف على خصائصه التي تميز بها وكانت سبباً في انتشاره في ربوع الأرض ومن أهم هذه الخصائص:(1/23)
الربانية، الشمولية، الواقعية، الإنسانية، الجمع بين الثبات والمرونة، الوضوح، الوسطية، الإيجابية، وهذه الخصائص هي التي أهلته على مدى القرون الماضية كلها منذ مبعث الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحتى اليوم أن يواكب الزمان والمكان والإنسان(1).
وللشهيد الإمام حسن البنا رحمه الله مقولة عظيمة في ذلك إذ يقول عن خصائص رسالة الإسلام: "إنها الرسالة التي امتدت طولاً حتى شملت آباد الزمان وامتدت عرضاً حتى انتظمت آفاق الأمم وامتدت عمقاً حتى استوعبت شئون الدنيا والآخرة.(2)
ب- الإلتزام بالإسلام.
مما يعين على الاعتزاز بالهوية التخلق باخلاق القرآن التي ترجمها النبي - صلى الله عليه وسلم - عملياً في حياته إذ تقول السيدة عائشة - رضي الله عنه - : "كان خلقه القرآن"(3)وأبرز هذه الأخلاق ا؛ الرحمة، والكرم، والوفاء، والصدق، والعدل، والصبر، والحلم، والعفو، وطيب العشرة، والبشر في وجوه الناس، فإن هذه الأخلاق لما التزمها أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وساروا بها في الأرض عرف الناس قدرهم وفتح الله تعالى بهم قلوباً غلفاً وآذاناً صماً وأعيناً عمياً ودخل الناس في دين الله أفواجاً وجماعات بلا إكراه ولا قتال كما يجب على المسلم أن يحافظ على شعائر دينه ويتمسك بها ويعظمها "ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب"الحج 32، ويكون ذلك في نفسه وأهله وأولاده وبيته ففي ذلك دعوة إلى الله تعالى وإن لم يتكلم وقديماً قال الإمام الحسن البصري: "حال رجل في ألف رجل خير من مقال ألف رجل لرجل".
__________
(1) لمزيد من الوقوف على خصائص الإسلام راجع "خصائص التصور الإسلامي" للشهيد سيد قطب، والخصائص العامة للإسلام وعوامل السعة والمرونة في الشريعة الإسلامية وشرائع الإسلام صالحة لكل زمان ومكان للدكتور يوسف القرضاوي، وأصول الدعوة للدكتور عبدالكريم زيدان.
(2) الخصائص العامة للإسلام ص105.
(3) رواه(1/24)
في هذا الإطار نرى أنه حتى يتحقق الإندماج الإيجابي، لابد من توجيه المسلمين للحفاظ على الهوية، والاعتزاز بالدين، لأن في ذلك عصمة لهم من الذوبان والضياع، لقد قرأنا وسمعنا ولمسنا بأعيننا كيف يذوب المسلم ويندثر أصله، حين لا يحافظ على هويته، كم من المسلمين قدموا إلى الغرب قبل عشرات السنين في استراليا، ونيوزلاندا، وانجلترا، وفرنسا، وألمانيا، وفي كثير من البلاد ,اصبحوا أثراً بعد عين. هناك أثار لمساجد قديمة في كثير من البلدان الأوروبية، بناها الأقدمون، ولما لم يحافظ الأبناء والأجيال الذين جاءوا من بعد على الهوية، وذابوا في المجتمعات ضاعت هذه المساجد وأصبحت تحفاً وآثاراً.
القاعدة الرابعة: التفاعل وعدم العزلة.(1/25)
ولقد عرض القرآن الكريم مثالاً عظيماً للتعايش والتعاون الإيجابي كيف يكون المسلم حينما يحل في مجتمع غير مجتمعه وبيئة غير بيئته فذكر لنا كيف عاش نبي الله يوسف - عليه السلام - في مصر وكيف تعامل مع أهلها فعلى الرغم من أن امرأة العزيز أساءت إليه ودخل السجن إلا أنه لم يدخر وسعاً في مساعدة القوم حينما احتاجوا إليه وطلبوا منه مساعدتهم في تعبير الرؤيا بعد أن عجز عن ذلك جلساء الملك وأهل الاختصاص فأول لهم رؤيا الملك التي رآها يقول الله - عز وجل - وجل: {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ } يوسف43-46.(1/26)
ولما حاروا في تطبيق ما أول يوسف من رؤيا الملك ورأى حاجتهم إليه ليلي بنفسه أمر خزائن مصر لم يرفض طلب الملك وخرج بعد أن برأته امرأة العزيز مما اتهمته به: {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ }يوسف51 وخرج يوسف - عليه السلام - بناء على طلب الملك ، {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ }يوسف54-55.ولما سنحت الفرصة ليوسف - عليه السلام - دعا والديه واخوته ليقيموا معه في مصر وقال لهم:" ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين" يوسف 99.
ولعل سورة نبي الله يوسف - عليه السلام - وهي سورة مكية قد أبانت الطريق لما يجب أن يكون عليه المسلم في الحياة مع دينه ومع نفسه ومع أهله ومع الآخرين المؤمنين منهم والمخالفين له فلقد ضرب نبي الله يوسف - عليه السلام - مثالاً فريداً وقدوة أصيلة .(1/27)
وكانت توجيهات الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - لهم زاداً في الحبشة كانوا نوراً لأهلها وفي كل مكان حلوا به كانوا مثالاً في العطاء والخير فالصحابة رضوان الله عليهم الذين خرجوا إلى بلاد الله خاصة بعد موت الرسول - صلى الله عليه وسلم - واستقراراهم في كثير من بلاد الله تناقلت كتب السير كيف كانوا يعيشون مع أهلها ويتفاعلون معهم مما أعطى صورة الإسلام العظيمة ولم ينعزلوا في شعب الجبال أو الكهوف وهكذا يجب أن يكون المسلم في المجتمع الذي يعيش فيه فعالاً متعاوناً على الخير هناك لا شك أمور وأمور كثيرة تؤلف وتجمع والمسلم يستغل كل فرصة ليختلط بالناس ويتفاعل معهم ليقفوا على خلق الإسلام ومعاملاته وبذلك يتعرفوا على الإسلام ويكون ذلك حافزاً لإيمانهم.
وقد أصدر المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث توصيات للمسلمين في أوروبا بأن يكونوا رسل خير وأن يقدموا صورة الإسلام النقية في ممارساتهم وسلوكهم وقد جاء فيها:
يوصي المجلس المسلمين المقيمين في أوروبا بما اعتاد أن يوصي به ويؤكد عليه:
1 - أن يراعوا الحقوق كلها، وأن يعطوا الصورة الطيبة والقدوة الحسنة من خلال أقوالهم وتصرفاتهم وسلوكهم.
2 - أن يقوموا بدورهم بالإبداع والابتكار، وتشجيع ذلك على كافة المستويات.
3 - أن يبذلوا أقصى الوسع في تنشئة أبنائهم وبناتهم تنشئة إسلامية معاصرة، وذلك بتأسيس المدارس والمراكز التربوية والترفيهية لحمايتهم من الانحراف.
4 - أن يسعوا جادين لإنشاء شركات ومؤسسات مالية تخلو من المخالفات الشرعية.
5 - أن يعملوا على تشكيل هيئات شرعية تتولى تنظيم أحوالهم الشخصية وفق أحكام الشريعة الإسلامية، مع مراعاة الالتزام بالقوانين السائدة.(1/28)
6 - أن يبذلوا وسعهم للحصول على اعتراف الدولة التي ينتمون إليها أو يقيمون فيها بالإسلام ديناً، وبالمسلمين أقلية دينية على غرار الأقليات الدينية الأخرى في التمتع بحقوقهم كاملة، وفي تنظيم أحوالهم الشخصية كالزواج والطلاق وفقاً لأحكام دينهم.
7 - أن يلتزموا ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وأجمع عليه فقهاء الإسلام، من وجوب الوفاء بمقتضيات المواطنة أو عقد الإقامة، والالتزام بالقانون والنظام العام في البلاد التي يعيشون فيها.
8 - أن يتجنبوا العنف بكل صوره ومظاهره، وأن يكون أسلوبهم الرفق والرحمة والحكمة في التعامل مع الناس جميعاً كما يأمرهم الإسلام، وأن ينكروا على كل من حاد عن هذا الطريق الإسلامي السوي.
كما يوصي المجلس المسلمين عامة والمقيمين في أوروبا خاصة بالاعتصام بحبل الله، والأخوّة، والسماحة، والوسطية، والتعاون على البر والتقوى، والتزام الحوار الهادئ والأساليب السليمة في معالجة قضايا الخلاف، بعيداً عن مناهج التشدد ومسالك التطرف التي تشوه صورة الإسلام، وتسيء أبلغ الإساءة إلى المسلمين عامة وإلى الأقليات المسلمة خاصة، فيتلقفها خصوم الإسلام والجاهلون به للتشنيع عليه والتخويف منه ومن أهله واستعداء الأمم عليهم، وقد قال الله تعالى: { ادعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكمَةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحسَن } النحل: 125.
القاعدة الخامسة: الوقوق على سنن الله.
لله سبحانه وتعالى سنن أقام عليها العباد لا تتغير ولا تتبدل "ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا " فاطر 43. والمسلم موقن بها مسلم بقدرها بين العباد ولكن هذه السنن لا تعني أن يقف المسلم أمامها سلبياً وإنما عليه ادراكها ليتحرك في الحياة وفق سنن الله والتي منها:
سنة الاختلاف .(1/29)
من سنن الله تعالى التي يجب أن يقف عليها الناس ويعتقدوا بها هي أن الأختلاف بين بني البشر واقع بمشيئة الله تعالى لاتي لا راد لها يقول سبحانه وتعالى: " {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ }هود118 قال الحسن ومقاتل وعطاء: الإشارة للإختلاف أي: وللاختلاف خلقهم(1)، وقال الحسن البصري - رضي الله عنه - :للرحمة والإختلاف"(2)وتحقيقاً لهذه المشيئة الإلهية منح الله تعالى الإنسان الحرية في أن يختار بين الإيمان والكفر "وقل الحق من ربك فمن شاء ليؤمن ومن شاء فليكفر"الكهف 29 وذلك واقع لا شك بمشيئة الله "ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً فأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين"يونس 99
وهذا التنوع والاختلاف لا يعني التناحر والتقاتل والتنابذ والتنتافر وإنما أرشدنا الله تعالى إلى ما يجب فعله مع وجود هذا الاختلاف فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }الحجرات13 ولم يكتف القرآن الكريم أن دلنا على خلق التعارف وإنما دعا إلى ما هو أكبر من ذلك " {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }الممتحنة8 ومما لا شك فيه أن هذا التعارف والبر والقسط سينتج اموراً مشتركة يتعاون عليها الناس.
__________
(1) القرطبي ج9 ص105.
(2) ابن كثير ج2 ص446.(1/30)
والإسلام لا يمنع من التعاون لما فيه الصالح العام وخير البشرية وهو ما جسده الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين قال :"لقد شهدت في دار عبدالله بن جدعان حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم ولو دعي به في الإسلام لأجبت"(1).وهو ما أمر به القرآن الكريم بقوله تعالى: "وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الأثم والعدوان" المائدة 2.
سنة التداول.
إذا كان الغرب يعيش اليوم مجد حضارته وقمة قوته فإن الإسلام كان إلى عهد قريب هو حضارة العالم وقائدها ومصدر ثقافتها ورقيها لقد كانت الشمس لا تغيب عن أرض الإسلام كما ذكرنا سابقاً إن هارون الرشيد الخليفة العباسي كان إذا ابصر سحابة قال لها: أمطري هنا أو هناك حيثما أمطرتي جاءني خراجك واتسعت رقعة الإسلام بأهل الأرض على اختلاف أجناسهم والوانهم وأعراقهم ودينهم فعاش غير المسلمين في رحاب دولة الإسلام آمنين على أنفسهم ودينهم وأعراضهم وأموالهم ولم يبخل المسلمون على العالم بعلومهم التي تقدموا فيها وكانوا اساتذة العالم يومئذ وإنما صارت علومهم مراجع في الطب والهندسة والفلك والزراعة وسائر الفنون والعلوم ولكن من سنن الله تعالى التي لا تتبدل ولا تتغير كما قال سبحانه: "فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا" قاطر 43.
__________
(1) السيرة النبوية لابن كثير ج1 ص257 وما بعدها والحديث رواه أحمد تحقيق الأستاذ أحمد شاكر رقم 1655 وقال اسناده صحيح(1/31)
سنة التداول "فقد كانت قيادة العالم قديماً في يد المشرق على أيدي الحضارات الفرعونية والأشورية والبابلية والكلدانية والفينيقية والفارسية والهندية والصينية ثم اتقلت إلى الغرب على يد الحضارة اليونانية ذات الفلسفة الشهيرة والرومانية ذات التشريع المعروف ثم انتقلت هذه القيادة مرة أخرى إلى الشرق على يد الحضارة الإسلامية وهي حضارة متميزة جمعت بين العلم والإيمان بين الرقي المادي والسمو الروحي ثم غفا الشرق وغفل عن رسالته فأخذ الغرب الزمام وكانت له القيادة مرة أخرى(1)، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى المؤمنين بعدما أصابهم في أحد ما أصابهم بهذه السنة الإلهية "إن يمسسك قرحاً فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس" آل عمران 140. ولقد رأينا بأعيننا أمماً تقوم ورأينا قوة عظمى تملك من مقدرات العيش الظاهرية الشئ الكثير تنهار بين عشية وضحاها ولعل سنة التداول تسير نحو الإسلام والمسلمين اليوم الذين هم بحاجة إلى الاعداد النفسي والمادي لذلك "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"الرعد11.
القاعدة السادسة: الإيمان بثقافة الحوار.
__________
(1) المبشرات بانتصار الغسلام الدكتور يوسف القرضاوي ص91، 92.(1/32)
من القيم الإسلامية العظيمة التي جاء الإسلام ليربي أتباعه عليها "ثقافة الحوار" ولقد حفل القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة بالدعوة للحوار وتأصيله وما أعظم ما ذكر لنا القرآن الكريم من حوار بين رب العزة تبارك وتعالى وبين الملائكة الكرام حين أعلمهم سبحانه أنه خالق آدم ومستخلفه في الأرض وسجل لنا القرآن الكريم هذا الحوار" {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ }البقرة30-33.(1/33)
كما سجل القرآن الكريم الحوار الذي دار بين الحق سبحانه وتعالى وشر خلقه أبليس حين أمر الملائكة بالسجود لآدم فاستجابوا لأمره سبحانه وسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر فقال له سبحانه " { يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ }ص75-85. كما ذكر القرآن الكريم جملة من الحوارات الأنبياء مع قومهم رغم عنادهم وكفرهم مثال ذلك:
حوار إبراهيم - عليه السلام - مع النمرود " {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }البقرة258.(1/34)
وحواره مع قومه إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ الانبياء 52 - 70(1/35)
وحواره مع أبيه "إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً ياأبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطاً سويا ياأبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصياً يا أبت إني أخاف أن يمسك عذابٌ من الرحمن فتكون للشيطان ولياً قال أراغب أنت عن ألهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني ملياً قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفياً وأعتزلوكم وما تدعون من دون الله ,ادعوا ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقياً"مريم 42 – 48.
وحوار نبي الله شعيب - عليه السلام - مع قومه {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }الأعراف85 .(1/36)
وحوار نبي الله موسى - عليه السلام - مع فرعون حين دعاه موسى إلى توحيد الله وعبادته وأن يخلى بينه وبين بني اسرائيل في أمر دعوتهم فخطب فرعون "قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِين وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا(1/37)
نَحْنُ الْغَالِبِين قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُوا مَا أَنتُم مُّلْقُونَ فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ" الشعراء 18 -48.
ولم يقف القرآن الكريم عند حد عرض صور الحوار السابقة وإنما دعا المؤمنين إلى اعتبار الحوار وسيلة من وسائل الدعوة إلى الله تعالى "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن"النمل 125.وخص أهل الكتاب بهذه المعاملة من المؤمنين "ولا تجالوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن"العنكبوت46.
ولقد ساهم الحوار في حل كثير من الاشكاليات وأبان كثيراً من الأمور مما سهل التعامل وأعان على توضيح كثير من الشبهات بل هناك من منَّ الله عليه بالإسلام بسبب الحوار الهادئ البناء .
إن المسلم يعرف رسالته في هذه الحياة ولا يؤمن بالصراع لكن ينبغي أن يكون الحوار جاداً وقائماً على أسس وليس مجرد اجتماعات تتبادل فيها عبارات المجاملات وتسجل اعلامياً.
القاعدة السابعة: الوفاء بالعهود والمواثيق.(1/38)
حين يدخل المسلم إلى بلاد الغرب بتأشيرة أو حين يكون لاجئاً سياسياً كان أو انسانياً أو حين يكون مواطناً فهذا يعني أن بينه وبين من يقيم معهم عهداً دخل بمقتضاه أو أقام بموجبه في ديارهم والإسلام أمر المسلمين أن يفوا بالعهد والمواثيق لأن ذلك يساعد على حسن التعايش واشاعة الأمن والأمان قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود"المائدة، وقال جل ذكره "وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا"الاسراء 34.وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الغدر سمة من سمات النفاق ففي الحديث الصحيح "أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا أتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر"(1)ومن هنا ذهب جمهور العلماء من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة وأكثر الزايدية والإمامية إلى أن المسلم إذا دخل دار الكفر مستأنساً لا يحل له أن يتعرض لشئ من أموالهم ودمائهم ونسائهم لأنه بالاستمئان ضمن لهم أن لا يتعرض لهم بسوء فإن فعل فهو غدر والغدر حرام بل ذهب الشافعي رحمه الله إلى ما هو أبعد من ذلك عندما منع أي جماعة من المسلمين دخلت دار الحرب بأمان من التعرض للمشركين حتى ولو قام هؤلاء بسبي جماعة أخرى من المسلمين(2)وذكر أن على الجماعة الأولى في هذه الحالة أن تنبذ إليهم وتحذرهم حتى ينقطع الأمان ويكون بمقدورهم بعد ذلك قتال أهل الشرك لانقاذ المسلمين ولذلك كان من وصية - صلى الله عليه وسلم - وهو يجهز الجيوش "اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا"(3)، وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة فيقال هذه غدرة فلان"(4).
- - - - -
المبحث الثالث
محاضن تحقيق الاندماج
__________
(1) صحيح البخاري.
(2) اللجوء السياسي في الإسلام حسام محمد سعد ص198،190.
(3) صحيح مسلم ج3 ص1357 رقم 1731.
(4) متفق عليه اللؤلؤ والمرجان ج2 ص201.(1/39)
مما لا شك فيه أن تأثير المجتمع ليس بالامر الهين والمحافظة على الهوية في هذه المجتمعات ليس بالأمر اليسير ولذلك لابد من تكاتف الجهود وتضافر القوى حتى يحافظ المسلمون على هويتهم ولابد من الاهتمام بالمحاضن التي تعني بذلك ومنها:
أ- البيت.
إذا كانت الأرض التي يعيش عليها الإنسان هي المحضن الكبير التي يتعلم منها الإنسان وكما يقولون الإنسان ابن بيئته إلا أن البيت وإن كان أصغر حجماً لكنه أكثر أثراً ففي البيت صانعة الرجال ومربية الأجيال.
الأم مدرسة إن اعددتها أعدت شعباً طيب الأعراق
وقد حث الإسلام على اختيار المرأة الصالحة "فاظفر بذات الدين تربت يداك" كما حث على اختيار الزوج الصالح "إن جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير" وجعل الإسلام المسئولية مشتركة بين الزوج وزوجه فقال - صلى الله عليه وسلم - :"الرجل في بيته راع ومسئول عن رعيته والمرأة فب بيت زوجها راعية ومسئولة عن راعيتها" ومن هنا يجب النظر الدقيق في اختيار كل من الزوجين لصاحبه على أساس من الدين والخلق ومن المهم بمكان أن أنبه لخطورة زواج المسلم من غير المسلمة أو الغير ملتزمة ديناً وخلقاً كما نبه إلى خطورة الزوج الغير ملتزم ديناً وخلقاً لأن تكوين البيت أساس في الحفاظ على الأولاد من الضياع أو الذوبان.
ب- المركز الإسلامي والمسجد والنادي.(1/40)
الحديث هنا ليس عن انشاء المسجد أو المركز فهذا أمر يسعى إليه المسلمون في الغرب حثيثاً في كل مكان وندرك أن له أهمية خاصة في الغرب لكن الاشكالية في عمارة المسجد أو المركز واستغلاله الاستغلال الجيد في الحفاظ على الهوية وتحقيق الاندماج أعرف مراكز إسلامية كبيرة في حجمها وإمكاناتها لكنها قصيرة الطرف في انشطتها وصلتها بمن حولها إن أول أمر فعله الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما وصل المدينة هو بناء المسجد لأن المسجد يعني الكثير والكثير في حياة المسلم إننا نريد أن تتحول المساجد والمراكز الإسلامية في الغرب إلى نور يضئ للمسلمين وغير المسلمين إلى حركة تثمر ونشاط ينتج اننا نريد للشباب والنساء والأطفال أن يكونوا هم عماد هذه المراكز ونبض حركتها لا نريد أن تكون أشبه بمساجد الأوقاف في بلاد المسلمين وإنما نريد أن تتنوع أنشطتها الدينية والثقافية والاجتماعية والرياضية والترفيهية حتى تملء فراغ الشباب من كلا الجنسين وتعين البيت على التربية نريد أن يكون القائمون عليها من الأئمة والإداريين مدركين لرسالتهم وخطورة موقعهم وإلا فالله تعالى يقول: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ }البقرة114.
نحن بحاجة إلى اقامة النوادي الثقافية والرياضية لتؤدي دورها إلى جانب المركز والمسجد ولتكمل معه الرسالة لا لتهدمها كما يحدث في بعض الأندية.
ج- المدرسة الإسلامية.(1/41)
مما يميز السنوات الأخيرة من عمر الأقليات المسلمة في الغرب سعيهم لاقامة مؤسسات تعليمية ترعى شئون ابنائهم وتقوم على تربيتهم وهناك اتحاد المدارس الإسلامية وهي لا شك خطوات محمودة ولكنها لازالت متعثرة وفي بدايتها وإن كانت هناك بعض المدارس قد قطعت شوطاً لكن لازال أمام المدارس الكثير والكثير سواء كان في المناهج الدينية المواكبة للعصر والبيئة أم في أشطتها التربوية المصاحبة للعملية التعليمية أم في القائمين على التدريس وتأهيلهم التأهيل المناسب لأداء رسالتهم.
إن المدارس الإسلامية لابد أن تكون مميزة في عطائها وسلوكها حريصة على أبناء المسلمين من كل الجوانب التعليمية والتربوية والحفاظ على الهوية وإلا كانت عبئاً جديداً بحاجة إلى علاج كما هو حال بعض المدارس في بعض الأقطار إذ يضطر بعض المسلمين إلى الذهاب بأبنائهم إلى المدارس العامة خيراً من المدارس الإسلامية والأسباب معلومة.
د- الروابط الاجتماعية.
مع دعوتنا إلى الاندماج الإيجابي بقواعده وضوابطه نرى أنه من المهم توثيق العلاقة بين المسلمين أنفسهم داخل الحي والقرية والمدينة والقطر لابد من الترابط والتلاحم لابد من التواد والتراحم لا التنافر والتناحر يقول الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - :"مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد...."الحديث.(1/42)
وعندما يتلاحم المسلمون ويتواصلوا ويترابطوا سيعرف الجميع لهم قدرهم ويحسب حسابهم بين الأقليات الأخرى وبالتالي يحصلون على حقوقهم هناك أقليات أقل حجماً من المسلمين لكنها أكثر تأثيراً بترابطها وتلاحمها وتوحيد كلمتها والمسلمون أولى بذلك لأن الله سبحانه وتعالى خاطبنا على اختلاف الأعراق والأجناس والألوان واللغات باسم الأمة "كنتم خير أمة" آل عمران 110، "وكذلك جعلناكم أمة" البقرة 143 وحذرنا من التنازع والتشرذم "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم"الأنفال 46. كما أن في التواصل والترابط فوائد اجتماعية أخرى كثيرة تصب في رياح المحافظة على الهوية والتدامج الفعال لا يسع المجال لذكرها هاهنا.
- - - - -
المبحث الرابع
معوقات في طريق الاندماج الإيجابي
1- التمييز العنصري.
من تربية القرآن الكريم للمسلمين أن يراعوا في أحكامهم العدل مهما كان الامر { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }المائدة.2.
ومن العدل أن نقول عن الغرب كما علمنا القرآن الكريم " {لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ }آل عمران113.
{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }آل عمران75(1/43)
فمن الغرب لا شك من يتعامل مع المسلمين بتقدير واحترام ومعرفة لتاريخهم وماضيهم يقدرلهم قدرهم ويعرف لهم حقوقهم ويثني على الدور الذي قامت به أمة الإسلام يوم أن كانت لها القيادة والريادة.
ومنهم في المقابل من يحمل الحقد الدفين للإسلام والمسلمين ويتعامل معهم بعنصرية ويرى أنهم من طبقة غير طبقتهم وطينة غير طينتهم وعليه فيجب التعامل معهم بأسلوب يناسب كما يرى صمويل هنتينجون.
1- إن الديمقراطية نعمة غربية لا يمكن أن يتمتع بها المسلمون لأنهم باسمها ينصبون في الحكم الاتجاهات المتطرفة.
2- إن السلام الدولي يجب أن يقتصر على الغرب لأن انسحابه على العالم الإسلامي يحرم الغرب من بيع السلاح وشفط الاحتياطي من الثروات.
3- ان تحديد النسل عملية استعجالية للعالم الإسلامي نظراً لتزايد المسلمين واختلال التوازن الديمغرافي في العالم الغربي.
4- من الحكمة أن يقع دعم وتأييد الجماعات الموالية للمصالح والقيم الغربية في العالم الإسلامي .
5- تقوية المؤسسات الدولية التي تعكس المصالح الغربية واعطاؤها الشرعية والعمل على دفع الدول غير الغربية للانضواء تحت جناح هذه المؤسسات.
6- مزيد من تكريس الحضارة اليهودية والمسيحية ذات المبادئ المشتركة بإزاء الحضارة الإسلامية.(1)
__________
(1) الإسلام وصراع الحضارات ص140.(1/44)
مما لا شك فيه أن هذه الأفكار لصمويل ليست هي المعبرة عن الشارع الغربي بأكمله كما أنهل ليست أفكاراً شاذة لا يتبناها أحد سواه ولكن للأسف لها أثر في الواقع التعاملي سواء مع المسلمين خارج الإطار الأوروبي كما حدث في انتخابات الجزائر وفلسطين المحتلة التي أثمرت عن وصول الإسلاميين إلى الحكم وتعامل الغرب معها وما يحدث من مجازر في العراق وافغانستان والشيشان والصومال يغض الغرب الطرف عنها في حين تقوم الدنيا ولا تقعد حينما يقتل مستعمر محتل لأرض فلسطين وفي حين يطلق على المدافعين عن أرضهم أرهابيون يكرم القتلة المحتلين بأوسمة السلام اما مأساة شعب البوسنة والهرسك والمجازر الجماعية التي أقيمت له وسط أروبا وما حدث لألبان كوسوفا كل هذا لاشك يترك أثراً غير ايجابي على الأقلية المسلمة في الغرب بل أن ما يسمى باليمين المتطرف والنزعات العنصرية لا تفتأ أن تتعامل مع الأقلية المسلمة بنفس الروح وهذا ما يجعل كثير من المسلمين المقيمين في الغرب قلقين عن مستقبلهم ومستقبل أبنائهم خاصة وقد\ لاحظوا تغيراً شديداً في التعاطي معهم بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر إذ تم الاعتداء على اشخاصهم وأماكن عبادتهم ووصل الحد إلى الاستهزاء بالإسلام والرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - في صورة رسوم كاريكاتيه ومقالات صحفية وأفلام مشاهدة وكانت مواقف كثير من المسئولين وأصحاب القرار المثقفين للأسف سلبية في حين أن الحديث عن المحرقة ولو من باب البحث العلمي جريمة يعاقب عليها القانون وبينما ترك من أساء للإسلام ورسوله حراً طليقاً مكرماً حوكم من تحدث عن المحرقة وأراد مناقشتها علمياً. أما في المنظمات الدولية وانتقائية القرارات بداخلها والكيل بمكيالين فأمر لا يخفى على أحد.
2- ضعف أو غياب العمل المؤسس بين المسلمين.(1/45)
رغم التطور الذي شهده الوجود الإسلامي على الساحة الأوروبية وانتقالهم من حالة الغفوه التي مروا بها مروراً بالبحث عن مسجد يؤدون فيه صلاتهم ويلتقون فيه إلى اقامة المؤسسات التي ترعى مصالحهم وتقوم على شئونهم ومحاولتهم اقامة مجالس تنسيق بين هذه المؤسسات أو اقامة مؤسسات تتحدث باسمهم أمام الجهات الرسمية إلا أن هذه المؤسسات وللأسف تفتقر في كثير من الأحيان إلى:
? تفاعلها مع المسلمين وملامسة حاجياتهم فكثير من هذه المؤسسات لا يتعد نفعها القائمون عليها وكثيراً ما تغرد خارج السرب كما يقولون حيث أن مشاكل المسلمين في واد والمؤسسة في واد آخر.
? اتسام كثير منها بالأقليمية أو العصبية أو الحزبية وهكذا حتى سمعنا مؤخراً أن ثمة مؤسسة أقيمت في بريطانيا للمسلمين البيض لا ينضوي تحتها غيرهم.
? غياب العمل المؤسس داخل المؤسسات إذ أن كثيراً منها قائم على أشخاص بعينهم من سنين عديدة يديرونها وكأنها شركة مساهمة وبالتالي فإن تداول السلطة داخل المؤسسات مفقود وإن وجد فيكون بتغير المواقع مع ثبات الأشخاص.
? عدم وجود رؤى واضحة أو خطط مدروسة لمشاريع مستقبلية تنهض بالمسلمين.
? انغلاق كثير من هذه المؤسسات على نفسها وعدم انسجامها مع المجتمع الذي نبتت فيه.
? عدم وجود أنشطة تعين على التدامج الايجابي.
? عدم اهتمام الدولة بالمؤسسات الإسلامية والنظر إليها على أنها شئ غريب عن المجتمع في كثير من الأحيان.
3- الفتاوى المستوردة واضطراب المفاهيم.
مما لا شك أن الأحكام كما قرر أهل العلم نوعان نوع ثابت لا يتغير زماناً ومكاناً ولا اجتهاد فيه مثل فرائض الإسلام وأركانه وتحريم ما حرم الله تعالى وغير ذلك.(1/46)
وهناك نوع يتغير بحسب اقتضاء المصلحة واجتهاد أهل العلم زماناً ومكاناً وهو ما تحدث عنه العلامة ابن القيم رحمه الله في اول الجزء الثالث من كتابه القيم "اعلام الموقعين" إذ يقرر بأن الفتوى تتغير وتختلف بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعادات(1)، ويقول رحمه الله: "هذا فصل عظيم النفع جدا وقع بسبب الجهل فيه غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور ومن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وأن ادخلت فيها بالتأويل فالشريعة عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه وظله في أرضه وحكمتة الدالة عليه وعلى صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - أتم دلالة وأصدقها وهي نوره الذي به أبصر المبصرون وهداه الذي اهتدى به المهتدون(2)وقد دلل القرآن الكريم والسنة المطهرة وفتاوى الصحابة الكرام ومن بعدهم من أهل العلم على ذلك بما لا يسع المجال لذكره هنا.
__________
(1) اعلام الموقعين ج3 ص3.
(2) المرجع السابق ص3(1/47)
إلا أن هناك بعضاً من أهل العلم لا يراعون في فتواهم الزمان ولا المكان مما يسبب حرجاً بل يؤدي أحياناً إلى التنازع والخصام فهذه فتوى تحرم على المسلمين البقاء في الغرب وتأمرهم بالرحيل لأنها ديار كفر وتلك تبيح لهم ذلك وهذه فتوى تحرم اقامة أي علاقة حسنة أو التزاور أو التهادي لأن ذلك من باب المودة وتلك فتوى تدعو إلى حسن التعايش والمجاملات في المناسبات بل والقاء السلام لأن ذلك من باب البر والقسط وهذه فتوى تبيح العمل في محلات بيع الخمور ومطاعم تقديم لحم الخنزير واخرى تحرم ذلك وهذه فتوى تبيح شراء البيوت عن طريق البنوك وتلك تحرم وهكذا كثير وكثير تلك الفتاوى المتضاربة والأحكام المتضادة والتي تجعل المسلمين في حيرة من أمرهم بأي الفتاوى يأخذون وبأي حكم يلتزمون.
وهذه الفتاوى تؤدي كذلك إلى اضطراب المفاهيم لدى كثير من المسلمين فيخلط بين المودة المنهي عنها في قوله تعالى: "لا تجد قوماً يوادون من حاد الله" وبين البر والقسط المأمور به المسلم في قوله سبحانه: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم والله يحب المقسطين"الممتحنة 8. كما يصبح مفهوم الولاء والبراء أشبه ما يكون بالحجاب الحاجز بين المسلم وغير المسلم فهو سيف مسلط على كل من يحسن معاملة الآخرين من غير المسلمين وفي المقابل ينشأ طرف ثالث تتمايع معه الأمور حتى ينسلخ عن دينه وعقيدته ارضاءً للغير واثباتاً لحسن النوايا كما يقولون ، ومن المفاهيم التي تضطرب كذلك مفهوم الجهاد ومدلولاته وحقوق المرأة والتعامل معها في اطار الشرع إلى غير ذلك.(1/48)
مما يؤثر على التعايش الايجابي ويجنح البعض إلى العزلة والانطواء ان لم يكن الخصام والشجار بل هناك من يقدمون صورة سيئة عن الإسلام والمسلمين حين يستبحون الأموال والغش والتزوير بفتاوى غير مسئولة ولعل اسهامات المجلس الأوروبي تحاول أن تعالج هذه الجوانب ويؤسس المجلس فقهاً بصيراً باحوال العباد والبلاد.(1)
4- الخوف المفرط.
نتيجة لما يراه المسلم حوله من المنكرات وغياب كثير من القيم الإسلامية ومن تأثير المجتمع وطغيان النظرية المادية وما يشاهده من تساقط كثير من المسلمين في وحل الذوبان وضياع هويتهم وطمث شخصيتهم ولعلمه أن قوانين الحرية وحقوق الإنسان تحمي ذلك. يسبب ذلك كله لدى المسلم الحريص على دينه ونفسه وأهله الخوف على الحال والمستقبل من الضياع وقد يصل الخوف بالبعض إلى العزلة والبعد عن المجتمع وهذا وإن كان علاجاً مؤقتاً لكن خطورته تكمن حينما يكبر الأولاد وتتفتح أعينهم على المجتمع من حولهم ويرون أن من حقهم فعل كذا وكذا حينئذ تتفجر مشاكل كثيرة وقد يحدث في العائلة ما كان يحذره ربانها ولقد رأينا بأعيننا وشاهدنا الكثير من ذلك لكن الأولى أن يكثف المسئول عن الأسرة التربية ويجدد وسائلها بما يلائم العصر ويعمق فيهم الجانب الإيماني والروحي ويقوي صلته بأهله وأولاده ويفرغ لهم من وقته الكثير فذلك خير من العزلة خاصة وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في الحديث: "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم "(2)
- - - - -
ختاماً
توصيات ومقترحات
__________
(1) يراجع في ذلك اعلام الموقعين واغاثة اللهفان لابن القيم والأحكام والفروق للإمام القرافي ونشر العرف في بناء الأحكام على العرف لابن عابدين وعوامل السعة والمرونة في شريعة الإسلام للدكتور يوسف القرضاوي.
(2) سلسلة الأحاديث الصحيحة الألباني.(1/49)
في سبيل السعي إلى اندماج فعال ايجابي ومن خلال ما سبق بحثه نوجز التوصيلت والمقترحات التالية:
أولاً: توصيات لاصحاب القرار ومؤسسات المجتمع المدني.
1. السعي للقضاء على كافة أشكال العنصرية التي يشعر بها المسلمون ويلمسونها في بعض المعاملات والدوائر.
2. فتح قنوات اتصال مع الأقليات المسلمة على جميع المستويات.
3. اقامة برامج ودورات للتعريف بالقوانين السائدة والحقوق والواجبات.
4. فتح باب العمل والدراسة أمام المسلمين ومعاملتهم كغيرهم من الأقليات دون تحيز.
5. احترام الخصوصية الدينية والثقافية واعتماد مبدأ تعدد الثقافات دون السعي إلى محو هوية الآخر وثقافته.
6. على وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة أن تغير من لهجتها تجاه الإسلام كدين والمسلمين كأقلية وأن تحترم المقدسات ومشاعر المسلمين وأن تتحدث مع المسلمين.
ثانياً: توصيات ومقترحات للأقليات المسلمة.
1. الإلمام بالقوانين الخاصة بحقوق المواطنة وواجباتها.
2. الإلتزام بالقوانين واللوائح الموضوعة من قبل الجهات الرسمية.
3. العمل على تحسين صورة الإسلام والمسلمين عن طريق الالتزام بقيم الإسلام ومبادئه العظيمة واقامة البرامج التي تعرف بالإسلام وقيمه الحضارية.
4. تجاوز العادات والتقاليد الموروثة والتي ليست من الإسلام في شئ.
5. اقامة دورات وبرامج تعمل على تحقيق الاندماج الإيجابي والمعايشة المثمرة.
6. النهوض بالدعاة والعاملين في وسط الأقليات المسلمة وتأهيلهم ليكونوا مرجعية في تحقيق التعايش الإيجابي واعداد كوادر تفهم لغة الحوار مع الغرب للحديث عن الإسلام وتقديم صورته المشرقة للغرب.(1/50)
7. اقامة المراكز الإسلامية المتكاملة التي تشمل إلى جوار المسجد المكتبة والنادي الثقافي والإجتماعي والرياضي والمطعم وغير ذلك من الامكانات وقيامها بأنشطة مختلفة دعوية وثقافية واجتماعية ورياضية مع التركيز على أنشطة الاندماج مثل اسبوع التعريف بالإسلام – اسبوع الجيرة وغير ذلك.
8. المشاركة الإيجابية والفعالة في مؤسسات المجتمع المدني والأنشطة البيئية والاجتماعية في الحي والمدينة وعلى مستوى الدولة.
9. بناء العمل المؤسسي والبعد عن التمحور حول العرقية والمذهبية والطائفية والحزبية.
10. تشكيل لجان حقوقية قانونية للدفاع عن حقوق الأقليات ومناهضة التمييز العنصري.
11. السعي إلى الاعتراف الرسمي بالإسلام كدين وبالمسلمين كأقلية لها حقوقها التي كفلتها الشرائع والدساتير والمواثيق.
وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
- - - - -
الملاحق:
? الميثاق العالمي لحقوق الإنسان في الإسلام.
? ميثاق حقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة.
? ميثاق حقوق الإنسان الصادر عن الاتحاد الأوروبي.
? ميثاق حقوق الإنسان الصادر عن الولايات المتحدة الأمريكية.
? الميثاق العالمي لحقوق الإنسان في الإسلام.
إعلان القاهرة حول حقوق الإنسان في الإسلام
تم إجازته من قبل مجلس وزراء خارجية منظمة مؤتمر العالم الإسلامي
،القاهرة، 5 أغسطس 1990
الديباجة
تأكيدا للدور الحضاري والتاريخي للأمة الإسلامية التي جعلها الله خير أمة أورثت البشرية حضارة عالمية متوازنة ربطت الدنيا بالآخرة وجمعت بين العلم والإيمان، وما يرجى أن تقوم به هذه الأمة اليوم لهداية البشرية الحائرة بين التيارات والمذاهب المتناقضة وتقديم الحلول لمشكلات الحضارة المادية المزمنة.
ومساهمة في الجهود البشرية المتعلقة بحقوق الإنسان التي تهدف إلي حمايته من الاستغلال والاضطهاد وتهدف إلي تأكيد حريته وحقوقه في الحياة الكريمة التي تتفق مع الشريعة الإسلامية.(1/51)
وثقة منها بأن البشرية التي بلغت في مدارج العلم المادي شأنا بعيدا، لا تزال، وستبقي في حاجة ماسة إلي سند إيماني لحضارتها وإلي وازع ذاتي يحرس حقوقها.
وإيمانا بأن الحقوق الأساسية والحريات العامة في الإسلام جزء من دين المسلمين لا يملك أحد بشكل مبدئي تعطيلها كليا أو جزئيا، أو خرقها أو تجاهلها في أحكام إلهية تكليفية أنزل الله بها كتبه، وبعث بها خاتم رسله وتمم بها ما جاءت به الرسالات السماوية وأصبحت رعايتها عبادة، وإهمالها أو العدوان عليها منكرا في الدين وكل إنسان مسؤول عنها بمفرده، والأمة مسؤولة عنها بالتضامن، وأن الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي تأسيسا علي ذلك تعلن ما يلي:
المادة 1
أ- البشر جميعا أسرة واحدة جمعت بينهم العبودية لله والنبوة لآدم وجميع الناس متساوون في أصل الكرامة الإنسانية وفي أصل التكليف والمسؤولية دون تمييز بينهم بسبب العرق أو اللون أو اللغة أو الجنس أو المعتقد الديني أو الانتماء السياسي أو الوضع الاجتماعي أو غير ذلك من الاعتبارات. وأن العقيدة الصحيحة هي الضمان لنمو هذه الكرامة علي طريق تكامل الإنسان.
ب- أن الخلق كلهم عيال الله وأن أحبهم إليه أنفعهم لعياله وأنه لا فضل لأحد منهم علي الآخر إلا بالتقوى والعمل الصالح.
المادة 2
أ- الحياة هبة الله وهي مكفولة لكل إنسان، وعلي الأفراد والمجتمعات والدول حماية هذا الحق من كل اعتداء عليه، ولا يجوز إزهاق روح دون مقتض شرعي.
ب- يحرم اللجوء إلي وسائل تفضي إلي إفناء الينبوع البشري.
ج- المحافظة علي استمرار الحياة البشرية إلي ما شاء الله واجب شرعي.
د- سلامة جسد الإنسان مصونة، ولا يجوز الاعتداء عليها، كما لا يجوز المساس بها بغير مسوغ شرعي، وتكفل الدولة حماية ذلك.
المادة 3(1/52)
أ- في حالة استخدام القوة أو المنازعات المسلحة، لا يجوز قتل من لا مشاركة لهم في القتال كالشيخ والمرأة والطفل، وللجريح والمريض الحق في أن يداوي وللأسير أن يطعم ويؤوى ويكسى، ويحرم التمثيل بالقتلى، ويجب تبادل الأسري وتلاقي اجتماع الأسر التي فرقتها ظروف القتال.
ب- لا يجوز قطع الشجر أو إتلاف الزرع والضرع أو تخريب المباني والمنشآت المدنية للعدو بقصف أو نسف أو غير ذلك.
المادة 4
لكل إنسان حرمته والحفاظ علي سمعته في حياته وبعد موته وعلي الدول والمجتمع حماية جثمانه ومدفنه.
المادة 5
أ- الأسرة هي الأساس في بناء المجتمع، والزواج أساس تكوينها وللرجال والنساء الحق في الزواج ولا تحول دون تمتعهم بهذا الحق قيود منشؤها العرق أو اللون أو الجنسية.
ب- علي المجتمع والدولة إزالة العوائق أمام الزواج وتيسير سبله وحماية الأسرة ورعايتها.
المادة 6
أ- المرأة مساوية للرجل في الكرامة الإنسانية، ولها من الحق مثل ما عليها من الواجبات ولها شخصيتها المدنية وذمتها المالية المستقلة وحق الاحتفاظ باسمها ونسبها.
ب- علي الرجل عبء الإنفاق علي الأسرة ومسئولية رعايتها.
المادة 7
أ- لكل طفل عند ولادته حق علي الأبوين والمجتمع والدولة في الحضانة والتربية والرعاية المادية والصحية والأدبية كما تجب حماية الجنين والأم وإعطاؤهما عناية خاصة.
ب- للآباء ومن يحكمهم، الحق في اختيار نوع التربية التي يريدون لأولادهم مع وجوب مراعاة مصلحتهم ومستقبلهم في ضوء القيم الأخلاقية والأحكام الشرعية.
للأبوين علي الأبناء حقوقهما وللأقارب حق علي ذويهم وفقا لأحكام الشريعة.
المادة 8
لكل إنسان التمتع بأهليته الشرعية من حيث الإلزام والالتزام وإذا فقدت أهليته أو انتقصت قام وليه - مقامه.
المادة 9(1/53)
أ- طلب العلم فريضة والتعليم واجب علي المجتمع والدولة وعليها تأمين سبله ووسائله وضمان تنوعه بما يحقق مصلحة المجتمع ويتيح للإنسان معرفة دين الإسلام وحقائق الكون وتسخيرها لخير البشرية.
ب- من حق كل إنسان علي مؤسسات التربية والتوجيه المختلفة من الأسرة والمدرسة وأجهزة الإعلام وغيرها أن تعمل علي تربية الإنسان دينيا ودنيويا تربية متكاملة متوازنة تنمي شخصيته وتعزز إيمانه بالله واحترامه للحقوق والواجبات وحمايتها.
المادة 10
الإسلام هو دين الفطرة، ولا يجوز ممارسة أي لون من الإكراه علي الإنسان أو استغلال فقره أو جهله علي تغيير دينه إلي دين آخر أو إلي الإلحاد.
المادة 11
أ- يولد الإنسان حرا وليس لأحد أن يستعبده أو يذله أو يقهره أو يستغله ولا عبودية لغير الله تعالي.
ب- الاستعمار بشتى أنواعه وباعتباره من أسوأ أنواع الاستعباد محرم تحريما مؤكدا وللشعوب التي تعانيه الحق الكامل للتحرر منه وفي تقرير المصير، وعلي جميع الدول والشعوب واجب النصرة لها في كفاحها لتصفية كل أشكال الاستعمار أو الاحتلال، ولجميع الشعوب الحق في الاحتفاظ بشخصيتها المستقلة والسيطرة علي ثرواتها ومواردها الطبيعية.
ج- للأبوين علي الأبناء حقوقهما وللأقارب حق علي ذويهم وفقا لأحكام الشريعة.
المادة 12
كل إنسان الحق في إطار الشريعة في حرية التنقل، واختيار محل إقامته داخل بلاده أو خارجها وله إذا اضطهد حق اللجوء إلي بلد آخر وعلي البلد الذي لجأ إليه أن يجيره حتى يبلغه مأمنه ما لم يكن سبب اللجوء اقتراف جريمة في نظر الشرع.
المادة 13(1/54)
العمل حق تكفله الدولة والمجتمع لكل قادر عليه، وللإنسان حرية اختيار العمل اللائق به مما تتحقق به مصلحته ومصلحة المجتمع، وللعامل حقه في الأمن والسلامة وفي كافة الضمانات الاجتماعية الأخرى. ولا يجوز تكليفه بما لا يطيقه، أو إكراهه، أو استغلاله، أو الإضرار به، وله -دون تمييز بين الذكر والأنثى- أن يتقاضى أجرا عادلا مقابل عمله دون تأخير وله الاجارات والعلاوات والفروقات التي يستحقها، وهو مطالب بالإخلاص والإتقان، وإذا اختلف العمال وأصحاب العمل فعلي الدولة أن تتدخل لفض النزاع ورفع الظلم وإقرار الحق والإلزام بالعدل دون تحيز.
المادة 14
للإنسان الحق في الكسب المشروع، دون احتكار أو غش أو إضرار بالنفس أو بالغير والربا ممنوع مؤكدا.
المادة 15
أ- لكل إنسان الحق في التملك بالطرق الشرعية، والتمتع بحقوق الملكية بما لا يضر به أو بغيره من الأفراد أو المجتمع، ولا يجوز نزع الملكية إلا لضرورات المنفعة العامة ومقابل تعويض فوري وعادل.
ب- تحرم مصادرة الأموال وحجزها إلا بمقتضى شرعي.
المادة 16
لكل إنسان الحق في الانتفاع بثمرات إنتاجه العلمي أو الأدبي أو الفني أو التقني. وله الحق في حماية مصالحه الأدبية والمالية العائدة له علي أن يكون هذا الإنتاج غير مناف لأحكام الشريعة.
المادة 17
أ- لكل إنسان الحق في أن يعيش بيئة نظيفة من المفاسد والأوبئة الأخلاقية تمكنه من بناء ذاته معنويا، وعلي المجتمع والدولة أن يوفرا له هذا الحق.
ب- لكل إنسان علي مجتمعه ودولته حق الرعاية الصحية والاجتماعية بتهيئة جميع المرافق العامة التي تحتاج إليها في حدود الإمكانات المتاحة.
ج- تكفل الدولة لكل إنسان حقه في عيش كريم يحقق له تمام كفايته وكفاية من يعوله ويشمل ذلك المأكل والملبس والمسكن والتعليم والعلاج وسائر الحاجات الأساسية.
المادة 18
أ- لكل إنسان الحق في أن يعيش آمنا علي نفسه ودينه وأهله وعرضه وماله.(1/55)
ب- للإنسان الحق في الاستقلال بشؤون حياته الخاصة في مسكنه وأسرته وماله واتصالاته، ولا يجوز التجسس أو الرقابة عليه أو الإساءة إلي سمعته وتجنب حمايته من كل تدخل تعسفي.
ج- للمسكن حرمته في كل الأحوال ولا يجوز دخوله بغير إذن أهله أو بصورة غير مشروعة، ولا يجوز هدمه أو مصادرته أو تشريد أهله منه.
المادة 19
أ- الناس سواسية أمام الشرع، يستوي في ذلك الحاكم والمحكوم.
ب- حق اللجوء إلي القضاء مكفول للجميع.
ج- المسؤولية في أساسها شخصية.
د- لا جريمة ولا عقوبة إلا بموجب أحكام الشريعة.
هـ- المتهم برئ حتى تثبت إدانته بمحاكمة عادلة تؤمن له فيها كل الضمانات الكفيلة بالدفاع عنه.
المادة 20
لا يجوز القبض علي إنسان أو تقييد حريته أو نفيه أو عقابه بغير موجب شرعي. ولا يجوز تعريضه للتعذيب البدني أو النفسي أو لأي من أنواع المعاملات المذلة أو القاسية أو المنافية للكرامة الإنسانية، كما لا يجوز إخضاع أي فرد للتجارب الطبية أو العلمية إلا برضاه وبشرط عدم تعرض صحته وحياته للخطر، كما لا يجوز سن القوانين الاستثنائية التي تخول ذلك للسلطات التنفيذية.
المادة 21
أخذ الإنسان رهينة محرم بأي شكل من الأشكال ولأي هدف من الأهداف.
المادة 22
أ- لكل إنسان الحق في التعبير بحرية عن رأيه بشكل لا يتعارض مع المبادئ الشرعية.
ب- لكل إنسان الحق في الدعوة إلي الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفقا لضوابط الشريعة الإسلامية.
ج- الإعلام ضرورة حيوية للمجتمع، ويحرم استغلاله وسوء استعماله والتعرض للمقدسات وكرامة الأنبياء فيه، وممارسة كل ما من شأنه الإخلال بالقيم أو إصابة المجتمع بالتفكك أو الانحلال أو الضرر أو زعزعة الاعتقاد.
د- لا يجوز إثارة الكراهية القومية والمذهبية وكل ما يؤدي إلي التحريض علي التمييز العنصري بكافة أشكاله.
المادة 23
أ- الولاية أمانة يحرم الاستبداد فيها وسوء استغلالها تحريما مؤكدا ضمانا للحقوق الأساسية للإنسان.(1/56)
ب- لكل إنسان حق الاشتراك في إدارة الشؤون العامة لبلاده بصورة مباشرة أو غير مباشرة، كما أن له الحق في تقلد الوظائف العامة وفقا لأحكام الشريعة.
المادة 24
كل الحقوق والحريات المقررة في هذا الإعلان مقيدة بأحكام الشريعة الإسلامية.
المادة 25
الشريعة الإسلامية هي المرجع الوحيد لتفسير أو توضيح أي مادة من مواد هذه
? ميثاق حقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة.
اعتمد ونشر على الملأ بموجب قرار الجمعية العامة
للأمم المتحدة 217 ألف (د-3) المؤرخ في 10 كانون الأول/ديسمبر 1948
الديباجة
لما كان الإقرار بما لجميع أعضاء الأسرة البشرية من كرامة أصيلة فيهم، ومن حقوق متساوية وثابتة، يشكل أساس الحرية والعدل والسلام في العالم،(1/57)
ولما كان تجاهل حقوق الإنسان وازدراؤها قد أفضيا إلى أعمال أثارت بربريتها الضمير الإنساني، وكان البشر قد نادوا ببزوغ عالم يتمتعون فيه بحرية القول والعقيدة وبالتحرر من الخوف والفاقة، كأسمى ما ترنو إليه نفوسهم، ولما كان من الأساسي أن تتمتع حقوق الإنسان بحماية النظام القانوني إذا أريد للبشر ألا يضطروا آخر الأمر إلى اللياذ بالتمرد على الطغيان والاضطهاد، ولما كان من الجوهري العمل على تنمية علاقات ودية بين الأمم، ولما كانت شعوب الأمم المتحدة قد أعادت في الميثاق تأكيد إيمانها بحقوق الإنسان الأساسية، وبكرامة الإنسان وقدره، وبتساوي الرجال والنساء في الحقوق، وحزمت أمرها على النهوض بالتقدم الاجتماعي وبتحسين مستويات الحياة في جو من الحرية أفسح، ولما كانت الدول الأعضاء قد تعهدت بالعمل، بالتعاون مع الأمم المتحدة على ضمان تعزيز الاحترام والمراعاة العالميين لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية، ولما كان التقاء الجميع على فهم مشترك لهذه الحقوق والحريات أمرا بالغ الضرورة لتمام الوفاء بهذا التعهد، فإن الجمعية العامة تنشر على الملأ هذا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بوصفه المثل الأعلى المشترك الذي ينبغي أن تبلغه كافة الشعوب وكافة الأمم، كيما يسعى جميع أفراد المجتمع وهيئاته، واضعين هذا الإعلان نصب أعينهم على الدوام، ومن خلال التعليم والتربية، إلى توطيد احترام هذه الحقوق والحريات، وكيما يكفلوا، بالتدابير المطردة الوطنية والدولية، الاعتراف العالمي بها ومراعاتها الفعلية، فيما بين شعوب الدول الأعضاء ذاتها وفيما بين شعوب الأقاليم الموضوعة تحت ولايتها على السواء.
المادة 1
يولد جميع الناس أحرارا ومتساوين في الكرامة والحقوق. وهم قد وهبوا العقل والوجدان وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضا بروح الإخاء.
المادة 2(1/58)
لكل إنسان حق التمتع بجميع الحقوق والحريات المذكورة في هذا الإعلان، دونما تمييز من أي نوع، ولا سيما التمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو الرأي سياسيا وغير سياسي، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي، أو الثروة، أو المولد، أو أي وضع آخر.
وفضلا عن ذلك لا يجوز التمييز علي أساس الوضع السياسي أو القانوني أو الدولي للبلد أو الإقليم الذي ينتمي إليه الشخص، سواء أكان مستقلا أو موضوعا تحت الوصاية أو غير متمتع بالحكم الذاتي أم خاضعا لأي قيد آخر علي سيادته.
المادة 3
لكل فرد حق في الحياة والحرية وفى الأمان على شخصه.
المادة 4
لا يجوز استرقاق أحد أو استعباده، ويحظر الرق والاتجار بالرقيق بجميع صورهما.
المادة 5
لا يجوز إخضاع أحد للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو الحاطة بالكرامة.
المادة 6
لكل إنسان، في كل مكان، الحق بأن يعترف له بالشخصية القانونية.
المادة 7
الناس جميعا سواء أمام القانون، وهم يتساوون في حق التمتع بحماية القانون دونما تمييز،، كما يتساوون في حق التمتع بالحماية من أي تمييز ينتهك هذا الإعلان ومن أي تحريض على مثل هذا التمييز.
المادة 8
لكل شخص حق اللجوء إلى المحاكم الوطنية المختصة لإنصافه الفعلي من أية أعمال تنتهك الحقوق الأساسية التي يمنحها إياه الدستور أو القانون.
المادة 9
لا يجوز اعتقال أي إنسان أو حجزه أو نفيه تعسفا.
المادة 10
لكل إنسان، على قدم المساواة التامة مع الآخرين، الحق في أن تنظر قضيته محكمة مستقلة ومحايدة، نظرا منصفا وعلنيا، للفصل في حقوقه والتزاماته وفى أية تهمة جزائية توجه إليه.
المادة 11
1. كل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئا إلى أن يثبت ارتكابه لها قانونا في محاكمة علنية تكون قد وفرت له فيها جميع الضمانات اللازمة للدفاع عن نفسه.(1/59)
2. لا يدان أي شخص بجريمة بسبب أي عمل أو امتناع عن عمل لم يكن في حينه يشكل جرما بمقتضى القانون الوطني أو الدولي، كما لا توقع عليه أية عقوبة أشد من تلك التي كانت سارية في الوقت الذي ارتكب فيه الفعل الجرمي.
المادة 12
لا يجوز تعريض أحد لتدخل تعسفي في حياته الخاصة أو في شؤون أسرته أو مسكنه أو مراسلاته، ولا لحملات تمس شرفه وسمعته. ولكل شخص حق في أن يحميه القانون من مثل ذلك التدخل أو تلك الحملات.
المادة 13
1. لكل فرد حق في حرية التنقل وفى اختيار محل إقامته داخل حدود الدولة.
2. لكل فرد حق في مغادرة أي بلد، بما في ذلك بلده، وفى العودة إلى بلده.
المادة 14
1. لكل فرد حق التماس ملجأ في بلدان أخرى والتمتع به خلاصا من الاضطهاد.
2. لا يمكن التذرع بهذا الحق إذا كانت هناك ملاحقة ناشئة بالفعل عن جريمة غير سياسية أو عن أعمال تناقض مقاصد الأمم المتحدة ومبادئها.
المادة 15
1. لكل فرد حق التمتع بجنسية ما.
2. لا يجوز، تعسفا، حرمان أي شخص من جنسيته ولا من حقه في تغيير جنسيته.
المادة 16
1. للرجل والمرأة، متى أدركا سن البلوغ، حق التزوج وتأسيس أسرة، دون أي قيد بسبب العرق أو الجنسية أو الدين. وهما متساويان في الحقوق لدى التزوج وخلال قيام الزواج ولدى انحلاله.
2. لا يعقد الزواج إلا برضا الطرفين المزمع زواجهما رضاء كاملا لا إكراه فيه.
3. الأسرة هي الخلية الطبيعية والأساسية في المجتمع، ولها حق التمتع بحماية المجتمع والدولة.
المادة 17
1. لكل فرد حق في التملك، بمفرده أو بالاشتراك مع غيره.
2. لا يجوز تجريد أحد من ملكه تعسفا.
المادة 18
لكل شخص حق في حرية الفكر والوجدان والدين، ويشمل هذا الحق حريته في تغيير دينه أو معتقده، وحريته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم، بمفرده أو مع جماعة، وأمام الملأ أو على حده.
المادة 19(1/60)
لكل شخص حق التمتع بحرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حريته في اعتناق الآراء دون مضايقة، وفى التماس الأنباء والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين، بأية وسيلة ودونما اعتبار للحدود.
المادة 20
1. لكل شخص حق في حرية الاشتراك في الاجتماعات والجمعيات السلمية.
2. لا يجوز إرغام أحد على الانتماء إلى جمعية ما.
المادة 21
1. لكل شخص حق المشاركة في إدارة الشئون العامة لبلده، إما مباشرة وإما بواسطة ممثلين يختارون في حرية.
2. لكل شخص، بالتساوي مع الآخرين، حق تقلد الوظائف العامة في بلده.
3. إرادة الشعب هي مناط سلطة الحكم، ويجب أن تتجلى هذه الإرادة من خلال انتخابات نزيهة تجرى دوريا بالاقتراع العام وعلى قدم المساواة بين الناخبين وبالتصويت السري أو بإجراء مكافئ من حيث ضمان حرية التصويت.
المادة 22
لكل شخص، بوصفه عضوا في المجتمع، حق في الضمان الاجتماعي، ومن حقه أن توفر له، من خلال المجهود القومي والتعاون الدولي، وبما يتفق مع هيكل كل دولة ومواردها، الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي لا غنى عنها لكرامته ولتنامي شخصيته في حرية.
المادة 23
1. لكل شخص حق العمل، وفى حرية اختيار عمله، وفى شروط عمل عادلة ومرضية، وفى الحماية من البطالة.
2. لجميع الأفراد، دون أي تمييز، الحق في أجر متساو على العمل المتساوي.
3. لكل فرد يعمل حق في مكافأة عادلة ومرضية تكفل له ولأسرته عيشة لائقة بالكرامة البشرية، وتستكمل، عند الاقتضاء، بوسائل أخرى للحماية الاجتماعية.
4. لكل شخص حق إنشاء النقابات مع آخرين والانضمام إليها من أجل حماية مصالحه.
المادة 24
لكل شخص حق في الراحة وأوقات الفراغ، وخصوصا في تحديد معقول لساعات العمل وفى إجازات دورية مأجورة.
المادة 25(1/61)
1. لكل شخص حق في مستوى معيشة يكفى لضمان الصحة والرفاهة له ولأسرته، وخاصة على صعيد المأكل والملبس والمسكن والعناية الطبية وصعيد الخدمات الاجتماعية الضرورية، وله الحق في ما يأمن به الغوائل في حالات البطالة أو المرض أو العجز أو الترمل أو الشيخوخة أو غير ذلك من الظروف الخارجة عن إرادته والتي تفقده أسباب عيشه.
2. للأمومة والطفولة حق في رعاية ومساعدة خاصتين. ولجميع الأطفال حق التمتع بذات الحماية الاجتماعية سواء ولدوا في إطار الزواج أو خارج هذا الإطار.
المادة 26
1. لكل شخص حق في التعليم. ويجب أن يوفر التعليم مجانا، على الأقل في مرحلتيه الابتدائية والأساسية. ويكون التعليم الابتدائي إلزاميا. ويكون التعليم الفني والمهني متاحا للعموم. ويكون التعليم العالي متاحا للجميع تبعا لكفاءتهم.
2. يجب أن يستهدف التعليم التنمية الكاملة لشخصية الإنسان وتعزيز احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية. كما يجب أن يعزز التفاهم والتسامح والصداقة بين جميع الأمم وجميع الفئات العنصرية أو الدينية، وأن يؤيد الأنشطة التي تضطلع بها الأمم المتحدة لحفظ السلام.
3. للآباء، على سبيل الأولوية، حق اختيار نوع التعليم الذي يعطى لأولادهم.
المادة 27
1. لكل شخص حق المشاركة الحرة في حياة المجتمع الثقافية، وفى الاستمتاع بالفنون، والإسهام في التقدم العلمي وفى الفوائد التي تنجم عنه.
2. لكل شخص حق في حماية المصالح المعنوية والمادية المترتبة على أي إنتاج علمي أو أدبي أو فني من صنعه.
المادة 28
لكل فرد حق التمتع بنظام اجتماعي ودولي يمكن أن تتحقق في ظله الحقوق والحريات المنصوص عليها في هذا الإعلان تحققا تاما.
المادة 29
1. على كل فرد واجبات إزاء الجماعة، التي فيها وحدها يمكن أن تنمو شخصيته النمو الحر الكامل.(1/62)
2. لا يخضع أي فرد، في ممارسة حقوقه وحرياته، إلا للقيود التي يقررها القانون مستهدفا منها، حصرا، ضمان الاعتراف الواجب بحقوق وحريات الآخرين واحترامها، والوفاء بالعادل من مقتضيات الفضيلة والنظام العام ورفاه الجميع في مجتمع ديمقراطي.
3. لا يجوز في أي حال أن تمارس هذه الحقوق على نحو يناقض مقاصد الأمم المتحدة ومبادئها.
المادة 30
ليس في هذا الإعلان أي نص يجوز تأويله على نحو يفيد انطواءه على تخويل أية دولة أو جماعة، أو أي فرد، أي حق في القيام بأي نشاط أو بأي فعل يهدف إلى هدم أي من الحقوق والحريات المنصوص عليها فيه.
? ميثاق الحقوق الأساسية للاتحاد الأوروبي.
بدأ العمل به في ديسمبر 2000
الإعلان الرسمي
يعلن البرلمان الأوروبي والمجلس الأوروبي واللجنة الأوروبية النص الرسمي التالي كميثاق للحقوق الأساسية للاتحاد الأوروبي.
تحرر في نيس في السابع من ديسمبر 2000
عن البرلمان الأوروبي
عن مجلس الاتحاد الأوروبي
عن اللجنة الأوروبية
تمهيد
إن شعوب أوروبا – وهي تنشأ اتحاداً أوثق فيما بينها – تعتزم التشارك في مستقبل آمن قائم على القيم المشتركة.
وإدراكاً لتراثه الروحي والأخلاقي – يتأسس الاتحاد على القيم العامة التي لا تتجزأ للكرامة الإنسانية والحرية والمساواة والتضامن؛ على أساس مبادئ الديموقراطية وسلطان القانون، ويضع الفرد في القلب من أنشطته بالاعتراف بالمواطنة للاتحاد، وبخلق مساحة للحرية والأمن والعدل.
يسهم الاتحاد في المحافظة على تنمية هذه القيم المشتركة، بينما يحترم تنوع ثقافات وتقاليد شعوب أوروبا، وكذلك الهويات القومية للدول الأعضاء، وتنظيم سلطاتها العامة على المستويات القومية والإقليمية والمحلية، وينشد تشجيع التنمية المتوازنة والمستمرة، ويضمن حرية الحركة بالنسبة للأشخاص والسلع والخدمات ورأس المال، وحرية إقامة علاقات الصداقة.(1/63)
ومن أجل هذا الهدف – يكون من الضروري تقوية حماية الحقوق الأساسية في ضوء تغيرات المجتمع، والتقدم الاجتماعي، والتطورات العلمية والتكنولوجية بجعل تلك الحقوق أكثر وضوحاً في الميثاق.
ويجدد هذا الميثاق تأكيده – بالاحترام الواجب لسلطات ووظائف المجتمع والاتحاد، ومبدأ المشاركة في القرار – على الحقوق الناشئة على وجه الخصوص عن التقاليد الدستورية والالتزامات الدولية المشتركة بين الدول الأعضاء، والمعاهدة بشأن الاتحاد الأوروبي، ومعاهدات المجتمع، والاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية، والمواثيق الاجتماعية التي يتبناها المجتمع والمجلس الأوروبي، وقانون الدعوى لمحكمة العدل للمجتمعات الأوروبية والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان.
إن التمتع بهذه الحقوق يستلزم مسئوليات وواجبات نحو الأشخاص الآخرين والمجتمع الإنساني وأجيال المستقبل.
ولهذا يقر الاتحاد بالحقوق والحريات والمبادئ الواردة فيما يلي.
الفصل الأول: الكرامة مادة 1
الكرامة الإنسانية
الكرامة الإنسانية مقدسة، ويجب احترامها وحمايتها.
مادة 2
الحق في الحياة
1- كل شخص له الحق في الحياة.
2- لا يحكم على أي شخص بعقوبة الإعدام أو يتم إعدامه.
مادة 3
حق الشخص في السلامة
1- لكل شخص الحق في احترام سلامته البدنية والعقلية.
2- في مجال الطب وعلم الأحياء – يجب احترام ما يلي على وجه الخصوص:
- الموافقة الحرة والمعلومة للشخص المعني – طبقاً للإجراءات التي يضعها القانون،
- حظر الممارسات التي تتعلق بتحسن النسل – وخاصة تلك التي تهدف إلى انتقاء الأشخاص،
- حظر جعل جسم الإنسان وأجزائه مصدراً للكسب المالي،
- حظر الاستنساخ التناسلي البشري.
مادة 4
حظر التعذيب والمعاملة أو العقوبة غير الإنسانية أو المهينة
لا يخضع أي شخص للتعذيب أو للمعاملة أو العقوبة غير الإنسانية أو المهينة.
مادة 5
حظر الاسترقاق والعمل بالإكراه
1- لا يجوز استرقاق أي شخص أو استعباده.(1/64)
2- لا يجوز أن يطلب من أي شخص أن يؤدي عملاً قسراً أو كرهاً.
3- يحظر الاتجار في البشر.
مادة 6
الحق في الحرية والأمن
لكل شخص الحق في الحرية والأمن.
مادة 7
احترام الحياة الخاصة والحياة العائلية
لكل شخص الحق في احترام حياته الخاصة وحياته العائلية وبيته واتصالاته.
مادة 8
حماية البيانات الشخصية
1- لكل شخص الحق في حماية البيانات الشخصية التي تتعلق به.
2- يجب أن تعامل مثل هذه البيانات على نحو ملائم لأغراض محددة، وعلى أساس موافقة الشخص المعني، أو على أساس مشروع يحدده القانون، ويكون لكل شخص الحق في الوصول إلى البيانات التي تم جمعها وتتعلق به، وحق الحصول عليها صحيحة.
3- يخضع الإذعان لهذه القواعد لرقابة هيئة مستقلة.
مادة 9
الحق في الزواج والحق في تكوين أسرة
يكفل الحق في الزواج والحق في تكوين أسرة وفقاً للقوانين المحلية التي تحكم ممارسة هذه الحقوق.
مادة 10
حق الفكر والضمير والديانة
1- كل شخص الحق في حرية الفكر والضمير والديانة، ويشمل هذا الحق الحرية في تغيير الديانة، أو العقيدة، وحرية إعلان الديانة أو العقيدة والتعبد والتعليم والممارسة وإقامة الشعائر، إما بمفرده، أو بالاجتماع مع الآخرين، وإما بشكل علني أو بشكل سري.
2- إقرار الحق في عدم الاشتراك في الحروب وفقاً للقوانين المحلية التي تحكم ممارسة هذا الحق.
مادة 11
حرية التعبير والمعلومات
1- لكل شخص الحق في حرية التعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء، وتلقي ونقل المعلومات والأفكار، دون تدخل من السلطة العامة وبصرف النظر عن الحدود.
2- تحترم الحرية وتعددية وسائل الإعلام.
مادة 12
حرية التجمع وحرية تكوين الاتحادات
1- لكل إنسان الحق في حرية التجمع السلمي وحرية الاتحاد على كافة المستويات – وخاصة في المسائل السياسية والتجارية والنقابية والمدنية والتي تتضمن حق أي إنسان في تكوين والانضمام إلى النقابات المهنية لحماية مصالحه.(1/65)
2- تسهم الأحزاب السياسية على المستوى النقابي في التعبير عن الإرادة السياسية لأعضاء النقابة.
مادة 13
حرية الفنون والعلوم
تكون الفنون والبحث العلمي حرة من القيود، وتحترم الحرية الأكاديمية.
مادة 14
الحق في التعليم
1- لكل إنسان الحق في التعليم والحصول على التدريب المهني والمستمر.
2- يشمل هذا الحق إمكانية تلقي تعليم إلزامي بالمجان.
3- تحترم حرية إنشاء مؤسسات تعليمية بالاحترام الواجب لمبادئ الديموقراطية، وحق الآباء في ضمان أن التعليم والتدريس لأطفالهم يتفق مع اعتقادهم الديني والفلسفي والتربوي وفقاً للقوانين المحلية التي تحكم ممارسة هذه الحرية وهذا الحق.
المادة 15
حرية اختيار مهنة والحق في الارتباط بعمل
1- لكل إنسان الحق في الارتباط بعمل وممارسة مهنة يختارها أو يقبلها بحرية.
2- لكل مواطن بالاتحاد حرية البحث عن الوظيفة والعمل وممارسة حق الإنشاء، وتوفير الخدمات في أي دولة عضو.
3- يكون لمواطني البلاد الأخرى المصرح لهم بالعمل في أقاليم الدول الأعضاء الحق في ظروف عمل مساوية لتلك الخاصة بمواطني الاتحاد.
مادة 16
الحق في إدارة عمل تجاري
يتم إقرار حرية إدارة عمل تجاري وفقاً لقانون المجتمع والقوانين والممارسات المحلية.
مادة 17
الحق في الملكية
1- لكل إنسان الحق في امتلاك واستخدام والتصرف في توريث ممتلكاته التي حصل عليها بشكل قانوني، ولا يجوز حرمان أي شخص من ممتلكاته إلا للمصلحة العامة، وفي الحالات وبموجب الشروط التي ينص عليها القانون، ويخضع ذلك للتعويض العادل الذي يدفع له في الوقت المناسب تعويضاً عن خسارته، ويجوز أن ينظم القانون استخدام الممتلكات بما تقتضيه المصلحة العامة.
2- تتم حماية الملكية الفكرية.
مادة 18
الحق في اللجوء
يكفل حق اللجوء بالاحترام الواجب لقواعد اتفاقية جنيف بتاريخ 28 يوليو 1951، وبروتوكول 31 يناير 1967 الذي يتعلق بوضع اللاجئين وطبقاً للمعاهدة التي تنشأ المجتمع الأوروبي.(1/66)
مادة 19
الحماية في حالة الفصل أو الترحيل أو التسليم
1- تحظر حالات الترحيل الجماعي.
2- لا يجوز فصل أو إبعاد أو تسليم أي شخص إلى دولة إذا كان هناك خطر شديد بتعرضه لعقوبة الإعدام، أو التعذيب، أو المعاملة أو العقوبة غير الإنسانية المهينة.
الفصل الثالث: المساواة
مادة 20
المساواة أمام القانون
يتساوى الجميع أمام القانون.
مادة 21
عدم التمييز
1- يخطر أي تمييز قائم على أي سبب مثل الجنس أو العرق أو اللون أو الأصل العرقي أو الاجتماعي أو السمات الأجنبية أو اللغة أو الدين أو العقيدة أو الرأي السياسي أو أي رأي آخر أو الانتساب إلى أقلية قومية أو بسبب الممتلكات أو الميلاد أو الإعاقة أو السن أو التوجه الجنسي.
2- في نطاق تطبيق المعاهدة التي تنشئ المجتمع الأوروبي، والمعاهدة بشأن الاتحاد الأوروبي ودون الإخلال بالأحكام الخاصة لتلك المعاهدات – يحظر أي تمييز على أساس الجنسية.
مادة 22
الاختلاف الثقافي والديني واللغوي
يحترم الاتحاد الاختلاف الثقافي والديني واللغوي.
مادة 23
المساواة بين الرجال والنساء
تكفل المساواة بين الرجال والنساء في كافة المجالات بما في ذلك الوظيفة والعمل والأجر،
ولا يمنع مبدأ المساواة المحافظة على أو تبني الإجراءات التي تكفل مزايا معينة لصالح الجنس الأقل تمثيلاً.
مادة 24
حقوق الطفل
1- يكون للأطفال الحق في الحماية والرعاية كما تتطلب مصلحتهم، ويجوز لهم أن يعبروا عن وجهات نظرهم بحرية، وتؤخذ وجهات النظر هذه في الاعتبار بشأن المسائل التي تخصهم وفقاً لأعمارهم ونضجهم.
2- في كافة الأفعال التي تتعلق بالأطفال – سواء اتخذتها السلطات العامة أو المؤسسات الخاصة – يجب أن تؤخذ مصالح الطفل في الاعتبار الأول، ويكون لكل طفل الحق في الحفاظ على علاقة شخصية واتصال مباشر مع والديه على نحو منتظم ما لم يكن ذلك يخالف مصلحته.
مادة 25
حق كبار السن(1/67)
يقر الاتحاد ويحترم حقوق كبار السن في أن يحيوا حياة كريمة ومستقلة، والمشاركة في الحياة الاجتماعية والثقافية.
مادة 26
اندماج الأشخاص ذوي الإعاقة
يقر الاتحاد ويحترم حق الأشخاص ذوي الإعاقة في الاستفادة من الإجراءات التي وضعت لضمان استقلالهم وتكاملهم الاجتماعي والمهني والمشاركة في حياة المجتمع.
الفصل الرابع: التضامن
مادة 27
حق العمال في الحصول على المعلومات والتشاور داخل نطاق الالتزام
يكفل للعمال أو ممثليهم – المعلومات والتشاور في الوقت المناسب في الحالات وطبقاً للشروط التي ينص عليها قانون المجتمع، والقوانين والممارسات المحلية.
مادة 28
الحق في عقد الصفقات والعمل الجماعي
يكون للعمال وأصحاب العمل – أو منظماتهم الخاصة بهم – طبقاً لقانون المجتمع والقوانين والممارسات المحلية – حق التفاوض وإبرام الاتفاقات الجماعية على المستويات الملائمة، وفي حالة تعارض المصالح يكون لهم الحق في اتخاذ إجراء جماعي للدفاع عن مصالحهم بما في ذلك الإضراب.
مادة 29
حق الحصول على خدمات التوظيف
لكل إنسان الحق في الحصول على خدمات توظيف مجانية.
مادة 30
الحماية في حالة الفصل التعسفي
لكل عامل الحق في الحماية ضد الفصل التعسفي – طبقاً لقانون المجتمع، والقوانين والممارسات المحلية.
مادة 31
ظروف العمل العادلة
1- لكل عامل الحق في ظروف عمل تحترم صحته وسلامته وكرامته.
2- لكل عامل الحق في تحديد الحد الأقصى لساعات العمل، وفترات الراحة اليومية والأسبوعية، وفترة سنوية مدفوعة الأجر.
مادة 32
حظر عمل الطفل وحماية الشباب أثناء العمل(1/68)
يحظر تشغيل الأطفال، ولا يجوز أن يكون الحد الأدنى لسن الالتحاق بالعمل أقل من الحد الأدنى لسن التخرج في المدرسة، دون الإخلال بمثل هذه القواعد مثلما يكون مناسباً للشباب وباستثناء القيود المحدودة، ويجب أن يتمتع الشباب الذين يلتحقون بالعمل بظروف عمل مناسبة لأعمارهم، ويجب حمايتهم ضد الاستغلال الاقتصادي، وأي عمل من المحتمل أن يضر بسلامتهم أو صحتهم أو نموهم البدني أو العقلي أو الأخلاقي أو الاجتماعي، أو يتعارض مع تعليمهم.
مادة 33
الحياة العائلية والمهنية
1- تتمتع الأسرة بالحماية القانونية والاقتصادية والاجتماعية.
2- للتوفيق بين الحياة العائلية والحياة المهنية – يكون لكل إنسان الحق في الحماية من الفصل لسبب يتعلق بالأمومة، والحق في إجازة أمومة مدفوعة الأجر، وإجازة بعد الولادة، أو تبني طفل.
مادة 34
الضمان الاجتماعي والمساعدة الاجتماعية
1- يقر الإتحاد ويحترم الحق في إعانات الضمان الاجتماعي، والخدمات الاجتماعية التي توفر الحماية في حالات مثل الأمومة، والمرض، وإصابات العمل، والعوز أو الشيخوخة، وفي حالة فقد الوظيفة وفقاً للقواعد التي يضعها قانون المجتمع والقوانين والممارسات المحلية.
2- يكون من حق أي شخص يقيم ويتنقل بشكل قانوني داخل نطاق الاتحاد الأوروبي الحصول على إعانات الضمان الاجتماعي والمزايا الاجتماعية وفقاً لقانون المجتمع والقوانين والممارسات المحلية.
3- لمكافحة الحرمان الاجتماعي والفقر – يقر الاتحاد ويحترم الحق في الحصول على المعونة الاجتماعية، ومعونة الإسكان من أجل ضمان حياة لائقة لكل أولئك الذين يفتقرون إلى الموارد الكافية وفقاً للقواعد التي يضعها قانون المجتمع والقوانين والممارسات المحلية.
مادة 35
الرعاية الصحية(1/69)
لكل إنسان الحق في الحصول على الرعاية الصحية الوقائية، والحق في الاستفادة من العلاج الطبي، بموجب الشروط التي تضعها القوانين والممارسات المحلية، ويكفل مستوى عال من حماية صحة الإنسان في تحديد وتنفيذ كافة سياسات وأنشطة الاتحاد.
مادة 36
الحصول على خدمات المنفعة الاقتصادية العامة
يقر الاتحاد ويحترم الحصول على خدمات المنفعة الاقتصادية العامة كما تنص القوانين والممارسات المحلية، وفقاً للمعاهدة التي شرعها المجتمع الأوروبي، من أجل تنمية التماسك الاجتماعي والإقليمي للاتحاد.
مادة 37
الحماية البيئية
يجب إدراج وضمان مستو عال من الحماية البيئية وتحسين الجودة البيئية في سياسات الاتحاد وفقاً لمبدأ التنمية المستمرة.
مادة 38
حماية المستهلك
تضمن سياسات الاتحاد مستوى عال من حماية المستهلك.
الفصل الخامس: حقوق المواطنين
مادة 39
الحق في التصويت والترشيح في انتخابات البرلمان الأوروبي
1- يكون لكل مواطن في الاتحاد حق التصويت والترشيح في انتخابات البرلمان الأوروبي في الدولة العضو التي يقيم فيها بموجب نفس الشروط التي تطبق على مواطني تلك الدولة.
2- يتم انتخاب أعضاء البرلمان الأوروبي بالتصويت العام المباشر في اقتراع حر أو سري.
مادة 40
الحق في التصويت والترشيح في الانتخابات البلدية
يكون لكل مواطن في الاتحاد حق التصويت والترشيح في الانتخابات البلدية في الدولة العضو التي يقيم فيها بموجب نفس الشروط التي تطبق على مواطني تلك الدولة.
مادة 41
الحق في الإدارة الجيدة
1- يكون لكل شخص الحق في أن تعالج شئونه بنزاهة، وعلى نحو ملائم، وفي خلال وقت معقول من قبل مؤسسات وهيئات الاتحاد.
2- ويشمل هذا الحق:
- حق كل شخص في الاستماع إليه قبل اتخاذ أي إجراء غير ملائم قد يؤثر عليه.
- حق كل شخص في الحصول على المستندات الخاصة به، مع احترام المصالح المشروعة للسرية المهنية والتجارية.
- التزام الإدارة بإبداء أسباب قراراتها.(1/70)
3- يكون لكل شخص الحق في أن يعوضه المجتمع عن أي ضرر تسببه مؤسساته أو موظفيها عند أداء واجباتهم وفقاً للمبادئ العامة المشتركة بين قوانين الدول الأعضاء.
4- يجوز لأي شخص أن يكتب لمؤسسات الاتحاد بإحدى لغات المعاهدات، ويجب أن يتلقى رداً بنفس اللغة.
مادة 42
الحق في الحصول على المستندات
يكون من حق أي مواطن بالاتحاد، وأي شخص طبيعي أو معنوي مقيم أو له مكتب مسجل في دولة عضو الحصول على مستندات البرلمان الأوروبي أو المجلس أو اللجنة.
مادة 43
محقق الشكاوى
يكون من حق أي مواطن بالاتحاد وأي شخص طبيعي أو معنوي مقيم أو له مكتب مسجل في دولة عضو أن يرفع إلى محقق الشكاوى بالاتحاد قضايا سوء الإدارة في أنشطة مؤسسات أو هيئات المجتمع، باستثناء محكمة العدالة، والمحكمة الابتدائية اللتان تعملان بصفتهم القضائية.
مادة 44
الحق في تقديم التماس
يكون من حق أي مواطن بالاتحاد وأي شخص طبيعي أو معنوي مقيم أو له مكتب مسجل في دولي عضو أن يقدم التماساً للبرلمان الأوروبي.
مادة 45
حرية الحركة والإقامة
1- لكل مواطن بالاتحاد الحق في الحركة والإقامة بحرية داخل إقليم الدول الأعضاء.
2- يجوز منح حرية الحركة والإقامة – وفقاً للمعاهدة التي شرعها المجتمع الأوروبي – لمواطني الدول الأخرى المقيمين بشكل قانوني في إقليم دولة عضو.
مادة 46
الحماية الدبلوماسية والقنصلية
لكل مواطن بالاتحاد الحق في الحماية – في إقليم دولة أخرى يكون مواطناً فيها وليس بها تمثيل – من قبل الجهات الدبلوماسية أو القنصلية لأي دولة عضو طبقاً لنفس الشروط التي تطبق على مواطني تلك الدولة العضو.
الفصل الخامس: العدالة
مادة 47
الحق في وسائل فعالة ومحاكمة عادلة(1/71)
يكون من حق أي إنسان تنتهك حقوقه وحرياته التي يكفلها قانون الاتحاد الحق في وسائل فعالة أمام المحكمة، وفقاً للشروط التي تضعها هذه المادة، ويكون من حق أي إنسان محاكمة عادلة وعلنية في خلال وقت معقول من قبل محكمة عادلة ومستقلة ينشئها القانون مسبقاً، ويكون لأي إنسان إمكانية المشورة والدفاع والتمثيل، وتتاح المعونة القانونية لأولئك الذين يفتقرون إلى الموارد الكافية بالقدر الذي تكون مثل هذه المعونة لازمة لضمان الوصول إلى العدالة.
مادة 48
افتراض البراءة وحق الدفاع
1- كل شخص يتهم يفترض أنه برئ وحتى يثبت أنه مذنب طبقاً للقانون.
2- يكفل احترام حقوق الدفاع لأي شخص يوجه له اتهام.
مادة 49
مبادئ الشرعية وتناسب الجرائم والعقوبات
1- لا يعتبر أي شخص مذنباً بأي جريمة بسبب أي فعل أو إهمال لم يكن يشكل جريمة بموجب القانون المحلي أو القانون الدولي حين ارتكابه، ولا تفرض عقوبة أشد من التي كانت واجبة التطبيق وقت ارتكاب الجريمة، وإذا نص القانون على عقوبة أخف – بعد ارتكاب الجريمة – تطبق تلك العقوبة.
2- لا تخل هذه المادة بمحاكمة وعقاب أي شخص عن أي فعل أو إهمال كان – وقت ارتكابه – مجرماً طبقاً للمبادئ العامة التي تقرها الدول.
3- يجب أن تتناسب شدة العقوبات مع الجريمة.
مادة 50
الحق في عدم المحاكمة أو العقوبة مرتين في إجراءات جنائية عن نفس الجريمة
لا يكون أي شخص عرضة للمحاكمة أو العقوبة مرة أخرى في إجراءات جنائية عن جريمة تمت تبرئته أو إدانته بالفعل بشكل نهائي داخل نطاق الاتحاد طبقاً ووفقاً للقانون.
الفصل السابع: أحكام عامة
مادة 51
1- توجه أحكام هذا الميثاق إلى مؤسسات وهيئات الاتحاد – مع وضع الاعتبار الواجب لمبدأ المشاركة في القرار – وإلى الدول الأعضاء فقط عند تنفيذ قانون الاتحاد، وبناء على ذلك يحترمون الحقوق، ويتقيدون بالمبادئ، ويشجعون على تطبيقها وفقاً لسلطاتها.(1/72)
2- لا ينشئ هذا الميثاق أي سلطة أو مهمة جديدة للمجتمع أو الاتحاد أو يعدل السلطات والمهام التي تحددها المعاهدات.
مادة 52
نطاق الحقوق المكفولة
1- يجب أن ينص القانون على أي تقييد بشأن ممارسة الحقوق والحريات التي يقرها هذا الميثاق، ويجب احترام جوهر تلك الحقوق والحريات، وفقاً لمبدأ التناسب – يجوز وضع القيود فقط إذا كانت لازمة وتفي بشكل حقيقي بأهداف المصلحة العامة التي يقرها الاتحاد، أو الحاجة لحماية حقوق وحريات الآخرين.
2- تمارس الحقوق التي يقرها هذا الميثاق والتي تقوم على أساس معاهدات المجتمع أو المعاهدة بشأن الاتحاد الأوروبي بموجب الشروط وفي نطاق القيود التي تحددها تلك المعاهدات.
3- بقدر ما يتضمن هذا الميثاق من حقوق والتي تتطابق مع الحقوق التي تكفلها اتفاقية حماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية – يكون مفهوم ونطاق تلك الحقوق هو نفس المفهوم والنطاق الذي تضعه الاتفاقية المذكورة، ولا يمنع هذا الحكم قانون الاتحاد من أن يوفر حماية أوسع.
مادة 53
مستوى الحماية
لا يفسر أي شئ في هذا الميثاق على أنه يقيد أو يؤثر بشكل معاكس على حقوق الإنسان والحريات الأساسية التي يعترف بها – في مجالات تطبيقها – قانون الاتحاد، والقانون الدولي، والاتفاقيات الدولية التي يكون الاتحاد أو المجتمع أو كافة الدول الأعضاء طرفاً فيها بما في ذلك الاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية ودساتير الدول الأعضاء.
مادة 54
حظر إساءة استخدام الحقوق
لا يفسر أي شئ في هذا الميثاق على أنه يتضمن أي حق للمشاركة في أي نشاط أو للقيام بأي فعل يهدف إلى هدم أي من الحقوق والحريات التي يقرها هذا الميثاق أو إلى تقييدها إلى حد أكبر من التي ينص عليها فيه.
? الإعلان الأمريكي لحقوق وواجبات الإنسان.
منظمة الدول الأمريكية
القرار رقم 30 الذي اتخذه المؤتمر الدولي التاسع للدول الأمريكية (1948)
تمهيد(1/73)
كل البشر يولدون أحراراً ومتساوون في الكرامة وفي الحقوق – وحيث أن الطبيعة قد منحتهم العقل والضمير – يجب أن يتصرفوا كإخوة لبعضهم البعض.
إن الوفاء بالواجبات من قبل أي فرد هو مطلب أساسي بالنسبة لحقوق الكافة، والحقوق والواجبات متلازمة في كل نشاط إجتماعي وسياسي للإنسان، فبينما الحقوق ترفع من قدر وحرية الشخصية فإن الواجبات تعبر عن جلال تلك الحرية.
والواجبات ذات الطبيعة القانونية تسلم جدلاً للآخرين بطبيعة أخلاقية تدعم هذه الواجبات من حيث المبدأ وتكون أساساً لها.
وبقدر ما يكون التطور الروحي هو الغاية الأسمى للوجود الإنساني وأرقى درجة من التعبير عنه، فإن واجب الإنسان خدمة هذه الغاية بكل قوته وبشتى موارده.
وحيث أن الثقافة هي التعبير الاجتماعي والتاريخي الأسمى لذلك التطور الروحي، فمن واجب الإنسان حفظ وممارسة وتشجيع الثقافة بكل وسيلة في استطاعته.
وحيث إن السلوك الأخلاقي يشكل أنبل ثمار الحضارة، فمن واجب كل إنسان على الدوام أن يضعه موضع احترام.
وحيث أن:
الشعوب الأمريكية تقر بكرامة الفرد، وتقر دساتيرها الوطنية بأن المؤسسات القضائية والسياسية – التي تنظم الحياة في المجتمع الإنساني – تحمي – كهدف أساسي لها – حقوق الإنسان الأساسية، وتوفر الظروف التي تسمح له أن يحقق التقدم الروحي والمادي ويبلغ السعادة،(1/74)
الدول الأمريكية قد أقرت في مناسبات متكررة أن حقوق الإنسان الأساسية لا تنشأ من حقيقة أنه مواطن لدولة معنية، لكن تقوم على أساس صفات شخصيتة الإنسانية، الحماية الدولية لحقوق الإنسان يجب أن تكون هي الدليل الأساسي لقانون أمريكي متطور، تأكيد الدول الأمريكية على حقوق الإنسان الأساسية والضمانات التي توفرها الأنظمة الداخلية للدول تمثل النظام الأساسي للحماية التي تقرها الدول الأمريكية كنظام مناسب للظروف الاجتماعية والقضائية الحالية – من غير الاعتراف من جانبها أنها يجب أن تقوم بتقوية ذلك النظام بشكل متزايد على المستوى الدولي حيث أن الظروف أصبحت أكثر تشجيعاً، فإن المؤتمر الدولي التاسع للدول الأمريكية يوافق على إقرار ما يلي:
الفصل الأول
الحقوق
مادة 1
الحق في الحياة الحرية والسلامة الشخصية
كل إنسان له الحق في الحياة والحرية وسلامة شخصه.
مادة 2
الحق في المساواة أمام القانون
كل الأشخاص متساوون أمام القانون، ولهم الحقوق والواجبات الثابته في هذا الاعلان دون تمييز بسبب السلالة أو الجنس أو اللغة أو العقيدة أو أي عامل آخر.
مادة 3
الحق في الحرية الدينية والعبادة
لكل شخص الحق في اعتناق ديانة ما بحرية وإظهارها وممارستها علناً وفي السر.
مادة 4
الحق في حرية البحث والرأي والتعبير والنشر
لكل شخص الحق في حرية البحث والرأي والتعبير ونشر الأفكار بأي وسيلة أياً كان نوعها.
مادة 5
الحق في حماية الشرف والسمعة الشخصية والحياة الخاصة والعائلية
لكل شخص الحق في أن يتمتع بحماية القانون ضد الهجمات التعسفية على شرفه وسمعته وحياة الخاصة والعائلية.
مادة 6
الحق في تكون أسرة وحمايتها
لكل شخص الحق في تكوين أسرة – العنصر الأساسي للمجتمع – والحصول على الحماية لها.
مادة 7
الحق في حماية الأمهات والأطفال
لكل النساء – أثناء الحمل وفترة الرضاعة – ولكل الأطفال الحق في الحماية الخاصة والرعاية والمساعدة.
مادة 8(1/75)
الحق في الاستقرار والتنقل
لكل شخص الحق في إعداد سكن له في إقليم الدولة التي يكون مواطناً لها، والانتقال بحرية داخل هذا الإقليم، وعدم مغادرته لا بإرادته الخاصة.
مادة 9
الحق في قدسية (حرمة) المسكن
لكل شخص الحق في قدسية (حرمة) بيته.
مادة 10
الحق في قدسية (حرمة) وانتقال المراسلات
لكل شخص الحق في قدسية (حرمة) وانتقال مراسلاته.
مادة 11
الحق في الحفاظ على الصحة والحق في الرفاهية
لكل شخص الحق في المحافظة على صحته عن طريق الإجراءات الصحية والاجتماعية التي تتعلق بالغذاء والملبس والإسكان والرعاية الطبية إلى الحد الذي تسمح به الموارد العامة وموارد المجتمع.
مادة 12
الحق في التعليم
لكل شخص الحق في التعليم الذي يجب أن يكون قائماً على مبادئ الحرية والأخلاق والتضامن الإنساني.
وبالإضافة إلى ذلك – لكل شخص الحق في التعليم الذي يعده لكي ينال حياة لائقة، ولكي يرفع مستوى معيشته ، ويكون عضواً نافعاً للمجتمع، ويتضمن الحق في التعليم الحق في المساواة في الفرصة في كافة الأحوال وفقاً للمواهب الطبيعية والمميزات والرغبة في الانتفاع بالموارد التي توفرها الدولة أو المجتمع، ولكل شخص الحق في تلقي تعليم مجاني – على الأقل التعليم الأولي.
مادة 13
الحق في الانتفاع بالثقافة
لكل شخص الحق في المشاركة في الحياة الثقافية للمجتمع، والتمتع بالفنون، والمشاركة في الفوائد التي تنشأ عن التقدم الفكري، وخاصة الاكتشافات العلمية.
وبالإضافة إلى ذلك - يكون له الحق في حماية مصالحه الأدبية والمادية فيما يتعلق باختراعاته أو أي أعمال أدبية أو علمية أو فنية يكون هو مؤلفها.
مادة 14
الحق في العمل والمكأفاة العادلة
لكل شخص الحق في العمل – تحت ظروف مناسبة – وأداء مهمته بحرية بالقدر الذي تسمح به ظروف العمل القائمة.
ولكل شخص يعمل الحق في تلقي المكافأة التي تتناسب مع قدراته ومهاراته، وتضمن مستوى معيشة مناسب له ولأسرته.
مادة 15(1/76)
الحق في وقت الفراع واستغلاله
لكل شخص الحق في وقت فراغ، وفي الاستجمام بشكل مفيد، وله الحق في فرصة الاستفادة من وقت فراغه في منفعته الروحية والثقافية والمادية.
المادة 16
الحق في الضمان الاجتماعي
لكل شخص الحق في الضمان الاجتماعي الذي يحميه من عواقب البطالة والشيخوخة وأية إعاقة تنشأ عن أسباب خارج نطاق سيطرته والتي تجعل من المستحيل بالنسبة له بدنياً أو ذهنياً أن يكسب رزقه.
المادة 17
الحق في الاعتراف بالشخصية القانونية والحقوق المدنية
لكل شخص الحق في الاعتراف به في كل مكان كشخص له حقوق وعليه واجبات، والتمتع بالحقوق المدنية الأساسية.
مادة 18
الحق في محاكمة عادلة
يجوز لكل شخص اللجوء إلى المحاكم لضمان احترام حقوقه القانونية، ويجب أن تتوفر له بالإضافة إلى ذلك إجراءات مبسطة وموجزة حيث يمكن للمحاكم أن تحميه من أعمال النفوذ التي تخالف – إجحافاً به – أي حقوق دستورية جوهرية.
المادة 19
الحق في الجنسية
لكل شخص الحق في الجنسية التي يكفلها له القانون، والحق في تغييرها – إذا رغب في ذلك – من أجل الحصول على جنسية أي دولة أخرى ترغب في منحه إياها.
مادة 20
الحق في التصويت والمشاركة في الحكومة
يخول لكل شخص له الأهلية القانونية المشاركة في حكم بلاده – بشكل مباشر أو عن طريق ممثليه – والمشاركة في الانتخابات العامة التي تجرى بالاقتراع السري، بطريقة أمينة وحرة وبشكل دوري.
مادة 21
الحق في التجمع
لكل شخص الحق في التجمع سلمياً مع الآخرين في اجتماع عام رسمي، أو تجمع غير رسمي بشأن المسائل ذات الاهتمام العام أياً كان طبيعتها.
المادة 22
الحق في الاتحاد
لكل شخص الحق في الاتحاد مع الآخرين من أجل تعزيز وممارسة وحماية المصالح الشرعية لأي اتحاد سياسي أو اقتصادي أو ديني أو اجتماعي أو ثقافي أو مهني أو عمالي، أو أياً كانت طبيعته.
المادة 23
الحق في الملكية(1/77)
لكل شخص الحق في الملكية الخاصة التي تفي بالحاجات الأساسية للمعيشة اللائقة، وتساعد في الحفاظ على كرامة الفرد والمسكن.
مادة 24
الحق في الالتماس
لكل شخص الحق في تقديم الالتماسات ذات العلاقة إلى أي جهة مختصة لأسباب تتعلق إما بالمصلحة العامة أو الخاصة، والحق في الحصول على قرار عاجل بشأنها.
مادة 25
الحق في الحماية من الاعتقال التعسفي
لا يجوز حرمان أي شخص من حريته إلا في الحالات وطبقاً للإجراءات الثابته في القانون القائم سلفاً.
ولا يجوز حرمان أي شخص من الحرية لعدم الوفاء بالتزامات الشخصية المدنية المجردة.
ولكل فرد حرم من حريته الحق في التأكد من شرعية احتجازه دون تأخير، عن طريق المحكمة، والحق في المحاكمة دون تأخير له ما يبرره، وإلا يتم إطلاق سراحه، وله الحق كذلك في المعاملة الإنسانية أثناء التحفظ عليه.
مادة 26
الحق في الإجراءات القانونية
أي متهم يفترض أنه برئ حتى تثبت إدانته.
ولأي متهم بجريمة الحق قي محاكمة عامة وعادلة، وأن تتم محاكمته من قبل المحاكم وطبقاً للقوانين القائمة مسبقاً، وألا يتلقى عقوبة قاسية أو شائنة أو غير عادية.
مادة 27
الحق في اللجوء السياسي
لكل شخص الحق في اللجوء السياسي لدولة أجنبية – في حالة الملاحقة له الناشئة عن غير الجرائم العادية – وذلك طبقاً لقوانين كل دولة والاتفاقيات الدولية .
مادة 28
نطاق حقوق الإنسان
تتقيد حقوق الإنسان بحقوق الآخرين، وأمن الكافة، ومتطلبات الصالح العام، وتعزيز الديمقراطية.
الفصل الثاني
الواجبات
مادة 29
الواجبات تجاه المجتمع
من واجب الفرد أن يحسن التصرف فيما يتعلق بالآخرين حتى يتمكن كل فرد من تشكيل وتنمية شخصيته بالكامل.
مادة 30
الواجبات تجاه الأبناء والآباء
من واجب كل شخص مساعدة والإنفاق على وتعليم وحماية أبنائه القصر، ومن واجب الأبناء إجلال آبائهم على الدوام، ومساعدتهم وإعالتهم وحمايتهم عند الحاجة.
مادة 31
واجب تلقي التعليم(1/78)
من واجب كل شخص الحصول على تعليم أولي على الأقل.
مادة 32
واجب التصويت
من واجب كل شخص الإدلاء بصوته في الانتخابات العامة في الدولة التي يكون مواطناً لها، عندما يكون قادراً من الناحية القانونية على القيام بذلك.
مادة 33
واجب طاعة القانون
من واجب كل شخص طاعة القانون والأوامر الشرعية الأخرى لسلطات بلاده، وتلك الخاصة بالدولة التي قد يكون مقيماً فيها.
المادة 34
واجب خدمة المجتمع والأمة
من واجب كل شخص قادر بدنياً أن يؤدي أي خدمة مدنية أو عسكرية لبلاده قد يتطلبها الدفاع عنها وحمايتها، وفي حالة الكوارث العامة – يؤدي مثل هذه الخدمات بقدر ما يستطيع.
ومن واجبه كذلك تولي أي منصب عام قد ينتخب له بالاقتراع العام في الدولة التي يكون مواطناً لها.
مادة 35
الواجبات التي تتعلق بالسلام الاجتماعي والصالح العام
من واجب كل شخص التعاون مع الدولة والمجتمع فيما يتعلق بالسلام الاجتماعي والصالح العام وفقا لقدرته وطبقاً للظروف القائمة.
مادة 36
واجب دفع الضرائب
من واجب كل شخص دفع الضرائب التي يقرها القانون لدعم الخدمات العامة.
مادة 37
واجب العمل
من واجب كل شخص العمل بقدر ما تسمح به قدرته وإمكانياته لكل يحصل على وسائل الرزق أو ينفع مجتمعه.
مادة 38
واجب الامتناع عن الأنشطة السياسية في دولة أجنبية
من واجب كل شخص الامتناع عن المشاركة في الأنشطة السياسية التي تقتصر فقط – طبقاً للقانون – على مواطني الدولة التي يكون هو أجنبياً فيها.
- - - - -(1/79)
التحكيم والتحاكم الدولى
فى الشريعة الإسلامية
بحث مقدم
للدورة العادية التاسعة للمجلس الأوربى للإفتاء و البحوث
المنعقدة في فرنسا
اعداد
أ.د عجيل جاسم النشمى
بسم الله الرّحمن الرّحيم
والحمد لله ربّ العالمين ، والصّلاة والسّلام على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم أجمعين وبعد ،،،
فقد جرت سنّة الله في خلقه باختلافهم في آرائهم ، واعتقاداتهم ، ومللهم ، واختلاف ألوانهم وألسنتهم ولا يزالون مختلفين حتّى يرث الله أرضه ومن عليها ، قال تعالى : " ولو شاء ربّك لجعل النّاس أمّةً واحدةً ولا يزالون مختلفين ، إلاّ من رحم ربّك ، ولذلك خلقهم " (1) ، فمن أجل الاختلاف ثمّ الرحمة للسعداء ، والعذاب للأشقياء ، ليكون فريق في الجنّة ، وفريق في السّعير ، خلق الله الخلق ولا يزالون مختلفين أبدا ، واختلافهم آية من آيات الله : " ومن آياته خلق السّماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إنّ في ذلك لآيات للعالمين " (2) .(1/1)
كما جرت سنّة الله في خلقه باتّفاقهم على حب ما جبلوا عليه من المتاع والمال ، قال تعالى : " زيّن للناس حب الشّهوات من النّساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذّهب والفضّة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدّنيا والله عنده حسن المآب " (3) وجبل الإنسان على حب المزيد من كلّ مال ؛ ليتنافس النّاس فتعمر الأرض وتزدان ، ويسعد الإنسان في حياته الدّنيا ، لكن لما كان حب الإنسان للمال جمّاً ، لو ترك إليه لأسرف وطغى ، وتنكب الطّريق ، وجار ، وظلم وغدا عبداً للمال يشقى به .تنزلَت آيات الله وكتبه وبعث بها رسله ، ليعرّفوا الإنسان حدود حرّيته في حبّ المال والمتاع ، ثمّ تنزلَت آيات القرآن الكريم لتنظيم موارد المتاع الحلال ومصارفه ، والحرام ومساربه وتدرج التّشريع في أحكام حفظ المال والحقوق ، حتّى حدّ الحدود القاطعة لمن بالغ في التّجاوز والظّلم ، وشرع من الأحكام عامة ما ينظّم حياة النّاس في أسرهم ومجتمعهم ودولهم .
وبنى النّفوس من داخلها قبل العلاج في واقع الحياة وزخمّها ، ليكون وازع الدّين أوّل سياج حفظ الحقوق لأصحابها ،فقد تنتهي الخصومة بالعفو أو بالإعراض عن الجاهلين . وقد تنتهي الخصومة بالصّلح . إلاّ أنّ من الخصومات ما لا تنتهي إلاّ بإقامة البراهين والحجج أمام القضاء ، فكان القاضي نهاية مطاف انتصاف المظلومين من الظالمين ، وتقرير الحقوق وردّها إلى أصحابها .
يأخذ من هذا ليعيد لهذا حقّه ، ردّاً إلى حكم الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم : " فإن تنازعتم في شيءٍ فردّوه إلى الله والرّسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خيرٌ وأحسن تأويلا " (1) فالنّزاع لا ينقطع بين المسلمين المؤمنين أو غيرهم ، لكن المؤمنين يفصل القرآن بينهم والسّلطان مخاطب بإقامة شرع الله وسياسة النّاس به في دينهم ودنياهم .(1/2)
والقضاء سبيله في فصل الخصومات وإذا كان وازع الدّين في قلوب المؤمنين يحمل عن القضاء الكثير من وقائع الخصومات ، ممّا ينصف المؤمنون فيه بعضهم بعضا رغبةً ورهبةً استغفاراً وتغافراً وتوبةً . إلاّ أنّ هذا الوازع يقوى أو يضعف ، وقد يتغافر المؤمنون في صغائر الأمور ويحتاجون في كبارها إلى حكم القضاء لا ريب .
والطّامة حال النّاس مع ضعف وازع الدّين ، وتكالبهم على الدّنيا يتنافسوها ولو على حساب دينهم وحيثما ضعف الدّين في النّفوس زاد الظّلم ونما ، وكثر الظلم والظّلمة ، وتعالت الأصوات وثارت النّفوس وهاج النّاس وماجوا ، يأكل القويّ حقّ الضّعيف ، وإزاء ذلك يحتاج الحكّام إلى كثرت الأعوان من شرطة تضبّط وقضاة تحكم، رفعا للنّزاع ، وردّاً للحقوق إلى أصحابها . ولا ريب أنّ القضاء مرتقى صعب مسلكه لما يحتاج من ضمانات وإثباتات وحجج وبراهين ، وإجراءات وتكاليف ويزيد صعوبة عجز المظلوم أو فقره ومدافعة الظّالم عن نفسه ، بل مدافعة من يعين الظّالم على ظلمه ممّن يكون ألحن في حجّته ، يَخْبُر المداخل والمخارج التّي قد تفوِّت الحقوق ، وتحمي الظّالم ، وغايته كسب وفير يبرر الوسيلة ولو كانت ظالمة .
ولا تزال أبواب القضاء في بلاد الدّنيا كلّها أكثر الأبواب ازدحاماً ، وطول انتظار ، حتّى أصبح كثير من أصحاب الحقوق يتردّد في طلب حقّه وانتزاعه عن طريق أبواب القضاء ، حذراً من طول انتظار ، وتضييع الوقت ، أو خوفاً على سمعتهم وفضح أسرارهم وخصوصيّاتهم في جلسات القضاء العلنيّة ، ولربّما لو سلك الطّريق مع هذا ودفع من المال ما دفع لم يصل إلى حقّه لنقص في مستنداته ، أو ضعف في مطالبته أمام خصم ألحن منه بحجّته.(1/3)
وأمام هذا الواقع عادت الدّول إلي مبدأ التّحكيم ، وهو تحاكم الخصمين بالتّراضي إلى غير القاضي ، وقد كانت الدّول تظنّ أنّ التّحكيم يخدش السيادة ، ولكن تبيّن لها أنّه نوع من القضاء ، بل يمكن أن يخضع له ، ويكون سنداً قانونيّاً له .
وقد كان التحكيم سائدا بين العرب ’يتولاه الحماء منهم ’وكانت القبائل تفتخر بحكمائها ."واشتهر بين العرب قبل الإسلام عدد من المحكمين أو الحكام عرفوا بالعقل والحلم والحكمة ’وباختلاف الناس إليهم للحكم فيما يشتجرون فيه منهم الحاجب بن زرارة ’والأقرع بن حابس ’وقس بن ساعدة ’وأكثم بن صيفى’وعبد المطلب بن هاشم " واشتهر بعض النساء بذلك أيضا منهن صحْربنت لقمان(أو أخته)’وهند بنت الخس’وجمعة بنت حابس’وبنت عامربن الظرب " (1
)
وقد أقرّ الإسلام التّحكيم ، بل حبذه وفضّله دون رفع التّخاصم إلى القضاء ، فما تمّ بالتّراضي خير ممّا يتم بعد الشّحناء والخصومة ، فالتّراضي بين الخصمين تقارب وتسامح وإيذان بالرّضى بالحق أو بعضه مع صفاء النّفوس وراحتها .
وقد عرف النّاس التّحكيم منذ القدم ، وما لجأ النّاس للقضاء حتّى قامت الدّول وشرعت النّظم وتعقّدت المسائل والمشاكل . كما عرفته العرب في جاهليّتها ، بل كان ملجأهم في حسم المنازعات بين القبائل ، وقد حقن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم دماء قومه في جاهليّتهم بالتّحكيم لمّا أرادوا أن يرفعوا الحجر الأسود واختصموا فيه حتّى كادوا يتقاتلون قالوا : يحكم بيننا أوّل رجل يخرج من هذه السِّكة فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أول من خرج ، فقضى أن يجعلوه في مِرْطٍ – كساء من صوف أو خز يؤتزر به - ، ثمّ ترفع جميع القبائل من أطراف المرط .(1/4)
وقد نظّم الإسلام التّحكيم ، واعتبره نظاماً لفصل الخصومات هو دون القضاء وفوق الصّلح والفتوى ، فضبط شروط المحكَّم ، وما يصح محلاّ للتّحكيم ، وما لا يصحّ الحكم فيه ، وأعطى لحكم المحكّم صفة الإلزام كالقضاء ، وسلبه التَنفيذ كالفتوى .
وقد عنى الفقهاء بتنظيم التَحكيم ، وإقامته على أصول الشّرع ، ومبناه ، فأحكامه مبناها تحقيق المصالح في رد الحقوق لأصحابها بطريقة التّراضي ، وحفظ الأسرار ، وسرعة الوصول للحقوق ودفع المفاسد من كثرت الخصومات القضائيّة ، ومشقّة التّرافع للقضاء ، ولذا قال ابن العربي " الحكم بين النّاس إنَما هو حقّهم لا حقّ الحاكم ،بيد أن الاسترسال على التّحكيم خرق لقاعدة الولاية ، وقود إلى تهارج النّاس تهارج الحمر ، فلا بدّ من نصب فاصل ، فأمر الشرع بنصب الوالي ليحسم قاعدة الهرج وإذن في التّحكيم تخفيفاً عنه وعنهم في مشقة التّرافع ، لتتمّ المصلحتان وتحصيل الفائدتان " (1) . فمبنى التّحكيم تحقيق المصالح ، ودرء المفاسد ، وسد الذّرائع ، لكن لما كان على خلاف الأصل في أنّ الولايات تكون للحكّام احتاج إلى قيود وضوابط ، وفَّى الفقهاء ترتيبها وضبطها .
وقد أثبت التَحكيم جدواه وأثره حتّى أصبح واقعا محترماً لا تخلوا دولة من تنظيمه واعتماده بل أنشأت له المحاكم والهيئات والمراكز المحليّة والإقليمية والدّولية . وأصبح شريان التّحكيم بين خصومات ومنازعات الدّول والأفراد .
وقد اهتمّت به الدّول العربيّة والإسلاميّة مؤخّراً . وأفضل خطوة فيه إقرار القمّة الإسلاميّة الخامسة المنعقدة في الكويت في يناير 1987 مشروع النّظام الأساسي لمحكمة العدل الإسلامية للدّول الأعضاء في منظّمة المؤتمر الإسلامي .(1/5)
وهناك ملحظ في التّحكيم لو طبّق على مستوى الدّول والأفراد ، لكان باب خيرٍ عظيم حين ينصّ نظامه على تطبيق أحكام الشّريعة الإسلاميّة . فإنّ الدّول والأفراد تترافع إليه بالتّراضي ، فيكون باباً واسعاً لتطبيق أحكام الشّريعة ويكون مرحلة تقديم الشّريعة وتطبيقها وتأخير القانون ، وإعادة الأمّة إلى سابق عدلها وعزّها .
ولقد حاولت في هذا البحث أن أجمع شتات الموضوع من أمّهات الكتب الفقهيّة الأصليّة مستوعباً المذاهب بحججها وأدلّتها ،حتّى إذا ما تكامل للموضوع بناؤه الفقهيّ ، أتبعت به واقع التّحكيم دوليّاً ، مبينا المدى الذّي يمكن أن نتعامل به ، وما لا يمكن أن نتعامل به دوليّاً آخذاً بالاعتبار أنّ ميدان التّحكيم أو التّحاكم غدا في هذا العصر ميداناً رحباً في حلّ النّزاعات خاصّةً بين الدّول ، سواء بين دولتين مسلمتين ، أو بين دولة إسلاميّة وغيرها . وسواء في جهة التّرافع إسلاميّة كانت أو غير إسلاميّة .
. أ .د. عجيل جاسم النشمي
التّحكيم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
تعريفه :
لغةً : هو مصدر حكّمه في الأمر ، أي جعله حكماً ، وهو تفويض الحكم لشخص ، ويُقال للمحكَّم حَكَمْ ، ومُحَكَّمْ من باب التّفعيل بصيغة اسم المفعول ، ويُقال مُحَكِّمْ من باب التّفعيل بصيغة اسم الفاعِل(1)، وفي القرآن الكريم قوله تعالى : " فلا وربّك لا يؤمنون حتّى يُحكِّموك فيما شجر بينهم " (2)
واصطلاحا : اتّخاذ الخصمين آخر (3) أهلاً للحكم برضاهما لفصل خصومتهما ودعواهما "
شرط ومشارطة التحكيم : إصطلح حديثا على تسمية إتفاق الطرفين على التحكيم قبل قيام النزاع بشرط التحكيم . وبعده بمشارطة التحكيم .
ولا مانع من الشرط و الشارطة فى الفقه وهو داخل فى الشروط المقبولة
ركن التّحكيم :
ـــــــ(1/6)
ركن التّحكيم إيجاب من طرف وقبول من الطّرف الآخر ، ويكون الإيجاب بالألفاظ الدّالة على التّحكيم كقول : قد حكمناك ، أو نصبناك حاكماً أو جعلناك حاكماً ونحوه ، فليس المراد خصوصي لفظ التّحكيم(4) .
ضابط التّحكيم :
ــــــــ
ضابط التّحكيم كما قال ابن العربيّ : " إنّ كل حقّ اختصّ به الخصمان جاز التّحكيم فيه ونفذ تحكيم المحكّم فيه " (5)، أو كما قال ابن عرفة : " إنّما يجوز التّحكيم فيما يصحّ لأحدهما ترك حقّه فيه " (6). أو كما جاء في الفتاوى " يجوز التّحكيم في كل ما يملك المحكِّمان فعله في أنفسهما في حقوق الجار " (7) 5/428 .
دليل جواز التحكيم :
ـــــــــ
الأدلة على جواز التحكيم متضافرة من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والقياس .
دليل الكتاب :
ــــــ
قوله تعالى : " وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما " (1) قال ابن العربي : هي من الآيات الأصول في الشريعة (2) وهذه الآية دليل على إثبات التحكيم ومشروعيته (3) ، وعن ابن عباس قال : هذا الرجل والمرأة إذا تفاسد الذي بينهما أمر الله أن تبعثوا رجلا صالحا من أهل الرجل ، ورجلا مثله من أهل المرأة فينظران أيهما المسيء (4) .(1/7)
وقوله تعالى : " فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ، وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين " (5)، قال ابن كثير : نزلت في اليهوديين اللذين زنيا ، وكانوا قد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم ، من الأمر برجم من أحصن منهم ، فحرفوه واصطلحوا فيما بينهم على الجلد مائة جلدة ، والتحميم - تسخيم الوجه بالفحم - ، والإركاب على حمار مقلوبين ، فلما وقعت تلك الكائنة بعد الهجرة قالوا فيما بينهم : تعالوا حتى نتحاكم إليه ، فإن حكم بالجلد والتحميم ، فخذوا عنه ، واجعلوه حجة بينكم وبين الله ويكون نبي من أنبياء الله قد حكم بينكم بذلك ، وإن حكم بالرجم فلا تتبعوه في ذلك .
وقد وردت الأحاديث بذلك ، " عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيهودي ويهودية قد أحدثا جميعا ، فقال لهم : ما تجدون في كتابكم ؟ قالوا إن أحبارنا أحدثوا تحميم الوجه والتجبية ، - الإركاب منكوسا - ، قال عبد الله بن سلام : ادعهم يا رسول الله بالتوراة فأتى بها فوضع أحدهم يده على آية الرجم وجعل يقرأ ما قبلها وما بعدها ، فقال له ابن سلام : ارفع يدك فإذا آية الرجم تحت يده
فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما قال ابن عمر : فرجما عند البلاط فرأيت اليهودي أجنأ عليها " (1) - أي أكب عليها - .
وقال ابن العربي : لما حكموا النبي صلى الله عليه وسلم أنفذ عليهم الحكم ، ولم يكن لهم الرجوع وكل من حكم رجلا في الدين فأصله هذه الآية (2) .
دليل السنة :
ــــــ(1/8)
عن شريح بن هانئ : أنه لما وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعه وهم يكنون هانئا : أبا الحكم ، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : " إن الله هو الحكم وإليه الحكم فلم تكنى أبا الحكم " ؟ فقال : إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم ، فرضي كلا الفريقين ، قال : " ما أحسن من هذا فما لك من الولد " قال : لي شريح ، وعبد الله ، ومسلم . قال : " فمن أكبرهم " قال : شريح ، قال : " فأنت أبو شريح " فدعا له ولولده (3) .
فهذا إقرار واستحسان منه صلى الله عليه وسلم لتحكيم القوم لأبي شريح وفي رواية البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت : " أصيب سعد يوم الخندق ، رماه رجل من قريش يقال له حبان بن العرقة ، رماه في الأكحل ، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد ليعوده من قريب فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق وضع السلاح واغتسل ، فأتاه جبريل عليه السلام وهو ينفض رأسه من الغبار فقال : قد وضعت السلاح ، والله ما وضعته ، اخرج إليهم ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : فأين ؟ فأشار إلى بني قريظة ، فاتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلوا على حكمه ، فرد الحكم إلى سعد ، قال : فإني أحكم فيهم أن يقتل المقاتلة ، وأن تسبى النساء والذرية وأن تقسم أموالهم " (4) .
والحديث نص في الموضوع إذ حكم النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ رضي الله عنه وهو سيد قومه ، ومرضي عندهم ولا ريب في رضاهم به ، وقد ورد في بعض الروايات ما يشير إلى أن سعد بن معاذ رضي الله عنه استوثق من رضي قومه ، ورضي النبي صلى الله عليه وسلم .
وروى أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اشترى رجل من رجل عقارا له فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب ، فقال له الذي اشترى العقار : خذ ذهبك مني إنما اشتريت منك الأرض ، ولم أبتع منك الذهب ، فقال الذي شرى الأرض : إنما بعتك الأرض(1/9)
وما فيها قال : فتحاكما إلى رجل ، فقال : الذي تحاكما إليه : ألكما ولد فقال أحدهما : لي غلام وقال الآخر : لي جارية ، قال : أنكحوا الغلام الجارية ، وأنفقوا على أنفسكما منه وتصدقا " .
فالحديث ظاهر في مشروعية التحكيم وفضل الإصلاح ، قال النووي : في الحديث فضل الإصلاح بين المتنازعين ، وأن القاضي يستحب له الإصلاح بين المتنازعين ، كما يستحب لغيره (1) .
إجماع الصحابة :
ــــــــ
فقد وقع بين الصحابة خلاف كثير فكانوا ربما حكموا فيه واحدا منهم ولم ينكره أحد فكان إجماعا . ومن ذلك ما كان بين عمر وأبي بن كعب رضي الله عنهما من مدارأة – خصومة – بينهما في نخل ، فحكما بينهما زيد بن ثابت رضي الله عنه فأتياه فخرج زيد بن ثابت إليهما ، وقال لعمر رضي الله عنه ألا تبعث إلى فآتيك يا أمير المؤمنين فقال عمر رضي الله عنه في بيته يؤتى الحكم فأذن لهما فدخلا وألقى لعمر وسادة فقال عمر رضي الله عنه هذا أول جورك ، وكانت اليمين على عمر رضي الله عنه ، فقال زيد لأبي رضي الله عنه : لو أعفيت أمير المؤمنين من اليمين ، فقال عمر يمين لزمتني فلأحلف ، فقال أبي رضي الله عنه ، بل يعفى أمير المؤمنين ويصدقه .
وتحاكم عمر رضي الله عنه مع رجل إلى شريح في أمر فرس اشتراها عمر بشرط السوم وحاكم علي رضي الله عنه اليهودي إلى شريح ، وحاكم عثمان بن طلحة إلى جبير بن مطعم ، وتحاكم علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما ، فكان من جهة على أبو موسى الأشعري ومن جهة معاوية عمرو بن العاص وحكم أهل الشورى عبد الرحمن بن عوف " (1) .
وعلى القول بجواز التحكيم المذاهب الأربعة ، وجمهور الفقهاء ، كما سيأتي بيان ذلك .
القياس :
ـــــ
يمكن قياس التحكيم على القضاء بجامع فصل الخصومة ، كما يمكن قياسه على الاستفتاء في عدم لزومه في الأصل .
حكمه :
ـــــ(1/10)
حكم التحكيم الجواز عند جمهور الفقهاء ، ولم تختلف المذاهب في أصل مشروعيته لما سبق من الأدلة والقياس على القضاء والاستفتاء ، وإنما اختلافهم فيما قد يحتاجه من قيود وشروط .
قال المازري المالكي : " تحكيم الخصمين غيرهما جائز ، كما يجوز أن يستفتيا فقيها يعملان بفتواه في قضيتهما " ، وجزم أبن فرحون بالجواز فقال : " إذا حكم أحد الخصمين صاحبه فحكم لنفسه أو عليها جاز ومضى ما لم يكن جوارا بينا " (2) .
ونصوص المذاهب ظاهرة متضافرة على جوازه غاية ما هنالك أن المالكية اختلفوا في جوازه ابتداء أو بعد وقوعه ، وظاهر كلامهم ، ومفهومه جواز التحكيم ابتداء (3) .
والحنفية امتنعوا عن الفتوى به مع جوازه خشية أن يتجاسر العوام إلى تحكيم من ليس أهلا فقالوا : " إن حكم المحكم في المجتهدات نحو الكنايات والطلاق المضاف جائز في ظاهر المذهب عن أصحابنا ، إلا أن هذا مما يعلم ، ولا يفتى به كي لا يتجاسر الجهال إلى مثل هذا " (1) .
إلا أن واقع المذهب أن لو كان المحكم على وفق ما ذكروه من شروط وفي محل الاجتهاد جاز ومضى حكمه ، حتى قالوا : " إن فتوى الفقيه للجاهل بمنزلة حكم القاضي المولى ، أو حكم المحكم 000 " (2) .
والشافعية مع القول بجوازه " بشرط أهلية القضاء فلم يجوزوا تحكيم غير الأهل مع وجود القاضي ولو قاضي الضرورة " (3) كما سيأتي .
وعند الشافعية قول بعدم الجواز لأنه يؤدي إلى اختلال أمر الحكام وقصور نظرهم والافتيات عليهم وقول بجوازه بشرط عدم وجود قاض بالبلد وهذا هو المعتمد ، ولو لغير الأهل ، فيمتنع تحكيم غير الأهل ، مع عدم وجود قاضي الضرورة إلا إن كان يأخذ مالا له وقع بحيث يضر حال الغارم فيجوز التحكيم ، وإن كان القاضي مجتهدا (4) ، وسيأتي تقسيمات مذهبهم تبعا لمحل التحكيم .
التحكيم والقضاء :
ـــــــــ(1/11)
التحكيم من الولايات فهو نوع من القضاء لما فيه من فصل الخصومة ، وبيان الحكم الشرعي فالحكم من أنواع القضاء ، ولذلك يذكر الفقهاء التحكيم والحكم في باب القضاة أو القضاء .
فيتفقان في الإلزام بحكمهما إلا أن القضاء بمثابة الأصل ، والتحكيم بمحل الفرع منه فرتبته أقل وأدنى ولذا اختلف القضاء عن التحكيم في أمور أهمها :
موضوع القضاء في الخصومات مطلقا وفي كل ما يعرض عليه ، وحكم المحكم لا يصح في الحدود والقصاص والدية على العاقلة – على ما سيأتي ذكره والخلاف فيه - .
ولاية القضاء عامة على الناس ، فولايته من ولي الأمر ، ومعين من قبله فعمله من المناصب والولايات ، وولاية المحكم خاصة فيمن ارتضاه من المتخاصمين " فولاية التحكيم بين الخصمين ولاية مستفادة من آحاد الناس ، وهي شعبة من القضاء متعلقة بالأموال دون الحدود واللعان والقصاص " (1) ، وقال الشافعي " التحكيم إنما هو فتوى لأنه لا يقدم آحاد الناس الولاة والحكام " (2) فينفذ حكم القاضي على العامة وينفذ حكم المحكمين على من رضي بحكمهما.
حكم المحكم يصح فيما يملك المحكمون فعله بأنفسهم ، وهي حقوق العباد ، ولا يصح في حقوق الله .
بجوز تحكيم أثنين أو أكثر ، ولا بد حينئذ من اجتماعهم ، فلو حكم أحدهم دون غيره لا يجوز لأن المحكمين رضيا برأيهما أو رأيهم ، وهذا بخلاف القضاء .
أن حكم المحكم في المجتهدات إذا رفع إلى القاضي إن كان موافقا لرأيه أمضاه وإن كان مخالفا أبطله – عند بعض الفقهاء – وليس للقاضي أن يبطل حكم قاض آخر في المجتهدات .
شروط القضاة يضعها ولي الأمر كما قررها الفقهاء ، بينما شروط المحكم يضعها المتخاصمون مع مراعاة بعض الشروط التي يتفق فيها مع شروط القاضي – على تفصيل في ذلك عند الفقهاء - .
يجوز للمتخاصمين أن يوقفوا التحكيم قبل الشروع فيه أو قبل صدور الحكم – على خلاف فيه – كما أن لهما أن يعزلا المحكم ، بخلاف القضاء (3) .
التحكيم والإفتاء :
ــــــــ(1/12)
التحكيم وإن اتفق مع الإفتاء في الإخبار عن الحكم الشرعي في الواقعة محل النزاع أو محل السؤال إلا أن التحكيم ألصق بالقضاء لصفة الإلزام عند جمهور الفقهاء ، وليس كذلك صفة الإفتاء ولذا اختلف عن التحكيم في جوانب جوهرية ، فاشترط كثير من الفقهاء في المحكم ما يشترط في القاضي دون اشتراط ذلك في المفتي ، فالمفتي يخبر عن حكم الواقعة محل السؤال ، والقاضي والمحكم ملزم ومنشئ للحكم في الواقعة محل النزاع ، والتحكيم محدد في مسائل من النزاع والخصومة وغيرها قال ابن فرحون : " العبادات لا يدخلها الحكم بل الفتيا فقط " (1) ، وبمثل ذلك قال القرافي وزاد قوله : " فكل ما وجد فيها من الإخبارات فهي فتيا فقط ، فليس لحاكم أن يحكم بأن هذه الصلاة صحيحة أو باطلة " ، وقد عدد القرافي مسائل من باب الفتوى وأخرى من باب الحكم (2) .
شروط التحكيم والمحكم :
ــــــــــــ
يشترط في التحكيم أن يكون موافقا للشرع بأن يكون بالبينة ،أو الإقرار أو التوكل ونحو ذلك (3) .
ويشترط في المحكم بالكسر العقل ، ولا يشترط الحرية والإسلام ، فيصح تحكيم ذمي ذميا وقال الشافعية : يشترط في المحكمين أن يكونا راشدين يتصرفان لأنفسهما ، وليس المحكم أصلا ولا فرعا لأحدهما ولا عدوا له (4) .
شروط المحكم :
ـــــــ
يتفق الفقهاء في جملة الشروط وبخاصة أن يكون المحكم أهلا للقضاء أو الشهادة ، إلا أنهم يختلفون في بعض الشروط وفي تفصيلها .
فيشترط الحنفية أن يكون الحكم أهلا للحكم وقت التحكيم ووقت الحكم أهلا للقضاء ، فلو انتخب الخصمان صبيا وحكم في حال صباه ، أو بعد البلوغ بناء على التحكيم السابق فلا يصح حكمه ولا ينفذ (1) . وعبر صاحب الفتاوى الهندية باشتراط أن يكون الحكم من أهل الشهادة وقت التحكيم ووقت الحكم ، حتى إنه إذا لم يكن أهلا فأعتق ، أو ذميا فأسلم وحكم لا ينفذ حكمه (2) .(1/13)
واشتراط الشهادة أدخل تحكيم المرأة والفاسق ، لأنهما من أهل الشهادة وصلاحيتهما للقضاء والأولى عندهم عدم تحكيم الفاسق (3) ، وكذا الكافر في حق الكافر ، لأنه أهل للشهادة في حقه ، وكذا يجوز تقليده القضاء ليحكم بين أهل الذمة ، وجاز لذلك تحكيم ذمي ذميا لأنه من أهل الشهادة بين أهل الذمة دون المسلمين . ويكون تراضيهما عليه في حقهما وجوازه قياسا على جواز تقليد السلطان للذمي ليحكم بين أهل الذمة ، فإذا جاز في القضاء جاز في التحكيم لأن المحكم كالقاضي (4) ، ولا يصح تحكيم كافر في حق مسلم أو عبد محجور عليه أو محدود في قذف أو صبي لأنهم ليسوا من أهل الشهادة (5) .
كما اشترطوا في المحكم أن يكون معلوما ، فلو كان حكما مجهولا كأول من يدخل المسجد لم يجز ، وألا يكون بين المحكم وأحد الخصمين قرابة تمنع من الشهادة (6) .
واشترط المالكية أن يكون عدلا ، عدل شهادة بأن يكون مسلما ، حرا ، بالغا ، عاقلا، غير فاسق وقال اللخمي : " إنما يجوز التحكيم لعدل مجتهد " (7) ، وقال المازري : " لا يحكم إلا من يصح أن يولى القضاء " (8) ، وأن يكون غير خصم أي غير أحد الخصمين ، لأن الشخص لا يحكم لنفسه ولا عليها وغير خصم لأحدهما بأن ثبت بينه وبين أحد المتداعيين خصومة دنيوية ، وإن لم تصل إلى العداوة .
فإن وقع تحكيم الخصم مضى إن حكم صوابا ، وقيل : يجوز ابتداء عند ابن عرفه (1) ، فإن كان الخصم من تولية قاض صح حكمه (2) .
كما اشترطوا أن يكون المحكم غير جاهل بالحكم بأن يكون غالبا عالما بما حكم به إذ شرط الحاكم والمحكم العلم بما يحكم به ، وإلا لم يصح ، ولم ينفذ حكمه بالجهل لأنه تخاطر وغرر ، لكن لو شاور الجاهل العلماء وحكم فيصح ، وينفذ ، ولا يقال له حينئذ حكم جاهل (3) .(1/14)
وكذا حكم العامي قال اللخمي : " يجوز تحكيمه إذا استرشد العلماء ، فإن حكم ولم يسترشد رد وإن وافق قول قائل ، لأن ذلك تخاطر وغرر (4) ، كما لا يجوز تحكيم غير مميز لجنون أو وسوسة أو إغماء " (5) .
واختلف المالكية في تحكيم صبي وعبد وامرأة وفاسق فيما يصح فيه التحكيم أي في المال والجُرح على أربعة أقوال : الصحة مطلقا ، وهو لأَصبَغ ، وعدم الصحة مطلقا ، وهو لمُطَرِّف ومقتضى قول المازري ، والثالث : الصحة إلا في تحكيم الصبي المميز ، لأنه غير مكلف ولا إثم عليه إن جاز وهو لأشهب ، والرابع الصحة إلا في تحكيم الصبي الفاسق وهو لعبد الملك (6) .
وعلى هذا فجمهور المالكية على جواز تحكيم المرأة والعبد ، وهم بهذا يتفقون مع الحنفية في صحة تحكيم المرأة ، واشترط الشافعية أهلية المحكم للقضاء ، ولكنهم اختلفوا في المراد بالأهلية هل هي الأهلية المطلقة أي العلم بحكم سائر المسائل ، أو العلم بحكم المسألة محل النزاع فقط ، فقال الزركشي : " المراد الأهلية المطلقة لا بالنسبة لتلك الحادثة فقط " ، قال : ونقل في الذخائر الاتفاق على ذلك من المجوزين للتحكيم ، وقال القاضي في شرح الحاوي يشترط العلم بتلك المسألة فقط .
واختلفوا في تحكيم غير الأهل فالمعتمد عندهم : أنه لا يجوز تحكيم غير الأهل مطلقا ، ولو مع وجود قاضي الضرورة إلا في النكاح إذا فقدت القاضي ، وكانت المرأة في سفر فولت أمرها عدلا يزوجها وإلا إذا ترتب على الرفع لقاضي الضرورة غرامة مال على الحكم ، يشق عليه عادة ولا يحتمله مثله فإن فقد القاضي مطلقا حتى قاض الضرورة كالفاسق (1) ، واحتيج إلى الحاكم جاز تحكيم أصلح وأفضل من يوجد من العدول بخلاف غيرهم .(1/15)
وبشرط أهلية القضاء لا يجوز تحكيم الأعمى ولا الأصم ولا المرأة ولا الخنثى ولا الرقيق ولا الكافر ولو في خصم كافر وكذا لا يجوز في نحو ولده ، ومن يتهم في حقه ، ولا على عدوه (2). وقال ابن أبي الدم : لو تحاكم إليه بالتحكيم ولده ، وأجنبي ، فحكم لولده ، أو لوالده على الأجنبي ففي جوازه وجهان ، أحدهما : لا يجوز كالقاضي المطلق ، والثاني بلى ؛ لأن ذلك وقع عن رضا بينهما وهكذا لو حكم على عدوه ، فيه وجهان أيضا (3) .
وللشافعية تفصيل وخلاف ذكره الماوردي فقال : إن كان التحكيم من المتنازعين لمن لا يجوز أن يشهد لهما ولا عليهما – والذي لا يجوز أن يشهد لهما والد وولد ، والذي لا يجوز أن يشهد عليهما عدو – فينظر : فإن حكم على من لا يجوز أن يشهد له من والد أو ولد لمن يجوز أن يشهد له من الأجانب جاز ، كما يجوز أن يشهد عليه وإن لم يجز أن يشهد له .
وإن حكم لمن لا يجوز أن يشهد له من والد أو ولد على من يجوز أن يشهد له من الأجانب ففي جوازه وجهان :
أحدهما : لا يجوز حكمه له ، كما لا يجوز أن يحكم له بولاية القضاء .
والثاني : يجوز أن يحكم له بولاية التحكيم وإن لم يجزأن يحكم له بولاية القضاء ؛ لأن ولاية التحكيم منعقدة باختيارهما فصار المحكوم عليه راضيا بحكمه عليه ، وخالفت الولاية المنعقدة بغير اختيارهما وإن حكم لعدوه نفذ حكمه ، وإن حكم على عدوه ففي نفوذ حكمه عليه ثلاثة أوجه :-
الوجه الأول : لا يجوز أن يحكم عليه بولاية القضاء ولا بولاية التحكيم كما لا يجوز أن يشهد عليه .
الوجه الثاني : يجوز أن يحكم عليه بولاية القضاء ، وولاية التحكيم ، بخلاف الشهادة ، لوقوع الفرق بينهما ، بأن أسباب الشهادة خافية وأسباب الحكم ظاهرة .
الوجه الثالث : أنه يجوز أن يحكم عليه بولاية التحكيم لانعقادها عن اختياره ولا يجوز أن يحكم عليه بولاية القضاء لانعقادها بغير اختياره (4) .(1/16)
كما اشترط الشافعية في المحكم أن يتفق الخصمان على التراضي به إلى حين الحكم ، فإن رضي به أحدهما دون الآخر ، أو رضيا به ثم رجعا ، أو رضي أحدهما بطل تحكيمه ، ولم ينفذ حكمه سواء حكم للراضي أو للراجع (1) .
ويمكن تأصيل قاعدة ما لا يجوز التحكيم فيه عند المذاهب فيما يلي :-
عند الحنفية : كل ما كان حقا لله تعالى ، أو في كل مالا ولاية للمحكمين عليه .
عند المالكية : كل ما كان حقا لله تعالى ، أو تعلق به حق غير الخصمين .
وعند الشافعية : كل ما كان حقا لله تعالى خالصا ، أو عقوبة له عز وجل أو في كل ما ليس له طالب معين ، وأضافوا النكاح واللعان ربما لتعليل المالكية في تعلق الحق بغير الخصمين .
وعند الحنابلة : في كل ما كان حقا لله خالصا ، مع إضافة النكاح واللعان للتعليل السابق .
وفيما يلي بيان مذاهبهم :-
عند الحنفية :
ــــــــ
لا يجوز التحكيم في الحدود والقصاص ، والدية على العاقلة وقال بعض الحنفية: إن هذا في الحدود الخالصة حقا لله تعالى ، لأن الإمام هو المتعين لاستيفائها ، وليس للمحكمين ولاية على سائر الناس ولذلك جاز التحكيم في القصاص في إحدى الروايتين عند الحنفية ، وجاز في حد القذف لأنهما من حقوق العباد .
والإمام أبو حنيفة على عدم الجواز في القصاص ، ولكن قال الجصاص : ينبغي أن يجوز وعلل ذلك ، بأن ولي القصاص لو استوفى القصاص من غير أن يرفع إلى السلطان جاز ، فكذا إذا حكم فيه ؛ لأنه من حقوق بني آدم ، والصحيح عندهم عدم جواز التحكيم في الحدود والقصاص ؛ لأن حكم الحكم بمنزلة الصلح ، ولا يجوز استيفاء القصاص وحد القذف بالصلح ؛ لأنه لا ولاية لهما على دمهما (2)؛ ولأنهما يندرئان بالشبهات ، وفي حكم المحكم شبهة ، لأنه حكم في حقهما لا في حق غيرهما وهذه شبهة عظيمة .(1/17)
وأما عدم جوازه في الدية على العاقلة ؛ لأنه لا ولاية لهما على العاقلة ، فلو حكماه في دم الخطأ فقضى بالدية على العاقلة ، أو على القاتل في ماله لا ينفذ حكم من حكماه على العاقلة ، ولا على القاتل أما الأول : فلعدم التزام العاقلة حكمه وعدم رضا العاقلة به ، وحكم المحكم إنما ينفذ على من رضي بحكمه (1)، ولكن لو أن العاقلة حكموه نفذ حكمه لولايته عليهم حينئذ (2).
وأما الثاني : فلكونه مخالفا لحكم الشرع ؛ لأن الدية تجب على العاقلة لا على القاتل ، لكن لو أن القتل ثبت بإقرار القاتل ، أو ثبت جراحته ببينة وأرشها أقل مما تتحمله العاقلة خطأ كانت الجراحة خطأ أو عمدا ، أو كان قدر ما تتحمله العاقلة ، ولكن الجراحة كانت عمدا لا توجب القصاص نفذ حكمه عليه ؛ لأن العاقلة لا تعقله (3).
عند المالكية :
ـــــــ
حدد المالكية ما لا يجوز التحكيم فيه في الحدود مثل حد القذف والزنا والسرقة والسكر والجلد والرجم ، والقصاص في النفس ، كما نصوا على عدم جواز التحكيم في قتل في ردة أو حرابة ؛ لأنه حق لله لتعدي حرماته ، وكذا تارك الصلاة ، ولا في عتق ولا في ولاية لشخص على آخر ، ولا في نسب كذلك ، ولا طلاق وأيضا لا يجوز التحكيم في فسخ لنكاح ونحوه ، ولا في رشد وسفه ولا في أمر غائب مما يتعلق بما له ، وزوجته ، وحياته ، وموته ، ولا في حبس ، ولا في عقد مما يتعلق بصحته وفساده ؛ لأن هذه الأمور إنما يحكم فيها القضاة ، فلا يجوز التحكيم فيها لتعلق الحق بغير الخصمين ، إما لله تعالى كالحدود لأن المقصود منها الزجر وهو حق لله تعالى ، والقتل لأنه إما لردة أو حرابة وكله حق لله لتعدي حرماته ، والعتق ، لأنه لا يجوز رد العبد إلى الرق ولو رضي بذلك ، وكذا الطلاق البائن لا يجوز رد المرأة إلى العصمة ولو رضيت بذلك فالطلاق فيه حق لله تعالى إذ لا يجوز أن تبقى المرأة المطلقة البائن في العصمة .(1/18)
وأما لآدمي كاللعان والولاء والنسب ، ففي اللعان حق الولد في نفي نسبه من أبيه ، وفي الولاء والنسب ترتيب أحكامها من نكاح وعدمه ، وإرث وعدمه ، وغير ذلك على الذرية التي ستوجد (4) فلا يسري ذلك على غير المحكمين ، ومن يسري ذلك إليه لم يرضى بحكم المحكم .
عند الشافعية :
ــــــــ
مذهب الشافعية عدم جواز التحكيم في الحدود ، وبتعبير أشمل عدم الجواز فيما هو عقوبة لله تعالى ليتناول التعزير ، وفي قول لا يجوز في قصاص ونكاح ونحوهما كاللعان وحد قذف وعللوا ذلك بخطر أمرها فتناط بنظر القاضي ومنصبه .
وعللوا لعدم جواز التحكيم في حدود الله تعالى بأن ليس لها طالب معين ، وعليه فحق الله تعالى المالي الذي لا طالب له معين لا يجوز فيه التحكيم (1) .
عند الحنابلة :
ـــــــ
ظاهر كلام أحمد كما قال أبو الخطاب أن التحكيم في ما يتحاكم فيه الخصمان ، وقال القاضي : يجوز حكم المحكم في الأموال خاصة ، فأما النكاح والقصاص وحد القذف فلا يجوز التحكيم فيها لأنها مبنية على الاحتياط فيعين للحكم فيها قاضي الإمام كالحدود (2)، وفي المغنى قال القاضي : ينفذ حكم من حكماه في جميع الأحكام إلا أربعة أشياء : النكاح ، واللعان ، والقذف والقصاص ، لأن لهذه الأحكام ميزة على غيرها فاختص الإمام بالنظر فيها ، ونائبه يقوم مقامه . قال الشيخ تقي الدين أبن تيميه : خصوا اللعان لأن فيه دعوى وإنكار وبقية الفسوخ كإعسار (3) .
مالا يجوز التحكيم فيه :
ــــــــــــ
يتفق الفقهاء على عدم جواز التحكيم في القصاص وفي الحدود على خلاف فيما كان حقا لله فلا يجوز فيه التحكيم ، أو حقا لآدمي فيجوز فيه التحكيم عند البعض .
ما يجوز فيه التحكيم :
ـــــــــــ(1/19)
أجاز الحنفية التحكيم في كل ما يملك المحكمان فعله في أنفسهما من حقوق العباد ، وبناء على هذا قالوا يجوز التحكيم في الأموال والطلاق ، والعتاق والنكاح ، وتضمين السرقة ، وفي سائر المجتهدات ، ومع أن هذا هو الصحيح في المذهب إلا أن مشايخ الحنفية امتنعوا عن هذا للفتوى كي لا يتجاسر العوام فيه (4)، كما سبقت الإشارة .
وأجاز المالكية التحكيم في كل ما يصح لأحد المحكمين ترك حقه فيه ، فقالوا : بجواز التحكيم في الأموال من دين وبيع وشراء فللمحكم الحكم بثبوت ما ذكر أو عدم ثبوته ، ولزومه وعدم لزومه وجوازه وعدمه ، كما يجوز التحكيم في الجرح عمدا أو خطأ ، ولو عظم كجائفة وآمة ومنقلة وموضحة ، أو قطع لنحو يد (1).
وعند الشافعية يجوز التحكيم في حقوق الأموال ، وعقود المعاوضات ، وما يصح فيه العفو والإبراء ، وعندهم قسم مختلف فيه ، كما قال الماوردي ، وهو أربعة أحكام : النكاح واللعان ، والقذف والقصاص . ففي جواز التحكيم ، فيها وجهان : أحدهما : يجوز لوقوفها على رضا المتحاكمين .
والثاني : لا يجوز ؛ لأنها حقوق وحدود يختص الولاة بها ، وفي مغنى المحتاج وغيره جواز التحكيم في المال دون القصاص والنكاح ونحوهما كاللعان وحد القذف (2).
أما الحنابلة فقد اختلفوا في ما يجوز التحكيم فيه فقال أبو الخطاب ظاهر كلام أحمد أن التحكيم يجوز في كل ما يتحاكم فيه الخصمان قياسا على قاضي الإمام ، وقال القاضي : يجوز حكمه في الأموال الخاصة كما سبقت الإشارة . ونص موفق الدين بن قدامه : على نفاذ حكم المحكم في المال والقصاص والحدود والنكاح واللعان ، قال المرداوي : وهو المذهب (3).
إذا حكم المحكم فيما لا يجوز له الحكم فيه :
ـــــــــــــــــــــ(1/20)
إذا حكم المحكم فيما لا يجوز له الحكم فيه كالحكم في حد أو قصاص أو لعان أو غيره مضى حكمه ، ولا ينقضه الإمام ، ولا القاضي إن حكم صوابا ، لأن حكم المحكم يرفع الخلاف ، ولكن يؤدب المحكم إن أنفذ حكمه بأن قتل أو ضرب ، أما لو حكم ولم ينفذ ، فإن القاضي يمضي حكمه وينهاه عن العودة ولا يؤدبه (4). أما إن لم يصب فعليه الضمان ، فإن ترتب على حكمه إتلاف عضو فالدية على عاقلته ، وإن ترتب عليها إتلاف مال كان الضمان في ماله (5) .
وقال الشافعية والحنابلة : ليس للمحكم أن يحبس ، بل غايته الإثبات والحكم ، وقال الغزالي : إذا حكم بشيء من العقوبات كالقصاص ، وحد القذف لم يستوفه ؛ لأن ذلك يخرم أبهة الولاية (1). وقال أبن أبي الدم : المذهب أنه لا يحبس ، بل ليس له إلا الإثبات ، ولا خلاف أنه ممنوع من استيفاء العقوبات إن جوزنا التحكيم فيها ، لأنها تخرم أبهة الولاية العامة (2).
إذا تعدى حكم المحكم غير المتنازعين :
ـــــــــــــــــــ
من المتفق عليه عند الفقهاء أن حكم المحكم لا يلزم غير المتخاصمين ؛ لأن مبناه على الرضا فإذا تعدى إلى غيرها لم يلزم ، وهذا ما جرى عليه الفقهاء في اللعان والنسب ونحوهما مما سبق ذكره . وفصل الماوردي فيما إذا تعدى الحكم إلى غير المتنازعين فجعله على ضربين :-
الضرب الأول : ما كان منفصلا عن الحكم ، ولا يتصل به ، إلا عن سبب موجب كتحاكمهما إليه في دين فأقام به مدعيه بينة شهدت بوجوب الدين ، وأن فلانا ضامنه لزم حكمه في الدين ، ولم يلزم حكمه في الضمان لوجود الرضا ممن وجب عليه الدين ، وعدم الرضا ممن وجب عليه الضمان .
الضرب الثاني : أن يكون متصلا بالحكم ، ولا ينفصل عنه ، إلا بسبب موجب كتحاكمهما إليه في قتل خطأ قامت به البينة ففي وجوب الدية على العاقلة التي لم ترض بحكمه وجهان :
الوجه الأول : تجب عليه الدية لوجوبها على الراضي بحكمه إذا قيل إن الدية تجب على الجاني ثم تتحملها عنه العاقلة .(1/21)
الوجه الثاني : لا تجب على العاقلة الدية ، لأنهم لم يرضوا بحكمه إذا قيل أن الدية تجب ابتداء على العاقلة (3).
إذا خالف حكم المحكم مذهب القاضي :
ـــــــــــــــــــ
إذا رفع المحكمان حكم المحكم إلى القاضي وتحاكما عنده نفذه إن وافق مذهبه ، لأنه لا فائدة في نقضه ثم إبرامه ، ثم فائدة هذا الإمضاء أن لا يكون لقاض آخر يرى خلافه نقضه إذا رفع إليه لأن إمضاءه بمنزلة قضائه ابتداءً ، ولو لم يمضه لنقضه وإن لم يوافق مذهبه أبطله ، لأن حكمه لا يلزمه لعدم التحكيم من جهته بخلاف ما إذا رفع إليه حكم حاكم حيث لا يبطله ، وإن خالف مذهبه إلا أن يخالف الكتاب أو السنة أو الإجماع ؛ لأن المولى من جهة الإمام له ولاية على الناس كافة فكان نائبه له فيكون قضاؤه حجة في حق الكل ، فلا يتمكن أحد من نقضه كحكم الإمام نفسه .
بخلاف المحكم ؛ لأنه باصطلاح الخصمين ، فلا يكون له ولاية على غيرهما ، ولا يلزم القاضي حكمه بمنزلة اصطلاحهما في المجتهدات حتى كان له نقض اصطلاحهما إذا رأى خلاف ذلك فكذا هذا ، وهذا لأنه أعطى له حكم القاضي في حقهما حتى اشترط فيه شرائط القضاء ، وفي حق غيرهما كواحد من الرعايا ، لكن لو غاب المحكم أو أغمي عليه ، وبرئ منه أو قدم من سفره أو حبس كان على حكمه لأن هذه الأشياء لا تبطل الشهادة ، فلا تبطل الحكومة ، وكذا لو ولي القضاء ثم عزل عنه فهو على حكومته ، لأن العزل لم يوجد من جهة المحكمين ، وإنما وجد من جهة الوالي وولاية الحكومة مستفادة من جهة المحكمين لا من جهة الوالي ، وكذا لو حكم بينهما في بلد آخر جاز لأن التحكيم حصل مطلقا فكان له الحكومة في الأماكن كلها (1). لكن قال الشافعية : إذا ثبت الحق عنده وحكم به أو لم يحكم فله أن يشهد على نفسه في المجلس خاصة ، إذ لا يقبل قوله بعد الافتراق كالقاضي بعد العزل (2).
صفة الحكمين :
ـــــــ(1/22)
اختلف الفقهاء في صفة الحكمين – في معرض كلامهم عن المحكمين في الشقاق بين الزوجين – هل هما حاكمان ، أو وكيلان على قولين :
الأول : أنهما وكيلان ، وهو قول أبي حنيفة ، والشافعي في قول ، وأحمد في رواية وقول عطاء والحسن بن أبي الحسن .
الثاني : أنهما حاكمان ، وهذا قول أهل المدينة ، ومالك ، وأحمد في الرواية الأخرى والشافعي في القول الآخر وروى ذلك عن علي وعثمان وابن عباس وأبي سلمة بن عبد الرحمن والشعبي والنخعي وسعيد بن جبير والأوزاعي ، وإسحاق ، وابن المنذر وحكاه ابن كثير عن الجمهور وقال ابن عطية هو مذهب مالك والجمهور من العلماء .
وقال ابن شاس من المالكية : المبعوثان حكمان لا وكيلان ، وإن كان البعث من جهة الزوجين ألا ترى أن للزوجين دخولا في التحكيم ، ولا مدخل لها في تمليك الطلاق .
وقال ابن العربي في قوله تعالى : " فإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها " (1)، هذا نص من الله سبحانه في أنهما حاكمان لا وكيلان (2)، وعند الشافعية هما وكيلان في الأظهر ، وفي قول هما حاكمان موليان من الحاكم واختار الثاني جمع من الشافعية (3).
وعند الحنابلة قال في المغنى : اختلفت الرواية عن أحمد في الحكمين ، ففي إحدى الروايتين عنه : أنهما وكيلان لهما لا يملكان التفريق لهما إلا بإذن منهما . والثانية : أنهما حاكمان ، ولهما أن يفعلا ما يريان من جمع وتفريق ، بعوض وغير عوض ، ولا يحتاجان إلى توكيل الزوجين ولا رضاهما .
وحجة من قال إنهما وكيلان : أن البضع حق الزوج والمال حق الزوجة وهما رشيدان فلا يجوز لغيرهما التصرف فيه إلا بوكالة منهما ، أو ولاية عليهما (4)، ولأن الطلاق لا يدخل تحت الولاية إلا في المولى ، وهو خارج عن القياس (5).(1/23)
واحتج الإمام الجصاص بقول أصحابه من الحنفية فقال : ليس للحكمين أن يفرقا إلا أن يرضى الزوج وذلك لأنه لا خلاف أن الزوج لو أقر بالإساءة إليها لم يفرق بينهما ولم يجبره الحاكم على طلاقها قبل تحكيم الحكمين ، وكذلك لو أقرت المرأة بالنشوز لم يجبرها الحاكم على خلع ولا على رد مهرها ، فإذا كان كذلك حكمهما قبل بعث الحكمين فكذلك بعد بعثهما ، لا يجوز إيقاع الطلاق من جهتهما من غير رضى الزوج وتوكيله ولا إخراج المهر عن ملكها من غير رضاها فلذلك قال أصحابنا : إنهما لا يجوز خلعهما إلا برضى الزوجين فليس للحكمين أن يفرقا إلا برضى الزوجين لأن الحاكم لا يملك ذلك فكيف يملكه الحكمان ، وإنما الحكمان وكيلان لهما ، أحدهما وكيل المرأة والآخر وكيل الزوج في الخلع أو في التفريق بغير جعل إن كان الزوج قد جعل إليه ذلك .
ثم قال : كيف يجوز للحكمين أن يخلعا بغير رضاه ، ويخرجا المال عن ملكها ، وقد قال الله تعالى : " وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا " ، وقال تعالى : " ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به " ، وهذا الخوف المذكور ههنا هو المعني بقوله تعالى : " فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها " ، وحظر الله على الزوج أخذ شئ مما أعطاها إلا على شريطة الخوف منهما ألا يقيما حدود الله ، فأباح حينئذ أن تفتدي بما شاءت ، وأحل للزوج أخذه فكيف يجوز للحكمين أن يوقعا خلعا أو طلاقا من غير رضاهما ، وقد نص الله على أنه لا يحل له أخذ شئ مما أعطى إلا بطيبة من نفسها ولا أن تفتدي به فالقائل بأن للحكمين أن يخلعا بغير توكيل من الزوج مخالف لنص الكتاب .(1/24)
وقال أيضا : إن في فحوى الآية ما يدل على أنه ليس للحكمين أن يفرقا وهو قوله تعالى : " إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما " ، ولم يقل إن يريدا فرقة ، وإنما يوجه الحكمان ليعظا الظالم منهما وينكرا عليه ظلمه ، وإعلام الحاكم بذلك ليأخذ هو على يده ، فإن كان الزوج هو الظالم أنكرا عليه ظلمه ، وقالا له : لا يحل لك أن تؤذيها لتخلع منك ، وإن كانت هي الظالمة قالا له : قد حلت لك الفدية وكان في أخذها معذورا لما يظهر للحكمين من نشوزها فإذا جعل كل واحد منهما إلى الحكم الذي من قِبَلِهِ ماله من التفريق والخلع كانا مع ما ذكرنا من أمرهما وكيلين جائز لهما أن يخلعا إن رأيا وأن يجمعا إن رأيا ذلك صلاحا فهما في حال شاهدان ، وفي حال مصلحان ، وفي حال آمران بمعروف وناهيان عن منكر ، ووكيلان في حال إذا فوض إليهما الجمع والتفريق . وأما قول من قال : إنهما يفرقان ويخلعان من غير توكيل من الزوجين فهو تعسف خارج عن حكم الكتاب والسنة (1) .
واحتج من قال بأنهما حاكمان بأدلة كثيرة منها :-
أن رجلا وامرأة أتيا ، عليا مع كل واحد منهما فئام من الناس فقال علي رضي الله عنه : ابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها فبعثوا حكمين ثم قال علي للحكمين : هل تدريان ما عليكما من الحق ؟ عليكما من الحق إن رأيتما أن تجمعا جمعتما ، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما فقالت المرأة : رضيت بكتاب الله علي ولي ، فقال الرجل : أما الفرقة فلا ، فقال علي : كذبت حتى ترضى بما رضيت به وهذا يدل على أنه أجبره على ذلك ، ويروى أن عقيلا تزوج فاطمة بنت
عتبة فتخاصما فجمعت ثيابها ومضت إلى عثمان فبعث حكما من أهله عبد الله بن عباس وحكما من أهلها معاوية ، فقال ابن عباس : لأفرقن بينهما وقال معاوية : ما كنت لأفرق بين شيخين من بني عبد مناف ، فلما بلغا الباب كانا قد غلقا الباب واصطلحا .(1/25)
إن الله تعالى قد نصبهما حكمين ، وجعل نصبهما إلى غير الزوجين ، ولو كانا وكيلين لقال : فليبعث وكيلا من أهله ، ولتبعث وكيلا من أهلها ، فلو كانا وكيلين ، لم يختصا بأن يكونا من الأهل .
إن الله جعل الحكم إليهما فقال : " إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما " ، والوكيلان لا إرادة لهما إنما يتصرفان بإرادة موكلهما .
إن الوكيل لا يسمى حكما في لغة القرآن ، ولا في لسان الشارع ، ولا في العرف العام ولا الخاص ، فإن للوكيل أسم في الشريعة ومعنى ، وللحكم اسم في الشريعة ومعنى ، فإذا بين الله سبحانه وتعالى كل واحد منهما فلا ينبغي لأحد أن يركب معنى أحدهما على الآخر فذلك تلبيس وإفساد للأحكام ، وإنما يسير المحكمان بإذن الله ، ويخلصان النية لوجه الله ، وينظران فيما عند الزوجين بالتثبيت ، فإن رأيا للجمع وجها جمعا ، وإن وجداهما قد أنابا تركاهما .
الحكم من له ولاية الحكم والإلزام ، وليس للوكيل شيء من ذلك .
الحكم أبلغ من حاكم ، لأنه صفة مشبهة باسم الفاعل دالة على الثبوت ، ولا خلاف بين أهل العربية في ذلك ، فإذا كان اسم الحاكم لا يصدق على الوكيل المحض ، فكيف بما هو أبلغ منه.
إن الله سبحانه خاطب بذلك غير الزوجين ، وكيف يصح أن يوكل عن الرجل والمرأة غيرهما وهذا يحوج إلى تقدير الآية هكذا : " وإن خفتم شقاق بينهما " ، فمروهما أن يوكلا وكيلين : وكيلا من أهله ، ووكيلا من أهلها ، ومعلوم بُعدُ لفظ الآية ومعناها عن هذا التقدير وأنها لا تدل عليه بوجه ، بل هي دالة على خلافه .
بعث عثمان بن عفان عبد الله بن عباس ومعاوية حكمين بين عقيل بن أبي طالب وامرأته فاطمة بنت عتبة بن ربيعة ، فقيل لهما : إن رأيتما أن تفرقا فرقتما (1) .
وصح عن علي بن أبي طالب أنه قال للحكمين بين الزوجين ، عليكما إن رأيتما أن تفرقا فرقتما ، وإن رأيتما أن تجمعا جمعتما (1).(1/26)
فهذا عثمان ، وعلي ، وابن عباس ، ومعاوية ، جعلوا الحكم إلى الحكمين ، ولا يعرف لهم من الصحابة مخالف ، وإنما يعرف الخلاف بين التابعين فمن بعدهم .
ومن عرض الرأيين وأدلتهما يظهر رجحان القول بأنهما حاكمان ظهورا بينا ، ويتفرع على القول بأنهما حكمان أو وكيلان أمور منها :
إذا قلنا : إنهما وكيلان ، فهل يجبر الزوجان على توكيل الزوج في الفرقة بعوض وغيره وتوكيل الزوجة في بذل العوض ، أو لا يجبران ؟ فإن قلنا : يجبران ، فلم يوكلا ، جعل الحاكم ذلك إلى الحكمين بغير رضى الزوجين ، وإن قلنا : إنهما حكمان ، لم يحتج إلى رضى الزوجين .
ومنها : ما لو غاب الزوجان أو أحدهما ، فإن قيل : إنهما وكيلان ، لم ينقطع نظر الحكمين وإن قيل : حكمان ، أنقطع نظرهما لعدم الحكم على الغائب ، وقيل : يبقى نظرهما على القولين لأنهما يتصرفان لحفظهما ، فهما كالناظرين . وإن جن الزوجان ، انقطع نظر الحكمين ، إن قيل : إنهما وكيلان ، لأنهما فرع الموكلين ، ولم ينقطع وإن قيل : إنهما حكمان ، لأن الحاكم يلي على المجنون . وقيل : ينقطع أيضا لأنهما منصوبان عنهما ، فكأنهما وكيلان ، ولا ريب أنهما حكمان فيهما شائبة الوكالة ، ووكيلان منصوبان للحكم ، فمن العلماء من رجح جانب الحكم ، ومنهم من رجح جانب الوكالة ، ومنهم من اعتبر الأمرين (2) .
الرجوع عن التحكيم :
ــــــــــ
لما كان التحكيم مبنيا على رضا الخصمين فقد اختلف الفقهاء في حقهما أو حق أحدهما في الرجوع عن التحكيم فمن اشترط استمرار الرضا إلى صدور الحكم أجاز الرجوع ، ومن لم يشترط لم يجز الرجوع .
فذهب الحنفية إلى جواز رجوع أي من الخصوم عن التحكيم قبل ن يصدر حكم المحكم ، لا بعد صدور الحكم .(1/27)
وعند المالكية لا يشترط دوام رضا الخصمين إلى حين نفوذ الحكم ، بل لو أقاما البينة عنده ثم بدا لأحدهما قبل أن يحكم فليقضي بينهما ويجوز حكمه ، وقال أصبغ لكل واحد منهما ما لم ينشبا في الخصومة عنده فيلزمهما التمادي فيها ، وقال سحنون بقول الحنفية لكل واحد منها الرجوع ما لم نفصل الحكم بينهما .
وقال الشافعية بمذهب الحنفية ، بجواز الرجوع قبل تمام الحكم وقالوا كان بعد إقامة البينة والشروع فيه ، فيمتنع الحكم .
وقال الحنابلة بجواز الرجوع قبل الشروع في الحكم ، وأما بعد الشروع فوجهان :
الأول : له الرجوع .
الثاني : ليس له الرجوع وصوبه المرداوي (1) .
الإشهاد على الحكم :
ـــــــــ
وهو شرط عند الحنفية لقبول قول المحكم عند الإنكار وليس شرطا لصحة التحكيم ويشترطون الإشهاد في مجلس القضاء (2) .
وعند الشافعية ينبغي أن يشهد على نفسه في المجلس الذي حكم بينهما فيه قبل تفرقهم ، لأن قوله بعد الافتراق لا يقبل ، كما لا يقبل قول الحاكم المطلق بعد العزل (3) .
عزل المحكم :
ـــــــ
لكل من الطرفين عزل المحكم قبل الحكم - والرجوع عن التحكيم بمثابة العزل - سواء كانا متفقين أو كان العزل من أحدهما ولم يرض الآخر ، وعلى هذا يكون التحكيم من العقود غير اللازمة ويرد هنا استشكال في أن التحكيم يثبت بتراضي الطرفين فيجب أن يثبت العزل أيضا بتراضيهما حتى يكون ذلك كفسخ العقد .
فيرد ذلك بأن من الجائز أن لا يثبت العقد إلا باتفاق الطرفين ، وأن ينفرد أحد الطرفين بفسخ ذلك العقد كالمضاربة والشركة ، وعلى ذلك للطرفين عزل المحكم ، ولو شرط عدم عزله واتفقا على ذلك إذ ليس لهذا الشرط حكم ، كما أنه لو شرط عدم عزل القاضي المنصوب من قبل السلطان جاز عزله .(1/28)
ويتفرع على هذا أنه لو حاكم المحكم الطرفين وقال : إنني أرى المدعي محقا في دعواه فعزله المدعى عليه قبل الحكم ، وحكم المحكم بعد ذلك للمدعى فلا ينفذ حكمه ، كذلك لو حكم الطرفان حكما ليفصل الست الدعاوى مثلا ، ففصل هذا الحكم قضية أو قضيتين لصالح أحد الطرفين ، وحكم على الآخر فعزل المحكوم عليه المحكم ، فيصح عزله في حق الدعاوى الأخرى ، ولا يحق للمحكم الحكم بها ، أما حكمه في الدعاوى التي حكم بها فباق ونافذ قبل الحكم .
أما لو عزلاه بعد الحكم فلا يبطل حكمه ، لأن هذا الحكم قد صدر من ذي ولاية شرعية فكما لا يبطل حكم القاضي بعزله بعد الحكم ، فلا يبطل حكم المحكم أيضا (1). وهذا عند الحنفية وسحنون -كما سبق الإشارة - .
وحاصل ما ينعزل به المحكم أحد أسباب ثلاثة : بالعزل ، أو بانتهاء الحكومة نهايتها بأن كان مؤقتا فمضى الوقت ، أو بخروجه من أن يكون أهلا للشهادة بأن عمى أو ارتد والعياذ بالله .
وبالجملة فإن المحكم ينعزل بما ينعزل به القاضي كأن يطرأ عليه ما يفقده صفة من صفات صحة القضاء أو التحكيم ، كالجنون والإغماء والخرس أو الفسق – على خلاف في الأخير – أو مرض يمنعه من التحكيم ، قال الماوردي : ينقض حكم القاضي وغيره إذا خالف مالا يسوغ فيه الاجتهاد وهو أن يخالف نصا من كتاب الله أو السنة ، أو إجماع ، أو خالف القياس كما أن للمحكم أن يعزل نفسه عن التحكيم ، لأنه وكيل ، والوكالة تبطل بعزل الوكيل (2) .
وقال ابن أبي ليلى هو بمنزلة المُوَلّى من جهة الإمام حتى لا يكون لأحد أن ينقض حكمه ما لم يخالف الدليل الشرعي (1)، وقول ابن أبي ليلى ظاهر الوجاهة والرجحانة لما فيه من استقرار الأحكام إذ المحكم كالقاضي فيما يخص الخصمين .
وقال المالكية والشافعية والحنابلة : لا ينقض حكم المحكم إلا بما ينقض به حكم القاضي قال القاضي عبد الوهاب من المالكية : جاز حكمه عليهما إذا حكم بما يسوغه الشرع وافق حكم قاضي بلدهما أو خالفه .(1/29)
وأما في خصوص نقض الخصمين حكم المحكم قال المالكية : إذا حكم المحكم فليس لأحد المحكمين أن ينقض حكمه وإن خالف مذهبه إلا أن يكون جورا بينا لم يختلف فيه أهل العلم وقال المازري : إذا كان المحكم من أهل الاجتهاد مالكيا ولم يخرج باجتهاده عن مذهب مالك ، لزم حكمه ، وإن خرج عن ذلك لم يلزم إذا كان الخصام بين مالكيين ، لأنهما لم يحكماه على أن يخرج عن قول مالك وأصحابه ، وكذلك إذا كانا شافعيين أو حنفيين وحكماه على مثل ذلك لم يلزم حكمه إن حكم بينهما بغير ذلك (2) .
قال الماوردي فيما يكون الحكم به لازما للمحكمين : أن فيه للشافعي قولين :
أنه لا يلزمهما الحكم إلا بالتزامه بعد الحكم كالفتيا ، لأنه لما وقف على خيارهما في الابتداء وجب أن يقف على خيارهما في الانتهاء ، وهو قول المزني .
وهو قول الكوفيين وأكثر أصحابنا أنه يكون بحكم المحكم لازما لهما ولا يقف بعد الحكم على خيارهما .
وحكى أبو سعيد الأصطخري فيه وجها ثالثا : أن خيارهما في التحكيم ينقطع بشروعه في الحكم ، فإذا شرع فيه صار لازما لهما ، وإن كان قبل شروعه فيه موقوفا على خيارهما بعد الشروع في الحكم مفض إلى أن لا يلزم بالتحكيم حكم إذا رأى أحدهما توجه الحكم عليه فيصير التحكيم لغوا (3) .
التحكيم الدولي
ــــــــــ
اهتمت الدول بالتحكيم لما تضمنه من ميزات - سبق الإشارة إليها - ولقد سبقت الدول الأوروبية في الأخذ به باعتباره نظاما رديفا للنظام القانوني ، كما ساهمت به الدول العربية ، ولا يكاد يخلو قانون من إفراد فصل للتحكيم ، وبعض الدول تفرد له قانونا مستقلا (1).
ونتناول فيما يأتي باختصار الكلام على التحكيم الدولي والقضاء ، مع ذكر الفروق بينهما ، ثم نعرض لمحكمة العدل الدولية ، ونقتصر على تكوينها واختصاصاتها .(1/30)
كما نتكلم عن محكمة العدل الأوروبية ، ثم نختار من اتفاقيات التحكيم ، اتفاقية نيويورك لسنة 1958 بشأن الاعتراف وتنفيذ أحكام المحكمين الأجنبية ، ونقتصر على ذكر نطاق ، ومكان التحكيم والدفوع المتعلقة باختصاص محكمة التحكيم ، كما نتكلم عن مركز القاهرة للتحكيم التجاري الدولي ثم نفصل قليلا عند الكلام عن محكمة العدل الإسلامية الدولية ، من حيث تأسيسها وتشكيلها والقانون واجب التطبيق ، ولغات المحكمة ، وإلزامية الحكم .
التحكيم الدولي :
ــــــــ
التحكيم الدولي هو ذلك الإجراء أو تلك الوسيلة التي يمكن بواسطتها التوصل إلى تسوية سلمية للنزاع الدولي من خلال حكم ملزم تصدره هيئة تحكيم خاصة يختارها أطراف النزاع ، وانطلاقا من مبدأ تطبيق القانون واحترام قواعده .
والتحكيم الدولي ، بهذا المعنى له خصائصه المميزة التي نذكر منها :
أولا : إن القرار الصادر عن هيئة التحكيم الدولية ( محكم واحد أو أكثر ) لا يعتبر قرارا عاديا وإنما هو حكم يقرر حل النزاع عن طريق تطبيق قواعد القانون الدولي العام أو قواعد العدل والإنصاف أو أية قواعد قانونية أخرى يرتضيها النزاع ويطالبون هيئة التحكيم بتطبيقها .
ثانيا : إن القرار الصادر عن هيئة التحكيم هو قرار ملزم بالضرورة لأطراف النزاع ، ما لم يكونوا قد اتفقوا صراحة – في اتفاق أو مشارطة التحكيم – على خلاف ذلك .(1/31)
ثالثا : أن الدول عادة ما تحدد – على سبيل الحصر – الموضوعات التي يمكن أن يكون النزاع بشان أي منها محلا للتحكيم ، مستثنية من ذلك كل ما يتعلق بالاستقلال السياسي والشرف الوطني والمصالح الحيوية ، وكذا المسائل التي تدخل ضمن نطاق اختصاصها الداخلي ومع ذلك ، فالمشاهد أنه لا توجد قاعدة عامة في هذا الشأن ، لأن المعول عليه في التحليل الأخير هو إرادة الدول المتنازعة ذاتها وتكييفها لأهمية النزاع القائم بينها ، ولذلك فكثيرا ما نجد نزاعا دوليا معينا قد عرض على محكمة تحكيم دولية للفصل فيه ، على الرغم من تعلقه بالمصالح الحيوية والاستقلال السياسي لكل أو لأحد أطرافه ، ولعل المثال النموذجي الذي يمكن أن يشار إليه تدليلا على مصداقية هذا الاستنتاج هو ذلك المتعلق بتحكيم الألباما الشهير عام 1872 بين بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية ، حيث كان أصل النزاع بين الدولتين متعلقا أساسا بموقف سياسي اتخذته الدولة الأولى ( بريطانيا ) تجاه الصراع في الحرب الأهلية الأمريكية .
والتحكيم الدولي نوعان : التحكيم الاختياري والتحكيم الإجباري ، ففي حالة النوع الأول يكون لكل دولة الحق في قبول أو رفض اللجوء إلى التحكيم لتسوية النزاع ، أما في حالة النوع الثاني – التحكيم الإجباري – فإن الدولة متى وافقت – سواء بمقتضى اتفاقات خاصة أو بمقتضى نصوص معينة ترد ضمن اتفاقات عامة – على قبول اللجوء إلى التحكيم بالنسبة لطائفة معينة من المنازعات لفضها سلميا فهنا لا يكون لها أن ترفض اللجوء إلى التحكيم في حالة نشوب نزاع مع دولة أخرى متى كان هذا النزاع داخلا ضمن طائفة المنازعات التي سبق الاتفاق على تحديدها . (1)
القضاء الدولي :
ــــــــ(1/32)
يشير اصطلاح القضاء الدولي إلى ذلك الإجراء الذي يتم بموجبه الفصل في نزاع دولي عن طريق جهاز دولي دائم مختص بإدارة العدالة الدولية ، وذلك بموافقة أطراف هذا النزاع ومن خلال تطبيق قواعد القانون وباتباع نظام معين للإجراءات .
ويمكن القول بأن فكرة القضاء الدولي بهذا المعنى قد تداخلت إلى حد كبير وحتى قيام عصبة الأمم مع فكرة التحكيم الدولي ، وليس أدل على ذلك من حقيقة أنه عند إنشاء المحكمة الدائمة للعدل الدولي عام 1920 والتي تعتبر في نظر غالبية الفقه وبحق أول تجسيد حقيقي لفكرة القضاء الدولي الدائم ، كان من بين الأسماء التي اقترحت لها اسم محكمة العدل التحكيمي .
والواقع أن مثل هذا التداخل لا يزال قائما إلى اليوم ، حتى إن بعض الكتابات درجت على عدم التمييز بين القضاء الدولي والتحكيم الدولي ونظرت إليهما على أنهما مترادفتان ، وذلك على خلاف الحقيقة ، فالثابت أن التحكيم الدولي يتميز عن القضاء الدولي من عدة نواح :-
فمن حيث النشأة التاريخية ، يلاحظ أن التحكيم الدولي يضرب بجذوره في أعماق التاريخ البشري ، حيث أن القضاء الدولي لم يظهر كمصطلح قانوني إلا في نهايات القرن التاسع عشر كما أنه لم يظهر كنظام مؤسس إلا في أعقاب الحرب العالمية الأولى بقيام المحكمة الدائمة للعدل الدولي .
كما يتميز الاصطلاحان أحدهما عن الآخر من حيث الدور الذي تلعبه الإرادة المشتركة لأطراف النزاع ، ففي ظل نظام التحكيم الدولي تتجلى هذه الإرادة في مختلف مظاهرها ، أما في ظل نظام القضاء الدولي – والقضاء عموما – فإن دور هذه الإرادة ينتهي عند لحظة الموافقة عند عرض النزاع على المحكمة الدولية المختصة ، التي هي منشأة أصلا قبل نشوب هذا النزاع والتي يكون لها بموجب دستورها أو نظامها الأساسي قانونها الذي تطبقه وقواعد الإجراءات التي تتبعها .(1/33)
يتميز القضاء الدولي عن التحكيم الدولي من حيث إن الأولى يقوم على وجود أجهزة دائمة لا يرتبط وجودها بتوقيت حدوث النزاع ، أما التحكيم الدولي فهو – كقاعدة عامة – ذو طابع مؤقت حيث إن الأصل بالنسبة لمحكمة التحكيم أنها تشكل للفصل في نزاع معين ثم تنفض إثر ذلك .
يختلف الاصطلاحان ، كذلك من حيث دور كل منهما في إنشاء وتطوير القواعد القانونية فالثابت أن القضاء الدولي يسهم بدور أكبر في هذا المجال من خلال ما يرسيه من قواعد وسوابق ، أما التحكيم الدولي فإن دوره في هذا المجال يكون بدرجة أقل ويتحقق بشكل مباشر من خلال الإسهام – على المدى البعيد – في تكوين القواعد القانونية العرفية ، أو في الكشف عنها .
ومع ذلك فهناك سمات عديدة تجمع بين التحكيم الدولي والقضاء الدولي : فبادئ ذي بدء يعتبر كل منهما وسيلة قانونية لتسوية المنازعات الدولية سلميا ، ومن ناحية ثانية يلاحظ أن كلا من التحكيم الدولي والقضاء الدولي يفصل في النزاع المطلوب عن طريق إصدار حكم ملزم وبات ونهائي كقاعدة عامة ، ومن ناحية ثالثة فإن كلا منهما يقوم – من حيث المبدأ – على فكرة القبول الاختياري من جانب أطراف النزاع .
والدول عادة تفضل اللجوء إلى التحكيم الدولي على اللجوء إلى القضاء الدولي .
ويرجع ذلك إلى عدة أسباب منها : أن اللجوء إلى التحكيم عادة ما يكون ميسورا مقارنة باللجوء إلى القضاء ، حيث إن هذا الأخير يتطلب شروطا معينة لإمكان التقاضي أمامه ، كذلك هناك حالات تكون فيها بعض المنازعات الدولية غير قابلة للعرض أمام القضاء الدولي نظرا لأن أحد أطراف النزاع ليس له حق التقاضي أمام محاكم هذا القضاء ( كحالة نزاع طرفاه دولة من جانب وشركة أجنبية من جانب آخر ) ، كما قد تلعب طبيعة النزاع دورها في تفضيل إحدى هاتين الوسيلتين على الأخرى ، فالمشاهد في ضوء الخبرة التاريخية أنه كلما كان النزاع ذا طابع فني كان من الملائم حله عن طريق التحكيم لا القضاء .(1)(1/34)
محكمة العدل الدولية
ــــــــــــــ
محكمة العدل الدولية هي الهيئة القضائية الأساسية للأمم المتحدة التي تقوم بحل الخلافات التي تنشأ بين الدول وفقا لمبادئ العدل والقانون الدولي وتقوم بعملها وفق النظام الأساسي للمحكمة الملحق بالميثاق الذي يعتبر جزءا لا يتجزأ منه م ( 92 ) من الميثاق .
ومحكمة العدل الدولية الحالية استمرار لمحكمة العدل الدولية الدائمة التي أنشأتها عصبة الأمم عام 1920 مع بعض التعديلات الطفيفة في نظامها الأساسي الذي يقع في سبعين مادة يتناول كيفية تكوينها وطريقة عملها واختصاصاتها .
لقد شعر المجتمع الدولي بحاجته إلى إيجاد نظام يضمن له حماية حقوقه وتوفير قدر معين من حسن العلاقات بين الدول وتجنب المجتمع الدولي اللجوء إلى استعمال القوة لحل الخلافات الناشئة عندما يعجز أسلوب المفاوضات والتحقيق والتوفيق عن إيجاد حل لمثل هذه الخلافات .
ورغبة في إيجاد نظام قانوني لحل المنازعات ظهرت فكرة التحكيم الدولي لأول مرة في معاهدة مايو 1794 المبرمة بين بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية التي قررت إنشاء لجنة مختلطة للفصل في عدد من المنازعات القائمة بين الدولتين يعين كل طرف نصف الأعضاء ويرأسها حكم ليكون فيصلا بين الطرفين وقد أصدرت هذه اللجنة قرارها التحكيمي الأول بشأن قضية الألباما عام 1873 ملزمة بريطانيا بدفع تعويض إلى الولايات المتحدة عن قيامها ببعض الأعمال العدوانية وغرق السفن الأمريكية وإمداد ولايات الجنوب الأمريكية بالسلاح .(1/35)
وبموجب اتفاقية لاهاي عام 1899 المعدلة باتفاقية لاهاي 1907 تقرر إنشاء محكمة التحكيم الدولي الدائمة ومقرها لاهاي إلا أن هذه المحكمة لم تحقق ما تهدف إليه البشرية من إقامة نظام قضائي دولي دائم وثابت ، لذلك عهد إلى لجنة قانونية إعداد مشروع بالنظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية الدائمة إعمالا لنص المادة 14 من عهد العصبة وقد تم المصادقة عليه في 16 ديسمبر 1920 ، ومع بداية عام 1922 تم تشكيل المحكمة ومارست عملها بمقرها بلاهاي إلا أنها تعطلت عن العمل بسبب الحرب العالمية الثانية إلى أن قدم قضاتها استقالتهم لأمين عام العصبة عام 1946 وبدأت الجلسة الأولى لمحكمة العدل الدولية الجديدة في 18 إبريل 1946 .
وقد استطاعت محكمة العدل الدولية الدائمة تسوية عدد كبير من المنازعات الدولية بالطرق السلمية حيث أصدرت 31 حكما كما عرضت أمامها 79 دعوى قضائية وقدمت 27 فتوى ، وقبلت 38 دولة اختصاص المحكمة الإلزامي من أصل 51 دولة كانت عضوا بالعصبة .
وقد انتقل اختصاص المحكمة الأولى إلى المحكمة الجديدة بالنسبة إلى القضايا التي لم يتم البت فيها .(1/36)
واللغات المستعملة في المحكمة هي : الإنجليزية والفرنسية ، والمحكمة لا تتعطل إلا بالعطل القضائية أما الإجراءات التي تتبع فقد أشار إليها النظام الأساسي للمحكمة ( المواد 39 - 64 ) وكذلك اللائحة الداخلية للمحكمة ( المواد 31 - 81 ) وتنقسم هذه الإجراءات إلى قسمين : كتابي وشفوي فالإجراءات الكتابية تشمل تقديم المذكرات والأوراق والمستندات المؤيدة للدعوى ، أما الإجراءات الشفوية فتشمل سماع المحكمة لشهادة الشهود وأقوال الخبراء والوكلاء والمستشارين والمحامين وقرارات المحكمة إلزامية ونهائية لا تقبل الطعن بالاستئناف إلا أنه يجوز اللجوء إلى المحكمة للحصول على تفسير لمدلول الحكم الصادر كما يجوز إعادة النظر في الدعوى إذا اكتشفت واقعة حاسمة في الدعوى لم تكن تحت نظر المحكمة عند صدور الحكم ، كما أن الحكم الصادر لا تكون له حجة إلا في مواجهة أطراف الدعوى وفي خصوص النزاع الصادر بشأنه الحكم .
والحكم الصادر من المحكمة يصدر بأغلبية القضاة الحاضرين ، وإذا تساوت رجح الذي منه الرئيس ، وجلسات المحكمة علنية ما لم يطلب المتقاضون أو ترى المحكمة خلاف ذلك ، وإذا لم يصدر الحكم بإجماع القضاة فمن حق كل قاضي أن يصدر بيانا مستقلا برأيه الخاص ويرفق بالحكم .
تكوين المحكمة :
ــــــــ
تتكون هيئة المحكمة من خمسة عشر قاضيا مستقلين ينتخبون من الأشخاص ذوي الصفات الخلقية العالية الحائزين في بلادهم على المؤهلات المطلوبة للتعيين في أرفع المناصب القضائية أو من المشرعين المشهود لهم بالكفاية في القانون الدولي وبغض النظر عن جنسيتهم ( م2 ) من النظام الأساسي للمحكمة .
الاختصاص القضائي للمحكمة :
ـــــــــــــــ
تختص المحكمة بالنظر في القضايا التي ترفع إليها من قبل الدول وإصدار الأحكام القضائية الملزمة أو الرأي الاستشاري المطلوب .(1/37)
على أن اختصاص المحكمة يعتبر ذا طبيعة اختيارية إذ لا يكون للمحكمة ولاية إلزامية إلا عن طريق تصريح إرادي من جانب دولة في مواجهة دولة تقبل الالتزام بولاية المحكمة الإلزامية ، وهو بذلك يختلف عن القضاء الداخلي الذي يعتبر صاحب الولاية الإلزامية ، دون غيره .
وطبقا للمادة 38 من نظامها الأساسي تستند المحكمة في أحكامها عند النظر في المنازعات المعروضة عليها إلى المصادر التالية :-
الاتفاقيات الدولية التي تضع قواعد معترفا بها من جانب الدول المتنازعة .
العرف الدولي المعتبر بمثابة قانون جرى العمل بمقتضاه .
مبادئ القانون العامة التي تعترف بها الدول .
أحكام المحاكم وآراء كبار المؤلفين في القانون العام في مختلف الأمم باعتبارها وسائل مساعدة في تحديد قواعد القانون .
ويجوز للمحكمة أن تطبق مبادئ العدل والإنصاف دون التمسك بحرفية القانون إذا تراضى على ذلك أطراف الدعوى المعنية .
الاختصاص الاستشاري للمحكمة :
ـــــــــــــــــ
الاختصاص القضائي الثاني لمحكمة العدل الدولية هو الإفتاء في المسائل القانونية باعتباره إفصاحا عن رأي القانون بصدد نزاع معين أو وجهات نظر متعارضة ، لذلك تنص المادة 96 من الميثاق على أنه ( لأي من الجمعية العامة أو مجلس الأمن أن يطلب إلى محكمة العدل الدولية إفتاءه في أية مسألة قانونية ، ولسائر فروع الهيئة والوكالات المتخصصة المرتبطة بها ، ممن يجوز أن تأذن لها الجمعية العامة بذلك في أي وقت ، أن تطلب أيضا من المحكمة إفتاءها فيما يعرض لها من المسائل القانونية الداخلية في نطاق أعمالها ) .(1/38)
والرأي الاستشاري على عكس الحكم الصادر من المحكمة ليس له صفة إلزامية بعكس الحكم القضائي أي لا يتمتع بحجة في مواجهة من طلب استصداره ، كما أنه لا يلزم المحكمة إذا ما طلب إليها مرة أخرى إصدار رأي في مسألة مشابهة لتلك التي صدر فيها الرأي السابق ، كما أنه إذا طلب من المحكمة إصدار رأي في مسألة تمثل موضوعا لنزاع بين دولتين أو أكثر معروض عليها إصدار حكمها فيه ، فالرأي الذي تصدره في هذا الشأن لا يقيدها بالضرورة في الحكم الذي ستصدره من بعد في شأن هذا النزاع .(1)
محكمة العدل الأوروبية :
ــــــــــــ
غني عن البيان بادئ ذي بدء أن التنظيم الدولي المعاصر قد شهد تطورات نوعية على قدر كبير من الأهمية بقيام الجماعات الاقتصادية لدول أوروبا الغربية في أعقاب الحرب العالمية الثانية وغني عن البيان أيضا أن أحد أبرز هذه التطورات يتمثل في واقعة إنشاء محكمة العدل الأوروبية أو محكمة عدل الجماعات الاقتصادية كما يطلق عليها أحيانا .
وقد أنشئت هذه المحكمة بموجب أحكام معاهدة باريس المعقودة في 18/4/1951 والتي أنشأت الجماعة المسماة بالجماعة الأوروبية للفحم والصلب ، وبعد عام 1957 ، وبموجب معاهدة روما التي أنشأت جماعتين اقتصاديتين أوروبيتين صارت المحكمة المذكورة محكمة لهاتين الجماعتين الجديدتين أيضا ، وهما : الجماعة الاقتصادية الأوروبية ، والجماعة الأوروبية للطاقة الذرية .
ومن هنا نستطيع أن نفهم لماذا يطلق على هذه المحكمة أحيانا محكمة عدل الجماعات الأوروبية .
ومنذ عام 1986 وبالتحديد منذ 1/1/1986 وعلى إثر انضمام كل من إسبانيا والبرتغال إلى الجماعة الأوروبية الغربية أصبحت المحكمة تتكون من اثني عشر قاضيا يتم اختيارهم من الشخصيات التي تتمتع بالاستقلال والحيدة مع توافر الشروط التي تؤهلهم لشغل أعلى المناصب في بلادهم أو من الفقهاء المشهود لهم بالكفاءة ، ومدة ولاية القاضي هي ست سنوات قابلة للتجديد .(1/39)
الاختصاصات التي خولت لهذه المحكمة :
ــــــــــــــــــــ
اختصاصاتها عديدة وتشمل : الرقابة على شرعية القرارات والتصرفات التي تصدر عن الأجهزة الأخرى التابعة للجماعات الأوروبية الثلاث ومعرفة مدى اتفاقها أو تعارضها مع المعاهدات والمواثيق المنشئة .
الرقابة على شرعية تصرفات الدول الأعضاء في الحدود التي تقررها المعاهدات المنشئة
الفصل في المسائل الأولية التي تعرض أمام القضاء الوطني لأي من الدول الأعضاء وذلك في حدود المجالات التي يسمح بها .
تسوية الخلافات بين الدول الأعضاء سواء تلك التي تتعلق بتطبيقها وذلك ما لم يتسن تسويتها بطريقة أخرى ... ويلاحظ في هذا المقام ، أن محكمة العدل الأوروبية - وعلى خلاف الحال بالنسبة لمحكمة العدل الدولية - لم تخول اختصاصا إفتائيا إلا في أضيق الحدود ( انظر المادة 228 من المعاهدة المنشئة للجماعة الاقتصادية الأوروبية ) .
كما تعمل المحكمة بوصفها محكمة إدارية للجماعات الأوروبية الثلاث .(1)
اتفاقية نيويورك لسنة 1958
ــــــــــــــــــ
وهي الخاصة بالاعترافات وتنفيذ أحكام المحكمين الأجنبية التي أقرها مؤتمر الأمم المتحدة الخاص بالتحكيم التجاري الدولي المنعقد في نيويورك في الفترة من 20 مايو - 10 يونيو سنة 1958م .
المادة الأولى :
تطبق الاتفاقية الحالية للاعتراف وتنفيذ أحكام المحكمين الصادرة في إقليم دولة غير التي يطلب إليها الاعتراف وتنفيذ هذه الأحكام على إقليمها وتكون ناشئة عن منازعات بين أشخاص طبيعية أو معنوية . كما تطبق أيضا على أحكام المحكمين التي لا تعتبر وطنية في الدول المطلوب إليها الاعتراف أو تنفيذ هذه الأحكام .
يقصد " بأحكام المحكمين " ليس فقط الأحكام الصادرة من محكمين معينين للفصل في حالات محددة بل أيضا الأحكام الصادرة من هيئات تحكيم دائمة يحتكم إليها الأطراف .(1/40)
لكل دولة عند التوقيع على الاتفاقية أو التصديق عليها أو الانضمام إليها أو الإخطار بامتداد تطبيقها عملا بنص المادة العاشرة أن تصرح على أساس المعاملة بالمثل أنها ستقصر تطبيق الاتفاقية على الاعتراف وتنفيذ أحكام المحكمين الصادرة على إقليم دولة أخرى متعاقدة كما أن للدولة أن تصرح أيضا بأنها ستقصر تطبيق الاتفاقية على المنازعات الناشئة عن روابط القانون التعاقدية أو غير التعاقدية التي تعتبر تجارية طبقا لقانونها الوطني .
المادة الثانية :
تعترف كل دولة متعاقدة بالاتفاق المكتوب الذي يلتزم بمقتضاه الأطراف بأن يخضعوا للتحكيم كل أو بعض المنازعات الناشئة أو التي قد تنشأ بينهم بشأن موضوع من روابط القانون التعاقدية أو غير التعاقدية المتعلقة بمسألة يجوز تسويتها عن طريق التحكيم .
مكان التحكيم :
ـــــــ
مادة 16 :
ما لم يكن الطرفان قد اتفقا على المكان الذي يجري فيه التحكيم ، فإن هذا المكان تحدده محكمة التحكيم مع مراعاة ظروف التحكيم .
الدفوع المتعلقة باختصاص محكمة التحكيم :
ــــــــــــــــــــــ
مادة 21 :
يكون لمحكمة التحكيم سلطة الفصل في الاعتراضات المؤسسة على أنها غير مختصة ، ويشمل ذلك أية اعتراضات تتعلق بقيام أو صحة شرط التحكيم أو اتفاق التحكيم المنفصل .(1)
يكون لمحكمة التحكيم سلطة تحديد مدى قيام أو صحة العقد الذي يشكل شرط التحكيم جزءا منه ولأغراض المادة 21 يعتبر شرط التحكيم الذي يشكل جزءا من العقد والذي ينص على إجراء التحكيم طبقا لهذه القواعد اتفاقا مستقلا عن سائر شروط العقد الأخرى ، وإذا صدر قرار من محكمة التحكيم ببطلان العقد فإن ذلك لا يستتبع بقوة القانون عدم صحة شرط التحكيم .
مركز القاهرة للتحكيم التجاري الدولي
ـــــــــــــــــــــ(1/41)
أنشئ المركز بالقاهرة بناء على قرار صادر عن اللجنة القانونية الاستشارية لدول آسيا وأفريقيا بدورتها التي عقدت بالدوحة في يناير 1978 ، وذلك كجزء من نظام اللجنة المتكامل لتسوية المنازعات في المجال الاقتصادي والتجاري .
ويأتي إنشاء المركز الإقليمي تكليلا لسلسة من الجهود من جانب البلدان النامية منذ مؤتمر هفانا ، الذي عقد في 1947 - 1948 ، على المستويين الدولي والإقليمي داخل الأمم المتحدة وخارجها من أجل إيجاد نظام عادل وكفء لتسوية المنازعات الناشئة عن المعاملات التجارية الدولية بما في ذلك الاستثمارات الأجنبية .
وقد عهد إلى المركز بمهام متعددة واسعة النطاق بحكم كونه وكالة تنسيق في إطار نظام اللجنة القانونية الاستشارية لدول آسيا وأفريقيا المتكامل لتسوية المنازعات ، الذي يتضمن توفير الاستقرار والثقة في المعاملات الاقتصادية الدولية داخل المنطقة ، والنهوض بنظام التحكيم كوسيلة فعالة لتسوية المنازعات ، واستخدام قواعد اليونسيترال للتحكيم لعام 1976 (1) وتطبيقها على نطاق أوسع داخل المنطقة وإنشاء وتطوير مؤسسات ووكالات التحكيم الوطنية وتشجيع التعاون فيما بينها وتقديم المساعدة في تنفيذ أحكام التحكيم وبخصوص تلك الوظائف فإن المركز يستهدف خدمة الدول العربية في منطقة غرب آسيا وفي إفريقيا وكذلك أية دولة أخرى في إفريقيا ترغب في الاستفادة من خدمات المركز .(1/42)
وفضلا عن ذلك ، يعمل المركز أيضا كمؤسسة تحكيم ، وذلك بتوفير تسهيلات التحكيم وفقا لقواعده . وقواعد التحكيم بالمركز هي قواعد اليونسيترال للتحكيم لعام 1976 مع الأخذ بتعديلات وتطويعات محددة ، كما يقوم المركز بتوفير التسهيلات الفنية وسائر صور المساعدة فيما يتعلق بإجراء التحكيمات الخاصة ، ومن الممكن أن يستفيد من هذه الخدمات أي طرف يطلبها سواء أكان حكومة أم شركة أم فردا عاديا كما أن المركز يقدم أيضا خدمات استشارية بالنسبة للجوانب الإجرائية لتسوية المنازعات وتنفيذ أحكام التحكيم .
وتتضمن أهداف المركز ما يلي :-
مباشرة التحكيم تحت إشراف المركز ، ووفق شروطه وفي هذا الخصوص فإن القواعد الإجرائية التي يطبقها المركز هي ذاتها قواعد لجنة الأمم المتحدة للتجارة الدولية (اليونيسترال) .
النهوض بالتحكيم التجاري الدولي في المنطقة .
تنسيق ومساعدة أنشطة مؤسسات التحكيم القائمة وخاصة فيما بين المؤسسات الموجودة داخل المنطقة .(1)
محكمة العدل العربية :
ـــــــــــ
كانت الدول العربية تعي جيدا أهمية إنشاء محكمة عدل عربية ، لحل المنازعات التي تنشأ فيما بينها . ولكن ميثاق جامعة الدول العربية – الذي أعلن في مارس 1945 – لاحظ أن كثيرا من الدول العربية لا يزال يرضخ لضغوط خارجية ، لا تمكنه من حرية اتخاذ القرار ، فاكتفى بتخويل مجلس الجامعة أن يقوم بحل المنازعات التي تنشأ بين أعضائه ، عن طريق الوساطة أو التحكيم الذي قد يصدر عنه حكم يلزم أطراف النزاع ، إذا تم بناء على طلبهم ، وقد جاء في المادة ( 19 ) من الميثاق : " يجوز بموافقة ثلثي دول الجامعة تعديل هذا الميثاق ، وعلى الخصوص لجعل الروابط بينها أمتن وأوثق ، ولإنشاء محكمة عدل عربية " .(1/43)
وتم تشكيل لجنة ( سنة 1982 ) من كبار الخبراء العرب في القانون الدولي ، وفي السياسة ومنهم من تولى منصب القضاء في محكمة العدل الدولية ، فاستلهموا مبادئ الجامعة والواقع العربي واستأنسوا بأنظمة المحاكم الدولية ، وأعيد تشكيل هذه اللجنة في سنة 1985 ، ثم في سنة 1991 وأعد مشروع النظام الأساسي لمحكمة العدل العربية ، وعرض على مجلس الجامعة في عدة دورات وينتظر إقراره في الدورة الرابعة بعد المائة .
وأبرز ما جاء في هذا المشروع :
لا يقتصر حق التقاضي أمام هذه المحكمة على الدول الأعضاء ، بل تمنح الدول غير الأعضاء حق اللجوء إلى المحكمة إذا كانت تربطها بالدول الأعضاء اتفاقيات أو معاهدات وقبلت بولاية المحكمة .
لمحكمة العدل العربية ولاية إلزامية في حالات محددة ، من أهمها : النزاعات التي تهدد الأمن القومي العربي .
تطبق المحكمة على النزاعات التي ترفع إليها : أحكام الشريعة الإسلامية ، والعرف العربي والمبادئ العامة للقانون التي استقرت في الدول العربية بالإضافة إلى مبادئ وقواعد ميثاق الجامعة وأحكام القانون الدولي .
تتألف المحكمة من سبعة قضاة ، ينتخبهم مجلس الجامعة بأغلبية الثلثين ، من بين مواطني الدول الأعضاء الحائزين على المؤهلات القانونية المطلوبة للتعيين في أعلى المناصب القضائية ، ومن المشهود لهم بالكفاءة في الشريعة أو القانون الدولي .
تكون اللغة العربية اللغة الرسمية للمحكمة ، ويؤدي القضاة قبل أداء وظائفهم اليمين التالية : " أقسم بالله العظيم أن أؤدي واجبات وظيفتي بصدق وأمانة ونزاهة " .(1)
محكمة العدل الإسلامية
ـــــــــــــ(1/44)
كان أمير الكويت قد أعرب بكلمته بمناسبة إطلالة العام الهجري الخامس عشر عن أمله بإقامة محكمة عدل إسلامية ، فتقدّمت الكويت لمؤتمر القمة الثالث 1981 بهذا الاقتراح الذي وافق عليه المؤتمر وحدّد مهمتها في أن " تكون حكما وقاضيا وفصلا فيما ينشأ بين الدول الإسلامية من خلافات " وحتى تكون هيئة قضائية إسلامية في إطار منظمة المؤتمر الإسلامي لتعزيز دور المنظمة ومكانتها والإسهام في تحقيق أهدافها ، والعمل على تنقية أجواء العلاقات بين الأعضاء .
وتقرر دعوة الخبراء القانونيين من الدّول الأعضاء لوضع نظام أساسي للمحكمة وكلف الأمين العام بالتحضير لاجتماع الخبراء .
وقدمت الكويت لاجتماع الخبراء مشروع نظام المحكمة ، وتم تنقيحه وتعديله خلال اجتماعات لجنة الخبراء التي كانت محدودة ، ثم عرض المشروع على القمة الإسلامية الرابعة 1984 ، فأشار بإعادة النظر فيه من قبل لجنة موسعة من الخبراء تضم كافة الدول الأعضاء تأخذ في اعتبارها مجمل مناقشات القمة الرابعة للمشروع ، وملاحظات الدول الأعضاء . ولما عرض المشروع المنقح على المؤتمر الوزاري السادس عشر في فاس في يناير 1986 أشار على لجنة الخبراء بالمزيد من الدراسة ، وعرض المشروع النهائي على القمة الإسلامية الخامسة في الكويت ، التي وافقت عليه ، كما وافقت على تعديل المادة الثالثة من ميثاق المنظمة بحيث تصبح المحكمة الجهاز الرئيسي الرابع .
تأسيس المحكمة ومقرها :
ـــــــــــــ
نص النظام الأساسي (68) على أن تكون المحكمة هي الجهاز القضائي الرئيسي للمنظمة وتعمل بصفة مستقلة ، وفق الشريعة الإسلامية ، وأحكام الميثاق والنظام .(1/45)
وتقرر أن يكون مقرها الكويت ، على أن تعقد جلساتها في أي دولة أخرى (69) وأصدر أمير الكويت في 31/8/1987 المرسوم بقانون رقم 47 لسنة 1987 بشأن الموافقة على التصديق على نظام المحكمة وتعديل الميثاق (70) وهذا المرسوم يعتبر استقبالا للقانون الداخلي لالتزامات الكويت في القانون الدولي المتمثلة في نظام المحكمة ، وهي معاهدة دولية منشئة لمنظمة دولية .
ويحدد نظام المحكمة حالات عقد اجتماعات المحكمة خارج الكويت وهذا النظام معمول به في محكمة العدل الدولية التي يمكن أن تعقد جلساتها خارج مقرها وهي مدينة لاهاي إذا رأت المحكمة ذلك ملائماً ( المادّة 22 ) . ويجوز أن تعقد دوائر المحكمة اجتماعاتها خارج مدينة لاهاي ولكن في هذه الحالة يتعين موافقة أطراف الدعوى ( المادّة 28 من نظام المحكمة ) .
تشكيل المحكمة :
ــــــــ
عدد القضاة : تضم المحكمة سبعة قضاة ، وينتخب قضاة المحكمة الإسلامية لمدة أربع سنوات قابلة للتجديد مرة واحدة .
وتنتخب المحكمة الرئيس ونائبه من بين أعضائها (72) . ولا يجوز انتخاب أكثر من عضو من رعايا دولة واحدة ، كما يعتد بجنسية الدولة التي يمارس فيها العضو حقوقه السياسية والمدنية إذا حمل أكثر من جنسية (72) .
شروط عضوية المحكمة :
ـــــــــــــ
واشترط نظام المحكمة (74) فيمن يرشح لمنصب القاضي خمسة شروط هي :
أن يكون مسلما عدلا من ذوي الصفات الخلقية العالية ، فلا يعين في هذا المنصب غير المسلم مهما كانت سعة ثقافته الإسلامية وتضلعه في علوم الشريعة الإسلامية التي تشترط فيمن يعين في أية وظيفة فيها (75) .
أن يكون من رعايا إحدى الدول الأعضاء في المنظمة .
ألا يقل المرشح عن أربعين عاما .
أن يكون من فقهاء الشريعة المشهود لهم ، وله خبرة في القانون الدولي .
أن يكون مؤهلا للتعيين في أرفع مناصب الإفتاء أو القضاء في بلاده .
يحلف كل عضو من أعضاء المحكمة في أول جلسة علنية ، اليمين التالية :(1/46)
" أقسم بالله العظيم أن أتقي الله وحده في أدائي واجباتي وأن أعمل بما تقتضيه الشريعة الإسلامية وقواعد الدين الإسلامي الحنيف دون محاباة وأن ألتزم بأحكام هذا النظام وأحكام ميثاق منظمة المؤتمر الإسلامي " .
اختصاصات المحكمة :
ـــــــــــ
للمحكمة ثلاثة اختصاصات تستوي في اثنتين منها مع المحكمة العالمية وتنفرد المحكمة الإسلامية بالاختصاص الثالث . وهذه الاختصاصات الثلاثة هي :
أولا : الاختصاص القضائي :-
تختص المحكمة بالفصل فيما يعرض عليها من منازعات عن طريق الأعضاء وغير الأعضاء وتصدر في شأنها أحكاما وفق إجراءات رفع الدعوى ونظرها ، فصلها نظام المحكمة (89) . ويصدر الحكم بالأغلبية البسيطة مبينا أسبابه وأسماء القضاة الذين اشتركوا في إصداره (90) . ولا يكون له قوة الإلزام إلا على أطرافه وعلى النزاع موضوع الدعوى (91) .
وقد قرر النظام أن يكون الحكم قطعيا لا طعن فيه وللمحكمة أن تفسره عند الخلاف حوله بناء على طلب أحد الأطراف (92) ، كما فصل النظام أحكام إعادة النظر في الحكم (93) .
ثانيا : الوظيفة الإفتائية :-
يجوز للمحكمة أن تفتي في المسائل القانونية غير المتعلقة بنزاع معروض عليها وذلك بناء على طلب أية هيئة مخولة بذلك من قبل مؤتمر وزراء الخارجية (123) .
فطلب الرأي الاستشاري يتطلب توفر ثلاثة شروط :
الأول : أن تكون المسألة المستفتى فيها مسألة قانونية وليست سياسية ، وهذا أمر يترك تقديره للمحكمة التي يحق لها أن ترفض إعطاء الرأي الاستشاري إذا تبين لها عدم توفر هذا الشرط .
الثاني : ألا تتعلق المسألة المستفتى فيها بنزاع معروض على المحكمة .
الثّالث : ألا تطلب الرأي دولة عضو ، بل إن حق طلب الرأي قاصر على المنظمات والهيئات التي يخولها ذلك مؤتمر وزراء الخارجية .(1/47)
ومعنى هذا أن المؤتمر ذاته له - من باب أولى - حق طلب الرأي الاستشاري ، وللقمة بالطبع هذا الحق ، كما يجوز للمؤتمر الوزاري أن يرخص للأمانة العامة بأن تستخدم هذا الحق .
ثالثا : الوظيفة ذات الطابع السياسي والتحكيمي :-
يجوز للمحكمة أن تقوم - عن طريق لجنة من الشخصيات المرموقة ، أو عن طريق كبار المسئولين في جهازها - بالوساطة أو التوفيق والتحكيم في الخلافات التي قد تنشب بين عضوين أو أكثر من أعضاء منظمة المؤتمر الإسلامي إذا أبت الأطراف المتنازعة رغبتها في ذلك ، أو إذا طلب ذلك مؤتمر القمة الإسلامي لوزراء الخارجية بتوافق الآراء (129) .
انفرد نظام المحكمة الإسلامية بهذا النص على الوظيفة ذات الطابع السياسي والتحكيمي . ولكن المحكمة نفسها لا تقوم بهذه الوظيفة وإنما تستخدم إطارا مقبولً يسمح بالاستفادة من جهود عدد من الشخصيات الإسلامية المرموقة ، أو من بعض قضاتها والمسئولين في جهازها الإداري والقضائي ، للقيام بالوساطة والتوفيق والتحكيم في المنازعات التي تثور بين أعضاء المنظمة .
القانون واجب التطبيق :
ــــــــــــ
الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي الذي تستند إليه المحكمة في أحكامها .
تسترشد المحكمة بالقانون الدولي والاتفاقات الدولية الثنائية أو متعددة الأطراف أو العرف الدولي المعمول به أو المبادئ العامة للقانون أو الأحكام الصادرة عن المحاكم الدولية ، أو مذاهب كبار فقهاء القانون الدولي في مختلف الدول .
ولاية المحكمة :
ــــــــ
تشمل ولاية المحكمة :
القضايا التي تتفق الدول الأعضاء المعنية في منظمة المؤتمر الإسلامي على إحالتها إليها .
القضايا المنصوص على إحالتها إلى المحكمة في أي معاهدة أو اتفاقيّة نافذة .
تفسير معاهدة أو اتفاقية ثنائية أو متعددة الأطراف .
بحث أي موضوع من موضوعات القانون الدولي .
تحقيق واقعة من الوقائع التي إذا ثبتت كانت خرقا لالتزام دولي .(1/48)
تحديد نوع التعويض المترتب على خرق أي التزام دولي ومدى هذا التعويض .
اللغات في المحكمة :
ــــــــــ
العربية لسان القرآن المبين ، لغة المحكمة الأولى ، وهي مع الإنجليزية والفرنسية اللغات الرسمية المعتمدة .
للمحكمة بناء على طلب أي من أطراف النزاع ، أن تجيز استعمال لغة أخرى غير رسمية شريطة أن يتحمل هذا الطرف الأعباء المالية المترتبة على الترجمة إلى إحدى اللغات الرسمية .
تصدر المحكمة أحكامها باللغات الرسمية الثلاث .
إلزامية الحكم :
ـــــــ
لا يكون للحكم قوة الإلزام إلا على أطراف الدعوى وفي النزاع الذي فصل فيه .
يصدر الحكم قطعيا غير قابل للطعن .
عند الخلاف على مفهوم الحكم ومدى تنفيذه ، تتولى المحكمة تفسيره بناء على طلب من أحد الأطراف (1) .
القوانين الوضعية والتحاكم الدولي :
ـــــــــــــــــ
التحاكم الدولي فرع يتحدد حكمه بناء على حكم العمل بالقوانين الوضعية بجامع الحكم بغير ما أنزل الله فإذا جاز ، جاز التحاكم وهو لا يجوز قطعا لأنه حكم بغير ما أنزل الله والتحكيم الدولي حكم بعير ما أنزل الله فيحرم ونذكر ههنا أدلة حرمة الأصل ونتبعها بعد بأدلة حرمة الفرع بخصوصه وإن لم يحتج بالقياس إلى أدلة :
قال تعالى : " اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله " (1) .
قال الإمام ابن تيميه عن هؤلاء : الإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه ، أو حرم الحلال المجمع عليه أو بدل الشرع المجمع عليه ، كان كافرا مرتدا باتفاق الفقهاء ، وفي مثل هذا نزل قوله تعالى : " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " (2)، أي هو المستحل للحكم بغير ما أنزل الله .(1/49)