س: ما هو الواجب في حقه تعالى الذي يجب على المكلف الاعتقاد فيه؟
جـ:
يجب على المكلف أن يعتقد أن الله تعالى متصف بالصفات الجليلة القديمة الثابتة بالأدلة التفصيلية وهي ثلاث عشرة:
1 - الوجود:
فهو تعالى موجود بلا ابتداء قبل وجود جميع الحوادث من عرش وكرسي وسماوات وسائر العلم. والدليل على ذلك خلقه تعالى السماوات وما فيها من الكواكب والملائكة، والأرض وما فيها من الجبال والرمال والأشجار والأحجار والبحار والأنهار والحيوانات والجمادات، لأن الصنعة لا بد لها من صانع موجود، وقد قال الله عز وجل: "ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء". قال تعالى: "الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض". وقال: "سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى".
أي خلق كل شيء فسوى خلقه. وقال: "اقرأ باسم ربك الذي خلق* خلق الإنسان من علق".
وقال: "وخلق كل شيء فقدره تقديرًا".
ومن البدهي أن موجد الشيء لا يكون معدومًا، لأن المعدوم لا يعطي الوجود.
2- القدم
ومعناه أنه لا أول لوجوده تعالى وأنه لم يسبقه عدم لقوله تعالى "الله خالق كل شئ وهو على كل شئ وكيل" إذ معناه أن كل شئ غير الله مخلوق لله فلا يجوز أن يكون غيره خالقا له لأنه لو كان مخلوق لكان محتاجا لغيره كيف وهو ذو الغني المطلق وفقر كل شئ إليه محقق؟!.
عن عمران بن حصين رضي الله عنه الله عنه قال إني عند النبي صلي الله عليه وسلم إذ جاءه قوم من بني تميم فقال "أقبلوا البشري يا بني تميم" قالوا بشرتنا فأعطنا فدخل ناس من أهل اليمن فقال "أقبلوا البشري يا اهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم".
قالوا قبلنا جئناك لتنفقه في الدين ولنسألك عن أول هذا الأمر ما كان؟
قال كان الله ولم يكن شئ قبله وكان عرشه على الماء ثم خلق السماوات والأر وكتب في الذكر كل شئ أخرجه البخاري.
3- البقاء
ومعنها أنه لا انتهاء لوجوده تعالى وأنه لا يلحقه ع\م لقوله تعالى "ويبقي وجه ربك ذو الجلال والإكرام".(1/1)
وقوله "كل شئ هالك إلا وجهه"
ولن من ثبت قدمه استحال عدمه فهو الأزلي القديم بلا بداية والأبدي الباقي بلا نهاية "هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شئ عليم".
4- مخالفته تعالى للحوادث
ومعناها عدم ممثالته لشئ منها لا في الذات ولا في الصفات ولا في الأفعال لقوله تعالى "ليس كمثله شئ وهو السميع البصير" ولأنه لو ماثل منها لكان حادثا مثلها والحدوث مستحيل في حق الخالق عز وجل.
5- قيامه تعالى بنفسه
ومعناه أنه تعالى موجود بلا موجد وغني عن كل ما سواه، وانه متصف بصفات الكمال منزه عن صفات النقص لقوله تعالى "يا أيها الناس اتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد".
وقوله تعالى "والله الغني وأنتم الفقراء" ولنه لو أحتاج إلى شئ لكان حادثا وحدوثه محال لما تقدم فاحتياجه محال.
6- الوحدانية في الذات والصفات والأفعال:
... ومعناها أن ذاته ليست مركبة، وليس لغيره ذات تشبه ذاته، وأنه ليس له صفتان من جنس واحد كقدرتين وعلمين، وليس لغيره صفة كصفته، وأن الأفعال كلها خيرها وشرها، اختياريها واضطرابها مخلوقة لله وحده بلا شريك ولا معين.
قال الله تعالى: (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم) [سورة: سورة البقرة: 163].
وقال: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) [سورة الأنبياء: 22].
وقال: (والله خلقكم وما تعملون) [سورة الصافات: 96]، وقال: (يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض؟ لا إله إلا هو فأنى تؤفكون) [سورة فاطر: 3]. وقال تعالى: (قل هو الله أحد* الله الصمد* لم يلد ولم يولد* ولم يكن له كفوًا أحد) [سورة الإخلاص: 1-4].
أي قل يأيها النبي – لمن سألك عن صفة ربك جل وعلا- هو المعبود بحق المتصف بكل صفات الكمال، الواحد في ذاته وصفاته وأفعاله، المقصود في قضاء حوائج الخلق على الدوام، الذي ليس بوالد ولا مولود ولا شبيه له ولا نظير.
دلت سورة الإخلال على عدة أمور هي:(1/2)
أ- إثبات ألوهية الله تعالى المستلزمة لاتصافه بكل صفات الكمال كالعلم والقدرة والإرادة.
ب- إثبات أحديته الموجبة تنزهه تعالى عن التعدد والتركيب وما يستلزم أحدهما كالجسيمة والتحيز والمشاركة في الخلقة وخواصها كوجوب الوجود والقدرة الذاتية والحكمة التامة.
ج- إثبات صمديته تعالى المقتضية استغناءه عن كل ما سواه وافتقار كل ما عداه إليه في الوجود والبقاء وسائر الأحوال.
د- إبطال زعم من زعم أن له ولدًا كاليهود والنصاري بقوله: (لم يلد) لأن الولد من جنس أبيه، والله لا يجانسه أحد ولا يجانس أحدًا، ولا يفتقر إلى من يعينه أو يخلفه لامتناع احتياجه وفنائه.
هـ- إثبات قدمه بقولك (لم يولد) أي لم يفصل عن غيره وهذا لا نزاع فيه، وإنما ذكر لتقرير ما قبله إذ المعهود أنن ما لا يولد لا يلد.
و- نفي مماثلة شيء له تعالى في أي زمان كان، ومن زعم أ، نفي الكفء في الماضي لا يدل على نفيه في الحال والكفار يدعونه، فقد غفل لأن ما لم يوجد في الماضي لا يكون في الحال ضرورة أن الحادث لا يكون كفئًا للقديم.
7- الحياة:
... وهي صفة قديمة قائمة بالذات العلية، تصحح لموصوفها الاتصاف بالعلم والإرادة والقدرة والسمع والبصر، وما إلى ذلك من الصفات اللائقة به تعالى وحياته ليست بروح، ودليلها قوله: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) [سورة البقرة: 255].
وقوله: (وعنت الوجوه للحي القيوم) [سورة طه: 111]. وقوله: (وتوكل على الحي الذي لا يموت) [سورة الفرقان: 58].
8- العلم:(1/3)
... وهو صفة وجودية قديمة قائمة بذاته تعالى تحيط بكل موجود، واجبًا كان أو جائزًا، وبلك معدوم، مستحيلاً كان أو ممكنًا، فهو تعالى يعلم وجود ذاته وصفاته وأنها قديمة لا تقبل والعدم، ولا يعلم أنه لا شريك له، وأن وجود الشريك محال، ويعلم جواز حدوث الممكن وعدمه، ويعلم في الأزل عدد من يدخل الجنة ومن يدخل النار جملة واحدة فلا يزاد في ذلك العدد ولا ينقص منه، ويعلم أفعالهم وكل ما يكون منهم، ويعلم أ،ه عالم بكل الأمور لا تخفى عليه خافية.
قال تعالى: (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) [سورة الملك: 14].
وقال: (إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علمًا) [سورة طه: 98].
وقال: (لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما) [سورة الطلاق: 12].
وقال: (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) [سورة البقرة: 255]
وقال: (هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة) [سورة الحشر: 22].
وقال: (يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور) [سورة غافر: 19].
وقال: (أن الله بكل شيء عليم) [سورة البقرة: 231].
... وعن ابن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان، فقال: "أتدرون ما هذان الكتابان" ؟فقلنا: لا يا رسول الله إلا أن تخبرنا. فقال للذي في يده اليمنى: ÷ذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم، فلا يزاد منهم ولا ينقص منهم أبدًا.
وقال للذي في شماله: هذا كتاب من رب العالمين، فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد منهم ولا ينقص منهم أبدًا.
... فقال أصحابه: ففيم العمل يا رسول الله إن كان الأمر قد فرغ منه؟(1/4)
... قال: سددوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل، وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار، وإن عمل أي علم، ثم قال صلى الله عليه وسلم: بيديه فنبذهما، ثم قال: فرغ ربكم من العباد فريق في الجنة وفريق في السعير" [أخرجه أحمد والترمذي وقال: حديث حسن غريب صحيح].
... ولأنه تعالى لو لم يكن عالمًا لكان جاهلاً، ولو كان جاهلاً لكان حادثًا، وحدوثه محال لما سبق، فالجهل عليه تعالى مُحال.
هذا وعلم الله تعالى ليس كسبيًا ولا يوصف بكونه ضروريًا أو نظريًا أو بديهيًا أو يقينيًا أو تصوريًا أو تصديقيًا، لأنه صفة قديمة لا تعدد فيها ولا تكثر.
9- الإرادة:
... وهي صفة وجودية قديمة قائمة بذاته تعالى تخصص الممكن ببعض ما يجوز عليه كوجود المخلوق في زمن دون غيره، وفي مكان دون آخر وهكذا، لقوله تعالى: (وربك يخلق ما يشاء ويختار) [سورة القصص: 68] وقوله تعالى: (لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثًا ويهب لمن يشاء الذكور) [سورة الشورى: 49]. وقوله تعالى: (فعال لما يريد) [سورة هود: 107]. وقوله تعالى: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام) [سورة الأنعام: 125]. وقوله تعالى: ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) [سورة البقرة: 185].
10- القدرة:
... وهي صفة وجودية قديمة قائمة بذاته تعالى يتأتى بها إيجاد كل ممكن وإعدامه، لقوله تعالى: (إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين) [سورة الذاريات: 58] وقوله تعالى: (وهو على كل شيء قدير) [سورة المائدة: 120].
وقوله تعالى: (وكان الله على كل شيء مقتدرا) [سورة الكهف: 45].
ولأنه لو لم يكن قادرًا لكان عاجزًا، وعجزه محال، كيف وهو خالق كل شيء.
تنبيه:(1/5)
... عُلم أن الإرادة والقدرة يتعلقان بكل ممكن من أفعالنا الاختيارية، وماله سبب كالإحراق عند مماسة النار، وما لا سبب له كخلق السماء، وتعلق القدرة فرع تعلق الإرادة الذي هو فرع تعلق العلم إذ لا يوجد الله تعالى شيئًا ولا يعدمه إلا إذا أراد وجوده أو إعدامه وقد سبق في علمه أن يكون أو لا يكون.
11- السمع:
... وهو صفة وجودية قديمة قائمة بذاته تعالى تحيط بكل موجود واجبًا أو ممكنًا صوتًا أو لونًا أو ذاتًا أو غيرها، فهو يسمع دبيب النملة السوداء على الصخرة الملساء في الليلة الظلماء بلا أُذن ولا صماخ.
12- البصر:
... وهو صفة وجودية قديمة قائمة بالذات العلية تحيط بكل موجود – واجبًا أو جائزًا جسمًا أو لونًا أو صوتًا أو غيرها بلا حدقة – إحاطة غير إحاطة العلم والسمع.
والدليل على أنه تعالى سميع بصير قوله تعالى: (فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير) [سورة الكهف: 45]، (إن الله سميع بصير)، ولأنه تعالى لو لم يكن سميعًا بصيرًا لكان أصم أعمى وهو نقص تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.
13- الكلام:
وهو صفة وجودية قديمة قائمة بذاته تعالى تدل على كل موجود واجبًا أو جائزًا، وعلى كل معدوم محالاً أو جائزًا.
وليس كلامه تعالى بحرف ولا صوت، ولا يوصف بجهر ولا سر ولا تقديم ولا تأخير ولا وقف و سكوت ولا وصل ولا فصل، لأن هذا كله من صفات الحوادث، وهي محالة عليه تعالى.
ودليله قوله تعالى: (وكلم الله موسى تكليما) [النساء: 64].
ولأنه تعالى لو كان غير متكلم لكان أبكم والبكم نقص محال في حقه تعالى.
والقرآن والتوراة والإنجيل والزبور وباقي الكتب المنزلة، تدل على بعض ما يدل عليه الكلام القديم، قال تعالى: (قل لو كان البحر مدادًا لكلمات ربي لنفذ البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددًا) [سورة الكهف: 109].
وقال: (ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفذت كلمات الله).(1/6)
ولع تعالى صفات غير ذلك كالجلال والجمال والعزة والعظمة والكبرياء والقوة وهي غير القدرة، والوجه والنفس والعين واليد والأصابع والقدم والمحبة والرضا والفرح والضحك والغضب والكراهة والعجب والمكر ونحو ذلك مما ورد في الكتاب والسنة.
فيجب الإيمان به بلا كيف فنقول: له تعالى يد لا كالأيدي، ونفوض معرفة ذلك، وتفصيله إلى الله تعالى ولا نؤول أن يده تعالى قدرته أو نعمته وأمثال ذلك، لأن فيه إبطال الصفة التي دل عليها الكتاب والسنة، ولكن نقول يده صفة له بلا كيف وهكذا.
وغضبه ومكره واستهزاؤه غير انتقامه وغير إرادة الانتقام، بل من صفاته بلا كيف، وهذا مذهب السلف في المتشابهات، هذا ما يلزم اعتقاده ومعرفته تفصيلاً من الواجب في حقه تعالى وأما الواجب معرفته إجمالاً: فهو أن يعتقد الملكف أن الله تعالى متصف بكمالات موجودة تليق به تعالى لا نهاية لها يعلمها الله تعالى تفصيلاً ويعلم أنها لا نهاية لها، لأنه لو انتفى عنه تعالى شيء من الكمال الذي يليق به لكان ناقصًا والنقص محال في حقه لاستلزامه الحدوث المحال عليه تعالى.(1/7)
نريد حديثًا مستفيضًا عن الكوثر ؟
قيل هو: الحوض.والأخبار فيه مشهور.
والمعروف المستفيض عند السلف والخلف أنه نهر في الجنة أعطاه الله النبي صلى الله عليه وسلم.
روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الكوثر نهر في الجنة حافتاه الذهب، والماء يجري على اللؤلؤ، وماؤه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل" (أخرجه أحمد والبخاري والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح)
وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "دخلت الجنة فإذا أنا بنهر حافتاه خيام اللؤلؤ، فضرب بيدي إلى ما يجري فيه الماء فإذا مسك أذفر، فقلت: ما هذا يا جبريل ؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاكه الله عز وجل" (أخرجه أحمد ومسلم والنسائي والترمذي وكذا البخاري بلفظ)
"لما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء قال: أتيت على نهر حافتاه قباب اللؤلؤ مجوف، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر"
وعنه أيضا: أن رجلا قال: يا رسول الله ، ما الكوثر؟
قال: "هو نهر في الجنة أعطانيه ربي، لهو أشد بياضًا من اللبن ، وأحلى من العسل ، فيه طيور أعناقها كأعناق الجزر" قال عمر: يا رسول الله ، إنها لناعمة.
قال: أكلتها أنعم منها يا عمر. (أخرجه أحمد والترمذي)
وقال ابن عباس ومجاهد: الكوثر، الخير الكثير في الدنيا والآخرة ذكره ابن جرير وقال: هذا التفسير يعم النهر وغيره ، لأن الكوثر من الكثرة.
وقال عطاء بن السائب: قال لي محارب بن دثار: ما قال سعيد بن جبير في الكوثر ؟ قلت: حدثنا عن ابن عباس أنه قال: هو الخير الكثير. فقال: صدق والله إنه للخير الكثير.
والله تبارك وتعالى أعلم(2/1)
نرجو حديثًا وافيًا عن حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
يجب الإيمان بأن لكل حوضًا يرده الطائعون من أمته، وأن حوض النبي صلى الله عليه وسلم أكبرها وأعظمها، طوله مسيرة شهر، مربع الشكل، له ميزابان يصبان فيه من الكوثر، ماؤه أشد بياضًا من اللبن وأحلى من العسل، كيزانه أكثر من نجوم السماء، من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبدًا ظمأ ألم، ولو دخل النار يعذب بغير العطش، ويكون شربه منه أو من غيره كالتسنيم بعد ذلك لمجرد اللذة، يرده الأخيار، وهم المؤمنون بالنبي صلى الله عليه وسلم الآخذون بسنته، وسنة الخلفاء الراشدين المهدين ويطرد عنه الكفار والمبتدعة، الآخذون بالتحسين والتقبيح العقليين، وكل من تعامل بالربا أو جار في الأحكام أو أعان ظالمًا، أو جاوز حدًا من حدود الله تعالى.
وما ذكر ثابت بأحاديث مشهورة تفيد التواتر المعنوي، منها: حديث سمرة بن جنب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن لكل نبي حوضًا وإنهم يتباهون أيهم أكثر واردة، وإني أرجو أن أكون أكثرهم واردة" (أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن غريب)
وحدث ابن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حوضي مسيرة شهر ، وزواياه سواء، وماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من ريح المسك، وكيزانه كنجوم السماء ، من يشرب منه فلا يظمأ أبدًا" (أخرجه الشيخان)
وقال أنس رضي الله عنه: "بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه ضاحكًا، فقيل: ما أضحكك يا رسول الله ؟
قال: نزلت علي سورة آنفًا، فقرأ: "بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر" حتى ختمها قال: أتدرون ما الكوثر؟
قلنا: الله ورسوله أعلم.
قال: إنه نهر وعدنيه ربي عز وجل عليه خير كثير، وهو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة ، آنيته عدد نجوم السماء فيختلج العبد منهم فأقول: ربي إنه من أمتي فيقول: ما تدري ما أحدث بعدك. (أخرجه أحمد والخمسة)(3/1)
وقد صحح الإمام حجة الإسلام الغزالي أن الحوض قبل الصراط، وكذا القرطبي وقال: المعنى يقتضيه، فإن الناس يخرجون من قبورهم عطاشًا فناسب تقديم الحوض، وأيضاً فإنه من جاز الصراط لا يتأتى طرده عن الحوض فقد كملت نجاته.
ورجح القاضي عياض أنه بعد الصراط وأن الشرب منه يقع بعد الحساب والنجاة من النار، ويؤديه من جهة المعنى أن الصراط يسقط منه من يسقط من المؤمنين ويخدش فيه من يخدش، ووقوع ذلك للمؤمن بعد شربه من الحوض بعيد فناسب تقديم الصراط حتى إذا خلص ومن خلص شرب من الحوض.
وقيل: يشهد له ما تقدم من أن للحوض ميزانبين يصبان فيه من الكوثر ولو كان قبل الصراط لحالت النار بينه وبين وصول ماء الكوثر إليه ولكن وصول ذلك ممكن، والله على كل شيء قدير.
ويمكن الجمع بأن يكون الشرب من الحوض قبل الصراط لقوم، وبعده لآخرين بحسب ما عليهم من الذنوب حتى يهذبوا منها على الصراط.
هذا، ولو يقيم دليل صريح على شيء مما ذكر، فالواجب اعتقاده هو أن النبي صلى الله عليه وسلم حوضًا تعدد أو اتحد، تقدم على الصراط أو تأخر، ولا يضرنا جهل ذلك، وقد جاء في رواية لأحمد عن الحسن عن أنس أن فيه من الأباريق أكثر من عدد نجوم السماء. وهذا إشارة إلى غاية الكثرة.
والله تبارك وتعالى أعلم(3/2)
س: ما البعث؟
ج:
... البعث هو إحياء الموتى، قال تعالى: (كما بدأنا أول خلق نعيده وعدًا علينا إنا كنا فاعلين) [سورة الأنبياء: 104].
وقال: (وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه) [سورة الروم: 27]. وأهون أي: هين.
وقال تعالى: (وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحي العظام وهي رميم* قل يحيها الذي أنشأها أول مرة) [سورة يس: 78].
وعن كعب بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما نسمة المؤمن طير يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه" [أخرجه مالك وأحمد والنسائي وابن ماجة والبيهقي بسند صحيح].
وعن أبي رزين العقيلي قال: قلت يا رسول الله كيف يعيد الله الخلق وما آية ذلك. قال: "أما مررت بوادي قومك جدبا، ثم مررت به يهتز اخضرًا"؟ قال: نعم. قال" فتلك آية الله في خلقه، كذلك يحي الله الموتى" [أخرجه أحمد وأبو الحسن رزين بن معاوية والطبراني].
والمعنى: أما مررت بوادي قومك حال خلوة من النبات ثم مررت به بعد أن اخضر بالنبات؟ كذلك يحي الله الموتى يوم القيامة.(4/1)
س: ما الحشر؟
ج:
... الحشر هو سوق الناس إلى مكان الحساب فتجتمع الوفود في هذا اليوم المشهود ليُسأل كل عن عمله.
قال تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره) [سورة الزلزة: 7،8]. وقال تعالى: (كل امرئ بما كسب رهين) [سورة الطور: 2].
وقال: (أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور) [سورة العاديات: 9،10]. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أيها الناس إنكم محشورون إلى الله تعالى حفاة عراة غرلاً". (كما بدأنا أول خلق نعيده وعدًا علينا إنا كنا فاعلين) [سورة الأنبياء: 104]
ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ألا وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يا رب أصحابي. فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك.
فأقول كما قال العبد الصالح: (وكنت عليهم شهيدًا ما دمت فيهم.. إلى قوله: العزيز الحكيم) [سورة المائدة: 117،118].
قال: "فيقال لي: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم. فأقول سُحقًا سُحقًا" [أخرجه الشيخان والنسائي والترمذي].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن البني صلى الله عليه وسلم قال: "يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف صنف مشاة، وصنف ركبان، وصنف على وجوههم، قيل يا رسول الله: كيف يمشون على وجوههم"؟
قال" "إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر أن يمشيهم على وجوههم، أما إنهم يتقون بوجوهم كل حدب وشوك". [أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي].(5/1)
ما الشفاعة ؟
الشفاعة لغة هي: الوسيلة والطلب وعرفًا: سؤال الخير للغير، وهي تكون من الأنبياء والعلماء والشهداء والصالحين.
روى عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء" (أخرجه ابن ماجة)
يشفع كل لأهلل الكبائر على قدر منزلته عند الله تعالى.
ولا يلهم أحد ممن ذكر الشفاعة في إخراج أحد من النار إلا بعد انقضاء المدة المحتمة عند الله تعالى.
والحق أن الشفاعة من باب القضاء المعلق فنعها ظاهري.
هذا واعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم هو أول فاتح لباب الشفاعة يفتحه بالشفاعة في فصل القضاء.
وهي الشفاعة العظمى المختصة به التي يغبطه بها الأولون والآخرون: وهي المقام المحمود المشار إليه بقوله تعالى: "عسى أن يبعثك ربك مقامًا محمودًا"
قال أبو هريرة رضي الله عنه: سئل النبي صلى الله عليه وسل عن المقام المحمود في الآية.
فقال: "هو المقام الذي أشفع لأمتي فيه" (أخرجه أحمد والترمذي وحسنه)
وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الشمس تدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الأذن، فبينما هم كذلك، استغاثوا بآدم فيقول: لست بصاحب ذلك، ثم يموسى فيقول كذلك، ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم فيشفع ليقضي بين الخلق، فيمشي حتى يأخذ بحلقة باب الجنة ، فيومئذ يبعثه الله مقامًا محمودًا يحمده أهل الجمع كلهم" (أخرجه البخاري وابن جرير)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كلل نبي دعوته وإني أختبيء دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله تعالى من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئًا".
(أخرجه مالك والشيخان والترمذي وابن ماجة)
وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي" (أخرجه أحمد وابن ماجة وأبو داود والترمذي وقال: غريب وزاد)(6/1)
قال جابر: "من لم يكن من أهل الكبائر فماله وللشفاعة؟؟
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا سيد الناس يوم القيامة هل تدرون مم ذلك" يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد فينظرهم الناظر ويسمعهم الداعي وتدنو منهم الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون فيقول الناس ألا ترون إلى ما أنتم فيه ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم ؟
فيقول بعضهم لبعض: عليكم بآدم، فيأتونه فيقولون له: أنت أبو البشر خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك الجنة. اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن يه وما بلغنا ؟
فيقول آدم عليه السلام : إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحًا عليه السلام فيقولون: يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وقد سماك الله عبدًا شكورًا، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه ؟ فيقول: إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني قد كانت لي دعوة دعوتها على قومي، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم عليه السلام فيقولون: أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه ؟
فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قد كنت كذبت ثلاث كذبات فذكرها، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى عليه السلام فيأتون موسى عليه السلام فيقولون: أنت رسول الله فضلك برسالته وبكلامه على الناس اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه ؟(6/2)
فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يضغب بعده مثله، وإني قتلت نفسًا لم أومر بقتلها، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى عليه السلام ، فيأتون عيسى عليه السلام فيقولون: أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وكلمت الناس في المهد اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه ؟
فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله (ولم يذكر ذنبًا) نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فييأتونني فيقولون: أنت رسول الله وخاتم الأنبياء وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه ؟ فأنطلق إلى تحت العرش فأقع ساجدًا لربي، ثم يفتح الله علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبلي، ثم يقال: يا محمد ارفع رأسك وسل عطه، واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأقول: أمتي يا رب، أمتي يارب ، فيقال: يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيا سوى ذلك من الأبواب. ثم قال: والذي نفسي بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر، أو كما بين مكة وبصرى. (أخرجه أحمد والشيخان والترمذي)
فعلى المكلف أن يعتقد أن يعتقد أن نبينا صلى الله عليه وسلم شافع مقبول الشافعة، وأنه أول شافع، وأول من يقضي بين أمته، وأنه أول من يجوز على الصراط بأمته.
روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من يشنق عنه القبر، وأول شافع وأول مشفع". (أخرجه مسلم وأبو داود)
وللنبي صلى الله عليه وسلم شفاعات أخرى منه: إدخال قوم من أمته الجنة بغير حساب.
ومنها: أنه يشفع في أقوام قد أمر بهم إلى النار فيردون عنها.
ومنها: إخراج الموحدين من النار.(6/3)
ويشفع لقوم في رفع درجاتهم ولن مات بالحرمين مؤمنًا، ولمن سأل الوسيلة بعد إجابة المؤذن، ولعمه أبي طالب في إخراجه من غمرات النار إلى ضحضاح يصل إلى كعبيه.
روى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عنده عمه أبو طالب فقال: "لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من نار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه" (أخرجه مسلم)(6/4)
ما الصراط ؟
جـ: الصراط هو جسر ممدود على ظهر جهنم يمر عليه الأولون والآخرون كل بحسب عمله، فمنهم من يمر كلمح البصر، ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح العاصف، وناس كالجواد وناس هرولة، وناس صبوا، وناس زحفًا وناس يتساقطون في النار، وعلى جوانبه كلاليب لا يعلم عددها إلا الله تخطف بعض الخلائق.
قال تعالى: "وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتمًا مقضيًا ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيًا".
قال ابن مسعود: الصراط على جهنم مثل حد السيف، فتمر الطبقة الأولى كالبرق، والثانية كالريح، والثالثة كأجود الخيل، والرابعة كأجود البهائم، ثم يمرون والملائكة يقولون: "اللهم سلم سلم". (أخرجه ابن جرير)
وقال السدي: سألت مرة الهمداني عن قوله تعالى: "وإن منكم إلا واردها" فحدثني عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يرد الناس النار ثم يصدرون عنها بأعمالهم فأولهم كلمح البرق ثم كالريح ثم كحضر الفرس ثم كالراكب المسرع ثم كشد الرجل ثم كمشيه". (أخرجه الترمذي وحسنه).
ولشدة الهول حينئذ يقول المؤمنون: رب سلم سلم.
روى المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "شعار المؤمنين على الصراط يوم القيامة: رب سلم سلم". (أخرجه الترمذي والحاكم وصححاه).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه في قوله تعالى: "يسعى نورهم بين أيديهم" قال: "على قدر أعمالهم يمرون على الصراط منهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من نوره مثل النخلة، ومنهم من نوره مثل الرجل القائم، وأدناهم نورًا: من نوره في إبهامه يتقد مرة ويطفأ مرة" (أخرجه ابن أبي حاتم وابن جرير).
والله تبارك وتعالى أعلم(7/1)
س:
ما الميزان؟
ج:
... هو ذو كفتين ولسان (كالميزان المعهود) توزن فيه أعمال من يحاسب بقدرة الله تعالى دفعة واحدة، والصنج مثاقيل الذر والخردل، تحقيقًا لإظهار تمام العدل قال تعالى: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئًا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين) [سورة الأنبياء: 47].
... وقال: (فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون) [سورة الأعراف: 8].
... قال: (فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية* وأما من خفت موازينه فأمه هاوية وما أدراك ماهية نار حامية) [سورة القارعة: 6،7].
... وقالت عائشة رضي الله عنها: ذكرت النار فبكيت.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما يبكيك" ؟ قلت: ذكرت النار فبكيت، فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟
... فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما في ثلاثة مواطن فلا يذكر أحد أحدً عند الميزان حتى يعلم أيخف ميزانه أم يثقل، وعند الكتاب حين يقال: (هاؤم اقرءوا كتابيه) [سورة الحاقة: 19] حتى يعلم أين يقع كتابه، أفي يمينه أم في شماله أم من وراء ظهره؟ وعند الصراط إذا وضع بين ظهري جهنم حتى يجوز". [أخرجه أو داود].
وعن ابن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل يستخلص رجلاً من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعين سجلاً، كل سجل مد البصر".
فيقول: أتنكر من هذا شيئًا؟
فيقول: لا يا رب. فيقول: أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب.(8/1)
فيقول: افلك عذر أو حسنة؟ فيقول: لا يا رب. فيقول الله عز وجل: بلى إن لك عندنا حسنة، وإنه لا ظلم عليك اليوم. فيخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. فيقول: احضر وزنك. فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول: إنك لن تظلم. فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة، ولا يقل مع اسم الله تعالى شيء". [أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب، والبهقي والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم].
وقالت عائشة رضي الله عنها: جاء رجل فقال: يا رسول الله: إن لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني وأشتمهم وأضربهم فيكف أنا منهم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذغ كان يوم القيامة يحسب ما خانوك وكذبوك وعصوك، وعقابك إياهم، فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافًا، لا لك ولا عليك، وإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم، كان فضلاً لك، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل". قال: فتنحى الرجل يبكي ويهتف.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما تقرأ كتاب الله عز وجل: (وتضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئًا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين) [سورة الأنبياء: 47]، فقال الرجل: "والله يا رسول الله ما أجد لي ولهؤلاء شيئًا خيرًا من مفارقتهم، أشهدكم أنهم كلهم أحرار" [أخرجه أحمد والترمذي وقال: حديث غريب]
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم". [أخرجه أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه]
ومما تقدم يُعلم أنه يوزن عمل كل من يُحاسب حتى من لا حسنة له ليزداد خزيًا على رءوس الأشهاد، وبالوزن يظهر العدل في العذاب والعفو عن الآثام.
والله تبارك وتعالى أعلم(8/2)
س: ما فضل الدعاء؟
ج:
... الدعاء ذكر وزيادة وقد ورد الأمر به.
... قال تعالى: (وقال ربكم ادعوني استجب لكم) [سورة غافر: 60].
وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لم يسأل الله يغضب عليه".
[أخرجه الترمذي، وكذا ابن ماجه بلفظ: "من لم يدع الله سبحانه غضب عليه وكذلك أخرجه الحاكم وصححه].
وقد ورد في فضل الدعاء عدد من الأحاديث منها: ما رواه النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الدعاء هو العبادة". ثم قرأ: (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين). [أخرجه أحمد والأربعة وقال الترمذي حسن صحيح، وابن حبان والحاكم وصححاه].
وعن أنس مرفوعًا: "الدعاء مخ العبادة". [أخرجه الترمذي].
وعنه مرفوعًا: "لا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة". [أخرجه أحمد والثلاثة وحسن الترمذي وزاد].
قالوا فما نقول يا رسول الله؟ قال: "سلوا الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة".
وعن شداد بن أوس رضي الله عنه أن النبي صلى لله عليه وسلم قال: "سيد الاستغفار أن تقول: اللهم انت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء لك بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قالها من النهار موقنًا بها فمات من يومه قبل أن يمسي، فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح، فهو من أهل الجنة" [أخرجه أحمد والبخاري والدارمي والثلاثة].(9/1)
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع هؤلاء الدعوات حين يمسي وحين يصبح: "اللهم إني أسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي واحفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي وأعوذ بك أن أغتال من تحتي" [أخرجه النسائي ابن ماجه واللفظ له والحاكم وصححه].
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم علمها هذا الدعاء: "اللهم إني أسألك من الخير كله عاجله وأجله ما علمت منه وما لم أعلم. وأعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله، ما علمت منه وما لم أعلم. اللهم إني أسألك من خير ما سألك عبدك ونبيك، وأعوذ بك من شر ما عاذ به عبدك ونبيك، اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، وأسألك أن تجعل كل قضاء قضيته لي خيرًا". [أخرجه ابن ماجه وأحمد وابن حبان والحاكم وصححاه].(9/2)
ما فضل كلمة التوحيد ؟ وما حكم النطق بها ؟
كلمة التوحيد هي "لا إله الله ، محمد رسول الله "
وينبغي ترقيق حروفها ما عدا لا م " الله " وأن تمد "لا" مدا طبيعيًا إلى ست حركات، تحقيق همزة: "إله" وتمد لامها مدًا طبيعيًا، وتفتح هاؤها تفحًا بينًا بلا إشباع، وتحقيق همزة إلا بلا إشباع وتشدد لامها ويفخم لفظ الجلالة، وتضم الهاء وصلا، وتسكن وفقًا، وحينئذ يجوز مد لفظ الجلالة إلى ست حركات.
فضل لا إله الله :
ورد في فضل كلمة "لا إله إلا الله " أحاديث كثيرة منها:
حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسللم قال: "فضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير" (أخرجه مالك والترمذي واللفظ وقال له: حديث غريب)
حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله ".
(أخرجه أحمد والنسائي والترمذي وقال: حسن غريب، وابن ماجة وابن حبان والحاكم وصححه).
حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال موسى عليه الصلاة والسلام: يا رب علمني ما أذكرك وأدعوك به. فقال: يا موسى. قل: لا إله إلا الله . قال موسى عليه الصلاة والسلام. يا رب كل عبادك يقولون هذا . قال: قل لا إله إلا الله .
قال: لا إله إلا أنت. إنما أريد شيئًا تخصني به.
قال: يا موسى لو أن السموات السبع ، والأرضين السبع في كفة ، ولا إله إلا الله في كفة لمالت بهن لا إله إلا الله " (أخرجه النسائي وابن حبان).
4—حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "التسبيح نصف الميزان، والحمد لله تملؤه، ولا إله إلا الله ليس لها دون الله حجاب حتى تخلص إليه" (أخرجه الترمذي)(10/1)
أما حكم النطق بكلمة التوحيد فإن النطق بها يجب على من نشأ مؤمنًا، أن يذكرها في العمر مرة ناويًا أداء الواجب، وغلا فهو عاص، ثم ينبغي له الإكثار من ذكرها عارفًا معناها، مستحضرًا ما أحتوت عليه لينتفع بذكرها دنيا وأخرى، فتتفجر ينابيع الحكم من قلبه، ويرى لها من الأسرار والعجائب إن شاء الله تعالى ما لا يدخل في تحت حصر.
وأما الكافر الذي يريد الدخول في الإسلام فذكره لها ليس شرطًا في صحة إيمانه ولا جزءا من مفهومه، وإنما جعل الشرع النقط بالشهادتين شرطًا لازمًا لإجراء الأحكام الدنيوية على المؤمن كالصلاة خلفه، والصلاة عليه ، ودفنه في مقابر المسلمين، وتزوجه مسلمة، فإذا لم ينطق بهما لعذر كالخرس أو لم يتمكن من النطق بهما، بأن مات عقب إيمانه بقلبه، أو اتفق له عدم النطق بهما يعد الإيمان بقلبه فهو مؤمن عند الله وناج في الآخرة. وأما من امتنع عن النطق بهما عنادًا بعد أن عرض عليه ذلك فهو كافر، والعياذ بالله تعالى ولا عبرة بتصديقه القلبي مع هذا الامتناع.(10/2)
ما كيفية الذكر ؟ وما فضله ؟
أفضل الأذكار وأشرفها عند الله تعالى كلمة التوحيد فينبغي على العاقل أن يعني بها ويحسن أن يكون حالة الذكر على طهارة متطيبًا متجملاً مستقبلا القبلة، ويتحرى الانفراد عن الخلق ما استطاع، ويستحضر المعنى بقدر الإمكان، ولا يترك الذكر عند عدم حضور قلبه، بل يذكر متحليا ببقية الآداب راجيًا أن تغشاه نفحة إليهة تنقله من الغفلة إلى الحضور ومن الحضور إلى المشاهدة.
وألا يتصرف فيشيء من حروفها بزيادة أو نقصان بل يقتصر على الوارد شرعًا، وليحذر مما عليه غالب الناس اليوم من تحريف الذكر والإلحاد في أسمائه تعالى فإنه حرام بالإجماع ولا سند لهم في ذلك إلا قولهم: وجدنا أشياخنا هكذا يذكرون. وهذا لا يصدر إلا من الجهلة الذين لا يميزن الغث من السمين.
فعلى المؤمن ألا يخرج في ذكره وكل أعماله عما جاء به الكتاب العزيز، ونطقت به السنة المطهرة.
والذكر حقيقة هو ما يجري على اللسان والقلب، وأكمله ما كان فيه استحضار معنى الذكر وما اشتمل عليه من تعظيم الله تعالى ونفى النقائص عنه، المراد به ما يشمل التسبيح والتحميد وتلاوة القرآن والاستغفار والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم وغير ذلك قال الفخر الرازي:
المراد بذكر اللسان: الألفاظ الدالة على التسبيح والتحميد والتمجيد.
والذكر بالقلب: التفكر في أدلة الذات والصفات والتكاليف من الأمر والنهي، وفي أسرار مخلوقات الله .
والذكر بالجوارح: هو أن تصير مستغرقة بالطاعة ولذا سمى الله تعالى الصلاة ذكرًا في قوله: "فاسعوا إلى ذكر الله "
والذكر على سبعة أنحاء :
فذكر العينين البكاء ، وذكر الأذنين الإصغار ، وذكر اللسان الثناء ، وذكر اليدين العطاء ، وذكر البدن الوفاء ، وذكر القلب الخوف والرجاء ، وذكر الروح التسليم والرضاء (واعلم) أن الذكر أفضل الأعمال.(11/1)
فعن أبي الدرداء رضي الله عنه الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم".
قالوا: بلى. قال: "ذكر الله تعالى" (أخرجه مالك وأحمد والترمذي وابن ماجة والحاكم وصححه)
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم قال: "ما عمل ابن آدم عمل أنجى له من عذاب الله من ذكر الله".
(أخرجه أحمد والترمذي والطبراني بسند صحيح)
وعن الأعر أبي مسلم رضي الله عنه الله عنه أنه قال: أشهد على أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنه الله عنهما أنهما شهدا على النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة وذكرهم الله فيمن عنده" (أخرجه أحمد ومسلم والترمذي وقال: حديث حسن صحيح)
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "خرج معاوية على حلقة في المسجد فقال: ما أجلسكم"؟
قالوا: جلسنا نذكر الله . قال: آلله ما أجلسكم إلا ذاك ؟
قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك.
قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم ، وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل عنه حديثًا مني، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه فقال: ما أجلسكم ؟
قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ومن به علينا.
قال: آلله ما أجلسكم إلا ذاك ؟
قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك.
قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم ، ولكن أتاني جبريل فأخبرني أن الله عز وجل يباهي بكم الملائكة".
(أخرجه مسلم والنسائي والترمذي)(11/2)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: "من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزًا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسى، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر من ذلك". [أخرجه مالك والشيخان والترمذي وابن ماجة]
وعنه أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة، حطت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر".
[أخرجه مالك وأحمد والشيخان والترمذي وابن ماجة]
وعن مكحول عن أبي هريرة رضي الله عنه الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أكثروا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها كنز من كنوز الجنة".
قال مكحول: فمن قالها ثم قال: ولا منجي من الله إلا إليه. كشف الله عنه سبعين بابًا من الضر أدناها الفقر.
أخرجه الترمذي وقال: إسناده ليس بمتصل لأن مكحولاً لم يسمع من أبي هريرة، وأخرجه النسائي مطولاً بسند رجاله ثقات ورفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "ولا منجي من الله إلا إليه".
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "استكثروا من الباقيات الصالحات: لا إله إلا الله، وسبحان الله، والله أكبر، والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله". [أخرجه النسائي وأحمد وابن حبان والحاكم وصححاه].(11/3)
س:
... ما هو الجائز في حقه سبحانه وتعالى؟
ج:
يجوز في حقه تعالى فعل كل ممكن أو تركه فهو متفضل بالخلق والاختراع والتكليف والإنعام والإحسان لا عن وجوب ولا إيجاب، فلا يجب عليه شيء مما ذكر، ولا يستحيل عليه تعالى فعل ما يضر عبادة، بل يجوز أن يفعله بهم بطريق العدل، إذ للمالك أن يتصرف في ملكه بما يشاء، فهو الخالق للإيمان والطاعة والسعادة والعافية، وسائر النعم فضلاً منه وإحسانًا، وهو الخالق للكفر والمعاصي والشقاوة والأمراض والفقر، ونحو ذلك عدلاً منه في مملوكة.
قال تعالى: (والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم) [سورة الحديد: 29].
وقال: (وربك يخلق ما يشاء ويختار) [سورة القصص: 68]. وقال: (فعال لما يريد) [سورة هود: 107].
وقال: (ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء) [سورة إبراهيم: 4] وقال: (من يضلل الله فلا هادي له) [سورة الأعراف: 186]، وقال: (لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون) [سورة الأنبياء: 23]
فيجوز في حقه تعالى عقلاً تعذيب المطيع عدلاً منه لأن الخالق للطاعة مع تنزهه عن الانتفاع بها وإنما ينتفع بها العبد الذي وفقه الله لكسبها، وإثابة العاصي فضلاً منه لنه الخالق للمعصية مع تنزهه عن التضرر بها، وإنما يتضرر بها من خذلة الله باكتسابها عدلاً منه. قال تعالى: (ووجدوا ما عملوا حاضرًا ولا يظلم ربك أحدًا) [سورة الكهف: 49]. وقال: (من عمل صالحًا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد) [سورة فصلت: 46].
وقال: (وإن تبدو ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير) [سورة البقرة: 284]. وقال: (إن يشأن يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز) [سورة إبراهيم: 19].(12/1)
وفي الحديث القدسي: "يا بني آدم ما خلقتكم لاستكثر بكم من قلة ولا لأستأنس بكم من وحشه، ولا لأستعين بكم من وحدة على أمر عجزت عنه، ولا لجر منفعة، ولا لدفع مضرة، بل خلقتكم لتعبدوني طويلاً، وتشكروني كثيرًا، وتسبحوني بكرة وأصيلاً، ولو أن أولكم وآخرهكم وإنسكم وجنكم وحيكم وميتكم وصغيركم وكبيركم وحركم وعبدكم اجتمعوا على معصيتي ما نقص ذلك من ملكي مثقال ذرة".
وقال تعالى: (ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين) [سورة العنكبوت: 6].
وهم الفقراء إليه وهو الغني الحميد. ومن الجائز رؤيته تعالى بالأبصار وغيرها خرقًا للعادة بلا اتصال الأشعة به تعالى ولا كيفية ولا انحصار في جهة.
قال الله تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة* إلى ربها ناظرة) [سورة القيامة: 22-23]. ومن الجائز إنزال الكتب وإرسال الرسل مبيين للناس ما نزل إليهم مبشرين الطائعين بالجنة والنعيم، ومنذرين العاصين بالنار والعذاب الأليم.
قال تعالى: (نزل عليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان) [سورة آل عمران: 3]. وقال (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب) [سورة الكهف: 1]. وقال: (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا) [سورة الفرقان: 1].
وقال: (ونزلنا عليك الكتاب تباينًا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) [سورة النحل: 89]. وقال: (رسلاً مبشرين ومنذرين) [سورة النساء: 165].
هذا. ومما تقدم تعلم أنه يجب على كل مكلف أن يعتقد أن الله تعالى متصف بصفات الجلال والكمال التي تليق بعظمته تعالى، الواردة في الكتاب العزيز والسنة المطهرة، وأنه تعالى منزه عن كل نقص وعن مشابهة الحوادث، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.(12/2)
س: ما هو المستحيل في حقه سبحانه وتعالى؟
ج:
... يستحيل في حقه تعالى العدم والحدوث وهو الوجود بعد عدم، والفناء، ومماثلته تعالى للحوادث في الذات بأن يكون جسمًا مركبًا أو حالاً في مكان أو مخصوصًا بزمان أو موصوفًا بالكبر أو بالصغر أو يكون له شبيه، وفي الصفات بأن يكون حياته كحياة الحوادث وعلمه كعلمهم وهكذا، وفي الأفعال بألا يكون مؤثرًا في شيء، وإنما له مجرد الكسب. تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، فهو لا يماثل موجودًا ولا يماثله موجود، ولا يحده مقدار ولا تحويه أقطار، لقوله تعالى: (ليس كمثله شيء) [سورة الشورى: 11]. ومن المستحيل في حقه تعالى احتياجه لموجد أو ذات يقوم بها.
والتعدد في الذات بأن يكون مركبًا يقبل الانقسام أو يكون هناك ذات كذاته، وفي الصفات بأن يكون له صفتان من جنس واحد كقدرتين وعلمين، أو يكون لغيره صفة كصفته، وفي الأفعال بأن يكون لغيره تأثير في شيء من الأشياء بطبعه أو بقوة مودعه فيه، فليست النار محرقة بطبعها ولا بقوة خلقت فيها، وإنما الخالق للإحراق هو الله تعالى عند خلقه النار، ولو شاء خلق النار دون الإحراق لكان كما حصل لخليله سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وليس الماء مرويًا بطبعه، ولا بقوة خلقت فيه، وإنما الخالق للري الله تعالى عند شرب الماء، وليس الملبوس ساترًا وواقيًا البرد أو الحر بنفسه ولا بقوة خلقت فيه، بل الخالق لما ذكر هو الله تعالى عند لبس الثياب.
فمن يعتقد تأثير شيء من الأسباب في مسببه أو عكسه فهو مؤمن يخشى عليه إنكار معجزات الأنبياء فيكفر، أو إنكار كرامات الأولياء فيفسق.
والاعتقاد الصحيح اعتقاد أن المؤثر في السبب والمسبب هو الله تعالى مع إمكان تخلف أحدهما عن الآخر خرقًا للعادة.
ومن المستحيل في حقه تعالى: الموت وما في معناه كالنوم والإغماء.
قال تعالى: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم) [سورة البقرة: 255].(13/1)
ومن الجهل وما في معناه كالظن والشك والوهم والغفلة والذهول والنسيان، ومن وجود شيء من الحوادث بلا إرادته تعالى بأن يكون بطريق الطبع أو العلة، فلا يقع في الملك والملكوت قليل أو كثير صغير أو كبير، خير أو شر إلا بقضائه وقدره.
ومنه العجز عن ممكن ما والصمم وما في معناه كسمعة الجهر دون السر، وكأختصاصه بالأصوات دون الذوات وسائر الموجودات.
ومنه العمي وما في معناه كالعشى – وهو عدم الإبصار ليلاً – والجهر – وهو عدم الإبصار نهارًا – ومنه البكم وهو الخرص وما في معناه كالفاكهة والعي والسكوت، وكون كلامه تعالى بحروف وأصوات.
هذا ما دلت على استحالته في حق الله تعالى هذه الأمور التي يمكن حدوثها للمخلوق ، ويجب على كل مكلف أن يعتقد بعد ذلك أن الله تعالى منزه عن كل نقص كما أنه متصف بكل كمال. والله أعلم.(13/2)
نريد حديثًا عن الجنة جمعنا الله وإياكم وكل الموحدين بها ؟
الجنة هي دار الثواب والنعيم المقيم، فيها الحور العين، والولدان، ولحم الطير، والفواكه والأنهار الجارية من الماء واللبن والعسل والخمر والسر والحرير والذهب وما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
جاء بها الكتاب والسنة قال تعالى: "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا خالدين فيها لا يبغون عنها حولا"
وقال تعالى: "وأزلفت الجنة للمتقين"
أي قربت لهم بحيث يشاهدونها في الموقف، ويعرفون ما فيها فتحصل لهم البهجة والسرور وقال: "وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى"
وقال: "وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين"
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال الله تعالى: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر".
قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: "فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين" (أخرجه الشيخان والترمذي وابن ماجة وزاد البخاري في رواية: وقال محمد ابن كعب: إنهم أخفوا الله عملا فأخفى لهم ثوابًا. فلو قدموا عليه ، أقر تلك الأعين)
وعنه قال: قلت يا رسول الله : الجنة ما بناؤها ؟
قال: "لبنة من فضة ولبنة من ذهب وملاطها المسك الأذفر وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، ترابها الزعفران، من يدخلها ينعم ولا ييأس، ويخلد ولا يموت لا تبلى ثيابهم، ولا يفنى شبابهم" (الحديث أخرجه أحمد والدرامي والبزار وابن حبان والترمذي)(14/1)
وعنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة، لا يبولون ولا يتغوطون ولا يتفلون ولا يتمخطون أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك، مجامرهم الألوة، أزواجهم الحور العين على خلق رجل واحد على صورة أبيهم آدم ستون ذراعًا في السماء" (أخرجه أحمد والشيخان والترمذي وبان ماجة)
وعن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة كما يشتهي"
(أخرجه أحمد وابن ماجة والدارمي والترمذي وقال: حسن غريب)
وقد اختلف أهل العلم في هذا. فقال بعضهم: في الجنة جماع ولا يكون ولد.
وقال محمد يعني البخاري: وقد روى عن أبي رزين العقيلي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أهل الجنة لا يكون لهم فيها ولد"
وعن أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم لأصحابه:
"ألا مشمر للجنة ؟ فإن الجنة لا خطر لها هي ورب الكعبة نور يتلألأ وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وفاكهة كثيرة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، حلل كثيرة في مقام أبدًا في حيرة ونضرة في دور عالية سليمة بهية قالوا:نحن المشمرون لها يا رسول الله قال قولوا إن شاء الله ثم ذكر الجهاد وحض عليه" (أخرجه ابن ماجة وابن حبان)(14/2)
وعن سعيد بن المسيب أنه لقى أبا هريرة فقال أبو هريرة: أسأل الله أن يجمع بيني وبينك في سوق الجنة قال سعيد: أو فيها سوق قال: نعم أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل الجنة إذا دخلوها نزلوا فيها بفضل أعمالهم فيؤذن لهم في مقار يوم الجمعة من أيام الدنيا فيزورون الله عز وجل ويبرز لهم عرشه ويبتدى لهم في روضة من رياض الجنة فتوضع لهم منابر من نور ومنابر من لؤلؤ ومنابر من ياقوت ومنابر من زبرجد ومنابر من ذهب ومنابر من فضة ويجلس أدناهم وما فيهم دنئ على كثبان المسك والكافور ما يرون أن أصحاب الكراسي بأفضل منهم مجلسا.
قال أبو هريرة: قلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم هل نرى ربنا ؟
قال: نعم هل تتمارون في رؤية الشمس والقمر ليلة البدر، قلنا: لا.
قال: كذلك لا تتمارون في رؤية ربكم عز وجل. ولا يبقى في ذلك المجلس أحد إلا حاضره الله عز وجل محاضرة حتى إنه يقول للرجل منكم: ألا تذكر يا فلان يوم عملت كذا وكذا ؟ ويذكره بعض غدراته في الدنيا فيقول يا رب أفلم تغفر لي ؟ فيقول: بلي فبسعة مغفرتي بلغت منزلتك هذه.
فبينما هم كذلك غشيتهم صحابة من وفوقهم فأمطرت عليهم طيبًا لم يجدوا مثل ريحه شيئًا قط. ثم يقول: قوموا إلى ما أعددت لكم من الكرامة فخذوا ما اشتهيتم.
قال: فنأتي سوقًا قد حفت به الملائكة فيه ما لم تنظر العيون إلى مثله، ولم تسمع الآذان ولم يخطر على القلوب. قال: فيحمل لنا ما اشتهينا ليس يباع فيها شيء ولا يشترى وفي ذلك السوق يلقى أهل الجنة بعضهم بعضا.(14/3)
فيقبل الرجل ذو المنزلة المرتفعة فيلقى من هو دونه – وما فيهم دنئ فيروعه ما يرى عليه من اللباس فما ينقضي آخر حديثه حتى يتخيل عليه ما هو أحسن منه وذلك أنه لا ينبغي لأحد أن يحزن فيها ثم ننصرف إلى منازلنا فتتلقانا أزواجنا فيقلن: مرحبًا وأهلاً لقد جئت وإن بك من الجمال والطيب أفضل مما فارقتنا عليه فنقول: إنا جالسنا اليوم ربنا الجبار عز وجل وبحقنا أن ننقلب بمثل ما انقلبنا".
(أخرجه ابن ماجه والترمذي وقال: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وفيه عبد الحميد كاتب الأوزاعي مختلف فيه وبقية رجاله ثقات)
وعن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أدنى أهل الجنة منزل منزلة الذي له ثمانون ألف خادم واثنتان وسبعون زوجة، وتنصب له قبة من لؤلؤ وزبرجد وياقوت كما بين الجابية إلى صنعاء" (أخرجه الترمذي)
وعن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "آخر من يدخل الجنة رجل فهو يمشي مرة ويكبو مرة وتسفعه النار مرة فإذا جاوزها التفت إليها فقال: تبارك الله الذي نجاني منك، لقد أعطاني الله تعالى شيئًا ما أعطاه أحدًا من الأولين والآخرين فترفع له شجرة فيقول: يا رب أدنني من هذه الشجرة لأستظل بها وأشرب من مائها".
فيقول الله: يا بن آدم لعلي أن أعطيتكها تسألني غيرها.
فيقول: لا يا رب ويعاهده ألا يسأله غيرها، وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها فيستظل بظلها، ويشرب من مائها.
ثم ترفع له شجرة هي أحسن من الأولى. فيقول: يا رب أدنني من هذه لأستظل بظلها وأشرب من مائها، لا أسألك غيرها.
فيقول: يا بن آدم ألم تعاهدني ألا تسألني غيرها؟ لعلي إن أنيتك منها تسألني غيرها: فيعاهده ألا يسأله غيرها، وربه يعذره، لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها فيستظل بظلها، ويشرب من مائها، ثم ترفع له شجرة عند باب الجنة هي أحسن من الأولين. فيقول: يارب أدنني لأستظل بظلها وأشرب من مائها، لا أسألك غيرها.(14/4)
فيقول: يا ابن آدم ألم تعاهدني ألا تسألني غيرها؟
فيقول: يا بن آدم ألم تعاهدني ألا تسألني غيرها؟ لعلي إن أدنيتك منها تسألني غيرها: فيعاهده ألا يسأله غيرها، وربه يعذره، لأنه يرى ما لا صبر له عليه، فيدنيه منها فيستظل بظلها، ويشرب من مائها. ثم ترفع له شجرة عند باب الجنة هي أحسن من الأوليين. فيقول: يا رب أدنني من هذه لأستظل بظلها وأشرب من مائها، لا أسألك غيرها. قال: بلى يا رب هذه لا أسألك غيرها وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له عليه فيدنيه.
فإذا أدنى منها سمع أصوات أهل الجنة، فيقول: أي رب أدخلني الجنة. فيقول: يا بن آدم ما يصريني منك أيرضيك إن أعطيتك قدر الدنيا ومثلها معها؟ فيقول: يا رب أتستهزئ بي وأنت رب العالمين؟
فضحك ابن مسعود فقال: ألا تسألني مم ضحكت؟ فقيل: مم تضحك؟ فقال: هكذا ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل: مم تضحك؟ فقال: من ضحك رب العالمين، حين قال: أتستهزئ بي وأنت رب العالمين؟ فيقول: إني لا استهزئ بك، ولكني على ما أشاء قادر". [أخرجه أحمد ومسلم]
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما منك من أحد إلا له منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار".
فإذا مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله، فذلك قوله تعالى: (أولئك الوارثون). [سورة المؤمنون: 10]. [أخرجه ابن ماجه].
والله تبارك وتعالى أعلم(14/5)
نريد حديثًا عن النار، أعاذنا الله منها ؟
النار هي دار العذاب مخلوقة الآية فيها الزقوم والغسلين والمهل ومقامع من حديد، ومن أنواع العذاب ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على بال إنسان.
جاء بها الكتاب والسنة. قال تعالى: "إنا أعتدنا للظالمين نارًا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه، بئس الشراب وساءت مرتفقًا"
وقال: "هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم يصهر به ما في بطونهم والجلود ولهم مقامع من حديد"
وقال : "فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين"
وقال: "وبرزت الجحيم للغاوين"
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ناركم هذه التي توقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم" قالوا: والله إن كانت لكافية يا رسول الله قال: "فإنها فضلت بسعة وستين جزءا كلهن مثل حرها" (أخرجه مالك والشيخان والترمذي وقال حسن صحيح)
وعن الحسن عن عتبة بن غزوان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الصخرة العظيمة لتلقى من سفير جهنم فتهوى فيها سبعين عامًا. ما تقتضي إلى قرارها".
وقال: كان عمر رضي الله عنه يقول: "أكثروا ذكر النار فإن حرها شديد وإن قعرها بعيد وإن مقامعها حديد" (أخرجه الترمذي وقال: لا نعرف للحسن سماعًا من عتبة)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم، فكيف بمن يكون طعامه؟" (أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجة والحاكم والترمذي وقال: حسن صحيح)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تخرج عنق من النار يوم القيامة لها عينان تبصران، وأذنان تسمعان، ولسان ينطق يقول: إني وكلت بثلاثة: بكل جبار عنيد وبكل من دعا مع الله إلها آخر وبالمصورين" (أخرجه الترمذي وقال: حسن صحيح غريب)(15/1)
وعن النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أهون أهل النار عذابًا من له نعلان وشراكان من نار، يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل، ما يرى أن أحدًا أشد منه عذابًا، وإنه لأهونهم عذابًا" (أخرجه الشيخان والترمذي)
وع أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يلقى على أهل النار الجوع فيعدل ما هم فيه من العذاب، فيستغيثون فيغاثون بطعام من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع، فيستغيثون بالطعام فيغاثون بطعام ذي غصة، فيذكرون أنهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالشراب فيستغيثون بالشراب، فيدفع إليهم الحميم بكلاليب الحديد فإذا دنت من وجوههم شوت وجوههم، فإذا دخلت بطونهم قطعت ما في بطونهم فيقولون: ادعوا خزنة جهنم يخففون عنا، فيدعونهم فيقولون ألم تك تأتيكم رسلكم بالبينات ؟ قالوا: بلى. قالوا: فادعوا وما دعاء الكافرين إلا في ضلال. فيقولون: ادعوا مالكا فيقولون يا ما لك ليقضي علينا ربك فيجيبهم إنك ماكثون.
قال الأعمش: نبئت أن بين دعائهم وبين إجابة مالك إياهم ألف عام.
فيقولون: ادعوا ربكم فلا أحد خير من ربكم.
فيقولون: "ربنا غلبت علينا شقوتنا….."
قال: فيجيبهم: "اخسئوا فيها ولا تكلمون"
قال: فعند ذلك يئسوا من كل خير، وعند ذلك يأخذون في الزفير والشهيق ويدعون بالحسرة والويل والثبور" (أخرجه البيهقي والترمذي وقال: والناس لا يرفعون هذا الحديث)
ولهذه الأدلة أجمعت الأمة على أن النار موجودة الآن والحقيقة ممكنة، فلا وجه للعدول عنها.
هذا واعلم أنه لا يخلد في النار موحد، ولو ارتكب الكبائر وفاء بوعده تعالى بقوله: "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء"
وقوله: "فمن يعمل مثال ذرة خيرا يره"(15/2)
واحتمال دخوله الجنة أولا جزاء لا عمله من الخير، ثم يدخل النار عقابًا لما عمله من الشر، يبطله قوله تعالى: "ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانًا على سرر متقابلين لا يسمهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين".
وقوله تعالى: فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور" فهذا يدل على أن استيفاء الأجر بالنسبة لمن يدخل النار لا يكون إلا بعد الخروج منها.
وأدل من حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار"، ثم يقول الله تعالى: "أخرجوا من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فيخرجون منها قد اسودوا، فيلقون في نهر الحياة، فينبتون كما تنبت الحبة في جانب السيل ألم تر أنها صفراء ملتوية" (أخرجه الشيخان والنسائي)
وحديث أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من خير ويخرج من النار كل من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن برة من خير ويخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن ذرة من خير" (أخرجه أحمد والشيخان والنسائي وابن ماجة والترمذي وقال: حسن صحيح)(15/3)
نريد حديثًا عن رؤية الله تبارك وتعالى؟
أجمع أهل السنة على أن رؤية الله تعالى ممكنة عقلاً واجبة نقلاً واقعة في الآخرة للمؤمنين دون الكافرين بلا كيف ولا انحصار.
فيرى سبحانه وتعالى لا في مكان ولا جهة من مقابلة أو اتصال شعاع أو ثبوت مسافة بين الرائي وبين الله تعالى.
فإن الحق أن الرؤية قوة يجعلها الله تعالى في خلقه ولا يشترط فيها اتصال الأشعة ولا مقابلة المرئي ولا غير ذلك.
فلا يلزم من رؤيته تعالى إثبات جهة له، بل يراه المؤمنون لا في جهة كما يعلمون لا في جهة.
وقد تظاهرت أدلة الكتاب والسنة وإجماع الأمة على ذلك.
قال تعالى: (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) [سورة القيامة: 22-23].
وقال: (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) [سورة المطففين: 15]
وقال جرير بن عبد الله: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القمر ليلة البدر فقال: إنكم سترون ربكم عيانًا كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته. فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا، ثم، قرأ: (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب) [سورة ق: 39] [أخرجه السبعة إلا النسائي]
وعن صهيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تعالى تريدون شيئًا أزيدكم"؟ قال: فيقولون: ألم تبيض وجوهنا ؟ ألم تدخلنا الجنة؟
ألم تنجنا من النار؟ فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئًا أحب إليهم من النظر إلى ربهم. ثم تلا: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) [سورة يونس: 26]. [أخرجه مسلم والترمذي].(16/1)
وكذلك فإن رؤيته تعالى في الدنيا ممكنة، ولذا طلبها سيدنا موسى عليه السلام، فعلق الله تعالى حصولها له على استقرار الجبل حين يتجلى الله تعالى عليه، بقوله تعالى: (قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكًا وخر موسى صعقًا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين) [سورة الأعراف: 143].
ولم تقع إلا للنبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسرى به على الراجح.
روى ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس) [سورة الإسراء: 60].
قال: هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به، والشجرة المعلونة في القرآن، قال: هي شجرة الزقوم. [أخرجه البخاري والترمذي]
وبالرؤية قال ابن عباس وأبو هريرة وأحمد وأبو الحسن الأشعري وجماعة.
وأنكرتها عائشة رضي الله عنها. قال مسروق: قلت لعائشة رضي الله عنها:
يا أمتاه هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه؟ فقال: لقد قف شعري مما قلت، أين أنت من ثلاث من حدثكهن فقد كذب، من حدثك أن محمدًا رأى ربه فقد كذب، ثم قرآت: (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) [سورة الأنعام: 103] ومن حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب. ثم قرأت: (وما تدري نفسي ماذا تكسب غدًا) [سورة لقمان: 34]
ومن حدثك أنه كتم شيئًا من الوحي فقد كذب. ثم قرأت: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك) [سورة المائدة: 67].
ولكن رأي جبريل في صورته مرتين. [أخرجه الشيخان والترمذي].
والمختار ما ذهب ابن عباس والجمهور: والحجج من هذه المسألة كثيرة ولكن لا نتمسك إلا بالأقوى منها وهو حديث ابن عباس رضي الله عنهما ومن وافقه.
والأصل في الباب حديث ابن عباس حبر الأمة، والمرجع إليه في المعضلات، وقد راجعه ابن عمر في هذه المسألة وراسله، هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه؟(16/2)
فأخبره أنه رآه، ولا يقدح في هذا أثر عائشة رضي الله عنها. لأنها لم تخبر أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لم أر ربي، وإنما ذكرت متأولة لقول الله تعالى: (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيًا أو من وراء حجبا أو يرسل رسولاً). [سورة الشورى: 51] ولقول الله تعالى: (لا تدركه الأبصار) [سورة الأنعام: 103] والصحابي إذا قال قولاً وخالفه غيره منهم، لم يكن قوله حجة.
فإذا صحت الروايات عن ابن عباس في إثبات الرؤية، وجب المصير إلى إثباتها، فإنها ليست مما يدرك بالعقل ويؤخذ بالظن، وإنما يتلقى بالسماع ولا يستجيز أحد أن يظن بابن عباس أنه تكلم في هذه المسألة بالظن والاجتهاد ثم إنه اثبت شيئًا نفاه غيره، والمثبت مقدم على النافي.
فالحاصل: أن الراجح عند أكثر العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعيني رأسه ليلة الإسراء لما تقدم، ثم إن عائشة رضي الله عنها لم تنف الرؤية بحديث، ولو كان معها فيه حديث لذكرته، وإنما اعتمدت الاستنباط من الآيات. فأما احتجاجها بآية: (لا تدركه الأبصار).
فجوابه: أن الإدراك هو الإحاطة والله لا يحاط به، ولا يلزم من نفى الإحاطة نفي الرؤية بلا إحاطة. وأما احتجاجها بأية: (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيًا).
فجوابه: أنه لا يلزم من الرؤية وجود الكلام حال الرؤية. فيجوز حصول الرؤية بلا كلام، أو أنه عام مخصوص بما تقدم من الأدلة.
وكل ما تقدم أخبر به الصادق الأمين محمد صلى الله عليه وسلم. والعقل يجوزه، فيجب الإيمان به من غير بحث في حقيقته، ومن أخل بشيء مما ذكر، فسيرى جزاء تفريطه يوم الحساب والعرض على رب الأرباب.
والله تبارك وتعالى أعلم(16/3)
س:
نريد حديثًا عن كيفية الحساب وماهيته؟
ج:
... الحساب هو توقيف الله تعالى عباده قبل الانصراف من المحشر على أعمالهم، أقوالاً وأفعالاً واعتقادات تفصيلاً بعد أخذهم كتبهم لا من استثنى.
وكيفية التوقيف أمر غيبي، والناس فيه متفاوتون.
فمنهم من يحاسب حسابًا يسيرًا يُعرض عمله عليه، فيطلعه الله على سيئاته سرًا بحيث لا يطلع عليها أحد ثم يعفو عنه ويأمر به إلى الجنة.
ومنهم من يناقش الحساب، بأن يُسأل عن كل جزئية، ويطالب بالعذر والحجة فلا يجد عذرًا ولا حجة، فيهلك مع الهالكين، ويأمر الله تعالى مناديًا ينادي عليه بسيئات أعماله، فيفتضح بين الخلائق.
فعليك أيها العاقل أن تحاسب نفسك قبل أن تحاسب، وتبادر بالأعمال الصالحة قبل الفوات، وتصل مابينك وبين ربك بامتثال أوامره واجتناب نواهيه وتؤمن بالحساب وتستعد له.
قال الله تعالى: (وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين) [سورة الأنبياء: 47].
وقال: (ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدًا) [سورة الكهف: 49]. وقال: (ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين) [سورة الأنعام: 62]. وقال: (اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبًا) [سورة الإسراء: 14].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كانت عنده ملظمة لأخيه من عرضه أو شيء منه فليتحلله من اليوم من قبل ألا يكون دينار ولا درهم، وإن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسان أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه". [أخرجه أحمد والبخاري والترمذي].
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء، ويسأل الحجر لم انكب على الحجر ولم نكأ الرجل الرجل"؟(17/1)
قال: وكنا نسمع أن الرجل يتعلق بالرجل يوم القيامة وهو لا يعرفه.
فيقول: "كنت تراني على الخطأ وعلى المنكر ولا تنهاني" [أخرجه مسلم والترمذي ورزين].
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من نوقش الحساب عذب. فقلت: أليس يقول الله": (فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابًا يسيرًا وينقلب إلى أهله مسرورًا) [سورة الانشقاق: 7-9]؟ فقال: "إنما ذلك العرض، وليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك". [أخرجه الشيخان والترمذي وأبو داود].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أ، النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته. فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر. فإن انتقص من فريضته شيء، قال الرب تبارك وتعالى: انظروا هل لعبدي من تطوع فيكمل بها ما انتقص من الفريضة"، ثم يكون سائر عمله على ذلك". [أخرجه النسائي وابن ماجه والترمذي وقال هذا حديث حسن غريب].
وعن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن عمره فيم أفناه؟ وعن علم فيم فعل فيه؟ وعن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن جسمه فيم أبلاه"؟ [أخرجه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح، والطبراني وأبو نعيم في الحلية].
وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقول الله تعالى له: ألم أجعل لك سمعًا وبصرًا ومالاً وولدا وسخرت لك الأنعام والحرث وتركتك ترأس وترتع؟ أكنت تظن أنك ملاقي يومك هذا؟ فيقول: لا. فيقول له: "اليوم أنساك كما نستني". [أخرجه الترمذي وقال: هذا حديث صحيح غريب].
وهذا واعلم أيها الأخ المسلم أن سيشهد على العاصي أحد عشر شاهدًا في هذا اليوم المشهود:
اللسان، والأيدي، والأرجل، والسمع، والبصر، والجلد، والأرض، والليل، والنهار، والحفظة الكرام، والمال.(17/2)
قال تعالى: (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون) [سورة النور: 24].
وقال تعالى: (ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون* حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون) [سورة فصلت: 20].
وقال: (وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد) [سورة ق: 21].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يومئذ تحدث أخبارها) [سورة الزلزلة: 4].
فقال: "أتدرون ما أخبارها"؟ قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها، أن تقول عمل كذا وكذا يوم كذا وكذا. قال: "فهذه أخبارها" [أخرجه أحمد والترمذي وصححه].
وعن الحارث بن يزيد قال: سمعت ربيعة الجرشي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تحفظوا من الأرض فإنها أمكم وإنه ليس من أحد عامل عليها خيرًا أو شرًا إلا وهي مخبرة" [أخرجه الطبراني].
وعن أنس رضي الله عنه قال: ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "هل تدرون مم أضحك"؟
قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: من مخاطبة العبد ربه فيقول يا رب ألم تجرني من الظلم؟
يقول: بلى
فيقول: إني لا أجيز اليوم على نفسي شاهدًا إلا مني.
فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك حسيبًا والكرام الكاتبين شهودًا.
فيختم على فيه ويقول لأركانه: "انطقي، فتنطق بأعماله ثم يخلي بينه وبين الكلام، فيقول: بعدًا لكن وسحقًا فعنكن كنت أناضل". [أخرجه مسلم].
وفي الحديث:
"ما من يوم يأتي على ابن آدم إلا ينادي فيه: يا ابن آدم أنا خلق جديد وأنا فيما تعمل عليك شهيد فاعمل خيرًا أشهد لك به غدًا فإني لو مضيت لن تراني أبدًا، ويقول الليل مثل ذلك". [أخرجه أبو نعيم].(17/3)
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن هذا المال خضر حلو، ونعم هو لمن أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل، وإنه من يأخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون عليه شهيدًا يوم القيامة". [أخرجه مسلم].
والحكمة في ذل كأن يعلم المرء أن لا ظلم في ذلك اليوم، وإظهار مراتب أصحاب الكمال، فيزدادون سرورًا على سرورهم، وإظهار فضائح أصحاب الشمال فيزدادون حسرة وندامة. نسأل الله السلامة.(17/4)
نريد حديثًا مستفيضًا عن القضاء والقدر؟
ج:
... القضاء (لغة) الخلق والأمر والحكم. قال تعالى: (فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها) [سورة فصلت: 12] أي خلقهن. وقال تعالى: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) [سورة الإسراء: 23].
أي: أمر
(وعرفًا) هو الحكم الكلي الإجمالي في الأزل، أي وجود الأشياء في أم الكتاب مجملة.
والقد (لغة) التقدير وهو جعل كل شيء بمقدار يناسبه بلا تفاوت.
(وعرفًا) جزئيات حكم القضاء وتفاصيله التي تقع فيما لا يزال.
قال تعالى: (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) [سورة الحجر: 21].
ومعناه: أن الله تعالى قدر الأشياء في القدم وعلم أنها ستقع في أوقات معلومة عندن، وعلى صفات مخصوصة، فهي تقع على حسب ما قدرها سبحانه وهو بهذا المعنى يعم القضاء بالمعنى السابق.
وقال الخطابي: قد يحسب كثير من الناس أن معنى القضاء والقدر إجبار الله تعالى العبد على ما قدره وقضاه، وليس الأمر كما يتوهمونه، وإنما معناه الإخبار عن تقدم علم الله تعالى بما يكون من اكتسابات العبد وصدورها عن تقدير من الله تعالى وخلقه لها خيرها وشرها.
والقدر اسم لما صدر مقدرًا عن فعل القادر، ويجب الإيمان والرضا بهما لقوله تعالى: (وخلق كل شيء فقدره تقديرًا) [سورة الفرقان: 2].
وقوله: (إنا كل شيء خلقناه بقدر) [سورة القمر: 49]
ولقوله النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل: "وأن تؤمن بالقدر خيره وشره".
ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله تعالى من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجزه وإن إصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عم الشيطان".
[أخرجه أحمد ومسلم وابن ماجه](18/1)
هذا ما عليه أهل السنة والجماعة، فيجب على المكلف أن يعتقد أن جميع أفعال العباد بقضاء الله وقدره، وأن الله تعالى يريد الكفر من العبد ويشاؤه، ولا يرضاه ولا يحبه له، فيشاؤه كونًا ولا يرضاه دينًا وأن كل إنسان ميسر لما خلق له وإن الأعمال بالخواتيم فالسعيد من سعد بقضاء الله وقدره فيوفقه تعالى للعمل بالشريعة الغراء إلى أن يموت على ذلك والشقي من شقي بقضاء الله وقدره، فيموت على الكفر والعياذ بالله تعالى:
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كنا في جنازة ببقيع الغرقد فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله، وبيده مخصرة فجعل ينكت بها الأرض ثم قال: "ما منكم من احد إلا وقد كتب مقعده من النار، ومقعده من الجنة".
فقالوا يا رسول الله: أفلا نتكل على كتابنا؟
فقال: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل السعادة وأما من كان من أهل الشقاء فسيصير إلى عمل الشقاء".
ثم قرأ: (فأما من أعطى واتقى* وصدق بالحسنى* فسنيسره لليسرى) [أخرجه الخمسة إلا النسائي].
وعن جابر رضي الله عنه قال: جاء سراقة بن مالك بن جعشم رضي الله عنه فقال: يا رسول الله بين لنا ديننا كأننا خلقنا الآن فيم العمل اليوم؟ فيما جفت الأقلام وجرت به المقادير، أم فيما يستقبل؟
قال: "فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير"
قال: ففيم العمل؟
قال: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له وكل عامل بعمله". [أخرجه مسلم].
وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة". [أخرجه الشيخان وزاد البخاري: وإنما الأعمال بالخواتيم]
والأحاديث والآثار في هذا الباب كثيرة: وفيها رد على القدرية الذين يزعمون أن أفعال العباد مقدرة لهم واقعة منهم استقلالاً بواسطة الأقدار والتمكين.(18/2)
وقد اتفق لشخص منهم أنه رفع رجله بحضرة رجل من أهل السنة وقال: إني رفعت رجلي عن الأرض بقدرتي.
فقال له السني: فإذًا ارفع رجلك الأخرى.
فلم يدر له جوابًا.
وفيها رد عليهم أيضًا في زعمهم أن الله يخلق الخير ولا يخلق الشر والمخالفات وهي أكثر وقوعًا من الطاعات لكان أكثر ما يجري في الوجود من أفعال العباد لا يكون بخلق الله وإيجاده، بل يخلقهم وإيجادهم وذلك جلي البطلان، لأن الله تعالى هو المنفرد بالخلق والتأثير على وفق علمه.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "القدرية مجوسي هذه الأمة إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم". [أخرجه أبو داود والحاكم من حديث أبي حازم عن عمر. وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين إن صح سماع أبي حازم عن ابن عمر]
وشبههم صلى الله عليه وسلم بالمجوس حيث فرقوا بين أفعال الله عز وجل فجعلوا بعضها له وبعضها لغيره.
قال الخطابي: إنما جعلهم صلى الله عليه وسلم مجوسًا، لماضاة مذهبهم مذهب المجوس في قولهم بالأصلين النور والظلمة، يزعمون أن الخير من فعل النور والشر من فعل الظلمة، فصاروا ثنوية.
وكذلك (القدرية) يضيفون الخير إلى الله تعالى والشر إلى غيره.
والله خالق الخير والشر جميعًا، لا يكون شيء منهما إلا بمشيته فهما مضافان إليه خلقًا وإيجادًا، وإلى الفاعلين لهما من عباده فعلاً واكتسابًا.
وفيها رد أيضًا على المعتزلة الذين زعموا أن الله تعالى شاء الإيمان من الكافر فشاء الكافر الكفر، وهو زعم باطل فإنه يلزمه مشيئة الكافر دون مشيئة الله عز وجل.
وهذا من أقبح الاعتقاد، إذ هو مخالف للأدلة القطعية وفيه تعطيل لإرادة الله تعالى، وأنه لا يقع في الكون إلا ما أراده رب العالمين وكيف وهو الذي يقول:
(وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة).
وقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: (ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن).
ومنشأ خطئهم التسوية بين المشيئة والإرادة وبين المحبة والرضا،(18/3)
فقالت الجبرية: الكون كله بقضائه وقدره، فهو محبوب مرضي.
وقالت القدرية: ليست المعاصي محبوبة ولا مرضية لله تعالى، فلست مقدرة ولا مقضية فهي خارجة ن مشيئته وخلقه.
وقد دل على الفرق بين الإرادة والرضا الكتاب والسنة والفطرة الصحيحة.
قال تعالى: (ولو شئنا لاتينا كل نفس هداها ولكن حق القول منى لأملأن جنهم من الجنة والناس أجمعين) وقال تعالى: (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعًا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)، وقال (وا تشاءون إلا أن يشاء اللهه إن الله كان عليمًا حكيما) وقال: (من يشاء الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم)، وقال: )فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقًا حرجًا كأنما يصعد في السماء).
وقال: )ذو العرش المجيد فعال لما يريد)، وقال: والله لا يحب الفساد،وقال: (ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم).
وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنعًا وهات، وكره لكم ثلاثًا: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال). [ أخرجه مسلم]
وقال ابن عمر:
قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (إن الله تعالى يجب أن تؤتى رخصة كما يحب أن تؤتى عزائمه) [ أخرجه أحمد والبيهقي وابن خزيمة وابن حبان]
وقالت عائشةـ رضي الله عنها ـ:
فقدت النبي ـصلى الله عليه وسلم ـ من الفراش فوقعت يدي على بطن قدميه وهو ساجد يقول: (اللهم إني أعوذ برضالم من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك) [ أخرجه مسلم والأربعة]
فتأكل استعاذته ـ صلى الله عليه وسلم ـ بصفة الرضا من صفة السخط وبفعل المعافاة من فعل العقوبة، فالأول للصفة، والثاني لأثرها المترتب عليها.(18/4)
ثم ربط ذلك كله بذاته سبحانه وتعالى، وأن ذلك كله راجع إليه وحده لا إللا غيره فهو يقول: ما أعوذ منه واقع بمشيئتك وإرادتك، وما أعوذ به من رضالك ومعافاتك، هو بمشيئتك وإرادتك إن شئت أن ترضي عن عبدك وتعافيه، وإن شئت أن تغضب عليه وتعاقبه، فأعذني مما أكره وامنعه أن يحل بي، وهو بمشيئتك أيضًا، فالمحبوب والمكروه كله بقضائك ومشيئتك.
فإن قيل: كيف يريد الله أمرًا ولا يرضاه؟
قيل: إن المراد نوعان: مراد لنفسه ومراد لغيره.
فالمراد لنفسه مطلوب ومحبوب لذاته وما فيه من الخير.
والمراد لغيره قد لا يكون مقصودًا لمن يريد ولا فيه مصلحة له بالنظر إلى ذاته، وإن كان وسيلة إلى مقصوده ومراده، فهو مكروه له من حيث نفسه وذاته، مراد له من حيث أنه وسيلة إلى مراده، فيجتمع فيه الأمران: بغضه وإرادته ولا يتنافيان لاختلاف متعلقهما.
وهذا كالدواء الكرية إذا علم المتناول له أن فيه شفاءه، وقطع العضو المتآكل إذا علم أنه في قطعه بقاء جسده، وكقطع المسافة الشاقة إذا علم أنها توصل إلى مراده ومحبوبه.
بل العاقل يكتفي في إيثار هذه المكروه وإرادته بالظن الغالب وإن خفيت عنه عاقبته، فكيف بمن لا يخفي عليه خافية، فهو سبحانه يكره الشيء وقد يريده لكونه سببًا إلى أمر هومحبوب إليه.
من ذلك أنه خلق إ[ليس الذي هو سبب فساد الأغمال والاعتقادات، وسبب لشقاوة كثير من العباد وعملهم بما يغضب الرب سبحانه وتعالى، وهو السعى في وقوع خلاف ما يحبه الله ويرضاه، ومع هذا فهو وسيلة إلى محاب كثيرة لله تعالى ترتبت على خلقه، ووجودها أحب إليه من عدمها.
منها أنه يظهر للعباد قدرة الله تعالى على خلق المتضادات المتقابلات.
فخلق هذه الذات التي خي أخبث الذوات وسبب كل شر في مقابلة ذات جبرائيل التي هي من أشرف الذوات وأطهرها وأزكاها وهي سبب كل خير.(18/5)
كما ظهرت في خلق الليل والنهار والدواء والداء، والحياة والموت، والحسن والقبيح، والخير و الشر، وذلك من أدل دليل على كمال قدرته وعزته وسلطانه فإن خلق هذه المضادات، وقابل بعضها ببعض وجعلها محال تصرفه وتدبيره، فخلو العالم عن بعضها بالكلية تعطيل لحكمته وكمال تصرفه وتدبير مملكته.. ومنها: ظهور آثار أسمائه القهرية.
مثل: القهار والمنتقم والضار والشديد العقاب والشسري الحساب وذي البطش الشديد الخافض والرافع والمعز والمذل، فإن هذه الأسماء والأفعهال كمالات لا بد من وجود متعلقها ولو كان الجن والإنس على طبيعة الملائكة لم يظهر أثر هذه الأسماء.
ومنها ظهور آثار اسمائه المتضمنة كلأه وعفوه ومغفرته وستره وتجاوزه عن حقه وعتقه لمن شاء من عبيده، فلولا خلق ما يكرهه من الأسباب المفضية إلى ظهور آثار هذه الأسماء، لتعطلت هذه الحكم والفوائد.
وقد أشار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى هذا بقوله: (والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ويستغفرون فيغفر لهم) [ أخرجه مسلم عن أبي هريرة]
ومنها: ظهور آثار أسماء الحكمة والخبرة، فإن الحكيم الخبير الذي يضع الشياء مواضعها وينزلها منازلها اللائقة بها، فلا يضع الشيء في غير موضعه ولا ينزل في غير منزلته التي يقتضيها كمال علمه، وتمام حكمته، فهو أعلم حيث يجعل رسالاته وأعلم بمن يصلح لقبولها ويشكر له جميل صنع، وأعلم بمن لا يصلح لذلك.
... فلو قدر عدم الأسباب المكروهة لتعطلت حكم كثيرة، ولفاتت مصالح عديدة، ولو عطلت تلك الأسباب لما فيها من الشر لتعلطل الخير الذي هو أعظم من الشر الذي في تلك الأسباب.
وهذا كالشمس والمطر والرياح التي فيها من المصالح ما هو أضعاف أضعاف ما يحصل بها من الشر.(18/6)
ومنها: حصول الطاعات المتنوعة التي لولا خلق إبليس لما حصلت
فإن طاعة الجهاد من أحب أنواع الطاعة، ولو كان الناس كلهم مؤمنين لتعطلت هذه الطاعة، وتوابعها من الموالاة لله تعالى والمعاداة فيه، وطاعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومخالفة الهوى، وإيثار محاب الله تعالى والتوبة والاستغفار والصبر، والاستعاذة بالله أن يجيره من عدوه ويعصمه من كيده وأذاه إلى غير ذلك من الحكم التي تعجز العقول عن إدراكها.
هذا وأعلم أن الله تعالى لم يخلق شرًتامحضًا من جميع الوجوه فإن حكمته تأبي ذلك، فلا يمكن في جانبه تعالى أن يريد شيئًاا يكون فسادًا من كل وجه لا مصلحة في خلقه بوجه ما، فإنه تعالى بيده الخير كله، والشر ليس إليه، بل كل ما إليه فخير، والشضر إنما حصل لعدم النسبة إليه، فلو كان إليه لم يكن شرًا وهو من حيث نسبته إليه تعالى خلقًا ومشيئته ليس بشر، والشر الذي فيه من عدم امداده بالخير وأسبابه، والعدم ليس بشيء حتى ينسب إلى من بيده الخير.
وبهذا يظهر رد الله تعالى على المشركين، بقوله: (سيقول الذين اشتركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا باسنا).
وإيضاح ذلك أن أسباب الخير ثلاثة: الإيجاد والإعداد والإمداد.
فإيجاد الشيء خير وهو إلى الله، وكذلك إعداده وإمداده.
فإذا لم يحدث فيه إعداد ولا إمداد، حصل فيه الشر.
وهذا يسمى بالتخلية أي إن خلى الله بين العبد وبين نفسه ولم يمده بأسباب الوقاية من الشر وقع فيه، فإن قيل: كيف يرضى لعبده شيئًا ولا يعينه عليه؟
قيل: لأن إعانته عليه قد تستلزم فوات محبوب له أعظم من حصول تلك الطاعة التي رضيها له، وقد يكون وقوع تلك الططاعة منه يتضمن مفسدة هي أكره إليه تعالى من محبته لتلك الطاعة، وقد أشار الله تعالى إلى ذلك بقوله: (ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم).(18/7)
أخبر سبحانه أنه كره ابنعاثهم إلى الغزو مع الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو طاعة، فلما كرهه منهم ثبطهم عنه، ثم ذكر سبحانه بعض المفاسد التي تترتب على خروجهم مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: (لو خروجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا) أي فسادًا وشرًا.
(ولأوضعوا خلالكم).
أي سعو بينكم بالفساد والشر.
(يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم)
أي قابلون منهم مستجيبون لهم فيتولد ممن سعى هؤلاء وقبول هؤلاء من الشر ما هو أعظم من مصلحة خروجهم فاقتضت الحكمة والرحمة أن أقعدهم عنه.
ولا يقال: إذا كان الكفر بقضاء الله وقره ونحن مأمورين أن نرضي بقضاء الله، فكيف ننكره ونكره؟ نقول: أولاً: نحن غير مأمورين بالرضا بكل ما يقضيه الله ويقدره، ولم يرد بذلك كتاب ولا سنة، بل من المقتضى ما يرضي به، ومنه ما يسخط ويمقت.
ثانيًأ: هناك أمران: قضاء الله، وهو فعل قائم بذات الله تعالى.
ومقضى وهو المفعول المنفصل عنه المتعلق بالعبد المنسوب إليه.
فالقضاء كله خير وعدل وحكمة نرضى به كله والمقضى قسمان: منه ما نرضي به، ومنه ما لا نرضي به.
فمثلاً: قتل النفس له اعتباران،
فمن حيث قدره الله وكتبه وشاءه وجعله أجلاً للمقتلو ونهاية لعمره نرضى به.
ومن حيث صدر من القاتل وباشره وكسبه وأقدم عليه بأختياره وعصى الله بفعله نسخطه ولا نرضى به.
فهذا جملة ما يحتاج إليه ـ في القضاء والقدر ـ من نور الله قلبه من المؤمنين الراسخين في العلم، فإن العلم علمان معروف للخلق وغير معروف لهم.
فالمعروف: علم الشريعة الذي جاءت به الرسل جملة وتفصيلا، أصولاً وفروعًا.
فمن أنكره كان من الكافرين.
وغير المعروف: علم القدر الذي أخفاه الله عن خلقه ونهاهم عن البحث فيه.
فمن ادعى معرفته وترك العمل بظاهر الشريعة اعتمادًا على ذلك فهو من الخاسرين، فالمؤمن الصادق هو الذي يعمل بما جاء به الرسول ـصلى الله عليه وسلم ـ ويفوض علم القضاء والقدر إلى الله عز وجل.(18/8)
والله تبارك وتعالى أعلم.(18/9)
س: نريد من فضيلتكم خطبة منبرية يكون موضعها( السجود لله وحده).؟
جعلنا الله وإياكم من الموحدين الساجدين
جـ:
الخطبة الأولى
الحمد الله رب العالمين، يا رب نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كل إثم، والغنيمة من كل بر، والعصمة من كل ذنب، لا تدع لنا في هذا اليوم العظيم ذنبًا إلا غفرته، ولا كربًا إلا فرجته، استر عوراتنا وآمن روعاتنا وبارك لنا في أرزاقنا، اللهم ارزقنا الحلال وبارك لنا فيه، وباعد بيننا وبين الحرام إلى يوم أن نلقاك.
اللهم أهد أولادنا وبصرنا بعيوننا، وأشهد أن لا إله إلا الله لا تدركه الأبصار ولا تحويه الأقطار ولا يؤثر فيه الليل ولا النهار وهو الواحد القهار.
قالوا لأبي بكر الصديق رضي الله عنه: يا أبا بكر بما عرفت ربك؟
فقال أبا بكر الصديق: عرفت ربي بربي ولولا ربي ما عرفت ربي.
فيقل له: فكيف عرفت ربك؟
فقال الصديق: العجز عن الإدراك إدراك والبحث في ذات الله إشراك إلهي.
لما علمت بأني قلبي فارغ
مما سواك ملأته بهداك وملأت كلي منك حتى لم
أدع مني مكانًا خاليًا لسواك
وأشهد أن سيدنا ونبينًا وعظيمًا وحبيبنا محمد رسول الله.
أمرنا أن نكثر من الدعاء ونحن ساجدون لله، لا سجود إلا لله، فإذا ما وضعت الجبين على الأرض فأكثر من الدعاء فإن الرسول صلوات ربي وسلامه عليه يقول: (أقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء).
ومن هنا قدم السجود على الركوع، مع أن الركوع قبل السجود، قدم السجود على الركوع في قوله تعالى: (يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين)، فقد السجود في الذكر على الركوع مع أن الركوع سابق في الفعل بين المكانة وبين المكان فالمكانة معنوية والمكان حسى، فقدم السجود على الركوع لأن أقرب وضع تكون فيه إلى الله وأنت ساجد فأكثر من الدعاء.(19/1)
سيدي أبا القاسم يا رسول الله، يا حبيب الله أشهد أنك بلغت الرسالة وأديت الأمانة ونصحت الأمة ومحوت الظلمة وكشفت الغمة وجاهدت في الله حق جهاده، أبتليت فصبرت، وأعطيت فشكرت، وقضى الله عليك فرضيت بما قضى الله،
يا سيدي إنا نسير بقفره
... ... ... زاد الهجير بها وقل الماء
يا سيدي كن للنجاة شفيعنا
... ... ... يا خير من شهد له الشفعاء
صلى عليك الله يا علم الهدى ما هبت النسائم، وما ناحت على الأيك الحمائم.
أما بعد:
فيا حماة الإسلام وحراس العقيدة.
(وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان وأعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون).
فماذا قال سليمان عندما سمع التقرير الهدهدي؟
أيها الأخوة الأماجد:
أقف عند تقرير الهدهد وعند رد سليمان عليه، وأهدى هذا الدرس القرآني إلى حكام المسلمين، فليست الدراسات القرآنية كلمات تلوكها الألسنة وتنبس بها الشفاه، إنما الدراسات القرآنية عبر ومن العبر نأخذ المواعظ، ولا خير فيمن قرأ القرآن بلسانه، ولم يتدبره بقلبه، ولم يخش الله عز وجل.
قال الحبيب ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (إن أحسن الناس قراءة الذي إذا قرأ رأيته يخشى الله).
أيها الأخوة: الهدهد غاضب لماذا.
غاضب لله، ملكة تتربع على عرش اليمن تسجد هي وقومها للشمس من دون الله!
إن في القرآن الكريم أربع عشرة تزيد واحدة في سور الحج، أربع عشرة من سور القرآن الكريم في كل سورة منها آية سجود وتزيد سورة الحج، آية إذا أضيفت يكون مجموع الآيات خمس عشرة آية إذا قرأت واحدة منها فعليك أن تخر ساجود لله (يسمى سجود التلاوة) لمن رفع السماء بلا عمد، فإذا ما سجدت فإن الشيطان يقول: يا يلي أمر ابن آدم بالسجود فأطاع فدخ الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فدخلت النار.(19/2)
ومن هنا فإن الصحابي الجليل أبا سعيد الخدري ذهب ذات يوم إلى سيدنا المصطفى صلوات الله وسلامه عليه يقص عليه رؤيا رآها: ...
قال أبو سعيد: يا رسول الله رأيت في المنام كأني أجلس تحت شجرة فسمعت الشجرة: تقرأ سورة (ص) فلما وصلت الشجرة إلى آية السجدة سجدت لله سجدة، فسمعتها تقول في سجودها: اللهم اكتب لي بها عند أجرًا وحط عنى بها وزرًا واجعلها لي عندك ذخرًا وتقبلها مني كما تقبلتها من عبد داود.
(الشمس والقمر بحسبان، والنجم والشجر يسجدان).
لو سألت العالم من عرشه، إلى فرشه ومن سمائه إلى أرضه وقلت له من خالقك: أجابك قائلا:
أنا مخلوق للواحد الديان.
انظر إلى تلك الشجرة ...
... ... ... ... ذات الغصون النضرة.
كيف نمت من حبة ...
... ... ... ... وكيف صارت شجرة
فانظر وقل من ذا
الذي يخرج منها الثمرة
ذاك هو الله
الذي أنعمه منهمرة
ذو حكمة بالغة
... ... ... ... ... ... وقدرة مقتدرة
وانظر إلى الشمس ...
... ... ... ... ... ... التي جذوتها مستعرة
من ذا الذي أوجدها ...
... ... ... ... ... ... في الجو مثل الشررة
ذاك هو الله الذي
... ... ... ... ... ... أنعمه منهمرة
ذو حكمة بالغة
... ... ... ... ... ... وقدرة مقتدرة
انظر إلى الليل فمن ...
... ... ... ... ... ... أوجد فيه قمره
وزانه بأنجم
... ... ... ... ... ... كالدور المنتشرة
ذاك هو الله
... ... ... ... ... ... الذي أنعمه منهمرة
ذو حكمة بالغة
... ... ... ... وقدرة مقتدرة
انظر إلى المرء وقل
... ... ... ... من شق فيه بصره
من ذا الذي جهزه
... ... ... ... بقدرة مقتدرة
ذاك هو الله
... ... ... ... الذي أنعمه منهمرة
ذو حكمة بالغة
... ... ... ... وقدرة مقتدرة(19/3)
الشجرة سجدت عندما قرأت آية السجدة ودعت الله بدعوات فلما سمع النبي ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ رؤيا أبي سعيد الخدري قال له: فهل سجدت أنت يا أبا سعيد؟ لما سمعت الشجرة تقرأ أية السجود في سورة (ص) وسجدت الشجرة فهل سجدت أنت؟
قال: لا يا رسول الله.
قال له: لقد كنت أنت أحق بالسجود منها.
قال أبا سعيد: فرأيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يسجد وسمعته سفي سجوده يقرأ الدعاء الذي قالته الشجرة في المنام.
يا معاشر السادة: لا سجود إلا لله يسجدون للشمس من دون الله.
ومن هنا فإن الإسلام ينهي نهيا جازمًا عن الصلاة عند طلوع الشمس إلى أن ترتفع، وينهي عن الصلاة عند أصفرار الشمس إلى أن تزول وذلك حتى لا نتشبه بعباد الشمس.
إخوتي:
ماذا قال سليمان للهدهد؟
وهنا أقول لحكام المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها:
إياكم أن تصدروا قرارات في أوقات انفعالكم فإن صدور القرار وقت الانفعال قد يحطم الأمة من أعلاها إلى أدناها ومن أدناها إلى أقصاها.
قال تعالى: (ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم خالدًا فيها وغضب الله عليه ولعته وأعد له عذابًا عظيمًا).
سواء قتله بنفسه بأن أطلق عليه النار بيده أو صرح لغيره أن يحكم عليه بالإعدام، فقد حدث أن ثمانية من رجال اليمن قتلوا رجلاً مسلمًا وكان ذلك أيام عمر ابن الخطاب رضوان الله عليه فأمر بقتلهم جميعًا، بقتل الثمانية وقال عمر:
لو اجتمع عليه أهل صنعاء جميعًا لقتلتهم فيه:
لو اجتمع عليه أهل صنعاء جميعًا لقتلتهم فيه.
اسمع يا كل طاغية جبار، إلى قول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:
(من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوبًا بين عينيه آيس من رحمة الله).
اسمع إلى قول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوبًا بين عينيه آيس من رحمة الله)(19/4)
أعناه، لم يقتل، إنما أعانه بشطر كلمة، ولو بنصف كلمة، أعان على القتل ولو بنصف كلمة جاء يوم القيامة مكتوبًا بين عينيه آيس من رحمة الله.
هذا هو حال الأمة، إنني أقف كثيرًا عندما قرأ سليمان التقرير
يا معاشر السادة الأعزاء:
إياكم والانفعالات يا حكام المسلمين، فالقرارات وقت الانفعال قد تدمر الأمم، قد تدمرها، ولذلك سأسوق إلى حضراتكم الآن نموذجين من اتخاذ القرارات أحدهما للملك النبي سليمان، والآخر لسيد الخلق وحبيب الحق محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
أما سليمان فإنه بعد توقيع القرار أمامه بعد أن قرأ القرار مرة مرة قال(سننتظر ) بكل هدوء ثم بعد ذلك قال:
(أصدقت أم كنت من الكاذبين)
مع أن سليمان يعلم علم اليقين أن الطير لا تعرف الكذب، بل إن ما عدا الإنسان وما عدا الجن لا يعرف الكذب.
أما الذي يعرف الكذب فهو الإنسان والجن.
وأما الشجر والدواب والطير والنجم والكواكب وغيرها من مخلوقات الله لا تعرف الكذب أبدًا، فمن رأي في المنام أن حيوانًا يكلمه فليست الرؤيا محتاجة إلى تفسير، فليأخذ بالكلام الذي سمعه من الحيوان لأن الحيوان صادق، والطير صادق، بل إن الحيوان والطير يري ما لم نر وقد يدرك أمورًا لا ندركها نحن.
أرأيت الزلزال الذي طوق الصين منذ سنوات وقضى على سبعمائة ألف نفس في دقائق، قبل أن تزلزل الأرض زلزالها، سمع للخيول صهيلاً عال وللديكة صياح عال، قبل الزلزال بدقائق لأنها رأت الملائكة التي نزلت لتخسف الأرض، رأت ما لا نري، ولقد كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يركب دابته ذات يوم ففزعت به دابته، فسئل لم فزعت بك الدابة يا رسول الله. فقال: (لأنه مرت بقبر يعذب صاحبه).
إدراكات قد لا ندركها، وقد لا نعلمها بحواسنا، لأنها محدودة الإدراك.
(أصدقت أم كنت من الكاذبين)
والاستفهام هنا بالهمزة ولا يجوز الاستفهام بهل لأن أم لا تقع بعد هل أبدًا، فليس في القرآن الكريم آية تقول هل صدقت أم كنت.(19/5)
فإن هل تفيد الاستفهام عن النسبة أما أم والهمزة فتفيد الاستفهام عن أحد الأمرين صدقت أم كنت من الكاذبين.
هل تفيد الاستفهام عن ا لتصديق والهمزة تفيد الاستفهام في القصور والتصديق معًا.
أصدقت ولم يقل أكذبتن أم كنت من الصادقين، إنما قال: أصدقت، فقدم الصدق، على الكذب لأن الأصل في الإنسان أين كون صادقًا.
فالصدق هو الأصل والكذب عارض، فإنما قال: (أصدقت أم كنت من الكاذبين)
ولم يقل: أصدقت أم أنت من الكاذبين؟
لأنه لو قال له أم أنت من الكاذبين لصار الهدهد في عداد الكاذبين لا يعرف الصدق أبدًا لأن أنت من الكاذبين جملة اسمية تفيد الثبات والاستقرار.
... أما أم كنت، فكان فعل ماض بمعني: إنك لو كذبت مرة فإنك لن تكذب بعد اليوم فأراد ألا يظلمه فقال: أم كنت من الكاذبين ولم يقل: أصدقت أم كذبت ليفيد أن عدد الكاذبين في هذه الدنيا كثير فجاء بالجمع أم كنت من الكاذبين، والجمع يفيد الكثرة، وسليمان مع علمه بأن الهدهد صادق إلا أن اتخاذ القرار يستدعى التحري الكامل، فإن في اتخاذ القرار مصير أمة إن سليمان مع ثقته في كلام الهدهد ومع علمه بأنه صادق إلا أنه لا يتخذ القرار إلا بعد أن يتأكد كل التأكد.
أنتقل بحضراتكم الآن إلى رافع لواء الوحدانية إلى سيد البشرية إلى حبيب القلوب إلى سيدنا محمد ماذا كان يصنع عند اتخاذ القرار.؟
إن سليمان بن داود قال للهدهد: (سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين) فماذا قال سيدنا رسول الله لعمر بن الخطاب عند أتي له بأحد الجناه؟
أيها السادة الأعزاء:
حتى لا يضيع الوقت من بين أيدينا فإنني ألتقي بسيدي وحبيبي ونور قلبي بعد جلسة الاستراحة.
هنا مدرسة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها)(19/6)
يوم ترونها تذهل كل مرضعة هكذا بالتاء ولم يقل: تذهل كل مرضع مع أن الذي يرضع معروف أنه من النساء لا من الرجال فلماذا ذكر تاء التأنيث في مرضعة مع أنه معروف أن المرضع لابد أن تكون أنثي؟ كما في قولنا:
امرأة حائض ولا نقول حائضة ن الحيض مختص بالنساء فيقال: حائض
فلماذا قال القرآن: (كل مرضعة) ولم يقل: (تذهل كل مرضع).؟ كما في قوله تعالى: (وحرمنا عليه المراضع).
فالمراضع جمع مرضع لا جمع مرضعة لأنه جمع المرضعة مرضعات إنما قال: (تذهل كل مرضعة).
لأن هناك فرقًا بين امرأة مرضع وامرأة مرضعة.
الفرق أن امرأة مرضعًا يعني أنها ترضع طفلها ثم تنزله عن ثديها فهي مرضع سواء كان الطفل على ثديها يرضع أم نزل الطفل عن ثديها.
أما مرضعة فتفيد أن الطفل على ثديها لم يفارق ثديها فأراد ربك أن يقول: إذا زلزلت الأرض فإن المرضعة تضع رضيعها ولو كان ماسكًا بثديها وذلك من هول الساعة، تشعه ولو كان على ثديها، ولو كان ملتقمًا ثديها تضعه ولا تكمل رضاعته وذلك عند تزلزل الأرض إيذانًا بالنفخة الأولى.
(فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله).
لو كان هناك امرأة مرضعة أي طفلها على ثديها يرضع، فإنها ترميه من بين يديها من هول ما ترى.
أما لو قال:يوم ترونها تذهل كل مرضع وحذف التاء لكان المعنى يحتمل أن الوالد في ثديها ويحتمل أن الولد على الأرض مفارق يديها، إنما قيد الرضاعة بالتاء ليفيدك شدة خطورة الزلزلة، ترميه ولو لم يكمل رضاعته.
(اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها)
لو كان هناك امرأة حامل وزلزلت بها الأرض إيذانًا بقيام الساعة لطرحت ما في بطنها من هول الساعة، لأسقطت ما في بطنها، أسقطته من هول الساعة (وترى الناس سكاري) حياري من شدة ما يرون (وما هم سكاري) من الخمر فإنهم لم يشربوا خمرًا (ولكن عذاب الله شيديد).
معاشر السادة:(19/7)
أوصيني وأياكم بقوله تعالى: (وتوبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون)
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين وأشهد أن سيدنا ونبينا وعظيمنا وحبيبنا محمدًا رسول الله خاتم الأنبياء والمرسلين.
معاشر السادة الأعزاء:
إذا كان سليمان قال لهدهده: (أصدقت أم كنت من الكاذبين)
فماذا قال سيدنا محمد صلوات ربي وسلامه عليه؟
ماذا قال وهو زعيم الأمة ونبي الرحمة وماحي الظلمة وكاشف الغمة؟
اسمعوا: رجل من العرب حمل سيفه وخرج من قبيلة اليمامة، متوجًا إلى مدينة رسول الله وقد حمل السيف بعدما أصبح السيف حادًا يكاد يقطع الهواء، ودخل المدينة متوشحًا بسيفه فوقعت عينا عمر بن الخطاب عليه.
هذا الرجل اسم ثمامة بن آثال عربي، حرارة الدماء تتدفق في شرايينه عزم وصمم العزم على أن يقتل رسول الله ودخل المدينة ورآه عمر، وعمر عبقري الفواء، ذكي القلب، بعيد النظر، حاد التفكير.
فهب مذعورًا وسأله:
ما الذي جاء بك مدينة رسول الله وأنت مشترك؟
قال ثمامة: يا عمر جئت لأقتل محمدًا:
هكذا بكل صراحة.
تقتل محمدًا وتخاطب عمر بهذا الكلام، وعمر لا يطيق أن تهب نسمة حارة تؤذي رسول الله!
فما كان من عملاق الإسلام عمر إلا أن لببه بثوبه وأخذ سيفه وربطه في سارية من سواري المسجد.
وذهب إلى سيدنا رسول الله ووضع أمامه التقرير السري في شأن هذا الرجل.
وكان الرسول يستطيع بجرة قلم أن يقول لعمر:
أذهب وأضرب عنقه، وتنتهي المشكلة.
معاشرة السادة الأعزاء:
وخرج الرسول من منزله ليرى ذلك الذي جاء ليقتله وعنده تعمد وسبق إصرار وترصد.
أركان الجناية متوافرة.(19/8)
ونظر الرسول إلى الرجل وعمر قد قيده بالقيود وربطه في سارية من سواري المسجد، وسيفه بيد عمر، ونظر الرسول إلى وجه ذلك الذي جاء قاتلاً له، وبعدما ألقى نظر، على وجهه كان عمر ينتظر بعد آونة أو أخرى أن يصدر القرار من رسول الله بضرب عنقه، فيقول عمر فيفصل العنق في أقل من طرفه عين ولكن الرسول نظر إلى الرجل نظرة ثم بعد ذلك نظر إلى من حوله من أصحابه نظرة وسألهم قائلاً:
(هل أعددتم له طعامًا)
هكذا تقاد الأمم.
هل أعددتم له طعامًا؟
ولم يستطع عمر أن يرد طعامًا! إنه يريد قتلك يا رسول الله أي طعام تريد؟
وأي طعام يأكل هذا الذي جاء قاتلا ولم يأت مسلمًا؟
وإذا بالرسول يقول:
(اذهبواا فأتوه بلبن من بيتي)
وحلبت الشياه، وجئ باللبن، وقال الرسول:
حلوا وثاقه، حلوا القيد الذي قيد به)
الرسول يأمر بلبن حليب ليشربه القاتل ويأمر بحل قيودخ وعمر يكاد يقف على الجمر تحت أقدامه.
ما هذا؟
يا سيدي يا رسول الله ما هذا؟
وإذا عفوت قادرًا ومقدرًا
... ... لا يستهين بعفوك الجهلاء
وإذا غضبت فإنما هي غضبة
... ... للحق لاضغن ولا شحناء
وإذا سخوت بلغت بالجود المدى
... ... وفعلت ما لم تفعل الأنواء
وإذا خطبت فللمنابر هزة
... ... تعرو الندى وللقلوب بكاء
وإذا أخذت العهد أو أعطيته
... ... فجميع عهدك ذمة ووفاء
وإذا رحمت فأنت أم أو أب
... ... هذان في الدنيا هما الرحماء
يا من له عز الشفاعة وحده
... ... وهو المنزه ما له شفعاء
عرش القيامه أن تحت لوائه
والحوض أنت حياله السقاء
وشرب الرجل اللبن وقال له الرسول: قل (لا إله إلا الله).
قال: لا
قال له الرسول: ... اشهد أن لا إله إلا الله، وأني محمد رسول الله.
قال الرجل لا اقولها:(19/9)
فأمر الرسول بإطلاق سراحه واصدر قراره له بالإفراد فورًا وتوجخ الرجل إلى بلده، وعمر يكاد يتميز من الغيظ وإذا بالرجل بعد أن يخطو خطوات بعيدًا عن المسجد يعود إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مرة أخرى ويقول له:
يا رسول الله:
اشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
قال له الرسول:
فلماذا لم تنطق بها عندما أمرتك؟
فقال له: لم أنطق بها لأنني كنت تحت يديك فخشيت أن يقال إنني أسلمت خوفًا منك، أما وإنك قد أطلقت سراحي فقد أسلمت ابتغاء مرضاة الله رب العالمين.
يا معاشر السادة:
يقول ذلك الرجل: عندما دلخت المدينة لم يكن لدى نفسي أبغض من محمد.
ففارقتها وليس على وجه الأرض أحد أحب إلى قلبي من رسول الله .
هكذا تقاد الأمم
هكذا تتخذ القرارات
لا انفعالات ولا أوقات غضب ولا حزازات ولا شحناء.
اللهم أعد المسجد الأقصى إلى ديارنا، اللهم ثبت على الإيمان قلوبنا، اللهم وحد صفوفنا، اللهم أهد شاردنا، اللهم أيدنا بالحق وأيد الحق بنا، اللهم أشف مرضنا، وارحم موتانا، واهلك أعداءانا، واستر عوراتنا، وآمن روعاتنا، وبلغنا مما يرضيك آمالنا، اللهم إني اسألك أن تنصر الإسلام وتعز المسلمين واللهم ارفع راية الإسلام، اللهم وحد قلوب ا لمؤمنين.
أكثروا من الصلاة والسلام على سيدي وحبيبي ونور قلبي محمد طب القلوب ودواءها وعافية الأبدان وشفائها ونور الأبصار وضيائها.
(إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربي وينهي عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) تم بحمد الله تعالى
الشيخ عبد الحميد كشك(19/10)
هل الجنة خالدة دائمة وكذلك النار أم أنهما فانيتان؟
يجب على كل مكلف أن يعتقد أن الجنة والنار خالدتان وأهلها مخلدون لا يفنون. وهذا ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة. قال تعالى: (إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية * إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية* جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا رضي الله عنهم ورضوا عنه* لذلك لمن خشي ربه) [سورة البينة: 6-8].
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صار أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار، جيء بالموت حتى يجعل بين الجنة والنار ثم يذبح ثم ينادي مناد: يا أهل الجنة لا موت، يا أهل النار لا موت".
"فيزداد أهل الجنة فرحًا إلى فرحهم ويزداد أهل النار حزنًا على حزنهم". [أخرجه أحمد والشيخان واللفظ للبخاري]
وفي رواية: "خلود فلا موت"
والله تبارك وتعالى أعلم(20/1)
هناك بعض الأمور التي لا تعرف إلا من طريق النقل والسنة. ويقال إنه لا يقبل إيمان العبد حتى يصدق بها تصديقًا جازمًا.
نريد حديثًا نتعرف من خلاله على هذه الأمور حتى ندخل في عباد الله المؤمنين ؟ وهل توجد مثل هذه الأمور حقًا ؟
ج:
نعم توجد مثل هذه الأمور ولا يقبل إيمان العبد حتى يصدق بها تصديقًا جازمًا ومنها:
الإيمان بالملائكة:
وهم عالم غيبي لا يعلم حقيقته إلا الله تعالى، لا يأكلون ولا يشربون ولا ينامون ولا يتصفون بذكورة ولا أنوثة، خلقوا من نور.
عن أبي عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الملائكة قالت: يا ربنا أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون ويشربون ويركبون ويلبسون ونحن نسبح بحمدك ولا نأكل ولا نشرب ولا نلهو، فكما جعلت لهم الدنيا فاجعل لنا الآخرة. قال: لا أجعل صالح ذرية من خلقته بيدي كمن قلت له: كن فكان" (أخرجه الطبراني في الكبير)
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم" .
والملائكة كما وصفهم الله تبارك وتعالى: "عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون".
وقال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون".
لهم القدرة على التشكل بالصور الجميلة ولقوله تعالى: "قولوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك" أي قالت الملائكة لسيدنا لوط عليه السلام حين جاءوه على هيئة رجال حسان الوجوه في صفة أضياف لأجل أهلاك قومه.
وقوله تعالى: "فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرًا سويًا" جردهم الله تعالى من الشهوات وجبلهم على الطاعات.
وقوله تعالى في حق سيدنا آدم عليه السلام حكاية عن الملائكة: "قالوا أتجعل فيها من يفسد فيه ويسفك الدماء" .
ليس من الغيبة بل القصد التعجب والاستفسار لعدم علمهم بحكمة خلقه.(21/1)
وتعليم هاروت وماروت الناس السحر على القول بأنهما من الملائكة، إنما كان ابتلاء من الله عز وجل ولئلا يغتر أحد بعمل المبطلين، وذلك أن السحرة كثرت في ذلك الزمان، ومنهم من ادعى النبوة فبعث الله هذين الملكين ليعلما الناس السحر ليتمكنوا من معارضة الكذابين: "وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر" .
فمن عمل بما تعلم منه واعتقد حقيقة كفر، ومن توقي عن العمل به واتخذه ذريعة للاتقاء عن الاغترار بمثله، بقي على الإيمان ولا يكفر باعتقاد حقيقته وجواز العمل به.
ومستقر الملائكة في الدنيا: السماوات وينزلون إلى الأرض بأمر الله تعالى ومستقرهم في الآخرة: الجنات.
وهم أنواع:
منهم المسبح والمكبر والمهلل والراكع والساجد والقائم وحملة العرش والحافون حوله، وأمناء الوحي، والسياحون في الجهات، والموكلون بالأرواح والأرزاق والأمطار، ومنهم الحفظة وهم ملائكة تتعاقب على الإنسان ليحفظه بأمر الله تعالى، ويدفعون عنه كل مكروه، وإذا جاء القدر تخلو عنه، والراجح أنهم عشرة بالليل، وعشرة بالنهار.
قال تعالى: "وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة".
وقال: "له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله "
أي: بأمره.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم، كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون" أخرجه الشيخان والنسائي.
فعليك أيها العاقل أن تتذكر نعمة ربك عليك، وتديم شكره على ما أولاك، وأن تجتهد في طاعته ليديم عليك نعمته، وأن تكرم حفظتك بالبعد عن معصية ربك، قال صلى الله عليه وسلم: "إن معكم من لا يفارقكم إلا عند الخلاء وعند الجماع فاستحيوهم وأكرموهم" (ذكره ابن كثير)(21/2)
ومنهم: الكتبة وهما ملكان عن اليمين والشمال، صاحب اليمين يكتب الحسنات، وصاحب الشمال يكتب السيئات.
قال تعالى: "إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد" .
وقال تعالى: "وإن عليكم لحافظين كرامًا كاتبين يعلمون ما تفعلون".
فاتق الله أيها العاقل وخف ربك واعمل بما يرضيه، واردع نفسك عن شهواتها حيث علمت أن عليها شاهدين على عملها يسطران عليك ما يصدر منك خيرًا أو شرًا.
وتذكر يوم يقال لك "أقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيًا"
هذا.والأنبياء أفضل من الملائكة عقلا ونقلا، لأن الأنبياء ركبتت فيهم الشهوة البشرية، وقد تغلبت عليها عقولهم الشريفة، فعصموا من الوقوع في المخالفة بخلاف الملائكة فإنهم جردوا من الشهوات وجبلوا على الخيرات وقد أمرهم الله بالسجود لآدم عليه الصلاة والسلام.
وقال تعالى: "إن الله اصطفى آدم ونوحًا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين" والملائكة من العالمين.
الإيمان بوجود الجن:
وهو عالم غيبي لا يعلم حقيقتهم إلا خالقهم، خلقوا من النار يأكلون ويشربون وينامون، منهم الذكور والإناث، والصالح والطالح، والمؤمن والكافر، وهم في التكليف كالآدميين، لا يرون على فطرتهم.
قال تعالى عن إبليس وملئه: "إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم".
حضر في بدء البعثة النبوية الشريفة وفد منهم وسمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم ولم يرهم من وقت حضورهم، ولم يعلم بوجودهم.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم.
انطلق صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا: ما لكم ؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب.
قالوا: ما ذلك إلا من شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها.(21/3)
فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له، وقالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء، فرجعوا إلى قومهم "فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدًا".
فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم "قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن" . (أخرجه الشيخان والترمذي).
وهذا الذي حكاه ابن عباس رضي الله عنهما، إنما هو أول ما سمعت الجن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمت حاله، وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ولم يرهم، ثم بعد ذلك أتاه داعي الجن، فقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى الله عز وجل.
3- الإيمان بأن الأجل قد قدره الله
يجب الإيمان بأن الإنسان وسائر الحيوانات والجن والملائكة لا يموت أحد منهم حتى يتم أجله الذي قدره الله ، قال تعالى: "فإذا أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون".
وأن ملك الموت هو الذي يقبض الأرواح بأمر الله تعالى، وله أعوان من الملائكة الكرام، وأن كل إنسان يشاهد حال احتضاره مكانه الذي سيصير إليه ويخلد فيه من الجنة أو النار.
قال البراء بن عزب: "خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار فانتهينا إلى القبر ولما يلحد، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله وكأن على رءوسنا الطير، وفي يده عود ينكت به في الأرض فرفع رأسه فقال: استعيذوا بالله من عذاب القبر مرتين أو ثلاثًا.(21/4)
ثم قال: إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مد البصر، ثم يجئ ملك الموت عليه السلام حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان. قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة في السقاء فيأخذها، فإذا أخذه لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض.
قال: فيصعدون بها فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب ؟ فيقولون: فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمون بها في الدنيا حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا فيستفتحون له فيفتح لهم فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهي به إلى السماء السابعة. فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم ، وفيها أعيدهم ، ومنها أخرجهم تارة أخرى.
قال: فتعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسان فيقولان له: من ربك ؟
فيقول: ربي الله . فيقولان له: وما دينك ؟ فقول : ديني الإسلام. فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم . فيقولن له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت. فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنة، قال: فيأتيه من روحها (أي رحمتها) وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره.قال: ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد. فيقول له: من أنت فوجهك الوجه يجئ بالخير ؟ فيقول: أنا عملك الصالح. فيقول: رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي.(21/5)
قال: وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه معهم المسوح (والمسموح: هو الثوب الخشن) فيجلسون منه مد البصر، ثم يجئ ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب. قال: فتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود – (السفود: هم الحديدة التي يشوي بها اللحم) من الصوف المبلول، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفه علين حتى يجعلوها في تلك المسموح ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها فلا يرون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث ؟
فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهي به إلى السماء الدنيا، فيستفتح له فلان يفتح له، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه : "لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط" .
فيقول الله عز وجل، اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى، فتطرح روحه طرحا، ثم قرأ: "ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوى به الريح في مكان سحيق" .
فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكن فيجلسانه فيقولانه له: من ربك؟
فيقول: هاه هاه لا أدريز
فيقولان له: ما دينك؟
فيقول: هاه هاه لا أدري.
فيقولون له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟
فيقول: هاه هاه لا أدري.
فينادي مناد من السماء أن كذب فافرشوا له من النار، وافتحوا له بابًا إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول: أبشر بالذي يسوءك، هذا يومك الذي توعد. فيقول من أنت فوجهك الوجه يجئ بالشر؟
فيقول: أنا عملك الخبيث. فيقول: رب لا تقم الساعة" (أخرجه أحمد وأخرجه أبو داود صدره).
الإيمان بسؤال القبر ونعيمه وعذابه:(21/6)
يجب الإيمان بأن أول ما ينزل بالميت بعد موته سؤال منكر ونكير بأن يرد الله عليه روحه وسمعه وبصره، ثم يسألانه عن دينه وربه ونبيه ، فإما أن ينعم أو يعذب. لما ورد في ذلك من الأحاديث الصحيحة التي بلغت حد الشهرة، منها: الحديث السابق عن البراء بن عازب، ومنها: حديث عثمان رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: "استغفروا لأخيكم وأسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل". (أخرجه أبو داود والبيهقي والحاكم وصححه).
وحديث أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه وإنه ليسمع قرع نعالهم إذا انصرفوا، أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ لمحمد صلى الله عليه وسلم. فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله" .
فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعدًا من الجنة، فيراهما جميعًا ويفسح له في قبره سبعون ذراعًا وتملأ عليه خضرًا إلى يوم يبعثون، وأما الكافر أو المنافق فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل ؟ فيقول لا أدري كنت أقول ما يقول الناس ، فيقال له: "لا دريت ولا تليت ويضرب بمطارق من حديد ضربة بين أذنيه فيطيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه" (أخرجه أحمد والشيخان وأبو داود والنسائي).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن عذاب القبر فقال: "إن عذاب القبر حق وإنهم يعذبون في قبورهم عذابًا تسمعه البهائم". (الحديث أخرجه الشيخان والنسائي).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الموتى ليعذبون في قبورهم حتى أن البهائم لتسمع أصواتهم" (أخرجه الطبراني في الكبير بسند حسن).
هذا والمنعم والمعذب عند أهل السنة الجسد والروح جميعًا.(21/7)
واعلم أنه وردت أحاديث دالة على اختصاص هذه الأمة بالسؤال في القبر دون الأمم السابقة.
قال العلماء: السر فيه أن الأمم كانت تأتيهم الرسل فإن أطاعوهم فالمراد، وإن عصوهم اعتزلوهم وعوجلوا بالعذاب.
فلما أرسل الله النبي محمد صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، أمسك عنهم العذاب وقبل الإسلام ممن أظهره سواء أخلص أم لا، وقيض له من يسألهم في القبور ليخرج الله سرهم بالسؤال، وليميز الله الخبيث من الطيب .
وذهب ابن القيم إلى عموم المسألة.
ومما تقدم يستفاد أن لأهل القبور حياة بما يدرك أثر النعيم والعذاب، ولو تفتت أجسادهم ، وهو أمر غيبي لا نبحث عن كيفيته وحال صاحبه كحال النائم يرى الملاذ والمؤلمات، ولا يرى بجواره شيئا وإنما ستر عنا رحمة بنا.
روى أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر" (أخرجه أحمد والنسائي).
هذا ولا يسأل الأنبياء والصالحون والصبيان والشهداء، لحديث راشد بن سعد عن صحابي أن رجلا قال: يا رسول الله ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد ؟ فقال: كفى بارقة السيوف على رأسه فتنة" (أخرجه النسائي)
5- الإيمان باليوم الآخر:
وهو يوم القيامة: وأولوه من الموت، لحديث هانئ مولى عثمان بن عفان قال: كان عثمان رضي الله عنه إذا وقف على قبر بكى حتى يبل لحيته فقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي، وتذكر القبر فتبكي ؟
فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "القبر أول منزل من منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه".
وقال صلى الله عليه وسلم ما رأيت منظرًا قط إلا والقبر أفظع منه" (أخرجه الترمذي وأخرجه رزين).
وزاد: قال هانئ: سمعت عثمان ينشد:
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة
وإلا فإني لا خالك ناجيا فإني لا أخالك ناجيا(21/8)
وقيل: أوله من النشر (الخروج من القبور) وآخره دخول أهل الجنة الجنة وأهل النار.ولا يعلم وقت مجيئه إلا الله تعالى، ليكون الإنسان منه على وجل، قال تعالى: "إن الله عنده علم الساعة" أي لا يعلم وقت مجئ القيامة إلا الله تعالى، وقال: "يسألونك عن الساعة إيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون"
وعن بريدة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول خمس لا يعلمهن إلا الله عز وجل: "إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا، وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير" (أخرجه أحمد بسند صحيح)(21/9)