فتاوى
الشيخ عبدالله بن عقيل
الجزء الأول
مقدمة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:
ففي خضم حركة الدعوة الإسلامية المعاصرة في المملكة العربية السعودية، توجه مجموعة من العلماء برئاسة سماحة مفتي الديار السعودية الشيخ: محمد ابن إبراهيم آل الشيخ -رحمه الله- للاستفادة في مجال الدعوة إلى الله من الوسائل الإعلامية المعاصرة ممثلة في الصحافة، فكان أن أنشئت صحيفة الدعوة الإسلامية في الرياض بالمملكة العربية السعودية في أواخر الثمانينات الهجرية من القرن الماضي، وأصبحت خلال فترة وجيزة منبرًا للدعوة في تلك الديار، وشارك العلماء فيها في توجيه الناس وتعليمهم. وقد كان من أهم ذلك صفحة الفتاوى التي تولى سماحة الشيخ: محمد بن إبراهيم الإجابة فيها على استفتاءات القراء. وبعد تأسيسها بفترة عهد سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم لفضيلة الوالد الشيخ: عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل -عضو دار الإفتاء حينذاك ومساعده- بتحرير الصفحة، والإجابة على أسئلة واستفتاءات القراء، التي كانت تحظى بإقبال كبير في تلك الفترة.
وقد نتج عن العمل في صفحة الفتاوى المذكورة عدد كبير من الفتاوى التي تشمل اهتمامات الناس العامة، وتجيب على أسئلتهم في العقيدة والتفسير والحديث والصلاة والزكاة والصيام والمناسك والمعاملات... وغيرها. وقد رغب عدد من العلماء والمتخصصين من فضيلة الوالد نشر هذه الفتاوى تعميمًا للفائدة وها نحن نقدمها للمسلمين رجاء الانتفاع بها.
أجزل الله الأجر والمثوبة لفضيلة الوالد على هذا العمل المبارك، ونفع الله به الجميع. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ترجمة صاحب الفضيلة الشيخ عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل
هو: الشيخ عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل بن عبد الله بن عبد الكريم آل عقيل.
مولده:
ولد الشيخ عبد الله في مدينة عنيزة عام 1335 هـ.
تعلمه وشيوخه:(1/1)
نشأ في كنف والده الشيخ عبد العزيز العقيل، الذي يعتبر من رجالات عنيزة المشهورين، ومن أدبائها وشعرائها، فكان والده هو معلمه الأول.
وقد هيأ الله -عز وجل- للشيخ عبد الله بن عقيل بيت علم، فإلى جانب والده الشيخ عبد العزيز، فإن أخاه الأكبر هو الشيخ عقيل بن عبد العزيز وهو من حملة العلم، وكان قاضيًا لمدينة العارضة في منطقة جيزان جنوبي المملكة، كما أن عمه هو الشيخ عبد الرحمن بن عقيل الذي عين قاضيًا لمدينة جازان.
درس الشيخ عبد الله العلوم الأولية في مدرسة الأستاذ ابن صالح، ثم في مدرسة الداعية المصلح الشيخ عبد الله القرعاوي.
حفظ الشيخ عبد الله بن عقيل القرآن الكريم، وعددًا من المتون التي كان طلبة العلم يحفظونها في ذلك الوقت ويتدارسونها، مثل: عمدة الحديث، ومتن زاد المستقنع، وألفية ابن مالك في النحو... وغيرها.
وبعد اجتيازه لهذه المرحلة -بتفوق- التحق بحلقات شيخ عنيزة وعلاَّمة القصيم الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي -رحمه الله- وقد لازمه ملازمة تامة؛ فتعلم عليه القرآن الكريم، والتفسير، والتوحيد، والحديث، والفقه، واللغة ... وغيرها.
كما استفاد الشيخ عبد الله من مشايخ عنيزة الموجودين في ذلك الوقت مثل: الشيخ المحدث المعمر علي بن ناصر أبو وادي؛ فقرأ عليه: الصحيحين، والسنن، ومسند أحمد، ومشكاة المصابيح، وأخذ عنه الإجازة بها بسنده العالي عن شيخه محدّث الهند نذير حسين (ت 1299هـ) .
وفي الوقت الذي عمل فيه الشيخ عبد الله قاضيًا في مدينة الرياض لم يأل الشيخ جهدا في الاستفادة من سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ -رحمه الله- فلازمه واستفاد منه علميا؛ حيث انضم إلى حلقاته التي كان يعقدها في فنون العلم المتعددة.
كما استفاد الشيخ عبد الله من سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم أثناء العمل معه عضوًا في دار الإفتاء لمدة خمسة عشر عامًا؛ فاستفاد من أخلاقه، وحسن تدبيره، وسياسته مع الناس.(1/2)
واستفاد الشيخ عبد الله -أيضًا- من العلماء الأجلاء الوافدين لمدينة الرياض للتدريس في كلية الشريعة، أمثال الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي صاحب أضواء البيان (ت: 1393هـ) ، والشيخ عبد الرزاق عفيفي (ت: 1415هـ) وغيرهما.
وظائفه العملية:
اختير الشيخ عبد الله وهو في مطلع شبابه -في عام 1353هـ - مع المشايخ الذين أمر الملك عبد العزيز بابتعاثهم قضاة ومرشدين في منطقة جيزان، فكان نصيب الشيخ عبد الله مع عمه الشيخ عبد الرحمن بن عقيل -قاضي جازان- أن عمل ملازمًا وكاتبًا، مع ما كان يقوم به من الإمامة، والخطابة، والحسبة، والوعظ، والتدريس.
وفي تلك الفترة وأثناء مكوثه في جازان خرج مع الهيئة التي قامت بتحديد الحدود بين المملكة واليمن، حيث ظلت تتجول بين الحدود والقبائل الحدودية بضعة أشهر من سنة 1355هـ.
وفي عام 1357هـ رجع الشيخ عبد الله إلى وطنه عنيزة، ولازم شيخه ابن سعدي مرة أخرى بحضور دروسه ومحاضراته حتى عام 1358هـ، حيث جاءت برقية من الملك عبد العزيز لأمير عنيزة بتعيين الشيخ لرئاسة محكمة جازان خلفا لعمه عبد الرحمن، فاعتذر الشيخ عن ذلك ؛ فلم يقبل عذره، فاقترح على الشيخ عمر ابن سليم التوسط بنقل الشيخ محمد بن عبد الله التويجري من أبو عريش إلى جازان، ويكون هو في أبو عريش، فهي أصغر حجمًا وأخف عملاً، فراقت هذه الفكرة للشيخ عمر بن سليم؛ فكتب للملك عبد العزيز، الذي أصدر أوامره بذلك. ومن ثَمَّ سافر الشيخ عبد الله إلى أبو عريش مباشرًا عمله الجديد في محكمتها مع القيام بالتدريس والوعظ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان ذلك في رمضان من سنة 1358هـ.
وفي سنة 1359هـ نقل الشيخ عبد الله إلى محكمة فرسان، لكنه لم يدم هناك طويلا، فما لبث أن أعيد إلى محكمة أبو عريش مرة أخرى ليمكث فيها قاضيا مدة خمس سنوات متتالية.(1/3)
وفي رمضان سنة 1365هـ نقل الشيخ بأمر من الملك عبد العزيز إلى محكمة الخرج، وذلك باقتراح من الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، ولم يدم مكوث الشيخ عبد الله في محكمة الخرج إلا قرابة السنة، حيث تم نقله إلى المحكمة الكبرى في الرياض، وقد كان ذلك في شوال سنة 1366هـ.
ظل الشيخ عبد الله بن عقيل قاضيا في الرياض حتى سنة (1370هـ) ، إلى أن أمر الملك عبد العزيز بنقله قاضيا لعنيزة مسقط رأسه، ومقر شيخه عبد الرحمن بن سعدي، حيث لم يمنعه موقعه -وهو قاضي عنيزة- من متابعة دروسه العلمية، والاستفادة منه طيلة المدة التي مكث فيها: بعنيزة. وقد أشرف خلال هذه الفترة على إنشاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مدينة عنيزة.
وقد ظل الشيخ قاضيًا لعنيزة حتى سنة 1375هـ. وفي تلك الأثناء افتتحت دار الإفتاء في الرياض برئاسة سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، وعين الشيخ عبد الله بن عقيل عضوًا فيها بأمر الملك سعود وباشر عمله في رمضان سنة 1375هـ.
وكان تعيين الشيخ في دار الإفتاء فرصة عظيمة له لملازمة العلامة الشيخ محمد ابن إبراهيم آل الشيخ، والاستمرار في الاستفادة منه.
وأثناء عمل الشيخ عبد الله في دار الإفتاء أصدر مجموعة من العلماء برئاسة سماحة المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم صحيفة إسلامية سميت بالدعوة، وكان فيها صفحة للفتاوى، تولى الإجابة عليها أَوَّلَ أمرِها سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم، ثم وكّل للشيخ عبد الله بن عقيل تحريرها، والإجابة على الفتاوى التي تَردُ من القراء، وقد كان من نتاجها هذه الفتاوى التي تطبع لأول مرة.(1/4)
وبعد وفاة سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ -رئيس القضاة- أمر الملك فيصل بتشكيل لجنة للنظر في المعاملات الموجودة في مكتبه؛ كرئيس للقضاة فترأس الشيخ عبد الله تلك اللجنة، التي سميت اللجنة العلمية. وقد ضمت في عضويتها كلاً من الشيخ محمد بن عودة، والشيخ راشد بن خنين، والشيخ عبد الله بن منيع، والشيخ عمر المترك.
وما إن أنهت اللجنة العلمية أعمالها حتى انتقل الشيخ عبد الله بن عقيل- في عام 1391هـ - بأمر من الملك فيصل إلى عضوية هيئة التمييز، بمعية كل من الشيخ محمد بن جبير، والشيخ محمد البواردي، والشيخ صالح بن غصون، والشيخ محمد بن سليم، ورئيسهم الشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد.
وفي عام 1392هـ تشكلت الهيئة القضائية العليا برئاسة الشيخ محمد بن جبير، وعضوية الشيخ عبد الله بن عقيل، والشيخ عبد المجيد بن حسن، والشيخ صالح اللحيدان، والشيخ غنيم المبارك.
ومن الهيئة القضائية العليا انتقل عمل الشيخ إلى مجلس القضاء الأعلى الذي تشكل برئاسة وزير العدل في ذلك الوقت الشيخ محمد الحركان، حيث تعين فيه الشيخ عبد الله عضوًا، إضافة إلى عضويته في الهيئة الدائمة لمجلس القضاء الأعلى، وذلك في أواخر عام 1392هـ.
ثم عين الشيخ رئيسا للهيئة الدائمة في مجلس القضاء الأعلى إثر انتقال الشيخ محمد الحركان إلى رابطة العالم الإسلامي، وتعيين الشيخ عبد الله بن حميد خلفًا له في رئاسة المجلس، كما كان الشيخ عبد الله بن عقيل يترأس المجلس الأعلى للقضاء نيابة عن الشيخ عبد الله بن حميد أيام انتدابه، وأيام سفره للعلاج.
وقد اختير الشيخ عبد الله بن عقيل لعضوية مجلس الأوقاف الأعلى إبّان إنشائه في سنة 1387هـ، واستمر في عضويته إلى جانب أعماله التي تقلدها حتى بلغ السن النظامي للتقاعد في سنة 1405هـ.(1/5)
ولم يكن التقاعد عن العمل الوظيفي تقاعدًا عن الأعمال عند الشيخ عبد الله، فها هو يترأس الهيئة الشرعية التي أنشئت للنظر في معاملات شركة الراجحي المصرفية للاستثمار، ومن ثم تصحيح معاملاتها بما يوافق الشريعة، وكانت اللجنة تضم في عضويتها كُلاَّ من الشيخ صالح الحصين - نائبًا للرئيس- والشيخ مصطفى الزرقاء، والشيخ عبد الله بن بسام، والشيخ عبد الله بن منيع، والشيخ يوسف القرضاوي. وقد تولى أمانة هذه اللجنة الشيخ عبد الرحمن ابن الشيخ عبد الله بن عقيل.
ولما عرض على هيئة كبار العلماء بالمملكة موضوع تحديد حرم المدينة النبوية، رأى المجلس الاكتفاء بقرار اللجنة العلمية الأسبق المؤيَّد من سماحة الشيخ محمد ابن إبراهيم، والتي كان الشيخ عبد الله بن عقيل مندوبا عنه فيها، وقد رأى مجلس كبار العلماء تشكيل لجنة جديدة لتعيين الحدود على الطبيعة تضم -بالإضافة إلى الشيخ عبد الله بن عقيل- كلاَّ من الشيخ عبد الله البسام، والشيخ عبد الله بن منيع، والشيخ عطية محمد سالم، والشيخ أبو بكر الجزائري، والسيد حبيب محمود أحمد، وقد تولى الشيخ عبد الله رئاسة هذه اللجنة، كما تولى سكرتارية اللجنة الشيخ عبد الرحمن ابن الشيخ عبد الله بن عقيل.
وقد فرَّغ الشيخ عبد الله نفسه - منذ أن تقاعد عن العمل الرسمي- للعلم وأهله وطلبته، فلا تكاد تجده إلا مشغولاً بالعلم تعلمًا وتعليمًا، بالإضافة إلى إجابة المستفتين حضوريًّا وعلى الهاتف، حفظه الله وأثابه، ومتع به على طاعته، وأحسن خاتمته.
العقائد (1)الفرق بين العرش و الكرسي
سائل يسأل عن العرش والكرسي : هل هما شيء واحد، أم أن الكرسي غير العرش ، وما حقيقة كل منهما ، وما الفرق بينهما ؟
الإجابة :(1/6)
أما العرش : فهو عرش الرحمن المعروف الذي ذكره اللَّه في كتابه، فقال تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}(1) . في سبع آيات من القرآن الكريم، وأخبر سبحانه أن له حَمَلة من الملائكة، وأنهم يكونون يوم القيامة ثمانية، فقال تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ}(2) ، فيجب على العبد الإيمان بذلك كله.
وفي دعاء الكرب المروي في "الصحيح" : "لا إله إلا اللَّه العظيم الحليم، لا إله إلا اللَّه رب العرش العظيم، لا إله إلا اللَّه رب السموات و رب الأرض و رب العرش الكريم"(3) .
وفي "صحيح البخاري" عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا سألتم اللَّه الجنة فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة، وفوقه عرش الرحمن"(4) .
قال في "شرح الطحاوية" (5): وقد ثبت في الشرع أن له قوائم، تحمله الملائكة كما قال صلى الله عليه وسلم : "فإن الناس يصعقون، فأكون أول من يُفيق، فإذا أنا بموسى آخذٌ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أفاق قبلي، أم جوزي بصعقة الطور؟..." (6) .
وأما الكرسي، فقال تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ} (7 )، وقد قيل: هو العرش، والصحيح أنه غيره، نُقل ذلك عن ابن عباس- رضي اللَّه عنهما- وغيره.
روى ابن أبي شيبة في كتاب "صفة العرش" والحاكم في "مستدركه" ، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ} أنه قال: الكرسي موضع القدمين، والعرش لا يَقْدُرُ قدرَه إلا اللَّهُ تعالى(8).
وقد روي مرفوعًا، والصواب أنه موقوف على ابن عباس.
وقال السُّدِّي: السموات والأرض في جوف الكرسي بين يدي العرش.(1/7)
وقال ابن جرير: قال أبو ذر -رضي اللَّه عنه-: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "ما الكرسي في العرش إلا كحلْقة من حديد ألقيتْ بين ظهرَي فلاة من الأرض"(9 ). انتهى من "شرح الطحاوية" . واللَّه أعلم.
[2] حكم الاستهزاء بأمورالدين وأهل العلم والصالحين
رجل ركب مع جماعة في سيارة، فسمعهم يتهكمون بالعلماء وأهل الدين، ويضحكون منهم حال صلاتهم، ويشيرون إلى لحاهم، وهيئاتهم، واستعمالهم المسواك، وأفاضوا في أشياء من هذا، قال: فأنكرتُ عليهم ذلك؛ فلم يقبلوا مني، وتكلموا بكلام قبيح، وقالوا لي: أنت ما تفهم الكلام، ونحن نمزح مع بعضنا.
ويسأل عن حكم هؤلاء، ومن يتكلم بمثل هذا الكلام، ويستهزئ بأهل العلم والدين وأئمة المسلمين؟
الإجابة:
الذي يهزل ويستهزئ بعلماء المسلمين، وأهل الدين والصلاح، ويتهكم بهم، ويضحك منهم -لاسيما حال أدائهم عباداتهم التي شرعها اللَّه لهم- فهو كافر، سواء كان جادا، أو هازلا، أو مازحا، ومما يستدل به لما ذكرنا قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ}(10)، وقوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَءَايَاتِهِ و َرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}(11) .(1/8)
قال المفسرون(12 ) في تفسير هذه الآية عن ابن عمر، ومحمد بن كعب، وزيد بن أسلم، وقتادة- دَخَل حديثُ بَعضهم في بعض-: إن رجلاً قال في غزوة تبوك: ما رَأَينا مثل قرّائنا هؤلاء أرغب بطونا، ولا أكذب ألسنا، ولا أجبن عند اللقاء- يعني رسولَ اللَّه صلى الله عليه و سلم و أصحابه- فذهب عَوْفٌ إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليخبره؛ فوجد القرآن قد سبقه، فجاء ذلك الرجلُ إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول اللَّه، إنما كنا نخوض ونتحدث حديثَ الركْبِ نقطع به عنا الطريق.
قال ابن عمر: كأني أنظر إليه متعلقا بنِسْعَةِ ناقة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وإن الحجارة تَنْكُبُ رجليه، وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب، فيقول له رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم : {أَبِاللَّهِ وَ ءَايَاتِهِ و َرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} ما يَلتفت إليه، وما يَزيده عليه. انتهى. وكذا ذكره المحدثون، والمؤرخون.
ففي هذا دليل على أن هذا الصنيع منافٍ للإيمان بالكلية، ومخرجٌ من الدين؛ لأن أصل الدين الإيمان باللَّه وكتبه ورسله، ومن الإيمان تعظيم ذلك، ومن المعلوم أن الاستهزاء والهزل بشيء من هذه أشد من الكفر المجرد؛ لأن هذا كفرٌ وزيادةُ احتقارٍ، فإن الكفارَ إما مُعْرِضون أو معارِضون، فالمُعْرِضُ معروفٌ، وأما المُعارِض فهو المحاربُ لله، ورسوله، القادحُ باللَّه، وبدينه، ورسوله، وهو أغلظ كفرا، أو أعظم فسادا من الأول، والهازل بشيء مما ذُكِر داخل في هذا النوع.(1/9)
قال شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الحرَّاني الحنبلي المتوفى سنة 728 هـ - رحمه اللَّه-: وفي قولهم: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} ما يدل على أنهم اعترفوا واعتذروا؛ ولهذا قيل لهم: {لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً} فدلّ على أنهم لم يكونوا عند أنفسهم قد أتَوا كفرا، بل ظنوا أن ذلك ليس بكفر، فبيّن اللَّه تعالى أن الاستهزاء بآيات اللَّه ورسوله كفرٌ يكْفر به صاحبه بعد إيمانه، فدل على أنه كان عندهم إيمان ضعيف، ففعلوا هذا المحرَّم الذي عَرَفُوا أنه محرَّم، ولكن لم يظنوه كفرا، مع أنه في الحقيقة كفر، فإنهم لم يعتقدوا جوازه ( 13) .
قال: وفي الآية دليل على أن الرجل إذا فعل الكفر ولم يعلم أنه كفر لا يُعذر بذلك بل يَكفر، وعلى أن السابَّ كافر بطريقِ الأَوْلى.
وقوله: أرغب بطونا، أي: أوسع، يريد كثرة الأكل، فكثرة الأكل وإن كانت مذمومة لكن هذا ذكروه في معرِض الاستهزاء.
وقد كذب هذا الرجل، فإن الصحابة -رضي اللَّه عنهم- أحسن الناس اقتصادا في الأكل وغيره، بل المنافقون والكفار -من أضراب هذا- أوسع بطونا وأكثر أكلا -كما صحت بذلك الأحاديث- وهم -أيضا- أشد الناس جبنا، وأكذب خَلْقِ اللَّه حديثا -كما وصفهم اللَّه بذلك في كتابه- ولهذا قال له عوف: كذبت، ولكنك منافق.
وفي قوله تعالى: {أَبِاللَّهِ وَ ءَايَاتِهِ و َرَسُولِهِ ...} الآية، اعتبار المقاصد؛ لأنهم لم يذكروا اللَّه ولا رسوله ولا كتابه بشيء، وإنما فُهم هذا من مقصدهم الخبيث، فإن قيل: كيف لم يقتلهم ؟ قيل: مخافةَ أن يتحدث الناس أن محمدا يقتلُ أصحابَه، كما علّل بذلك صلى الله عليه و سلم .
ويُلحق بذلك : الاستهزاءُ بالأفعال والإشارات، مثل مد الشفة، أو الشفتين، وإخراج اللسان، والرمز بالعين بإغضائها، وغير ذلك من كل ما عده الناس احتقارا واستهزاء.(1/10)
من هذا يتبين أن بعض الاعتذارات لا ينبغي أن تقبل؛ لأن هذه الأشياء لا تأتي إلا ممن انشرح صدره لها، ولو كان الإيمان قد وقر في قلبه لمنعه من التفوه بذلك لدى الناس، ولكفه عما يضادّه ويخالفه، فإيمانُ القلب يستلزم العملَ الظاهر بمقتضاه؛ ولهذا قال تعالى في الآية الأخرى: {وَيَقُولُونَ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ}(14 ) ، فنفى سبحانه وتعالى الإيمان عمن يتولى عن طاعة الرسول... إلى آخر كلامه - رحمه اللَّه -.
وفي هذا دليل على أن الإنسان قد يكفر - بكلمة يتكلم بها، أو عمل يسيرٍ يعمله- وهو لا يشعر، كما قال تعالى في آية آخرى: {...أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ}(15) ، وفي الحديث: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط اللَّه لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار سبعين خريفا"(16) . أو كما قال صلى الله عليه وسلم . ومن أشد ذلك خطرا إرادات القلوب، فهي كالبحر الذي لا ساحل له.
وفي هذا دليل على الخوف من النفاق الأكبر، فإن اللَّه تعالى أثبت لهؤلاء إيمانا قبل أن يقولوا ما قالوه، كما قال ابن أبي مُلَيْكَة: أدركت ثلاثين من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه. نسأل اللَّه العفو والعافية.
فعلى الإنسانِ الحذر من هذه الأقوال والأفعال القبيحة، ولْيكفَّ نفسَه ولسانَه عن الانطلاق في هذا الميدان، فقد ورد في الحديث: "وهل يَكُبُّ الناسَ على مناخرهم في النار إلا حصائدُ ألسنتهم"(17) . اللَّهم عفوا وغَفْرا، ربنا لا تُحملنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنا، واغفر لنا، وارحمنا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين. وصلى اللَّه على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[3] ماذا يجب على من اعتنق دين الإسلام ؟(1/11)
إذا رغب إنسان باعتناق الدين الإسلامي والدخول فيه، فماذا ينبغي له أن يقول أو يفعل في أول الأمر؟
الإجابة:
أول ما يجب عليه هو أن يشهد شهادة الحق، فيقول بلسانه: أشهد أن لا إله إلاّ اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا رسول اللَّه، ويتبرأ من كل دين يخالف دين الإسلام: من الاعتقادات، والعبادات القولية والفعلية، ويلتزم بجميع واجبات الدين الإسلامي، ويعتقد تحليل ما أحلته هذه الشريعة السمحة وتحريمَ ما حرمته، ثم يقوم ببقية أركان الإسلام: من إقامة الصلاة بأركانها وواجباتها وشروطها التي منها كمال الطهارة الكبرى وهي الغسل والصغرى الوضوء، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت اللَّه الحرام، ووجوب الاختتان والاغتسال للإسلام، وأن يتعلم ما يلزمه لأمور دينه؛ وبذلك يدخل في هذا الدين الحنيف، ويكون له ما للمسلمين وعليه ما عليهم. واللَّه الموفق.
[4] حكم من اعتقد أن أحدا ينفع أو يضر مع اللَّه أو من دون اللَّه
سائل يسأل: ما حكم من اعتقد أن فلانا - مثلا- ينفع أو يضر من دون اللَّه أو مع اللَّه، هل يكون بذلك مشركا، ولو لم يقل ذلك أو يفعل ما هو بمعناه؟
الإجابة:
لا شك أن من يعتقد النفع والضر من دون اللَّه تعالى أو مع اللَّه - فيما لا يقدر عليه إلا اللَّه تعالى- يعتبر كافرأ ومشركا؛ إِذْ إن اللَّه تعالى هو النافع الضارّ، فلو اجتمع أهل السموات والأرض على أن ينفعوا شخصا- لم يُرِد اللَّه نفعه- لم يقدروا على نفعه، ولو اجتمعوا على أن يضروا شخصا- لم يرد اللَّه ضره- لم يضروه.
وأما ما يستطيعه المخلوق من نفع غيره، بمساعدته بمال، أو جاه، أو جهد، فذلك النفع مرتبط بإرادة اللَّه تعالى، ولا ينافي التسليمُ به الاعتقادَ بأن اللَّه تعالى هو النافع الضار.(1/12)
وأما الاستفهام عمن يعتقد أن لزيد -مثلا- قدرةً على نفعِ أو ضرِّ غيره من دون اللَّه أو مع اللَّه، هل يعتبر مثل هذا مشركا مع أنه لم يقل ذلك أو يفعل ما هو بمعناه ؟ فغير خاف أن الاعتقاد جزء من الإيمان . فمن اعتقد شيئا فقد آمن به واطمأن به قلبه، ومن اطمأن قلبه بأن المخلوق ينفع أو يضر من دون اللَّه أو مع اللَّه -فيما لا يقدر عليه إلا اللَّه- فقد كفر أو أشرك، سواء نطق لسانُه بذلك، أو عمل ما يقتضيه، أو لا. واللَّه أعلم.
[5] حكم تعليق التمائم و الحروز
سائل يسأل عن جواز تعليق التمائم والحروز على الأطفال الصغار بزعم أنها تقيهم من العين، أو تحفظهم من الجن، وغير ذلك ؟
الإجابة:
روى الإمام أحمد عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إن الرُّقى والتمائم والتُّوَلَةَ شرك" . رواه الإمام أحمد وأبو داود (18) .
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه اللَّه-:
الرقى: هي التي تسمى العزائم، وخَص منه الدليلُ ما خلا من الشرك، فقد رخصَ فيه النبي صلى الله عليه وسلم من العين والحُمَة.
والتمائم: شيء يعلَّق على الأولاد من العين، لكن إذا كان المعلَّق من القرآن فَرَخَّصَ فيه بعضُ السلف، وبعضهم لم يرخِّص فيه، ويجعله من المنهي عنه، منهم : ابن مسعود.
والتُّوَلَة: شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبِّب المرأةَ إلى زوجها والرجل إلى امرأته. انتهى.
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: اعلم أن العلماء من الصحابة والتابعين فمَن بعدَهم قد اختلفوا في جواز تعليق التمائم التي من القرآن وأسماء اللَّه وصفاته:
فقالت طائفة: يجوز ذلك، وهو قول عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، وهو ظاهر ما روي عن عائشة، وبه قال أبو جعفر الباقر، وأحمد في رواية. وحملوا الحديث على التمائم التي فيها شرك.(1/13)
وقالت طائفة: لا يجوز ذلك، وبه قال ابن مسعود وابن عباس، وهو ظاهر قول حذيفة وعقبة بن عامر وعبد اللَّه بن عُكَيم، وبه قال جماعة من التابعين منهم أصحاب ابن مسعود، وكذا قال به أحمد في رواية اختارها كثير من أصحابه، وجزم بها المتأخرون، واحتجوا بهذا الحديث وما في معناه.
ثم قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: قلت: وهذا هو الصحيح ؛ لوجوه ثلاثة تظهر للمتأمل:
الأول : عموم النهي، ولا مخصِّص للعموم.
الثاني: سد الذريعة، فإنه يُفضي إلى تعليق ما ليس بقرآن، أو فيه أسماء الله و صفاته.
الثالث: أنه إذا عُلِّق شيء من ذلك فلا بد أن يمتهنه المعلِّق: بحمله معه في قضاء الحاجة، والاستنجاء، ونحو ذلك. انتهى.
التفسير [6] ما ورد في سحر نبينا محمد صلى الله عليه و سلم
سائل يسأل عما ورد في سبب نزول سورتي المعوذتين {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}، و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}، وعن قصة سحر النبي صلى الله عليه و سلم ، وما ورد في ذلك ؟
الإجابة :(1/14)
أما ما ورد في سبب نزول سورتي المعوذتين، فقال السيوطي في كتابه "لباب النقول في أسباب النزول" الذي يقول في خطبته: لخصتُه من جوامع الحديث، والأصول، وحررته من تفاسير أهل النقول: أخرج البيهقي في "دلائل النبوة" من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: مرض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مرضا شديدا، فأتاه مَلَكان، فقعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه: ما ترى؟ قال: طُبَّ، قال: وما طُبَّ؟ قال: سُحِرَ، قال: ومَنْ سَحَره ؟ قال: لَبيد بن الأعصم اليهودي، قال: أين هو؟ قال: في بئر آل فلان تحت صخرة في رَكِيَّة، فَأْتوا الرَّكِيَّة، فانزحوا ماءها، وارفعوا الصخرة، ثم خذوا الكُدْية وأحرقوها، فلما أصبح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعث عمار بن ياسر في نفر، فَأَتوا الرَّكِيَّةَ، فإذا ماؤها مثل ماء الحناء، فنزحوا الماء، ثم رفعوا الصخرة، وأخرجوا الكُدْيَةَ، وأحرقوها، فإذا فيها وتر فيه إحدى عشرة عقدة، وأُنزلت عليه هاتان السورتان، فَجَعل كلما قرأ آية انحلت عقدة، {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}.
لأصله شاهد في "الصحيح"(19 ) دون نزول السورتين، وله شاهد بنزولها.
وأخرج أبو نعيم في "الدلائل" من طريق أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أنس بن مالك قال: صنعت اليهود لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شيئًا، فأصابه من ذلك وجع شديد، فدخل عليه أصحابه فظنوا أنه لُمَّ به، فأتاه جبريل بالمعوذتين، فعوذوه بهما، فخرج إلى أصحابه صحيحا.(1/15)
وأما قصة سحر النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد ذكرها المفسرون والمحدثون وأهل التاريخ والسير، قال ابن القيم -رحمه اللَّه- في كتاب "تفسير المعوذتين" : ثبت في "الصحيح" عن عيسى بن يونس، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم طُبَّ أي: سُحِرَ، حتى إنه ليخيل إليه أنه صنع شيئًا وما صنعه، وأنه دعا ربه، ثم قال: "أَشَعَرتِ أن اللَّه أفتاني فيما استفتيتكم فيه" ،فقالت عائشة: وما ذاك يا رسول اللَّه؟ قال: "جاءني رجلان، فجلس أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجلي، فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ قال الآخر: مطبوب، أي: مسحور، قال: من طَبَّه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: فبماذا ؟ قال: في مُشْطٍ و مُشَاطَةٍ ، وجُفِّ طَلْعِ َذَكَر قال: فأين هو ؟ قال: في ذروان بئر في بني زريق" . قالت عائشة - رضي اللَّه عنها -: فأتاها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في أناس من أصحابه، ثم رجع إلى عائشة، فقال: "واللَّه، لكأنَّ ماءها نُقَاعة الحناء، و لكأن نخلها رءوس الشياطين" . قالت: فقلت له: يا رسول اللَّه، هلاَّ أخرجتَه، قال: "أما أنا فقد شفاني اللَّه، وكرهت أن أثير على الناس شرا" . فأمر بها فدفنت.
وهذا الحديث ثابت عند أهل العلم بالحديث، متلقى بالقبول بينهم، لا يختلفون في صحته، وقد اعتاص على كثير من أهل الكلام وغيرهم، و أنكروه أشد الإنكار، وقابلوه بالتكذيب. وصنف بعضهم فيه مصنفا مفردا حمل فيه على هشام بن عروة بن الزبير، وكان غايةُ مَنْ أَحْسَنَ القولَ فيه: أن قال: غَلِطَ، واشتبه عليه الأمر، ولم يكن من هذا شيء، قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يُسحر؛ فإنه يكون تصديقا لقول الكفار: {إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا}، قالوا: فالأنبياء لا يجوز عليهم أن يُسحروا؛ فإن ذلك ينافي حماية اللَّه لهم وعصمتهم من الشياطين.(1/16)
وهذا الذي قاله هؤلاء مردود عند أهل العلم؛ فإن هشاما من أوثق الناس وأعلمهم، ولم يقدح فيه أحد من الأئمة بما يوجب رد حديثه، فما للمتكلمين وما لهذا الشأن وقد اتفق أصحاب "الصحيحين" على تصحيح هذا الحديث، ولم يتكلم فيه أحد من أهل الحديث بكلمة واحدة.
والقصة مشهورة عن أهل التفسير، والسنن، والحديث، والتاريخ، والفقهاء، وهؤلاء أعلم بأحوال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأيامه من المتكلمين.
قال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن يزيد بن حيان عن زيد بن أرقم قال: سَحَرَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ من اليهود، فاشتكى لذلك أياما، قال: فأتاه جبريل، فقال: إن رجلا من اليهود سحرك وعقد لذلك عُقَدًا، فأرسل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عليا فاستخرجها فجاء بها، فجعل كلما حل عقدة وَجَدَ لذلك خفةً، فقام رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كأنما نَشِط من عِقال، فما ذكر ذلك لليهودي، ولا رآه في وجهه قط.
وقال ابن عباس وعائشة: كان غلام من اليهود يخدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فدنت إليه اليهود، فلم يزالوا حتى أخذ مُشَاطَةَ رأسِ النبي صلى الله عليه وسلم وعدة أسنان من مشطه، فأعطاها اليهود؛ فسحروه فيها، وتولى ذلك لبيد ابن الأعصم -رجل من اليهود- فنزلت هاتان السورتان فيه.
قال البغوي: وقيل: كانت مغروزة بالإبر، فأنزل اللَّه -عز وجل- هاتين السورتين، وهما إحدى عشرة آية: سورة الفلق خمس آيات، وسورة الناس ست آيات، فكلما قرأ آية انحلت عقدة، حتى انحلت العقد كلها، فقام النبي صلى الله عليه وسلم كأنما نشط من عِقال، قال: وروي أنه لبث فيه ستة أشهر، واشتد عليه ثلاثة أيام، فنزلت المعوذتان(20) .(1/17)
قالوا: والسحر الذي أصابه كان مرضا من الأمراض عارضا شفاه اللَّه منه، ولا نَقْصَ في ذلك ولا عيب بوجه ما؛ فإن المرض يجوز على الأنبياء، وكذلك الإغماء، فقد أغمي عليه صلى الله عليه وسلم في مرضه، ووقع حين انفكت قدمه وجُحش شقه، وهذا من البلاء الذي يزيده اللَّه به رفعة في درجاته ونيل كرامته. وأشد الناس بلاء الأنبياء ؛ فقد ابتلوا من أممهم بما ابتلوا به: من القتل، والضرب، والشتم، والحبس، فليس ببدع أن يُبتلى النبي صلى الله عليه وسلم كما ابتلي بالذي رماه فشجه، وابتلي بالذي ألقى على ظهره السَّلا وهو ساجد، وغير ذلك، فلا نقص عليهم، ولا عار في ذلك، بل هذا من كمالهم وعلو درجاتهم عند اللَّه.
قالوا: وقد ثبت في "الصحيح" عن أبي سعيد الخدري أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا محمد، أشتكيت؟" فقال: "نعم" ، فقال: "باسم اللَّه أرقيك من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد اللَّه يشفيك، باسم اللَّه أرقيك" . فعوذه جبريل -لمَّا اشتكى- من شر كل نفس وعين حاسد، فدل على أن هذا التعويذ مزيل لشكايته صلى الله عليه و سلم ، و إلا فلا يعوذه من شيء وشكايته من غيره. انتهى.
وقال الحافظ في "الفتح" : وقد بين الواقدي السَّنَةَ التي وقع فيها السحر كما أخرجه عنه ابن سعد بسند له إلى عمر بن الحكم، مرسل. قال: لما رجع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الحديبية في ذي الحجة، ودخل المحرَّمُ سنة سبع، وفرغ من وقعة خيبر، جاءت رؤساء اليهود إلى لبيد بن الأعصم -وكان حليفا في بني زريق وكان ساحرا- فقالوا: أنت أسحرنا -أي: أعلمنا بالسحر- وقد سحرنا محمدًا؛ فلم نصنع شيئًا، ونحن نجعل لك جعلا على أن تسحره لنا سحرا يؤثر فيه. فجعلوا له ثلاثة دنانير(21) . اهـ.(1/18)
وفي الخطيب قال ابن عباس وعائشة: كان غلام من اليهود يخدم النبي صلى الله عليه و سلم ، فأتت إليه اليهود، فلم يزالوا به حتى أخذ مشاطة رأس النبي صلى الله عليه وسلم وعدة أسنان من مشطه، وأعطاها لليهود؛ فسحروه فيها، وتولى ذلك لبيد بن الأعصم - رجل من اليهود- اهـ.
وفي "المواهب" أيضا عن "فتح الباري" : وكان في جملة السحر صورة من شمع على صورة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقد جعلوا في تلك الصورة إبرا مغروزة فيها إحدى عشرة و وتر فيه إحدى عشرة عقدة، فنزل جبريل بالمعوذتين وكان النبي صلى الله عليه وسلم كلما قرأ آية انحلت عقدة، وكلما نزع إبرة وجد ألما في بدنه، ثم يجد بعدها راحة(22). اهـ. قال: وكانت مدة سحره صلى الله عليه وسلم أربعين يوما، وقيل: ستة أشهر، وقيل: عاما. قال الحافظ ابن حجر: وهو المعتمد (23) . اهـ.
قال الراغب: تأثير السحر في النبي صلى الله عليه و سلم لم يكن من حيث إنه نبي، وإنما كان في بدنه من حيث إنه إنسان أو بشر، كما كان يأكل، و يتغوط ، ويغضب، ويشتهي، ويمرض، فتأثيره فيه من حيث هو بشر، لا من حيث هو نبي. وإنما يكون ذلك قادحا في النبوة لو وُجد للسحر تأثير في أمر يرجع للنبوة، كما أن جرحه وكسر ثَنِيَّتِه يوم أحد لم يقدح فيما ضَمِنَ اللَّهُ له من عصمته في قوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}(24 ) ، وكما لا اعتداد بما يقع في الإسلام من غلبة بعض المشركين على بعض النواحي فيما ذُكر من كمال الإسلام في قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}(25).
قال القاضي: ولا يوجب ذلك صدق الكفرة في أنه مسحور؛ لأنهم أرادوا به أنه مجنون بواسطة السحر. اهـ. كرخي.(1/19)
وفي "المواهب" ما نصه: قال المازري : أنكر بعض المبتدعة حديث السحر، وزعموا أنه يحط من منصب النبوة- أي: شرفها ورفعتها- ويشكك فيها، قالوا: وكل ما أدى إلى ذلك فهو باطل، وزعموا أن تجويز هذا -أي: سحر الأنبياء -يعدم الثقة بما شرعوه من الشرائع؛ إذ يحتمل على هذا أن يخيل إليه أنه يرى جبريل يكلمه- وليس هو ثَمَّ -وأنه يوحي إليه بشيء.
قال المازري: وهذا كله مردود؛ لأن الدليل قد قام على صدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن اللَّه، وعلى عصمته في التبليغ، والمعجزات شاهدات بتصديقه. فتجويز ما قام الدليل على خلافه باطل.
وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يُبْعَث لأجلها ولا كانت الرسالة من أجلها- فهو في ذلك عرضة لما يعرض للبشر كالأمراض، فغير بعيد أن يخيل إليه في أمر من أمور الدنيا ما لا حقيقة له، مع عصمته عن مثل ذلك في أمور الدين(26) . اهـ.
وقال غيره: لا يلزم من أنه كان يظن أنه فعل الشيء -ولم يكن فعله- أنه يجزم بفعله ذلك، وإنما يكون ذلك من جنس الخاطر يخطر ولا يثبت، فلا يبقى لهذا الملحد حجة.
وفي "شرح مسلم" : وقد ظهر ما هو أجلى وأبعد عن مطاعن الملحدة من نفس الحديث، ففي بعض طرقه: "سحره يهودي حتى كاد ينكر بصره" ، وفي بعضها: "حبس عن عائشة سنة" ، وعند البيهقي: "والطعام و الشراب" ، فدلت هذه الطرق على أن السحر إنما تسلط على ظاهر جسده، لا على عقله(27 ) .انتهى.
[7] تفسير كلمة "أمة" الواردة في القرآن الكريم
قرأت المصحف الكريم فوجدت فيه كلمة تكررت في أكثر من موضع وهي كلمة (أُمَّة) ، وتأملت معناها فوجدت معناها يختلف في بعض الآيات عن بعض، فهل لي أن أعرف معنى (أمة) الواردة في القرآن ؟
الإجابة:(1/20)
كلمة (أُمَّة) تأتي في القرآن لمعان متعددة: فترد تارة ويراد بها (المدة من الزمن) ، مثل قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ}(28) أي: بعد مدة من الزمن. وتارة تأتي بمعنى (الملة) كقوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً}(29) . أي: ملتكم ملة واحدة. وربما أطلقت على الطائفة من الناس مثل قوله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ}(30) أي: وجد عليه طائفة وجماعة من الناس. وتارة تأتي بمعنى (الرجل الذي تجمعت فيه خصال الخير وصار يعلِّمها الناسَ ويعمل بها) ، كما في قوله تعالى في سورة النحل: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً}(31) وربما وردت لغير ذلك. واللَّه أعلم.
[8] تفسير كلمة "لسان" الواردة في القرآن الكريم
قرأت القرآن الكريم فوجدت كلمة "لسان" قد تكررت في أكثر من موضع من القرآن الكريم وتأملت معانيها في كل سياق لعلي أفرق بين معانيها فلم يظهر لي الفرق بينها، فأرجوكم إفادتي عن وجوه إطلاقها في القرآن الكريم ؟
الإجابة:(1/21)
الحمد لله. كلمة "لسان" وردت في القرآن الكريم لمعان متعددة: فقد وردت بمعنى (العضو المعروف) ، كقوله تعالى: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ}(32 ) وكقوله تعالى عن موسى -عليه السلام-: {وَأَخِي هَرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا}: الآية(33 )وكقوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ}(34 ) وكقوله تعالى: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي}(35 ) وتأتي تارة ويقصد بها (الثناء الحسن) ، كقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا}(36) و كقوله تعالى: {وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ}(37) وقد تأتي في سياق آخر ويراد منها (اللغة) ، كقوله تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ}(38 ) وكقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ}(39 ) وكقوله تعالى: { لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ }(40) وتأتي لغير ذلك مما يفهم من سياق الكلام . واللَّه أعلم.
[9] منافع العصا
سائل يسأل عن معنى قوله تعالى حكاية عن نبيه موسى -عليه السلام- حينما سأله عما في يمينه، فقال: {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى}(41) ما تلك المآرب الأخرى؟ وهل ورد فيها شيء عن المفسرين أو عن غيرهم؟
الإجابة:(1/22)
قال الإمام صديق بن حسن خان في تفسيره "فتح البيان في مقاصد القرآن"(42) في تفسير هذه الآية من سورة طه ما نصه : وقد تعرض قوم لتعداد منافع العصا فذكروا من ذلك أشياء منها: قول بعض العرب: عصاي أركزها لصلاتي، وأعدها لعداتي، وأسوق بها دابتي، وأقوى بها على سفري، وأعتمدها في مشيتي ليتسع خطوي، وأثب بها النهر، وتؤمنني العثر، وألقي عليها كسائي فتقيني الحر، وتدفيني من القر، وتدني إلي ما بعد مني، وهي تحمل سفرتي وعلاقة أدواتي، أَعْصَى بها عند الضراب، وأقرع بها الأبواب، وأتقي بها عقور الكلاب، وتنوب عن الرمح في الطعان، وعن السيف عند منازلة الأقران، ورثتها عن أبي وأورثها بعدي ابني.انتهى. وقال الشوكاني: قد وقفت على مصنف في مجلد لطيف في منافع العصا لبعض المتأخرين، وذكر فيه أخبارا وأشعارا، وفوائد لطيفة ونكتا شائقة.
وقد جمع اللَّه سبحانه لموسى في عصاه من البراهين العظام، والآيات الجسام ما أَمِنَ به من كيد السحرة، ومعرة المعاندين، واتخذها سليمان لخطبته وموعظته، وطول صلاته، وكان ابن مسعود صاحب عصاة النبي صلى الله عليه وسلم وعَنَزَتِهِ، وكان يخطب بالقضيب، وكذلك الخلفاء من بعده.
وكان عادة العرب العَرْباء أخذ العصا، والاعتماد عليها عند الكلام وفي المحافل والخطب. وقال بعضهم: إمساك العصا سنة الأنبياء، وزينة الصلحاء، وسلاح على الأعداء، وعون الضعفاء، وغم المنافقين، وزيادة في الطاعات.
ويقال: إذا كان مع المؤمن العصا يهرب منه الشيطان، ويخشع منه المنافق والفاجر، وتكون قبلته إذا صلى، وقوته إذا أعيا. انتهى من تفسير صديق.
[10] بيان قوله تعالى: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا}
سائل يسأل عن معنى قوله تعالى: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ}(43). ما معنى (رهوا) ؟.
الإجابة:(1/23)
أصل (الرهو) : السكون والانفراج، وهو هنا منصوب على الحال من البحر؛ أي: اتركه ساكنا منفرجا كحالته حين قطعتَه وعبرتَه، ولا تأمره أن يرجع إلى ما كان؛ لأنه عليه السلام خشي من فرعون وقومه أن يعبروه ؛ فيلحقوا بهم، فَهَمَّ أن يضربه بعصاه ليلتئم، فأمره اللَّه أن يتركه رهوا، أي: ساكنا منفرجا، وبشره بأنهم جند مغرقون في البحر.
هذا كلام المفسرين على الآية. أما كلام أهل اللغة فقال في "القاموس" وشرحه "تاج العروس" : (الرهو) الفتح بين الرِّجلين، قال أبو عبيدة: رها بين رجليه يرهو رهوا، أي: فتح. ومنه قوله تعالى: {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا} كما في "الصحاح" . وقال: الرهو: السكون، يقال رها البحر إذا سكن، وبه فسر قوله تعالى {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا} أي: ساكنا على هَيْنَتِكَ . قال الزجاج: هكذا فسره أهل اللغة(44 ). اهـ.
وبهذا يعلم أن كلمة (رهوا) تفَّسر بالسكون والانفراج، وما في معناهما مما هو صالح لسياق الكلام. و اللَّه أعلم.
[11] ولكم في القصاص حياة
سائل يسأل عن الفروق التي بين قوله تعالى في الآية الكريمة: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}(45 ) وقول العرب: (القتل أنفى للقتل) .
الإجابة:(1/24)
قال في "تفسير المنار"(46): وقد بينت هذه الآية حكمة القصاص بأسلوب لا يُسامى، وعبارة لا تحاكى، واشتهر أنها من أبلغ آي القرآن، التي تُعْجِزُ في التحدي فرسان البيان. ومن دقائق البلاغة فيها: أن جعل فيها الضد متضمنا لضده -وهو القصاص- وعَرَّفَ القصاص ونَكَّر الحياة ؛ للإشعار بأن في هذا الجنس - من الحِكم- نوعا من الحياة عظيما لا يقدر قدره، ولا يجهل سره، ثم إنها في إيجازها قد ارتقت أعلى سماء للإعجاز، وكانوا ينقلون كلمة في معناها عن بعض بلغاء العرب يعجبون من إيجازها في بلاغتها، ويحسبون أن الطاقة لا تصل إلى أبعد من غايتها، وهي قولهم : "القتل أنفى للقتل" . وإنما فتنوا بهذه الكلمة وظنوا أنها نهاية ما يمكن أن يبلغه البيان، ويفصح به اللسان؛ لأنها قيلت قبلها كلمات أخرى في معناها لبلغائهم كقولهم: "قتل البعض إحياء للجميع" . وقولهم: "أكثروا القتل ليقل القتل" . وأجمعوا على أن كلمة : "القتل أنفى للقتل" أبلغها، وأين هي من كلمة اللَّه العليا وحكمته المثلى ؟ ثم نقل عن الإمام الرازي بيان التفاوت بين الآية الكريمة وتلك الكلمة من ستة أوجه منها: كونها أخصر؛ لأن قوله {وَلَكُمْ} لا يدخل في هذا الباب؛ إذ لا بد في الجميع من تقدير ذلك يعني : فلا تدخل في حساب الحروف.
وبعد أن سرد عبارة الرازي قال: وذكر السيد الألوسي هذه الوجوه باختيار أدق، وزاد عليها نحوها، فقال:
(الأول) : قلة الحروف؛ فإن الملفوظ هنا -أي: في الآية- عشرة أحرف إذا لم يعتبر التنوين حرفا على حدة، وهناك أربعة عشر حرفا.
(الثاني) : الاطراد؛ إذ في كل قصاص حياة، وليس كل قتل أنفى للقتل، فإن القتل ظلما أدعى للقتل.
(الثالث) : ما في تنوين (حياة) من النوعية أو التعظيم.
(الرابع) : صنعة الطباق بين القصاص والحياة؛ فإن القصاص تفويت الحياة، فهو مقابلها.
(الخامس) : النص على ما هو المطلوب بالذات -أعني: الحياة-؛ فإن نفي القتل إنما يطلب لها لا لذاته.(1/25)
(السادس) : الغرابة من حيث جعلُ الشيء فيه حاصلا في ضده، ومن جهة أن المظروف إذا حواه الظرف صانه عن التفرق؛ فكأن القصاص فيما نحن فيه يحمي الحياة من الآفات.
(السابع) : الخلو عن التكرار مع التقارب؛ فإنه لا يخلو عن استبشاع، ولا يُعَدُّ من رد العَجُزٍ على الصَّدْرِ حتى يكون محسنا.
(الثامن) : عذوبة اللفظ وسلاسته، حيث لم يكن فيه ما في قولهم من توالي الأسباب الخفيفة؛ إذ ليس في قولهم حرفان متحركان على التوالي إلا في موضع واحد، ولا شك أنه ينقص من سلاسة اللفظ وجريانه على اللسان، وأيضا الخروج من الفاء إلى اللام أعدل من الخروج من اللام إلى الهمزة؛ لبعد الهمزة من اللام، وكذلك الخروج من الصاد إلى الحاء أعدل من الخروج من الألف إلى اللام.
(التاسع) : عدم الاحتياج إلى الحيثية، أي: التعليل، وقولهم يحتاج إليها.
(العاشر) : تعريف القصاص بلام الجنس الدالة على حقيقة هذا الحكم المشتملة على الضرب والجرح والقتل وغير ذلك، وقولهم لا يشمله.
(الحادي عشر) : خلوه من (أَفعل) الموهم أن في الترك نفيا للقتل أيضا.
(الثاني عشر) : اشتماله على ما يصلح للقتال، وهو الحياة بخلاف قولهم؛ فإنه يشتمل على نفي اكتنفه قتلان وأنه لَمِمَّا يليق بهم.
(الثالث عشر) : خلوه مما يوهمه ظاهر قولهم من كون الشيء سببا لانتفاء نفسه، وهو محال... إلى غير ذلك. فسبحان من علت كلمته وبهرت آيته. اهـ.
[12] آية الكرسي وأول {حم} المؤمن حرز من الشيطان
سائل يسأل عما ورد في فضل أول سورة {حم} المؤمن.
الإجابة:
ذكر ابن القيم -رحمه اللَّه تعالى- في كتاب "تفسير المعوذتين" قاعدة نافعة فيما يعتصم العبد به من الشيطان، ويستدفع به شره، ويحترز به منه، وذلك عشرة أسباب.(1/26)
وذكر: الحرز السادس: أول سورة {حم} المؤمن إلى قوله: {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} ثم قال: روى الترمذي من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي مليكة المليكي، عن زرارة بن مصعب، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "من قرأ {حم} المؤمن إلى قول اللَّه تعالى: {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} وآية الكرسي، حين يصبح، حفظ بهما، حتى يمسي، ومن قرأهما حين يمسي، حفظ بهما حتى يصبح"(47 ). وعبد الرحمن المليكي وإن كان قد تكلم فيه من قبل حفظه، فالحديث له شواهد في قراءة آية الكرسي، وهو محتمل على غرابته. انتهى.
قال في الحاشية: قال الترمذي: هذا حديث غريب، وقد تكلم بعض أهل العلم في عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي مليكة المليكي من قبل حفظه. انتهى. والحديث أخرجه الدارمي أيضًا. انتهى.
[13] آية العز وما ورد في فضلها
سائل يسأل عن آية العز وما ورد فيها.
الإجابة:
آية العز هي الآية الأخيرة من سورة (سبحان) (الإسراء) . وهي قوله تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا}(48).
روى الإمام أحمد أحمد(49) بسند ضعيف عن معاذ الجهني، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شأنه كان يقول: آية العز: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا}.
وفي "حاشية الجمل على الجلالين" أنها سميت آية العز؛ لما يترتب على قراءتها من عز القارئ ورفعته إذا واظب عليها.
وقال القرطبي في "تفسيره"(50) وهذه الآية هي خاتمة التوراة.(1/27)
روى مطرف عن عبد اللَّه بن كعب قال: افتتحت التوراة بفاتحة سورة الأنعام، وختمت بخاتمة هذه السورة. وفي الخبر أنها آية العز. رواه معاذ بن جبل(51 )عن النبي صلى الله عليه وسلم ... وجاء في الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلا شكا إليه الدَّيْن بأن يقرأ: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً. وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} إلى آخر السورة، ثم يقول: توكلت على الحي الذي لا يموت. ثلاث مرات.(1/28)
وعن قتادة قال ذكر لنا أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يعلم أهله -الصغير منهم والكبير- هذه الآية: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} أخرجه ابن جرير(52) . وقال ابن كثير في تفسيره(53) : قلت: وقد جاء في حديثٍ أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سمى هذه الآية آية العز. وفي بعض الآثار أنها ما قرئت في بيت في ليلة فيصيبه سَرِقٌ، أو آفة. وروى الحافظ أبو يعلى أبو يعلى(54) وعن أبي هريرة قال: خرجت أنا ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ويده في يدي -أو يدي في يده- فأتى على رجل رث الهيئة. فقال: "أي فلان، ما بلغ بك ما أرى؟" قال: السقم والضر يا رسول اللَّه. قال: "ألا أعلمك كلمات تذهب عنك السقم والضر؟" قال: لا، قال: ما يسرني أني شهدت بها معك بدرا أو أحدا. قال: فضحك رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم ، وقال: وهل يدرك أهل بدر وأهل أحد ما يدرك الفقيُر القانع؟" قال: فقال أبو هريرة: يا رسول اللَّه، إياي فعلمني. قال: "فقل يا أبا هريرة: توكلت على الحي الذي لا يموت، الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل، وكبره تكبيرا" قال: فأتى علي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقد حسنت حالي، قال: فقال لي: "مَهْيَم" ، قال: فقلت: يا رسول اللَّه، لم أزل أقول الكلمات التي علمتني. إسناده ضعيف، وفي متنه نكارة.انتهى.
وحكى الطبري(55) أن في قوله تعالى: {لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} رد على النصارى واليهود وغيرهم الذين نسبوا لله ولدا، وفي قوله: {وَ لَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} ردٌّ على المشركين. وفي قوله: {وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ} ردٌّ على الصابئين في قولهم لولا أولياء اللَّه لذل اللَّه. تعالى اللَّه عن قولهم علوا كبيرا. انتهى.
الحديث[14] اعْرِف نفسك تعرف ربك(1/29)
نسمع من أفواه المشايخ حديثَ: من عرف نفسه عرف ربه" . فهل هذا حديث صحيح ؟ ومن أخرجه ؟ وما معناه ؟
الإجابة:
ليس هذا بحديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما هو أثرٌ إسرائيلي، ومعناه صحيح، ويروى بلفظ: اعرف نفسك تعرف ربك"(56).
قال ابن القيم -رحمه اللَّه-: وفيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: أن من عرف نفسه بالضعف عرف ربه بالقوة، ومن عرفها بالعجز عرف ربه بالقدرة، ومن عرفها بالذل عرف ربه بالعز، ومن عرفها بالجهل عرف ربه بالعلم؛ فإن اللَّه سبحانه استأثر بالكمال المطلق، والحمد، والثناء، والمجد، والغنى. والعَبْدُ، فقيرٌ، ناقصٌ، محتاج. وكلما ازدادت معرفة العبد بنقصه، وعيبه، وفقره، وذله، وضعفه، ازدادت معرفته لربه بأوصاف كماله.
التأويل الثاني: أن من نظر إلى نفسه وما فيها من الصفات الممدوحة: من القوة، والإرادة، والكلام، والمشيئة، والحياة- عرف أن من أعطاه ذلك وخلقه فيه أولى به، فمعطي الكمال أحق بالكمال، فكيف يكون العبد حيا، متكلما، سميعا، بصيرا، مريدا، عالما، يفعل باختياره، ومَنْ خَلَقه وأَوْجَده لا يكون أولى بذلك منه ؟! فهذا من أعظم المحال، بل إن من جَعَلَ العبدَ متكلما أولى أن يكون هو متكلما، ومن جعله حيا، عليما، سميعا، بصيرا، فاعلا، قادرا، أولى أن يكون هو كذلك. فالتأويل الأول من باب الضد، وهذا من باب الأولوية.
والتأويل الثالث: أن هذا من باب النفي؛ أي كما أنك لا تعرف نفسك التي هي أقرب الأشياء إليك، فلا تعرف حقيقتها ولا ماهيتها ولا كيفيتها فكيف تعرف ربك، وكيفية صفاته ؟! اهـ. واللَّه أعلم.
[15] ما جاء في أن حب الوطن من الإيمان
سائل يسأل عن الكلام الذي يتردد على ألسنة كثير من الناس: حب الوطن من الإيمان" : هل هو حديث صحيح، ومن رواه، وهل معناه صحيح ؟
الإجابة:
قال العجلوني في كشف الخفاء" : "حب الوطن من الإيمان" قال الصغاني: موضوع (57).(1/30)
قال في المقاصد"(58): لم أقف عليه، ومعناه صحيح. ورد القاري قوله: (ومعناه صحيح) بأنه عجيب، قال: إِذْ لا تلازم بين حب الوطن وبين الإيمان. قال: ورُدَّ أيضا بقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم}(59) الآية. فإنها دلت على حبهم وطنهم مع عدم تلبسهم بالإيمان؛ إِذْ ضمير {عَلَيْهِمْ} للمنافقين.
لكن انتصر له بعضهم بأنه ليس في كلامه أنه لا يحب الوطن إلا مؤمن، وإنما فيه أن حب الوطن لا ينافي الإيمان.
والأظهر في معنى الحديث -إن صح مبناه- أن يحمل على أن المراد بالوطن: الجنة؛ فإنها المسكن الأول لأبينا آدم -عليه السلام- أو المراد به مكة ؛ فإنها أم القرى وقبلة العالم، أو المراد به الوطن المتعارف، ولكن بشرط أن يكون سبب حبه صلة أرحامه، أو إحسانه إلى أهل بلده من فقرائه وأيتامه. والتحقيق أنه لا يلزم من كون الشيء علامة له، اختصاصُهُ به مطلقا، بل يكفي ذلك غالبا؛ ألا ترى إلى حديث: "حسن العهد من الإيمان، وحب العرب من الإيمان" ، مع أنهما يوجدان في أهل الكفران. انتهى ملخصًا.
وقال الألباني في "سلسلة الأحاديث الضعيفة"(60) : "حب الوطن من الإيمان" موضوع، كما قال الصغاني وغيره، ومعناه غير مستقيم؛ إذ إن حب الوطن كحب النفس، والمال، ونحوه، كل ذلك غريزي في الإنسان، لا يمدح بحبه، ولا هو من لوازم الإيمان؛ ألا ترى أن الناس كلَّهم مشتركون في هذا الحب، لا فرق في ذلك بين مؤمنهم وكافرهم. اهـ. واللَّه أعلم.
[16] ما ورد في افتراق هذه الأمة على ثلاث و سبعين فرقة
سائل يسأل عن الحديث الوارد في أن هذه الأمة ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة، من رواه، وما معناه، وهل نَصُّ الحديث: كلها في النار إلا واحدة" ، أو كلها في الجنة إلا واحدة" ؟
الإجابة:(1/31)
هذا الحديث رواه الإمام أحمد، وابن أبي الدنيا، وأبو داود، والترمذي، وابن حبان، والحاكم، وصححوه، ورواه غيرهم أيضا(61). رَوَوْه عن عَوْفِ بن مالك، ومعاوية، وأبي الدرداء، وابن عباس، وابن عمر، وسعد بن أبي وقاص، وعبد اللَّه بن عمرو بن العاص، وواثلة ، وأبي أمامة ، وغيرهم بألفاظ متقاربة .
والرواية الصحيحة: "كلها في النار إلا واحدة" . وأما رواية: "كلها في الجنة إلا واحدة" فهي موضوعة مكذوبة على النبي صلى الله عليه و سلم .
وإليك ما قاله العلماء في ذلك:
قال الشيخ إسماعيل العجلوني في كشف الخفاء" :(1/32)
افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقةً، فواحدةٌ في الجنة وسبعون في النار، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقةً، إحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنة، والذي نَفْسُ محمَّدٍ بيده لَتَفْتَرِقَنَّ أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة، واثنتان وسبعون في النار" . رواه ابن أبي الدنيا عن عوف بن مالك(62) ورواه أبو داود، والترمذي، والحاكم، وابن حبان، وصححوه، عن أبي هريرة(63) ، بلفظ: افترقت اليهود على إحدى -أو اثنتين - وسبعين فرقة، والنصارى كذلك، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلهم في النار إلا واحدة" . قالوا: من هي يا رسول اللَّه؟ قال: "ما أنا عليه و أصحابي" . ورواه الشعراني في الميزان" من حديث ابن النجار. وصححه الحاكم بلفظ غريب وهو: ستفترق أمتي على نيِّف وسبعين فرقة، كلها في الجنة إلا واحدة" . وفي رواية عند الديلمي: "الهالك منها واحدة" . قال العلماء: هي الزنادقة. وفي هامش "الميزان" المذكور عن أنس(64 ) عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ: "تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة، كلها في الجنة إلا واحدة، وهي الزنادقة" . وفي رواية عنه أيضا: "تفترق هذه الأمة على بضع وسبعين فرقة، إني أعلم أهداها: الجماعة" انتهى. ثم رأيت ما في هامش الميزان" مذكورا في تخريج أحاديث مسند الفردوس" للحافظ ابن حجر(65) ، ولفظه: تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة، كلها في الجنة إلا واحدة، وهي الزنادقة" . أسنده عن أنس. قال: وأخرجه أبو يعلى من وجه آخر عن أنس، بلفظ: "أهداها فرقةً: الجماعة" . انتهى. فلينظر مع المشهور. ولعل وجه التوفيق أن المراد بأهل الجنة في الرواية الثانية - ولو مآلا- فتأمل. وفي الباب عن معاوية، وأبي الدرداء، وابن عمرو، وابن عباس، وسعد بن أبي وقاص، وابن عمر، و واثلة، وأبي أمامة. ورواه الترمذي عن ابن [عمرو](66) . بلفظ: "ستفترق أمتي ثلاثا وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة" . قيل: ومن هم ؟ قال: "الذين هم(1/33)
على ما أنا عليه وأصحابي" . ورواه ابن الجوزي في كتاب تلبيس إبليس" بسنده إلى أبي هريرة، أن رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم قال: تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، أو اثنتين وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة" . قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وفيه أيضا بسنده إلى عبد اللَّه بن عمر أنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "لَيَأْتِيَنَّ على أمتي ما أتى عَلَى بني إسرائيل، حَذْوَ النعل بالنعل، حتى إنْ كان فيهم من أتى أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك، وإن بني إسرائيل تفرقت على اثنتين وسبعين ملةً، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا ملةً واحدة" قالوا: من هي يا رسول اللَّه؟ قال: "ما أنا عليه وأصحابي" . قال الترمذي: حديث حسن غريب لا يعرف إلا من هذا الوجه. وفيه أيضا بسنده إلى أنس بن مالك أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: إن بني إسرائيل تفرقت إحدى وسبعين فرقة، فهلكت سبعون فرقة، وخلصت فرقة واحدة، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة، يهلك إحدى وسبعون، ويخلص فرقة" . قالوا: يا رسول اللَّه ما تلك الفرقة ؟ قال: "فرقة الجماعة" . وقال فيه أيضا: فإن قيل: وهل هذه الفرقة معروفة ؟ فالجواب: إنا نعرف الافتراق وأصول الفرق، وإن كان كل طائفة من الفرق انقسمت إلى فرق، وإن لم نُحِط بأسماء تلك الفرق ومذاهبها. قال: وقد ظهر لنا من أصول الفرق: الحرورية، والقدرية، والجهمية، والمرجئة، والرافضة، والجبرية. وقد قال بعض أهل العلم: أصول الفرق هذه الست، وقد انقسمت كل فرقة منها اثنتي عشرة فرقة؛ فصارت اثنتين وسبعين فرقة. انتهى. ثم فصلها وعَرّف كل فرقة منها فيه، وقد ذكرنا ذلك جميعه مع كلام الموافق وشرحه في "الملل والنحل" مبسوطا في رحلتنا المسماة بالبسط التام في الرحلة إلى بعض بلاد الشام" فراجعها. انتهى. من كشف الخفاء" للعجلوني(67).(1/34)
وقد ذكر الحديثَ الإمامُ محمد بن أحمد السفّاريني في لوامع الأنوار البهية" ، فقال: رواه الإمام أحمد من حديث معاوية(68 ) - رضي الله عنه - قال: قام فينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: "ألا إن مَن قَبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة" . ورواه أبو داود(69) وزاد فيه: وإنه سيخرج في أمتي أقوام، تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكَلَب بصاحبه، لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله" .
قوله: الكَلَب بفتح اللام. قال الخطابي: هو داء يعرض للإنسان من عضة الكلْب، وقال: وعلامة ذلك في الكَلْب: أن تحمرّ عيناه ولا يزال يُدخل ذنبه بين رجليه، فإذا رأى إنسانا ساوره.
وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال: ستفترق أمتي ثلاثا وسبعين فرقة، كلهم في النار إلاّ فرقة واحدة" ، فقيل له: من هم يا رسول اللَّه ؟ - يعني الفرقة الناجية - فقال: "هو من كان على مثل ما أنا عليه اليوم و أصحابي" . وفي رواية: "ستفترق أمتي على بضع و سبعين فرقة، كلهم في النار إلاّ فرقة واحدة، وهي ما كان على ما أنا عليه و أصحابي"(70 ).
وذكر أبو حامد الغزالي في كتابه التفرقة بين الإيمان والزندقة" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ستفترق أمتي نيفا وسبعين فرقة، كلهم في الجنة إلا الزنادقة، وهي فرقة" . هذا لفظ الحديث في بعض الروايات. قال: وظاهر الحديث يدل على أنه أراد الزنادقة من أمته؛ إذ قال: "ستفترق أمتي" ، ومن لم يعترف بنبوته فليس من أمته. والذين ينكرون أصل المعاد والصانع فليسوا معترفين بنبوته؛ إِذْ يزعمون أن الموت عدم محض، وأن العالم لم يزل كذلك موجودا بنفسه من غير صانع، ولا يؤمنون باللَّه ولا باليوم الآخر، وينسبون الأنبياء إلى التلبيس؛ فلا يمكن نسبتهم إلى الأمة. انتهى.(1/35)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الإسكندرية: أما هذا الحديث فلا أصل له، بل هو موضوع كذب باتفاق أهل العلم بالحديث، ولم يروه أحد من أهل الحديث المعروفين بهذا اللفظ، بل الحديث الذي في كتب السنن والمساند عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أنه قال: "ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، واحدة في الجنة، وثنتان وسبعون في النار" . وروي عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "هي الجماعة" . وفي حديث آخر: "هي من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي" . وضعفه ابن حزم. لكن رواه الحاكم في "صحيحه" ، وقد رواه أبو داود، والترمذي، وغيرهم. قال: وأيضا لفظ (الزندقة) لا يوجد في كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، كما لا يوجد في القرآن، وأما الزنديق الذي تكلم الفقهاء في توبته -قبولا وردا- فالمراد به عندهم: المنافق الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر. انتهى
قلت: وقد ذكر الحديثَ الذي ذكره الغزالي، الحافظُ ابنُ الجوزي في الموضوعات" ، وذكر أنه روي من حديث أنس، ولفظه: "تفترق أمتي على سبعين -أو إحدى وسبعين- فرقة، كلهم في الجنة إلا فرقة واحدة". قالوا: يا رسول اللَّه من هم ؟ قال: "الزنادقة، وهم القدرية" . أخرجه العقيلي، وابن عدي، ورواه الطبراني أيضا. قال أنس: كنا نُراهم القدرية.(1/36)
قال ابن الجوزي: وضعه الأبرد بن أشرس، وكان وضاعا كذابا، وأخذه منه ياسين الزيات، فقلب إسناده، وخلطه، وسرقه عثمان بن عفان القرشي. وهؤلاء كذابون، متروكون. وأما الحديث الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أمته ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة، واحدة في الجنة واثنتان وسبعون في النار، فروي من حديث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وابن عمر وأبي الدرداء، ومعاوية، وابن عباس، وجابر، وأبي أمامة، و واثلة، وعوف بن مالك، وعمرو بن عوف المزني، فكل هؤلاء قالوا: "واحدة في الجنة، وهي الجماعة" . ولفظ حديث معاوية ما تقدم، فهو الذي ينبغي أن يُعَوَّل عليه دون الحديث المكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم . والله أعلم (71) .
ثم عدد السفاريني -رحمه اللَّه - أصول هذه الفرق، وذكر أنها خمسة، أو ستة، أو سبعة، وفَصَّلَ فروع كل فرقة منها، وذكر شيئا من أقوالهم وأصول مذهبهم، حتى بلغت هذا المقدار الوارد في الحديث.
ويمكن للسائل مراجعة كلامه، إن أراد استقصاء البحث في ذلك. واللَّه أعلم.
[17] ما جاء في أن المجالس بالأمانة
(المجالس بالأمانة) : هل هو حديث صحيح، ومن رواه، وما معناه ؟
الإجابة:(1/37)
المجالس بالأمانة" حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم يُرْوَى بأسانيد ضعيفة عن علي بن أبي طالب، وجابر بن عبد اللَّه، وغيرهما. قال في "كشف الخفاء"(72) : رواه الديلمي، والقضاعي ، والعسكري(73 ) ، عن علٍّي رفعه. ورواه أبو داود(74) ، والعسكري أيضا عن جابر بن عبد اللَّه رفعه: "إلا ثلاثة مجالس: سفك دم حرام، أو فرج حرام، أو اقتطاع مال بغير حق" . وللديلمي عن أسامة ابن زيد(75) رفعه: "المجالس أمانة، فلا يحل لمؤمن أن يرفع على مؤمن قبيحا" . ولعبد الرزاق(76) . عن محمد بن حزم رفعه مرسلا: "إنما يتجالس المتجالسون بأمانة اللَّه، فلا يحل لأحد أن يُفْشِيَ عن صاحبه ما يكره" .وللعسكري عن ابن عباس مرفوعا: "إنما تجالسون بالأمانة" . وله عن أنس مرفوعا: "ألا ومن الأمانة" . أو قال: "ألا ومن الخيانة أن يُحَدِّثَ الرجل أخاه الحديثَ، فيقول: اكْتُمْه، فَيُفْشِيَه"(77) ، وله عن أبي سعيد رفعه: "إن من أعظم الأمانة عند اللَّه يوم القيامة: الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه، ثم يَنْشُر سرها" مسلم (1437) وأحمد (3/69) وأبو داود (4870) عن أبي سعيد. قال النجم: وهذا الأخير عند أحمد، ومسلم، وأبي داود، بلفظ: "ثم ينشر سرها" . وفي لفظ: "إن من أشر الناس عند اللَّه منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه، ثم يَنشُرُ أحدُهما ِسَّر صاحبه" . وتقدم حديث: "إذا حدث الرجل بالحديث، ثم التفت، فهي أمانة"(78) واللَّه أعلم. انتهى.
[18] ما ورد أن عمران بيت المقدس خراب يثرب
هل وردت أحاديث في أن عمران بيت المقدس خراب يثرب، وهل هي صحيحة ؟
الإجابة :
نعم ورد في هذا أحاديث، منها: ما رواه أبو داود في "سننه"(79 ) حيث قال: "باب في أمارات الملاحم" .(1/38)
حدثنا عباس العنبري: حدثنا هاشم بن القاسم: حدثنا عبد الرحمن بن ثابت ابن ثوبان، عن أبيه، عن مكحول، عن جبير بن نفير، عن مالك ابن يخامر، عن معاذ ابن جبل، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "عمران بيت المقدس خراب يثرب، وخراب يثرب خروج الملحمة، وخروج الملحمة فتح القسطنطينية، وفتح قسطنطينية خروج الدجال" .
ثم ضرب بيده على فَخِذ الذي حدثه أو منكبه، ثم قال: "إن هذا لحق كما أنك هاهنا، أو كما أنك قاعد" يعني : معاذ بن جبل.
قال المنذري: في إسناده عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، وكان رجلاً صالحا، وثقه بعضهم، وتكلم فيه غير واحد.
[19] خبر الجَسَّاسة
بعض النساء كتبن يسألن عن خبر الجساسة، ويقلن: إنهن سمعن عنها في ذكر علامات الساعة، ولا يعرفن عن الجساسة شيئا، ويطلبن الإفادة عنها مفصلا.
الإجابة:(1/39)
الحمد لله وحده. خبر الجساسة رواه الإمام مسلم في "صحيحه"(80) ، فقال: حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث، وحجاج بن الشاعر،كلاهما عن عبد الصمد - واللفظ لعبد الوارث بن عبد الصمد-: حدثنا أبي، عن جدي، عن الحسين بن ذكوان: حدثنا ابن بريدة: حدثني عامر بن شراحيل الشعبي، شعب همدان، أنه سأل فاطمة بنت قيس، أخت الضحاك بن قيس -وكانت من المهاجرات الأول- فقال: حدثيني حديثا سمعتيه من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا تسنديه إلى أحد غيره، فقالت: لئن شئتَ لأفعلنَّ؟ فقال لها: أجل حدثيني، فقالت: نكحت ابن المغيرة، وهو من خيار شباب قريش يومئذ، فأصيب في أول الجهاد مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فلما تَأَيَّمْتُ ؛ خطبني عبد الرحمن بن عوف - في نفر من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم -وخطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم على مولاه أسامة ابن زيد، وكنت قد حُدِّثْتُ أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "من أحبني فليحِبَّ أسامة" . فلما كلمني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، قلت: أمري بيدك، فأنِكحْني من شئت، فقال: "انتقلي إلى أم شريك" - وأم شريك امرأة غنية من الأنصار، عظيمة النفقة في سبيل اللَّه، ينزل عليها الضِّيفَان، فقلت: سأفعل، فقال: "لا تفعلي، إن أم شريك امرأة كثيرة الضِّيفان؛ فإني أكره أن يسقط عنك خمارك، أو ينكشف الثوب عن ساقيك، فيرى القوم منك بعض ما تكرهين، ولكن انتقلي إلى ابن عمك، عبد اللَّه بن عمرو ابن أم مكتوم" - وهو رجل من بني فهر، فهر قريش، وهو من البطن الذي هي منه -فانتقلْتُ إليه، فلما انقضت عدتي، سمعت نداء المنادي- منادي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم - ينادي: الصلاة جامعة، فخرجت إلى المسجد، فصليت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فكنت في صف النساء التي تلي ظهور القوم، فلما قضى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صلاته، جلس على المنبر وهو يضحك، فقال: "ليلزم كل إنسان مصلاه" .(1/40)
ثم قال: أتدرون لم جمعتكم ؟" قالوا: اللَّه ورسوله أعلم. قال: "إني واللَّه ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة، ولكن جمعتكم؛ لأن تميما الداريَّ كان رجلا نصرانيًّا، فجاء، فبايع وأسلم، وحدثني حديثا وافق الذي كنت أحدثكم عن مسيح الدجال. حدثني أنه ركب في سفينة بحرية مع ثلاثين رجلا من لخم وجذام، فلعب بهم الموج شهرا في البحر، ثم أرفئوا إلى جزيرة في البحر حتى مغرب الشمس، فجلسوا في أَقْرُبِ السفينة، فدخلوا الجزيرة، فلقيتهم دابة أهلبُ كثير الشعر، لا يدرون ما قُبله من دبره من كثرة الشعر، فقالوا: ويلك ما أنت ؟ فقالت: أنا الجساسة، قالوا: وما الجساسة ؟ قالت: أيها القوم، انطلقوا إلى هذا الرجل في الدير؛ فإنه إلى خبركم بالأشواق. قال: لما سمت لنا رجلا فَرِقْنا منها أن تكون شيطانة، قال: فانطلقنا سِراعا، حتى دخلنا الدير، فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط خَلْقًا، وأشدُّه وثاقا، مجموعةٌ يداه إلى عنقه، ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد، قلنا: ويلك ما أنت ؟ قال: قد قدرتم على خبري، فأخبروني ما أنتم ؟ قالوا: نحن أناس من العرب، ركبنا في سفينة بحرية، فصادفْنَا البَحْرَ حين اغتلم، فلعب بنا الموج شهرا، ثم أَرْفَأْنَا إلى جزيرتك هذه، فجلسنا في أقرُبِهَا، فدخلنا الجزيرة فلقيتنا دابة أهلب كثير الشعر، لا يدرى ما قُبُلُه من دُبُرِه من كثرة الشعر، فقلنا: ويلكِ ما أنتِ؟ فقالت: الجساسة، قلنا: وما الجساسة ؟ قالت: اعمدوا إلى هذا الرجل في الدير، فإنه إلى خبركم بالأشواق، فأقبلنا إليك سراعا، وفَزِعْنَا منها، ولم نأمن أن تكون شيطانة. فقال: أخبروني عن نخل بَيْسَانَ ؟ قلنا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: أسألكم عن نخلها: هل يثمر؟ قلنا: نعم. قال: أما إنه يوشك ألا تثمر. قال: أخبروني عن بحيرة الطبرية. قلنا: عن أي شأنها تستخبر؟ قال: هل فيها ماء ؟ قالوا: هي كثيرة الماء، قال: أما إن ماءها يوشك أن يذهب. قال: أخبروني عن عين زُغَر، قالوا: عن أي(1/41)
شأنها تستخبر؟ قال: هل في العين ماء ؟ وهل يزرع أهلها بماء العين ؟ قلنا له: نعم، هي كثيرة الماء، وأهلها يزرعون من مائها. قال: أخبروني عن نبي الأميين: ما فعل ؟ قالوا: قد خرج من مكة ونزل يثرب. قال: أقاتله العرب ؟ قلنا: نعم. قال: كيف صنع بهم؟ فأخبرناه أنه قد ظهر على من يليه من العرب وأطاعوه. قال لهم: قد كان ذلك ؟ قلنا: نعم. قال: أما إن ذاك خير لهم أن يطيعوه، وإني مخبركم عني ؛ إني أنا المسيح، وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج، فأخرجَ فأسيَر في الأرض، فلا أدعَ قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة، غير مكة وطيبة؛ فهما محرمتان عَلَيَّ كلتاهما، كلما أردت أن أدخل واحدة، أو واحدا منهما استقبلني ملك بيده السيف صلتا، يصدني عنها، وإن على كل نقب منها ملائكة يحرسونها. قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم - وطعن بمخصرته في المنبر-: "هذه طيبة، هذه طيبة، هذه طيبة" ، يعني: المدينة. "ألا هل كنت حدثتكم ذلك ؟" فقال الناس: نعم فإنه أعجبني حديث تميم أنه وافق الذي كنت أحدثكم عنه وعن المدينة ومكة. ألا إنه في بحر الشام أو بحر اليمن، لا بل من قبل المشرق، ما هو من قبل المشرق ما هو" . وأومأ بيده إلى المشرق. قالت: فحفظتُ هذا من رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم . رواه مسلم.
[20] حبس الشمس ليوشع بن نون
سائل يسأل عن قصة حبس الشمس ليوشع بن نون -عليه السلام-: هل هي صحيحة، ومن رواها، وما مدة حبسها له؟
الإجابة:(1/42)
قصة حبس الشمس لنبي اللَّه يوشع بن نون -عليه السلام- رواها البخاري ومسلم في "صحيحيهما" عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "غزا نبي من الأنبياء، فقال لقومه: لا يتبعني رجل ملك بُضْعَ امرأةٍ، وهو يريد أن يبني بها ولما يَْبنِ بها، ولا أحدٌ بنى بيوتا ولم يرفع سقوفها، ولا آخرُ اشترى غنما أو خَلِفَات وهو ينتظر وِلادَها. فغزا، فَدَنَا من القرية صلاة العصر أو قريبا من ذلك. فقال للشمس: إنك مأمورة وأنا مأمور، اللَّهم احبسها علينا؛ فَحُبِسَتْ حتى فتح اللَّه عليهم، فجمع الغنائم، فجاءت -يعني النار- لتأكلها فلم تَطْعَمْها، فقال: إن فيكم غلولا، فليبايعني من كل قبيلة رجل، فَلَزِقَتْ يد رجل بيده، فقال: فيكم الغلول، فلتبايعني قبيلتك، فَلَزِقَتْ يد رجلين أو ثلاثة بيده، فقال: فيكم الغلول، فجاءوا برأس بقرة من الذهب فوضعوها، فجاءت النار فأكلتها، ثم أحل اللَّه لنا الغنائم، رأى ضَعْفَنا وعَجْزَنا فَأَحَلَّها لنا"(81).
والنبي المذكور في هذا الحديث هو يوشع بن نون -عليه السلام- كما بينه شراح هذا الحديث، وصَرَّحتْ به رواية الحاكم في "مستدركه" عن كعب، ودلت عليه رواية الإمام أحمد في "مسنده" بسند على شرط البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "إن الشمس لم تُحْبَسْ لبَشَرٍ إلا ليوشع لَيَاِلَي سافَرَ إلى بيت المقدس"(82) .اهـ
فبهذا اتضح أن هذه القصة في غاية الصحة. هذا وقد جاء في رواية ابن إسحاق، وفي رواية كعب ما يبين سبب طلب يوشع -عليه السلام- حبس الشمس في تلك الغزوة؛ قال ابن إسحاق في روايته: قتلوا الجبارين، وكان القتال يوم الجمعة، فبقيت منهم بقية، وكادت الشمس تغرب، وتدخل ليلة السبت، فخاف يوشع -عليه السلام- أن يعجزوا؛ لأنه لا يحل لهم قتلهم فيه.(1/43)
وقال كعب في روايته عند الحاكم: إنه -أي يوشع - وصل إلى القرية عصر يوم الجمعة، فكادت الشمس تغرب ويدخل الليل. اهـ.
وعلى مضمون هاتين الروايتين اعتمد شيخ الإسلام ابن تيمية في "منهاج السنة" (ج 1 ص 187) قال: يوشع كان محتاجا إلى ذلك؛ لأن القتال كان محرما عليهم بعد غروب الشمس؛ لأجل ما حرم اللَّه عليهم من العمل ليلة السبت، فخاف يوشع- عليه السلام.
وأما مدة حبس الشمس فساعة، كما في رواية الحاكم، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه و سلم ، بسند صحيح. واللَّه أعلم. وصلى اللَّه على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
[21] شهرا عيدٍ لا ينقصان
سائل يسأل عن الأثر المشهور: "شهرا عيد لا ينقصان" : " هل هو حديث مرفوع، أو أثر موقوف، ومن رواه، وما معناه ؟
الإجابة:
هذا حديث صحيح مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم . رواه البخاري و مسلم (83) عن أبي بكرة، وترجم عليه الإمام البخاري في "صحيحه" : (باب : شهرا عيد لا ينقصان) . قال أبو عبد اللَّه: قال إسحاق: وإن كان ناقصا فهو تمام. وقال محمد: لا يجتمعان كلاهما ناقص. ثم ساق بسنده إلى أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم شهران لا ينقصان: شهرا عيد : رمضان وذو الحجة" .
وقد اختلف العلماء في معنى هذا الحديث:
فمنهم من حمله على ظاهره. فقال: لا يكون رمضان وذو الحجة إلا تامَّين، ثلاثين يوما. وهذا قول مردود، مخالف للمشاهد الموجود.
ومنهم من تأول له معنى آخر، وقال: لا ينقصان في الفضيلة إن كانا تسعا وعشرين أو ثلاثين، وهو قول إسحاق بن راهويه، وغيره.
وفي قول ثالث: إنهما لا ينقصان معا في سنة واحدة، إن جاء أحدهما تسعا وعشرين جاء الآخر ثلاثين ولا بد. قال أحمد بن حنبل(84) : إن نقص رمضان تم ذو الحجة، وإن نقص ذو الحجة تم رمضان. ونَقل عنه أبو داود: لا أدري ما هذا، قد رأيناهما ينقصان.فعلى هذا يكون عنه في ذلك روايتان.(1/44)
وفي قول رابع: إن المراد: لا ينقصان في عام بعينه، وهو العام الذي قال فيه النبي صلى الله عليه و سلم تلك المقالة. وقد أنكر الإمام أحمد هذا القول.
وقيل: إنما خصهما بالذكر لفضلهما على سائر الشهور، و اختصاصهما بالعيدين، وتعلُّق أحكام الصوم والحج بهما. فكل ما ورد فيهما من الفضائل والأحكام حاصل، سواء كان رمضان تسعا وعشرين أو ثلاثين، وسواء وافق الوقوف اليوم التاسع أو غيره. ذكره البيهقي(85).
وفائدة الحديث : ما قد يقع في القلوب من شك لمن صام تسعا و عشرين، أو وقف في غير يوم عرفة. و اللَّه أعلم.
[22] حديث من باع داره و لم يجعل ثمنها في نظيرها
سائل يسأل عن حديث: "من باع داره ولم يشتر بثمنها دارًا بدلها لم يبارك له فيه" : هل هو صحيح، ومن رواه، وما معناه ؟ أفتونا مأجورين.
الإجابة:
قال في: "كشف الخفاء" (86) : "من باع دارًا أو عقارًا ولم يجعل ثمنه في نظيره فجدير أن لا يبارك له فيه" .رواه أبو داود الطيالسي في "مسنده"(87) عن حذيفة، وأحمد والحارث في "مسنديهما" ، والطبراني عن سعيد(88 ) كلاهما رفعه. وقد كتب السخاوي فيه جزءًا. وقال النجم: قلت: حديث حذيفة أخرجه ابن ماجه والضياء في "المختارة" بلفظ: من باع دارا ثم لم يجعل ثمنها في مثلها، لم يبارك له فيه"(89) . وحديث سعيد أخرجه ابن ماجه أيضًا بلفظ: "من باع دارًا أو عقارًا، فليعلم أنه مالٌ قَمِنٌ(90) أن لاَّ يُبَارَكَ له فيه، إلا أن يجعله في مثله" ابن ماجه (2490) . وأخرجه الطبراني عن معقل بن يسار بلفظ: "من باع عقر دار من غير ضرورة، سلط اللَّه على ثمنها تالفًا يتلفه."(91) . واللَّه أعلم.
[23]كيلوا طعامكم يُبَارَكْ لكم فيه
سائل يسأل عن الأثر المروي في كيل الطعام لتحصل فيه البركة: هل هو حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه و سلم ، وما لفظه، ومن رواه، وما معناه ؟
الإجابة:(1/45)
قال الشيخ إسماعيل العجلوني في "كشف الخفاء"(92) : "كيلوا طعامكم يبارك لكم فيه"(93) : رواه أحمد والطبراني عن أبي الدرداء، والقضاعي (94) عن أبي أيوب كلاهما مرفوعًا، ورواه البزار(95) عن أبي الدرداء بلفظ: (قوتوا) ، و سنده ضعيف. وكذا أورده في النهاية: (قوتوا) ، وحكى عن الأوزاعي أنه تصغير الأرغفة. وقال غيره: هو مثل (كيلوا) . وحكاه البزار عن بعض أهل العلم. وقد أشار إلى ذلك في "فتح الباري" "فتح الباري" (4/346)96 في البيوع. انتهى.
وقال الشيخ عبدالرحمن بن سعدي -رحمه اللَّه- في "الفتاوى السعدية" (97) قوله صلى الله عليه و سلم في حديث المقدام: "كيلوا طعامكم يبارك لكم فيه"(98 ) ، أصح ما قيل فيه، وفي معناه: أنه الطعام الذي يخرجه صاحب البيت على عائلته، وهو الذي يدل عليه، و هو المناسب للمعنى. وهذا الكلام من النبي صلى الله عليه وسلم أصل كبير، وقاعدة أساسية، وميزان لما دلت عليه الآية الكريمة {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}(99) فمعنى كيلوا طعامكم: أي قدروه بمقدار كفاية المنفَقِ عليهم من غير زيادة ولا نقصان ؛ فإن في ذلك سلوكاً لطريق الاقتصاد والحزم والعقل.
والبركة المعقولة في هذا من وجوه :
أولاً: امتثال أمر الشارع، الذي هو بركة و خير و سعادة و صلاح.
ثانيًا: لأن في الكيل المذكور، يَخْرُج المنفِقُ من خلقين ذميمين، وهما:(1/46)
التقتير والتقصير في النفقات الواجبة والمستحبة، وإذا حصل التقصير؛ اشتغلت الذمم بالحقوق الواجبة، والمآثم الحاضرة، ولم يقع الإحسان والإنفاق موقعه، بل لا يصير له في هذه الحالة موقع أصلاً، فيقع الذم موقع الحمد، والتضجر والتسخط بدل الشكر والدعاء والثناء.والخلق الثاني: التبذير والإسراف؛ فإن هذا خلق ينافي الحكمة، وهو من أخلاق الجاهلية، وما أسرع ما يؤدي هذا الخلق بصاحبه إلى القلة والذلة، فإذا سَلِمَ من هذين الخلقين اتصف بخلق الحكمة والعدل والقوام، الذي هو أصل الخير ومداد الصلاح.
ثالثًا: إن في سلوك هذا الطريق النافع السالم من التقصير والتبذير؛ تمرينًا للنفس على التوازن والتعادل في كل الأمور. وفي هذا من الخير والبركة ما لا يخفى.
رابعًا: إن النفقات إذا خرجت عن طورها وموضوعها، تفرع عنها الشره والفساد. فإنه إذا لم يَكِل ويُقَدِّر ما يُطْعِمه لمن يعوله: فإما أن يكون أزيد من الكفاية، فالزائد إما أن يأكلوه، وهو عين ضررهم إذا كان زائدًا عن الحاجة، فكثير من الأضرار البدنية و الآلام إنما تنشأ من زيادة الطعام و إما أن يتلف عليه، و ذلك فساد. وقد يوجد الأمران.
وقد يتصدق به بعض الناس، لكن الصدقة في هذه الحال لا يكون لها موقع في حق المعطَى ؛ لأنه يعرف أنه لا يُعْطَى إلا ما زهد فيه صاحِبُه، وقد يكون قد اكتفى واستعد لنفسه بطعام ؛ ولا في حق المتصدق ؛ لأن النية غير تامة ؛ لكون الحامل له على الإنفاق خوف تلفه لا الإخلاص المحض.
فإذا سلك الطريق الذي أرشده إليه النبي صلى الله عليه و سلم ، وهو الكيل والتقدير بحسب ما يليق بالحال ، سلم من هذه الأمور.
فهذا الحديث ينبغي أن يكون أصلاً من أصول التربية المنزلية والنفقات العائلية، وأن يكون عليه المعول. فقد بعث صلى الله عليه و سلم بكل أمر فيه صلاح العباد في معاشهم ومعادهم، فأخلاقه وإرشاداته وهديه يغني عن كل شيء. والحمد لله على نعمه. انتهى.(1/47)
[24] حول حديث: اتقواْ فِراسة المؤمن
رجل يسأل عن حديث: "اتقوا فراسة المؤمن؛ فإنه ينظر بنور اللَّه" هل هو حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه و سلم ، ومن رواه، وما معنى الفراسة المذكورة ؟ ونرجو أن تشرحوا لنا شرحا وافيا عن الفراسة، وأنواعها.
الإجابة:
الحديث الذي سألتم عنه رواه الترمذي في "جامعه" الترمذي (3127) وغيره، وهو حديث لا يصح مرفوعا، وإنما هو قول عمرو بن أبي قيس: كان يقال: اتقوا... فذكره. انظر العقيلي (4/129) 100، وقال: حديث غريب. ولفظه: عن أبي سعيد الخدري قال: قال: رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم : "اتقوا فراسة المؤمن؛ فإنه ينظر بنور اللَّه" ، ثم قرأ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ}(101) . هذا حديث غريب، إنما نعرفه من هذا الوجه. وقد روي عن بعض أهل العلم في هذه الآية { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ } قال: للمتفرسين. انتهى (102) .
والفِراسة من التفرس بالشيء، كالتوسم، وهي خاطر يهجم على القلب، ويَثِب عليه وُثُوبَ الأسد على فريسته. هذا أصل اشتقاقها، وهي أنواع متعددة، وتختلف باختلاف الأشخاص، والأحوال، وقوة القلب، وصفائه، وقوة الإيمان، وضعفه، ومنها ما يتعلق بالمتفرس خاصة، ومنها فراسة الحكام والولاة لاستخراج الحقوق لأربابها، وقمع الظلمة.(1/48)
وقد ذكر ابن القيم - رحمه اللَّه - في "الطرق الحكمية" من أنواع الفراسة وأفرادها أشياء عجيبة. وقال في "تاج العروس شرح القاموس" (103) : و الفراسة - بالكسر - اسم من التفرس، وهو التوسم، يقال: تفرس فيه الشيءَ إذا توسمه. وقال ابن القَطَّاع: الفراسةُ بالعينِ إدراكُ الباطن، وبه فسر الحديث: "اتقوا فراسة المؤمن؛ فإنه ينظر بنور اللَّه" . وقال الصاغاني: لم يثبت، قال ابن الأثير يقال بمعنيين: أحدهما: ما دل ظاهر الحديث عليه، وهو ما يوقعه اللَّه تعالى في قلوب أوليائه ؛ فيعلمون أحوال بعض الناس بنوع من الكرامات، وإصابة الظن، والحدس. والثاني: نوع يعلم بالدلائل، والتجارب، والخَلْق، والأخلاق، فتعرف به أحوال الناس، وللناس فيه تآليف قديمة وحديثة.
وقال ابن القيم - رحمه اللَّه تعالى - في "مدارج السالكين" في الكلام على الفراسة (104) : قال تعالى {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ}... فإن الناظر متى نظر في آثار ديار المكذبين، ومنازلهم، وما آل إليه أمرهم، أورثه ذلك فراسة، وعِبرة، وفكرة. وقال تعالى في حق المنافقين {وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}(105) ، فالأول: فراسة النظر والعين، والثاني: فراسة الأذن والسمع. وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه اللَّه - يقول: عَلَّقَ معرفتَه إياهم بالنظر على المشيئة، ولم يعلق تعريفهم بلحن خطابهم على شرطٍ، بل أخبر به خبرا مؤكَّدًا بالقسم، فقال: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}، وهو تعريض الخطاب، وفحوى الكلام، ومغزاه. واللحن ضربان: صواب، وخطأ، فلحن الصواب: نوعان، أحدهما: الفطنة، ومنه الحديث "ولعل بعضَكم أن يكون أَلْْحَنَ بحجته من بعض"(106) ، والثاني: التعريض والإشارة، وهو قريب من الكناية، ومنه قول الشاعر:
وَحَدِيثٍ أَلَذّهُ وَهُوَ مِمَّا يَشْتَهِي السَّامِعُونَ يُوزَنُ وَزْنا(1/49)
مَنْطِقٌ صَائِبٌ وَيَلْحَنُ أَحْْيَا نًا وَخَيْرُ الْحَدِيثِ مَا َكان لَحْنا
والثالث : فساد المنطق في الإعراب. وحقيقته تغيير الكلام عن وجهه، إما إلى خطأ، وإما إلى معنى لم يوضع له اللفظ... فإن معرفة المتكلم، وما في ضميره من كلامه أقربُ من معرفته بسيماه، وما في وجهه. فإن دلالة الكلام على قصد قائله وضميره أظهرُ من السِّيمَاء المرئية. والفراسة تتعلق بالنوعين: بالنظر والسماع. وفي الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اتقوا فراسة المؤمن؛ فإنه ينظر بنور اللَّه" ، ثم تلا قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ}.
والفراسة ثلاثة أنواع:
إيمانية : ... وسببها نور يقذفه اللَّه في قلب عبده، يفرق به بين الحق والباطل،... والصادق والكاذب. وحقيقتها أنها خاطر يهجم على القلب، ينفي ما يضاده، يثب على القلب وُثُوبَ الأسد على الفريسة،... وهذه الفراسة على حسب قوة الإيمان، فمن كان أقوى إيمانا، فهو أَحَدُّ فراسة،... وقال عمرو بن نجيد: كان شاه الكرماني حادَّ الفراسة لا يخطئ، ويقول: من غض بصره عن المحارم، وأمسك نفسه عن الشهوات، وعمّر باطنه بالمراقبة، وظاهره باتباع السنة، وتعوّد أكل الحلال، لم تخطئ فراسته... وقال ابن مسعود (107)- رضي الله عنه- أفرس الناس ثلاثة: العزيز في يوسف، حيث قال لامرأته: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا }(108 ) ، وابنة شعيب حين قالت لأبيها في موسى: {اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}(109) ، وأبو بكر في عمر - رضي اللَّه عنهما- حيث استخلفه، وفي رواية أخرى: وامرأة فرعون، حين قالت: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا}(110).(1/50)
وكان الصديق - رضي الله عنه- أعظم الأمة فراسة، وبعده عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ووقائع فراسته مشهورة، فإنه ما قال لشيء: (أظنه كذا) ، إلا كان كما قال، ويكفي في فراسته موافقتُه رَبَّه في المواضع المعروفة...
وأصل هذا النوع من الفراسة من الحياة و النور، اللَّذَيْنِ يهبهما اللَّه لمن يشاء من عباده ؛ فيحيا القلب بذلك، ويستنير؛ فلا تكاد فراسته تخطئ. قال اللَّه تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا}(111) ...
الفراسة الثانية: فراسة الرياضة، والجوع، والسهر، والتخلي. فإن النفس إذا تجردت عن العوائق صار لها من الفراسة والكشف بِحَسَبِ تجردها، وهذه فراسة مشتركة بين المؤمن والكافر، ولا تدل على إيمان ولا على ولاية، وكثير من الجهال يغتر بها، وللرهبان فيها وقائع معلومة، وهي فراسة لا تكشف عن حق نافع، ولا عن طريق مستقيم، بل كشفها جزئي، من جنس فراسة الولاة، وأصحاب تعبير الرؤيا، والأطباء، ونحوهم. وللأطباء فراسة معروفة، مِن حِذْقهم في صناعتهم، ومَن أحب الوقوف عليها، فليطالع تاريخهم، وأخبارهم. وقريبٌ من نصف الطب فراسة صادقة، يقترن بها تجربة...(1/51)
الفراسة الثالثة : الفراسة الخَلْقية، وهي التي صنف فيها الأطباء وغيرهم واستدلوا بالخَلْق على الخُلُق؛ لما بينهما من الارتباط الذي اقتضته حكمة اللَّه، كالاستدلال بصغر الرأس الخارج عن العادة على صغر العقل، وبكبره، وبسعة الصدر، وبُعْد ما بين جانبيه على سعة خُلق صاحبه، واحتماله، وبسطته، وبضيقه على ضيقه، وبجمود العين وكلال نظرها على بلادة صاحبها، وضعف حرارة قلبه، وبشدة بياضها مع إشرابه بحمرة -وهو الشَّكَل- على شجاعته، وإقدامه، وفطنته، وبتدويرها مع حمرتها وكثرة تقلبها على خيانته، ومكره، وخداعه. ومعظم تعلق الفراسة بالعين ؛ فإنها مرآة القلب، وعنوان ما فيه، ثم باللسان؛ فإنه رسوله وترجمانه. وبالاستدلال بزرقتها مع شقرة صاحبها على رداءته، وبالوحشة التي ترى عليها على سوء داخله وفساد طويته، وكالاستدلال بإفراط الشعر في السبوطة على البلادة، وبإفراطه في الجعودة على الشر، وباعتداله على اعتدال صاحبه.
وأصل هذه الفراسة أن اعتدال الخِلْقَةِ والصورة هو من اعتدال المزاج والروح، وعن اعتدالها يكون اعتدال الأخلاق والأفعال، وبحسب انحراف الخلقة والصورة عن الاعتدال يقع الانحراف في الأخلاق والأعمال، هذا إذا خُلِّيَتِ النفسُ وطبيعتها...
وفراسة المتفرس تتعلق بثلاثة أشياء : بعينه، وأذنه، وقلبه. فعينُه للسيماء والعلامات. وأذُنه للكلام، وتصريحه وتعريضه، ومنطوقه ومفهومه، وفحواه وإشارته، ولحنه وإيمائه، ونحو ذلك. و قلبُه للعبور والاستدلال من المنظور والمسموع إلى باطنه وخفيه، فيَعْبُر إلى ما وراء ظاهره، كعبور النَّقَادِ من ظاهر النقش والسِّكة إلى باطن النقد، و الاطلاع عليه، هل هو صحيح أو زغل، وكذلك عبور المتفرس من ظاهر الهيئة و الدَّل إلى باطن الروح والقلب، فنسبة نقده للأرواح من الأشباح كنسبة نقد الصَّيْرَفِي، ينظر للجوهر من ظاهر السكة والنقد...
وللفراسة سببان:
أحدهما: جودة ذهن المتفرس، وحِدَّةُ قلبه، وحسن فطنته.(1/52)
والثاني : ظهور العلامات والأدلة على المتفرَّس فيه. فإذا اجتمع السببان، لم تكد تخطئ للعبد فراسة، وإذا انتفيا لم تكد تصح له فراسة، وإذا قوي أحدهما وضعف الآخر كانت فراسته بَيْنَ بَيْنَ.
وكان إياس بن معاوية من أعظم الناس فراسة، وله الوقائع المشهورة، وكذلك الشافعي - رحمه اللَّه- وقيل: إن له فيها تآليف. ولقد شاهدت من فراسة شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه اللَّه - أمورا عجيبة، وما لم أشاهده منها أعظم وأعظم. ووقائع فراسته تستدعي سِفرا ضخما... إلى آخر كلام ابن القيم في "مدارج السالكين" .
الطهارة [25] حكم بول الغلام و الجارية
سمعنا في الحديث أنه يُنضَحُ من بول الغلام ويُغْسَلُ من بول الجارية، فهل الحديث صحيح، وما معنى النضح، وما الفرق بينه وبين الغَسل، وما حكمة التفريق بين بول الغلام وبول الجارية ؟
الإجابة :
الغلام هو الطفل الصغير الرضيع الذي لم يأكل الطعام لشهوة. والجارية هي الطفلة الصغيرة. وتطهير بول الطفل بنضحه، وهو: رَشه وغَمْرُه بالماء، وإن لم ينفصل الماء عن المحل. وقيئه مثل بوله، بل أخف، فيكفي نضحه بطريق الأولى. وأما بول الطفلة وقيئها فيغسل، كبول الكبير وقيئه.
والحديث الذي ذكرتم حديث صحيح، ثبت في "الصحيحين" والسنن و المسانيد عن أم قيس بنت محصن: "أنها أتت بابن لها صغير، لم يأكل الطعام إلى النبي صلى الله عليه و سلم ، فبال على ثوبه، فدعا بماء صلى الله عليه و سلم فنضحه ولم يغسله" (112).
وعن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بول الغلام الرضيع يُنضح، وبول الجارية يُغْسَل"(113).
قال قتادة : هذا ما لم يَطْعَمَا، فإن طَعما غُسلا جميعا. رواه الإمام أحمد، والترمذي، وقال: حديث حسن. وصححه الحاكم وقال: هو على شرط الشيخين.(1/53)
وعن أم الفضل، قالت: بال الحسين بن علي في حجر النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلت: يا رسول اللَّه، أعطني ثوبك، والبس ثوبا غيره حتى أغسله، فقال: "إنما ينضح من بول الذكر، ويغسل من بول الأنثى" . رواه أحمد وأبو داود، وقال الحاكم: هو صحيح(114).
وفي الباب أحاديث أخرى، ذكرها ابن القيم في "تحفة المودود" ، وقال: وقد ذهب إلى القول بهذه الأحاديث جمهور أهل العلم، من أهل الحديث والفقهاء، لكن بشرط أنه طفل يرضع، لم يأكل الطعام لشهوة، فإن أكل الطعام لشهوة ؛ فحكم بوله كبول الكبير. ثم قال ابن القيم: وقد فرق بين الغلام والجارية بعدة فوارق:
أحدها: أن بول الغلام يتطاير وينتشر ها هنا وها هنا، وبول الجارية يقع في موضع واحد، فلا يشق غسله.
الثاني: أن بول الجارية أنتن من بول الغلام؛ لأن حرارة الذكر أقوى، وهي تؤثر في إنضاج البول وتخفيف رائحته.
الثالث: أن حمل الغلام أكثر من حمل الجارية؛ لتعلق القلوب به، كما تدل عليه المشاهدة، فإن صحت هذه الفروق، وإلا فالمعول على تفريق السنة. انتهى.
وفي "كشاف القناع" : أن بعضهم ذكر أن الغلام أصل خلقته من الماء والتراب، والجارية أصل خلقتها من اللحم والدم، وقد أفادها ابن ماجه في "سننه" ، وهو غريب. انتهى. واللَّه أعلم.
[26] حكم استعمال المانوكير
إحدى النساء تسأل عن حكم استعمال صباغ المانوكير الذي تطلى به الأظفار، وما حكم وضوئها في هذه الحال ؟
الإجابة:(1/54)
إذا كان لهذا الصباغ -المسمى المانوكير- جِرم يتكاثف على الأظافر، ويمنع وصول الماء إلى البشرة عند الوضوء والغسل، فلا يحل للمرأة التي تصلي أن تضعه على أظفارها؛ لأنه يؤدي إلى الإخلال بصلاتها، من ناحية عدم إيصال الماء إلى البشرة. فإن فعلت ذلك فعليها إزالته عند الوضوء والغسل الواجب؛ حتى يصل الماء إلى بشرة الظفر، فإن لم تزله وتوضأت أو اغتسلت وهو متكاثف على أظفارها فصلاتها غير صحيحة؛ لأن من شروط الصلاة كمال الطهارة، ومن شروط الطهارة إزالة ما يمنع وصول الماء إلى البشرة.
وكل ما أدى إلى إبطال الصلاة فهو حرام شرعا. وهذا النوع من الصباغ مع ما فيه من الإخلال بالطهارة والصلاة مكروه على كل حال؛ ولهذا قال الفقهاء: ويكره للمرأة نقشٌ، وتكتيبٌ، وتقميعٌ، وهو الذي يكون في رءوس الأصابع، ويقال له: التطريف. رواه المروزي عن عمر. بل تغمس يدها في الخضاب غمسا. نص عليه الإمام أحمد. قال في "الإفصاح" : كره العلماء للمرأة أن تسود شيئا، بل تخضب بأحمر، وكرهوا النقش. قال أحمد: لتغمس يدها غمسا.
وبهذا يعلم أن استمرار النساء على استعمال المانوكير - من المناكير؛ لأنه يخل بطهارتهن وصلواتهن، زيادة على أنه يسد المسام فيؤثر على صحتها، فيتعين على كل من نصحت نفسها اجتنابُه، وعلى ولي أمر المرأة نهيها عنه وزجرها إن ارتكبته؛ لقوله تعالى {يَاَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ نَارًا}(115 ). واللَّه المستعان.
[27] حكم غمس اليد في الإناء قبل غسلها ثلاثا بعد القيام من نوم الليل
سائل يسأل عن حديث النهي عن غمس اليد في الإناء بعد القيام من نوم الليل قبل أن يغسلهما ثلاثا. هل ذلك ينجس الماء أو يسلبه الطهورية، وما الحكمة في ذلك؟
الإجابة:(1/55)
الحديث صحيح، رواه البخاري ومسلم وغيرهما(116) عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه قبل أن يدخلهما في الإناء ثلاثا؛ فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده" .
والحديث يدل على النهي عن غمس اليدين في الإناء بعد القيام من نوم الليل قبل غسلهما ثلاثا. فإن فعل الإنسان ذلك، بأن غمسهما ناسيا أو متعمدا، عالما أو جاهلا : فهل يعتبر الماء نجسا، أو طاهرا غير مطهر، أو أنه باق على طهوريته ؟
المشهور من المذهب أنه طاهر غير مطهر، فإن لم يجد غيره استعمله، ثم تيمم احتياطا.
والقول الثاني في المذهب: أن الماء باق على طهوريته ولو أدخل يديه فيه، وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها الخرقي وأبو محمد وغيرهما، وهو قول أكثر الفقهاء، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من الأصحاب، وشيخنا ابن سعدي.
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في جواب له: إن الماء لا ينجس بذلك، بل يجوز استعماله عند جمهور العلماء، كمالك، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد في رواية عنه(117).
وقال(118) : والحكمة في غسل اليد، فيها ثلاثة أقوال:
الأول : خوف النجاسة، مثل أن تمرَّ يده على موضع الاستجمار، لاسيما مع العرق ونحو ذلك.
الثاني : أنه من باب التعبد؛ فنسلم به، ولو لم نعقل معناه.
الثالث : أن ذلك لشيء معنوي ؛ وهو أن الشيطان يبيت على يد النائم ويلامسها، كما في "الصحيحين"(119 ) ،عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا استيقظ أحدكم من منامه فتوضأ، فليستنثر ثلاثا؛ فإن الشيطان يبيت على خيشومه" . فعلم أن ذلك الغسل ليس مسبَّبًا عن النجاسة، بل هو مُعَلَّلٌ بمبيت الشيطان على خيشومه. فتكون هذه العلة من العلل المؤثرة التي شهد لها النص بالاعتبار.اهـ. ملخصا.(1/56)
وقال النووي في " شرح مسلم "(120) : وفي قوله صلى الله عليه و سلم : "أين باتت يده" استحباب استعمال ألفاظ الكنايات فيما يُتَحَاشى التصريح به؛ إذ لم يقل: فلعل يده وقعت في دبره، أو على ذكره، أو نجاسة، أو نحو ذلك، وإن كان هذا هو المقصود. ونظائر ذلك في القرآن والأحاديث كثيرة. هذا إذا كان السامع يفهم بالكناية المقصود، فإن لم يفهمه فلا بد من التصريح؛ لنفي اللبس، وعليه يحمل ما جاء مصرحا به من ذلك. واللَّه أعلم.
[28] طهارة سؤر الهرة
عندنا هرة ملازمة لنا في البيت، وكثيرا ما تشرب من آنيتنا، وتأكل منها، وتلعقها بلسانها إذا بقي فيها فضلة طعام، فهل هي طاهرة، وسؤرها طاهر، أو نجسة، مع أنها تأكل من خشاش الأرض النجس، والنفس تكرهها لهذا السبب ؟
الإجابة:
الهرة طاهرة، وسؤرها طاهر، فإذا شربت من إناء، أو أكلت منه، وبقي في الإناء بقية من الشراب، أو الطعام فهو طاهر غير مكروه. وردت بذلك الأحاديث، وذكرها الفقهاء - رحمهم اللَّه - في كتبهم.
فقد روى أهل السنن الأربعة من حديث كبشة بنت كعب بن مالك- وكانت تحت بعض ولد أبي قتادة - أن أبا قتادة -رضي الله عنه- دخل عليها، فسكبت له وَضُوءًا، فجاءت هرة، فشربت منه، فأصغى لها الإناء حتى شربت. قالت كبشة: فجعلت أنظر إليه. فقال: أتعجبين يا ابنة أخي ؟ فقلت: نعم، فقال: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم والطوافات"(121).
والطوافون: الخدم، والطوافات: الخادمات. فجعله صلى الله عليه وسلم بمنزلة المماليك في قوله تعالى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ}(122).
ومنه قول إبراهيم النخعي: إنما الهرة كبعض أهل البيت. كذا نقله الزمخشري.(1/57)
وقال ابن أبي عمر في "الشرح الكبير"(123) على "المقنع" - المطبوع مع "المغني" -: سؤر الهرة وما دونها في الخلقة، كابن عرس، والفأرة، ونحو ذلك من حشرات الأرض- طاهر، لا نعلم فيه خلافا في المذهب: أنه يجوز شربه، والوضوء به، ولا يكره. هذا قول أكثر أهل العلم، من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم، إلا أبا حنيفة، فإنه كره الوضوء بسؤر الهر، فإن فعل أجزأه.
ورويت كراهته عن ابن عمر، ويحيى الأنصاري، وابن أبي ليلى. وقال أبو هريرة : يغسل مرة أو مرتين، وهو قول ابن المسيب، ونحوه قول الحسن، وابن سيرين؛ لما روى أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال: "إذا ولغت فيه الهر يغسل مرة"(124) . وقال طاوس: يغسل سبعا كالكلب. ولنا ما رُوي عن كبشة بنت كعب ابن مالك...، ثم ساقه بمثل ما تقدم، ثم قال: دل بلفظه على نفي الكراهة عن سؤر الهرة، وبتعليله على نفي الكراهة عما دونها مما يطوف علينا. وعن عائشة أنها قالت: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إنها ليست بنجس؛ إنما هي من الطوافين عليكم" ، وقد رأيتُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يتوضأ بفضلها. رواه أبو داود (125) وحديثهم ليس فيه تصريح بنجاستها، مع صحة حديثنا، واشتهاره.
وإذا أكلت الهرة نجاسة، ثم شربت من مائع بعد الغيبة، فهو طاهر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نفى عنها النجاسة، وتوضأ بفضلها، مع علمه بأكلها النجاسات. وإن شربت قبل الغيبة، فقال القاضي وابن عقيل: ينجس ؛ لأنه مائع وردت عليه نجاسة متيقنة.
وقال أبو الحسن الآمدي: ظاهر قول أصحابنا طهارتُه؛ لأن الخبر دل على العفو عنها مطلقا؛ وعلل بعدم إمكان التحرز عنها، ولأننا حكمنا بطهارتها بعد الغيبة في مكان لا يحتمل ورودها على ماء كثير يُطَهِّر فاها، ولو احتمل ذلك فهو شك لا يزيل يقين النجاسة؛ فوجب إحالة الطهارة على العفو عنها، وهو شامل لما قبل الغيبة. انتهى.
[29] طهارة مَني الرجل(1/58)
سائل يسأل عن مَني الآدمي: هل هو طاهر، أو نجس، سواء كان الإنسان قد استنجى بالماء، أو استجمر بأحجار طاهرة، مستكملا لشروط الاستجمار الشرعي، أو كان استجماره بأحجار غير طاهرة، أو لم يستكمل ما يلزم للاستجمار الشرعي. نرجوكم إيضاح الجواب في ذلك، وبسط كلام العلماء في ذلك. أثابكم اللَّه.
الإجابة:
الحمد للَّه وحده. المشهور من المذهب أن مَني الآدمي طاهر؛ لقول عائشة: كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم يذهب فيصلي فيه. أخرجه مسلم(126). وقال ابن عباس: امسحه عنك بإذخرة أو خرقة؛ فإنما هو بمنزلة المخاط والبصاق. رواه سعيد، ورواه الدارقطني مرفوعا وموقوفا(127). ولو خرج المني بعد استجمار؛ لعموم ما سبق.
قال في "الإنصاف"128: سواء كان من احتلام،أو جماع، من رجل، أو امرأة، لا يجب فيه فرك ولا غَسل.اهـ... وإنما يستحب فرك يابسه، وغسل رطبه استحبابا.
ومن جواب الشيخ عبد اللَّه بن عبد الرحمن أبا بطين في هذه المسألة: أما القول في طهارة المني فهو مذهب أحمد والشافعي، لكن الشافعية يشترطون كون خروجه بعد الاستنجاء بالماء، والحنابلة يقولون بطهارته ولو كان خروجه بعد الاستجمار بالحجر ونحوه، فإن لم يتقدمه استجمار شرعي ففي النفس منه شيء، ولم أر من صرح بحكمه والحالة هذه. واللَّه أعلم. انتهى.
وقال الإمام أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد الحفيد المالكي -المتوفى سنة 595هـ- في "بداية المجتهد" (129) : اختلفوا في المني: هل هو نجس أم لا ؟ فذهبت طائفة، منهم مالك وأبو حنيفة إلى أنه نجس. وذهبت طائفة إلى أنه طاهر، وبهذا قال الشافعي وأحمد وداود.
وسبب اختلافهم فيه شيئان:
أحدهما: اضطراب الرواية في حديث عائشة؛ وذلك أن في بعضها: كنت أغسل ثوب رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم من المني، فيخرج إلى الصلاة، وإن فيه لبقعَ الماء.130
وفي بعضها: أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه و سلم .(1/59)
وفي بعضها: فيصلي فيه. خرّج هذه الزيادة مسلم.
والسبب الثاني: تردد المني بين أن يُشَبَّه بالأحداث الخارجة من البدن، وبين أن يشبه بخروج الفضلات الطاهرة، كاللبن وغيره.
فَمَنْ جَمَعَ الأحاديث كلها؛ بأن حمل الغَسل على باب النظافة، واستدل من الفرك على الطهارة، على أصله: في أن الفرك لا يطهر نجاسة، وقاسه على اللبن وغيره من الفضلات الشريفة- لم يره نجسا. ومن رجّح حديث الغسل على الفرك وفهم منه النجاسة، وكان بالأحداث عنده أشبه منه مما ليس بحدث- قال: إنه نجس؛ وكذلك أيضا من اعتقد أن النجاسة تزول بالفرك، وقال: الفرك يدل على نجاسته كما يدل الغسل. وهو مذهب أبي حنيفة.
وعلى هذا، فلا حجة لأولئك في قول عائشة -رضي الله عنها-: (فيصلي فيه) بل فيه حجة لأبي حنيفة في أن النجاسة تزال بغير الماء، وهو خلاف قول المالكية. انتهى. واللَّه سبحانه و تعالى أعلم.
باب الآنية [30] حكم استعمال آنية أهل الكتاب
سائل يسأل عن جواز استعمال آنية أهل الكتاب التي يشربون بها الخمور، ويأكلون فيها لحوم الخنازير، ونحوها.
الإجابة:
قال أبو داود في "سننه" (131): "باب: الأكل في آنية أهل الكتاب" ثم ساق بسنده، عن أبي ثعلبة الخشني أنه سأل رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم : إنا نجاور أهل الكتاب، وهم يطبخون في قدورهم الخنزير ويشربون في آنيتهم الخمر؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "إن وجدتم غيرها فكلوا فيها واشربوا، وإن لم تجدوا غيرها فارْحَضُوها بالماء وكلوا واشربوا" .
وأخرج الشيخان (132) من حديث أبي إدريس الخولاني عن أبي ثعلبة الخشني مرفوعًا: "فإن وجدتم غير آنيتهم فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا فاغسلوها ثم كلوا فيها" .
باب الاستنجاء [31]هل يُستنجى من خروج الريح ؟
سائل يسأل عن الوضوء، والاستنجاء، وإذا أحدث الرجل فهل يجب عليه غسل عورته، أو يكتفي بغسل أطرافه فقط؟
الإجابة:(1/60)
الوضوء غسل الأعضاء الأربعة: الوجه، واليدين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين على وجه الخصوص، وأما غسل الفرج فلا يسمى وضوءا، وإنما يسمى استنجاء.
وهذا الرجل إن كان حَدَثُه بخروج الريح فقط فلا يجب عليه استنجاء ولا استجمار، وإنما يكتفي بالوضوء؛ وهو غسل أطرافه.
وإن كان حَدَثُه بخروج البول وحده وجب عليه أن يستجمر بأحجار ونحوها، أو يستنجيَ بالماء في موضع الخارج فقط، وهو الذكَر دون الدبر، فلا يجب عليه غسل الدبر إلا إن خرج منه خارج غير الريح، ولهذا قال الفقهاء: ويجب الاستنجاء لكل خارج إلا الريح.
وقد رأيت لابن القيم -رحمه اللَّه- كلاما في "إعلام الموقعين" يتعلق بهذا، أحببت نقله هنا؛ إتماما للفائدة. قال:
وأما إيجابه لغسل المواضع التي لم يخرج منها الريح، وإسقاطه غَسْلَ الموضع الذي خرجت منه فما أوفقَه للحكمة! وما أشده مطابقة للفطرة! فإن حاصل السؤال: لمَ كان الوضوء في هذه الأعضاء الظاهرة دون باطن المقعدة، مع أن باطن المقعدة أولى بالوضوء من الوجه واليدين والرجلين؟ وهذا سؤال معكوس من قلب منكوس، فإن من محاسن الشريعة أن كان الوضوء في الأعضاء الظاهرة المكشوفة، وكان أحقُّها به إمامَها ومقدمَها في الذكْر والفعل وهو الوجه الذي نظافته ووضاءته عنوان على نظافة القلب، وبَعده اليدان، وهما آلة البطش، والتناول، والأخذ، فهما أحق الأعضاء بالنظافة والنزاهة بعد الوجه. ولما كان الرأس مجمع الحواس، وأعلى البدن وأشرفه، كان أحق بالنظافة، لكن لو شرع غسله في الوضوء؛ لعظمت المشقة، ولاشتدت البلية، فشرع مسح جميعه، وإقامة المسح مقام غسله؛ تخفيفا ورحمة، كما أقام المسح على الخفين مقام غسل الرجلين.(1/61)
ولعل قائلا يقول: وما يجزئ مسح الرأس والرجلين من الغسل والنظافة ؟ ولم يعلم هذا القائل أن إمساس العضو بالماء -امتثالا لأمر اللَّه- وطاعة له وتعبدا، يؤثر في نظافته وطهارته، ما لا يؤثر غسله بالماء والسدر بدون هذه النية، والتحاكم في هذا إلى الذوق السليم، والطبع المستقيم، كما أن مَعْكَ الوجه -أي دلكه بالتراب- امتثالا للأمر، وطاعة، وعبودية -تكسبه وضاءة، ونظافة، وبهجة تبدو على صفحاته للناظرين. ولما كانت الرِّجلان تمسان الأرض غالبا، وتباشر من الأدناس ما لا تباشره بقية الأعضاء، كانت أحق بالغسل، ولم يوفَّق للفهم عن اللَّه ورسوله من اجتزأ بمسحهما من غير حائل (133) ، فهذا وجه اختصاص هذه الأعضاء بالوضوء من بين سائرها من حيث المحسوس.
وأما من حيث المعنى، فهذه الأعضاء هي آلات الأفعال التي يباشر بها العبدُ ما يريد فعلَه، وبها يُعصى اللَّه سبحانه، ويطاع؛ فاليد تبطش، والرِِّجل تمشي، والعين تنظر، والأذن تسمع، واللسان يتكلم، فكان في غسل هذه الأعضاء؛ امتثالا لأمر اللَّه وإقامة لعبوديته ما يقتضي إزالة ما لحقها من درن المعصية ووسخها.
وقد أشار صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى بعينه، حيث قال في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في "صحيحه" (134) عن عمرو ابن عبسة قال: قلت: يا رسول اللَّه، حدثني عن الوضوء، قال: "ما منكم من رجل يقرب وضوءه فيتمضمض، ويستنشق، فينتثر، إلا خرت خطايا وجهه وفيه وخياشيمه. ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلى المرفقين، إلا خرت خطايا يديه من أنامله مع الماء، ثم يمسح رأسه، إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين، إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء، فإن هو قام فصلى، فحمد اللَّه، وأثنى عليه، ومجده بالذي هو له أهل، وفَرَّغَ قَلْبَه للَّه، إلا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه" .(1/62)
[32] لا يجوز كشف العورة للاستنجاء أمام الناس
سائل يسأل عن حكم صنيع هؤلاء الذين يكشفون عوراتهم للاستنجاء أمام بعض المساجد، على مرأى من بعضهم، ومشاهدة المارين بالشارع: من رجال ونساء وأطفال، وليس هناك شيء يسترهم من أعين الناس.
الإجابة:
ستر العورة واجب شرعا، وكشفها على هذه الصفة التي نَوَّهْتَ عنها حرام شرعا، وقبيح مذموم عرفا، وأغلب من يفعل هذا ليس عندهم حياء، ولا مبالاة، مع ما لديهم من الجهل.
والجهة المختصة المعنية بشئون المساجد وبرك المياه مسئولة عن هذا، فعليها -وفقها اللَّه- اتخاذ ما يستر هؤلاء المساكين عن أعين المارة، ولا يحل ترك الناس على هذه الحالة، لاسيما والحكومة -أيدها اللَّه- لا تدخر جهدا في كل ما من شأنه رفع مستوى المجتمع، خصوصا ما يتعلق بالأمور الدينية.
إذا عرف هذا، فالمتعين على هؤلاء أن يهتموا بهذا الأمر، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. فلو أن أحدهم أَعَدَّ له إناءً، أخذ به من الماء، ثم يتنحى عن الناس فيستنجي، لكان أولى، بل هو المتعَيَّن، فإن لم يتمكن، فهناك مخرج قريب، وحل شرعي سهل ؛ وهو ما أباحته هذه الشريعة السمحة من الاستجمار بالأحجار، فإذا استجمر بثلاثة أحجار طاهرة نقية ليس فيها عظم ولا روث، وأزال بها أثر الخارج، وكان لم يتعد الموضع المعتاد - أجزأ ذلك عن الاستنجاء بالماء، ولو كان على نهر جار، وليس عنده أحد يخشى اطلاعه على عورته، وهذا باتفاق العلماء.
أما إِتْبَاعُ الحجارةِ الماءَ فهو أفضل، وليس بِمُتَعَيَّن.
وفي مسألتنا هذه يتعين عليه أن يكتفي بالأحجار، ولا يكشف عورته أمام الناس، ولا نعلم في هذا خلافا.(1/63)
ومن جواب لشيخ الإسلام إمام الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه اللَّه- قال: وأنا أضرب لك مثلا بمسألة واحدة ؛ وهي مسألة الاستجمار بالأحجار، ثلاثا فصاعدا، من غير عظم ولا روث، وهو كاف مع وجود الماء عند الأئمة الأربعة وغيرهم، وهو إجماع الأمة، لا خلاف في ذلك. ومع هذا، فلو يفعله أحد، لصار هذا عند الناس أمرا عظيما، ولانتهوا عن الصلاة خلفه، وبَدَّعُوه مع إقرارهم بذلك؛ لأجل العادة. انتهى. واللَّه أعلم.
باب السواك وسنن الوضوء [33]صلاة بسواك خير من سبعين صلاة بغير سواك
سائل يسأل عن حديث: " صلاة بسواك أفضل من سبعين صلاة بغير سواك " : من رواه، وهل هو صحيح الإسناد ؟ وعن كلام العلماء على توجيه تضعيف الصلاة إلى هذا العدد. نرجوكم إيضاح الجواب، وفقكم اللَّه للصواب.
الإجابة:(1/64)
الحمد لله وحده. هذا الحديث ذكره العجلوني في "كشف الخفاء" (2/26) . فقال: "صلاة بسواك خير من سبعين صلاة بغير سواك" . رواه البيهقي(135) . عن عائشة مرفوعا، وقال: إنه غير قوي الإسناد، و ساقه أيضا من طريق الواقدي، عن عائشة أيضا، بلفظ: "الركعتان بعد السواك أحب إلي من سبعين ركعة قبل السواك" وضعفه بالواقدي (136) ، وعزاه في "الدرر" للحارث في "مسنده" ، ولأبي يعلى، والحاكم عن عائشة (137) ، وللديلمي(138) عن أبي هريرة، كلهم بلفظ: "صلاة بسواك أفضل من سبعين صلاة بلا سواك" . اهـ. ورواه الحارث بن أبي أسامة في "مسنده" (139) من رواية ابن لهيعة عن أبي الأسود بلفظ: " صلاة على إثر سواك أفضل من سبعين صلاة بغير سواك " . وأخرجه ابن خزيمة وغيره، كأحمد والبزار والبيهقي (140) من طريق ابن إسحاق، قال: وذكره الزهري عن عروة بلفظ: "فضل الصلاة التي يستاك لها على الصلاة التي لا يستاك لها سبعون ضعفا" . وتوقف ابن خزيمة والبيهقي في صحته؛ خوفا من أن يكون من تدليسات ابن إسحاق وأنه لم يسمعه من الزهري (141) ، لاسيما وقد قال الإمام أحمد: إنه إذا قال: (وذَكَر) فَلمْ يَسْمعْه، وانتقد بذلك تصحيح الحاكم له وقوله: إنه على شرط مسلم. ورواه أبو نعيم من حديث الحميدي عن الزهري، ورجاله ثقات. ورواه ابن عدي في "كامله" (142) عن أبي هريرة بلفظ: "ركعتين في إثر سواك أفضل من خمس وسبعين ركعة بغير سواك" . وعند أبي نعيم بسند جيد عن ابن عباس بلفظ: "لأن أصلي ركعتين بسواك أحب إلي من أن أصلي سبعين ركعة بغير سواك" . قال في "المقاصد"(143) : وفي الباب عن أنس، وجابر، وابن عمر، وأم الدرداء، وجبير بن نفير مرسلا، كما بينته في بعض التصانيف، وبعضها يعتضد ببعض؛ و لذا أورده الضياء في "المختارة" من جهة بعض هؤلاء، وقول ابن عبد البر في "التمهيد" -عن ابن معين-: إنه حديث باطل، هو بالنسبة لما وقع له من طرقه. اهـ. وقال ابن الغرس: الذي فهمته من كلامهم أنه(1/65)
ضعيف، أو حسن لغيره.انتهى من "الكشف" "كشف الخفاء" (144) .
وقال ابن القيم -رحمه اللَّه- في كتاب "المنار المنيف في الصحيح و الضعيف" : سئلت عن حديث "صلاة بسواك أفضل من سبعين صلاة بغير سواك" ، وكيف يكون هذا التضعيف ؟ فأجاب بأن هذا الحديث قد روي عن عائشة - رضي اللَّه عنها- عن النبي صلى الله عليه و سلم . وهو حديث لم يرد في "الصحيحين" ، ولا في الكتب الستة، ولكن رواه الإمام أحمد، و ابن خزيمة و الحاكم في "صحيحيهما" ، والبزار في "مسنده" ، وقال البيهقي: إسناده غير قوي؛ وذلك أن مداره على محمد بن إسحاق عن الزهري، ولم يصرح ابن إسحاق بسماعه منه، بل قال: ذكر الزهري عن عروة عن عائشة -رضي اللَّه عنها -قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "تفضل الصلاة التي يُستاك لها على الصلاة التي لا يستاك لها سبعين ضعفا" ، هكذا رواه الإمام أحمد، وابن خزيمة في "صحيحه" إلا أنه قال: إن صح الخبر.(1/66)
فهذا حال هذا الحديث. وإن ثبت فله وجه حسن؛ وهو أن الصلاة بالسواك سنة، والسواك مرضاة للرب، وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم شأنه، وقال: "لولا أن أَشُقَّ على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" (145) ، وأخبر أنه "مرضاة للرب مطهرة للفم" (146) ، وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "أكثرت عليكم في السواك" ، رواه البخاري (147) ، وفي "مسند أحمد" عن التميمي قال: سألت ابن عباس عن السواك، فقال: ما زال النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا به حتى خشينا أن ينزل عليه فيه (148) ، وفي لفظ: "أمرت بالسواك حتى خشيت أن ينزل عَلَيَّ به وَحْيٌ"(149). وقال تمام ابن العباس قال الرسول صلى الله عليه وسلم : "ما لي أراكم تأتوني قلحا ؟! استاكوا، لولا أن أشق على أمتي لفرضت عليهم السواك كما فرضت عليهم الوضوء" (150) ، وقال: "عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك..."(151) . الحديث. فجعل السواك من الفطرة. وقال عبد اللَّه بن حنظلة ابن أبي عامر: إن رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم أُمر بالوضوء لكل صلاة، طاهرا أو غير طاهر، فلما شق ذلك عليه أُمِرَ بالسواك لكل صلاة(152). وعن علي قال: أمرنا بالسواك، وقال: إن العبد إذا قام يصلي، أتاه المَلَكُ، فقام خلفه يستمع القرآن ويدنو، فلا يزال يستمع ويدنو حتى يضع فاه على فيه، فلا يقرأ آية إلا كانت في جوف المَلَك (153).(1/67)
وكان النبي صلى الله عليه وسلم من رغبته في السواك يستاك إذا قام من نوم الليل (154) ، وإذا دخل بيته (155) ، وإذا صلى، واستاك عند موته وهو في السياق(156). وقال سفيان: عن محمد بن إسحاق، عن أبي جعفر، عن جابر بن عبد اللَّه -رضي اللَّه عنهما- قال: كان السواك من أذن النبي صلى الله عليه وسلم موضعَ القلم من أذن الكاتب(157) وفي "سنن النسائي" عن ابن عباس -رضي اللَّه تعالى عنهما- قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم يصلي ركعتين ركعتين، ثم ينصرف، فيستاك (158) ، وهذا في صلاة الليل، ولما بات ابن عباس عند خالته ميمونة، قال: فقام صلى الله عليه وسلم ، فتوضأ، وصلى ركعتين، ثم ركعتين... و كان يستاك لكل ركعتين.
وفي "جامع الترمذي" عن أبي سلمة قال: كان زيد بن خالد الجهني يشهد الصلوات في المسجد، وسواكه على أذنه موضع القلم من أذن الكاتب، لا يقوم إلى الصلاة إلا استَن (159) . وهو حديث حسن صحيح . و في "الموطأ" (160) عن ابن شهاب الزهري عن ابن السباق أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "عليكم بالسواك" . وقد روى أبو نعيم من حديث عبد اللَّه بن عمرو ابن حلحلة و رافع بن خديج قالا: قال رسول اللَّه صلى الله عليه و سلم السواك واجب، وغسل الجمعة واجب على كل مسلم" ويشهد لهذا الحديث ما رواه مسلم في "صحيحه" من حديث أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه- أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "غسل يوم الجمعة على كل محتلم، وسواك، ويمس من الطيب ما قَدَر عليه" (161).(1/68)
وإذا كان هذا شأن السواك وفضله، وحصول رضا الرب به، وإكثار النبي صلى الله عليه وسلم على الأمة فيه، ومبالغته فيه حتى عند وفاته، وقبض نفسه الكريمة صلى الله عليه وسلم -لم يمتنع أن تكون الصلاة التي يُسْتَاكُ لها أحبَّ إلى اللَّه من سبعين صلاة، وإذا كان ثواب السبعين أكثر فلا يلزم من كثرة الثواب أن يكون العمل الأكثر ثوابا أحب إلى اللَّه تعالى من العمل الذي هو أقل منه، بل قد يكون العمل الأقل أحب إلى اللَّه تعالى، وإن كان الكثير أكثر ثوابا. وهذا كما في "المسند" عنه صلى الله عليه و سلم قال. " دم عفراء أحب إلي من دم سوداوين" (162) يعني في الأضحية.
كما أن ذبح الشاة الواحدة يوم النحر أحب إلى اللَّه من الصدقة بأضعاف أضعاف ثمنها، وإن كثر ثواب الصدقة. وكذلك قراءة سورة بتدبر، ومعرفة، وتفهم، وجمع القلب عليها أحب إلى اللَّه تعالى من قراءة ختمة، سردًا وهَذًّا، وإن كثر ثواب هذه القراءة. وكذلك صلاة ركعتين يُقبِل العبدُ فيهما على اللَّه تعالى بقلبه وجوارحه، ويفرغ قلبه كله لله فيهما- أحب إلى اللَّه تعالى من مائتي ركعة خالية من ذلك، وإن كثر ثوابهما عددا. ومن هذا: "سبق درهم مائة ألف درهم" (163).
فالعمل اليسير الموافق لمرضاة الربّ وسُنّة رسوله صلى الله عليه و سلم أحب إلى اللَّه تعالى من العمل الكثير إذا خلا عن ذلك، أو عن بعضه؛ ولهذا قال اللَّه تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}(164) . فهو -سبحانه وتعالى- إنما زين الأرض بما عليها ليَبْلُوَ عبادَه: أيهم أحسَنُ عملاً، لا أَكثرُ عملا، والعمل الأحسن: هو الأخلص والأصوب، وهو الموافق لمرضاته ومحبته، دون الأكثر الخالي من ذلك...(1/69)
إذا عرفت ذلك فلا يمتنع أن تكون الصلاة التي فَعَلَها فاعلُها على وجه الكمال، حتى أتى بسواكها الذي هو مطهرة لمجاري القرآن وذكرِ اللَّه، ومرضاةٌ للرب، واتباع للسنة ؛ والحرص على حفظ هذه الحرمة الواحدة التي أكثر النفوس تهملها، ولا تلتفت إليها، حتى كأنها غير مشروعة، ولا محبوبة، لكن هذا المصلي اعتادها، فحافظ عليها، وأتى بها ؛ توددا وتحببا إلى اللَّه تعالى، و اتباعا لسنة رسوله صلى الله عليه و سلم فلا يبعد أن تكون صلاة هذا أحب إلى اللَّه من سبعين صلاة تجردت عن ذلك. واللَّه أعلم(165) . اهـ. من المنار المنيف مختصرا.
[34] هل الاستياك باليسار أو باليمين ؟
هل الأفضل أن يتسوك الإنسان بيده اليمنى، أو يجعله بيده اليسرى ؟
الإجابة:
المشهور من المذهب أن يستاك بيساره، كما يستنثر بها، وفيه قول آخر أنه يستاك بيمينه.
قال الشيخ تقي الدين(166) : ما علمت أحدا خالف في كونه باليسرى إلا الجد - يعني جده المجد بن تيمية- فإنه قال: يستاك باليمنى ؛ لحديث عائشة : كان صلى الله عليه و سلم يعجبه التيمن : في تنعله، وترجله، وطهوره، وفي شأنه كله (167).
وقال في "الفروع"(168) : ويستاك بيساره، نقله حرب، قال شيخنا: ما علمت إماما خالف فيه، كاستنثاره.
وذكر صاحب: "المحرر" في الاستنجاء بيمينه: يستاك بيمينه. اهـ.
وقال أبو بكر الجُرَاعي الحنبلي في منظومته في السواك:
وباليمين اقبضْ أو اليسار فعندنا فيه الخلافُ جار
واللَّه أعلم.
باب فروض الوضوء و صفته [35] حكم الوضوء بفضل ماء الغُسل
سائل يسأل عن حكم وضوء الرجل بالماء الفاضل من اغتساله.
الإجابة:
إذا كان الماء الباقي من اغتساله طَهُورًا لم يتغير، فلا بأس من التوضؤ به و لا حرج. وإنما الذي ورد هو نهي الرجل أن يتوضأ بفضل طَهور المرأة (169) وهو حديث متكلم فيه. واللَّه أعلم.
[36] حكم الوضوء بفضل طَهور المرأة
سائل يسأل عن جواز الوضوء ببقية الماء الفاضل من وَضوء المرأة .
الإجابة:(1/70)
هذه المسألة فيها قولان للعلماء، وهما روايتان عن الإمام أحمد.
فالمشهور أنه لا يرفع حدث الرجل، مع كونه يرفع حدث المرأة وحدث الصبي الذي لم يبلغ. ويزيل النجاسات كلها مطلقا، سواء ما تعلق منها بالرجل، وغيره. واحتجوا بحديث ورد في ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طَهور المرأة (170) رواه أبو داود وغيره، وحسنه الترمذي، وصححه ابن حبان.
وهذا من مفردات المذهب. قالوا: ويشترط لذلك أن يكون الماء يسيًرا، وأن تخلو به المرأة عند استعماله، فلا يحضرها أحد حتى تنتهي، وأن تكون المرأة مكلفة، وأن تتطهر منه طهارة كاملة عن حدث. فإن اختل شرط منها فلا بأس به للرجل، ويرتفع به حدثه.
والقول الآخر أنه يرفع حدث الرجل،كغيره؛ لأنه طَهورٌ لم يغيره شيء، وهو رواية عن الإمام أحمد، واختاره الشيخ تقي الدين ابن تميمة و شيخنا ابن سعدي.
والحديث الذي استدل به الأولون فيه مقال، وعلى فرض صحته فيحمل على التنزيه. وأيضا فهو معارض بما هو أقوى منه، وهو حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بفضل ميمونة. أخرجه مسلم (171).
ولأصحاب السنن: اغتسل بعض أزواج النبي صلى الله عليه و سلم في جفنة فجاء- أي النبي صلى الله عليه وسلم - ليغتسل منها فقالت: إني كنت جنبا، فقال: "إن الماء لا يجنب" . وصححه الترمذي وابن خزيمة (172) .(1/71)
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب في بعض أجوبته : ومن ذلك فضلة المرأة، زعم بعضهم أنه لا يرفع الحدث، يعني حدث الرجل، وولدوا عليه من المسائل ما يشغل الأذهان. وقال كثير من أهل العلم أو أكثرهم: إنه مطهر، رافع للحدث. فإن لم يصح الحديث، يعني حديث النهي، فلا كلام، كما يقوله البخاري، وغيره. وإن قلنا بصحة الحديث فنقول: في "صحيح مسلم" حديث أصح منه: أن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل بفضل ميمونة. وهذا الماء داخل في عموم قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} (173) قطعا. وداخل في عموم حديث: "الماء طهور لا ينجسه شيء" (174).
وإنما نهي الرجل عن استعماله نهي تنزيه، إذا قدر على غيره، للأدلة التي ذكرنا. انتهى ملخصا. واللَّه أعلم.
باب المسح على الخفين [37] حكم المسح على الجوارب المخرقة
سائل يسأل عن جواز المسح على الجوارب ونحوها إذا كان فيها شقوق يرى منها بعض القدم ؟
الإجابة:
يجوز المسح على الخفين والجوربين ونحوهما.
الجورب : ما يلبس في الرِّجل على هيئة الخف من غير الجلد، كالصوف ونحوه، وهو أعجمي معرب.
وقد اشترط الفقهاء لذلك شروطا؛ منها: كونه ساترا لمحل الفرض. واختلفوا فيها إذا كان في الخف أو الجورب خروق: فقال الإمام مالك: إن كثرت الخروق وتفاحشت لم يجز المسح و إلا جاز، وقال أبو حنيفة: إن انخرق بقدر ثلاث أصابع لم يجز المسح و إلا جاز. والمشهور من مذهب الحنابلة أنه لا يجزئ المسح على الخف المخرق إذا كان يرى منه بعض القدم ؛ لأن ما ظهر فرضُه الغسل، و لا يجامع المسح.
والقول الثاني في المذهب : جواز المسح على مثل هذا. واختاره الشيخ تقي الدين ابن تيمية وقال: إنه قديم قولي الشافعي وغيره من العلماء، وهو الصحيح. واللَّه أعلم.
[38] صفة المسح على الخفين(1/72)
سائل يسأل عن صفة المسح على الخفين، ويقول: إن بعض الناس يصب عليهما من الماء حال مسحهما، وبعضهم يكرر المسح عليهما عدة مرات، وبعضهم يمسح جانبي الخف مع أعلاه، وبعضهم يمسح عقبه مع أعلاه، ويطلب بيان المشروع في مسحهما، بدون زيادة ولا نقصان ؟
الإجابة:
المشروع في صفة مسح الخفين أن يمسحهما بأصابع يديه مفرجة مبلولة بالماء، دون أن يصب عليهما الماء صبا، فصب الماء عليهما وسواس مخالف للسنة. ولا يشترط أن يمسح جميع أعلى الخف، بل يجزئ مسح أكثره مبتدئا من جهة أصابع قدميه إلى ساقيه مرة واحدة؛ لما روى البيهقي في "سننه" عن المغيرة بن شعبة: أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على خفيه، و وضع يده اليمنى على خفه الأيمن، ويده اليسرى على خفه الأيسر، ثم مسح أعلاهما مسحة واحدة (175). ويكره الزيادة على المسحة الواحدة ؛ لأنه في معنى غسله، وهو غير مشروع.
ولا يجزئ مسح أسفل الخف ولا عقبه - لو مسحهما- دون أعلاه، ولا يسن مسحهما؛ لقول علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: لو كان الدين بالرأي لكان مسح أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يمسح ظاهر خفيه. رواه أحمد وأبو داود (176).
[39] حكم المسح على الجبيرة ونحوها
سائل يسأل عن رجل جرحت أصبعه، وذهب للطبيب فأجرى له عملية جراحية وخاطه، ووضع عليه دواء، ورباطا، وقال: لا تمسَّه الماءَ، ولا تفتحه إلا بعد ثلاثة أيام، فهل يجزئ أن يمسح عليه إذا أراد الوضوء، أو يتيمم عنه ؟
الإجابة:
أما فيما يتعلق بالجرح فله التقيد بأمر الطبيب، ولا حرج في ذلك، ولا يمس أصبعه الماء، ولا يفكه إلا بإشراف الطبيب.
وأما فيما يتعلق بالوضوء، فإن كان وضع عليه الدواء وهو متطهر، وصار الدواء والربط بمقدار الجرح، وما يحتاج إليه الجرح من دون زيادة فالمشروع في حقه المسح عليه بالماء مرة واحدة، فيعمه بالمسح من فوق الرباط عند غسل اليد، ويجزئه ذلك، ولا يحتاج إلى تيمم.(1/73)
وإن كانت الأدوية والرباط التي وضعت عليه زائدة عن مقدار الحاجة نزعها إن تمكن، فإن خشي تلفا أو ضررا أو التهابا أو تأخر برء أبقاها، وحينئذ يغسل الصحيح من يده، ويمسح ما حاذى محل الحاجة من الجرح بالماء من فوق الرباط مرة واحدة ؛ يعمه بالماء، ويتيمم لما زاد عن محل الحاجة، فيجمع حينئذ بين الغسل والمسح والتيمم. هذا إن كانت قد وضعت على طهارة، فإن وضعها على غير طهارة فلا مسح، وإنما يتيمم عنها على المشهور من المذهب، سواء كانت بقدر الحاجة أو زائدة عنها.
و الرواية الأخرى عن الإمام أحمد: أن الجبيرة لا يشترط لها تقدم كمال الطهارة. اختاره ابن عقيل، والشيخان : الموفق والمجد، والشيخ تقي الدين، وهو الصحيح، واختارها شيخنا ابن السعدي ؛ فيمسح عليها، سواء وضعها على طهارة أو على غير طهارة، وسواء في ذلك الحدث الأكبر أو الأصغر، ولا يتقيد بمدة يوم وليلة أو ثلاثة أيام، بل هو مستمر إلى أن يبرأ الجرح ونحوه.
فيتحصل لنا من هذا أن الجبيرة ونحوها لها ثلاث حالات:
الحالة الأولى : المسح عليها بالماء فقط بدون تيمم.
الحالة الثانية : التيمم عنها فقط بدون مسح بالماء.
الحالة الثالثة : أن يجمع بين المسح والتيمم.
فأما حالة المسح فقط فهي إذا وضعها بعد كمال الطهارة ولم تتجاوز موضع الحاجة.
وأما حالة التيمم فقط فهي إذا وضعها على غير طهارة، سواء تجاوزت محل الحاجة أو لم تتجاوز، إذ لا فرق في هذه الصورة ؛ لأنها وضعت على غير طهارة.
وأما حالة الجمع بين المسح والتيمم ؛ فهو ما إذا وضعها على طهارة، لكنها تجاوزت محل الحاجة. ففي هذه الحالة يمسح ما حاذى محل الحاجة، ويتيمم لما زاد على ذلك . و اللَّه أعلم.
[40] إذا لبس الخفين في البلد ثم أحدث وسافر قبل المسح فهل يمسح مسح مسافر ؟(1/74)
سائل يسأل عن رجل لبس الخفين بعد أن تطهر للصلاة، ثم صلى الظهر في البلد، ثم نقض الوضوء، ثم سافر للبر قبل العصر بطريق السيارات، ولم يدرك العصر إلا بعد قطع مسافة، فتوضأ ومسح على الخفين، فهل يكون مسحه مسح مقيم يومًا وليلة، أو مسح مسافر ثلاثة أيام بلياليهن ؟
الإجابة:
إذا كان لم يمسح على الخفين إلا بعد أن سافر، فإن مدة مسحه تكون ثلاثة أيام بلياليهن، إن كان سفره سفر قصر ولو كان أحدث قبل السفر؛ لأن العبرة في مثل هذا في المسح لا في الحدث. أما لو كان قد مسح عليهما قبل سفره ففي هذه الحالة يمسح مسح مقيم، يومًا وليلة فقط.
قال في "الإقناع" وشرحه "كشاف القناع" : ومن أحدث في الحضر ثم سافر قبل المسح أتم مسح مسافر؛ لأنه ابتدأ المسح مسافرًا، ومثله في "المنتهى" ، وغيره. واللَّه أعلم.
[41] إذا خلع الجوربين قبل الحدث ثم لبسهما
سائل يسأل عن رجل لبس الجوربين (الشراب) وصلى فيهما المغرب والعشاء، وهو على طهارته، ثم أحس فيهما بشيء يجرح رجله، فخلعهما وأزاله ولبسهما، فهل يجوز له المسح عليهما وهو قد خلعهما عن رجله أم لا ؟
الإجابة:
إن كان خلعهما وهو على طهارته السابقة، قبل أن ينتقض وضوءه فلا بأس، ولا يضر خلعه لهما ولبسهما؛ لأنه لا يزال على طهارته السابقة، فيمسح عليهما ولا حرج.
وإن كان قد أحدث وخلعهما بعد الحدث ثم أعادهما، فلا يجوز له المسح عليهما، بل المتعين في هذه الحالة غسلهما عند وضوئه للصلاة ونحوها. واللَّه أعلم.
[42] ابتداء مدة المسح على الخفين
سائل يسأل عن حكم المسح على الخفين، وهل تبدأ المدة من حين لبسهما أو من الحدث، وهل يصح أن يصلي بهما أكثر من خمس صلوات ؟
الإجابة:
ابتداء المدة من الحدث لا من اللبس. فلو لبس الخفين ثم مكث على طهارته مدة طويلة أو قصيرة، وصلى فيهما ما شاء من الصلوات - لم يحتسب عليه شيء من ذلك حتى يحدث. فإذا أحدث ابتدأت مدته، وما قبل الحدث لا يحتسب عليه.(1/75)
مثال ذلك : لَبِس الخفين وقت أذان العصر، ثم صلى بهما العصر والمغرب والعشاء، ثم انتقض وضوءه بعد صلاة العشاء، فإنه يبتدئ مدة المسح بعد صلاة العشاء، فيمسح عليهما لصلاة الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء فقط، فإن توضأ لصلاة ونحوها بعد العشاء لزمه خلعهما وغسل الرجلين، هذا المذهب. والقول الثاني: أنه يبتدئ المدة من المسح لا من الحدث، وهو الصحيح، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من الأصحاب وشيخنا عبد الرحمن بن سعدي. واللَّه أعلم.
[43] حكم المسح على الخفين بعد خلعهما
إذا مسح الإنسان على الخفين، ثم خلعهما وصلى في الجوارب (الشراب) فهل له المسح على الخفين بعد ذلك أم لا ؟ وهل يجزئ المسح على الخف الذي لا يستر الكعبين ؟
الإجابة:
الحمد للَّه . إذا مسح على الخفين ثم خلعهما، فلا يُجزئه المسح عليهما مرة أخرى؛ لأنه بخلعهما تعين عليه الغَسل. فإن كان مسحه على الشراب أولاً فلا يضره خلع الخفين؛ لأن الحكم يكون للشراب.
وأما الخف الذي لا يستر الكعبين فلا يجوز المسح عليه ؛ لأنه لم يستر محل الفرض، إلا إن كان تحته شراب ونحوه مما يستر محل الفرض إذا مسح عليهما جميعًا، أو على الشراب فقط، وأما مسح الخف وحده فلا يجزئ إذا لم يكن ساترًا لمحل الفرض. واللَّه أعلم.
باب نواقض الوضوء [44]انتقاض الوضوء بمس المرأة لشهوة
إنسان توضأ للصلاة فشاهد امرأة كاشفة عورتها، فهل ينتقض وضوؤه برؤية فرج المرأة أو لابد من اللمس للشهوة ؟
الإجابة:
النظر إلى الفرج ليس بناقض، وإنما الذي ينقض الوضوء مس المرأة بشهوة، فإن كان بغير شهوة فلا ينقض الوضوء، خلافًا للشافعية الذين يقولون: إن مس المرأة ينقض الوضوء مطلقًا، سواء كان لشهوة أو لغير شهوة.
فأما إن كان اللمس بحائل، أو لمس الشعر أو الظفر، أو كانت المرأة لها أقل من سبع سنين فلا نقض بذلك.(1/76)
كما لا ينتقض وضوء ممسوس بدنه ولو وجد شهوة، بل يختص النقض بالماس واللامس فقط ؛ لتناول النص لهما. واللَّه أعلم.
[45] انتقاض الوضوء بأكل لحم الجَزُور، ومس الذكر باليد
سائل يسأل عن حكم نقض الوضوء بأكل لحم الجزور، ومس الذَّكر باليد ؟
الإجابة:
أما نقض الوضوء بأكل لحم الجزور، فقد قال الإمام أحمد(177) : فيه حديثان صحيحان: حديث البراء (178) وحديث جابر بن سمرة (179).
والحكمة في ذلك -واللَّه أعلم- أنها خلقت من جن؛ ففيها قوة شيطانية. وجاء: "إن على ذروة كل بعير شيطانًا" (180). ففيها قوة شيطانية، و الشيطان خلق من نار، والنار تطفأ بالماء. هكذا جاء الحديث. ذكره ابن القيم.
قال الفقهاء : والذي ينقض الوضوء أكل اللحم خاصة، سواء كان نِيئًا، أو مطبوٍخًا، بخلاف شرب المرق واللبن ونحوهما، فلا ينقض الوضوء، قولاً واحدًا.
وأما مس الذَّكر، فقد ثبت فيه حديث بسرة بنت صفوان - رضي الله عنها- مرفوعا: "إذا مس أحدكم ذَكره فليتوضأ" . رواه أبو داود، والنسائي، والترمذي، وغيرهم (181).
و ورد فيه حديث: "من أفضى بيده إلى ذكره وليس دونه ستر، فقد وجب عليه الوضوء" . رواه الإمام أحمد من حديث أبي هريرة، وإسناده لم يثبت (182).
والمراد باليد الكف ؛ من رءوس الأصابع إلى الكوع، سواء كان لمسه بظهر كفه، أو بطنه أو حرفه، إذا كان بدون حائل، غير أنه لا نقض بمسه بالظفر ونحوه. واللَّه أعلم.
باب الغسل [46] صفة الغسل الكامل
تسأل امرأة عن صفة الاغتسال الثابت عن النبي صلى الله عليه و سلم ، و هل يلزمها أن تنقض شعر رأسها لذلك ؟
الإجابة:
ذكر العلماء أن الاغتسال منه ما هو غسل كامل، اجتمعت فيه جميع الأشياء الواجبة والمستحبة، وانتفى منه كل ما ينقصه، ومنه ما هو غسل مجزئ فقط.(1/77)
فأما صفة الغسل الكامل فهو أن يبدأ الإنسان - إذا أراد الاغتسال- أولاً بالتسمية، فيقول: بسم اللَّه، لا يقوم غيرها مقامها. والتسمية واجبة في الغسل والوضوء والتيمم؛ لحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: "لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم اللَّه عليه" . رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه (183). وتسقط إن سها عنها فلم يذكرها، وإن ذكرها في أثنائه سمى ، وبنى على ما مضى. فإن ترك التسمية عمدًا لم يصح غسله، ولا وضوءه، ولا تيممه .
ثم يغسل يديه ثلاثًا، مثل ما يفعل عند الوضوء بل هنا آكد ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم غسل كفيه مرتين، أو ثلاثًا، كما في حديث ميمونة. رواه الجماعة (184). ويكون غسلهما قبل إدخالهما الإناء، ثم يستنجي، ويغسل ما قد يكون على جسمه من شيء يلوثه، ثم يستعمل شيئًا يزيل به ما علق بيده من آثار الاستنجاء ؛ لأن النبي صلى الله عليه و سلم كان يضرب بيده الأرض أو الحائط بعد الاستنجاء ؛ ليزيل ما علق بها، كما في حديث ميمونة. وما يستعمله الناس الآن من صابون ونحوه كافٍ في ذلك. ثم يتوضأ وضوءه للصلاة ؛ لحديث عائشة عند البخاري ومسلم(185) ثم يحثي على رأسه ثلاث حثيات من الماء، يروي بها أصول شعره ؛ لحديث ميمونة في صفة غسله صلى الله عليه و سلم ، قالت: وأفرغ على رأسه ثلاث حثيات. ولحديث عائشة: ثم يأخذ الماء، فيدخل أصابعه في أصول الشعر، حتى إذا رأى أنه قد استبرأ حثا على رأسه ثلاث حفنات، فإذا خلل شعر رأسه وتيقن أن الماء قد وصل إلى البشرة أفاض الماء على رأسه وبقية جسده ثلاثًا ؛ يبدأ بشقه الأيمن ثم الأيسر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطُهوره وفي شأنه كله(186) . ويدلك بدنه بيديه استحبابًا ؛ لأنه أنقى، وليتيقن وصول الماء إلى مغابنه، وخروجًا من الخلاف، وإلا فليس بواجب. قال في "الشرح الكبير"(187): يستحب إمرار يده على جسده في الغسل والوضوء. اهـ.(1/78)
ويحرك خاتمه؛ ليصل الماء إلى ما تحته، ولا يجب إذا غلب على ظنه وصول الماء إلى جميع جسده. ويتفقد غضاريف أذنيه، وتحت حلقه، وإبطيه، وعمق سرته وطي ركبته، ويكفي غلبة الظن في الإسباغ.
ثم يتحول من موضعه؛ ليغسل قدميه في مكان آخر. وقيل: إن كان في حمام مبلط لا تراب فيه ولا طين فلا داعي لتحوله لغسل رجليه. وإن أخر غسل رجليه حينما توضأ الوضوء المذكور سابقًا فغسلهما بعد انتهائه من الغسل فلا بأس؛ لحديث ميمونة. رواه الجماعة.
والترتيب في الغسل غير واجب، وكذا الموالاة، بل هما سنة، بخلاف الوضوء، فإنهما من فروضه؛ فلو قدم جانبًا من بدنه قبل الآخر فغسله صحيح، إلا أنه ينبغي له أن يبدأ بالجانب الأيمن. وكذا الموالاة، فلو غسل بعض بدنه وترك البعض الآخر ولم يغسله إلا بعد مدة طويلة أو قصيرة فغسله صحيح.
ويسن للحائض والنفساء أن تستعمل السدر ونحوه لغسلها؛ لحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: " إذا كنت حائضًا فخذي ماءك و سدرك وامتشطي" (188).
وقال صلى الله عليه وسلم لأسماء: "تأخذ إحداكن ماءها و سدرتها فتطهر" . رواه مسلم(189). ومثله ما يستعمله النساء الآن من شامبو ونحوه ؛ لأن القصد التنظيف.
وأما شعر الرأس فتنقضه الحائض لغسل الحيض دون الغسل من الجنابة، إذا روت أصول الشعر؛ لحديث عروة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها -وكانت حائضًا-: انقضي شعرك، واغتسلي" ، رواه ابن ماجه (190) بإسناد صحيح.
وما رواه أحمد ومسلم (191) عنها أنه بلغها عن ابن عمر أنه يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رءوسهن، فقالت: يا عجبًا لابن عمر هذا، يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رءوسهن، أوَ ما يأمرهن أن يحلقن رءوسهن! لقد كنت أغتسل أنا و رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، ما أزيد على أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات. فأخذ العلماء من هذا أنها تنقضه لغسل الحيض والنفاس دون الجنابة.(1/79)
ويسن للحائض أن تأخذ قطنة، أو خرقة فيها مسك، أو طيب فتجعلها في محل الحيض؛ لقطع الرائحة، ولقوله صلى الله عليه وسلم لأسماء لما سألته عن غسل الحيض: "ثم تأخذ فِرْصة مُمَسَّكَة، فَتَطَهَّرُ بها" . رواه مسلم (192). إلا أن تكون محرمة ؛ لأن المحْرمة بحج أو عمرة ممنوعة من الطيب.
ولا يجوز الإسراف في الماء ؛ لحديث أنس - رضي الله عنه- قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد، و يتوضأ بالمد. متفق عليه (193). واللَّه أعلم.
[47] حكم من وجد بَللاً في سراويله
سائل يسأل عن رجل لما قام من النوم لصلاة الفجر، وجد بللاً في سراويله، لا يجزم أنه مني ولا غيره، ولا يتذكر أنه احتلم تلك الليلة. فهل يجب عليه الاغتسال لما ذكر، وهل يلزمه تطهير البلل الذي أصاب سراويله أم لا ؟
الإجابة:
هذا لا يخلو من ثلاث حالات :
الحالة الأولى: أن يتيقن أن هذا الخارج مني؛ فيلزمه الاغتسال، ولو لم يذكر احتلامًا، قال الموفق(194): لا نعلم فيه خلافًا. اهـ. ولا يلزمه تطهير ما أصاب من ثيابه ؛ لأن المني طاهر.
الحالة الثانية: أن يتحقق أنه ليس بمني، فإن كان قد سبق نومه ملاعبة أو تفكير، أو نظر، أو مطالعة بهذه المجلات الخليعة المثيرة للشهوة، وكان ما وجده من جنس المذي -فلا غسل عليه، وإنما يطهر ما أصابه من ثيابه ؛ لنجاسة المذي، لكن نجاسته غير مغلظة، لهذا ذكر العلماء أنه يكفي نضحه على الصحيح، كبول الغلام الذي لم يأكل الطعام لشهوة.
الحالة الثالثة: أن يشك في كونه منيًّا أو مذيا، ففي هذه الحالة يغتسل وجوبًا، ويطهر ما أصابه من ثيابه وبدنه احتياطًا للعبادة. واللَّه أعلم.
[48] حكم من احتلم و لم يجد بللاً
إذا شعر الإنسان بأنه احتلم في المنام ولما استيقظ لم يجد بللاً ولا أثر احتلام فهل يجب عليه الغسل ؟
الإجابة:
لا يجب عليه الغسل إلا أن يرى أثر الاحتلام في ثوبه أو بدنه أو على فراشه.(1/80)
وفي الباب عن عائشة - رضي اللَّه عنها- قالت: سئل رسول اللَّه عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلامًا. فقال: "يغتسل" . وفيه ضعف. وعن الرجل يرى أنه قد احتلم ولا يجد البلل فقال: "لا غسل عليه" . فقالت أم سليم: المرأة ترى ذلك عليها الغسل ؟ فقال: "نعم، إنما النساء شقائق الرجال" . رواه الخمسة إلا النسائي(195) وإسناده ضعيف. واللَّه أعلم.
باب التيمم [49] حكم من مرّ بالماء في الوقت ولم يتوضأ وأدركته الصلاة بعد ذلك فتيمم وصلى
كنا زملاء، وخرجنا للنزهة بعد الأذان، ومررنا بمزرعة، فتوضأ بعضنا والبعض لم يتوضأ، وكنا نظن أنه على وضوء، فلما بعدنا عن البلد وأردنا الصلاة تيمم وصلى؛ فلمناه على تركه الوضوء وقد مرّ بالماء. واعتذر عنه بعض الزملاء بأن ذلك جائز، وصار اختلاف في وجهات النظر. فنرجوكم إيضاح حكم هذه المسألة مشكورين؟
الإجابة:
يمكن تفصيل الكلام على هذه المسألة فيما يلي:
أولاً: إذا مر الإنسان بالماء قبل دخول الوقت، فجاوزه دون أن يتوضأ منه، فإذا دخل وقت الصلاة وكان عادمًا للماء، فإنه يتيمم ويصلي ولا إثم عليه ولا إعادة؛ لأنه لم يفرط، فهو غير مخاطب بالطهارة قبل دخول وقت الصلاة، وقد أتى بما هو مكلف به، وهو التيمم، فصلاته صحيحة، لكن ينبغي لمثل هذا أن لا يتجاوز الماء حتى يتوضأ؛ استعدادا للصلاة، لاسيما إذا كان الوقت قريبًا.
ثانيًا: إذا مر بالماء بعد دخول الوقت، وأمكنه الوضوء منه ولم يتوضأ، وهو يعلم أنه لا يجد ماء غيره في طريقه -فعمله هذا حرام؛ لأنه فرط بترك ما هو واجب عليه، وهو الوضوء في الوقت. ومع هذا فإذا لم يمكنه الوضوء في هذه الحالة، فإنه يتيمم ويصلي وصلاته صحيحة؛ لعدم قدرته على الماء حينئذ، مع أنه آثم في تركه الوضوء عندما مر بالماء، كما تقدم.
ثالثًا: من مر بالماء وتوضأ، سواء كان قبل دخول الوقت أو بعده، ولما خرج عن البلد انتقض وضوؤه قبل أن يصلي. ففي مثل هذه الحالة يتيمم ويصلي ولا حرج عليه.(1/81)
لكن لو حضرت الصلاة وهو حاقن، فهل الأفضل له أن يصلي بالوضوء وهو حاقن أو ينقض الوضوء، ويتيمم ويصلي بخشوع وحضور قلب ؟
الأفضل له الثاني، وأن يذهب فيقضي حاجته، ويستجمر الاستجمار الشرعي، ثم يتيمم ويصلي بخشوع قلب.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية(196): أيهما أفضل يصلي المحتقن، أو المحتقب بوضوئه، أو يحدث ثم يتيمم لعدم الماء ؟
فأجاب - رحمه اللَّه-: صلاته بالتيمم بلا احتقان أفضل من صلاته بالوضوء مع الاحتقان؛ فإن هذه الصلاة مع الاحتقان مكروهة، فنهي عنها، وفي صحتها روايتان، وصلاته بالتيمم صحيحة لا كراهة فيها بالاتفاق. انتهى.
والحاقن: الذي احتبس بوله.
والحاقب -بالباء-: الذي احتبس منه الغائط. واللَّه أعلم.
[50] مسألة في التيمم
سائل يسأل عن رجل أراد أن يتيمم ودخل المسجد فلم يجد به ترابًا يتيمم به؛ لأنه مبني بالأسمنت المسلح، فماذا يفعل ؟
الإجابة:
المشهور من المذهب أن التيمم لا يصح إلا بتراب طهور له غبار يعلق باليد. قال الفقهاء: فلو تيمم على حصير أو بساط أو ثوب ونحو ذلك مما عليه غبار طهور يعلق باليد صح تيممه.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: عادم الماء إذا لم يجد ترابًا وعنده رمل ونحوه فإنه يتيمم ويصلي، ولا إعادة عليه عند جمهور العلماء، كمالك وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه.
لكن هذا الرجل لم يعدم التراب، وسيجده إذا التمسه سواء في المسجد المذكور أو في غيره، وما دام يجد التراب فلا بد من التيمم به. واللَّه أعلم.
باب إزالة النجاسة [51] غسل الملابس المتنجسة بالبخار
ما حكم الملابس التي ترد من بلاد غير المسلمين. هل يجوز للمسلم استعمالها، والصلاة فيها بدون غَسل أو لا بُدَّ من غسلها ؟ وإذا كان لا بد من غسلها فهل يجزئ غسلها بالبخار أم لا ؟
الإجابة:
هذا السؤال ذو شقين. الأول: هل يجوز استعمالها بدون غسل أم لا بد من غسلها ؟ والثاني: هل يجزئ غسلها بالبخار أم لا ؟(1/82)
فأما الشق الأول، فجوابه: أنه يجوز استعمالها بدون غسل. قال في "كشاف القناع عن متن الإقناع" (197): ولا يجب غسل الثوب المصبوغ في حُبِّ الصبَّاغ مسلمًا كان الصبّاغ أو كافرًا نصًّا. قيل للإمام أحمد عن صبغ اليهود بالبول، فقال: المسلم والكافر في هذا سواء. ولا يسأل عن هذا، ولا يبحث عنه، فإن علمت نجاسته فلا تُصَل فيه حتى تغسله، وإذا علمت نجاسته فإنه يطهر بالغسل المعتبر، ولو بقي اللون بحاله.
الشق الثاني من السؤال: هل يجزئ غسل النجاسة بالبخار أم لا ؟ وهذا سؤال مهم، ويحتاج إلى جواب مفصل. والظاهر أنكم تقصدون البخار الناري الممزوج بسائل يلطف حرارة النار وينفذ بين مسام الثياب ونحوها ؛ حتى يحصل بذلك إزالة الأوساخ والنجاسات العالقة بالملابس وغيرها.
وعلى هذا فلا يخلو هذا السائل: إما أن يكون ماء طهورًا، فهذا يحصل به التطهير إذا زالت عين النجاسة ولم يبق لها أثر في اللون والرائحة وغيرها. وإما أن يكون السائل نجسًا، فهذا لا يزيد النجاسة إلا تلوثًا. وإما أن يكون ماءً مختلطًا بشيء من الطاهرات كالخل وعصير الأشجار، وما يخرج من الأرض كالكيروسين وغيره من مشتقات البترول، وغير ذلك. إذا عرف هذا فإزالة النجاسات من قسم التروك الذي لا يحتاج إلى نية.
لكن هل يشترط لها الماء الطهور أم لا ؟ وهل إذا أزيلت بغير الماء الطهور يزول حكمها كليًّا أم لا ؟ وهذه المسألة مما اختلف فيه أهل العلم. فالمشهور من المذهب اشتراط الماء الطهور. والقول الآخر أنها إذا أزيلت بأي مائع مطهر ولم يبق للنجاسة أثر - من لون ولا ريح ولا غيره- أنها تطهر بذلك، كما اختاره شيخنا عبد الرحمن السعدي.
وهذا هو الأصح دليلاً، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه اللَّه- قال في "الاختيارات"(198): وتطهر النجاسة بكل مائع طاهر يزيل، كالخل ونحوه، وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها ابن عقيل، وهو مذهب الحنفية.(1/83)
وقال في موضع آخر "الاختيارات"(199): وتجوز طهارة الحدث بكل ما يسمى ماء، وبمعتصر الشجر. قاله ابن أبي ليلى و الأوزاعي والأصم وابن شعبان. وبالمتغير بطاهر، وهو رواية عن الإمام أحمد، ومذهب أبي حنيفة. انتهى.
والقول الأول هو المشهور من المذهب، وقد ترجم عليه شيخ المذهب في وقته مجد الدين بن تيمية المتوفى سنة (621 هـ) في كتابه المشهور "المنتقى" ، فقال: باب تعين الماء لإزالة النجاسة: عن عبد اللَّه بن عمرو، أن أبا ثعلبة قال: يا رسول اللَّه، أفتنا في آنية المجوس إذا اضطررنا إليها ؟ قال: "إذا اضطررتم إليها فاغسلوها بالماء، واطبخوا فيها" . رواه أحمد (200).
وعن أبي ثعلبة الخشني أنه قال: يا رسول اللَّه، إنا بأرض أهل الكتاب فنطبخ في قدورهم ونشرب في آنيتهم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : "إن لم تجدوا غيرها فارحضوها بالماء" . رواه الترمذي (201)، وقال: حسن صحيح.
والرحض: الغسل.
وذكر أيضًا حديث أسماء بنت أبي بكر قالت: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقالت: إحدانا يصيب ثوبَها من دم الحيضة، كيف تصنع ؟ فقال: "تَحُتُّه، ثم تقرصه بالماء، ثم تنضحه، ثم تصلي فيه" . متفق عليه (202).
قال الشارح، محمد بن علي الشوكاني، في "نيل الأوطار"(203): وقد استدل المصنف - رحمه اللَّه- بما ذكره في الباب، على أنه يتعين الماء لإزالة النجاسة، وكذلك فعل غيره. ولا يخفاك أن مجرد الأمر به لإزالة خصوص هذه النجاسة لا يستلزم أنه يتعين لكل نجاسة، فالتنصيص عليه في هذه النجاسة الخاصة لا ينفي إجزاء ما عداه من المطهرات فيما عداها، فلا حصر على الماء، ولا عموم باعتبار المغسول، فأين دليل التعين المُدعى ؟
واستدل (204) الخطابي والنووي بالحديث على أن النجاسات إنما تزال بالماء دون غيره من المائعات. قال في "الفتح" : لأن جميع النجاسات بمثابة الدم، ولا فرق بينه وبينها إجماعًا. وهو قول الجمهور؛ أي تعين الماء لإزالة النجاسة.(1/84)
وعن أبي حنيفة وأبي يوسف: يجوز تطهير النجاسة بكل مائع طاهر. واحتجوا بقول عائشة: ما كان لإحدانا إلاَّ ثوب واحد تحيض فيه، فإذا أصابه شيء من دم الحيض قالت بريقها، فَمَصَعَته بظفرها (205).
وأجيب بأنها ربما فعلت ذلك تحليلاً لأثره، ثم غسلته بعد ذلك.
والحق أن الماء أصل في التطهير؛ لوصفه بذلك - كتابًا وسنة- وصْفًا مطلقًا غير مقيد، لكن القول بتعينه وعدم إجزاء غيره يرده حديث مسح النعل، وفرك المني وحتّه وإماطته بإذخرة، وأمثال ذلك كثير. ولم يأت دليل يقضي بحصر التطهير في الماء، ومجرد الأمر به في بعض النجاسات لا يستلزم الأمر به مطلقًا، وغايته تعينه في ذلك المنصوص بخصوصه، إن سلم.
فالإنصاف أن يقال: إنه يَطْهُرُ كلُّ فرد من أفراد النجاسة المنصوص على تطهيرها بما اشتمل عليه النص، إن كان فيه إحالة على فرد من أفراد المطهرات، لكنه إن كان ذلك الفردُ المحال عليه هو الماءَ فلا يجوز العدول إلى غيره ؛ للمزية التي اختص بها، وعدم مساواة غيره له فيها، وإن كان ذلك الفرد غير الماء جاز العدول عنه إلى الماء لذلك. وإن وجد فرد من أفراد النجاسة لم يقع من الشارع الإحالة في تطهيره على فرد من أفراد المطهرات، بل مجرد الأمر بمطلق التطهير- فالاقتصار على الماء هو اللازم لحصول الامتثال به بالقطع، وغيره مشكوك فيه. وهذه طريقة متوسطة بين القولين، لا محيص عن سلوكها. انتهى من "نيل الأوطار" ملخصًا. واللَّه أعلم.
[52] حكم نجاسة المذي و كيفية تطهيره
المذي هل هو طاهر أو نجس، وإذا أصاب الثوب أو البدن هل يلزم غسله أم لا ؟
الإجابة:
المذي مختلف فيه لتردده بين البول ؛ لكونه لا يخلق منه الحيوان، وبين المني ؛ لكونه ناشئَّا عن الشهوة. والمذهب نجاسته، ويعفَى عن يسيره، في رواية جزم بها في "الوجيز" . وهو قول جماعة من التابعين، وغيرهم ؛ لأنه يكثر في الشباب، فيشق التحرز منه.(1/85)
قال في "الإنصاف"(206): وهو الصواب، وعنه: يكفي فيه النضح. اهـ. لحديث سهل بن حنيف قال: كنت ألقى من المذي شدة وعناء فكنت أكثر من الغسل، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسألته عنه، فقال: "إنما يجزئك من ذلك الوضوء" فقلت: يا رسول اللَّه، كيف بما يصيب ثوبي منه ؟ قال: "يكفيك أن تأخذ كفًّا من ماء، فتنضح به ثوبك، حيث ترى أنه قد أصاب منه" . رواه أبو داود والترمذي (207) وصححه.
واختاره الشيخ تقي الدين بن تيمية، وجملة من الأصحاب. فيكون كبول الغلام الذي لا يأكل الطعام لشهوة، يكفي فيه النضح، وهو غمرُه بالماء، وإن لم ينزل منه ولم يقطر منه شيء، ولا يحتاج إلى مَرْسٍ ولا عصر.
وعن علي - رضي الله عنه- قال: كنت رجلاً مذّاء، فأمرت المقداد أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسأله فقال: فيه الوضوء" . متفق عليه (208).
ولمسلم: "اغسل ذكرك وتوضأ" (209) وفيه دليل على أنه ينقض الوضوء، وأنه لا يوجب الغُسل.
وفي قوله -عليه الصلاة والسلام-: "اغسل ذكرك، وتوضأ" ما يفيد غسل الذكر كله، والحكمة فيه أنه يتقلص لبرودة الماء، فيقل خروج المذي.
وفي رواية أبي داود: "يغسل ذكره وأنثييه، ويتوضأ"(210) واللَّه أعلم.
[53] حكم وقوع النجاسة في الماء
إذا وقعت الأحذية في الماء هل تنجسه ؟
الإجابة:
الأصل في الأشياء الطهارة؛ فلا يحكم بنجاسة الماء ونحوه بمجرد سقوط الأحذية فيه حتى نتيقن نجاستها قولاً واحدًا. فإذا تحققت نجاستها نظرْتَ، فإن تغير الماء بالنجاسة، ووجد أثرها في لونه، أو طعمه أو ريحه فهو نجس قولاً واحدًا.
وإن لم يتغير بالنجاسة وكان قليلاً ففيه قولان في مذهب الإمام أحمد وغيره. والصحيح أنه لا ينجس إلا بالتغير. وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية، وغيره من الأصحاب، وشيخنا عبد الرحمن بن سعدي. واللَّه أعلم.
[54] وقوع الحشرة المتنجسة على الثوب هل ينجسه ؟(1/86)
إذا وقعت بعض الحشرات كالذباب على النجاسة، ثم وقعت على ثوب الإنسان أو بدنه، فهل ينجس ما وقعت عليه ويلزم تطهيره أو لا ؟
الإجابة:
إن كانت تحمل من أجزاء النجاسة، وأحس بها الإنسان إحساسًا حقيقيًّا؛ بأن تحقق وجودها بعينها على ثوبه أو بدنه ونحوه، أو بشمها لزمه تطهير أثرها، وإلا فلا يلزمه ذلك، لاسيما إن كان من جنس الوسواس فلا يلتفت إليه.
وقال الشيخ تقي الدين بن تيمية(211): يعفى عن اليسير من جميع النجاسات مطلقًا في الأطعمة وغيرها. اهـ. واللَّه أعلم.
باب الحيض [55]المرأة الحامل هل تحيض ؟
الحامل إذا جاءها الدم، هل تجلس مدة خروجه منها، وتعتبره حيضًا أم لا ؟
الإجابة:
إن كانت المرأة ليس لها عادة إذا حملت يأتيها الدم، فهذا الدم ليس بدم حيض ولا تجلسه، بل هو في حكم الاستحاضة، فتصوم وتصلي، وتحرص على تنظيف المحل، وعمل الحفائظ اللازمة، وتتوضأ لوقت كل صلاة، ولا يصح وضوؤها قبل دخول الوقت.
وإن كانت المرأة الحامل لها عادة يأتيها الدم كلما حملت، ويتكرر ذلك منها، فيأتيها وقت الحيض من كل شهر، وتطهر في وقت الطهر. فهذا مما اختلف العلماء فيه، مع أنه قليل الوقوع، فالمشهور من المذهب أنه ليس بحيض ؛ لأن الحامل لا تحيض.
والقول الثاني: بأنه إذا صلح أن يكون حيضًا فهو حيض، تجلسه كالحائض، وهذا هو الراجح في الدليل، ذكره الشيخ عبد اللَّه بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمهم اللَّه- وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وشيخنا ابن سعدي. واللَّه أعلم.
[56] هل يجوز أخْذ الطالبة حبوب منع الحيض بمناسبة اختبار القرآن الكريم ؟
نحن طالبات، والاختبار على الأبواب، وربما جاء إحدانا الاختبار في القرآن وهي عليها العادة الشهرية، فهل يحل لنا قراءة القرآن ونحن بهذه الحالة أم لا ؟ ، وإذا قلتم لا يحل، فهل يجوز لنا أن نأخذ الحبوب لمنع الحيض مدة الاختبار وليس علينا في ذلك شيء أم لا ؟
الإجابة:(1/87)
الحائض لا تقرأ القرآن على قول جماهير العلماء. وقال بعض العلماء: إن خشيتْ نسيانه جاز لها قراءته.
وأما أخذ الحبوب لمنع الحيض أيام الاختبار فالأصل الجواز، ولا نعلم دليلاً يخالف هذا الأصل، لكن بشرط أن لا يترتب عليه ضرر، ولا يخلف أثرًا يضر بالمرأة، وكذا لو أخذت الحبوب في وقت الحج، أو في شهر رمضان؛ لئلا تأتيها العادة، فتمنعها من الطواف والصيام، فهذا جائز؛ لأن أحكام الحيض لا تثبت إلا بعد تحقق خروج دم الحيض المعتاد. واللَّه أعلم.
[57] الاستحاضة ودم الفساد
امرأة تأتيها عادتها الشهرية بانتظام ، كل شهر ستة أيام ، من أول كل شهر ، ثم أطبق عليها الدم كل الوقت ، و تسأل عن حكم هذا الدم ، و عن حكم طهارتها ، وصلاتها و ذكرت أنها سألت عن ذلك ، فقيل لها: إنها مستحاضة ، و تقول : ما معنى مستحاضة ؟
الإجابة:
المستحاضة هي التي ترى دمًا لا يصلح أن يكون حيضًا ولا نفاسًا، مثل من تجاوَز دمها أكثر الحيض، وما نقص عن يوم و ليلة، وما تراه قبل تمام تسع سنين، وما تراه الحامل وقت حملها، بخلاف الذي يأتيها قبل الولادة بيومين، أو ثلاثة، بأمارة طلق، ونحوه فإنه يعتبر من النّفاس، ولا تنقص به عدته. فهذه الأشياء وما في معناها هي الاستحاضة. والدم الفاسد أعم من ذلك.
و المستحاضة حكمها حكم الطاهرات، في وجوب العبادات وفعلها ؛ لأن ما يخرج منها نجاسة غير معتادة فأشبهت سلس البول ونحوه. فإذا كانت المستحاضة معتادة، ومعنى معتادة أنها تعرف شهرها، ووقت حيضها منه، ووقت طهرها، وليس المراد بشهرها الشهر الهلالي، وإنما المراد به ما يجتمع لها فيه حيض وطهر كامل.
القصد: أنها إذا كانت تأتيها عادتها الشهرية بانتظام، كل مرة ستة أيام من أول كل شهر مثلاً، ثم أطبق عليها الدم كل الوقت، فهذه تجلس عادتها ولو كانت مميزة، على المشهور من المذهب.(1/88)
وذكر في "المقنع" وغيره عن الإمام أحمد رواية ثانية: أن التمييز يقدم على العادة بشرطه، وهو اختيار الخرقي(212). لقوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت حبيش: "فإنه أسود يعرف، وإذا كان كذلك فأمسكي عن الصلاة" (213).
فعلى المذهب: إذا هلَّ الشهر جلست عادتها، يعني: اعتبرت نفسها حائضًا، واجتنبت ما تجتنبه الحائض من كل شيء. فإذا تمت عادتها المعروفة لديها ستة أيام اعتبرت نفسها طاهرة، واغتسلت وصلَّت واستمرت في حكم الطاهرات بقية الشهر حتى يأتي وقت عادتها، فتجلسها كما تقدم، وهكذا.
وذلك لقوله صلى الله عليه و سلم لأم حبيبة، إِذ سألتْه عن الدم: "امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ، ثم اغتسلي وصلِّي" . رواه مسلم مسلم (214). ولقوله صلى الله عليه وسلم : " دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلي وصلي" . متفق عليه (215).
القصد: أنها إذا مضت أيام عادتها واغتسلت تصلي وتصوم وتقرأ القرآن، وإن كان لها زوج فلا بأس أن يقربها ؛ لأنها في حكم الطاهرات، ولأن هذا الخارج الذي استمر معها ليس دم حيض، وإنما هو استحاضة.
وإذا أرادت الصلاة فتحتاط للطهارة بالتنظيف، ووضع الحفائظ اللازمة، وتتوضأ لوقت كل صلاة، لكن لا يصح وضوؤها قبل دخول الوقت؛ لأن هذه طهارة ضرورية فليس لها تقديمها قبل وقت الحاجة. وإن سهل عليها الاغتسال لكل صلاة فهو حسن؛ لفعل أم حبيبة في الحديث المتفق عليه(216). واللَّه أعلم.
[58] الصفرة والكدرة بعد الطهر ليستا حيضًا
سائل يسأل عن امرأة تأخذ حبوب منع الحمل، وينقطع عنها الدم بعد ستة أيام أو سبعة، فتغتسل لذلك، وفي بعض الأحيان ترى ماء أصفر خلال اليوم السابع أو الثامن. فهل يجب عليها الاغتسال مرة ثانية بعد أن اغتسلت عندما انقطع عنها الدم أم لا؟
الإجابة:(1/89)
هذا الماء الأصفر الذي تراه المرأة بعد انقطاع حيضها واغتسالها من الحيض لا يسمى حيضًا، ولا يثبت له أحكام الحيض، ولا يجب عليها أن تغتسل له، بخلاف ما لو رأته أيام عادتها، فإنه يعتبر حيضًا في هذه الحالة. صرح بذلك الفقهاء -رحمهم اللَّه.
قال في "الإقناع" و"شرحه" : والصفرة والكدرة- وهي شيء كالصديد يعلوه صفرة وكدرة، قاله في "المبدع" -في أيام العادة حيض؛ لدخولهما في عموم النص. ولقول عائشة- وكان النساء يبعثن إليها بالدِّرَجة فيها الصُّفرة والكُدْرة-: لا تعجلن حتى تَرَين القَصَّة البيضاء ؛ تريد بذلك الطهر من الحيضة (217).
وفي "الكافي" : قال مالك وأحمد: هي ماء أبيض يتبع الحيضة لا بعدها. أي: ليست الصفرة والكدرة بعد العادة حيضًا، ولو تكرر ذلك فلا تجلسه؛ لقول أم عطية: كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئًا. رواه البخاري وأبو داود (218) ، ولم يذكر بعد الطهر.اهـ. وذكر معنى ذلك في "المنتهى" و"شرحه" (1/ 114). و"الغاية" وغيرها.
[59] حكم الحامل إذا رأت الدم وهي صائمة
تسأل امرأة عن المرأة الحامل إذا رأت الدم هل تعتبره حيضًا، وتفطر مدة الأيام التي يخرج منها الخارج أم تصوم ؛ لأنها سألت طالب علم فأفتاها بالصيام ، وأفتاها آخر بأن تفطر؟
الإجابة:
إن كانت المرأة ليس لها عادة إذا حملت يأتيها الدم، فهذا ليس بدم حيض ولا تجلسه، بل هو في حكم الاستحاضة، فتصوم وتصلي، وتحرص على تنظيف المحل، وعمل الحفائظ اللازمة، وتتوضأ لوقت كل صلاة، ولا يصح وضوؤها قبل دخول الوقت.
وإن كانت المرأة الحامل لها عادة يأتيها الدم كلما حملت، ويتكرر ذلك منها فيأتيها وقت الحيض من كل شهر، وتطهر في وقت الطهر. فهذا مما اختلف العلماء فيه، مع أنه قليل الوقوع، والمشهور من المذهب أنه ليس بحيض؛ لأن الحامل لا تحيض.(1/90)
والقول الثاني: أنه إذا صلح أن يكون حيضًا فهو حيض، تجلسه كالحائض، وهذا هو الراجح في الدليل، ذكره الشيخ عبد اللَّه بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمهم اللَّه-. واللَّه أعلم.
[60] إذا رأت الدم بعد الخمسين فهل تصوم، أو تفطر؟
إن أمي قد بلغت سن الخمسين من عمرها في هذه السنة، ولا تزال العادة تأتيها باستمرار، وهذا شهر الصيام - شرفه اللَّه- فهل يجوز لها أن تترك الصيام والصلاة حسب العادة أو تصلي وتصوم، ولو كان الخارج مستمرًّا عليها ؟ أرجوكم الإفادة.
الإجابة:
هذه المسألة مما اختلف فيها كلام أهل العلم - رضوان اللَّه عليهم- فالمشهور من المذهب: أنه لا حيض بعد تمام خمسين سنة. فأكثر سن تحيض فيه النساء خمسون سنة. وهذا القول من مفردات المذهب.
واستدل الأصحاب لهذا بقول عائشة: إذا بلغت المرأة خمسين سنة خرجت من حد الحيض. وعنها أيضًا: لن ترى المرأة في بطنها ولدًا بعد الخمسين. رواه أبو إسحاق الشالنجي.
فعلى هذا القول، لو رأت المرأة بعد سن الخمسين دمًا، فلا يعتبر حيضًا، ولا يحكم عليه بأحكام الحيض، بل هو دم فساد.
والقول الآخر في المذهب: أنها إن كانت عادتها يأتيها الدم حتى بلغت سن الخمسين، ثم استمر معها الدم بعد ذلك حتى تجاوزت الخمسين، فإنها تجلس العادة إذا تكررت، ولو بعد الخمسين. وهي رواية عن الإمام أحمد، واختارها الشيخ تقي الدين بن تيمية وغيره من الأصحاب، واختارها شيخنا ابن سعدي. وهو الصواب.
والخلاصة: إن أمكِ إن كان يأتيها الدم باستمرار، كما كان قبل الخمسين فإنها تجلسه، أي تترك الصلاة والصيام، وتعتبر نفسها في حال حيض حقيقي حتى تطهر. وهذا هو الصحيح من أقوال أهل العلم . واللَّه أعلم .
[61] ما تقضي الحائض من الصلاة(1/91)
قيل لي: إذا طهرت المرأة من الحيض -أو النفاس- قبل طلوع الفجر فإنها تصلي المغرب والعشاء، وإذا طهرت قبل غروب الشمس تصلي الظهر والعصر، وإذا طهرت قبل طلوع الشمس تصلي الصبح، وقد أشكل عليَّ كيف تصلي صلاة الظهر والعصر معًا، وصلاة الظهر قد فات وقتها ؟ أفتونا مأجورين، مع إيضاح الجواب. وفقكم اللَّه للصواب .
الإجابة:
نعم، ذكر العلماء - رحمهم اللَّه- أن الحائض أو النفساء، والكافر إذا أسلم، والمجنون إذا أفاق، كل هؤلاء، ونحوهم إذا أدركوا جزءًا من آخر وقت الصلاة، لزمهم قضاء تلك الصلاة وقضاء الصلاة التي قبلها إذا كانت تُجمَع معها، بخلاف التي لا تجمع معها، فلا يلزمهم قضاؤها، وإنما يقضون تلك الصلاة التي أدركوا وقتها فقط.(1/92)
قال في "كشاف القناع"(219) : ومن أدرك من أول وقت مكتوبة قدر تكبيرة، ثم طرأ عليه مانع: من جنون، أو حيض ونحوه، كنفاس، ثم زال المانع بعد خروج وقتها لزمه قضاء الصلاة التي أدرك التكبيرة من وقتها فقط؛ لأن الصلاة تجب بدخول أول الوقت على مُكَلَّف لم يقم به مانع وجوبًا مستقرًّا، فإذا قام به مانع بعد ذلك لم يسقطها، فيجب قضاؤها عند زوال المانع، ولا يلزمه غير التي دخل وقتها قبل طروء المانع؛ لأنه لم يدرك جزءًا من وقتها، ولا من وقت تَبعِها، فلم تجب، كما لو لم يدرك من وقت الأولى شيئًا، وفارق مدرِك وقت الثانية، فإنه أدرك وقتًا يتبع الأولى، فإن الأولى تفعل في وقت الثانية متبوعة مقصودة، يجب تقديمها والبداءة بها، بخلاف الثانية مع الأولى، فلا يصح قياس الثانية على الأولى. والأصل أنه لا تجب صلاة إلا بإدراك وقتها، وإن بقي قدرها، أي: قدر التكبيرة من آخره، أي آخر الوقت، ثم زال المانع: من حيض، أو جنون، ونحوه، و وجد المقتضي للوجوب، ببلوغ صبي، أو إفاقة مجنون، أو إسلام كافر، أو طهر حائض، أو نفساء، وجب قضاؤها وقضاء ما تُجمع إليها قبلها، فإن كان زوال المانع، أو طروء التكليف قبل طلوع الشمس لزمه قضاء الصبح فقط ؛ لأن التي قبلها لا تجمع إليها، وإن كان قبل غروبها لزم قضاء الظهر والعصر، وإن كان قبل طلوع الفجر لزم قضاء المغرب والعشاء ؛ لما روى الأثرم وابن المنذر وغيرهما (220) عن عبد الرحمن بن عوف وابن عباس أنهما قالا في الحائض تطهر قبل طلوع الفجر بركعة: تصلي المغرب والعشاء، فإذا طهرت قبل غروب الشمس صلت الظهر والعصر جميعًا.
ولأن وقت الثانية وقت للأولى حال العذر، فإذا أدركه المعذور لزمه قضاء فرضها كما يلزم فرض الثانية، وإنما تعلق الوجوب بقدر تكبيرة لأنه إدراك، فاستوى فيه القليل والكثير، كإدراك المسافر صلاة المقيم . اهـ.
وقال ابن أبي عمر في "الشرح الكبير"(221):(1/93)
مسألة: وإن بلغ صبي، أو أسلم كافر، أو أفاق مجنون، أو طهرت حائض قبل طلوع الشمس بقدر تكبيرة لزمهم الصبح، وإن كان قبل غروب الشمس لزمهم الظهر والعصر، وإن كان قبل طلوع الفجر لزمهم المغرب والعشاء. وجملة ذلك أنه متى أدرك أحد هؤلاء جزءًا من آخر وقت الصلاة لزمه قضاؤها؛ لأنها وجبت عليه، فلزمه القضاء، كما لو أدرك وقتًا يتسع لها. وهذا مذهب الشافعي، ولا نعلم فيه خلافًا.
قال شيخنا: وأقل ذلك تكبيرة الإحرام ؛ لأنها أقل ما يُتلبس بالصلاة بها، وقد أطلق أصحابنا القول فيه.
وقال القاضي: إن أدرك ركعة كان مدركًا لها، وإن أدرك أقل من ركعة كان مدركا لها في ظاهر كلامه، فإن أدرك جزءًا من آخر وقت العصر قبل غروب الشمس، أو جزءًا من آخر الليل قبل طلوع الفجر لزمته الظهر والعصر في الأولى، والمغرب والعشاء في الآخرة.
روي هذا في الحائض عن عبد الرحمن بن عوف وابن عباس وطاوس ومجاهد والزهري ومالك والشافعي وإسحاق.
قال الإمام أحمد: عامة التابعين على هذا.
ولنا ما روى الأثرم وابن المنذر وغيرهما بالإسناد عن عبد الرحمن بن عوف وابن عباس أنهما قالا في الحائض تطهر قبل طلوع الفجر بركعة: تصلي المغرب والعشاء، فإذا طهرت قبل غروب الشمس صلت الظهر والعصر جميعًا.
و لأن وقت الثانية وقت للأولى حال العذر، فإذا أدركه المعذور لزمه فرضها، كما يلزمه فرض الثانية. والقدر الذي يتعلق به الوجوب قدر تكبيرة الإحرام في ظاهر كلام أحمد. انتهى ملخصًا. واللَّه أعلم.
[62] ما يحل للرجل من زوجته الحائض
سائل يسأل عما يحل للرجل من امرأته إذا كانت حائضًا وما يحرم، ويطلب بيان ذلك من كلام أهل العلم ؟
الإجابة:
استمتاع الزوج من زوجته إذا كانت حائضًا أنواع:(1/94)
نوع جائز بالنص والإجماع؛ وهو استمتاعه منها بما عدا ما بين السرة والركبة. ونوع حرام بالنص والإجماع؛ وهو الوطء في الفرج. ونوع مختلف فيه؛ وهو استمتاعه بها فيما بين السرة والركبة، فذهب الإمام أحمد وغيره من العلماء إلى جوازه، واستدلوا بقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} (222).
والمحيض: اسم لمكان الحيض، كالمقيل والمبيت: اسم لمكان القيلولة والبيتوتة.
وقال مالك وأبو حنيفة والشافعي: إن ذلك لا يباح. واستدلوا بحديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يأمرني فأتزر، فيباشرني وأنا حائض. رواه البخاري ومسلم (223) بمعناه. ومعلوم موضع الإزار، وما يراد به.
و على كُلٍّ، فإن أراد أن يستمتع منها بما فوق الركبة فلْيَحْذر أن يقرب محل الحيض، بل يجب عليه اعتزاله كما أمر اللَّه. واللَّه أعلم.
[63] حكم من حاضت عند الغروب أو طهرت عند الفجر
كنت صائمة رمضان، وعند غروب الشمس ومع ضرب مدفع الإفطار بالذات أحسست بالعادة الشهرية جاءتني، فجلست ستة أيام، وفي آخر ليلة السابع وعند طلوع الفجر ومع صوت مدفع اللزوم أحسست بالطهر وانقطاع دم الحيض، فتحققت فوجدتني قد طهرت في تلك اللحظة، فأمسكت وصمت، ولكني لم أغتسل إلا بعد طلوع الفجر. فهل يجزئني صيام ذلك اليوم الذي جاءتني فيه عند غروب الشمس، أو يلزمني قضاؤه ؟ وهل يحتسب لي اليوم الذي طهرت فيه الفجر وأمسكت فيه وصمته، مع أني لم أغتسل إلا بعد طلوع الفجر بمدة، أو يكون علي قضاؤه ؟ أرجو الجواب مفصلاً.
الإجابة:(1/95)
أما بالنسبة لليوم الأول الذي صُمْتِ فيه، ثم أحسست بالحيض فيه عندما ضرب مدفع الإفطار، فالظاهر أنه يحتسب لك يومك؛ لأن المدفع يتأخر غالبًا عن الغروب قليلاً، احتياطًا للعبادة، فإذا تحققتِ أنها ما جاءتك إلا بعد غروب الشمس ولو بلحظة؛ فصيامك تام مجزئ، ولكن عليك قضاء صلاة المغرب إذا طهرت؛ لأنك أدركت جزءًا من وقتها طاهرة. وإن تحققت أنها جاءتك قبل الغروب ولو بلحظة، فقد فسد صيامك، وعليك قضاؤه، دون قضاء صلاة المغرب؛ لأنك لم تدركي وقتها طاهرة.
وأما بالنسبة لليوم الذي طهرت فيه عند مدفع اللزوم، فإذا تحققت انقطاع دم الحيض ووجود الطهر قبل الفجر ولو بلحظة، ثم أمسكت وصمت فصيامك صحيح، ولو لم تغتسلي إلا بعد طلوع الفجر، فلا يضر تأخير الغسل، وعليك قضاء صلاة العشاء والمغرب من تلك الليلة؛ لأنك أدركت جزءًا من وقتهما وأنت أهل لوجوب الصلاة، فوجب عليك قضاؤهما.
وإن كنت لم تطهري إلا بعد طلوع الفجر، فصيامك ذاك اليوم لا يجزئ، مع أنه يجب عليك الإمساك، ويجب عليك قضاء صيامه دون قضاء صلاة العشاء والمغرب؛ لأنك لم تدركي وقتهما طاهرة. واللَّه أعلم.
[64] حكم وطء الحائض وكفارته
سائل يسأل عن حكم وطء الرجل زوجته وهي حائض، وماذا يترتب عليه إذا وطئها ؟
الإجابة:
الحمد لله. وَطْء الرجل امرأته وهي حائض حرام بنص الكتاب والسنة. قال اللَّه تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ}(224)، والمراد به: موضع الحيض، وهو الفرج. فإذا تجرأ ووطئها، فعليه التوبة وأن لا يعود لمثلها، وورد ما يدل على أن عليه الكفارة؛ وهي دينار، أو نصف دينار على التخيير، وهو حديث ابن عباس مرفوعًا، في الذي يأتي امرأته وهي حائض، قال: "يتصدق بدينار، أو نصف دينار" .رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي(225).(1/96)
والدينار: هو السِّكة من الذهب، ووزنه مثقال، وهو بمقدار أربعة أسباع الجنيه السعودي، وما وازنه؛ لأن الجنيه ديناران إلا ربعا. فإن لم يجد الدينار فيكفي قيمته من الفضة. واللَّه أعلم.
باب الصلاة [65] حكم من ابتلي بزملاء لا يصلون
سائل يسأل عن زملاء له في العمل عرب لا يصلون صلاة الفريضة، وقد ربطته بهم رابطة المزاملة في العمل فكيف يتعامل معهم. هل يقاطعهم ويصارحهم بالعداوة أم ماذا يفعل ؟
الإجابة:
لا شك أن ترك الصلاة من أكبر الآفات، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر" . رواه الترمذي في "جامعه" من حديث بريدة (226) وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة" . رواه مسلم (227). وعن عبد اللَّه ابن شقيق قال: كان أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة. رواه الترمذي (228).
والأحاديث في الباب كثيرة معلومة، وكلها تدل على أن من ترك الصلاة فهو كافر يستتاب، فإن تاب، و إلا وجب قتله.
فعلى هذا الرجل أن ينصح زملاءه، ويكرر عليهم النصيحة، فإن نفع بهم وأجدى، و إلا فينكر عليهم، ويبلغ عنهم من يقوم عليهم ويلزمهم بأداء الصلاة مع الجماعة، فإن لم يتمكن فليبتعد عنهم بقدر استطاعته، إما بطلب النقل عن الوظيفة، أو المسكن أو غير ذلك.
وإنكار المنكر على درجات، يعمل بما استطاعه منها، كما في الحديث: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" . رواه مسلم(229) . وترك الصلاة من أنكر المنكرات.
وقال شيخ الإسلام : من ترك الصلاة فينبغي الإشاعة عنه بتركها حتى يصلي، ولا ينبغي السلام عليه، ولا إجابة دعوته. ذكره في "الاختيارات" (230). و معنى هذا أن من ترك الصلاة يهجر، ويشهر به، هذا من إنكار المنكر.(1/97)
فلا يجوز لك الركون إليهم، ولا مصاحبتهم، ومصادقتهم، والانبساط معهم في المجلس، والمأكل، والمشرب، وغيرها، ما داموا على هذه الحالة حتى يتوبوا، ومن تاب تاب اللَّه عليه. واللَّه الموفق.
[66] حكم الإبراد بصلاة الظهر
سائل يسأل عن حكم الإبراد بصلاة الظهر إذا اشتد الحر في الصيف، وهل هو أفضل من الصلاة أول الوقت؛ لأن الأحاديث وردت في هذا وهذا، فأيهما الذي يمكن أن نأخذ به، وما مقدار التأخير؟
الإجابة:
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما (231) عن أبي هريرة - رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم" ، وفي لفظ عن أبي سعيد مرفوعا عند البخاري: "أبردوا بالظهر" . وعن أبي ذر قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأراد المؤذن أن يؤذن للظهر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "أبرد" ثم أراد أن يؤذن؛ فقال له: "أبرِد" حتى رأينا فيء التلول. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن شدة الحر من فيح جهنم، فإذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة" متفق عليه(232) . و فيح جهنم: غليانها، و وهجها، وانتشار لهبها.
قال في "سبل السلام"(233): والحديث يدل على وجوب الإبراد بالظهر عند شدة الحر؛ لأنه الأصل في الأمر. وقيل: إنه للاستحباب. وإليه ذهب الجمهور.
وأحاديث فضل الصلاة في أول وقتها عامة مخصوصة بأحاديث الإبراد، وتعليله بالحديث أن شدة الحر من فيح جهنم ؛ لأن شدته تذهب الخشوع الذي هو لب الصلاة وروحها. اهـ. ملخصا. ولهذا قال الفقهاء: تكره الصلاة بمكانٍ شديد الحر والبرد؛ لأنه يذهب الخشوع في الصلاة.(1/98)
وأما السؤال عن مقدار التأخير للإبراد بالساعة. فجوابه : أننا لم نقف على تحديده بالساعة، لكن يفهم مقداره - ولو على وجه التقريب - من حديث أبي ذر السابق. وقال محمد بن إسماعيل الصنعاني في "سبل السلام"(234): قال ابن العربي في "القبس" : ليس في الإبراد تحديد إلا ما ورد في حديث ابن مسعود؛ يعني الذي أخرجه أبو داود والنسائي والحاكم (235) من طريق الأسود عنه. قال: كان قدر صلاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الظهر في الصيف ثلاثة أقدام إلى خمسة أقدام، وفي الشتاء خمسة أقدام إلى سبعة أقدام. ذكره المصنف في "التلخيص" وقد بينا ما فيه. اهـ من "سبل السلام" .
وقال المصنف محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني في "العدة" حاشية "شرح العمدة" : قلت: وقد بينا في حواشي "ضوء النهار" و"المواقيت" أنه لا يتم الاستدلال بحديث ابن مسعود هذا على الإبراد أصلا، وأنه حديث ضعيف لا يحسن الاشتغال به. فالأقرب الاستدلال على بيان مقدار الإبراد بما أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي ذر، ثم ساق حديث أبي ذر المتقدم. انتهى. وقال ابن دقيق العيد في "شرح العمدة" : الإبراد: أن تؤخر الصلاة عن أول وقتها بمقدار ما يظهر للحيطان ظل، ولا يحتاج إلى المشي في الشمس، هذا ما ذكره بعض مصنفي الشافعية. وعند المالكية يؤخر الظهر حتى يصير الفيء أكثر من ذراع. اهـ. وقال في "المنتهى" و"شرحه" (236) : وتقديمها -أي صلاة الظهر- أفضل، إلا مع شدة حر مطلقًا، سواء كان البلد حارا أو لا، صلى في جماعة، أو منفردا، في المسجد، أو في بيته؛ لعموم حديث: "إذا اشتد الحر فأبردوا بالظهر؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم" . فتؤخر حتى ينكسر الحر؛ للخبر. اهـ. واللَّه أعلم.
[67] حكم تارك الصلاة
سائل يسأل عن حكم من يترك الصلاة: هل يكفر أم لا ؟
الإجابة:
روى مسلم في "صحيحه" (237) من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة" .(1/99)
وعن بريدة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر" . رواه الترمذي (238) وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب".
وعن عبد اللَّه بن شقيق قال: كان أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة. رواه الترمذي (239).
والأحاديث في الباب كثيرة معلومة، وكلها تدل على أن من ترك الصلاة فهو كافر يستتاب، فإن تاب، وإلا وجب قتله. واللَّه أعلم.
[68] كثرة الوسوسة في الصلاة
سائل يسأل عن كثرة الهواجس في الصلاة: هل تبطلها، أو تنقصها ؟
الإجابة:
كثرة الوسوسة والهواجس التي أشير إليها من المكروهات في الصلاة.
قال أبو داود في "سننه" : (باب: كراهية الوسوسة وحديث النفس في الصلاة) . ثم ذكر بعض الأحاديث الواردة (240)، ولكنه لا يبطل الصلاة، ولا يلزم منه إعادتها.
قال في "المنتقى" : (باب : في أن عمل القلب لا يبطل الصلاة، وإن طال) .
وقال البخاري(241): قال عمر: إني لأجهز جيشي وأنا في الصلاة.
وأما قول السائل: وهل ينقصها ؟ فالجواب: نعم، ينقصها، فليس للإنسان من صلاته إلا ما عقل منها.
وعن عمار بن ياسر - رضي الله عنه- قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عُشْر صلاته، تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها" . رواه أبو داود والنسائي وابن حبان في "صحيحه" بنحوه (242). واللَّه أعلم.
[69] حكم قطع الصلاة لإنقاذ من يخشى عليه الضرر
إذا كنت أصلي، ورأيت إنسانا في خطر، مثل: من بيته يحترق، أو سقط من جدار، أو صدمته سيارة، فهل يجوز قطع الصلاة ومساعدته أم أكملها ؟
الإجابة:
نعم، يجوز قطع الصلاة لما ذكرته، بل يجب على الإنسان إنقاذ من يخشى عليه الوقوع في هلكة، سواء كان إنقاذه بالقول، أو بالفعل.(1/100)
فأما القول: فمثل أن يرى أعمى يمشي وأمامه بئر - أو نار- فيتكلم له بكلام يحذره من الوقوع في ذلك إذا لم يفهم بالتسبيح، ونحوه فيكلمه وهو في مصلاه، ثم يقضي صلاته، سواء كان إماما أو غيره.
وأما الفعل: فكما لو شاهد شخصا سقط في ماء، وخشي عليه الغرق، أو شاهد النار تحرق البيت، ونحوه، أو حية أقبلت على إنسان، أو أقبل عليها هو فيجب أن يقطع صلاته، ويتدارك الأمر بقدر استطاعته، ويقضي صلاته بعد ذلك.
قال في "المغني" (243) في بحث الكلام في الصلاة:
القسم الرابع : أن يتكلم بكلام واجب، مثل أن يخشى على صبي، أو ضرير الوقوع في هلكة، أو يرى حية ونحوها تقصد غافلا، أو نائما، أو يرى نارا يخاف أن تشتعل في شيء، ونحو هذا، ولا يمكن التنبيه بالتسبيح... إلخ.
وقال في "الإقناع" و"شرحه" : ويجب رد كافر معصوم بذمة أو هدنة أو أمان عن بئر، ونحوه، كحية تقصده كرد مسلم عن ذلك بجامع العصمة، ويجب إنقاذ غريق ونحوه كحريق، فيقطع الصلاة لذلك فرضا كانت الصلاة، أو نفلا... إلخ.
وقال في "زاد المستقنع" و"شرحه"(244): ويجب، لتحذير ضرير أو غافل عن هلكة.
وكلام الفقهاء في هذا كثير معروف. فلا نطيل بذكره. واللَّه أعلم.
[70] حكم المرور بين يدي المصلي
سائل يسأل عن حكم المرور بين يدي المصلي، وما حكم من مر أمام الإنسان وهو في الصلاة، سواء كان له سترة أو لا ؟ وما هي السترة ؟ وما مقدارها ؟ و هل يلزم الإنسان إذا كان يصلي أن يدفع من أراد المرور أمامه و يمنعه من المرور أمامه أم يتركه؛ تسهيلا لمروره ؟ وإذا مر أمامه، فهل تبطل صلاته بذلك أم تنقص نقصا فقط ؟
الإجابة:
أولا: ينبغي للمصلي إذا أراد أن يصلي أن يجعل له سترة بين يديه. وللسترة عدة فوائد:
منها: منع المار بين يديه.
ومنها: أنها ترد بصره؛ لينظر إلى موضع سجوده، أو إلى سترته، فلا يتعداها إلى ما وراءها. والسترة كل ما يجعله الإنسان أمامه في الصلاة من جدار، أو سارية، أو صندوق، أو عصا، ونحو ذلك.(1/101)
وفي الباب ما رواه أبو داود في "سننه" وابن حبان في "صحيحه" (245) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئا، فإن لم يجد فلينصب عصا، فإن لم يكن معه عصا فليخط خطا" . وفيه مقال.
وفي الباب أحاديث في معناه، وروى الأثرم بإسناد ضعيف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "استتروا في الصلاة، ولو بسهم" (246).
ثانيا: على المصلي أن يمنع من أراد المرور أمامه، ويدفعه، ولا يجوز له أن يسمح له بالمرور، سواء كان آدميا، أو غيره.
والأصل في ذلك حديث ابن عمر - رضي اللَّه عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان أحدكم يصلي فلا يدعن أحدا يمر بين يديه، فإن أبى، فليقاتله؛ فإن معه القرين" . رواه مسلم (247).
قال العلماء - رحمهم اللَّه-: هذا ما لم يكن المصلي بالمسجد الحرام، فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من سَبْعه جاء حتى يحاذي بالركن فصلى ركعتين في حاشية المطاف، ليس بينه وبين الطُّوّاف أحد. لكن في إسناده مقال (248).
وكذلك ذكر العلماء أنه إن غلبه المار أو خشي فساد صلاته فليتركه، كما ذكروا أنه يكره للإنسان أن يصلي في طريق الناس الذي يمرون منه، كمن صلى في باب المسجد ونحوه، فمن صلى في هذا المحل، ولم يجد الناس ما يمرون منه فهو الملوم لتفريطه.(1/102)
ثالثا: حكم المرور بين يدي المصلي. فهذا ورد فيه الوعيد الشديد في الأحاديث الصحيحة، ومنها: حديث أبي الجهم الأنصاري قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين خيرًا له من أن يمر بين يديه" . قال أبو النضر - راوي الحديث-: لا أدري قال: أربعين يوما أو شهرا أو سنة. رواه البخاري و مسلم و غيرهما (249). ومعناه: لو يعلم ما عليه من الإثم لاختار الوقوف أربعين على ارتكاب ذلك الإثم، ومعنى الحديث: النهي الأكيد والوعيد الشديد. وجاء في معناه أحاديث أخرى تركناها اختصارا.
رابعا: هل تبطل الصلاة بالمرور بين يدي المصلي أو لا ؟ وهذا فيه تفصيل: فإن كان المار كلبا أسود بهيما بطلت الصلاة قولا واحدا، والبهيم: هو الذي كل لونه أسود. وإن مرت امرأة، أو حمار فبعض العلماء يقول ببطلانها أيضا، وهو قول ابن عمر وأنس بن مالك وأبي هريرة والحسن البصري وأبي الأحوص، وهذا هو اختيار أبي البركات عبد السلام بن عبد اللَّه بن تيمية، وأحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية، وابن القيم وشيخنا عب الرحمن السعدي. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: هذا مذهب أحمد.
والأصل في هذا ما ثبت في "صحيح مسلم" (250) بسنده إلى أبي ذر - رضي الله عنه- قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "إذا كان أحدكم قائما يصلي فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل - أي: رحل البعير- فإن لم يكن بين يديه مثل آخرة الرحل، فإنه يقطع صلاته: المرأةُ، والحمارُ، والكلبُ الأسودُ" . قال عبد اللَّه بن الصامت: يا أباذر! ما بال الأسود من الأصفر والأحمر؟ فقال: سألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كما سألتني فقال: "الكلبُ الأسودُ شيطان" .
وفي رواية لأحمد تقييد المرأة بالحائض" (251) وإسنادها ضعيف.(1/103)
والأحاديث الواردة في ذلك رواها جماعة من الصحابة - رضي اللَّه عنهم - منهم: عبد اللَّه بن مغفل، عند الإمام أحمد وابن ماجه (252) ومنهم: أبو ذر، عند أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وأبي داود وابن ماجه(253 ) ومنهم: الحكم الغفاري، عند الطبراني في "الكبير" (254).
قال الهيثمي(255): وفيه عمر بن رديح، ضعفه أبو حاتم، ووثقه ابن معين وابن حبان، وبقية رجاله ثقات.
وقال ابن القيم(256): فإن لم تكن سترة، فإنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقطع الصلاة مرور المرأة والحمار والكلب الأسود، ثبت ذلك عنه من رواية أبي ذر، وأبي هريرة، وعبد اللَّه بن مغفل. وابن عباس، ومعارض هذه الأحاديث قسمان: صحيح غير صريح، وصريح غير صحيح، فلا يترك العمل بها لمعارض هذا شأنه. انتهى كلام ابن القيم.
والمشهور في المذهب عند متأخري الأصحاب: أنها لا تبطل إلا بمرور الكلب الأسود البهيم فقط، دون المرأة، والحمار.
وقطع الصلاة هو فسادها، وإنما يقطعها مرور من ذكر إذا كان المصلي إماما، أو منفردا، بخلاف المأموم فإن سترة إمامه سترة له، وأن يكون مروره بين المصلي وسترته إن كان له سترة، فإن لم يكن له سترة، فأن يمر بين يديه قريبا منه في مسافة ثلاثة أذرع فأقل ابتداء من قدمي المصلي.
وفي "المستوعب" : إن احتاج المار إلى المرور ألقى شيئا بين يدي المصلي يكون سترة، ثم مر من ورائه انتهى.
أما المأمومون: فإن مرّ بين يديهم أحد، سُنَّ لهم ردُّه، ولو قلنا: إن سترة الإمام سترة للمأمومين. ذكره في "الفروع"(257). وغيره. واللَّه أعلم.
[71] حكم من نسي قراءة الفاتحة في الصلاة
سائل يسأل عن شخص ترك قراءة الفاتحة في إحدى ركعات الصلاة سهوا، ولم يتعمد ذلك، فهل صلاته صحيحة أم لا ؟ وهل يلزمه سجود السهو في هذه الحالة ؟
الإجابة:(1/104)
قراءة الفاتحة ركن من أركان الصلاة، لحديث: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" . متفق عليه(258). وحديث: "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج؛ غير تمام" . رواه مسلم (259).
فإن كان الذي تركها إماما، أو منفردا بطلت تلك الركعة، وقامت الركعة التي تليها مقامها. وإن سلّم، وذَكَرَ قريبا أتى بركعة بدلها، وسجد للسهو. وإن طال الفصل بطلت الصلاة، ولزمه إعادتها.
وإن كان الذي تركها مأموما فالأمر أسهل، وصلاته صحيحة، ولا سجود عليه للسهو. وهذا مبني على قاعدة المذهب، وهي أنه لا قراءة على مأموم، سواء كانت الصلاة سرية، أو جهرية. وهذا هو المشهور من المذهب، واستدلوا لذلك بحديث جابر - رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان له إمام فقراءته له قراءة" . رواه الإمام أحمد، وغيره (260).
وهذا الحديث - وإن كان فيه مقال - إلا أن له شواهد تعضده، وبه قال جمهور العلماء.
وقيل: إن كانت الصلاة جهرية، وسمع الإمامَ، أنصت لقراءة الإمام، واكتفى بها، و إلا قرأ لنفسه. ولعل هذا أقرب إلى الصواب، وبه تجتمع الأحاديث الواردة في هذا الباب. واللَّه أعلم.
[72] حكم دخول الكنيسة والصلاة فيها
سائل يسأل عن حكم دخول الكنيسة والصلاة فيها.
الإجابة:
قال في "الغاية" و "شرحها" : ولا تكره الصلاة في بيعة، وكنيسة، ولو مع وجود صور.
قال الشيخ تقي الدين: وليست ملكا لأحد، وليس لهم منع من يعبد الله فيها؛ لأنا صالحناهم عليه.
وقال في "مطالب أولي النهى" : ولا تكره الصلاة بِبِيعٍَ - وهي معبد النصارى- وكنائس- وهي معبد اليهود -ولو مع وجود صور، على الصحيح من المذهب، وهو مخالف "للإقناع" ، وكان عليه الإشارة إلى ذلك.
قال الشيخ تقي الدين: وليست البيع والكنائس ملكا لأحد؛ فليس لهم منع من يعبد الله فيها؛ لأنا صالحناهم عليه. نقله في "الفروع" في الوليمة.(1/105)
وقال في "الفروع" (261): وله دخول بيعة، وكنيسة، والصلاة فيهما، وعنه: يكره، وعنه: مع صورة، وظاهر كلام جماعة تحريم دخوله معها. وقاله شيخنا، وأنها كالمسجد على القبر وقال: وليست ملكا لأحد، وليس لهم منع من يعبد الله ؛ لأنا صالحناهم عليه. والعابد بينهم، وبين الغافلين أعظم أجرا، ويحرم شهود عيد ليهود أو نصارى؛ لقوله تعالى: { وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ}(262) . نقله مهنا. وقاله الآمدي. وترجمه الخلاّل بالكراهة، وفيه تنبيه على المنع أن يفعل كفعلهم، قاله شيخنا. انتهى.
فتحصّل من كلامهم - رحمهم اللَّه- أن دخول الكنيسة جائز. وقيل: مكروه مطلقا، وقيل: مكروه إذا كان فيها صور. وظاهر كلام جماعة أنه حرام مع الصور. وهذا أقرب إلى علة النهي عن التشبه بهم وحضور أعيادهم وعباداتهم، والنهي عن الصور، فينبغي أن يكون هو الصحيح. واللَّه أعلم.
[73] المصلي ممنوع من رفع بصره إلى السماء
كتب يذكر عن شخص يتقدم إلى المسجد، ويأخذ مكانه من الصف الأول إلا أنه لاحظ عليه أنه إذا كان في الصلاة يرفع بصره إلى أعلى -في أغلب الأحيان- لاسيما إذا كان قائما. ونبهه بعض الإخوان بأن لا يرفع رأسه؛ فلم يمتثل. فما حكم رفع الإنسان بصره إلى السماء، وهل ورد في ذلك نهي خاص؟ نرجو إيضاح الجواب وفقكم اللَّه للصواب.
الإجابة:
لقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة نهيا مؤكدا، وتوعد من فعله بأن يُخطف بصره إن لم ينته.
قال الإمام البخاري في "صحيحه"(263): حدثنا علي بن عبد اللَّه، قال: أخبرنا يحيى بن سعيد، قال: حدثنا ابن أبي عَرُوبة، قال: حدثنا قتادة، أن أنس ابن مالك حدثهم، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : "ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم؟!" فاشتد قوله في ذلك حتى قال: "لَيَنْتَهُنَّ عن ذلك أو لَتُخْطَفَنَّ أبصارُهم" .(1/106)
وقال في "فتح الباري" -في الكلام على هذا الحديث- قال ابن بَطّال: أجمعوا على كراهة رفع البصر في الصلاة، واختلفوا فيه خارج الصلاة في الدعاء: فكرهه شريح وطائفة، وأجازه الأكثرون.
قال عياض: رفع البصر إلى السماء في الصلاة فيه نوع إعراض عن القبلة، وخروج عن هيئة الصلاة.
وأخرجه - بغير تقييد أيضا- مسلم من حديث جابر بن سمرة (264).
والطبراني(265)من حديث أبي سعيد الخدري، و كعب بن مالك.
وأخرج ابن أبي شيبة (266) من رواية هشام بن حسان عن محمد بن سيرين: كانوا يلتفتون في صلاتهم، حتى نزلت{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ}(267)، فأقبلوا على صلاتهم، ونظروا أمامهم، وكانوا يستحبون أن لا يجاوز بصرُ أحدهم موضعَ سجوده.
ووصله الحاكم(268)بذكر أبي هريرة فيه، ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال في آخره: فطأطأ رأسه.
وقوله: "أو لتخطفن أبصارهم" ، ولمسلم من حديث جابر بن سمرة: "أو لا ترجع إليهم" ، يعني: أبصارهم. فقيل: هو وعيد.
وعلى هذا ففعل المذكور حرام. وأفرط ابن حزم. فقال: يُبطل الصلاة. انتهى ملخصا من "فتح الباري" .
بل عده ابن حجر في "الزواجر من اقتراف الكبائر" من كبائر الذنوب، فقال: أخرج البخاري وغيره: "ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم ؟!" فاشتد قوله في ذلك حتى قال: "لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم" .
وروى ابن ماجه، والطبراني بسند رواته رواة الصحيح، وابن حبان في "صحيحه" (269): "لا ترفعوا أبصاركم إلى السماء فتلتمع" ، يعني: في الصلاة، أي: يُذهَب بها.
وروى مسلم(270): "لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء عند الدعاء في الصلاة أو لتخطفن أبصارهم" .
وروى مسلم وغيره (271): "لينتهين أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة أو لا ترجع إليهم" .(1/107)
وأخرج أبو داود(272): دخل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المسجد فرأى فيه ناسا يصلون رافعي أيديهم إلى السماء، فقال: لينتهين رجال يشخصون أبصارهم في الصلاة أو لا ترجع إليهم أبصارهم" . انتهى.
وقال في "مطالب أولي النهى شرح غاية المنتهى" : ويكره في الصلاة رفع بصره إلى السماء؛ لحديث أنس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم؟!" ، فاشتد قوله في ذلك حتى قال: "لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم" . رواه البخاري(273). ولا يكره رفع بصره إلى السماء حال جُشاء، وظاهره: ولو في غير جماعة، خلافا له - أي: لصاحب "الإقناع" - حيث قيد كراهة الجشاء حيث كان في جماعة.
قال في "الإنصاف"(274): إذا تجشأ وهو في الصلاة، فينبغي أن يرفع وجهه إلى فوق؛ لئلا يؤذي من حوله بالرائحة. ونقل أبو طالب: إذا تجشأ وهو في الصلاة فليرفع رأسه إلى السماء حتى يذهب الريح، وإذا لم يرفع آذى من حوله من ريحه. انتهى.
فمقتضى تعليل "الإنصاف" ، وصنيع غيره يؤيد ما قاله صاحب "الإقناع" .انتهى. واللَّه أعلم.
[74] هل يصلي بوضوئه وهو حاقن أو يقضي حاجته ويتيمم ؟
كنا مسافرين، وحضرت الصلاة وليس عندنا ماء للوضوء، وأنا على وضوء، هل أصلي وأنا حاقن؛ اغتناما لكوني على وضوء أم أقضي حاجتي وأتيمم، وأصلي الصلاة بطمأنينة؟ وأخيرا فضلت الصلاة بوضوئي وأنا حاقن؛ لأن طهارة الماء أفضل من طهارة التيمم، وأحببت أن أعرف كلام العلماء في هذه المسألة؛ خشية أن تقع مرة أخرى.
الإجابة:
كان الأولى أن تذهب وتتبرز، وتتيمم، ثم تأتي إلى الصلاة وأنت مطمئن البال بخشوع وحضور قلب؛ لأن صلاة الحاقن مكروهة ومنهي عنها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : "لا صلاة بحضرة طعام، ولا هو يدافعه الأخبثان"(275).
ولا ينقص الصلاة كونك متيمما؛ لأن التيمم طهارة كاملة امتن اللَّه بها على عباده، ونفى بها عن هذه الأمة الحرج.(1/108)
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية (276): أيهما أفضل: يصلي المحتقن، أو المحتقب، بوضوئه، أو يُحدث ثم يتيمم؛ لعدم الماء؟
فأجاب - رحمه اللَّه -: صلاته بالتيمم بلا احتقان أفضل من صلاته بالوضوء مع الاحتقان، فإن هذه الصلاة مع الاحتقان مكروهة منهي عنها، وفي صحتها روايتان، وصلاته بالتيمم صحيحة لا كراهة فيها بالاتفاق. انتهى.
والحاقن: الذي احتبس بوله.
والحاقب -بالباء-: الذي احتبس منه الغائط. واللَّه أعلم.
[75] إذا عطَس في الصلاة هل يحمد اللَّه ؟
كنت أصلي مع الجماعة فريضة العصر فعطست، فقلت: الحمد لله، فوكزني رجل بجانبي، ولما فرغت الصلاة أنكر علي وقال: لا تعد لها، فإن المصلي ما يجوز له إذا عطس أن يحمد اللَّه؛ لأنه مشتغل بالصلاة. فما رأيكم في هذه المسألة؟
الإجابة:
في الباب الحديث الذي رواه النسائي والترمذي وغيرهما (277)، عن رفاعة بن رافع قال: صليت خلف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فعطست، فقلت: الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، فلما صلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من المتكلم في الصلاة" ، فلم يتكلم أحد، ثم قالها الثانية، فلم يتكلم أحد، ثم قالها الثالثة، فقال رفاعة: أنا يا رسول اللَّه، فقال: "والذي نفسي بيده لقد ابتدرها بضع وثلاثون مَلَكًا أَيهم يصعد بها" .
وترجم عليه المجد ابن تيمية في "المنتقى" فقال: ( باب: حمد اللَّه في الصلاة ؛ لعطاس أو حدوث نعمة ) .
وأما كلام الفقهاء، فقال في "الإقناع" و "شرحه" : ويحمد العاطس في نفسه، نقل أبو داود، يعني عن الإمام أحمد (278): يحمد في نفسه ولا يحرك لسانه.
ونقل صالح (279): لا يعجبني صوته بها. وأما صاحب "المنتهى" فإنه قال: يكره ذلك. والأخذ بالحديث هو المتعين. واللَّه أعلم.
[76] حكم من كبر للإحرام وهو منحنٍ للركوع
رجل جاء والإمام راكع، فكبر تكبيرة الإحرام وهو منحنٍ للركوع؛ خشية أن تفوته الركعة، فهل يجوز له ذلك؟
الإجابة:(1/109)
لا تصح تكبيرة الإحرام من القادر على القيام إلا أن يأتي بها كاملة وهو قائم، فإن انحنى قبل أن يتمها، ووصل إلى حد الركوع فلا تصح، إذا كانت الصلاة فرضًا. وأَدْنى الركوع هو الانحناء بمقدار ما يمكنه مس ركبتيه بأطراف أصابعه. واللَّه أعلم.
[77] حكم من ترك الصلاة عدة سنين
رجل بلغ من العمر عشرين سنة، وهو لم يصل صلاة الفريضة- لا قبل البلوغ ولا بعده- ثم فتح اللَّه عليه وتاب توبة نصوحا، فما حكم صلواته في المدة السابقة، هل يقضيها، أو تسقط عنه بالتوبة ؟
الإجابة:
إذا ترك الرجل صلاة متعمدا - تهاونا وكسلا- إلى أن خرج وقتها الضروري، فعليه قضاؤها عند جماهير العلماء. وفيه قول له حظ من القوة: أنه لا يمكنه تلافي ما مضى من هذه المعصية؛ لأن الأمر أعظم وأكبر من ذلك؛ لأنه يُعَدُّ بذلك كافرا.
ويَستدل أهل هذا القول بحديث: "من أفطر يوما من رمضان تعمدا لم يُجْزه صوم الدهر وإن صامه" (280)، وغير ذلك مما يستدلون به.
وهو قول المحققين من أهل العلم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر" (281)، وقوله: "بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة" (282).
وإذا كان هذا حكم من ترك صلاة واحدة، فما الظن بمن ترك الصلاة عدة سنين؟!
وعلى هذا، فلا يقضي هذا الرجل ما مضى من صلواته، ولكن ما دام قد تاب فإن اللَّه يتوب عليه. فعليه أن يجدد التوبة، ويتعاهدها و يواظب على الطاعات وفرائض الإسلام، ويستكثر من نوافل العبادات - ما أمكنه- فإن الحسنات يذهبن السيئات.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (283): وصلاة التطوع تكمل بها صلاة الفرض يوم القيامة، إن لم يكن المصلي أتمها، وفيه حديث مرفوع رواه الإمام أحمد في "المسند" (284). وكذلك الزكاة، والصيام، وبقية الأعمال. واللَّه أعلم.
[78] حكم العبث في الصلاة
العبث في الصلاة باللحية، ونحوها -من غير قصد- هل يبطل الصلاة ؟
الإجابة:(1/110)
العبث ينقص الصلاة - بلا شك- وهو مما ينافي الخشوع، فإن أطال الفعل -عُرفا- من غير ضرورة، ولا تفريق، بطلت الصلاة، سواء كان عمدًا أو سهوًا.
وإن لم تكن الحركات كثيرة -أو كانت كثيرة ولكنها غير متوالية- فإنها لا تبطل الصلاة، بمعنى أنه لا يلزمه إعادتها، وإلا فهي تُنقص من الصلاة بمقدار عبثه فيها. واللَّه أعلم.
[79] حكم من صلى و في ثوبه نجاسة
إذا صلى الإنسان وفي ثوبه نجاسة لم يعلم بها إلا بعد فراغ الصلاة، فهل يعيد الصلاة أم لا؟
الإجابة:
إذا لم يعلم بالنجاسة إلا بعد فراغه من الصلاة، وجهل كونها في الصلاة فلم يعلم هل كانت في الصلاة أم لا -فصلاته صحيحة، ولا إعادة عليه؛ لاحتمال أنها أصابته بعد الصلاة، والأصل صحة الصلاة، فلا تبطل بالشك.
وإن علم أن النجاسة كانت في الصلاة لكن جهلها أو نسيها، وصلى بالنجاسة، فالمشهور من المذهب أن صلاته غير صحيحة، وعليه الإعادة.
وفيه رواية أخرى عن الإمام أحمد أن صلاته صحيحة، اختارها جملة من الأصحاب منهم المَجْدُ والموفّق وابن عبدوس والشيخ تقي الدين، وصححه في "النظم" ، "وتصحيح المحرر" . وهو الصواب.
ودليله: حديث النعلين الذي رواه أبو سعيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فخلع نعليه، فخلع الناس نعالهم، فلما انصرف قال لهم: "لِمَ خلعتم؟" قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا. فقال: "إن جبريل أتاني فأخبرني أن بهما خَبَثا، فإذا جاء أحدكم المسجد فليقلب نعليه، ولينظر فيهما، فإن رأى خَبَثا فليمسحه بالأرض، ثم لْيُصلّ فيهما" . رواه أحمد وأبو داود (285).
ووجه الدلالة أنه لو لم تصح أول صلاته مع عدم علمه بالنجاسة للزمه استئناف الصلاة من أولها، فلما بنى على ما مضى منها عُلِمَ أنها صحيحة. واللَّه أعلم.
[80] حكم من ترك الصلوات مدة العلاج
إنسان دخل المستشفى، وأجريت له عملية جراحية، فلم يستطع أن يصلي مدة ثلاثة أيام، فهل يلزمه أن يقضي صلاة الأيام الثلاثة بعدما شفي؟
الإجابة:(1/111)
الواجب عليه ألا يؤخر الصلاة عن وقتها، فيصلي على حسَب حاله: إن استطاع القيام صلى قائمًا، و إلا صلى جالسا، فإن لم يستطع صلى مضجعا، ويومئ إيماء، وإن أمكنه الوضوء بلا ضرر، و إلا يتيمم، ولا إعادة عليه. و لا يحل له تأخير الصلاة عن وقتها ما دام عقله معه.
و الآن ما دام لم يُصلّ تلك الصلوات فعليه قضاؤها - فورًا- مرتبة. و اللَّه المستعان.
[81] فضل أداء الصلوات الخمس في المسجد النبوي
ما يقول السادة العلماء فيمن يؤدي الصلوات الخمس في المسجد النبوي الشريف -سواء كان من سكان المدينة أو من الزوار- هل الأفضل له أن يحافظ على الصلاة في الروضة الشريفة؛ اغتناما لحديث: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة" ، ولو أدى ذلك إلى تفويت الصف الأول -مع ما ورد في فضله من الأحاديث- أم أن الأفضل له أن يحافظ على الصف الأول؛ اغتناما للثواب المترتب عليه في الأحاديث الصحيحة، ولو أدى ذلك إلى تفويت الصلاة في الروضة الشريفة؟
ومن ناحية أخرى. هل يثبت للزيادات التي طرأت على المسجد النبوي ولاسيما الزيادة القِبلية، والزيادة الغربية، وهي ما على ميامن الصفوف بالنسبة إلى المسجد النبوي القديم، فهل يثبت لهذه الزيادات حكم المسجد في تضعيف الصلاة أم أن التضعيف يختص بالمسجد الموجود على عهد النبي صلى الله عليه و سلم ؟
الإجابة:
أما بالنسبة للشق الأول من السؤال. فهذه المسألة ورد فيها جملة أحاديث، وهي محل بحث ونظر بين العلماء.
فَمَنْ نَظَرَ إلى عموم ما ورد في فضل الصف الأول رَجَّح صلاة الفريضة في الصف الأول، وجعل النوافل في الروضة الشريفة. ومن نظر إلى خصوص الأحاديث الواردة في فضل الصلاة في الروضة رَجَّح الصلاة فيها.
وإذا علم اللَّه من العبد صدق النية، وتحري الخير، و اتباع السنة وما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أثابه اللَّه على نيته الصالحة.(1/112)
وقد رأيت عددا من العلماء يتحرَّون صلاة الفريضة في الروضة ويتركون الصف الأول، وهذا يدل على اختيارهم الصلاة في الروضة، وسألت بعضهم فتوقف ولم يرجح شيئا، مع أنه يتحرى الصلاة في الروضة.
وبعض العلماء جزم بترجيح الصلاة في الصف الأول. ومن هؤلاء فضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز. فقد صرح في منسكه بذلك. قال: أما صلاة الفريضة فينبغي للزائر وغيره أن يتقدم إليها، ويحافظ على الصف الأول - مهما استطاع- وإن كان في الزيادة القبلية؛ لما جاء في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم من الحث والترغيب في الصف الأول، مثل قوله صلى الله عليه وسلم : "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا" . متفق عليه(286).
ومثل قوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "تقدموا فائتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم، ولا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم اللَّه" . أخرجه مسلم (287).
وأخرج أبو داود (288) عن عائشة - رضي اللَّه عنها- بسند حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال قوم يتأخرون عن الصف الأول حتى يؤخرهم اللَّه في النار" . وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه: "ألا تَصُفُّونَ كما تَصُفُّ الملائكةُ عند ربها ؟" قالوا: يا رسول اللَّه، وكيف تصف الملائكة عند ربها ؟ قال: "يُتمون الصفوف الأُول، ويتراصون في الصف" . رواه مسلم (289).
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وهي تعم مسجده صلى الله عليه وسلم وغيره، قَبْلَ الزيادة وبعدها.
وقد ورد عنه صلى الله عليه و سلم أنه كان يحث أصحابه على ميامن الصفوف (290)، ومعلوم أن يمين الصف في المسجد الأول خارج عن الروضة، فعلم بذلك أن العناية بالصفوف الأُول وميامن الصفوف مقدمة على العناية بالروضة الشريفة، وأن المحافظة عليها أولى من المحافظة على الصلاة في الروضة، وهذا بَيِّن واضح لمن تأمل الأحاديث الواردة في هذا الباب واللَّه الموفق. انتهى.(1/113)
ومن هؤلاء العلماء الذين جزموا -أيضا- بترجيح الصلاة في الصف الأول: الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، فقد ذكر في كتابه "حجة النبي صلى الله عليه وسلم " : أن التزام الصلاة في المسجد القديم، وقطع الصفوف التي في زيادة عُمَر، وغيره، من البدع.
قال: وقد يقع في هذه البدعة بعض أهل العلم. وشبهتهم في ذلك تمسكهم باسم الإشارة في قوله صلى الله عليه وسلم : "صلاة في مسجدي هذا بألف صلاة..." الحديث. ومع أن ذلك ليس نصا فيما ذهبوا إليه؛ لأنه لا ينافي امتداد الفضيلة إلى الزيادة، كما هو الشأن في الزيادات التي ضمت إلى المسجد المكي.
وليس في الحديث -آنف الذكر- إيجاب الصلاة، وإنما هو للحض والترغيب، وهذا يحصل بصلاة النوافل.
وأما صلاة الجماعة، فترك الصفوف الأُول خطأ محض؛ لما فيه من تفويت ما هو أولى من تلك الفضيلة بكثير.
منها: ترك وصل الصفوف، ووصلها واجب بأحاديث كثيرة، كحديث أنس مرفوعًا: "أتموا الصف المقدم، فإن كان نقص فليكن في المؤخر" (291).
ومنها: ترك أهل العلم الصلاة خلف الإمام. وقد قال صلى الله عليه وسلم : "لِيَلِني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" (292).
ومنها: تفويتهم فضيلة الصفوف الأُول مع ما ورد فيها من الأحاديث.
ثم قال: ونحن وإن كنا لا نستطيع أن نجزم بأن فضيلة الصف الأول -مطلقا- أفضل من الصفوف المتأخرة في المسجد القديم، فكذلك هل يستطيع أحد منهم أن يدعي العكس، لكن إذا انضم إليه ما سبق، فلا شك حينئذ في ترجيح الصلاة في الزيادة على الصلاة في المسجد القديم؛ ولذلك اقتنع بهذا غير واحد من العلماء حين باحثتُهم في المسألة، وصاروا يصلون في الزيادة. انتهى ملخصا.(1/114)
وأما بالنسبة إلى ما يتعلق بالشق الأخير من السؤال، وهو حكم تضعيف الصلاة في المسجد النبوي. فالراجح أن التضعيف يعم المسجد القديم وكل ما طرأ عليه من زيادات، كما روي عن عمر -رضي الله عنه- أنه قال لما فرغ من زيادته: لو انتهى بناؤه إلى الجبّانة لكان الكل مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم(293).
وقال أبو هريرة: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "لو زيد في هذا المسجد ما زيد لكان الكل مسجدي" (294). وفي رواية: "لو بني هذا المسجد إلى صنعاء كان مسجدي" (295). والآثار في هذا كثيرة معروفة. واللَّه أعلم.
[82] حكم صلاة المسافر على راحلته و سيارته
سائل يسأل عن حكم المسافر الذي يركب سيارته: هل يجوز له أن يتنفل في السيارة وهي تسير، ولو كان غير مستقبل القبلة، ويصلي جالسا ويومئ بالركوع والسجود أم لا، وهل يشترط لهذا شروط، وما تلك الشروط ؟
الإجابة:
إذا سافر الإنسان سفرا مباحا فقد وسع له الشارع في رُخَصِ السفر،
ومنها: جواز التنفل على راحلته وسيارته، وكذا الطائرة، ونحوها -سواء كان سفره طويلا أو قصيرا- فيجوز له أن يتطوع فيها بما شاء من النوافل: كصلاة الضحى، وقيام الليل، والوتر، وسجدة التلاوة، ونحو ذلك، ولو لم يستقبل القبلة؛ لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}(296). قال ابن عمر: نزلت في التطوع خاصة (297)، ولما روى -هو- أنه صلى الله عليه وسلم كان يُسَبّح على ظهر راحلته حيث كان وجهه، يومئ برأسه. وكان ابن عمر يفعله. متفق عليه (298) . وللبخاري: إلا الفرائض.
ولم يفرق بين طويل السفر وقصيره. ولأن ذلك تخفيف في التطوع -لئلا يؤدي إلى تقليله أو قطعه- فاستويا فيه. بل ألحق الفقهاء الماشي بالراكب في ذلك؛ لأن الصلاة أبيحت للراكب لئلا ينقطع عن القافلة في السفر، وهو موجود في الماشي.(1/115)
فأما الراكب، فيلزمه افتتاح الصلاة إلى القبلة بالدابة -أو السيارة- بأن يديرها إلى القبلة، إن أمكنه بلا مشقة، أو هو بنفسه، بأن يدور إلى القبلة، ويدع راحلته سائرة مع الركب، إن أمكنه ذلك بلا مشقة؛ لما روى أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر فأراد أن يتطوع استقبل بناقته القبلة، فكبر، ثم صلى حيث كان وجهه. رواه أحمد وأبو داود (299) .
وكذا، إن أمكنه الركوع، والسجود، والاستقبال، في جميع النافلة، كمن هو في سفينة ونحوها، فيلزمه ذلك؛ لقدرته عليه بلا مشقة، أو كانت راحلته واقفة، وإلَّا يمكنْه افتتاح النافلة إلى القبلة بلا مشقة، جاز له افتتاحها إلى جهة سيره، وأومأ بالركوع والسجود إلى جهة سيره؛ طلبا للسهولة عليه؛ حتى لا يؤديه ذلك إلى عدم التطوع. ويكون سجوده أخفض من ركوعه -وجوبا- إن قدر؛ لما روى جابر، قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة، فجئت وهو يصلي على راحلته نحو المشرق، والسجود أخفض من الركوع. رواه أبو داود (300).
وأما الماشي، فيلزمه افتتاح النافلة إلى القبلة، ويلزمه ركوع وسجود إلى القبلة بالأرض؛ لتيسر ذلك عليه من غير انقطاع عن جهة سيره، ويفعل الباقي من الصلاة إلى جهة سيره.
وصحح المجد في "شرح الهداية" : يومئ بالركوع والسجود إلى جهة سيره كالراكب. واللَّه أعلم.
[83] هل تصح الصلاة في الطائرة والسيارة حال سيرها
سائل يسأل هل تصح الصلاة في الطائرة وهي محلقة في الجو، وكذلك في السيارة إذا طلبت من السائق إيقافها لأداء الصلاة فامتنع، وخشيت خروج الوقت، فهل أصلي بالسيارة وهي تمشي ؟ وهل يجوز للمسافر أن يقصر ويفطر، مع أنه يقطع المسافة في مدة قليلة ؟
الإجابة:
الحمد لله وحده. نعم، تصح الصلاة على الطائرة وهي تطير في الجو، كما تصح الصلاة على الباخرة، والسفينة، ونحوها، كالقطار، وهذا أشبه بحال الضرورة؛ لأنه لا يستطيع إيقافها ولا النزول لأداء الصلاة، ولا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها بحال.(1/116)
كما تصح الصلاة في السيارة إذا جدّ به السير، ولم يتمكن الراكب من إلزام السائق بإيقاف السيارة، وخشي خروج الوقت، فإنه يصلي قبل خروج الوقت، ويفعل ما يستطيع عليه، ولا حرج، وصلاته صحيحة. ثم إذا صلى الإنسان في الطائرة ونحوها، فإن استطاع أن يصلي قائما ويركع ويسجد لزمه ذلك في الفريضة، وإلا صلى على حَسَبِ حاله، وأتى ما يقدر عليه من ذلك. كما يلزمه استقبال القبلة حسب استطاعته، وكلما دارت انحرف إلى القبلة إذا كانت الصلاة فرضا.
وأما القصر والفطر، فهذه من رخص السفر. فإذا سافر الإنسان مسافة قصرٍ فأكثر، جاز له أن يستبيح رخص السفر -سواء قطع المسافة في مدة قليلة أو طويلة- لكن إذا أراد أن يرجع إلى وطنه، وعلم أنه يَقْدُمُ اليوم أو غدا، فقد ذكر الفقهاء أنه يلزمه الصوم، ولم يجز له الفطر. نص عليه الإمام أحمد. واللَّه أعلم.
[84] الأصل: عد التسبيح بالأصابع
صلى بجانبي رجل في المسجد الجامع، وبعد الصلاة أظهر سُبحته؛ لكي يعد التسبيح الذي بعد الصلاة، فقلت له: يا أخي، السنة عد التسبيح بالأصابع لا بالسبحة، فطلب مني الدليل على ذلك، وقال لي: ما صفة عده بالأصابع: هل هو لكل أصبع تسبيحة أم أن الأصبع فيه ثلاث أنامل لكل أنملة تسبيحة، فما عرفت أجيبه على ما سأل؛ لهذا أرجوكم الإفادة عن ذلك.
الإجابة:
لا شك أن عقد التسبيح بالأصابع أفضل وأكمل، بل هو السنة التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم .
قال المجد بن تيمية في "المنتقى" (301): عن يُسَيْرة - وكانت من المهاجرات- قالت: قال لنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "عليكن بالتهليل، والتسبيح، والتقديس، ولا تغفلن فتنسين الرحمة، واعقدن بالأنامل؛ فإنهن مسئولات مستنطقات" . رواه أحمد والترمذي وأبو داود (302).(1/117)
وعن سعد بن أبي وقاص أنه دخل مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على امرأة وبين يديها نوى أو حصى تسبح به، فقال: "أخبرك بما هو أيسر عليك من هذا -أو أفضل-: سبحان اللَّه عدد ما خلق في السماء، وسبحان اللَّه عدد ما خلق في الأرض، وسبحان اللَّه عدد ما بين ذلك، وسبحان اللَّه عدد ما هو خالق، واللَّه أكبر مثل ذلك، والحمد لله مثل ذلك، ولا إله إلا اللَّه مثل ذلك، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه مثل ذلك" . رواه أبو داود والترمذي (303).
وعن صفية قالت: دخل علي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وبين يدي أربعة آلاف نواة أسبح بها، فقال: " لقد سبحت بهذا! ألا أعلمك بأكثر مما سبحت به؟ " ، فقالت: علمني، فقال: " قولي: سبحان اللَّه عدد خلقه" . رواه الترمذي (304).انتهى.
وقال الشوكاني في "نيل الأوطار"(305): والحديث الأول يدل على مشروعية عقد الأنامل بالتسبيح.
وقد أخرج أبو داود والترمذي وحسنه، والنسائي، والحاكم وصححه (306) عن ابن عمرو أنه قال: رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يعقد التسبيح. زاد في رواية لأبي داود وغيره: بيمينه.
وقد علل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذلك في حديث الباب؛ بأن الأنامل مسئولات مستنطقات، يعني: أنهن يشهدن بذلك، فكان عقدهن بالتسبيح من هذه الحيثية أولى من السبحة والحصى. انتهى من "نيل الأوطار" .
وقال السيد محمد رشيد رضا في فتاوى "المنار" (1131) : السنة في إحصاء ما ورد من الذكر معدودا، فهي العقد بالأنامل، أي: وضع رأس الأصبع على عُقَدها، وفي كل أصبع ثلاث عقد.
وعن عبداللَّه بن عمرو بن العاص قال: رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يعقد التسبيح. رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم (307).(1/118)
وروى أحمد وأبو داود والترمذي وابن حبان وغيرهم بأسانيد مختلفة (308)أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر النساء بالتسبيح، والتهليل، وأن يعقدن بالأنامل، وقال: "عليكن بالتسبيح، والتهليل، والتقديس، ولا تغفلن فتنسين الرحمة، واعقدن بالأنامل؛ فإنهن مسئولات مستنطقات" . واللَّه أعلم.
[85] حكم قراءة آية الكرسي دبر الصلاة
سائل يسأل عن الأحاديث الواردة في فضل آية الكرسي، وقراءتها أدبار الصلوات... إلخ.
الإجابة:
قد سئل الشيخ عبد اللَّه بن عبد الرحمن أبابطين عن مثل هذا السؤال، فأجاب بقوله: وأما الأحاديث الواردة في فضل آية الكرسي، فمنها ما هو صحيح ثابت، ومنها ما ليس بصحيح. والظاهر أن الحديث الذي فيه أن اللَّه يتولى قبض روح من قرأها دبر كل صلاة (309) لا يصح. وكذلك الحديث المروي عن علي -رضي الله عنه-: "من قرأ آية الكرسي لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت"(310) ... إلخ، الظاهر عدم صحته.
وروى النسائي وابن حبان(311) عن أبي أمامة -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ دبر كل صلاة مكتوبة آية الكرسي لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت" .
قال ابن القيم: بلغني عن شيخ الإسلام -يعني ابن تيمية- أنه قال: ما تركتها بعد كل صلاة إلا نسيانا ونحوه. وقال شيخنا أبو الحجاج المزي: إسناده على شرط البخاري. قال ابن كثير: ورواه ابن مردويه من حديث علي (312) و جابر (313) والمغيرة (314) نحو ذلك، وفي أسانيدها ضعف. واللَّه أعلم.
[86] حكم مصافحة الإنسان مَن حوله بعد الصلاة
نرى بعض إخواننا إذا انصرفوا من الصلاة يشغلون من حولهم بالمصافحة، فتجده يصافح من على يمينه والذي يليه ومن على يساره والذي يليه، ويستمر على هذا، فهل لذلك أصل في الشريعة الإسلامية؟ نرجوكم الإفادة أثابكم اللَّه.
الإجابة:
المصافحة سنة مؤكدة، ومحلها عند التلاقي، فإذا التقى الإنسان بأخيه المسلم سُنّ له أن يسلم عليه ويصافحه.(1/119)
وأما تخصيص المصافحة بعد الفراغ من الصلاة فهذا ليس بمشروع، لاسيما إذا اعتقده سُنّة، وكون الرجل قد اجتمع بمن يليه قبل الصلاة ثم صافحه بعد الصلاة فهذا من البدع التي ينهى عنها؛ لأنه لم يكن من عمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعيهم من السلف الصالح -رضوان اللَّه عنهم-. وفي الحديث: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" (315).
وفي "مجموع فتاوى" شيخ الإِسلام ابن تيمية - رحمه اللَّه- ما نصه(316): وسئل عن المصافحة عقيب الصلاة هل هي سنة أم لا ؟ فأجاب: المصافحة عقيب الصلاة ليست مسنونة ؛ بل هي بدعة. واللَّه أعلم. انتهى.
وسئل الإمام النووي عن ذلك. فأجاب: المصافحة سُنة عند التلاقي، وأما تخصيص بعض الناس لها بعد صلاة العصر، أو الصبح فمعدود من البدع المباحة. والمختار أنه إن كان هذا الشخص قد اجتمع هو وهو قبل الصلاة فهو بدعة مباحة كما قيل، وإن كانا لم يجتمعا فهو مستحب؛ لأنه ابتداء.
وقال الشيخ محمد عبد السلام خضر الشقيري في كتابه "السنن والمبتدعات" : والمصافحة في أدبار الصلوات بدعة. وكلام محققي العلماء في هذا معروف، والأصل فيه حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" (317) ، وفي لفظ: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" .
فظهر بهذا أن المصافحة بعد انتهاء المصلي من صلاته ليست مشروعة، بل هي بدعة. وهي تشوش على الإنسان ما هو مهتم به من الأذكار المشروعة بعد الصلاة كالتسبيح، والتحميد، والتهليل ثلاثا وثلاثين، وقراءة آية الكرسي، و{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، والمعوذتين، وقول: اللَّهم أنت السلام، ومنك السلام، وغيرها مما ورد. واللَّه أعلم.
[87] الأصل: ترك الأعمال لأداء الصلاة
سائل يسأل: هل يجوز التدريس وجميع الأعمال وقت أداء الناس الصلاة؟
الإجابة:(1/120)
الواجب على أهل الأعمال من مدرسين وموظفين وغيرهم من أهل الأشغال المبادرة بأداء الصلاة أول وقتها مع الجماعة. فإذا أدوها عادوا لإكمال ما بقي من أعمالهم. ولا يجوز العمل الذي يفوت صلاة الجماعة مهما كان نوعه.
باب الأذان [88] حكم أذان المسافر و من يصلي خارج البلد
خرجنا مع مجموعة من الزملاء آخر النهار إلى خارج البلد للتمشية، وشم الهواء، ولما غابت الشمس، وأردنا الصلاة قام أحد الإخوان ليؤذن، فقال بعضهم: تكفي الإقامة عن الأذان. وقال آخرون: بل نؤذن ونقيم. وأورد بعضهم أن الأذان لا يجب إلا على المقيم في البلد. وأخيرا اتفقنا على أن نؤذن ونقيم على أن نسأل عن حكم هذه المسألة، وهل يجب الأذان على المسافر كما يجب على المقيم في البلد. أم لا؟
الإجابة:
الأذان من محاسن هذه الشريعة الإسلامية، ومن شعائر الإسلام الظاهرة، ومما يفرق به بين المسلمين وغيرهم، وهو فرض كفاية. ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يدع الأذان حضرا، ولا سفرا. ولهذا قال المحققون بوجوبه في السفر، كما يجب في الحضر. قال ابن المنذر(318): الأذان والإقامة واجبان على كل جماعة في الحضر والسفر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به مالك بن الحويرث. والأمر للوجوب. اهـ. وداوم عليه صلى الله عليه وسلم هو وخلفاؤه وأصحابه؛ لأنه من شعائر الإسلام الظاهرة، فكان فرضا كالجهاد. وهذا الأصح دليلا. وهو رواية عن الإمام أحمد. وإن كان المشهور من المذهب خلافه. ومن الأدلة على وجوبه في السفر ما أشار إليه ابن المنذر فيما تقدم من أمره صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث. ولفظه: "إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم" . متفق عليه(319). والأمر ظاهره الوجوب.(1/121)
وعلى كل فقد ورد في فضله أحاديث كثيرة، حُق على من نَصَح نفسه أن يغتنم فضله، ولا يفرط فيه. فمما ورد فيه: حديث عبد الرحمن بن عبد اللَّه ابن عبد الرحمن بن أبي صعصعة عن أبيه أن أبا سعيد الخدري قال له: "إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت للصلاة، فارفع صوتك بالنداء؛ فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة" . قال أبو سعيد: سمعته من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم . رواه البخاري وغيره(320) . وعن ابن عمر مرفوعا: "يغفر للمؤذن منتهى أذانه، ويستغفر له كل رَطْب ويابس سمع صوته" . رواه أحمد وغيره (321). وعن أبي هريرة مرفوعا: "المؤذن يغفر له مدى صوته، ويستغفر له كل رطب ويابس" . رواه أحمد وغيره(322). وعن أبي هريرة مرفوعا: "إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين..." الحديث 323وعن عقبة بن عامر مرفوعا: "يعجب ربك من راعي غنم، في رأس شظية الجبل يؤذن بالصلاة، ويصلي فيقول اللَّه تعالى: انظروا إلى عبدي هذا يؤذن ويقيم الصلاة، يخاف مني، قد غفرت لعبدي، وأدخلته الجنة" . رواه أبو داود وغيره(324).
وفي معنى ما ذكر أحاديث أخرى تركنا إيرادها اختصارا. وهي تدل على مشروعية الأذان بالسفر حتى للرجل الواحد، فكيف بالجماعة إذا خرجوا للنزهة؟! فحكمهم كالمقيمين.
وفي هذا دليل على رفع الصوت بالأذان، وأنه لا يسمعه جن، ولا إنس، ولا شجر، ولا رطب، ولا يابس إلا أجابه، واستغفر له، وشهد له يوم القيامة. قال الخطابي: إنه يستكمل مغفرة اللَّه إذا استوفى وسعه في الصوت، فيبلغ الغاية من المغفرة إذا بلغ الغاية من الصوت. اهـ. واللَّه أعلم.
[89] صفة إجابة المؤذن
ورد سؤال عن صفة إجابة المؤذن إذا وصل إلى قوله: (حي على الصلاة) فهل يقول: (حي على الصلاة) أو يقول: (لا حول ولا قوة إلا باللَّه) ؟ نرجوكم الإفادة.
الإجابة:(1/122)
ثبت في "الصحيحين" (325) عن أبي سعيد -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول" . فظاهر هذا أنه يقول: حي على الصلاة. وقال الخرقي وجماعة من الأصحاب: يستحب لمن سمع المؤذن أن يقول مثل ما يقول. ولم يستثنوا شيئا؛ فظاهر إطلاقهم أنه يقول: حي على الصلاة.
والمشهور من المذهب أنه يقول: (لا حول ولا قوة إلا باللَّه) وهو قول أكثر الأصحاب؛ لما ورد في حديث عمر: "فإذا قال: حي على الصلاة قال: لا حول ولا قوة إلا باللَّه" . رواه مسلم (326) وهذا أخص من حديث أبي سعيد المتقدم.
وقال الموفق في "المغني"(327): أو يجمع بينهما، يعني فيقول: حي على الصلاة، لا حول ولا قوة إلا باللَّه. وحكى المجد في "شرح الهداية" استحباب الجمع بينهما عن بعض الأصحاب.
وكذا يقال في إجابته على قول المؤذن: (الصلاة خير من النوم) ، فإما أن يجيبه بمثلها، وإما أن يقول: (صدقت وبررت) ، وإما أن يجمع بينهما فيقول: (صدقت وبررت، الصلاة خير من النوم) ، ذكره ابن مفلح في "حواشي المحرر"(328). واللَّه أعلم.
[90] الذي يجاوب المؤذن هل يتكلم بين جمل الإجابة أو يسكت؟
سائل يسأل عن حكم الذي يسمع المؤذن وهو يقرأ القرآن - أو الحديث- هل يستمر بقراءة القرآن أم يتوقف ويجاوب المؤذن أم يجمع بينهما فيقرأ القرآن ويجاوب المؤذن بعد كل فقرة ؟ وإذا فاته مجاوبة المؤذن لغفلة أو غيرها حتى فرغ فهل يقضي الإجابة أم يقال: سنة فات محلها ؟ وهل يجوز الكلام بين كلمات الإجابة أم يسكت وينصت ويصغي حتى ينتهي المؤذن من الأذان ؟
الإجابة:(1/123)
قال في "الدرر السنية" : سئل الشيخ سعيد بن حجي عمن سمع الأذان وهو يقرأ القرآن، أو يسبح، أو يقرأ حديثا، أو علما آخر، أو غيره، فإنه يقطع جميع هذه، ويجيب المؤذن ثم يعود إلى ما كان فيه. وحيث لم يتابعه حتى فرغ المؤذن يستحب أن يتدارك المتابعة ما لم يطل الفصل. وقال في "الإقناع" : فيقطع التلاوة، ويجيب؛ لأنه يفوت والقراءة لا تفوت.انتهى. فظهر أن المختار قطع القراءة، ومتابعة المؤذن، وأنه إذا لم يتابعه يتدارك بالقضاء إن لم يطل الفصل.
وسئل الشيخ عبد اللَّه بن عبد الرحمن أبابطين عن مجيب المؤذن. هل يجوز له الكلام بين كلمات الإجابة، أم يكره ؟ فأجاب: لم أر في ذلك كلاما لأحد. والظاهر عدم الكراهة، مع أن الأولى عندي أن لا يشوبه بغيره من الكلام، بخلاف تالي القرآن، فالذي أرى كراهة الإجابة بين الكلمات، أو الآيات، فلا يدخل بين أبعاضه -أي: أبعاض القرآن- ذِكْرًا غير متعلق بالقراءة، كسؤالٍٍ عند آية رحمة، واستعاذة عند آية عذاب. يدل لذلك قول من قال من العلماء: إن القارئ إذا سمع الأذان يقدم إجابة المؤذن على القراءة ؛ لأن ذلك يفوت، والقراءة لا تفوت، ولم يقولوا يجمع بينهما. اهـ. واللَّه أعلم.
[91] حكم الأذان والإقامة للمنفرد
سائل يسأل عن المنفرد إذا أراد الصلاة: هل يؤذن أو يقيم ؟
الإجابة:
الذي نص عليه الفقهاء في مثل هذا أنه يشرع له أن يؤذن ويقيم. فإن خاف التشويش إذا رفع صوته أَسَر بالأذان والإقامة، بمقدار ما يُسْمِعُ نفسه. فلو ترك الأذان واكتفى بالإقامة فلا بأس، كمن جمع بين صلاتين، فإنه يؤذن للأولى ويقيم لها، ويكتفي بالإقامة للثانية. واللَّه أعلم.
[92] حكم من دخل المسجد حال الأذان
إذا دخلتُ المسجد والمؤذن قد شرع في الأذان. فهل أصلي تحية المسجد ركعتين أم أجاوب المؤذن ؟ وإذا قدر أني جلست قبل صلاة تحية المسجد فهل أقوم وأقضيها أم هي سنة فات محلها ؟
الإجابة:(1/124)
الأَوْلى لك مجاوبة المؤذن أولاً، ثم تصلي تحية المسجد بعد ذلك. إلا يوم الجمعة لو صادف دخولك المسجد وقد شرع المؤذن في الأذان الأخير بعد دخول الخطيب، فينبغي في مثل هذه الحالة المبادرة بصلاة تحية المسجد حالما تدخل؛ لأن سماع الخطبة أهم من الانتظار لإجابة المؤذن. قال في "كشاف القناع" : ولو دخل والمؤذن قد شرع في الأذان لم يأت بتحية المسجد، ولا بغيرها، بل يجيب المؤذن حتى يفرغ من أذانه، ثم يصلي التحية بسرعة؛ ليجمع بين أجر الإجابة؛ وأجر التحية. قال في "الفروع" : ولعل المراد غير الذي يكون بين يدي الخطيب يوم الجمعة؛ لأن سماع الخطبة أهم من الإجابة، فيصلي تحية المسجد إذا دخل. اهـ. (329).
فإن جلس قبل صلاة تحية المسجد قام فأتى بها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لمن جلس قبلها: "قم فاركع ركعتين" . وفي رواية: "قم فصل ركعتين" (330). ما لم يطل الفصل بعد جلوسه، فيفوت محلها ولا تُقضى؛ لأنها سنة فات محلها. واللَّه أعلم.
[93] الأصل: إجابة المؤذن
إذا أذن المؤذن وأنا مشتغل بقراءة القرآن؛ فهل الأفضل لي أن أستمر في قراءتي أم أقطعها وأجاوب المؤذن؟ وإذا فاتني بعض جُمَل الأذان ما جاوبت المؤذن عليها هل أقضيها، أم هي سنة فات محلها؟
الإجابة:
قال في "الأذكار"(331): إذا كان يقرأ القرآن، أو يسبح، أو يقرأ حديثا، أو علما آخر، أو غير ذلك فإنه يقطع جميع هذا، ويجيب المؤذن ثم يعود إلى ما كان فيه؛ لأن الإجابة تفوت، وما هو فيه لا يفوت غالبا. وحيث لم يتابعه حتى فرغ المؤذن يستحب أن يتدارك المتابعة، ما لم يطل الفصل. وقال في "الإقناع" : فيقطع التلاوة ويجيب؛ لأنه يَفُوت، والقراءة لا تفوت. اهـ. فظهر بهذا أن المختار قطع القراءة، ومتابعة المؤذن، وأنه إذا لم يتابعه يتدارك بالقضاء إن لم يطل الفصل. واللَّه أعلم.
باب شروط الصلاة [94] حكم من صلى شاكًّا في دخول الوقت(1/125)
سائل يسأل عن رجل صلى صلاة الفجر قبل دخول وقتها ، فهل تصح صلاته أم لا ؟
الإجابة:
دخول الوقت شرط من شروط الصلاة، بل هو شرط للصلاة وسبب لوجوبها. فلا تجب الصلاة قبل دخول وقتها؛ لأنها تضاف إليه وتتكرر بتكرره. فمن صلى قبل غلبة ظنه بدخول وقتها لم تجزئه.
وقد ذكر العلماء أن الإنسان إما أن يصلي بعد تيقنه من دخول الوقت، أو عن غلبة ظن، أو يصلي شاكا في دخول الوقت. فإن صلى بعد تحققه من دخول الوقت يقينا فصلاته صحيحة. وإن صلى عن غلبة ظن فله ثلاث حالات:
إحداها: أن يتبين له بعد صلاته أنه صلى في الوقت.
الثانية: أن يتبين أنه صلى قبل دخول الوقت.
الثالثة: أن لا يتبين له شيء.
ففي الحالة الأولى والثالثة صلاته صحيحة مجزئة، بخلاف الحالة الثانية فتلزمه الإعادة؛ لتبين أنه صلى قبل الوقت، وهو غير مخاطب بها، ولا يلزم من ذلك أن تكون صلاته باطلة، بل هي تعتبر في حقه نافلة. هذا كله في حال غلبة الظن.
وأما مع الشك، فلا تجزئه بكل حال، بل يجب عليه إعادتها مطلقا؛ لأن الأصل عدم دخول الوقت، ولأنه صلى وهو شاك في دخوله. فلو فرضنا أنه صادف دخول الوقت لم تجزئه؛ لأن العبرة في العبادات بما في ظن المكلف، لا بما في نفس الأمر. واللَّه أعلم.
باب صفة الصلاة [95] حكم الإقعاء في الصلاة و صفته
سائل يسأل عن حكم الإقعاء في الصلاة، وما صفته، وهل الحديث الوارد فيه مرفوع، ومن رواه، وما الحكمة في ذلك؟
الإجابة:
أما الحديث الوارد فيه، فرواه ابن ماجه (332)، عن الحارث، عن علي -رضي الله عنه- قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "لا تُقْع بين السجدتين" .
وعن أنس -رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رفعت رأسك من السجود فلا تُقْعِ كما يُقْعي الكلب" . رواه ابن ماجه أيضا(333). وكلاهما فيه مقال.
وفي حديث عائشة - رضي اللَّه عنها- عند مسلم: "وكان ينهى عن عقبة الشيطان" (334).(1/126)
قال النووي(335): أحاديث النهي رواها الترمذي وغيره من رواية علي، وابن ماجه من رواية أنس، وأحمد بن حنبل من رواية سمرة وأبي هريرة، والبيهقي من رواية سمرة وأنس، وأسانيدها كلها ضعيفة اهـ.
وأما حكمه فهو الكراهة. صرح بذلك فقهاؤنا -رحمهم اللَّه-. فقالوا: ويكره للمصلي إقعاؤه في الصلاة. فكأنهم حملوا النهي على أنه للتنزيه؛ لا للتحريم.
وأما صفته فقيل: هي أن يفترش قدميه ويجلس على عقبيه. كذا فسره الإمام أحمد. قال أبو عبيد: هو قول أهل الحديث. وقال الشيشيني في "شرح المحرر" : هي أن يجعل أصابع قدميه على الأرض، ويكون عقباه قائمين وأليتاه على عقبيه. وهذا عام في جميع جلسات الصلاة.
فقوله: أن يفترش قدميه أي: أصابع قدميه. وقيل: هي أن ينصب قدميه ويجلس بينهما، ملصقا أليتيه على الأرض.
وقيل: أن يجلس على أليتيه على الأرض ناصبا فخذيه مثل إقعاء الكلب.
وقال في "سبل السلام" على حديث عائشة المتقدم: "وكان ينهى عن عقبة الشيطان" . وفسرت بتفسيرين:
أحدهما: أن يفترش قدميه ويجلس بأليتيه على عقبيه، لكن هذه القعدة اختارها العبادلة في القعود في غير الأخير، وهذه تسمى إقعاء، وجعلوا المنهي عنه هو الهيئة الثانية، وتسمى أيضا إقعاء، وهي أن يلصق الرجل أليتيه في الأرض وينصب ساقيه وفخذيه، ويضع يديه على الأرض، كما يقعي الكلب. انتهى.(1/127)
وأما الحكمة في النهي عنه: فلا شك أن الشارع الحكيم لا ينهى عن شيء إلا لحكم ومصالح. وقد نُهي المصلي أن يتشبه بالحيوانات حال صلاته؛ فنهي عن بروك كبروك البعير، والتفات كالتفات الثعلب، وإقعاء كإقعاء الكلب، وافتراش ذراعيه كافتراش الكلب، ونقر كنقر الغراب، ورفع الأيدي حال السلام كأذناب خيلٍ شُمْسٍ، وتَدْبيح كتَدْبيح الحمار حال الركوع؛ وهو أن يمد عنقه خافضا له ويطأطئ رأسه حتى يكون أخفض من ظهره. فهذه سبع هيئات من هيئات الصلاة أمرنا بمخالفة الحيوانات فيها ؛ تكريما للإنسان عن مشابهة الحيوان وإقامة للصلاة على الوجه الأكمل الذي يرضي الشارع. واللَّه أعلم.
[96] من السنة: قراءة سورة السجدةفي صلاة الفجر يوم الجمعة
إمام يقرأ سورة {ألم} السجدة في صلاة الفجر يوم الجمعة كل جمعة، ويداوم على ذلك. فما حكم فعله هذا ؟
الإجابة:
تلك السُّنة - أعني قراءة سورة السجدة في صلاة الفجر- فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرؤها في الركعة الأولى، ويقرأ في الثانية سورة {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ} (336).
لكن إذا كان هذا الإمام يخشى أن يظن الجهال وجوب قراءتها فمن المستحسن أن يفصل بقراءة غيرها في بعض الأحيان. واللَّه أعلم.
[97] حكم جلسة الاستراحة
رجل يقول: صليت إلى جانب رجل، وأعجبت بصلاته وحسن أدائه لها، إلا أنه إذا قام إلى الركعة الثانية لا ينهض إلى القيام حتى يجلس جلسة خفيفة، مثل جلسة ما بين السجدتين. وقد نهيته فلم ينته. وقال: هذه هي السنة.
الإجابة:
الحمد لله. هذه الجلسة تسمى جلسة الاستراحة. وقد اختلف فيها العلماء - رحمهم اللَّه- فمِن قائل: إنها سنة مطلقا، يعني: سواء أكان المصلي بحاجة إليها أم لا. ومن قائل: إنها لا تسن مطلقا، سواء أكان المصلي بحاجة إليها أم لا. ومن قائل: إنها تسن إذا كان المصلي محتاجا إليها فقط. وبهذا يحصل الجمع بين الأحاديث.(1/128)
قال في "سبل السلام"(337): عن مالك بن الحويرث -رضي الله عنه- أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فإذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعدا. رواه البخاري(338). وفي لفظ له: فإذا رفع رأسه من السجدة الثانية جلس، واعتمد على الأرض، ثم قام(339). وأخرج أبو داود من حديث أبي حميد -في صفة صلاته صلى الله عليه وسلم - وفيه: ثم أهوى ساجدا، ثم ثنى رجليه، وقعد حتى رجع كل عضو في موضعه، ثم نهض(340). وقد ذُكرت هذه القعدة في بعض ألفاظ رواية حديث (المسيء صلاته) .
وفي الحديث دليل على شرعية هذه القعدة بعد السجدة الثانية من الركعة الأولى، والركعة الثالثة، ثم ينهض لأداء الركعة الثانية، أو الرابعة، وتسمى جلسة الاستراحة.
وقد ذهب إلى القول بشرعيتها الشافعي في أحد قوليه. وهو غير المشهور عنه. والمشهور عنه- وهو رأي الهادوية والحنفية ومالك وأحمد وإسحاق- أنه لا يشرع القعود هذا؛ مستدلين بحديث وائل بن حُجْر في صفة صلاته صلى الله عليه وسلم بلفظ: فكان إذا رفع رأسه من السجدتين استوى قائما. أخرجه البزار في "مسنده" ، إلا أن النووي ضعفه(341). وبما رواه ابن المنذر من حديث النعمان بن أبي عياش. قال: أدركت غير واحد من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فكان إذا رفع رأسه من السجدة في أول ركعة وفي الثالثة قام كما هو ولم يجلس (342).
ويجاب عن الكل بأنه لا منافاة ؛ إِذْ مَنْ فَعَلَها فلأنها سنّة، ومن تركها فكذلك.اهـ.
وأما كلام فقهاء الحنابلة، فقال في "غاية المنتهى" و "شرحها" : ولا تسن جلسة الاستراحة وهي جلسة يسيرة، صفتها كجلوس بين سجدتين بعد السجدة الثانية من كل ركعة بعدها قيام. والاستراحة طلب الراحة، كأنه حصل له إعياء فيجلس ليزول عنه. والقول بعدم استحبابها مطلقا هو المذهب المنصور عند الأصحاب.(1/129)
وما روى مالك بن الحويرث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلس إذا رفع رأسه من السجود قبل أن ينهض. أخرجه البخاري (343) أجيب بأنه كان في آخر عمره عند كبره؛ جمعا بين الأخبار. انتهى. واللَّه أعلم.
[98] حكم التورك والافتراش في الصلاة
سائل يسأل عن صفة جلوس التورك، والافتراش. وإذا جلس للتشهد الأخير بصلاة الفجر ونحوها، فهل يتورك أم يفترش ؟
الإجابة:
صفة الافتراش: أن يجلس على رجله اليسرى بعد أن يفرشها، أي: يجعل ظهرها مما يلي الأرض، ويجلس عليها.
أما التورك: فهو أن يخرجها - أعني: رجله اليسرى- من تحته إلى جانب يمينه، ويجعل أليتيه على الأرض.
وفي كلتا الحالتين -أعني: التورك والافتراش- فالرجل اليمنى منصوبة على جهة يمينه، قائمة، وأطراف أصابعها موجهة إلى القبلة. هذه صفة التورك والافتراش.
وأما مشروعية كل منهما: فالتورك يشرع في التشهد الأخير من كل صلاة فيها تشهدان، وما عداه فإنه يفترش.
وإليك كلام الفقهاء في ذلك: قال في "غاية المنتهى" وشرحها "مطالب أولي النهى" : ولا يتورك في ثنائية، بل يفترش. والتورك هو أن يفرش رجله اليسرى، وينصب رجله اليمنى، ويخرجها -أي رجليه- من تحته، عن يمينه، ويجعل أليتيه على الأرض؛ لقول أبي حميد في صفة صلاته صلى الله عليه وسلم : فإذا كان في الرابعة، أفضى بَورِكه اليسرى إلى الأرض، وأخرج قدميه من ناحية واحدة. رواه أبو داود (344).
وخص التشهد الأول بالافتراش والثاني بالتورك؛ خوف السهو، ولأن الأول خفيف، والمصلي بعده يبادر للقيام، بخلاف الثاني، فليس بعده عمل، بل يسن له إطالته بنحو تسبيح، ودعاء(345). واللَّه أعلم.
[99] أيهما أفضل: طول القيام أو كثرة الركوع والسجود ؟
كنا جماعة من الإخوان، وجرى ذكر قيام الليل، واختلفت وجهات نظرنا في الأفضل: هل طول القيام أم كثرة الركوع والسجود. فنرجوكم الإفادة عن ذلك، مع ذكر الدليل على ما تقولون. أثابكم اللَّه.
الإجابة:(1/130)
هذه المسألة فيها عدة أقوال في مذهب الإمام أحمد وغيره. فالمشهور من المذهب لدى الحنابلة: أن كثرة الركوع والسجود أفضل من طول القيام فيما لم يرد تطويله. واستدلوا لهذا بحديث ثوبان الذي رواه مسلم في "صحيحه" ، ولفظه: عن معدان بن أبي طلحة اليعمري، قال: لقيت ثوبان مولى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فقلت: أخبرني بعمل أعمله يدخلني اللَّه به الجنة -أو قال: بأحب الأعمال إلى اللَّه- فسكت. ثم سألته، فسكت. ثم سألته الثالثة. فقال: لقد سألتُ عن ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: "عليك بكثرة السجود، فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك اللَّه بها درجة، وحط بها عنك خطيئة" . رواه مسلم(346). وحديث: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد"(347). وحديث ربيعة بن كعب الأسلمي لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أسألك مرافقتك في الجنة، فقال له صلى الله عليه وسلم : "أَعِنِّي على نفسك بكثرة السجود" . رواه أحمد ومسلم وأبو داود (348) ؛ ولأن السجود في نفسه أفضل وآكد، بدليل أنه يجب في الفرض والنفل، ولا يباح بحال إلا لله تعالى. وأما القيام، فلا يجب في النفل، ويباح في غير الصلاة: للوالدين، والعالم، وسيد القوم، ونحوهم. والاستكثار مما هو أفضل وآكد أولى. وعن الإمام أحمد رواية أخرى: أن طول القيام أفضل؛ وفاقًا لأبي حنيفة، والشافعي، وعنه: التساوي. اختاره صاحب "المحرر" ، وحفيده شيخ الإسلام ابن تيمية. وقال -رحمة اللَّه عليه-: التحقيق أن نفس الركوع والسجود أفضل من نفس القيام، وأن ذِكْرَ القيام -وهو قراءة القرآن- أفضل من ذِكْرِ الركوع والسجود -وهو التسبيح والدعاء- فاعتدلا؛ ولهذا كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم معتدلة؛ فإذا أطال القيام أطال الركوع والسجود، وإذا خفف القيام خفف الركوع والسجود؛ حتى يتقاربا.
وقال الشوكاني في "نيل الأوطار"(349): وفي هذه المسألة مذاهب:(1/131)
أحدها: أن تطويل السجود وتكثير الركوع والسجود أفضل. حكاه الترمذي والبغوي عن جماعة. وممن قال بذلك ابن عمر.
والمذهب الثاني: أن تطويل القيام أفضل؛ لحديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل الصلاة طول القنوت" . رواه أحمد ومسلم وابن ماجه والترمذي وصححه(350). وإلى ذلك ذهب الشافعي، وجماعة. وهو الحق كما سيأتي.
والمذهب الثالث: أنها سواء.
وتوقف أحمد بن حنبل في المسألة، ولم يقض فيها بشيء.
وقال إسحاق بن راهويه: أما في النهار، فتكثير الركوع والسجود أفضل. وأما في الليل، فتطويل القيام، إلا أن يكون للرجل جزء بالليل يأتي عليه؛ فتكثير الركوع والسجود أفضل؛ لأنه يقرأ جزأه، ويربح كثرة الركوع والسجود.
قال ابن عدي: إنما قال إسحاق هذا؛ لأنهم وصفوا صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالليل بطول القيام، ولم يوصف مِن تطويله بالنهار ما وصف مِن تطويله بالليل. اهـ.
[100] هل يجهر المسبوق والمنفرد بقراءة الصلاة الجهرية؟
الشخص الذي تفوته صلاة الجماعة الجهرية، هل يجهر بالقراءة إذا صلاها وحده أم لا، وكذلك المسبوق، إذا قام يقضي ما فاته من الصلاة؟
الإجابة:
الحمد لله وحده. أولا: ينبغي أن نعلم أن الجهر والإخفات من سنن الصلاة. فصلاة النهار سرية، يُسِرّ المصلي بالقراءة فيها بمقدار ما يُسْمِعُ نفسه نطقه بالكلمات التي ينطق بها: من قراءة، وتكبير، وتسبيح وتشهد، وغيرها. وصلاة الليل جهرية، ما لم يكن المصلي مأموما؛ فإنه لا يجهر بالقراءة، وإنما ينطق بالحروف بمقدار ما يُسمع نفسه. فإن كان إماما، فإنه يجهر بمقدار ما يُسمع مَنْ خلفه.
وإن كان منفردا، أو مأموما فاته بعض الصلاة، فقال في "شرح الغاية" (ص 627) : والمأموم إذا فاته ركعتان من المغرب والعشاء جهر في قضائهما. انتهى.(1/132)
وقال في "الإقناع" و"شرحه" (ص 228) : ويُخَيَّرُ منفرد، وقائم لقضاء ما فاته بعد سلام إمامه بين جهر بالقراءة، وإخفات بها؛ لأنه لا يراد منه إسماع غيره، ولا استماعه إليه، بخلاف الإمام والمأموم.
وأما المتنفل، فينبغي له مراعاة المصلحة، فإن كان يشوش على غيره، أو يخشى شيئا بجهره -فإنه يُسِرّ بالقراءة بمقدار ما يُسمع نفسه. وإن كان في جهره في القراءة مصلحة، مثل طرد الوسواس، أو زيادة تأمل معنى ما يقرؤه، ونحو ذلك- فإنه يجهر به جهرا نسبيا لا تشويش فيه.
وقال فقهاؤنا -رحمهم اللَّه-: والمتطوع ليلا يراعي المصلحة، فإن كان الجهر أنشط في القراءة، أو بحضرته من يستمع قراءته، أو ينتفع بها- فالجهر أفضل؛ لما يترتب عليه من هذه المصالح. وإن كان بقربه من يتهجد أو يستضر برفع صوته: من نائم، أو غيره، أو خاف رياء- فالإسرار أفضل؛ دفعا لتلك المفسدة. واللَّه أعلم.
باب صلاة التطوع وأوقات النهي [101] أوقات النهي بمكة
سائل يسأل عن أوقات النهي عن الصلاة، هل هي عامة في مكة وغيرها من البلدان أم أن مكة مستثناة ولها حكم يخصها، وهل ما يَخُصُّ مكة مقيَّد بركعتي الطواف أم أنه لا نهي عن الصلاة فيها مطلقا، سواءٌ ركعتا الطواف وغيرها من النوافل المطلقة والمقيدة؟
الإجابة:
هذه المسألة مما اختلف العلماء فيها:
فقال بعض العلماء: إن مكة كغيرها في النهي عن صلاة التطوع إلا ركعتي الطواف خاصة.
وقال آخرون: لا نهي بمكة؛ فتباح بها جميع النوافل، سواء ركعتا الطواف، أو غيرها.
والقول الأول هو المشهور من مذهب الحنابلة: قال في "مطالب أولي النهى شرح غاية المنتهى" : ومكة كغيرها في النهي عن الصلاة في هذه الأوقات إلا ركعتي الطواف. انتهى.
وقال في "المغني"(351): (فصل) ولا فرق بين مكة وغيرها في المنع من التطوع في أوقات النهي.(1/133)
وقال الشافعي: لا يُمنع فيها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبير بن مطعم: "لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت، وصلى، في أيّ ساعة شاء، من ليل أو نهار"(352). وعن أبي ذر قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: لا يصلين أحد بعد الصبح إلى طلوع الشمس؛ ولا بعد العصر إلى أن تغرب الشمس، إلا بمكة" . يقول ذلك ثلاثا. رواه الدارقطني (353).
ولنا عموم النهي، وأنه معنى يَمْنَعُ الصلاةَ؛ فاستوت فيه مكة -وغيرها- كالحيض، وحديثهم أراد به ركعتي الطواف، فيختص بهما. وحديث أبي ذر ضعيف، يرويه عبداللَّه بن المؤمل، وهو ضعيف، قاله يحيى بن معين. انتهى.
وقال في "الإنصاف"(354): الصحيح من المذهب أن المنع في وقت النهي متعلق بجميع البلدان، وعليه الأصحاب. وعنه: لا نهي بمكة. وهو قول في "الحاوي" وغيره. وتأوله القاضي على فعل ما له سبب، كركعتي الطواف. قال المجد في "شرحه" : وهو خلاف الظاهر. انتهى.
وقال في "سبل السلام" (355) على حديث جبير بن مطعم السابق: وهو دال على أنه لا يكره الطواف بالبيت ولا الصلاة فيه، في أي ساعة من ساعات الليل والنهار، وقد عارض ما سلف،يعني: من النهي، فالجمهور عملوا بأحاديث النهي ترجيحا لجانب الكراهة؛ ولأن أحاديث النهي ثابتة في الصحيحين، وغيرهما. وهي أرجح من غيرها.
وذهب الشافعي وغيره إلى العمل بهذا الحديث. قالوا: لأن أحاديث النهي قد دخلها التخصيص بالفائتة، والمنوم عنها، والنافلة التي تقضى. فضعفوا جانب عمومها؛ فتخصص أيضا بهذا الحديث. ولا تكره النافلة بمكة في أي ساعة من الساعات، وليس هذا خاصا بركعتي الطواف، بل يعم كل نافلة؛ لرواية ابن حبان في "صحيحه" : "يا بني عبد المطلب، إن كان لكم من الأمر شيء، فلا أعرفن أحدا منكم يمنع من يصلي عند البيت، أية ساعة شاء، من ليل أو نهار" 356(1/134)
قال في "النجم الوهاج" : وإذا قلنا بجواز النفل -يعني: في المسجد الحرام- في أوقات الكراهة، فهل يختص ذلك بالمسجد الحرام، أو يجوز في جميع بيوت حرم مكة؟ فيه وجهان. والصواب أنه يعم جميع الحرم. انتهى. واللَّه أعلم.
[102] كيفية صلاة الاستخارة و دعائها
تسأل امرأة عن صفة صلاة الاستخارة، والدعاء الذي يدعى به فيها، وهل يدعى به في نفس الصلاة أم بعد السلام منها ؟
الإجابة:
صلاة الاستخارة ركعتان يفعلهما في غير وقت النهي. وهي سنة مؤكدة. فإذا هَمّ الإنسان بالأمر، ولم يعزم على شيء معين، فيسن له أن يصلي صلاة الاستخارة؛ لحديث جابر بن عبد اللَّه، قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها، كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: "إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللَّهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللَّهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري - أو قال: عاجل أمري وآجله - فاقدره لي، ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني، ومعاشي، وعاقبة أمري - أو قال: عاجل أمري وآجله - فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم أرضني به" .
وقال: "ويسمي حاجته" . رواه الجماعة إلا مسلما (357).
قال في "نيل الأوطار"(358): في قوله: (يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها) دليل على العموم، وأن المرء لا يحتقر أمرًا لصغره وعدم الاهتمام به؛ فيترك الاستخارة فيه. فرب أمر يستخف به فيكون في الإقدام عليه ضرر عظيم...(1/135)
قال النووي: ينبغي أن يفعل بعد الاستخارة ما ينشرح له، فلا ينبغي أن يعتمد على انشراح كان له فيه هوى قبل الاستخارة، بل ينبغي للمستخير ترك اختياره رأسًا، وإلا فلا يكون مستخيرا لله، بل يكون مستخيرا لهواه، وقد يكون غير صادق في طلب الخيرة وفي التبرؤ من العلم والقدرة وإثباتهما لله تعالى، فإذا صدق في ذلك تبرأ من الحول والقوة ومن اختياره لنفسه. اهـ.
وأما عن السؤال: هل يدعى به في نفس الصلاة أم بعد السلام منها؟ فالمشهور من المذهب أنه يدعى به بعد السلام.
قال في "غاية المنتهى" و"شرحها" ، للشيخ مرعي الكرمي: وتسن صلاة الاستخارة إذا هم بأمر. وهي ركعتان يركعهما، ثم يقول بعدهما: "اللَّهم إني أستخيرك بعلمك..." الحديث. ولا يكون مع الاستخارة عازما على الأمر الذي يستخير فيه أو على عدمه؛ فإنه خيانة في التوكل. ثم يستشير، فإذا ظهرت المصلحة في شيء فعله؛ فينجح مطلوبه بإذن اللَّه. وباللَّه التوفيق.
[103] المسافر هل يصلي النوافل في سفر القصر؟
سائل يسأل عن الإنسان المسافر الذي يقصر الصلاة، هل يشرع له أن يتطوع بنوافل الصلاة مثل السنن الرواتب، وصلاة الضحى، وقيام الليل، ونحو ذلك أم لا؟
الإجابة:
النوافل التي يتنفلها الإنسان في السفر، إما أن تكون مما يتعلق بالصلوات المفروضة، ويتوقت بوقتها، ويقترن بها. وذلك كالسنن الرواتب التي تفعل قبل الصلاة وبعدها. فما كان من ذلك النوع، فقد ذكر ابن القيم -رحمه اللَّه- أن من هدي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الاقتصار على الفرض، وأنه لم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلى سنة الصلاة قبلها ولا بعدها إلا ما كان من الوتر وسنة الفجر، فإنه لم يكن ليدعهما حضرا ولا سفرا. قال ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- وقد سئل عن ذلك فقال: صحبت النبي صلى الله عليه وسلم فلم أره يسبح في السفر(359) ، وقال اللَّه عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (360).(1/136)
ومراده بالتسبيح: التنفل بالرواتب، وذلك أن الرباعية قد خففت إلى ركعتين؛ تخفيفا للمسافر. فإذا كان التخفيف بترك بعض الصلاة المفروضة، فترك راتبتها من باب أولى؛ ولهذا قال ابن عمر: لو كنت مسبحا لأتممت (361).
أما إذا كان التطوع من النوع الآخر؛ وهو النوافل المطلقة، مثل قيام الليل، وصلاة الضحى، وسجدة التلاوة، وسجدة الشكر، وصلاة الحاجة، ونحو ذلك - فلا بأس بفعلها في السفر. وقد سئل الإمام أحمد عن مثل هذا فقال: أرجو ألا يكون بالتطوع في السفر بأس. واللَّه أعلم.
[104] هل يصلي الراتبة موضع الفريضة ؟
صليت المغرب في المسجد الجامع، وكان إلى جانبي رجل يظهر أنه من طلبة العلم. فقام ليصلي الراتبة بعد الصلاة، وحاول أن ينتقل من المكان الذي صلى فيه المغرب إلى محل آخر؛ فلم يجد، فأشار إلى من يليه، وتنحى عنه، فانتقل إلى محله، وصلى الراتبة، وكان بودي أن أسأله عن دليله على عمله هذا غير أنه خرج من المسجد قبل أن أتمكن من ذلك. فما دليه على ذلك أجيبونا مشكورين.
الإجابة:
ورد في ذلك أحاديث وآثار لا تخلو من مقال، غير أنها إذا اجتمعت يعضد بعضها بعضا، وأخذ الفقهاء -رحمهم اللَّه- منها: استحباب انتقال المصلي من مصلاه إلى غيره إذا أراد أن يتنفل. وبعضهم خص ذلك بالإمام، كما هو المشهور من المذهب. وإليك بعض ما ورد في ذلك:
قال المجد بن تيمية في كتابه المشهور "منتقى الأخبار" : باب استحباب التطوع في غير موضع المكتوبة: عن المغيرة بن شعبة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "لا يصلي الإمام في مقامه الذي صلى فيه المكتوبة حتى يتنحى عنه" . رواه ابن ماجه وأبو داود (362) وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيعجز أحدكم إذا صلى أن يتقدم، أو يتأخر، أو عن يمينه، أو عن شماله" . رواه أحمد وأبو داود، ورواه ابن ماجه(363). وقال: يعني السُّبْحة.(1/137)
قال الشارح: والحديثان يدلان على مشروعية انتقال المصلي عن مصلاه الذي يصلي فيه لكل صلاة يفتتحها من أفراد النوافل. أما الإمام، فبنص الحديث الأول، وبعموم الثاني. وأما المؤتم، والمنفرد، فبعموم الحديث الثاني، وبالقياس على الإمام. والعلة في ذلك تكثير مواضع العبادة، كما قال البخاري والبغوي؛ لأن مواضع السجود تشهد له، كما في قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا}(364). أي: تخبر بما عُمِل عليها(365). وورد في تفسير قوله تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْاَرْضُ}(366) أن المؤمن إذا مات بكى عليه مصلاه من الأرض، ومصعد عمله من السماء (367).
وهذه العلة تقتضي أيضا أن ينتقل إلى الفرض من موضع نفله، وأن ينتقل لكل صلاة يفتتحها من أفراد النوافل. فإن لم ينتقل، فينبغي أن يفصل بالكلام؛ لحديث النهي عن أن توصل صلاة بصلاة حتى يتكلم المصلي، أو يخرج. أخرجه مسلم وأبو داود (368).
وقال الإمام البخاري - رحمه اللَّه-: باب: مكث الإمام في مصلاه بعد السلام: وقال لنا آدم: حدثنا شعبة، عن أيوب، عن نافع، قال: كان ابن عمر يصلي في مكانه الذي صلى فيه الفريضة(369). وفعله القاسم، ويذكر عن أبي هريرة رَفعَه: "لا يتطوع الإمام في مكانه" ولم يصح. اهـ.
قال الحافظ في "الفتح"(370) : لضعف إسناده، واضطرابه. وقال: وروى ابن أبي شيبة بإسناد حسن عن علي قال: من السُّنة أن لا يتطوع الإمام حتى يتحلل من مكانه(371).
وحكى ابن قدامة في "المغني"(372) عن أحمد: أنه كره ذلك، وقال: لا أعرفه عن غير علي. فكأنه لم يثبت عنده حديث أبي هريرة ولا حديث المغيرة، وكأن المعنى في ذلك خشية التباس النافلة بالفريضة.
وفي "صحيح مسلم" عن السائب بن يزيد أنه صلى مع معاوية الجمعة، فتنفل بعدها. فقال له معاوية: إذا صليت الجمعة فلا تَصِلْها بصلاة حتى تتكلم، أو تخرج، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا بذلك (373).(1/138)
ففي هذا إرشاد إلى طريق الأمن من الالتباس، وعليه تُحمل الأحاديث النبوية المذكورة. اهـ. واللَّه أعلم.
[105] شفع الوتر أو نقضه
صلينا التراويح في المسجد الجامع. ولما انتهت التراويح والوتر وسلم الإمام من الوتر قام رجل من الحاضرين وألحق ركعة وسلم. وقد كنت أريد أن أسأله عن سبب فعله هذا ولكنه خرج من المسجد قبل أن أتمكن من سؤاله، فأرجوكم الإفادة، وهل ورد عن أهل العلم ما يدل على جواز مثل هذا ؟
الإجابة:
الظاهر أن هذا الرجل يريد أن يتهجد من الليل ويجعل آخر صلاته وترا. فإذا كان هذا قصده فلا بأس بما فعله. وقد نص الفقهاء على جواز ذلك.
فإذا أحب من له تهجد متابعة الإمام في وتره لم يسلم معه، بل ينتظر حتى يسلم الإمام ثم يقوم فيأتي بركعة لكي تشفع له ركعة الوتر، ثم إذا أراد أن يتهجد صلى مثنى مثنى وأوتر بركعة؛ لينال فضيلة متابعة الإمام حتى ينصرف وفضيلة جعل وتره آخر الليل.
وهذا أفضل من نقض الوتر؛ لأن نقض الوتر فيه خلاف بين أهل العلم. والمشهور من المذهب أن الأولى عدم نقض الوتر. وصفة نقض الوتر أن الإنسان إذا أوتر أول الليل ثم قام آخره للتهجد فإنه أول ما يصلي ركعة واحدة تشفع له وتره الذي صلاه أول الليل؛ وبهذا ينقض وتره، ويكون ما صلاه في أول ليله وآخره شفعا، ثم يتهجد ما شاء اللَّه مثنى مثنى، ويختم صلاته بوتر؛ حتى يكون قد أخذ بقوله صلى الله عليه وسلم : " اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا" (374).هذه صفة نقض الوتر.(1/139)
وأما مشروعيته، فقال الموفق في "المغني"(375): ومن أوتر من الليل ثم قام للتهجد، فالمستحب أن يصلي مثنى مثنى ولا ينقض وتره. روي ذلك عن أبي بكر الصديق، وعمار، وسعد بن أبي وقاص، وعائذ بن عمرو، وابن عباس، وأبي هريرة، وعائشة. وكان علقمة لا يرى نقض الوتر. وبه قال طاوس، وأبو مجلز، وبه قال النخعي، ومالك، والأوزاعي، وأبو ثور. وقيل للإمام: أحمد ولا ترى نقض الوتر؟ فقال: لا. ثم قال: وإن ذهب إليه رجل فأرجو؛ لأنه قد فعله جماعة...
إلى أن قال في "المغني" : ولنا ما روى قيس بن طلق، قال: زارنا طلق ابن علي في يوم من رمضان، فأمسى عندنا وأفطر، ثم قام بنا تلك الليلة، ثم انحدر إلى مسجد فصلى بأصحابه، حتى إذا بقي الوتر قدم رجلا. فقال: أوتر بأصحابك؛ فإني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "لا وتران في ليلة" (376) رواه أبو داود، والترمذي، وقال: حديث حسن. وروي عن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- أنه قال: أما أنا، فإني أنام على فراشي، فإن استيقظت صليت شفعا حتى الصباح(377). رواه الأثرم. وكان سعيد بن المسيب يفعله.اهـ.
وحاصل كلام الموفق - رحمه اللَّه- أن الأولى عدم نقض الوتر، وأن الإنسان إذا قام من الليل بعدما أوتر فالأفضل له أن يصلي مثنى مثنى، ولا يوتر قبلها ولا بعدها. وهذا هو المشهور من المذهب. واللَّه أعلم.
[106] صلاة التراويح
سائل يسأل عن صلاة التراويح. هل هي واجبة أم سنة؟ وهل لها عدد معين؟ وهل تشترط لها الجماعة؟ وهل الأفضل للإنسان أن يصليها في بيته كبقية النوافل أم يصليها مع الجماعة في المسجد؟
الإجابة:(1/140)
صلاة التراويح في ليالي رمضان سنة مؤكدة؛ لحديث عائشة -رضي اللَّه عنها- أنها قالت: صلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في المسجد، فصلى بصلاته ناس كثير، ثم صلى من القابلة؛ فكثروا، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة فلم يخرج إليهم. فلما أصبح قال: "قد رأيت صنيعكم، فما يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم" . وذلك في رمضان. متفق عليه(378).
وأما عدد ركعات التراويح، فليس لها عدد معين؛ لعدم ثبوت التحديد عن النبي صلى الله عليه وسلم . قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الفتاوى"(379): إن نفس قيام رمضان لم يوقت فيه النبي صلى الله عليه وسلم عددا معينًا، بل كان هو صلى الله عليه وسلم لا يزيد في رمضان ولا غيره على ثلاث عشرة ركعة، لكن كان يطيل الركعات. فلما جمعهم عمر على أبي بن كعب كان يصلي بهم عشرين ركعة، ثم يوتر بثلاث، وكان يخفف القراءة بقدر ما زاد من الركعات؛ لأن ذلك أخف على المأمومين من تطويل الركعة الواحدة. ثم كان طائفة من السلف يقومون بأربعين ركعة، ويوترون بثلاث. وآخرون قاموا بست وثلاثين، وأوتروا بثلاث. وهذا كله سائغ. فكيفما قام في رمضان من هذه الوجوه فقد أحسن. والأفضل يختلف باختلاف أحوال المصلين، فإن كان فيهم احتمال لطول القيام، فالقيام بعشر ركعات وثلاث بعدها -كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي لنفسه في رمضان وغيره - هو الأفضل. وإن كانوا لا يحتملونه فالقيام بعشرين هو أفضل، وهو الذي يعمل به أكثر المسلمين، فإنه وسط بين العشر وبين الأربعين، وإن قام بأربعين وغيرها جاز ذلك، ولا يكره شيء من ذلك. وقد نص على ذلك غير واحد من الأئمة، كأحمد وغيره. ومن ظن أن قيام رمضان فيه عدد موقت عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يزاد فيه ولا ينقص منه فقد أخطأ. اهـ.(1/141)
وفي "الاختيارات"(380): إن صلاها - أي التراويح - كمذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد عشرين ركعة، أو كمذهب مالك ستا وثلاثين، أو ثلاث عشرة، أو إحدى عشرة -فقد أحسن، كما نص عليه الإمام أحمد؛ لعدم التوقيف، فيكون تكثير الركعات وتقليلها بحسب طول القيام وقصره. اهـ.
وما ذكره شيخ الإسلام من عدم التحديد رواه محمد بن نصر عن الإمامين: الشافعي وأحمد بن حنبل. فقد روى محمد بن نصر المروزي في " قيام رمضان" (381)عن الزعفراني، عن الشافعي قال: رأيت الناس يقومون بالمدينة تسعا وثلاثين ركعة. قال: وأحب إلي عشرون. قال: وكذلك يقومون بمكة. قال: وليس في شيء من هذا ضيق ولا حد يُنتهى إليه؛ لأنه نافلة. فإن أطالوا القيام وأقلوا السجود فحسن. وهو أحب إلي. وإن أكثروا الركوع والسجود فحسن. وروى محمد بن نصر(382) أيضا عن ابن منصور أنه قال: قلت لأحمد بن حنبل: كم من ركعة يُصلى في قيام شهر رمضان؟ فقال: قد قيل فيه ألوان نحوًا من أربعين، إنما هو تطوع. اهـ. كلام محمد بن نصر. ومع هذا فالذي اختاره أكثر أهل العلم عشرون ركعة. قال الترمذي في "الجامع"(383): أكثر أهل العلم على ما روي عن عمر وعلي وغيرهما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عشرين ركعة. وهو قول سفيان الثوري، وابن المبارك، والشافعي. اهـ. وفي "المدونة"(384) من رواية ابن القاسم عن مالك ما يدل على أن الناس إذا جروا على كيفية من الكيفيات المروية عن السلف في التراويح فإنه لا ينبغي جبرهم على تركها إلى كيفية أخرى؛ لما يورثه ذلك من التعب والحيرة في الدين.(1/142)
وأما الجماعة فلا تشترط للتراويح. إنما هي أفضل عند كثير من السلف الصالح. منهم: الإمام أحمد بن حنبل -رضي الله عنه- فكان يختار صلاتها مع الإمام بالمسجد على صلاتها في البيت؛ لقوة الأدلة عنده على ذلك. قال أبو داود في "مسائل أحمد"(385): سمعت أحمد قيل له: يعجبك أن يصلي الرجل مع الناس في رمضان، أو وحده؟ قال: يصلي مع الناس. وسمعته أيضا يقول: يعجبني أن يصلي مع الإمام ويوتر معه؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن الرجل إذا قام مع الإمام حتى ينصرف كتب اللَّه له بقية ليلته"(386).اهـ.
والخلاصة: أن التراويح سنة مؤكدة، وليس لها عدد ركعات معينة. والأفضل فعلها في المسجد مع الإمام. وأما مقدار ما يقرأ فيها من القرآن، فالمنصوص لدى فقهائنا -رحمهم اللَّه - أنه لا ينقص عن ختمة؛ ليسمع الناس جميع القرآن، ولا يزيد عليها؛ كراهية المشقة على من خلفه، نقله في "الشرح الكبير" (387) عن القاضي أبي يعلى. وقال الإمام أحمد: يقرأ بالقوم في شهر رمضان ما يخف عليهم ولا يشق، لاسيما في الليالي القصار؛ إلا أن يؤثروا الزيادة على ذلك. واللَّه أعلم.
[107] حكم من قام إلى ركعة ثالثة في التراويح
سائل يسأل عن إمام يصلي التراويح، فصلى ركعتين، وقام إلى ركعة ثالثة ناسيا، فسبح به المأمومون؛ فلم يرجع، واستمر، وجاء بالركعة الثالثة والرابعة ثم سلم، ولم يسجد للسهو. فهل يجوز له فعل ذلك، وما حكم صلاته وصلاة من خلفه؛ لأنهم تابعوه حتى سلم؟
الإجابة:
هذه المسألة قد سئل عنها الإمام أحمد، فقال: يرجع وإن قرأ؛ لأن عليه تسليما ولا بد. ذكره ابن مفلح في "الفروع" (388) وغيره.
وقد اتفق العلماء على أن رجوعه أفضل وأكمل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : "صلاة الليل مثنى مثنى" . متفق عليه(389).
واختلفوا: هل تبطل صلاته إذا لم يرجع؟ فالذي مشى عليه بعض الفقهاء في باب سجود السهو أنها تبطل إذا لم يرجع.(1/143)
قال في "المنتهى وشرحه"(390): وإن نوى ركعتين نفلا فقام إلى ثالثة ليلا فكقيامه إلى ركعة ثالثة بصلاة فجر نصا؛ لحديث: "صلاة الليل مثنى مثنى" ولأنها صلاة شرعت ركعتين أشبهت الفريضة. اهـ.
وقال في "الإقناع وشرحه" : ولو نوى ركعتين نفلا نهارا فقام إلى ثالثة سهوا فالأفضل إتمامها أربعا. ولا يسجد للسهو؛ لإباحة التطوع بأربع نهارا. وله أن يرجع، ويسجد للسهو. ورجوعه إذا نوى ركعتين نفلا ليلا وقام إلى ثالثة سهوًا أفضل من إتمامها أربعا؛ لأن إتمامها مبطل لها. ويسجد للسهو. فإن لم يرجع من نوى ثنتين ليلا وقام إلى ثالثة سهوًا بطلت؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : "صلاة الليل مثنى مثنى" ولأنها صلاة شرعت ركعتين أشبهت صلاة الفجر وهذا معنى قول المنتهى وغيره. قال في "الشرح" : نص عليه أحمد، ولم يحك فيه خلافا في المذهب. اهـ. ولهم كلام آخر في باب صلاة التطوع يدل على أن الصلاة صحيحة مع الكراهة.
والصواب الذي عليه المحققون أنه يتعين عليه الرجوع؛ للحديث السابق: "صلاة الليل مثنى مثنى" . وهو حديث صحيح. متفق عليه.
[108] من صلى ركعتي الفجر في بيته ودخل المسجد قبل الإقامة فإنه يصلي تحية المسجد
إذا صلى الرجل ركعتي الفجر في بيته اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم -حيث كان يصليهما في بيته -فإذا أتى الرجل المسجد ووجد الصلاة لم تقم فهل يجلس حتى تقام الصلاة أم يصلي تحية المسجد؟
الإجابة:
المشهور من المذهب أنه يجلس ولا يصلي تحية المسجد. وحجتهم في ذلك أن هذا وقت نهي، والنهي عندهم يتعلق بطلوع الفجر؛ مستدلين بحديث "لا صلاة بعد طلوع الفجر إلا ركعتي الفجر" وسواء في ذلك ذوات الأسباب وغيرها.
والقول الثاني في المذهب: أنه يصلي تحية المسجد. وهذه رواية عن الإمام أحمد اختارها جملة من الأصحاب. منهم: الشيخ تقي الدين بن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهم. ولهم في ذلك مأخذان:(1/144)
أحدهما: أن الصحيح جواز ذوات الأسباب في أوقات النهي المحققة، فما بالك في مثل هذا التوقيت المختلف فيه.
ثانيهما: أن الصحيح من أقوال أهل العلم أن النهي يتعلق بصلاة الفجر لا بطلوعه؛ لأن الأحاديث الصحيحة التي في الصحيحين صريحة بذلك. ومنها: حديث أبي سعيد: "لا صلاة بعد صلاة الفجر" . واللفظ الآخر: "لا صلاة بعد صلاتين: صلاة الفجر، وصلاة العصر"(391).
والأحاديث التي فيها لا صلاة بعد طلوع الفجر أحاديث ضعيفة(392). ومن أهل العلم من قال: إنها موضوعة. وعلى كل حال فإنها لا تقاوم الأحاديث الصحيحة، ولكن كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي ركعتين بعد طلوع الفجر، فإذا لم يكن سبب فينبغي الاقتصار على ركعتي الفجر، فإن كان هناك سبب: كتحية مسجد، وصلاة وتر، ونحوه فالأولى فعل ذلك -ولو بعد طلوع الفجر- ذكر معنى هذا الشيخ ابن سعدي في "الفتاوى السعدية"(393). واللَّه أعلم.
[109] هل يقطع النافلة إذا أقيمت الصلاة ؟
إذا دخل الإنسان المسجد قبل أن تقام الصلاة. فكبر يصلي الراتبة وأقيمت الصلاة. فهل يقطع الراتبة ويلحق بالإمام أم يتمها ولو فاته بعض الصلاة، سواء فاته ركعة كاملة، أو أقل، أو أكثر، أم هناك تفصيل؟ وما معنى: حديث "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة" ؟ (394)
الإجابة:
قد سئل شيخنا- الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه اللَّه- عن مثل هذا السؤال؛ فأجاب بما نصه (395) : قد ذكر العلماء أنه -يعني الحديث المذكور- محمول على ابتداء النفل لمن يريد أن يصلي مع الإمام أنه ممنوع. وأما إتمامه فلم يجعلوه متناولا له؛ جَمْعًا بينه وبين قوله تعالى: {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} (396) ، وفرقا بين الابتداء والاستدامة، فإنها أخف حكما من الأول.
واعلم أنه يتحرر لنا في هذا الموضع أربع صور أو خمس:
إحداها: إذا شرع في الإقامة قبل أن يبتدئ النافلة، فهذا لا تنعقد نافلته. وهو أعظم ما دخل في الحديث.(1/145)
الثانية: إذا شرع فيها، ولا يمكنه أن يتمها حتى تفوته الجماعة المذكورة، إما بالسلام، وإما بركعة على أصح القولين، فهذا يجب عليه قطعها قولا واحدًا؛ لأنه لا تعارض بين واجب ومستحب، ولعموم إيجاب الجماعة حتى في هذه الصورة. والابتداء في النافلة لا يسقط الوجوب.
الثالثة: إذا كان شارعا فيها، ويمكنه أن يسلم منها ويدرك الركعة الأولى، فهذا الأولى له أن يتمها. وهو أعظم ما دخل في كلام الأصحاب، وقولهم: إذا شرع فيها أتمها خفيفة.
الرابعة: من شرع فيها، وقد دار الأمر بين إتمامها وفوات الركعة الأولى، وبين قطعها وإدراك الركعة الأولى، فعموم كلام الأصحاب يقتضي أن الأولى له أن يتمها خفيفة ولو فاتته الركعة. وفيه قول آخر في المذهب: الأوْلى له قطعها في هذه الحال. وهو الصحيح عندي؛ لعموم الحديث، ولجواز قطع النفل، ولأن الفرض ومصلحته لا يعادله النفل، فالقليل منه يفضل الكثير من النفل، وإذا كان هذا في ركعة، فما فوقها من باب أولى وأحرى. انتهى.
[110] النوافل تكمل بها الفرائض
سائل يسأل عن الحكمة والفائدة في صلاة النوافل التي قبل الصلاة والتي بعدها؟
الإجابة:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (397): التطوع يكمل به صلاة الفرض يوم القيامة، إن لم يكن المصلي أتمها. وفيه حديث مرفوع رواه الإمام أحمد في "المسند"(398)، وكذلك الزكاة والصيام وبقية الأعمال. اهـ. واللَّه أعلم.
[111] وقت قضاء راتبة الظهر القبلية
إذا فاتتني راتبة الظهر التي قبلها؛ لأني جئت والإمام يصلي. وبعد الصلاة أردت أن أقضي الراتبة التي فاتتني. فهل أقدمها على الراتبة الأخرى التي بعد الصلاة أم أؤخرها عنها؟
الإجابة:(1/146)
المشهور لدى فقهائنا -رحمهم اللَّه- أنه يبدأ بسنة الظهر التي قبلها إذا قضاها قبل السنة التي بعدها - ندبا- مراعاة للترتيب. لأن الراتبة التي قبل الصلاة، وقتها من دخول وقت الصلاة إلى فعل تلك الصلاة، فإذا فعلت بعد الصلاة كانت قضاءً لا أداءً. وأما السُنَّة التي بعد الصلاة فوقتها من فعل تلك الصلاة إلى خروج وقتها.
وفي "حاشية الشيخ عبد اللَّه العنقري على الروض" ما نصه: (فائدة) إذا قضى سُنة الظهر التي قبلها بعدها بدأ بها. قاله ابن تميم. قال ابن قندس: ولم أجد من صرح بهذا غيره.
وقال في "المنتقى" : باب: ما جاء في سنتي الظهر: عن عائشة -رضي اللَّه عنها- قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فاتته الأربع قبل الظهر صلاهن بعد الركعتين بعد الظهر. رواه ابن ماجه(399) . قال: فهذا مخالف لما قاله ابن تميم. قال في "الإنصاف" (400): الحكم كما قاله ابن تميم. وقد صرح به المجد في "شرحه" ، و"مجمع البحرين" ، وقالا: بدأ بها عندنا، ونصراه على دليل المخالف، وقاساه على المكتوبة. والظاهر أنه قول جميع الأصحاب؛ لقولهم: (عندنا) . اهـ.
قلت: مدلول الحديث مقدم على ما خالفه. قال في "شرح المنتقى" على حديث عائشة بعد كلام سبق: والحديث دليل على مشروعية المحافظة على السنن التي قبل الفرائض، وعلى امتداد وقتها إلى آخر وقت الفريضة؛ وذلك لأنها لو كانت أوقاتها تخرج بفعل الفرائض لكان فعلها بعدها قضاء، وكانت مقدمة على فعل سنة الظهر، وقد ثبت في حديث الباب أنها تفعل بعد ركعتي الظهر. ذكر معنى ذلك العراقي قال: وهو الصحيح عند الشافعية. قال: وقد يعكس هذا فيقال: لو كان وقت الأداء باقيا لقدمت على ركعتي الظهر، وذكر أن الأول أولى. انتهى.
[112] صلاة الوتر وحكم من يتركها
رجل يسأل عن صلاة الوتر، وحكم من يتركها، وعن وقتها، وهل يجوز -لمن طلع عليه الفجر قبل أن يوتر- الوترُ قبل صلاة الصبح ؟
الإجابة:(1/147)
الوتر سنة مؤكدة، بل هو آكد النوافل على الإطلاق. ومن العلماء من قال بوجوبه. وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها أبو بكر. وهي مذهب أبي حنيفة. وتوسط شيخ الإسلام ابن تيمية فقال بوجوبه على من يتهجد بالليل (401)
واستدل القائلون بوجوبه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم به في غير ما حديث. والأمر يقتضي الوجوب. وعن بريدة مرفوعا: "من لم يوتر فليس منا" . كررها ثلاثا. رواه أحمد وأبو داود(402) وفيه ضعف. وعن أبي أيوب مرفوعا: "الوتر حق، فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل" . رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه(403) . والصواب أنه موقوف. والمشهور القول الأول. وعلى كل فقد شدد العلماء في تركه. قال الإمام أحمد: من ترك الوتر فهو رجل سوء؛ لا ينبغي أن تقبل شهادته. وكذلك يروى عنه فيمن يترك السنن الرواتب؛ لأنه بالمداومة على تركها يكون راغبا عن السنة، وتلحقه التهمة، فتنتفي عنه بذلك العدالة.
ووقت الوتر ما بين صلاة العشاء وطلوع الفجر الثاني. والأفضل فعله آخر الليل لمن وثق من نفسه. فإن خاف أن لا يقوم آخر الليل استحب أن يوتر قبل أن ينام.
واختلف العلماء فيما لو طلع عليه الفجر قبل أن يوتر. فقالت طائفة: يفوت وقته فيصليه قضاء. وهذا المشهور من المذهب. وقال آخرون: إنه يفعل قبيل صلاة الفجر.
قال في "المغني" (404): والمنصوص عن أحمد في الوتر أنه يفعله قبل صلاة الفجر. قال الأثرم: سمعت أبا عبد اللَّه يُسأل: أيوتر الرجل بعدما يطلع الفجر؟ قال: نعم.(1/148)
ورُوي ذلك عن ابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وحذيفة، وأبي الدرداء، وعُبادة بن الصامت، وفَضالة بن عُبيد، وعائشة، وعبد اللَّه بن عامر بن رَبِيعة، وعمرو بن شُرَحْبِيل. وقال أيوب السَّخْتِياني وحُمَيْد الطويل: إن أكثر وترنا لبعد طلوع الفجر. وبه قال مالك، والثوري، والأوزاعي، والشافعي. وأنكر ذلك عطاء، والنخعي، وسعيد بن جبير. وهو قول أبي موسى. واحتجوا بعموم النهي.
ولنا ما روى أبو بصرة الغفاري. قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إن اللَّه زادكم صلاة، فصلوها ما بين العشاء إلى صلاة الصبح: الوتر، الوتر" . رواه الأثرم (405) واحتج به أحمد. ولأنه قول من سمينا من الصحابة.
وأحاديث النهي الصحيحة ليست صريحة في النهي قبل صلاة الفجر، على ما قدمناه، إنما فيه حديث ابن عمر، وهو غريب.
وقد روى أبو هريرة (406)، مرفوعا: "من نام عن الوتر أو نسيه، فليصله إذا أصبح أو ذكر" . رواه ابن ماجه (407) وهذا صريح في محل النزاع.
وإذا ثبت هذا، فلا ينبغي لأحد أن يتعمد ترك الوتر حتى يصبح؛ لهذا الخبر. وهكذا قال مالك. وقال: من فاتته صلاة الليل فله أن يصليها بعد الصبح قبل أن يصلي الصبح. وحكاه ابن أبي موسى في "الإرشاد" مذهبا لأحمد؛ قياسا على الوتر، ولأن هذا الوقت لم يثبت النهي فيه صريحًا؛ فكان حكمه خفيفًا. انتهى ملخصا. واللَّه أعلم.
[113] حكم قضاء سنة الفجر بعدها
رجل دخل المسجد لصلاة الفجر، فوجد الإمام يصلي، فدخل معه، وبعد فراغ الصلاة قام ليصلي راتبة الفجر، فأنكر عليه أحد طلبة العلم وقال: إن هذا وقت نهي، وراتبة الفجر إذا فاتت فلا تقضى إلا بعد ارتفاع الشمس فأشكل علينا ذلك. نرجوكم إيضاح ما أشكل علينا بجواب مفصل مقرون بالدليل.
الإجابة:(1/149)
هذه المسألة فيها قولان للعلماء، في مذهب الإمام أحمد، وغيره: فالمشهور من المذهب -كما قال ذلك الشيخ-: أن راتبة الفجر لا تقضى إذا فاتت إلا بعد ارتفاع الشمس. وهذا الذي عليه المتأخرون من الأصحاب.
والقول الآخر في المذهب: جواز ذلك. قال في "المغني"(408): (فصل) فأما قضاء سنة الفجر بعدها فجائز، إلا أن أحمد اختار أن يقضيهما من الضحى، وقال: إن صلاهما بعد الفجر أجزأ. وأما أنا فأختار ذلك.
وقال عطاء، وابن جريج، والشافعي: يقضيهما بعدها؛ لما رُوي عن قيس بن فهد، قال: رآني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأنا أصلي ركعتي الفجر بعد صلاة الفجر، فقال: "ما هاتان الركعتان يا قيس؟" . قلت: يا رسول اللَّه، لم أكن صليت ركعتي الفجر، فهما هاتان. رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي (409) وسكوت النبي صلى الله عليه وسلم يدل على الجواز؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى سنة الظهر بعد العصر (410) وهذه في معناها، ولأنها صلاة ذات سبب، فأشبهت ركعتي الطواف.
وقال أصحاب الرأي: لا يجوز؛ لعموم النهي، ولما روى أبوهريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "من لم يصل ركعتي الفجر فليصلهما بعد ما تطلع الشمس" . رواه الترمذي (411) وقال: لا نعرفه إلا من حديث عمرو بن عاصم. قال ابن الجوزي -رحمه اللَّه-: وهو ثقة، أخرج عنه البخاري.
وكان ابن عمر يقضيهما من الضحى.
وحديث قيس مرسل قاله أحمد، والترمذي؛ لأنه يرويه محمد بن إبراهيم عن قيس، ولم يسمع منه. وروي من طريق يحيى بن سعيد عن جده. وهو مرسل أيضا، ورواه الترمذي. قال: قلت: يا رسول اللَّه، إني لم أكن ركعت ركعتي الفجر. قال: "فلا إذا" (412). وهذا يحتمل النهي.
وإذا كان الأمر هكذا، كان تأخيرها إلى وقت الضحى أحسن؛ لنخرج من الخلاف ولا نخالف عموم الحديث. وإن فعلها فهو فجائز؛ لأن هذا الخبر لا يقصر عن الدلالة على الجواز. واللَّه أعلم.
[114] من يوتر قبل أن ينام يكتب له قيام الليل(1/150)
رجل يسأل عمن يوتر بعد صلاة العشاء مباشرة، ويزعم أنه لا يأمن أن يقوم قبل الفجر فيوتر آخر الليل- لاسيما مع قصر الليل في هذه الليالي- ويقول: إنه يكتب له قيام الليل بذلك. فهل لذلك أصل، وما دليله؟
الإجابة:
قد سئل الشيخ عبد اللَّه بن عبد الرحمن أبا بطين عن مثل هذه المسألة، فأجاب بقوله: نعم يكتب له قيام الليل بصلاة العشاء الآخرة في جماعة، ويبقى وِرْدُه زيادة أجر له، كما ثبت في "صحيح مسلم" من حديث عثمان بن عفان -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة كأنما قام الليل كله" (413) وأما وتره قبل النوم، فقد ثبت فعله عن جماعة من الصحابة -رضي اللَّه عنهم- وذلك بإرشاد النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، كما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: أوصاني خليلي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بثلاث لا أدعهن حتى أموت: صوم ثلاثة أيام من كل شهر، وصلاة الضحى، ونوم على وتر. رواه البخاري ومسلم (414) ولمسلم (415) -أيضا- من حديث أبي الدرداء: أوصاني حبيبي صلى الله عليه وسلم بثلاث... فذكر الحديث. وفيه: وأن لا أنام حتى أوتر. ورواه الإمام أحمد (416) من حديث أبي ذر، قال: أوصاني حبيبي صلى الله عليه وسلم بثلاث... فذكر منهن: الوتر قبل النوم.
وإنما وصّاهم بذلك؛ لأنهم لم يكن لهم عادة بقيام الليل، وإلا فمن كانت عادته الاستيقاظ فوتره آخر الليل أفضل. انتهى.
[115] ركعتا الطواف وصلاة الضحى
سائل يسأل عن وقت صلاة الإشراق، وهل تقدم على ركعتي الطواف، أم بالعكس؟
الإجابة:(1/151)
لا يدخل وقت صلاة الإشراق إلا بعد زوال وقت النهي وبعد ارتفاع الشمس قيد رمح في رأي العين؛ لحديث عقبة بن عامر: "ثلاث ساعات كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس وحين تَضَيَّف (417) الشمس للغروب حتى تغرب" . رواه مسلم (418)
وأما تقديمها على ركعتي الطواف، فالأولى تقديم ركعتي الطواف؛ لكي يصل الطواف بركعتيه ولا يفصل بينهما بصلاة وغيرها. واللَّه أعلم.
باب سجود التلاوة [116] حكم سجدة التلاوة
سائل يسأل عن سجدة التلاوة، هل هي سنة أم واجبة، وكم عدد سجدات التلاوة؟ وهل سجدة (ص) منهن أم لا؟ وهل يجوز أن يسجد بها في الصلاة؟
الإجابة:
الذي عليه الجماهير أن سجدة التلاوة سنة مؤكدة، وليست بواجبة، خلافا لأصحاب أبى حنيفة -رحمهم اللَّه-.
وهي سنة للقارئ والمستمع: " وهو الذي يصغي ويقصد الاستماع وينصت للقراءة، دون السامع: وهو الذي يسمع من دون أن يقصد الاستماع. والفرق بينهما ظاهر؛ لأن المستمع يشارك القارئ في الأجر ولا يشاركه السامع. ويروى هذا عن عثمان بن عفان وعبد اللَّه بن عباس (419)وعمران بن حصين (420): قال عثمان (421): إنما السجود على من استمع.
وقال ابن مسعود وعمران (422): ما جلسنا لها -يعني القراءة-.
وإن لم يسجد القارئ، لم يسجد المستمع؛ لأنه تابع له. وروى عطاء أن رجلا من الصحابة قرأ سجدة، فنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إنك كنت إمامنا، ولو سجدت سجدنا معك" . رواه الشافعي مرسلا (423). وفي معناه عن ابن مسعود عند البخاري تعليقا (424). وهي أربع عشرة سجدة: في (الأعراف) و (الرعد) ، و (النحل) ، و (الإسراء) ، و (مريم) ، وفي سورة (الحج) سجدتان، وفي (الفرقان) ، و (النمل) ، و (الم تنزيل) ، و (حم فصلت) ، وفي (النجم) ، و (الانشقاق) ، وفي (اقرأ) .(1/152)
أما سجدة سورة (ص) ، فليست منها. وإنما هي سجدة شكر؛ لما روى البخاري (425) عن ابن عباس قال: (ص) ليس من عزائم السجود، وقد رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يسجد فيها.
فعلى هذا، يسجد لها خارج الصلاة. و أما السجود لها في الصلاة فقد اختلف فيه الفقهاء. والمشهور من المذهب أنه إن سجد بها في الصلاة عالما بطلت صلاته، بخلاف الجاهل، والناسي، فلا تبطل. واستظهر في "الفروع" عدم البطلان (426)
وإذا أراد السجود للتلاوة فإنه يكبر للسجود، من دون تكبيرة إحرام، كما يكبر إذا رفع، ويجلس ويسلم تسليمة واحدة عن يمينه بلا تشهد. ولا بد من قوله: سبحان ربي الأعلى في السجود. وإن زاد عليه مما ورد، فحسن. ومنه: اللَّهم اكتب لي بها عندك أجرا، وضع عني بها وزرا، واجعلها لي عندك ذخرا، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود (427) . ومنه: سجد وجهي للذي خلقه، وشق سمعه وبصره، بحوله وقوته (428)
والأفضل سجوده عن قيام؛ لما روي عن عائشة أنها كانت تقرأ في المصحف، فقامت فسجدت (429) ؛ وتشبيها لها بصلاة النفل. وهذا كله على القول المشهور من المذهب الذي مشى عليه المتأخرون من الأصحاب - رحمهم اللَّه - واللَّه أعلم.
باب صلاة الجماعة [117] ما تدرك به الجماعة
إذا أتى المسبوق و وجد الإمام في التشهد، فهل يدخل معه ؟ و هل يدرك بذلك فضل الجماعة ؟
الإجابة:
يدخل معه كيفما أدركه؛ لما ورد من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود، فاسجدوا، ولا تعدوها شيئا، ومن أدرك الركوع فقد أدرك الركعة" . رواه أبو داود(430) ، بإسناد فيه ضعف.(1/153)
لكن إذا وجده في التشهد الأخير، وحضر أناس سيصلون جماعة أخرى، فصلاته معهم أولى؛ لإدراكه جميع الصلاة مع الجماعة، لاسيما على الرواية الأخرى، كما سيأتي. فإن لم يحضر أحد فإنه يدخل مع الإمام، ولو في التشهد الأخير، ويحصل له من الفضل بمقدار ما أدركه، وبالمشي إلى المسجد، والخطوات التي يخطوها إلى الصلاة، والنية الصالحة، وفضل اللَّه واسع.
وأما إدراك الجماعة فالمشهور من المذهب أن من كبر تكبيرة الإحرام قبل سلام إمامه أدرك الجماعة. والرواية الأخرى عن الإمام أحمد أن الجماعة لا تدرك إلا بركعة. اختاره الشيخ تقي الدين بن تيمية، وهو مذهب المالكية. واللَّه أعلم.
[118] حكم إعادة الصلاة جماعة
إذا دخل الإنسان المسجد، ووجد الإمام قد فرغ من الصلاة، فهل ينبغي له أن يبادر بالصلاة منفردا أم يتأنى قليلا؛ لعله يحضر أحد يصلي معه جماعة؟ وهل إذا كبر منفردا، ثم جاء جماعة، وشرعوا في الصلاة، هل يجوز له قطع صلاته؛ ليدخل معهم، ويحصل فضيلة الجماعة؟ وإذا جاءوا بعد أن فرغ من صلاته منفردا، فهل يجوز له أن يعيد الصلاة معهم جماعة؟ وإذا قلتم يجوز، فأيهما الذي يكون فرضه؟
الإجابة:
نعم، ينبغي له أن يتأنى قليلا؛ لربما يحضر من يصلي معه جماعة.
فإن كبر منفردا، ثم جاء أناس، وصلوا جماعة، فينوي تلك التي كبر لها نفلا، ويتمها ركعتين خفيفتين. فإذا سلم، لحق الجماعة، إلا أن يخشى فوات الجماعة، فيقطعها؛ لأن تحصيل الجماعة أولى. فإن جاءوا بعد أن فرغ، وأقاموا الصلاة، وهو في المسجد، سن له أن يعيدها معهم جماعة؛ لما ورد في ذلك. وتكون له نافلة؛ لأن الصلاة الأولى أسقطت الفرض. واللَّه أعلم.
[119] حكم اختراق المارّ لصفوف المصلين
سائل يسأل عن مسجد يصلي المأمومون فيه ثلاثة صفوف، ويوجد طريق يخترق بعض تلك الصفوف، فهل تصح صلاتهم مع وجود مَن يمر بين الصفوف؟
الإجابة:(1/154)
نعم تصح صلاتهم؛ لأن سترة الإمام سترة للمأمومين، لكن ينهى عن اختراق الصفوف وقت الصلاة. وينبغي للمأمومين صرف الطريق عن الصفوف إلى جانب من المسجد؛ حتى لا يشوش على الذين يصلون. واللَّه أعلم.
[120] حكم تفقد الناس لصلاة الفجر
سائل يسأل عن حكم تفقد الناس لصلاة الفجر. إذا انصرف الإمام من الصلاة شرع المؤذن بتفقدهم بأسمائهم لمعرفة من حضر الصلاة ومن لم يحضرها. فهل لذلك أصل في الشرع. وما حكم من تخلف عن ذلك؟
الإجابة:
هذه المسألة قد أجاب عنها الشيخ عبد الرحمن بن حسن - رحمه اللَّه- بقوله: يلزم الأمير تفقد الناس في المساجد؛ حتى يعرف من يتخلف عن الصلاة ويتهاون بها. ويجعل للناس نوابا للقيام على الناس بالاجتماع للصلاة في جميع البلدان والقرى. فإن هذا مما شرعه اللَّه ورسوله وأوجبه، كما دل على ذلك الكتاب والسنة. وقد ورد الزجر والوعيد على المتخلفين عن الصلوات الخمس في المساجد حيث ينادى لها. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة (431).
ومن المعلوم أن الصلاة لا تقام إلا بالاجتماع لها. والتهاون بذلك من أسباب إضاعتها، وذلك يوجب عقوبة الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}(432) .انتهى.
أحكام الإمامة [121] وجوب تسوية الصفوف قبل تكبيرة الإحرام
إذا كبر الإمام قبل تراص الصفوف. وهذا أكثر حال الأئمة - هداهم اللَّه - فهل الأولى للمأموم المبادرة بالتكبير؛ اغتناما لفضل تكبيرة الإحرام أم تأخير التكبير؛ حتى تقل الحركة والمشي والتقدم والتأخر؟
الإجابة:
الحمد لله وحده. المشروع في حق الإمام أن لا يكبر تكبيرة الإحرام قبل تسوية الصفوف؛ لأن تسوية الصفوف من تمام الصلاة. فإن خالف المشروع وكبر تكبيرة الإحرام قبل تسوية الصفوف فقد أساء؛ لتركه السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم .(1/155)
وأما المأموم، فينبغي له إذا سمع تكبيرة الإحرام أن يكبر معه؛ اغتناما لإدراك تكبيرة الإحرام وما ورد في فضلها، وامتثالا لقوله صلى الله عليه وسلم : "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا(433)
ففي هذا دليل على المبادرة بالتكبير؛ لأن الفاء في قوله: "فإذا كبر فكبروا" تفيد الترتيب والتعقيب. وإذا كبر الإنسان تكبيرة الإحرام فعليه بلزوم الهدوء، والطمأنينة، والإقلال من الحركة حسب الإمكان؛ إلا ما استثني وهو من جنس ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم ، مثل: فتحه الباب لعائشة، والتقدم والتأخر اليسير حينما كان يصلي صلاة الكسوف، وكذلك صلاته فوق المنبر، وتأخره للسجود على الأرض ثم رجوعه إلى المنبر. فهذا فَعَله صلى الله عليه وسلم للمصلحة.
ونعود إلى ذكر تسوية الصفوف، وإقامتها، والتراص فيها، وما ورد في ذلك. وقد ترجم على ذلك شيخ المذهب الإمام محيي الدين أبو البركات عبدالحليم بن عبدالسلام بن تيمية الحراني في كتابه الشهير "منتقى الأخبار" ، فقال: عن النعمان بن بشير قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يسوي صفوفنا إذا قمنا إلى الصلاة، فإذا استوينا كبر. رواه أبو داود (434)
قال الشارح الشوكاني (435) : وفي لفظ آخر من طريق سماك بن حرب، عن النعمان، قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يسوينا في الصفوف كما يقوّم القدح، حتى إذا ظن أن قد أخذنا عنه ذلك وفقهنا أقبل ذات يوم بوجهه إلى رجل منتبذ بصدره، فقال: "لتسون صفوفكم أو ليخالفن اللَّه بين وجوهكم" .
قال المنذري: والحديث المذكور في الباب طرف من هذا الحديث. وهذا الحديث أخرجه مسلم والترمذي -وصححه- والنسائي وابن ماجه (436)
وأخرج البخاري ومسلم (437) من حديث سالم بن أبي الجعد، عن النعمان بن بشير الفصل الأخير منه.
وفي الباب عن جابر بن سمرة عند مسلم (438) وعن البراء عند مسلم أيضاً(439)
وعن أنس عند البخاري ومسلم (440)، وله حديث آخر عند البخاري (441).(1/156)
وعن جابر عند عبد الرزاق(442). وعن أبي هريرة عند مسلم (443) وعن عائشة عند أحمد وابن ماجه (444). وعن ابن عمر عند أحمد وأبي داود (445)
وروي عن عمر أنه كان يوكل رجالا بإقامة الصفوف، فلا يكبر حتى يخبَر أن الصفوف قد استوت. أخرجه عنه الترمذي (446)
قال: ورُوي عن علي وعثمان (447) أنهما كانا يتعاهدان ذلك، ويقولان: استووا.
وكان علي يقول: تقدم يا فلان، تأخر يا فلان. انتهى.
قال ابن سيد الناس: عن سويد بن غفلة قال: كان بلال يضرب أقدامنا في الصلاة، ويسوي مناكبنا.
قال: والآثار في هذا الباب كثيرة عمن ذكرنا، وعن غيرهم.
قال القاضي عياض: ولا يختلف فيه أنه من سنن الجماعات.
وفي البخاري بزيادة: "فإن تسوية الصف من إقامة الصلاة" (448) .
وقد ذهب ابن حزم الظاهري إلى فرضية ذلك محتجا بهذه الزيادة، قال: وإذا كان من إقامة الصلاة فهو فرض؛ لأن إقامة الصلاة فرض، وما كان من الفرض فهو فرض.اهـ.
وقال الحافظ المنذري في "الترغيب والترهيب" (449): الترغيب في الصف الأول، وما جاء في تسوية الصفوف:
عن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "إن اللَّه وملائكته يصلون على الصف الأول" . قالوا: يا رسول اللَّه، وعلى الثاني؟ قال: "إن اللَّه وملائكته يصلون على الصف الأول" . قالوا: يا رسول اللَّه، وعلى الثاني؟ قال: "وعلى الثاني" . وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "سووا صفوفكم، وحاذوا بين مناكبكم، ولينوا في أيدي إخوانكم، وسدوا الخلل؛ فإن الشيطان يدخل فيما بينكم بمنزلة الحَذَف" . يعني أولاد الضأن الصغار، رواه أحمد بإسناد لا بأس به، والطبراني، وغيره (450).
وعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "سووا صفوفكم، فإن تسوية الصف من تمام الصلاة" . رواه البخاري، ومسلم، وابن ماجه، وغيرهم (451) وفي رواية البخاري: "فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة" .(1/157)
ورواه أبو داود، ولفظه: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "رصوا صفوفكم، وقاربوا بينها، وحاذوا بالأعناق، فوالذي نفسي بيده إني لأرى الشيطان يدخل من خَلَل الصف كأنها الحذف" . رواه النسائي، وابن خزيمة، وابن حبان في "صحيحيهما" ، نحو رواية أبي داود (452)
وروي عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "استووا تستو قلوبكم، وتماسوا تراحموا".
قال سريج: تماسوا، يعني: تزاحموا. وقال غيره: تماسوا: تواصلوا.
رواه الطبراني في "الأوسط" (453) وفي نسخة: "ازدحموا" ومعنى: استووا: استقيموا، وقفوا معتدلين كالخط المستقيم الذي لا يميل يمنة ولا يسرة.
وعن ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب، وسدوا الخلل، ولينوا بأيدي إخوانكم، ولا تذروا فرجات للشيطان، ومن وصل صفا وصله اللَّه، ومن قطع صفا قطعه اللَّه" . رواه أحمد، وأبو داود وغيرهما (454)
وعن ابن عباس - رضي اللَّه عنهما- أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "خياركم ألينكم مناكب في الصلاة" . رواه أبو داود (455)
وفي "الحاشية" (456)، قال المناوي: أي ألزمكم للسكينة والوقار والخشوع. ويحتمل أن يكون معناه: أن لا يمتنع على من يريد الدخول بين الصفوف؛ لسد الخلل، ولضيق المكان، بل يمكِّنه من ذلك، ولا يدفعه بمنكبه، أو أنه يطاوع من جَرّه ليصطف معه، إذا لم يجد فرجة. اهـ. "الجامع الصغير" ص (242) . فتجد الحديث يشمل ثلاثة:
أولا: التؤدة، وترك العبث، والخشوع لله.
ثانيا: إذا كانت هناك فرجة ضيقة لا تسع شخصا، فجاء شخص، ضم نفسه، وليّن منكبه حتى وَسِعه. وهذا معنى جميل يدعو المسلمين إلى اتساع الصدر، والمشاركة في الخير، والتحمل، والصبر، وأن تحب لأخيك ما تحب لنفسك.
ثالثا: إذا جَرّه شخص ليصطف معه؛ ليّن منكبه وطاوعه. تلك خلال المؤمنين، هيّنون، ليّنون، أيسار، ذوو كرم. اهـ.(1/158)
وعن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يأتي ناحية الصف، ويسوي بين صدور القوم ومناكبهم. ويقول: "لا تختلفوا، فتختلف قلوبكم، إن اللَّه وملائكته يصلون على الصف الأول" . رواه ابن خزيمة في "صحيحه" (457)اهـ. فهذا سياق بعض ما ورد من الأحاديث والآثار.
وأما كلام الفقهاء، فقال في "كشاف القناع عن متن الإقناع" : ثم يسوي، أي يأمر - بدليل ما بعده - الإمامُ الصفوفَ -ندبا-، بمحاذاة المناكب والأكعب، دون أطراف الأصابع، فيلتفت الإمام عن يمينه قائلا: اعتدلوا وسووا صفوفكم، وعن يساره كذلك. ومما ورد في ذلك، ما روى محمد بن مسلم. قال: صليت إلى جنب أنس بن مالك يوما. فقال: هل تدري لم صنع هذا العود؟ فقلت: لا واللَّه. فقال: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة أخذه بيمينه فقال: "اعتدلوا وسووا صفوفكم" ، ثم أخذه بيساره وقال: "اعتدلوا، وسووا صفوفكم" . رواه أبو داود (458)، وفي إسناده ضعف. و لأن تسوية الصف من تمام الصلاة، للخبر المتفق عليه من حديث أنس.
قال الإمام أحمد: ينبغي أن تقام الصفوف قبل أن يدخل الإمام، أي موقفه؛ لحديث أبي هريرة قال: "إن الصلاة كانت تقام لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فيأخذ الناس مصافهم قبل أن يقوم النبي صلى الله عليه وسلم مقامه" . رواه مسلم (459)
وذهب كثير من أهل العلم إلى القول بوجوب تسوية الصفوف، وأنها ليست مستحبة فحسب، بل هي واجبة. ومن هؤلاء الإمام البخاري؛ فإنه ترجم في "صحيحه" بقوله: (باب إثم من لم يُقِم الصف) ، ثم ساق الأحاديث الواردة في الباب فنبه بقوله: (باب إثم من لم يقم الصف) إلى وجوبه؛ لأن الواجب ما أثيب فاعله واستحق الإثم تاركه.(1/159)
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه اللَّه - يميل إلى القول بوجوب تسوية الصفوف. قال في "الاختيارات" (460): وظاهر كلام أبي العباس: أنه يجب تسوية الصفوف؛ لأنه عليه الصلاة والسلام رأى رجلا باديا صدره، فقال: "لتسون صفوفكم أو ليخالفن اللَّه بين وجوهكم" . وقال عليه الصلاة والسلام: "سووا صفوفكم؛ فإن تسويتها من تمام الصلاة" . متفق عليهما (461)وترجم عليه البخاري، باب: (إثم من لم يقم الصف) . انتهى.
[122] حكم إسرار الإمام في الصلاة الجهرية
هل يجوز للإمام أن يصلي صلاة المغرب سرية -دون الجهر بالفاتحة وما تيسر من الآيات الكريمة- وهل تصح الصلاة خلفه. وما دليل الجواز من عدمه؟
الإجابة:
ليس للإمام أن يتعمّد الإسرار في الركعتين الأوليين من المغرب وغيرها من الجهريات؛ لما في ذلك من مخالفة سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وتفويت المأمومين سماع قراءة القرآن.
أما الصلاة خلفه فصحيحة، ولكن لا يُقَرّ على ذلك. والدليل على منعه من تعمّد الإسرار في الركعتين الأوليين من المغرب وغيرها من الجهريات قول النبي صلى الله عليه وسلم : "صلوا كما رأيتموني أصلي" (462) وقد تواتر عنه صلى الله عليه وسلم الجهر فيهن. وبوّب البخاري لذلك في "صحيحه" بابا أخرج فيه عن جبير بن مطعم أنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بـ {الطور} (463)
وممن نص على هذا الذي بيناه في هذه المسألة الإمام ابن قدامة في "المغني" (464) في شرح قول الخرقي حيث قال: (ويُسِرُّ -أي: الإمام- بالقراءة في الظهر والعصر، ويجهر بها في الأوليين من المغرب والعشاء، وفي الصبح كلها) .(1/160)
قال: الجهر في مواضع الجهر، والإسرار في مواضع الإسرار، مجمع على استحبابه. والأصل فيه فعل النبي صلى الله عليه وسلم . وقد ثبت ذلك بنقل الخلف عن السلف. فإن جهر في موضع الإسرار، أو أسر في موضع الجهر، ترك السنة، وصحت صلاته؛ إلا أنه إن نسي فجهر في موضع الإسرار، ثم ذكر في أثناء قراءتة، بنى على قراءته. وإن نسي فأسر في موضع الجهر، ففيه ورايتان: إحداهما: يمضي في قراءته. الثاني: يستأنف القراءة جهرا على طريق الاختيار لا على طريق الوجوب.اهـ.
الخلاصة: أن الإسرار في موضع الجهر غير لائق؛ لمخالفته السنة النبوية. وصلاته وصلاة من خلفه صحيحة.واللَّه أعلم.
[123] حكم الصلاة خلف المذياع
سائل يسأل عن صحة الصلاة على صوت الإمام إذا سمعه من الراديو؟
الإجابة:
لا تصح صلاة من صلى مؤتما بإمام لم يكن حاضرا معه في المسجد يراه، أو يرى من خلفه، أو يسمع تكبيره، أو كان خارج المسجد إذا كان يراه، أو يرى بعض المأمومين. وإنما يأتم به بمجرد كونه يسمع صوته من الراديو ونحوه فقط؛ لما فيه من عدم إمكان الاقتداء المنصوص عليه، وغيره. واللَّه أعلم.
[124] إذا تأخر إمام المسجد هل يصلون؟
سائل يسأل عن إمام مسجد يتأخر بعض الأحيان، وبعض الجماعة لا خبر عندهم، فإذا رأوه تأخر- ولو قليلا - قام رجل منهم فصلى بالجماعة بدون إذن من الإمام، ولا رضاه. فهل تصح صلاتهم والحال ما ذُكر؟
الإجابة:(1/161)
ينبغي للإمام أن يكون رحب الصدر، طيب النفس، وأن يأذن للجماعة إذا تأخر أن يصلوا، فإما أن يعين له نائبا، أو يأذن لهم بأن يختاروا أمثل الحاضرين يصلي بهم إذا تأخر؛ لأن الإنسان ضعيف، وقد يعرض له ما يؤخره؛ فينحبس الناس في المسجد ويتضايقون بسببه. فإن لم يفعل، فلا يجوز لأحد أن يفتات عليه ويصلي بالناس بدون إذنه، أو عذره؛ ولهذا قال الفقهاء: ويحرم أن يؤم في مسجد قبل إمامه الراتب إلا بإذنه، أو عذره؛ لأن الإمام الراتب كصاحب البيت. وهو أحق بالإمامة من غيره؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : "لا يُؤمن الرجل في بيته إلا بإذنه" (465) ولأنه يؤدي إلى التنفير عنه.
فإن صلوا في مثل هذه الحال، فقد اختلف كلام العلماء في صحة صلاتهم. فقال بعض العلماء: لا تصح صلاتهم. وهو ظاهر كلام الأصحاب، ذكره في "الفروع" (466)، و"المبدع" ، ومعناه في "التنقيح" . وجزم به في "المنتهى" (467) وقال آخرون: بل تصح صلاتهم مع الكراهة. قدمة في "الرعاية" . وجزم به ابن عبد القوي في الجنائز.
فإن لم يُعلم عذره انتظروا وراسلوه -مع سعة الوقت وقُرْب محله وعدم المشقة- ليحضر، أو يأذن، أو يُعلم عذره. فإن تأخر وضاق الوقت، أو بَعُدَ محله، أو شق الذهاب إليه، أو لم يُظن حضوره، أو ظُنّ حضوره ولا يَكْره ذلك، صلوا كصلاة أبي بكر بالناس حين غاب النبي صلى الله عليه وسلم عنهم في بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم. متفق عليه(468) وفعل ذلك عبد الرحمن ابن عوف فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "أحسنتم" رواه مسلم (469). واللَّه أعلم
[125] حكم صلاة الإمام مكشوف الرأس
هل صحيح أن الصلاة قد تعتبر باطلة إذا كان الإمام مكشوف الرأس؟ أرجو التدليل ببعض الأحاديث الواردة في ذلك.
الإجابة:(1/162)
لا يصح القول ببطلان صلاة مكشوف الرأس- إماما كان أو غيره- ومن الأحاديث الدالة على ذلك ما رواه البخاري ومسلم في "صحيحيهما" (470) عن عمر بن أبي سلمة أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في ثوب واحد في بيت أم سلمة وقد ألقى طرفيه على عاتقيه. ومنها ما رواه البخاري (471) في: (باب الصلاة بغير رداء) ، عن محمد بن المنكدر، قال: دخلت على جابر بن عبد اللَّه، وهو يصلي في ثوب ملتحفا به، ورداؤه موضوع. فلما انصرف قلنا: يا أبا عبد اللَّه، تصلي ورداؤك موضوع؟ قال: نعم، أحببت أن يراني الجهال مثلكم، رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي هكذا. ورواه البخاري (472) أيضا في: (باب عقد الإزار على القفا في الصلاة) ، بلفظ: صلى جابر في إزار قد عقده من قِبَل قفاه. وثيابه موضوعة على المشجب. قال له قائل: تصلي في إزار واحد؟ فقال: إنما صنعت ذلك ليراني أحمق مثلك. وأينا كان له ثوبان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ؟!
وروى أبو داود في "سننه" (473) في: (باب الرجل يصلي في قميص واحد) ، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر، عن أبيه، قال: أَمَّنا جابر بن عبد اللَّه في قميص ليس عليه رداء. فلما انصرف قال: إني رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصلي في قميص. والأحاديث الثابتة في هذا المعنى كثيرة معروفة لدى أهل العلم.(1/163)
وكذلك يذكرون تخمير المصلي رأسه بالعمامة -وما في معناها- من المستحبات. وممن نص على استحبابه المجد في "شرحه" ثم قال: ونحن لاستحباب الثوبين والعمامة لإمام أشد. نص عليه؛ لأنه المنظور إليه، والمقتدى به. أما باب الإجزاء، فيذكر الفقهاء أن من صلى في ثوب واحد بعضه على عاتقه أجزأه؛ واستدلوا بحديث عمر بن أبي سلمة المتقدم، وما في معناه من الأحاديث. بل ذكر الفقهاء أن انكشاف جزء يسير من العورة إذا لم يفحش في النظر إليه، لا يبطل صلاة الإمام والمأمومين؛ لما رواه أبو داود في "سننه" (474)، عن عمر بن أبي سلمة، قال: كنا بحاضر، يمر بنا الناس إذا أتوا النبي صلى الله عليه وسلم . فكانوا إذا رجعوا مروا بنا، فأخبرونا أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال كذا وكذا. وكنت غلاما حافظا، فحفظت من ذلك قرآنا كثيرا. فانطلق أبي وافدا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في نفر من قومه، فعلمهم الصلاة. فقال: "يؤمكم أقرؤكم" . وكنت أقرأَهم؛ لما كنت أحفظ؛ فقدموني، فكنت أؤمهم وعلي بردة لي صغيرة صفراء. فكنت إذا سجدت تكشفت عني. فقالت امرأة من النساء: واروا عنا عورة قارئكم. فاشتروا لي قميصا عُمانيا، فما فرحت بشيء بعد الإسلام فرحي به. فكنت أؤمهم وأنا ابن سبع سنين أو ثمان سنين.
وقد انتشر هذا الخبر في عهد النبوة، ولم ينكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم . وما دام الأمر هكذا، فمن باب أولى كشف رأس الرجل الذي أجمع أهل العلم على أنه ليس بعورة، وأوجب الشرع في الحج والعمرة كشفه في الصلاة. وصلى اللَّه على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
[126] حكم دعاء الإمام بعد الصلاة للجميع
ما تقولون فيما يفعله بعض الأئمة إذا فرغ من صلاة الفريضة: يرفع يديه، ويدعو جهرًا، والمأمومون في صفوفهم يستمعون لدعائه ويؤمنون عليه هل هذا جائز أم منهي عنه؟
الإجابة:(1/164)
لا شك أن اتخاذ ما ذكر راتبًا يتكرر كل صلاة، أنه محدث ليس بمشروع، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه -رضي اللَّه عنهم-؛ لأن الدعاء المشروع الذي أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم في أدبار الصلوات إنما هو الدعاء قبل السلام والتحلل من الصلاة، على أنه لا بأس به أحيانًا، لكن الاجتماع عليه بالصفة التي أشرت إليها، وكذا الاجتماع على غيره من ألوان التسبيح، والتحميد، والتكبير، والتهليل، ونحوها -مبتدع محدث لم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم ولا من عمله، ولا من عمل أصحابه. هذا مع أنه صلى الله عليه وسلم ندب أمته إلى التسبيح، والتحميد، والتكبير، في أدبار الصلوات، وأوصى معاذًا أن يقول في أدبارها: "اللَّهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" (475) والأصل في ذلك أن الاجتماع لذكر اللَّه إن كان يفعل أحيانًا فحسن؛ فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى التطوع في جماعة أحيانًا (476) وكان أصحابه إذا اجتمعوا يأمرون في بعض الأحيان واحدًا منهم أن يقرأ وهم يستمعون. أما اتخاذ اجتماع راتب يتكرر لذلك فمبتدع محدث؛ لأنه يضاهي الاجتماعات المشروعة: كالصلوات الخمس، والجمعة، والعيدين. ومن هنا نص الإمام أحمد وغيره من الأئمة على أن ملحظ التفرقة بين ما يتخذ سنة وعادة أن ذلك يضاهي المشروع. واللَّه أعلم.
موقف الإمام والمأمومين [127] أيمن الصف ولو بَعُد أفضل من الأيسر القريب
إذا دخلت المسجد، فوجدت جانب الصف الذي عن يمين الإمام بعيدا عنه، والصف الذي عن شماله قريبا، فهل أصف في الصف الأيمن ولو كان بعيدا أم أكون في الصف الأيسر لقربه من الإمام؟ نرجوكم الإفادة. وجزيتم خيرا.
الإجابة:(1/165)
الحمد لله وحده. المشهور من المذهب أن الأيمن أفضل مطلقا، سواء بَعُد أو قرُب. قال في "كشاف القناع عن متن الإقناع" للشيخ منصور البهوتي -رحمه اللَّه-: ويمنة كل صف للرجال أفضل من يسرته، أي: صلاة المأمومين من جهة يمين الإمام أفضل من صلاتهم جهة يساره إذا كانوا رجالا. وظاهر كلامهم -حيث أطلقوا أن يمينه للرجال أفضل- أن الأبعد عن اليمين أفضل ممن على اليسار، ولو كان مَن على اليسار أقرب إلى الإمام؛ لإطلاقهم أن يمينه للرجال أفضل. قال قاضي القضاة أحمد محب الدين بن نصر اللَّه البغدادي في "شرح الفروع" ؛ أي شرحه لباب صفة الصلاة من كتاب "الفروع" : وهو أقوى عندي.اهـ. واللَّه أعلم.
[128] المحافظة على الصف الأول ولو فاتت الركعة
رجل يسأل عن الرجل إذا دخل المسجد، وقد قامت الصلاة، وكبر الإمام للركوع، فهل الأوْلى للداخل أن يبادر إلى الصف الذي يليه ليمكنه إدراك الركوع- ولو فوّت الصف الأول- أم يسعى إلى الصف الأول، ولو فوّت تلك الركعة؟
الإجابة:(1/166)
الحمد لله وحده. إن كانت تلك الركعة هي آخر الصلاة، فينبغي له المبادرة بالدخول إلى الصف الذي يليه؛ ليمكن إدراك الركعة الأخيرة، ولو فوت الصف الأول؛ لأن إدراك صلاة الجماعة أولى، ولاسيما على القول الصحيح بأن إدراك الجماعة لا يحصل إلا بإدراك ركعة كاملة؛ وإلا فإنه يحافظ على الصف الأول، ولو فاتت تلك الركعة. قال في "كشاف القناع" نقلا عن "الفروع"(477) : وظاهر كلامهم: يحافظ على الصف الأول وإن فاتته ركعة إلا إن خاف فوات الجماعة. ويتوجه من نصه- أي من نص الإمام أحمد-: يسرع إلى الأولى للمحافظة عليها. قال في "النكت" (478): لا يبعد القول بالمحافظة على الركعة الأخيرة، وإن كان غيرها مشى إلى الصف الأول. وقد يقال يحافظ على الركعة الأولى والأخيرة؛ ولهذا قلنا: لا يسعى إذا أتى الصلاة؛ للخبر المشهور. قال الإمام أحمد: فإن أدرك - أي طمع أن يدرك - التكبيرة الأولى، فلا بأس أن يسرع، ما لم تكن عجلة تقبح. قال: وقد ظهر مما تقدم أنه يعجل لإدراك الركعة الأخيرة، لكن هل تُقيد المسألتان بتعذر الجماعة؟ فيه تردد. اهـ. واللَّه أعلم.
[129] حكم سد خلل الصفوف أثناء الصلاة
إذا أقيمت الصلاة، ورأى المأموم فرجة في الصف الذي أمامه. هل يجوز له أن يتقدم إليها -ولو كان قد دخل في الصلاة- أم يلزم مكانه؟
الإجابة:
قد سئل عن هذه المسألة الشيخ عبد اللَّه بن عبد الرحمن أبابطين - رحمه اللَّه- وأجاب بما نصه:
إذا رأى المصلي بين يديه فرجة في الصلاة، فأرى أن لا بأس بسدها. وأما إذا كان سيتقدم من صف إلى صف ثم إلى آخر -كما يفعل بعض الناس- فأخاف أن يبطل الصلاة، إذا كثر وكان متواليا، وإن كان من صف إلى صف - ولو لم يسد الفرجة غيره- فلزوم مكانه أحب إلي. انتهى.(1/167)
فيستفاد من كلامه - رحمه اللَّه - أنه إن كان التقدم إلى صف واحد، أو نحوه، ولم تكن الخطا متوالية -عُرفًا- فلا بأس، و إلا فالأولى لزوم مكانه؛ لأنه أدعى لحضور قلبه في الصلاة. وأيضا فيخشى أن تُسَدَّ الفرجة قبل أن يصل إليها، وإذا حاول الرجوع إلى محله وجده قد شغل ممن خلفه؛ فيقع في حيرة وارتباك، وليسلم من كثرة المشي بدون حاجة. فلزوم محله وإقباله على صلاته أولى، وإن في الصلاة لشغلا.واللَّه أعلم.
[130] حكم صلاة الرجل منفردا خلف الصف
سائل يسأل عن حكم صلاة الرجل منفردا خلف الصف إذا لم يجد له محلا في الصف الأول، ولم يأت أحد يصف معه؟
الإجابة:
المشهور أن صلاة الرجل فذًّا خلف الصف -أو خلف الإمام- لا تصح إن صلى ركعة فأكثر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : "لا صلاة لفرد خلف الصف" . رواه الإمام أحمد وابن ماجه(479) وفي حديث آخر أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي خلف الصف فأمره أن يعيد الصلاة. رواه الإمام أحمد، والترمذي، وحسنه، وابن ماجه، وفي إسناده اختلاف (480) إلا أن يكون الفذ امرأة منفردة وحدها، فتصح صلاتها؛ لحديث أنس: أن جدته مُلَيْكَة دعت النبي صلى الله عليه وسلم لطعام صنعته، فأكل، ثم قال: "قوموا لأصلي لكم" . فقمت إلى حصير قد اسودّ من طول ما لبس، فنضحته بماء. فقام عليه صلى الله عليه وسلم وقمت أنا واليتيم وراءه، وقامت العجوز من ورائنا، فصلى لنا ركعتين، ثم انصرف. رواه الجماعة إلا ابن ماجه (481) .
استدل المحققون بهذا الحديث على أن الرجل المعذور الذي لم يجد له محلا في الصف يقف فيه، ولم يحصل له بعد أن نبَّه أحد المأمومين بجذبٍ أو غيره، فلم يتأخر أحد من أجله ليصف معه، ولم يتمكن أن يقف عن يمين الإمام -أن صلاته فذا صحيحة، للحاجة؛ لأنه اتقى اللَّه ما استطاع. واختاره الشيخ تقي الدين، وغيره. وهو الصواب إن شاء اللَّه.(1/168)
وإن ركع الرجل فَذا؛ لعذر -بأن خشي فوات الركعة- ثم دخل في الصف قبل سجود الإمام، أو وقف معه آخَرُ قبل سجود الإمام -صحت صلاته قولا واحدا؛ لقصة أبي بكرة حين ركع دون الصف، ثم مشى حتى دخل الصف. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : "زادك اللَّه حرصا، ولا تَعُد" . رواه البخاري (482)
وفي قوله صلى الله عليه وسلم : "ولا تعد" دليل على أن هذا الفعل لا ينبغي؛ لأنه ينافي السكينة المأمور بها في حديث: "إذا سمعتم الإقامة فامشوا وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا" . أخرجاه في "الصحيحين" (483)
أحكام الاقتداء [131] من دخل المسجد ولم يجد محلا في الصف فهل يجذب رجلا يصف معه؟
دخل رجل المسجد والناس يصلون، والصف تام، فجذب رجلا ممن في الصف الذي أمامه، ليتأخر معه، فأبى الرجل أن يتأخر معه، فحاول معه، فأصر، فجذب رجلا آخر، فتجاوب معه، وتأخر فصف معه وصلى.
والسؤال: هل يجوز للرجل أن يجذب رجلا؛ ليتأخر، فيصف معه؟
وإذا كان يجوز، فهل يلزم الرجل المجذوب أن يتأخر ويترك المحل الفاضل من الصف الأول؛ لأجل أن يكمل صلاة غيره؟ أفتونا مأجورين.
الإجابة:
المشهور من المذهب: أنه ينبهه، بإشارة، أو كلام، أو نحنحة، ونحو ذلك، ويكره أن يجذبه؛ لأنه تصرف فيه بغير إذنه. واستقبحه الإمام أحمد وغيره.
والقول الآخر في المذهب: جواز جذبه للحاجة؛ ولأن هذا ليس بتصرف فيه، وإنما هو تنبيه له.
وقد ذكر المسألة في "المغني" (484) فقال: إذا دخل المأموم فوجد في الصف فرجة، دخل فيها. فإن لم يجد، وقف عن يمين الإمام، ولا يستحب أن يجذب رجلا فيقوم معه. فإن لم يمكنه ذلك، نبه رجلا، فخرج، فوقف معه. وبهذا قال عطاء والنخعي. قالا: يجذب رجلا فيقوم معه. وكره ذلك مالك والأوزاعي، واستقبحه أحمد وإسحاق.
قال ابن عقيل: جوز أصحابنا جذب رجل يقوم معه صفا. واختار هو أن لا يفعل؛ لما فيه من التصرف فيه بغير إذنه.(1/169)
والصحيح جواز ذلك؛ لأن الحالة داعية إليه، فجاز، كالسجود على ظهره أو قدمه حال الزحام. وليس هذا تصرفا فيه، إنما هو تنبيه له؛ ليخرج معه، فجرى مجرى مسألته أن يصلي معه. وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لينوا في أيدي إخوانكم" (485) يريد ذلك. اهـ. واللَّه أعلم.
[132] حكم تخلف المأموم عن إمامه في الصلاة
سائل يسأل عن رجل دخل في الصلاة مع الإمام، فلما ركع الإمام ركع معه، ثم رفع الإمام فرفع معه وبقي واقفا، فسجد الإمام السجدة الأولى، ثم رفع الإمام رأسه بين السجدتين، ثم سجد السجدة الثانية، والمأموم لا يزال واقفا لم يتابع إمامه. ولما سجد الإمام السجدة الثانية، تحرك المأموم ليتابع إمامه، ولم يلحقه إلا في السجدة الثانية. فلما قام الإمام للركعة الثانية، أتم المأموم ما فاته، فجلس بين السجدتين، وسجد السجدة الأخرى، ثم قام، فلحق إمامه قائما، واقتدى به حتى انتهت صلاته. فهل صلاته صحيحة أم لا، وماذا يجب عليه؟
الإجابة:
ما كان ينبغي له أن يتخلف عن إمامه، بل المشروع له أن يتابعه من غير سبق ولا تخلف.
والمنصوص عليه في مثل هذا أنه إن كان تخلفه ناسيا، أو كان تخلفه لعذر -من نعاس ونحوه- وأمكنه الإتيان بما تخلف عنه ومتابعة إمامه قبل فوات الركعة الثانية، فصلاته صحيحة، ويعتد بتلك الركعة، ولا إعادة عليه؛ وإلا لغت الركعة التي حصل فيها التخلف، وقامت التي تليها مقامها، ويلزمه متابعة إمامه فيما بقي من صلاته، ويأتي بركعة بدل التي لغت بعد سلام إمامه. واللَّه أعلم.
[133] المسبوق في الصلاة هل يتورك تبعا لإمامه في تشهده الأخير أو يفترش؟
ما تقولون -أثابكم اللَّه- في المأموم إذا دخل مع الإمام في صلاة المغرب، وقد سبقه الإمام بركعة، فهل إذا جلس الإمام للتشهد الأخير متوركا، يتابعه المأموم ويتورك معه أم يجلس مفترشا؛ لأن هذا التشهد يعتبر هو التشهد الأول بالنسبة للمأموم؟
الإجابة:(1/170)
الذي نص عليه فقهاؤنا -رحمهم اللَّه- أن المأموم إذا دخل مع الإمام في صلاة رباعية، أو ثلاثية، وقد سبقه الإمام ببعض الصلاة، ثم جلس معه للتشهد الأخير -أنه يتورك معه ولا يفترش؛ وذلك متابعة منه للإمام، لمراعاة عدم الاختلاف عليه، ولحديث: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه" (486)
قال في "الإقناع" وشرحه "كشاف القناع" : ويتورك المسبوق مع إمامه في موضع توركه؛ لأنه آخر صلاته، وإن لم يعتد به، كما يتورك المسبوق فيما يقضيه للتشهد الثاني. فعلى هذا، لو أدرك ركعتين من رباعية، جلس مع الإمام متوركا؛ متابعة له في التشهد الأول، وجلس بعد قضاء الركعتين أيضا متوركا؛ لأنه يعقبه سلامه. انتهى.
وقال في "المنتهى" و "شرحه" (487): ويتورك مسبوق معه في تشهد أخير من رباعية ومغرب تبعا له. انتهى.
وقال في "مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى" : ويتورك المسبوق فيه - أي في تشهده الذي أدركه مع إمامه-؛ لأنه آخر صلاته، وإن لم يعتد به، كما يتورك للتشهد الثاني فيما يقضيه، فلو أدرك ركعتين من رباعية، جلس مع الإمام متوركا للتشهد الأول؛ متابعه له، وجلس بعد قضاء الركعتين أيضا متوركا؛ لأنه يعقبه سلامه. انتهى. واللَّه أعلم.
[134] حكم من نهض لقضاء ما فاته قبل إكمال إمامه التسليمة الثانية
صلى إلى جانبي رجل عامي، وقد فاتنا بعض الصلاة. فلما سلم الإمام التسليمة الأولى، وقبل التسليمة الثانية، نهض الرجل ليقضي ما فاته، فأمسكت بطرف ثوبه؛ ليبقى حتى يتم الإمام التسليم، فأبى، واستمر. فهل تصح صلاته والحال ما ذكر أم ماذا يكون عليه؟
الإجابة:(1/171)
الواجب على المأموم أن يتقيد بأفعال إمامه؛ فلا يسابقه، ولا يوافقه، بل يقتدي به بعد انتقاله من كل ركن؛ لحديث: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه" (488) فإذا كان المأموم قد فاته من الصلاة ركعة فأكثر، فلا يستعجل بالقيام لقضاء ما فاته حتى يتم الإمام سلامه. فإذا انقطع صوته من التسليمة الثانية، فحينئذ ينهض المأموم؛ ليأتي بما فاته.
فإن استعجل وقام قبل أن ينتهي الإمام من التسليمة الثانية؛ فهو آثم، وعليه أن يتدارك ذلك، بأن يرجع ويستقر جالسا، فإذا أتم الإمام سلامه نهض؛ لقضاء ما فاته. فإن فعل، فصلاته صحيحة، وإن لم يفعل انقلبت صلاته نفلا، وعليه إعادتها؛ لأن المأموم مفروض عليه أن يبقى مع إمامه حتى تتم صلاة الإمام، وهذا ما بقي مع إمامه. واللَّه أعلم.
[135] حكم المأموم إذا جاء والإمام راكع فدخل معه
إذا جاء المأموم إلى المسجد، ووجد الإمام راكعًا، فكبر، ودخل معه في الركوع، لكنه شك هل أدرك معه الركوع أم لا. فهل يعتد بتلك الركعة أم لا؟
الإجابة:
هذا لا يخلو من ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يتيقن أنه أدرك الإمام وهو راكع، بأن اجتمع معه في الركوع قبل أن يرفع الإمام من الركوع. فهذا قد أدرك الركعة، ويعتد بها. لكن يلاحظ أن عليه أن يأتي بتكبيرة الإحرام قائما قبل أن ينحط إلى الركوع، فإن لم يفعل،لم تنعقد صلاته فرضا. وإذا أتى بتكبيرة الإحرام وهو قائم، فيأتي بتكبيرة الركوع بعد ذلك، يأتي بها حين يهوي إلى الركوع، فإن لم يفعل فلا حرج؛ لأن تكبيرة الركوع في هذه الحالة سنة، ليست من الواجبات.
الحالة الثانية: أن يتيقن أن الإمام قد رفع من الركوع قبل أن يدركه المأموم فيه. فهذا قد فاتته الركعة، ولا يعتد بها.(1/172)
الحالة الثالثة: أن يشك هل أدركه أم لا؟ ففي مثل هذه الحالة لا يعتد بهذه الركعة التي شك في إدراكها، فيأتي بركعة بدلها؛ لعدم تيقنه إدراكها. ويسجد للسهو؛ لشكه في إدراك الركعة. هكذا قرره العلماء -رحمهم اللَّه- واللَّه أعلم.
[136] المسبوق إذا دخل مع الإمام في ركعة زائدة هل يعتد بها؟
سائل يسأل عن المسبوق إذا دخل مع الإمام في الصلاة الرباعية في الركعة الأخيرة، ولكنها صارت هي الركعة الخامسة، فهل يعتد بتلك الركعة الزائدة أم لا؟ نرجوكم إيضاح الجواب. وفقكم اللَّه للصواب.
الإجابة:
الحمد لله وحده. قال في "الروض المربع"(489): ولا يعتد مسبوق بالركعة الزائدة إذا تابعه فيها جاهلا. انتهى.
وقال في "حاشيته" : قال في "الإنصاف" (490) : على الصحيح من المذهب.
وقال القاضي والموفق: يعتد بها، وتَوقَّفَ في رواية أبي الحارث، ثم قال في "الحاشية" : قوله: (ولا يعتد مسبوق بركعة زائدة) : في كلامه إجمال. والحاصل أن المسبوق تارة يتحقق كونها زائدة، وكون الإمام أبى الرجوع بعد تنبيهه أو لا. فإن علم ذلك لم تنعقد صلاته، ومن جهل الحال انعقدت صلاته. ولم يعتد بتلك الركعة إن علم الحال في أثناء الصلاة. وإن لم يعلم الحال إلا بعد انقضائها صحت صلاته، واعتد له بتلك الركعة. واللَّه أعلم (م خ) . انتهى.
ومراده بالرمز (م خ) الشيخ محمد الخلوتي -رحمه اللَّه-.
[137] حكم الائتمام بمن أَحْرَم مُنْفردًا
رجل أحرم بالصلاة منفردا، ثم جاء رجل آخر وائتم به بعد أن صلى بعض الصلاة. فهل تصلح صلاته أم لا؟ وهل الأولى أن يخرج من صلاته ويستأنف به أم ماذا يفعل؟
الإجابة:
الحمد لله. هذه المسألة خلافية. فيها ثلاثة أقوال في المذهب:
فظاهر المذهب -الذي مشى عليه في "المنتهى" - أنها لا تصح مطلقا، سواء كانت الصلاة فرضا أو نفلا.
والقول الثاني: أنها تصح مطلقا، سواء كانت الصلاة فريضة أو نافلة.(1/173)
والقول الثالث: أنها تصح في النافلة دون الفريضة. وهذا الذي مشى عليه في "مختصر المقنع" لحديث ابن عباس الآتي.
والقول بصحتها مطلقا هو الراجح دليلا. واختاره الموفق، والشيخ تقي الدين، وشيخنا ابن سعدي، وفاقا للأئمة الثلاثة؛ لما روى ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- قال: بت عند خالتي ميمونة فقام النبي صلى الله عليه وسلم يصلي متطوعا من الليل، فقام إلى قربة فتوضأ، فقام فصلى، فقمت لما رأيته صنع ذلك، فتوضأت من القربة، ثم قمت إلى شقه الأيسر، فأخذ بيدي من وراء ظهره يعدلني كذلك إلى الشق الأيمن. متفق عليه واللفظ لمسلم (491)
قال الموفق في الكلام على تأييد هذا القول: وقد رُوي عن الإمام أحمد ما يدل عليه. وهو مذهب الشافعي. وهو الصحيح إن شاء اللَّه؛ لأنه قد ثبت في النفل. والأصل مساواة الفرض للنفل؛ ولحديث جابر وجَبّار: أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم وحده، فجاء جابر وجبار فصلى بهما. رواه مسلم وأبو داود (492). والظاهر أنها مفروضة؛ لأنهم كانوا مسافرين، ولأن الحاجة تدعو إليه. وبيانها: أن المنفرد إذا جاء قوم فأحرموا معه، فإن قطع الصلاة وأخبرهم بحاله قبح؛ لما فيه من إبطال العمل. وإن أتم الصلاة ثم أخبرهم بفساد صلاتهم فهو أقبح وأشق. وقياسهم - يعني: من قال: لا تصح- ينتقض بحالة الاستخلاف. واللَّه أعلم.
[138] هل يُتِمُّ المسبوقُ التشهد الأخير مع إمامه؟
إذا جلس المسبوق مع إمامه للتشهد الأخير، هل يكمل التشهد الأخير إلى آخره أم يقف على حد التشهد الأول؟
الإجابة:(1/174)
المشهور من المذهب أن المأموم يقتصر على التشهد الأول ويكرره -ندبا-حتى يسلم الإمام، ثم ينهض المسبوق؛ ليأتي بما فاته من صلاته. نص عليه الإمام أحمد فيمن أدرك مع الإمام ركعة. قال: يكرر التشهد الأول، ولا يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يدعو بشيء مما يدعى به في التشهد الأخير. وعلل الفقهاء لذلك بأنه تَشَهُّدٌ واقع في وسط الصلاة؛ فلم تشرع فيه الزيادة على التشهد الأول. فإن سلم الإمام قبل أن يتم المسبوق التشهد الأول، فإنه يقوم؛ ليأتي بما فاته من صلاته من دون أن يكمل هذا التشهد، إن لم يصادف تشهدَه الأول. فإن صادفه فيكمله؛ لأنه واجب عليه حينئذ. واللَّه أعلم.
[139] ما يدركه المسبوق مع الإمام في الصلاة هل هو أولها أو آخرها؟
إذا دخل المسبوق مع الإمام في الصلاة، فهل يستفتح - بناء على أن ما يدركه معه أول صلاته- أم يؤخر ذلك لما يقضيه بعد سلام إمامه، بناء على أن ما يدركه معه آخر صلاته؟ أرجو إيضاح هذه المسألة لكثرة وقوعها.
الإجابة:
هذه المسألة مما اختلف فيه العلماء. فالمشهور من المذهب -عند المتأخرين- أن ما يدركه المسبوق مع إمامه هو آخر صلاته، وما يقضيه بعد سلام إمامه هو أولها. ويروى ذلك عن ابن عمر، ومجاهد، وابن سيرين، ومالك، والثوري، وحُكي عن الشافعي، وأبي حنيفة، وأبي يوسف. ذكره في "الشرح الكبير" (493).(1/175)
واستدل أصحاب هذا القول بما روي من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سمعتم الإقامة فامشوا وعليكم السكينة والوقار، ولا تسرعوا، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فاقضوا" (494)والقول الثاني: أن ما يدركه المأموم مع إمامه أولُ صلاته، وما يقضيه آخُرها. وهو رواية عن الإمام أحمد، وبه قال سعيد بن المسيب، والحسن، وعمر ابن عبد العزيز، وإسحاق. وهو قول الشافعي، ورواية عن الإمام مالك. واختاره ابن المنذر. واستدل القائلون بهذا بالرواية الأخرى من الحديث الذي أورده أصحاب القول الأول؛ وهي قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة السابق: "وما فاتكم فأتموا"(495)
فعلى القول الأول؛ إذا دخل المسبوق مع الإمام لا يستفتح، ولا يستعيذ إن لم يقرأ، ولا يقرأ السورة بعد الفاتحة، ويتورك مع إمامه في التشهد الأخير. فإذا قام لقضاء ما فاته استفتح بسبحانك اللَّهم...، ونحوها، واستعاذ، وقرأ السورة بعد الفاتحة. ولو كان مسبوقا بصلاة العيد كبر فيما يقضيه ست تكبيرات؛ لأنها المشروعة في الركعة الأولى. إلا أنه لو أدرك ركعة من المغرب، فإذا قام ليقضي ما فاته بعد سلام إمامه وصلى ركعة، جلس للتشهد الأول. وهذا موافق للرواية الأخرى. قالوا: لئلا يفضي إلى تغيير هيئة الصلاة؛ لأنه لو تشهد عقب ركعتين لزم منه قطع المغرب على شفع، وليست كذلك.
ومثله: لو أدرك ركعة من الرباعية، فإنه يتشهد عقب ركعة أخرى؛ لئلا يلزم منه قطع الرباعية على وتر، وليست كذلك.
والقول الثاني بخلاف ذلك كله؛ فيستفتح فيما يدركه مع إمامه، ويستعيذ، ويقرأ السورة بعد الفاتحة. وإذا قام لقضاء ما فاته اكتفى بالاستفتاح المتقدم.(1/176)
ومن تتبع كلام العلماء على روايتي حديث أبي هريرة السابق وجد أن رواية: "فأتموا" أكثر رواة، وأصح إسنادا عند كثير من أهل الحديث، مع أن رواية: "فاقضوا" لا تخالف رواية: "فأتموا" لمن تدبر المعنى؛ لأن القضاء يراد به الإتمام، كما في قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} (496)و{فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ} (497)
قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (498): وفي قوله صلى الله عليه وسلم : "وما فاتكم فأتموا" أي: أكملوا. هذا هو الصحيح في رواية الزهري. ورواه ابن عيينة بلفظ: "فاقضوا" . وحكم عليه مسلم بالوهم في هذه اللفظة مع أنه أخرج إسناده في "صحيحه" ، لكنه لم يسق لفظه.
قال: والحاصل أن أكثر الروايات ورد بلفظ: فأتموا" ، وأقلها بلفظ: "فاقضوا" . وإنما تظهر فائدة ذلك إن جعلنا بين القضاء والإتمام مغايرة، لكن إذا كان مخرج الحديث واحدًا، واختلفوا في لفظة منه، وأمكن رد الاختلاف إلى معنى واحد، كان أولى. وهنا كذلك؛ لأن القضاء وإن كان يطلق على الفائت غالبا، لكن يطلق على الأداء أيضا، ويرد لمعان أُخَر. فيحمل قوله هنا: "فاقضوا" على معنى الأداء، أو الفراغ، فلا يغاير قوله: "فأتموا" ، فلا حجة فيه لمن تمسك برواية: "فاقضوا" على أن ما أدركه المأموم مع الإمام هو آخر صلاته حتى استحب الجهر في الركعتين، وقراءة السورة. بل هو أولها، وإن كان آخر صلاة إمامه؛ لأن الآخر لا يكون إلا عن شيء تقدم.
وأوضح دليل على ذلك أنه يجب عليه أن يتشهد في آخر صلاته على كل حال، فلو كان ما يدركه مع الإمام آخرها لما احتاج إلى إعادة التشهد. انتهى ملخصا.
فظهر بما ذكرناه أن القول الصحيح: أن ما يدركه المأموم مع إمامه هو أول صلاته، وما يقضيه بعد سلامه هو آخرها. واللَّه أعلم.
[140] حكم الائتمام بالمسبوق فيما يقضيه من الصلاة(1/177)
مسبوق فاته بعض الصلاة، فلما سلم الإمام قام ليقضي ما فاته، فدخل رجل آخر وائتم به في آخر صلاته، فلما سلم المسبوق قام الرجل الآخر ليأتي بما بقي من صلاته. فهل يصح ائتمامه به والحال ما ذكر؟
الإجابة:
هذه المسألة كمسألة الائتمام بمن أحرم منفردا، وفيها ثلاثة أقوال في المذهب:
فقيل: إنها تصح مطلقا، سواء كانت الصلاة فرضا أو نفلا.
وقيل: إنها لا تصح مطلقا، سواء كانت الصلاة فرضا أو نفلا.
وقيل: إنها تصح في صلاة النافلة دون الفريضة.
والقول الأول هو الصحيح؛ لحديث ابن عباس، وحديث جابر وجبار. وقد سبق إيراد الحديثين قريبا. واللَّه أعلم.
[141] من أدرك الإمامَ راكعا هل يعتد بتلك الركعة؟
إذا دخل المأموم فوجد الإمام راكعا، فدخل معه، هل يعتد بتلك الركعة، ولو لم يقرأ الفاتحة؟ وإذا كان مع الإمام فلم يتمكن من تكميل قراءة الفاتحة، وركع الإمام، هل يتابعه، ويكون مدركا للركعة؟ أرجو الجواب مفصلا؛ نظرا لوجود خلاف بين العلماء في ذلك.
الإجابة:
الذي عليه الجماهير: أنه يعتد بتلك الركعة. وفيه قول آخر: أنه لا يعتد بها. ويحكى هذا القول عن أبي هريرة، واختاره ابن خزيمة، والصبغي، وقواه السبكي في "فتاواه" . واحتج لهذا الرأي بما في "الطبراني" (499)، من حديث أبي بكرة -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صل ما أدركت واقض ما سُبقت" . وبما رُوي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أدرك الإمام في الركوع فليركع معه، وليعد تلك الركعة" (500) . و بحديث : "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب "(501)
والصواب -الذي عليه الجمهور- الاعتداد بتلك الركعة.
قال الموفق ابن قدامة في "المغني" (502): ومن أدرك الإمام في الركوع فقد أدرك الركعة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : "من أدرك الركوع فقد أدرك الركعة" . رواه أبو داود (503)(1/178)
وقال النووي في "المجموع" (504): والاعتداد بتلك الركعة هو الصواب الذي نص عليه الشافعي. وقاله جماهير الأصحاب وجماهير العلماء، وتظاهرت به الأحاديث، وأطبق عليه الناس.اهـ.
ومن الأحاديث الثابتة فيه:
حديث أبي بكرة -رضي الله عنه- أنه انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكع، فركع قبل أن يصل إلى الصف. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : "زادك اللَّه حرصا، ولا تَعُد" . رواه البخاري وأبو داود والنسائي (505) فقد أقرّه النبي صلى الله عليه وسلم على اعتداده بتلك الركعة، ونهاه عن العودة إلى الدخول قبل الانتهاء إلى الصف.
وقد جاء عن الصحابة ما يقوي هذا الاستدلال، فأخرج الطبراني في "الكبير" ، بسند رجاله ثقات، من حديث زيد بن وهب. أنه قال: دخلت أنا وابن مسعود المسجد، والإمام راكع فركعنا، ثم مضينا حتى استوينا بالصف فلما فرغ الإمام قمت أقضي. فقال لي ابن مسعود: قد أدركتَه (506) وأخرج فيه أيضا عن علي وابن مسعود أنهما قالا: من لم يدرك الركعة فلا يعتد بالسجدة (507)
وأما ما عند الطبراني في قصة أبي بكرة -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "صلّ ما أدركت، واقض ما سبقت" ، ففي إسناده عبداللَّه ابن عيسى الخزاز، وهو ضعيف، كما نص عليه الحافظ الهيثمي في " مجمع الزوائد" (508)
وأما حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أدرك الإمام في الركوع فليركع معه، وليعد الركعة". فقد رواه البخاري في جزء "القراءة خلف الإمام" عن أبي هريرة أنه قال: إن أدركت القوم ركوعا لم تعتد بتلك الركعة. قال الشوكاني في "نيل الأوطار" (509) قال الحافظ: وهذا هو المعروف عن أبي هريرة موقوفا، وأما المرفوع فلا أصل له.
وأما حديث: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" ، فعمومه مخصص بحديث أبي بكرة، فلا تعارض بينهما.(1/179)
ومن هنا يتبين ضعف القول بعدم الاعتداد بركعة من أدرك الإمام في الركوع، بل جزم النووي في "المجموع"(510)، والحافظ العراقي في "طرح التثريب"(511) بأن القول بذلك قول منكر شاذّ. وذكر أن المعروف من مذاهب الأئمة، وغيرهم، وعليه الناس -قديمًا وحديثًا- إدراك الركعة.
ونقل النووي عن صاحب "التتمة" أنه تعقب قول ابن خزيمة، والصبغي بعدم الاعتداد بالركعة بقوله: هذا ليس بصحيح؛ لأن أهل الأعصار اتفقوا على الإدراك به. فخلاف مَنْ بَعْدهم لا يعتد به.
والخلاصة: أن الاعتداد بركعة من أدرك الإمام في الركوع هو الصحيح الذي عليه الجمهور، ودلت عليه الأحاديث. واللَّه أعلم.
[142] حكم إكمال المأموم دعاء التشهد الأخير بعد سلام الإمام
إذا لم يتمكن المأموم من تكميل الدعاء في التشهد الأخير لعجلة الإمام، فهل يجوز للمأموم أن يكمل دعاء التشهد بعد سلام الإمام أم يبادر بالسلام قبل تكميل الدعاء؟
الإجابة:
قال في "مطالب أولي النهى" : تتمة: فإن سبق إمامٌ بالسلام قبل أن يُكمل مأمومٌ دعاءَ التشهد، أتمه إن كان يسيرا ثم سلم. وإن كان كثيرا تابعه بالسلام، ولا يشتغل بإتمام ذلك. نقله أبو داود (512) واللَّه أعلم.
[143] حكم صلاةُ الإنسان فَرْضَ العشاء خلف من يصلي التراويح
سائل يسأل عن جواز صلاة الإنسان فرض العشاء خلف من يصلي التراويح، إذا جاء وقد فرغوا من صلاة الفرض؟
الإجابة:
المشهور من المذهب أن صلاته غير صحيحة؛ لقولهم: لا يصح ائتمام مفترض بمتنفل. واستدلوا بحديث: إنما جعل الإمام ليؤتم به؛ فلا تختلفوا عليه" (513)
وقال بعض العلماء: تصح صلاته، لاسيما إذا لم يجد جماعة غير هؤلاء الذين يصلون التراويح. وهو قول قوي في المذهب. اختاره الشيخ تقي الدين بن تيمية، وغيره، و شيخنا ابن سعدي.
واستدل هؤلاء بحديث معاذ: أنه كان يصلي العشاء مع النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم يرجع إلى قومه، فيصلي بهم تلك الصلاة إماما، فتكون له نافلة، ولهم فريضة (514)(1/180)
وهذا القول أرجح دليلا. ولكن إذا كان أهل البلد يعملون بخلاف الأرجح، وكان في مخالفتهم ما يُحدث تشويشًا، فلا ينبغي إحداث ما يشوش عليهم. واللَّه أعلم.
الأعذارالمسقطة للجمعة والجماعات [144] حكم صلاة الجنود في مراكزهم
هل يتعين على الجنود المحافظين على الأمن -كجنود المرور وغيرهم ممن يحافظون على أموال الناس- أن يذهبوا إلى المساجد لأداء الصلاة مع الجماعة أم تكفي صلاتهم في مراكزهم؟
الإجابة:
كل من كان في مركز هام يُخشى الضرر على الأنفس والأموال إذا أخلاه وذهب لصلاة الجماعة، فإنه يسوغ له ملازمة مركزه، ويسقط عنه حضور الجماعة في المسجد. و إن أمكن فعلها في المركز جماعة، كاثنين فأكثر، تعين صلاتهم جماعة. واللَّه أعلم.
باب قصر و جمع الصلوات للمسافر [145] حكم صلاة المسافر
سائل يسأل حكم الجمع بين الصلاتين، وعن قصر الصلاة وإتمامها: أيهما أفضل للمسافر إذا نزل منزلا لم ينو الإقامة فيه، سواء كان منزله في بلد أو غيرها؟
الإجابة:
أما قصر المسافر للصلاة الرباعية، فإنه سنة مؤكدة، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يدعه في السفر.
قال ابن القيم -رحمه اللَّه-: لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتم الصلاة في السفر، وإنما كان يقصر الرباعية باستمرار(515) .
وعلى هذا، فالسنة للمسافر أن يقصر. وهو أفضل من الإتمام وأكمل، سواء جد به السير، أو كان مقيما إقامة لا تمنعه من التمتع برخص السفر.
غير أن هناك مسألة ينبغي التنبه إليها، وهي أنه إن كان منفردا وحصل له جماعة يصلي معهم، ودار الأمر بين أن يصلي منفردا ويقصر الصلاة، أو يصلي معهم جماعة ويتمها، فإن إتمامها مع حصول فضيلة الجماعة أولى من صلاته وحده.
وأما الجمع بين الصلاتين فهو رخصة عارضة للمسافر إذا جدّ به السير، وكان الجمع أرفق به، سواء كان جمع تقديم أو جمع تأخير. ففي مثل هذه الحالة يشرع له الجمع؛ رفقا به؛ لأن السفر مظنة المشقة والحاجة إلى الراحة.(1/181)
وبهذا يتبين لك الفرق بين القصر والجمع، وأن القصر سنة مؤكدة والجمع رخصة عارضة. فالقصر مشروع، سواء كان المسافر قد جد به السير، أو كان نازلا في منزله. والجمع للحاجة، إذا كان الإنسان قد جد به السير، أو كان نازلا في منزله، لكنه في شغل وتعب من التحميل، والتنزيل، والفك، والربط، وملاحظة من برفقته، من عائلته، وأطفاله ونحو ذلك. أما إن كان مقيما مستريحا، فالأولى له أن لا يجمع، وأن يصلي كل صلاة في وقتها. وإن جمع في هذه الحالة فصلاته صحيحة؛ لأنه لا يزال مسافرا. واللَّه أعلم.
[146] مقدار مسافة القصر
سائل يسأل عن مقدار المسافة التي تقصر فيها الصلاة، وهل يسوغ القصر لمن سافر من الرياض إلى الخَرْج، ونحوه؟ وإذا أراد إقامة أربعة أيام ونحوها، هل يلزمه الإتمام؟
الإجابة:
هذا مما اختلف فيه العلماء. فالمشهور من المذهب: أن ذلك مقدر بيومين قاصدين -أي: معتدلين في الطول والقصر- في زمن معتدل بسير الأثقال، ودبيب الأقدام، وهما أربعة برد. والبريد: أربعة فراسخ، فتكون ستة عشر فرسخا. والفرسخ: ثلاثة أميال.
والقول الثاني: أن لا تحديد في ذلك، وأنه يقصر في كل ما يسمى سفرا ولا يتقدر بمدة معينة. ونصره صاحب "المغني" (516)فيه. ونصره ابن عقيل في موضع، وقاله بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي وأحمد. وسواء نوى الإقامة أربعة أيام أم لا. وروي عن جماعة من الصحابة. واختاره الشيخ تقي الدين بن تيمية -رحمه اللَّه- (517)، وقرر قاعدة نافعة، وهي: أن ما أطلقه الشارع يعمل بمقتضى مسماه ووجوده، ولم يَجُز تقديره، ولا تحديده بمدة. وهذا هو الصحيح. واللَّه أعلم.
باب صلاة الجمعة [147] حكم تخطي رقاب الناس يوم الجمعة
سائل يسأل عن هؤلاء الذين يأتون يوم الجمعة متأخرين، ويتخطون رقاب الناس، ويؤْذونهم بذلك، ويضيّقون عليهم بمجالسهم في الصف، فهل يحل لهم ذلك، وماذا يترتب عليهم؟
الإجابة:(1/182)
هؤلاء الذين يتخطون رقاب الناس يوم الجمعة، إذا أتوا متأخرين فقد خالفوا السنة، ورَغِبوا عن الفضيلة، وأساءوا إلى أنفسهم وإلى الناس بهذا الصنيع. وقد صرح العلماء -رحمهم اللَّه- بالنهي عن تخطي رقاب الناس؛ لما فيه من أذيتهم، وإساءة الأدب معهم، بل وإهانتهم. وقد عقد الإمام الشافعي -رضي الله عنه- في "الأم" بابا لكراهية التخطي يوم الجمعة. قال فيه (518): وأكره تخطي رقاب الناس يوم الجمعة قبل دخول الإمام وبعده؛ لما فيه من الأذى لهم، وسوء الأدب؛ ولذلك أحب لشاهد الجمعة التبكير إليها، مع الفضل في التبكير إليها.
وقد روي عن الحسن مرسلا: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يتخطى رقاب الناس. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : "آنيت وآذيت" (519)، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما أحب أن أترك الجمعة ولي كذا وكذا، ولأن أصليها بظهر الحَرَّة أحب إلي من أن أتخطى رقاب الناس" (520)
وإن كان دون مدخلِ رجلٍ زحامٌ، وأمامه فرجة، فكان تخطيه إلى الفرجة بواحد أو اثنين -رجوت أن يسعه التخطي. وإن كثر كرهتُه، ولم أحبه؛ إلا أن لا يجد السبيلَ إلى مصلًّى يصلي فيه الجمعة إلا بأن يتخطى، فيسعه التخطي، إن شاء اللَّه.
وإن كان إذا وقف حتى تقام الصلاة، تقدم مَن دونه حتى يَصِل إلى موضع تجوز فيه الصلاة- كرهتُ له التخطي. وإن فعل ما كرهتُ له من التخطي، لم يكن عليه إعادة صلاة.
وإن كان الزحام دون الإمام الذي يصلي الجمعة، لم أكره له من التخطي، ولا من أن يفرج له الناس ما أكره للمأموم؛ لأنه مضطر إلى أن يمضي إلى الخطبة والصلاة لهم. اهـ. من "الأم" .
وذكر الحافظ في "فتح الباري" في شرح (باب الدهن يوم الجمعة) قول الشافعي: وأكره التخطي إلا لمن لا يجد السبيل إلى المصلى إلا بذلك، ثم قال الحافظ (521): وهذا يدخل فيه الإمام، ومن يريد وصل الصف المنقطع -إن أبى السابق من ذلك- ومن يريد الرجوع إلى موضعه الذي قام منه لضرورة.(1/183)
ونقل الموفق ابن قدامة في "المغني" (522)عن الحسن البصري أنه قال: تخطوا رقاب الذين يجلسون على أبواب المساجد، فإنهم لا حرمة لهم. فاستفيد من كلام الحسن أن هذا من المواضع التي لا يكره فيها التخطي. قال ابن قدامة في تعليل كلام الحسن: وذلك لأنهم خالفوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم عن الفضيلة وخير الصفوف، وجلسوا في شرها. واللَّه الموفق.
[148] حكم صلاة الجمعة على الرصيف
سائل يسأل عن صلاة بعض الناس الجمعة على الرصيف إذا ضاق الجامع، ولم يجد الإنسان له محلا؟
الإجابة:
الأصل أن الصلاة لا تصح في الطريق إلا لحاجة. وقد روي في ذلك حديث ضعيف؛ وهو حديث ابن عمر: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلى في سبعة مواطن: المزبلة، والمجزرة، والمقبرة، وقارعة الطريق، وفي الحمّام، وفي معاطن الإبل، وفوق ظهر بيت اللَّه. رواه الترمذي وابن ماجه (523)
إلا أن العلماء -رحمهم اللَّه- استثنوا من هذا ما دلت عليه النصوص الأخرى. وذلك في مثل صلاة الجمعة، والعيد، والجنازة، ونحوها، إذا امتلأ المسجد، ولم يجد الإنسان له محلا إلا في الطريق. فيجوز للحاجة. واشترطوا أن تتصل الصفوف عُرْفًا. واللَّه أعلم.
[149] حكم الكلام القليل والإمام يخطب
إذا شرع الإمام بالخطبة يوم الجمعة، وبدا لي حاجة إلى الكلام: كأن سمعت أناسا يلعبون فنصحتهم، أو بلغت الإمام بنصحهم، أو رأيت أعمى سيسقط مع الدرج فيتكسر. فهل أصوت له وأحذره؟ وكذلك إذا سمعت الإمام يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ، أو يدعو؟ فهل أصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ، وأؤمن على دعائه، أم أنصت؟ وكذلك لو عطست. فهل أقول: الحمد لله أم أسكت؟ ولو شمَّتني مَنْ حولي، فهل أرد عليه؟ أم أسكت، وإذا عطس مَن بجانبي أو سلّم عليّ. فهل أشمته وأرد عليه السلام؟ أم أسكت؟.. نرجو الإجابة المفيدة؛ لأن هذه المسائل كثيرة الوقوع.
الإجابة:(1/184)
الحمد لله وحده. نلخص لك الجواب من "الإقناع" و "شرحه" للشيخ منصور البهوتي -رحمه اللَّه- قال: إذا شرع الإمام في الخطبتين حرم على من يسمعه أن يتكلم؛ لقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ القُرْءَانُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وأَنصِتُوا} (524)، ولقوله عليه الصلاة والسلام: "من قال يوم الجمعة: لصاحبه: صه؛ فقد لغى، ومن لغى فليس له في جمعته تلك شيء" رواه أحمد وأبو داود (525) ولقوله عليه الصلاة والسلام في خبر ابن عباس: "والذي يقول له: أنصت، ليس له جمعة" . رواه أحمد (526) من رواية مجالد، وهو ضعيف. ومعنى قوله: "لا جمعة له" ، أي لا تكتب له جمعة كاملة. وليس المراد أن عليه قضاءها.
ولقوله عليه الصلاة والسلام لأبي الدرداء: "إذا سمعت إمامك يتكلم فأنصت حتى يفرغ" . رواه أحمد (527)
ويستثنى من ذلك من أراد أن يتكلم مع الخطيب، أو أن الخطيب يكلمه لمصلحة، فلا يحرم عليهما ذلك؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كلم سُلَيْكًا (528)وهو يخطب، وكَلّمه هو. رواه ابن ماجه بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- (529) وسأل عثمانَ عمرُ وهو يخطب؛ فأجابه (530)وسأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم الاستسقاء (531)؛ ولأنه -حَالَ كلامِه وكلامِ الإمام إياه- لا يشتغل عن سماع الخطبة.
وإذا سمع الإنسان أحدا يتكلم؛ فإنه يُسكته، لكن بغير كلام، بل يشير إليه إشارة مفهومة، كأن يضع أصبعه على فمه، ونحو ذلك مما يفهم منه السكوت؛ لأن الإشارة تجوز في الصلاة المكتوبة للحاجة. فالخطبة من باب أولى.
أما لو كان الكلام لتحذير ضرير، أو غافل عن بئر أو عن هلكة، أو من يخاف عليه نارًا أو حية ونحوه مما يقتله أو يضره، فإنه في مثل هذه الحالة واجب؛ لعموم حقوق المسلم على المسلم، ولأن الإنسان إذا كان في الصلاة شُرع له قطعها في مثل هذه الحالة. فالخطبة من باب أولى.(1/185)
وأما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إذا مر ذكره، فيصلي عليه سرا. وله التأمين على دعاء الخطيب سرا -اتفاقا- قاله الشيخ. وفي "التنقيح" و"المنتهى" (532): وله الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمعها، وتُسَنُّ سرًّا. أما السلام، فلا يسلم مَنْ دخل على الإمام، ولا غيره؛ لانشغالهم بالخطبة، واستماعها. وله أن يحمد اللَّه خفية إذا عطس -نصا- وتشميت عاطس، ورد سلام، نطقا خفية؛ لأنه مأمور به لحق آدمي. قاله في "المبدع" . انتهى من "الإقناع" و"شرحه" بتصرف. واللَّه أعلم.
[150] الذين يخرجون يوم الجمعة للنزهة هل تجب عليهم صلاة الجمعة؟
يَكثر خروج الناس يومي الخميس والجمعة، وخروجهم في هذين اليومين يكون للنزهة فقط. فهل الذي يخرج في ذلك اليوم، ويبعد عن بلاده مسافةَ قَصْر، لكنه حَوْل بلاد تقام فيها صلاة الجمعة. فهل تجب عليه صلاة الجمعة؟ وهل يأثم إذا تركها أم لا؟ أرجو الإفادة، أثابكم اللَّه.
الإجابة:
ينبغي لنا قبل الجواب على السؤال أن نذكر شيئا مما ذكره العلماء - رحمهم اللَّه- عن يوم الجمعة؛ وذلك أن اللَّه -سبحانه وتعالى- قد شرع لكل أمة في الأسبوع يوما يتفرغون فيه للعبادة، ويجتمعون فيه؛ لتذكر المبدأ والمعاد والثواب والعقاب، ويتذكرون به اجتماعهم يوم الجَمْع الأكبر قياما بين يدي رب العالمين. وكان أحق الأيام بهذا هو اليوم الذي يجمع اللَّه فيه الخلائق؛ وذلك يوم الجمعة، فادخره اللَّه لهذه الأمة؛ لفضلها وشرفها، فشرع اجتماعهم في هذا اليوم، وقدّر اجتماعهم فيه مع الأمم؛ لنيل كرامته، فهو يوم الاجتماع شرعا في الدنيا وقَدَرا في الآخرة، وفي مقدار انتصافه -وقت الخطبة والصلاة- يكون أهل الجنة في منازلهم، وأهل النار في منازلهم، كما ورد عن ابن مسعود وابن عباس -رضي اللَّه عنهم- (533)(1/186)
فاللَّه تعالى قد جعل لأهل كل ملة يوما يتفرغون فيه للعبادة، لا للهو واللعب، ويتخلون فيه عن أشغال الدنيا. فيوم الجمعة يوم عبادة. وهو في الأيام كشهر رمضان في الشهور. وساعة الاستجابة فيه كليلة القدر في رمضان؛ ولهذا من صح له يوم جمعته وسَلِمَ سلمت له سائر أيام أسبوع جمعته. ومن صح له رمضان وسَلِم سلمت له سائر شهور سنته. ومن صحت له حَجّته وسلمت له صح له سائر عمره. فيوم الجمعة ميزان الأسبوع، ورمضان ميزان العام، والحج ميزان العمر. فهذا اليوم الذي يستحب أن يتفرغ فيه العبد للعبادة. وله على سائر الأيام ميزة بأنواع العبادات الواجبة والمستحبة (534).
قال ابن القيم (535): ولما كان يوم الجمعة في الأسبوع كالعيد في العام، وكان العيد مشتملا على صلاة وقربان، وكان يوم الجمعة يوم صلاة -جعل اللَّه -سبحانه- التعجيل فيه إلى المسجد بدلا من القربان، وقائما مقامه؛ فيجتمع للرائح فيه إلى المسجد الصلاة والقربان، كما في "الصحيحين" (536)عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنة. ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة. ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن. ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة. ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة" .(1/187)
ومن أعظم شعائر هذا اليوم صلاة الجمعة (537) التي هي من آكد فروض الإسلام، ومن أعظم مجامع المسلمين. وهي أعظم من كل مجمع يجتمعون فيه وأفرضه - سوى مجمع عرفة- ومن تركها تهاونا بها طبع اللَّه على قلبه. وقُرْبُ أهل الجنة يوم القيامة من ربهم، وسبقهم إلى الزيارة يوم المزيد بحسب قُرْبهم من الإمام يوم الجمعة، وتبكيرهم إليها. وقد جاء من التشديد فيها ما لم يأت نظيره إلا في صلاة العصر، كما روى الإمام أحمد وأصحاب السنن الأربعة (538) من حديث أبي الجعد الضمري -وكانت له صحبة- أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "من ترك ثلاث جُمَع تهاونا بها طبع اللَّه على قلبه" . قال الترمذي: حديث حسن. وفي رواية لابن خزيمة وابن حبان (539): "من ترك الجمعة ثلاثا من غير عذر فهو منافق" . وفي أخرى لرزين (540): "فقد برئ منه اللَّه" . وروى أحمد بإسناد حسن، وابن ماجه بإسناد جيد، والحاكم وصححه (541) : "من ترك الجمعة ثلاثا من غير ضرورة طبع اللَّه على قلبه" . زاد البيهقي (542): "وجعل قلبه قلب منافق" . وفي رواية لها شواهد (543): "كتب من المنافقين" . وفي أخرى سندها صحيح عن ابن عباس موقوفة (544) : "فقد نبذ الإسلام وراء ظهره" .
وروى مسلم من حديث ابن عمر وأبي هريرة، أنهما سمعا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول على أعواد منبره: "لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن اللَّه على قلوبهم، ثم ليكونُن من الغافلين" (545).
وقد جاء في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر لمن تركها أن يتصدق بدينار، فإن لم يجد فنصف دينار. رواه أبو داود والنسائي (546)من رواية قدامة ابن وبرة عن سمرة بن جندب. ولكن قال أحمد: قدامة بن وبرة لا يعرف. وقال يحيى ابن معين: ثقة. وحكي عن البخاري: أنه لا يصح سماعه من سمرة.(1/188)
وقال ابن القيم (547): وكان من هديه صلى الله عليه وسلم تعظيم هذا اليوم وتشريفه، وتخصيصه بعبادات يختص بها عن غيره. وقد اختلف العلماء هل هو أفضل أم يوم عرفة؟ على قولين: هما وجهان لأصحاب الشافعي. وهو يوم عيد متكرر في الأسبوع، وقد روى أبو عبد اللَّه بن ماجه في سننه (548)من حديث أبي لبابة ابن عبد المنذر قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "إن يوم الجمعة سيد الأيام، وأعظمها عند اللَّه. وهو أعظم عند اللَّه من يوم الأضحى ويوم الفطر. فيه خمس خلال: خلق اللَّه فيه آدم، وأهبط اللَّه فيه آدم إلى الأرض، وفيه توفى اللَّه آدمَ، وفيه ساعة لا يسأل اللَّهَ العبدُ فيها شيئًا إلا أعطاه، ما لم يسأل حراما، وفيه تقوم الساعة، ما مِن مَلَكٍ مقرّب، ولا سماءٍ، ولا أرضٍ، ولا رياحٍ، ولا جبالٍ، ولا شجرٍ (549)إلا وهن يشفقن من يوم الجمعة" . ثم قال (550): ولا يجوز السفر في يومها لمن تلزمه الجمعة قبل فعلها بعد دخول وقتها. وأما قبله فللعلماء ثلاثة أقوال؛ وهي روايات منصوصات عن أحمد. أحدها: لايجوز. والثاني: يجوز. والثالث: يجوز للجهاد خاصة.
وأما مذهب الشافعي -رحمه اللَّه- فيحرم عنده إنشاء السفر يوم الجمعة بعد الزوال. ولهم في سفر الطاعة وجهان. أحدهما: تحريمه، وهو اختيار النووي. والثاني: جوزاه، وهو اختيار الرافعي. وأما السفر قبل الزوال فللشافعي فيه قولان: القديم: جوازه. والجديد: أنه كالسفر بعد الزوال.
وأما مذهب مالك، فقال صاحب "التفريع" : ولا يسافر أحد يوم الجمعة بعد الزوال حتى يصليَ الجمعة. ولا بأس أن يسافر قبل الزوال. والاختيار: أن لا يسافر إذا طلع الفجر وهو حاضر حتى يصلي الجمعة.(1/189)
وذهب أبو حنيفة إلى جواز السفر مطلقا. وقد روى الدارقطني في "الأفراد" من حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "من سافر من دار إقامته يوم الجمعة دعت عليه الملائكة أن لا يُصْحَبَ في سفره" . وهو من حديث ابن لهيعة (551). وذكر عبد الرزاق عن معمر قال: سألت يحيى بن أبي كثير هل يخرج الرجل يوم الجمعة؟ فكرهه. فجعلت أحدثه بالرخصة فيه. فقال لي: قلما يخرج رجل في يوم الجمعة إلا رأى ما يكرهه (552)، لو نظرت في ذلك وجدته كذلك (553). وذكر ابن المبارك عن الأوزاعي عن حسان بن عطية قال: إذا سافر الرجل يوم الجمعة دعا عليه النهار أن لا يعان على حاجته، ولا يصاحب في سفره. وذكر الأوزاعي عن ابن المسيب أنه قال: السفر يوم الجمعة بعد الصلاة (554). قال ابن جريج: قلت لعطاء: أبلغك أنه كان يقال: إذا أمسى في قرية جامعة من ليلة الجمعة، فلا يذهب حتى يُجَمِّع؟ قال: إن ذلك ليُكره. قلت: فمن يوم الخميس؟ قال: لا، ذلك النهار فلا يضره (555) وفي صحيح مسلم (556)عن أبي هريرة وحذيفة -رضي اللَّه عنهما- قالا: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "أضل اللَّه عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت. وكان للنصارى يوم الأحد. فجاء اللَّه بنا، فهدانا ليوم الجمعة. فجعل الجمعة والسبت والأحد. وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة، نحن الآخرون من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة، المقضي لهم قبل الخلائق" . وفي "المسند" والسنن (557) من حديث أوس بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم : "من أفضل أيامكم يوم الجمعة؛ فيه خُلق آدمُ، وفيه قبُض، وفيه النفخةُ، وفيه الصعقةُ، فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي" . وروى مالك في "الموطأ" (558)عن أبي هريرة مرفوعا: "خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خُلق آدمُ، وفيه أهبط، وفيه تيب عليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي مُصِيخَة يوم الجمعة، من(1/190)
حين تصبح حتى تطلع الشمس؛ شفقا من الساعة، إلا الجن والإنس، وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي يسأل اللَّهَ شيئا إلا أعطاه إياه" . قال كعب: ذلك في كل سنة يوم؟ فقلت: بل في كل جمعة. فقرأ كعب التوراة. فقال: صدق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم .
وأرجح هذه الأقوال قولان تضمنتهما الأحاديث الثابتة، وأحدهما أرجح من الآخر. الأول: أنها من جلوس الإمام على المنبر إلى انقضاء الصلاة. وحجة هذا القول ما روى مسلم في "صحيحه" (559)من حديث أبي بردة بن أبي موسى أن عبد اللَّه ابن عمر قال له: أسمعت أباك يحدث عن رسول اللَّه في شأن ساعة الجمعة شيئا؟ قال: نعم، سمعته يقول: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تُقضى الصلاة" . وروى ابن ماجه والترمذي (560)من حديث عمرو بن عوف المزني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجمعة ساعة لا يسأل اللَّهَ العبدُ فيها شيئا إلا آتاه اللَّه إياه" . قالوا: يا رسول اللَّه، أية ساعة هي؟ قال: "حين تقام الصلاة إلى الانصراف منها" .
الثاني: أنها بعد العصر. وهذا أرجح القولين؟ وهو قول عبد اللَّه بن سلام، وأبي هريرة، والإمام أحمد، وخلق.(1/191)
وحجة هذا القول ما رواه أحمد في "مسنده" (561) من حديث أبي سعيد وأبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجمعة ساعة لا يوافقها عبدٌ مسلم يسأل اللَّه فيها خيرا إلا أعطاه إياه، وهي بعد العصر" . وروى أبو داود والنسائي (562)عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة، لا يوجد فيها عبد مسلم يسأل اللَّهَ شيئا إلا آتاه إياه، فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر" . وروى سعيد بن منصور في "سننه" عن أبي سلمة بن عبد الرحمن: أن ناسا من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم اجتمعوا، فتذاكروا الساعة التي في يوم الجمعة، فتفرقوا ولم يختلفوا أنها آخر ساعة من يوم الجمعة. وفي "سنن ابن ماجه" (563) عن عبد اللَّه بن سلام قال: قلت - ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جالس -: إنا لنجد في كتاب اللَّه - يعني التوراة -: في يوم الجمعة ساعةٌ لا يوافقها عبد مؤمن يصلي يسأل اللَّه -عز وجل- شيئا إلا قضى له حاجته. قال عبد اللَّه (564): فأشار إلي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "أو بعض ساعة" ، فقلت: صدقتَ، أو بعض ساعة. قلت: أي ساعة هي؟ قال: "هي آخر ساعات النهار" ، قلت: إنها ليست ساعة صلاة ! قال: "بلى، إن العبد المؤمن إذا صلى، ثم جلس، لا يحبسه إلا الصلاة، فهو في الصلاة" . وكان سعيد بن جبير إذا صلى العصر لم يكلم أحدا حتى تغرب الشمس.
وهذا هو قول أكثر السلف. وعليه أكثر الأحاديث. ويليه القول بأنها ساعة الصلاة. وبقية الأقوال لا دليل عليها.(1/192)
ثم قال ابن القيم: وعندي أن ساعة الصلاة ساعة ترجى فيها الإجابة أيضا. فكلاهما ساعة إجابة، وإن كانت الساعة المخصوصة هي آخر ساعة بعد العصر، فهي ساعة معينة من اليوم، لا تتقدم ولا تتأخر، وأما ساعة الصلاة فتابعة للصلاة، تقدمت أو تأخرت؛ لأن لاجتماع المسلمين، وصلاتهم، وتضرعهم، وابتهالهم إلى اللَّه تعالى تأثيرا في الإجابة؛ فساعة اجتماعهم ساعة ترجى فيها الإجابة. وعلى هذا تتفق الأحاديث كلها، ويكون النبي صلى الله عليه وسلم قد حض أمته على الدعاء، والابتهال إلى اللَّه تعالى في هاتين الساعتين. اهـ.
والأحاديث والآثار في هذا كثيرة معروفة، وكلام أهل العلم عليها غير خاف، وهي تدل على فوائد عظيمة. نشير إلى أهمها بما يلي:
أولا: فضل يوم الجمعة، وشرفه، وأنه خصص للتزود من العبادات؛ لا للهو واللعب.
ثانيا: أن صلاة الجمعة من أوجب ما أوجبه اللَّه على عباده، وأن مَن تركها بدون عذر فعليه الوعيد الشديد المذكور في الأحاديث المتقدمة. ففي بعضها: "من ترك ثلاث جمع طبع اللَّه على قلبه" . وفي بعضها: "فهو منافق" . وفي بعضها: "فقد برئ اللَّه منه" . وفي بعضها: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليه بأن لا يجمع اللَّه شمله ولا يبارك في أمره حتى يتوب. وفي بعضها: الأمر لمن تركها بأن يتصدق بدينار. فدل هذا على أنه ارتكب أمرا عظيما لا بد فيه من كفارة.
ثالثا: النهي عن السفر في يومها بعد الزوال. وفي بعضها: أو قبله. على الخلاف الذي مر ذكره، إذا كان مسافرا لقصد صحيح، فكيف بمن يخرج ولا مقصد له إلا اللَّهو واللعب؟!
إذا عرف هذا، فالذي قرره العلماء -رحمهم اللَّه- في حال مثل هؤلاء المسئولِ عنهم، إذا خرجوا للنزهة، هل يلزمهم السعي إلى الصلاة أم لا؟ فلا يخلو من حالتين:(1/193)
الأولى: أن يكونوا على مسافة فرسخ فأقل من البلد. ففي هذه الحالة تلزمهم الجمعة بغيرهم -أي بسبب غيرهم- فالباء هنا للسببية، فلولا فعل الغير لها لم تجب عليهم. فإذا كان بقربهم بلد يصلون الجمعة، لزمهم السعي إليها. وإلا لم يلزمهم أن يصلوا في موضعهم -لو فرضنا أنهم بلغوا العدد المعتبر- ولا أن يذهبوا إلى البلد ليقيموا فيه صلاة الجمعة وحدهم.
الحالة الثانية: أن تكون المسافة أكثر من فرسخ. فلا تجب عليهم الجمعة، لا بأنفسهم، ولا بغيرهم -والفرسخ ثلاثة أميال- سواء قطعها في مدة قصيرة، أو طويلة.
وإليك شيئا من عباراتهم؛ لتطلع على نصوص العلماء في هذا:
قال في "مطالب أولى النهي" : وتجب الجمعة أيضا على خارج عن بلد تقام به الجمعة، والحال أن بينه وبين مسجده -أي مسجد التجميع من بلد - وقت فعلها فرسخ -نصا- تقريبا، فأقل من ذلك، كمن بقُرًى صغيرة، لا يبلغ عدد كل قرية أربعين، وليس بينه وبين ما تقام به الجمعة أكثر من فرسخ، وكمن بخيام، ومسافر لا يقصر؛ بأن كان سفره دون المسافة، أو سفر معصية، فتلزمهم -أي المذكورين- من سكان القرى الصغيرة، أو خيام، ونحوها، ومسافرين لا يقصرون بغيرهم؛ لأنهم من أهل الجمعة، كأهل المصر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : "الجمعة على من سمع النداء" . رواه أبو داود والدارقطني (565)، ولفظه: "إنما الجمعة على من سمع النداء" . والعبرة بسماعه من المنارة، لا بين يدي الإمام -نصا- لكن لما كان اعتبار سماع النداء غير ممكن؛ لأنه يكون فيهم الأصم، وثقيل السمع، وقد يكون بين يدي الإمام، فيختص بسماعه أهل المسجد- اعتبر بمظنته، والموضع الذي يسمع فيه النداء غالبا، إذا كان المؤذن صيتا، والرياح ساكنة، والأصوات هادئة، والعوارض منتفية، وهو فرسخ، فلو سمعه أهل القرية من فوق فرسخ؛ لعلو مكانها، أو لم يسمعه، لمن حال بينه وبين موضعها جبل، أو كان في انخفاض، لم تجب في الأولى، ووجبت فيما عداها؛ اعتبارا بالمظنة.(1/194)
وقال في "الإقناع" و"شرحه" : وإن كان خارج البلد الذي تقام فيه الجمعة، كمن هو في قرية لا يبلغ عددهم ما يشترط في الجمعة، أو كان مقيما في خيام، ونحوها، كبيوت الشعر، أو كان مسافرا دون مسافة قصر، وبينه - أي المذكور فيما تقدم، وهو من في قرية لا يبلغون عدد الجمعة، أو في خيام، ونحوها، أو مسافر دون المسافة -وبين موضعها -أي الجمعة - من المنارة- نصا- وعنه: من أطراف البلد- أكثر من فرسخ تقريبا، لم تجب عليه الجمعة؛ لأنهم ليسوا من أهلها، ولا يسمعون نداءها، وإلا بأن كان بينه وبين موضعها -في هذه المسائل- فرسخ تقريبا فأقل لزمته بغيره؛ لأنه من أهل الجمعة، يسمع النداء كأهل المصر؛ لقوله عليه الصلاة والسلام "الجمعة على من سمع النداء" . رواه أبو داود، وقال: إنما أسنده قبيصة. قال البيهقي: هو من الثقات.
قال في "كشف المخدرات" : وتجب على مقيم خارج البلد، إذا كان بينه وبين موضعها من المنارة -نصا- وقت فعلها فرسخ فأقل، تقريبا. ولا تجب على مسافر فوق فرسخ إلا في سفر لا قصرَ معه، أو مقيم يمنعه لشغل، أو علم، ونحوه، فتلزمه بغيره.
وقال في "منار السبيل" (566): وكذا على كل مسافر لا يباح له القصر، كسفر معصية، وما دون المسافة، فتلزمه بغيره، وعلى مقيم خارج البلد، إذا كان بينهما وبين الجمعة وقت فعلها فرسخ فأقل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : "الجمعة على من سمع النداء" . رواه أبو داود، ولم يكن اعتبار السماع بنفسه فاعتبر بمظنته، والموضعُ الذي يسمع منه النداء في الغالب - إذا كان المؤذن صَيِّتا، بموضع عال، والرياح ساكنة، والأصوات هادئة، والعوارض منتفية -فرسخٌ، فاعتبرناه به. قاله في "الكافي" .(1/195)
وقال في "هداية الراغب" : ولا تجب الجمعة على مسافر سفر قصر، وكما لا تلزمه بنفسه لا تلزمه بغيره. فإن كان عاصيا بسفره، أو كان سفره فوق فرسخ ودون المسافة، أو أقام ما يمنع القصر فلم ينو استيطانا- لزمته بغيره. ومن كان مقيما بخيام، ونحوه- كمسافر أقام ما يمنع القصر ولم يستوطن -تلزمه الجمعة بغيره- أي: سبب وجوبها على غيره- إن كان مَن بخيام، ونحوه، بينه وبين موضعها- أي: الموضع الذي تقام فيه من مصر- فرسخٌ، فأقل من فرسخ. فإن كان بينه وبين موضعها فوق فرسخ، لم تلزمه، لا بنفسه، ولا بغيره.
وقال في "الروض الندي" : لا تجب على مسافر فوق فرسخ، إلا في سفر لا قصر معه؛ لشغل -ويقيم ما يمنع القصر- وعلم، ونحوه، فتلزمهم بغيره.
قال في "الفروع" (567): والمقيم في قرية لا يبلغ عدد الجمعة، أو في الخيام، ونحوها، والمسافرُ غير سفر قصر -لا تلزمهم، إلا إذا كان فرسخا- نص عليه- وفاقا لمالك، قال جماعة: تقريبا عن مكان الجمعة، وعنه: عن أطراف البلد؛ وفاقا لمالك، فتلزمهم.
وقال في "الكافي" : وتجب الجمعة على أهل المصر -قريبهم وبعيدهم-؛ لأن البلد كالشيء الواحد. وتجب على من بينه وبين الجامع فرسخ، ولا تجب على غيرهم. انتهى.(1/196)
وكلام العلماء في هذا معروف، فلا نطيل بذكره. ومما نلفت إليه النظر أن الخروج يوم الجمعة إلى خارج البلد، وإن كان المقصود منه النزهة والاستجمام، وأصله من المباحات، إذا لم يترتب عليه شيء من المعاصي والآثام، إلا أن كثرة هذا الصنيع خلاف المشروع، ولم يكن مما درج عليه أسلافنا الصالحون، بل كانوا -رحمهم اللَّه- ينتهزون فرصة وجود هذا اليوم الشريف، ويستغلونه ويتفرغون فيه للتزود مما شرع فيه، وخصص له من كثرة العبادة، والتقدم لمسجد الجامع، والتنافس في الخير، والإكثار من قراءة القرآن، وخصوصا سورة الكهف؛ لما ورد في فضلها، وكثرة الاستغفار، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، وكثرة الدعاء -خصوصا في ساعة الإجابة- وقد ذم اللَّه أقواما بقوله: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَاعِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (568) وهذه العادة جاءتنا مستوردة من بلاد الخارج، حيث يسمونها عطلة الأسبوع، فيخصصون يوما في الأسبوع يعطلون فيه مصالح دينهم ودنياهم، ويتفرغون فيه للهو والمرح، يمضونه خارج البلاد. فمنهم من يكون يوم عطلته يوم السبت، ومنهم من يكون الأحد. فتَقَبَّل بعض الناس هذه العادة على علاتها؛ تشبها بهم فيها، وقلدوهم تقليدا أعمى. وهذا الصنيع لو لم يكن فيه إلا التشبه بأهل الكتاب لكفى به ذما. فكيف يرضى العاقل بهذا، ويترك ما فيه مصلحته، مما هو من خصائص يوم الجمعة. إن هذا لشيء عجيب ! {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الوَهَّابُ} (569) وصلى اللَّه على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[151] الطواف وقت خطبة الجمعة
ما الأفضل لداخل المسجد الحرام يوم الجمعة والإمام يخطب. هل الأفضل له أن يطوف، أم يقتصر على صلاة ركعتين خفيفتين؟
الإجابة:(1/197)
الأفضل لداخل المسجد الحرام يوم الجمعة والإمام يخطب أن يقتصر على صلاة ركعتين خفيفتين؛ لما روى أحمد ومسلم وأبو داود (570) عن جابر -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركعْ ركعتين، وليتجوزْ فيهما" . ففي عملِ داخِلِ المسجد الحرام عند الخطبة -بمضمون هذا الحديث- الجمعُ بين تحية المسجد الحرام وبين عدم الإعراض الكُلّي عن الخطبة، بخلاف الطواف، فإن فيه إعراضا عن الخطبة؛ ولذلك عدّه مَنْ عدّه من الفقهاء في هذه الحالة من المكروهات.
قال السندي في "لباب المناسك" في مكروهات الطواف: والطواف عند الخطبة. قال علي القاري في "شرحه" : أي مطلقا؛ لإشعاره بالإعراض، ولو كان ساكتا.
وتعقب الحافظان: العراقي في "طرح التثريب" (571)، وابن حجر العسقلانيِ في "فتح الباري" (572)، عبارة المحاملي المقتضية اشتغالَ داخلِ المسجد الحرام وقت الخطبة بالطواف، فيطول زمنه، ويبعد عن الخطيب؛ لدورانه من غير جهته؛ فلا يسمع كلامه. ثم قال العراقي: ولم أر لأحد من أصحابنا إفصاحا عن شيء من ذلك. اهـ.
قال ابن حجر العسقلاني: فيه - أي في كلام المحاملي - نظر؛ لطول زمن الطواف بالنسبة إلى الركعتين. ثم قال الحافظ: والذي يظهر من قولهم: إن تحية المسجد الحرام الطواف، إنما هو في حق القادم؛ ليكون أول شيء يفعله الطواف. أما المقيم، فحكم المسجد الحرام وغيره في ذلك سواء. اهـ.
والخلاصة: أن الأولى لداخلِ المسجد وقت الخطبة أن يقتصر على صلاة ركعتين خفيفتين. واللَّه أعلم.
[152] الطلاب المبتعثون إلى أمريكا هل عليهم جمعة؟
هل على الطلاب المبتعثين للدراسة في أمريكا وغيرها صلاة جمعة، مع أن عددهم يتجاوز الأربعين، إلا أنه لا يحضر للصلاة منهم سوى عشرين تقريبا؟
الإجابة:(1/198)
لا جمعة على هؤلاء؛ لأنهم ليسوا بمستوطنين. والاستيطان شرط من شروط الجمعة. وهؤلاء الطلاب إقامتهم مؤقتة بمدة دراستهم؛ فإذا انقضت رجعوا إلى أوطانهم.
أما لو كانوا في بلد تقام فيه الجمعة، فإنهم يصلونها تبعا لغيرهم. واللَّه أعلم.
[153] فضل يوم الجمعة
سائل يسأل عن فضل يوم الجمعة، وهل اختص بخصائص شريفة عن غيره من الأيام، وما تلك الخصائص؟
الإجابة:
يوم الجمعة من الأيام التي شرفها اللَّه وفضلها. واختلف العلماء هل هو أفضل من يوم عرفة؟ على قولين هما وجهان لأصحاب الشافعي. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعظمه، ويخصه بعبادات يفعلها فيه دون غيره من الأيام. والخصوصيات التي اختص بها يوم الجمعة كثيرة تزيد على الثلاثين. ذكرها العلماء. وممن ذكرها العلامة ابن القيم (573). ونلخص منها ما يلي:
الخاصة الأولى: أنه يوم عيد يتكرر كل أسبوع (574).
الثانية: أنه اليوم الذي يستحب فيه التفرغ للعبادة.
الثالثة: اختصاصه بصلاة الجمعة، التي هي من آكد فروض الإسلام، ومن أعظم مجامع المسلمين، ومن تركها -تهاونا- طبع اللَّه على قلبه؛ لما ورد فيها من الأحاديث (575).
الرابعة: قراءة سورتي {الم تنزيل} السجدة، و{هل أتى على الإنسان} في فَجْرها؛ للأحاديث الواردة فيها (576).
الخامسة: قراءة سورتي (الجمعة) و (المنافقين) في صلاة الجمعة، أو (سبح) و (الغاشية) (577).
السادسة: الأمر بالاغتسال في يومها (578). وهو أمر مؤكد جدا، وقيل بوجوبه.
السابعة: استحباب التطيّب فيه (579)وهو أفضل من التطيب في غيره من الأيام.
الثامنة: السواك فيه (580)وله مزية على السواك في غيره من الأيام.(1/199)
التاسعة: التبكير إلى الصلاة فيه. ومن راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بَدَنة. ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة. ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن. ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة. ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، كما في الأحاديث الواردة (581).
العاشرة: الاشتغال بالذكر، والقراءة، والصلاة إلى خروج الإمام (582) .
الحادية عشرة: الإنصات للخطبة -إذا سمعها- وجوبا؛ للأحاديث الواردة فيها (583).
الثانية عشرة: قراءة سورة الكهف في يومها؛ للأحاديث الواردة فيها (584).
الثالثة عشرة: أن الصلاة لا تكره فيه وقت الزوال، بخلاف غيره من الأيام (585). وهذا مذهب الشافعي، ومن وافقه. وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وغيرهما.
الرابعة عشرة: استحباب لبس أحسن الثياب فيه؛ لما ورد في ذلك من الأحاديث (586).
الخامسة عشرة: استحباب تجمير المسجد فيه، وتبخيره بالبخور (587) .
السادسة عشرة: أنه لا يجوز السفر في يومها -لمن تلزمه- بعد الزوال (588) .
السابعة عشرة: أن للماشي إلى الجمعة بكل خطوة أجر سنة -صيامها وقيامها- وفيه حديث مرفوع رواه الإمام أحمد في "المسند" ، وعبد الرزاق (589).
الثامنة عشرة: استحباب كثرة الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة وليلتها (590).
التاسعة عشرة: أن جهنم لا تسجر فيه كما تسجر في غيره من الأيام (591) .
العشرون: أنه يوم تكفر فيه السيئات (592) .
الحادية والعشرون: أن فيه ساعة الإجابة، لا يسأل اللَّهَ عبْدٌ مُسْلمٌ فيها شيئا إلا أعطاه إياه. أخرجاه في "الصحيحين" (593) من حديث أبي هريرة.
وهذه المسائل مقرونة بأدلتها. وتركنا بعضها اختصارا. ومن أراد الاطلاع عليها فهي في "زاد المعاد" .(1/200)
ومن المؤسف أن بعض الناس يتخذ هذا اليوم الشريف يومَ لَهْوٍ، ويغادرون البلاد؛ للنزهة، وغيرها. ومنهم من يترك صلاة الجمعة، ويتجمعون على المعاصي غير مهتمين ولا مبالين بحرمة هذا اليوم العظيم. وبعضهم يرتكب من الأعمال ما يسخط رب العالمين، ويستعينون بنعمه على معاصيه، {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} (594) .
باب صلاة الكسوف [154] تقديم صلاة الكسوف قبل صلاة الفجر
ما قولكم في إمام دخل لصلاة الفجر. فقيل له: القمر كاسف. فقال: نطيل القراءة. فأمر المؤذن، وأقام الصلاة، وقرأ في الركعة الأولى ثلاث سور من طوال المفصل، وفي الركعة الثانية كذلك. ثم دخل رجل وكبر تكبيرة الإحرام ناويا صلاة الفجر. فلما أكمل الإمام السورة وشرع في سورة أخرى، ظن هذا المأموم أن الإمام يصلي الكسوف؛ فقلب نية الفرض إلى نية الكسوف.
الإجابة:
أما الإمام فإنه أخطأ من وجوه:
أولا: أنه ترك صلاة الكسوف واكتفى بصلاة الفجر؛ ظانّا أن تطويل صلاة الفجر فيه تعويض عن صلاة الكسوف. وهذا لا وجه له، بل هو جهل صرف.
ثانيا: أنه ابتدأ بصلاة الفجر قبل الكسوف -لو فرضنا أنه سيصليها بعد- وهذا غلط أيضا؛ لأن المشروعَ البداءةُ بالكسوف أولا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما علم بالكسوف خرج إلى الصلاة مسرعا، فزعا، يجر رداءه. فهذا يدل على المبادرة بها فورا، كما يفهم من قوله صلى الله عليه وسلم : "فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة" (595) .
وأيضا فإنه إذا قَدَّم صلاة الفجر قبل الكسوف، ربما أفضى ذلك إلى فوات صلاة الكسوف بالجَلْي، بخلاف ما إذا صلى الكسوف وخففها حسبما لديه من الوقت ثم صلى الفجر في وقتها؛ فبهذا يجمع بين المصلحتين من دون محذور.
ثالثًا: أن فعله هذا يغرر بالمأمومين ويربكهم، فلا يعلمون هل هو يصلي الفجر أم الكسوف، كما فعل ذلك الرجل الذي دخل معه.(1/201)
وأما المسبوق الذي قَلَب النية، فلا تصح صلاته؛ لأنه قَلَب نية الفرض إلى النفل. فعليه الإعادة. واللَّه أعلم، وصلى اللَّه على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتاب الجنائز [155] فصل عيادة المريض، وتلقينه الشهادة عند الوفاة
زرت قريبا لي مريضا، فوجدته قد حضرته الوفاة، فبقيت عنده إلى أن توفي، وعملت معه ما قدرت عليه، حسب معرفتي القاصرة، ولكني ارتبكت وفاتني كثير مما يعمل لمثله؛ لأن ذلك لم يمر علي قبل هذه المرة، فأحب من فضيلتكم أن توضحوا لنا ما ذكره العلماء عن هذه الأشياء لنستفيد.
الإجابة:
زيارة المريض، تسمى عيادة المريض. وقد أحسنت أيها السائل في عيادة قريبك؛ لأن عيادة المريض المسلم سنة مؤكدة. وقيل: إنها فرض كفاية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الذي يقتضيه النص وجوب عيادة المريض (596)وهي من حقوق المسلم على المسلم؛ ولهذا أمر بها الشارع، وحث عليها، ورغب فيها، بشرط كون المريض متمسكا بشعائر دينه غير مبتدع، ولا مجاهر بمعصية. وقد ورد فيها جملة أحاديث وآثار.
منها: حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خمس تجب للمسلم على أخيه: رد السلام، وتشميت العاطس، وإجابة الدعوة، وعيادة المريض، واتباع الجنازة" . متفق عليه (597)وفي لفظ: "حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه،وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد اللَّه فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه" (598) .
والعيادة مشروعة، سواء كان المريض في المستشفى، أو في بيته، أو في محل آخر. ولا تتقيد بمرض معين، بل تشرع في كل ما يسمى مرضا، حتى رمد العين ونحوه.(1/202)
وهناك أشياء تشرع للعائد، وأشياء تشرع للمريض. فمن آداب الذي يعود المريض: أن تكون عيادته غبا، وأن لا يطيل الجلوس عنده؛ خوفا من ضجره وملله. وإذا دخل عليه وسلم فيسأله عن حاله، ويقول: لا بأس عليك، طهور إن شاء اللَّه. ويدعو له بالشفاء والعافية؛ ففيه تطييب لنفس المريض، وإدخال للسرور عليه، كما ذكره الأصحاب -رحمهم اللَّه-.
وينبغي للذي يعود المريض أن ينتهز الفرصة فيذكره التوبة، ويشير عليه أن يكتب وصيته، ولو كان مرضه خفيفًا غير مخوف.
ولا بأس أن يضع العائد يده على المريض وأن يرقيه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان إذا عاد بعض أهله من مرض يمسح بيده اليمنى. ويقول في دعائه: "أذهب الباس، رب الناس، واشفِ أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقما" (599). ويقول: "أسأل اللَّه العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك ويعافيك" سبع مرات؛ لحديث ابن عباس. رواه أحمد وأبو داود وغيرهما (600) .
ويستحب أن يقرأ عنده الفاتحة، وسورة الإخلاص، والمعوذتين؛ لما ورد في ذلك (601).
وصح أن جبريل -عليه السلام- عاد النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: باسم اللَّه أرقيك من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد، اللَّه يشفيك، باسم اللَّه أرقيك" (602)وغير ذلك مما ورد.
وأما الأشياء التي تشرع للمريض: فيجوز له أن يخبر بما يجده من الألم والوجع، سواء ذكره لطبيب، أو غيره ممن يعوده ويسأله عن حاله، لكن لا على طريق التشكي، بل على طريق الإخبار بعد أن يحمد اللَّه فيقول: لله الحمد أحس بكذا، والحمد لله أجد كذا، ونحو ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة: "بل أنا وا رأساه" (603)ويصبر ويحتسب؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ(604). والصبر الجميل صبر بلا شكوى. والشكوى المذمومة هي الشكوى إلى المخلوق، كما قيل:
وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم(1/203)
وأما الشكوى إلى الخالق فليست مذمومة، ولا تنافي الصبر الجميل. ومن الشكوى إلى اللَّه قول يعقوب -عليه السلام-: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} (605) وقول أيوب -عليه السلام-: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (606).
ويكره للمريض الأنين؛ لأنه يترجم عن الشكوى، ما لم يغلبه فيكون معذورا. ولا يجوز له تمني الموت لضر نزل به؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لا بد فاعلا فليقل: اللَّهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي" . متفق عليه (607) . ولأن ذلك يدل على الجزع المذموم، ولأنه لا يعلم هل ينتقل إلى ما هو خير له أو بالعكس، والعياذ باللَّه، ولأن آخر عمر المرء لا قيمة له إلا إذا استعمله فيما يرضي ربه.
أما إذا كان تمني الموت لخشية ضرر في دينه. فقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون" (608).
فإذا حضرته الوفاة، وبدأ به النزع، فيتولاه أرفق أهله، وأعرفهم بمداراته، وأتقاهم لله، فيتعاهد حلقه بالماء أو شيء من الشراب، ويندي شفتيه بقطنة؛ لأن ذلك يطفئ ما نزل به من الشدة، ويسهل عليه النطق بالشهادة، ويلقنه: لا إله إلا اللَّه، مرة. وفي الحديث: "لقنوا موتاكم: لا إله إلا اللَّه" (609) فإذا قالها المريض اكتفى بها، وإن لم يقلها أو تكلم بعدها بكلام آخر أعادها عليه الذي يلقنه، مرة إلى ثلاث. ويكون ذلك بلطف ومداراة؛ لأن ذلك مطلوب في كل حال فهنا أولى.(1/204)
قال بعضهم: يلقنه غير الورثة؛ خشية أن يظن أن قصدهم استعجال موته. ذكره الأصحاب -رحمهم اللَّه-. ويوجه إلى القبلة سواء كان على جنبه الأيمن، أو مستلقيا على ظهره، وإذا كان على ظهره فتكون رجلاه إلى القبلة، ويرفع رأسه قليلا حتى يكون في وجهه مستقبل القبلة. ويستمر معه على هذه الحالة: من تندية شفتيه، وبلِّ حلقه، وتلقينه لا إله إلا اللَّه، والرفق به. فإذا تحقق موته فيغمض عينيه؛ لأن البصر يتبع الروح إذا خرجت، فإذا ترك على حاله حتى يبرد تشوه منظره. ويشد لَحييه؛ حتى لا يدخله الهوام أو يدخله الماء وقت تغسيله. ولا يتكلم من حضره إلا بخير؛ فإن الملائكة تؤمن على ما يقولون. وإن تسهل تليين مفاصله لينها، وإلا فلا. وصفة تليين مفاصله: أن يلصق ذراعيه بعضديه، ثم يعيدهما، ويلصق ساقيه بفخذيه، ويلصق فخذيه ببطنه، ثم يعيدهما، ويكون ذلك قبل قسوتها؛ لتبقى أعضاؤه لينة، ويسهل على الغاسل تقليبها عند غسله.
وتخلع ثيابه كلها؛ لئلا يحمى جسده فيسرع إليه الفساد ثم يُسجَّى بثوب واسع يستره. ويجعل على بطنه شيء يثقله نسبيا؛ لئلا ينتفخ بطنه. ويوضع على النعش، أو على سرير؛ ليبعد عن الهوام، ويرتفع عن نداوة الأرض، ويكون متجها إلى القبلة؛ وذلك بجعل رجليه إلى القبلة -إن كان مستلقيا- فإن كان على جنبه الأيمن فيوجَّه وجْهُه إلى القبلة. ويكون رجلاه أخفض من رأسه؛ لينحدر عنه ماء تغسيله. ويسن الإسراع في تجهيزه، إن مات غير فجأة. ولا بأس أن ينتظر به من يحضره من أقاربه، ومن يصلون عليه ما لم يُخش عليه، أو يشق على الحاضرين. ويجب الإسراع في قضاء دَيْنه وإبراء ذِمته. واللَّه المستعان.
الصلاة على الميت [156] ما يفعل المسبوق بصلاة الجنازة؟(1/205)
إذا جئتُ لصلاة الجنازة، فوجدت الإمام قد سبقني ببعض التكبيرات، فمثلا: وجدته يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الثانية، أو يدعو بعد الثالثة، أو قد كبر الرابعة فماذا أفعل، هل أكبر وأقرأ الفاتحة أم أتبعه فيما أدركته فيه. وإذا سلم، فهل أقضي ما فاتني أم أسلم معه؟
الإجابة:
يؤخذ من كلام الفقهاء -رحمهم اللَّه- أن المسبوق في صلاة الجنازة يتابع إمامه في أي موضع أدركه فيه. فلو أدركه في الدعاء كبر ودعا للميت. ويستدل لذلك بحديث: "فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فاقضوا" (610)الحديث. فإذا سلم الإمام فللمأموم ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يقضي ما فاته على صفته، فيكبر ويقرأ الفاتحة، ثم يكبر ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم يكبر ويسلم أو يسلم بدون تكبير؛ لأنه كبر مع إمامه التكبيرة الرابعة التي يليها السلام. وهذا مبني على أن ما يدركه المسبوق مع إمامه آخر صلاته، وما يقضيه أولها. وهو المذهب.
والحالة الثانية: إن خشي رفع الجنازة قبل أن يتم الصلاة، فإنه يتابع بين التكبيرات ويوالي بينهم من غير قراءة فاتحة، ولا صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا دعاء. وله أن يفعل ذلك ولو لم يخش رفع الجنازة من الأرض. قدمه في "الفروع" (611)وحكاه في "الإنصاف" (612) نصا عن الإمام أحمد -رحمه اللَّه-.
الحالة الثالثة: يجوز له أن يسلم مع الإمام من غير قضاء لما فاته من التكبيرات ولا غيرها. وصلاته صحيحة؛ لحديث عائشة -رضي اللَّه عنها - أنها قالت: يا رسول اللَّه، إني أصلي على الجنازة، ويخفى علي بعض التكبير. قال: "ما سمعت فكبري، وما فاتك فلا قضاء عليك" (613).
ذكره في شرح "الإقناع" (614) وغيره. ولم أقف على هذا الحديث.(1/206)
وهذا صريح في عدم وجوب القضاء، لكن يستحب استحبابا؛ لعموم حديث: "وما فاتكم فاقضوا" . وقاسها الأصحاب -رحمهم اللَّه- على تكبيرات العيد؛ لأنها تكبيرات متواليات حال القيام، فلم يجب قضاء ما فات منها. ولأن صلاة الجنازة فرض كفاية. وقد أداها الذين أدركوها كلها؛ فسقط بذلك فرضيتها. واللَّه أعلم.
حمل الميت و دفنه [157] حكم الوقوف على قبر الميت بعد دفنه
سائل يسأل إذا دفن الميت في قبره، نشاهد بعض الناس يقومون حول قبره يدعون له، فهل هذا مشروع؟
الإجابة:
نعم مشروع، وقد جاءت به السنة، بل يفهم من القرآن كما في قوله تعالى عن المنافقين: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} (615). فيفهم منه أنه كان صلى الله عليه وسلم يقوم على قبور أصحابه.
وفي حديث عثمان: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه، وقال: "استغفروا لأخيكم، وسَلُوا له التثبيت؛ فإنه الآن يُسأل" (616).
وأما استقبال القبلة في هذه الحال، فلا أعلم فيه دليلا خاصا. وكذلك رفع اليدين حال الدعاء. قال الشيخ عبد اللَّه بن عبد الرحمن أبابطين -رحمه اللَّه-: وأما رفع اليدين في تلك الحال، فلا أراه لعدم وروده.واللَّه أعلم.
كتاب الزكاة [158] لا زكاة في دراهم ثلث مال الميت الموصَى به لغير معيَّن
تسأل امرأة بقولها: والدتي أوصت قبل وفاتها بثلث مالها، يُجعل في عقار مقدم بريعه أضحية، والباقي بأعمال البر. وجعلتني الوصيةَ على ثلثها، فبلغ أكثر من النصاب بل بلغ كذا وكذا ريالا. وقد حال عليه الحول ثلاث سنين، ونحن نبحث له عن بيت مناسب. فهل تجب الزكاة في هذه الدراهم المجموعة للثلث أم لا؟
الإجابة:
لا زكاة في هذه الفلوس التي أوصت بها الميتة، ولو بلغت أكثر من النصاب، ولو حال عليها الحول أكثر من مرة؛ لأنها موقوفة على غير معين. نص على ذلك الفقهاء - رحمهم اللَّه - واللَّه أعلم.(1/207)
زكاة الحبوب والثمار [159] حكم ضَمُّ بعض الزرع إلى بعض في تكميل النصاب
يوجد بعض المزارع تأتي ثمراتها على فترات متقطعة، تنقص عن النصاب في كل فترة، لكن مجموعها يزيد على النصاب، فكيف حكم إخراج زكاتها؟
الإجابة:
إذا كانت هذه الثمار جنسا واحدا، فيضم بعضها إلى بعض في تكميل النصاب، كالذرة مثلا سواء كانت نوعا واحدا، أو أنواعا. وتزكى إذا بلغ مجموعها النصاب، بشرط ألا يكون بين حصول الثمرة الأولى وحصول الثمرة الثانية ستة أشهر فأكثر.
أما إذا لم يبلغ مجموعهما النصاب، أو لم يكونا من جنس واحد، بأن كانت الأولى -مثلا- ذرة، والتي بعدها بشهرين حنطة، أو كان بين حصول الثمرة الأولى، وحصول الثمرة الثانية ستة أشهر فأكثر -فلا تضم إحدى الثمرتين إلى الأخرى، ولو كانتا من جنس واحد. ومن هذا يعرف أن الثمرتين اللتين بين محصولهما شهران تقريبا، تضم إحداهما إلى الأخرى في تكميل النصاب، إذا كانا من جنس واحد. واللَّه أعلم.
[160] زكاة الطماطم والخضراوات
كثيرا ما نرى مزارع الخضراوات، مثل: البندورة -الطماطم- وغيرها تريع ريعا عظيما، وتدر على أهلها مصالح كثيرة -أكثر من غلة النخل- فهل يجب في تلك المزارع زكاة أم تجب الزكاة في أثمانها إذا بيعت؟
الإجابة:
المنصوص في مثل هذا أن لا زكاة في البندورة، ونحوها من الخضراوات: كالباذنجان، والجزر، والقثاء، والخيار، وغيره من أنواع البطيخ؛ لما روى الدارقطني (617) عن عائشة - رضي اللَّه عنها- أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "ليس فيما أنبتت الأرض من الخضر صدقة" . ومثله عن أنس بن مالك - رضي الله عنه- وعن علي - رضي الله عنه- أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "ليس في الخضراوات صدقة" . أخرجه الدارقطني الدارقطني (2/ 95) وإسناده ضعيف جدًّا؛ فيه: صالح بن موسى. قال ابن معين فيه: ليس بشيء. وقال أبو حاتم: منكر الحديث جدًّا لا يعجبني حديثه. وقال البخاري: منكر الحديث (618) .(1/208)
وعن معاذ أنه كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الخضراوات -وهي البقول- فقال: "ليس فيها شيء" .أخرجه الترمذي (619) .
وهذه الأحاديث وإن كانت قد تُكُلِّمَ في أسانيدها، إلا أن أهل العلم ذهبوا إلى ما دلت عليه. وحديث معاذ قد روي عن موسى بن طلحة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا. ونقل صالح عن الإمام أحمد: ما كان يُكالُ ويُدَّخَرُ ويقع فيه القفيز ففيه العُشر. وما كان مثل الخيار والقثاء والبصل والرياحين فليس فيه زكاة إلا أن يباع ويحول على ثمنه الحول.
والعلة في عدم وجوب الزكاة في هذه الأشياء أنها لا تُكَالُ ولا تُدَّخَرُ عادة؛ لأنها لا تيبس ولا يُنتفع بها في المآل غالبا.
وأما ثمن البندورة ونحوها فليس فيه زكاة وقتَ بيعها، لكن إذا حال عليه الحول وعنده شيء من ثمنها يبلغ نصابا بنفسه أو بضمه إلى جنس ذلك الثمن، ففيه الزكاة، لا لأنه قيمة بندورة؛ ولكن لأنه مال قد حال عليه الحول، فوجبت فيه الزكاة. وزكاة الدراهم ربع العشر، يعني في المائة اثنان ونصف. واللَّه أعلم. وصلى اللَّه على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[161] زكاة العنب القابلِ للتجفيف وغيره
سائل يسأل عن مَزارع العنب التي تغل غلالا كثيرة، ويستحصل منها المزارعون قيما باهظة أكثر من غلة النخيل، ولم نسمع أن العمال خَرَصُوها، فهل عليها زكاة أم لا؟ وإذا كان عليها زكاة، فهل تجب من العنب عنبا أم تؤخذ قيمة؛ لأن العنب في هذه البلدان لا يزبب؟
الإجابة:
لا شك أن الزكاة تجب في العنب كما تجب في بقية الثمار، إذا بلغت نصابا. وقدره خمسة أوسق. والوَسْق: ستون صاعا. وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يُخْرَصَ العنبُ كما يخرص النخل. وكان صلى الله عليه وسلم يبعث على الناس من َيَخْرُصُ عليهم كرومهم وثمارهم. فروى أبو داود والترمذي (620)عن عتاب بن أسيد: أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يخرص العنب كما يخرص النخيل.(1/209)
وعنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث على الناس من يخرص كرومهم وثمارهم. رواه الترمذي وابن ماجه (621).
وأما قول السائل: هل تجب الزكاة من العنب عينا أم تؤخذ قيمة؛ لأن العنب في هذه البلاد لا يزبب؟
فجوابه: أن الزكاة تجب في جميع العنب، سواء منه القابلُ للتجفيف وغيره، ولا فرق؛ إذْ لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه أن الزكاة من نوع دون الآخر. وإنما الخلاف هل تخرج الزكاة من عين العنب أم من ثمنه؟ ونظرا إلى أن ثمرةً مثل هذا العنب لا تتحمل كثرة النقل، ولا الانتظار؛ ولأن مصلحة الفقراء تتحقق في أخذ الزكاة من قيمته من غير أن يتضرر أرباب العنب- فلا مانع أن تؤخذ الزكاة من ثمنه.
وقد أشار إلى هذا شيخ الإسلام ابن تيمية، وذكره قولا للإمام مالك وغيره؛ حيث قال في الجزء الخامس والعشرين من "مجموع الفتاوى" (622)ما نصه: (فصل) : والعنب الذي لا يزبب، والرطب الذي لا يتمر، والزيتون الذي لا يعصر، فقال مالك وغيره: تخرج الزكاة من ثمنه إذا بلغ خمسة أوسق، وإن لم يبلغ ثمنه مائتي درهم.اهـ.
وعلى الْخُرَّاص أن يتركوا للفلاح الثلث أو الربع، كما تقضي به النصوص الشرعية، وكخرص ثمرة النخيل.
وإذا أخذت الزكاة من القيمة، فالاعتبار بقيمة العنب من شجره -جملة- لا باعتبار قيمته في الأسواق، كما يقضي به العدل والإنصاف. واللَّه أعلم. وصلى اللَّه على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
باب زكاة النقدين و حكم المصوغ منهما [162] كيفية زكاة أموال الشركات
كتبوا يسألون: عن صفة زكاة أموال شركة تضامن مساهمة، تألفت برأس مال معلوم؛ لمزاولة التجارة، وصار لها ديون عند الناس يصعب تحصيل الكثير منها، ولكن بعضها في متناول اليد، وعليها ديون لأناس: بعضهم يطلب حقه في الحال، وبعضهم يمهل الشركة، ويسألون عن صفة الزكاة في مثل هذه الحالة؟
الإجابة:(1/210)
أما بالنسبة لما على الشركة من الديون، فيجوز لها أن تحسم من أموالها الزكوية بمقدار ما عليها من الديون، وتزكي الباقي.
وأما بالنسبة للديون التي لها عند الناس، فالدين الذي على مليء باذل، تزكيه الشركة إذا قبضته لجميع السنين الماضية.
وأما الديون المشكوك في تحصيلها كالتي عند أناس مفلسين، أو مماطلين، أو جاحدين، ونحوهم، فلا زكاة فيها حتى تقبض. فإذا قبضت، فبعض العلماء يقول: إنها تزكى لجميع السنوات الماضية (623) . وهذا هو المشهور من المذهب.
والقول الثاني: أنها تزكى لعام واحد فقط. وهو رواية عن الإمام أحمد. وبه قال الإمام مالك "المغني" (624)، وأفتى به الشيخ عبد الرحمن بن حسن، وقال: إنه اختيار إمام الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وهو الصواب. واللَّه أعلم.
[163] زكاة أموال الجمعية التعاونية
سائل يسأل عن جماعة قاموا بتكوين جمعية تعاونية، على أن كل واحد منهم يدفع للجمعية عشرة ريالات شهريا، وهذه المبالغ المجموعة ليست معدة للتجارة، بل هي مدخرة حتى يجتمع عند الجمعية ما يقوم بإنشاء مشروع؛ ليستفاد منه، فما حكم زكاة هذه المبالغ؟
الإجابة:
الخلطة لا تؤثر على هذه الأقساط، ولا ارتباط لبعضها مع بعض، لا في تمام الحول، ولا في بلوغ النصاب. وحينئذ ننظر إلى المساهمين: فإن كان لأحدهم أموال زكوية غير هذه الأقساط، فزكاة الأقساط التي يدفعها للجمعية تابعة لزكاة أمواله في أحكامها. وإن لم يكن له أموال زكوية غير أقساطه في الجمعية، فمتى بلغت أقساطه نصابا- وهو ستة وخمسون ريالا سعوديًّا- ابتدأ الحول، فإذا حال عليها الحول وجبت فيها الزكاة بنسبة (25%) وكلما دفع للجمعية قسطا بعد تمام النصاب عرف تاريخ دفعه، فإذا حال عليه الحول وجبت زكاته وحده، فيكون في العشرة ربع ريال.(1/211)
ولا يجوز تأخير الزكاة بعد تمام الحول. أما تقديمها فيجوز لحولين فأقل. وعلى هذا فلو أراد أحدهم أن يقدم زكاة بعض الأقساط لمناسبة رمضان -أو غيره من المناسبات- فله ذلك. وكذلك لو اتفقوا على ضم بعض الأقساط إلى بعض، ودَفْعِ زكاتها جميعا على رأس الحول، أو في رمضان، سواء منها المتقدم أو المتأخر -فهذا جائز. وفيه راحة لهم عن الاشتغال بتدقيق كل قسط ومدته ومقدار زكاته وحده. واللَّه أعلم.
[164] زكاة النقود
سائل يسأل عن رجل جمع مبلغا من النقود؛ ليتزوج به، وحال عليه الحول، فهل تجب عليه الزكاة في هذا المبلغ، مع أنه محتاج إليه حاجة ماسة، ولم يسبق أن تزوج؟
الإجابة:
نعم، تجب فيه الزكاة.
[165] زكاة حلي الذهب
سائل يسأل عن حلي المرأة، هل تجب فيه الزكاة، وإذا قلتم بوجوب الزكاة، فهل تجب زكاته على المرأة أم على زوجها؟
الإجابة:
الحلي فيه تفصيل. وله حالتان:
الحالة الأولى: أن يكون معدا للكراء: بأن كانت صاحبته تؤجره لمن يلبسه، أو يكون لا يلبس أصلا، ولكنه معد للنفقة، كلما احتاج صاحبه باع منه قطعة وأنفق ثمنها وهكذا؛ أو يكون محرما: كآنية الفضة وخاتم الذهب -للرجل- وسواره ونحوها. ففي هذه الأشياء تجب فيه الزكاة إذا بلغ نصابا.
الحالة الثانية: أن يكون معدا للاستعمال أو للعارية: بأن تكون صاحبته تستعمله بنفسها، أو تعيره لمن يلبسه عارية بدون مقابل؛ فلا زكاة عليه في هذه الحالة. لحديث جابر مرفوعا: "ليس في الحلي زكاة" . رواه الطبراني (625)وهو قول ابن عمر، وعائشة وأسماء بنتي أبي بكر، ولأنه مرصد للاستعمال؛ فلم تجب فيه الزكاة، كالعوامل وثياب القُنْيَة.
وما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال لامرأة في يدها سواران من ذهب: "هل تعطين زكاة هذين" ؟ قالت: لا. قال: "أيسرك أن يسورك اللَّه بسوارين من نار" ؟.رواه أبو داود(626) وهو ضعيف.(1/212)
قال أبو عبيد والترمذي: وما صح من قوله صلى الله عليه وسلم : "في الرِّقَةِ ربع العشر" (627) . فجوابه أنها الدراهم المضروبة.
قال أبو عبيد: لا يعلم هذا الاسم في الكلام المعقول عند العرب إلا على الدراهم المضروبة ذات السكة السائرة بين المسلمين. وعلى تقدير الشمول يكون مخصوصا بما ذكرنا. واللَّه أعلم.
وأما قول السائل: هل تجب زكاته على المرأة أم على زوجها؟ فالجواب: أن الزكاة تجب عليها بنفسها ما دام الحلي ملكا لها؛ لأن زكاة المال لا تجب إلاّ على صاحبه. واللَّه أعلم.
باب زكاة العُروض [166] زكاة العقارات المعدة للكراء
هل تجب الزكاة في البيوت والعمارات المعدة للكراء، وهي تقدر بأثمان كثيرة. وهل تكون الزكاة في أقيامها أم في أجورها والريع الحاصل فيها. وإذا كان لا زكاة إلا في أجرتها، فهل تجب الزكاة في الأجرة عندما يقبضها صاحبها من المستأجر أم حين يحول عليها الحول؟
الإجابة:
لا زكاة في العقارات التي يتملكها الإنسان للقنية، إذا لم يرد الاتجار بها، سواء استعملها للسكن والانتفاع بها، أو للتأجير والربح، أو غير ذلك، إذا كان يريد أن تبقى بيده للاقتناء، ولم ينوها من عروض التجارة؛ لأن الزكاة لا تجب إلا في الأموال المعدة للبيع والشراء، ولذلك تسمى عروض التجارة؛ لأنها تعرض ثم تزول. صرح الفقهاء بهذا؛ ولأن العروض الأصل فيها القُنْيَةُ، فلا تجب فيها الزكاة إلا بنية الاتجار بها.
قال في "الفروع" (628): ولا زكاة فيما أعد للكراء من عقار وحيوان وغيرهما، وفاقًا للأئمة الثلاثة -رحمهم اللَّه- ونقل مُهَنَّا: إن اتخذ سفينة، أو أرحية للغلة فلا زكاة. يروى عن علي وجابر ومعاذ - رضي اللَّه عنهم -: ليس في العوامل صدقة. وهنا الأصل عدمها، فلا يخرج عنه إلا بالنماء المقصود؛ وهو نية التجارة. اهـ.ملخصا.(1/213)
فعلى هذا لا زكاة في أصل العقار الذي أشار إليه السائل. وإنما الزكاة في أجرته. لكن هل تجب الزكاة على الفور حال قبضها أم لا تجب إلا بعد الحول؟ في المسألة قولان في مذهب الإمام أحمد وغيره:
فالمشهور من المذهب: أنها لا تجب في الأجرة حتى يحول عليها الحول.
والقول الثاني: أنها تجب فيها حال قبضها. وهو رواية عن الإمام أحمد ذكرها الموفق في "المغني" (629) وهي أحوط. واختارها جمع من العلماء منهم: الشيخ عبد الرحمن بن سعدي - رحمه اللَّه - في كتابه "المختارات الجلية" قال في ص (36) : والصحيح أن العقارات المعدة للكراء إذا لم توجب الزكاة في أقيامها؛ فإنها تجب في أجرتها وربحها، في الحال. ولا يشترط أن يحول الحول على الأجرة، بل تجعل كربح التجار، ونتاج السائمة. انتهى.
أما من اشترى العقار فرارا من الزكاة، وتحايلاً على إسقاطها، فلا تسقط عنه الزكاة بذلك؛ معاملة له بنقيض قصده. واللَّه أعلم.
[167] وجوب الزكاة في الأراضي المعدة للتجارة
ما قولكم في وجوب الزكاة في الأراضي المشتراة المعدة للتجارة، إذا حال عليها الحول. وهل هناك فرق بينها وبين الأرض المقطعة إذا نواها للتجارة؟
الإجابة:
الأرض المشتراة المعدة للتجارة من عُروض التجارة- تجب الزكاة في قيمتها، إذا حال عليها الحول، وبلغت نصابا (بنفسها أو بضمها إلى بقية ماله الزكوي) .
أما الأراضي التي اقتطعت وأعدت للتجارة، فإنه لا يكون حكمها حكم عروض التجارة، بل لا زكاة في قيمتها. ولا يتم تملكها بمجرد الإقطاع -على الصحيح- بل لا بد من إحيائها الإحياء الشرعي. واللَّه أعلم.
باب إخراج الزكاة [168] حكم إسقاط الدين عن الفقير بنية الزكاة
لي جار فقير، استقرض مني فلوسا، منذ مدة طويلة، ولم يدفع لي حقي، وأنا مُسْتحٍ لا أطلبها منه، وهو فقير حقيقةً، أعرفُ ذلك من حالته. فهل يجوز أن أسقطها عنه -كلها أو بعضها- وأنويها من الزكاة؟ وهل يجزئ ذلك عن الزكاة إذا نويتها أم لا؟
الإجابة:(1/214)
المشهور من المذهب: أن ذلك لا يجزئك عن الزكاة الواجبة بذمتك؛ لأنه لا بد من تمليك الفقير للزكاة تمليكا صحيحا مستقرا.
والقول الثاني: أنك إذا نويت أن تسقط عن هذا الفقير المدين لك بمقدار زكاة مَا لكَ عليه من الدين فأقل- أن ذلك يجزئك عن الزكاة الواجبة في ذلك الدين خاصة. واستظهره شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه اللَّه-.
أما لو أردت أن تسقط عنه مقدار زكاة دين آخر على غيره، أو مقدار زكاة نقود في صندوقك، وأكثر من زكاة دينه -فإن ذلك لا يجزئك عن الزكاة الواجبة عليك، قولا واحدا بلا نزاع. ذكره الشيخ تقي الدين بن تيمية - رحمه اللَّه -.
قال في "الاختيارات" (630): وهل يجوز أن يُسقط عنه قدر ذلك الدين، ويكون ذلك زكاة ذلك الدين؟ فيه قولان في مذهب أحمد وغيره. أظهرهما: الجواز؛ لأن الزكاة مواساة.
وسئل الشيخ عبد اللَّه أبابطين: هل يجزئ إذا أسقط عن الفقير زكاة الدين الذي عليه؟ فأجاب: المعروف المعمول به في المذهب: أنه إذا أسقط عن المعسر والفقير -غير المعسر- زكاة الدين الذي عليه -أن ذلك لا يجوز ولا يجزئ.
وفي حاشية الشيخ عبد اللَّه العنقري (631)على "الروض المربع" ما نصه: (فائدة) : إن أبرأ ربُّ دين مدينَه -بنية الزكاة- لم يجزه عينا كان أو دينًا. وكذا لو أحال الفقراء بالزكاة لعدم الإيتاء المأمور به. (ح منتهى) . وعند الحنفية تسقط زكاة الدين بالإبراء منه. واختار الشيخ تقي الدين: تجزئه من زكاة دينه إذا نواه. (ح. ش منتهى) .
[169] زكاة رواتب الموظف
الرواتب التي يستلمها الموظف شهريا. كيف الطريق إلى معرفة حولها وضبطه؛ لأجل أداء الزكاة؟
الإجابة:(1/215)
الطريق إلى ذلك أن يعرف متى استلم راتب شهر محرم -مثلا- ويثبته عنده. فإن استهلكه قبل الحول فليس عليه زكاة. وإن بقي الراتب عنده حتى حال عليه الحول، فيؤدي زكاته إذا كان نصابا فأكثر- بنفسه أو بالنسبة إلى بقية ماله- وهكذا راتب صفر، وما بعده. وكلما قبض راتب شهر عرف تاريخ قبضه. فإذا حال عليه الحول عنده، وجبت زكاته وحده بنسبة (2.5%) . فإن أراد جمع بعض الرواتب مع بعض وإخراج زكاتها جميعا فلا بأس، لكن لا يؤخرها عن حولها؛ لأن تأخير الزكاة بعد تمام الحول لا يجوز. أما تقديمها قبل الحول فلا بأس. قال الفقهاء: ويجوز تعجيل الزكاة لحولين فأقل.
فعلى هذا يمكنه إخراج زكاة كل ما لديه في شهر رمضان؛ لأنه أفضل، والصدقة فيه مضاعفة، ولأنه أسهل عن الاشتغال بتدقيق حساب زكاة كل راتب ومدة حوله. واللَّه أعلم.
[170] حكم فقدان الزكاة من الوكيل
سائل يسأل عن غني أخرج مبلغا من الزكاة، وأعطاه الوكيل؛ ليوصله إلى الفقير، فَفُقد المبلغ من الوكيل، فهل يلزم الغني بدل المبلغ الذي فقد من الوكيل أم لا؟
الإجابة:
هذا لا يخلو من أمرين:
الأمر الأول: أن يكون الوكيل وكيلا عن الغني في إخراج زكاته وإيصالها إلى الفقراء، فهذا المبلغ من ضمان الغني، ويلزمه إخراج بدله للفقراء؛ لأنه لم يحصل منه الإيتاء المأمور به بقوله تعالى: {وَءَاتُوا الزَّكَاةَ} (632) وقد تلف المبلغ قبل وصوله إلى يد الفقير أو نائبه، فصار من ضمان الغني.
الأمر الثاني: أن يكون الوكيل نائبا عن الفقير في قبض الزكاة من الغني. ففي هذه الحال تبرأ ذمة الغني من هذا المبلغ بدفعه إلى نائب الفقير. ويكون تلفه على حظ الفقير. وليس على الغني أكثر مما فعل. وعلى كلٍّ، فإن كان الوكيل قد فرط في حفظ المبلغ أو أهمله حتى فُقد منه؛ فقرار الضمان عليه -أي: على الوكيل- وإلا فلا. واللَّه أعلم.
باب أهل الزكاة [171] حكم من دفع زكاته إلى غير مستحقها(1/216)
وقعتُ في مشكلة فأَنْقِذني منها، وذلك أنه كان عندي مبلغ من النقود زكاة. فتوسمت في رجل من أهل الخير، وكنت أدفع له منها شيئا فشيئا، أظنه فقيرا محتاجا، مع ظني أنه من عباد اللَّه الصالحين. فتبين لي بعد ذلك أن الرجل غني، ومكار مخادع. فهل يلزمني أن أحسب جميع المبالغ التي دفعتها إليه، وأغرمها مرة ثانية، وأعطيها للفقراء أم أطالبه بها وأستردها منه، ولربما ينكر، وليس عندي عليه بينة أم أنها تجزئ -إن شاء اللَّه- على حسب النية؟ أفتونا مأجورين.
الإجابة:
أما أنت فقد أحسنت؛ إذ دفعت زكاتك إلى من توسمت فيه الصلاح والفقر، وظننته من أهلها. وأما هو فقد أساء وتجرأ على ما لم يبح له. وسيلقى جزاءه- إن لم يتب إلى اللَّه-. وعلى كلٍّ، فزكاتك بلغت مبلغها، ولا يجب عليك أداؤها مرة ثانية.
وقد نص الفقهاء - رحمهم اللَّه -: على أن الرجل إذا أعطى زكاته لمن ظنه أهلا، فبان خلافه، كما لو دفعها لمن ظنه مسلما، فبان كافرا- لم تُجْزِ عنه؛ لأنه لا يخفى غالبا، وكدين الآدمي؛ إلا إذا أعطاها غنيا ظنه فقيرا فتجزئه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الرجلين الجلدينز وقال: "إن شئتما أعطيتكما منها، ولا حظ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب" (633).(1/217)
وقال المجد بن تيمية في "المنتقى" ، باب: من دفع صدقته إلى من ظنه من أهلها، فبان غنيا. عن أبي هريرة، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم . قال: "قال رجل: لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق، فأصبحوا يتحدثون: تُصُدِّق على سارق. فقال: اللَّهم لك الحمد على سارق! لأتصدقن بصدقة. فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية. فأصبحوا يتحدثون: تُصُدِّق الليلة على زانية. فقال: اللَّهم لك الحمد على زانية! فقال: لأتصدقن بصدقة. فخرج بصدقته فوضعها في يد غني. فأصبحوا يتحدثون: تُصُدِّق على غني. فقال: اللَّهم لك الحمد على زانية، وعلى سارق، وعلى غني! فأتي فقيل له: أما صدقتك فقد قُبلت؛ أما الزانية فلعلها تستعف به من زناها، ولعل السارق أن يستعف به عن سرقته، ولعل الغني أن يعتبر فينفق مما آتاه اللَّه عز وجل" . متفق عليه (634) .
قال الشارح محمد بن علي الشوكاني في "نيل الأوطار" (635): وفي قوله: "اللَّهم لك الحمد" ، أي: لأن صدقتي وقعت في يد من لا يستحقها، فلك الحمد؛ حيث كان ذلك بإرادتك لا بإرادتي.. وأنه سلَّم، وفوض، ورضي بقضاء اللَّه، فحمد اللَّه سبحانه على تلك الأحوال، لا يحمد على المكروه سواه...
وفي الحديث دلالة على أن الصدقة كانت عندهم مختصة بأهل الحاجة من أهل الخير؛ ولهذا تعجبوا. وفيه أن نية المتصدق إذا كانت صالحة قبلت صدقته، ولو لم تقع الموقع.انتهى.
[172] حكم دفع الزكاة والصدقة لغير المسلمين
سائل يقول إن اللَّه قد من عليه بالإسلام، وله جماعة لم يسلموا، وبقوا على دينهم. فهل يجوز له أن يصرف لهم شيئا من زكاته وصدقته مع أنهم فقراء مستحقون للزكاة لكنهم باقون على مسيحيتهم؟
الإجابة:
الزكاة تنقسم إلى قسمين: زكاة واجبة، وصدقة تطوع مستحبة.(1/218)
أما الزكاة الواجبة، فقد تولى اللَّه تعالى قسمتها بنفسه، ولم يكلها إلى ملك مقرب، ولا إلى نبي مرسل، فضلا عن غيرهما. فقال تعالى في سورة التوبة: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}(636) .
ونص العلماء على أنه لا حظ فيها لغير المسلمين؛ إلا أن يكونوا من المؤلفة قلوبهم.
قال الموفق ابن قدامة في "المغني"(637): لا نعلم بين أهل العلم خلافا في أن زكاة الأموال لا تعطى للكافر ولا لمملوك. وقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن الذمي لا يعطى من زكاة الأموال شيئا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: "أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، وترد على فقرائهم" (638) . فخصهم بصرفها إلى فقرائهم كما خصهم بوجوبها على أغنيائهم.اهـ.
وأما صدقة التطوع، فلا تختص بالمسلمين، بل يجوز صرفها لغير المسلمين إذا كان هناك مصلحة راجحة، مع أن المسلمين أولى بها. ومما استدل به على هذا ما ذكره المفسرون على تفسير قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} (639) قال ابن عباس: كانوا يكرهون أن يرضخوا لأنسابهم من المشركين. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بأن لا يتصدق إلا على أهل الإسلام، حتى نزلت هذه الآية {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ}. فأمر بالصدقة على كل من سألك من كل ذي دِينٍ.(1/219)
وعن أسماء بنت أبي بكر -رضي اللَّه عنهما- قالت: قدمتْ عليَّ أمي، وهي مشركة في عهد قريش إذْ عاهدوا، فسألتُ النبي صلى الله عليه وسلم : هل أصلها؟ فقال صلى الله عليه وسلم : "صلي أمك" (640) وأنزل اللَّه تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (641) .
والخلاصة: أن الزكاة الواجبة لا تعطى الكفار، ولا تجزئ لو دفعت إليهم. وأما صدقة التطوع، فإن كان في دفعها لغير المسلمين مصلحة راجحة، ومنفعة متحققة، جاز أن يَصْرِفَ لهم شيئا منها، وإلا فالمسلمون أولى بها. واللَّه أعلم.
وصلى اللَّه على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[173] حكم نقل الزكاة
سائل يسأل عن جواز نقل الزكاة من البلد الذي فيه الأموال المزكاة إلى بلد آخر؛ للمصلحة، إذا كان في البلد الآخر فقراء أحوج إلى الزكاة؟
الإجابة:
هذه المسألة مما اختلف فيه العلماء:
فالمشهور من المذهب أن نقل الزكاة لا يجوز، إذا كان إلى مسافة قَصْرٍ فأكثر- وهي مسيرة يومين بسير الأحمال، ومشي الأقدام- ويجوز فيما دونها؛ لأنها في حكم البلد الواحد، وسواء نقلها لمصلحة أم لا؛ كإعطائها قريبه الفقير، أو من هو أشد حاجة، أو غير ذلك.
قالوا: ويحرم نقلها إلى مسافة قصر مع وجود مستحق لها، ولو لرحم وشدة حاجة. وكان السلف يقولون: جيران المال أحق بزكاته؛ ولحديث معاذ: "إن اللَّه افترض عليهم صدقة، تؤخذ من أغنيائهم، فترد على فقرائهم" (642) . وظاهره عود الضمير على أهل اليمن. فنقلُها إلى غيرهم مخالف لهذا الحديث.
واختلف القائلون بهذا: هل تجزئ الزكاة في هذه الحال أم لا؟ فالمشهور أنها تجزئ، مع تحريم النقل أو كراهته.(1/220)
والقول الثاني: جواز نقلها؛ لمصلحة شرعية. وبه يقول شيخ الإسلام ابن تيميةز قال: وتحديد المنع من نقل الزكاة بمسافة القصر ليس عليه دليل شرعي (643).
وقال في "الفروع" (644): وعنه: يجوز نقلها إلى غير الثغر أيضا؛ وفاقا لمالك مع رجحان الحاجة. وكرهه أبو حنيفة، إلا لقرابة، أو رجحان القرابة. اهـ.
وهذا القول هو الذي يعمل به بعض الناس في نقل زكواتهم إلى قراباتهم في أوطانهم، وإلى الحرمين الشريفين وغيرهما. واللَّه أعلم.
[174] استحباب الصدقة على القريب
سائل يسأل عن حكم إعطاء الإنسان زكاته عمه، أو ابن عمه، أو غيرهما من قرابته؟
الإجابة:
إذا كان العم -وغيره من القرابة- من أهل الزكاة، فَدَفْعُ الزكاة إليه أفضل من دفعها إلى غيره -ممن لم يكن من قرابته- ما لم يكن القريب وارثًا له بفرض أو تعصيب؛ لأن الصدقة على القريب صدقةٌ وصلَةٌ، لكن يتحقق -أولاً- من حاجته، وكونه من أهل الزكاة.
قال الفقهاء: يسن تفرقة زكاته في أقاربه الفقراء الذين لا تلزمه مؤنتهم؛ لحديث: "صدقتك على ذي رحمك صدقة وصلة" (645) . واللَّه أعلم.
من لا يجزئ دفع الزكاة إليهم [175] ما مدى جوازصرف الزكاة في المشاريع الخيرية؟
بعث رجل يسأل بقوله: هل يجوز صرف الزكاة الشرعية في المشاريع الخيرية، مثل: بناء المساجد، وتسبيل الماء؛ للشرب للمسلمين، وغير ذلك من وجوه الخيرات؟
الإجابة:
لا يجوز صرف الزكاة إلى شيء من المشاريع التي ذكرتَها: كبناء المساجد، والقناطر، وأكفان الموتى، ووقف المصاحف، وكتب العلم، وغير ذلك من وجوه الخير.
وهذا قول جماهير العلماء -سلفا وخلفا-؛ لأن اللَّه تعالى حصرها في ثمانية أصناف فقال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (646) .(1/221)
قال في "الشرح الكبير" (647): لا نعلم خلافا بين أهل العلم في أنه لا يجوز دفع هذه الزكاة إلى غير هذه الأصناف، إلا ما روي عن أنس والحسن أنهما قالا: ما أعطيت في الجسور والطرق فهي صدقة قاضية. والصحيح الأول؛ لأن اللَّه تعالى قال: {إِِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} و (إنما) للحصر، تُثبت المذكور وتنفي ما عداه؛ لأنها مركبة من حَرْفَي نفي وإثبات. وذلك كقوله تعالى: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (648) أي: لا إله إلا اللَّه، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : "إنما الولاء لمن أعتق" (649).
وروي بسند ضعيف أن رجلا قال: يا رسول اللَّه، أعطني من هذه الصدقات، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "إن اللَّه لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات، حتى حَكَم فيها هو؛ فجزَّأها ثمانية أجزاء، فإن كنتَ من هذه الأجزاء أعطيتك حقك" . رواه أبو داود (650) . انتهى.
وجوز الشيخ تقي الدين الأخذ من الزكاة لمن يحتاج إلى شراء كتب علم نافع لمصلحة دينه ودنياه.
قال في "شرح الإقناع" : ولعل ذلك غير خارج عن الأصناف الثمانية؛ لأن ذلك في جملة ما يحتاجه طالب العلم وكنفقته (651) . واللَّه أعلم.
[176] حكم صرف جزء من الزكاة على أهل الكتاب
هل يجوز للمسلم صرف شيء من زكاته إلى فقراء المسيحيين؟
الإجابة:
الزكاة تنقسم إلى قسمين: زكاة واجبة، وصدقة تطوع مستحبة.
أما الزكاة الواجبة فقد تولى اللَّه تعالى قسمتها، ولم يكلها إلى ملك مقرب ولا إلى نبي مرسل، فضلاً عن غيرهما. فقال تعالى في سورة التوبة: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}(652).
ونص العلماء على أن لا حظ فيها لغير المسلمين إلا أن يكونوا من المؤلفة قلوبهم.(1/222)
قال الموفق بن قدامة في "المغني" (653): لا نعلم بين أهل العلم خلافًا في أن زكاة الأموال لا تعطى لكافر. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن الذمي لا يعطى من زكاة الأموال شيئًا؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: "أعلمهم أن عليهم صدقة، تؤخذ من أغنيائهم، فترد في فقرائهم" . (متفق عليه) (654)، فخصهم بصرفها إلى فقرائهم كما خصهم بوجوبها على أغنيائهم.اهـ.
وأما صدقة التطوع فلا تختص بالمسلمين، بل يجوز صرفها إلى غير المسلمين، إذا كان هناك مصلحة راجحة، مع أن المسلمين أولى بها. ومما استدل به على هذا، ما ذكره المفسرون في تفسير قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} (655) .
قال ابن عباس: كانوا يكرهون أن يرضخوا لأنسابهم من المشركين. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بأن لا يُتصدق إلا على أهل الإسلام، حتى نزلت هذه الآية {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} (656) . فأمر بالصدقة على كل من سألك من كل ذي دِينٍ.
وعن أسماء بنت أبي بكر -رضي اللَّه عنهما- قالت: قدمت علي أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم : هل أصلها؟ فقال صلى الله عليه وسلم : "صلي أمك" (657) ونزل قول اللَّه تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (658).(1/223)
والخلاصة: أن الزكاة الواجبة لا تعطى الكفار، ولا تجزئ لو دفعت لهم. وأما صدقة التطوع، فإن كان في دفعها لغير المسلمين مصلحة راجحة ومنفعة متحققة -جاز أن يَصْرِفَ لهم شيئًا منها، وإلا فالمسلمون أولى بها. واللَّه أعلم.
في المال حق سوى الزكاة [177] أيهما أفضل: صدقة السر أو العلانية؟
رجل يقول: لي صاحبان أحدهما يتصدق بالشيء القليل والكثير، ولكنه يسر بصدقته حتى لا يكاد يعلم بها أحد. وآخر يظهر صدقته ولا يبالي بإظهارها، مع أني أعلم منه صدق النية والإخلاص والبعد عن الرياء. فأيهما أفضل: إظهار الصدقة أم إخفاؤها؟ أفتونا مأجورين.
الإجابة:
الأصل أن صدقة السر أفضل؛ لقوله تعالى: {إِن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}(659) .
وروي عن أبي هريرة - رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سبعة يظلهم اللَّه في ظله، يوم لا ظل إلا ظله..." وذكر منهم: "ورجل تصدق بصدقة فأخفاها؛ حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه" . متفق عليه (660).
وهذا الأصل في الصدقة: أن إخفاءها أفضل، لكن إن ترتب على إظهارها مصلحة راجحة مثل: إذا كان في إسراره بها إساءة ظن به بأنه لا يخرج الزكاة، أو اقتداء الناس بالمتصدق إذا أظهر زكاته- فيكون هذا من باب: "من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة"(661) . ونحو ذلك من المصالح. ففي مثل هذه الحالات قد يكون إظهارها أولى. واللَّه أعلم.
كتاب الصيام [178] حكم جمع الصائم ريقه وابتلاعه
لي زميل إذا صام صار يجمع ريقه ويتكلم معنا وهو مجمع ريقه في فمه، ثم بعد فترة يبتلعه، ويجمع غيره، وهكذا، فنهيناه عن ذلك، وقلنا له: إن هذا يخل بصيامك؛ فلم يقبل كلامنا. فأرجوكم الإفادة عن حكم فعله هذا: هل هو جائز أم لا وهل يفسد صيامه بذلك؟
الإجابة:(1/224)
الريق نعمة من اللَّه تعالى على ابن آدم، وابتلاع الصائم له جائز؛ لأنه لا يمكن التحرز منه. لكنَّ جمعه في الفم وابتلاعه مجموعا بالصفة التي ذكرتم فيه شيء؛ ولهذا قال الفقهاء -رحمهم اللَّه-: يكره للصائم جمع ريقه وابتلاعه؛للخروج من خلاف من قال: إنه يفطر به إذا جمعه وابتلعه. ويحكى هذا القول عن الحنفية -رحمهم اللَّه-.
وإن تنجس فمه بدم أو قيء، ونحوه: فإن بلع منه شيئا -متعمدا- أفطر، وإن بصقه -ولم يبق شيء من آثار النجاسة- فبلع ريقه بعد ذلك، فلا شيء عليه.
وذكر العلماء أن بلع النخامة حرام. وإن وصلت إلى فمه فبلعها، فإنها تُفطر، سواء كانت من الدماغ، أو من الصدر، أو من الجوف، كالقيء؛ لأن الأصل الفطر بكل ما يصل الجوف من الفم، لكن عفي عن الريق؛ لعدم إمكان التحرز منه.
قال في "جمع الجوامع" (662) ولو خرج من لثته دم، فابتلعه عالما به، أو ابتلع قَلَسا أو قيئا -أفطر. نص عليه- وإن قَلّ. وإذا استقصى في بصقه أو تنجس فمه من خارج، فبصق النجاسة من فمه، وبقي الفم نجسا فابتلع ريقه -لم يفطر. قطع به أبو البركات في شرح الهداية" وغيره؛ لأنه لا يتحقق ابتلاعه لشيء من أجزاء النجاسة؛ فلهذا قال صاحب "الفروع" : فإن تحقق أنه بلع شيئا نجسا أفطر، وإلا فلا. واللَّه أعلم.
[179] سحب الدم من الصائم يفسد الصيام
رجل يسأل عن حكم سحب الدم من الصائم، وقال: إن ابني أصيب بحالة خطرة مستعجلة. وقرر الأطباء أنه يحتاج إلى إجراء عملية جراحية، ويحتاج إلى سحب من دمي وأنا صائم، فاضطررت إلى إجابة طلبهم، وسحبوا مني مقدار كذا وكذا.. سنتي من الدم. فهل علي إثم بذلك، وهل يلزمني قضاء ذلك اليوم أم كفارة أم غير ذلك؟ أرجوكم الإفادة مشكورين.
الإجابة:(1/225)
سحب الدم من جنس الحجامة، على قول جماهير العلماء. والحجامة من المفطرات بنص الأحاديث الصريحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقد رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم أحد عشر صحابيا. ومنها حديث شداد بن أوس -رضي الله عنه-: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى على رجل بالبقيع وهو يحتجم في رمضان. فقال: "أفطر الحاجم والمحجوم" رواه الخمسة إلا الترمذي. وصححه أحمد وابن حبان (663). عن رافع بن خديج قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "أفطر الحاجم والمحجوم" رواه أحمد: والترمذي(664) وعن ثوبان: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أتى على رجل يحتجم في رمضان فقال: "أفطر الحاجم والمحجوم" أخرجه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان والحاكم (665) وقال الإمام أحمد: حديث ثوبان، وحديث شداد بن أوس صحيحان (666).
لكن إذا وصلت الحالة بابنك إلى الخطر، وأنه يُخشى عليه الهلاك إن لم تسحب له من دمك، ولم يوجد شخص آخر مفطر تسحب منه الدم -إما مسافر أو مفطر لمرض آخر أو امرأة حائض ونحو ذلك -، ولم يمكن تأخيره إلى الليل، ففي مثل هذه الحال يجوز لك أن تسحب من دمك- ولو كنت صائما -للضرورة، بل قد يتعين عليك ذلك، كما ذكر الفقهاء: أنه يتعين إنقاذ من أشرف على الهلاك، مثل: الغريق والحريق ونحوه، ولو أدى الحال إلى فطر الصائم برمضان. وعلى كلٍّ، فالقضاء لازم لمن فعل هذا. وليس المراد من قولنا: إنه يفسد صومه، ويلزمه القضاء، أنه عاص آثم بهذا الصنيع. وإنما يرجى له الأجر والثواب؛ لإنقاذ نفس آدمي معصوم من الهلاك. واللَّه الموفق.
[180] متى يؤمر الصبي بالصيام؟(1/226)
سائل يقول: إنه قدم على أقاربه، ونزل عندهم ضيفا في شهر رمضان، ووجد عندهم مجموعة من الأطفال: أولاد وبنات- ويغلب على ظنه أنهم يطيقون الصيام- فأمرهم بالصوم، ونبه أهلهم على إلزامهم بالصوم، فاعتذروا بأنهم صغار، ولكنه لم يقتنع بهذا العذر. فكتب يسأل: متى يؤمر مثل هؤلاء بالصيام. وهل لذلك سن محددة؟.. أفتونا مأجورين.
الإجابة:
قال اللَّه تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} (667)، وقال صلى الله عليه وسلم : "ألا كلكم راع،وكلكم مسئول عن رعيته" ، وفيه: "والرجل راع على أهل بيته،ومسئول عن رعيته. والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده، وهي مسئولة عنهم" (668).وهؤلاء الأطفال أمانة في أيدي ولي أمرهم، يجب عليه تعليمهم ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، ويجنبهم ما يضرهم من أمور دينهم ودنياهم.
وإذا بلغ الصبي سبع سنين - ومثله الصبية- فعلى ولي أمره أن يأمره بالصلاة،وما يجب لها من طهارة وغيرها، وتعليمه أحكامها، ويطبقها له عمليا؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ويستمر على ذلك حتى يبلغ عشر سنين. فإذا بلغ عشر سنين ضربه على تركها؛ لحديث: "مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع" (669)
وأما الصيام فيؤمر به المميِّز إذا أطاقه. والمميِّز قيل: إنه الذي يبلغ سبع سنين. وقال في "المطلع" : هو الذي يفهم الخطاب ويرد الجواب. ولا ينضبط بسن،بل يختلف باختلاف الأفهام. وصوبه في "الإنصاف" (670) وقال: إن الاشتقاق يدل عليه.
وقيل: إذا بلغ الطفل عشر سنين وأطاقه، أمره به وليُّه. ويعرف ذلك بصيامه ثلاثة أيام متتالية. فإن لم يتضرر بذلك، فهو يطيق الصيام، فحينئذ يؤمر به، ويضرب عليه؛ ليعتاده.(1/227)
قال في "الإقناع" و"شرحه" (671): ويصح الصوم من مميز، كصلاته. ويجب على وليه - أي: المميز -أمرُه به إذا أطاقه، وضَرْبُه حينئذ عليه - أي: الصوم - إذا تركه؛ ليعتاده كالصلاة؛ إلا أن الصوم أشق، فاعتبرت له الطاقة؛ لأنه قد يطيق الصلاة من لا يطيق الصوم. والثواب للصبي إذا صام. وكذا جميع أعمال البر التي يعملها. فإن ثوابها له، كما ورد بذلك الحديث الصريح في الحج. فهو في هذه السن تكتب له الحسنات ولا تكتب عليه السيئات (672) انتهى ملخصا.
وقال المجد بن تيمية في "منتقى الأخبار" وشرحه "نيل الأوطار" للشوكاني. باب: الصبي يصوم إذا أطاق (673): عن الرُّبَيِّع بنت مُعَوِّذ قالت: أرسل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة: "من كان أصبح صائما فليتمَّ صومه، ومن كان أصبح مفطرا فليتم بقية يومه" . فكنا بعد ذلك نصومه ونصوّمه صبياننا الصغار منهم. ونذهب إلى المسجد فنجعل لهم اللعبة من العِهْنِ. فإذا بكى أحدهم من الطعام أعطيناها إياه، حتى يكون عند الإفطار. أخرجاه (674).
قال: البخاري (675) وقال عمر لنشوان في رمضان: ويلك، وصبياننا صيام؟! فضربه... وهذا الأثر وصله سعيد بن منصور والبغوي في "الجعديات" من طريق عبدالله بن هذيل أن عمر بن الخطاب أُتي برجل شرب الخمر في رمضان. فلما دنا منه جعل يقول للمنخرين والفم. وفي رواية البغوي(676) : "فلما رفع إليه عثر. فقال عمر: على وجهك، ويحك! وصبياننا صيام! ثم أمر به فضرب ثمانين سوطا، ثم سيره إلى الشام" . انتهى.(1/228)
الحديث استدل به على أنه يستحب أمر الصبيان بالصوم؛ للتمرين عليه إذا أطاقوه. وقد قال باستحباب ذلك جماعة من السلف. منهم: ابن سيرين والزهري والشافعي وغيرهم. واختلف أصحاب الشافعي في تحديد السن التي يؤمر الصبي عندها بالصيام؛ فقيل: سبع سنين. وقيل: عشر. وبه قال أحمد. وقال الأوزاعي: إذا أطاق صوم ثلاثة أيام تباعا لا يضعف فيهن، حُمل على الصوم. وذكر الهادي في "الأحكام" أنه يجب على الصبي الصوم بالإطاقة لصيام ثلاثة أيام. واحتج على ذلك بما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا أطاق الغلام صيام ثلاثة أيام وجب عليه صيام الشهر كله" (677) وهذا الحديث ذكره السيوطي في "الجامع الصغير" (678) وقال: أخرجه الْمُرْهِبي عن ابن عباس. ولفظه: "تجب الصلاة على الغلام إذا عقل، والصوم إذا أطاق، والحدود والشهادة إذا احتلم" (679) وقد حمل المرتضى كلام الهادي على لزوم التأديب. وحمله السادة الهادويون على أنه يؤمر بذلك؛ تعويدا وتمرينا. انتهى ملخصا (680) واللَّه أعلم.
[181] حكم تناول حبوب منع الحيض لأجل صيام رمضان
لي والدة متعبدة. ولها رغبة في فعل الخير. ولا تزال العادة الشهرية تأتيها. ولكنها -لرغبتها باغتنام الأوقات الفاضلة في رمضان- تحب أن تأخذ حبوبا تمنع عنها الحيض في هذا الشهر الكريم؛ لأجل أن تصوم مع المسلمين، وتحضر المسجد في التراويح والقيام ... وغير ذلك. فهل يجوز لها تناول الحبوب المذكورة أم لا؟ أرجو الإفادة. أثابكم اللَّه.
الإجابة:
الذي نص الفقهاء على عدم جوازه، هو عكس هذه المسألة. وهو شربها الدواء؛ لحصول الحيض في رمضان لتفطره. فهذا هو الذي لا يجوز؛ لأنه تحيّل على إسقاط العبادة، كما قال الفقهاء: وإن سافر ليفطر حرم عليه السفر والفطر.(1/229)
وأما تناول الحبوب؛ لمنع الحيض، لمثل هذا الغرض الشريف الذي رَغِبَتْ فيه أمك -فالأصل جوازه، ولا أعلم فيه دليلا يمنع من ذلك، بشرط أن لا يترتب عليها ضرر، وأنها لا تُخَلِّفُ آثارا سيئة تضر بالمرأةك؛ لأن أحكام الحيض المترتبة عليه لا تثبت إلا بعد تحقق خروج دم الحيض المعتاد. بل صرح الفقهاء -رحمهم اللَّه- بجواز ما هو أبلغ من ذلك، وهو شرب الدواء المباح؛ لتقطع به الحيض كُليا مع أمن الضرر- نص عليه الإمام أحمد- لكن بشرط إذن الزوج لها بذلك؛ لأن له حقا في الولد، كما أنه لا يجوز له أن يسقيها ذلك من غير علمها. واللَّه أعلم.
[182] الفرق بين نية صيام الفرض والنفل
سائل يسأل عن صفة نية الصيام. وهل يختص الصوم بنية خاصة تميزه عن غيره. وهل هناك فرق بين صيام الفريضة وصيام النافلة أم لا؟
الإجابة:
النية محلها القلب. والتلفظ بها بدعة. فأما صيام الفريضة فلا يصح إلا بنية من الليل؛ لما روى ابن عمر عن حفصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له" .رواه الخمسة (681) قال الترمذي والخطابي: رفعه عبداللَّه بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن الزهري عن سالم عن أبيه عن حفصة- وهو من الثقات- ووافقه على رفعه ابنُ جريج عن الزهري. ورواه النسائي. ولم يثبت أحمد رفعه. وصحح الترمذي أنه موقوف على ابن عمر (682) وعن عائشة -رضي اللَّه عنها- مرفوعا: "من لم يُبَيِّتِ الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له" . رواه الدارقطني (683) وقال: إسناده كلهم ثقات. وفي لفظ للزهري (684) : "من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له" .
ولا يُؤّثِّرُ على النية إذا نوى الصوم من الليل ثم أتى بعد النيةِ بمُنَافٍ للصوم -كالأكل والجماع- ما دام فعله قبل الفجر. نص عليه الإمام أحمد.(1/230)
ومن خطر بباله أنه صائم فقد نوى؛ لأن النية محلها القلب. والأكل والشرب بنية الصوم نية. قال الشيخ تقي الدين: هو حين يتعشى، يتعشى عشاءَ من يريد الصوم؛ ولهذا يفرق بين عشاء ليلة العيد وليالي رمضان.
وأما صيام النفل فلا يشترط للنية تبييتٌ من الليل، بل يصح ولو بنية من النهار -قبل الزوال أو بعده- نص عليه الإمام أحمد-؛ لحديث عائشة قالت: دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال "هل عندكم شيء؟" . فقلنا: لا. قال: فإني إذن صائم" . رواه مسلم (685) .لكن بشرط أن لا يكون قد فعل في يومه ما يفطر الصائم قبل النية -من أكل وغيره- فإن كان قد فعل فلا يصح صومه، بغير خلاف نعلمه. قاله في "الشرح" .
ويحكم بالصوم الشرعي المثاب عليه من وقت النية؛ لأن ما قبله لم يوجد فيه قصد القربة، فلا يقع عبادة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: وإنما لكل امرئ ما نوى" (686) واللَّه أعلم.
[183] حكم من أدركه رمضان في غير بلاده ولم يثبت دخوله
سائل يسأل عن رجل أدركه رمضان في غير وطنه. فثبت دخول الشهر في بلاده، ولم يثبت في البلد الذي هو فيه؛ ولهذا لم يصم أول يوم من رمضان. وفي اليوم الثاني ثبت في البلد الذي هو فيه؛ فصام معهم. وفي أثناء الشهر انتقل إلى بلاده، فكمل معهم الصيام. ولما ثبت العيد فإذا هو لم يصم إلا ثمانية وعشرين يوما، مع العلم أن رمضان تلك السنة تسعة وعشرون يوما في كلا البلدين... والسؤال: هل يفطر مع أهل بلده تبعا لهم أم يصوم؛ لأنه لم يكمل الشهر؟ وإذا أفطر فهل يقضي يومين أم يوما واحدا؟ وإذا قلتم: يقضي يوما واحدا، فهل هو بدل ما فاته من أول الشهر حينما كان بتلك البلد أم بدل ما سيصومه أهل تلك البلد من آخر الشهر؛ لأن العيد لم يثبت عندهم إلا بعد ذلك بيوم؟ أو يقال: يفطر، ولا قضاء عليه؛ لأنه فعل ما وجب عليه في أول الشهر من عدم الصيام؛ لعدم ثبوته بتلك البلد، وفعل ما وجب عليه في آخر الشهر من الفطر يوم العيد؟
الإجابة:(1/231)
أما عدم صيامه أول يوم لعدم ثبوته بتلك البلد الذي هو فيها فهذا صواب؛ لأنه صام بصيام أهل تلك البلد التي هو فيها. وهو مأمور بذلك شرعا.
وأما فطره في بلده حينما ثبت دخول شوال فهذا واجب؛ لأن صيام يوم العيد لا يجوز. وأما القضاء فإنه يقضي يوما واحدا فقط؛ لأن رمضان تلك السنة تسعة وعشرون؛ وهو لم يصم إلا ثمانية وعشرين يوما. هذا المذهبُ. قال في "الإقناع" وشرحه "كشاف القناع" (687) : وإن صاموا ثمانية وعشرين يوما، ثم رأوا الهلال قضوا يوما فقط.نص عليه الإمام أحمد بن حنبل، ونقله واحتج بقول علي كك-رضي الله عنه-: لأن أصوم يوما من شعبان أحبُّ إليَّ من أن أفطر يوما من رمضان (688) .
وقال في "الإنصاف" نقلا عن "الرعاية الكبرى" : لو سافر من بلد لرؤية ليلة الجمعة إلى بلد لرؤية ليلة السبت، فبَعُد وتم شهره ولم يروا الهلال -صام معهم. وعلى المذهب يفطر. فإنْ شَهد به وقُبل قوله: أفطروا معه على المذهب. وإن سافر إلى بلد لرؤية ليلة الجمعة من بلد لرؤية ليلة السبت وبَعْد: أفطر معهم، وقضى يوما، على المذهب، ولم يفطر على الثاني. ولو عيّد ببلد بمقتضى الرؤية ليلة الجمعة في أوله، وسافرت سفينة -أو غيرها سريعا- في يومه إلى بلد الرؤية ليلة السبت وبَعُد: أمسك معهم بقية يومه، لا على المذهب. انتهى. قال في "الفروع" : كذا قال. قال: وما ذكره على المذهب واضح، وعلى اختياره فيه نظر؛ لأنه في الأولى اعتبر حكم البلد المنتقل إليه؛ لأنه صار من جملتهم. وفي الثانية اعتبر حكم المنتقل منه؛ لأنه التزم حكمه. انتهى (689) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (مجلد "25" صحيفة 106) : إذا صام برؤية مكان ثم سافر إلى مكان تقدمت رؤيتهم- فإنه يفطر معهم، ولا يقضي اليوم الأول. انتهى. والمذهب الأول هو الأولى والأحوط. وعليه العمل. واللَّه أعلم.
[184] حكم من لم يعلم بدخول رمضان(1/232)
مسلمون -خارج البلاد- يسألون عن كونهم لا يُعْلَمُون بدخول شهر رمضان بالضبط. وقد يتقدمون بيوم أو يتأخرون بيوم. ويسألون: متى يصومون.
الإجابة:
ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب؛فيتعين عليكم الاتصال بالجهات المختصة؛ للتحقق من دخول شهر رمضان وخروجه؛ لأداء هذا الركن العظيم من أركان الإسلام؛ وهو صيام شهر رمضان بيقين. والسفارة السعودية لديكم تسهل لكم هذه المهمة. فإذا فعلتم ما تقدرون عليه من ذلك؛ فلم تتحصلوا على خبر يقين، فقد ذكر الفقهاء حكم ما إذا اشتبهت الأشهر على أسير أو مطمور أو بمفازة ونحوها، فإنه يتحرى ويجتهد في معرفة شهر رمضان وجوبا، كاستقبال القبلة. فإن وافق الشهر، أو بعده أجزأه صيامه. وإن وافق قبله لم يُجزئه. نص عليه الإمام أحمد؛ لأنه أتى بالعبادة قبل وقتها، فلم يُجزئه، كالصلاة (690) .
فعلى هذا، إن سبقتم رمضان بيوم فعليكم قضاؤه. وإن تأخرتم عنه بيوم أجزأكم فعله قضاء، إلا أن يوافق يوم العيد، أو أيام التشريق، فلا يجزئ صيامها، بل ولا يحل. واللَّه أعلم. وصلى اللَّه على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[185] كيف يمسك ويفطر من في ألمانيا ونحوهم؟
يذكر مسلم في ألمانيا أن الشمس لا تطلع عندهم أيام الشتاء مطلقا. وأما في الصيف فالنهار عندهم تسع ساعات فقط. ويسأل: متى يفطرون، ومتى يمسكون؟
الإجابة:
أما الإمساك فقد قال اللَّه تعالى: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (691) فما دام الليل باقيا فلا حرج على من أكل أو شرب. والأصل بقاء الليل. فإذا تبين الفجر لزم الإمساك، مع الاحتياط ببضع دقائق قبل تبين الفجر؛ احتياطا للعبادة.(1/233)
وأما الفطر فالأصل بقاء النهار؛ فلا يفطر حتى يَغْلِبَ على الظن غروب الشمس. ويعرف ذلك بغشيان الظلام، واختفاء الأنوار نسبيا. فإذا غلب على ظن الإنسان ذلك باجتهاده -أو بخبر ثقةٍ- جاز له الفطر.
[186] حكم ثبوت دخول رمضان من طريق الإذاعة
هل يجوز الصيام والفطر على ما يسمعه الإنسان من الإذاعة- مما يقتضي ثبوت دخول الشهر أو خروجه- أم لا بد من صدور الأمر من القاضي بذلك؟
الإجابة:
يجوز للقاضي -أو من يقوم مقامه- إذا تحقق من خبر الإذاعة المحلية إعلانَ دخول الشهر، أو خروجه رسميا، وأن يقرر ثبوت ذلك شرعا، ويأمر الناس بالعمل بمقتضاه، سواء سمعه بنفسه من الراديو، أو ثبت عنده بخبر ثقة عدل،ممن له فَهْمٌ فيما يذاع، وتمييز للإذاعة السعودية من غيرها. ويكتفي بواحد؛ لأن ذلك من باب الخبر والرواية، وليس من باب الشهادة. فإن لم يكن في البلد قاض -ولا من يقوم مقامه- فالأمير المنصوب يقوم بذلك. بعد استشارته مَنْ يثق به من أعيان أهل البلد.
وأما المحلات التي لا يوجد فيها قاض ولا أمير -كبعض القرى الصغار، ومن هم في قصر ناءٍ، أو في بَرِّيّة، ونحو ذلك- فيجوز للإنسان إذا تيقن ما ذكر من الإذاعة، أن يعمل بموجب ما تيقنه. ومن صدّقه من رفقته وغيرهم، ووثق بخبره -جاز له أن يعمل بموجب خبره. ومن لم يصدّقه فلا يلزمه أن يقبل قوله حتى يتيقن ثبوت ذلك.
أما مع وجود القاضي فلا يجوز لأحد أن يفتات، ويطلق الرمي بالرصاص إشعارا بدخول الشهر -بمجرد سماعه الخبر من الإذاعة - لأن ذلك مما يسبب الفوضى بين الناس، وقد يخطئ فهمُ الإنسان، أو تكون الإذاعة التي سمعها غير الإذاعة السعودية، أو غير ذلك. وهذا فيه عدة مفاسد، مع ما فيه من الافتئات على المسئولين. واللَّه الموفق.
[187] حكم الصائم إذا طلع عليه الفجر وهو جنب(1/234)
سائل يسأل عن حكم من أصبح جنبا ولم يغتسل: هل يتم صومه أم لا؟ وعلى فرض الإتمام، فما الموقف الأحسن من حديث أبي هريرة المرفوع "من أدركه الصبح وهو جنب لا يصم" .
الإجابة:
إذا طلع الفجر على من عليه جنابة -وهو يريد الصوم- فليغتسل وليتمَّ صومه، ولا شيء عليه: لا قضاء، ولا غيره؛ لما روى البخاري ومسلم في "صحيحيهما" (692) من حديث عائشة وأم سلمة -رضي اللَّه عنهما-: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله ثم يغتسل ويصوم.
ولمسلم (693) من حديث عائشة التصريح بأنه ليس من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم . وإلى هذا ذهب الجمهور. قال أبو عيسى الترمذي في "جامعه" (694) : العمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم. وهو قول سفيان، والشافعي، وأحمد، وإسحاق.اهـ. وبعد أن ذكر الترمذي عن قوم من التابعين أنهم قالوا: إذا أصبح جنبا يقضي ذلك اليوم. بعد أن ذكر هذا قال: والقول الأول أصح.اهـ.
وعزى الحافظ الحازمي في "الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار" (695) القول بصحة صوم من أصبح جنبا إلى علي، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وأبي ذر، وأبي الدرداء، وابن عباس، وابن عمر، وعائشة -رضي اللَّه عنهم- قال: وهو مذهب مالك، والشافعي، وعامة أهل الحجاز، والثوري، وأبي حنيفة.(1/235)
وأما قول أبي هريرة "من أدركه الصبح وهو جنب فلا يصم" (696) فقد أجيب عنه بعدة أجوبة. الأَوْلى منها: أنه منسوخ؛ لأنه أسلمها. وهو اختيار أبي بكر بن المنذر، فقد روى عنه البيهقي في "السنن الكبرى" (697) . أنه قال: أحسن ما سمعت في هذا أن يكون ذلك محمولا على النسخ؛ وذلك أن الجماع كان في أول الإسلام محرما على الصائم في الليل بعد النوم، كالطعام والشراب، فلما أباح اللَّه الجماع إلى طلوع الفجر صار للجنب إذا أصبح قبل أن يغتسل أن يصوم ذلك اليوم؛لارتفاع الحظر. فكان أبو هريرة يفتي بما سمعه من الفضل بن عباس،على الأمر الأول،ولم يعلم النسخ، فلما سمع خبر عائشة وأم سلمة صار إليه.اهـ.
والخلاصة: أن صوم الجنب الذي أصبح ولم يغتسل صحيح، وليس عليه قضاء، ولا كفارة. وحديث أبي هريرة المسئول عنه منسوخ. واللَّه أعلم.
[188] حكم من مات وعليه قضاء من رمضان
رجل يسأل عمن توفي وعليه أيام من رمضان لم يقضها: فهل يأثم بذلك، وهل يصام عنه أم يُطعَم؟
الإجابة:
الذي توفي وعليه أيام من رمضان لم يقضها: إذا كان ذلك ناشئا عن تفريط، فإنه آثم. ولا يأثم إذا لم يكن مفرطا. والأمر في ذلك واضح.
وأما التكفير عمن مات وعليه شيء من رمضان ولم يقضه، فيتوقف على أن لا يكون تَرْكُهُ القضاءَ لعذر: من مرض، أو كبَر، أو عجز عن الصوم. فإذا كان لعذر من هذه الأعذار فلا شيء عليه في قول أكثر أهل العلم. واستدل ابن قدامة (698) لذلك بأن الصوم حق لله تعالى، وجب بالشرع، مات من يجب عليه قبل إمكان فعله، فسقط إلى غير بدل، كالحج.(1/236)
وإن كان تَرْكُهُ القضاءَ إلى أن مات؛ ناشئا عن التفريط فيه، فالتكفير عنه بالإطعام هو قول أكثر أهل العلم. فممن ذهب إليه من أجلّة الصحابة: عائشة، وابن عمر، وابن عباس -رضي اللَّه عنهم-: أما عائشة -رضي اللَّه عنها- فأخرج البيهقي في "سننه الكبرى" (699) عنها أنها قالت: لا تصوموا عن موتاكم، وأطعموا عنهم. والمراد: صوم قضاء رمضان؛ بدليل ما جاء عنها في رواية أخرى (700) أنها قالت: يُطْعَم عن الميت في قضاء رمضان ولا يصام عنه.
وأما ابن عمر فقد ثبت عنه (701) أنه قال: من مات وعليه صيام شهر رمضان، فليُطْعَمْ عنه مكان كل يوم مسكينا. وروي هذا الحديث عن ابن عمر مرفوعا. ولا يصح رفعه- كما بينه الترمذي في "جامعه" (702) ، والبيهقي في "سننه الكبرى" (703) - إنما هو من قول ابن عمر نفسه.
وأما ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- فأخرج عبد الرزاق في "مصنفه" (704) عنه أنه قال في رجل مات وعليه رمضان، قال: يُطْعَم عنه ثلاثون مسكينا.
وإلى الإطعام عن الميت دون الصيام عنه في هذه الحالة، ذهب مالك، والليث، والأوزاعي،والثوري، والشافعي،وابن عُليّة، وأبو عبيد في الصحيح عنهم، كما نص عليه الموفق ابن قدامة "في المغني" (705) ولا يرد على هذا ما رواه البخاري ومسلم (706) عن عائشة -رضي اللَّه عنها- أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "من مات وعليه صيام، صام عنه وليه" ؛ لأن هذا الحديث إنما يُحمل على النذر؛ لأمرين:
أحدهما: مجيئه مصحوبا به في بعض ألفاظه، كما رواه البخاري (707) عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- أنه قال: جاءت امرأة إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول اللَّه، إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها؟ قال: أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه، أكان يؤدي ذلك عنها؟" قالت: نعم، قال: "فصومي عن أمك" .
والثاني: قول عائشة وابن عباس راويي ذلك الحديث، بقَصْر الصوم على النذر.
ولهذا اختار الإمام أحمد وإسحاق هذا المسلك.(1/237)
فقالا -كما نص عليه الترمذي في الجامع" -: إذا كان على الميت نذر صيام يصام عنه، وإذا كان عليه قضاء رمضان أُطعم عنه. اهـ.
والخلاصة: أن من لم يتمكن من قضاء ما عليه من رمضان؛ لعذر من الأعذار المبيحة للفطر إلى أن مات -لا يأثم، ولا يكفر عنه، ومن تمكن من القضاء، وفرط فيه إلى أن مات يكفر عنه. واللَّه أعلم.
[189] حكم الصوم في السفر
رجل يسأل عن الأفضل للمسافر في رمضان: هل الأفضل له الصيام أم الفطر؟ وعما يروى من الحديث: "من كانت له حمولة تأوي إلى شبع، فليصم رمضان حيث أدركه" : هل هو صحيح؟ ونرجو إيضاح الجواب.
الإجابة:
الأفضل للمسافر في رمضان الفطر، وألا يصوم، سواء لحقه مشقة، أو لا.
وقال بعض أهل العلم بتفضيل الصوم. قال الترمذي في "جامعه" (708) : قال بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم: إنْ وجَدَ قوة فصام، فحسن. وهو أفضل. قال: وهو قول سفيان الثوري، ومالك ابن أنس، وعبداللَّه بن المبارك.اهـ. ويروى عن الإمامين أبي حنيفة والشافعي. ذكره الموفق ابن قدامة في "المغني" (709) قال: ويروى ذلك عن أنس، وعثمان بن أبي العاص.
والقول الأول هو الصحيح. قال الترمذي في "جامعه" : (710) رأى بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم أن الفطر في السفر أفضل، حتى رأى بعضهم عليه الإعادة إذا صام في السفر. واختار أحمد وإسحاق الفطر في السفر.اهـ. ويروى هذا عن ابن عمر، وابن عباس، وقال به: سعيد بن المسيب، والشعبي، وعمر بن عبدالعزيز، ومجاهد، وقتادة، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، كل هؤلاء يقولون: الفطر أفضل، ذكره القرطبي في تفسيره (711) اهـ.
وفي "مسائل الإمام أحمد" لأبي داود -روايته عنه- ما نصه (712) : سمعت أحمد سئل عن صيام رمضان في السفر. فقال: لا يعجبني رمضان ولا غير رمضان. أختار الإفطار في السفر فإن صام أجزأه.اهـ.(1/238)
وأخرج ابن جرير (713) ، وابن أبي حاتم (714) عن ابن عباس - رضي اللَّه عنهما- أنه قال في قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (715) قال: اليُسْر: الإفطار في السفر. والعُسْر: الصوم في السفر.
وعن حمزة بن عمرو الأسلمي أنه قال: يا رسول اللَّه، إني أجد بي قوة على الصيام في السفر، فهل علي جناح؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "هي رخصة من اللَّه تعالى، فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه" . رواه مسلم (716) وقد روى أحمد بن حنبل في "مسنده" وابن خزيمة في "صحيحه" (717) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن اللَّه يحب أن يؤخذ برخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته" .
وأما الحديث الذي أشار إليه السائل، فقد رواه أبو داود (718) عن سلمة بن المُحَبِّق-رضي الله عنه- أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: من كانت له حمولة تأوي إلى شبع فليصم رمضان حيث أدركه" . فهذا الحديث ضعيف. ولا يعارض ما تقدم من النصوص الصحيحة الصريحة. قال النووي في "المجموع" (719) : هو حديث ضعيف. رواه البيهقي (720) وضعفه. ونَقَل عن البخاري تضعيفه، وأنه ليس بشيء.اهـ.
والخلاصة: أن الفطر في السفر لمن لا تلحقه المشقة بالصوم أفضل من الصوم. ومن صام أجزأه صيامه، لكن ليعلم السائل أن هذه المفاضلة إنما هي بالنسبة لمن لم يرغب عن السنة. قال ابن كثير (721) : أما إن رغب عن السنة ورأى أن الفطر مكروه إليه، فهذا يتعين عليه الإفطار، ويَحْرم عليه الصيام والحالة هذه؛ لما جاء في "مسند" الإمام أحمد وغيره (722) عن ابن عمر، وجابر، وغيرهما: "من لم يقبل رخصة اللَّه كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة" . انتهى.(1/239)
وعلى هذه الحالة التي ذكرها ابن كثير حمل الإمام الشافعي كما في "جامع الترمذي" (723) حديث: "ليس من البر الصيام في السفر" (724) قول النبي صلى الله عليه وسلم حين بلغه أن ناسا صاموا فقال: "أولئك العصاة"(725) قال: فوجه هذا إذا لم يحتمل قلبه قبول رخصة اللَّه تعالى. واللَّه أعلم.
[190] حكم تمضمض الصائم لأجل الحر والعطش
هل يجوز للإنسان أن يتمضمض وهو صائم، من غير أن يكون قاصدا الوضوء للصلاة، وإنما حمله على ذلك الحر والعطش؟ وإذا تمضمض في هذه الحال ودخل الماء إلى حلقه -من دون قصد فهل يفطر بذلك أم لا؟ وإذا تمضمض ومَجَّ الماءَ من فمه كله، ولم يبق في فمه شيء من الماء، فبلع ريقه بعد ذلك. وفيه شيء من أثر المضمضة: فهل يفطر بذلك أم لا؟ أفتونا مأجورين.
الإجابة:
الحمد لله وحده. إذا تمضمض الصائم أو استنشق فدخل الماء حلقه -بلا قصد- لم يفطر، ولو زاد على ثلاث مرات، أو بالغ فيهما، وسواء كان ذلك للوضوء، أو عن تنجس فمه بدم ونحوه؛ لأن الماء وصل إلى حلقه بلا قصد فأشبه الغبار إذا طار إلى حلقه بدون قصد. لكن هل يجوز له ذلك أم لا؟
الذي نص عليه الفقهاء -رحمهم اللَّه- أنه يكره للصائم أن يتمضمض، أو يستنشق عبثا من دون سبب،أو إسرافا. وكذلك إذا أصابه حر أو عطش فتمضمض؛ لدفع ذلك فإنه مكروه. نص عليه الإمام أحمد. وقال: يرش على صدره أحبُّ إلي (726)وكذا لو غاص الصائم في ماء فدخل الماء إلى حلقه، لم يفطر؛ لأنه لم يقصده. ولا يكره اغتسال الصائم لحر أو عطش؛ لقول بعض الصحابة: لقد رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصب على رأسه الماء وهو صائم،من العطش أو الحر. رواه أبو داود (727)قال المَجْدُ: ولأن فيه إزالة الضجر من العبادة، كالجلوس في الظلال الباردة.(1/240)
ولو بلع الصائم ريقه بعد ما مج الماء الذي تمضمض به كله، ولم يبق في فمه شيء، أو بلع ما على لسانه من ريق أخرجه -ولو كثر- لم يفطر. وكذا لو بلع قليل ريق عَلِقَ -على نحو درهم- أو خيط أدخله في فمه، ثم أعاده إلى فمه لم يفطر؛ لمشقة التحرز منه. واللَّه أعلم. وصلى اللَّه على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[191] حكم تسوك الصائم إذا وجد طعم السواك في حلقه
إذا تسوك الإنسان وهو صائم في رمضان فوجد شيئا من أثر طعم السواك في حلقه، فبلعه. فهل يؤثر هذا على الصيام أم لا؟
الإجابة:
لقد سئل عن هذه المسألة شيخنا عبد الرحمن بن سعدي -رحمه اللَّه- فأجاب عليها. وإليك نص السؤال والجواب؛ لتظهر الفائدة:
س: إذا استاك وهو صائم؛ فوجد حرارة أو غيرها من طعمه، فبلعه. فهل يضره؟ وإذا أخرج السواك من فمه، وعليه ريق، ثم أعاده وبلعه. فهل يضره؟
وقد أجاب - رحمه اللَّه - بما نصه: لا يضر في الصورتين، كما نص عليه الأصحاب في الأخيرة. وهو ظاهر كلامهم في الأولى. والأمر بالسواك للصائم وإباحته يشمل ذلك كله. فلا بأس به إن شاء اللَّه. انتهى.
[192] هل تؤثر الحقن على الصيام؟
هل يجوز للصائم أخذ العلاج بواسطة ضرب الإبرة، سواء كان في العضل أو في الوريد. وهل يؤثر ذلك على صيامه؟
الإجابة:
الحمد لله. إن كانت الحقنة في العضل، ولم يصل الدواء إلى الجوف، فلا تفطر.فإن وصل الدواء إلى الجوف من ناحية الوريد أو غيره، نظرت: فإن كانت الإبرة من المغذيات، أفطر بها الصائم؛ لأنها وصلت إلى جوفه للتغذية، فأشبهت الطعام والشراب. فإن لم تكن مما يغذي، وإنما هي للدواء، ووصلت إلى الجوف: فقد اختلف العلماء في حكمها، والظاهر أنها من جنس الكحل، والحقنة، ومداواة الجائفة، والمأمومة، ونحوها.(1/241)
وهذه الأشياء أوردها شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه-، وذكر أنها مما تنازع فيه العلماء. قال: والأظهر أنه لا يفطر بشيء من ذلك؛ لأن الدواء الذي يصل إلى المعدة في مداواة الجائفة لا يشبه ما يصل إليها من الغذاء. فالممنوع من ذلك ما يصل إلى المعدة فيستحيل دما، ويتوزع على البدن. والصائم نهي عن الأكل والشرب؛ لأن ذلك سبب التقوي، بخلاف الحقنة، والكحل، ومداواة الجائفة. وليس في الأدلة ما يقتضي أن المفطّر كل ما وصل إلى دماغ أو بدن، أو ما كان داخلا في منفذ، أو واصلا إلى جوف. ومعلوم أن الكحل ونحوه مما تعم به البلوى، كما تعم بالدهن، والطيب، والبخور، والاغتسال. فلما لم يُنه الصائم عن شيء من ذلك دل. على جوازه. وقد كان المسلمون في عهده صلى الله عليه وسلم يُجرح أحدهم، إما في الجهاد، أو في غيره، مأمومةً وجائفة، فلو كان دواؤها يفطر؛ لبين لهم ذلك. فلما لم ينه عنه الصائم، علم أنه لم يجعله من المفطرات.اهـ. ملخصا (728) .
[193] حكم من رأى الهلال فلم تقبل شهادته
سائل يسأل عن رجل رأى هلال رمضان، وتحقق من رؤيته، ثم حضر عند القاضي لإثبات شهادته؛ فلم يقبل القاضي شهادته، وأصبح الناس مفطرين. فهل يلزمه أن يصوم؛ لأنه قد تحقق من رؤية هلال رمضان أم يفطر مع الناس؟ ثم إنه رأى هلال شوال، وتحقق رؤيته،وحضر عند القاضي لإثبات شهادته، فلم يحضر معه شاهد ثان، فأصبح الناس صائمين. فهل يجوز له أن يفطر؛ لأنه متحقق أن ذلك اليوم يوم العيد أم يصوم تبعا للناس؟
الإجابة:
أما بالنسبة لرؤيته هلال رمضان، فإنه يلزمه أن يصوم؛ لأنه قد تحقق أن ذلك اليوم من رمضان، ولا عذر له. وأما القاضي فلا شيء عليه؛ لأنه لم يرفض قبول شهادته إلا عن اجتهاد منه؛ فهو معذور. وكذلك الناس الذين لم يعلموا أنه من رمضان لا شيء عليهم؛ إِذِ استمر جهلهم بالحقيقة.(1/242)
وأما بالنسبة لرؤيته هلال شوال، فإنه لا يجوز له أن يفطر. نص عليه الإمام أحمد. قال في "الإنصاف" (729) : هذا المذهب؛ لحديث: "الفطر يوم يفطر الناس. والأضحى يوم يضحي الناس" . رواه أبو داود، وابن ماجه، والترمذي (730) .
وقال ابن عقيل: يجب الفطر سرا.وحسنه في "الإنصاف" و"الإقناع" ؛ لأنه تَيَقَّنَهُ يوم عيد.وهو منهي عن صيامه. وقال المَجْدُ: لا يجوز له إظهار الفطر إجماعا.واللَّه أعلم.
[194] حكم من رقد مع زوجته وهو صائم فوجد أثر مني
يسأل رجل رقد مع زوجته في فراش واحد وهو صائم في نهار رمضان. فلما انتبه وجد في ثوبه أثر مني، ولا يعلم أنه احتلم، ولا يدري هل هو مس امرأته أم هي مسته أم أنه لم يمسها ولم تمسه. فماذا يجب عليه؟
الإجابة:
عليه الاغتسال؛ لوجوده أثر المني -ولو لم يذكر احتلاما- ويُتم صيامه ذلك اليوم. وما دام يقول: إنه لا يدري أنه مس زوجته، ولا أنها مسته، أو أنه لم يمسها، ولم تمسه فليس عليه قضاء، ولا كفارة؛ لأن الأصل براءة ذمته.
[195] حكم الصائم إذا أخر الغسل الواجب بعد طلوع الشمس
يسأل رجل عمن وطئ زوجته ليلا في رمضان، ونام قبل أن يغتسل، ولم يتيقظ إلا بعد طلوع الشمس. فهل عليه شيء بسبب تأخيره الغسل إلى النهار؟
الإجابة:
ليس عليه شيء بتأخير الغسل إلى النهار؛ لما روى البخاري ومسلم في "صحيحيهما" من حديث عائشة وأم سلمة (731) -رضي اللَّه عنهما -: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله ثم يغتسل، ويصوم. ولمسلم من حديث عائشة (732) التصريح بأنه ليس من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم . وإلى هذا ذهب الجمهور. قال أبو عيسى الترمذي في "جامعه" (733) : العمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم.
وهو قول لسفيان الثوري، والشافعي، وأحمد، وإسحاق. واللَّه أعلم.
[196] الأهلة تعتبر بالرؤية الشرعية(1/243)
بعث رجل يسأل عن قضاء صيام يوم الجمعة، الموافق غرة شوال. وذكر أن بعض الناس قال: يجب قضاؤه؛ لأن الهلال لم يُرَ ليلة السبت ... إلى آخر ما ذكر.
الإجابة:
لا يجب قضاء ذلك اليوم، بل ولا يجوز؛ لأنه قد ثبت ثبوتا شرعيا أنه يوم العيد. وذلك بشهادة رجلين عدلين عند قاضٍ من قضاة المسلمين. وعملُ الناس بذلك في جميع أقطار المملكة وغيرها. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه أبو داود والترمذي (734) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: "الصوم يوم تصومون،والفطر يوم تفطرون،والأضحى يوم تضحون" .
وأما ما زعمه بعض الناس من صغر الهلال، وكونه لم ير ليلة السبت، فقد قال الإمام النووي في "شرح صحيح مسلم" : "باب: بيان أنه لا اعتبار بكبر الهلال وصغره، وأن اللَّه أمده للرؤية فإن غم فليكمل ثلاثين" . وقال أبو وائل شقيق بن سلمة: أتانا كتاب عمر بن الخطاب أن الأهلة بعضها أكبر من بعض. فإذا رأيتم الهلال نهارا فلا تفطروا حتى يشهد رجلان مسلمان أنهما رأياه بالأمس.
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، وانسكوا لها فإن غم عليكم فأكملوا ثلاثين. فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا" (735) .
وفي معنى هذا جملة أحاديث، تُبَيِّنُ أنه لا اعتبار للحساب، ولا لضعف منازل القمر، ولا لكبر الأهلة وصغرها. وإنما الاعتبار الشرعي بالرؤية الشرعية. وإذا عُرِفَ هذا فمعلوم أن الناس صاموا رمضان ليلة الخميس بعد ثبوت الرؤية شرعا بشهادة رجلين عدلين. ولما صاموا تسعة وعشرين يوما وثبتت رؤية هلال شوال شرعا ليلة الجمعة بشهادة رجلين عدلين- لزم الناس الفطر بهذا.
فمن تجاوز ما ثبت شرعا فهو عاصٍ آثم، أو صاحب شكوك ووساوس. وكلاهما قد جانب الصواب. واللَّه الموفق يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
باب ما يفسد الصوم [197] حكم الصائم إذا لمس امرأة فأمذى(1/244)
سائل يسأل عن رجل مس امرأة في رمضان، وهو صائم؛ فأنزل مذيا. هل يجب عليه قضاء أم كفارة أم أن صيامه صحيح، ولا شيء عليه؟
الإجابة:
إذا لمس الرجل الصائم امرأة فأمذى، فسد صومه. هذا الصحيح من المذهب. نص عليه. وعليه أكثر الأصحاب. وقيل. لا يفطر بذلك، اختاره الآجري، وأبو محمد الجوزي، والشيخ تقي الدين. نقله عنه في الاختيارات" قال في الفروع: وهو أظهر. قلت: وهو الصواب. واختار في "الفائق" أن المذي عن لمس لا يفسد الصوم. وجزم به في "نهاية ابن رزين ونظمها" انتهى من "الإنصاف" (736) وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي.
وأما الكفارة فلم يقل بهذا أحد من العلماء. وإنما اختلفوا هل صيامه صحيح ولا قضاء عليه، أم يلزمه القضاء؛ لفساد صومه؟ والراجح -إن شاء اللَّه- أن لا قضاء عليه. وإن قضاه احتياطا فهو أولى، وخروجا من الخلاف. واللَّه أعلم.
باب ما يكره ويستحب في الصوم وحكم القضاء [198] حكم تقدم رمضان بالصيام
يسأل رجل عن حكم تقدم الإنسان بالصيام أياما من شعبان قبل رمضان اجتهادا منه في العبادة: هل يجوز أم لا؟ ويقول: إذا قلتم: إن ذلك لا يجوز. فما الحكمة في المنع منه، مع أنه عمل خير وطاعة لله؟
الإجابة:
الحمد لله. نلخص لك الجواب مما أورده الحافظ زين الدين بن رجب الحنبلي في كتابه "لطائف المعارف" (737) قال: في "الصحيحين" (738) عن أبي هريرة -رضي الله عنه-عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تَقَدّموا رمضان بيوم أو يومين إلا مَنْ كان يصوم صوما فليصمْه" ، وفي رواية (739) : "إلا أن يوافق ذلك صوما كان يصومه أحدُكم" .
وحديث أبي هريرة (740) هذا هو المعمول به في هذا الباب عند جماهير العلماء، وأنه يكره التقدم قبل رمضان بالتطوع بالصيام بيوم أو يومين، لمن ليس له به عادة، ولا سَبَق منه صيام قبل ذلك في شعبان متصلا بآخره.
ولكراهة التقدم ثلاثة معان:(1/245)
أحدها: أنه على وجه الاحتياط لرمضان، فينهى عن التقدم قبله؛ لئلا يزاد في صيام رمضان ما ليس منه، كما نهي عن صيام يوم العيد لهذا المعنى؛ حذرا مما وقع فيه أهل الكتاب في صيامهم، فزادوا فيه بآرائهم وأهوائهم. وخرّج الطبراني وغيره (741) عن عائشة -رضي اللَّه عنها- قالت: إن أناسا كانوا يتقدمون الشهر فيصومون قَبْل النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل اللَّه -عزوجل-: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} (742) ؛ ولهذا نهي عن صيام يوم الشك. قال عمار: من صامه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم (743) .
والمعنى الثاني: أنه للفصل بين صيام الفرض والنفل. فإن جنس الفصل بين الفرائض والنوافل مشروع؛ ولهذا حرم صيام يوم العيد. ونهى النبي صلى الله عليه وسلم أن توصل صلاة مفروضة بصلاة حتى يفصل بينهما بسلام أو كلام. وخصوصا سنة الفجر قبلها، فإنه يُشرع الفصل بينها وبين الفريضة؛ ولهذا يشرع صلاتها في البيت والاضطجاع بعدها. ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يصلي وقد أقيمت صلاة الفجر قال له: "آلصبح أربعا؟" (744) . وفي "المسند" (745) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: افصلوا بينها وبين المكتوبة، ولا تجعلوها كصلاة الظهر" . وفي سنن أبي داود (746) أن رجلا صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فلما سلم، قام يَشْفَع، فوثب عليه عمر، فأخذ بمنكبيه فهزه، ثم قال: اجلس؛ فإنه لم يَهْلِك أهل الكتاب إلا أنه لم يكن لصلاتهم فصل. فرفع النبي صلى الله عليه وسلم بصره. فقال: "أصاب اللَّه بك يا ابن الخطاب" .(1/246)
والمعنى الثالث: أنه أمر بذلك للتَّقَوِّي على صيام رمضان؛ فإن مواصلة الصيام قد تُضْعِف عن صيام الفرض. فإذا حصل الفطر قبله بيوم أو يومين كان أقرب إلى التَّقَوِّي على صيام رمضان. فالفطر بنية التقَوِّي لصيام رمضان. حَسَنٌ لمن أضعفه مواصلةُ الصيام، كما كان عبد اللَّه بن عمرو بن العاص يَسْرُد الفطر أحيانا، ثم يسرد الصوم؛ ليتقوى بفطره على صومه. ومنه قول بعض الصحابة: إني أحتسب نومتي كما أحتسب قومتي. ولربما ظن بعض الجهال أن الفطر قبل رمضان يراد به اغتنام الأكل لتأخذ النفوس حظها من الشهوات قبل أن تمنع من ذلك بالصيام؛ولهذا يقولون: هي أيام توديع للأكل،وتسمى تنحيسا. واشتقاقه من الأيام النحسات.ومن قال: هو تنهيس -بالهاء- فهو خطأ منه. ذكره ابن درستويه النحوي. وذكر أن أصل ذلك مُتَلَقًّى من النصارى، فإنهم يفعلونه عند قرب صيامهم. وهذا كله خطأ، وجهل ممن ظنه.
وربما لم يقتصر كثير منهم على اغتنام الشهوات المباحة، بل يتعدى إلى المحرمات. وهذا هو الخسران المبين. والعياذ باللَّه من ذلك. انتهى.
[199] حكم من شرب ناسيًا في رمضان
كنا في محل،ونحن صائمون في رمضان، فشرب أحد القوم ناسيا، فبادرناه ونبهناه،فكف عن الشرب. فقام رجل من الحاضرين -وكان طالب علم- وقال: لو تركتموه لكان أولى؛ لأن هذا رزق من اللَّه إليه. وأورد حديث: إذا أكل أحدكم أو شرب ناسيا فليتم صومه؛ فإنما أطعمه اللَّه وسقاه" . ولم يذكر لنا هل الحديث صحيح. ولا ذكر من رواه.
الإجابة:
هذه المسألة مما اختلف فيها العلماء. وفيها وجهان في المذهب، حكاهما في "الفروع" وغيره. قال في "تصحيح الفروع" (747) : وأطلقهما في "الرعاية الكبرى" . أحدهما: يلزمه إعلامه. قلت: وهو الصواب،لاسيما الجاهل؛لفطره به على المنصوص، ولأن الجاهل بالحكم يجب إعلامه. والوجه الثاني: لا يلزمه. والصحيح الأول.(1/247)
ولهذه المسألة نظائر منها: لو علم بنجاسة ماء فأراد جاهل به استعماله، فإنه يلزم مَن علمه إعلامه على الصحيح. ومنها لو دخل وقت الصلاة على نائم لزم إعلامه إذا ضاق الوقت. جزم به في "التمهيد".
وهو الصواب. ومنها لو أصابه ماء من ميزاب وسأل، فإنه يلزم الجواب إن كان نجسا. اختاره الأزجي. وهو الصواب. اهـ. من تصحيح الفروع ملخصا.
وأما الحديث الذي أورده طالب العلم، فهو حديث صحيح، رواه البخاري ومسلم وغيرهما (748) عن أبي هريرة مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكنه لا يدل على عدم تنبيهه. وإنما يدل على أنه معفو عنه بذلك، وأن اللَّه هو الذي أطعمه وسقاه. وفي لفظ: "إنما هو رزق ساقه اللَّه إليه" (749) ، وأن صيامه صحيح، لا يفسد بذلك الأكلِ والشرب. واللَّه أعلم.
[200] جواز الفطر للمرأة الحامل إذا خافت على نفسها أو جنينها
أنا امرأة حامل، وثقيلة، ويشق علي صيام رمضان. فهل لي رخصة في أن أفطر؟ وإذا أفطرت فهل يجب علي القضاء أم تجدون لي رخصة بالإطعام؛ لأن الصيام يشق علي، وأنا أم أولاد،وأقوم بشئون المنزل؟
الإجابة:
لا خلاف في أنه يجوز الإفطار للمرأة الحامل، إذا خافت على نفسها، أو على جنينها، أو على نفسها وجنينها معا؛ لقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} (750) قال ابن عباس: كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة وهما يطيقان الصيام أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم مسكينا، والحبلى والمرضع إذا خافتا -يعني: على أولادهما- أفطرتا وأطعمتا. رواه أبو داود (751) . وعن أنس ابن مالك الكعبي أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إن اللَّه عز وجل وضع عن المسافر شطر الصلاة،وعن المسافر والحامل والمرضع الصوم" . رواه الخمسة (752) .
وليس المراد من الخوف مجرد التوهم والتخيل، بل غلبة الظن بلحوق الضرر به، بأمارة، أو تجربة، أو إخبار طبيب مسلم حاذق.(1/248)
وذهب بعض الفقهاء - ومنهم الإمام ابن حزم- إلى وجوب الإفطار عليها في تحقق الضرر عليها، أو على ولدها؛ لسقوط الصوم عنها بذلك.
فعليها الاحتياط لدينها وصيامها وصلاتها وعدم التهاون بذلك لأدنى سبب قد يكون وهميا.
فإذا أفطرت الحامل، فإن كان فطرها لخوفها على نفسها، أو على نفسها وولدها معا فلا يجب عليها غير القضاء؛ لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (753) وإن كان فطرها؛ لخوفها على ولدها -فقط- دون خوف على نفسها، فيجب مع القضاء فدية؛ وهي إطعام مسكين لكل يوم أفطرته من رمضان. وهذه الفدية تجب على ولي الولد. واللَّه أعلم.
[201] فضيلة تأخير السحور
سائل يقول: إذا جاء وقت السحر انسدت شهيتي عن السحور، رغم أني أجاهد نفسي على الأكل؛ رغبة في اتباع السنة، وأحضر مع أهلي وأولادي، وأشاهدهم وهم يأكلون، لكني لا آكل معهم؛ لعدم الشهية. فما ترونه في ذلك؟
الإجابة:
مما يستحب للصائم أن يتسحر، وأن يجعل سحوره آخر الليل قبل الفجر بقليل. هذه السنة المشروعة للصائم؛ لما ورد عن أنس -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تسحروا فإن في السحور بركة" . رواه الجماعة إلا أبا داود (754) ، وروى البخاري (755) عن سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال: كنت أتسحر في أهلي، ثم تكون سرعتي أن أدرك الصلاة مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم .
وأنت ينبغي لك تخفيف العَشاء، والإقلال من الأكل أولَ الليل؛ حتى تشتهيه في آخر الليل؛ لكي تحصل الفضيلة. وليس المراد من السحور أن يملأ الإنسان بطنه من الطعام، بل تحصل الفضيلة، بأكل شيء يسير وقت السحر، وإن قل، وشُرب ما يُتهيأ من لبن أو غيره، ولو كان قليلا من الماء؛ لحديث أبي سعيد: "ولو أن يجرع أحدكم جرعة ماء" . رواه أحمد (756) وفيه ضعف. قاله في "المبدع" . واللَّه أعلم.
[202] حكم تقبيل الرجل زوجته وهو صائم(1/249)
يسأل رجل عن تقبيل الرجل لزوجه في نهار رمضان. ويقول: إنه فيما سبق كان يقبلها أحيانا، فسمع أخيرا من شيخ من مشايخ أهل العلم أن ذلك لا يجوز، وأشكل عليه الأمر. ويطلب الجواب عن ذلك.
الإجابة:
تقبيل الصائم لزوجه مكروه إذا كانت القُبلة تحرك شهوته. فإن قَبَّل ولم يخرج منه شيء -مذي أو مني- فلا شيء عليه؛ ويستدل لذلك بما رواه البخاري ومسلم (757) عن عائشة -رضي اللَّه عنها-: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم، وكان أملككم لإرْبه.وبما رواه النسائي (758) من طريق طلحة بن عبد اللَّه التيمي عن عائشة -رضي اللَّه عنها- أنها قالت: أهوى إلي النبي صلى الله عليه وسلم ليقبلني. فقلت: إني صائمة فقال: "وأنا صائم" .
فإن قيل: هذا خاص به عليه الصلاة والسلام. قلنا: ليس خاصًّا به عليه الصلاة والسلام؛ بدليل ما رواه مسلم في "صحيحه" (759) عن عمر ابن أبي سلمة أنه سأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : أيقبل الصائم؟ فقال له: سل هذه" -لأُمه- فأخبرَتْه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك. فقال: يا رسول اللَّه، قد غفر اللَّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فقال له: "أَمَا واللَّه إني لأتقاكم لله وأخشاكم له" . قال المجد في "المنتقى" (760) : وفيه -أي في هذا الحديث- أن أفعاله صلى الله عليه وسلم حجة. قال النووي: لا خلاف في أن القبلة لا تبطل الصوم إلا إذا أنزل. وقال الموفق ابن قدامة في "المغني" (761) : لا نعلم فيه خلافا. قال: وأما ما روي عن ابن مسعود أنه كان يقول في القبلة قولا شديدا -يعني: يصوم يوما مكانه- فقال ابن القيم في "تهذيب سنن أبي داود" (762) : قال البيهقي: هذا محمول على ما إذا أَنزل. وهذا التفسير من بعض الرواة لا من قول ابن مسعود. اهـ.
فإن حركت القُبلة شهوته فأنزل مَنِيًّا، أفطر بذلك. قال ابن قدامة (763) : بغير خلاف نعلمه. وأشار إلى أن في قول عائشة: وكان أملككم لإِربه. إيماء إلى ذلك.(1/250)
فإن أمذى،ففيه خلاف مشهور بين العلماء: قال أبو حنيفة والشافعي: لا يفطر بالمذي. وروي ذلك عن الحسن والشعبي والأوزاعي. وذهب الإمام أحمد إلى أن ذلك يفطره؛ قال أبو داود في "مسائل" الإمام أحمد (764) : سئل عن الصائم يقبل فيمذي؟ قال: يقضي يوما مكانه. وبه قال الإمام مالك بن أنس.
فأما الحديث الذي رواه أحمد وابن ماجه (765) عن ميمونة مولاة النبي صلى الله عليه وسلم قالت: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل قبل امرأته وهما صائمان. فقال: "قد أفطرا" . فهذا حديث ضعيف. قال ابن القيم في "زاد المعاد" (766) : لا يصح عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم . وفيه أبو يزيد الضِّنِّي، رواه عن ميمونة، وهي بنت سعد. قال الدارقطني: ليس بمعروف، ولا يثبت هذا. وقال البخاري: هذا الحديث منكر، وأبو يزيد رجل مجهول.
وأما الحديث الذي فيه التفرقة بين الشاب والشيخ، فقال ابن القيم (767) : لم يجئ من وجه يثبت، ولا يصح عنه صلى الله عليه وسلم التفريق بين الشاب والشيخ. قال: وأجود ما في الباب حديث أبي داود (768) عن نصر بن علي عن أبي أحمد الزبيري حدثنا إسرائيل عن أبي العنبس عن الأغرّ عن أبي هريرة أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المباشرة للصائم، فرخص له. وأتاه آخر فسأله، فنهاه. فإذا الذي رخص له شيخ، والذي نهاه شاب. وإسرائيل وإن كان البخاري ومسلم قد احتجا به، وبقية الستة،فَعِلَّةُ هذا الحديث أن -بينه وبين الأغر- فيه أبا العنبس العدوي الكوفي، واسمه الحارث بن عُبيد، سكتوا عنه. انتهى كلام ابن القيم.
والحاصل: أن الصائم إذا قبل زوجته فليس عليه شيء، إلاّ إذا خرج منه المني؛ فإنه يفسد صومه، ويقضي يوما مكانه بغير خلاف. وأما إذا خرج منه المذي؛ ففيه خلاف. والراجح أنه يفسد صومه، ويقضي يوما مكانه.(1/251)
والأولى عدم تقبيل الصائم زوجه؛ لأن من فعله فقد تعرض لفساد صومه. والمشهور من المذهب لدى الحنابلة أن صومه يَفْسُد إذا قَبَّلَ، أو لمس زوجته فأمذى. وهو الصحيح من المذهب. نص عليه الإمام أحمد، وعليه أكثر الأصحاب. واللَّه أعلم.
[203] حكم من ذرعه القيء أو استقاء باختياره
إنسان تسحر في رمضان وصام، ولكنه بعدما صلى الفجر اضطربت معدته، وحصل معه شيء في كبده وغثيان. ونتج عن ذلك قيء شديد. ويشك هل رجع إلى بطنه شيء من القيء بعدما وصل إلى فمه أم لا، ولكنه تمضمض ولزم الصيام. فهل يجزئه صوم يومه هذا أم يلزمه قضاؤه؟
الإجابة:
إذا ذرعه القيء من دون اختياره فلا شيء عليه، وصومه صحيح. هذا المذهب وفاقًا للأئمة الثلاثة. ولو عاد شيء من القيء إلى جوفه بغير اختياره؛ لأنه كالمكره. وإنما الذي يُفطر، تَعَمُّدُ الإنسانِ القيءَ، بعلاج أو غيره؛ لما ورد في حديث أبي هريرة مرفوعا: "من ذرعه القيء فليس عليه قضاء ومن استقاء عمدا فليقض" . رواه الخمسة والدارقطني (769) ، وإن كان في صحته نظر.
ومعنى ذرعه القيء" : أي غلبه القيء، فلم يملك التغلب عليه. ومعنى "استقاء" : أي استدعى خروج القيء برغبته.
فهذا الذي يفسد صومه. ويجب عليه الإمساك ذلك اليوم، وقضاء يوم بدله. واللَّه أعلم.
[204] حكم السواك للصائم بعد الزوال
سائل يسأل عن حكم السواك للصائم، وهل هناك فرق بين تسوكه أول النهار وآخر النهار، وما الحد الفاصل بين أول النهار وآخره؟
الإجابة:(1/252)
السواك سنة مؤكدة للصائم وغيره؛لحث الشارع ومواظبته عليه، وترغيبه فيه،وندبه إليه. ومن أدلة ذلك ما روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "السواك مطهرة للفم مرضاة للرب" . رواه الشافعي وأحمد وابن خزيمة والبخاري تعليقًا (770) ، ورواه أحمد عن أبي بكر (771) ،وابن عمر (772) ، ولحديث عامر بن ربيعة: رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم -ما لا أحصي- يتسوك وهو صائم" . رواه أحمد وأبو داود والترمذي. وقال: حديث حسن، ورواه البخاري تعليقًا (773) .
وعن عائشة قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "من خير خصال الصائم السواك" . رواه ابن ماجه. وسنده ضعيف (774) .
لكن استثنى الفقهاء من عموم هذه الأحاديث الصائم بعد الزوال. فقالوا: إنه لا يسن له السواك بعد الزوال. واستدلوا بحديث علي -رضي الله عنه- أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صمتم فاستاكوا بالغداة ولا تستاكوا بالعشي" . رواه البيهقي (775) وحديث أبي هريرة يرفعه: "لخلوف فم الصائم أطيب عند اللَّه من ريح المسك" . متفق عليه (776) والخلوف هو: رائحة الفم عند خلو المعدة من الطعام. وهو إنما يظهر غالبًا بعد الزوال. فوجب اختصاص الحكم به. هذا المشهور من المذهب. والرواية الثانية عن الإمام أحمد: أنه يسن للصائم مطلقًا، أي: قبل الزوال وبعده، باليابس وبالرطب. اختاره الشيخ وجَمْعٌ. وهو أظهر دليلًا؛ لعموم ما سبق، ولأن حديث علي -رضي الله عنه-صريح غير صحيح، وحديث أبي هريرة صحيح غير صريح. واللَّه أعلم.
[205] حكم من لم ينو الصيام من الليل
رجل أصبح أول يوم من رمضان، لم يأكل ولم يشرب ونوى الصيام، ولكنه لم ينو إلا بعد صلاة الفجر وبعدما أسفر، وسمع بدخول رمضان. فهل يجزئه صيامه هذا؟
الإجابة:
لا يكفيه إمساكه ذلك اليوم، ولا يجزئه صيامه، بل يلزمه القضاء عند الجمهور؛ لحديث: "لا صيام لمن لم يفرضه من الليل" (777) . وهو الأحوط.(1/253)
[206] حكم نوم الرجل مع زوجته نهار رمضان
هل يجوز للرجل أن ينام مع زوجته في فراش واحد بعد صلاة الفجر في رمضان، وهو صائم؟
الإجابة:
الأصل في هذا الجواز، لكن إذا كان الرجل شابًّا، وخشي أن تتحرك شهوته إذا نامت معه زوجته فيخرج منه شيء يخل بصيامه، فلا ينبغي له أن ينام معها، وهو صائم.
[207] حكم الصائم يذوق الطعام للحاجة
سائل يسأل عن حكم ذوق الطعام للصائم، إذا أراد من يطبخه أن يتذوق طعم ملحه، ونحوه.
الإجابة:
المنصوص أنه يكره ذوق الطعام؛ لأنه لا يأمن أن يصل إلى حلقه فيفطره. قال الإمام أحمد (778) : أحب للصائم أن يجتنب ذوق الطعام، فإن فعل فلا بأس. فإن احتاج الصائم إلى ذوق الطعام، فلا بأس به للحاجة والمصلحة. وحكاه البخاري (779) عن ابن عباس، وكالمضمضة؛ لأن الفم في حكم الظاهر، وعليه أن يستقصي في البصق. فإن وجد طعمه في حلقه أفطر؛ لأنه أوصله إلى جوفه، وإلا فلا. واللَّه أعلم.
[208] حكم من جامع في الثلاثين من شعبان فتبين أنه من رمضان
من جامع يوم الثلاثين من شعبان، معتقدًا أنه ليس من رمضان، ثم بعد ذلك جاء الخبر بأنه من رمضان. فهل تلزمه الكفارة؛ مع اعتقاده أن الوطء حلال له في تلك الساعة؟
الإجابة:
المشهور من المذهب أن عليه الكفارة؛ عتق رقبة مؤمنة سليمة من العيوب المضرة بالعمل. فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين. فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا، لا فرق في ذلك بين العالم والجاهل، والذاكر والناسي.
والقول الآخر: أن لا كفارة عليه. وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية (780) -رحمه اللَّه- وبناه على أصل؛ وهو أن الشرائع لا تَلزم العبدَ إلا بعد العلم. واستدل لذلك بقصة تحويل القبلة، والرجل الذي أتى أهل قباء وهم يصلون إلى بيت المقدس. والقصة مشهورة (781) . واللَّه أعلم.
[209] حكم إحياء ليلة النصف من شعبان وصيام يومها(1/254)
سائل يسأل عما ورد في فضل ليلة النصف من شعبان، وعن حكم إحيائها بالصلاة، والذكر، والدعاء. هل هو مشروع أم لا، سواء فعل ذلك جماعة أو أفراد، وعن حكم الصيام يوم النصف من شعبان وحده؟
الإجابة:
ورد في فضل ليلة النصف من شعبان أحاديث متعددة. يقول الحافظ ابن رجب في كتابه "لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف" (782) : اخْتُلِفَ فيها فضعفها الأكثرون، وصحح ابن حبان بعضها، وخرجه في "صحيحه" .
ومن أَمْثَلِها: حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-. قالت: فقدتُّ النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فخرجت أطلبه، فإذا هو بالبقيع، رافعًا رأسه إلى السماء. فقال: أكنت تخافين أن يحيف اللَّه عليك ورسوله؟" فقلت: يا رسول اللَّه، ظننت أنك أتيت بعض نسائك. فقال: "إن اللَّه -تبارك وتعالى- ينزل ليلة النصف من شعبان إلى السماء الدنيا، فيغفر لأكثر من عدد شعر غنم كلب" . خرّجه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه (783) ، وذكر الترمذي عن البخاري أنه ضعفه.
وخرج ابن ماجه (784) - بسند ضعيف- من حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن اللَّه ليطلع في ليلة النصف من شعبان، فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن" .
وخرج الإمام أحمد (785) من حديث عبد اللَّه بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن اللَّه ليطلع إلى خلقه ليلة النصف من شعبان، فيغفر لعباده، إلا اثنين، مشاحن، أو قاتل نفس" . وخرجه ابن حبان في "صحيحه" (786) من حديث معاذ، مرفوعًا.
ويروى من حديث عثمان بن أبي العاص، مرفوعًا: "إذا كان ليلة النصف من شعبان، نادى مناد: هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فأعطيه؟ فلا يسأل أحد شيئًا إلا أعطي، إلا زانية بفرجها، أو مشرك" (787) .
قال ابن رجب: وفي الباب أحاديث أخرى، فيها ضعف.اهـ.(1/255)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم" : وقد روي في فضلها - أي ليلة النصف من شعبان - من الأحاديث المرفوعة والآثار ما يقتضي أنها ليلة مفضلة.
قال: ومن العلماء من السلف من أهل المدينة وغيرهم مِن الخلف مَن أنكر فضلها، وطعن في الأحاديث الواردة فيها كحديث: "إن اللَّه يغفر فيها لأكثر من عدد شعر غنم بني كلب" . وقال: لا فرق بينها وبين غيرها، لكن الذي عليه كثير من أهل العلم -أو أكثرهم من أصحابنا وغيرهم- على تفضيلها. وعليه يدل نص أحمد؛ لتعدد الأحاديث الواردة فيها، وما يُصَدِّقُ ذلك من الآثار السلفية. وقد روي بعض فضائلها في "المسانيد" و"السنن" ، وإن كان قد وضع فيها أشياء أخرى. اهـ.
قلت: ومما وضع فيها: تفسير الليلة المباركة في قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} (788) بأنها ليلة النصف من شعبان، فإن هذا مخالف لقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ} (789) ، وقوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (790) .
أما تخصيص ليلة نصف شعبان بالصلاة والذكر، ففي "لطائف المعارف" (791) لابن رجب أنه لم يثبت فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا عن أصحابه، وإنما يثبت عن بعض التابعين من أهل الشام كخالد بن معدان، ومكحول، ولقمان بن عامر، وغيرهم: أنهم كانوا يعظمونها، ويجتهدون فيها في العبادة.
قال ابن رجب: وعنهم أخذ الناس فضلها وتعظيمها. وقد قيل: إنه بلغهم في ذلك آثار إسرائيلية. فلما اشتهر ذلك عنهم اختلف الناس في ذلك. فمنهم من قبله ووافقهم على تعظيمها: منهم طائفة من عبّاد أهل البصرة وغيرهم. وأنكر ذلك أكثر علماء الحجاز، منهم عطاء وابن أبي مليكة. ونقله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن فقهاء أهل المدينة. وهو قول أصحاب مالك وغيرهم. وقالوا: ذلك كله بدعة. واختلف علماء أهل الشام في صفة إحيائها على قولين:(1/256)
أحدهما: أنه يستحب إحياؤها جماعة في المسجد. كان خالد بن معدان، ولقمان بن عامر، وغيرهما يلبسون فيها أحسن ثيابهم، ويتبخرون، ويكتحلون، ويقومون في المسجد ليلتهم تلك. ووافقهم إسحاق بن راهويه على ذلك، وقال في قيامهم في المساجد جماعة: ليس ذلك ببدعة. نقله عنه حرب الكرماني في مسائله.
والثاني: أنه يكره الاجتماع فيها في المساجد للصلاة والقصص والدعاء، ولا يكره أن يصلي الرجل فيها لخاصة نفسه. وهذا قول الأوزاعي -إمام أهل الشام وفقيههم وعالمهم- وهذا هو الأقرب إن شاء اللَّه تعالى. اهـ. من "لطائف المعارف" .
قلت: وقول الأوزاعي هو الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية. ففي "الاختيارات" (792) ما نصه: كان من السلف من يصلي فيها، لكن الاجتماع فيها لإحيائها في المساجد بدعة، وكذلك الصلاة الألفية.
وأما صيام يوم النصف من شعبان وحده، فمكروه. قال شيخ الإسلام في "الاقتضاء" : أما صوم يوم النصف مفردًا فلا أصل له، بل إفراده مكروه، وكذلك اتخاذه موسما تُصنع فيه الأطعمة، وتظهر فيه الزينة: هو من المواسم المحدثة المبتدعة التي لا أصل لها. وكذلك ما قد أحدث في ليلة النصف من شعبان من الاجتماع العام للصلاة الألفية في المساجد الجامعة ومساجد الأحياء والدور والأسواق، فإن هذا الاجتماع لصلاة نافلة مقيدة بزمان وعدد وقدر من القراءة مكروه لم يشرع، فإن الحديث الوارد في الصلاة الألفية موضوع باتفاق أهل العلم بالحديث، وما كان هكذا لا يجوز استحباب صلاة بناء عليه. اهـ. وكلام أهل العلم في هذا كثير.
والخلاصة: أن ليلة نصف شعبان لها فضل؛ نظرا لتعدد ما جاء فيها من الأحاديث المرفوعة والآثار السلفية، وأن إحياءها بالصلاة والذكر لا بأس به للرجل في خاصة نفسه بدون اجتماع لذلك. أما ما أُحْدِثَ فيها سوى ذلك مما تقدم ذكره فبدعة. واللَّه أعلم.
كتاب المناسك [210] لا يجوز أن يحج عن اثنين جميعا في حجة واحدة(1/257)
سائل يسأل عن إنسان أراد الحج عن والديه بعد وفاتيهما. فهل يصح إحرامه بالحج عنهما جميعا أم لا؟ وإذا كان لا يصح فأيهما الذي يقدم على الآخر؟
الإجابة:
لا يجوز للإنسان أن يحج عن اثنين حجة واحدة، سواء والديه أو غيرهما، حيث لم ينقل التشريك في الحج كما نقل في الأضحية ونحوها. قال في "الفروع" (793) : وإن أحرم عن اثنين وقع عن نفسه؛ لأنه لا يمكن عنهما، ولا أولوية، وكإحرامه عن زيد ونفسه، وكذا إن أحرم عن أحدهما لا بعينه؛ لأمره بالتعيين... ويضمن ويؤدَّب من أخذ من اثنين حجتين ليحج عنهما في عام؛ لفعله محرما، نص عليه... وإن أحرم عن أحدهما بعينه ولم ينسه، صح، ولم يصح إحرامه للآخر بعده. نص عليه.اهـ.
فعلى هذا لك أن تحج عن أحدهما سنة، وعن الآخر سنة أخرى. وإن أردت أن تحرم بالعمرة عن أحدهما؛ فإذا فرغت منها أحرمت بالحج عن الآخر؛ فلا بأس.
وأما تقديم أحدهما على الآخر، فلا يخفى أن حق الأم مقدم؛ فهي أولى بالبر والصلة والإحسان. إلا أنه إذا كانت الأم قد حجت فريضتها والأب لم يحج فريضته، فينبغي تقديم فريضة الأب على نافلة الأم.
أما لو حج الإنسان نفلا عن نفسه ثم بعد تمام حجته جعل ثوابها لوالديه ونحوهما؛ فإنه غير ممنوع فيما يظهر. صرح به في "رد المحتار" لابن عابدين الحنفي (794) ذكره الشيخ عبد اللَّه بن جاسر في "مفيد الأنام" . واللَّه أعلم.
[211] إذا مات مَحْرَمُ المرأة بطريق الحج فهل ترجع أو تستمر؟
إذا حجت المرأة مع محرمها، وقدر اللَّه على محرمها فتوفي في أثناء الطريق، وليس لها محرم غيره. فهل تستمر في سفرها للحج وتؤدي مناسك الحج بدون محرم أم يلزمها أن ترجع إلى بلدها، مع أنها لا تجد محرما يوصلها لبلدها؟
الإجابة:(1/258)
إذا مات محرمها قريبا من بلدها، وأمكنها الرجوع بلا مشقة- رجعت إلى بلدها. وإن كان موته في موضع بعيد عن بلدها، فإنها تستمر في سفرها للحج؛ لأنها لا تستفيد برجوعها شيئا؛ لأنها لو رجعت إلى بلدها فإنها سترجع بدون محرم؛ فلهذا ينبغي لها أن تستمر في سفرها للحج، لاسيما إذا كانت مع رُفقة مأمونة، وستبقى معهم مصونة حتى ترجع. قال في "مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى" للشيخ مصطفى السيوطي الرحيباني: وإن مات محرم سافرت معه في الطريق وكان بعيدا عن وطنها مضت في حجها؛ لأنها لا تستفيد برجوعها شيئا؛ لأنه بغير محرم، ولم تعد محصورة؛ إذ لا تستفيد برجوعها زوال ما بها كالمريض. وإن مات المحرم قريبا، فعليها أن ترجع؛ لأنها في حكم العاجزة. وإن كان المحرم زوجا، فيأتي فى كتاب "العِدد" أنه إن مات قبل أن تحرم: فإن كان دون مسافة قصرٍ اعتدت بمنزله، وبعدها تُخيَّرُ بين مضي ورجوع. انتهى.
[212] لا يحج النافلة إلا بإذن والديه
رجل له رغبة في الحج هذه السنة مع زملائه. ولم يسمح له أبوه في الحج هذه السنة، وهو لا يحب أن يعصي والده. فهل يجوز لأبيه منعه من الحج أم لا؟ وهل يصح له أن يحج بدون إذن أبيه أم لا؟ مع أن بيده من النقود ما يكفيه لنفقات الحج وغيره، يعني ليس على أبيه خسارة من نفقة حجه.
الإجابة:
إن كان الابن لم يحج فريضة الإسلام وقصْدُه الآن حجَّ فريضة الإسلام- فلا يجوز لأبيه منعه من الحج، ولو منعه جاز له أن يحج بدون إذنه؛ لأن الحج على الفور، وتركه معصية، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.(1/259)
وإن كان حَجُّه تطوعا، فلا يجوز له الحج إلا بإذن أبيه- ولو لم يكن لأبيه به حاجة، أو لم يخش عليه ضررا-؛ لأن حق الوالد عظيم. وقد قرن اللَّه حقه بحق الوالدين، وأوجب على الولد الإحسان إليهما. ومن ذلك ألا يسافر إلا بإذنهما. لكن ينبغي للأب أن يتسامح مع ابنه ويأذن له بالحج ما لم يكن ضرر يحذره الأب، أو يكن للأب حاجة بابنه تستدعي بقاءه، أو يكن هناك ظروف وملابسات توجب عدم السفر للحج هذه السنة. فإن لم يكن شيء مما ذكر، فينبغي للأب أن يأذن لابنه؛ تطييبا لنفسه، ولما في الحج من المصالح والمنافع المتعددة. قال ابن أبي عمر في "الشرح الكبير" (795) : (فصل) وليس للوالد منعُ ولده من حج الفرض والنذر، ولا تحليله من إحرامه. وليس للولد طاعته في تركه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" (796) . فأما التطوع فله منعه من الخروج؛ لأن له منعه من الغزو- وهو من فروض الكفايات- فالتطوع أولى. فإن أحرم بغير إذنه لم يملك تحليله؛ لأنه وجب بالدخول فيه، فصار كالواجب ابتداء، أو كالنذر.اهـ.
وقال في "مطالب أولي النهى" (797) : ولكل من أبوي بالغٍ منعه من إحرامٍ بنفلٍ -حج أو عمرة- ولا يحللانه إذا أحرم، وتحرم طاعتهما -أي والديه- في معصية: كترك حج وسفر لعلم واجبين؛ لحديث: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" . وليس لهما منعه من سنة راتبة على الأصح. قال أحمد فيمن يتأخر عن الصف الأول لأجل أبيه: لا يعجبني، هو يقدر يَبَرُّ أباه في غير هذا.
ووقع خلاف بين الأصحاب في وجوب طاعتهما في المباح: كالبيع والشراء والأكل والشرب. فقيل: يلزمه طاعتهما فيه، ولو كانا فاسقين. هذا ظاهر إطلاق الإمام أحمد. فعلى هذا لا يسافر لنحو تجارة إلا بإذنهما. وقال الشيخ تقي الدين (798) : هذا -أي وجوب طاعتهما- فيما فيه منفعة لهما، ولا ضرر عليه، فإن شق عليه ولم يضره وجب، وإلا فلا.(1/260)
ويتوجب صحة هذا القول -أي وجوب طاعتهما- في المباح في سفره، وفي كل ما يخافان عليه منه: كسباحة في ماء كثير، ومسابقةٍ على نحو خيل. وهذا اتجاه حسن.
وأما ما يفعله الحر البالغ حضرا: كصلاة النافلة ونحو ذلك من المستحبات الشرعية. فقال ابن مفلح في "الآداب" (799) : لا يُعتبر فيه إذنُهما، ولا أظن أحدا يعتبره، ولا وجه له قطعا، والعمل على خلافه. انتهى ما قاله في "الآداب" . وهو صحيح بلا ارتياب. انتهى. وفي "الاختيارات" (800) : ويلزم الإنسان طاعة والديه في غير المعصية، وإن كانا فاسقين. وهو ظاهر إطلاق الإمام أحمد -رحمه اللَّه-.انتهى. واللَّه أعلم.
[213] الصدقة بنفقة الحج علىأقاربه المحتاجين أفضل من حج النافلة
رجل له أقرباء - أولاد أخته، أو هم أولاد خالته- يتامى، توفي أبوهم. وهم فقراء، ويريد الحج. فقلنا له: تصدق بنفقة الحج على هؤلاء الأيتام أفضل لك. فأبى وصمم على الحج. والسؤال: أيهما أفضل: الحج أو التصدق بنفقته على قرابته وذوي رحمه الفقراء؟ نرجوكم الإفادة مشكورين.
الإجابة:
إن كان الرجل قد حج فريضة الإسلام، وكان قرابته بهذه الصفة التي ذكرتم، فينبغي له أن يتصدق عليهم بهذه النفقة؛ فهي أفضل وأعظم أجرا. ومن ترك شيئا لله عوضه اللَّه خيرا منه. وقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية -يرحمه اللَّه- على معنى هذا.
قال في "الاختيارات" (801) : والحج على الوجه المشروع أفضل من الصدقة التي ليست واجبة. وأما إن كان له أقارب محاويج، فالصدقة عليهم أفضل. وكذلك إن كان هناك قوم مضطرون إلى نفقته. فأما إذا كان كلاهما تطوعا فالحج أفضل؛ لأنه عبادة بدنية مالية، وكذلك الأضحية، والعقيقة أفضل من الصدقة بقيمة ذلك، لكن هذا بشرط أن يقيم الواجب في الطريق، ويترك المحرمات، ويصلي الصلوات الخمس،ويصدق الحديث،ويؤدي الأمانة،ولا يعتدي على أحد. انتهى.
[214] حكم من انتدب لمكة وحج أو اعتمر(1/261)
أنا موظف عادي، وانتدبت هذا العام إلى مكة، فحججت واعتمرت، وأخذت بدل انتداب. وبعدما رجعت من الحج قال لي جارنا: إن حجتك غير صحيحة -أو قال: غير كاملة- فناقشته عن دليله على ذلك. فقال: أنت لولا انتدابك ما حججت؛ فأنت حاج لأجل الانتداب. وقد أهمني هذا؛ لأني سوف أُنتدب السنة المقبلة مثل العام الماضي، وأحببت أن أسأل فضيلتكم فأجيبونا مشكورين .
الإجابة:
إن كانت نيتك من السفر إلى مكة هو قبض بدل الانتداب -فقط- ولم تقصد غيره، فليس لك إلا ما نويت. وإن كنت نويت أن اللَّه لما هيأ لك السبب الذي يوصلك إلى بيت اللَّه، وقصدت الحج، والعمرة، والطواف، والتقرب إلى اللَّه بأنواع العبادات، وصلحت نيتك -فحجك صحيح- إن شاء اللَّه- وهذه فرصة ساقها اللَّه لك، إذا انتهزتها حصّلت فيها خيرا كثيرا مع صلاح النية.
ومما يستدل به لما ذكرناه حديث أبي أُمامة التميمي. قال: كنت رجلا أُكري في هذا الوجه يعني طريق الحج. وكان ناس يقولون: إنه ليس لك حج. فلقيت ابن عمر -رضي الله عنه- فقلت: إني أكري في هذا الوجه، وإن ناسا يقولون: ليس لك حج. فقال ابن عمر: أليس تُحرم وتلبي وتطوف بالبيت وتُفيض من عرفات وترمي الجمار؟ فقلت: بلى. قال: فإن لك حجا؛ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله مثل ما سألتني، فسكتَ عنه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فلم يجبه حتى نزلت الآية {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} (802) فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ عليه هذه الآية وقال: "لك حج" . رواه الدارقطني وأحمد وغيرهما (803) . وإسناده جيد. واللَّه أعلم.
[215] حجة الوداع
سائل يسأل: كم مرة حج النبي صلى الله عليه وسلم ، ومتى كانت حجة الوداع، ولم سميت حجة الوداع، وهل حج مفردا أم متمتعا أم قارنا، وكم حج معه يومئذ من المسلمين؟
الإجابة:(1/262)
لم يحج النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته من مكة إلى المدينة إلا حجة واحدة؛ وهي حجة الوداع. ولا خلاف بين العلماء أنها كانت سنة عشر من الهجرة. وسميت بذلك؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ودع الناس فيها. وقال: "لعلكم لا تلقوني بعدها" (804) . وقال: "ليبلغ الشاهد الغائب" (805) . وأما نسكه يومئذ، فكان صلى الله عليه وسلم قارنا. قال الإمام أحمد (806) : لا شك أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنا. والمتعة أحب إلي. انتهى.
وأما الذين حجوا معه، فقيل: إنهم مائة ألف. وقيل: مائة وأربعة عشر ألفا. وقيل: أقل. وقيل: أكثر. حكاه البيهقي وغيره (807) . واللَّه أعلم.
[216] حكم حج من لم يُعَقّ عنه
رجل أراد أن يحج غير أنه لم يتمم له، يعني لم يُعَقَّ عنه، ولم تذبح له عقيقة بعد ولادته. والعوام يقولون: الذي لم يتمم له لا يصح حجه. فهل هذا صحيح؟
الإجابة:
يجوز حج من لم يُعَقَّ عنه. وحجه صحيح، تام، لا نقص فيه، كما يجوز الحج عنه. وكلام العوام الذين يقولون: من لم يتمم له لا يصح حجه -كلام لا دليل عليه، ولا يُلتفت إليه.
[217] وجوب الحج على النساء
سائل بعث يسأل عن الدليل من القرآن على وجوب الحج على النساء، حيث لم يجد -كما زعم - آية قرآنية تدل على وجوب الحج على النساء كما على الرجال.
الإجابة:
الحج ركن من أركان الإسلام الخمسة. ووجوبه على المستطيع من الرجال والنساء على حد سواء، في العمر مرة واحدة. ودليله من القرآن قوله تعالى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (808) . والآية الكريمة دلت بمنطوقها على وجوب الحج على المستطيع من الناس -رجالهم ونسائهم- وكل ما جاء في القرآن بلفظ {يأيها الناس} أو {لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ} فالخطاب للرجال والنساء جميعا كما هو معلوم من تفاسير أهل العلم. واللَّه أعلم.
[218] حج التطوع تكمل به الفريضة(1/263)
رجل حج فرضه، وهو جاهل لا يعرف أحكام المناسك، ورأى أنه أخطأ في حجته هذه كثيرا، ويرغب في إعادة الحج؛ لتصحيح الأخطاء التي وقعت في فريضته. فهل يجوز ذلك؟
وإذا فعل هذا، فهل تكون حجته الثانية فرضا أم نفلا؟
الإجابة:
ورد في الحديث: "الحج مرة، فمن زاد فهو تطوع" (809) - أو كما قال صلى الله عليه وسلم -. فعلى هذا، تكون الفريضة هي الأولى، ما لم يتحقق أن هناك مبطلا للحج- أو مفسدا له- بيقين. وأما الشكوك فلا أثر لها بعد الفراغ من العبادات كلها. صرح بذلك الفقهاء -رحمهم اللَّه-.
وعلى هذا، فإذا أراد الحج تطوعا. فلا بأس. ويحصل له مقصوده من تكميل فريضته. فقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية (810) أن نفل الصلاة تكمل به الفرائض يوم القيامة إن كان وقع بها خلل، وكذلك الصيام والزكاة والحج، وورد في ذلك حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم (811) . واللَّه الموفق.
باب المواقيت [219] حكم تجاوز الميقات بلا إحرام
من أراد السفر إلى مكة لقضاء حاجة دون أن يقصد الحج أو العمرة، فهل يلزمه أن يحرم بالعمرة إذا وصل الميقات أم لا؟
الإجابة:
المشهور من المذهب: أنه لا يجوز لمن قصد مكة مجاوزة الميقات بلا إحرام مطلقا، سواء قصدها لنسك الحج، أو العمرة، أو لغير نسك، كمن قصد التجارة، أو جاءها لكونها وطنه، أو لزيارة أقاربه فيها، أو لاستقضاء حق له عند غريمه، أو غير ذلك.(1/264)
والقول الآخر: أنه لا يلزم الإحرام إلا لمن أراد الحج أو العمرة. واستدل القائلون بهذا بحديث المواقيت، وقوله صلى الله عليه وسلم : "هن لهن، ولمن أتى عليهن، من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة" (812) . فيفهم من قوله عليه السلام "ممن أراد الحج والعمرة" أن من لم يُرِدْهُما لا يكون له ميقات؛ فلا يلزمه الإحرام. وهو رواية عن الإمام أحمد. ذكرها القاضي أبو يعلى، وجماعة، وصححها أبو الوفاء بن عقيل، واستظهرها ابن مفلح في "الفروع" (813) . قال الموفق في "المغني" (814) : لأن الوجوب من الشرع، ولم يرد من الشارع إيجاب ذلك على كل داخل؛ فبقي على الأصل. انتهى. وهو الصحيح من مذهب الشافعية. وروي عن ابن عمر أنه دخلها بغير إحرام. واللَّه أعلم.
باب الإحرام والتلبية وما يتعلق بهما [220] حكم الإحرام بالطائرة
سائل يسأل عن الإنسان إذا حج من الرياض، فهل له رخصة بتأخير الإحرام حتى يصل جدة؛ لأن ذلك أرفق به من إحرامه بالطائرة، وإن لم تكن له رخصة، فكيف يحرم بالطائرة؟ ومتى يحرم؟ وهل يحرم في مطار الرياض؟ وهل يجزئه إذا اغتسل في بيته بالرياض؛ لأنه لا يتمكن من الاغتسال بالطائرة؟
الإجابة:
الحمد لله وحده. وبعد: فلا يجوز لمن أراد الحج أو العمرة أن يتجاوز الميقات بلا إحرام، سواء كان راكبا طائرة أو سيارة. فمن تجاوز الميقات بلا إحرام، فأحرم مِن دونه- فعليه دم، سواء أحرم من جدة، أو من غيرها.(1/265)
وأما الاغتسال: فالأولى له أن يغتسل ويتنظف في بيته قبيل إقلاع الطائرة، ويجعل ملابس إحرامه قريبة التناول، فإذا حاذى الميقات -وهو: قرن المنازل، المسمى: السيل- أو قبل محاذاته بقليل، خلع ثيابه، ولبس ملابس الإحرام، ثم صلى ركعتين وهو في مركبه بالطائرة، يومئ إيماء، ويجعل سجوده أخفض من ركوعه؛ لأن من سنن الإحرام وقوعه بعد صلاة، سواء كانت فرضا أو نفلا، ولأنه صلى الله عليه وسلم أَهَلَّ دبر صلاة. رواه النسائي (815) . فإذا فرغ من صلاة الركعتين نوى الإحرام، وقرر في نفسه أنه دخل بالنسك، ودعا بالدعاء الوارد، ولبى بقوله: "لبيك اللَّهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك" . وإن لم يتمكن من صلاة ركعتي الإحرام فلا بأس؛ لأنها سنة، وليست واجبة. وبعض العلماء يقول: إن صلاة ركعتي الإحرام غير مشروعة. فإن صادف صلاة فريضة أحرم بعدها، وإلا أحرم بدون صلاة ركعتين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أحرم بعد صلاة الفريضة. واللَّه أعلم.
[221] حكم من أراد الإحرام بالنسك فلم يجد ملابس الإحرام
رجل ركب الطائرة، ونسي ملابس إحرامه في الحقيبة؛ فلم يتمكن من إحرامه. فقال له بعض رُفقته: لو أخرت الإحرام حتى تصل جدة؛ لأنه ليس معك إحرام. وقال بعض: بل أَحْرِمْ إذا حاذيت الميقات، والبس سروالك، واخلع بقية ثيابك. وقال بعضهم: بل اخلع جميع الملابس حتى السروال، واجعل قميصك بمنزلة الإحرام، واتزر به، واجعل قطعة أخرى من ثيابك بمنزلة الرداء، فألقها على ظهرك من دون أن تلبسها على كيفية ما يلبسها الناس. فأي هذه الأقوال أصح وأقرب للشرع؟
الإجابة:(1/266)
يجوز له أن يأتزر بأحد ثيابه التي كان يلبسها قبل الإحرام، سواء كان قميصا أو جبة أو غترة أو غيرها، بشرط أن لا يلبسها على هيئة لبس المخيط المعتاد؛ فلا يدخل رقبته في جيبها، ولا يخرج يديه من أكمامها، بل يأتزر بها ويرتديها على صفة الإحرام. وليس عليه شيء بذلك، لا فدية ولا غيرها. فإن لم يتمكن من ذلك، أو خشي انكشاف عورته، فيُحْرِم بسراويله، ولا شيء عليه؛ لحديث ابن عباس قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفات: "من لم يجد إزارا فليلبس سراويل، ومن لم يجد نعلين فليلبس خفين" . متفق عليه (816) . لكن متى وجد الإزار فعليه أن يخلع السراويل؛ لأنه حينئذ يكون واجدا للإزار، ولا عذر له، فأشبه المتيمم إذا وجد الماء. وأما من قال بتأخير الإحرام حتى تصل جدة فقد أخطأ، ولو فعل ذلك فأحرم من جدة لزمه دم؛ لتأخيره الإحرام عن الميقات. واللَّه أعلم.
[222] حكم تغطية المحرم رأسه إن خاف البرد، أو كان به قروح يَكره الاطلاع عليها
رجل بعث يقول: إنه يريد الحج هذه السنة، وهو كبير السن، ويخشى من البرد والنزلة، كما أن في رأسه آثار قروح، ولا يحب أن يطلع عليها الناس؛ لأنه يخجل من إبرازها لهم. فهل يجوز له أن يلبس على رأسه ما يسترها، وماذا عليه إن فعل ذلك؟
الإجابة:
إذا كان بالرجل قروح -ونحوها- في رأسه أو غيره، ويكره أن يطلع عليها أحد، جاز له أن يلبس شيئا يغطيها، ولا حرج عليه بذلك، وإنما تجب عليه الفدية لذلك. نص عليه الإمام أحمد؛ لقوله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (817) . ومثله: لو خاف المحرم من برد، أو زكام، أو نزلة، ونحوها، إذا كشف رأسه، فيجوز له أن يلبس ويفدي.(1/267)
والفدية هنا على التخيير، كما في الآية الكريمة، فيخير بين صيام ثلاثة أيام، وبين الصدقة، وهي إطعام ستة مساكين، لكل مسكين مُدُّ بُرٍّ، أو نصف صاع من غيره، وبين ذبح شاة يقسمها على مساكين الحرم، سواء ذبحها في منى أو في مكة، ولا يأكل منها شيئا. واللَّه أعلم.
[223] يجوز للمحرم تبديل ملابس الإحرام
هل يجوز للمحرم أن يبدل ملابس إحرامه ونعليه إذا دعت الحاجة لتبديلها. وإذا خشي من البرد، فهل يجوز له أن يجعل فوق إحرامه إحراما آخر، أو كنبل، أو نحوه، أو فروة، فهل يجوز ذلك أم يُمنع منه؟
الإجابة:
يجوز للمحرم أن يبدل ثياب الإحرام بغيرها، ولو لم يحضرها عنده حال إحرامه. وله أن يغير نعليه بنعال أخرى، ولا حرج عليه بذلك كله.
قال البخاري في "صحيحه" (818) : وقال إبراهيم النخعي: لا بأس أن يبدل ثيابه. قال في "الفتح" : أي يُغَيِّر المحرمُ ثيابَه ما شاء. وفي رواية ابن أبي شيبة أنهم لم يروا بأسا أن يبدل المحرم ثيابه.
قال أبو داود في "مسائله" (819) عن الحسن: إنه كان لا يرى بأسا أن يظاهر المحرم بما شاء من الأُزر والأردية، ويبدل ثيابه التي أحرم فيها بغيرها من الثياب. انتهى.
وبهذا يظهر جواز ما ذكرتَه مِنْ جَعْلِ إحرامٍ أو كنبل فوق إحرامه؛ خشية البرد ونحوه، أما الفروة وما أشبهها، فيجوز أن يجعلها الإنسان فوق إحرامه، ويتغطى بها إذا نام، بشرط أن لا يغطي رأسه، ولا يجعل جيبها فوق كتفيه، بل يقلبها ويجعل جيبها وكميها إلى أسفل، ويجعل أسفلها هو الأعلى، ولا حرج في ذلك. واللَّه أعلم.
[224] هل للإحرام سنة تخصه؟
سائل يسأل عن ركعتي الإحرام: هل صلاتهما لازمة في كل حال أم فيهما رخصة إذا تركهما الإنسان لعذر ونحوه؟ نرجوكم إيضاح الجواب. وفقكم اللَّه للصواب.
الإجابة:(1/268)
الحمد لله. السنة أن يحرم الإنسان عقب صلاة، فرضا كانت الصلاة أو نفلا، وليس ذلك بشرط؛ فيصح الإحرام ولو لم يقع عقب صلاة، ولا حرج، بل يصح بدون غسل ولا وضوء؛ فلو أحرم وهو غير متوضئ صح إحرامه، لكنه خالف السنة وترك الفضيلة.
أما إذا احتاج لذلك، فيما لو فرضنا أنه جاء متأخرا، أو في حالة برد ونحوه، أو معه أصحاب في سيارة أجرة، وتعذر وقوفهم له للاغتسال أو للوضوء أو لصلاة الركعتين - فَيُحْرِم في مثل هذه الحالة ولا حرج.
أما إذا تمكن، فينبغي له أن يحرم عقب صلاة فريضة، وهو الأولى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم بعد صلاة الظهر بذي الحليفة (820) .
وإن لم يكن وقت صلاة فريضة ولا سنة راتبة، فإنه يركع ركعتين، يقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة: {قُلْ يَأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وفي الثانية: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} بعد الفاتحة (821) ، ينوي بهما سنة الإحرام، ويحرم بعدهما وهو جالس في مصلاه مستقبل القبلة. وهذا هو المشهور من المذهب، وهو مذهب الحنفية. وأما الشافعية والمالكية: فالأفضل عندهم تخصيصه بركعتين غير الفريضة وراتبتها، ولا يصلي الركعتين في أوقات النهي.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (822) : إن صادف صلاة فريضة أحرم عقبها، وإلا فليس للإحرام صلاة تخصه. واللَّه أعلم.
[225] مشروعية ركعتي الإحرام
هل للإحرام صلاة مسنونة يشرع لمن أراد أن يحرم بالحج أو العمرة أن يصليها بنية أنها سنة الإحرام، وهل ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين لإحرامه؟
الإجابة:
الذي عليه الجماهير من فقهاء المذاهب الأربعة: أنه يسن إحرامه عقب صلاةٍ، فقال فقهاء الحنابلة: يسن إحرامه عقب صلاةٍ -فرض أو نفل- نص عليه الإمام أحمد (823)واستدل بأن النبي صلى الله عليه وسلم أهلّ دُبُر صلاة. رواه النسائي (824) .(1/269)
وقال فقهاء المالكية: يسن لمريد الإحرام أن يركع ركعتين إن كان متوضئا، وإلا تيمم وركعهما، فإن أحرم بعد صلاةِ فريضةٍ كَفَتْ عن ركعتي الإحرام. والأفضل تخصيصه بركعتين يقرأ فيهما بسورتي الإخلاص بعد الفاتحة.
وقال فقهاء الحنفية: إنه يصلي ركعتين بعد أن يلبس إحرامه ينوي بهما سنة الإحرام، ويقرأ فيهما بسورتي الإخلاص بعد الفاتحة.
وقال فقهاء الشافعية: إنه يصلي ركعتين ينوي بهما سنة الإحرام، يقرأ فيهما بعد الفاتحة بسورتي الإخلاص. فإن أحرم بعد فريضة أغنته عن ركعتي الإحرام، ولو صلاهما منفردتين عن الفريضة كان أفضل.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (825) : يستحب أن يحرم عقيب صلاة، إما فرض وإما تطوع إن كان وقت تطوع، في أحد القولين، وفي الآخر: إن كان يصلي فرضا أحرم عقيبه، وإلا فليس للإحرام صلاة تخصه. وهذا أرجح.اهـ. واللَّه أعلم.
[226] إحرام المرأة في وجهها
امرأة تسأل عن إحرام المرأة، وكشفها وجهها أمام الرجال الأجانب، وهل يلزمها إذا سدلت شيئا على وجهها أن تجافيه بشيء أم لا؟
الإجابة:
ذكر العلماء أن المرأة إحرامها في وجهها؛ فيحرم عليها تغطيته ببرقع، أو نقاب، أو غيره؛ لحديث ابن عمر مرفوعا: "لا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين" . رواه البخاري(826). وقال ابن عمر (827) : إحرام المرأة في وجهها، وإحرام الرجل في رأسه.
فإن غطت وجهها لغير حاجة فدت، كما لو غطى الرجل رأسه؛ والحاجة: كمرور رجال قريبا منها، فتسدل الثوب من فوق رأسها على وجهها؛ لفعل عائشة. رواه أحمد وأبو داود وغيرهما (828) .(1/270)
وشَرَطَ القاضي أبو يعلى (829) في الساتر أن لا يصيب بَشَرَتَها، فإن أصابها ثم ارتفع بسرعة فلا شيء عليها، وإلا فدت؛ لاستدامة ستر وجهها. وردّه الموفق بأن هذا الشرط لم يرد عن الإمام أحمد، ولا هو في الخبر، بل الظاهر خلافه، فإنه لا يكاد يسلم المسدول من إصابة البَشَرة فلو كان شرطا لبُيّن. وعن عائشة قالت: كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم محرمات، فإذا حاذونا سدلتْ إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه. رواه أبو داود (830) .
قال الإمام أحمد (831) : إنما لها أن تسدل على وجهها من فوق، وليس لها أن ترفع الثوب من أسفل.
وهنا أمران يجبان على المرأة؛ وهما تغطية رأسها، وكشف وجهها، فلا يمكنها تغطية جميع رأسها إلا بتغطية جزء من وجهها، ولا يمكنها كشف جميع وجهها إلا بكشف شيء من رأسها، فستُر الرأس كله أولى؛ لكونه عورة في الجملة، ولا يختص ستره بالإحرام. وكشف الوجه بخلافه.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (832) : ولو غطت المرأة وجهها بشيء لا يمس الوجه جاز بالاتفاق. وإن كان يمسه، فالصحيح أنه يجوز أيضا، ولا تكلف المرأة أن تجافي سُترتها عن الوجه، لا بعودٍ، ولا بيدٍ، ولا غير ذلك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم سَوَّى بين يديها ووجهها، وكلاهما كبدن الرجل، لا كرأسه، وأزواجه صلى الله عليه وسلم كن يسدلن على وجوههن من غير مراعاة المجافاة، ولم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إحرام المرأة في وجهها. وإنما هذا قول بعض السلف، لكن النبي صلى الله عليه وسلم نهاها أن تنتقب... إلى آخر كلامه -رحمه اللَّه-.(1/271)
وقال ابن القيم في "الإعلام" : ولم يمنعها صلى الله عليه وسلم من تغطية وجهها، ولا أمرها بكشفه، وإنما نهاها أن تنتقب، أو تلبس القفازين في الإحرام. ونساؤه صلى الله عليه وسلم أعلم الأمة بهذه المسألة، وقد كن يسدلن على وجوههن إذا حاذاهن الركبان، فإذا جاوزوهن كشفن وجوههن ... إلى أن قال: فكيف يَحْرُم ستر الوجه في حق المرأة مع أمر اللَّه لها أن تدني عليها من جلبابها لئلا تعرف ويفتتن الناس بصورتها... إلى آخر كلامه -رحمه اللَّه-.
فإذا كانت المرأة مأمورة بستر وجهها وسدل شيء عليه عند مرور الرجال الأجانب حتى في حال الإحرام التي شُرع لها كشفُه تعبد الله تعالى؛ وذلك لاتقاء الفتنة بها، فإن النساء فتنة لكل مفتون -فَلَأَنْ تومر بستره في غير حال الإحرام من باب أولى وأحرى. ففي هذا دليل على وجوب سترِ المرأةِ وجهَها في غير حال الإحرام وتحريم كشفه أمام الرجال الأجانب. والأدلة على ذلك كثيرة معروفة. واللَّه الموفق.
[227] المتمتع هل يحرم بالحج من المسجد أو من منزله؟
رجل تمتع بالعمرة إلى الحج، ولكنه لم يحرم بالحج إلا في اليوم التاسع من ذي الحجة آخر النهار، ومع ذلك لم يحرم من مكة، لا من المسجد، ولا من بيته، وإنما خرج بعائلته لعرفة، واشتغل بهم، حيث وقع لهم حادث، ولم يتفرغ إلا آخر النهار، وأراد أن يدخل إلى مكة ليحرم منها بالحج فقيل له: أحرم من هنا، فأحرم، وشاهد مع الناس، وانصرف معهم، وأكمل النسك. فهل يجب عليه دم لذلك؟
الإجابة:
المشروع للمتمتع أن يحرم بالحج من المسجد الحرام، والأفضل من تحت الميزاب. هذا الذي نص عليه الفقهاء. وكان عطاء يستلم الركن، ثم ينطلق مهلا بالحج. ويجوز إحرامه من حيث شاء من الحرم. بل ويجوز أن يحرم من خارج الحرم، ولا دم عليه. نص على ذلك الإمام أحمد (833) .(1/272)
فعلى هذا، لا شيء على هذا الرجل الذي أحرم من عرفة؛ لأن عرفة خارج الحرم، ولا شيء عليه لتأخيره الإحرام إلى آخر النهار؛ لأنه أدرك وقت الوقوف، حيث وقف بالنهار، وأدرك جزءا من الليل، وإنما فاتته الأفضلية بتأخيره الإحرام، ولا لوم عليه بذلك؛ لأنه معذور.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (834) : السنة أن يحرم من الموضع الذي هو نازل فيه؛ لأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحرموا من البطحاء، كما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم . وكذلك أهل مكة يحرمون من بيوتهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : "ومن كان منزله دون مكة فَمُهَلُّه من أهله حتى أهل مكة يهلون من مكة" (835) .واللَّه أعلم.
باب محظورات الإحرام [228] منع من أراد الإحرام من أخذ شعوره -إن كانت العشرقد دخلت- وهو يريد أن يضحي
إذا أراد الرجل الإحرام: فهل يجوز له عندما يغتسل ويتنظف- وذلك بعد دخول عشر ذي الحجة- أن يأخذ من شعره ولحيته، مع أنه يريد أن يضحي عن نفسه وعن والديه؛ لأنه قد اشترى أضحيته ووكل من يذبحها، أم لا؟
الإجابة:
أما اللحية: فلا يجوز حلقها مطلقا، سواء عند الإحرام، أو خلافه، وسواء في عشر ذي الحجة، أو غيرها، وسواء أراد أن يضحي، أو لم يرد.
وأما الشارب ونحوه: فهو وإن كان مأمورا بالتنظيف والاغتسال وإزالة الشعور المشروع إزالتها عند الإحرام إلا أنه منهي عن ذلك إذا أراد أن يضحي، أو يضحى عنه؛ لحديث أم سلمة -رضي اللَّه عنها- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان له ذِبْح يذبحه، فإذا أهل هلال ذي الحجة، فلا يأخذن من شعره ولا من أظفاره شيئا حتى يضحي" . رواه مسلم (836) .(1/273)
وحيث إن أخذ هذه الأشياء سنة للإحرام، والذي سيضحي محرم عليه الأخذ حتى يضحي؛ فلا يعارض محرّم بمسنون، لهذا نقول: لا يأخذ هذه الشعور حتى يضحي. وهذا خاص فيمن أراد أخذها عند الإحرام على الميقات ونحوه. وأما عندما يحل من عمرته إذا كان متمتعا، فإنه يجب عليه الحلق أو التقصير؛ لأنهما من واجبات الحج والعمرة، فلا تتم العمرة إلا بهما، فيحلق أو يقصر، ويكون ذلك مخصِّصا لما ذكر؛ لوجود النص في ذلك. واللَّه أعلم.
[229] المحرم ممنوع من التطيب وشم الطيب دون غيره مما له رائحة طيبة
سائل يسأل ما يحرم عليه من الطيب إذا أحرم، وما يحل له، وهل يجوز له استعمال الزعفران والهيل في القهوة وهو محرم؟
ويسأل وعن شم الأترج والبرتقال؛ لأن لها رائحة ذكية، فهل يجوز شمها أم لا؟
الإجابة:
يحرم على المحرم تعمدُ شم الطيب أو مسه بالإجماع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذي وقصته راحلته: "لا تمسوه بطيب" (837) . وأمر رجلا محرما بغسل الطيب (838) .
ويحرم عليه لبس ما رُش بماء ورد، أو بُخِّر بعود ونحوه، وكذا الجلوس عليه، والنوم عليه.
ويحرم عليه الادهان بالأدهان المطيبة؛ بخلاف شم الفواكه من أترج وبرتقال ونحوه، وكذا النباتات التي لا تستعمل للطيب: كالشيح والخزامى، وكذا الهيل والقرنفل، واستعمالها في القهوة والأكل؛ لأن ذلك ليس مما يستعمل للطيب، فيباح له استعمال هذه الأشياء في القهوة والطعام وغيرهما.
أما الزعفران، فلا يجوز استعماله؛ لأنه من أنواع الطيب، ولحديث ابن عمر: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عما يلبس المحرم، فذكر الحديث، وفيه: "ولا يلبس ثوبا مسه وَرْس ولا زعفران" . رواه الجماعة (839) . واللَّه أعلم.
[230] حكم انقلاع ظفر المحرم(1/274)
سائل يقول: كنت محرما في الحج في عام 84، وبينما أنا أصلح شراعنا في منى يوم الثامن من ذي الحجة سقط عمود الشراع على أصبعي، وانكسر ظفري، وخرج منه دم كثير، وانقلع الظفر، فماذا يجب علي لقاء ذلك: هل علي كفارة، أو جزاء، أو صيام، أو غير ذلك؟
الإجابة:
ليس عليك في هذا فدية ولا غيرها؛ لأن هذا الشيء بغير اختيارك، ومعلوم أن قص الأظافر من محظورات الإحرام، لكن إذا تعمد الإنسان قصها؛ لأجل الترفيه، بخلاف ما إذا وقع عليه حادث يشبه ما ذكرته، ومثله لو خرج في عينه شعر فآذاه، فقلعه، فلا شيء عليه، وكذلك لو نزل شعر حاجبيه، فغطى عينيه، فأزاله، فلا فدية في هذا كله. واللَّه أعلم.
باب الفدية [231] حكم الوطء في العمرة قبل الحلق وبعد السعي
رجل اعتمر هو وزوجته، فلما أحرما من الميقات، ودخلا مكة، وطافا، وسعيا ولم يكن معهما مقص يقصران به، فرجعا إلى منزلهما، ورقدا فيه حتى الصباح، فوطئها في هذه الحال قبل أن يقصرا من شعرهما. فهل تصح عمرتهما -والحال ما ذكر- أم لا، وماذا يجب عليهما من الفدية؟
الإجابة:
يحرم عليهما هذا الصنيع، ولكن لا تفسد به عمرتهما؛ لأنه وقع بعد تمام السعي، فهو كالوطء في الحج بعد التحلل الأول، وعليه فدية شاة. فإن كانت الزوجة مطاوعة لزمها شاة أخرى، وإن كانت مكرهة فلا شيء عليها، ولا يلزم الواطئ أن يفدي عنها فدية أخرى.
أما لو كان الوطء قبل تمام السعي، فسدت عمرتهما، ويجب المضي فيها حتى تكمل، ويجب عليهما قضاؤها فورا، كالحج؛ لما تقدم. فإن كانا مكيين، فإنهما يحرمان بها من الحل: كالتنعيم ونحوه. وإن لم يكونا مكيين فعليهما أن يخرجا إلى الميقات فيحرمان منه؛ لقضاء عمرتهما، وعلى كل منهما دم؛ لما أفسدا من عمرتهما، إن كانت الزوجة مطاوعة، وإلا فلا شيء عليها، كما تقدم. واللَّه أعلم.
[232] حكم ذبح الفدية بمكة وبمنى(1/275)
سائل يسأل عن جواز ذبح الفدية بمكة؛ لاسيما إذا كان لا يجد لها أحدا من المستحقين في منى. وأما في مكة فإنه يجد لها كثيرا من المستحقين الذين يتولون ذبحها، وأكلها، والصدقة منها. فهل الأفضل له ذبحها بمكة أم بمنى؟
الإجابة:
الذي نص عليه الفقهاء أن الأفضل نحر ما وجب بحج بمنى، وما وجب بعمرة بمكة، وأن يكون قرب المروة؛ خروجا من خلاف الإمام مالك ومن تبعه، مع أنه يجوز أن يذبح الجميع بمكة، أو بمنى، ولا فرق، فالكل جائز، ومجزئ، ما دام ذبح في الحرم؛ لقوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} (840) ، وقوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (841) .
قال الإمام أحمد: مكة ومنى واحد (842) . واحتج الأصحاب بحديث جابر مرفوعا: "كل فجاج مكة طريق ومنحر" . رواه أحمد وأبو داود (843) .
لكن إذا كان الإنسان لا يجد في منى من ينتفع بفديته، ووجد في مكة من الفقراء المستحقين من ينتفع بها، ويأكلها، فذَبْحها في مكة أولى وأعظم أجرا؛ نظرا لحصول المنفعة بها، فيذبحها للمساكين بمكة، ويفرق لحمها عليهم، أو يطلقها لهم مذبوحة، أو حية لينحروها هم بالحرم؛ لأن المقصود من ذبحها بالحرم التوسعة عليهم. فإن لم ينحروها، أو أرادوا إخراجها من الحرم لنحرها هناك، استردها منهم- وجوبا- ونحرها. فإن لم يفعل وعجز عن ردها ضمنها لمساكين الحرم؛ لعدم خروجه من عهدتها. ومساكين الحرم هم: المقيم به والمجتاز به، من حاج وغيره، ممن له أخذ الزكاة لحاجة. واللَّه أعلم.
[233] حكم المحرِم إذا كرر النظر فأمذى
رجل أحرم بالحج، فلما خرج إلى منى رأى امرأة جميلة متبرجة سافرة؛ فتحركت شهوته وخرج منه مذي. فهل يصح حجه أم لا، وهل يجب عليه كفارة جزاء ما حصل منه، وما مقدار الكفارة؟
الإجابة:(1/276)
هذا من مفاسد تبرج النساء وسفورهن وخروجهن بالزينة، قاتل اللَّه تلك المرأة إنها لتفتن وتُفتتن. وهذا من مضار إطلاق البصر، وعدم غضه، فلو غض هذا الرجل بصره لسلم من هذه الفتنة.
والمنصوص في مثل هذا: إن كان لم يكرر النظر، وإنما لما نظر للمرأة مرة واحدة ثم صرف بصره عنها، ولم يكرر النظر إليها، فلا شيء عليه إذا خرج منه مذي؛ لمشقة التحرز منه، كما أنه لا شيء على من فكر فأنزل، ولا على من احتلم. فإن كان كرر النظر إلى تلك المرأة فأمذى، فعليه التوبة والفدية؛ وهي على التخيير: فيخير بين ذبح شاة، أو صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين. لكل مسكين مد بر، أو نصف صاع من غيره. فإن كرر النظر ولم يمذ، فليس عليه فدية، إلا أنه يحرم عليه ذلك؛ إذا كان لشهوة. واللَّه أعلم.
[234] حكم من سافرإلى جدة بين العمرة والحج
المتمتع إذا حل من عمرته، ثم سافر إلى جدة، أو إلى السيل، وأحرم بالحج من هناك بعد أن مكث أياما عند قرابته. فهل يكون عليه دم؛ لتمتعه، أم يسقط عنه الدم؛ لأنه سافر؟
الإجابة:
المنصوص أن المتمتع عليه دم؛ لقوله تعالى {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِن الْهَدْيِ} (844) .واشترط العلماء لوجوب الدم شروطا ستة. منها: أن لا يسافر بين العمرة والحج مسافة قصر، فإن سافر مسافة قصر فأحرم بالحج، فلا دم عليه. واللَّه أعلم.
[235] المتمتع إذا لم يجد الهدي يصوم
هل يلزم الحاج أن يفدي بذبيحة؛ سواء كان غنيا أو فقيرا؟
الإجابة:
قال اللَّه تعالى: {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِن الْهَدْيِ} (845) . فإذا حج الإنسان متمتعا، وجبت عليه الفدية وهي: شاة تجزئ في الأضحية، سليمة من العيوب، أو سُبْع بدنة أو بقرة. ومثله القارن بين الحج والعمرة. وأما المفرد": فلا هدي عليه.(1/277)
فإن كان الإنسان فقيرا -لا يجد ثمن الهدي- فعليه الصيام. قال تعالى: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (846) الآية. واللَّه أعلم.
باب جزاء الصيد [236] حكم ذبح الصيد في حرم مكة والمدينة
هل يحل ذبح الأرانب والحمام ونحوهما من الصيد في حرم مكة المكرمة، أو حرم المدينة المنورة أم لا؟ وإذا كان لا يحل، فهل في ذلك جزاء، وما هذا الجزاء؟ أفتونا مأجورين.
الإجابة:
لا يجوز ذبح الصيد من الحمام والأرانب وغيرهما داخل الحرمين الشريفين. أما الحرم المكي؛ فلما أخرجه البخاري ومسلم (847) من حديث عبداللَّه بن عباس -رضي اللَّه عنهما- أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة: "إن هذا البلد حرمه اللَّه، يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة اللَّه إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار؛ فهو حرام بحرمة اللَّه إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته؛ إلا من عرفها، ولا يختلى خلاه" . فقال العباس: يا رسول اللَّه، إلا الإذخر؛ فإنه لقينهم ولبيوتهم. فقال: "إلا الإذخر" .(1/278)
فهذا الحديث يدل بطريق فحوى الخطاب على أن قتل الصيد في الحرم المكي محرم؛ لأنه إذا حرم تنفيره بأن يزعج عن مكانه فقتله أولى. قال مالك في "الموطأ" (848) : سمعت أنه يحكم على من قتل الصيد في الحرم وهو حلال بمثل ما يحكم به على المحرم الذي يقتل في الحرم وهو محرم، ومما استَدل به لهذا قوله تعالىك {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} الآية (849) . ووجه الدليل من الآية أن "حُرُم" جمع حرام؛ وهو يقع على من دخل الحرم، وعلى من أحرم بنسك، فوجب أن يحمل عليهما معا، فيترتب عليه الجزاء المذكور في قوله تعالى: {مَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} (850) .
وجزاء الحمامة شاة؛ لما روى الشافعي في "الأم" (851) عن عمر وعثمان وابن عباس وابن عمر وعاصم بن عمر وعطاء وابن المسيب، من الآثار المصرحة بأن من أصاب من حمام بمكة فعليه شاة. وذكر الشافعي أنه يرى هذا اتباعا لتلك الآثار.
وأما الأرنب فيفدى بعناق؛ فعن عمر بن الخطاب، أنه قضى في الأرنب بعناق، وعن ابن عباس، أنه قال: في الأرنب شاة. وعن مجاهد قال: في الأرنب شاة (852) .
وأما حكم الصيد في المدينة، فلا يجوز. والأحاديث كثيرة في ذلك؛ منها ما روى مسلم في "صحيحه" (853) ، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت المدينة -ما بين لابتيها- لا يقطع عِضاها، ولا يصاد صيدها" ؛ ولهذا اتفق مالك والشافعي وأحمد على تحريم صيد حرم المدينة وعلى تأثيم من ارتكب ذلك.(1/279)
وأما الجزاء: فقال ابن قدامة في "المغني" : روايتان- أي عن الإمام أحمد- إحداهما: لا جزاء فيه. وهو قول أكثر أهل العلم؟ وهو قول مالك، والشافعي في الجديد؛ لأنه موضع يجوز دخوله بغير إحرام، فلم يجب فيه جزاء، كصيد وادي وَجّ. والثاني: يجب فيه الجزاء؟ رُوي ذلك عن ابن أبي ذئب. وهو قول الشافعي في القديم وابن المنذر؛ لأن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إني أحرم المدينة مثل ما حرم إبراهيم مكة" ، ونهى أن يعضد شجرها، أو يؤخذ طيرها، فوجب في هذا الحرم الجزاء، كما وجب في ذلك؛ إذ لم يظهر بينهما فرق. وجزاؤه إباحة سَلَب قاتل الصيد لمن أخذه، وإن لم يسلبه أحد فلا شيء عليه سوى الاستغفار والتوبة، وليس عليه جزاء. واللَّه أعلم.
باب ذكر دخول مكة وصفة الطواف والسعي وما يتعلق بذلك [237] آداب دخول الكعبة وهل دخلها النبي صلى الله عليه وسلم في حجته؟
دخول الكعبة المشرفة: هل هو مسنون أم لا، وهل دخل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة في حجة الوداع أم في غيرها، وما آداب دخول الكعبة. ومن لم يتمكن من دخول الكعبة فماذا يصنع؟ أفيدونا أثابكم اللَّه.
الإجابة:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (854) - رحمه اللَّه تعالى -: ودخول نفس الكعبة ليس بفرض ولا سنة مؤكدة، بل دخولها حسن، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يدخلها في الحج، ولا في العمرة؛ لا عمرة الجعرانة، ولا عمرة القضية، وإنما دخلها عام فتح مكة. ومن دخلها يستحب له أن يصلي فيها، ويكبر اللَّه، ويدعوه، ويذكره. فإذا دخل من الباب تقدم حتى يصير بينه وبين الحائط ثلاثة أذرع، والباب خلفه؛ فذلك هو المكان الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم . ولا يدخلها إلا حافيا. والِحجْر أكثره من البيت من حيث ينحني حائطه، فمن دخله فهو كمن دخل الكعبة، وليس على داخل الكعبة ما ليس على غيره من الحجاج، بل يجوز له المشي حافيا، وغير ذلك مما يجوز لغيره. انتهى.(1/280)
وقال في "الغاية وشرحها" : وسن دخول البيت -أي الكعبة- والحِجْر منه -أي البيت- حافيا: بلا خف، وبلا نعل، وبلا سلاح -نصا- ويكبر ويدعو في نواحيه، ويصلي فيه ركعتين، ويكثر النظر إليه؛ لأنه -أي النظر إلى البيت- عبادة، ولا يرفع بصره لسقفه؛ لأنه إساءة أدب، ولا يشتغل بذاته- أي البيت- بل يكون مشتغلا بإقباله على ربه، خاشعا بقلبه، متواضعا متذللا متضرعا متبتلا، متوسلا إلى اللَّه بأسمائه وصفاته وآياته وكلماته: أن يمن عليه بحسن الختام، ويدخله الجنة دار السلام. انتهى.
وقال ابن القيم في "زاد المعاد" (855) : زعم كثير من الفقهاء وغيرهم أنه صلى الله عليه وسلم دخل البيت في حجته، ويرى كثير من الناس أن دخول البيت من سنن الحج؛ اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم . والذي تدل عليه سنته أنه لم يدخل البيت في حجته، ولا في عمرته، وإنما دخله عام الفتح، ففي "الصحيحين" (856) عن ابن عمر قال: دخل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة على ناقة لأسامة، حتى أناخ بفناء الكعبة، فدعا عثمان بن طلحة بالمفتاح فجاءه به ففتح، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم وأسامة وبلال وعثمان بن طلحة، فأجافوا عليهم الباب مليا، ثم فتحوه. قال عبداللَّه: فبادرت الناس، فوجدت بلالا على الباب. فقلت: أين صلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ؟ قال: بين العمودين المقدمين. قال: ونسيت أن أسأله كم صلى.
والمقصود أن دخوله صلى الله عليه وسلم البيت إنما كان في غزوة الفتح، لا في حجة ولا في عمرة. وفي "صحيح البخاري" (857) عن إسماعيل بن أبي خالد قال: قلت لعبداللَّه بن أبي أوفى: أَدَخَلَ النبي صلى الله عليه وسلم البيت في عمرته؟ قال: لا.(1/281)
وسألته عائشة أن تدخل البيت، فأمرها أن تصلي في الحِجْر ركعتين (858) . وقال ابن القيم (859) في الكلام على غزوة الفتح: لما دخل صلى الله عليه وسلم وطاف بالبيت على راحلته، فلما أكمله، دعا عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة، ففتحت، فدخلها، ثم أغلق عليه الباب وعلى أسامة وبلال، فاستقبل الجدار الذي يقابل الباب، حتى إذا كان بينه وبينه قدر ثلاثة أذرع وقف، وصلى هناك، ثم دار في البيت، وكبر في نواحيه، ووحد اللَّه، ثم فتح الباب. وذكر ابن سعد في "الطبقات" (860) عن عثمان بن طلحة قال: كنا نفتح الكعبة في الجاهلية يوم الإثنين والخميس، فأقبل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يوما يريد أن يدخل الكعبة مع الناس، فأغلظت له، ونلت منه، فحلم عني، ثم قال: "يا عثمان، لعلك سترى هذا المفتاح يوما بيدي، أضعه حيث شئت" . فقلت: لقد هلكت قريش يومئذ وذلت. فقال: "بل عَمَرَتْ وعَزَّتْ يومئذ" . ودخل الكعبة، فوقعت كلمته مني موقعا ظننت يومئذ أن الأمر سيصير إلى ما قال. فلما كان يوم الفتح قال: "يا عثمان، ائتني بالمفتاح" . فأتيته به، فأخذه مني، ثم دفعه إلي، وقال: "خذوها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم. يا عثمان، إن اللَّه استأمنكم على بيته، فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف" . قال: فلما ولَّيت، ناداني، فرجعت إليه، فقال: "ألم يكن الذي قلت لك" ؟ قال: فذكرت قوله لي بمكة قبل الهجرة: "لعلك سترى هذا المفتاح بيدي أضعه حيث شئت" . فقلت: بلى، أشهد أنك رسول اللَّه. وذكر سعيد بن المسيب أن العباس تطاول يومئذ لأخذ المفتاح في رجال من بني هاشم، فرده رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن طلحة.انتهى. واللَّه أعلم.
[238] حكم الدخول من باب السلام
إذا قدم الحاج مكة، وأراد أن يدخل المسجد الحرام. هل يتعين عليه الدخول من باب السلام أم يجزئه من أي باب دخل؟
الإجابة:(1/282)
الأفضل الذي نص عليه العلماء أن يدخل من باب بني شيبة؛ وهو مقابل لباب السلام، فإن لم يتهيأ له ذلك، فإنه يدخل من أي باب أراد، ويتبع الأسهل عليه، ولا حرج في ذلك. واللَّه أعلم.
[239] حكم الطواف وقت خطبة الجمعة
ما الأفضل لداخل المسجد الحرام يوم الجمعة والإمام يخطب. هل الأفضل له أن يطوف، أم يقتصر على صلاة ركعتين خفيفتين؟
الإجابة:
الأفضل لداخل المسجد الحرام يوم الجمعة والإمام يخطب أن يقتصر على صلاة ركعتين خفيفتين؛ لما روى أحمد ومسلم وأبو داود (861) عن جابر -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين، وليتجوز فيهما" . ففي عملِ داخلِ المسجد الحرام عند الخطبة بمضمون هذا الحديث الجمعُ بين تحية المسجد الحرام وبين عدم الإعراض الكُلِّي عن الخطبة، بخلاف الطواف، فإن فيه إعراضا عن الخطبة؛ ولذلك عدَّه مَنْ عدّه من الفقهاء في هذه الحالة من المكروهات.
قال السندي في "لباب المناسك" -في مكروهات الطواف-: والطواف عند الخطبة؛ قال علي القاري في "شرحه" : أي مطلقا؛ لإشعاره بالإعراض، ولو كان ساكتا.
وتعقب الحافظان: العراقي في "طرح التثريب" (862) ، وابن حجر العسقلانيِ في "فتح الباري" (863) ، عبارة المحاملي المقتضية اشتغال داخلِ المسجد الحرام وقت الخطبة بالطواف، فيطول زمنه، ويبعد عن الخطيب؛ لدورانه من غير جهته؛ فلا يسمع كلامه. ثم قال العراقي: ولم أر لأحد من أصحابنا إفصاحا عن شيء من ذلك. اهـ.
قال ابن حجر العسقلاني: فيه - أي: في كلام المحاملي - نظر؛ لطول زمن الطواف بالنسبة إلى الركعتين، ثم قال الحافظ: والذي يظهر من قولهم: إن تحية المسجد الحرام الطواف، إنما هو في حق القادم؛ ليكون أول شيء يفعله الطواف، أما المقيم فحكم المسجد الحرام وغيره في ذلك سواء. اهـ.
والخلاصة: أن الأولى لداخلِ المسجد وقت الخطبة أن يقتصر على صلاة ركعتين خفيفتين. واللَّه أعلم.(1/283)
[240] لا يشير إلى مقام إبراهيم عند قوله: وهذا مقام العائذ بك من النار
سائل يسأل عن معنى الدعاء المأثور الذي يدعو به الطائف أثناء طوافه؛ وهو قوله: (وهذا مقام العائذ بك من النار) ، هل المراد به مقام إبراهيم -عليه السلام- وأن الطائف يشير إليه إذا مر به أثناء طوافه أم أنه يقصد نفسه بذلك، ويسأل ربه أن يعيذه من النار؟
الإجابة:
قال في "شرح الغاية" : ومما يدعى به بعد الركعتين خلف المقام: (اللَّهم إني عبدك، وابن عبدك، أتيتك بذنوب كثيرة، وأعمال سيئة، وهذا مقام العائذ بك من النار، فاغفر لي؛ إنك أنت الغفور الرحيم) (864) .
قال ابن الصلاح: قوله: (هذا مقام العائذ بك) كلام يقوله المستعيذ، ويعني بالعائذ نفسه، وهو كما يقال: هذا مقام الذليل، وليس كما توهمه بعض مصنفي المناسك المشهورة، من أنه إشارة إلى مقام إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- وهذا غلط فاحش وقع فيه بعض عوام مكة، رأيت منهم من يطوِّف بعض الغرباء، ويشير إلى مقام إبراهيم عند انتهائه إلى هذه الكلمة من دعائه.
وقال الشيخ عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن جاسر في كتابه "مفيد الأنام" : قال ابن حجر الهيتمي: ونقل الرفاعي عن أبي حامد أنه عند قوله: (وهذا مقام العائذ بك من النار) يشير إلى مقام إبراهيم -عليه السلام-، وأقره، لكن نقل الأذرعي عن غيره أنه يشير إلى نفسه واستحسنه، بل قال ابن الصلاح: إن الأول غلط فاحش، وفيه نظر؛ لأنه إذا استحضر استعاذة خليل اللَّه تعالى، حمله ذلك على غاية من الخوف والإجلال والسكينة والوقار، وذلك هو المطلوب في هذا المحل، فكان أبلغ وأولى، فتخصيص هذا الدعاء بمقابلة المقام يدل على أنه يشير إليه. انتهى كلام الهيتمي.(1/284)
ففيما قال ابن حجر الهيتمي -قلت: الصحيح ما قاله ابن الصلاح وما استحسنه الأذرعي- وما نقله الرفاعي عن أبي حامد نظر ظاهر؛ لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الخلفاء الراشدين، ولا عن سائر الصحابة أجمعين، ولا عن التابعين، ولا عن أحد من العلماء المعتبرين الإشارة إلى شيء حين الطواف بالبيت سوى الحجر الأسود، وعند بعض الفقهاء: والركن اليماني. فالإشارة في الطواف إلى مقام إبراهيم ليس مشروعا، بل هو فعل مبتدع. واللَّه أعلم.اهـ.
[241] هل يشير إلى الركن اليماني إذا لم يستلمه في الطواف؟
هل يسنُّ للطائف إذا حاذى الركن اليماني ولم يتمكن من استلامه أن يشير إليه -كما يشير إلى الحجر الأسود- أم لا؟.
الإجابة:
الأحاديث الواردة في الركن اليماني: أن الطائف يستلمه بيده، ولا يقبل يده. فإن لم يتمكن من استلامه بيده. فقيل: إنه يشير إليه بيده كلما حاذاه، كما يشير إلى الحجر الأسود. وهذا هو المشهور من المذهب. وكلامهم في هذا معروف. قال في "المقنع" (865) : وكلما حاذى الحجر الأسود والركن اليماني استلمهما أو أشار إليهما.
وقيل: لا تشرع الإشارة إليه؛ لأن القول بأن هذا الفعل سنة يحتاج إلى دليل على مشروعيته؛ ولهذا لم يذكره بعض الفقهاء من مسنونات الطواف. قال في "مفيد الأنام" : وردت الأحاديث والآثار بسنية استلام الحجر الأسود والركن اليماني. وأما الإشارة إليهما من غير استلام فوردت أيضا في الحجر الأسود دون اليماني. وعبارة الأصحاب صريحة في استحباب الإشارة إليهما كلما حاذاهما لكن لم أطلع على دليل يقضي باستحباب الإشارة إلى الركن اليماني. انتهى.
[242] هل يصح الطواف والسعي راكبا؟
هؤلاء الذين يؤدون مناسك الحج والعمرة، ويسعون على عربات، وبعضهم قوي صحيح يستطيع المشي. فهل يجزئهم السعي وهم بهذه الحالة أم لا ؟
الإجابة:(1/285)
إن كان ركوبهم لعذر، فلا بأس. قال في "الشرح الكبير" (866) : يصح طواف الراكب للعذر بغير خلاف علمناه؛ لأن ابن عباس روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه طاف في حجة الوداع على بعير، يستلم الركن بمحجن. متفق عليه (867) . وعن أم سلمة قالت: شكوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أني أشتكي. فقال: طوفي من وراء الناس وأنت راكبة" . أخرجاه في "الصحيحين" (868) .اهـ.
وإن كان لغير عذر: فالمنصوص أن من طاف أو سعى راكبا أو محمولا لغير عذر، لم يجزئه. هذا هو المشهور من المذهب الذي مشى عليه في "الإقناع" و"المنتهى" وغيرهما من كتب المتأخرين من الحنابلة؛ ولهذا عَدُّوا من شروط السعي المشي للقادر عليه. وقال في "الغاية وشرحها" : ومن طاف راكبا أو محمولا لم يجزئه طوافه كذلك، إلا إن كان ركوبه أو حمله لعذر؛ لحديث: "الطواف بالبيت صلاة" (869) ولأنه عبادة تتعلق بالبيت؛ فلم يجز فعلها راكبا أو محمولا لغير عذر، كالصلاة. وإنما طاف النبي صلى الله عليه وسلم راكبا لعذر، فإن ابن عباس روى: أن النبي صلى الله عليه وسلم كثر عليه الناس، يقولون: هذا محمد، حتى خرج العواتق من البيوت، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يضرب الناس بين يديه، فلما كَثُر عليه ركب. رواه مسلم (870) . وحكم سعيه راكبا كطوافه راكبا -نصا- فلا يجزئه إلا لعذر.انتهى ملخصا. واللَّه أعلم.
[243] لا تجب الموالاة بين الطواف والسعي
إذا انتهى المتمتع من طواف العمرة، ورغب أن يطوف أسبوعا، أو أسبوعين -تطوعا- قبل السعي. فهل يجوز له ذلك أم يقال: بادر بالخروج إلى السعي، فاسع أولا، وإذا أتيت بالسعي فلك أن تطوف ما شئت؟
الإجابة:(1/286)
لا تجب الموالاة بين الطواف والسعي، فيجوز للمتمتع -وكذلك الحاج- إذا انتهى من طواف النسك أن يطوف ما شاء تطوعا، قبل أن يسعى. قال في: "شرح الغاية" : ويجوز للطائف تأخير سعيه عن طوافه بطوافٍ غيره، فلا يجب موالاة بينه وبين طوافه، ولا بأس أن يطوف أول النهار ويسعى آخره. انتهى.
[244] قطع الطواف لصلاة الفرض
سائل يقول: إذا أقيمت صلاة العصر مثلا، وأنا أطوف طواف العمرة، أو حضرت جنازة أثناء الطواف، فقطعت الطواف؛ لأجل صلاة العصر مع الجماعة، أو لأجل صلاة الجنازة، فهل أبني على ما مضى من الطواف أم أستأنف الطواف من أوله؟
الإجابة:
إذا قطع الطواف بفصل طويل، فإنه يستأنف الطواف من أوله، ولا يبني على ما مضى؛ لفوات الموالاة. فإن كان الفصل يسيرا، أو حضرت جنازة، أو أقيمت الصلاة المكتوبة، فلا يضر هذا الفصل، ولا يخل بالموالاة، فيبني على ما مضى، إلا أنه يبتدئ من الحجر الأسود، ولا يعتد ببعض الشوط الذي قطعه من أثنائه، وحكم السعي في ذلك كالطواف. هذا المشهور من المذهب. والقول الثاني في المذهب: إنه يبتدئ من حيث وقف ويبني على ما مضى من ذلك الشوط ولا يلزمه أن يبتدئ من الحجر الأسود. وهذا القول الصحيح -إن شاء الله-.
[245] حَدَثُ الصبي في الطواف
رجل حج بطفل معه، ولما أراد أن يطوف به طواف الحج، طهر الصبي، وغَسَله، ولفه بلفائف طاهرة، وطاف به شوطين، فلم يشعر إلا وقد أحدث الصبي، وخرج منه الحدث، وتلوثت لفائفه. فهل يقطع الطواف به ويذهب ليعيد تطهيره ويبدل لفائفه أم ماذا يفعل؟
الإجابة:
ما دام عمل الذي باستطاعته: من تطهيره، وتطهير لفائفه، فإن هذا الحدث مما استثناه العلماء، وقالوا: يصح الطواف بالطفل ولو لم يكن متطهرا؛ لأن طهارته ليست شرطا لصحة طوافه. واللَّه أعلم.
[246] ركعتا الطواف وصلاة الضحى
سائل يسأل عن وقت صلاة الإشراق، وهل تقدم على ركعتي الطواف أم بالعكس؟
الإجابة:(1/287)
لا يدخل وقت صلاة الإشراق إلا بعد زوال وقت النهي، وبعد ارتفاع الشمس قِيد رمح في رأي العين؛ لحديث عقبة بن عامر: ثلاث ساعات كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس وحين تَضَيَّف (871) الشمس للغروب حتى تغرب. رواه مسلم (872) .
وأما تقديمها على ركعتي الطواف، فالأولى تقديم ركعتي الطواف؛ لكي يصل الطواف بركعتيه، ولا يفصل بينهما بصلاة وغيرها. واللَّه أعلم.
[247] طواف الوداع
هل يسقط طواف الوداع عن المعذور والجاهل والمريض كما يسقط عن الحائض والنفساء أم لا، وإذا نسيه وخرج من مكة، فهل يلزمه الرجوع. وإذا رجع، فهل يرجع بدون إحرام، وهل يسقط عنه الدم إذا رجع وطاف للوداع أم لا؟
الإجابة:
طواف الوداع واجب من واجبات الحج، يجب بتركه دم على ما يأتي، سواء تركه عمدا، أو خطأ، أو نسيانا؛ لعذر أَو لا.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية (873) : طواف الوداع ليس من الحج، وإنما هو على من أراد الخروج من مكة أن يطوف طواف الوداع؛ لحديث: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن الحائض. متفق عليه (874) . ولا يطوفه إلا بعد انقضاء أشغاله، فلا يشتغل بعده بشيء من أمور التجارة ونحوها. فإن أقام بعده أعاده، ومثله لو ودع بالليل ونام في مكة ولم يخرج منها إلا في الصباح، أو بالعكس. بخلاف ما لو أقام لانتظار رفقة بالسفر، أو اشترى شيئا على طريقه مما يحتاج إليه، أو دخل منزله ونحوه؛ لتحميل متاعه،أو ليأكل،أو ليشرب،ونحو ذلك. فإن خرج قبل الوداع فعليه الرجوع -إن كان قريبا- ويرجع بدون إحرام، فإذا رجع وودع فلا شيء عليه. فإن لم يرجع فعليه دم، سواء كان عدم رجوعه لعذر أو لا.(1/288)
وإن بعد عن مكة مسافة قصر لزمه الدم مطلقا، سواء رجع وودع، أو لم يرجع؛ لأن الدم قد استقر عليه ببلوغه مسافة القصر، وإن أراد الرجوع بعد أن أبعد فلا بد من الإحرام بعمرة، فيطوف، ويسعى، ويحلق أو يقصر، ثم يطوف للوداع إذا فرغ من أموره، بخلاف من رجع من قريب، فلا إحرام عليه.
أما الحائض -ومثلها النفساء- فلا وداع عليها، لكن يشرع لها أن تقف بباب المسجد، وتدعو بما ورد. فإن طهرت قبل مفارقة بنيان مكة لزمها العودة والاغتسال، ثم تطوف للوداع، فإن لم تعد في هذه الحال، فعليها دم.
وأما المعذور -غير الحائض والنفساء- كالمريض ونحوه، فلا يسقط عنه الوداع، فإن تركه فعليه دم، كسائر واجبات الحج. واللَّه أعلم.
باب صفة الحج والعمرة وما شرع فيهما من أقوال وأفعال [248] صفة الأنساك الثلاثة وأيها أفضل
سائل يسأل عن صفة كل من الأنساك الثلاثة، وأيها أفضل بالنسبة لمن أراد أن يحج الآن، وهل حج النبي صلى الله عليه وسلم مفردا، أم قارنا، أم متمتعا؟
الإجابة:
أما صفة هذه الأنساك: فالتمتع: هو أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج- وأولها غرة شوال- فإذا فرغ من أعمالها، وحل منها، أحرم بالحج في عامه من مكة أو من قريب منها، وعليه الهدي؛ لقول اللَّه تعالى: {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِن الْهَدْيِ} (875) .
وأما القِران: فهو أن يقرن بين الحج والعمرة، فيحرم بهما جميعا. وله صورة ثانية: وهي أن يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج قبل أن يشرع في طوافها وعليه الهدي، كما تقدم في التمتع.
وأما الإفراد: فهو أن يحرم بالحج مفردا، وبعد انتهاء الحج يأخذ عمرة من التنعيم إن شاء، ولا دم عليه.(1/289)
وأما الأفضل منها فهو التمتع، مع أن مريد الحج يخير بين التمتع والإفراد والقران. فإن شاء أحرم متمتعا بالعمرة إلى الحج، وإن شاء أحرم مفردا بالحج وحده، وإن شاء أحرم بهما معا فكان قارنا؛ لحديث عائشة -رضي اللَّه عنها- الذي رواه الشيخان وغيرهما (876) ، قالت: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل، ومن أراد أن يهل بحج فليهل، ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل..." الحديث.
والأفضل التمتع. وهو قول جمهور العلماء، نص عليه الإمام أحمد (877) ، وقال: لأنه آخر ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم ، ولقوله صلى الله عليه وسلم : "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت" (878) . فلم يمنعه من التمتع إلا أنه ساق الهدي. ومما يدل على فضيلة التمتع أنه يسن لمن يحرم قارنا أو مفردا أن يفسخ نيته بالحج، وأن ينوي بإحرامه عمرة مفردة يتمتع بها إلى الحج؛ لكن بشرط أن لا يكون ساق الهدي، وأن يكون فسخه قبل الوقوف بعرفة. فإذا نوى بإحرامه العمرة متمتعا بها إلى الحج؛ طاف وسعى وقصر من شعره وحل إحرامه وبقي حلالا حتى يحرم بالحج؛ وذلك لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أصحابه الذين أفردوا الحج والذين أحرموا قارنين أن يحلوا، ويجعلوها عمرة، إلا من كان معه هدي. متفق عليه (879) .
قال سلمة بن شبيب للإمام أحمد (880) : كل شيء منك حسن جميل إلا خَلَّة واحدة، قال: وما هي؟ قال: تقول بفسخ الحج، قال أحمد: كنت أرى أن لك عقلا، عندي ثمانية عشر حديثا جيادا صحاحا كلها في فسخ الحج، أفأتركها لقولك! انتهى.
وأما السؤال عن الذي أحرم به النبي صلى الله عليه وسلم فجوابه: أنه حج قارنا. قال الإمام أحمد: لا شك أنه كان قارنا. والمتعة أحب إلي. ثم ساق الأدلة على ذلك (881) . واللَّه أعلم.
[249] صفة حج الصغير وإحرامه(1/290)
هل يصح حج الصغير، وكيف يكون إحرامه وصفة أدائه للمناسك، وهل يكون ثواب حجه له أم لوالديه؟
الإجابة:
نعم، يصح الحج والعمرة من الصغير -ولو كان عمره يوما واحدا- ولكنها لا تجزئ عن حجة الإسلام. ومما يدل على صحتها ما رواه الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي (882) عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي ركبا بالروحاء فقال: "من القوم؟" فقالوا: المسلمون. فقالوا: من أنت؟ قال: "رسول اللَّه" . فرفعت إليه امرأة صبيا. فقالت: ألهذا حج؟ قال: "نعم، ولك أجر" .
وأما صفة إحرامه: فإن كان مميزا يحسن الإحرام؛ فهو الذي يحرم بنفسه لكن بإذن وليه. ولا يصح إحرامه بغير إذن وليه، ثم يفعل المميز كل ما يمكنه فعله، من التجرد من المخيط، والطواف، والسعي، والوقوف، والمبيت، ورمي الجمار، وغيرها. وأما ما يعجز عن فعله، فإن وليه هو الذي يفعله عنه.
وإن كان الطفل غير مميز؛ فالولي هو الذي يحرم عنه، فينوي عنه الإحرام، ويجرده من المخيط، ويلبي عنه، ويعقد له الإحرام، ويجنبه محظورات الإحرام، ويصير الصغير بذلك مُحْرِما، ويفعل عنه كل ما يعجز عنه، فيطوف به، ويسعى به، ويرمي عنه الجمرات، لكن لا يرمي عنه حتى يرمي عن نفسه. وأما الوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة والمبيت بمنى فإن حصوله في تلك المشاعر في الوقت المطلوب كاف في أداء النسك. وعن جابر قال: حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ومعنا النساء والصبيان، فلبينا عن الصبيان، ورمينا عنهم، رواه أحمد وابن ماجه (883) .
وأما قول السائل: هل يكون ثواب حج الصغير له أم لوالديه. فالجواب: أن ثوابه له بنفسه، لكن وليه الذي تولى تعليمه المناسك وفعل ما يعجز عنه وتحمل هذه المسائل له أجر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم للمرأة لما سألته: هل للصبي حج؟ فقال: "نعم، ولك أجر" فأجاب صلى الله عليه وسلم بنعم، ونعم صريح في الجواب. والمعنى: نعم له حج، ولك أجر. واللَّه أعلم.
[250] المتمتع يحلق رأسه ولو كان سيضحي(1/291)
إذا حل المتمتع من عمرته في عشر ذي الحجة، وهو يريد أن يضحي هل يحلق أم يقصر من شعره لنسك العمرة أولًا؛ لأنه منهي عن الأخذ من شعره وبشرته حتى يضحي. وهل الحديث الوارد في ذلك صحيح؟
الإجابة:
أما الحديث الوارد في ذلك: فهو صحيح. رواه الجماعة إلا البخاري عن أم سلمة (884) مرفوعا: "إذا رأيتم هلال ذي الحجة، وأراد أحدكم أن يضحي، فليمسك عن شعره وأظفاره" . وفي رواية عند مسلم وأبي داود: من كان له ذبح يذبحه، فإذا أهل هلال ذي الحجة، فلا يأخذن من شعره ولا من أظفاره شيئا حتى يضحي" . وفي رواية لمسلم: فلا يمس من شعره وبشره شيئا..." .
قال الفقهاء -رحمهم اللَّه-: وإذا دخلت عشر ذي الحجة، حرم على من يريد أن يضحي، أو يضحى عنه، أن يأخذ من شعره أو بشرته أو ظفره شيئا حتى يضحي.
وأما مشروعية الأخذ من ذلك للتمتع، فقد قال الشيخ مرعي في "الغاية" : ويتجه هذا في غير متمتع حل من عمرته، يعني فإنه يحلق أو يقصر وجوبا، ولا يتناوله التحريم، ولو كان يريد أن يضحي، أو يضحى عنه؛ لأن الحلق أو التقصير نسك على الصحيح، وفعل النسك واجب. واللَّه أعلم.
[251] الترتيب والموالاة في رمي الجمار
رجل ذهب لرمي جمرة العقبة، ووضع في جيبه سبع حصيات، فلما أتى الجمرة، رمى بالحصيات التي في جيبه، واحدة بعد الأخرى. فلما رجع إلى خيمته، أدخل يده في جيبه، فوجد حصاة من السبع التي كانت معه، وتحقق أنه لم يرم بها، وأنه لم يرم إلا بست فقط. فهل يكتفي برمي حصاة واحدة، أم يلزمه إعادة الرمي كله؛ لفوات الموالاة بين رمي الحصيات؟
الإجابة:
المنصوص أن الموالاة لا تجب في رمي الجمرات، فيجزئه في مثل هذه الحالة أن يبني على ما رمى، ويكمل برمي حصاة واحدة.(1/292)
وهذا بخلاف الترتيب بين رمي الجمرة الأولى، ثم الوسطى، ثم العقبة، فإن الترتيب هنا شرط، فإن نكسها، فبدأ بالعقبة، ثم الوسطى، ثم الأولى -مثلا- لم يحتسب له غير رمي الجمرة الأولى، وإن أخل بحصاة من الأولى، لم يصح رمي الثانية، وهكذا.
والحاصل أن الترتيب شرط (885) بخلاف الموالاة. واللَّه أعلم.
[252] من يكري سيارته ويحج
رجل عنده سيارة يكريها بطريق الحج، وبين مكة وجدة، ومكة وعرفات ومنى، يؤجرها على الناس، يسترزق عليها، ولولا هذه المصلحة التي تأتيه ما حج، فهل له من أجر إذا هو حج واعتمر، ولو لم يكن الحج هو مقصوده؟
الإجابة:
نعم، له أجر؛ إذا صلحت نيته، واستقامت حاله. وقد ورد في هذا حديث أبي أمامة التيمي قال: كنت رجلا أكري في هذا الوجه، وكان ناس يقولون: ليس لك حج، فلقيت ابن عمر. فقلت: إني أكري في هذا الوجه، وإن ناسا يقولون: ليس لك حج. فقال ابن عمر: أليس تحرم، وتلبي، وتطوف بالبيت، وتفيض من عرفات، وترمي الجمرات؟ فقلت: بلى. قال: فإن لك حجا، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فسأله مثل ما سألتني، فسكت عنه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فلم يجبه، حتى نزلت الآية: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} (886) فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم ، وقرأ عليه هذه الآية. وقال: "لك حج" . رواه الإمام أحمد والدارقطني وغيرهما (887) . واللَّه أعلم.
[253] رمي جمرة العقبة من فوقها
سائل يسأل عن جواز رمي جمرة العقبة من فوقها -يعني: من خلف الجدار الذي بني أخيرا من الجهة الشمالية بعد نسف الجبل- وهل يجزئ رميها من هذه الجهة أم لا بد من رميها من بطن الوادي؟
الإجابة:(1/293)
لا شك في جواز رمي جمرة العقبة من أي جهة كانت، سواء من بطن الوادي، أو من فوقها -يعني: من خلف الجدار الذي بني من الجهة الشمالية -أو من أي جهة كانت. كل هذا جائز ومجزئ، بلا خلاف. صرح أهل العلم بذلك؛ من علماء المذاهب الأربعة وغيرهم. ولا نعلم أحدا من أهل العلم قال: إن رميها من فوقها غير جائز أو غير مجزئ. وإنما رميها من بطن الوادي أفضل وأكمل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رماها من بطن الوادي (888) .وإليك عبارات العلماء في ذلك:
كلام فقهاء الحنابلة: قال الموفق في "المغني" (889) : وإن رماها -يعني: جمرة العقبة -من فوقها جاز؛ لأن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- جاء والزحام عند الجمرة، فرماها من فوقها. والأول أفضل.اهـ. وقال في "الإقناع وشرحه" (890) : وله رميها -أي: جمرة العقبة- من فوقها؛ لفعل عمر. وكذلك ذكره في "المنتهى وشرحه" (891) ، "والغاية وشرحها" ، وغيرها من كتب المذهب.
كلام علماء الشافعية: قال الإمام الشافعي في "الأم" (892) : يرمي جمرة العقبة من بطن الوادي، ومن حيث رماها أجزأه. انتهى. وقال النووي في "شرح مسلم"(893) : وقد أجمعوا على أنه من حيث رماها جاز، سواء استقبلها، أو جعلها عن يمينه، أو عن يساره، أو رماها من فوقها، أو من أسفلها، أو وقف في وسطها ورماها.اهـ.
كلام فقهاء المالكية: قال في "شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني" للإمام أبي الحسن (894) : وللرمي شروط صحة؛ وهي ثلاثة. وشروط كمال؛ وهي سبعة. وذَكَر السابع: رميها من بطن الوادي، فلو رماها من فوقها أجزأه. وقال في "الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني" : ولا فرق في الإجزاء بين كون الرامي واقفا أمام البناء، أو تحته، أو خلفه؛ لأن القصد إيصال الحصيات إلى أسفل البناء.(1/294)
كلام فقهاء الحنفية: قال في "المبسوط" للسرخسي (895) : وإن رمى جمرة العقبة من فوق العقبة أجزأه. وقد بينا أن الأفضل أن يرميها من بطن الوادي، ولكن ما حول ذلك الموضع كله موضع الرمي، فإذا رماها من فوق العقبة فقد أقام النسك في موضعه، فجاز. انتهى. وقال في "فتح القدير على الهداية" (896) : ولو رماها من فوق العقبة أجزأ؛ لأن ما حولها موضع النسك، والأفضل أن يكون من بطن الوادي. قال في "شرحه" : قوله: (ولو رماها من فوق العقبة أجزأه) إلا أنه خلاف السنة، ففعله صلى الله عليه وسلم من أسفلها سنة، لا لأنه المتعين. ولذا ثبت رمي خلق كثير في زمن الصحابة من أعلاها، كما ذكرناه آنفا من حديث ابن مسعود -رضي اللَّه عنه- ولم يأمروهم بالإعادة، ولا أعلنوا بالنداء بذلك في الناس.اهـ. واللَّه أعلم.
[254] من نسي الحلاقة والتقصير
رجل حج وقضى أعمال الحج كاملة، غير أنه نسي الحلق والتقصير، فلم يحلق ولم يقصر حتى خرج شهر ذي الحجة. وفي النصف من محرم، وعندما أراد أن يحلق على العادة، ذكر أنه لم يحلق للحج، فكف عن الحلق حتى يسأل ماذا يترتب عليه.
الإجابة:
لا شيء عليه بتأخير الحلق عن أيام الحج، وحجه صحيح، ويجب عليه أن يحلق، أو يقصر حيث ذكر، ولا فدية عليه لذلك؛ إلا أن يكون قد جامع في هذه الحالة؛ فعليه فدية، شاة يذبحها، لمساكين الحرم. وهذا بخلاف ما لو أخر رمي الجمار عن أيام منى، فإنه لا يقضيها، وعليه دم.
والحاصل: أن أفعال الحج إذا أخرها عن أيام منى، فمنها ما يمكن قضاؤه، ولا يؤثر تأخيره: كطواف الإفاضة، والسعي، والحلق أو التقصير. ومنها ما يؤثر تأخيره، ولا يمكن قضاؤه، لكنه يجبر بدم: كالمبيت بمنى، والمبيت بمزدلفة، ورمي الجمار. واللَّه أعلم.
[255] إدخال الحج على العمرة قبل الحلق
إذا أحرم المتمتع من الميقات، وأدى مناسك العمرة، ولم يحل إحرامه منها، بل ظل في إحرامه، ونوى به الحج. فما حكمه؟
الإجابة:(1/295)
إن كان مرادك بقولك: (لم يحل إحرامه منها) ، أنه طاف للعمرة وسعى، وحلق أو قصر من شعره، ولم يخلع ثياب الإحرام، بل أحرم بالحج فورا، بملابس إحرام العمرة، فهذا لا شيء عليه؛ لأنه متمتع انتهى من أفعال العمرة ثم أحرم بالحج؛ فعمرته صحيحة وكذلك حجه. فإن كان إحرامه بالحج قبل يوم التروية فهو قد استعجل، وغايته أنه خالف السنة بتعجله، ولكن لا شيء عليه لذلك، وعليه دم؛ لتمتعه، كغيره.
وإن كان مرادك بقولك: (لم يحل إحرامه منها) ، أنه أدخل الحج على العمرة بعد ما طاف وسعى لها وقبل أن يحلق أو يقصر من شعره، فقد اختلف العلماء في هذا: والمشهور من المذهب أن حجه غير صحيح؛ لأنه لا يصح إدخال الحج على العمرة بعد الشروع في طوافها؛ لأنه شرع بالتحلل من العمرة بذلك. صرح بذلك الفقهاء -رحمهم اللَّه- إلا لمن كان معه هدي.
وفي قول ثان ذكره الموفق في "المغني" وغيره: أنه يصح حجه، وعليه دم، ويكون بذلك قارنا. قال في "المغني" (897) : وإن أحرم بالحج قبل التقصير، فقد أدخل الحج على العمرة؛ فيصير قارنا.اهـ. مع أن الموفق ذكر فيما سبق أنه لا يصح.
وقد استشكل العلماء هذا، فقال بعضهم: إن ذلك سهو من الموفق -رحمه اللَّه-. وبعضهم قال: إنه غير سهو، وإنما أخذ بقول آخر. وقال آخرون: إن المراد من كان معه هدي. والقول بصحة حجه مذهب المالكية. وممن قال به من الحنابلة: الموفق في "المغني" وصاحب "الشرح الكبير" (898) ."والمستوعب" (899) "والمبدع" (900) ، وقال به الشيخ أبو المواهب والشيخ سليمان بن علي، ذكره في "مفيد الأنام" ، واختاره إذا كان ناسيا أو جاهلا، وعليه دم؛ لتركه الحلق، أو التقصير. واللَّه أعلم.
[256] الجماع قبل التحلل أو بعده(1/296)
رجل حج بزوجته في سيارته، فلما كان ليلة العيد، ودفع من مزدلفة بعد نصف الليل، ذهب بها إلى منى، فرميا جمرة العقبة، ثم واصل السير بها إلى مكة، ومر بطريقه بخيام رفقة له، فأخذ منهم مقصا، وقصر من شعره، وشعر زوجته، ثم نزلا إلى مكة، فطافا للإفاضة، وسعيا، ثم رجعا إلى منى. وفي أثناء طريقه تاقت نفسه إلى زوجته، وتحركت شهوته، وهما في نفس السيارة، فعدل بها عن الطريق، وقضى حاجته منها، ثم سقط في أيديهما. فهل يفسد حجهما بذلك أم يكون عليهما فدية: بدنة، أو شاة، أو غير ذلك؟
الإجابة:
هذا لا يخلو من ثلاثة أحوال:
الحالة الأولى: وهي أسهلها أن يكون الوطء في رجوعهما من مكة إلى منى، وبعد الرمي، والتقصير، والطواف، والسعي؛ فحجهما صحيح، ولا شيء عليهما: لا فدية، ولا غيرها؛ لأنهما قد تحللا الحل كله.
الحالة الثانية: وهي أغلظها أن يكون الوطء في طريقهما من منى إلى خيام رفقته، وقبل التقصير والطواف؛ فقد فسد حجهما بذلك، وعلى كل منهما المضي فيه، وتكميل جميع المناسك -ولو كان فاسدا- وحكمه حكم الصحيح، فيما يفعله ويتجنبه، ولو فعل محظورا وجبت عليه الفدية، وعلى كل منهما أيضا القضاء فورا -وجوبا- سواء كان حجه هذا فرضا أو نفلا. فإن كانت الزوجة مطاوعة، فنفقة قضاء حجتها عليها، وإن كانت مكرهة، فعلى الزوج، ولو كان قد طلقها فيما بعد. وعلى كل منهما أيضا الفدية وهي: بدنة، أو بقرة، أو سَبْع شياه. فإن لم يجد، فصيام عشرة أيام، منها ثلاثة في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله. فإن كانت الزوجة مكرهة، فلا فدية عليها.
الحالة الثالثة: أن يكون ذلك في طريقهما من الخيام إلى مكة، بعد الرمي والتقصير، وقبل طواف الإفاضة؛ فحجهما صحيح؛ لأن الوطء حصل بعد التحلل الأول، لكن يفسد إحرامهما بذلك، وعليهما الخروج إلى الحل؛ ليحرما منه، ثم يطوفا للإفاضة، ويكملا أعمال الحج. وعلى كل منهما فدية شاة، فإن كانت الزوجة مكرهة، فلا فدية عليها. واللَّه أعلم.(1/297)
[257] حدود عرفة وسبب تسميتها
سائل يسأل عن حدود عرفة ولم سميت عرفة بهذا الاسم؟
الإجابة:
أما حدود عرفة: فقد حددها الفقهاء كما في "المغني" (901) وغيره بأنها من الجبل المشرف على عرنة إلى الجبال المقابلة له إلى ما يلي حوائط بني عامر.
وقال في "مفيد الأنام" : إن الجبل المشرف المذكور هو الجبل العالي شمالا عن جبل الرحمة، وهو شرقي عرفة. والجبال المقابلة المذكورة هي الجبال الجنوبية، وهي حد عرفة من جنوب. وحوائط بني عامر هي بساتين لبني عامر، وكان بها عين ونخل تنسب إلى عبد اللَّه بن عامر بن كريز، وهي الآن خراب، وموضع العين فيما يظهر غربي مسجد عرنة، الذي يسمى الآن مسجد إبراهيم. وآثار العين المذكورة موجودة الآن قرب المسجد، فحد عرفة من هذه الجهة ليس هو حوائط بني عامر، بل هو الذي يلي الحوائط المذكورة والذي يليها هو للمسجد. ومنه يتضح أن المسجد ليس من عرفة؛ لأن الحد لا يدخل في المحدود. والحد الشامي لعرفة بطن وادي عرنة؛ لأنه يأتي من الشمال إلى الجهة الغربية الجنوبية ووادي عرنة أيضا حدٌ لعرفة من جهة الغرب؛ لأن نفس المسجد في وادي عرنة. فهذه حدود عرفة من الجهات الأربع.
قال: ولم أر من حددها غيري، ولكن بالوقوف والتطبيق وفق اللَّه لي ذلك. وهناك علمان فاصلان بين عرفة ووادي عرنة من جهة الغرب عن عرفة، فما كان شرقا عن العلمين المذكورين فهو من عرفة. وما كان غربا منهما فمن عرنة.
قال: وقد وجدت مكتوبا على العلم الجنوبي منهما في حجر ملزق بالعلم ما نصه: بسم اللَّه الرحمن الرحيم، وبه نستعين، أمر بعمارة علمي عرفات المفروض القيام بها على كافة الأنام في حجة الإسلام، سيدنا ومولانا الإمام الأعظم مفترَض الطاعة على كافة الأمم، أبو جعفر المنصور عبد اللَّه أمير المؤمنين، أمتع اللَّه بطول بقائه وله بقية لم نتمكن من قراءتها لصعوبة معرفتها.(1/298)
قال: وتاريخ اكتشافي لما هو مكتوب في العلم المذكور في جمادى الأولى سنة سبعين وثلاثمائة وألف، فليعتمد ذلك.
وأما سبب تسميتها عرفة: فقيل: لأن جبريل حين أرى إبراهيم المناسك كان يقول له: هذا موضع كذا، هل عرفت؟ وهذا موضع كذا، هل عرفت؟ فيقول: عرفت عرفت. وهو مروي عن ابن عباس وغيره.
وقيل: لأن الناس يتعارفون فيها. وقيل: إن آدم أهبط من الجنة بالهند وحواء بجدة فاجتمعا بعد طول الطلب بعرفات يوم عرفة فتعارفا؛ فسمي يوم عرفة لذلك. واللَّه أعلم.
باب الهدي والأضحية والعقيقة [258] إذا عدم الهدي فهل يصوم أو يقترض ثمن الفدية؟
إذا انقضت نفقة المتمتع، فلم يجد ما يشتري به الهدي. فهل الأفضل له أن يصوم أم يقترض من أحد أصحابه ثمن هدي؟
الإجابة:
قال اللَّه تعالى: {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِن الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (902) . والأمر في ذلك موسع ولله الحمد، فإن شاء صام -وهذه رخصة له، واللَّه يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تنتهك محارمه- وإن شاء اقترض، واشترى الفدية.
والأولى له إن كان إذا اقترض وجد له وفاء بدون مضايقة مالية، أو كان الصيام يشق عليه في أيام الحج وبعد رجوعه إلى أهله، والاقتراض وذبح الهدي أسهل عليه - فلا بأس أن يقترض، وإلا فالصيام أولى.
وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه اللَّه- في "الفتاوى السعدية" (903) : الأفضل له أن يصوم ولا يشكل ذمته؛ لأن اللَّه تعالى قال {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} (904) ، واتباع رخصة اللَّه أولى. انتهى.
[259] الفرق بين الهدي والأضحية لو مات(1/299)
سائل يسأل عن رجل اشترى بدنة، ونواها هديا يهديها إلى البيت الشريف، وعينها لذلك، واشترى شاة، ونواها أضحية له، وعينها لذلك. فقدر اللَّه أن أصابهما مرض قبل العيد، وقبل أن تصل البدنة إلى مكة. وخشي عليهما إن لم يذبحهما أن يموتا، فلا ينتفع بهما أحد. فهل يجوز له أن يذبحهما في هذه الحالة أم لا، وإذا ذبحهما. فهل عليه شيء لذلك؟.
الإجابة:
المنصوص أن الأضحية المعينة إذا مرضت، فخاف صاحبها عليها الموت، فذبحها، فعليه بدلها؛ لأنه أتلفها بذبحها قبل وقتها، ولو تركها بلا ذبح فماتت، فلا شيء عليه -نصا-؛ لأنها كالوديعة عنده، ولم يفرط.
وأما الهدي فبعكسها، فلو عطب الهدي الواجب بطريق، أو عجز عن المشي صحبة الرفاق، لزمه ذبحه موضعه -وجوبا-؛ لئلا يفوت. فلو تركه، ولم يذبحه حتى مات، فعليه ضمانه؛ لأنه فرط بعدم ذبحه، فيضمنه بقيمته، يوصلها لفقراء الحرم؛ لأنه لا يتعذر عليه إيصالها إليهم. واللَّه أعلم.
[260] الوكيل في الأضحيةهل يمتنع من أخذ شعره حتى يضحي؟
سائل يسأل عن الحديث الوارد في النهي عن أخذ شيء من الشعر ونحوه لمن يريد أن يضحي حتى تذبح أضحيته: هل هو خاص بمن يضحي عن نفسه أم يعم الوكيل، والوصي، وناظر الوقف، ونحوهم؟ نرجوكم إيضاح الجواب.
الإجابة:
الحمد لله. الظاهر أن ذلك خاص بمن يريد أن يضحي بنفسه عن نفسه، سواء أشرك معه والديه أو غيرهم، أو لا. وأما الوكيل على ذبح الأضحية، والوصي عليها، وناظر الوقف، ونحوه، فلا يشملهم ذلك. قال الشيخ عبد اللَّه ابن عبد العزيز العنقري في "حاشيته" (905) على الروض المربع: قوله: ويحرم على من يضحي عن نفسه، أو يضحى عنه، وأما إذا ضحى عن غيره، فلا يحرم عليه حلق ونحوه، سواء كان وصيا أو متبرعا. انتهى.(1/300)
وفي "الفتاوى السعدية" للشيخ عبد الرحمن السعدي ما نصه: ذكر بعض المتأخرين في هذا وجهين، ولعلهما مبنيان على أن الوكيل،هل يدخل في لفظ الحديث: "إذا دخل العشر، وأراد أحدكم أن يضحي، فلا يأخذ شيئا من شعره" (906) وعمومه يدخل فيه الوكيل، أو أنه لا يدخل في ذلك؛ لأن المراد من كانت الأضحية له، ويؤيده أن بعضهم علل الحكمة بأن في هذا تشبها بالمحرمين، وبعضهم علله بأنه لرجاء أن تشمل المغفرة جميع أجزاء المضحي؛ فلهذا ينهى عن إزالة شيء من أجزائه، وهذا خاص بمن له الأضحية. وهذا هو الظاهر عندي (907) . انتهى.
[261] حكم من ضحى بأضحية الآخر
سائل يسأل عن رجلين اشتريا أضحيتين: الأول اشترى أضحيته بمائة، والثاني اشتراها بثمانين، ونوياهما، وسمياهما. فلما كان يوم العيد، ضحى كل واحد منهما عن نفسه بأضحية الآخر غلطا، ثم تبين لهما الصواب بعد ذلك. فما حكم الأضحيتين، وهل يلزم كلا منهما أن يغرم للآخر أضحيته؟
الإجابة:
المنصوص أن كل أضحية تجزئ عن صاحبها، وتكفي عنه؛ لوقوعها موقعها، وذبحها في وقتها، ولا ضمان على واحد منهما للآخر -استحسانا- فإن كانا قد فرقا اللحم أجزأ، وإن كان اللحم باقيا رد كل واحد منهما على الآخر لحم أضحيته؛ لأن كل واحد منهما أمكنه أن يفرق لحم أضحيته بنفسه، فكان أولى به. ونقل الأثرم وغيره في اثنين ضحى هذا بأضحية هذا. قال: يثردان اللحم ويجزئ. واللَّه أعلم.
[262] إذا تعيبت الأضحية
رجل أراد أن يذبح أضحيته، فأخذ السكين، وجر الضحية إلى المحل الذي يريد أن يذبحها فيه، فاستعصت عليه، فأخذ بقرنها؛ ليجرها، فانقلع القرن، وأخذ الدم يسيل بقوة. فهل تجزي هذه الأضحية؟
الإجابة:(1/301)
لقد أخطأ بجرها بعنف، ولا ينبغي له هذا الصنيع، بل عليه أن يرفق بها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : "إذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبحة" (908) ، ومع هذا فالمنصوص أنها تجزئ إذا ذبحها. نص عليه الإمام أحمد فيمن جر بقرة بقرنها إلى المنحر فانقلع. قال في المبدع" : لا يمنع الإجزاء عيب حدث بمعالجة ذبح كأن أصابت الشفرة عين المذبوح فقلعتها، أو تعاصى فألقاه الذابح بعنف، فكسر رجله أو غلاف قرنه، ونحو ذلك. واللَّه أعلم.
[263] من أحكام العقيقة عن المولود
امرأة تسأل عن العقيقة: متى تذبح، وإذا لم يعق الأب، فهل يجزئ أن يعق عن المولود غير أبيه سواء أمه أو خلافها أم أن الإنسان يعق عن نفسه إذا لم يعق عنه أبوه، وهل هناك فرق بين الذكر والأنثى في العقيقة؟
الإجابة:
العقيقة: هي سنة مؤكدة. وقيل: إنها واجبة قال في "الفروع" : وعنه: واجبة. اختارها أبو بكر وأبو إسحاق البرمكي وأبو الوفاء (909) . اهـ.
وهي مشروعة في حق الأب فلا يعق عن المولود غير أبيه حتى المولود نفسه إذا كبر لا يعق عن نفسه على المذهب.
وهي عن الغلام شاتان متقاربتان سنا وشبها، وعن الجارية شاة؛ لحديث أم كرز سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: عن الغلام شاتان متكافئتان وعن الجارية شاة" (910) .(1/302)
قال ابن القيم: قال الإمام أحمد: أشد ما سمعته فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه قال : "كل غلام رهين بعقيقته" (911) . وإني لأرجو إن استقرض أن يجعل اللَّه له الخلف؛ لأنه أحيا سنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم . وقال أحمد في موضع آخر: مرتهن عن الشفاعة لوالديه، وهذا لأنها نسيكة مشروعة بسبب تجدد نعمة اللَّه على الوالدين، وفيها سر بديع موروث عن فداء إسماعيل بالكبش الذي ذبح عنه، وفداه اللَّه -سبحانه وتعالى- به، فصار سنة في أولاده من بعده أن يفدى أحدهم عند ولادته بذبح يذبح عنه، ولا يستنكر أن يكون هذا حرزا له من الشيطان بعد ولادته، كما كان ذكر اسم اللَّه عند وضعه في الرحم حرزا له من الشيطان؛ ولهذا من يترك أبوه العقيقة عنه يناله تخبيط من الشيطان، ذكره في "تحفة المودود في أحكام المولود" .
ووقت ذبح العقيقة في اليوم السابع من ولادة الطفل، ويحلق فيه رأس المولود الذكر، ويتصدق بوزنه ورقا - أي: فضة -، ويسن الأذان في أذنه اليمنى، والإقامة في اليسرى، وأن يختار له أحسن الأسماء، فإن فات ففي اليوم الرابع عشر، فإن فات ففي اليوم الحادي والعشرين، فإن فات لم يتقيد بعد ذلك بالأسابيع، بل تذبح في أي يوم كان.
فإن صادف يوم ذبحها ختان الصبي، فلا بأس، وحكمها كحكم الأضحية فيما يجزئ، وما لا يجزئ: من السن، والعيوب، وغيرها، إلا أنه لا يجزئ فيها شركة في الدم، بمعنى: أنه لا يجزئ فيها سبع البدنة والبقرة، بل لا تجزئ إلا كاملة. واللَّه أعلم.
[264] جواز ذبح العقيقة للضيوف
سائل يسأل عن رجل رزق مولودا، فاشترى شاة ونواها عقيقة عن ولده، وهي ما تسميه العامة تميمة، وعند مجيئه بها إلى البيت، وجد فيه ضيوفا، فذبحها على أنها تميمة لولده، وقدمها للضيوف، وهم يعتقدون أنها ضيافتهم، وحياهم عليها دون أن يذكر لهم أنها تميمة، ويستوضح هل تجزئ تميمته على هذه الحال أم لا؟ أفتونا مأجورين.
الإجابة:(1/303)
الحمد لله وحده، ما دام قد اشتراها تميمة، وذبحها على أنها تميمة، ولم يؤجل ذبحها؛ انتظارا لضيوف يأتون إليه، فلا يظهر لنا مانع من إجزائها تميمة.
والتميمة حكمها حكم الأضحية فيما يجزئ منها، وما يستحب، وما يكره -إلا أنه لا يجزئ في العقيقة سبع البدنة، والبقرة، بخلاف هدي وأضحية- وفي الأكل منها، والهدية، والصدقة، فيأكل منها ثلثا، ويتصدق بثلث على الفقراء، ويهدي ثلثا، ولا يعتبر فيها تمليك، بخلاف هدي، وأضحية، فإذا كان لم يتصدق منها بشيء على الفقراء فإنه يضمن لهم عنها أقل مقدار، كأوقية لحم يتصدق بها على الفقراء. واللَّه الموفق. وصلى اللَّه على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
1 سورة طه: الآية (5).
2 سورة الحاقة: الآية (17).
3 البخاري (6345، 6346، 7426، 7431).
4 البخاري (2790) و(7423.).
5 - (270- 278) .
6 - البخاري (2411) ومسلم (2373) وأحمد (2/ 264) بنحوه من حديث أبي هريرة.
7 - سورة البقرة: الآية (255).
8 -"كتاب العرش" لمحمد ابن عثمان بن أبي شيبة رقم (61) وعبد اللَّه بن أحمد في "السنة" (586) وابن خزيمة في "التوحيد" (154- 156) والطبري في "تفسيره" (3/ 10) من قول مسلم البطين، والحاكم في "المستدرك" (2/282) وغيرهم موقوفا، وقال الذهبي في "العلو": رواته ثقات، وصحح الشيخ الألباني إسناده في "مختصر العلو" رقم (45).
9 -"كتاب العرش" رقم 58، و"الأسماء والصفات" للبيهقي (2/ 148-149 ) و"تفسير الطبري" (5/399) وطرقه كلها لا تقوم بها حجة، وأغلبها واهية.
10 - سورة المطففين: الآيتان (29، 30) .
11 - سورة التوبة: الآيتان (65، 66).
12 -"تفسير الطبري" (10/172، 173) وابن أبي حاتم (16/ 982 - 991) سورة التوبة.
13 -"مجموع الفتاوى" (7 /273).
14 - سورة النور: الآية (47).
15 - سورة الحجرات: الآية (2).
16 - أخرجه البخاري (6477)، (6478) ومسلم (2988) من حديث أبي هريرة، بنحو هذا اللفظ.(1/304)
17 - أخرجه أحمد (5/231) والترمذي (2616) وقال: حسن صحيح، والنسائي في "الكبرى" (6/428) وابن ماجه (3972) من طرق: عن معمر، عن عاصم بن أبي النجود، عن أبي وائل، عن معاذ مرفوعا به مطولا. والحديث أعله الحافظ ابن رجب الحنبلي من وجهين، الأول: عدم ثبوت سماع أبي وائل من معاذ، وإن كان أدركه بالسن. والثاني: أنه رواه حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود عن شهرا بن حوشب عن معاذ. قال الدارقطني: وهو أشبه بالصواب. قال ابن رجب: ورواية شهرٍ عن معاذ مرسلة يقينا، وشهر مختلف في توثيقه وتضعيفه. راجع "إرواء الغليل" (2 / 138) فما بعد.
18 - أحمد (1/ 381) وأبو داود (3883) وقد روي من حديث ابن مسعود مرفوعا وموقوفا، وفي أسانيده مقال. وقد حسن إسناده وصححه بطرقه الشيخ الألباني -حفظه الله-. راجع "الصحيحة" (231)، و"المشكاة" (4552).
19 - البخاري (5763) (5765) (5766)، ومسلم (2189) بدون ذكر نزول المعوذتين .
20 -"تفسير البغوي": (4/ 547).
21 -"طبقات ابن سعد": (2/ 197)، و"فتح الباري": (10/ 226) .
22 -"الفتح" (10/ 230).
23 -"الفتح" (10/ 226).
24 - سورة المائدة: الآية (67).
25 - سورة المائدة: الآية (3).
26 - راجع "المعلم بفوائد مسلم": (3/ 159).
27 - ذكر الإمام النووى في "المنهاج" بعضًا منه عن القاضي عياض: (14/ 175).
28 - سورة يوسف: الآية (45).
29 - سورة الأنبياء: الآية (92).
30 - سورة القصص: الآية (23).
31 - سورة النحل: الآية (120).
32 - سورة القيامة: الآية (16).
33 - سورة القصص: الآية (34).
34 - سورة البلد: الآية (8،9).
35 - سورة طه: الآية (27، 28).
36 - سورة مريم: الآية (50).
37 - سورة الشعراء: الآية (84).
38 - سورة الشعراء: الآية (195).
39 - سورة إبراهيم: الآية (4).
40 - سورة النحل: (103).
41 - سورة طه: الآية (18).
42 -(6/74) طبعة مطبعة العاصمة عبد المحيي علي محفوظ.
43 - سورة الدخان: الآية (24).(1/305)
44 -"تاج العروس": (10/ 160).
45 - سورة البقرة: الآية (179).
46 -"تفسير المنار" (2/130) ط.دار المنار.
47 - الترمذي (2879) والدارمي (2/ 449) وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (76) وإسناده ضعيف جدًّا، واستنكره العقيلي، وتبعه الذهبي في ترجمة عبد الرحمن بن أبي بكر المليكي.
48 - سورة الإسراء: الآية (111).
49 -(3/ 439) وفيه رشدين بن سعد و زبان بن فائد و كلاهما واهٍ.
50 -(10/ 345) .
51 - والصحيح أنه: معاذ بن أنس الجهني.
52 - تفسير الطبري (15/ 189) وهذا معضل.
53 -(5/ 129) ط. دار الشعب.
54 -(6671) وابن السني (546) عن أبي هريرة، وفي إسناده موسى بن عبيدة، وهو ضعيف جدا، وضعفه الحافظ في " المطالب العالية" (2/ 335).
55 -"التفسير" (9/ 189) .
56 - قال أبو المظفر بن السمعاني:لا يعرف مرفوعا، وإنما يحكى عن يحيى بن معاذ، يعني من قوله. قال النووي: ليس بثابت. وقال ابن تيمية: موضوع. انظر "المقاصد الحسنة" (1149)، و"كشف الخفاء" (2532)، و"الضعيفة" (66).
57 -. انظر "الموضوعات" للصغاني: رقم (81)، و"كشف الخفاء" (1102).
58 -"المقاصد الحسنة" للسخاوي (386).
59 - سورة النساء: الآية (66).
60 - انظر الحديث رقم (36).
61 - راجع تخريج "السنة" لابن أبي عاصم (63) فما بعده، و"شرح أصول الاعتقاد" لأبي القاسم اللالكائي (1/99- 104) و"الصحيحة" (203)، (204).
62 - حديث عوف بن مالك أخرجه ابن ماجه (479) وابن أبي عاصم في "السنة" (63) واللالكائي في "شرح أصول الاعتقاد" (1/ 101) .
63 - حديث أبي هريرة أخرجه أبو داود (4596) والترمذي (2640) وابن ماجه (479) وابن حبان (6247).
64 - حديث أنس أخرجه العقيلي في "الضعفاء" (4/ 201) ومن طريقه ابن الجوزي في "الموضوعات" (1/267).
65 -"تسديد القوس" بحاشية "مسند الفردوس" ( 2/ 98) .
66 -(2641) وقال: حسن غريب.
67 - راجع "الكشف" (1/ 149- 251).(1/306)
68 -حديث معاوية أخرجه أحمد(4/102) وأبو داود(4597) والحاكم في المستدرك (1/128) وراجع "الصحيحة" (204) .
69 -(4597).
70 - انظر "لوامع الأنوار البهية" 1/75، 76.
71 - انظر "لوامع الأنوار البهية" 1/92، 93.
72 -"كشف الخفاء" (2/ 198).
73 - العسكري في "الأمثال" وذكره القضاعي من طريقه (1/ 37).
74 - أبو داود (4869) وأحمد (3/ 342).
75 -"مسند الفردوس" (6927) ونحوه عند الخطيب (14/ 23).
76 - عبد الرزاق (19791) وابن المبارك في "الزهد" (691) والبيهقي في "الشعب" (11191).
77 - وفي إسناده عمرو بن عبيد وهو متروك.
78 - أحمد (3/ 324) وغير موضع، وأبو داود (4868) والترمذي (1959) .
79 - أبو داود (4294) وفي إسناده عبد الرحمن بن ثابت. قال فيه الإمام أحمد: أحاديثه مناكير. وقد روي هذا المتن موقوفا على معاذ بن جبل، أخرجه الحاكم (4/420،421) وصحح إسناده. وقال الذهبي: صحيح موقوف، وابن أبي شيبة (15/40، 41)، والبخاري في "التاريخ" (5/ 193) موقوفا على معاذ.
80 - مسلم (2942) كتاب "السنن وأشراط الساعة".
81 - مسلم (1747) والبخاري (3124)، واللفظ له.
82 - أحمد (2/ 325) و الحاكم (2/ 139).
83 - البخاري (1912) ومسلم (1089).
84 - بلفظه من: " مسائل الكوسج " (2/ 164). كما نقله محقق مسائله برواية عبد اللَّه، وبمعناه (2/ 619) من هذه المسائل. وكذا نقل عنه الترمذي في "السنن" في تعقيبه على هذا الحديث (692). وكذا نقل عنه البغوي في "شرح السنة" في تعقيبه على هذا الحديث (1717).
85 - انظر "السنن" للبيهقي (4/ 251).
86 -(2/ 235، 236) و"المقاصد الحسنة" (1087).
87 -(422).
88 - أحمد (4/ 307) وفي "الطبراني الكبير" (6/ 65).
89 - ابن ماجه (2491) وقال في "الزوائد" (2/ 276): هذا إسناد ضعيف.اهـ
90 - أى: خليق وجدير. النهاية (قمن).(1/307)
91 - الطبراني في "الأوسط" (8586) وقال في "المجمع" (4/ 111): وفيه جماعة لم أعرفهم، منهم عبد اللَّه بن يعلى الليثى.اهـ. واللفظ: "أيما رجل باع عقدة...".
92 -(2/ 136).
93 - الطبراني، وعزاه إليه في "المجمع" (5/ 34) وقال: وفيه أبو بكر بن أبي مريم، وهو ضعيف لاختلاطه.اهـ. وليس هو عند أحمد من رواية أبي الدرداء، وراجع "المقاصد"(851).
94 -"الطبراني الكبير"(4/ 121) وأحمد (5/ 414) وابن ماجه (2232) والقضاعي (697).
95 -"كشف الأستار" (2876) وقال في "المجمع" (5/35): رواه البزار والطبراني، وفيه أبو بكر بن أبي مريم، وقد اختلط، وبقية رجاله ثقات.اهـ.
96 -"فتح الباري" (4/346).
97 -(7/ 426، 427).
98 - البخاري (2128) وأحمد (4/ 131).
99 -} سورة الفرقان: الآية (67).
100 - الترمذي (3127) وغيره، وهو حديث لا يصح مرفوعا، وإنما هو قول عمرو بن أبي قيس: كان يقال: اتقوا... فذكره. انظر العقيلي (4/129).
101 - سورة الحجر: آية (75).
102 - البزار (4/ 3632) "كشف الأستار" و"مسند" الشهاب (2/ 1005، 1006) وابن جرير في "التفسير" (13/ 46 حلبي).
103 - مادة (ف ر س).
104 - انظر (2/ 482 ) .
105 - سورة محمد: الآية (30).
106 - البخاري (2458، 2680، 6967، 7169، 7181، 7185) ومسلم (1713).
107 - الطبري (12/ 176) و"مصنف" ابن أبي شيبة (14/ 574) وابن أبي حاتم (12/ 81، 221) والحاكم (2/345،3 /90) والطبراني في "الكبير" (9/185) وابن كثير في "التفسير" (4/ 306).
108 - سورة يوسف: الآية (21).
109 - سورة القصص : الآية (26).
110 - سورة القصص: الآية (9) .
111 - سورة الأنعام: الآية (122).
112 - البخاري (223)، (5692) ومسلم (287) وأبو داود (374) وأحمد (6/ 355، 356).(1/308)
113 - أبو داود (378) والترمذي (610) وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (525) وأحمد (1/76) والحاكم (1/ 165، 166) وقال الحافظ في"التلخيص الحبير" (1/38): إسناده صحيح، إلا أنه اختلف في رفعه ووقفه، وفي وصله وإرساله، وقد رجح البخاري صحته، وكذا الدارقطني.
114 - أحمد (6 / 339، 340) وأبو داود (375) والحاكم (1/ 166).
115 - سورة التحريم: الآية (6) .
116 - البخاري (162) ومسلم (278) وأبو داود (103، 104، 105).
117 -"مجموع الفتاوى" (21/46).
118 -"مجموع الفتاوى" (21/ 44).
119 - البخاري (3295) واللفظ له، ومسلم (238).
120 -(3/ 179، 180).
121 - رواه أحمد (5/303)، ومالك (13)، ومن طريقه أبو داود (75)، والنسائي (1/55)، وغيرهم، وصححه الترمذي (92)، وابن ماجه (367)، والحاكم (1/159، 160) وقال: وهو مما صححه مالك واحتج به في "الموطأ". وصححه أيضا النووي والبيهقي وغيرهما، وقد أعل بجهالة حميدة بنت أبي عبيدة بن فروة وخالتها كبشة بنت كعب بن مالك، لكن للحديث طرق أخرى كما في"الإرواء" (173)، وانظر"التلخيص" (1/41) .
122 - سورة الإنسان : الآية (19).
123 -(1/ 345، 346).
124 - أبو داود في "السنن" (72) وقد رواه موقوفا على أبي هريرة ولم يرفعه.
125-أبوداود(76) وفي إسناده جهالة ، ويغني عنه حديث كبشة الذي مر قريباً وقد صححه غير واحد من الحفاظ .
126 - (288) وبنحوه (290).
127 - "سنن الدارقطني" (1/ 124، 125).
128 - (1/ 340).
129 - (1/191، 192).
130 - البخاري: (229، 230، 231، 232) ومسلم: (2899)، وغيرهما .
131 - أبو داود (3839) من حديث مسلم بن مشكم، عن أبي ثعلبة الخشني.
132 - البخاري (5478، 5488) ومسلم (1930) من حديث أبي إدريس، عن أبي ثعلبة.
133 - يشير إلى قول من يقول بذلك من الشيعة كما هو مصرح به في كتبهم.
134 - مسلم (832).
135 -"السنن الكبرى" (1/38).
136 -"السنن الكبرى" (1/ 38) وقال: الواقدي لا يحتج به.(1/309)
137 -"المستدرك" (1/ 146) وأبو يعلى (4738) والبزار (1/ 244 "كشف").
138 - لم أجد هذا اللفظ في"الفردوس" عن أبي هريرة، ولكن الذي فيه: (ح3550) عن جبير بن نفير مرفوعا:"صلاة بعد سواك أفضل من خمس وسبعين صلاة بغير سواك".
139 - رواه الحارث بن أبي أسامة كما في"بغية الباحث" (1/ 218- باب السواك ح 155)، والحديث من رواية عبد اللَّه بن أبي يحيى سحبل، عن أبي الأسود، عن عروة عن عائشة مرفوعًا بلفظ:"ركعتان بعد السواك أحب إلى اللَّه من سبعين ركعة قبل السواك". والحديث فيه الواقدي، وهو متروك، قال البخاري في"تاريخه الكبير" (1/ ترجمة 543): سكتوا عنه. وقال في"الصغير" (2/ 11): تركوه، وفي"الضعفاء الصغير" (ترجمة 334): متروك الحديث.اهـ. وتركه أحمد، وابن نمير، وابن المبارك، وإسماعيل بن زكريا، راجع"تهذيب الكمال" (26/ 186) و"إتحاف الخيرة" (1/ 192) ولفظه:"ركعتان بعد سواك أحب إلى اللَّه من سبعين ركعة قبل السواك".
140 - وأخرجه ابن خزيمة (137)، وقال: أنا استثنيت صحة هذا الخبر؛ لأني خائف أن يكون محمد بن إسحاق لم يسمع من الزهري وإنما دلسه عنه. اهـ. وأحمد (6/ 146)، والبزار "كشف" 1/ح50) والبيهقي (1/ 38) .
141 - أخرجه أحمد (6/ 272) وقال البيهقي (1/ 38): وهذا الحديث أحد ما يخاف أن يكون من تدليسات محمد بن إسحاق بن يسار وأنه لم يسمعه من الزهري. اهـ.
142 - ابن عدي في "الكامل" عن أبي هريرة مرفوعا (6/ 2317).
143 - ص (271).
144 - ص(26).
145 - البخاري (887) و(7240) ومسلم (252) والبيهقي: (1/35).
146 - أحمد (1/3، 10 و6/47، 62، 124، 146، 238) وغير موضع، والنسائي (1/ 50) والبيهقي (1/ 34) وأخرجه البخاري تعليقا بصيغة الجزم (4/158).
147 - البخاري (888) وأحمد (3/143، 249) والبيهقي (1/ 35) من حديث أنس.
148 - أحمد (1/ 237، 285) بنحوه، وابن أبي شيبة (1/ 171) والبيهقي (1/ 35).
149 -"المسند" (1/ 237، 285، 307، 315، 337، 340 و3/490).(1/310)
150 - أحمد (1/ 214) والطبراني (2/ 64) والبيهقي (1/ 36).
151 - مسلم (261) وأبو داود (53) والترمذي (2757) وحسنه، وابن ماجه (293) وأحمد (6/ 137) والنسائي "كبرى" (5/ 405) "مجتبى" (8/ 125).
152 - أبو داود (48) وأحمد (5/ 225) والدارمي (658) وابن خزيمة (138) والحازمي في"الاعتبار" ص (88 ، 89).
153 - البيهقي (1/ 38) والضياء في"المختارة" (580) موقوفا، ورواه الضياء في"المختارة" (581) والبزار في"مسنده" (603) مرفوعًا. وقال البزار: وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن علي -رضي الله عنه- بإسناد أحسن من هذا الإسناد. وقد رواه غير واحد عن الحسن بن عبيد اللَّه، عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي -رضي الله عنه- موقوفا. اهـ.
154 - البخاري (245) ومسلم (255).
155 - نحوه في مسلم (253) من حديث عائشة، وأحمد (6/ 41، 109، 110، 182، 237، 188، 192، 254) والنسائي "مجتبى" (1/ 13)، وأبو داود (51)، وابن ماجه (290).
156 - البخاري (890، 1389، 3100).
157 - البيهقي (1/37) و قال : قال أبو القاسم: رواه عن ابن إسحاق سفيان، ولم يروه عن سفيان إلا يحيى. قال الشيخ: ويحيى بن يمان ليس بالقوي عندهم، ويشبه أن يكون غلط. اهـ. وله شاهد من حديث زيد ابن خالد، سيأتي تفصيله.
158 - النسائي "الكبرى" (1/ 424) وابن ماجه (288) ولفظ النسائي بغير تكرار (ركعتين).
159 - الترمذي (23) وقال : حسن صحيح، والبيهقي (1/ 37) وقال الترمذي في"العلل الكبير" (10): فسألت محمدًا عن هذا الحديث: أيهما أصح؟ - يقصد حديث زيد، وحديث أبي هريرة- فقال: حديث زيد بن خالد أصح .
160 -"الموطأ" (65) وابن أبي شيبة (2/ 96) وغيرهم، وهو مرسل.
161 - مسلم (846) ورواه البخاري (880) بلفظ:"الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، وأن يستن..." يعني يستاك.(1/311)
162 - أحمد (2/417) والحاكم (4/ 227) والبيهقي (9/273) من حديث أبي هريرة، مرفوعا وموقوفا. قال البخاري "التاريخ" (4/ 198) يرفع بعضهم، ولا يصح.اهـ. وقال الهيثمي في هذا الحديث: "المجمع" (4/ 18) رواه أحمد، وفيه أبو ثغال قال البخاري: فيه نظر. وله شاهد عن كبيرة بنت سفيان في الطبراني (25 / 15) لفظه:"دم عفراء أزكى عند الله من دم سوداوين" اهـ. قال الهيثمي "المجمع" (4/18) وفيه محمد بن سليمان بن مسمول، وهو ضعيف. اهـ. وله شاهد من حديث ابن عباس رواه الطبراني (11/ 109) ولفظه "... وإن دم الشاة البيضاء أعظم" قال فيه الحافظ ابن حجر "التلخيص" (4/ 18) وفيه حمزة النصيبي، قيل: كان يضع الحديث.اهـ.
163 - النسائي "مجتبى" (5/ 59)، والحاكم (1/ 416)، والبيهقي (4/ 181) من حديث أبي هريرة.
164 - سورة الكهف: الآية (7)
165 -"المنار المنيف": ص (23-34).
166 - انظر "مجموع الفتاوى" (21/ 108) .
167 - البخاري (168، 5380، 5854، 5926) ومسلم (268) وأحمد (6/ 187).
168 -(1/ 128).
169 - أحمد (5/ 66) وأبو داود (82) والترمذي (64) وحسنه. وابن ماجه (373) وابن حبان (260) من حديث أبي حاجب سوادة بن عاصم العنزي عن الحكم بن عمرو الغفاري مرفوعا، وفيه اضطراب، وقد قال الترمذي في"علله الكبير":سألت محمدا -يعني البخاري- عن هذا الحديث، فقال: ليس بصحيح، وحديث عبد اللَّه بن سرجس في هذا الباب هو موقوف، ومن رفعه فهو خطأ. اهـ. وقد صحح وقفه على عبد اللَّه بن سرجس أيضا الدارقطني في "سننه" (1/192)، وقال: هو أولى بالصواب، وقد أشار البخاري في"التاريخ الكبير" (4/185) إلى الاختلاف في إسناده ومتنه .
170 - سبق في الفتوى السابقة، ولا يثبت مرفوعا، كما مر.
171 - مسلم (323).(1/312)
172 - أبو داود (68) والترمذي (65) والنسائي (1 /173) وابن ماجه (370) وابن خزيمة (109) من طريق سماك عن عكرمة، قال الحافظ في "الفتح" (1/300): وقد أعله قوم بسماك بن حرب؛ لأنه كان يقبل التلقين، لكن قد رواه عنه شعبة، وهو لا يحمل عن مشايخه إلا صحيح حديثهم.اهـ.
173 - سورة النساء: الآية (43) ، وسورة المائدة: الآية (6).
174 - أخرجه أحمد (3 /31) وأبو داود (66) والترمذي (66) والنسائي (1/174) من حديث أبي سعيد الخدري، و هو حديث بئر بضاعة، وقد صححه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وابن حزم وغير واحد، وضعفه آخرون، راجع " التلخيص الحبير" (1/13) .
175 - أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (1/ 186) والبيهقي (1/ 292) من طريق الحسن البصري عن المغيرة، وفيه انقطاع ؛ فالحسن لم يسمع منه، كما أشار إليه الحافظ في "التلخيص" (1/161).
176 - أحمد (1/ 95، 114، 124) وأبو داود (163)، وصحح إسناده الحافظ في "التلخيص" (1/160).
177 - انظر "مسائل الإمام أحمد" برواية عبد الله (1/65).
178 - أخرجه أحمد (4/ 288، 303) وأبو داود (184، 493) والترمذي (81) وابن ماجه (494)، ونقل الشوكاني في "نيل الأوطار" (1/194) أن ابن خزيمة قال في "صحيحه" بعد أن أخرجه: لم أر خلافًا بين علماء الحديث أن هذا الخبر صحيح من جهة النقل؛ لعدالة ناقليه. اهـ.
179 - أخرجه أحمد (5 / 86، 88، 92، 93، 100، 108) ومسلم (360) وابن ماجه (495).(1/313)
180 - روي من حديث أبي لاس الخزاعي عند أحمد (4/221) في موضعين، وابن خزيمة (2377)، (2543)، والحاكم (1/444) من طريق محمد ابن إسحاق عن عمر بن الحكم بن ثوبان عن أبي لاس. قال الحافظ في "الفتح" (3/332): رجاله ثقات إلا أن فيه عنعنة ابن إسحاق ؛ ولهذا توقف ابن المنذر في ثبوته. اهـ. لكن قد جاء تصريح ابن إسحاق بالسماع عند أحمد في الموضع الثاني؛ ولذا حسنه الشيخ الألباني في هامش ابن خزيمة، وصححه الحاكم على شرط مسلم وقال: وله شاهد صحيح.اهـ. وهو ما روي من حديث حمزة بن عمرو الأسلمي عند الدارمي (2667)، وابن خزيمة (2546)، والحاكم (1/444) من حديث أسامة بن زيد عن محمد بن حمزة بن عمرو الأسلمي عن أبيه مرفوعًا، وصححه الحاكم على شرط مسلم، وقال: وله شاهد على شرطه.اهـ. وصححه الشيخ الألباني بشواهده في هامش ابن خزيمة أيضًا. وروي من حديث أبي هريرة عند ابن خزيمة (2547)، والحاكم (1/444) من حديث ابن أبي الزناد عن أبيه عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعًا. وهذا هو الشاهد الذي أشار إليه الحاكم على شرط مسلم، وقد صححه الشيخ الألباني أيضًا بشواهده في هامش ابن خزيمة .
181 - مالك (58)، والشافعي في المسند (ص 12)، وأبو داود (181)، والترمذي (83)، والنسائي (1/100، 216)، وغيرهم، وقد صححه الترمذي ونقل عن البخاري أنه أصح شيء في الباب، وصححه أحمد وابن معين والدارقطني والبيهقي وغير واحد من الحفاظ، وراجع "التلخيص" للحافظ (1/122) .
182 - أحمد (2/333) وفيه يزيد بن عبد الملك النوفلي، وهو واه. واختلف في إسناده بما لا تقوم به الحجة. قال البزار: لا نعلمه يروى عن أبي هريرة بهذا اللفظ إلا من هذا الوجه. اهـ. راجع "التلخيص الحبير" (1/126).
183 - أخرجه أحمد (2/418) وأبو داود (4101) وابن ماجه (399)، ولا يخلو طريق له من مقال. وقد حسنه بعض أهل العلم بمجموع طرقه .(1/314)
184 - البخاري (274) ومسلم (317) وأبو داود (245) والترمذي (103) وقال: حسن صحيح، والنسائي (1/137) وابن ماجه (467، 573).
185 - البخاري (272) ومسلم (316).
186 - البخاري (168).
187 -(1/ 247).
188 - عند الدارمي بلفظ قريب (773) .
189 - مسلم (332).
190 - ابن ماجه (641) وراجع "الصحيحة" (188).
191 - أحمد (6/ 43) ومسلم (331).
192 - أخرجه مسلم (332) بنحوه من حديث عائشة ولم يسم أسماء.
193 - البخاري (201) ومسلم (325).
194 -"المغني" (1/ 269).
195 - أخرجه أحمد (6/ 256) وأبو داود (236) والترمذي (113) وابن ماجه (612)، وهو من طريق عبد اللَّه بن عمر العمري عن عبيد اللَّه بن عمر عن القاسم بن محمد عن عائشة مرفوعًا. وقال الترمذي: إنما روى هذا الحديث عبد اللَّه بن عمر، وعبد الله بن عمر ضعفه يحيى بن سعيد من قبل حفظه في الحديث. وقال الشوكاني في "نيل الأوطار" (1/226): فالحديث معلول بعلتين؛ الأولى العمري، والثانية التفرد وعدم المتابعات، فقصر عن درجة الحسن والصحة. اهـ.
196 -"مجموع الفتاوى" (21/473).
197 - وهو من أشهر كتب متأخري الحنابلة. مؤلفه الشيخ منصور بن يونس البهوتي المتوفى سنة (1051هـ).
198 -(ص 23).
199 -(ص 3).
200 - أحمد (2/184)، وأبو داود (2857)، من طريق حبيب المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد اللَّه بن عمرو، به. وإسناده حسن، على الخلاف الواقع في نسخة عمرو بن شعيب، وقد حسنه الألباني في "الإرواء" (1/76)، ومعناه ثابت في "الصحيحين"، كما سيأتي.
201 -"الجامع" (1797)، والحديث أصله في "الصحيحين"، البخاري (5478)، ومسلم (1930).
202 - البخاري (227) ومسلم (291) واللفظ لمسلم.
203 -"نيل الأوطار" (1/41).
204 -"نيل الأوطار" (1/ 39).
205 - البخاري (312) من حديث مجاهد، عن عائشة به .
206 -(1/330).(1/315)
207 - أبو داود (210) والترمذي (115) وغيرهما، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، لا نعرفه إلا من حديث محمد بن إسحاق في المذي، مثل هذا.
208 - البخاري (132، 178) واللفظ له، ومسلم (303 / 18) وفيه: "منه الوضوء" .
209 - مسلم (303 /17- باب المذي) وفيه: "يغسل ذكره ويتوضأ".
210 - أبو داود (208) من رواية هشام بن عروة عن أبيه عن علي، وهو منقطع بين عروة وعلي، كما قال الحافظ في "التلخيص" (1/117) وقال: رواه أبو عوانة في"صحيحه" - وهو فيه (1/273) - من حديث عبيدة -السلماني- عن علي بالزيادة- يعني زيادة غسل الأنثيين -وإسناده لا مطعن فيه. اهـ.
211 - انظر كلامًا مقاربًا لذلك من "مجموع الفتاوى" (21/ 17) و"الاختيارات" (ص 26).
212 - انظر "المغني" (1/400).
213 - أخرجه أبو داود (286، 304) والنسائي (1/ 123، 185) بهذا اللفظ. وقد قال أبوحاتم "العلل" رقم (117): لم يتابع محمد بن عمرو على هذه الرواية. وهو منكر.اهـ.
214 -(334 / 65) .
215 - البخاري (325) ومسلم (333) من حديث عائشة -رضي اللَّه عنها- واللفظ للبخاري.
216 - البخاري (327) ومسلم (334) .
217- علقه البخاري (1/420"فتح") مجزومًا به، ووصله مالك في"الموطأ" (97) عن علقمة بن أبي علقمة عن أمه مولاة عائشة أم المؤمنين عن عائشة.
218 - البخاري (326) وأبو داود (307)، واللفظ له بزيادة: بعد الطهر.
219 -(1/307).
220 - ابن المنذر في "الأوسط" (2/243) من طريق ابن أبي شيبة "المصنف" (3/336)، وعبدالرزاق (1/333).
221 -(1/ 481 ، 482).
222 - سورة البقرة: الآية (222).
223 - البخاري (302) ومسلم (293).
224 - سورة البقرة: الآية (222).(1/316)
225 - أحمد (1/ 230، 237، 286، 312، 325)، وأبو داود (264) والترمذي (136، 137) والنسائي (1 / 153) من طرق عن مقسم، عن ابن عباس به. وهو حديث اضطرب كثيًرا في إسناده ومتنه، واختلف عليه وقفًا ورفعًا، و وصلاً وإرسالاً، وقد صححه الحاكم وابن القطان، ووافقه ابن دقيق العيد وابن حجر، وقد استحسنه أحمد، فقيل له: تذهب إليه؟ قال: نعم، وقال به إسحاق، انظر "التلخيص" (1/ 165، 166).
226 - أحمد (5/ 346)، والترمذي (2621) وقال: "حسن صحيح غريب"، والحاكم (1/6) وقال: صحيح الإسناد، لا تعرف له علة بوجه من الوجوه .
227 - مسلم (82).
228 - الترمذي (2622)، والحاكم (1/7) ورواه عن عبد اللَّه بن شقيق عن أبي هريرة وقال الحافظ في "التلخيص" (2/149): وصححه -يعني الحاكم- على شرطهما، وقال الذهبي في "تلخيص المستدرك": إسناده صالح.
229 - مسلم (69).
230 - ص (32).
231 - البخاري (536) ومسلم (615) والترمذي (157) وقال: حسن صحيح.
232 - البخاري (539) ومسلم (616).
233 -(1/ 251).
234 -(1/ 251).
235 - أبو داود (400) والنسائي (1/ 250) والحاكم (1 / 199) وصححه على شرط مسلم.
236 -"شرح منتهى الإرادات" للبهوتي (1/ 133).
237 - مسلم (82).
238 - الترمذي (2621).
239 - الترمذي (2622) وابن نصر في "تعظيم قدر الصلاة" (948).
240 - أبو داود (905، 906).
241 - البخاري تعليقًا (3 / 89 "الفتح") ووصله ابن أبي شيبة (2/ 424) بإسناد صحيح؛ ولفظه: إني لأجهز جيوشي وأنا في الصلاة .
242 - أبو داود (796) والنسائي في "الكبرى" (1/ 211) - واللفظ لهما- وابن حبان (1889) بنحوه. وهو في "صحيح الترغيب" (538).
243 -(2/448).
244 - انظر "الروض المربع" ص ( 98).(1/317)
245 - أبو داود (689) وابن حبان (2361) وغيرهما من حديث أبي هريرة.قال الحافظ في" التلخيص" :و أشارإلى ضعفه:سفيان بن عيينة والشافعي والبغوي وغيرهم.وقال أيضا:"أورده ابن الصلاح مثالا للمضطرب. وقال ابن قدامة في"المحرر": "هو حديث مضطرب الإسناد".
246 - أخرجه أحمد (3 / 404) من حديث عبد الملك بن الربيع بن سبرة، عن أبيه، عن جده، به. وسئل ابن معين عن أحاديث عبد الملك بن الربيع، عن أبيه، عن جده، فقال: ضعيف. وقال ابن حبان: منكر الحديث جدا، يروي عن أبيه ما لم يتابع عليه. اهـ. "المجروحين" (2/ 132).
247 - أخرجه مسلم (506).
248 - أخرجه أحمد (6/ 399) والنسائي (5/ 235) وابن ماجه (2958) من حديث ابن جريج: ثنا كثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة، عن أبيه، عن جده به. وأخرجه أحمد (6/ 399) وأبو داود (2016) من حديث سفيان بن عيينة: ثنا كثير ابن كثير ابن المطلب، عن بعض أهله، عن جده، به وقال أبو داود بعده: قال سفيان: وكان ابن جريج حدثنا أولاً عن كثير، عن أبيه، عن جده فلما سألته قال: ليس هو عن أبي، إنما أخبرني بعض أهلي أنه سمعه من المطلب. وهو حديث ضعيف، كما في "السلسلة الضعيفة" (928).
249 - البخاري (510) ومسلم (507) وأبو داود (701) والترمذي (336) والنسائي (2 /66) وابن ماجه (945) .
250 - مسلم (510).
251 - أحمد (5/ 164) وإسناده ضعيف، فيه: علي بن زيد بن جدعان.
252 - أحمد (4/ 86) و(5/ 57) وابن ماجه (951) .
253 - مسلم (510) وأحمد (5/ 151) وأبو داود (702) والترمذي (338) وقال: حسن صحيح، والنسائي (2/ 63) وابن ماجه (952).
254 - الطبراني في "الكبير" (3/ 211).
255 -"مجمع الزوائد" (2/ 60).
256 -"زاد المعاد" (1/ 306).
257 -(1/ 475).
258 - البخاري (756) ومسلم (394).
259 - مسلم (395) .(1/318)
260 - أحمد (3/ 339) وابن أبي شيبة (1/ 376) وابن ماجه (850) وغيرهم. قال الحافظ في "التلخيص": حديث: "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة" مشهور من حديث جابر، وله طرق عن جماعة من الصحابة، وكلها معلولة. وسئل الحافظ أبو موسى الرازي عن حديث: "من كان له إمام فقراءة..."؟، فقال: لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه شيء.
وراجع بيان إعلال طرقه في "نصب الراية" للزيلعي (2/ 7).
261 -(5/308).
262 - سورة الفرقان: الآية (72).
263 - البخاري (750).
264 - مسلم (428) ولكن فيه قيد "في الصلاة".
265 - الطبراني في "الكبير" (6/35) من حديث أبي سعيد، وفي إسناده ابن لهيعة، وفي (19/ 99) من حديث كعب بن مالك. وفي إسناده عبد العزيز بن عبيد الله ابن حمزة، ضعفه أحمد وأبو داود والنسائي وابن معين، وقال أبو زرعة: مضطرب الحديث، واهي الحديث. وقال أبو حاتم: وهو عندي عجيب، ضعيف، منكر الحديث.
266 - ابن أبي شيبة (2/ 420) ولكن من طريق هشيم عن ابن عون عن ابن سيرين .
267 - سورة المؤمنون: الآيتان (1، 2).
268 -"المستدرك" (2/ 393) وهو معلول بالإرسال.
269 - ابن ماجه (1043) والطبراني (12/ 287) وابن حبان (2281) وهو معلول من حديث سليمان بن بلال وطلحة بن يحيى، عن يونس بن يزيد، عن الزهري عن سالم، عن ابن عمر كما في "العلل" (357، 358) وصحح أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان رواية ابن المبارك، عن يونس، عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
270 - وغيره مسلم (429) والنسائي (3/39) من حديث أبي هريرة.
271 - مسلم (428) وأبو داود (912) وابن ماجه (1045) من حديث جابر بن سمرة .
272 - أبو داود (912) من حديث جابر بن سمرة.
273 - تقدم تخريجه.
274 -(2/ 9).
275 - مسلم (560) وأحمد (6/43) وأبو داود (89) وغيرهم.
276 -"مجموع الفتاوى" (21/ 473).(1/319)
277 - الترمذي (404)، والنسائي (2/145)، وأبو داود (773). وأصله في "صحيح البخاري" (799) بدون ذكر العطاس، وإنما فيه أنه قال هذا الحمد لما رفع رأسه من الركوع. وفي إسناد أصحاب السنن: يحيى بن عبدالله بن رفاعة وفيه جهالة.
278 - ص (37) "مسائل الإمام أحمد" برواية أبي داود.
279 - انظر: "مسائل الإمام أحمد" برواية ابنه صالح (3/ 70).
280 - أحمد (2/ 386) وأبو داود (2396) والترمذي (723) وغيرهم، وهو حديث منكر.
281 - الترمذي (2621) وقال: حسن صحيح غريب، وأحمد (5/ 346).
282 - مسلم (82) والترمذي (2620) وقال: حسن صحيح.
283 -"الاختيارات" ص (62).
284 - يشير إلى حديث أبي هريرة مرفوعًا: "أول شيء مما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته المكتوبة، فإن أتمها وإلا زيد فيها من تطوعه، ثم يُفعل بسائر الأعمال المفروضة كذلك". "المسند" (2/ 290). وراجع فهرس أطرف الأحاديث لهذه الفتاوى.
285 - أحمد (3/ 20، 92) وأبو داود (650).
286 - البخاري (615) ومسلم (437) من حديث أبي هريرة.
287 - مسلم (438).
288 -(679) من حديث عبد الرزاق، عن عكرمة بن عمار، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عائشة مرفوعا، به. قلت: ورواية عكرمة بن عمار بن يحيى بن أبي كثير مضطربة، فلم يكن عنده كتاب. قاله: الإمام أحمد وابن المديني ويحيى بن سعيد و البخاري وأبو داود والنسائي ويحيى القطان.
289 - مسلم (430) من حديث جابر بن سمرة.(1/320)
290 - يشير إلى حديث عائشة الذي أخرجه البيهقي (3/ 103) وغيره، مرفوعا: "إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف". قال البيهقي: كذا قال، و المحفوظ بهذا الإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم : "إن الله وملائكته يُصلون على الذين يَصِلون الصفوف".اهـ. قلت: وهذا المتن الذي قال عنه البيهقي: إنه محفوظ. فيه مقال شديد، فيروى من طرق عن سفيان، عن أسامة بن زيد، عن عبد الله ابن عروة، عن أبيه، عن عائشة. و مرة: عن أسامة بن زيد، عن عثمان بن عروة، به. وأسامة بن زيد هذا ضعفه أحمد قال: ليس بشيء. وقال مرة: تركه يحيى بن سعيد بأخرة.قال ابن معين: كان يحيى بن سعيد يضعفه. وقال أبو حاتم: يُكتب حديثه ولا يحتج به. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقوى ابن معين أمره في بعض الروايات. وعن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سألت أبي عن أسامة بن زيد فقال: نظرة في حديثه يتبين لك اضطراب حديثه. قلت: وهذا المتن يرويه مرة عن عبد الله بن عروة، و مرة عن عثمان بن عروة.
291 - أخرجه أحمد (3/132، 215، 233) وأبو داود (671) والنسائي (2/93) وابن خزيمة (1546) وابن حبان (2155) وإسناده صحيح.
292 - مسلم (432).
293 - قال الشيخ الألباني في "الضعيفة" (973): فقد رواه عمر بن شبة من طريقين مرسلين عن عمر قال: لو مُد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذي الحليفة لكان منه. هذا لفظه من الطريق الأولى، ولفظه من الطريق الأخرى: لو زدنا فيه حتى بلغ الجبانة كان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجاءه الله بعامر.
294 -"تاريخ ابن النجار" (369) وقال الشيخ الألباني في "الضعيفة" (974) ضعيف جداً.
295 -"أخبار المدينة" لابن شبة، و"تاريخ ابن النجار" (370) وقال الألباني: ضعيف جدًا.
296 - سورة البقرة: الآية (115).
297 -"الناسخ والمنسوخ" للواحدي. ص (25) و"تفسير الطبري" (1/503).
298 - البخاري (1000) ومسلم (700).(1/321)
299 - أحمد (3/203) وأبو داود (1225) من طريق ربعي بن عبداللَّه بن الجارود، حدثني عمرو ابن أبي الحجاج، حدثنا الجارود بن أبي سبرة، حدثنا أنس... به، وإسناده حسن كما قال المنذري في "مختصر سنن أبي داود" (1179).
300 - أبو داود (1227) من طريق وكيع، عن سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر، به.
301 - انظر "نيل الأوطار" (2/602).
302 - أحمد (6/ 370، 371) والترمذي (3583) وأبو داود (1501) من حديث هانئ ابن عثمان، عن حميضة بنت ياسر، عن يسيرة، به. قال الترمذي: هذا حديث غريب. إنما نعرفه من حديث هانئ بن عثمان. قلت: هانئ بن عثمان لم يوثقه إلا ابن حبان،وفيه جهالة. وأمه حميضة ذكرها الذهبي في "الميزان"، ضمن النسوة المجهولات، لم يرو عنها إلا ابنها هانئ، فالحديث ضعيف.
303 - أبو داود (1500) والترمذي (3568) وقال: حسن غريب. من حديث سعيد ابن أبي هلال، عن خزيمة، عن عائشة بنت سعد، عن أبيها، به. قال الذهبي: خزيمة لا يعرف، تفرد عنه سعيد بن أبي هلال.
304 - الترمذي (3554) من حديث هاشم، حدثني كنانة مولى صفية، عن صفية، به. وقال: هذا حديث غريب، لا نعرفه من حديث صفية إلا من هذا الوجه من حديث هاشم ابن سعيد الكوفي، وليس إسناده بمعروف. قلت: هاشم بن سعيد، قال فيه أحمد بن حنبل: لا أعرفه، وقال ابن معين: ليس بشيء. وكنانة: ذكره الأزدي في:"الضعفاء" وقال: لا يقوم إسناد حديثه.
305 -(2/ 603).
306 - أبو داود (1502) والترمذي (3411) وقال: هذا حديث حسن غريب من حديث الأعمش. والنسائي (3/ 79) والحاكم (1/ 547) جميعا من رواية عثام بن علي عن الأعمش عن عطاء بن السائب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً، ورواه الحاكم أيضا من طريق شعبة عن عطاء، به. وهذا إسناد صحيح. وزيادة: (بيمينه) تفرد بها محمد بن قدامة بن أعين شيخ أبي داود.
307 - وإسناده صحيح مستقيم من طريق شعبة عن عطاء بن السائب -كما مرّ- وقد صححه الشيخ الألباني في "الضعيفة" (1/ 186).(1/322)
308 - لكنها لا تثبت، كما مر تخريجها قريبًا.
309 -"تاريخ بغداد" (6/ 174) وفي إسناده محمد بن كثير الفهري، وهو متهم، وانظر "تذكرة الموضوعات" للفتني (79).
310 - البيهقي في "شعب الإيمان" (2395) وضعفه، وذكره غير واحد في الموضوعات.
311 - النسائي في "عمل اليوم والليلة" (100) وابن حبان في "كتاب الصلاة"- وهو كتاب مفرد غير "الصحيح" كما قاله الحافظ في "نتائج الأفكار" (2/ 280) - من حديث محمد بن حمير، عن محمد بن زياد الألهاني، عن أبي أمامة، به. قال الدارقطني في "الأفراد": غريب، تفرد به: محمد بن حمير. وقال أبو حاتم: لا يحتج به. وقال الفسوي: ليس بالقوي. وقال الذهبي: له غرائب وأفراد، وتفرد عن الألهاني، عن أبي أمامة -مرفوعا- في قراءة آية الكرسي.
312 - أخرجه الطبراني في "الدعاء" (674) والحافظ في "نتائج الأفكار" (2/ 280) وقال: هذا حديث غريب، وفي سنده ضعف.
313 - ابن عدي (1/ 300) وفي إسناده إسماعيل بن يحيى التميمي، كذبه أبو علي النيسابوري والدارقطني والحاكم. وقال الذهبي: مجمع على تركه.
314 - الطبراني في "الدعاء" (675) وأبو نعيم في "الحلية" (3/ 221) وفي إسناده مجاهيل، ولا يصح.
315 - مسلم (1718).
316 -(23/ 339).
317 - البخاري (2697) ومسلم (1718).
318 - انظر "الأوسط" (2 / 24).
319 - البخاري (628) ومسلم (674).
320 - البخاري (609) والنسائي (2/ 12).
321 - أحمد (2/136) والبيهقي (1/ 431).
322 - أحمد (2/429) والنسائي (2/ 13) وابن أبي شيبة (1/ 226) وابن ماجه (724).
323 - البخاري (608) ومسلم (389).
324 - أحمد (4/ 157) وأبو داود (1203) والنسائي (2/ 20)، وانظر "السلسلة الصحيحة" (41).
325 - البخاري (611) ومسلم (383).
326 - مسلم (385).
327 -(2 / 87).
328 - انظر "المحرر" مع "حواشيه" (1/ 40).
329 - انظر "الفروع" لابن مفلح (1/ 326).
330 - البخاري (930، 931) ومسلم (875) من حديث جابر.(1/323)
331 - انظر "الفتوحات الربانية شرح الأذكار النووية" (2/ 133،134).
332 - ابن ماجه (894) وفيه: الحارث الأعور، كذبه الشعبي.
333 - ابن ماجه (896) وفيه: العلاء أبو محمد، قال البخاري فيه: منكر الحديث، وقال ابن المديني: كان يضع الحديث.
334 - أخرجه مسلم (498).
335 -"شرح مسلم" (5/19).
336 - البخاري (891) ومسلم (880).
337 -(1/ 428 - 430).
338 - البخاري (823).
339 - البخاري (824).
340 - أبو داود (730).
341 - المجموع" (3/384).
342 -"الأوسط" (3/ 195).
343 - البخاري (802) بنحوه.
344 - أبو داود (965)، وهو في البخاري بنحوه (828).
345 -"شرح منتهى الإرادات" (1/ 191).
346 - مسلم (488).
347 - مسلم (482) وأبو داود (875) والنسائي (2/ 226) من حديث أبي هريرة.
348 - مسلم (489) وأحمد (4/ 59) وأبو داود (1320).
349 -(3/72).
350 - أحمد (3/ 302، 314) ومسلم (756) والترمذي (387) وابن ماجه (1421).
351 -(2/535).
352 - أخرجه أحمد (4 / 80، 81، 82، 83، 84) وأبو داود (1894) والترمذي (868) والنسائي (1 / 284)، (5 / 223) وابن ماجه (1254) وغيرهم، من طرق، عن عبدالله ابن باباه، عن جبير بن مطعم، مرفوعًا، به. وصححه الترمذي والحاكم. وروي من حديث أبي هريرة وابن عباس وجابر، وكلها معلولة. راجع "التلخيص الحبير" (1/190).
353 - الدارقطني (1 / 424، 425) وأخرجه أحمد (5 / 165) والبيهقي (2 / 461) وابن خزيمة (2748) من حديث عبد الله بن المؤمل (عن حميد مولى غفرة، وقيس بن سعد) عن مجاهد، عن أبي ذر مرفوعًا، به. قلت: فيه عبدالله بن المؤمل: ضعفه أحمد وابن معين -في بعض الروايات عنه- وأبو زرعة وأبو حاتم وأبو داود والنسائي وابن عدي وابن حبان. وفيه أيضًا: انقطاع؛ فمجاهد لم يسمع من أبي ذر، قاله أبو حاتم الرازي "المراسيل" ص (205) وقال ابن خزيمة: أنا أشك في سماع مجاهد من أبي ذر.
354 -(2/ 203).
355 -(2/ 261 ، 262).(1/324)
356 - أحمد (4/80) وأبو داود (1894) والترمذي (868) وقال: حسن صحيح، والنسائي (1/284)، (5/223) وابن ماجه (1254) وابن حبان (1552)، (1553)، (1554)، وابن خزيمة (1280) من حديث أبي الزبير، عن عبد الله بن باباه، عن جبير بن مطعم مرفوعًا، به.
357 - أحمد (3/ 344) و البخاري (1162) والترمذي (480) وقال: حسن صحيح غريب، وأبو داود (1538) والنسائي (6/ 80) وابن ماجه (1383) وغيرهم.
358 -(3/ 69 - 71).
359 - البخاري (1101) ومسلم (689).
360 - سورة الأحزاب: الآية (21).
361 - أخرجه مسلم (689).
362 - أبو داود (616) وابن ماجه (1427) وقال الحافظ في "الفتح" (2/ 335): إسناده منقطع.
363 - أحمد (2/ 425) وأبو داود (1006) وابن ماجه (1427) من حديث ليث بن أبي سليم، عن الحجاج بن عبيد، عن إبراهيم بن إسماعيل، عن أبي هريرة مرفوعًا، به. قلت: إسناده ضعيف جدًّا؛ ففيه: ليث، وهو مشهور بضعفه وجهالة شيوخه. فأما شيخه الحجاج بن عبيد وشيخه إبراهيم بن إسماعيل، فقد جهَّلهما أبو حاتم الرازي. وقد اختلف في إسناده. وقال البخاري: ولم يثبت هذا الحديث، ولم يصح إسناده.
364 - سورة الزلزلة: الآية (4).
365 - انظر "تفسير القرآن العظيم" لابن كثير (8/ 48).
366 - سورة الدخان: الآية (29).
367 - انظر "تفسير القرآن العظيم" لابن كثير (7/240).
368 - أخرجه مسلم (883) وأبو داود (1129) من حديث معاوية، ولفظه: "إذا صليت الجمعة فلا تصلها بصلاة حتى تكلم، أو تخرج؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بذلك: أن لا توصل صلاة بصلاة، حتى تتكلم، أو تخرج".
369 - البخاري (848).
370 -(2/335).
371 - أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 210) وفي إسناده عباد بن عبد الله الأسدي، قال فيه البخاري: فيه نظر.
372 -(2/ 258).
373 - أخرجه مسلم (883) وقد تقدم قريبًا.
374 - البخاري (998) ومسلم (751) من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما-
375 -(2/ 597، 598).(1/325)
376 - أحمد (4/ 23) وأبو داود (1439) والنسائي (3/ 229، 230) والترمذي (470) وابن خزيمة (1101)، واختلف في وصله وإرساله، كما في "علل ابن أبي حاتم" (554)، وقد حسنه الحافظ في "الفتح" (2/481).
377 - عبد الرزاق (3/ 14) بنحوه، عن سعيد بن المسيب، مرسلاً.
378 - البخاري (2012) ومسلم (761).
379 -(22/ 272).
380 - ص (641).
381 - ص (202 ، 203).
382 - ص (202).
383 - عقب حديث (806).
384 - انظر (1/ 193).
385 - ص (62).
386 - أخرجه أحمد (5/ 159، 163) وأبو داود (1375) والترمذي (806) وقال: هذا حديث حسن صحيح، والنسائي (3/ 83، 84) وابن ماجه (1327) من حديث أبي ذر -رضي الله عنه- وصححه الشيخ الألباني في "إرواء الغليل" (447).
387 -(1/ 786).
388 -(1/ 563).
389 - البخاري (990) ومسلم (749).
390 -(1/ 210).
391 - البخاري (1197)، (1864) ومسلم (827) من طريقين، عن أبي سعيد.
392 - راجع "التمهيد" لابن عبد البر (20/101) فما بعده.
393 -(7/ 115).
394 - مسلم (710).
395 -"المجموعة الكاملة لمؤلفات الشيخ السعدي" (7/ 118).
396 - سورة محمد: الآية (33).
397 -"الاختيارات" ص (62).(1/326)
398 - أحمد (2/290) والترمذي (413) وقال: حسن غريب، وأبو داود (864) والنسائي (1/ 232) و"التاريخ الكبير" (2/ 33، 34) ونصه عند أحمد: قال أبو هريرة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أول شيء مما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته المكتوبة، فإن صلحت، وإلا زيد فيها من تطوعه، ثم يفعل بسائر الأعمال المفروضة كذلك". وقد اختلف في رفعه ووقفه وإرساله، واختلف في إسناده وصلاً وانقطاعًا، وقال أبو زرعة -كما في علل ابن أبي حاتم (1/ 152) -الصحيح: عن الحسن، عن أنس بن حكيم، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم . اهـ. ورجح الدارقطني هذا الطريق لكن موقوفا على أبي هريرة كما في "علله" (8/ 248). ومع ترجيح كون هذه الطريق هي المحفوظة؛ فإن أنس بن حكيم أحد المجهولين الذين ذكر ابن المديني أن الحسن روى عنهم، كما في ترجمة أنس من "التهذيب".
399- ابن ماجه (1158) وابن عدي (6/ 2068) واستنكره على قيس بن الربيع، وهو ضعيف ليس بشيء.
400 -(2/ 179).
401 - انظر "الاختيارات" ص (64).
402 - أحمد (5/ 357) وأبو داود (1419) والبيهقي (2/ 470) وغيرهم. قال البخاري: عبيد الله بن عبد الله أبو المنيب، عن ابن بريدة، سمع منه زيد ابن الحباب، عنده مناكير.
403 - أخرجه أحمد (5/ 418) وأبو داود (1422) وابن ماجه (1190) وغيرهم من حديث أبي أيوب، مرفوعًا، به. والحديث أعلَّه البيهقي بالوقف "السنن" (3/ 23، 24)، وقال أبو حاتم الرازي: هو من كلام أبي أيوب "العلل" (1/ 172).
404 -(2/ 529 - 531).
405 - وأخرجه أحمد (6/ 7، 397)، وهو في "الصحيحة" (108) و "الإرواء" (423).
406 - هكذا في "المغني"، و الصواب: عن أبي سعيد الخدري.(1/327)
407 - ابن ماجه (1188) والترمذي (465) من طريق عبد الرحمن ابن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد، مرفوعا، وأعله الترمذي برواية عبدالله بن زيد بن أسلم عن أبيه، مرفوعًا يعنى مرسلاً؛ لضعف عبدالرحمن، وقد رواه أبو داود (1431) والحاكم (1/302) والبيهقي (2/ 480) من طريق أبي غسان محمد بن مطرف، عن زيد بن أسلم، عن عطاء، عن أبي سعيدا مرفوعًا، كرواية عبدالرحمن تمامًا، وقد صحح إسناده الحاكم على شرط الشيخين، والعراقي، والشيخ الألباني في هامش "المشكاة" (1279).
408 -(2/ 531 ، 532).
409 - أحمد (5/ 447) والترمذي (422) وأبو داود (1267) وابن ماجه (1154) وقد أعلّه الترمذي بالإرسال و الانقطاع، كما سيأتي.
410 - البخاري (1233)، (4370) ومسلم (834) وأبو داود (1273).
411 - الترمذي (423) والحاكم (1/ 247). وهو شاذ بهذا اللفظ، والمحفوظ بنفس الإسناد: "من أدرك ركعة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح". قاله الترمذي.
412 - أخرجه الترمذي (422). وقد سبق حكاية إعلاله.
413 - مسلم (656).
414 - البخاري (1178)،(1981) ومسلم (721) وغيرهما.
415 - مسلم (722).
416 - أحمد (5/ 173).
417 - أي: تميل. وأصلها: تتضيف.
418 - مسلم (831).
419 - عبد الرزاق (3/ 345).
420 - عبد الرزاق (3/ 345).
421 - البيهقي (2/ 324) وابن أبي شيبة (2/5) وعبد الرزاق (3/ 344).
422 - انظر "المغني" (2/ 367).
423 -"الأم" للشافعي (1/ 136) والبيهقي (2/ 324) وعبد الرزاق (3/346).
424 - هو في البخاري (2/ 556) معلقا، بلفظ: وقال ابن مسعود لتميم بن حذْلم وهو غلام، فقرأ عليه سجدة، فقال: اسجد، فأنت إمامنا فيها.
425 - البخاري (1069) و(3422).
426 -(1/ 503).
427 - أخرجه الترمذي (3424) وابن ماجه (1053) والبيهقي (2/320).(1/328)
428 - أخرجه أبو داود في سننه (1414) والنسائي (2/ 222) وأحمد في مسنده (6/ 217) والترمذي (3425) وقال: حسن صحيح، والبيهقي (2/325).
429 - البيهقي (2/ 326).
430 - أبو داود (893) بلفظ: "إذا جئتم إلى الصلاة...، ومن أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة". والحديث أخرجه البخاري في "القراءة خلف الإمام" (239) والحاكم (1/ 216، 273، 274) والبيهقي (2/ 89) والدارقطني (1 / 347) من طرق، عن سعيد بن أبي مريم، ثنا نافع بن يزيد: حدثني يحيى بن أبي سليمان، عن زيد بن أبي عَتّاب وابن المقبري، عن أبي هريرة مرفوعًا، بهذا اللفظ. وقال البيهقي: تفرد به يحيى بن أبي سليمان.قال البخاري: يحيى بن أبي سليمان منكر الحديث.. ولم يتبين سماعه من زيد ولا من ابن المقبري، ولا تقوم به الحجة. وقال فيه أبو حاتم: مضطرب الحديث.
431 - منها حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً يصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم". أخرجه البخاري (1/ 165) بنحوه، ومسلم (651).
432 - سورة مريم: الآية (59).
433433 -" أخرجه البخاري (733، 734) من حديث أنس وأبي هريرة -رضي الله عنهما-، ومسلم (411) بهذا اللفظ، من حديث أنس -رضي الله عنه- .
434 - أبو داود (665).
435 -"نيل الأوطار" (2/ 472، 473).
436 - مسلم (436/128) والترمذي (227) والنسائي (2/ 89) وابن ماجه (994) جميعهم من حديث سماك، عن النعمان به، بنحو هذا اللفظ.
437 - البخاري (717) ومسلم (436).
438 - مسلم (430).
439 - لم نجده في مسلم، وهو عند أبي داود (664) والنسائي (2/ 89، 90).
440 - البخاري (718، 719، 723، 725) ومسلم (433، 434).
441 - البخاري (724) وهو موقوف.
442 - عبد الرزاق (2 / 44).
443 - مسلم (435).
444 - أحمد (6/ 67، 89، 160) وابن ماجه (995).
445 - أحمد (2 / 97، 98) وأبو داود (666).(1/329)
446 - الترمذي في "جامعه" (1 / 439) تعليقًا، ووصله مالك في "الموطأ" (158) ومن طريقه البيهقي (2 / 21) من حديث نافع، أن عمر بن الخطاب كان يأمر بتسوية الصفوف. وإسناده منقطع، قال الإمام أحمد: نافع عن عمر منقطع.
447 - الترمذي (227) معلقا، ووصله ابن أبي شيبة (1/ 352) ومالك (158) وعبد الرزاق (2/ 40، 41) والبيهقي (2/ 21، 22) عن عثمان، بسند صحيح.
448 - البخاري (723) من حديث أنس.
449 -(1/ 315- 319).
450 - أحمد (5/ 262) والطبراني في "الكبير" (8 / 205) بنحوه.
451 - البخاري (723) واللفظ له، ومسلم (433) وابن ماجه (993) وأبو داود (668) وابن خزيمة (1543).
452 - أبو داود (667) والنسائي (2/ 92) وابن خزيمة (1545) وابن حبان (2166، 6339).
453 -"الأوسط" (5121) وإسناده ضعيف، فيه: مجالد بن سعيد، والحارث الأعور، وكلاهما لا يحتج به.
454 - أحمد (2 / 97، 98) وأبو داود (666) والنسائي (2/ 93) وابن خزيمة (1549). وهو مرسل، وراجع رواية أبي داود.
455 - أبو داود (672) وإسناده ضعيف: فيه مجهولان.
456 - حاشية الأستاذ مصطفى عمارة على "الترغيب والترهيب" (1/319).
457 - ابن خزيمة (1551، 1552).
458 - أبو داود (669، 670) وإسناده ضعيف، فيه: مصعب بن ثابت الزبيري، ضعفه أحمد، وابن معين، وأبو حاتم، والنسائي.
459 - مسلم (605 / 159).
460 -(ص 50).
461 - المتن الأول: البخاري (717) ومسلم (436). المتن الثاني: البخاري (723) ومسلم (433).
462 - البخاري (631) وأحمد (5/ 53).
463 - البخاري (765).
464 -(2/ 270).
465 - نحوه عند مسلم (673).
466 -(1/ 581).
467 - انظر "شرح منتهى الإرادات" (1/ 246).
468 - البخاري (684) ومسلم (421) من حديث سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه-.
469 - مسلم (274) من حديث المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه-.
470 - البخاري (354، 355، 356) ومسلم (517).
471 - البخاري (370) ومسلم (518).
472 - البخاري (352).(1/330)
473 - أبو داود (633).
474 - أبو داود (585).
475 - أخرجه أحمد (5/ 244) وأبو داود (1522) والنسائي في "المجتبى" (3/53).
476 - أخرجه البخاري (424) ومسلم (263) من كتاب المساجد، عن عتبان بن مالك مرفوعًا.
477 - انظر "الفروع" (1/ 408).
478 -"النكت والفوائد السنية على مشكل المحرر لمجد الدين بن تيمية" لابن مفلح (1/115، 116) .
479 - أحمد (4/ 23) وابن ماجه (1003). وفي إسناده عبدالرحمن بن علي بن شيبان، وهو مستور، لم يوثقه سوى ابن حبان والعجلي وابن حزم.
480 - أحمد (4/ 228) والترمذي (230، 231) وابن ماجه (1004). وبين الإمام أحمد هذا الاختلاف في هذا الموضع.
481 - البخاري (380) ومسلم (658) وأبو داود (612) والترمذي (234) وقال: حسن صحيح، والنسائي (2/ 85) وأحمد (3/ 131، 149، 164).
482 - البخاري (783).
483 - البخاري (636) ومسلم (602).
484 -(3/ 55 ، 56).
485 - أبو داود (666) وأحمد (2/ 98) والبيهقي (3/ 101) قال أبو داود: ومعنى: "لينوا بأيدي إخوانكم": إذا جاء رجل إلى الصف فذهب حتى يدخل فيه، فينبغي أن يلين كل رجل منكبيه حتى يدخل في الصف. اهـ.
486 - أخرجه البخاري (722) بهذا اللفظ من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- ومسلم (414) بلفظه، دون لفظة: "جُعل".
487 -(1/248).
488 - أخرجه البخاري (722) بهذا اللفظ، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- وأخرجه مسلم (414) بلفظه، دون لفظة: "جُعل". وقد سبق.
489 - ص (97).
490 -(1/127).
491 - البخاري (117)، ومسلم (763).
492 - مسلم (3010) وأبو داود (634).
493 -(2/ 11).(1/331)
494 - لفظة: "وما فاتكم فاقضوا"، أخرجها أحمد (2/ 238) والحميدي (935) والبخاري في "القراءة خلف الإمام" (177) والترمذي (327 ، 329) والنسائي (2/ 114) وغيرهم، من حديث سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، مرفوعًا، به. قال أبو داود عقب حديث (572): كذا قال الزبيدي، وابن أبي ذئب، وإبراهيم بن سعد، ومعمر، وشعيب، عن الزهري: "وما فاتكم فأتموا"، وقال ابن عيينة عن الزهري وحده: "فاقضوا". وقال الحافظ في "الفتح" (2/ 118): قوله: "وما فاتكم فأتموا" أي أكملوا. هذا هو الصحيح في رواية الزهري، ورواه عنه ابن عيينة بلفظ: "فاقضوا". وحكم مسلم في "التمييز" عليه بالوهم في هذه اللفظة. وقال ابن عبد البر في "التمهيد" (7/ 78): ولم يختلفوا أن من فاته بعض صلاته يتشهد في آخرها، ويحرم إذا دخل، وهذا يدل على أن ما أدرك فهو أول صلاته، ويقضي آخرها، وبالله التوفيق. وراجع كلامه مفصلاً واختلاف الأئمة في ذلك "التمهيد" (20/234).
495 - أخرجه البخاري (635، 636) ومسلم (602، 603) من حديث أبي قتادة، وأبي هريرة -رضي الله عنهما - بلفظ: "فأتموا". وهو المحفوظ.
496 - سورة الجمعة: الآية (10).
497 - سورة البقرة: الآية (200).
498 -(2/ 118).
499 - رواه الطبراني في "الكبير"، وأشار الهيثمي إلى ضعفه في "المجمع" (2/ 76) ولكن الحديث رواه مسلم في "الصحيح" (602/154) بهذا اللفظ عن أبي هريرة. وفي الباب حديث أبي قتادة عند البخاري (635) ومسلم (602/ 152) بلفظ: "فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا".(1/332)
500 - البخاري في جزء "القراءة خلف الإمام" وهذا حديث لا يصح من جهة سنده، ولكن جمهور الصحابة والسلف على ذلك. عزاه الحافظ ابن حجر في "التلخيص" (2/ 41) إلى البخاري في "القراءة خلف الإمام" من قول أبي هريرة: إذا أدركت القوم ركوعا لم يعتد بتلك الركعة. وقال الحافظ: وهذا هو المعروف: موقوف. وأما المرفوع فلا أصل له، وعزاه الرافعي تبعا للإمام أن أبا عاصم العبادي حكى عن ابن خزيمة أنه احتج بذلك، قلت: وراجعت "صحيح ابن خزيمة" فوجدته أخرج عن أبي هريرة: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدركها قبل أن يقيم الإمام صلبه" وترجم له: ذكر الوقت الذي يكون فيه المأموم مدركا للركعة إذا ركع إمامه قبل، وهذا مغاير لما نقلوه عنه. وبحديث: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" البخاري (756) ومسلم (394).
501 -البخاري (756) ومسلم (394).
502 -(2/ 182).
503 - سبق في الفتوى (107) تخريج هذا الحديث والكلام عنه.
504 -(4/ 100).
505 - البخاري (783) وأبو داود (683) والنسائي (2/ 118).
506 - الطبراني في "الكبير" (9/ 312) والبيهقي (2/90، 91).
507 - الطبراني في "الكبير" (9/ 311) وعبد الرزاق (2 / 281) والبيهقي (2/ 90).
508 -(2/ 76).
509 -(2/ 512).
510 -(4/ 100).
511 -(2/ 364).
512 - ص (73) في "مسائل الإمام أحمد"، له.
513 - البخاري (722) بهذا اللفظ من حديث أبي هريرة. ومسلم (414) بلفظه، دون لفظة: "جُعل".
514 - البخاري (700).
515 - الحديث عند البخاري (1102) عن ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- قال: صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان في السفر لا يزيد على ركعتين.
516 -(3/ 108، 109).
517 - انظر بحث شيخ الإسلام في ذلك "الفتاوى" (24/ 116 - 135).
518 -(1/ 198).(1/333)
519 - أخرجه عبد الرزاق (3/ 5498) وابن أبي شيبة في "المصنف" (2/ 144) مرسلاً، عن الحسن، وأخرجه أبو داود (1118) وابن خزيمة (1811) من حديث عبد اللَّه بن بسر مرفوعا، وهو في "صحيح الترغيب" (716، 717).
520 - أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (3/ 5505، 5506) وابن أبي شيبة (2/ 145) وابن المنذر في "الأوسط" (4/ 85) من طريق سعيد المقبري وصالح مولى التوءمة، فرقهما، عن أبي هريرة، يعني موقوفا عليه.
521 -"الفتح" (2/ 372).
522 -"المغني" (3/ 231).
523 - الترمذي (346، 347) عن ابن عمر وقال: حديث ابن عمر إسناده ليس بذاك القوي، وقد تُكلم في زيد بن جَبِيرة مِن قِبل حفظه. ورواه ابن ماجه (747) عن ابن عمر عن عمر، وفي إسناده عبد اللَّه بن عمر العمري، وهو ضعيف جدا.
524 - سورة الأعراف: الآية (204).
525 - أحمد (1/93) و أبو داود (1051).
526 - أحمد (1/ 230) والطبراني (12 / 90) وإسناده ضعيف.
527 - (5/ 198).
528 - هو سليك الغَطَفاني.
529 - ابن ماجه (114) من حديث أبي هريرة وجابر، ومسلم من حديث جابر فقط (875).
530 - مسلم (845) وابن خزيمة (1748).
531 - البخاري (1013) ومسلم (897).
532 - انظر "شرح المنتهى" (1/ 304).
533 -"تفسير ابن أبي حاتم" سورة الفرقان (22 رقم 1122) وابن كثير (6/113، 7/8)، "المستدرك" (2/402). .
534 - انظر "زاد المعاد" (1/ 398).
535 -"زاد المعاد" (1/ 398- 399).
536 - البخاري (881) ومسلم (850).
537 - انظر "الزاد" (1/376).
538 - أحمد (3/ 424) وأبو داود (1052) والترمذي (500) والنسائي (3/ 88) وابن ماجه (1125) و"صحيح الترغيب" (729).
539 - ابن خزيمة (1857) وابن حبان (258).
540 - كما في "جامع الأصول" (3952).
541 - أحمد (3/ 332) وابن ماجه (1126) والحاكم (1/ 292) و "صحيح الترغيب" (730).(1/334)
542 - البيهقي في "شعب الإيمان" (3005) وإسناده مرسل، ورواه الطبراني، وقال الهيثمي في رواية الطبراني: فيه من لم يعرف (2/193).
543 - الطبراني في "الكبير" (1/ 170) وفي إسناده جابر الجعفي.
544 - رواه أبو يعلى (2712) والبيهقي في "الشعب" (3006) وعبدالرزاق (3/ 166) موقوفا على ابن عباس. وهو في "صحيح الترغيب" (735)، وروي مرفوعا، ولا يصح.
545 - مسلم (865).
546 - أبو داود (1053) والنسائي (3 / 89) وابن ماجه (1128)، وهو حديث منكر.
547 -"الزاد" (1/ 375- 381).
548 - رواه أحمد (3/430) وابن ماجه (1084) والطبراني في "الكبير" (5/ 133) مرتان، وحسن إسناده في زوائد ابن ماجه، وكذلك هو في "صحيح الترغيب" (695) مُحَسّنا، وقد تفرد به عبد اللَّه بن محمد بن عقيل، وهو ضعيف ليس بحجة.
549 - عند ابن ماجه: "ولا بحر".
550 -انظر "الزاد" (1/ 382).
551 -أخرجه ابن النجار عن ابن عمر كما في "الكنز" (17540)، وقال العراقي في "الإحياء" (1/ 188): أخرجه الدارقطني في "الأفراد" من حديث ابن عمر، وفيه ابن لهيعة، وقال: غريب، والخطيب في "الرواة عن مالك" من حديث أبي هريرة، بسند ضعيف
552 - في "المصنف": كره.
553 - عبد الرزاق (3/ 251).
554 - عبد الرزاق (3/ 251) وابن أبي شيبة (2/ 106).
555 - عبد الرزاق (3/251، 252).
556 - مسلم (856).
557 - أحمد (4/8) وأبو داود (1047) والنسائي (3/ 91) وابن ماجه (1085) وابن خزيمة (1733) وعنه ابن حبان (910) و"صحيح الترغيب" (698).
558 -"الموطأ" (108- 110) وأبو داود (1046) والترمذي (491) وقال: حسن صحيح، والنسائي (3/ 113) وروى أوله مسلم (854). وانظر "الزاد" (1/366).
559 - مسلم (853).
560 - الترمذي (490) وقال: حسن غريب، وابن ماجه (1138)، وهو من حديث كثير ابن عبد اللَّه بن عوف المزني عن أبيه عن جده، وكثير: ضعيف جدا، وراجع كلام المنذري في "الترغيب" (1/250، 251).(1/335)
561 - أحمد (2/272، 3/65، 5/450) عن أبي هريرة وأبي سعيد، و(2/230، 255، 280، 284 مرتان، 401، 403، 457، 469، 485، 486، 489، 498 مرتان، 504، 518، 5/451، 453) عن أبي هريرة. وهو في البخاري (935، 5294، 6400)، ومسلم (852) عن أبي هريرة بدون ذكر: العصر.
562 - أبو داود (1048) والنسائي (3/ 99) والحاكم (1/279) وقال: صحيح على شرط مسلم. وقال المنذري في "الترغيب" (1/251): وهو كما قال.
563 - ابن ماجه (1139) وقال في "الزوائد": إسناده صحيح ورجاله ثقات. وقال المنذري في "الترغيب" (1/251): إسناده على شرط الصحيح.
564 - انظر "الزاد" (1/ 394).
565 - أبو داود (1056) وأعله بالوقف على عبد اللَّه بن عمرو -رضي اللَّه عنهما-، والدارقطني (2/6) من نفس طريق أبي داود، والتي أشار إلى تصويب وقفها. وللحديث طرق أخرى، وفيها ضعف، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا. فالرفع لا يثبت بحال، والصواب أنه من قول عبد اللَّه بن عمرو -رضي اللَّه عنهما-.
566 -(1/ 141).
567 -(2/ 90).
568 - سورة الجمعة: الآية (11).
569 - سورة آل عمران : الآية (8).
570 - مسلم (875) وأحمد (3 / 316) وأبو داود (1117).
571 -(3/ 188).
572 -(2/ 412).
573 - انظر "زاد المعاد" (1/ 375).
574 - ابن ماجه (1098) .
575 - سبق الكلام على هذه الأحاديث في الفتوى (150).
576 - البخاري (891) ومسلم (879).
577 - مسلم (877) (878).
578 - البخاري (877) (878) (880) ومسلم (844، 845).
579 - البخاري (880، 883، 884) ومسلم (846).
580 - البخاري (880، 887، 888) ومسلم (846).
581 - البخاري (934) ومسلم (851).
582 - أحمد (5 / 438، 440) وأبو داود (343).
583 - البخاري (881) ومسلم (850).
584 - البيهقي (3/ 249) و"المستدرك" (2/ 368) مرفوعا، وروي موقوفا.(1/336)
585 - روى أبو داود (1083) عن أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه كره الصلاة نصف النهار إلا يوم الجمعة، وقال: "إن جهنم تسجر إلا يوم الجمعة". قال أبو داود: هو مرسل.
586 - البخاري (886) وأحمد (5/ 420) وابن خزيمة (1775) وأبو داود (1078) وابن ماجه (1095، 1096، 1097).
587 -"مصنف ابن أبي شيبة" (2/363) عن ابن عمر: أن عمر كان يجمر المسجد كل يوم جمعة.
588 - روى عبد الرزاق في المصنف (3/ 250) عن ابن سيرين أن عمر بن الخطاب رأى رجلا عليه ثياب سفر بعدما قضى الجمعة، فقال: ما شأنك؟ قال: أردت سفرًا، فكرهت أن أخرج حتى أصلي. فقال له عمر: إن الجمعة لا تمنعك السفر، ما لم يحضر وقتها. وانظر الأثر التالي له.
589 - رواه عبد الرزاق (3/ 259) وأحمد (4/ 8) وأبو داود (345، 346) والترمذي (496) وقال: حسن، والنسائي (3/ 95) وابن ماجه (1087) و"صحيح الترغيب" (690) من حديث أوس بن أوس بلفظ: "من غسل، واغتسل، وغدا وابتكر، ودنا من الإمام، ولم يلغ، كان له بكل خطوة عمل سنة: صيامها وقيامها".
590 - سبق من حديث أوس بن أوس -رضي اللَّه عنه- وهو في "صحيح الترغيب" (698).
591 - لحديث أبي قتادة السابق عند أبي داود. وهو مرسل، كما مر.
592 - في "الصحيح" عن سلمان قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : "لا يغتسل رجل يوم الجمعة، ويتطهر ما استطاع من طهر، ويدَّهن من دهن، أو يمس من طيب بيته ثم يخرج، فلا يفرق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام، إلا غفر له ما بينها وبين الجمعة الأخرى".
593 - البخاري (935) ومسلم (852)، (853).
594 - سورة الأعراف: الآية (99).
595 - مسلم (912) بمعناه، وأبو داود (1177، 1178) وأحمد (3/ 317، 318).
596 - انظر "الاختيارات" ص (85).
597 - أخرجه البخاري (1240) ومسلم (2162) واللفظ له.
598 - أخرجه مسلم (2162) وأحمد (2/ 372، 412) وغيرهما.
599 - البخاري (5750) ومسلم (2191) عن عائشة.(1/337)
600 - أحمد (1/239، 243) وأبو داود (3106) والترمذي (2083) وقال: حسن غريب والنسائي في "اليوم والليلة" (1045) من حديث المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مرفوعًا، به.
601 - خبر نفثه صلى الله عليه وسلم بالمعوذات في المرض الذي مات فيه عند البخاري (5735) ومسلم (2192) من حديث عائشة، والمعوذات تشمل سورة الإخلاص. وذِكْر المعوذتين عند الترمذي (2058) وقال: حسن غريب والنسائي (8/271) وابن ماجه (3511) عن أبي سعيد. وحديث الرقية بفاتحة الكتاب عن أبي سعيد، رواه البخاري (2276) ومسلم (2201).
602 - أحمد (3/ 28، 56) ومسلم (2186) والترمذي (972) وقال: حسن صحيح. والنسائي في "الكبرى" (4/ 393) وابن ماجه (3523).
603 - أخرجه البخاري (5666).
604 -} سورة الزمر: الآية (10).
605 - سورة يوسف: الآية (86).
606 - سورة الأنبياء: الآية (83).
607 - أخرجه البخاري (5671) ومسلم (2680) من حديث أنس.
608 - أخرجه الترمذي (3235) من حديث معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث، فقال: هذا حديث حسن صحيح. والحديث قد أخرجه أحمد (1/368)، والترمذي (3233)، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- وفيه انقطاع.
609 - أخرجه مسلم (916)، (917) وغيره.
610 - تقدم تخريجه.
611 -(2/ 246).
612 -(2/530).
613 - لم نقف عليه.
614 -"كشاف القناع" (2/ 759).
615 - سورة التوبة: الآية (84).
616 - أبو داود (3221) والحاكم (1/ 370) والبيهقي (4/ 56) من حديث هشام ابن يوسف عن عبد الله بن بحير عن هانئ مولى عثمان عن عثمان به. وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الشيخ الألباني في "أحكام الجنائز" ص (156).
617 - الدارقطني (2/ 95) وإسناده ضعيف جدًّا؛ فيه: صالح بن موسى. قال ابن معين فيه: ليس بشيء. وقال أبو حاتم: منكر الحديث جدًّا لا يعجبني حديثه. وقال البخاري: منكر الحديث.(1/338)
618 - الدارقطني (2/ 95) وإسناده ضعيف جدًّا؛ فيه: صالح بن موسى. قال ابن معين فيه: ليس بشيء. وقال أبو حاتم: منكر الحديث جدًّا لا يعجبني حديثه. وقال البخاري: منكر الحديث.
619 - الترمذي (638) من حديث الحسن بن عمارة، عن محمد بن عبد الرحمن بن عبيد، عن عيسى ابن طلحة، عن معاذ به قال الترمذي: إسناد هذا الحديث ليس بصحيح، وليس يصحُّ في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء وإنما يروى هذا عن موسى بن طلحة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً. والعمل على هذا عند أهل العلم: أن ليس في الخضراوات صدقة. والحسن بن عمارة ضعيف عند أهل الحديث: ضعفه شعبة وغيره، وتركه ابن المبارك. اهـ .
620 - أبو داود (1604) والترمذي (644) من حديث الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن عتاب بن أسيد، مرفوعًا، به. قال أبو داود: وسعيد لم يسمع من عتاب شيئًا.
621 - الترمذي (644) وابن ماجه (1819) بنفس الإسناد السابق. وهو معلول بالانقطاع.
622 -(25/ 28).
623 -"المغني" (4/ 269، 270).
625 - حديث "ليس في الحلي زكاة"، روي مرفوعًا وموقوفًا من حديث جابر - رضي الله عنه - والصواب فيه الوقف كما قال به غير واحد.
626 - أبو داود (1563) وأخرجه أحمد (2/ 178) والترمذي (637) والنسائي (5/ 38) من حديث ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، به. وتابعه الحجاج بن أرطاة وحسين المعلم. قال الترمذي: وهذا حديث قد رواه المثنى ابن الصباح، عن عمرو بن شعيب نحو هذا، والمثنى بن الصباح وابن لهيعة يضعفان في الحديث. ولا يصح في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء.اهـ. "الجامع" (3/ 30).
627 - أخرجه البخاري (1454) مطولاً من حديث أبي بكر الصديق، وفيه: "وفي الرقة ربع العشر".والرقة: الفضة الخالصة، سواء كانت مضروبة أو غير مضروبة.
628 -(2/ 513 ، 514).
629 -"المغني" لابن قدامة (4/ 271).
630 -"الاختيارات الفقهية" ص(104).(1/339)
631 -"الروض المربع وحاشية الروض المربع" (1/405). الحاشية - للشيخ عبد الله ابن عبد العزيز العنقري حـ1 مكتبة الرياض الحديثة.
632 - سورة البقرة: آية (43).
633 - أخرجه أحمد (4/ 224) وأبو داود (1633) والنسائي (5/ 99) و البيهقي (7/ 14) من طرق عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبيداللَّه بن عدي: أن رجلين حدثاه أنهما أتيا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، به.
634 - البخاري (1421) ومسلم (1022) وأحمد (2/ 322،350).
635 -(4/ 467).
636 - سورة التوبة: الآية (60).
637 -"المغني" (4/ 106، 107).
638 - أخرجه البخاري (1395) ومسلم (19).
639 - سورة البقرة: الآية (272).
640 - أخرجه البخاري (2620) ومسلم (1003) بنحوه.
641 - سورة الممتحنة: الآية (8).
642 - تقدم تخريجه، انظر الفتوى رقم (169).
643 - انظر "الاختيارات الفقهية" ص (99).
644 -"الفروع" (2/560).
645 - أخرجه أحمد (4/ 17، 18) والترمذي (658) والنسائي (5/ 92) وابن ماجه (1844) وابن خزيمة (2067) من طرق عن حفصة بنت سيرين، عن الرباب أم الرائح، عن سلمان ابن عامر، به مرفوعًا. قلت: الرباب أم الرائح، ذكرها الذهبي ضمن النسوة المجهولات، وقال: عن عمِّها سلمان ابن عامر، لا تعرف إلا برواية حفصة بنت سيرين عنها. "الميزان" (4/606). ولكن يشهد لهذا المتن، حديث زينب امرأة عبد اللَّه بن مسعود في سؤالها النبي صلى الله عليه وسلم في الصدقة على زوجها وأيتام لها. فقال: "نعم، ولها أجران: أجر القرابة وأجر الصدقة". البخاري (1466) ومسلم (1000).
646- التوبة: الآية (60).
647 -"المغني والشرح الكبير" (2/ 685) باب ذكر أهل الزكاة.
648 - سورة النساء: الآية (171).
649 - البخاري (456)، ومسلم (1505) و(1504).
650 - أبو داود (1630) والدارقطني (2/ 137) والبيهقي (4/ 174) (7/6) والطحاوي في "شرح المعاني" (2/17) وغيرهم. وفي إسناده عندهم جميعا: عبد الرحمن بن زياد الأفريقي. وهو ضعيف.(1/340)
651 -"كشاف القناع" (2/ 929، 948).
652 - سورة التوبة: الآية (60).
653 - راجع "المغني" (4/ 106، 107).
654 - سبق تخريجه. انظر الفتوى رقم (169) .
655 - سورة البقرة: الآية (272).
656 - رواه النسائي في "تفسيره" (6/ 305، 306) والبزار (2193) "كشف الأستار" و"تفسير" الطبري (6202) والطبراني (12453) والحاكم (2/ 285).
657 - البخاري (5978) (5979) ومسلم (1003) واللفظ للبخاري.
658 - سورة الممتحنة: الآية (8).
659 - سورة البقرة: الآية (271).
660 - البخاري (660) ومسلم (1031) وعنده: " حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله".
661 - أخرجه مسلم (4/ 2060).
662 -(3/ 60).
663 - أحمد 4/ 122،123،124،125، وأبو داود (2368،2369) وابن ماجه (1681) والنسائي (2/ 217، 218، 219، 220،221) "كبرى".
664 - أحمد (3/ 465) والترمذي (2/ 774) وقال: حسن صحيح.
665 - أحمد (5/ 276، 277، 280، 281،282،283) وأبو داود 2367، 2370، 2371) والنسائي (2/ 216، 218، 221، 222) "كبرى" وابن حبان (3532) والحاكم (1 / 427).
666 - انظر: "طبقات الحنابلة" (1/206) و"مسائل الإمام أحمد":رواية ابنه عبد الله (2/626- 628).
667 - سورة التحريم: الآية (6).
668 - البخاري (7138) ومسلم (1829).
669 - أبو داود (495) وأحمد (2/ 187) البيهقي (2/14) وغيرهم. وصححه الشيخ الألباني في "الإرواء" (1/266)، (2/7).
670 -(1/ 396).
671 -(2/ 973).
672 - حديث ابن عباس في احتساب الأجر للصبي إذا حج، أخرجه مسلم (1336) و(2645) وفيه أن امرأة رفعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم صبيًّا فقالت: ألهذا حج؟ قال: "نعم،ولك أجر".
673 -(4/ 198).
674 - البخاري (1960) ومسلم (1136).
675 - انظر "الفتح" (4/ 200).
676 -(1 / 415).
677 -"المجروحين" (3 /116)، وأبو نعيم في "المعرفة" (2 /170 ب) نسخة أحمد الثالث.
678 -"ضعيف الجامع" (2392).
679 - أخرجه ابن عدي (2/ 545) وهو في "الكنز" (45326).(1/341)
680 -"نيل الأوطار" (4/ 198، 199).
681 - أبو داود (2454)، والنسائي (4/ 196، 197)، والترمذي (730)، وابن ماجه (1700)، وأحمد (6/ 287).
682 -"العلل الكبير" للترمذي (1/ 350) "السنن" (730) و"معالم السنن" للخطابي (3/ 332) و"التلخيص" (1/ 188).
683 - الدارقطني (2/ 171).
684 - النسائي (4/ 197).
685 - مسلم (1154).
686 - البخاري (1).
687 -"كشاف القناع" (2/ 970).
688 -"كشاف القناع" (2/966).
689 -"الإنصاف" (3/ 273).
690 -"الإنصاف" (3/ 273).
691 - سورة البقرة: الآية (187).
692 - البخاري (1925، 1926، 1930، 1931، 1932) ومسلم (1109).
693 - مسلم (1110).
694 - عقب حديث عائشة وأم سلمة (779).
695 -(208- 211).
696 - هو في ثنايا حديث مسلم (1109) وأشار إليه البخاري (1925، 1926).
697 -(4 / 215).
698 - انظر "المغني" (4/ 398).
699 -(4/ 257) معلقا.
700 - في "شرح مشكل الآثار للطحاوي" (6/ 178): عن عمرة ابنة عبد الرحمن قالت: سألتُ عائشة -رضي الله عنها- فقلت لها: إن أمي توفيت وعليها رمضان، أيصلح أن أقضي عنها؟ فقالت: لا، ولكن تصدقي عنها مكان كل يوم على مسكين، خير من صيامك عنها. وكذلك في (6/ 179).
701 - البيهقي (4/ 254)، والدارقطني (2/ 196).
702 -(718).
703 -(4 / 254).
704 -(4/ 240).
705 -(4/ 398).
706 - البخاري (1952) ومسلم (1147).
707 - البخاري (1953) بنحوه، واللفظ لمسلم (1148).
708 - عقب حديث رقم (710).
709 -(4/ 408).
710 - عقب حديث رقم (710).
711 -(2/ 280).
712 -(94).
713 -(2/ 156).
714 -(ق 12 / ب) في "التفسير".
715 - سورة البقرة: الآية (185).
716 - مسلم (1121) والدارقطني (2/189).
717 - أخرجه أحمد (2/ 108) وابن خزيمة (950).
718 -(2410، 2411).
719 -(6/ 219).
720 -(4/ 245).
721 -(1/ 311) ط. الشعب.(1/342)
722722 -"المسند" (2/ 71) عن ابن عمر، من طريق ابن لهيعة ثنا أبو طعمة قال: كنت عند ابن عمر، مرفوعًا و(4/ 158) عن عقبة بن عامر، وعنه عند الطبراني في "الأوسط" (4535) من طريق ابن لهيعة عن رزق الثقفي عن عبدالرحمن ابن شماسة عن عقبة بن عامر الجهني مرفوعًا. وقال الطبراني: لا يروى هذا الحديث عن عقبة بن عامر إلا بهذا الإسناد؛ لتفرد ابن لهيعة به من الوجهين. فالظاهر أنه اضطرب فيه.
723 - عقب حديث (710). وكلام الشافعي في "الأم" (2/102).
724 - البخاري (1946) ومسلم (1115).
725 - مسلم (1114) والنسائي (4/177) والترمذي (710) وقال: حسن صحيح.
726 - نقله ابن قدامة في "المغني" (4/ 357).
727 - أخرجه أحمد (5/ 408) وأبو داود (2365). من طريق مالك عن سمي عن أبي بكر بن عبدالرحمن عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
728 -"الفتاوى" (25/ 234) وما بعدها.
729 -"الإنصاف" (3/ 278).
730 - أبو داود (2324) وابن ماجه (1660) والبيهقي (5/ 175) وهذا لفظ الترمذي (802).
731 - البخاري (1925، 1926) عن عائشة وأم سلمة و(1930، 1931) عن عائشة و(1932) عن أم سلمة، وعند مسلم (1109، 1110).
732 -(1110).
733 - عقب حديث (779).
734 - الترمذي (697) بهذا اللفظ من حديث عبد اللَّه بن جعفر، عن عثمان بن محمد الأخنسي، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، به. وأبو داود (2324) بنحو هذا اللفظ من حديث أيوب، عن ابن المنكدر، عن أبي هريرة مرفوعًا: "وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون...". وراجع "علل" الدارقطني (10/ 62، 63).
735 - النسائي (4/ 132- 133) ورواه الدارقطني (2/ 167) وقال: هذا إسناد متصل صحيح.
736 -(3/ 301).
737 - ص (270) ط. دار ابن كثير.
738 - البخاري (1914) ومسلم (1082)
739 - الترمذي (684) وقال: حسن صحيح.
740 -"اللطائف" ص (273).
741 -"الأوسط" (2713) ونسبه في "الدر المنثور" أيضا لابن مردويه (7/ 547).
742 - سورة الحجرات: الآية (1).(1/343)
743 - أبو داود (2334) والترمذي (686) وقال: حسن صحيح. والنسائي (4/153) وغيرهم.
744 - البخاري (663) ومسلم (711).
745 - أحمد (5/ 345).
746 - أبو داود (1007).
747 -(3 /53، 54).
748 - أخرجه البخاري (1933) ومسلم (1155) وأحمد (2/ 395).
749 - أخرجه الدارقطني (2/ 178).
750 - سورة البقرة: الآية (184).
751 - أبو داود (2318) ونحوه عند البخاري (4505).
752 - أحمد (4/ 347، 5/ 29) الترمذي (715) وقال: حسن. وأبو داود (2408) والنسائي (4/ 180، 190) وابن ماجه (1667، 3299).
753 - سورة البقرة: الآية (184).
754 - البخاري (1923) ومسلم (1095) وأحمد (3/ 99، 215، 229،243، 258، 281). والترمذي (708) وقال: حسن صحيح. والنسائي (4/141) وابن ماجه (1692).
755 - البخاري (1920،577).
756 - أحمد (3/ 12، 44).
757 - البخاري (1927) ومسلم (1106).
758 - النسائي في "العشرة" (245).
759 - مسلم (1108).
760 -(4/ 211).
761 -(4/ 360).
762 -(3/ 264).
763 - انظر "المغني" (4/ 361).
764 - ص (92).
765 - أخرجه ابن ماجه (1686) وأحمد (6/ 463).
766 -(2/58).
767 -"زاد المعاد" (2/ 58).
768 - أخرجه أبو داود (2387).
769 - أبو داود (2380) والنسائي في "الكبرى" (2/215) والترمذي (720) وقال:حسن غريب. وقال البخاري: لا أراه محفوظا، قال أبو عيسى: وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يصح إسناده. وابن ماجه (1676) وأحمد (2/498) والدارقطني (2/184، 185).
770 -"مسند الشافعي" (14) وأحمد (6/47،62،146) وابن خزيمة (135) والبخاري (4/ 158).
771 -"المسند" (1/ 3، 10).
772 -"المسند" (2/ 108).
773 - أحمد (3/ 445، 446) وأبو داود (2364) والترمذي (725) والبخاري (4/ 158).
774 - ابن ماجه (1677)، وفي إسناده مجالد وهو ضعيف.(1/344)
775 - البيهقي (4/274) وفي إسناده كيسان أبو عمر القصار وهو ضعيف، وقد أوردوا هذا الحديث في منكراته. راجع "الميزان" (3/418).
776 - البخاري (1894، 1904، 5927، 7492، 7538) ومسلم (1151).
777 - أخرجه بهذا اللفظ: ابن ماجه (1700) وابن أبي شيبة في "المصنف" (3/ 32). وورد بلفظ: "من لم يجمع الصيام قبل الفجر - وفي لفظ: "من لم يبيت الصيام من الليل"- فلا صيام له". ورواه الترمذي (730) وأبو داود (2454) والنسائي (4/ 196) وابن ماجه (1700) وأحمد (6/ 287) وغيرهم عن عبد الله بن عمر عن حفصة مرفوعًا. وقد اختلف في رفع الحديث ووقفه. والصواب وقفه على عبدالله بن عمر، كما صرح به غير واحد من الأئمة. وقد سبق.
778 - انظر " المغني" لابن قدامة (4/ 359).
779 - معلقًا. انظر "الفتح" (4/ 153) ووصله ابن أبي شيبة (3/ 47) وابن الجعد في "المسند" (2497).
780 -"الفتاوى" (25/ 105، 109، 111).
781 - البخاري (403) ومسلم (526) .
782 - ص (261).
783 - أحمد (6/ 238) والترمذي (739) وابن ماجه (1389) من حديث يزيد ابن هارون: أنا الحجاج بن أرطاة، عن يحيى بن أبي كثير، عن عروة، عن عائشة، به. قال البخاري: يحيى ابن أبي كثير لم يسمع من عروة، والحجاج لم يسمع من يحيى بن أبي كثير.
784 - ابن ماجه (1390) وهو ضعيف؛ لضعف عبد الله بن لهيعة، وفي إسناده اضطراب أيضًا.
785 - أحمد (2/ 176) من حديث ابن لهيعة: ثنا حُيي بن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلِّيّ، عن عبد الله ابن عمرو مرفوعًا، به. قلت: فيه ابن لهيعة، وحيي ابن عبد الله، قال فيه البخاري: فيه نظر، وقال أحمد: أحاديثه مناكير، وقال ابن عدي: لابن لهيعة عنه بضعة عشر حديثًا عامتها مناكير.
786 - ابن حبان (5665) من حديث مكحول، عن مالك بن يخامر، عن معاذ بن جبل، مرفوعًا، به. قلت: إسناده منقطع، مكحول لم يلق مالك بن يخامر.(1/345)
787 - البيهقي في "الشُّعب" (3836) من حديث هشام بن حسان، عن الحسن، عن عثمان بن أبي العاص مرفوعًا، به. قلت: الحسن لم يسمع من عثمان.
788 - سورة الدخان: الآية (3).
789 - سورة البقرة: الآية (185).
790 - سورة القدر: الآية (1).
791 - ص (263، 264).
792 - ص (65).
793 -(3/338، 339).
794 -(2/632- 634).
795 -(3/ 178) ط. دار الفكر.
796 - أخرجه بالنص الموجود أبو نعيم في "أخبار أصبهان" (1/133) والخطيب في "تاريخ بغداد" (3/ 145)، (10/22) وابن أبي شيبة (2/ 546).
797 -"مطالب أولي النهى" (2/277).
798 -"الاختيارات" (114).
799 -(1/ 435).
800 - ص (114).
801 - ص (116).
802 - سورة البقرة: الآية (198).
803 - أحمد (2/155) وأبو داود (1733) والدارقطني (2/292).
804 - انظر الترمذي (886) والبيهقي في "دلائل النبوة" (5/ 448، 449).
805 - البخاري (67) ومسلم (1354).
806 -"الإقناع" (3/ 301).
807 - روى ابن الصلاح في مقدمته عن أبي زرعة الرازي أن عدتهم أربعون ألفا (مقدمة ابن الصلاح ص (494)، ط. المعارف بتحقيق بنت الشاطئ).
808 - سورة آل عمران: الآية (97).
809 - أحمد (1/ 290) والدارقطني (2/ 279، 280، 281) والبيهقي (4/ 326).
810 - انظر "الاختيارات" ص (62).
811 - يشير إلى حديث: "إن أول ما يحاسب الناس به يوم القيامة من أعمالهم الصلاة" وفيه: "انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فإن كان له تطوع قال: أتموا لعبدي فريضته..." أخرجه الإمام أحمد، في "المسند" (2/290، 425) وأبو داود، في "السنن" (864، 865) وابن ماجه (1425، 1426) من حديث أبي هريرة. وأخرجه الإمام أحمد في "المسند" (4/103) وأبو داود (866) من حديث تميم الداري، وصححه الألباني من الوجهين، انظر "صحيح الجامع الصغير" رقم (2571) ورقم (2574).
812 - البخاري (1524، 1526، 1529، 1530، 1845) ومسلم (1181) وهو قطعة من حديث طويل.
813 -(3/ 281).
814 -(5/ 72).
815 - النسائي (5/162).(1/346)
816 - البخاري (1841، 1843) ومسلم (1179).
817 - سورة البقرة: الآية (196).
818 -(3/ 405) تعليقا، ووصله سعيد بن منصور وابن أبي شيبة كما قال الحافظ (3/406) وانظر "تغليق التعليق" (3/ 53) وهو في "المصنف" عن إبراهيم وغيره ص (393) من الجزء المفقود.
819 -(111).
820 - أبو داود (1752) والنسائي (5/ 225).
821 - انظر: "المجموع" (7/ 202) و"الفتوحات الربانية على الأذكار النواوية" (4/ 351).
822 -"الفتاوى" (26/ 108، 109) و"الاختيارات" ص (116).
823 - انظر: "الإنصاف" (3/ 433) و"الفروع" (3/ 293).
824 - النسائي (5/162).
825 -"الفتاوى" (26/ 108، 109).
826 - البخاري (1838).
827 - انظر "المحلى" (7/ 91، 92) وابن أبي شيبة في الجزء المفقود من "المصنف" (308) والشافعي في "الأم" (7/ 241) والبيهقي (5/ 54).
828 - أحمد (6/30) وأبو داود (1833) وابن ماجه (2935) وابن خزيمة (2690).
829 -"المغني" (5/ 155).
830 -(1833).
831 -"المغني" (5/ 155).
832 -"الفتاوى" (26/ 112).
833 - انظر "الإنصاف" (3/ 426).
834 - انظر "الفتاوى" (26/ 118، 119).
835 - نحوه في البخاري (1524، 1526، 1529، 1530، 1845) مسلم (1181).
836 - مسلم (1977).
837 - البخاري (1265، 1266، 1267، 1268، 1839، 1849، 1850، 1851) ومسلم (1206) وأحمد (1/ 286).
838 - البخاري (1789) ومسلم (1180) وأحمد (4/ 222، 224).
839 - يأتي تخريجه في الفتوى (251).
840 - سورة المائدة: الآية (95).
841 - سورة الحج: الآية (33).
842 - انظر "الإقناع" (3/ 465).
843 - أحمد (3/ 326) وأبو داود (1937) وابن ماجه (3048) وابن خزيمة (2787).
844 - سورة البقرة:الآية (196).
845 - سورة البقرة: الآية (196).
846 - سورة البقرة: الآية (196).
847 - البخاري (1587، 1833، 1834، 2090، 3189) ومسلم (1353).
848 -"الموطأ" (1/356).
849 - المائدة: الآية (95).
850 - المائدة: الآية (95).
851 -"الأم" (2/195).(1/347)
852 - الأم (2/193).
853 - مسلم (1362).
854-"الفتاوى" (26/ 144،145).
855 -(2/ 296).
856 - البخاري (1329) ومسلم (1598).
857 - البخاري (1600، 1791) بنحوه، وهذا اللفظ عند مسلم (1332).
858 - أبو داود (2028) والترمذي (876) وقال: حسن صحيح، وأحمد (6/ 92).
859 -"الزاد" (3/406- 409) بتصرف.
860 - أخرجه بنصه الواقدي في "المغازي" (2/ 837،838) وأخرجه ابن سعد في "الطبقات" (2/ 137) وأبو نعيم في "أخبار أصبهان" (1/ 247،248) والطبراني في "الكبير" (11/ 120) من حديث ابن عباس، مختصرا.
861 - مسلم (875) وأحمد (3 / 316) وأبو داود (1117).
862 -(3/ 188).
863 -(2/ 412).
864 -"مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى" (2/400).
865 -"المقنع" (1/443) ط. رئاسة المحاكم الشرعية والشئون الدينية بدولة قطر.
866 -(3/403، 404) ط. دار الفكر.
867 - البخاري (1607، 1612، 1613، 1632، 5193) ومسلم (1272، 1273).
868 - البخاري (1619) ومسلم (1276).
869 - الترمذي (960) والنسائي (5/ 222) وأحمد (3/ 414)، (4/ 64)، (5/ 377) والدارمي (2/ 44) والحاكم (1/ 459)، (2/ 266، 267) والبيهقي (5/ 85، 87) وابن حبان (3836) و"الحلية" (8/ 128) والطبراني في "الكبير" (11 / 34، 40) وابن الجارود (461) وابن عدي (5/ 2001).
870 -(1264).
871 - أي: تميل، وأصلها: تتضيف.
872 - مسلم (831).
873 -"مجموع الفتاوى" (26/ 8).
874 - البخاري (1755) ومسلم (1328).
875 - سورة البقرة: الآية (196).
876 - البخاري (1562، 4408) ومسلم (1211) وأبو داود (1779) و"الموطأ" ص (335).
877 - انظر "الإنصاف" (3/ 434) و"المغني" (5/ 82) و"الفروع" (3/ 301).
878 - البخاري (1651) ومسلم (1216).
879 - البخاري (1561، 1564، 1568) ومسلم (1236، 1239).
880 - انظر "المغني" (5/ 253).
881 - انظر "الإنصاف" (3/ 435).
882 - أحمد (1/219،244، 288، 344) ومسلم (1336) وأبو داود (1736) والنسائي (5/ 120، 121).(1/348)
883 - أحمد (3/ 314) وابن ماجه (3038).
884 - أحمد (6/ 289، 301، 311) ومسلم (1977) والترمذي (1523) وأبو داود (2791) والنسائي (7، 211، 212) وابن ماجه (3149، 3150).
885 - انظر "المغني" (5/ 329).
886 - البقرة: الآية (198).
887 - راجع تخريجه في الفتوى رقم (229).
888 - البخاري (1751).
889 -(5/ 292).
890 -"كشاف القناع" (2/ 1196).
891 -(2/ 62، 63).
892 -(2/ 213).
893 -(9/ 42،43).
894 - ص (340).
895 -(4/ 66).
896 -(2/ 382).
897 -(5/ 244).
898 -(3/ 424) طـ. دار الفكر.
899 -"المستوعب": لنصير الدين محمد بن عبد الله السَّامِرى (4/291). تحقيق: مساعد بن قاسم الفالح. ط. مكتبة المعارف الرياض.
900 -"المبدع" لأبي إسحق برهان الدين إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن مفلح (3/327) ط. المكتب الإسلامي
901 -(5/ 266، 267).
902 - سورة البقرة: الآية (196).
903 -(7/ 174).
905 -"الحاشية لعبد الله العنقري على الروض المربع" (1/ 538).
906 - مسلم (1565) والنسائي (7/ 212) والترمذي (4/ 1523) وأبو داود (3/ 2791) وابن ماجه (2/ 3149).
907 -"الفتاوى السعدية" (ضمن المجموعة الكاملة ص 192).
908 - مسلم (1955) وأحمد (4/ 123، 125)، والبيهقي (8/60)، (9/68) من حديث شداد بن أوس.
909 -"الفروع" لابن مفلح (3/556).
910 - أخرجه أبو داود (2835) وأحمد (6/ 381، 422) والنسائي (7/ 164، 165) والترمذي (1516) وابن ماجه (3162) والدارمي (2/81) وعبد الرزاق (7954) والطيالسي (1634) وغيرهم وفي الباب عن عائشة، وابن عباس، وابن عمرو، وأبي هريرة.
911 - أبو داود (2837، 2838) والترمذي (1523) وابن ماجه (3165) والنسائي (7/ 166) وأحمد (5/ 7، 17، 22) وغيرهم.
??
??
??
??
10(1/349)
فتاوى
الشيخ عبدالله بن عقيل
الجزء الثاني
[265] حكم بيع الهرة
سائل يسأل عن حكم بيع الهرة، وذكر أنه رأى هرتين عند جيرانه، فطلب منهم إحداهما، فأبوا عليه إلا بدفع ثمن، فهل يجوز دفع ثمن في الهر، وهل يحل لصاحبه أخذه؟
الإجابة:
المشهور من المذهب جواز بيع الهرة، وهو الذي نص عليه في "المنتهى" و"الإقناع" وغيرهما؛ واستدلوا بما في "الصحيح" : "أن امرأة دخلت النار في هرة لها حبستها(1) والأصل في "اللام" المِلْك، ولأنه حيوان يباح نفعه واقتناؤه مطلقا أشبه البغل والحمار. قال في "الإقناع" و"شرحه" : وعنه لا يجوز بيعه. اختاره في "الهدي" و"الفائق" وصححه في "القواعد الفقهية" ؛ لحديث مسلم عن جابر: أنه سئل عن ثمن السِّنَّوْرِ فقال: زجر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ( 2 ) ، وفي لفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن السنور(3)، رواه أبو داود، ويمكن حمله على غير المملوك منها، وما لا نفع فيه منها. اهـ (4). وقال ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (5): فأما بيع الهرة فقد اختلف العلماء في كراهته، فمنهم من كرهه، وروي ذلك عن أبي هريرة، وجابر، وعطاء وطاوس، ومجاهد، وجابر بن زيد، والأوزاعي، وأحمد في رواية عنه. وقال: هو أهون من جلود السباع، وهذا اختيار أبي بكر من أصحابنا. ورخص في بيع الهر ابن عباس، وعطاء في رواية، والحسن، وابن سيرين، والحكم، وهناد، وهو قول الثوري، وأبي حنيفة -رحمه اللَّه تعالى-، ومالك، والشافعي، وأحمد في المشهور عنه، وعن إسحاق روايتان، وعن الحسن: أنه كره بيعها، ورخص في شرائها للانتفاع بها، وهؤلاء منهم من لم يصحِّح النهي عن بيعها. قال أحمد: ما أعلم فيه شيئا يثبت أو يصحُّ، وقال أيضا: الأحاديث فيه مضطربة. ومنهم من حمل النهي على ما لا يقع فيه نفع كالبري ونحوه. ومنهم من قال: إنما نُهي عن بيعها؛ لأنه دناءة وقلة مروءة؛ لأنها متيسرة الوجود والحاجة إليها داعية؛ فهي من مرافق الناس التي لا ضرر عليهم(2/1)
في بذل فضلها، فالشح بذلك من أقبح الأخلاق الذميمة؛ فلذلك زجر عن أخذ ثمنها. انتهى.
[266] مقدمات العقد هل لها حكمه؟
يسأل رجل ويقول: هل يجوز أن يتفاهم شخص مع آخر بقصد بيعه بضاعةً بثمن مؤجل، وذلك قبل أن يملكها الدائن؟
الإجابة:
ما دام السؤال عن جواز التفاهم بين شخصين على أن يبيع أحدهما على الآخر بضاعة بثمن مؤجل، فهذا جائز، ولا أعلم فيه منعا، سواء كانت السلعة عند البائع حال التفاهم، أو لا. ولا يدخل هذا في حديث: "لا تبع ما ليس عندك" (6)؛ لأن التفاهم المذكور لا يسمى بيعا، لا في الشرع، ولا في اللغة، ولا في العرف، والاصطلاح؛ ولهذا لو تفاهما على شيء، فلكل منهما أن يتمم ما تفاهما عليه، أو يرفض، وكأن السائل يقصد ما يفعله بعض الناس من كون الرجل يبيع السلعة على غيره بثمن مؤجل قبل أن يملكها، فإن كان قصده هذا، فهو الذي لا ينبغي فعله؛ لأن بعض العلماء يجعله داخلا في عموم حديث حكيم بن حزام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تبع ما ليس عندك" . رواه الخمسة وصححه الترمذي. واللَّه أعلم.
[267] معنى: لا تبع ما ليس عندك
سائل يسأل عن رجلين اتفقا على أن يشتري أحدهما سلعة من السوق، ثم يبيعها لصاحبه دينا بثمن يزيد على ثمنها الحالي، وتعاقدا على ذلك، ولم يشترها من السوق حتى ضمن له أن يأخذها بما اتفقا عليه، وأكد له أنه لن يتخلى عنها بعد أن يشتريها صاحبه من أجله، فهل يحل هذا العقد أم لا؟
الإجابة:(2/2)
روى حكيم بن حزام -رضي الله عنه- قال: قلت: يا رسول اللَّه، يأتيني الرجل، فيسألني عن البيع ليس عندي ما أبيعه منه ثم أبتاعه من السوق. فقال: "لا تبع ما ليس عندك" (7) . رواه الخمسة، وصححه الترمذي، وترجم عليه المجد في المنتقى" . فقال: "باب النهي عن بيع ما لا يملك، ليمضي، فيشتريه، ويسلمه" وفي معناه حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل سلف وبيع ولا بيع ما ليس عندك (8) صححه الترمذي. ومعنى "لا تبع ما ليس عندك" ، أي: ما ليس في ملكك، وكذا ما ليس حاضرًا عندك، وما ليس في حوزتك، وقدرتك، كالعبد الآبق، ولو كان مملوكا لك، قال ابن القيم: لما في ذلك من الغرر؛ لأنه إذا باع ما ليس عنده، فليس على ثقة من حصوله؛ لأنه قد يحصل وقد لا يحصل؛ فيكون فيه غرر. وقال الوزير أبو المظفر في "الإفصاح" (9) : اتَّفَقُوا على أنه لا يجوز بيع ما ليس عنده ولا في ملكه ثم يمضي فيشتريه له.اهـ. وأنه عقد باطل، قال الشيخ تقي الدين: إنما يفعله بقصد التجارة والربح، فيبيعه بسعر، ويشتريه بأرخص، ويلزمه تسليمه في الحال، وقد يقدر عليه، وقد لا يقدر عليه، وقد لا تحصل له تلك السلعة إلا بثمن أغلى مما تسلف، فيندم، وإن حصلت بسعر أرخص ندم المسلف إذا كان يمكنه أن يشتريه هو بذلك السعر، فصار هذا من نوع الميسر والقِمار والمخاطرة. اهـ. وقال البغوي (10): النهي في هذا الحديث عن بيوع الأعيان التي لا يملكها. اهـ.
أما بيع شيء موصوف في ذمته، فيجوز فيه السلم بشروطه، فظاهر النهي تحريم ما لم يكن من الأعيان في ملك الإنسان، ولا داخلا تحت مقدرته سوى الموصوف في الذمة.
إذا عُرِف هذا، فالمسألة التي سئل عنها داخلة في عموم قوله صلى الله عليه وسلم : "لا تبع ما ليس عندك" (11) ، فينهى عن ذلك لما تقدم من كلام أهل العلم على الحديث. واللَّه أعلم.
[268] شراء سيارة نسيئة وإصلاحها،ثم بيعها، هل هو من العينة؟(2/3)
رجل باع سيارة نسيئة، فأصلح فيها المشتري إصلاحات، ثم باعها لإنسان آخر، فأعادها عليه بعد مدة، ثم عرضها المشتري الأول في المعرض، فاشتراها البائع الأول بأقل مما باعها نقدا. هل هذه من مسائل العِينة، وهل يجوز إذا وكل البائع الأول من يشتريها له؟
الإجابة:
إن كانت قد تغيرت صفتها، ونقصت باستعمالها وتداولِ يد المشتري الأول والمشتري الثاني لها- جاز للبائع الأول شراؤها، إن لم تكن حيلة على استباحتها، و إلا فهذه مسألة العِينة.
و أما قولك : هل يجوز أن يوكل من يشتريها ؟ فالجواب : إن جاز له بنفسه جاز أن يوكل ، و إلا فلا ؛ لأن الوكيل كالأصيل .
[269] حكم بيع عملة بعملة أخرى مؤجلا
رجل يسأل عن حكم بيع أوراق العملة بعضها ببعض إلى أجل متفاضلا، فمثلا: الدولار الأمريكي يساوي كذا نقدا، فهل يجوز بيعه مؤجلا بزيادة ريال مثلا -أو أكثر- أم لا؟
الإجابة:
الذي يظهر لنا: عدم جواز بيع بعض أوراق العملة ببعض مؤجلا بأكثر من ثمنها الحاضر؛ لأنه وسيلة إلى الربا، بل هو باب من أبواب الربا، وهذا ظاهر عند من يقول : إنها فلوس.
و أما من قال : إن حكمها حكم عملتها النقدية التي كتبت عليها ، فالأمر أظهر وأظهر؛ لأن البدل له حكم المبدل ، و لو لم يكن في المنع إلا سد الذرائع لكفى ، ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام . و اللَّه أعلم .
[270] حكم البيع إلى أجل بزيادة في الثمن
سائل يسأل عن رجل أراد شراء سيارة يستعملها لحاجة نفسه، وليس لديه نقود، واتفق مع آخر على أن يشتري هذا الآخر سيارة، ويدفع ثمنها من ماله، فإذا استقرت على ملكه، فحينئذ يبيعها للرجل المذكور بزيادة مناسبة؛ لقاء تأجيل الثمن بذمته، فهل هذا جائز أم لا؟
الإجابة:(2/4)
الحمد للَّه. إذا كان الحال كما ذكره السائل، فهذا من العقود الجائزة التي يتعاطاها المسلمون من غير نكير، وليس هذا من مسألة التورق في شيء، بل هو من باب بيع النسيئة، وهو ما عجل مثمنه وأجل ثمنه، عكس مسألة السلم، وهو ما عجل ثمنه وأجل مثمنه، وهو واضح بحمد اللَّه تعالى. وصلى اللَّه على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
[271] حكم البيع نسيئة بثمن زائد عن سعر المثل
ما تقولون فيما يفعله بعض التجار من بيع السلع إلى أجل بقيمة زائدة عن سعر النقد؟
الإجابة:
هذا جائز إذا كان برضا الطرفين، ولم يزل عمل المسلمين على هذا، إلا أن الزيادة الكثيرة لا تنبغي. قال أبو طالب: قيل للإمام أحمد: إن ربح الرجل في العشرة خمسة، يكره ذلك؟ قال: إذا كان أجله إلى سنة، أو أقل بقدر الربح، فلا بأس به. وقال جعفر بن محمد: سمعت أبا عبداللَّه يقول: بيع النسيئة إذا كان مقاربا، فلا بأس به.
وهذا يقتضي كراهة الربح الكثير الذي يزيد على قدر الأجل؛ لأنه شبه بيع المضطر، وهذا يعم بيع المرابحة، والمساومة. ذكره في "الاختيارات"(12). واللَّه الموفق.
[272] حكم المبايعة بكيل أو وزن مَجْهُولَيْنِ
رجلان تبايعا على شيء مجهول. فقال أحدهما: اشتر مني وزن هذه الحصاة، أو ملء هذا الماعون بكذا و كذا ريالًا، وهما لا يعلمان عن وزن الحصاة ولا مقدار الماعون، فما حكم عقدهما؟
الإجابة:
هذا ليس من الجهالة، بل العقد صحيح؛ لأنهما قد شاهدا الحصاة والماعون، وإن فرضنا أنهما لا يعلمان مقدار الوزن والكيل، لكن بمشاهدة ذلك، لا يصير مجهولا. واللَّه أعلم.
[273] بيع الأجل ومقدار الربح فيه
ما هو الدين المعتبر؟... إلخ.
الإجابة:(2/5)
إن كان القصد السؤال عن حكم بيع السلعة دينا بثمن يزيد على قيمتها نقدا، فهذا جائز إذا كان برضى الطرفين، ولم يزل عمل المسلمين على هذا، إلا أن الزيادة الكثيرة لا تنبغي، قال أبوطالب: قيل للإمام أحمد: إن ربح الرجل في العشرة خمسة يكره ذلك، قال: إذا كان أجله إلى سنة أو أقل بقدر الربح، فلا بأس، وقال جعفر بن محمد: سمعت أباعبداللَّه يقول: بيع النسيئة إذا كان مقاربا، فلا بأس به، وهذا يقتضي كراهية الربح الكثير الذي يزيد على قدر الأجل؛ لأنه يشبه بيع المضطر، وهذا يعم بيع المرابحة والمساومة، ذكره في "الاختيارات(13) ، واللَّه الموفق.
[274] بيع العِينة
سائل يسأل عن مسألة بيع العينة التي يتعامل بها بعض الناس: يبيع التاجر للفلاح أكياس السكر بسعر ثمانين مؤجلة، ثم يشتريها منه بسعر ستين حالَّة، ويزعمون أن بعض أهل العلم قد أجازها؛ فنطلب منكم الفتوى في ذلك، وبيان حكمها مستوفى، وما ورد فيه أثابكم اللَّه.
الإجابة:(2/6)
بيع العينة نوع من أنواع البيوع المحرمة؛ لما فيها من الربا. ووسائلُه وَصِفَتُها كما شرح السائل باستفتائه أعلاه: أن يبيع التاجر أكياس السكر مثلا للفلاح بسعر ثمانين مؤجلة، ثم يشتريها منه بسعر ستين حالَّة، فكأنه باعه ستين نقدا بثمانين مؤجلة، وهذا هو الربا؛ ولهذا ذهب الجماهير من أهل العلم إلى تحريمها؛ مستدلين بما ورد فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم من النهي عنها، وتوعد مَن فعلها. فمن ذلك حديث ابن عمر قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا ضن الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، واتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل اللَّه أنزل اللَّه عليهم بلاء لا يرفعه عنهم، حتى يراجعوا دينهم (14) . رواه الإمام أحمد وأبو داود. وهذا الوعيد منه صلى الله عليه وسلم دال على التحريم. ومما ورد فيها حديث أبي إسحاق السبيعي عن امرأته: أنها دخلت على عائشة في نسوة، فسألتها امرأة. فقالت: يا أم المؤمنين، كانت لي جارية، فبعتها من زيد ابن أرقم بثمانمائة إلى العطاء، ثم ابتعتها منه بستمائة، فنقدته الستمائة، وكتبت عليه ثمانمائة؟ فقالت عائشة: بئسما اشتريت، وبئسما اشترى زيد ابن أرقم، إنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب. فقالت المرأة: أرأيت إن أخذت رأس مالي، ورددت عليه الفضل؟ قالت: {فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ}(15) رواه البيهقي، والدارقطني، وعبدالرزاق في "مصنفه"(16) . ففي قول عائشة: إن زيدا أبطل جهاده إلا أن يتوب، دليل واضح على تحريم هذا البيع. وفي الباب آثار عن الصحابة وغيرهم.
وقد ذهب إلى تحريم بيع العينة جمهور أهل العلم. منهم: ابن عباس، وعائشة، والحسن، وابن سيرين، والشعبي، والنخعي، وبه قال أبو الزناد، وربيعة، وعبدالعزيز بن أبي سلمة، والثوري، والأوزاعي، ومالك، وإسحاق، وأصحاب الرأي، وهو مذهب الإمام أحمد بن حنبل.(2/7)
وقال ابن القيم في "تهذيب سنن أبي داود" : قد ثبت عن ابن عباس، أنه سئل عن رجل باع من رجل حريرة بمائة درهم نسيئة، ثم اشتراها منه بخمسين نقدا. فقال: دراهم بدراهم متفاضلة دخلت بينهما حريرة (17) . وفي رواية: إن اللَّه لا يُخدع. هذا مما حرمه اللَّه ورسوله.
والحريرة: خرقة من الحرير المعروف.
وأما من أجاز العينة، فيستند إلى ما ذكره الإمام الشافعي في "الأم" : من أنه ثمن يجوز بيعها به من غير بائعها، فجاز من بائعها، كما لو باعها بثمن مثلها.وهذا لا يقوى على معارضة النصوص الثابتة في تحريم بيع العِينة مما ذكرناه وغيره.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "إقامة الدليل على إبطال التحليل" : لم يبلغنا أن أحدا من الصحابة والتابعين رخص في ذلك -يعني: بيع العِينة- بل عامة التابعين من أهل المدينة، والكوفة، وغيرهم على تحريم ذلك، فيكون حجة، بل إجماعا. ثم قال: ولا يجوز أن يقال: فزيد بن أرقم قد فعل هذا؛ لأن زيدا لم يقل: إنه حلال، بل يجوز أن يكون فعله جريا على العادة من غير تأمل، ولا نظر، ولا اعتقاد؛ ولهذا لم يُذكر عنه أنه أصر على ذلك بعد إنكار عائشة. وكثيرا ما يفعل الرجل النبيل الشيء مع ذهوله عما في ضمنه من مفسدة، فإذا نُبِّهَ انتبه. انتهى.
وسميت هذه المسألة بالعينة؛ لأن مشتري السلعة إلى أجل يأخذ بدلها من صاحبها عَينا، أي: دراهم نقدا، فكأنه لم يقصد السلعة، وإنما قصد العَين:
قال الشاعر:
َأنَعْتَانُ أَمْ نَدَّانُ أَمْ يَنْبَرِي لَنَا فتَى مِثْلُ نَصْلِ السَّيْفِ مِيزَتْ مَضَارِبُهْ
ومعنى نعتان: نشتري بالعينة.
وذكر الفقهاء: أن عكس مسألة العِينة مثلُها في التحريم. وصورتها: أن يبيع الفلاح للتاجر سلعة بستين نقدا، ثم يشتريها منه بثمانين مؤجلة؛ لأن معناهما واحد؛ فهي دراهم بدراهم متفاضلة، دخلت بينهما هذه السلعة.(2/8)
وقد استثنى الفقهاء من مسألة العينة صورا، وصححوا فيها البيع: مثل ما إذا تغيرت صفة السلعة، بعد ما اشتراها الفلاح: كبعير هزل، أو حَبٍّ سَوَّسَ؛ فصار لا يساوي قيمته. ومثل ما إذا باعها الفلاح لرجل آخر، ثم اشتراها التاجر من ذلك الرجل بأنقص من ثمنها الأول. ومثل ما إذا باعها الفلاح للتاجر بثمنها دون نقص، أو بأكثر من ثمنها، فهذا لا محذور فيه. ومثل ما إذا اشتراها التاجر من الفلاح بعد أن استوفى منه ثمنها. ففي هذه الصور العقد صحيح؛ لأنها تخرج عن مسألة العِينة. واللَّه أعلم.
[275] مسألة التَّوَرُّق
يسأل رجل عما يتعامل به بعض الناس بحيث إذا احتاج الإنسان إلى نقود، وذهب إلى التاجر، باع له أكياسَ السكر نسيئة بثمن يزيد عن ثمنها نقدا، فيأخذ المحتاجُ السكر، ويبيعه بثمن ناقص عما اشتراه به؛ ليقضي حاجته بثمنه، فهل هذا التعامل من الربا أم هو حلال؟
الإجابة:
هذا المسألة تسمى مسألة التورق.
والمشهور من المذهب جوازها. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: إذا لم يكن للمشتري حاجة إلى السلعة، بل حاجته في الذهب والورق، فيشتري السلعة؛ ليبيعها بالعين الذي احتاج إليها، فإن أعاد السلعة إلى البائع؛ فهو الذي لا يُشَكُّ في تحريمه، وإن باعها لغيره بيعا تاما ولم تعد إلى الأول بحال، فقد اختلف السلف في كراهته، ويسمونه التورق.(2/9)
وكان عمر بن عبدالعزيز يكرهه. ويقول: التورق أخو الربا، وإياس بن معاوية يرخص فيه. وعن الإمام أحمد: فيه روايتان منصوصتان (18) . اهـ. وقال في "مطالب أولي النهى" (19) : ولو احتاج إنسان لنقد، فاشترى ما يساوي مائة بأكثر: كمائة وخمسين مثلا؛ ليتوسع بثمنه، فلا بأس بذلك. نص عليه. وهي مسألة التورق. وقال في "الاختيارات" (20): قال أبو طالب: قيل للإمام أحمد: إنْ رَبحَ الرجل في العشرة خمسة، يكره ذلك؟ قال: إذا كان أجله إلى سنة، أو أقل بقدر الربح، فلا بأس. وقال جعفر بن محمد: سمعت أبا عبداللَّه - يعني: أحمد بن حنبل - يقول: بيع النسيئة إذا كان مقاربا فلا بأس به. وهذا يقتضي كراهة الربح الكثير الذي يزيد على قدر الأجل؛ لأنه يشبه بيع المضطر، وهذا يعم بيع المرابحة والمساومة. واللَّه أعلم.
[276] حكم اشتراط تأمين الكهرباء تبع البيت المبيع
سائل يسأل عن رجل اشترى بيتا قد دخله الكهرباء، واشترط دخول تأمين الكهرباء في البيع، واعترض بعض الناس بأن هذا ربا؛ لأنه دراهم بدراهم، فهل في هذا محذور أم أن الشرط صحيح؟.
الإجابة:
لا بأس باشتراطٍ مثل هذا، والبيع صحيح؛ لأن دراهم تأمين الكهرباء ليست هي المقصود في البيع، وإنما هي تابعة للبيت المبيع. ومن القواعد المقررة: يثبت تبعا ما لا يثبت استقلالا.
وهذا نظير ما ذكره العلماء فيمن باع عبدا مملوكا وله مال من نقود وغيرها، فإن البيع صحيح، ويدخل مال العبد تبعا له إذا شرط، ولو كان فيها نقود من جنس الثمن. واللَّه أعلم.
[277] بيع الكتب الموقوفة وشراؤها
سائل يسأل عن بيع الكتب المكتوب عليها: وقف، وشرائها...
الإجابة:(2/10)
الوقف لا يجوز بيعه ولا شراؤه، ولا يحل أخذ ثمنه، لكن شراء الكتاب الموقوف؛ استنقاذا لينتفع به لحاجته إليه، بشرط بقائه على وقفيته وعدم تملكه، ولا يمنعه أهله إذا استغنى عنه- أرجو أن لا بأس به بالنسبة للمشتري، وأما البائع: فلا يحل له الثمن، وليس هذا ببيع وشراء حقيقي، ولكنه استنقاذ كما تقدم. واللَّه أعلم.
باب الشروط في البيع [278] حكم بيع الدابة بشرط كونها حاملا
رجل اشترى بقرة بشرط أنها حامل في الشهر التاسع، ثم تجاوزت المدة بكثير، فادعى المشتري على البائع بفقد الصفة، وأنه أمسكها بأَرْشِ فَقْدِ الصفة، فهل له ذلك؟ أفتونا مأجورين.
الإجابة:
شرط كون البقرة المبيعة حاملا، لا يَخْفَى صحتُه، وشرط ولادتها في زمن كذا وكذا غيُر صحيح، ولكن لا يُبطل العقدَ. وإذا تأخرت الولادة عن العادة- بالنسبة إلى الشهر الذي أسماه لتلك البقرة في حملها- تأخرا كثيرا يخرج عن العادة، فإن المشتري يخيَّر بين الإمساك- وله أرش فَقْدِ تلك الصفة- وبين الرد تنزيلا لفَقْدِ الصفة منزلةَ العيب في ذلك.
وأما ثمن العَلَفُ الذي صرفه المشتري على البقرة -إذا اختار الرد- فإنه من مال المشتري. ومن المعلوم أن تلك البقرة لو ماتت في تلك المدة، فإنها من ضمان المشتري؛ لصحة العقد المقتضي ثبوت الملكية.
ويقبل المشتري أن تصرفه في السلعة ليس على وجه الرضا بها معيبة، بل على وجه إمساكها بالأرش بيمينه، سواء أمكنه الإشهاد على ذلك فلم يفعل، أو لم يمكنه ذلك. وقد جاء في حاشية الشيخ عبد اللَّه العنقري -رحمه اللَّه- (21) : الظاهر قبول قوله بيمينه إذا تصرف ناويًا الرجوع بالأرش. قاله سليمان بن علي.
باب القرض [279] الفرق بين القرض والضمان(2/11)
سائل يسأل بقوله: أنا رجل أتعامل مع الناس كواسطة بينهم. وجاء إلي إنسان، وقال: تَوسَّطْ لي عند شخص معين؛ يقرضني مبلغ كذا وكذا من المال، وأعطيك مقابل وساطتك مبلغا: كذا وكذا. فذهبت للشخص، فوافق بشرط أن أضمن له المبلغ من مالي. فهل تحل هذه المعاملة أم لا؟
الإجابة:
المشهور عند فقهائنا - رحمهم اللَّه- التفريق بين: أن يقترض له بجاهه مقابل مبلغ يدفعه له، أو يضمن عنه مقابل المبلغ، فأجازوها في مسألة القرض دون الضمان. قالوا: والفرق بينهما: أنه في الضمان يكون كقرض جرَّ نفعا؛ لأنه إذا حل الأجل فأداه الضامن، صار المبلغ كالقرض له في ذمة المضمون عنه، فإذا أخذ عوضا عن ضمانه زيادة عما دفعه عنه، صار كقرض جر نفعا؛ فمنعوه لذلك بخلاف القرض؛ لأنه في مقابله ما يبذله من جاهه.
وقال الشيخ عبدالرحمن بن سعدي في "فتاويه السعدية" (22) : في هذا نظر. ولو قيل بأخذ الجعل على الكفالة لا عن الاقتراض لكان أولى؛ فإن الاقتراض من جنس الشفاعة، وقد نهى الشارع عن أخذ الجعل فيها وأما الكفالة فلا محذور فيها، ولكن الأولى عدم ذلك.انتهى.
قلت: ومراده بقوله: نهى الشارع عن أخذ الجعل على الشفاعة: ما رواه أبو داود، وغيره، عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من شفع لأخيه شفاعة، فأهدى له هدية عليها فقَبِلَها، فقد أتى بابًا عظيمًا من أبواب الربا(23) وفي إسناده مقال. قال الشارح: لأن الشفاعة الحسنة مندوب إليها، وقد تكون واجبة، فأخذ الهدية عليها يضيع أجرها، كما أن الربا يضيع الحلال. فعلى هذا لا يجوز لك أخذ مبلغ على اقتراضك عنه، ولا على ضمانك عنه. واللَّه أعلم.
[280] حكم الوفاء بعملة قد تغيرت
سائل يقول: إنه أقرض رجلا دراهم -أوراقا نقدية-، ثم أرادت الحكومة تغيير تلك السكة بسكة أخرى، فما الواجب دفعه لوفاء هذا القرض؟
الإجابة:(2/12)
ذكر الفقهاء - رحمهم اللَّه - أن السلطان إذا منع التعامل بالسكة، فلا يلزم المقرض قبولها، إذا ردها عليه المقترض؛ لأنها أصبحت كالمعيبة، وحينئذ فيكون للمقرض قيمتها وقت القرض بالنسبة إلى النقود الأخرى التي لم تغير، فيدفع له المقترض قيمة ما كانت تساويه وقت القرض بالنسبة إلى الذهب مثلا. واللَّه أعلم.
باب الرهن [281] اختلاف الراهن والمرتهن
إذا اختلف الراهن والمرتهن في قدر الدين الذي فيه الرهن. فقال الراهن: إنه بثمانمائة، وقال المرتهن: إنه بألف -مثلا- وليس لدى أحد منهما بينة، فأيهما الذي يُقبل قوله؟
الإجابة:
المشهور من المذهب أن القول قول الراهن بيمينه. وبه قال النَّخَعي، والشافعي، والثوري، وأبو ثور، وأصحاب الرأي. فإذا قال المرتهن: هو رهن بألف، وقال الراهن: بل بثمانمائة؛ فالقول قول الراهن بيمينه؛ لأنه غارم، ومنكر للزيادة؛ ولقول النبي صلى الله عليه وسلم : "لو يعطى الناس بدعواهم؛ لادعى رجالٌ دماءَ قوم وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه" . رواه مسلم (24) .
والقول الآخر: أن القول قول المرتهن، ما لم يجاوز قيمة الرهن، وهو مروي عن الحسن، وقتادة، وبه قال مالك، واختاره الشيخ تقي الدين؛ لأن الظاهر أن الرهن يكون بقدر الحق، أو قريبا منه. واللَّه أعلم.
باب الشركة [282] اتفاق الإخوان على عقد شركة فيما بينهم
امرأة تقول: لي ثلاثة إخوة: واحد أكبر مني، واثنان أصغر مني.
وكان أخونا الأكبر هو الذي يتولى قبض رواتبنا جميعا على أساس أن حالتنا واحدة، ثم إن أخانا هذا اشترى عقارا وكتبه باسمه، لكنه اعتذر لنا أخيرا، واتفقنا على أن نعمل صكا شرعيا على أننا شركاء في كل ما نملك.
وتسأل عن صحة هذا العقد، وهل هذه الشركة صحيحة، وهل إذا قدر الله على أحدهم الموت يصير نصيبه لأولاده؟
الإجابة:(2/13)
قد أباح الشارع للناس جميع أنواع الشركات؛ لما فيها من التعاون البدني، والفكري، والمالي، وحثَّ على المناصحة فيها، وحذر من الغش والخيانة. ومقتضى ما ذكرته عن شركتك، وإخوانك إذا كان مرتب كل منكم معلوما، والقصد الذي تهدفون إليه من هذه الشراكة معلوما، لا جهالة فيه -أن عقد الشراكة صحيح جائز. واللَّه الموفق.
باب الشفعة [283] هل الشفعة بالجوار؟
سائل يسأل عن الشفعة بالجوار، والقول الصحيح فيها.
الإجابة:
اختلف العلماء في الشفعة بالجوار على ثلاثة أقوال:
الأول:القول بعدم الشفعة بالجوار مطلقا. وهذا قول المدنيين، وحجتهم الأخبار الواردة في هذا: كحديث: "الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة"(25) . وغيره مما ورد في الباب.
القول الثاني: قول من يثبت الشفعة للجار مطلقا، ولو مع تمييز الحقوق، والطرق. وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه، وبعض من الشافعية والحنابلة. ودليلهم في ذلك حديث أبي رافع:الجار أحق بالشفعة"(26) وغيره.
القول الثالث: القول بالتفصيل، والتوفيق بين أدلة القولين: وهو إثبات الشفعة للجار إذا كان هناك حق مشترك من حقوق الأملاك: كطريق، أو ماء، أو مسيل، ولا فرق في ذلك بين العقارات المتجاورة التي سبق فيها اشتراك، وغيرها. وهذا قول البصريين، ومن وافقهم، وهو الصحيح الذي يحصل فيه الجمع بين الأدلة، وهو منصوص عن الإمام أحمد في رواية أبي طالب، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية (27)وتلميذه ابن القيم. وهو القياس؛ لأن شرعية الشفعة لدفع الضرر، والضرر إنما يحصل في الأغلب مع المخالطة في الشيء المملوك، أو شيء من مصالحه، وطرقه، ونحو ذلك. واللَّه أعلم.
باب إحياء الموات [284] إحياء الموات هل يكفي ترسيمه بحجر؟
هل يكفي لمن أراد إحياء أرض ميتة ترسيمها، ووضع منار على حدودها أم لا بد من الإحياء، وما حقيقة الإحياء الشرعي؟
الإجابة:(2/14)
الأرض الموات التي ليست ملكا لمعصوم، ولا اختصاصا له -لا تملك، ولا تكون محياة بمجرد وضع المنار، ولا بإهالة التراب عليها، ولا الأحجار، ولا بمجرد قطع الأشجار، بل لا تكون محياة، ولا تملك إلا بأن يعمل فيها ما يعد إحياء لها عرفا، وهو يختلف باختلاف البلاد، وغير ذلك. فمنها: ما يكون محيا بإحاطتها بحائط يصيرها منتفعًا بها؛ لإيواء الدواب، وتحصينها بها، أو للسكن أو نحو ذلك. ومنها: ما يكون محيا بإجراء مياه الآبار والأنهار إليها بزراعة، أو غرس أشجار، ونحو ذلك. ومنها: ما يكون محيا بقطع جميع الأشجار، وإزالة جميع الأحجار، وبالتسوية، وتهيئتها لزراعتها بمياه الأمطار، مضموما إلى ذلك تهيئة طرق مسايلها، فإذا كانت مهيئة معدة من جميع النواحي لزراعتها بَعْلًا (28)، فإنه يكون مُحْيِيًا لها، ومالكا لها بذلك؛ لعموم الأخبار، فإن هذه الأرض قد كانت حية بعدما كانت ميتة لا تصلح للزراعة، فتهيئتها لهذه المنفعة الخاصة -وهي زراعتها بعلا- نظير تهيئة الأرض، وإعدادها للسكن، أو تحصين الدواب.
وأما المنار، فيضعه المُلاَّك منارًا لأملاكهم، كما يضعه أرباب الاختصاص منارًا على اختصاصهم، كما قد يضعه غير المحق على ما يزعمه ملكا له، واختصاصا له، ولكل حكمه. واللَّه أعلم.
[285] ريع الوقف المنقطع
سائل يسأل عن حكم الوقف المنقطع، وقسمة غلته؟
الإجابة:
المشهور من المذهب أن غلته تصرف على ورثة الواقف نِسَبًا على قدر إرثهم وقفًا عليهم؛ لأن الوقف مصرفه البر، وأقاربه أولى ببره، فإن لم يكونوا، فعلى المساكين.(2/15)
وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه اللَّه - في ذلك ثلاثة عشر قولًا، ذكرها عنه في "الاختيارات الفقهية" . قال في "الاختيارات الفقهية(29) : وضابط الأقوال في الوقف المنقطع: إما على جميع الورثة، وإما على العصبة، وإما على المصالح، وإما على الفقراء والمساكين منهم، وعلى الأقوال الأربعة: فإما وقف، وإما ملك، فهذه ثمانية: منها أربعة في الأقارب، وهل يختص به فقراؤهم؟ فيصير فيهم ثمانية، والثالث عشر: تفصيل ابن أبي موسى أنه إذا رجع إلى جميع الورثة يكون ملكًا بينهم على فرائض اللَّه، بخلاف رجوعه إلى العصبات (30)، قال أبو العباس: وهذا أصح وأشبه بكلام أحمد.انتهى.
[286] هل لمن وقف وقفًا منجزًا التصرف فيه؟
رجل وقف وقفًا منجزًا، وعين مصرفه، وبعد ذلك بمدة كتب ورقة، ذكر فيها أنه شرك في ثوابه أناسًا ممن لم يدخلهم فيه، وألحق فيه زيادة تنافيه، وأدخل في استحقاق الريع أناسًا خارجين عنه، فهل تصح هذه التصرفات الجديدة أم لا؟
الإجابة:
لا يصح شيء من تصرفاته المذكورة؛ لأن الوقف عقد لازم، فإذا وقف شيئًا وقفًا منجزًا، فقد لزم ولا حق له في أي تصرف يخالف ما قد عقده سابقا. واللَّه أعلم.
[287] إذا وقف وقفًا ولم يعين مصرفه، فما حكم ذلك؟
بعض الإخوان إذا أوصى لم يعين جهة الوقف. إنما يقول: وكيلي فلان في أعمال البر، فبقي في أيديهم، حتى اتجروا به على طريق المضاربة، فهل يجوز ذلك؟ وهل تجب الزكاة في نصيب العامل من الربح؟
الإجابة:
إذا وقف الإنسان وقفًا ولم يعين جهة يصرف عليها، بأن قال: هذا وقف، وسكت.
فهذه المسألة قد اختلف فيها العلماء. فمنهم من صحح الوقف، ومنهم من أبطله.(2/16)
وقال في "المغني"(31): وأما إذا وقف وقفا ولم يذكر له مصرفًا بالكلية بأن قال: وقفت هذا، وسكت ولم يذكر سبيله، فلا نص فيه، وابن حامد يصحح الوقف. قال القاضي: هو قياس قول أحمد، وإذا صح صرف مصرف الوقف المنقطع. اهـ. وفي "شرح منتهى الإرادات"(32): ويصرف ما وقفه وسكت، بأن قال: هذه الدار وقف، ولم يذكر مصرفًا؛ صُرف إلى الورثة نسبًا: لا ولاء ولا نكاحًا، على قدر إرثهم من الواقف؛ وقفًا عليهم. ويقع الحجب بينهم، كوقوعه في الإرث. قاله القاضي. فإن عدموا فهو للفقراء والمساكين وقفًا عليهم.اهـ. قال: وعلم منه صحة الوقف، وإن لم يعين له مصرفًا خلافًا لما في "الإقناع" .اهـ. من "المنتهى وشرحه" . وأما إذا قال: في أعمال البر وسكت، فقد أجاب على مثل ذلك الشيخ عبد اللَّه أبابطين بما نصه: الذي وقف وقفًا على جهة بر ولم يعين مصرفًا، فالذي أرى أنه يصرف على فقراء أقاربه، لا سيما فقراء ورثته، ويصرف في غير ذلك من أوجه البر، كفطر الصُّوام ونحو ذلك.
وأما اتجار الوصي في هذا المال الموصى به فلا يجوز، فإن اتجر به فربح، فالربح تبع أصل المال ولا شيء للعامل. ويصرف الأصل والربح في الجهة الموصى بها، ولا زكاة في هذا المال، لا الأصل ولا الربح؛ لعدم المالك المعين، وإذا اتجر به وصي قبل تصرفه؛ لأنه لم يؤذن له فيه.
قال في "الإقناع وشرحه" : ولا زكاة في السائمة وغيرها الموقوفة على غير معين كالمساكين أو على مسجد أو رباط ونحوها كمدرسة؛ لعدم ملكهم لها، كمالٍ مُوصى به يُشترى به ما يوقف، فإذا اتجر به وصي قبل تصرفه فيها فربِح المال، فرِبْحُه مع أصل المال يصرف فيما وصى فيه؛ لتبعية الربح للأصل، ولا زكاة فيهما؛ لعدم المالك المعيِّن، وإن خسر ضمن النقص؛ لمخالفته إِذَنْ.اهـ. من "الإقناع وشرحه" .
[288] نقل الوقف(2/17)
عقار موقوف في بلد معين هدم جانب منه؛ لتوسعة الشارع، واقتضى الحال بيع باقيه؛ لتعطل منافعه. فهل يجوز نقله من تلك البلد إلى بلد أخرى أقرب للمستحقين؛ لأنهم قد انتقلوا من بلدهم؟ ومع هذا فهو أصلح للوقف وأكثر غلة؛ نظرًا لزيادة الأجور في البلد المنقول إليه، ولكون المستحقين يسكنون فيه بحكم وظائفهم وأعمالهم.
الإجابة:
لا نرى مانعًا شرعيًّا يحول دون نقله، إذا كان ما ذكره السائل صحيحا؛ لأن المصلحة راجحة في نقله من ناحيتين:
الأولى: قرب الوقف من الجهة الموقوف عليها؛ لتيسر القيام عليه بحفظه وصيانته وتنميته.
الثانية: كثرة الريع الحاصل من الوقف للجهة الموقف عليها. وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه اللَّه- في "الفتاوى المصرية" (33) إلى هذا الموضع بما نصه: وإذا تعطل نفع الوقف، فإنه يباع ويشترى بثمنه ما يقوم مقامه في مذهب أحمد وغيره، وهل يجوز مع كونه مغلاًّ أن يبدل بخير منه؟ فيه قولان في مذهبه، والجواز مذهب أبي ثور وغيره.
والمقصود: أنه حيث جاز البدل، هل يشترط أن يكون في الدرب أو البلد الذي فيه الوقف الأول، أم يجوز أن يكون بغيره إذا كان ذلك أصلح لأهل الوقف، مثل أن يكون ببلد غير بلد الوقف، إذا اشترى فيه البدل كان أنفع له؛ لكثرة الريع وتيسر التناول، وما علمت أحدًا اشترط أن يكون البدل في بلد الوقف الأول، بل النصوص عند أحمد وأصوله وعموم كلامه وكلام أصحابه وإطلاقه يقتضي أن يفعل في ذلك ما فيه مصلحة أهل الوقف، فإن أصله في هذا الباب مراعاة مصلحة الوقف، بل أصله في عامة العقود اعتبار مصلحة الناس؛ فإن اللَّه أمر بالصلاح ونهى عن الفساد، وبعث رسله بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها.(2/18)
وقد جوز أحمد إبدال مسجد بآخر للمصلحة، كما جوز تغييره للمصلحة، واحتج بأن عمر أبدل مسجد الكوفة القديم بمسجد آخر، وجوز أحمد إذا خرِب المكان أن ينقل المسجد إلى قرية أخرى، بل ويجوز -في أظهر الروايتين عن أحمد- أن يباع ذلك المسجد ويعمر بثمنه مسجد آخر في قرية أخرى، إذا لم يحتج إليه في القرية الأولى؛ فاعتبر المصلحة بجنس المسجد، وإن كان في قرية غير القرية الأولى، إذا كان جنس المساجد مشتركة بين المسلمين.
قال: والوقف على قوم بعينهم أحق بجواز نقله إلى مدينتهم من المسجد، فإن الوقف على معينين حق لهم لا يشركهم فيه غيرهم... إلى أن قال: فإذا كان الوقف ببلدهم أصلح لهم؛ كان اشتراء البدل ببلدهم هو الذي ينبغي فعله لمتولي ذلك، وصار هذا كالفرس الحبيس الذي يباع ويشترى بثمنه ما يقوم مقامه، إذا كان محبوسًا على أناس في بعض الثغور، ثم انتقلوا إلى ثغر آخر، فشراء البدل بالثغر الذي هم فيه يقيمون أولى من شرائه بثغر آخر...، ثم قال: ومما يبين هذا أن الوقف لو كان منقولًا كالسلاح وكتب العلم، وهو وقف على ذرية رجل بعينه جاز أن يكون مقر الوقف حيث كانوا، بل كان هذا هو المتعين. فليس في تخصيص مكان العقار الأول مقصود شرعي، ولا مصلحة لأهل الوقف. وما لم يأمر به الشارع ولا مصلحة فيه للإنسان فليس بواجب ولا مستحب، فعُلِم أن تعيين المكان الأول ليس بواجب ولا مستحب لمن يشتري بالعوض ما يقوم مقامه، بل العدول عن ذلك جائز، وقد يكون مستحبًّا، وقد يكون واجبًا، إذا تعينت المصلحة فيه. انتهى ملخصًا. واللَّه أعلم، وصلى اللَّه على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[289] من وقف على عياله وعيال عياله
ما قولكم فيمن وقف دارًا وأوصى أن بيته وقف في أضحية له ولوالديه على الدوام، ومن احتاج من عياله فينزل ويضحي، وعيالِ عياله؟
الإجابة:(2/19)
الحمد لله.عطف الواقف في صورة السؤال عيال عياله على عياله، بالواو المذكورة في السؤال أعلاه، يقال فيه: لا تخلو لغة الواقف وأهل بلده من أحد ثلاثة أمور:
الأول: أن يتحقق أن لغته ولغة أهل بلده تخالف مقتضى اللغة العربية فيما يتعلق بواو العطف، أو يتحقق أن لا لغة لهم، ولا عرف لهم في نطقهم يخالفها، ولا يوافقها، أو لا يتحقق هذا ولا ذاك، فإن كان الأول، وأن العطف بالواو في لغتهم واستعمالهم للتعقيب: تعين الإفتاء فيها بمقتضى لغتهم وعادتهم في النطق، وهو عدم دخول عيال عيال الموقِف مع عياله.
وأما على الثاني: وهو تحقيق أن لغتهم وعرفهم في نطقهم، لا تخالف لغة العرب. وكذا على الثالث: وهو ما إذا جهلت الحال، فيدخل عيال العيال مع العيال؛ لكون الواو للتشريك، واستواء ما بعدها مع ما قبلها.
هذا معنى ما قرره كثير من العلماء، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه المحقق ابن القيم - رحمهما اللَّه - واللَّه أعلم.
[290] الوقف على قُرَّاء القرآن
سائل يسأل عن قطعة أرض موقوفة على من يقرأ القرآن، يباع حاصلها بدراهم ثم يوزع على قُرَّاء القرآن؟
الإجابة:
هذا وقف صحيح، ولم يظهر مما ذكرته ما يوجب القول بفساده؛ لأن مِنْ شَرْطِ الوقف أن يكون على بِرٍّ وقربة. وقراءة القرآن من المصحف أو حفظه عن ظهر قلب، من القرب والطاعات المطلوبة شرعًا.
أما كيفية توزيع ريعه، فإن كان نصُّ الواقف موجودًا فيعمل به على ما نص عليه الواقف، وإلا فعلى ما استمر عليه عمل النظار، وإن وقع اختلاف فأمامهم المحكمة. واللَّه الموفق.
[291] هل يقضي الوصي دين الميت بلا تثبيت عند القاضي؟
توفي أخي الكبير وخلف ورثة، وأوصاني على تركته وثلثه. وجاء إنسان يدعي عليه بنقود أخذها من دكانه -وهو ممن يعامله- فسألته: هل لديك بيِّنة أو سند؟ فقال: ما عندي إلا اللَّه. فهل يجوز لي أن أعطيه إذا كان معروفًا بالصدق أم لا أعطيه حتى يثبتها في المحكمة؟
الإجابة:(2/20)
المشهور من المذهب: لا يدفع له شيئًا حتى يأتي بما يثبت ذلك. والمسألة فيها خلاف بين العلماء.
وقال في "اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية" -رحمه اللَّه- (34): ومن ادعى دينًا على ميت- وهو ممن يعامل الناس- نظر الوصي إلى ما يدل على صدقه ودفع إليه، وإلا فيحرم الإعطاء حتى يُثْبت عند القاضي غير المخالف للسنة والإجماع. وكذلك ينبغي أن يكون حكم ناظر الوقف ووالي بيت المال، وكل وال على حق غيره، إذا تبين له صدق الطالب دفع إليه، وذلك واجب عليه إن أمن التبعة، وإن خاف التبعة فلا.انتهى.
[292] من أوصى بزواج ابنه الصغير
رجل أوصى بثلث ماله لابنيه، وأوصى للأصغر بخمسة آلاف ريال؛ إعانة له على زواجه، فهل يؤخذ هذا المبلغ من أصل التركة، أم من الثلث إذا لم يُجِز الورثة؟
الإجابة:
إذا كان الابن الموصَى له قد بلغ وقت الوصية، واستحق أن يتزوج، وقد زوج أبوه إخوانه في حياته، وأوصى له بهذا المبلغ في حياته؛ لأجل العدل بينهم، فالوصية لازمة وتؤخذ من أصل التركة، وإلا فلا تلزم إلا بإجازة الورثة، وإن احتاجت المسألة إلى خصومة، وصار بينهم خلاف فأمامهم المحكمة. واللَّه أعلم.
[293] من أوصى بعتق عبد فتعذر
سائل يسأل عن رجل أوصى بعتق عبد، وتعذر على الوصي عتق العبد؛ لعدم وجوده، فبماذا تصرف الوصية؟
الإجابة:
الذي نراه أنه عند تعذر شراء العبد يصار إلى ما في معناه، مما ذكره العلماء من أوجه البر والإحسان. واللَّه تعالى إذا علم من العبد صدق النية والعزم على فِعْلِ ما تعين عليه وعجزه عنه؛ أثابه اللَّه على نيته وأعاضه عما منعه بأشياء هيأها له.(2/21)
وقد قال تعالى في محكم كتابه: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} (35) فقرن تعالى إطعام اليتيم القريب والمسكين المعدِم بفك الرقاب؛ مما يدل على أهمية هذا وعِظم ثوابه.
ويستدل لذلك بقصة أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث حين أعتقت وليدتها فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : "أما إنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظمَ لأجرك" . متفق عليه(36).فهذه القصة- وإن قيل: إنها واقعة عين- ففيها دليل على أن الهبة لذي الرحم والتصدق عليه أفضل من العتق، ولا سيما عند الحاجة، ويؤيده حديث سلمان بن عامر الضبي مرفوعًا: "الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم صدقة وصلة" (37) . واللَّه أعلم.
[294] من أوصى بثلث ماله ولم يذكر مصرفه
رجل أوصى بثلث ماله ولم يذكر في الوصية مصرف الريع، وله أولاد ذكور وإناث، فهل يصرف على أولاده أم يكون له مصرف آخر؟
الإجابة:
المنصوص: أن الوقف إذا لم يذكر له مصرف فهو صحيح؛ لأنه لا يشترط لصحة الوقف ذكر الجهة خلافًا لصاحب "الإقناع" .
وعلى هذا فيصرف ريعه إلى ورثة الواقف نِسَبًا على قدر إرثهم، وقفًا عليهم، فلا يملكون نقل الملك في رقبته، فإن عدم ورثته من النسب؛ فيصير إلى الفقراء والمساكين. هذا حكم الوقف.
والوصية مثل الوقف فيما يظهر. ويستدل لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم :"إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس" (38). ولأن مصارف الأوقاف والوصايا في جهات البر. وأقاربه أولى الناس ببره وصدقاته. واللَّه أعلم.
[295] حكم فاضل ريع الوصية
سائل يسأل عن وصية بعقار في غلته أضحية، فما حكم الفاضل من الريع بعد الأضحية؟
الإجابة:(2/22)
المفتى به أنه يرجع إلى ورثة الموصِي نسبًا، وقفًا عليهم، على حساب ميراثهم، كل زمان بحسبه، وعندما تتغير حال الموجودين من الورثة، بوفاة بعضهم أو ولادة غيرهم، فلكل حال حكمه. واللَّه أعلم.
[296] ميراث من توفي عن عمته وأخيه من الأم
سائل يسأل عن ميراث أخيه من الأم، وذكر أنه لم يخلف غيره وغير عمته شقيقة أبيه ويسأل: أيهما أحق بميراثه؟
الإجابة:
إذا كان الحال كما ذُكِر، وأنه ليس له عصبة ولا أصحاب فروض غير من ذُكِر، فليس لعمته من ميراثه شيء؛ لأنها ليست صاحبة فرض ولا من العصبة، ويكون له السدس فرضًا، فإذا لم يكن للميت عصبة فيرد باقي المال عليه، ويكون له جميع المال فرضًا وردًّا؛ لأن الرد مقدم على ميراث ذوي الأرحام. واللَّه أعلم.
[297] قسمة ميراث ابن السِّفَاح
سائل يسأل عن قسمة ميراث رجل هلك عن بنتين وأخ من الأم، وأخواله أشقاء أمه، والهالك ابن سِفَاح لا يُعلَم له أب، كما يستفتي عن ولاية نكاح بنتيه؟
الإجابة:
أما قسمة الميراث فللبنتين الثلثان فرضًا، والباقي للأخ من الأم تعصيبًا؛ لأن عصبته عصبة أمه، وابنها أقرب من إخوتها؛ لأنه يحجبهم.
وأما ولاية نكاح ابنتيه، فإنها للحاكم الشرعي فإن كان في عمهما المذكور أهلية لولاية، فينبغي للحاكم أن يوليه عليهما؛ ليرعى مصالحهما ويلاحظهما. واللَّه أعلم.
[298] ميراث ذوي الأرحام
رجل توفي عن زوجتين وأبناء خال، فكيف تكون قسمة ميراثه؟
الإجابة:
إذا كان الحال كما ذُكر، وأنه ليس له من يرثه غير من ذُكر بفرض ولا تعصيب، فللزوجتين الربع فرضًا، يكون بينهما أنصافًا. وأما أبناء الخال فهم من ذوي الأرحام، وبمنزلة أبيهم، وأبوهم بمنزلة أم الميت، وعلى هذا فإذا لم يكن هناك غيرهم من ذوي الأرحام، فلهم الباقي بعد ربع الزوجتين، فإن كان لهم أخت فإنها ترث مثلهم؛ لأن ذوي الأرحام ذكرهم كأنثاهم. واللَّه الموفق.
[299] ميراث الجدة مع وجود ابنها(2/23)
سائل يسأل عن ميراث الجدة أم الأب، هل ترث مع وجود ابنها الذي هو الأب أم أنها محجوبة به؛ لأنها تدلي به؟
الإجابة:
نعم، ترث الجدة أم الأب من ولد ابنها، ولو كان ابنها حيًّا، ولا يحجبها حجب حرمان، ولا حجب نقصان، ولكن بشرط عدم وجود أم الميت.
وقد ورد في ذلك حديث أول جدة ورثها النبي صلى الله عليه وسلم السدس وابنها حي . (39) وهذه المسألة مستثناة من القاعدة المعروفة. وهي: أن من أدلى بواسطة حجبته تلك الواسطة إذا وُجدت، ومثلها الإخوة من الأم، فإنهم يدلون بأمهم ويرثون مع وجودها. وهذا قول الجماهير، وهو المذهب. واللَّه أعلم.
[300] مسألة في ميراث ذوي الأرحام
سائل يسأل عن قسمة ميراث ذوي الأرحام، وذكر أنهم أولاد رجلين في درجة واحدة، لأحدهما سبعة أولاد، وللثاني أحد عشر ولدًا ؟
الإجابة:
ذوو الأرحام يرثون بالتنزيل؛ فأولاد كل رجل ينزلون منزلته، ويستحقون ميراثه، يقسم بينهم، الذكر والأنثى سواء؛ لأنهم يرثون بالرحم المجردة، فاستوى ذكرهم وأنثاهم، كالإخوة من الأم.
وعلى هذا: فللسبعة الأولاد نصيب أبيهم، وللأحد عشر نصيب أبيهم، وإن كان فيهم أنثى فلها مثل ما للذكر، سواء ولا فرق. واللَّه أعلم.
[301] دبلة الخطوبة
سائل يسأل عن دبلة الخطوبة، وهل يحل للرجل إذا كانت من الذهب أن يلبسها؟
الإجابة:
أولا: لا يخفى أن هذا الشيء لم يكن معهودا لدى الناس في هذه البلدان، وإنما تسربت هذه العوائد من بعض البلدان المجاورة، ولا ينبغي الانصياع معهم، وتقليدهم التقليد الأعمى بكل ما يأتون به، سواء كان غثًّا أو سمينا، مع أن هذا من قسم الغَث الذي لا خير فيه، ولا نفع يعود على الزوج، ولا على الزوجة منه.(2/24)
ثانيا: إن كانت هذه الدبلة التي يلبسها الرجل من الفضة، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما من الفضة، وقد اتخذه صلى الله عليه وسلم لمصلحة شرعية، وكتب عليه اسمه "محمد رسول اللَّه" ، وأخذ العلماء من هذا أنه يجوز للرجل اتخاذ الخاتم من الفضة.
ثالثا: أما إن كانت الدبلة من الذهب، فما كان منها في حق النساء، فإن الشارع الحكيم أباح للنساء التحلي بما جرت به عادتهن؛ لأن المرأة خلقت ضعيفة ناقصة محتاجة إلى جبر نقصها بالتحلي، والتباهي، والتجمل للزوج، قال اللَّه تعالى: {أَوَ مَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ } (40) ، فيباح لها التحلي بما جرت به عادة نساء زمانها، ولو كثر.
وما كان من ذلك في حق الرجال، فقد ثبت في الأحاديث الصريحة عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه حرم الذهب على الرجال من أمته، ونهاهم عن استعماله، وغلظ في ذلك بقوله، وفعله. فمما ورد من قوله: حديث علي -رضي الله عنه- قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أخذ حريرا، فجعله في يمينه، وأخذ ذهبا، فجعله في شماله ثم قال: "إن هذين حرام على ذكور أمتي" . رواه أبو داود والنسائي(41). وفي الباب أحاديث كثيرة تركناها اختصارا.
ومما ورد من فعله حديث ابن عباس: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رأى خاتما من ذهب في يد رجل، فنزعه، وطرحه، وقيل للرجل بعدما ذهب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : خذ خاتمك، وانتفع به، فقال: لا آخذه وقد طرحه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم(42).
وبما ذكرنا يظهر حكم لباس دبلة الخطوبة، والتفصيل فيما إذا كانت من ذهب، أو فضة، والفرق بين دبلة الرجل ودبلة المرأة، مع أن استعمالها بقصد التشبه بالكفار، ومضاهاتهم حرام مطلقا. واللَّه أعلم.
[302] هل يتزوج بزوجة شقيقه-إذا طلقها- حال حياته؟(2/25)
رجل يسأل: هل يجوز له أن يتزوج بزوجة أخيه الشقيق إذا طلقها؟ وهل هناك فرق بين طلاقه لها أو وفاته عنها؟ وذَكَرَ أن أخاه طلق زوجته بعد أن أنجبت منه طفلين. ويقول: هل يجوز لي أن أتزوجها وشقيقي حي يرزق؟
الإجابة:
نعم، يجوز لك أن تتزوج بزوجة أخيك إذا طلقها أو مات عنها، فلا فرق بين حال الطلاق وحال الموت (الوفاة) بغير خلاف، بشرط انقضاء عدتها، وسائر شروط النكاح وأركانه. وإنما الممنوع أن يتزوج الرجل بزوجة أحد آبائه أو أبنائه؛ لقوله تعالى:{وَلَا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ ءَابَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلاً} (43) وقوله تعالى: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} واللَّه أعلم. (44) اهـ .
[303] الشِّغار وحكمه في الإسلام
سائل يسأل عن حكم الشغار، وأنه منتشر في عدد كثير من القبائل، لا سيما قبائل البادية، حيث إن الأب أو الأخ يمنع زواج موليته حتى يأتيه من يبادله بها. ويشير إلى أن هذه العادة أضرت بكثير من البنات اللاتي عنسن، وصارت أخطار الانتكاس في أحضان الرذيلة تهددهن من كل جانب، ويطلب بيانا شافيا عن الشغار وحكمه في الإسلام، وما حكم الإسلام فيمن آثر مصلحته على مصلحة موليته؟
الإجابة:
الحمد لله. والصلاة والسلام على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وبعد:
فالشِّغار: هو أن يقول الرجل للآخر: زوجني ابنتك وأزوجك ابنتي، أو زوجني أختك وأزوجك أختي، وليس بينهما صداق.
وسمي هذا النوع من التعاقد شغارا؛ لقبحه، شبه في القبح بالكلب يرفع رجله. ليبول. يقال: شغر الكلب: إذا رفع رجله ليبول، فكأن كل واحد رفع رجله للآخر عما يريده.
وقيل: إنه من الخلو. يقال: شغر المكان: إذا خلا، والجهة شاغرة: أي خالية.(2/26)
والشِّغاَر: فِعَال؛ فهو من الطرفين إخلاء بضع بإخلاء بضع. ولا خلاف في تحريم الشغار، وأنه مخالف لشرع اللَّه، كما استفاضت بذلك الأحاديث الصحيحة الصريحة في تحريمه، ومخالفته للمقتضيات الشرعية.
ففي "الصحيحين" و"السنن الثلاثة" و"المسند" عن نافع عن ابن عمر أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى عن الشغار. (45) والشغار: أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته، وليس بينهما صداق.
وفي صحيح مسلم عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا شِغار في الإسلام" (46) وفي "صحيح" مسلم و"المسند" عن أبي هريرة قال: نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الشغار. زاد ابن نميرة: والشغار أن يقول الرجل للرجل: زوجني ابنتك وأزوجك ابنتي، أو زوجني أختك وأزوجك أختي . (47)
وفي صحيح مسلم عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد اللَّه يقول: نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الشغار. (48)
وعن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، أن العباس بن عبد اللَّه بن عباس أنكح عبدَ الرحمن بن الحكم ابنته، وأنكحه عبدُ الرحمن ابنَته، وقد كانا جعلا صداقًا، فكتب معاوية بن أبي سفيان إلى مروان بن الحكم يأمره بالتفريق بينهما. وقال في كتابه: هذا الشغار الذي نهى عنه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم . رواه أحمد وأبو داود . (49)
وقد اختلف العلماء -رحمهم اللَّه- في تفسير الشغار، كما اختلفوا في صحته.
قال في "نيل الأوطار" (50): وللشغار صورتان:
إحداهما: المذكورة في الأحاديث، وهو خلو بضع كل منهما من الصداق.
والثانية: أن يشترط كل واحد من الوليين على الآخر أن يزوجه وليته.(2/27)
فمن العلماء من اعتبر الأولى فقط، فمنعها دون الثانية... إلى أن قال: قال ابن عبدالبر: أجمع العلماء على أن نكاح الشغار لا يجوز، ولكن اختلفوا في صحته: فالجمهور على البطلان، وفي رواية لمالك: يفسخ قبل الدخول لا بعده، وحكاه ابن المنذر عن الأوزاعي، وذهبت الحنفية إلى صحته ووجوب المهر، وهو قول الزهري ومكحول والثوري والليث، ورواية عن أحمد وإسحاق وأبي ثور. اهـ.
وقال ابن القيم -رحمه اللَّه- في "زاد المعاد" (51) : اختلف الفقهاء في ذلك: فقال أحمد: الشغارُ الباطلُ أن يزوجه وليته على أن يزوجه الآخرُ وليتَه، ولا مهر بينهما على حديث ابن عمر، فإن سموا مع ذلك مهرًا، صح العقد بالمسمى عنده.
وقال الخرقي: لا يصح -ولو سموا مهرا- على حديث معاوية.
وقال أبو البركات بن تيمية وغيره من أصحاب أحمد: إن سموا مهرًا وقالوا مع ذلك: بضع كل واحدة مهرُ الأخرى، لم يصح، وإن لم يقولوا ذلك، صح.اهـ.
وقال في "المحرر" (52) : ومن زوج وليته من رجل على أن يزوجه الآخر وليته فأجابه ولا مهر بينهما، لم يصح العقد، ويسمى نكاح الشغار، وإن سموا مهرًا صح العقد بالمسمى، نصَّ عليه.
وقال الخرقي: ولا يصح أصلاً. وقيل: إن قال فيه: وبضع كل واحدة مهر الأخرى لم يصح، وإلا صح. وهو الأصح. اهـ.
ونظرًا لقوة الخلاف في المسألة، فالذي يترجح عندنا: أن ما كان منه شغارًا صريحًا لا خلاف فيه؛ وهو: ألا يكون لإحداهما مهر، بل بضعٌ في نظير بضع، أو هناك مهر قليل حيلةً- أن حكم هذا البطلان، فيفسخ العقد فيه، سواء أكان قبل الدخول أم بعده.(2/28)
وقد جاءت الشريعة الإسلامية بتحريم الشغار؛ لما فيه من التلاعب بمسئولية الولاية، وما تقتضيه من وجوب النصح، وبذل الجهد في اختيار من يكون عونًا لها على ما يسعدها في حياتها الدنيا، وفي الآخرة؛ وذلك أن الولي نظرُه لوليته نظرُ مصلحة ورعاية واهتمام، لا نظر شهوة وتسلط وإهمال، فليست بمنزلة أمته، أو بهيمته، أو ما يملكه مما يعاوض بها على ما يريد، وإنما هي أمانة في عنقه، يتعين عليه أن يحقق لها من زواجها كفاءة الزوج، وصداق المثل؛ فكل راع مسئول عن رعيته. ومتى كان من الولي تساهل في توخي مصلحة موليته؛ بإيثاره مصلحته عليها، كأن يعاوضه عليها بمال أو زوجة، أو يعضلها عن الزواج؛ انتظارًا لمن يعطيه ما يريد- سقطت ولايته عليها، وقامت ولايتها لمن يُعنى بها وبمصالحها، ممن هو أولى بولايتها. وباللَّه التوفيق وصلى اللَّه على محمد وآله وصحبه وسلم.
[304] إجبار الأب ابنته البكر على النكاح
سائل يقول: زوج أبي وأخي الأكبر أختي -وهي صغيرة السن- من رجل كبير السن، وهي لا ترغب في الزواج منه. فما حكم هذا العقد؟
الإجابة:
أراك -هداك اللَّه- تحاملت على والدك وأخيك، مع ما عليك لهما من البر والصلة والإحسان، والذي ينبغي لك استعمالُ الرفق والتأدب معهما؛ فعليك لهما حقوق يتعين عليك مراعاتها.
أما عقد النكاح، فالمشهور من المذهب: أن الأب يجبر ابنته البكر - سواء كانت صغيرة أو كبيرة- نظرًا لما له من الشفقة وبُعد النظر والحرص على مصلحة ابنته.
والقول الآخر في المذهب: أنه لا بد من رضاها. وهذا هو الصحيح إن شاء اللَّه؛ لما ورد في ذلك من الأدلة، لكن إن كانت مسألتكم قد آلت إلى الخصومة، وعُرضت على القاضي، فالمرجع فيها إلى ما يقرره القاضي؛ لأن حكم الحاكم يرفع الخلاف. واللَّه أعلم.
[305] الجمع في النكاح بين بنت العم ومطلقة العم(2/29)
رجل تزوج ببنت عمه، ثم إن عمه طلق امرأته التي هي ليست أُمًّا للبنت المذكورة، فأراد الرجل أن يتزوج بها بعد ما اعتدت من عمه، فهل يحل له ذلك، ويجمع بين بنت عمه وزوجة عمه؟
الإجابة:
لا بأس بذلك إن لم تكن أرضعتها؛ لأنه لا قرابة بينهما، ولا يؤثر على ذلك أنه لو قدرت إحداهما ذكرًا لم تحل لها الأخرى؛ لأن هذا التحريم من أجل المصاهرة فقط. واللَّه أعلم.
[306] من تزوج بأكثر من أربع
هل يجوز للرجل أن يتزوج بأكثر من أربع زوجات؟
الإجابة:
لا يجوز للرجل الحر أن يتزوج بأكثر من أربع زوجات، ولا للعبد المملوك أن يتزوج بأكثر من اثنتين؛ لقوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} (53) والمراد: التخيير بين اثنتين أو ثلاث أو أربع.
وعن ابن عمر: أن غيلان بن سلمة أسلم وله عشر نسوة فأسلمن معه، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخير منهن أربعًا ويفارق سائرهن(54). رواه أحمد والترمذي، وصححه ابن حبان والحاكم، وأعله البخاري وأبو زرعة.
وفي سنن أبي داود أن قيس بن الحارث أسلم وعنده ثمان نسوة فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار أربعًا(55).
وروى الشافعي عن نوفل بن معاوية أنه قال: أسلمت وتحتي خمس نسوة، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "فارق واحدة وأمسك أربعًا" . فعمدت إلى أقدمهن عندي عاقر منذ ستين سنة ففارقتها56. والزيادة على أربع من خصائص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فقد أبيح له ما شاء؛ تكرمة له. وقد توفي عن تسع زوجات صلى الله عليه وسلم .
باب الإجارة [307] ما يأخذه المأذون الشرعي على عقد النكاح
بعث رجل سؤالا يقول فيه: ما رأيكم في الذي يأخذه المأذون الشرعي من نقود على عقد النكاح؟ هل يحل له ذلك أم أنه مكروه؟ نرجوكم إيضاح الجواب وفقكم اللَّه للصواب.
الإجابة:(2/30)
الحمد للَّه وحده. إذا كان ذلك بموجب شرط يشترطه العاقد، فالظاهر أنها تدخل في باب الإجارة على شيء يختص فاعله أن يكون من أهل القربة، وإن كان بدون شرط، فالأولى عدم الأخذ؛ تعففا ورغبة فيما عند اللَّه؛ لأن ثواب مثل هذا عند اللَّه عظيم لمن صلحت نيته، لا سيما إذا كان العاقد مستغنيا عنه، وله راتب على هذا العمل.
وقد ذكر هذه المسألة الشيخ عبد الرحمن بن قاسم في "الدرر السنية مجموعة الأجوبة النجدية" ، فقال: وسئل بعضهم: هل يجوز أخذ الأجرة على عقد النكاح؟ فأجاب: يتخرج جواب هذه المسألة على جواز أخذ الأجر على تعليم القرآن، وهو على روايتين: قال ابن عمر: لا تجوز على عمل يختص فاعله أن يكون من أهل القربة: كالحج، والأذان، ونحوهما، وكره إسحاق تعليم القرآن بأجر، قال عبد اللَّه بن شقيق: هذه الرغفان التي يأخذها المعلمون من السحت. وعنه: يصح. وأجازه مالك والشافعي. قال: فإن أعطي المعلم شيئًا من غير شرط جاز. قال أحمد: لا يَطْلُب، ولا يشارط، فإن أعطي شيئًا أخذه. وقال: أكره أجرة المعلم إلى آخره. انتهى.
وأجاب الشيخ عبد اللَّه أبابطين: وأما الجعل على عقد النكاح، فلا بأس به، إذا أعطي بغير شرط، فإن كان بشرط، فلا أدري، وأنا أكرهه. انتهى.
وقد سئل شيخنا، الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي - رحمه اللَّه - عن ذلك. فأجاب: لا يجوز، فإن عقد لهم، وأعطوه بدون شرط، فلا بأس. والأولى أنه لا يقبل؛ لأنه ينقص الأجر(57). انتهى. ذكره في الفتاوى السعدية. واللَّه أعلم.
[308] حل أختك من الأم لأخيك من الأب
سائل يقول: إن لي أخًا من أبي ولي أختًا من أمي، وكل منهما عاش بعيدًا عن الآخر، ولا يوجد بينهما تراضع. فهل يجوز لأخي من أبي أن يتزوج بأختي من أمي؟
الإجابة:
إذا كان الحال كما ذكر، فلا مانع من أن يتزوج أخوك من الأب بأختك من الأم، صرح بذلك الفقهاء؛ لأنه ليس بينهما نسب ولا مصاهرة تمنع من النكاح.(2/31)
وعلى هذا: فإذا تزوج بها ورزقا بولد فأنت عمه وخاله.
[309] نقل الدم هل يحرم المرأة ؟
رجل يريد الزواج من امرأة سبق أن نقل الطبيب لها من دمه، كمية تقدر بخمسين وحدة قياسية أثناء مرضها، ويسأل هل تحل له أم لا؟
الإجابة:
نعم تحل له؛ لأن نقل الدم من رجل إلى امرأة -أو بالعكس- لا يسمى رضاعًا- لا لغًة ولا عرفًا ولا شرعًا- فلا تثبت له أحكام الرضاع: من نشر الحرمة وثبوت المحرمية وغيرها.
ولو قدر نشره الحرمة لاختص بزمن الصغر، وهو مدة الحولين كالرضاع. والمنصوص أن رضاع الكبير لا يثبت به تحريم؛ لقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} (58) ، وحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها رجل قاعد، فسألها عنه فقالت: هو أخي من الرضاعة. فقال: "انظرن من إخوانكن، فإنما الرضاعة من المجاعة" (59) . متفق عليه. وعن أم سلمة مرفوعًا: "لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام" . رواه الترمذي (60)وصححه. واللَّه أعلم.
[310] مسألة في النكاح الباطل
امرأة طلقت وهي حامل ثم راجعها زوجها، وقبل أن يدخل بها طلقها طلقة أخرى على عوض، وكان طلاقه لها بعد ولادتها، وفي الحال تزوجت. فما حكم العقد، وما الذي يلزمها من العدة للأول وللثاني.
الإجابة:(2/32)
هذه المرأة تزوجت في عدتها، وإذا تزوجت المرأة في العدة فنكاحها باطل، فإن كان الزوج الثاني لم يدخل بها كَمَّلَتْ عدة الزوج الأول، ولا يؤثر عليها مجردُ عقد النكاح، وبعد انتهاء عدتها تحل للزوج الأخير. وإن كان الزوج الأخير قد وطئها، انقطعت عدة الأول من حين الوطء، ويلزم التفريق بينهما. فإذا فُرِّقَ بينهما أتمت عدة الأول، ولا يحسب منها مدة مقامها عند الثاني، وبعد فراغها من إتمام عدة الأول تعتد لوطء الزوج الثاني، ولا تتداخل العدتان. وفيه خبر مالك عن علي(61): أنه قضى في التي تتزوج في عدتها: أنه يفرق بينهما، ولها الصداق بما استحل من فرجها، وتُكمل ما أفسدت من عدة الأول، وتعتد من الآخر؛ ولأنهما حقان مقصودان لآدميين كالدينين. وينبغي تعزيرهما إن كانا يعلمان حقيقة الأمر، ويعلمان تحريمه، وإن كانا جاهلين فَيُكتفى بتفهيمهما وتوبيخهما. واللَّه الموفق.
[311] مسألة في النكاح الفاسد
رجل يسأل فيقول: تروجتْ بنت أخي الشقيق، وتولى عقد نكاحها أخوها من الأم مع وجودي أنا العم، فما الحكم؟
الإجابة:
إذا كان الحال كما ذكرتَه، فهذا النكاح فاسد غير صحيح؛ لأن الأخ من الأم ليس بولي لها، وعلى هذا فيفرق بينهما، ثم إن كان عندهما رغبة في تجديد النكاح، فأنت تجدد لهما العقد إذا لم يكن لها أقرب منك، ولا يحتاج في مثل هذا إلى عدة؛ لأن الماء ماء الزوج.
فإن لم يرغبا في استمرار النكاح، فعلى الزوج أن يطلقها، فإن أبى، فَسَخَهُ الحاكم، وإن كان قد أصابها، فلها عليه المهر بما استحل من فرجها. واللَّه أعلم.
[312] زواج الهاشمية بغير الهاشمي
رجل عنده أخوات وبنات كبار قد بلغن حد الزواج وبعضهن قد تجاوزنه بسنين. وهو يقول: إنه من السادة المنتسبين إلى بيت الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكلما جاءه خاطب يرده، ويقول: نحن السادة لا نزوج نساءنا إلا سيدًا من آل الرسول؛ وتعطلت أخواته وبناته لهذا السبب.(2/33)
فهل يجيز الشرع زواج السيدة بمن لم يكن من السادة؟ وهل يجوز له تعطيلهن شرعًا، ويكون على حق فيما قال أم أنه مخطئ في تصرفه تجاههن، وهن أمانة عنده. أفتونا مأجورين.
الإجابة:
هذه المسألة: قد سئل عنها الشيخ عبد اللَّه بن الشيخ محمد بن عبدالوهاب -رحمهم اللَّه- فأجاب بقوله: وأما الذي يدعي أنه من الأشراف وعنده أخوات له، فلا بأس أن يزوجهن من المسلمين الطيبين، ولو لم يكونوا من الأشراف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم زوج بناته بعض الصحابة الذين ليسوا من بني هاشم، مثل عثمان بن عفان وأبي العاص بن الربيع-رضي الله عنهم-.
وقال أيضًا: وَرَدَ سؤالٌ على علماء الدرعية، في تزويج الهاشمية غير الهاشمي، فكان الجواب ما نصه: وأما نكاح الفاطمية غير الفاطمي فجائز إجماعًا، بل ولا كراهة في ذلك، وقد زوج عليٌّ عمرَ بن الخطاب -رضي الله عنه- وكفى بهما قدوة، وتزوجت سكينة بنت الحسين بن علي بأربعة ليس فيهم فاطمي، بل ولا هاشمي، ولم يزل عمل السلف على ذلك من غير إنكار، إلا أَنَّا لا نجبر أحدًا على تزويج موليته ما لم تطلب هي، والعرب أَكْفَاء بعضهم لبعض.فما اعتيد في بعض البلاد من المنع دليل التكبر وطلب التعظيم، وقد يحصل بذلك فساد كبير كما ورد، بل يجوز الإنكاح لغير الكفء، وقد تزوج زيد وهو من الموالي زينب أم المؤمنين -رضي اللَّه عنها- وهي قرشية والمسألة معروفة عند أهل المذاهب. انتهى.
[313] حديث أم زرع
سمعنا بحديث أم زرع والنساء اللواتي اجتمعن بها، وتحدثت كل امرأة منهن عن أخبار زوجها وما فيه، فهل الحديث صحيح؟ ومن رواه من أهل العلم؟ ونرجوكم أن تذكروا لنا نص الحديث.
الإجابة:
حديث أم زرع رواه البخاري في "صحيحه" في "كتاب النكاح" ، فقال: "باب: حسن المعاشرة مع الأهل" . ثم ساق بإسناده عن عائشة -رضي اللَّه عنها - قالت: جلست إحدى عشرة امرأة فتعاهدن، وتعاقدن، أن لا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئا.(2/34)
فقالت الأولى: زوجي لحم جمل غَثّ، على رأس جبل، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقل.
قالت الثانية: زوجي لا أبث خبره، إني أخاف أن لا أَذَرَه، إن أَذْكُرْهُ، أَذْكُرْ عُجَرَه وبُجَرَه.
قالت الثالثة: زوجي العَشَنَّق، إن أنطقْ أُطَلَّق، وإن أسكت أُعَلَّق.
قالت الرابعة: زوجي كليل تِهامة، لا حَرٌّ ولا قُرٌ ولا مخافة ولا سآمة.
قالت الخامسة: زوجي إن دخل فَهِدَ، وإن خرج أًسٍدً، ولا يَسأل عما عَهِدَ.
قالت السادسة: زوجي إن أكل لفَّ، وإن شرب اشتفَّ، وإن اضطجع التفَّ، ولا يولج الكفَّ ليعلم البَثّ.
قالت السابعة: زوجي غياياء أو عياياء طباقاء، كل داء له داء، شجّكِ أو فَلَّكِ أو جمع كلا لك.
قالت الثامنة: زوجي، المسُّ مسُّ أرنب، والريح ريح زَرْنَب.
قالت التاسعة: زوجي رفيع العماد، طويل النِّجاد، عظيم الرماد، قريب البيت من النَّاد.
قالت العاشرة: زوجي مالك، وما مالك، مالك خير من ذلك، له إبل كثيرات المبارك، قليلات المسارِح، وإذا سمعن صوت المِزْهَر أيقن أنهن هوالك.
قالت الحادية عشرة: زوجي أبو زرع فما أبو زرع، أَنَاسَ من حلي أذني، وملأ من شحم عَضُدَي، وبَجَّحَنِي فبجحت إلي نفسي، وجدني في أهل غُنيمة بشق، فجعلني في أهل صَهِيلٍ وأَطِيطٍ، ودائس ومُنَق، فعنده أقول فلا أُقبَّح، وأرقد فأتصبح، وأشرب فأتقنَّح.
أم أبي زرع، فما أم أبي زرع، عُكُومُها رَدَاح، وبيتُها فَسَاح.
ابن أبي زرع فما ابن أبي زرع، مضجعه كَمَسَلِّ شَطْبَة، ويشبعه ذراع الْجَفْرَة.
بنت أبي زرع، فما بنت أبي زرع، طَوْعُ أبيها، وطوع أمها، ومِلءُ كسائها، وغيظُ جارتها.
جارية أبي زرع، فما جارية أبي زرع، لا تَبُثُّ حديثنا تبثيثا، ولا تنقِّث ميرتنا تنقيثا، ولا تملأ بيتنا تعشيشا.(2/35)
قالت: خرج أبو زرع والأوطاب تُمَْخَض، فلقي امرأة معها ولدان لها كالفهْدين يلعبان من تحت خَصرها برمانتين، فطلقني ونكحها، فنكحت بعده رجلا سَرِيّا، رَكِبَ شَرِيّا، وأخذ خَطِّيا، وأراح علَّي نعما ثَرِيَّا، وأعطاني من كل رائحة زوجا، وقال: كلي أم زرع، ومِيري أهلك، قالت: فلو جمعتُ كل شيء أعطانيه ما بلغ أصغر آنية أبي زرع.
قالت عائشة: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "كنت لك كأبي زرع لأم زرع" (62)هذا سياق لفظ البخاري وفي الحديث كلمات من عويص اللغة تحتاج إلى إيضاح معانيها، وقد فسرها ابن حجر في "فتح الباري" وغيره. واللَّه أعلم.
باب المحرمات في النكاح [314] الفرق بين تحريم أم الزوجة دون بنتها إذا طلقت قبل الدخول
رجل تزوج بامرأة ولم يدخل بها، ولكنه عقد عليها عقدا صحيحا، ومكثوا مدة وهو يزور أهلها، ويهدي لها هدايا دون أن يتصل بها، وبعد ذلك صار بينهما اختلاف فطلقها، وأراد أن يتزوج بابنتها، فهل تحل له ابنتها والحال ما ذُكر أم لا؟ نرجوكم بسط الجواب في ذلك. وفقكم اللَّه للصواب.
الإجابة:
الحمد لله وحده. نعم تحل له ابنتها في مثل هذه الحالة؛ لقوله تعالى في سياق المحرمات: {وَرَبَائِبُكُمُ الَّاتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ الَّاتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ}(63). فقوله تعالى:{فَإِن لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} دليل صريح على الإباحة. وهذا بخلاف ما لو كانت المسألة بعكس ما ذكرته، فلو تزوج امرأة بأن عقد عليها ولم يدخل بها، ثم طلقها، فإن أمها تحرم عليه بمجرد العقد؛ لدخولها في عموم قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} وهذه تعتبر أم امرأته.
واللَّه الموفق. وصلى اللَّه على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[315] تحريم الربيبة(2/36)
رجل تزوج امرأة ثم طلقها، فتزوجت برجل آخر وجاءت منه ببنات، فهل بناتها من زوجها الأخير حلال لزوجها الأول؟
الإجابة:
لا يحل لزوجها الأول واحدة من بناتها؛ لأنهن من ربائبه، والربيبة: بنت زوجتك من رجل غيرك، سواء تزوجها قبلك أو بعدك ولا فرق. قال اللَّه تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ الَّاتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ الَّاتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ} (64) الآية.
باب الشروط والعيوب في النكاح [316] اشتراط المرأة طلاقَ ضَرَّتِهَا
سائل يقول: إن رجلا حضر إليه لخطبة ابنته، وكان له زوجة قبلها، قال: فكرهت أن أزوج ابنتي لرجل معه زوجة غيرها، واشترطت عليه طلاق زوجته الأولى، ثم ذكر لي بعض الإخوان أن هذا الشرط لا يحل، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عنه.
فنرجوكم إيضاح الجواب والإفادة عن صحة هذا الشرط، وهل ورد فيه نهي عن النبي صلى الله عليه وسلم ؟
الإجابة:
الحمد لله وحده. اشتراط المرأة طلاق ضرتها -أو اشتراط وليها ذلك- شرط باطل، ولا يحل هذا الشرط عند المحققين من العلماء. وقد ورد في ذلك جملة أحاديث منها ما ذكره "صاحب المنتقى" بقوله: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه، أو يبيع على بيع أخيه ولا تسأل المرأة طلاق أختها؛ لِتَكْتَفِئَ ما في إنائها أو صَحْفَتِهَا (65) متفق عليه.
قال الشارح في "نيل الأوطار"(66): قال الخطابي: الشروط في النكاح مختلفة؛ فمنها ما يجب الوفاء به اتفاقًا، وهو ما أمر اللَّه به من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، وعليه حَمَلَ بعضُهم هذا الحديث. ومنها ما لا يوفى به اتفاقًا، كسؤال المرأة طلاق أختها. ومنها ما اختلف فيه كاشتراط أن لا يتزوج عليها، أو لا يتسرى، أو لا ينقلها من منزلها إلى منزله.(2/37)
وقوله: "ولا تسأل المرأة طلاق أختها" ظاهر هذا التحريم، وهو محمول على ما إذا لم يكن هناك سبب يوجب الريبة في المرأة، و أنه لا ينبغي معها أن تستمر في عصمة الزوج، ويكون ذلك على سبيل النصيحة المحضة.
وقال ابن حبيب: حمل العلماء هذا النهي على الندب، فلو فعل ذلك لم يفسخ النكاح. وتعقبه ابن بطال بأن نفي الحِلّ صريح في التحريم، ولكن لا يلزم منه فسخ النكاح، وإنما فيه التغليظ على المرأة أن تسأل طلاق الأخرى، ولترضى بما قسم اللَّه لها. والتصريح بنفي الحِلّ وقع في رواية أحمد المذكورة في الباب، ووقع أيضًا في رواية للبخاري.
قوله: "لتكتفئ" بفتح المثناة الأولى وسكون الكاف: من كفأت الإناء إذا قلبتَه، وأفرغت ما فيه.
والمراد بقوله: "ما في صحفتها" ما يحصل لها من الزوج.
قوله: "طلاق أختها" قال الثوري: معنى هذا الحديث: نهي المرأة الأجنبية أن تسأل رجلاً طلاق زوجته وأن يتزوجها هي، فَيَصِير لها من نفقته ومعونته ومعاشرته ما كان للمطلقة، فعبر عن ذلك بقوله: "لتكتفئ ما في صحفتها"
والمراد بأختها: غيرها، سواء كانت أختها من النسب أو الرضاع أو الدين، وحمل ابن عبدالبر الأخت هنا على الضَّرَّة. انتهى ملخصًا.
وقال في "الفروع" (67): ويصح شرط طلاق ضرتها، في رواية، وذكره جماعة، وقيل: باطل.وقال في "تصحيح الفروع" (68): قوله: ويصح طلاق ضرتها في رواية وذكره جماعة، وقيل: باطل. انتهى.
القول الأول: عليه أكثر الأصحاب. والقول ببطلانه: احتمال في "المقنع" ، قال الشيخ الموفق: وهو الصحيح. قال: ولم أر ما قاله أبو الخطاب "لغيره" (69) انتهى. وصححه الناظم وابن رزين في شرحه، وقدمه في "المغني" .
قلت: وهو الصحيح من المذهب -على ما اصطلحناه- والصواب واللَّه أعلم.اهـ.(2/38)
قال في "المقنع"(70) : وإن شرط لها طلاق ضرتها. فقال أبو الخطاب: هو صحيح، ويحتمل أنه باطل؛ لقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "لا تسأل المرأة طلاق أختها لتكتفئ ما في صحفتها ولتنكح؛ فإن لها ما قدر لها" .قال في "حاشية المقنع" (71) قوله: لا تسأل المرأة...إلخ الحديث. رواه البخاري من حديث أبي هريرة وصحح المؤلف أن هذا الشرط لا يصح، وقال: لم أر ما قاله أبو الخطاب لغيره. انتهى.
باب نكاح الكفار [317] زواج المسلم بامرأةغير مسلمة وبالعكس
سائل يسأل عن حكم تزوج المسلم بامرأة غير مسلمة، سواء كانت مشركة أو مسيحية أو غيرهما، وعن تزوج المرأة المسلمة برجل غير مسلم سواء كان مسيحيا أو مشركا أو غيره، ويطلب بسط الجواب على هذا.
الإجابة:
لقد رأيت كلاما في هذا لبعض العلماء المعاصرين، وآثرت أن ألخص منه ما يتعلق بجواب سؤالكم اكتفاء به.
قال -جزاه اللَّه خيرا-: لا يخفى أن أفضل أنواع الزواج ما تلاقت عليه الرغبات، وخلصت له القلوب، وتناجت به الأرواح. ومن ضرورة ذلك أن تتفق العقيدة، وتتناسب الأخلاق، وتتحد الأهداف، وفي ظل ذلك التناسب يبسط الزواج على الحياة الزوجية نسيج السكن، والمودة، والرحمة؛ فتطيب الحياة وتسعد الأبناء والأسرة. ولا يتحقق ذلك على الوجه الأكمل -في نظر الإسلام- إلا إذا اتفق الزوجان في الدين والعقيدة، وكانا مسلمين يأتمران بأمر الإسلام وينتهيان بنهيه، ويشد الإسلام ما بين قلبيهما من رباط.
أما إذا كان الزوج غير مسلم والزوجة مسلمة، أو كانت الزوجة غير مسلمة والزوج مسلما، فإن الحكم في الإسلام له وجه آخر.
فهو بالنسبة للفرض الأول: وهو أن يكون الزوج غير مسلم والزوجة مسلمة، فحكمه الحرمة القطعية والمنع البات، وهو من الأحكام التي أجمعت عليها الأمة من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، وصار منعه في الإسلام من الأحكام التي يقول عنها الفقهاء: إن العلم بها ضروري، يحكم على من أباحه بالخروج عن الدين.(2/39)
أما الفرض الثاني وهو تزوج المسلم بغير المسلمة، فيجب أن يفرق أولاً- في غير المسلمة، بين المشركة التي لا تقر باللَّه ولا بكتاب سماوي، وبين الكتابية التي تعترف بالألوهية وتعترف بمبدأ رسالات اللَّه إلى خلقه وتؤمن بيوم البعث والجزاء. فالإسلام يرى بالنسبة للمشركة أن زواجها باطل، ولا يحل لمسلم أن يبني معها حياة زوجية، وقد جاء ذلك المنع في صريح القرآن الذي لا يحتمل تأويلا، ومن هنا كان محل إجماع أيضا بين علماء الإسلام، ولم يُعرف لأحد منهم رأي يحله، وذلك قوله تعالى: {وََلا تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} (72) .(2/40)
أما تزوج المسلم بالكتابية ذات الدين السماوي والكتاب الإلهي، فقد اختلف فيه علماء الإسلام فمنهم من أباحه؛ مستندا في ذلك إلى ظاهر قوله تعالى:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ} (73) قالوا: فَرَّقَت هذه الآية بين المشركة التي حرم اللَّه التزوج بها، بقوله تعالى: {وَلَا تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} (74) وبين الكتابية؛ فأباحت التزوج بها. ومنهم من طرد المنع ورأى حرمة التزوج بالكتابية مطلقا، وأن شأنها شأن المشركة، ونُسب ذلك الرأي إلى عبد اللَّه بن عمر وغيره، وبه يقول بعض التابعين، ودرج عليه بعض الأئمة -رحمهم اللَّه-. وحجتهم في ذلك: أن الكتابية إذا غيرت وبدلت وأنكرت رسالة محمد -عليه السلام-، كانت داخلة في عموم المشركات، وإيمانها باللَّه -فقط -لا يخرجها- عن دائرة الشرك، فإن اللَّه تعالى يقول: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ}(75) . ويستندون أيضا في هذا المنع إلى الآيات الدالة على وجوب المباعدة عن الكفار كقوله تعالى:{يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} (76) وقوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ}(77) . وقوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ} (78) .(2/41)
ولهم في تخريج قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ} (79) وجوه وآراء، ليس هذا موضعَ بسطها. وسواء أصح رأي هؤلاء بالحرمة والمنع أم صح رأي الأولين بالإباحة والجواز، من جهة النظر في مصادر التشريع- فإن رأي الذين أباحوا مبني على القاعدة الشرعية الطبيعية، وهي أن الرجل صاحب القِوامة على المرأة، وصاحب السلطان على التوجيه في الأسرة والأبناء، ومن شأن الزوج المسلم أن ينشئ أبناءه وأسرته على الأخلاق الإسلامية، وقد أبيح له أن يتزوج بغير المسلمة الكتابية؛ ليكون ذلك التزوج بمثابة رسول من رسل المحبة والألفة، فيزول ما في صدرها للإسلام من جفوة، وتلقى من حسن معاملة زوجها المسلم لها، ومن محاسن الإسلام وفضائله عن طريقٍ عملي مباشر، تجد أثره في راحتها وحريتها الدينية، وحصولها على حقوق الزوجية كاملة غير منقوصة، وهذه هي حكمة الإسلام في إباحة التزوج بالكتابية على رأي هؤلاء الذين يرون إباحته من جهة المصادر التشريعية.(2/42)
أما إذا كان الزوج على ما نشاهده الآن في أحوال كثير من الرجال، وانسلخ الرجل عن حقه في القِوامة، وألقى بمقاليد نفسه وأسرته وأبنائه وبناته إلى زوجته الكتابية، فتصرفت فيه وفي أبنائه بمقتضى عقيدتها وعادتها، ووضع نفسه تحت رأيها، واتخذها قدوة له يتبعها، وقائدا يسير خلفها، ولا يرى نفسه إلا تابعا لها مسايرا لرأيها ومشورتها- فإن ذلك يكون عكسا للقضية، وقلبا للحكمة التي أحل اللَّه لأجلها التزوج من الكتابيات، وهذا هو ما نراه اليوم في بعض المسلمين الذين يرغبون التزوج بنساء الإفرنج، لا لغاية سوى أنها إفرنجية تنتمي إلى شعب أوروبي، يزعم أن له رقيًّا فوق رقي المسلمين الذين ينتسب هو إليهم ويَعُدُّ نفسه واحدا منهم، فيتركها تذهب بأولاده إلى الكنيسة كما تشاء، وتسميهم بأسماء قومها كما تشاء، وتربط في صدورهم شعار اليهودية أو النصرانية، وترسم في حجرات منزلها وأمام أعين أولادها ما نعلم، وما لا نعلم، ثم بعد ذلك كله تنشئهم على ما لها من عادات في المأكل والمشرب والاختلاط وغير ذلك، مما لا يعرفه الإسلام ولا يرضاه، أو مما يعتبر الرضا به والسكوت عليه كفرا وخروجا عن الملة والدين.
وإذا كان اللَّه قد حرم على المسلمة أن تتزوج بالكتابي؛ صونًا عن التأثر بسلطان زوجها وقِوامته عليها، فإن الإسلام يرى أن المسلم إذا شذ عن مركزه الطبيعي في الأسرة بحكم ضعفه، وألقى بمقاليد أمره بين يدي زوجته غير المسلمة - وجب منعه من التزوج بالكتابية، ويوجب في الوقت نفسه على الحكومة التي تدين بالإسلام ومبادئه في الزوجية، وتغار على قوميتها وشعائرها في أبنائها -أن تضع لهؤلاء الذين ينسلخون عن مركزهم الطبيعي في الأسرة حدا يردهم عن غيهم. ويكفي في المنع العام أن ترى الحكومة أكثرية الذين يتزوجون بأجنبيات يضعون أنفسهم من زوجاتهم هذا الوضع الذي يفسدون به أسرتهم.(2/43)
إن حفظ مبادئ الدين لمَن أوجب الواجبات على الحكومة الإسلامية، وما ضعف المسلمون وانحلت روابطهم إلا بهذا الذوبان، الذي كثيرا ما كان منشؤه الافتتانَ برقي الأجنبية وتقدمها في تنظيم البيوت وتربية الأبناء، وهي في الواقع تعمل على هدم الكِيان وتقويض القومية، وقد كان يتم لها الأمر على أيدي هؤلاء السفهاء ضعافِ الإيمان، يؤازرهم في ذلك من يقرءون عليهم - من غير فهم ولا تدبر ولا إدراك لحكمة التشريع - قوله تعالى: {والْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ}(80). وكم لعبت الزوجة الكتابية من أدوار في خدمة أمتها وحكومتها، وهي مقيمة في بلاد الإسلام ترزق بخيراتها، وتنعم بحياتها تحت رجل مسلم غر خدعته، واتخذت منه جسرا تخطو على ظهره إلى نكبة بلاده، والعمل على تركيز قومها فيها.
إن العمل على تقييد هذا الحكم في التشريع الإسلامي -أو منعه منعا باتا -ألزمُ وأوجبُ مما ينادي به بعض المسلمين، ويرجون تشريعه: من تحديد سن الزواج للفتاة، وتقييد تعدد الزوجات، وتقييد الطلاق، ...وما إلى ذلك من النداءات النادرة التي ينشط لها كثير من أبناء المسلمين؛ سيرا وراء مدنية الغرب المظلمة. ألا وإن انحلال الكثرة الغالبة ممن يميلون إلى التزوج بالكتابيات لمما يوجِب الوقوفَ أمام هذه الإباحة التي تتلقاها مطلقة؛ جهلا بغير علم، والتي أصبحت حالتنا تنادي بإلغائها، وأنها لا تتفق والغرض المقصود منها، ولا تتناسب مع نهضتنا الحالية التي قوامها الاحتفاظ بالتعاليم الإسلامية، وصونها عن عبث العابثين وهدف المغرضين الكائدين. واللَّه الهادي إلى سواء السبيل.
[318] من تزوج بنصرانية بلا ولي ولا شهود(2/44)
رجل تزوج بفتاة أسترالية نصرانية في لندن، وتولت الزوجة العقد بنفسها بدون ولي، ولم يشر فيه إلى مقدار المهر، ولم يحضره من الشهود سوى رجل مسلم وامرأة نصرانية، وهي أم الزوجة، ويوجد في مجلس العقد بعض فتيات نصرانيات صديقات للزوجة مع مسجل العقود النصراني. وبعد أربع سنين أسلمت الزوجة ورزقت منه بطفلتين وقد انتقلوا إلى بلد إسلامية . ويسأل عن صحة عقد نكاحها، وإذا لم يكن صحيحا فكيف الطريق إلى تصحيحه، وعن كيفية صلاة الزوجة؛ لأنها لا تحسن غير اللغة الإنجليزية.
الإجابة:
أما العقد الذي وصفتم فإنه غير صحيح؛ لعدم الولي، ولعدم الشاهدين. وقد قال صلى الله عليه وسلم : "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل" (81) . وأما عدم تسمية الصداق في العقد فلا يخل به. والطريق إلى تصحيحه أن يحضر وليها لدى مأذون العقود، ويعقد نكاحها لزوجها المذكور بعد رضاها وإذنها، ويحضره شاهدا عدل، فإن لم يكن لها ولي فوليها الحاكم الشرعي، فتأذن له بعقد نكاحها. ولا شيء عليهما فيما مضى، وأولادهما شرعيون، ونسبهم من أبيهم صحيح إذا كانا يعتقدان صحة النكاح؛ لأن هذا من وطء الشبهة.
أما من ناحية صلاة الزوجة، فإنه يلزمها تعلم الفاتحة والأذكار الواجبة للصلاة فورا، فإن عرفت بعض الفاتحة فإنها تكرره بمقدار طول الفاتحة، وإن لم تعرف منها شيئا، ولا من غيرها من القرآن، فقد ورد في حديث رفاعة بن رافع مرفوعًا: "فإن كان معك قرآن فاقرأ به، وإلا فاحمد اللَّه وكبره وهلله" (82) . رواه أبو داود والترمذي، وفي إسناده ضعف. واللَّه أعلم.
باب عشرة النساء والقسم وما يتعلق بهما [319] وطء الزوجة في دبرها
ما حكم من أتى زوجته في دبرها؟ وهل تطلق منه؟ وفي حالة عدم طلاقها، ما الذنب الذي ارتكبه؟ وما جزاؤه؟ وهل له كفارة؟
الإجابة:(2/45)
وطْءُ الزوجةِ في دبرها حرام، ومن كبائر الذنوب، والعياذ باللَّه. قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن اللَّه لا يستحي من الحق، لا تأتوا النساء في أدبارهن" .
وعن أبي هريرة وابن عباس مرفوعا: "لا ينظر اللَّه إلى رجل جامع امرأته في دبرها" رواهما ابن ماجه.
وعن أبي هريرة مرفوعا: "من أتى حائضا أو امرأة في دبرها أو أتى عرافا فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد" . رواه الأثرم.
وروى جابر قال: كان اليهود يقولون: إذا جامع الرجل امرأته في فرجها من ورائها، جاء الولد أحول؛ فأنزل اللَّه تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (83) متفق عليه (84) . قال: من بين يديها أو من خلفها غير أن لا يأتيها إلا في المأتى. وفي رواية: "ائتها مقبلة ومدبرة إذا كان ذلك في الفرج" (85) .
أما قول السائل: وهل تطلق منه زوجته؟
فجوابه: أنها لا تطلق منه بذلك، ولكن يُبَيَّنُ له الحكمُ فإن تاب وأقلع، تاب اللَّه عليه، وإلا تعين تعزيره؛ لارتكابه هذه المعصية، وهي لا حَدَّ فيها ولا كفارة. ومتى نُهي عن هذا فلم ينته؛ تعين التفريق بينهما، كما يفرق بين الرجل الفاجر وبين من يفجر به من رقيقه. ذكره الشيخ تقي الدين بن تيمية -رحمه اللَّه- (86) .
وأما قول السائل: وهل فيه كفارة؟
فجوابه: أن ليس في ذلك كفارة، وإنما الكفارة في وطء الحائض؛ لأن الحائض يحرم وطؤها، وفيه كفارة قدرها دينار أو نصف دينار -على التخيير-؛ لما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض قال: "يتصدق بدينار أو نصفه" (87) . رواه أحمد والترمذي وأبو داود. وقال: هكذا الرواية الصحيحة. واللَّه أعلم.
[320] القَسْم بين الزوجات(2/46)
سائل بعث يقول: إن لي زوجتين، وإني أكثر الجلوس عند الصغرى منهما؛ بحيث يكون طعامي وشرابي وفطوري وغدائي في بيتها، أما القديمة فلا أذهب إليها إلا ليلة بعد ليلة. ويسأل هل عليه حرج في هذا؟ وما طريق العدل بين الزوجتين؟
الإجابة:
طريق العدل بين الزوجتين أن تقسم لكل واحدة منهما يوما وليلة تخصصهما لكل منهما، سواء في صحتك وفي مرضك، فتجعل عندها نومك وأوقات راحتك وجلوسك وفطورك وغداءك وغير ذلك، ما لم تأذن لك بشيء من ذلك تفعله في بيت الأخرى. ولا بأس بالدخول على الأخرى لحاجة والجلوس عندها، إذا لم تطل الجلوس، ولكن من غير مسيس. كما يجب عليك أن تسوي بينهما في النفقة والكسوة وكل شيء، أما المحبة والمودة والوطء، فذلك مما لا يستطاع التسوية فيه، فعلى الإنسان أن يتقي اللَّه ويعدل بينهما حسب استطاعته، ولا لوم عليه فيما كان خارجًا عن حدود استطاعته؛ لما روي عن عائشة -رضي اللَّه عنها- قالت: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل، ويقول: "اللَّهم هذا قَسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك" (88) . رواه الأربعة، وصححه ابن حبان والحاكم، وهو معلول بالإرسال .
وقد جاء التحذير من الميل في معاشرة الزوجات وظلمهن، فروى أبو هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : " من كانت له امرأتان فيميل لإحداهما على الأخرى؛ جاء يوم القيامة يجر أحد شقيه ساقطًا أو مائلاً" .(89) . رواه الخمسة.
وفي الباب عدة أحاديث وآثار، وعن عروة بن الزبير قال: قالت عائشة -رضي اللَّه عنها-: يا بن أختي كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في القَسْم ،من مكثه عندنا، وكان قَلَّ يومٌ إلا وهو يطوف علينا جميعا، فيدنو من كل امرأة من غير مسيس. وفي رواية: -من غير وِقاع- حتى يبلغ التي هو عندها فيبيت عندها90 . رواه أهل السنن .(2/47)
وبهذا تعلم يا أخي الكريم أنك قد ارتكبت في عملك مع زوجتك القديمة خلاف العدل المأمور به شرعًا، ولا يعتبر ما تعللت به مسوغًا لذلك. فاتق اللَّه واعدل بين زوجتيك، وتحمل أذى القديمة الذي قد يعتبر من الغيرة من دون قصد إلى إيذائك، ولك أسوة بالكاظمين الغيظ والعافين عن الناس واللَّه يحب المحسنين. واللَّه المستعان.
[321] هل يطلق زوجته إذا أمره أبوه أو أمه بطلاقها؟
كثيرًا ما يقع بين زوجتي وأمي مشاكل، وتارة يشترك في ذلك والدي، وأقع في حرج تجاههم، ورغبت أمي أن أطلق زوجتي وكذلك رغب أبي، بل أمرني أن أطلقها. وقال: أنا أدفع لك مهر زوجة جديدة. وأنا أحب زوجتي وأم أولادي ولا رغبة لي بفراقها، فهل يجب علي طلاقها طاعة لوالدي أم لا؟ وإذا رفضت طلاقها فهل أكون عاقًّا لوالدي بذلك؟
الإجابة:
سئل الإمام أحمد -رحمه اللَّه- عن مثل هذا. فقال له رجل: إن أبي أمرني أن أطلق امرأتي؟ فقال الإمام أحمد: لا تطلقها. قال الرجل: أليس عمر ابن الخطاب-رضي الله عنه- أمر ابنه عبد اللَّه أن يطلق امرأته؟! فقال الإمام أحمد: حتى يكون أبوك مثل عمر. يعني: في العدل والورع والاستقامة وعدم الحيف والظلم.
وقال في "الآداب الشرعية" : وأكثر الأصحاب على أنه لا يجب عليه أن يطلقها لأمر أبيه.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه- فيمن تأمره أمه بطلاق امرأته، قال: لا يحل له أن يطلقها، بل عليه أن يبر أمه، وليس تطليق زوجته من بر أمه. وقال: والمعتمد عدم وجوب طاعة كل واحد من الأبوين في طلاق زوجته؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : "لا ضرر ولا ضرار" (91) . وطلاق زوجته بمجرد هوى أبيه أو أمه ضرر به وبها. واللَّه أعلم.
[322] مسألة في الطلاق المعلق
رجل حصل بينه وبين زوجته نزاع على حاجة معينة. هو يقول: عندها، وهي تنكر ذلك. فقال: إنها عندها، وإذا لم تكن عندها فهي طالق، فأصرت بأنها ليست عندها، فهل تطلق بذلك، وماذا يترتب على الجميع؟
الإجابة:(2/48)
هذه المسألة ذات قولين:
فالمشهور من المذهب: التفريق بين الحلف باللَّه والحلف بالطلاق ونحوه، فالحالف باللَّه لا يحنث إذا كان يعتقد صدق نفسه فبان بخلافه. وأما الحلف بالطلاق ونحوه فإنها تطلق إذا بان الأمر بخلافه، ففي هذه الصورة المسئول عنها، تطلق إن كانت الحاجة عندها على المشهور من المذهب، لكن هذا يحتاج إلى أمر يقيني محقق، فإن لم يحصل أمر يقيني محقق، وكانت المسألة مجرد شك فالأصل بقاء الزوجة، ولا تطلق بمجرد ما ذكر.
والقول الآخر، وهو الأقوى دليلًا: أنها لا تطلق، وهذه مسألة ما إذا حلف على شيء يظن صدق نفسه فبان بخلافه، والصواب فيها أنه لا حنث فيها ولا كفارة، سواء كانت يمينًا مكفَّرة بأن حلف باللَّه، أو كانت طلاقًا أو غير ذلك؛ لقوله تعالى: {ولَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} (92)، وهو رواية عن الإمام أحمد، واختارها طائفة من الأصحاب وفاقًا للشافعي. قال في "الإنصاف" : قال في "الفروع" : وهذا أظهر. قلت: وهو الصواب، واختاره الشيخ تقي الدين.اهـ(93). وهذا هو الصحيح من أقوال العلماء. واللَّه أعلم.
[323] من صور الطلاق
رجل له ولد، يأتيه بعض زملائه في البيت ممن لا يرغب في مخالطتهم له، فنصحه والده مرات بأن لا يُدخِل أحدًا منهم في البيت؛ فلم يقبل النصيحة. وفي أحد الأيام غضب أبوه وقال لأم الولد: إذا عاد ابنك وأدخل أحدًا من زملائه البيت فأنت طالق ثلاثًا.
والسؤال الآن: هل يجوز للأب أن يلغي هذا الكلام الذي صدر منه أم لا؟ وإذا قلتم: يجوز، فهل له كفارة؟ وما مقدارها؟ وإذا فرضنا أنه دخل أحد الزملاء بدون حضور ابنه، وإنما أدخله بعض الأطفال أو أفراد الأسرة فهل يقع الطلاق أم لا؟ وإذا قيل بوقوع الطلاق، فهل يقع طلقة واحدة أم ثلاثًا؟ علمًا بأن الأب تلفظ بالطلاق حال غضب شديد.
الإجابة:
الحمد لله. هذه المسألة مما اختلف فيه العلماء:(2/49)
فالمشهور من المذهب عند متأخري أصحابنا الحنابلة: أنه إذا دخل أحد زملائه البيت طلقت الزوجة ثلاثًا، سواء أدخله الولد المحلوف عليه أو غيره، ما دام لم يدخل إلا بسبب ولده، إلا إن كانت نيته أن يكون الولد هو الذي يدخله بنفسه.
وأما قول السائل: هل يجوز له أن يلغي هذا الكلام الذي صدر منه، فالجواب: أنه لا يجوز له إلغاؤه.
وفي المسألة قول آخر، وهو: أنه لا يقع عليها إلا طلقة واحدة على اعتبار أن الثلاث واحدة. والمشهور من المذهب هو القول الأول.
وأما قول السائل: إن الأب تلفظ بالطلاق حال غضب شديد، فجوابه: أن العلماء -رحمهم- اللَّه ذكروا أن الغضب ثلاثة أقسام:
أحدها: مبادئ الغضب. فهذا لا يمنع وقوع الطلاق بغير خلاف.
الثاني: الغضب الشديد الذي يزول معه الشعور بالكلية، بحيث لا يعلم ما ينطق به. فهذا لا يقع الطلاق فيه بلا خلاف.
الثالث: الغضب المتوسط. فهذا هو محل النزاع بين أهل العلم، والذي عليه الفتوى هو القول بوقوع الطلاق في مثل هذه الحالة. واللَّه أعلم.
[324] من قال: لست متزوجا -يمزح- وهو متزوج
رجل قال: لست متزوجًا؛ يريد المزاح، ثم تبين أنه متزوج واعترف بذلك. وقال: إني أمزح. فما حكمه؟
الإجابة:
ذكر الفقهاء مثل هذه المسألة، وهي إذا سئل رجل: ألك امرأة؟ فقال: لا. وأراد الكذب ولم يَنْوِ بهِ الطلاق، فلا تطلق زوجته بذلك؛ لأنها كناية تفتقر إلى نية الطلاق ولم توجد؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم : "وإنما لكل امرئ ما نوى" (94) . بخلاف من قيل له: أطلقت امرأتك؟ فقال: نعم وهو كاذب يمزح فإنها تطلق؛ لأن السؤال معاد في الجواب، والجواب الصريح للَّفظ الصريح صريح. والله أعلم.
[325] مسألة في كنايات الطلاق
سائل يسأل عن رجل غضب من زوجته، وأراد أن يصرفها عن وجهه فقال لها: تراك من هاك الكلمات؛ وذلك تفاديًا لوقوع الطلاق ولم ينو به طلاقًا.
الإجابة:(2/50)
إذا كان الحال كما ذكر فلا يقع عليها طلاق؛ لأن هذا اللفظ ليس بصريح طلاق ولا كناية؛ ولا سيما وقد ذكر أنه لم ينو به الطلاق. واللَّه أعلم.
[326] من أحكام الطلاق
ما حكم رجل طلق زوجته بطلاق؛ صفته أنه قال لها على إثر مخاصمة وقعت بينهما: تراك طالق ثم سكت قليلًا، فزاد به الغضب. وقال: طالق عدد ما تبغين، فسكتت المرأة ولم تجبه بشيء بهذا المجلس ولا بغيره، إلا أنها ندمت على الطلاق؟
الإجابة:
إذا كان الحال كما ذكر، فإنه يقع عليها طلقة واحدة؛ لأنها لم تجبه بأنها تبغي أكثر منها. وعلى هذا فله مراجعتها ما دامت في العدة، فإن خرجت منها فتحتاج إلى عقد جديد بشروطه. واللَّه أعلم.
[327] مسألة في الطلاق والظهار
ما حكم رجل وقع منه على زوجته طلاق وظهار، وذلك أنه طلق زوجته طلقة واحدة، ثم أراد أن يراجعها فامتنع أهلها فغضب، وقال: تراها حارمة علي مثل أمي؟
الإجابة:
إذا كان الحال كما ذكر، فله مراجعتها ما دامت في العدة، فإن خرجت من العدة فلا بد من عقد جديد بشروطه.
وأما قوله: حارمة علي مثل أمي فهذا ظهار، فإن راجعها فلا يقربها أو يمسها حتى يُكَفِّر. وكفارته عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا، وحيث ذكر أنه عاجز عن عتق الرقبة وعن الصيام؛ لأنه مصاب بقرحة في المعدة وعولج منها ولا يستطيع الصيام، فعليه أن يطعم ستين مسكينًا لكل مسكين مد من البر، فيفرق بينهم خمسة عشر صاعًا، لكل واحد ربع الصاع. واللَّه أعلم.
[328] تعليق الطلاق
ما حكم رجل قال لزوجته: إذا دعوت على ابنتك؛ إغاظةً لي فأنت طالق، فعادت إلى الدعاء على ابنتها، ولكنها تقول: إنها لم تقصد إغاظته بالدعاء، وإنما تريد تأديب البنت، وإن هذا شيء يجري على لسانها؛ لأنها اعتادته من دون تعمد؟
الإجابة:(2/51)
إذا كان كلام الزوج معلقًا على قصد إغاظته بالدعاء على البنت. وقالت الزوجة: إنها لم تقصد إغاظته، ودللت بما أدلت به فهي مصدقة، والقول قولها؛ لأن هذا شيء متعلق بنيتها وقصدها، وهي أعلم بذلك.
[329] من حلف بالطلاق على شيء ففعله ناسيًا
رجل قال لزوجته على إثر نزاع بينها وبين والده: عليّ الطلاق ما أذهب بك لأهلك إلا بعد شهر. فنسي وراح بها إلى أهلها قبل الشهر. فهل تطلق بذلك؟
الإجابة:
هذا من الحلف بالطلاق، والمشهور أنه إذا فعل المحلوف عليه ناسيًا، أو جاهلًا، يحنث في طلاق، وعتاق فقط، بخلاف اليمين باللَّه فلا يحنث فيها. والقول الآخر: أن الحكم واحد، فلا يحنث في الطلاق والعتاق، كما لا يحنث في اليمين باللَّه. ويستدل له بقوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} الآية (95) .
وهذا الصواب، وهو اختيار الشيخ تقي الدين بن محمد بن تيمية وغيره.
[330] من توهم وقوع الطلاق على زوجته فراجعها
إذا كان الزوج في الصورة الآنفة الذكر ظن أنها قد طلقت بذهابها إلى أهلها، فراجعها بناء على ظنه. فإذا قلتم: إنها لا تطلق بما ذكر، فهل تكون مراجعته لها تدل على أن الطلاق قد وقع عليها؟
الإجابة:
كلا ولا تؤثر مراجعتها على الأمر الواقع بشيء؛ لأن هذا بمجرد ظَنٍّ تصوره، وهو بخلاف الحقيقة. واللَّه الموفق.
باب الوكالة [331] توكيل والد الزوجة على طلاقها
جرت بين زوجين أمور، مما أوجب أن الزوج يوكل والد زوجته على طلاقها، ولكن والد الزوجة رفض الوكالة، ثم أبطل الزوج الوكالة، فهل تبطل الوكالة؟
الإجابة:
نعم، تبطل؛ لأن الوكالة عقد جائز، فإذا فسخها الزوج قبل أن يطلق الوكيل انفسخت، ولم يكن للوكيل أن يطلقها بعد هذا.
[332] في مظاهرة الرجل من زوجته
رجل خطب امرأة، واتفق مع أهلها وسلم لهم بعض الصداق، ثم صار بينهم نزاع، فقال: هي علي حرام كما حرمت مكة على اليهود، وكما حرمت علي أمي وأختي، فما حكم ذلك؟
الإجابة:(2/52)
إذا كان الحال كما ذكر فهذا ظهار، ولا تحرم عليه بمجرد ذلك، فإذا أراد أن يعقد عليها فلا مانع، ولكن لا يقربها ولا يمسها حتى يُكفِّر كفارة الظهار، وحيث ذكر أنه عاجز عن عتق رقبة فعليه صيام شهرين متتابعين، ولا يقطع التتابع إلا من عذر شرعي كمرض ونحوه.
[333] عدة المرأة التي ارتفع حيضها
امرأة طلقها زوجها طلقة واحدة، وقد كانت العادة تأتيها شهريا باستمرار، ولكنها قبل طلاقها ارتفع حيضها، دون أن تعلم أسباب ارتفاعه، ومكثت بعد الطلاق ثلاثة أشهر لم يأتها الحيض، وهي الآن في الشهر الرابع، وتعتقد أنها تمت عدتها، فهل تعتبر قد انقضت عدتها بمضي الثلاثة الأشهر أم لا؟
الإجابة:
هذه المرأة جرى نظير قصتها في زمن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقضى بأنها تعتد تسعة أشهر للحمل؛ ليعلم بذلك براءة رحمها من الحمل، ولأن غالب مدة الحمل تسعة أشهر، وبعد ذلك تمكث ثلاثة أشهر للعدة، فصار جميع ما تمكثه سنة كاملة.
قال الشافعي: هذا قضاء عمر بن الخطاب بين المهاجرين والأنصار، لا ينكره منهم منكر علمناه.
وإن كانت تعرف أسباب ارتفاع حيضها؛ من كونها ترضع طفلها، أو أن بها مرضا، ونحو ذلك، فلا تزال في عدة حتى يعود حيضها، فتعتد بثلاث حيضات؛ لأنها مطلقة لم تيأس من الحيض، فتدخل في عموم قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}(96)
ووجه القول بكونها تعتد بعد مضي تسعة أشهر؛ أن القاعدة الشرعية: أن المرأة التي تعتد بثلاثة أشهر هي التي قد تحقق براءة رحمها من الحمل؛ إما بالصغر، أو بالإياس، فإذا مكثت هذه تسعة أشهر- وهي غالب مدة الحمل- غلب على الظن براءة رحمها، فحينئذ تبدأ بعدة أمثالها، وهي ثلاثة أشهر. والله أعلم.
[334] عدة المطلقة إذا توفي عنها زوجها(2/53)
امرأة طلقها زوجها طلقة واحدة في صحته، وحاضت حيضتين، ولم يبق إلا أيام قليلة على الحيضة الثالثة التي ستخرج بها من عدته، وهي مخطوبة، وقدر اللَّه على زوجها الذي طلقها وانقلبت به السيارة وتوفي، وهو فقير لا ميراث له.
فهل تتم عدتها؛ عدة الطلاق وتنتهي بالحيضة الثالثة أم تنتقل إلى عدة الوفاة؟
وإذا قلتم: تنتقل إلى عدة الوفاة، فهل تبني على ما مضى من عدتها، أم تبتدئ من تاريخ وفاته؟ وهل يلزمها أن تحد عليه أم لا؟
الإجابة:
إذا مات الزوج الذي طلق زوجته في صحته طلاقا رجعيا -والطلاق الرجعي: هو الذي يملك به رجعتها- فإنها في هذه الحالة تبتدئ عدة الوفاة من حين موته، وتعتد أربعة أشهر وعشرا، إن لم تكن حاملا؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} (97) . وعليها أن تحد عليه الإحداد المعروف.
وأما قول السائلة: إنها مخطوبة، وهي في عدتها، فهذا لا يجوز -أن تُخطَب- وهي في العدة؛ لأن المعتدة الرجعية في حكم الزوجات، فلزوجها أن يراجعها ولو بغير رضاها، ولها أن تتجمل له وتدخل عليه كسائر زوجاته، ويحرم على الرجال أن يخطبوها من نفسها، أو من وليها تصريحا أو تعريضا، ويحرم عليها وعلى وليها الموافقة على هذه الخطبة، بل ينبه الخاطب بأنها لا تزال في العدة؛ ولأنها في حكم الزوجات فيلزم التنبه لذلك.(2/54)
وأما قولها: إن زوجها فقير ليس له ميراث، فلتعلم السائلة -وفقها اللَّه- أن الحداد ليس لأجل الميراث، وإنما هو حق لله وللزوج، سواء كان فقيرا أو غنيا، حاضرا أو غائبا، يعني: سواء مات عندها في بيتها وبلدها، أو في غربة وغَيبة عنها، فالإحداد لازم لها بكل حال، أما لو مات في الغربة، ولم يأتها خبر وفاته إلا بعد شهر مثلا، فإنها تبتدئ من تاريخ وفاته، لا من حين بلغها الخبر، فإن بلغها الخبر، وقد بقي من عدتها شيء؛ فإنها تحد بمقدار ما بقي من المدة، وإن انقضت المدة دون أن تعلم سقط الإحداد بمضي مدته، وتنتهي عدتها بمضي أربعة أشهر وعشر ولو لم تعلم بخبر وفاته إلا بعدها. واللَّه أعلم.
باب الإحداد [335] صفة إحداد المتوفى عنها
امرأة تسأل عن صفة إحداد المرأة المتوفى عنها زوجها، وما تلبسه من الثياب. وهل يجوز لها أن تخرج ليلا لتصلي التراويح في المسجد، أو تتسلى عند جارتها، أو تخرج نهارا لتقضي حاجتها من السوق، أو تستمع خطبة الجمعة، وهل تكلم ابن عمها وزوج أختها ونحوهما؟
الإجابة:
إحداد المرأة المتوفى عنها؛ هو ترك الزينة التي ترغِّب الرجال فيها بجميع أنواعها، فتترك الحلي بجميع أنواعه، فلا تلبس منه شيئا، ولا تلبس الثياب الجميلة بجميع أنواعها، وتجتنب الطيب بجميع أشكاله، وتجتنب الحناء والخضاب وتحمير الوجه والتصبيغ و (المانوكير) ، ونحوها، وكذا الكحل، فإن احتاجت إليه لمرض عينيها جاز لها استعمال ما لا جمال فيه، ولها استعمال قطرة العين، ولها أن تلبس النقاب، وأن تغتسل، وتتنظف وتمتشط، ولا تُمنَع من تقليم الأظافر ونتف الإبط ونحوه، ولها الجلوس على فرش جميلة؛ لأن الإحداد في البدن، وما يلبس على البدن، لا في الفرش، ونحوها.(2/55)
وتجب عدة الوفاة في المنزل الذي مات زوجها وهي ساكنة فيه، فلا تتحول منه إلا لحاجة؛ كخوف على نفسها، أو مالها، ولا تخرج منه نهارا إلا لحاجتها في نفسها خاصة، بخلاف خروجها لعيادة مريض، أو زيارة قريب، أو سلام على قادم من سفر، أو خروجها لقضاء حاجة غيرها، أو لاستماع خطبة الجمعة ونحوها، فهذا كله ممنوع، وإنما المسموح لها فيه خروجها نهارا لقضاء حاجتها خاصة سواء من السوق، أو من غيره، ولا تخرج ليلا؛ لأن الليل مظنة الفساد، فلا يسمح لها أن تخرج لتشهد صلاة التراويح في المسجد أو في غيره.
وإليك بعض الأحاديث التي تدل على ما ذكرناه، مما ورد في هذا الباب: عن حميد بن نافع، عن زينب بنت أم سلمة؛ أنها أخبرته بهذه الأحاديث الثلاثة. قال: قالت زينب: دخلتُ على أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، حين توفي أبوها أبو سفيان، فدعت أم حبيبة بطيب فيه صفرة؛ خلوق أو غيره، فدهنت منه جارية، ثم مست بعارضيها، ثم قالت: واللَّه ما لي بالطيب من حاجة، غير أني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: "لا يحل لامرأة تؤمن باللَّه واليوم الآخر، تحدّ على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج، أربعة أشهر وعشرًا" .
قالت زينب: ثم دخلت على زينب بنت جحش، حين توفي أخوها، فدعت بطيب فمست منه، ثم قالت: واللَّه ما لي بالطيب من حاجة، غير أني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: "لا يحل لامرأة تؤمن باللَّه واليوم الآخر، تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا" .
قالت زينب: سمعت أمي، أم سلمة تقول: جاءت امرأة إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فقالت: يا رسول اللَّه إن ابنتي توفي عنها زوجها، وقد اشتكت عينها أفنكحلها؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "لا" مرتين أو ثلاثا، كل ذلك يقول: "لا" ، ثم قال: "إنما هي أربعة أشهر وعشرٌ، وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول" .(2/56)
قال حميد: فقلت لزينب: وما ترمي بالبعرة على رأس الحول؟ فقالت زينب: كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها، دخلت حِفْشا، ولبست شرّ ثيابها، ولم تمس طيبا ولا شيئا حتى تمر بها سنة، ثم تؤتى بدابة؛ حمار أو شاة أو طير، فتَفْتَض به. فقلما تفتض بشيء إلا مات، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها، ثم تراجع بعدُ ما شاءت من طيب أو غيره. أخرجاه (98) .
وعن أم عطية قالت: كنا ننهى أن نحدّ على ميت فوق ثلاثة أيام، إلا على زوج، أربعةَ أَشْهرٍ وعَشْرا، ولا نكتحل ولا نتطيب ولا نلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب، وقد رخص لنا عند الطهر، إذا اغتسلت إحدانا من محيضها، في نُبذَة من كُسْت أظفار. أخرجاه (99) .
وفي رواية قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم : "لا يحل لامرأة تؤمن باللَّه واليوم الآخر، أن تحدّ فوق ثلاث، إلا على زوج، فإنها لا تكتحل، ولا تلبس ثوبا مصبوغا، إلا ثوب عصب، ولا تمس طيبا، إلا إذا طهرت، نبذة من قُسْط أو أظفار" . متفق عليه(100).
وعن فريعة بنت مالك قالت: خرج زوجي في طلب أعلاج له فأدركهم بطرف القدوم؛ فقتلوه، فأتاني نعيه، وأنا في دار شاسعة من دور أهلي، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له. فقلت: إن نعي زوجي أتاني في دار شاسعة من دور أهلي، ولم يدع لي نفقة، ولا مال لورثته، وليس المسكن له، فلو تحولت إلى أهلي وأخوالي لكان أرفق بي في بعض شأني. قال: "تحولي" . فلما خرجتُ إلى المسجد أو إلى الحجرة دعاني أو أمر بي فدعيت. فقال: "امكثي في بيتك الذي أتاك فيه نعي زوجك حتى يبلغ الكتاب أجله" . قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا. قالت: فأرسل إلي عثمان فأخبرته فأخذ به. رواه الخمسة وصححه الترمذي (101) .
وعن جابر، قال: طلقتْ خالتي ثلاثا، فخرجت تجذ نخلا لها، فلقيها رجل فنهاها، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال لها: "اخرجي فجذي نخلك، لعلك أن تتصدقي منه وتفعلي خيرًا" .(2/57)
رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه والنسائي (102). واللَّه أعلم.
[336] إحداد المرأة على قراباتها
سائل يسأل عما يُفعل في بعض البلدان من إحداد المرأة على قراباتها كأبيها وأمها وأخيها ونحوهم، إذا مات قريبها تحد عليه مدة سنة، تترك فيها الزينة والطيب والحناء والملابس الجميلة، ولا تتزوج في تلك المدة؛ لأنها محزنة، فهل يحل لها هذا الفعل؟ وهل ورد فيه نص عن الرسول صلى الله عليه وسلم ؟
الإجابة:
الأصل في مشروعية الإحداد أنه لحقِّ الزوج على زوجته؛ فهي مأمورة بأن تحد عليه أربعة أشهر وعشرا.
وأما الإحداد على القريب فلم يرد فيه فوق ثلاث، فما زاد عليها فهو حرام، صرح النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لا يحل. وذلك فيما أخرجاه في "الصحيحين" عن ثلاث من أمهات المؤمنين؛ أم حبيبة، وزينب بنت جحش، وأم سلمة -رضي اللَّه عنهن-.
فعن حميد بن نافع، عن زينب بنت أم سلمة؛ أنها أخبرته بهذه الأحاديث الثلاثة، قال: قالت زينب: دخلت على أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، حين توفي أبوها أبو سفيان، فدعت أم حبيبة بطيب فيه صفرة؛ خلوق أو غيره، فدهنت منه جارية، ثم مست بعارضيها، ثم قالت: واللَّه ما لي بالطيب من حاجة، غير أني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: "لا يحل لامرأة تؤمن باللَّه واليوم الآخر، تُحِدُّ على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج، أربعة أشهر وعشرا" .
قالت زينب: ثم دخلتُ على زينب بنت جحش، حين توفي أخوها، فدعت بطيب فمست منه، ثم قالت: واللَّه ما لي بالطيب من حاجة، غير أني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: "لا يحل لامرأة تؤمن باللَّه واليوم الآخر، تُحِدُّ على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج، أربعة أشهر وعشرًا" .(2/58)
قالت زينب: سمعت أمي، أم سلمة تقول: جاءت امرأة إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول اللَّه إن ابنتي تُوفي عنها زوجها، وقد اشتكت عينها أفنكحلها؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "لا" ، مرتين أو ثلاثا، كل ذلك يقول: "لا" . ثم قال: "إنما هي أربعة أشهر وعشرٌ، وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول" .
قال حميد: قلت لزينب: وما ترمي بالبعرة على رأس الحول؟ فقالت زينب: كانت المرأة إذا تُوفي زوجها، دخلت حِفْشا، ولبست شر ثيابها، ولم تمس طيبًا ولا شيئا، حتى تمر بها سنة، ثم تؤتى بدابة، حمار أو شاة أو طير، فتَفْتَض به، فقلما تفتض بشيء إلا مات، ثم تخرج فتُعطى بعرة فترمي بها، ثم تراجع بعد ما شاءت من طيب أو غيره. أخرجاه (103) .
وعن أم حبيبة أن النبي صلى الله عليه وسلم . قال: "لا يحل لامرأة مسلمة تؤمن باللَّه واليوم الآخر، أن تُحِدَّ على ميت فوق ثلاثة أيام، إلا على زوجها، أربعة أشهر وعشرا" .أخرجاه في "الصحيحين" (104) . واللَّه أعلم.
[337] إحداد المتوفى عنها وعدتها
امرأة تسأل عن عدة المرأة المتوفى عنها زوجها، وعن حكم الإحداد، وخروجها من بيتها ليلا أو نهارا، وسفرها إلى بلادها؟
الإجابة:(2/59)
أما الإحداد فهو ترك كل ما يدعو إلى نكاح المرأة، ويرغّب فيها، فيتعين عليها ترك جميع أنواع الطيب، والأدهان المطيبة، وترك لبس الحلي بأنواعه، حتى الخاتم، ونحوه، وترك لبس الثياب الملونة للزينة، ولا يتعين عليها لباس الأسود، بل تلبس ما شاءت من اللباس المبتذل، الذي لا يراد للزينة، كما تترك التحسن (بإسفيداج) و (بودرة) ، ونحو ذلك، وكذلك الكحل، والأصباغ التي تتخذ للتجميل. وذلك لما ورد في الأحاديث الصحيحة، كما في حديث أم عطية. قالت: كنا ننهى أن نحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج، أربعة أشهر وعشرًا، ولا نكتحل، ولا نتطيب، ولا نلبس ثوبا مصبوغا، إلا ثوب عصب. وقد رخص لنا عند الطهر إذا اغتسلت إحدانا من محيضها، في نُبذَة من كُست أظفار. الحديث (105) .
وأما العدة، فتعتد أربعة أشهر وعشرا، إن لم تكن حاملا؛ فإن كانت حاملا فتنتهي عدتها بوضع الحمل.
ويجب أن تعتد في المنزل الذي كانت تسكنه حين مات زوجها، ويحرم عليها أن تتحول عن السكنى فيه إلا لحاجة أو ضرورة، كخوف على نفسها، أو على مالها، أو فيما لو أخرجها صاحب المنزل بغير اختيارها، ونحو ذلك. فإن خرجت من مسكنها بدون مسوِّغ شرعي لزمها أن تعود إليه لتكمل عدتها فيه.
ولا تخرج المعتدة من بيتها في الليل، ولا تبيت إلا فيه. وأما في النهار فلها الخروج لقضاء حاجاتها -التي تخصها- بنفسها، فلا تخرج لقضاء حاجة غيرها، ولا تخرج لعيادة مريض، ولا لزيارة قريب وصديق ونحوهم، وإن كان لها عمل، أو وظيفة تشغلها كالممرضة ونحوها، فلا مانع من خروجها نهارًا لمباشرة عملها مع النساء، فتعالج النساء والأطفال، ونحوهم. وتبعد عن مخالطة الرجال، والتحدث معهم، والخلوة بأحد منهم. وأما السفر فلا تسافر إلا بعد انقضاء عدتها. واللَّه الموفق.
[338] رضاع الطفل من جدته(2/60)
طفل أرضعته جدته (أم أبيه) وليس فيها لبن؛ لأنها قد وقفت عن الحمل والولادة منذ ثماني سنوات، ولكنها عطفت عليه وصارت تلقمه ثدييها لتسكته إذا بكى، وقد تكرر إرضاعها له، وتسأل عن حكم هذا الرضاع، هل ينشر الحرمة والمحرمية بينه وبين عماته وبنات عمه أم لا؟
الإجابة:
الحمد لله. هذا الطفل الذي رضع من جدته، إن لم يخرج من ثدييها شيء فلا تحريم، وكذا إن خرج منها شيء لا يسمى لبنا: كالماء والزلال وما أشبه ذلك، فلا يَثْبُتُ بذلك رضاع ولا تحريم. وإن كان رضع من ثديها ما يسمى لبنا، وتكرر ذلك خمس رضعات فأكثر في الحولين، وثبت ثبوتًا شرعيًّا فهو ابن لها من الرضاع، وتثبت بذلك الحرمة والمحرمية؛ أنه يصدق عليه لبن ثاب من بعد وطء وحمل، فثبتت به الحرمة والمحرمية، بخلاف لبن البنت البكر التي لم تتزوج، فإن لبنها لا ينشر الحرمة ولا المحرمية، كما صرح بذلك الفقهاء.
ويعتبر أبناؤها إخوانا له من الرضاع، وبناتها أخوات له من الرضاع، ولا يحل له أن يتزوج بأي بنت من بناتها، أو بنات أبنائها، أو بنات بناتها، أو من تكون هذه الجدة أمًّا له، أو جدة له، أو لأبيه، أو لأحد من أصوله وإن علوا؛ لحديث: "يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب" (106) . والحديث الآخر: "الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة" (107) .
وكلام أهل العلم على هذا صريح معلوم. واللَّه الموفق. وصلى اللَّه على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[339] رضاع طفل من ضَرَّتَيْنِ
رجل له زوجتان، أرضعت إحداهما -وتسمى أسماء- طفلا رضعتين-أو ثلاثا فقط- وأرضعته الثانية- واسمها بدرية- ثلاث رضعات فقط، ثم كبر الطفل حتى بلغ. فهل يحل أن يتزوج ببنت أسماء أو ببنت بدرية أم لا؟ وهل يعتبر ابنًا لهما من الرضاع أم لا؟ مع العلم أن رضاعه منهما كان قبل بلوغه سنتين.
الإجابة:(2/61)
إذا كان الحال كما ذكرته، فالطفل لا يعتبر ابنًا لأسماء ولا لبدرية؛ لأنه لم يرضع من واحدة منهما خمس رضعات فأكثر، والرضاع المحرم ما كان خمس رضعات فأكثر في الحولين، هذا بالنسبة للمرأتين. أما بالنسبة لزوجهما، فإنه يعتبر أبًا له من الرضاع؛ لأنه رضع من لبنه خمس رضعات فأكثر في الحولين، فصار ابنًا له من الرضاع. وعلى هذا فلا يحل لهذا الطفل أن يتزوج بواحدة من بنات الزوج، سواء كانت بنتا لأسماء أو لبدرية أو من زوجة له غيرهما، سواء تزوجها قبلهما أو بعدهما.
أما لو فرضنا أن لأسماء أو لبدرية بنتًا من زوج قبله أو بعده، فللطفل المذكور أن يتزوج بها لعدم المانع. واللَّه أعلم.
[340] من أحكام الرضاع
رجل له أم كبيرة ولم تكن ذات لبن، بل عهدها باللبن عام 1350 هـ، وقد عطفتْ على ابنه وبنته الصغيرين التوءمين اللذين ماتت أمهما بعد وضعهما، فصارت أمه تلقمهما ثديها، وَدَرَّتْ عليهما بلبنها؛ شفقةً وحنانًا حينما رضعا من ثديها.
ويسأل: هل يحل لابن المذكور أن يتزوج بإحدى بنات إخوته أو أخواته الأشقاء؟ وهل تحل بنته المذكورة لأحد أبناء إخوته أو أخواته؟
الإجابة:
إذا كانت أمه درت بلبنها على ابنه وبنته فرضعا منها خمس رضعات فأكثر في الحولين، فهذا الرضاع معتبر وينشر الحرمة، وحكمه حكم من أرضعت بلبن طفلها الصغير، ولا فرق؛ لأنه يصدق عليه تعريف الرضاع شرعًا، بكونه لبنًا ثاب عن حمل من ثدي امرأة إلى...إلخ.
وعليه فلا تحل لابنه واحدة من بنات إخوته؛ لأنه يكون عمها، ولا واحدة من بنات أخواته؛ لأنه يكون خالها، كما لا تحل بنته لأحد أبناء إخوته؛ لأنها تكون عمته، ولا لأحد أبناء أخواته؛ لأنها تكون خالته من الرضاعة.
باب الحضانة [341] الحضانة
امرأة تسأل عن حضانة الأطفال إذا طلق أبوهم أمهم، وخشيت أمهم إذا تزوجت أن يأخذهم أبوهم... إلى آخر ما شرحته.
الإجابة:(2/62)
الأحق بحضانة الطفل أمه، سواء كان الطفل ذكرًا أو أنثى؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : "أنت أحق به ما لم تَنْكِحِي" (108) . ثم أمهاتها القربى فالقربى، ثم الأب، ثم أمهاته القربى فالقربى.
فعلى هذا: إذا تزوجت أمه بأجنبي انتقلت الحضانة إلى جدته من قِبَلِ الأم إن كانت موجودة، وبعدها تنتقل الحضانة إلى الأب ثم أمهاته. وهذا الحكم ما دام الطفل صغيرًا دون السبع، سواء كان ذكرًا أو أنثى. فإذا بلغ الطفل سبع سنين نظرت: فإن كان أنثى فأبوها أحق بحضانتها- هذا المشهور من المذهب، وفيه رواية أخرى عن الإمام أحمد: أن الأم أحق ببنت سبع سنين. قدمها في "الفروع" وفاقًا لأبي حنيفة.قال في "الهدي" : وهي الأشهر عن الإمام أحمد، وأصح دليلاً. وقيل: تُخَيَّرُ، وفاقًا للشافعي. وذكره في "الهدي" رواية، وقال: نص عليها.
قال في "الفروع" : والمذهب: الأب أحق(109) . ومذهب مالك الأم أحق بها حتى تتزوج أو تحيض.
وإن كان الطفل ذكرًا عاقلاً، فإنه بعد بلوغه السبع يخير بين أبويه، فيكون مع من اختاره منهما. فإن اختار أباه كان عنده ليلاً ونهارًا، ولا يمنعه من زيارة أمه، وإن اختار أمه كان عندها ليلاً وعند أبيه نهارًا؛ لِيُعَلِّمَه ويُؤدّبه فإن عاد فاختار الآخر نُقِلَ إليه، ولا يَقَرّ بيد من لا يصونه ويصلحه. واللَّه أعلم.
[342] دِيَةُ المقتولِ من ضمن تركته
قدر اللَّه على "فلان" وصدمته سيارة، فدفع السائقُ دِيَتَه للورثة أربعة وعشرين ألفًا. وكان قد أوصى بثلث ماله، فهل تدخل دِيَتُه في ماله، ويؤخذ ثلثها تبعًا لثلثه ويوفَّى منها دينُه أم يقال: إنها مال للورثة؛ لأنها لم تقع إلا بعد وفاته، وهو في هذه الحالة لا يملك؟
الإجابة:(2/63)
إذا قُتل الإنسان خطأ أو عمدًا، واختار الورثة الدية، فإن ديته تُحتسب من ضمن تركته فيرثها ورثته، وإن كان عليه دين فإنه يوفَّى منها، وإن كان قد أوصى بثلث ما خلَّفه، دخلت الدية في مسمى ما خلفه. صرح بذلك الفقهاء -رحمهم اللَّه-: قال في "المنتهى" و"شرحه" : وإن قُتل عمدًا أو خطأ فأخذت ديته، فميراث عنه. قال الإمام أحمد: قد قضى النبي صلى الله عليه وسلم أن الدية ميراث (110) تدخل ديته في وصيته ويُقضى منها دينُه، أي: المقتول. وروي عن علي في دية الخطأ؛ لأنها تجب للميت؛ لأنها بدل نفسه، ونفسُه له، فكذلك بدلها؛ ولأن بدل أطرافه حالَ حياتِه له، فكذلك بدلها بعد موته. وتُحسب الدية على الورثة -أي ورثة المقتول- إن كان وصى بمعين -بقدر نصفها. انتهى.
باب العاقلة وما تحمله [343] من أعطى صبيا بندقية فثارت وأصابت شخصا
رجل معه "بندق شوزن" قد أزهبها أي جعل فيها (الفشكه) ، واجتمع عنده صبيان، وبدا له بعض الحاجة، وقضب البندق أحد الصبيان الذي عمره ثماني سنين.
وذهب وعبث الصبي الصغير بالبندق، وثارت، وأصابت صبيًّا آخر. فعلى من يكون الضمان؟ هل يختص بالصبي أم يشاركه صاحب البندق؛ لأنه أصل السبب؟
الإجابة:
الرجل الذي دفع "الشوزن" إلى الصبي الصغير ليس هو القاتل، ولا دية عليه، إلا أنه ينبغي أن يُعَزَّرَ بالحبس، والضرب؛ لتفريطه. والقاتل هو الصبي الذي حرك البندق حتى ثارت، وتجب دية القتيل على عاقلة هذا الصبي القاتل.
ودية الخطأ مؤجلة ثلاثة أعوام، يدفعون عند رأس كل عام ثلثها إذا كانوا موسرين. وعلى الصبي الكفارة: عتق رقبة -إذا كان يجدها- أو ثمنها، فاضلا عن جميع حوائجه ومؤنته، كما هو مبين في موضعه. وإن لم يجد عتق رقبة، صام شهرين متتابعين بعد بلوغه. واللَّه أعلم.
باب كفارة القتل [344] من تسبب في وفاة شخص بصدم أو غيره فعليه الكفارة(2/64)
إذا تعرض السائق لحادث انقلاب سيارة، أو تصادم، وتوفي بسببه أحد الركاب، فهل تلزمه كفارة صيام شهرين أم إطعام؟ وهل يشترط التتابع في الصيام؟ وهل تتكرر الكفارة إذا توفي معه أكثر من واحد؟ وهل تجزئ كفارة واحدة عن الجميع؟ وإذا توفي قبل أداء هذه الكفارة، فهل يلزم وليه أن يقوم بأدائها عنه أم لا؟ نرجوكم بسط الجواب. وفقكم اللَّه للصواب.
الإجابة:
كفارة القتل تجب على كل من قتل نفسا محرمة، أو شارك في قتلها: بمباشرة، أو بسبب خطأ، أو شبه عمد، بخلاف العمد المحض، فلا كفارة فيه، ومن ذلك ما يحصل في حوادث انقلاب السيارات، أو تصادمها، إذا حصل من السائق تعدٍّ، أو تفريط، وتوفي بسببه أحد، وحكم في ذلك بالدية شرعا، سواء حكم بها على السائق، أو على عاقلته، فإن الكفارة تجب عليه في ماله -سواء قبض الورثةُ الديةَ، أو عفوا عنها- وهي عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين؛ لقوله تعالى: {وََما كَانَ لُمِؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}(111). وتتكرر الكفارة بتكرر أنفس المتوفين بسببه، ويشترط التتابع في صيام الشهرين؛ فلا يفطر فيها بغير عذر شرعي يبيح له الفطر في نهار رمضان، حتى تنتهي. ومن لم يقدر على الصيام لعذر شرعي- كمرض، أو حر شديد- انتظر حتى يقدر، ولا يجزئه لو أطعم ستين مسكينا عن صيام الشهرين. فإن توفي قبل أن يصوم الشهرين، أو بعضها، فهي باقية في(2/65)
ذمته: كدين من الديون التي تجب عليه لحق اللَّه، فلا يصوم عنه وليه، ولا وارثه، ولا يجزئ عنه- ولو أوصى به- لأنه وجب بأصل الشرع. وقاعدة المذهب: أن الصوم الواجب بأصل الشرع لا يقضى عنه؛ لأنه لا تدخله النيابة في الحياة، فكذا بعد الموت- كقضاء رمضان-. فإن كان قد تمكن من الصيام، وفرط، أو تهاون؛ ولم يصم الشهرين أو بعضهما حتى مات، فإن وليه يطعم عنه عن كل يوم مسكينا. ويجب على الولي ذلك إن خلَّف الميت تركة، فإن لم يخلف تركة لم يجب عليه وجوبا، لكن يستحب له ذلك استحبابا؛ لبراءة ذمته -كقضاء دينه-. ذكره في "الإقناع" وشرحه. واللَّه أعلم.
[345] كفارة القتل
ما حكم من حصل له حادث سيارة فأصاب رجلا فقتله، وحكم عليه بالدية، هل تلزمه كفارة القتل أم لا ؟
الإجابة:
كل من قتل شخصا معصوم الدم -خطأ أو شبه عمد- فعليه الكفارة، سواء قتله مباشرة، أو تسببا، أو شارك في قتله؛ وهي عتق رقبة مؤمنة سليمة من العيوب الضارة بالعمل، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، ولا إطعام فيها. واللَّه أعلم.
[346] هل تعتبر موالاة الجلد في الحدود؟
من وجب عليه حد، أو تعزير. هل يشترط لإقامته عليه الموالاة، وعدم تفريقه أم يجوز أن يفرق عليه في مجالس متعددة؟
الإجابة:
الحمد لله. المشهور من المذهب أن الموالاة ليست بشرط. ذكره في "الإقناع" و"المنتهى" وغيرهما، لكن حكى ابن مفلح في "الفروع" عن الشيخ تقي الدين -رحمه اللَّه- أن في هذا نظرًا، واستظهره صاحب "الفروع" ، وإليك بعضا من عباراتهم -رحمهم اللَّه-: قال في "الفروع" (6/55) : ولا تعتبر الموالاة في الحدود، ذكره القاضي وغيره في موالاة الوضوء؛ لزيادة العقوبة، وسقوطه بالشبهة. وقال شيخنا: فيه نظر، وما قاله أظهر. انتهي. وقال شيخنا عبد الرحمن ابن ناصر بن سعدي في "الفتاوى السعدية" ص (413) ضمن "الأعمال الكاملة" : قولهم: ولا تعتبر الموالاة في الجلد، هل هو صحيح؟(2/66)
الجواب: الصحيح اعتبار الموالاة؛ لأنه يفوت المقصود من النكاية والزجر إذا لم تحصل الموالاة؛ ولأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فرق الحد تفريقا طويلا يفوت الموالاة. واللَّه أعلم.
باب حد القذف [347] حد القذف
سائل يسأل عن حكم حد القذف، وهل هو حق لله أم للآدمي، وهل يثبت بشهادة رجلين أم يحتاج إلى شهادة أربعة رجال؟
الإجابة:
حد القذف ثمانون جلدة، وهو حق للمقذوف، فلا يقام الحد على القاذف إلا بطلبه، وإن عفا عنه سقط الحد.
ويثبت باعتراف القاذف، أو بشهادة رجلين، ولا يحتاج إلى أربعة رجال. ولا دخل لشهادة النساء في ذلك، ولا ليمين المدعي مع شاهد واحد. واللَّه أعلم.
[348] ذبائح أهل الكتاب
يسأل عن إنسان سافر لأمريكا، فهل يجوز له أن يأكل من اللحم الموجود هناك أم لا؟
الإجابة:
الحمد لله. قال اللَّه تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ} (112) . قال ابن عباس: طعامهم: ذبائحهم. فما ذكاه أهل الكتاب من بهيمة الأنعام وغيرها مما هو مباح اللحم فهو حلال للمسلم.
وأما إن كان المذكي وثنيا، أو مجوسيا، أو مرتدا، أو دهريا غير متدين بدين، أو كان زنديقا، أو درزيا، أو إسماعيليا، ونحوه، فلا يحل ما ذكاه أحد من هؤلاء، ومن في معناهم. وكذلك ما يذبح للمسيح، أو للعزير، أو غيره من معبوداتهم، وكذلك ما يذبح باسم المسيح، أو باسم العزير، أو باسم الكنيسة، أو باسم عيدهم، فلا يحل شيء من ذلك. واللَّه أعلم.
[349] أكل لحم الجَلَّالة
عندنا دجاج وبعض الغنم تخرج إلى السوق فتأكل مما تجده في الأسواق، وربما أكلت شيئًا من النجاسات، فهل يحل لنا أكل البيض وشرب اللبن أم يقال: إنها نجسة بأكلها النجاسات؟
الإجابة:(2/67)
هذه تسمى الجلالة -بفتح الجيم وتشديد اللام- من الجِلَّة وهي: البعرة، وهي: ما كان أكثر مأكولها النجاسة. وقد ورد فيها الحديث عن ابن عمر. قال: نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة وألبانها(113). رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي، وقال: حسن غريب.
قال العلماء: يحرم أكل لحم الجلالة وبيضها وشرب لبنها -وهي التي أكثر علفها نجاسة- حتى تحبس ثلاثًا وتطعم الطاهر فقط؛ حتى تزول بقايا النجاسات التي تغذت بها، ويخلفها ما أكلته من الطاهرات، ويكره ركوبها؛ لأجل عرقها.
ويروى عن ابن عمر راوي الحديث: أنه إذا أراد أكلها حبسها ثلاثًا، حتى تطعم من الطاهرات فقط، فإن لم يكن أكثر علفها النجاسة، أو شك في ذلك لم تحرم؛ لأن الأصل الحل والطهارة. واللَّه أعلم.
[350] الزرع والخضار الذي يسمد بالنجاسة
رجل يسأل عن حكم سماد الزرع والخضراوات ونحوها بالسماد النجس؛ كروث الحمار والعذرة ونحوها. هل يجوز أم لا، وإذا سمد بذلك، فهل يحل الأكل منه وهو بهذه الحالة؟
الإجابة:
صرح الفقهاء -رحمهم اللَّه- بأنه يحرم أن يسمد الإنسان الزرع والبطيخ ونحوه بالسماد النجس، فإذا فعل فإنه ينجس بذلك، ولا يحل أكله إلا أن يسقى بعد ذلك بطاهر يستهلك عين النجاسة به فإنه يطهر بذلك ويحل، وإلا فلا. هذا المشهور من المذهب.
قال في "الإقناع (114) و"شرحه" : وما سقي بنجس أو سمد بنجس أي: أصلح بالسماد من تراب أو سِرْقِين من زرع وثمر يحرم وينجس بذلك؛ لما روى ابن العباس قال: كنا نكري أرض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، ونشترط عليهم أن لا يَدْمُلُوها بعذرة الناس (115) .(2/68)
قال في "القاموس" (116): ودَمَلَ الأرضَ دَمْلًا ودَمَلَانا -محركة- أصلحها، أو سَرْقَنها، فتدمَّلت صلحت به. انتهى. ولولا أن ما دمل فيها يحرم بذلك لم يكن في اشتراط ذلك فائدة؛ ولأنه تتربى بالنجاسة أجزاؤه، والاستحالة لا تطهر عندنا، فإن سقي الثمر أو الزرع -أي: بعد أن سُمِّد- بطاهر يستهلك به عين النجاسة به طهر وحل؛ لأن الماء الطهور يطهر النجاسات، وكالجلالة إذا حبست وأطعمت الطاهرات، وإلا - أي وإن لم يسق بطاهر يستهلك عين النجاسة - فلا يحل لما تقدم. اهـ.
وقال في "المقنع" : وما سقي بالماء النجس من الزرع والثمر محرم، فإن سقي بالطاهر طهر وحل. وقال ابن عقيل: ليس بنجس ولا محرم، بل يطهر بالاستحالة كالدم يصير لبنًا.
وقال في حاشية "المقنع" : قوله: وما سقي بالماء النجس... إلخ. وهذا المذهب نص عليه. وقال ابن عقيل: يكره ولا يحرم. وجزم به في "التبصرة" . وهذا قول أكثر الفقهاء منهم أبو حنيفة والشافعي، وكان سعد ابن أبي وقاص -رضي الله عنه- (يَدْمُلُ أرضَه بالعُرَّة) ويقول: مكتل عرة مكتل بر. والعُرَّة: عذرة الناس. ولنا ما روى ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- قال: كنا نكري أرض رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ونشترط عليهم أن لا يدملوها بعذرة الناس (117) . ولولا أن ما يزرع فيها يحرم لم يكن في الاشتراط فائدة.
فعلى هذا تطهر إذا سقيت الطاهرات، كالجلالة إذا حبست وأطعمت الطاهرات. واللَّه أعلم.
[351] مسحوق البردقان المسمى "الشمة"
ما قولكم في مسحوق البردقان المسمى الشمة (السويكة) الذي يستعمل في بعض الجهات، يضع منها أحدهم في فمه ويظل يبزق منها، ويزعم أنه يجد في ذلك لذة و (كيفا) ، وهي مجموعة من أخلاط منها تنباك، ومنها كربونات الصوديوم، وغيرها. فما حكم استعمالها؟
الإجابة:(2/69)
الذي ظهر لنا مما ذكرتم، ومما أخبرنا به من يعرف حقيقة هذا المسحوق وصفة استعماله وحالة مستعمليه أنه خبيث مستقذر ينهى عنه نهي تحريم؛ لأنه من مسحوق التنباك المحرم، ولا يتغير الحكم بتغير اسمه، ولا بخلطه بغيره، ولا باختلاف صفة استعماله. قال اللَّه -سبحانه وتعالى-: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (118) .
وذكر العلماء في الخمر أنها حرام مطلقا سواء شربت صرفا، أو مزجت بشيء، أو لتت بسويق، أو تمضمض بها فوصلت إلى حلقه أو استعط بها.
وفي الحديث: "يأتي في آخر الزمان أقوام يشربون الخمر فيسمونها بغير اسمها" (119). وفي الحديث الآخر: "قاتل اللَّه اليهود، إن اللَّه لما حرم شحومها جَمَلُوه، ثم باعوه فأكلوا ثمنه" (120) .
وإن كانت كربونات الصوديوم المخلوطة معه من جنس التراب فقد صرح العلماء بالنهي عن أكل الطين والتراب؛ لما فيه من الضرر. نص عليه الإمام أحمد -رحمه اللَّه-، فإن قيل: إن استعمالهم لها في الفم، وهو في حكم الخارج. فالجواب: أنه إذا وضعها في فمه فلا بد أن يتسرب منه إلى الحلق شيء مع الريق وحركة اللسان مهما تحرز في بصقه؛ ولأن للعروق والبشرة اتصالا وامتصاصا وتغذية، ولولا أنها كذلك لم يألفوها ويتلذذوا بها ويتألموا لفقدها؛ ولهذا يحكم بفطر من استعملها وهو صائم، ولو قال: أنا لا أبتلعها. وهم بأنفسهم يعترفون بهذا. واللَّه أعلم.
باب الذكاة [352] التذكية بالعظم
سائل يسأل بقوله: صدت طيرا، وطرحته وفيه حياة مستقرة، فلم أجد شيئا أذبحه به غير عظم فذبحته، وأكلته. وقال لي إنسان: إن التذكية بالعظم لا تجوز، ولا تحل، فهل هذا صحيح؟ نرجوكم الإفادة عن ذلك.
الإجابة:
ورد في الحديث: عن رافع بن خديج - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أنهر الدم، وذكر اسم اللَّه عليه فكل، ليس السن والظفر: أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة" (121) متفق عليه.(2/70)
وفي الباب أحاديث أخرى تدل على ما دل عليه الحديث المذكور؛ فأخذ الفقهاء بعمومها. وقالوا: كل ما ذكى به الإنسان، وأنهر الدم فهو حلال إلا السن والظفر. وهذا المشهور من المذهب. وأنه لا يستثنى من العظام إلا السن خاصة، وقال الشيخ عبدالرحمن ابن سعدي في "الفتاوى السعدية" : والصحيح القول الآخر في المذهب اختاره ابن القيم، وغيره: أن جميع العظام لا تحل الذكاة بها، كما علل بذلك النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: "أما السن فعظم" ، فتعليل الخاص بالمعنى العام يدل على ربط الحكم بالمعنى العام، وأنه بمنزلة نهيه عن الذبح بكل عظم. وهذا واضح ولله الحمد.
ومن الحكمة في ذلك أنها إن كانت نجسة فلنجاستها، وإن كانت طاهرة فلتنجيسها على إخواننا من الجن. واللَّه أعلم (122) . انتهى.
[353] ذبح الشاة إلى غير القبلة
سائل يسأل عن حكم ذبح الشاة، ونحوها إذا ذبحت على جنبها الأيمن، أو غير موجهة إلى القبلة، أو ذبحها غلام لم يبلغ خمس عشرة سنة، أو ذبحتها امرأة ... إلى آخره.
الإجابة:
السنة ذبح الشاة، ونحوها على جنبها الأيسر موجهة إلى القبلة، فإن ذبحها على جنبها الأيمن فلا بأس. وكذلك لو ذبحها موجهة إلى غير القبلة، فهي حلال، ولا حرج؛ لأن استقبال القبلة بها سنة وليس بشرط، ولا واجب.
ويجوز أن يذكيها الغلام إذا كان مميزا، أو مراهقا، ولو لم يبلغ، أو كان المذكي أقلف لم يختتن، أو أعمى. كما يجوز أن تذكيها المرأة، ولو كانت حائضا، أو نفساء، أو عليها جنابة، بخلاف ما لو ذكاها سكران، أو مجنون، أو طفل لم يميز فإنها لا تحل؛ لأن هؤلاء لا يصح منهم قصد التذكية.
وشروط الذكاة أربعة: الأول: أهلية المذكي، بأن يكون عاقلا مسلما، أو كتابيا، فلا يباح ما ذكاه الوثني، والمجوسي، والمرتد.(2/71)
الشرط الثاني: الآلة، فتباح الذكاة بكل محدد، ينهر الدم بحده، سواء كان من حديد، أو حجر، أو قصب، أو خشب، أو غيره، إلا السن والظفر؛ لحديث "ما أنهر الدم، وذكر اسم اللَّه عليه فكل، ليس السن والظفر" (123) متفق عليه.
الشرط الثالث: قطع الحلقوم وهو مجرى النفس، وقطع المَرِيء وهو مجرى الطعام والشراب، والأولى قطع أحد الودجين.
الشرط الرابع: التسمية عند الذبح، ويكره أن يذبح بآلة كالة، وأن يحدها والحيوان يبصره، وأن يوجهه إلى غير القبلة، وأن يكسر عنقه، أو يشرع بسلخه قبل أن تزهق نفسه ويبرد. واللَّه أعلم.
[354] هل تحل الذبيحة إذا ذبحها السارق؟
سائل يسأل عن سارق دخل حوش غنم، فوجد به خروفا فذبحه،ثم شعروا به، فهرب، فهل يحل الخروف بهذه التذكية أم يقال: هو حرام؛ لأن الذي ذكاه غير مالك له ولا مأذون له في تذكيته؟
الإجابة:
هذه المسألة قد سئل عنها الشيخ عبد اللَّه العنقري -رحمه اللَّه- فأجاب بقوله: المسألة ورد فيها حديث المرأة التي أضافت النبي صلى الله عليه وسلم ، لما ذبحت الشاة التي أخذتها بدون إذن أهلها، فقصت عليه القصة. فقال: "أطعموها الأسارى" (124) . قال شيخ الإسلام - رحمه اللَّه-: فهذا دليل على أن المذبوح بدون إذن أهله يمنع منه المذبوح له دون غيره، كما أن الصيد إذا ذبحه الحلال لمحرم حرم على المحرم دون الحلال. وقد نقل صالح عن أبيه قال: قيل له: إن رجلا سرق شاة فذبحها. قال: لا يحل أكلها له. قلت: فإن ردها على صاحبها. قال: تؤكل إذا.
إذا فهمت هذا، فهي لا تحل للذابح، ولو أذن له المالك بعد الذبح؛ عقوبة له، ولا لمن ذبحت له قياسا على صيد الحلال للمحرم، كما أشار إليه الشيخ تقي الدين. وأما مَن عدا ما ذكر فهو باق في حقه على الإباحة للمالك، وغيره. انتهى من "الدرر السنية" .
[355] لا يجوز القسم برب القرآن(2/72)
رجل يقول هل يجوز القسم برب القرآن؟ وذكر أنه سمع حوارا بين طلبة العلم، قال أحدهم: اللَّهم يا رب القرآن نجحني في الاختبار. فقال الآخر: لا يجوز السؤال برب القرآن، ولا القسم به؛ لأن القرآن صفة من صفات اللَّه، فليس مربوبا، ولا مخلوقا. فما حكم مثل هذا القسم وإذا قلتم بعدم جوازه فما الدليل عليه من كلام أهل العلم؟
الإجابة:
لا يجوز أن يقسم الإنسان برب القرآن. فلا يقول: ورب القرآن، ولا يجوز أن يدعو فيقول: اللَّهم يا رب القرآن اغفر لي ولوالدي.
ووجه المنع: أن القرآن صفة من صفات اللَّه تعالى، فلا يكون مربوبا، فاللَّه تعالى هو رب العالمين، والقرآن صفة من صفاته، فهو كلام اللَّه حقيقة منزّل غير مخلوق. منه بدأ، وإليه يعود.
ومن قال: إن القرآن مربوب فمقتضاه أنه مخلوق؛ لأنه ليس في الوجود إلا خالق ومخلوق، ورب ومربوب. ومن قال: إن القرآن مربوب فقد قال بقول الجهمية وأضرابهم، الذين يقولون بخلق القرآن.
وقد نص السلف -رضوان اللَّه عليهم- على معنى هذا، وصرحوا به.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه- في مجموع الفتاوى" في أثناء كلام له: وأما قول ابن عباس. فقال الإمام ابن أبي حاتم: حدثنا أبي قال: حدثنا ابن صالح بن جابر الأنماطي: حدثنا علي بن عاصم، عن عمران بن حدير، عن عكرمة. قال: كان ابن عباس في جنازة فلما وضع الميت في لحده قام رجل فقال: اللَّهم رب القرآن، اغفر له، فوثب ابن عباس فقال: مه، القرآن منه. زاد الصهبي في حديثه: فقال ابن عباس:القرآن كلام اللَّه، وليس بمربوب منه خرج، وإليه يعود(125).
ثم قال شيخ الإسلام: فلما ابتدعت الجهمية هذه المقالات في أثناء المائة الثانية أنكر ذلك سلف الأمة وأئمتها، ثم استفحل أمرهم في أوائل المائة الثالثة بسبب من أدخلوه في شركهم وفريتهم من ولاة الأمور.(2/73)
وقال في موضع آخر من مجموع الفتاوى" : وقد رواه الطبراني في كتاب "السنة" ، وساق بسنده إلى عكرمة قال: كان ابن عباس في جنازة، فلما وضع الميت في لحده. فقام رجل فقال: اللَّهم رب القرآن أوسع عليه مدخله، اللَّهم رب القرآن اغفر له، فالتفت إليه ابن عباس فقال: مه، القرآن كلام اللَّه، وليس بمربوب. منه خرج وإليه يعود. انتهى.
فظهر بهذا أنه لا يجوز أن يقال: رب القرآن، لا بقسم، ولا بدعاء، ولا بغيرهما.
باب كفارة اليمين [356] كفارة الأيمان
وقع بيني وبين أخي نزاع، وحلفت باللَّه تعالى عدة أيمان: أني ما أكلمه، فقاطعته سنتين، ولم أدخل بيته، وهو في كل مناسبة يحاول الاتصال بي، ويوسط لي واسطة خير؛ ليصلحوا بيننا، فأكرر لهم الأيمان الكثيرة بأني لا أكلمه، والآن ندمت، وأحب أصالحه، وأكلمه، ولكن مشكلتي هذه الأيمان الكثيرة التي لا أحصيها، وكفاراتها، فهل أجد عندكم حلا لمشكلتي؟
الإجابة:
مشكلتك من ناحية الأيمان بسيطة، وحلها متيسر من فضل اللَّه {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (126) . ولكن الأهم من ذلك مقاطعتك لأخيك طيلة هذه المدة، فهذا حرام عليك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : "لا يحل للرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان، فيعرض هذا، ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام" (127) متفق عليه. من حديث أبي أيوب الأنصاري.
وما دمت قد رجعت عن رأيك، وندمت على ما فَرَطَ منك، فالحمد لله وعليك التوبة، وإعادة العلاقات الطيبة مع أخيك، والتسامح معه.(2/74)
وأما الكفارة فكل هذه الأيمان التي كررتها يكفيك عنها كفارة يمين واحدة؛ لأنها إنما كررت على شيء واحد؛ وهو مكالمتك لأخيك. وقد صرح العلماء - رحمهم اللَّه - بأنه إذا حلف أيمانا متكررة باللَّه تعالى على شيء -أو على أشياء- فحنث فيها، ولم يكفر عن شيء منها، فإنه يكفيه كفارة واحدة عن الجميع نصا؛ لأنها كفارات من جنس واحد، فتتداخل كالحدود. فعلى هذا عليك أن تكفر كفارة واحدة؛ وهي على التخيير: أولا: بين إطعام عشرة مساكين، لكل مسكين مُدٌّ من البر، أو نصف صاع من غيره، أو كسوتهم: للرجل ثوب يكفيه في صلاته، وللمرأة درع وخمار كذلك، أو عتق رقبة مؤمنة سليمة من العيوب، فإن لم تجد ما تطعم به عشرة المساكين، فتصوم ثلاثة أيام متتابعات؛ لقوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} الآية(128) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "إني واللَّه إن شاء اللَّه لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني" (129) . واللَّه المستعان.
باب جامع الأيمان المحلوف بها [357] من حرمت على نفسها لباسا خاصا
امرأة حرمت على نفسها أن تلبس الشوال الضيق، وبعد مدة عادت إلى لبسه، وتسأل ما عليها في ذلك؟
الإجابة:(2/75)
عليها كفارة يمين؛ لقوله تعالى: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (130) الآية. قال العلماء: كل من حرم حلالا عليه من طعام، أو لباس، أو غيرهما، سوى زوجته، ففي تحريمها خلاف، أو حلف على فعل شيء، أو تركه، ثم حنث في ذلك، أو أراد أن يحنث فيه، فكفارته كفارة يمين، وهي المذكورة في قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ}(131) . والإطعام أسهلها في الوقت الحاضر، فتطعم عشرة مساكين، لكل مسكين ربع الصاع. واللَّه أعلم.
[358] الحلف بالطلاق
سائل يسأل عن حكم كثرة الحلف بالطلاق والتحريم، وما حكم من حنث وهو قد حلف بالطلاق، أو التحريم؟
الإجابة:
قد نهى اللَّه عن كثرة الحلف وأمر بحفظ الأيمان. فقال تعالى: {وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ}(132) . ولا يجوز الحلف بغير اللَّه، ومن حلف بطلاق،أو تحريم فحنث، فإن كان حالفًا بالطلاق وقع الطلاق الذي حلف عليه، على المشهور من المذهب، وإن كان حلفه للتحريم فالصواب أن كفارته كفارة يمين: عتق رقبة، أو إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، فإن لم يجد، فصيام ثلاثة أيام، كما ذكر اللَّه في كتابه. واللَّه الموفق.
باب النذر [359] النذر
سائل يسأل عن نذر نذره بقوله: لله علي نذر إذا نجحت في الامتحان فسوف أحفظ من القرآن الكريم أجزاء، عيَّنها في نذره وعين المدة التي سيحفظ فيها ولكنه لم يوف بنذره؛ لظروف تعلل بها، اللَّه أعلم بها. فما حكم هذا النذر؟
الإجابة:(2/76)
لقد أثنى اللَّه على الموفين بنذورهم فقال تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا}(133). وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "من نذر أن يطيع اللَّه فليطعه، ومن نذر أن يعصي اللَّه فلا يعصه" (134) . وهو في الصحيح.
والنذر الصحيح ستة أقسام:
الأول: النذر المطلق، كقوله: لله علي نذر، ولا يسمي شيئا، فهذا فيه كفارة يمين.
الثاني: نذر اللَّجَاج والغضب، كقوله: إن كلمتك أو إن دخلت دارك فعلي الحج، أو صيام شهر، ونحوه، فيخير بين فعله وبين كفارة يمين.
الثالث: نذر المباح، كقوله: لله علي أن أخرج للسوق اليوم، ونحوه، فيخير بين فعله، وبين كفارة يمين.
الرابع: نذر المكروه، كقوله: علي أن أطلق زوجتي، فيسن له أن يكفر، ولا يفعله، فإن فعله فليس عليه كفارة.
الخامس: نذر المعصية، كقوله: علي أن أشرب الخمر، فيحرم الوفاء به، وإذا لم يفعله فعليه كفارة يمين.
السادس: نذر التبرر والطاعة: كنذرك أيها السائل وهذا النوع يلزم الوفاء به بكل حال ما لم يمنعه مانع شرعي.(2/77)
فعليك يا أخي الكريم أن توفي بنذرك، وإذا وفيت برئت ذمتك، وسلم دينك، وحصل لك الخير الذي تؤمله إن شاء اللَّه، ويبقى عليك مسألة تأخر فعل المنذور عن وقته، فهذا أمره سهل، تكفر عنه كفارة يمين، وهي ثلاثة أشياء على التخيير، كما قال تعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(135) . وأسهلها عليك إطعام عشرة مساكين لكل مسكين ربع صاع من البر، وعليك أن لا تعود إلى النذر مرة أخرى، فقد ورد في الحديث: "إن النذر لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل" 136؛ ولهذا قال العلماء: إن النذر من غرائب العلم، حيث كان عقده مكروها، منهيا عنه، والوفاء به محمودا مأمورا به. والقاعدة الشرعية في جميع الأمور: إن الوسائل لها أحكام المقاصد إلا هذه المسألة. واللَّه أعلم.
[360] الوفاء بالنذر مع الحاجة
امرأة نذرت إن شفاها الله أن تذبح ناقتين جميعا بوقت واحد فشفاها الله، وهي الآن فقيرة لا تستطيع الوفاء بنذرها، فما حكم ذلك؟
الإجابة:
الحمد لله، هذا من نذر التبرر المعلق على شفائها، وحيث شفاها اللَّه، فيلزمها الوفاء بنذرها؛ لحديث: "من نذر أن يطيع اللَّه فليطعه، ومن نذر أن يعصي اللَّه فلا يعصه" (137) . فإن كانت فقيرة، فتبقى الناقتان بذمتها حتى يغنيها اللَّه من فضله، ثم يلزمها الوفاء بالنذر كدين الآدمي. واللَّه الموفق.
[361] هل يصح الوفاء بالنذر في غير مكان انعقاده؟(2/78)
سائل يسأل عن نذر نذره شخص وهو في بلد ما، فهل يجوز أن يفي بنذره وهو في بلد آخر؟
الإجابة:
عقد النذر مكروه ومنهي عنه، والوفاء به واجب ومأمور به. وهذا من غرائب مسائل العلم؛ حيث كان ابتداء عقده منهيا عنه، والوفاء به واجب مأمور به، مع أن القاعدة: إن الوسائل لها أحكام المقاصد.
فأما ما ورد من النهي عنه: فمثل حديث نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن النذر، وقال: "إن النذر لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل" (138) . متفق عليه.
وأما ما ورد من الأمر بالوفاء به: فمثل حديث: "من نذر أن يطيع اللَّه فليطعه، ومن نذر أن يعصي اللَّه فلا يعصه" (139) . وقد أثنى اللَّه على الموفين بالنذر في كتابه الكريم، فقال: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا}(140) إذا علم هذا، فلا بأس لمن نذر نذرا وهو في بلد ما أن يوفي بنذره وهو في بلد آخر. واللَّه أعلم.
[362] هل يصح الوفاء بالنذر عن المتوفى؟
إن والدي نذر نذرا من أجلي، وكان عمري آنذاك سنة. فقال: إنِ اللَّه مشى ابني إلى المكان الفلاني فعلي نذر تيس أذبحه لله تعالى. وقد مشيت من فضل اللَّه، ولكن والدي توفي قبل أن يفي بنذره، فهل أقوم بوفاء نذره عنه؟
الإجابة:
هذا من نذر التبرر المعلق على حصول أمر مرغوب، وهو مما يجب الوفاء به، فإذا كان أبوك عاش حتى مشيت إلى المكان المذكور فقد وجب عليه ذلك النذر، فإذا مات ولم يفعله شرع لك فعله عنه، فإن كان قد خلف مالا فهو واجب في تركته؛ لثبوته في ذمته كقضاء الديون من عادي تركته؛ ولحديث: "اللَّه أحق بالوفاء" (141) . واللَّه أعلم.
[363] ما ورد بشأن الإفتاء والمفتين(2/79)
وصل كتابك الأول، المتضمن ثلاث مسائل، وقد نشر الجواب على السؤال الأول، ثم وصل كتابك الثاني والثالث الذي تلومنا فيه على تأخير الجواب، وتذكر أن هذه المسائل خفيفة لا تستوجب التأخير، وأطلت سامحك اللَّه بالعتاب، ومع أنك طالب علم، وربما أنك قد سمعت بعض ما ورد في شأن الإفتاء والتسرع فيه، إلا أني أزيدك فائدة قد تخفى عليك، وهي أن الإفتاء أمره عظيم.
كان السلف -رحمهم اللَّه تعالى- يهابون الفتيا، ويشددون فيها، ويتدافعون عنها. قال النووي (142): روينا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، يُسأل أحدهم عن المسألة، فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول. وفي رواية: ما منهم من يحدث بحديث إلا ود أن أخاه كفاه إياه، ولا يستفتى عن شيء إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا.اهـ. وأنكر الإمام أحمد وغيره على من يهجم على الجواب. وقال: لا ينبغي للرجل أن يجيب في كل ما يستفتى فيه، وقال أيضا143: إذا هاب الرجل شيئا فلا ينبغي أن يُحمل على أن يقول. وقال: لا ينبغي للرجل الفتيا حتى يكون فيه خمس خصال:
إحداها: أن تكون له نية، أي يخلص في ذلك لله تعالى.
الثانية: أن يكون له حلم، ووقار، وسكينة.
الثالثة: أن يكون قويا على ما هو فيه، وعلى معرفته؛ وإلا قد عرض نفسه لعظيم.
الرابعة: الكفاية؛ وإلا أبغضه الناس، فإنه إذا لم تكن له كفاية احتاج إلى الأخذ مما في أيديهم، فينفرون منه.
الخامسة: معرفة الناس، أي ينبغي له أن يكون بصيرا بمكر الناس، وخداعهم، ولا ينبغي له أن يحسن الظن بهم، بل يكون حذرا فطنا مما يصورونه في سؤالاتهم؛ لئلا يوقعوه في المكروه.
قال الخطيب (144) : وينبغي للإمام أن يتصفح أحوال المفتين، فمن صلح للفتيا أقره، ومن لا يصلح منعه، ونهاه أن يعود، وتوعده بالعقوبة إن عاد.
إذا عُرف هذا، فهناك مسائل من أحكام الفتيا ينبغي معرفتها، وملاحظتها:(2/80)
أولا: أنه لا يلزم المفتي أن يجيب على كل ما يسأل عنه، فما زال العلماء سلفا وخلفا يتوقفون في بعض المسائل، ويقولون: (لا أدري) ، فهذا عبداللَّه بن عمر -رضي اللَّه عنهما- سئل عن ميراث العمة (145) ، فقال: (لا أدري) . فقال السائل: أنت لا تدري! قال: نعم، اذهب إلى العلماء في المدينة، فاسألهم، فلما أدبر، قبّل ابن عمر يدي نفسه. وقال: نعِمّا. قال أبو عبدالرحمن؛ يعني نفسه، سئل عما لا يدري، فقال: (لا أدري) . وقال الإمام مالك (146) : من فقه العالم أن يقول: (لا أعلم) ، فإنه عسى أن يتهيأ له الخير. وقال الشعبي (147) : (لا أدري) نصف العلم.
ثانيا: أنه لا يلزم جواب ما لم يقع من المسائل. قال ابن عباس لمولاه عكرمة (148) : اذهب فأفت الناس، وأنا لك عون، فمن سألك عما يعنيه فأفته، ومن سألك عما لا يعنيه فلا تفته، فإنك تطرح عن نفسك ثلثي مؤنة الناس. وكان بعض السلف إذا سئل عن المسألة يقول للسائل: هل وقعت؟ فإن قال: لا، لم يجبه، وقال: دعنا في عافية. وهذا لأن الفتوى بالرأي لا تجوز إلا عند الضرورة، فالضرورة تبيحه كما تبيح أكل الميتة عند الاضطرار ما لم يكن فيها نص ولا إجماع.
ثالثا: أنه لا يلزم جواب ما لا يحتمله السائل. وفي البخاري (149) : قال علي -رضي الله عنه-: حدثوا الناس بما يعرفون؛ أتحبون أن يُكذّب اللَّه ورسوله. وقال ابن عباس لرجل سأله عن تفسير آية: وما يؤمنك أني لو أخبرتك بتفسيرها كفرت به.
رابعا: لا يلزم جواب ما لا نفع فيه، وما كان من المسائل التافهة، أو التي فيها تعنت، أو مغالطة، روى الإمام أحمد (150) عن ابن عباس أنه قال عن الصحابة: ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم. وسئل الإمام أحمد(151) عن مسألة في اللعان. فقال: سل - رحمك اللَّه- عما ابتُليت به. وسُئل (152) عن يأجوج ومأجوج: أمسلمون هم؟ فقال للسائل: أَحْكَمْتَ العلم حتى تسأل عن هذا؟!(2/81)
خامسا: للمفتي رد الفتيا إذا لم يأمن غائلتها، وخاف من ترتب شر أكثر من الإمساك عنها، ترجيحا لدفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما.
سادسا: يجوز للمفتي أن يعدل عن جواب المسئول عنه إلى ما هو أنفع منه، لا سيما إذا تضمن ذلك تبيان ما سأل عنه.
سابعا: ينبغي للمفتي إذا سأله المستفتي عن شيء فمنعه منه، وكانت حاجته تدعو إليه أن يدله على ما هو عوض عنه، فيسد عنه باب المحظور، ويفتح له باب المباح.
ثامنا: للمفتي أن يجيب السائل بأكثر مما سأل، وقد ترجم البخاري على هذا في "صحيحه" (153) .
تاسعا: إذا أفتى المفتي بالفتوى فينبغي له أن ينبه السائل على ما يجب الاحتراز منه خشية الوهم.
وبالجملة فالفتوى أمرها عظيم، وخطرها جسيم، فلا ينبغي التسرع فيها، ولا التساهل. وسئل الإمام مالك (154) عن مسألة، فقال: لا أدري، فقيل: إنها مسألة خفيفة، سهلة، فغضب وقال: ليس في العلم شيء خفيف أما سمعت قول اللَّه عز وجل {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} (155) . فالعلم كله ثقيل، وخاصة ما يسأل عنه يوم القيامة. وقد تقدم قولة الإمام أحمد: إنه ينبغي للمفتي أن يكون فيه خمس خصال، فذكر منها أن يكون له حلم، ووقار، وسكينة. وقال سُحنون بن سعيد(156): أجسر الناس على الفتيا أقلهم علما؛ يكون عند الرجل الباب الواحد من العلم يظن أن الحق كله فيه. وقال أيضا (157) : إني لأحفظ مسائل، منها ما فيه ثمانية أقوال من ثمانية أئمة من العلماء، فكيف ينبغي أن أعجل بالجواب حتى أتخير، فلمَ أُلام على حبسي الجواب؟
وقال ابن سيرين (158): قال حذيفة: إنما يفتي الناس أحدُ ثلاثة: إما عالم، أو أمير لا يجد بُدًّا، أو أحمق متكلف. قال ابن سيرين: فلست بواحد من هذين، ولا أحب أن أكون الثالث؛ يعني الأحمق المتكلف.(2/82)
وفي كلام حذيفة هذا دليل على أن الإنسان المتعين للفتوى، الذي لا يجد بُدًّا منها، له من الأحوال، وملابسة الظروف ما يسوغ له أن يفتي فيما يرد عليه، ولو بغلبة الظن، فإنه إذا وقعت المسألة، وتعين له الجواب، وصَدَق في اللجوء إلى اللَّه تعالى أن يلهمه الصواب في هذه الواقعة، وانبعث من قلبه الافتقار إلى ربه أن يفتح له طريق السداد- صارت المسألة أشبه بحال الضرورة فيكون التوفيق إلى الصواب أقرب. واللَّه الموفق للصواب، لا رب غيره، ولا إله سواه، سبحانه وبحمده، وصلى اللَّه على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
باب الدعاوى و البينات [364] إقامة المدعي شاهدا واحدا ولم يحلف معه
الإجابة:
إذا ادعى شخص على آخر بدعوى، فأنكره، وأقام بذلك شاهدا واحدا فقبل القاضي شهادته، وقال له: احلف مع شاهدك؛ لتستحق الحكم عليه فقال: لا أحلف، ولكني أرضى بيمين المدعى عليه. فإن حلف المدعى عليه على نفي دعواه، وحكم الحاكم سقطت بذلك الدعوى.
فلو عاد المدعي بعد هذا وقال: أنا أحلف مع شاهدي، لم يمكن من ذلك؛ لأنه نكل عن اليمين في أول الأمر، مع تمكنه منها، وقدرته عليها فلما تركها باختياره لم يكن له أن يرجع إليها، ولما في ذلك من احترام حكم القاضي عن التلاعب بالأحكام.(2/83)
فإن كان عود المدعي إلى بذل اليمين قبل حلف المُنْكِر، فلا مانع من ذلك، لكن نظرا لالتوائه، وتردده مما يفهم منه اللَّدَد في الخصومة لا تقبل منه اليمين في ذلك المجلس، وإنما تقبل منه في جلسة أخرى، وهذا من باب التعزير له على قدر ما بدر منه. ذكره في "كشاف القناع" (159 ) نقلا عن "الشرح الكبير" و"المبدع" وإليك عبارة "الإقناع" و"شرحه" قال: وإن كان له - أي: المدعي- شاهد واحد في المال، أو ما يقصد منه المال: كالوكالة في المال، عرفه الحاكم أن له أن يحلف مع شاهده، ويستحق بلا رضا خصمه؛ لما يأتي في الشهادات من أنه عليه السلام قضى باليمين والشهادة. فإن قال المدعي: لا أحلف، وأرضى يمينه، استحلف له، فإذا حلف سقط عنه الحق، أي انقطعت الخصومة، كما يعلم مما تقدم وما يأتي. فإن عاد المدعي بعدها وقال: أنا أحلف مع شاهدي، لم يستحلف؛ لأن اليمين فعله، وهو قادر عليها فأمكنه أن يسقطها بخلاف البينة.
وإن عاد قبل أن يحلف المدعى عليه فبذل المدعي اليمين لم يكن له ذلك في هذا المجلس. ذكره في "الشرح" و"المبدع" . انتهى.
[365] من شهد قبل أن يستشهد
وقعت لي مسألة أهمتني، وذلك أنه كان عندي شهادة لصاحب لي فيما بينه وبين مقاول، وأنكره المقاول، وأنا لدي شهادة تفصل بينهما، ولم يطلب مني صاحبي أداء هذه الشهادة، فأردت أن أؤدي الشهادة قبل أن يطلبها مني، فنهاني بعض المشايخ، وقال: لا تفعل؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذم الذين يشهدون قبل أن يستشهدوا، وقال لي شيخ آخر: بل افعل، وأدها قبل طلبها، فقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على من يؤدي الشهادة قبل أن تطلب منه. فأيهما المصيب، وهل ما ذكرا من الأحاديث صحيح؟
الإجابة:(2/84)
كل من الشيخين اللذين تحدثت معهما على جانب من الصواب، وهذه المسألة ذكرها العلماء، وفصلوا القول فيها: بأنه إذا كان صاحب الحق يعلم بما لديك من الشهادة، فلا تشهد بها حتى يطلبها صاحب الحق، فإن أديتها قبل طلبه، وهو عالم بها، فأنت متهم. واستدلوا لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم : "خيركم قرني، ثم الذين يلونهم،... إن بعدكم قومًا يخونون، ولا يؤتمنون، ويشهدون، ولا يستشهدون، وينذرون، ولا يفون، ويظهر فيهم السِّمن" . رواه البخاري (160) .
أما إذا كان صاحب الحق لا يعلم بأن عندك له شهادة، أو علم، ولكن نسيها فيستحب لك أن تخبره بذلك؛ أداء لأمانة الشهادة، وقمعا للمبطل. ويدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم : "ألا أخبركم بخير الشهداء، الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسألها" (161) . رواه مسلم. وبهذا يحصل الجمع بين الحديثين، وتحصل المصلحة من الجانبين. وقال الشيخ تقي الدين بن تيمية -رحمه اللَّه-: الطلب العرفي، أو الحالي كالطلب اللفظي علمها أو لا. قال في "الإنصاف" : وهذا عين الصواب ويجب إعلامه إذا لم يعلم بها وهذا مما لا شك فيه(162). انتهى
[366] عدالة الشهود وجَرحهم
هل الأصل في الشهود العدالة حتى يأتي من يجرحهم أم العكس، وهل طلب تزكيتهم حق للخصم أم يطلبها القاضي، ولو لم يطلبها الخصم، وأيهما المقدم: بينة الجرح أم بينة التعديل؟
الإجابة:(2/85)
لا بد في البينة من العدالة، كما قال سبحانه وتعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ}(163) وقوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ} (164) الآية. ومنه يتضح أن شهادة الفاسق لا تقبل على مثله، ولا غيره، وأن العدالة في الدين معتبرة كما تقدم، وليس المراد به عدالة الصدق فقط، بل لا بد من اجتماع شروط العدالة فيهما؛ لأن الفاسق مظنة الكذب؛ إذ من اجترأ على اللَّه سبحانه وتعالى، واستهان بأمره حري بأن يستهين بغيره من باب أولى وأحرى. وأيضا فلا بد في البينة من العدالة ظاهرا وباطنا، كما هو المقدم في مذهب أحمد، وبه قال الشافعي، وأبو يوسف، ومحمد بن الحسن؛ لقول اللَّه سبحانه: {مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (165) ، ولا نعلم أنه مرضي حتى نعرفه، أو نخبر عنه، كما رُوي أن عمر -رضي الله عنه - أُتي بشاهدين. فقال لهما: لست أعرفكما، جيئا بمن يعرفكما، فأتيا برجل، فقال: تعرفهما؟ فقال: نعم، فقال عمر: صحبتهما في السفر الذي يتبين فيه جواهر الناس؟ قال: لا، قال: عاملتهما بالدنانير والدراهم التي تقطع فيهما الرحم؟ قال: لا. قال: كنت جارا لهما تعرف صباحهما ومساءهما؟ قال: لا. قال: يا ابن أخي، لست تعرفهما، جيئا بمن يعرفكما (166) . وقال الشيخ تقي الدين: وأما قول من يقول: الأصل في الإنسان العدالة فقد أخطأ، وإنما الأصل فيه الجهل والظلم؛ قال اللَّه تعالى: {وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}(167). وقال ابن القيم -رحمه اللَّه- في "البدائع" : إذا شك في الشاهد هل هو عدل أم لا لم يحكم بشهادته؛ إذ الغالب في الناس عدم العدالة. اهـ. وصرح أصحابنا وغيرهم: أن القاضي إذا عرف عدالة الشهود قال للمشهود عليه: قد شهدوا عليك، فإن كان عندك ما يقدح في شهادتهما فثبته عندي، فإن لم يقدح فيهما حكم عليه. وأيضا فالتزكية حق للشرع يطلبها الحاكم، وإن سكت عنها(2/86)
الخصم، كما هو الصحيح من مذهب أحمد.
وأيضا فالجرح مقدم على التعديل، فلو عدله اثنان، وجرحه اثنان، فالجرح مقدم، فتكون تلك الشهادة ساقطة، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وغيرهما. واللَّه أعلم.
آداب الأكل والشرب [367] من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت
الأثر الوارد في الأكل، وهو قولهم: "من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت" هل هو حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن رواه وما معناه؟
الإجابة:
نعم، هذا حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم . رواه ابن ماجه وغيره عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت" (168) . غير أن فيه ضعفًا، ذكره ابن مفلح في "الآداب" .
وفي معناه ما ورد عن جابر في "الموطأ" (169) قال: رأى عمر بن الخطاب لحمًا معلقًا بيدي. فقال: ما هذا يا جابر؟ قلت: اشتهيت لحمًا فاشتريته. فقال: أو كلما اشتهيتَ اشتريتَ يا جابر! أما تخاف هذه الآية {أَذْهَبتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا} (170)؟.
ويشهد لذلك آثار أخرى وردت في هذا الباب؛ وذلك لأن النفس ليس لها حد، فإذا صار هم الإنسان بطنه، واستمر دائمًا على السعي في تحصيل كل ما يشتهي أتعب نفسه ومعدته، وتجاوز به ذلك إلى السرف ولا بد.
وقد نعى اللَّه على أناس انهماكهم في الشهوات، بقوله تعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا}. فمن أذهب طيباته في حياته الدنيا واستمتع بها؛ نقصت درجته في الآخرة، لما ورد في هذا من الأحاديث الصحيحة.(2/87)
قال الإمام أحمد: يؤجر المرء في تركه الشهوات.ومراده: ما لم يخالف الشرع. وأما الامتناع عن أكل الطيبات مطلقًا بلا سبب شرعي، فليس من الدين في شيء؛ لأن اللَّه أمر بالأكل منها بقوله تعالى: {كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ} (171) الآية. قال الشيخ تقي الدين: من امتنع من أكل الطيبات بلا سبب شرعي فهو مبتدع. واللَّه المستعان.
[368] الأكل والشرب بالشمال والأخذ والعطاء بها
سائل يسأل عن حكم الأكل والشرب بالشمال، ويقول: إنه جلس يأكل مع أصحاب له: فوجد بعضهم يأكل بالملعقة، وبعضهم يأكل بشماله. قال: فأرشدتهم إلى الأكل باليمين، ونهيتهم عن الأكل بالشمال؛ فلم يستجيبوا لكلامي، وبعضهم طلب مني دليلا على ما قلت، فأرجوكم إيضاح الدليل على ذلك؟
الإجابة:
أما الأكل بالملعقة، فقد صرح الفقهاء أنه لا بأس بالأكل بالملعقة، لكن إذا كان يقصد بذلك التشبه بالكفار والأعاجم؛ فهذا ينهى عنه من هذه الناحية.
وأما الأكل والشرب بالشمال، فهو منهي عنه؛ لحديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه وإذا شرب فليشرب بيمينه؛ فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله" (172). رواه مسلم. وظاهر كلامهم أنه لو جعل بيمينه خبزا ونحوه، وبشماله شيئا آخر يأتدم به، وجعل يأكل من هذا ومن هذا، كما يفعله بعض الناس، أنه منهي عنه؛ لظاهر الخبر، ولأنه يصدق عليه أنه أكل بشماله، ولما فيه من الشره والنهم، ولا سيما على القول بكراهة تناول الإنسان لقمة حتى يبلع ما قبلها، ذكره في "الآداب الكبرى"(173) ، فكيف يرضى المؤمن أن يتشبه بالشيطان، أو يرضى بمشاركة الشيطان له بطعامه وشرابه إذا أكل أو شرب بشماله، أيرضى عاقل أن يشاركه عدوه بهذا؟! {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}(174).(2/88)
وعن ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "لا يأكلن أحدكم بشماله، ولا يشربن بها؛ فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بها" . قال: وكان نافع يزيد فيه: "ولا يأخذ بها ولا يعطي بها" . (175) رواه مسلم، والترمذي بدون الزيادة، ورواه مالك، وأبو داود بنحوه، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليأكل أحدكم بيمينه، ويشرب بيمينه، وليأخذ بيمينه، وليعط بيمينه؛ فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله، ويعطي بشماله، ويأخذ بشماله" (176) . رواه ابن ماجه بإسناد صحيح، وعن سلمة بن الأكوع -رضي الله عنه- أن رجلا أكل عند النبي صلى الله عليه وسلم بشماله، فقال: "كل بيمينك" . قال: لا أستطيع ! قال: "لا استطعت!" ما منعه إلا الكبر، فما رفعها إلى فيه (177) . رواه مسلم في كتاب الأشربة منْ صحيحه" . فهذا الرجل تكبر عن قول الحق، وأظهر عناده للنبي صلى الله عليه وسلم لما أرشده إلى الأكل بيمينه، ولم يكن جزاؤه إلا أن دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم بأن تُشَلَّ يده، فلا يستطيع رفعها إلى فمه؛ فاستجيب له في الحال، فما رفعها إلى فمه بعد ذلك. نعوذ باللَّه من مخالفة الأمر، والتكبر عن الانقياد للحق، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.
[369] كراهة الشرب قائما
سائل يسأل عن حكم الشرب قائما. ويقول: إنه زار صديقا له، فشرب قائما. فقال له: اجلس إذا أردت أن تشرب؛ فهي السنة، ويطلب إيضاح الدليل على ذلك؟
الإجابة:(2/89)
روى مسلم في "صحيحه" عن أنس -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يشرب الرجل قائما. قال قتادة: فقلنا لأنس: فالأكل. قال: ذلك أشر وأخبث. رواه مسلم (178). وفي رواية له: أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر عن الشرب قائما. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "لا يشربن أحد منكم قائما، فمن نسي فليستقئ" . رواه مسلم (179). وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده -رضي الله عنه- قال: رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يشرب قائما وقاعدا. رواه الترمذي (180)، وقال: حديث حسن صحيح.وعن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- قال: سقيت النبي صلى الله عليه وسلم من زمزم فشرب وهو قائم. متفق عليه(181) . وعن النزال بن سبرة قال: أتى علي -رضي الله عنه- على باب الرَّحبة، فشرب قائما، فقال:إن ناسا يكره أحدهم أن يشرب وهو قائم، وإني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فعل كما رأيتموني فعلت(182) . رواه البخاري.
قال العلامة ابن القيم: وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم الشرب قاعدا، هذا كان هديه المعتاد، وصح عنه أنه نهى عن الشرب قائما، وصح عنه أنه أمر الذي شرب قائما أن يستقيء، وصح عنه أنه شرب قائما. قالت طائفة: هذا ناسخ للنهي، وقالت طائفة: بل مبين أن النهي ليس للتحريم، بل للإرشاد وترك الأولى، وقالت طائفة: لا تعارض بينها أصلا. فإنه إنما شرب قائما للحاجة؛ فإنه جاء إلى زمزم وهم يسقون منها فاستقى، فناولوه الدلو، فشرب وهو قائم، وهذا كان موضوع حاجة.(2/90)
وللشرب قائما آفات عديدة؛ منها أنه لا يحصل به الرّي التام، ولا يستقر في المعدة، حتى يقسمه الكبد على الأعضاء، وينزل بسرعة وحده إلى المعدة، فيخشى منه أن يبرد حرارتها ويشوشها، ويسرع النفوذ إلى أسفل البدن بغير تدريج. وكل هذا يضر بالشارب، وأما إذا فعله نادرا أو لحاجة فإنه لا يضره، ولا يعترض بالعوائد على هذا؛ فإن العوائد طبائع ثوان، ولها أحكام أخرى، وهي بمنزلة الخارج عن القياس عند الفقهاء" (183) . انتهى.
[370] غسل الأيدي بعد الطعام بالمغسلة التي تصب في بيارة الحمام
ما حكم غسيل الأيدي بعد الطعام بالأحواض، كالمغسلة التي تصب في البيارات، وتجتمع فيها مياه الحمامات ونحوها؟
الإجابة:
لقد أنعم اللَّه تعالى على عباده بأنواع النعم، وأمرهم بشكرها، ومنها نعمة الأطعمة والأشربة. قال تعالى:{كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُواْ لَهُ}(184) .فيجب على العبد شكر هذه النعم، ومن شكرها: أن لا يستخف بها، ولا يمتهنها، أو يلقيها في المواضع القذرة.
وأما غسيل الأيدي بعد الطعام بهذه الأحواض المذكورة. ففيه تفصيل:
فإن كان معها شيء من الطعام، وتَعَمَّد إلقاءه في تلك المواضع، فهذا لا يحل، ولا يجوز؛ لأنه من امتهان النعم، وعدم توقيرها. وإن لم يكن إلا تلك الأشياء التي علقت باليد، أو بالإناء، بدون أن يتبعها شيء من أجزاء الطعام وفتات الخبز ونحوه، فلا بأس بغسلها بأي موضع شاء؛ لأن ما يجتمع منها شيء وسخ لا قيمة له، ولا أحد يرغب تناوله، بل هو من أوساخ اليدين اللَّزجة، التي لو جمعت بإناء لم يكن لها راغب مهما بلغ به الجوع والعطش، وكذلك إن تبعها شيء يسير يشق التحرز عنه، كحبة أرز، ونحوها. واللَّه أعلم.
[371] كراهة الأكل متكئا
ما حكم الأكل متكئا، وهل صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا لا آكل متكئا" ، وما حقيقة الاتكاء؟
الإجابة:(2/91)
قال العلامة محمد السفاريني في "غذاء الألباب شرح منظومة الآداب" : ويكره أكل الآكل وشربه حال كونه متكئا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : "أما أنا فلا آكل متكئا" (185) .
قال بعض العلماء: المتكئ: هو المائل -يعني- في جلسته على جنبه.
وفسره بعض علمائنا: بالمطمئن.
قال العلامة ابن مفلح(186) في قوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري: "لا آكل متكئا" : أي لا آكل أكل راغب في الدنيا متمكن، بل آكل مستوفزا بحسب الحاجة.اهـ.
قال في "القاموس" (187): ضربه فأتكأه كأخرجه، ألقاه على هيئة المتكئ، أو على جانبه الأيسر.اهـ. وقال الخطابي (188) في قوله عليه الصلاة والسلام: "لا آكل متكئا" : المتكئ هنا الجالس المعتمد على شيء تحته. قال: وأراد أنه لا يقعد على الوطاء والوسائد، كفعل من يريد الإكثار من الطعام، بل يقعد مستوفزا، لا مستوطئا، ويأكل بُلْغَة. انتهى. قال الإمام ابن هبيرة(189) : أَكْل الرجل متكئا يدل على استخفافه بنعمة اللَّه فيما قدمه بين يديه من رزقه، و فِيما يراه اللَّه من ذلك على تناوله، ويخالف عوائد الناس عند أكلهم الطعام؛ من الجلوس إلى أن يتكئ، فإن هذا يجمع بين سوء الأدب والجهل واحتقار النعمة، ولأنه إذا كان متكئا لا يصل الغذاء إلى قعر المعدة، الذي هو محل الهضم؛ فلذلك لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ، ونبه على كراهته. انتهى.
أحكام اللباس والزينة [372] لباس النساء للألبسة الضيقة
سائل يسأل عن حكم لبس المرأة للثياب الضيقة التي تبرز مفاتنها، ويظهر معها حجم أعضائها وتقاطيع بدنها، وكذا الثياب الرقيقة التي تصف بشرتها ونحو ذلك، مما هو مستورد من بلاد الأعاجم، ويعتبر لبسه من التشبه بهم. فهل يحل للمرأة أن تلبس مثل هذا اللباس، وهل يحل لوليها أن يمكنها من لبسه؟
الإجابة:(2/92)
الثياب المستوردة من الخارج أنواع؛ فما كان منها بهذه الصفة التي شرحتها بسؤالك، فهو مما لا يحل للمرأة لبسه والخروج به أمام الرجال؛ لأن المرأة عورة، ومأمورة بالاحتجاب والتستر، ومنهية عن التبرج وإظهار زينتها ومحاسنها ومفاتنها لغير زوجها، قال اللَّه تعالى: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ} الآية (190) . وقال تعالى:{وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فَرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} إلى آخر الآية (191) . وقال تعالى: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى}(192).
وهذا اللباس - مع ما فيه من التشبه المذموم- ليس بساتر للمرأة، بل هو مبرز لمفاتنها، ومُغْرٍ لها، ومُغْرٍ بها من رآها وشاهدها، وهي بذلك داخلة في الحديث الصحيح عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صنفان من أمتي من أهل النار لم أرهما بعد: نساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، على رءوسهن أمثال أَسْنِمَة الإبل، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، ورجال معهم سياط كأذناب البقر، يضربون بها الناس" (193) .(2/93)
وقد فُسر الحديث بأن تكتسي المرأة بما لا يسترها، فهي كاسية، ولكنها في الحقيقة عارية، مثل أن تكتسي بالثوب الرقيق الذي يصف بشرتها، أو الثوب الضيق الذي يبدي مقاطع خَلْقها؛ مثل ثدييها وعجيزتها وساعدها ونحو ذلك؛ لأن كسوة المرأة في الحقيقة هو ما سترها سترا كاملا، بحيث يكون كثيفا، فلا يبدي جسمها، ولا يصف لون بشرتها؛ لرقته وصفائه، ويكون واسعا، فلا يبدي حجم أعضائها، ولا تقاطيع بدنها؛ لضيقه، فهي مأمورة بالاستتار والاحتجاب؛ لأنها عورة، ولهذا أُمِرَت أن تغطي رأسها في الصلاة، ولو كانت في جوف بيتها، بحيث لا يراها أحد من الناس، فدل على أنها مأمورة من جهة الشرع بستر خاص، لم يؤمر به الرجل، حقا لله تعالى وإن لم يرها بشر.
وستر العورة واجب لحق اللَّه تعالى، حتى في غير الصلاة، ولو كان في ظلمة، أو في حال خلوة، بحيث لا يراه أحد، وحتى عن نفسه، ويجب سترها بلباس ساتر لا يصف لون البشرة؛ لحديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قلت: يا رسول اللَّه؛ عوراتنا ما نأتي منها، وما نذر؟ قال: "احفظ عورتك، إلا من زوجتك، أو ما ملكت يمينك" . قلت: فإذا كان القوم بعضهم مع بعض؟ قال: "فإن استطعت أن لا يراها أحد، فلا يرينها" . قلت: فإذا كان أحدنا خاليا؟ قال: "فاللَّه تعالى أحق أن يُستحيا منه" رواه أبو داود (194).(2/94)
وقد نص الفقهاء -رحمهم اللَّه- على النهي عن لبس الرقيق من الثياب، وهو ما يصف البشرة، أي: مع ستر العورة بالسترة الكافية في حق كل من الرجل والمرأة، ولو في بيتها، نص عليه الإمام أحمد -رحمه اللَّه- كما صرحوا بالمنع من لبس ما يصف اللِّين والخشونة والحجم، وكما صرحوا بمنع المرأة من شد وسطها مطلقا؛ أي سواء كان بما يشبه الزِّنّار أو غيره، وسواء كانت في الصلاة أو خارجها؛ لأنه يبين حجم عجيزتها، وتَبِين به مقاطعُ بدنها. قالوا: ولا تضم المرأة ثيابها حال قيامها؛ لأنه يَبِين به تقاطيع بدنها، فتشبه الحزام. وهذا اللباس المذكور أبلغ من الحزام وضمِّ الثياب حال القيام، وأحق بالمنع منه بالاتفاق.
وبهذا يظهر أنه لا يجوز للمرأة لبس هذه الثياب المذكورة في السؤال، والخروج بها أمام الرجال، وعلى ولي أمر المرأة منعها من ذلك، وعدم تمكينها من لبسها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : "كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع، ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله، ومسئول عن رعيته، و المرأة راعية في بيت زوجها، ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده، ومسئول عن رعيته، فكلكم راع، ومسئول عن رعيته" . متفق عليه، من حديث ابن عمر(195) . واللَّه المستعان.
[373] تحريم خاتم الذهب والسوار وساعة الذهب على الرجل
سائل يسأل عما يفعله بعض الرجال، من لبس خاتم الذهب، ولبس سوار الذهب، والسلسلة من الذهب، ويطلب الجواب مقرونا بدليله؟
الإجابة:
إن كان الخاتم من فضة، فقد اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتما من فضة، وإن كان من الذهب، فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة الصريحة المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه حَرم الذهبَ على الرجال من أمته، ونهاهم عن استعماله، وغلظ في ذلك بقوله، وفعله. وإليك بعض الأحاديث الواردة في ذلك:(2/95)
1 - عن علي -رضي الله عنه- قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم أخذ حريرًا فجعله في يمينه، وذهبا فجعله في شماله، ثم قال: "إن هذين حرام على ذكور أمتي" رواه أبو داود والنسائي (196)
2- وعن عبداللَّه بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من مات من أمتي، وهو يتحلى بالذهب، حرم اللَّه عليه لباسه في الجنة" . رواه أحمد والطبراني (197 ) ، ورواته ثقات.
3- وعن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رأى خاتما من ذهب في يد رجل، فنزعه، فطرحه. وقال: "يعمد أحدكم إلى جمرة من نار، فيجعلها في يده" . فقيل للرجل بعدما ذهب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : خذ خاتمك. فقال: والله لا آخذه أبدا. رواه مسلم (198) .
4 - وعن أبي سعيد -رضي الله عنه- أن رجلا قدم من نجران إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وعليه خاتم من ذهب؛ فأعرض عنه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وقال: "إنك جئتني وفي يدك جمرة من نار" . رواه النسائي") (199وفي معنى ذلك جملة أحاديث، تركناها اختصارا، وهي تدل على تحريم لبس الرجل خاتم الذهب ونحوه؛ كدبلة الخطوبة، وأبلغ منها سلسلة الذهب، والسوار من الذهب، وساعة الذهب ونحوها. وقد عد العلماء ذلك من كبائر الذنوب، والعياذ باللَّه.
وإن كان فيما ذكر تشبه بالنساء، فهذا حرام من ناحيتين: الأولى: لبس الذهب. والثانية: التشبه بالنساء؛ لما ثبت في الأحاديث الصحيحة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المتشبهين من الرجال بالنساء، ولعن المتشبهات من النساء بالرجال (200) ، وفي رواية: لعن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المتخنثين من الرجال، والمترجلات من النساء. رواه البخاري(201)
فيا عجبا لمن يؤمن باللَّه ورسوله ثم يتجرأ على ما حرم اللَّه عليه تحريما صريحا، فيرتكبه مخالفة، وعدم مبالاة، وتقليدا للأعاجم والجهال والسفهاء والنساء.(2/96)
{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ}.
[374] طول قميص الرجل وأكمامه
دخل علينا رجل من طلبة العلم، قصيرة ثيابه جدًّا، فلفت نظر الحاضرين، ثم دخل بعده رجل آخر مسبل، إذا مشى يجر ثيابه على الأرض، فجرى بينهما مناقشة في طول الثياب وقصرها، وكل أدلى برأيه، ولم يتفقا على شيء، فنرجوكم الإفادة عن حكم لباس الرجل وطوله وقصره، وكذا طول كمه وقصره؟
الإجابة:
الحمد لله. الذي نص عليه الفقهاء أن يكون طول القميص والإزار والسراويل وغيرها من نصف الساق إلى الكعبين؛ لئلا يتأذى الساق بحر ولا ببرد. ويكره رفعه إلى ما فوق نصف الساق، كما يكره تطويله إلى أسفل من الكعبين بلا حاجة، فإن كان لحاجة فلا يكره. ويحرم جر ثيابه خيلاء؛ لحديث: "ما أسفل من الكعبين فهو في النار" . رواه البخاري . ( 202)
وروى الشيخان، وغيرهما(203): "لا ينظر اللَّه يوم القيامة إلى من جر ثوبه خيلاء" . وأيضا: "من جر ثوبه خيلاء لم ينظر اللَّه إليه يوم القيامة" . فقال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-: يا رسول اللَّه إن إزاري يسترخي إلا أن أتعاهده، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "إنك لست ممن يفعله خيلاء" (204) . والخُيلاء -بضم أو كسر ففتح ومد-: الكِبْرُ والعجب، والمَخيِلة من الاختيال، وهو الكبر، واستحقار الناس.(2/97)
وروى مالك، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان في "صحيحه" (205) ، عن العلاء بن عبدالرحمن، عن أبيه. قال: سألت أبا سعيد عن الإزار. فقال: على الخبير بها سقطت. قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "إزرة المؤمن إلى نصف الساق، ولا حرج - أو قال: ولا جناح عليه- فيما بينه وبين الكعبين، وما كان أسفل من ذلك، فهو في النار، ومن جر إزاره بطرًا لم ينظر اللَّه إليه يوم القيامة" . وروى مسلم والأربعة (206): " ثلاثة لا يكلمهم اللَّه يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم" . قال: فقرأها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات. قال أبو ذر: خابوا وخسروا، من هم يا رسول اللَّه؟ قال: "المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب" .
أما الكُم: فإنه ينتهي إلى الرسغ، وإن زاد فإلى رءوس الأصابع. قال ابن القيم - رحمه اللَّه - في "زاد المعاد" : ولبس النبي صلى الله عليه وسلم القميص، وكان أحب الثياب إليه (207) . وكان كمه إلى الرسغ، وأما هذه الأكمام الواسعة الطوال التي هي كالأخراج فلم يلبسها هو ولا أحد من أصحابه البتة، وهي مخالفة لسنته صلى الله عليه وسلم ، وفي جوازها نظر؛ فإنها من جنس الخيلاء (208) .
والرسغ: هو متوسط ما بين الكوع والكرسوع. قال الشاعر:
َوعَظْمٌ يَلِي الْإِبْهَامَ كُوعٌ وَمَا يَلِي………لَخنْصَرِهِ الْكُرْسُوعُ وَالرُّسْغُ مَا وَسَطْ
وَعَظْمٌ يَلِي إِبْهاَمَ رجِْلٍ مُلَقَّبٌ………كبِبُوعٍ فخذ العِلْمَ وَاحْذَرْ مِنَ الْغَلَطْ
وعلى كل فينبغي للإنسان مراعاة عوائد أهل بلده في اللباس ما لم تخالف السنة؛ ولهذا نهي عن لباس الشهرة (209) ، وهو ما يشار إليه عند الناس، ويثير انتباههم. واللَّه أعلم.
[375] ستر المرأة وجهها عن الرجال الأجانب(2/98)
قد علمتُ أن المرأة يجب عليها أن تحتجب عن الرجال الأجانب عنها، وأن لا تصافحهم، وفي هذه القرية التي أنا منها -وجميع القرى التي عندنا- المرأة تستر جميع جسمها ما عدا الوجه والكفين، وتصافح الرجال الأجانب عليها الذين من أهل قريتها، وأنا الآن محتار، ماذا أفعل، وأنا أريد الذهاب إلى بلدي التي هي هذه القرية، فما هو حكم الشرع، وما هي نصيحة فضيلتكم لي، وماذا أفعل إذا وصلت القرية؟
الإجابة:
نصيحتي لك أن تُلزم زوجتك وأولادك وبناتك وكل مَن تحت يدك بامتثال الأوامر الشرعية، والتعليمات الإسلامية التي مشى عليها السلف الصالح والصدر الأول، ولن يُصلِح آخرَ هذه الأمة إلا ما أَصْلَح أَوَّلَها، قال اللَّه تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (210)، وقال تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}(211)الآية. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-: "كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع، ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله، ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها، ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده، ومسئول عن رعيته، فكلكم راع، ومسئول عن رعيته" . متفق عليه (212) .
إذا عرفت هذا فاعلم أن كشف المرأة وجهها أمام الرجال الأجانب من دون مسوغ شرعي، مخالف لما دل عليه الكتاب والسنة ولما جرى عليه عمل المؤمنات في صدر الإسلام.(2/99)
أما الكتاب؛ فيقول اللَّه تعالى في سورة الأحزاب: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَِّزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}. قال ابن عباس في هذه الآية: أمر اللَّه نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رءوسهن بالجلابيب، ويبدين عينا واحدة (213) . وقال ابن سيرين: سألت عبيدة عن هذه الآية، فرفع ملحفة كانت عليه، فتقنع بها، وغطى رأسه كله، حتى بلغ الحاجبين، وغطى وجهه، وأخرج عينه اليسرى من شق وجهه الأيسر مما يلي العين (214) وقال قتادة في الآية الكريمة: أخذ اللَّه عليهن إذا خرجن أن يتقنعن على الحواجب؛ ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين(215).
وأما السنة؛ فقد روى البخاري في "صحيحه" (216) عن ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- قال: سئل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عما يلبس المحرم، فذكر الحديث. وفيه: "ولا تنتقب المرأة، ولا تلبس القفازين" ؛ ففي هذا الحديث دليل على أن النساء كن يستعملن النقاب والقفازين، لستر وجوههن وأيديهن؛ ولهذا نهيت عنهما المرأة المحرمة.(2/100)
وأما عمل المسلمات في صدر الإسلام، فروى أبو داود(217) عن ثابت بن قيس بن شماس قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقال لها أم خلاد، وهي منتقبة، تسأل عن ابنها، وهو مقتول، فقال لها بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : جئت تسألين عن ابنك وأنت منتقبة! فقالت: إن أُرْزَأ ابني، فلن أرزأ حيائي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ابنك له أجر شهيدين" . قالت: ولم ذاك يا رسول الله؟ قال: "لأنه قتله أهل الكتاب" . وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقي في "سننه" في باب ما جاء في القواعد من النساء، عن عاصم الأحول. قال: كنا ندخل على حفصة بنت سيرين، وقد جعلت الحجاب هكذا، وتنقبت به. فنقول لها: رحمك اللَّه، قال تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ الَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ}(218) هو الجلباب. فتقول لنا: أي شيء بعد ذلك؟ فنقول: {وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ}، فتقول: هو إثبات الجلباب (219)، بل جاء عن عائشة أم المؤمنين وأختها أسماء ما يدل على تحفظ النساء من الأجانب في حالة الإحرام، فضلا عن غيرها، فروى أبو داود في "سننه" (220 ) في (باب المحرمة تغطي وجهها) ، عن عائشة -رضي اللَّه عنها- قالت: كان الركبان يمرون بنا، ونحن مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم محرمات، فإذا حاذونا أسدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه. وروى الحاكم في "مستدركه" (221) بسند على شرط الشيخين، عن أسماء بنت أبي بكر -رضي اللَّه عنهما - أنها قالت: كنا نغطي وجوهنا من الرجال، وكنا نمتشط قبل ذلك في الإحرام.
ففي هذه النصوص وما في معناها دليل على أن النساء في صدر الإسلام كن لا يظهرن وجوههن للأجانب.(2/101)
أما تفسير ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- الزينة الظاهرة في قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} (222) بالوجه والكفين. فقد أجاب عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة "الحجاب واللباس في الصلاة" بأن ابن عباس ذكر في هذا التفسير ما كان عليه الأمر قبل نزول قوله تعالى: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لَّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ} (223)الآية. فلما نزلت نسخ ذلك، وحرم عليها إظهار ما سوى الثياب، ونسوق لك عبارة شيخ الإسلام فيما يلي: قال (224) : حقيقة الأمر أن اللَّه تعالى جعل الزينة زينتين: زينة ظاهرة، وزينة غير ظاهرة. وجوز لها إبداء زينتها الظاهرة لغير الزوج، وذوي المحارم. وأما الباطنة، فلا تبديها إلا للزوج، وذوي المحارم.
وكانوا قبل أن تنزل آية الحجاب، كان النساء يخرجن بلا جلباب، يرى الرجال وجوههن وأيديهن، وكان إذ ذاك يجوز لهن أن يظهرن الوجه والكفين، وكان حينئذ يجوز النظر إليهما؛ لأنه يجوز لهن إظهارهما، فلما أنزل اللَّه آية الحجاب في قوله تعالى: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ}، حجب النساء عن الرجال. قال شيخ الإسلام: والجلباب هو: الملاءة، وهو الذي يسميه ابن مسعود وغيره: الرداء، وتسميه العامة: الإزار، وهو الإزار الكبير الذي يغطي رأسها وسائر بدنها.(2/102)
وقد حكى عبيدة وغيره أنها تدنيه من فوق رأسها، فلا تظهر إلا عينها، ومن جنسه: النقاب، فكن النساء ينتقبن. وفي "الصحيح" : "إن المحرمة لا تنتقب، ولا تلبس القفازين" ، فإذا كن مأمورات بالجلباب؛ لئلا يعرفن، وهو ستر الوجه، وستر الوجه بالنقاب، كان حينئذ الوجه واليدان من الزينة التي أمرت أن لا تظهرها للأجانب، فما بقي يحل للأجانب النظر إلا الثياب الظاهرة، فإن ابن مسعود في تفسيره الزينة الظاهرة بالثياب ذكَر آخر الأمرين، وابن عباس، أي: في تفسيره الزينة الظاهرة بالوجه والكفين، ذكر أول الأمرين. اهـ.
ومر شيخ الإسلام في هذا البحث إلى أن قال: ليس لها أن تبدي ذلك للأجانب على أصح القولين، بخلاف ما كان قبل النسخ، بل لا تبدي إلا الثياب.
وأما حديث عائشة -رضي اللَّه عنها- أن أسماء بنت أبي بكر دخلت على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وعليها ثياب رقاق؛ فأعرض عنها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم . وقال: "يا أسماء، إن المرأة إذا بلغت المحيض، لم يصلح أن يُرى منها إلا هذا وهذا، وأشار إلى وجهه وكفيه" (225)، فهذا الحديث أعله أبو داود في "سننه" (226)، وأبو حاتم بالإرسال(227) ؛ لأن خالد بن دُرَيك رواه عن عائشة، ولم يدركها، وأعله ابن التركماني (228) في "الجوهر النقي" بعلة أخرى: هي أنه من رواية الوليد بن مسلم وهو مدلس، عن سعيد بن بشير، الذي قال فيه يحيى(229) : ليس بشيء. وزاد ابن نمير: منكر الحديث. اهـ. وضعفه النسائي(230) ، وقال ابن حبان(231) : فاحش الخطأ. اهـ. فبهذا سقط الاستدلال بهذا الحديث، وبقيت الأدلة الأخرى سالمة من المعارض، ولله الحمد والمنة، وصلى اللَّه على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[376] لبس السوار والسلسلة والحرير
ما حكم لبس السوار، والسلسلة، والحرير؟
الإجابة:(2/103)
أما السوار، فتارة يكون من الذهب، وتارة يكون من الفضة، وتارة يكون من غيرهما، وهو على كل حال مباح للنساء مطلقا، وأما الرجال فغير مباح لهم مطلقا، فما كان من ذهب وفضة، فمنعه لعلتين: إحداهما: كونه ذهبا وفضة. والثانية: ما فيه من التشبه بالنساء، وإن كان من غير ذهب وفضة، فعلة المنع فيه التشبه بالنساء.
وقد صرح العلماء بأنه يحرم تشبه رجل بأنثى في لباس وغيره، وبالعكس، والمرجع فيما هو من خصائص الرجال والنساء في اللباس إلى عرف البلد. ذكره في "التلخيص" .
وأما لبس السلسلة التي يلبسها أهل التأنث، فإن كانت ذهبا أو فضة فقد تقدم الكلام على حكم لبس الرجال الذهب والفضة، وإن كانت غير ذلك ولبسها تأنثا وتشبها بالنساء، فحرمته أيضا لعلة التأنث؛ إِذِ التخنث ومشابهة النساء في أزيائهن وحركاتهن حرام؛ فعن ابن عباس قال:لعن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء(232) . وفي رواية: لعن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال. رواه البخاري(233) . واللعن يدل على أنه من الكبائر، والحكمة في النهي: إخراجه الشيء عن صفته التي وضعه عليها أحكم الحاكمين. قال العلماء: المخنث؛ من يتشبه بالنساء في حركاته وكلماته. وقال المنذري: المُخَنّث - بفتح النون وكسرها-: من فيه انخناث، وهو التَّكسر والتثنّي، كما يفعله النساء.(2/104)
وأما الحرير، فقد وردت الأحاديث بتحريمه على الرجال دون النساء، ومما علل به بعض العلماء تحريم لبس الحرير على الرجال؛ أنه يورثه بملامسة البدن من الأنوثة. والتخنث ضد الشهامة والرجولة، فإن لُبسَه يكسب القلب صفة من صفات الإناث؛ ولهذا لا تجد من يلبسه في الأكثر إلا ويظهر على شمائله من التخنث والتأنث والرخاوة ما لا يخفى، حتى ولو كان من أشد الناس فحولة ورجولة وشهامة، فلا بد أن يُنقصه الحريرُ منها، إن لم يذهبها بالكلية؛ ولهذا كان أصح القولين أنه يحرم على الولي إلباسه الصبي؛ لما ينشأ عليه من صفات أهل التأنث، فلبس الحرير إنما يليق بالنساء، فإن من طَبْعِهن اللين والنعومة والتحلي. قال اللَّه سبحانه وتعالى: {أَوَ مَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} (234) . فالرجال من طبعهم الخشونة والشهامة والرجولة، وهذا الذي ينبغي ويليق ويتناسب مع أخلاق الرجال.
وعن فضالة بن عبيد قال: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان ينهانا عن كثير من الإرفاه، وكان يأمرنا أن نحتفي أحيانا (235) . رواه أبو داود. واللَّه أعلم.
[377] حول تحريم التبرج(2/105)
أما بعد: فقد تغيرت الأحوال في هذه الأزمان، وابتلي الكثير من النساء بخلع جلباب الحياء، والتهتك، وعدم المبالاة، وتتابعن في ذلك، وانهمكن فيه، إلى حَد يُخشى منه الانحدار في هوة سحيقة من السفور والانحلال، وحلول المَثُلات، والعقوبات من ذي العزة والجلال، وذلك مثل لبسهن ما يبدي تقاطيع أبدانهن؛ من عضدين وثديين وخصر وعجيزة ونحو ذلك، ولبس الثياب الرقيقة التي تصف البشرة، وكذا الثياب القصيرة التي لا تستر العضدين ولا الساقين ونحو ذلك، ولا شك أن هذه الأشياء تسربت إليهن من بلدان "الإفرنج" ومن يتشبه بهم؛ لأنها لم تكن معروفة فيما سبق، ولا مستعملة، ولا شك أن هذا من أعظم المنكرات، وفيه من المفاسد المغلظة والمداهنة في حدود اللَّه -لمن سكت عنها- وطاعة للسفهاء في معاصي اللَّه، وكونه يجر إلى ما هو أطم وأعظم، ويؤدي إلى ما هو أدهى وأمَر؛ من فتح أبواب الشرور والفساد وتسهيل أمر التبرج والسفور؛ ولهذا لزم التنبيه على مفاسدها، والتدليل على تحريمها، والمنع منها، ونكتفي بذكر أمهات المسائل ومجملاتها؛ طلبا للاختصار:
أولاً: أنها من التشبه بالإفرنج والأعاجم ونحوهم، وقد ثبت في الآيات القرآنية، والأحاديث الصحيحة النبوية النهي عن التشبه بهم، في عدة مواضع معروفة، وبهذا يعلم أن مخالفتهم أمر مقصود للشارع في الجملة.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه- في كتاب "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم" (236) مضار التشبه بهم، وأن الشرع ورد بالنهي عن التشبه بالكفار، والتشبه بالأعاجم، والتشبه بالأعراب، وأنه يدخل في ذلك ما عليه الأعاجم والكفار قديما، كما يدخل ما هم عليه حديثا، وكما يدخل في ذلك ما عليه الأعاجم المسلمون مما لم يكن عليه السابقون الأولون، كما أنه يدخل في مسمى الجاهلية ما كان عليه أهل الجاهلية قبل الإسلام، وما عاد إليه كثير من العرب في الجاهلية التي كانوا عليها.(2/106)
ثانيا: أن المرأة عورة، ومأمورة بالاحتجاب والستر، ومنهية عن التبرج وإظهار زينتها ومحاسنها ومفاتنها. قال اللَّه تعالى: {يَأَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَِّزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ}(237) الآية. وقال تعالى: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فَرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} (238) الآية. وقال تعالى: {وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ} (239) . وهذا اللباس مع ما فيه من التشبه ليس بساتر للمرأة، بل هو مبرز لمفاتنها، ومغرٍ لها، ومغر بها من رآها وشاهدها، وهي بذلك داخلة في الحديث الصحيح، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صنفان من أمتي من أهل النار، لم أرهما بعد: نساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، على رءوسهن أمثال أسنمة الإبل، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، ورجال معهم سياط كأذناب البقر، يضربون بها الناس" ((240
وقد فُسر الحديث بأن تكتسي المرأة بما لا يسترها، فهي كاسية، ولكنها في الحقيقة عارية، مثل أن تكتسي بالثوب الرقيق الذي يصف بشرتها، أو الثوب الضيق الذي يبدي مقاطع خَلْْقها: مثل عجيزتها، وساعدها، ونحو ذلك؛ لأن كسوة المرأة في الحقيقة هو ما سترها سترا كاملا، بحيث يكون كثيفا، فلا يبدي جسمها، ولا يصف لون بشرتها؛ لرقته وصفائه، ويكون واسعا، فلا يبدي حجم أعضائها، ولا تقاطيع بدنها؛ لضيقه، فهي مأمورة بالاستتار والاحتجاب؛ لأنها عورة؛ ولهذا أمرت أن تغطي رأسها في الصلاة، ولو كانت في جوف بيتها بحيث لا يراها أحد من الأجانب، فدل على أنها مأمورة من جهة الشرع بستر خاص لم يؤمر به الرجل حقا لله تعالى، وإن لم يرها بشر.(2/107)
وستر العورة واجب لحق اللَّه -تعالى-، حتى في غير الصلاة، ولو كان في ظلمة، أو في حال خلوة، بحيث لا يراه أحد، وحتى عن نفسه، ويجب سترها بلباس ساتر لا يصف لون البشرة؛ لحديث بهز ابن حكيم، عن أبيه، عن جده قال: قلت: يا رسول اللَّه، عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: "احفظ عورتك، إلا من زوجتك، أو ما ملكت يمينك" . قلت: فإذا كان القوم بعضهم مع بعض؟ قال: "فإن استطعت أن لا يراها أحد، فلا يرينها" . قلت: فإذا كان أحدنا خاليا؟ قال: "فاللَّه تعالى أحق أن يستحيا منه" . رواه أبو داود (241) .
وقد ورد نص الفقهاء -رحمهم اللَّه- على النهي عن لبس الرقيق من الثياب: وهو ما يصف البشرة، أي: مع ستر العورة بالسترة الكافية في حق كل من الرجل والمرأة، ولو في بيتها. نص عليه الإمام أحمد- رحمه اللَّه- كما صرحوا بالمنع من لبس ما يصف اللِّين والخشونة والحجم، وصرحوا بمنع المرأة من شد وسطها مطلقا أي سواء كان بما يشبه الزِّنّار أو غيره، وسواء كانت في الصلاة أو خارجها؛ لأنه يبين حجم عجيزتها، وتبين به مقاطع بدنها، قالوا:ولا تضم المرأة ثيابها حال قيامها؛ لأنه يبين به تقاطيع بدنها. فتشبه الحزام، وهذا اللباس المذكور أبلغ من الحزام. وضم الثياب حال القيام أحق بالمنع منه.(2/108)
ثالثا: أن في بعض ما وقعن فيه شيئا من تشبه النساء بالرجال، وهذا من كبائر الذنوب، ففي الحديث: لعن اللَّه المتشبهات من النساء بالرجال، ولعن اللَّه المتشبهين من الرجال بالنساء، وفي لفظ: لعن اللَّه المتخنثين من الرجال، والمترجلات من النساء (242) ، فالمرأة المتشبهة بالرجال تكتسب من أخلاقهم، حتى يصير فيها من الظهور والتبرج والبروز، ومشاركة الرجال ما قد يفضي ببعضهن إلى أن تظهر بدنها، كما يظهره الرجل، وتطلب أن تعلو على الرجال، كما يعلو الرجال على النساء، وتفعل من الأفعال ما ينافي الحياء والخَفَر المشروع في حق النساء، كما أن الرجل المتشبه بالنساء يكتسب من أخلاقهن بحسب تشبهه، حتى إن الأمر قد يفضي به إلى التخنث، والتمكين من نفسه كأنه امرأة، وهذا مشاهد في الواقع، فصلوات اللَّه وسلامه على من بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح أمته، وعَبَد الله حتى أتاه اليقين.
قلت: وقد أفضى الحال بكثير ممن يقلدون المتفرنجين إلى أن شارك كثير من النساء الرجال في البروز والخروج والوظائف والتجارات والأسفار بدون محرم، وغير ذلك، كما شارك كثير من الرجال النساء في المبالغة في التزين، والتخنث في الكلام، وحلق اللحى، والتثني حال المشي، والتحلي بخواتم الذهب، ونحو ذلك، وأمثاله مما هو معروف، حتى صارت العادة عندهم تطويل ثياب الرجال، وتقصير ثياب المرأة، فيجعلون ثوب المرأة إلى ركبتها، أو ما فوق الركبة، بحيث يبدو بعض فخذها، نعوذ باللَّه من قلة الحياء، والتجرؤ على محارم اللَّه.(2/109)
رابعا: أن هذه الأشياء، وإن كان يعدها بعض من لا أخلاق لهم من الزينة، فإن حسبانهم باطل. وما الزينة الحقيقية إلا التستر والتجمل باللباس الذي امتن اللَّه به على عباده؛ لقوله تعالى: {يَا بَنِي ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا} (243) ، وليست الزينة بالتعري، والتشبه بالإفرنج، ونحوهم، وأيضا فلو سلم أن ذلك زينة، فليس لكل امرأة أن تخترع لها من الزينة ما تختاره ويخطر ببالها؛ لأن هناك أشياء من الزينة، وهي ممنوعة، بل محرمة، بل ملعون فاعلها، كما لعن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الواصلة والمستوصلة والنامصة والمتنمصة، والواشرة والمستوشرة والواشمة والمستوشمة، وعن عبداللَّه بن مسعود قال: لعن اللَّه الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحُسْن، المغيرات خلق اللَّه، فجاءت امرأة. فقالت: بلغني أنك لعنت كيت وكيت! فقال: وما لي لا ألعنُ مَنْ لَعَنَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، ومن هو في كتاب اللَّه! فقالت: لقد قرأت ما بين اللوحين، فما وجدت فيه ما تقول! فقال: إن كنتِ قرأتيه، فقد وجدتيه، أَمَا قرأت قولَه تعالى: {وَمَا ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (244) ؟ قالت: بلى، قال: فإنه قد نهى عنه. متفق عليه (245) .(2/110)
خامسا: أن النساء ناقصات عقل ودين، وضعيفات تصوّر وإدراك، وفي طاعتهن بهذا وأمثاله من المفاسد المنتشرة ما لا يعلمه إلا اللَّه، وأكثر ما يفسد المُلْكَ والدول طاعة النساء، وفي "الصحيحين" (246) عن أسامة بن زيد مرفوعا: "ما تركت بعدي على أمتي من فتنة أضر على الرجال من النساء" ، وعن أبي سعيد الخدري مرفوعا: "إن الدنيا حلوة خضرة، وإن اللَّه مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء" (247) . وفي "صحيح" البخاري عن أبي بكر مرفوعا:لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" (248)، وفي الحديث الآخر: "ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي اللبّ من إحداكن" (249 )ولما أنشده أعشى باهلة أبياته التي يقول فيها:
وهن شر غالب لمن غلب
جعل النبي صلى الله عليه وسلم يرددها، ويقول: "هن شر غالب لمن غلب"250).)
فيتعين على الرجال القيام على النساء، والأخذ على أيديهن، ومنعهن من هذه الملابس والأزياء المنكرة، وأن لا يداهنوا في حدود اللَّه، كما هو الواجب عليهم شرعا. قال اللَّه تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (251) .(2/111)
وقد صرح العلماء: أن على ولي المرأة أن يجنبها الأشياء المحرمة، من لباس وغيره، ويمنعها منها، فإن لم يفعل تعين عليه التعزير بالضرب وغيره. وفي الحديث الصحيح، عن ابن عمر قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "كلكم راع، ومسئول عن رعيته، فالإمام راع، ومسئول عن رعيته، والرجل في أهله راع، ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها، ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده، ومسئول عن رعيته، فكلكم راع، ومسئول عن رعيته"(252) وعن أنس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "إن اللَّه سائل كل راع عما استرعاه؛ حفظ أم ضيع" . رواه ابن حبان في "صحيحه" .(253 )
والمقصود: أن معالجة هذه الأمراض الاجتماعية المنتشرة من أهم المهمات، وهي متعلقة بولاة الأمر أولاً، ثم بقيِّم المرأة ووليها ثانيًا، ثم المرأة نفسها مسئولة عما يتعلق بها، وببناتها ومن في بيتها، كما أن على طلبة العلم بيان أحكام هذه المسائل للمسلمين والتحذير منها، وعلى رجال الحسبة وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن ينكروا هذه الأشياء، ويجدّوا في إزالتها.
فاللَّهَ اللَّهَ يا معشر المسلمين، فكل منكم على ثغر من ثغور الإسلام، فلا يؤتى الإسلام من قِبله، فإذا فرضنا أن أَهْملَ هذا الواجبَ أحد من هؤلاء، تعيّن على الباقين، ولا ينبغي لهم أن يهملوا الواجب، ويحملوا المسئولية على غيرهم، بل يتعين على الجميع التعاون والتساعد والتكاتف في هذا وغيره مما هو من واجبات الدين، قال اللَّه تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (254) .
نسأل اللَّه تعالى أن يجنبنا مضلات الفتن، ما ظهر منها، وما بطن، وأن ينصر دينه، ويُعلي كلمته، ويُذل أعداءه، إنه جواد كريم، وصلى اللَّه على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[378] لف المرأة شعر رأسها(2/112)
هل يجوز للمرأة تسريح شعر رأسها ولَفُّه من خلفها بشكل كعكة ونحوها؟
الإجابة:
لا يظهر لنا جواز ذلك لدخوله في الصِّفة التي ذكرها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "صنفان من أمتي من أهل النار لم أرهما بعد، نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، على رءوسهن أمثال أسنمة الإبل، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، ورجال معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس" . رواه أحمد في "مسنده" ومسلم في "صحيحه" (255) .
قال النووي -رحمه اللَّه- في "شرح صحيح مسلم" : هذا الحديث من معجزات النبوة، فقد وقع ما أخبر به صلى الله عليه وسلم . وقال أيضا في "رياض الصالحين" في شرح الحديث المذكور في باب: "تحريم تشبه الرجال بالنساء وتشبه النساء بالرجال في لباس وحركة وغير ذلك" . قال: معنى كاسيات: أي من نعمة اللَّه عاريات من شكرها. وقيل: معناه: تكشف بعض بدنها وتستر بعضه إظهارًا لجمالها، وقيل معناه: تلبس ثوبا رقيقا يصف بدنها. ومعنى مائلات: أي عن طاعة اللَّه وما يلزمهن حفظه، ومعنى مميلات: أي يعلمن غيرهن فعلهن المذموم. وقيل مائلات: متبخترات مميلات لأكتافهن. وقيل: مائلات أي يمشطن المشطة الميلاء، وهي مشطة البغايا. ومميلات: يمشطن غيرهن تلك المشطة. ومعنى رءوسهن كأسنمة البخت: أي يكبرنها ويعظمنها بلف عمامة، أو عصابة، أو نحوها. انتهى كلامه رحمه اللَّه.
فظهر مما تقدم أن التي تعمل الكعكة داخلة في اللاتي عناهن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، ولا سيما والنساء في هذا الزمان ممن يستعملن هذه الطريقة يزدن شعرهن بلفائف من خرق أو غيرها ليكبرن بذلك حجم الشعر، هذا وقد ورد في الأحاديث لعن الواصلة والمستوصلة، والنهي عن تغيير خلق اللَّه بالوشم وغيره.(2/113)
فقد روي عن عبداللَّه بن مسعود - رضي الله عنه- قال: لعن اللَّه الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خَلق اللَّه. قال: فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها: أم يعقوب، وكانت تقرأ القرآن، فأتته فقالت: ما حديث بلغني عنك أنك لعنت الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق اللَّه؟ فقال عبداللَّه: وما لي لا ألعن من لعن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب اللَّه! فقالت المرأة: لقد قرأتُ ما بين لوحي المصحف فما وجدته؟ فقال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه، قال اللَّه -عز وجل-: {وَمَا ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ}(256) . فقالت: فإني أرى شيئا من هذا على امرأتك الآن. قال: فاذهبي فانظري. فدخلت على امرأة عبداللَّه فلم تر شيئا، فجاءت إليه فقالت: ما رأيت شيئا. فقال: أما لو كان ذلك لم نجامعها رواه مسلم . (257)
وينبغي للمرأة المسلمة أن تحرص دائما على أن تظهر بالمظهر الذي يتمشى مع تعاليم ديننا الحنيف؛ وهو التجمل بالأشياء المباحة البعيدة عن التبرج وإظهار مفاتنها أمام الرجال الأجانب، وأن تبتعد عن الخلوة بهم؛ فقد جاء في الحديث: "لا يخلون أحدكم بامرأة إلا مع ذي محرم" متفق عليه(258) . وأن تكون قدوة لقريباتها، وجيرانها، وأن تقتدي بالنساء الصالحات، وتتباعد عن التشبه بالإفرنج وأشباههم ممن لا يبالون بالستر، ولا يهتمون بالأخلاق، وقد أمر اللَّه نساء نبيه صلى الله عليه وسلم -والأمر عام لهن، ولغيرهن- بقوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَءَاتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}(259)(2/114)
والخلاصة: أن الكعكة التي سألتِ عنها تدخل في عموم حديث أبي هريرة - رضي الله عنه- وفيها تَشَبُّه بالإفرنج؛ فيتعين تركها والإنكار على من فعلها. واللَّه المستعان.
لعن الدابة و نحوها [379] النهي عن لعن الدابة ونحوها ولعن المعين
كنا ماشين مع زملاء لنا، فانقطعت نعل أحدهم؛ فلعنها، ولعن من خرزها، فنهاه بعض الزملاء عن اللعن، وذكر بعض ما ورد في النهي عن اللعن مثل: حديث المرأة التي لعنت ناقتها بحضور النبي صلى الله عليه وسلم . فقال: "لا تصحبنا ناقة ملعونة" . ولكنه هداه اللَّه لم يَرْعَوِ؛ لأن الذي أورد الحديث ما حفظه، ولا أحسن إيراده. فنرجوكم الإفادة عن حكم اللعن في الإسلام، وما ورد فيه من الأحاديث؟
الإجابة:(2/115)
لعن المعيَّن من آدمي أو حيوان أو غيرهما حرام بالإجماع. والمؤمن ليس باللعان ولا بالطعان ولا الفاحش ولا البذيء. قال النووي في "رياض الصالحين" : "باب تحريم لعن إنسان بعينه أو دابة" والمراد بذلك؛ لأن اللعن هو: الطرد والإبعاد من رحمة اللَّه، فلا يحل لك أن تلعنه لذلك، بخلاف لعن أرباب المعاصي عموما دون تعيين شخص منهم بعينه، فهذا لا يدخل في الباب، كأن تقول: لعن اللَّه الظالمين، لعنة اللَّه على الكاذبين ونحو ذلك، ثم ساق النووي بعض الأحاديث الواردة في النهي عن لعن إنسان بعينه أو دابة؛ ومنها: حديث أبي الدرداء -رضي الله عنه- قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "إن العبد إذا لعن شيئا، صعدت اللعنة إلى السماء، فتغلق أبواب السماء دونها، ثم تهبط إلى الأرض، فتغلق أبوابها دونها، ثم تأخذ يمينا وشمالا، فإن لم تجد مساغا، رجعت إلى الذي لُعن، فإن كان أهلا، وإلا رجعت إلى قائلها" (260) . رواه أبو داود، وعن عبد اللَّه بن مسعود -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إن اللعنة إذا وجهت إلى من وُجِّهت إليه، فإن أصابت عليه سبيلا، أو وجدت فيه مسلكا، وإلا قالت: يا رب وجهت إلى فلان، فلم أجد فيه مسلكا، ولم أجد عليه سبيلا، فيقال لها: ارجعي من حيث جئت" (261) رواه أحمد. وفيه قصة وفي إسناده كلام. وعن عمران بن حصين -رضي الله عنه- قال: بينما رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، وامرأة من الأنصار على ناقة فضجرت فلعنتها، فسمع ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فقال: "خذوا ما عليها، ودعوها، فإنها ملعونة" . قال عمران: فكأني أراها الآن تمشي في الناس ما يعرض لها أحد(262) . رواه مسلم وغيره. وعن أنس -رضي الله عنه- قال: سار رجل مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فلعن بعيره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "يا عبدالله لا تَسِر معنا على بعير ملعون" (263) . رواه أبو يعلى، وابن أبي الدنيا(2/116)
بإسناد جيد. وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في سفر يسير، فلعن رجل ناقة، فقال: "أين صاحب الناقة؟" فقال الرجل: أنا. فقال: "أخرها، فقد أجيب فيها" (264) . رواه أحمد بإسناد جيد.
وعن ابن عباس-رضي الله عنه- أن رجلا لعن الريح عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فقال: "لا تلعن الريح، فإنها مأمورة، من لعن شيئا ليس له بأهل رجعت اللعنة عليه" (265) . رواه أبو داود، والترمذي، وابن حبان في "صحيحه" ، وقال الترمذي: حديث غريب، لا نعلم أحدًا أسنده غير بشر بن عمر. قال الحافظ: وبشر هذا ثقة احتج به البخاري ومسلم وغيرهما، ولا أعلم فيه جرحا. انتهى من "الترغيب والترهيب" للحافظ المنذري (266) .
وقال النووي في "رياض الصالحين" : وعن أبي برزة نضلة بن عبيد الأسلمي -رضي الله عنه- قال: بينما جارية على ناقة عليها بعض متاع القوم، إذ بصرت بالنبي صلى الله عليه وسلم تضايق بهم الجبل. فقالت: حَلْ اللَّهم العنْها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "لا تصاحبنا ناقة عليها لعنة" (267) . رواه مسلم. وقوله: (حَلْ) بفتح الحاء المهملة، وإسكان اللام: وهي كلمة لزجر الإبل. واعلم أن هذا الحديث قد يستشكل معناه، ولا إشكال فيه، بل المراد: النهي أن تصاحبهم تلك الناقة، وليس فيه نهي عن بيعها وذبحها وركوبها في غير صحبة الرسول صلى الله عليه وسلم ، بل كل ذلك وما سواه من التصرفات جائز لا منع منه، إلا من مصاحبة النبي صلى الله عليه وسلم بها؛ لأن هذه التصرفات كلها كانت جائزة، فَمُنِعَ بعضٌ منها، فبقي الباقي على ما كان. واللَّه أعلم. انتهى.
[380] النهي عن سب الديك(2/117)
كنت جالسا أذاكر وقت الاختبار، وكان بجانبي حظيرة دجاج، فجعل الديك يؤذن، ويتابع الأذان، فضجرت منه، وسببته، ودعوت عليه، فنهاني والدي عن ذلك. وقال: إن الديك لا يجوز سبه، فسألته الدليل، فلم يعرف دليلا؛ لأنه رجل عامي، فأرجوكم إذا كان فيه دليل على ذلك، أن تفيدونا جزاكم اللَّه خيرا.
الإجابة:
الديك فيه خصال حميدة، وهو يوقظ للصلاة، وقد ألهم معرفة الأوقات في الليل والنهار، ولا سيما في الليل، فهو يقسط أصواته تقسيطا منظما، لا يكاد يختلف، سواء أطال الليل أو قصر، ثم يوالي صياحه قبل الفجر وبعده، فسبحان من هداه لذلك، ذكره في "حياة الحيوان" . وقال: وكان الصحابة -رضي اللَّه تعالى عنهم- يسافرون بالديكة؛ لتعرفهم أوقات الصلاة. وفي الصحيحين، وسنن أبي داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سمعتم صياح الديكة، فاسألوا اللَّه من فضله، فإنها رأت ملكا، وإذا سمعتم نهيق الحمير، فتعوذوا باللَّه من الشيطان، فإنها رأت شيطانا" (268) . قال القاضي عياض: سببه رجاء تأمين الملائكة على الدعاء، واستغفارهم، وشهادتهم له بالإخلاص، والتضرع، والابتهال، وفيه استحباب الدعاء عند حضور الصالحين، والتبرك بهم، وإنما أمرنا بالتعوذ من الشيطان عند نهيق الحمير؛ لأن الشيطان يُخاف من شره عند حضوره، فينبغي أن يُتعوذ منه. انتهى.(2/118)
ثم قال في حياة الحيوان" : وروى الإمام أحمد، وأبو داود، وابن ماجه عن زيد ابن خالد الجهني -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تسبوا الديك فإنه يوقظ للصلاة" (269) . إسناده جيد، وفي لفظ "فإنه كان يدعو إلى الصلاة" . قال الإمام الحليمي في قوله صلى الله عليه وسلم : "فإنه يدعو إلى الصلاة" : معناه: أن العادة قد جرت بأنه يصرخ صرخات متتابعة عند طلوع الفجر، وعند الزوال، فطرة فطره اللَّه عليها، فيتذكر الناس بصراخه الصلاة.قال أصبغ بن زيد الواسطي: كان لسعيد بن جبير ديك، يقوم في الليل بصياحه، فلم يَصِحْ ليلة، حتى أصبح، فلم يُصَلِّ سعيد تلك الليلة، فشق ذلك عليه، فقال: ما له، قطع اللَّه صوته، فلم يُسمع له صوت بعد ذلك. انتهى من "حياة الحيوان" .
وذكر الحافظ المنذري في "الترغيب والترهيب" (270) عن زيد بن خالد الجهني -رضي الله عنه- قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "لا تسبوا الديك؛ فإنه يوقظ للصلاة" . رواه أبو داود، وابن حبان في "صحيحه" إلا أنه قال: "فإنه يدعو للصلاة" . رواه النسائي مسندا ومرسلا. وعن عبد اللَّه بن مسعود -رضي الله عنه-: أن ديكا صرخ عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فسبه رجل، فنهى عن سب الديك (271) . رواه البزار بإسناد لا بأس به، والطبراني، إلا أنه قال فيه، قال: "لا تلعنه، ولا تسبه؛ فإنه يدعو إلى الصلاة" . وعن عبد اللَّه ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- أن ديكا صرخ قريبا من النبي صلى الله عليه وسلم . فقال رجل: اللَّهم العنه. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم له: "كلا إنه يدعو إلى الصلاة" (272) . رواه البزار، ورواته رواة الصحيح إلا عباد بن منصور. واللَّه أعلم.
أحكام المساجد [381] دخول المسجد بالنعال والصلاة فيها
سائل يسأل عن حكم دخول المسجد في النعال ونحوها، وعن حكم الصلاة فيها؟
الإجابة:(2/119)
المساجد بيوت اللَّه التي أذن اللَّه أن ترفع ويذكر فيها اسمه، فلا يحل لأحد أن يستخف بحرمتها، أو يستهين بها، بأي نوع من أنواع الإهانة. والإنسان مأمور إذا أراد دخول المسجد أن يتفقد نعليه تفقدا كاملا، فإن رأى فيهما أذى، أزاله: بحكه، أو دلكه بالأرض، أو بعود ونحوه، حتى إذا تيقن أن لم يبق عليهما شيء من الأذى، جاز له دخول المسجد فيهما.
أما دخوله المسجد بالنعال دون تفقد لها، وإزالة ما يعلق فيها من الأذى، فهذا لا يحل؛ لما فيه من عدم احترام بيوت اللَّه، ولحديث: "إذا أتى أحدكم المسجد فلينظر في نعليه، فإن كان فيهما أذى فليدلكهما بالتراب؛ فإنه لهما طهور" (273) .
فإذا تفقد الإنسان نعليه، فلم يجد بهما أذى، أو وجد الأذى، فأزاله- فلا مانع من دخول المسجد بهما، والصلاة فيهما، ولا يعتبر هذا إهانة للمسجد، ولا استخفافا بحرمته؛ لأن العبرة في مثل هذه الأشياء بما شرعه الشارع الحكيم - صلوات اللَّه وسلامه عليه - فهو المشرع، ولنا به أسوة، وكل ما خالف سنته فلا يلتفت إليه.
وأما الصلاة في النعال، ففي "الاختيارات" (274) لشيخ الإسلام ابن تيمية: أنها سنة، أمر بها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم . وقال في "فتاواه" (275) : ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في "الصحيح" أنه كان يصلي في نعليه. وقال: "إن اليهود لا يصلون في نعالهم، فخالفوهم" .اهـ.
وصلى مرة في نعليه، وصلى معه أصحابه في نعالهم، فخلعهما في الصلاة، فخلعوا، فسألهم: "لم خلعتم؟!" فقالوا: رأيناك خلعت، فخلعنا. فقال: "إن جبريل أتاني، فأخبرني أن فيهما أذى، فإذا أتى أحدكم المسجد فلينظر في نعليه، فإن كان فيهما أذى فليدلكهما بالتراب، فإنه لهما طهور" (276) .(2/120)
وقال العلامة ابن القيم في "إغاثة اللَّهفان" (277) . مما لا تطيب به قلوب الموسوسين الصلاة في النعال، وهي سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه، فعلا منه وأمرا. فروى أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يصلي في نعليه. متفق عليه (278)
وعن شداد بن أوس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "خالفوا اليهود، فإنهم لا يصلون في خفافهم ولا نعالهم" . رواه أبو(279). وقيل للإمام أحمد: أيصلي الرجل في نعليه؟ قال: إي، واللَّه.اهـ.
وقال الحافظ العراقي في "شرح الترمذي" : وممن كان يفعل ذلك -يعني: لبس النعل في الصلاة- عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعبد اللَّه بن مسعود، وعويمر بن ساعدة، وأنس بن مالك، وسلمة بن الأكوع، وأوس الثقفي. ومن التابعين: سعيد بن المسيب، والقاسم، وعروة بن الزبير، وسالم بن عبد اللَّه، وعطاء بن يسار، وعطاء بن أبي رباح، ومجاهد، وطاوس، وشريح القاضي، وأبو مجلز، وأبوعمرو الشيباني، والأسود بن يزيد، وإبراهيم النخعي، وإبراهيم التيمي، وعلي ابن الحسين، وابنه أبو جعفر. اهـ. نقله عن شرح العراقي للترمذي الشوكاني في "نيل الأوطار" ( 280 ).
ولما في معنى النعل حكم النعل، كما بينه شيخ الإسلام ابن تيمية في "الفتاوى" (281) قال: أما الصلاة في النعل ونحوه، مثل: الجمجم، والمداس، والزربول، وغير ذلك، فلا تكره بل هي مستحبة...، واستدل بنصوص الصلاة في النعلين على ذلك. انتهى.
[382] أين يضع المصلي نعاله في المسجد؟
سائل يقول: دخلت المسجد فخلعت نعالي، ووضعتها عن يميني في الصف، فنهاني رجل إلى جانبي عن وضع النعال عن يميني. وقال: لا تضع نعليك عن يمينك وأنت تصلي، ولكن ضعها عن يسارك، أو اتركها عند باب المسجد. فقلت له: أخشى عليها إن تركتها عند باب المسجد أن تسرق، فأرجوكم إفادتي عن حكم هذه المسألة.
الإجابة:(2/121)
يستحب للإنسان إذا أتى المسجد أن يتفقد نعليه قبل أن يدخل المسجد، فإذا دخل المسجد فليتناولهما بيده اليسرى، وإن كان إماما فليضعهما عن يساره، ولا يضعهما عن يمينه؛ إكراما لجهة اليمين، وإن كان مأموما فليضعهما بين يديه؛ لئلا يؤذي بهما غيره. هكذا ذكر الفقهاء -رحمهم اللَّه-.
وقال أبو داود في "سننه" : باب: المصلي إذا خلع نعليه أين يضعهما. حدثنا الحسن بن علي، حدثنا عثمان بن عمر، حدثنا صالح بن رستم أبو عامر، عن عبدالرحمن بن قيس، عن يوسف بن ماهك، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صلى أحدكم فلا يضع نعليه عن يمينه، ولا عن يساره، فتكون عن يمين غيره، إلا أن لا يكون عن يساره أحد، وليضعهما بين رجليه" (282)حدثنا عبدالوهاب بن نجدة، ثنا بقية وشعيب بن إسحاق، عن الأوزاعي، حدثني محمد بن الوليد، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صلى أحدكم فخلع نعليه، فلا يؤذ بهما أحدا، ليجعلهما بين رجليه، أو ليصل فيهما" (283) .
قال الشارح(284): وإنما لم يقل: أو خلفه؛ لئلا يقعا قدام غيره، أو لئلا يذهب خشوعه لاحتمال أن يسرقا. كذا في "المرقاة" . اهـ.
وقال الخطابي(285): فيه باب من الأدب: وهو أن يصان ميامن الإنسان عن كل شيء يكون محلا للأذى، وفيه من الأدب أن المصلي إذا صلى وحده فخلع نعليه وضعهما عن يساره، وأما إذا كان مع غيره في الصف، وكان عن يمينه وعن يساره أناس فإنه يضعهما بين رجليه.اهـ.
وقال في "مطالب أولي النهى" : ومن الأدب: وضع إمام نعليه عن يساره في حال صلاته؛ إكراما لجهة يمينه، ووضع مأموم نعليه بين يديه- أي: قدامه-؛ لئلا يؤذي بهما غيره، ويستحب تفقدهما عند دخول المسجد، والأولى تناولهما بيساره. انتهى.
[383] هل يجوز حجز محل في المسجد للصلاة؟(2/122)
بعض المسلمين في بلد أجنبي يقولون: نحن نتحرى الخير، وبعضنا يتقدم إلى المسجد يوم الجمعة وغيرها، وبعضنا يضع سجادته، أو عصاه، أو منديله في موضع من الصف الأول، قريب من الإمام، ويخرج لحاجته، وربما بعث الرجل ولده؛ ليضع له ذلك في الصف، فجاءنا شيخ وأنكر علينا ذلك. وقال: إنه حرام، وقام يزيل ما يراه مفروشا من سجادة، أو منديل، أو نحوه، وأفتى الناس بإزالته، والصلاة في محله. ويقول: إنه مغصوب، وصار أخذٌ وَرَدٌ في ذلك، فلهذا كتبنا لفضيلتكم؛ مؤملين إيضاح حكم هذه المسألة؛ لأنها مما يهم الجميع، جزيتم خيرا.
الإجابة:
المساجد بيوت اللَّه، ومن سبق إلى محل فيها فهو أحق به من غيره، ولا يجوز لأحد أن يحجز فيها محلا دون أن يجلس فيه، وهو بحجزه هذا لا يسمى سابقا لغيره إلى ذلك المحل، بل هو ظالم بصنيعه هذا؛ لأن السبق والتقدم إلى المسجد إنما يكون بالبدن لا بالفراش والوطاء. ففعل هذا ومنع الناس من هذه البقعة، والحالة هذه -لا يجوز، بل هو ظلم، وغصب لتلك البقعة من المسجد بدون حق.
وعن عائشة -رضي اللَّه عنها-، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ظلم قِيد شبر من الأرض طُوِّقهُ من سبع أَرَضِين" (286) .
وأيضا فعمارة المساجد بطاعة اللَّه فيها من الذكر والقراءة والصلاة. ومتحجر تلك البقعة مانع لتلك العمارة المعنوية المطلوبة شرعا، ولا يبعد دخوله تحت قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} (287) الآية. ولم يكن من عادة السلف الصالح وضع تلك المفارش، وتحجير المساجد، بل أنكروه، وعدوه بدعة في الدين، كما يروى عن مالك أنه أمر بحبس عبدالرحمن بن مهدي حين فرش مصلاه في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم . فقال: أما علمت أن هذا في مسجدنا بدعة.(2/123)
وقال ابن الحاج في "المدخل" : ليس للإنسان في المسجد إلا موضع قيامه وجلوسه وسجوده، وما زاد على ذلك فلسائر المسلمين، فإذا بسط سجادته وزاد يكون غاصبا لذلك القدر الزائد من المسجد، فيقع بسبب ذلك في الحرام المتفق عليه، المنصوص عن صاحب الشريعة حين قال: "من غصب قيد شبر من الأرض طُوِّقَهُ من سبع أَرَضِين يوم القيامة" ... إلى أن قال: فإن بعث بسجادته إلى المسجد في أول الوقت -أو قبله- ففرشت له، وقعد هو إلى أن امتلأ المسجد، ثم يأتي، كان غاصبا لذلك الموضع الذي وضعت السجادة فيه؛ لأنه ليس له أن يحجزه، وليس لأحد فيه إلا موضع صلاته.
وقال الشيخ تقي الدين بن تيمية -رحمه اللَّه- في "الفتاوى المصرية" : وأمّا ما يفعله كثير من الناس من تقديم المفارش إلى المسجد في أول الوقت -أو قبله- فتفرش له، ويقعد هو إلى أن يمتلئ المسجد بالناس، ثم يأتي، كان غاصبا لذلك الموضع الذي وضعت السجادة فيه؛ لأنه ليس له أن يحجزه، وليس لأحد فيه إلا موضع صلاته.اهـ.
وقال الشيخ تقي الدين بن تيمية -رحمه اللَّه- أيضا في "الفتاوى المصرية" : وأما ما يفعله كثير من الناس من تقديم المفارش إلى المسجد يوم الجمعة، أو غيرها قبل ذهابهم إلى المسجد، فهذا منهي عنه باتفاق المسلمين، بل هو محرم. وهل تصح صلاته على ذلك المفروش؟ فيه قولان للعلماء... إلى أن قال: فإذا قدم المفروش، وتأخر فقد خالف الشريعة من وجهين: من وجهة تأخره، وهو مأمور بالتقدم، ومن وجهة غصبه لطائفة من المسجد، ومنع السابقين إلى المسجد من الصلاة فيها، وأن يتموا الصف الأول فالأول، ثم إنه يتخطى رقاب الناس إذا حضر. وفي الحديث: "الذي يتخطى رقاب الناس يتخذ جسرا إلى جهنم(288)(. وقال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل كان يتخطى: "اجلس، فقد آذيت" (289) .(2/124)
ثم إذا فرش: فهل لمن سبقه أن يرفع ذلك ويصلي موضعه، فيه قولان للعلماء: أحدهما: ليس له ذلك؛ لأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه، والثاني -وهو الصحيح:- أن لغيره رفعه والصلاة مكانه؛ لأن هذا السابق يستحق الصلاة في الصف المتقدم، وهو مأمور بذلك أيضا، ولا يتمكن من فعل هذا المأمور إلا برفع ذلك المفروش، وما لا يتم المأمور إلا به فهو مأمور به أيضا، فذلك المفروش وضع في مكان على وجه الغصب، وذلك منكر. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"(290. )لكن ينبغي أن يراعى في ذلك أن لا يئول إلى منكر أعظم منه.
وأما إقامة غيره من مكانه والجلوس فيه، فهذا حرام؛ لما روى ابن عمر قال: نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يقيم الرجل أخاه من مقعده ويجلس فيه. متفق عليه(291). ولأن المساجد بيوت اللَّه، والناس فيها سواء، فمن سبق إلى مكان فهو أحق به؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : "من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به"(292) .
فإن قدّم صاحبًا له فجلس حتى إذا جاء قام صاحبه وأجلسه مكانه فلا بأس؛ لأن النائب يقوم باختياره، وروي أن محمد بن سيرين كان يرسل غلاما له يوم الجمعة فيجلس في مكانه، فإذا جاء قام الغلام وجلس محمد. فإن لم يكن نائبا فقام باختياره فلا بأس؛ لأنه قام باختياره، وأما إذا قام الرجل من موضعه لعارض لَحِقَه، ثم عاد إليه قريبا، فهو أحق به؛ لما روى مسلم (293) : "إذا قام أحد من مجلسه، ثم رجع إليه فهو أحق به" . واللَّه أَعْلَمُ.
[384] ملازمة محل في المسجد يصلي فيه الفريضة(2/125)
سائل يسأل عما اعتاده بعض الناس من المواظبة على الجلوس، والصلاة خلف الإمام في جميع الصلوات الخمس، وعَرَفهم الناسُ بذلك، فتركوا لهم محلهم، ولو جلس فيه إنسان لا يعرف الحال أقاموه؛ لأنه محل فلان، فهل يجوز مثل هذا أم لا؟ نرجو إيضاح الجواب، وفقكم اللَّه للصواب.
الإجابة:
من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به، فمن تقدم إلى المسجد، وجلس في مجلسه، فقد ثبتت أحقيته لهذا المكان، فلا يجوز لأحد إقامته من مكانه، والجلوس فيه، إلا أنه إذا لم يكن من أولي الأحلام والنُّهَى، استحب له أن يترك ما يلي الإمام ليكون لأولي الأحلام والنهى، كما أمر صلى الله عليه وسلم بذلك، بقوله: "لِيَلِنيِ منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" . رواه أبو داود (294) من حديث أبي مسعود.
وفي هذا حث لأولي الأحلام والنهى على التقدم إلى المسجد، والمبادرة إلى المحل الفاضل، مع أنه ورد النهي عن الإيطان في المسجد باتخاذ مكان لا يصلي فرضه إلا فيه.
قال في "الإقناع وشرحه كشاف القناع" : ويكره اتخاذ غير الإمام مكانا بالمسجد لا يصلي فرضه إلا فيه؛ لنهيه عليه الصلاة والسلام عن إيطان المكان كإيطان البعير(295). وفي إسناده تميم بن محمود، وهو مجهول. قال البخاري: في إسناد حديثه نظر، ولا بأس به في النفل للجمع بين الأخبار.
وقال المروزي: كان أحمد لا يوطن الأماكن، ويكره إيطانها.
قال في "الفروع" (296) : وظاهره: ولو كانت فاضلة؛ خلافًا للشافعي. ويتوجه احتمال، وهو ظاهر ما سبق من تحري نقرة الإمام؛ لأن سلمة كان يتحرى الصلاة عند الأسطوانة التي عند المصحف. وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحرى الصلاة عندها. متفق عليه (297) . قال: وظاهره أيضا: ولو كان لحاجة: كاستماع حديث، وتدريس، وإفتاء، ونحوه. ويتوجه: لا. وذكره بعضهم اتفاقا. انتهى. واللَّه أعلم. وصلىاللَّه على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(2/126)
[385] اجتياز المسجد والصلاة في النعال
هل يجوز اجتياز بيوت اللَّه، وتخطي رقاب المصلين، والصلاة بالأحذية والمُدُس؟
الإجابة:
أما اجتياز بيوت اللَّه، بمعنى المرور فيها لا على جهة اتخاذها طرقا، فيدل على جوازه ما أخرجه ابن أبي شيبة والبخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه (298) -واللفظ للبخاري- عن أبي موسى -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من مر في شيء من مساجدنا، أو أسواقنا بنبل، فليأخذ على نصالها؛ لا يعقر بكفه مسلما" . ولهذا ترجم البخاري في "صحيحه" لهذا الحديث: باب المرور في المسجد.
وأما اتخاذ المساجد طرقا، فقد جاء النهي عنه في حديث رواه الطبراني في "الكبير" و"الأوسط" (299)، بإسناد فيه مقال، عن ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "لا تتخذوا المساجد طرقا، إلا لذكر أو صلاة" .(2/127)
وأما تخطي رقاب المصلين، فلا يليق؛ لما فيه من أذيتهم، وإساءة الأدب معهم، وقد عقد الإمام الشافعي -رضي الله عنه- في "الأم" (300) بابا لكراهة تخطي رقاب الناس يوم الجمعة. قال فيه: وأكره تخطي رقاب الناس يوم الجمعة، قبل دخول الإمام وبعده؛ لما فيه من الأذى لهم، وسوء الأدب، ولذلك أحب لشاهد الجمعة التبكير إليها، مع الفضل في التبكير إليها. وقد روي عن الحسن مرسلا أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يتخطى رقاب الناس فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : "آنيت وآذيت" . ((301 وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم -رواه أبوهريرة- أنه قال: "ما أحب أن أترك الجمعة ولي كذا وكذا، ولأن أصليها بظَهْر الحَرّة أحب إلي من أن أتخطى رقاب الناس" (302) وإن كان دون مدخل رجلٍ زحام، وأمامه فرجة، فكان تخطيه إلى الفرجة بواحد أو اثنين رجوت أن يسعه التخطي، وإن كثر كرهته، ولم أحبه، إلا أن لا يجد السبيل إلى مصلى يصلي فيه الجمعة، إلا بأن يتخطى، فيسعه التخطي -إن شاء اللَّه-. وإن كان إذا وقف حتى تقام الصلاة تقدم من دونه حتى يصل إلى موضع تجوز فيه الصلاة، كرهت له التخطي، وإن فعل ما كرهت له من التخطي، لم يكن عليه إعادة صلاة. وإن كان الزحام دون الإمام الذي يصلي الجمعة، لم أكره له من التخطي، ولا لمن يفرج له من الناس ما أكره للمأموم؛ لأنه مضطر إلى أن يمضي إلى الخطبة، والصلاة لهم. انتهى.
وذكر الحافظ في "فتح الباري" (303) في شرح باب الدهن يوم الجمعة: قول الشافعي: أكره التخطي إلا لمن لا يجد السبيل إلى المصلى إلا بذلك، ثم قال الحافظ: وهذا يدخل فيه الإمام، ومن يريد وصل الصف المنقطع إن أبى السابق من ذلك، ومن يريد الرجوع إلى موضعه الذي قام منه لضرورة.
ونقل ابن قدامة في "المغني" (304)عن الحسن البصري أنه قال: تخطوا رقاب الذين يجلسون على أبواب المساجد؛ فإنهم لا حرمة لهم.(2/128)
فاستفيد من كلام الحسن أن هذا من المواضع التي لا يكره فيها التخطي. قال ابن قدامة في تعليل كلام الحسن: وذلك لأنهم خالفوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، ورغبوا عن الفضيلة، وخيِر الصفوف، وجلسوا في شرها؛ ولأن تخطيهم مما لا بد منه.اهـ.
وأما الصلاة في النعال، ففي "اختيارات" (305) شيخ الإسلام ابن تيمية أنها سُنَّة أمر بها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم . وقال في "فتاواه" : ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في "الصحيحين" أنه كان يصلي في نعليه، وقال: "إن اليهود لا يصلون في نعالهم، فخالفوهم" . وصلى مرة في نعليه وأصحابه في نعالهم، فخلعهما في الصلاة فخلعوا. فقالوا: رأيناك خلعت فخلعنا. فقال: "إن جبريل أتاني، فأخبرني أن فيهما أذى؛ فإذا أتى أحدكم المسجد فلينظر في نعليه، فإن كان فيهما أذى فليدلكهما بالتراب، فإنه لهما طهور" (306) .
وقال العلامة ابن القيم في "إغاثة اللَّهفان"(307): مما لا تطيب به قلوب الموسوسين الصلاة في النعال، وهي سُنَّة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فعلًا منه وأمرًا. فروى أنس بن مالك -رضي الله عنه-: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يصلي في نعليه. متفق عليه (308) . وعن شداد بن أوس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "خالفوا اليهود، فإنهم لا يصلون في خفافهم، ولا نعالهم" . رواه أبو داود(309). وقيل للإمام أحمد: أيصلي الرجل في نعليه؟ قال: إي، واللَّه.اهـ.(2/129)
وقال الحافظ العراقي في "شرح الترمذي" : ممن كان يفعل ذلك -يعني: لبس النعلين في الصلاة-: عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعبد اللَّه بن مسعود، وعويمر بن ساعدة، وأنس بن مالك، وسلمة بن الأكوع، وأوس الثقفي، ومن التابعين: سعيد بن المسيب، والقاسم، وعروة بن الزبير، وسالم بن عبد اللَّه، وعطاء بن يسار، وعطاء بن أبي رباح، ومجاهد، وطاوس، وشريح القاضي، وأبو مجلز، وأبو عمرو الشيباني، والأسود بن يزيد، وإبراهيم النخعي، وإبراهيم التيمي، وعلي بن الحسين، وابنه أبو جعفر. اهـ. نقله عن شرح العراقي للترمذي الشوكاني في "نيل الأوطار" (310) .
ولما في معنى النعل حكمُ النعل، كما بينه شيخ الإسلام ابن تيمية في "الفتاوى" . (311) قال: أما الصلاة في النعل ونحوه، مثل: الجمجم، والمداس، والزربول، وغير ذلك، فلا تكره، بل هي مستحبة.اهـ. واستدل بنصوص الصلاة في النعلين على ذلك.
[386] عدم جواز هدم المسجد لتوسعة الشارع
مَسجدٌ عامرٌ تقام فيه الصلوات الخمس جماعة، واحتيج إلى توسعة الشارع من صوب المسجد المذكور، فهل يجوز هدمه، ونقله إلى جهة أخرى والقصد من ذلك توسعة الشارع؟
الإجابة:
قد أمر اللَّه سبحانه بعمارة المساجد، وحث عليها. وعمارة المساجد تكون ببنائها، وترميمها، وتكون بذكر اللَّه فيها، وإحيائها بطاعته؛ قال اللَّه -سبحانه-: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَءَاتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ} .(312)(2/130)
وفي حديث عثمان -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من بنى لله مسجدا بنى اللَّه له بيتا في الجنة" . (313) وقال اللَّه -سبحانه-: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} (314) . فعمارة المساجد من أوجب الواجبات، وأفضل القربات، كما أن السعي في خرابها، والاستهانة بها من أعظم المحرمات، فيجب احترام المساجد وتعظيمها كما عظمها اللَّه، ولا تجوز الاستهانة بها، وتقذيرها، والاستخفاف بحقها، والاستهانة بحرمتها؛ لأنها بيوت اللَّه، وموضع عبادته، ومشاعر دينه، فالاستخفاف والاستهانة بحرمتها من أعظم أنواع الجرأة على اللَّه، والاستخفاف بدينه.
وقد تكاثرت الأدلة في الحث على احترامها، وتنظيفها، وتطييبها، وإماطة الأذى والأوساخ والقمامة عنها، كما جاءت النصوص بالنهي والتحذير عن السعي في خرابها، وعمل كل ما ينفر عنها، أو يقلق راحة المصلين فيها. وقد ثبت في الحديث: "البزاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها" (315) . وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما رأى نخامة في المسجد غضب، وأمر بحكها (316) . ونهى آكِلَ الثوم والبصل عن قربان المسجد (317) .(2/131)
فإذا كان الأمر ما ذكر من وجوب احترام المساجد، وتعظيمها، والتحذير من كل ما ينفر عنها، علم تحريم الإقدام على هدمها، ونقلها لمسوغ تصوره متصور، من غير حصول على إفتاء شرعي مدعم بالدليل. ولا تكون الفتوى في مسجد بعينه فتوى في عموم المساجد، بل كل مسجد يحتاج إلى فتوى فيه بعينه؛ لأن الأصل المنع، ويحتاج كل مسجد إلى نظر جديد، وتأمل في جنس المسوغات، حتى يتحقق المسوغ. فهدم المساجد، ونقلها بدون تحقق مسوغ شرعي، لم يقل بجوازه أحد من علماء المسلمين. أما نقلها لمصلحة، أو لتعطل منفعة فهذا فيه خلاف بين العلماء. منهم من منعه، وهم الجمهور من العلماء، واستدلوا بحديث: "لا يباع أصلها، ولا توهب، ولا تورث" (318) .
ومنهم من أجازه إذا تعطلت منافعه، ولم يجزه لرجحان المصلحة فقط.
ومنهم من أجازه لمجرد رجحان المصلحة، وهو الشيخ تقي الدين بن تيمية وأتباعه. فقال في "الإنصاف" (319) : نَقَلَ صالِح: يجوز نقل المسجد لمصلحة الناس، وهو من مفردات المذهب، واختاره صاحب "الفائق" ، وحكم به اهـ. وقال أيضا (320) : وجوز الشيخ تقي الدين ذلك -أي: بيع الرقعة والمناقلة فيه- لمصلحة. وقال: هو قياس الهدي، وذكره وجها في المناقلة. وقال في "الإنصاف" (321) أيضا: وأما إذا تعطلت منافعه -أي: الوقف- فالصحيح من المذهب: أنه يباع والحالة هذه. وعليه جماهير الأصحاب، وقطع به كثير منهم، وهو من مفردات المذهب. وعنه: لا تباع المساجد، لكن تنقل آلتها إلى مسجد آخر. اختاره أبو محمد الجوزي، والحارثي، وقال: هو ظاهر كلام ابن أبي موسى. وعنه: لا تباع المساجد، ولا غيرها، لكن تنقل آلتها. وقال في "الإنصاف" (322) : فعلى المذهب: المراد من تعطيل منافعه: المنافعُ المقصودة، بخراب أو غيره، ولو بضيق المسجد عن أهله -نص عليه- أو بخراب محلته. نقله عبداللَّه، وهذا هو المذهب، وعليه أكثر الأصحاب، وقدمه في "الفروع" .اهـ.(2/132)
وقال في: "المغني" (323): وجملة ذلك: أن الوقف إذا خرب، وتعطلت منافعه: كدار انهدمت، أو أرض خربت، وعادت مواتا، ولم تمكن عمارتها، أو مسجد انتقل أهل القرية عنه، وصار في موضع لا يصلى فيه، أو ضاق بأهله، ولم يمكن توسيعه في موضعه، أو تشققت سقوفه، ولم تمكن عمارته ولا عمارة بعضه إلا ببيع بعضه، جاز بيع بعضه؛ لتعمر به بقيته، وإن لم يمكن الانتفاع بشيء منه بيع جميعه. اهـ.
فظهر مما تقدم أن نقل المسجد لحاجة الشارع إليه، لا يجوز على المذهب. وهذا على قول الجمهور أظهر. وعلى أصل الشيخ تقي الدين (324) لا يعد هذا بمجرده مسوغا، لكن على أصله فقط أنه لو نُقل في هذه الصورة إلى موضع آخر لكونه أصلح وأسهل لجماعة المسجد، وكان بمقدار المسجد الأول سعة وصفة وأتم -ساغ الإفتاء بذلك، وهذا هو المفتى به عندنا. وقد استدل أصحابنا الحنابلة على جواز نقل المسجد عند تعطل منافعه بما يروى أن عمر كتب إلى سعد لما بلغه أنه قد نقب بيت المال الذي في الكوفة: أنِ انقل المسجد الذي بالتمّارين، واجعل بيت المال في قبلة المسجد، فإنه لن يزال في المسجد مصل. قالوا: وكان هذا بمشهد من الصحابة، ولم يظهر خلافه، فكان إجماعا.
وأجابوا عما استدل به الجمهور بأن البيع المنهي عنه في الحديث أن المراد بيعه كبيع الأملاك، أو لأكل ثمنه وإبطال وقفيته، وهذا مما لا نزاع فيه. والنقل عند تعطل المنفعة، أو لرجحان المصلحة ليس من هذا في شيء، وإنما هو من تكميل الوقف، والسعي في حصول مقصود الواقف، أو ما هو أكمل من مقصوده، وهذا من الإحسان، والتعاون على البر والتقوى، الذي أمر اللَّه به. واللَّه أعلم.
[387] مساهمة غير المسلمين في بناء المساجد
هل يجوز لرجل غير مسلم أن يتبرع بمال يساهم به في بناء مسجد؟
الإجابة:(2/133)
لا مانع من ذلك، إذا لم يوجد من المسلمين من يريد الاستقلال بذلك، وبشرط أن لا يكون له سيطرة، ولا تصرف في ذلك المسجد، ولا ينبغي للمسلمين أن يستعينوا بالمشركين ما داموا يقدرون على سد حاجاتهم بأنفسهم.
[388] الجهر بقراءة القرآن إذا شوش على من حوله
سائل يسأل بقوله: لي جار حريص على فعل الخير، ويتقدم إلى المسجد، ويقرأ القرآن، ويجهر بالقراءة، حتى يشوش على الذين يقرءون، وعلى الذين يصلون، وعلى من يذاكرون دروسهم، وطلبنا منه أن يخفض صوته، فلم يقبل. وقال: هاتوا لي دليلا، فنرجو من فضيلتكم إفادتنا عن حكم هذه المسألة.
الإجابة:
عن أبي سعيد -رضي اللَّه عنه- قال: اعتكف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في المسجد، فسمعهم يجهرون بالقراءة، وهو في قبة له، فكشف الستر وقال: "كلكم مناج ربه، فلا يؤذ بعضكم بعضا، ولا يرفعن بعضكم على بعض بالقراءة" أو قال: "في الصلاة" . رواه أحمد وأبو داود (325) . وعن البياضي واسمه عبداللَّه ابن جابر، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خرج على الناس وهم يصلون، وقد علت أصواتهم بالقراءة. فقال: "إن المصلي يناجي ربه، فلينظر بما يناجيه، ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن" رواه أحمد (326). وعن علي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يرفع الرجل صوته بالقراءة قبل العشاء، أو بعدها، يغلط أصحابه وهم يصلون. رواه أحمد وأبو نعيم في "تاريخ أصبهان" (327)
وصرح الفقهاء -رحمهم اللَّه-أنه يحرم رفع الصوت بقراءة تغلِّط المصلين، إذا تحقق أن ذلك يؤذيهم ويشوش عليهم، فإن لم يتحقق الإيذاء، فهو مكروه، وإن تحقق فهو حرام. قال في "الغاية وشرحها" : ويتجه-أي: تحريم رفع الصوت- بقراءة تغلِّط المصلين للإيذاء. قال الشيخ تقي الدين بن تيمية (328) : ليس لهم الجهر بالقراءة إذن، وهو متجه. وفي "الحاشية" : ولعل مراد من قال بالكراهية، فيما إذا لم يتحقق الإيذاء، فإن تحقق حرم. انتهى.(2/134)
فعلى جاركم الحريص على فعل الخير كما ذكرتم، تأمل ما ذُكر. واللَّه الموفق.
أحكام الكسب [389] التعامل مع من في ماله حرام أو شبهة
سائل يسأل عن حكم التعامل مع بعض الناس الذين يشتبه في أموالهم أنها حرام؛ لأنهم يتعاملون بالربا كالبنوك ونحوها، أو يتعاطون عقودًا محرمة، أو أن أصل أموالهم غير حلال: كالذي يسرق أموال الناس ويتحيَّل عليهم، أو يتحيَّل على الأخذ من بيت المال من غير حله. فهل يجوز التعامل مع هؤلاء، والبيع لهم، والشراء منهم، وإيداع الفلوس عندهم، مع أنه لا يستعمل معهم إلا العقود الشرعية، ولا يقرب شيئا مشتبها بالنسبة إليه؟
الإجابة:
هذا مما اختلف العلماء فيه: فمنهم من غلب جانب الحظر، ونهى عن ذلك: إما نهي تحريم، أو نهي تنزيه، ومنهم من أباحه مطلقا، أو للحاجة، مع اتفاقهم على أن الورع ترك مثل هذا، وهو يَخِفُّ، ويَغْلُظُ بحسب كثرة الحرام المختلط بالحلال وقلته. وإليك ما قال بعض العلماء في هذا:
قال الإمام الموفق ابن قدامة في "المغني" : وإذا اشترى ممن في ماله حرام وحلال: كالسلطان الظالم، والمرابي، فإن علم أن المبيع من حلال ماله، فهو حلال، وإن علم أنه حرام، فهو حرام، فإن لم يعلم من أيهما هو، كرهناه؛ لاحتمال التحريم فيه، ولم يبطل البيع؛ لإمكان الحلال، قلَّ الحرام أو كثر، وهذا هو الشبهة، وبقدر قلة الحرام وكثرته تكون كثرة الشبهة وقلتها؛ لحديث: "فمن اتقى الشبهات، استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات، وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، وحمى اللَّه محارمه" (329) متفق عليه، وفي لفظ رواية البخاري: " فمن ترك ما اشتبه عليه كان لما استبان أترك، ومن اجترأ على ما يشك فيه من المأثم، أَوْشَكَ أن يواقع ما استبان"(330) . وقوله صلى الله عليه وسلم : "دع ما يَريبك إلى ما لا يَريبك"(331) ، وهذا مذهب الشافعي.
والمشكوك فيه على ثلاثة أضرب:(2/135)
الأول: ما أصله الحظر: كالذبيحة في بلد فيها مجوس، وعبدة أوثان، يذبحون، فلا يجوز شراؤها، وإن أمكن أن يكون ذابحها مسلما؛ لأن الأصل التحريم، فلا يزول إلا بيقين، أو ظاهر، وكذلك إن كان فيها أخلاط من المسلمين والمجوس، لم يجز شراؤها؛ لذلك والأصل فيه حديث عدي بن حاتم: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أرسلت كلبك، فخالط كلبا (332) لم يسم عليها، فلا تأكل؛ فإنك لا تدري أيها قتله"(333) . متفق عليه. فأما إن كان ذلك في بلد الإسلام، فالظاهر إباحتها؛ لأن المسلمين لا يقرون في بلدهم بيع ما لا يحل بيعه ظاهرًا.
الثاني: ما أصله الإباحة، كالماء يجده متغيرًا لا يعلم أبنجاسة تغير أم بغيرها، فهو طاهر في الحكم؛ لأن الأصل الطهارة فلا تزول عنها إلا بيقين أو ظاهر، ولم يوجد واحد منهما. والأصل في ذلك حديث عبداللَّه بن زيد قال: شكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يخيل إليه في الصلاة أنه يجد الشيء. قال: "لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا" (334) . متفق عليه.
الثالث: ما لا يعرف له أصل: كرجل في ماله حلال وحرام، فهذا هو الشبهة التي الأَوْلى تركها على ما ذكرنا، وعملا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وجد تمرة ساقطة. فقال: "لولا أني أخشى أنها من الصدقة لأكلتها" (335) ، وهو من باب الورع...
واحتج بعضهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاما، ومات ودرعه مرهونة عنده (336)، وأجاب يهوديا دعاه وأكل من طعامه، وقد أخبر اللَّه تعالى أنهم أكَّالون للسحت. وروي عن علي -رضي الله عنه- أنه قال: لا بأس بجوائز السلطان، فإن ما يعطيكم من الحلال أكثر مما يعطيكم من الحرام.(2/136)
قال الإمام أحمد -رحمه اللَّه- فيمَن معه ثلاثة دراهم فيها درهم حرام: يتصدق بالثلاثة، وإن كان معه مائتا درهم فيها عشرة حرام يتصدق بالعشرة؛ لأن هذا كثير، وذاك قليل. فقيل له: قال سفيان: ما كان دون العشرة يتصدق به، وما كان أكثر يخرج، قال: نعم، لا يجحف به. قال القاضي: وليس هذا على سبيل التحديد، وإنما هو على طريق الاختيار؛ لأنه كلما كثر الحلال بعد تناول الحرام، وشق التورع عن الجميع، بخلاف القليل، فإنه يسهل إخراج الكل، والواجب في الموضعين إخراج قدر الحرام، والباقي مباح له؛ وهذا لأن تحريمه لم يكن لتحريم عينه إنما حرم لتعلق حق غيره به، فإذا أخرج عوضه زال التحريم عنه، كما لو كان صاحبه حاضرا، فرضي بعوضه، وسواء كان قليلا أو كثيرا. والورع إخراج ما يتيقن به إخراج عين الحرام، ولا يحصل ذلك إلا بإخراج الجميع، لكن لما شق ذلك في الكثير ترك لأجل المشقة فيه، واقتصر على الواجب. ثم يختلف هذا باختلاف الناس، فمنهم من لا يكون له إلا الدراهم اليسيرة، فيشق إخراجها لحاجته إليها، ومنهم من يكون له مال كثير، فيستغني عنها، فيسهل إخراجها. انتهى ملخصا (337) .
وقال الحافظ ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (338) على حديث النعمان بن بشير -رضي اللَّه عنه-: "الحلال بيّن والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام..." الحديث. متفق عليه. فقال في شرح هذا الحديث: وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعاملون المشركين وأهل الكتاب مع علمهم بأنهم لا يجتنبون الحرام كله.(2/137)
وإن اشتبه الأمر فهو شبهة، والورع تركه. قال سفيان: لا يعجبني ذلك وتركه أعجب إلي. وقال الزهري ومكحول: لا بأس أن يؤكل منه ما لم يُعرف أنه حرام بعينه، فإن لم يُعلم في ماله حرام بعينه، عُلم أن فيه شبهة، فلا بأس بالأكل منه. نص عليه أحمد في رواية حنبل. وذهب إسحاق بن راهويه إلى ما روي عن ابن مسعود وسليمان وغيرهما من الرخصة، وإلى ما روي عن الحسن وابن سيرين في إباحة الأخذ مما يقضي من الربا والقمار، نقله عنه ابن منصور.
وقال الإمام أحمد في المال المشتبه حلاله بحرامه: إن كان المال كثيرًا أخرج منه قدرَ الحرام، وتصرف في الباقي، وإن كان المال قليلاً اجتنبه كله؛ وهذا لأن القليل إذا تناول منه شيئًا فإنه تَبْعُدُ معه السلامة من الحرام بخلاف الكثير. ومن أصحابنا من حمل ذلك على الورع دون التحريم، وأباح التصرف في القليل والكثير بعد إخراج قدر الحرام منه، وهو قول الحنفية وغيرهم، وأخذ به قوم من أهل الورع منهم بشر الحافي.
ورخص قوم من السلف في الأكل ممن يعلم في ماله حرام، ما لم يعلم أنه من الحرام بعينه،كما تقدم عن مكحول والزهري. وروي مثله عن الفضيل بن عياض. وروي في ذلك آثار عن السلف، فصح عن ابن مسعود أنه سئل عمَّن له جار -يأكل الربا علانية، ولا يتحرج من مالٍ خبيثٍ يأخذه- يدعوه إلى طعام. قال: أجيبوه، فإنما المهنأ لكم والوزر عليه(339). وفي رواية أنه قال: لا أعلم له شيئًا إلا خبيثا أو حراما. فقال: أجيبوه. وقد صحح الإمام أحمد هذا عن ابن مسعود، ولكنه عارضه بما روي عنه أنه قال: الإثم حزاز القلوب (340) .
وروي عن سلمان مثل قول ابن مسعود الأول (341) . وعن سعيد بن جبير، والحسن البصري، ومُوَرِّق العجلي، وإبراهيم النخعي، وابن سيرين، وغيرهم، والآثار بذلك موجودة في كتاب "الأدب" لحميد بن زنجويه، وبعضها في كتاب "الجامع" للخلال وفي "مصنفي" عبد الرزاق وابن أبي شيبة، وغيرهم.(2/138)
ومتى علم أن عين الشيء حرام أخذ بوجه محرم؛ فإنه يحرم تناوله، وقد حكى الإجماعَ على ذلك ابنُ عبد البر وغيره، وقد روي عن ابن سيرين في الرجل يُقضى من الربا. قال: لا بأس به، وعن الرجل يُقضى من القمار. قال: لا بأس به. خرجه الخلال بإسناد صحيح، ورُوي عن الحسن خلاف هذا، وأنه قال: إن هذه المكاسب قد فسدت، فخذوا منها شبه المضطر.
وعارض المروي عن ابن مسعود وسلمان ما روي عن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- أنه أكل طعاما، ثم أخبر أنه من حرام، فاستقاءه. انتهى ملخصا. واللَّه أعلم.
وقال شمس الدين بن مفلح في كتاب "الآداب الشرعية والمنح المرعية" المشهورة بْالآداب الكبرى"(342): (فصل: التعامل فيما يختلف الاعتقاد فيه من حلال المال وحرامه، كالنجاسات) إذا اكتسب الرجل مالًا بوجه مختلف فيه، مثل بعض البيوع والإجارات المختلف فيها، فهل يجوز لمن اعتقد التحريم أن يعامله بذلك المال؟ الأشبه أن هذا جائز فيما لم يعلم تحريمه؛ إذ هذه العقود ليست بدون بيع الكفار للخمر، وقد جاز لنا معاملتهم بأثمانها للإقرار عليها، فإقرار المسلم على اجتهاده أو تقليده أجوز، وذلك أنه إذا اعتقد الجواز، واشترى، فالمال في حقه معفو عنه، وكذلك لو انتقل هذا المال منه إلى غيره بإرث، أو هبة، أو هدية، أو غير ذلك. وعلى هذا يحمل ما روي عن ابن مسعود -رضي الله عنه-: لك مهنؤه وعليه مأثمه. وبذلك أفتيتُ في المال الموروث، وكذلك قبول العطاء الموروث، إذا كان الميت يعامل المعاملات المختلف فيها، وكذلك قبول العطاء من السلطان المتأول في بعض مجناه، وأخذه المكتسب إذا قبض ببيع تجارة باجتهاد أو تقليد، ثم يتبين له التحريم، ففيه روايتان بناء على ثبوت الحكم قبل بلوغ الخطاب، وعلى إعادة من صلى، ولم يتوضأ من لحوم الإبل، أو صلى في أعطانها.
ورجحتُ في هذا كله وجوب الإعادة، وعدم التحريم. فقد يقال: إقرار ما اكتسبه له كأخذه من غيره. انتهى ملخصا. واللَّه أعلم.(2/139)
[390] الناس شركاء في ثلاث
حديث "الناس شركاء في ثلاث" هل هو على عمومه أم يختص بأناس دون آخرين، وإذا كان هناك تخصيص، فما الذي يخصصهم؟
الإجابة:
الحديث على عمومه، وليس لأحد الاختصاص به دون أحد، ولا يجوز لأحد أن يحمي حمى يختص به هو وجماعته ونحو ذلك. وفي حديث ابن عباس عن الصعب بن جثامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا حمى إلا للَّه ورسوله" ( 343 ). فإن هذا الحديث يدل على مثل ما دل عليه حديث:الناس شركاء في ثلاثة" (344) . وفي هذا الحديث استثناء حمى اللَّه ورسوله، وهو ما كان يحميه النبي صلى الله عليه وسلم وحماه الخلفاء الراشدون بعده، لإبل الجهاد في سبيل اللَّه، ونحوها، وبه استدل مَن ذهب مِن العلماء إلى أنه يجوز للإمام حمى مرعى لدواب المسلمين، بشرط عدم الضرر؛ جمعا بين هذا الحديث وحديث: "لا ضرر ولا ضرار" (345)، وهو استدلال صحيح. أما ما عدا ذلك، فهو على عموم المنع كما تقدم.
نعم، يوجد بعض شعاب وأودية ونحوها اعتيد حماها من قديم الزمان، ودرج على ذلك أهل تلك البلاد، ومن يجاورهم، واشتهر اختصاص بعضهم بها دون بعض، وربما كان فيها أو في بعضها وثائق من الحكام، أو من بعض القضاة؛ قطعا للنزاع، وحقنا للدماء؛ فإنه قد وقع من أجلها من سفك الدماء وغير ذلك من الأضرار الشيء الكثير، فينبغي اعتبار ما كانوا عليه سابقا مؤقتا مقدرا بالضرورة؛ لما في ذلك من حقن الدماء. واللَّه أعلم.
[391] معاملة البنوك
ما حكم إيداع النقود في البنوك مقابل أرباح مئوية معلومة؟
الإجابة:
الحمد للَّه. إيداع النقود في البنوك على الصفة التي ذُكرت لا يجوز؛ لأنه من الربا، والكلام على معاملات البنوك سيأتي له بحث مستوف -إن شاء اللَّه-.
[392] الرشوة
سائل يسأل عن حكم الرشوة إذا دفعها الإنسان مضطرا، سواء كانت قليلة أو كثيرة.
الإجابة:(2/140)
الرشوة حرام بالاتفاق، وملعون فاعلها، وهي من كبائر الذنوب - والعياذ باللَّه- ومع هذا فهي مما يفسد المجتمع، وينزع الثقة فيما بين الناس، ولا يطمئن الإنسان لإجراء العدالة في قضيته، وهي ظلم صريح، وأكل لأموال الناس بالباطل. قال اللَّه تعالى: {وَلَا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} (346) .
قال المفسرون: نزلت هذه الآية فيمَن يدفع الرشوة إلى الحاكم؛ ليحكم له بغير حقه، أو بأكثر من حقه، أو لئلا يحكم عليه بأداء الحق الذي عليه، ونحو ذلك. وفي قوله تعالى: {وََأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} توبيخ لهؤلاء؛ لأن الإقدام على القبيح مع العلم بقبحه أقبح، وصاحبه بالتوبيخ أحق.
وعن عبد اللَّه بن عمرو قال: لعن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي(347). رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، وفي الباب عدة أحاديث تركنا إيرادها؛ إيثارا للاختصار، وهي تدل على أن كلا من الراشي والمرتشي ملعون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ، واللعن: هو الطرد والإبعاد عن رحمة اللَّه - والعياذ باللَّه - فأي وعيد أعظم من هذا؟ كذلك الرائش: وهو السمسار الذي يسعى بينهما، ويمشي لتحقيق هذه الجريمة القبيحة. لا يختص هذا في أخذ الرشوة في الأحكام الشرعية فقط، بل كل من تولى ولاية فخان فيها، وتلاعب بحقوق عباد اللَّه، وأخذ الرشوة مقابل ذلك، فهو داخل في عموم الأحاديث السابقة.
[393] التعامل باليانصيب وشراء أوراقه
سائل يسأل عن حكم التعامل باليانصيب، ودفع المال فيه، وشراء أوراقه؛ لأجل الربح، وتارة تكسب أضعاف ما دفعته، وتارة لا تكسب شيئا، فهل يحل هذا؟
الإجابة:(2/141)
لا شك أن اليانصيب نوع من أنواع القمار، والقمار من الميسر الذي أمرنا اللَّه باجتنابه، وحذرنا عنه بقوله -تعالى-: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ}(348) . قال الإمام صديق بن حسن خان القنوجي في تفسيره "فتح البيان" : قال جماعة (349) من السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم: كل شيء فيه قمار من نرد، أو شطرنج، أو غيرهما، فهو من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب إلا ما أبيح من الرهان في الخيل، والقرعة في استخراج الحقوق.
وقال مالك: الميسر ميسران: ميسر اللَّهو، وميسر القمار، فمن ميسر اللَّهو: النرد، والشطرنج، والملاهي كلها. وميسر القمار: ما يتخاطر الناس عليه وكل ما قومر به فهو ميسر: كالطاب، والمنقلة، والطاولة، وغيرها.(2/142)
وقال قتادة: الميسر: هو القمار(350) . وقال ابن عباس: كل القمار من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب (351) ، وعن علي بن أبي طالب قال: النرد، والشطرنج من الميسر(352) ، وعنه قال: الشطرنج ميسر الأعاجم وقال قاسم بن محمد: كل ما ألهى عن ذكر اللَّه وعن الصلاة فهو ميسر. وعن ابن الزبير قال: يا أهل مكة، بلغني عن رجال يلعبون بلعبة يقال لها: نردشير، واللَّه يقول في كتابه: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} إِلى قوله: {فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ}، وإني أحلف باللَّه، لا أوتى بأحد يلعب بها إلا عاقبته في شعره وبشره، وأعطيت سلبه لمن أتاني به وعن مالك بن أنس قال: الشطرنج من النرد ، وقال: بلغنا عن ابن عباس: أنه ولي مال يتيم، فأحرقها(353). وسئل ابن عمر عن الشطرنج، فقال: هي شر من النرد (354)، وسئل أبو جعفر عنه، فقال: تلك المجوسية، فلا تلعبوا بها(355). وأخرج ابن أبي شيبة، وابن أبي الدنيا، عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "من لعب بالنردشير فقد عصى اللَّه ورسوله"( 356) . وقال ابن سيرين: ما كان من لعب فيه قمار، أو صياح، أو شر، فهو من الميسر (357) انتهى. وقال الشيخ محمد رشيد رضا في فتاواه: اليانصيب: نوع من أنواع القمار. كيفيته: أن يضع امرؤ أو شركة قراطيس صغيرة فيها أرقام تسمى نِمَرَا، أي: أعدادا يذكر في كل قرطاس منها ما يدل على أن كذا من هذه النِّمرَ يسحب في يوم كذا، وأن طائفة منها -أي النِّمرَ - يربح كذا قرشا، أو جنيها، أو فرنكا، وكذا منها يربح كذا، أي: أقل من ذلك، ويبيعون هذه القراطيس بثمن قليل بالنسبة إلى ما يرجى من بعضها، ويشتريها من يشتريها، أملا أن تكون النمرة فيما يشتريه من النمر الرابحة، وإذن يكون أعطى قليلا، وأخذ كثيرا، وكيفية السحب: أن توضع بطائق عليها.
[394] حديث: "الصُّبحة تمنع الرزق"
جماعة يسألون عن حديث: "الصُّبحة تمنع الرزق" ، ما معناه، ومن رواه؟(2/143)
الإجابة:
أما معناه؛ فالصُّبحة: بضم الصاد نوم أول النهار، وهي التي تسميها العامة (الصفرة) .
وأما من رواه، فقد ذكر في "كشف الخفا" (358) أنه رواه عبد اللَّه بن الإمام أحمد في "زوائده" (359)، والقضاعي (360) عن عثمان بن عفان مرفوعا، وفي سنده ضعف، وأورده ابن عدي (361) من جهة إسحاق بن أبي فروة، وقال: إنه خلط في إسناده، فتارة جعله عن عثمان، وتارة عن أنس، وجعله في "الأذكار" من كلام بعض السلف، وقال الصغاني (362) : موضوع. ورواه أبو نعيم (363)عن عثمان رفعه، وفي الباب عن عائشة قالت: وإن كان شيء يرد الرزق، فإن الصُّبحة تمنع الرزق. مضى في الدعاء. فنهي عن هذا النوم؛ لأنه وقت الذكر، ثم وقت طلب الكسب... قال في "المقاصد" (364) : ويشهد له حديث جعفر بن برقان عن الأصبغ بن نباتة عن أنس رفعه: "لا تناموا عن طلب أرزاقكم فيما بين صلاة الفجر إلى طلوع الشمس" . فسئل أنس عن ذلك، فقال: تسبح وتهلل وتكبر وتستغفر سبعين مرة، فعند ذلك ينزل الرزق الطيب، أو قال: يقسم. رواه الديلمي(365). وروى البغوي في "شرح السنة" عن علقمة بن قيس أنه قال: بلغنا أن الأرض تعج إلى اللَّه من نومة العالم بعد صلاة الصبح (366) . وعند الديلمي (367) - بسند ضعيف- عن علي مرفوعا: "ما عجت الأرض إلى ربها من شيء كعجيجها من دم حرام، أو غسل من زنا، أو نوم عليها قبل طلوع الشمس" . وفي رابع عَشَر "المجالسة" للدينوري عن ابن الأعرابي قال: مر العباس بابنه الفضل، وهو نائم نومة الضحى، فركضه برجله، وقال له: قم، إنك لنائم الساعة التي يقسم اللَّه فيها الرزق لعباده، أَوَمَا سمعت ما قالت العرب فيها؟ قال: وما قالت العرب يا أبت؟ قال: زعمت أنها مكسلة، مهرمة، منساة للحاجة، ثم قال: يا بني، نوم النهار على ثلاثة: نومة الحمق؛ وهو نومة الضحى، ونومة الخلق؛ وهي التي تُروى: "قيلوا فإن الشياطين لا تقيل" ، ونومة الخرق، وهي نومة بعد العصر، لا ينامها إلا سكران أو مجنون.(2/144)
انتهى من "كشف الخفا" للعجلوني.
وقال ابن القيم في "زاد المعاد" (368) في الكلام على هدي النبي صلى الله عليه وسلم في النوم واليقظة قال: وأردأ النوم نوم أول النهار، وأردأ منه النوم آخره بعد العصر. ورأى عبداللَّه بن عباس ابنا له نائما نومة الصبحة. فقال له: قم، أتنام في الساعة التي تقسم فيها الأرزاق؟ !
وقيل: نوم النهار ثلاثة: خُلُق وخرق وحمق، فالخلق: نومة الهاجرة، وهي خلق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، والخرق: نومة الضحى، تشغل عن أمر الدنيا والآخرة، والحمق: نومة العصر.
وقال الشاعر:
أَلا إنّ نَوْماتِ الضحى تُوِرثُ الفَتَى………خَبالاً ونوماتُ العُصير جنون
ونوم الصبحة يمنع الرزق؛ لأن ذلك وقت تَطلب فيه الخليقةُ أرزاقها، وهو وقت قسمة الأرزاق فنومه حرمان، إلا لعارض، أو ضرورة. وهو مضر جدا بالبدن؛ لإرخائه البدن، وإفساده للفضلات، التي ينبغي تحليلها بالرياضة، فيحدث تكسرا وعِيًّا وضعفا. وإن كان قبل التبرز والحركة والرياضة وإشغال المعدة بشيء، فذلك الداء العضال، المولد لأنواع من الأدواء. انتهى من "زاد المعاد" .
أحكام المولود [395] حكمة الأذان والإقامة في أذن المولود
سائل يسأل عن مولود أذَّن أبوه في أذنه اليمنى، وأقام الصلاة في أذنه اليسرى، هل ورد دليل على ذلك، وما الحكمة في الأذان والإقامة في أذن المولود الصغير الذي لا يعقل مثل هذا، ولا يشعر به؟
الإجابة:
أما الأذان في أذن المولود فقد روى أبو داود، والترمذي، والحاكم وصححاه، عن عبيداللَّه بن أبي رافع، عن أبي رافع قال: رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أذن في أذن الحسن بن علي حين ولدته فاطمة (369) .(2/145)
وأما الجمع بين الأذان والإقامة، فقد ورد فيه حديثان: أحدهما: ما رواه البيهقي في "الشعب" بسند فيه ضعف، عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم أَذَّن في أُذن الحسن بن علي يوم ولد، وأقام في أذنه اليسرى (370) ، والحديث الثاني: ما رواه البيهقي أيضا في "الشعب" بسند فيه ضعف عن الحسن بن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَن وُلد له مولود، فأذّن في أُذنه اليمنى، وأقام في أذنه اليسرى، رفعت عنه أم الصبيان" (371) .
وعلى هذه الأحاديث الثلاثة اعتمد ابن القيم في "تحفة المودود في أحكام المولود" ، وترجمها باستحباب التأذين في أذن المولود، والإقامة في أذنه اليسرى، ثم أبدى ابن القيم -رحمه اللَّه -الحكمة في ذلك، فقال: سر التأذين -واللَّه أعلم- أن يكون أول ما يقرع سمع الإنسان كلماته -أي: الأذان -المتضمّنة لكبرياء الرب، وعظمته، والشهادة التي هي أول ما يدخل بها في الإسلام، فكان ذلك كالتلقين له شعار الإسلام عند دخوله إلى الدنيا، كما يلقن كلمة التوحيد عند خروجه منها. وغير مستنكر وصول التأذين إلى قلبه، وتأثره به، وإن لم يشعر مع ما في ذلك من فائدة أخرى: وهي هروب الشيطان من كلمات الأذان، وهو كان يرصده حتى يولد، فيقارنه المدة التي قدرها اللَّه وشاءها، فيسمع شيطانه ما يضعفه، ويغيظه أول أوقات تعلقه به. وفيه معنى آخر: وهو أن تكون دعوته إلى اللَّه، وإلى دينه الإسلام، وإلى عبادته سابقة على دعوة الشيطان، كما كانت فطرة اللَّه التي فطر الناس عليها سابقة على تغيير الشيطان لها، ونقله عنها، ولغير ذلك من الحكم. اهـ. واللَّه حكيم عليم.
أحكام التداوي [396] النفث في الماء وسقيه المريض(2/146)
سائل يسأل: عما يفعله بعض الناس، يأتي إلى رجل مختص بإناء فيه قليل من ماء، فينفث فيه، ويتلو بعض آيات من القرآن، ودعوات يقولها، ثم يذهب به إلى المريض، فيسقيه إياه، فهل هذا جائز شرعا أم لا، وهل لذلك حقيقة أقصد: هل يستفيد المريض من شرب ذلك الماء، وهل ورد في ذلك دليل شرعي؟ نرجو الإفادة.
الإجابة:
لا بأس بذلك فهو جائز، بل قد صرح العلماء باستحبابه، وبيان حكم هذه المسألة مدلول عليه بالنصوص النبوية، وكلام محققي الأئمة، وهذا نصها: قال البخاري في صحيحه: (باب النفث في الرقية) ، ثم ساق حديث أبي قتادة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأى أحدكم شيئا يكرهه، فلينفث حين يستيقظ ثلاثا، ويتعوذ من شرها، فإنها لا تضره" (372) ، ثم ساق حديث عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه بـ{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} و"المعوذتين" جميعا، ثم يمسح بهما وجهه، وما بلغت يداه من جسمه (373) ، ثم روى حديث أبي سعيد (374) في الرقية بالفاتحة، ونص رواية مسلم: فجعل يقرأ أم القرآن، ويجمع بزاقه ويتفل، فبرأ الرجل، ثم ذكر البخاري حديث عائشة (375) : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في الرقية: باسم اللَّه، تربة أرضنا بريقة بعضنا، يشفى سقيمنا، بإذن ربنا. قال النووي: فيه استحباب النفث في الرقية، وقد أجمعوا على جوازه، واستحبه الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم (376) .
وقال البيضاوي: قد شهدت المباحث الطبية على أن للمريض مدخلا في النضج، وتعديل المزاج، وتراب الوطن له تأثير في حفظ المزاج، ودفع الضرر... إلى أن قال: ثم إن الرقى، والعزائم لها آثار عجيبة، تتقاعد العقول عن الوصول إلى كنهها.(2/147)
وتكلم ابن القيم في "الهدي" في حكم النفث، وأسراره بكلام طويل، قال في آخره: وبالجملة فنَفْسُ الراقي، تقابل تلك النفوس الخبيثة، وتزيد بكيفية نفثه، وتستعين بالرقية وبالنفث على إزالة ذلك الأثر... واستعانته بنفثه، كاستعانة تلك النفوس الرديئة بنفثها. وفي النفث سر آخر، فإنه مما تستعين به الأرواح الطيبة والخبيثة، ولهذا تفعله السحرة كما يفعله أهل الإيمان (377) .
وفي رواية مهنا عن الإمام أحمد في الرجل يكتب القرآن في إناء، ثم يسقيه المريض، قال: لا بأس به.
وقال صالح بن الإمام أحمد: ربما اعتللت، فيأخذ أبي ماء، فيقرأ عليه، ويقول لي: اشرب منه، واغسل وجهك ويديك. واللَّه أعلم.
[397] السحر وهل له حقيقة؟وحل السحر عن المسحور
سائل يسأل عن حقيقة السحر، هل له وجود حقيقي واقعي أم أنه مجرد تخيلات، وتوهمات، وشبه ذلك، وقال: كان لنا جار صاحب ديانة فيما يظهر لنا، ويأتون إليه الناس من كل ناحية متأثرين بأنواع من الأمراض النفسية، ومنها السحر، فيزعم أنه يعالجهم بعلاجات متنوعة، وأنهم يشفون بإذن اللَّه ثم بسبب علاجاته، قال: وناقشته مرة عن ذلك، فقال: إنه يستطيع أن يحل السحر عن المسحور، فسألته عن كيفية ذلك، فلم يفصح لي عن شيء صريح، وأنا متشكك منه، وقال لي مرة: إنه يستطيع أن يعمل السحر ابتداء، ويؤثر به على أي شخص يريده، وقد عمله فعلا فيما مضى، ثم تاب من عمله، فلا يعود إليه أبدا، ولكنه الآن مستمر على حل السحر؛ احتسابًا لنفع الناس؛ وتكسبا لما يحصل منهم عليه، لينفقه على نفسه، وعائلته، ويتصدق منه، فهل يحل مثل هذا الصنيع، وماذا يترتب عليه؟.
الإجابة:
نعم، السحر له وجود حقيقي واقعي لا شك فيه. هذا مذهب أهل السنة والجماعة؛ خلافا للمعتزلة، ومن قال بقولهم، وقد ذكره اللَّه في كتابه.(2/148)
وهو: عبارة عما خفي، ولطف سببه، قال أبو محمد الموفق المقدسي في "الكافي" : السحر عزائم وَرُقى، ومنه ما يؤثر في القلوب، والأبدان، فيمرض، ويقتل، ويفرق بين المرء، وزوجه. قال اللَّه تعالى عن اليهود: {وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} (378) إلى آخر الآية، وقال تعالى: {وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} (379) - يعني: السواحر اللواتي ينفثن في سحرهن، ولولا أن للسحر حقيقة لم يأمر بالاستعاذة منه. والسحر محرم في جميع أديان الرسل، واختلف أهل العلم: هل يكفر الساحر أو لا؟
فذهب طائفة من السلف إلى أنه يكفر، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وأحمد في رواية عنه، وقال الشافعي: إذا تعلم السحر، فإن وصف ما يوجب الكفر، فهو كافر، وإن وصف ما لا يوجب الكفر نظرت، فإن اعتقد إباحته، فهو كافر، وإلا فلا، وقد سماه اللَّه كفرا بقوله: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ}، وقوله: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُواْ}.(2/149)
وْحدُّ الساحر ضربة بالسيف" (380) الحديث رواه الترمذي عن جندب مرفوعا وموقوفا وصحح الموقوف، وبهذا الحديث أخذ مالك وأبو حنيفة. فقالوا: يقتل الساحر، وهو رواية عن الإمام أحمد، قال أحمد: عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم . وممن روي عنه قتله: عمر، وعثمان، وابن عمر، وحفصة، وجندب بن كعب، وقيس بن سعد (381) وعمر بن عبد العزيز. وأما الشافعي، فلم ير القتل بمجرد السحر؛ إلا أن عمل في سحره ما يبلغ الكفر (382) . وبه قال ابن المنذر (383) وهو رواية عن الإمام أحمد.
وأما حل السحر عن المسحور، فقد ورد فيه حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن النشرة، فقال: "هي من عمل الشيطان" (384) . رواه أحمد وأبو داود، وفي البخاري عن قتادة قلت لابن المسيب: رجل به طب، أو يؤخذ عن امرأته أيحل عنه، أو ينشر؟ قال: لا بأس، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع، فلم ينه عنه (385) .
وروي عن الحسن: لا يحل السحر إلا ساحر. قال ابن القيم: النشرة حل السحر عن المسحور، وهي نوعان: حله بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان، وعليه يحمل قول الحسن، فيتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب، فيبطل عمله عن المسحور، الثاني: النشرة بالرقية، والتعوذات، والأدوية، والدعوات المباحة، فهذا جائز. واللَّه أعلم.
[398] حقيقة الإصابة بالعين وعلاجها
هل إصابة العين صحيحة واقعة، وما صفة تأثيرها، وما علاجها؟ نرجوكم إيضاح ذلك، وبسطه مهما أمكن أرشدكم اللَّه.
الإجابة:
قال ابن القيم - رحمه اللَّه - في "زاد المعاد" (386) : (فصل) في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج المصاب بالعين:
روى مسلم في "صحيحه" عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "العين حق، ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين" (387) .
وفي "صحيحه" أيضًا عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في الرقية من الحُمَة والعين والنملة (388) .(2/150)
وفي "الصحيحين" من حديث أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "العين حق" (389) .
وفي سنن أبي داود عن عائشة - رضي اللَّه عنها - قالت: كان يؤمر العائن، فيتوضأ، ثم يغتسل منه المعين ( 390 ).
وفي "الصحيحين" عن عائشة قالت: أمرني النبي صلى الله عليه وسلم -أو أمر- أن نسترقي من العين (391) .
وذكر الترمذي من حديث سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عروة ابن عامر، عن عبيد بن رفاعة الزرقي أن أسماء بنت عميس قالت: يا رسول اللَّه، إن بني جعفر تصيبهم العين، أفأسترقي لهم؟ فقال: "نعم، فلو كان شيء يسبق القضاء لسبقته العين" (392) . قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وروى مالك، عن ابن شهاب، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، قال: رأى عامر بن ربيعة سهل بن حنيف يغتسل، فقال: واللَّه ما رأيت كاليوم، ولا جِلْدَ مُخبَّأة! قال: فلُبِطَ سهلٌ، فأتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عامرًا، فتغيظ عليه، وقال: "علام يقتل أحدكم أخاه؟! ألا بَرَّكْتَ عليه؟ اغتسِلْ له" . فَغَسَل له عامر وجهه، ويديه، ومرفقيه، وركبتيه، وأطراف رجليه، وداخلة إزاره في قدح، ثم صب عليه، فراح مع الناس (393) ، وروى مالك أيضًا، عن محمد بن أبي أمامة ابن سهل، عن أبيه هذا الحديث وقال فيه: "إن العين حق، توضأْ له" . فتوضأَ له.
وذكر عبدالرزاق، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه مرفوعًا: "العين حق، ولو كان شيء سابق القدر، لسبقته العين، وإذا اسْتُغْسِلَ أحدُكم فليغتسل" (394) ووصله صحيح.
قال الزهري:يؤمر الرجل العائن بقدح، فيدخل كفه فيه، فيتمضمض، ثم يمجه في القدح، ويغسل وجهه في القدح، ثم يدخل يده اليسرى، فيصب على ركبته اليمنى في القدح، ثم يدخل يده اليمنى، فيصب على ركبته اليسرى، ثم يغسل داخلة إزاره، ولا يوضع القدح في الأرض، ثم يصب على رأس الرجل الذي تصيبه العين من خلفه صبة واحدة (395) .(2/151)
والعين عينان: عين إنسية، وعين جنية، فقد صح عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في بيتها جارية في وجهها سفعة. فقال: "استرقوا لها؛ فإن بها النظرة" (396) .
قال الحسين بن مسعود الفراء: "وقوله سفعة" أي: نظرة- يعني: من الجن -يقول: بها عين أصابتها من نظر الجن، أنفذ من أسنة الرماح (397) .
فأبطلت طائفة ممن قل نصيبهم من السمع والعقل أمرَ العين، وقالوا: إنما ذلك أوهام لا حقيقة لها، وهؤلاء من أجهل الناس بالسمع والعقل، ومن أغلظهم حجابًا، وأكثفهم طباعًا، وأبعدهم معرفة عن الأرواح، والنفوس، وصفاتها، وأفعالها، وتأثيراتها.
وعقلاء الأمم على اختلاف مللهم، ونحلهم، لا تدفع أمر العين، ولا تنكره، وإن اختلفوا في سببه وجهة تأثير العين، فقالت طائفة: إن العائن إذا تكيفت نفسه بالكيفية الرديئة، انبعثت من عينه قوة سُمِّية تتصل بالمعين، فيتضرر، قالوا: ولا يستنكر هذا، كما لا يستنكر انبعاث قوة سمية من الأفعى، تتصل بالإنسان فيهلك، وهذا أمر قد اشتهر عن نوع من الأفاعي أنها إذا وقع بصرها على الإنسان، هلك، فكذلك العائن، وقالت فرقة أخرى: لا يستبعد أن ينبعث من عين بعض الناس جواهر لطيفة غير مرئية، فتتصل بالمعين، وتتخلل مسام جسمه، فيحصل له الضرر، وقالت فرقة أخرى: قد أجرى اللَّه العادة بخلق ما يشاء من الضرر عند مقابلة عين العائن لمن يَعينه من غير أن يكون منه قوة، ولا سبب، ولا تأثير أصلاً، وهذا مذهب منكري الأسباب والقوى والتأثيرات في العالم، وهؤلاء قد سدوا على أنفسهم باب العلل والتأثيرات والأسباب، وخالفوا العقلاء أجمعين.(2/152)
ولا ريب أن اللَّه سبحانه خلق في الأجسام، والأرواح، قوى، وطبائع مختلفة، وجعل في كثير منها خواص، وكيفيات مؤثرة، ولا يمكن لعاقل إنكار تأثير الأرواح في الأجسام؛ فإنه أمر مشاهد محسوس، وأنت ترى الوجه كيف يحمر حمرة شديدة، إذا نظر إليه من يحتشمه، ويستحي منه، ويصفر صفرة شديدة عند نظر من يخافه إليه، وقد شاهد الناس من يسقم من النظر، وتضعف قواه، وهذا كله بواسطة تأثير الأرواح، ولشدة ارتباطها بالعين، ينسب الفعل إليها، وليست هي الفاعلة، وإنما التأثير للروح.
والأرواح مختلفة في طبائعها، وقواها، وكيفياتها، وخواصها، فروح الحاسد مؤذية للمحسود أذًى بَيِّنًا؛ ولهذا أمر اللَّه -سبحانه- رسوله أن يستعيذ به من شره، وتأثير الحاسد في أذى المحسود أمر لا ينكره إلا من هو خارج عن حقيقة الإنسانية، وهو أصل الإصابة بالعين؛ فإن النفس الخبيثة الحاسدة تتكيف بكيفية خبيثة، وتقابل المحسود، فتؤثر فيه بتلك الخاصية، وأشبه الأشياء بهذا الأفعى؛ فإن السم كامن فيها بالقوة، فإذا قابلت عدوها، انبعثت منها قوة غضبية، وتكيفت بكيفية خبيثة مؤذية، فمنها ما تشتد كيفيتها، وتقوى، حتى تؤثر في إسقاط الجنين، ومنها: ما تؤثر في طمس البصر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الأبتر وذي الطفيتين من الحيات: "إنهما يَلْتَمسَانِ البصر، ويُسقطان الحَبَل" (398) . ومنها: ما تؤثر في الإنسان كيفيتها بمجرد الرؤية، من غير اتصال به؛ لشدة خبث تلك النفس، وكيفيتها الخبيثة المؤثرة، والتأثير غير موقوف على الاتصالات الجسمية، كما يظنه من قل علمه ومعرفته بالطبيعة والشريعة، بل التأثير يكون تارة بالاتصال، وتارة بالمقابلة، وتارة بالرؤية، وتارة بتوجه الروح نحو من يؤثر فيه، وتارة بالأدعية والرقى، والتعوذات، وتارة بالوهم والتخيل.(2/153)
ونفس العائن لا يتوقف تأثيرها على الرؤية، بل قد يكون أعمى، فيوصف له الشيء، فتؤثر نفسه فيه، وإن لم يره، وكثير من العائنين يؤثر في المعين بالوصف من غير رؤية، وقد قال تعالى لنبيه: {وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ} (399) وقال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِن شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}(400). فكل عائن حاسد، وليس كل حاسد عائنًا، فلما كان الحاسد أعم من العائن، كانت الاستعاذة منه استعاذة من العائن، وهي سهام تخرج من نفس الحاسد والعائن نحو المحسود والمعين؛ تصيبه تارة، وتخطئه تارة، فإن صادفته مكشوفًا لا وقاية عليه، أثرت فيه، ولا بد، وإن صادفته حذرًا شاكي السلاح، لا منفذ فيه للسهام، لم تؤثر فيه، وربما ردت السهام على صاحبها، وهذا بمثابة الرمي الحِسِّي سواء، فهذا من النفوس والأرواح، وذلك من الأجسام والأشباح.
وأصله من إعجاب العائن بالشيء، ثم تتبعه كيفية نفسه الخبيثة، ثم تستعين على تنفيذ سمها بنظرة إلى المعين، وقد يَعين الرجل نفسه، وقد يَعين بغير إرادته، بل بطبعه، وهذا أردأ ما يكون من النوع الإنساني، وقد قال أصحابنا وغيرهم من الفقهاء: إن من عرف بذلك حبسه الإمام، وأجرى له ما ينفق عليه إلى الموت، وهذا هو الصواب قطعًا.(2/154)
(فصل) والمقصود: العلاج النبوي لهذه العلة، وهو أنواع، وقد روى أبو داود في "سننه" عن سهل بن حنيف، قال: مررنا بسيل، فدخلت، فاغتسلت فيه، فخرجت محمومًا، فنمى ذلك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقال: "مروا أبا ثابت يتعوذ" ، قال: فقلت: يا سيدي، والرقى صالحة؟ فقال: "لا رقية إلا من نفس أو حُمة أو لدغة" (401) والنفس: العين. يقال: أصابت فلانا نفس أي: عين، والنافس: العائن، واللدغة: بدال مهملة وغين معجمة، وهي ضربة العقرب ونحوها.(2/155)
فمن التعوذات والرقى: الإكثار من قراءة "المعوذتين" ، و"فاتحة الكتاب" ، و"آية الكرسي" ، ومنها التعوذات النبوية نحو: "أعوذ بكلمات اللَّه التامات من شر ما خلق" . ونحو: "أعوذ بكلمات اللَّه التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة" . ونحو: "أعوذ بكلمات اللَّه التامات التي لا يجاوزهن بَر ولا فاجر، من شر ما خلق، وذرأ، وبرأ، ومن شر ما ينزل من السماء، ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض ومن شر ما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر طوارق الليل، إلا طارقًا يطرق بخير يا رحمن" . ومنها: "أعوذ بكلمات اللَّه التامة من غضبه وعقابه، ومن شر عباده، ومن همزات الشياطين، وأن يحضرون" . ومنها:اللَّهم إني أعوذ بوجهك الكريم، وكلماتك التامات من شر ما أنت آخذ بناصيته، اللَّهم، أنت تكشف المأثم والمغرم، اللَّهم، إنه لا يهزم جندك، ولا يخلف وعدك، سبحانك وبحمدك" . ومنها: "أعوذ بوجه اللَّه العظيم الذي لا شيء أعظم منه، وبكلماته التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، وأسماء اللَّه الحسنى ما علمت منها، وما لم أعلم، من شر ما خلق، وذرأ، وبرأ، ومن شر، كل ذي شر، لا أطيق شره، ومن شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته، إن ربي على صراط مستقيم" . ومنها: "اللَّهم أنت ربي لا إله إلا أنت عليك توكلت، وأنت رب العرش العظيم، ما شاء اللَّه كان، وما لم يشأ لم يكن، لا حول ولا قوة إلا باللَّه، أعلم أن اللَّه على كل شيء قدير، وأن اللَّه قد أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددًا، اللَّهم، إني أعوذ بك من شر نفسي، وشر الشيطان وشركه، ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، إن ربي على صراط مستقيم" . وإن شاء، قال: "تحصنت باللَّه الذي لا إله إلا هو، إلهي وإله كل شيء، واعتصمت بربي، ورب كل شيء، وتوكلت على الحي الذي لا يموت، واستدفعت الشر بلا حول ولا قوة إلا باللَّه، حسبي اللَّه ونعم الوكيل، حسبي الرب من العباد، حسبي الخالق من المخلوق، حسبي(2/156)
الرزاق من المرزوق، حسبي الذي هو حسبي، حسبي الذي بيده ملكوت كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه، حسبي اللَّه وكفى، سمع اللَّه لمن دعا، ليس وراء اللَّه مَرْمَى، حسبي اللَّه لا إله إلا هو، عليه توكلت، وهو رب العرش العظيم" .
ومن جرب هذه الدعوات والعوذ عرف مقدار منفعتها، وشدة الحاجة إليها، وهي تمنع وصول أثر العائن، وتدفعه بعد وصوله بحسب قوة إيمان قائلها، وقوة نفسه، واستعداده، وقوة توكله، وثبات قلبه؛ فإنها سلاح، والسلاح بضاربه.
(فصل) وإذا كان العائن يخشى ضرر عينه، وإصابتها للمعين، فليدفع شرها بقوله: "اللَّهم بارك عليه" كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعامر بن ربيعة لما عان سهل بن حنيف: "ألا بَرَّكت" . أي: قلت: "اللَّهم بارك عليه" .
ومما يدفع به إصابة العين قول: "ما شاء اللَّه لا قوة إلا باللَّه" ، روى هشام ابن عروة عن أبيه أنه كان إذا رأى شيئًا يعجبه، أو دخل حائطا من حيطانه، قال: ما شاء اللَّه لا قوة إلا باللَّه (402) ومنها: رقية جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم التي رواها مسلم في صحيحه: "باسم اللَّه أرقيك، من كل داء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد، اللَّه يشفيك، باسم اللَّه أرقيك" (403) . وروى جماعة من السلف أن تكتب له الآيات من القرآن، ثم يشربها قال مجاهد: لا بأس أن يكتب القرآن ويغسله، ويسقيه المريض، ومثله عن أبي قلابة. ويذكر عن ابن عباس أنه أمر أن يكتب لامرأة تعسر عليها ولادها أثر من القرآن، ثم يغسل وتسقى، وقال أيوب: رأيت أبا قلابة كتب كتابًا من القرآن، ثم غسله بماء، وسقاه رجلاً كان به وجع.(2/157)
(فصل) ومنها أن يؤمر العائن بغسل مغابنه، وأطرافه، وداخلة إزاره، وفيه قولان: أحدهما: أنه فرجه، والثاني: أنه طرف إزاره الداخلي الذي يلي جسده من الجانب الأيمن، ثم يصب على رأس المعين من خلفه بغتة، وهذا مما لا يناله علاج الأطباء، ولا ينتفع به من أنكره، أو سخر منه، أو شك فيه، أو فعله مجربًا لا يعتقد أن ذلك ينفعه.
وإذا كان في الطبيعة خواص لا تعرف الأطباء عللها البتة، بل هي عندهم خارجة عن قياس الطبيعة، تفعل بالخاصية، فما الذي ينكره زنادقتهم وجهلتهم من الخواص الشرعية، هذا مع أن في المعالجة بهذا الاستغسال ما تشهد له العقول الصحيحة وتقر لمناسبته، فاعلم أن ترياق سم الحية في لحمها، وأن علاج تأثير النفس الغضبية في تسكين غضبها، وإطفاء ناره بوضع يدك عليه، والمسح عليه، وتسكين غضبه، وذلك بمنزلة رجل معه شعلة من نار، وقد أراد أن يقذفك بها، فصببت عليها الماء، وهي في يده حتى طفئت، ولذلك أُمِرَ العائنُ أن يقول: "اللَّهم بارك عليه" ؛ ليدفع تلك الكيفية الخبيثة بالدعاء، الذي هو إحسان إلى المعين؛ فإن دواء الشيء بضده. ولما كانت هذه الكيفية الخبيثة تظهر في المواضع الرقيقة من الجسد؛ لأنها تطلب النفوذ، فلا تجد أرق من المغابن، وداخلة الإزار، ولا سيما إن كان كناية عن الفرج، فإذا غسلت بالماء بطل تأثيرها، وعملها، وأيضًا فهذه المواضع للأرواح الشيطانية بها اختصاص.(2/158)
والمقصود: أن غسلها بالماء يطفئ تلك النارية، ويذهب بتلك السمية، وفيه أمر آخر، وهو وصول أثر الغسل إلى القلب من أرق المواضع، وأسرعها تنفيذا، فيطفئ تلك النارية والسمية بالماء، فيشفى المعين، وهذا كما أن ذوات السموم إذا قتلت بعد لسعها خف أثر اللسعة عن الملسوع، ووجد راحة، فإن أنفسها تمد أذاها بعد لسعها، وتوصله إلى الملسوع، فإذا قتلت خف الألم، وهذا مشاهد، وإن كان من أسبابه فرح الملسوع، واشتفاء نفسه بقتل عدوه، فتقوى الطبيعة على الألم، فتدفعه. وبالجملة، غسل العائن يذهب تلك الكيفية التي ظهرت منه، وإنما ينفع غسله عند تكيف نفسه بتلك الكيفية.
فإن قيل: فقد ظهرت مناسبة الغسل، فما مناسبة صب ذلك الماء على المعين؟ قيل: هو في غاية المناسبة؛ فإن ذلك الماء ماء طفئ به تلك النارية، وأبطل تلك الكيفية الرديئة من الفاعل، فكما طفئت به النارية القائمة بالفاعل، طفئت به وأبطلت عن المحل المتأثر بعد ملابسته للمؤثر العائن، والماء الذي يطفأ به الحديد يدخل في أدوية عدة طبيعية ذكرها الأطباء، فهذا الذي طفئ به نارية العائن لا يستنكر أن يدخل في دواء يناسب هذا الداء.
وبالجملة فطب الطبائعية، وعلاجهم بالنسبة إلى العلاج النبوي، كطب الطرقية بالنسبة إلى طبهم، بل أقل، فإن التفاوت الذي بينهم وبين الأنبياء أعظم، وأعظم من التفاوت الذي بينهم وبين الطرقية بما لا يدرك الإنسان مقداره، فقد ظهر لك عقد الإخاء الذي بين الحكمة والشرع، وعدم مناقضة أحدهما للآخر، واللَّه يهدي من يشاء إلى الصواب، ويفتح لمن أدام قرع بابه التوفيق من كل باب، وله النعمة السابغة، والحجة البالغة.(2/159)
(فصل) ومن علاج ذلك أيضا والاحتراز منه، ستر محاسن من يخاف عليه العين بما يردها عنه، كما ذكر البغوي في كتاب "شرح السنة" أن عثمان - رضي الله عنه- رأى صبِيَّا مليحًا، فقال: دسموا نونته، لئلا تصيبه العين. ثم قال في تفسيره: ومعنى: "دسموا نونته" ، والنونة: النقرة التي تكون في ذقن الصبي الصغير (404) . وقال الخطابي في "غريب الحديث" (405) له عن عثمان أنه رأى صبيًّا تأخذه العين فقال: دسموا نونته. فقال أبو عمر: سألت أحمد بن يحيى عنه، فقال: أراد بالنونة: النقرة التي في ذقنه، والتدسيم: التسويد، أراد: سودوا ذلك الموضع من ذقنه ليرد العين. قال: ومن هذا حديث عائشة: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم، وعلى رأسه عمامة دسماء أي: سوداء (406) . أراد الاستشهاد على اللفظة، ومن هذا أخذ الشاعر قوله:
ما كان أحوج ذا الكمال إلى…… عيب يُؤَقِّيه من العين
(فصل) ومن الرقى التي ترد العين ما ذكر عن أبي عبداللَّه الساجي: أنه كان في بعض أسفاره للحج، أو الغزو على ناقة فارهة، وكان في الرفقة رجل عائن، قلما نظر إلى شيء إلا أتلفه، فقيل لأبي عبداللَّه: احفظ ناقتك من العائن، فقال: ليس له إلى ناقتي سبيل. فأخبر العائن بقوله، فتحين غيبة أبي عبداللَّه، فجاء إلى رحله، فنظر إلى الناقة، فاضطربت وسقطت، فجاء أبوعبداللَّه، فأخبر أن العائن قد عانها، وهي كما ترى، فقال: دلوني عليه، فدل، فوقف عليه، وقال: باسم اللَّه، حبس حابس، وحجر يابس، وشهاب قابس، رددت عين العائن عليه، وعلى أحب الناس إليه، {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ* ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} (407) ، فخرجت حدقتا العائن، وقامت الناقة لا بأس بها. انتهى من "زاد المعاد" لابن القيم -رحمه اللَّه تعالى-.
[399] علاج الفزع والأرق المانع من النوم(2/160)
سائل يسأل عن كيفية علاج الفزع والأرق المانع من النوم؟
الإجابة:
أما عن سؤالك عن كيفية التخلص من هذه الأعراض، فإنَّا ندلك على ما ذكره العلامة ابن القيم - رحمه اللَّه - في "زاد المعاد" (408) حيث قال: (فصل) في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج الفزع والأرق المانع من النوم.
روى الترمذي في "جامعه" عن بريدة قال: شكى خالد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: يا رسول اللَّه، ما أنام الليل من الأرق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "إذا أويت إلى فراشك، فقل: اللَّهم رب السموات السبع وما أظلت، ورب الأرضين وما أقلت، ورب الشياطين وما أضلت، كن لي جارًا من شر خلقك كلهم جميعًا، أَنْ يَفْرُط عليّ أحدٌ منهم، أو يبغي علي، عَزّ جَارُك، وجلّ ثناؤك، ولا إله غيرك" (409) . وفيه أيضًا عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم من الفزع: "أعوذ بكلمات اللَّه التامة من غضبه، وعقابه، وشر عباده، ومن همزات الشياطين، وأعوذ بك رب أن يحضرون" . قال: وكان عبد اللَّه بن عمر يعلمهن من عقل من بنيه، ومن لم يعقل، كتبه فعلقه عليه (410) . ولا يخفي مناسبة هذه العوذة لعلاج هذا الداء.اهـ. واللَّه أعلم.
[400] منع شرب دم البرازي للتداوي به
هل يجوز التداوي بدم رجل من البرازات القبيلة المشهورة من سبيع، حسبما هو متعارف لدى بعض العوام، أن الكلب المصاب بمرض الكَلَب، ويسمونه "مغلوث" إذا عض شخصا صار على خطر عظيم حتى يعالج، ومن علاجات العوام أنهم يفصدون له من دم رجل من قبيلة البرازات، فيشربه، ويزعمون أنه يشفى من ذلك بإذن اللَّه، والسؤال عن وقوع مثل هذا هل هو واقع حقيقة أم لا، وهل ذلك صحيح -أعني: هل دم مثل ذلك الرجل يكون شفاء لهذا المرض- وما حكم استعماله شرعا؟
الإجابة:(2/161)
أما الوقوع فهذا شائع على ألسنة الناس قديما وحديثا، وأما كونه سببا لشفاء هذا المرض، فأنا أستبعده، مع أن هذا ليس من اختصاصي، وإنما هو من اختصاص الأطباء، وقد ذكروا أن له مصلا مضادا، ما دام الداء في أول مراحله.
وممن ذكره الجاحظ في كتاب "الحيوان" حيث قال في الجزء الخامس منه: والكَلَب داء يقع في الإبل، ويقال للرجل إذا عضه الكلْبُ الكَلِبُ وقد كُلِبَ الرجل. ويقال: إن الرجل الكَلِبَ إذا عض إنسانا آخر يأتون رجلا شريفا، فيقطر لهم من دم أصبعه، فيسقون ذلك الكَلِب، فيبرأ، وقال الكميت:
أحلامكم لسقام الجهل شافية… كما دماؤكم يشفى بها الكَلِبُ .اهـ.
وقال في "تاج العروس" : و"الكَلَب" : جنون الكلاب المعتري من أكل لحم الإنسان، فيأخذه لذلك سعار وداء شبه الجنون. وفي الحديث "يخرج من أمتي أقوام تتجارى بهم الأهواء، كما يتجارى الكَلَب بصاحبه" (411) . وهو بالتحريك: داء يعرض للإنسان من عض الكَلْب الكَلِب، فيصيبه شبه الجنون، فلا يعض أحدا إلا كَلِب، ويعرض له أعراض رديئة، ويمتنع من شرب الماء، حتى يموت عطشا، وأجمعت العرب أن دواءه قطرة من دم مَلِك، يخلط بماء، فيسقاه... وعن الليث: الكَلَب: الكَلْب الذي يكلب في لحوم الناس، فيأخذه شبه جنون، فإذا عقر إنسانا كلب عقور، أصابه داء الكلاب، ويعوي عواء الكلب، ويمزق ثيابه على نفسه، ويعقر من أصاب، ثم يصير أمره إلى أن يأخذه العطاش، فيموت من شدة العطش، ولا يشرب... وفي "مجمع الأمثال" و"المستقصى" : دماء الملوك شفاء الكَلِب... قال شيخنا: ودفع بعض أصحاب المعاني هذا، فقال: معنى المثل: أن دم الكريم هو الثأر المقيم... قال: فإذا كلب من الغيظ والغضب، فأدرك ثأره، فذلك هو الشفاء من الكلب، لا أن هناك دماء تشرب في الحقيقة (412) .انتهى.(2/162)
وأما الجواز فلا يجوز ذلك؛ لأنه من باب التداوي بالنجاسات. وفي الدرر السنية أن الشيخ عبد اللَّه أبابطين -رحمه اللَّه- سئل عن دم البرازي أنه دواء لعضة الكلب، فقال: لا أصل له، والتداوي بالنجس حرام. وسئل مرة ثانية عن هذه المسألة، فأفتى بالمنع. والشيء إذا كان محرما في الشرع، فلا يبيحه دعوى نفعه بالتجربة، وسئل الشيخ عبد اللَّه العنقري عن ذلك، فأجاب: هو نجس حرام ولا يجوز التداوي به من عضة الكلب، ولا غيرها. واللَّه أعلم.
[401] التداوي بنقل الدم من شخص لآخر
سائل يسأل: هل يجوز التداوي بنقل الدم من إنسان لآخر، وذلك بحقنه من طريق الشرايين؟
الإجابة:
الدم نجس حرام، لا يجوز استعماله، ولا تناوله، سواء كان عن طريق العلاج والتداوي بحقنه من طريق الشرايين، أو كان استعماله عن طريق الأكل والشرب، أو غير ذلك؛ وذلك للأحاديث الواردة في النهي عن التداوي بالمحرمات كحديث:إن اللَّه لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم" (413) . لكن إذا وصل بالإنسان المرض إلى حالة الاضطرار، وخشي على نفسه الهلاك، فالضرورات تبيح المحظورات؛ ولهذا لما ذكر اللَّه تحريم الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما عطف عليها، قال بعد ذلك {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (414) . وقال تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} (415) . فإذا بلغت الحال بالمريض إلى ما ذكر، جاز له نقل الدم، بل ربما يجب عليه استعماله؛ لإنقاذ نفسه من الهلاك؛ لقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (416 )؛ ولهذا صرح الفقهاء أنه يجب على الإنسان الأكل من الميتة ونحوها إذا خاف على نفسه التلف. واللَّه أعلم.
[402] الكشف على المرأة الحامل بالأشعة
هل يجوز للحامل الكشف بالأشعة للاطمئنان على الجنين؟
الإجابة:(2/163)
الحمد لله. لا بأس بالكشف عليها بالأشعة، وإذا كان الجنين ميتا، فلا بأس بإخراجه من بطنها بعملية. واللَّه أعلم، وصلى اللَّه على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[403] حكم كشف الأطباء على عورات النساء
سائل يسأل عن جواز كشف الطبيب على عورة المرأة، ومعالجتها مع وجود طبيبة من النساء، وعن خلوة الدكتور بالمرأة عند الكشف عليها، وعلاجها، وعن جواز نظره إلى عورتها، ومسها عند الحاجة، وعدمها؟
الإجابة:
والجواب على هذا بأمور:
أولا: المرأة عورة، ومحل مطمع للرجال بكل حال؛ فلهذا لا ينبغي لها أن تمكن الرجال من الكشف عليها، أو معالجتها ما دامت تجد طبيبة من النساء، تحسن الكشف عليها، ومعالجتها.
ثانيا: إذا لم توجد الطبيبة المطلوبة، فلا بأس بمعالجة الرجل لها، وهذا أشبه بحال الضرورة، ولكنه يتقيد بقيود معروفة، ولهذا يقول الفقهاء: الضرورة تقدر بقدرها؛ فلا يحل للطبيب أن يرى منها أو يمس ما لا تدعو الحاجة إلى رؤيته أو مسه، ويجب عليها ستر كل ما لا حاجة إلى كشفه عند العلاج.
ثالثا: مع كون المرأة عورة، فإن العورة تختلف، فمنها: عورة مغلظة، ومنها: ما هو أخف من ذلك، كما أن المرض الذي تعالج منه المرأة قد يكون من الأمراض الخطرة التي لا ينبغي تأخير علاجها، وقد يكون من العوارض البسيطة التي لا ضرر في تأخير علاجها، حتى يحضر محرمها، ولا خطر، كما أن النساء يختلفن: فمنهن القواعد من النساء، ومنهن الشابة الحسناء، ومنهن ما بين ذلك، ومنهن من تأتي وقد أنهكها المرض، ومنهن من تأتي إلى المستشفى من دون أن يظهر عليها أثر المرض، ومنهن من يعمل لها بنج موضعي أو كلي، ومنهن من يكتفى بإعطائها حبوبا ونحوها، ولكل واحدة من هؤلاء حكمها.(2/164)
وعلى كل فالخلوة بالمرأة الأجنبية محرمة شرعا، ولو للطبيب الذي يعالجها؛ لحديث: "لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم" (417) . فلا بد من حضور أحد معها، سواء كان زوجها أو أحد محارمها الرجال، فإن لم يتهيأ، فمن أقاربها النساء، فإن لم يوجد أحد ممن ذكر، وكان المرض خطرا لا يمكن تأخيره، فلا أقل من حضور الممرضة، ونحوها؛ تفاديا من الخلوة المنهي عنها. واللَّه المستعان.
[404] علاج الكرب والهم والغم والحزن
الإجابة:
وصل خطابكم وفهمنا ما ذكرتم، ونحن نشاطركم الشعور، فيما أشرتم إليه، ونقدر ما تعانونه، وندعو اللَّه لكم بالشفاء والعافية، ونلفت نظركم إلى ما ذكره المحقق ابن القيم -رحمه اللَّه- في زاد المعاد" فقد ذكر لعلاج ما ذكرتم خمسة عشر نوعًا، جربوها عسى أن تزيل عنكم ما تجدونه، أو تخففه عنكم.
وصيتي لكم: ملازمة ما صح من هذه الأدعية النافعة، والتوجيهات الصادقة، والمثابرة عليها باستمرار، واللَّه الموفق.
قال ابن القيم -رحمه اللَّه- في "زاد المعاد في هدي خير العباد" (418) . وهو الكتاب النفيس، الذي قل أن تجد مثله:
(فصل) في هديه صلى الله عليه وسلم في علاج الكرب والهم والغم والحزن.(2/165)
أخرجا في "الصحيحين" من حديث ابن عباس، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يقول عند الكرب: "لا إله إلا اللَّه العظيم الحليم، لا إله إلا اللَّه رب العرش العظيم، لا إله إلا اللَّه رب السموات السبع، ورب العرش الكريم" (419) . وفي "جامع" الترمذي عن أنس، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر قال: "يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث"(420). وفيه عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، كان إذا أهمه الأمر، رفع طرفه إلى السماء فقال: "سبحان اللَّه العظيم" . وإذا اجتهد في الدعاء، قال: "يا حي يا قيوم"(421). وفي "سنن" أبي داود عن أبي بكر الصديق أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "دعوات المكروب: اللَّهم رحمتك أرجو، فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين، وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت"(422). وفيها أيضًا عن أسماء بنت عميس قالت: قال لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "ألا أعلمك كلمات تقوليهن عند الكرب، أو في الكرب: اللَّه ربي لا أشرك به شيئا"(423). وفي رواية أنها تقال سبع مرات. وفي "مسند" الإمام أحمد عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أصاب عبدا هم ولا حَزَنٌ فقال: اللَّهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك اللَّهم بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب غمي، إلا أذهب اللَّه حزنه وهمه، وأبدله مكانه فرحًا"(424)، وفي الترمذي عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "دعوة ذي النون، إذ دعا ربه، وهو في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك، إني كنت من الظالمين، لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجيب له" . وفي رواية: "إني لأعلم كلمة، لا يقولها مكروب إلا فرج اللَّه عنه؛ كلمة أخي يونس"(425)،(2/166)
وفي "سنن" أبي داود عن أبي سعيد الخدري قال: دخل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذات يوم المسجد، فإذا هو برجل من الأنصار يقال له: أبو أمامة، فقال: "يا أبا أمامة، ما لي أراك في المسجد في غير وقت الصلاة؟" فقال: هموم لزمتني، وديون يا رسول اللَّه، فقال: "ألا أعلمك دعاء، إذا أنت قلته، أذهب اللَّه عز وجل همك، وقضى دينك" ، قال: قلت بلى يا رسول اللَّه، قال: "قل إذا أصبحت، وإذا أمسيت: اللَّهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال" . قال: ففعلت ذلك، فأذهب اللَّه -عز وجل- همي، وقضى عني ديني(426). وفي "سنن" أبي داود عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "من لزم الاستغفار؛ جعل اللَّه له من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب"(427). وفي "المسند" : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة(428). وقد قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ}(429)، وفي "السنن" : "عليكم بالجهاد، فإنه باب من أبواب الجنة، يدفع اللَّه به عن النفوس الهم والغم"(430). ويذكر عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم : "من كثرت همومه، وغمومه، فليكثر من قول: "لا حول ولا قوة إلا باللَّه"(431). وثبت في "الصحيحين" أنها: "كنز من كنوز الجنة"(432). وفي الترمذي أنها: "باب من أبواب الجنة"(433).
هذه الأدوية تتضمن خمسة عشر نوعًا من الدواء، فإن لم تقو على إذهاب داء الهم والغم والحزن، فهو داء قد استحكم وتمكنت أسبابه، ويحتاج إلى استفراغ كلي.
الأول : توحيد الربوبية.
الثاني: توحيد الإلهية.
الثالث: التوحيد العلمي الاعتقادي.
الرابع: تنزيه الرب -تعالى- عن أن يظلم عبده، أو يأخذه بلا سبب من العبد يوجب ذلك.
الخامس: اعتراف العبد بأنه هو الظالم.(2/167)
السادس: التوسل إلى الرب -تعالى- بأحب الأشياء إليه؛ وهو أسماؤه وصفاته. ومن أجمعها لمعاني الأسماء والصفات: "الحي القيوم" .
السابع: الاستعانة به وحده.
الثامن: إقرار العبد له بالرجاء.
التاسع: تحقيق التوكل عليه والتفويض إليه، والاعتراف له بأن ناصيته في يده، يصرفه كيف يشاء، وأنه ماض فيه حكمه، عدل فيه قضاؤه.
العاشر: أن يرتع قلبه في رياض القرآن، ويجعله لقلبه كالربيع للحيوان، وأن يستضيء به في ظلمات الشبهات والشهوات، وأن يتسلى به عن كل فائت ويتعزى به عن كل مصيبة، ويستشفي به من أدواء صدره، فيكون جلاء حزنه، وشفاء همه وغمه.
الحادي عشر: الاستغفار.
الثاني عشر: التوبة.
الثالث عشر: الجهاد.
الرابع عشر: الصلاة.
الخامس عشر: البراءة من الحول والقوة، وتفويضهما إلى من هما بيده. انتهى.
أحكام السلام [405] حكم التحية بـ (كيف أصبحتَ)؟
سائل يقول: التقينا بصديق لنا، فقال لنا: كيف أصبحتم؟ فقلنا له: لِمَ لمْ تقل السلام؟ فقال: إن كيف أصبحت ؟، وكيف أمسيت ؟ تحصل بها التحية، ويستحق عليها الإجابة بمثلها، أو أحسن منها، فطلبنا منه الدليل، فلم يأت بشيء، فلهذا نسألكم عن هذه المسألة، ونرجوكم الإفادة عما ذكره العلماء فيها.
الإجابة:(2/168)
التحية المشروعة هي: السلام عليكم، فإن كان صديقكم أتى بكيف أصبحتم بعدما سلم، فذاك. وإن كان لم يسلم، وإنما اكتفى بكيف أصبحتم، فهو قد ترك الأكمل والأفضل، ومع هذا، فقد ذكر بعض العلماء أن (كيف أصبحت) و (كيف أمسيت) تعتبر تحية، ويستحق الإجابة عليها قال في "غذاء الألباب شرح منظومة الآداب" للعلامة السفاريني ص (289) : لا بأس أن يقول لصاحبه: (كيف أمسيت) ، و (كيف أصبحت) ، قال الإمام أحمد -رضي الله عنه- لصدقة وهم في جنازة: يا أبا محمد، كيف أمسيت؟ فقال: مساك اللَّه بالخير، وقال أيضا للمروذي: كيف أصبحت، يا أبا بكر؟ فقال له: صبحك اللَّه بالخير يا أبا عبد اللَّه. وروى عبداللَّه بن الإمام أحمد -رضي الله عنه- عن الحسن مرسلا أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال لأصحاب الصفة: "كيف أصبحتم". (434) وروى ابن ماجه بإسناد ضعيف من حديث أبي أسيد الساعدي، أنه عليه الصلاة والسلام دخل على العباس، فقال: "السلام عليكم" ، فقالوا: وعليك السلام ورحمه اللَّه وبركاته. قال: "كيف أصبحتم" قالوا: بخير نحمد اللَّه، كيف أصبحت بأبينا وأمنا أنت يا رسول اللَّه؟ قال: "أصبحت بخير أحمد اللَّه" (435) وروي أيضا عن جابر قلت: كيف أصبحت يا رسول اللَّه؟ قال: "بخير من رجل لم يصبح صائما، ولم يعد سقيما" (436) . وفيه عبداللَّه بن مسلم بن هرمز ضعيف.
وفي "حواشي تعليق القاضي الكبير" : روى أبو بكر البرقاني بإسناده عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- أنه قال: لو لقيت رجلا، فقال لي: بارك اللَّه فيك، لقلت: وفيك. قال في "الآداب الكبرى" : فقد ظهر من ذلك الاكتفاء بنحو (كيف أصبحت) و (كيف أمسيت) بدلا من السلام وأنه يرد على المبتدئ بذلك وإن كان السلام وجوابه أفضل وأكمل(437) . انتهى.
[406] النهي عن الانحناء في السلام
سائل يسأل عن حكم من ينحني عند السلام برأسه ورقبته، ويقول: هل ورد في هذا شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ؟
الإجابة:(2/169)
انحناء الإنسان لغيره برأسه أو برقبته لا يجوز في حالة السلام، ولا في غيره؛ لأن ذلك من الخضوع، والخضوع لغير اللَّه منهي عنه، وقد سئل الإمام النووي عن ذلك. ونص السؤالِ:
الانحناء الذي يفعله الناس بعضهم لبعض -كما هو معتاد لكثير من الناس- ما حكمه؟ وهل جاء فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه؟
فأجاب -رحمه اللَّه- بما نصه:
هو مكروه كراهة شديدة، فقد ثبت عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رجل: يا رسول اللَّه، الرجل منا يلقى أخاه، أو صديقه، أينحني له؟ قال: "لا" ، قال: أفيلتزمه ويقبله؟ قال: "لا" ، قال: أفيأخذ بيده ويصافحه؟ قال: "نعم" . رواه الترمذي(438) وقال حديث حسن.
فهذا الحديث صريح في النهي عنه، ولم يأت له معارض، فلا مصير إلى مخالفته، ولا يُغتر بكثرة من يخالفه، ممن ينتسب إلى فقه، أو غيره من خصال الفضل، فإن الاقتداء إنما يكون برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال اللَّه تعالى: {وَمَا ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ}(439) وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (440) . انتهى. واللَّه أعلم.
آداب الدعاء [407] لا يُسأل بوجه اللَّه إلا الجنة
دار حوار بين رجلين في مجلس فقال أحدهما للآخر: أسألك بوجه اللَّه أن تخبرني، فكرهنا مسألته، وقال لنا بعض الإخوان: إنه ورد الحديث بالنهي عن السؤال بوجه اللَّه، فنرجوكم إيضاح الجواب. وفقكم اللَّه للصواب.
الإجابة:(2/170)
لقد أخطأ هذا الرجل بسؤاله مثل هذا بوجه اللَّه، فإن وجه اللَّه عز وجل لا يسأل به إلا الجنة، أو ما هو وسيلة إليها، والحديث الوارد في ذلك رواه أبو داود وغيره - وإن كان ضعيفًا -عن جابر بن عبد اللَّه -رضي الله عنه- قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "لا يسأل بوجه اللَّه إلا الجنة" (441) . قال في "تيسير العزيز الحميد" (442) : أي: إعظامًا وإجلالاً وإكرامًا لوجه اللَّه؛ لا يسأل به إلا غاية المطالب، وهذا من معاني قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} (443) . فقوله: "لا يسأل بوجه اللَّه إلا الجنة" روي بالنفي والنهي، وروي بالبناء للمجهول وهو الذي في الأصل، وروي بالخطاب للمفرد، وفيه إثبات الوجه خلافًا للجهمية ونحوهم، فإنهم أوَّلوا الوجه بالذات، وهو باطل إذ لا يسمى ذات الشيء وحقيقته وجهًا، فلا يسمى الإنسان وجهًا، ولا تسمى يده وجهًا ولا تسمى رجله وجهًا. والقول في الوجه عند أهل السنة كالقول في بقية الصفات، فيثبتونه لله على ما يليق بجلاله وكبريائه من غير كيف، ولا تحديد، إثباتًا بلا تمثيل، وتنزيهًا بلا تعطيل.قوله: "إلا الجنة" كأن يقول: اللَّهم إني أسألك بوجهك الكريم أن تدخلني الجنة، وقيل: المراد لا تسألوا من الناس شيئًا بوجه اللَّه، كأن يقول: أعطني شيئًا بوجه اللَّه، فإن اللَّه أعظم من أن يسأل به شيء من الحطام، قلت: والظاهر أن كلا المعنيين صحيح.
قال الحافظ العراقي: وذِكْرُ الجنة إنما هو للتنبيه به على الأمور العظام لا للتخصيص، فلا يسأل بوجهه في الأمور الدنيئة بخلاف الأمور العظام؛ تحصيلاً، أو دفعًا، كما يشير إليه استعاذة النبي صلى الله عليه وسلم به.(2/171)
قلت: والظاهر أن المراد لا يسأل بوجه اللَّه إلا الجنة، أو ما هو وسيلة إليها، كالاستعاذة بوجه اللَّه من غضبه ومن النار، ونحو ذلك، مما هو وارد في أدعيته صلى الله عليه وسلم ، وتعوذاته، ولما نزل قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ} (444) قال النبي صلى الله عليه وسلم : "أعوذ بوجهك" {أَوْمِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قال: "أعوذ بوجهك" . رواه البخاري(445) .
وقال في "فتح المجيد" (446) : وهنا سؤال، وهو أنه قد ورد في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم عند منصرفه من الطائف حين كذبه أهل الطائف، ومن في الطائف من أهل مكة، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء المأثور: "اللَّهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، غير أن عافيتك هي أوسع لي" وفي آخره: "أعوذ بنور وجهك، الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن يحل علي غضبك، أو ينزل بي سخطك، لك العُتْبَى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه" (447) .رواه ابن إسحاق والطبراني عن عبد اللَّه بن جعفر. والحديث المروي في "الأذكار" : "اللَّهم أنت أحق من ذُكر وأحق من عُبد" وفي آخره: "أسألك بنور وجهك الذي أشرقت له السموات والأرض" . (448) وفي حديث آخر: "أعوذ بوجه اللَّه الكريم، وباسم اللَّه العظيم، وبكلماته التامة من شر السامة واللامة، ومن شر ما خلقت أي رب ومن شر هذا اليوم، ومن شر ما بعده، ومن شر الدنيا والآخرة" . وأمثال ذلك في الأحاديث المرفوعة بالأسانيد الصحيحة، أو الحسان.(2/172)
فالجواب: أن ما ورد من ذلك، فهو في سؤال ما يقرب إلى الجنة، أو ما يمنعه من الأعمال التي تمنعه من الجنة فيكون قد سأل بوجه اللَّه، وبنور وجهه ما يقرب إلى الجنة، كما في الحديث الصحيح: "اللَّهم إني أسألك الجنة، وما يقرب إليها من قول وعمل، وأعوذ بك من النار، وما يقرب إليها من قول وعمل" (449) بخلاف ما يختص بالدنيا، كسؤال المال، والرزق، والسعة في المعيشة؛ رغبة في الدنيا، مع قطع النظر عن كونه أراد بذلك ما يعينه على عمل الآخرة، فلا ريب أن الحديث يدل على المنع من أن يسأل حوائج دنياه بوجه اللَّه. وعلى هذا فلا تعارض بين الأحاديث. كما لا يخفى. واللَّه أعلم.
[408] مسح الوجه باليدين بعد الدعاء
سائل يسأل عن حكم مسح الوجه باليدين بعد الدعاء، وهل ورد في ذلك دليل شرعي يصلح الاعتماد عليه في مثل هذا؟
الإجابة:(2/173)
صرح الفقهاء في القنوت -في الوتر، وغيره- أنه يمسح وجهه بيديه: قال في "شرح الغاية" : ويمسح وجهه بيديه هنا -أي: بعد قنوته-؛ لما روى السائب ابن يزيد عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا رفع يديه ومسح بهما وجهه (450) . رواه أبو داود من رواية ابن لهيعة، وكخارجِ صلاةٍ إذا دعا؛ لعموم حديث عمر: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا رفع يديه في الدعاء لم يحطهما حتى يمسح بهما وجهه (451) . رواه الترمذي؛ ولقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس: "فإذا فرغت فامسح بهما وجهك" (452) . رواه أبو داود وابن ماجه. قال إسماعيل العجلوني في "كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس" (453) (مسح الوجه باليدين عند تمام الدعاء) : قال النجم: رواه عن ابن أبي بريدة كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دعا رَفَعَ يديه ومسح وجهه بيديه. والترمذي عن "ابن عمر" (454) أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع يديه في الدعاء لم يحطهما حتى يمسح بهما وجهه. والطبراني في "الكبير" عنه: "إن اللَّه حيي كريم، يستحي أن يرفع العبدُ يديه، فيردهما صفرًا لا خير فيهما، فإذا رفع أحدكم يديه، فليقل: يا حي، يا قيوم، لا إله إلا أنت، يا أرحم الراحمين ثلاث مرات ثم إذا رد يديه، فليفرغ الخير على وجهه" (455) . وله في الدعاء عن الوليد بن عبداللَّه بن أبي مغيث معضلاً: "إذا دعا أحدكم فرفع يديه، فإن اللَّه جاعل في يديه بركة ورحمة، فلا يردهما حتى يمسح بهما وجهه"(456) . ثم قال: مسح الوجه باليدين عند قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} قال النجم: رواه ابن أبي شيبة، والستة عن عائشة -رضي اللَّه عنها-: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه، كل ليلة، جمع كفيه، ثم نفث فيهما يقرأ فيهما {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ(2/174)
بهما على رأسه، ووجهه، وما أقبل من جسده. يفعل ذلك ثلاث مرات (457) . ورواه الشيخان وأبو داود عنها: أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات، ومسح عليه بيده (458) . انتهى.
[409] يكره الدعاء بطول البقاء
هل يجوز الدعاء بطول البقاء؟
الإجابة:
نص العلماء على كراهية ذلك، وممن ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه- قال في "الاختيارات" : ويكره الدعاء بالبقاء لكل أحد؛ لأنه شيء مفروغ منه. ونص عليه الإمام أحمد في رواية ابن أصرم. واللَّه أعلم.
[410] دعاء الإنسان لوالديه بين السجدتين في صلاة الفرض
سائل يسأل عن دعاء الإنسان للوالدين في صلاة الفريضة بين السجدتين، إذا قال: رب اغفر لي ولوالدي، ونحو ذلك، هل في ذلك شيء؟
الإجابة:
إذا أتى الإنسان بالدعاء الواجب، وأراد أن يدعو بعد ذلك لوالديه، وغيرهما، فلا شيء في ذلك، سواء كان في صلاة النافلة، أو الفريضة، غير أن اتباع السنة، والدعاء بالدعاء المأثور الوارد في هذا أفضلُ وأكمل. واللَّه الموفق.
جامع الآداب والأخلاق العامة [411] في الإخلاص وذم الرياء
وصل كتابك وفهمنا ما ذكرته، وهذه مسألة هامة، والمدار على الإخلاص، وإرادة وجه اللَّه تعالى، والدار الآخرة. إلا أني أَلْفِتُ نظرك إلى ما ذكره الحافظ ابن كثير في "تفسيره" على قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} (459) .
قال -رحمه اللَّه تعالى-: ومما يتعلق بقوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} أن من عمل عملا لله فاطلع عليه الناس فأعجبه ذلك أن هذا لا يعد رياء، والدليل على ذلك ما رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي في "مسنده" :(2/175)
حدثنا هارون بن معروف: حدثنا مخلد بن يزيد: حدثنا سعيد ابن بشير: حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: كنت أصلي، فدخل علي رجل فأعجبني ذلك، فذكرته لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: "كتب لك أجران: أجر السر، وأجر العلانية" .
قال أبو علي هارون بن معروف: بلغني أن ابن المبارك قال: نِعْمَ الحديث للمُرائين. وهذا حديث غريب من هذا الوجه، وسعيد بن بشير متوسط، روايته عن الأعمش عزيزة، وقد رواه غيره عنه.
وقال أبو يعلى أيضا: حدثنا محمد بن المثنى أبو موسى: حدثنا أبو داود: حدثنا أبو سنان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي صالح، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رجل: يا رسول اللَّه، الرجل يعمل العمل يُسِره، فإذا اطُّلِعَ عليه أعجَبَه، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "له أجران: أجر السر، وأجر العلانية" . وقد رواه الترمذي عن محمد بن المثنى، وابن ماجه (460) عن بندار،كلاهما عن أبي داود الطيالسي، عن أبي سنان الشيباني، واسمه: ضرار ابن مرة.
[412] الإيثار بالمحل الفاضل من الصف والتنازل عنه لغيره
سائل يقول تقدمت إلى المسجد، وجلست في الصف الأول قريبا من المؤذن، فدخل رجل أكبر مني، ومن أهل العلم والفضل، فتأخرت عنه، وأجلسته في محلي، فنهاني شيخي، وقال: لا تفعل مثل هذا، فإنه لا ينبغي أن يؤثر الإنسان غيره في المحل الفاضل. فهل هذا صحيح؟ وما السبب المانع من ذلك؟
الإجابة:
ذكر العلماء أنه يكره للإنسان أن يؤثر غيره بمكانه الأفضل؛ لأنه هو أحق به، وهو بحاجة إلى مزيد الثواب. قال في "الإقناع" و"شرحه" : ويكره إيثاره غيره بمكانه الأفضل، ويتحول إلى ما دونه، كالصف الأول، ونحوه، وكيمين الإمام؛ لما في ذلك من الرغبة عن المكان الأفضل، وظاهره: ولو آثر به والده، ونحوه.(2/176)
ولا يكره للمُؤْثَر قَبولُه المكان الأفضل، ولا ردّه، قال سندي: رأيت الإمام أحمد قام له رجل من موضعه فأبى أن يجلس، وقال: ارجع إلى موضعك، فرجع إليه.
ولو آثر الجالسُ بمكان أفضل زيدا فسبقه إليه عمرو، حَرُمَ على عمرو سبقه إليه؛ أشبه ما لو تحجر مواتا ثم آثر به غيره، وهذه بخلاف ما لو وسّع لرجل في طريق فمر غيره؛ لأن الطريق جعلت للمرور فيها، والمسجد جعل للإقامة فيه. واللَّه أعلم.
[413] عيادة الجار النصراني إذا مرض.
رجل يقول: يوجد بجوارنا بيت يسكنه نصارى محافظون، وبيننا وبينهم معرفة، ويأتون إلينا في بيتنا لبعض الحاجة أو للزيارة، فهل يجوز لي أن أزور والدهم إذا مرض، وإن مات فهل أتبع جنازته؟
الإجابة:
لا بأس للرجل بعيادة الجار النصراني المريض إذا لم يترتب عليها مفسدة، بل ربما يكون في عيادته مصلحة وتأليف له، ودعوة له إلى الدخول في دين الإسلام فيسلم؛ فَيُحَصِّل بذلك السعادة الأبدية. وقد عاد النبي صلى الله عليه وسلم غلامًا يهوديًّا في مرضه، فدعاه إلى الإسلام؛ فأسلم (461) . فإن مات النصراني على دينه، فلا يحل للمسلم أن يتبع جنازته، ولا يصلي عليه ولا يدعو له، بل ولا يدفن في مقابر المسلمين، ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه- واللَّه أعلم.
ومقتضى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه- كما في "الاختيارات الفقهية" أنها تجوز عيادة أهل الذمة، وتهنئتهم، وتعزيتهم، ودخولهم المسجد للمصلحة الراجحة، كرجاء الإسلام، ويجوز أن يقال للذمي: أهلا وسهلا.
قال العلماء: يعاد الذمي ويعرض عليه الإسلام.انتهى. واللَّه أعلم.
[414] الفرق بين الزهد والورع
سائل يسأل عن معنى كل من الزهد والورع، وهل هما شيء واحد أو بينهما فرق؟ وإذا كان بينهما فرق، فما الفرق بينهما؟
الإجابة:(2/177)
الزهد أبلغ من الورع، وأشرف منه، والورع داخل في ضمن الزهد، فكل زاهد ورع، وليس كل ورع زاهدًا، وإن كانا يشتركان في ترك المحرمات عمومًا والمكروهات والمشتبهات، وفعل الطاعات في الواجبات والمستحبات وأشياء أخرى، لكن الزهد أبلغ من الورع وأرقى منه.
ومن أجود ما قيل في الفرق بين الزهد والورع ما ذكره ابن القيم - رحمه اللَّه- في "مدارج السالكين" بقوله: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس اللَّه روحه - يقول:
الزهد: ترك ما لا ينفع في الآخرة.
والورع: ترك ما تخاف ضرره في الآخرة.
وهذه العبارة من أحسن ما قيل في الزهد والورع وأجمعها.انتهى.
فأما الورع فقد تكلم عنه القوم، وكُلٌّ تكلم فيه بحسب ذوقه وعلمه.
فقال أبو سليمان الداراني: الورع أول الزهد كما أن القناعة أول الرضاء.
وقال سفيان الثوري: ما رأيت أسهل من الورع، ما حاك في نفسك فاتركه. وقال الحسن: مثقال ذرة من الورع خير من ألف مثقال من الصوم والصلاة.
وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم الورع كله بكلمة واحدة فقال: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" (462) فهذا يعم الترك لما لا يعني من الكلام، والنظر، والاستماع، والبطش، والمشي، والفكر، وسائر الحركات الظاهرة، والباطنة. فهذه الكلمة كافية شافية في الورع.
وأما الزهد: فقال سفيان الثوري: الزهد في الدنيا ليس بأكل الغليظ ولا لبس العباء. وقال: إنما الزهد في قوله تعالى: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا ءَاتَاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (463) فالزاهد لا يفرح من الدنيا بموجود، ولا يأسف منها على مفقود. انتهى.(2/178)
وليس المراد رفضها بالكلية، فقد كان سليمان وداود - عليهما السلام- من أزهد أهل زمانهما، ولهما من المال والملك والنساء ما لهما، وكان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من أزهد البشر على الإطلاق وله تسع نسوة، وكان عبدالرحمن ابن عوف والزبير وعثمان - رضي اللَّه عنهم - من الزهاد مع ما كان لهم من الأموال، وكان الحسن بن علي -رضي الله عنه- من الزهاد، مع أنه كان من أكثر الناس محبة للنساء ونكاحًا لهن وأغناهم، وكان عبداللَّه بن المبارك من الأئمة الزهاد مع مال كثير، وكذلك الليث بن سعد من أئمة الزهاد، وكان له رأس مال يقول: لولا هذا لتمندل بنا هؤلاء.
ومن أحسن ما قيل في الزهد كلام الحسن: ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال، ولا إضاعة المال، ولكن أن تكون بما في يد اللَّه أوثق منك بما في يدك، وأن تكون في ثواب المصيبة -إذا أصبت بها- أرغب منك فيها لو لم تصبك. فهذا من أجمع الكلام في الزهد وأحسنه.
وقال الإمام أحمد بن حنبل: الزهد في الدنيا قصر الأمل. وعنه رواية أخرى: أنه عدم فرحه بإقبالها، ولا حزنه على إدبارها؛ فإنه سئل عن الرجل يكون معه ألف دينار، هل يكون زاهدًا؟ قال: نعم، شريطة أن لا يفرح إذا زادت، ولا يحزن إذا نقصت.
وقال الإمام أحمد أيضا: الزهد على ثلاثة أنواع:
فالأول: ترك الحرام، وهو زهد العوام.
والثاني: ترك الفضول من الحلال، وهو زهد الخواص.
والثالث: ترك ما يشغل عن اللَّه، وهو زهد العارفين.
فهذا الكلام من الإمام أحمد يأتي على جميع ما تقدم ذكره من كلام المشايخ، مع زيادة تفصيله، وتبيين درجاته، وهو من أجمع الكلام، وهو يدل على أنه -رضي الله عنه- من هذا العلم بالمحل الأعلى، وقد شهد الشافعي - رحمه اللَّه- بإمامته في ثمانية أشياء أحدها الزهد.(2/179)
والذي أجمع عليه العارفون: أن الزهد سفر القلب من وطن الدنيا، وأخذه في منازل الآخرة، وعلى هذا صنف المتقدمون كتب الزهد، كالزهد لعبداللَّه بن المبارك، وللإمام أحمد، ولوكيع، ولهناد بن السري، ولغيرهم. انتهى من "مدارج السالكين" ملخصًا.
[415] قبول التوبة ما لم يغرغر
سائل يسأل عن رجل عمل معصية، ثم تاب منها، ثم عاد ثانيا، ثم تاب، ثم عملها ثالثًا ورابعًا، وبعد ذلك تاب، وحسن عمله، وندم على ما فات. ويسأل عن حكم هذه التوبة، وعن الجمع بين قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ} (464 ) ، وبين الحديث: "لا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها" (465) . وهل بينهما تعارض؟
الإجابة:
أما الرجل فتوبته مقبولة، ولله الحمد، فعليه بالاستقامة والثبات عليها، وقد ورد في معنى ما ذكرته، جملة أحاديث منها:
حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "إن عبدًا أذنب ذنبًا، فقال: رب أذنبت ذنبا فاغفر.فقال ربه: علم عبدي أن له ربّاً يغفر الذنب، ويأخذ به؟ غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء اللَّه، ثم أذنب ذنبًا، فقال: رب أذنبت ذنبًا فاغفره. فقال ربه: علم عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء اللَّه، ثم أذنب ذنبًا، قال: رب أذنبت ذنبًا آخر فاغفر لي، فقال: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي فليفعل ما شاء" (466) . متفق عليه.
وأما ما أشكل عليك من وجه الجمع بين الآية والحديث، فلا تعارض بينهما بحمد اللَّه، وليس معنى الآية كما توهمته: بأن من شرط التوبة أن يتوب العبد بزمن قريب من زمن المعصية، بل المعنى -واللَّه أعلم-: أن من تاب قبل معاينة ملك الموت فتوبته مقبولة، وكل ما كان دون الموت فهو قريب، بل الدنيا كلها قريب؛ لقوله تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} (467) .(2/180)
فقد دلت هذه النصوص على أن من تاب إلى اللَّه، وهو يرجو الحياة، فإن توبته مقبولة، ومتى وقع اليأس من الحياة، وعاين ملك الموت، وحشرجت الروح في الحلق، وضاق بها الصدر، وبلغت الحلقوم، وغرغرت النفس صاعدة في الغلاصم- فلا توبة مقبولة حينئذ، ولات حين مناص؛ ولهذا قال تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (468)
نسأل اللَّه التوبة النصوح قبل غرغرة الروح، إنه جواد كريم. وصلى اللَّه على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[416] مسألة في التوبة
رجل همَّ بزوجة صديقه، ورغبها بالكلام المعسول، فمالت إليه وصارت تبدي له محاسنها، وتغريه ببعض الكلمات، ولكنه خاف من اللَّه وأقلع، وصار يعظها ببعض الآيات والأحاديث، فماذا يترتب عليه بعمله هذا؟
الإجابة:
الحمد لله الذي منَّ عليه بالتوبة، وإذا كان تاب توبة نصوحًا؛ فإنه يرجى أن يكون من السبعة الذين يظلهم اللَّه في ظله، يوم لا ظل إلا ظله، ومنهم: "رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف اللَّه" .
وفي الحديث: "إذا هم العبد بسيئة فلم يعملها، كتبها اللَّه له حسنة كاملة، يقول اللَّه تعالى: إنما تركها من جرائي" (469) . واللَّه الموفق.
[417] مجازاة العبد بذنوبه
العبد المذنب إذا مات، هل يعجل له العذاب في البرزخ إذا وضع في قبره، أو يؤجل إلى يوم القيامة؟
الإجابة:(2/181)
لا يخفى أن اللَّه -تعالى- حكيم في خَلْقه وفي شرعه وفي جزائه، فأما المحسن فيجازيه اللَّه بإحسانه في الدنيا وفي البرزخ، وكمال جزائه ما هو مدخر له من النعيم المقيم في الجنة، وأما المسيء -إن لم يتب من ذنوبه، ولم يحصل له شيء من مكفرات السيئات، التي ذكرها العلماء وهي عشرة أشياء- فلله الحكمة في مجازاته، سواء في الدنيا، أو في البرزخ، وكمال جزائه يوم القيامة إن لم يغفر اللَّه له.
والنصوص الكثيرة من الكتاب والسنة تدل على مجازاته قبل يوم القيامة؛ فمنها إهلاك الذين كذَّبوا الرسل بالدنيا، قال اللَّه تعالى: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا}(470) . ومنها قوله تعالى: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُواْ ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ}(471). ومنها ما ورد في عذاب القبر ونعيمه وسؤال منكر ونكير، من الأحاديث التي بلغت حد التواتر، وغير ذلك. واللَّه أعلم.
[418] توبة من عنده أموال مسروقة
رجل كان يسرق أموال الناس ويغصب حقوق الآخرين، وقد فتح اللَّه عليه وتاب، ولكنه لا يعرف الأشخاص الذين سرق أموالهم، ولا يعلم عدد سرقاته، ولا مقدار الأموال المغصوبة، فكيف يرد الحقوق لأصحابها حتى تقبل توبته؟
الإجابة:
ما دام قد فتح اللَّه عليه وتاب فباب التوبة مفتوح، والمخرج من ذلك يسير على من يسره اللَّه عليه، وعليه أن يعمل ما يأتي:
أولاً: عليه أن يسعى جهده؛ لإيصال المال إلى أصحابه، وإن كانوا متفرقين؛ فعليه أن يتتبعهم حيث كانوا، ويحرص على إيصال كل مال إلى صاحبه أو وكيله، فإن كان صاحبه قد مات فيوصله إلى ورثته.(2/182)
ثانيًا: إذا فعل السبب، وأَيِس من وجودهم بأنفسهم ومن وجود ورثتهم؛ فيكون حكمهم حكم المعدوم؛ لأن المجهول والمتعذر علمه كالمعدوم شرعًا، وحينئذ فهو مخير بين أمرين:
الأمر الأول: أن يدفع المال المذكور إلى ولي الأمر؛ لأنه ولي من لا ولي له، وإليه حفظ أموال الغائبين والأموال المجهولة أربابها ونحو ذلك، وإذا دفعه لولي الأمر برئ من عهدته، حتى ولو جاء صاحبه بعد تسليمه لولي الأمر لم يلزم الدافع شيء؛ لأن هذا نهاية ما يقدر عليه، ولا يكلف اللَّه نفسًا إلا وسعها.
الأمر الثاني: أن يتصدق بالمال عن صاحبه، ويصرفه في مصالح المسلمين، فيعطي منه أهل الزكاة، ويعين فيه على الحج وفي أبواب البر التي يحبها اللَّه ورسوله، ويكون تصرفه هذا مضمونًا؛ بمعنى: أنه لو جاء صاحبه بعد ذلك فهو مخير إن أجاز تصرفه وتصدقه به فالثواب له، وإن لم يُجِز فعلى هذا المتصدق أن يدفع مقدار المال إلى صاحبه، ويكون ثواب الصدقة السابقة له؛ أي: للمتصدق؛ لأن صاحبه قد قبض منه حقه كاملاً، وهذا هو المأثور في مثل ذلك عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
ثالثًا: إن كان هذا الرجل يعلم مقدار ما أخذه من المال وقد خلطه بأمواله، فإنه يقسم أمواله على قدر الحلال والحرام، ويعرف مقدار الحرام، ويفعل به كما تقدم، فإن جهِل الحلال، ولم يعلم مقدار الحرام من الحلال، فيجعل أمواله نصفين، ويأخذ لنفسه نصفًا، ويعمل بالنصف الثاني كما تقدم، فإن كان قد حصَل من هذا المال أرباحه، فأصح الأقوال: أن الأرباح يشترك فيها المتسبب ومالك الأصل؛ لأنها نماء حصل بعمل هذا ومال ذلك، فأشبهت المضاربة، وهو رواية عن الإمام أحمد، اختارها الشيخ تقي الدين. قال ابن القيم: هو أصح الأقوال، وهو الأقرب إلى العدل بينهما.(2/183)
وقال ابن القيم في أصل المسألة: توبة مَن اختلط ماله الحلال بالحرام، وتعذر عليه تمييزه أن يتصدق بقدر الحرام، وبذلك يطيب ماله. واللَّه أعلم. وصلى اللَّه على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[419] مكفرات الذنوب
سائل يسأل عن الأشياء التي تكفِّر عن العبد المذنب سيئاته، وتسقط عنه عذاب جهنم؟
الإجابة:
هذا سؤال عظيم، وقد ذكر العلماء -رحمهم اللَّه- شيئًا من هذا، يعرف بالاستقراء من الكتاب والسنة، وخلاصته أن هناك أحد عشر نوعًا، كل منها سبب لتكفير السيئات وإسقاط عذاب النار عن العبد المذنب.
الأول : التوبة، والتوبة النصوح: هي الخالصة، ولا يختص بها ذنب دون ذنب، قال اللَّه تعالى: {إِلَّا مَن تَابَ} (472) الآية، وقال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} (473) الآية. والآيات الواردة في التوبة كثيرة معلومة.
الثاني: الاستغفار، قال اللَّه تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (474) ، وإذا قرن الاستغفار بالتوبة، فهو طلب وقايةِ شَرِّ ما مضى، والتوبة: الرجوع وطلب وقاية شر ما يخافه في المستقبل من سيئات أعماله، وإذا ذُكِر أحدهما وحده دخل فيه الآخر، وهذا فرق لطيف بين التوبة والاستغفار.
الثالث: الحسنات، قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (475) ، وفي الحديث: "وَأَتبِع السيئَةَ الْحسنة تمْحها" (476 ) .
الرابع: المصائب الدنيوية. قال النبي صلى الله عليه وسلم : "ما يصيب المسلم من نصب، ولا وصب، ولا هم، ولا حزن، ولا أذى، ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر اللَّه بها من خطاياه" (477) .
الخامس: عذاب القبر، وقد تواترت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بثبوت عذاب القبر، ونعيمه، وسؤال الملكين للعبد، إذا وضع في قبره عن ربه، ودينه، ونبيه (478) .
السادس: دعاء المؤمنين، واستغفارهم في الحياة وبعد الممات.(2/184)
السابع: ما يهدى إليه بعد موته من ثواب صدقة، أو قراءة، أو حج أو أضحية، أو نحو ذلك.
الثامن: ما يلاقيه العبد من أهوال يوم القيامة وشدائده.
التاسع: ما ثبت في "الصحيح" وغيره، أن المؤمنين إذا عبروا الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيُقْتَصَّ من بعضهم لبعضهم ( 479 ) .
العاشر: شفاعة الشافعين، ولا سيما شفاعة سيد المرسلين، والشفاعة ثمانية أنواع، ليس هذا موضع تعدادها.
الحادي عشر: عفو أرحم الراحمين من غير شفاعة أحد.
وكل هذه الأشياء موضحة في كتب أئمة العلم -رحمهم اللَّه-. واللَّه أعلم.
[420] تقبيل اليد، يد العلماء، وأهل الرياسات، ونحوهم
هل يجوز تقبيل أيدي أهل العلم، وأهل الرياسات، والأغنياء، ونحوهم، وما دليله؟
الإجابة:
لم يكن من عادة الصحابة -رضوان اللَّه عليهم- تقبيل يد النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا أيدي خلفائه الراشدين، ولا شك أنهم من أعظم الناس محبة للرسول صلى الله عليه وسلم ، وتوقيرا له، وإنما كانوا يعتادون السلام عليه والمصافحة؛ اتباعًا لما سنه لهم صلى الله عليه وسلم بأمره وفعله.
وأما ما ورد أنه لما قدم عليه أصحابه من غزوة مؤتة قبلوا يده، وقالوا: نحن الفرارون، فقال: "بل أنتم الكرارون" (480) ، وما جاء في معنى هذا، فإن ثبت فإنما وقع نادرا جدا.
وقد جوزه بعض الأئمة، كالإمام أحمد إذا وقع ذلك، لا على وجه التعظيم للدنيا، واشترط بعض الأئمة في ذلك أن لا يمد إليه اليد ليقبلها، ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية (481) - رحمه اللَّه -.
وذهب بعضهم إلى كراهية تقبيل اليد مطلقا، كالإمام مالك -رحمه اللَّه- وقال سليمان بن حرب: هي السجدة الصغرى (482) .
وهذا إذا لم يُفضِ إلى التعظيم والخضوع وتغيير السنة.
أما إذا اقترن بمثل هذه الأمور التي تدخل في نوع من الشرك والبدع، فلا يجوز أن ينسب إلى أحد من الأئمة تجويزه. واللَّه أعلم.
[421] هل يقال للمتجشئ: هنيئا؟(2/185)
اجتمعنا في المسجد نتذاكر، فتجشأ أحد الزملاء، فقال له رجل من الحاضرين: (هني) ، فأنكر عليه آخر، فقال له: إن هذا بدعة، كما أنكر على المتجشئ رفع الصوت بهذه الصفة البشعة، ولكنه لم يقتنع، وقال: إنه قد سمع من بعض طلبة العلم أن المتجشئ يقال له: هني، فأرجوكم إفادتنا عن ذلك مشكورين؟
الإجابة:
أما الجُشاء، فقد أخرج الترمذي باسناد ضعيف، عن ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-: أن رجلا تجشأ عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فقال له: "كف عنا جشاءك؛ فإن أكثركم شبعا أكثركم جوعا يوم القيامة" (483) . قال الإمام أحمد في رواية أبي طالب: إذا تجشأ الرجل وهو في الصلاة، فليرفع رأسه إلى السماء حتى يذهب الريح، فإذا لم يرفع رأسه أذى من حوله من ريحه. قال: وهذا من الأدب، وقال في رواية مهنا: إذا تجشأ الرجل، فينبغي له أن يرفع وجهه إلى فوق؛ لكي لا يخرج من فيه رائحة يؤذي بها الناس. فقيد في الأولى بكونه في الصلاة، وأطلق في الثانية، وظاهر العلة يقتضي حيث كان ثَم ناس، وإلا فلا يطلب منه رفع، وهذا ظاهر.
وأما إجابة المتجشئ، فقال في "الآداب الكبرى" : ولا يجيب المتجشئ بشيء، فإن قال: الحمد لله، قيل له: هنيئا مرئيا أو هنَّاك الله وأمراك. ذكره في "الرعاية الكبرى" وابن تميم، وكذا ابن عقيل وقال: لا نعرف فيه سنة، بل هو عادة موضوعة(484) . وذكر معناه في "الإقناع" و"شرحه" و"الغاية" وشرحها. واللَّه أعلم.
[422] هل يُذَكَّر العاطس إذا لم يحمد اللَّه؟
عطس رجل عندنا، فلم يحمد اللَّه، فذكَّره بعض الحاضرين بأن يقول: الحمد لله، فقالها، فشمَّتناه بقولنا: يرحمك اللَّه، فرد علينا بقوله: يهديكم اللَّه، والمشكل أن بعض الحاضرين أنكر على الذي ذكره، وقال: ما ينبغي لك أن تذكِّره الحمد، وأجابه الحاضرون بعدم الإنكار، وأن تذكيره الحمد ما فيه إلا خير للجميع، فنستفتيكم، ونستوضح من فضيلتكم، أيهم أولى بالصواب؟
الإجابة:(2/186)
اختلف العلماء فيما إذا ترك العاطس الحمد؛ هل يستحب تذكيره، أم لا؟ فذكر في شرح "الإقناع" ما يؤيد أنه ينبغي تذكير من نسي حمد اللَّه، قال المروذي: إن رجلا عطس عند أبي عبداللَّه، فلم يحمد اللَّه، فانتظره أبو عبداللَّه أن يحمد اللَّه، فيشمته، فلما أراد أن يقوم، قال له أبو عبد اللَّه: كيف تقول إذا عطست؟ قال: أقول: الحمد لله، فقال له أبو عبداللَّه: يرحمك اللَّه.
وذكر ابن مفلح معنى ذلك في "الآداب الكبرى" (485) . وقال ابن القيم: اختلف الناس فيما إذا ترك العاطس الحمد: هل يستحب لمن حضره أن يذكره الحمد؟ قال ابن العربي: لا يذكره، وهذا جهل من فاعله. وقال النووي: أخطأ من زعم ذلك، بل يذكِّره، وهو مروي عن النخعي، وهو من باب النصيحة والأمر بالمعروف والتعاون على البر والتقوى. قال ابن القيم: وظاهر السنة يقوي قول ابن العربي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشَمت الذي عطس ولم يحمد اللَّه ولم يذكره(486) ، وهذا تعزير له، وحرمان لبركة الدعاء، لما حرم نفسه بركه الحمد، فنسي اللَّه تعالى، فصرف قلوب المؤمنين وألسنتهم عن تشميته والدعاء له، ولو كان تذكيره سنة؛ لكان النبي صلى الله عليه وسلم أولى بفعلها، وتعليمها، والإعانة عليها (487) . واللَّه أعلم.
[423] التثاؤب
ذكر رجل أنه تثاءب عند جماعة، فضحكوا منه، وقالوا: التثاؤب مكروه يبغضه اللَّه، فلا تتثاءب فعجبت من قولهم؛ لأن الناس يتثاءبون ولا أحد ينكر عليهم، وقد سألتهم عن معنى قولهم: التثاؤب مكروه واللَّه يبغضه، فما أفادوني بشيء. فهل ذلك صحيح؟
الإجابة:(2/187)
التثاؤب بالهمزة معروف، وهو فترة تعتري الشخص، فيفتح عندها فاه. وتثاوب بالواو عامي، قاله الحجاوي في لغة "إقناعه" . قال العلماء: يسن للإنسان إذا تثاءب أن يكظم فاه، والكظم: مسك فمه وانطباقه؛ لئلا ينفتح، مهما استطاع، فإن غلبه التثاؤب غطى فمه بكمه أو بيده أو بغيرها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : "إذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع" (488) . وفي رواية: "فليضع يده على فمه؛ فإن الشيطان يدخل مع التثاؤب" (489) . قال في "الآداب الكبرى" : "من تثاءب كظم ما استطاع، وأمسك يده على فمه، أو غطاه بكمه، أو غيره إن غلب عليه التثاؤب، ولا يزيل يده عن فمه، حتى يفرغ تثاؤبه...، ويكره إظهاره بين الناس مع القدرة على كفه(490) . وعدم إظهاره بنحو: "هاه" ، أو "آخ" ، وما له هجاء، وإن كان ذلك في صلاة يعني: إظهار ما له حروف هجاء أبطلها؛ لأنه كالكلام.
ويدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم : "التثاؤب من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم، فليرده ما استطاع، فإن أحدكم إذا تثاءب، ضحك منه الشيطان" (491) . وفيه: "إن اللَّه يحب العطاس، ويكره التثاؤب، فإذا تثاءب أحدكم، فليرده ما استطاع، ولا يقل: هاه؛ فإن ذلك من الشيطان؛ يضحك منه" (492) . رواه الإمام أحمد، ومسلم وأبو داود والترمذي وغيرهم، والبخاري؛ ولفظه: "إذا تثاءب أحدكم في الصلاة" . وفي الحديث الآخر: "العطاس من اللَّه، والتثاؤب من الشيطان" (493) قال في "النهاية" : إنما أحب العطاس؛ لأنه يكون مع خفة البدن، وانفتاح المسام، وتيسر الحركات، والتثاؤب بخلافه (494) . انتهى.
[424] سؤال الرجل أخاه عن اسمه ونسبه وبلده
تعرفت على طالب مثلي، وأعجبت بأخلاقه، وأحببت أن أعقد معه صداقة، وجعلت أسأله عن اسمه، واسم أسرته ونسبه وبلده وغير ذلك، فاستنكر ذلك رجل عامي جالس إلى جانبنا، واستثقل ذلك منا، فأردنا أن نقنعه بأن ذلك مما ورد عن أهل العلم، ولا يستنكر ذلك إلا جاهل، فما الصواب في ذلك وما دليله؟
الإجابة:(2/188)
كلامكم صواب، والذي أنكر عليكم هو الذي لم يصب، ومما استدل به على هذا - وإن كان فيه ضعف- ما رواه الترمذي، عن يزيد بن نعامة الضبي قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "إذا آخى الرجل الرجل، فليسأله عن اسمه، واسم أبيه، ومن هو، فإنه أوصل للمودة" (495) . وفي الباب أحاديث، وآثار تدل على ما دل عليه الحديث المذكور. واللَّه الموفق.
[425] سكنى الرجل مع أخيه وزوجته غير متسترة
أنا وأخي نسكن في بيت واحد، وأنا أعزب وهو متزوج،وزوجته تظهر أمامي بثياب قصيرة، وأمام رجال من قرابتنا، وقد نصحتها ونصحت أخي بأن يأمرها أن تتستر، فلم ُيْجد ذلك شيئا، فهل يجوز لي البقاء معهم على هذه الحالة، أو أكرر النصيحة لهم، أو أفارقهم وأسكن في محل آخر؟
الإجابة:
الحمد لله وحده. وبعد: فأما النصيحة، فعليك بذلها لهم في كل مناسبة، فانصح أخاك وزوجته فرادى ومجتمعين، ولكن بالحكمة والموعظة الحسنة.
وعليك بغض النظر عنها باستمرار؛ فإن النظر سهم مسموم من سهام إبليس.
وأما مفارقتهم؛ فإن كنت لست محتاجا للسكنى معهم، ولا يترتب على خروجك من مسكنهما مفسدة أكبر مما ذكرته، فاخرج من عندهما، وسيجعل اللَّه لك فرجا ومخرجا، ومن ترك شيئا لله عوضه اللَّه خيرا منه، وإن كان خروجك يترتب عليه مفسدة أعظم مما ذكرته، أو أنك محتاج للسكنى معهما، أو هناك أشياء أخرى تقتضي سكناك معهما، فقارن بين المصالح والمفاسد، واعمل ما فيه المصلحة؛ لأن من القواعد الشرعية: أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، والشريعة الإسلامية قضت بأنه إذا تزاحمت مصلحتان، فيقدم أعلاهما بتفويت أدناهما، وإذا تزاحمت مفسدتان، فيُرتكب أدناهما بتفويت أعلاهما، وإذا علم اللَّه من العبد الصدق، هيأ له أسباب النجاة، {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (496) .
[426] أدب المشي مع الشيخ(2/189)
نحن إخوان زملاء، لنا شيخ نُجِله ونحترمه، فهل المشروع أن نمشي خلفه، أو عن يمينه، أو عن شماله؟ وبعض الأحيان إذا غاب شيخنا، يتدافع بعض الإخوان، كل منهم يريد أن يقدم صاحبه على نفسه في المشي، والدخول، ونحو ذلك، فيأبى هذا، إلا أن يتقدمه زميله؟ وقد طلب مني زملائي أن أكتب لكم هذا السؤال؟
الإجابة:
قال ابن عقيل: من مشى مع إنسان، فإن كان أكبر منه وأعلم، فعن يمينه، يقيمه مقام الإمام في الصلاة، وإن كان دونه في المنزلة فيجعله عن يمينه، وإذا كانا سواء استحب له أن يخلي له يساره؛ حتى لا يضيق عليه جهة البصاق والامتخاط ونحوه. ومقتضى كلامه؛ استحباب مشي الجماعة خلف الكبير، وإن مشوا على جانبيه فلا بأس، كالإمام في الصلاة.(2/190)
وفي "صحيح" مسلم في أول كتاب الإيمان قول يحيى بن يعمر أنه هو وحميد ابن عبدالرحمن مشيا إلى جانبي ابن عمر - رضي اللَّه عنهما- (497) . وقد قيل: المستحب: المشي عن اليمين في الجملة؛ ليخلي اليسار للبصاق، وغيره (498) . قال الحافظ ابن الجوزي - رحمه اللَّه-: إذا أذِن له في الدخول، ومعه من هو أكبر منه بيوم، قدم الأكبر في الدخول، فقد روى ابن عمر - رضي اللَّه عنهما- عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أمرني جبريل أن أكبر" . وقال: "قدموا الكبير" (499) . وقال مالك بن مغول: كنت أمشي مع طلحة بن مصرف، فصرنا إلى مضيق، فتقدمني، ثم قال: لو كنت أعلم أنك أكبر مني بيوم ما تقدمتك...، قال ابن الجوزي: فإن كان الأصغر أعلم، فتقديمه أولى. ثم روى بإسناده عن الحسين بن منصور قال: كنت مع يحيى بن يحيى، وإسحاق بن راهويه يوما نعود مريضا، فلما حاذينا الباب، تأخر إسحاق، وقال ليحيى: تقدم أنت يا أبا زكريا؛ أنت أكبر مني. قال: نعم، أكبر منك، وأنت أعلم مني. فتقدم إسحاق. انتهى. قال ابن مفلح - رحمه اللَّه-: وهذا يقتضي أن من له التقديم يتقدم عملا بالسنة، وأن ذلك يحسن منه، وأن الأعلم يقدم مطلقا، ولا اعتبار معه إلى سن ولا صلاح ولا شيء، وأن الأسن يقدم على الأورع والأدين، كما هو ظاهر كلامه في "المستوعب" .
فإن استوى اثنان في العلم والسن، فينبغي أن يقدم من له مزية بدين، أو ورع، أو ما أشبه ذلك...، وذكر ابن الجوزي بعد ذلك حديث: "ليس منا من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا" . رواه الإمام أحمد، ولفظ حديث أحمد عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه-أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "ليس من أمتي من لم يجل كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا" (500) . رواه الحاكم أيضا، بلفظ. "ليس منا" (501) إلخ، ذكره في "شرح منظومة الآداب" واللَّه أعلم.
[427] كراهة نوم الإنسان منبطحا على بطنه(2/191)
سائل يسأل عن حكم نوم الإنسان منبطحا على بطنه، وما ورد في ذلك؟
الإجابة:
ذكر العلماء أنه يكره نومه على بطنه من غير عذر، واستدلوا لذلك بأحاديث فيها مقال منها ما رواه الإمام أحمد، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: مر الرسول صلى الله عليه وسلم برجل مضطجع على بطنه، فغمزه برجله، وقال: "إن هذه ضِجعة لا يحبها اللَّه عز وجل" (502) . ورواه ابن حبان في "صحيحه" .
وروى البخاري في "الأدب" عن أبي أمامة -رضي اللَّه عنه-: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مر برجل في المسجد منبطحا لوجهه، فضربه برجله، وقال: "قم؛ نومة جهنمية" (503) .(2/192)
وعن يعيش بن طخفة بن قيس الغفاري قال: كان أبي من أصحاب الصفة فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "انطلقوا بنا إلى بيت عائشة" . فانطلقنا، فقال: "يا عائشة، أطعمينا" . فجاءت بحيسة مثل القطاة، فأكلنا، ثم قال: "يا عائشة اسقينا" . فجاءت بقدح صغير فشربنا، ثم قال: "إن شئتم بِتُّم، وإن شئتم انطلقتم إلى المسجد" . قال: فبينا أنا مضطجع في السحر على بطني، إذْ جاء رَجل يحركني برِجله، فقال: "إن هذه ضجعة يبغضها اللَّه" . قال: فنظرت، فإذا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم (504) رواه أبو داود، واللفظ له، والنسائي (505) عن قيس بن طغفة -بالغين المعجمة- وابن ماجه (506) عن قيس ابن طهفة -بالهاء- عن أبيه مختصرا، ورواه ابن حبان (507) في "صحيحه" عن قيس بن طغفة -بالغين- المعجمة عن أبيه كالنسائي، ورواه ابن ماجه أيضا عن طهفة، أو طحفة على اختلاف النسخ عن أبي ذر قال: مر بي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وأنا مضطجع على بَطْني، فركضني برجله، وقال: "يا جنيدب، إنما هذه ضِجعة أهل النار" (508) . قال الحافظ المنذري (509) : قال أبو عمر النمري: اختلف فيه اختلافا كثيرا واضطرب فيه اضطرابا شديدا، فقيل: طهفة بن قيس بالهاء، وقيل: طخفة بالخاء، وقيل: طغفة بالغين، وقيل: طقفة بالقاف والفاء، وقيل: قيس بن طخقة، وقيل: عبداللَّه بن طخفة، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقيل: طهفة، عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم . وحديثهم كلهم واحد، قال: كنت نائما بالصُّفة، فركضني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم برجله، وقال: "هذه نومة يبغضها اللَّه" . وكان من أهل الصُّفة، ومن أهل العلم من يقول: إن الصحبة لأبيه عبد اللَّه، وإنه صاحب القصة. انتهى، وذكر البخاري (510) فيه اختلافا كثيرا، وقال: طغفة بالغين خطأ، واللَّه أعلم.(2/193)
والحيسة على معنى القطعة من الحيس؛ وهو الطعام المتخذ من التمر والأقط والسمن، وقد يُجْعَل عوضَ الأقط دقيق. انتهى من "غذاء الألباب" .
[428] الوفاء بالوعد
رجل وعد شخصا أن يعطيه شيئا، أو يعمل له حاجة، فلم يف له بوعده، فقال له بعض الإخوان: إن الوفاء بالوعد واجب، وإخلاف الوعد من علامات النفاق، وقال بعضهم: إنه ليس بواجب، فنرجوكم إيضاح ذلك، وذكر كلام العلماء -رحمهم اللَّه- على هذا جزيتم خيرا؟
الإجابة:
قال ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" : وقد اختلف العلماء في وجوب الوفاء بالوعد، فمنهم من أوجبه مطلقا، وذكر البخاري في "صحيحه" (511) أن ابن أشوع قضى بالوعد، وهو قول طائفة من أهل الظاهر وغيرهم، ومنهم من أوجب الوفاء به إذا اقتضى نفعا للموعود، وهو عن مالك، وكثير من الفقهاء لا يوجبونه مطلقا (512) .انتهى.
وقال في "الاختيارات" (513) : ويلزم الوفاء بالوعد، وهو وجه في مذهب أحمد. وقال في "الإقناع وشرحه" : ولا يلزم الوفاء بالوعد، نص عليه الإمام أحمد، وقاله أكثر العلماء، ويحرم الوعد بلا استثناء؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ} (514) قال في "الآداب الكبرى" (515) : فلا يخبر عن شيء سيوجد، إلا باعتبار جازم، أو ظن راجح، قال: وتعليق الخبر فيها بمشيئة اللَّه مستحب ولا يجب؛ للأخبار المشهورة في تركه في الخبر والقَسَم. انتهى، قال في "المبدع" : ومذهب مالك يلزم؛ أي: الوفاء بالوعد بسبب، كمن قال: تزوج وأعطيك كذا، واحلف لا تشتمني ولك كذا، وإلا لم يلزمه... إلى أن قال: والعهد غير الوعد، ويكون بمعنى اليمين والأمان والذمة والحفظ والرعاية والوصية، وغير ذلك، قال ابن الجوزي في قوله تعالى: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ}(516): عام فيما بينه وبين ربه والناس، ثم قال: قال الزَّجاج: كل ما أمر اللَّه -تعالى- به ونهى عنه فهو من الوعد. انتهى.(2/194)
[429] استقبال القبلة واستدبارها ومد الرِّجل إليها
هل يجوز للرِّجل إذا جلس في المسجد، أو خارج المسجد أن يجلس مستدبرا القبلة، أو يمد رجليه إليها، فإن الإنسان قد يحتاج إلى ذلك؛ لإسناد ظهره إلى سارية ونحوها؟
الإجابة:
الكعبة بيت اللَّه وقبلة المسلمين، ويجب لها من التقديس والحرمة والتعظيم ما يتناسب مع مكانتها الدينية، في حدود المشروع، قال اللَّه تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} (517) ، وقد ذكر العلماء أحكام استقبالها واستدبارها؛ فمنها أنه يستحب استقبالها في الجلوس مطلقا، سواء كان لأكل وشرب، أو قراءة قرآن، أو مدارسة علم، أو لأداء وظيفة، أو جلوسا عاديا، فالأفضل للإنسان أن يستقبل القبلة كلما جلس، وعن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "إن لكل شيء شرفا، وإن أشرف المجالس ما استقبل به القبلة" (518) . رواه الطبراني، وإسناده ضعيف.
وفي الباب أحاديث الترغيب في استقبالها؛ سواء في البيت أو في المكتب أو في المتجر أو في المسجد. وكذلك حال أداء المناسك: مِن رمي ونحر وحلق ووقوف بعرفة، ونحوها. وكذا حال أداء العبادات: كالوضوء والغسل والتيمم والأذان والإقامة، ونحوها.
ومنها أنه يحرم استقبالها واستدبارها حال قضاء الحاجة، من بول، أو غائط؛ لحديث أبي أيوب مرفوعا: "إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة، ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا" . متفق عليه (519) .
أما الاستنجاء والاستجمار، فقد ذكر الفقهاء أنه يكره استقبال القبلة حال الاستنجاء والاستجمار.
ومنها أنه يجب توجيه الميت إليها، فيوضع في قبره مستقبل القبلة، على جنبه الأيمن.(2/195)
فأما المريض الذي لا يستطيع القيام ولا الجلوس فيصلي على جنبه الأيمن مستقبلا القبلة. فإن لم يمكنه على جنبه الأيمن، فعلى الأيسر، ويستقبل القبلة. فإن لم يمكن صلى على ظهره ورجلاه مما يلي القبلة، ويرفع رأسه قليلا، حتى يكون وجهه مستقبلا القبلة. وهكذا يُفعل بالمريض حال احتضاره، ومثله إذا أراد الإنسان النوم. ومنها أنه يستحب توجيه الذبيحة إليها حال ذبحها، وليس ذلك بواجب، ولا شرط، وإنما هو سنة.
أما ما ذكرته في السؤال، من مد الرجلين إلى القبلة، فقد ذكرها ابن مفلح في كتاب الآداب الشرعية" ، كما ذكر مسألة إسناد الظهر إليها، فقال (520) : (فصل في كراهة إسناد الظهر إلى القبلة في المسجد) : ويكره أن يسند ظهره إلى القبلة. قال أحمد -يعني الإمام أحمد بن حنبل-: هذا مكروه، وصرح القاضي بالكراهة. قال إبراهيم: كانوا يكرهون أن يتساندوا إلى القبلة قبل صلاة الفجر. رواه أبو بكر النجاد... إلى أن قال: (فصل في كراهة مد الرجلين إلى القبلة) : ذكر غير واحد من الحنفية -رحمهم اللَّه- أنه يكره مد الرجلين إلى القبلة في النوم وغيره، وهذا إن أرادوا به عند الكعبة -زادها اللَّه شرفا- فمسَلَّم، وإن أرادوا مطلقا- كما هو ظاهر- فالكراهة تستدعي دليلا شرعيا، وقد ثبت في الجملة استحبابه، أو جوازه، كما هو في حق الميت. قال في "المفيد" -من كتبهم-: ولا يمد رجليه -يعني- في المسجد؛ لأن في ذلك إهانة له، ولم أجد أصحابنا ذكروا هذا، ولعل تركه أولى، ولعل ما ذكره الحنفية -رحمهم اللَّه- من حكم هاتين المسألتين قياس كراهة الإمام أحمد - رحمه اللَّه- الاستناد إلى القبلة، كما سبق، فإن هاتين المسألتين في معنى ذلك. واللَّه أعلم.
[430] حكم بعض الكلمات مثل:أشكرك وأرجوك
لقد شاع بين كثير من الناس كلمات تعارفوا عليها، وفي النفس منها بعض الشيء، مثل كلمة (أشكرك) وكلمة (أرجوك) ، ونحوهما، فهل في إطلاقها على المخلوق شيء؟
الإجابة:(2/196)
الظاهر أنه لا تحريم في استعمال هذه الكلمة؛ أعني كلمة (أشكرك) مع أن الأَولى ترك استعمالها خطابا للمخلوق.
وأما كلمة (أرجوك) في شيء يقدر عليه ذلك المخلوق، فليس بشِرْك، ولا محرم، لكن من حسن الأدب ترك استعمال هذه الكلمة مع المخلوق أيضا، واللَّه أعلم.
[431] ما يجمع من المزارعين باسم الضيافة
يقصد الضيوف قريتنا، وليس لدى أي منا مكان يسمح باستقبالهم، ولا يستطيع شخص بمفرده تحمل نفقات قِراهم، فنقوم باستقبالهم في بيت عرّيف القرية، ويساهم جميع أفراد القرية في ضيافتهم وإكرامهم. وهذه الضيافة توزع على الأفراد حسب أملاكهم واستطاعتهم، فلا يُكلَّف من لا طاقة له بالضيافة. ولهم طريقة متفقون عليها تساعد في الضيافة. فما حكم عملهم هذا؟
الإجابة:
إذا كان الضيوف يأتون باسم أهل البلد، وكان ما ذُكر يوزع عليهم بصورة عدل ومساواة بينهم، كلٌّ على قدر حالته، بدون محاباة، ولا ميل على أحد؛ فالظاهر أنه لا بأس به -إن شاء اللَّه-. صرح بمعنى ذلك المشايخ من أئمة هذه الدعوة -رحمهم اللَّه- وكان أهالي نجد يعملون به في السابق.
ويجب على أهل البلد أن لا يُقدِّموا في ذلك إلا من كان معروفا بالأمانة، والوقف وملك اليتيم والمرأة ليس عليهما شيء من ذلك، وهذا من جنس الكُلَف السلطانية التي يجب فيها التسوية بين الناس، ومن قام بها على وجه العدل فهو كالمجاهد في سبيل اللَّه، ذكره الشيخ تقي الدين -رحمه اللَّه-.
[432] حكم خروج النساء للاحتطاب بدون محرم
بعض نساء أهل البادية وبعض القرى يخرجن للاحتطاب وجمع العشب ورعي الغنم، وغير ذلك، ويبعدن وليس معهن محرم، فهل في ذلك شيء، نرجوكم إرشادنا، عفا اللَّه عنكم؟
الإجابة:(2/197)
لا يجوز للمرأة السفر بلا محرم، سواء كان السفر طويلا أو قصيرا، وسواء كانت المرأة شابة، أو عجوزا؛ لحديث ابن عباس -رضي الله عنه- قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطُب يقول: "لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم" (521) .
وعن ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم" . متفق عليه (522) .
وعن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تسافر المرأة مسيرة يومين إلا ومعها زوجها أو ذو محرم. متفق عليه (523) .
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لامرأة تؤمن باللَّه واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم وليلة، إلا مع ذي محرم" (524) . وفي رواية: "مسيرة يوم" (525)، وفي رواية: "ليلة" (526) ، وفي رواية لأبي داود (527) : "بريدا" .
وما تقدم من تحريم سفرها بلا محرم؛ هو في السفر الذي يحتاج إلى محرم وهو ما يعد سفرا عرفا، وأما ذهابها في أطراف البلد مما لا يعد سفرا عرفا؛ لاحتطاب أو رعي غنم ونحو ذلك، فلا بأس بذلك مع الأمن، وأما مع الخوف فلا يجوز، كما صرح بذلك العلماء.
قال في "زاد المعاد" (528) : وصح عن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت: كنت أخدم الزبير خدمة البيت كله، وكان له فرس وكنت أسوسه، وكنت أحتش له، وأقوم عليه (529) . وصح عنها أنها كانت تعلف فرسه وتسقي الماء وتخرز (530) الدَّلو وتعجن، وتنقل النوى على رأسها من أرض له على ثلثي فرسخ (531) . اهـ. واللَّه أعلم.
[433] حكم الكذب في أجور ترحيل العائلة
يطلب بعض الموظفين نفقات استقدام لأسرته، وأحيانا تكون أسرته معه أو ليس له أسرة، وإذا قيل لهم في ذلك، قالوا: هذا مال الحكومة. فما حكم ما يأخذونه، هل هو حلال أم حرام؟
الإجابة:(2/198)
إذا كان الإنسان كاذبا فيما قال؛ فهو آثم ولا يحل له ما أخذه بهذا الكذب، فقد جاء الشرع بذمه والتحذير منه في جملة آيات وأحاديث؛ منها: قوله تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} (532) ومنها: حديث: "عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق، ويتحرى الصدق، حتى يكتب عند اللَّه صديقا، وإياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب، ويتحرى الكذب حتى يكتب عند اللَّه كذابا" . رواه البخاري ومسلم وغيرهما(533) .
وأما أكل المال بالباطل فقد قال اللَّه تعالى: {وَلا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ} (534) وفي الحديث: "إن رجالا يتخوضون في مال اللَّه بغير حق؛ فلهم النار يوم القيامة" (535) .
وأما قولهم: إن هذا مال الحكومة، فصحيح أن هذا بيت مال المسلمين، وقد تعلق به حق اليتيم، والمسكين، والأرملة، وحق العاجز، والأعمى، وغيرهم، وحق المجاهدين، والمحافظين على الثغور، والجند، وغيرهم، فهل يستسيغ المؤمن أن يلاقي اللَّه بحقوق هؤلاء؟!
ومع هذا، فالمال المكتسب بهذه الطريقة مال سُحْت، حري أن يكون وبالا على صاحبه، وأن لا يبارك له فيه، فليحذر العاقل من مغبته الوخيمة. واللَّه أعلم.
[434] حكم الدوس على السجادة التي فيها صورة الحرمين الشريفين واستعمالها لغير الصلاة
هل يجوز دوس السجادة بالقدمين على الموضع الذي فيه صورة الحرمين الشريفين، وهل يجوز استعمال السجادة لغير الصلاة؟
الإجابة:(2/199)
لا أعلم في استعمال السجادة لغير الصلاة مانعا شرعيا، ولا محذورا في دوسها بالقدمين على الصورة التي فيها، فإن الإنسان يدخل الكعبة، وهي بيت اللَّه -تعالى- ويدوسها بأقدامه من غير نكير، لكن البحث الذي هو أهم من هذا، هو استنكار الصلاة على السجادة التي فيها نقوش وتصاوير؛ لنهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك في حديث عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في خميصة لها أعلام، فنظر إلى أعلامها نظرة، فلما انصرف قال: "اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم؛ وأتوني بأَنْبِجانيَّةِ أبي جهم، فإنها أَلهتني آنفا عن صلاتي" (536) .
قال العلماء: فيستدل بهذا الحديث على كراهة الصلاة على المفارش والسجاجيد المنقوشة، وكراهة نقش المساجد، وكراهية ما يشغل عن الصلاة من النقوش ونحوها، مما يشغل قلب المصلي. واللَّه أعلم.
[435] زيارة الرجل بنت عمه في بيت زوجها
هل يجوز عن زيارة الرجل بنت عمه في بيت زوجها؟
الإجابة:
لا بأس بزيارة الرجل لبنت عمه في بيت زوجها، إذا كان بدون خلوة بها، وبإذن من زوجها. وهذا مع النية الصالحة؛ من صلة الرحم التي وردت النصوص في الترغيب فيها.
ومما ورد فيها حديث أنس -رضي الله عنه- أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "من أحب أن يُبْسَط له في رزقه، ويُنْسَأ له في أَثَره، فليصل رحمه" .متفق عليه (537) .
[436] احترام ما فيه ذكر اللَّه والنهي عن إلقاء فضلات الطعام
سائل يسأل عما يفعله بعض الناس، من إلقاء الأوراق والصحف التي فيها اسم اللَّه، وآيات من القرآن الكريم، وإلقائها على الأرض، ودوسها بالأقدام، وكذا الاستخفاف بقطع الخبز، وبقايا الطعام، وإلقائها في الأزقة، وصفائح القمامة، والمواضع القذرة؟
الإجابة:(2/200)
أما إهانة الأوراق التي فيها اسم اللَّه، وفيها آيات من القرآن الكريم، فهذا لا يحل ولا يجوز، ومن تعمد إلقاءها عالما بما فيها من أسماء اللَّه وآياته، فقد فعل أمرا محرما ويجب عليه التوبة واستدراك ما فعله برفعه من الأرض ووضعه في محل مصون، فإن كان يقصد من إلقائها إهانة ما فيها من كلام اللَّه وأسمائه، فهذا الفعل يعتبر ردة عن الإسلام، نعوذ باللَّه من ذلك. فيتعين على كل امرئ الانتباه لهذه المسألة المهمة، والتنبيه عليها. كما يتعين على من وجد شيئا من ذلك مطروحا في محل الإهانة أن يرفعه، ويضعه في محل يصان به عن الإهانة، والاستخفاف به.
وأما مسألة وضع قطع الخبز وفضلات الطعام في صفائح القمامة وإلقائها في الأزقة، والمواضع القذرة، فلا شك أن هذا إهانة لهذه النعمة التي أنعم اللَّه بها على عباده واستخفاف بها، وهو من قلة شكرها؛ لأن هذا النوع من الطعام لا بد له من راغب، ولو بعض الحيوانات المحترمة، وقد قال صلى الله عليه وسلم : "في كل كبد رطبة أجر" (538) ، فإن لم يجد لها من يأكلها، فليضعها في مكان طاهر نظيف، بعيد عن القاذورات وامتهان الناس.
فليحذر العاقل من مغبة كفران النعم، فمن لم يشكر النعمة يوشك أن تزول عنه، وربما تمناها فلا يجدها، واللَّه المستعان.
[437] الإفراط في غيرة الرجل على محارمه
ما حكم من يرتاب في سلوك زوجته، وهي بريئة، لكن الشيطان يستولي عليه ويوسوس له بأشياء لا حقيقة لها.
الإجابة:
غيرة الرجل على محارمه منها ما هو محمود، ومنها ما هو مذموم.
فالمحمود منها؛ صون المرأة عن وقوفها مواقف التهم، وتطلعها إلى الرجال واختلاطها بهم، وخروجها من بيتها بدون حاجة، أو متبرجة ومتعطرة ولو لحاجة، ونحو ذلك مما يعتبره الرجال حفاظا على حريمهم، وغيرة على نسائهم.(2/201)
والمذموم من الغيرة؛ الإكثار منها من غير ريبة، وكثرة التوهمات التي تلفت أنظار الناس، من غير مستند ولا دليل يثبت شيئا من تلك التوهمات؛ فإن هذا منهي عنه شرعا وعقلا، وفيه ظلم للمرأة وإحراج لها وجرح لشعورها، وربما كان سببا لهتك عرضها وهي غافلة؛ فيتجرأ عليها الفساق ويقولون: لولا أنه يعلم فيها المكروه لما فعل مثل هذا.
وقد ورد عن نبي اللَّه داود أنه قال لابنه سليمان -عليهما السلام-: يا بني، لا تكثر الغيرة على أهلك من غير ريبة؛ فتُرمى بالشر من أجلك وإن كانت بريئة.
فعلى هذا الرجل أن يتوب إلى اللَّه من ظلم امرأته، ويستبيحها مما وقع منه عليها، فإنه يُخشى عليه أن يدخل في عموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ فَقَدِ احْتَمَلُواْ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} (539) . ومع ذلك هي حلال له بدون شك، والأصل براءتها ونزاهتها، واللَّه أعلم.
[438] نهي المرأة عن التطيب إذا خرجت
سائل يسأل عما ورد من نهي المرأة عن التطيب إذا خرجت، وهل النهي عام، أو أنها مسموح لها أيام الأعياد أن تتطيب، وتخرج لابسة أحسن ثيابها؟
الإجابة:
الأحاديث والآثار الواردة في نهي المرأة من أن تخرج من بيتها متعطرة متزينة عامة؛ أيام الأعياد وغيرها، ولم يرخص العلماء لها بالخروج من بيتها متعطرة ولو كان خروجها للمسجد فضلا عن غيره.
فعن أبي هريرة -مرفوعا-:أيما امرأة أصابت بخورا فلا تشهد معنا العشاء الآخرة" . رواه مسلم وأبو داود والنسائي (540) . وعن أبي موسى مرفوعا: "كل عين زانية، والمرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا" . يعني زانية. رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح (541) .
والأحاديث في هذا كثيرة معروفة، فعسى أن يكون بذلك ذكرى للنساء وأولياء أمورهن، فإن الذكرى تنفع المؤمنين.
[439] آداب الضيافة(2/202)
سائل يسأل عن آداب الضيافة، وما قيل عن أبينا إبراهيم الخليل - عليه السلام- أنه أول من أضاف الضيف، وأن قصته مع الملائكة عليهم السلام قد جمعت آداب الضيافة، فنرغب في بيان تلك الآداب النبوية بتفصيل.
الإجابة:
نعم، ذكر العلماء أن أول من ضيف الضيفان أبونا إبراهيم -عليه السلام- (542) .
وأما قصته مع الملائكة، فقد ذكرها اللَّه تعالى في كتابه في عدة مواضع، ومنها قوله تعالى في سورة الذاريات (543) : {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينِ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ}. قال السفاريني: ففي هذا من الثناء على خليله إبراهيم وجوه متعددة:
أحدها: وصف ضيفه بأنهم مكرمون، وهذا على أحد القولين أنه إكرام إبراهيم لهم، والثاني أنهم المكرمون عند اللَّه، ولا تنافي بين القولين.
الثاني: قوله تعالى: {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ}، فلم يذكر استئذانهم؛ لأنه قد عُرف بإكرام الضيفان، واعتاد قِراهم، فبقي منزل ضيفه مطروقا لمن ورده، لا يحتاج إلى استئذان، بل استئذان الداخل دخوله، وهذا غاية ما يكون من الكرم.
الثالث: قوله لهم: {سَلامٌ} بالرفع، وهم سلموا عليه بالنصب، والسلام بالرفع أكمل؛ لأنه يدل على الجملة الاسمية الدالة على الثبوت والدوام، والمنصوب يدل على الفعلية الدالة على الحدوث والتجدد، فقد حياهم بتحية أحسن من تحيتهم، فإن قولهم: {سَلامًا} يدل على: سلمنا سلاما، وقوله: {سَلامٌ} أي: سلام عليكم.
الرابع: أنه حذف المبتدأ من قوله: {قَوْمٌ مُّنكَرُونَ}، فإنه لما أنكرهم ولم يعرفهم احتشم من مواجهتهم بلفظ ينفر الضيف لو قال: أنتم قوم منكرون.
الخامس: بناء اسم المفعول للمجهول، ولم يقل: إني أنكركم، وهو أحسن في هذا المقام، وأبعد من التنفير، والمواجهة بالخشونة.(2/203)
السادس: أنه عليه السلام راغ إلى أهله ليجيئهم بنُزُلهم، والروغان هو الذهاب في اختفاء بحيث لا يكاد يشعَر به.
السابع: أنه ذهب إلى أهله فجاء بالضيافة، فدل أن ذلك كان معدا عندهم، مهيأً للضِيفان، ولم يحتج أن يذهب إلى غيرهم من جيرانه، أو غيرهم فيشتريه، أو يستقرضه.
الثامن: قوله {فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} دل على خدمته للضيف بنفسه، ولم يقل: فأمر لهم، بل هو الذي ذهب، وجاء به بنفسه، ولم يبعثه مع خادمه، وهذا أبلغ في إكرام الضيف.
التاسع: أنه جاء بعجل كامل، ولم يأت ببعض منه، وهذا من تمام كرمه صلى الله عليه وسلم .
العاشر: وصف العجل بكونه سمينا، لا هزيلا، ومعلوم أن ذلك من أفخر أموالهم، ومثله يتخذ للاقتناء والتربية، فآثر به ضيفانه.
الحادي عشر: أنه قربه إليهم، ولم يقربهم إليه، وهذا أبلغ في الكرامة، أن يجلس الضيف ثم تقرب الطعام إليه، وتحمله إلى حضرته، ولا تضع الطعام في ناحية ثم تأمر ضيفك بأن يتقرب إليه.
الثاني عشر: قوله {أَلَا تَأْكُلُونَ}، وهذا عرض وتلطف في القول، وهو أحسن من قوله: كلوا، أو مدوا أيديكم، ونحوهما، وهذا مما يعلم الناس بعقولهم حسنه، ولطفه، ولهذا يقولون: بسم اللَّه، أو ألا تتصدقوا، أو ألا تجبروا. وما ألطف ما اعتاده أهل بلادنا عمرها اللَّه تعالى بالإسلام والتقوى من قولهم للضيفان إذا قدموا إليهم الطعام: (تفضلوا) ، أي: تفضلوا علينا بأكل طعامنا، وهذا في غاية اللطف والحسن. قال الإمام ابن القيم في كتابه "جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على خير الأنام" (544) بعد ذكر ما ذكرناه: فقد جمعتْ هذه الآية آداب الضيافة، التي هي أشرف الآداب، وما عداها من التكلفات التي هي تخلّف وتكلّف إنما هي من أوضاع الناس، وعوائدهم، وكفى بهذه الآداب شرفا وفخرا، فصلى اللَّه على نبينا، وعلى إبراهيم، وعلى آلهما وعلى سائر النبيين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. واللَّه أعلم.(2/204)
[440] حول حديث:أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم"
إنسان مستور الحال، من ذوي الهيئات المنظور إليه، وممن يحسن بهم الظن، عثر عليه في جريمة أخلاقية، لا تصل إلى إقامة الحد الشرعي. فقال بعض الناس: يتعين التشهير به حتى يفتضح أمره؛ ليرتدع هو وأمثاله. وقال آخرون: بل ينبغي الستر عليه، واستدل بحديث "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم" (545) ، ثم اختلفوا في معنى حديث: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود" فما حكم الشرع في ذلك؟
الإجابة:
قال العلامة ابن القيم في "بدائع الفوائد" (546) على هذا الحديث: قال ابن عقيل: المراد بهم الذين دامت طاعاتهم، فزلت في بعض الأحايين بورطة. قلت: ليس ما ذكره بالبين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعبر عن أهل التقوى والعبادة والطاعة بأنهم ذوو الهيئات، ولا عهد بهذه العبارة في كلام اللَّه، ولا في كلام رسوله صلى الله عليه وسلم للمطيعين والمتقين. قال: والظاهر أنهم ذوو الأقدار بين الناس في الجاه والشرف والسؤدد، فإن اللَّه تعالى خصهم بنوع تكريم وتفضيل على بني جنسهم، فمن كان منهم مستورا، مشهورا بالخير، حتى كبا به جواده، ونبا عضب صبره، وأديل عليه غلبة شيطانه، فلا يسارَع إلى تأديبه وعقوبته، بل تقال عثرته، ما لم تكن حدا من حدود اللَّه تعالى، فإنه يتعين استيفاؤه من الشريف كما يتعين أخذه من الوضيع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" (547) . وقال: "إن بني إسرائيل كان إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه" (548) .
وهذا باب عظيم من أبواب محاسن هذه الشريعة الكاملة، وسياستها للعالم، وانتظامها لمصالح العباد في المعاش والمعاد. انتهى.
[441] النهي عن التشبه بالحيوانات والبهائم وتمثيلها في حركاتها وأصواتها
سائل يسأل عن حكم التشبه بالحيوانات والبهائم وتمثيلها بأصواتها وحركاتها، هل هو من الأمور الجائزة، أو من الأمور الممنوعة، وما دليل ذلك؟(2/205)
الإجابة:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (549) : (فصل) : التشبه بالبهائم في الأمور المذمومة في الشرع مذموم منهي عنه في أصواتها، وأفعالها، ونحو ذلك، مثل: أن ينبح نبيح الكلاب، أو ينهق نهيق الحمير، ونحو ذلك وذاك لوجوه:
الأول: أنا قررنا في "اقتضاء الصراط المستقيم" (550) نهي الشارع عن التشبه بالآدميين الذين جنسهم ناقص كالتشبه بالأعراب، وبالأعاجم وبأهل الكتاب ونحو ذلك في أمور من خصائصهم، وبينا أن من أسباب ذلك: أن المشابهة تورث مشابهة الأخلاق، وذكرنا أن من أكثر عشرة بعض الدواب اكتسب من أخلاقها كالكلابين، والجمالين، وذكرنا ما في النصوص من ذم أهل الجفاء، وقسوة قلوب أهل الإبل، ومن مدح أهل الغنم فكيف يكون التشبه بنفس البهائم فيما هي مذمومة به، بل هذه القاعدة تقتضي بطريق التنبه النهي عن التشبه بالبهائم مطلقا فيما هو من خصائصها، وإن لم يكن مذموما بعينه؛ لأن ذلك يدعو إلى فعل ما هو مذموم بعينه، إذ من المعلوم أن يكون الشخص أعرابيا، أو عجميا خير من كونه كلبا، أو حمارا، أو خنزيرا، فإذا وقع النهي عن التشبه بهذا الصنف من الآدميين في خصائصه لكون ذلك تشبها فيما يستلزم النقص ويدعو إليه، فالتشبه بالبهائم فيما هو من خصائصها أولى أن يكون مذموما ومنهيا عنه.
الوجه الثاني: أن كون الإنسان مثل البهائم مذموم قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (551) .(2/206)
الوجه الثالث: أن اللَّه سبحانه إنما شبه الإنسان بالكلب والحمار ونحوهما في معرض الذم له كقوله: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ} (552) وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا}... الآية (553) ، وإذا كان التشبه بها إنما كان على وجه الذم من غير أن يقصد المذموم التشبه بها فالقاصد أن يتشبه بها أولى أن يكون مذموما، لكن إن كان تشبه بها في عينِ ما ذَمَّه الشارع صار مذموما من وجهين، وإن كان فيما لم يذمه بعينه صار مذموما من جهة التشبه المستلزم للوقوع في المذموم بعينه. يؤيد هذا:
الوجه الرابع: وهو قوله صلى الله عليه وسلم في "الصحيح" : "العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه، ليس لنا مَثَلُ السوْء" (554) .
ولهذا يذكر أن الشافعي وأحمد تناظرا في هذه المسألة فقال له الشافعي: الكلب ليس بمكلف. فقال له أحمد: ليس لنا مَثَلُ السوْء.
وهذه الحجة في نفس الحديث، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر هذا المثل إلا ليبين أن الإنسان إذا شابه الكلب كان مذموما، وإن لم يكن الكلب مذموما في ذلك من جهة التكليف ولهذا قال: "ليس لنا مَثَلُ السَوْء" ، واللَّه سبحانه قد بين بقوله: {سَاءَ مَثَلاً} أن التمثيل بالكلب مَثَلُ سَوْء، والمؤمن منزه عن مَثَل السوْء فإذا كان له مَثَل سَوْء من الكلب كان مذموما بقدر ذلك المثل السوء.
الوجه الخامس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب" (555) .(2/207)
وقال: "إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا اللَّه من فضله، وإذا سمعتم نهيق الحمير فتعوذوا باللَّه من الشيطان فإنها رأت شيطانا" (556) .
فدل ذلك على أن أصواتها مقارنة للشياطين، وأنها منفرة للملائكة، ومعلوم أن المشابهة للشيء لا بد أن يتناوله من أحكامه بقدر المشابهة، فإذا نبح نباحها كان في ذلك من مقارنة الشياطين، وتنفير الملائكة بحسبه، وما يستدعي الشياطين، وينفر الملائكة لا يباح إلا لضرورة، ولهذا لم يبح اقتناء الكلب إلا لضرورة لجلب منفعة كالصيد، أو دفع مضرة عن الماشية والحرث، حتى قال صلى الله عليه وسلم : "من اقتنى كلبا إلا كلب ماشية، أو حرث، أو صيد نقص من عمله كل يوم قيراط" (557) .
وبالجملة: فالتشبه بالشيء يقتضي من الحمد والذم بحسب المشبه، لكن كون المشبه به غير مكلف لا ينفي التكليف عن المتشبه، كما لو تشبه بالأطفال والمجانين.(2/208)
الوجه السادس: أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال 558 . وذلك لأن اللَّه خلق كل نوع من الحيوان وجعل صلاحه وكماله في أمر مشترك بينه وبين غيره وبين أمر مختص به، فأما الأمور المشتركة فليست من خصائص أحد النوعين، ولهذا لم يكن من مواقع النهي، وإنما مواقع النهي الأمور المختصة، فإذا كانت الأمور التي هي من خصائص النساء ليس للرجال التشبه بهن فيها، والأمور التي هي من خصائص الرجال ليس للنساء التشبه بهم فيها، فالأمور التي هي من خصائص البهائم لا يجوز للآدمي التشبه بالبهائم فيها بطريق الأوْلى والأحرى، وذلك لأن الإنسان بينه وبين الحيوان قدر جامع مشترك، وقدر فارق مختص، ثم الأمر المشترك كالأكل، والشرب، والنكاح، والأصوات والحركات، لما اقترنت بالوصف المختص كان للإنسان فيها أحكام تخصه ليس له أن يتشبه بما يفعله الحيوان فيها، فالأمور المختصة به أولى، مع أنه في الحقيقة لا مشترك بينه وبينها، ولكن فيه أوصاف تشبه أوصافها من بعض الوجوه والقدر المشترك إنما وجوده في الذهن لا في الخارج. وإذا كان كذلك فاللَّه تعالى قد جعل الإنسان مخالفا بالحقيقة للحيوان وجعل كماله وصلاحه في الأمور التي تناسبه، وهي جميعها لا يماثل فيها الحيوان، فإذا تعمد مماثلة الحيوان، وتغيير خلق اللَّه فقد دخل في فساد الفطرة والشرعة، وذلك محرم. واللَّه أعلم. اهـ.
[442] حلق بعض الرأس وترك بعضه
سائل يسأل عن حكم حلق بعض الرأس وترك بعضه بدون حلق كمن يستعمل "التواليت" ونحوه، فهل مثل هذا جائز شرعا أو ممنوع وما دليل المنع؟
الإجابة:
هذا الصنيع يسميه أهل العلم: القَزَع، وهو حلق بعض الرأس وترك بعض مأخوذ من تقزع السحاب، وهو تقطعه قطعا متفرقة.
وحكمه: المنع؛ لما ورد فيه من الأحاديث والآثار وكلام أهل العلم رحمهم اللَّه فمن ذلك:(2/209)
حديث ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يحلق بعض رأس الصبي ويدع بعضه. أخرجاه في "الصحيحين" (559) .
وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى صبيا قد حلق بعض رأسه وترك بعضه فنهاهم عن ذلك، وقال: "احلقوه كله، أو اتركوه كله" . رواه أبو داود (560) .
فدل هذا الحديث على النهي عن حلق بعض الرأس وترك بعضه، سواء كان من أعلى الرأس، أو من أسفله، أو من جانبه الأيمن، أو الأيسر، أو من مقدمه، أو من مؤخره، فكل هذا داخل في عموم الحديث، ومنهي عنه، والأصل في النهي التحريم وأرشدهم صلوات اللَّه وسلامه عليه إلى أن الجائز في حق الصبيان أن تحلق رءوسهم كلها أو تترك كلها.
وعن الحجاج بن حسان قال: دخلنا على أنس بن مالك فحدثتني أختي المغيرة قالت:- وأنت يومئذ غلام ولك قرنان أو قصتان - فمسح رأسك وبرك عليك وقال: احلقوا هذين، أو قصوهما؛ فإن هذا زي اليهود. رواه أبوداود(561) .
والحديث دل على أن التلوين والتشكيل في حلق الرأس من شيمة اليهود، وليس من سنة الإسلام، وأن المتعين اجتنابه حتى للصبيان الصغار فأرشدهم إلى حلق رءوسهم.
وقد أمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وعلى آله وسلم بحلق رءوس أبناء جعفر الطيار كما ثبت في الأخبار (562) .
وقال ابن القيم في "تحفة المودود" (563) : والقَزَع أربعة أنواع:
أحدها: أن يحلق من رأسه مواضع من هاهنا وهاهنا، مأخوذ من تقزع السحاب وهو تقطعه.
الثاني: أن يحلق وسطه ويترك جوانبه، كما يفعله شمامسة النصارى.
الثالث: أن يحلق جوانبه ويترك وسطه كما يفعله كثير من الأوباش والسفل.
الرابع: أن يحلق مقدمه ويترك مؤخره، وهذا كله من القزع.(2/210)
قال شيخنا يعني: ابن تيمية رحمه اللَّه: وهذا من كمال محبة اللَّه ورسوله للعدل. فإنه أمر به حتى في شأن الإنسان مع نفسه فنهاه أن يحلق بعض رأسه ويترك بعضه؛ لأنه ظلم للرأس حيث ترك بعضه كاسيا وبعضه عاريا، ولما فيه من التشبه باليهود، ونظير هذا نهيه أن يمشي الرجل في نعل واحدة، بل إما أن ينعلهما جميعا أو يحفيهما جميعا (564) .انتهى ملخصا. واللَّه أعلم، وصلى اللَّه على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[443] التشاؤم والتطير من بعض الأيام والأعداد وغيرها
هل يجوز للإنسان أن يعتقد، أو يتشاءم، أو يتطير، أو يتوهم أنه يصيبه ضرر كمرض، أو غيره من بعض الأيام والشهور وبعض الأعداد والأوقات وغيرها، أو من دخول بيت أو لبس ثوب وغيره أم لا؟
الإجابة:
كل هذا لا يجوز، بل هو من عادات أهل الجاهلية الشركية التي جاء الإسلام بنفيها وإبطالها.
وقد صرحت الأدلة بتحريم ذلك، وأنه من الشرك، وأنه لا تأثير له في جلب نفع أو دفع ضرر، إذْ لا معطي ولا مانع ولا نافع ولا ضار إلا اللَّه سبحانه وتعالى، قال اللَّه تعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (565) الآية.
وفي حديث ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو اجتمعت الأمة على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه اللَّه لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه اللَّه عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف" (566) .
وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر" . رواه البخاري ومسلم (567) . وفي رواية: "ولا نوء ولا غُول" . رواه مسلم (568) .(2/211)
فنفى الشارع صلى الله عليه وسلم الطيرة، وما ذكر في الحديث وأخبر أنه لا وجود له ولا تأثير، وإنما يقع في القلب توهمات وخيالات فاسدة، وقوله: "ولا صفر" نفي لما كان عليه أهل الجاهلية من التشاؤم بشهر صفر، ويقولون: هو شهر الدواهي. فنفى ذلك صلى الله عليه وسلم وأبطله، وأخبر أن شهر صفر كغيره من الشهور لا تأثير له في جلب نفع ولا دفع ضرر.
وكذلك الأيام والليالي والساعات لا فرق بينها، وكان أهل الجاهلية يتشاءمون بيوم الأربعاء، ويتشاءمون بشهر شوال في النكاح فيه خاصة وكانت عائشة -رضي اللَّه عنها- تقول: تزوجني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في شوال وبنى بي في شوال، فأي نساء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان عنده أحظى مني (569) . وهذا كتشاؤم الرافضة باسم العشرة وكراهتهم له؛ لبغضهم وعداوتهم للعشرة المبشرين بالجنة من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وهذا من جهلهم وسخافة عقولهم. والكلام على هذه المسألة استوفاه شيخ الإسلام في "المنهاج" في الرد على الرافضي.
وكذلك أهل التنجيم يقسمون الأوقات إلى ساعة نحس وشؤم، وساعة سعد وخير، ولا يخفى حكم التنجيم وتحريمه وأنه من أقسام السحر. والكلام عليه مستوفى في موضعه. وكل هذه الأمور من العادات الجاهلية التي جاء الشرع بنفيها وإبطالها.(2/212)
قال ابن القيم -رحمه اللَّه-: التطير هو التشاؤم لمرئي أو مسموع، فإذا استعملها الإنسان فرجع بها من سفر، أو امتنع بها عما عزم عليه فقد قرع باب الشرك، بل ولجه وبرئ من التوكل على اللَّه سبحانه، وفتح على نفسه باب الخوف، والتعلق بغير اللَّه. والتطير مما يراه، أو يسمعه، قاطع عن مقام {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (570) {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} (571) {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (572) فيصير قلبه متعلقا بغير اللَّه، عبادة وتوكلا، فيفسد عليه قلبه وإيمانه وحاله ويبقى هدفا لسهام الطيرة، ويساق إليه من كل أوب، ويقيض له الشيطان من يفسد عليه دينه ودنياه، وكم هلك بسبب ذلك، وخسر الدنيا والآخرة. فالأدلة على تحريم التطير والتشاؤم معروفة موجودة في مظانها فلنكتف بما تقدم.
[444] طلب الإنسان من غيره الدعاء الصالح
عندما سافر أحد أصدقائنا للحج، وحضرنا لتوديعه قلت له: وصيتك بالدعاء الصالح، فاستنكر ذلك أحد الزملاء، وقال: إن هذا السؤال من جنس سؤالك إياه شيئًا من ماله، وقد ورد النهي عن سؤال الناس مثل هذا، واعترض عليه صديق آخر؛ بأن هذا ليس من جنس سؤال المال، فما حكم ذلك؟
الإجابة:
الأصل في طلب بعض الناس من بعضهم الدعاء الصالح أنه مشروع، ودليله: حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- أن عمر استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة، فأذن له، وقال: "أي أخي أشركنا في دعائك، ولا تنسنا".
قال عمر: فقال كلمة، ما يسرني أن لي بها الدنيا (573) . رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
لكن المحققون فصلوا القول بذلك، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية فقال في "الفتاوى المصرية" : لا بأس بطلب الناس الدعاء بعضهم من بعض، لكن أهل الفضل ينوون بذلك أن الذي يطلبون منه الدعاء إذا دعا لهم كان له من الأجر على دعائه أعظم من أجره، لو دعا لنفسه وحده.(2/213)
وقال في "الاختيارات" : ومن سأل غيره الدعاء؛ لنفع ذلك الغير، أو نفعهما أثيب، وإن قصد نفع نفسه فقط نهي عنه، كسؤال المال، وإن كان قد لا يأثم.
والخلاصة: أن الكمال في مثل هذا:" أن يقصد الطالب نفع المطلوب منه الدعاء، أو نفعه ونفع نفسه معًا، وأما إن قصد نفع نفسه فقط، فشيخ الإسلام يقول: إنه منهي عنه، كسؤال المال، وإن كان قد لا يأثم بطلب الدعاء، كما يأثم بسؤال المال. واللَّه أعلم.
[445] لعب الكيرم ونحوه
سائل يسأل عن لعب الورقة "الكوتشينة" وما شابهها، مثل الكيرم وغيره، بدون رهان، إنما لمجرد الترفيه عن النفس؟
الإجابة:
اللعب بالورقة ونحوها، كالكيرم، وما شابهه من اللَّهو المكروه، لا بأس به إذا كان لا يشغل عما هو واجب، ولا يصد عن ذكر اللَّه، ولا عن الصلاة، ولا يثير العداوة والبغضاء بين اللاعبين، ولم يكن على عوض، وخلا من أي مفسدة، فإن اقترن بشيء من ذلك فهو حرام. ولكن من عرف حقيقة هذه اللعبة، وسبر أحوال الذين يمارسونها عرف أنها لا تخلو من أكثر هذه الأشياء، أو شيء منها إلا في النادر، والنادر لا حكم له.
والناس الآن في وقت العلم؛ وقت السرعة والتقدم، فالعاقل من يربأ بنفسه عن مثل هذه المسائل، ويشغلها بما هو أنفع لها؛ لأن النفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل، والوقت كالسيف، إن قطعته وإلا قطعك. واللَّه الموفق؛ لا رب غيره ولا إله إلا هو.
[446] الملاكمة ومصارعة الثيران والتحريش بين الديكة ونحوها
ما يفعله بعض الناس من الملاكمة، وإظهار الجلد والقوة، وربما جر ذلك إلى بعضهم أنواعًا من الآلام والجروح والكسور، وكذلك مصارعة الثيران ونحوها، فهل هذا حلال أو حرام وما الدليل على ذلك؟
الإجابة:(2/214)
لا تجوز الملاكمة، ولا مصارعة الثيران، ولا التحريش بين الديكة والكباش، ونحوها؛ لما في ذلك من إيلام الأنفس، والحيوانات، وإيغار الصدور بذلك، بدون فائدة. وقد ورد في خبر اختلف في وصله وإرساله: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التحريش بين البهائم (574) ، والنهي يقتضي التحريم.
قال في "الآداب الشرعية" (575) : ويكره التحريش بين الناس، وكل حيوان بهيم، ككباش وديكة وغيرها. ذكره في "الرعاية الكبرى" ، وذكر في "المستوعب" أنه لا يجوز التحريش بين البهائم. انتهى كلامه.
فهذان وجهان في التحريش بين البهائم.
وكلام الإمام أحمد يحتملها، قال ابن منصور لأبي عبد اللَّه: يكره التحريش بين البهائم؟ قال: سبحان اللَّه إي لعمري، والأولى القطع بتحريم التحريش بين الناس، وعن جابر (576) -رضي الله عنه- قال: نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن التحريش بين البهائم. رواه أبو داود والترمذي من رواية أبي يحيى القتات وهو مختلف فيه، وباقي رواته ثقات. انتهى.
[447] قصة تسابق النبي صلى الله عليه وسلم مع عائشة
قصة تسابق النبي صلى الله عليه وسلم مع زوجته عائشة - رضي اللَّه عنها- هل هي ثابتة، وهل كانت في السفر أم في البلد؟
الإجابة:(2/215)
نعم القصة ثابتة صحيحة. رواها الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه، ولفظ الحديث عن عائشة - رضي اللَّه عنها- أنها كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر. قالت: فسابقته فسبقته على رجلي، فلما حملت اللحم سابقته فسبقني. فقال: "هذه بتلك السبقة" . وفي لفظ: سابقني النبي صلى الله عليه وسلم فسبقته، فلبثنا حتى إذا أرهقني اللحم سابقني فسبقني. فقال: "هذه بتلك" (577) . وهذا منه صلى الله عليه وسلم من حسن خلقه مع أهله، وملاطفته لهم، وحسن المعاشرة، وفيه جواز المسابقة على الأقدام، وفيه إدخال الرجل السرور على زوجته بما يؤنسها، وهي سبقته في المرة الأولى؛ لأنها كانت فتاة شابة خفيفة لم تحمل من اللحم ما يثقلها، ويمنعها من قوة الجري؛ فلهذا سبقته، فصبر لها صلى الله عليه وسلم ، فلما كان بعد مدة، وجاءت مناسبة أخرى سابقها، وكانت في هذه المرة قد حملت من اللحم، وسمنت وأرهقها اللحم يعني: أثقلها فسبقها في هذه المرة. فقال صلى الله عليه وسلم تطييبًا لخاطرها: "هذه بتلك" ، يعني: هذه السبقة مني مقابل سبقتك الأولى لي؛ فحصل التعادل. وهذا من مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم . رزقنا اتباع سنته، والاقتداء به، صلوات اللَّه وسلامه عليه.
[448] لعب النساء للكرة
هل يحل للنساء لعب الكرة والمباريات؟
الإجابة:
لا ينبغي لهن اللعب بالكرة بالشكل الذي يستعمله الرجال. هذا إذا لم يحضرهن أحد من الرجال، ولم يتطلع عليهن أحد منهم، ولم يستمع إليهن أحد منهم. فإن حضرهن أحد من الرجال فهذا حرام قطعًا، ويتعين المنع منه. واللَّه الموفق.
الفضائل [449] ما ورد في فضل شهر شعبان
سائل يسأل عما ورد في فضل شهر شعبان من أحاديث، ويطلب بيان الصحيح منها والضعيف؟
الإجابة:(2/216)
ذكر الحافظ زين الدين بن رجب الحنبلي في كتابه "لطائف المعارف" (578) عن وظائف شهر شعبان أشياء مما أشرتم إليه. وقد لخصنا لكم منه ما يلي: أخرج الإمام أحمد والنسائي (579) من حديث أسامة بن زيد. قال: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصوم من الشهور ما يصوم من شعبان. فقلت: يا رسول اللَّه، لم أرك تصوم من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قال: "ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين - عز وجل- فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم" (580) . وفي "الصحيحين" (581)عن عائشة -رضي اللَّه عنها- قالت: ما رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا رمضان، وما رأيته في شهرٍ أكثر صياما منه في شعبان، كان يصوم شعبان كله، كان يصوم شعبان إلا قليلا (582) .
فإن قيل: فكيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يخص شعبان بصيام التطوع فيه مع أنه قال: "أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر اللَّه المحرم" (583)
فالجواب: أن صيام شعبان أفضل من صيام الأشهر الحرم، ويدل على ذلك: ما أخرجه الترمذي (584) من حديث أنس: سئل النبي صلى الله عليه وسلم : أي الصيام أفضل بعد رمضان؟ قال: "شعبان" - تعظيما لرمضان. وفي إسناده مقال. وفي "سنن ابن ماجه" (585) أن أسامة كان يصوم الأشهر الحرم، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "صم شوّالاً" ، فترك الأشهر الحرم، فكان يصوم شوالا حتى مات وفي إسناده إرسال. وقد روي من وجه آخر يعضده.
فهذا نص في تفضيل صيام شوال على صيام الأشهر الحرم. وإنما كان كذلك لأنه يلي رمضان من بعده، كما أن شعبان يليه من قبله، وشعبان أفضل؛ لصيام النبي صلى الله عليه وسلم له دون شوال، فإذا كان صيام شوال أفضل من الأشهر الحرم، فلأن يكون صوم شعبان أفضل بطريق الأولى.(2/217)
فظهر بهذا أن أفضل التطوع ما كان قريبا من رمضان، قبله وبعده، وذلك يلتحق بصيام رمضان؛ لقربه منه، وتكون منزلته من الصيام بمنزلة السنن الرواتب مع الفرائض، قبلها وبعدها، فيلتحق بالفرائض في الفضل، وهي تكملة لنقص الفرائض. وكذلك صيام ما قبل رمضان وبعده، فكما أن السنن الرواتب أفضل من التطوع المطلق بالصلاة، فكذلك صيام ما قبل رمضان وبعده أفضل من صيام ما بَعُد منه، ويكون قوله: "أفضل الصيام بعد رمضان المحرم" محمولا على التطوع المطلق بالصيام، فأما ما قبل رمضان وبعده فإنه يلتحق به في الفضل، كما أن قوله في تمام الحديث: "وأفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل" إنما أريد به تفضيل قيام الليل على التطوع المطلق دون السنن الرواتب عند جمهور العلماء، خلافا لبعض الشافعية.
وقد (586) ظهر بما ذكرناه وجه صيام النبي صلى الله عليه وسلم لشعبان دون غيره من الشهور، وفيه معان أخر، ذكر منها النبيُّ صلى الله عليه وسلم في حديث أسامة معنيين، أحدهما: أنه شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، يشير إلى أنه لما اكتنفه شهران عظيمان -الشهر الحرام وشهر الصيام- اشتغل الناس بهما عنه، فصار مغفولا عنه.
وكثير من الناس يظن أن صيام رجب أفضل من صيام شعبان؛ لأنه شهر حرام. وليس كذلك. وعن عائشة - رضي اللَّه عنها- قالت (587) : ذكر لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ناس يصومون رجبا، فقال: "فأين هم عن شعبان" ؟.
وفي قوله: "يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان" إشارة إلى أن بعض ما يشتهر فضله من الأزمان أو الأماكن أو الأشخاص قد يكون غيره أفضل منه، إما مطلقا، أو لخصوصية فيه لا يتفطن لها أكثر الناس، فيشتغلون بالمشهور عنه، ويفوّتون تحصيل فضيلةِ ما ليس بمشهور عندهم. وفيه دليل على استحباب عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة، وأن ذلك محبوب لله - عز وجل-.(2/218)
وروي في ذلك معنى آخر: وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم من كل شهر ثلاثة أيام. وربما أخر ذلك حتى يقضيه بصوم شعبان. رواه ابن أبي ليلى عن أخيه عيسى عن أبيهما عن عائشة - رضي اللَّه عنها- خرجه الطبراني (588) . ورواه غيره، وزاد: قالت عائشة: فربما أردتُّ أن أصوم فلم أُطِق، حتى إذا صام صمتُ معه.
فكانت (589) عائشة حينئذ تغتنم قضاءه لنوافله فتقضي ما عليها من فرض رمضان حينئذ؛ لفطرها فيه بالحيض، وكانت في غيره من الشهور مشتغلة بالنبي صلى الله عليه وسلم ، فإن المرأة لا تصوم وبعلها شاهد إلا بإذنه.
وقد (590) قيل في صوم شعبان معنى آخر: وهو أن صيامه كالتمرين على صيام رمضان؛ لئلا يدخل في صوم رمضان على مشقة وكُلفة، بل يكون قد تمرن على الصيام واعتاده، ووجد بصيام شعبان قبله حلاوة الصيام ولذته، فيدخل في صيام رمضان بقوة ونشاط. ولما كان شعبان كالمقدمة لرمضان شُرع فيه ما يشرع في رمضان من الصيام وقراءة القرآن ليحصل التأهب لتلقي رمضان وترويض النفوس بذلك على طاعة الرحمن.
قال ابن رجب: روينا بإسناد ضعيف عن أنس (591) قال: كان المسلمون إذا دخل شعبان انكبوا على المصاحف فقرءوها، وأخرجوا زكاة أموالهم تقوية للضعيف والمسكين على صيام رمضان.
وقال سلمة بن كهيل: كان يقال: شهر شعبان شهر القراء. وكان حبيب بن أبي ثابت إذا دخل شعبان قال: هذا شهر القراء. وكان عمرو ابن قيس المُلائي إذا دخل شعبان أغلق حانوته، وتفرغ لقراءة القرآن. انتهى ملخصا من "لطائف المعارف بما لمواسم العام من الوظائف" تأليف الحافظ ابن رجب الحنبلي - رحمه اللَّه -.
[450] صفة مشي النبي صلى الله عليه وسلم
سائل يسأل عن الحديث الوارد في صفة مشي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ؛ أنه كان إذا مشى تكفأ تكفؤًا كأنما ينحط من صبب. هل هو حديث صحيح، ومن رواه، وما معنى "تكفأ تكفؤا" ؟ ونرجوكم بسط الجواب على هذا - أثابكم اللَّه-.
الإجابة:(2/219)
قال في "غذاء الألباب" نقلاً عن "زاد المعاد" (592) للإمام المحقق ابن قيم الجوزية - رحمه اللَّه -: المشيات عشرة أنواع، أحسنها وأسكنها: مشية رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم . قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: كان إذا مشى تكفأ تكفؤا كأنما ينحط من صبب(593). وقال مرة: إذا مشى تقلع . والتقلع: الارتفاع من الأرض بجملته كحال المنحط من الصبب، يعني: يرفع رجليه من الأرض رفعا بائنا بقوة. والتكفؤ التمايل إلى قُدام؛ كما تتكفأ السفينة في جريها، وهو أعدل (594)المشيات.
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان إذا مشى مشى مجتمعا ليس فيه كسل (595) . وروى عن علي -رضي الله عنه - قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا مشى كأنما ينحدر من صبب (596) .
فدلت هذه الأحاديث وأمثالها أن مشيته صلى الله عليه وسلم لم تكن بمماتة، ولا بمهانة. والصبب -بفتح الصاد المهملة والباء الموحدة الأولى-: الموضع المنحدر من الأرض، وذلك دليل على سرعة مشيه؛ لأن المنحدر لا يكاد يثبت في مشية. والتقلع: الإنحدار من الصبب، والتقلع من الأرض قريب بعضه من بعض، يعني: أنه كان يستعمل التثبت، ولا يبين منه في هذه الحالة استعجال ومبادرة شديدة، وأراد به قوة المشي، وأنه يرفع رجليه من الأرض رفعا قويا، لا كمن يمشي اختيالا ويقارب خطوه، فإن ذلك من مشي النساء.
نعم، ينبغي للإنسان أن يقارب خطاه إذا كان ذاهبا إلى المسجد لأجل الصلاة كما مر. فأعدل المشيات مشيته صلى الله عليه وسلم ، فإن الماشي إن كان يتماوت في مشيته ويمشي قطعة واحدة كأنه خشبة محمولة فمشيته قبيحة مذمومة.
قال ابن القيم -رحمه اللَّه -:
الثانية من المشيات: أن يمشي بانزعاج واضطراب، مشي الجمل الأهوج، وهي مذمومة أيضا، وهي علامة على خفة عقل صاحبها، ولا سيما إن كان يكثر الالتفات يمينا وشمالا.(2/220)
الثالثة: أن يمشي هونا، وهي مشية عباد الرحمن، قال غير واحد من السلف: بسكينة ووقار، من غير كبر، ولا تماوت، وهي مشية رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم .
الرابعة: السعي.
الخامسة: الرَّمَل؛ وتسمى الَخبَب، وهي أسرع المشي مع تقارب الخطا، بخلاف السعي.
السادسة: النَّسَلان؛ وهو العدو الخفيف بلا انزعاج.
السابعة: الخَوْزَلَى؛ وهي مشية فيها تكسر وتخنث.
الثامنة: القهقرى؛ وهي المشي إلى ورائه.
التاسعة: الجَمَزَى؛ وهي مشية يثب فيها الماشي وثبًا.
العاشرة: التمايل كمشية النسوان، وإذا مشى بها الرجل كان متبخترا، وأعلاها مشية الهون والتكفؤ. انتهى.
[451] ما ورد في شهر رجب
سائل يسأل عما ورد في فضل شهر رجب، وتخصيصه بصيام، أو صلاة، وهل صحيح أن الإسراء والمعراج وقعا فيه؟ وهل هو من الأشهر الحرم؟ وهل تحريم القتال في الأشهر الحرم منسوخ؟ ولم سميت أشهرًا حُرمًا؟
الإجابة:
الآثار الواردة تدل على فضل شهر رجب. وهو من الأشهر الحرم بنص الحديث الصحيح الذي رواه أبو بكرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "السنَةُ اثنا عشر شهرا منها أربعة حُرُمٌ، ثلاثة متوالية: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم. ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان" . رواه البخاري ومسلم (597) .(2/221)
فالأشهر الحرم أربعة: ثلاثة سرد، وواحد فرد. قيل: إنها من سنتين أولها ذو القعدة، وآخرها رجب، أو أن أولها رجب، وآخرها محرم، وقيل: إنها من سنة واحدة أولها محرم، وآخرها ذو الحجة. وسميت حُرُمًا لحرمتها، وحرمة الذنب فيها. قال ابن عباس: اختص اللَّه أربعة أشهر جعلهن حرما، وعظم حُرُمَاتهن، وجعل الذنب فيهن أعظم، وجعل العمل الصالح والأجر أعظم (598) . وقيل: سميت حرما لتحريم القتال فيها؛ لكي يتمكن الناس من الحج والعمرة فيها. فَحَرَّم ذا الحجة لوقوع الحج فيه، وحرم ذا القعدة للسير فيه إلى الحج، وحرم محرَّمًا للرجوع فيه من الحج حتى يأمن الحاج على نفسه من حين يخرج من بيته إلى أن يرجع إليه، وحرم رجبًا للاعتمار فيه وسط السنة.
واختلف العلماء في تحريم القتال في الأشهر الحرم، فالجمهور على أنه منسوخ، نص عليه الإمام أحمد وغيره من الأئمة. واستدلوا بأن الصحابة اشتغلوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم بفتح البلاد ومواصلة القتال والجهاد، ولم ينقل عن أحد منهم أنه توقف عن القتال في الأشهر الحرم. وإضافته صلى الله عليه وسلم رجبا إلى مضر في الحديث المتقدم؛ لأنها كانت تزيد في تعظيمه واحترامه فنسب إليهم لذلك، وقيل: إن ربيعة تحرم رمضان، ومضر تحرم رجبا، وحَقَّقَ ذلك بقوله: "الذي بين جمادى وشعبان" حتى لا يبقى فيه لبس، وسمي رجبا؛ لأنه كان يُرجَّب، أي: يعظم؛ قاله الأصمعي، والفراء، وغيرهما. ومن تعظيم العرب له كثرة أسمائه عندهم، حتى قيل: إن له عندهم سبعة عشر اسما.
ومن الأحكام المتعلقة بشهر رجب: ذبيحة رجب المسماة العتيرة" وبعضهم يقول لها: "الرجبية" . وهذه كانت في الجاهلية، واختلف العلماء في حكمها في الإسلام. فقال طائفة: إن الإسلام قد أبطلها لما في "الصحيحين" (599) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال: "لا فرع ولا عتيرة" .(2/222)
وأما الصلاة: فقد ابتدع فيه بعض الناس صلاة تسمى: "صلاة الرغائب" تفعل ليلة أول جمعة من رجب، وأول ما ظهرت في القرن الخامس الهجري، وقد أنكرها جمهور العلماء، وقالوا: إنها بدعة، والأحاديث المروية فيها مكذوبة، ولا يصح منها شيء باتفاق أهل المعرفة بالحديث.
وأما الصيام: فلم يرد في صيام رجب شيء بخصوصه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا عن أصحابه، إلا ما ورد في صيام الأشهر الحرم عموما. ولهذا قال الفقهاء: يكره إفراد رجب بالصيام، وقالوا: لا يصومه كله، بل يفطر منه يوما أو يومين. نص عليه الإمام أحمد. وروي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه كان يضرب أكف المترجبين حتى يضعوها في الطعام ويقول: كلوا فإنما رجب شهر كانت الجاهلية تعظمه (600) .
وأما الاعتمار في شهر رجب: فكان السلف يعتمرون فيه، ويقولون: إن العمرة مستحبة في رجب، ومنهم: عمر، وابنه، وعائشة، وغيرهم.
وأما الإسراء والمعراج: فاختلف العلماء هل وقعا في رجب أم في غيره، فقيل: إنهما وقعا في رجب ليلة السابع والعشرين منه، وقيل: في ربيع الأول، وقيل غير ذلك، فليس هناك اتفاق على تعيين الشهر الذي وقعا فيه، بل ولا تعيين السنة التي جرى فيها، إلا أنه كان قبل الهجرة، فمن قائل: إنه قبل الهجرة بسنة، كما في رواية الزهري. ومن قائل: إنه قبلها بسنة وشهرين، كما ذكره ابن عبد البر وغيره، ومن قائل: إنه قبلها بستة عشر شهرا، كما في رواية السدي. واللَّه أعلم. وصلى اللَّه على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[452] فضل شهر محرم ويوم عاشوراء
سائل يسأل عما ورد في فضل شهر محرم، وعن صيام يوم عاشوراء، وما ورد في فضله، وعما يفعله بعض الناس فيه من تلك الأعمال الغريبة ويتخذونه يوم حزن ومأتم، وعما ورد فيه من الاكتحال ولبس الزينة كما يفعل في أيام الأعياد؟
الإجابة:(2/223)
شهر محرم من الأشهر الحرم، وهي أربعة: رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، وهو أفضلها في قول الحسن وغيره، ورجحه طائفة من المتأخرين. وقد ورد في فضله جملة أحاديث، منها:
حديث أبي هريرة مرفوعا: "أفضل الصيام بعد شهر رمضان: شهر اللَّه الذي تدعونه المحرم" . رواه مسلم (601) . وإضافته إلى اللَّه تدل على شرفه وفضله، فإن اللَّه لا يضيف إليه من المخلوقات إلا خواصها، كما قال عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم : {عَبْدُ اللَّهِ} في غير ما آية من كتابه، وكذلك قال عن خليله إبراهيم وغيره من الأنبياء، وكبَيْت اللَّه، وناقة اللَّه، وغير ذلك.
وأفضل شهر اللَّه المحرم عَشْرُه الأُوَل، قال أبو عثمان النهدي: كانوا يعظمون ثلاث عشرات: العشر الأخيرة من رمضان، والعَشْر الأُوَل من ذي الحجة، والعَشْر الأُوَل من محرم، وقيل: إنها العشر التي أتم اللَّه بها ميقات موسى -عليه السلام- أربعين ليلة، وإن التكليم وقع في عاشر محرم. وعن قتادة: إن الفجر الذي أقسم اللَّه به هو فجر أول يوم من محرم، منه تنفجر السنة.
وأما يوم عاشوراء -وهو اليوم العاشر من محرم- فله فضيلة عظيمة، وحرمة قديمة، ويروى أنه اليوم الذي تاب اللَّه فيه على آدم، وتاب على قوم يونس، وأنه يوم الزينة الذي كان فيه ميعاد موسى لفرعون، وكانت الأنبياء -عليهم السلام- يعظمونه ويصومونه. وفي الحديث عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال: "يوم عاشوراء كانت تصومه الأنبياء قبلكم فصوموه أنتم" . أخرجه بقي بن مخلد (602) .
وكان أهل الكتاب يصومونه، وكذلك قريش كانت تصومه في الجاهلية، وقد صامه النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه، ورغب فيه في غير ما حديث.(2/224)
ففي "الصحيحين" (603) عن ابن عباس، قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فوجد اليهود صيامًا يوم عاشوراء. فقال: "ما هذا اليوم الذي تصومونه" ؟، قالوا: هذا يوم أنجى اللَّه فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرا فنحن نصومه، فقال صلى الله عليه وسلم : "نحن أحق بموسى منكم" . فصامه وأمر بصيامه.
وفي "صحيح مسلم" (604) عن أبي قتادة، أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام عاشوراء فقال: "أحتسب على اللَّه أن يكفر السنة التي قبله".
وفي رواية له عن ابن عباس -رضي الله عنه-مرفوعًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع" (605) .
والأحاديث في هذا كثيرة معروفة، وقد اختلف العلماء: هل كان صومه قبل فرض صيام شهر رمضان واجبا أم سنة مؤكدة؟ على قولين مشهورين، وظاهر كلام أحمد أنه كان واجبا حينئذ، وهو مذهب أبي حنيفة.
وقال الشافعي: بل كان متأكد الاستحباب. وهو قول كثير من أصحابنا الحنابلة وغيرهم.
وكان طائفة من السلف يصومون عاشوراء في السفر، منهم: ابن عباس، وأبو إسحاق السبيعي، والزهري وقال: رمضان له عدة من أيام أخر، وعاشوراء يفوت. ونص عليه الإمام أحمد.
وأما ما أشار إليه السائل من أن بعض الناس يتخذونه يوم مأتم وحزن، فهؤلاء هم الرافضة، وهذه الأفعال التي يفعلونها من بدعهم الشنيعة وأفعالهم المنكرة، فهم يظهرون فيه الحزن، ويتخذونه يوم مأتم؛ لما وقع فيه من قتل الحسين بن علي -رضي اللَّه عنهما-. ولا شك أن عملهم هذا عمل قبيح منكر، وضلال ما أنزل اللَّه به من سلطان.فمصائب موت الأنبياء -عليهم السلام- أعظم من المصيبة بموت الحسين بن علي -رضي اللَّه عنهما- ولم يشرع اتخاذ أيام موتهم أيام حزن ومأتم. والمقام لا يتسع لتعداد المفاسد التي تترتب على ما تفعله الرافضة من الأفعال المنكرة والأعمال الشنيعة في هذا اليوم الشريف الفاضل.(2/225)
وقد قابل بدعتهم هذه أناس من أهل السنة مراغمة لهم، فأظهروا في هذا اليوم الاكتحال والاختضاب ولباس الزينة والتهيؤ لهذا اليوم كأنه يوم عيد وسرور، ولكنه لم يثبت فيه شيء من ذلك. فكل ما ورد فيه من فضل الاكتحال، والاغتسال، ولباس الزينة فموضوع لا يصح منه شيء. واللَّه أعلم.
أحكام المصحف [453] الدخول بالمصحف إلى الحمام
سائل يسأل عن حكم دخول الحمام بالمصحف، وإذا دخل به ناسيا، ثم فطن وقد غسل بعض أعضاء الوضوء، فهل يخرج قبل أن يكمل الطهارة أم يكملها؟
الإجابة:
لا شك في تحريم دخول الخلاء بالمصحف -قطعا- ولا يتوقف في هذا عاقل، ذكره في "الإنصاف" (606) وغيره.
فإن دخل به ناسيا ففطن، لزمه الخروج به فورا، ويضعه في مكان مصون، ثم يعود فيكمل وضوءه، مع قصر المدة، فإن طالت المدة، وفاتت الموالاة، استأنف الوضوء. واللَّه أعلم.
وأما غير المصحف، مما فيه ذكر اللَّه، فالدخول به مكروه بلا حاجة؛ لما فيه من إهانة ما فيه ذِكْرُ اللَّه، حتى الخاتم و نحوه، وكان نقش خاتمه: محمد رسول اللَّه (607) .
فعلى هذا، إن لم يشق عليه نزع الخاتم، نزعه، وإلا فيجعله في يده اليمنى، ويجعل فصه في باطن كفها، ويقبض عليه؛ إبعادا له عن مقابلة النجاسة.
ويستثنى مما ذكر ما تدعو الحاجة إليه كثيرا، كدراهم -ونحوها- مكتوب عليها اسم اللَّه، نص عليه الإمام أحمد (608) فلا حرج من دخول الخلاء بها؛ لمشقة التحرز منها؛ ولأنها مما تَعُمُّ به البلوى، فهي كالمستثنى مما ذكر. واللَّه أعلم.
[454] دفن المصاحف الممزقة وإحراقِها
سائل يسأل عن جواز إحراق الكتب المدرسية التي فيها ذكر اللَّه وفيها آيات من القرآن الكريم، وكذلك إحراق المصاحف المتقطعة.
الإجابة:
الذي نص عليه الفقهاء -رحمهم اللَّه- جواز مثل ذلك، كما يجوز دفنها بمحل طاهر لا يمتهن.
قال في "الإقناع" للحجاوي وشرحه "كشاف القناع" (609) للشيخ منصور البهوتي الحنبلي: ولو بَلِيَ المصحفُ -أو اندرس- دُفِنَ نصا.(2/226)
ذكر الإمام أحمد أن أبا الجوزاء بلي له مصحف، فحفر له في مسجده فدفنه.
وفي البخاري (610) : أن الصحابة حرقته -بالحاء المهملة- لما جمعوه. وقال ابن الجوزي: وذلك لتعظيمه، وصيانته، وذكر القاضي أن أبا بكر ابن أبي داود روى بإسناده (611) عن طلحة بن مصرف قال: دفن عثمان المصاحف بين القبر والمنبر. وبإسناده (612) عن طاوس أنه لم ير بأسا أن تحرق الكتب. وقال: إنما الماء والنار خَلقان من خَلْقِ اللَّه. واللَّه أعلم.
[455] السبع الطوال والمثاني والمئين والمفصَّل
رجل يسأل عن السبع الطوال، وعن المئين، والمثاني، وعن المفصل: طواله، وقصاره.
الإجابة:
أما السبع الطوال -إذا أطلقت- فهي: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والسابعة فيها خلاف: فقيل: إنها براءة، وقيل يونس. وقيل غير ذلك.
وأما المئون فهي السور التي تلي السبع الطوال، سميت بذلك؛ لأن كل سورة منها تزيد على مائة آية أو تقاربها.
وأما المثاني فهي السور التي تلي المئين، سميت بذلك لأنها ثَنَّتْهَا، أي كانت بعدها، فهي ثوان بالنسبة للمئين، والمئون أوائل بالنسبة إليها. وقد تطلق المثاني على القرآن كله، وعلى الفاتحة، فيقال: السبع المثاني.
وأما المفصَّل فهو ما ولي المثاني من قصار السور، سمي بالمفصل لكثرة الفصول التي بين السور بالبسملة، وقيل: لقلة المنسوخ فيه؛ ولهذا يسمى بالمحكم، كما رواه البخاري (613) عن سعيد بن جبير.
واخْتُلِفَ في أول المفصَّل: فالمشهور أن أوله سورة (ق) ، ولا خلاف في أن آخره سورة الناس.
والمفصَّل ينقسم ثلاثة أقسام: طوال، وأوساط، وقصار. فالمشهور أن طواله من أوله إلى سورة (عم) ، و أوساطه من (عم) إلى سورة الضحى، وقصاره منها إلى آخره. واللَّه أعلم.
[456] دعاء ختم القرآن
سائل يسأل عن الذي يختم القرآن: هل يسن له قراءة الختمة المعروفة أم لا، وهل ورد في ذلك شيء عن أهل العلم؟
الإجابة:(2/227)
الحمد لله وحده. وبعد: فأما الختمة المشتهرة بين الناس، فلا أدري عنها. ومنها ما ينسب لشيخ الإسلام ابن تيمية، وفيها دعاء حسن. وأما أصل الدعاء فقد ورد عن السلف - رضي اللَّه عنهم - ذلك. فقد روى ابن أبي داود بإسنادين صحيحين عن قتادة: كان أنس إذا ختم القرآن جمع أهله ودعا (614) .
قال الفقهاء: ويختتم في الشتاء أول الليل؛ لطوله. وفي الصيف أول النهار؛ لطوله. روي عن ابن المبارك، وكان ذلك يعجب الإمام أحمد (615) ؛ لما روى الأعمش عن إبراهيم قال: إذا ختم الرجل القرآن نهاراً صلت عليه الملائكة حتى يمسي، وإذا ختم ليلاً صلت عليه الملائكة حتى يصبح. قال الأعمش: فرأيت أصحابنا يعجبهم أن يختموا أول النهار وأول الليل (616) . ويجمع أهله وولده عند ختمه؛ رجاء عود نفع ذلك وثوابه إليهم.
ويستحب إذا فرغ من الختمة أن يشرع في أخرى، ويدعو عقب الختم -نصا-؛ لفعل أنس المتقدم آنفا. ومن أصول مذهب الإمام أحمد أنه يأخذ بقول الصحابي إذا لم يكن في المسألة نص ولم يعارَض بأقوى منه. لكن ينبغي للإنسان أن يتحرى بالدعاء بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فإنه أجمع وأنفع، وقد أوتي النبي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم. واللَّه أعلم.
[457] قراءة الإدارة
سائل يسأل عن قول الفقهاء - رحمهم اللَّه-: (وتكره قراءة الإدارة) ، فما قراءة الإدارة، وما صفتها، وما وجه كراهتها؟
الإجابة:
أما صفة قراءة الإدارة. فقال في "الإقناع" : وهي أن يقرأ قارئ ثم يقطع، ثم يقرأ غيره. قال الشارح -الشيخ منصور البهوتي-: أي، بما بعد قراءته. أما لو أعاد ما قرأه الأول وهكذا، فلا ينبغي الكراهية؛ لأن جبريل -عليه السلام- كان يدارس النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في رمضان بهذه الصفة.اهـ.
وأما حكمها، فاختلف فقهاؤنا -رحمهم اللَّه- فيها: "قال في "غذاء الألباب" : وكره أصحابنا قراءة الإدارة. قاله في "الإقناع" تبعا "للآداب الكبرى" . وقال حرب: هي حسنة.(2/228)
وفي "المستوعب" : قراءة الإدارة وتقطيع حروف القرآن مكروه عنده -أي: عند الإمام أحمد - وحكى شيخ الإسلام ابن تيمية عن أكثر العلماء أنها حسنة، كالقراءة مجتمعين بصوت واحد.
قال في "الاختيارات"(617) : وقراءة الإدارة حسنة عند أكثر العلماء.
ومن قراءة الإدارة قراءتهم مجتمعين بصوت واحد. وللمالكية وجهان في كراهتها. وأما قراءة واحد والباقون يستمعون له، فلا يكره بغير خلاف، وهي مستحبة، وهي التي كان الصحابة يفعلونها، كأبي موسى. وغيره. اهـ. واللَّه أعلم.
[458] حكم استعمال القرآن بدل الكلام
سائل يسأل عن حكم جعل القرآن بدلا من الكلام وصرفه عن معناه كما يروى عن الحجاج، والسجناء، وقصة المرأة المتكلمة بالقرآن، وغير ذلك.
الإجابة:
قال في "مطالب أولي النهى شرح غاية المنتهى" : وحرم جعل القرآن بدلا من الكلام، مثل أن يرى رجلا جاء في وقته فيقول: {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} (618) فلا يجوز أن يُستعمل القرآن في غير ما هو له؛ لما فيه من التهاون وعدم المبالاة بتعظيمه واحترامه.
وقال الشيخ تقي الدين: إن قرئ عند ما يناسبه فحسن، كقول من دعي لذنب تاب منه:{مَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا} (619) ، وكقوله عند إصابته، وعند ما أهمه: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} (620) وكقوله لمن استعجله: {خُلِقَ الْإِِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} (621) . فهذا وأمثاله -مما هو مناسب لمقتضى الحال- جائز؛ لأنه لا تنقيص فيه.انتهى.
[459] لا يجوز هجر القرآن
سائل يسأل هل يجوز للمسلم أن يهجر تلاوة القرآن طيلة العام، ولا يتلوه إلا في رمضان؟
الإجابة:
أولا، ينبغي أن نعرف معنى الهجر. فهجر القرآن ذَكَره اللَّه في كتابه بقوله {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} (622)(2/229)
قال ابن كثير (623) : وذلك أن المشركين كانوا لا يصغون للقرآن ولا يستمعون إليه، كما قال تعالى عنهم: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَسْمَعُواْ لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} (624) ، فكانوا إذا تلي عليهم القرآن أكثروا اللغط والكلام في غيره؛ حتى لا يسمعوه. فهذا من هجرانه وترك الإيمان به. وترك تصديقه من هجرانه، وترك تدبره وتفهمه من هجرانه، وترك العمل به وامتثال أوامره واجتناب زواجره من هجرانه، والعدول عنه إلى غيره: من شعر، أو قول، أو غناء، أو كلام، أو طريقة مأخوذة من غيره من هجرانه. انتهى.
وقال ابن القيم -رحمه اللَّه- في "الفوائد" (625) : هجر القرآن أنواع:
أحدها: هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه.
الثاني: هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه، وإن قرأه وآمن به.
الثالث: هجر الحكم به والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه.
الرابع: هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلِّم به منه -سبحانه وتعالى-.
الخامس: هجر الاستشفاء والتداوي به من جميع أمراض القلوب وأدوائها، وكل هذا داخل في قوله تعالى {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُواْ هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} وإن كان بعض الهجر أهون من بعض. انتهى.
فهذا كلام أهل العلم في معنى هجر القرآن.
وأما ما ذكروه في آداب قراءة القرآن. فقالوا: يُسن ختمه في كل أسبوع، يعني في سائر السنة. قال عبداللَّه بن الإمام أحمد: (626) كان أبي يختم القرآن في كل أسبوع؛ وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعبد اللَّه بن عمرو:اقرأ القرآن في سبع" . رواه البخاري (627) .
ويُكره تأخير ختم القرآن فوق أربعين يوما بلا عذر.(2/230)
قال الإمام أحمد (628) : أكثر ما سمعت أن يختم القرآن في أربعين. ولأن تأخيره أكثر من ذلك يفضي إلى نسيان القرآن والتهاون به. ويحرم تأخيره فوق الأربعين إن خشي نسيانه. قال الإمام أحمد: ما أشدَّ ما جاء فيمن حفظه ثم نسيه. وروى البخاري ومسلم وغيرهما (629) عن ابن عمر أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "مثل القرآن إذا عاهد عليه صاحبه، فقرأه بالليل والنهار، كمثل رجل له إبل، فإن عقلها حفظها، وإن أطلق عقالها ذهبت، فكذلك صاحب القرآن" . وعن ابن مسعود قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "بئسما لأحدهم أن يقول نسيت آية كيت وكيت، بل نُسِّي. واستذكروا القرآن؛ فإنه أشد تَفَصِّيًا من صدور الرجال من النعم" ؟(630) . وعن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "تعاهدوا القرآن، فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفصيا من الإبل في عُقُلها" (631 ). التفصي: التخلص. يقال: تفصى فلان من البلية: إذا تخلص منها.
قال ابن كثير: ومضمون هذه الأحاديث الترغيب في كثرة تلاوة القرآن، واستذكاره، وتعاهده؛ لئلا يعرضه حافظه للنسيان، فإن ذلك خطأ كبير. نسأل اللَّه العافية منه.اهـ.
قال ابن كثير: وقد أدخل بعض المفسرين هذا المعنى في قوله تعالى : {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آياتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} (632) . وهذا الذي قاله وإن لم يكن هو المراد جميعه فهو بعضه، فإن الإعراض عن تلاوة القرآن، وتعريضه للنسيان، وعدم الاعتناء به، فيه تهاون كبير، وتفريط شديد، نعوذ باللَّه منه... إلى آخر ما ذكره ابن كثير - رحمه اللَّه-.
[460] علامات الوقف في المصحف
ما أهمية الوقوف، أو عدم الوقوف على الحروف التي ترمز إلى مواضع الوقف في القرآن الكريم؟
الإجابة:(2/231)
الوقف المشروع هو ما كان على رءوس الآي. وأما هذه العلامات فهي اصطلاحات للقراء وأهل التجويد، يبينون فيها مواضع الوقف لأشياء فهموها. وهي موَضَّحة في كتب التجويد. وفي بعض المصاحف ذِكْر تلك الحروف، والإشارة إلى ما يُعنى بها فمثلا:
(م) للوقف اللازم. ويسمى بالواجب.
(ج) للوقف الجائز إذا كان الوقف والوصل سواء. ولا فرق؛ فالقارئ مخير بين أن يقف أو يصل القراءة.
(صلي) للوقف الجائز مع كون الوصل أولى من الوقف.
(قلي) للوقف الجائز مع كون الوقف أولى من الوصل. فهي على العكس من (صلي) .
(لا) للوقف الممنوع. ويسمى الوقف القبيح.
وقف المعانقة؛ وهو عبارة عن (نقطتين تتوسطهما نقطة أعلاهما) ويسمى المراقبة، بحيث إذا وقف على أحد الموضعين اللذين عليهما الإشارة، لا يصح الوقف على الموضع الآخر؛ فهو مخير بينهما، غير أنه لا يجمع بينهما. وقد جاء وقف المعانقة في القرآن في خمسة وثلاثين موضعا.
(س) علامة سكتة لطيفة بدون تنفس ثم يصل القراءة. وجاء في القرآن في أربعة مواضع.
وقد ذكر علماء التجويد غير هذا من أحكام الوقف والابتداء، وقسموها إلى تقاسيم أخرى، وأن الوقف منه تام، ومنه كاف، ومنه حسن، ومنه قبيح، كما ذكروا الفرق بين الوقف، والسكت، والقطع، وغير ذلك. فمن أراد مزيدا من ذلك فليراجعها في كتبهم. واللَّه أعلم.
مسائل متفرقة [461] لا يجوز استعمال ما فيه صورة الصليب
سائل يسأل عن حكم استعمال الشيء الذي فيه صورة الصليب، كالساعة التي فيها صورة صليب، وغيرها؟
الإجابة:
قال أبو داود في سننه" : باب ما جاء في الصليب في الثوب
حدثنا موسى بن إسماعيل: نا أبان: نا يحيى: نا عمران بن حطان، عن عائشة: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان لا يترك في بيته شيئا فيه تصليب إلا قَضَبه (633) .(2/232)
قال في الشرح: باب في الصليب في الثوب" أي: صورة الصليب فيه، والصليب -بفتح الصاد وكسر اللام- هو الذي للنصارى، وصورته: أن توضع خشبة على أخرى على صورة التقاطع يحدث منه المثلثان على صورة المصلوب، وأصله: أن النصارى يزعمون أن اليهود صلبوا عيسى -عليه السلام- فحفظوا هذا الشكل تَذَكرًا لتلك الصورة الغريبة الفظيعة، وتحسُّرا عليها.
فيه تصليب" . وفي رواية البخاري: تصاليب. قال الحافظ: وفي رواية الكشميهني: تصاوير بدل تصاليب. قال: ورواية الجماعة أثبت؛ فقد أخرجه النسائي من وجه آخر عن هشام، فقال: تصاليب. وكذا أخرجه أبو داود من رواية أبان، عن يحيى. انتهى (634) .
والمراد من التصليب: ما فيه صورة الصليب، وقيل: بل المراد مطلق التصوير، كما في رواية. واللَّه تعالى أعلم.
إلاّ قَضَبه" بالقاف والضاد المعجمة والموحدة، أي: قطعه وأزاله، وفي رواية البخاري: نَقَضَه مكان قَضَبه (635) .
وقال في الإقناع وشرحه" : ويكره جعل صورة الصليب في الثوب، ونحوه، كالطاقية، والدراهم، والدنانير، والخواتيم، وغيرها، لقول عائشة: إن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان لا يترك في بيته شيئا فيه صليب. رواه أبو داود. وقال في "الإنصاف" : ويحتمل تحريمه، وهو ظاهر نَقْل صَالح. قلت: وهو الصواب. انتهى (636) .
[462] السفر إلى بلاد المشركين
نرى لزاما علينا بيان حكم السفر إلى بلاد المشركين وأهل الكتاب من اليهود والنصارى، وأن ذلك حرام لمن لم يقدر على إظهار دينه، وليس إظهار الدين أنه يستطيع أن يتلفظ بالشهادتين ويصلي الصلوات ولا يُرَد عن المساجد ولا يشرب الخمر ولا يأكل لحم الخنزير ونحو ذلك، بل إظهار الدين أمر وراء ذلك، وهو تبيين الرجل عقيدته الإسلامية عند كل مناسبة، وتكفير كل من خالفها، وعيبهم والتحفظ من مودتهم والركون إليهم واعتزالهم، والبراءة منهم.(2/233)
كما قال تعالى عن خليله إبراهيم -عليه السلام-: {إِنَّا بُرَءَاءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَحْدَهُ} (637) .
والنصوص في هذا كثيرة من الكتاب والسنة، وكلام محققي العلماء من أئمة الدعوة، وغيرهم. فمن ذلك ما ورد في آيات الهجرة، وقوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} (638) . {لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} (639) ، {وَلَا تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} (640) ، {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (641) ، {لَا تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} (642) وغيرها من الآيات. وكلام المفسرين في هذه الآيات الكريمات ظاهر لا إشكال فيه.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ البيعة على أصحابه: أن لا ترى نارُك نارَ المشركين إلا أن تكون حربا لهم (643) . وغير ذلك من الأحاديث الواردة في الباب.
وهنا مسألة مهمة لا يستهان بها، وهي أن سفر الإنسان لبلادهم لأجل العلاج أو للتجارة أو للسياحة أيسر وأخف من سفره ليكون تلميذا لهم، يتلقى عنهم العلوم، ويأتمر بما يأمرونه به، وينتهي عما ينهونه عنه، فإن هذا أعظم جُرما وأشد خطرا. قال اللَّه تعالى: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} (644) . وليس المقصود استيفاء ما ورد في هذا الباب، فنكتفي منه بهذه العجالة. واللَّه الموفق.
[463] قص الجُنُب أظفاره وشاربه(2/234)
كنا جماعة في ندوة علمية، فجاء ذكر قص الأظفار، وحلق العانة، ونتف الإبط. فقال قائل: لكن لا يقصها وهو جنب؛ لأن أجزاءه تعود إليه يوم القيامة، على ما فيها من جنابة. فأجابه آخر بأن هذا غير صحيح، وطلب منه الدليل، فأورد من الأدلة حديث: "على كل شعرة جنابة" ، وأشياء أخرى، فلم يقتنع الطرف الثاني، فما الصواب في ذلك؟
الإجابة:
لقد سئل شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية - رحمه اللَّه- عن هذه المسألة بعينها، وأجاب عنها بجواب كان شافيا، نكتفي بسياق السؤال والجواب، ومنه يظهر الحق للجميع إن شاء اللَّه.
ونص السؤال (645) : إذا كان الرجل جُنُبا، وقص ظفره، أو شاربه، أو مشط رأسه، هل عليه شيء في ذلك، فقد أشار بعضهم إلى هذا وقال: إذا قص الجنب شعره، أو ظفره؛ فإنه تعود إليه أجزاؤه في الآخرة، فيقوم يوم القيامة وعليه قسط من الجنابة بحسب ما نقص من ذلك، أو على كل شعرة قسط من الجنابة، فهل ذلك كذلك؟
فأجاب -رضي اللَّه عنه- بقوله: قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، من حديث حذيفة، ومن حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنهما- أنه لما ذكر له الجنب، قال صلى الله عليه وسلم : "إن المؤمن لا ينجس" (646) . قال: وما أعلم على كراهة إزالة شعر الجنب وظفره دليلا شرعيا، بل قد قال النبي صلى الله عليه وسلم للذي أسلم: "ألق عنك شعر الكفر، واختتن" (647) ، فأمر الذي أسلم أن يغتسل، ولم يأمره بتأخير الاختتان وإزالة الشعر عن الاغتسال، فإطلاق كلامه يقتضي جواز الأمرين، وكذلك تؤمر الحائض بالامتشاط في غسلها، مع أن الامتشاط يذهب ببعض الشعر. واللَّه أعلم؛ فعلمنا بهذا عدم كراهة ذلك، وأن ما يقال فيه مما ذكر: لا أصل له. واللَّه الموفق. اهـ.
[464] ختان الفتيات وحكمته
سائل يسأل عن حكم ختان البنات، وهل هو مشروع كختان الذكر أم بينهما فرق؟
الإجابة:(2/235)
الختان من شعائر المسلمين، ومن خصال الفطرة، ومن ذرائع النظافة، والسلامة من بعض الأمراض الخطرة والميكروبات التي تتجمع على الموضع؛ لأن داخل الغُلْفَة منبت خصب لتكوين الإفرازات التي تؤدي إلى تعفن، تغلب معه جراثيم تهيِّئ للإصابة بالسرطان وغيره من الأمراض الفتاكة.
وهو من ملة إبراهيم - عليه السلام - كما في الحديث الصحيح: "إن إبراهيم اختتن، بعدما أتت عليه ثمانون سنة" (648) . متفق عليه، ولفظه للبخاري، وقد قال اللَّه تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} (649) .
وختان الذكر بأخذ جلدة الحشَفة المعروفة، فإن أخذت كلها فهو الأولى والأفضل، وإن اقتصر على أكثرها أجزأ، نص على ذلك الفقهاء.
وأما الأنثى: فختانها بأخذ جلدة فوق محل الإيلاج، تشبه عرف الديك، ويحسن أن لا تؤخذ كلها.
والمشهور من مذهب الحنابلة: أن الختان واجب على الذكر والأنثى، وهو مذهب الشافعية، كما في "المجموع" للنووي. ومما استُدل به على وجوبه قوله صلى الله عليه وسلم : "ألق عنك شعر الكفر واختتن" . رواه أحمد وأبو داود والطبراني وابن عدي والبيهقي (650) . وهذا وإن كان فيه انقطاع -كما قاله الحافظ ابن حجر- إلا أن العمل عليه عند أهل العلم. وعن الإمام أحمد رواية أخرى: أنه يجب على الرجال دون النساء. اختاره الموفق ابن قدامة والشارح وابن عبدوس في "تذكرته" وقدّمه ابن عبيدان، ذكره في "الإنصاف" (651) . وذهبت الحنفية والمالكية إلى أنه سنة في حق الرجال والإناث، واحتجوا بحديث أسامة: "الختان سنة في الرجال، مَكْرُمة في النساء" رواه أحمد والبيهقي (652) . وفي سنده: الحجاج بن أرطأة، مدلس، وأجيب عن هذا بأن قوله: "سنة في الرجال" أي: من السنة المشروعة التي أمرنا باتباعها، فيدخل في ذلك الواجبات.(2/236)
وأما الختان في حق النساء: فإنه كان سنة عملية من عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن بعده. ومما يستدل به: حديث: "إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل" (653) ؛ فهذا دليل على أن النساء كن يختتن على عهده صلى الله عليه وسلم وحديث: "أشمي، ولا تنهكي؛ فإنه أنضر للوجه، وأحظى عند الزوج" . رواه الطبراني (654) عن الضحاك بن قيس مرفوعا، وفيه ضعف، ومعنى "أَشِمِّي ولا تَنْهَكي" أي: لا تأخذي الجلدة كلها. والصحيح أنه لا يجب على النساء؛ لعدم الدليل الصحيح الصريح الموجب لذلك، فإن ختنت الأنثى فهو كرامة لها، كما تقدم، وإن لم تختتن فلا حرج.
[465] تقليم الأظفار وحكمته
ما حكم قص الأظفار، وما حكم تطويلها طولا زائدا كما تفعله بعض السيدات اتباعا للموضة؟
الإجابة:
قص الأظفار من السنة المؤكدة التي سنَّها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لأمته، ورغبهم فيها، وحثهم عليها، وقال صلى الله عليه وسلم كلاما عامًّا يشمل هذا، وغيره، مثل: "من رغب عن سنتي فليس مني" (655) بل هو من سنن الفطرة، كما ثبتت بذلك الأحاديث الصحيحة الآتي بيانها إن شاء اللَّه. وروي أنه من الكلمات التي ابتلى اللَّه بها خليله إبراهيم -عليه السلام- في قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} (656)، فلما أتمهن إبراهيم -عليه السلام- قال اللَّه: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ} (657) {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} (658) .(2/237)
قال القرطبي في "تفسيره" على قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} عن عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس: خمس في الرأس: قص الشارب، والمضمضة، والاستنشاق، والسواك، وفرق الشعر، وخمس في الجسد: تقليم الأظفار، وحلق العانة، والاختتان، ونتف الإبط، وغسل مكان الغائط، والبول بالماء(659) . وعلى هذا القول: فالذي أتمهن هو إبراهيم -عليه السلام- وهو ظاهر القرآن.
وروى مطر عن أبي الجلد (660) أنها عشر أيضا، إلا أنه جعل موضع الفرق: غسل البراجم، وموضع الاستنجاء: الاستحداد.
وقال أبو إسحاق الزجاج: وهذه الأقوال ليست بمتناقضة؛ لأن هذا كله مما ابتلي به إبراهيم -عليه السلام- فأتمه.(2/238)
وفي "الموطأ" ، وغيره، عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: إبراهيم -عليه السلام- أول من اختتن، وأول من أضاف الضيف، وأول من استحد، وأول من قلم الأظفار، وأول من قص الشارب، وأول من شاب، فلما رأى الشيب قال: ما هذا؟ قال: وقار، قال: يا رب زدني وقارًا (661)، ثم قال: وهذه أحكام يجب بيانها، والوقوف عليها، والكلام فيها. فأول ذلك: الختان، ثم تكلم عن الختان ... إلى أن قال: العاشرة: في تقليم الأظفار، وذكر الترمذي الحكيم في "نوادر الأصول" له: (الأصل التاسع والعشرون) حدثنا عمر بن أبي عمر قال: حدثنا إبراهيم بن العلاء الزبيدي عن عمر بن بلال الفزاري قال: سمعت عبداللَّه بن بسر المازني يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "قصوا أظافركم، وادفنوا قلاماتكم، ونقوا براجمكم، ونظفوا لثاكم من الطعام، وتسننوا، ولا تدخلوا علي قُحرا بُخْرًا" (662) ، وروي "قلحا بخرا". والأقلح: من اصفرّت أسنانه من قلة التسوك. ثم تكلم عليه، فأحسن. قال الترمذي: فأما قص الأظفار، فمن أجل أنه يخدش، ويخمش، ويضر، وهو مجتمع الوسخ، فربما أجنب، ولا يصل الماء إلى البشرة من أجل الوسخ، فلا يزال جنبا، ومن أجنب فبقي موضع إبرة من جسده بعد الغسل غير مغسول فهو جنب على حاله حتى يعم الغسل جسده كله، فلذلك ندبهم إلى قص الأظفار. وأما قوله: "نقوا براجمكم" ، فالبراجم: تلك الغضون من المفاصل، وهي مجمع الدرن، واحدها برجمة؛ وهو ظهر عقدة كل مفصل، فظهر العقد يسمى برجمة، وما بين العقدتين تسمى راجبة، وجمعها رواجب، وذلك مما يلي ظهرها؛ وهي قصبة الأصبع، فلكل أصبع برجمتان، وثلاث رواجب إلا الإبهام، فإن له برجمة وراجبتين، فأمر بتنقيته؛ لئلا يدرن، فتبقى فيه الجنابة، ويحول الدرن بين الماء والبشرة. انتهى من "تفسير القرطبي" (663) ملخصا، وفي حديث الحكيم الترمذي ضعف.(2/239)
وعن عائشة -رضي اللَّه عنها- قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء" ، يعني: الاستنجاء. قال زكريا - راوي الحديث -: قال مصعب: ونسيت العاشرة، إلا أن تكون المضمضة. رواه أحمد ومسلم والنسائي والترمذي (664) .
قال العلماء: ويلحق بالبراجم ما يجتمع من الوسخ في معاطف الأذن، وقعر الصماخ فيزيله بالمسح، ونحوه، وانتقاص الماء- هو بالقاف، والصاد المهملة- قيل: هو الاستنجاء، وقيل: هو الانتضاح، وقد جاء في رواية بدل (الانتقاص) : (الانتضاح) . والانتضاح: نضح الفرج، وما يليه، وما يحاذيه من الإزار، والسراويل، ونحوها بماء قليل بعد الوضوء؛ لينتفي عنه الوسواس.
وفي كتاب "الوجيز في الإسلام والطب" للدكتور شوكت الشطي: وعلينا أن لا نهمل نظافة الأظافر في اليدين، والرجلين، ويكون ذلك بتقليمها، وغسلها، ويعد زي إطالة الأظافر من أسخف الأزياء التي جلبتها لنا الحضارة الكاذبة، ومن المؤسف أن تعم عندنا كثيرا من الناس، وأن يعتني بها حتى الشبان؛ وذلك لأن الأظافر الطويلة عرضة لأن يتراكم تحتها الغبار والفضلات والجراثيم. انتهى.(2/240)
وقال الدكتور صبري القباني: إن الأظفار يمكنها أن تحمل ملايين الملايين من الجراثيم التي تنقل مختلف الأمراض إلى داخل الجسم، وإنها تصاب بالدوحاس، ويمكن التوقي منه بتطهير الأظفار بمحلول مطهر، وقص الزوائد، بحيث تتساوى على مستوى الجلد، ويعتقد أن الظفر ينمو بمعدل نصف سنتيمتر كل شهر، وأن ظفر المرأة أقل نموا من ظفر الرجل. وقد تأكد ذلك من مراقبة العلامات البيضاء التي تظهر أحيانا على سطح الظفر، ثم تسير إلى الأمام بنمو الظفر، إلى أن تغدو قرب الحافة فتقص. وإذا قلع الظفر أو سقط في حادث فإنه يحتاج إلى أربعة أشهر كي يكتمل نموه من جديد، إذا كان طبيعيا... إلى آخر ما أورده القباني. واللَّه الموفق، وصلى اللَّه على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
[466] حلق العارض دون اللحية
حلق العارض دون اللحية، هل يجوز أم لا؟
الإجابة:
ظاهر سؤالك أنك تعرف تحريم حلق اللحية، وإنما تسأل عن حلق العارض: هل هو محرم، كحلق اللحية، أم جائز؟ وحينئذ فينبغي معرفة اللحية، وحدودها، وما يدخل في مسماها، وما لا يدخل فيها، وبمعرفة هذا يتبين حد العارض، وما يدخل في مسماه، وحكم حلقه.
فأما اللحية: فهي اسم للشعر النابت على الوجه، والذقن ما عدا الشارب، هكذا عَرّفها علماء اللغة، وشراح الحديث، والفقهاء. قال في "عون المعبود شرح سنن أبي داود" : اللحية - بكسر اللام وسكون الحاء-اسم لجميع الشعر الذي ينبت على الخدين والذقن (665) . وقال في "القاموس" : اللحية - بالكسر - شعر الخدين والذقن (666) . وقال في "تاج العروس شرح القاموس" (667) : اللحية -بالكسر - شعر الخدين والذقن، وهما اللحيان، وهما العظمان اللذان فيهما الأسنان. وقال في "المصباح" (668) : واللحي: عظم الحنك، وهو الذي عليه الأسنان، حيث ينبت الشعر، وهو أعلى وأسفل.(2/241)
فهذا كلام العلماء في تعريف اللحية، ويفهم منه أن العارض يدخل في مسمى اللحية؛ لأن العارضين ينبتان على اللحيين، وهما الحنكان. وقال في "الإقناع" : وإعفاء اللحية بأن لا يأخذ منها شيئا. قال في "المُذْهب" (669) : ما لم يُستهجن طولها. ويحرم حلقها، ولا بأس بأخذ ما زاد على القبضة منها، ولا بأخذ ما تحت الحلق. وأخذ الإمام أحمد -رحمه اللَّه - من حاجبيه، وعارضيه، نقله ابن هانئ. اهـ. واللَّه الموفق.
[467] تحديد وقت الختان
سائل يسأل عن وقت ختان الأولاد، حيث إن بعض القبائل يؤخرون ختان أولادهم إلى ما يقارب وقت البلوغ؟
الإجابة:
المنصوص أن الختان حال الصغر أفضل، لأنه أسرع برءًا، ولينشأ الطفل على أكمل الأحوال، وعليه عَمَلُ المسلمين في ختن أولادهم. قال الفقهاء: ويكره في سابع يوم من ولادته؛ لما فيه من التشبه باليهود.
وأما الوجوب: فذكر الفقهاء أنه لا يجب إلا عند البلوغ، لكن إذا كان يترتب على تأخيره مفسدة تعين أن يختن الطفل حال صغره. واللَّه أعلم.
[468] الاضطجاع بعد ركعتي الفجر
دخلت المسجد لصلاة الفجر، وصليت سنة الفجر الراتبة، وبجانبي رجل يظهر أنه من طلبة العلم، ولما صلى سنة الفجر اضطجع على جنبه الأيمن، ولما أقيمت الصلاة نهض، وصلى مع الناس. ولما انتهينا من الصلاة أردت أن أسأله عن سبب اضطجاعه ذلك لكنه من المسجد قبل أن أتمكن من سؤاله، فأرجوكم إفادتي عن ذلك مشكورين؟
الإجابة:
الحمد لله وحده. هذا الاضطجاع ورد فيه جملة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وتكلم عليها العلماء والفقهاء -رحمهم اللَّه-، واختلفوا في حكمها، ونحن نورد لك بعض الأحاديث الواردة في ذلك، ونذكر ما يتيسر من كلام أهل العلم عليها.
قال في "المنتقى" وشرحه "نيل الأوطار" : عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "إذا صلى أحدكم الركعتين قبل صلاة الصبح فليضطجع على جنبه الأيمن" . رواه أحمد وأبو داود والترمذي (670) ، وصححه.(2/242)
وعن عائشة -رضي اللَّه عنها- قالت: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن. وفي رواية: كان إذا صلى ركعتي الفجر فإن كنت مستيقظة حدثني، وإلا اضطجع. متفق عليه، وأخرجه الجماعة(671) كلهم.
وعن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص عند أحمد والطبراني (672) بلفظ: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن. وفي إسناده حيي بن عبد اللَّه المعافري، وهو مختلف فيه، وفي إسناد أحمد أيضا ابن لهيعة، وفيه مقال مشهور.
وعن ابن عباس عند البيهقي (673) بنحو حديث عبد اللَّه بن عمرو، وفيه انقطاع، واختلاف على ابن عباس.
وعن أبي بكرة عند أبي داود (674) بلفظ: قال: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة الصبح، فكان لا يمر برجل إلا ناداه بالصلاة، أو حركه برجله.
أدخله أبو داود والبيهقي في باب: الاضطجاع بعد ركعتي الفجر.
وقد اختلف في حكم هذا الاضطجاع على ستة أقوال:
الأول: أنه مشروع على سبيل الاستحباب. قال العراقي: فممن كان يفعل ذلك، أو يفتي به من الصحابة: أبو موسى الأشعري، ورافع بن خديج، وأنس بن مالك، وأبو هريرة. واختلف فيه على ابن عمر؛ فرُوي عنه فعل ذلك، كما ذكره ابن أبي شيبة في "مصنفه" (675) ، وروي عنه إنكاره كما سيأتي.
وممن قال به من التابعين: ابن سيرين، وعروة، وبقية الفقهاء السبعة، كما حكاه عبدالرحمن بن زيد في كتاب "السبعة" ، وهم: سعيد بن المسيب، والقاسم ابن محمد بن أبي بكر، وعروة بن الزبير، وأبو بكر بن عبد الرحمن، وخارجة ابن زيد بن ثابت، وعبيد الله بن عبداللَّه بن عتبة، وسليمان بن يسار.
وقد نظمهم بعضهم بقوله:
إذا قيل من في العلم سبعةُ أبحرٍ روايتهم ليست عن العلم خارجهْ
فَقُلْ هم عبيد الله عروة قاسمٌ سعيد أبو بكر سليمان خارجهْ(2/243)
قال ابن حزم (676) : وروينا من طريق يحيى بن سعيد القطان، عن عثمان ابن غياث هو ابن عثمان، أنه حدثه قال: كان الرجل يجيء وعمر بن الخطاب يصلي بالناس الصبح فيصلي ركعتين في مؤخر المسجد، ويضع جنبه في الأرض، ويدخل معه في الصلاة. اهـ.
وممن قال باستحباب ذلك من الأئمة: الشافعي وأصحابه.
القول الثاني: أن الاضطجاع بعدهما واجب مفترض، لا بد من الإتيان به، وهو قول أبي محمد بن حزم( 677) ، واستدل بحديث أبي هريرة المذكور، وحمله الأولون على الاستحباب.
القول الثالث: أن ذلك مكروه، وبدعة، وممن قال به من الصحابة: ابن مسعود، وابن عمر، على اختلاف عنه. فروى ابن أبي شيبة في "المصنف" من رواية إبراهيم قال: قال ابن مسعود: ما بال الرجل إذا صلى الركعتين يتمعك كما تتمعك الدابة، أو الحمار؟!
وعن سعيد بن المسيب قال: رأى عمر رجلا يضطجع بعد الركعتين، فقال: احصبوه.
وروى أبو مجلز عنه أنه قال: إن ذلك من تلاعب الشيطان.
وفي رواية زيد العمي، عن أبي الصديق الناجي عنه أنه قال: إنها بدعة. ذكر ذلك جميعه ابن أبي شيبة .
وممن كره ذلك من التابعين: الأسود بن يزيد وإبراهيم النخعي، وقال: هي ضجعة الشيطان. وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، ومن الأئمة: مالك، وحكاه القاضي عياض عن جمهور العلماء.
القول الرابع: أنه خلاف الأولى، روى ابن أبي شيبة (678) عن الحسن أنه كان لا يعجبه الاضطجاع بعد ركعتي الفجر.
القول الخامس: التفرقة بين من يقوم بالليل، فيستحب له ذلك للاستراحة، وبين غيره، فلا يشرع له. واختاره ابن العربي (679)، وقال: لا يضطجع بعد ركعتي الفجر لانتظار الصلاة إلا أن يكون قام الليل فيضطجع؛ استجماما لصلاة الصبح، فلا بأس.اهـ.
ويشهد لهذا ما رواه الطبراني وعبد الرزاق عن عائشة أنها كانت تقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يضطجع لسُنة، ولكنه كان يَدْأب ليلَهُ؛ فيستريح.(2/244)
وهذا لا تقوم به حجة، أما أولا: فلأن في إسناده راويا لم يُسَمّ، كما قال الحافظ في "الفتح" (680) ، وأما ثانيا: فلأن ذلك منها ظن وتخمين، وليس بحجة، وقد روت أنه كان يفعله، والحجة في فعله. وقد ثبت أمره به، فتأكدت بذلك مشروعيته.
القول السادس: أن الاضطجاع ليس مقصودًا لذاته، وإنما المقصود الفصل بين ركعتي الفجر والفريضة. روى ذلك البيهقي عن الشافعي (681) ، وفيه أن الفصل يحصل بالقعود، والتحول، والتحدث، وليس بمختص بالاضطجاع.
قال النووي (682) : والمختار: الاضطجاع؛ لظاهر حديث أبي هريرة.اهـ من "نيل الأوطار" ملخصا (683) .
وأما مذهب الحنابلة فإن الاضطجاع بعد ركعتي الفجر سنة؛ اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم .قال في "الإقناع" وشرحه "كشاف القناع" : ويسن الاضطجاع بعدهما على جنبه الأيمن، قبل فرضه، نص عليه، بقول عائشة -رضي اللَّه عنها-: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع. وفي رواية: فإن كنت مستيقظة حدثني، وإلا اضطجع. متفق عليه (684) .
ونقل أبو طالب -يعني عن الإمام أحمد-: يكره الكلام بعدهما، إنما هي ساعة تسبيح. اهـ.
وقال الموفق في "المغني" : ويستحب أن يضطجع بعد ركعتي الفجر على جنبه الأيمن، وكان أبو موسى، وأنس بن مالك، ورافع بن خديج يفعلونه، وأنكره ابن مسعود، وكان القاسم، وسالم، ونافع لا يفعلونه، واختُلف فيه عن ابن عمر. وروي عن الإمام أحمد أنه ليس بسنة؛ لأن ابن مسعود أنكره.
ولنا ما روى أبو هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع" (685) . قال الترمذي: هذا حديث حسن. ورواه البزار في "مسنده" ، وقال: "على شقه الأيمن" .
وعن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن. متفق عليه (686) ، وهذا لفظ رواية البخاري. واتباع النبي صلى الله عليه وسلم في قوله، وفعله أولى من اتباع من خالفه، كائنا من كان. اهـ.(2/245)
[469] جواز إهداء ثواب القُرُبات للأحياء والأموات
إذا قرأتُ القرآن، ثم وهبت ثوابه إلى أحد أقاربي الأموات، فهل يصل ثواب هذه القراءة إلى الميت؟ وهل يبقى لي ثواب من هذه القراءة بعد أن وهبت ثوابها لميتي؟
الإجابة:
يجوز للإنسان إذا فعل شيئا من القربات أن يجعل ثوابها لأحد أقاربه الأحياء، أو الأموات، أو غير أقاربه. صرح بذلك العلماء -رحمهم اللَّه- من الحنابلة وغيرهم. قال في "الإقناع وشرحه" (687) : وكل قربة فعلها المسلم وجعل ثوابها أو بعضها -كالنصف ونحوه- لمسلم- حي أو ميت- جاز له ذلك، ونفعه لحصول الثواب له، كصلاة ودعاء واستغفار، وصدقة وعتق وأضحية، وأداء دين وصوم، وكذا قراءة وغيرها.قال أحمد: الميت يصل إليه كل شيء من الخير للنصوص الواردة فيه. ولأن المسلمين يجتمعون في كل مصر، ويقرءون، ويهدون لموتاهم من غير نكير، فكان إجماعا. واعتبر بعضهم في حصول الثواب للمجعول له إذا نواه حال الفعل، أي القراءة أو الاستغفار ونحوه، أو نواه قبله. ويستحب إهداء ذلك، فيقول: اللَّهم اجعل ثواب ذلك لفلان. وقال ابن تميم: والأولى أن يسأل الأجر من اللَّه تعالى، ثم يجعله له أي: للمهدى له، فيقول: اللَّهم أثبني برحمتك على ذلك، واجعل ثوابه لفلان. وللمهدي ثواب الإهداء. وقال بعض العلماء: يثاب كل من المهدي والمهدى إليه، وفضل اللَّه واسع. انتهى.
[470] الكف عن ذكر مساوئ الأموات
هل يجوز سب الأموات وذكرهم بما فيه قدح وتجريح، وما حكم من يفعل ذلك؟
الإجابة:
لا يخفى أننا منهيون عن سب الأموات؛ لأنهم قد أفضوا إلى ما قدموا. ولا يترتب على ذلك مصلحة دينية، ولا دنيوية، ولنا في عيوبنا شغل عن ذكر عيوب الناس ومثالبهم، وكلام العلماء في ذلك معروف.
قال المجد بن تيمية في "المنتقى" (688) : "باب: الكف عن ذكر مساوئ الأموات" : عن عائشة -رضي اللَّه عنها-: قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "لا تسبوا الأموات؛ فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا" .(2/246)
رواه أحمد والبخاري والنسائي(689) .
وعن ابن عباس أن النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم قال: "لا تسبوا أمواتنا فتؤذوا أحياءنا" . رواه أحمد والنسائي (690) .
وقد أخرج أبو داود والترمذي (691) عن ابن عمر، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم اذكروا محاسن موتاكم، وكفوا عن مساوئهم" .
وقال الشوكاني في شرحه "نيل الأوطار" (692) : وأخرج أبو داود عن عائشة، قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم :"إذا مات صاحبكم فدعوه، لا تقعوا فيه" (693) . وقد سكت أبو داود والمنذري عن الكلام على هذا الحديث.
والوجه تبقية الحديث على عمومه، إلا ما خصه دليل كالثناء على الميت بالشر، وجرح المجروحين من الرواة، أحياء وأمواتا، لإجماع العلماء على جواز ذلك، وذكر مساوئ الكفار والفساق للتحذير منهم، والتنفير عنهم.
قال ابن بطال: سب الأموات يجري مجرى الغيبة، فإن كان أغلب أحوال المرء الخير -وقد تكون منه الفلتة- فالاغتياب له ممنوع، وإن كان فاسقا معلنا فلا غيبة له، وكذلك الميت. انتهى.
ويتعقب بأن ذكر الرجل بما فيه حال حياته قد يكون لقصد زجره وردعه عن المعصية، أو لقصد تحذير الناس منه وتنفيرهم، وبعد موته قد أفضى إلى ما قدم. فلا سواء.
والمتحري لدينه في اشتغاله بعيوب نفسه ما يشغله عن نشر مثالب الأموات، وسب من لا يدري كيف حاله عند بارئ البريات.
ولا ريب أن تمزيق عرض من قدِم على ما قدّم، وجثا بين يدي من هو بما تكنه الضمائر أعلم مع عدم ما يحمل على ذلك من جرح أو نحوه أحموقة لا تقع لمتيقظ ولا يصاب بمثلها متدين.
ونسأل اللَّه السلامة بالحسنات، اللَّهم اغفر لنا تفلتات اللسان، والقلم في هذه الشعاب والهضاب، وجنبنا عن سلوك هذه المسالك التي هي في الحقيقة مهالك ذوي الألباب. انتهى ملخصا.
[471] تلقين الزوار في المدينة أدعية الزيارة(2/247)
لا يخفى أن كثيرا من تلك الزيارات والأدعية التي يفعلونها الآن على تلك الصفة المعروفة لم ترد بها السنة، ولم يفعلها السلف الصالح -رضوان اللَّه عليهم-، والاقتصار على الأدعية المأثورة هو الذي ينبغي، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
ونظرا لأن كثيرا من الزوار الغرباء لا يفهمون حقيقة معنى الزيارة الشرعية، فيجب أن لا يُتعدى بهم المشروع الوارد في هذا الباب، مع منع من لا يحسن تلك المهنة حتى تثبت كفاءته وأهليته ومعرفته لما يقوله وما يفعله شرعا، مع ملاحظة سلامة العقيدة، واستقامة الأخلاق، وقلة الطمع، وغير ذلك، كما ينبغي أن يزوَدوا بالتعليمات الشرعية، والأدعية المأثورة الواردة في هذا الباب، والتوصية بالرفق بهؤلاء الغرباء، وتسهيل أمورهم في كل ما يلزم، ومراقبتهم أثناء قيامهم بعمل الزيارة، ومنع كل من يصدر منه قول أو فعل يخالف المشروع؛ كرفع الصوت، وكالدعاء بالأدعية المحرمة والمبتدعة والشركية، ونحوها. واللَّه الموفق.
[472] ما يفعل عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة
سائل يسأل عما يفعله بعض الذين يزورون المدينة، فتجد بعضهم كلما صلى الفريضة جاء إلى القبر الشريف واضعا يده اليمنى على يده اليسرى على صدره، ويحني رأسه وظهره كأنه راكع، وبعضهم يفعل هذا في جميع أنحاء المسجد ويأتون بأدعية يسردونها، ويكررون هذا عقب كل فريضة، ويزعمون أن هذا من الدين. فهل ورد هذا عن أحد من الصحابة أو التابعين، أو قال به أحد من أئمة المسلمين؟
الإجابة:(2/248)
حاشا وكلا. لم يثبت هذا عن أحد ممن ذكرتم، بل الذي ورد عن أئمة السلف النهي عن مثل ذلك، فعن علي بن الحسين زين العابدين أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدعو، فنهاه، وقال: ألا أحدثكم بحديث سمعته من أبي عن جدي عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم !؟ قال: "لا تتخذوا قبري عيدا، ولا بيوتكم قبورا، وصلوا علي؛ فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم" . رواه في "المختارة" (694) .
وروى سعيد بن منصور في "سننه" (695) عن سهل بن أبي سهل قال: رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى فقال: هلم إلى العشاء، قلت: لا أريده، قال: ما لي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: إذا دخلت المسجد فسلم، ثم قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا قبري عيدا، ولا تتخذوا بيوتكم قبورا، وصلوا علي؛ فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم. لعن اللَّه اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" . ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء (696) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فانظر إلى هذه السنة، كيف مخرجها من أهل المدينة، وأهل البيت الذين لهم قرب النسب وقرب الدار. وقال: ما علمت أحدا رخص في ذلك؛ لأنه نوع من اتخاذه عيدا. وهذا يدل على أن قصد الإنسان القبر للسلام إذا دخل المسجد ليصلي منهي عنه؛ لأن ذلك لم يشرع. وكره مالك لأهل المدينة كلما دخل إنسان المسجد أن يأتي القبر؛ لأن السلف لم يكونوا يفعلونه، وقال: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها (697) .(2/249)
والمقصود: أن الصحابة ما كانوا يعتادون السلام عليه عند قبره كما يفعله مَن بعدهم من الخلف، وإنما كان يأتي بعضهم من خارج فيسلم عليه إذا قدم من السفر كما كان ابن عمر يفعله. قال عبيداللَّه بن عمر عن نافع: كان ابن عمر إذا قدم من سفر أتى قِبَل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا رسول اللَّه، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه. ثم ينصرف. قال عبيداللَّه: ما نعلم أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك إلا ابن عمر (698) . وهذا يدل على أنه لا يقف عند القبر للدعاء كما يفعله اليوم كثير من الناس.
قال شيخ الإسلام: إن ذلك لم ينقل عن أحد من الصحابة؛ فكان بدعة محضة. وفي "المبسوط" (699) : قال مالك: لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن يسلم، ثم يمضي.
وأما الوقوف على هذه الصفة التي ذكرها السائل، من الخضوع ووضع اليد اليمنى على اليسرى والانحناء بالرأس والظهر فهذه الأشياء لا تليق إلا برب العالمين؛ فهو الذي يستحق أن يُخضع بين يديه في الصلاة وغيرها. وأما صرفها لمخلوق، فهو من الأمور المحرمة، ومن الغلو المنهي عنه. ويتعين على طلبة العلم وغيرهم وعلى رجال الحسبة التنبيه على هذا، والنهي عنه. واللَّه الهادي إلى سواء السبيل.
[473] استعمال جلد النمر،وناب الفيل، والاتجار بهما
سائل يسأل عن حكم بيع جلود النمور ونحوها من الوحوش، وكذا سن الفيل، وجواز الاتجار بهذه الأشياء؟
الإجابة:(2/250)
أما جلود النمور، ونحوها: فقال في "الإقناع" ، و"شرحه" : ويحرم افتراش جلود السباع من البهائم، والطير، إذا كانت أكبر خلقة من الهر؛ لما روى أبو داود، عن أبي المليح بن أسامة، عن أبيه: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى عن جلود السباع(700). واللبس كالافتراش؛ لحديث المقدام بن معديكرب أنه قال لمعاوية: أنشدك اللَّه، هل تعلم أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى عن افتراش جلود السباع، والركوب عليها؟ قال: نعم (701) . رواه أبو داود. قال ابن القيم -رحمه اللَّه-: ومن الحكمة في ذلك: أنه نهى عنها؛ لما تؤثره في قلب لابسها من الهيئة المنافية للعبودية والخشوع. وقال في "الإقناع" و"شرحه" (702) : لا بأس بلبس الفراء -جمع فروة- إذا كانت من جلد مأكول مذكى مباح، وتصح الصلاة فيها كسائر الطاهرات، ولا تصح الصلاة في غير ذلك كجلد ثعلب، وسَمُّور، وفنك، وفاقم، وسنور، وسنجاب، ونحوه: كذئب، ونمر، ولو ذكي ودبغ؛ لأنه لا يطهر بذلك.
وقال في "المغني" : فأما جلود السباع: فقال القاضي: لا يجوز الانتفاع بها قبل الدبغ، ولا بعده، وبذلك قال الأوزاعي، ويزيد بن هارون، وابن المبارك، وإسحاق، وأبو ثور، وروي عن عمر وعلي - رضي اللَّه عنهما - كراهة الصلاة في جلود الثعالب، وكرهه سعيد بن جبير، والحكم، ومكحول، وإسحاق، وكره الانتفاع بجلود السنانير: عطاء، وطاوس، ومجاهد، وعَبيدة السَّلماني.
ولنا ما روى أبو ريحانة: قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى عن ركوب النمور(703). أخرجه أبو داود، وابن ماجه، وعن معاوية والمقدام بن معد يكرب أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس جلود السباع، والركوب عليها (704) . رواه أبو داود، وروى: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن افتراش جلود السباع... (705)اهـ. (706)(2/251)
وإذا ذبح ما لا يؤكل لحمه كان جلده نجسا، وهذا قول الشافعي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن افتراش جلود السباع، وركوب النمور (707) ، وهو عام في المذكى وغيره؛ ولأنه ذَبْحٌ لا يطهر اللحم فلم يطهر الجلد كذبح المجوس، أو ذبح غير مشروع، فأشبه الأصل (708) .
وأما بالنسبة إلى سن الفيل، وعظمه، ونحوه، فقال في "المغني" : وعظام الميتة نجسة، سواء كانت ميتة ما يؤكل، أو ما لا يؤكل لحمه كالفيلة، ولا يطهر بحال. هذا مذهب مالك، والشافعي، وإسحاق. وكره عطاء، وطاوس، والحسن، وعمر ابن عبد العزيز-رضي الله عنه- عظام الفيلة؛ لقول اللَّه تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (709) ، والعظم من جملتها فيكون محرمًا، والفيل لا يؤكل لحمه، فهو نجس على كل حال.
وذهب مالك إلى: أن الفيل إن ذُكِّيَ فعظمه طاهر، وإلا فهو نجس؛ لأن الفيل مأكول عنده، وهو غير صحيح؛ لأن النبي نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع (710) . رواه مسلم (711) ، والفيل أعظمها نابا...
والقرن، والظفر، والحافر كالعظم، إن أخذ من مذكى فهو طاهر، وإن أخذ من حي فهو نجس؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : "ما يقطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة" (712) . رواه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب. وكذلك ما يتساقط من قرون الوعول في حياتها، ويحتمل أن هذا طاهر؛ لأنه طاهر متصل مع عدم الحياة فيه فلم ينجس بفصله من الحيوان، ولا بموت الحيوان كالشعر.
والخبر أريد به ما يقطع من البهيمة مما فيه حياة؛ لأنه بفصله يموت، فتفارقه الحياة، بخلاف هذا، فإنه لا يموت بفصله، فهو أشبه بالشعر. وما لا ينجس بالموت لا بأس بعظامه كالسمك؛ لأن موته كتذكية الحيوانات المأكولة. اهـ (713) .(2/252)
وأما بالنسبة لبيعها والاتجار بها: فحيث ثبت تحريم استعمالها فبيعها حرام، ولا يحل الاتجار بها، ولا أخذ ثمنها؛ لما روى أبو داود وابن أبي شيبة عن ابن عباس -رضي الله عنه-: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إن اللَّه إذا حرم شيئا حرم ثمنه" (714) .
وصرح الفقهاء بتحريم بيع جلود السباع قال في "الروض المربع" (715) : أما جلود السباع كالذئب ونحوه مما خِلْقته أكبر من الهر، ولا يؤكل لحمه فلا يباح دبغه، ولا استعماله قبل الدبغ ولا بعده، ولا يصح بيعه. انتهى.
والأصل في هذا: حديث جابر -رضي الله عنه- أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح، وهو بمكة يقول: "إن اللَّه -عز وجل- ورسوله حرم بيع الخمر، والميتة والخنزير، والأصنام" ، فقيل: يا رسول اللَّه، أرأيت شحوم الميتة، فإنه يطلى بها السفن، ويدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ قال: "لا هو حرام" ، ثم قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عند ذلك: "قاتل اللَّه اليهود؛ إن اللَّه حرم عليهم الشحوم، فأجملوه، ثم باعوه، فأكلوا ثمنه" ، أخرجه البخاري ومسلم (716) ، وأخرجه أبو داود من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، وزاد فيه: "وإن اللَّه إذا حرم أكل شيء حرم ثمنه"(717) . وأخرجه ابن أبي شيبة ولفظه: "إن اللَّه إذا حرم شيئا حرم ثمنه" .
قال ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" -بعد أن ساق هذه الأحاديث وغيرها مما أورده في معناها-: فالحاصل: من هذه الأحاديث كلها: أن ما حرم اللَّه الانتفاع به، فإنه يحرم بيعه، وأكل ثمنه، كما جاء مصرحا به في الرواية المتقدمة: "إن اللَّه إذا حرَّم شيئا حرَّم ثمنه" ، وهذه كلمة عامة جامعة، تَطَّرد في كل ما كان المقصود من الانتفاع به حراما (718) . انتهى.
[474] من شفع لغيره شفاعة فلا يقبل منه شيئا عنها(2/253)
رجل له صديق عمل معه معروفا، وشفع له شفاعة عند بعض المسئولين حتى تم كل شيء، ثم أراد أن يهدي له هدية فامتنع، فألح عليه ليقبلها، فأبى وقال: إنه لا يحل وقد ورد فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فاستغربت كلامه؛ لأنها ليست من باب الرشوة، ولا تقطع صاحب حق من حقه؛ فنسألكم عفا اللَّه عنكم عن مصداق كلامه، وهل ورد في ذلك حديث كما ذكر؟ نرجوكم إيضاح الجواب -أحسن اللَّه إليكم.
الإجابة:
ورد في هذا حديث رواه أبو داود وغيره عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من شفع لأخيه شفاعة فأهدى له هدية عليها فقبلها فقد أتى بابا عظيما من أبواب الربا" (719) . قال الشارح: لأن الشفاعة الحسنة مندوب إليها، وقد تكون واجبة؛ فأخذ الهدية عليها يضيع أجرها، كما أن الربا يضيع الحلال.
وقد أورده ابن حجر في كتابه "الكبائر" وعدَّه منها، فقال: الكبيرة التاسعة والعشرون بعد الأربعمائة: قبول الهدية بسبب شفاعته: أخرج أبو داود أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من شفع شفاعة لأحد فأهدى له هدية فقبلها فقد أتى بابًا عظيما من أبوب الكبائر" .
ومر عن ابن مسعود: إن ذلك سحت، ونقله القرطبي عن مالك. ثم قال ابن حجر: تنبيه: عد هذا من الكبائر هو ما صرح به بعض أئمتنا، وفيه نظر؛ لأنه لا يوافق قواعدنا، بل مذهبنا: أن من حبس فبذل لغيره مالا يشفع له، ويتكلم في خلاصه جاز، وكانت جعالة جائزة، فالذي يتجه؛ حمل ذلك على قبول مال في مقابلة شفاعة في محرم. انتهى.
[475] حكم استعمال حبوب منع الحمل
الإجابة:(2/254)
إذا كان القصد من استعمالها قطع الحمل كليًّا؛ لئلا تحمل المرأة بعدها بتاتا فهذا لا يجوز، سواء كان السبب كراهة الأولاد، أو خوف الفقر بالإنفاق عليهم، أو إبقاء على نضارة المرأة، أو نحو ذلك؛ لأن اللَّه خلق الإنسان وأودع فيه مادة التناسل والتوالد لحفظ هذا الجنس، وامتن تعالى على عباده بأن جعل لهم من أنفسهم أزواجا، وجعل لهم من أزواجهم بنين وحفدة، وحث النبي صلى الله عليه وسلم على الزواج، وقال: "تزوجوا الولود الودود، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة" (720) . رواه أبو داود والنسائي.
فالتي تتعاطى حبوب قطع الحمل كليًّا لئلا تحمل بعدها بتاتا لغير ضرورة ثابتة فهذا مخالف لحكمة اللَّه الكونية والشرعية، فهذا يُنهى عنه ويُنكر على فاعله، وإن كان المقصود من استعمالها لأمر عارض مؤقت كمرض المرأة، أو ضعفها عن الحمل، أو خطورة حياتها عند الوضع، أو لضرر يلحقها أو يلحق طفلها إذا حملت عليه، أو قصد تأجيل الحمل مدة من الزمن نظرًا لظروفها ومشقة تربية الطفل الجديد مع من قبله، ونحو ذلك من الأعذار الواضحة وبصفة مؤقتة- فإذا زال السبب أمسكت عن استعمال الحبوب. فهذا جائز إذا أمنت الضرر على نفسها وعلى جنينها، بشرط أن يأذن زوجها فيما ليس به ضرر عليها؛ لأن له حقه في الولد، وهذا أشبه شيء بالعزل، وقد كان بعض الصحابة يعزلون مخافة الحمل، ولم ينكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم (721) ، وذكر الفقهاء أنه يجوز للمرأة أن تشرب دواء لإلقاء نطفة من بطنها ما لم يتم لها أربعون يوما، فاستعمال الحبوب من باب أولى.
[476] من وطئ أم زوجته
رجل زنى بأم زوجته، ثم تاب قبل أن يقدر عليه، ولم يعلم أحد بذلك، فما حكم زوجته؟ هل تحرم عليه بذلك؟
الإجابة:
تحرم عليه زوجته بذلك لوطئه أمها، ومثله: لو وطئ إنسان بنت زوجته بشبهة أو زنا. نص عليه الإمام أحمد. فهذا الوطء تثبت به الحرمة ولو كان مُحَرَّما؛ قياساً على وطء الحلال. واللَّه أعلم.(2/255)
[477] من شك في وطء زوجته من دبرها
سؤال طالما شغل بالي كثيراً كثيراً، وأقلق حياتي، وذلك أني عندما تزوجت جاهلاً، ومع ممازحتي لزوجتي، وسوس لي الشيطان أني كأنني أتيتها من الدبر أثناء عبثي معها، وذلك بدون قصد مني ولا علم، فسألتها فنفت ذلك وأكدت النفي، وأنا أيضًا يغلب على ظني أن ذلك لم يقع، أما الآن فقد تركت الممازحة والعبث الذي يحوم حول ذلك من مدة، وأحببت أن أسأل: هل تحرم عليَّ زوجتي والحال ما ذكر وهل تجب علي كفارة؟
الإجابة:
أنت تعرف تحريم وطء الزوجة من الدبر، والأحاديث الواردة فيه وأنه يسمى اللوطية الصغرى، وأنه من كبائر الذنوب، وأن فاعله ملعون.
ولكن ما دامت المسألة مجرد شكوك وتوهمات، فلا ينبغي لك الالتفات إليها، بل يتعين اطِّراحها؛ لأنها لا تأثير لها ولا ينبني عليها أمر من الأمور الشرعية، وما دمت قد تركت العبث من هذه الناحية فليس عليك شيء أكثر من ذلك، وهي حلال لك، ولا يجب عليك لا كفارة ولا غيرها، فليطمئن قلبك وليهدأ بالك. واللَّه الموفق.
[478] كفارة وطء الحائض
سائل يسأل عن كفارة وطء الحائض إذا لم يجد الدينار الذهب، فهل يجزئه مقداره من هذه الأوراق النقدية؟
الإجابة:
الذي يأتي امرأته وهي حائض يكفر بدينار، أو نصفه على التخيير، كما في حديث ابن عباس (722) .
والدينار: مثقال من الذهب، ووزنه أربعة أسباع الجنيه السعودي ونحوه مما زنتهُ زنتَه؛ لأن الجنيه المذكور ديناران إلا ربعًا. قال الفقهاء: ويخرجه عينا، أو يخرج قيمته من الفضة فقط، يعني: فلا تجزئ قيمته من العروض ونحوها، فإن لم يجد ذهبا ولا فضة، وأخرج قيمته من هذه الأوراق النقدية فأرجو أن لا بأس بذلك، ولا سيما على القول بإخراج القيمة في الزكاة، وإن تمكن من إخراجه عينا ذهبا، أو فضة، فهو أولى، وأبرأ للذمة. واللَّه أعلم.
[479] النفس المطمئنة والنفس اللوامة والنفس الأمارة(2/256)
طالب يسأل عما ورد في القرآن العظيم من ذكر النفس المطمئنة، والنفس اللوامة، والنفس الأمارة. ويقول: هل للإنسان أنفس متعددة بحسب ما ورد في ذكرها أم أنها نفس واحدة وهذه صفات لها؟ ويقول: نرجوكم بسط القول في هذا، وإيضاحه لنا وفقكم الله للصواب؟
الإجابة:
الحمد لله وحده. هذا بحث نفيس مهم، ومن أحسن ما رأيت فيه مجموعًا ومفصلاً كلامًا للمحقق ابن القيم -رحمه اللَّه- في كتاب "الروح" ، وإليك خلاصة ما ذكره على هذه المسألة:
قال: هل النفس واحدة أم ثلاث؟ فقد وقع في كلام كثير من الناس أن لابن آدم ثلاث أنفس: نفس مطمئنة، ونفس لوامة، ونفس أمارة، وأن منهم من تغلب عليه هذه، ومنهم من تغلب عليه الأخرى، ويحتجون على ذلك بقوله تعالى: {يَأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} (723) وبقوله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} (724) ، وبقوله تعالى:{إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ}(725 )
والتحقيق: أنها نفس واحدة، ولكن لها صفات متعددة، فتسمى باعتبار كل صفة باسم، فتسمى مطمئنة باعتبار طمأنينتها إلى ربها؛ بعبوديته ومحبته والإنابة إليه والتوكل عليه والرضا به، والسكون إليه.
فالطمأنينة إلى اللَّه سبحانه حقيقة، ترد منه سبحانه على قلب عبده تجمعه عليه، وترد قلبه الشارد إليه، حتى كأنه جالس بين يديه؛ فتسري تلك الطمأنينة في نفسه، وقلبه ومفاصله وقواه الظاهرة والباطنة، ولا يمكن حصول الطمأنينة الحقيقية إلا باللَّه وبذكره {الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (726) .(2/257)
وأما النفس اللوامة، وهي التي أقسم بها سبحانه في قوله: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} فاختلف فيها، فقالت طائفة: هي التي لا تثبت على حال واحدة؛ أخذوا اللفظة من التلوم، وهو التردد، فهي كثيرة التقلب والتلون، وهي من أعظم آيات اللَّه، فإنها مخلوق من مخلوقاته تتقلب، وتتلون في الساعة الواحدة- فضلاً عن اليوم والشهر والعام والعمر- ألوانًا عديدة؛ فتذكر وتغفل، وتقبل وتعرض، وتلطف وتكثف، وتنيب وتجفو، وتحب وتبغض، وتفرح وتحزن، وترضى وتغضب، وتطيع وتعصي، وتتقي وتفجر، إلى أضعاف أضعاف ذلك من حالاتها وتلونها، فهي تتلون كل وقت ألوانًا كثيرة، فهذا قولٌ.
وقالت طائفة: اللفظة مأخوذة من اللوم.
قال الحسن البصري: إن المؤمن لا تراه إلا يلوم نفسه دائمًا، يقول: ما أردت بهذا؟ لم فعلت هذا؟ كان غير هذا أولى، أو نحو هذا من الكلام.
وقال غيره: هي نفس المؤمن توقعه في الذنب، ثم تلومه عليه، فهذا اللوم من الإيمان، بخلاف الشقي، فإنه لا يلوم نفسه على ذنب، بل يلومها وتلومه على فواته.
وقالت طائفة: بل هذا اللوم للنوعين، فإن كل واحد يلوم نفسه، بَرًّا كان أو فاجرًا، فالسعيد يلومها على ارتكاب معصية اللَّه وترك طاعته، والشقي لا يلومها إلا على فوات حظها وهواها.
وقالت فرقة أخرى: هذا اللوم يوم القيامة، فإن كل واحد يلوم نفسه، إن كان مسيئًا على إساءته، وإن كان محسنًا على تقصيره.
وهذه الأقوال كلها حق ولا تنافي بينها، فإن النفس موصوفة بهذا كله، وباعتباره سميت لوامة.
لكن النفس نوعان:
لوامة ملومة: وهي النفس الجاهلة الظالمة، التي يلومها اللَّه وملائكته.
ولوامة غير ملومة: وهي التي لا تزال تلوم صاحبها على تقصيره في طاعة اللَّه مع بذله جهده، فهذه غير ملومة.(2/258)
وأما النفس الأمارة: فهي المذمومة، فإنها التي تأمر بكل سوء، وهذا من طبيعتها، إلا ما وفقها اللَّه وثبتها وأعانها، فما تخلص أحد من شر نفسه إلا بتوفيق اللَّه له، كما قال تعالى حاكيًا عن امرأة العزيز: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ َلأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (727 ) وقد امتحن اللَّه -سبحانه- الإنسان بهاتين النفسين: الأمارة، واللوامة كما أكرمه بالمطمئنة، فهي نفس واحدة تكون أمارة ثم لوامة ثم مطمئنة، وهي غاية كمالها وصلاحها، وأعان المطمئنة بجنود عديدة، فجعل الملك قرينها وصاحبها الذي يليها ويسددها، ويرغبها فيه.
والمقصود: أن الملَك قرين النفس المطمئنة، والشيطان قرين الأمارة، وقد روى أبو الأحوص عن عطاء بن السائب عن مرة عن عبد اللَّه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "إن للشيطان لمة بابن آدم، وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من اللَّه وليحمد اللَّه، ومن وجد الآخر فليتعوذ باللَّه من الشيطان الرجيم" ، ثم قرأ: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ} (728)
وقد رواه عمرو عن عطاء بن السائب. زاد فيه عمرو: قال: سمعنا في هذا الحديث أنه كان يقال: "إذا أحس أحدكم من لمة الملك شيئًا فليحمد اللَّه، وليسأله من فضله، وإذا أحس من لمة الشيطان شيئًا فليستغفر اللَّه، وليتعوذ من الشيطان" . انتهى ملخصًا.
[480] إطلاق اسم السيد على بعض الناس
هل يجوز تلقيب الرجل عظيم المنزلة بالسيد؟
الإجابة:(2/259)
نعم يجوز إذا لم يكن كافرا، ولا مجاهرا بالفسق. والدليل على ذلك ما ورد في الكتاب والسنة، قال اللَّه تعالى في حق عيسى: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا} (729)، وقال في صاحبة يوسف: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا الْبَابِ} (730)، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة". (731) وقال في الحسن والحسين: إنهما سيدا شباب أهل الجنة(732). وقال في أبي بكر وعمر: إنهما سيدا كهول أهل الجنة(733). وقال في الحسن: "إن ابني هذا سيد، ولعل اللَّه أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين". (734) وقال للأنصار: "قوموا إلى سيدكم". (735) ومن تتبع النصوص وجد غير ما ذكر. قال علماء اللغة(736): السيد يطلق على الرب، والمالك، والشريف، والفاضل، والكريم، والحليم، والزوج، والرئيس المقدم، ومتحمل أذى قومه، وغير ذلك.
وأما إطلاق اسم السيد على المنافق، والكافر، والمجاهر بالمعاصي، فقد ورد فيه حديث بريدة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم :"لا تقولوا للمنافق سيدا؛ فإنه إن يك سيدا فقد أسخطتم ربكم".(737) رواه أبو داود.
وأما ما ورد في حديث مطرف بن عبد اللَّه بن الشخير قال: قال أبي: انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقلنا: أنت سيدنا، فقال: "السيد اللَّه تبارك وتعالى" . قلنا: وأفضلنا فضلا، وأعظمنا طولا، فقال:قولوا بقولكم، أو ببعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان".(738) رواه أبو داود، وفي معناه حديث أنس عند النسائي. فلعل هذا تنبيه منه صلى الله عليه وسلم لهم؛ لما فهمه من مقصدهم على ترك الغلو والإفراط في التعظيم المنهي عنه، والإطراء المذموم. وبهذا يجمع بين الأحاديث. واللَّه أعلم.
[481] السؤال عن غرائب العلم وما لم يقع
الإجابة:(2/260)
وصل إلينا كتابك، وقرأنا الأسئلة التي ذكرت.. والأَوْلَى يا بني أن تهتم بما ينفعك، وتسأل عنه، وتترك ما لا نفع لك فيه. فقد ورد النهي عن السؤال عما لا يُنتفع به، وعن الغرائب، وما لم يقع.
قال ابن مفلح في الآداب الكبرى" (739) : (فصل في كراهة السؤال عن الغرائب وعما لا يُنتفع به ولا يعمل به وما لم يكن) : قال المروذي: قال أبو عبداللَّه يعني أحمد بن حنبل: سألني رجل مرة عن يأجوج ومأجوج: أمسلمون هم؟ فقلت له: أَحْكَمْتَ العلم حتى تسأل عن ذا؟
ونقل أحمد بن أصرم عن الإمام أحمد أنه سئل عن مسألة في اللعان، فقال: سل رحمك اللَّه عما ابتُليتَ به. ونقل عنه أبو داود: وسأله رجل عن مسألة، فقال له: دعنا من هذه المسائل المحدَثة. وسأله عن أخرى، فغضب، وقال: خذ ويحك فيما تنتفع به، وإياك وهذه المسائل المحدثة وخذ في شيء فيه حديث. وقال الأثرم: سمعت أحمد سئل عن مسألة، قال: دعنا، ليت أنّا نحسن ما جاء فيه الأثر.
وقال أحمد بن حيان القَطِيعي: دخلت على أبي عبداللَّه، فقلت: أتوضأ بماء النَّوْرة؟ فقال: ما أحب ذلك، فقلت: أتوضأ بماء الباقلاء؟ قال: ما أحب ذلك، قال: ثم قمتُ، فتعلق بثوبي، وقال: أَيْشٍ تقول إذا دخلت المسجد؟ فسكت. فقال: أَيْشٍ تقول إذا خرجت من المسجد؟ فسكت. فقال: اذهب فتعلم هذا.
وروى أحمد من رواية ليث - وهو ضعيف- عن طاوس عن ابن عمر، قال: لا تسألوا عما لم يكن، فإني سمعت عمر ينهى أن يُسأل عما لم يكن.(740)
وروى -أيضا- عن ابن عباس(741)، قال: ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، ما سألوا إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قُبض، كلهن في القرآن، وما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم، فإن سألوا عما لا ينفعهم أرشدوا في الجواب عنه إلى ما ينفعهم كالذي ورد في سبب نزول {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ}.(742)(2/261)
وروى -أيضا- من رواية مجالد عن عامر عن جابر، قال: ما أنزل البلاءَ إلا كثرةُ السؤال. روى ذلك الخلال، وقد تضمن ذلك أنه يكره - عند أحمد- السؤال عما لا ينفع السائل، ويترك ما ينفعه ويحتاجه، وأن العامي يسأل عما ابتُلي به، وقد قال اللَّه تعالى {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْءَانُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ}(743) . واحتج به الشافعي على كراهة السؤال عن الشيء قبل وقوعه. وفي حديث اللعان: فكره رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها.(744)
وفي "الصحيحين" عن المغيرة بن شعبة مرفوعا: كان ينهى عن قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال. وفي لفظ: "إن اللَّه كره لكم ذلك" متفق عليه.(745) وفيهما(746) عن سعد مرفوعا قال: "أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحُرِّم من أجل مسألته" ، وقال في "شرح مسلم"(747): قال الخطابي وغيره: هذا الحديث فيمن سأل تكلفا، أو تعنتا عما لا حاجة به إليه، فأما من سأل لضرورة، بأن وقعت له مسألة فسأل عنها فلا إثم عليه، ولا يحنث؛ لقوله تعالى:{فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ}(748) .
وقال البيهقي في كتاب "المدخل"(749): وقد كره بعض السلف للعوام المسألة قبل كونها إذا لم يكن فيها كتاب ولا سنة، وإنما سأل بالاجتهاد؛ لأنه إنما يباح للضرورة، ولا ضرورة قبل الواقعة، وقد يتغير اجتهاده عندها، واحتج بحديث: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"(750).
وقال طاوس عن عمر: لا يحل لكم أن تسألوا عما لم يكن.(751)
وقال ابن وهب: أخبرني الفتح بن بكر عن عبد الرحمن بن شريح أن عمر قال: وإياكم وهذه العضل؛ فإنها إذا نزلت بعث اللَّه لها من يقيمها، أو يفسرها. وروي عن أبي بن كعب نحو ذلك.(2/262)
وقال ابن مهدي عن حماد بن زيد عن الصلت بن راشد، قال: سألت طاوسا عن شيء فقال: أكان هذا؟ قلت: نعم، فحلَّفني، فحلفت له، فقال: إن أصحابنا حدثونا عن معاذ أنه قال:أيها الناس لا تعجلوا بالبلاء قبل نزوله، فيذهب بكم هاهناوهاهنا، وإنكم إن لم تعجلوا لم ينفك المسلمون أن يكون فيهم مَن إذا سئل سُدِّد، أو قال وُفِق.(752)
وروى أسامة بن زيد عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن النبي صلى الله عليه وسلم (753)؛ معنى هذا الكلام.
قال البيهقي(754): وبلغني عن أبي عبد اللَّه الحليمي أنه أباح ذلك للمتفقهة؛ ليرشدوا إلى طريق النظر والرأي. قال: وعلى ذلك وضع الفقهاء مسائل الاجتهاد، وأخبروا بآرائهم فيها. وقال في الحاشية: خالف تلك النصائح الحكيمة كثير من الفقهاء، فاخترعوا من الأسئلة ما يندر أن يقع، وما لا يقع، وما يستحيل أن يقع، وتكلفوا الجواب عنه، فكثر الفضول في كتبهم، واشتغل بها الكثيرون عن العلم النافع والعمل، وسموها مع ذلك دينًا، وما هي إلا آراء ما أنزل اللَّه بها من سلطان.
فلا يغترن أحد بكلمة البيهقي عفا اللَّه عنا وعنه، على أنه لا يعني كل ما أشرنا إليه. انتهى.
[482] وجوب العدل بين الأولاد
أنا رجل صاحب مال، ولي أولاد، وبعضهم يتهرب من خدمتي، ورعاية مصالح مالي، ومنهم واحد مخلص معي، وقائم بأعمالي الخاصة والعامة، فهل يجوز لي أن أعطيه شيئا يختص به، إما دفعة واحدة أو أخصص له راتبا شهريًّا زيادة على إخوانه، أم لا، وأنا قصدي العدل، وبراءة الذمة، مع مكافأة الولد المحسن على إحسانه؟
الإجابة:
اللَّه تعالى أوجب العدل على الآباء، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "اتقوا اللَّه، واعدلوا بين أولادكم.(755) كما يجب على الأبناء البر بأبيهم، وخدمته، والإحسان إليه كما أمر اللَّه. وهذه المسألة كثيرة الوقوع، وقد سئل شيخنا عبدالرحمن بن سعدي عن مثلها فأجاب(756) بما نصه:(2/263)
الابن المذكور له حالة عالية محمودة، وحالة لا حرج عليه فيها، ولا يلام عليها، أما الحالة العالية: فهو أنه يبقى على خدمة والده، والقيام بأشغاله، يرجو بذلك الأجر من اللَّه، والبر بوالده وإخوانه، ويحمد اللَّه تعالى أنه وُفق لهذه الحالة التي هو عليها، ومن كانت هذه نيته فهو غانم للأجر، وعاقبته حميدة. وأما الحالة الأخرى: فهو إذا لم يرغب إلا أن يكون لقيامه بأشغال والده له على ذلك مصلحة فالطريق في ذلك أن يعقد معه أبوه عقد إجارة كل شهر، أو كل سنة، بشيء معين، مثلما يأخذ غيره من الناس، فهذا يصير مثل الأجير مشاهرة، أو مدة يتفقان عليها. وأما تخصيص المبلغ المذكور زيادة على إخوته فهذا ما يصلح؛ لأنه لا يدري هل هو مقدار استحقاقه، أو أقل، أو أكثر، وأيضا وسيلة إلى محاباته، ووسيلة إلى أنه يُنْسَب إلى الحيف، والتخصيص لبعض أولاده دون بعض بخلاف عقد الإجارة، أو غيرها. واللَّه أعلم. وصلى اللَّه على محمد وعلى آله وسلم. اهـ. واللَّه أعلم.
[483] الحيوانات السائبة
ما قولكم في هذه الحيوانات السائبة التي يهملها أصحابها، ولا يحافظون عليها، كالحمير، وغيرها، ولا سيما ما يصاب منها بكسر ونحوه، بحيث لا يمكن الانتفاع به، فلا يؤجَّر، ولا يساوي قيمته لو يباع، ولا يعلم صاحبه فيلزم بنفقته، فهل يجوز قتلها رحمة بها وإراحة لها من الألم، وإراحة للمسلمين من ضررها. وإذا لم تجيزوا قتلها فكيف التخلص من ضررها؟
الإجابة:
إن قتل هذه الحيوانات المذكورة لا يحل شرعا؛ لما صرح به الفقهاء -رحمهم اللَّه-: قال في "الإقناع وشرحه" : ولا يجوز قتلها -أي البهيمة- ولا ذبحها للإراحة، كالآدمي المتألم بالأمراض الصعبة اهـ. وقال في "المنتهى وشرحه" : ويحرم ذبح حيوان غير مأكول لإراحته من مرض ونحوه.اهـ.(2/264)
إذا عرف هذا، فليعلم أن اللَّه تعالى امتن علينا بخلق هذه الحيوانات لمنافعنا، وجعلها أمانة لَدَينا، وأوجب علينا القيام بما يلزم لها من علف، وغيره. وصرح العلماء بأن صاحب البهيمة يلزمه إطعامها، ولو عطبت؛ لأنها ملكه، فكما أنه يملك منافعها فعليه القيام بنفقتها، حتى قالوا: لو ماتت فجيفتها له، وعليه نقلها؛ لدفع ضررها عن الناس، وإن امتنع صاحبها أجبر على النفقة عليها، فإن أبى، أو عجز ألزم ببيعها، أو إجارتها، وإن كانت مما يؤكل لحمه فله ذبحها؛ للانتفاع بلحمها، ولا يجوز قتلها لإراحتها من مرض، ونحوه.
فإن امتنع صاحبها مما ذكرنا فالحاكم يقوم مقامه، ويفعل ما يراه الأصلح، فإن لم يوجد ربها فهي داخلة في ضمن الأموال المجهولة أربابها، يتولاها الحاكم، ويعمل ما يراه الأصلح مما ذكر، فإن أنفق عليها فمن بيت المال، ويحتسب على صاحبها متى جاء، وإن باعها احتفظ بثمنها لصاحبها متى جاء، لكن بعد معرفة صفاتها، ووسمها، وعلاماتها، وتاريخها، ونحو ذلك، وإن لم يأت صاحبها فثمنها داخل في ضمن أموال بيت المال. وإن كانت مثل الحمير التي لا يمكن الانتفاع بها لكسر ونحوه، فينفق عليها من بيت المال، إن لم يكن هناك مرعى ترعى به، فكما أن بيت المال أحق بالأموال المجهولة أربابها فهو أيضا يقوم مقامهم في النفقة على ما تجب نفقته من الحيوانات. واللَّه أعلم.
[484] الاستمناء باليد
هل يجوز للشاب العزب مداعبة ذكره بيده بصابون أو غيره، والاستمناء بها عند ثوران الشهوة خشية الوقوع في الحرام؟
الإجابة:
الاستمناء باليد ونحوها ويسمى: "العادة السرية" ، وبعضهم يسميه: "جلد عميرة" ، وربما سمي: "الخضخضة" ، وهو أمر مستبشع، وعادة قبيحة مذمومة، ومضرة بمن يمارسها ضررا دينيا وخلقيا وجسميا واجتماعيا. وما زال الأطباء يحذرون منها، ويذكرون من مضارها، والمفاسد المترتبة عليها.(2/265)
وقد اتفق العلماء على تحريم هذا الصنيع من غير حاجة أو ضرورة تلجئ إليه واعتباره معصية وتعزير فاعله تعزيرا يتناسب مع جريمته، وإليك كلام العلماء في ذلك:
قال ابن كثير في "تفسيره" : وقد استدل الشافعي ومن وافقه بهذه الآية وهي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} (757) على تحريم الاستمناء باليد لأن هذا الصنيع خارج عن هذين القسمين؛ فيكون داخلا في الآية التي بعدها: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} (758) .
وقد استأنسوا بحديث رواه الحسن بن عرفة في جزئه المشهور حيث قال: حدثني علي بن ثابت الجزري، عن مسلمة بن جعفر، عن حسان ابن حميد، عن أنس ابن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سبعة لا ينظر اللَّه إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا يجمعهم مع العالمين، ويدخلهم النار أول الداخلين، إلا أن يتوبوا، ومن تاب تاب اللَّه عليه: الناكح يده، والفاعل والمفعول به، ومدمن الخمر، والضارب والديه حتى يستغيثا، والمؤذي جيرانه حتى يلعنوه، والناكح حليلة جاره" (759) .
هذا حديث غريب وإسناده فيه من لا يعرف لجهالته(760). اهـ.
وقال البغوي في تفسير هذه الآية(761): وفيه دليل على أن الاستمناء باليد حرام، وهو قول أكثر العلماء.
قال ابن جريج: سألت عطاء عنه فقال: مكروه، سمعت أن قوما يحشرون وأيديهم حبالى فأظن أنهم هؤلاء.
وعن سعيد بن جبير قال: عذب اللَّه أمة كانوا يعبثون بمذاكيرهم. اهـ.
وقال محمد بن عبدالحكم: سمعت حرملة بن عبدالعزيز قال: سألت مالكا عن الرجل يجلد عميرة فتلا هذه الآية: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ} حتى بلغ: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ}.(2/266)
فهذه نصوص علماء الشافعية والمالكية على تحريم الاستمناء باليد، مستدلين بهذه الآية الكريمة وغيرها؛ لأن من التمس لفرجه منكحا غير زوجه، أو ما أحل اللَّه له مما ملكت يمينه فقد تجاوز ما أحل اللَّه له إلى ما حرم عليه، وكان بذلك من العادين.
وأما فقهاء الحنابلة: فقد اختلف كلامهم في ذلك؛ قال ابن مفلح في "الفروع"(762): ومن استمنى بيده بلا حاجة عزر. وعنه: يكره ذلك. نقل عنه ابن منصور أنه قال: لا يعجبني ذلك بلا ضرورة.
قال مجاهد: كانوا يأمرون فتيانهم أن يستعفوا به.
وقال العلاء بن زياد: كانوا يفعلونه في مغازيهم.
وعن أحمد أنه يحرم مطلقا ولو خاف الزنا بتركه. ذكرها في "الفنون" ، وقال: إن حنبليا نصرها لأن الفرج مع إباحته بالعقد لم يبح بالضرورة، فهنا أولى، وقد جعل الشارع الصوم بدلا من النكاح، والاحتلام مزيل لشدة الشبق مفتر للشهوة.اهـ.
وبما ذكرنا يظهر تحريم استعمال هذه العادة المذمومة، وأنها معصية يعزر فاعلها، ما لم تبلغ به الحال إلى حد الضرورة، وكل إنسان له ظروف وملابسات تختص به قد لا يشاركه فيها غيره، ولا تنطبق على من سواه، فالفتوى لشخص لا تسري على خلافه، والحكم يدور مع علته وجودا وعدما، مع أن هذه الأمور التي هي مما يختص بالعورات لا ينبغي التحدث عنها علنا؛ لئلا يؤدي ذلك إلى انتشارها بين كثير ممن لا يعرفونها، مع أن حكمها واضح بحمد اللَّه، والأصل فيها المنع، والتغليظ، وأن فاعلها يحكم عليه بالتعزير؛ لما تقدم من الأدلة وكلام أهل العلم. واللَّه أعلم.
[485] التصوير
سائل يسأل عن تصوير الآدميين وغيرهم، وهل يفرق بين الصورة المجسمة والصورة الشمسية والفوتوغرافية، أو بين التصوير الكلي والبعضي؟
الإجابة:(2/267)
لا يخفى أن تصوير ذوات الأرواح من أعمال الجاهلية المذمومة، التي ورد الشرع بمخالفتها، وتواترت الأحاديث الصحيحة الصريحة بالنهي عنه، ولعن فاعله، وتوعده بالعذاب في جهنم، كما في حديث ابن عباس مرفوعا: "كل مصور في النار يَجعل (763) له بكل صورة صورها نفسا فتعذبه في جهنم" . رواه مسلم (764) .
وهذا يعم تصوير كل مخلوق من ذوات الأرواح من آدميين وغيرهم، ولا فرق أن تكون الصورة مجسدة، أو غير مجسدة، وسواء أخذت بالآلة، أو بالأصباغ والنقوش، أو غيرها لعموم الأحاديث، ومن زعم أن الصورة الشمسية لا تدخل في عموم النهي، وأن النهي مختص بالصورة المجسمة وبما له ظل فهذا تفريق بغير دليل؛ لأن الأحاديث عامة في هذا، ولم يفرق بين صورة وصورة. وقد صرح العلماء بأن النهي عام للصور الشمسية وغيرها كالإمام النووي، والحافظ ابن حجر، وغيرهما، وحديث عائشة (765)- في قصة القرام- صريح.
ووجه الدلالة منه أن الصورة التي تكون في القرام ليست مجسدة، وإنما هي نقوش في الثوب، ومع هذا فقد عدها الرسول صلى الله عليه وسلم من مضاهاة خلق اللَّه، لكن إذا كانت الصورة غير كاملة من أصلها، كتصوير الوجه والرأس والصدر ونحو ذلك، أو أزيل من الصورة ما لا تبقى معه الحياة، فمقتضى كلام بعض الفقهاء: إجازته لا سيما إذا دعت الحاجة إلى هذا النوع، وهو التصوير البعضي، وبعضهم يمنعه أخذا بالعموم، وعلى كل فإن على العبد تقوى اللَّه ما استطاع، واجتناب ما نهى اللَّه ورسوله صلى الله عليه وسلم عنه {ومن يتق اللَّه يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب} واللَّه أعلم.
[486] استئجار الأجير للتصوير
رجلٌ تَاجِرٌ اشترى آلة تصوير واستأجر أجيرا يصور للناس، فهل الإثم على التاجر أو على الأجير؟
الإجابة:(2/268)
الكل منهما آثم وداخل في عموم الأحاديث الواردة في لعن المصورين وما توعدهم اللَّه من العذاب(766). هذا بمباشرته للتصوير، وهذا بدفعه الأموال، وتمكين الأجير من التصوير، واستئجار المحل لهذا العمل المحرم.
ولا يخفى ما ورد من الأحاديث الواردة في النهي عن تصوير ذوات الأرواح من آدميين وغيرهم، ولعنة المصورين، وما ورد من أنهم أشد الناس عذابا يوم القيامة.(767)
قال العلماء: إن التصوير من كبائر الذنوب المتوعَّد عليها بالنار. ومما يؤيد اشتراكهما في الإثم ما ورد في الخمر وقول الرسول صلى الله عليه وسلم : "لعن اللَّه الخمر، وشاربها، وساقيها، ومبتاعها، وبائعها، وعاصرها، ومعتصرها،وحاملها، والمحمولة إليه" . رواه أبو داود (768) من حديث ابن عمر.
ومقابل ذلك ما ورد في أجر الجهاد والمجاهدين: "إن اللَّه يدخل بالسهم الواحد ثلاثةً الجنةَ: صانعه يحتسب في صنعته الخير، والرامي به، ومنبله" . وهو الذي يناول الرامي النبل.
رواه أبو داود (769)من حديث عقبة بن عامر وفي إسناده مقال. واللَّه الموفق.
[487] الإسراء والمعراج
سائل يسأل عن الإسراء والمعراج: هل هما شيء واحد أو أن الإسراء غير المعراج، وهل صحيح أنهما وقعا في شهر رجب، وهل أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم وعرج به يقظة أم مناما، وهل كان ذلك بالروح والجسد أم بالروح فقط، وما سياق الرواية الصحيحة في ذلك؟
الإجابة:(2/269)
الإسراء والمعراج من أكبر معجزات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، ومن أعظم النعم التي امتن اللَّه بها عليه، وشرفه بها، ويجب الإيمان بهما؛ لثبوتهما بالأحاديث الصحيحة الكثيرة التي بلغت حد التواتر، بل الإسراء ثبت بالنص القرآني قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَا الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءَايَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}(770) ولهذا عدهما علماء الأصول من مسائل الاعتقادات التي يجب الإيمان بها.
وقولك: هل الإسراء هو المعراج أو غيره؟ فاعلم يا أخي أن الإسراء غير المعراج، فكما هما مختلفان لفظا فهما مختلفان في المعنى؛ لأن الإسراء: من السُّرَى، وهو السير في الليل، والمعراج: من العروج، وهو الصعود إلى أعلى، قال تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ}(771)، وكذلك هما مختلفان في الحقيقة.
فالإسراء: انتقال النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس على البراق في صحبة جبريل -عليه السلام- والمعراج: صعوده معه إلى السموات.
وقولك: هل كان ذلك يقظة أو مناما؟ فالصحيح أن ذلك كان يقظة لا مناما، وأما رواية شريك عندما ساق حديث الإسراء قال: "ثم استيقظت" فقد غلّطه الحفاظ فيها، قال ابن القيم(772): وقد غَلِطَ شريكٌ في ألفاظ من حديث الإسراء، ومسلم أورد المسند منه ثم قال: فقدم وأخر وزاد ونقص -رحمه اللَّه -انتهى.
وأما قولك: هل كان ذلك بروحه وجسده أو بروحه فقط؟ فجوابه أن ذلك كان بروحه وجسده. هذا القول الصحيح الذي عليه المحققون؛ لأن بذلك تكون المعجزة، وعموم قوله تعالى: {أَسْرَى بِعَبْدِهِ} يدل على ذلك؛ لأن العبد عبارة عن مجموع الروح والجسد، وركوبه على البراق يدل على ذلك. وهناك أدلة أخرى ذكرها المحققون، منهم: الحافظ ابن كثير في "تفسيره" .(2/270)
وأما قولك: هل صحيح أنه وقع في رجب؟ فالجواب أن ليس هناك اتفاق على تعيين الشهر الذي وقع فيه، فقيل: إنه في رجب ليلة السابع والعشرين منه، وقيل غير ذلك، بل ولا تعيين السنة التي وقع فيها، فمن قائل: إنه قبل الهجرة بسنة، كما في رواية الزهري، ومن قائل: قبلها بسنة وشهرين، كما ذكره ابن عبدالبر وغيره، ومن قائل: بسنة وأربعة أشهر، كما في رواية السدي، ولم يختلفوا أنه كان قبل الهجرة.
وأما طلبك سياق خبر الإسراء والمعراج باختصار، فقد ذكر المفسرون والمحدثون والمؤرخون أنه صلى الله عليه وسلم أُسري به بروحه وجسده -في اليقظة على الصحيح- من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، راكبا على البراق في صحبة جبرائيل -عليه السلام- فنزل هناك، وصلى بالأنبياء إماما، وربط البراق بحلقة باب المسجد. وقد قيل: إنه نزل بيت لحم، وصلى فيه- ولا يصح عنه ذلك البتة- ثم عرج به من البيت المقدس تلك الليلة إلى السماء الدنيا، فاستفتح له جبرائيل ففتح لهما، فرأى هناك آدم أبا البشر، فسلم عليه، ورحب به فرد عليه السلامَ، وأقر بنبوته، ثم عرج به إلى السماء الثانية، فاستفتح له فرأى فيها يحيى بن زكريا، وعيسى بن مريم فسلم عليهما؛ فردا عليه السلام ورحبا به، وأقرا بنبوته، ثم عرج به إلى السماء الثالثة، فرأى فيها يوسف فسلم عليه، ورحب به، وأقر بنبوته، ثم عرج به إلى السماء الرابعة، فرأى فيها إدريس فسلم عليه، ورحب به، وأقر بنبوته، ثم عرج به إلى السماء الخامسة، فرأى فيها هارون بن عمران فسلم عليه، ورحب به، وأقر بنبوته، ثم عرج به إلى السماء السادسة، فلقي فيها موسى فسلم عليه، ورحب به، وأقر بنبوته، فلما جاوزه بكى موسى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخل من أمتي، ثم عرج به إلى السماء السابعة، فلقي فيها إبراهيم فسلم عليه، ورحب به، وأقر بنبوته، ثم رفع إلى سدرة المنتهى، ثم رفع له البيت المعمور، ثم عرج به إلى(2/271)
الجبار -جل جلاله، وتقدست أسماؤه- فدنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى، وفرض عليه خمسين صلاة، فرجع حتى مر على موسى، فقال: بم أمرت؟ قال: "بخمسين صلاة" ، فقال: إن أمتك لا تطيق ذلك، فارجع إلى ربك، فاسأله التخفيف لأمتك؛ فالتفت إلى جبرائيل كأنه يستشيره في ذلك، فأشار أن نعم إن شئت، فعلا به جبرائيل حتى أتى به إلى الجبار -تبارك وتعالى- وهو في مكانه، هذا لفظ البخاري في "صحيحه" (773) - في بعض الطرق فوضع عني عشرا -ثم نزل حتى مر بموسى فأخبره، فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف. فلم يزل يتردد بين موسى، وبين اللَّه -تبارك وتعالى-، حتى جعلها خمسا، فأمره موسى بالرجوع وسؤال التخفيف، فقال: "لقد سألت ربي حتى استحييت، ولكني أرضى وأسلم" ، فلما نفذ نادى منادٍ: لقد أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي. هذا ملخص مختصر لما ورد فيه من الأحاديث الصحيحة.
وقد ساق ابن كثير -رحمه اللَّه- في تفسيره" روايات متعددة في الإسراء والمعراج نذكر منها ما يلي باختصار:
قال -رحمه اللَّه تعالى-: وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن بن موسى: حدثنا حماد ابن سلمة: أخبرنا ثابت البناني، عن أنس بن مالك، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "أتيت بالبراق، وهو دابة أبيض، فوق الحمار ودون البغل، يضع حافره عند منتهى طرفه، فركبته، فسار بي حتى أتيت بيت المقدس، فربطت الدابة بالحلقة التي يربط فيها الأنبياء، ثم دخلت فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت، فأتاني جبريل بإناء من من خمر وإناء من لبن، فاخترت اللبن، فقال جبريل: أصبت الفطرة" .
قال: ثم عرج بي إلى السماء الدنيا، فاستفتح جبريل، فقيل له: من أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: قد أرسل إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بآدم، فرحب بي ودعا لي بخير.(2/272)
ثم عرج بنا إلى السماء الثانية، فاستفتح جبريل، فقيل له: من أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: قد أرسل إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بابني الخالة يحيى وعيسى فرحبا بي ودعوا لي بخير.
ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة، فاستفتح جبريل، فقيل له: من أنت؟ فقال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: قد أرسل إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بيوسف -عليه السلام- وإذا هو قد أعطي شطر الحسن، فرحب بي ودعا لي بخير.
ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل، فقيل: ومن معك؟ قال: محمد، فقيل: وقد أرسل إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بإدريس، فرحب بي ودعا لي بخير، يقول اللَّه تعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا}. (774)
ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، فقيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بهارون، فرحب ودعا لي بخير.
ثم عرج بنا إلى السماء السادسة، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، فقيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بموسى -عليه السلام- فرحب بي ودعا لي بخير.
ثم عرج بنا إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت؟ فقال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد فقيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه، ففتح لنا، فإذا أنا بإبراهيم -عليه السلام-، وإذا هو مستند إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم لا يعودون إليه.(2/273)
ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى، فإذا ورقها كآذان الفيلة، وإذا ثمرها كالقلال، فلما غشيها من أمر اللَّه ما غشيها تغيرت، فما أحد من خلق اللَّه تعالى يستطيع أن يصفها من حسنها، قال: فأوحى اللَّه ما أوحى، وفرض علي في كل يوم وليلة خمسين صلاة، فنزلت حتى انتهيت إلى موسى، قال: فما فرض ربك على أمتك؟ قلت: خمسين صلاة في كل يوم وليلة، قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فإن أمتك لا تطيق ذلك، وإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم، قال: فرجعت إلى ربي، فقلت: أي ربي، خفف عن أمتي، فحط عني خمسا، فرجعت إلى موسى، فقال: ما فعلت؟ فقلت: قد حط عني خمسا، فقال: إن أمتك لا تطيق ذلك، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، قال: فلم أزل أرجع بين ربي وبين موسى، ويحط عني خمسا خمسا حتى قال: "يا محمد، هي خمس صلوات في كل يوم وليلة، بكل صلاة عشر، فتلك خمسون صلاة. ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت عشرا، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب، فإن عملها كتبت سيئة واحدة فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته، فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فإن أمتك لا تطيق ذلك، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "ولقد رجعت إلى ربي حتى استحييت" .
ورواه مسلم (775)عن شيبان بن فروخ، عن حماد بن سلمة بهذا السياق، وهو أصح من سياق شريك.
قال البيهقي: وفي هذا السياق دليل على أن المعراج كان ليلة أسري به عليه الصلاة والسلام من مكة إلى بيت المقدس. وهذا الذي قاله هو الحق الذي لا شك فيه ولا مرية.
ولأحمد عن قتادة عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بالبراق ليلة أسري به مُسْرَجا ملجما ليركبه، فاستصعب عليه، فقال له جبريل: ما يحملك على هذا؟ واللَّه ما ركبك قط أكرم على اللَّه منه، قال: فارفضَّ عرقا.(776)(2/274)
ولأحمد عن أنس قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "لما عرج بي ربي -عز وجل- مررت بقوم لهم أظفار من نحاس، يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء ياجبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم"(777)
وفي رواية قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لجبريل: "ما لي لم آت أهل سماء إلا رحبوا بي، وضحكوا إلي غير رجل واحد، سلمت عليه فرد علي السلام ورحب بي، ولم يضحك إلي. قال: يا محمد، ذاك مالك خازن جهنم، لم يضحك منذ خلق، ولو ضحك إلى أحد لضحك إليك.
قال: ثم ركب منصرفا، فبينا هو في بعض طريقه مر بعير لقريش تحمل طعاما، منها جمل عليه غرارتان: غرارة سوداء، وغرارة بيضاء، فلما حاذى بالعير نفرت منه واستدارت، وصرع ذلك البعير وانكسر.
ثم إنه مضى فأصبح، فأخبر عما كان، فلما سمع المشركون قوله أتوا أبا بكر فقالوا: يا أبا بكر، هل لك في صاحبك؟ يخبر أنه أتى في ليلته هذه مسيرة شهر، ثم رجع في ليلته. فقال أبو بكر -رضي الله عنه-: إن كان قاله فقد صدق، وإنا لنصدقه فيما هو أبعد من هذا، نصدقه على خبر السماء.
فقال المشركون لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : ما علامة ما تقول؟ قال: "مررت بعير لقريش، وهي في مكان كذا وكذا، فنفرت العير منا واستدارت، وفيها بعير عليه غرارتان: غرارة سوداء، وغرارة بيضاء، فصرع فانكسر" .
فلما قدمت العير سألوها، فأخبروهم الخبر على مثل ما حدثهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، ومن ذلك سمي أبو بكر: الصديق.
وسألوه وقالوا: هل كان فيمن حضر معك موسى وعيسى؟ قال: نعم، قالوا: فصفهم قال: "نعم، أما موسى: فرجل آدم، كأنه من رجال أزد عمان، وأما عيسى: فرجل ربعة سبط، تعلوه حمرة، كأنما يتحادر من شعره الجمان"(778).
قال ابن كثير: هذا سياق فيه غرائب عجيبة. واللَّه أعلم.
[488] ترجمة زبيدة
بعثت كتبت إحدى الطالبات تطلب أن نكتب لها ترجمة زبيدة أم الأمين، وزوجة هارون الرشيد -رحمها اللَّه-.
الإجابة:(2/275)
ننقل لك أيتها الأخت ترجمة زبيدة من "تاريخ بغداد" للحافظ أحمد بن علي الخطيب البغدادي -رحمه اللَّه-.
قال: هي: أم جعفر، أَمَةُ العزيز بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور، المعروفة بزبيدة، زوجة هارون الرشيد، وأم ولده الأمين. كانت معروفة بالخير والأفضال على أهل العلم، والبر للفقراء والمساكين، ولها آثار كثيرة في طريق مكة، من مصانع حفرتها، وبرك أحدثتها، وكذلك بمكة والمدينة، وليس في بنات هاشم عباسية ولدت خليفة إلا هي. ويقال: إنها ولدت في حياة المنصور، فكان المنصور يرقصها وهي صغيرة، فيقول لها: أنت زبدة، وأنت زبيدة؛ فغلب ذلك على اسمها.
أخبرني عبد العزيز بن علي الوراق: حدثنا أحمد بن محمد بن عمران: حدثنا عبد اللَّه بن سليمان: حدثنا هارون بن سليمان، قال: حدثنا رجل من ثقيف، يقال له: محمد بن عبد اللَّه، قال: سمعت إسماعيل بن جعفر بن سليمان، يقول: حجت أم جعفر، فبلغت نفقتها في ستين يوما أربعة وخمسين ألف ألف.
أنبأنا الحسين بن محمد بن جعفر الخالع: أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد ابن السري الهمداني الوراق: أخبرنا جحظة: أخبرني أبو دهقانة، قال: سمعت الفضل ابن مروان، يقول: قالت زبيدة للمأمون عند دخوله بغداد: أهنئك بخلافة قد هنأت نفسي بها عنك قبل أن أراك، ولئن كنت قد فقدت ابنا خليفة لقد عوضت ابنا خليفة لم ألده، وما خسر من اعتاض مثلك، ولا ثكلت أم ملأت يدها منك، وأنا أسأل اللَّه أجرا على ما أَخذ، وإمتاعا بما عَوَّض.
أنبأنا إبراهيم بن مخلد: أخبرنا إسماعيل بن علي الخطبي، قال: ماتت أم جعفر بنت جعفر بن أبي جعفر، واسمها زبيدة ببغداد في جمادى الأولى سنة ست عشرة، يعني: ومائتين.(2/276)
حدثني الحسن بن محمد الخلال -لفظا- قال: وجدت بخط أبي الفتح القواس: حدثنا صدقة بن هبيرة الموصلي: حدثنا محمد بن عبد اللَّه الواسطي، قال: قال عبد اللَّه ابن المبارك الزمن: رأيت زبيدة في المنام فقلت: ما فعل اللَّه بك؟ قالت: غفر لي بأول معول ضرب في طريق مكة، قلت: فما هذه الصفرة في وجهك؟ قالت: دفن بين ظهرانينا رجل يقال له: بشر المريسي، زفرت جهنم عليه زفرة، فاقشعر لها جلدي، فهذه الصفرة من تلك الزفرة. انتهى.(779)
[489] صلب عيسى عليه السلام
هل مات عيسى عليه السلام على الصليب؟
الإجابة:
المسيح -عليه السلام- قد صانه اللَّه وحماه؛ فلم يقتل، ولم يصلب، وإنما قتل وصلب المشبه به؛ وذلك أنه عليه السلام لما قصد منه أعداؤه من اليهود مقصد السوء، وقاه اللَّه كيدهم، ورفعه عنهم إلى السماء، وألقى شبهه على رجل من الحواريين فأمسكوه وقتلوه، وصلبوه؛ بناء منهم على أنه المسيح عليه السلام، قال اللَّه تعالى في حق اليهود: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً * وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} .(780)(2/277)
فمن تأمل هذه الآيات عرف كذب اليهود بدعواهم قتله وصلبه، ولكنهم هموا بقتله، وعزموا عليه، وحاصروه ومن معه في البيت، فأنقذه اللَّه من كيدهم، ورفعه إليه، وألقى شبهه على واحد من أصحابه. وتأمل قوله تعالى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ} تجد ذلك صريحا.
وقد صرح المفسرون والمحدثون والمؤرخون بمعنى ما ذكرنا:
قال ابن كثير: قال الحسن البصري ومحمد بن إسحاق: كان يوجد في زمن عيسى ملك اسمه: داود بن نورا، فلما سمع بخبر عيسى أمر بقتله وصلبه، فحصروه في بيت المقدس، وذلك عشية الجمعة ليلة السبت، فلما حان وقت دخولهم، ألقي شبهه على بعض أصحابه الحاضرين عنده، ورفع عيسى من روزنة ذلك البيت إلى السماء، وأهل البيت ينظرون، ودخل الشرطة، فوجدوا ذلك الشاب الذي ألقي عليه شبهه، فأخذوه ظانين أنه عيسى فصلبوه، ووضعوا الشوك على رأسه إهانة له، وسَلَّم لليهود عامةُ النصارى الذين لم يشاهدوا ما كان من أمر عيسى أنه صلب، وضلوا بسبب ذلك ضلالا مبينا، وقال اللَّه تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (781)الآيات. ففي هذه الآيات أن اللَّه وعده بأنه سيتوفاه ويرفعه إليه ويطهره من الذين كفروا، وقد صدق اللَّه وعده، وهو لا يخلف الميعاد.
وهذه الوفاة هي: النوم كما قاله غير واحد من العلماء، وقيل: إنه نزل عليه النوم حينما رفع. والنوم يعبر عنه بالوفاة، قال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى}.(782)(2/278)
ومما يدل على أنه رفع إلى السماء وأنه ينزل في آخر الزمان إلى الأرض فيقاتل الدجال، ما قاله ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} (783)أي: بعد نزوله إلى الأرض في آخر الزمان قبل قيام الساعة، فإنه ينزل ويقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويضع الجزية، ولا يقبل إلا الإسلام، وتصير الملل في ذلك الوقت ملة واحدة، وهي ملة الإسلام الحنيفية -دين إبراهيم- فلا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا آمن به، وقيل: بل اليهود خاصة، وقال الحسن على هذه الآية: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} قال: قبل موت عيسى، واللَّهِ إنه لحيّ الآن عند اللَّه.
وأصح ما قيل في تفسير هذه الآيات ما قاله ابن جرير -رحمه اللَّه-: إنه لا يبقى أحد من أهل الكتاب بعد نزول عيسى -عليه السلام- إلا آمن به قبل موته -عليه السلام- فيكون الضمير عائدا إلى عيسى. ثم ساق الأحاديث الواردة في هذا، ومنها: ما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، حتى تكون السجدة خيرا من الدنيا وما فيها".(784)
وليس فيما ذكر من كذب اليهود بقتل عيسى -عليه السلام- ما يدل على براءتهم من إثم قتله، وارتكاب جريمة اغتياله -عليه السلام- فإنهم وإن لم يقتلوه بالفعل إلا أنهم صمموا على قتله، وبذلوا كل ما يستطيعون، وعملوا مع من ألقي عليه شبهه، من قتله وصلبه وصفعه وإلقاء الشوك عليه، وغير ذلك من الأشياء التي عملوها ظانين أنه عيسى-عليه السلام- ثم صاروا يفتخرون بقتله، فقد باءوا بإثم قتله بلا شك.(2/279)
ومما يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار" قيل: يا رسول اللَّه، هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: "إنه كان حريصا على قتل صاحبه".(785)
فكيف يستسيغ أحد أن يبرئ اليهود من إثم قتل المسيح -عليه السلام- مع هذا الحديث الصريح وغيره من الأدلة، وهم لم يقتلوا الذي ألقي عليه شبهه إلا على أنه هو. وكل من عرف اليهود عرف أنهم أعداء اللَّه، وأعداء لرسله، وأعداء للمسلمين، بل أعداء للنصارى. واللَّه المستعان.
[490] استبكار المرأة بأنثى
سمعنا حديث: إن المرأة إذا تبكرت بأنثى- يعني: صار أول أولادها أنثى - فهي مبروكة على زوجها.فهل الحديث صحيح، ومن رواه؟
الإجابة:
نعم، ورد الحديث بمعنى هذا عن واثلة بن الأسقع، عن النبي صلى الله عليه وسلم : "من بركة المرأة ابتكارها بالأنثى" ؛ لأن اللَّه تعالى يقول: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} (786) رواه ابن مردويه وابن عساكر، ذكره الإمام صديق حسن خان في "تفسيره" .
وقال المناوي في "فيض القدير" شرحا لحديث: "من بركة المرأة تبكيرها بالأنثى" أي: من بركة المرأة على زوجها، كما جاء مصرحا به في رواية "تبكيرها بالأنثى" تمامه عند الخطيب (787) والديلمي ألم تسمع قوله تعالى:{يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ} (788) فبدأ بالإناث. رواه ابن عساكر والديلمي كلهم عن واثلة بن الأسقع، ورواه الديلمي عن عائشة مرفوعا بلفظ: "من بركة المرأة على زوجها تيسير مهرها وأن تبكر بالإناث" . قال السخاوي: وهما ضعيفان. اهـ. بل أورده ابن الجوزي في "الموضوعات" فقال: موضوع(789). واللَّه أعلم.(2/280)
[491] وضع لافتة الحرمين على المعارض التجارية
سائل يسأل عن جواز وضع لافتة على بعض المحلات التجارية تحمل اسم الحرمين الشريفين، مثل: فندق الحرمين، وهل في ذلك محذور شرعي؟
الإجابة:
لا أعلم بذلك بأسًا.
[492] عدد زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم وأولاده
كم عدد زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكم عدد أبنائه وبناته؟
الإجابة:
أما زوجاته صلى الله عليه وسلم فهن إحدى عشرة، مات منهن في حياته اثنتان، وتوفي هو عن تسع، وأسماؤهن كالآتي:
1- خديجة بنت خويلد القرشية الأسدية، تزوجها قبل النبوة وعمرها أربعون سنة، ولم يتزوج عليها حتى ماتت. وهي أم أولاده ما عدا إبراهيم. وهي التي آزرته على النبوة، وجاهدت معه وواسته بنفسها ومالها. وقد ماتت قبل الهجرة بثلاث سنين، وحزن عليها الرسول صلى الله عليه وسلم حزنا شديدا.
2- سودة بنت زمعة القرشية، تزوجها بعد موت خديجة بأيام، وهذه هي التي وهبت يومها لعائشة، ماتت سودة في آخر زمان عمر.
3- عائشة بنت أبي بكر الصديق -رضي اللَّه عنهما- وتكنى أم عبداللَّه مع أنه ليس لها أولاد. وقد تزوج بها في شوال وعمرها ست سنوات، وبنى بها في شوال في السنة الأولى من الهجرة وعمرها تسع سنوات، ولم يتزوج بكرا غيرها. وكانت أحب الخلق إليه، وهي التي رماها أهل الإفك بالزنا فأنزل اللَّه براءتها من فوق سبع سموات، واتفقت الأمة على كفر قاذفها. وهي أفقه نسائه وأعلمهن، وكان الصحابة يرجعون إلى قولها ويستفتونها. ماتت سنة سبع وخمسين في رمضان، وقيل: سنة ثمان وخمسين.
4- حفصة بنت عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنهما-، كانت قبله تحت خنيس بن حذافة السهمي. ماتت سنة إحدى وأربعين.
5- زينب بنت خزيمة بن الحارث القيسية من بني هلال بن عامر، وقد توفيت بعد زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بها بشهرين.
6- أم سلمة، هند بنت أبي أمية القرشية المخزومية، وهي آخرهن وفاة. ماتت سنة إحدى وستين.(2/281)
7- زينب بنت جحش من أسد بني خزيمة، وهي ابنة عمته أميمة، وفيها نزل قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا}.(790) وبذلك كانت تفتخر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات(791). كانت أولاً عند زيد بن حارثة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم تبناه، فلما طلقها زيد، زوجه الله إياها، توفيت سنة إحدى وعشرين.
8- جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار المصطلقية، وكانت من سبايا بني المصطلق، فجاءته تستعينه على كتابتها؛ فأدى عنها كتابتها وتزوجها، توفيت سنة ست وخمسين.
9- أم حبيبة، واسمها رملة بنت أبي سفيان صخر بن حرب القرشية الأموية، وقيل: اسمها هند، تزوجها وهي ببلاد الحبشة مهاجرة، فأصدقها عنه النجاشي أربعمائة دينار، وسيقت إليه من هناك، وماتت في أيام خلافة أخيها معاوية بن أبي سفيان سنة أربع وأربعين.
10- صفية بنت حيي بن أخطب سيد بني النضير من ولد هارون بن عمران أخي موسى بن عمران، وكانت قد صارت له من السبي أمة، فأعتقها وتزوجها، وجعل عتقها صداقها.
11- ميمونة بنت الحارث الهلالية، وهي آخر من تزوج بها بمكة في عمرة القضاء. فهؤلاء زوجاته -رضي اللَّه عنهن-.
وأما أبناؤه فهم:
1- القاسم، وبه كان يكنى. مات طفلا، وقيل: إنه عاش إلى أن ركب الدابة.
2- عبداللَّه، واختلف في مولده هل ولد بعد النبوة أو قبلها، وقيل: إنه الطيب والطاهر.
3- إبراهيم، ولد بالمدينة من سريته مارية القبطية، سنة ثمان من الهجرة، ومات طفلا قبل الفطام.
أما بناته فهن:
1- زينب .
2- رقية .
3- أم كلثوم .
4- فاطمة .
وكلهن من خديجة. وكل أولاده توفي قبله إلا فاطمة، فإنها تأخرت بعده بستة أشهر. واللَّه أعلم.
[493] تعليم البنات
سائل يسأل عن تعليم البنت، وهل له حد، وما العمر الذي تكف فيه عن الدراسة؟
الإجابة:(2/282)
ليس للدراسة حد في ابتدائها، ولا في انتهائها، فما دامت الفتاة تستفيد من دراستها علما نافعا، ولا يترتب عليها أي مفسدة -فلا مانع من مواصلتها الدراسة. وإذا كانت الدراسة لا تزيدها إلا نقصا في دينها، وانحلالا في أخلاقها، وتبرجا وتهتكا- تعين حينئذ منعها منها. واللَّه أعلم.
[494] تدريس الرجل الأعمى للبنات
سائل يسأل عن حكم تدريس الرجل الأعمى للبنات؟
الإجابة:
إذا وجدت امرأة متعلمة تدرسهن، وكانت معلوماتها تساوي معلومات الرجل الأعمى، فهي أفضل. وإن كان الرجل أقوى منها معلومات، فلا مانع، بشرط كونه معروفا بالعفة والديانة، ومع التحفظ التام من ممازحتهن، ومخالطتهن في غير الفصل، وألا يتكلم معهن فيما لا يختص بالدرس، ولا يحصل منه مس لواحدة منهن، ولا خلوة بها، ولا يتلذذ بأصواتهن. واللَّه المستعان.
[495] من ادعى الولاية
رجل ادعى الولاية، وكتب شجرة في أولها الكلمة الطيبة على هذا الترتيب: لا إله إلا الله، شيخ عبدالقادر، شيئا لله . وله أتباع يسجدون له، ويزعمون أنه قادر على أن يفعل ما يشاء فما حكمه؟ وما حكم الذين يتبعونه؟ وإن مات هل يصلى عليه أم لا؟
الإجابة:
الحمد لله. قد بين اللَّه -سبحانه وتعالى- في كتابه، وبين رسوله صلى الله عليه وسلم ، أن لله أولياء من الناس، وللشيطان أولياء مع الناس، وفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، فقال تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(792) .(2/283)
وقال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(793)، وقال تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ * يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}(794)، وقال تعالى: {هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا}(795). فهذه الآيات الكريمات في حق أولياء الرحمن.(2/284)
وأما أولياء الشيطان فقد ذكرهم اللَّه في عدة آيات من كتابه فقال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ* إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} (796) ، وقال تعالى: {الَّذِينَ ءَامَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} (797) ، وقال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لِآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} (798) ، وقال تعالى: {وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا}(799) ، وقال تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (800) ، وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ* وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا ءَابَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُواْ الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ اللَّهِ(2/285)
وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} (801) ، وقال تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}(802). وقال الخليل عليه السلام: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} (803) . وقال تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ} الآيات إلى قوله: {إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (804) .
وإذا عرف أن الناس فيهم أولياء للرحمن وأولياء للشيطان، فيجب أن يفرق بين هؤلاء وهؤلاء كما فرق اللَّه ورسوله بينهما، فأولياء اللَّه هم المؤمنون المتقون كما قال تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} (805) ، فكل من ادعى الولاية فلا بد من سبر أحواله، ومعرفة ما هو عليه، فإن كان متصفا بما وصف اللَّه به أولياءه المؤمنين، مجانبا لحزب الشيطان وأوليائه الضالين المضلين، وكان مقيما لشعائر الدين، من تحقيق التوحيد، وإقامة الصلاة في الجمع والجماعات، وكان من الدعاة إلى اللَّه، واتصف بما عليه سلف الأمة وأئمتها هديا وسمتا وخلقا وحالا ومقاما، وصلحت نيته بذلك- فهذا يُرجى أن يكون من أولياء اللَّه المتقين الذين قال اللَّه فيهم: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُوا يَتَّقُونَ} فكل من كان مؤمنا تقيا كان لله وليا، ومن ادعى الولاية بدون ذلك فهو مدع:
وَالدَّعَاوى مَا لَمْ يُقِيمُوا عَلَيْهَا……بَيِّنَاتٍ أَبْنَاؤهَا أَدْعِيَاءُ(2/286)
وأما كتابته تحت كلمة الإخلاص (شيخ عبد القادر، شيئا لله) فهذا يحتاج إلى فهم معنى ما كتبه، فإن كان يسأل من الشيخ عبدالقادر شيئا، فهذا من دعاء غير اللَّه. وطلب الحوائج من غير اللَّه -فيما لا يقدر عليه إلا اللَّه- شرك أكبر بلا شك، فإذا اتضح له وَبُيِّنَ له كلامُ العلماء فأصر وعاند، فهو مشرك كافر، كما قال تعالى: {وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءَاخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} 806 ،
وأما كون الناس يسجدون له، ويزعمون أنه قادر على ما يشاء فهؤلاء مُتَبَّرٌ ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون؛ لأن السجود لغير اللَّه -كائنا من كان- شرك أكبر، وكذلك اعتقاد أن أحدا من الناس قادر على خصيصة من خصائص اللَّه -جل جلاله- فهو الفعال لما يريد، فإن كان هذا الشخص يأمرهم بذلك، أو يرضى بسجودهم له، فهو مصادم لمقام الألوهية، وكافر برب العالمين، ويتعين الإنكار عليه وعليهم، وتبيين بطلان ما انتهجوه بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة وكلام علماء المسلمين المحققين. واللَّه نسأل أن يهدي ضال المسلمين، وأن ينصر دينه، ويعلي كلمته، ويعز أولياءه، ويخذل أعداءه. إنه على كل شيء قدير.
وصلى اللَّه على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[496] مقدار وزن الدينار
سائل يسأل عن مقدار وزن الدينار الواجب في بعض الكفارات؟
الإجابة:
الدينار هو السِّكَّة من الذهب، ووزنه: مثقال ذهب، وهو بمقدار أربعة أسباع الجنيه السعودي وما وَازَنَه؛ لأن الجنيه المذكور ديناران إلا ربعًا. واللَّه أعلم.
[497] أنواع الشهداء
سائل يسأل: إذا توفي شخص بحادث سيارة، أو غَرَقٍ، أو حريق، أو هدم منزل عليه، هل يعتبر شهيدا أم لا؟
الإجابة:(2/287)
الشهيد الذي ورد فيه النص من يقتل في سبيل اللَّه، فهذا الذي تثبت له أحكام الشهيد الدنيوية والأخروية إذا صلحت نيته. فمن أحكام الشهيد الدنيوية: أنه يدفن في ثيابه ودمه، ولا يغسل، ولا يصلى عليه.
وقال أصحابنا: إن المطعون والمبطون، والغريق، والحريق، وصاحب الهدم، وذات الجَنْب، والسُّل، واللَّقْوَة وهي داء يصيب الوجه، والصابر على الطاعون، والمتردي من شاهق، أو من دابة، والميت في سبيل اللَّه، والمرابط، وطالب الشهادة بصدق نية، والنفساء، واللَّدِيغ، وفريس السبع، وطالب العلم -معلما كان أو متعلما- وموت الغريب، كل هؤلاء لهم حكم الشهيد في الآخرة، وأما في الدنيا فيتعين تغسيلهم، وتكفينهم، والصلاة عليهم. وورد في بعض مَنْ ذُكر آثار تدل على ما ذكر. واللَّه أعلم.
[498] الاحتفال بالمولد
ما قول السادة العلماء -رفع اللَّه بهم منار الإسلام، وأبان بهم مسائل الحلال والحرام- في الاحتفال بالمولد النبوي، وإقامة الحفلات له في كل سنة في شهر ربيع الأول، في الذين يصنعون فيه أنواع الطعام والحلويات، ويأتون بمن يقرأ لهم أناشيد وأذكارا، ويجتمعون لذلك رجالًا ونساء، ويمكثون ثلاثة أيام. وبعضهم يستعمل الأغاني والرقص وآلات الطرب، ويأتون بشبان مُرْدٍ يغنون ويرقصون ويتعانقون، وربما اختلط هنالك الرجال بالنساء، وإن لم يختلطوا فهم يتطلعون إليهن ويستمعون لأصواتهن وتصفيقهن، وغير ذلك. وهم يرون هذا من الدين، ومن تعظيم سيد المرسلين، ويزعمون أن من لم يفعل هذا فهو مقصر بحقوقه صلى الله عليه وسلم فما حكم فعلهم هذا واعتقادهم؟ أفتونا مأجورين.
الإجابة:(2/288)
الاحتفال بالمولد ليس بمشروع، ولم يفعله السلف الصالح -رضوان اللَّه عليهم- مع قيام المقتضي له، وعدم المانع منه. ولو كان خيرا لسبقونا إليه، فهم أحق بالخير، وأشد محبة للرسول صلى الله عليه وسلم ، وأبلغ تعظيما، وهم الذين هاجروا معه، وتركوا أوطانهم، وأهليهم، وجاهدوا معه حتى قتلوا دونه، وفدوه بأنفسهم وأموالهم -رضي اللَّه عنهم وأرضاهم-.
فلما كان الاحتفال بالمولد غير معروف لدى السلف الصالح، ولم يفعلوه وهم القرون المفضَّلة دَلَّ على أنه بدعة محدثة. وقد روى مسلم في "صحيحه" (807) من حديث جابر -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب اللَّه، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة" .
وروى أصحاب السنن (808) عن العِرباض بن سارية، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال: "فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنَّوَاجِذ، وإياكم ومحدثاتِ الأمور، فإن كل بدعة ضلالة" .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: لا يحل لأحد أن يقابل هذه الكلمة الجامعة من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الكلية وهي قوله:كل بدعة ضلالة" بسلب عمومها، وأن يقال: ليست كل بدعة ضلالة، فإن هذا إلى مُشَاقَّة الرسول أقرب منه إلى التأويل. وقال: إن قَصْدَ التعميم المحيط ظاهر من نص الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة الجامعة،فلا يعدل عن مقصوده.
وعن عائشة -رضي اللَّه عنها - أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدُّ" . متفق عليه (809) .(2/289)
وفي رواية لمسلم (810) : "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" . فَعُرِفَ بذلك أن هذا العمل لما كان مخالفا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو مردود على صاحبه؛لأنه محدث لم يكن عليه عمل الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين،وأصحابه السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان - رضي اللَّه عنهم-.
إذا عُرف هذا، فالاحتفال بالمولد بدعة، محدث، مردود على فاعله. وهو يختلف بحسب ما يعمل فيه من البدع المحرمات، فإن خلا من المحرمات عموما، واقتصر فيه على عمل الدعوة، من طعام، وشراب، وطيب، ولم يحضره مردان، ولا اختلط الرجال بالنسوان، واعتقد فاعله أن هذا من الدين الذي يتقرب به إلى اللَّه تعالى- فهو بدعة، محدث، مردود على فاعله.
وإن انضم إلى ذلك ما نراه يقع ممن يقيمون مثل هذه الاحتفالات، فإن الحرمة تكون أشد، والنكاية عليهم تكون أعظم وأَمَرّ. فإنك ترى استعمال الأغاني، وآلات الطرب، وقلة احترام كتاب اللَّه تعالى، الذي يجمعون -في هذه الاحتفالات- بينه وبين الأغاني، فهم يبتدئون وقصدهم الأغاني؛ ولذلك ترى بعض السامعين إذا أطال القارئُ القراءة يَمَلُّ ويقلق؛ لكونه طَوَّلَ عليه.(2/290)
وكذلك ترى الافتتان بالمردان، فإن الذي يغني في الاحتفالات ربما يكون شابا جميل الصورة، حسن الهيئة، فتجدهم يتثنون، ويتكسرون في مِشيتهم وحركاتهم، ويرقصون، ويتعانقون، فتأخذهم أحوال النفوس الرديئة، ويتمكن منهم الشيطان، وَتَقْوَى فيهم النفسُ الأمارة بالسوء والعياذ باللَّه من ذلك. وكذلك ما نراه من حضور النساء، وافتتان الرجال بهن، وتطلعهم إليهن، وسماع أصواتهن، وتصفيقهن، وغير ذلك مما يكون سببا لوقوع مفاسد عظيمة. وغير ذلك من الفتن. والمفاسد التي تقع كثيرة لا تخفى على من عرف أحوالهم. وهذه البدعة أول من أحدثها أبو سعيد كوكبوري ابن أبي الحسن على بن بكتكين في القرن السادس الهجري، ولم يزل العلماء المحققون ينهون عنها، وينكرون ما يقع فيها من البدع والمحرمات منذ حدثت حتى الآن. وإليك بعض ما قالوا:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فأما الاجتماع في عمل المولد على غناء ورقص ونحو ذلك، واتخاذه عبادة، فلا يرتاب أحد من أهل العلم والإيمان في أن هذا من المنكرات التي ينهى عنها، ولا يَستحب ذلك إلا جاهل، أو زنديق.
وقال العلامة تاج الدين علي بن عمر اللخمي الكندري المشهور بالفاكهاني في رسالته في المولد المسماة "بالمورد في الكلام على المولد" قال في النوع الخالي من المحرمات: لا أعلم لهذا أصلا في كتاب ولا سنة، ولم يُنقل عمله عن أحد من علماء الأمة، الذين هم القدوة في الدين، المتمسكون بآثار المتقدمين، بل هو بدعة أحدثها البطالون، وشهوة اعتنى بها الأكالون بدليل أنا إذا أدرنا عليها الأحكام الخمسة: إما أن يكون واجبا، أو مندوبا، أو مباحا، أومكروها، أو محرما. فليس بواجب -إجماعا- ولا مندوبا؛ لأن حقيقة المندوب: ما طلبه الشرع من غير ذم على تركه، وهذا لم يأذن فيه الشرع، ولا فعله الصحابة، ولا التابعون، ولا العلماء المتدينون فيما علمت. وهذا جوابي عنه بين يدي اللَّه إن عنه سئلت.(2/291)
ولا جائز أن يكون مباحا؛ لأن الابتداع في الدين ليس مباحا بإجماع المسلمين؛ فلم يبق إلا أن يكون مكروها، أو محرما.
ثم صور الفاكهاني نوع المولد الذي تكلم فيه بما ذكرناه، بأن يعمل رجل من عين ماله لأهله وأصحابه وعياله ولا يجاوزون في ذلك الاجتماع على أكل الطعام، ولا يقترفون شيئا من الآثام. قال: فهذا الذي وصفناه بأنه بدعة مكروهة وشناعة؛ إِذْ لم يفعله أحد من متقدمي أهل الطاعة الذين هم فقهاء الإسلام وعلماء الأنام... إلى أن قال الفاكهاني في النوع الثاني من المولد: وهو أن تدخله الجناية، وتقوى به العناية، لا سيما إن انضاف إلى ذلك شيء من الغناء -مع البطون الملأى- بآلات الباطل، من الدفوف، والشبابات، واجتماع الرجال مع الشباب المرد، والنساء الفاتنات، إما مختلطات أو مشرفات، ويرقصن بالتثني والانعطاف، والاستغراق في اللَّهو، وهذا الذي لا يختلف في تحريمه اثنان، ولا يستحسنه ذوو المروءة من الفتيان، وإنما يحلو لنفوس موتى القلوب، وغير المستقلين من الآثام والذنوب. وأزيدك أنهم يرونه من العبادات، لا من الأمور المنكرات، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وأما قول السائل: ويرون أن من لم يفعل هذا فهو مقصر بحقوق النبي صلى الله عليه وسلم ومتنقص له، فجوابه: وأي تعظيم للنبي -عليه السلام- بهذه الاحتفالات التي وصفها العلماء بما تَمُجُّه الأسماع، وينفر منه سليم الطباع. أليس المرجع في تعظيمه وتوقيره إلى ما يفعله به أصحابه، وأهل بيته، وما فعله التابعون، وتابعوهم بإحسان.(2/292)
وأيضا فأكثر ما يُقصد من تلك الاحتفالات التي تقام للرؤساء ونحوهم، إنما هو الذكرى، وبقاء أسمائهم، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أعطي من ذلك ما لم يعطه أحد غيره؛ فقد رفع اللَّه له ذكره، فِذِكْرُه مقرون بذكر ربه، كما في الأذان، والإقامة، وخطبتي الجمعة، والعيدين، وفي تشهد الصلاة، وغير ذلك. فهو صلى الله عليه وسلم أَجَلُّ من أن تكون ذكراه سنوية فقط، قال تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ}(811).
وقال السيد محمد رشيد رضا في كتابه "ذكرى المولد النبوي" : إن من طباع البشر أن يبالغوا في مظاهر تعظيم أئمة الدين أو الدنيا في طور ضعفهم في أمر الدين والدنيا؛ لأن هذا التعظيم لا مشقة فيه على النفس، فيجعلونه بدلا مما يجب عليهم من الأعمال الشاقة التي يقوم بها أمر المعظَّم، ويعتز بها دينه. وقد كان السلف الصالح أشد ممن بعدهم تعظيما للنبي صلى الله عليه وسلم وناهيك ببذل أموالهم، وأنفسهم في هذا السبيل، ولكنهم دون أهل هذه القرون التي ضاع فيها الدين في مظاهر التعظيم اللساني، ولا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم أحق الخلق بكل تعظيم.
وليس من تعظيمه أن نبتدع في دينه شيئا نعظمه به، وإن كان بحسن نية، فقد كان جُلُّ ما أحدث أهل الملل قبلنا من التغيير في دينهم عن حسن نية، وما زالوا يبتدعون بقصد التعظيم وحسن النية، حتى صارت أديانهم غير ما جاءت به رسلهم، ولو تساهل سلفنا الصالح كما تساهلوا، وكما تساهل الخلف الذين اتبعوا سننهم شبرا بشبر وذراعا بذراع، لضاع أصل ديننا أيضا، ولكن السلف الصالح حفظوا لنا الأصل، فعلينا أن نرجع إليه وَنَعَضََّ عليه بالنواجذ. واللَّه الموفق الهادي.
[499] قصة واقعية تدل على عذاب القبر(2/293)
سائل يسأل بقوله: سمعنا بقصة الرجل الذي تناقل الناس كلامه منذ أيام، حيث ذهب للمقبرة، وحضر جنازة امرأة، فلما وضعوها في اللحد، ووضعوا عليها اللبن، وأهالوا عليها بعض التراب، تذكر أبوها أن مفاتيحه سقطت داخل اللحد؛ فرفعوا التراب وأزالوا أول لبنة مما يلي رأسها، فما كان إلا أن سمعوا صوت ضربة من داخل اللحد، وفوجئ الذي أزال اللبنة بنار تلتهب في اللحد، وقد أثرت في رأسها، وشم رائحة احتراق الشعر، وشاهد جوانب القبر سوداء من لهب النار؛ فانزعج لذلك حتى فقد وعيه، وأخرجوه من القبر، وردوا اللبن والتراب كما كان، وأنهوا دفنها، وذكروا من أسباب ذلك أنها كانت تُفَرِّطُ في الصلاة- أو قالوا تؤخر الصلاة- فما صحة هذا الخبر، وهل ورد مثل هذا فيما سبق، أو ذكر أهل العلم شيئًا من ذلك؟ نرجوا أن توضحوا لنا ما بلغكم من ذلك.
الإجابة:
أما القصة التي ذكرتم، فلا تُستبعد، وقد سمعنا هذا من أفواه الناس، والرجل الذي تروى عنه معروف بالصدق فيما بلغنا. وهذا مما يدل على عذاب القبر الذي شرع لنا الاستعاذة منه، لا سيما في التشهد الأخير من كل صلاةٍ -فريضة أو نافلة- وبعض أهل العلم أوجب ذلك وحمل الأمر على الوجوب، وأوجب إعادة الصلاة على من لم يتعوذ باللَّه من عذاب القبر، والجمهور على أنه مستحب ومتأكد جدًّا، لكنه لا يبلغ حد الوجوب.
والإيمان بعذاب القبر ونعيمه من عقيدة أهل السنة والجماعة، خلافًا للمعتزلة. وقد تواترت الأخبار عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في ثبوت عذاب القبر، ونعيمه لمن كان أهلاً لذلك، وسؤال الملكين للميت إذا وضع في قبره، فإن أجاب سَلِمَ من عذاب القبر ونَعِم في قبره، وإلا عُذِّبَ بأنواع العذاب.
فيجب اعتقاد ذلك، والإيمان به، ولا يتكلم في كيفية ذلك، ولا يسأل عنه؛ لأنه لا مجال للعقول في إدراك كيفيته، وربما أطلع اللَّه بعض خلقه على شيء من ذلك؛ للعبرة والاتعاظ.(2/294)
قال الحافظ ابن رجب في كتابه "أهوال القبور" بعد أن ذكر أحاديث عذاب القبر ونعيمه: وقد أطلع اللَّه تعالى من شاء من خلقه وعباده على كثير مما ورد في هذه الأحاديث حتى سمعوه وشاهدوه عيانًا. وممن ذكر ذلك ابن أبي الدنيا في كتاب "القبور" ، والإمام ابن القيم في "كتاب الروح" ، والشيخ محمد السفاريني في "البحور الزاخرة" ، وغيرهم.
وإليك بعض ما ورد في ذلك:
عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: كنا في جنازة فأتانا النبي صلى الله عليه وسلم وقعدنا حوله، كأن على رءوسنا الطير، وهو يلحد له. فقال: "أعوذ باللَّه من عذاب القبر" . ثلاث مرات ثم قال: "إن العبد المؤمن إذا كان في إقبال من الآخرة، وانقطاع من الدنيا، نزلت إليه الملائكة، كأن على وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحَنوط من حَنوط الجنة، فجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من اللَّه ورضوان، قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من فِي السِّقاء، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها، فيجعلوها في ذلك الكفن، وذلك الحنوط، وتخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، قال: فيصعدون بها، فلا يمرون بها -يعني: على ملأ من الملائكة- إلا قالوا: ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولون: فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء، فيستفتحون له؛ فيفتح له، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها، حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها اللَّه، فيقول اللَّه عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عِلِّيين، وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، قال: فتعاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان فيجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي اللَّه، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: رسول(2/295)
اللَّه، فيقولان له: ما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب اللَّه؛ فآمنت به وصدقت. فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي؛ فأفرشوه من الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنة، قال: فيأتيه من رَوحها وطيبها، ويُفسح له في قبره مد بصره، قال: ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد. فيقول له: من أنت؟ فوجهك الذي يجيء بالخير. فيقول: أنا عملك الصالح. فيقول: يارب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي. قال: وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم المُسُوح، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط من اللَّه وغضب. قال: فتتفرق في جسده، فينتزعها كما يُنتزع السَّفُّود من الصوف المبلول، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المُسوح، ويخرج منها كأنتنِ ريحٍ خبيثةٍ وَجِدَتْ على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا، فيستفتح له؛ فلا يفتح له، ثم قرأ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} (812) فيقول اللَّه عز وجل: اكتبوا كتابه في سِجين في الأرض السفلى، فتطرح روحه طرحًا، ثم قرأ: {وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} (813) قال: فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري. فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري. فينادي مناد من(2/296)
السماء: أن كذب؛ فأفرشوه من النار، وافتحوا له بابًا إلى النار؛ فيأتيه من حرها، وسمومهًا، ويُضَيَّقُ عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوءُك، هذا يومك الذي كنت توعد. فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر. فيقول: أنا عملك الخبيث.فيقول: رب لا تقم الساعة" (814) . رواه الإمام أحمد وأبو داود، وروى النسائي وابن ماجه أوله، ورواه الحاكم، وأبوعوانة الإسفرائيني وابن حبان في "صحيحيهما" .وذهب إلى موجب هذا الحديث جميع أهل السنة والحديث، وله شواهد من الصحيح.
وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب "القبور" من طريق يزيد بن طريف، قال: مات أخي فلما أُلحد، وانصرف الناس، وضعتُ رأسي على قبره؛ فسمعت صوتًا ضعيفًا من داخل القبر أعرف أنه صوت أخي، وهو يقول: اللَّه. فقال الآخر: فما دينك؟ قال: الإسلام، وفي لفظ: من ربك؟ ومن نبيك؟ فسمعت أخي يقول وعرفت صوته: اللَّه ربي ومحمد نبيي. قال: ثم ارتفع شبه سهم من داخل القبر إلى أذني، فاقشعرَّ جلدي وانصرفت.(2/297)
وأخرج ابن أبي الدنيا عن عمر بن مسلم عن رجل حفار للقبور، قال: حفرت قبرين، وكنت في الثالث، فاشتد عليَّ الحر؛ فألقيت كسائي على ما حفرت، واستظللت فيه، فبينا أنا كذلك، إذ رأيت شخصين على فرسين أشهبين فوقعا على القبر الأول. فقال أحدهما لصاحبه: اكتب. قال: ما أكتب؟ قال: فرسخ في فرسخ، ثم تحول إلى الآخر، وقال: اكتب. قال: وما أكتب؟ قال: مد البصر، ثم تحولا إلى الآخر الذي أنا فيه، قال: اكتب. قال: وما أكتب؟ قال: فِتْرًا (815) في فِتْر، فقعدت أنظر الجنائز، فجيء برجل معه نفر يسير، فوقفوا على القبر الأول، قلت: ما هذا الرجل؟ قالوا: إنسان قرَّاب -يعني: سَقَّاء- ذو عيال ولم يكن له شيء؛ فجمعنا له. فقلت: ردوا الدراهم على عياله، ودفنته معهم، ثم أتي بجنازة ليس معها إلا من يحملها، فسألوا عن القبر فجاءوا إلى القبر الذي قال: مد البصر. قلت من ذا الرجل. فقالوا: إنسان غريب مات على مزبلة، ولم يكن معه شيء، فلم آخذ منهم شيئًا، وصليت عليه معهم، وقعدت أنتظر الثالث، فلم أزل أنتظر إلى العشاء، فأتي بجنازة امرأة لبعض القُوَّاد، فسألتهم الثمن؛ فضربوا برأسي، ودفنوها فيه، فسبحان اللطيف الخبير.(2/298)
وقال السفاريني في "البحور الزاخرة" قلت: وقد أخبرني بعض إخواني -وهو عندي غير متهم- أن رجلاً من بلدهم ماتت زوجته. قال: وكانت تتعاطى الربا -بالباء الموحدة- فلما كان وقت العشاء سمع زوجها صريخًا من داخل القبر، وكان جالسًا في باب داره، فلما سمعها أخذته الْحُشُومَةُ من أجلها، وكان ذا شدة وبأس، فأخذ سلاحه، وذهب إلى عند قبرها، فوقف عليها، وقال لها: لا تخافي فإني عندك، زعمًا منه أنه سينقذها مما هي فيه؛ لشدة عتوه وجهله، وتناول حجرًا من القبر. قال: فما رفع رأسه حتى ُضرب ضربة أبطلت حركته، وأرخت مفاصله، وأدلع لسانه، فرجع على حالة قبيحة، وهيئة فضيحة. قال: فواللَّه لقد رأيته، وهو قد ارتخى حنكه، وبُصَاقُه ينزل على صدره. قال: وهذا خبر استفاض عند أهل البلد كلها.
وقال أيضًا: ولقد سمعت أذناي، ووعى قلبي- وعمري إذ ذاك نَحْوُ تسع سنين -صراخ ميت من خَشْخَاشَةٍ، وذلك أني كنت مع أجير لنا يدعى أحمد ناحية الجبانة، وكان قد دفن رجل - يقال له: شحاذة الهمشري - في خشخاشة في طرف الجبانة فلما دنوت من الجبانة سمعته يتضجر ويصيح تَضَجُّرَ الذي يُضرب بالسياط وأبلغ، وسمع ذلك أجيرنا، ففزعت لذلك فزعًا شديدًا، وسَمِعَ ذلك من تلك الخشخاشة جماعةٌ في مرات متعددة، ومضى عليَّ مدة طويلة لا أستطيع أن أصل إلى الجبانة؛ بسبب ذلك حتى منَّ اللَّه عليَّ بقراءة القرآن وذلك سنة إحدى وثلاثين ومائة وألف، وعمري إذ ذاك ست عشرة سنة.(2/299)
قال: وذكر لي رجل من أهل القرآن، أنه سأل حفارًا عن أعجب ما رأى من أهوال القبور. قال: كشفت يومًا عن قبر فرأيت فيه جثة إنسان، وفي وسط تلك الجثة عقرب عظيم، وإذا زُبَانَاه مثل الْمِرْوَد، وإذا به يَضْرِبُ تلك الجثةَ فتنضم وتنطوي، فإذا قلع زُبَانَاه منها امتدت كما كانت، وهكذا. والرجل الذي أخبرني اسمه محمد، والحفار اسمه عطاء اللَّه. وهذا سمعته سنة تسعة وثلاثين. وسألت ولد عطاء اللَّه عن ذلك فقال: واللَّه سمعت ذلك من والدي، وهذا عندي غير متهم. وهذا شيء قد عاينه الناس، وتواتر وكثرت الحكايات فيه، وهو مما يجب الإيمان به، ولا ينكره إلا ضالّ ونعوذ باللَّه من الضلال.
والمشي بالنميمة بين الناس، وعدم التنزه من البول من أسباب عذاب القبر -نعوذ باللَّه منه- سواء وُجِدا مجتمعين أو منفردين؛ لحديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما - أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مر على قبرين فقال: "إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول، وأما الآخر، فكان يمشي بالنميمة" ثم أخذ جريدة رطبة فشقها باثنتين، ثم غرز على كل قبر منهما واحدة قالوا: لم فعلت هذا يا رسول اللَّه؟ قال: "لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا" (816) . أخرجه البخاري ومسلم.
وذكر السيوطي عن المقريزي أنه قَدِمَ في سنة 697 البريدُ بأن رجلاً من الساحل قد ماتت امرأته فدفنها، وعاد فذكر أنه نسي في القبر منديلاً فيه مبلغ دراهم، فأخذ فقيه القرية، ونبش القبر؛ ليأخذ المال، والفقيه على شفير القبر، فإذا المرأة جالسة مكتوفة بشعرها، ورجلاها قد ربطتا بشعرها، فحاول حل كتافها؛ فلم يقدر، فأخذ يُجهد نفسه في ذلك فَخُسِفَ به وبالمرأة، حيث لم يُعلم لهما خبر، فغشي على الفقيه مدة يوم وليلة، فبعث السلطان بخبر هذه الحادثة إلى الناس؛ ليعتبروا بذلك.(2/300)
وأخرج ناصر السنة ابن الجوزي - رحمه اللَّه- عن عبد اللَّه بن محمد الديني عن صديق له، أنه خرج إلى ضَيْعَةٍ له، قال: فأدركتني صلاة المغرب إلى جنب مقبرة، فصليت المغرب قريبًا منها، فبينما أنا جالس إذ سمعت من ناحية القبور صوت أنين، فدنوت إلى القبر الذي سمعت منه الأنين، وهو يقول: أَوه! قد كنت أصلي، قد كنت أصوم. فأصابتني قشعريرة فدنا من حضرني، فسمع مثل ما سمعت، ومضيت إلى ضيعتي ورجعت في اليوم الثاني، فوصلت موضعي الأول، وصبرت حتى غابت الشمس، وصليت المغرب، ثم استمعت إلى ذلك القبر، فإذا هو يئن يقول: أوه! قد كنت أصلي، قد كنت أصوم. فرجعت إلى منزلي وحُمِمْتُ، فمكثت شهرين محمومًا.
وأخرج ابن أبي الدنيا عن عمرو بن دينار قال: كان رجل من أهل المدينة له أخت فماتت، ورجع إلى أهله، فذكر أنه نسي كيسًا كان معه في القبر، فاستعان برجل من أصحابه، فأتيا القبر فنبشاه؛ فوجد الكيس، فقال للرجل: تنح حتى أنظر إلى حال أختي، فرفع بعض ما على اللحد، فإذا القبر يشتعل نارًا، فرده وسَوَّى القبر ورجع إلى أمه، فسألها عن حال أخته. فقالت: كانت تؤخر الصلاة ولا تصلي -فيما أظن بوضوء- وتأتي أبواب الجيران إذا ناموا، فَتُلْقِمُ أذنها أبوابهم فَتُخْرِجُ حديثهم.(2/301)
وحكى الحافظ ابن رجب وغيره: أن جماعة من التابعين خرجوا لزيارة أبي سنان، فلما دخلوا عليه، وجلسوا عنده. قال: قوموا بنا نزور جارًا لنا مات أخوه، ونعزيه فيه. قال محمد بن يوسف الفريابي: فقمنا معه، ودخلنا على ذلك الرجل، فوجدناه كثير البكاء والجزع على أخيه، فجعلنا نعزيه، ونسليه، وهو لا يقبل تسلية، ولا عزاء. فقلنا له: أما تعلم أن الموت سبيل لا بد منه؟! قال: بلى، ولكن أبكي على ما أصبح وأمسى فيه أخي من العذاب. فقلنا له: قد أطلعك اللَّه على الغيب؟! قال: لا، ولكن لما دفنته وسويت عليه التراب، وانصرف الناس، جلست عند قبره، وإذا صوت من قبره يقول: أَوَّاه أفردوني وحيدًا أقاسي العذاب، قد كنت أصلي قد كنت أصوم. فأبكاني كلامه، وقلت: صوت أخي، واللَّهِ أعرفه. فقلت: لعله خُيِّلَ إليك. قال: ثم سكتَ، فإذا أنا بصوته يقول: أواه لا أدري -في الثانية أو في الثالثة - فنبشته حتى بلغت قريبًا من اللبن، فإذا بطَوْقٍ من نار في عنقه، فأدخلت يدي؛ رجاء أن أقطع ذلك الطوق، فاحترقت أصابعي؛ فبادرت بإخراجها. فإذا يده قد احترقت أصابعها. قال: فرددت عليه التراب وانصرفت. فكيف لا أبكي على حاله، وأحزن عليه؟! فقلنا: فما كان أخوك يعمل في الدنيا؟ قال: كان لا يؤدي الزكاة من ماله. فقلنا: هذا تصديق قوله تعالى:{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُم بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (817) وأخوك عُجِّلَ له العذاب في قبره، ثم خرجنا من عنده.(2/302)
وذكر الحافظ ابن رجب أيضًا في "أهوال القبور" له: أن ابن أبي الدنيا أخرج عن ابن عباس - رضي اللَّه عنهما - أنه كان جالسًا فأتاه قوم، فقالوا: إنا خرجنا حجاجًا -ومعنا صاحب لنا- حتى أتينا ذات الصِّفَاح، فمات فيها فهيأناه، ثم انطلقنا فحفرنا له قبرًا، ولحدنا اللحد، فلما فرغنا من لحده، إذا نحن بأسود قد ملأ اللحد؛ فحفرنا غيره، فلما فرغنا من لحده، فإذا نحن بالأسود قد ملأ اللحد؛ فتركناه وحفرنا له مكانًا آخر، فلما فرغنا من لحده إذا نحن بالأسود قد ملأ اللحد؛ فتركناه وأتيناك.قال ابن عباس: ذلك عمله الذي يعمل به، انطلقوا فادفنوه في بعضها، فوالذي نفسي بيده لو حفرتم الأرض كلها لوجدتموه فيه. فانطلقنا فدفناه في بعضها، فلما رجعنا قلنا لامرأته: ما عمله ويحك؟ قالت: كان يبيع الطعام، فيأخذ كل يوم منه قوت أهله، ثم يَقرِضُ القَصَبَ مثله، فيلقيه فيه يعني: يغش الطعام، وهو حب البر، فيقرض القصب، ويلقيه فيه: حتى يعوض ما أخذ منه. فهذا عقوبة الذين يغشون عند البيع، ويكفي في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : "من غشنا فليس منا" (818) نسأل اللَّه العفو والعافية.
والآثار المروية في هذا كثيرة معروفة؛ فلا نطيل بذكرها، ومن أراد الزيادة على ما ذكرنا، فعليه بكتاب "الروح" للمحقق ابن القيم، و"أهوال القبور" لابن رجب، و"البحور الزاخرة" للسفاريني، وغيرها مما أُلِّفَ في معناها. واللَّه أعلم.
[500] شرب الدخان وقصة وقعت لشاربه
سائل يسأل عن حكم شرب الدخان، ويقول: إذا قلتم: إنه حرام فنطلب الدليل على تحريمه باختصار أقرب للفائدة. ويقول: إنني سمعت أنا وزملائي بقصة رجل فيما مضى كان يشرب الدخان، فلما مات ووضع في قبره حفروا قبره لأخذ شيء سقط في القبر فشوهد في قبره وهو يمص ذكره بفمه. فهل هذه القصة صحيحة، ومن رواها؟ نرجوكم أن تذكروا لنا نصها.
الإجابة:(2/303)
لا ريب في خبث الدخان ونتنه، وهو حرام قامت الأدلة على تحريمه بالنقل الصحيح، والعقل الصريح، وكلام الأطباء المعتبرين. وهذا الذي عليه الفتوى في هذه البلدان من عهد أئمة الدعوة رحمهم اللَّه -إلى وقتنا هذا. وقد صرح بتحريمه المحققون من علماء المذاهب الأربعة.
واستدلوا على ذلك بقوله تعالى في وصف نبيه محمد صلى الله عليه وسلم {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (819) . وحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل مسكر خمر، وكل خمر حرام" (820) .
هذا مع ما فيه من إضاعة المال الذي كرهه اللَّه لنا، وما فيه من الإسراف، والتبذير، وما فيه من الأضرار التي تلحق البدن، والعقل. وكلام الأطباء فيه معروف فلا نطيل بسرده.(2/304)
وأما القصة التي ذكرها السائل، فقد تناقلها الرواة، وسمعناها من أكثر من واحد. وهي تدل على عذاب القبر، والتعوذ باللَّه منه، وممن ذكرها الإمام محمد بن أحمد السفاريني الحنبلي في كتابه المسمى "البحور الزاخرة في علوم الآخرة" ولا مانع من نقلها لك بحروفها من الكتاب المذكور (ص 135) من المجلد الأول والعهدة في ذلك على الراوي، قال السفاريني -رحمه اللَّه تعالى-: وأخبرني الشيخ التقي المتعبد، وهو غير متهم، بل ثقة صدوق، أعني الشيخ صالح بن الشيخ محمد جراح، سنة 1137 سبعة وثلاثين بعد المائة والألف في شهر رجب في خلوته بدمشق الشام، في مدرسة الشيخ مراد، في رحلتي في طلب العلم. وكان صالح يتردد علي يقرأ في علم العَروض، وقال: أخبرني والدي الشيخ محمد الجراح العجلوني، قال: ذكر لي جماعة من أهل بلدة، وسماها، قالوا: كان عندنا رجل يُظَنُّ به الخير غير أنه يشرب التُّتُن (821) فتوفي في يوم شديد الشتاء والبرد، فلم يستطيعوا أن يَحْفِروا له قبرا من شدة الثلج فقالوا: نضعه في خشخاشة، ففعلوا، فنزل عليه رجل فسواه، ثم خرج، فلما كان بعد العشاء الآخرة، وأراد أن ينام، تذكر أنه كان معه صُرَّةُ دراهم، وظن أنها إنما وقعت في الخشخاشة، فقال لأولاده، وكانوا ثلاثة -أو قال اثنين-: قوموا بنا إلى الخشخاشة، وذكر لهم الخبر، فقالوا: غدًا نذهب إليها. فقال: بل الليلة لئلا تكون الدراهم ليست فيها فنفتضح غدًا، وأما الآن فإن لقيناها فبها ونِعْمَتْ، وإلا فلا أحد يعلم خبرنا. قال: فأخذوا ضَوْْءًا وذهبوا إلى المحل، ففتح الرجل على الميت، فلقي القبر ملآن نارا عليه، وإذا بالميت جالس، وإذا بذكره ممدود، وإذا هو واضع رأس ذكره في فمه، ويَخْرُجُ من فمه دُخَانٌ منتن، والقبر يَضْرَمُ عليه نارا. قال: فَذَهِلَ الرجل وأولاده، وصرخ بأهل بلده، فأتوا ونظروا في حالته، ولم يقدر الرجل أن يهجم على القبر لينظر الدراهم لشدة النار.(2/305)
قال: وهذه قصة معلومة، قد أخبرني والدي أنه ذَكَرَ هذا له جماعةٌ من أهل تلك البلدة، ومن جملتهم الرجل الذي ضاعت دراهمه، أو كلاما هذا معناه. واللَّه أعلم بحقيقة ذلك. اهـ. من كتاب "البحور الزاخرة" (ص 135) . واللَّه أعلم.
[501] قتل الكلاب
سائل يسأل عن حكم قتل الكلاب، وما يجوز اقتناؤه منها، وما لا يجوز؟
الإجابة:
ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقتل الكلاب، وذلك في صدر الإسلام، ثم نُسخ الأمر بقتلها، وبقي حكم القتل في الكلب الأسود البهيم، الذي لا لون فيه غير السواد، وكذلك الكلب العَقُور الضاري، الذي عادته الأذى والاعتداء على الناس، بنهشهم، ونباحهم، وشق ثيابهم، وترويعهم، ونحو ذلك، إذا كان معروفا بهذا، وكذلك الكلب الذي يصول على الناس، أو على البهائم، وغيرها، ولو لم يكن معروفا بالضراوة،فيقتل لِصِيَالته. فهذه الثلاثة الأنواع يجوز قتلها، وما عداها فلا يحل قتله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب، ثم نهى عن قتلها، وقال: "عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين؛ فإنه شيطان" (822) ، وفي حديث آخر: "لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها، فاقتلوا منها كل أسود بهيم" (823) وفي لفظ: أنه أمر بقتل الكلاب، ثم قال: "ما بالهم وبال الكلاب" ، ثم رخص في كلب الصيد، وكلب الغنم، وكلب الزرع (824) . فنهى صلى الله عليه وسلم عن قتلها بعدما أَمر به؛ لما فيه من إفناء أمة من الأمم، وجيل من الخلق؛ لأنه ما من مخلوق خلقه اللَّه إلا وفيه نوع من الحكمة، وضروب من المصالح، تظهر لبعض الناس، وتخفى على بعض، ويظهر في كل زمان ومكان من مصالحها ومنافعها حسبما تقتضيه حكمة اللَّه، ورحمته بعباده. فلما كان لا سبيل إلى إفنائها كلها، أمر بقتل شرارها، وهو الأسود البهيم، والكلب العقور، وترك ما سواها. واللَّه أعلم.
[502] الفرق بين الأذى والضرر(2/306)
سائل بعث يقول: حصل عندي إشكال في حديثين قرأهما علينا إمام مسجدنا، وطلبت منه أن يحل الإشكال؛ فلم يستطع ذلك. فأما الحديث الأول فيقول اللَّه فيه: "يا عبادي، إنكم لن تبلغوا َضِّري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني" وأما الحديث الثاني فيقول اللَّه تعالى فيه: "يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر، وأنا الدهر، أقلب الليل والنهار" .
فكيف نفى في الحديث الأول أن عباده يضرونه، وأثبت في الحديث الآخر أن ابن آدم يؤذيه -تبارك وتعالى-؟
فأستفسر من فضيلتكم عما إذا كان كل من الحديثين صحيحا أم لا؟ وكيف الجمع بينهما ؟
الإجابة:
أما الحديث الأول الذي فيه نفي إلحاق الضرر به تعالى، فقد رواه مسلم في "صحيحه" وغيره (825) من حديث أبي ذر. وأما الحديث الثاني الذي فيه إثبات الأذى، فرواه البخاري ومسلم وغيرهما (826) من حديث أبي هريرة. فكلا الحديثين صحيح.(2/307)
وأما الجمع بين الحديثين، فليس بينهما تناقض، ولا اختلاف بحمد اللَّه؛ لأن الأذى أخف من الضرر، ولا تلازم بينهما. وقد ورد إثبات الأذى في القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ}(827). وفي حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أكل البصل والثوم والكراث، فلا يقربن مسجدنا؛ فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم" . رواه البخاري ومسلم (828) . فقد أثبت أن الملائكة تتأذى مما ذُكر مع أن ابن آدم لا يستطيع أن يلحق الضرر بالملائكة. فاللَّه سبحانه وتعالى يتأذى مما ذُكر في الحديث، وإن كان لا يمكن أن يلحقه ضرر من عباده، كما قال تعالى: {وَلَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئًا} الآية (829) ، وقال تعالى: {وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا} الآية (830) . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: "ومن يعصهما -أي: اللَّه تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم - فإنه لا يَضُرُّ إلا نفسَه، ولا يَضُرُّ اللَّهَ شيئا" (831) .
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم :"إن اللَّه هو الدهر" ، هو ما فسره بعد ذلك بقوله: "يقلب الليل والنهار" ، يعني إن ما يجري في الليل والنهار من الخير والشر فهو بإرادة اللَّه سبحانه، وتدبيره، وحكمته، لا يشاركه في ذلك غيره، فما شاء اللَّه كان، وما لم يشأ لم يكن.
وفي الحديث التصريح بتحريم سب الدهر. ومنه ما اعتاده بعض الناس من كونه إذا أخذه الغضب سب وشتم الشخص، واليوم الذي شاهده فيه، أو يلعن الساعة التي رآه فيها، ونحو ذلك مما هو جارٍ على ألسنة كثير من الناس نظما ونثرا وليس منه وصف السنين بالشدة، في مثل قوله تعالى في سورة يوسف: {ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ} الآية (832) .(2/308)
قال ابن القيم: وفي سب الدهر ثلاث مفاسد:
إحداها: سب من ليس أهلا للسب، فإن الدهر خَلْق مسخر، فالذي يسبه أولى بالذم منه.
الثانية: أن سبه متضمن للشرك، فإنه إنما سبه لظنه أنه يضر وينفع، وأنه أي الدهر مع ذلك ظالم، قد ضَرَّ من لا يستحق الضرر، وأعطى من لا يستحق العطاء.
الثالثة: أن السب منهم إنما يقع على من فعل هذه الأفعال حقيقة، فَسَابُّ الدهر دائر بين أمرين لا بد له من أحدهما: إما مَسَبَّةُ اللَّه تعالى، أو الشرك به. فإنه إن اعتقد أن الدهر فاعل حقيقة مع اللَّه، فهو مشرك. فإن اعتقد أن اللَّه وحده هو الذي فعل، وهو من فِعْله، فسبه للدهر سب للذي قَدَّرَ فيه هذه الأشياء، وهو اللَّه سبحانه وتعالى. فالذي يسب الدهر واقع فيما ذُكر ولا محالة. نسأل اللَّه السلامة، والمعافاة، في الدنيا والآخرة. انتهى.
[503] لا تأكل الأرض أجساد الأنبياء
سائل يسأل عن أجساد الأنبياء -عليهم السلام- بعد وفاتهم إذا دفنوا: هل تأكل الأرض أجسادهم، كما هي طبيعة الأرض أم لا؟ نرجوكم الإفادة عن ذلك.
الإجابة:
إن اللَّه حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء، كما ورد ذلك في الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، منها ما رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه (833) بأسانيد صحيحة عن أوس بن أوس الثقفي - رضي الله عنه- قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي" قال: فقالوا: يا رسول اللَّه، وكيف تُعرض صلاتنا عليك وقد أَرِمْتَ. قال: يقول: بليت؟ قال: "إن اللَّه -تبارك وتعالى- حرم على الأرض أجساد الأنبياء صلى اللَّه عليهم" ، وصححه ابن خزيمة وابن حبان والدارقطني والنووي في "الأذكار" (834) .
وروى ابن ماجه (835) أيضا من حديث أبي الدرداء: "إن اللَّه حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء" ... الحديث. واللَّه أعلم.(2/309)
[504] حيّات البيوت لا تقتل إلا بعد إنذارها ثلاثا
نحن ثلاثة طلاب، نزلنا في بيت من بيوت البلد القديمة، واستأجرناه، ورأينا فيه حية تظهر لنا بعض الأحيان، ونخاف منها، فقام أحدنا ليقتلها، فنهاه الآخر، وقال: إنه ورد النهي عن قتل حيات البيوت حتى تُنْذَرَ، فهل هذا صحيح، وما صفة إنذارهن؟
الإجابة:
ورد النهي عن قتل حيات البيوت -وتسمى جِنّان البيوت- إلا الأبتر وذا الطُّفْيَتَيْن. قال العلماء - رحمهم اللَّه -: وذلك خشية أن تكون من مسلمي الجن التي تسكن البيوت، فإذا تبدت حيات البيوت لأهل البيت، لم يجز لهم قتلها حتى ينذروها ثلاثا.
وروى البخاري ومسلم وأبو داود (836) عن أبي لبابة - رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم : نهى عن قتل الْجِنَّان التي تكون في البيوت إلا الأبتر وذا الطفيتين؛ فإنهما اللذان يخطفان البصر ويتتبعان ما في بطون النساء. والطفيتان -بضم الطاء- الخطان الأبيضان على ظهر الحية. والأبتر والأبيتر: قصير الذَّنَب. وقال النضر بن شميل: هو صنف من الحيات أزرق، مقطوع الذنب، لا تنظر إليه حامل إلا ألقت ما في بطنها.(2/310)
وروى مسلم، ومالك في آخر "الموطأ" ، وغيرهما عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة أنه دخل على أبي سعيد الخدري في بيته، قال: فوجدته يصلي؛ فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته، فسمعت تحريكا في عراجين في ناحية البيت، فالتفتُّ، فإذا حية، فوثبتُ لأقتلها، فأشار إلي: أن اجلس؛ فجلست، فلما انصرف أشار إلى بيت في الدار، فقال: أترى هذا البيت؟ فقلت: نعم، قال: كان فيه فتى منا حديث عهد بعرس، قال: فخرجنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى الخندق، فكان ذلك الفتى يستأذن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بأنصاف النهار، فيرجع إلى أهله. فاستأذنه يوما، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "خُذ عليك سلاحك، فإني أخشى عليك قريظةٌ" فأخذ الرجل سلاحه، ثم رجع، فإذا امرأته بين البابين قائمة، فأهوى إليها الرمح ليطعنها به، وأصابته غَيرة، فقالت له: اكفف عليك رمحك، وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني، فدخل، فإذا بحية عظيمة، منطوية على الفراش، فأهوى إليها بالرمح، فانتظمها به، ثم خرج فركزه في الدار، فاضطربت عليه، فما يُدرى أيهما كان أسرع موتا: الحية أم الفتى، قال: فجئنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكرنا ذلك له، وقلنا: ادع اللَّه يحييه لنا فقال: "استغفروا لصاحبكم" ، ثم قال: "إن بالمدينة جنّا قد أسلموا، فإذا رأيتم منهم شيئا، فآذنوه ثلاثة أيام، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه؛ فإنما هو شيطان" (837) .
واختلف العلماء في الإنذار: هل ثلاثة أيام، أو ثلاث مرات. وكلام الناظم صالح لكل منهما، قال في "الآداب الكبرى" (838) : يسن أن يقال للحية التي في البيوت ثلاث مرات. وفي "المجرد" : ثلاثة أيام. انتهى. ومقتضى الحديث: ثلاثة أيام. قال بعض الشافعية: وعليه الجمهور، وقال اليونيني من أئمة المذهب في "مختصر الآداب" : يسن أن يقال للحية في البيوت ثلاث مرات.ذكره غير واحد ولفظه في "الفصول" : ثلاثة، ولفظه في "المجرد" : ثلاثة أيام.(2/311)
وكيفية الاستئذان كما في "الآداب الكبرى" وغيرها: اذهب بسلام لا تُؤْذِنَا. وفي "حياة الحيوان" تقول: أَنشدكن بالعهد الذي أخذه عليكن نوح وسليمان بن داود -عليهم السلام- أن لا تَبْدُوا لنا ولا تؤذونا. وفي "أسد الغابة" عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى قال: قال أبو ليلى قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "إذا ظهرت الحية في المسكن فقولوا لها: إنا نسألك بعهد نوح صلى الله عليه وسلم وبعهد سليمان بن داود -عليهما السلام- لا تؤذينا. فإن عادت فاقتلوها" ، فإن ذهبت بعد الاستئذان، وإلا قتلها إن شاء (839) واللَّه أعلم.
[505] التلقيح الصناعي
سائل يسأل عن حكم التلقيح الصناعي الذي يستعمله بعض النساء إذا كان زوجها عقيما، أو لم تكن ذات زوج أصلا، ويقول: هل هو حلال أم حرام؟ وهل يُلْحَقُ نسب الطفل بالرجل ولو لم يكن من مائه؟
الإجابة:
لقد رأيت بحثا في هذا الموضوع للشيخ محمود شلتوت، وآثرت أن ألخص لكم منه الجواب الآتي: من المعلوم أن تخلق الولد إنما هو من النطفة التي تخرج من الرجل فتصل إلى الرحم المستعد للتفاعل، سواء كان ذلك من طريق الاتصال الجنسي المعروف، أو بأي طريقة أخرى يصل بها المني إلى الرحم. ورتبوا عليه وجوب العدة، فيما إذا تحملت المرأة بماء الرجل.
فإذا كان التلقيح بماء الرجل لزوجته الشرعية بنكاح صحيح، فلا إثم فيه ولا حرج، بل قد يكون سبيلا للحصول على ولد شرعي، يذكر به والده، وبه تمتد حياتهما، وتكمل به سعادتهما النفسية والاجتماعية، ويطمئنان على دوام العشرة، وبقاء المودة بينهما.(2/312)
أما إذا كان التلقيح بماء رجل أجنبي لامرأة لا يربط بينها وبينه عقد زواج صحيح- ولعل هذه الحالة هي أكثر ما يراد من التلقيح الصناعي عندما يتحدث الناس عنه- فإنه يعتبر جريمة أخلاقية منكرة. وهذا المسكين الذي يتجرأ على هذا الصنيع يزج بنفسه -دون شك- في دائرة الحيوان، ويخرجه عن المستوى الإنساني، مستوى المجتمعات الفاضلة التي تنسج حياتها بالتعاقد الزوجي وإعلانه. فمن فعل هذا فقد أتى جريمة منكرة، وإثما عظيما يلتقي مع الزنا في إطار واحد، جوهرهما واحد، ونتيجتهما واحدة، وهي وضع ماء رجل أجنبي قصدا في حرث ليس بينه وبينه عقد ارتباط بزوجية شرعية. وإذا كان التلقيح البشري بغير ماء الزوج على هذا الوضع، وبتلك المنزلة، كان دون شك أفظع جرما، وأشد نكرا من التبني الذي أبطله القرآن، وهو أن يَنْسُبَ الإنسان إلى نفسه ولدا يَعْرِفُ أنه ابن غيره.
وإنما كان التلقيح أفظع جرما من التبني؛ لأن الولد المتبنى معروف أنه ولد للغير، وليس ناشئا عن ماء أجنبي عن عقد الزوجية، وإنما هو ولد ناشئ عن ماء أبيه، ألحقه رجل آخر بأسرته، وهو يَعرف أنه ليس ابنا له. أما ولد التلقيح، فهو يجمع بين نتيجة التبني المذكور، وهي إدخال عنصر غريب في النسب، وبين أخرى، وهي التقاؤه مع الزنا في إطار واحد لا تقره الشريعة الإسلامية، بل ولا جميع الشرائع السماوية، ولا المستوى الإنساني الفاضل. وحَسْبُ من يدعون إلى هذا التلقيح، ويشيرون به على أرباب العقم، تلك النتيجة المزدوجة التي تجمع بين الخستين: دَخَلٌ في النسب، وعارٌ مستمر إلى الأبد.
حفظ اللَّه على المسلمين أنسابهم، ومستواهم الإنساني الفاضل. انتهى.
الفهرس
كتاب البيع:
(265) حكم بيع الهرة ...............................7
(266) مقدمات العقد، هل لها حكمه؟ ....................9
(267) معنى لا تبع ما ليس عندك .......................10
(268) شراء سيارة نسيئة وإصلاحها ثم بيعها هل هو من العينة؟ ....12(2/313)
(269) حكم بيع عملة بعملة أخرى مؤجلا .................13
(270) حكم البيع إلى أجل بزيادة في الثمن .................14
(271) حكم البيع نسيئة بثمن زائد عن سعر المثل .............15
(272) حكم المبايعة بكيل أو وزن مجهولين .................16
(273) بيع الأجل ومقدار الربح فيه .....................17
(274) بيع العينة ................................18
(275) مسألة التورق .............................22
(276) حكم اشتراط تأمين الكهرباء تبع البيت المبيع ...........24
(277) بيع الكتب الموقوفة وشراؤها ....................25
(278) حكم بيع الدابة بشرط كونها حاملا .................26
(279) الفرق بين القرض والضمان ......................28
(280) حكم الوفاء بعملة قد تغيرت .....................30
(281) اختلاف الراهن والمرتهن ........................31
(282) اتفاق الإخوان على عقد شركة فيما بينهم ..............32
(283) هل الشفعة بالجوار؟ ...........................33
(284) إحياء الموات هل يكفي ترسيمه بحجر؟ ...............35
كتاب الوقف:
(285) ريع الوقف المنقطع ............................39
(286) هل لمن وقف منجزا التصرف فيه؟ ...................40
(287) إذا وقف وقفا ولم يعين مصرفه، فما حكم ذلك؟ ..........41
(288) نقل الوقف ................................43
(289) من وقف على عياله وعيال عياله ....................46
(290) الوقف على قراء القرآن .........................48
كتاب الوصايا:
(291) هل يقضي الوصي دين الميت بلا تثبيت عند القاضي؟ ........51
(292) من أوصى بزواج ابنه الصغير .....................52
(293) من أوصى بعتق عبد فتعذر ......................53
(294) من أوصى بثلث ماله ولم يذكر مصرفه ................55
(295) حكم فاضل ريع الوصية ........................56
كتاب الفرائض:(2/314)
(296) ميراث من توفي عن عمته وأخيه من الأم ..............59
(297) قسمة ميراث ابن السِّفاح ........................60
(298) ميراث ذوي الأرحام ...........................61
(299) ميراث الجدة مع وجود ابنها ......................62
(300) مسألة في ميراث ذوي الأرحام .....................63
كتاب النكاح:
(301) دبلة الخطوبة ...............................67
(302) هل يتزوج بزوجة شقيقه -إذا طلقها- حال حياته؟ .......69
(303) الشغار وحكمه في الإسلام ......................70
(304) إجبار الأب ابنته البكر على النكاح .................75
(305) الجمع في النكاح بين بنت العم ومطلقة العم ...........76
(306) من تزوج بأكثر من أربع .......................77
(307) ما يأخذه المأذون الشرعي على عقد النكاح ............79
(308) حل أختك من الأم لأخيك من الأب ...............81
(309) نقل الدم هل يحرم المرأة؟ ......................82
(310) مسألة في النكاح الباطل .......................83
(311) مسألة في النكاح الفاسد .......................85
(312) زواج الهاشمية بغير الهاشمي .....................86
(313) حديث أم زرع .............................88
(314) الفرق بين تحريم أم الزوجة دون بنتها إذا طلقت قبل الدخول..91
(315) تحريم الربيبة ...............................93
(316) اشتراط المرأة طلاق ضرتها ......................94
(317) زواج المسلم بامرأة غير مسلمة وبالعكس .............98
(318) من تزوج بنصرانية بلا ولي ولا شهود ...............104
(319) وطء الزوجة في دبرها ........................106
(320) القسْم بين الزوجات .........................108
كتاب الطلاق:
(321) هل يطلق زوجته إذا أمره أبوه أو أمه بطلاقها؟ ............113
(322) مسألة في الطلاق المعلق ..........................115(2/315)
(323) من صور الطلاق ..............................117
(324) من قال: لست متزوجا -يمزح- وهو متزوج ............119
(325) مسألة في كنايات الطلاق ..........................120
(326) من أحكام الطلاق .............................121
(327) مسألة في الطلاق والظهار .........................122
(328) تعليق الطلاق ................................123
(329) من حلف بالطلاق على شيء، ففعله ناسيا ..............124
(330) من توهم وقوع الطلاق على زوجته فراجعها .............125
(331) توكيل والد الزوجة على طلاقها ....................126
كتاب الظهار:
(332) في مظاهرة الرجل من زوجته ......................129
كتاب العدد:
(333) عدة المرأة التي ارتفع حيضها ......................133
(334) عدة المطلقة إذا توفي عنها زوجها ....................135
(335) صفة إحداد المتوفى عنها ..........................137
(336) إحداد المرأة على قراباتها ..........................141
(337) إحداد المتوفى عنها وعدتها .........................144
كتاب الرضاع:
(338) رضاع الطفل من جدته ..........................149
(339) رضاع طفل من ضرتين ..........................151
(340) من أحكام الرضاع .............................152
كتاب النفقات:
(341) الحضانة ....................................155
كتاب الديات:
(342) دية المقتول من ضمن تركته ........................159
(343) من أعطى صبيا بندقية فثارت وأصابت شخصا ...........160
(344) من تسبب بوفاة شخص بصدم، أو غيره، فعليه الكفارة ......162
(345) كفارة القتل .................................164
كتاب الحدود:
(346) هل تعتبر موالاة الجلد في الحدود؟ ...................167
(347) حد القذف .................................168
كتاب الأطعمة:
(348) ذبائح أهل الكتاب ............................171(2/316)
(349) أكل لحم الجلالة .............................172
(350) الزرع والخضار الذي يسمد بالنجاسة .................174
(351) مسحوق البردقان المسمى "الشمة" ...................176
(352) التذكية بالعظم ...............................178
(353) ذبح الشاة إلى غير القبلة .........................180
(354) هل تحل الذبيحة إذا ذبحها السارق؟ ..................182
كتاب الأَيْْمان والنذور
(355) لا يجوز القسم برب القرآن ........................187
(356) كفارة الأيمان .................................189
(357) من حرمت على نفسها لباسا خاصا ...................192
(358) الحلف بالطلاق ...............................193
(359) النذر .....................................194
(360) الوفاء بالنذر مع الحاجة .........................197
(361) هل يصح الوفاء بالنذر في غير مكان انعقاده؟ ............198
(362) هل يصح الوفاء بالنذر عن المتوفى؟ ..................200
كتاب القضاء:
(363) ما ورد بشأن الإفتاء والمفتين ......................203
(364) إقامة المدعي شاهدا واحدا، ولم يحلف معه ..............209
كتاب الشهادات:
(365) من شهد قبل أن يستشهد .........................213
(366) عدالة الشهود وجرحهم .........................215
جامع الآداب والأخلاق والفضائل:
(367) من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت ..................219
(368) الأكل والشرب بالشمال والأخذ والعطاء بها .............221
(369) كراهة الشرب قائما ............................224
(370) غسل الأيدي بعد الطعام بالمغسلة التي تصب في بيارة الحمام ....226
(371) كراهة الأكل متكئا .............................228
(372) لباس النساء للألبسة الضيقة .......................230
(373) تحريم خاتم الذهب، والسوار، وساعة الذهب على الرجل ....234(2/317)
(374) طول قميص الرجل، وأكمامه ......................237
(375) ستر المرأة وجهها عن الرجال الأجانب ................240
(376) لبس السوار والسلسلة والحرير .....................247
(377) حول تحريم التبرج ............................250
(378) لف المرأة شعر رأسها ...........................259
(379) النهي عن لعن الدابة، ونحوها، ولعن المعين .............262
(380) النهي عن سب الديك ...........................266
(381) دخول المسجد بالنعال، والصلاة فيها ..................269
(382) أين يضع المصلي نعاله في المسجد؟ ....................272
(383) هل يجوز حجز محل في المسجد للصلاة؟ ................274
(384) ملازمة محل في المسجد يصلي فيه الفريضة ...............279
(385) اجتياز المسجد والصلاة في النعال ...................281
(386) عدم جواز هدم المسجد لتوسعة الشارع ................286
(387) مساهمة غير المسلمين في بناء المساجد .................291
(388) الجهر بقراءة القرآن إذا شوش على من حوله .............292
(389) التعامل مع من في ماله حرام، أو شبهة ................294
(390) الناس شركاء في ثلاث .........................301
(391) معاملة البنوك ................................303
(392) الرشوة ....................................304
(393) التعامل باليانصيب، وشراء أوراقه ....................306
(394) حديث: "الصبحة تمنع الرزق" ......................309
(395) حكمة الأذان والإقامة في أذن المولود ...................312
(396) النفث في الماء وسقيه المريض .......................314
(397) السحر، وهل له حقيقة؟ وحل السحر عن المسحور .........317
(398) حقيقة الإصابة بالعين، وعلاجها .....................321
(399) علاج الفزع، والأرق المانع من النوم .................334(2/318)
(400) منع شرب دم البرازي للتداوي به ....................336
(401) التداوي بنقل الدم من شخص لآخر ..................339
(402) الكشف على المرأة الحامل بالأشعة ....................341
(403) حكم كشف الأطباء على عورات النساء ................342
(404) علاج الكرب والهم والغم والحزن ....................344
(405) حكم التحية بـ: كيف أصبحت ......................349
(406) النهي عن الانحناء في السلام ........................351
(407) لا يسأل بوجه اللَّه إلا الجنة ........................353
(408) مسح الوجه باليدين بعد الدعاء .....................357
(409) يكره الدعاء بطول البقاء ..........................360
(410) دعاء الإنسان لوالديه بين السجدتين في صلاة الفرض ........361
(411) في الإخلاص وذم الرياء .........................362
(412) الإيثار بالمحل الفاضل من الصف، والتنازل عنه لغيره .......364
(413) عيادة الجار النصراني إذا مرض ......................366
(414) الفرق بين الزهد والورع ..........................368
(415) قبول التوبة ما لم يغرغر ...........................372
(416) مسألة في التوبة ...............................374
(417) مجازاة العبد بذنوبه .............................375
(418) توبة من عنده أموال مسروقة ......................377
(419) مكفرات الذنوب .............................380
(420) تقبيل يد العلماء وأهل الرياسات ونحوهم ..............383
(421) هل يقال للمتجشئ: هنيئا؟ .......................385
(422) هل يذكّر العاطس إذا لم يحمد اللَّه؟ ...................387
(423) التثاؤب ...................................389
(424) سؤال الرجل أخاه عن اسمه ونسبه وبلده ...............391
(425) سكنى الرجل مع أخيه وزوجته غير متسترة ..............392(2/319)
(426) أدب المشي مع الشيخ ...........................394
(427) كراهة نوم الإنسان منبطحا على بطنه ..................397
(428) الوفاء بالوعد .................................400
(429) استقبال القبلة واستدبارها ومد الرجل إليها ..............402
(430) حكم بعض الكلمات مثل: أشكرك وأرجوك .............405
(431) ما يجمع من المزارعين باسم الضيافة ...................406
(432) حكم خروج النساء للاحتطاب بدون محرم ...............407
(433) حكم الكذب في أجور ترحيل العائلة ...................410
(434) حكم الدوس على السجادة التى فيها
صورة الحرمين الشريفين واستعمالها لغير الصلاة .............412
(435) زيارة الرجل بنت عمه في بيت زوجها ..................414
(436) احترام ما فيه ذكر اللَّه والنهي عن إلقاء فضلات الطعام .......415
(437) الإفراط في غيرة الرجل على محارمه ...................417
(438) نهي المرأة عن التطيب إذا خرجت ...................419
(439) آداب الضيافة ................................420
(440) حول حديث: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم" ............... 424
(441) النهي عن التشبه بالحيوانات والبهائم وتمثيلها في حركاتها وأصواتها..426
(442) حلق بعض الرأس وترك بعضه .......................432
(443) التشاؤم والتطير من بعض الأيام والأعداد وغيرها ...........435
(444) طلب الإنسان من غيره الدعاء الصالح ..................438
(445) لعب الكيرم ونحوه ..............................440
(446) الملاكمة ومصارعة الثيران والتحريش بين الديكة ونحوها .......441
(447) قصة تسابق النبي صلى الله عليه وسلم مع عائشة ......................443
(448) لعب النساء للكرة ..............................445
(449) ما ورد في فضل شهر شعبان .......................446(2/320)
(450) صفة مشي النبي صلى الله عليه وسلم .............................451
(451) ما ورد في شهر رجب ...........................454
(452) فضل شهر محرم ويوم عاشوراء ......................458
أحكام المصحف:
(453) الدخول بالمصحف إلى الحمام ........................465
(454) دفن المصاحف الممزقة وإحراقها ......................467
(455) السبع الطوال والمثاني والمئين والمفصل ...................469
(456) دعاء ختم القرآن ...............................471
(457) قراءة الإدارة .................................... 473
(458) حكم استعمال القرآن بدل الكلام ......................475
(459) لا يجوز هجر القرآن .............................476
(460) علامات الوقف في المصحف ........................480
مسائل متفرقة:
(461) لا يجوز استعمال ما فيه صورة الصليب .................485
(462) السفر إلى بلاد المشركين ...........................487
(463) قص الجُنُب أظفاره، وشاربه ........................489
(464) ختان الفتيات، وحكمته ..........................491
(465) تقليم الأظفار، وحكمته ...........................494
(466) حلق العارض دون اللحية .........................499
(467) تحديد وقت الختان ..............................501
(468) الاضطجاع بعد ركعتي الفجر .......................502
(469) جواز إهداء ثواب القربات للأحياء والأموات ............509
(470) الكف عن ذكر مساوئ الأموات .....................511
(471) تلقين الزوار في المدينة أدعية الزيارة ....................514
(472) ما يفعل عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة ...................515
(473) استعمال جلد النمر، وناب الفيل، والاتجار بهما .............518
(474) من شفع لغيره شفاعة، فلا يقبل منه شيئا عنها .............523(2/321)
(475) حكم استعمال حبوب منع الحمل .....................525
(476) من وطئ أم زوجته .............................527
(477) من شك في وطء زوجته من دبرها ....................528
(478) كفارة وطء الحائض .............................529
(479) النفس المطمئنة والنفس اللوامة والنفس الأمارة .............530
(480) إطلاق اسم السيد على بعض الناس ...................535
(481) السؤال عن غرائب العلم وما لم يقع ...................537
(482) وجوب العدل بين الأولاد ........................542
(483) الحيوانات السائبة .............................544
(484) الاستمناء باليد ...............................546
(485) التصوير ...................................550
(486) استئجار الأجير للتصوير .........................552
(487) الإسراء والمعراج ..............................554
(488) ترجمة زبيدة ..................................563
(489) صلب عيسى عليه السلام ........................565
(490) استبكار المرأة بأنثى ............................570
(491) وضع لافتة الحرمين على المعارض التجارية ..............572
(492) عدد زوجات الرسول عليه السلام وأولاده .............573
(493) تعليم البنات................................577
(494) تدريس الرجل الأعمى للبنات ......................578
(495) من ادعى الولاية ..............................579
(496) مقدار وزن الدينار ............................584
(497) أنواع الشهداء ...............................585
(498) الاحتفال بالمولد ..............................586
(499) قصة واقعية تدل على عذاب القبر ...................593
(500) شرب الدخان، وقصة وقعت لشاربه .................604
(501) قتل الكلاب ................................607(2/322)
(502) الفرق بين الأذى والضرر ........................609
(503) لا تأكل الأرض أجساد الأنبياء .....................613
(504) حيّات البيوت لا تقتل إلا بعد إنذارها ثلاثا ..............615
(505) التلقيح الصناعي ..............................618
الفهرس
فهرس الموضوعات ...................................623
1 - البخاري (2365، 3318، 3482) ومسلم (2619) و(2756).
2 - مسلم (1569).
3 - أبو داود (3479) والترمذي (1279) وفيه: "ثمن الكلب والسنور"، وقال الترمذي: هذا حديث في إسناده اضطراب، ولا يصح في ثمن السنور. اهـ.
4 - "كشاف القناع" (3/ 1401).
5 - "جامع العلوم والحكم" (2/ 453).
6 - أحمد (3/402) وأبو داود (3503) والترمذي (1232) والنسائي "كبرى" (4/39) "مُجتبى" (7/289) وابن ماجه (2187) وصححه الشيخ الألباني في "الإرواء" (1292).
7 - سبق تخريجه في الفتوى السابقة.
8 - " أبو داود (3504) والترمذي (1234) والنسائي "كبرى" (4/ 39) "مجتبى" (7/ 288).
9 - (1/234).
10 - "شرح السنة" (8/ 140).
11 - سبق تخريجه.
12 - انظر "الاختيارات" ص (122).
13 - " صـ 122.(2/323)
14 - " أحمد (2/ 28) و"الطبراني الكبير": (12/433)، وأبو يعلى (10/29)، والبيهقي في "الشعب" (4/13، 7/434) من طريق عطاء بن أبي رباح، عن ابن عمر، قال ابن أبي حاتم في "المراسيل" (154): "قال أبو عبدالله -يعني: أحمد بن حنبل-: عطاء -يعنى: ابن أبي رباح- قد رأى ابن عمر ولم يسمع منه. اهـ. وقال البيهقي في "السنن الكبرى" (5/316): وروي ذلك من وجهين ضعيفين عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر. اهـ. وأخرجه أبو داود (3462) والبيهقي في "السنن الكبرى" (5/ 316) من طريق عطاء الخراساني، أن نافعا حدثه عن ابن عمر به، وليس فيه لفظ "إذا ضن.." وقال أبو نعيم في "الحلية" (5/ 208، 209): غريب من حديث عطاء، عن نافع؛ تفرد به حيوة، عن إسحاق اهـ. وله شاهد ضعيف من طريق فضالة بن حصين عن أيوب عن نافع، به.
15 - سورة البقرة: الآية (275).
16 - عبد الرزاق في "مصنفه" (8/ 184، 185) والدارقطني في "السنن" (3/ 52) والبيهقي (5/330،331).
قال الدارقطني في "السنن" (3/ 52): أم محبة والعالية مجهولتان، لا يحتج بهما. اهـ.
17 - أخرجه ابن أبي شيبة (6/ 47، 48)، ومن طريقه ابنُ حزم في "المحلى" (9/ 106).
18 - "مجموع الفتاوى" (9/302، 303، 442، 501، 502).
19 - "مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى" (3/61) للشيخ مصطفى السيوطي الرحيباني. ط. المكتب الإسلامي.
20 - ص (122).
21 - "الحاشية على الروض المربع" (2/ 84).
22 - "المجموعة الكاملة" (الفتاوى 7/ 252).
23 - " أحمد (5/ 261) والطبراني (8/ 284) وأبو داود (3541) قلت: وقال ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (2/754): عبيدالله ضعيف عظيم، والقاسم أشد ضعفا. وقال المنذري في "مختصر السنن" (5/189): والقاسم هو ابن عبدالرحمن الأموي مولاهم الشامي وفيه مقال.
24 - مسلم (1711) وكذا البخاري بنحوه (4552) من حديث ابن عباس.
25 - البخاري (2213، 2214، 2257، 2495، 2496، 6976) بنحوه وأبو داود (3514)، وأحمد (3/ 296).(2/324)