الفتوى رقم: 983
في حكم أكل الحرباء
السؤال:
أعاني من مرضٍ في صدري، وقد وَصَفَ لي أحدُ المعالجين بالأعشاب الطبية أن آخذ (الحِرباء)، فأقتلها ثمَّ أتركها تجفُّ، وبعدما تيبس أقطعها وأُخْلِطها مع أعشاب أخرى وآكلها، فهل يجوز التداوي بمثل هذه الحيوانات على الشكل الذي وصفت وشكرًا ؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالعلماءُ وضعوا ضابطًا للحيوان المحرَّم أكله يظهر وجهه كالتالي: «كلُّ ما نُصَّ على تحريمه بعينه كالخِنْزِير والميتة والحُمُر الأهلية، أو ما وضع له حدٌّ وضابط كذوات الأنياب من السباع، أو مخلب من الطير، أو ما يأكل الجيف كالغراب والرخمة، أو ما تولد من مأكول وغير مأكول كالبغل، أو ما أمر الشارع بقتله كالفواسق الخمس، أو نهى عن قتله كالنحلة والنملة والضفدع والهدهد والصُرَد، أو ما يستخبث كالفأرة والحية والعقرب والحرباء والخنافس والجعلان والديدان ونحو ذلك».
وأكل الخبائث محرَّم بإجماع المسلمين لقوله تعالى: ?يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ? [الأعراف: 157]، وفضلاً عن كون الحرباء محرَّمة الأكل لكونها من الخبائث فإنها تستعمل أيضًا في السِّحر والكهنة، كشأن الحية والعقرب وغيرهما من الخبائث الأخرى.
وتجدر الملاحظة إلى أنَّ معيار معرفة الخبائث من الطيِّبات هو ما كان عليه حال العرب الحجازيين من أهل الأمصار ممَّن نزل عليهم الكتاب وخوطبوا بالسُّنَّة، فيما يستطيبونه أو يستخبثونه، ولا يُلحق بهم العرب أهل البوادي؛ لأنهم كانوا يأكلون للضرورة والمجاعة ما وجدوا.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 21 صفر 1430ه
الموافق ل: 16 فيفري 2009م(11/13)
03- الأضحية
الفتوى رقم: 544
في حكم تخصيص الأكل من الكبد في الأضحية
السؤال:
كان النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم لا يُفْطِرُ حتى يأكلَ من أضحيتِه، فهل الأكلُ عامٌّ من أيِّ جزءٍ من الأُضحية أو -كما يقول العامَّة- مِن الكَبِدِ، وما حكمُ تخصيصِ الأكلِ مِنَ الكبد؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وأصحابه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فالثابتُ من حديث بُرَيْدَةَ رضي الله عنه قال:« كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لاَ يَخْرُجُ يَوْمَ الفِطْرِ حَتَّى يَطْعَمَ، وَلاَ يَطْعَمُ يَوْمَ الأَضْحَى حَتَّى يُصَلِّيَ »(1)، وفي رواية:« وَكَانَ لاَ يَأْكُلُ يَوْمَ النَّحْرِ حَتَّى يَرْجِعَ »(2).
والحكمةُ من فِعْلِهِ صلَّى الله عليه وآله وسلم موافَقَتُهُ للفقراء -كما ذهب إليه أهلُ العلم-؛ لأنّ الظاهرَ أَنْ لا شيءَ لهم إلاّ ما أطعَمَهُمُ النَّاسُ من لحومِ الأضاحِي، وهو متأخِّرٌ عن الصَّلاة، بخلاف صدقةِ الفِطْرِ، فإنها متقدّمةٌ عن الصلاةِ، وقد ذُكِرَتْ حِكمةٌ أخرى وهي: لِيَكُونَ أَوَّلَ ما يَطْعَمُ من أضحيته امتثالاً لقوله تعالى: ?فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ? [الحج: 28]، سواءً قيل بوجوبه أو بِسُنِّيَّنِهِ.
هذا، وقد وردت سُنَّتُهُ في مُطلقِ الأكلِ من غير تحديدِ عُضْوٍ أو تخصيصِ مَوْضِعٍ، وإنما جاء اختيار الكَبِدِ في لسانِ بعضِهم لا -من جهة التعبُّدِ لافتقاره إلى دليل يعضده- وإنما الجاري عادةً كونُ الكبدِ أخفَّ الأعضاء انتزاعًا وأسرَع نُضْجًا وأسهلَ هضمًا.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 26 من ذي القعدة 1427ه
الموافق ل: 17 ديسمبر 2006م
__________
1- أخرجه الترمذي في «أبواب العيدين » (542)، وابن حبان (2812)، وابن خزيمة (1426)، من حديث بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه. قال ابن الملقن في «البدر المنير » (5/70):« حسن صحيح »، وصحّحه الألباني في «مشكاة المصابيح » (1440).
2- أخرجه ابن ماجه في «الصيام » (1756)، من حديث بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه. وصحّحه الألباني في «صحيح ابن ماجه » (1756).(11/14)
الفتوى رقم: 578
في حكم الاشتراك في الأضحية
السؤال:
ما حُكمُ الشرعِ في الاشتراك في الأضحية سواءً من حيث الثمنُ أو من حيث الثوابُ، وذلك في البَدَنَة والبقرة والشياه، خاصّة وأنّ حديث جابر رضي الله عنه يتكلَّمُ عن البدنة والبقرة فقط؟
- هل تَمَّ الاشتراك في الأُضحية في عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم أو في عهد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم خاصّة الشاة ؟
- هل أجمع العلماء خاصّة الأئمّة الأربعة على عدم الاشتراك في الشاة مثل ما جاء في بداية المجتهد(1)؟
- هل تكلَّم العلماءُ في الاشتراك في الشاة ممَّن كانت تجمعهم نفقةٌ واحدة أي أنّ ربّ البيت يأخذ كلّ شهر نصيبًا من ابنه للنفقة على البيت وحين يحلُّ العيد يفعل كذلك في شراء الشاة؟
- هل يصحُّ الاستدلال بحديث مِخْنَف بن سُلَيم رضي الله عنه:« كُنَّا وُقُوفًا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَةَ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ:« يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ عَلَى كُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ فِي كُلِّ عَامٍّ أُضْحِيَةً وَعَتِيرَةً »(2)، وسنده حَسَنٌ عند بعض العلماء إلاَّ أننا سمعنا أنه ضعيف على هذا المنوال، وإنما الصحيح قوله ابتداءً من:« عَلَى أَهْلِ كُلِّ بَيْتٍ… ».
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فالاشتراكُ في البَدَنة والبقرة جائزٌ لِمَا أخرجه الخمسةُ إلاَّ أبا داود من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال:« كُنّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَحَضَرَ الأَضْحَى فَذَبَحْنَا البَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ وَالبَعِيرَ عَنْ عَشَرَةٍ »(3)، والحديث يَدُلُّ على جواز الاشتراك بالعدد المخصوص سبعة أنفار للبقرة، وعَشْرُ أنفس للبَدَنة، ويشهد له ما في الصحيحين من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه:« أنّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَدَلَ عَشْرًا مِنَ الغَنَمِ بِبَعِيرٍ »(4)، أمَّا الشاة ففي الاشتراك فيها محلُّ خِلافٍ بين أهل العلم، وذهب بعض أهل العلم إلى أنّ الشاة لا تجزئ إلاَّ عن نفس واحدة، وهو قول عبد الله بن المبارك وغيرِه من أهل العلم، وقد ادَّعى كُلٌّ مِن ابنِ رُشْدٍ والنووي الإجماع على ذلك، وهو إجماعٌ مُنْتَقَضٌ بما حكاه الترمذي في سُنَنِه أنَّ الشاة تجزئ عن أهل البيت، قال: والعمل على هذا عند أهل العلم، وهو قول أحمد وإسحاق واحتجَّا بحديث جابر رضي الله عنه:« أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ فَقَالَ: هَذَا عَمَّنْ لَمْ يُضَحِّ مِنْ أُمَّتِي »(5).
وأصحُّ الأقوال أنَّ الشاة تجزئ عن المضحِّي وأهل بيته لما رواه ابن ماجه والترمذي وصحّحه من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال:« كَانَ الرَّجُلُ يُضَحِّي بِالشَّاةِ عَنْهُ وَعَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ فَيَأْكُلُونَ وَيُطْعِمُونَ حَتَّى تَبَاهَى النَّاسُ فَصَارَتْ كَمَا تَرَى »(6)، غير أنّ المضحِّيَ يحصل على الثواب أصالةً وأهلَ بيته تجزئهم بالتَّبَعِ، ودليله حديث رافع بن خديج وحديث ابن عباس رضي الله عنهم ففيهما دلالة واضحة أنَّ البعير يجزئ عن العشرة بذواتهم وأعيانهم حقيقة إذ ليس مقرونًا بلفظ أهل البيت المذكور في حديث أبي أيوب السابق، فإنّ ذلك يفيد دخولَهم بالتبع والإضافة لا بالأصالة والحقيقة، ويؤيِّد ما ذكرنا أنّ الزوجة مثلاً لو تَمَتَّعت بالحجِّ أو قرنت لَمَا يكفي هدي زوجها في الإجزاء عنها، فَدَلَّ على أنّ إجزاءه في الأضحية ليس بالأصالة، وثواب الأصيل فوق ثواب التابع كما لا يخفى.
أمّا حديث مِخْنَفِ بْنِ سُلَيْمٍ فقد أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم وفي إسناده أبو رملة واسمه عامر، قال الخطابي: هو مجهول والحديث ضعيفُ المَخرج(7)، وقال أبو بكر بن العربي المالكي:« حديث مخنف بن سليم ضعيف فلا يحتجّ به »(8)، كما ضعّفه عبد الحقّ وابن القطان لعلّة الجهل بحال أبي رملة، ورواه عنه ابنه حبيب بن مِخنف وهو مجهول أيضًا(9)، وقد رواه من هذا الطريق عبد الرزاق في «مصنّفه »، ومن طريق عبد الرزاق رواه الطبراني في «معجمه » بسنده، والبيهقي في «المعرفة » لذلك حسّنه الألباني في «صحيح أبي داود »(10) وفي «صحيح سنن الترمذي »(11) وفي«صحيح ابن ماجه »(12).
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 7 ذو الحجة 1417ه
الموافق ل: 15 أفريل 1997م
__________
1- (1/420).
2- أخرجه أبو داود في «الأضاحي » باب باب ما جاء في إيجاب الأضاحي (2788)، والترمذي في «الأضاحي » (1518)، والنسائي في «الفَرَع والعتيرة » باب الفرع والعتيرة (4222)، وابن ماجه في «الأضاحي » باب الأضاحي واجبة هي أم لا؟ (3125)، من حديث مخنف بن سليم رضي الله عنه. وحسَّنه الألباني في «المشكاة » (التحقيق الثاني) (1478).
3- أخرجه الترمذي في «الحجِّ » باب في الاشتراك في البدنة والبقرة (905)، والنسائي في «الضحايا » باب ما تجزئ عنه البدنة في الضحايا (4392)، وابن ماجه في «الأضاحي » باب عن كم تجزئ البدنة والبقرة؟ (3131)، وأحمد (2480)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. والحديث صححه ابن القطان في «الوهم والإيهام » (5/410)، وقال ابن الملقن في «البدر المنير »:« جميع رجاله ثقات » (9/304)، وصحّحه الألباني في «المشكاة » (1469).
4- أخرجه البخاري في «الشركة » باب من عدل عشرا من الغنم بجزور في القسم (2324)، ومسلم في «الأضاحي » (5093)، من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه.
5- أخرجه أبو داود في «الضحايا » (2810)، والترمذي في «الأضاحي » (1521)، والحاكم (7553)، وأحمد (14477)، والبيهقي (19720)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. والحديث حسّنه ابن حجر في «المطالب العالية » (3/32)، وصحّحه الألباني في «الإرواء » (4/394).
6- أخرجه الترمذي في «الأضاحي » باب ما جاء أن الشاة الواحدة تجزئ عن أهل البيت (1505)، وابن ماجه في «الأضاحي » باب من ضحى بشاة عن أهله (3147)، ومالك في «الموطإ » (1040)، والبيهقي (19526)، من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه. وصحّحه الألباني في «الإرواء » (1142).
7- انظر:« معالم السنن » للخطابي: (3/226).
8- عارضة الأحوذي لابن العربي: (6/304).
9- انظر:« نصب الراية » للزيلعي: (4/211).
10- «صحيح أبي داود »: (2/183) رقم (2788).
11- «صحيح سنن الترمذي »: (2/165) (1518).
12- «صحيح ابن ماجه »: (3/82) (2550).(11/15)
الفتوى رقم: 830
في السن المجزئة في أضحية العيد
السؤال:
ماهو سنُّ الشاة المجزئة في أضحية العيد؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالأصلُ في الأُضحية أنه لا يجزئ منها إلاَّ بهيمة الأنعام، وهي: الإبل والبقر والضأن والمعز، لقوله تعالى: ?لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ? [الحج : 34]، أمّا السنُّ المجزئة فإنها هي الثَّنِيُّ من كُلِّ شيء؛ فالثَّنِيَّةُ من الإبل: ما له خمسُ سنين ودخل في السادسة.
والثنية من البقر: ما له سنتان ودخل في الثالثة.
والثنية من الضأن: ما له سنة ودخل في الثانية.
والثنية من المعز: ما له سنة ودخل في الثانية.
ولا يجزئ في الأضحية دون هذا السنِّ فيهم جميعًا، باستثناء ما إذا تعسَّر الثَّنِيُّ من الضَّأْنِ، فإنه يجزئ الجَذَعُ، وهو: ما له ستة أشهر، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« لاَ تَذْبَحُوا إِلاَّ مُسِنَّةً؛ إِلاَّ أَنْ يَعْسُرَ عَلَيْكُمْ فَتَذْبَحُوا جَذَعَةً مِنَ الضَّأْنِ »(1)، فظاهرُ الحديثِ يقضي بعدم إجزاء الجَذَعِ من الضَّأْنِ إلاَّ عند العَجْزِ عن المُسِنَّةِ، أمَّا الأحاديثُ الواردةُ في جواز الجذع من الضأن في الأضحية فإنَّ الصحيحَ منها يُحمَلُ على العجز عن المسنَّة لعدم وجودها في الحال أو لغلاء سِعرها، لحديث عاصم بن كليب عن أبيه، قال:« كُنَّا نُؤَمِّرُ علينا في المغازي أصحابَ مُحمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، وكُنَّا بفارس، فغَلَتْ علينا يوم النحر المسان، فكنا نأخذ المسنة بالجذعين والثلاثة، فقام فينا رجل من مزينة فقال: كُنَّا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم فأصبنا مثل هذا اليوم فكُنَّا نأخذ المسنَّة بالجذعين والثلاثة، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« إِنَّ الجَذَعَ يُوفِي مِمَّا يُوفِي مِنْهُ الثَّنِيُّ »(2).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 14 المحرم 1429ه
الموافق ل: 22/01/2008م
__________
1- أخرجه مسلم في «الأضاحي »، باب سن الأضحية: (5082)، وأبو داود في «الضحايا »، باب ما يجوز من السن في الضحايا: (2797)، وابن ماجه في «الأضاحي »، باب ما تجزئ من الأضاحي: (3141)، وأحمد في «مسنده »: (14093)، من حديث جابر رضي الله عنه.
2- أخرجه أبو داود في «الضحايا »، باب ما يجوز من السن في الضحايا:(2799)، والنسائي في «الضحايا »، باب المسنة والجذعة: (4383)، وابن ماجه في «الأضاحي »، باب ما تجزئ من الأضاحي: (3140)، والحاكم في «المستدرك »: (7538)، من حديث مجاشع بن مسعود رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في «الإرواء »: (1146).(11/16)
الفتوى رقم: 885
في وجوب الأضحية على الموسر
السؤال:
على مَن تجب أُضحية العِيد؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فتجب الأُضحيةُ على الموسِرِ الذي يَقْدِرُ عليها فاضلاً عن حوائجه الأصلية، وهو مذهبُ الأحناف وبعضِ المالكية، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« مَنْ كَانَ لَهُ سَعَةٌ وَلَمْ يُضَحِّ فَلاَ يَقْرَبَنَّ مُصَلاَّنَا »(1)، ويؤيِّده ما رواه مِخْنَفُ بنُ سُلَيْمٍ أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قال بعرفةَ:« يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ عَلَى كُلِّ أَهْلِ بَيْتٍ فِي كُلِّ عَامٍ أُضْحِيَة وَعَتِيرَة »(2)، وقد نُسختِ العتيرةُ بقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« لاَ فَرَعَ وَلاَ عَتِيرَةَ »(3)، ولا يلزم من نسخ العتيرة نسخ الأُضحية، إذ لا تلازمَ بين الحُكمين حتى يلزم مِن رفع أحدِ الحكمين رفعُ للآخر، وممَّا يُرجِّح هذا القولَ ما رواه جُنْدُبُ بنُ سفيان البَجَلِيُّ قال: شهدتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم يومَ النَّحْرِ قال:« مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّي فَلْيُعِدْ مَكَانَهَا أُخْرَى، وَمَنْ لَمْ يَذْبَحْ فَلْيَذْبَحْ »(4)، وهو ظاهرُ الوجوب لا سِيَّمَا مع الأمر بالإعادة(5).
قال ابن تيمية -رحمه الله-:« وأمَّا الأضحية فالأظهر وجوبها، فإنها من أعظم شعائر الإسلام، وهي النسك العام في جميع الأمصار، والنُّسُك مقرون بالصلاة في قوله تعالى: ?قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ? [الأنعام: 162]، وقد قال تعالى: ?فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ? [الكوثر: 2]، فَأَمَرَ بالنحر كما أمر بالصلاة »، ثمَّ قال:« ونفاةُ الوجوب ليس معهم نصٌّ، فإنَّ عمدتهم قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« مَنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ وَدَخَلَ العَشْرُ فَلاَ يَأْخُذْ مِنْ شَعْرِهِ وَلاَ مِنْ أَظْفَارِهِ »(6)، قالوا: والواجب لا يُعلَّق بالإرادة، وهذا كلامٌ مُجملٌ، فإنَّ الواجبَ لا يوكل إلى إرادة العبد، فيقال: إن شئت فافعله، بل يُعلَّق الواجب بالشرط لبيان حُكمٍ من الأحكام، كقوله تعالى: ?إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ? [المائدة: 6]، وقد قَدَّروا فيه: إذا أردتم القيام، وقَدَّروا: إذا أردت القراءة فاستعذ، والطهارة واجبةٌ، والقراءةُ في الصلاة واجبةٌ، وقد قال: ?إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ، لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ? [التكوير: 27-28]، ومشيئة الاستقامة واجبة »(7).
قلت: وأمَّا الاستدلال بالآثار المروية عن أبي بكر وعمر وأبي مسعود رضي الله عنهم في سقوط وجوب الأضحية فإنَّ الصحابة اختلفوا في حكمها، والواجبُ التخيُّر مِن أقوالهم ما يوافقه الدليل وتدعِّمه الحُجَّة، وهي تشهد للقائلين بالوجوب على الموسِر، ومن جهة أخرى فإنَّ الآثار المرويةَ موقوفةٌ معارضةٌ للنصوص المرفوعة المتقدِّمة، و«المَرْفُوعُ مُقَدَّمٌ عَلَى المَوْقُوفِ » على ما هو مقرَّر أُصوليًّا.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 30/ربيع الأول/1429ه
الموافق ل: 06/04/2008م
__________
1- أخرجه ابن ماجه في «سننه » كتاب الأضاحي، باب الأضاحي واجبة هي أم لا: (3123)، والحاكم في «المستدرك »: (7565)، والدارقطني في «سننه »: (4/276)، وأحمد في «مسنده »: (8074)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث حسّنه أحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد »: (16/120)، والألباني في «تخريج مشكلة الفقر »: (102).
2- أخرجه أبو داود في «سننه » كتاب الأضاحي، باب ما جاء في إيجاب الأضاحي: (2788)، والترمذي في «سننه » كتاب الأضاحي: (1518)، والنسائي في «سننه » كتاب الفَرَع والعتيرة، باب الفرع والعتيرة: (4222)، وابن ماجه في «سننه » كتاب الأضاحي، باب الأضاحي واجبة هي أم لا؟: (3125)، من حديث مخنف بن سليم رضي الله عنه. وحسَّنه الألباني في «المشكاة » (التحقيق الثاني): (1478).
3- أخرجه البخاري في «صحيحه » كتاب العقيقة، باب العتيرة: (5157)، ومسلم في «صحيحه » كتاب الأضاحي، باب الفرع والعتيرة: (5116)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
الفَرَعُ: أول ما تلده الناقة، كانوا يذبحونه لآلهتمهم، فنهي المسلمون عنه. [«النهاية » لابن الأثير: (3/435)]، والعتيرة: شاة تذبح في رجب. [«النهاية » لابن ألأثير: (3/187)].
4- أخرجه البخاري في «صحيحه » كتاب الأضاحي، باب من ذبح قبل الصلاة أعاد: (5242)، ومسلم في «صحيحه » كتاب الأضاحي، باب وقتها: (5064)، من حديث جندب بن سفيان البجلي رضي الله عنه.
5- «السيل الجرار » للشوكاني: (4/74).
6- أخرجه مسلم في «صحيحه » كتاب الأضاحي، باب نهي من دخل عليه عشر ذي الحجة وهو يريد التضحية...: (5117)، وأبو داود في «سننه » كتاب الضحايا، باب الرجل يأخذ من شعره في العشر: (2791)، والترمذي في «سننه » كتاب الأضاحي، باب ترك أخذ الشعر لمن أراد أن يضحي: (1523)، والنسائي في «سننه » كتاب الضحايا، باب الضحايا: (4361)، من حديث أم سلمة رضي الله عنها.
7- «مجموع الفتاوى » لابن تيمية: (23/162).(11/17)
04- العقيقة
الفتوى رقم: 329
تعريف العقيقة
السؤال: ما هو التعريف الصحيح للعقيقة، و هل يكره تسميتها بالعقيقة ؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فالعقيقة أو النسيكة اسم لما يذبح عن المولود، أو هي الذبيحة التي تذبح عن المولود يوم سابعه، وهذا التعريف إنّما هو جار على من يجيز النسيكة بغير الشاة كالبقر والجزور وغيرهما من الأصناف الثمانية عملا بالإجماع الذي نقله ابن عبد البر- رحمه الله تعالى- عن العلماء أنّه لا يجوز في العقيقة إلاّ ما يجوز في الضحايا من الأزواج الثمانية إلاّ من شذَّ ممّن لا يُعتد بخلافه، أمّا قول مالك -رحمه الله- تستحب العقيقة ولو بعصفور فإنّه خرج مخرج التقليل والمبالغة لقول مالك رحمه الله: » العقيقة بمنزلة النسك والضحايا«.ولا يخفى أنّه لا يجوز في النسك والضحايا إلاّ الأنعام في الأصناف الثمانية (1).
أمّا من قصر إجزاء العقيقة في الشاة دون غيرها، عرّف العقيقة بأنّها » الشاة التي تذبح عن المولود يوم سابعه«. هذا والأصل في معناها اللغوي هو الشعر الذي يولد عليه كلّ مولود من النّاس والبهائم، ثمّ أسمت العرب الذبيحة عند حلق شعر المولود عقيقة على عادتهم في تسمية الشيء بسببه أو ما يجاوره.
أمّا الجزئية الثانية من السؤال وهي: هل يكره تسميتها بالعقيقة؟ ففيه من يرى كراهة تسميته بالعقيقة لكراهة النبي صلى الله عليه وسلم للعقوق(2)، وإنّما تسمى عندهم بالنسيكة، وذهب آخرون إلى أنّه يُباح تسميتها بذلك من غير كراهة لورود لفظ العقيقة في أحاديث متعددة منها قوله صلى الله عليه وسلم من حديث سلمان
ابن عامر الضبي رضي الله عنه : مع الغلام عقيقة، فأهريقوا عنه دماً، وأميطوا عنه الأذى(3).
وعن سمرة رضي الله عنه أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" كلّ غلام مرتهن بعقيقته، تذبح يوم سابعه ويحلق ويسمى"(4) وعن عائشة رضي الله عنها قالت: »أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نعق عن الجارية شاة وعن الغلام شاتين"(5).
كما وردت لفظة النسيكة في مواضع أخرى من الأحاديث منها قوله صلى الله عليه وسلم: » من ولد له ولد فأحب أن ينسك عنه فليفعل«(6) ،ونظير ذلك تسمية العشاء بالعتمة.
والراجح الصحيح في هذه المسألة أنّ الأولى تسميتها بالنسيكة خشية هجر هذا الاسم ولما في العقيقة من الإشهار بالعقوق، فالتسمية بها خلاف الأولى، بمعنى أنّه يجوز تسميتها بالعقيقة لكن شريطة أن لا يهجر الاسم الشرعي لها وهو النسيكة، وإن أطلق عليها اسم العقيقة كما هو الشأن بالنسبة للعشاء بالعتمة، فلا يضرّ ذلك، وإنّما الكراهة في هجر الاسم الشرعي لها.
والله أعلم وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما.
__________
1- الاستذكار لابن عبد البر (5/320-321).
2- كما في قوله "لا أحب العقوق" أخرجه أبو داود في العقيقة (2842)، والنسائي (7/145) وانظر السلسلة الصحيحة (4/1655)، وصحيح الجامع الصغير (1/1849) للألباني ومشكاة المصابيح (2/4156) أيضا.
3- رواه البخاري في العقيقة (5471 / 5472) والنسائي في العقيقة (7/164) وابن ماجة في الذبائح (3164) وانظر صحيح الجامع للألباني (2/5877) ومشكاة المصابيح للألباني (2/4149).
4- البخاري (4572) وأبوداود في الأضاحي (2838) والترمذي في الأضاحي (1522) والنسائي في العقيقة (7/166) وابن ماجة في الذبائح (3165) وأحمد في المسند (5/7 و17،22) .
5- رواه أحمد في المسند (6/158، 251) والترمذي في الأضاحي (1513) وابن ماجة في الذبائح (3163) وصححه الألباني في الإرواء (1166) والسلسلة الصحيحة (6/2720).
6- أخرجه أبو داود (2842) في العقيقة وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (2/7135) وفي المشكاة (2/4156).(11/18)
الفتوى رقم: 330
حكم العقيقة
السؤال: ما هو الحكم الشرعي للنسيكة أو للعقيقة؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وأصحابه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فالمختار من قولي العلماء أنّ النسيكة سنة واجبة على المولود له، لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها وعمل بها كما ثبت ذلك من حديث سلمان بن عامر الضبي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: » مع الغلام عقيقة، فأهريقوا عنه دماً، وأميطوا عنه الأذى«(1)، وهذا يدل على الوجوب من جهة إخباره عن الواجب في قوله » مع الغلام عقيقة« ، ثمّ أمرهم من جهة أخرى أن يخرجوا عنه، ومن ذلك أيضا حديث الحسن عن سمرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: »كلّ غلام مرتهن بعقيقته، تذبح عنه يوم سابعه ويحلق ويسمى«(2) ووجهه ظاهر في الوجوب لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم جعل تنشئته تنشئة صالحة وحفظه حفظا كاملا مرهونا بالذبح عنه، والعقيقة تفك الرّهان عن المولود، وكذلك يشهد على حكم الوجوب حديث أمّ كرز الكعبية رضي الله عنها أنّها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العقيقة فقال: »عن الغلام شاتان وعن الأنثى واحدة لا يضركم أذكراناً كُنَّ أم إناثاً«(3) وكذلك حديث عائشة رضي الله عنها قالت: »أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نعق عن الجارية شاة وعن الغلام شاتين« (4) وأوامر الشرع كما هو معروف في القواعد الأصولية تحمل على الوجوب ما لم ترد قرينة صارفة،وكان بريدة الأسلمي رضي الله عنه راوي الحديث يوجبها ويشبهها بالصلاة و"الراوي أعلم بما روى".
أمّا من تمسك بالاستحباب فيرى أنّه لو كانت واجبة لكان وجوبها معلوما من الدين، ولبيّن النبي صلى الله عليه وسلم وجوبها للأمّة بياناً عامّاً كافياً ينقطع معه العذر، لأنّ الحاجة تدعو إليه وتعمّ به البلوى، ولأنّه علقها النبي صلى الله عليه وسلم بمحبة فاعلها كما في قوله صلى الله عليه وسلم: » من ولد له ولد فأحب أن ينسك عنه فليفعل«(5) فهي قرينة صارفة من الوجوب إلى الاستحباب، ولا يخفى أنّ النصوص الحديثية الآمرة بالعقيقة على المولود جاءت على غاية من البيان وإذا كانت طاعته في أوامره أوكد من الاقتداء في أفعاله المخالفة لها، فإنّ العمل بأوامره المطابقة لأفعاله أولى وأوكد، قال تعالى: ?لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً? [الأحزاب: 21] وقال تعالى أيضا: ?فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ? [الأعراف: 158] وعليه يجب العمل بها سواء عمّت البلوى أو خصت كما هو مقرر أصوليا من مذهب الجمهور، أمّا حديث :" من ولد له ولد فأحب أن ينسك عنه فليفعل" فنظيره قوله تعالى: ? لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ? [التكوير:27] والاستقامة لا شك أنّها ليست مستحبة، وإنّما هي واجبة ومعلوم وجوبها بأدلة الشرع. وكذلك قوله تعالى: ?إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا? [البقرة: 158] ولا يخفى أنّ السعي بين الصفا والمروة ركنٌ، وظاهر الآية يدلّ على أنّه مشروع، وهذه الركنية استفيدت أيضا من أحاديث أخرى، كقوله صلى الله عليه وسلم » اسعوا فإنّ الله كتب عليكم السعي« (6) وكذلك قوله » خذوا عني مناسككم«(7) والنبي صلى الله عليه وسلم قد سعى بين الصفا والمروة فدلّ هذا على وجوبه، ونظير ما تقدم أيضا قوله صلى الله عليه وسلم » إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره«(8) وليس في قوله » وأراد أحدكم« أنّ الأضحية ليست بواجبة بل هي واجبة على الموسر القادر عليها بالنصوص الموجبة لذلك.
والله أعلم وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما
__________
1- رواه البخاري في العقيقة (5471 / 5472) والنسائي في العقيقة (7/164) وابن ماجة في الذبائح (3164) وانظر صحيح الجامع للألباني (2/5877) ومشكاة المصابيح للألباني (2/4149).
2- أخرجه أبوداود في «الأضاحي »، باب في العقيقة: (2838)، والترمذي في «الأضاحي »، باب من العقيقة: (1522)، والنسائي في «العقيقة »، باب متى يعق: (4220)، وابن ماجه في «الذبائح »، باب العقيقة: (3165)، والحاكم في «المستدرك »: (7587)، وأحمد: (19676)، من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه. والحديث قال عنه ابن حجر في «فتح الباري » (9/507):« رجاله ثقات »، وصححه ابن الملقن في «البدر المنير »: (9/333)، والألباني في «صحيح الجامع »: (4184).
3- أخرجه أبو داود (2835) والترمذي (1515) والنسائي (4218) وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (2/4106) وفي المشكاة (2/4152)
4- رواه أحمد في المسند (6/158، 251) والترمذي في الأضاحي (1513) وابن ماجه في الذبائح (3163) وصححه الألباني في الإرواء (1166) والسلسلة الصحيحة (6/2720).
5- أخرجه أبو داود (2842) في العقيقة وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (2/7135) وفي المشكاة (2/4156).
6- أخرجه أحمد (6/421) وصححه الشيخ الألباني في الإرواء( 1072) وفي صحيح الجامع (1/968)
7- أخرجه مسلم (9/44) والنسائي (5/270) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
8- رواه مسلم كتاب الأضاحي باب:نهي من دخل عليه شهر ذي الحجة وهو مريد للتضحية والنسائي:كتاب الضحايا(4364) وابن ماجه كتاب الأضاحي باب من أراد أن يضحي فلا يأخذ في العشر (3149) وأحمد(26354) ط دار القاهرة.(11/19)
الفتوى رقم: 331
شروط العقيقة
السؤال: هل يشترط في شاة النسيكة ما يشترط في شاة الأضحية؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وأصحابه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فالنسيكة بمنزلة النسك والضحايا والهدي فيجري فيها ما يجري في الهدي والأضحية من الأحكام، وفي الصدقة والهدية والهبة وكلّ تقرب إلى الله سبحانه وتعالى، فاعتبر السنّ الذي يجزئ فيها, ولا تجوز فيها عوراء ولا عجفاء ولا عرجاء ولا مكسورة ولا مريضة ولا يباع من لحمها شيء ولا من جلدها إلى آخر ما هو معروف في أحكام الأضحية، إلاّ أنّ العقيقة لا يجوز الاشتراك فيها وهو ما تخالف النسيكة فيه الأضحية والهدي.
والله أعلم وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما.(11/20)
الفتوى رقم: 332
وقت العقيقة
السؤال:
ما هو الوقت الشرعي للنسيكة؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فالوقت الشرعيُّ للنسيكة فإنّه يومُ السابع بعد الولادة إن تيسَّر، ويُحتسب يومُ الولادة من السبع -أي: سبعة أيام- فإن تعذَّر وفاتَ ففي الرابع عشر، وإلاّ ففي اليوم الواحد والعشرين من ولادته، فإن تعسَّر ففي أيِّ يومٍ يقدر على ذلك لقوله صَلَّى الله عليه وآله وسَلَّم من حديث بُريدة الأسلمي رضي الله عنه قال في العقيقة: » تُذْبَحُ لِسَبْعٍ وَلأَرْبَعَ عَشْرَةَ وَلإحْدَى وَعِشْرِينَ »(1).
ولَمَّا كان حُكم النسيكة سُنَّة واجبة على المولود له على أصحِّ الأقوال فتبقى في ذِمَّته كدَيْنٍ يؤدِّيه متى قدر على ذلك, ويحسن هاهنا أن نُلفتَ النظرَ أنّ المولودَ إن ولد ليلاً حُسِبَ اليومُ الذي يليه خلافًا للمالكية، فعندهم يُحْسَبُ يومُ الولادة إن وُلد قبل الفجر أو معه, وإن وُلد بعد الفجر فلا يُعَدُّ اليومُ الذي وُلد فيه، والصحيحُ الأَوَّلُ كما ذكرنا, وهو أنّه إن وُلد المولودُ ليلاً يُحسَبُ اليومُ الذي يليه، وتتعدَّد العقيقةُ بتعدُّد الأولاد.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
__________
1- أخرجه البيهقي في «سننه »: (9/303)، والطبراني في الأوسط من حديث بريدة الأسلمي رضي الله عنه، وصحَّحه الألباني في «صحيح الجامع الصغير »: (2/4132)، وضعَّفه في «إرواء الغليل » (4/395-396). قال الترمذي في «سننه » (5/78):« والعمل على هذا عند أهل العلم يستحبُّون أن يُذبحَ عن الغلام العقيقة يومَ السابع فإن لم يتهيّأ يوم السابع فيوم الرابع عشر فإن لم يتهيأ عقّ عنه يوم حادٍ وعشرين ».(11/21)
الفتوى رقم: 333
اجتماع العقيقة مع الأضحية
السؤال:
إذا اجتمعت النسيكة مع أضحية العيد هل يمكن الاكتفاء بذبيحة واحدةٍ؟
الجواب:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وأصحابه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
ففي مذهب الحنابلة يجوز الاكتفاء بذبيحة واحدة عملا بالقياس، قياسا على اجتماع يوم عيد مع يوم جمعة (1) واكتفاء بغسل واحدٍ لأحدهما ولكن الظاهر أنّه لا يجوز أن يقوم الذبح الواحد عنهما، لأنّهما قربتان مختلفتان لا تجتمعان بفعل واحد إلاّ إذا جاء دليل، ولا دليل على ذلك لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« إنّما الأعمال بالنيات وإنّما لكلّ امرئ ما نوى " (2) ولا شك أنّ مقابلة الجمع الذي هو "الأعمال" للجمع الآخر الذي هو "النيات"، يقتضي القسمة آحادا أي لكلّ عمل نية، هذا هو الأصل ولا يُخرج عن هذا الأصل إلاّ إذا وجد دليل(3) والقياس في التعبدات لايصلح دليلا.
والله أعلم وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما.
__________
1- انظر الإنصاف للمرداوي: (4/101).
2 - متفق على صحته، أخرجه البخاري: (1/9، 35) ومسلم: (13/53) وأصحاب السنن الأربعة من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
3 - انظر مسألة « تشريك قربتين بعمل واحد » في العدد: (4/54) من رسالتي:« محاسن العبارة في تجلية مقفلات الطهارة ».(11/22)
الفتوى رقم: 334
ذبح الشاة الواحدة عن الغلام
السؤال: هل يجزئ الاكتفاء بذبح شاة واحدة عن الغلام؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وأصحابه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فيجوز الاقتصار على شاة واحدة عن الغلام عند عدم القدرة أو عدم الوجدان لفعل النبي صلى الله عليه وسلم عن الحسن والحسين رضي الله عنهما كما هو منقول عن ابن عباس رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم " عَقَّ عن الحسن والحسين كبشاً كبشاً" رواه أبو داود(1) والنسائي، وإن كان لفظ النسائي "كبشين كبشين"(2) هو الأصح. فالأفضل مفاضلة الذكر عن الأنثى بشاتين، وهذا بلا نزاع كما في الأحاديث السابقة، وهذه قاعدة الشريعة فإنّ الله فاضل بين الذكر والأنثى وجعل الأنثى على النصف من الذكر في المواريث والديات والشهادات والعتق، فلا تخرج العقيقة عن هذه القاعدة(3) لكن إذا تعذر عليه فكّ الرهان إلاّ بكبش واحد عن الغلام فإنّه يجزيه -إن شاء الله - .
والله أعلم وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما
__________
1- أخرجه أبو داود (2841)، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، وقال لكن من رواية النسائي :" كبشين كبشين" وهو الأصح.
2- أخرجه النسائي كتاب العقيقة كم يعق عن الجارية(4619)، انظر الإرواء للألباني (1164)
3- ويقوي العمل بهذه القاعدة حديث أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :" أيما امرئ مسلم أعتق مسلما كان فكاكه من النار يجزئ كل عضو منه عضوا منه، وأيما امرئ مسلم أعتق امرأتين مسلمتين كانتا فكاكه من النار يجزئ كل عضو منهما عضوا منه" رواه الترمذي رقم (1547) وصححه الألباني في صحيح الجامع (2697).(11/23)
الفتوى رقم: 335
كسر عظام شاة العقيقة
السؤال: ما مدى صحة الأدلة التي تمنع من تكسير عظام الشاة المذبوحة في العقيقة ؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وأصحابه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
ففي الحقيقة أنّه لم يرد حديث صحيح يمنع كسر عظام الشاة إلاّ حديث مرسل ذكره أبو داود في كتاب المراسيل أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال في العقيقة التي عقتها فاطمة رضي الله عنها عن الحسن والحسين »أن ابعثوا إلى القابلة منها برجل وكلوا وأطعموا لا تكسروا منها عظما »(1) واستحباب عدم كسر عظامها مرويٌ عن جابر بن عبد الله وعن عائشة وعن عطاء وغيرهم رضي الله عنهم وأرضاهم.
والذين كرهوا كسر عظامها تمسّكوا بهذه الآثار عن الصحابة وعن التابعين وبأدلة عقلية، والظاهر أنّه يُستحب عدم كسر عظامها، وأنّها تُقطع جدُولا(2) تفاؤلا بسلامة أعضاء المولود وصحتها وقوتها، أمّا مذهب مالك فجواز كسر عظامها لعدم ثبوت أيّ دليل في المنع والكراهة (3) بل المصلحة تحصل بذلك، لأنّ الكسر يكون من تمام الانتفاع به، ولا يخفى أنّه إن كان الاستحباب لا ينافي الجواز إلاّ أنّه أولى منه في التقديم.
والله أعلم وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما.
__________
1- أورده أبو داود في كتاب المراسيل (ص197).
2- كما قال عطاء:" تقطع جدولا"، وقال أيضا :" تقطع آرابا "، وقول عائشة :" ولا يكسر لها عظم" وبهذا قال الشافعي رحمه الله تعالى انظر تحفة المودود لابن القيم 43.
3- انظر التفريع لابن الجلاب : 1/395 القوانين الفقهية لابن جزي 188.(11/24)
الفتوى رقم: 336
تحنيك الولد
السؤال: ما هو الراجح في مشروعية تحنيك الولد، وما هي كيفية التحنيك (1)
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وأصحابه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فاستحب بعض أهل العلم تحنيك المولود (2) لحديث عائشة رضي الله عنها قالت:« كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤتى إليه بالصبيان فيدعو لهم بالبركة ويحنكهم » (3) وفي الصحيحين من حديث أبي بردة عن أبي موسى قال:" ولد لي غلام فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فسماه إبراهيم وحنكه بتمرة ودعا له بالبركة ودفعه إليَّ، فكان أكبر ولد أبي موسى »(4) وقد ثبتت أحاديث أخرى في هذا الباب منها حديث أنس بن مالك في الصحيحين (5) أيضاً، وحديث أسماء رضي الله عنها(6) وهذه الأحاديث في مجموعها تفيد استحباب تحنيك الصبي عند أهل الصلاح والعلم وأهل الورع والفضل ويدعو له بالبركة، وقد نقل النووي في شرحه لمسلم (7) أنّ تحنيك المولود يوم ولادته سنّة بالإجماع ويحنكه صالحٌ من رجل أو امرأة ويُستحب التحنيك بالتمر، ولو حنّك بغيره حصل التحنيك، أي إذا لم يجد تمرا حنّكه بشيء آخر، ويُستحب أن يكون بشيء حلو، والتمر أفضل، لكن هذه الأحاديث -على الصحيح- إنّما تدلّ على مشروعية التبرك بذات النبي صلى الله عليه وآله وسلم وريقه ولعابه... وهو أمر مجمع عليه، غير أنّه ليس فيها دلالة على جواز التبرك بذوات الصالحين وآثارهم، إذ لم ينقل حصول هذا النوع من التبرك من الصحابة رضي الله عنهم بغيره صلى الله عليه وسلم لا في حياته ولا في مماته، وقد كان فيهم الخلفاء الراشدون وبقية العشرة المبشرين بالجنّة وغيرهم، وهم أفضل القرون لاعتقادهم اختصاص الرسول الله عليه وآله وسلم بمثل هذا التبرك دون سواه، وقد أثبت الشاطبي (8) إجماع الصحابة رضي الله عنهم على ترك ذلك التبرك فيما بينهم حيث يقول:" وهو إطباقهم - أي الصحابة - على الترك، إذ لو كان اعتقادهم التشريع لعمل به بعضهم بعده، أو عملوا به ولو في بعض الأحوال، إمّا وقوفا مع أصل المشروعية وإمّا بناء على اعتقاد انتفاء العلة الموجبة للامتناع"(9) وقال - رحمه الله - في موضع آخر:" فعلى هذا المأخذ: لا يصح لمن بعده الاقتداء به في التبرك على أحد تلك الوجوه ونحوها، ومن اقتدى به كان اقتداؤه بدعة، كما كان الاقتداء به في الزيادة على أربع نسوة بدعة"(10) وعليه فإنّ القول بجواز التبرك بريق الصالحين ولعابهم من جهة التحنيك هو القول بجواز التبرك بذوات وآثار الصالحين قياسًا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا يخفى أنّ مثل هذا القياس فاسد الاعتبار لمقابلته للإجماع المنقول عن الصحابة رضي الله عنهم في تركهم لهذا الفعل مع غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولو كان خيرا لسبقونا إليه، ثمّ إنّ القول بجواز التبرك بآثار الصالحين يقضي بطريق أو بآخر إلى الغلو في الصالحين وعبادتهم من دون الله سبحانه، فوجب المنع من ذلك سدّا لذريعة الشرك.
هذا وفي الأحاديث السابقة ـ أيضا ـ جواز تفويض الشخص الصالح أن يختار لهما اسماً يرتضيه.
والله أعلم وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما.
__________
1- التحنيك هو: مضغ الشئ ووضعه في فم الصبي ودلك حنكه به ( انظر: النهاية لابن الأثير : 1/451 . فتح الباري لابن حجر : 9/588 ).
2- انظر : شرح النووي : 14/372، تحفة المودود لابن القيم: 52، الإنصاف للمرداوي : 4/104.
3- أخرجه مسلم في الطهارة (286) وفي الآداب (2147) وأبو داود في الأدب (5105) من حديث عائشة رضي الله عنها.
4- متفق عليه أخرجه البخاري في العقيقة (5467) ومسلم في الآداب(2145)، من حديث أبي موسى رضي الله عنه.
5- متفق عليه أخرجه البخاري في الجنائز (1301) ومسلم في الآداب(2144)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
6- متفق عليه أخرجه البخاري في مناقب الأنصار(3909)وفي العقيقة(5469) ومسلم في الآداب(2146) وأحمد في المسند(6/246)، من حديث أسماء رضي الله عنها.
7- انظر في: شرحه لصحيح مسلم (14/372).
8- هو أبو اسحاق إبراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي، لازم ابن الفخار البيري، وأخذ عن كبار أئمة زمانه كأبي عبد الله المقري، وأبي سعيد ابن لب، وابن مرزوق الجد، وكانت له مناظرات وأبحاث قيمة في مشكلات المسائل مع كبار أئمة عصره كالقباّب وابن عرفة. وللشاطبي تآليف نافعة منها :" الموافقات" في الأصول، و"الاعتصام" في إنكار البدع، توفي سنة (790ه - 1388م).
{انظر ترجمته في : نيل الابتهاج للتنبكتي : (46) . وفيات الونشريسي :(131) لقط الفرائد للمكناسي : (225) . الفكر السامي للحجوي : (2/4/248). فهرس الفهارس للكتاني : (1/191)}
9- الاعتصام للشاطبي : (2/10).
10- المصدر السابق: (2/9).(11/25)
الفتوى رقم: 337
حلق شعر المولود
السؤال: هل حلق شعر المولود شامل للذكر والأنثى، أم أنّه خاص بالذكر لا يتعدى إلى الأنثى؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وأصحابه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فالظاهر من الأحاديث التي تأمر بحلق شعر المولود أنّها تشمل الذكر والأنثى على حدٍّ سواء، من غير تفريق، لأنّ لفظ المولود يعمهما، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم :" النّساء شقائق الرجال "(1) فما يثبت للرجال يثبت للنّساء، خاصة إذا كان لفظ الحديث عامّاً شاملاً لهما، ولا تخرج النّساء من اللفظ العام إلاّ بدليل، وهو مذهب بعض الحنابلة(2) ويؤكد هذا العموم ما أخرجه الإمام عبد الرزاق في مصنفه أنّ فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم:" كانت لا يولد لها ولد إلاّ أمرت بحلق رأسه، وتصدقت بوزن شعره ورِقاً »(3) وأولادها كما هو معلوم الحسن والحسين وأمّ كلثوم وزينب. ويجدر التنبيه هاهنا إلى أنّ الحلق ينبغي أن يعم الرأس كله، فلا يجوز حلق بعض الرأس وترك البعض الآخر لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن القزع كما في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال:" نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القزع »(4) والقزع مأخوذ من تقزع السحاب أي تقطعه وهو على أنواع منها:
1- حلق مقدمة الرأس وترك مؤخرته.
2- حلق الجوانب وترك الوسط، وهذا فعل الأوباش والسفلة.
3- حلق وسط الرأس وترك الجوانب كما يفعله خدام الكنيسة من النصارى.
4- حلق مواضع من الرأس.
كلّ ذلك يدخل في عموم القزع، ولذلك إذا حلقه يحلقه بكامله ولا يترك موضعا ويحلق موضعاً آخر(5).
والله أعلم وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما.
__________
1- أخرجه أبو داود في:« الطهارة »، باب في الرجل يجد البلة في منامه (236)، والترمذي في:« أبواب الطهارة » باب ما جاء فيمن يستيقظ فيرى بللا ولا يذكر: (113)، وأحمد: (25663)، وأبو يعلى: (4694)، والبيهقي: (818)، من حديث عائشة رضي الله عنها. والحديث صححه الألباني في «صحيح الجامع »: (2333)، وفي «السلسلة الصحيحة »: (2863).
2- الإنصاف للمرداوي : (4/102).
3- مصنف عبد الرزاق: (4/257).
و«الورِق » : الفضة ( النهاية لابن الأثير: 5/175 ).
4- متفق عليه أخرجه البخاري: (5921،5920) ومسلم: (2120) وأبو داود: (4193) والنسائي: (8/130) من حديث ابن عمر رضي الله عنه
5- انظر تحفة المولود لابن القيم :(55،54).(11/26)
الفتوى رقم: 575
حكم الموعظة في العقيقة
السؤال: هل يُشرعُ في العقيقة إلقاءُ كلمةٍ من أحد المشايخ، أو الدعاة الحاضرين؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وأصحابه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فلا أعلم في السنّة أو الآثار مشروعيةَ إلقاءِ كلمة بمناسبة النسيكة والدعوة إليها، ولكنّه إذا صادف الداعية جوًّا أو حالة يحتاج إلى إنكار بدعةٍ أو بيان حُكم أو تعليم سنّة مِن غيرِ تحضيرٍ لها ولا إعدادٍ لمناسبتها، وإنّما يكون ذلك موافقةً فلا بأس بذلك إن شاء الله تعالى.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 20 محرم 1428ه
الموافق ل: 8 فبراير 2007م(11/27)
الفتوى رقم: 579
في الاقتراض للنسيكة
السؤال: هل يشرع الاقتراض للنسيكة؟
الجواب: الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فيختلفُ الأمر باختلاف ما إذا كان المولود له قادرًا على ردِّ القرض أو لا، فإنْ كان قادرًا على ردِّ القرض والوفاء به فإنّه يستحبّ له أن يَسْتَقْرِضَ في العقيقة(1)، لأنّ العقيقة أو النسيكة تَفُكُّ رِهَانَ المولود وينتفع بها غاية الانتفاع، بما في ذلك الدعاء له كما ينتفع بإحضاره مواضع المناسك والإحرام عنه وغير ذلك مِمَّا فَصَّلَهُ شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله تعالى في «تحفة المودود »(2).
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 23 محرم 1428ه
الموافق ل: 11 فبراير 2007م
__________
1- انظر «الإنصاف » للمرداوي: (4/101).
2- انظر الفصل الحادي العشر في (ص: 38) من كتاب «تحفة المودود بأحكام المولود » لابن قيم الجوزية.(11/28)
الفتوى رقم: 580
في أفضلية طبخ لحم العقيقة
السؤال: هل يُشرع جمع الناس للطعام في النسيكة في البيت أو في المسجد؟
الجواب: الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فيستحب طَبْخُها لِمَا فيه من زيادة الإحسان وفيها شُكْرٌ لله على نِعْمَةِ الولدِ، ويأكلُ منها أهلُ البيت وغيرُهم في بيوتِهم، وإطعامُ الناس خيرٌ من تفريق اللَّحم في مكارم الأخلاق والجود، وإنْ دعاهم إلى بيته فلا بأس؛ لأنّ العقيقةَ معدودةٌ من الولائم التي تَجْرِي مَجْرَى الشكر على النعمة وزيادة في الإحسان، وكلّها سبيلها الطبخ، غير أنّ المالكية -كما هو معروف- يكرِّهون عملها وليمة يدعى الناس إليها(1) إلاّ ابن الحبيب(2).
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 23 محرم 1428ه
الموافق ل: 11 فبراير 2007م
__________
1- «القوانين الفقهية » لابن جزي (ص: 188).
2- هو أبو مروان عبد الملك بن حبيب بن سليمان السلمي المرداسي القرطبي، العالم الأديب النحوي المؤرّخ من كبار فقهاء المدرسة المالكية، انتهت إليه الرئاسة بالأندلس بعد يحي ابن يحي، وهو أوّل من أظهر الحديث بالأندلس من مصنفاته:« الواضحة في الفقه والسنن »، وكتاب «الغاية والنهاية » و«فضائل الصحابة » و«تفسير الموطأ » توفي سنة (238ه/852م)، انظر ترجمته في:« تاريخ علماء الأندلس » لابن الفرضي: (1/459)، «ترتيب المدارك » للقاضي عياض: (2/30). «جذوة المقتبس » للحميدي: (282). «بغية الملتمس » للضبي: (377).(11/29)
الفتوى رقم: 581
في حكم العقيقة بغير شاة
السؤال: هل تجزئ العقيقة بغير الشاة؟
الجواب: الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فلا شكّ أنّ العقيقة بالشاة أولى وأفضل لأمره صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم بشاتين عن الغلام وشاة عن الجارية، ولعلّ حُجّة من يرى جوازَ النسيكةِ بالإبل والبقر وغيرهما من الأنعام هو قول النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« مَعَ الغُلاَمِ عَقِيقَةٌ، فَأَهْرِيقُوا عَنْهُ دَمًا، وَأَمِيطُوا عَنْهُ الأَذَى »(1)، ولم يفصِّل في مقام الاحتمال أيّ دمٍ هذا، فمن ذبح عن المولود على ظاهر هذا الخبر فإنّه يجزيه، أو إلحاقًا قياسيًّا بالهدي والضحايَا، ولكن الصحيح أنّ لفظ هذا الخبر مجمل وقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم في الحديث:« عَنِ الْجَارِيَةِ شَاةٌ وَعَنِ الغُلاَمِ شَاتَانِ »(2) مفسِّر، و«المفسَّر مُقَدَّمٌ عَلَى المُجْمَلِ » كما هو معروف ومقرّر في علم الأصول.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 23 محرم 1428ه
الموافق ل: 11 فبراير 2007م
__________
1- رواه البخاري في «العقيقة »: (5471/5472) والنسائي في «العقيقة »: (7/164) وابن ماجه في «الذبائح »: (3164) من حديث سلمان بن عامر الضبي رضي الله عنه وانظر:« صحيح الجامع » للألباني: (2/5877) و«مشكاة المصابيح » للألباني: (2/4149).
2- رواه أحمد في «المسند »: (6/158، 251) والترمذي في «الأضاحي »: (1513) وابن ماجه في «الذبائح »: (3163) من حديث عائشة رضي الله عنها، وصحّحه الألباني في «الإرواء »: (1166) و«السلسلة الصحيحة »: (6/2720).(11/30)
الفتوى رقم: 582
في حكم تكسير عظام شاة العقيقة
السؤال: ما مدى صحّة الأدلة التي تمنع من تكسير عظام الشاة المذبوحة في العقيقة؟
الجواب: الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
ففي الحقيقة أنّه لم يرد حديث صحيح يمنع كسر عظام الشاة إلاّ حديثًا مرسلاً ذكره أبو داود في كتاب المراسيل أنّ النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قال في العقيقة التي عقتها فاطمة رضي الله عنها عن الحسن والحسين:« أَنِ ابْعَثُوا إِلَى القَابِلَةِ مِنْهَا بِرِجْلٍ وَكُلُوا وَأَطْعِمُوا لاَ تُكْسِرُوا مِنْهَا عَظْمًا »(1)، واستحباب عدم كسر عظامها مرويٌّ عن جابر بن عبد الله وعائشة وعطاء وغيرهم رضي الله عنهم وأرضاهم.
والذين كرهوا كَسْرَ عِظامِها تمسّكوا بهذه الآثار عن الصحابة وعن التابعين وبأدلة عقلية، والظاهر أنّه يُستحبّ عدم كسر عظامها، وأنّها تُقطع جُدُولاً(2)، تفاؤلاً بسلامة أعضاء المولود وصحّتها وقوّتها، أمّا مذهب مالك فجواز كسر عظامها لعدم ثبوت أيّ دليل في المنع والكراهة(3)، بل المصلحة تحصل بذلك، لأنّ الكسر يكون من تمام الانتفاع به، ولا يخفى أنّه وإن كان الاستحباب لا ينافي الجواز إلاّ أنّه أولى منه في التقديم.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصَلَّى الله على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 23 محرم 1428ه
الموافق ل: 11 فبراير 2007م
__________
1- أورده أبو داود في كتاب «المراسيل » (ص: 197).
2- كما قال عطاء:« تقطع جُدولاً »، وقال أيضًا:« تقطع آرابًا »، وقول عائشة:« ولا يكسر لها عظم » وبهذا قال الشافعي رحمه الله تعالى، انظر:« تحفة المودود » لابن القيم (43).
3- انظر «التفريع » لابن الجلاب: (1/395)، «القوانين الفقهية » لابن جزي (188).(11/31)
الفتوى رقم: 583
في حكم ثقب أذن المولود
السؤال: ما حكم ثقب أذن المولود ذكرًا أو أنثى؟
الجواب: الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فيجوز ثقب أذن الصبية للتزين لحاجتها للحلية التي أباحها اللهُ لها أن تتحلّى بها كما في قوله تعالى: ?أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ? [الزخرف: 18]، ولأنّ أهل الجاهلية كانوا يفعلونه ولم يُنْكِرْهُ النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، «وَفِي العِيدِ حَرَّضَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَلَى الصَّدَقَةِ حَتَّى جَعَلَتِ الْمَرْأَةُ تلْقِي خُرْصَها »(1)، وهي الحلقة التي توضع على الأذن، بخلاف الصبي فيكره في حقّه لعدم الحاجة، فهو قطع عضو ليس له فيه مصلحة لا دينية ولا دنيوية لذلك لا يجوز في حقّه.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 2 صفر 1428ه
الموافق ل: 20 فبراير 2007
__________
1- متفق عليه: أخرجه البخاري: (98)، ومسلم: (884) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.(11/32)
الفتوى رقم: 584
في حكم عقيقة الكبير عن نفسه
السؤال: هل تثبتَتْ عقيقة الكبير عن نفسه؟
الجواب: الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فثبت في السنَّةِ مِنْ طريقين عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« عَقَّ عَنْ نَفْسِهِ بَعْدَمَا بُعِثَ نَبِيًّا »(1)، وقد ذهب بعضُ السَّلَفِ إلى العمل به، قال ابن سيرين:« لَوْ أَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يُعَقَّ عَنِّي لَعَقَقْتُ عَنْ نَفْسِي »(2)، وعن الحسن البصري قال:« إِذَا لَمْ يُعَقَّ عَنْكَ، فَعُقَّ عَنْ نَفْسِكَ وَإِنْ كُنْتَ رَجُلاً »(3).
وعليه، فإنّه يستحبّ أنْ يعقَّ الرجلُ عن نفسه نيابةً عن والده؛ لأنّ النسيكة واجبةٌ على الأب على أرجح قولي العلماء، ويبقى وجوبها في ذمّته ولو بعد كِبَرِهِ إذا أيْسَر، فإنْ لم يفعل جازت النيابة عنه؛ لأنّها من العبادات المالية التي تشرع فيها النيابة (كالزكاة، والهبات، وغير ذلك من العبادات).
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 3 صفر 1428ه
الموافق ل: 21 فبراير 2007م
__________
1- أخرجه عبد الرزاق في «المصنف »: (4/204) (7990) وابن حبان في «الضعفاء » (2/33) من طريق قتادة عن أنس رضي الله عنه، كما أخرجه الطحاوي في «مشكل الآثار »: (1/461) وابن حزم في «المحلى »: (8/321) من طريق ثمامة بن أنس عن أنس رضي الله عنه، والحديث حسّنه الألباني في «السلسلة الصحيحة » (6/1/502) برقم (2726).
2- أخرجه ابن أبي شيبة: (5/111) رقم (24226)، وصحّحه الألباني في «الصحيحة » (6/1/506).
3- أخرجه ابن حزم في «المحلى »: (8/322). وحسنه الألباني في «الصحيحة » (6/1/506).(11/33)
الفتوى رقم: 616
في تسمية المولود في غير اليوم السابع
السؤال:
هل يجوز تسميةُ المولودِ في غير اليوم السابع كَأَنْ يُسَمِّيَهُ في اليوم الأول مثلاً؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فإنّه يستحبُّ تسميةُ المولود في اليوم السابع؛ لأنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم أَمَرَ في اليوم السابع من ولادته بتسميته والعقيقة عنه، ووضع الأذى عنه كما ورد هذا في حديث سمرة رضي الله عنه:« كُلُّ غُلاَمٍ رَهِينَةٌ بِعَقِيقَتِهِ، تُذْبَحُ يَوْمَ سَابِعِهِ وَيُحْلَقُ وَيُسَمَّى »(1)، لكن تجوز تسميته حين يولد، لما ورد عن أبي موسى رضي الله عنه قال:« وُلِدَ لِي غُلاَمٌ فَأَتَيْتُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَسَمَّاهُ إِبْرَاهِيمَ وَحَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ »(2)، وفي «صحيح مسلم » عن أنس قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« وُلِدَ لِي اللَّيْلَةَ غُلاَمٌ سَمَّيْتُهُ بِاسْمِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ... »(3)، وفي «الصحيحين » أيضًا من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال:« أُتِيَ بِالْمُنْذِرِ بْنِ أَبِي أُسَيْدٍ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلًَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ حِينَ وُلِدَ فَوَضَعَهُ عَلَى فَخِذِهِ وَأَبُو أُسَيْدٍ جَالِسٌ، فَلَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَمَرَ أَبُو أُسَيْدٍ بِابْنِهِ فَاحْتَمَلَ مِنْ عَلَى فَخِذِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: أَيْنَ الصَّبِيُّ؟ فَقَالَ أَبُو أُسَيْدٍ قَلَّبْنَاهُ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: مَا اسْمُهُ؟ قَالَ: فُلاَنٌ، قَالَ: لاَ، وَلَكِن اسْمُهُ الْمُنْذِرُ »(4)، وهذه الأحاديث تدلّ على جواز تسمية المولود يوم ولادته، والأفضل تأخيرها -إن قدر- إلى يوم سابعه للسنّة القولية.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 9 ربيع الأول 1428ه
الموافق ل: 28 مارس 2007م
__________
1- رواه أبو داود في الأضاحي: (2838) والترمذي في الأضاحي: (1522) والنسائي في العقيقة: (7/166) وابن ماجه في الذبائح: (3165)، وأحمد في «المسند »: (5/7 و17، 22) من حديث سمرة رضي الله عنه، وصحّحه الألباني في صحيح أبي داود: (2838).
2- متفق عليه: أخرجه البخاري في «العقيقة »: (5467) ومسلم في «الآداب »: (2145) من حديث أبي بردة عن أبي موسى رضي الله عنه.
3- رواه مسلم في «الفضائل » رقم: (2315) من حديث أنس رضي الله عنه.
4- متفق عليه: أخرجه البخاري: (6191) ومسلم: (2149) كلاهما في «الأدب »: من حديث سهل ابن سعد الساعدي رضي الله عنه.(11/34)
الفتوى رقم: 709
السُّنة في حلق رأس الصبي
السؤال:
هل حَلْقُ شعرِ المولود في اليوم السابع، يكون بالمُوسَى الحادَّةِ بحيث يصبح رأسُه أملسَ لا شعر فيه، أم يُكتفى في الحلق بالآلة والتي تترك أصل منابت الشعر؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالسُّنَّةُ في الحَلْقِ في باب العقيقة إنما هي إزالةُ الشَّعْرِ عن المولود يومَ سابِعه بأيِّ وسيلةٍ أمكنَ إزالتُهُ بها بلا ضَرَرٍ، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« كُلُّ مَوْلُودٍ مُرْتَهَنٌ بِعَقِيقَتِهِ، يُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ السَّابِعِ وَيُسَمَّى وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ »(1).
فيقال: حَلَقَ شَعْرَ رَأسِهِ يَحْلِقُه حَلْقًا وَتَحْلاَقًا، أي: أزال الشعرَ عنه، وهذا يكون بإرادته، وقد لا يكون بفعله، ويُحْلَقُ له أعمّ من أن يكون بإرادته وفعله، أمّا إذا بالغ في الحلق فيقال: حَلَّقه تحليقًا، فيشدّد إمّا للكثرة أو للمبالغة، كما قال تعالى: ?مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ? [الفتح: 27]، والتحليق إنما يكون بالمُوسَى أو الشفرة لكونها الأداة التي تُزيل نوابتَ الشعرِ الدقيقةَ، ولهذا وصفَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم الخوارجَ بأنّ:« سِيمَاهُمُ التَّحْلِيقُ »(2)، وهو المبالغةُ في الحلق وكثرة استعماله.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في 12 جمادى الثانية 1428ه
الموافق ل: 27 جوان 2007م
__________
1- أخرجه أبوداود في «الأضاحي »، باب في العقيقة: (2838)، والترمذي في «الأضاحي »، باب من العقيقة: (1522)، والنسائي في «العقيقة »، باب متى يعق: (4220)، وابن ماجه في «الذبائح »، باب العقيقة: (3165)، والحاكم في «المستدرك »: (7587)، وأحمد: (19676)، من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه. والحديث قال عنه ابن حجر في «فتح الباري » (9/507):« رجاله ثقات »، وصححه ابن الملقن في «البدر المنير »: (9/333)، والألباني في «صحيح الجامع »: (4184).
2- أخرجه البخاري في «التوحيد »، باب قراءة الفاجر والمنافق وأصواتهم وتلاوتهم: (7123)، وأبو داود في «السنة »، باب في قتال الخوارج: (4756)، وأحمد: (11220)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.(11/35)
الفتوى رقم: 765
في حكم النيابة في العقيقة عن الأب المولود له
السؤال:
هل يجوز لغير المولود له (الأب) أن يَعُقَّ في مكانه عن مولوده؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالصحيح أنّه تجوز النيابةُ في العبادات المالية، بعد إِذْنِ المولود له «الأب » إن كان حيًّا، ويُقضى عنه الوجوب الذي تعلّق في ذمّته، إذا كان ميِّتًا.
وهذا مستفادٌ من حديث سَمُرة رضي الله عنه أنّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قال:« كُلُّ غُلاَمٍ مُرْتَهَنٌ بِعَقِيقَتِهِ تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ »(1)، ففي قوله:« تُذْبَحُ عَنْهُ » دليلٌ على أنّه يصحّ أن يتولَّى الأجنبيُّ الذبحَ بالنيابة والقريبُ وكذا الشخص عن نفسه، وقد عقّ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم عن الحسن والحسين(2) رضي الله عنهما وتولّى ذلك نيابة عن أبيهما رضي الله عنه.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 20 محرم 1428ه
الموافق ل: 8 فبراير 2007م
__________
1- أخرجه أبوداود في «الأضاحي » (2838)، والترمذي في «الأضاحي » (1522)، والنسائي في «العقيقة » (4220)، وابن ماجه في «الذبائح » (3165)، والحاكم في «المستدرك » (7587)، وأحمد (19676)، من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه. والحديث قال عنه ابن حجر في «فتح الباري » (9/507):« رجاله ثقات »، وصحَّحه ابن الملقن في «البدر المنير » (9/333)، والألباني في «صحيح الجامع » (4184). بلفظة «يسمى »، وأمّا «يدمى » فشاذّة كما ذكر هذا الألباني في «الإرواء » (1165)، وانظر:« زاد المعاد » لابن القيم (2/327).
2- لما رواه بريدة بن الحصيب أنّ رسول الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم «عَقَّ عَنِ الحَسَنِ وَالحُسَيْنِ »، أخرجه النسائي في «العقيقة » (4213)، وأحمد (22619)، والحديث صحَّحه ابن الملقن في «البدر المنير » (9/341)، والعراقي في «طرح التثريب » (5/202)، والألباني في «الإرواء » (4/381).(11/36)
الفتوى رقم: 767
في التسمية والذكر عند ذبح النسيكة
السؤال:
هل هناك ذِكْرٌ خاصٌّ عند ذبح شاة النسيكة؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالتسمية شرطٌ على الذبيحة في حِلِّها، فمَن تَرَكَها عامدًا فلا تَحِلُّ ذبيحتُه، لقوله تعالى: ?فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ? [الأنعام: 118]، ولقوله تعالى: ?وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ? [الأنعام: 121].
ويُسنّ لمن يُحسن الذبحَ أن يذكِّيَها بيده، ويوجِّهَهَا نحوَ القِبلة، ويقول:« بِسْمِ اللهِ وَاللهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ هَذَا مِنْكَ وَلَكَ، هَذِهِ عَقِيقَةُ فُلاَنٍ بْنِ فُلاَنٍ »؛ لأنّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم ذبح كبشًا وقال:« بِسْمِ اللهِ وَاللهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ هَذَا عَنِّي وَعَمَّنْ لَمْ يُضَحِّ مِنْ أُمَّتِي »(1)، وفي حديث جابرٍ بنِ عبدِ اللهِ رضي اللهُ عنهما:« ذَبَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الذَّبْحِ كَبْشَيْنِ أَقْرَنَيْنِ أَمْلَحَيْنِ… -إلى قوله- بِسْمِ اللهِ وَاللهُ أَكْبَرُ ثُمَّ ذَبَحَ »(2). والمنقول عن السلف رضي الله عنهم -أيضًا-:« بسم الله اللّهمَّ هذا عن فلانٍ بنِ فلان »، فإن لم يتكلّم به ونوى النسيكةَ أو العقيقة، أجزأه ذلك إن شاء الله تعالى.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 20 محرم 1428ه
الموافق ل: 8 فبراير 2007م
__________
1- أخرجه أبو داود في «الضحايا » (2810)، والترمذي في «الأضاحي » (1521)، وأحمد (14477)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، والحديث صحَّحه الألباني في «الإرواء » (4/349).
2- أخرجه أبو داود في «الضحايا » (2795)، والدارمي في «سننه » (1880)، وأحمد (14604)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وحسّنه الألباني في «الإرواء » (4/351).(11/37)
الفتوى رقم: 769
في حكم تدمية رأس المولود
السؤال:
هل من السنّة تدمية رأس الغلام بدم الشاة المذبوحة في العقيقة؟
الجواب:
فلم يَرِدْ في حدود علمي شيءٌ من هذا، وحديث سمرة عن الحسن عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قال في العقيقة:« كُلُّ غُلاَمٍ رَهِينَةٌ بِعَقِيقَتِهِ تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ سَابِعِهِ وَيُحْلَقُ وَيُدْمَى »(1)، فلفظة «يُدمى » وَهْمٌ من همام بن يحي(2) لم يقل أحد في ذلك الحديث «يدمى » غيره(3)، وقد وردت من طريق أخرى ثابتة بلفظ:« يُسَمَّى » وهي أصحّ منها.
وإنّما كان يُدمى الغلام في الجاهلية حيث كانوا يلطّخون رأسَ المولود بدم الشاة المذبوحة، كما ثبت هذا في حديث بريدة رضي الله عنه، قال:« كُنَّا فِي الجَاهِلِيَّةِ إِذَا وُلِدَ لأَحَدِنَا غُلاَمٌ، ذَبَحَ شَاةً وَلَطخَ رَأْسَهُ بِدَمِهَا، فَلَمَّا جَاءَ الإسْلَامُ كُنَّا نَذْبَحُ شَاةً وَنَحْلِقُ رَأْسَهُ وَنُلَطِّخُهُ بِزَعْفَرَانٍ »(4)، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يدلّ على عدم جواز تلطيخ رأس الغلام بدم الشاة قوله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« مَعَ الغُلاَمِ عَقِيقَةٌ فَأَهْرِيقُوا عَنْهُ دَمًا وَأَمِيطُوا عَنْهُ الأَذَى »(5)، فقوله:« فَأَمِيطُوا عَنْهُ الأَذَى » يقتضي أن لا يُمسّ بدم؛ لأنّه أذى، قال الخطّابي -رحمه الله-:« معنى أميطوا الأذى: حلق الرأس وإزالة ما عليه من الشعر، وإذا أمر بإماطة ما خف من الأذى وهو الشعر الذي على رأسه فكيف يجوز أن يأمرهم بلطخه وتدميته، مع غلظ الأذى في الدم، وتنجيس الرأس به، وهذا يدلّك على أنّ من رواه «ويُسَمَّى » أصحّ وأولى »(6).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 20 محرم 1428ه
الموافق ل: 8 فبراير 2007م
__________
1- أخرجه أبو داود في «الأضاحي » (2838)، والترمذي في «الأضاحي » (1522)، والنسائي في «العقيقة » (4220)، وابن ماجه في «الذبائح » (3165)، والحاكم في «المستدرك » (7587)، وأحمد (19676)، من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه. والحديث قال عنه ابن حجر في «فتح الباري » (9/507):« رجاله ثقات »، وصحَّحه ابن الملقن في «البدر المنير » (9/333)، والألباني في «صحيح الجامع » (4184). بلفظة «يسمى »، وأمّا «يدمى » فشاذّة كما ذكر هذا الألباني في «الإرواء » (1165)، وانظر:« زاد المعاد » لابن القيم (2/327).
2- «سنن أبي داود » (3/260).
3- «الاستذكار » لابن عبد البر: (5/320).
4- أخرجه أبو داود في «الضحايا » (2843)، والحاكم في «المستدرك » (7668)، والبيهقي في «السنن الكبرى » (19828)، من حديث بريدة رضي الله عنه، والحديث صحَّحه الألباني في «الإرواء » (4/389).
5- أخرجه البخاري في «العقيقة » (5471)، وأبو داود في «الضحايا » (2839)، والترمذي في «الأضاحي » (1515)، والنسائي في «العقيقة » (4214)، وابن ماجه في «الذبائح » (3164)، وأحمد (15796)، من حديث سلمان بن عامر الضبي رضي الله عنه.
6- «معالم السنن للخطابي »: (3/261).(11/38)
الفتوى رقم: 773
في حكم ذِكر الأذان في أذن المولود
السؤال:
هل يشرع التأذين في أذن المولود اليمنى والإقامة في أذنه اليسرى؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فورد حديثٌ أنّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قال:« مَنْ وُلِدَ لَهُ مَوْلُودٌ فَأَذَّنَ فِي أُذُنِهِ اليُمْنَى وَأَقَامَ فِي أُذُنِهِ اليُسْرَى لَمْ تَضُرّهُ أَمّ الصِّبْيَانِ »(1) ولكنّه حديثٌ موضوعٌ كما حقّقه الألباني في «الضعيفة » و«إرواء الغليل »(2)، وكذلك الاكتفاءُ بالأذان في أُذنه اليمنى لا يصحُّ(3)، لكن الثابت عنه عليه الصلاة والسلام من حديث عائشة رضي الله عنها أنّه كان يُؤْتَى إليه بالصبيان فيدعو لهم بالبركة ويحنكهم، علمًا أنّ التحنيك خاصٌّ به.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 20 محرم 1428ه
الموافق ل: 8 فبراير 2007م
__________
1- أخرجه أبو يعلى في «مسنده » (6780)، من حديث الحسين بن علي رضي الله عنه، والحديث ضعَّفه العراقي في «تخريج الإحياء » (2/69)، وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد » (4/95):« فيه مروان بن سالم الغِفاري، وهو متروك ».
2- انظر:« إرواء الغليل » للألباني (4/401) رقم (1174)، و«السلسلة الضعيفة » (1/320) رقم (321).
3- أخرجه أبو داود في «الأدب » (5105)، والترمذي في «الأضاحي » (1514)، والحاكم (4827)، وأحمد (26645)، والبيهقي (19846)، من حديث أبي رافع رضي الله عنه، والحديث ضعّفه الألباني في «السلسلة
الضعيفة » (1/493).(11/39)
الفتوى رقم: 784
في حكم التهنئة بالمولود الجديد
السؤال:
هل تشرع التهنئة بالمولود الجديد؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فلا يُعرف في السُّنَّة شيءٌ من ذلك، ولكن نُقل عن بعض التابعين كالحسن البصري، تهنئة الوالد بقوله «بارك الله لك في المولود لك وشَكَرْتَ الوَاهِبَ وبلغ أشُدَّهُ ورُزِقْتَ بِرَّه »، ويردُّ الوالدُ:« أجزل اللهُ ثوابَكَ » ونحو ذلك(1). واستحبّ هذا القول لدخوله تحت الكلمة الطيبة كما في قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَبِالكَلِمَةِ الطَيِّبَةِ »(2)، وكما في رواية أخرى:« وَالكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ »(3).
والأصلُ كما هو معروفٌ، إدخالُ السرور والغِبطة على قلب المسلم لتقوية عُرَى الأُخوَّةِ وتَمْتِينِ أواصر المحبة، ونشر الألفة بين المسلمين، فإنّ المسلم يَأْلَفُ ويُؤْلَفُ(4)، لذلك يُستحبّ للمسلم أن يبادر إلى مسَّرة أخيه وإعلامه بما يفرحه ولا يقصِّر بتهنئته والدعاء له ولِوَلِيدِهِ، ويؤيّده ما ثبت إسناده مقطوعًا عن معاوية بن قرة قال:« لَمَّا وُلِدَ إلياس دعوت نَفَرًا من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم فأطعمتهم فدعوا، فقلت: إنَّكم قد دَعَوتُمْ فبارك لكم فيما دَعَوْتُمْ، وإنّي إن أدعو بدعاء فأَمِّنوا، قال: فدعوت له دعاء كثيرًا في دينه وعقله »(5).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 20 محرم 1428ه
الموافق ل: 8 فبراير 2007م
__________
1- وله أن يردّ على المهنّي بقوله:« بارك الله لك، وبارك عليك »، أو «جزاك الله خيرًا، ورزقك الله مثله ». [«الأذكار » للنووي (256)].
2- أخرجه البخاري في «الزكاة » (1347)، ومسلم في «الزكاة » (2347)، من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه.
3- متفق عليه: البخاري في «الجهاد » (2827)، ومسلم في «الزكاة » (2335)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
4- أخرجه أحمد (8945)، والحاكم (59)، من أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:« المُؤْمِنُ مَأْلَفَةٌ، وَلاَ خَيْرَ فِيمَنْ لاَ يَأْلَفُ وَلاَ يُؤْلَفُ ». وحسَّنه الألباني في «الصحيحة » (426)، وانظر «المقاصد الحسنة » للسخاوي (515).
5- أخرجه البخاري في «الأدب المفرد » (1255): باب الدعاء في الولادة من حديث معاوية بن قرة رضي الله عنه. [انظر:« صحيح الأدب المفرد » للألباني (485)].(11/40)
الفتوى رقم: 786
في الاقتصار على الفضّة للتصدّق بوزن شعر المولود
السؤال:
هل يتصدّق بوزن شعر المولود فضَّةً أم ذهبًا ؟ أي: أي النقدين يُخرج عن المولود الفضّة أم الذّهب؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فيستحبُّ أن يتصدّق بوزن شعر رأس المولود لثبوته عن عليّ رضي الله عنه قال:« عَقَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم عَنِ الحَسَنِ شَاةً وَقَالَ: يَا فَاطِمَةُ! احْلِقِي رَأْسَهُ وَتَصَدَّقِي بِزنَةِ شَعْرِهِ فِضَّةً فَوَزَنَّاهُ فَكَانَ وَزْنُهُ دِرْهَمًا أَوْ بَعْضَ دِرْهَمٍ »(1)، وفي رواية أبي رافع رضي الله عنه:« وَلَكِن احْلِقِي شَعْرَ رَأْسِهِ ثُمَّ تَصَدَّقِي بِوَزْنِهِ مِنَ الوَرِقِ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ عَلَى ابْنِ السَّبِيلِ »(2).
والمراد هنا إخراج قيمة الفضّة بالنقود المتعامل بها حاليًّا، وليس المراد عين الفضة؛ لأنّ المساكين إنّما ينتفعون بالنقود لا بذات الفضة، وبعضُ أهل العلم ألحق الذهب بالفضة لأنّه أحد النقدين من باب التوسعة في الصدقة بالنسبة للقادر، وهؤلاء يستدلّون بجواز ما ذهبوا إليه بما رواه الطبراني في «الأوسط » عن ابن عباس رضي الله عنهما:« سَبْعَةٌ مِنَ السُّنَّةِ فِي الصَّبِيِّ يَوْمَ السَّابِعِ: يُسَمَّى وَيُخْتَنُ وَيُمَاطُ عَنْهُ الأَذَى وَيُثْقَبُ أُذُنُهُ وَيُعَقُّ عَنْهُ وَيُحْلقُ رَأْسهُ وَيُلَطَّخُ بِدَمِ عَقِيقَتِهِ(3) وَيُتَصَدَّقُ بِوَزْنِ شَعْرِهِ مِنْ رَأْسِهِ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً »(4). فهذا الحديث عمدةُ من يقول بجواز إخراج وزن الشعر ذهبًا أو فضّةً؛ ولأنّه أحد النقدين.
والأَوْلَى الاقتصارُ على ما ثبت في النصِّ وإخراج القيمة بالفضَّة احتياطًا للدِّين، لاحتمال التعبّد بها دون الذهب، الشأن في ذلك كشأن زكاة الفطر لا يجوز إخراجها بغير الأعيان على أرجح الأقوال، أمّا حديث ابن عباس المتقدّم:« وَيُتَصَدَّقُ بِوَزْنِ شَعْرِهِ مِنْ رَأْسِهِ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً » -على فرض صحّته- فحرف «أو » في الحديث يحتمل أن يكون للتشكيك وليس للتقسيم.
ولكن إن أخرجها بالذهب صحّ ذلك إن شاء الله تعالى(5).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 20 محرم 1428ه
الموافق ل: 8 فبراير 2007م
__________
1- أخرجه الترمذي في «الأضاحي » (1519)، والحاكم (7589)، وابن أبي شيبة (19978)، والبيهقي (19841)، من حديث علي ابن أبي طالب رضي الله عنه، والحديث حسّنه الهيثمي في «مجمع الزوائد » (4/89)، والألباني في «الإرواء » (1175).
2- أخرجه أحمد (26655)، والبيهقي في «السنن الكبرى » (19843)، والطبراني في «الكبير » (2577)، من حديث أبي رافع رضي الله عنه، والحديث حسّنه الهيثمي في «مجمع الزوائد » (4/60).
3- وتلطيخ رأس الغلام بدم عقيقته منهيٌّ عنه، ويكره ثقب الأذن للذكر خلافًا للأنثى كما سبق وأن ذكرنا.
4- أخرجه الطبراني في «المعجم الأوسط » (552)، قال ابن حجر في «الفتح » (11/3):« في سنده ضعف »، وقال الألباني في «السلسلة الضعيفة » (11/717):« منكر بهذا التمام ».
5- انظر:« التفريع » لابن الجلاب (1/396).(11/41)
الفتوى رقم: 794
في أحقية الأب بتسمية المولود
السؤال:
من هو الأحقُّ بتسمية المولود: الأب أم الأم؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فلا خلافَ بين الناس أنَّ التسميةَ حقٌّ للأب دون الأمّ؛ لأنّ الولد يُنسب إليه، وهو أحقُّ بتسميته، وكما تجب على المولود له النفقةُ والتعليم والعقيقة وغيرُها فالتسمية تكون له، لذلك يدعى الخلق يوم القيامة بآبائهم لا بأُمَّهاتهم، وإنَّما يتبع أُمَّه في الحُريَّة والرِّقِّ واللِّعان والزِّنى وفي غيرِها من المسائل المعروفة في الفقه.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 9 ربيع الأول 1428ه
الموافق ل: 28 مارس 2007م(11/42)
الفتوى رقم: 795
في جواز العق بالأنثى من شياه
السؤال:
هل يشترط في شاة العقيقة أن تكون ذكرًا؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فتجوز العقيقة بالذكران والإناث لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم من حديث أمِّ كُرز الكعبية رضي الله عنها لَمَّا سألته عن العقيقة فقال:« عَنِ الغُلاَمِ شَاتَانِ وَعَنِ الأُنْثَى وَاحِدَةٌ لاَ يَضُرُّكُمْ ذُكْرَانًا كُنَّ أَوْ إِنَاثًا »(1)، ففيه دلالة على جواز الشاة الأنثى في العقيقة أيضًا.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 9 ربيع الأول 1428ه
الموافق ل: 28 مارس 2007م
__________
1- أخرجه أبو داود في «الضحايا »: (2835)، والترمذي في «الأضاحي »: (1516)، والنسائي في «العقيقة »: (4218)، وأحمد: (26962)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (19879)، من حديث أمِّ كُرزٍ رضي الله عنها، وصحَّحه ابن القيم في «تحفة المولود »: (50)، والألباني في «صحيح الجامع الصغير »: (4106)، وفي «الإرواء »: (4/391).(11/43)
الفتوى رقم: 796
في حكم تخصيص اليوم الثالث لدعوة النساء
السؤال:
هل يجوز تخصيصُ اليومِ الثالث لدعوة النساء؟ وما حكمُ العادات التي تفعلها النساءُ اليومَ في اليوم السابع مثل غسل المولود وجعل الورد والشمع تفاؤلاً؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فلا شكَّ أنَّ تخصيص اليوم الثالث لدعوة النساء لا يُعلم في الشرع جوازُه، وكذا ما يَفْعَلْنَهُ في اليوم السابع من غسل المولود وجعل الورد والشمع ونحو ذلك ممَّا ليس من الشرع، بل لعله من عادات النصارى ومن شاكلهم، قال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ »(1)، ومثل هذا التخصيص يُعدُّ من البدع، وكلُّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلُّ ضلالةٍ في النار.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 9 ربيع الأول 1428ه
الموافق ل: 28 مارس 2007م
__________
1- متفق عليه: أخرجه البخاري في «الصلح »: (2550)، ومسلم في «الأقضية »: (4492) واللفظ له، من حديث عائشة رضي الله عنها.(11/44)
الفتوى رقم: 797
في حكم العقيقة عن السقط والمولود إذا مات قبل السابع
السؤال:
هل يعق عن المولود إذا مات قبل السابع ؟ وهل يعق على السقط؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فليس على المولود الميت من عقيقة(1)؛ لأنَّ العقيقة تجري مجرى الفداء، تَفَاؤُلاً بسلامة أعضاء المولود وقُوَّتها وصِحَّتها؛ لذلك يُستحبُّ أن لا يكسر عظمها، وأن تكون سببًا لحسن إنبات الولد، ودوامِ سلامته، وطولِ حفظه من ضرر الشيطان، حتى يكون كلُّ عُضْوٍ منها فداء كلّ عضو منه تخليصًا للمولود من الظاهر والباطن، وهذا المعنى يغيب على المولود الميت وكذا السقط.
هذا، وقد مات إبراهيم ابن النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم وهو ابن ثمانية عشر شهرًا لم يُصلِّ عليه، ولا أعلَمُ أنّه عقّ عنه، ولا أعلم أنّه عقَّ عن القاسم ورقية وأمّ كلثوم وزينب وفاطمة وعبد الله وهم أبناؤه الذين ماتوا قبله من عدا فاطمة رضي الله عنها وعنهم.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 9 ربيع الأول 1428ه
الموافق ل: 28 مارس 2007م
__________
1- قال مالك -رحمه الله-:« إن مات قبل يوم السابع لم يعق عنه ». [«الاستذكار » لابن عبد البر: (5/317)].(11/45)
الفتوى رقم: 806
في تخصيص حلوى الطمينة للمولود بيوم سابعه
السؤال:
هل يجوز عمل حلوى «الطَّمِّينَة » وتخصيصها باليوم السابع؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فعدَّ بعضُ أهلِ العلم عملَ بعضِ الحلوى ك«الزَّلابِيَّة » أو «العَصِيدَة » أو نحوِها من الحلويات التي تُخصَّص للمولود يومَ سابِعِهِ مِنْ بدع العقيقة؛ ذلك لأنّ النسيكةَ حُكمٌ شرعيٌّ، فكلُّ ما أُضيفَ إليه يلزمُ له دليلٌ شرعيٌّ من كتابٍ أو سُنَّةٍ، فتخصيصُ حلوى مُعيَّنةٍ تقييدٌ يحتاج إلى دليلٍ يسنده، غيرَ أنّه ولا شكَّ أنَّ ذلك اليوم هو بُشرى للمولود له وهو الأب ولغيره مِمَّن يفرحون معه فرحه، ولا بأس من إظهار نِعمة اللهِ عليه بالولد أن يتمتَّعَ ويُمتِّعَ ما يناسب فَرَحَهُ شكرًا للمُنْعِمِ، فإن وسَّع في لحم النسيكة إلى أمور كالمشروبات المصحوبة ببعض الحلويات التي لا تستقلُّ بها حلوى خاصَّة معيَّنة، على وجه التخصيص والانفراد فلا بأس بذلك وإلاَّ فلا يصحُّ، فإنّ «الطَّمِّينَةَ » غالبًا ما يعتقد أصحابُها عدمَ كمالِ العقيقةِ وتمامِها إلاَّ بها، ولا شكَّ أنَّ مثلَ هذا الاعتقادِ المصحوبِ بعملها يحتاج إلى دليل يُبيِّنه، وخلوّه عنه استدراك على الشرع بعدما أتمَّ اللهُ دينَه وكمَّله في قوله تعالى: ?اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا? [المائدة: 3]، فضلاً عن قبيح صورتها عند تقديمها بوضع علامة صليب في وسطها من مادة القُرفة.
هذا، وإن جاءت مع غيرها من الحلوى من غير تمييزٍ، ووزِّعت بدون الاعتقاد السابق على غير وجه الانفراد والاستقلال على الأهل وعلى الجيران وعلى سائر المعارف فلا بأس بذلك وإلاَّ فلا.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 9 ربيع الأول 1428ه
الموافق ل: 28 مارس 2007م(11/46)
الفتوى رقم: 809
في اشتراط تكافؤ الشاتين عن الغلام في النسيكة
السؤال:
هل يُشترطُ في الشاتين اللَّتين تذبحان عن الغلام أن تكونا متكافئتين؟ وما معنى متكافئتين؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالنسيكة تجري مجرى الهدي والأضحية، ويعتبر فيها السِّنُّ المجزِئُ والأوصاف الأخرى، على وجه التمام كما هو الشأن بالنسبة للأضحية والهدي، والمراد بالمتكافئتين أي: المتقاربتين في الجنس والسِّنِّ تُشبه إحداهما الأخرى، فهما كالشاة الواحدة، وبناءً عليه شُرع في حقِّ الغلام شاتان متقاربتان شبهًا وسِنًّا لا تنقص إحداهما على الأخرى.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 9 ربيع الأول 1428ه
الموافق ل: 28 مارس 2007م(11/47)
الفتوى رقم: 810
في عدم تلازم سنن الصبي مع النسيكة في حقّ المولود
السؤال:
إذا كانت العقيقة جائزةً في اليوم السابع واليوم الرابع عشر والواحد والعشرين فهل يدخل فيها الحلق والتسمية والختان إلى غير ذلك؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فهذه الأحكام ليستْ شروطًا للعقيقة، أو لوازم النسيكة حتى يرتبط بعضها ببعض من غير انفصال، وإنَّما هي منفصلةٌ في حقِّ المولود يستحبُّ فعلها في اليوم السابع، وبِحَسَب القدرة وتقدير ضعف الصبي من قوَّته.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 9 ربيع الأول 1428ه
الموافق ل: 28 مارس 2007م(11/48)
الفتوى رقم: 819
في مشروعيَّة تطييب رأس المولود
السؤال:
هل مِنَ السُّنَّةِ تَطْييبُ رأس المولود بخَلوق أو بطِيب آخر؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فيُشرعُ تطييبُ رأسِ المولود بأنواع الطِّيب كالزَّعفران والخَلوق ولو غلب على الطِّيب لون الحمرة أو الصُّفرة، بشرط تجرُّده من الكحول وسائر ما يضرُّه، ويدلُّ على هذا الحكم حديث بريدة رضي الله عنه قال:« كُنَّا فِي الجَاهِليَّةِ إِذَا وُلِدَ لأَحَدِنَا غُلامٌ، ذَبَحَ شَاةً، وَلَطَّخَ رَأسَهُ بِدَمِهَا، فَلَمَّا جَاءَ الإِسْلاَمُ كُنَّا نَذْبَحُ شَاةً وَنَحْلِقُ رَأْسَهُ وَنُلَطِّخُهُ بِزَعْفَرَانَ »(1)، وفي حديث عائشة رضي الله عنها قالت:« وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا مَكَانَ الدَّمِ خَلُوقًا »(2) أي: زَعْفَرَانًا. أمَّا إبعاد كلِّ ما يضرُّ به فلقوله صَلَّى الله عليه وآله وسلّم:« لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارٍ »(3).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 9 ربيع الأول 1428ه
الموافق ل: 28 مارس 2007م
__________
1- أخرجه أبو داود في «الضحايا »: (2843)، والحاكم في «المستدرك » (7668) والبيهقي في «السنن الكبرى » (19828)، من حديث بريدة رضي الله عنه، والحديث صحَّحه الألباني في «الإرواء »: (4/389).
2- أخرجه ابن حبان في «صحيحه »: (5211)، وعبد الرزاق في «المصنف »: (7963) والبيهقي في «السنن الكبرى »: (19829)، من حديث عائشة رضي الله عنها. والحديث صحَّحه ابن الملقن في «البدر المنير »: (9/342)، و«الإرواء »: (4/389)، و«الصحيحة » (463).
3- أخرجه ابن ماجه في الأحكام باب من بنى في حقه ما يضرّ بجاره (2431)، وأحمد (2921) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. قال النووي في الحديث رقم (32) من «الأربعين النووية » :«وله طرق يَقْوى بعضُها ببَعض »، وقال ابن رجب في «جامع العلوم والحكم » (378) «وهو كما قال ». والحديث صححه الألباني في الإرواء (3/408) رقم (896)، وفي غاية المرام رقم (68).(11/49)
****************** 12- فتاوى اللباس ******************
الفتوى رقم: 324
تحلي الرجال بالفضة
السؤال: ما حكم لبس القلائد والأسورة للرجال (من غير الذهب) وخاصة إن كانت من فضة، فإن كان يا شيخنا جوابكم بعدم الجواز لعلة التشبه بالنساء فهنا يمكن أن تقع شبهة وهي عدم وجود دليل على أنّ الأسورة والقلائد خاصة بالنساء فقط، وكذلك يمكن أن يقول القائل كيف يحرم ذلك على الرجال وقد وعد النبي عليه السلام سراقة بأسورة كسرى، فلو كان المنع لقال النبي عليه السلام ذلك، والمعلوم أنّ النبي عليه الصلاة السلام لا يمكن أن يؤخر الببيان عن وقت الحاجة وقد جاء في السيرة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما فتح المدائن وفى بعهد النبي لسراقة وأعطاه الأسورة.
وختاما نسأل المولى العلي القدير أن يوفقكم على ما أنتم عليه من تبيان للقرآن والسنة وبيان طريق جماعة الحق طريق الطائفة المنصورة، وسدّد الله خطاكم، والله الموفق والهادي إلى سواء الصراط والحمد لله ربّ العالمين.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فلم يرد في حلية الفضة ما يمنع جوازها عند الرجال، بل الأصول العامة تقضي بالإباحة والجواز، ومن عمومات هذه الأصول قوله تعالى:?هو الّذي خلق لكم ما في الأرض جميعا? [البقرة:29]، وقوله تعالى: ?وقد فصّل لكم ما حرّم عليكم? [الأنعام:119]، ولقوله صلى الله عليه وسلم:" من أحبّ أن يحلق حبيبه حلقة من نار فليحلقه حلقة من ذهب ومن أحب أن يطوق حبيبه طوقا من نار فليطوقه طوقا من ذهب ومن أحب أن يسور حبيبه سوارا من نار فليسوره سوارا من ذهب ولكن عليكم بالفضة فالعبوا بها"(1) الحديث، إذ يفيد الحديث الجواز من حيث النهي عن الذهب بالدليل الناقل عن الأصل الأول ومن حيث إباحة الفضة بالدليل المقرر لها. فضلا عن أنّ لفظة "عليكم بالفضة" موجه ابتداء للرجال فلا يمنع إلاّ ما دلّ الدليل على المنع، ولم يثبت هذا المنع سوى في الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة، أمّا استعمالهما في غير هذين الموضعين فيفتقر إلى دليل، غير أنّ التحلي بالذهب يخصص الذكور بالتحريم وتبقى الفضة على الأصل السابق.
غير أنّه حري بالتنبيه والإشارة إلى وجوب التفريق في هذه المسألة بين مطلق التحلي وخصوص التحلي. والقول بالتشبه بالنساء في مطلق التحلي مصادرة عن المطلوب، إذ يقتضي المطلق عدم تناول النساء بالتخصيص، بل الرجال والنساء فيه سواءٌ مطلقاً سواء كان عين الحلية فضة أو لؤلؤا أو ياقوتا أو زمردا لقوله تعالى: ?وهو الّذي سخّر البَحرَ لِتَأكُلُوا مِنْهُ لَحماً طَرياً وَتَسِتَخرِجُوا مِنهُ حِليَة تَلبَسُونَهَا...? الآية [النحل:14]، والمعلوم أن المستخرج من البحر جملة من الحلي المعدنية منها: اللؤلؤ والمرجان وغيرها.
وعليه فلا يمتنع شرعا أن يتحلى بما لم تَجْرِ عادة النساء بلبسه كالمنطقة وطوق درع والسيف... بالفضة وغيرها، فهذا من خصوص لباس الرجال يمتنع عن المرأة لباسه، أمّا ما جرت عادة النساء بلبسه في أعناقهن وأيديهن وأرجلهن وأذنهن ونحو ذلك كالخلخال والسوار والقرط والسلسلة... فيعد هذا من خصوص تحلي النساء فهو ممنوع على الرجال ويستثنى منه الخاتم بورود دليل الاستثناء. وعلة المنع التشبه " فقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال"(2)، ومن هنا يظهر جليا عدم منافاة بين مطلق التحلي وخصوصه.
أمّا الشبهة المذكورة في سؤالكم من عدم وجود دليل على أنّ الأسورة والقلائد خاصة بالنساء مع العلم أنّ الطوق والسوار وغيرهما كان معروفا عند العرب وغير العرب من الأمم السابقة، لقوله تعالى: ?واتّخذ قوم موسى من بعده من حليّهم عجلا جَسَداً له خُوَارٌ? [الأعراف:148] وقوله تعالى: ?فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين? [الزخرف:53]. فجوابه من وجوه:
1. إنّ العرب كانت ترى المرأة ناقصة يكمل نقصها بلبس الحلي منذ أن تكون صبية ليجبر ما فيها من نقص، لذلك قال تعالى منكرا عن المشركين فيما افتروه وكذبوه ونسبوه إلى جنب الله العظيم غاية الإنكار: ?أَوَ مَن يُنَشَّؤُ في الحِلْيَةِ وهو في الخِصَامِ غيرُ مُبين? [الزخرف:18]، والذي يكسى بالحلية منذ الصغر إنّما هم الإناث للعلة السابقة.
2. وأنّ العرب كانت ترى أنّ إكمال المظهر والصورة بلبس أنّه تزوير للحسن وهو جدير بالمرأة لما يعتريها من نقص، كما قال بعض شعراء العرب:
وما الحلي إلاّ زينة من نقيصة *** يتمِّم من حسن إذا الحسن قصَّرا
وأمّا إذا كان الجمال مُوَفَّراُ *** كحسنك لم يحتج إلى أن يزوَّرا
3. وممّا يؤكد ذلك أنّ التظاهر بالتحلي والحلل خروج عن عهدة الرجال والتشبه بالنساء ولا يحصل به إرهاب عدوٍّ حال القتال، قول أبي العتاهية في ابن معن بن زادة:
فما تصنع بالسيف إن لم يكن قتَّالا *** فكسِّر حلية السيف وضع من ذاك خلخالا
4. أنّه لم يثبت التزين بالحلي- فيما جرت عادة النساء بلبسه- في زمن الوحي أو بعده سوى ما قدمنا، إذ لو ثبت لنقل إلينا.
أمّا القصة المذكورة عن سراقة -على نحو ما أوردتموه في السؤال- فلو صح هذا لكان تحصيله للأسورة على سبيل الغنيمة والتملك ولا يلزم منه التحلي لاحتمال قوي أن تكون هذه الأسورة من ذهب، لأنّ الموعود به ينبغي أن يكون عظيم الفائدة وثمين القيمة يتجسد في أعلى معدن، وإذا تقرر ذلك فلا يخفى تحريم تحلي الرجال بالذهب بالنصوص الناهية عنه.
ولو فرضنا كون الموعود به يمثل الذهب والفضة فلا يلزم منه التحلي به وهو لا ينافي التملك كما تقدم، أرأيت أن الرجل يرث تركة زوجته المتمثلة في الأسورة والخلخال وغيرها مع أنه لا يتحلى بها، ذلك لأنّ الإرث سبب التملك، الشأن في ذلك كمن يشتري حلية من ذهب يصح بيعه وتنتقل الملكية إليه ولا يلزم من تملكه جواز التحلي به.
هذا، وفي حديث علي رضي الله عنه قال :"أهديت إلى النبي صلى الله عليه وسلم حلة سيراء، فبعث بها إليّ، فعرفت الغضب في وجهه، فقال: إني لم أبعث بها إليك لتلبسها وإنما بعثت بها إليك لتشققها خمرا بين النساء"(3) وكذلك حصل مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما أرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قباء له من ديباج أهدي إليه فأنكر عليه لباسه فقال:" ما أعطيتك لتلبسه إنما أعطيتك لتبيعه" الحديث(4)، ووجه الدلالة من الحديثين السابقين أنّ مع وجود الهدية المقدمة إليهما فلا يلزم من ذلك الإذن في لبسها، وعليه فمثل الأمر الحاصل لسراقة رضي الله عنه لا يحتاج إلى بيان لكونه معلوما عندهم -كما قدمنا- في عدم النقل عنهم التحلي بما هو من خصوص النساء.
والعلم عند الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
__________
1- أخرجه أبو داود في الخاتم(4236)، وأحمد(9145)، والبيهقي في السنن(7803)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وصححه الألباني في آداب الزفاف ص(217).
2- أخرجه البخاري في اللباس(5885)، وابن ماجه في النكاح(1904)، وأحمد(3206)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
3- أخرجه البخاري في الهبة(2614)، ومسلم في اللباس والزينة (5541)، وأحمد(970)من حديث علي رضي الله عنه.
4- أخرجه مسلم في الزينة واللباس(5540) والنسائي في الزينة (5303)، من حديث جابر رضي الله عنه.(12/1)
الفتوى رقم: 325
التختم بالحديد والمعادن الأخرى
السؤال: ما حكم التختم بغير الفضة (للرجال) من المعادن الأخرى كالحديد والبلاتين... وغيرها.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فالتختم بالحديد والنحاس والصفر حكمه التحريم للرجال والنساء جميعا لكونه شرا من خاتم الذهب من جهة، ولأنه زي أهل النار من جهة ثانية، كما ثبت ذلك من حديث عبد الله بن عمرو:" أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى على بعض أصحابه خاتما من ذهب، فأعرض عنه، فألقاه فاتخذ خاتما من حديد، فقال: هذا شر، هذا حلية أهل النار، فألقاه، فاتخذ خاتما من ورق فسكت عنه"(1).
وينتفي التعارض مع قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم - في قصة المرأة التي أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يزوجها أحد أصحابه، ولم يكن عنده مهر لها:"التمس ولو خاتما من حديد"(2) حيث استدل به على جواز التختم بالحديد لأنه لو كان ثم كراهة لما أشار النبي صلى الله عليه وسلم بالتماسه، ووجه التعارض يزول بحمله على ما كان قبل التحريم إذا ما سلّمنا نصِّيته على إباحة الحديد، وهو ليس نصا في إباحته لاحتمال أنه أراد وجوده لتنتفع المرأة بقيمته، على ما بينه ابن حجر في الفتح(3)، إذ لا يلزم من جواز الاتخاذ جواز اللبس، وإذا لزم الترجيح- حال فرضية تعذر الجمع السابق بين المتعارضين- لوجوب العمل بالدليل الرافع للبراءة الأصلية على الدليل المقرر لها، أي أن النهي مقدم على الإباحة والجواز كما هو مقرر في القواعد.
هذا، والحكم بمنع الخاتم من حديد فيما إذا كان خالصا صرفا، أمّا إذا كان محلى بما هو جائز كالفضة فالظاهر جوازه لما أخرجه أبو داود من "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان خاتمه حديدا ملويا عليه فضة"(4) وتقرير هذا التفصيل جمعا بين الدليلين وتوفيقا بين متعارضين والعمل بالجمع واجب مهما أمكن، وإلا فالنهي مقدم على الإباحة وكذا القول مقدم على الفعل -كما هو معلوم في أصول الترجيح- في حالة تعذر العمل بالجمع.
هذا ويلحق بالخاتم من حديد كلّ ما يلبس من المعادن المعدودة من حلية أهل النار لعلة تحريم التشبه بهم، والظاهر أنّ النحاس والصفر معدود من لباسهم على ما ورد من تفسير للآية? فالذين كفروا قطّعت لهم ثياب من نار?[الحج:19] على أنّها ثياب من نحاس مفصلة من النار لكونه أشد حرارة إذا حمي.
أمّا ما لم يكن من زي أهل النار فالراجح جوازه إذا لم يكن على وجه يختص بالنساء إعمالا للإباحة الشرعية بالنصوص العامة المتقدمة في مطلع الجواب.
والعلم عند الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 03 رجب عام 1420 ه
الموافق ل : 13 أكتوبر 1999م
__________
1- أخرجه أحمد(6674)، والبخاري في الأدب المفرد(1021) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه. وصححه الألباني في آداب الزفاف.
2- أخرجه البخاري في النكاح(5135)، ومالك في الموطأ (1101)، والنسائي في النكاح(3339)، وأحمد (23547)، والبيهقي في السنن(14747)، من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.
3- الفتح(10/398).
4- أخرجه أبو داود في الخاتم (4224)، والنسائي(5205)، من حديث معيقيب رضي الله عنه، وقد ذكر الحافظ ابن حجر في "الفتح الباري" (10/375) لهذا الحديث ثلاثة شواهد، وحسنه الألباني بشواهده في "آداب الزفاف" (129).(12/2)
الفتوى رقم: 326
في حكم إسبال الثوب
السؤال: ما حكم إسبال الإزار؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وآله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فالمراد بالإسبال هو إطالة الثوب إلى ما تحت الكعبين، وهو غير جائز شرعًا على الرجال مطلقًا ويشتدُّ الإثم إذا قصد الخيلاء، فالإسبال يستلزم جرّ الثوب، وجر الثوب يستلزم الخيلاء ولو لم يقصده اللابس(1) لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« مَا أَسْفَلَ مِنَ الكَعْبَيْنِ مِنَ الإِزَارِ فَفِي النَّارِ"(2)، وعليه فإنَّ ماهو دون نصف الساق فلا حرج على فاعله إلى الكعبين، أمّا دون الكعبين يحرم لما فيه من التوعد بالنار، ويؤيد عدم جواز الإسبال مطلقًا حديث أبي أمامة رضي الله عنه أنّه قال:" بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إِذْ لحَِقَنَا عَمْرُو بْنُ زرَارَةَ الأَنْصَارِي فِي حلَة إِزَارٍ وَرِدَاءٍ قَدْ أَسْبَلَ، فَجَعَلَ النَبِي صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَأْخُذُ بِنَاحِيِةِ ثَوْبِهِ وَيَتَوَاضَعُ للهِ وَيَقُولُ: عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَأَمَتِكَ، حَتَى سَمِعَهَا عَمْرُو فَقَالَ: يَارَسُولَ اللهِ إِنِّي حَمْشُ السَّاقَيْنِ، فَقَالَ: يَا عَمْرُو إِنَّ الله قَدْ أَحْسَنَ كُلَّ شَيءٍ خَلَقَهُ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ المُسْبِلَ"(3)، ولا يقال أنه يحمل المطلق على المقيد لأنّه لا يتصور تواردهما في جانب النفي والنهي وإنما شرط حمل المطلق على المقيد دخوله في باب الأوامر والإثبات دون المنافي والمناهي، لأنّه يلزم الإخلال باللفظ المطلق مع تناول النفي والنهي وهو غير سائغ(4).
أما قصة أبي بكر رضي الله عنه في قوله:" إنَّ أحد شقي إزاري يسترخي إلاَّ أن أتعاهد ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:« لَسْتَ مِمَّنْ يَصْنَعُهُ خُيَلاَءَ"(5) فليس فيه دليل على أنه يطيل ثوبه، بل غاية ما في الأمر أنه كان يسترخي بغير تقصد منه قال ابن حجر:" فكأن شده كان ينحل إذا تحرك بمشي، أو بغيره بغير اختياره، فإذا كان محافظا عليه لا يسترخي، لأنه كلما كان يسترخي شده(6).
فالحاصل أنَّ الثوب الزائد على قدر لابسه ممنوع شرعًا قَصَد به الخيلاء، أو لم يقصد، لأنَّ النهي قد تناوله لفظًا، فضلاً عن أنَّ الزائد من ثوب المسبل مسرف فيه، ومتشبه بالنساء.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 28 من ذي الحجة 1426ه
الموافق ل: 28 يناير 2006م
__________
1- سبل السلام للصنعاني: 4/308.
2- أخرجه البخاري في اللباس (5787)، والنسائي في الزينة (5348)، وأحمد (9558)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
3- أخرجه الطبراني في مسند الشاميين (1205)، وفي المعجم الكبير (7835)، من حديث أبي أمامة رضي الله عنه. قال الهيثمي:" رواه الطبراني بأسانيد، ورجال أحدها ثقات"، انظر السلسلة الصحيحة: 6/406.
4- إرشاد الفحول للشوكاني: 166.
5- أخرجه البخاري في اللباس (5748)، وأحمد (6347)، والبيهقي (3442)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
6- فتح الباري لابن حجر: 10/255.(12/3)
الفتوى رقم: 367
العطور المحتوية على نسبة من الكحول
السؤال: كم هي نسبة الكحول المباحة في العطور؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه أجمعين، أمّا بعد:
فإنّ العطور الكحولية إذا كانت تجعل العطر سائلا مسكرا فلا يجوز أن يتطيب بها المسلم لقوله صلى الله عليه وسلم:" كل مسكر خمر"(1) وهي تدخل في عموم الأحاديث التي تنهى عن بيع وشراء واستعمال وصنع المسكرات مثل قوله صلى الله عليه وسلم:" لعن الله الخمر وشاربها، وساقيها وبائعها، ومبتاعها وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه،" الحديث(2) أما إذا كانت نسبة الكحول غير مسكرة فلا بأس باستعمالها لأنّها ليست بخمر، إذ المعلوم أنّه ليس كلّ كحول مسكر، وقد تقدم أنّ قشر البرتقال يتضمن كحولا ولكنه غير مسكر، فالحاصل أنّه إذا كانت نسبة الكحول في العطر مسكرة أي يمكن تحويله إلى شراب مسكر فهذا يمنع منه لاسيما إذا كانت (60%) أو(70%) فما فوق، أمّا إذا كانت الكحول غير مسكرة فلا حرج في استعمالها في التطيب.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 24 ذي القعدة 1424ه
الموافق ل : 27 جانفي 2003م
__________
1- أخرجه مسلم في الأشربة رقم(2003)، وأبو داود في الأشربة رقم(3679)، والترمذي في الأشربة رقم(1861)، والنسائي في الأشربة رقم(5585)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
2- أخرجه أبو داود في الأشربة رقم(3674)، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.وصححه الألباني في الإرواء(5/365).(12/4)
الفتوى رقم: 406
في حكم لُبس قميص رياضي لفريق أوروبي
السؤال: هل يجوز لبس قميص رياضي لفريق أوروبي بعد طمس العلامة الدالة على الفريق؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وآله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فاعلم -وفقك الله- أنَّ التشبه بالكفار فيما هو من خصائصهم يعدُّ من مظاهر موالاتهم سواء كان التشبه بهم في عباداتهم كشعائر دينهم أو من عاداتهم وأنماط حياتهم وسلوكهم وسمتهم وأخلاقهم كحلق اللحية وإطالة الشارب، أو كهيئة لباسهم، أو أسلوب كلامهم، ورطانة لغتهم إلاَّ ما استثنته الحاجة، أو طريقة أكلهم، وشربهم التي يعرفون بها، فإنَّ ذلك من التشبه الذي ورد فيه النهي في قوله صلى الله عليه وآله وسلم:« مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ"(1)، ولا يخرج عن هذا المعنى لُبس القميص الرياضي الذي يحمل شعار فريق أوروبي من الأندية الكافرة، وإن طمست العلامة الدالة على الفريق مادام معروفًا عند الناس بشكله وألوانه أنه من ذلك النادي الكافر فهو قميص معدود من خصائصهم.
فالحاصل أنَّ التشبه بهم في المظهر فيما فعلوه على خلاف مقتضى شرعنا أو كان من خصائصهم دينا ودنيا فإنَّ ذلك يدلُّ على محبَّتهم في المخبر، وقد حرَّم الله على المؤمن اتخاذ الكفار أولياء ومودتهم، قال الله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ?[الممتحنة:1]، وقال تعالى: ?يَأَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لاَتَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلهَُّمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَالمِينَ? [المائدة: 51].
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 13 صفر 1427هـ
الموافق لـ: 13 مارس 2006م
__________
1- أخرجه أبو داود في اللباس (4033)، وأحمد (5232)، والطحاوي في مشكل الآثار (198)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وصححه العراقي في تخريج الإحياء (1/359)، ، والألباني في الإرواء (1269). وحسنه ابن حجر في فتح الباري (10/282).(12/5)
الفتوى رقم: 420
في حكم لبس خاتم بدون فص
السؤال: ما حكم لبس خاتم بدون فص؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فإنَّ الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في لبسه للخاتِم إنما يكون بوضعه على خنصره(1) عن اليمين(2) أو الشمال(3) وبوجود فصٍّ فيه(4) حتى تكون المتابعة كاملة، أمَّا إذا لبس خاتما من غير فصٍّ فجائز لبسه ما لم يكن فيه تشبه بالنصارى الذين يلبسونه لتعريف الغير بارتباطهم بعلاقة زوجية وهو ما يعرف بخاتم الخطبة، وإلاَّ فمن باب الإباحة والزينة جائز إن شاء الله وهو مستثنى من عموم الحلية للنساء.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 6 ربيع الثاني 1427ه
الموافق ل: 4 مارس 2006م
__________
1- عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ صَنَعَ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- خَاتَمًا قَالَ « إِنَّا اتَّخَذْنَا خَاتَمًا ، وَنَقَشْنَا فِيهِ نَقْشًا ، فَلاَ يَنْقُشْ عَلَيْهِ أَحَدٌ » . قَالَ فَإِنِّي لأَرَى بَرِيقَهُ فِي خِنْصَرِهِ . أخرجه البخاري في اللباس(5874).
2- عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ رَأَيْتُ ابْنَ أَبِى رَافِعٍ يَتَخَتَّمُ فِي يَمِينِهِ فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ رَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ يَتَخَتَّمُ فِي يَمِينِهِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ "كَانَ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- يَتَخَتَّمُ فِي يَمِينِهِ" أخرجه الترمذي في اللباس(1848). وهو في صحيح الجامع (4900).
3- عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَتَخَتَّمُ فِي يَسَارِهِ وَكَانَ فَصُّهُ فِي بَاطِنِ كَفِّهِِ. أخرجه أبو داود في الخاتم (4229).
4- عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِي -صلى الله عليه وسلم- كَانَ خَاتَمُهُ مِنْ فِضَّةٍ وَكَانَ فَصُّهُ مِنْهُ. أخرجه البخاري في اللباس (5870)، ومسلم في اللباس والزينة (5607).(12/6)
الفتوى رقم: 526
في اقتضاء الترخيص في الحرير مساواته في الذهب
السؤال: صَحَّ عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قوله عن الذهب والحرير:« هَذَانِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌّ لإِنَاثِهَا »، وقد ذهب الحنفيةُ والإمامُ أحمدُ في قولٍ إلى إباحةِ الذهب للرجال إذا كان يسيرًا تابعًا لغيره، كالنسج والكتابة بخيوط الذهب، واستدلُّوا على ذلك بما أخرجه البخاريُّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم:« نَهَى عَنْ لُبْسِ الحَرِيرِ إِلاَّ مَوْضِعَ أُصْبُعَيْنِ أَوْ ثَلاَثٍ أَوْ أَرْبَعٍ »(1)، ووجهُ الاستدلال من الحديث ما ذكره ابنُ عابدينَ بقوله:« أَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ وَجْهَ الاسْتِشْكَالِ أَنَّ كُلاًّ مِنَ العَلَمِ وَالكَفَافِ فِي الثَّوْبِ إنَّمَا حَلَّ لِكَوْنِهِ قَلِيلاً وَتَابِعًا غَيْرَ مَقْصُودٍ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ وَقَدِ اسْتَوَى كُلٌّ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَالحَرِيرِ فِي الحُرْمَةِ فَتَرْخِيصُ العَلَمِ وَالكَفَافِ مِنَ الحَرِيرِ تَرْخِيصٌ لَهُمَا مِنْ غَيْرِهِ أَيْضًا بِدَلاَلَةِ الْمُسَاوَاةِ »(2).
فهل قوله:« بدلالة المساواة » استدلالٌ بمفهوم الموافقة؟ وإذا كان كذلك فما الذي ترجّحونه ـ حفظكم الله ـ في مسألة تخصيص العامّ بمفهوم الموافقة؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فالذهب محرَّمٌ على الرجال قولاً واحدًا لأهل العلمِ في قولِه صلى الله عليه وآله وسلم في حديث علي بن أبي طالبٍ رضي الله عنه بعدما مسك الذهب بيده اليمنى والحريرَ بشماله وقال:« هَذَانِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌّ لإِنَاثِهَا »(3)، غير أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أجاز اليسير منه مع اختلافهم في وجه اليسير في نهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم:« نَهَى عَنْ لُبْسِ الذَّهَبِ إِلاَّ مُقَطَّعًا »(4)، والمراد بالمقطَّع اليسير، وهل اليسير في باب الحاجة ومن باب أولى الضرورة أم أنه يجوز مطلقًا ؟ فمن حمله على الحاجة قال: لا يجوز ما عداه ولو كان يسيرًا، أمّا من أجازه مطلقًا عن الحاجة فساواه بما تضمّنه الحديث المذكور في السؤال، وحدّده باليسير عُرْفًا.
أمّا التخصيص بمفهوم الموافقة فلا شكَّ أنه يجوز التخصيص به لأنه من باب خطاب السمع على ما عليه جمهور أهل العلم فدلالته دلالةٌ لفظيةٌ لا قياسية، وعلى القول بأنّ دلالته قياسية وهو مذهب الشافعي ومن وافقه فإنّ الصحيح جواز تخصيص العموم بالقياس.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 2 محرم 1426ه
الموافق ل: 1 فبراير 2006م
__________
1- أخرجه مسلم في اللباس والزينة (5413)، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأمّا البخاري فأخرجه في كتاب اللباس (5491)، بلفظ:« نَهَى عَنْ لُبْسِ الحرِيرِ إِلاَّ هَكَذَا، وَصفَّ لَنَا النبي صلى الله عليه وسلم إِصْبعَيْهِ. ورفع زهير الوسطى والسبابة ».
2- ردّ المحتار لابن عابدين: (26/349).
3- أخرجه البزار في (866)، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير (13601)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وأخرجه ابن حبان (5434)، وأحمد (752)، وأبو يعلى (325)، والبيهقي (4320)، وفي شعب الإيمان (6083)، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، بلفظ:« هذان حرام على ذكور أمتي ». والحديث صحّحه الألباني في «الرد المفحم » (126)، وفي «صفة الفتوى » (90).
4- أخرجه أبو داود في الخاتم (4239)، والنسائي في الزينة (5150)، وأحمد (16458)، والبيهقي (5915)، والطبراني في المعجم الكبير (837)، من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه. والحديث صحّحه الألباني في «آداب الزفاف » (163).(12/7)
الفتوى رقم: 546
في حكم لباس البنطلون
السؤال: ما حكم لبس السراويل (البنطلون)؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فإن كان المقصود بالسراويل البنطلون، فإنه إذا كان لا يختص بلباس اليهود والنصارى ولا يعبِّر عن معنى حضاري كحضارة رعاة البقر مثل:« الجين » وما شاكله من الألبسة، ولا يعبِّر عن نزعة عِرقية، ولا يحمل شعارًا دينيًا ولا معنى حزبيًّا ولا يكون ضيّقًا بحيث يصف العورة أو يُحَجِّمُهَا فإنه لا مانع من لبسها إذا خلت من الأوصاف السابقة وهي معدودة -بهذا الاعتبار- مِن الألبسة الأُمَمِيَّة العامة.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 25 من ذي القعدة 1427ه
الموافق ل: 16 ديسمبر 2006م(12/8)
الفتوى رقم: 602
في ضابط القَلنسوة
السؤال: ما حكم الطاقية السوداء التي يرتديها -اليوم- بعض الجماعات الحزبية الحركية؟.
الجواب: الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فالطاقيةُ أو العِمامَةُ أو مُختلفُ أنواعِ القَلَنسوات إذا كانت مغايرةً لِجِنْسِ قُبَّعَات الكفّار ولم تحمِلْ طابِعًا حِزبيًّا أو نزعةً قوميةً أو لم تكن معبِّرةً عن معنًى عَقَديٍّ؛ فيرغَّبُ في اقتنائها لكونها شعارًا يتميّز المسلم بها عن الكافر.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 25 من ذي الحجة 1427ه
الموافق ل: 15 يناير 2007م(12/9)
الفتوى رقم: 621
في حكم تغطية الرجل لرأسه
السؤال:
ما حكم تغطية الرجل رأسه ؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فكلّ ما يضعه المسلم على رأسه من عِمامة أو مختلف القَلَنسوات مما يتزيّن بها بالصفة المغايرة لجنس قُبعات اليهود والنصارى فإنها تمثّل -في حقيقة الأمر- شعارًا للمسلم تميّزه عن الكافر أو المتشبّه بالكفار في زيهم، وخاصّة في زمنٍ تداخلت فيه الأزياء واختلطت اختلاطًا غلب عليه الطابع الغربي من اليهود والنصارى، واتبع الناس سُنَنَهم عامة لا سيما في مختلف أزيائهم وطريقة لُبسهم، قال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى إِذَا دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ، قَالُوا: اليَهُودُ وَالنَّصَارَى يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: فَمَنْ؟ »(1). وقد أمر في نصوص متكاثرة بمخالفتهم فقال:« خَالِفُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى »(2).
فالحاصل أنّ المحافظة على تغطية الرأس بالصورة المباينة لقبعات من خالفهم من اليهود والنصارى ومن سار على دربهم لتُعَدُّ من تعظيم الشعار الديني المميّز للمسلم على غيره، وهو من تقوى القلوب قال تعالى: ?وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القُلُوبِ? [الحج: 32].
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائرفي: 18 من ذي الحجة 1427ه
الموافق ل: 7 جانفي 2007م
__________
1- أخرجه البخاري في «الاعتصام بالكتاب والسنة »: (7320)، ومسلم في «العلم »: (6952)، وأحمد: (12120)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
2- أخرجه بهذا اللفظ ابن حبان في «صحيحه » كتاب الصلاة، باب فرض متابعة الإمام، رقم: (2186)، من حديث شداد بن أوس رضي الله عنه.(12/10)
الفتوى رقم: 708
في تجلية تَنْزِيل قاعدة حمل المطلق على المقيد إن كانا نهيين على مسألة إسبال الإزار
السؤال:
أرجو من شيخنا أن يوافيَنَا بتحريرِ مسألةِ حمل المطلق على المقيّد إن كانا نَهيين، فإنه التبس علينا ما ذكرتموه في مسألة حكم إسبال الإزار، من حيث إنّه لا ينطبق على القاعدة السالفة، وبعد مراجعة أكثرَ من أربعةِ مصادرَ في الأصول ما وجدتُ لكلامكم -حفظكم الله- وجهًا، فأرجو منكم توضيحَ المسألة؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فقد جاءت روايةُ النهيِ عن الإسبال إلى ما دون الكعبين المتضمّنة للتوعّد بالنار مطلقةً عن تقييدٍ في قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« مَا أَسْفَلَ مِنَ الكَعْبَيْنِ مِنَ الإِزَارِ فَفِي النَّارِ »(1)، ويؤيّد صيغةَ النهيِ حديثُ حذيفةَ رضي الله عنه مرفوعًا:« وَلاَ حَقَّ لِلَكَعْبَيْنِ فِي الإِزَارِ »(2)، ومن جهة أخرى جاء النهيُ مقيّدًا بالخُيَلاَءِ والبَطَرِ فيما صحَّ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم أنه قال:« لاَ يَنْظُرُ اللهُ إِلَى مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاَءَ »(3)، وفي حديث:« لاَ يَنْظُرُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلَى مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ بَطَرًا »(4).
وقد اشترط الآمديُّ وابنُ الحاجبِ أن يكون حَمْلُ المطلقِ على المقيَّد في باب الأوامر والإثبات، أمّا جانب النفي والنهي فلا يصحُّ؛ لأنه يلزم منه الإخلال باللفظ المطلق مع تناول النفي والنهي، وقالا: لا خلافَ في العمل بمدلولهما، والجمع بينهما لعدم التعذّر، فلو قال: لا تَعْتِقْ مُكاتبًا، ثمّ قال: لا تعتقْ مكاتبًا كافرًا، لم يجزه أن يعتقَ مكاتبًا لا كافرًا ولا مسلمًا. واختار الشوكاني هذا المذهبَ وقال: والحقّ عدم الحمل في النفي والنهي.
قلت: وقد يكون من قبيل التنصيص على أفراد بعض مدلول العامّ وبه قال الزركشي، فلو قال:« لا تُسبِلْ إزارك » وقال:« لا تسبل إزارك خيلاء » فصار الإسبال خيلاء من قبيل التنصيص على أفراد بعض مدلول العامِّ الذي يؤكّد العامَّ في خصوصه ولا ينافيه أو يعارضه في عمومه، ولا موجب لتخصيص العموم بالمفهوم، ويؤيّد هذا المعنى أنّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم أوضح موضعَ الإزار في حديث عمرو بن فلان الأنصاري، فقال:« يَا عَمْرُو هَذَا مَوْضِعُ الإِزَارِ »(5)، فإنّه ظاهرٌ في عدم جوازِ تجاوُزِهِ، وهو عامٌّ للخيلاء ولغيره، وهو معنى حديث أبي أمامة رضي الله عنه:« إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ المُسْبِلَ »(6)، فهو عامٌّ شاملٌ للخيلاء وغيرِه، وإنما يشتدُّ الإثم إن قصد الخيلاء.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 12 جمادى 1428ه
الموافق ل: 28 مايو 2007م
__________
1- أخرجه البخاري في «اللباس »، باب ما أسفل من الكعبين فهو في النار: (5787)، والنسائي في «الزينة »، باب ما تحت الكعبين من الإزار: (5348)، وأحمد: (9558)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2- أخرجه الترمذي في «اللباس »، باب في مبلغ الإزار: (1783)، والنسائي في «الزينة »، باب موضع الإزار: (5329)، وابن ماجه في «اللباس »، باب موضع الإزار أين هو: (3572)، وأحمد: (22847)، وأبو داود الطيالسي في «مسنده »: (425)، قال الألباني في «السلسلة الصحيحة » (2366): معلّقًا على قول الترمذي عن الحديث «حسن صحيح »:« وهو كما قال ».
3- أخرجه البخاري في «اللباس »: (5446)، ومسلم في «اللباس والزينة »، باب تحريم جر الثوب خيلاء: (5453)، وأبو داود في «اللباس »، باب ما جاء في إسبال الإزار: (4085)، والترمذي في «اللباس »، باب ما جاء في كراهية جر الإزار: (1730)، وأحمد: (6115)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
4- أخرجه البخاري في «اللباس »، باب من جر ثوبه من الخيلاء: (5451)، ومسلم في «اللباس والزينة »، باب تحريم جر الثوب خيلاء وبيان حد ما يجوز: (5463)، ومالك في «الموطإ »: (1629)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه أبو داود في «اللباس »، باب في قدر موضع الإزار: (4093)، وابن ماجه في «اللباس »، باب موضع الإزار أين هو: (3573)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
5- أخرجه أحمد: (17328)، من حديث عمرو الأنصاري رضي الله تعالى عنه. قال الهيثمي في «مجمع الزوائد »: (5/216):« رجله ثقات »، وقال نفس العبارة الحافظ في «الفتح »: (11/429)، وحسنه الألباني في «السلسلة الصحيحة »: (6/405).
6- أخرجه الطبراني في «مسند الشاميين »: (1205)، وفي «المعجم الكبير »: (7835)، من حديث أبي أمامة رضي الله عنه. قال الهيثمي:" رواه الطبراني بأسانيد، ورجال أحدها ثقات"، وانظر السلسلة الصحيحة: (6/406).(12/11)
الفتوى رقم: 770
في حكم «الحايك » الذي تغطى به العروس يوم زفافها
السؤال:
جَرَتِ العادةُ أنّ المرأة عندما تخرج يوم زفافها من بيتها تغطى ب «الحايك »، فما حكم هذا؟
الجواب:
فإن كان هذا «الحايِك » من باب السُّتْرَةِ عن الناس فلا بأس، ما لم يكن في «الحايك » مُعتَقَدٌ فاسد، ففي هذه الحال يجب أن يُستَغنَى عنه، ويُترَك هجرًا للمعصية؛ لأنّ «المهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ »(1).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 9 ربيع الأول 1427ه
الموافق ل: 6 أفريل 2006م
__________
1- أخرجه البخاري في «الإيمان » (10)، وأبو داود في «الجهاد » (2483)، والنسائي في «الإيمان وشرائعه » (5013)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه.(12/12)
الفتوى رقم: 771
في حكم البُرنُس الذي تلبسه العروس
السؤال:
هل «البُرنُس » الذي تلبسه العروس يوم زفافها، فيه تشبه بالرجال أم لا؟
الجواب:
فالذي يظهر أنّ فيه تشبُّهًا بالرجال؛ لأنّه لا يُعلَم في العادة أنّ المرأة ترتدي «برنسًا »، بل هو من خصوصيّات الرجال -فيما أعلم-، ولا يجوز للنِّساء مشاركة الرجال فيما هو من خُصوصيَّاتِهم، ولا يجوز للرجال مشاركة النساء فيما هو من خُصوصِيَّاتِهِنّ.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في 26 ذو الحجة 1427ه
الموافق ل: 15 يناير 2007م(12/13)
الفتوى رقم: 860
في حكم الخمار لمن تغطي بجلبابها الوجه والصدر
السؤال:
جاء في فتواكم المعنونة ب:« صفة الخمار الشرعي » أنَّ على المرأة إذا خرجت أن تَلبس الدِّرعَ والخمارَ، وتضع مُلاءةً فوق رأسها، فهل يجب على المرأة التي تضع فوق رأسها سدلاً سابغًا يغطِّي وجهها ويصل حتى الصدر أن تلبس الخمار؟ أو تَلبس الخمار من غير أن تلفَّه كلَّه على الرقبة؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالملاءةُ والملحفةُ والجلبابُ من أكيسة الرأس، تضعه المرأة فوق الخمار وفوق الثياب، وترسله من أعلى إلى أسفل، لتستر به رأسَها وصدرَها، ويدلُّ عليه قولًُه تعالى: ?يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا? [الأحزاب: 59]، قال في «اللسان »: الجلبابُ ثوبٌ أوسعُ من الخمار دون الرِّداء تغطِّي به المرأة رأسَها وصدرَها(1)، مع التزام الدِّرع والخمار، إذ المرأة العجوز التي قعدت عن المحيض والولد من الكبر والتي لا تطمع في الأزواج قد رخِّص لها -مع الأجانب- أن تضع جلبابها مع التزامها بالخمار والدِّرع من غير تبرُّجٍ بزينةٍ، وقد نقل هذا المعنى مفسّرًا عن ابن مسعود(2) رضي الله عنهم،، حيث فسّروا «الثياب » بالجلباب في قوله تعالى: ?وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللاَّتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ? [النور: 60].
هذا، وإنما هذا القول مبنيٌّ على مذهب الجمهور القائلين بأنَّ جميعَ جسد المرأة الحُرَّة يجب سِتره أمام الأجانب إلاَّ الوجه والكفين، ومن جهة أخرى يُشرع في حقِّ المرأة -من مُنطلق آية الأحزاب- أن ترسل جلبابها من أعلى الرأس إلى أسفل لتستر به الوجه والصدرَ بناءً على رأي القائلين بأنَّ جميع بدنِ المرأة الحرة عورة أمام الأجانب بما في ذلك الوجه والكفان، والخمار -والحال هذه- مُؤكِّد للستر لا لزوم فيه لكونه من تحصيل الحاصل.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 28 صفر 1429ه
الموافق ل:05/03/2008م
__________
1- «لسان العرب » لابن منظور: (2/317).
2- أخرجه ابن جرير في «تفسيره »: (18/126)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (7/93).
3- أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى »: (7/93).(12/14)
الفتوى رقم: 864
في حكم ملبوس يحمل شعارًا كفريًّا مطموسًا
السؤال:
ما حكم لُبس الحذاء المحتوي على شعارٍ عَقَدِيٍّ كفريٍّ بعد طمسه؟ وجزاكم اللهُ خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فإذا كان الحذاء يمثِّل في ذاته شعارًا كُفريًّا معلومًا كالأحذية الخاصَّة بالكنيسة أو بغيرها من المعابد الشركية فإنه لا يجوز لُبسه ولو بإزالة ما عَلِقَ به أو بطمس بعضِه؛ لأنّ الطمس لا يُخرِجُه عن حقيقتِه، أمَّا إذا كان الحذاءُ يحمل شعارًا عَقَديًا فاسدًا وليس هو بذاته شعارًا فإنَّ طَمْسَ ظاهِرِه أو نزعَ أصلِه سبيلٌ إلى لُبْسِهِ من غيرِ مانع، وَفْقًا لقاعدة «إِذَا زَالَ المَانِعُ زَالَ المَمْنُوعُ ».
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 7 ربيع الأول 1428ه
الموافق ل: 26 مارس 2007م(12/15)
الفتوى رقم: 889
في حكم تغيير الشيب بغير السواد
السؤال:
هل تغيير الشيب بغير السواد واجب أم مستحب؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالآثارُ المرويةُ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم الناهيةُ عن تغييرِ الشيب ضعيفةٌ لا تصلح للاحتجاج، وهي معارَضة بالأحاديث الصحيحة الآمرةِ بصبغ الشيب، واستحبابِ خِضابِه للرجل والمرأة بحُمْرَة أو صُفْرَة، والأفضلُ بالحناء والكَتَم، مع امتناع خضابه بالسواد لعموم قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« إِنَّ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى لاَ يَصْبِغُونَ فَخَالِفُوهُمْ »(1)، ولقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« إِنَّ أَحْسَنَ مَا غَيَّرْتُمْ بِهِ هَذَا الشَّيْبَ الحَنَّاءُ وَالكَتَمُ »(2)، أمَّا حرمةُ السوادِ فبقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم حين جاء أبو بكر الصديقُ رضي الله عنه بأبيه: أبي قحافة يوم فتح مكة يحمله حتى وضعه بين يدي رسولِ الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم فأَسْلَمَ ورأسه ولحيته كالثَّغامة بياضًا، فقال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« غَيِّرُوا هَذَا بِشَيْءٍ وَاجْتَنِبُوا السَّوَادَ »(3)، وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« يَكُونُ قَوْمٌ يَخْضِبُونَ -فِي آخِرِ الزَّمَانِ- كَحَوَاصِلِ الحَمَامِ، لاَ يَرِيحُونَ رَائِحَةَ الجَنَّةِ »(4)، فعُلِمَ والحالُ هذه أنَّ الأحاديث الناهيةَ عن تغيير الشيب لا تقوى على معارضة الأحاديث الصحيحة الآمرةِ بتغييره، وعلى فرض صِحَّتها جدلاً فيمكن الجمعُ بينها بحمل النهي عن تغيير الشيب بالسواد -كما تقدَّم-أو تغيير الشيب بِنَتْفِهِ.
قال ابن القيم في «تهذيب السنن »:« والصواب أنَّ الأحاديث في هذا الباب لا اختلافَ بينها بوجهٍ، فإنَّ الذي نهى عنه الرسول صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم من تغيير الشيب أمران: أحدهما: نتفه، والثاني: خضابه بالسواد كما تقدَّم. والذي أذن فيه هو صبغه وتغييره بغير السواد كالحناء والصفرة، وهو الذي عمله الصحابة رضي الله عنهم »(5).
قلت: وأكثرُ الصحابة رضي الله عنهم كانوا يخضبون، كالشيخين: أبي بكر وعمر(6)، وكذلك ابن عمر أبو هريرة وآخرون، وترك آخرون الخضاب كعلي بن أبي طالب، وأُبَيِّ بنِ كعب وأنسٍ وغيرِهم(7)، والاختلافُ إنما هو في الأفضلية، والتركُ لا يدلُّ على كراهةِ الخضاب، وإنما يدلُّ على عدم وجوبه، ولا ينفي استحبابَه، بل غايةُ ما يدلُّ عليه جواز تركه. قال النووي:« واختلافُ السلف في فعل الأمرين بحسَبِ اختلاف أحوالهم في ذلك، مع أنَّ الأمر والنهيَ في ذلك ليس للوجوب بالإجماع، ولهذا لم يُنكر بعضُهم على بعضٍ خلافه »(8).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 16 ربيع الثاني 1429ه
الموافق ل: 22/04/2008م
__________
1- أخرجه البخاري في «صحيحه » كتاب اللباس، باب الخضاب: (5559)، ومسلم في «صحيحه » كتاب اللباس والزينة، باب في مخالفة اليهود في الصبغ: (5510)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2- أخرجه أبو داود في «سننه » كتاب الترجل، باب في الخضاب : (4205)، والترمذي في «سننه » كتاب اللباس، باب ما جاء في الخضاب: (1753)، والنسائي في «سننه » كتاب الزينة، باب الخضاب بالحناء والكتم : (5077)، وابن ماجه في «سننه » كتاب اللباس، باب الخضاب بالحناء: (3622)، وأحمد في «مسنده »: (20831)، من حديث أبي ذر رضي الله عنه. والحديث صحّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة »: (4/14).
3- أخرجه مسلم في «صحيحه » كتاب اللباس والزينة، باب استحباب خضاب الشيب بصفرة أو حمرة: (5508)، وأبو داود في «سننه » كتاب الترجل، باب في الخضاب: (4204)، والنسائي في «سننه » كتاب الزينة، باب النهي عن الخضاب بالسواد: (5076)، وأحمد في «مسنده »:: (13993) ، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
4- أخرجه أبو داود في «سننه » كتاب الترجل، : (4212)، والنسائي في «سننه » كتاب الزينة: (5075)، وأحمد في «مسنده »: (2466)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وجوّد إسناده العراقي في «تخريج الإحياء »: (1/196)، وصحَّحه أحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد »: (6/137)، والألباني في «صحيح الجامع »: (8153).
5- «تهذيب السنن » لابن القيم: (6/103).
6- انظر:« صحيح البخاري »: (3/1426)، و«صحيح مسلم »: (4/1821).
7- انظر:« المستدرك » للحاكم: (3/342)، و«المصنف » لابن أبي شيبة: (5/186).
8- «شرح مسلم » للنووي: (14/80).(12/16)
الفتوى رقم: 985
في تحليق شعر الرأس بأشكال وأنماط
السؤال:
كنتم تفضَّلتم في الفتوى رقم (425) «في حكم حلق شعر القفا وحكم المال المكتسب منه» بأنَّ ذلك مكروه، وأنَّ الثمن المكتسب من ذلك يتبع الحكم، فهل يلحق بذلك ما يفعله الشباب اليوم من حلق قفاهم بأنواعٍ مختلفة، وأشكال وأنماط؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فالمسألةُ المذكورة تزيد عن الفتوى التي سبقت الإشارة إليها بدخول عنصر التشبُّه بالكفار فيها، لذلك فهي أغلظُ حُكمًا من الفتوى السابقة، لما في نوع القزع المذموم من ربط المسلمين وخاصة الشباب منهم في مظهرهم الخارجي بمجتمعات اليهود والنصارى عن هذا النوع من التحليق، الأمر الذي يؤدِّي مع عوامل أخرى مساعدة إلى الانفصال عن الشخصية الإسلامية في مُقوِّماتها الدِّينية والأخلاقية بالتبعية العمياء للغرب، ومشاكلته في عاداته وتقاليدِ مجتمعه، وسلوكه وطباعه، وقد ورد في الحديث: «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ»(1)، قال ابن تيمية -رحمه الله-:«وهذا الحديث أقلُّ أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبِّه بهم، كما في قوله تعالى: ?وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ? [المائدة: 51]»(2).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 26 صفر 1430ه
الموافق ل: 21 فبراير 2009م
__________
1- أخرجه أبو داود كتاب «اللباس»، باب في لباس الشهرة: (4033)، وأحمد: (5232)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. والحديث صححه العراقي في «تخريج الإحياء»: (1/359)، وحسّنه ابن حجر في «فتح الباري»: (10/288)، والألباني في «الإرواء»: (1269).
2- «اقتضاء الصراط المستقيم» لابن تيمية: (1/270).(12/17)
******************* 13- فتاوى طبية ******************
الفتوى رقم: 14
الأخطاء الطبية
السؤال: قال الله تعالى: ? فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ ِإن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونََ? [النحل: 43]
أختك في الله تعمل في المستشفى كممرضة بمصلحة الأطفال وقد تعرضت لحالة حيث تم إسعاف طفل لدى المصلحة المذكورة آنفًا، و قد كلفت بتقديم الإسعافات الأولية حيث أقبلت على أحدهما و سألته بعد تناول الوصفة الطبية المعلقة على السرير هل هذه الوصفة لك ؟ فأجاب بنعم، و على هذا الأساس قدمت له الدواء المذكور بالوصفة و بعد دقائق تغير حاله ورغم تدخل الطبيب فقد مات الطفل و بعد إجراء التحاليل تبين أن الطفل مريض بداء القلب والدواء المقدم له غير مناسب، و بعد إعادة قراءة الوصفة تبين أن الدواء كان موجها إلى طفل آخر ، فأحسست أني كنت سببًا في موته.
فالسؤال : هل يعتبر هذا قتل شبه الخطأ، أو الخطأ و ما يترتب عليه من آثار شرعية (صيام أو ماذا ...) ؟
أفتونا في سؤالنا جزاكم الله خيرا وزادكم علما و تقوى
الجواب: الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على من لا نبي بعده و على آله و صحبه والتابعين لهم بإحسان، أمّا بعد:
فاعلمي أن الفقهاء أجمعوا على أن الطبيب أو من يقوم مقامه من الملحقين به تنتفي عنهم المسؤولية إذا ما أدى عملهم إلى نتائج ضارة بالمريض، شريطة أن يقصد بعمله نفع المريض و يعمل وفق الأصول الطبية المتبعة، و أن يأذن له المريض أو من يقوم مقامه كالولي، هذا كله إذا لم يكن الخطأ فاحشا أو جسيما، والمراد بالخطأ الفاحش هو مالا تقره أصول فن الطب و لا يقره أهل العلم بفن الطب ويظهر ذلك بمخالفة الوسائل العلاجية السليمة مخالفة واضحة تدل على جهل أو إهمال مفرط وجلي لا يصح صدورهما منه، كالتسرع في تشخيص المرض وتقرير العلاج برعونة أو إهمال دون الاستعانة بالأصول والطرق الطبية الضرورية لتكوين الرأي السديد. وعليه فإنّ في تقديري أن لا ضمان على هذه الممرضة التي وجدت الوصفة الطبية معلقة على سرير المريض فقرينة ظنية على أنها وصفته الطبية، وزادها تأكدا عند إقراره بها، و إن لم تكن هذه الوصفة تابعة له في الواقع ونفس الأمر، و ينتفي الضمان لأنّ الجواز الشرعي ينافيه كما تقرر في القواعد وأصل القاعدة: كلّ موضوع بحقّ إذا عطب به إنسان فلا ضمان على واضعه.
ومن هذا فإن تقرير المسؤولية والضمان من الوجهة الشرعية لا يترتب إلا على خطئها الفاحش و قد انتفى، و إذا كان عموما التطبيب واجبا، فالقاعدة أن الواجب لا يتقيد بشرط السلامة.
والعلم عند الله؛ و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين؛ و صلى الله على محمد وعلى آله و صحبه و التابعين لهم بإحسان و سلم تسليما.
الجزائر في : 24 رمضان 1417ه
الموافق ل : 02 فيفري 1997م(13/1)
الفتوى رقم: 15
الدواء المستحضر بالكحول
السؤال : (مستحضر دواء) نستعمل ثلاث لترات من زيت الزيتون ونضيف له خل الكحول و إن لم نجد نضع قارورة من الخمر.
هل يجوز التداوي بهذا المستحضر شربا أو وضعا على الجرح ؟
بارك الله فيكم، ونفعنا بعلمك وعمرك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد و على آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فاعلم - حفظك الله - أنّ زيت الزيتون شجرة مباركة كما أخبر الله عز وجل في سورة النور بقوله تعالى :?... يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَ لاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ? [النور 35] و بقوله صلى الله عليه وسلم:" كلوا الزيت و ادهنوا به فإنه من شجرة مباركة"(1) وما وصف بالبركة كائن له النفع بإخبار الوحي الإلهي لا محالة، أما الخل فقد امتدحه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:" نعم الأدم الخل"(2) فإن خلط الأول بالآخر أي الجائز في جنسه اختلاطا يقره أهل الاختصاص من الطب استنادا إلى العلة العقلية في الأمور الدنيوية و أنه ناجح أي يأتي هذا المزيج بنتائج إيجابية في دفع الأذى ورفع الوجع فإن هذا المستحضر يجوز التداوي به كسائر الأطعمة المخصصة للتداوي شربا و تدليكا.
أمّا إضافة الخمر المحرم شرعا إلى زيت الزيتون فلا يصح التداوي به فضلا عن اتخاذه أو إضافته إلى غيره من المواد لقوله صلى الله عليه وسلم:" إنّ الله عزّ وجلّ أنزل الداء والدواء وجعل لكل داء دواءً فتداووا ولا تتداووا بحرام"(3) وفي رواية "إن الله لم يجعل شفاءكم في حرام"(4) ولمّا سئل النبي صلى الله عليه و سلم "عن الخمر تتخذ خلا ؟ قال : لا"(5).
و الله أعلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين،وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
الجزائر في: 15 ذي القعدة 1416 ه
__________
1- أخرجه الترمذي كتاب الأطعمة باب ما جاء في أكل الزيت(1971)، وأحمد(4/555) رقم(15625) والحاكم كتاب التفسير باب تفسير سورة النور عن أبي أسيد رضي الله عنه، والحديث صححه الألباني في الصحيحة رقم(379).
2- أخرجه مسلم كتاب الأشربة (5473)، وأبو داود في الأطعمة(3822)، والترمذي كتاب الأطعمة(1955)،والنسائي كتاب الأيمان والنذور باب إذا حلف ألا يأتدم فأكل خبزا بخل(3812)، وابن ماجه كتاب الأطعمة باب الإئتدام بالخل(3442)، ، وأحمد(4/239) رقم(13849) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
3- أخرجه أبو داود كتاب الطب باب في الأدوية المكروهة(3876)، والبيهقي في سننه(20173)، من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه. وانظر السلسلة الصحيحة للألباني (4/174).
4- أخرجه ابن حبان كتاب الطهارة باب النجاسة، عن أم سلمة -رضي الله عنها- وانظر غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام رقم 30.
5- أخرجه مسلم كتاب الأشربة (5255)، و أبو داود كتاب الأشربة (3677)، من حديث أنس رضي الله عنه.(13/2)
الفتوى رقم: 18
تمريض المرأة للرجل
السؤال: نرجو من شيخنا أبي عبد المعز-حفظه الله ونفع به- أن يفيدنا بالجواب على مسألة تتعلق بحكم مداواة الممرضة للرّجال، و كذلك فيما يخص ضرب الحقن إن لم يكن في المستوصف إلا هي للقيام بهذا و لعدم وجود ممرض من الرجال.
أفيدونا جزاكم الله خيرا تفصيلا شافيا.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين و الصلاة و السلام على محمد و على آله و صحبه و التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فالأصل في اختلاط المرأة بالرجل المنع والحظر، و كذا في ستر العورات للأدلة الواردة في ذلك، غير أنّه يُستثنى من المنع بعض الحالات ترجع إلى الضرورة أو الحاجة الشرعية أو المصلحة الشرعية، بشرط أمن الفتنة وعدم الخلوة مع الالتزام بالآداب والأحكام الشرعية التي تلتزم بها المرأة في لباسها وكلامها وزينتها وفي نظرها للأجنبي و نظر الأجنبي لها وانعَدم من يقوم بذلك من الرّجال ويشهد لذلك ما رواه البخاري عن الرُّبيّع بنت مُعوّذ قالت:" كنّا مع النّبي صلى الله عليه وسلم نسقي ونداوي الجرحى ونردُّ القتلى إلى المدينة"(1) وما رواه البخاري أيضا "أنّ عائشة و أمّ سُليم رضي الله عنهما كانتا تنقلان القرب على متونهما، ثمّ تفرغانه في أفواه القوم، ثمّ ترجعان فتملآنها، ثمّ تجيئان فتفرغانه في أفواه القوم"(2) فإنّ مثل هذه الأعمال المتعلقة بالجهاد تُحقق مصلحة شرعية أجاز الشرع للنّساء القيام بها وإن اقتضت مخالطة الرجال، و في صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال:" كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يغزو بأمّ سُليم ونسوة من الأنصار معه إذا غزا فيسقين الماء ويداوين الجرحى"(3) وقد تدفع الحاجة والمصلحة إلى الاختلاط لغرض خدمة الضيوف، و قد جاء في الحديث الذي رواه البخاري أنّه:" لماّ عرّس أبو أُسَيد الساعدي دعا النّبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، فما صنع لهم طعاما، ولا قرّبه إليهم إلاّ امرأته أمّ أُسيد"(4).
هذا، واعلم أنّه لا يجوز للمرأة كشف عورتها لطبيب أو من يقوم مقامه مع وجود طبيبة أو ممرضة تُغني عنه، و إذا كشفت عورتها فلا يشرع لها أن تكشف منها ما لا ضرورة في كشفه على ما قرره السيوطي و ابن نُجَيم في الأشباه و النظائر عملاً بقاعدة الضرورات تقدر بقدرها.
و إذا مرضت مرضاً لا هلاك معه، غير أنّه يسبب لها ألماً شديداً و مستمراً فيجوز لها أن تكشف عورتها للطبيبة أو للطبيب عند تعذر وجود الطبيبة إذا تعين ذلك لشفائها تنزيلاً للحاجة منزلة الضرورة عامة أو خاصة، حيث أنّ ستر العورة تحسيني وزوال الألم الدائم حاجيّ، والحاجيّ أولى من التحسينيّ مطلقاً بخلاف ما لو كان الألم خفيفًا و معتادًا، فلا يجوز لها كشف العورة لاستواء درجة دفع الألم مع ستر العورة لأنّ كلاًّ منهما تحسينيّ، غير أنّه يغلب ستر العورة تقديماً للحاظر على المبيح، و شأن النّساء مع الرّجال كشأن الرّجال مع النّساء لقوله صلى الله عليه وسلم:" النّساء شقائق الرّجال"(5) ما لم يرد دليل الخصوصية.
والله أعلم بالصواب؛ و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله و صحبه وإخوانه و سلم تسليما.
__________
1- أخرجه البخاري كتاب الجهاد، باب مداواة النساء الجرحى في الغزو(2882)، من حديث الربَيِّع بنت معوّذ رضي الله عنها.
2- أخرجه البخاري كتاب الجهاد والسير، باب غزو النساء وقتالهن مع الرجال(2880)، ومسلم في الجهاد والسير(4786)، والبيهقي(18311) من حديث أنس رضي الله عنه.
3- أخرجه مسلم كتاب الجهاد والسير، (4785). وأبو داود أول كتاب الجهاد، باب في النساء يغزون(2533). والترمذي كتاب السير، باب ما جاء في خروج النساء في الحرب(1670).من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
4- أخرجه البخاري في «النكاح »، باب قيام المرأة على الرجال في العرس وخدمتهم: (4887), ومسلم في «الأشربة »، باب إباحة النبيذ الذي لم يشتد ولم يصر مسكرا: (5233). وابن ماجه في «النكاح »، باب الوليمة: (1912)، وابن حبان في «صحيحه »: (5395)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (17880)، من حديث سهل ابن سعد الساعدي رضي الله عنه.
5- أخرجه أبو داود في «الطهارة »، باب في الرجل يجد البلة في منامه (236)، والترمذي في «أبواب الطهارة » باب ما جاء فيمن يستيقظ فيرى بللا ولا يذكر (113)، وأحمد (25663)، وأبو يعلى (4694)، والبيهقي (818)، من حديث عائشة رضي الله عنها. والحديث صححه الألباني في «صحيح الجامع » (2333)، وفي «السلسلة الصحيحة » (2863).(13/3)
الفتوى رقم: 223
في حكم علاج المتأخرين في النطق بالموسيقى
السؤال: إنّ العلاج الأوتوفوني، أن يتكفل بكل من له عجز أو تأخر في الكلام أو عدم النطق الجيد، وكذلك الصم البكم، لذا فقد صارت تستعمل الموسيقى لغرض طبي حيث يتبع المريض الموسيقى المعزوفة من طرف الطبيب، وهي موسيقى خاصة تتبعها جمل خاصة يجب على المريض أن يتمرّن عليها في نفس الوقت وهو يسمع الموسيقى المعزوفة الخاصة التي في أغلب الأحيان هي من آلة البيانو. الموسيقى الخاصة تقوم على التدريبات الموسيقية حيث في كلّ تدرج يحاول المريض تطبيق عبارات محددة لهذا العلاج، وقد صارت تستعمل هذه الطريقة العلاجية في البلدان المتقدمة وأظهرت نجاحا كبيرا في مساعدة المرضى على الشفاء.
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فاعلم أنّ الأصل في الأصوات حناجر الآدميين وسائر الحيوانات، وإنّما وضعت الموسيقى وآلاتها من صوت دف ومزمار وأوتار وطبل متناسقة وموزونة على أصوات الحناجر، إذ المزمار مشتق من الزمير وهو الصوت الذي له صفير، ويطلق على الصوت الحسن وعلى الغناء، وسميت به الآلة المزمّر بها من باب تشبيه للصنعة بالخلقة.
وقد وردت في المعازف وآلات الطرب نصوص وآثار تنهى عنها، اعتبر الكثير في النهي التحريم كأصل لها، وما صحّ خارجا عنه فهو إمّا مستثنى من الأصل المحرم أو مخصوص من دليل المنع كالدف في الأعياد والأعراس بدليل قصة الجاريتين(1)، والحبشة(2)، وحديث:"أعلنوا النكاح"(3).
غير أنّ بعض أهل العلم توسع في إباحة آلات الطرب إلحاقا بالدف وأجاز آخرون منها إلاّ ما كان من شعار أهل الشرف والمخنثين كما أدخلوا في معنى العيد والعرس كلّ أسباب الفرح.
وتظهر علّة النهي إنّما هي لذة الاستماع الشاغلة للقلب واللاهية عن الذكر، لذلك أضافها أبو بكر الصديق رضي الله عنه في قصة الجاريتين إلى مزمار الشيطان الآمر بالفحشاء والمنكر، والصاد عن ذكر الله وعن الصلاة على ما أشارت إليه الآيات، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأبي بكر أنّ هذا الذم ليس في محلّه لأنّ اليوم يوم عيد، وفيه من جهة أخرى إقراره على ما عداه.
هذا، وعند التأمل فإنّ توسيع مجرى الحكم-في نظري- يرجع إلى مسألة أصولية مختلف فيها المتمثلة في: المخصوص من جملة القياس هل يقاس عليه غيره؟ فيتفق الأصوليون على جواز القياس إذا كان معللا أو مجمعا على جواز القياس عليه، ويختلفون فيما عداه، أجاز الحنابلة والشافعية والقاضي المالكي إسماعيل بن إسحاق فإنّه يمكن توسيع دائرة الحكم الشامل لمعنى العيد والعرس وسائر أسباب الفرح، ولا يلزم من إباحة الدّف جواز سائر أدوات الطرب لكونه مستثنى من عموم النهي عن المعازف من غير عقل لمعناه فلا يدخل في الحكم الأول ولا يشمله القياس إذ أنّه من شرط حكم الأصل أن لا يكون معدولا عن سنن القياس، وحينئذ تتعذّر التعدية ويبقى الحكم فيما عداه على الأصل.
هذا، وقد أوضحت الشريعة الغراء أنّ لكلّ داء دواء بعيدا عن الحرام، لأنّ الحرام لا يتعيّن للعلاج وليس محلا للمداواة به، قال صلى الله عليه وآله وسلم:«إنّ الله تعالى أنزل الدواء، وأنزل الداء، وجعل لكلّ داء دواء، فتداووا ولا تتداووا بحرام"(4) وقد روى البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:"إنّ الله لم يجعل شفاءكم فيما حرّم عليكم"(5).
ولعلّ أحسن علاج لمرضى النطق أن يستشفوا بكتاب الله وتلاوة آياته وقد يسره الله للذكر وجعل فيه الشفاء للقلوب ودواء للأبدان، قال تعالى:?وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ للذِّكْرِ فَهَلْ مِن مدَّكِرٍ? [القمر:17]، وقال تعالى: ?وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ?[الإسراء:82]، وقال تعالى: ?قُلْ هُوَ لِلذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ?[فصلت:44]، وقال تعالى: ?قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَة مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ?[يونس:57].
فرحم الله عبدا عالج نفسه بما فيه مرضاة الله تعالى ممّا استحبه وأمر به أو ممّا أباحه من الطيّبات.
والعلم عند الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
__________
1- أخرجه البخاري في العيدين(952)، ومسلم في صلاة العيدين(2098)، من حديث عائشة رضي الله عنها قالت:" دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصارتغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث-قالت وليستا بمغنيتين- قال أبو بكر: أمزامير الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك في يوم عيد فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا"
2- أخرجه البخاري في النكاح(5236)، من حديث عائشة رضي الله عنها قالت:"رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسترني بردائه، وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد".
3- أخرجه أحمد(16559)، والبيهقي(15082)، من حديث عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، وحسنه الألباني في صحيح الجامع(1072)، وفي آداب الزفاف(111).
4- أخرجه أبو داود في الطب(3876)، والبيهقي(20173)، من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، وصححه الألباني في صحيح الجامع(1762).
5- أخرجه البخاري معلقا بصيغة الجزم في الأشربة ، باب شراب الحلواء والعسل، والحاكم(4/242)، والبيهقي(20172)، وابن أبي شيبة في المصنف(23492)، وعبد الرزاق في المصنف(9/250)، قال الألباني:"وإسناده صحيح" انظر السلسلة الصحيحة(4/175).(13/4)
الفتوى رقم: 245
في حكم الأدوية المركبة من مواد محرمة
السؤال: هناك العديد من الأدوية التي تباع في الصيدليات أو عند الطب البديل وتأتي من مناطق مختلفة من العالم وقد تكون هذه الأدوية تركيبات غذائية أو فيتامينات ومعادن، فهل هذه الأدوية محرمة لمجرد الاحتمال بأن تكون مركبة من بعض مواد الخنزير أو غير مذبوح شرعا. في حالة التصريح بأنّ جزءا من هذه المواد مأخوذ من الخنزير أو غير حلال علينا هل نتناولها لأنها امتزجت واختلطت اختلاطا تركيبيا لا يرى له أثر؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فاعلم أنّ المواد إذا تغيّرت حقيقتها بمفاعيل كيماوية أو بغيرها حتى تصير مادّة أخرى فإن الحكم فيها الحِلّ والجواز لأنّ الأصل في الأشياء المنتفع بها على الإباحة كما هو مقرّر في علم الأصول لقوله تعالى: ?هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعا?[ البقرة:29] ولقوله صلى الله عليه وآله وسلّم:" الحلال ما أحلّ الله في كتابه والحرام ما حرّم الله في كتابه"(1) وأنّ الخمرة محرّمة لعينها ومحرّم شربها واستعمالها لكنّها إذا تخلّلت تغيرت حقيقتها أصبحت حلالاً، قال صلى الله عليه وآله وسلّم "نِعْمَ الإدامُ الخلّ"(2) هذا كلّه إذا تغيّرت حقيقة المادّة المحرّمة، أمّا إذا تغيّرت أوصافها وبقيت حقيقتها فإنّ حكمها المنع كتغيير الجامد إلى سائل والسائل إلى جامد فلو أنّ الخمر كسائل جمدت، وحقيقتها باقية وإن تغيّر وصف من أوصافها ولهذا قال صلى الله عليه وآله وسلّم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:" قاتل الله اليهود؛ إنّ الله لمَّا حرّم عليهم شحومها جملوه ثمّ باعوه فأكلوا ثمنه"(3) والجميل هو الشّحم المذاب فإنّ الشحوم وإن تغيّرت بعض أوصافها فحقيقتها باقية ويبقى التحريم متّصلا بها. من هذا المنطلق يمكن النّظر في مسائل الأدوية الواردة ويحتاج الحال هذه إلى تحقيق يقوم به أهل الخبرة من أهل الكيمياء، فإن وجدوا أنّ هذه الأدوية التي تضمّنت شحم الخنزير تغيّرت حقيقتها فمحلها الجواز، وإن وجدوا أنها تغيّرت بعض أوصافها وبقيت حقيقتها فالحكم في ذلك المنع، غير أنّ اللافت للنظر أنّه إذا تبيّن له بقاء حقيقتها المحرّمة لم يجز له أن يبيعها ولكن للمضطر يجوز له شراؤها لأنّ حكم المضطر مغاير للأحوال العادية فهو حالة نصَّ عليها الشّرع بالجواز بناء على قوله تعالى في سورة الأنعام: ?وقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ? [الأنعام:119] تلك الآية التي انبثقت منها قواعد الضرورات
تبيح المحظورات وتقدّر بقدرها.
والله أعلم وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على نبينا محمّد وعلى آله وسلّم تسليما.
الجزائر في:28 جمادى الثانية 1426ه
الموافق ل : 24 جويلية 2005 م.
__________
1- أخرجه الترمذي في اللباس(1830)، وابن ماجه في الأطعمة(3492)، والبيهقي(19873)، من حديث سلمان رضي الله عنه. وصححه الألباني في صحيح الجامع(3195).
2- أخرجه مسلم في الأشربة(5471)، والترمذي في الأطعمة(1957)، وابن ماجه في الأطعمة(3441)، من حديث عائشة رضي الله عنها، وأبو داود في الأطعمة(3822)، والترمذي في الأطعمة(1956)، والنسائي في الأيمان والنذور(3812)، وابن ماجه في الأطعمة(3442)، وأحمد(14595)، من حديث جابر رضي الله عنه.
3- أخرجه البخاري في البيوع(2236)، والنسائي في الفرع والعتيرة(4273)،(13/5)
الفتوى رقم: 327
ذهاب المرأة إلى الطبيب
السؤال: ما حكم الشريعة في المرأة التي تذهب إلى طبيب النّساء بدلا من طبيبة النّساء؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فإنّ المرأة لا يجوز لها أن تذهب إلى طبيب مع وجود طبيبة، والأصل أن تذهب إلى طبيبة مسلمة فإن تعذر فإلى طبيبة غير مسلمة وإن تعذر فإلى طبيب مسلم، ويجوز أن تكشف للطبيب كلّ ما يحتاج إلى النظر إليه ولكن يشترط أن يكون معها زوج أو ذو محرم لتنتفي الخلوة بالطبيب وهذا يدخل في باب الحاجة، وإنّما أجيز مثل ذلك لأنّ تحريمه تحريم وسائل وما كان كذلك فإنّه يجوز عند وجود الحاجة.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.(13/6)
الفتوى رقم: 328
في حكم تعلم الطب بعد حصول الكفاية فيه، وانتفاء الحاجة إليه
السؤال: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله-:" وقد ذكر طائفة من أصحابنا وغيرهم: أنَّ أصول الصناعات كالفلاحة، والحياكة، والبناية فرض على الكفاية، والتحقيق: أنها فرض عند الحاجة إليها، وأما مع الاستغناء عنها فلا تجب"(1).
فهل علم الطب يندرج تحت كلام شيخ الإسلام مع العلم أنَّ الحاجة الداعية لتعلمه متحققة في كل زمان ومكان؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فاعلم أنَّ المعني "بطائفة من أصحابنا وغيرهم" من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله- منهم: أبو الفرج ابن الجوزي، وابن قدامة، والغزالي، فقد اختصر أبو العباس بن قدامة المقدسي الحنبلي كتاب "منهاج القاصدين" لابن الجوزي الحنبلي الذي اختصر" المنهاج" من كتاب"إحياء علوم الدين" لأبي حامد الغزالي الشافعي، وقد جاء في "مختصر منهاج القاصدين" لابن قدامة:" فأمَّا فرض الكفاية فهو كل علم لا يستغنى عنه في قوام أمور الدنيا،كالطب إذ هو ضروري في حاجة بقاء الأبدان على الصحة... فهذه العلوم لو خلا البلد عمن يقوم بها حَرَجَ أهل البلد، وإذا قام بها واحد كفى وسقط الفرض عن الباقين، ولا يتعجب من قولنا: إنَّ الطب والحساب من فروض الكفاية، فإنَّ أصول الصناعات أيضًا من فروض الكفاية،كالفلاحة والحياكة، بل الحجامة فإنه لو خلا البلد عن حجام لأسرع الهلاك إليهم، فإنَّ الذي أنزل الداء أنزل الدواء وأرشد إلى استعماله"(2).
وعليه، فإنَّ علم الطب الذي يعرف به أحوال بدن الإنسان من جهة ما يعرض لها من صحة وفساد، علم نظري وعملي، معدود من العلوم العقلية كالحساب، وإذا كانت الحِرف والصناعات التي يحتاج إليها الناس في معايشهم، كالفلاحة ونحوها على فرض الكفاية فالطب والحساب أولى على ما ذكره أبو حامد الغزالي، غير أنَّ فرضية تعلم الطب على الكفاية مبنية على وجود الحاجة إليه، والحاجة متفاوتة القدر بحسب الأحوال والأزمنة والأمكنة، وبحسب تفاوت الظروف والأحوال، لكن إذا كانت كفاية بلد من الأطباء يغطون حاجيات الناس إلى العلاج بدفع العلل والأمراض عن أبدانهم، فإنَّ فرضيته الكفائية يمكن أن تنحصر في القضايا الطبية الجديرة بإتقانها والتفنن فيها، والتي هي سبيل لتقوية شوكة المسلمين، والاستغناء عن الأطباء الكفار، أما ما عداها بعد حصول الكفاية فيبقى الترغيب ملحًا في تعلمه، وتعليمه، وتطبيقه، لنفع العباد وصلاح أبدانهم، لذلك كانت عناية علماء الإسلام وفقهائه فائقة في تعلمه وتعليمه والكتابة فيه بما هو مبثوث في مؤلفاتهم.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 20 محرم 1427ه
الموافق ل: 19 فبراير 2006م
__________
1- "مجموع الفتاوى" لابن تيمية: 28/79، 29/194.
2- "مختصر منهاج القاصدين" لابن قدامة: [16](13/7)
الفتوى رقم: 390
في حكم التداوي بما يعرف بـ:" القطيع"
السؤال: هل يجوز التداوي بما يسمى بالعامية:" القطيع"؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فإن كان التداوي بما يسمى بـ"القطيع" على وجه الرقية الشرعية بالقرآن الكريم، والأذكار النبوية والأدعية المأثورة الثابتة، وسلمت رقيته من الشرك، والكلام الذي لايفهم معناه، ولم تستصحب باعتقاد تأثيرها بذاتها إلا بتقدير الله تعالى، فإنَّ هذه الرقية جائزة شرعًا لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:" اعْرِضُوا عَلَيَّ رُقَاكُمْ لاَ بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ"(1) وبقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَنْفَعْهُ"(2).
أما التداوي بـ:" القطيع" على وجه يقطع به الداء ببعض الطرق التي يستعملها بعض الرقاة كأن يضع أوراق الصبَّار منتزعة الأشواك تحت رجْلِ المريض لعلاج مرض الظهر والرجلين والمفاصل، ثمّ يقطع الصّبار ويعلق ذهاب الأذى وزوال المرض بجفاف ورق الصّبار المقطوع، أو يضع عيدان من قصب خُضر للمريض يدلكه برِجْله قصد الاستشفاء من مرض عرق النسا، ثمّ يحتفظ بها المريض في بيته حتى تيبس ويعلق شفاءه على جفوفها، أو يضع سكينا ساخنًا يمرره على رأس المريض ثلاث مرات أو سبع مرات، وقد يجرح الراقي يد المريض، ويحك مكان الجرح ببصلة ونحوها على وجه يقطع به مرض " الصفراء" فإن هذه الطرق وأشباهها ألصق حكمًا بالمنع ولعدم ثبوتها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قام بفعلها لنفسه أو أمر بها لغيره، أو رخص فيها لأمته مع وجود المقتضي لفعله وتوافر الدواعي لنقله وخاصة مع تعليق الشفاء على اليبس والجفاف، فإنَّ فيها إضاعة لحق الله في تعلق القلب به سبحانه، وفي فعل المشروع غنية عن غيره، ومن استغنى بما شرع الله أغناه الله عما سواه.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 24 محرم 1427ه
الموافق لـ: 23 فبراير 2006م.
__________
1- أخرجه مسلم في السلام (5862)، وأبو داود في الطب (3888)، والحاكم في المستدرك (7593)، والبيهقي (20081)، من حديث مالك بن عوف الأشجعي رضي الله عنه.
2- أخرجه مسلم في السلام (5861)، وأحمد (14756)، والبيهقي (20079)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.(13/8)
الفتوى رقم: 395
في حكم إطلاق وصف الحكيم على الطبيب
السؤال: ما حكم إطلاق وصف "الحكيم" على الطبيب؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فالحكيم هو من كان قوله وفعله موافقًا للسنة(1)، فلا يطلق على العالم فقط وإنما مع زيادة المبالغة فيه أو على العالم العامل(2)، بينما كل حاذق عند العرب فهو طبيب(3)، وقد استعمل الشارع لفظ الطبيب لا الحكيم في نصوص صحيحة منها:" أَرِنِى هَذَا الَّذِى بِظَهْرِكَ فَإِنِّى رَجُلٌ طَبِيبٌ. قَالَ: اللَّهُ الطَّبِيبُ بَلْ أَنْتَ رَجُلٌ رَفِيقٌ طَبِيبُهَا الَّذِى خَلَقَهَا"(4)، ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم:« مَنْ تَطَبَّبَ وَلاَ يُعْلَمُ مِنْهُ طِبٌّ فَهُوَ ضَامِنٌ"(5) والمراد بمن تطبب أي تعاطى علم الطب وعالج مريضًا.
وبناء عليه، فلا ينبغي تسميته بالحكيم والعدول عن تسمية الشرع له بالطبيب.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 06 ربيع الأول 1427ه
الموافق لـ: 5 أفريل 2006م
__________
1- التعريفات للجرجاني: 92.
2- الكليات لأبي البقاء: 382.
3- المصدر السابق: 580.
4- أخرجه أبو داود في الترجل (4209)، وأحمد (7309)، من حديث أبي رمثة رضي الله عنه. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1537)، ومقبل الوادعي في الصحيح المسند (1242).
5- أخرجه أبو داود في الديات (4588)، والنسائي في القسامة (4847)، وابن ماجه في الطب (3595)، والحاكم في المستدرك (7592)، والدارقطني في سننه (4553)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه. وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (635).(13/9)
الفتوى رقم: 396
في حكم إطلاق الأطباء لفظ الخبيث على المرض أو الورم
السؤال: ما حكم ما يتداول على ألسنة الأطباء من قولهم:" مرض خبيث" أو "ورم خبيث"؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فالخبيث هو ما يكره رداءة وخسة، محسوسًا كان أو معقولاً، وذلك يتناول الباطل في الاعتقاد، والكذب في المقال، والقبح في الفعال، وإطلاق صفة الخبث على المرض فمن جهة استعصاء علاجه وشدة ضرره وآلامه وسرعة فتكه بالمريض غالبًا، ولا مانع- في اعتقادي- من استعمال هذه الكلمة على المرض، وإنما يكره استعمالها بإضافتها إلى النفس، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ خَبُثَتْ نَفْسِي . وَلَكِنْ لِيَقُلْ لَقِسَتْ نفسي"(1) فكَرِه ذلك لبشاعة الاسم، لأنَّ لفظ لَقِسَت نفسي وخَبُثت معناهما واحد -كما قال النووي والبغوي- فعَلَّمَهم صلى الله عليه وآله وسلم الأدب في المنطق، وأرشدهم إلى استعمال الحَسَن وهجران القبيح منه(2).
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 06 ربيع الأول 1427ه
الموافق لـ: 5 أفريل 2006م
__________
1- أخرجه البخاري في الأدب (6179)، ومسلم في الألفاظ من الأدب (6015)، وأبو داود في الأدب (4981)، وأحمد (24976)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
2- شرح السنة للبغوي: 12/359، صحيح مسلم: 15/8.(13/10)
الفتوى رقم: 442
في حلق اللحية لمتطلبات جراحية
السؤال: أصبت بمرض في كتفي، وأمرني الطبيب بإجراء عملية جراحية، وألزمني بحلق اللحية وحاولت ما يمكنني لاجتناب ذلك، ولكنّه رفض فما حكم حلق اللحية من أجل إجراء العملية الجراحية؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
ففي مثل هذه المسائل إذا كانت العملية مضطراً إليها، ولا يستطيع أن يجريها إلاَّ بأخذ جزء من اللحية أو حلقها، ولم يفلح مسعاه مع غيره من الأطباء، فعليه -مكرها- أن يقدِّم أخف الضررين وأهون المفسدتين قال الله تعالى: ?فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ? [التغابن: 16]، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ"(1).
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 7 ربيع الثاني 1427هـ
الموافق ل: 6 مايو 2006م
---
1- أخرجه البخاري في الاعتصام بالكتاب والسنة (7288)، ومسلم في الحج (3321)، وأحمد (9771)، والحميدي في مسنده (1177)، والبيهقي (1897)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(13/11)
الفتوى رقم: 463
في مشروعية استعمال البصمة الوراثية في مجال التحقيق الجنائي والنسب
السؤال: لقد بدأت دائرة استعمال البصمة الوراثية(1) في إثبات النسب أو نفيه في الاتساع في البلدان الإسلامية، وأصبحت تُطلب من القضاة والخبراء وحتى في المحاكم الشرعية.
فما مدى مشروعية استخدامها في النسب والجناية؟ وهل تعتبر قرينة يستعان بها على إثبات النسب أو نفيه فحسب؟ أو تعتبر طريقًا من طرق إثبات النسب قياسًا على إحدى الطرق الثابتة شرعًا (كالقيافة)؟
أدامكم الله لنا معلمين وموجهين، وبارك في جهودكم.
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فبناء على التفصيل المقدم بشأن خصائص البصمة الوراثية ومجالات استخدامها والانتفاع بها فإنَّ البصمة الوراثية كوسيلة إثبات تتوقف مشروعيتها على عدم وجود نصوص شرعية تعارضها أو أصول كلية تنافيها سواء في ميدان التحقيق الجنائي أو في ميدان النسب صحة ونفيًا.
هذا، ويحول دون الأخذ بمثل هذه الوسائل في الحدود الشرعية والقصاص ما تورثه من شبهة يعارضها قوله صلى الله عليه وآله وسلم:« ادرؤوا الحدود بالشبهات"(2) كما يمنع الاعتماد عليها في إثبات الأنساب والتأكد من صحتها من غير اشتباه لما يؤدي بطريق أو بآخر إلى المساس بالأعراض والاجتراء على الأنساب ويعارضه قوله صلى الله عليه وآله وسلم:« كُلُّ المسْلِمِ عَلَى المسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ"(3) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم :" إنَّ دِمَاءَكُم وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُم حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا"(4)، ومن جهة أخرى لا يجوز تقديم البصمة الوراثية في إثبات النسب أو نفيه على اللعان المقرر حكمه بنص الآية القرآنية في قوله تعالى: ?وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاء إِلَّا أَنفُسُهُمْ...? إلى قوله تعالى ?...وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ? [النور:6-7-8-9].
ويمكن الاعتماد على البصمة الوراثية في التحقيق الجنائي كوسيلة إثبات في الجرائم فيما عدا الصورة السالفة البيان، ويجوز استخدامها في ميدان النسب في مختلف حالات الاشتباه كالاشتباه الحاصل في المواليد في المستشفيات والعيادات ومراكز الأمومة ورعاية الأطفال، أو الاشتباه الحاصل في أطفال الأنابيب، أو الاشتباه الحاصل بسبب الاشتراك في وطء الشبهة أو مجهول النسب المتنازع فيه، أو الحالات المستعصية لمعرفة أهالي الأطفال الضائعين، أو هوية الجثث والمفقودين نتيجة الحروب والمصائب المقدرة.
هذا، وحرصًا على صيانة الأنساب وحماية الأعراض فإنه يعتمد على البصمة الوراثية كآخر الحلول لهذه الحالات وغيرها مما يدخل في معناها، ولئلا تتعرض الأعراض لانتهاك حرمتها فتتولاها جهة حكومية غير مربحة يقوم على الإشراف عليها أهل الاختصاص في الميدان الشرعي والطبي والإداري على غاية من الحيطة والسرية.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 21 جمادى الأولى 1427ه
الموافق ل: 17 جوان 2006م
__________
1- التعريف بالبصمة الوراثية: لقد دلَّت الاكتشافات الطبية أنه يوجد في داخل النواة التي تستقر في خلية الإنسان (46) من الصبغيات (الكروموسومات) وهذه الكروموسومات تتكون من المادة الوراثية الحمض النووي الريبوزي اللاأكسجيني -والذي يرمز إليه بـ (دنا- adn) أي الجينات الوراثية، وكل واحد من الكروموسومات يحتوي على عدد كبير من الجينات الوراثية قد تبلغ في الخلية البشرية الواحدة إلى مائة ألف مورثة جينية تقريبا، وهذه المورثة هي التي تتحكم في صفات الإنسان، والطريقة التي يعمل بها، بالإضافة إلى وظائف أخرى تنظيمية للجينات.
وقد أثبتت التجارب الطبية الحديثة بواسطة وسائل تقنية في غاية التطور والدقة: أنَّ لكل إنسان جينومًا بشريًا يختص به دون سواه، لا يمكن أن يتشابه فيه مع غيره أشبه ما يكون ببصمة الأصابع في خصائصها بحيث لا يمكن تطابق الصفات الجينية بين شخص وآخر حتى وإن كانا توأمين.
ولهذا جرى إطلاق عبارة (بصمة وراثية) للدلالة على تثبيت هوية الشخص أخذا من عينة الحمض النووي المعروف بـ (دنا -adn) الذي يحمله الإنسان بالوراثة عن أبيه وأمه إذ أنَّ الكروموسومات، لـ (46) التي يحملها كل شخص داخل كل خلية من خلايا جسمه، يرث نصفها وهي (23) كروموسوماً عن أبيه بواسطة الحيوان المنوي، والنصف الآخر وهي (23) كروموسومًا يرثها عن أمه بواسطة البويضة وكل واحدة من هذه الكروموسومات والتي هي عبارة عن جينات الأحماض النووية (دنا) ذات شقين، يرث الشخص شقا منها عن أبيه والشق الآخر عن أمه، فينتج عن ذلك كروموسومات خاصة به، لا تتطابق مع كروموسومات أبيه من كل وجه، ولا مع كروسومات أمه من كل وجه وإنما جاءت خليط منهما، وبهذا الاختلاط اكتسب صفة الاستقلالية عن كروموسومات أي من والديه مع بقاء التشابه معهما في بعض الوجوه، لكنه مع ذلك لا يتطابق مع أي من كروموسومات والديه فضلا عن غيرهما.
وعلماء الطب الحديث يرون أنهم يستطيعون إثبات الأبوة أو البنوة لشخص ما أو نفيه عنه من خلال إجراء فحوصات على جيناته الوراثية، حيث دلَّت الأبحاث الطبية التجريبية على أنَّ نسبة النجاح في إثبات النسب قد تصل إلى قريب من القطع وذلك بنسبة 99% تقريبا، وفي حالة نفي النسب تصل إلى حدِّ القطع أي بنسبة 100% .
وطريقة معرفة ذلك: أن يؤخذ عينة من أجزاء الإنسان بمقدار رأس الدبوس من البول، أو الدم، أو الشعر، أو المني، أو العظم، أو اللعاب، أو خلايا الكلية، أو غير ذلك من أجزاء جسم الإنسان، وبعد أخذ هذه العينة يتم تحليلها وفحص ما تحتوي عليه من كروموسومات - صبغيات- تحمل الصفات الوراثية فبعد معرفة هذه الصفات الوراثية الخاصة بالابن وبوالديه يمكن بعد ذلك أن يثبت أنَّ بعض هذه الصفات الوراثية في الابن موروثة له عن أبيه لاتفاقهما في بعض هذه الجينات الوراثية فيحكم عندئذ بأبوته له، أو يقطع بنفي أبوته عنه لعدم تشابههما في شيء من هذه الجينات الوراثية، فيحكم عندئذ بنفي أبوته له وكذلك الحال بالنسبة للأم.
ويرى المختصون في المجال الطبي وخبراء البصمات أنه يمكن استخدام البصمات الوراثية في مجالات كثيرة، ترجع في مجملها إلى مجالين رئيسين هما:
1- المجال الجنائي: وهو مجال واسع يدخل ضمنه، الكشف عن هوية المجرمين في حالة ارتكاب جناية قتل أو اعتداء وفي حالات الاختطاف بأنواعها و في حالة انتحال شخصيات آخرين وغير ذلك...
2- مجال النسب: وذلك في حالة الحاجة إلى إثبات البنوة أو الأبوة لشخص، أو نفيه عنه، وفي حالة اتهام المرأة بالحمل من وطء شبهة، أو زنا.
2- أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (19/171/2)، والخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد": (9/203). وقد ضعفه الزيلعي في "نصب الراية": (3/333) وابن حجر في "التلخيص الحبير": (4/56) والألباني في "الإرواء": (7/343) وقد صح موقوفا على ابن مسعود رضي الله عنه بلفظ:" ادرؤوا الجلد والقتل على المسلمين ما استطعتم" أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه": (5/507) قال الألباني في "الإرواء": (8/26): وهو حسن الإسناد. وأخرج ابن أبي شيبة في"مصنفه" (5/507) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه منقطعا وموقوفا، قال ابن حجر في"التلخيص الحبير":" ورواه أبو محمد بن حزم في كتاب الإيصال من حديث عمر موقوفا عليه بإسناد صحيح".
قلت: والحديث-وإن لم يصح مرفوعا- فقد ثبت موقوفا، وقد جرى العمل به في القضاء، وأجراه الفقهاء مجرى القواعد المشهورة في باب الحدود والجنايات تحت قاعدة:" العقوبات تدرأ بالشبهات"، ويشهد لهذه القاعدة وقائع متعددة ثبتت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من احتياطه في إقامة الحد، وتنفيذ الحكم عند وجود الشبهة تتلبس بالفعل كما في قصة زنا ماعز رضي الله عنه المشهورة فضلا عما نقل عن الصحابة تورعهم عن إقامة الحدود لأدنى شبهة (انظر قاعدة العقوبات تدرأ بالشبهات في: المحلى لابن حزم:11/153. الفروق للقرافي:4/172. إعلام الموقعين لابن القيم:1/104-314. الأشباه والنظائر للسيوطي: 136. المنثور للزركشي: 2/255. الأشباه والنظائر لابن نجيم:128).
3- أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب (6706)، وأبو داود في الأدب (4884)، والترمذي في البر والصلة (2052)، وابن ماجه في الفتن (3933)، وأحمد (7670)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
4- أخرجه البخاري في العلم (67)، ومسلم في القسامة(4477)، وابن حبان (3848)، وأحمد (2923)، والدارمي في سننه (1968)، والبيهقي في سننه (9894)، من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.(13/12)
الفتوى رقم: 552
في حكم الاستمناء لغرض طبي
السؤال: هل يجوز الاستمناء من أجل إجراء تحليل طبي للمني؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فإذا التجأ المحتاج إلى الاستمناء على جهة التطبيب لا على سبيل المتعة والتلذّذ فإنه يجوز للحاجة، جريًا على ما يعرف تقعيدًا أنَّ «ما حُرِّم لغيره يُباح للحاجة ».
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
ملاحظة: يمكن مراجعة «حكم العادة السرية » على الموقع برقم: 284.
الجزائر في: 14 صفر 1427ه
الموافق ل: 14 مارس 2006م(13/13)
الفتوى رقم: 557
في حكم نقل كِلية من صحيح وزرعها في جسم مريض
السؤال: لي أختٌ شقيقة مريضة طريحة الفراش في المستشفى تحتاج إلى كلية، وقد طلبت مني أن أعطيها إحدى كليتيّ، فهل التبرّع بالكلية جائز شرعًا؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فالأصل أنّ أعضاء الآدمي ليست مِلْكًا له، بل هي مِلك لله، ويحتاج إلى إذن، ولم يَرِدْ من النصوص الشرعية ما يدلُّ على أنّ الفعلَ مأذونٌ فيه، بل وردت من الآيات القرآنية ما تأمر العبدَ بالمحافظة على بدنه مطلقًا سواءً لنفسه أو لغيره، منها: قوله سبحانه وتعالى: ?وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا? [النساء: 29]، فإنّ الآية تفيد النهيَ عن قتل النفسِ وكذلك بترِ العضوِ منها لغير مصلحة البدن يُعَدُّ قتلاً للعضو، وقوله تعالى: ?وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ? [البقرة: 195]، الدالة على تحريم الإلقاء بالنفس في مظانّ الخطر كما تفيد وجوب المحافظة على ما ائتمن عليه العبد كوديعة عنده، قال تعالى: ?إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً? [الأحزاب: 72]، لذلك لا يجوز أن يَجْنِيَ على نفسه أو على عضو من أعضائه إلاّ بحق ثابت شرعًا، كما لو وقع في جريمة ارتكبها توجب قصاصًا كالقتل أو حدًّا كالقطع أو الجرح فيقيم الحاكم عليه الحكم بما يستحقه، والله تعالى كرّم بني آدم وذلك يقتضي المحافظة على أبدانهم على نحو ما أمر الشرع.
هذا، والعلماء المعاصرون اختلفوا في نقل جزء ثابت من الإنسان، وزرعه في بدن آخر على وجه الضرورة على أقوال، والأوفق -عندي- المنع من نقل أعضاء إنسان مطلقًا اللهم إلاّ إذا وُجدت الأعضاء مخزنة ومحفوظة في المستشفيات وأُخذت برضا أصحابها أحياءً كانوا أو بعد موتهم بناءً على الفتاوى المجيزة أو المفصّلة، فإنه -والحال هذه- يجوز على وجه الضرورة زرعُها في المريض تلافيًا لهلاكه لعدم جدوى بقاء العضو بدون استعمال.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
مكة في 23 رمضان 1427ه
الموافق ل: 16 أكتوبر 2006م(13/14)
الفتوى رقم: 840
في مشروعية رقية حالات الغيبوبة والإنعاش
السؤال:
هل رقية المريض الذي يكون في حالة غيبوبة، أو تحت الإنعاش، مشروعةٌ؟ وهل ينتفع بها؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالمريضُ إن كان من أهلِ الاستقامة على الدِّين والبُعد عن المعاصي والمحرَّمات فإنَّ الرقيةَ الشرعيةَ بالآيات والأدعية القرآنيةِ والنبويةِ تفيده بإذن الله تعالى، وخاصَّة إذا قَدِرَ على الاستماع إلى القرآن الكريم مصحوبًا باعتقاد جازم منه بأنه علاج نافذ، فإنَّ الرقية الشرعية تؤتي نتائجَها سريعًا، أمَّا إن عجز عن الاستماع إليه لحالة الغيبوبة ونحو ذلك، فإنها تجوز وتؤثِّر -أيضًا- بتقدير الله تعالى؛ لأنَّ الرقية الشرعية أدعيةٌ لله بالشفاء، والدعاء للمريض يجوز في كلِّ أحواله، فإن صدرت من راقٍ أهلٍ لها كان في دعائه مطمع للاستجابة.
ولا يخفى أن الاستعاذة والاستعانةَ من دعاء العبادة لذلك كان النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم يقول:« أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّةِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ »(1)، «وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَهَامَّةٍ، وَشَرِّ عَيْنٍ لاَمَّةٍ »(2)، وقال:« إِذَا اشْتَكَى فَلْيَضَعْ يَدَهُ عَلَى مَوْضِعِ الأَلَمِ وَلْيَقُلْ: أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ » وما إلى ذلك.
وهذا بخلاف أهل المعاصي والتكبُّر والمظالم والعدوان فإنَّ الرقية الشرعية لا تؤثِّر فيهم بالنفع غالبًا، وقد أخبر اللهُ عزّ وجلَّ أنَّ القرآن شفاء للأمراض البدنية والأسقام القلبية لأهل الهدى والتقوى، أمَّا أهل الزيغ والضلال فلا يبصرون به رشدًا ولا يستفيدون منه خيرًا، قال تعالى: ?وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا? [الإسراء: 82]، وقال تعالى: ?وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى? [فصلت: 44]، وقال تعالى: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ? [يونس: 57].
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 30 المحرم 1429ه
الموافق ل: 07/02/2008م
__________
1- أخرجه مسلم في «الذكر والدعاء »، باب التعوّذ من سوء القضاء ودرك الشقاء وغيره: (6880)، وأبو داود في «الطب »، باب كيف الرقى: (3899)، وابن ماجه في «الطب »، باب رقية الحية والعقرب: (3518)، وأحمد في «مسنده »: (7838)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2- أخرجه البخاري في «الأنبياء »، باب يزفون: النسلان في المشي: (3191)، وأبو داود في «السنة »، باب في القرآن: (4737)، والحاكم في «المستدرك »: (4781)، وأحمد في «مسنده »: (2430)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.(13/15)
الفتوى رقم: 888
في اشتراط العوض عن الرقية
السؤال:
لقد ذكر بعض أهل العلم أنَّ الراقي يجوز له أن يشترط جُعلاً على رقيته, فالرجاء منكم توضيحًا مُفصَّلاً عن اشتراط الراقي شيئًا من المال أو غيره؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فيجوز أخذُ العِوَضِ على الرُّقية على سبيل الجُعالة إن كانت شرعيةً واضحةً في عباراتها ومعانيها، فلا تشرعُ الرقية بعبارات مُنهى عنها، أو غير مفهومة أو غير معقولة المعنى خشية اختلاطها بكلام أهل الباطل، وهذا يقتضي خلوَّ الممارِس للرقية (أي: الراقي) من الصِّفات القادحة للدِّين والعدالة، بل الواجب أن يتحلَّى بسلامة العقيدة والالتزام بالهَدْيِ الظاهريِّ مع استجماع شرائطِ الدعاء ضمنَ توجُّهٍ قلبيٍّ مليءٍ بتقوى الله، والتوكُّل عليه والإخلاص له.
هذا، وإذا كان الراقي يجوز أن يأخذ الجُعل على رقياه فإنما يستحقُّ العِوض عليه فيما اشترطه بعد حصول السلامة من المرض وزوال أثره، ويدلُّ عليه ما أخرجه البخاري من حديث ابنِ عباس رضي الله عنهما:« أَنَّ نَفَرًا من أصحاب النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم مَرُّوا بماءٍ فيهم لَدِيغٌ أو سَلِيمٌ، فعَرَضَ لهم رجلٌ مِنْ أهل الماء، فقال: هل فيكم مِن راقٍ؟ إنَّ في الماء رجلاً لديغًا أو سليمًا، فانطلق رجلٌ منهم فقرأ بفاتحة الكتاب على شاءٍ فَبَرَأَ، فجاء بالشَّاءِ إلى أصحابه فكرهوا ذلك، وقالوا: أخذتَ على كتابِ الله أجرًا، حتى قدموا المدينة، فقالوا: يا رسول الله أَخَذ على كتاب الله أجرًا، فقال رسولُ الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذَتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا: كَتَابُ اللهِ »(1).
وأخرج البخاريُّ -أيضًا- من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أنَّ ناسًا من أصحاب النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم أتوا على حيٍّ من أحياء العرب، فلم يَقْرُوهُمْ، فبينما هم كذلك إذ لُدِغَ سَيِّدُ أولئك، فقالوا: هل عندكم من دواءٍ أو راقٍ؟ فقالوا: إنكم لم تَقْرُونَا، ولا نفعل حتى تجعلوا لنا جُعْلاً، فجعلوا لهم قطيعًا من الشَّاءِ، فجعل يقرأ بأُمِّ القرآن، ويجمع بُزَاقَهُ ويَتْفِلُ، فَبَرَأَ، فَأَتَوْا بالشَّاءِ، فقالوا: لا نأخذه حتى نسأل النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، فسألوه، فضَحِكَ، وقال:« وَمَا أَدْرَاكَ أَنَّهَا رُقْيِةٌ؟ خُذُوهَا، وَاضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ »(2).
والحديث دَلَّ على مشروعية الجُعل لإقراره صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم على الاشتراط، وإسهامهم له يدلُّ على جوازه وإباحته، وهو المعروف بالوعد بالجائزة، وإنما يستحقُّ الوفاء بالوعد بعد إنجاز العمل وتحقُّق ما اشترط العاقد كما هو ظاهر من الحديث، وهذا يختلف عن الإجارة من جهة أنَّ أثر العمل في الجُعل مجهولٌ، إذ قد يحصل البرء وقد لا يحصل، ويصحُّ الجُعل من غير تعيين العامل، بينما الإجارة يجب أن يكون العمل فيها معلومًا والعامل معيَّنًا بعينه.
هذا، وتجنّبًا للخلط بين الجُعالة والإجارة، أَنَّ الرقية نوع من المداواة، والمأخوذ عليها جُعل، والمداواة يباح أخذ الأجر عليها، فالجعالة أوسع من الإجارة، ولهذا تجوز مع جهالة العمل والمدَّة.
وإذا كان استحقاق الراقي للعِوض بعد حصول البُرْءِ والسلامة من المرض جائزًا فلا ينبغي أن يُشدَّد في الاشتراط، وإنما في حدود الحاجة من غير أن يُرهِقَ المريضَ بكُلفةٍ زائدةٍ، والأَوْلَى جعل الرقية خالصةً عن أيٍّ شرطٍ أو عِوَضٍ ماليٍّ، يتقصد بها إعانةَ المسلمين، ودفعَ الأذى عنهم، وإزالةَ ما حلَّ بهم من غيرضُرٍّ مع احتساب الأجر من الله تعالى، واللهُ تعالى كفيلٌ بالرِّزق والثواب.
والجديرُ بالتنبيه أنَّ على الراقي أن يعين إخوانَه عند الحاجة والمقدرة وبالعدل، فلا يحتبس نفسه في معالجة المرضى بالرقية والتفرُّغ لها، فإنَّ الانقطاع لها والعملَ على التكسُّب بها احترافٌ لم يكن معهودًا عند سلف الأُمَّة، ولا عند أئمَّة الهُدى، مع اشتهار بعضهم بإجابة الدعاء، وقيام المقتضي في زمهنم.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 14/ربيع الثاني/1429ه
الموافق ل: 20/04/2008م
__________
1- أخرجه البخاري في «صحيحه » كتاب الطب، باب الشرط في الرقية بقطيع من الغنم: (5405)، وابن حبان في «صحيحه »: (5146)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
2- أخرجه البخاري في «صحيحه » كتاب الطب، باب الرقى بفاتحة الكتاب: (5404)، ومسلم في «صحيحه » كتاب السلام، باب جواز أخذ الأجرة على الرقية بالقرآن والأذكار: (5733)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.(13/16)
الفتوى رقم: 941
في حكم التداوي بزيت الحية وبيعها
السؤال:
تباع في السوق زيتٌ، تُسمَّى بزيت الحية، وتستعمل للتداوي من الصلع أو سقوط الشعر، فما حكم هذه المادة؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فإذا كانت الزيت مستخرجةً من الحية حقيقة، فإنَّ الحية كالفأرة والحشرات معدودةٌ من الحيوانات المستخبثة المستقذرة يحرم أكلها بالإجماع، وكذا التداوي بها، لقوله تعالى: ?وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ? [الأعراف: 157]، جريًا على قاعدة: «التَّحْرِيمُ يَتْبَعُ الخُبْثَ وَالضَّرَرَ»، قال ابن تيمية -رحمه الله-: «أكل الخبائث وأكل الحيات والعقارب حرام بإجماع المسلمين، فمن أكلها مستحلاًّ لذلك فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل، ومن اعتقد التحريم وأكلها فإنه فاسق عاص لله ورسوله»(1).
هذا، وإذا ما حُرِّم ملابسته كالنجاسات حُرِّم أكله والانتفاع به بالدُّهن والتداوي، و«إِذَا حَرَّمَ اللهُ الانْتِفَاعَ بِشَيْءٍ حَرَّمَ الاعْتِيَاضَ عَنْ تِلْكَ المَنْفَعَةِ»(2)، لقوله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ، إِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَيْهِمُ الشُّحُومَ جَمَلُوهُ ثُمَّ بَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ، إِنَّ اللهَ إِذَا حَرَّمَ شَيْئًا حَرَّمَ ثَمَنَهُ»(3).
أمَّا إذا أضيفت الزيت إلى الحية من باب التسمية لا الحقيقة بأن تكون مستخرجةً من عموم الطيِّبات كالزيوت النباتية أو الحيوانية الطاهرة التي لا مضرَّة فيها فيجوز الانتفاع بها في التغذية والتداوي والادهان والبيع، لقوله تعالى: ?يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ? [المائدة: 4]، ويجوز الاستعانة بها على الطاعة دون المعصية، لقوله تعالى: ?لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ? [المائدة: 93]، مع الشكر عليها لقوله تعالى: ?ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ? [التكاثر: 8]، أي: عن الشكر عليه.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 2 رمضان 1429ه
الموافق ل: 2 سبتمبر 2008م
__________
1- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية: (11/609).
2- «الفتاوى الكبرى» لابن تيمية: (3/125)، «إعلام الموقعين» لابن القيم: (3/146).
3- أخرجه بهذا اللفظ: أبو داود في «سننه» كتاب الإجارة، باب في ثمن الخمر والميتة: (3488)، وأحمد في «مسنده»: (2673)، وابن حبان في «صحيحه» (4938)، والدارقطني في «سننه»: (2852)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. والحديث صححه أحمد شاكر في «تحقيقه لمسند الإمام أحمد»: (4/347)، والألباني في «غاية المرام»: (318).(13/17)
الفتوى رقم: 984
في حكم كشف عورة المرأة تطلعا لاختيار جنس الولد
السؤال:
رُزِق رجلٌ بعد زواجه بثلاث بنات، وقد أخبره طبيبٌ مختصٌّ أنه اكْتُشِفت طرقٌ طبيةٌ لمساعدة الزوجين على إنجابِ ولد ذكرٍ بإذن الله تعالى، فهل يجوز -والحال هذه- أن يعرضَ زوجتَه على الطبيبِ، علمًا أنّ الكشف سيكون في محلّ الرحمِ فقط؟ وجزاكم الله كل خير؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فلا يجوز للطبيب الرجل الكشف فيما له علاقة بعورة المرأة وخاصة المغلظة منها، باستثناء حالة الاضطرار والضيق، وعند تعذر وجود امرأة ذاتِ كفاءةٍ طبيةٍ وعارفة بأمراض النساء.
والحالة المذكورة فضلا عن كون وسيلتها محتملة، فهي منتفية الضرورة وعارية عن الحاجة والضيق.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 24 صفر 1430ه
الموافق ل: 19 فبراير 2009م(13/18)
الفتوى رقم: 987
في حكم الحجامة في الأيام المنهي عنها إذا صادفت أفضل الأيام
السؤال:
قد وردت أحاديث تبيِّن أفضل أيام الحجامة وهي السابع عشر والتاسع عشر والحادي والعشرون من كلِّ شهر قمريٍّ، ووردت أحاديث أخرى تنهى عنها في أيام معلومة كالأربعاء وغيره، فهل تجوز الحجامة في الأيام المنهي عنها إذا صادفت أفضل الأيام؟ وجزاكم الله كل خير.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالأطباءُ مُجمِعون على أنَّ الحجامة في النِّصف الثاني من الشهر أنفع ممَّا قبله، وما يليه من الربع الثالث من أرباعه أنفع من أوله وآخره(1)، واختيار أوقات الحجامة الواردة في الأحاديث أدعى إلى حفظ الصِّحة ودفع الأذى والاحتراز منه، وقد جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «مَنِ احْتَجَمَ لِسَبْعَ عَشْرَةَ وَتِسْعَ عَشْرَةَ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ كَانَ شِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ»(2)، وقال صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «إِنَّ خَيْرَ مَا تَحْتَجِمُونَ فِيهِ يَوْمَ سَبْع عَشْرَةَ وَيَوْمَ تِسْع عَشْرَةَ وَيْوَمَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ»(3)، «وَكَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَحْتَجِمُ فِي الأَخْدَعَيْنِ وَالكَاهِلِ، وَكَانَ يَحْتَجِمُ لِسَبْعَ عَشْرَةَ وَتِسْعَ عَشْرَةَ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ»(4)، فقد ثبت ذلك من قوله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم ومن فِعله.
هذا، وقد وردت أحاديث صحيحة تنهى عن الحجامة في أيام معلومة، وهي الأربعاء والجمعة والسبت والأحد، منها حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم يقول: «احْتَجِمُوا عَلَى بَرَكَةِ اللهِ يَوْمَ الخَمِيسِ وَاجْتَنِبُوا الحِجَامَةَ يَوْمَ الأَرْبِعَاءِ وَالجُمُعَةِ وَالسَبْتِ والأَحَدِ تَحَرِّيًّا، وَاحْتَجِمُوا يَوْمَ الاِثْنَيْنِ وَالثُّلاَثَاءِ، فَإِنَّهُ اليَوْمُ الَّذِي عَافَى اللهُ فِيهِ أَيُّوبَ، وَضَرَبَهُ بِالبَلاَءِ يَوْمَ الأَرْبِعَاءِ، فَإِنَّهُ لاَ يَبْدُو جُذَامٌ وَلاَ بَرَصٌ إِلاَّ يَوْم الأَرْبِعَاءِ، أوَلَيْلَة الأَرْبِعَاءِ»(5).
وإذا صادفت الأيام المنهي عنها أوقات استحباب الحجامة منها فالواجب تقديم ما مدلوله الحظر على ما مدلوله الندب؛ لأنَّ الندب لتحصيل مصلحة، والحظر لدفع مفسدة، ودفع المفسدة أهمُّ من تحصيل المصلحة في نظر العقلاء، فلا يعقل لمن يريد أن يطب زكامًا ليحدث جذاما، أو كمن رام درهم على وجه يلزم منه فوات مثله أو أكثر منه، ولا يخفى أنَّ عناية الشريعة بدرء المفاسد أكبر من جلب المصالح لذلك قعَّدوا قاعدة «دَرْءُ المَفَاسِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى جَلبِ المَصَالِحِ».
وعليه، فلا تصلح الأيام المنهيُّ عنها لأن تكون زمنًا للحجامة لما يُتوقَّع فيه حصول الأذى والضرر، والضرر منفيٌّ بنصِّ قوله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَار»(6).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 02 جمادى الأولى 1429ه
الموافق ل: 07 ماي 2008م
__________
1- «زاد المعاد» لابن القيم: (4/59).
2- أخرجه أبو داود كتاب «الطب»، باب متى تستحب الحجامة؟ (4/127)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث حسّنه الألباني في «السلسلة الصحيحة»: (2/190).
3- أخرجه الترمذي كتاب «الطب»، باب ما جاء في الحجامة: (2053)، والحاكم في والحاكم في «المستدرك»: (7476)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. والحديث صححه الألباني في «صحيح الجامع»: (2066).
4- أخرجه الترمذي كتاب «الطب»، باب ما جاء في الحجامة: (2051)، من حديث أنس رضي الله عنه. والحديث حسّنه الألباني في «صحيح الجامع»: (4927).
5- أخرجه ابن ماجه كتاب «الطب»، باب في أي الأيام يحتجم: (3487)، من حديث ابن عمر رضي الله عنه. والحديث حسّنه الألباني في «السلسلة الصحيحة»: (292).
6- أخرجه ابن ماجه كتاب «الأحكام»: (2431)، وأحمد: (2921)، من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال النووي في الحديث رقم (32) من «الأربعين النووية»: «وله طرق يَقْوى بعضُها ببَعض»، وقال ابن رجب في «جامع العلوم والحكم» (378): «وهو كما قال»، وصحّحه الألباني في «الإرواء»: (4/408).(13/19)
*************** 14- فتاوى الأيمان والنذور ***************
الفتوى رقم: 81
في كفارة صيام منذور منعه الزوج
السؤال: نذرت امرأة أن تصوم الإثنين والخميس طوال حياتها، فمنعها زوجها، فهل لنذرها كفارة؟
الجواب: الحمد لله والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما، أما بعد:
فالأصل أنّ المرأة تستأذن زوجها بالصيام في غير رمضان، لأنّ للزوج حقا في الاستمتاع بزوجته في كلّ وقت، وحقه واجب على الفور، ويتأكد ذلك بقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« لاَ تَصُومُ الْمَرْأَةُ وَبَعْلُهَا شَاهِدٌ(1) إِلاَّ بِإِذْنِهِ"(2) وفي رواية أخرى:" لاَ تَصُومُ المرْأَةُ يَوْمًا تَطَوُّعًا فِي غَيْرِ رَمَضَانَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ إِلاّ بِإِذْنِهِ"(3)، وعليه فإنّه ليس لها أن تقوم بأمر يضره، ويمنعه من حقه، وقيامها بحق زوجها آكد في المأمورية، لذلك وجب عليها أن تكفِّر عن نذرها، كما لها أن تستأذن زوجها في أن تصوم تطوعا الاثنين والخميس إن لم يكن له حاجة إليها، وكفارة النذر هي كفارة اليمين، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« كَفَّارَةُ النَّذْرِ كَفَّارَةُ اليَمِينِ"(4)، وكفارة اليمين تكون إمّا بإطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم على ما هو داخل في قدرة المكلف وأمكن وجوده، فإن تعذر ذلك، ينتقل إلى صيام ثلاثة أيام متتابعات لقوله تعالى في سورة المائدة: ?لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ?[المائدة: 89]، ومصدر شرط التتابع في صوم كفارة اليمين مأخوذ من قراءة ابن مسعود رضي الله عنه:" فصيام ثلاثة أيام متتابعات"(5).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 13 محرم 1427ه
الموافق لـ: 12 فبراير 2006م
__________
1- شاهد: أي حاضر
2- أخرجه البخاري في النكاح (5192)، ومسلم في الزكاة (2417)، وأبو داود في الصوم (2460)، وأحمد (8412)، والبيهقي (8102)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
3- أخرجه الترمذي في الصوم (787)، وابن ماجه (1833)، و الدارمي (1730)، والحميدي في مسنده (1064)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (395).
4- أخرجه مسلم في النذور (4342)، وأبو داود في الأيمان والنذور (3325)، والترمذي في النذور والأيمان (1613)، والنسائي في الأيمان والنذور (3848)، وأحمد (17764)، من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه.
5- أخرجه البيهقي (20506)، وابن جرير في تفسيره (7/20)، وعبد الرزاق في المصنف (15577)، وصححه الألباني في الإرواء (2587).(14/1)
الفتوى رقم: 164
في حكم يمين المحامي التي يؤديها قبل مباشرة عمله
السؤال: نريد الاستفسار حول حكم القسم الذي يؤديه المحامي قبل مباشرة عمله فأنتم كما تعلمون أنّه لا يمكن لأي محامٍ أن يصبح كذلك حتى يؤدي اليمين القانونية وصيغته كالتالي:
(أقسم بالله العلي العظيم أن أؤدي أعمالي بأمانة وشرف وأن أحافظ على سر المهنة وتقاليدها وأهدافها النبيلة، وأن أحترم القوانين).
والذي نريد أن نوضحه لكم ونستفسر عنه هو إذا كان المحامي مستقيما وطالب علم شرعي ويخشى الله تعالى فإنّه لا يمكنه مباشرة أي قضية حتى يزنها بميزان الشرع فإن لم يجد معارضة للشرع أقدم عليها. والمحامي بما أنّه يعمل لحسابه الخاص فهو أمير نفسه وله مجال واسع في اختيار القضايا التي يقتنع وجود الظلم فيها وعلى هذا يكون سؤالنا باختصار:
هل يجوز للمحامي أن يؤدي هذا اليمين معتقدا وقاصدا في جزئه الخاص - وأن أحترم القوانين- احترام القوانين المسايرة للشرع دون غيرها من القوانين؟
أثابكم الله وجزاكم خيرا.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فالمحامي هو الوكيل بالخصومة، فإن كانت مرافعته في القضاء الشرعي المنبثق من الشريعة الإسلامية، فإنّ حكم مرافعته يختلف باختلاف نوع الحماية التي يقوم بها، خيراً كانت أم إثما، وحكم الحالتين منصوص عليه في قوله تعالى: ?وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِّرِّ وَالتَقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ? [المائدة:2].
أمّا إذا كانت المرافعة فيما عدا القضاء الشرعي من التشريعات الوضعية المنافية له، فإنّها تُعدّ من التحاكم إلى غير شرع الله تبارك وتعالى، فحكمه إن لم يكن كفرا فهو محرّم باتفاق، لقوله تعالى: ?فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا? [النساء:65] وقال عزّ وجلّ: ? أَلَمْ تَرَ إِلَى الذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَّتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَّكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُّضِلَهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً? [النساء:60] والآيات متضافرة في هذا المعنى.
والقَسَمُ من لوازم العمل، والحكم على صفة العمل هو حكم على لازمه.
والعلم عند الله تعالى وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلّ اللّهم على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلّم تسليما.
الجزائر في: 24 رمضان 1422ه
الموافق ل: 10 ديسمبر 2001م(14/2)
الفتوى رقم: 539
في حُكم الحلف ب:« حقّ ربي » أو «حقّ الله »
السؤال: ما حكم الحلف ب:« وحقِّ الله »، «وحقّ ربِّي » ؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب: الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فالحلف ب:« حقِّ الله » أو ب:« حقِّ ربِّي » تُعَدُّ يمينًا مُكَفِّرَةً على مذهب مالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ خلافًا لأبي حنيفةَ(1)؛ لأنَّ الحقَّ اسمٌ من أسماء اللهِ تعالى وصِفةٌ من صفاته يستحقُّها في ذاته، ولا يصحُّ أن يوصف بِضِدِّه، فاللهُ تعالى هو الحقُّ في ذاته وصفاته،فهو كما لو قال: واللهِ الحقِّ، أو قال: وجلالِ الله، وعظمةِ الله، فكأنه قال: واللهِ الجليلِ، واللهِ العظيمِ، قال تعالى: ?ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ البَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ? [الحج: 62]، وقال تعالى: ?فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ? [يونس: 32]، وهذا كلّه إذا ما اقترن عُرف الاستعمال بالحلف بهذه الأوصاف التي هي حقوقٌ يستحقّها اللهُ لنفسه من البقاء والعَظَمة والجلال والعِزَّة، فَتَنْصَرِفُ إلى صفة الله تعالى، أمَّا إن نوى القَسَم بمخلوقٍ مثلَ طاعته التي أوجبها والعباداتِ التي فرضها فهي حقُّ الله، ولا تكون على الصحيح يمينًا مكفّرةً لظهورها في المخلوق، والقَسَمُ به غيرُ جائزٍ، قال ابنُ قدامة:« إلاَّ أنّ احتمالَ المخلوق بهذا اللفظِ أظهرُ »(2). وعليه، فينبغي العدول عنه لوجود هذا الاحتمال إلى قَسَمٍ لا احتمالَ فيه حِفظًا للدِّين وجناب التوحيد.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 13 شعبان 1426ه
الموافق ل: 6 سبتمبر 2006م
__________
1- انظر:« المغني » لابن قدامة: (8/393)، «المقنع » لابن قدامة: (3/559)، «الذخيرة » للقرافي: (4/8)، «الهداية » للمرغيناني: (2/357)، «روضة الطالبين » للنووي: (8/13).
?- «المغني » لابن قدامة: (8/693).(14/3)
*************** 15- فتاوى القرآن وعلومه ***************
الفتوى رقم: 300
في حكم تقليد القراء ومحاكاة قراءتهم
السؤال: ما حكم تقليد القراء في القرآن بنية جلب المصلين؟
الجواب: الحمد لله والصلاة على من أرسله الله رحمة للعالمين وآله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما أما بعد:
فقراءة القرآن الكريم بالألحان والتطريب على هيئة الأغاني المطربة وذلك بتمطيط الحروف والإفراط في المد وتشبيع المدود إلى أن تصير حروفا فهذا لا يجوز للقارئ ولا يجوز لمقلده لأنه يتلذذ بتلك الألحان والنغمات ولا يتوخى منها فهم ما تحمله الآيات من معان، كالوعد والوعيد، والأمر والنهي، والوعظ والتخويف وغيرها، فأصبحت بمثابة أصوات المزامير التي ورد فيها ذمُّ قريش الذين كانوا يطوفون بالبيت بالتصفير والتصفيق في قوله تعالى: ?وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً? [الأنفال: 35]، أمَّا إذا خلا من ذلك وكان المقلِّدُ للقارىء يتعلم منه مخارج الحروف على وجهها الصحيح والأداء الحسن فلا يضر ذلك - إن شاء الله تعالى - لخلُوِّه من الألحان المطربة الشبيهة بالأغاني النقيضة للخشوع والوجل، ولم تحقق الغاية من القراءة من تدبر الآيات وتفهم معانيها قال تعالى: ?كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ? [ص: 29]
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
الجزائر في: 26 شوال 1426ه
الموافق ل: 28 نوفمبر 2005م(15/1)
الفتوى رقم: 358
تفسير آيات أشكلت من سورة الأعراف
السؤال: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى صحبه ومن والاه وبعد:
هذه -شيخنا- بعض الفوائد استنبطتها من كتاب الله العزيز ومن سنة الرسول عليه الصلاة والسلام -حين اشتغالي بالخطابة-، ولمّا كان لابد لطالب العلم من عرض آرائه وبحوثه على أهل العلم -لكونهم هداة مهديين لما وهبهم الله عزّ وجل من علم بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم- فيصوّبون الصواب، ويصححون الخطأ.
لذلك فإنّي أعرض عليك -شيخنا- هذه الفوائد الشخصية رجاء تسديدي وتصويبي فيما أخطأت.
قال تعالى واصفا سحر سحرة فرعون:( وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ.. ) [الأعراف:116]، وقال عن عصا موسى عليه السلام ( فَإِذَا هِيَ ثُعْبَان مُّبِينٌ ) [الأعراف:107].
قلت: فانظر إلى هذا الأسلوب القرآني البديع، حيث وصف السحر بأنّه عظيم وذلك لأنّه سحر أعين الناس بل عين موسى عليه السلام حتى أوجس في نفسه خيفة وهذا نبي الله وقال عن الناس واسترهبوهم فانظر لهول هذا السحر وعظمته.
ووصف عصا موسى عليه الصلاة والسلام بأنّها ثعبان مبين، والمبين في اللغة يراد به العظيم والواضح الجلي، فهي عظيمة لأنّها أفسدت سحر السحرة العظيم ولا يغلب العظيم إلا عظيم، وهو مع ذلك واضح جلي لا خيالات كما هي خيالات السحرة فهو ليس سحرا بل ثعبان حقيقي فتبين الفرق.
فإن كان صائبا فوجهونا وإن كان خطأ فصوّبونا، وحفظكم الله لنا.
تلميذكم البار، أبو سليمان كمال سعد سعود.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فأمّا صفة العظمة اللاصقة بفعل السحرة فهي في أعين الناس على وجه التخييل والتأقيت، ومبناها على السحر المذموم شرعا، وما بني على فاسد فلا يكتب له الفلاح والاستمرار، ومن اتصف بذلك فالعظمة منتفية عنه ويؤكد ذلك قوله تعالى:?وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيثُ أَتَى? [طه:69]، ومعلوم عند الأصوليين أنّ الفعل في سياق النفي أو في سياق الشرط من صيغ العموم، إذ ينحل عن مصدره وزمانه، والمصدر الكامن في مفهوم الفعل في حكم النكرة فيكرّ إلى النكرة في سياق النفي وهي من صيغ العموم، ولذلك كانت الآية تعم نفي جميع أنواع الفلاح عن الساحر وقرر ذلك على وجه التعميم والشمول لجميع الأمكنة بقوله:( حَيْثُ أَتَى )، ومن هذا اللفظ فهم أنّ الساحر كافر لانتفاء الخيرية فيه، ذلك لأنّ الفلاح لا ينفى بالكلية نفيا عاما إلاّ عمّن لا خير فيه، ومن انتفى عنه الخير فأنّى تكون له العظمة؟! وإنّما هي عظمة في الشر والفساد، إذ لا يخفى أنّ السحرة يستمدون قوتهم وعزائمهم وخيالاتهم من الشياطين وهي عنوان الفساد والشر، ومهما عظم الشيطان فهو ضعيف بالنظر لحيله ومكايده وشراكه لقوله تعالى:?إِنَّّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفا? [النساء:76]، وما وصف بالضعف لا يكون قويا ولا عظيما، وإذا كان أصل المدد ضعيفا فمن استمد من الضعيف قوة فلا تنقلب عظمة بالمفهوم الخيري. ولذلك كُشف ضعف السحرة يوم الزينة، وبطلت فتنتهم ?فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ? [الأعراف:119] على ما جاءت به الآية.
أمّا عصا موسى فعلم اليقين واقع على أنّه ليس من قبيل السحر والحيل، وأنّ الحق لا مرية فيه، إذ عظمته مستمدة من الحق القوي الباقي، لذلك كانت المعجزة باقية غالبة ودعوته صحيحة ثابتة، هذا والعظمتان على طرفي نقيض وبينهما بون شاسع، ومقابلتهما مقابلة حق لباطل، ولا يخفى على مؤمن أنّ عظمة الحق دامغة لعظمة الباطل الزاهقة مصداقا لقوله تعالى: ?بَلْ نَقْذِفُ بِالحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِق? [الأنبياء:18]، وقوله عزّ وجل: ?وَقُلْ جَآءَ الحَق وَزهَقَ البَاطِل إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً? [الإسراء:81]، فإنّ الباطل لا ثبات له مع الحق ولا بقاء.
والعلم عند الله تعالى؛ وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلّم تسليما.(15/2)
الفتوى رقم: 360
تفسير آية أشكلت من سورة مريم
السؤال: قال تعالى:? فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَلاَةَ وَاتّبَعُوا الشَهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً? [مريم:59]، قال ابن عباس:" ليس إضاعتها تركها بالكلية، ولكنّهم يؤخرون الصبح إلى الظهر والظهر إلى العصر ... فتوعدهم الله عزّ وجلّ بالغيّ.."
قلت: في هذا دليل على أنّ المصلي لا يقضي الفائتة إن تركها لغير عذر شرعي.
وبيانه: أنّ القائلين بوجوب القضاء اتفقوا أنّ المصلي ينتفع بقضائه إمّا بحصول الأجر أو بعدم حصول الأجر لكن مع سقوط الوزر والآية ترده وكذا الأثر المفسر لها، فالوزر باق ما لم يتب والتوبة تجب ما قبلها.
فإن كان صائبا فوجهونا وإن كان خطأ فصوّبونا، وحفظكم الله لنا.
تلميذكم البار، أبو سليمان كمال سعد سعود.
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة و السلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فأمّا ما رتبتموه استنباطا من قول ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير الآية فوجيه يوافق مذهب الأكثرين في كون القضاء يحتاج إلى أمر جديد، غير أنّ القائلين بأنّ الواجب المؤقت لا يسقط بفوات وقته، ولا يفتقر القضاء إلى أمر جديد وهم الحنابلة وجمهور الأحناف وبعض المعتزلة يمنعون كون الآية ترد انتفاع المصلي بقضائه في حصول الأجر وسقوط الوزر، إذ الآية شرع ما قبلنا والأثر تابع لها تفسيرا، وشرع ما قبلنا ليس بشرع لنا لورود في شرعنا ما يمنعه لقوله تعالى:?أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشّمسِ إِلى غَسَقِ اللّيل? الآية [الإسراء:78]، والقضاء يستفاد-عندهم- ضمنا من صيغة الأمر، إذ الأمر المركب أمر بأجزائه كالأمر بالصلاة المعينة في زمنها المؤقت لها، فإن فات الوقت فقد تعذر عنه أداء أحد جزأي المركب وهو خصوص الوقت، ويبقى الآخر في الإمكان وله أن يوقعه في أي وقت شاء وجوب الإتيان بالممكن، لأنّ المركب من أجزاء ينسحب حكمه عليهما، فضلا عن قوله صلى الله عليه وسلم:" فدين الله أحق بالقضاء"(1) فهو نص جديد يشمل ما ورد من تفسير ابن عباس رضي الله عنهما.
والراجح عندي مذهب الأكثرين وما عيناه بالوجاهة يمكن أن يكون ضميمة لأدلتهم، وذلك لأنّ القضاء لا يفهم من صيغة الأمر، لأنّ الأمر لا يتناول غير الوقت المقدر ولذلك وجب القضاء في رمضان بأمر جديد وهو قوله تعالى: ?فَمَن كَانَ مِنكُم مَرِيضًا أَو عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ منْ أَيَّّامٍ أُخَر? [البقرة:184]، ولولا أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أوجب القضاء على النائم والناسي في قوله صلى الله عليه وسلم :"من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها"(2) لما وجب، ولأنّه لو كان القضاء بالأمر الأول لوجب قضاء الجمعة والصلاة للحائض. ولأنّ الأمر بالفعل في زمن مؤقت لا يترتب إلاّ على مصلحة خاصة بذلك الوقت ترجيحا له من بين سائر الأوقات، ولأنّه لا حجة في التمسك بعموم حديث:"فدين الله أحق أن يقضى"(3) لوروده على سبب خاص وهو النذر، ذلك لأنّ النذر ليس واجبا بأصل الشرع وإنّما أوجبه العبد على نفسه، فصار بمنزلة الدَّين الذي استدانه، ولهذا شبهه النبي صلى الله عليه وسلم بالدَّين في حديث ابن عباس، والمسؤول عنه فيه أنّه كان صوم نذر على ما أفاده ابن القيم، ومن تمام الفائدة يضيف:" ولأنّ فرض الصيام جار مجرى الصلاة، فكما لا يصلي أحد عن أحد، ولا يسلم أحد عن أحد، فكذلك الصيام، وأمّا النذر فهو التزام في الذمّة بمنزلة الدَّين، فيقبل قضاء الولي له كما يقضي دينه، وهذا محض الفقه"(4) وإذا تبين رجحان هذا المذهب تقرر ما بينتموه في السؤال من عدم جدوى القضاء لتحصيل الأجر أو لإسقاط الوزر إلاّ بعد توبة تجبُّ ما قبلها.
والعلم عند الله تعالى؛ وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلّم تسليما.
__________
1- أخرجه مسلم في الصيام (2749)، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
2- أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة (597)، ومسلم في المساجد (1600)، وأبو داود في الصلاة (442)، والنسائي في المواقيت(613)، والترمذي في المواقيت (178)، وابن ماجه في الصلاة (696)، من حديث أنس رضي الله عنه.
3- أخرجه البخاري في الصوم (1953)، ومسلم في الصيام(2750)،وأبو داود في الأيمان والنذور(3310)، وأحمد(2377)، والدارقطني في السنن (2364)، والبيهقي(8484)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
4- تهذيب السنن لابن القيم :(3/282).(15/3)
الفتوى رقم: 371
في حكم إنشاء جمعية متنقلة لمحاكاة الأصوات وتقليد القراء
السؤال: لقد أنشئت جمعية لإثبات قراء بالجزائر، يقرؤون القرآن الكريم أول كل شهر ابتداء من أول محرم 1427هـ، في أربعة مساجد بالعاصمة، تتكون من أعضاء دائمين، ولجنة علمية، وأعضاء فرعيين.
هذا، وقد قرأ الأعضاء الدائمون من قبل في قاعة الحفلات ابن خلدون وفي بعض المساجد بولايتي الجزائر وبسكرة، ولوحظ من بعضهم التأثر بقراءة بعض المصريين، وأخذهم بدعهم في القراءة منها: تطريب القراءة، التكلف في التقليد، وضع اليد في الأذن والفم، وحركات زائدة بالرأس واليد، وقولهم:" صدق الله العظيم" نهاية القراءة، وتقليد الدعاء وتطريبه دون معرفة معناه حيث نقل أحدهم كلمات شركية، وغير ذلك من البدع، فنلتمس -من فضيلتكم- تفصيل وبيان الحكم الشرعي في هذه المسائل، وهل الانتقال للقراءة من مسجد لآخر من عمل السلف؟ أو هو من السياحة المنهي عنها؟ وفي الأخير نرجو منكم أن تقدموا لنا ولعامة المسلمين وللجمعية النصح والإرشاد وجزاكم الله خيرا، وفتح عليكم أبواب رحمته.
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فاعلم -وفقك الله للخير- أنَّ قراءة القرآن بالترتيل وتحسين الصوت به أمر متفق على الترغيب فيه، وأقوال العلماء وأئمة الأمصار والمسلمين وأفعالهم مشهورة في ذلك نهاية الشهرة لقوله تعالى: ?وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ?[المزّمِّل: 4]، وقوله تعالى:? وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً? [الإسراء: 106]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« مَا أَذِنَ اللهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَى بِالقُرْآنِ وَيَجْهَرُ بِهِ"(1)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم "زَيِّنُوا القُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُم"(2)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه:" لَوْ رَأَيْتُنِي وَأَنَا أَسْمَعُ لِقِرَاءَتِكَ البَارِحَةَ، لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ"(3)، فهذا غيض من الأدلة المستفيضة على استحباب تحسين الصوت بقراءة القرآن الكريم، غير أنَّ هذا التحسين للصوت لا ينبغي أن يترتب عليه إخراج القرآن عن صيغته بإخراج الحركات منه، أو إدخال الحركات فيه، ولا مد مقصور، ولا قصر ممدود، ولا تحويل الحركات إلى حروف، لذلك يحرم قراءة القرآن على وجه التطريب والتلحين بالإفراط في المد، وتمطيط الحروف، وإشباع الحركات، الأمر الذي يترتب عليه مفسدة تبديل صيغة القرآن الكريم وتغيير نهجه القويم إلى الاعوجاج المنفي بقوله تعالى: ?قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ? [الزمر: 28]، وغالبًا ما يُستصحب الغرض من القرآن بالتلحين لذة الطرب والتسلية والنغمات كنقر الأصوات وأصوات المزامير، ولا يخفى أن ذلك مذموم شرعًا، وقد ذم الله تعالى بذلك قريشًا، قال جل وعلا: ?وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً? [الأنفال: 35]، ذلك لأنَّ خروجها عن حدِّ القراءة بالتمطيط يذهب بوقار القرآن، وجلاله،
وشرفه، ويخرجه عن المقصود منه في تدبر آياته، وتفهم معانيه من أمر ونهي، ووعد ووعيد، ووعظ وتخويف، وضرب مثل أو اقتضاء حكم وما إلى ذلك من مضامين كتاب ربنا، قال الله تعالى: ?كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ? [ص: 29]، وقوله تعالى? :أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً? [النساء: 82]، وقوله تعالى: ?أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا? [محمد: 24] فمثل هذا التدبر والاعتبار موجب لزيادة الإيمان بالله تعالى على ما وصف الله تعالى أهل الإيمان بقوله: ?وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ? [الأنفال: 2].
هذا، وأما تكوين جمعية لإثبات وجود قراء بالجزائر، يقرؤون القرآن أول يوم كل شهر، ويخصصون الانطلاقة بأول السنة الهجرية، وينتقلون من مسجد لآخر مع التكلف بمحاكاة الأصوات، وتقليد القرَّاء المصريين خاصة وغيرهم، وما إلى ذلك من المخالفات الشرعية الواردة في السؤال فإنه -بغض النظر- عن المحاذير الشرعية المذكورة فإني لا أعلم حكمًا شرعيًّا يعطي صفة المشروعية على هذا العمل، ولاشك أنَّ قراءة القرآن عبادة، وصورة الاجتماع وترتيب الهيئات المكونة والتنقلات المخصوصة، والأزمنة المحددة تابعة للقراءة في العبادة، إذ "التابع تابع" أي أن التابع له حكم المتبوع، والأصل في العبادات التوقيف، وكل ما أضيف إلى الحكم الشرعي يحتاج إلى دليل ولا يشرع إلا به، والمقتضي كان موجودًا في زمانه ولم يفعله، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يجتمع مع أصحابه في مهماته وغزواته ولا أعلم أنه أرشدهم إلى الانضمام في مجموعة متنقلة وبالأوصاف المذكورة في السؤال، مع كثرة تلاوتهم للقرآن وملازمتهم لها وتنافسهم فيها، ولا يحتج في هذا المقام بما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:« ... مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلاَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِم السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُم الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُم الملَائِكَةُ، وَذَكَرَهُم الله فِيمَنْ عِنْدَهُ"(4) لأن غاية ما يدل عليه استحباب الاجتماع مع قراءة كل واحد بانفراده أو بطريقة الإدارة، وهي- ولاشك- صورة مباينة لصورة الجمعية المنتظمة، التي لا يبعد أن تتحول إلى جمعية كسبية مطلوبة في إحياء المناسبات العامة، والأعياد البدعية، والمواسم، كالمواليد، ورؤوس السنة الميلادية، والهجرية، والقراءة في المآتم، وافتتاح الندوات، والمحاضرات بصورة دائمة، ولاشك أن ذلك يُمنع أصالة وسدًّا لذريعة المحرم، وكل ما أدى
إلى حرام فهو حرام كما تقرر في القواعد.
هذا، والجدير بالتنبيه أنه لا يسن للقارئ أن ينهي قراءته بقوله (صدق الله العظيم) لأنها عبادة تتضمن ثناءً على الله تعالى، ولا يجوز التعبد إلا بما شرع، ولم تثبت مشروعيته لا بكتاب ولا سنة ولا عمل السلف مع كثرة عنايتهم بالقرآن ومعرفتهم بشأنه، ولو كان مشروعًا لفعلوه، ولو فعلوه لنقل إلينا، ولا يصح الاحتجاج بقوله تعالى: ?قُلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً? [آل عمران: 95]، أو بقوله تعالى: ?وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثاً? [النساء: 87]، أو بقوله تعالى: ?وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً? [النساء: 122]، لأن إيمان المسلم يوجب عليه أن لايشك بأن الله تعالى أصدق القائلين، لكن لا يلزم من ذلك تأكيده بقوله (صدق الله العظيم) إذ لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه فعل ذلك مع وجود المقتضي لفعله، بل ثبت عنه أنه قرأ عليه ابن مسعود رضي الله عنه من سورة النساء:? فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً? [النساء: 41] فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:« حسبك"ولم يقل:" صدق الله العظيم"، ولا قاله ابن مسعود رضي الله عنه، فدل ذلك على أنه من محدثات الأمور، وقد ثبت في الحديث:"مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ"(5)، وفي لفظ مسلم:" مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ"(6).
نسأل الله أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، والباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصل الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 30 من ذي الحجة 1426ه
الموافق ل: 03 يناير 2006م
---
1- أخرجه البخاري في فضائل القرآن (5023)، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها (1883)، وأبو داود في الوتر (1475)، والنسائي في الافتتاح (1025)، وأحمد (10059)، والدارمي (3561)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2- أخرجه أبو داود في الوتر (1470)، والنسائي في الافتتاح (1023)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1403)، وأحمد (18994)، والدارمي (3564)، من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه. وصححه الألباني في صحيح الجامع (3518)، وفي السلسلة الصحيحة (771).
3- أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (1888)، والبيهقي (4895)، والبزار (2708)، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
4- أخرجه مسلم في الذكر والدعاء (7030)، وأبو داود في الوتر (1457)، وأحمد (12214)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
5- أخرجه البخاري في الصلح (2697)، ومسلم في الأقضية (4589)، وأبو داود في السنة (4608)، وابن ماجه في المقدمة (14)، وأحمد (26786)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
6- أخرجه مسلم في الأقضية (4590)، وأحمد (25870)، والدارقطني في سننه (4593)، من حديث عائشة رضي الله عنها.(15/4)
الفتوى رقم: 507
في حكم تشغيل القرآن بالقراءة في المقاهي
السؤال: ما حكم تشغيل القرآن في مقهى إلكتروني، حيث إنَّ الزبائن يتضجرون، ويقولون بأنَّ ذلك لا يتوافق مع طبيعة المقهى ؟ أفيدونا أطال الله في عمركم في طاعته.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فمن بين الآداب التي ينبغي لقارئ القرآن أو المستمع إليه أن يتأدَّب بها: أن يجلس في موضع طاهر ونظيف متخشِّعًا بسكينة ووقار في أيِّ هيئة يقدر عليها قائمًا أو قاعدًا أو مضطجعًا أو في فراشه وما إلى ذلك لقوله تعالى:? إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ الذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فِقِنَا عَذَابَ النَّار ِ? [ آل عمران: 190-191] والأكمل أن يجلس مستقبلا القبلة مطرقا رأسه كالجلوس بين يدي معلمه، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ سَيِّدًا، وَإِنَّ سَيِّدَ المَجَالِسِ قِبَالَةُ القِبْلَةِ "(1- أخرجه الطبراني في الأوسط (2354)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وحسنه الهيثمي في مجمع الزوائد (8/114)، والسخاوي في المقاصد الحسنة (102). والألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3085)، وانظر السلسلة الصحيحة (2645).)، وأن يختار المكان الهادئ يستحضر في نفسه لأن يُناجي ربه ويُفرغ قلبه له، فيقرأ أو يستمع كأنه يرى الله تعالى فإن لم يكن يراه فإنَّ الله تعالى يراه لقوله تعالى: ? وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ?[الأعراف: 204]، وهذه الآية وغيرها -وإن كانت واردة في الصلاة- فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، والأماكن التي يكثر فيها الصَّخَبُ وهيشاتُ الأسواق ليست محلاً للقراءة أو للاستماع، لأنَّ من آدابها أن تكون بتدبُّر وتفكُّر وتفهم وخشوع، بحيث يُشغِل قلبه بالتفكير في المعنى الذي يتلفظ به أو ينصت إليه ويتأمَّل في الأوامر والنواهي ويعتقد قبول ذلك، لذلك يبتغي أن يختار المناسب من المجالس احترامًا لكلام الله وصيانته عن الابتذال ودفع شهوة الرياء والسمعة وحب الشهرة والظهور.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلّم تسليما.
الجزائر في: 13 شعبان 1427ه
الموافق ل: 6 سبتمبر 2006م
__________
?- أخرجه الطبراني في الأوسط (2354)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وحسنه الهيثمي في مجمع الزوائد (8/114)، والسخاوي في المقاصد الحسنة (102). والألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3085)، وانظر السلسلة الصحيحة (2645).(15/5)
الفتوى رقم: 632
في مشروعية تعليم المرأة القرآن وأحكامه
السؤال:
هل يجوز لِمُعلِّم القرآن أن يُحفِّظَ البناتِ والنساءَ القرآنَ الكريمَ في إحدى قاعات المسجد منفصلات عن الذكور بما يؤمِّن من الاختلاط والفتنة؟ وهل يجوز لهنّ سؤال المعلم عن أمور دينهنّ؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فإن تمّ الفصلُ بين الذكور والإناث بحيث يتمّ تعليمُ الإناث على حِدَةٍ؛ فإنه يُشْرَعَ له تعليمُهُنَّ القرآنَ وأحكامَ تلاوتِهِ وتفسيرَه، من غير أن تقرأ له المرأة بالتلحين، ويجوز لهنّ السؤال عن أمور دينهنّ وفيما لهنّ حاجة إليه وَفق الضوابط الشرعية من ترك التزيّنِ والتطيّبِ والتبرّجِ والخضوعِ بالقولِ والانكسارِ فيه وتليينِه، قال تعالى: ?وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفًا? [الأحزاب: 32]، وقد أخرج البخاري من حديث أبي سعيد الخدري قال:« قَالَتِ النِّسَاءُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: غَلَبَنَا الرِّجَالُ فَاجْعَلْ لَنَا يَوْمًا مِنْ نَفْسِكَ، فَوَعَدَهُنَّ يَوْمًا لَقِيَهُنَّ فِيهِ، فَوَعَظَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ، فَكَانَ مِمَّا قَالَهُ لَهُنَّ: مَا مِنكُنَّ امْرَأَةٌ تُقَدِّمُ ثَلاَثَةً مِنْ وَلَدِهَا إِلاَّ كَانَ لَهَا حِجَابًا مِنَ النَّارِ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: وَاثْنَيْنِ؟ فَقَالَ: وَاثْنَيْنِ »(1- أخرجه البخاري في «العلم »: (101)، وابن حبان: (2944)، وأبو يعلى في «مسنده »: (1279)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه).
وهذا كلّه إذا لم يَخْشَ على نفسه الفتنةَ، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« مَا تَرَكْتُ فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ »(2- أخرجه البخاري في «النكاح »: (5096)، ومسلم في «الرقاق »: (7121)، والترمذي في «الأدب »: (3007)، وابن ماجه في «الفتن »: (4133)، وأحمد: (22463)، والحميدي في «مسنده »: (574)، والبيهقي: (13905)، من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما)، وقولِه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي النِّسَاءِ »(3- أخرجه مسلم في «الذكر والدعاء »: (6948)، والترمذي في «الفتن »: (2191)، وابن حبان: (3221)، وأحمد: (10785)، والبيهقي: (6746)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه)، أمَّا إذا خشي التهلكةَ والفتنةَ فالحكم -في حقِّه- المنعُ والحَظْرُ.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 13 صفر 1428ه
الموافق ل: 3 مارس 2007م
__________
1- أخرجه البخاري في «العلم »: (101)، وابن حبان: (2944)، وأبو يعلى في «مسنده »: (1279)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
2- أخرجه البخاري في «النكاح »: (5096)، ومسلم في «الرقاق »: (7121)، والترمذي في «الأدب »: (3007)، وابن ماجه في «الفتن »: (4133)، وأحمد: (22463)، والحميدي في «مسنده »: (574)، والبيهقي: (13905)، من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما.
3- أخرجه مسلم في «الذكر والدعاء »: (6948)، والترمذي في «الفتن »: (2191)، وابن حبان: (3221)، وأحمد: (10785)، والبيهقي: (6746)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.(15/6)
الفتوى رقم: 713
في حكم تحسين الصوت بالقراءة
السؤال:
نحن نعلم -شيخنا- أنّ قراءة القرءان قراءة صحيحة, قسمان: قسم له علاقة بالنطق العربي الفصيح, كالمد الطبيعي وتشديد الحرف, وصفات الحروف التي يفرق بها بين الحروف المتجانسة والمتقاربة كالسين مع الصاد والذال مع الظاء, وهذا القسم واجب على المستطيع والخطأ فيه يعتبر جليًّا. فما حكم ما له علاقة بزينة الأداء -وهو القسم الثاني- أو ما يعبر عنه بأحكام التجويد كغنة الإدغام والإخفاء, والمدود الفرعية, بجميع أنواعها, والذي يسمى الخطأ فيه خفيًّا؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فلا يختلفُ العلماءُ في استحباب ترتيلِ القرآنِ بالترسُّل والتمهُّل وتَبْيِين الحروفِ والحركاتِ من غير بَغْيٍ، كما أجمعوا على استحباب تحسين الصوتِ بقراءةِ القرآنِ، وقد نقل الإجماعَ ابنُ قدامةَ حيث قال:« واتفقَ العلماءُ على أنه تستحبُّ قراءةُ القرآنِ بالتحزينِ والترتيلِ والتحسينِ »(1- «المغني » لابن قدامة: (12/48))، وقال النووي:« وقد اتفق العلماء على استحباب الترتيل »(2- «التبيان في آداب حملة القرآن » للنووي: (70))، وقال في موضع آخر:« أجمع العلماء من السلف والخلف من الصحابة والتابعين ومَنْ بعدَهم من علماء الأمصار وأئمَّة المسلمين على استحباب تحسين الصوت بالقرآن، وأقوالُهم وأفعالُهم مشهورةٌ نهاية الشهرة »(3- المصدر السابق: (78)). وقال في «المجموع »:« يستحب ترتيل القراءة وتدبرها وهذا مجمع عليه »(4- «المجموع » للنووي: (3/369))، وقد أمر اللهُ رسولَه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم بالترسُّل والتأنِّي بقراءةِ القرآن فقال تعالى: ?وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً? [المزّمِّل: 4]، وقال سبحانه وتعالى: ?وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً? [الإسراء: 106]، وثبت في حديث أنس رضي الله عنه «أنّ قراءةَ النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم كانت مدًّا ثمّ قرأ: ?بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ? يمدّ ببسم الله، ويمدّ بالرحمن، ويمدّ بالرحيم »(5- أخرجه البخاري في «فضائل العصر »، باب في مد القراءة (4759)، وابن حبان في «صحيحه »: ( 6317)، من حديث أنس رضي الله عنه)، وفي حديث عمرو بن العاص أنّ النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قال:« يُقَالُ لِصَاحِبِ القُرْآنِ: اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا »(6- أخرجه أبو داود في «الصلاة »، باب استحباب الترتيل في القراءة: (1464)، والترمذي في «فضائل القرآن »: (2914)، وابن حبان في «صحيحه »: (766)، والحاكم في «المستدرك »: (2030)، وأحمد: (6760)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، والحديث صححه أحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد »: (11/55)، وحسنه الألباني في «المشكاة »: (2076)، وانظر «السلسلة الصحيحة »: (2240))، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم يقول:« مَا أَذِنَ اللهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَن الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ »(7- أخرجه البخاري في «التوحيد »، باب قول النبي الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام: (7105)، ومسلم في «صلاة المسافرين »، باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن: (1845)، وأبو داود في «الصلاة »، باب استحباب الترتيل في القراءة: (1473)، والنسائي في «الافتتاح »، باب تزيين القرآن بالصوت: (1017)، وأحمد: (7773)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه).والأحاديث في ذلك كثيرة في ترتيل القرآن وتحسين الصوت به.
أمّا قراءةُ القرآن بالتحسين على وجهٍ مُفْرِطٍ بحيث يخرج القرآن عن صيغته بإدخال حركات فيه أو إخراجها كمدّ المقصور أو قصر الممدود أو تحويل الحركات إلى حروف بإشباع وما إلى ذلك فإنّ العلماء فيها بين محرِّمٍ لها ومكره، والأقرب إلى الصواب القول بالتحريم لما فيه من إخراج القرآن عن مقصوده والانتقال من التدبر والاتعاظ إلى التطريب والتسلية، وهذا لا شكّ عدولٌ عن المنهج القويم إلى الاعوجاج فيمنع لقوله تعالى: ?قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ? [الزمر: 28].
أمّا إذا كان تلحين القرآن على وجه غير مفرط لا يخرج القرآن عن صيغته بتبديل أو زيادة أو نقص فإن كان الغرض من التلحين الطرب والتسلية فيكره، خاصّة إذا كان التلحين غير متناسب مع المعنى، أمّا إن ناسب المعنى وتحقّق به الاعتبار وفهم المقصود فيشرع ذلك، بل استحسنه كثير من العلماء؛ لأنّ النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم أثنى على أبي موسى الأشعري على حسن قراءته القرآن الكريم حيث قال له:« لَوْ رَأَيْتَنِي وَأَنَا أَسْمَعُ لِقِرَاءَتِكَ البَارِحَةَ لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ دَاوُدَ »(8- أخرجه البخاري في «فضائل القرآن »، باب حسن الصوت بالقراءة للقرآن: (4761)، ومسلم في «صلاة المسافرين »، باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن: (1852)، والترمذي في «المناقب »، باب في مناقب أبي موسى الأشعري (3855)، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه)، قال ابن العربي المالكي:« واستحسن كثيرٌ من فقهاءِ الأمصارِ القراءة بالألحان والترجيع، وكرهه مالك، وهو جائز لقول أبي موسى لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« لَوْ عَلِمْت أَنَّك تَسْمَعُ لَحَبَّرْته لَك تَحْبِيرًا »(9- أخرجه ابن حبان في «صحيحه » (7083)، والحاكم في «المستدرك »: (6019)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (4749)، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. وصححه الألباني في «السلسلة الصحيحة »: (7/1483)) يُرِيدُ لَجَعَلْته لَك أَنْوَاعًا حِسَانًا، وَهُوَ التَّلْحِينُ »(10- «أحكام القرآن » لابن العربي: (4/1596)).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 12 صفر 1428ه
الموافق ل: 2 مارس 2007م
__________
1- «المغني » لابن قدامة: (12/48).
2- «التبيان في آداب حملة القرآن » للنووي: (70).
3- المصدر السابق: (78).
4- «المجموع » للنووي: (3/369).
5- أخرجه البخاري في «فضائل العصر »، باب في مد القراءة (4759)، وابن حبان في «صحيحه »: ( 6317)، من حديث أنس رضي الله عنه.
6- أخرجه أبو داود في «الصلاة »، باب استحباب الترتيل في القراءة: (1464)، والترمذي في «فضائل القرآن »: (2914)، وابن حبان في «صحيحه »: (766)، والحاكم في «المستدرك »: (2030)، وأحمد: (6760)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، والحديث صححه أحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد »: (11/55)، وحسنه الألباني في «المشكاة »: (2076)، وانظر «السلسلة الصحيحة »: (2240).
7- أخرجه البخاري في «التوحيد »، باب قول النبي الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام: (7105)، ومسلم في «صلاة المسافرين »، باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن: (1845)، وأبو داود في «الصلاة »، باب استحباب الترتيل في القراءة: (1473)، والنسائي في «الافتتاح »، باب تزيين القرآن بالصوت: (1017)، وأحمد: (7773)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
8- أخرجه البخاري في «فضائل القرآن »، باب حسن الصوت بالقراءة للقرآن: (4761)، ومسلم في «صلاة المسافرين »، باب استحباب تحسين الصوت بالقرآن: (1852)، والترمذي في «المناقب »، باب في مناقب أبي موسى الأشعري (3855)، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
9- أخرجه ابن حبان في «صحيحه » (7083)، والحاكم في «المستدرك »: (6019)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (4749)، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. وصححه الألباني في «السلسلة الصحيحة »: (7/1483).
10- «أحكام القرآن » لابن العربي: (4/1596).(15/7)
الفتوى رقم: 731
في حكم كتابة الآيات بالرسم العثماني
السؤال:
هل كتابة الآيات بالرسم العثماني واجبة؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فكتابةُ الآياتِ بالرسمِ العثمانيِّ واجبٌ على مذهبِ الجمهورِ القائلين بأنّ الرسمَ العثمانيَّ توقيفيٌّ يجبُ التزامُه، وهو الصحيحُ من الأقوالِ الثلاثةِ لأهل العلم فيه، وعلى فرضِ أنه اصطلاحيٌّ لا توقيفيٌّ فالتزامُ رَسْمِهِ المأثورِ والبقاءُ عليه شرعيٌّ آكدُ، خاصّةً من جهةِ حمايةِ التَّنْزيل.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 11 جمادى الثانية 1428ه
الموافق ل: 26 جوان 2007م(15/8)
الفتوى رقم: 826
في الجمع بين آيتين متعارضتين في مقدار اليوم في الآخرة
السؤال:
أثارتْ بعضُ المناظراتِ العِلمية في مسائلِ الدِّين والعقيدة بين المسلمين والنصارى -بتنشيط بعض القنوات الفضائية- جُملةً من الشُّبُهات في دعوى التعارض بين النصوص القرآنية منها: قوله تعالى: ?وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ? [الحج: 47]، فقد ذكر الله تعالى أنَّ اليوم عنده كأَلْفِ سنةٍ مِمَّا يَعُدُّهُ العادُّون من خلقه، وهي تعارض الآيةَ في المعارج في قوله تعالى: ?تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ? [المعارج: 4]، فإنَّها تخالف ظاهرَ الآية السابقة بزيادة خمسين ضِعْفًا، فهل بالإمكان دفعُ التعارض الحاصلِ بين الآيتين بما يُزيل الإيهامَ والاضطرابَ؟ وشكرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
ففي هذه المسألةِ يُدْفَعُ التعارضُ من وجهي جمعٍ ذكرهما العلماءُ فيما يلي:
الوجه الأول: إنَّ اختلافَ زمنِ الأيامِ معتبرٌ بينَ الخلقِ الأولِ للكونِ، وكذا مقدارُ سَيْرِ أمرِه وعروجِه وبينَ يومِ القيامةِ. فالآيةُ في سورة الحجِّ: ?وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ? فهي من الأيام التي خَلَقَ اللهُ فيها السم?واتِ والأرضَ، أمَّا قولُه تعالى: ?يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ? [السجدة: 5]، فهو مقدارُ سَيْرِ أمرِه وعروجِه إليه سبحانه، وأمَّا قوله تعالى: ?تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ?، فهو يوم القيامةِ بلا خلافٍ(1- تفسير ابن كثير: (3/228)، «أضواء البيان » للشنقيطي: (5/719)).
الوجه الثاني: إنَّ اختلاف زمن اليوم -قلةً وكثرةً- إنَّما يحصُلُ يومَ القيامةِ، غيرَ أنَّ وقتَه يطولُ ويقصرُ باعتبارِ حالِ المؤمنينَ والكفَّارِ، فأصلُ زمنِ يومِ القيامةِ كألفِ سنةٍ، ولكنَّهُ يخِفُّ على أهلِ الإيمانِ ويقصر حتى يكونَ كنصفِ نهارٍ، لقوله تعالى: ?أَصْحَابُ الجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً? [الفرقان: 24]، فدلَّتِ الآيةُ على انقضاءِ الحسابِ في نصفِ نهارٍ الذي هو استراحةُ المقيلِ، وبهذا قال ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم وابن جُبَيْرٍ وغيرُهم(2- تفسير ابن كثير: (3/315)، «أضواء البيان » للشنقيطي: (5/719)).
أمّا حالُ الكفارِ فإنَّ زمنَ اليومِ في حقِّهمْ يَشتدُّ عليهِمْ ويعسرُ، لأنَّهُ يومُ عدلٍ وقضاءٍ وفصلٍ فيطول الوقتُ عنْ أصلِهِ، ولهذا قال الله تعالى: ?الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا? [الفرقان: 26]، وقال تعالى: ?فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ، عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ? [المدّثر: 9-10]، وقال تعالى -أيضًا-: ?مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ? [القمر: 8]، فالآياتُ دلَّتْ بمنطوقِهَا على أنَّ اليومَ عسيرٌ عَلَى الكافرينَ غيرُ يسيرٍ، ودَلَّتْ بمفهومهَا المخالفِ أنَّه يسيرٌ على المؤمنينَ غيرُ عسيرٍ، قال تعالى: ?فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا،ً وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا? [الانشقاق: 7-8-9]، وقال تعالى: ?لاَ يَحْزُنُهُمُ الفَزَعُ الأَكْبَرُ? [الأنبياء: 103]، وقد أخرج الإمامُ أحمدُ وغيرُه من حديث أبي سعيدٍ الخُدري رضي الله عنه قال:« قِيلَ: يَا رَسُولَ الله، يَوْم كَانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ مَا أَطْوَلَ هَذَا اليَوْمَ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ:« وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ لَيُخَفَّفُ عَلى المُؤْمِنِ حَتَّى يَكُونَ أَخَفَّ عَلَيْهِ مِنْ صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ يُصَلِّيهَا في الدُّنْيَا »(3- أخرجه ابن حبان في «صحيحه »: (7334)، وأحمد في «مسنده »: (11474)، قال الهيثمي في «مجمع الزوائد » (10/340):« رواه أحمد وأبو يعلى وإسناده حسن على ضعف في راويه »، وقال ابن كثير في «تفسيره » (4/524):« ورواه ابن جرير عن يونس عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن دراج به، إلا أنَّ دراجًا وشيخه أبا الهيثم ضعيفان »، والحديث ضعفه الألباني في «ضعيف الترغيب »: (2095))، والحديثُ وإن كانَ فيه ضعفٌ ولم يثبت سَنَدُهُ إلاَّ أنَّه لا يتعارضُ معْنَاهُ مَعَ ما تقرَّرَ سَابقًا.
ويَشْهدُ للوجهِ الثاني للجَمْعِ قولُهُ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« يَدْخُلُ فُقَرَاءُ المُسْلِمِينَ الجنَّةَ قَبْلَ أَغْنِيَائِهِمْ بِنِصْفِ يَوْمٍ، وَهُوَ خَمْسُمائَةِ عَامٍ »(4- أخرجه الترمذي في «الزهد »، باب ما جاء أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة: (2354)، وأحمد في «مسنده »: (8316)، وأبو يعلى في «مسنده »: (6018)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في «صحيح الجامع »: (8076)).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 28 من ذي القعدة 1428ه
الموافق ل: 08 ديسمبر 2007م
-------------------------
1- تفسير ابن كثير: (3/228)، «أضواء البيان » للشنقيطي: (5/719).
2- تفسير ابن كثير: (3/315)، «أضواء البيان » للشنقيطي: (5/719).
3- أخرجه ابن حبان في «صحيحه »: (7334)، وأحمد في «مسنده »: (11474)، قال الهيثمي في «مجمع الزوائد » (10/340):« رواه أحمد وأبو يعلى وإسناده حسن على ضعف في راويه »، وقال ابن كثير في «تفسيره » (4/524):« ورواه ابن جرير عن يونس عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن دراج به، إلا أنَّ دراجًا وشيخه أبا الهيثم ضعيفان »، والحديث ضعفه الألباني في «ضعيف الترغيب »: (2095).
4- أخرجه الترمذي في «الزهد »، باب ما جاء أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة: (2354)، وأحمد في «مسنده »: (8316)، وأبو يعلى في «مسنده »: (6018)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في «صحيح الجامع »: (8076).(15/9)
الفتوى رقم: 933
في انتفاء النسل والعقب من مسخ الله تعالى
السؤال:
القردةُ والخنازير التي نراها اليوم هل هي منحدرة من نسل سابق ممَّن مسخهم الله تعالى من اليهود كما جاء في قوله تعالى: ?فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ? [الأعراف: 166]، وفي قوله تعالى: ?وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ? [المائدة: 60]؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فالقردة والخنازير كانت موجودةً قبل حدوث المسخ، والذين مسخهم الله تعالى ممَّن عصى من اليهود إنما كان على الصورة الحيوانية التي قبل المسخ، غير أنّ ما مسخه الله تعالى من الأمم والأقوام لا عَقِبَ لهم ولا نسل، لقوله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «إِنَّ اللهَ لَمْ يَمْسَخْ شَيْئًا فَيَدَعَ لَهُ نَسْلاً أَوْ عَقِبًا، وَقَدْ كَانَتِ القِرَدَةُ وَالخَنَازِيرُ قَبْلَ ذَلِكَ»(1)، ولقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «مَا مُسِخَتْ أُمَّةٌ قَطُّ فَيَكُونَ لَهَا نَسْلٌ»(2).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 14 شعبان 1429ه
الموافق ل: 16 أوت 2008م
__________
1- أخرجه مسلم في «صحيحه» كتاب القدر، باب بيان أن الآجال والأرزاق وغيرها لا تزيد ولا تنقصض عما سبق به القدر: (6770)، وأحمد (3739)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
2- أخرجه الطبراني في «المعجم الأوسط»: (1/97)، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. والحديث صححه الألباني في «السلسلة الصحيحة»: (2264).(15/10)
*************** 16- فتاوى الحديث وعلومه **************
الفتوى رقم: 77
معنى حديث صوم عرفة يكفر سنتين وصوم عاشوراء يكفر سنة واحدة
السؤال: جاء في حديث النبي الذي رواه مسلم:"صوم عرفة يكفر سنتين، وصوم عاشوراء يكفر سنة واحدة "(1).
قال ابن حجر:" ذلك لأنّ صوم عرفة من شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، وصوم عاشوراء من شريعة موسى عليه السلام وشريعة محمد عليه السلام أفضل من شريعة موسى"
قلت مستشكلا: لكن لماذا كان أجر صوم عرفة ضعف أجر صوم عاشوراء، ولم يكن عشرة أضعاف أو أكثر أو أقل، ولقد بحثت جوابا عن هذا لكن لم أجده، ومرة وأنا أقرأ حديث:" عملت اليهود من الصبح إلى الظهر فأعطاهم الله عزّ وجل قيراطا، وعملت النصارى من الظهر إلى العصر فأعطاهم الله عزّ وجل قيراطا، وعملت أمة محمد صلى الله عليه وسلم من العصر إلى المغرب فأعطاهم الله عزّ وجل قيراطين"(2)، قلت: فدلّ الحديث أن أجر العمل الواحد من الأمة ضعف أجر عمل اليهود والنصارى، ولما كان صوم عاشوراء يكفّر ذنوب سنة ابتداء ناسب أن يكون صوم عرفة من شريعتنا يكفر ضعف أجر صوم عاشوراء، وهو سنتان والله أعلم.
فإن كان صائبا فوجهونا وإن كان خطأ فصوّبونا، وحفظكم الله لنا.
تلميذكم البار، أبو سليمان كمال سعد سعود.
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة و السلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فأمّا ما ذكرتم فيه من تعليق ابن حجر والتوفيق بالحديث فلا يتمّ في تقديري إلاّ إذا تقرر كون عاشوراء ليس من شريعتنا أصلا أو انتهاء لا ابتداء.
مرادنا أنّ من شريعتنا أنّ أصل صومه لم يكن موافقة لأهل الكتاب لما ثبت أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصومه قبل استخباره لليهود، وكانت قريش تصومه، على نحو ما ثبت عن عائشة رضي الله عنها قالت:" كانت قريش تصوم يوم عاشوراء في الجاهلية وكان رسول الله صلى الله وعلى آله وسلم يصومه، فلمّا هاجر إلى المدينة صامه، وأمر بصيامه، فلما فرض شهر رمضان قال:" من شاء صامه، ومن شاء تركه"(3) وفي رواية البخاري:"... وكان يوما تستر فيه الكعبة"(4).
وإذا تقررت عدم الموافقة لليهود فلا يكون قوله صلى الله عليه وسلم:"فنحن أحق بموسى منكم"(5)، بعد استخباره لليهود إلاّ توكيداً لصومه مبينا لليهود أنّ الذي يفعلونه من موافقة موسى عليه السلام نحن أيضا نفعله، فحُقَّ لنا أن نكون أولى بموسى من اليهود. وكذلك انتهاء أي أنّه كان يصومه صلى الله عليه وسلم على أنّه من شريعتنا بعد تقرير شرعيته بصيامه ومخالفة اليهود بصيام يوم قبله.
فإذا تبين لكم هذا فإنّ تعليل أفضلية صوم عرفة على عاشوراء لكون الأول من شريعة محمد صلى الله عليه وسلم دون الثاني على ما أورده ابن حجر وما رتبتم عليه من جواب بالتأييد لا يستقيم مع ما تقدم تقريره من كون عاشوراء من شريعة محمد صلى الله عليه وسلم أصلا أو انتهاء، والحال هذه ينبغي البحث عن تعليل آخر أكثر توفيقا، فإن غابت علته فالواجب التسليم مع الاعتقاد بوجود علة وحكمة يعلمها الله تعالى لأنّ من صفاته تعالى العلم والحكمة، هذا ما أمكن توجيهه، سائلا الله تعالى التوفيق والسداد والعون والرشاد.
والعلم عند الله تعالى؛ وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلّم تسليما.
الجزائر في 15 شوال 1420هـ
الموافق لـ: 24 جانفي 2000م
__________
1- أخرجه مسلم في الصيام(2804)، وأبو داود في الصيام(2425) وأحمد(23290) عن أبي قتادة الأنصاري. وانظر الإرواء(4/108).
2- أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة (557)، وأحمد(6277)، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
3- أخرجه البخاري في الصوم(2002)، ومسلم في الصيام(2693)، والبيهقي(8681)، عن عائشة رضي الله عنها.
4- البخاري في الحج(1592)، عن عائشة رضي الله عنها.
5- أخرجه البخاري في الصوم(2004)، ومسلم في الصيام(2712) أبو داود في الصيام(2444)، وابن ماجه في الصيام(1734)الحميدي في مسنده(543)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.(16/1)
الفتوى رقم: 79
في شرح معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم:« الذين يفطرون قبل تحلة صومهم"
السؤال: عن أبي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيّ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ :«بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ أَتَانِي رَجُلاَنِ فَأَخَذَا بِضَبْعَىَّ فَأَتَيَا بِي جَبَلاً وَعْرًا فَقَالاَ لِيَ :اصْعَدْ فَقُلْتُ : إِنِّي لاَ أُطِيقُهُ فَقَالاَ : إِنَّا سَنُسَهِّلُهُ لَكَ فَصَعِدْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي سَوَاءِ الْجَبَلِ إِذَا أَنَا بأَصْوَاتٍ شَدِيدَةٍ فَقُلْتُ : مَا هَذِهِ الأَصْوَاتُ قَالُوا : هَذَا عُوَاءُ أَهْلِ النَّارِ، ثُمَّ انْطُلِقَ بِي فَإِذَا أَنَا بِقَوْمٍ مُعَلَّقِينَ بِعَرَاقِيبِهِمْ مُشَقَّقَةٌ أَشْدَاقُهُمْ تَسِيلُ أَشْدَاقُهُمْ دَمًا قَالَ قُلْتُ : مَنْ هَؤُلاَءِ قَالَ : هَؤُلاَءِ الَّذِينَ يُفْطِرُونَ قَبْلَ تَحِلَّةِ صَوْمِهِمْ ». هل يمكن شرح الحديث؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فهذه رؤية مناميه لقوله صلى الله عليه وآله وسلم :" بينا أنا نائم أتاني رجلان..." الحديث(1)، ورؤيته لا تكون إلا حقا، والوعيد الوارد في الحديث يلحق من يفطرون قبل وقت الإفطار أي قبل غروب الشمس وليس قبل الأذان وهو المقصود من قوله صلى الله عليه وآله وسلم" قَبْلَ تَحِلَّةِ صَوْمِهِمْ".
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
الجزائر في:20 ذي القعدة 1426ه
الموافق ل: 22 ديسمبر 2005م
__________
1- أخرجه ابن خزيمة (1865)، وابن جبان (7615)، والحاكم في مستدركه (2788)، والبيهقي (7537)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3951)، وصحيح الترغيب: 1/588 رقم: (1005)، ومقبل الوادعي في "الصحيح المسند" (483).(16/2)
الفتوى رقم: 177
في تعليل تقديم مرتبة "ما كان على شرط البخاري ومسلم ولم يخرجاه" على ما دونها، مع اتحاد الشرطين فيهما.
السؤال: لقد رتب العلماء الحديث الصحيح على مراتب متفاوتة وقدموا مرتبة:"ما كان على شرط البخاري ومسلم ولم يخرجاه" على مرتبة:"ما كان على شرط البخاري ولم يخرجه" علما أنّ المراد بالشرطين: المعاصرة وثبوت السماع، وهذان الشرطان يتوفران في كلا المرتبتين فما وجه تعليل التقديم إذا كانا في درجة واحدة؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فإنّ سؤالكم يحتاج إلى تمهيد قصير وهو أنّ البخاري ومسلما لم يعيّنا شرطا من الشروط كفضل زائد عن الشروط المتفق عليها وهي[اتصال السند-عدالة الرواة-ضبط الرواة-عدم الشذوذ-عدم العلة] كما لم يفصحا عن شيء من ذلك، وإنّما أهل الاجتهاد في الحديث عن طريق التتبع والاستقراء لأسلوب البخاري ومسلم في مروياتهما المبنية على درجة الأوصاف التي تدور على العدالة والضبط ونحوهما ممّا يقتضي التصحيح، الأمر الذي غلب على ظنهم أنّه شرطهما أو شرط أحدهما، ولذلك اختلفوا في المراد بشرط الشيخين أو أحدهما، وأجمل مقصود ذكر لهما لشرطهما هو أن يكون رجال إسناد الحديث والكيفية التي التزم بها الشيخان في الرواية عنهم واردة في صحيح البخاري ومسلم أو في أحد الصحيحين.
ومن هذا المنطلق التمهيدي يفهم أنّ التدرج في الترتيب السابق منسجم ومعقول غير أنّ اللافت للنظر أنّ تقديم مراتب الصحيح بهذه الكيفية إنّما هو بحسب الأغلب والأكثر لكونه علامة الأقوى أي: هم من قبيل ترجيح الجملة على الجملة، لا ترجيح كلّ واحد من أفراده على كلّ واحد من أفراد الآخر، وعليه فلا يلزم عدم تقديم المتأخر في الرتبة على المتقدم، ولذلك يقدم ما انفرد به مسلم عمّا انفرد به البخاري مع اتحاد مخرجه إذا وجد موجب الترجيح، كما لو جاء من طريق يبلغ بها التواتر أو الشهرة القوية أو يوافقه على تخريجه مشترطوا الصحة، فبهذه القرائن يتقوى ويصبح أغلب على الظن ويرتقي في المرتبة، وكذلك لو انضمت هذه القرائن من تواتُرٍ وشُهرةٍ وموافقة إلى ما انفرد به البخاري فيكون أقوى من المتفق عليه، وأولى من الأقسام الأخرى المفضولة.
والله أعلم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في:10صفر1408ه
الموافق ل:15جوان1997م(16/3)
الفتوى رقم: 186
في معنى قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يبع على بيع أخيه"
السؤال: ما هو تفسير قول النبي صلى الله عليه وسلم"لا يبع على بيع أخيه"؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
ففي قوله صلى الله عليه وسلم:« ولا يبع بعضكم على بيع بعض »(1) وفي رواية:« لا يسم المسلم على سوم أخيه »(2) فإنّ صورة هذا البيع المنهي عنه عند المثبتين لخيار المجلس كالشافعي رحمه الله: أن يبتاع الرجل سلعة ولم يقبضها ولم يتفرقا - وهو مغتبط بها غير نادم عليها - فيأتيه قبل الافتراق من يعرض عليه مثل سلعته أو خيرا منها فيفسخ المشتري بخيار المجلس(3)، أمّا عند النافين لخيار المجلس كمالك -رحمه الله- فصورته: أن يستحسن المشتري السلعة ويهواها، ويركن البائع ويميل إليه، ويذكران الثمن ولم يبق إلاّ العقد والرضا الذي يتمّ به البيع فإذا كان البائع على هذه الحال لم يجز لأحد أن يعترضهما
فالحاصل أنّ مذاهب العلماء متقاربة، وكلّهم يجعلون بيع المستام المنهي عنه بعد التراضي المبدئي على الثمن واستقراره، ولا يكون إلاّ بعد ركون البائع إلى المشتري، ويلحق الإثم على الفاعل والبيع صحيح على أرجح قولي العلماء، لأنّ السوم لم يقع على أصل ولا على شرط من شروطه ولا على مجاور لازم.
أمّا قبل استقرار الثمن أو قبل التراكن فتجوز المساومة والمزايدة على السلعة المعروضة لأنه يلحق الضرر بالباعة على سلعهم إذا ما منع التساوم بهذا الاعتبار ويفضي إلى بخسها وبيعها بالنقص(4).
أمّا من تصرف في النهي بنوع تخصيص بحديث:"الدين النصيحة"(5) كما هو صنيع ابن حزم(6) فإنه لا يقوى على تخصيص النهي لكون النصيحة إنما تؤدى بالقول وذلك بتعريفه بأنه مغبون من غير إرادة أن يبيعه شيئا بأرخص منه(7).
والعلم عند الله وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
الجزائر في :30 ذي الحجة 1425هـ
الموافق لـ: 09 فبراير 2005 م
__________
1- أخرجه مسلم في البيوع(3884)، وأبو داود في الإجارة(3438)، ومالك(1382)، وأحمد(5428)، من حديث ابن عمر رضي الله عنه.
2- أخرجه مسلم في البيوع(3886)، والنسائي في البيوع(4508)، وابن ماجة في التجارات(2256)، وأحمد(9358)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
3- الاستذكار لابن عبد البر:(6/522).
4- بداية المجتهد لابن رشد:(2/195).
5- أخرجه مسلم في «الإيمان »، باب بيان أن الدين النصيحة: (205)، وأبو داود «الأدب »، باب في النصيحة: (4946)، والترمذي في «البر والصلة »، باب ما جاء في النصيحة: (1926)، والنسائي في «البيعة »، باب النصيحة للإمام: (4214)، وأحمد: (17403)، والحميدي في «مسنده »: (875)، من حديث تميم الداري رضي الله عنه.
6- المحلى لابن حزم:(8/448).
7- العدة للصنعاني:(3/461).(16/4)
الفتوى رقم: 383
في المراد بالطعام في حديث أم قيس رضي الله عنها
السؤال: جاء في حديث أُمِّ قَيْسٍ بِنْتِ مِحْصَنٍ رضي الله عنها أَنَّهَا أَتَتْ بِابْنٍ لَهَا صَغِيرٍ، لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ، فَأَجْلَسَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وآله وسلم- فِى حِجْرِهِ ، فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَنَضَحَهُ وَلَمْ يَغْسِلْه(1). ما معنى قولها:" لم يأكل الطعام"؟ وهل يدخل في الطعام التمر الذي يحنك به؟ والعسل الذي يداوى به؟.
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما، أمّا بعد:
فالمراد بالطعام ما عدا اللبن الذي ترضعه، والتمر الذي تحنكه، والعسل الذي يلعقه للمداواة وغيرها، وإن كان التمر والعسل ليسا من باب الاغتذاء لعلة التبرك بريق النبي صلى الله عليه وآله وسلم في التحنيك من جهة وعلة المداواة بالعسل من جهة أخرى، لذلك لم يحصل له اغتذاء بغير اللبن، وذهب بعض أهل العلم أنَّ المراد بأنَّه:" لم يأكل الطعام" أي لم يستقل بنفسه بأن يجعل الطعام في فيه، وقيل غير ذلك، والصواب ما تقرر أوَّلاً.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.
الجزائر في: 23 صفر 1427ه
الموافق لـ: 23 مارس 2006م
__________
1- أخرجه البخاري في الوضوء (223)، ومسلم في الطهارة (691)، وأبو داود في الطهارة (374)، والترمذي في الطهارة (71)، والنسائي في الطهارة (304)، وابن ماجه في الطهارة وسننها (566)، ومالك في الموطإ (141)، وأحمد (27756)، والحميدي في مسنده (365)، والبيهقي (4319)، من حديث أم قيس بنت محصن رضي الله عنها.(16/5)
الفتوى رقم: 595
في مدى دخولِ البناء الفوضوي ضِمْنَ إحياء الموَات
السؤال: ما المقصود بالأرض الميتة في قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:«مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ »؟ وهل البناء الفَوْضَوِيُّ يدخل ضمن إحياء الأرض الميتة؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فالمرادُ بالمَوَاتِ في قولِه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ »(1- أخرجه أبو داود في «الخراج » باب في إحياء الموات: (3073)، والترمذي في «الأحكام » باب ما ذكر في إحياء أرض الموات: (1378)، والبيهقي: (11878)، من حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه، وأخرجه الترمذي في «الأحكام » باب ما ذكر في إحياء أرض الموات: (1379)، وابن حبان: (5205)، وأحمد: (14347)، من حديث جابر رضي الله عنه. قال ابن كثير في «إرشاد الفقيه »: (2/69):« إسناده على شرط الشيخين »، والحديث صحَّحه ابن الملقِّن في «البدر المنير »: (7/57)، والألباني في «الإرواء »: (1550))، وفي رواية:« مَنْ عَمَّرَ أَرْضًا لَيْسَتْ لأَحَدٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا »(2- أخرجه البخاري في «المزارعة » باب من أحيا أرضًا مواتَا…: (2298)، وأحمد: (24490)، والبيهقي: (11877)، من حديث عائشة رضي الله عنها) هي الأرض المُعطَّلة التي لا مالكَ لها ولا ينتفع بها أحدٌ، وإحياؤُها عمارتها بالغَرْسِ والبناءِ أو بالحفر أو التحجير وإجراء المياه عليها.
غير أنّ الأراضي الشاغرة والمعطَّلة والخفيفة: ظاهرُها وباطنُها يدخل في أملاك الدولة فلا يسعه أن ينتفع بها إلاَّ بإذن أصحاب الولايات العامَّة (البلدية أو الولاية..).
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في 20من ذي الحجة 1427ه
الموافق ل: 9 يناير 2007م
---
1- أخرجه أبو داود في «الخراج » باب في إحياء الموات: (3073)، والترمذي في «الأحكام » باب ما ذكر في إحياء أرض الموات: (1378)، والبيهقي: (11878)، من حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه، وأخرجه الترمذي في «الأحكام » باب ما ذكر في إحياء أرض الموات: (1379)، وابن حبان: (5205)، وأحمد: (14347)، من حديث جابر رضي الله عنه. قال ابن كثير في «إرشاد الفقيه »: (2/69):« إسناده على شرط الشيخين »، والحديث صحَّحه ابن الملقِّن في «البدر المنير »: (7/57)، والألباني في «الإرواء »: (1550).
2- أخرجه البخاري في «المزارعة » باب من أحيا أرضًا مواتَا…: (2298)، وأحمد: (24490)، والبيهقي: (11877)، من حديث عائشة رضي الله عنها.(16/6)
الفتوى رقم: 623
في توجيه معنى الحرمان من المغفرة
السؤال:
كنتُ أعتقد أنّ الله يغفرُ الذنوبَ جميعًا ما عدا الشرك، ولكن عند قراءتي للحديث الآتي، أشكل علي الأمر فأريد منكم شيخنا أن توضّحوا لي المسألة؟ وبارك الله فيكم.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قال:« تُفْتَحُ أَبْوَابُ الجَنَّةِ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ، وَيَوْمَ الخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لاَ يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا، إِلاَّ رَجُلاً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا »(1).
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فكلُّ الذنوبِ والمعاصي قَابلةٌ للتوبةِ والغُفران إلاّ الشرك بالله، سواء وقع التكفير عن الذنوب بحسنات ماحية، أو بمصائبَ مكفّرةٍ، أو بفضل مُطلق منه سبحانه إلاّ الشرك بالله تعالى لا يغفره إلاّ إذا تركه واستغفر لنفسِهِ ودخل في الإسلام، لقوله تعالى: ?إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ? [النساء: 48]، ولقوله تعالى: ?مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجَحِيمِ? [التوبة: 113]، أمّا إذا عاد إلى الحقِّ واستغفر العبدُ وتَابَ وأنابَ فإنّ الله يغفرُ الذنوب جميعًا بما فيها من الشرك لقوله تعالى: ?قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ? [الزمر: 53، 54].
أمّا مراد الحديث الواردِ في وعيد المتشاحنَيْنِ والمتهاجرَيْنِ إنما يظهر وجه حكمة النهي عن المهاجرة فوق ثلاث كيلا يقع محرومًا من المغفرة في يومي عرض الأعمال، لا حرمانه من المغفرة مطلقًا.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في 25 من ذي الحجة 1427ه
الموافق ل: 14 يناير 2007م
__________
1- أخرجه مسلم في «البر والصلة »: (6544)، وأبو داود في «الأدب »: (4918)، والترمذي في «البر والصلة »: (2155)، وابن ماجه في «الصيام »: (1740)، ومالك في «الموطأ »: (1618)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(16/7)
الفتوى رقم: 659
في كفالة اللقيط ومدى مساواته باليتيم في الأجر
السؤال:
هَلْ تعدلُ كفالةُ اللقيطِ ومجهولِ النَّسَبِ وتربيتُه نفسَ أجرِ كفالةِ اليتيمِ التي حَثَّ عليها الرسولُ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم؟ وجزاكم الله عنَّا كُلَّ خير.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فاليتيمُ هو الصغير الفاقد للأب، واللقيطُ هو ولدٌ حديثُ الولادةِ نَبَذَهُ أهلُه خوفًا من مسؤوليةِ إعالتِهِ أو فرارًا من تهمة الزِّنا، أو ضلّ الطريقَ فلا يُعْرَفُ أبوه ولا أُمُّه، أو لسبب آخر، ولا كافلَ له معلومٌ، والتقاطه من أفضل أعمال البرِّ وهو فرضٌ على الكفاية إلاّ إذا خاف هَلاَكَهُ فَفَرْضُ عَيْنٍِ عليه.
واليتيمُ واللقيطُ ومجهولُ النَّسَبِ يدخلون في معنى إحياء النفس بالرعاية الصِّحية من الإنفاق والعناية التربوية والتعليمية، وإن كانوا يختلفون من جهة الولاية والإنفاق فالولاية على اللقيط في ماله ونفسه للسلطان أو نائبه وكذلك الإنفاق من بيت المال، لحديث:« السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لاَ وَلِيَّ لَهُ »(1- أخرجه أبو داود في «النكاح » باب في الولي: (2083)، والترمذي في «النكاح »: (1102)، وابن ماجه في«النكاح » باب لا نكاح إلا بولي: (1879)، والدارمي: (2106)، وابن حبان: (4075)، والحاكم: (2706)، وأحمد: (23851)، وسعيد بن منصور في «سننه »: (528)، وأبو يعلى: (4837)، والبيهقي: (13952)، من حديث عائشة رضي الله عنها. وحسنه ابن حجر في «موافقة الخبر الخبر »: (2/205)، وصحّحه ابن الملقن في «البدر المنير »: (7/553)، والألباني في «الإرواء »: (1840))، أمّا الملتَقِطُ فليس له إلاّ حقّ التربية والحفظ لكونه منفعةً محضةً في حقّه، وبهذا السببِ لا تثبتُ له الولاية، وعلى كلٍّ فإنّ الملتقطَ يستحقّ أجرَ ومثوبةَ كافلِ اليتيمِ لحديث:« أَنَا وَكَافِلُ اليَتِيمِ فِي الجَنَّةِ هَكَذَا، وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ والوُسْطَى وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا »(2- أخرجه البخاري في «الأدب » باب فضل من يعول يتيمًا: (5659)، وأبو داود في «الأدب » باب في من ضمّ اليتيم: (5150)، والترمذي في «البر والصلة » باب ما جاء في رحمة اليتيم وكفالته: (1918)، وابن حبان: (460)، وأبو يعلى: (7553)، والبيهقي: (12930)، من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه)؛ لأنه في معناه، ولم يختلف العلماء في أنّ الرجل إذا ضمَّ إليه يتيمًا أو لقيطًا في أنه محمود في دين الله تعالى، كما لا يختلفون في عدم جواز تبني اللقطاء والأطفال مجهولي النسب بحجّة الرحمة والعطف أو لكون المرأة عاقرًا أو الرجل عقيمًا، فهذه الأسباب لا تبيح التبنِّي ولا تجعله حلالاً، بل يبقى على حُرمته، ولا تترتّب عليه أحكام البُنُوَّةِ الحقيقية، فهؤلاء إن كانوا مجهولي الآباء الحقيقيِّين فإنّ الأخوّةَ في الدِّين والموالاةَ فيه عِوضٌ لهم عمّا فاتهم من النَّسَبِ لقوله تعالى: ?ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ? [الأحزاب: 5].
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمّد، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في من ذي القعدة 1427ه
الموفق ل: 24 ديسمبر 2006م
__________
1- أخرجه أبو داود في «النكاح » باب في الولي: (2083)، والترمذي في «النكاح »: (1102)، وابن ماجه في«النكاح » باب لا نكاح إلا بولي: (1879)، والدارمي: (2106)، وابن حبان: (4075)، والحاكم: (2706)، وأحمد: (23851)، وسعيد بن منصور في «سننه »: (528)، وأبو يعلى: (4837)، والبيهقي: (13952)، من حديث عائشة رضي الله عنها. وحسنه ابن حجر في «موافقة الخبر الخبر »: (2/205)، وصحّحه ابن الملقن في «البدر المنير »: (7/553)، والألباني في «الإرواء »: (1840).
2- أخرجه البخاري في «الأدب » باب فضل من يعول يتيمًا: (5659)، وأبو داود في «الأدب » باب في من ضمّ اليتيم: (5150)، والترمذي في «البر والصلة » باب ما جاء في رحمة اليتيم وكفالته: (1918)، وابن حبان: (460)، وأبو يعلى: (7553)، والبيهقي: (12930)، من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.(16/8)
الفتوى رقم: 808
في معنى قولِه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« ماءُ زمزم لِمَا شُرب له »
السؤال:
ما المقصودُ من حديث:« مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ »(1)؟ وهل تكفي النية قبل الشُّرب أم لا بدَّ من التلفُّظ بالدعاء؟ أثابكم الله، وبارك في عِلمكم وعُمْركم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالمرادُ بقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ » هو حصول بركةِ ماءِ زمزمَ بحَسَب نية الشارب له، فإن شربه للشبع به أشبعه الله، وإن شربه للاستشفاء به شفاه الله، وإن شربه مستعيذًا بالله أعاذه الله، وهكذا باستحضار نيات صالحة عند شربه ليحصل لأصحابها ما ينوونه بفضل الله عزَّ وجلَّ الذي يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
قال المناوي عند شرحه ل:« شِفَاءُ سُقْمٍ »:« أي شفاءٌ من الأمراض إذا شرب بنية صالحة رحمانية »(2).
وقد ورد في بركتها واستحباب شربها أحاديث منها: قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« إِنَّهَا مُبَارَكَةٌ وَهِيَ طَعَامُ طٌعْمٍ، وَشِفَاءُ سُقْمِ »(3)، وقال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« خَيْرُ مَاءٍ عَلى وَجْهِ الأَرْضِ مَاءُ زَمْزَمَ، فِيهِ طَعَامٌ مِنَ الطُّعْمِ، وَشِفَاءٌ مِنَ السُّقْمِ »(4)، وقد «شَرِبَ مِنْهُ النَّبِيُّ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَتَوَضَأَ »(5).
أمَّا التلفُّظ بالدعاء -ففي حدود علمي- لم يثبت في ذلك شيء، أمّا حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنّه كان إذا شرب ماء زمزم قال:« اللَّهُمَّ أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا، وَرِزْقًا وَاسِعًا، وَشِفَاءً مِنْ كُلِّ دَاءٍ »(6) فضعيف لا يصحُّ، ولكن لا يمنع من الشرب منه بنية العلم النافع والرزق الواسع والشفاء من كلّ داء.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 30 من ذي القعدة 1428ه
الموافق ل: 10 ديسمبر 2007م.
__________
1- أخرجه ابن ماجه في «المناسك »، باب الشرب من زمزم: (3062)، وأحمد في «مسنده »: (14435)، وابن أبي شيبة في «المصنف »: (19467)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (9752)، وفي «شعب الإيمان »: (4128)، من حديث جابر رضي الله عنه. والحديث حسنه المنذري في «الترغيب والترهيب »: (2/136)، وابن القيم في «زاد المعاد »: (4/360)، وصححه الألباني في «إرواء الغليل »: (1123).
2- «فيض القدير » للمناوي: (3/489).
3- أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى »: (9751)، والطبراني في «المعجم الصغير »: (296)، والطيالسي في «مسنده »: (457)، من حديث أبي ذر رضي الله عنه. والحديث صححه المنذري في «الترغيب والترهيب »: (2/135)، والألباني في «صحيح الجامع »: (2435). وأصله في صحيح مسلم: كتاب «فضائل الصحابة »، باب فضائل أبي ذر رضي الله عنه: (6359)، بلفظ:« إِنَّهَا مُبَارَكَةٌ إِنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ ».
4- أخرجه الطبراني في «الكبير »: (11167)، وفي «الأوسط »: (3912)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال المناوي في «فيض القدير » (3/489):« قال الهيثمي: رجاله ثقات وصحَّحه ابن حبان وقال ابن حجر: رواته موثوقون وفي بعضهم مقال لكنه قوي في المتابعات وقد جاء عن ابن عباس من وجه آخر موقوفا »، والحديث حسنه الألباني في «السلسلة الصحيحة »: (1056).
5- أخرجه عبد الله ابن الإمام أحمد في «زوائد المسند »: (1/76) رقم: (565)، من حديث علي رضي الله عنه. والحديث صحَّحه أحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد »: (2/19)، وحسنه الألباني في «الإرواء »: (1/45)، وفي «تمام المنة »: (46).
6- أخرجه الحاكم في «المستدرك »: (1739)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، والحديث ضعيف، انظر:« الإرواء للألباني »: (4/333).(16/9)
الفتوى رقم: 823
في توجيه حديث عدم نقصان شهري:رمضان وذي الحجة
السؤال:
المعلومُ أنَّ الشهرَ القمريَّ إمَّا أن يكون تسعًا وعشرين يومًا أو ثلاثين، وهو عامٌّ لكلِّ شهور السَّنَة القمرية بما فيها: شهر رمضان وذي الحِجَّة، غير أنَّ حديثًا أشكل علينا وهو قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« شَهْرَا عِيدٍ لاَ يَنْقُصَانِ: رَمَضَانُ وَذُو الْحِجَّةِ »(1- أخرجه البخاري في «الصوم »، باب شهرا عيد لا ينقصان: (1813)، ومسلم في «الصيام »، باب بيان معنى قوله شهرا عيد لا ينقصان: (2531)، وأبو داود في «الصوم »، باب الشهر يكون تسعًا وعشرين: (2323)، والترمذي في «الصوم »، باب ما جاء شهرا عيد لا ينقصان: (692)، وابن ماجه في «الصيام »، باب ما جاء في شهري العيد: (1659)، من حديث أبي بكرة رضي الله عنه) فالرجاء التوضيح ما أمكن.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالمقصودُ بالحديث على أصحِّ معناه أنَّ فضائلَ شهرِ رمضانَ وثوابَه مثلُ قولِه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ »(2- أخرجه البخاري في «الإيمان »، باب صوم رمضان احتسابا من الإيمان: (38)، ومسلم في «صلاة المسافرين وقصرها »، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح: (1779)، وأبو داود في «الصلاة »، باب في قيام شهر رمضان: (1371)، والترمذي في «الصوم »، باب ما جاء في فضل شهر رمضان: (638)، والنسائي في «الصيام »، باب ثواب من قام رمضان وصامه إيمانا واحتسابا: (2203)، وابن ماجه في «الصيام »، باب ما جاء في قيام شهر رمضان: (1326)، وأحمد في «مسنده »: (7130)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه)، وقولِهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ »(3- أخرجه البخاري في «الإيمان »، باب تطوع قيام رمضان من الإيمان: (37)، ومسلم في «صلاة المسافرين وقصرها »، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح: (1779)، وأبو داود في «الصلاة »، باب في قيام شهر رمضان: (1371)، والترمذي في «الصوم »، باب الترغيب في قيام رمضان: (808)، والنسائي في «قيام الليل »، باب ثواب من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا: (1602)، وأحمد في «مسنده »: (9034)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه)، وقولِهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ »(4- أخرجه البخاري في «الصوم » باب من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا ونية: (1802)، ومسلم في «صلاة المسافرين »، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح: (1781)، وأبو داود في «الصلاة »، باب في قيام شهر رمضان: (1372)، والترمذي في «الصوم »، باب ما جاء في فضل شهر رمضان: (683)، والنسائي في «الصوم »: (2207)، وأحمد: (9767)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه)، وكذا فضائلُ ذي الحِجَّة مثلُ قولِهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« مَا مِنْ أيَّامٍ العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ هَذهِ الأيَّامِ العَشْرِ »، فقالُوا يَا رَسُولَ اللهِ: وَلاَ الجِهَادُ فيِ سَبِيلِ اللهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ:« وَلاَ الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ »(5- أخرجه البخاري في «العيدين »، باب فضل العمل في أيام التشريق: (926)، وأبو داود في «الصوم »، باب في صوم العشر: (2438)، والترمذي في «الصوم »، باب ما جاء في العمل في الأيام العشر: (757)، وابن ماجه في «الصيام »، باب صيام العشر: (1727)، وأحمد في «مسنده »: (1969)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما)، وفي قولِه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ. وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلاَئِكَةَ. فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلاَءِ؟ »(6- أخرجه مسلم في «الحج »، باب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة: (3288)، والنسائي في «مناسك الحج »، باب ما ذكر في يوم عرفة: (3003)، وابن ماجه في «المناسك »، باب الدعاء بعرفة: (3014)، والحاكم في «المستدرك »: (1705)، من حديث عائشة رضي الله عنها)، وغيرها من الأحاديثِ، فإنَّ أجر الشهرين (رمضان وذي الحجة) وثوابَهُمَا مُرَتَّبٌ عليهما من غير نقصان وإن نقص عددُهُمَا، أي أنَّ جميعَ الفضائلِ والأجورِ الحاصلةِ في الشهرين تثْبتُ
للعامل المتعبِّد فيهما من غيرِ نقصٍ في الثوابِ فيهما سواء تمَّ عددُ رمضانَ وذي الحجة أم نقص عددهما، وهو ما رجَّحَه النوويُّ(7- شرح مسلم للنووي: (7/199)).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 26 من ذي القعدة 1428ه
الموافق ل: 06 ديسمبر 2007م
__________
1- أخرجه البخاري في «الصوم »، باب شهرا عيد لا ينقصان: (1813)، ومسلم في «الصيام »، باب بيان معنى قوله شهرا عيد لا ينقصان: (2531)، وأبو داود في «الصوم »، باب الشهر يكون تسعًا وعشرين: (2323)، والترمذي في «الصوم »، باب ما جاء شهرا عيد لا ينقصان: (692)، وابن ماجه في «الصيام »، باب ما جاء في شهري العيد: (1659)، من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.
2- أخرجه البخاري في «الإيمان »، باب صوم رمضان احتسابا من الإيمان: (38)، ومسلم في «صلاة المسافرين وقصرها »، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح: (1779)، وأبو داود في «الصلاة »، باب في قيام شهر رمضان: (1371)، والترمذي في «الصوم »، باب ما جاء في فضل شهر رمضان: (638)، والنسائي في «الصيام »، باب ثواب من قام رمضان وصامه إيمانا واحتسابا: (2203)، وابن ماجه في «الصيام »، باب ما جاء في قيام شهر رمضان: (1326)، وأحمد في «مسنده »: (7130)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
3- أخرجه البخاري في «الإيمان »، باب تطوع قيام رمضان من الإيمان: (37)، ومسلم في «صلاة المسافرين وقصرها »، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح: (1779)، وأبو داود في «الصلاة »، باب في قيام شهر رمضان: (1371)، والترمذي في «الصوم »، باب الترغيب في قيام رمضان: (808)، والنسائي في «قيام الليل »، باب ثواب من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا: (1602)، وأحمد في «مسنده »: (9034)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
4- أخرجه البخاري في «الصوم » باب من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا ونية: (1802)، ومسلم في «صلاة المسافرين »، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح: (1781)، وأبو داود في «الصلاة »، باب في قيام شهر رمضان: (1372)، والترمذي في «الصوم »، باب ما جاء في فضل شهر رمضان: (683)، والنسائي في «الصوم »: (2207)، وأحمد: (9767)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
5- أخرجه البخاري في «العيدين »، باب فضل العمل في أيام التشريق: (926)، وأبو داود في «الصوم »، باب في صوم العشر: (2438)، والترمذي في «الصوم »، باب ما جاء في العمل في الأيام العشر: (757)، وابن ماجه في «الصيام »، باب صيام العشر: (1727)، وأحمد في «مسنده »: (1969)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
6- أخرجه مسلم في «الحج »، باب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة: (3288)، والنسائي في «مناسك الحج »، باب ما ذكر في يوم عرفة: (3003)، وابن ماجه في «المناسك »، باب الدعاء بعرفة: (3014)، والحاكم في «المستدرك »: (1705)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
7- شرح مسلم للنووي: (7/199).(16/10)
الفتوى رقم: 845
في المراد من حديث:« أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَزَعَتْ ثِيَابَهَا فِي غَيْرِ بَيْتِ أُمَّهَاتِهَا »
السؤال:
ما المراد من قولِه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَزَعَتْ ثِيَابَهَا فِي غَيْرِ بَيْتِ أُمَّهَاتِهَا فَقَدْ هَتَكَتِ السِّتْرَ الَّذِي بَيْنَهَا وَبَيْنَ الرَّحْمَنِ »(1)، وهل يَدخلُ في الوعيد نَزْعُهَا جلبابَها بين محارمها في الفُندُقِ حالَ سفرِها؟ وجزاكم اللهُ خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالمرادُ من الحديث أنَّ المرأةَ إذا تكشَّفَتْ للأجانب ولم تتستَّر منهم بالسِّتر الذي أنزله اللهُ، وهو لباس التقوى كما قال تعالى: ?يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ? [الأعراف: 26]، فكما هَتَكَتِ السِّتْرَ الذي بينها وبين اللهِ، يهتكُ اللهُ سِترَها ويَخرِقُه عمَّا وراءَه، والهتيكةُ: الفضيحةُ(2)؛ لأنَّها لم تحافِظْ على ما أُمِرَتْ به من التَّسَتُرِ عن الأجانب فَجُوزِيَتْ بذلك لأنَّ:« الجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ العَمَلِ ».
ويدخلُ في النهيِ نزعُ الثِّياب في الحمَّامات إذ المرأةُ غالبًا لا تستر عورتها من النِّساء، ولا وجهَ لدخولها في الوعيد إذا ما نزعت ثيابها عند محارمها أو بين نساء المؤمنين مع المحافظة على سِتر العورة، أي: في حدود مواضِعِ الزِّينة، في قوله تعالى: ?وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ? [النور: 31]، وكذلك في أسفارها مع زوجها، أو محارِمها في الفُندقِ كانت أو في غيره؛ لأنَّ ظاهر الحديث محمولٌ على التكشُّفِ للأجنبيِّ ليَنَالَ منها ما يشتهي ولو بنظرةِ شهوةٍ، أو ما يَستَتْبِعُهُ تدريجيًّا من مُقدِّمات الجِماع(3).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 26 شعبان 1426ه
الموافق ل: 30 سبتمبر 2005م
__________
1- أخرجه أبو داود في كتاب «الحمام » من «سننه » (4010)، والترمذي في «الأدب »، باب ما جاء في دخول الحمام: (2803)، وابن ماجه في «الأدب »، (3750)، والحاكم في «المستدرك »: (7781)، وأحمد في «مسنده »: (25772)، من حديث عائشة رضي الله عنها. والحديث صحَّحه الألباني في «صحيح الجامع »: (2710)، وفي «صحيح الترغيب والترهيب »: (165).
2- «النهاية » لابن الأثير: (5/553).
3- انظر:« فيض القدير للمناوي »: (3/136).(16/11)
الفتوى رقم: 909
في حكم التعبير في تثنية الضمير لله تعالى ولرسوله
السؤال:
يجمع كثير من الخطباء والوعاظ والكُتَّاب في كلامهم وكتبهم بين ذِكر الله عزَّ وجلَّ والرسول صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم كقولهم:« مَن يُطعهما » أو «من يَعْصِهِمَا »، فهل هذا التعبير صحيح؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فقد ورد النهي عن ذلك كما في «صحيح مسلم » من حديث عديٍّ بن حاتم أنَّ خطيبًا خطب عند النبيِّ صَلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم فقال:« مَن يطع اللهَ ورسولَه فقد رَشَدَ، ومَن يَعْصِهِمَا فقد غوى »، فقال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« بِئْسَ الْخَطِيبُ أَنْتَ، قُلْ: مَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ غَوَى »(1).
علمًا بأنَّ تثنية الضمير لله تعالى ولرسوله ثبتت في مواطن كثيرة:
- منها حديث أنسٍ بن مالك قال: لَمَّا كان يوم خيبر أمر رسول الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم طلحة فنادى:« إِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ اِلْحُمُرِ اْلأَهْلِيَّةِ، فَإِنَّهَا رِجْسٌ »(2).
- ومنها قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« أَنْ يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا »(3).
وجمعًا بين هذه النصوص التي ظاهرها التعارض أجاب العلماء بما يلي:
أولاً: إنَّ سبب الإنكار عليه أنَّ الخُطبة شأنها البسط والإيضاح واجتناب الرموز والإشارات، ولهذا ثبت أنّ الرسول صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم كان إذا تكلَّم بكلمةٍ أعادها ثلاثًا لتُفهَمَ عنه، وما ثني الضمير في النصوص السابقة لأنَّها ليست خطبةَ وعظٍ وإنَّما هي تعليمُ حكم، فكلَّما قلَّ لفظه كان أقرب إلى حفظه بخلاف الخطبة(4).
ثانيًا: أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم له أن يجمع بين الضميرين وليس لغيره، لعلمه بجلال الله وعظمته(5).
ثالثًا: أنَّ حديثَ الخطيب محمولٌ على الأدب والأَوْلَى، وهذا محمولٌ على الجواز.
والتحقيقُ جوازُ التثنية للأحاديث المتقدِّمة الدالَّة عليها، ويحمل حديث الخطيب على أنَّه حادثة حالٍ وواقعةُ عَيْنٍ لها ظروفها الخاصَّة التي اقتضت أن يقول رسولُ الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم ذلك، كما يجوز الإفراد في مثل هذا الموضع، إذ كُلُّ ما في الأمر أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم ما هو إلاَّ مخبر عن الله تعالى، وأمره ناشئٌ عن أمر الله تعالى، وهو نحو قوله عزَّ وجلَّ: ?وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ? [التوبة: 62] فحُذفت الجملةُ الأُولى لدلالة الثانية عليها، والتقدير عند سيبويه: والله أحقُّ أن يُرضوه، ورسولُه أحقُّ أن يرضوه(6).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 16 جمادى الأولى 1429ه
الموافق ل: 21 ماي 2008م
__________
1- أخرجه مسلم في «صحيحه » كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة: (2010)، وأبو داود في «سننه » كتاب الصلاة، باب الرجل يخطب على قوس: (1099)، والنسائي في «سننه » كتاب النكاح، باب ما يكره من الخطبة: (3279)، وأحمد في «مسنده »: (18892)، من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه.
2- متفق عليه: أخرجه البخاري في «صحيحه » كتاب المغازي، باب غزوة خيبر: (3963)، ومسلم في «صحيحه » كتاب الصيد والذبائح، باب تحريم أكل لحم الحمر الإنسية: (5021)، من حديث أنس رضي الله عنه.
3- متفق عليه: أخرجه البخاري في «صحيحه » كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان: (16) ومسلم في «صحيحه » كتاب الإيمان، باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان: (165)، من حديث أنس رضي الله عنه.
4- «شرح النووي لصحيح مسلم »: (3/160)، «سبل السلام » للصنعاني: (1/35).
5- نفس المصدرين السابقين.
6- «فتح الباري »: (4/425).(16/12)
الفتوى رقم: 938
في وقت بداية المساء ونهايته
السؤال:
جاء في صحيح البخاري عَنِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى رضى الله عنه قَالَ: «كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فِي سَفَرٍ، فَصَامَ حَتَّى أَمْسَى، قَالَ لِرَجُلٍ: «انْزِلْ، فَاجْدَحْ لِي» قَالَ: «لَوِ انْتَظَرْتَ حَتَّى تُمْسِيَ» قَالَ: «انْزِلْ، فَاجْدَحْ لِي، إِذَا رَأَيْتَ اللَّيْلَ قَدْ أَقْبَلَ مِنْ هَا هُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ»(1). فهل يصح الاستدلال بقوله: «لَوِ انْتَظَرْتَ حَتَّى تُمْسِيَ » على أن المساء شرعا يَبْدَأ حين يُفْطر الصائِم أي: بعد المغرب، وبالتالي فيُجعل هذا الوقت وقتا لأذكار المساء؟ وهل يصح استخلاصُ الأحكامِ والفوائدِ الظاهرة من الأحاديث النبوية من غير أن نقف على من قال بها من السلف؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالحديث إنما ورد بيانا لوقت فطر الصائم، واستحباب تعجيله في الفطر، اكتفاء بتحقيق الغروب، وذلك بمغيب قرص الشمس وإن بقي ضوء الشمس ساطعا، فكان فيه أن الأمر الشرعي أبلغ وأولى من الأمر الحسي، وأن العقل لا يقضي على الشرع بل الحكم للشرع ولا ينافيه العقل.
والقول بأنّ في الحديث المذكور دليلا على أنّ المساء شرعا يبدأ بعد المغرب حين يفطر الصائم مردودٌ، ويظهر بطلانه على الوجه التالي:
- لم يرد من نصوص العلماء ولا من أقوال أئمة اللغة القول بأنّ مبدأ المساء من الغروب إطلاقا، وإنما المساء يطلق-لغة- على ما بعد وقت الظهر إلى الليل، قال ابن منظور: «المساء بعد الظهر إلى صلاة المغرب، وقال بعضهم: إلى نصف الليل»(2)وهو ما عليه مصادر اللغة(3).
ويؤيّد هذا المعنى حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كَانَ النَّبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يُسْأَلُ يَوْمَ النَّحْرِ بمنى فَقَالَ: رَمَيْتُ بَعْدَمَا أَمْسَيْتُ، فَقَالَ: لاَ حَرَجَ»(4) ويفسر ابن حجر معنى المساء بقوله: «أي: بعد دخول المساء، وهو يطلق على ما بعد الزوال إلى أن يشتدَّ الظلام، فلم يتعين لكون الرمي المذكور كان بالليل»(5)، ونقل ابن عبد البر وغيره إجماع العلماء على أنّ من رمى جمرة العقبة بعد طلوع الشمس إلى زوالها فقد رماها في وقتها، ولا خلاف في أنّ وقت الضحى هو الأحسن لرميها، وأنّ مَن رماها قبل المغيب فقد رماها في وقتٍ لها وإن لم يكن مستحبا(6)، فالإجماع دلَّ بوضوح على أنّ من أوقات رمي جمرة العقبة الإمساء، وهو من الزوال إلى المغيب، فتبيَّن أنَّ بدء المساء إنَّما هو بعد الزوال لا المغيب، ويبقى المساء إلى آخر النهار، وقد عيّنت رواية البخاري اليوم الذي قال فيه السائل : «رَمَيْتُ بَعْدَ مَا أَمْسَيْتُ» وهو يوم النحر بمنى، فدلَّ على أنّ السؤال وقع في النهار، والرمي بعد الإمساء ووقع في النهار، لأن المساء يطلق على ما بعد وقت الظهر إلى الليل كما قرّره أهل العلم(7).
وحديث الصيام لا يخرج عن هذا المعنى، فإن قول الراوي: «فَصَامَ حَتَّى أَمْسَى» أي دخل المساء وهو يطلق على ما بعد الزوال حتى آخر النهار على مذهب الجمهور أو منه إلى منتصف الليل -كما تقدم- فقوله: «لَو انْتَظَرْتَ حَتَّى تُمْسِيَ» أي: حتى يشتدّ الظلام، وهو آخر المساء وهذا ظن من الصحابي أنّ الفطر لا يحلّ إلاّ بعد ذلك، لما رأى ضوء الشمس ساطعا، وإن كان جرمها غائبا ويؤيده قوله: «إِنّ عَلَيْكَ نَهَارًا»(8) وهو معنى «لَوْ أَمْسَيْتَ» في رواية أحمد، أي تأخرت حتى يشتد المساء وهو آخر النهار.
وهذا الحديث مطابق لمعنى الآية في قوله تعالى : ? ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ? [البقرة: 187] إذ المعلوم أنّ «إلى» ابتداءها - في اللغة- داخل في المغيّا، أما انتهاؤها فلا يدخل فيه، مثل ما لو قال: « له من درهم إلى عشرة» لزمه تسعة على الصحيح، لدخول الأول وعدم دخول العاشر، فظهر أن الليل لا يدخل في الصيام كما أن المساء يمتد إلى آخر النهار، فتحقق- والنتيجة هذه- بطلان قول بدء المساء من بعد المغرب وشذوذه لمخالفته للنص والإجماع واللغة.
هذا، وينبغي لمن أراد أن يستخلص الأحكام ويجتهد في المسائل أن يتمتع بأهلية النظر والإحاطة بمدارك الأحكام وبأصول الحديث والفقه واللسان، ويبذل وسعه قدر المستطاع من غير تقصير في البحث والنظر مصحوبا بتقوى الله، قال الشافعي -رحمه الله-: «وعليه في ذلك بلوغ غاية جهده، والإنصاف من نفسه، حتى يعرف من أين قال ما يقول، وترك ما يترك»(9) فإن كانت المسألة المنظور فيها سبق الاختلاف فيها عند السلف على قولين، فلا يجوز له إحداث قول ثالث، وعليه أن يقف حيث وقفوا، أما إذا كانت النازلة لم يسبق وقوعها وليس لها نظير أو مثيل عند السلف فلا يقال: إنه لا يحفظ هذا القول عن السلف، أو ليس له سلف، وتقريرا لهذا المنظور يقول ابن القيم-رحمه الله- : «وينبغي أن يعلم أنّ القول الذي لا سلف به الذي يجب إنكاره أن المسألة وقعت في زمن السلف فأفتوا فيها بقول أو أكثر من قول، فجاء بعض الخلف فأفتى فيها بقول لم يقله فيها أحد منهم فهذا المنكر. فأما إذا لم تحدث الحادثة قد وقعت بينهم وإنما وقعت بعدهم فإذا أفتى المتأخرون فيها بقول لا يحفظ عن السلف لم يقل أنه لا سلف لكم في المسألة، اللهم إن يفتوا في نظيرها سواء بخلاف ما أفتى المتأخرون فيقال -حينئذ- أنه لا سلف لكم بهذه الفتوى»(10).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 3 رجب 1429ه
الموافق ل: 06 جويلية 2008م
__________
1- أخرجه البخاري في «صحيحه» كتاب الصوم، باب تَعْجِيلِ الإِفطار: (1857)، ومسلم في «صحيحه» كتاب الصيام، باب بيان وقت انقضاء الصوم وخروج النهار: (2559)، من حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه.
2- «لسان العرب» لابن منظور: 15/280.
3- «العين» للفراهيدي: 7/323. «المصباح المنير» للفتوحي: 2/547. «المغرب» للمطرزي: 2/268.
4- أخرجه البخاري في «صحيحه» كتاب الحج، باب الذبح قبل الحلق: (1636)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
5- «فتح الباري» لابن حجر: 3/569.
6- انظر: «التمهيد» لابن عبد البر: 7/263. «بداية المجتهد» لابن رشد: 1/350. «المغني» لابن قدامة: 3/428-429.
7- انظر: «أضواء البيان» للشنقيطي: 5/283.
8- أخرجه البخاري في «الصوم» باب متى يحل فطر الصائم : (1854)، ومسلم في «صحيحه»كتاب الصيام، باب بيان وقت انقضاء الصوم وخروج النهار: (2560)، من حديث عبد الله بن أوفى رضي الله عنه.
9- «الرسالة» للشافعي: 511.
10- «بدائع الفوائد» لابن القيم: 3/267.(16/13)
الفتوى رقم: 958
في المراد من إطلاق الأمية في الحديث
السؤال:
ما المرادُ بوصف النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم هذه الأمة بالأُمِّيَّة في قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لاَ نَكْتُبُ وَلاَ نَحْسُبُ ، الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا»(1)، يعني: مرَّة تسعة وعشرين، ومرَّة ثلاثين، فهل يُستفاد منه نفي الكتابة والحساب؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالمراد بالأُمَّة أكثر العرب، وأطلق عليهم وصف «الأُمية» بالاعتبار الغالب؛ لأنَّ الكتابة فيهم كانت قليلةً ونادرةً وعزيزةً، وكذلك حساب النجوم وتسييرها، فلم يكونوا يعرفون الكتابة والحساب إلاَّ النَّزْر اليسير، قال الله تعالى: ?هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ? [الجمعة: 2]، وإضافة صفة «الأمية» للعرب في الحديث إنما هي صفة كاشفة للواقع لا مفهوم لها، وليست علة لحكم؛ ذلك لأنَّ غير أُمَّة الإسلام من الأُمم الأخرى كانت تضبط مواقيتَها بالكتاب والحساب، حيث يسطِّرون الجداول ويضعون حروف الجُمَل ويحسُبون مسير الشمس والقمر، حتى يتبيَّن لهم وقت استسرار القمر ووقت الإبدار، وغير ذلك من الأمور، فالنبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم بيَّن أنَّ أُمَّته لا تكتب هذا الكتاب ولا تحسب هذا الحساب، فعاد كلامه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم إلى نفي الكتاب والحساب فيما يتعلَّق بأيام الشهر الذي يُستدلُّ به على استسرار الهلال وطلوعه. فعلَّق الحكمَ بالصوم والإفطارِ بالرؤية لرفع الحرج عنهم في معاناة حساب التسيير. فَوَصْفُهُ لها «بالأُمِّية» صفةُ مدحٍ وكمالٍ من جهة الاستغناء عن الكتاب والحساب بما هو أبين منه وأظهر وهو الرؤية للهلال، وهذا بلا ريبٍ اليقينُ الذي لا يدخله الغَلَط بخلاف النتائج الفَلَكية، فضلاً أنَّ تعليقَ حكمِ الصوم بالرؤية البصرية يستوي في معرفتها أهلُ الحساب وغيرُهم(2).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 28 من ذي القعدة 1429ه
الموافق ل: 24 نوفمبر 2008م
__________
1- أخرجه البخاري في «صحيحه» كتاب الصوم، باب قول النبي لا نكتب ولا نحسب: (1814)، ومسلم في «صحيحه» كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال والفطر لرؤية: (2511)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
2- للمزيد من الاطلاع راجع: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية: (25/174-176)، «فقه النوازل» لبكر أبو زيد: (147-178).(16/14)
الفتوى رقم: 986
في الفرق بين المحدث والفقيه ومدى التلازم بينهما
السؤال:
ما الفرق بين المحدث والفقيه؟ وهل توجد لأهل الحديث ألقابٌ مثل: «أمير المؤمنين» و«الحافظ» و«المحدث» وما الفرق بينها؟ وهل كل محدث فقيه والعكس؟ وجزاكم الله عنا خير الجزاء؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالفرقُ بين المحدث والفقيه يختلف باختلاف موضوع كلٍّ من الحديث والفقه.
فموضوع علم الحديث رواية أقوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأفعاله وتقريراته وصفاته من حيث ضبط كلّ حديث ونقله نقلا دقيقا، ودراية القواعد المعرِّفة بحال الراوي والمروي من حيث القبول والرّد، فموضوعه -إذًا- السند والمتن: فمن جهة السند معرفةُ أحوال رواته، واتصاله أو انقطاعه، وعلّوه أو نزوله ونحو ذلك، ومن جهة المتن معرفة صحته وضعفه وما يتصل بذلك.
«فالمحدث» في الاصطلاح يطلق على المشتغل بعلم الحديث الممكن فيه رواية ودراية، وله القدرة على التمييز بين سقيمِ الحديث من صحيحه، مع معرفةٍ بعلومه واصطلاحات أهله، والمختلف والمؤتلف من رواته، وغريب ألفاظ الحديث وغير ذلك.
والمبتدئ في طلبِ الحديث يلقب بطالب الحديث، أما المسْنِد فهو من يروي الحديث بإسناده سواء حصل له علم به أو لم يحصل، وهما رتبتان دون رتبةِ المحدث، وأمّا لقبُ «الحافظ» فيصدُق على من اجتمعت فيه صفات المحدّث، وضمّ إليها كثرة الحفظ وجمْعَ الطرق، فإن وعى أكثر من مائة ألف إلى ثلاثمائة ألف حديث مسندةٍ فهو «حافظ حجة»، فإن كان المحدّث قد أحاط بجميع الأحاديث المروية متنًا وإسنادًا وجرحًا وتعديلاً وتاريخًا فيلقب ب «الحاكم» وأمّا لقب «أمير المؤمنين» فإنّما يطلق على من اشتهر في عصره بالحفظ والدرايةِ والتقدمِ والرسوخِ في علم الحديث كشعبةَ بن الحجاج وسفيانَ الثوري ومالك بن أنس ومحمد بن إسماعيل البخاري وغيرهم من أعلامِ الحديث.
أمّا موضوعُ الفقه فهو: العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية، فميدانُ الفقه الأدلةُ التفصيليةُ الجزئية الخاصة، وغايةُ الفقيه الوصولُ إلى الحكم الجزئي العملي لكلِّ فعلٍ من أفعال المكلفين، فالفقيه -في الاصطلاح- هو: الذي يستنبطُ الأحكامً الشرعية العمليةً من أدلتها التفصيليةِ باستخدامِ القواعدِ الأصوليةِ الكليةِ.
«واسمُ الفقهِ في العصرِ الأول كان مطلَقًا على علم الآخرةِ ومعرفةِ دقائقِ آفات النفوسِ، والاطلاع على الآخرة وحقارة الدنيا، ولذا قيل: الفقيهُ هو الزاهدُ في الدنيا الراغبُ في الآخرةِ، البصيرُ بذنبهِ، المداوم على عبادةِ ربه، الورعُ الكافُّ عن أعراضِ الناسِ»(1).
هذا، ولا يلزم أن يكونَ كلّ محدث فقيهًا، إذ قد يقتصر طالب الحديث والمسنِد على الاشتغالِ بحفظ الحديثِ وكتابته وجمعِ طرقهِ، وقد يزيدُ عن ذلك إلى النظرِ في القواعد المعرِّفَةِ بأحوال الراوي والمروي من حيث القبول والرد، مع ذلك يبقى محدثا غير فقيه، وكذلك الفقيهُ فليس بمحدث إذا فَقَدَ التمكين في رواية الحديث ودرايته.
والذي عليه معظم المحدثين المتقدمين والمتأخرين أنهم لا يُقصِرون الدراية الحديثية بمعرفة القواعد المعرِّفَة بأحوال الراوي والمروي، بل يتوسعون فيها إلى فهم المروي، واستنباطِ أحكامه ومعانيه وفوائده، منه ومن عموم ما تتضمنه السنن والآثار، كما كان عليه حالُ سلفِ المحدثين، فالمحدِّث بهذا الاعتبار فضلا عن فقهِه فيما يرويه يزيد عن الفقيهِ بالرواية والدرايةِ، وهي زيادةُ فضلٍ وكمالٍ، فهو محدثٌ فقيهٌ.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 4 ربيع الأول 1430ه
الموافق ل: 01 مارس 2009م
__________
1- «التعريفات الفقهية» للمجدّدي البركتي: 167.(16/15)
**************** 17- الأصول والقواعد *****************
01- أصول الفقه
الفتوى رقم: 142
معيار التفرقة بين الاستقراء التام والناقص
السؤال: الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه، أمّا بعد:
فالسلام عليكم ورحمته وبركاته جزاكم الله خيرا يا شيخنا إذا تكرمتم الإجابة على هذه الأسئلة:
حول موضوع الاستقراء: ما هو معيار التفرقة بين الاستقراء التام والاستقراء الناقص
الاستقراء التام يكون بإثبات الحكم في الجزئي لثبوته في الكلي "من كتاب الإبهاج للبيضاوي" أو هو تصفح جميع الجزئيات ما عدا الصورة المتنازع فيها وأعطى مثالا: في خلافية صلاة الوتر أهو فرض أم لا.؟ من كتاب "أصول الفقه الإسلامي" للدكتور وهبة الزحيلي، وأيضا نفس المثال في كتاب "المستصفى" للغزالي.
أمّا الاستقراء الناقص: فهو إثبات الحكم في كلّي لثبوته في أكثر جزئياته، من كتاب "الإبهاج" للبيضاوي، أو هو: إثبات الحكم في كلي لثبوته في بعض جزئياته، وأعطى نفس المثال السابق في خلافية صلاة الوتر أهو فرض أم لا؟ من كتاب:" التحصيل من المحصول" لأبي بكر الأرموي.
- أو هو تصفح أغلب الجزئيات ماعدا صورة المتنازع فيها مع بعض الصور الأخرى من كتاب:" أصول الفقه" لوهبة الزحيلي (مج2).
- فنلاحظ أنّ العلماء اختلفوا في تعريف الاستقراء الناقص: أكثر جزئياته...بعض جزئياته...أغلب جزئياته مع وجود مثال خلافية صلاة الوتر أهو فرض أم سنة في نوعين معا: الناقص والتام.
فما هو معيار التفرقة جزاكم الله خيرا يا شيخنا؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فاعلم أنّ الاستقراء التام هو: تتبع الأفراد والجزئيات فيوجد الحكم في كلّ صورة منها ماعدا الصورة التي وقع فيها النزاع، فيعلم أنّ الصورة المتنازع فيها لا تخرج في حكمها عن بقية الصور الأخرى التي ليست محلّ النزاع فيستدل بإثبات الحكم الجزئي بواسطة ثبوته في الكلي، بينما الاستقراء الناقص أو غير التام فهو: إلحاق الفرد أو الجزء بالأغلب، ومن هذا يظهر معيار الفرق: أنّ الاستقراء التام توجد وحدة حكم فيه على جميع أفراد وجزئيات الكلّي ماعدا الصورة المتنازع فيها بخلاف الناقص فإنّ وحدة الحكم تقع على غالب جزئياته الخالي عن صورة النزاع ولهذا كانت حجية الاستقراء الناقص ظنية عند الجمهور على خلاف الاستقراء التام فهو حجة بلا خلاف وهو عند أكثرهم دليل قطعي.
ولا تعارض بين التعاريف السابقة لأنّ الأكثر هو الأغلب ولا ينافي البعض لأنّ المراد منه البعض الغالب والأكثر.
و يمكن إيراد مثال الاستقراء التام في دلالته على أنّ الأمر بالشيء بعد تحريمه يدلّ على رجوعه إلى ما كان عليه قبل التحريم من إباحة أو وجوب أو ندب مثال قوله تعالى: ?فَإِذَا قُضِيَت الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ? [الجمعة:10] وقوله تعالى: ?وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا? [المائدة:2]، وقوله تعالى: ?فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ? [التوبة:5]، وقوله صلى الله عليه وسلم:" إنّما نهيتكم من أجل الدافة التي دفّت فكلّوا وادّخروا وتصدقوا"(1) وقوله عليه الصلاة والسلام:" كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها"(2) فالحكم فيها أن يُردّ الأمر إلى ما كان عليه قبل النهي، فإن كان قبله جائزا رجع إلى الجواز، وإن كان واجبا رجع إلى الوجوب، وإنّما علم ذلك بالاستقراء التام.
والعلم عند الله تعالى وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّ اللّهم على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلّم تسليما.
__________
1- لمّا قيل له:" نهيت أن تؤكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث" أخرجه مسلم في الأضاحي (5215)، وأبو داود في الضحايا(2814)، والنسائي في الضحايا(4448)، ومالك في الموطأ(1037)، وأحمد(24918)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
2- أخرجه مسلم في الجنائز(2305)، وأبو داود في الجنائز(3237)، والترمذي في الجنائز(1074)، والنسائي في الجنائز(2044)، وأحمد(23660) من حديث بريدة الأسلمي رضي الله عنه.(17/1)
الفتوى رقم: 146
في الفرق بين المقتضي والمقتضى وأثر الفرق بينهما
السؤال: هل من فرق بين المقتضي والمقتضَى والمضمر وإذا وجد فهل له أثر؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين أمّا بعد:
"فالمقتضي"-بكسر الضاد- هو:" اللازم المتقدم الذي لا يستقيم اللسان أو اللفظ إلاّ به"، وهذا اللازم مضمر، وقد تتعدد المضمرات، فإذا قدر أحدهما أو جميعها فيطلق على ذلك التقدير:"المقتضَى"- فتح الضاد- وعليه فالمقتضَى هو: ما اقتضى النص تقديره بالنظر إلى توقف صدق المنطوق و صحته شرعا، أمّا المضمر فهو: ذلك اللازم المتقدم الذي توقف عليه صدق المتكلم لا صحته الشرعية، أي أنّ المقتضَى يثبت شرعا والمضمر ثابت لغة، ومن هنا فأهمّ أثر في الفرق بينهما هو أنّ حكم المقتضَى لا عموم له على أصح أقوال أهل العلم وهو مذهب الجمهور، لأنّ العموم حكم اللفظ وهو غير مذكور حقيقة، وإنّما يجعل موجودا ضرورة لصحة الكلام، فيجب التوقف فيما تقتضيه الضرورة على قدر الحاجة، ويبقى ما عداه في حكم العدم، أمّا المضمر لغة فله عموم بالإجماع والله أعلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّ اللّهم على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلّم تسليما.(17/2)
الفتوى رقم: 152
الجهل البسيط والجهل المركب
السؤال: هل يمكن لشيخنا أن يعطي لنا مثالا للجهل البسيط والجهل المركب حتى نفهمهما؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فالجهل ضد العلم وهو اعتقاد الشيء المعلوم على خلاف ما هو عليه، وهو على قسمين:
• جهل بسيط: وهو عدم العلم مطلقا، أي انتقاء إدراك الشيء المعلوم كلية كأن يُسأل عن حكم المرأة الحائض هل تصلي وتصوم أم لا مثلا؟
فيقول: لا أعلم، فهذا جاهل وجهله بسيط.
• جهل مركب: وهو عبارة عن اعتقاد جازم غير مطابق للواقع، أي يتصور الشيء المعلوم ويعتقده على غير هيئته، فكان مركبا من أمرين:
1. عدم العلم بالشيء وانتفاء إدراكه له وهاهنا يوافق صاحب الجهل البسيط.
2. أن يعتقد صاحب هذا الجهل ما هو مخالف للواقع غير مطابق لما هو في الخارج اعتقاداً جازماً، فلو سئل عن المرأة الحائض مثلا؟ فيقول تصلي وتصوم وعليها القضاء، فهو لا يعلم ومع ذلك يعتقد الشيء على خلاف الواقع.
ومن الأمثلة القرآنية ما مثّل الله سبحانه وتعالى بنوعين من الكفار أحدهما صاحب جهل مركب والآخر صاحب جهل بسيط في قوله تعالى: ?والّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُم كَسَرَاب ..? الآية [النور:39].
- فالكافر الذي يعمل الأعمال يحسب أنّه يحسن صنعا وأنّه يحصل شيئا، فإذا لاقى الله تعالى نوقش على أفعاله ولم يجد شيئا، إمّا لعدم إخلاصه، وإمّا لعدم سلوك سبيل الشرع )وَوَجَدَ اللهَ عِندَه ُفَوَفَّاهُ حِسَابَهْ وَالله ُسَرِيعُ الحِسَابِ[ [النور39] قال تعالى: ?وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً? [الفرقان:23].
فهذا جهله جهل مركب فهو لا يعلم بأنّ عملَه غيرُ صحيح ويعتقد بصحته وحصول الثواب والأجر عليه اعتقادا جازما، فمثله كمثل أصحاب الأضرحة والقباب والقبور الذين يتقربون بالنذور ويذبحون عندها ويسألونها إلى غير ذلك من الشركيات المنهي عنها، وهم يعتقدون جوازها وحصول الثواب عليها.
- أمّا صاحب الجهل البسيط كالمقلدة لأئمة الضلال والكفر، فقلب الكافر الجاهل البسيط المقلد الذي يتبع أئمة القبور والأضرحة وغيرهم من أهل الانحراف والزيغ فهو لا يعرف حال من يقوده ولا يدري أين يذهب به، فإن قيل له أين تذهب؟ قال أنا معهم، فإن قيل له أين يذهبون؟ فيقول: لا أدري.
وهذا الصنف مثّل الله به في قوله تعالى: ?أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّّيٍّ... ? الآية [النور:40]، وقوله: ?يَغْشَاهُ مَوْجٌ.. ? [النور:40]، أي يغشاه من الغشاوة على القلب والسمع والبصر مثل قوله تعالى:? خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِم وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ? [البقرة:7]، وفي قوله تعالى ?أَفرَأَيْتَ مَنِ اتّّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً ? [الجاثية:23].
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصلى الله على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلّم تسليما.(17/3)
الفتوى رقم: 175
في صحة انقلاب الواجب غير المحدد إلى محدد
السؤال: هل يصح تحول الواجب غير المحدد إلى محدد؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فالواجب الذي لم يحد الشارع مقداره قد ينقلب إلى واجب محدد يحدده أهل الحل والعقد أو القاضي أو أهل الذكر من أهل الاجتهاد، لأنّ المراد من الواجب غير المحدد هو سدّ الحاجة وتحقيق مقاصد الشرع، وهذا يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال والأماكن والأزمان، لذلك أناط الشارع وخوّل الأمر لأهل الاجتهاد أن يحددوا لها مقدارا مناسبا ولائقا يتماشى مع الظروف والأحوال التي تحيط بصاحبها كالتعزير على الجرائم مثلا، فمقداره غير محدد، والسلطة التقديرية راجعة للقاضي في تحديد العقوبة التعزيرية المناسبة لمرتكب الجريمة.
والله أعلم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في:10صفر 1408ه
الموافق ل :15جوان1997م(17/4)
الفتوى رقم: 176
في ضابط التفرقة بين السبب والشرط
السؤال: ما هو ضابط التفرقة بين السبب والشرط؟ لإزالة الغموض الحاصل بينهما في أمثلة الأصوليين إذ ما يمثل بعضهم للسبب هو غير ما يمثله آخرون للشرط، مثل: الشمس، واليمين.
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فالجواب أن تعلم أنّ الشرط يقاسمه السبب في أجزاء حقيقته، وهو ما يلزم من عدمه العدم، فإذا ذكر أحد الأمثلة مبنيا على هذه الجزئية المتقدمة صح إطلاق السبب والشرط عليها، كزوال الشمس فإنّه سبب لوجوب صلاة الظهر وهو شرط أيضا من ناحية أنّه يلزم من عدم الزوال [وهو السبب أو الشرط] عدم الوجوب[أي وجود حكم الصلاة وهو المسبب أو المشروط] وكذلك القول بالنسبة لليمين يجوز أن تكون سببا أوشرطا للكفارة من هذه الحيثية، غير أنّ السبب يختلف عن الشرط من جهة أنّ السبب يلزم من وجوده وجود الحكم أمّا الشرط فلا يلزم من وجوده وجود المشروط وهو الحكم، فإذا روعي هذا المعنى في زوال الشمس لوجوب الصلاة كان سببا وليس شرطا وكذلك اليمين، أمّا الحنث فشرط وليس بسبب في لزوم الكفارة وكذلك الكفارة والحول فشرط في وجوب الزكاة وليس بسبب لأنّه لا يلزم من وجود الحول وجوب الزكاة كما لا يلزم من وجود الحنث لزوم الكفارة.
غير أنّ المراد بالشرط في هذا المقام إنّما هو شرط وجوب، لا شرط صحة، وهو ما يصير به العبد مكلفا، كالنقاء من الحيض والنفاس، فهو شرط في وجوب الصلاة، وبلوغ الدعوة إلى العبد، فهو شرط في وجوب الإيمان عليه، ذلك لأنّ شرط الوجوب(1) إنما يتعلق بخطاب الوضع، بينما شرط الصحة وهو: ما جعل وجوده سببا في حصول الاعتداد بالفعل وصحته كالوضوء وستر العورة واستقبال القبلة للصلاة، فهو من خطاب التكليف، وهذا هو ضابط الفرق بين القسمين(2).
فالحاصل أن يقال: إنّ ضابط معرفة السبب هو إضافة الحكم إليه كأن تقول:« صلاة الظهر » فالصلاة حكم شرعي أضيف إلى الظهر فعرفنا أنّ الظهر هو السبب، وقولنا:" كفارة يمين"، فإنّ الكفارة حكم شرعي أضيف إلى اليمين فعرفنا أنّ اليمين هو السبب.
هذا، ويمكن إضافة ضابط آخر لمعرفة السبب من حيث التأثير والمناسبة:
- أمّا من حيث التأثير فكلّ ما يؤثر في الحكم من جهة الوجود والعدم فهو السبب، بخلاف الشرط، فإنّما يكون تأثيره في الحكم من جهة العدم فقط، أمّا الوجود فلا، إذ لا يلزم من وجود الوضوء وجود الصلاة.
- أمّا من حيث المناسبة فتظهر في ذاتية السبب كالنصاب لاشتماله على الغنى في ذاته على خلاف الأول، فلا تقترن به مناسبة وإنّما هو مكمّل لحكمة الغنى في النصاب.
والله أعلم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في:10صفر1408ه
الموافق ل :15جوان1997م
__________
1- أمّا شرط الأداء فهو حصول شرط الوجوب مع القدرة على إيقاع الفعل، أي يخرج بذلك من كان في حكم النائم والناسي فهم غير مكلفين بأداء الصلاة مع وجوبها عليهم.
2- انظر: روضة الناظر لابن قدامة:(163)، مذكرة الشنقيطي:(43).(17/5)
الفتوى رقم: 213
في معنى الأحوط
السؤال: حول كلمة الأحوط هل تعني الأفضل أم الأسلم؟، وجزاكم الله خيرا.
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فالعمل بالحيطة قد يكون بمعنى وجوب الترك، وقد يكون بمعنى الأولى تركه والتنزه عنه، فمن علم شيئا أنّه محرّم، ثمّ شك فيه فالحيطة وجوب تركه خشية الوقوع في الحرام، أي: لا يحلّ له الإقدام عليه إلاّ بيقين، كمن اختلطت أخته بأجنبية، أو ميتة بمذكاة، أو أنّ شاتين ذبح إحداهما مشرك، وشك في تعيينها، في هذه الصور ومثلها فالحيطة على وجوب الترك وقد تقررت في هذا الشأن قاعدة:" ما لا يتم ترك الحرام إلاّ بترك الجميع فتركه واجب".
أمّا من شك في حرمته وحلّه على سبيل التساوي فالحيطة في أولوية تركه والتنزه عنه كمعاملة من خالط ماله شيء من الربا، أو الأكل ممن في ماله شبهة حرام، فالحيطة والورع ترك مثل هذه الشبهات، كترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم التمرة الساقطة فقال:"إنّي لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي، فأرفعها لآكلها، ثمّ أخشى أن تكون من الصدقة فألقيها"(1).
والعلم عند الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
الجزائر في:18ربيع الأول1426ه
الموافق ل : 27 أفريل 2005م
__________
1- أخرجه في اللقطة(3224)، ومسلم في الزكاة(2525)، وأحمد(8430)، والبيهقي(11133)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(17/6)
الفتوى رقم: 214
في ضابط التفريق بين الجمع والترجيح
السؤال: عند العمل بالقواعد الأصولية مثل قاعدتي: تقديم القول على الفعل، وتقديم الحاظر على المبيح، مثلا هل يعتبر هذا من الجمع بين النصوص؟ جزاك الله خيرا.
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فإنّه يتمّ الجمع بين نصين متعارضين في ظاهرهما بحسب طبيعتهما، فإن كانا عامّين فالتنويع يتم الجمع، وإن كانا خاصّين فالتبعيض، وإن كان أحدهما عامّا والآخر خاصّا فيتمّ الجمع بالتخصيص، وإن كان أحدهما مطلقا والآخر مقيدا فبتقييد الإطلاق وبناء على ذلك فوجوه الجمع تتعدد بتعدد أنواع التأويل لما فيه من صرف اللفظ على معناه الظاهر إلى معنى آخر يحتمله اللفظ لدليل دلّ عليه، ويتحدّد الجمع على النحو التالي:
- الجمع بجواز التخيير بين الأمرين.
- الجمع ببيان تغاير الحال أو المحل.
- الجمع بالأخذ بالزيادة.
- الجمع بحمل الأمر للوجوب على الندب.
- الجمع بحمل الحقيقة على المجاز.
- الجمع بحمل النهي للتحريم على الكراهة.
- الجمع بالتخصيص.
- الجمع بالتقييد.
وفي هذه الوجوه يتمّ العمل بمضمون كلا النصين، أمّا الترجيح فهو بيان المجتهد للقوة الزائدة في أحد الدليلين الظنيين المتعارضين ليعمل به، بمعنى أنّ يعمل بأحد الدليلين المتعارضين لرجحانه مع إهمال الدليل الآخر بالنظر إلى المزية التي تقوم بالدليل الراجح، وللترجيح شروط ووجوه كثيرة منها:
المثالان المذكوران في نص السؤال المتعلقان بالترجيح من جهة المتن فتقديم القول على الفعل قاعدة ترجيحية أصولية بحيث يعمل بالقول ويهمل الفعل لمزية القول باعتباره أبلغ في البيان من الفعل، ويدلّ على دوام الحكم وعمومه في الأزمان بخلاف الفعل فيحتمل الخصوص به صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يدلّ على دوام الحكم وهو خاص في الزمن، لذلك قدم القول على الفعل.
وكذلك يقدم الحاظر على المبيح لوجود مزية في الحاظر وهي أنّ الغالب في الحرمة إنّما هو دفع مفسدة ملازمة للفعل أو تقليلها، واهتمام الشارع بدرء المفاسد آكد من اعتنائه بجلب المصالح، ولأنّ التحريم حكم تكليفي، والمباح فعل وإنّما أدرج في الأحكام التكليفية مسامحة، والحكم مقدم على الفعل، ولأنّه إذا قدم الواجب على الإباحة، والحظر على الوجوب، فيقدم الحظر على الإباحة من باب أولى.
فالضابط بين الجمع والترجيح أنّ الجمع فيه إعمال للدليلين معا كالعام مع الخاص فإذا كان الخاص مقدما على العام في محلّ التعارض فيبقى العموم حجة فيما عدا صورة التخصيص، فليس فيه إهمال بالكلية، وإنّما يعمل بالدليلين معا بخلاف الترجيح فيعمل بالراجح ويترك المرجوح فهو كالنسخ، فيعمل بالناسخ ويترك المنسوخ.
والعلم عند الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
الجزائر في:18ربيع الأول 1426ه
الموافق ل : 27 أفريل 2005 م(17/7)
الفتوى رقم: 271
في قادح "وجود الفرق" في القياس وطبيعة الفارق
السؤال: في تعريف القياس أنّه إلحاق فرع بأصل لجامع بينهما ولصحة القياس شروط ومفسدات كما هو معلوم، من هذه المفسدات وجود الفارق، فهل يكفي وجود الفارق أم لابد من رجحانه على الجامع ليقال بفساد القياس وما طبيعة هذا الفارق؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فالاعتراض بالفرق معتبر عن الجمهور بقادح من قوادح القياس وهو: إبداء وصف في الأصل يصلح أن يكون علة مستقلة أو جزء من علة وهو معدوم في الفرع، أي قطع الجمع بين الأصل والفرع بحيث يبدي المعترض معنى يحصل به الفرق بين الأصل والفرع حتى لا يلحق به حكمه.
والمؤثر في الفرق هو المعتبر في قوادح القياس أمّا الفروق الطردية والعدمية فلا تأثير لها، مثاله: كقول المستدل: يقاد المسلم بالذمي قياسا على غير المسلم بجامع القتل العمد العدوان فيجيب المعترض بأن تعيين الفرع وهو الإسلام مانع من ثبوت حكم الأصل فيه، فهو فارق مؤثر في الحكم وهو القصاص، بخلاف المستدل فالفارق غير مؤثر، لأنّه لم يصرح بتأثير العلة في الحكم، ومثاله-أيضا- قياس القتل بالمثقل على القتل بالمحدد بجامع القتل العمد العدوان، فيجيب المعترض بأن تعيين صورة الأصل المقيس عليها هو علة الحكم والتي تظهر في القتل بالمحدد لا مطلق القتل فيذكر له خصوصية لا تعدوه بالتالي لا يجعله مؤثرا على الحكم فلا يتم له الجمع ومن ثمة القياس، فالحاصل أنّ الفرق على نوعين أحدهما يتعلق بالأصل المقيس عليه والثاني بالفرع المقيس.
أمّا طبيعة الفرق فهو نوع راجع إلى معارضة في الأصل، أي معارضة علة المستدل فيه لعلة أخرى ولذلك ذكر في المحصول أنّ الكلام فيه مبني على تعليل الحكم بعلتين فصاعدا وعليه بناه البيضاوي والقرافي وغيرهم.
وللمزيد في الاطلاع على هذه المسألة يراجع (المحصول:2/2/367، المنهاج للباجي:201، شرح تنقيح الفصول للقرافي: 403، المسودة لآل تيمية: 441، البرهان للجويني:2/1060، الوصول لابن برهان:2/327، الإحكام للآمدي:4/138، البحر المحيط للزركشي:7/378، إرشاد الفحول للشوكاني: 229).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 20 رجب 1426هـ
الموافق لـ: 25 أوت 2005 م(17/8)
الفتوى رقم: 342
هل العموم من عوارض المعاني؟
السؤال: اتفق العلماء على أنّ العموم من عوارض الألفاظ، واختلفوا في كونه من عوارض المعاني على أقوال، يذكر الإمام الطوفي أنّ الكلام على هذه المسألة طويل وليس تحتها كبير فائدة، غاية الأمر من رياضات هذا العلم لا من ضرورياته، حتى لو تُرِك لم يُخلَّ بفائدة ولهذا لم يذكره كثير من الأصوليون(?) نرجوا منكم بسط المسألة مع ذكر القول الصحيح في المسألة، وبارك الله فيكم.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فلا خلاف بين أهل العلم بأنّ العموم عرض لازم لما لحقه من صيغ العموم، فالعموم من عوارض الألفاظ حقيقة ويترتب على هذا القول جواز تخصيص عمومات الألفاظ الدالة على الاستغراق والشمول لجميع أفرادها باتفاق، لكن الخلاف واقع في المعاني هل لها عموم أم لا؟ ويترتب على هذا الخلاف جواز تخصيص المعاني باعتبار قابليتها للعموم أم مجردة عنه.
وما عليه جمهور أهل العلم أن العموم ليس من عوارض المعاني حقيقة، وإنما هو من عوارضها مجازا، ويقابله مذهب الجصاص وابن الحاجب وغيرهم إلى أن المعاني لها عموم حقيقة كالعموم اللاحق بالألفاظ، وفي هذه المسألة قول آخر ينفي العموم عن المعاني مطلقا.
وسبب الخلاف يرجع إلى شرط العموم هل هو الاستغراق والاستيعاب أم الاجتماع والكثرة دون الاستيعاب؟ فمن راعى الاستغراق في شرط العموم واستيعابه لجميع أفراده وتسمياته رأى أن المعاني لا عموم لها، وإنما العموم من عوارض العموم حقيقة، ومن راعى الاجتماع والكثرة رأى أن العموم من عوارض الألفاظ والمعاني، ولمّا ترجح العموم بأنّه:" ما يستغرق جميع ما يصلح له بحسب وضع واحد دفعة واحدة -أي من جهة واحدة- بلا حصر" كان شرط العموم الاستيعاب لهذه الأفراد التي يتناولها اللفظ على وجه الاتحاد والمساواة في الحكم كقوله تعالى: ?وأقيموا الصلاة? [البقرة:43]، فالخطاب موجه إلى كلّ المكلفين بوجوب أداء الصلاة حكما متساويا على جميع الأفراد ليس بينهم تفاوت في أداء هذا الواجب، وكذلك لو قال "أكرم الفقراء" عمَّ الحكم جميع الفقراء متناولا لهم من جهة واحدة بنِسَبٍ متساوية من غير وكس ولا شَطَط، وهذا الأمر يختلف ما إذا نظر إليه من جهة المعنى كأن يقال:" عمَّهم الخَصْب والجَذْب" و"عمَّهم المطر" و"هذا عطاء عام" ومنه "عامة الناس" فإنّ هذه المعاني وإن شاعت في لسان أهل اللغة فلا تحمل على الحقيقة حال الاستعمال لأنّه يلزم من ذلك أن يكون العموم مشتركا لفظيا بين الألفاظ والمعاني وهو خلاف الأصل، إذ الأصل الانفراد في الوضع لا الاشتراك وتكون دلالته على المعنى الآخر بالمجاز، ومن ثمَّ كانت لهذه المعاني عموم مجازا لا حقيقة، ذلك لأن من شرط العام ولازمه اتحاد لفظه من جهة واحدة لسائر متناولاته بنسب متساوية، الأمر الذي يغيب في العموم المعنوي أو المجازي لأن ذكر عموم الخصب والجذب والمطر والعطاء ينتفي منها شرط العموم المتقدم وهو تساوي نسب جميع الأفراد، بل تتفاوت النسب للعموم المعنوي ولذلك كان إطلاق العموم عليه متساهل فيه، إذ لا يخفى أن كميات سقوط المطر تتفاوت أماكنه كثرة وقلة، وكذلك الجذب والخصب والعطاء ونحو ذلك، ومن هنا يرد الاختلاف في الحكم لأنّ محالَّه غير متحدة، ذلك لأنّ المعنى وإن كان واحدا فمحالُّه كثيرة، أو يكون في كل محل معنى على حده، وكل واحد غير الآخر ولكن من جنسه، وبانتفاء اتحاد المحل في ذلك المعنى لكثرة محالِّه كان العموم من عوارض المعنى مجازا لا حقيقة، ومن جهة أخرى فإن الاستغراق في العام شامل لجميع أفراده دفعة واحدة أي في آن واحد، وهو قيد ليخرج بذلك المطلق إذ أنّ استغراقه بدلي لا دفعة واحدة، وهذه الوحدة لا تكون مشخصة إلا في الألفاظ، إذ المعاني لا تقبل التشخيص وما كان كذلك فلا يوصف بالعموم إلا على وجه المجاز.
هذا، وإذا تقرر أنّ العموم من عوارض المعاني مجازا لا حقيقة كما هو عليه مذهب الجمهور، فاعلم أن أكثر من قال بتخصيص العلة قال بأن المعاني لها عموم، انطلاقا من مفهوم قولهم:(علة عامة) إذا ثبت حكمها في المنصوص عليه وفي غيره، ولهذا جوزوا تخصيص العلة على نحو ما يجوز تخصيص النصوص العامة بالإجماع ويكون الباقي حجة بعد التخصيص.
والذي ينبني على جواز تخصيص العلة أيضا تخصيص مفهوم المخالفة (دليل الخطاب) (وهو إثبات نقيض المنطوق به للمسكوت عنه) هل يبقى حجة فيما بقي من تخصيص؟ ووجه التخريج فيه شقان: أحدهما: مستقل وهو النظر إلى المفهوم هل له عموم أم لا؟ والثاني: بناؤه على مسألة جواز تخصيص العلة باعتبارها من المعاني التي بدورها يترتب عليها الخلاف السابق هل لها عموم أم لا؟ فهو بناء خلاف على مثله، فإن صح هذا البناء على ما صحّ على غيره كان الباقي بعد التخصيص حجة وإلا فلا.
أمّا الوجه المستقل فالنظر فيه إلى قابلية المفهوم للتخصيص، ولا يخفى أن التخصيص فرع التعميم، فهل عمومه من حيث اللفظ أم من حيث المعنى؟ ووجه التخريج فيه إن كان عموم المفهوم من حيث اللفظ كان الباقي بعد التخصيص حجة، وإن كان من حيث المعنى لم يصلح الاستدلال به إلا إذا لم يخصص، فإن خصص فلا يبقى حجة إلا على رأي من قال بتخصيص العلة، وهذه الأخيرة مبنية على ما فصلناه سابقا في العموم هل هو من عوارض المعاني حقيقة أم لا؟
هذا، ومن ثمرة الخلاف في هذه المسألة أن يكون البناء مركبا على أكثر من خلاف كاختلافهم في "إنما" هل إفادتها الحصر عن طريق المنطوق أم المفهوم، ومنشأ الخلاف هل "إنما" مركبة من "إن" المثبتة و "ما" النافية أو هي معنى "ما"و "إلا"؟ فعلى القول الأخير تكون دلالتها بالمفهوم، وهل هذا المفهوم له عموم يقبل التخصيص أم لا؟ وتعود المسألة السابقة على نحو ما بيناه.
وفي الأخير، فلا يبعد أن تكون مسائل أخرى تبنى على هذه المسألة مباشرة، أو فروع على فروع أصولية مخرَّجة عليها، والعبرة في علم الأصول ربط الفروع بالمصادر تخريجا وبناء وفق النظرة المقاصدية، وكلما وسعت دائرة التخريج والبناء على مسألة كان نفعها أكثر وفائدتها أغزر وما اتصف بذلك كا أحق أن يكون من ضروريات هذا العلم ولوازمه.
والعلم عند الله تعالى؛ وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلّم تسليما.
الجزائر في 18 شوال 1420 ه
الموافق ل :25 جانفي 2000م.
__________
1- شرح مختصر الروضة للطوفي: 2/455.(17/9)
الفتوى رقم: 343
ضيق وقت فعل الواجبين
السؤال: ماذا يفعل من ضاق عليه فعل واجبين؟ [علما أنّ الإمام ابن القيم ذكر هذه المسألة ومثّل لها بالوقوف بعرفة وصلاة العصر فإن صلى العصر فاته الوقوف ومن ثمّ الحج وإن وقف فاته العصر فقال الإمام: يفعلهما معا بأن يصلي وهو سائر إلى عرفة] فهل قوله -رحمه الله- صحيح يستند إلى دليل شرعي أم لا؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فبخصوص تمثيل ابن القيم في مسألة من ضاق عليه فعل واجبين فواضحة المسلك لالتزامه طريقة الجمع بين واجبين وقعا في آن واحد وخشي فوات أحدهما بفوات تلك الطاعة، ولا يخفى أن الجمع مهما أمكن فعله أولى من الترجيح، أمّا إذا تعذر الجمع يصار إلى ترجيح الأقل مفسدة عملا بقاعدة: درء المفاسد أولى من جلب المصالح، إذ فوات الوقوف بعرفة فساد للحج باعتبار ركنيته فيه مع الأمر بإتمامه، ووجوب حج قابل، ولا شك أنّها تولد آثارا تخفي من ورائها مشاقا مالية وبدنية، بينما الآثار المتولدة عن فوات العصر دون الحج ويقضيه لعذره، وشأنه في ذلك كفعل الصحابة الذين أخروا صلاة العصر حتى كانوا في بني قريظة عملا بقوله صلى الله عليه وسلم:" ألا لا يصلين أحد العصر إلاّ في بني قريظة"(1).
وحقيق بالتنبيه أنّ قوله (يصلي وهو سائر إلى عرفة) لا يراد منه الصلاة ماشيا أو راكبا، لأنّ العرف الشرعي يقضي بأنّ الفريضة تصلى على الأرض أو بما يتصل بها إلاّ لضرورة، وعليه فتفسر هذه العبارة بأنّ من استجمع الشروط والأركان في صلاته حال إيقاعها مع نية الوصول إلى عرفة.
والله أعلم، وفوق كلّ ذي علم عليم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
__________
1- أخرجه البخاري في صلاة الخوف(946)، و في المغازي (4119) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.(17/10)
الفتوى رقم: 344
حكم تقسيم الدين إلى أصول وفروع، تبريره والآثار المترتبة عليه
السؤال: الأصوليون كالمجمعين على تقسيم الدين إلى مسائل أصول ومسائل فروع وضابط التفريق بينهما من جهة كون مسائل الأصول يطلب فيها العلم والاعتقاد وعليها دليل قاطع وهي معلومة بالعقل، بينما مسائل الفروع يطلب فيها العمل ومسائلها ظنية وهي معلومة بالشرع لا بالعقل، نرجو من الشيخ أبي عبد المعز أن يفصل لنا ما مدى صحة هذا التقسيم وقوة تبريره وهل له من أثر ناتج عنه؟، أفيدونا جزاكم الله خيرا .
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة و السلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فالذي ينبغي معرفته هو أن القاضي الباقلاني هو أوّل من صرح من المتكلمين بالتفريق بين مسائل الأصول ومسائل الفروع، وإن كان هذا التفريق أحدثه الجهميّة وأهل الاعتزال، وسرى بعده إلى كافة المتكلمين من أهل الأصول، لذلك ما صدرتم به سؤالكم بأنّ الأصوليين كالمجمعين على هذا التقسيم فثابت عند معظم المصنفين من أهل الأصول إن لم يكن جميعهم، والذي ثبت في نظرهم لو كان مجرد اصطلاح وتقسيم جديد يدلّ على معان صحيحة كالاصطلاح على ألفاظ وتقسيمات العلوم الصحيحة لما ذُمَّ هذا النظر، بل يستحسن القول به لاشتماله على الصحة ودلالته على الحق، لكن هذا المتقرر عندهم مشتمل على حق وباطل بل هذه المقدمة التقسيمية رتبت عليها آثار كاذبة للحق مخالفة للشرع الصريح والعقل الصحيح، ذلك لأنّ حقيقة هذا التقسيم -فضلا على كونها منتفية شرعا- فإنّه يلزم القول بصحتها نتائج خطيرة بعيدة على المنهج القويم بل في شقٍّ عنه.
أمّا من حيث انتفاء ثبوت هذا التقسيم والتفريق بين مسائل الأصول ومسائل الفروع فلكونه حادثا لم يكن معروفا عند الرعيل الأول من الصحابة والتابعين حيث إنّه لم يفرق أحد من السلف والأئمة بين أصول الدين وفروعه فكان إجماعا منهم على عدم تسويغ التفريق بينهما، وإنّما كان أول ظهوره محدثا عند أهل الاعتزال وأدرجه الباقلاني في تقريبه ثمّ أخذ مجراه إلى من تكلم في أصول الفقه مع الغفلة عن حقيقته وما يترتب عليه من باطل. ومنه يظهر أنّ أول خطإ فيه مناقضته للإجماع القديم.
أمّا من حيث ترتب الآثار الفاسدة على هذا القول فعديدة يظهر منها عدم التسوية في رفع إثم الخطأ من المجتهد بين مسائل الأصول والفروع، ذلك لأنّ معظم الأصوليين من المتكلمين والفقهاء يؤثمون المجتهد المخطئ في الأصول لأنّها من المسائل القطعية العلمية المعلومة بالعقل على نحو ما تفضلتم به في سؤالكم، وبناء على هذا التفريق فلا يساور من ارتضاه أدنى شك في تأثيم المخطئ في الأصول وتفسيقه وتضليله مع اختلافهم في تكفيره، وقد ذكر الزركشي هذا المعنى ونسب للأشعري فيه قولين(1) بل ادّعي الإجماع على تكفيره إن كان على خلاف ملة الإسلام، فإن لم يكن فمُضَلَّل ومبتدع، كأصحاب الأهواء من أهل القبلة(2) ولا تخفى ما في هذه النتيجة من حكم خطير وباطل ظاهر، بل إنّ ما زعموه من إجماع على تكفير وتخطئة المخطئ في الأصول مدفوع بإجماع السلف من الصحابة والتابعين وأئمة الفتوى والدين فكلهم يعذرون المجتهد المخطئ مطلقا في العقائد أو في غيرها، ولا يكفرونه ولا يفسقونه سواء كان خطؤه في مسألة علمية أصولية أو في مسألة علمية فرعية. ذلك لأنّ العذر بالخطإ حكم شرعي خاص بهذه الأمّة لقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم:«إنّ الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه »(3) لأنّ الإثم مرتب على المقاصد والنيات، والمخطئ لا قصد له فلا إثم عليه إذ في اجتهاده صدق النية في إرادة الحق والوصول إلى الصواب، أمّا أهل الأغراض السيئة وأصحاب المقاصد الخبيثة فلكل منهم ما نوى، والحكم للظاهر، والله يتولى السرائر، وهذا الأمر إنّما يدور حديثه على المجتهد المؤمن بالله ولو جملة وثبت بيقين إيمانه فإن استفرغ طاقته الاجتهادية وبذل وسعه واتقى الله قدر الاستطاعة، ثمّ أخطأ لعدم بلوغ الحجة أو لقيام شبهة أو لتأويل سائغ فهو معذور لا يترتب عليه إثم ما لم يفرِّط في شيء من ذلك فلا يعذر، وعليه الإثم بقدر تفريطه ويستصحب إيمانه ولا يزال بالشك، وإنّما يزول بعد إقامة الحجة وإيضاح المحجة وإزالة الشبهة إذ لا يزول يقين إلاّ بمثله.
أمّا إن كان غير مؤمن أصلا فهو كافر واعتذاره غير مقبول بالاجتهاد لقيام أدلة الرسالة وظهور أعلام النبوة.
ويؤيد ما ذكرنا أنّه نقل في بعض المسائل العلمية العقدية اختلاف السلف فيها كرؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لربه وعروجه صلى الله عليه وآله وسلم إلى السماء، وسماع الميت نداء الحي، وإنكار بعض السلف صفة العجب الواردة في قراءة ثابتة متواترة(4) مع كلّ ذلك لم ينقل من أحد منهم القول بتكفير أو تأثيم أو تفسيق من أخطأوا في اجتهادهم، لما تقدم ذكره ولم يرد نص يفرق بين خطأ وآخر في الحديث السابق أو في قوله تعالى: ?وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ? [الأحزاب:5] وقوله تعالى: ?رَبَنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا? [البقرة:286] ولا يسع الاستدلال بقوله تعالى: ?لاَ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الخَاطِئُونَ? [الحاقة:37]، وقوله تعالى: ?وَإِن كنَََّا لَخَاطِئِينَ? [يوسف:91]، وقوله تعالى: ?وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخَاطِئِينَ? [يوسف:29] للتفريق بين خطأ وآخر، ذلك لأنّ المراد بالخطأ في هذا المقام هو ما يقابل الصواب أي ضده، وهو من الرباعي أخطأ يخطئ وفاعله يسمى: مخطئا أي لم يصب الحق، أمّا الخطأ في الآية فثلاثي من خطأ يخطأ فهو خاطئ فهو بمعنى أذنب. والمعلوم أيضا أنّه قد تأتي خطئ بمعنى أخطأ لكن يختلف مقصود كلا منهما من تعمد الفعل من عدمه حيث لا يقال أخطأ إلاّ لمن لم يتعمد الفعل والفاعل مخطئ، والاسم منه الخطأ، فيقال لمن تعمّد الفعل: خطئ فهو خاطئ والاسم منه الخطيئة(5).
هذا، ومن نتائج هذا التفريق أن العاجز عن معرفة الحق في مسائل الأصول غير معذور وأنّ الظنّ والتقليد في العقائد أو الأصول ممّا هو ثابت قطعا غير معتبر أي: إنّه لا يجوز التقليد في مسائل الأصول بل يجب تحصيلها بالاعتماد على النظر والفكر لا على مجرد المحاكات والتشبه بالآخرين، وقد ادّعي في ذلك إجماع أهل العلم من أهل الحق وغيرهم من الطوائف، بل ذهب الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني إلى القول أنّه:"من اعتقد ما يجب عليه من عقيدة دينه بغير دليل لا يستحق بذلك اسم الإيمان ولا دخول الجنّة والخلوص من الخلود في النيران"(6) .
هذا، ومع كون هذا التفريق السابق الحادث منقوضا بإجماع السلف فالبناء عليه لا يثبت، لأنّ إيمان المقلد معتبر غير مشروط فيه النظر والاستدلال، إذ لو كان واجبا لفعله الصحابة رضي الله عنهم وأمروا به، لكنّهم لم يفعلوا ولو فعلوا لنقل عنهم، والاعتراض بأنّ الصحابة رضي الله عنهم كانت معرفتهم بالعقائد مبنية على الدليل اكتفاء بصفاء أذهانهم واعتمادهم على السليقة ومشاهدتهم الوحي يرده أنّ الصحابة رضي الله عنهم لمّا فتحو البلدان والأمصار قبلوا إيمان العَجَم والأعراب والعوام وإن كان تحت السيف أو تبعا لكبير منهم أسلم، ولم يأمروا أحدا منهم بترديد نظره ولا سألوه عن دليل تصديقه، ولا أرجؤوا أمره حتى يَنْظُر، بل لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم لأحد لا أقبل إسلامك حتى أعلم أنّك نظرت واستدللت، قال ابن حزم:"فإذا لم يقل عليه الصلاة والسلام ذلك فالقول به واعتقاده إفك وضلال، وكذلك أجمع جميع الصحابة رضي الله عنهم على الدعاء إلى الإسلام وقبوله من كل أحد دون ذكر الاستدلال، ثمّ هكذا جيلا فجيلا حتى حدث من لا وزن له"(7). ولأنّ الاستدلال والنظر ليس هو المقصود في نفسه، وإنّما هو طريق إلى حصول العلم حتى يصير بحيث لا يتردد، فمن حصل له هذا الاعتقاد الذي لا شك فيه من غير دلالة، فقد صار مؤمنا وزال عنه كلفة طلب الأدلة، ولو كان النظر في معرفة الله واجبا لأدى إلى الدور، لأنّ وجوب النظر المأمور به متوقف على معرفة الله، ومعرفة الله متوقفة على النظر، ومن أنعم الله عليه بالاعتقاد الصافي من الشبه والشكوك فقد أنعم الله عليه بكلّ أنواع النعم وأجلها، حتى لم يكله إلى النظر والاستدلال لاسيما العوام، فإنّ كثيرا منهم تجد الإيمان في صدره كالجبال الراسيات أكثر ممّن شاهد ذلك بالأدلة، ومن كان هذا وصفه كان مقلدا في الدليل. وقد جاء في شرح العقيد الطحاوية قوله:" ولهذا كان الصحيح أنّ أول واجب يجب على المكلّف شهادة أن لا إله إلا الله، لا النظر ولا القصد إلى النظر ولا الشك، كما هي أقوال أرباب الكلام المذموم، بل أئمة السلف كلّهم متفقون على أنّ أول ما يؤمر به العبد الشهادتان، ومتفقون على أنّ من فعل ذلك قبل البلوغ لم يؤمر بتجديد ذلك عقيب بلوغه، بل يؤمر بالطهارة والصلاة إذا بلغ أو ميز عند من يرى ذلك، ولم يوجب أحد منهم على وليه أنّه يخاطبه حينئذ بتجديد الشهادتين، وإن كان الاقرار بالشهادتين واجبا باتفاق المسلمين ووجوبه يسبق وجوب الصلاة، لكن هو أدى هذا الواجب قبل ذلك"(8) .
أمّا ما ورد في سؤالكم من تبرير للقسمة الثنائية بين الأصول والفروع ممّا ذكرتم من وجوه التفريق بين القطع والظنّ والعلم والعمل والشرع فإنّه لا يشهد على هذا التقسيم دليل من كتاب ولا سنة ولا نقل عن أحد السلف وأئمة الفتوى والدين، فإن كان دليل القسمة هو ادعاء القطعية في مسائل الأصول دون الفروع فهو فرق يظهر بطلانه ممّا هو معلوم من المسائل الفرعية العملية التي عليها أدلة قاطعة بالإجماع كتحريم المحرمات ووجوب الواجبات الظاهرة وهي المسائل الفقهية المعلومة من الدين بالضرورة وغيرها، ومع وجود قطعية الدليل عليها لم يحكم بكفر من أوَّلها أو أنكرها بجهل حتى تقام عليه الحجة وتزال عنه الشبهة، كما هو حال خطأ من أكل بعد طلوع الفجر متأولا أو جاهلا في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا شك أنّ خطأه عليه دليل قطعي ومع ذلك لم يصدر منه صلى الله عليه وآله وسلم إلاّ البيان دون تأثيم فضلا عن التكفير وكذلك الطائفة التي استحلت شرب الخمر على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولم يكفرهم الصحابة رضي الله عنهم بل بينوا لهم الحكم فتابوا ورجعوا إلى الحق.
هذا والقطع والظن من الأمور النسبية فكون المسألة قطعية أو ظنية أمر إضافي بحسب حال المعتقدين وليس هو صفة ملازمة للقول المتنازع فيه، فالقطع والظن يكون بحسب ما وصل إلى الإنسان من الأدلة وبحسب قدرته على الاستدلال، إذ العبد قد يقطع بأشياء علمها بالضرورة أو بالنقل المعلوم صدقه عنه، وغيره لا يعرف ذلك لا قطعا ولا ظنا، وقد يحصل القطع لإنسان ولا يحصل لغيره سوى الظنّ على ما حققه ابن تيمية(9) وابن القيم(10) رحمهما الله تعالى.
وأما تبرير القسمة بأنّ مسائل الأصول يطلب فيها العلم والاعتقاد دون مسائل الفروع المطلوب فيها العمل ففساد هذا الفرق يظهر جليا من ناحية كون الحكم الشرعي يجب اعتقاده، إذ يجب اعتقاد وجوب الواجبات وحرمة المحرمات واستحباب المستحبات وكراهة المكروهات وإباحة المباحات ومن جهة ثانية أنّ من أنكر حكما شرعيا معلوما من الدين بالضرورة فهو كافر كفرا مخرجا من الملة كوجوب الصلاة المفروضة والزكاة وصوم رمضان وتحريم الزنا والقتل وغيرها من الأحكام فدلّ ذلك على أنّ المسائل التي يطلب فيها العمل يطلب فيها أيضا العلم والاعتقاد، وبالمقابل فإنّ من مسائل الأصول ما لا يترتب عليها تأثيم ولا تفسيق ولا تكفير كما تقدم من اختلاف الصحابة وتنازعهم في بعض مسائل الأصول. وعليه فإذا تقرر أن الخطأ في المسائل العملية الفرعية التي يطلب فيها العلم والعمل يكون فيها المخطئ معذورا فإنّ الخطأ في مسائل الأصول التي فيها علم بلا عمل أولى أن يكون المخطئ معذورا فيها.
وأمّا من جعل المسائل العملية هي المعلومة بالشرع والمسائل العلمية المعلومة بالعقل المستقل بدركها فهو تفريق غير ناهض، ذلك لأنّ صفة الكفر والفسق والإيمان والإسلام وغيرها من مسائل الأصول إذا اقترنت بذوات فلا تستحق هذه الصفات إلاّ بوصف الله ورسوله فهي صفات ثابتة بالشرع أي أحكام شرعية لم يستقل العقل بدركها.
أمّا مثال ما استقل العقل بدركه فكالطبيعيات والتجريبيات ومسائل الهندسة والحساب وغيرها، ومنه تدرك أنّ كلا من مسائل الأصول والفروع ثابتة بالشرع وليست الأصول من المسائل العقلية التي يكفر أو يفسق في نفسها إذ يلزم القول بذلك تكفير المخطئ في مسائل الطب والهندسة والحساب وغيرها من المسائل العقلية ؟
هذا، وفي الأخير ينبغي أن تعلم أنّ ما تمسك به المفرقون من المتكلمين وممّن أحدثوه قبلهم بين مسائل الأصول والفروع التي يسمون الأولى يقينية والثانية ظنية غاية في السقوط لا يشهد لهم دليل من الشرع وما استدلوا به لا يقوى على النهوض بل إنّ الآثار المترتبة على هذا التفريق مخالفة للكتاب والسنة والإجماع القديم.
والعلم عند الله تعالى وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصل اللهم على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في:6ذي القعدة1420ه
الموافق ل :12فبراير2000م
__________
1- البحر المحيط للزركشي(6/239).
2- الملل والنحل للشرهستاني(1/202).
3- أخرجه ابن ماجه في الطلاق(2045)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وصححه الألباني في الإرواء(1/123).
4- انظر زاد المسير لابن الجوزي(7/50).
5- انظر فتح القدير للشوكاني(3/285،222،19).
6- شرح تنقيح الفصول للقرافي(430).
7- الفصل لابن حزم(5/244).
8- شرح العقيدة الطحاوية لأبي العز الحنفي(78).
9- انظر منهاج السنة لابن تيمية(3/22)، مجموع الفتاوى لابن تيمية(9/157،156)(19/211).
10- مختصر الصواعق:(501).(17/11)
الفتوى رقم: 346
مسائل الأمر
السؤال: بناء على الفوائد التي تستغرقها مسائلكم الأصولية منها والفقهية ولعظيم أثرها نوجه إليكم هذه المسألة التي طالت من غير طائل بين العلماء لترشدونا إلى ما هو صواب, والله يجزيكم خيرا.
- هل الأمر بالشيء هو أمر بلوازمه ومقدماته، ولا يخفى أنّ مقدمة الأمر لا تخلو أن تكون شرطا أو سبيا ويكون ذلك بطريق اللزوم العقلي ؟
- أم أنّ إثبات شرطية اللّوازم أو سببيتها لا تتمّ إلاّ بدليل مستقلّ دال على الشرطية أو السبيبة؟
- وإطلاق القول "بالأمر بالشيء أمر بلوازمه" ألا يؤدي هذا إلى إثبات ما لا دليل عليه؟
- إنّ القول بفورية فعل المأمور على سبيل الأحوط والأولى ألا يتنافى ووضع اللغة إذ السيّد لو أمر عبده فلم يمتثل فعاقبه لم يكن له عذر بأنّ الأمر على التراخي؟
الجواب: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
"فالأمر بالشيء أمر بلوازمه"، ولوازم الأمر بالشيء الوسائل والمقدمات المحققة له والطرق الميسرة لوقوعه, والأمور التي تتوقف الأحكام عليها من شروط ولوازم ومتمّمات, ومن بين وسائله ولوازمه ومتمّماته انتفاء المانع والأضداد, ومثاله قوله تعالى: ?اقرأ وربك الأكرم. الذي علّم بالقلم. علّم الإنسان ما لم يعلم? [العلق3-4-5].
قال ابن تيمية رحمه الله:" فخصّ التعليم للإنسان بعد التعليم بالقلم، وذكر القلم لأنّ التعليم بالقلم هو الخط، وهو مستلزم لتعليم اللفظ، فإنّ الخط يطابقه، وتعليم اللفظ هو البيان، وهو مستلزم لتعليم العلم، لأنّ العبارة تطابق المعنى, فصار تعليمه بالقلم مستلزما للمراتب الثلاث: اللّفظي والعلمي والرسمي بخلاف ما لو أطلق التعليم أو ذكر تعليم العلم فقط لم يكن مستوعبا للمراتب" ولابن القيم كلام نحو هذا(1).
والأمر بالشيء مقصود به في الأصل, ولوازمه مأمور بها بالتبع, وتوابع الشيء لها أحكام المقاصد، لأنّ وسيلة المقصود تابعة للمقصود, وكلاهما مقصود، غير أنّ الأول مقصود قصد الغايات يذم ويعاقب على تركه, والثاني مقصود قصد الوسائل وإن اتّصف باللزوم فلا يعاقب على تركه, لأنّ العقوبة على الترك إنّما تترتب على ترك المقصود بالأمر على ترك لا على ترك اللوازم وفعل الأضداد, وكذلك النّهى فإنّ لوازم النّهي نهي عن الطرق والوسائل المؤدية إليه, والذرائع الميسرة لوقوعه, والنّهي فرع عن الأمر, لأنّ الأمر هو طلب الفعل، والطلب قد يكون للفعل أو للترك والترك على الصحيح فعل, غاية ما في الأمر أنّ النّهي خص باسم خاص.
وعليه فإنّ الأمر بالشيء يستلزم جميع ما يتوقف عليه فعل المأمور به عند جمهور الأصوليين، لأنّ لوازم الأمر لو لم تكن واجبة لجاز للمكلّف تركها, ولو جاز تركها لساغ له ترك الواجب، ولو جاز له ترك الواجب لم يكن واجبا, ومثاله ما لو أمر السيّد عبده بأداء عمل فوق السطح فإنّ العبد مأمور بالصعود الذي هو سبب، ونَصْبِ السُّلَّم الذي هو شرط، والأمر المطلق بالصعود على السطح يوجب نصب السلم والصعود عليه، بمعنى أنّ الواجب لا يأتي إلاّ بالشرط والسبب فيكون كلّ واحد منهما واجبا عند الجمهور، وسواء كان السبب شرعيا أو عقليا أو عاديا(2)، وتعرف المسألة "بمقدمة الواجب" وهي المتمثلة في قاعدة: ما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب، ذلك لأنّ الذي يتوقف عليه إيقاع الواجب كالسعي إلى الجمعة والطهارة للصلاة فهي مقدمة الواجب واجبة قصدا, بالنص وبالقاعدة السابقة.
إفراز المال لإخراج الزكاة واجب بالقاعدة السالفة البيان وليس بواجب قصدا, بخلاف ما لا يتمّ الوجوب إلاّ به فهو غير واجب لتوقف عليه وجوب الواجب, فوجوب الحج لا يتمّ إلاّ بالاستطاعة، ووجوب الزكاة لا يتمّ إلاّ بملك النصاب،
ولا يجب على المكلّف تحصيل الاستطاعة ولا ملك النصاب مع أنّهما من لوازم الحج والزكاة المأمور بهما, لأنّ ما لا يتمّ الوجوب إلا به يتوقف عليه وجوب الواجب .
فإن فهم هذا فلا يشترط للآمر بالفعل قصد طلب لوازمه، وإن علم أنّه يلزم وجودها مع فعل المأمور, ومن هذا يتضح ثبوت قاعدة: الأمر بالشيء أمر بلوازمه بطريق اللزوم العقلي لا بطريق قصد الآمر, ولا يُقال إنّ إطلاق القول بالأمر بالشيء أمر بلوازمه يؤدي إلى إثبات ما لا دليل عليه، لأنّ الدليل العقلي معتبر عند أهل الشرع، إذ العقل شرط في معرفة العلم وسلامته شرط في التكليف, والعقل الصريح لا يخالف النقل الصحيح أبدا وهو موافق له, بل هو المُدرِك لحجة الله على خلقه, والشرع قد دلّ على الأدلة العقلية وبيّنها ونبّه عليها كما قرر ابن تيمية وابن القيم في الصواعق(3)، ولهذا لم يرد في كلام الأولين من سلف هذه الأمّة ما يدلّ على معارضة العقل والنقل فضلا عن القول بوجوب تقديم العقل على النقل.
ولا يتنافى في القول بفورية المأمور به على سبيل الاحتياط مع وضع اللّغة, لأنّ مضمون الاحتياط هو السلامة من الخطر والجزم ببراءة الذمّة ولا يكون ذلك إلاّ بالمبادرة إلى الفعل وفورية العمل به لذلك كان أقرب لتحقيق مقتضى الأمر الواجب, وعند أهل التحقيق يرون أنّ الأمر المطلق لا يقتضي فورا و لا تراخيا لتقيده بالفورية أحيانا، كما لو قال السيّد لعبده:" سافر الآن" وبالتراخي أحيانا أخرى كما لو قال:"سافر رأس الشهر" فإذا أمره بأمر مطلق خال من تقييد بفور أو تراخ فيكون محتملا للأمرين معاً، وما كان محتملا لهما فلا يكون مقتضيا لواحد منهما بعينه, لذلك كان الاحتياط في المبادرة إلى الفعل أسلم من الخطر وأقطع لبراءة الذمّة، الأمر الذي يتوافق ووضع اللغة على الفورية والمبادرة، لأنّ السيّد لو أمر عبده فلم يمتثل فعاقبه لم يكن له أن يعتذر بأنّ الأمر على التراخي فالأحوط له السلامة من الخطر بالمبادرة التي تشهد لها ظواهر النصوص كقوله تعالى: ?فاستبقوا الخيرات? [البقرة148.المائدة48]وقوله عز وجلّ: ?وسارعوا إلى مغفرة من ربّكم? [آل عمران133] .
والله أعلم وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين وسلم تسليما
الجزائر: 13 ربيع الثاني 1418ه
الموافق ل : 17 أوت 1997م
__________
1- انظر مفتاح دار السعادة: 243/1.
2- انظر: التمهيد للكلواذاني:322/1، شرح تنقيح الفصول للقرافي:161، الإبهاج للسبكي وابنه:110/1، مفتاح الوصول للتلمساني:404، التمهيد للإسنوي:83، حاشية البناني على جمع الجوامع:195/1.
3- انظر: درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية:28/1-78، مجموع الفتاوى لابن تيمية:137/13، الصواعق المرسلة:459/2.(17/12)
الفتوى رقم: 347
في شرطية معرفة الخلاف للتبليغ
السؤال: هل معرفة حكم مسألة ما بأدلتها من خلال قول عالم واحد كاف لتبليغها للناس؟ أم لابد من معرفة بقية أقوال أهل العلم؟ وإذا كان معرفة الخلاف في المسائل الشرعية ليس شرطا في التبليغ فما مدى صحة ما ينسب لشيخ الإسلام:" لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر من لم يعرف الخلاف"؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فمعرفة قولٍ بدليله في مسألة أو جزء من موضوع مع عدم الاطلاع على الأقوال الأخرى وأدلتها في ذات المسألة، وتحصيلها عن طريق عالم، فذاك اتباع لمجتهد لا استنباط فيه ولا اجتهاد، فمثل هذا لا يخوَّل له أمر الافتاء وإلزامه للغير، وإنكار على الغير المسائل الاجتهادية، وإنما يسوغ له نقل فتوى لذلك العالم المأخوذ عنه إلى الغير وتبليغ الناس بها، وفرق ظاهر بين العارف باستنباط بعض مسائل الأحكام إذا توفرت فيه شروط الاجتهاد، وبين ناقل قول عالم في مسألة بأدلته فيها.
فالأول هو المعني عند الأصوليين بالمجتهد المتجزئ، ومذهب الأكثرين أنَّ من اجتمعت فيه شروط الاجتهاد من معرفة ما يتصل بموضوع الاجتهاد ومقاصد الشريعة وغيرها، وتكاملت شروطه في مسألة من المسائل، أو في موضوع من الموضوعات، مع الاطلاع على جميع الأقوال فيها مقرونة بأدلتها، وبذل جهده في معرفة الصواب، وعرف الحق بدليله، لزمه العمل بما انتهى إليه اجتهاده، وعليه أن يبلغه ويفتي به فحكمه في ذلك حكم المجتهد المطلق، ولو جهل ما لا تعلُّق له بالمسألة المجتهد فيها من بقية المسائل الفقهية، وهو الصحيح، لأنه ليس من شرط المفتي أن يكون عالمًا بجميع أحكام المسائل ومداركها، فلو لم يتجزأ الاجتهاد في حقه للزم علمه بأحكام المسائل وبأدلتها فاللازم باطل والملزوم مثله، وإذا فهم هذا المعنى فينتفي التعارض مع ما نسبتموه في سؤالكم عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.
الجزائر في: 25 صفر 1427ه
الموافق لـ: 25 مارس 2006م.(17/13)
الفتوى رقم: 348
في بيان قاعدة:" حكاية الحال إذا تطرق إليها الاحتمال"
السؤال: نرجو من شيخنا أبي عبد المعز -حفظه الله- أن يبين لنا ضابط قاعدة:" حكاية الحال إذا تطرق إليها الاحتمال" ؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فهذه القاعدة مروية عن الإمام الشافعي -رحمه الله-:"حكاية الحال إذا تطرَّق إليها الاحتمال كساها ثوب الإجمال، وسقط بها الاستدلال"، ونقل عنه -رحمه الله- عبارة أخرى مخالفة للأولى وهي:" ترك الاستفصال في حكاية الحال، مع قيام الاحتمال يُنزَّل منزلة العموم في المقال، ويحسن به الاستدلال"، والمراد بهذه القاعدة الثانية: أنَّ الجواب غير المستقل لا يتبع السؤال في خصوصه، إذ لو اختصَّ به لما احتيج إلى خصوصه.
وقد أشكل ذلك على بعض العلماء وتبيانت أجوبتهم، فحمل بعضهم العبارة الأولى على الفعل لأنه لا عموم له، والثانية على القول الذي يحال عليه العموم، وهو اختيار البُلقيني وابن دقيق والسبكي، وقال آخرون أنه يُحمل على الأولى إن كان الاحتمال قريبًا فيسقط به الاستدلال، والعبارة الثانية إن كان الاحتمال بعيدًا فيعمل بعمومه.
والاحتمال إنَّما يكون قريبًا إن دلَّ عليه دليل غيره يقويه ويكسوه ثوب الإجمال، وشأن الإجمال التعطيل، ومثاله قصة الرجل الذي كان يتخطَّى الرِّقاب والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب، فقال له:" اجْلِسْ فَقَدْ آذَيْتَ وَآنَيْتَ"(1) فقد استدلَّ به بعضهم على عدم وجوب تحية المسجد، إذ لو كانت واجبة لما أمره النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يجلس، بل أن يصلي ركعتين، فهذا دليل طرأ عليه احتمال صلاته قبل تخطي الرقاب ثمَّ أمره بالجلوس، ويقوي هذا الاحتمال أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم -في قصة أخرى- رأى سليك الغطفاني- جلس فأمره أن يركع ركعتين، ثمَّ قال:" إذا دخل أحدكم المسجد والإمام يخطب يوم الجمعة فليركع ركعتين خفيفتين وليُجوِّز فيهما"(2)، فكان الاحتمال السابق قويًّا من جهة أنه قد صلى قبل تخطيه للرقاب الأمر الذي يجعل الدليل مكسوًّا بثوب الإجمال، والإجمال يسقط اعتباره، ولا يستدل به لتردده بين معنين، لا مزيَّةَ لأحد المعنين على الآخرما لم يرد دليل خارجي مبين لأحد المعنيين على نحو ما تقدَّم من قصته سليك الغطفاني رضي الله عنه.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.
الجزائر في: 24 صفر 1427ه
الموافق لـ: 24 مارس 2006م
__________
1- أخرجه ابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها (1169)، من حديث جابر رضي الله عنه، وأحمد (18143)، وابن خزيمة (1708)، والحاكم (1012)، والبيهقي (6097)، من حديث عبد الله بن بسر رضي الله عنه. وصححه الألباني في صحيح الجامع (714).
2- أخرجه مسلم في الجمعة (2061)، وابن خزيمة (1731)، وابن حبان (2549)، والدارقطني (1400)، والبيهقي (5902)، من حديث جابر رضي الله عنه(17/14)
الفتوى رقم: 389
في إفادة أفعال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للعموم
السؤال: نرجو منكم شيخنا حفظكم الله أن تبينوا لنا الراجح من أقوال أهل العلم في المسألة الأصولية التالية : هل أفعال النبي صلى الله عليه وسلم تفيد العموم أو ما يجري مجرى الأفعال (كالأحوال الخاصة)، لأنّ من العلماء من قال بعدم عمومه بدعوى أن العموم من عوارض الألفاظ، أو حكاية الصحابي فعلا ظاهره العموم، وتطبيق تلك القاعدة على الأحاديث الآتية:
- قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة للجار(1)
- جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر(2) (هل هو عام في سفر الطاعة والمعصية)
- نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن بيع الغرر(3)
- قضى بالشفعة فيما لم يقسم(4)
- صلى النبي عليه الصلاة والسلام داخل الكعبة(5) (هل هو عام في الفريضة والنافلة)
وبارك الله في علمكم وأطال في عمركم على الطاعة والخير والعلم وحفظكم من كل مكروه
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فأفعال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها عدة صور منها:
- كلُّ فعل تشريعي فعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم فالأصل فيه عدم خصوصيته به، ذلك لأنَّ المعلوم استقراءً من القرآن أنَّ الله يخاطب نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بخطاب خاص والمقصود منه العموم في الحكم، نحو قوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء? [الطلاق: 1]، وبيَّن فيه عموم المكلفين، وقال تعالى: ?يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ? إلى أن قال: ?قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ? [التحريم: 1- 2]، وقال تعالى: ?يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ...? ثم قال: ?إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً? [الأحزاب: 1-2]، وقال تعالى: ?فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً? ثم قال: ?مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ? [الروم: 31-30]، و ما ورد بعد الخطاب الخاص من التعميم في الآيات يستدل به على شموله لأمته، إلاَّ إذا دلَّ دليل على الاختصاص به، ولم يعد حالتئذ تشريعًا لغيره ويحرم فيه التأسي به.
- وأفعاله صلى الله عليه وآله وسلم المثبتة إن كان لها جهات فليست عامة في أقسامها لأنه يقع على صفة واحدة فإن عرف تعيّن وإلاَّ كان مجملا، والإجمال شأنه التوقف فيه والتعطيل حتى يرد الدليل المبين كقول الراوي :" صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد غيبوبة الشفق" فلا يحمل على الأحمر والأبيض تعميما، كما لا تعم صلاته صلى الله عليه وآله وسلم في الكعبة للفرض والنفل لأنه إخبار عن فعل معلوم، ووقع على صفة واحدة معلومة فلا معنى للعموم بالنسبة لأحوال الفعل.
أمَّا قول الصحابي مرفوعًا:" نهى عن بيع الغرر" وقوله مرفوعا:" قضى بالشفعة للجار"، فإنه يعم الغرر والجار مطلقا، لأنه ليس بحكاية للفعل الذي فعله، بل هو حكاية لصدور النهي منه عن بيع الغرر والحكم منه بثبوت الشفعة للجار، والنهي قول منه صلى الله عليه وآله وسلم، لأنَّ عبارة الصحابي يجب أن تكون مطابقة للمقول لمعرفته باللغة وعدالته، ووجوب تطابق الرواية للمسموع، فكان قول الصحابي: أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو نهى أو قضى أو حَكَم يقتضي العموم، ويؤيده إجماع الصحابة والتابعين على ذلك فقد احتجوا بها في عموم الصور التي وقعت في عصرهم، فمن ذلك قول ابن عمر رضي الله عنهما:" كُنَّا نُخَابِرُ وَلاَ نَرَى بِذَلِكَ بَأْساً حَتَّى سمعنا رَافِعَ بْن خَدِيجٍ يقول: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْهُ فَتَرَكْنَاهُ لِقَوْلِهِ"(6)، وعملوا عموم قول الصحابي:" نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن المزَابَنَةِ والمُحَاقَلَةِ"(7) و"أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِوَضْعِ الجوَائِحِ"(8) و"قَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِالشفْعَةِ لِلْجَارِ"، "وَفِيمَا لَمْ يُقْسَمْ"، واستدلوا بتلك الألفاظ على عموم الأشخاص الذي وقعوا في النهي والأمر والقضاء ومن شابههم لمن جاء بعدهم من جهة لفظ الصحابي ونصه دون نكير فكان إجماعًا.
- أمَّا قول الصحابي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفعل كذا، أو "كان يجمع بين صلاتين في السفر"، فهذا يفيد العموم، ولا يجري فيه الخلاف المتقدم لأنَّ لفظ "كان" إنما يؤتى به لحكاية الفعل والحادثة على وجه التكرار، وما تكرر أقوى وقعًا مما وقع مرة واحدة.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.
الجزائر في: 26 صفر 1427هـ
الموافق لـ: 26 مارس 2006م
__________
1- أخرجه النسائي: 7/321 من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما بلفظ:" قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالشفعة والجوار". وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي تحت رقم (4705). وأخرجه ابن أبي شيبة: 6/7(29035) من حديث علي وعبد الله رضي الله عنهما قالا:" قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالشفعة للجوار".
وإثبات الشفعة للجار ورد من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:« الجار أحق بشفعة جاره، ينتظر بها وإن كان غائبا، وإذ طريقهما واحد". أخرجه أبو داود: 3/787، والترمذي: 3/651، وابن ماجه:2/833، وأحمد: 3/303، والبيهقي في سننه: 6/106، والدارقطني في سننه:2/273، وابن عدي في "الكامل": 5/1941، والحديث صححه ابن الجوزي والألباني (انظر نصب الراية للزيلعي:4/174، إرواء الغليل للألباني:5/378).
2- أخرجه البخاري في تقصير الصلاة (1111)، ومسلم في صلاة المسافرين (1659)، وأبو داود في صلاة السفر (1220)، والنسائي في المواقيت (593)، وأحمد (13934)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
3- أخرجه مسلم في البيوع (3881)، وأبو داود في البيوع (3378)، والترمذي في البيوع (1275)، والنسائي في البيوع (4535)، وابن ماجه في التجارات (2278)، وأحمد (9119)، والدارمي (2609)، والدارقطني (2879)، والبيهقي (10720)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
4- أخرجه البخاري في البيوع (2214)، ومسلم في المساقاة (4213)، والنسائي في البيوع (4718)، وأحمد (15683)، والدارمي (2684)، والبيهقي (11887)، من حديث جابر رضي الله عنه.
5- أخرجه البخاري في الصلاة (505)، ومسلم في الحج (3294)، وأبو داود في المناسك (2025)، والنسائي في القبلة (757)، ومالك في الموطإ (901)، وأحمد (6069)، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
6- أخرجه النسائي في المزارعة (3933)، وابن ماجه في الرهون (2544)، وأحمد (4687)، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. وانظر طرقه في "إرواء الغليل" للألباني: (5/297)
7- أخرجه البخاري في البيوع (2186)، ومسلم في البيوع (4016)، ومالك في الموطإ (1317)، وأحمد (11314)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
8- أخرجه مسلم في المساقاة (4063)، وأبو داود في البيوع (3376)، والنسائي في البيوع (4546)، وأحمد (14692)، والدارقطني في سننه (2951)، من حديث جابر رضي الله عنه.(17/15)
الفتوى رقم: 454
في العمل بقضايا الأعيان
السؤال: متى يؤخذ بمسألة واقعة العين؟ وما هي المراجع التي بحَثتْها؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فاعلم أنَّ مسألة واقعة عين لم ترد في الدراسات الأصولية بهذه التسمية، وإنما هي مسألة أصولية مندرجة تحت أبواب مسائل العموم، وتعرف عند الأصوليين بـ:"الخطاب الخاص بواحد من الأمة هل يختص بالمخاطَب من جهة اللغة أم يشمل غيره من الأمة؟".
وفي تحرير محل النزاع في هذه المسألة إذا لم يصرح بالاختصاص بالمخاطَب، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم لأبي بُردة:" اذْبَحْهَا وَلَنْ تَجْزِئَ عَنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ "(1) فلاشكَّ في اختصاصه بالمخاطَب، وهو مبني على تخصيص العموم بعد التخصيص، وفائدته: نفي احتمال الشركة قطعًا للإلحاق بالقياس، وكذلك إذا لم يصرح بالعلة المعلقة على حكم التخصيص، فإذا وقع التصريح بالعلة التي من أجلها وقع الأمر بالشيء أو النهي عنه أو الإذن فيه، فإنه يعم بعموم العلة، وكذلك يعم المخاطب وغيره إذا ما قام الدليل على وجوب التعميم، واختلفوا فيما عدا ذلك أي أنَّ النزاع في نفس صيغة الخطاب الخاص هل تعم بمجردها أم لا تعم؟.
والصحيح من أقوال أهل العلم أنَّ الخطاب الخاص لا يتناول إلا المخاطب من حيث الصيغة اللغوية، أمَّا من حيث الدليل الخارجي فإنّه يتناول غيره أيضا، لأنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم مبعوث للجميع لقوله تعالى: ?وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ? [سبأ: 28]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« بُعِثْتُ إِلَى الأَحْمَرِ وَالأَسْوَدِ"(2)، وقد رجع الصحابة رضي الله عنهم إلى التمسك بقضايا الأعيان، كقضية ماعز، ودية الجنين، والمفوِّضة، والسكنى للمبتوتة، وما إلى ذلك من وقائع الأعيان الخاصة بالواحد أو بالجماعة المخصوصة، فقد ثبت عنهم رضي الله عنهم استدلالهم بها على ثبوت ذلك لسائر الأمة، فكان عمل الصحابة مع النصوص الشرعية القاضية بعموم الرسالة دليل على استواء الأمة في الأحكام الشرعية فيلحق غيره بالمخاطب به، وعليه فإنّ الحكم بالتعميم عند إطلاق الخطاب الخاص يشمل للمخاطب وغيره حتى يقوم دليل التخصيص، وإنما دلَّ ذلك بالدليل الخارجي، لا من جهة الصيغة اللغوية، والعلم عند الله تعالى.
أمَّا مصادر هذه المسألة فيمكن أن أرتبها على الوجه التالي:
العدة لأبي يعلى: 1/318، 331. البرهان للجويني: 1/370. الإحكام للآمدي: 2/263. البلبل للطوفي: 92. مختصر ابن الحاجب والعضد عليه: 2/123. البحر المحيط للزركشي: 3/189. فواتح الرحموت للأنصاري: 1/280. تيسير التحرير لبادا شاه: 1/252. جمع الجوامع لابن السبكي: 1/429. شرح الكوكب المنير للفتوحي: 3/223. إرشاد الفحول للشوكاني: 130.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 14 جمادى الأولى 1427ه
الموافق ل: 10 جوان 2006م
__________
1- أخرجه البخاري في الأضاحي (5545)، ومسلم في الأضاحي (5185)، وأبو داود في الضحايا (2803)، والنسائي في صلاة العيدين (1574)، وأحمد (19204)، والبيهقي (19583)، من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه.
2- أخرجه ابن حبان (6462)، وأحمد (14635)، والدارمي في سننه (2522)،من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وأخرجه الحميدي في مسنده (992)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" (1/525)، وأحمد شاكر في تحقيقه لمسند أحمد (4/261)، والألباني في الإرواء (1/316).(17/16)
الفتوى رقم: 457
في الاعتداد بحكم الحاكم في رفع الخلاف
السؤال: متى يرفع الحاكم الخلاف؟ وللفائدة، فقد بحث الإمام القرافي- رحمه الله- هذه المسألة في:" الفروق" (4/ 48-54) في الفرق (224)، فهل يمكن الإرشاد إلى من زاد فيها أكثر توسُّعا؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فلا أعلم خلافًا في الاعتداد بحكم الحاكم إذا ورد حكمه مرتبا على سبب صحيح موافق لحكم شرعي، نصًّا كان أو إجماعًا قطعيا، فحكمه نافذ قطعًا ظاهرًا وباطنًا. ويبقى الإجماع الظني والقياس الجلي موضع اجتهاد واختلاف -كما سيأتي-
أمَّا في المسائل المختلف فيها فإنَّ حكم الحاكم يرفع الخلاف، وهو مقيد بما لا ينقض فيه حكم الحاكم، أمَّا ما ينقض فيه فلا يرفع الخلاف، ومدار نقض الحكم على تبين الخطإ، والخطأ إمَّا أن يكون في السبب أو في الاجتهاد، فإن كان الحكم مرتَّبًا على سبب باطل كشهادة الزور فلا ينفَّذ حكمه، وأمَّا الخطأ في الاجتهاد فينقض وجوبًا بمخالفة نصٍّ صريح من كتاب أو سنة ولو كانت آحادًا، أو مخالفة إجماع قطعي، وينقض -أيضا- وفاقًا لمالك والشافعي بمخالفة القياس الجلي خلافا لأكثر الحنابلة، وزاد مالك أنه ينقض بمخالفة القواعد الشرعية.
وبناء على ما تقدَّم، فإنَّ حكم الحاكم يرفع الخلاف إذا لم ينتقض الحكم بالخطأ في السبب والاجتهاد ويكون حكمه نافذًا ظاهرًا وباطنًا على أرجح القولين خلافًا لمن يرى عدم نفاذه في حقِّ من لا يعتقده.
ويمكن الإفادة بمزيد من المصادر الأصولية المتناولة لهذه المسألة على الترتيب التالي:
- المستصفى للغزالي: 2/382. البرهان للجويني: 2/1328. المحصول للرازي: 2/3/91. الفروق للقرافي: 4/40. الإحكام للآمدي: 4/203. المنثور للزركشي: 1/305. شرح تنقيح الفصول للقرافي: 441. روضة الطالبين للنووي: 11/234. مختصر ابن الحاجب والعضد عليه: 2/300. تيسير التحرير لبادشاه: 2/234. أدب القضاء لابن أبي الدم: 164. إيضاح المسالك للونشريسي: 150. ترتيب الفروق واختصارها للبقوري: 2/296. فواتح الرحموت للأنصاري: 2/395. جمع الجوامع لابن السبكي: 2/391. شرح المنهج المنتخب إلى قواعد المذهب للمنجور: 147.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 15 جمادى الأولى 1427ه
الموافق ل: 11 جوان 2006م(17/17)
الفتوى رقم: 459
في الشذوذ في الفقه
السؤال: ما هو القول الشاذ في الفقه؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فحدُّ الشذوذ هو:" مخالفة الحق، فكلّ من خالف الصواب في مسألة ما فهو فيها شاذ"(1)، وهذا القول الذي رجَّحه ابن حزم بعد أن ذكر حدَّ الشذوذ عند العلماء وفنَّدها، ذلك لأنَّ مفارقة الواحد من العلماء سائرهم إمَّا أن يكون عن دليل وحجة أو لا، فإن كانت مخالفته مبنية عن أدلة الشرع، وحقق فيها الحق والصواب فما هو بشاذ، بل هو الجماعة وإن كان وحده، لأنَّ من كان وفق الحجة والبرهان من كتاب أو سنة، وقويت حجته وافق الحق وهو الأصل الذي قامت السماوات والأرض به لقوله تعالى: ?وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ? [الحجر: 85]، أما إذا كان خروجه عن الجماعة في صوابها وتعلق خروجه بمخالفة الحق الذي هو مع غيره، فهو شاذ عن الحق موافق للباطل الذي هو خروج عنه وشذوذ منه، لأنَّه ليس في الوجود إلاَّ حق وباطل، فإذا لم يجز أن يكون الحق شذوذا لزم أن يكون الشذوذ هو الباطل.
وعليه، فلا يسمى قول الأقل شاذًّا، ولا قول الواحد ما دام الحق قائما عنده مستمسكًا به، ولم يرد ما يبطله فهو الجماعة أو جملة أهل الحق، وقد أسلم أبو بكر وخديجة رضي الله عنهما فقط، فكانا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم هم الجماعة، وسائر الأرض أهل الشذوذ والفرقة، ومن جانب الصواب وخالف الحق فهو الشاذ ما دام الباطل قائما عنده مستمسكا به ولو كانوا جماعة أو جملة.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 13 جمادى الأولى 1427ه
الموافق ل: 9 جوان 2006م
__________
1- الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم: 5/863.(17/18)
الفتوى رقم: 460
في ضابط التعاون على الإثم
السؤال: ما هو الضابط في التعاون على الإثم؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فإنَّ قوله تعالى: ?وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ? [المائدة: 2] يشمل نهيه:
"كلَّ تعاون مع العبد لظلم ربه، أو لظلم غيره، أو لظلم نفسه"
ويمكن شرح هذا المعنى بما يلي:
فإعانة العبد على صرف عباداته أو بعضها إلى غير الله تعالى فهو من الشرك المنهي عنه، ويدخل في ظلم العبد لربه قوله تعالى: ?إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ? [لقمان: 13] فإعانة العبد على الشرك تعاون على الإثم والعدوان، وكذلك إعانة العبد على ظُلم غيرِه من عباد الله تعالى ومخلوقاته، وذلك بإعانته على أذيتهم والإضرار بهم في دمائهم وأبدانهم وأموالهم وأعراضهم لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ"(1)، هو تعاون على الإثم والعدوان -أيضا- كما أنَّ إعانته على ظلم نفسه بتلويثها بآثار القبائح والمنكرات والذنوب، أو بتدسيتها بأنواع الجرائم والسيئات والمعاصي، فإعانته على تعريض نفس من يتعاون معه لما يؤثر فيها من الخبث تعاون على الإثم والعدوان، فالأنواع الثلاثة للظلم المنهي عنها إذا حصل تعاون عليها كان تعاونا على الإثم والعدوان، وهو مشمول بالآية السابقة.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 13 جمادى الأولى 1427ه
الموافق ل: 9 جوان 2006م
__________
1- أخرجه مسلم في البر والصلة (6706)، وأبو داود في الأدب (4882)، والترمذي في البر والصلة (1927)، وابن ماجه في الفتن (4068)، وأحمد (7943)، والبيهقي (11830)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(17/19)
الفتوى رقم: 461
في ضابط تغيير خلق الله تعالى
السؤال: ما هو الضابط في تغيير خلق الله تعالى؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فيمكن أن نضبط مسألة التغيير لخلق الله تعالى على الوجه التالي:
"كل تغيير محدث طارئ على ما خلقه الله تعالى بزيادة أو نقص، سواء فيما يبقى أثره كالوشم، والفلج، أو يزول ببطء كالتنميص، أو فيما لا يبقى له أثر كحلق اللحية، فهو داخل في النهي عن تغيير خلق الله تعالى، ويستثنى ما ورد النص بجوازه كسنن الفطرة، أو ما تدفع به الأذية والضرر وتزال لحديث:" لاَ ضَرَرَ وَ لاَ ضِرَار"(1)".
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 13 جمادى الأولى 1427هـ
الموافق لـ: 09 جوان 2006م
__________
1- أخرجه ابن ماجه في الأحكام باب من بنى في حقه ما يضرّ بجاره (2431)، وأحمد (2921) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. قال النووي في الحديث رقم (32) من "الأربعين النووية":" وله طرق يَقْوى بعضُها ببَعض"، وقال ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (378) "وهو كما قال". والحديث صححه الألباني في الإرواء (3/408) رقم (896)، وفي غاية المرام رقم (68).(17/20)
الفتوى رقم: 462
في معنى قول الأصوليين: خرج قوله صلى الله عليه وسلم مخرج القضاء أو الفتوى
السؤال: يعبّر بعض الأصوليين بقولهم أنّ قول النبي صلى الله عليه وسلم خرج مخرج القضاء أو خرج مخرج الفتوى فهل يوجد فرق بينهما، أفتونا مأجورين ؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فمن الفروق بين حكم القاضي وفتوى المفتي، أنّ فتوى المفتي حكم عام يتعلق بالمستفتي وبغيره، بخلاف القاضي فإنّ حكمه جزئي خاص بشخص معيّن لا يتعدّاه إلى غيره، ولهذا جاء في عبارة الأصوليين إنّ الحكم منه صلى الله عليه وآله وسلم لا يعم والفتوى تعم، ومن جهة أخرى فإنّ فتوى المفتي ليست ملزِمة في الجملة بخلاف حكم القاضي فهو ملزم، ومن الفروق أيضًا أنه يجوز نقل فتوى المفتي إلى الغير للعمل بها وللمفتي أن يرشد المستفتي على عالم غيره ليفتيه، بخلاف حكم القاضي فلا يسع نقل حكمه للغير لتنفيذ حكمه عليه، وهذا الفرق مترتب على أوله، ومن جهة رابعة فإنّ فتوى المفتي شاملة لأبويه وزوجه وأولاده، بخلاف القاضي فلا ينفذ حكمه لمن يتهم فيه على مذهب أبي حنيفة ومالك.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليمًا.
الجزائر في 4 رمضان 1427ه
الموافق ل 27/09/2006م(17/21)
الفتوى رقم: 480
في عدم دخول السجايا والأخلاق ضمن الأحكام الشرعية
السؤال: عُرِّف علم أصول الفقه بأنّه:"معرفة القواعد التي يُعرف بها كيف تستفاد أحكام الأفعال من أدلة الأحكام"، فهل السجايا والأخلاق تدخل ضمن الأحكام الشرعية؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فالمراد بالأحكام الشرعية التي تقتضي عملاً أو فعلاً من أفعال المكلفين وهي: عمل القلب: كوجوب النية، وعمل اللسان: كالقراءة والذكر، وعمل الجوارح: كالعبادات البدنية والجهاد ويلزم من هذا القيد إخراج الأحكام الاعتقادية: كالعلم بوحدانية الله، وأنَّه يُرى في الآخرة، وأنَّ البعث حقٌّ، والاحتراز من الأحكام الأخلاقية: كالصدق والسخاء والوفاء، والأحكام النظرية: كالعلم بأنَّ القياس حجة، فهذه الأحكام لا تتعلق بكيفية العمل.
هذا، وتقييد الأحكام بصفة "الشرعية" لتخرج منها الأحكام العقلية، مثل: الكل أعظم من الجزء، والواحد نصف الاثنين، والأحكام اللغوية مثل: الفاعل مرفوع، والمفعول منصوب، والأحكام الحسية: كالنار محرقة، والماء بارد، والأحكام العادية: كسقوط المطر بعد الرعد.
وعليه، فالسجايا والأخلاق أحكام لكنها لا تتعلق بنوع عمل ولا بكيفية عمل.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 2 جمادى الثانية 1427ه
الموافق لـ: 27 جوان 2006م(17/22)
الفتوى رقم: 491
في الفرق بين معاني المصطلحات التالية: الاقتضاء، التضمن، الإفادة
السؤال: ما معنى المصطلحات المستعملة عند الأصوليين في كلمة واحدة: يقتضي ويتضمن ويفيد، أهي متباينة أم مترادفة؟ يرجى منكم التمثيل لذلك إن أمكن، وشكرا.
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فالمراد بالاقتضاء هو أن يتضمن الكلام إضمارًا ضروريًّا لابد من تقديره، لأنَّ الكلام لا يستقيم دونه إمَّا لتوقف الصدق عليه أو لتوقف الصحة عليه عقلاً أو شرعًا، والإفادة والدلالة هما نتيجة ما يتضمنه الكلام أو ما يقتضيه، فقوله تعالى:? وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ?[البقرة: 43]مثلاً، فإنَّ الآية تتضمن حكمًا ضروريًّا وهو وجوب الصلاة الذي دلت عليه صيغة الأمر، وصيغة " افعل" في ذاتها تتضمن أيضا حكم الوجوب عند الجمهور وهي تدل عليه بهذه الصيغة، ومن هنا كانت الإفادة في الصيغة الآمرة وفي الدليل التفصيلي الذي تولَّد منه الحكم بوجوب الصلاة بتلك الصيغة الدالة على الوجوب.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 13 جمادى الثانية 1427ه
الموافق لـ: 8 جويلية 2006م(17/23)
الفتوى رقم: 492
في إفادة صيغة " أي" للعموم والإطلاق
السؤال: هل صيغة "أيّ" تفيد العموم أم الإطلاق بحسب السياق نفيًا وإثباتًا؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فـ"أيُّ" من صيغ العموم وهي عامة فيما تضاف إليه من الأشخاص والأزمان والأمكنة والأحوال، لأنَّ " أيّ" تضاف للعاقل وغير العاقل، وفي العاقل فإنَّ ضميرها فاعلاً أو مفعولاً يعم نحو قوله: أيكم حفظ فهو مجاز، أو أيكم أحفظته فهو مجاز، غير أنَّ عمومها في الاستفهامية نحو قوله تعالى:? أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا?[النمل: 38]، والشرطية نحو قوله صلى الله عليه وآله وسلم:« أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ"(1) لا أعلم خلافًا في عمومها، ويختلفون في "أي" الموصولة فلا تفيد عمومًا عند بعض أهل الأصول نحو: يؤسفني أيهم هو عابث، أمَّا " أي" الدالة على الصفة مثل: مررت برجل أيّ رجل، أو الحال: مررت بزيد أيّ زيد فهما لا يفيدان العموم.
وفي مثل هذه الصيغ قد يكون العموم فيها شموليًّا وهو العام المستغرق لجميع أفراده، كما في الحديث السابق:"أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ زَوْجِهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ" أو حديث:" أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَزَعَتْ ثِيَابَهَا فِي غَيْرِ بَيْتِ أُمَّهَاتِهَا فَقَدْ هَتَكَتْ السِّتْرَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ رَبِّهَا"(2) كما يكون عمومه بدليًا وهو المطلق وهو ما تناول فردًا واحدًا من الأفراد لا بعينه، أي مبهم باعتبار حقيقة شاملة لجنسه نحو قوله تعالى: ? أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا?[النمل: 38]، فصيغة:" أي" الاستفهامية تفيد العموم لكنه عموم بدلي حيث يتحقق بأحد أفراده من غير تعيين، ومثل أن تقول في الاستفهام: أيَّ وقت تخرج؟ فهو عام في الوقت لكن الخروج مقيد بأحد الأفراد على وجه الشيوع وغير معين، فكان عمومه عمومًا بدليًّا لا شموليًّا كما في المثال السابق.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في:14 جمادى الثانية 1427ه
الموافق لـ: 9 جويلية 2006م
__________
1- أخرجه أبو داود في النكاح (2083)، والترمذي في النكاح (1102)، والنسائي في النكاح (5394)، وابن حبان (4074)، وأحمد (24417)، والدارمي (1284)، والحاكم (2706)، والحميدي (228)، وأبو يعلى (4682)، والبيهقي (13376)، من حديث عائشة رضي الله عنه. وصححه ابن الملقن في "البدر المنير" (7/533)، وابن حجر في "فتح الباري"(9/194)، وفي "موافقة الخبر الخبر"(2/205)، والألباني في "إرواء الغليل" (6/243). وفي "صحيح الجامع" (2709).
2- أخرجه أبو داود في كتاب الحمام ( 4010)، والترمذي في الأدب ( 2803)، وابن ماجه في الأدب( 3750)، والدارمي في الاستئذان( 2553)، والحاكم في الأدب( 7780)، وأحمد( 23620) من حديث عائشة رضي الله عنها. وصححه الألباني في الثمر المستطاب (1/31)، وفي آداب الزفاف(60).(17/24)
الفتوى رقم: 493
في إفادة نفي العموم: مطلق النفي، والنفي المطلق
السؤال: قاعدة:" نفي الإطلاق يقتضي عمومَ النفي، التي تلتقي مع قاعدة:" النكرة في سياق النفي تفيد العموم والاستغراق" فهل يصح العكس؟ أي هل نفي العموم يفيد مطلقَ النفي لا النفيَ المطلق؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فالمعهود أنَّ المطلق والمقيد إنما يكون في باب الأوامر والإثبات لا في جانب النفي والنهي على الصحيح من أقوال الأصوليين، فلو قال: لا تعتق مكاتبًا، وقال: لا تعتق مكاتبا كافرًا، كان الأول مفيدًا للعموم مطلقًا، والثاني أفاد مفهومُه جوازَ عتقِ المكاتب المسلم، ولما كان العمل بمدلوليهما حتمًا، فإنَّ الحكم ينتهي بعدم العمل بهما عند إرادة الجمع بينهما بأن لا يَعْتِق مكاتبًا أصلاًَ، لأنَّ المفهوم عورض بالعموم، والعموم معدود من المنطوق، وهو مقدم على المفهوم.
فالنفي- إذًا- إن دخل على نكرة اقتضى عمومًا وكذلك النهي، فحكم النكرة الواقعة في سياق النهي حكم النكرة الواقعة في سياق النفي، وما خرج عن ذلك من الصور فهو لِنَقل العرفِ له عن الوضع اللغوي.
أمَّا نفي العموم فإنه قد يقتضي مطلقَ النفي كما يفيد النفيَ المطلق، فما يدخله عمومُ التخصيص بالمتصل أو المنفصل فنفيُ عمومه يفيد مطلقَ النفي بعد التخصيص كقولنا: لا إله إلاَّ الله، ففيه نفيٌ لجميع الآلهة سوى الله تعالى فأفادت النكرة في سياق النفي عمومًا غير أنه خُصص بالاستثناء فأفاد مطلق النفي لا النفي المطلق، بينما العموم المحفوظ وهو ما لا يدخله تخصيص فإنَّ النكرة في سياق النفي تفيد النفي المطلق لا مطلق النفي، كمثلِ قوله تعالى:} لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ {[سبأ: 3]، وقوله تعالى:} لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً{[البقرة: 123].
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في:14 جمادى الثانية 1427ه
الموافق لـ: 9 جويلية 2006م(17/25)
الفتوى رقم: 514
في إفادة "كان" للتكرار
السؤال: قرأت فتواكم في خصوص أفعال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنها إذا كانت بصيغة " كان يفعل كذا" تفيد العموم، ثم اطلعت على كلام في كتاب " أفعال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم" حيث قال فيه ما يلي:" وقد ادعى الكثيرون أنّ "كان يفعل" تدل على العموم في أقسام الفعل وأوجهه ...." إلى أن قال:" وقول من ادعى العموم مردود بما قال ابن قاسم في شرح الورقات: يمكن أن يجاب بأن "كان يفعل" وإن أفادت التكرار فإن كلّ مرة من مرات التكرار لا عموم فيه لأنّها إنّما تقع في أحد السفرين فالمجموع لا عموم فيه إذ المركب ممّا لا عموم فيه، لا عموم فيه واحتمال أنّ بعض المرات في أحد السفرين" يشير إلى حديث:" كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع الصلاتين في السفر"(1) وبعضهم في الآخر غير معلوم ولا ظاهر فصار اللفظ مجملا بالنسبة للسفر القصير كما أشار إليه الشيخ أبو إسحاق" فأشكل عليَّ هذا الكلام مع كلامكم فأرجو التوضيح وكشف اللبس؟ وبارك الله فيكم
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فلا تعارض في النتيجة بين ما تقدم لي ذكره من أنَّ " كان" تفيد التكرار وما نقلوه ضمن السؤال، حيث إنَّ شارح الورقات لا ينفي التكرار ولكنه ينفي العموم في ذات المرة والمرات سواء على جهة الانفراد أو التركيب، ومذهب الجمهور عدم إفادتها التكرار لا عرفًا ولا لغة وبهذا قال الفخر الرازي ورجحه ابن السبكي(2)
خلافًا لمن يرى أنَّ حكاية الراوي لفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ "كان" يدلُّ على التكرار لا لفظ الفعل الذي بعدها وبهذا قال ابن الحاجب والإسنوي والفتوحي والشوكاني وغيرهم(3) إذ يستفاد من قولهم " كان حاتم الطائي يكرم الضيفان" على تكرار الإكرام والتردد عليه أكثر من مرة.
وإنما عنيت بحكاية الراوي لفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ "كان" العموم بمعنى التكرار لا بمعنى إخبار عن دوام الفعل والمواظبة عليه، ذلك لأنَّه إنما يؤتى به لحكاية الفعل أو الحادثة على وجه التكرار بغض النظر إن كان مستفادًا من ذات اللفظ أو من دليل خارجي، وقد أوردت ذلك لبيان نهيه صلى الله عليه وآله وسلم وقضائه الذي ليس حكاية الفعل الذي فعله وإنما هو حكاية لصدور النهي والقضاء من أقواله فكان اقتضاؤه للعموم أولى وهذا بخلاف مطلق الفعل غير مقرون بحكاية الراوي لفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ "كان".
وعليه، ولو سلم أنه لا يقتضي الفعل بلفظ "كان" سوى مطلق الوقوع لغة أي أنه يفيد إلاَّ الماهية من حيث ذاتها إلاَّ أنَّه يقتضي التكرار عرفا أو بدليل خارجي على أقل الأحوال خلافا للفخر الرازي ومن تبعه، وقد ذكر القرافي أنَّ "كان" أصلها أن تكون في اللغة كسائر الأفعال لا تدل إلاَّ على مطلق وقوع الفعل في الزمن الماضي وهو أعم من كونه تكرَّر بعد ذلك ولم يتكرَّر، غير أنَّ العادة جرت بأنَّ استعمالها في الفعل لا يحسن إلاَّ إذا كان متكرِّرًا (4).
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في:22 رجب 1427ه
الموافق لـ: 17 أوت 2006م
__________
1- أخرجه البخاري في تقصير الصلاة (1060)، ومسلم في صلاة المسافرين (1625)، وابن حبان (1456)، وأبو داود في صلاة السفر (1218)، والنسائي في المواقيت (586)، وأحمد (13172)، والبيهقي (5624)، من حديث أنس ابن مالك رضي الله عنه.
2- "المحصول للرازي": 1/2/648، "جمع الجوامع" لابن السبكي: 1/425.
3- "المسودة" لآل تيمية: 115، "العضد": 2/118، "زوائد الأصول" للإسنوي: 256، "القواعد والفوائد الأصولية" للبعلي: 237، "إرشاد الفحول" للشوكاني: 125.
4- "شرح تنقيح الفصول" للقرافي: 189.(17/26)
الفتوى رقم: 548
في محل المجاز من القسمة اللفظية
السؤال: قسَّم العلماءُ الحقيقةَ إلى ثلاثة أقسامٍ: (شرعيةٍ، لغويةٍ، عرفيةٍ) فهل -على رأيهم- أنّه لا مجازَ؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فأهل العلم يقسِّمون اللفظَ إلى: لغويٍّ وشرعيٍّ وعُرفيٍّ ومجازيٍّ، وبرهان ذلك: أنَّ اللفظ إذا استعمل فيما وضع له كان حقيقةً لغويةً بالوضع أي بالوضع اللغوي، وإذا استعمله أهل العرف العام أو الخاص كان حقيقة عرفية، وإذا استعمله الشرعُ فيما شَرَعَهُ بِهِ سُمِّيَ حقيقةًَ شرعيةً، وإذا كان اللفظ استُعمل في غير ما وضع له على وجه يصح كان مجازًا، فالفرق بين الحقائق الثلاث أنَّها موضوعة بحسب الاستعمال، فإن استعملها العرف كانت حقيقة عرفية وإلاَّ فهي حقيقة شرعية أو لغوية بخلاف المجاز فهو: اللّفظ المستعمل في غير ما وضع له، فلو قال قائل:« الأسد »، فهو موضوع في الحقيقة اللغوية على الحيوان المفترس، وإذا قال قائل:« الصلاة »، فهي في اللغة: الدعاء لكنَّ الشرعَ استَعْمَلَها في الحقيقة المتمثلةِ في الأفعال والأقوال المبتدئة بالتكبير المختتمة بالتسليم، فإذا أُطلقت الصلاة فلا ينصرف الذهن إلاَّ للحقيقة الشرعية ما لم ترد قرينة صارفة إلى غيرها، كذلك إذا أطلق لفظ «الأسد » فلا ينصرف الذهن إلاَّ إلى الحيوان المفترس، ولا ينتقل إلى غيره إلاَّ بقرينة صارفة، فلو قال قائل:« رأيت أسدًا يرمي بالنبل، أو شاهرًا سيفه » لكانت قرائن دالة على عدم إرادة المعنى الحقيقي لوجود تلك القرائن فكان مجازًا، وكذلك اللفظ إذا استعمله على العرف العام «كالدابة » مثلاً، فإنها في اللغة تستعمل على كلِّ ما يَدِبُّ على الأرض لكن أهل العرف العام استعملوها لذوات القوائم الأربع، كذلك «الرفع » و«النصب » و«الجر » فلها معان في اللغة، لكن أهل العرف الخاص استعملوا الرفع للضم، والنصب للفتح، والجر للكسر، فإذًا ما استعمله أهل الوضع والشرع والعرف فهي حقائق وضعية أو شرعية أو عرفية وما استعمله في غير موضوعه الأصلي فهو مجاز وليس حقيقة، ولكل مجاز قرينة لأنه على خلاف الأصل.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 3 من ذي الحجة 1427ه
الموافق ل: 23 ديسمبر 2006م(17/27)
الفتوى رقم: 559
في اقتضاء الأمر المطلق المجرّد عن القرائن الوجوب
السؤال: إنَّ الأمر يقتضي الوجوب على قول جمهور العلماء فهل هذا يشمل صيغ الأمر الأربع مع القرائن الدالة على الأمر أم يُكتَفَى في ذلك بِصِيَغِ الأمر الأربع؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فللأمر صيغةٌ موضوعةٌ له لغةً، وتدلّ عليه حقيقة بدون قرينة باتفاق السلف وهو مذهب أهل السُّنَّة، وهي:« افْعَلْ » للحاضر، و«لِيَفْعَلْ » للغائب، كذلك النهي، وصيغته:« لاَ تَفْعَلْ » وللأمر صِيَغٌ أخرى: كاسمِ فِعْلِ الأمر مثل قوله تعالى: ?عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ? [المائدة: 105]، والمصدرِ النائبِ عن فِعْلِهِ كقوله تعالى: ?فَضَرْبَ الرِّقَابِ? [محمّد: 4].
وخُصِّصَتْ صِيغَةُ «افعل » بالذكر لكثرة استعمالها في الكلام، خلافًا لمعظم الأشاعرة الذين مَنَعوا وجودَ صيغةٍ للأمرِ في اللغة، وإنّما صيغة «افعل » مشتركة -عندهم- بين الأمر وغيره، ولا تُحْمَلُ على أحدها إلاّ بقرينة، بناءً على اعتقادهم بأنّ الكلام معنى قائم بالنفس مجرّدٌ عن الألفاظ والحروف. وهذا المعتقد مخالِفٌ لما جاء في الكتاب والسنّة وإجماع أهل اللسان واللغة وإجماع الفقهاء وسائر العقلاء فيما تعارفوا عليه.
فمن الكتاب قوله تعالى لزكريا: ?آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيًّا? [مريم: 10]، فلم يسمِّ الله إشارته إلى قومه كلامًا، وهذا ممَّا يُبطل القول بالكلام النفسي؛ لأنّه لم يتكلَّم بشيء من الألفاظ، ويقويه قوله صلى الله عليه وآله وسلم:« إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لأُمَّتِي عَمَّا وَسْوَسَتْ أَوْ حَدَّثَتْ بِهِ أَنفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ بِهِ أَوْ تَكَلَّمْ »(1)، فالحديث أفاد التفريق بين حديث النفس والكلام بالألفاظ والحروف فأضاف الأول إلى النفس، إذ الكلام في النفس يحتاج إلى تقييد، مثل قوله تعالى: ? وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا اللهُ بِمَا نَقُولُ? [المجادلة: 8]، أمّا الكلام بالألفاظ والحروف فهو الأصل المتبادر إلى الفهم فلا يحتاج إلى تقييد أو إضافة، وقد أجمع أهل اللغة على أنّ الكلام: اسم، وفعل، وحرف، كما أجمع الفقهاء على أنّ من حلف أن لا يتكلّم فحدّث نفسه بشيء دون أن ينطق بلسانه لم يَحْنَث، ولو نطق حنث، والمعلوم أنّ أهل العلم أجمعين يسمون الناطق متكلِّمًا ومَن عداه ساكتًا أو أخرس وعليه فلا اعتداد بمن خالف في ذلك.
وبه يتبيّن أنّ الأمرَ المطلقَ المجرّد عن القرائن يفيد الوجوب إلاّ إذا اقترنت به صوارف عنه إلى غيره.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيِّنا محمّد، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا.
مكة في: 21 ربيع الأول 1427ه
الموافق ل: 19 أفريل 2006م
__________
1- أخرجه البخاري في «الأيمان والنذور » باب إذا حنث ناسيًا في الأيمان (6171)، وابن ماجه في «الطلاق » باب من طلق في نفسه (2040)، وأحمد (7421)، وأبو يعلى في مسنده (6390)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(17/28)
الفتوى رقم: 629
في ضابط مجالات التعاون المشروع
السؤال:
أعملُ مهندسًا معماريًّا، وَأَوَدُّ أن أسأل عن حكم دراسة تصميم ومتابعة للمشاريع التالية: مديرية أو مصلحة للضرائب، بنك، صندوق التوفير والاحتياط، مسبح عام، صندوق يتعلق بالتأمينات، محكمة؟ وبالنسبة للمدارس أو الجامعات المسيَرة بنظام داخلي ما حكم تصميم الفضاءات التالية المخصّصة للبنات: مرقد، قاعة رياضة، مرش؟ أرجو دعم الجواب بالدليل وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فاعلم -وفّقك اللهُ- أنّ المذكوراتِ في السؤال إمّا أن ترجع إلى: ظُلم العبد لربه، ويأتي في طليعة ذلك الشركُ بالله، وبناءُ المحاكم غيرِ الشرعية التي لا يُقضى فيها بالتَّنْزيل من شرك الحاكمية، والتعاونُ عليها حرام لحرمة الشرك بالله، قال تعالى:( وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا ) [الكهف: 26]، وقال تعالى: ( إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ )[يوسف: 40]، وقال تعالى: ?إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ للهِ يَقُصُّ الحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الفَاصِلِينَ? [الأنعام: 57]، ونصوص كثيرة تصب في هذا المعنى، ويدخل في ذلك بناء القباب والأضرحة والمشاهد ونحوها فهي من شرك الألوهية والعبادة.
وإمّا أن ترجع إلى: ظلمِ غيره من عباد الله ومخلوقاته، وذلك بالإضرار بهم وأَكْلِ أموالهم أو التعرُّضِ لأعراضهم بالإذاية والقدح، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« كُلُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ »(1)، يتجلَّى هذا المعنى في المؤسّسات العُدوانيةِ التي تأكل أموالَ الناسِ بالباطل ظُلْمًا وعُدوانًا، كالمؤسّسات الضريبية وصناديقِ التوفير والاحتياط وسائرِ البنوك والمؤسّسات المصرَفية وشركاتِ التأمين ونحوِها، وقد قال تعالى:( وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالبَاطِلِ ) [البقرة: 188].
وإمّا أن يرجع إلى: ظلم العبد لنَفْسِهِ ولغيرِه بأن يلوِّثَها بشتَّى أنواع القبائح والآثامِ، أو يدنِّسَهَا بمختلف الخبائث والأضرار والمعاصي، سواء كان ذلك بالاختلاط الآثم وكشف العورات، أو بإشاعة الفاحشة في أهل الإيمان ونحو ذلك، فقد ورد الوعيدُ فيه في قوله تعالى: ?إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ? [النور: 19]، وجريًا على القواعد العامة فإنَّ «التَّحْرِيمَ يَتْبَعُ الخُبْثَ وَالضَّرَرَ » وإذا خلا من ذلك «فالأَصْلُ فِي الأَشْيَاءِ وَالمَنَافِعِ وَالأَعْيَانِ الحِلُّ وَالجَوَازُ »، لقوله تعالى: ?هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا? [البقرة: 29].
وعليه، فإنّ هذا التقريرَ يَنْضَبِطُ بالقاعدة التالية:« إنّ كُلَّ مَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِهِ يَجِبُ تَعَبُّدُ اللهِ بِاجْتِنَابِهِ قَطْعًا وَعَدَمُ التَّعَاوُنِ عَلَيْهِ »، لقوله تعالى: ?وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ? [المائدة: 2].
وكلُّ ما لا يُعلَمُ تحريمُهُ من التصرُّفات والمعاملاتِ وغيرِها فلا مُسَوِّغَ للقول بتحريمه، إذا لم يَقُمِ الدليلُ على تحريمه، ولا حرج على المسلم في التعامل به أخذًا بأصل الإباحة الشرعية في قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« الحَلاَلُ مَا أَحَلَّهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ وَالحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَمِمَّا عَفَا عَنْهُ »(2).
أمّا إذا اشْتَبَهَ عليه أمرُها، ولم يجد مَنْ يُزِيلُ شبهَتَهُ فالواجب الحيطَةُ في الدِّين بأن يَدَعَ ما فيه شُبهةٌ لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ »(3)، وقولِه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أَن يَقَعَ فِيهِ، أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلاَ وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ »(4).
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 20 من ذي الحجة 1427ه
الموافق ل: 9 جانفي 2007م.
__________
1- أخرجه مسلم في «البر والصلة والآداب »: (6706)، وأبو داود في «الأدب »: (4884)، والترمذي في «البر والصلة »: (2052)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2- أخرجه الترمذي في «اللباس »: (1830)، وابن ماجه في «الأطعمة »: (3492)، والبيهقي: (19873)، من حديث سلمان رضي الله عنه. وصحّحه الألباني في صحيح الجامع: (3195).
3- أخرجه الترمذي في «صفة القيامة والرقائق والورع »: (2518)، والنسائي في «الأشربة » باب: الحث على ترك الشبهات: (5711)، وابن حبان: (722)، والدارمي: (2437)، والحاكم: (2169)، والطيالسي: (1178)، وأحمد: (1729)، وأبو يعلى: (2762)، من حديث الحسن بن علي رضي الله عنه، وصححه أحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد »: (3/169) والألباني في «الإرواء »: (1/44) رقم: (12)، وفي صحيح الجامع: (3373)، والوادعي في «الصحيح المسند »: (318).
4- أخرجه البخاري في «الإيمان » باب فضل من استبرأ لدينه: (50)، ومسلم في «المساقاة »: (4094)، وأبو داود في «البيوع » باب في اجتناب الشبهات: (3330)، والترمذي في «البيوع » باب: ما جاء في ترك الشبهات: (1205)، وابن ماجه في «الفتن » باب الوقوف عند الشبهات: (3984)، والدارمي: (2436)، وأحمد: (17907)، والبيهقي: (10537)، من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.(17/29)
الفتوى رقم: 673
في معنى قياس العلة وقياس الشمول
السؤال:
ما معنى قياسِ العِلَّةٍ وقياسِ الشمولِ؟ جزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فقياسُ العِلة: هو إثباتُ حكمِ الأصلِ في الفرع لاشتراكهما في عِلَّةِ الأصل، أي: ما جمع فيه بين الأصل والفرع بالعلة كقياس النبيذ على الخمر في التحريم للإسكار، وإنما سُمِّيَ قياسَ عِلَّةٍ للتصريح فيه بالعِلة.
أمّا قياسُ الشمول: فهو انتقالُ الذِّهْنِ من المعيّن إلى المعنى العامِّ المشترك الكُلِّي المتناوِل له ولغيره، والحكم عليه بما يلزم المشترك الكلي، كأن تقول: النبيذ مُسكر، كلّ مسكر حرام، ينتج أنّ النبيذ حرام، فالإسكار أعمّ من النبيذ المتنازع فيه وأخصّ من التحريم.
وقد اختلف العلماءُ في الشمول هل هو من القياس أم لا؟ فالظاهر أنّ الشمول يسمَّى قياسًا؛ لأنّ مبنى قياس الشمول اشتراك الأفراد في الحكم وشمولُه لها.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في 27 ربيع الأول 1428ه
الموافق ل: 15 أبريل 2007م(17/30)
الفتوى رقم: 754
في الاحتجاج بخبر الواحد في القطعيات
السؤال:
قال العلاَّمةُ ابنُ باديس -رحمه الله- في «تفسيره »:« إنَّ السُّنَّة النبويةَ والقرآن لا يتعارضان، ولهذا يُردُّ خبرُ الواحد إذا خالف القطعيَّ من القرآن »، فما هو تعليقكم؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فإنّ ما قرّره ابنُ باديس في تفسيره من أنّ خبرَ الواحدِ لا يُقبَلُ إذا خالفه القطعي هو مذهبُ المعتزلة وبعضِ المتكلّمين، وبه قال أبو الحسنِ البصريٌّ والسمرقنديُّ والقَرافيُّ والصفي الهندي وغيرُهم(1)، وهو مخالفٌ لأكثرِ أهل الفقه والحديث، قال ابنُ عبد البرّ -رحمه الله- :« وعلى ذلك أكثرُ أهلِ الفقه والأثرِ، وكلُّهم يدينُ بخبر الواحد العَدْلِ في الاعتقادات، ويعادي ويوالي عليها، ويجعلها شرعًا ودينًا في مُعتقده، على ذلك جماعةُ أهل السُّنَّة »(2).
وعمومُ نصوصِ الكتابِ والسُّنَّة تقضي بوجوب قَبول خبرِ الواحد مُطلقًا من غير تفريقٍ بين القطعيِّ والظنيِّ، فقد أوجب اللهُ تعالى الحذرَ بقول الواحد في قوله تعالى: ?فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ? [التوبة: 122]، كما جعل عِلَّةَ ردِّ الأخبارِ هي الفسق لا الوحدة في قوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ? [الحجرات: 6]، وقد دعا النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم لحامِلِ الفقه وأقرَّهُ على الرواية من غير تفريق مع عدم فقهه وعلمه في قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« نَضَّرَ اللهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ غَيْرَهُ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ »(3).
هذا، وسَلَفُ الأُمَّة من الصحابة فمن بعدهم كانوا يتلقَّون أخبار الآحاد في القطعيات والظنِّيَّات ويثبتونها بدون ردّ لأي منها لمجرّد كونه خبر آحاد في القطعيات، ويدلّ لذلك روايتهم لتلك الأخبار وتناقلها وتلقِّيها وتحصيلها ونقلها وتفسيرها بمقتضى اللغة بما يليق بها والقول بمدلولها، بل إنهم أدخلوا مفادَ تلك الأخبار في مُعتقداتهم وصرّحوا بتبديع أو تفسيق أو تخطئة مخالفها(4).
وعليه، فإنّ أقوى الأقوال دليلاً وأصحَّها نظرًا مذهبُ الجمهور القائلين بصحّة الاحتجاج بخبرِ الواحد المرفوعِ للنبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم بإسنادٍ صحيحٍ سواء في القطعيات أو الظنِّيَّات، وضعف أدلة ما سواه على ما هو مُثْبَتٌ في مَوْضِعِهِ.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 1 رمضان 1428ه
الموافق ل: 13 سبتمبر 2007م
__________
1- انظر «المعتمد » لأبي الحسين البصري: (2/96، 102)، و«العدّة » لأبي يعلى: (2459)، «المحصول » للفخر الرازي: (2/217)، «ميزان الأصول » للسمرقندي: (2/75، 81)، «كشف الأسرار » للبخاري: (3/27)، «البحر المحيط » للزركشي: (4/257)، «الكفاية » للخطيب البغدادي: (432)، «المسودة » لآل تيمية: (249).
2- «التمهيد » (1/8).
3- أخرجه أبو داود في «العلم »، باب فضل نشر العلم: (3660)، والترمذي في «العلم »،باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع: (2656)، والدارمي في «سننه » (233)، وأحمد في «مسنده »: (21208)، من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه، والحديث صحَّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة »: (404)، والوادعي في «الصحيح المسند »: (358).
4- «التمهيد » لابن عبد البر: (1/8)، «مختصر الصواعق المرسلة » لابن القيم: (2/8-6).(17/31)
الفتوى رقم: 763
في المراد من معنى التنصيص عن كلام الإمام
السؤال:
نجد في بعضِ كتب الفقه المقارَنِ النقلَ عن بعض الأئمَّة بهذه الصيغة:« وقد نصَّ على هذه المسألة الإمام الفلاني » -إمام من الأئمةّ مثلاً- فهل معنى التنصيص أنه يذكر كلامَ هذا الإمام بلفظه أم يذكره بالمعنى المطابق لكلام الإمام؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فإذا نقلَ المجتهدُ عن إمامه أنه نصَّ في مسألةٍ عن حُكْمٍ وصحّ نقله، فإنّ الظاهر أنه كلام إمامه بلفظه ومعناه، وأنه مذهب له، ما لم يصرّح بالرجوع عنه، أمَّا إذا نصّ إمامه على حكم وعلّل الحكم بعلّة توجد في مسائل أخرى، فهذه المسائل ليست من نصه وكلامه، ولكن هل هي مذهبه فيها كمذهبه في المسألة المعللة بأن تجعل كمذهبه بالنظر إلى العلة الجامعة التي بَيَّنَها المجتهد عن إمامه، ومثاله: ما ذهب إليه بعضُ المالكية من وجوب الزكاة في التِّين مع أنّ مالكًا لم يذكر في التين زكاةً، ولا يخفى أنّ عِلَّةَ الزكاةِ في الثمارِ عند مالكٍ إنما هي الاقتياتُ والادخارُ، فلمَّا كان الاقتياتُ والادخارُ وصفًا موجودًا في التين جعل بعضُ أصحابِه الزكاةَ فيه كالزبيب بمقتضى علّته المذكورة، ولذا قال ابنُ عبد البرِّ: أظنّ مالكًا ما كان يعلم أنّ التينَ ييبسُ ويُقتاتُ ويدّخرُ، فلو كان يعلم ذلك لجعله كالزبيب(1)، ومن هنا يعلم أنّ الراجح في هذه المسألة أن يجعل فيما لم يذكره الإمام من المسائل إن كانت معلّلةً مندرجةً في عموم مذهبه لتضمّنها العلةّ الجامعة لا من نصوصه القولية.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 13 جمادى الثانية 1428ه
الموافق ل: 28 جوان 2007م
__________
1- «مذكرة الشنقيطي في أصول الفقه »: (313).(17/32)
الفتوى رقم: 871
في شرح قاعدة:« ماحُرِّمَ سدًّا للذريعة أُبيح للمصلحة الراجحة »
السؤال:
نود توضيحًا لقاعدة:« مَا حُرِّمَ سَدًّا لِلْذَرِيعَةِ أُبِيحَ لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ ».
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فإنَّ المُرادَ من قاعدة:« مَا حُرِّمَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ أُبِيحَ لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ وَلِلْحَاجَةِ » أنَّ مَا حُرِّمَ تَحْرِيمَ وَسَائِلَ مُفضِيَةٍ إلى مُحرَّمَاتٍ فإنه تُباحُ عند الحاجة أو المصلحة الراجحة إذا كانت لا تتحقَّق إلاَّ بها، كالنَّظر إلى المرأة الأجنبية، والخلوة بها، والنظر إلى عورة الرجل والمرأة، وتحريم رِبَا الفضل وغيرها، فإنَّها مُحرَّمةٌ تحريم وسائل؛ لأنَّها تفضي إلى ما هو مُحرَّمٌ تحريمَ مَقاصِد، فالخلوة بالأجنبية مَنهِيٌّ عنها سَدًّا للذريعة المفضية إلى الزِّنا، وحُرِّم ربا الفضل في البيوع سَدًّا للذريعة؛ لأنه يفضي إلى ربا النَّسيئة في الدُّيون، «فكُلُّ مَا أَدَّى إِلَى حَرَامٍ فَهُوَ حَرَامٌ ». غيرَ أنه أُبيح ذلك من أجل الحاجة والمصلحة الراجحة، كإباحة نظر الرجل إلى المرأة إذا أراد خِطبتها، ونظرِ الطبيب إلى عورة الرجل والمرأة إذا احتاج إلى ذلك، وتحريم الذهب والحرير على الرجال حُرِّم سدًّا لذريعة التشبُّه بالنساء الملعونات، وأجيز للحاجة ونحو ذلك، ويدلُّ على هذه القاعدة سفر أم كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعَيْطٍ إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم وهي عاتق فِرارًا بدينها(1)، وسفر عائشة -رضي الله عنها- مع صفوان بن المعطل فإنه صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم لم ينه عنه(2)، فدلَّ ذلك على جوازه للحاجة.
وعليه، فقاعدة «مَا حُرِّمَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ أُبيِحَ لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ » إنما يتعلَّقُ أمرها بالحاجات والمصلحة الراجحة، بخلاف قاعدة ماحرِّم لذاته ومقصده، فإنها تتعلَّق بالضرورات فلا تباح إلاَّ للضرورة كأكل الميتة إذا خشي على نفسه الهلاك ونحو ذلك.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 21 ربيع الأول 1429ه
الموافق ل: 29 مارس 2008م
__________
1- أخرجه البخاري في «صحيحه » كتاب الشروط، باب ما يجوز من الشروط في الإسلام والأحكام: (2564)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (14294)، عن عروة بن الزبير أنه سمع مروان والمسور بن مخرمة رضي الله عنهما يخبران عن أصحاب رسول الله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قال:« .. وَكَانَتْ أُمُّ كُلثُوم بِنْت عُقْبَةَ بنِ أَبِي معيط مِمَّنْ خَرَجَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم يَوْمَئِذٍ وَهِيَ عَاتِقٌ فَجَاءَ أَهْلُهَا يَسْأَلُونَ النَّبِي صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ أَنْ يُرْجِعَهَا إِلَيْهِمْ فَلَمْ يُرْجِعْهَا إِلَيْهِمْ لَمَّا أَنْزَلَ اللهُ فِيهِنَّ ? إِذَا جَاءَكُمُ المؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ - إلى قوله - وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ? ».
2- أخرجه البخاري في «صحيحه » كتاب «المغازي »، باب حديث الإفك: (4141)، ومسلم في «صحيحه » كتاب التوبة، باب في حديث الإفك: (7020)، عن عائشة رضي الله عنها قالت -بعد أن فقدت النبي صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم والجيش-:« .. فَأَممْتُ مَنْزِلِي الذِي كُنْتُ بِهِ فَظَنَنْتُ أَنهُمْ سَيَفْقِدُونَنِي فَيَرْجِعُونَ إِلَيَّ فَبَيْنَا أَنَا جَالِسَةٌ غَلَبَتْنِي عَيْنَايَ فَنِمْتُ وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ المعَطّلِ السُّلَمِي ثُمَّ الذَّكْوَانِي مِنْ وَرَاءِ الجَيْشِ فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ فَأَتَانِي وَكَانَ يَرَانِي قَبْلَ الحِجَابِ فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ حِينِ أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ فَوَطِئَ يَدَهَا فَرَكِبْتُهَا فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِي الرَّاحِلَةَ حَتَّى أَتَيْنَا الجيْشَ بَعْدَ مَا نَزَلُوا مُعَرِسِينَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ... ».(17/33)
الفتوى رقم: 927
في إخراج خطاب التكوين من تعريف الحكم الشرعي
السؤال:
ففي (ص 33) من كتابكم «الفتح المأمول » جعلتم قوله تعالى: ?يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ? [الانفطار: 12]، من خطاب التكوين، والصحيح أنّ خطاب التكوين هو الأمر الكوني «كن » كما في «مجموع الفتاوى »، و«الإتقان » للسيوطي، و«تفسير الآلوسي ».
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فقد قُيِّد خطاب الله المتعلِّق بأفعال المكلَّفين في تعريف الحكم الشرعي من حيثية كون المخاطَب مُكلَّفًا بالأمر والنهي، مع حصول القدرة الشرعية المصحِّحة لفعله، وهذا القيد لإخراج خطاب التكوين الذي يخلقه بدون فعل المكلَّفين ولا إرادتهم ولا قدرتهم الشرعية التي هي مناط التكليف، وإنما هو الأمر الكوني المتعلِّق بفعل المكلَّفين من جهة تكوين عِلم الحفظة الذين يعلمون ما تفعلون لا من جهة كون المخاطَب مكلّفًا به، وإن كان خاضعًا لحول الله وقوته، إذ لا حول ولا قوة إلاَّ بالله.
فالحاصل أنَّ خطاب التكليف متعلِّقٌ بالقدرة الشرعية للمكلَّف المصحِّحة للفعل التي هي مناط الأمر والنهي، بينما خطاب التكوين الذي هو الأمر الكوني وخَلْقُه وفِعلُه يخرج عن قدرة المكلَّف الشرعية؛ لأنَّ الله يخلقه بدون فعلٍ من المخاطب أو قدرةٍ أو وجودٍ له، فعُلم أنَّ خطاب التكوين يتعلَّق بفعل المكلَّف لا من هذه الجهة، وإنما من حيثية خلق الله عِلم الحفظة من الملائكة الذين يتعلَّق عِلمهم بأفعال المكلَّفين، فكان عِلمهم موجودًا بخطاب التكوين، لذلك خرج من تعريف الحكم الشرعي خطاب التكوين بتقييد التعريف بجملة «مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ مُكَلَّفٌ بِهِ ».
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 12 جمادى الثانية 1429ه
الموافق ل: 16 جوان 2008م(17/34)
الفتوى رقم: 929
في صحة صارف النهي عن التشبيك إلى الكراهة
السؤال:
في صفحة [35] من «الفتح المأمول» مثَّلتم للكراهة بقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ خَرَجَ عَامِدًا إِلَى المَسْجِدِ، فَلاَ يُشَبِّكْ بَيْنَ أَصَابِعِهِ فَإِنَّهُ فِي الصَّلاَة»(1)، وجعلتم الصارف من التحريم إلى الكراهة ما ثبت في الصحيحين:« أَنَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ فِي المَسْجِدِ»، فالإشكال أنَّ تشبيك النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم كان بعد الصلاة، ونهيه عنه قبل الصلاة وأثنائها بدليل تعليله في آخر الحديث بقوله: «فإنه في الصلاة».
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فلا إشكالَ بين الحديثين؛ لأنَّ حديث النهي عن تشبيك الأصابع إنما ورد فيمن كان في المسجد أو ماشيًا إليه، سواء كان في الصلاة قبلها أو بعدها، قال الشوكاني:« وهو منهي عنه في الصلاة ومقدماتها ولواحقها من الجلوس في المسجد والمشي إليه »(2)، ويستأنس لهذا المعنى ما ورد ضعيفًا من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنَّ النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قال:« ِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ فِي المَسْجِدِ فَلاَ يُشَبِّكَنَّ، فَإِنَّ التَّشْبِيكَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لاَ يَزَالُ فِي صَلاَةٍ مَا دَامَ فِي المَسْجِدِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ»(3)، والنبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم كان في المسجد وشَبَّك بين أصابعه ولم يخرج منه، لذلك كان حديث ذي اليدين: «…ثُمَّ قَامَ إِلَى خَشَبَةٍ مَعْرُوضَةٍ فِي المَسْجِدِ فَاتَّكَأَ عَلَيْهَا كَأَنَّهُ غَضْبَانُ وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ»(4) صارفًا لظاهر النهي الذي هو للتحريم إلى الكراهة، وبه يتمُّ الجمع بين الحديثين بحمل النهي على الكراهة.
وإذا كانت علة النهي عن تشبيك الأصابع في المسجد هي العبث على أرجح الأقوال(5)، فإنه يمكن توسيع دائرة الكراهة من المسجد إلى سائر مواضع العبادات كالسعي والطواف وغيرها، ومجالس العلم والذكر والمدارسة؛ لأنّ العبث لا يتجانس مع مضمون العبادة والديانة، ويقوِّي ذلك أنّ تشبيك الأصابع يُنهى عنه في الصلاة سواء في المسجد أو خارجه، وعليه فإنّ النبي صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم فضلاً عن كونه في المسجد -كما في حديث ذي اليدين- فإنَّ تشبيكه بعد الصلاة كان في محلِّ الذِّكر والتسبيح فكان فعله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم لذلك نادرًا يرفع التحريمَ ولا يرفع الكراهة.
هذا، وإذا كان التشبيك المُنهى عنه من أجل العبث، فإنه يخرج عن النهي ما كان سبيله التعليم والبيان، فقد ثبت عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم أنه قال: «دَخَلْت العُمْرَة فِي الحَجِّ وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ»(6)، وكذا في قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« المُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ»(7)، ففي الحديثين وجهٌ للتشبيه والمبالغة في البيان. قال ابن حجر: «ويستفاد منه أنَّ الذي يريد المبالغة في بيان أقواله يمثلها بحركاته ليكون أوقع في نفس السامع»(8).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في 17 جمادى الثانية 1429ه
الموافق ل: 21 جوان 2008م
--------------------------------------------------------------------------------
1- أخرجه أحمد: (4/241)، وأبو داود: (1/380)، رقم: (562)، والدارمي: (1/327)، والترمذي: (2/228)، برقم: (386) من حديث كعب بن عُجْرَة. [انظر: «صحيح الجامع الصغير للألباني»: (1/180)].
2- «نيل الأوطار» للشوكاني: (3/230).
3- أخرجه أحمد في «مسنده»: (10992)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. والحديث حسّنه الهيثمي في «مجمع الزوائد»: (2/139)، قال ابن حجر في «الفتح» (2/142): «وفي إسناده ضعيف ومجهول»، وضعَّفه الألباني «السلسلة الضعيفة»: (2628).
4- أخرجه البخاري في «صحيحه» كتاب الصلاة، باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره: (468)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
5- وقيل: لما فيه من التشبه بالشيطان، وقيل لدلالة الشيطان على ذلك. [«نيل الأوطار» للشوكاني: (3/2229)].
6- أخرجه مسلم في «صحيحه» كتاب الحج، باب حجة النبي صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: (2950)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
7- أخرجه البخاري في «صحيحه» كتاب المظالم، باب نصر المظلوم: (2314)، ومسلم في «صحيحه» كتاب البر والصلة، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم: (6585)، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
8- «فتح الباري» لابن حجر (10/450).(17/35)
الفتوى رقم: 931
في اشتراط كون المحكوم فيه معدومًا
السؤال:
في صفحة [64] اشتراط أن يكون المحكوم فيه معدومًا لا يصدق في كلِّ محكومٍ فيه، فقد يكون المحكوم فيه مأمورًا بتركه أو بالمداومة عليه.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فجمهور العلماء اشترطوا أن يكون الفعل الذي طُلب من المكلَّف معدومًا، وهو يصدق على كلِّ محكومٍ فيه، من حيث إمكان حدوثه، لا مع استحالته لعدم تعلُّق القدرة به، قال الآمدي: «اتفق الناس على جواز التكليف بالفعل قبل حدوثه سوى شذوذ من أصحابنا»(1)؛ ذلك لأنَّ التكليف إنما يكون بإيجاد ما لم يوجد منه، لا إيجاد ما قد وجد، والتكليف بإيجاد الموجود لا يرد به الشرع فهو محال كاستحالة الجمع بين الضدين، وجعل الجسم في مكانين في آنٍ واحدٍ، كما يقال لمن بنى حائطًا أو كتب كتابًا: ابنه أو اكتبه بعينه مع بقائه مبنيًّا مكتوبًا مرة أخرى، قال ابن بدران: «وبيانه أنَّ الإيجاد هو تأثير القدرة في إخراج المعلوم عن العدم إلى الوجود، فلو أوجد مرة ثانية لزم أن يكون معدومًا لاحتياجه إلى الإخراج موجودًا بالإيجاد الأول، فيلزم أن يكون موجودًا معدومًا معًا، وهو جمع بين النقيضين وهو محال»(2).
ويؤكِّد هذا المعنى الشوكاني بقوله: «لأنّ التكليف بإيجاد الموجود محال؛ لأنه طلب يستدعي مطلوبًا غير حاصل وهو تكليف بمحال؛ ولأنّ القدرة مع الفعل لاستلزامه أن لا تكليف قبله، وهو خلاف المعقول وخلاف الإجماع»(3).
قلت: فلا يحسن أن يؤمر مَن هو قائم بالقيام، ومَن يكتب بالكتابة، ومَن يبني بالبناء؛ لوجود القيام والكتابة والبناء قبل الأمر.
أمَّا ما اعتمد عليه المعترض ممَّن ذهب إلى القول بجواز الأمر بفعل شيءٍ موجودٍ من جهة أنه لو لم يصحَّ الأمر بفعل الموجود للزم عدم صحة ذمّ الكافر على كفره؛ لأنه لا يصح أمره بتركه لكون الأمر موجودًا، كما يلزم أن لا يكون المؤمن مأمورًا بالإيمان؛ لأنّ ما وجد منه من إيمان لا يصح الأمر به اشتراطًا للعدم فجوابه:
- أنَّ الكافر المتلبِّس بالكفر مأمورٌ بتركه وهو موجود غير معدوم بوجود سابق غير مباشر له، فإن كفّ النفس(4) عن فعل الكفر واعتقاده والبقاء عليه، فقد باشر الترك بموجود حاصل مباشر له، فتوجه إليه التكليف بالكفِّ عن فعل الترك حال مباشرته، وذلك الفعل لم يكن موجودًا بل معدومًا، ولذلك يقال: إنّ المحال إنما هو إيجاد الموجود بوجود سابق لا بوجود حاصل، فصار الحكم بذمّه على الكفر والبقاء عليه صحيحًا.
- أمَّا أمر المؤمن بالإيمان فإنما هو أمر باستمرار التكليف به والبقاء عليه فلا ينقطع التكليف به إلاّ بعد تمام الفعل، وتمامه عند حصول الموت، لقوله تعالى: ?وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ? [الحجر: 99]، ومن هنا لا ينبغي توهم التناقض بين منع الأمر بالموجود وبين استمرار التكليف بالفعل (صريحًا أو كفا)؛ لأنّ المنع يتجلى انحصاره في ابتداء الأمر حال الوجود، بينما يتقدم الأمر على الفعل قبل حدوثه، لكن يبقى التكليف به مستمرًّا إلى تمام الفعل، وهو معنى قول الجمهور: «لا يصحُّ الأمر بالموجود، ولا ينقطع التكليف إلاَّ بتمام الفعل».
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزار في: 13 رجب 1429ه
الموافق ل: 16 جويلية 2008م
__________
1- «الإحكام» للآمدي: (1/113)، انظر هذه المسألة في: «المسودة» لآل تيمية: (57)، «شرح تنقيح الفصول» للقرافي: (147)، «فواتح الرحموت» للأنصاري: (1/134)، «تيسير التحرير» لبادشاه: (2/142)، «العضد على ابن الحاجب»: (2/14)، و«إرشاد الفحول» للشوكاني: (10).
2- «نزهة الخاطر» لابن بدران: (1/150).
3- «إرشاد الفحول» للشوكاني: (11).
4- والتحقيق في مسألة الترك إنما يكون فعلاً إن كان الترك بمعنى كف النفس بإرادةٍ وقصدٍ، كمن يكف نفسه وشهوته عن المحرمات حالما أمرته نفسه بمخالفة المأمور شرعًا فيصير كفُّه فعلاً؛ لأنه تركٌ مقصود ومراد لتحصيل الثواب بامتثال أمر الشرع. [انظر: «منتهى الآمال» للسيوطي»: (123)].(17/36)
الفتوى رقم: 932
في البلوغ كعلامة لظهور العقل
السؤال:
ذكرتم في الصفحة [63] من «الفتح المأمول» أنَّ شرط البلوغ غير مقصود بذاته، فهل معنى ذلك أنَّ الإنسان قد يُكلَّف قبل بلوغه إذا كان عاقلاً عن الله أمرَه؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فشُرِط في المحكوم عليه وهو المكلَّف «العقل» و«فهم الخطاب»؛ لأنّ التكليف خطاب، وخطاب من لا عقل له ولا فهم محال(1)، وغير البالغ ضعيف العقل والبُنيةِ لم يَكمُل فهمُه فيما يتعلّق بالمقصود من الطاعة والامتثال، وقصده إلى ذلك إنما يتصوّر بعد الفهم، وهو قاصر عنه، ولا بدّ من ضابط يضبط الحدّ الذي تتكامل فيه بنيتُه وعقلُه، فإنه يتزايد تزايدًا خفيَّ التدريج، فلا يعلم بنفسه، فجعل الشارع البلوغ علامةً لظهور العقل(2) بقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلاَثٍ: عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَكْبُرَ (3)-وفي رواية: حَتَّى يَحْتَلِمَ(4)- وفي رواية: حَتَّى يَبْلُغَ(5)- وَعَنِ المَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ»(6).
أمّا عن تساؤل المعترِض عن تكليف العاقل قبل البلوغ فالراجح الصحيح أنه غير مُكلَّفٍ لمكان الحديث السابق، وعليه الجمهور، وعن الإمام أحمد رواية ثانية: أنَّ المراهق مكلَّف بالصلاة، ورواية ثالثة: أنَّ ابن عشرٍ مكلَّف بها، ورواية رابعة: أنَّ الصبي المميز مكلف بالصوم(7)، ولا يخفى أنّ الأدلة المعتبرة عند المجتهد هي التي تغيِّر بين أحكام المسائل.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 13 رجب 1429ه
الموافق ل: 16 جويلية 2008م
__________
1- انظر: «المستصفى» للغزالي: (1/83)، «روضة الناظر» لابن قدامة: (1/137)، «شرح الكوكب المنير» للفتوحي: (1/398)، «مناهج العقول» للبدخشي: (1/170).
2- انظر المصادر الأصولية السابقة، و«فواتح الرحموت» للأنصاري: (1/154)، «إرشاد الفحول» للشوكاني: (11).
3- أخرجه أبو داود في «سننه» كتاب الحدود، باب في المجنون يسرق أو يصيب حدا:(4398)، والنسائي في «سننه» كتاب الطلاق، باب من لا يقع طلاقه من الأزواج: (3432)، وابن ماجه في «سننه» كتاب الطلاق، باب طلاق المعتوه والصغير والنائم: (2041)، من حديث عائشة رضي الله عنها، وأخرجه أحمد في «مسنده»: (1364)، من حديث علي رضي الله عنه.
4- أخرجه أبو داود في «سننه» كتاب الحدود، باب في المجنون يسرق أو يصيب حدا :(4403)، والبيهقي في «السنن الكبرى»: (5191)، من حديث علي رضي الله عنه. وأخرجه الحاكم في «المستدرك»: (2350)،. وأحمد في «مسنده»: (24173)، والدارمي في «سننه»: (2211)، والبيهقي في «السنن الكبرى»: (11644)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
5- أخرجه أبو داود في «سننه» كتاب الحدود، باب في المجنون يسرق أو يصيب حدا: (4402)، وأبو يعلى في «مسنده»: (587)، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأخرجه البيهقي في «السنن الكبرى»: (22217)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
6- قال ابن حجر في «فتح الباري»:(12/124): «له شاهد وله طرق يقوي بعضها بعضاً»، وصححه النووي في «الخلاصة»: (1/250)، وأحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد»: (2/188)، والألباني في «الإرواء»: (297).
7- انظر: «روضة الناظر» لابن قدامة: (1/139)، «القواعد والفوائد الأصولية» للبعلي: (16، 17)، «شرح الكوكب المنير» للفتوحي: (1/499، 500).(17/37)
الفتوى رقم: 939
شرط التواتر في التلاوة
السؤال:
في صفحة [148] من «الفتح المأمول» قلتم إنَّ آيةَ التحريم بعشر رضعات نُسخت بالسُّنَّة، وليس كذلك بل نسخت بالقرآن الذي نُسِخَ لفظُه وبقي حُكمُه كما في حديث عائشةَ رضي الله عنها.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالمعلوم أنَّ من شرط القرآن أن يكون منقولاً إلينا متواترًا، وما لم يكن كذلك فليس بقرآنٍ اتفاقًا، لذلك يُعرَّف القرآن: «بِأَنَّهُ اللَّفْظُ العَرَبِيُّ المُنَزَّلُ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ المَكْتُوبُ فِي المَصَاحِفِ عَلَى الأَحْرُفِ السَّبْعَةِ المَنْقُولُ نَقْلاً مُتَوَاتِرًا بِلاَ شُبْهَةٍ»، فَهَذا الذي اتفق العلماء على التعبُّد بتلاوته في الصلاة أو خارجها، وأنه حُجَّةٌ في استنباط الأحكام، لم يَشُذَّ عن ذلك أحدٌ من المسلمين(1).
وحديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنَ القُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ، فَنُسِخْنَ بِخَمْسِ رَضَعَاتٍ، وَتُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ القُرْآنِ»(2)، معدود من القراءة الشاذَّة لفقده التواتر المشروط في القرآن، فإن لم يكن قرآنًا فهو روايةٌ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، إذ يحتمل ما سَمِعَتْهُ عائشةُ رضي الله عنها من النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم تفسيرًا فظنَّته قرآنًا، فثبتت له رتبة الخبر، ولا ينقص عن درجة تفسير النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم للآية، والقراءةُ الشاذة حُجَّة كالقرآن؛ لأنَّ شرط التواتر في التلاوة لا شرط في الحكم(3).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 1 رمضان 1429ه
الموافق ل: 1 سبتمبر 2008م
__________
1- انظر: «المستصفى» للغزالي (1/101)، «المنخول» للغزالي: (281)، «روضة الناظر» لابن قدامة: (1/180)، «الإحكام» للآمدي: (1/121)، «منتهى السول» لابن الحاجب: (46)، «بيان المختصر» للأصفهاني: (1/472)، «شرح العضد» (2/21)، «فواتح الرحموت» للأنصاري: (2/9، 13)، «إجابة السائل» للصنعاني: (65، 67)، «إرشاد الفحول» للشوكاني: (30).
2- أخرجه مسلم في«صحيحه» كتاب الرضاع، باب التحريم بخمس رضعات: (3597)، وأبو داود في «سننه» كتاب النكاح، باب هل يحرم ما دون خمس رضعات: (2026)، والنسائي في «سننه» كتاب النكاح، باب القدر الذي يحرم من الرضاعة: (3307)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
3- «مفتاح الوصول» للتلمساني: (303).(17/38)
الفتوى رقم: 943
في حجية خبر الواحد في الأحكام والعقائد
السؤال:
فقد ذكرتم في الصفحة [158] من «الفتح المأمول» تعليقًا على المصنِّف الذي قَصَرَ صلاحيةَ الاستدلالِ بخبر الواحد على الأحكام، فأضفتم إليه العقائد، فهل تثبت العقيدة بظني الثبوت؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فاعلم أنَّ السلف الصالحَ أجمعوا على أَنَّ خبرَ الواحد حُجَّةٌ في الأحكام والعقائد، فلو كان أيُّ دليلٍ قطعيٍّ يُثبت أنَّ العقيدة لا يجوز إقرارُها بالاستناد
إلى خبرِ الواحد -كما يزعمون- لصرَّح الصحابة رضي الله عنهم بذلك، بل بالعكس عملوا بالأدلة الموجِبة للعمل بخبر الواحد عامَّة مُطلقة مِن غير تفريقٍ بين الأحكام والعقائد، ولا بين مختلف الأبواب والمسائل؛ لأنها لم تُقَيَّدْ بمسألةٍ أو شرطٍ، والتفريقُ بينهما قولٌ مُحْدَثٌ لا أصلَ له في الشريعة، ولم يعرفه الصحابة رضي الله عنهم ولا أحدٌ من التابعين، ولا نُقِلَ عن أحدٍ من أئمَّة الإسلام والدِّين، وإنما هو معروفٌ عن رؤوس أهل البدع ومَن تبعهم، ثمَّ إنَّ القول بقصر خبر الواحد على الأحكام باطلٌ من جهة أنَّ الحكم الشرعي -في حَدِّ ذاته- كما يجب اتباعه والأخذ به يجب اعتقاده -أيضًا- إذ يجب اعتقادُ وجوبِ الواجبات وحُرمة المحرَّمات، واستحبابِ المستحبَّات، وكراهةِ المكروهات، وإباحةِ المباحات، وهذا أصلٌ من أصول الدِّين، إذ مَن أنكر حُكمًا شرعيًّا معلومًا من الدِّين بالضرورة كفر كفرًا مخرجًا من الملة، فثبتت بدعيةُ هذا القول في قصر حُجِّية خبرِ الواحد على الأحكام دون العقائد، وهو مردودٌ بنصِّ قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ»(1- متفق عليه: أخرجه البخاري في «صحيحه» في الصلح، باب إذا اصطلحوا على صُلح جَوْرٍ فالصلح مردود: (2550)، ومسلم في «صحيحه» كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور: (4492)، من حديث عائشة رضي الله عنها.)، وقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «إِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ، وَكُلَّ ضَلاَلَةٍ فِي النَّارِ»(2- أخرجه أبو داود في «سننه» كتاب السنة، باب في لزوم السنة: (4607)، والترمذي في «سننه» كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع: (2676)، وابن ماجه في «سننه» باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين: (42)، وأحمد في «مسنده»: (17608)، من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، والحديث صححه ابن الملقن في «البدر المنير»: (9/582)، وابن حجر في «موافقة الخبر الخبر»: (1/136)، والألباني في «السلسلة الصحيحة»: (2735)، وشعيب الأرناؤوط في «تحقيقه لمسند أحمد»: (4/126)، وحسَّنه الوادعي في «الصحيح المسند»: (938).).
قال ابنُ عبد البرِّ -رحمه الله-: «ليس في الاعتقاد كُلِّه في صفات الله وأسمائه إلاَّ ما جاء منصوصًا في كتاب الله، أو صَحَّ عن رسول الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم أو أجمعت عليه الأُمَّة، وما جاء من أخبار الآحاد في ذلك كُلِّه أو نحوه يُسلَّم له ولا يناظر فيه»(3- «جامع بيان العلم وفضله» لابن عبد البر: (2/96).).
هذا، والمعلوم أنَّ العقيدة هي من أوليات دعوة الرسل، وقد كان النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم يبعث آحاد الصحابة رضي الله عنهم إلى مختلف الأمصار والبلدان ليُعَلِّموا الناسَ دِينَهم، وبالدرجة الأولى التوحيد، فقد قال النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم لمعاذ رضي الله عنه: «إِنَّكَ تَقْدُمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ، فَلْيَكُنْ أَوَّل مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ الله(4- أخرجه البخاري في «صحيحه» كتاب الزكاة، باب لا تؤخذ كرائم أموال الناس في الصدقة: (1389)، ومسلم في «صحيحه» كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام: (123)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.)، -وفي رواية- فَادْعُهُمْ إِلَى شَّهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهِ..» الحديث(5- أخرجه مسلم في «صحيحه» كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام: (121)، وأبو داود في «سننه» كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة: (1584)، والترمذي في «سننه» كاب الزكاة، باب ما جاء في كراهية أخذ خيار المال في الصدقة: (625)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.)، وقد اكتفى صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم بإرسال معاذٍ لوحده، وكذلك فَعَلَ مع عليٍّ وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهم في نوبات مختلفةٍ، فكان دليلاً صريحًا على أنَّ العقيدة تَثبُتُ بخبر الواحد كما تثبت في الأحكام بلا تفريقٍ.
قال ابن القيم -رحمه الله-: «وأمَّا المقام الثامن: وهو انعقادُ الإجماع المعلوم المتيقَّن على قَبول هذه الأحاديث وإثبات صفات الرب تعالى بها، فهذا لا يَشُكُّ فيه مَنْ له أقلُّ خِبرة بالمنقول، فإنَّ الصحابة هم الذين رَوَوْا هذه الأحاديثَ، وتلقَّاها بعضُهم عن بعضٍ بالقَبول، ولم يُنكرها أحدٌ منهم على مَن رواها، ثمَّ تلقَّاها عنهم جميعُ التابعين مِنْ أَوَّلهم إلى آخرهم، ومَن سمعها منهم تلقَّاها بالقَبول والتصديق لهم، ومن لم يسمعها منهم تلقَّاها عن التابعين كذلك، وكذلك تابِعُوا التابعين مع التابعين، وهذا أمرٌ يعلمه ضرورةً أهلُ الحديث كما يعلمون عدالةَ الصحابة وصِدقَهم وأمانتَهم ونقلَهم ذلك عن نبيِّهم صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم كنقلهم الوضوء والغُسل من الجنابة، وأعدادَ الصلوات وأوقاتها، ونقلَ الأذان والتشهُّد، والجمعة والعيدين، فإنَّ الذين نقلوا هذا هُمُ الذين نقلوا أحاديثَ الصِّفات، فإِنْ جاز عليهم الخطأُ والكذبُ في نقلها جاز عليهم ذلك في نقل غيرها ممَّا ذكرناه، وحينئذٍ فلا وُثُوقَ لنا بشيءٍ نُقِلَ عن نبيِّنا صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، وهذا انسلاخٌ من الدِّين والعلم والعقل»(6- «مختصر الصواعق المرسلة لابن القيم» باختصار الموصلي: (502).).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 2 رمضان 1429ه
الموافق ل: 2 سبتمبر 2008م
--------------------------------------------------------------------------------
1- متفق عليه: أخرجه البخاري في «صحيحه» في الصلح، باب إذا اصطلحوا على صُلح جَوْرٍ فالصلح مردود: (2550)، ومسلم في «صحيحه» كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور: (4492)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
2- أخرجه أبو داود في «سننه» كتاب السنة، باب في لزوم السنة: (4607)، والترمذي في «سننه» كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع: (2676)، وابن ماجه في «سننه» باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين: (42)، وأحمد في «مسنده»: (17608)، من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، والحديث صححه ابن الملقن في «البدر المنير»: (9/582)، وابن حجر في «موافقة الخبر الخبر»: (1/136)، والألباني في «السلسلة الصحيحة»: (2735)، وشعيب الأرناؤوط في «تحقيقه لمسند أحمد»: (4/126)، وحسَّنه الوادعي في «الصحيح المسند»: (938).
3- «جامع بيان العلم وفضله» لابن عبد البر: (2/96).
4- أخرجه البخاري في «صحيحه» كتاب الزكاة، باب لا تؤخذ كرائم أموال الناس في الصدقة: (1389)، ومسلم في «صحيحه» كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام: (123)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
5- أخرجه مسلم في «صحيحه» كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام: (121)، وأبو داود في «سننه» كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة: (1584)، والترمذي في «سننه» كاب الزكاة، باب ما جاء في كراهية أخذ خيار المال في الصدقة: (625)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
6- «مختصر الصواعق المرسلة لابن القيم» باختصار الموصلي: (502).(17/39)
الفتوى رقم: 950
في فاعلية السبب بعد ورود الشرع
السؤال:
في صفحة [39] من «الفتح المأمول» في تعريف السبب قلتم: «…علامة مؤثِّرة في وجود الحكم لا بذاتها»، هذا القيد إن أريد به أنها مؤثرة في وجود الحكم بجعل الله كذلك كان هذا القيد تكرارًا، فإن أريد بها أنها لا تؤثِّر في وجود الحكم إلاَّ إذا توفَّرت الشروط وانتفت الموانع فكلُّ الأسباب كذلك: الشرعية والقدرية، فلا تحتاج إلى هذا القيد، وإن أريد بها شيء آخر فهو يحتاج إلى توضيح.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالسببُ الشرعيُّ: هو الوصف الظاهرُ المنضبِطُ الذي دَلَّ السمع على كونه مُعَرِّفًا للحكم الشرعي. وبيانه: أنَّ لله سبحانه في الزاني -مثلاً- حُكمين: أحدهما تكليفي، وهو وجوب الحدِّ عليه، والثاني: وضعي، وهو جعل الزنا سببًا لوجوب الحدِّ؛ والزنا لا يوجب الحدَّ بعينه وذاته، لأنّ السبب ليس له قدرة الانفراد بالابتداع والتوحيد بالاختراع، كما أنَّ السبب -من جهة أخرى- ليس له نوع معاونة لا في صفة من صفات الفعل ولا في وجه من وجوهه، كما يزعم كثير من المتكلمين(1)؛ لأنَّ السببَ هو في ذاته مُحدَثٌ مخلوقٌ، واللهُ سبحانه وتعالى هو خالقُ السبب والمسبَّب، فلا يجوز نسبةُ الانفراد باختراعٍ أو نوعِ معاونةٍ في صفة الفعل لغير الله تعالى، ومثل هذه الإضافةِ بالانفراد وبنوع معاونةٍ جديرةٌ بالإنكار إذ لا تخرج في حكمها عن كونها شركًا دون شرك في الربوبية.
ومن هذا القبيل -أيضًا- يدخل نفي التأثير للأشياء التي لم يجعلها الله تعالى أسبابًا ووسائط على المسبَّبات، والقاعدة المعلومة من النصوص: أنَّ جَعْلَ ما ليس بسببٍ سببًا شركٌ أصغرُ.
وهذه الأشياء التي لم يجعلها الله أسبابًا في وقت ما قبل ورود الشرع لا تأثير لها بذاتها، لكن بعد ورود الشرع جعلها الله أسبابًا، فَرَبَطَ وجود الحكم بوجود السبب، وجعل وجود المسبَّب متوقِّفًا على سببه، كما ربط عدم الحكم بعدم السبب، فجعلَ تخلُّفَ المسبَّب متوقِّفًا على تخلُّف سببه. فتأثير صَيْرُورَةِ غيرِ السبب إلى سببٍ كان بالوضع لا بالذات، ثمَّ أصبحت أسبابًا شرعيةً، لا تختلف عن الأسباب القدرية من حيث إنَّ لها تأثيرًا لا من جهة الانفراد بالتأثير إليها ولا في نوع معاونة -كما تقدَّم-، وإنما تكمن جهة تأثيرها في خروج الفعل من العدم إلى الوجود بواسطة القدرة المحدثة المخلوقة التي هي سببٌ وواسطةٌ في خلق الله تعالى الفعل بهذه القدرة. وليس في جعل السبب مؤثِّرًا في المسبَّب شرك؛ لأنَّ الله تعالى أضاف التأثير إلى القدرة المحدثة في آيات كثيرة منها: قولُه تعالى: ?سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ? [الأعراف: 57]، وقوله تعالى: ?فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ? [النمل: 60]، وقوله تعالى: ?يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ? [المائدة: 16]، وقوله تعالى: ?قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ? [التوبة: 14]، فكان الله تعالى هو المعذِّب، وجعل الأيدي أسبابًا وأوساطًا في لحوق العذاب إليهم، والآيات كثيرةٌ، وهو أمرٌ ظاهرٌ بالنصوص الشرعية والعقل والمشاهدة.
وفي معرِض الردِّ على كلام الرافضي عن مقالة أهل السُّنَّة في مسألة القدر يقول ابن تيمية -رحمه الله-: «والحوادث تضاف إلى خالقها باعتبار، وإلى أسبابها باعتبار، فهي من الله مخلوقةٌ له في غيره، كما أنَّ جميع حركات المخلوقات وصفاتها منه، وهي من العبد صفة قائمة به، كما أنَّ الحركة من المتحرِّك المتَّصف بها وإن كان جمادًا، فكيف إذا كان حيوانًا؟ وحينئذ فلا شركة بين الرب والعبد لاختلاف جهة الإضافة، كما أنَّا إذا قلنا: هذا الولد من هذه المرأة بمعنى أنها ولدته، ومن الله بمعنى أنه خلقه لم يكن بينهما تناقض، وإذا قلنا: هذه الثمرة من هذه الشجرة، وهذا الزرع من الأرض بمعنى أنه حدث فيها، ومن الله بمعنى خلقه منها لم يكن بينهما تناقض»(2). اه
أمَّا عبارات الأصوليين المتواردة النقل بأنَّ «السبب غير فاعل بنفسه، وإنما وقع المسبب عنده لا به»(3) فقد احتوت عبارتهم ضمن عموم السياق إنكارًا لأن تكون للأسباب أي تأثير على المسبَّبات، وهو مذهبُ الأشاعرة الذين نَحَوا منحى الجبرية، حيث لا يثبتون في المخلوقات قُوًى وطبائعَ، ويقولون: إنَّ الله فعل عندها لا بها، وإنَّ قدرة العبد لا تأثير لها في الفعل، أي: ليس في النار قوة الإحراق لكن عند وجود النار يخلق الله الإحراقَ بلا تأثيرٍ من النار، وليس في الماء قوة الإغراق، وإنما عند وجود الماء يخلق اللهُ الإغراقَ بلا تأثيرٍ من الماء، ولا في السكِّين قوة القطع، وإنما عند وجود السكين يخلق الله القطعَ بلا تأثير من السكين، ولا في الماء والخبز قوة الرَّيِّ والتغذِّي به، وإنما عند وجود الماء والخبز يخلق الله الرَّيَّ والتغذيةَ بلا تأثير من الماء والخبز، ونحو ذلك ممَّا قد أجرى اللهُ العادة بخلق المسبَّبات عند وجود هذه الأسباب.
وهذا المعنى -بلا شكٍّ- طردٌ لعقيدة الجبرية على قاعدة: «أنه لا فاعلَ إلاَّ الله»، وعلى النقيض من هذا المذهب ما قرَّرته القدرية من أنَّ العبد هو الموجِد لفعله، ويضافُ إليه الانفراد بالتأثير، وكذا الأسباب فهي مؤثِّرة بذاتها من غير أن يكون لله تقديرٌ ومشيئةٌ، وقد بينتُ سابقًا أنَّ هذه القاعدة: «لا فاعلَ إلاَّ الله» إنما تصدق في إضافة الانفراد بالابتداع والتوحيد بالاختراع ونحوه، وكذا إضافة التأثير إلى أسباب لم يجعلها الشارع أسبابًا، أمَّا الأسباب القدرية والشرعية فبطلان نفي تأثيرها ظاهرٌ بالشرع والعقل، وأهل السُّنَّة لا ينكرونها، كما لا ينكرون تأثير القُوَى والطبائع في مُسبَّباتها، واللهُ تعالى خالق السبب والمسبَّب، وحدوث المسبَّب بالسبب لا عند السبب، فرجع الكلُّ إلى محضِ خلق الله وأمره وفضله ورحمته، وضمن هذا المعنى يقول ابن تيمية -رحمه الله-: «فالذي عليه السلف وأتباعهم وأئمَّة أهل السُّنَّة وجمهورُ أهل الإسلام المثبتون للقدر المخالفون للمعتزلة إثبات الأسباب، وأنَّ قدرة العبد مع فعله لها تأثيرٌ كتأثير الأسباب في مُسبَّباتها، واللهُ تعالى خلق الأسباب والمسبَّبات، والأسبابُ ليست مُستقِلَّة بالمسبَّبات، بل لا بدَّ لها من أسباب أُخَر تعاونها، ولها -مع ذلك- أضداد تمانعها، والمسبَّب لا يكون حتى يخلق الله جميعَ أسبابه، ويدفع عنه أضدادَه المعارضةَ له، وهو سبحانه يخلق جميعَ ذلك بمشيئته وقدرته، كما يخلق سائرَ المخلوقات، فقدرة العبد سبب من الأسباب، وفعلُ العبد لا يكون بها وحدها، بل لا بدّ من الإرادة الجازمة مع القدرة، وإذا أريد بالقدرة القوة القائمة بالإنسان فلا بدَّ من إزالة الموانع كإزالة القيد والحبس ونحو ذلك، والصاد عن السبيل كالعدو وغيره»(4). اه
فأهل السُّنَّة والجماعة -في هذه المسألة- وسط بين الجبرية والقدرية، ويدلُّ على هذه الوَسَطية ما ذكره ابن أبي العز الحنفي -رحمه الله- حيث قال: «فكلُّ دليلٍ صحيحٍ يقيمه الجَبْرِيُّ فإنما يدلُّ على أنَّ الله خالقُ كلِّ شيءٍ، وأنه على كلِّ شيءٍ قديرٌ، وأنَّ أفعال العباد من جُملة مخلوقاته، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولا يدلُّ على أنَّ العبد ليس بفاعلٍ في الحقيقة ولا مُريدٍ ولا مُختارٍ، وأنَّ حركاتِه الاختياريةَ بِمَنْزلةِ المرتعش، وهبوب الرياح وحركة الأشجار.
وكلُّ دليلٍ صحيحٍ يقيمه القَدَرِيُّ، فإنما يدلُّ على أنَّ العبدَ فاعلٌ لفعله حقيقة، وأنه مُريدٌ له، مختارٌ له حقيقةً، وأنَّ إضافته ونسبتَه إليه إضافةُ حقٍّ، ولا يدلُّ على أنه غيرُ مقدورٍ لله تعالى، وأنه واقعٌ بغير مشيئته وقدرته.
فإذا ضممت ما كلِّ طائفةٍ منهما من الحقِّ إلى حقِّ الأُخرى، فإنما يدلُّ ذلك على ما دلَّ عليه القرآن وسائرُ كتب الله المُنَزَّلة، ومن عموم قدرة الله ومشيئته لجميع ما في الكون من الأعيان والأفعال، وأنَّ العباد فاعلون لأفعالهم حقيقةً، وأنهم يستوجبون عليها المدح والذمّ»(5).
فهدى اللهُ المؤمنين أهلَ السُّنَّة لما اختلفوا فيه من الحقِّ بإذنه، واللهُ يهدي من يشاءُ إلى صراطٍ مستقيمٍ.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في 16 جمادى الثانية 1429ه
الموافق ل: 20 جوان 2008م
__________
1- انظر: «مجموع الفتاوى»: (8/389).
2- «منهاج السنة النبوية» لابن تيمية: (3/146).
3- انظر: المستصفى للغزالي: 1/94، روضة الناظر لابن قدامة: 1/162، شرح مختصر الروضة للطوفي: 1/425، الموافقات للشاطبي: 1/196، المدخل لابن بدران: 169.
4- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية: (8/487-488).
5- «شرح العقيدة الطحاوية» لابن أبي العز: (2/640-641).(17/40)
الفتوى رقم: 953
في معنى دلالة الإشارة
السؤال:
في الصفحة [94] من «الفتح المأمول» في تعريف دليل الإشارة أنه اللازم غير المقصود وهو معلوم له للزوميته، وأخذ الناس به بعد علمه، أي: معلوم لله تعالى، فكيف يكون بعد ذلك غير مقصود؟ بيِّنوا لنا: غير مقصود، بارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فقد دلَّ الاستقراء على أنَّ المنطوق غير الصريح له في الدلالة على الحكم أنواع ثلاثة وهي: دلالة اقتضاء، ودلالة إيماء، ودلالة إشارة، فالاقتضاء والإيماء يرتبطان بكون اللازم مقصودًا للمتكلِّم، بينما ترتبط الإشارة بكون اللازم غير مقصود له، وعليه فدلالة الإشارة هي دلالة اللفظ على لازمٍ غير مقصود للمتكلِّم، لا يتوقَّف عليه صدق الكلام ولا صِحَّته، فيتبع اللفظ ما لم يقصد به ويبنى عليه(1)، وقد ورد في «الفتح المأمول» التمثيل له بأقل مدة الحمل: ستة أشهر من قوله تعالى: ?وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا? [الأحقاف: 15]، مع قوله تعالى: ?وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ? [لقمان: 14]، وقد خفي ذلك على كثير من الصحابة رضي الله عنهم حتى أدرك اللازم غير المقصود كلٌّ من عليّ وابن عباس رضي الله عنهم، واستحسنه الصحابة وارتضوه، ففي تفسير القرطبي جاء أنّ «ابن عباس قال: إذا حملت تسعة أشهر أرضعت واحدا وعشرين شهرًا، وإن حملت ستة أشهر أرضعت أربعة وعشرين شهرًا، وروي أنّ عثمان قد أتي بامرأة قد ولدت في ستة أشهر فأراد أن يقضي عليها بالحدّ، فقال له عليّ رضي الله عنه: ليس ذلك عليها، قال الله تعالى: ?وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا?، ?وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ? [البقرة: 233]، فالرضاع أربعة وعشرون شهرًا، والحمل ستة أشهر، فرجع عثمان عن قوله ولم يحدّها»(2).
ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: ?أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ? [البقرة: 187]، فعبارة النصِّ القرآني تدلُّ على إباحة الأكل والشرب والجماع في جميع الليل من أيام رمضان إلى طلوع الفجر الصادق، ويدلُّ بالإشارة على من أصبح جُنُبًا فصومه في ذلك اليوم تامٌّ؛ لأنّ الله تعالى قال: ?ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ? وإذا كان الجماع من أَوَّل الليل إلى آخره، فقد يطلع الفجر عليه وهو جنب؛ لأنَّ الاغتسال يكون بعد طلوع الفجر لا محالةَ، فيلزم جواز الإصباح جُنُبًا، وهذا الحكم فَهِمَه ابن عباس رضي الله عنهما(3)، وقد حكي هذا الاستنباط عن محمَّد بن كعب القرظي من أئمَّة التابعين(4).
ومن الأمثلة -أيضًا- قوله تعالى: ?وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ? [البقرة: 233]، فالآية تدلُّ على أنَّ نفقةَ الوالدات من رِزقٍ وكسوةٍ واجبةٌ على الآباء؛ لأنه من ظاهر اللفظ وسيق الكلام من أجله(5)، وتدلُّ الآية بالإشارة على نسب الولد إلى أبيه دون أُمِّه؛ لأنه أضاف الولد إليه بحرف «اللام» التي هي للاختصاص، والاختصاص لا يكون بالمِلك إجماعًا، فكان مختصًّا به من حيث النسب.
فدلَّ اللفظ في الأمثلة السابقة على حكمٍ غير مقصودٍ ولا سيق له النصُّ، ولكنه لازم للحكم الذي سيق لفائدته الكلام وليس بظاهرٍ من كُلِّ وجه، فهي دلالة باللازم، كرجل ينظر ببصره إلى شيءٍ ويدرك مع ذلك غيرَه ببصره، فمدلول كلٍّ من العبارة والإشارة ثابت بالنصِّ، غير أنه يظهر التفاوت عند التعارض؛ لأنَّ الأول سيق الكلام من أجله، والثاني لم يسق من أجله(6).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر 15 رجب 1429ه
الموافق ل: 18/07/2008م
__________
1- انظر: «المستصفى» للغزالي (2/188)، «الإحكام للآمدي» (2/209)، «كشف الأسرار» للبخاري (1/68)، «أصول السرخسي»: (1/236)، «مناهج العقول» للبدخشي: (1/231)، «شرح الكوكب المنير» للفتوحي (3/486)، «فتح الغفار» لابن نجيم: (2/44)، «إرشاد الفحول» للشوكاني: (187)، «نشر البنود» للعلوي: (1/93).
2- «تفسير القرطبي»: (16/193).
3- «بداية المجتهد» لابن رشد (1/294).
4- «شرح الكوكب المنير» للفتوحي (3/377).
5- «تفسير الطبري»: (5/43).
6- «كشف الأسرار» للبخاري: (1/68)، «أصول السرخسي»: (1/236).(17/41)
الفتوى رقم: 961
في اشتباه المطلق بالعام
السؤال:
في الصفحة [75] من «الفتح المأمول» عند قوله تعالى: ?فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا? [المائدة: 38]، قلتم: اليد مُطلقة، وليس كذلك؛ لأنها معرفة، والإطلاق من شأن النكرة؛ لذلك قال أهل اللغة: إنَّ النكرة تتعرف أو تقترب من التعريف إذا خُصِّصت أو عُمِّمت، وأيضًا فإنَّ دلالتهما على الكفِّ والساعد والعضد، وعلى الكفِّ وحده من باب المشترك، لا من باب المُطلق فيمكن العمل به بدون تقييده، والله أعلم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فاعلم أنَّ المطلق هو: «مَا دَلَّ عَلَى مَاهِيَةِ الشَّيْءِ بِلاَ قَيْدٍ مِنْ وِحْدَةٍ أَوْ كَثْرَةٍ»، هذا إذا ما روعيت ماهيته، أمَّا إذا روعيت أفراده فالمطلق هو: «مَا دَلَّ عَلَى وَاحِدٍ شَائِعٍ مِنْ جِنْسِهِ»، وكلاهما مُعتَبَرٌ في المطلق، وعلى هذا الأساس فإنَّ النكرة قد تكون من قبيل المطلق وقد لا تكون، والمعرفة قد تكون من قبيل المطلق وقد لا تكون منه، فَبَيْنَ النكرة والمطلق عمومٌ من وجهٍ لتصادقهما في نحو «رقبة» كما في قوله تعالى: ?فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ? [المجادلة: 3]، ويفترقان في أنَّ النكرة تنفرد عن الإطلاق فيما دخلته أداة العموم نحو «كلّ رجل، أو لا رجل» وينفرد المطلق فيما إذا دخلت عليه «أل» الدالة على الجنس لا الاستغراق(1)، كقوله تعالى: ?إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ? [العنكبوت: 45].
هذا، ويخرج ممَّا تقدَّم من تعريف المطلق المحترزات التالية:
- جميع ألفاظ العموم الدالة على استغراق الأفراد المتناولة لها، فهي لا تدل على فردٍ شائعٍ في الجنس -كما هو حال المطلق- لا مباشرة ولا عن طريق الدلالة عن الماهية.
ولهذا أقام العلماء الفرق بين العامِّ الذي عمومُه شمولي، والمطلق الذي عمومه بَدَلي، و«الأيدي» في الآية مطلقة عن تقييد لدلالتها على الماهية التي تصدق على فردٍ شائعٍ في الجنس، وهي إمَّا الكفّ أو المرفق أو المنكب أو اليمنى أو اليسرى لا على وجه الشمول، وإنما على جهة البدل.
قال الشوكاني: «والفرق بين عموم الشمول وعموم البدل، أنَّ عُموم الشمول كُلِّي يحكم فيه على كُلِّ فردٍ فردٍ، وعموم البدل كُلِّي من حيث إنه لا يمنع تصور مفهومه من وقوع الشركة فيه، لكن لا يحكم فيه على كلِّ فرد فرد، بل على فردٍ شائعٍ في أفراده يتناولها على سبيل البدل، ولا يتناولها أكثر من واحد منها دفعة»(2).
- المعارف التي تتناول أفرادًا معيَّنةً لا شائعة(3) نحو: زيد، أو تلك التي دخلتها «أل» للاستغراق، كقوله تعالى: ?إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ ...? الآية [الأحزاب: 35]، أو التي للعهد مثل قوله تعالى: ?كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً، فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ? [المزّمِّل: 15، 16]، فلا يعُمُّ مع قرينة العهد اتفاقًا؛ لأنه يصرفه إلى ذلك فلا يعَُمُّ إذا عرف.
- ويخرج -أيضًا- من تعريف المطلق الألفاظ التي تدلُّ على فردٍ شائعٍ في النوع لا في الجنس، نحو قولك: «صوم النفل»، فإنَّ كلمة الصوم تدلُّ على فردٍ شائعٍ في نوع النفل لا في جنس الصيام، فهذا التقييد يخرجه من الإطلاق الكلي المعني بالتعريف إلى الإطلاق الإضافي.
وأمَّا إقحام صورة المسألة في باب المشترك فغايةٌ في البعد؛ لأنَّ لفظ المشترك موضوع للدلالة على معنيين أو معانٍ مختلفة بأوضاع متعدِّدة، كلفظ العين فإنه يُطلق على الباصرة، وعين الشمس، وينبوع الماء، والجاسوس، والمال الناض، وعلى السحاب ينشأ من قبل القبلة، وقد وضع لكلٍّ منها بوضعٍ واحدٍ، قال السيوطي: «وقد حَدَّه أهلُ الأصول بأنه اللفظ الواحد الدالُّ على معنيين دلالة واحدة فأكثر دلالة على السواء عند أهل تلك اللغة»(4).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 14 رجب 1429ه
الموافق ل: 17/07/2008م
__________
1- انظر: «فواتح الرحموت» للأنصاري: (1/360).
2- «إرشاد الفحول» للشوكاني: (114).
3- ويستثنى من المعارف الاسم الذي دخلته أداة جنس، وإن عارض الاستغراق عرف أو احتمال تعريف جنس لا يعم، كقولهم: من أكره على الطلاق، أو إذا عقل الصبي الطلاق، وأشباه هذا ممَّا يراد به الجنس، ولا يفهم منه الاستغراق. [«شرح الكوكب المنير» للفتوحي: (3/132)].
4- «المزهر» للسيوطي: (1/171).(17/42)
الفتوى رقم: 965
في اعتبار الشرط الشرعي بأنواعه
السؤال:
في صفحة [40] من «الفتح المأمول» قولكم: «دخول الوقت شرط وجوب» هذا خطأ؛ لأنَّ شرط الوجوب لا تتخلَّف الصحة بتخلُّفه، وليس الأمر هنا كذلك، وعندي: أنَّ تعريفي السبب والشرط فيهما إبهام وتداخل، وشرط [الوجوب] ليس داخلاً في تعريف الشرط البتة، فعبارة «يلزم من وجوده الوجود» الوجود الثاني قد يكون وجود الصحة أو وجود الوجوب لا وجود الفعل؛ لأنه لا يكون إلاَّ بفعل المكلَّف له.
لذلك في نظري أنَّ التعريفات تكون كالآتي:
-1- شرط الصِّحة: هو ما يلزم من وجوده الصحة ومن عدمه عدمها.
-2- شرط الوجوب: هو ما يلزم من وجوده الوجوب ومن عدمه عدمه.
-3- السبب: هو ما يلزم من وجوده الوجوب والصحة معًا، ومن عدمه عدمها معًا.
-4- المانع: - مانع من الصحة: ما يلزم من وجوده عدم الصحة.
- مانع من الوجوب: ما يلزم من وجوده عدم الوجوب. والله أعلم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالمقصود بالشرط الشرعيِّ الذي هو قسيمٌ للشرط اللغوي والعقليِّ والعاديِّ إنما هو على أنواع: شرط وجوب، وشرط صِحة، كما صرَّح بذلك أهل العلم، وعَنَوْا بكونهما شرطين انتفاء الحكم عند انتفائهما(1)، وزاد بعضُهم شرط الأداء.
ومعيار الفرق بين شرط الوجوب كزوال الشمس وسائر الصلوات أسباب لوجوبها، وطلوع الهلال سبب وجوب رمضان، وصلاة العيدين والنسك، والبلوغ شرط لوجوبها، والنقاء من الحيض والنفاس، وحولان الحول شرط لوجوبها، وغيرهما من شروط الوجوب المتجرِّدة من خطاب التكليف والطلب، فشرط الوجوب هو ما يكون الإنسان بسببه مكلَّفًا، ولا يؤمر بتحصيل ما كلّف به سواء دخل تحت قدرته أم لم يدخل، أمَّا شرط الصحة كالوضوء للصلاة وستر العورة لها، وقراءة الفاتحة فيها، فهو ما جعل وجوده سببًا في حصول الاعتداد بالفعل وصِحته، غير أنَّ صحة الواجب قد تشترط لها شروط في الوجوب من حيث هي شروط في الوجوب، لذلك حصل التلازم الرابط بين شرط الوجوب وشرط الصحة، فكلُّ شرط وجوب فهو شرط صحة، لتوقُّف الصحة على الوجوب؛ ذلك لأنَّ شرط الوجوب من خطاب الوضع وشرط الصحة من خطاب التكليف والطلب، وخطاب الوضع أعمُّ من خطاب التكليف عمومًا مُطلقًا، إذ قد ينفرد خطاب الوضع حيث لا تكليف كلزوم المتلفات وأروش الجنايات لغير المكلف كالصبي، بينما لا يتصور استقلال خطاب التكليف عن خطاب الوضع، وتقريرًا لهذا المعنى قال القرافي: «لا يُتَصوَّر انفراد خطاب التكليف، إذ لا تكليف إلاَّ وله سبب أو شرط أو مانع»(2)، ووافقه عليه الطوفي بقوله: «وهذا أشبه بالصواب»(3). وعليه، فلا يقال بأنّ شرط الوجوب لا تتخلَّف الصحة بتخلُّفه -كما جاء عن المعترض-.
وأمَّا شرط الأداء فهو حصول شرط الوجوب مع التمكُّن من إيقاع الفعل، فيخرج الغافل والنائم والساهي ونحوهم، فإنهم غير مُكلَّفين بأداء الصلاة مع وجوبها عليهم لوجود مانع.
هذا، وقول المعترض على إيراد القسمة السابقة بشرط الوجوب بأنها خطأ ينم عن جهل مُركَّبٍ من جهة مخالفته لما درج عليه الأصوليون من إقامة الفرق بين شرط الوجوب وشرط الصحة؛ ولأنَّ في نفي هذه القسمة إبطالاً لعين التفريق بين خطاب التكليف وخطاب الوضع، إذ شرط الصحة من خطاب التكليف -كما تقدم- وشرط الوجوب من خطاب الوضع، ولا قائل بنفيه.
والمراد من صيغة تعريف الشرط بأنه: «لا يلزم من وجوده الوجود» إنما هو وجود الحكم المترتِّب على وجود الشرط الشرعي بأنواعه سواء كان شرط وجوب أو شرط صحة أو شرط أداء.
والالتباس الواقع في تعريف الشرط والسبب فإنما هو حاصل من جهة اشتراكهما في العدم، وقد وضع العلماء ضوابط التفريق بينهما تظهر على الجهات التالية:
• من جهة الإضافة: فالسبب يضاف الحكم إليه، مثل أن يُقال: صلاة الظهر، أو كفارة اليمين، فالصلاة حكم شرعي أضيف إلى سببه هو الظهر، وكذلك الكفارة فهي حكم شرعي أضيفت إلى سببها وهو اليمين، ولا يحصل ذلك في الشرط فلا يقال فيه صلاة الوضوء، أو زكاة الحول، أو صلاة ستر العورة مثلاً.
• من جهة التأثير: فالشرط يؤثِّر في الحكم من جهة العدم فقط، بينما السبب يؤثِّر في الحكم من جهة الوجود والعدم، فوجود الوضوء لا يلزم منه الصلاة، فهو شرط؛ لأنَّ السبب يلزم من وجوده وجود المسبَّب. كالسرقة فإنه يلزم من وجودها وجودُ الحكم، وهو قطعُ اليد.
• من جهة الاقتران بالحكم: فالشرط يأتي مقارنًا للحكم غير مفارق له، كالطهارة للصلاة، والحول للزكاة، بخلاف السبب فلا يلزم فيه المقارنة، فقد يأتي السبب مُتقدِّمًا على الحكم وهو الأصل، فأكثر الأحكام من هذا القبيل، مثل الأسباب الموجبة للصلوات والزكاة والحجِّ والبيع والنكاح، فيتأخَّر حكم الشيء عن سببه، وقد يأتي السبب مقارنًا للحكم وهو واقع في العديد من الأحكام كشرب الخمر والزنا والسرقة وقطع الطريق فهي أسباب موجِبة للحدِّ، ومثل إحياء المَوَات فإنه سبب فوري للملك.
• من جهة المناسبة الذاتية: فالشرط ليس فيه مناسبة في نفسه بخلاف السبب فإنه مناسب في ذاته، فمثلاً: النصاب فإنه سبب في وجوب الزكاة، وهو مشتمل على الغِنى في ذاته بخلاف حولان الحول ومروره فإنه ليس فيه مناسبة في ذاته، وإنما هو مُكمِّل لحِكمة الغِنى في النِّصاب، وذلك مِن تنمية المال في جميع الحول.
هذا، والتعريفات التي ذكرها المعترض خلط عريض لا يستقيم مع صِحة النظرة الأصولية، فقد جعل الشرط بنوعيه مؤثِّرًا في الحكم من جهة الوجود، وهو غير صحيح؛ لأنَّ المراد بشرط الصحة والوجوب كونهما نوعي الشرط الشرعي، والذي هو قسيم السبب، كما أوقع المعترض من تداخل بين الشرط والسبب والمانع ما لا تشهد له المصادر الأصولية برُمَّتها.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في 8 رجب 1429ه
الموافق ل: 11 جويلية 2008م
__________
1- «المحصول» للرازي: (2/206)، «مذكرة الشنقيطي» في الأصول: (43).
2- «شرح تنقيح الفصول» للقرافي: (81).
3- «شرح مختصر الروضة» للطوفي: (1/440).(17/43)
02 القواعد الفقهية
الفتوى رقم: 268
في تقديم ضرر الغير لإزالة الضرر عن النفس
السؤال: هل يجوز تقديم الضرر للغير لإزالته عن النفس في حالة الإكراه؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فإن أكره إكراها مطيقا للإقدام والإحجام فيه كالتهديد بالقتل أو التعذيب والضّرب فإن كان في الأفعال فما كان حقّاً للمخلوقين فهو مؤاخذ به كقتل المعصوم الدم لإنقاذ نفسك، أو إتلاف ماله لإنقاذ مالك والإكراه لا يحلّ له ذلك إجماعا، قال القرطبي:" أجمع العلماء على من أكره على قتل غيره أنّه لا يجوز له الإقدام على قتله ولا انتهاك حرمته بجلد أو غيره، ويصبر على البلاء الذي نزل به، ولا يحل له أن يفدي نفسه بغيره، ويسأل الله العافية في الدنيا والآخرة".
والله أعلم وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على نبينا محمّد وعلى آله وسلّم تسليما.
الجزائر في : 30 جمادى الثانية 1426هـ
الموافق لـ: 5 أوت 2005م .(17/44)
الفتوى رقم: 338
اعتراض على تعريف القاعدة الفقهية والجواب عليه
السؤال: لدي -شيخنا- طرحان انقدحا في ذهني نرجوا من سماحتكم الإجابة عنهما، وهما متعلقان بتعريف القاعدة الفقهية.
1. في استغنائكم عن لفظ "كلّي" بحجة أنّ قيد "يجمع في ذاته" تغني عنه، ولكن ألا ترون أنّ إبقائه أولى من نزعه وذلك ليفهم قارؤه أنّ صاحب هذا الحدّ يرى أنّ الراجح وصف القاعدة الفقهية ب "كلّية" لا "أغلبية" ويكون هذا اللفظ مؤكدا لكونها جامعة، وفاصلا في المسألة المختلف فيها.
2. أليس الأولى تقديم لفظ "من أبواب شتى" على لفظ "بلا واسطة" وذلك لأنّ الأول تابع لما قبله وهو "أحكام جزئية" فتوصف بأنّها من أبواب شتى ثمّ طريقة جمعها لهذه الجزئيات وهي "بلا واسطة".
نرجوا الإجابة عن هذين الطرحين وجزاكم الله عنّا خير الجزاء، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فمن المعلوم أنّ التعريف: هو تحديد الشيء بذكر خواصه المتميزة بحيث يكون جامعا لكلّ خصائصه ومميزاته مانعا من إقحام غيره فيه.
والأصل في التعريفات أن تقتصر على الألفاظ الدالة المحددة للمعرّف به، فإن اكتفى بفائدة التأسيس فيهنّ فإنّ التأكيد يرد على شرح التعريف، لكن إذا كان التعريف لا يظهر معناه إلاّ بمؤكد لفظي فإدخاله لا يثقل التعريف، بل يساعده في الفهم.
وعليه فإن رأى السائل الاحتفاظ بتعريف القاعدة بوصف "الكلية" كلفظ مؤكد للتعريف وحاجة التعريف له في زيادة الفهم والبيان وتقرير المسألة المختلف فيها بين "الكلية" و"أغلبية" فله أن يستبقيها، ومن رأى غير ذلك فله أن يتناول تفصيلها بالبيان حال شرح التعريف، والعلم عند الله تعالى.
- جملة "بلا واسطة" اعتراضية تعترض بين شيئين يحتاج كلّ منهما الآخر، فقد اعترضت بين قولنا "أحكام جزئية" وبين "من أبواب شتى"، مفاد هذا الاعتراض -كما يقول النحاة- توكيد الجملة وتقويتها، أي أنّ القاعدة الفقهية تستغني عن الواسطة في جمعها الأحكام الجزئية، وتفيد ذلك مباشرة بالنظر لتعلقها بفعل المكلف فهو قيد يحترز به من القاعدة الأصولية.
بينما إيراد عبارة "من أبواب شتى" تقصداً للاحتراز من الضوابط الفقهية ولا يخفى أنّ الاحتراز من الأول أولى من الثاني.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
الجزائر في: 26 رمضان 1422ه
الموافق ل : 12 ديسمبر 2001 م(17/45)
الفتوى رقم: 339
العلاقة بين القاعدة الفقهية والقاعدة الأصولية
السؤال: شيخنا الفاضل -حفظكم الله-، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
نرجو منكم توضيح ما يلي:
إذا كانت القاعدة الفقهية ذات عموم مطلق لا نسبي فهل تدرج ضمن القواعد الأصولية؟
وهل توجد قواعد فقهية هي في نفس الوقت قواعد أصولية؟
وبارك الله فيكم وأحسن إليكم.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فبخصوص السؤال الأول ذكرنا أنّ القاعدة الفقهية قاعدة كلّية، وبينا أنّه لا يعني بلفظ "كلي" أنّه يصدق على جميع الأفراد بحيث لا يخرج منها فرد، كما هو أمر القاعدة الأصولية أو النحوية في الجملة، وإنّما المراد من ذلك أنّها كلّية نسبية لا شمولية بالنظر إلى وجود مستثنيات وشذوذ، لكن هذا لا يغير صفة العموم للقاعدة الفقهية، لأنّ العموم الشرعي عموم عادي طريقه الاستقراء، والعموم العادي لا ينقضه تخلف المفردات عنه، وإنّما العموم العقلي هو الذي يوجب عدم تخلف المفردات لأنّه عموم تام طريقه البحث والنظر.
- نعم توجد قواعد فقهية أصولية مشتركة مثل:
قاعدة:" إذا دار الأمر بين التأسيس والتأكيد تعين الحمل على التأسيس".
قاعدة:" الأصل في الأشياء الإباحة".
قاعدة:" الاستثناء من النفي إثبات ومن التحريم إباحة".
قاعدة:" الاستنباط من النص بما ينعكس عليه بالتغيير مردود" وهو معنى قولهم " إذا استنبط معنى من أصل فأبطله فهو باطل".
وقاعدة:" الأصل إقامة الشرط مقام السبب عند تعذر تعليق الحكم بالسبب".
وقاعدة:" السكوت في معرض الحاجة إلى بيان بيان" وهو معنى قولهم "الإذن دلالة بمنزلة الإذن إفصاحاً".
وقاعدة:" الأصل أنّ زيادة اللفظ لزيادة المعنى".
وقاعدة:" اختصاص السبب بمحل لا يكون إلاّ لاختصاصه بحكم يختص بذلك المحل".
وقاعدة:" الاستثناء المعلوم بدلالة الحال كالاستثناء بالشرط".
وقاعدة:" الأسباب الشرعية لا تنعقد خالية عن الحكم وإن تأخر الحكم" وقاعدة:" الأصلان إذا تعارضا في لوازمهما فقد يُعطى كل أصل حكمه وإن تناقضا".
هذه -إذن- بعض القواعد المشتركة بين الفقه والأصول.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
الجزائر في: 26 رمضان 1422ه
الموافق ل : 12 ديسمبر 2001م(17/46)
الفتوى رقم: 340
مصطلح القوانين الفقهية وعلاقتها بالقواعد الفقهية
السؤال: شيخنا حفظكم الله العلي القدير وزادكم علما وبارك فيه، نرجو توضيح ما يلي:
في أي نوع من الاصطلاحات التي أخذناها يمكن إدراج مصطلح (القوانين الفقهية) ككتاب ابن جزي.
-أحسن الله إليكم-
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فكتاب "القوانين الفقهية في تلخيص مذهب المالكية" لأبي القاسم ابن جزي المتوفى سنة (741ه) فإن عنوان الكتاب وتسميته بالقوانين يوحي بوجود علاقة وطيدة بعلم قواعد الفقه، ولكنّه -عند التحقيق- لا صلة له البتة في مضمونه بالقواعد الفقهية، إذ لا يخرج عن كونه كتابا فقهيا يتضمن تلخيصا لمذهب مالك -رحمه الله- والإشارة إلى مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد رحمهم الله، كما يذكر المسائل والأقوال غير مقرونة بأدلتها مبتدئا بمذهب مالك، ثمّ يتبعه بالمذاهب الأخرى، وافتتح كتابه بعشرة أبواب في التوحيد، وأعقبه بنفس التقسيم العددي للأبواب في المسائل الفقهية، وذيله بكتاب جامع في السيرة وتاريخ الخلفاء والأخلاق.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
الجزائر في 26 رمضان 1422 ه
الموافق ل : 12ديسمبر 2001م(17/47)
الفتوى رقم: 341
النظريات الفقهية وعلاقتها بالأبواب الفقهية
السؤال: هل يمكن اعتبار النظريات الفقهية أبوابا فقهية؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فلا يمكن اعتبار النظريات الفقهية أبوابا فقهية، لأنّ النظرية هي موضوع فقهي شامل لمسائل فقهية مؤلفة من جملة عناصر تحكمها وحدة موضوعية ذات حقيقة متمثلة في أركان وشروط وأحكام، كنظرية الضمان والملكية والإثبات وغيرها، أمّا الأبواب في الكتاب هي عبارة عن القسم الذي يجمع مسائل من جنس واحد "ككتاب الطهارة" مثلا فيجمع جملة من الأبواب مثل "باب المياه، باب إزالة النجاسة، باب الوضوء، باب النية، باب الاستنجاء، باب الاستبراء، باب نواقض الوضوء، باب الغسل، باب الحيض والنفاس، باب التيمم، باب مسح الخفين" فهذه الأبواب هي مسائل وأحكام من جنس واحد وليس بينها وحدة موضوعية ذات أركان وشروط وأحكام، كما تغيب عن مسائلها الفقهية العناصر التي تؤلف بينها وتحكم عناصر ذلك النظام الموضوعي في كلّ ما يتصل بموضوعه فافترقت النظريات عن الأبواب.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
الجزائر في: 26 رمضان 1422ه
الموافق ل : 12 ديسمبر 2001 م(17/48)
الفتوى رقم: 345
حجية القاعدة الفقهية
السؤال: ذكرتم في فصل "حجية القاعدة الفقهية" أنّها غير حجة إذا لم تكن دليلا شرعيا أو معبرة عنه أو مشتركة، وذلك لسببين: أحدهما أنّ القاعدة لا تخلو من مستثنيات فلا يدري المجتهد إذا أعملها في فرد ما أن يكون ذلك الفرد من مستثنياتها.
وهذه المسألة شبيهة إلى حد كبير بمسألة اعتقاد عموم العام في الحال والعمل به من غير توقف على البحث عن مخصص وهو مذهب الجمهور -كما تعلمون-
فهل يمكن أن يقال في تلك مثل ما يقال في هذه؟ وجزاكم الله -عنا- خير الجزاء، والسلام عليكم.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فهذه المسألة ليست شبيهة بها، لأنّ مسألة اعتقاد عموم اللفظ قبل ظهور المخصص حكمها وجوب اعتقاد العموم في حال العمل به، وإذا اعتقد عمومه وجب العمل بذلك العموم إذا حلّ وقت العمل به من غير البحث عن مخصص، فإن ظهر المخصص تغير ذلك الاعتقاد، وإن خلا العموم من مخصص له وجب الاستمرار في العمل بالعام، ولا يخفى أنّ العام حجة باتفاق، وهذه قاعدة أصولية كما هو ظاهر، بينما القاعدة الفقهية فليست لها الحجيّة إلاّ إذا كانت دليلا شرعيا أو معبرا عن دليل ومن هنا يظهر التباين في الحكم فضلا عن الفوارق المعقودة بين القواعد الفقهية والأصولية، نعم، إذا كان الدليل الشرعي الذي أجراه الفقهاء مجرى القاعدة الفقهية وأفاد العموم بلفظه، في هذه الحال وجب اعتقاده والعمل به قبل ظهور مخصص، ولا يتوقف فيه عن البحث عن المخصص.
والله أعلم. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
الجزائر19 من ذي الحجة 1422ه
الموافق ل 4 مارس 2002م(17/49)
الفتوى رقم: 485
معنى قاعدة:" المشتَبَه يجوز عند الحاجة، والشك في المانع لا أثر له"
السؤال: ما المقصود بقول بعض أهل العلم:" المشتبه يجوز عند الحاجة والشك في المانع لا أثر له"؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فالحاجة هي بلوغ الإنسان حدًّا لا يهلك إذا لم يفعل الممنوع لكن يصيبه جهد ومشقة، فالحاجة لا يسوغ معها الحرام وإنما يجوز الخروج على بعض القواعد العامة، فإذا كان الشيء دائرًا بين إمكان الصيام والفطر في رمضان مثلا أو بين النظر الممنوع والجائز وغيرها من طرق الاشتباه فإنه يباح المشتَبه عند قيام الحاجة لأنها تنزل منزلة الضرورة، ووجود المانع لا يحول دون الترخيص لأجلها، والمعلوم أنَّ الحاجة تدخل فيما يسع العبد تركه وإنما رخص لأجلها من باب التوسيع والتسهيل رفعًا للحرج والمشقة بخلاف الضرورة فتدخل فيما لا يسع العبد الترك ولا يتخلص من عهدة اللزوم إلاَّ بتحصيل فعل لابدَّ منه، فلا حرام مع الضرورة.
هذا، و يجدر التنبيه أنَّ القواعد الكلية لا تصلح أن تكون حجة إلاَّ إذا كانت دليلاً مستقلاًّ ثابتًا أو عبَّرت عن دليل أصولي أو ظهر اشتراكها مع قاعدة أصولية، فإنَّها بالمقابل تُعَدُّ شاهدًا مرافقًا للأدلة يستأنس به في تخريج الأحكام للوقائع والقضايا الجديدة إلحاقا قياسيا على المسائل الفقهية المدونة.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 1 جمادى الثانية 1427ه
الموافق لـ: 26 جوان 2006م(17/50)
الفتوى رقم: 643
في ضوابط قاعدة «الضرورات تبيح المحظورات »
السؤال:
ما هي ضوابطُ الضرورةِ التي تُبيحُ المحظورَ؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَن أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالضرورةُ هي الحالةُ التي تَطْرَأُ على العبد من الخطر والمشقَّة الشديدةِ بحيث يخاف حدوثَ ضَرَرٍ أو أذًى بالنفس أو بعُضْوٍ من أعضائه أو بالعِرْض أو بالعقل أو بالمال، أي: إذا لم تُرَاعَ خِيفَ أن تضيع مصالِحُه الضروريةُ؛ لأنّ الضرورةَ ذاتُ صِلة مباشرةٍ بالضرر الذي الأصل فيه التحريم، فيجوز للمضطرِّ الإقدامُ على الممنوع شرعًا كارتكاب الحرام أو ترك واجب أو تأخيرِه عن وقته دفعًا للضرر عنه في غالب ظنِّه ضِمْنَ قُيُودِ الشرع وضوابطه الآتية البيان، ويسقط عنه الإثمُ في حقّ الله سبحانه دفعًا للحرج عنه، ولكن يبقى تعويض حقّ غيره على ما لحقهم من ضرر قائمًا رفعًا للحرج عنهم.
وقيودُ الشرع وضوابطُهُ تتمثّل فيما يلي:
أولاً: أن تكون الضرورةُ قائمةً بالفعل لا مُتوهَّمةً ولا مُنتظَرةً ولا مُتوقّعةً؛ لأنّ التوقُّعَ والتوهُّمَ لا يجوز أن تُبنى عليهما أحكامُ التخفيف.
ثانيًا: أن تكون الضرورةُ مُلْجِئَةً بحيث يُخشى تلفُ نَفْسٍِ أو تضييعُ المصالحِ الضروريةِ وهي حِفظ الضرورياتِ الخمسِ: الدِّين، النفس، المال، العقل، العِرْض.
ثالثًا: أن لا تكون للمضطرِّ لدفع الضرر عنه وسيلةٌ أخرى من المباحات إلاّ المخالفات الشرعية من الأوامر والنواهي.
رابعًا: أن يقتصر المضطرُّ فيما يُباح للضرورة على القدر اللازم لدفع الضرر، أي: الحدّ الأدنى فيه، لذلك قُيّدت قاعدة «الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ المَحْظُورَاتِ » بقاعدةٍ متفرِّعةٍ:« تُقَدَّرُ الضُّرُورَاتُ بِقَدَرِهَا ».
خامسًا: أن يكون وقتُ الترخيصِ للمضطرِّ مقيَّدًا بزمنِ بقاءِ العُذر، فإذا زال العذرُ زَالَ الترخيصُ والإباحةُ، جريًا على قاعدة:« إِذَا زَالَ الخَطَرُ عَادَ الحَظْرُ » أو قاعدةِ:« إِذَا زَالَ المَانِعُ زَالَ المَمْنُوعُ » أو قاعدةِ:« مَا جَازَ لِعُذْرٍ بَطَلَ بِزَوَالِهِ ».
سادسًا: أن يكون الضررُ في المحظور الذي يَحِلُّ الإقدامُ عليه أنقصَ من ضرر حالة الضرورة، فإن كان الضررُ في حالة الضرورة أنقصَ أو يساويه فلا يُباح له كالإكراه على القتل أو الزِّنا فلا يباح واحد منهما لِمَا فيه من المفسدة الراجحة إذ ليس نفسُ القاتل وعِرضُه أولى من نفسِ المقتول وعِرضِه.
ومن ذلك لا يجوز نَبْشُ قبرِ الميِّت -الذي لم يُكفَّن- لغَرَض تكفينه؛ لأنّ مفسدةَ هَتْكِ حُرمته أشدُّ من مفسدةِ عدمِ تكفينه، الذي قام القبرُ مقامَه.
سابعًا: أن لا يكون الاضطرارُ سببًا في إسقاطِ حقوق الآدميّين؛ لأنّ «الضَّرَرَ لاَ يُزَالُ بِمِثْلِهِ »، إذ «الضَّرَرُ يُزَالُ بِلاَ ضَرَرٍ » و«لاَ يَكُونُ الاِضْطِرَارُ مُبْطِلاً لِحَقِّ الغَيْرِ » فما لَحِقَ الغير من أضرارٍ يلزمه تعويضُها عنهم.
ثامنًا: أن لا يخالفَ المضطرُّ مبادئَ الشريعةِ الإسلاميةِ وقواعدَها العامّةَ من الحِفاظ على أصولِ العقيدة وتحقيق العدل وأداء الأمانات، فكلُّ ما خالف قواعدَ الشرع لا أَثَرَ فيه للضرورة؛ لأنّ المضطرّ يُخالف بعضَ الأحكامِ الشرعيةِ لا قواعدَ الشريعةِ العامّةَ.
وحتى يصحّ الأخذ بقاعدة:« الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ المَحْظُورَاتِ » فلا بدّ من مراعاة هذه الشروط والقيود لتخطّي أحكام التحريم والإيجاب بسببها.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 25 من ذي الحجّة 1427ه
الموافق ل: 14 يناير 2007م(17/51)
الفتوى رقم: 928
في العموم العادي للقاعدة الفقهية
السؤال:
في صفحة (34) من «فتح المأمول» قلتم: «فما يثبت من مسائل وقواعد في الأصل يثبت في فرعه»، وهذا ليس على عمومه.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فاعلم أنَّ هذه القاعدةَ فقهيةٌ كُليةٌ، كغيرها من قواعدِ الفقهِ التي يحترز بها عن القواعد غير الشرعية كالقواعد العقلية، وعن القواعد غير الفقهية كالقواعد الأصولية والنحوية، باعتبارها من علوم الآلات الشرعية.
واتِّسامُ القاعدة بصفة الكلية لا يعني أن تَصدُقَ على جميع الأفراد بحيث لا يخرج منها فردٌ؛ ذلك لأنَّ القواعد عمومًا قابلةٌ للانخرام، وتدخلها الاستثناءات، ما عدا القواعد العقلية، فهي مستثناة من العموم فلا تقبل الانخرام والانتقاض.
ومن ثمَّ، فالمستثنيات والشواذُّ إمَّا أن تكون محدودةَ العددِ كما هو في القواعد الأساسية الخمس فلا تختلف عن بقية العلوم الأخرى، وإمَّا أن تكون مُتَّسمةً بصفة الأغلبية، فتُحفظ كما تحفظ الأصول، فتكون أليق بالتخريج على قاعدة أخرى، الأمر الذي لا يُفقِدها صفةَ العموم، والاختلاف فيها إنما هو اختلاف نسبة التفاوت بينها.
فالحاصلُ أنَّ القاعدة الفقهية قاعدةٌ كُلِّيةٌ نِسبية لا شمولية، بالنظر إلى وجود المستثنيات والشواذ، الأمر الذي لا يُغيِّر صفة العموم للقاعدة الفقهية، ولا يحطُّ من شأنها، ولا تنزل عن قيمتها؛ لأنَّ العموم الشرعي عمومٌ عاديٌّ، طريقُه الاستقراء فلا ينقضه تخلُّف المفردات، والعموم العادي لا يوجب عدم التخلف، وإنما يوجبه العموم العقلي، وهو عموم تامٌّ لا يتخلَّف عنه جزئي ما؛ لأنَّ العقليات طريقها البحث والنظر بخلاف الشرعيات.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 15 جمادى الثانية 1429ه
الموافق ل: 18 جوان 2008م(17/52)
****************** 18- فتاوى متنوعة ******************
01- آداب
الفتوى رقم: 292
في مصاحبة مسلمٍ لوالدته المشركة
السؤال: ما حكمُ الإقامةِ مع الوالدة إذا كانت مشركةً؟
الجواب: الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فالوالدةُ يجب بِرُّها وصِلَتُهَا والإحسانُ إليها ومصاحبتُها بالمعروفِ ولو كانت مشركةً مع التبرّؤ من شِرْكِهَا ومحاولةِ هدايتِها، وكذلك الحالُ مع جميعِ الأقارِب؛ لأنّ بُغْضَ أهلِ الشِّرْكِ والكُفرِ وأهلِه لا يعني الإساءةَ لهم بالأقوال أو الأفعالِ، قال تعالى: ?وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا? [لقمان: 15]، وقال تعالى: ?وَاعْبُدُواْ اللهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالجَارِ ذِي القُرْبَى وَالجَارِ الجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ? [النساء: 36]، وقال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم للرَّجل الذي جاء يسأل عن أحقِّ الناس بِحُسْنِ صحابته قال:« أُمُّكَ » قال: ثُمَّ مَنْ؟ قال:« أُمُّكَ » قال: ثُمَّ مَنْ؟ قال:« أُمُّكَ » قال: ثُمَّ مَنْ؟ قال:« أَبُوكَ »(1) الحديث.
وعليه، فلا يَمنعُ بُغْضُنَا لأهلِ الشرك من أداءِ الحقوق لهم وحُسْنِ المخالقة معهم، قال تعالى: ?لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ? [الممتحنة: 8].
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 26 شعبان 1426ه
الموافق ل: 30 سبتمبر 2005م
__________
1- أخرجه البخاري في «الأدب »: (5971)، ومسلم في «البر والصلة والآداب »: (6664)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(18/1)
الفتوى رقم: 306
في حكم طاعة أب يُجبِر ولدَه على بيع الدخان، وتقديم نصيحة له
السؤال: أنا شاب ملتزم أعمل في متجر لبيع المواد الغذائية ومن جملة ما أبيعه التبغ وقد أجبرني الوالد على بيع الدخان وأنا مقتنع بحرمة بيعه لكن الوالد غير مقتنع بحرمة بيعه فبماذا تنصحوني هل أستمر في عملي مع الوالد أم ماذا؟ وما هي نصيحتكم للوالد؟ وبارك الله فيكم.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فلا خلاف بين أهل العلم والطبِّ في ضرر التدخين وقبح آثاره على الصحة والمحيط، وما أدَّى إلى ضرر فيمنع لقوله صلى الله عليه وآله وسلم "لا ضرر ولا ضرار"(1) وقد اتفق العلماء على ذلك بعد ما كان يروج حكم الكراهة من قبلُ، ولكن بعد معرفة حقيقة ضرره وتَسَبُّبِهِ في مرض السرطان والسل وغيرهما تقرَّر أنَّه مِنَ الخبائث التي لا يجوز تعاطيها والسعي إلى بيعها أو ترويجها ولو كانت مداخل التدخين كثيرة، ولمَّا كان كذلك فالواجب أن لا يتعاون مع الغير فيه لِمَا فيه من الإثم والعدوان لقوله تعالى: ?وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ?[المائدة: 2] وما أمرك به والدك فلا تلزمه الطاعة، لأنَّ الطاعة "إنَّما تكون في المعروف"(2) وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم -أيضا- "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"(3)، وعلى الوالد أن يتقي الله في أمواله، وفي نفسه، وفي عياله، وقد ورد في الحديث:" من اكتسب مالاً من مأثم ووصل به رحمه وتصدَّق به وأنفقه في سبيل الله جمع ذلك كلّه وقذف فيه في نار جهنّم"(4).
فعلى الوالد أن يحرص بأن ينفق على أبنائه من المال الحلال، لأنَّ المال الحرام سحت، وما كان سُحْتا فالنار أولى به، وعليه أن يتعاون مع جميع أبنائه على البرِّ والتقوى وأن يشجعهم على الخير وأن يقبل منهم النصيحة التي تعينه على التقرب إلى الله ولا يجوز له أن يترفَّع بنفسه عن الحق، بل يرضى ويُسلِّم لقوله تعالى: ?فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً? [النساء: 65]، فالتسليم لقضاء الله وأحكامه من صفات أهل الإيمان وأهل التقوى والورع الذين يذبّون عن الفضيلة ويتمسكون بالسنة فكن مثلهم تظفر بالقبول في الدنيا والآخرة وبالمال الحلال كما قال تعالى: ?مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ? [النحل: 97]، فالحياة الطيبة: المال الحلال أوالرِّزق الحلال، "ولنجزينهم أجرهم.." هذا بالنسبة للآخرة. وتلك غاية المسلم الذي يكون أقصى أمانيه دخول الجنة بعد رِضاء الله عليه، نسأل الله لنا ولكم الإخلاص والصدق في القول والعمل، ورِضاء الله سبحانه وتعالى على كافة أعمالنا وأن يعفو عمَّا سبق إنَّه وليّ ذلك والقادر عليه.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
الجزائر في: 8 رمضان 1426ه
الموافق ل:11 أكتوبر 2005م
---
1- أخرجه ابن ماجه في كتاب الأحكام (2431) ، ومالك في الأقضية( 1435)، وأحمد (2921 ) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وصححه الألباني في الإرواء(896) ، وغاية المرام (68).
2- أخرجه البخاري في كتاب المغازي(7145)، ومسلم في كتاب الإمارة(4871) من حديث عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.
3- أخرجه أحمد في المسند 1107، وصححه الألباني في صحيح الجامع 7520.
4- أخرجه أبو داود في المراسيل (233)، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد(3/60)، من طريق القاسم بن مخيمرة وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب(1721).(18/2)
الفتوى رقم: 321
في حكم الدعاء عند رؤية البيت الحرام على التلفاز
السؤال: إذا رأى أحدنا البيت الحرام في التلفاز على المباشر، فهل يأتي بالدعاء المأثور؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فالمعهود أن يأتي بالمأثور عندما يراه حقيقة كالذي يدخل إلى المسجد يأتي بالدعاء عند دخوله بعد أن يقدم رجله اليمنى ويقول:" اللهم صل على محمد وسلم، اللهم افتح لي أبواب رحمتك"(1) أو " أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم"(2) ويرفع يديه إذا رأى الكعبة لثبوته عن ابن عباس رضي الله عنهما، وليس له دعاء خاص، وإن دعا بدعاء عمر رضي الله عنه فحسن وهو قوله "اللهم أنت السلام، ومنك السلام فحيِّنا ربنا بالسلام"(3) أمَّا إن رأى المسجد على الشاشة صورة ورأى بوابته وكأنه داخل منها و ليس بداخل حقيقة ، وعليه فما لم تثبت حقيقته لم يثبت حكمه، فشأنه كمن صلى وراء التلفاز بطلت صلاته.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
الجزائر في: 7 رمضان 1426ه
الموافق ل: 10 أكتوبر 2005م
---
1- رواه مسلم في صلاة المسافرين (1685)، وأبوداود في الصلاة (465) وأحمد (24325) من حديث أبي حميد وأبي أسيد الساعدي رضي الله عنهما.
2- رواه أبو داود في الصلاة (466) من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (4715).
3- رواه البيهقي (9483) كتاب الحج، وابن أبي شيبة (4/97) من حديث سعيد بن المسيب، وحسنه الألباني في مناسك الحج والعمرة (ص: 19).(18/3)
الفتوى رقم: 351
أخذ الوالد من مال ولده
السؤال: رجل يأخذ منه والده كلّ مدخوله الشهري وهو يريد استعمال أمواله في واجبات أخرى منها:
1. القيام بفريضة الحج.
2. تحصين فرجه بالزواج.
3. الهجرة والخروج من دار الفتنة.
4. الدعوة إلى الله تعالى.
وقد تعارض هذا مع طاعته لوالده، وذلك بإعطائه جميع ماله فكيف يوفق بين هذه الواجبات؟
الجواب: الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده:
فبعد الاطلاع على فحوى سؤالكم فلا أرى فيما تقدم تعارضا بين مختلف المسائل المذكورة في السؤال، ذلك لأنّ والدك إذا كان يأخذ معظم مدخولك الشهري" فأنت ومالك لأبيك"(1) غير أنّه يفعل ذلك بقصد توسيع البيت خروجا من أزمة السكن، وبالتالي فهو يحقق لك شرطا أساسيا من شروط الزواج الداخل تحت النفقة الزوجية ألا وهو الإسكان، حيث أنّ المقصود بالنّفقة هو توفير ما تحتاج إليه الزوجة من طعام وسكن وخدمة وإن كانت عزيمة لقوله تعالى:? وَعَلَى المَوْلُودِ لَهُ رِزقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالمَعْرُوفِ? [البقرة: 233] وقوله تعالى: ? أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكنتُم مِن وُجْدِكُمْ? [الطلاق: 6].
أمّا القيام بفريضة الحجّ فيمكن أن تتأخر لعدم تحقق شرط الاستطاعة المالية، فضلا عن أنّه إذا تحققت شروطها كان وجوبها معارضا بوجوب الزواج لمن خشي على نفسه الوقوع في الحرام، ويَعلم عدم ظلم زوجته إذا تزوج، وتقديم وجوب الزواج آكد على وجوب الحج، لأنّه يترتب على تقديم الحج مصلحة وتأخير الزواج مفسدة، ودفع المفاسد مقدم على تحقيق المصالح كما هو مقرر في القاعدة الفقهية المنبثقة من قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس" لا ضرر ولا ضرار"(2).
أمّا عن وجوب الدعوة إلى الله فلا يصح إلاّ بعد طلب العلم وتحصيله لقوله تعالى: ? فَاعْلَمْ أنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ ? [محمّد 19] فبدأ بالعلم قبل العمل، وبقوله تعالى: ?إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ? [فاطر: 28]، فحصول الخشية على وجهها الأكمل والأمثل للعلماء، ولقوله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخه :"إنّما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم ومن يتحرّ الخير يعطه ومن يتوق الشر يوقه"(3)ويشهد له ما أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد(4) بسند حسن مرفوعا :"يا أيها الناس إنما العلم بالتعلم والفقه بالتفقه ومن يرد الله به خيرا يفقه في الدين ... وإنما يخشى الله من عباده العلماء"(5) لذلك ترجم الإمام محمد ابن إسماعيل البخاري لهذا المعنى في صحيحه باباً سماه: ( باب العلم قبل العمل)، وعليه فالذي يدعو من غير علم يضرّ بالإسلام أكثر ممّا يجلب له نفعا، لأنّ ( فاقد الشيء لا يعطيه) كما يقول المثل، وبناء على ما تقدم فإنّ الدعوة إلى الله لا تكون واجبة عليك قبل الطلب والتحصيل، وبهذا يظهر لك الجمع ويتم التوفيق على وفق ما سألت.
والله نسأل أن يوفقنا لما فيه خير العباد والبلاد، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
استدراك: أمّا عن وجوب الهجرة فلا تتم - في اعتقادي- إلاّ بشرطها، و لا يصح أنّ أهل القرار والأمر في هذا البلد يمنعون من إقامة شعائر الدين ورفع الأذان والحج إلى بيت الله الحرام، بل الأذان يرفع مسموعا والحمد لله، والصلوات تؤدى في المساجد جماعة وفي سائر الأوقات وكذا الجمعة، والعمرة مستمرة على مداد السنة، والحج زيد في عدد حجيجه وكذا القول في أركان الإسلام المتبقية.
أمّا شأن المفاسد الأخرى فليس المكان المهجور إليه بأولى إلاّ أن يفر المرء خوفا عن دينه من فتنة تقع وهذا لا يتمّ مع ما تقدم ذكره وهذه المفاسد الظاهرة، ينبغي أن تسلك طريق الصواب في معالجتها وتصحيحها، إذ هي نتاج أعمالنا والجزاء من جنس العمل، فلنعمل على تصحيحها وفق منهجية " التربية والتصفية" امتثالا للإخبار النبوي :" إنّ الدين بدأ غريبا ويرجع غريبا فطوبي للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدي من سنتي"(6).
والله الموفق وآخر دعونا أن الحمد الله ربّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين.
الجزائر في : 27 شعبان 1414 ه
__________
1- رواه ابن ماجه كتاب التجارات باب ما للرجل من مال ولده، وأبو داود كتاب الإجارة باب في الرجل يأكل من مال ولده، وابن الجارود (995)، وأحمد (2/214) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. والحديث صححه الألباني في الإرواء(3/233) رقم(838)، وفي صحيح الجامع(1498).
2- رواه ابن ماجه كتاب الأحكام باب من بنى في حقه ما يضرّ بجاره، وأحمد (1/313) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. والحديث صححه الألباني في الإرواء(3/408) رقم(896)، وفي غاية المرام رقم (68).
3- رواه الخطيب البغدادي في تاريخه (9/127) وابن الجوزي في العلل المتناهية (1/76) عن أبي هريرة رضي الله عنه الله عنه وهو في السلسلة الصحيحة (343).
4- مجمع الزوائد (1/170) رقم 537 كتاب العلم باب العلم بالتعلم
5- رواه الطبراني في الكبير وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1/136) رقم (67).
6- رواه الترمذي كتاب الإيمان باب ما جاء أنّ الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا.(18/4)
الفتوى رقم: 352
هل يجوز ضرب الصبي؟
السؤال: هل يجوز للأستاذ ضرب التلاميذ وإذا لم يجز فهل يباح للضرورة يقدرها الأستاذ كفساد الأخلاق لبعضهم، وما هي الطريقة التي يتعامل بها الأستاذ مع التلاميذ في الطور الابتدائي ؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فمذهب أهل العلم عدم جواز ضرب الصبي قبل عشر سنين إذا ترك الصلاة لِما رواه أبو داود مرفوعا:" مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين"(1) وأسسوا الحكم على مفهوم الحديث المقتضي لعدم جواز ضربه في سائر أفعاله إلحاقا بالصلاة، ولا يخفى أنّه من شروط العمل بالمفهوم عند القائلين به عدم تعلقه بسبب خاص أو حادثة معينة، والنهي في الحديث محتمل لهذا التعلق من ناحية تخصيص عدم الضرب ما قبل العاشرة بعدم تحمله في هذا السنّ غالبا، لذلك قال مالك -رحمه الله -: (يؤمر الصبي بالصلاة إذا أثغر أي بدلوا أسنانهم و يؤدبوا عند ذلك إذا تركوها) قاله في العتبية.
وقال العلقمي في شرح الجامع الصغير: (إنّما أمر بالضرب لعشر لأنّه حد يتحمّل فيه الضرب غالبا، والمراد بالضرب ضربا غير مبرح و أن يتقي الوجه في الضرب).
وتعامل الأستاذ مع تلامذته هو توجيههم التوجيه الحسن وفق التعاليم الشرعية والأخذ بأيديهم إلى طريق النجاة و شاطئ السلامة، فلا تنزل مرتبة الأستاذ عن مرتبة الأبوين في الرعاية والتربية عموما.
والله أعلم وفوق كل ذي علم عليم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلّم تسليما.
__________
1- أخرجه أبو داود كتاب الصلاة باب متى يؤمر الغلام بالصلاة؟ وأحمد(2/187)، والحاكم(1/197) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، والحديث حسنه الشيخ الألباني في إرواء الغليل(1/266)رقم (247) وفي صحيح الجامع (5744).(18/5)
الفتوى رقم: 357
التعامل مع الأخت المدمنة على الخمر
السؤال: أخ يسأل عن كيفية تعامله مع أخته التي صارت مدمنة على الخمور مع أنّها تقيم بعض الواجبات الشرعية؟
الجواب: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فاعلم أنّ مخالطة أهل المعاصي والفساق محذورة شرعا فإنّ مقارفها لا يجوز مؤاخاته ابتداء وتجب مقاطعته انتهاء لأن الحكم إذا ثبت لعلة فالقياس يزول بزوالها، والعلة الثابتة في التآخي هي التعاون في الدين ولا يدوم ذلك مع مقارفة المعصية.
واعلم أنّ الرحم واجبة وقطيعته محرمة شرعا، وأدنى درجاتها ترك المهاجرة وصلتها بالكلام ولو بالسّلام، فالقرابة حق متأكد يجب الوفاء به، ومن الوفاء به أن لا يهمل القريب أيام محنته وحاجته وفقره، وفقر الدين أعظم وأشدّ من فقر المال.
وتأسيسا على ما تقدم، فإنّ أختك -وإن أدمنت على الخمر والمعاصي- فهي ظالمة لنفسها بارتكابها ما حرم الله تعالى، وهي من حيث تركت بعض الواجبات التي لا تصل إلى الكفر الأكبر، فتستحق البراء من جهة العصيان والولاء من جهة الإيمان لما رواه البخاري أنّ عبد الله بن حمار كان يشرب الخمر فأتي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلعنه رجل، وقال: ما أكثر ما يؤتى به. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تلعنه إنّه يحب الله ورسوله"(1) ثمّ إنّها من لحمة النسب، والقريب لا يجوز أن يهجر مطلقا على الراجح من المذاهب إذ لا يعني البراء من فاعل المعصية الإساءة له بالقول والفعل، بل المطلوب حسن المعاملة، إذ هو خلق نبيل يأمر به الشارع وتحض عليه الشريعة، وقد قال تعالى في شأن الأبوين المشركين والكفار في الجملة غير المحاربين ?وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعمهما وصاحبهما في الدنيا معروفا? [لقمان:15] وأمر تعالى بمعاشرة الزوجات بالمعروف ولو كن كتابيات كما أمرنا سبحانه بحسن مخالقة المؤتمنين والمعاهدين بقوله تعالى: ?لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إنّ الله يحب المقسطين? [الممتحنة:8] وفي حكم الأبوين كل الأقارب، فالواجب نحوهم حسن معاملتهم وعدم الإقرار على معصيتهم لعموم قوله سبحانه: ?واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا، وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم? [النساء:36] ومن هنا ظهر الفرق بين عقيدة البراء وحسن المعاملة وقد تتجلى في قوله تعالى في حق إبراهيم عليه السلام لأبيه وقومه: (إننّي براء ممّا تعبدون? [الزخرف:26] ولقوله عزّ وجلّ لنبيه صلى الله عليه وسلم في عشيرته: ?فإن عصوك فقل إني بريء ممّا تعملون? [الشعراء:216] ولم يقل إنّي بريء منكم مراعاة لحق القرابة ولحمة
النسب، أمّا النصرة والتأييد لأهل الكفر والمعاصي فهو أمر محرم شرعا.
هذا والذي ينبغي القيام به أن يتلطف في نصحها بما يجمع شملها ويعيدها إلى الصلاح ما استطاع، فإن لم يقدر وبقيت مصرة على المعصية، فليبغضها من حيث أحبّها فهذا من مقتضى البغض في الله، ليبرأ من المعصية لكون ما تقترفه من أفعال ممقوتة عند الله تعالى.
وليس معنى البغض في الله الهجرة والمقاطعة كما هو مذهب بعض الصحابة كأبي ذر وابن عمر رضي الله عنهم وغيرهما وبعض التابعين إذا لم تنفع الموعظة، بل ينبغي عليه أن يراقب ويراعي ولا يهمل ويتلطف بها ويعينها على الخروج والخلاص من تلك الوقعة التي ألمّت بها متى استطاع إلى ذلك سبيلا، ولهذا لمّا قيل لأبي الدّرداء: ألا تبغض أخاك وقد فعل كذا
فقال:" إنّما أبغض عمله وإلاّ فهو أخي" وأخوة الدين أوكد من أخوة القرابة.
ثمّ إنّا نعلم أنّ الذين شربوا الخمر وتعاطوا الفواحش في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن الصحابة يهجرونهم بالكلية، بل كانوا منقسمين فيهم إلى من يغلظ القول ويظهر البغض، وإلى من يعرض عنه ولا يتعرض له، وإلى من ينظر إليه بعين الرحمة ولا يؤثر المقاطعة والتباعد.
قلت: إنّما هذا إذا كانت الأخوة في الدين فما بالك إذا اجتمعت أخوة الدين والقرابة معاً؟
وهذا كلّه في زلّته في دينه، أمّا زلّته في حقه أو ما صدر منه من المعاصي في هفوة التي يعلم أنّه قد ندم عليها ولا يُصرُ عليها فعلى المسلم فيه الستر والإغماض والعفو والاحتمال أي كل ما يحتمل تنزيله على وجه حسن ويتصور تمهيد عذر قريب أو بعيد فهو واجب بحق الأخوة الدينية.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
__________
1- أخرجه البخاري في الحدود رقم(6780)، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.(18/6)
الفتوى رقم: 375
في حكم اتخاذ الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسيلة لقطع كلام الغير
السؤال: يقول بعض الناس عند إرادة قطع كلام محدثه: صلّ على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهل هذا القول مشروع؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فإنّ أمر الدين مبني على الاتباع والاقتداء لا على الابتداع والإحداث، ومثل هذه الكيفية المعينة عند إرادة قطع الكلام الواردة في السؤال لم ترد السنة بتأييدها ولا عمل السلف لها، فضلاً عن اتخاذ الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسيلة لقطع كلام الغير، ولا يخفى قبح هذا الصنيع، لأنّ الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم عبادة توقيفية تحتاج إلى دليل أو نص يصحح تلك الكيفية وإلاّ فهو فعل مردود فقد جاء في الحديث:" مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ مَرْدُودٌ"(1)، وفي رواية "مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ"(2)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« إِيَاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ"(3).
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
الجزائر في:20 ذي القعدة 1426ه
الموافق ل: 22 ديسمبر 2005م
__________
1- أخرجه البخاري في الصلح (2697)، ومسلم في الأقضية (4589)، وأبو داود في السنة (4608)، وابن ماجه في المقدمة (14)، وأحمد (26786)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
2- أخرجه مسلم في الأقضية (4590)، وأحمد (25870)، والدارقطني في سننه (4593).
3- أخرجه أبو داود في السنة (4609)، وأحمد (17608)، والدارمي (96)، من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2549)، والسلسلة الصحيحة (6/526) رقم (2735).(18/7)
الفتوى رقم: 386
في صفة المصاحب
السؤال: إن لي أصدقاء ومنهم ابن خالتي وآخر يسير على منهج أهل السنة والجماعة وقد انفصلت عنهم هذه المدة الأخيرة للأسباب الآتية:
يتكاسلون في جميع الأعمال، ويتكلمون بالألفاظ القبيحة، ويطلقون أبصارهم فيما حرّم الله، علما أني عندما أفارقهم أجتهد في الطاعات، وأواضب عليها، فما نصيحتكم لي شيخنا؟ وجزاكم الله خيرا.
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فاعلم أن الصاحب ساحب، والمؤمن لا يصاحب إلا مؤمنا يزيد به إيمانا وقوة ويقينا، ويجتمعان على حب الله وطاعته، ويتعاونان على الخير والصلاح والعفة، ذلك الذي عني به الإسلام وأمر بالثبات عليه قال صلى الله عليه وآله وسلم:« احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلاَ تَعْجِزْ"(1) أما المقصر في الالتزام، المضيع للأحكام، فينصح، وتعطى له الحقوق الأخوية العامة، ولا يصاحب إلا عند الحاجة.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلم تسليما.
الجزائر في: 7جمادى الأولى 1427هـ
الموافق لـ: 3جوان 2006م
---
1- أخرجه مسلم في القدر (6945)، وابن ماجه في المقدمة (83)، وابن حبان (5721)، وأحمد (9026)، والحميدي في مسنده (1165)، وأبو يعلى في مسنده (6251)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه(18/8)
الفتوى رقم: 408
في حكم رفع الأيدي بالدعاء بعد الانتهاء من الأكل
السؤال: ما حكم رفع الأيدي بالدعاء بعد الانتهاء من الأكل؟ وكيف تكون النصيحة لمن يقوم بهذا الفعل؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فمن الآداب الشرعية التي يلتزم بها المسلم عند انتهائه من تناول الطعام هي: أن يختمه بحمد الله تعالى، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« مَنْ أَكَلَ طَعَامًا فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَطْعَمَنِي هَذَا وَرَزَقَنِيهِ مِنْ غَيْرِ حَوْلٍ مِنِّي وَلاَ قُوَّةٍ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"(1)، وكان صلى الله عليه وآله وسلم يقول إذا رفع مائدته:" الْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ ، غَيْرَ مَكْفِىٍّ ، وَلاَ مُوَدَّعٍ، وَلاَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ ، رَبَّنَا"(2)، ولم يعلم عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يرفع يديه تقصُّدًا للدعاء عند الانتهاء، ولا يخفى أنَّ كلَّ ما أضيف إلى حكم شرعي يحتاج إلى دليل شرعي لانتفاء العبادة إلاَّ بما شرع، وإنما هذا الصنيع مأخوذ من عمل النصارى وتقليدهم في مشاربهم ومآكلهم، فهو أمر محدث لم ترد به السنة النبوية قال عليه الصلاة والسلام:" مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ"(3).
والنصيحة المقدَّمة لمن يقوم بهذا الفعل أن يلتزم السنة، ويتجنب البدعة التي حذرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منها، ووصفها بأنها ضلالة، والمسلم المطيع يخشى الوقوع في النار بوقوعه في الضلالة، قال صلى الله عليه وآله وسلم:« إِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ وَكُلَّ ضَلاَلَةٍ فِي النَّارِ"(4).
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 4 ربيع الأول 1427ه
الموافق لـ: 2 أبريل 2006م
---
1- أخرجه أبو داود في اللباس (4025)، والترمذي في الدعوات (3792)، وابن ماجه في الأطعمة (3410)، وأحمد (16037)، والحاكم (1823)، من حديث معاذ بن أنس الجهني رضي الله عنه. وحسنه ابن حجر في الخصال المكفرة (1/74)، والألباني في إرواء الغليل (1989)، وفي صحيح الجامع (6086).
2- أخرجه البخاري في الأطعمة (5458)، وأبو داود في الأطعمة (3851)، والترمذي في الدعوات (3790)، وابن ماجه في الأطعمة (3409)، وأحمد (22825)، والدارمي (2075)، والبيهقي (15067)، من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه.
3- أخرجه البخاري في الصلح (2697)، ومسلم في الأقضية (4589)، وأبو داود في السنة (4608)، وابن ماجه في المقدمة (14)، وأحمد (26786)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
4- أخرجه أبو داود في السنة (4609)، وأحمد (17608)، والدارمي (96)، من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2549)، والسلسلة الصحيحة (2735).(18/9)
الفتوى رقم: 432
في غلظة تصرفات حاقدة على أبيها
السؤال: وقع خصام بين والديَّ، فوقفت إلى جانب أمي لظني أنها على صواب، فقال لي أبي في إحدى المكالمات الهاتفية "أنت لست ابنتي وإنما أنت ابنة أمِّك" وصار لا ينفق علينا، وهو عازم على طردنا من البيت، فقابلت صنيعه ذلك بعبارات شديدة، فيها غلظة، وصرت لا أسلم عليه إذا لقيته لأنه لا ينفق علينا، ويتودد إلى زوجة أخي ذات الخلق السيء، ويقربها إليه، فهل ما فعلته جائز شرعاً؟ وهل تصرفات أبي قائمة وفق أحكام الشرع؟ أرجوا منكم البيان، وبارك الله فيكم.
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فلا ينبغي للولد أن يتصرَّف مع والديه مهما عظم جرمهما برفع الجناح والشتم والتأفيف عليهما أو على أحدهما ولو كانا مشركين لقوله تعالى:? وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرا? [الإسراء:23-24] وقال سبحانه: ?وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً? [لقمان: 15]، فالأفعال المسيئة لهما معدودة من العقوق، وليست من البر والإحسان في شيء كالجفاء والعداوة وتقبيح الوجه والصوت بالشتم واللعن وغيرها من الفعال، فالواجب اللين اتجاههما ومحبة الخير لهما والسعي إلى الوفاق بينهما ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، قال صلى الله عليه وآله وسلم:« لَعَنَ اللَّهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ"(1): أي سبهما وشتمهما أو كان سببا في لعنهما.
كما لا يجوز للوالد أن يُنكر نسبَ ولده، فإنَّ ذلك من عظيم الأقوال، وإنما يحمل قوله على إنكار تصرف ولده، أي أن مراده ليس بولده في الطاعة والمحبة والمواقف الحسنة تجاهه وليس مقصوده في النسب، ومع ذلك لا يجوز له مثل هذه العبارات التي تسيء إلى أولاده، وبالمقابل لا يصح للولد أن يقابل صنيع والده بمثله لوجوب البر والإحسان لهما، وعليه أن يقابل السيئة بالحسنة والصبر على ذلك، فإنَّ مَن صبر ظفر، فهو مفتاح الفرج وطريق السعادة قال تعالى: ?وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ? [فصلت:34- 35].
هذا، والواجب على والدك أن ينفق على أمِّكِ ما دامت تحت عصمته، وينفق عليك إلى أن تتزوجي ما دمت مقرَّة في البيت لقوله تعالى: ?لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ? [الطلاق: 7]، وقوله تعالى: ?وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ? [البقرة: 233]، فإن امتنع من هذا الحق فيجوز المطالبة به عن طريق القضاء لرفع الظلم وإجباره على أداء النفقة الواجبة عليه، وهذا لا يتعارض مع طاعة الوالدين والبر بهما وإنما هو من النصرة لهما لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا، أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ؟ قَالَ: تَحْجُزُهُ أَوْ تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلْمِ، فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ"(2) وإجباره على النفقة من النصرة له، بل شكى بعض الصحابة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم آباءهم ولم ينكر عليهم(3)، وهذا بعد التأكد أنَّ والدتك لم يعطها والدك شيئا.
وأخيرا، أنصحك أن تتأدبي مع والدك، وتعتذري له ما صدر منكِ اتجاهه، وأن لا تعاكسيه في تصرفاته إلاَّ إذا كان مخالفًا للشرع، أو مجاوزًا لحدوده، فـ"لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"(4)، كما أنصحك أن تحفظي لسانك من الطعن فيه، وفي زوجة أخيك وأعراض المسلمين، فإنَّ ذلك من اللَّمز والغيبة وقد يكون الأمر بهتانا، واحرصي على ما ينفعك وصاحبي أمَّكِ وأعينيها على الخير والوفاق والاجتماع والتآلف مع والدك والتقريب بينهما، فإنَّ ذلك من عظيم المسعى وتؤجرين عليه، ويجازيك الله على ذلك خير الجزاء، قال رَجُلٌ لرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم:« مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِى؟ قَالَ: أُمُّكَ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أُمُّكَ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أُمُّكَ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أَبُوكَ"(5).
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 24 ربيع الثاني 1427ه
الموافق ل: 22 مايو 2006م
---
1- أخرجه مسلم في الأضاحي (5240)، وأحمد (867)، والبيهقي (19424)، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
2- أخرجه البخاري في الإكراه (6952)، والترمذي (2421)، وأحمد (13421)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وأخرجه مسلم في البر والصلة (6747)، من حديث جابر رضي الله عنه.
3- عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيّ صلى الله عليه وآله وسلم يُخَاصِمُ أَبَاهُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ هَذَا قَدِ اجْتَاحَ إِلَى مَالِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم:« أَنْتَ وَمَالُكَ لأَبِيكَ ». أخرجه أبو داود في الإجارة (3532)، وابن ماجه في التجارات (2380)، وأحمد (7081) واللفظ له. قال ابن حجر في المطالب العالية (2/134):" إسناده حسن"، وقال أحمد شاكر في تحقيقه لمسند الإمام أحمد(11/124):" إسناده صحيح"، وحسنه الألباني في الإرواء (3/325).
4- أخرجه أحمد (1095)، من حديث علي رضي الله عنه، وصححه أحمد شاكر في تحقيقه على المسند (2/248)، والألباني في صحيح الجامع (7396)، انظر مجمع الزوائد للهيثمي (8903)، والسلسلة الصحيحة للألباني (179).
5- أخرجه البخاري في الأدب (5971)، ومسلم في البر والصلة (6664)، وابن ماجه في الوصايا (2810)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(18/10)
الفتوى رقم: 640
في حدود تعامل الرجل مع زوجة أخيه
السؤال:
ما هي حدودُ تعاملِ الرجلِ مع زوجةِ أخيه؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالأصلُ في الحَمْو أن لا يَرِد على النساء الأجنبيَّاتِ لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّمَ:« إِيَّاكُمْ وَالدُّخُولَ عَلَى النِّسَاءِ »، قَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَفَرَأَيْتَ الحَمْوَ؟ قَالَ:« الحَمْوُ المَوْتُ »(1)، كما أنّ عليه أن لا يُخاطِبَها إلاّ لحاجةٍ؛ لأنّ الأصلَ في صوت المرأة العورة، إلاّ ما كان للحاجة، ولا يبقى في البيت إن خرج جميعُ مَن فيه إلاّ زوجة أخيه لمكان التهمة، وله أن ينصح أخاه إذا رأى منه أو من زوجته ما يُخِلُّ بالآداب الشرعية وأحكامِها، إذا كان الأخ ممّن تنفع فيه الذكرى، لقوله تعالى:( فَذَكِّرْ إِن نَفَعَتِ الذِّكْرَى ) [الأعلى: 9]، والله الموفّق.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزاء في: 9 محرم 1428ه
الموافق ل: 28 يناير 2007م
__________
1- أخرجه البخاري في «النكاح »: (4939)، ومسلم في «السلام »: (5674)، والترمذي في «الرضاع »: (1171)، والدارمي: (2544)، وابن حبان: (5588)، وأحمد: (16945)، من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه.(18/11)
الفتوى رقم: 664
في حكم التقبيل مع السلام عند اللقاء
السؤال:
ما حكم تقبيلِ الناس بعضِهم بعضًا عند اللِّقاء؟ وما هو الهدي النبويُّ في ذلك؟ وجزاكم الله كلَّ خير.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالأصلُ الاكتفاءُ عند اللِّقاء بالمصافحةِ مقرونةً بالسلام عليه من غير أن يعانقَهُ أو يقبِّلَهُ، وقد ثبت النهيُ صريحًا من حديث أنسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه قال:« قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَحَدُنَا يَلْقَى صَدِيقَهُ أَيَنْحَنِي لَهُ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: لاَ. قَالَ: فَيَلْتَزِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ؟ قَالَ: لاَ. قَالَ: يُصَافِحُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ »(1- أخرجه الترمذي في «الاستئذان »: (2728)، وأحمد: (12632)، وأبو يعلى في «مسنده »: (4290)، والبيهقي في «شعب الإيمان »: (8962)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. والحديث حسّنه الألباني في «السلسلة الصحيحة »: (160))، وفي رواية أحمد:« إِنْ شَاءَ »(2- أخرجه أحمد: (12632)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. والحديث حسّنه الألباني في «السلسلة الصحيحة »: (1/298))، وعند ابن ماجه:« لاَ، وَلَكِنْ تَصَافَحُوا »(3- أخرجه ابن ماجه، كتاب «الأدب » باب المصافحة: (3702)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. والحديث حسنه الألباني في «السلسلة الصحيحة »: (1/298)).
ويُرغَّبُ عند اللقاء الاقتصارُ على المصافحة لِمَا في ذلك من الأجر والثواب لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« إِنَّ المسْلِمَ إِذَا صَافَحَ أَخَاهُ تَحَاتَّتْ(4- قال المناوي في «فيض القدير » (1/293):« (تحاتت): تساقطت وزالت ») خَطَايَاهُما كَمَا يَتَحَاتُّ وَرَقُ الشَّجَرِ »(5- عزاه المنذري في «الترغيب والترهيب » (3/290)، والهيثمي في «مجمع الزوائد »: (8/75): للبزار في «مسنده »، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصحّحه الألباني في «صحيح الترغيب »: (2721)، وأخرج الطبراني في «الأوسط »: (1/84) من حديث حذيفة رضي الله عنه مرفوعا:« إِنّ المؤْمِنَ إِذَا لَقِيَ المؤْمِنَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَأَخَذَ بِيَدِهِ فَصَافَحَهُ تَنَاثَرَتْ خَطَايَاهُمَا كَمَا يَتَنَاثَرُ وَرَقُ الشَجَرِ »، وصححه الألباني في «السلسلة الصحيحة »: (2692).).
غيرَ أنه تستثنى معانقة القادِمِ من السفر من عمومِ النهي، ويرغب فيها عند قدومه مع السلام، لحديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال:« كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إِذَا تَلاَقَوْا تَصَافَحُوا، وَإِذَا قَدِمُوا مِنْ سَفَرٍ تَعَانَقُوا »(6- أخرجه الطبراني في «المعجم الأوسط »: (1/37) رقم: (97)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. قال الهيثمي في «مجمع الزوائد »: (8/75):« أخرجه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح »، وقال الألباني في «السلسلة الصحيحة »: (6/303):« فالإسناد جيّد ».).
ويجدر التنبيه إلى أنه يجوز القيام للقادم من السفر استثناءً من عموم النهي في قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ العِبَادُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ »(7- أخرجه أبو داود في «الأدب »: (5229)، والترمذي في «الأدب »: (2755)، وأحمد: (16596)، وابن أبي شيبة في «المصنف »: (21325)، والطبراني في «المعجم الكبير »: (19/352)، من حديث معاوية رضي الله عنه. والحديث حسنه البغوي في «شرح السنة »: (6/358)، وصححه الألباني في «السلسلة الصحيحة »: (1/694)، وفي «صحيح الجامع »: (5957))؛ لأنّ المعانقة لا تكون إلاّ بالقيام(8- «الآداب » لابن مفلح: (1/459)).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 27 ربيع الأول 1428ه
الموافق ل: 15 أبريل 2007م
__________
1- أخرجه الترمذي في «الاستئذان »: (2728)، وأحمد: (12632)، وأبو يعلى في «مسنده »: (4290)، والبيهقي في «شعب الإيمان »: (8962)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. والحديث حسّنه الألباني في «السلسلة الصحيحة »: (160).
2- أخرجه أحمد: (12632)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. والحديث حسّنه الألباني في «السلسلة الصحيحة »: (1/298).
3- أخرجه ابن ماجه، كتاب «الأدب » باب المصافحة: (3702)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. والحديث حسنه الألباني في «السلسلة الصحيحة »: (1/298).
4- قال المناوي في «فيض القدير » (1/293):« (تحاتت): تساقطت وزالت ».
5- عزاه المنذري في «الترغيب والترهيب » (3/290)، والهيثمي في «مجمع الزوائد »: (8/75): للبزار في «مسنده »، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصحّحه الألباني في «صحيح الترغيب »: (2721)، وأخرج الطبراني في «الأوسط »: (1/84) من حديث حذيفة رضي الله عنه مرفوعا:« إِنّ المؤْمِنَ إِذَا لَقِيَ المؤْمِنَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَأَخَذَ بِيَدِهِ فَصَافَحَهُ تَنَاثَرَتْ خَطَايَاهُمَا كَمَا يَتَنَاثَرُ وَرَقُ الشَجَرِ »، وصححه الألباني في «السلسلة الصحيحة »: (2692).
6- أخرجه الطبراني في «المعجم الأوسط »: (1/37) رقم: (97)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. قال الهيثمي في «مجمع الزوائد »: (8/75):« أخرجه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح »، وقال الألباني في «السلسلة الصحيحة »: (6/303):« فالإسناد جيّد ».
7- أخرجه أبو داود في «الأدب »: (5229)، والترمذي في «الأدب »: (2755)، وأحمد: (16596)، وابن أبي شيبة في «المصنف »: (21325)، والطبراني في «المعجم الكبير »: (19/352)، من حديث معاوية رضي الله عنه. والحديث حسنه البغوي في «شرح السنة »: (6/358)، وصححه الألباني في «السلسلة الصحيحة »: (1/694)، وفي «صحيح الجامع »: (5957).
8- «الآداب » لابن مفلح: (1/459).(18/12)
الفتوى رقم: 683
في حكم التحية بالإشارة
السؤال:
سمعت أنّ إلقاءَ السلامِ مع الإشارة باليد أو الرأس من تحية اليهود، فهل هذا صحيح؟ وجزاكم الله خيرًا .
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فَإِنْ جَمَع المسلِّمُ بين لفظ السلام والإشارة بالرؤوس والأكفِّ فجائز لحديث أسماء بنتِ يزيد رضي الله عنها:« أَنَّ رَسُولَ اللهِ مَرَّ فِي المَسْجِدِ يَوْمًا وَعَصَبَةٌ مِنَ النِّسَاءِ قُعُودٌ فَأَلْوَى بِيَدِهِ بِالتَّسْلِيمِ »(1- أخرجه أبو داود في «الأدب »: (5204)، والترمذي في «الاستئذان »: (2697)، وابن ماجه في «الأدب »: (3701) وأحمد: (28356)، من حديث أسماء بنت يزيد رضي الله عنها. وصححه الألباني دون الإلواء باليد في «جلباب المرأة المسلمة »: (194)، وفي «صحيح الأدب المفرد »: (1/360)).
أمّا الاكتفاء بالإشارة دون قَرْنِهَا بلفظ «السلام » فيُعدُّ من تحية اليهود التي نهى عنها النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم بقوله:« لاَ تُسَلِّمُوا تَسْلِيمَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَإِنَّ تَسْلِيمَهُمْ بِالأَكُفِّ وَالرُّؤوسِ وَالإِشَارَةِ »(2- أخرجه النسائي في «السنن الكبرى »: (10075)، والبيهقي في «شعب الإيمان »: (8911)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. وجوّد إسناده ابن حجر في «فتح الباري »: (12/274)، والألباني في «السلسلة الصحيحة »: (4/389)).
هذا، والجدير بالتنبيه أنّ النهيَ عن السلام بالإشارة إنما يتعلّق بالقدرة على اللفظ إذ «لاَ تَكْلِيفَ إِلاَّ بِمَقْدُورٍ »، لقوله تعالى: ?لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا? [البقرة: 286]، وضمن هذا المعنى يقول ابن حجر -رحمه الله-:
«والنهي عن السلام بالإشارة مخصوصٌ بِمَنْ قدر على اللفظ حِسًّا وشرعًا، وإلاّ فهي مشروعة لمن يكون في شغل يمنعه من التلفّظ بجواب السلام كالمصلي والبعيد والأخرس، وكذا السلام على الأصم »(3- «فتح الباري » لابن حجر: (12/274)).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 24 جمادى الأولى 1428ه
الموافق ل: 9 جوان 2007م
__________
1- أخرجه أبو داود في «الأدب »: (5204)، والترمذي في «الاستئذان »: (2697)، وابن ماجه في «الأدب »: (3701) وأحمد: (28356)، من حديث أسماء بنت يزيد رضي الله عنها. وصححه الألباني دون الإلواء باليد في «جلباب المرأة المسلمة »: (194)، وفي «صحيح الأدب المفرد »: (1/360).
2- أخرجه النسائي في «السنن الكبرى »: (10075)، والبيهقي في «شعب الإيمان »: (8911)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. وجوّد إسناده ابن حجر في «فتح الباري »: (12/274)، والألباني في «السلسلة الصحيحة »: (4/389).
3- «فتح الباري » لابن حجر: (12/274).(18/13)
الفتوى رقم: 688
في حكم استعمال الصحف والجرائد لأغراض وحاجات
السؤال:
ما حكم استعمالِ الجرائدِ والمجلاَّتِ والصُّحُفِ العربيةِ التي لا تحتوي على آياتٍ قرءانية ولا أحاديثَ نبويةٍ، في تغليف السلع التجارية وغيرها؟ وهل الحكم هو نفسه بالنسبة للجرائدِ والمجلاَّتِ المكتوبة باللغات الإفرنجية؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فلا نستطيعُ أن نَنْفِيَ عن الصُّحف والجرائدِ والمجلاَّت العربيةِ خُلُوَّها من أسماءِ الله تعالى أو ذِكْرٍ تضمَّنَتْهُ بعضُ الآياتِ أو أطرافِ الأحاديث، لذلك فالواجبُ الحيطةُ بالاحتفاظ بها وصيانَتِها عن الابتذال، فلا يجوز اتخاذُها مَلَفَّاتٍ للحاجات من السلع الغذائية والخضر، أو تنظيفِ السيارات بها، أو مسحِ الزجاج بها أو طرحِها في الشوارع والأسواقِ أو إلقائِها في القُمامات ونحوِ ذلك، والأفضلُ إن فَرَغَ منها أن يَحْرِقَهَا أو أن يَدْفِنَهَا في مكانٍ طاهِرٍ أو يَعْزِلَها في مكانٍ خاصٍّ عن بقية مُخلَّفاته المَنْزِلية يصونها عن الامتهان.
أمّا الجرائدُ والمجلاَّت المكتوبة باللغة الإفرنجية إذا تأكّد خلوّ صفحاتها ممَّا ينبغي أن يُصان ويحفظ فلا أعلم ممنوعيتَها في استعمالها لأغراض وحاجات.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 6 جمادى الأولى 1428ه
الموافق ل: 22 ماي 2007م(18/14)
الفتوى رقم: 798
في مشروعية اللهو في الختان
السؤال:
هل يشرع اللهو في الختان؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فإن وُجدت مناسبةٌ فلا بأسَ به، منها: أن يتناسى المختون الوجع والألم الذي لَحِقَ به بسبب الختان، فلا بأس أن يلهوه ببعض اللهو شريطة أن لا يخرج عن حدود وتعاليم الشرع، أي: يُشترط خلوُّه من المنكرات والمخالفات، وقد نقل بعضُ السلف جواز اللهو ومشروعيته في الختان، وقد بوَّب له البخاري في الأدب المفرد:« باب اللهو في الختان »، عن أمّ علقمة: أنَّ بنات أخي عائشة خُتنَّ، فقيل لعائشة: ألا ندعو لهنّ من يلهيهِنَّ؟ قالت:« بلى… » (1).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 9 ربيع الأول 1428ه
الموافق ل: 28 مارس 2007م
__________
1- أخرجه البخاري في «الأدب المفرد » (رقم 1247) من حديث أم علقمة، والحديث حسَّنه الألباني في «صحيح الأدب المفرد » (945)، وكذا في «الصحيحة » (722).(18/15)
الفتوى رقم: 818
في ضوابط قيام المرأة بخدمة الرجال الأجانب
السؤال:
إذا استضاف شخصٌ ما رِجالاً أجانبَ في بيته، ولم يجد من يقوم بإكرامهم وحُسنِ ضيافتِهم، فهل يجوز لزوجته أن تُقَدِّمَ لهم الطعامَ؟ وهل يُعدُّ هذا من الاختلاط؟ وما حكم الاختلاط؟
الجواب:
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فقيامُ المرأة بصُنع الطعامِ وتقديمه للمدعوِّين إلى وليمةِ العُرس أو غيرِه مِنَ الرِّجال ممَّا أقرَّهُ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم لامرأةِ أبي أُسَيدٍ الساعدي رضي الله عنه، قال سهلُ بنُ سَعْدٍ:« لَمَّا عَرَّسَ أَبُو أُسَيْدٍ السَاعِدِيُّ دَعَا النَّبِيَّ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم وَأَصْحَابَهُ فَمَا صَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا وَلاَ قَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ إِلاَّ امْرَأَتُهُ أُمُّ أُسَيْدٍ »(1)، وقد قيَّد ذلك العلماءُ بأمنِ الفِتنة، واستتارِ المرأة بشروط الجلباب المعروفة، وبرضَا زوجِها، قال ابن حجر:« وفي الحديث جوازُ خدمةِ المرأةِ زوجَها ومَن يدعوه، ولا يخفى أنَّ محلَّ ذلك عند أَمْنِ الفِتنة ومراعاة ما يجب عليها من السِّتر، وجواز استخدام الرجل امرأتَه في ذلك »(2). وتقديرُ الفِتنة وضبطُها يرجعُ إلى خِبرة الرجل بمن يدعو إلى وليمته.
وليس في إلقاء المرأة السلامَ على الأجنبيِّ إذا أمِنَتِ الفِتنة ، ولا في تقديم الطعام له مع وجود زوجِها أو بحضرة أحدِ محارمها وبإذنه ما يدلُّ على الاختلاط الآثم، إذ ليس في الحديث السابق ما يدلُّ على مجالسةِ المرأة للرجالِ الأجانبِ، ومشاركتهم الطعام، أو مُلامستِهم، أو الخلوةِ بهم، أو تبادُلِ معهم الحديث والرأيَ والنظراتِ والبسماتِ، ونحو ذلك ممَّا فيه للشيطان مطمعٌ، ويدلُّ على انتفاء الخُلوة والاختلاط قولُه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« لاَ يَخْلُوَنَّ رُجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ »(3)، وقولُه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يَخْلُوَنَّ بِامْرَأَةٍ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا مَحْرَمٌ »(4).
أمَّا مسألة الاختلاط فإنَّ الأصلَ فيه أنَّه مُحرَّمٌ لغيره لا لذاتِهِ، أي: أنَّه حُرِّمَ سَدًّا للذريعة لما يُفضي إلى الفساد والفاحشة والزِّنا، لذلك حَرَّمَ اللهُ تعالى كُلَّ مُتعلِّقات ذلك: كالاختلاط بالنساء من خلوةٍ بالمرأة، أو نظرٍ إليها بقصد الشهوة، أو السفر معها من غير ذي محرم، إلاَّ أنَّ هذا الاختلاطَ قد يُباحُ للمصلحة الراجحة، وكذلك غيره ممَّا حُرِّمَ سَدًّا للذريعة، كالنظر إلى وجه المرأة فإنه يجوز النظر إلى المخطوبة لمصلحة الزواج، ويجوز خروج المرأة من أجل شُهودِ الجماعة والجُمَعِ في المسجد، ويجوز أن تقومَ في الصلاة خلفَ الرِّجال، ويجوز أن تخرج من بيتها للحاجة، للحديث:« وَ قَدْ أَذِنَ اللهُ لَكُنَّ أَنْ تَخْرُجْنَ لِحَوَائِجِكُنَّ »(5)، وغير ذلك، لكن ينبغي أن يُضبَطَ بالقُيودِ الشرعية والضوابطِ المرعية، من التَّسَتُّرِ، وتركِ التبرُّج، والتطيُّب، والتمايُل، وكُلِّ ما يُؤدِّي إلى الفتنة، ويمكن أن تُضبَطَ بقاعدة:« مَا حُرِّمَ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ أُبِيحَ لِلمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ وَالحَاجَةِ مَعَ التَّقَيُّدِ بِالضَّوَابِطِ وَالقُيُودِ الشَّرْعِيَّةِ ».
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصَلَّى الله على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبِه وإخوانه إلى يوم الدِّين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: في 4 من المحرم 1429ه
الموافق ل: 11/01/2008م
__________
1- أخرجه البخاري في «النكاح »، باب قيام المرأة على الرجال في العرس وخدمتهم: (5182), ومسلم في «الأشربة »، باب إباحة النبيذ الذي لم يشتد ولم يصر مُسكرًا: (5233). وابن ماجه في «النكاح »، باب الوليمة: (1912)، وابن حبان في «صحيحه »: (5395)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (17880)، من حديث سهل ابن سعد الساعدي رضي الله عنه.
2- «فتح الباري » لابن حجر: (9/251).
3- أخرجه البخاري في «الجهاد »، باب من اكتتب في جيش فخرجت امرأته حاجة وكان له: (2844)، ومسلم في «الحج »، باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره: (3272)، من حديث ابن عباس رضي الله عنه.
4- أخرجه الطبراني في «الكبير »: (11462)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وأحمد في «مسنده »: (14241)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، والحديث صححه الألباني في «غاية المرام »: (180).
5- أخرجه البخاري في «التفسير »: (4421)، ومسلم في «السلام »: (5668)، وأحمد: (23769)، والبيهقي: (13793)، من حديث عائشة رضي الله عنها.(18/16)
الفتوى رقم: 947
في أدب تقديم الأكابر في السن
السؤال:
هل بعد إلقاء السلام على الحاضرين يبتدئ المسلِّم في المصافحة بالأيمن أم بالأكبر؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فظاهر النصوص الحديثية الواردة في باب الآداب تدلُّ على أنَّ وصف السِّنِّ مُعتبَرٌ في التقديم في وجوه الإكرام والآداب لحديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وآله وسلم: «أَمَرَنِي جِبْرِيلُ أَنْ أُقَدِّمَ الأَكَابِرَ»(1)، أي: أمرني عن الله تعالى بأن أُقدِّم الأكبر في السِّنِّ، وهو على الحقيقة، أمَّا الكُبر المعنوي كالكبير في العلم فهو على المجاز، والحقيقة مُقدَّمة على المجاز، ويدلُّ عليه حديث القسامة في أنَّ عبد الرحمن بن سهل ذهب ليتكلَّم قبل صاحبيه وكان أصغر القوم، فقال له رسول الله صَلَّى الله عليه وآله وسلم: «كَبِّرْ»(2)، يريد الكُبْرَ في السِّنِ(3)، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كَانَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَسْتَنُّ وَعِنْدَهُ رَجُلاَنِ فَأُوحِيَ إِلَيْهِ: أَنْ كَبِّرْ: أَعْطِ السِّوَاكَ الأَكْبَرَ»(4).
فإذا ثبت منصوصًا تقديم ذي السِّنِّ في الكلام والسِّواك فيَطَّرِدُ ذلك في جميع وجوه الإكرام، بما في ذلك المصافحة إلاَّ ما استثناه الدليلُ، كإمامة الصلاة فإنه يُقدَّم فيها أقرؤُهم لكتاب الله، لقوله صَلَّى الله عليه وآله وسلم: «يَؤُمُّ القَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ الله، فَإِنْ كَانُوا في القِرَاءَةِ سَوَاء فَأَعْلَمَهُمْ بِالسُنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا في السُنَّةِ سَوَاء، فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا في الهِجْرَةِ سَوَاء، فَأَكْبَرُهُمْ سِنًّا»(5)، وفي أدب الإسقاء يبتدئ الساقي باليمين، ولو لم يكن بكبير القوم لقوله صَلَّى الله عليه وآله وسلم: «الأَيْمَنُ فَالأَيْمَنُ»(6)، وفي رواية: «الأَيْمَنُونَ الأَيْمَنُونَ، أَلاَ فَيَمِّنُوا»(7).
قال المناوي -رحمه الله- في معرض شرح حديث: «أَمَرَنِي جِبْرِيلُ أَنْ أُكَبِّرَ»: «وفيه أنَّ السِّنَّ من الأوصاف التي يُقدم بها، فيستدل به في أبواب كثيرة من الفقه سيما في مورد النص وهو الإرفاق بالسواك ثمَّ يطرد في جميع وجوه الإكرام، كركوب وأكلٍ وشربٍ وانتعالٍ وطيبٍ ومحلّه ما إذا لم يعارض فضيلة السِّن أرجح منها، وإلاَّ قُدِّم الأرجح كإمامة الصلاة والإمامة العُظمى وولاية النكاح وإعطاء الأيمن في الشرب، ولا منافاة بين ذلك والحديث؛ لأنه لم يدل على أنَّ السِّنَّ يُقدم به على كُلِّ شيء بل إنه شيء يحصل به التقديم»(8).
قلت: ويُقدَّم عموم تقديم الأكابر لكثرة أفراده في حسن المعاملة والإكرام، ولا ينافي العمل بعموم اليمين في مورد النصِّ، وفي المصافحة إذا تقارب المسلَّم عليهم في السِّن، أو لم يظهر له الكبير في المجلس، أو كان الكبير عن يمينه، ونحو ذلك.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 10 شوال 1429ه
الموافق ل: 10 أكتوبر 2008م
__________
1- أخرجه أبو بكر الشافعي في «الفوائد»: (9/97/1)، من حديث ابن عمر رضي الله عنه. وأخرجه أحمد في «مسنده»: (6191)، والبيهقي في«السنن الكبرى»: (173)، بلفظ: «أَمَرَنِي جِبْرِيلُ أَنْ أُكَبِّرَ». والحديث صحَّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة»: (4/74).
2- أخرجه البخاري في «صحيحه» كتاب الجزية والموادعة، باب الموادعة والمصالحة مع المشركين بالمال: (3002)، ومسلم في «صحيحه» كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب القسامة: (4342)، من حديث سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه.
3- قال النووي في «شرح مسلم» (11/146): «وقوله: الكُبْر في السن، معناه: يريد الكبر في السن، والكبر منصوب بإضمار يريد ونحوها».
4- أخرجه أبو داود في «سننه» كتاب الطهارة، باب في الرجل يستاك بسواك غيره: (50)، من حديث عائشة رضي الله عنها. والحديث حسَّنه ابن حجر في «فتح الباري»: (1/357)، وصحَّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة»: (4/76).
5- أخرجه مسلم «صحيحه» كتاب المساجد، باب من أحق بالإمامة: (1532)، وأبو داود «سننه» كتاب الصلاة، باب من أحق بالإمامة: (582)، والترمذي في «سننه» كتاب الصلاة، باب ما جاء من أحق بالإمامة: (235)، من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه.
6- أخرجه البخاري في «صحيحه» كتاب المساقاة والشرب، باب في الشرب ومن رأى صدقة الماء وهبته ووصيته: (2225)، ومسلم في «صحيحه» كتاب الأشربة، باب استحباب إدارة الماء واللبن ونحوهما على يمين المبتدئ: (5282)، من حديث أنس رضي الله عنه.
7- أخرجه البخاري في «صحيحه» كتاب الهبة وفضلها، باب من استسقى: (2432)، ومسلم في «صحيحه» كتاب الأشربة، باب استحباب إدارة الماء واللبن ونحوهما على يمين المبتدئ: (5291)، إلاَّ أنه ذكر في الثالثة أيضَّا «الأيمنون»، كلاهما من حديث أنس رضي الله عنه.
8- «فيض القدير» للمناوي: (2/193).(18/17)
الفتوى رقم: 970
في حكم تقبيل الرأس واليد
السؤال:
ما حكم تقبيل رأس الكبير في السِّنِّ كالجد والجدة ونحوهما؟
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على مَن أرْسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فيجوز تقبيل الرأس واليد والجبهة على وجه الاحترام والإكرام، لما ثبت من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «وَكَانَ النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم إِذَا رَآهَا [أي: ابنتَه فاطمة رضي الله عنها] قَدْ أَقْبَلَتْ رَحَّبَ بها، ثُمَّ قَامَ إِلَيْهَا فَقَبَّلَهَا، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِهَا فَجَاءَ بها حَتَّى يُجْلِسَهَا في مَكَانِهِ، وَكَانَت إِذَا أَتَاهَا النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم رَحَّبَتْ بِهِ، ثُمَّ قَامَتْ إِلَيْهِ فَقَبَّلَتْهُ، وَأنها دَخَلَتْ عَلَى النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم في مَرَضِهِ الذِي قُبِض فِيهِ، فَرَحَّبَ، وَقَبَّلَهَا»(1)، وعن أبي جُحَيفة رضي الله عنه قال: «لَمَّا قَدِمَ جَعْفَرُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَرْضِ الحبَشَةِ، قَبَّلَ رَسُولَ صَلَّى الله عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ»(2)، وفي حديث أنس رضي الله عنه: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ أخذَ إبراهيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فقبَّلهُ وشَمَّهُ»(3)، وثبت من حديث عائشة رضي الله عنها «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَمَّا تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ، ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ فَقَبَّلَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ»(4)، وقد ثبت عن السلف العدلُ بين أولادهم في القُبل، كما ثبت عنهم تقبيل اليد، فعن عبد الرحمن بن رَزين قال: «مَرَرْنَا بِالرَبذَة، فَقِيلَ لنا : هَاهُنَا سَلَمَةُُ بْنُ الأَكْوَعِ، فَأَتَيتُهُ فَسَلَّمْنَا عَلَيهِ، فَأَخْرَجَ يَدَيهِ فَقَالَ: "بَايَعْتُ بِهَاتَينِ النَبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ"، فَأَخْرَجَ كَفًّا لَهُ ضَخْمَةً كَأَنَّهَا كَفُّ بَعِيرٍ، فَقُمنَا إِلَيهَا فَقَبَّلْنَاهَا»(5)، وفي الباب أحاديثُ وآثارٌ كثيرة.
هذا، وإذا كان تقبيل الرأس واليد جائزًا فلا ينبغي أن يكون على وجه الاستمرار والدوام خشيةَ أن تُعطَّل به سُنَّة المصافحة الثابتة مشروعيتها بقوله وفعله صلى الله عليه وآله وسلم، وفعل أصحابه رضي الله عنهم، حيث إنهم «كَانُوا إِذَا تَلاَقَوْا تَصَافَحُوا، وَإِذَا قَدِمُوا مِن السَفَرٍ تَعَانَقُوا»(6) فضلاً عن أنَّ المصافحة سببٌ شرعيٌّ لتكفير ذنوب المتصافحَيْن وتساقط خطاياهما، والحريص لا يفوِّت مثل هذه المصلحة الشرعية، قال صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ المؤْمِنَ إِذَا لَقِيَ المؤْمِنَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، وَأَخَذَ بِيَدِهِ فَصَافَحَهُ تَنَاثَرَتْ خَطَايَاهُمَا كَمَا يَتَنَاثَرُ وَرَقُ الشَجَرِ»(7).
ويجدر التنبيه على مسألتين:
الأولى: حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتعلق بتقبيل اليد أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَهْ، إنَّمَا يَفْعَلُ هَذا الأعَاجِمُ بِمُلُوكِهَا، وإني لَسْتُ بِمَلِكٍ، إنَّمَا أَنَا رَجُلٌ مِنْكُمْ»(8)، فهذا الحديث موضوع ضعيف، لا يقوى على معارضة الأحاديث الصحيحة.
والثانية: لا رخصة في تقبيل الفم -كما تفعله الشيعة وغيرها- ويكره ذلك لعدم نقل هذا الفعل عن السلف الصالح، قال البغوي: «ومن قَبَّل فلا يُقبِّل الفم، ولكن اليد والرأس والجبهة»(9)، وجاء في «الآداب الشرعية» لابن مفلح بيان وجه الكراهة بقوله: «ويُكره تقبيلُ الفم، لأنّه قلّ أن يقع كرامةً»(10).
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانَا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمينَ، وصلَّى الله عَلَى محمَّدٍ وعلَى آلهِ وصحبهِ وإخوانِهِ إلى يومِ الدِّينِ وسلم تسليمًا.
الجزائر في: 07 المحرم 1430ه
الموافق ل: 04 جانفي 2009م
__________
1- أخرجه البخاري في «الأدب المفرد»: (947)، وأبو داود كتاب الأدب، باب ما جاء في القيام: (5217)، والترمذي كتاب المناقب، باب فضل فاطمة بنت محمد: (3872)، والحاكم في «المستدرك»: (4732)، وابن حبان في «صحيحه»: (6953)، من حديث عائشة رضي الله عنها. والحديث جوّد إسناده الألباني في «المشكاة»: (3/1329)، وحسّنه الوادعي في «الصحيح المسند»: (1591).
2- أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير»: (2/108) و(22/100)، من حديث أبي جحيفة رضي الله عنه، ورواه أبو داود في «سننه»: (2/777)، عن الشعبي مرسلا. والحديث جوّد إسناده الألباني في «السلسلة الصحيحة»: (6/335).
3- أخرجه البخاري كتاب الجنائز، باب قول النبي إنا بك لمحزونون: (1241)، من حديث أنس ضي الله عنه.
4- أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب الدخول على الميت بعد الموت..: (1184)، والنسائي كتاب الجنائز، باب تقبيل الميت: (1841)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
5- أخرجه البخاري في «الأدب المفرد»: (973)، والأثر حسّنه الألباني في «صحيح الأدب المفرد»: (747).
6- أخرجه الطبراني في «المعجم الأوسط»: (1/37) رقم: (97)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. قال الهيثمي في «مجمع الزوائد»: (8/75): «أخرجه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح»، وقال الألباني في «السلسلة الصحيحة»: (6/303): «فالإسناد جيّد».
7- أخرجه الطبراني في «الأوسط» (1/84)، والبيهقي في «شعب الإيمان»: (6/473)، من حديث حذيفة رضي الله عنه، والحديث صححه الألباني في «السلسلة الصحيحة»: (2692)
8- أخرجه الطبراني في «الأوسط»: (6/349)، وأبو يعلى في «المسند»: (11/23)، والبيهقي في «شعب الإيمان»: (5/172)، قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (5/212): «وفيه يوسف بن زياد البصري وهو ضعيف»، وحكم عليه بالوضع الألباني في «السلسلة الضعيفة»: (2/44).
9- «شرح السنة» للبغوي: (12/293).
10- «الآداب الشرعية» لابن المفلح: (2/275).(18/18)
02- الرقائق
الفتوى رقم: 178
في شروط التوبة من المعاصي
السؤال: أنا شاب ممن أبتلي بالفتنة كثيرا فأغواني الشيطان فوقعت في فاحشة الزنى ولكن ندمت على فعلتي هذه وعدت إلى الله تائبا منيبا وأصبحت من المواظبين على الصلاة، سؤالي هو: هل تكون توبتي مقبولة؟ مع العلم أنّ الحدود انعدمت في وقتنا الحالي.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فاعلم أنّ الله يقبل التوبة عن عباده لقوله تعالى:?قُلْ يَا عِبَادِيَ الذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ?[الزمر:53]، ولقوله تعالى: ?وَالذينَ لا يدْعونَ معَ اللهِ إلهاً آخر ولا يَقْتُلُونَ النَفْسَ التي حَرَمَ اللهُ إلا بالحَقِ ولا يَزنونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إلاَ منْ تابَ وآمنَ وعَمِلَ عَمَلاً صالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِِّئَاتِهِمْ حَسَنَات وَكَانَ اللهُ غَفورًا رَحِيمًا? [الفرقان:68-70]، ويفرح بها كما ورد في الحديث:« لله أشدّ فرحا بتوبة أحدكم من أحدكم بضالته إذا وجدها »(1) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« التائب من الذنب كمن لا ذنب له »(2) وللتوبة شروط منها:
الرجوع إلى الله والإنابة إليه، وذلك بالتخلي عن الذنوب والمعاصي، والندم على كل ذنب سالف، وعدم الإصرار على العودة إلى الذنب في مقبل العمر لقوله تعالى: ?وَلَمْ يُصِرُوا عَلَى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ? [آل عمران:135]، وعليك أن تعمل جاهدا في تزكية نفسك وتطهيرها بأخذها بالآداب المزكية، وتجنيبها بما يدنسها من سيء المعتقدات، وفاسد الأقوال والأفعال، فتدفعها إلى الطاعة وتصرفها عن الشر والفساد، ويتم إصلاحها وتأديبها بالتوبة والصدق فيه لقوله تعالى: ?يا أيها الذينَ آمَنوا توبوا إلى اللهِ توبةً نَصوحاً عسى ربكم أنْ يُكفِرَ عنكم سيئاتكُم ويدخلكم جنات تجري من تحْتِها الأنهار? [التحريم:8]، كما تلزم نفسك بمراقبة الله تعالى في كل لحظات حياتك حتى تتيقن اطلاع المولى عز جل عليك لقوله تعالى: ?إنَّ اللهَ كانَ عليكم رقيبًا? [النساء:1]، ولقوله تعالى: ?واعلموا أنّ اللهَ يعْلَم ما في أنفسكم فاحذروه? [البقرة:235]، ولقوله تعالى: ?وما تكون في شأن وما تتلوا من قرآن ولا تعمَلونَ من عَمَلٍ إلا كنا عليكُم شهوداً إذ تُفيضون فيه? [يونس:61]، وقوله صلى الله عليه وسلم:«اعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك »(3)، ومن طرق إصلاحها وتزكيتها محاسبة النفس، فإن رأيت نقصا في عبادتك جبرتها بالنوافل إن كانت مما تنجبر وإلاّ استغفرت وندمت وأنبت وعملت من الخير ما تراه مصلحا لما أفسدت، قال تعالى: ?يا أيها الذينَ آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قَدَمَتْ لغدٍ واتقوا اللهَ إنَّ اللهَ خبيرُ بما تَعْمَلونَ? [الحشر:18]، هكذا أهل التقوى والصلاح يخافون ربهم من فوقهم ويحاسبون أنفسهم عن تفريطها ويلومونها عن تقصيرها ويلزمونها التقوى، وينهونها عن الهوى تجاوبا مع قوله تعالى: ?وأما من خاف مقام ربه ونهى النفسَ عَنِ الهوى فإنَّ الجنّة هي المأوى? [النازعات:40-41-42].
والعلم عند الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
الجزائر:21 صفر 1426ه
الموافق ل:31 مارس 2005م
__________
1- أخرجه مسلم في التوبة(7129)، وأحمد(8416)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2- أخرجه ابن ماجه في «الزهد »: (4250)، والبيهقي: (21150)، والطبراني في «المعجم الكبير »: (10281)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. قال ابن حجر في «فتح الباري »: (13/557):« سنده حسن »، وحسّنه الألباني في «صحيح الجامع »: (3008)
3- أخرجه البخاري في الإيمان(50)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ومسلم في الإيمان(102)، وأبو داود في السنة(4697)، والترمذي في الإيمان (2815)، والنسائي في الإيمان وشرائعه(5007)، وابن ماجة في المقدمة(66)، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.(18/19)
الفتوى رقم: 267
في الوسائل المانعة للفتن
السؤال: ما هي أعظم الوسائل لسد أبواب الفتن؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فالفتنة على قسمين: فتنة الشهوات وفتنة الشبهات.
- أمّا فتنة الشهوات فسدُّ أبوابها بغضّ البصر وعدم الاختلاط والخلوة وحفظ الفرج بتحصينه بالزّواج، أو الصيام بتضييق مجاري الشيطان.
- أمّا فتنة الشبهات: ففي فتنة الكفر فالواجب محاربة الكفر ووسائله الموصلة إليه بالحجّة والبرهان والدليل والبيان والقوة بحسب الحاجة والاستطاعة، أمّا فتنة البدعة فالواجب التعريف بحال أهل البدعة والتّحذير منهم وإظهار السنّة وتعريف المسلمين وقمع البدع بما يوجبه الشّرع من ضوابط، أمّا فتنة أهل السنّة فإنّ السّلامة لا يعدلها شيء والقعود أسلم إلاّ إذا ظهر الحقّ بالأدلّة الشّرعية فالواجب النّصرة والإعانة بحسب الاستطاعة.
والله أعلم وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على نبينا محمّد وعلى آله وسلّم تسليما.
الجزائر في : 30 جمادى الثانية 1426هـ
الموافق لـ: 5 أوت 2005م .(18/20)
الفتوى رقم: 355
تحريم الكذب
السؤال: ما هو نوع الكذب الذي يعتبر إثما؟ وما حكم الكذب بغير قصد؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فإنّ الأصل في الكذب التحريم لقوله صلى الله عليه وسلم:"إياكم والكذب فإنّه يهدي إلى الفجور وإنّ الفجور يهدي إلى النّار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا"(1).
والكذب حرم لما فيه من الضرر على المخاطب أو من غيره فإن تعلقت به مصلحة شرعية أجيز كما إذا كان لا يتمّ مقصود الحرب أو إصلاح ذات البين أو استمالة قلب المجنى عليه أو تعاشر الزوجين إلاّ به، غير أنّ إباحته مقتصرة على حد الضرورة لئلا يتجاوز إلى ما يستغنى عنه قال ثوبان مولى رسول الله:" الكذب كله إثم إلا ما نفع به مسلما أو دفع عنه ضررا"(2) ومع ذلك إذا أمكنه جلب هذه المنفعة أو دفع هذه المضرة عن المسلم بالمعاريض فـ "إنّ في المعاريض مندوحة عن الكذب" كما نقل عن السلف هذه المقولة.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
__________
1- أخرجه مسلم كتاب البر والصلة والآداب (6803)، والترمذي كتاب البر والصلة باب في الصدق والكذب(2099)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
2- أخرجه الروياني(24/126/2)، والبزار(2061)، عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرفوعا . قال الشيخ الألباني في السلسلة الضعيفة(5/192):"ضعيف".(18/21)
الفتوى رقم: 356
تكرار التوبة من الكبيرة
السؤال: ما حكم من يرتكب الكبائر وأمّ الكبائر ثمّ يتوب عنها ويعود إلى الله ومع مرور الوقت يعود إلى هذه الكبائر، هل تقبل التوبة منه مرة أخرى؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فإنّ نفس التائب هي إمّا نفس لوّامة، وإمّا نفس مسوِّلة، والتوبة مقبولة إذا استجمعت شروطها لقوله تعالى: ?والّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِم? [آل عمران: 135]، وفي الحديث "كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون"(1) فإن من أقدم على معصية بعد توبته من غير قصد ولام نفسه وندم وتأسف وجدد عزمه على أن يتشمر للاحتراز من أسبابها التي تعترض لها فهذه هي النفس اللوامة لا تلحق صاحبها بدرجة المصرين ولا تنتقص توبته، أما من أقدم على معصية عن قصد لعجزه عن قهر شهوته مع مداومته على الطاعات لكن تسوّل له نفسه ويتسوّف توبته يوم بعد آخر فهذه هي النفس المسوّلة، فهذا من حيث مداومته على الطاعة وكراهية ما يفعله مرجوّ عودته إلى التوبة غير أن عاقبتها خطيرة نتيجة تسويف وتأخيره التوبة إذ قد يخترمه الموت ولم يتب منها وأمره في ذلك على المشيئة.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
الجزائر في: 29 ذي القعدة 1422ه
الموافق ل : 21جانفي 2002 م
__________
1- أخرجه الترمذي كتاب صفة القيامة والرقائق والورع (2687)، وابن ماجه كتاب الزهد (4392)، وأحمد (12983)، والحاكم (4/244) كتاب التوبة والإنابة رقم (7217) عن أنس رضي الله عنه. وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (4391)، وفي صحيح الترغيب والترهيب(3139).(18/22)
الفتوى رقم: 498
في دفع الوسواس والخطرات الشيطانية
السؤال: أعاني من وساوس الشيطان، حيث أجد في نفسي سؤالا محيرا، وهو: ما هو الشيء الحسي الذي يثبت صحة نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فما هو الحل لهذه المشكلة؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فالواجب على المسلم أن يملأ نفسه بالإيمان، وأن يطرح كل ما يجول في خاطره من حديث نفس ووسواس الشيطان يحول بينه وبين الله سبحانه وتعالى، ويدع الشكوك والظنون التي إن لم يحاربها جادًّا بقوة العزيمة والثبات وقع في شباكها وشراكها لكن إذا كانت المقاومة ودفع الوساوس بصبر واحتساب فإنَّ ذلك من الإيمان كما جاء بعض الصحابة رضي الله عنهم النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم فَسَأَلُوهُ "إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، قَالَ: وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ؟ قَالَ: ذَلكَ صَرِيحُ الإِيمَانِ"(1- أخرجه مسلم في الإيمان (132)، وأبو داود في الأدب (5111)، وابن حبان في صحيحه كتاب الإيمان (145)، وأحمد (9401)، وأبو يعلى في مسنده (5923)، والبخاري في الأدب المفرد (1320)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه)، هذا إذا وردت على قلبه دون شبهة فليستعذ بالله وليقل: آمنت بالله ورسله لقوله تعالى: ? وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ?[الأعراف : 200]، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ مَنْ خَلَقَ كَذَا مَنْ خَلَقَ كَذَا حَتَّى يَقُولَ مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ، وَلْيَنْتَهِ"(2- أخرجه البخاري في بدء الخلق (3102)، ومسلم في الإيمان (134)، وأبو عوانة في مسنده (236)، وابن أبي عاصم في السنة (651)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه)، ومن طريق آخر:" فَلْيَقُلْ آمَنْتُ بِاللهِ وَرُسُلِهِ"(3- أخرجه أحمد (26246)، وأبو يعلى في مسنده (4704)، من حديث عائشة رضي الله عنها، وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير من حديث خزيمة بن ثابت رضي اله عنه (3719)، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (1/33):" رواه أحمد وأبو يعلى والبزار، ورجاله ثقات"، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (1657)، وفي "ظلال الجنة" (650))ولذلك ينبغي للإنسان اللجوء إلى الله سبحانه وتعالى لطرح الوساوس ويدفعها بالإعراض عن الإصغاء إليها والمبادرة إلى قطعها بأن يتعوَّذ بالمعوذات، وقراءة آية الكرسي، وكثرة الذكر ومنها قوله:" لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو على كل شيء قدير" عشر مرات عقب صلاة المغرب وعقب صلاة الصبح(4- أخرجه أحمد (17529)، من حديث عبد الرحمن بن غنم الأشعري رضي الله عنه) أيضا، وكذلك إذا قال:" لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ. فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ َكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِىَ "(5- أخرجه البخاري في الدعوات (6040)، ومسلم في الذكر (2691)، والترمذي في الدعوات (3468)، وابن ماجه في الأدب (3798)، ومالك في الموطإ (488)، من حديث أَبِي هريرةَ رضي الله عنه)، ومن الذكر أيضا قراءة سورة البقرة والتعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه ومن شر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون، ومن جملة الأدعية أن يتعوَّذ من الشيطان بقوله:"اللهم إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ وَشَرَكِهِ وَأَنْ أَقْتَرِفَ عَلَى نَفْسِي سُوءًا أَوْ أَجُرَّهُ إِلَى مُسْلِمٍ"(6- أخرجه الترمذي في الدعوات (3529)، وأحمد (81)، والبخاري في الأدب المفرد (1204)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وحسنه الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/122)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (7813)).
أمَّا الخواطر المستقرة التي أوجبتها الشبهة فإنّها لا تدفع إلا باستدلال ونظر في إبطالها، ومن الأدلة الحسية على صحة نبوته صلى الله عليه وآله وسلم فكثيرة منها: ما أخبر بالغيوب المستقبلة المطابقة لخبره صلى الله عليه وآله وسلم من إظهار دينه وإعلاء كلمته واستخلاف الذين آمنوا وعملوا الصالحات من أمته الأرض، وما أخبر به من غلبة الروم فارس في بضع سنين، وما أخبر به أن كنوز كسرى وقيصر ستنفق في سبيل الله، وأخبر يوم بدر قبل الوقعة بيوم بمصارع القتلى واحدا واحدا فكان كما أخبر، وبشر أمته بأن ملكهم سيمتد في طول الأرض فكان على نحو ما أخبر، وأخبر أيضا بأن لا تقوم الساعة حتى تقاتل أمته قوما صغار الأعين ذُلْفَ الأنُوف، كأن وجوههم المجانُّ المُطرَقَةُ وهي حلية التتار فكان كذلك، كما أخبر أنّ عمارا ستقتله الفئة الباغية، فقتل يوم صِفِّين مع علي رضي الله عنه، كما أخبر أنّ الحسن بن علي رضي الله عنهما سيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين فكان كما أخبر، وأخبر بقتال الخوارج، ووصف لهم ذا الثُدَيَّةِ، فوجد كما وصف سواءً سواءً.
ومنها: ما بشرت الكتب السماوية المتقدمة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من التوراة والإنجيل مكتوب فقال الله تعالى عن نبيه عيسى بن مريم أنّه قال: ?وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ? [الصف:6]، وروى البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنّه وجد صفته صلى الله عليه وآله وسلم وذكرها. وفي توراة اليوم التي يقر اليهود بصحتها في السفر الأول أن الله تعالى تجلى لإبراهيم وقال له ما معناه:" قم فاسلك في الأرض طولا وعرضا لولدك تعظيما" ومعلوم أنّه لم يملك مشارق الأرض ومغاربها إلا محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما جاء في الصحيح عنه أنّه قال:" إِنَّ اللهَ زَوَى لِي الأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَسَيَبْلُغُ مُلْكُ أُمَّتِي مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا"(7- أخرجه مسلم في الفتن وأشراط الساعة (2889)، وأبو داود في الفتن والملاحم (4252)، والترمذي في الفتن (2176)، وابن حبان (7238)، والحاكم في المستدرك (8390)، وأحمد (21946)، والبيهقي (19129)، من حديث ثوبان رضي الله عنه) وأمّا معجزاته فكثيرة منها: انشقاق القمر وقد رُئي بالعيان، وحنين الجذع، وتسبيح الحصيات وخروج الماء بين أصابعه صلى الله عليه وآله وسلم، ومنها إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوافل قريش التي كانت برحلة الشتاء والصيف عند الإسراء به إلى المسجد الأقصى، ومن أعظم المعجزات القرآن الكريم الذي تحدَّى العرب وفصحائهم وبلغائهم بأن يأتوا بآية من مثله، قال الله سبحانه وتعالى:? قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ? [الإسراء: 88]، ومعجزات أخرى حسية فيه فهو صادق فيما أخبر ويجب على المسلم حتى يصح إيمانه أن يصدق به فمن شك فيه أو في رسالته ممّا يستقر في النفوس التي توجبها الشبهة فعليه أن يجدد إيمانه.
نسأل الله العظيم ربَّ العرش العظيم أن يقينا وإياك شرَّ الشيطان ومكائده ومصائده ويثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة، وأن يسدد خطانا ويجعلنا من حماة الدين ومن الذابين عن سنته، اللهم إنا نسألك إيمانا يباشر قلوبنا ويقينا صادقًا، ويجعلنا من الراشدين، اللهم إنا نعوذ بك من الشكِّ والشرك والشقاق والنفاق وسوء الأخلاق.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 14 ربيع الأول 1427هـ
الموافق لـ: 12 أفريل 2006م
__________
1- أخرجه مسلم في الإيمان (132)، وأبو داود في الأدب (5111)، وابن حبان في صحيحه كتاب الإيمان (145)، وأحمد (9401)، وأبو يعلى في مسنده (5923)، والبخاري في الأدب المفرد (1320)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2- أخرجه البخاري في بدء الخلق (3102)، ومسلم في الإيمان (134)، وأبو عوانة في مسنده (236)، وابن أبي عاصم في السنة (651)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
3- أخرجه أحمد (26246)، وأبو يعلى في مسنده (4704)، من حديث عائشة رضي الله عنها، وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير من حديث خزيمة بن ثابت رضي اله عنه (3719)، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (1/33):" رواه أحمد وأبو يعلى والبزار، ورجاله ثقات"، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (1657)، وفي "ظلال الجنة" (650).
4- أخرجه أحمد (17529)، من حديث عبد الرحمن بن غنم الأشعري رضي الله عنه.
5- أخرجه البخاري في الدعوات (6040)، ومسلم في الذكر (2691)، والترمذي في الدعوات (3468)، وابن ماجه في الأدب (3798)، ومالك في الموطأ (488)، من حديث أَبِي هريرةَ رضي الله عنه .
6- أخرجه الترمذي في الدعوات (3529)، وأحمد (81)، والبخاري في الأدب المفرد (1204)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وحسنه الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/122)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (7813).
7- أخرجه مسلم في الفتن وأشراط الساعة (2889)، وأبو داود في الفتن والملاحم (4252)، والترمذي في الفتن (2176)، وابن حبان (7238)، والحاكم في المستدرك (8390)، وأحمد (21946)، والبيهقي (19129)، من حديث ثوبان رضي الله عنه.(18/23)
الفتوى رقم: 591
في حُكم تَعداد حلقِ اللِّحية من الكبائر
السؤال: هل حلقُ اللحية من الكبائر؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فاللِّحيةُ من شعائرِ المسلمِ التي يتميَّزُ بها عن الكافِرِ امتثالاً لأوامر النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم بها في عِدَّة نصوص مخالفة لليهود والنصارى، لذلك كان حلقُها معصيةً لأمر النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم الذي قال تعالى في شأنه: ?وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا? [الحشر: 7] لكنها دون الكبيرة؛ لأنّ الكبيرة هي: كلُّ ذنب يوجب حدًّا في الدنيا أو وعيدًا في الآخرة كأن يتوعّد الله تعالى مرتكبه بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب أو سماه الله ورسوله كبيرًا، فكلُّ ذلك وعيدٌ وإكبارٌ، وما عداه فلا يدخل فيه.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 19 من ذي الحجة 1427ه
الموافق ل: 08 جانفي 2007م(18/24)
الفتوى رقم: 753
في خطر السفر إلى ديار الكفر على دين المسلم
السؤال:
أنا أستاذٌ جامعي أسافرُ كُلَّ سنة إلى بلاد الكفر من أجل البحث العلمي، وفي يوم من الأيام وبينما أنا داخل الحافلة, جَلَسَتْ إلى جنبي فتاة وبدأت تلامس يدي, وأماكنَ حساسةً من جسدي ممّا أثار غريزتي وشهوتي فخرج مني المني، وأنا إلى اليوم متحسّر ونادم على ما اقترفت، فما حكم هذا العمل، وما يلزمني؟ وما هي نصيحتكم؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فلا يخفاك أنّ مساكنةَ أهلِ الكُفر في ديارهم والإقامةَ بين أَظْهُرِهِمْ تُورثُ المشاكلةَ والانصهارَ، وفيها خَطَرٌ على دِينِ المسلمِ وعلى أخلاقِهِ، خاصّةًَ مَن يرى نفسَهُ بعيدًا عن أنظار ذويه من المقرَّبين أو إخوانِه؛ لذلك ينبغي على المرء إذا اقتضت الحاجةُ للذهاب إلى هذه البلدانِ أن يصونَ نفسَهُ بعلمِ الشريعة وبإظهار شِعَائرِهَا حتى يأمنَ الفتنةَ، وأن يجعل اللهَ رقيبًا على أفعاله حتى يحرص على الابتعاد عن أماكن الهوى وبُؤَرِ الفتنة، ومع ذلك إِنْ وَقَعَ في المحظور الذي هو وسيلةٌ إلى الزنا والفاحشة المحرَّمةِ شرعًا فإنه دون المقصد المحرّم، إذ الوقوعُ في الوسائل المحرَّمة ليس كالوقوع في مقاصدها من حيث الجزاءُ والعقاب، ولا يترتّب على الوسيلة المحرّمة كالاختلاط الماجن والخلوة الآثمة وغيرها مما هي ذرائع إلى المحرّمات إلاّ التوبة النصوح المتمثِّلة في الندم على ما ارتكبَ والإقلاع عنه، وعدم الإصرار عليه من مكفّرات الآثام مهما عظمت خاصّةً إذا استتبعها بالعمل الصالح، قال الله تعالى: ?قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ? [الزمر: 53]، وقال الله سبحانه وتعالى: ?وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا، يُضَاعَفْ لَهُ العَذَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا، إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا? [الفرقان: 69-70]، وقال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لاَ ذَنْبَ لَهُ »(1- أخرجه ابن ماجه في «الزهد »: (4250)، والبيهقي: (21150)، والطبراني في «المعجم الكبير »: (10281)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. قال ابن حجر في «فتح الباري »: (13/557):« سنده حسن »، وحسّنه الألباني في «صحيح الجامع »: (3008))، وقال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللهَ، فَيَغْفِرُ لَهُمْ »(2- أخرجه مسلم في «التوبة »، باب سقوط الذنوب بالاستغفار توبة: (6965)، وأحمد في «مسنده »: (8021)، والبيهقي في «شعب الإيمان »: (7102)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه).
والعودةُ إلى الله والإنابةُ إليه مرفقةً بالعمل الصالح مع عزيمة وثباتٍ وصَبْرٍ لَهِي أعظم طُرُقِ الاستقامة والاعتدال الموصلة إلى رضوانه سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: ?وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا? [الجن: 16].
نسألُ اللهَ سبحانه وتعالى لنا ولكم الهدايةَ والرشاد وقَبولَ الأعمال والاستقامة على الهدى والخير، وأن يبعدنا وإياكم من الزَّلَلِ والخطأ والفتن ما ظهر منها وما بطن.
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 24 صفر 1428ه
الموافق ل: 13 مارس 2007م
__________
1- أخرجه ابن ماجه في «الزهد »: (4250)، والبيهقي: (21150)، والطبراني في «المعجم الكبير »: (10281)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. قال ابن حجر في «فتح الباري »: (13/557):« سنده حسن »، وحسّنه الألباني في «صحيح الجامع »: (3008).
2- أخرجه مسلم في «التوبة »، باب سقوط الذنوب بالاستغفار توبة: (6965)، وأحمد في «مسنده »: (8021)، والبيهقي في «شعب الإيمان »: (7102)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(18/25)
الفتوى رقم: 872
في نصيحة من يسوِّف التوبة
السؤال:
ما هي النصيحة التي تقدمونها لشابٍّ أعزبَ يُدَرِّس الصبيانَ، وتميل نفسه إليهم كثيرًا إلى درجة أنه وقع في هذه الذنوب والمعاصي بسبب مخالطتهم، وهو يُسَوِّفُ التوبةَ؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فاعلم أنَّ طريق الخلاص من الذنوب إنما هو بالتوبة واستغفار الله تعالى، قال جلَّ وعلا: ?أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ? [المائدة: 74]، وقال عزّ وجلّ: ?وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ? [هود: 3]، فتعيَّن على التائب من ذنوبه الإقلاع عن الذنب بالقلب والجوارح مع الندم على المعصية، والعزم على عدم الرُّجوع إليه، ولابدّ للمغفرة من الإقلاع عن الذنب وإصلاح الحال، قال تعالى: ?فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ? [المائدة: 39]، كما أنّ الواجب عليه أن يستبدل العمل السيِّءَ بالعمل الصالح حتى تصدق توبتُه، قال تعالى: ?إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا، وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتَابًا? [الفرقان: 70-71]، وتغييرُ العملِ السيِّءِ باجتناب موارد الفتن المُوقِعَة في الشهوات والفاحشة كمخالطة الصِّبيان والمردان والنِّسوان، وإذا لم يتمَّ ذلك إلاَّ بترك التدريس فَعَليهِ فِعلُه؛ لأنَّ «مَا لاَ يَتِمُّ تَرْكُ الحَرَامِ إِلاَّ بِتَرْكِ الجَمِيعِ فَتَرْكُهُ وَاجِبٌ ».
والتوبةُ واجبةٌ بظاهر الآيات والأخبار، ولا خلافَ في وجوبها، لقوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا? [التحريم: 8]، أي: خالية من الشوائب، وهي واجبةٌ على الفور لقوله تعالى: ?إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا? [النساء: 17]، قال النووي:« اتفقوا على أنَّ التوبةَ من جميع المعاصي واجبة، وأنها واجبة على الفور، لا يجوز تأخيرها، وسواء أكانت المعصية صغيرة أو كبيرة »(1).
ثُمَّ اعلم أنَّ المعاصي مهلكات تبعث بالضرورة على تركها، فمن لم يتركها فهو فاقد الإيمان المطلق، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ »(2).
فعليك أن تسلك سُبُلَ الهِداية، وأن تترك سُبُل الغواية، وأن تلتزم الاستقامةَ حتى تنال الكرامةَ، وطالعْ لزومًا كتاب «الداء والدواء »(3) لابن قيم الجَوْزِية، فتجد فيه ما يُعينك على إصلاح حالك، ويساعدك على تقويم سلوكك وأخلاقك، فترجع إلى الحقِّ وتَحْذَر من الرجوع إلى فتن الشهوات بعد التوبة؛ لأنَّ العودة إلى تلك المعاصي خطر على دِين المرء، وكذا من ترك المبادرة إلى التوبة بالتسويف كان بين مَهلكتين عظيمتين، إمَّا أن تتراكم الظُلمة في قلبه من المعاصي حتى يَسْوَدَّ، فيصير طبعًا له فلا يقبل المحو، وإمَّا أن يستعجله المرض أو الموت فلا يجد سبيلاً للتدارك أو مُهلةً للاشتغال بمحو الذنوب والمعاصي.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 21 ربيع الأول 1429ه
الموافق ل: 29 مارس 2008م
__________
1- «شرح مسلم » للنووي: (17/59).
2- أخرجه البخاري في «صحيحه » كتاب المظالم، باب النهبى بغير إذن صاحبه: (2343)، ومسلم في «صحيحه » كتاب الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان بالمعاصي: (202)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
3- يمكن مراجعة الكلمة الشهرية ضمن الموقع الموسومة:« طُرُق الخلاصِ من الذُّنوب وتكفير السيئات ».(18/26)
03- ألفاظ في الميزان
الفتوى رقم: 25
في حكم الدعاء بمزيد الظلم من أجل اليقظة
السؤال: قال الشيخُ ابن باديس -رحمه الله-:« اللهمَّ إن كنت تريد بهذا الظلمِ إيقاظَنَا فَزِدْنَا منه ».
فهل يجوز الدعاء بمثل هذا؟ وهل يدخل في نهي النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم عن تمنِّي لقاء العدوِّ؟
الجواب: الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فالأصلُ في دعاء المسلم -قبل حلول البلاء، أو الابتلاء بالعدو- هو أن يسأل اللهَ العافيةَ، وهي: السلامة من مكروهات الدنيا والآخرة، ومنها: الظلم والعدوان، وكلّ أسباب الذلِّ والهوان.
أمّا بعد حلول البلاء، فالواجب على المسلم الثبات، والصبر، مع تحرِّي أسباب النصر، وأن يسأل اللهَ تعالى العونَ والنصرَ وخذلَ الأعداء، تقصيًّا لتحصيل أسباب العزَّةِ الدينيةِ.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 13 محرم 1427ه
الموافق ل: 12 فبراير 2006م(18/27)
الفتوى رقم: 185
في معنى حديث:"فراش للرجل وفراش لامرأته..."
السؤال: ما هو تفسير الحديث الآتي:« فراش للرجل وفراش لامرأته والثالث للضيف والرابع للشيطان »(1).
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فالحديث يدلّ على ترك الإكثار من الوسائل والأشياء المباحة والترفه بها، أي: أنّ المقصود الاقتصار على قدر الحاجة، لأنّ الزائد على قدر الحاجة سرف، وذلك مدعاة إلى حبّ الدنيا وزخارفها، الأمر الذي يفضي بطريق أو بآخر إلى المباهاة والاختيال والكبر، ولا شك أنّ ذلك مذموم شرعا قال تعالى : ?وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسْرِفِينَ?[الأعراف:31] وقال تعالى في وصف عباد الرحمن: ?وَالذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً?[الفرقان:67]، والمعلوم -استقراء- أنّ كلّ مذموم يضاف إلى الشيطان لأنّه يرتضيه ويحثّ عليه قال تعالى: ?وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ المبَذِرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا? [الإسراء:27]، ولأنّ الشيطان -لعنه الله- لا يدعو إلاّ إلى خصلة ذميمة إمّا البخل والإمساك، فإن عصاه دعاه إلى الإسراف والتبذير. وفي الحديث دليل على أنّ الشيطان يبيت ويقيل، ويؤكد خصوص المبيت ما صحّ عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال:« إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه، قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله، قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر الله عند طعامه، قال أدركتم المبيت والعشاء »(2).
ويخرج من عموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم:''والرابع للشيطان'' القيلولة لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:''قيلوا فإن الشياطين لا تقيل''(3).
والعلم عند الله تعالى وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
الجزائر في:18 صفر 1426ه
الموافق ل: 27 مارس 2005 م
__________
1- أخرجه مسلم في اللباس والزينة(5573)، وأبو داود في اللباس(4144)، وأحمد(14488)، من حديث جابر رضي الله عنه.
2- أخرجه مسلم في الأشربة(5381)، وأبو داود في الأطعمة(3767)، وابن ماجة في الدعاء(4020)، وأحمد(15109)، والبيهقي(15003)، من حديث جابر رضي الله عنه.
3- أخرجه أبو نعيم في (أخبار أصبهان)(1/195)، والطبراني في الأوسط(ح28)، والديلمي في الفردوس(3/4605) من حديث أنس رضي الله عنه. وحسنه الألباني في صحيح الجامع(4431)، والسلسلة الصحيحة(1647).(18/28)
الفتوى رقم: 277
في صحَّة استعمال عبارة:« جاب لي ربي »
السؤال: ما حكم كلمة:« جاب لي ربي »؟
الجواب: الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فعبارةُ:« جاب لي ربي » وإن كان مرادُها عند المتكلِّم هو:« ما خطر ببالي » إلاّ أنّ هذه العبارةَ في حدِّ ذاتها خطأٌ إذ هي مأخوذةٌ من عباراتِ المتصوِّفة الذين يعتقدون أنّ من مصادر التلقِّي: الإلهام من الله مباشرةً، ويجري على لسانهم:« حدّثني قلبي عن ربي »، حيث يأخذون العلمَ من اللهِ مباشرةً -كما يزعمون- ولذلك يجعلون مقامَ الصوفيِّ فوق مقام النبيِّ، لأنّ النبيَّ عندهم يأخذ العلمَ من المَلَك الذي يوحي به إليه بخلاف الصوفي فيأخذه من الله مباشرةً بواسطة الإلهام، ومن مصادر التلقِّي عندهم أيضًا سماع خطاب الله تعالى أو الملائكة أو الجنّ الصالح أو أحد الأولياء عن طريق الهواتف في اليقظة أو في المنام أو في حالة بينهما بواسطة الأذن، ولا يخفى أنّ هذا الانحراف المختلط بالفلسفات الهندية واليونانية والرهبانية شوّه جمالَ الإسلام وصفاءَ عقيدتِه، وحَالَ دونَ تقدُّم المسلمين، لأجل ذلك ينبغي تجنُّب استعمالِ مثل هذه العبارات.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 10 رجب 1426ه
الموافق ل: 15 أوت 2005م(18/29)
الفتوى رقم: 349
في حكم تعضيد مجهول العين للأحاديث في المتابعات
السؤال: بسم الله الرحمن الرحيم ... بارك الله فيكم شيخنا الكريم، وزادكم علما وعملا ... سؤالي -شيخنا- يتعلق بعلم مصطلح الحديث، حيث قرأت في كتاب الشيخ عمرو عبد المنعم سليم " تيسير دراسة الأسانيد" أنّ رواية مجهول العين من حالات الضعف الشديد، لا تتقوى ولا تقوي غيرها، وأن تقوية رواية مجهول العين خطأ شائع عند المشتغلين بالحديث وعلومه. وإليك ما قال : (ص245-247) تحت عنوان "أخطاء شائعة في التقوية بالمتابعات والشواهد": 2- تقوية رواية مجهول العين أو المبهم بغيرها، أو تقوية غيرها بها: من الأخطاء الشائعة في التقوية بالمتابعات والشواهد تقوية حديث مجهول العين، ومن في حكمه كالمبهم بالمتابعة، أو تقوية غيره به، وهذا خلاف ما تقرر في المصطلح. فإن جهالة العين من أسباب الضعف الشديد كما تقدم بيانه، بل كثيرا ما يكون الراوي مجهول العين لا وجود له، وإنما نشأ اسمه عن تصحيف أو وهم من أحد رواة الحديث،كمن سبق التمثيل له ولم أجد أحدا من أهل العلم ممن نص على التقوية بالمتابعة يذكر أن التقوية تكون بحديث مجهول العين، وإنما خصوا ذلك- فيما يتعلق بالجهالة- بحديث مجهول الحال والمستور، وهو ظاهر مما تقدم نقله عن الحافظ ابن حجر- رحمه الله- ومن قبله ابن الصلاح. و قد نقل غير واحد من أهل العلم الاتفاق على رد رواية مجهول العين إلا ما كان من احتجاج أبي حنيفة برواية بعضهم من التابعين. ولذا قال الحافظ ابن كثير في اختصار علوم الحديث (ص92):" أما المبهم الذي لم يسم، أو من سمي ولا تعرف عينه، فهذا مما لا يقبله أحد علمناه، ولكنه إذا كان في عصر التابعين والقرون المشهود لهم بالخير، فإنه يستأنس بروايته، ويستضاء بها في مواطن". قلت (الكلام للشيخ عمرو): بل الراجح ترك الاحتجاج برواية هذا الصنف مطلقا، وترك التعضيد له أو به. مثال ذلك : ما أخرجه أحمد (3/478 و444) وأبو داود (362 ) والنسائي (2/214 ) وابن ماجه (1429) من طريق تميم بن محمود عن عبد الرحمن بن شبل قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن نقرة الغراب وافتراش الشبع (الصواب السبع ولعله خطأ مطبعي)، وأن يوطن الرجل المكان كما يوطن البعير. وله شاهد من حديث عثمان البتي، عن عبد الحميد بن سلمة، عن أبيه مرفوعا بنحوه. أخرجه أحمد (5/446-447) وهذا الحديث قد حسنه الشيخ الألباني رحمه الله في الصحيحة (1168) بمجموع الطريقين. وبدراسة الطريقين نجد: أن في الطريق الأول: تميم بن محمود، وقد قال فيه البخاري " في حديثه نظر"، وضعفه العقيلي والدولابي وابن الجارود، وقال العقيلي: لا يتابع على حديثه. وفي الطريق الثاني: عبد الحميد بن سلمة وأبوه، قال فيهما الدارقطني: لا يعرفان، وقال الشيخ الألباني - رحمه الله-:" عبد الحميد هذا مجهول كما في التقريب". قلت (الكلام للشيخ عمرو): قد تفرد بالرواية عنه عثمان البتي، وليس له عنه راو غيره، فالجهالة هنا تنصرف إلى جهالة العين، لا سيما وأنه قد اختلف عليه في هذا السند كما في ترجمته من "التهذيب". فإذا تقرر ذلك فلا يصح تقوية حديثه بالطريق الأول، إذ لو أننا سلمنا بأن الضعف في الطريق الأول ضعف محتمل، فالطريق الثاني قد تفرد به مجهول عين، ومن ثم فلا يقوى به. اهـ. .. نرجو من شيخنا أن يبين بتوسع الصواب في هذه المسألة: هل جهالة العين من أسباب الضعف المحتمل أو من أسباب الضعف الشديد؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما، أمّا بعد:
فمجهول العين هو من ذُكر اسمه، وعُرفت ذاته، ولكنّه كان مقلاًّ في الحديث، ولم يرو عنه إلاَّ واحد، واختلفوا في حكم هذا النوع من المجهول على ما يربو عن خمسة أقوال، ومحل السؤال المطروح هل حديث مجهول العين يقوى به الأحاديث في المتابعات؟ وفي هذه المسألة خلاف يرجع سببه -في نظري- إلى مسألتين حديثيتين:
- الأولى: في قبول الرواية عن المبهم الذي لم يسمَّ بعد التعديل والتوثيق.
- الثانية: في رواية الثقة عن غيره هل هو تعديل له؟
وما عليه جمهور المحدثين أنَّ حكم مجهول العين هو حكم المبهم الذي لا يكفي في ارتفاع الجهالة فيه توثيق من عدَّله، لأنه قد يكون ممن انفرد هو بتوثيقه، وجرحه غيره بجرح قادح، ومن جهة أخرى فإن رواية العدل عن غيره ليست تعديلا له، لأنَّ العدل قد يروي عن غير العدل، ولا ترتفع الجهالة عن الراوي على مذهب جمهور المحدثين إلا بمعرفة العلماء له، أو برواية عدلين عنه، نص على ذلك الخطيب وغيره(1).
ويذهب فريق آخر من أهل الحديث والأصول إلى أنَّ مجهول العين وإن كان كالمبهم إلا أنّه إن روى العدل عنه وكان متأهلاً لا يروي إلاَّ عن ثقة، أو عدله الثقة بأن يقول: حدثني من أثق به وأرضى عنه أو عدله غير من ينفرد عنه فإنّه يقبل تعديله مطلقا -على هذا الرأي- كما لو عينه، لأنه مأمون حين سماه ووثقه، وحين وثقه وأبهمه، وعلى هذا القول فإن الجهالة ترتفع عن مجهول العين إذا ما وثقه غير من ينفرد عنه، أو من انفرد به وكان متأهلا لذلك.
ونخلص مما تقدم إلى أنَّ الجهالة تبقى ثابتة على مذهب الجمهور ويسري حكم المبهم فيه، وتلحق مرتبة مجهول العين بأهل الثالثة من مراتب التجريح لردِّ حديثه وعدم قبوله، وعليه فلا يحتج بمن ذكر في هذه المرتبة ولا يخرج حديثه للاعتبار، فكانت الجهالة سبب الضعف الشديد الذي لايعضد به الأحاديث في المتابعات.
أمّا من حكم بارتفاع الجهالة بالتوثيق من غير من ينفرد عنه، أو من انفرد عنه إن كان متأهلا لا يروي إلا عن ثقة قبل الحديث وعضد به في المتابعات والشواهد، وبه قال الأصوليون وهو ما رجحه ابن الوزير فقال:" فإن سمى المجهول أو انفرد واحد عنه فمجهول العين، والحق عند الأصوليين أنه إذا وثقه الراوي أو غيره قبل خلافًا لأكثر المحدثين، والقول الصحيح قول الأصوليين"(2).
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.
الجزائر في: 2 صفر 1427ه
الموافق لـ: 2 فبراير 2006م
__________
1- اختصار علوم الحديث لابن كثير: 97.
2- توضيح الأفكار للصنعاني: 2/186.(18/30)
الفتوى رقم: 376
في حكم إخراج القيمة في كفارة اليمين، وفي صحة إعطائها لمسكين واحد
السؤال: هل يجوز إخراج القيمة في كفارة اليمين؟ وهل يجوز إعطاؤها لشخص واحد؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين ، وعلى آله وصحبه وإخوانه على يوم الدين وسلم تسليما أما بعد:
فما عليه جمهور أهل العلم أنه لا يجزئ في كفارة اليمين إخراج قيمة الطعام أو الكسوة، وبه قال مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، لظاهر الآية في قوله تعالى: ?فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ?[المائدة: 89]، فقد خيَّر الله تعالى بين ثلاثة أعيان: الطعام، والكسوة، والعتق، فلو جازت القيمة لم ينحصر التخيير في الثلاثة، لأنه إذا ساوت قيمة الطعام قيمة الكسوة صارا شيئا واحدًا، ولم يَعُد للتخيير معنى، وإن زادت قيمة أحدهما عن الآخر فلا يتحقق التخيير بين الشيء وبعضه، وإذا كان العتق لا تجزيء فيه القيمة فتعيَّن ما ورد به النص فلا يحصل التكفير بغير ما تتضمنه، وعليه فلو أخرج القيمة لم يؤد ما أمره الله بأدائه، ولم يخرج من عهدته.
أمّا إخراجها بالطعام، فإما أن يجد المكفر المساكين بكمال عددهم، أو يعجز عن ذلك، فإن وجدهم فلا يجزئه أقل من عشرة، لأنَّ الله تعالى أوجب كفارته بإطعام عشرة مساكين فإن كانوا دون العدد المطلوب وعجز عن إيجاد بقيتهم ردد على الموجودين منهم في كل يوم حتى يستكمل العشرة، فإن لم يجد إلاَّ واحدا ردد على ذلك المسكين تتمة عشرة أيام، وهذا إنما يكون في حالة العجز، أما في حالة القدرة فلا يجزئه إلا كمال العدد.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 25 ذي الحجة 1426ه
الموافق ل: 25 يناير 2006م(18/31)
الفتوى رقم: 378
في حكم بعض الألفاظ المستعملة مثل:" بصحتك" و"ربي تقبل"
السؤال: ما قولكم في بعض الألفاظ المستعملة من بعض الناس بعد الانتهاء من الأكل بقولهم:" بصحتك"، وكذلك بعد الصلاة قولهم:" اللهم تقبل"، أو "تقبل الله صلاتك"، أو "ربي يقبل". وجزاكم الله خيرا.
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما، أمّا بعد:
فإنَّ قول بعضهم للآكل أو الشارب عند انتهاء منه:" بالصحة والعافية" وغيرها من العبارات الدالة على اهتمام الأخ بأخيه، وهي تحمل معنى الدعاء فلا أرى مانعًا من ذكرها إذا لم يقصد بالتعبُّد بذات العبارة ولا التزام بكلماتها، وذلك لدخولها في عموم القول بالمعروف والكلمة الطيبة في قوله صلى الله عليه وآله وسلم :" كُلُّ سُلاَمَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ، يَعْدِلُ بَيْنَ الاِثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ، فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا، أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ خَطْوَةٍ يَخْطُوهَا إِلَى الصَّلاَةِ صَدَقَةٌ، وَيُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ"(1) فتكون الكلمة الطيبة مطلقًا وبين الناس صدقة فهي شاملة لكلمة التوحيد، والذكر، والبدء بالسلام ورده، وتشميت العاطس، والكلام الطيب في ردِّ السائل قال تعالى: ?قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى?[البقرة: 263]، كما يدخل كل كلام حسن يثلجُ به صدر المؤمن، ويفرح به قلبه، ويدخل فيه السرور قال تعالى: ?وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً?[البقرة: 83]، ففي الحديث:" اتَّقُوا اللهَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَبِالكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ"(2).
غير أنَّ الذي اعتاده بعض الناس قولهم عقب الصلاة الجماعية مباشرة وعند المصافحة:" تقبَّل الله" ونحوها من الكلمات ويقول الآخر:" منَّا ومنكم" فإنَّ مثل هذا لصيق بالعبادة، ولا أصل له في الشرع ومخالف للسنة التركية، لأنَّ هديه صلى الله عليه وآله وسلم عقب السلام البدء بالاستغفار، ثمَّ الأذكار الواردة، ثم التسبيح، والتحميد، والتكبير، وغيرها مما هو معلوم في السنة.
والفرق بين الحكمين السابقين، أنَّ الأول يتعلَّق بالعادات فالأصل فيها الجواز مالم يرد دليل مانع أو يحمل في ذاته عبارات لا يرضاها الشرع، بينما الحكم الثاني فمتعلق بالعبادات لإضافته لحكم الصلاة، وكلُّ ما أضيف إلى حكم شرعي، فإنَّه يحتاج إلى دليل من الشرع يسنده ويؤيده.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.
الجزائر في: 13 صفر 1427ه
الموافقل: 13 مارس 2006م
---
1- أخرجه البخاري في الجهاد (2989)، ومسلم في الزكاة (2382)، وأحمد (8840)، والبيهقي (8072)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2- أخرجه البخاري في المناقب (3595)، ومسلم في الزكاة (2396)، والنسائي في الزكاة (2565)، وأحمد (18747)، والدارمي (1710)، من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه.(18/32)
الفتوى رقم: 397
في حكم قولهم:« عَيْبٌ خَلْقي »
السؤال: ما حكمُ قولِ بعضِهم:« عَيْبٌ خَلْقي »؟
الجواب: الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فلا ينبغي وصفُ العيبِ بأنَّه خَلْقِي في استعمال عبارة «عيب خَلْقِي » لِمَا فيه من إضافة العيب ونسبته إلى الخالق عزَّ وجلّ، واللهُ سبحانه هو المتَّصف بالكمال في ذاته وصفاته وأفعاله، وكلُّ خلقه سبحانه حسنٌ؛ لأنّه ما من شيء إلاَّ وهو مخلوق على ما تقتضيه حكمة الله سبحانه، قال تعالى: ?الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ? [السجدة: 7]، وقال تعالى: ?لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ? [التين: 4]، وقال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« كُلُّ خَلْقِ اللهِ حَسَنٌ »(1)، وإنما العيب يُضاف إلى ذات العضو أو يتَّصف به لا الخالق سبحانه، فيقال مثلاً: عيب عضوي، أو تناسلي، أو جسماني، أو صدري، أو هضمي…، وتترك العبارة السابقة تأدُّبًا مع الله تعالى.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 06 ربيع الأول 1427ه
الموافق ل: 5 أفريل 2006م
__________
1- أخرجه أحمد: (19130)، والحميدي في «مسنده »: (782)، والطحاوي في «مشكل الآثار »: (2/287)، من حديث الشريد بن سويد رضي الله عنه. وصحّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة »: (1441).(18/33)
الفتوى رقم: 398
في حكم إطلاق لفظ "معاق"
السؤال: يسمي الناس من أصيب بقصور في بدنه:" معاق"، وإن كان هذا النقص لا يعوقه عن عبادة خالقه تبارك وتعالى، فما حكم هذا اللفظ شرعا؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فالمراد بالإعاقة هي الحبس عن شيء أو فعل، وَصرْفه عنه أو مَنْعه منه، والظاهر جواز استعمال هذه اللفظة مقرونة بصفتها لفظًا، كإعاقة ذهنية أو حركية أي محبوس عن التفكير، وعن الحركة، أو إطلاق اللفظة مع سابق معرفة بوجه الإعاقة، فشأنه الحبس والمنع، فيقال محبوس عن الحركة وممنوع منها، وإطلاقه المحبوس مع معرفة وجه الحبس جائز، ولو كان لا يحبسه عن العبادة ولا يمنعه منها.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 06 ربيع الأول 1427ه
الموافق ل: 05 أفريل 2006م(18/34)
الفتوى رقم: 417
في حكم استعمال لفظ «هَوَّدْ » للنُّزول
السؤال: يستعمل سكانُ الغرب الجزائري لفظة:« هَوَّدْ » بمعنى: نَزَل، وقد منع منها البعض زعمًا أنّها بمعنى دخل في اليهودية. فما تعليقكم شيخنا؟
الجواب: الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فإنَّ التعبيرَ العامِّي الجاري في أهل منطقتكم عند إطلاق لفظ «هوِّد » على النُّزول -ففي نظري- أنَّ معناه ليس مشتقًّا من التهويد، أي: التحوّل إلى دين اليهود، وإنما استعملت فيمن هوى، أي: سقط من العلوِّ إلى الأسفل كمن وقع في هوَّةٍ كالبئر مثلاً، وهي الهوَّاءة ثمّ أبدلت الهمزة دالاً إمَّا لثقلها أو لكثرة الاستعمال، ثمّ أضيفت إلى معنى الهبوط والنُّزول السريع، وبعدها استقرَّ معناها الأخير في النُّزول العادي.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 8 ربيع الثاني 1427ه
الموافق ل: 5 ماي 2006م(18/35)
الفتوى رقم: 418
في حكم إطلاق لفظ «النَّاموس » على البعوض
السؤال: جاء في الحديث الصحيح وصفُ جبريل عليه السلام بالناموس(1)، بينما يُطلق لفظ الناموس في منطقتنا على البعوض، فهل في مثل هذا الإطلاق محذور شرعي؟ أفيدونا جزاكم الله خيرًا.
الجواب: الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فالمرادُ بالناموس لغةً هو صاحب سِرُّ الإنسان، ويطلق على الجاسوس؛ لأنه صاحب سرِّ الشرِّ، وإنما أراد في الحديث بالناموس الأكبر جبريل عليه السلام؛ لأنه صاحب سرِّ المَلِكِ سبحانه، فخصَّه اللهُ تعالى بالوحي والغيب اللَّذَين لا يطَّلع عليهما غيرُه. قال ابن دريد:« كُلُّ شيء سترتَ به شيئًا فهو ناموس له »(2)، ويُستعمل الناموس أيضًا في المكر والخداع والتلبيس؛ لأنَّه يسترها ويخفيها.
قلت: ولعلَّ إطلاق تسمية الناموس على مكمن البعوض وأماكن استتاره فيه أوَّلاً، ثمَّ استعيرت فيه.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 8 ربيع الثاني 1427ه
الموافق ل: 5 ماي 2006م
__________
1- أخرجه البخاري في «بدء الوحي »: (3)، ومسلم في «الإيمان »: (422)، وأحمد: (26616)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
2- «مقاييس اللغة » لابن فارس: (5/481).(18/36)
الفتوى رقم: 430
في شرط ارتقاء الحديث الضعيف إلى الحسن
السؤال: هل الحديث الضعيف إذا ورد من طرق متعددة يرتقي إلى الحسن أو الصحيح؟ مع شيء من التفصيل.
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فالحديث الضعيف يرتقي إلى الحسن لغيره إذا اعتضد بمتابع أو شاهد على أن لا يكون ضعف طرقه شديدة، أي أن يكون ضعف رواته في مختلف طرقه ناشئا من سوء حفظهم لا من تهمة في صدقهم أو دينهم، قال ابن الصلاح في" مقدمته":" ليس كل ضعف في الحديث يزول بمجيئه من وجوه، بل ذلك يتفاوت، فمنه ضعف يزيله ذلك بأن يكون ضعفه ناشئا من ضعف حفظ راويه، مع كونه من أهل الصدق والديانة، فإذا رأينا ما رواه قد جاء من وجه آخر، عرفنا أنه مما قد حفظه، ولم يختل فيه ضبطه له، وكذلك إذا كان ضعفه من حيث الإرسال زال بنحو ذلك، كما في المرسل الذي يرسله إمام حافظ، إذ فيه ضعف قليل يزول بروايته من وجه آخر.
ومن ذلك ضعف لا يزول بنحو ذلك لقوة الضعف، وتقاعد هذا الجابر عن جبره ومقاومته، وذلك كالضعف الذي ينشأ من كون الراوي متهما بالكذب أو كون الحديث شاذًّا"(1)، وعليه فالمتهم بتعمد الكذب أو مغفل كثير الخطإ في روايته أو كون الحديث شاذا أو منكرا فلو جاء الحديث من نفس هذا النوع فإنه لا يتقوى مهما كثرت طرقه، بل على العكس يزداد ضعفا إلى ضعف لتفرد المتهمين بالكذب والفسق بروايته بحيث لا يرويه عنهم برفع الثقة به، ويؤكد ضعفه أكثر، قال المناوي في "فيض القدير":" وإذا قوي الضعف لا ينجبر بوروده من وجه آخر وإن كثرت طرقه، ومن ثمَّ اتفقوا على ضعف حديث:" مَنْ حَفِظَ عَلَى أُمَّتِي أَرْبَعِينَ حَدِيثًا"(2)، مع كثرة طرقه، لقوة ضعفه، وقصوره عن الجبر، بخلاف ما خف ضعفه، ولم يقصر الجابر عن جبر فإنه ينجبر ويعتضد"(3)، كما يشترط لارتقائه أيضا تعدد مخرج الحديث، أي أن يكون تعدد طرقه حقيقيا كمن يفقد مثلا شرط اتصال السند ويروى من وجه آخر متصلا أو فقد شرط الضبط ويروى من وجه آخر ما يفيد الضبط، فإنَّ هذا ينجبر ما فيه من نقص، ومثال ما فيه ضعف بسبب التدليس ما رواه الترمذي وحسنه من طريق هشيم عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء بن عازب مرفوعا "حَقٌّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَغْتَسِلُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلْيَمَسَّ أَحَدُهُمْ مِنْ طِيبِ أَهْلِهِ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَالْمَاءُ لَهُ طِيبٌ"(4)، فهشيم موصوف بالتدليس فلما تابعه أبو يحي التميمي كما هو عند الترمذي وكان للمتن شواهد من حديث أبي سعيد وغيره، من أجل ذلك حسنه الترمذي.
أما إذا تعددت الأسانيد ومحل الضعف هو مدار الأسانيد كان تعدد غيرَ حقيقي، لأنَّ الطرق هي طريق واحد بحيث يمكن أن يتصرف فيه الرواة فإن الحديث لا ينجبر كأن تتعدد الأسانيد وفي طبقة محل الضعف انقطاع، والطريق الآخر راو ضعيف، فهذا لا ينجبر به الحديث ولو تعدد لاحتمال تصرف الراوي الضعيف بالإسقاط في الطريق الذي فيها انقطاع.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في:25 ربيع الثاني 1427ه
الموافق ل: 22 مايو 2006م
__________
1- مقدمة ابن الصلاح: 17.
2- قال الألباني رحمه الله في:" السلسلة الضعيفة" [10/1/104]: << والحق: أنَّ الحديث عندي موضوع، وإن اشتهر عند العلماء، وعملوا من أجله كتب "الأربعين" ولو كان صحيحا لما قيض الله لروايته والتفرد به تلك الكثرة من الكذابين والوضاعين >>.
3- نقلا عن تمام "المنة" للألباني: 31.
4- أخرجه الترمذي في الصلاة (531)، والبغوي في "شرح السنة" (1/430)، من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه. قال ابن حجر في "النكت" (1/395):" فيه هشيم موصوف بالتدليس، لكن تابعه عنده أبو يحيى التيمي وللمتن شواهد". وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (2737).(18/37)
الفتوى رقم: 536
في صحة تلقيب السيدة: فاطمة رضي الله عنها بالزهراء والبتول
السؤال: انتشر بين العوامِّ أنَّ فاطمة بنتَ رسولِ الله لُقِّبَتْ ب:« بالزهراء » لأنَّها لم تَحِضْ، وهي لها خصوصية من الرحمـ?ن، فهل هذا صحيح؟ وما وجه تلقيبها ب:« البتول » وإن كانت تفارق مريم العذراء عليها السلام في كونها تزوّجت عليًّا رضي الله عنه؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
ففاطمةُ رضي الله عنها بنتُ النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم وزوجةُ عليٍّ بنِ أبي طالب رضي الله عنه، سيّدةُ نساءِ هذه الأُمَّةِ، ومناقبُها مشهورة عند أهل السُّنَّة، وتسميتُها ب:« الزهراء » وَرَدَ في بعض كتب أهل السُّنَّةِ كتفسير الطبري(1- (6/339، 4/545))، والألوسي(2- (13/387، 394))، وأضواء البيان للشنقيطي(3- (8/270))، وفي الاستيعاب لابن عبد البر(4- (2/135))، وشرح السُّنَّة للبغوي(5- (14/158))، حيث بوَّب في كتاب «فضائل الصحابة » باب «مناقب فاطمة الزهراء رضي الله عنها »، لكن لم ينقل بهذا اللقب تاريخيًّا لدى أهل السُّنَّة فيما أعلم، ومعنى الزهراء أنها تتمتّع بِوَجْهٍ مُشْرِقٍ مُسْتَنِيرٍ زَاهِرٍ، ومنه جاء الحديث:« اقْرَؤُوا الزَّهْرَاوَيْنِ: البَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَان، فَإِنَّهُمَا يَأْتِيَانِ يَوْمَ القِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أَوْ غَيَايَتَانِ »(6- أخرجه مسلم في «صلاة المسافرين » (1874)، وابن حبان (116)، والحاكم في المستدرك (2071)، وأحمد (21653)، وعبد الرزاق في «المصنف » (5991)، والبيهقي (4159)، من حديث أبي أمامة رضي الله عنه)، وإنَّما المنقول عن الشيعة أنَّ من أسمائها «الزهراء » بمعنى نورانيتها ظاهرًا وباطنًا كما فسَّرها المجلسي، وعنهم أيضًا جاء في بحار الأنوار للإمام الصادق أنّ سبب تسميتها:« أنَّها هي الحوراءُ الإنسيةُ متى قامت من محرابها بين يدي ربها «جلَّ جلاله » زَهَر نورها لملائكة السماوات كما يزهو نور كواكب الأرض ». ولا يخفى شدّة الغلوّ في التفسيرات الشيعية.
أمَّا تلقيبها ب:« فاطمة البتول » ليس لأنَّها لم تَحِضْ كما ورد في السؤال، وإنَّما لانقطاعها عن نساء زمانها فضلاً وشرفًا ودينًا وحسبًا؛ لأنَّ لفظة «تبتَّل » معناها الانقطاع، ومنه قوله تعالى: ?وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً? [المزّمِّل: 8]، أي: انقطِع إلى الله وتفرَّغ لعبادته إذا فَرغتَ من أشغالك، ومنه قيل لمريم «البتول » لانقطاعها عن الرجال، فالحاصل أنَّ هذا هو معنى اللفظة من حيث أصلُها اللغوي، أمَّا من جهة صحّة النسبة فليس فيها مستند تاريخي عند أهل السُّنَّة في حدود علمي يمكن الاعتماد عليه.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا.
الجزائر في: 1 شعبان 1427ه
الموافق ل: 25 أوت 2006م
__________
?- (6/339، 4/545).
?- (13/387، 394).
3- (8/270).
4- (2/135).
5- (14/158).
6- أخرجه مسلم في «صلاة المسافرين » (1874)، وابن حبان (116)، والحاكم في المستدرك (2071)، وأحمد (21653)، وعبد الرزاق في «المصنف » (5991)، والبيهقي (4159)، من حديث أبي أمامة رضي الله عنه.(18/38)
الفتوى رقم: 549
في صحة إطلاق عبارة «رضي الله عنه » على صغار الصحابة ودونهم
السؤال: هل صيغةُ الترضيةِ «رضي الله عنه » خاصّة بالصحابة فقط؟ وهل يَدْخُلُ في ذلك الصحابة الصِّغَار مثلُ الحَسَن والحُسَينِ؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فأمَّا الترضيةُ فهي عبارةٌ تُطلقُ على الصحابةِ خاصَّةً على أرجح أقوال أهل العلم على وجهٍ لازمِ التَّحقيقِ لمن عَيَّنَتْهُمُ الآياتُ القرآنية في قوله تعالى: ?لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيبًا? [الفتح: 18]، ولقوله تعالى: ?رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ? [البينة: 8]، وآيات أخرى، ولا خلاف في استحباب الترضي عن الصحابة رضي الله عنهم سواء كانوا من كبار الصحابة أو من أبنائهم سواء كانوا من السابقين الأوّلين من المهاجرين والأنصار ومن دونهم، ذلك لأنَّ الصحابي هو:« مَن لقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسلمًا ومات على الإسلام » سواء في حياته أو بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أجاز بعضهم الترضية عن غير الصحابة رضي الله عنهم كالنووي في «المجموع »، وذلك من بابِ الدعاء لهم بالترضية والترحُّم.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
مكة في: 21 ريبع الأول 1427ه
الموافق ل: 19 أفريل 2006م(18/39)
الفتوى رقم: 550
في صحة إطلاق عبارة «عليه السلام » على غير الأنبياء والرسل
السؤال: ما مدى صحة إطلاقِ عبارةِ « عليهِ السلامُ » على غيرِ الأنبياءِ والرسلِ ؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فالصلاةُ والسلامُ على غيرِ الأنبياءِ إمَّا أن يكونَ على وجه التبعية كما في صيغة الصلاة الإبراهيمية فهي جائزة بالإجماع، أمَّا إذا كانت على وجه الانفراد والاستقلال فالجمهور على منعه مع اختلافهم في وجه المنع أهو للكراهة التَّنزيهية أو التحريمية أو خلاف الأولى، والصحيح أنه محمول على الكراهة التَّنزيهية وهو ما ذهب إليه ابنُ كثيرٍ والنوويُّ وهو اختيارُ ابنِ القَيِّمِ رحمهم الله تعالى.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
مكة في: 21 ريبع الأول 1427ه
الموافق ل: 19 أفريل 2006م(18/40)
الفتوى رقم: 650
حكم عبارة: الشريعة صالحة لكل زمان ومكان
السؤال:
ما رأيكم في عبارةِ القائلِ:« إنّ الشريعةَ صالحةٌ لكلِّ زمانٍ ومكان »؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فهذهِ العبارةُ مُتَوَقِّفَةٌ على إرادةِ قائلها، فَإِنْ قَصَدَ خُلُوَّ الشريعةِ من فسادٍ في ذاتها فيجوزُ أن يُعَبِّرَ عنها بالصلاح؛ لأنه ضدُّ الفساد: وهو سُلُوكُ طريقِ الهُدَى. وصَلَحَ يَصْلُحُ من الفعل اللاَّزم أو القاصِرِ الذي لا يَتعدَّى محلَّه، أي: خَلاَ عنه الفسادُ أو زال عنه، ومنه قولُ اللهِ تعالى: ?فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا? [الكهف: 110]، وقولُه تعالى: ?وَكَانَ أَبُوهُمَا صالحًا? [الكهف: 82]. والصالِحُ هو: المستقيمُ الحالِ في نفسِه، الخالصُ من كُلِّ فسادٍ(1- «التعريفات » للجرجاني: (131)، «الكليات » لأبي البقاء: (561)).
أمّا إن قَصَدَ أنَّ أوضاعَ الزمانِ وهيئاتِه لا تُصْلِحُهَا إلاّ الشريعةُ الإسلاميَّةُ، فالتَّعبير بالإصلاح أَوْلَى وأَنْسَبُ؛ لأنه ضدُّ الفساد والإفسادِ، فَأَصْلَحَ يُصْلِحُ من الفعل المتعدِّي بالهمزة، من إصلاح الشيءِ، أي: أزال الفساد عنه، والمُصْلِحُ هو: المستقيم الحال في نفسه، المزيلُ الفسادَ عن غيره، فيقال: أصلح ذاتَ البينِ أي: أزالَ ما بينهما من عداوةٍ وشِقاقٍ، ومنه قولُه تعالى: ?وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا? [الحجرات: 9]، وقولُه تعالى: ?فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ? [الأنفال: 1]، وعلى هذا المعنى فالتعبيرُ بالصلاح قَاصِرٌ، وإنما المناسِبُ الأكملُ في الجملةِ السَّابقةِ التعبيرُ عنها بلفظ الإصلاحِ، لقوله تعالى عن شُعَيْبٍ عليه السلامُ: ?إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ? [هود: 88]، فيقال إذن:« الشَّرِيعَةُ مُصْلِحَةٌ لِكُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ ».
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 26 شعبان 1427ه
الموافق ل: 17 نوفمبر 2006م
__________
1- «التعريفات » للجرجاني: (131)، «الكليات » لأبي البقاء: (561).(18/41)
الفتوى رقم: 721
في حكم تسويد المخلوق
السؤال:
هل يجوز أن يقال للمخلوق سيد أو سيدي فلان؟ وهل يجوز أن يقال قرية «سيدي فلان » للتعريف فقط؟ أفيدونا بارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فالسيادةُ من السُّؤْدُدِ، وهو بمعنى الشَّرَف والجاهِ، وعلوِّ الشأن والمنزِلة، فإذا أطلق لفظ «السيّد » بمعنى المستحقّ للسيادة المطلقة فلا يجوز أن يوصف مخلوقٌ بهذه السيادةِ كائنٌ مَنْ كان؛ لأنها خاصّة بالله سبحانه، فهو السيِّد الكامل السؤدد الذي له الأمر كُلُّه، مِن قَبْلُ وَمِن بَعْد، قال صلى الله عليه وآله وسلم:« السَّيِّدُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى »(1)، أمّا غيره فيوصف بسيادة نِسبية إضافية تكون على نوع محدود من الخلائق، أي: مقيّدة بمكان أو أشخاص أو أقوام، وتجوز أيضًا إذا ما ورد اللفظ مجرّدًّا عن الألف واللام (ألْ) أو قصد بها مجرّد الاسم، ودليله قوله تعالى: ?وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى البَابِ? [يوسف: 25]،أي: زوجها لدى الباب، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ »(2)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« لاَ يَقُلْ أَحَدُكُمْ: أَطْعِمْ رَبَّكَ، وَضِّئْ رَبَّكَ، وَلْيَقُلْ: سَيِّدِي وَمَوْلاَيَ »(3)، وكذلك إذا تجرّد اللفظ من الألف واللام فيجوز ذلك فيقال: هو سيّد، بشرط أن يكون معناها صحيحًا، أي: أن يكون الموجَّهُ إليه الخطاب صاحبَ سيادةٍ أو أهلاً لها، فإِنْ كان فاسقًا أو زِنْدِيقًا أو كافرًا فلا يجوز أن يُعَظَّم بلفظٍ أو فعلٍ، ولو كان أعلى مرتبةً وشأنًا ومَنْزلةً؛ لأنَّ من أذلَّهُ اللهُ وَأَخْزَاهُ لا يُعَظَّمُ ويدل عليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم:« لاَ تَقُولُوا لِلْمُنَافِقِ: سَيِّدٌ، فَإِنَّهُ إِنْ يَكُ سَيِّدًا فَقَدْ أَسْخَطْتُمْ رَبَّكُمْ »(4)، وقال الله تعالى: ?حَتَّى يُعْطُواْ الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ? [التوبة: 29]، ويجوز أيضًا إذا ما كان اللفظ لا يقصد به السيادة والإكرام، وإنما يُطلق مجرّد اسم فردي أو عائلي أو اسم مدينة أو قرية أو منطقة لخلو احتمال المحذور فيه.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في 2 محرم 1428ه
الموافق ل: 21 يناير 2007م
__________
1- أخرجه أبو داود في «الأدب »، باب في كراهية التمادح: (4806)، وأحمد: (15872)، والبخاري في «الأدب المفرد »: (211)، من حديث عبد الله بن الشخير رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في «صحيح الجامع »: (3700)، والوادعي في «الصحيح المسند »: (578).
2- أخرجه مسلم في «الفضائل »، باب تفضيل نبينا على جميع الخلائق: (5940)، وأبو داود في «السنة »، باب في التخيير بين الأنبياء عليهم الصلاة: (4673)، وأحمد: (10589)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه الترمذي في «التفسير »: ( 3148)، وابن ماجه في «الزهد »: باب ذكر الشفاعة: (4308)، وأحمد: (10604)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
3- أخرجه البخاري في «العتق »، باب كراهية التطاول على الرقيق : (2414)، ومسلم في كتاب «الألفاظ » من صحيحه: (5874)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (16239)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
4- أخرجه أبو داود في «الأدب »، باب لا يقول المملوك ربي وربتي: (4977)، والبخاري في «الأدب المفرد »: (781)، من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه. والحديث صححه المنذري في «الترغيب والترهيب »: (3/359)، والنووي في «الأذكار »: (1/362)، والألباني في «صحيح الجامع »: (7405).(18/42)
الفتوى رقم: 747
في حكم التسميات التالية:«دحمان » «عبد القا » «حمُّ » «يسُّو » وغيرها
السؤال:
هل يُشْرَعُ تسميةُ المولود باسم «دحمان » أو «دحمون » أو «رحمو » أو «حمو » أو «يسُّو »؟ أفيدونا جزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فاسمُ «دَحْمَان » و«دَحْمُون » من الدَّحْم وهو: الدفع الشديد، ومنه سمي الرجل دحمان ودُحَيْمًا(1- «لسان العرب » لابن منظور: (4/302))، ودحم المرأة يدحمها دحما أي هو «النكاح والوطء بدفع وإزعاج »(2- «النهاية » لابن الأثير: (2/106))، قال ابن حبان في دحيم القاضي:« دُحَيم تصغير دَحْمَان، ودحمان بلغتهم: خبيث »(3- «تهذيب التهذيب » لابن حجر: (6/132))، قال بكر أبو زيد:« وهذا اللقب منتشر عندنا في اليمامة بلقب به من اسمه: عبد الرحمن على وجه الغضب »(4- «معجم المناهي اللفظية » لبكر أبو زيد: (257))، أمّا «رحمو » فهو تحريفٌ فظيعٌ وتبديلٌ شَنِيعٌ لاسمِ «عبد الرحمن »، وكذلك اسم «عَبْدَ قَّا » اختصرتْهُ بعضُ المناطقِ الغَرْبِيَّةِ من الجزائر اختصارًا مُنكرًا عن اسم «عبد القادر » بما يُبدِّلُ لفظ الجلالة «القادر » ويحرّف معناها، فهذا وغيرُه من قبيل اشتقاق أهلِ الجاهليةِ الأسماء الباطلة من اسمِ الإلهِ الحقّ، على ما جاء في قوله تعالى: ?أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى? [النجم: 19-20]، فإنّ «اللاّت » مشتقّةٌ من الله، أو مِنَ الإلهِ، فاشتقَّ أهلُ الجاهلية من أسماء الله اسمًا للصَّنَم، وهي لأهل الطَّائف ومَنْ حولَهُمْ من العرب، و«العُزَّى » وهو مشتقٌّ من اسم اللهِ «العزيز »، وهو صَنَمٌ يعبُدُه قريشٌ وبنو كنانة، كان بنخلة بين مكة والطائف، و«مناة » مشتقّة على أحد الأقوال من «المنّان »، وهو صنم بين مكة والمدينة لِخُزَاعَةَ وهُذَيلٍ.
وأمّا «حَمُّو » و«يسّو » فما هي إلاّ ألقاب أو أسماء مختصرةٌ من اسم «محمّد » و«يوسف » يُؤتَى بها للتحبُّب ما أنزل اللهُ بها مِنْ سلطانٍ، وتكثر في المناطق الجنوبية وعند الإباضية خاصّةً، فَقَلْبُ الأسماءِ المشروعةِ إلى أسماءٍ باطلةٍ من تلاعُبِ الشيطانِ وإزالته لخَيْرِيَّةِ الأسماءِ الأصيلةِ إلى ضِدِّها، وقد أفصحَ عن ذلك ابنُ الحاجّ المالكيُّ في «المدخل » بقوله:« فلمّا رأى الشيطانُ هذه البركةَ وعمومَها أراد أن يُزيلَهَا عنهم لعبادته الذميمة وشيطنَتِهِ الكمينةِ فلم يُمْكِنْهُ أن يزيلَهَا إلاّ بِضدِّها، وهو أن يكون الاسمُ يعودُ عليهم بالضُّرِّ، ثمّ إنه لا يأتي لأحدٍ إلاّ بالوجه الذي يَعرفُ أنه يَقْبَلُ منه. فلمَّا كان أهلُ المشرق الغالبَ على بعضهم حبُّ الفخر والرئاسة، أبدلَ لهم تلك الأسماءَ المباركةَ بما فيه ذلك نحو «عزّ الدِّين »، و«شمس الدِّين »، إلى غير ذلك ممَّا قد عُلِم، فنَزَّلَ التزكيةَ موضعَ تلك الأسماءِ المباركةِ، ولَمَّا أن كان أهلُ المغربِ الغالبَ عليهم التواضعُ وتركُ الفخر والخُيَلاَءِ، أتى لبعضهم من الوجه الذي يَعْلَمُ أنهم يَقْبَلُونَهُ منه فأوقَعَهُم في الألقاب المَنْهِي عنها بنصِّ كتاب الله تعالى، فقالوا ل «محمّد »: حمّو، ول «أحمد »: حمدوس(5- هذا والعرب سمّت حامدًا وحُمَيدًا وحَميدًا ومحمودًا وحمّادًا وحَمْدًا وأحمد وحمدون وحَمْدين وحَمْدان وحَمْدى وحَمُّودًا ويَحْمد ويُحْمدُ، كما سمّت رجال من العرب أبناءهم من الجاهلية بمحمّد لإخبار الرهبان أنه سيكون نبي يسمّى محمّدًا. [«القاموس المحيط » للفيروزآبادي: (1/355)، «لسان العرب » لابن منظور: (3/316)، «تاج العروس » للزبيدي: (1/1962)])، ول «يوسف »: يَسُّو، ول «عبد الرحمن »: رحمو، إلى غير ذلك مما هو معلومٌ معروفٌ عندهم متعارفٌ بينهم، فأعطى لكلِّ إقليمٍ الشيءَ الذي يعلم أنهم يقبلونه منه، نعوذُ بالله من ذلك »(6- بسم الله الرحمن الرحيم).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 25 ربيع الأول 1428ه
الموافق ل: 13 أبريل 2007م
__________
1- «لسان العرب » لابن منظور: (4/302).
2- «النهاية » لابن الأثير: (2/106).
3- «تهذيب التهذيب » لابن حجر: (6/132).
4- «معجم المناهي اللفظية » لبكر أبو زيد: (257).
5- هذا والعرب سمّت حامدًا وحُمَيدًا وحَميدًا ومحمودًا وحمّادًا وحَمْدًا وأحمد وحمدون وحَمْدين وحَمْدان وحَمْدى وحَمُّودًا ويَحْمد ويُحْمدُ، كما سمّت رجال من العرب أبناءهم من الجاهلية بمحمّد لإخبار الرهبان أنه سيكون نبي يسمّى محمّدًا. [«القاموس المحيط » للفيروزآبادي: (1/355)، «لسان العرب » لابن منظور: (3/316)، «تاج العروس » للزبيدي: (1/1962)].
6- «المدخل لابن الحاج »: (1/129).(18/43)
الفتوى رقم: 756
في حُكم عبارةِ «لا معبودَ إلاَّ سِواك »
السؤال:
تداول عند بعضِ الناس -تقريرًا لشهادة التوحيد- عبارةٌ -أظنُّها غيرَ صحيحةٍ- وهي:« لا معبودَ إلاَّ سواكَ » فما حكم هذه الكلمة؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فبِغَضِّ النظرِ عن قَصْدِ القائل ونِيَّتِه فإنّ هذه العبارةَ لا تتضمَّنُ معنى التوحيد بل العكس تثبتُ العبادةَ لآلهةِ المشركين، وتنفي عن الله سبحانه العبوديةَ، وهذا عينُ الشِّرْكِ وأعظمُهُ، قال تعالى:( مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ) [يوسف: 40]، وقال تعالى: ?إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ? [الأنبياء: 98]، وإنما العبارةُ السليمةُ المقرِّرةُ لكلمة التوحيدِ المبطلةُ لآلهةِ المشركين أن يقال:« لا معبودَ سِواكَ » ويُراد بها:« لا معبودَ بحقٍّ سِواكَ »، وحُكمُ «سِوَى » في حكم «غير »، وقد ثبت ذلك في قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« وَلاَ إِلَهَ غَيْرُكَ »، ففيها إثباتٌ للعبودية لله تعالى وبطلانُ ما سواها، فإنّ الإلهَ الحقَّ والمعبودَ بحقٍّ هو اللهُ سبحانه وتعالى، قال سبحانه: ?ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ البَاطِلُ? [الحج: 62].
هذا، وأمّا إضافةُ هذه العبارة «لا معبودَ سواكَ » في دعاء الاستفتاحِ على ما يفعله بعضُ الناس فإنها زيادةٌ مُقْحمَةٌ لم تثبت في نصّ دعاء الاستفتاح في قولِه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَلاَ إِلَهَ غَيْرُكَ »(1).
والمعلومُ أنّ الأصلَ عدمُ جواز التصرُّف في الألفاظ التوقيفيةِ فلا يُشرعُ منها إلاَّ ما شرعه الله تعالى، وإلاّ دَخَلْنَا في معنى قوله سبحانه وتعالى: ?أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللهُ? [الشورى: 21].
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 3 شوال 1428ه
الموافق ل: 15 أكتوبر 2007م
__________
1- أخرجه الترمذي في «المواقيت »، باب ما يقول عند افتتاح الصلاة: (242)، والنسائي في «الافتتاح »، باب نوع آخر من الذكر بين افتتاح الصلاة: (899)، وابن خزيمة في «صحيحه »: (467)، وأحمد في «مسنده »: (11081)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وأخرجه ابن ماجه في «إقامة الصلاة »، باب افتتاح الصلاة: (806)، والحاكم في «المستدرك »: (859)، والبيهقي في «سننه الكبرى »: (2398)، من حديث عائشة رضي الله عنها، والحديث صححه الألباني في «الإرواء »: (341)، وفي «السلسة الصحيحة »: (2996).(18/44)
الفتوى رقم: 790
في أهمية تقويم اللسان وتصحيح اللفظ
السؤال:
ما حكمُ قولِ بعضِهم إنَّ تقويم اللسان وتصحيحَ اللفظ غيرُ مُهِمٍّ مع فهم المعنى وحُسن القَصْدِ وسلامةِ القلب؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالمعلومُ أَنَّ خطرَ اللِّسان عظيمٌ ولا نجاةَ منه إلاَّ بالنُّطق بالخير، فقد قال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم لمعاذٍ بن جبلٍ رضي الله عنه:« وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ »(1- أخرجه الترمذي في «الإيمان »،باب ما جاء في حرمة الصلاة: (2616)، وابن ماجه في «الفتن »،باب كف اللسان في الفتنة: (3973)، والحاكم في «المستدرك »: (3548)، وأحمد في «مسنده »: (21511)، من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه. والحديث حسنه الألباني في «الإرواء »: (2/138))، لذلك كان تصحيحُ الألفاظ التي فيها لَحْنٌ أو نوعُ التباسٍ وتشويشٍ غيرُ لائقٍ مأمورًا به لتقويم اللسان عن الخطإ والابتعاد عن الوقوع فيما نهى اللهُ عنه، والعدولُ بالألفاظ المشوشة -بغضِّ النظر عن قصد صاحبها- إلى غيرها ممَّا لا تحتمل إلاَّ الحسن هو المطلوب شرعًا، لا سِيَّمَا في الدقائق اللفظية التي تتعلَّق بالله وصفاته أو التي يجب تَنْزِيهُهُ عنها، فالواجبُ الحذرُ عن الغفلة عنها والوقوعِ فيها.
ومثاله: أنَّ المسلمين كانوا يقولون عند مخاطبتهم للرسول صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم وحالَ تَعلُّمهم أمورَ الدِّين:« راعنا » أي: راقبنا واحفظنا وراع أحوالنا، فيَقصِدون بها معنًى صحيحًا، لكنَّ اليهودَ استعملوها في معنَى فاسدٍ فصاروا يخاطبون النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم ويقصدون المعنى الفاسدَ، أي: مُظهرين أنّهم يريدون المعنى العربي، ومُبطنين أنَّهم يقصدون السبَّ الذي هو معنى اللفظ في لغتهم، فنهاهم الله عن هذه اللفظة، فقال سبحانه وتعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُواْ وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ? [البقرة: 104](2- انظر:« تفسير الطبري »: (1/373)، و«تفسير ابن كثير »: (1/256))، فلو كان الاكتفاءُ بسلامة قلب المؤمنين دون تصحيح اللفظ ما نهاهم عن ذلك.
ومن ذلك -أيضًا- قولُه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« لاَ تَقُولُوا: مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْتَ وَلَكِنْ قُولُوا: مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ شَاءَ فُلانٌ »(3- أخرجه أبو داود في «الأدب »، باب لا يقال خبثت نفسي: (4980)، من حديث حذيفة رضي الله عنه، والحديث صححه العراقي في «تخريج الإحياء »: (3/300)، والألباني في «السلسلة الصحيحة »: (137)). أو أن يقول:« أعوذ بالله وبك » أو «مالي إلاَّ الله وأنت »، وعن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال:« إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيُشْرِكُ حَتَّى يُشْرِكَ بِكَلْبِهِ فَيَقُولُ: لَوْلاَهُ لَسُرِقْنَا الليْلَةَ »(4- قال محمد العلاوي في «تحقيق شرح كتاب التوحيد لابن باز -رحمه الله- »:« أخرجه ابن أبي حاتم في «التفسير » (229) من طريق شبيب بن بشر، ثنا عكرمة عن ابن عباس به، وشبيب مختلف فيه، قال الدوري عن ابن معين: ثقة، وقال أبو حاتم: لين الحديث، حديثه حديث الشيوخ، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يخطئ كثيرًا، فهو إلى الضعف أقرب والله أعلم »)، فالألفاظ هذه -بقطع النظر عن مقاصد أصحابها- تقتضي شركًا؛ لأنّ في العطف المطلق تشريكًا وتسويةَ، وقريبٌ من ذلك إنكاره صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم على الخطيب عند قوله:« ومَن يَعْصِهِمَا فقد غَوَى »، فقال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« قُلْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ »(5- أخرجه مسلم في «الجمعة »، باب تخفيف الصلاة والخطبة: (2010)، وأبو داود في «الصلاة »، باب الرجل يخطب على قوس: (1099)، والنسائي في «النكاح »،باب ما يكره من الخطبة: (3279)، وأحمد في «مسنده »: (17783)، من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه)، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قال:« لاَ يَقُلْ أَحَدُكُمُ: أَطْعِمْ رَبَّكَ، وَضِّىءْ رَبَّكَ، وَلْيَقُلْ: سَيِّدِي، مَوْلاَيَ، وَلاَ يَقُلْ أَحَدُكُمْ: عَبْدِي وَأَمَتِي، وَلْيَقُلْ: فَتَايَ، فَتَاتِي، غُلاَمِي »(6- متفق عليه: أخرجه البخاري في «العتق »،باب كراهية التطاول على الرقيق: (2414)، ومسلم في «الألفاظ من الأدب وغيرها »، باب حكم إطلاق لفظة العبد والأمة والمولى:(5877)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه) ومنه قولُه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« لاَ تَقُولُوا لِلْمُنَافِقِ: سَيِّدنَا، فَإنَّهُ إِنْ يَكُنْ سَيِّدَكُمْ فَقَدْ أَسْخَطْتُمْ رَبَّكُمْ »(7- أخرجه أبو داود في «الأدب »، باب لا يقول المملوك ربي وربتي: (4977)، والبخاري في «الأدب المفرد »: (781)، وأحمد في «مسنده »: (23641)، من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه. والحديث صححه المنذري في «الترغيب والترهيب »: (3/359)، والنووي في «الأذكار »: (1/362)، والألباني في «صحيح الجامع »: (7405))، وقد ترد كلماتٌ وألفاظٌ تتضمَّن اعتراضًا على الشرع أو على القدر أو يؤتى بها للندم والتحسُّر، أو قد يستعملها في الاحتجاج بالقدر على المعصية، وهذا -أيضًا- يرد مع سلامة القلب وحسن القصد، قال تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ? [آل عمران: 156]، وقال تعالى: ?لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا? [آل عمران: 168]، وقال تعالى: ?لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا? [الأنعام: 148]، وقال تعالى: ?وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم? [الزخرف: 20].
ويدخل في ذلك المعنى خطأ اللسان في النحو فإن الواجب إصلاح اللسان وتقويمُه عن اللحن(8- اللحن: أي الخطأ. [«النهاية » لابن الأثير: (4/242)])، بغضِّ النظر عن سلامة قلب صاحبه فإنّه يُعَدُّ عيبًا ونَقْصًا خاصَّةً في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، كمن يجعل الفاعل مفعولاً، والمفعولَ فاعلاً، فيَنصبُ الأوَّلَ، ويرفعُ الثاني، ويقرأ بها -على وجه غير مرضي-قوله تعالى: ?وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ? [البقرة: 124]، وقوله تعالى: ?إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ? [فاطر: 28]، ونحو ذلك.
قال ابن تيمية -رحمه الله-:« وكان السلف يؤدِّبون أولادَهم على اللًَّحن، فنحن مأمورون -أمرَ إيجاب أو أمر استحباب- أن نحفظَ القانونَ العربيَّ؛ ونُصلحَ الأَلْسُنَ المائلةَ عنه، فيحفظَ لنا طريقةَ فهمِ الكتاب والسنّة، والاقتداءِ بالعرب في خطابها، فلو تُرك الناسُ على لَحنهم كان نقصًا وعيبًا »(9- «مجموع الفتاوى » لابن تيمية: (32/252)).
وعليه، فإنَّ الخطأَ في محتوى الكلام ممَّا يرتبطُ بأمور الدِّين -مهما سَلِمَ قلبُ المتكلِّم وحَسُن قصدُه-، وكذا الخطأ في النحو وعموم خطاب الناسَ يُعَدُّ من المهالك والعيوب والنقصان، لذلك ينبغي للمتكلِّم أن ينتبه إلى ما يدخل في الكلام مما هو من آفات اللسان مع مراقبةٍ لازمةٍ ومستمرَّةٍ لينجو من مثالبها، ويَسْلَمَ من خطرها، ويحذِّرَ الغافلين من الوقوع فيها، والله المستعان.
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 16 من ذي القعدة 1428ه
الموافق ل: 26 نوفمبر 2007م
__________
1- أخرجه الترمذي في «الإيمان »،باب ما جاء في حرمة الصلاة: (2616)، وابن ماجه في «الفتن »،باب كف اللسان في الفتنة: (3973)، والحاكم في «المستدرك »: (3548)، وأحمد في «مسنده »: (21511)، من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه. والحديث حسنه الألباني في «الإرواء »: (2/138).
2- انظر:« تفسير الطبري »: (1/373)، و«تفسير ابن كثير »: (1/256).
3- أخرجه أبو داود في «الأدب »، باب لا يقال خبثت نفسي: (4980)، من حديث حذيفة رضي الله عنه، والحديث صححه العراقي في «تخريج الإحياء »: (3/300)، والألباني في «السلسلة الصحيحة »: (137).
4- قال محمد العلاوي في «تحقيق شرح كتاب التوحيد لابن باز -رحمه الله- »:« أخرجه ابن أبي حاتم في «التفسير » (229) من طريق شبيب بن بشر، ثنا عكرمة عن ابن عباس به، وشبيب مختلف فيه، قال الدوري عن ابن معين: ثقة، وقال أبو حاتم: لين الحديث، حديثه حديث الشيوخ، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يخطئ كثيرًا، فهو إلى الضعف أقرب والله أعلم ».
5- أخرجه مسلم في «الجمعة »، باب تخفيف الصلاة والخطبة: (2010)، وأبو داود في «الصلاة »، باب الرجل يخطب على قوس: (1099)، والنسائي في «النكاح »،باب ما يكره من الخطبة: (3279)، وأحمد في «مسنده »: (17783)، من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه.
6- متفق عليه: أخرجه البخاري في «العتق »،باب كراهية التطاول على الرقيق: (2414)، ومسلم في «الألفاظ من الأدب وغيرها »، باب حكم إطلاق لفظة العبد والأمة والمولى:(5877)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
7- أخرجه أبو داود في «الأدب »، باب لا يقول المملوك ربي وربتي: (4977)، والبخاري في «الأدب المفرد »: (781)، وأحمد في «مسنده »: (23641)، من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه. والحديث صححه المنذري في «الترغيب والترهيب »: (3/359)، والنووي في «الأذكار »: (1/362)، والألباني في «صحيح الجامع »: (7405).
8- اللحن: أي الخطأ. [«النهاية » لابن الأثير: (4/242)].
9- «مجموع الفتاوى » لابن تيمية: (32/252).(18/45)
الفتوى رقم: 813
في ضابط معرفة الأسماء المكروهة أو المحرمة
السؤال:
ما هو ضابطُ معرفةِ الأسماءِ المكروهةِ أو المحرَّمة؟ وهل لكم أن تسمُّوا لنا بعضَ الأسماء الممنوعة التي يتسمَّى بها الناس اليوم أو في هذا الزمان؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فيمكن أن تُضبطَ الأسماءُ المنهي عنها بأنها:
«كلُّ تسميةٍ تضمَّنَتْ معنًى مذمومًا، أو قبيحًا، أو احْتَوَتْ على تزكيةٍ له، أو ما تحمل فيها معنى التشاؤم أو التطيُّر بنفيه عادةً أو باسم كان معناه السبّ أو كان خاصًّا بالله سبحانه وتعالى لا يليق إلاَّ له تعالى »، ويدخل فيه كلُّ اسمٍ معبّد لغير الله.
ومثل الأسماء القبيحة: كشيطان، شهاب، ظالم، حمار، كلب أو كليب.
ومثل الأسماء المذمومة: نُهاد «وهي المرأة التي كعب ثديها وارتفع عن الصدر فصار له حجم(1).
ومثل الأسماء التي تضمَّنت تزكيةً: عِزُّ الدِّين، وبدر الدِّين، ومُحيي الدِّين، وناصر الدين، وإسلام، وإيمان، وتقوى.
ومثل الأسماء التي تحمل فيها معنى التشاؤم بنفيها: نجيح، وبركة، وأفلح، ويسار، ورباح، وفي الخبر:« لاَ تُسَمِّ غُلاَمَكَ رَبَاحًا وَلاَ يَسَارًا وَلاَ أَفْلَحَ وَلاَ نَافِعًا »(3).
ومن ذلك ما يتطيَّر بنفيه لخبر مسلم أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم غيّر اسمَ عاصية وقال:« أَنْت جَمِيلَةُ »(4)، وفي الصحيحين:« أَنَّهُ غَيَّرَ اسْمَ بَرَّةَ إِلَى اسْمِ زَيْنَبَ »(5)، وهي زينب بنت جحش رضي الله عنها.
ويحرم تلقيب الشخص بما يَكْرَهُ وإن كان العيب فيه كالأعور والأبرص والأعمش والأجرب، ويجوز ذِكره بنية التعريف لمن لم يعرفه إلاّ به.
ويحرم التسمية بما لا يليق إلاَّ بالله تعالى كالقُدُّوس، والرحمن، والمهيمن، والخالق، ويُلحق بهذه الأسماء:« شاه شاهان »، أي: ملك الأملاك، وأيضًا «قاضي القضاة » لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه:« أَغْيَظُ رَجُلٍ عِنْدَ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ وَأَخْبَثُهُ وَأَغْيَظُهُ عَلَيْهِ رَجُلٌ كَانَ يُسَمَّى مَلِك الأَمْلاَكِ لا مَلِكَ إِلاَّ اللهُ »(6)، قال النووي في «شرح مسلم »:« اعلم أنّ التسمِّيَ بهذا الاسم حرامٌ وكذلك التسمِّي بأسماء الله تعالى المختصَّة به كالرحمن، والقدوس والمهيمن وخالق الخلق ونحوها ويلحق بها شاه شاهان وقاضي القضاة »(7).
ومثل الأسماء المعبَّدة لغير الله: عبد الزهير، عبد العُزَّى، عبد النَّبي، عبد الكعبة، عبد الرسول.
كما لا يجوز -أيضًا- التسمِّي: بسيِّد الناس أو سيِّد العرب أو سيِّد العلماء أو سيِّد القضاة؛ لأنَّ فيه تزكيةً وكذبًا.
هذا، وينبغي ها هنا أن نلفت النظرَ أنَّ المخاطَبَ في ذلك إنَّما هم الأولياء الذين يسمُّون أولادهم بمثل هذه الأسماء الحاملة لمثل تلك المعاني من تزكية وغيرها.
فإن كان عَلَمًا مُجرَّدًا لا تُفهم منه التزكية ولا تحمل على معناه، فلا يضرُّ التسمية به كاسم صالح وعلي وما أشبههما.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 9 ربيع الأول 1428ه
الموافق ل: 28 مارس 2007م
__________
1- انظر:« المعجم الوسيط » (2/957).
2- المصدر السابق: (2/667)، وانظر:« فتح الباري » لابن حجر: (10/576).
3- أخرجه مسلم في «الآداب »: (5600)، وأبو داود في «الأدب »: (4938)، والترمذي في «الأدب »: (2836)، وأحمد: (19574)، من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه.
4- أخرجه مسلم في «الآدب »: (5604)، وأبو داود في «الأدب »: (3902)، والترمذي في «الأدب »: (2840)، والبخاري في «الأدب المفرد »: (820) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
5- أخرجه البخاري في «الأدب »: (6192)، ومسلم في« الآدب »: (5607)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
6- أخرجه البخاري في «الأدب »: (6205)، ومسلم في «الآداب »: (5610)، وأبو داود في «الأدب »: (4961)، والترمذي في «الأدب »: (2837)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
7- «شرح مسلم » للنووي (14/368).(18/46)
الفتوى رقم: 846
في حكم عبارة:« مَاكَتْبَتْشْ » المتداولة
السؤال:
انتشر على ألسنةِ كثيرٍ من الناسِ عبارة «مَاكَتْبَتْشْ »، أي: لم يُكتب هذا الأمرُ عنده سبحانه، فهل هذه العبارة صحيحة؟ أم أنَّها مُناقِضة لعقيدة الإيمان بالقضاء والقدر؟ وجزاكم اللهُ خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فاعلم أنَّ عِلْمَ اللهِ بكلِّ شيءٍ قبل وجوده أَزَلِيٌّ، ويعلم بأعمال العِباد قبل أن يعملوها، وقدَّرها لكلِّ كائنٍ تقديرًا عامًّا شاملاً، وهو المكتوبُ في اللوح المحفوظ، لذلك يجب الاعتقاد الجازم بأنَّ الله تعالى قد كتب في اللوح المحفوظ مقاديرَ كلِّ شيءٍ إلى أن تقوم الساعة، وليس فيه شيء غير مكتوب، قال تعالى:( أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ) [الحج: 70]، وقال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« أَوَّل مَا خَلَقَ اللهُ القَلَمَ، قَالَ لَهُ: اكْتُبْ، قَالَ: وَمَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ »(1).
وللتقدير العامِّ تقديرٌ مُفصَّلٌ كالتقدير العُمُري أو الكتابة العُمُرية: التي تكون للجنين في بطن أُمِّهِ يُكتب له أجلُه ورزقُه وعملُه وشقاوتُه أو سعادتُه كما ثبت ذلك من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، والتقديرُ الحوليُّ: وهو ما يقدَّر في ليلة القدر من حوادث السَّنَة ووقائع العام، قال تعالى: ?فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ? [الدخان: 4-5]، والتقدير اليومي: وهو ما يقدَّر من وقائع اليوم من مرض ومعافاةٍ وموتٍ وحياةٍ، وعزٍّ وذُلٍّ ونحو ذلك، قال تعالى: ?كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ? [الرحمن: 29]، وتفريعًا عليه، فالواجب على المسلم الإيمان الجازم بما قَدَّره اللهُ على جهة العموم وعلى جهة التفصيل، فمن أنكر شيئًا من ذلك لم يكن مؤمنًا لاختلال ركن من الإيمان الخاصِّ، ومَن آمن ولم يجحد وجب عليه تصحيح الخطأ في العبارة بما يتماشى وإيمانه بالقدر جُملة وتفصيلاً، فلا يجوز له أن يتلفَّظ بهذه العبارة «ماكتبتش » لما فيها من مساسٍ بعقيدة الإيمان بالقضاء والقدر.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 30 من ذي القعدة 1428ه
الموافق ل: 10 ديسمبر 2007م
__________
1- أخرجه أبو داود في «السنة »، باب في القدر: (4700)، والترمذي في «القدر »: (2155)، وأحمد في «مسنده »: (22197)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (21475)، من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في «صحيح الجامع »: (2018).(18/47)
الفتوى رقم: 930
في حكم لفظة «الزّهَر» وعلاقتها بالنَّرد
السؤال:
ما حكم لفظ «الزّهَرْ» في الشريعة؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالمراد بلفظ «الزَّهَر» بالعامية الجزائرية هو الحظ، مأخوذ من زهر النَّرْد، وهو أحد مكونات النردشير المتمثل في لعبة ذات صندوق وحجارة وفصين، تعتمد على الحظ، وتنقل فيها الحجارة على حسب ما يأتي به الفص «وهو الزهر»، وتعرف عند العامة بالطاولة(1).
وزهر النَّرد قطعتان من العظم: صغيرتان مكعبتان، حفر على الأوجه الستة لكل منها نقط سود من واحد إلى ست(2).
فإذا قال للمتسابق: «ارم زهرك» أي: زهر النرد لينظر حظه على حَسَب رقم الزهر، فاستعير بعده في الحظ على عموم الأشياء والأحوال.
وعند جمهور أهل العلم أنَّ اللعب بالنَّرد حرام، لحديث بريدة رضي الله عنه: أنَّ النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قال: «مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ(3) فَكَأَنَّمَا غَمَسَ يَدَهُ فِي لَحْمِ الخِنْزِيرِ وَدَمِهِ»(4)، وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: سمعت رسولَ الله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم يقول: «مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ فَقَدْ عَصَى اللهَ وَرَسُولَهُ»(5)، وقال مالك رحمه الله: «من لعب بالنرد فلا أرى شهادته إلا باطلة؛ لأنّ الله تعالى قال: ?فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ? [يونس: 32]، وهذا ليس من الحق فهو من الضلال(6).
أمَّا بذل العِوض بالنرد فهو حرام اتفاقًا(7)، وهو من المَيْسر في قوله تعالى: ?إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ? [المائدة: 90]، وقوله تعالى: ?وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ? [المائدة: 3].
وإذا كانت هذه اللفظة تحمل معنى سوء محرم فينبغي -والحال هذه- اجتناب استعمالها عند التخاطب، لقوله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السُّوءِ»(8).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 15 شعبان 1429ه
الموافق ل: 16 أوت 2008م
__________
1- «المعجم الوسيط»: (2/912).
2- المصدر السابق: (1/404).
3- قال الزبيدي في «تاج العروس» (9219): «يقال النردشير، إضافة إلى واضعه أردشير بن بابك من ملوك الفرس، وقوله: «شير بمعنى حلو»، وَهْمٌ، فالحلو شيرين كما هو معروف عندهم».
4- أخرجه مسلم في «صحيحه» كتاب الشعر، باب تحريم اللعب بالنردشير: (5896)، أبو داود في «سننه» كتاب الأدب، باب في النهي عن اللعب بالنرد (4939)، وابن ماجه في «سننه» كتاب الأدب، باب اللعب بالنرد: (3763)، وأحمد في «مسنده»: (22547)، من حديث بريدة رضي الله عنه.
5- أخرجه أبو داود في «سننه» كتاب الأدب، باب في النهي عن اللعب بالنرد (4938)، وابن ماجه في «سننه» كتاب الأدب، باب اللعب بالنرد: (3762)، وأحمد في «مسنده»: (19027)، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. والحديث صححه ابن الملقن في «البدر المنير»: (9/631)، وحسّنه الألباني في «صحيح الجامع»: (6529).
6- انظر: «تفسير القرطبي»: (8/337).
7- «الفروسية» لابن القيم: (302).
8- أخرجه البخاري في «صحيحه» كتاب الهدية، باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته: (2479)، والترمذي في «سننه» كتاب البيوع، باب ما جاء في الرجوع في الهبة: (1298)، والنسائي في «سننه» كتاب الهبة: (3698)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.(18/48)
الفتوى رقم: 981
في الدعاء على النفس والأولاد بالشر
السؤال:
إنَّ والدِي -عندما يكونُ في حالة غضبٍ- كثيرًا ما يدعُو علينَا وعلى أموالِه ونفسِه فهل يجوزُ ذلك؟ وهل دُعاؤُه مستجابٌ؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فلا يجوزُ شرعًا الدعاءُ بالشرِّ والهلاكِ على النفسِ والأولادِ والأموالِ، لِمَا فيهِ منَ الاعتداءِ الذي ثبتَ النهيُ القرآنيُّ عنهُ في قولِه تعالى: ?ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ? [الأعراف: 55]، وإذَا كانَ الله سبحانه وتعالى أخبرَ عن حِلمِه ولُطفهِ ورحمتِه بالعبادِ أنَّه لا يستجيبُ لهم إذَا دَعَوا عَلى أنفسهم أو أولادهم بالشرِّ حالَ غَضبهِم وضَجَرِهم؛ لأنَّه يعلم -سبحانه- أنَّ مَا صَدر منهم غير مقصودٍ منهُم ولا يُريدونَه، قال تعَالى: ?وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ? [يونس: 11]، فهو سبحانَه لا يستجيبُ في الشرِّ كمَا يستجيبُ في الخيرِ لطفًا منهُ ورحمةً، إذْ لو استجابَ لهم كلَّما دَعَوْهُ به لقُضيَ إليهِمْ أجلُهُم وأهلكَهُم.
ومعَ ذَلكَ فإنَّه ينبغي الحذرُ من الوقوعِ في مثلِ هذا الدعاءِ بالشرِّ والإثم، خشيةَ موافقةِ ساعةِ الاستجابةِ فيحصلُ الهلاكُ غير المرغوبِ، وجاءَ مِن حديثِ جابرٍ بن عبد الله رضي الله عنهما قالَ: قال رسول الله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «لاَ تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلاَ تَدْعُوا عَلَى أَوْلاَدِكُمْ، وَلاَ تَدْعُوا عَلَى خَدَمِكُمْ، وَلاَ تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لاَ تُوَافِقُوا مِنَ اللهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فيهَا عَطَاءٌ فَيَسْتَجِيب لَكُمْ»(1).
لذلك كان على والدكم أن يُعَوِّدَ لسانَه على الدعاء بالخير والبركة.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 17 صفر 1430ه
الموافق ل: 12 فيفري 2009م
__________
1- أخرجه مسلم كتاب «الزهد»: (7515)، وليس عنده «ولا تدعوا على خدمكم» وهي عند أبي داود كتاب «الصلاة»، باب النهي أن يدعو الإنسان على أهله وماله: (1532)، انظر «صحيح الترغيب والترهيب» : (2/133).(18/49)
الفتوى رقم: 993
في حكم تسمية المنتوجات بأسماء مزارات الأضرحة
السؤال:
ما حكمُ تسمية المنتوجات التجارية بأسماء لأهل القبور والأضرحة؟ وما حكم بيعها واستهلاكها؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فلا يجوز تسميةُ المنتوجات التجارية بأسماء أماكن مَزَارات الأضرحة والقبور التي تُقصَد للتبرُّك وتفريج الكروب وشفاء المرضى وتهوين الصِّعاب، ولا وضع شعارات أهل الهوى والبدع عليها ومعتقداتهم الفاسدة، ولا ترويج صور الأضرحة والقِباب لما فيها من تعظيمٍ للشِّرك في الأماكن والأشخاص، وتقديس قبور الصالحين والسلوك بها مسلك الأصنام في أهل الأوثان، وإغراء العوامِّ بِبَرَكَةِ المنتوجات والسِّلع بمثل هذه الصُّور والتسميات، وقتل واجب الإنكار لمظاهر الشِّرك والحوادث بإحلال المنكر محل المعروف ونحو ذلك من المفاسد.
لذلك فإنَّ عقيدةَ المسلم تأبى المشاركة في الترويج والاستهلاك ولو من أجل التسمية إلاَّ ما احتاج المسلم إليه واضطرَّ مع قيام الإنكار وعدم الرضى بذلك.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 20 ربيع الأول 1430ه
الموافق ل: 17 مارس 2009م(18/50)
04- العلم والعلماء
الفتوى رقم: 350
الإقامة في بلاد الكفر لطلب العلم الشرعي
السؤال: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله واله وصحبه وبعد:
فما حكم الإقامة في أستراليا - إقامة الأخ - لطلب العلم الشرعي بـ (سِيدْنِي) المعهد الإسلامي الثقافي للرابطة الإسلامية، المركز الإسلامي لمسلمي أستراليا. - جزاكم الله خيرا -.
الجواب: الحمد الله وكفى والصلاة والسلام على المصطفى وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أما بعد:
فإنّ كلّ الذرائع والأسباب المفضية إلى إسقاط ما أوجبه الله تعالى على المكلّف من إقامة الدين وإظهار شعائره والعمل بالتوحيد وعداوة المشركين وعدم موالاتهم فإنّها تُعَدّ ممنوعة شرعاً لما يُتخوف عليه من انصهار شخصيته الإسلامية ضمن الدائرة الكفرية وتمييع أخلاقه وتغيير سلوكه ومظهره، الأمر الذي يجره إلى موافقتهم والرّضا بحالهم من غير إنكار ولا إكراه، و لا يخفي أنّ الرّضا بالكفر كفر والرضا بالذنب كفاعله سواء كان في بلد الكفر أو بلد الصلح ففي الحديث :" إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها (و في رواية فنكرها) كمن غاب عنها ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها"(1) وعليه فإنّ السفر إلى بلدان الكفر مع قيام هواجس تلك المخاطر الشركية لا يجوز ويدل عليه الآية في قوله تعالى ? إنَّكُم إذًا مِّثلُهُم? [ النساء: 140 ] وجملة من الأحاديث منها :" من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله"(2).
أمّا إذا توفرت القدرة على إظهار شعائر الدّين وعدم الموالاة للمشركين فيما هم عليه بحيث تتميز معالم شخصيته عنهم سلوكاً ومظهراً وامتنعت المخاوف السالفة البيان فإنّه يجوز -والحال هذه - السفر إلى بلاد الكفر والإقامة بها سواء للتجارة أو للدراسة وللدعوة في سبيل الله بحسب النية وسواء وجدت الحاجة أولا، وقد أقرّ النّبي صلى الله عليه واله وسلم بعض الصحابة ومنهم أبو بكر على السفر إلى بلدان الكفر لأجل التجارة وتُحمل الآية والأحاديث الدالة على النّهي على الصورة السابقة، وأمّا الأخرى فبحديث ابن عباس مرفوعاً:" لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية"(3).
والله أعلم، وفوق كل ذي علم عليم وآخر دعونا أن الحمد الله ربّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين.
الجزائر في: 14 ربيع الثاني 1417 ه
الموافق ل : 19 أوت 1997 م
__________
1- أخرجه أبو داود في «الملاحم »، باب الأمر والنهي (4345)، والطبراني في «المعجم الكبير » (345)، من حديث العرس بن عميرة الكندي رضي الله عنه، والحديث حسنه الألباني في صحيح الجامع (702) وصحيح أبي داود (4345).
2- أخرجه أبو داود كتاب الجهاد، باب في الإقامة بأرض الشرك، عن سمرة بن جندب رضي الله عنه، والحديث حسنه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة (2330) وصحيح الجامع (6062)، وصححه في صحيح أبي داود (2787).
3- أخرجه البخاري كتاب الجهاد والسير، باب فضل الجهاد والسير وباب وجوب النفير وما يجب من الجهاد والنية، ومسلم كتاب الإمارة، باب المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام والجهاد.(18/51)
الفتوى رقم: 365
شروط السفر لطلب العلم
السؤال: شيخنا -حفظكم الله ورعاكم- سؤالي يتعلق بمسألة تعارض وجوب برّ الوالدين مع السفر لطلب العلم الكفائي، فقد كان المعهود عندي تقديم برّ الوالدين وجوبا لضرورة تقديم فرض العين على فرض الكفاية، إلى أن وقفت على كلام الإمام القرافي رحمه الله يقرر خلاف ذلك، فأردت -يا شيخنا الكريم- أن أنقل إليكم ما ذكره في هذه المسألة لتوضحوا مشكله، وتبينوا مجمله، وتتعقبوا ما ترون أنّه متعقب فيه.
قال الإمام القرافي في المسألة السادسة من الفرق الثالث والعشرين:" قال أبو الوليد الطرطوشي: وأمّا مخالفتهما [أي الوالدين] في طلب العلم فإن كان في بلده يجد مدارسة المسائل والتفقه على طريق التقليد وحفظ نصوص العلماء، فأراد أن يظعن إلى بلد آخر فيتفقه فيه على مثل طريقته لم يجز إلاّ بإذنهما لأنّ خروجه إذاية لهما بغير فائدة، وإن أراد الخروج للتفقه في الكتاب والسنة ومعرفة الإجماع ومواضع الخلاف ومراتب القياس، فإن وجد في بلده ذلك لم يخرج إلاّ بإذنهما، وإلاّ خرج ولا طاعة لهما في منعه، لأنّ تحصيل درجة المجتهدين فرض على الكفاية، قال سحنون: من كان أهلا للإمامة وتقليد العلوم، فرض عليه أن يطلبها لقوله تعالى: ?ولتكن منكم أمّة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ? [آل عمران: 104] ومن لا يعرف المعروف..كيف يأمر به؟ أو لا يعرف المنكر، كيف ينهي عنه ؟
قلت:-أي القرافي-: قد تقدم أنّ مخالفتهما في الجهاد الذي هو فرض كفاية لا يجوز -كما تقدم- في الذي ردّه عليه السلام لأبويه عن الهجرة والجهاد معه، لأنّ الحاضر يقوم مقامه، وهذه الفتوى تقتضي أنّه تجوز مخالفتهما في فروض الكفاية، فبينهما تعارض.
والجواب عنه أن تقول: العلم وضبط الشريعة وإن كان في فرض الكفاية، غير أنّه يتعين له طائفة من الناس، وهي من جاد حفظهم، ورقّ فهمهم، وحسنت سيرتهم، وطابت سريرتهم، فهؤلاء هم الذين يتعين عليهم الاشتغال بالعلم، فإنّ عديم الحفظ، أو قليله، أو سيئ الفهم لا يصلح لضبط الشريعة المحمدية، وكذلك من ساءت سريرته لم يحصل به الوثوق للعامة، فلا تحصل به مصلحة التقليد فتضيع أحوال الناس، وإذا كانت هذه الطائفة متعينة بهذه الصفات، تعيّنت بصفاتها، وصار طلب العلم عليها فرض عين، فلعلّ هذا هو معنى كلام سحنون وأبي الوليد، والجهاد يصلح له عموم الناس فأمره سهل، وليس الرمي بالحجر والضرب بالسيف كضبط العلوم، فكلّ بليد أو ذكي يصلح للأول، ولا يصلح للثاني إلاّ ما تقدم ذكره فافهم ذلك"(1) اه.
فأرجو منكم شيخنا -وفقكم الله- أن تبينوا موضع الإشكال الذي ظهر لي في مسألتين:
.الأولى: ضابط انتقال طلب العلم الكفائي من مرتبة الكفاية إلى التعيين.
.الثانية: تعارض واجب عيني محقق هو بر الوالدين، مع واجب يحتمل التعيين وليس محققا على سبيل الجزم، فكيف يقدم الثاني؟
جزاكم الله خيرا، ورزقكم ما يحبه ويرضاه، وجعل لكم في كلّ ضيق مخرج، ومن كلّ همٍّ فرج، ومن كلّ عسر يسرا، وبارك في عمركم وصحتكم ووقتكم، وأدام نفعكم، هو ولي ذلك والقادر عليه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فالتفريق أولا بين الفرض العيني والفرض على الكفاية أنّ الفرض على الكفاية هو ما ينظر فيه الشارع إلى نفس الفعل بغض النظر عن فاعله، ولا تتكرر مصلحة بتكرره كالجهاد والدفن وإنقاذ الغرقى والهدمى ونحو ذلك، وسمي بذلك لأنّ فعل البعض يكفي فيه، بخلاف الفرض العيني وهو ما تتكرر مصلحته بتكرره، وذات الفاعل فيه محلّ اعتبار الشارع كالصلاة والصوم والزكاة ونحو ذلك، فهي طاعات متعلقة لزوما بعين المكلَّف لا يكفي فعل البعض، بل لابد على كل عين أن يأتي بما وجب عليه.
والفرض على الكفاية يتعلق ابتداء بجميع المكلفين -عند الجمهور - فيجب على الكلّ ويسقط بفعل البعض، ذلك لأنّ العقاب يعمّ الجميع إذا تركوه إجماعا وإنّما يعمّ العقاب لعموم الوجوب ويَأثم المخاطبون إذا ظنّ كلّ واحد منهم أنّه لا يقوم به الآخر أمّا عند قيام الظنّ بالقيام فلا إثم، لأنّ التكليف في فرض الكفاية قائم بالظنون، لكن هذا البعض الذي تعلّق به الوجوب ينبغي أن يقوم به على وجه يسقط الوجوب على الجميع وهو معرفة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم على وجه التفصيل وإلاّ فلا، ومن هنا يظهر مراد الإمام القرافي -رحمه الله- من أنّ عديم الحفظ، أو قليله، أو سيء الفهم، لا يصلح لضبط الشريعة المحمدية وكذلك من ساءت سريرته.
وعليه يبقى الوجوب متعلقا بجميع المكلفين، ويكون ضابط إسقاط وجوب طلب العلم على عين كل واحد هو قيام البعض بالفعل على وجه يتحقق معه مقصود الشارع من تقرير فرضية طلب العلم لقوله تعالى: ?فلولا نفر من كلّ فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين و لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلّهم يحذرون? [التوبة: 122] وبقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن ماجه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه:" طلب العلم فريضة على كل مسلم"(2) ومقصود الشارع دفع مفسدة تضييع أحوال الناس بترك تعليمهم وإرشادهم ودعوتهم إلى طريق الحق، ولهذا كان الواجب على أعيانهم متنوعا بتنوع قُدَرِهم وحاجتهم ومعرفتهم.
هذا وقد بيّن القرافي -رحمه الله- أنّ الوجه الذي يسقط به الوجوب على الجميع هو ما امتاز بجودة الحفظ، ورقة الفهم، وحسن السيرة، وطيبة السريرة، فإنّ من تعيّنت هذه الصفات في حقه صارت متعينة على ذواتهم مسقطة للوجوب على الجميع، وتعيُّن هذه الصفات إمّا لوجودها خلقة، أو كسبا، أو يعيّن الذوات وليّ الأمر عن المسلمين.
- أمّا تعارض واجب البرّ مع واجب الطلب فيقدم الثاني للاعتبارات التالية:
1- إنّ واجب البرّ لم يعد واجبا عينيا يقينيا بعد دخول احتمال واجب الطلب على التعيين فإذا فقد قطعيته فليس أحدهما أولى من الآخر، ويرجّح بالدليل الخارجي المتمثل في قوله صلى الله عليه وسلم:" لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"(3) ولقوله صلى الله عليه وسلم-أيضا-" لا طاعة لبشر في معصية الله، إنّما الطاعة في المعروف"(4).
2- على فرض عدم قيام البعض بواجب الطلب، فيكون طلب العلم واجبا على جميع المخاطبين وهو غير محتمل، وإذا اندفع الاحتمال عنهما رجّح الثاني للدليل الخارجي السابق.
3- ولأنّ الوالدين يدخلان في عموم وجوب الطلب ابتداء لتعلقه بهما كسائر المكلّفين، إذا لم يتعيّن البعض المسقِط للوجوب، فيكون من واجب البرّ القيام بواجب الطلب العيني، ولو كان محتملا لرفع واجب الطلب عليهما، وعلى الجميع إذا تعيّنت الصفات المذكورة في حقه.
والله أعلم وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر: 3 شوال 1417 ه
الموافق ل : 10 فيفري 1997م
__________
1- الفروق (1/145-146)
2- أخرجه ابن ماجه باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، من حديث أنس رضي الله عنه. وصححه الألباني في صحيح الجامع(3808).
3- أخرجه أحمد(2/67) رقم(1095)، من حديث علي رضي الله عنه، وصححه الألباني في صحيح الجامع(7396)، وانظر السلسلة الصحيحة(179).
4- أخرجه البخاري(13/202)، ومسلم: (6/15)، وأحمد:(1/94)، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والحديث له ألفاظ عدة(انظر السلسلة الصحيحة للألباني:1/141،140،137).(18/52)
الفتوى رقم: 370
في الاستفادة من كتاب "إحياء علوم الدين" والتعريف بشخصية مؤلفه
السؤال: أريد منكم جوابا شافيا حول كتاب إحياء علوم الدين وعن مؤلفه.
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فكتاب إحياء علوم الدين يمكن الاستغناء عنه بكتاب "منهج القاصدين" لأبي الفرج ابن الجوزي، أو مختصره لابن قدامة المقدسي، أو ما كتبه القاسمي في كتاب "موعظة المؤمنين".
فالحاصل يمكن الاستفادة منه لمن هو متمكن من العقيدة السلفية مع معرفته بعقيدة المتصوفين ومن على شاكلتهم فله أن يأخذ الحق ويدع الباطل كما هو طريق أهل الحق، أمّا غير المتمكن فعليه أن يختار من الكتب المذكورة سابقا وغيرها.
أمّا شخصية أبي حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي(ت:505ه) فهي شخصية أصولية نادرة في عصره، غير أنّه اقترنت عقيدته بعقيدة أبي الحسن الأشعري في مرحلته الثانية، وهو معدود من كبار متكلمي الأشعرية، ومسلكه في التزكية مسلك المتصوفين في رياضتهم ومجاهدتهم نفسهم وخلواتهم وغير ذلك ممّا هم معروف في تراتيبهم ومدارج السالكين، وانقضى جزء كبير من عمره في هذا الطريق رجع عنه إلى طريق الحق في أواخر أيام حياته، كما هو شأن كثير من أهل الكلام والمتصوفة ومن على شاكلتهم رجعوا من الزيغ والضلال الذي كانوا عليه إلى الحق والنور والهدى الذي عليه أهل السنة والجماعة، وقد ألّف كتابا في ذم علم الكلام سماه "إلجام العوام عن علم أهل الكلام" وممّا قاله-رحمه الله-:" اعلم أنّ الحق الذي لا مراء فيه عند أهل البصائر هو مذهب السلف أعني: مذهب الصحابة والتابعين"(1)، وقال أيضا:" الدليل على أنّ مذهب السلف هو الحق أنّ نقيضه بدعة، والبدعة مذمومة وضلالة"(2)، وقال -أيضا-:" إنّ الصحابة رضوان الله عليهم، كانوا محتاجين إلى محاجة اليهود والنصارى في إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فما زادوا على أدلة القرآن شيئا، وما ركبوا ظهر اللجاج في وضع المقاييس العقلية، وترتيب المقدمات، كلّ ذلك لعلمهم بأنّ ذلك مثار الفتن، ومنبع التشويش، ومن لا يقنعه أدلة القرآن لا يقنعه إلاّ السيف والسنان، فما بعد بيان الله بيان"(3).
والعلم عند الله وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
---
1- إلجام العوام: (3).
2- إلجام العوام: (89).
3- إلجام العوام: (90).(18/53)
الفتوى رقم: 495
في التوفيق بين حفظ القرآن والمتون مع الدراسة النظامية
السؤال: أنا طالب في الثانوية، أحفظ من القرآن عشرين (20) حزبا، وملازم لشيخ أدرس معه "العقيدة الطحاوية" و"السبل السوية في فقه السنن المروية"، ومصطلح الحديث، وأصول الفقه، ولم يسبق لي أن درست هذه العلوم من قبل، والشيخ يطالبنا بالمراجعة والحفظ، ونظرا لاكتظاظ المواد لم أتقدم في حفظ وضبط القرآن، وحتى نتائجي في الثانوية تراجعت، فما نصيحتكم جزاكم الله خيرا؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فالواجب في التدرج في مدارج العلم والكمال أن يقدم ما هو أولى من العلوم بالموازاة مع ما هو دون ذلك ويضع لنفسه برنامجا مصحوبا بحجم ساعي يشمل العلوم التي يحتاجها في الحال والعلوم الأخرى التي تكون ثانوية بالنسبة إليه، ثم يحصل بحسب أهمية العلوم وفائدتها بأن يقدم الأولى دون أن يبعد ما هو دونه في الأولوية، على أن يخصص لحفظ القرآن وقتا بعد صلاة الصبح وبعد صلاة المغرب والأوقات الأخرى يستغرقها لحجمها الساعي بما يتعلق بالمواد الدراسية وفق التنظيم التربوي.
أمَّا ما يأخذه عن شيخه فله أن يستأذنه بأن يراجع هذه المواد في فترة العطل السنوية لكنه يبقى ملازمًا للحلقات إذا كانت لا تتعارض مع عموم المواد التي هو في حاجة إليها للانتقال من مستوى إلى آخر في المراحل الدراسية هذا الذي نستطيع أن ننصح به بناء على السؤال المطروح ولنا في طرق تحصيل العلوم الشرعية شريط(1) يمكن الاستفادة منه ومن الكتب العلمية التي بينها أهل العلم في التدرج في العلوم الشرعية.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
مكة في: 18 ربيع الأول 1427هـ
الموافق لـ:16 أفريل 2006م.(18/54)
الفتوى رقم: 618
في نصيحة إلى متردّد بين الارتقاء في طلب العلم أو الزواج
السؤال:
ما هي النصيحةُ التي توجِّهونها لطالب علمٍ فتحَ اللهُ عليه من فنون العلم شيئًا لا بأس به، من حفظ كتاب الله، وأخذ جملة طيّبة من علم الأصول، والحديث والنحو، وحبّب إليه طلب العلم، ولكنه في المدّة الأخيرة وقعت له أمور حالت دونه ودون طلب العلم، منها أنه تقدّم لخطبة أخت، والحمد لله تمَّ القَبول وتيسرت الأمور، ولكن شرطوا عليه أن يكون ذا عمل ومنزل يأويه وأهله، وتحصيل هذه الأمور في هذا الوقت كما لا يخفى في بلدنا صعب المنال فبدأ يفكر في مثل هذه الأمور فشغلت ذهنه، وكانت همه، فبماذا تنصحونه؟ هل يتوجّه إلى طلب العلم ويعرض عن هذه الأمور؟ أو يحاول التوفيق مع تقليص أوقات الطلب؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فإذا كان طالب العلم اقترنت به مُميِّزاتٌ حباه الله بها من دقّة الفهم وقوّة الحفظ وحسن السيرة وطيبة السريرة، واحتاج أهلُ منطقته من العلم الشرعي ما يقيمون به دينهم على الوجه الأكمل الصحيح، تعيَّن وجوبُ طلبه للعلم تعيينًا شخصيًّا وأعرض عن كلّ ما يشغله عنه، وبَذْلُ الجهد في تحصيله والتفاني في سعيه، لأنّ العلم إذا أعطيته كلّك أعطاك بعضه، مع قيام الإخلاص في نفسه لرفع الجهل عنه والعمل بمقتضى العلم الذي يعلمه ورفع الجهل عن غيره، فإنّه من صفت نيّته إلى ذلك فتحت له أبواب الخير وأتته الدنيا راغمة، أمّا إذا لم يجد في نفسه القدرات التي خصّ الله تعالى بها بعض عباده وأحس بعدم القدرة في الارتقاء في مدارج العلم والكمال فإنه إن أصلح نفسه بالكفاية بالعلم المطلوب جاز له أن يعدل عنه إلى أمور يسعى إليها لتحقيق أسرة، وعليه أن يختار منها ما يساعده على الاحتفاظ بما حصّل والمزيد إن قدر على ما لم يحصّل، والسائل أعلم بحاله وهو موكول إلى دينه في اختيار النهجين، واللهَ أسأل أن يثبّته على الجادّة وأن يوفقه لما يحب ويرضى إنّه ولي ذلك والقادر عليه.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 28 من ذي الحجة 1427ه
الموافق ل: 17 يناير 2007م(18/55)
الفتوى رقم: 825
في حكم توزيع إنتاج علمي دعوي بأموال محرمة
السؤال:
هل يجوزُ شراءُ أشرطةٍ عِلميةٍ وكُتُبٍ ورسائلَ دعويةٍ بأموالٍ مُحرَّمةٍ -يريدُ أصحابها التخلًّص منها- بغرضِ توزيعها في أغراض دعوية؟ وجزاكم اللهُ خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالواجبُ على المسلم إذا أراد التخلُّص من المال الحرامِ إذا يَئِسَ من معرفة صاحبِهِ أن يَصرِفَهُ على مصالح المسلمين، أو على الفقراء والمساكين وَفْقَ ما يراه مُلائمًا ومُناسبًا، وله أن يُقَدِّرَ الأنسبَ بحَسَب ما تَيَسَّرَ له، فإن رأى أنَّه يَصْرِفُهُ على مصالح المسلمين أو إلى جهة خيريةٍ تعمل على تحقيق مشروعٍ خيريٍّ عامٍّ غيرِ محصورٍ بفردٍ أو جماعةٍ مٌعيَّنةٍ جاز له ذلك كبناء مُستشفى، أو بيتِ الأيتام، أو يصرف في بيوت الوضوء والخلاء في المساجد إن كانت منفصلة عنها، ونحو ذلك مما يحقِّقُ مصلحةً عامَّةً، أو رأى الأنسب أن تُصرف للفقراء والمساكين لإخراج ما بيده من مال حرام فيدفعه إليهم ليسدُّوا به حاجتهم فإنَّه يجوز له ذلك.
أمّا توزيع المال الحرام على شكل أشرطة ورسائل دعوية فليس بِمَصْرَفٍ صحيحٍ للمال المحرَّم من جهتين:
الأولى: أنَّه لا ينتفع به المسلمون عامَّةً وإنَّما محصور في أفراد معدودين لا على وجه العموم.
والجهة الثانية: أنَّ شأن الأشرطة القرآنية والوعظية والعلمية والرسائل الدعوية كشأن المسجد وعمارته لا ينبغي أن يكون المال الخبيث موضعًا للإكرام، «لأَنَّ الله طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا »(1).
ولا يقاسُ إعطاء المال المحرَّم على الفقير؛ لأنَّ الله تعالى أَذِنَ له أن يأخذ هذا المال حتى لا يبقى بغير مالك؛ لكنَّه لم يأذن بالانتفاع بالمال المحرَّم في بناء المسجد أو عمارته سواء كانت عمارةَ بُنيانٍ أو عمارةَ إيمانٍ على أصحِّ قَوْلَيِ العلماءِ.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 13 صفر 1427ه
الموافق ل: 13 مارس 2006م
__________
1- أخرجه مسلم في «الزكاة »، باب قَبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها: (2346)، والترمذي في «تفسير القرآن »، باب ومن سورة البقرة: (2989)، والدارمي في «سننه »: (2617)، وأحمد في «مسنده »: (8148)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(18/56)
الفتوى رقم: 925
في ذكر منظومات عقيدة أهل السنة
السؤال:
هل توجد منظومات أخرى في العقيدة السلفية غير «الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية » الشهيرة بالنونية لابن قيم الجوزية؟ أفيدونا جزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فقد اعتنى علماء السنة بالتصنيف والتدوين في جميع مسائل الاعتقاد، ولهم منظومات في تقرير عقيدة أهل السنة غير نونية ابن قيم الجوزية -رحمه الله- والغرض من نظم العقائد السلفية شعرًا هو تسهيل حفظها مختصرة واستحضارها عند الحاجة، والنظم يساعد على ذلك لما فيه من خفة وجمال وسهولة، فمن بين المنظومات الأخرى ما يلي:
- «نظم اعتقاد الشافعي » ليحيى الصرصري.
- و«القصيدة في السنة » لأبي الحسن الكَرَجِيِّ.
- و«القصيدة في السنة » لأبي بكر بن أبي داود السجستاني.
- و«القصيدة النونية » لأبي محمد عبد الله القحطاني الأندلسي.
- و«منظومة اعتقاد أهل السنة » لأبي الخطاب الكلوذاني.
- و«الدرة المضيَّة في عقيدة الفرقة المرضيَّة » الشهيرة بالسفارينية: لمحمد بن أحمد السفاريني.
- و«نظم مقدمة القيرواني » لأحمد بن مشرّف.
ولأهل السنة تصانيف أخرى كثيرة في غير النظم مع تنوع مناهجهم في التصنيف.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 11 جمادى الثانية 1429ه
الموافق ل: 15 جوان 2008م(18/57)
05- أخرى
الفتوى رقم: 166
في حكم تعلم الرياضة وممارستها مع وجود منكرات
السؤال: ما حكم تعلم الرياضة الحديثة المستمدة من البلدان الأوروبية في المعاهد العليا للرياضة، علما أنّه تقترن بها جملة من المنكرات الميدانية خاصة المشاركات النسوية لها، وارتدائهن للألبسة الرياضية المكشوفة والضيقة ممّ يثير الغرائز والفتنة، فما حكم العمل في هذا الميدان وهل أواصل دراستي أم أنقطع عنها؟ وما هو البديل في رأيكم؟ أثابكم الله خيرا ونفع بكم الإسلام والمسلمين.
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.أمّا بعد:
فاعلم أنّ الأصل في جملة الرياضات المعينة على الدعوة والطاعة الحلّ والجواز، والتحريم إن اقترن بها فطارئ لوجود عارض من فساد، ماعدا بعض الرياضات الذي يقترن بها ضرر مؤكد، فإنّ تحريمها لذاتها كالملاكمة القائمة على الضرب في الوجه المنهي عنه بنص قوله صلى الله عليه وسلم:" إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه"(1).
ولا يخفى أنّ معظم هذه الرياضات ومختلف الدراسات التي حولها ظهرت في بلاد الغرب بصورة مؤسفة تسير باتجاه معاكس لتعاليم الشريعة ونظم الإسلام، إذ هي مشتملة على محرمات-كما تفضلت- من كشف العورات للذكور والإناث، ومن الكلام الفاحش البذيء أو من سبّ الدّين والقذف والشتم المخزي، كما أنّ مثل هذه الرياضات في الجملة تثير الفتن وتنمي الأحقاد والضغائن والتنافر والتصادم والتلاكم نتيجة التحزبات المنبثقة من طبيعة هذه الرياضات، وتصدّ المشاهد فضلا عن اللاعب عن ذكر الله ويكثر فيها القيل والقال، كما تضيع الصلاة أو أوقاتها فضلا عن المحرّمات، كلّ هذه المفاسد والنتائج السيّئة الناشئة عنها لا تهدف إلى تحقيق المبررات المبيحة للرياضة في الشريعة القائمة على أساس إيجاد القوة الجسدية والمحافظة عليها وتنميتها وتنشيطها والتدريب على إزالة الأمراض المزمنة وتحقيق المعاني السامية لتكون كلمة الله هي العليا، بل الذي يرى هو العكس فهي تخالف ما عليه المُثُل الإسلامية وما تدعو إليه من التآلف والتآخي وتزكية النفس والضمائر من الأحقاد والتنابز والتنافر والتدابر وغيرها ممّا تتنافى وتعاليم الشريعة.
وإذا تبيّن ذلك فالمضي فيه مع وجود هذه المنهيات تعاون على الإثم والعدوان بلا شك، "إذ التحريم يتبع الخبث والضرر"، كما في القواعد، ومجالات الحلال والبّرّ كثيرة، والواجب الانتقال إلى ما هو أنفع وخير ممّا يسدّ مسّده ويغنى عنه، إذ "في الحلال ما يغني عن الحرام".
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
الجزائر في: 16 ذي القعدة 1421ه
الموافق ل: 10 فيفري 2001 م
__________
1- أخرجه البخاري في العتق(2559)، ومسلم في البر والصلة(6817)، وأحمد(2575)، والحميدي في مسنده(1172)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(18/58)
الفتوى رقم: 233
في حكم المواد الدراسية المغشوش فيها
السؤال: أنا طالب جامعي، كنت أغش في الامتحانات، مع العلم أني تحصلت على شهادة البكالوريا من دون غش، فهل شهادتي الجامعية باطلة؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فكل المواد التي وقع فيها الغش يجب عليك أن تدرسها من جديد وتمتحن فيها تصحيحا لوضعيتك، ولا يشترط الامتحان الرسمي لتعذره، ولكن أي شخص مؤهل يجري لك امتحانا شفهيا أو كتابيا على وجه الصدق والأمانة يجزئ، لأنّ الغش والخيانة والغدر صفات ذميمة قبيحة، والقبح لا يليق خلقا للمسلم، ولا وصفا له بحال من الأحوال، إذ طهارة نفسه منبثقة من الإيمان والعمل الصالح، وهي تتنافى مع كلّ ما فيه شر وعدوان، وذلك بالتوبة عن هذا الفعل المنهي عنه شرعا الذي وقعت فيه وسائر الذنوب، مع تعقبه بشروط التوبة المتمثلة في التخلي عن جميع الذنوب والندم عليها وعدم الإصرار عليها، وعدم العودة إليها، والإكثار من الاستغفار والعمل الصالح لقوله تعالى: ?إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا? [الفرقان : 70]، ولقوله تعالى:?وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون? [النور:31].
والعلم عند الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
الجزائر في: 15 جمادى الأولى 1426ه
الموافق ل :22 جوان 2005م(18/59)
الفتوى رقم: 242
في حكم اقتناء لعب الأطفال
السؤال: ما حكم اقتناء الدّمى للأطفال للَّعب ؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فلعب الأطفال كالعرائس ونحوها مستثناة من عموم حرمة التّصوير والتماثيل، فيباح اقتناؤها للأطفال لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: كنت ألعب بالبنات فربّما دخل عليَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعندي الجواري فإذا دخل خرجن وإذا خرج دخلن "، وإنها قالت: إنّ النّبي صلى الله عليه وآله وسلم قدم عليها من غزوة تبوك أو خيبر وفي سهوتها ستر فهبّت الريح فكشفته عن بنات لعائشة لعب، فقال: ما هذا يا عائشة ؟ قالت : بناتي ، ورأى بينهنّ فرسا له جناحان قال : فرسٌ له جناحان ؟ قالت : أما سمعت أنّ لسليمان خيلا لها أجنحة قالت: فضحك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى بدت نواجذه"(1).
غير أنّه يجب أن تكون هذه اللعب ممتهنة ولا يجوز تعظيمها بوضعها على الرفوف أو المكتبات أو تعليقها سواء على الجدران أو على السيارات ونحوهما، كما يشترط أن يكون شكلها مربيا، ولا تجوز أشكال الدمى الغربية الفاتنة التي يتربى بها الصبي ويكتسب منها الأخلاق السيئة الموروثة عن المجتمعات الغربية.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
---
1- أخرجه أبو داود في الأدب(4934)، من حديث عائشة رضي الله عنها. وصححه الألباني في آداب الزفاف ص:(203)(18/60)
الفتوى رقم: 269
في حلق اللحية لاستخراج جواز السفر
السؤال: هل يجوز حلق اللحية لاستخراج جواز السفر؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فإن أمكن استخراج الجواز من غير الوقوع في محظور حلق اللحية بتحويل محل الإقامة من غير تزوير، ويكفي لجوازه التعريض، أو بإزالة اللحية على الصورة عن طريق جهاز " سكانير " وقبولها من الإدارة، أو بإعطاء مال مصانعة لاستخراجه محافظة على السنة الواجبة فلا مجال لحلقها ولا لتقصيرها.
أمّا إذا تعذرت كل هذه السبل وكانت الحاجة ماسة إليه تتوقف عليها حياته الشخصية أو المالية كأسباب صحية أو مالية أو عرضية، فإنّه -والحال هذه- تقدر مفسدتها مع مفسدة حلق اللحية كشعار للمسلم السني، ويقدم أهون الضررين وأخف المفسدتين، أمّا إذا كان استعمال الجواز للمباحات من غير حاجة فالواجب ترك المباح للواجب حال التعارض بينهما، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« إنّك لن تدع شيئا لله عز وجلّ إلاّ أبدلك الله به ما هو خير لك منه"(1).
والعلم عند الله وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في:19 رجب 1426هـ
الموافق لـ: 24 أوت 2005م
---
1- أخرجه أحمد(23776)، وصححه الألباني في السلسلة الضعيفة(1/61).(18/61)
الفتوى رقم: 284
في حكم العادة السرية
السؤال: ما حكم العادة السرية؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فالأصل في تعاطي الاستمناء من حيث لحوق الضرر بالمستمني في بدنه وصحته عدم الجواز وخاصة إذا كان على سبيل الالتزام والتكرار لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« لا ضرر ولا ضرار"(1) وبالمقابل إذا ما ثبت طبيا أنّ حبس الماء في عضو الرجل يؤدي إلى ضرر يلحقه إذا لم يصرفه بالاستمناء فإنّه يجوز له اللجوء إلى ممارسته لدفع الضرر وإزالته حفاظا على النفس لا على سبيل المتعة والتلذذ لكن:" إذا زال الخطر عاد الحظر".
هذا، ويرخص بعض السلف لمن خشي على نفسه الوقوع في فاحشة الزنا أن يخفف على نفسه باستعمال العادة السرية وذلك بعد أن يعالج نفسه بالزواج للتعفف فإن تعذر عليه فباتخاذ وقاية الصوم لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنّه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنّه له وجاء"(2).
أمّا الآية في قوله تعالى: ?وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ? [المؤمنون :5-6-7]، فإنّ ظاهرها متعلق بالفروج أي: ممن ابتغى لفرجه غير فرج الزوجات والمملوكات فأولئك هم العادون وهو اختيار الطبري في تفسيره والشوكاني وغيرهما.
والعلم عند الله وآخر دعوانا أن الحمد رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه وسلم تسليما.
الجزائر في:9 شعبان1426هـ
الموافق لـ:13سبتمبر2005م.
---
1- أخرجه ابن ماجه الأحكام (2430)، وأحمد (23462)، والبيهقي (12224)، من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.وصححه الألباني في الإرواء (896). وفي السلسلة الصحيحة (250)، وفي غاية المرام (254).
2- أخرجه البخاري في الصوم(1905)، ومسلم في النكاح (3464)، وأبو داود في النكاح (2048)، والترمذي في النكاح (1103)، والنسائي في الصيام (2251)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.(18/62)
الفتوى رقم: 298
في حكم مشاهدة الرسوم المتحركة
السؤال: ما حكم مشاهدة الرسوم المتحركة ؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فالرسوم المتحركة من الأفلام الكرتونية إذا كانت منضبطة بالضوابط الشرعية كسلامة القصد وكانت هادفة بحيث تحقق مقاصد توجيهية وتعليمية وتربوية وخلت من مظاهر الخلاعة، والسفور، والموسيقى، والتربية غير السديدة أي غير مخلة بالآداب والأخلاق الإسلامية أو تجرّدت من الدعوة إلى الشرك أو الحط من أمور الدين والاستخفاف به بالأسلوب الهزلي والعبارات القادحة فيه ، أومن إبعاد الناس عن الدين بواسطة ما تمليه هذه الرسوم فإنَّ مشاهدتها مباحة، وقد تكون مستحبة إن كانت مربية تربية دينية صحيحة ولا يخفى أن الصورة الممتهنة جائزة لنهيه صلى الله عليه وآله وسلم عن الصور إلا ما كان رقما في ثوب، ولحديث عائشة ولعبها بالبنات. قال ابن قدامة في المغني [7/216] في معرض إجابة الدعوة لوليمة العرس:"فإن قطع رأس الصورة ذهبت الكراهة، وكذلك إذا كان في صورة بدن بلا رأس أو رأس بلا بدن أو جعل له رأس وسائر بدنه غير حيوان لم يدخل في النهي، لأن ذلك ليس بصورة حيوان".
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
الجزائر في: 8 رمضان 1426ه
الموافقل: 11 أكتوبر 2005م(18/63)
الفتوى رقم: 361
ضابط الصور التي تمنع من دخول الملائكة البيت
السؤال: يقول الله تعالى: ?سوآءٌ منكم من أسرَّ القَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِه، وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْل وَسِارِبٌ بِالنَّهَار لَهُ مُعقِّبَاتٌ مِِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِه يَحفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ? [ الرعد: 10، 11]، وقال: ?عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ? [التحريم: 6] .
عن أبي طلحة رضي الله عنه قال:" قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا تصاوير"(1) وفي رواية للبخاري عن عائشة رضي الله عنها قال عليه الصلاة والسلام:" إنَّ أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة، يقال لهم أحيوا ما خلقتم، وإنّ الملائكة لا تدخل بيتا فيه الصورة"(2).
قال علماؤنا: تصوير صورة الحيوان حرام شديد التحريم وهو من الكبائر لأنّه متوعد عليه بهذا الوعيد الشديد المذكور آنفا في الحديث، وسواء صنعه بما يمتهن أو بغيره فصنعته حرام بكل حال لأنّ فيه مضاهاة لخلق الله تعالى.
وقالوا: إن سبب ما يمنع دخول الملائكة إلى البيوت فيها تصاوير أو كلب كونه معصية وفاحشة فعوقب متخذها بحرمانه دخول الملائكة بيته واستغفارها له وتبريكها عليه وفي بيته ودفعها أذى الشياطين.
والملائكة هنا -وإن كان عموما- فالمراد به الخصوص وهم ملائكة الرّحمة أما الحفظة فهي ملازمة للإنسان لا تفارقه في كل حال لأنهم مأمورون بإحصاء أعماله وكتابتها.
كما أنهم لم يفرقوا في تحريم التصوير بين أن تكون الصورة لها ظل أولا، ولا بين أن تكون مدهونة أو منقوشة أو منقورة أو منسوجة إلا ما استثناه الدليل كلعب البنات [أو الصورة المهانة]، والمراد "بالبيت" في الأحاديث كما ذكر الشراح: المكان الذي يستقر فيه الشخص سواء كان بناء أو خيمة أم غير ذلك. فعلى حِد هذا التفسير المطلق للبيت، هل تدخل المساجد ضمنه باعتبارها بيوتا؟
وعليه فهل تمتنع الملائكة من الدخول إلى بيوت الله تعالى لإطلاق هذه الأحاديث إذ اصطحبت مثل هذه التصاوير مع أشخاص يرتدون ملابس وغيرها إلى المساجد على أشكال مطرّزة على الثوب أو على أكياس أو حقائب وغيرها؟
المساجد محل السّكينة والطمأنينة بنيت للذكر والصّلاة وقراءة القرآن فكانت أحب البلاد إلى الله تعالى، قال علي رضي الله عنه:"المساجد مجالس الأنبياء" وقال الخولاني :"المساجد مجالس الكرام".
فإذا كان الجواب بالمنع، فما وجه التوفيق بينه وبين النصوص التي جاء فيها شهود الملائكة مجالس العلم وحلق الذكر وحفهم أهلها بأجنحتها، وتسجيلهم الذين يحضرون الجمعة، وتعاقبهم فينا، واجتماعهم مع المصلين في صلاة العصر وصلاة الفجر، وتنزلهم عندما يقرأ المؤمن القرآن وهي كلها أعمال لا تخلو منها مساجدنا؟
فهذه مسائل تعلق بها الغموض والإشكال، وعليه فإننا نطرحها على أستاذنا الفاضل أبي عبد المعز محمد علي فركوس ليزيل عنها الإلباس بالبسط والجواب.
وختام القول: عن أبي أمامة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إنّ الله وملائكته، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت في البحر، ليصلون على معلم الناس الخير"(3) وجزاكم الله خيرا.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فقد وقع سؤالكم أنّ العموم في امتناع دخول الملائكة بيتا فيه تصاوير وغيرها ممّا ورد فيه الحديث خاص بالسياحين من الملائكة الذين يطوفون بالرحمة والتبريك والاستغفار، ولا يشمل هذا النص العام الملائكة الكرام الكاتبين الحفظة لاختصاصهم بإحصاء أعمال الآدمي وكتابتها، فهذا الصنف من الملائكة لا يفارقون الجنب ولا غيره، وقد ذكر بعضهم أنّ لزومهم الآدمي مخصوص أيضا بالمفارقة عند الجماع والخلاء، وأضيف أنّه يخرج من النص العام ملك الموت وأعوانه، فهؤلاء لا تمنعهم التصاوير ولا غيرها ممّا ورد فيه الحديث عن قبض الأرواح إذا جاء أجلها المقدر لها، فهذا العموم -إذا- من العام الذي أريد به الخصوص.
هذا من جهة الملائكة، أمّا من جهة الصور فإنّ العموم فيه غير مراد -أيضا-لوجود جملة من القرائن تؤكد ذلك منها: إقراره صلى الله عليه وسلم في بيته بلعب عائشة رضي الله عنها(4) وهي عبارة عن تماثيل لها ظل يلعب بها الأطفال كالفرس الذي له جناحان، وما رواه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت:" كان لنا ستر فيه تمثال طائر، وكان الداخل إذا دخل استقبله فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:"حولي هذا، فإنّي كلّما دخلت فرأيته ذكرت الدنيا"(5) وفي رواية البخاري من حديث أنس رضي الله عنه قال:"كان قرام لعائشة سترت به جانب بيتها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أميطيه عني فإنه لا تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي"، ومن ذلك إشارة جبريل عليه السلام -بعد امتناعه من الدخول- بقطع رأس الصورة أو جعلها وسادتين توطئان، وكذلك في هتكه صلى الله عليه وسلم للستر الذي على باب عائشة رضي الله عنها وأعدت منه وسادة فكان يتكئ عليها وفيها صورة.
وإذا عرف ذلك تبين أن عموم الامتناع قاصر على الصورة المحظورة شرعا من استعمالها وهي تلك الباقية على هيئتها معظمة غير ممتهنة ويقوي ذلك حديثان، الأول: قوله صلى الله عليه وسلم:" لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة إلا رقما في ثوب"(6) والثاني ما رواه البخاري من حديث بسر عن زيد عن أبي طلحة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إنّ الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة"، قال بسر: ثم اشتكى زيد فعدناه، فإذا على بابه ستر فيه صورة فقلت لعبيد الله الخولاني: ألم يخبرنا زيد عن الصور يوم الأول؟ قال عبيد الله: ألم تسمعه حين قال:" إلا رقما في ثوب"(7) قال النووي في شرح مسلم:"قال الخطابي: إنّما لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب أو صورة مما يحرم اقتناؤه من الكلب والصور، فأما ما ليس بحرام من كلب الصيد والزرع والماشية، والصورة التي تمتهن في البساط والوسادة وغيرهما فلا يمتنع دخول الملائكة بسببه"(8) وقال ابن حجر في تعليقه على حديث جبريل:" وفي هذا الحديث ترجيح قول من ذهب إلى أنّ الصورة التي تمتنع الملائكة من دخول المكان التي تكون فيه باقية على هيئتها مرتفعة غير ممتهنة، فأما لو كانت ممتهنة، أو قطعت من نصفها أو رأسها فلا امتناع"(9).
والعلم عند الله تعالى؛ وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلّم تسليما.
الجزائر في 16 شعبان 1421ه
__________
1- أخرجه البخاري في اللباس(5949) ومسلم في اللباس والزينة(5636).
2- أخرجه البخاري في البيوع (2105).
3- أخرجه الترمذي في العلم(2685)، وصححه الألباني في المشكاة (213) التحقيق الثاني.
4- أخرجه أبو داود في الأدب(4932)، من حديث عائشة رضي الله عنها. وصححه الألباني في آداب الزفاف(170).
5- خرجه مسلم في اللباس والزينة (5643)، والنسائي في الزينة(5353)، وأحمد(24950)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
6- أخرجه البخاري في بدء الخلق(3226)، ومسلم في اللباس والزينة (5640)، والنسائي في الزينة (5350)، من حديث أبي طلحة رضي الله عنه.
7- أخرجه البخاري في اللباس (5958)، ومسلم في اللباس والزينة (5639)، وأبو داود في اللباس (4155)، والبيهقي في السنن(14977)
7- شرح مسلم للنووي: (14/84 ).
9- فتح الباري لابن حجر: (1/392).(18/64)
الفتوى رقم: 368
في اقتناء هوائي خاص بقناة "مجد"
السؤال: سؤالي يخص "دش المجد" عن جوازه أو عدم جوازه، علما أنّنا نستأصل جميع القنوات من الرقمي.
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فإنّ قناة "مجد" -باعتبار الحال- تعد بديلا إسلاميا عن القنوات الأخرى، غير أنّه-يخشى- باعتبار المآل أن تفقد صفتها فتصبح لا تختلف عن أخواتها من القنوات كما حصل لقناة "اقرأ" التي ابتدأت كبديل إسلامي ثمّ قلبت ظهر المجن في مجموع برامجها، لما يعلم من تخطيط أعداء الإسلام وأعوانهم تقصدا لإفساد عقائد المسلمين وأخلاقهم على المدى القصير أو المتوسط أو البعيد، لذلك ينبغي الحذر من الفتن وما يتربص به أعداء الإسلام لاحقا إذ لايخفى أنّ الشعوب الإسلامية وحكوماتها في سياسيتها العلمية والثقافية والتربوية وغيرها مقهورة ورهينة التخطيطات واملاءات أمريكا وأوربا ?وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَى تَتَبِعَ مِلَّتهم? [البقرة:120]، وفي الحديث "لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال: فمن"(1).
والعلم عند الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمّد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
الجزائر في:2 جمادى الأولى 1426ه
الموافق ل : 9 جوان 2005 م
__________
1- أخرجه البخاري في الاعتصام بالكتاب والسنة(7320)، ومسلم في العلم(6952)، وأحمد(12120)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.(18/65)
الفتوى رقم: 379
في الاحتفاظ بالصور الفوتوغرافية
السؤال: ما الحكم الراجح في الاحتفاظ بالصور الفوتوغرافية أو صور الفيديو لذركيات حفل الزواج مثلا؟ وذلك بتخزينها في جهاز الحاسوب؟.
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما، أمّا بعد:
فالصور الفوتوغرافية- إن خلت من المحاذير الشرعية- وكانت من ضروريات الناس وحاجتهم، أو كانت تستعمل في التعليم والتوجيه، كوسائل توضيح لأغراض تربوية تعليمة، فذلك جائز شرعًا لمكان حديث عائشة رضي الله عنه ولَعِبُها بالبنات(1) أمّا ما عدا ذلك فالأولى اجتنابه.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 14 صفر 1427ه
الموافق لـ: 14 مارس 2006م
---
1- أخرجه أبو داود في الأدب(4934)، من حديث عائشة رضي الله عنها. وصححه الألباني في آداب الزفاف ص:(203).(18/66)
الفتوى رقم: 444
في حكم اللعب بالدومينو والشطرنج والدامّة
السؤال: هل يجوز اللعب بالدومينو والشطرنج والدامّة ؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فلا خلاف في حرمة الدامَّة والدومينو والشطرنج إذا كان اللعب بها بعوض مالي، أو ترتب عليها ترك واجب اتجاه ربِّهِ كتأخير الصلاة عن وقتها، أو اتجاه غيره مما تتوقف عليه مصالح عياله وذويه، أو كان اللعب بها مما تضمَّن زورًا من القول أو فحشًا أو كذبا أو كلامًا بديئًا ونحو ذلك فإنَّ هذا محرم باتفاق أهل العلم.
أمَّا إن خلا من ذلك، فإنَّ الأصل في الأشياء على الجواز والإباحة، لعدم ورود أي نصٍّ على تحريمها ولا قياس صحيح يعوَّل عليه في منعها، وقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله:" الْحَلاَلُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ"(1)، والقول بالإباحة هو مذهب الشافعية(2) وقد نقل عن الإمام الشعبي أنه كان يلعب بالشطرنج(3)، أما ما عليه جمهور الحنفية والمالكية والحنابلة فهو القول بالتحريم وبهذا أفتت اللجنة الدائمة(4) وما اعتمدوه من أحاديث نبوية لم يصح منها شيء كحديث:" مَلْعُونٌ مَنْ لَعِبَ بِالشطْرنْجِ، وِالنَّاظِرُ إِلَيْهَا كَآكِلِ لحمِ الخِنزيرِ"(5) أما أثر علي رضي الله عنه أنه مرَّ على قوم يلعبون بالشطرنج فقال:" ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون"(6) فعلى تقدير صحته فليس فيه حجة، خاصة وأنَّ الحديث لم يظهر فيه وجه الإنكار لاحتمال أنه كان يسألهم عن شيء لم يعرفه من قبل، أو أنه أنكر عليهم العكوف إليها وطول المكث باللعب، الأمر الذي يفضي إلى تعطيل المصالح والالتزامات والواجبات، وإذا كان بهذا الاعتبار فإنه قد تقدم في تحرير محل النزاع ممنوعيته، وأما قياسه على النرد فهو قياس مع ظهور الفارق لأنَّ النرد كالأزلام قائم على المصادفة والحظ بخلاف الدامَّة والشطرنج والدومينو فهي أشبه بالمسابقات القائمة على الحذق والتدبير.
هذا، وأخيرًا فإنه بغض النظر عن حكم جواز هذه الألعاب إن خلت من المحاذير الشرعية المتقدمة، إلاَّ أنَّني أنصح بالاهتمام بالقرآن الكريم تلاوة وحفظًا وعلمًا وعملاً، فإنَّ العناية به مما يحيي القلوب، وينير الصدور، ويذهب الهموم والأحزان.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 7 جمادى الأولى 1427ه
الموافق ل: 3 جوان 2006م
---
1- أخرجه الترمذي في اللباس (1830)، وابن ماجه في الأطعمة (3492)، والحاكم في المستدرك (7115)، والبيهقي (19873)، من حديث سلمان رضي الله عنه. وحسنه الألباني في صحيح الجامع (3195)، وضعفه في غاية المرام (3).
2- "مغني المحتاج" للشربيني: (4/412)، "نهاية المحتاج" للرملي: (8/165)، "الحاوي" للماوري: (17/187).
3- أخرجه عبد الرزاق في "المصنف": 10/70، والبيهقي في سننه الكبرى:10/211.
4- انظر فتاوى اللجنة الدائمة: 15/207.
5- أخرجه الديلمي (4/63) قال السخاوي في المقاصد الحسنة: (500):" لا يصح بل لم يثبت من المرفوع في هذا الباب شيء"، وقال الشوكاني في الفوائد المجموعة (207):" لا يصح"، وقال الألباني في صحيح الجامع (5277):" موضوع"، وانظر السلسلة الضعيفة: (1145).
6- أخرجه البيهقي في سننه، كتاب الشهادات باب الاختلاف في اللعب بالشطرنج (21532)، وفي شعب الإيمان (6518)، عن الأصبغ بن نباتة عن علي رضي الله عنه. وأخرجه البيهقي في سننه (21532)، والآجري في تحريم النرد (ق43/1)، وابن أبي الدنيا في "ذم الملاهي" (47)، من طريق ميسرة بن حبيب. والحديث صححه ابن حزم في المحلى:(9/63)، وقال عنه ابن تيمية في مجموع الفتاوى (32/244):" ثابت"، وصححه ابن القيم في الفروسية (310)، وضعفه الألباني في إرواء الغليل(8/288).(18/67)
الفتوى رقم: 474
في التخلص من كلب قد يحدث ضررا بالغير
السؤال: لدي كلب حراسة، وفي الآونة الأخيرة أصبح يصدر عواء كعواء الذئب، وأريد أن أتخلص منه لكن أخشى أن يلحق الضرر بالناس، فهل يلحقني الإثم في ذلك؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فالتصرف في الكلب على وجه يلحق الضرر بالغير مما لا ريب في قبحه وتحريمه لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ"(1)، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِه"(2) وإذا تيقن أو غلب على ظنه تحوله إلى كلب عقور معتدٍ وجب دفع ضرره قبل وقوعه، والحيلولة دون حدوث الضرر قدر الإمكان، "لأنَّ الدفع أسهل من الرفع" وأولى وأقوى، والوقاية خير من العلاج، وذلك بالاستعانة بالمصالح لدى البلديات أو الولايات، أمَّا إذا وقع الضرر وجب رفعه، وعلى صاحب الكلب الضمان.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 1 جمادى الثانية 1427ه
الموافق لـ: 26 جوان 2006م
---
1- أخرجه ابن ماجه الأحكام (2430)، وأحمد (23462)، والبيهقي (12224)، من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه. قال النووي في الحديث رقم (32) من "الأربعين النووية" :" وله طرق يَقْوى بعضُها ببَعض"، وقال ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (378) "وهو كما قال"، وصححه الألباني في الإرواء (896). وفي السلسلة الصحيحة (250)، وفي غاية المرام (254).
2- أخرجه البخاري في الإيمان (13)، ومسلم في الإيمان (179)، والترمذي في صفة القيامة (2705)، والنسائي في الإيمان وشرائعه (5033)، وابن ماجه في المقدمة (69)، وأحمد (13138)، والدارمي (2796)، من حديث أنس رضي الله عنه.(18/68)
الفتوى رقم: 475
في حرق الكتب والجرائد المتضمنة للنصوص الشرعية
السؤال: هل يجوز إحراق الكتب والجرائد والمنشورات المحتوية على الآيات القرآنية والأحاديث النبوية؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فيجوز إحراق الكتب والجرائد والمنشورات المتضمنة للآيات القرآنية وللأحاديث النبوية، وقد حرّق الصحابة رضي الله عنهم جميع المصاحف المخالفة لمصحف عثمان رضي الله عنه مع احتوائها للآيات القرآنية.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 7 جمادى الثانية 1427ه
الموافق لـ: 2 يوليو 2006م(18/69)
الفتوى رقم: 511
في حكم السمر بعد العشاء من أجل البيع وغيره.
السؤال: تاجر في الأدوية، أظل الليل كله مفتوحا للزبائن الوافدين على الصيدلية، وقد بلغني نهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن السمر بعد العشاء(1- أخرجه ابن ماجه في الصلاة(703)، وابن حبان (2031)، وأحمد (3884)، والبزار في مسنده (1741)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:" جدب لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم السمر بعد العشاء يعني زجرنا". وحسنه أحمد شاكر في "تحقيقه لمسند أحمد"(5/342)، وصححه الألباني في "صحيح ابن ماجه" (703)، وانظر"السلسلة الصحيحة" للألباني (5/563))، فهل أكون آثما إن واصلت عملي بهذه الكيفية؟
الجواب:الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فاعلم أنَّ النَّهي عن السَّمر بعد العشاء محمول على ما إذا كان في الأمور التي لا فائدة منها وفي الأمور المحرمة، أمَّا إذا كان في الحاجات الدينية العامّة أو الخاصّة التي لابدَّ منها وفي الأمور التي فيها نفع للمسلمين فإنَّه يجوز ذلك، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم "أنَّه كان يسمر مع أبي بكر وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما في الأمر من أمور المسلمين"(2- أخرجه الترمذي في أبواب الصلاة (169)، ابن حبان (2034)، وابن خزيمة (1341)، وأحمد (229)، والحاكم (2893)، وأبو يعلى (194)، والبيهقي (2169)، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. قال الابن حجر في "الفتح" (1/269):" رجاله ثقات"، وصححه أحمد شاكر في "تحقيقه لمسند أحمد "(1/97)، والألباني في "الصحيحة" (2781)، ومقبل الوادعي في "الصحيح المسند" (993)) ، كما ثبت من حديث جابر رضي الله عنهما أنّه كان صلى الله عليه وآله وسلم يأتي وفد عبد القيس بعد العشاء يعلمهم الإسلام والسنة ويطيل معهم حتى يتراوح بين رجلين من طول القيام، وقد بوَّب البخاري في صحيحه: باب السمر في العلم(3- صحيح البخاري (1/55))، ونبَّه العيني أنّ السِّمر المنهي عنه إنَّما هو فيما لا يكون من الخير، وأمَّا السَّمر بالخير فليس منهي عنه بل هو مرغوب فيه.
فالحاصل أنَّ البائع إذا كان بحاجة إلى البيع بعد العشاء يحقِّق بها الخير والمنفعة للمسلمين جاز ذلك، أمَّا إذا كان يُجَمِّع الساهرين لغير حاجة شرعية أو منفعة دينية أو دنيوية فإنّه يدخل في عموم النهي عن السمر بعد العشاء، علما بأنّ السمر يؤدي غالبا إلى التفريط في الفجر الذي تشهده ملائكة الليل والنهار قال تعالى: ?وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً? [الإسراء:78].
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
الجزائر في: 20رجب1427ه
الموافق ل: 14أغسطس2006م
__________
1- أخرجه ابن ماجه في الصلاة(703)، وابن حبان (2031)، وأحمد (3884)، والبزار في مسنده (1741)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:" جدب لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم السمر بعد العشاء يعني زجرنا". وحسنه أحمد شاكر في "تحقيقه لمسند أحمد"(5/342)، وصححه الألباني في "صحيح ابن ماجه" (703)، وانظر"السلسلة الصحيحة" للألباني (5/563).
2- أخرجه الترمذي في أبواب الصلاة (169)، ابن حبان (2034)، وابن خزيمة (1341)، وأحمد (229)، والحاكم (2893)، وأبو يعلى (194)، والبيهقي (2169)، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. قال الابن حجر في "الفتح" (1/269):" رجاله ثقات"، وصححه أحمد شاكر في "تحقيقه لمسند أحمد "(1/97)، والألباني في "الصحيحة" (2781)، ومقبل الوادعي في "الصحيح المسند" (993).
3 - صحيح البخاري (1/55).(18/70)
الفتوى رقم: 537
في الإعانة على إدخال الأنترنت لضعيف الدين مع تجهيزه ببرنامج مُحكَم ضِدّ المواقع الإباحية
السؤال:طلب مني رجلٌ أن أَصِلَ له الأنترنت بجهاز حاسوبه، وخشيت أن أفتح له بابَ شَرٍّ في بيته، بسبب ضعف شخصيته وقِلَّةِ مروءته، فهل يجوز لي مساعدته، علمًا أني أجهّزه ببرنامجٍ خاصٍّ ضِدَّ المواقع الإباحية؟ وإن لم أفعل فسيتوجه إلى غيري في إفساد نفسه وأهله، والمرجو تنويري في هذه المسألة.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن لاحظ السائل من سيرة الرجل وأخلاقياته ما يورِّث شكًّا باستعمال جهاز الأنترنت على غير وجهه الصحيح فالواجب عليه أن يمتنع عن إعانته في تركيب الجهاز ولو خُصَّ بالبرامج الدينية أو أدخل فيه برنامجًا مُحكمًا ضِدّ المواقع الإباحية، لأنَّ مفتاح البرنامج في حوزته ولا يحول بينه وبين الرغبة الشهوانية الدافعة للاطلاع ومشاهدة الحرام لقوله تعالى: ?وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا? [الأعراف: 58]، وعملاً بقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ »(1- أخرجه الترمذي في «صفة القيامة » (2518)، والنسائي في «الأشربة » (511)، وابن حبان (722)، والدارمي (2437)، والحاكم في المستدرك (2169)، وأحمد (1729)، وعبد الرزاق في «المصنف » (4984)، والبزار في «مسنده » (1336)، والبيهقي (10972)، وحسنه النووي في «المجموع » (1/181)، وصحّحه في «بستان العارفين » (32)، وقال السخاوي في «المقاصد الحسنة » (1/166):« وكذا صحّحه ابن حبان »، وصحّحه كذلك أحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد » (3/169)، والألباني في «الإرواء » (1/44))، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَد اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ »(2- أخرجه البخاري في «الإيمان » (52)، ومسلم في «المساقاة » (4178)، وأبو داود في «البيوع » (3330)، والترمذي في «البيوع » (1205)، وابن ماجه في «الفتن » (3984)، والدارمي (2436)، وأحمد (17970)، من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه)، والتعامل الأخوي يجب أن يكون مبنيًّا على التعاون على البرِّ والتَّقوى لا على الإثم والعدوان، وهو غير مسئول على توجهه إلى غيره في إفساد نفسه وأهله، لأنّ كرامة المؤمن باستقامته على الدين والخلق، قال تعالى: ?إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ? [الحجرات: 13]، بخلاف معلوم السيرة الحسنة والسلوك القويم، فإنَّ دينه يمنعه من مخالطة الحرام ورؤية الفساد، لقوله تعالى: ?وَالبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ? [الأعراف: 58]، مع ذلك ينبغي إدخال البرنامج الخاصّ والاحتفاظ بمفتاحه عملاً بالاحتياط وتفاديًا لكلِّ محذور.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا.
الجزائر في: 29 رجب 1427ه
الموافق ل: 23 أوت 2006م
__________
?- أخرجه الترمذي في «صفة القيامة » (2518)، والنسائي في «الأشربة » (511)، وابن حبان (722)، والدارمي (2437)، والحاكم في المستدرك (2169)، وأحمد (1729)، وعبد الرزاق في «المصنف » (4984)، والبزار في «مسنده » (1336)، والبيهقي (10972)، وحسنه النووي في «المجموع » (1/181)، وصحّحه في «بستان العارفين » (32)، وقال السخاوي في «المقاصد الحسنة » (1/166):« وكذا صحّحه ابن حبان »، وصحّحه كذلك أحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد » (3/169)، والألباني في «الإرواء » (1/44).
?- أخرجه البخاري في «الإيمان » (52)، ومسلم في «المساقاة » (4178)، وأبو داود في «البيوع » (3330)، والترمذي في «البيوع » (1205)، وابن ماجه في «الفتن » (3984)، والدارمي (2436)، وأحمد (17970)، من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.(18/71)
الفتوى رقم: 547
في حكم التصوير الفوتوغرافي لغير ضرورة
السؤال: ما حكمُ التصويرِ الفوتوغرافيِّ لغيرِ ضرورةٍ كَرَجُلٍ أراد أن يأخذ صورةَ ابنته أو زوجتِه بدون حجابٍ مع العلم أنه هو الذي يقوم بإخراج الصُّوَر لأنه مسافر وقد يطول غيابه؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فالصور الفوتوغرافية -إن خلت من المحاذير الشرعية- وكانت من ضروريات الناس وحاجياتهم، أو كانت تستعمل في التعليم والتوجيه، كوسائل توضيح لأغراض تربوية تعليمية، من غير دافع التعظيم ولا تقصد التقديس فذلك جائز شرعًا لمكان حديث عائشة رضي الله عنها ولعبِها بالبنات(1- أخرجه أبو داود في «الأدب » (4932)، من حديث عائشة رضي الله عنها قالت:"قدم النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أو خيبر وفي سهوتها ستر فهبت ريح فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة لعب فقال: ما هذا يا عائشة؟ قالت: بناتي. ورأى بينهنّ فرسا له جناحان من رقاع فقال: ما هذا الذي أرى وسطهن قالت: فرس، قال: وما هذا الذي عليه؟ قالت: جناحان، قال: فرس لها جناحان، قالت: أما سمعت أنّ لسليمان خيلا لها أجنحة، قالت، فضحك حتى رأيت نواجذه". وصححه أحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد » (14/264)، والألباني في آداب الزفاف (170).)، أما ما عدا ذلك فينبغي اجتنابه.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا.
الجزائر في: 14 صفر 1427ه
الموافق لـ: 14 مارس 2006م
__________
?- أخرجه أبو داود في «الأدب » (4932)، من حديث عائشة رضي الله عنها قالت:"قدم النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أو خيبر وفي سهوتها ستر فهبت ريح فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة لعب فقال: ما هذا يا عائشة؟ قالت: بناتي. ورأى بينهنّ فرسا له جناحان من رقاع فقال: ما هذا الذي أرى وسطهن قالت: فرس، قال: وما هذا الذي عليه؟ قالت: جناحان، قال: فرس لها جناحان، قالت: أما سمعت أنّ لسليمان خيلا لها أجنحة، قالت، فضحك حتى رأيت نواجذه". وصححه أحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد » (14/264)، والألباني في آداب الزفاف (170).(18/72)
الفتوى رقم: 570
في حكم إدخال الإنترنت إلى البيت
السؤال: هل يجوز إدخال الإنترنت إلى البيت؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فالإنترنيت من الوسائل التي لها حكم المقاصد، فيختلف حُكمها بِحَسَب استخدامها، وميزتها المغايِرَةُ للتلفاز هي التحكّم فيها باختياره وإرادَتِه مع إمكانيةِ استعمالِ برنامجٍ واقٍ يمنع الدخولَ إلى مواقعِ الفسادِ والإفساد، في حين تنتفي الإرادة في التحكّم في برامج التلفاز لكونها مفروضةً ومدروسةً، وعمومُ برامجها لا يخلو من دعوةٍ إلى الفُجُور والانحلال وسوء الأخلاق ?واللهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ? [البقرة: 205].
وعليه، فالوسيلة إلى أفضل المقاصد أفضلُ الوسائلِ، وإلى أقبح المقاصد أقبحُ الوسائلِ وإلى ما هو متوسط متوسطةٌ كما قرّره القرافي(1- شرح تنقيح الفصول للقرافي: 200، الفروق للقرافي: 2/33).
ويبقى الأمر دائرًا بين قوّة الإيمان والثبات عليه وصدقِ العزيمة فإن قَوِيَ على استعماله في الخير فخير، وإن خشي ضعْف إيمانه والوقوعَ في غير ما يرضي الله تعالى، تَرَكَهُ لله، «وَمَنْ تَرَكَ شَيْئًا للهِ عَوَّضَهُ اللهُ خَيْرًا مِنْهُ »(2- هذا اللفظ معنى حديث أخرجه أحمد (23776)، والبيهقي (10875)، عن أبي قتادة وأبي الدهماء ، قالا: أتينا على رجل من أهل البادية فقلنا: هل سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلّم شيئًا؟ قال: نعم، سمعته يقول:« إِنّكَ لَنْ تَدَعَ شَيْئًا للهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلاّ أَبْدَلَكَ اللهُ بِهِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ مِنْهُ ». وصحّحه الألباني في «السلسلة الضعيفة »: (1/61)، ومقبل الوادعي في «الصحيح المسند »: (1523)).
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 12 ذي القعدة 1427ه
الموافق ل: 03 ديسمبر 2006م
__________
1- شرح تنقيح الفصول للقرافي: 200، الفروق للقرافي: 2/33.
2- هذا اللفظ معنى حديث أخرجه أحمد (23776)، والبيهقي (10875)، عن أبي قتادة وأبي الدهماء ، قالا: أتينا على رجل من أهل البادية فقلنا: هل سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلّم شيئًا؟ قال: نعم، سمعته يقول:« إِنّكَ لَنْ تَدَعَ شَيْئًا للهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلاّ أَبْدَلَكَ اللهُ بِهِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ مِنْهُ ». وصحّحه الألباني في «السلسلة الضعيفة »: (1/61)، ومقبل الوادعي في «الصحيح المسند »: (1523).(18/73)
الفتوى رقم: 622
في تقليل مفاسد التلفاز
السؤال:
قد وقع لنا إشكال حول فتواكم برقم: (368) «في حكم اقتناءِ هوائيٍّ خاصٍّ بقناة المجد »، فمنَّا من يقول: إنّ فتوى الشيخ -حفظه الله- عامّة وأنه يجوز مطلقًا اقتناء الهوائي الخاصّ بقناة مجد, ومنَّا من يقول: إنّ فتوى الشيخ مقيّدة بمن ابتُلِيَ بالقنوات الأخرى في بيته, أو لمن هو حديث عهد بالاستقامة, أو لمن يرجو تخفيف الشرّ في بيته من أجل إخوانه وأخواته, وما شابهه. فنرجوا من فضيلتكم التكرّم ببيان ما أشكلَ علينا, وبارك الله فيكم وجزاكم الله كلّ خير.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالتلفازُ باعتباره أداة مرئية يختلف حكمها باختلافِ ما يُعرض فيه من برامجَ؛ لأنّ «الوَسَائِل لَهَا حُكُمُ المَقَاصِدِ »، ولما كانت غالبُ البرامج التلفزيونية فاسدةَ المحتوى والشكلِ تقترن بها محاذير شرعية لها مساسٌ بالعقيدة والأخلاق؛ فإنّ ترجيح مَمْنُوعِيَّتِهَا أولى؛ لأنّ مضارّها أعظم من منافعها، و«دَرْء المَفَاسِدِ أَوْلَى مِنْ جَلْبِ المَصَالِحِ »، غير أنّ من ابْتُلِيَ بمثل هذه المقعّرات الهوائية بسبب الضعف الإيماني، أو بسبب الضغط العائلي فإنه يسعى لتقليل المفسدة قدر الإمكان باتخاذ قناة «مجد » على سبيل المثال كبديل عن القنوات الأخرى.
هذا، ومن أمكنه استعمال جهاز الحاسوب الذي يسع التحكّمُ فيه بإدخال الأقراص المفيدة والبرامج العلمية النافعة والاستغناء عن غيره ممّا لا يسع التحكّمُ فيه لكان خيرًا وأفيدَ له ولأهله وذويه.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 23 المحرم 1428م
الموفق ل: 11 فبراير 2007م(18/74)
الفتوى رقم: 627
في حكم البناء الفوضوي
السؤال:
لا يخفى عليكم, أزمة السكن التي تمر بها البلاد, فما حكم بناء سكن فوضوي في أرض هي ملك للدولة بالنسبة للمضطرّ؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالأصلُ في الاستيلاء على مال الغير علانيةً بغير وجهِ حقٍّ على سبيل المجاهرة يُعَدُّ غَصْبًا، والغَصْبُ اعتداءٌ وظلمٌ على مال الغير سواءٌ أكان شخصًا طبيعيًّا أو اعتباريًّا معنويًّا -كالدولة ومؤسّساتها والمنشئاتِ وغيرها-، والغصبُ محرَّمٌ في الجملة وهو معدودٌ من الباطل المشمولِ بقوله تعالى: ?وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالبَاطِلِ? [البقرة: 188]، وقولِه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« لاَ يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ »(1- أخرجه أحمد: (20172)، وأبو يعلى في «مسنده »: (1570)، والبيهقي: (11740)، من حديث حنيفة الرقاشي رضي الله عنه. والحديث صحَّحه الألباني في «الإرواء »: (1459)، وفي «صحيح الجامع »: (7539))، والعُدوان على مال الغير لا يكون سببًا للتملّك، والواجب ردُّ المغصوب إلى صاحبه والخروجُ منه، ويكفي الإذنُ والترخيصُ من الجهة العمومية المسئولة في جواز الانتفاع به، وانتفاءِ صفة العدوان والغصب عنه.
أمّا المضطرّ اضطرارًا قائمًا بالفعل لا متوقََّّعًا ولا متوهَّمًا، الذي يخشى عن نفسه تضييع مصالحه الضرورية وليس له وسيلةٌ يدفع بها ضرورتَه إلاّ بارتكاب المحرّم، فإنّ الضرورةَ الملجئةَ من أسباب الترخيص في حدود مقدار ما يدفع الضرورةَ، ويسقط عنه الإثم في حقّ الله تعالى بالنسبة لأحكام الآخرة رفعًا للحَرَجِ عنه، فإن ألحق بفعله أضرارًا بالغير نتيجةَ غَصْبِهِ لَزِمَهُ تعويضُها؛ لأنّ الضرورةَ لا تُسقِطُ حقَّ الآخرين في أحكام الدنيا، ولا تجعلُ المضطرَّ في حِلٍّ منها رفعًا للحَرَج عنهم أيضًا.
هذا، وشأن القائم بالحكم والولاية العامّة الابتعادُ عن الحيف والجَور، وإقامةُ العدل بين الناس بإعطاء كلّ ذي حقٍّ حقَّهُ وما يستحقّه، فلا يميلُ به هوًى ولا تجرفه شهوةٌ أو دنيا، وقد أخبر رسول الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم عن حبّ الله تعالى للمقسطين وكرامتهم عنده سبحانه، فقال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« إِنَّ المُقْسِطِينَ عِنْدَ اللهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا »(2- أخرجه مسلم في «الإمارة »: (4721)، والنسائي كتاب «آداب القضاة » من سننه: (5379)، وأحمد: (6469)، والحاكم: (7084)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما)، وقال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ: ِإمَامٌ عَادِلٌ… »(3- أخرجه البخاري في «الزكاة »: (1423)، ومسلم في «الزكاة »: (2380)، والترمذي في «الزهد »: (2391)، وأحمد (9526)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 3 صفر 1428ه
الموفق ل: 21 فبراير 2007م
__________
1- أخرجه أحمد: (20172)، وأبو يعلى في «مسنده »: (1570)، والبيهقي: (11740)، من حديث حنيفة الرقاشي رضي الله عنه. والحديث صحَّحه الألباني في «الإرواء »: (1459)، وفي «صحيح الجامع »: (7539).
?- أخرجه مسلم في «الإمارة »: (4721)، والنسائي كتاب «آداب القضاة » من سننه: (5379)، وأحمد: (6469)، والحاكم: (7084)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
3- أخرجه البخاري في «الزكاة »: (1423)، ومسلم في «الزكاة »: (2380)، والترمذي في «الزهد »: (2391)، وأحمد (9526)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(18/75)
الفتوى رقم: 700
في حكم طلب شهادة إقامة من يقيم مؤقتًا
السؤال:
أنا شابٌّ أسكن في مدينة «عين وسّارة »، وأعمل في مدينة «تندوف » فهل يجوز لي استخراج شهادة الإقامة بالمدينة التي أعمل فيها؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فإذا طابقت إقامة السائل مدّة الإقامة المطلوبة لمنح الشهادة فلا حرج في طلبها لأي ملف إداريٍّ لموافقتها لشرط الحاكم، ولو كانت إقامتُه إقامةَ سفرٍ لا ينوي استيطان ذلك البلد، أمّا مع حصول المخالفة للمدة المشترطة في منح الإقامة فلا يسعه طلبها إلاَّ على وَفقها.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 26 من ذي القعدة 1427ه
الموفق ل: 17 ديسمبر 2006م(18/76)
الفتوى رقم: 816
في حكم تشكيل الحيوانات بالأصابع على الحائط
السؤال:
هل يُعد تشكيل صور الحيوانات بالأصابع في الظلمة على الحائط، من الصور المحرمة؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فإذا مُورِست هذه الأشكال باليد في الظُّلْمَةِ فلا تخلو من أمرين:
- فإن كانت على سبيل التلهِّي واللعب مع الأولاد بهذه الأشكال فلا مانع منها، إذ هي دون الصورة المرسومة والمجسَّمة والمطرَّزة، ويشهد لهذا قصَّةُ عائشةَ رضي الله عنها وفرسها الذي كان له جناحان، وإقرارُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم لها على ذلك(1)، كما كانت تقتني لعب البنات وتلعب بها مع رفيقاتها على مرأى من النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم فلا يُنكِرُ عليها.
- أمّا إن كانت على غير ذلك المقصد فالأَوْلَى تركُه، لئلاَّ يفضي التساهل بهذا العمل إلى تخطيط الصورة ذات الروح وتشكيلها فعليًّا، الأمر الذي ترد فيه النصوصُ الوعِيديةٌ المحرمة للصورة لذلك يمنع سدًّا للذريعة.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 04 جمادى الثانية 1418ه
الموافق ل:06 أكتوبر 1997م
__________
1- أخرجه أبو داود في «الأدب » (4932)، من حديث عائشة رضي الله عنها قالت:« قدم النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أو خيبر وفي سهوتها ستر فهبت ريح فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة لعب فقال:« ما هذا يا عائشة؟ قالت: بناتي. ورأى بينهنَّ فَرَسًا له جناحان من رقاع فقال: مَا هَذَا الَّذِي أَرَى وَسَطَهُنَّ؟ قالت: فرس، قال: وَمَا هَذَا الَّذِي عَلَيْهِ؟ قالت: جناحان، قال: فَرَسٌ لَهُ جَنَاحَانِ، قالت: أَمَا سمعت أنَّ لسليمان خيلاً لها أجنحة، قالت، فَضَحِكَ حَتَّى رَأَيْتُ نَوَاجِذَهُ ». وصحَّحه الألباني في «آداب الزفاف »: (170). وأصله في البخاري كتاب «الأدب »، باب الانبساط إلى الناس: (5779).(18/77)
الفتوى رقم: 886
في عرض صور الأحياء لأغراض تعليمية
السؤال:
يقوم بعض التجار بجعل فيديو بشاشة كبيرة في محلاتهم التجارية يَعرِضُ فيها رجالٌ يمثِّلون كيفية استعمال الأجهزة المعروضة للبيع بدون موسيقى، قصد الإشهار، فهل هذا يعدُّ من اتخاذ التصاوير المحرمة؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالأصلُ في تصوير الأحياء -في حَدِّ ذاته- محرَّمٌ، وهو من الكبائر، بغضِّ النظر عن الغرض من تصويره أهو للامتهان أم لغيره، ولا فَرْقَ بين ما له ظِلٌّ وما ليس له ظِلٌّ، وفي هذا المعنى من تحريم تصوير صورة الحيوان يقول صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ القِيَامَةِ المُصَوِّرُونَ »(1)، ويقول:« إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا الَّذِينَ يُضَاهُونَ بخَلْقِ اللهِ »(2)، ويقول صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قال الله تعالى:« وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي، فَلْيَخْلُقُوا حَبَّةً أَوْ ذَرَّةً »(3)، ويقول صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« مَنْ صَوَّرَ صُورَةً فِي الدُّنْيَا كُلِّفَ أَنْ يَنْفَخَ فِيهَا الرُّوحَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلَيْسَ بِنَافِخٍ »(4)، وإنما حُرِّمتِ الصورةُ لما فيها من ذريعةٍ للشرك ومضاهاةٍ لخلق الله تعالى.
أمَّا اقتناءُ المصوَّر الذي فيه صورة حيوان، فإن كان معظَّمًا كالمعلَّق على الجدران والثوب الملبوس ونحوه، ممَّا لا يدخله الامتهان، فحكمه كسابقه، أمَّا اقتناء المصوَّر الذي فيه صور الأحياء ممتهنةً كبساطٍ يُدَاسُ أو مخدَّة أو وسادة أو كانت آيلةً إلى الامتهان فليس بحرام؛ لأنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم استثنى من التصاوير ما كان «رَقْمًا فِي ثَوْبٍ »(5)، وهو يدلُّ على جواز اقتناء الممتهَن من الصور.
هذا، فإن كان عمله التجاري لخدمة مصلحةٍ عامَّةٍ لا تقوم إلاَّ بعرض صور عن كيفية استعمال الأجهزة المعروضة وهي من جنس المعلَّقات ممَّا لا يدخله الامتهان مع خُلُوِّها من مظاهر الفِتنة والموسيقى فإنه يجوز استعمالها بقدر ما دعت إليه الحاجة والضرورة إذا لم يجد له سبيلاً مخلِّصًا سواه، لقوله تعالى: ?وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ? [الأنعام: 119]، وفي القواعد «الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ المَحْظُورَاتِ وَتُقَدَّرُ بِقَدَرِهَا ».
ولأنه تصوير يُحتاج إليه وتقترن به فائدة ومصلحة متحقِّقَة مع انتفاء الضرر، فليست -والحال هذه- مصلحة بيع اللُّعب للبنات لتدريبهن من صغرهن على أمر بيوتهن وأولادهن أو تقصدا لتلهية الصبي بها من أجل تصويبه، أو لغرض آخر بأولى من هذه المصلحة العامة أو الحاجية، وقد ثبت من حديث عائشة رضي الله عنها أنها كانت تلعب بالبنات، فكان النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم يأتي لي بصواحبي يلعبن معي، وفي حديث الرُّبَيّع بنتِ مُعَوِّذٍ رضي الله عنها قالت: كنا نصوم بعد ونصوِّم صبياننا، ونجعل لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذاك حتى يكون عند الإفطار.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 1 ربيع الثاني 1429ه
الموافق ل: 07/04/2008م
__________
1- أخرجه البخاري في «صحيحه » كتاب اللباس، باب عذاب المصورين يوم القيامة: (5606)، ومسلم في «صحيحه » كتاب اللباس والزينة، باب تحريم تصوير صورة الحيوان ...: (5537)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
2- أخرجه البخاري في «صحيحه » كتاب اللباس، باب ما وطئ من التصاوير: (5610)، ومسلم في «صحيحه » كتاب اللباس والزينة، باب تحريم تصوير صورة الحيوان: (5520)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
3- أخرجه البخاري في «صحيحه » كتاب التوحيد، باب قول الله والله خلقكم وما تعملون: (7120)، وابن حبان في «صحيحه »: (5859)، وأحمد في «مسنده »: (7469)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
4- أخرجه البخاري «صحيحه » كتاب اللباس، باب من صور صورة كلف يوم القيامة أن ينفخ فيها: (5618)، ومسلم في «صحيحه »، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم تصوير صورة الحيوان: (5541)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
5- أخرجه البخاري في «صحيحه » كتاب اللباس ، باب من كره القعود على الصور: (5613)، ومسلم في «صحيحه » كتاب اللباس والزينة ، باب تحريم تصوير صورة الحيوان: (5640)، من حديث أبي طلحة رضي الله عنه.(18/78)