الفتوى رقم: 972
في حكم تبعيض الحج
السؤال:
هل يجوز التوكيل عن جزئيات الحج والعمرة، كأن يعتمرَ المتمتع عن نفسه ثمّ يحجَّ عن غيره، أو يطوف ويسعى عنه ونحو ذلك؟
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على مَن أرْسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فالحجُّ لا تتبعضُ مناسكُه، وهو عبادة لا تقبلُ التجزئةَ سواءً كانَ فرضًا أو نفلاً، فإذَا أحْرمَ بالحجِّ أو العمرةِ صارَ فرضًا كلٌّ منهمَا، ولوْ كانَ في حقِّهِ تطوعًا، لأنّ الشروعَ بالإحرامِ لنفْلِ الحجِّ أو العمرةِ هو بمثابةِ المنذورِ لقوله تعالى: ?ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ? [الحج: 29] وعليهِ فالأصلُ عدمُ جوازِ التوكيلِ بالقيامِ ببعضِ أعمالِ الحجِّ أو العمرةِ نيابةً عنِ الغيرِ إلاَّ ما اسْتثناهُ الدليلُ، كالنيابة في العباداتِ الماليةِ، ويؤكدُ هذا الحكمَ أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليهِ وآلهِ وسلَّم لم يرخِّصْ لأمِّ سلمةَ رضي الله عنهَا في التوكيلِ بالطوافِ لمّا اشتكَت لهُ علّتهَا فقال لها النبيُّ صلَّى الله عليهِ وآلهِ وسلَّم: «طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ» (1) فدلَّ على أنَّ الحجَّ أو العمرةَ لا تقْبلُ التجزئةَ بالنيابةِ.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانَا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمينَ، وصلَّى الله عَلَى محمَّدٍ وعلَى آلهِ وصحبهِ وإخوانِهِ إلى يومِ الدِّينِ وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 08 المحرم 1430ه
الموافق ل: 05 جانفي 2009م
__________
1- أخرجه البخاري كتاب الصلاة، باب إدخال البعير في المسجد للعلة: (452)، ومسلم كتاب الحج: (3078)، من حديث أم سلمة رضي الله عنها.(8/19)
الفتوى رقم: 978
في مقدار الوقوف بعرفة
السؤال:
ما هو المقدارُ الذي يتحقَّق به الوقوفُ بعرفة؟ وجزاكم اللهُ خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فالأُمَّةُ مُجمِعةٌ على أنَّ الحجَّ لا يتمُّ صحيحًا إلاَّ بالوقوفِ بعرفةَ، ودليلُ ركنيتهِ قولُه صَلََّى الله عَلَيهِ وآلهِ وَسلَّمَ: «الحَجُّ عَرَفَةُ»(1)، فمن أدْركَ عرفةَ فقد أدركَ الحجَّ، ويبدَأُ وقتُ الوقوفِ -عند الجمهور- من زوالِ الشمسِ يومَ عرفةَ؛ لأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليهِ وآلهِ وسلَّمَ أتَى الموقفَ بعدَ الزَّوالِ(2)، وكذلكَ فعلَ الخلفاءُ الراشدونَ ومَن بعدهُم، وبهذا القولِ ذهبَ الأئمةُ الثلاثةُ: أبو حنيفةَ ومالكٌ والشافعيُّ وهو اختيارُ ابنُ تيميةَ، وخالفَ في ذلكَ الحنابلةُ فإنَّ بدايةَ وقتِ الوقوفِ -عندهُم- من طلوعِ الفجرِ يومَ عرفةَ(3)
هذَا، ويمتدُّ وقتُ الوقوفِ -عند الجميع اتفاقًا- إلى طلوعِ الفجرِ يومِ النحرِ (أي: يومَ العيدِ)، لقولهِ صلَّى الله عليهِ وآلهِ وسلَّمَ لنفرٍ من أهلِ نجدٍ: «الحجُّ عَرَفَةُ، فَمَنْ جَاءَ قَبْلَ صَلاَةِ الفَجْرِ لَيْلَةَ جمعٍ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ»(4)، وفي روايةٍ: «الحجُّ عَرَفَةُ، مَنْ جَاءَ لَيْلَةَ جمعٍ قَبْلَ طُلُوعِ الفَجْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ الحَجَّ»(5).
فمن وقفَ بعرفةَ نهارًا وجبَ عليهِ البقاءُ إلى غروبِ الشمسِ لفعلهِ صلَّى الله عليهِ وآلهِ وسلّمَ كمَا وصفَه جابرُ بنُ عبدِ الله رضي الله عنهما قالَ: «فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتِ الشمْسُ، وَذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ قَلِيلاً حَتَّى غَابَ القُرْصُ، وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ خَلْفَهُ وَدَفَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ»(7)، فمنْ فعلَ ذلكَ فقد اتفقَ العلماءُ علَى صِحَّةِ فعلهِ وتمامِ حجِّهِ؛ لأنَّه جمعَ بينَ الليلِ والنهارِ علَى نحوِ فعلِه صلَّى الله عليهِ وآلهِ وسلَّمَ.
ومَنْ وقفَ نهارًا بعرفةَ بعدَ الزوالِ ودفعَ قبلَ الغروبِ ثمَّ عادَ نهارًا قبلَ غروبِ الشمسِ فلا شيءَ عليهِ، وحجُّهُ صحيحٌ؛ لأنَّه أتَى بالواجبِ.
أمَّا إن دفعَ قبلَ الغروبِ بعدَ وقوفهِ نهارًا بعرفةَ ولم يَعُدْ إليهَا حتى طلعَ الفجرُ يومَ النحرِ فقد خالفَ فعلَ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وآلهِ وسلَّمَ وسُنَّتَه، لكن حجُّهُ -على أرجح أقوال العلماء- صحيحٌ وليسَ عليهِ دمٌ، لحديثِ عروةَ بنِ مُضَرِّس الطائي، قالَ: «أتيت النبيَّ صلَّى الله عَليهِ وآلهِ وسلَّمَ بالموقفِ يعني: بجمعٍ، قُلت: جئتُ يَا رسولَ اللهِ من جبلِ طيءٍ، أكللتُ مطيتي وأتعبتُ نفسي، والله ما تركتُ من جبلٍ إلاَّ وقفتُ عليهِ فهل لي من حجٍّ؟ فقال رسول الله صلّى الله عليهِ وآلهِ وسلّمَ: مَنْ أَدْرَكَ مَعَنَا هَذِهِ الصلاَةَ وَأَتَى عَرَفَاتٍ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ»(8)، ولا شكَّ أنَّ تمامَ الشيءِ لا يحتاجُ إلى جبرِ الدمِ.
ومن بابٍ أولى في صِحَّةِ الحجِّ وتمامهِ إن وقفَ نهارًا بعرفةَ ودفعَ قبلَ الغروبِ وعادَ إليهَا بعدَ الغروبِ أو قبلَهُ.
أمَّا إن وقفَ ليلاً دونَ النهارِ فحجُّه صحيحٌ -أيضًا- ولا شيءَ عليهِ وهو مذهبُ جمهورِ العلماءِ خلافًا لمالكٍ الذي أوجبَ عليه الدمَ، ومذهبُ الجمهورِ أقوى لقوله صلَّى الله عليهِ وآلهِ وسلَّمَ: «فَمَنْ جَاءَ قَبْلَ صَلاَةِ الفَجْرِ لَيْلَةَ جَمْعٍ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ»(9)، وقد تقدَّم أنَّ لفظَ «التَّمَامِ» في الحديثِ يدلُّ علَى عدمِ الحاجةِ إلى جَبرٍ بِدمٍ.
أمَّا إذَا كانَ وقوفُه بعرفةَ قبلَ الزوالِ ثمَّ دفعَ منهَا ولم يعد إليهَا حتى طلعَ فجرُ يومِ النحرِ فلا يصحُّ حجُّه عندَ جمهورِ العلماءِ لعدمِ وقوعهِ في وقتهِ المحدَّدِ شرعًا، خلافًا للحنابلةِ؛ لأنَّ بدايةَ وقتِ الوقوفِ -عندهم- من فجرِ يومِ عرفةَ فيصحُّ حجُّه ويوجبونَ عليهِ دمًا، ومذهبُ الجمهورِ أقوى لفعلهِ صلَّى الله عليهِ وآلهِ وسلَّمَ -كما تقدَّم ذكره- والعملُ بهِ أحوطُ.
أَمَّا إذَا طلَعَ فجرُ يومِ النحرِ قبلَ أَنْ يقفَ بعرفةَ فقد فاتَه الحجُّ قولاً واحدًا لأهل العلم لا يختلفون فيه.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 22 المحرم 1430ه
الموافق ل: 19 جانفي 2009م
__________
1- أخرجه أبو داود كتاب «المناسك»، باب من لم يدرك عرفة: (1949)، والترمذي كتاب «الحج» باب ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج: (889)، والنسائي كتاب «مناسك الحج»، باب فرض الوقوف بعرفة: (3016)، وابن ماجه كتاب «المناسك»، باب من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع: (3015)، وأحمد (18297)، من حديث عبد الرحمن بن يعمر الدِّيليِّ رضي الله عنه. والحديث صححه ابن الملقن في «البدر المنير»: (6/230)، والألباني في «الإرواء»: (4/256).
2- انظر: حديث جابر رضي الله عنه: أخرجه مسلم كتاب «الحج»: (2950)، وبوّب له النووي بقوله: باب حجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
3- المغني لابن قدامة: (3/415).
4- سبق تخريجه: وهذا اللفظ لأبي داود باب من لم يدرك عرفة: (1949)، وابن ماجه، باب من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع: (3015)، وأحمد (18297).
5- سبق تخريجه: وهذا اللفظ للترمذي، باب ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج: (889)، والنسائي، باب فرض الوقوف بعرفة: (3016).
6- المغني لابن قدامة: (3/415).
7- سبق تخريجه.
8- أخرجه أبو داود كتاب «المناسك»، باب من لم يدرك عرفة: (1950)، والنسائي كتاب « مناسك الحج» باب فيمن لم يدرك صلاة الصبح مع الإمام بالمزدلفة: (3044)، وأحمد: (17836)، من حديث عروة بن مضرِّس الطائي رضي الله عنه. والحديث صححه ابن الملقن في «البدر المنير»: (6/240)، والدارقطني والحاكم وأبو بكر بن العربي كما في «التلخيص الحبير» لابن حجر: (2/520)، والألباني في «الإرواء»: (4/259)، والواعي في «الصحيح المسند»: (940).
9- سبق تخريجه.(8/20)
الفتوى رقم: 979
في ترك المتمتع تقصير شعره ناسيًا
السؤال:
مَاذَا يَجبُ على المتمتِّع الذي لم يُقصِّر من شعرِه ناسيًا حتى باشَرَ أعمالَ الحجِّ؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالحلقُ والتقصيرُ عبادتَانِ ونُسكانِ من مناسكِ الحجِّ والعمرةِ، وحكمُهما الوجوبُ عندَ الأئمةِ الثلاثةِ خلافًا للشافعيِّ القائلِ بالركنيةِ، ويؤيِّدُ قولَ الجمهورِ حديثُ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما قال: «لمَا قَدِمَ النَّبيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ مَكَةَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَطُوفُوا بِالبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالمرْوَةَ، ثمّ يحِلُّوا وَيَحْلِقُوا أَو يُقَصِّرُوا»(1). والأمر يفيدُ الوجوبَ، وقدْ كانَ ذلكَ من فعلهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ وقدْ قالَ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»(2)، وفَعَلَه أصحابُه الكرامُ في حجِّهمْ وعُمَرهمْ، عَلَى وجهِ الاستمرارِ، ولو لم يكنْ نُسكًا واجبًا وعبادةً مَا داومُوا عليهِ.
وعليهِ فالمتمتعُ إن تركَ التقصيرَ أو الحلقَ في عمرتِه ناسيًا، وتذكرَ قبلَ فواتِ الأوانِ أو قبلَ مباشرتِه لأعمالِ الحجِّ، فإنَّهُ يعودُ إلى لباسِ الإحرامِ -إنْ كانَ رجلاً- ليقصِّرَ شعرهُ وهو محرِمٌ، وعمرتُه صحيحةٌ ولا شيءَ عليهِ، وما فَعلَه منْ محظوراتِ الإحرامِ من لباسٍ وطيبٍ وغيرِها فلا تأثيرَ لها عَلَى صحةِ النسكِ بسببِ النسيانِ.
أمَّا إنْ فاتَهُ تقصيرُ شعرهِ بالدخولِ في أعمالِ الحجِّ فإنَّه يُصَحِّحُ عمرتَه بفديةٍ يذبحهَا في مكةَ ويوزِّعها على فقرائها، لأنَّهُ واجبٌ يُجبَرُ بدمٍ.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 6 صفر 1430هـ
الموفق لـ: 01 فبراير 2009م
__________
1- أخرجه البخاري كتاب الحج، باب تقصير المتمتع بعد العمرة: (1644)، من ابن عباس رضي الله عنهما.
2- أخرجه مسلم كتاب «الحج»: (3137)، وأبو داود كتاب «المناسك»، باب في رمي الجمار: (1972)، والنسائي كتاب «مناسك الحج»، باب الركوب إلى الجمار واستظلال المحرم: (3062)، وأحمد: (147093)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.(8/21)
02- الإحرام
الفتوى رقم: 139
أحكام الإحرام من الميقات
السؤال: أكثر الحجاج الجزائريين لا يحرمون من الطائرة وإنّما يحرمون من ميقات المدينة، فهل يجزئهم ذلك، وما الذي يترتب على من تجاوز الميقات؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
ففي مسألة مواقيت الحج المكانية للإحرام يجدر التنبيه على مواضع مجمع عليها بين العلماء سواء قبل الميقات أو بعده وسواء لمن يريد الحج والعمرة ولمن لا يريدهما.
- فإذا أحرم قبل الميقات فلا خلاف بين أهل العلم أنّه مُحرِم تثبت في حقه أحكام الإحرام(1)، ولكن الخلاف في مكان الأفضلية، والصحيح من قولي العلماء أنّ الأفضل الإحرام من الميقات ويكره قبله وبهذا قال مالك والحنابلة وبعض الشافعية خلافا لأبي حنيفة(2).
- أمّا إذا جاوز الميقات سواء عالما أو جاهلا، وهو يريد الحج والعمرة ولم يحرم فلا خلاف بين أهل العلم-أيضا- أنّه إذا رجع إلى الميقات فأحرم منه فلا شيء عليه(3)، وإنّما الخلاف فيمن جاوز الميقات وأحرم دونه والصحيح من قولي العلماء أنّ عليه دما-أي فدية ذبح شاة- سواء رجع إلى الميقات أو لم يرجع(4).
- أمّا إذا جاوز الميقات لحاجة يريد قضاءها وهو لا ينوي حجا ولا عمرة فالعلماء لا يختلفون في أنّه لا يلزمه الإحرام ولا يترتب على تركه للإحرام شيء، لكن لو طرأ عليه التفكير في الحج أو العمرة، ثمّ عزم على تنفيذ ما عزم عليه، فإنّه لا يشترط عليه الرجوع إلى الميقات بل يحرم من موضعه ولو كان دون الميقات ولا شيء عليه وهو أرجح قولي العلماء وبه قال مالك والشافعي وصاحبا أبي حنيفة رحمهم الله(5).
وبناء على ما تقدم، فلا يجوز لهؤلاء الحجاج القادمين من الجزائر أن يجاوزوا الميقات وهم يريدون الحج أو العمرة إلاّ محرمين(6)، ولكن إن لم يحرموا بعد مجاوزة الميقات ورجعوا إلى ميقاتهم أو ميقات آخر فأحرموا منه فلا يلزمهم من أمر الفدية شيء وكان الأولى أن يحرموا في الطائرة من ميقات الجحفة الذي يمرون به لقوله صلى الله عليه وسلم" هنّ لهنّ ولمن أتى عليهنّ ممّن أراد الحج أو العمرة"(7).
الله أعلم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 9 ذي القعدة 1425هـ
الموافق لـ: 21 ديسمبر 2004 م
__________
1- الإجماع لابن المنذر: (41)، والمغني لابن قدامة: (3/264).
2- المغني لابن قدامة: (3/264 (، المجموع للنووي: (7/198)، الكافي لابن عبد البر:(1/380)، الإشراف للقاضي عبد الوهاب: (1/470)
3- المغني لابن قدامة: (3/266).
4- وهو مذهب المالكية والحنابلة، انظر: المدونة لابن القاسم: (1/372)، الإشراف للقاضي عبد الوهاب: (1/470)، الإنصاف للمرداوي: (3/229)، خلافا لمذهب أبي حنيفة والشافعي، انظر المجموع للنووي: (7/208).
5- المغني لابن قدامة: (3/267).
6- ذكر النووي الإجماع على تحريم مجاوزة الآفاقي الميقات وهو يريد الحج أو العمرة غير محرم، المجموع للنووي: (7/206).
7- أخرجه البخاري في الحج: (1524)، ومسلم في الحج: (2860)، وأبو داود في المناسك: (1740) والنسائي في مناسك الحج: (2666)، وأحمد: (2279)، والدارمي في سننه: (1846)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.(8/22)
الفتوى رقم: 145
ما يلبس المحرم إذا لم يجد لباس الإحرام.
السؤال: ما حكم من اعتمر أو حج من غير لباس الإحرام؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فإنّ المحرم الذي وجد الإزار والرداء لا يجوز له لبس المخيط -وهو ما كان مفصلا على قدر عضو البدن- فلا يلبس القُمُص ولا السراويل ولا العمائم ولا الخفاف ولا الجوارب لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: أنّ رجلا قال: يا رسول الله ما يلبس المحرم من الثياب؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لا يلبس القُمُص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرنس ولا الخفاف إلاّ أحد لم يجد نعلين فليلبس خفين وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا تلبسوا من الثياب شيئا مسّه زعفران أو ورس"(1)، ومن خالف تلزمه الفدية.
أمّا من لم يجد إلاّ السراويل والخفين أو تعذر عليه لبس الإزار والرداء لوجودهما ضمن متاعه وعفشه في الطائرة أرسلهما سهوا ونسيانا ومرّ على الميقات فأحرم بدونهما صحّ إحرامه ولا يلزمه شيء ويكفيه أن يلبس ما وجده ولا يجب عليه أن يشق السراويل فيتزر بها -كما هو رأي الأحناف- لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات فقال:" من لم يجد الإزار فليلبس السراويل، ومن لم يجد النعلين فليلبس الخفين"(2)، والحديث صريح في الجواز ولو لزمه شيء لبيّنه لأنّه في معرض البيان، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز كما هو مقرر في علم الأصول.
والعلم عند الله وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
الجزائر في:15ذي القعدة1425هـ
الموافق لـ: 27ديسمبر 2004م
__________
1- أخرجه البخاري في الحج(1542)، ومسلم في الحج(2848)، والترمذي في الحج(842)، والنسائي في مناسك الحج(2681)، وابن ماجة في المناسك(3041)، ومالك في الموطأ(715)، وأحمد(5286)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
2- أخرجه البخاري في جزاء الصيد(1843)، ومسلم في الحج(2851)، والترمذي في الحج(843)، والنسائي في اللباس(5342)، وأحمد(1876)، والدارقطني في سننه(2493)، والبيهقي(9331)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.(8/23)
الفتوى رقم: 189
في أفضلية أنواع الإحرام في الحج
السؤال: ما هو النسك الأولى بالعمل من الأنساك الثلاثة؟ وهل صحيح أنّ الإفراد الذي هو النسك المفضل عند مالك وظاهر مذهب الشافعي أنّ من أفرد به يجب عليه أن يفسخه؟ أفيدونا جزاكم الله خيرا.
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فالمعلوم أنّ الحج له كيفيات ثلاث وهي: الإفراد وهو أن يهل الحاج بالحج فقط عند إحرامه، والقران: وهو أن يهل بالحج والعمرة معا، والتمتع: وهو أن يهل الحاج بالعمرة فقط في أشهر الحج ثمّ يحرم بالحج ويأتي بأعماله في نفس العام، والقارن والمتمتع يجب عليهما الهدي بالإجماع.
فهذه الأنواع الثلاثة كانت جائزة ابتداء في زمن النبي صلى الله عليه وسلم حيث خيرهم فيها على ما ثبت في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت:"خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل، ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل"(1) الحديث.
ثمّ بعد هذا التخيير ندب من لم يسق الهدي إلى نسك التمتع دون أن يفرضه عليهم فقالت عائشة رضي الله عنها:"فنزلنا سرِف[وهو موضع قريب من التنعيم] فخرج إلى أصحابه فقال:«من لم يكن منكم أهدى، فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل، ومن كان معه الهدي فلا » قالت: فالآخذ بها والتارك لها من أصحابه"(2)، وعند ابن عباس رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما وصل إلى ذي طوى[موضع قريب من مكة] وبات بها، فلمّا أصبح قال لهم:«من شاء أن يجعلها عمرة فليجعلها عمرة »(3).
ثمّ أمر من لم يسق الهدي منهم بأن يفسخوا الحج إلى عمرة وفرض عليهم أن يتحللوا، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما"فأمرهم أن يجعلوها عمرة، فتعاظم ذلك عندهم، فقالوا: يا رسول الله أيّ الحلّ؟ قال: الحلّ كلّه"(4)، وفي رواية عائشة رضي الله عنها قالت:"خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نرى إلاّ الحج، فلمّا قدمنا مكة تطوفنا بالبيت، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يسق الهدي أن يحل قالت: فحلّ من لم يكن ساق الهدي، ونساؤه لم يسقن الهدي فأحللن... "(5)، ولا يدل تحتيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بفسخ الحج إلى العمرة وعزمه عليهم بها، وتعاظم ذلك عندهم إلاّ الوجوب، فضلا عن غضبه صلى الله عليه وآله وسلم لما راجعوه وتراخوا عن العمل بالمأمور به، ولا يكون الغضب إلاّ من أمر واجب العمل والتطبيق، وقد ورد من حديث عائشة رضي الله عنها:"فدخل عليّ وهو غضبان، فقلت من أغضبك يا رسول الله أدخله الله النار" فقال:«أو ما شعرت أنّي أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون... »(6).
وهذا ليس خاصا بهم لأنّهم لما سألوه عن الفسخ الذي أمرهم به:"ألعامنا هذا، أم لأبد الأبد؟"، فشبك صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى وقال:« دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة، لا بل لأبد أبد، لا بل لأبد أبد »(7). وليس أمره صلى الله عليه وآله وسلم بفسخ الحج إلى العمرة لبيان جواز العمرة في أشهر الحج، لأنّ ذلك البيان وقع منه صلى الله عليه وآله وسلم قبل ذلك حيث اعتمر ثلاث عمر، كلها في أشهر الحج، ولو سلم أنّ الأمر بالفسخ لهذه العلة، فما فعله صلى الله عليه وآله وسلم مخالفة لأهل الشرك مشروع إلى يوم القيامة. ولذلك يذهب بعض أهل العلم إلى وجوب التمتع على من لم يسق الهدي، وأنّه إذا طاف وسعى فقد حلّ شاء أم أبى وهو مذهب ابن عباس وأبي موسى الأشعري وهو مذهب ابن حزم(8) وابن القيم(9) وغيرهما. والمسالة خلافية والجمهور على جواز الأنساك الثلاثة.
غير أنّ صفة الإفراد المعروفة بأن يحرم بالحج ثمّ بعد الفراغ يخرج إلى أدنى الحل فيحرم منه بالعمرة فهذا الإفراد لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من الصحابة الذين حجوا معه، بل ولا غيرهم-كما نصّ عليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله- فمثل هذه الصفة لا تكون أفضل ممّا فعلوه معهم، وإنّما المقصود بالإفراد الذي فعله الخلفاء الراشدون[أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم]، وهو أن يفرد الحج بسفرة، والعمرة بسفرة، وهو أفضل من القران والتمتع الخاص بسفرة واحدة لقوله صلى الله عليه وآله وسلم لعائشة لما قالت:يا رسول الله يصدر النّاس بنسكين وأصدر بنسك؟فقال:«فإذا طهرت فاخرجي إلى التنعيم فأهلي ثمّ ائتينا بمكان كذا، ولكنّها على قدر نفقتك أو نصبك »(10)، فهذا هو أفضل الأنواع بالنظر للصعوبة والمشقة المقترنة بتلك العبادة، وقد جاء عن عمر رضي الله عنه في قول الله:?وَأَتِمُّوا الحجَّ وَالعُمْرَةَ لِلَّهِ?[البقرة:196]"من تمامهما أن تفرد كلّ واحد منهما من الآخر، وتعتمر في غير أشهر الحج"(11)، وجاء عن علي رضي الله عنه أنّه قال في الآية:"من تمام الحج أن تحرم من دويرة أهلك"(12). فهذا الذي واظب عليه الخلفاء الراشدون فقد ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله:"افصلوا حجكم عن عمرتكم، فإنّه أتمّ لحجكم وأتمّ لعمرتكم"(13).
- فإن أراد أن يجمع بين النسكين(الحج والعمرة) بسفرة واحدة وقدم إلى مكة في أشهر الحج ولم يسق الهدي فالتمتع أفضل له، لأنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر أصحابه الذين حجوا معه أن يفسخوا الحج إلى عمرة ويتحللوا فنقلهم من الإفراد إلى التمتع ولا ينقلهم إلاّ إلى الأفضل، لأنّهم أفضل الأمّة بعده، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث جابر رضي الله عنه بعدما أمرهم أن يتحللوا من إحرامهم ويجعلوها متعة:«افعلوا ما أمرتكم به، فلولا أنّي سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم به »(14).
- أمّا إذا أراد أن يجمع بين النسكين بسفرة واحدة ويسوق الهدي فالقران أفضل، لأنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ساق الهدي وقرن وفِعله أفضل اقتداء به صلى الله عليه وآله وسلم، لأنّ الله اختار له الأفضل، وخير الهدي هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثمّ إنّ هدي القارن من الحل أفضل باتفاق ممّن يشتريه من الحرم، وهذا الترتيب في الأفضلية من أنّ الإفراد أفضل إذا أفرد الحج بسفرة والعمرة بسفرة، أمّا إذا كان بسفرة واحدة فالقران أفضل لمن ساق الهدي، وإن لم يسق الهدي فالتمتع أفضل، وهو تفصيل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وفيه تجتمع الأدلة ويزول الاضطراب بين الفقهاء، فقدم أفضل النسك باعتبار المشقة والصعوبة ثمّ بحسب سوق الهدي من عدمه فلكل واحد أفضليته في موضعه ومناسبته، ولا يعترض عليه بقوله صلى الله عليه وسلم:«لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة »(15)، على أفضلية التمتع لأنّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يقل:"لتمتعت مع سوق الهدي" وإنّما غاية ما يدل عليه أنّه لو كان ذلك هو وقت إحرامه لكان أحرم بعمرة ولم يسق الهدي وهو لا يختار أن ينتقل من الأفضل إلى المفضول وخاصّة وقد ساق صلى الله عليه وسلم مائة بدنة مع ما فيه من تعظيم شعائر الله أفضل في نفسه بمجرد التحلل والإحرام، فالسنة-إذن- جاءت بتفضيل كلّ بحسبه ومناسبته وموضعه على ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية(16).
والله أعلم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
الجزائر في:23صفر 1426هـ
الموافق لـ:02أفريل2005م
__________
1- أخرجه مسلم في الحج(2971)، وأبو داود في المناسك (1780)، والنسائي في مناسك الحج(2729)، والحميدي في مسنده(213)، والبيهقي(9046)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
2- أخرجه البخاري في الحج(1560)، ومسلم في الحج(2980)،وأبو داود في المناسك(1784)، وأحمد(26589)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
3- أخرجه مسلم في الحج(3069)، والبيهقي(9074)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
4- أخرجه البخاري في مناقب الأنصار(3832)، ومسلم في الحج(3068)، والنسائي في مناسك الحج(2825)، وأحمد(2314)، والبيهقي(8994)، من حديث ابن عباس رضي الله عنه.
5- أخرجه البخاري في الحج(1561)، ومسلم في الحج(2988)، والنسائي في مناسك الحج(2815)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
6- أخرجه مسلم في الحج(2990)، وأحمد(26167)، والبيهقي(9125)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
7- أخرجه ابن ماجة في المناسك(3094)، من حديث جابر رضي الله عنه. وصححه الألباني في حجة النبي صلى الله عليه وسلم(ص:14)
8- المحلى لابن حزم:(7/99).
9- زاد المعاد لابن القيم:(2/114).
10- أخرجه البخاري في العمرة(1787)، ومسلم في الحج(2986)، وأحمد(24888)، والبيهقي(8910)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
11- انظر تفسير ابن كثير:(1/230).
12- أخرجه البيهقي(8967) موقوفا عن علي رضي الله عنه، وأخرجه كذلك (8965) عن أبي هريرة مرفوعا، ولا يصح. قال الألباني في السلسلة الضعيفة(1/376) رقم:(210):"وقد رواه البيهقي من طريق عبد الله بن سلمة المرادي عن علي موقوفا ورجاله ثقات، إلاّ أنّ المرادي هذا كان تغير حفظه. وعلى كلّ حال، هذا أصح من المرفوع".
13- أخرجه مالك(772)، والبيهقي(14554).
14- أخرجه البخاري في الحج(1568)، ومسلم في الحج(3004)، وأحمد(14608)، من حديث جابر رضي الله عنه.
15- أخرجه أبو داود في المناسك(1907)، والنسائي في مناسك الحج(2724)، وأحمد(14814)، والدارمي(1903)، من حديث جابر رضي الله عنه. وانظر:" حجة النبي صلى الله عليه وسلم" للألباني(ص:64).
16- المجموع لابن تيمية:(26/80 وما بعدها).(8/24)
الفتوى رقم: 689
في وقت مشروعية التحلّل الأصغر في الحج
السؤال:
بما يتحلّل المحرم التحلّل الأصغر من مناسك الحجّ؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالصحيحُ من مذاهبِ العلماء أنّ التحلّلَ الأصغرَ يحصل بمجرّد رمي جمرةِ العقبةِ ولو لم ينحر أو يحلّق، بمعنى أنه يحلّ للحاجّ برمي جمرة العقبة كلُّ محظورٍ من محظورات الإحرام إلاّ وطء النساء فلا يحلّ له ذلك بالإجماع، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« إِذَا رَمَى أَحَدُكُمْ جَمْرَةَ العَقَبَةِ فَقَدْ حَلَّ لَهُ كلُّ شَيْءٍ إِلاَّ النِّسَاءَ »(1)، ولقول عائشة رضي الله عنها:« طَيَّبْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِيَدَيَّ هَاتَيْنِ حِينَ أَحْرَمَ، وَلِحِلِّهِ حِينَ أَحَلَّ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ »(2)، فدلَّ حديثُها أنّ التحلّلَ الأوّلَ حصل بمجرّد الرميِ ولو لم يحصل معه حلقٌ؛ لأنها ذكرت في رواية أخرى مؤكّدة قولها:« حِينَ رَمَى جَمْرَةَ العَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالبَيْتِ »(3).
وهذا القول أخذ به كلُّ من: عائشة وابن الزبير رضي الله عنهم وطاوس وعلقمة وخارجة بن زيد بن ثابت كما ذكر ذلك ابن حزم(4) وهو ظاهر كلام الصنعاني.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 25 جمادى الأولى 1428ه
الموافق ل: 6 جوان 2007م
__________
1-أخرجه أبو داود في «المناسك »، باب في رمي الجمار: (1978)، من حديث عائشة رضي الله عنها. والحديث صححه الألباني في «السلسلة الصحيحة »: (239)، وانظر مختلف الروايات عن عائشة رضي الله عنها في «تلخيص الحبير »: (3/893)، «إرواء الغليل » للألباني: (4/236-240).
2- أخرجه البخاري في «الحج » باب الطيب عند رمي الجمار والحلق قبل الإفاضة (1667)، ومسلم في «الحج »، باب الطيب للمحرم عند الإحرام: (2825)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
3- أخرجه ابن خزيمة في «صحيحه »: (2583)، وأحمد: (25547)، والبيهقي: (9683)، من حديث عائشة رضي الله عنها. والحديث صححه البغوي في «شرح السنة »: (4/124)، والألباني في «الإرواء »: (4/238)، وفي «السلسلة الصحيحة »: (1/480).
4- «المحلى » لابن حزم: (7/139)، وانظر:« ما صح من آثار الصحابة في الفقه » لقادر الباكستاني: (2/836-837-838).(8/25)
الفتوى رقم: 699
في رجوع الحاج بعد التحلُّل الأصغر محرمًا إذا أمسى ولم يطف
السؤال:
إذا أمسى الحاجُّ في يوم النحر ولم يَطُفْ طوافَ الإفاضة بعد التحلُّل الأصغر فهل يلزمه إعادةُ لُبسِ لباسِ الإحرام؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فهذه المسألةُ ترجع إلى الحكم على ما أخرجه أبو داودَ وأحمدُ وغيرُهما من حديث أمِّ سلمةَ رضي الله عنها عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قال:« إِنَّ هَذَا يَوْمٌ رُخِّصَ لَكُمْ إِذَا أَنْتُمْ رَمَيْتُمُ الجَمْرَةَ أَنْ تُحِلُّوا مِنْ كُلِّ مَا حُرِمْتُمْ مِنْهُ إِلاَّ النِّسَاءَ، فَإِذَا أَمْسَيْتُمْ قَبْلَ أَنْ تَطُوفُوا هَذَا البَيْتَ صِرْتُمْ حُرُمًا كَهَيْئَتِكُمْ قَبْلَ أَنْ تَرْمُوا الجَمْرَةَ، قَبْلَ أَنْ تَطُوفُوا بِهِ »(1).
فمن صحَّ عنده الحديثُ عمل بمقتضاه وألزم مَنْ تحلّل التحلّل الأوّل يوم النحر ولم يطف قبل غروب الشمس أن يعود للإحرام بناءً على فحوى الحديث، ومن اعتبر الحديثَ شاذًّا مخالفًا للأحاديث الصحيحة، فضلاً عن ترك الأمّة للعمل به لم يُلزِمْهُ بالعَودِ إلى الإحرام، قال البيهقي:« لا أعلم أحدًا من الفقهاء قال بهذا الحديث »(2)، وقال بدر الدين العيني:« هذا شاذٌّ، أجمعوا على ترك العمل به، وقال المحب الطبري: وهذا حكم لا أعلم أحدًا قال به، وإذا كان كذلك فهو منسوخ، والإجماع -وإن كان لا ينسخ- فهو يدلّ على وجود ناسخ، وإن لم يظهر »(3).
هذا، وقد قَوَّى الحديثَ جمعٌ من العلماء، قال ابنُ القيم في «حاشيته على سنن أبي داود »:« وهذا يدلّ على أنّ الحديث محفوظٌ فإنّ أبا عبيدة رواه عن أبيه وعن أمِّه وعن أمِّ قيس »(4)، وسكت عنه الحافظ في «التلخيص »(5)، والحديث قال عنه الألباني: حسن صحيح(6)، وقد وجد له طريقًا أخرى يرتقي بها إلى درجة الصحّة(7)، وإذا ثبت الحديث كان أصلاً قائمًا بنفسه ولا تردّه الأصول، والأصول لا يُضرَبُ بعضُها ببعضٍ، بل الواجب اتباعها كلّها، ويقرّ على كلّ منها على أصله وموضعه، فهي كلها من عند الله الذي أتقن شَرْعَه وخلقَه، وما نقل عن العلماء بعدم علمهم بأحد قال به؛ فإنّ القاعدة تقضي «بِأَنَّ عَدَمَ العِلْمِ بِالشَّيْءِ لاَ يَسْتَلْزِمُ العِلْمَ بِعَدَمِهِ »، ومع ذلك فقد عمل به راوي الحديث، ونقل ابنُ حزم أنه مذهب عروة بنِ الزبير التابعيِّ الجليلِ.
وعليه، فإذا صحّ الحديث كان حجّةً بنفسه، ووجب العمل بمقتضاه، وهو أنه إذا أمسى الحاجُّ بعد تحلُّله الأصغرِ ولم يطفْ عادَ محرمًا كما كان قبل الرمي.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 23 جمادى الأولى 1428ه
الموافق ل: 80 جوان 2007م
__________
1- أخرجه أبو داود في «المناسك »، باب الإفاضة في الحج: (1999)، وابن خزيمة في «صحيحه »: (2958)، والحاكم في «المستدرك »: (1800)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (9689)، وصححه النووي في «المجموع »: (8/234)، والألباني في «صحيح الجامع »: (2258).
2- «التلخيص الحبير » لابن حجر: (2/260).
3- «عمدة القاري » للعيني: (10/69).
4- «تهذيب السنن » لابن القيم: (5/335).
5- المصدر السابق.
6- «صحيح أبي داود »: للألباني، حديث رقم: (1999).
7- في «مناسك الحج »: (33).(8/26)
الفتوى رقم: 718
في حكم لبس التبان للمُحرِم الذي به سلس البول
السؤال:
ما حكم لبس التبان للمُحْرِمِ الذي به سَلَسُ البول؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فلا خلافَ في أنّ المُحْرِمَ ليس له أن يَستُرَ بدنَه أو عُضوًا من أعضائه بما صُنِعَ على قدره كالقميص للبدن والسراويل لبعض البدن، والقُفَّازين لليدين، والخُفَّين للرجلين ونحوِ ذلك، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنّ رجلاً قال: يَا رَسُولَ اللهِ مَا يَلْبَسُ المُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ؟ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: لاَ يَلْبَسُ القُمُصَ، وَلاَ العَمَائِمَ، وَلاَ السَّرَاوِيلاَتِ، وَلاَ البَرَانِسَ، وَلاَ الخِفَافَ… »(1).
والمُحْرِمُ الذي يخشى أن يُصِيبَ ملابسَ إحرامِهِ بنجاسةِ البولِ لِمَرضِهِ فإنه لا يجوز له أن يرتديَ تُبَّانًا تحت إحرامِه ما دام أنه يجوز له أن يخلع إزارَه ويغسلَ المكانَ الذي يظنُّ وقوعَ النجاسةِ فيه، علمًا أنّ ارتداءَ التُّبَّانِ لا يمنع -أيضًا- من نزول البول عليه.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 24 ربيع الثاني 1428ه
الموافق ل: 12 ماي 2007م
__________
1- أخرجه البخاري في «الحج »، باب ما لا يلبس المحرم من الثياب: (1468)، ومسلم في «الحج »، باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة: (2791)، والنسائي في «مناسك الحج »، باب النهي عن لبس القميص للمحرم: (2669)، وابن ماجه في «المناسك »: (2929)، وأحمد: (4524)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.(8/27)
الفتوى رقم: 837
فيما يلزم المحرم للتحلل الأكبر
السؤال:
هل طوافُ الإفاضة يتحلَّل به الحاج التحلُّل الأكبر، أم يلزمه نسكٌ آخرُ؟ وجزاكم الله خيرًا .
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالذي اتفق عليه جمهورُ العلماء أنَّ على المُحْرِمِ تَحَلُّلَين:
- التحلُّل الأَوَّل: هو أن يُباح للمحرِم جميعُ ما حَظُر عليه بالإحرام إلاَّ النِّساء وما يتعلَّق بهنَّ من الوطءِ والقُبلة واللمس بشهوةٍ، والمباشرةِ دون الفرج، وسائرِ حالات الاستمتاعِ بهنَّ(1)، ففي الحديث قولُه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« إِنَّ هَذَا يَوْمٌ رُخِّصَ لَكُمْ فِيهِ إِذَا أَنْتُمْ رَمَيْتُمُ الجَمْرَةَ أَنْ تُحِلُّوا مِنْ كُلِّ مَا حُرِمْتُمْ مِنْهُ إِلاَّ النِّسَاء »(2).
وهذا التحلُّلُ إنما يحصل برمي جمرةِ العقبة على الأصحِّ -كما فصَّلته في فتوى سابقة- (3)، وهو مذهبُ مالكٍ، وروايةٌ عن أحمدَ وغيرِه، ويحصل التحلُّل الأوَّلُ عند غيرهم بالرمي والحلق أو الرمي والطواف، وهو مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة، ولا يخفى أنَّ التحلُّلَ الأولَ بضمِّ شيئين من ثلاثة أنه لا خلاف في حصوله عند الجميع؛ لأنَّ مَن قال بأنه يحصل بالرمي بمفرده أو بالحلق لوحده فمن بابٍ أَوْلَى أن يحصل بالرمي والحلق.
- والتحلل الثاني: أن يصير المُحْرِمُ حلالاً من جميعِ محظورات الإحرام مُطلقًا من غير استثناء، ويحصل هذا التحلُّلُ بما بقي له من نُسُكٍ، فإن تحلَّل بالرمي والحلق في التحلُّل الأصغر، فإنَّ التحلل الأكبر يحصل بطواف الإفاضة(4- ويسمى بطواف الزيارة وطواف الفرض وطواف النساء يبحن بعده.).
ويكتفي القَارِنُ والمُفْرِدُ بطواف الإفاضة إذا سَعَى مع طواف القُدوم، فإن لم يسعَ في قدومه وجب عليه السعي لتحلُّله الأكبر، وكذا المتمتِّع الذي يسعى سَعْيَيْنِ لقدومه وللإفاضة.
هذا، ويسع المحرم أن يتحلَّل التحلُّل الأصغر والأكبر في اليوم العاشر، أي: يوم عيد الأضحى، قال ابن حزم:« واتفقوا على أنَّ مَن طاف طوافَ الإفاضةِ يومَ النَّحْرِ أو بعدَه، وكان قد أكمل مناسكَ حَجِّه، ورمى، فقد حل له الصيدُ والنساءُ، والطِّيبُ والمخيطُ، والنكاح والإنكاحُ، وكلُّ ما كان امتنع بالإحرام »(5).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 27 المحرم 1429ه
الموافق ل: 04/02/2008م
__________
1- عند المالكية يحصل برمي جمرة العقبة فيحل له كل شيء إلاّ النساء والصيد والطيب. [«التفريع » لابن الجلاب: (1/346)].
2- أخرجه أبو داود في «المناسك »، باب الإفاضة في الحج: (1999)، وابن خزيمة في «صحيحه »: (2958)، وأحمد في «مسنده »: (25991)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (9689)، من حديث أم سلمة رضي الله عنها، والحديث صححه النووي في «المجموع »: (8/234)، والألباني في «صحيح الجامع »: (2258). وفي «مناسك الحج »: (34).
3- الفتوى رقم: (699)، بعنوان:« في رجوع الحاج بعد التحلُّل الأصغر محرمًا إذا أمسى ولم يطف ».
4- ويسمى بطواف الزيارة وطواف الفرض وطواف النساء يبحن بعده.
5- «مراتب الإجماع » لابن حزم: (45).(8/28)
03- رمي الجمرات
الفتوى رقم: 170
في حكم تارك رمي الجمار في الحج
السؤال: امرأة حجت بيت الله الحرام وأثناء الرمي وقع زحام أدى إلى وفاة بعض الحجيج فاستغنت [هي] عن الرمي خوفا من الزحام والإذاية وأتمّت أركانها الباقية.
فما حكم حجها؟ وهل في ذمتها شيء؟ وهل يجوز الاستخلاف في الرمي؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فإنّ رمي الجمار في منى ليس بركن وإنّما حكمه الوجوب على أرجح أقوال أهل العلم وهو مذهب الجمهور ودليل وجوبه السنة القولية والفعلية، فقد ثبت من حديث جابر رضي الله عنه قال:" رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر ويقول: لتأخذوا عني مناسككم فإنّي لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه"(1) وفي رواية أخرى "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نرمي الجمار بمثل حصى ... في حجة الوداع"(2).
وعليه فإنّ ترك رمي الجمار في الحج يجبر بالدم، لأنّ ترك الواجبات في الحج تستوجب الدم لإرادة جبره، وكان عليها -حال أدائها للحج- عند العجز عن الرمي في الحال أن تؤخره إلى الليل أو ما بعده من أيام التشريق ولا شيء عليها على أرجح قولي العلماء وهو مذهب الشافعي وأحمد وأبي يوسف وغيرهم لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل يوم النحر بمنى فيقول:"لا حرج"، فسأله رجل فقال: حلقت قبل أن أذبح؟ قال:" اذبح ولا حرج" وقال: رميت بعد ما أمسيت؟ فقال:" لا حرج"(3) أن تستنيب غيرها، فلو استنابت لسقط عنها الإثم والدم، أمّا بعد انتهاء مدة الرمي في حجها فلا يسعها أن تستنيب، وتبقى ذمتها مشغولة بالدم، وحجها صحيح-إن شاء الله تعالى-.
والعلم عند الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
الجزائر في: 4 من ذي الحجة 1422هـ
الموافق لـ: 16 فيفري 2002 م
__________
1- أخرجه مسلم في «الحج »، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا: (3137)، وأبو داود في «المناسك »، باب في رمي الجمار: (1972)، والنسائي في «مناسك الحج »، باب الركوب إلى الجمار واستظلال المحرم: (3062)، وأحمد: (147093)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (9608)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
2- أخرجه الدارمي (1950)، من حديث عبد الرحمن بن عثمان التيمي رضي الله عنه.
3- أخرجه البخاري في الحج(1735)، وأبو داود في المناسك(1985)، من حديث ابن عباس رضس الله عنهما.(8/29)
الفتوى رقم: 197
وقت الإجزاء في رمي جمرة العقبة للقادرين والضعفة
السؤال: ما هو وقت الإجزاء في رمي جمرة العقبة؟ وهل للضعفة وغير القادرين ولمن كان في حكمهم-لمن دفع من مزدلفة بليل- رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فالسنة أن لا يرمي الحاج إلاّ بعد طلوع الشمس ضحى لما أخرجه البخاري من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما وفيه:"رمى النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر ضحى ورمى بعد ذلك بعد الزوال"(1) وأفعال النبي صلى الله عليه وسلم تحمل على الوجوب لمكان حديث:"خذوا عنّي مناسككم"(2) إلاّ إذا قام الدليل على صرفها عن الوجوب، ويقوي ذلك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أذن للضعفة من أهله بالخروج من مزدلفة ليلا إلى منى وأمرهم بأن لا يرموا الجمرة إلاّ بعد طلوع الشمس، كما صح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم ضعفاء أهله بغلس، ويأمرهم-يعني- لا يرمون الجمرة حتى تطلع الشمس"(3)، ذلك لأنّ وقت الرمي النهار دون الليل لذلك وصفت الأيام بالرمي دون الليل في قوله تعالى:?وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ?[البقرة:203]، قال الباجي-رحمه الله-:"فوصفت الأيام بأنّها معدودات للجمار المعدودات فيها، فلا يجوز الرمي بالليل، فمن رمى ليلا أعاد".
هذا وإذا كان حكم المبيت بمزدلفة والرمي بعد طلوع الشمس واجبا على الصحيح فإنّه غير واجب على الضعفة المرخص لهم تخلصا من الازدحام، لأنّ الأحاديث الواردة بالرمي قبل الفجر أو بعده قبل طلوع الشمس أفادت الرخصة للنساء ومن في معناهن، لما رواه البخاري ومسلم عن سالم أنّه قال:"وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقدم ضعفة أهله فيقفون عند المعشر الحرام بالمزدلفة بليل فيذكرون الله ما بدا لهم ثمّ يرجعون قبل أن يقف الإمام وقبل أن يدفع، فمنهم من يقدم منى لصلاة الفجر، ومنهم من يقدم بعد ذلك، فإن قدموا رموا الجمرة، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول:«أرخص في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلم »"(4)، وعن ابن عباس رضي الله عنهما:"أنّ النبي صلى الله عليه وسلم بعث به مع أهله إلى منى يوم النحر، فرموا الجمرة مع الفجر"(5)، وعن أسماء رضي الله عنها:"أنّها رمت الجمرة، قلت: إنّا رمينا الجمرة بليل؟ قالت: إنّا كنّا نصنع هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"(6)، ولأنّ القياس الصحيح يقتضيه لكونه وقتا للدفع من مزدلفة فكان وقتا للرمي كبعد طلوع الشمس، قال الشوكاني:"والأدلة تدلّ على أنّ وقت الرمي من بعد طلوع الشمس لمن كان لا رخصة له، ومن كان له رخصة كالنساء وغيرهن من الضعفة جاز قبل ذلك، ولكنّه لا يجزئ في أول ليلة النحر إجماعا"(7).
هذا، أمّا ظاهر التعارض بين حديث ابن عباس السابق وفيه:"فأمرهم أن لا يرموا حتى تطلع الشمس"، وعنه رضي الله عنهما قال:"قدّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة أُغيلمة بني عبد المطلب على جمرات، فجعل يلطخ أفخاذنا ويقول: أُبَيْنيّ، لاترموا الجمرة حتى تطلع الشمس"(8) بينه وبين الأحاديث المرخصة للرمي بليل قبل الفجر أو بعده قبل طلوع الشمس فقد جمع بينهما ابن القيم-رحمه الله- بحمل أول وقته للضعفة من طلوع الفجر، ولغيرهم بعد طلوع الشمس فيكون نهيه للصبيان عن رمي الجمرة حتى تطلع الشمس، لأنّه لا عذر لهم في تقديم الرمي، ورخص للنساء في الرمي قبل طلوع الشمس، كما في حديث ابن عمر وأسماء وغيرهما. أمّا ابن قدامة-رحمه الله- فحمل الأخبار المتقدمة على الاستحباب والأخرى على الجواز(9)، وبه تتوافق الأحاديث المتعارضة ظاهرا وتجتمع.
والعلم عند الله وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في:06ربيع الأول1426هـ
الموافق لـ: 15 أفريل 2005م
__________
1- أخرجه البخاري في الحج، باب رمي الجمار، ومسلم في الحج(3201)، وأبو داود في المناسك(1973)، والنسائي في مناسك الحج(3067)، والترمذي في الحج(903)، وابن ماجه في المناسك(3169)، وأحمد(14727)، والدارقطني في سننه(2713)، والبيهقي(9838)، من حديث جابر رضي الله عنه. قال ابن عبد البر:"أجمع العلماء على أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم إنّما رماها ضحى ذلك اليوم"(المغني لابن قدامة:3/428).
2- أخرجه مسلم في «الحج »، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا: (3137)، وأبو داود في «المناسك »، باب في رمي الجمار: (1972)، والنسائي في «مناسك الحج »، باب الركوب إلى الجمار واستظلال المحرم: (3062)، وأحمد: (147093)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (9608)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
3- أخرجه أبو داود في المناسك(1943)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وصححه الألباني في صحيح أبي داود(2/194).
4- أخرجه البخاري في الحج(1676)، ومسلم في الحج(3190)، والبيهقي(9783)، من حديث ابن عمر رضي الله عهما.
5- أخرجه أحمد(2993)، من حديث ابن عباس رضي الله عهما.
6- أخرجه أبو داود في المناسك(1945)، والبيهقي(9845)، من حديث أسماء رضي الله عنها. وصححه الألباني في صحيح أبي داود(2/195).
7- نيل الأوطار للشوكاني:(6/168).
8- أخرجه أبو داود في المناسك(1942)، والنسائي في مناسك الحج(3077)، وابن ماجه في المناسك(3140)، وأحمد(2115)، والحميدي في مسنده(493)، والبيهقي(9839)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وصححه الألباني في المشكاة(2613).
9- المغني لابن قدامة:(3/428).(8/30)
الفتوى رقم: 606
شروط صحة رمي الجمار
السؤال: تداول في محيط الحجيج أنّ للرمي شروطًا، فالرجاء من فضيلة شيخِنَا توضيح هذه الشروط بما تحصل به الطُّمَأنينة، وجزاكم الله خيرًا.
الجواب: الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فمِنَ الشروط الواجبة توافُرُها لصِحَّة الرَّمْيِ:
1 - أن يَقْصِدَ بالرمي الجمرةَ -وهي مجتمع الحصى، لا ما سال من الحصى- والجمار الثلاث حُوِّطت بأحواض وهي التي يجب أن تُقصَد بالرمي، فلو ألقى بحصاة فوقعت بعد الرمي في الجمرة من غير أن يقصد بالرمي إليها لم يُجْزِهِ، كما لا يجب في الرمي إصابة العمود الشاخص بالحصاة وإنما الواجب استقرار الحصاة في الحوض، فلو ارتدت الحصاة المضروبة في العمود وخرجت عن الحوض لم تجزه؛ لأن من شرط الحصى وقوعَه في المرمى فإن وقع دونه لم يجزه باتفاق.
2 - ولا يصحّ الرمي إلاّ بعد دخول وقته الشرعي.
3 - وعلى مذهب جمهور العلماء يشترط أن يكون المُرمى به حجرًا أي من جنس الأحجار كالرخام والمرمر(1) وما إلى ذلك، وعليه فلا يجزي الرمي بالنحاس والحديد والرصاص وغيرها من المعادن ولا بالتراب والطين والخَزَف والنُّوَرة إلاّ على رأي أبي حنيفة فإنه يجيز الرمي بكلّ ما كان من جنس الأرض.
4 - ويجب عليه أن يرمي الحصاةَ على وجه يسمى رميًا، ويباشر ذلك الرمي بيده فلو ترك الحصاة تنحدر في المرمى أو وضعها فيه من غير رمي لم يُجْزِه باتفاق، وكذلك إذا رماها بقوس أو مقلاع أو ركلها برجله لم يكن مباشرًا لها بيده فلا يسمى ذلك رميًا.
ولو شك في وقوع حصاة في المرمى بعد رميه فلا يجزه؛ لأنّ الأصل بقاء الرمي في ذمّته فلا يزول بالشكّ، وتَرَجُحُ ظنِّه بوقوعها فيه أجزأه.
5 - ولا يجزيه باتفاق أهل العلم أن يرميَ السبعَ الحصيات دفعة واحدة وإنما الواجب فيه أن يرميها واحدةً واحدةً.
6 - ولا يجزي رمي الجمرات إلاّ مرتبًا، فيرمي الجمرة الصغرى التي تلي مسجدَ الخيف ثمّ الوسطى ثم جمرةَ العقبة، فإن نَكَسَ ذلك فلا يجزيه ذلك، خلافًا لأبي حنيفة.
7 - ولا يجوز له أن يرميَ بحصى قد رُمي به وهو شرط عند المالكية والحنابلة وله أن يأخذ الحصى من حيث شاء، وما كان حول الجمار يجوز له أن يرمي به؛ لأن الأصل عدم حصول الرمي به بخلاف ما وقع في الحوض.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في 18 من ذي الحجة 1427ه
الموافق ل: 7 جانفي 2007م
__________
1- المرمر: نوع من الرخام صلب. (لسان العرب لابن منظور: 13/76).(8/31)
الفتوى رقم: 655
في استحباب رمي الجمرات عن موكله بعد الفراغ منه
السؤال:
هل يجبُ على من أنابَ عن شخصٍ آخرَ في رمي الجمرات أن يرميَ أَوَّلاً الجمراتِ الثلاثَ عن نفسه ثُمَّ يرمي الجمراتِ الثلاثَ عن مَن يُنيب عنه أم يمكنه رميُ كلِّ جمرةٍ عن نفسه ثمّ عن من ينيب عنه؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالأَوْلَى بالحاجِّ أن يُتِمَّ رَمِيَ الجمراتِ الثلاثِ عن نفسه أوّلاً ثمّ يرميَهَا عن مُوكِّله ثانيًّا؛ لأنّ مشروعية التوالي بين الجمرات الثلاثِ كمشروعية التوالي بين أشواط الطواف، فإنه كما لا يجوز أن يطوف عن غيره مع بقاء شيءٍ من طوافه إلاّ بعد إتمامه فكذلك رمي الجمرات الثلاث، وفي كليهما الموالاة غيرُ مشترطةٍ فيجوز الفَصْلُ بين أشواط الطواف والجمراتِ الثلاثِ، لكنهما كالشيء الواحد له أجزاء لا تتخلّل النيابةُ عن الغير أجزاءَه، ولولا أنه يعكّر على هذا التعليل كون رمي الجمرات في أماكنَ مختلفةٍ ظاهرٌ في التعدّد بخلاف الطواف للزم القول بالوجوب، لذلك كان الأَوْلَى بالحاجِّ ترتيبًا أن يبدأ برمي الجمراتِ الثلاثِ عن نفسه إلى آخرها ثمّ يعود للرمي عن غيره احتياطًا للدِّين وخروجًا من الخلاف، وبجواز الترتيب قال الحنفية والمالكية وغيرُهم(1).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 30 صفر 1428ه
الموافق ل: 19/03/2007م
__________
1- «فتح القدير » لابن الهمام: (2/498)، «مواهب الجليل » للحطاب: (3/135)، وللمالكية قول بالوجوب، [انظر:« المنتقى » للباجي: (3/50)].(8/32)
الفتوى رقم: 779
في حكم رمي الجمار قبل الزوال في أيام التشريق
السؤال:
ما حكم رمي الجمرات في أيَّام التشريق قبلَ الزوال، استنادًا إلى أَنَّه لم يثبت دليلٌ من الكتاب أو السُّنَّة أو الإجماع أو القياس في النهي عن الرمي قبل الزوال، واستنادًا إلى ما نقل عن بعض الصحابة والتابعين كابن عباس وطاوس في جواز الرمي قبل الزوال؟ أفتونا مأجورين.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالسُّنَّة الثابتةُ أنَّ رميَ الجِمارِ في غير يوم الأضحى إِنَّمَا يكون بعد الزوال وبه قال الجمهور؛ ذلك لأنّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّمَ حَجَّ في السَّنَة العاشرة، وأَلْزَمَ مَنْ معه بمتابعة هديه والأخذ عنه مناسكهم، ولم يرم الجمرات الثلاث في أيام التشريق إلاَّ بعد زوال الشمس، فقد أخرج مسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:« رَمَى رَسُولُ اللهِ الجَمْرَةَ يَوْمَ النَّحْرِ ضُحًى، وَأَمَّا بَعْدُ، فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ »(1)، وحكمُ أفعاله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم في الحجِّ الوجوبُ لتبعية فعلِهِ -من حيث البيانُ- لمجملِ قولِه:« خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ »(2)، فإنَّ النصَّ التشريعيَّ يأخذ حكمَ النصِّ المبيَّنِ؛ لأنَّ البيانَ لا يتعدَّى رتبةَ المبيِّنِ فهو كالتفسير مع المفسِّر، ويؤيِّدُه ما أخرجه البخاريُّ من حديث ابن عمرَ رضي الله عنهما أنّه سُئل عن الجمار متى ترمى؟ فقال:« كُنَّا نَتَحَيَّنُ فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ رَمَيْنَا »(3)، وروى مالكٌ في «الموطإ » عنه رضي الله عنهما أنّه كان يقول:« لاَ تُرْمَى الجِمَارُ فِي الأَيَّامِ الثَّلاَثَةِ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ »(4).
هذا، وقد خالف في المسألة عطاء وطاوس فقالاَ بجواز الرمي قبل الزوال مُطلقًا، ورخَّص أبو حنيفة في الرمي يوم النفر قبل الزوال، وخالفه صاحباه: أبو يوسف ومحمَّد بنُ الحسن، وذهب عكرمة وإسحاق وأحمد في رواية مثلَ مذهب أبي حنيفة. ووجه تقرير جوازِ الرمي قبل الزوال أيام التشريق مُطلقًا يظهر في استنادهم إلى المعقول من جهة أنَّ قبل الزوال وقت الرمي يوم النحر، فكذا في اليوم الثاني والثالث؛ لأنَّ الكُلَّ أيام النحر.
أمّا وجه رواية أبي حنيفة في جواز الرمي يوم النفر قبل الزوال فبما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّه قال:« إذَا انتفخ النهارُ من يومِ النَّفْرِ الآخِرِ، فقد حَلَّ الرَّمْيُ والصَّدَرُ »(5).
والأصحُّ ما ذهب إليه الجمهور، وأمَّا احتجاج الحنفية بما رواه البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما فلا يَقوى على النهوض، قال الزيلعي:« رواه البيهقي عنه: إذا انتفخ النهار من يوم النفر فقد حلَّ الرمي والصدر، انتهى. في مسند طلحة بن عمر، وضعفه البيهقي »(7)، وفساد اعتبار دليل المعقول ظاهر، إذ أنّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم كان يترقَّب الزوال ولم ينقل عنه أنَّه رمى قبله أو أول النهار مع أنَّه أيسر له ولأُمَّته، كما لم ينقل عنه أنَّه رخّص لأحد في وقته كما رخّص للضعفة في رمي جمرة العقبة، فدلَّ ذلك أنَّ وقت ما بعد الزوال جزء من الواجب يلتزم به المكلَّف حتمًا في وقته المعيَّن له شرعًا، وهو المعروف عند الأصوليِّين بالواجب المؤقَّت. قال ابن الهمام:« ولا شكَّ أنَّ المعتمَد في تعيين الوقت للرمي في الأول من أول النهار وفيما بعده من بعد الزوال ليس إلاَّ فعله كذلك، مع أنَّه غير معقول، ولا يدخل وقته قبل الوقت الذي فعله فيه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، كما لا يفعل في غير ذلك المكان الذي رمى فيه عليه الصلاة والسلام، وإنَّما رمى عليه الصلاة والسلام في الرابع بعد الزوال فلا يرمي قبله »(8).
هذا، وإذا تقرَّر رجحان مذهب الجمهور، فإنَّ من رمى الجمرات في أيام التشريق قبل الزوال فقد رمى في غير وقته المحدَّد له شرعًا، وما كان كذلك فهو مردود بقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسلم:« مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ »(9)، ولذلك وجب أن يعيد رمي الجمرات بعد الزوال ولو من الليل على أرجح القولين، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي، فإن تعذر عليه فله أن يرمي في اليوم الذي يليه، على أنَّه يبدأ برمي اليوم السابق المتخلَّف فيه الجمرات الثلاث كلّها، ثمّ يبدأ من الأول عن يومه الحالي، أمّا إن فاته وقت الرمي بغروب ثالث أيام التشريق: وهو اليوم الثالث عشر من ذي الحِجَّة رابع أيام النحر، فإنَّ الرمي قبل الزوال معدود في حكم ترك واجب الرمي، ويلزم من ترك واجبًا من واجبات الحجّ فدية شاة يذبحها في مكة يوزِّعها على الفقراء ولا يأخذ منها شيئًا؛ لأنّها بِمَنْزِلَةِ الكفَّارة، وبذلك يتمُّ حَجُّه صحيحًا إن شاء الله تعالى.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 13شعبان 1428ه
الموافق ل: 26 أوت 2007م
__________
1- أخرجه البخاري في صحيحه مُعلَّقًا كتاب «الحج »، باب رمي الجمار: (4/409)، وأخرجه موصولاً: مسلم في «الحج »، باب بيان وقت استحباب الرمي: (3141)، وأبو داود في «مناسك الحج »، باب في رمي الجمار: (1971)، والترمذي في «الحج »،باب ما جاء في رمي يوم النحر ضحى (894)، والنسائي في «مناسك الحج »، باب وقت رمي جمرة العقبة: (3063)، وأحمد: (14867)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
2- أخرجه مسلم في «الحج »، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبًا: (3137)، وأبو داود في «المناسك »، باب في رمي الجمار: (1972)، والنسائي في «مناسك الحج »، باب الركوب إلى الجمار واستظلال المحرم: (3062)، وأحمد: (147093)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (9608)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
3- أخرجه البخاري في «الحج »، باب رمي الجمار: (1659)، وأبو داود في «المناسك »، باب في رمي الجمار: (1972)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (9756)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
4- أخرجه مالك في «الموطإ » كتاب «الحج »، باب رمي الجمار، رقم: (918)، والأثر صححه زكريا بن غلام قادر الباكستاني في «ما صح من آثار الصحابة في الفقه »: (2/836).
5- أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى »، كتاب الحج، باب من غربت له الشمس يوم النفر الأول بمنى أقام حتى يرمي الجمرات (9785).
6- «بدائع الصنائع » للكاساني: (2/324).
7- «نصب الراية » للزيلعي: (3/85).
8- «مرقاة المفاتيح » للقاري: (5/513).
9- أخرجه مسلم في «الأقضية »، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور: (4493)، وأحمد: (25870)، والدارقطني في «سننه »: (4593)، من حديث عائشة رضي الله عنها.(8/33)
الفتوى رقم: 854
في حكم انصراف الأصيل من منى إذا وكَّل غيره في الرمي
السؤال:
هل يُشترطُ بقاءُ الأصيلِ إذا استُنِيبَ عنه في الرَّمْيِ، أم يجوز له الانصرافُ من مِنًى؟ وجزاكم اللهُ خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فيجوز لكلِّ من عَجَزَ عن الرمي بنفسه: ككبيرِ السنِّ والمريض والمرأةِ الحاملِ التي تخشى من شِدَّة الزحمة أن يستنيبَ غيرَه ويوكله عن الرمي عنه، فالنيابةُ في الرمي جائزة، ويرمي الوكيل عن موكله بعد أن يرمي عن نفسه، وعلى المستنيب أو الموكِّلِ البقاءُ في مِنًى وجوبًا حتى يرمي النائبُ أو الوكيلُ؛ لأنّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم لم ينفر من مِنًى إلاَّ بعد الرمي، وقد جاء عنه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ »(1)، غير أنه قد يُرخَّصُ لأهل الضرورة والأعذار النَّفْرُ لحالاتٍ مُستعجلةٍ، كالحامل التي أوشكت أن تضع مولودَها، والمريضِ الذي استفحلَ مرضُهُ ولم يوجد في مِنًى من يسعفُهُ وما إلى ذلك.
هذا، وحَرِيٌّ بالتنبيه أنه لا تصحُّ النيابةُ في الرمي على القادرين من الرِّجال والنِّساء والصِّبيان، وهم المعنيُّون أصالةً بالرمي عن أنفسهم سواء في فرض الحجِّ أو نفلِهِ لوجوب إتمام الحجِّ والعُمرة في قوله تعالى: ?وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ? [البقرة: 196]، أمَّا حديث جابرٍ بنِ عبدِ اللهِ رضي الله عنهما قال:« حَجَجْنَا مع رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم ومعنا النِّساءُ والصِّبيانُ ورمينا عنهم »(2)، فلا يصحُّ الاحتجاجُ به لضَعْفِهِ.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 17 صفر 1429ه
الموافق ل: 24/02/2008م
__________
1- أخرجه مسلم في «الحج »، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا: (3137)، وأبو داود في «المناسك »، باب في رمي الجمار: (1972)، والنسائي في «مناسك الحج »، باب الركوب إلى الجمار واستظلال
المحرم: (3062)، وأحمد: (147093)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (9608)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
2- أخرجه ابن ماجه في «المناسك »، باب الرمي عن الصبيان: (3038)، وأحمد في «مسنده »: (14410)، وابن أبي شيبة في «المصنف »: (13841)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (9495)، من حديث جابر رضي الله
عنه. وأخرجه الترمذي في «الحج »: (927) بلفظ:« كنا إذا حججنا مع النبيِّ فكنا نلبي عن النساء ونرمي عن الصبيان »، قال ابن حجر في «التلخيص الحبير » (2/548):« وفي إسنادهما [أي: ابن ماجه، وابن أبي شيبة]
أشعث بن سوار وهو ضعيف »، وضعفه الألباني في «حجة النبي »: (49)، وشعيب الأرناؤوط في «تحقيقه لمسند أحمد »: (3/314).(8/34)
04- الطواف والسعي
الفتوى رقم: 273
في تنكيس الصفا والمروة في السعي
السؤال: أدى رجل مناسك الحج منذ ثلاث سنوات تمتعا وفي العمرة بدأ السعي من المروة ظنا منه أنّها الصفا بناء على توجيه من مرافقه، فماذا عليه؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فالسعي بين الصفا والمروة ركن من أركان الحج على أرجح أقوال أهل العلم، والمعلوم من شروط السعي أن يكون من المسعى وأن يتم عدد أشواطه السبعة وأن يبدأ من الصفا وينتهي بالمروة، فلو نكّسه وبدأ بالمروة بدلا من الصفا فإنّ الشوط الأول لا يعتد به ولو ختم السابع بالصفا ألغى الشوط الأول وأضاف إليه الشوط السابع فإن لم يأت به فقد أخل بشرطية الأشواط السبعة ولا يصح سعيه إلاّ بها، والإخلال بأحد أركان الحج إخلال بالحج فلا يتم صحيحا.
هذا، وله إن شاء الله الأجر والثواب على سائر أعمال الحج التي قدمها على الوجه الشرعي وتبقى حجة الإسلام في ذمّته قائمة يأتي بها متى تيسر له ذلك.
والعلم عند الله وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 21 رجب 1426هـ
الموافق لـ : 26 أوت 2005 م(8/35)
الفتوى رقم: 423
في الوقت المشروع لالتزام الملتزم
السؤال: هل يكون التزام الملتزم عند الطواف، أو بعد الفراغ منه؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فإنه يشرع التزام الملتزم في الطواف بعد فراغه منه: أي من سبعة أشواط لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه قال:" طُفْتُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فَلَمَّا فَرَغْنَا مِنَ السَّبْعِ رَكَعْنَا فِي دُبُرِ الْكَعْبَةِ، فَقُلْتُ: أَلاَ نَتَعَوَّذُ بِاللَّهِ مِنَ النَّارِ؟ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ النَّارِ، قَالَ: ثُمَّ مَضَى فَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ ثُمَّ قَامَ بَيْنَ الْحَجَرِ وَالْبَابِ فَأَلْصَقَ صَدْرَهُ وَيَدَيْهِ وَخَدَّهُ إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَفْعَلُ"(1).
والأصل المشروع أن يضع صدره ووجهه وذراعيه وكفيه بين الركن والباب بعد الطواف كما تقدم، فإن تعذَّر عليه ذلك ووقف عند الباب ودعا هناك من غير التزام للبيت كان حسناً كما قال ابن تيمية رحمه الله.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 8 ربيع الثاني 1427هـ
الموافق ل: 5 مايو 2006م
__________
1- أخرجه أبو داود في المناسك (1901)، وابن ماجه في المناسك (3075)، والبيهقي (9602)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه (2962).(8/36)
الفتوى رقم: 706
في حكم الطهارة للطواف
السؤال:
هل يشترط إعادةُ الوضوء لِمَنْ انتقضه أثناء الطواف في شدّة الزحمة وخاف ضياع رفقته؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فلا تشترطُ طهارةُ الحَدَثِ في الطواف ولا تجبُ فيه، ولكن يُستحبُّ فيه الوضوءُ، وبه قال ابنُ حَزْمٍ وهو اختيارُ ابنِ تيميةَ وابنِ القَيِّمِ وغيرِهم من أهل التحقيقِ(1)، خلافًا لمن يرى أنّ الطهارة من الأحداث والأنجاس شرطٌ لصحة الطواف، وهو مذهب جمهور العلماء، وبه قال مالكٌ والشافعيُّ وأحمدُ في المشهور من مذهبه(2)، أمّا مذهبُ أبي حنيفةَ وروايةٌ عن أحمدَ أنّ الطهارة من واجبات الطواف لا من شروطه(3).
والاستحباب إنما في الطهارة من الحدث الأصغر، وأمّا الطهارة في الحدث الأكبر كالحيض والنفاس والجنابة، فالظاهر الصحيح أنّ الطواف لا يتمّ إلاّ بها لحديث عائشة رضي الله عنها أنَّ النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قال لها -حينما حاضت-:« افْعَلِي مَا يَفْعَلُ الحَاجُّ غَيْرَ أَلاَّ تَطُوفِي بِالبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي »(4)، وفي رواية مسلم:« حَتَّى تَغْتَسِلِي »(5).
هذا، والذي يَستدِلُّ به المشترطون للطهارة للطواف مُطلقًا أنّ النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« أَوَّلَ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ أَنْ تَوَضَّأَ، ثُمَّ طَافَ بِالبَيْتِ »(6)، وقد قال:« لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ »(7)، فإنه يقتضي وجوبَ كلِّ ما فَعَلَه إلاّ ما قام الدليل على عدم وجوبه، واستدلّوا بقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« الطَّوَافُ بِالبَيْتِ صَلاَةٌ إِلاَّ أَنَّكُمْ تَتَكَلَّمُونَ فِيهِ، فَمَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ فَلاَ يَتَكَلَّمْ إِلاَّ بِخَيْرٍ »(8)، وفي روايةٍ أخرى عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال:« قَالَ اللهُ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: ?طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ? فَالطَّوَافُ قَبْلَ الصَّلاَةِ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ:« الطَّوَافُ بِالبَيْتِ بِمَنْزِلَةِ الصَّلاَةِ إِلاَّ أَنَّ اللهَ قَدْ أَحَلَّ فِيهِ النُّطْقَ، فَمَنْ نَطَقَ فَلاَ يَنْطِقْ إِلاَّ بِخَيْرٍ »(9)، وبحديث عائشةَ أنّ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ حَاضَتْ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:« أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟ » فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ، قَالَ:« فَلاَ إِذًا »(10). فمقتضى ذلك أنها لو لم تكن طافت للإفاضة لم يرحل حتى تَطْهُرَ من الحيض وتغتسلَ وتطوفَ.
هذا، ولا يخفى أنه ليس في الأدلة المتقدّمة ما يدلّ على وجوب الطهارة الصغرى فيه:
- أمّا طوافُه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم متوضّئًا وقد قال:« خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ »؛ فإنّ الفعل لا يدلّ على الوجوب بَلْهَ على الشرطيةِ، والأخذ عنه -كما قال ابن القيم- هو أن يفعل كما فعل على الوجه الذي فعل، فإذا كان قد فعل فعلاً على وجه الاستحباب فأوجبناه لم نكن قد أخذنا عنه ولا تَأَسَّيْنَا به، مع أنه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم فعل في حَجّته أشياءَ كثيرةً جدًّا لم يوجبها أحدٌ من الفقهاء »(11).
- أمّا حديث:« الطَّوَافُ بِالبَيْتِ صَلاَةٌ »؛ فالمراد به شبيهٌ بالصلاة، وقد روي:« الطَّوَافُ بِالبَيْتِ مِثْلُ الصَّلاَةِ »(12)، فهذا الشبه كشبه انتظار الصلاة بالصلاة، ففي قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا كَانَ يَعْمِدُ إِلَى الصَّلاَةِ فَهُوَ فِي الصَّلاَةِ »(13). وعليه، فالطواف صلاةٌ بالاسم العامِّ وليس بصلاة خاصة، والوضوء إنما يشترط للصلاة الخاصّة التي تحريمها التكبير وتحليلها التسليم في قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« مِفْتَاحُ الصَّلاَةِ الطُّهُورُ، وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ »(14)، فدلّ على أنّ الطوافَ ليس كذلك فلا يُشترط فيه الطهارة. وقد تكون الصلاة بمعنى الدعاء على الحقيقة اللغوية، ومعنى ذلك أنّ الطواف هو موضع الدعاء ويستحبّ للدعاء الطهارة ولا يجب ولا يشترط.
- أمّا الاستدلال بالآية: ?أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ? [البقرة: 125]، فليس إلحاقُ الطائف بالراكع الساجد أولى من إلحاقه بالعاكف بل العاكفُ أشبه؛ لأنّ المسجدَ شرطٌ في الطواف والعكوف وليس شرطًا في الصلاة.
- وأمّا حديث:« غَيْرَ أَلاَّ تَطُوفِي بِالبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي »، وحديث:« أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟ » فهو محمولٌ على الحدث الأكبر جمعًا بين الأدلة، مع هذا فيه من أهل التحقيق من رأى أنه لا دليلَ في مَنْعِهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم للحائض من الطواف، وإنما منعها خوفًا من أن تلوّث المسجد بدم الحيض.
فالحاصل: أنّ ما عليه أكثر السلف استحباب الطهارة، وأنّ الوضوء للطواف ليس من مناسك الحجِّ، فإنه لم يَنقُلْ أَحَدٌ عن النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم أنه أمر المسلمين بالطهارة لا في عُمَرِهِ ولا في حَجَّته مع كثرة من حجّ معه واعتمر، ويمتنع أن يكون ذلك واجبًا ولا يُبَيّنه للأمّة، وتأخير البيان عن وقته لا يجوز كما هو مقرّر عند أهل الأصول.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 8 ربيع الأول 1428ه
الموافق ل: 27 مارس 2007م
__________
1- انظر:« مجموع الفتاوى » لابن تيمية: (26/199، 212)، «تهذيب السنن » لابن القيم: (1/52).
2- «القوانين الفقهية » لابن جزي:(116)، «المجموع للنووي »: (8/15، 17).
3- «المبسوط » للسرخسي: (4/28)، «الإنصاف » للمردوي: (3/16).
4- أخرجه البخاري في «الحيض »، باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف: (299)، ومسلم في «الحج »، باب بيان وجوه الإحرام وأنه يجوز إفراد الحج: (2919)، ومالك في «الموطإ »: (925)، وابن حبان في «صحيحه »: (3835)، وأحمد: (25812)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
5- أخرجه مسلم في «الحج »، باب بيان وجوه الإحرام وأنه يجوز إفراد الحج: (2918)، وأبو يعلى في «مسنده »: (4719)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (9383)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
6- أخرجه البخاري في «الحج »، باب الطواف على وضوء: (1560)، ومسلم في «الحج »، باب بيان أن المحرم بعمرة لا يتحلل بالطواف قبل السعي: (3001)، وابن خزيمة في «صحيحه »: (2699)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (9381)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
7- أخرجه مسلم في «الحج »، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا: (3137)، وأبو داود في «المناسك »، باب في رمي الجمار: (1972)، والنسائي في «مناسك الحج »، باب الركوب إلى الجمار واستظلال المحرم: (3062)، وأحمد: (147093)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (9608)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
8- أخرجه الترمذي في «الحج »، باب ما جاء في الكلام في الطواف: (960)، والنسائي في «مناسك الحج »، باب إباحة الكلام في الطواف: (2922)، والدارمي في «سننه »: (1791)، وابن حبان في «صحيحه »: (3836)، والحاكم في «المستدرك »: (1686)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (9384)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. والحديث صححه الألباني في «الإرواء »: (121)، وانظر في وقفه أو رفعه ما كتبه ابن حجر في «تلخيص الحبير »: (1/195).
9- أخرجه الحاكم في «المستدرك »: (3056)، وصححه الألباني في «الإرواء »: (1/157).
10- أخرجه البخاري في «الحج »، باب إذا حاضت المرأة بعد ما أفاضت: (1670)، ومسلم في «الحج »، باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض: (3225)، والترمذي في «الحج »، باب ما جاء في المرأة تحيض بعد الإفاضة باب ما جاء في المرأة تحيض بعد الإفاضة: (943)، وابن ماجه في «المناسك »، باب الحائض تنفر قبل أن تودع: (3072)، وأحمد: (23593)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
11- «تهذيب السنن » لابن القيم: (1/53).
12- أخرجه ابن خزيمة في «صحيحه »: (2739)، والحاكم في «المستدرك »: (1687)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (9384)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
13- أخرجه مسلم في «المساجد »، باب استحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة: (1360)، ومالك في «الموطإ »:(150)، وابن حبان في «صحيحه »: (2148)، وابن خزيمة في «صحيحه »: (1065)، وأحمد: (10466)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
14- أخرجه أبو داود في «الطهارة »، باب فرض الوضوء: (61)، والترمذي في «الطهارة »، باب ما جاء أن مفتاح الصلاة الطهور: (3)، وابن ماجه في «الطهارة وسننها »، باب مفتاح الصلاة الطهور: (288)، وأحمد: (1018)، والدارمي: (712)، والدارقطني في «سننه »: (1375)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (2353)، من حديث علي رضي الله عنه. والحديث حسنه البغوي في «شرح السنة »: (2/184)، والنووي في «الخلاصة »: (1/348)، وصححه أحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد »: (2/240)، والألباني في «صحيح الجامع »: (5885).(8/37)
الفتوى رقم: 788
في حكم ترتيب السعي بعد الطواف للحائض
السؤال:
هل يجوزُ للحائض أن تسعى بين الصَّفا والمروة، وتقصِّرَ شعرها وتؤخِّرَ الطوافَ إلى ما بعد الطُّهر أم يُشترط عليها الترتيبُ؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
ففي مناسك الحجِّ والعُمرة إن حاضت المرأةُ قبل الإحرام فإنّها تغتسل وتَسْتَثْفِرُ بثوبٍ وتحرم بالحجِّ أو العمرة من الميقات لحديث أسماءَ بنتِ عُميسٍ رضي الله عنها حين نُفست بذي الحُليفةَ أرسلت إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم كيف أصنع؟ قال:« اغْتَسِلِي وَاسْتَثْفِرِي(1) بِثَوْبٍ وَأَحْرِمِي »(2)، وحُكم الحيضِ كحكم النفاسِ، وتبقى على إحرامها حتى تطهر، فإذا تطهَّرت أدّت طوافَها وسعيَها وقصّرت شعرها، أمّا إذا حاضت بعد الإحرامِ وقبل الطَّوافِ فإنَّ الواجبَ عليها انتظارُ الطُّهر، وتبقى على إحرامها حتى تطهرَ، وبعد تطهُّرِها تطوفُ وتسعى وتقصِّرُ شعرَها، وكذلك إذا حاضت في الحجِّ قبل طوافِ الإفاضةِ فإنها تبقى مُحرمةً، وتأتي سائرَ المناسكِ إلاَّ الطواف بالبيت والسعي، ويدلُّ عليه أنّ صفيةَ رضي الله عنها زَوْجَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم لما حاضت قال:« أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟ » قالوا: إِنَّهَا قَدْ أفَاضَتْ، قال:« فَلْتَنْفِرْ إِذًا »(3). والحديث دلَّ على أنَّ الحائض لا تطوف بالبيت إذ لو جاز لها الطواف لم تكن لتحبس النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، ويدلُّ عليه -أيضًا- قولُه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم لعائشةَ رضي الله عنها:« افْعَلِي مَا يَفْعَلُهُ الحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لاَ تَطُوفِي بِالبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي »(4).
والسعيُ لا يُجْزِئُ إلاَّ إذا تَقدَّمَهُ طوافٌ صحيحٌ فهو تَبَعٌ للطواف، فإن سعى قبل الطواف لم يصحَّ سعيُه، وبه قال جمهورُ العلماء على وجوب ترتيب السعي بعد الطواف، وهو مذهب مالكٍ والشافعيِّ وأصحابِ الرأي لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ »(5).
والقائلون بعدم وجوبِ الترتيب أي: أنَّ تقديمَ الطوافِ ليس بشرطٍ وهو روايةٌ عن أحمدَ ومَحْكِيٌّ عن بعض أهل الحديث وداود وابنِ حزم(6) إنما استندوا إلى حديث أسامة بن شريك رضي الله عنه قال:« خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ حَاجًّا، فَكَانَ النَّاسُ يَأْتُونَهُ، فَمِنْ قَائِلٍ: يَا رَسُولَ اللهِ سَعَيْتُ قَبْلَ أَنْ أَطُوفَ، أَوْ قَدَّمْتُ شَيْئًا أَوْ أَخَّرْتُ شَيْئًا فَكَانَ يَقُولُ: لاَ حَرَجَ لاَ حَرَجَ.. »(7). وقد أجاب عنه ابنُ القيِّم قال:« وقوله:« سعيت قبل أن أطوف »، في هذا الحديث ليس بمحفوظ، والمحفوظ: تقديم الرمي والنحر والحلق بعضها على بعض »(8)، ووصف الخطابيُّ القولَ بجواز تقديم السعي على الطواف بأنه قول شاذٌّ لا اعتبار له(9).
قلت: والخلافُ في المسألة إذا بقي قويًّا فإنَّ الحيطة مطلوبةٌ في مثل هذه المواقف وهي تقتضي بالسعي إلاَّ بعد الطواف موافقة لأمر النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم وفعله إذ فيها يتيقَّن من الخلوص من التكاليف ولا يقين مع الشكِّ.
أمّا إذا حاضت بعد الطواف فإنها تُكمِلُ عمرتَهَا بالسعي والتقصير ولو في حالة الحيض؛ لأنَّ الطهارة تُعَدُّ من سُنن السعي لا من شَرْطِهِ، فأشبه بالوقوف بعَرَفَةَ، حيث لا يُشترط له الطهارة؛ ولأنه عبادة لا تتعلَّق بالبيت، وكذلك إذا حاضت المحرمة في الحجِّ بعد طواف الإفاضة فإنها تُتمّ حَجّها، فإن استمرَّ بها الحيضُ وأرادت الخروجَ فإنه يسقط عنها طوافُ الوداع باتفاق العلماء.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 15 من ذي القعدة 1428ه
الموافق ل: 25 نوفمبر 2007م
__________
1- الاستثفار: قال النووي في «شرح مسلم » (8/172):« هو أن تشد في وسطها شيئًا، وتأخذ خرقة عريضة تجعلها على محل الدم، وتشد طرفيها من قدامها ومن ورائها في ذلك المشدود في وسطها، وهو شبيه بثفر الدابّة ».
2- أخرجه مسلم في «الحج »، باب حجة النبي صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: (2950)، والنسائي في «الطهارة »، باب ما تفعل النفساء عند الإحرام: (291).
3- أخرجه البخاري في «الحج »، باب إذا حاضت المرأة بعد ما أفاضت: (1670)، ومسلم في «الحج »، باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض: (3225)، والترمذي في «الحج »، باب ما جاء في المرأة تحيض بعد الإفاضة باب ما جاء في المرأة تحيض بعد الإفاضة: (943)، وابن ماجه في «المناسك »، باب الحائض تنفر قبل أن تودع: (3072)، وأحمد: (23593)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (9849)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
4- أخرجه البخاري في «الحيض »، باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف: (299)، ومسلم في «الحج »، باب بيان وجوه الإحرام وأنه يجوز إفراد الحج: (2919)، ومالك في «الموطإ »: (925)، وابن حبان في «صحيحه »: (3835)، وأحمد: (25812)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
5- أخرجه مسلم في «الحج »، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا: (3137)، وأبو داود في «المناسك »، باب في رمي الجمار: (1972)، والنسائي في «مناسك الحج »، باب الركوب إلى الجمار واستظلال المحرم: (3062)، وأحمد: (147093)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (9608)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
6- «المحلى » لابن حزم: (7/181)، «المجموع » للنووي: (8/78)، «الإنصاف » للمرداوي: (4/21).
7- أخرجه أبو داود في «المناسك »، باب فيمن قدَّم شيئا قبل شيء في حجِّه: (2015)، وابن خزيمة في «صحيحه »: (2774)، والدارقطني في «سننه »: (2/251)، والطبراني في «الكبير »: (1/181)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (9431)، من حديث أسامة بن شريك رضي الله عنه.
8- «زاد المعاد » لابن القيم: (2/259).
9- «معالم السنن » للخطابي: (2/433).(8/38)
الفتوى رقم: 792
في حكم خروج الحاجِّ إلى جُدّة من غير طواف الوداع مع نية العودة إلى مكة
السؤال:
هل يجب على الحاجِّ طوافُ الوداع بمجرَّد خروجه من مكة إلى جُدَّة مثلاً -ولو بنية العودة من يومه- أم يُؤخِّرُه إلى حين مغادرته النهائية؟ وجزاكم اللهُ خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فطوافُ الوداعِ في مناسكِ الحجِّ واجبٌ على أرجحِ قَوْلَيِ العُلماءِ خلافًا لمالكٍ وداودَ وأحدِ قَوْلَيِ الشافعيِّ؛ لأمره صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم كما في الحديث:« أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالبَيْتِ »(1)، ولنهيه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم عن النَّفْرِ من غير طوافٍ في قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« لاَ يَنْفِرَنَّ أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالبَيْتِ »(2)، ولقولِه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم في صفيةَ رضي الله عنها:« أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟ »(3)، والتطوُّعُ لا يحبس أحدًا، ولأنه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم رَخَّصَ للحائض أن تنفر من غيرطواف الوداع، فدلَّ إسقاطُه عنها على وجوبه على غيرها؛ لأنَّ الرخصة لا تكون إلاَّ من واجبٍ. ويستثى -أيضًا- من لا يلزمه طواف الوداع المكي والآفاقي إذا استوطن مكةَ قولاً واحدًا مُجمعًا عليه، وكذلك إذا أخَّر الحاجُّ طواف الإفاضة فطافه عند الخروج أجزأ عن طواف الوداع.
هذا، والأَوْلَى للحاجِّ إن أراد الخروجَ من مكةَ إلى جُدَّةَ أو إلى أيِّ بلدٍ آخرَ أن يودِّع البيتَ ثمّ يسافرُ، فإن أراد الرجوع إلى مكّةَ جاز له أن يدخلَها بغير إحرامٍ إن لم يُرِدْ نُسُكًا، وهو الصحيحُ من أقوال العلماء في مسألة حكم الإحرام لدخول مكَّة، وإنما أمر النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم بالإهلال لمن أراد الحجَّ والعمرةَ كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وفيه:« هُنَّ لَهُنَّ وَلِكُلِّ آتٍ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ مِمَّنْ أَرَادَ الحَجَّ وَالعُمْرَةَ »(4)، ومفهوم الحديث أن لا إحرامَ يلزم عليه وإن دخل مَكَّةَ من غير إرادة النسك، وقد بوَّب له البخاري:« باب دخول الحرم ومكة من غير إحرام »، ويؤيّد ذلك ما رواه مسلم أنّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الفَتْحِ، وَعَلَى رَأسِهِ مِغْفَرٌ »(5)، وفي رواية:« وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ »(6)، قال النووي:« هذا دليلٌ لمن يقول بجواز دخول مكَّةَ بغير إحرام لمن لم يُرِدْ نُسُكًا سواء كان دخوله لحاجة تتكرَّر كالحطَّاب والحشَّاشِ والسقَّاءِ والصيَّادِ وغيرِهم، أم لم تتكرَّر كالتاجر والزائرِ وغيرِهما، سواء كان آمنًا أو خائفًا وهذا أصحُّ القولين عن الشافعي وبه يفتي أصحابُه »(7).
أمّا إن خرج من مكَّةَ من غير طواف الوداع بنية العودة فهو مخالِفٌ لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« لاَ يَنْفِرَنَّ أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالبَيْتِ »، فإن لم يَعُدْ فيلزمه دمٌ في ترك واجبِ طواف الوداع(8)، فإن عاد وأدَّاه سقط عنه الدَّمُ وبرأت ذِمَّتُهُ ولا شيءَ عليه على أرجح أقوال أهل العلم؛ لأنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه:« ردَّ رجلاً من مر الظهران لم يكن ودّع البيت حتى ودّع »(9)، واكتفى بأمره له بالعودة للطواف ولم يوجب عليه دمًا، والأصلُ عدمُ الدَّمِ حتى يَرِدَ الشرعُ به، وإنما يجب الدمُ على من ترك النُّسُكَ ولم يأت به كما في قول ابن عباسٍ رضي الله عنه:« مَنْ نَسِيَ مِنْ نُسُكِهِ شَيْئًا، أَوْ تَرَكَهُ فَلْيُهْرِقْ دَمًا »(10)، وهو قد أتى به فشأنه كمن جاوز الميقات -وهو يريد النسكَ- من غير إحرام ثمَّ عاد وأحرم منه سقط عنه الدم، سواء كان رجوعُه من بعيدٍ أو من قريبٍ، ومثله -أيضًا- كمن رجع إلى بلده قبل طواف الإفاضة لزمه أن يعود للطواف ولا شيء عليه.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 24 من ذي القعدة 1428ه
الموافق ل: 4 ديسمبر 2007م
__________
1- أخرجه البخاري في «الحج »، باب طواف الوداع: (1668)، ومسلم في «الحج »، باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض: (3220)، وابن خزيمة في «صحيحه »: (2999)، والحاكم في «المستدرك »: (1751)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
2- أخرجه مسلم في «الحج »، باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض: (3219)، وأبو داود في «المناسك »، باب الوداع: (2002)، وابن ماجه في «المناسك »، باب طواف الوداع: (3070)، والدارمي في «سننه »: (1867)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
3- أخرجه البخاري في «الحج »، باب إذا حاضت المرأة بعد ما أفاضت: (1670)، ومسلم في «الحج »، باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض: (3225)، والترمذي في «الحج »، باب ما جاء في المرأة تحيض بعد الإفاضة باب ما جاء في المرأة تحيض بعد الإفاضة: (943)، وابن ماجه في «المناسك »، باب الحائض تنفر قبل أن تودع: (3072)، وأحمد: (23593)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (9849)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
4- أخرجه البخاري «أبواب الإحصار »، باب دخول الحرم ومكة بغير إحرام :(1748)، ومسلم في «الحج »، باب مواقيت الحج: (2803)، والنسائي في «المناسك »، باب ميقات أهل اليمن: (2654)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
5- أخرجه مسلم في «الحج »، باب جواز دخول مكة بغير إحرام: (3308)، والدارمي في «سننه »: (1873)، وأحمد في «مسنده »: (12932)، من حديث أنس رضي الله عنه.
6- أخرجه مسلم في «الحج »، باب جواز دخول مكة بغير إحرام: (3309)، وأبو داود في «اللباس »، باب في العمائم: (4076)، والترمذي في «اللباس »، باب ما جاء في العمامة السوداء: (1735)، والنسائي في «المناسك »، باب دخول مكة بغير إحرام: (2869)، وابن ماجه في «الجهاد »، باب لبس العمائم في الحرب: (2822)، وأحمد في «مسنده »: (14488)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
7- «شرح مسلم » للنووي: (9/131).
8- ومذهب مالك وداود والشافعي في أحد قوليه أنّ طواف الوداع سنة لا يجب بتركه شيء. [«التفريع » لابن الجلاب: (1/356)، «فتح الباري » لابن حجر: (3/585)].
9- أخرجه مالك في «الموطإ » كتاب:« الحج »، باب وداع البيت: (824)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (9764)، من حديث يحيى بن سعيد رحمه الله.
10- أخرجه مالك في «الموطإ » كتاب:« الحج »، باب ما يفعل من نسي من نسكه شيئًا: (940)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (8931)، عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفا عنه. وروي مرفوعًا ولا يصح. انظر:« البدر المنير » لابن الملقن: (6/91)، «التلخيص الحبير » لابن حجر: (2/467)، «إرواء الغليل » للألباني: (2/299).(8/39)
الفتوى رقم: 807
في حكم طواف الوداع للمعتمر
السؤال:
هل طواف الوداع للمعتمر له نفس الحكم بالنسبة للحاج؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
ففي مناسك الحجِّ أمر النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم الحاجَّ لبيتِ الله الحرامِ أَمْرَ وُجوبٍ أن يكونَ آخرُ عهده بالبيتِ، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال:« أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالبَيْتِ »(1)، ولقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« لاَ يَنْفِرَنَّ أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالبَيْتِ »(2).
أمّا المعتمر فلا يجبُ عليهِ طوافُ الوداعِ على الصحيحِ من قولي العلماءِ، وإنّما يُسنُّ له ذلك لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« العُمْرَةُ الحَجُّ الأَصْغَرُ »(3)، وخَرَجَ طَوَافُ الوَدَاعِ من حكمِ الوجوبِ إلى السُّنيَّةِ لأنّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم لم يَطُفْ للوداعِ عندَ خروجه من مكةَ بعد عُمْرَةِ القضاءِ؛ ولأنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم اعتمَرَ قَبْلَ حَجِّهِ أربعَ مراتٍ، ولم يأْمُرْ أصحابَهُ أن يودِّعُوا، فدَلَّ ذلك أنَّ وُجوبَ طوافِ الوداعِ منْ أعْمالِ الحجِّ وأحكامِهِ لا مِنْ مناسكِ العُمْرَةِ وواجباتها لذلك لا يلزمُ شيء بتركه له في العمرةِ.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 29 من ذي القعدة 1428ه
الموافق ل: 09 ديسمبر 2007م
__________
1- أخرجه البخاري في «الحج »، باب طواف الوداع: (1668)، ومسلم في «الحج »، باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض: (3220)، وابن خزيمة في «صحيحه »: (2999)، والحاكم في «المستدرك »: (1751)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
2- أخرجه مسلم في «الحج »، باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض: (3219)، وأبو داود في «المناسك »، باب الوداع: (2002)، وابن ماجه في «المناسك »، باب طواف الوداع: (3070)، والدارمي في «سننه »: (1867)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
3- أخرجه ابن حبان في «صحيحه »: (6445)، والحاكم في «المستدرك »: (1480)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (7287)، والدارقطني في «سننه »: (2679)، من حديث عمرو بن حزم في الكتاب الذي كتبه النبي صَلَّى الله عليه وآله وسلَّم على أهل اليمن. قال ابن عبد البر في «التمهيد » (17/338):« وهو كتاب مشهور عند أهل السير، معروف ما فيه عند أهل العلم معرفة تستغني بشهرتها عن الإسناد، لأنه أشبه التواتر في مجيئه، لتلقي الناس له بالقبول والمعرفة »، وقال الحافظ في «التلخيص الحبير » (4/37):« وقد صحح الحديث بالكتاب المذكور جماعة من الأئمة، لا من حيث الإسناد، بل من حيث الشهرة »، وقد ذكر له الزيلعي في «نصب الراية »: (1/196-198) جملة من الطرق والشواهد يثبت الحديث بمجموعها.(8/40)
الفتوى رقم: 828
في عدم اشتراط المولاة بين الطواف والسعي
السؤال:
هل يجوز تأخيرُ السعي عن الطواف أم تجب الموالاة؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فيُستحَبُّ للحاجِّ أو المعتمِرِ أن يكون سعيُهُ مُواليًا لطوافِهِ على وجهِ الاتصال بينهما، فهو سُنَّةٌ فِعْلِيَّة، فقد طافَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم من غيرِ فصلٍ وهذا هو الأفضلُ بلا شكٍّ؛ لكن الموالاة بينهما غير مشروطة، فلو طاف بالنهار وأخَّرَ سعيَهُ إلى آخرِهِ أو إلى الليل صحَّ فعله وبرئت ذمَّتُهُ، وهو مذهبُ الجمهورِ، قال النووي:« وأمَّا الموالاةُ بين الطواف والسعي فسُنَّةٌ، فلو فَرَّقَ بينهما تفريقًا قليلاً أو كثيرًا جاز وصحَّ سَعْيُهُ، ما لم يتخلل بينهما الوقوف، فإن تخلل الوقوف لم يجز أن يسعى بعده قبل طواف الإفاضة، بل يتعيَّن حينئذٍ السعيُ بعد طواف الإفاضة بالاتفاق »(1).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 14 المحرم 1429ه
الموافق ل: 22/01/2008م
__________
1- «المجموع شرح المهذب » للنووي: (8/3).
2- «المجموع شرح المهذب » للنووي: (8/3).(8/41)
الفتوى رقم: 902
في الاكتفاء بالإشارة إلى الحجر عند الزحمة
السؤال:
هل الأفضل الوقوف في الطابور لتقبيل الحجر الأسود، أم الاكتفاء بالإشارة من بعيد، وعدم مزاحمة الآخرين عليه؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فتقبيلُ الحَجَرِ الأسودِ معدودٌ من سُنَن الطواف، ولا يُشرَع بدونه، فإن وَجَدَ الطائف فُرجةً يتوصَّل بها إليه فيقبِّله أو يَستلِمُه فحَسَن، وإلاَّ ففي الإشارة إليه غُنْيَةٌ عن التقبيل والاستلام، إذ ليس من السُّنَّة الوقوفُ في الطابور وانتظار الدور، ولا مزاحمة الناس عليه، لما فيه من الإذاية واستفراغ القلب عن الخشوع، وإشغاله عن غير العبادة، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم لعُمَر رضي الله عنه:« إِنَّكَ رَجُلٌ قَوِيٌ لاَ تُزَاحِمْ عَلَى الحَجَرِ، فَتُؤْذِي الضَّعِيفَ، إِنْ وَجَدْتَ خُلْوَةً فَاسْتَلِمْهُ، وَإِلاَّ فَاسْتَقْبِلْهُ فَهَلِّلْ وَكَبِّرْ »(1). وخيرُ الهديِ هديُ محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 4 جمادى الأولى 1429ه
الموافق ل: 9 ماي 2008م
__________
1- أخرجه أحمد في «مسنده »: (191)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (9342)، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. والحديث قوّاه الألباني في «مناسك الحج والعمرة »: (20)، وحسّنه شعيب الأرناؤوط في «تحقيقه لمسند أحمد »: (1/28).(8/42)
الفتوى رقم: 913
في عدم تأثير ترك التكبير عند محاذاة الحجر في صحَّة الطواف
السؤال:
هل يلزم على من نسي الإشارةَ والتكبيرَ عند الحجر الأسود في الطواف إعادة الشوط؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فاستلامُ الحجر الأسود وتقبيلُه سواء قَبَّله في كلِّ شَوْطٍ إن أمكن، أو استلمه وشقَّ عليه تقبيله وقبَّل يده، أو عجز عن استلامه فأشار إليه بيده وكَبَّر، كلّ ذلك معدودٌ من سنن الطواف ومستحباته، فتركه سهوًا أو عمدًا لا يؤثِّر في صِحَّة الطَّواف.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 21 جمادى الأولى 1429ه
الموافق ل: 26/ماي/2008م(8/43)
الفتوى رقم: 988
في حكم الطواف على الشَّاذَروان
السؤال:
ما حكم من أراد الطواف بالبيت ولشدة الزحام طاف على الشَّاذَروان؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالشَّاذَروان هو البناءُ المحيطُ بأسفل جدار الكعبة المعظمة أشبه بالرصيف(1)، وهو أصلُ جدارها حينما كان البيتُ العتيقُ على قواعد إبراهيمَ عليه السلام، وقد انتقصته قريش من عرض أساس جدار الكعبة حين ظهر على وجه الأرض، لذلك كان الشَّاذَروان من البيت وليس من أرض المطاف فلا يصح الطواف عليه إذا فعله وإنما الطواف دونه ذلك لأنه في الحقيقة لم يطف بالبيت وإنما طاف على البيت وهو مخالف لقوله تعالى: ?وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ? [الحج: 29] وكذا الأحاديث الصحيحة الواردة فيه.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 10 ربيع الأول 1430ه
الموافق ل: 07 مارس 2009م
__________
1- قال الفيومي في «المصباح المنير» (1/307) عن الشَّاذروان : « من جدار البيت الحرام، وهو الذي ترك من عرض الأساس خارجا، ويُسمَّى تأزيرا لأنه كان كالإزار للبيت»(8/44)
05- مفسدات الحج
الفتوى رقم: 515
في مسألة تعدد الفدية في الحج والعمرة
السؤال: فيمن أتى بأكثر من محظور في مناسك الحجّ فهل تتعدد الفدية بتعدد المحظور أم تكفيه كفارة واحدة؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فالعلماء يختلفون في موجب تعدّد الفدية في محظورات الحجّ، واختلافهم راجع إلى الاختلاف في تحقيق المناط بالنظر إلى عدم وجود نصّ في تعدّد الفدية من كتاب ولا سنّة، فالمالكية ينظرون إلى وقت الفعل، فإن كان واحدًا أو متقاربًا تلزمه فدية واحدة، وإن كان وقت الفعل متباعدًا فإنّ الفدية تتعدّد بتعدّد الفعل، والأحناف يفرقون -في موجب الفدية- يبن النوع الواحد في مجلس واحد فتلزمه كفارة واحدة، وإن فعل في مجالس متعدّدة تعدّدت الكفارة، والشافعية يفرّقون بين ما إذا كان أحدهما استهلاكًا والآخر استمتاعًا، وبين أن يكون استهلاكًا فقط، أو استمتاعًا فقط، أمّا الحنابلة فيفرّقون -في موجب الفدية- بين المحظورات من جنس واحد كمن حَلَقَ ثمّ حَلَقَ، أو قلّم مرّة بعد مرّة فلا تتعدّد الفدية بتعدّد الأسباب التي هي نوع واحد سواء كانت في مجلس واحد أو مجالس متفرّقة ما لم يقع الفعل الثاني بعد تكفيره عن الفعل الأول فإنّه في هذه الحال تلزمه فدية أخرى.
أمّا إذا كانت المحظورات المرتكبة من أجناس مختلفة كالحلق، والوطء، والتطيّب، ولبس المخيط، فعليه لكلّ واحد فدية سواء أكان في مجلس واحد أو مجالس متفرقة.
هذا، وبعد هذا الإيجاز يمكن تقرير أصل موجبات الفدية على الوجه التالي:
أولاً: إذا افتدى عن محظور من محظورات الإحرام ثمّ عاد إلى فعله بعد الفدية فتلزمه فدية أخرى.
ثانيًا: إذا كانت المحظورات متداخلة الأجزاء، أي: من نوع واحد، ووقعت في مجلس أو مجالس متفرقة، مثل الحلق بعد الحلق أو التطيب بعد التطيب فعليه فدية واحدة، فلا تتعدد الفدية بتعدد أسبابها، مثل من سها في صلاته مرّات متعدّدة يكفيه لجميعها سهو واحد، أو زنى مرّات متعدّدة قبل أن يقام عليه الحدّ فيكفي حدّه حدًّا واحدًا، بخلاف ما إذا زنى بعد أن أقيم حدّ الزنى عليه، فإنّه يقام عليه حدٌّ آخر، وكولوغ الكلب أو الكلاب مرّات متعدّدة في الإناء، فإنّه يكفي لتطهيره غسلُه سبع مرات في وحدة واحدة بحسب ما دلّ عليه الحديث، ولا يتعدّد الغسل بتعدّد الولوغ.
ثالثًا: إذا كانت المحظورات المرتكبة غير متداخلة الأجزاء أي: أطرافها متباينة، فإمّا أن يكون المُحْرِم قد أتى بها مجتمعة في مجلس واحد، أو متفرّقة، فإن أتى بها مجتمعة فتلزمه كفارة واحدة كالمحرم الذي لبس ثوبًا مخيطًا مطيّبًا، وهذا منقول عن أحمد رحمه الله، قال:" إنّ في الطيب واللّبس والحلَقْ فدية واحدة، وإن فعل ذلك واحدًا بعد واحد فعليه لكلّ واحد دم"(1) وهو قول إسحاق، وقال الحسن:" إن لَبِسَ القميصَ وتَعَمَّم وتطيّب فَعَلَ ذلك جميعًا فليس عليه إلاّ كفارة واحدة "(2)، ونحو ذلك عن مالك ـ رحمهم الله ـ.
أمّا إذا كانت المحظورات المرتكبة أنواعًا متفرّقةً فإنّ الفدية تتعدّد بتعدّد موجبها أي: أنّ عليه لكلّ محظور فداء، وتلحق صورتها بالحدود المختلفة كمن سرق وزنى وقذف فتتعدّد عليه الحدود، كما تلحق بالأيمان المختلفة على أشياء مختلفة ثمّ يحنث فيها، فإنّه تتعدّد الكفارة بتعدّد الأيمان فيها.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في:28 ربيع الأول 1426ه
الموافق ل: 5 مايو 2005 م
__________
1- انظر "المغني" لابن قدامة (4/528).
2- انظر "المغني" لابن قدامة:(4/528).(8/45)
الفتوى رقم: 868
في اللعن والسب في الحج وما يترتب على فاعله من أحكام
السؤال:
هلِ السبُّ واللعن يُبطلان الحجَّ؟ وعلى تقدير بطلان الحجِّ فهل يلزم بطلان سائرِ عمله من حَجَّة الإسلام وغيرها، يُرجى إفادتَنَا بجوابٍ شافٍ، وجزاكم اللهُ خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فاللهُ سبحانه وتعالى نهى عن إتيان كُلِّ قبيحٍ في الحجِّ وغيره قولاً وفعلاً، ففي خصوص الحجِّ قال الله تعالى: ?الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ? [البقرة: 197]، فبيَّن اللهُ أنَّ مَن أوجب بإحرامه حَجًّا فعليه أن يجتنب الرَّفَثَ وهو: الجِماع، وتعاطي دواعيه من المباشرة والتقبيل والضَّمِّ ونحو ذلك، أو التكلُّم به بحضرة النساء، كما نهى عن الفسوق وهو: عموم المعاصي، ويدخل فيه السِّباب واللعن، لِمَا ثبت في الحديث:« سِبَابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ »(1)، كما نهى عن الجِدال في الحجِّ والمقصود به: المِراء والمخاصمة، ونقل عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يقول:« الجدال في الحجِّ: السِّباب والمِراء والخصومات »(2)، فعُلِمَ أنَّ السِّباب من محظورات الإحرام، وهو متفاوتُ الدرجة، فإِنْ سبَّ غيرَه أو شَتَمَهُ أو قبَّح أفعالَه وتصرُّفاتِه على وجهِ الانتقاص والتهوين، فإنَّ هذا المحظورَ يترتَّبُ على صاحبه الإثمُ، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ »(3)، ولا يوجب فدية، ويصحُّ حجُّه ولا يبطل، غيرَ أنه ناقِصٌ لا ينال به ثوابَ الحجِّ الموعود به في قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« مَنْ مَنْ حَجَّ للهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ »(4).
أمَّا إذا سبَّ اللهَ تعالى أو سبَّ الدِّينَ أو سبَّ الشعائرَ والمشاعِرَ ونحو ذلك فهذا كفرٌ بواح، وصاحبُهُ كافرٌ مرتدٌّ بالإجماع سواء كان عالِمًا أنه كفر أم لم يعلم، فإن وقع في هذا الناقض القوليِّ أثناءَ أداءِ حَجَّةِ الإسلام فإنَّ رِدَّتَهُ ترجع على حَجِّهِ بالنقض والبطلان، أمَّا إن أدَّى حَجَّةَ الإسلام قبل ردَّته فتجزيه إذا تاب، ولا يلزمه قضاءٌ على أصحِّ قولي العلماء، وهو مذهب الشافعية والحنابلة خلافًا لمن يرى بوجوب إعادة حَجِّه إذا أدَّاه قبل رِدَّته، وهو مذهب الحنفية والمالكية، وسبب اختلافهم يرجع إلى أثر الرِدَّة في فساد العمل، فمذهب الحنفية والمالكية أنَّ مجرَّد الردَّة يوجب إحباطَ العمل وفساده، وحُجَّتهم قوله تعالى: ?وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ? [المائدة: 5]، والحبوط هو: الفساد، وعليه فإنَّ عمله يَبطُل بالرِّدَّة وتلزمه الإعادة إن تاب، ومذهب غيرهم أنَّ الوفاة على الردَّة شرط في حبوط العمل، لقوله تعالى: ?وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ? [البقرة: 217]، فإذا عاد إلى الإسلام بالتوبة فلا تلزمه الإعادة مع فساد ثواب عمله دون عمله، حَمْلاً للمُطلق على المقيَّد.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 6 ربيع الأوّل 1429ه
الموافق ل: 12 مارس 2008م
__________
1- أخرجه البخاري في «صحيحه » كتاب الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر: (48)، ومسلم في «صحيحه » كتاب الإيمان، باب بيان قول النبي سباب المسلم فسوق.. (221)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
2- أخرجه الطبري في «تفسيره »: (2/282)، وذكره ابن كثير في «تفسيره »: (1/319)، والسيوطي في «الدر المنثور »: (1/529).
3- أخرجه البخاري في «صحيحه » كتاب الإيمان، باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده: (10)، وأبو داود في «سننه » كتاب الجهاد، باب في الهجرة هل انقطعت: (2481)، والنسائي في «سننه » كتاب الإيمان وشرائعه، باب صفة المسلم: (4996)، وأحمد في «مسنده »: (6671)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
4- البخاري في «صحيحه » كتاب الحج، باب فضل الحج المبرور: (1449)، ومسلم في «صحيحه » كتاب الحج، باب فضل الحج والعمرة: (3291)، والترمذي في «سننه » كتاب الحج، باب ما جاء في ثواب الحج والعمرة: (811)، والنسائي في «سننه » كتاب مناسك الحج، باب فضل الحج : (2627)، و ابن ماجه في «سننه » كتاب المناسك، باب فضل الحج والعمرة: (2889)، وأحمد في «مسنده »: (7096)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(8/46)
06- العمرة
الفتوى رقم: 638
في حكم عمرة التنعيم
السؤال:
هل الإحرام من التنعيم خاصٌّ بعائشة رضي الله عنها ولِمَنْ كان على مثل حالها أم هو عامّ؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فعُمرةُ التَّنْعِيمِ خاصّةٌ بالحائض التي لم يُسْعِفْهَا الحيضُ لأداء عُمْرَةِ الحجِّ فلا تُلْحَقُ بها الطاهرةُ للفَرْقِ، فضلاً عن الرِّجال، إذ لم يعتمرْ من التنعيم أحدٌ مِمَّن كان مع النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم إلاّ عائشة رضي الله عنها(1)؛ لأنها حاضت فلم يمكنها الطواف، لذلك أعرض السلفُ عن عمرة التنعيم، وصرّح بعضُهم بِكَرَاهِيَتِهَا، ونصَّ العلماءُ على أنها من مُحْدَثَاتِ الأمور، بل إنّ عائشة رضي الله عنها نفسَها لم يصحَّ عنها العملُ بها بَعْدَ ذلك، فقد كانت إذا حَجَّتْ تَمْكُثُ إلى أن يُهِلَّ المحرَّم ثمّ تخرج إلى الجُحفة فَتُحْرِمُ منها بِعُمرة(2)، قال شيخُ الإسلام ابنُ تيميةَ:« يُكْرَهُ الخروجُ من مكةَ لعُمْرَةِ تَطَوَّعٍ، وذلك بدعةٌ لم يفعله النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم ولا أصحابُه على عهده، لا في رمضانَ ولا في غيرِه، ولم يأمُرْ عائشةَ بها، بل أَذِنَ لها بعد المراجعة، تطييبًا لقلبها، وطوافُه بالبيت أفضلُ من الخروج اتفاقًا »(3).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 23 صفر 1428ه
الموافق ل: 12 مارس 2007م
__________
1- أخرجه البخاري في «الحج »: (1481)، ومسلم في «الحج »: (2910)، وأبو داود في «المناسك »: (1781)، والنسائي في «الطهارة »: (242)، ومالك في «الموطإ »: (924)، وابن حبان: (3917)، وابن خزيمة: (2788)، وأحمد: (24913)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
2- «مجموع الفتاوى » لابن تيمية: (26/92).
3- «اختيارات ابن تيمية »: (119).(8/47)
الفتوى رقم: 712
في حكم تَكرار العمرة
السؤال:
ما حُكْمُ تَكرار العمرة؟ وما وجه الرد على استدلال المانعين بأن العمرة هي الحجّ الأصغر والحجّ لا يشرع في العام إلاّ مرّة واحدة؟ وهل يجوز الاعتمار في شهر ذي الحِجَّة بعد أداء مناسك الحجّ؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فيجوزُ الاعتمارُ في أي شهر من السَّنَةِ، قبل الحجِّ وفي أشهره وبعده عند جمهور أهل العلم، وإيقاعها في رمضان أفضلُ لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً مَعِي »(1).
ويستحبُّ عند الجمهور تكرّر العمرة في السنة الواحدة إذا تعدّدت أسفار المعتمر، وهو مروي عن ابن عمر وابن عباس وعائشة وغيرهم رضي الله عنهم، وبه قال الشافعي وأحمد، خلافًا لِمَالك وبعض السلف، واختاره ابن تيمية؛ لأنّ الصحابة رضي الله عنهم لم يزيدوا على عمرة واحدة في العام فالزيادة على فعلهم مكروهة، ودليل الاستحباب عند الجمهور قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« العُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا.. »(2)، ويظهر منه العموم لتركه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم الاستفصال في وقت العمرة، و«تَرْكُ الاسْتِفْصَالِ فِي مَقَامِ الاِحْتِمَالِ يُنَزَّل مَنْزِلَةَ العُمُومِ فِي المَقَالِ ». ويؤيّده أنّ عائشة رضي الله عنها اعتمرت مرّتين في شهر بأمر النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: العمرة الأولى التي كانت مع الحَجَّة، والعمرة الثانية التي اعتمرتها من التنعيم. أمّا القول بأنّ الصحابة لم يعتمروا في عام مرتين فتكره الزيادة على فعلهم فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ لِمَا رُوِيَ عن عليٍّ وابن عمر وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم خلافه، أمّا إلحاقُ العُمْرة بالحجّ فهو قياسٌ مع الفارق؛ لأنّ العمرة ليست مقيّدة بوقت تفوت به بخلاف الحجّ فمحدودٌ وقتُه يفوت بِفَوَاتِ وقته فَافْتَرَقَا. وقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« العُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا وَالحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلاَّ الجَنَّة » ففيه تفريقٌ بين الحجّ والعمرة في التكرار، وتنبيهٌ على ذلك، إذا لو كانت العمرة كالحجِّ لا تفعل إلاّ مرّة لَسَوَّى بينهما ولم يُفرِّق »(3).
وهذا إنما إذا تكرّرت العمرة مع تعدّد سفر المعتمر، أمّا في سفرة واحدة فعلى الصحيح في المسألة عدم مشروعية تعدّد العُمَر في سفرة واحدة قصد الخروج من مكة إلى التنعيم ليعتمر فيها قال ابن القيم:« ولم يكن صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم في عُمَرِهِ عُمْرَةٌ واحدةٌ خارجًا من مَكَّةَ كما يفعله كثير من الناس اليوم، وإنما كانت عُمَرُهُ كلُّها داخلاً إلى مكة، وقد أقام بعد الوحي بمكة ثلاث عشرة سنة لم يُنقل عنه أنه اعتمر خارجًا من مكَّةَ في تلك المدّة أصلاً، فالعمرة التي فعلها رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم وشرعها فهي عمرةُ الداخل إلى مكة، لا عمرةُ من كان بها فيخرج إلى الحِلِّ لِيعتمرَ، ولم يفعل هذا على عهده أحدٌ قطُّ إلاّ عائشة وحدها من بين سائر من كان معه؛ لأنها كانت قد أهلَّت بالعُمرة فحاضت فأمرها فأدخلت الحجَّ على العمرة وصارت قارنة، وأخبرها أنّ طوافها بالبيت وبين الصفا والمروة وقع عن حجّها وعمرتها، فوجدت في نفسها أن يَرجعَ صواحباتها بحجّ وعمرة مستقلين -فإنهنّ كنَّ متمتّعات ولَمْ يَحِضْنَ ولم يَقْرِنَّ- وترجعُ هي بعمرة في ضمن حجّتها فأمر أخاها أن يُعْمرها من التنعيم تطييبًا لقلبها، ولم يعتمر هو من التنعيم في تلك الحَجَّةِ ولا أحدٌ ممن كان معه »(4).
هذا، ولا مانع من أن يعتمر بعد فراغه من مناسك الحجّ إذا كان عائدًا مثلاً من زيارته للمسجد النبوي أو خروجه إلى الميقات إن أراد أن يكرّر عمرته، وخاصة ممن لم يسعه الوقت في أداء عمرته، لما أخرجه البيهقي «أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا كَانَتْ تَعْتَمِرُ فِي آخِرِ ذِي الحِجَّةِ مِنْ الجُحْفَةِ »(5).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 14 صفر 1428ه
الموافق ل: 4 مارس 2007م
__________
1- أخرجه البخاري في «الإحصار وجزاء الصيد »، باب حج النساء: (1764)، ومسلم في «الحج »، باب فضل العمرة في رمضان: (3039)، وأبو داود في «المناسك »، باب في العمرة: (1990)، وابن خزيمة في «صحيحه »: (3077)، والحاكم في «المستدرك »: (1779)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
2- أخرجه البخاري في «أبواب العمرة »، باب وجوب العمرة وفضلها: (1683)، ومسلم في «الحج »، باب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة: (3289)، والنسائي في «مناسك الحج »، باب فضل العمرة: (2629)، وابن ماجه في «المناسك »، باب فضل الحج والعمرة: (2888)، وابن حبان في «صحيحه »: (3696)، وابن خزيمة في «صحيحه »: (3072)، وأحمد: (7307)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
3- «زاد المعاد » لابن القيم: (2/100).
4- المصدر السابق: (2/94).
5- أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى »: (8807)، عن سعيد بن المسيب رحمه الله. قال الألباني في «السلسلة الصحيحة » (6/258):« إسناده صحيح ».
6- «مجموع الفتاوى » لابن تيمية: (26/92).(8/48)
****************** 09- فتاوى الأسرة ******************
01- المرأة
الفتوى رقم: 191
في حكم دراسة المرأة للعلوم الشرعية في الجامعة
السؤال: ما حكم دراسة المرأة للعلوم الشرعية في الجامعة؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فلا يخفى على كلّ ذي لب أنّ العلوم الشرعية هي أشرف العلوم وأنفعها لذلك وجب تحصيل العلم الشرعي بما يكفل له عبادة الله سبحانه وتعالى على الوجه الذي شرع، وحتى يتم العمل عند الله مقبولا يلزمه تحقيق شرطين أساسين: وهو أن يكون العمل الذي يقوم به المكلف صالحا ولا يكون صالحا إلاّ إذا قيدناه بالسنة ولا يتم معرفة السنة إلاّ بالتعليم والتحصيل، ولا يقتصر التحصيل على ذلك بل لا بد من الشرط الحاوي على العمل وهو تصحيح العقيدة من كل شائبة شرك حتى يصرف بالعمل لله سبحانه وتعالى، وهو معنى إخلاص العمل، ويتمثل هذين الشرطين في قوله تعالى: ?فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً?[الكهف: 110]. والمطلوب من العلم الشرعي هو العلم الضروري الذي بواسطته يعرف الأحكام ويعمل بها سواء للذكر والأنثى، إذ حاجة المرأة لإصلاح دينها وتزكية روحها ليست أقلّ من حاجتها إلى الطعام والشراب وغيرهما من لوازم الحياة لقوله تعالى:?يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً? [التحريم: 6]، والوقاية من النار بالإيمان والعمل الصالح ولا يتأتى ذلك إلاّ بالعلم والمعرفة.
هذا وخروجها إلى مظان وجود العلم الشرعي وعلى وجه الخصوص إلى المعاهد الشرعية في حالة عدم وجود من يقوم بتعليمها أولا، وعدم توفر العلم في الأماكن الأخرى التي تسعى ثانيا جائز لها بالضوابط الشرعية قصد تحصيل ما يكفيها لإقامة الدين والوقاية من النار، وكان لها العمل بالعلوم الشرعية حصنا ودرعا واقيا من الوقوع في المخالفات الشرعية، وضابطا يقوّم سلوكها وسيرتها بما يحقق لها سعادة الدين والدنيا.
والعلم عند الله وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.(9/1)
الفتوى رقم: 205
العطر للمرأة
السؤال: ما حكم الشريعة في المرأة التي تستعمل العطور؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فإنّه لا يجوز للمرأة أن تخرج متعطرة من بيتها متزينة أو متطيبة، سواء كان خروجها للصلاة في المسجد أو لزيارة محارمها، أو خروجها إلى السوق، وسواء تطيبت بالعطور في بيتها قبل الخروج أو في الطريق أو في المسجد، لأنّ ذلك مدعاة للفتنة، وقد جاء في الحديث :"أيما امرأة استعطرت ثمّ خرجت، فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي زانية، وكل عين زانية"(1) وثبت أيضا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم :"أيما امرأة أصابت بخورا فلا تشهد معنا العشاء الآخرة"(2) وفي رواية ابن ماجه قال صلى الله عليه وسلم :"أيما امرأة تطيبت ثم خرجت إلى المسجد، لم تقبل لها صلاة حتى تغتسل"(3) بل الواجب عليها إن خرجت للحاجة أن تخرج بالضوابط الشرعية متسترة ومحتشمة غير متطيبة قال صلى الله عليه وسلم:" لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وليخرجن تفلات"(4) ومعنى "تفلات" أي غير متطيبات.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
__________
1- أخرجه النسائي كتاب الزينة باب ما يكره للنساء من الطيب، وأبو داود كتاب الترجّل باب ما جاء في المرأة تتطيّب للخروج، والترمذي كتاب الأدب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم باب ما جاء في كراهية خروج المرأة متعطرة، والحاكم(2/396)، وأحمد(4/400)، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وحسنه الألباني في جلباب المرأة المسلمة(137)
2- أخرجه مسلم كتاب الصلاة باب خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة، أبو داود كتاب الترجل باب ما جاء في المرأة تتطيّب للخروج، والبيهقي(3/133)، والبغوي في شرح السنة(816)، وأبو عوانة في مسنده(2/17)، وأبو يعلى(545)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وانظر السلسلة الصحيحة للشيخ الألباني(3605).
3- أخرجه ابن ماجه كتاب الفتن باب فتنة النساء، وأبو داود كتاب الترجل باب ما جاء في المرأة تتطيّب للخروج، والبيهقي في السنن الكبرى(3/133)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وانظر السلسلة الصحيحة(1031).
4- أخرجه أحمد (2/439)، وأبو داود كتاب الصلاة باب ما جاء في خروج النساء إلى المسجد، والدارمي(1/293)، وابن الجارود(169)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الشيخ الألباني في الإرواء(2/293) رقم(515).(9/2)
الفتوى رقم: 209
في حكم سفر المرأة لوحدها
السؤال: هل يجوز لزوجتي أن تسافر بمفردها من فرنسا متوجهة إلى أهلها في الجزائر؟ مع العلم بأنّ المسافة في الطائرة لن تستغرق أكثر من ثلاث ساعات، وأنّها لن تبيت إلاّ في بيت أهلها.
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فقد وردت في مسألة سفر المرأة جملة من الأحاديث الصحيحة الثابتة، فمن ذلك:
ما أخرجه البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:" لا تسافر المرأة إلاّ مع ذي محرم، ولا يدخل عليها رجل إلاّ ومعها محرم، فقال رجل: يا رسول الله إنّي أريد أن أخرج في جيش كذا وكذا، وامرأتي تريد الحج فقال: اخرج معها"(1)، وأخرج مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم:« نهى أن تسافر المرأة مسيرة يومين إلاّ ومعها زوجها أو ذو محرم"(2)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا:" لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها محرم"(3).
والأصل المقرر-انطلاقا من هذه الأحاديث- ألاّ تسافر المرأة وحدها(4)، بل يجب أن تكون في صحبة زوجها أو ذي محرم لها، وهذا الحكم لا خلاف فيه لدخولهما في مضمون الحديث بصورة قطعية وإنّما الخلاف في تعدية الحكم لمعناهما، والمعنى المأخوذ من اعتبار الزوج وذي المحرم في الحديث هو الرفقة المأمونة، بمعنى أنّ الحكم في هذه الأحاديث دائر بين اتباع اللفظ أو اعتبار المعنى، والصحيح أنّ اعتبار المعنى-في هذه المسألة- أقوى فيتعدى الحكم إلى غير الزوج وذي محرم ممّن يحصل معهم الأمن، ذلك لأنّ السفر يندرج في أحكام العادات والأصل فيها الالتفات إلى المعاني والمقاصد، كما أنّ سفر المرأة بغير محرم إنّما حرم سدّا لذريعة المحرم، وما حرم لسد الذريعة يباح للحاجة، وممّا يقوي اعتبار المعنى ما رواه البخاري في صحيحه أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد أذن لأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالحج في آخر حجة حجها، فبعث معهنّ عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما(5)، ثمّ كان عثمان رضي الله عنه بعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه يحج بهنّ في خلافته أيضا، وهذا حجة وإجماع عل جواز سفر المرأة برفقة نساء ثقات لأنّ أمّهات المؤمنين كنّ ثمانية في سفرهنّ للحج، وقد اتفق عمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف ونساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم على هذا الأمر من دون نكير عليهنّ من غيرهنّ من الصحابة رضي الله عنهم.
فالحاصل أنّه يلزم صحبة الزوج أو ذي المحرم للمرأة في السفر، وأنّه يقوم مقام الزوج وذي المحرم وجود الرفقة المأمونة المتمثلة في جماعة من النساء الثقات، أو في قوم عدول من الرجال والنساء الثقات، وهو مذهب جمهور أهل العلم.
هذا، وإذا تقرر من مفهوم الأحاديث السابقة عدم جواز سفر المرأة لوحدها فإنّ مدة استغراق الطائرة ومبيت المرأة عند أهلها لا تأثير له في حكم المنع.
أمّا الإقامة في بلد الكفر فيمكن مراجعة حكمها في موقعنا على الأنترنيت.
والعلم عند الله وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
__________
1- أخرجه البخاري في جزاء الصيد(1862)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
2- أخرجه البخاري في جزاء الصيد(1864)، ومسلم في الحج(3326)، وأحمد(11599)، والبيهقي(5614)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
3- أخرجه البخاري في تقصير الصلاة(1088)، ومسلم في الحج(3332)، والترمذي في الرضاع(1203)، ومالك(1803)، والبيهقي(5615)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
4- اكتفى بعض العلماء بتحصيل أمن الطريق لجواز سفر المرأة وهو من اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله- ذكره ابن مفلح في الفروع(3/177)، قال عنه:"تحج كل امرأة آمنة مع عدم المحرم، وقال: إنّ هذا متوجه في كل سفر طاعة... ونقله الكرابيسي عن الشافعي في حجة التطوع، وقال بعض أصحابه فيه وفي كلّ سفر غير واجب كزيارة وتجارة"، وهذا المنقول أيضا عن الظاهرية(انظر المحلى لابن حزم:7/47).
5- أخرجه البخاري في جزاء الصيد(1860)، والبيهقي(10437).(9/3)
الفتوى رقم: 212
في حكم دخول المرأة الحمّام للاستشفاء والعلاج
السؤال: هل يجوز للمرأة المريضة مرض (الروماتيزم) المزمن أن تذهب إلى الحمّام قصد العلاج، بعد فشل كل محاولات العلاج بالأدوية، علما أنّ هذا الحمّام متوفر على غرف خاصّة، وهل يمكن في - حالة الجواز- أن ترافقها من تعينها في الاغتسال لعجزها؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فلقد وردت نصوص حديثية كثيرة تمنع دخول المرأة الحمّام مطلقا سواء بإزار أو لوحدها من ذلك حديث عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:« الحمّام حرام على نساء أمّتي »(1) وحديث:« من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل حليلته الحمّام »(2) وحديث:« والذي نفسي بيده ما من امرأة تنزع ثيابها في غير بيت أحد من أمّهاتها إلاّ وهي هاتكة كلّ ستر بينها وبين الرحمن »(3).
غير أنّه إذا ثبت أنّ الحمّام له تأثير-بإذن الله- في علاج السقم العالق بالمريضة بتقرير أهل الخبرة من أهل الطب الثقات، وليس لها طريق للعلاج إلاّ به فإنّه يجوز لها أن تدخله-ضرورة(4) تقصدا لعلاجها، وقد جاء في سنن أبي داود بسند ضعيف عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:« ستفتح لكم أرض العجم، وستجدون فيها بيوتا يقال لها: الحمّامات، فلا يدخلنها الرجال إلاّ بالأزر، وامنعوها النساء إلاّ مريضة أو نفساء »(5، ونقل البغوي عن جبير بن نُفير قال:" قرئ علينا كتاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالشام: لا يدخل الرجل الحمّام إلاّ بمئزر، ولا تدخله المرأة إلاّ من سقم.."(6) وهذا المعنى يقويه النظر والاعتبار في أنّه إذا كان الأصل أنّ المرأة مأمورة بالتستر والتحفظ من أن يراها أجنبي ويجوز لها ضرورة أن تكشف بعض أعضائها في الجراحة أو الولادة أو التطبيب عامّة فيجوز لها أيضا في مسألتنا إلحاقا قياسيا، غير أنّ هذه الضرورة تقدر بقدرها، فإذا كانت قادرة على استحمامها بمفردها استغنت عن غيرها، وإذا احتاجت إلى إحداهنّ لإعانتها على الاغتسال لعجزها فلا يجوز لغيرها الدخول عليها إذا كفيت بالأولى، وإذا ارتفع عنها سقمها وعفيت من مرضها أو وجدت وسيلة طبية أخرى تغنيها عنها، فإنّ حكم المنع يعود لانتفاء الضرورة والحاجة عملا بقاعدة:" إذا زال الخطر عاد الحظر".
والعلم عند الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 19 ربيع الأول 1426ه
الموافق ل : 28 أفريل 2005 م
__________
1- أخرجه الحاكم(4/322) وحسنه الألباني في صحيح الجامع: (3192)، وصححه في السلسلة الصحيحة(3439).
2- أخرجه الترمذي في الأدب(3031)، وأحمد(15027)، من حديث جابر رضي الله عنه. وحسنه الألباني في صحيح الجامع (6506)، وصححه في صحيح الترغيب والترهيب(164)، وآداب الزفاف(67).
3- أخرجه أحمد(27797)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب(169)، وفي آداب الزفاف(68).
4- مرقاة المفاتيح للقاري:(8/254-255).
5- أخرجه أبو داود في الحمام(4013)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وضعفه الألباني في ضعيف الجامع(2079). وفي المشكاة(4476).
6- شرح السنة للبغوي(12/125).(9/4)
الفتوى رقم: 215
تدريس المرأة في المسجد مع أخذ الأجرة
السؤال: سائلة تودُّ معرفة ما إذا كان يجوز لها -أو لغيرها- اتِّخاذ المسجد مكانا لاكتساب الرزق وذلك بتقديم دروس (سواء في محو الأمية أو دروس تتعلق بالبرامج الدراسية) مع العلم أنّها بحاجة للمال ولم تجد عملا يغنيها عن ذلك، إضافة إلى أنّها فكرت في جعل نصيب من ذلك المال للمسجد، لأنّه بدون المسجد لا وجود لمكان آخر لتقديم هذه الدروس واكتساب هذا المال، فكان ذلك كمن يكتري محلا لهذا العمل، مع العلم أنّ القصد من تقديم هذه الدروس هو وجه الله تعالى -ثبتنا الله على ذلك- لولا أنّ الحاجة دفعتنا للتفكير في أخذ الأجر لامتنعنا عن هذا العمل، فإذا كان جائزا فاللّهم بارك، وسيكون للمسجد نصيب، وإن لم يكن جائزا رجعنا عن ذلك وتبنا إلى الله تعالى.
أرجو أن لا أكون قد أطلت في الكلام، وتقبل منّا فائق التقدير والاحترام، وبارك الله فيك وجزاك عنّا كلّ خير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فإذا كانت تستأجر أحد جوانب المسجد التابعة له تبعية قرار بحيث تزيل بهذا الفعل وقفية المسجد المخصصة للذكر والصلاة فإنّ هذا التصرف لا يصح للزوم الوقف، ومتى لزم فلا يجوز بيعه ولا هبته ولا التصرف فيه بأي شيء يزيل وقفيته.
أمّا استئجار أحد جوانب المسجد التابعة له تبعية اسمية أو منفصلة عنه بحيث لا تزيل وقفيته، فينظر في مضامين التدريس فإن كانت متجانسة مع مقاصد المسجد ومتفقة مع غايته فيجوز ذلك كتدريس العلوم الشرعية وتحفيظ القرآن ..أمّا إن كان التدريس واقعا على العلوم الدنيوية النافعة دون الضارة فيجوز مؤقتا بحسب الحاجة لا على سبيل الدوام والتأبيد، والأمر يرجع إلى ناظر الوقف وسلطان تقديره(1).
والله أعلم؛ وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليما.
الجزائر في 9 شعبان 1418ه
الموافقل : 9 ديسمبر 1997م
__________
1- لمزيد التوسع في المسألة انظر رسالة أبي عبد المعز:" فرائد القواعد لحل معاقد المساجد".(ص:52).(9/5)
الفتوى رقم: 216
اغتسال المرأة في بيت أقاربها
السؤال: هل يجوز للمرأة أن تستحمّ أو تغتسل في بيت أقاربها كعمها وخالها؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فإنّ علة منع نزع ثياب المرأة في غير بيتها هي حفظ العورات وسترها وأمن الفتنة، وعليه فمتى تعذر على المرأة الاستحمام في بيتها أو بيت زوجها فإنّه يجوز أن تستحم في بيت أحد محارمها أو حماتها أو خالتها إن أمنت الفتنة لحديث أمّ الدرداء قالت:" خرجت من الحمّام فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من أين يا أمّ الدرداء؟ قالت: من الحمّام، فقال :"والذي نفسي بيده، ما من امرأة تضع ثيابها في غير بيت أحد من أمهاتها، إلاّ وهي هاتكة كلّ ستر بينها وبين الرحمن"(1)، ولأنّه -ولا شك - أنّ المرأة يجوز أن تسافر مع أحد محارمها، ولا يسعها في سفرها أن تقيم فرائضها من صلوات وغيرها إلاّ بالاستحمام إذا ما احتلمت، وهي مأمونة بوجود المحرم كما لا يخفى.
والله أعلم، وفوق كلّ ذي علم عليم، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
__________
1- أحمد(27797)، من حديث أمّ الدرداء رضي الله عنها.وصححه الألباني في الثمر المستطاب(1/31)، وفي آداب الزفاف(60).
قال المناوي في فيض القدير (1/136): قوله: (وضعت ثيابها في غير بيت ز وجها) كناية عن تكشفها للأجانب وعدم تسترها منهم (فقد هتكت ستر ما بينها وبين الله عز وجل) لأنه تعالى أنزل لباسا ليوارين سوءاتهن وهو لباس التقوى وإذا لم تتقين الله وكشفن سوءاتهن هتكن الستر بينهن وبين الله تعالى، وكما هتكت نفسها ولم تصن وجهها وخانت زوجها يهتك الله سترها، والجزاء من جنس العمل.(9/6)
الفتوى رقم: 219
في حكم إزالة الشعر النابت بين الحاجبين
السؤال: ما حكم نزع أو حلق الشعر الذي ينبت بين الحاجبين إن كانا مقترنين؟ وهل حكم المرأة والرجل فيه سواء؟ بارك الله فيكم.
الجواب: الحمد لله والصلاة على من أرسله الله رحمة للعالمين وآله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما أما بعد:
فلا يجوز حلق الشعر النابت بين الحاجبين أو نمصه لعموم لعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم النامصات والمتنمصات، واللعن يقتضي تحريم الفعل الذي لعن فاعله، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّ ذلك يُعدُّ من تغيير خلق الله تعالى لما رواه مسلم من حديث عبد الله بن مسعود:"لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن، المغيرات لخلق الله"(1) والذكور والإناث سواء من غير تفريق بين الحلق والقص والنتف في الحكم، وجدير بالتنبيه أنَّ شعر الحاجبين إذا فحش كثيرًا بحيث يضرُّ النازل منه العين، فيجوز إزالة ضرر الشعر الزائد المؤثر على العين لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« لا ضرر ولا ضرار"(2) ويزال بقدر دفع الضرر كما هو مقرر في القواعد.
و العلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
الجزائر في: 18 شوال 1426ه
الموافق ل : 20 نوفمبر 2005م
__________
1- أخرجه البخاري في اللباس(5931)، ومسلم في اللباس والزينة(5695)، وأبو داود في الترجل(4169)، والترمذي في االأدب(2782)، والنسائي في الزينة(5099)، وابن ماجه في النكاح(1989)، وأحمد(4212)، والدارمي(2703)، والبيهقي(15230)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
2- أخرجه ابن ماجه في الأحكام رقم(2341)، وأحمد(3/267)، وصححه الألباني في الإرواء(3/408) رقم(896)، وفي غاية المرام(68).(9/7)
الفتوى رقم: 225
حلق المرأة لشعر ساقيها
السؤال: هل يجوز للمرأة أن تحلق شعر ساقيها؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فأما ما ذهب إليه بعض الحنابلة إلى جواز النمص بإذن الزوج إلاّ إذا وقع تدليس فيحرم، وقد صرح بعض الشافعية استحباب حلق المرأة الشارب واللحية أو نتفها إذا ثبتت لها وكذلك شعر ساقها معللين أنّ بقاء ذلك مثلة في حقها، والمثلة في الإسلام ممنوعة ولأنّ تشبه النساء بالرجال حرام، فإزالة مظهر التشبه مطلوب ولا يكون ذلك تغييرا لخلق الله بل تثبيت له لأنّ الله خلق المرأة بدون لحية ولا شارب فإزالة هذا المناقض ليس فيه تغيير لما مضت سنة الله في خلق المرأة، والأحوط -عندي- أن لا تحلق المرأة شعر ساقها لما فيه من تغيير لخلق الله تعالى، ولما رواه مسلم من حديث عبد الله بن مسعود:"لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن، المغيرات لخلق الله"(1) الحديث، والنمص في اللغة نتف الشعر لذلك لا يختص بالحاجب ولا بالوجه، بل هو شامل بإطلاق الحديث إلى أيّ مكان يقع في الجسد، ومذكور خصوص الحاجب عند بعض الشراح ليس قيدا بل محمول على الغالب الأعمّ كالوشم فلا يختص بالوجه فهو عام لسائر البدن، وأمّا حديث الطبري عن امرأة أبي إسحاق قالت لعائشة:"المرأة تحف جبينها لزوجها؟ فقالت: أميطي عنك الأذى ما استطعت"(2)، فقد ضعفه الألباني رحمه الله، ولو صح فقد تقدم من المرفوع ما يعارضه، أمّا التعليلات السابقة والحكم بصحتها إنّما يصدق على المثلة والتشبيه بإرادته واختياره وبفعله فهاهنا ينتفي هذا الاختيار كما لا يخفى.
والله أعلم، وفوق كلّ ذي علم عليم، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
__________
1- أخرجه البخاري في اللباس(5931)، ومسلم في اللباس والزينة(5695)،وأبو داود في الترجل(4169)،والترمذي في الأدب(2782)،والنسائي في الزينة(5099)، وابن ماجه في النكاح(1989)، وأحمد(4212)، والدارمي(2703)، والبيهقي(15230)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
2- أخرجه الطبري وضعفه الألباني في غاية المرام رقم(96).(9/8)
الفتوى رقم: 228
نزع الخمار من أجل صنع بطاقة التعريف
السؤال: امرأة تريد صناعة بطاقة التعريف وطلب منها صور من غير خمار فهل يجوز لها نزع الخمار عندئذ؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فالصور الشمسية لطالبة بطاقة التعريف، فإنّه إذا كانت حاجتها إليها مؤكدة بحيث يترتب على تركها لها ضرر ومفسدة، وتعذرت كافة السبل لتقديم صور مستترة، فعندي أنّ الأمر إذا ضاق اتسع، وإذا اتسع ضاق، فالمطلوب اتقاء الله تعالى في كلّ الأحوال وبقدر الإمكان.
والله أعلم، وفوق كلّ ذي علم عليم، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
الجزائر في 14 شوال 1420هـ
الموافق لـ: 22 جانفي 2000م(9/9)
الفتوى رقم: 232
حكم مصافحة المرأة العجوز
السؤال: ما حكم مصافحة العجوز (60) سنة أو أكثر؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فإنّه باستثناء محارمه فلا يجوز-شرعا- للرجل أن يصافح امرأة أجنبية لا تحل له سواء شابة كانت أو عجوزا، وسواء بحائل أو بغير حائل لعموم حديث معقل بن يسار رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:« لأن يطعن رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من يمس امرأة لا تحل له »(1) ولم يفرق الحديث بين الوصفين والحالتين، ويؤيد ذلك فعله صلى الله عليه وسلم أنّه لما بايع النساء لم يبايعهن بالمصافحة كما صنع ذلك مع الرجال وإنّما بايعهن بالكلام، قالت عائشة رضي الله عنها:«ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط، ما كان يبايعهن إلاّ بالكلام »(2)، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:« إني لا أصافح النساء »(3) والخطاب له خطاب لسائر أمته.
ومن جهة أخرى فإنّ التماس البشرة حال المصافحة يحرك الشهوة بالمس وهو أعظم من النظر، الأمر الذي يحدث فتنة إلاّ في الشيء النادر، والنادر منتف حكمه فليس له اعتبار، ولا يخفى أنّ مثل هذه الفتن أسبابها ودواعيها حذر منها الشرع كما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم:« ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء »(4) وقوله صلى الله عليه وسلم:«إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل في النساء »(5) ويحرم ذلك قطعا لأسباب الفتنة وسدا لذريعة الشر والخبث، جريا على قاعدة:" ما أدى إلى حرام فهو حرام" لأنّ الوسائل لها حكم المقاصد.
أمّا ما نقل عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنّه كان في خلافته يخرج إلى بعض القبائل التي كان مسترضعا فيها، فكان يصافح العجائز، فقد استغربه الزيلعي في "نصب الراية"(6) وقال الحافظ في "الدراية":" لم أجده"(7)، وأمّا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه كان يصافح النساء من تحت الثوب فضعيف لا ينتهض للاحتجاج فضلا عن معارضته بالصحيح من الأحاديث الصحيحة(8).
هذا، وإذا كان مصافحة المرأة الأجنبية لا يجوز فتقبيلها يحرم من باب أولى اتفاقا لما أخرجه أبو داود وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا:«لكل ابن آدم حظه من الزنا... فاليدان تزنيان وزناهما البطش، والرجلان تزنيان وزناهما المشي والفم يزني وزناه القُبَل »(9). أمّا إلقاء السلام عليهن إذا أمنت الفتنة ودعت الحاجة فالأصل فيه الجواز لحديث أسماء بنت يزيد رضي الله عنهما:" أن رسول الله صلى الله عليه و سلم مرَّ في المسجد يوما وعصبة من النساء قعود، فألوى بيده بالتسليم"(10) ولحديث أمّ هانيء أنّه لمّا دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم في فتح مكة، سلّمت عليه، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم:"مرحبا"(11). ولحديث سهل بن سعد رضي الله عنه قال:" كانت لنا عجوز... فإذا صلينا الجمعة انصرفنا ونسلم عليها.."(12) ولحديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" يا عائشة، هذا جبريل يقرأ عليك السلام" قالت: قلت وعليه السلام ورحمة الله، ترى ما لا نرى"(13) وقد كان جبريل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم على صورة الرجل، وقد بوّب البخاري لهذا الحديث وما قبله: (باب تسليم الرجال على النساء، والنساء على الرجال) قال الحافظ في الشرح:" والمراد بجوازه أن يكون عند أمن الفتنة"(14).
والعلم عند الله تعالى وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصل اللهم على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
__________
1- أخرجه الروياني في مسنده(227/2)، والطبراني في الكبير(20/210)، من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة(1/448) رقم(226)
2- أخرجه البخاري في الشروط(2713)، ومسلم في الإمارة(4941)، وأحمد(27080)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
3- أخرجه الترمذي في السير(1597)، والنسائي في البيعة(4181)، وابن ماجه في الجهاد(2874)، ومالك في الموطأ(1812)، وأحمد(27765)، والدارقطني في السنن(4327)، والبيهقي(17010)، من حديث أميمة بنت رقيقة رضي الله عنها، والحديث صححه الألباني في السلسلة الصحيحة(2/63) رقم(529).
4- أخرجه البخاري في النكاح(4808)، ومسلم في الذكر والدعاء(6945)، والترمذي في الأدب(2780)، وابن ماجه في الفتن(3998)، وأحمد(22463)، والحميدي في مسنده (574)، من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه.
5- أخرجه مسلم في الذكر والدعاء(6948)، والترمذي في الفتن(2191)، وابن حبان(3221)، وأحمد(10785)، والبيهقي(6746)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
6- نصب الراية للزيلعي:(4/240).
7- الدراية لابن حجر:(2/225).
8- انظر السلسلة الصحيحة للألباني(2/64).
9- أخرجه البخاري في الاستئذان(6243)، ومسلم في القدر(6925)، وأبو داود في النكاح(2152)، وأحمد(11209)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
10- أخرجه أبو داود في الأدب (5204)، والترمذي في الاستئذان(2697)،وابن ماجه في الأدب(3701) وأحمد(28356)، من حديث أسماء بنت يزيد رضي الله عنها. وصححه الألباني دون الإلواء باليد في جلباب المرأة المسلمة(194).
11- أخرجه البخاري في الصلاة(357)، ومسلم في صلاة المسافرين(1702)، من حديث أمّ هانئ رضي الله عنها.
12- أخرجه البخاري في الاستئذان(6248)، والبيهقي(6160)، من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.
13- أخرجه البخاري في الاستئذان(6249)، والترمذي في الاستئذان(3882)، وأحمد(26494)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
14- فتح الباري لابن حجر(11/41).(9/10)
الفتوى رقم: 241
في حكم قص شعر المرأة إلى شحمة الأذنين
السؤال: ما حكم قصّ الشّعر دون المنكبين مع العلم أنّ الشعر يغطّي الأذنين للمرأة وما الدليل على ذلك ؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فإنّه يجوز للمرأة أن تقصّ شعرها من قرنها وذؤابتها، فقد كان أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأخذن من رؤوسهنّ حتى تكون كالوفرة(1)، والوفرة ما جاوز شحمة الأذنين ، لكن بشرط أن لا تتشبه في قصّها لشعرها بالرّجال ، ولا الكافرات العاهرات على طابع غالب مأخوذ من المجلاّت تعني بالزينة مستوردة من البلدان الغربية ، لأنّ النّبي صلى الله عليه وسلّم " لعن المتشبهات من النساء بالرجال"(2) وقال - أيضا - "من تشبه بقوم فهو منهم "(3) وقال "ليس منّا من تشبّه بغيرنا " لما في التشبه بهم في الظاهر يدلّ على محبتهم في الباطن والله سبحانه وتعالى يقول ?مَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ? [المائدة: 51].
أمّا تحليق شعرها كليّة فيحرم إجماعا إلاّ لضرورة من علّة أو مرض.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
__________
1- أخرجه مسلم في الحيض(754)، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن.
2- أخرجه أبو داود في اللباس(4099)، والترمذي في الأدب(3013)، وابن ماجه في النكاح(1979)، من حديث ابن عباس رضي الله عنه. وصححه الألباني في صحيح الجامع(5100).
3- أخرجه أبو داود في اللباس(4033)، وأحمد(5232)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وصححه الألباني في الإرواء(1269).(9/11)
الفتوى رقم: 249
نصيحة للمرأة التي توفي ولدها الصغير
السؤال: أبدأ بالحمد مصليّا على**** محمد خير نبي أرسلا، أمّا بعد:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
إلى شيخنا الفاضل فركوس -حفظه الله- ، تريد من حضرتكم أم جوابا كافيا شافيا ليطمئن قلبها، وبارك الله فيكم،
كنت طالبة في جامعتكم وانقطعت عن الدراسة، وبعد عام تزوجت فسكنت مع أناس جهال (أصحاب القرى) في بناء فوضوي، ثمّ رُزقت بفلذات كبدي ، ثمرة فؤادي، قرة عيني، تربى بين أحضاني لم أغفل عنه ثانية واحدة، كنت له أمّا وطفلة صغيرة وأستاذة، كنت أحفظه القرآن والأدعية، كانت فيه كلّ الأوصاف الحميدة، فملأ عليّ البيت، حتى أنّه يناديني بـ :"أمّي حياتي" (عمره عامان ونصف).
ولكن قبل (15) يوما من وفاته، جاءت جارتي إليّ لأعطيها الشّب (حجرة بيضاء) لأنّ أحد طفليها مريض، وكانت هذه الأخيرة تكرهني، وهذا ظهر لي بلسانها (وليس تخيلا) وبعد وقت قصير شممت رائحة كريهة جدا، فخفت كثيرا منها، وكأني شعرت بأنّ هذا المفعول صنع لابني فمن ذلك اليوم تغير ابني تغيرا كليا، فكان شعاره "اتركني افعل ما أريد" يحبّ الخروج، يحبّ اللعب، فإذا نام لا ينهض حتى انهضه، وجهه تغير وجسمه ووو...
يوم الأربعاء (18) أوت رأيت في المنام أنّ جنية دخلت بيتي وخطفت مني شيئا عزيزا ولكن لا أدري ما هو، فكان خروج تلك الجنية هو نفسه آخر خروج ابني من البيت لآخر مرّة، فقبّلني فلذات كبدي من جبهتي وخرج كعادته يجلس أمام عتبة الباب، فناداه طفل من الجيران عمره لا يتجاوز تسع سنوات، وأنا أنظر، ولم ألفظ أي كلمة، فدخلت إلى البيت ثمّ شعرت بشيء يخنقني فخرجت فجأة كأنّ منبها نبهني، فناديت ابني فلم أجده في طرفة عين، وصلني خبر وفاة ابني ثمرة فؤادي بأنّه رمي في حفرة بعيدة عن البيت عمقها أكثر من (40)كلم.
يا شيخ؛ أومن بالقضاء والقدر خيره وشره، لا يصيبنا إلاّ ما كتبه الله لنا؛ ولكن ليطمئن قلبي فقط:
هل فلذة كبدي مات لأنّه مسحور؟
هل توفي لأنّي تركت ابني يخرج ؟
هل توفي لأنّ ابن الجيران ظالم ؟
وما حكم شريعتنا فيمن قتل نفسا بريئة طاهرة؟
نصيحة من حضرتكم لكي لا أقول في يوم من الأيام لماذا لم أفعل ولماذا فعلت و...؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين؛ والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فاعلمي -صبرك الله تعالى وأخلفك خيرا منه- أنّ ما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال :"عجبا لأمر المؤمن إنّ أمره كلّه خير، وليس ذلك لغير المؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له"(1) وقوله صلى الله عليه وسلم لابنته وقد أرسلت إليه تطلب حضوره، إذ ولدها قد احتضر فقال لرسولها:"اقرأها السلام، وقل لها: إنّ لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب"(2) هذا وإنّما ينال درجة الصبر في المصائب بترك الجزع والمبالغة في الشكوى وإبراز الكآبة وتغيير العادة المأكل والملبس والمفرش، لذلك فالواجب إظهار الرضا بقضاء الله تعالى والبقاء على عادتك من غير تغيير وتجنبك لما قد سلف ذكره من غير حمل الناس على التهم وسوء الظن-إن لم يحقق-، ولا يخرج عند مقام الرضا توجع القلب وفيضان الدمع لكونه من مقتضى الجنس البشري، وأختم كلامي هذا بما أخرجه البخاري وغيره من حديث أنس بن مالك أنّ أمه(أم سليم بنت ملحان الأنصارية) -رضي الله تعالى عنها- قالت:"توفي ابن لي وزوجي أبو طلحة غائب فقمت فسجيته في ناحية البيت، فهيأت له إفطاره فجعل يأكل، فقال: كيف الصبي؟ فقلت: بحمد الله لم يكن منذ اشتكى بأسكن منه الليلة، ثمّ تصنعت له أحسن ما كنت أتصنع له قبل ذلك حتى أصاب منّي حاجته، ثمّ قلت: ألا تعجب من جيراننا؟ قال: مالهم؟ فقلت: أُعيروا عارية فلما طُلبت منهم واسترجعت جزعوا، فقال: بئس ما صنعوا، فقلت: هذا ابنك كان عارية من الله تعالى، وإنّ الله قبضه إليه. فحمد الله واسترجع، ثم غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال:" اللهم بارك لهما في ليلتهما" فقال الراوي:"فلقد رأيت لهم بعد ذلك في المسجد سبعة كلهم قد قرأ القرآن"(3) ولعل في هذه القصة العبرة الكافية نسأل الله تعالى المان بفضله على جميع خلقه أن يوفي صبرك(4) الأجر الموعود في قوله
تعالى:?إنّما يُوَفَّى الصّابُِرونَ أَجْرَهُم بِغَيرِ حِسَاب? [الزمر:10] كما نسأله تعالى العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة لنا ولجميع المسلمين.
والعلم عند الله تعالى؛ وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
الجزائر في:12محرم1421ه
الموافق ل :18أفريل2000م
__________
1- أخرجه مسلم في الزهد والرقائق رقم (2999) من حديث صهيب رضي الله عنه.
2- أخرجه البخاري في الجنائز رقم (1284)، من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه
3- أخرجه البخاري في الجنائز رقم(1301)، ومسلم في فضائل الصحابة رقم(6476)،من حديث أنس رضي الله عنه. وانظر روايات القصة وألفاظها في أحكام الجنائز للشيخ الألباني ص:(35)وما بعدها.
4- للشيخ -حفظه الله- رسالة بعنوان:" التذكرة الجلية في التحلي بالصبر والشكر عند البلية". وهي مرفقة برسالة:"40سؤالا في أحكام المولود" من العدد(7) ضمن سلسلة"ليتفقهوا في الدين".(9/12)
الفتوى رقم: 270
في حكم خروج المرأة للعمل عند مقتضى الحاجة
السؤال: أخت تخرجت من الجامعة، وأبوها عاطل عن العمل، ولها إخوة صغار وليس لهم من ينفق عليهم، فهل يجوز لها العمل لسد حاجياتهم؟ هذا من جهة، ومن جهة أخرى تقدم لخطبة هذه الأخت رجل يصلي الصلوات الخمس في المسجد، وهو متخلق وتاجر، لكنّه ليس سلفي المنهج، فهل تقبل به زوجا أم تعمل لتكسب القوت؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فإنّ المرأة ليست مطالبة بتولي أمر البيت ما دام أنّ الأب قادر على التكسب والإنفاق والأصل أنّ المرأة تبقى مكفية المؤونة من قبل أوليائها ثمّ تتنقل إلى بيت الزوجية ليقوم الزوج عليها، هذا هو الأصل لكنّه إذا كانت المراة ليس لها من يغطي نفقاتها من مأكل ومشرب وملبس وأدوية، ولها إخوة صغار قصّر عاجزون على العمل والتكسب ولها فقط في قدرتها ووسعها التكسب جاز لها الخروج للعمل وإن خالفت أصلها ضرورة وحاجة على وجه الاستثناء، فتخرج بالضوابط الشرعية ولها ذلك ما لم تجد المنفق عليها أو زال خطر الإنفاق لوجود من يعيل العائل ففي هذه الحال تعود إلى أصلها فتبقى في بيتها لقوله تعالى:? وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى?[الأحزاب:33].
هذا وإذا كانت المرأة مؤهلة للزواج ورأت نفسها إن تركت الزواج قد تخشى على نفسها الفتنة وهي قادرة على إقامة حدود الله مع زوجها، ففي هذه الحال يجب عليها أن تتزوج مع الكفء الذي يُرضى خلقه ودينه، أمّا إذا كان الرجل لا يعرف من أمور الدين سوى الصلاة ويأتي بالأمور المخالفة للشرع في تجارته كتعامله مع البنوك وسائر معاملاته غير شرعية فهذا لا خير فيه وإن كان ثريا، وإنّما تحصن نفسها برجل صاحب خلق ودين وعفة ويحث امرأته على دينها ولو كانت مداخيله متوسطة، وإذا كان الرجل الذي يريد أن يتقدم للزواج يدّعي أنّه سيستقيم مستقبلا، فينظر في أمره ويترك حينا فإن ظهر منه الالتزام ففي هذه الحال الرّأي أن تقبلي به بالوصف المقترن به المذكور سابقا. أمّا إذا كانت المرأة لا تخشى من نفسها الوقوع في الفتنة أو أنّها ترى من نفسها وهي في هذه الحال أنّها لا تستطيع إقامة حدود الله على زوجها فالنظر يقتضي أن تعزف عن الزواج به وتعتني بأمر بيتها ريثما يتولى إخوتها القصر بكفاية البيت من المئونة وإذا زال خطر الإنفاق كما تقدم عاد الحظر في أنّ المرأة لا تمارس مهنتها كعاملة خارج البيت ولتحدث نفسها إذا خرجت للعمل في أنّها لا يكون عملها إلاّ آنيا وأن لا تكون باغية لهذا العمل ولا متعدية لأمر الشرع حتى يقبل هذا الخروج.
والعلم عند الله وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه وسلم تسليما.
الجزائر في: 09رجب 1426هـ
الموافق لـ:14 أوت 2005م(9/13)
الفتوى رقم: 280
في حكم مشاركة المرأة سياسيا
السؤال: نرجو إفادتنا عن حكم مشاركة المرأة سياسيا وخاصة في الانتخابات البلدية والبرلمانية؟ حفظكم الله تعالى.
مقدمه الطالب: حسن محمد المعلمي- اليمني -
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فلئلا يلبس الحق بالباطل فإنّه ينبغي التفريق بين حكم مشاركة المرأة سياسيا في النظام الإسلامي، وبين الأنظمة السياسية الأخرى، وخاصة النظام الديمقراطي الذي سارت عليه معظم البلدان الإسلامية.
ومشاركة المرأة سياسيا في النظام الإسلامي ينظر إليها من حيث مشاركتها للترشيح لمنصب الخليفة(رئيس الدولة) أو مشاركتها لبقية الولايات العامة، أو من حيث مشاركتها في اختيار الخليفة وانتخابه، أو انتخاب الولاة واختيارهم.
ومن جهة أخرى ينظر إليها من حيث مشاركتها للترشيح في عضوية مجلس الشورى، ومن حيث مشاركتها لاختيار أعضائه وانتخابهم.
أمّا بخصوص تولي منصب الخليفة(رئيس الدولة) أو ما يقوم مقامه من سائر المسئوليات الكبرى والولايات العامة فإنّ الذكورة فيه شرط مجمع عليه، قال الجويني:" وأجمعوا أنّ المرأة لا يجوز أن تكون إماما"(1) وهو ما نصّ عليه ابن حزم في "مراتب الإجماع"(2) لما رواه البخاري وغيره من حديث أبي بكرة رضي الله عنه قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ أهل فارس ملكوا عليهم بنت كسرى قال:"لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"(3).قال الشوكاني:" فيه دليل على أنّ المرأة ليست من أهل الولايات، ولا يحل لقوم توليتها، لأنّ تجنب الأمر الموجب لعدم الفلاح واجب"(4).
هذا، وإذا كانت لا يحق لها أن تتولى منصب الخلافة أو الإمامة، فلها أن تشارك في إبداء رأيها فيمن يصلح لهذا المنصب، لأنّ إبداء الرأي من لوازم المشاورة ومقتضياتها وتدخل في عموم قوله تعالى: ?وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ? [الشورى: 38] ويدل على ذلك ما نقله ابن تيمية في قصة انتخاب الخليفة بعد وفاة عمر بن الخطاب رضي الله عنه من بين الستة الذين اختارهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:" بقي عبد الرحمن يشاور الناس ثلاثة أيام، وأخبر أنّ الناس لا يعدلون بعثمان، وأنّه شاور حتى العذارى في خدورهنّ"(5).
- أمّا مجلس الشورى القائم على أركان الحكم في الإسلام، والذي تجري المشاورة فيه مع الأمة في الأمور الشرعية الاجتهادية التي لا نص فيها، فإنّ أهل الشورى هم أهل الحل والعقد الذين يقومون باختيار الخليفة عند شغور منصبه، ويراقبون تصرفاته وتصرفات نوابه، فهذا المجلس الذي يجمعهم يقوم بوضع التنظيمات اللازمة لإدارة شؤون الدولة طبقا لأحكام الشريعة الإسلامية المنصوص عليها في الكتاب والسنة، ووفقا للأحكام الشرعية الناتجة عن طريق الاجتهاد والاستنباط، وهو غير المجلس الشعبي أو مجلس الأمة أو البرلمان كما هو معهود في النظام الديمقراطي، فإنّ للمرأة أن تبدي رأيها في أهل الشورى اختيارا وانتخابا، لأنّ الاجتهاد والإفتاء غير مقصور على الرجال وغير محظور على النساء، وموضوع الاجتهاد شامل لشؤون الدولة وعلاقة الخليفة بالأمة، وقد صرح الفقهاء بأنّ الأنوثة لا تمنع الأهلية للإفتاء والاجتهاد(6)، وقد ذكر ابن حزم في الإحكام:"أنّ المرأة لو تفقهت في علوم الديانة للزمنا قبول نذارتها"(7)، وقد أشارت أمّ سلمة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم بنحر بدنة، وفعل ذلك(8)، وكذلك خولة بنت ثعلبة وعظت عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو خليفة المسلمين(9).
غير أنّ المرأة وإن جاز لها شرعا أن تساهم في أعمال مجلس الشورى بإبداء الرأي في أمور الدولة إلاّ أنّه لا يجوز لها أن تكون عضوا فيه لما يترتب على عضويتها فيه من محاذير منها:
- تزاحم أعمال المرأة في بيتها الذي هو الأصل المسؤولة عنه، وهو في حقها من قبيل الواجب العيني مع ما هو واجب كفائي، وحال التعارض والتزاحم يقدم العيني على الكفائي كما هو مقرر أصوليا، وخاصة أنّ الكفائي يسقط وجوبه بقيام الرجال به.
- وكذلك اعتبار العضوية في مجلس الشورى وظيفة عامة يسترزق منها ويكتسب، والمرأة مكفية المؤونة إمّا مع وليها أو مع زوجها.
- فضلا عن اختلاطها بالرجال من أعضاء المجلس أو الخلوة مع بعضهم.
فالحاصل أنّ المرأة وإن كانت لا تصلح سياسيا في المشاركة لتولي منصب الخليفة (رئيس الدولة) ولا عضوية مستحقة لها في مجلس الشورى إلاّ أنّها تصلح-وفق الشروط الواجب توافرها في المرأة وهي: [الإسلام والعقل، والبلوغ، والعدالة فلا تعرف بفسق ولا إصرار على معصية، مع حسن رأي ومعرفة بالأشخاص]- في أن تبدي الرأي فيمن يتولى منصب الخلافة ويصلح له، وتشارك بالرأي أيضا في اختيار أعضاء مجلس الشورى من أهل الحل والعقد.
- أمّا الأنظمة الأخرى وخاصة النظام الديمقراطي بقواعده وأحكامه القانونية المستمدة من أعراف الناس وما هدى إليه عقل الإنسان من خلال ممارسته لشؤون الحياة أو ما نتج من الأوضاع المتوارثة فهو مخالف من حيث المصدر للشريعة الإسلامية، لأنّ مصدرها الوحي الإلهي، فكلّ الأحكام مستمدة من الكتاب والسنة أو مستلهمة من مقاصد الشريعة وأسرارها، والنصوص الشرعية تأبى أن تجعل حاكما غير الله سبحانه وتعالى أو شريكا له في الحكم قال تعالى:?وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً?[الكهف: 26]، وقال تعالى:?إِنِ الحُكْمُ إِلاّ لله أَمَرَ أَن لاَ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النََّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ?[يوسف: 40]، وقال تعالى:?وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ? [الشورى: 10]، وقال تعالى: ?إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُن لِلخَائِنِينَ خَصِيماً?[النساء:105]، وقال تعالى:?فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحكِمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً? [النساء: 65]، وغيرها من الآيات، وبقوله صلى الله عليه وسلم:"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"(10) وفي لفظ "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد"(11).
وعليه فالمشاركة في كلّ ما خالف حكم الله الذي هو من مقتضى ربوبيته وكمال ملكه وتصرفه فهو اعتداء وطغيان على من له الحكم وإليه يرجع الأمر كلّه قال تعالى: ?أَلاَ لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ? [الأعراف: 54]، وهذا الاعتداء على حق الله سبحانه في الحكم يظهر جليا في جعل الشعب مصدر السلطة في النظام الديمقراطي الذي معناه:" حكم الشعب بالشعب من أجل الشعب" الذي يترتب على اعتقاده واعتناقه والعمل به المفاسد التالية:
?- الوقوع في شرك الحاكمية وذلك بجعل الشعب شريكا مع الله في الحكم وهو من شرك الربوبية، ويتجلى ذلك عن طريق نواب الشعب المنتخبين الذين يظهر عملهم في سنّ وتشريع قوانين وضعية وإلغاء أحكام شرعية، حيث يعرف الحق في البرلمان بكثرة الأصابع والأيادي المرفوعة في المجالس النيابية، ولو كانت تأييدا لما حرمه الله تعالى كالفواحش والمنكرات والشركيات والنوادي الليلية ومصانع الخمر وغيرها.
?- اتهام الشريعة بعدم صلاحيتها كنظام حكم وعجزها عن إصلاح حياة الناس واستبدالها بنظام آخر.
?- عدم مراعاة الضوابط الشرعية في المنتخَبين والمنتخِبين، فاشتراط العدالة منتف فيهما وهذا ولا شك ينافي قوله تعالى:?وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ? [البقرة: 143]، وقوله تعالى: ?وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ? [الطلاق: 2]، وغير هذا من النصوص الشرعية.
لذلك يلاحظ الجور وعدم العدل في الانتخابات في النظام الديمقراطي حيث تعتمد على المساواة بين صوت المسلم والكافر، والرجل والمرأة، والأمين والخائن، وصوت أهل الحل والعقد وأهل اللهو والمجون، وقد حرم الله مثل هذه المساواة في قوله تعالى: ?أَفَنَجْعَلُ المُسِلمِِينَ كَالمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ? [القلم: 35/36]، وقوله تعالى: ?أَمْ نَجْعَلُ الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كَالفُجَارِ? [ص: 28].
4- التسابق السياسي يفضي بطريق أو بآخر إلى انتظام المسلمين ضمن أحزاب سياسية متنازعة ومتناحرة، يوالون عليها ويعادون، مضيعين لمبدإ الولاء والبراء للإسلام وهو أوثق عرى الإسلام، كما يتخذون الحزبية-ضمن ما يمليه الدستور في النظام الديمقراطي- ليصلوا إلى الحق بالباطل، لأنّ «الغاية عندهم تبرر الوسيلة »، وهذه القاعدة الميكافيلية يهودية الأصل، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه"إعلام الموقعين"(12) تسعة وتسعين دليلا على تحريم الوسائل التي تؤدي إلى الحرام، وعليه فإنّ الانتظام في أحزاب على هذا المفهوم ممزق لجماعة المسلمين ومفرق لكلمتهم ومشتت لوحدتهم، وقد قال تعالى: ?وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَقُوا? [آل عمران: 103]، وقال تعالى: ?إِنَّ الذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ? [الأنعام: 159].
فهذا غيض من فيض، والمفاسد المترتبة على هذا النظام الديمقراطي المعمول به كثيرة ومحاذيرها خطيرة، وعلى المسلم أن يسلك سبيل البر والتقوى والتعاون عليهما، وأن يدع سبيل الإثم والعدوان ولا يتكتّل عليهما قال تعالى: ?وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِّرِّ وَالتَقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ? [المائدة: 2]، وليس من البر والتقوى المشاركة في البرلمانات سواء في عضويتها أو انتخاب الأعضاء لما فيها من مخالفات شرعية ومحاذير شركية وإنّما هي من التعاون على الإثم والعدوان، كما تدخل الانتخابات الأخرى بهذا الوجه إلاّ ما كان على مقتضى الضرورة كانتخاب رئيس الدولة، فإنّ العدد الذي يتحقق تعيين الأصلح لهذا المنصب هو القدر الذي تنتفي فيه الضرورة، لأنّ "الضرورة تقدر بقدرها" ويحسن بالمسلم أن لا يكون من هذا القدر، لئلا تتم له مشاركة لهذا النظام المستبدل لشريعة الإسلام لا من قريب ولا من بعيد حتى يلقى الله بقلب سليم، وما تقرر-لاحقا- شامل للذكور والإناث على حد سواء.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين و سلم تسليما.
الجزائر في:3 من ذي القعدة1425ه
الموافق ل : 15 ديسمبر 2004م
__________
1- الإرشاد:(427).
2- (126).
3- أخرجه البخاري في المغازي(4425)، والترمذي في الفتن(2431)، والنسائي في آداب القضاة(5405)، وأحمد(21049)،والبيهقي(5332)، من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.
4- نيل الأوطار:(10/255).
5- منهاج السنة لابن تيمية: (6/350).
6- أدب القاضي للماوردي(1/628).
7- (3/324).
8- أخرجه البخاري في الشروط(2731)، وأحمد(19442)، من حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنه.
9- قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره (4/402):" وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي: حدثنا موسى بن إسماعيل أبو سلمة، حدثنا جرير يعني ابن حازم قال: سمعت أبا يزيد يحدث قال: لقيت امرأة عمر يقال لها: خولة بنت ثعلبة، وهو يسير مع الناس فاستوقفته فوقف لها ودنا منها وأصغى إليها رأسه ووضع يديه على منكبيها حتى قضت حاجتها وانصرفت، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين حبست رجالات قريش على هذه العجوز، قال ويحك وتدري من هذه؟ قال: لا. قال هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سموات، هذه خولة بنت ثعلبة، والله لو لم تنصرف عني إلى الليل ما انصرفت عنها حتى تقضي حاجتها إلا أنّ تحضر صلاة فأصليها ثم أرجع إليها حت تقضي حاجتها. هذا منقطع بين أبي يزيد وعمر بن الخطاب وقد روى من غير هذا الوجه"
10- أخرجه البخاري في الصلح(2697)، ومسلم في الأقضية(4589)، وأبو داود في السنة(4608)، وابن ماجه في المقدمة(14)، وأحمد(26786)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
11- أخرجه مسلم في الأقضية(4590)، وأحمد(25870)، والدارقطني في سننه(4593).
12- (3/134-159).(9/14)
الفتوى رقم: 303
في حكم تشميت المرأة الأجنبية
السؤال: ما حكم تشميت المرأة الأجنبية؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما، أما بعد:
فالصحيح من قولي أهل العلم أنَّ تشميت العاطس واجب على كلِّ من سمعه عطس وحمد الله، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« إنَّ الله يحبُّ العُطاس، ويكره التثاؤب، فإذا عطس أحدكم وحمد الله، كان حقًّا على كلِّ مسلم سمعه أن يقول: يرحمك الله"(1)، ونص الحديث عام يشمل الذكور والإناث من غير تفريق، ويؤيده قوله صلى الله عليه وآله وسلم:« النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ"(2): أي في الأحكام، ومن عمل السلف ما يفيد هذا المعنى، فعن أبي بُردة قال: دخلت على أبي موسى -وهو في بيت ابنته أم الفضل بن العباس- فعطست، فلم يشمتني، وعطست فشمتها، فأخبرت أمي، فلما أن أتاها وقعت به، وقالت: عطس ابني فلم تشمته، وعطست فشمتها، فقال لها: إني سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول:" إذا عطس أحدكم فحمد الله فشمتوه، وإن لم يحمد الله فلا تشمتوه" وإنَّ ابني عطس فلم يحمد الله فلم أشمته، وعطست فحمدت الله فشمتها، قال: فقالت:" أحسنت"(2)، وقد بوَّب له البخاري في الأدب المفرد(4) باب تشميت الرجل المرأة، وقيَّده الجمهور بما إذا أمنت الفتنة. ويدخل في هذا المعنى إلقاء السلام ورده عليها وتعزيتها مقرونا بالقيد السابق.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 23 ذي القعدة 1426ه
الموافقل: 25 ديسمبر 2005م
__________
1- أخرجه البخاري في الأدب (6223)، والترمذي في الأدب (2971)، وأحمد (9778)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2- رواه أبو داود كتاب الطهارة، باب في الرجل يجد البلة في منامه(236)، والترمذي كتاب أبواب الطهارة باب ما جاء فيمن يستيقظ فيرى بللا ولا يذكر (113)، وأحمد (7/365) رقم (25663). من حديث عائشة رضي الله عنها. والحديث صححه الألباني في صحيح الجامع (2333)، وفي السلسلة الصحيحة (2863).
3- أخرجه مسلم في الزهد والرقائق (7679)، من حديث أبي بردة رضي الله عنها.
4- (373).(9/15)
الفتوى رقم: 318
في حكم استعمال المرأة المناكير أثناء الدورة الشهرية
السؤال: هل يجوز للمرأة أن تستعمل المناكير أثناء الدورة الشهرية بنية التزين لزوجها فقط؟
الجواب: الحمد لله والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وآله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما أما بعد:
فلا مانع في استعمال المرأة المساحيق تزيينًا لزوجها في أثناء الدورة الشهرية أوفي غيرها شريطة أن لا تكون صفة الاستعمال شبيهة بالكافرات والعاهرات ولا أن تدعوه بتزيينها إلى جماعها وهي على هذه الحال فتكون معينة له على معصية لقوله تعالى ?وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنّ? [البقرة:222] وللزوج أن يستمتع من زوجته بما دون الفرج لقوله صلى الله عليه وآله وسلم :" اصنعوا كل شيء إلاَّ النكاح"(1)، ولا أن يطأها في دبرها لقوله تعالى: ?نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ? [البقرة: 223]، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« ملعون من أتى امرأته في دبرها"(2).
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
الجزائر في: 20 رجب 1426ه
الموافق ل: 25 أوت 2005م
__________
1- أخرجه مسلم في الحيض رقم(301)، وأبو داود في الطهارة رقم(258)، من حديث أنس رضي الله عنه.
2- رواه أبو داود في النكاح(2164)، وأحمد(9984) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، وصححه الألباني في صحيح الجامع(5889).(9/16)
الفتوى رقم: 380
في ضابط السن المانع من مصافحة الرجل للطفلة
السؤال: ما هو ضابط السن الذي يمنع فيه مصافحة الرجال للبنت الصغيرة؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فالطفلة إن كانت لا يُشتهى مثلها، أو لا تصلح للنكاح فلا بأس بالنَّظر إليها، أو مسّها، ولا يجب سترها، لأنَّه ليس لبدنها حكم العورة، ولا في مسِّها مظنَّة للشهوة، أو معنى خوف الفتنة، ولما يجري عليه الناس عادة من ترك التكلُّف بستر عورتها حتى تبلغ حدَّ الشهوة، وهو ما كان قبل بلوغ سبع سنين عادة، وقال الإمام أحمد في رجل يأخذ الصغيرة فيضعها في حجره ويقبِّلها: لا بأس إن كان بغير شهوة، فإن كان يجد شهوة فلا يحلُّ له ذلك(1).
هذا، ويستوي فيه الذكور والإناث، فلا يجب ستر عورتهما مع أمن الشهوة، لأنَّ إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وآله وسلم غسَّله النساء(2).
أمَّا إذا بلغت الطفلة حدَّ النكاح، أو كانت ممَّا تشتهى كابنة تسع سنين، فحكمها حكم البالغة لبناء النبي صلى الله عليه وآله وسلم على عائشة رضي الله عنها وهي بنت تسع سنين(3)، وجريًا على قاعدة:" كلُّ ما قارب الشيء أخذ حكمه"
وتفارق العجوز ولو لم تشته الطفلةَ الصغيرةَ في الحكم لسبق اشتهائها ولو تقديرًا، فيستصحب ذلك، ولا يوجب نفس الحكم في الصغيرة حتى يستصحب.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.
الجزائر في: 13 صفر 1427ه
الموافق ل: 13 مارس 2006م
---
1- المغني لابن قدامة: 6/560.
2- قال الألباني في الإرواء 3/163:" لم أقف عليه".
3- أخرجه البخاري في النكاح (5134)، ومسلم في النكاح (3544)، والنسائي في النكاح (3391)، وأحمد (24881)، من حديث عائشة رضي الله عنها.(9/17)
الفتوى رقم: 451
في ضوابط خروج المرأة للسوق
السؤال: هل يشترط المحرم للمرأة عند خروجها للسوق؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فلا يشترط للمرأة المَحرم في غير السفر لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ تُسَافِرُ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ إِلاَّ مَعَ ذِى مَحْرَمٍ عَلَيْهَا"(1)، والمرأة إن رغبت في الخروج لبعض شؤونها من غير سفر فإنَّه -وإن لم يشترط لها المحرم أو الزوج- لكنها لا يسعها أن تخرج لحاجتها إلاَّ بإذن زوجها ورضاه، وبالضوابط الشرعية بستر جسدها بالجلباب، وغض طرفها، وخفض صوتها، وكف لسانها ويدها عن السوء لقوله تعالى: ?وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى? [الأحزاب: 33] وقوله تعالى: ?فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً? [الأحزاب: 32] وقوله تعالى: ?وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا? [النور: 31].
وحرصًا على سلامة العِرض والدين، فلا ننصح المرأة خروجها لوحدها أو إلى السوق إلاَّ عند الحاجة الأكيدة لما يكثر في هذه الأماكن من أسباب الفتنة ووسائل الشر والفساد لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« خَيْرُ البِقَاعِ المسَاجِدُ، وَشَرُّ البِقَاعِ الأَسْوَاقُ"(2).
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في:9 جمادى الأولى 1427ه
الموافق ل:5 جوان 2006م
__________
1- أخرجه البخاري في تقصير الصلاة (1088)، ومسلم في الحج (3332)، والترمذي في الرضاع (1170)، ومالك في "الموطإ" (1803)، وابن حبان في "صحيحه" (2725)، والبيهقي (5615)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2- أخرجه الحاكم في "المستدرك" (306)، والبيهقي في سننه (5089)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وحسنه ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" (1/11)، والألباني في "صحيح الجامع" (3271).(9/18)
الفتوى رقم: 510
في حكم الكشف عن جنس الجنين قبل الولادة
السؤال: ما حكم ذهاب المرأة إلى طبيبة النساء تقصُّدًا لمعرفة جنس الجنين ذكرًا أم أنثى؟
الجواب: فاعلم أنَّ الأصل في المرأة التستّر فلا تبدي عورتها إلاَّ في حدود الحاجة وبقدرها، والاطلاع على جنس الجنين بالجهاز الكاشف لا يدخل في باب الحاجة الشرعية ولا الضرورة، لذلك يبقى وجوب التستّر قائمًا ما لم يقع تبعًا للعلاج، فإنَّه يغتفر في التبع ما لا يغتفر في المتبوع جريًا على قاعدة:« يُغْتَفَرُ فِي الشَّيْءِ إِذَا كَانَ تَابِعًا مَا لاَ يُغْتَفَرُ إِذَا كَانَ مَقْصُودًا ».والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليمًا.
الجزائر في: 21 رجب1427ه
الموافق ل: 15 أوت 2006م(9/19)
الفتوى رقم: 553
في حكم تعلم المرأة للسياقة
السؤال: ما حكم تعلم المرأة للسياقة؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فركوب الدابة وسوقها أمر مشروع للرجال والنساء في العهد الأول، فقد كانت المرأة تركب الحمار وتوجّهه إلى بغيتها، «وَالنِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ »(1) في الأحكام، غير أنه إذا احتاجت المرأة إلى تعلّم السياقة حاجة أكيدة فإنه يشترط أن تتعلّم مع امرأة إن وُجدت، فإنّ ذلك أسلم لها لدينها وعِرضِها، فإن تعذَّر، فيلزم أن تستصْحِبَ معها زوجَها أو ذا مَحْرَمٍ أو أختًا لتنتفيَ الخُلوةُ بينهما وتوابعُها السلبيةُ، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« لاَ يَخْلُوَنَّ أَحَدُكُمْ بِامْرَأَةٍ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ ثَالِثُهُمَا »(2).
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 7 ربيع الثاني 1427ه
الموافق ل: 06 ماي 2006م
__________
1- أخرجه أبو داود في «الطهارة »، باب في الرجل يجد البلة في منامه (236)، والترمذي في «أبواب الطهارة » باب ما جاء فيمن يستيقظ فيرى بللا ولا يذكر (113)، وأحمد (25663)، وأبو يعلى (4694)، والبيهقي (818)، من حديث عائشة رضي الله عنها. والحديث صححه الألباني في «صحيح الجامع » (2333)، وفي «السلسلة الصحيحة » (2863).
2- أخرجه الترمذي في «الفتن » (2165)، وابن حبان كتاب «السير » باب: إطاعة الأئمة (4576)، والحاكم في المستدرك كتاب «العلم » (390)، وأحمد (115)، وأبو يعلى في «مسنده » (141)، والبزار في «مسنده » (167)، والبيهقي في «سننه الكبرى » (13808)، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وصححه أحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد » (1/98)، والألباني في «الإرواء » (6/215)، وفي «السلسلة الصحيحة » (430).(9/20)
الفتوى رقم: 554
في حكم تعلّم المرأة صنع الحلويات عند رجل أجنبي
السؤال: هل يجوز للمرأة أن تتعلَّم كيفيةَ صنع الحلويات وطهي الطعام عند رجل أجنبي؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فالأصل في المرأة قرارُها في البيت ومكوثُها فيه، وإن خرجت فإنما تخرج للحاجة وبالضوابط الشرعية، ويأتي في مُقدِّمة الحاجيات تعلّم دينها، ويأتي في طليعة ذلك علمُ التوحيد ومعرفةُ حقوق الله تعالى، وتعلّم العلم الشرعي واجبٌ عينيٌّ، وهو سبيلُ الوقاية من النار لقوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا? [التحريم: 6]، والوقايةُ من النار بالإيمانِ والعملِ الصالحِ، ولا يَتَأَتَّى إلاّ بالعلم الشرعي النافع، فهذا هو المطلوب تعلّمه قبل كلّ شيء، فإن كان ولا بدّ من تعلمّ أمور البيت والمطبخ من رجل أجنبي فالأحبّ عندي اجتنابه إلاّ في حدودٍ ضيّقة إذا أمنت الفتنة وسلمت من دواعيها وانتفت الخلوة والاختلاط.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 5 من ذي الحجّة 1427ه
الموافق ل: 25 ديسمبر 2006م(9/21)
الفتوى رقم: 555
في حمل المرأة لقب زوجها
السؤال: هل الواجبُ على المرأةِ حملُ لقبِ زوجِها شرعًا أم بإمكانها البقاء على لقبها الأصليِّ ؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فلا يجوزُ من حيث النسبُ أن يُنْسَبَ المرءُ إلى غير نسبه الأصلي أو يُدَّعَى إلى غير أبيه، فقد حَرَّم الإسلام على الأب أن يُنْكِرَ نَسَبَ ولدِه بغير حقٍّ إجماعًا، لقوله تعالى: ?ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا? [الأحزاب: 5]، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ أَوْ انْتَمَى إِلَى غَيْرِ مَوَالِيهِ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لاَ يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ يَوْمَ القِيَامَةِ صَرْفًا وَلاَ عَدْلاً »(1)، وفي رواية أخرى:« مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ أَبِيهِ، فَالجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ »(2)، فإذا كان لا يجوز أن يقال: فلانة بنت فلان وهي ليست ابنته، ولكن يجوز أن يقال: فلانة زوجة فلان أو مكفولة فلان أو وكيلة عن فلان، فإذا لم تذكر هذه الإضافات -وكانت معروفة معهودة- «فإنّ ما يجري بالعرف يجري بالشرع ».
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
مكة في: 4 شوال 1427ه
الموافق ل: 26 أكتوبر 2006م
__________
1- أخرجه مسلم في «الحج » (3327)، والترمذي في «الولاء والهبة » باب: باب ما جاء فيمن تولى غير مواليه (2127)، وأحمد (616)، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
2- أخرجه البخاري في «المغازي » باب: غزوة الطائف (3982)، ومسلم في «الإيمان » (220)، وأبو داود في «الأدب » باب: باب في الرجل ينتمي إلى غير مواليه (5113)، وابن ماجه في «الحدود » باب: باب من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه (2610)، وابن حبان (415)، والدارمي (2453)، وأحمد (1500)، من حديث سعد بن أبي وقاص وأبي بكرة رضي الله عنهما.(9/22)
الفتوى رقم: 556
في حكم ستر أسفل ذقن المرأة
السؤال: ما حكم ستر الذَّقَنِ بالنسبة للمرأة؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فالذَّقَنُ الذي يقارب الرقبة ويحاذيها يجب إخفاؤه لدخوله في الرقبة؛ إذ «كل ما قارب الشيء أخذ حكمه »، و«ما لا يتمُّ الواجب إلاَّ به فهو واجب »، فإذا كانت الرقبة لا يتمُّ سترها إلاَّ بجزء من الذَّقَن كان ذلك الجزء في حكمها.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 21 ذو الحجة 1427ه
الموافق ل: 10 جانفي 2007م(9/23)
الفتوى رقم: 560
في تلاوة المرأة للقرآن على مدرس أجنبي
السؤال: هل يجوز للمرأة أن تَعْرِضَ القرآن بالأحكام تلاوةً على مدرِّسٍ أجنبي عنها، مع العلم أنَّ هذه الأحكامَ مشتملةٌ على الغُنَّة وغيرها؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فصوتُ المرأة عورةٌ عند الرجال الأجانب على الأرجح، لذلك لا ترفع صوتها بالتلبية، ولا بالتسبيح للإمام إذا نابه شيء في الصلوات، وإنما تصفِّق له، وإذا تقرّر حكمُ عدمِ جوازِه فإنَّ ترخيم الصوت وتحسينه بالقراءة أو المخاطبة لا يجوز من بابٍ أولى، لأنَّ الملاطفةَ والملاينةَ وتحسينَ الصوتِ يؤدِّي غالبًا إلى إثارةِ الفتنة وتحريكِ الغريزَة فيُمنعُ سدًّا للذريعة، وإنما يجوز لها مخاطبةُ الرجال للحاجة إن أَمِنَتِ الفتنةَ بخلوّ الصوت من إثارة وانكسار، لقوله تعالى: ?فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفًا? [الأحزاب: 32].
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 21 من ذي الحجة 1247ه
الموافق ل: 10 جانفي 2007م(9/24)
الفتوى رقم: 561
في حكم تدريس المرأة للنساء في المسجد
السؤال: هل يجوز للمرأة أن تقوم بإلقاء دروسِ الوعظ والإرشاد وتعليم الأحكام داخل المسجد للنساء، وهل يتعارضُ مع قرارها في البيت؟ فالرجاء -حتى تَسْتَبِينَ المسألة- تقعيدها وتفصيلها وجزاكم الله خيرًا.
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فالأصلُ في المرأة قرارُها في البيت، ولزومُها فيه لقوله تعالى: ?وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى? [الأحزاب: 33]، وقد أجاز النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم الخروجَ للحوائج الشرعيةِ استثناءً من هذا الأصل، إذا كان لحاجةِ نفسها أو لحاجة الغير إليها. فقد جاء في صحيح البخاري أنّ الله لَمَّا فَرَضَ الحجابَ على النساء قال عليه الصلاة والسلام:« قَدْ أَذِنَ اللهُ لَكُنَّ أَنْ تَخْرُجْنَ لِحَوَائِجِكُنَّ »(1).
أمّا لحاجة نفسها إمّا أن تكون لقِوام بدنها في حالة عدم وجود المنفِق عليها فإنّها تخرج للعمل والتكسّب لتغطية حاجياتها من مأكل ومشرب وملبس وأدوية وما إلى ذلك، لها ولأولادها، وإما أن تكون لقوام دينها فيجوز لها أن تخرج لأماكن العلم إذا لم تجد من يغطي لها حاجياتها العلمية وتخرج لهذا الغرض لقوله سبحانه وتعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالحِجَارَةُ? [التحريم: 6]، والوقايةُ من النار إنّما تكون بالتوحيد، وحقوقُ التوحيد من التزام طاعته والائتمار بأوامره واجتنابِ زواجره ونواهيه، وباختصار هو الإيمان والعمل الصالح، ولا يتمُّ ذلك إلاّ بالتحصيل العِلمي، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« طَلَبُ العِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ »(2) والحديثُ شاملٌ للنساءِ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ »(3). هذا بالنسبة لحاجة نفسها.
أمّا حاجةُ الغيرِ إليها فقد تكون صاحبة مهنةٍ وخِبرة فيما يخصّ النساء كأن تعرف تغسيل الميتة المسلمة أو لها معرفة بتوليد النساء، أو بختانهنَّ، وما إلى ذلك، فإن لم يكن من يقوم بهذه المهمَّة إلاّ هي فإنّها يجوز لها أن تخرج من بيتها لتلبية حاجات الغير التي لا تغطّى إلاّ بها، ومن هذا القبيل أيضًا إذا كانت المرأة تحمل رصيدًا عِلْمِيًّا يمكِّنها من إيصاله إلى أخواتها المؤمنات اللواتي يجهلنَ كثيرًا من الأحكام الشرعية بحيث لا يجدن من الرجال ما يكفيهنَّ لأَخْذِ هذه الأحكام، فإنّه -والحال هذه- يجوز لها أن تُعِينَ أختَها المسلمة بالفقه والعلم سواء يأتين إليها أو تأتي إليهنّ أو يجتمعن في المسجد، أو في أي مكان آمن، وذلك يُعد واجبًا عليها إذا لم يقم الرجالُ بهذه المهمّة، ولا يجوز لزوجها أن يمنَعَهَا من ذلك لأنّه إذا كان لا يجوز له أن يمنعَها من المساجد لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« لاَ تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللهِ مَسَاجِدَ اللهِ »(4)، والمسجد في حقِّها غير واجب، فإنّه من باب أولى لا يجوز له أن يمنعَها من أداء مهمّتها الدينية التي أوكلت إليها بعد غياب العنصر الرجالي الذي يقوم بهذه المهمّة، وعليه فإذا كُفِيَتْ حاجتُها إلى نفسها بقِوام بدنها ودينِها وغُطِّيَتْ حاجةُ الغير إليها بغيرِها فينتفي الاستثناء السابق وتعود المرأة إلى أصلها المقرّر لها.
هذا، وفي الأخير فلا بأس أن أُذكِّر بأنّ المرأة إذا خرجت من بيتها فينبغي لها أن تخرج بالضوابط الشرعية في اللباس والهيئة وسائر أمورها وغير متطيّبة لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ »(5).
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 15جمادى الأولى 1426ه
الموافق ل:22 جوان 2005م
__________
1- أخرجه البخاري في «التفسير » (4421)، ومسلم في «السلام » (5668)، وأحمد (23769)، والبيهقي (13793)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
2- أخرجه ابن ماجه في «المقدمة » (229)، وأبو يعلى في «مسنده » (2837)، والبزار (94)، والطبراني في «المعجم الصغير » (22)، والبيهقي في «شعب الإيمان » (1665)، من حديث أنس رضي الله عنه، وصحّحه الألباني في «صحيح الجامع » (3913)، وفي «صحيح الترغيب والترهيب » (72)، وفي تخريج «مشكلة الفقر » (86).
3- أخرجه أبو داود في «الطهارة » (236)، والترمذي في «الطهارة » (113)، وأحمد (25663)، وأبو يعلى (4694)، والبيهقي (818)، من حديث عائشة رضي الله عنها. والحديث صحّحه الألباني في «صحيح الجامع » (2333)، وفي «السلسلة الصحيحة » (2863).
4- أخرجه البخاري في الجمعة (858)، ومسلم في الصلاة (442)، وأبو داود في الصلاة (566)، وابن ماجه في المقدمة (16)، ومالك في الموطإ (465)، وابن حبان في صحيحه (2209)، وأحمد (4641)، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
5- أخرجه البخاري في «النكاح » (4706)، ومسلم في الرقاق (7121)، والترمذي في الأدب (3007)، وابن ماجه في الفتن (4133)، وأحمد (22463)، والحميدي في مسنده (574)، والبيهقي (13905)، من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما.(9/25)
الفتوى رقم: 598
حكم صبغ بعض الشَّعَرَات أو أجزاء من الشَّعر
السؤال:
هل يجوز للمرأة أن تضع خطوطًا مصبوغةً منتشِرةً على شَعْرِهَا (les mèches)، وهي صبغة خاصّة للشعر؟
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فالظاهر أنّه لا يجوز صبغُ بعضِ الشعرات أو أجزاءٍ من الشعر أو أن تضعَ المرأةُ خطوطًا مصبوغةً منتشرةً على شعرِها؛ لأنّه ليس من زينتِنَا، بل فيه تَشبُّهٌ برؤوس الكافرات والعاهرات، وتغييرٌ للخِلقة، وعدمُ تحقيقِ العدل في شعرها.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في 18 صفر 1428ه
الموافق ل: 07 مارس 2007م(9/26)
الفتوى رقم: 601
في تمشيط شعر المسلمة
السؤال: ما حكمُ استقدام حلاَّقة النساء -أي صاحبة محلٍّ لحِلاقة النساء- إلى البيت لتُمْشِطَ شعرَ العروس بأجرة؟ وبارك الله فيكم.
الجواب: الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فلا مانعَ للمسلمة الملتزمة أن تمشط شعر أختها وتُسرِّحَهُ لها؛ لأنّ الأصل الجوازُ لدخوله في العادات لا في العبادات ويُعدّ تجمّل المرأة لزوجها أو تزيين نفسها له من المستحبَّات إذا لم يكن في تمشيط شعرها لها تشبّه بهيئة الكافرات أو تسريحة العاهرات أو الفاسقات، فإنّ التشبه بهنّ في خصائصهنَّ لا يجوز شرعًا لقوله صَلَّى الله عليه وآله وسَلَّم:« مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ »(1).
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
__________
1- أخرجه أبو داود في «اللباس »: (4033)، وأحمد: (5232)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وصحَّحه العراقي في «تخريج أحاديث إحياء علوم الدين »: (1/359)، والألباني في «الإرواء »: (1269)(9/27)
الفتوى رقم: 611
صفة الخمار الشرعي
السؤال:
ما هي صفات الخمار الشرعي؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فالخمار ينبغي أن يغطي رأسَ المرأةِ ويكون مُلْتَفًّا على الرقبة بحيث يُغطِّي الجُيُوبَ -وهي موضع القطع من الدرع والقميص- وكذا ما يتعلَّق بأسفل الذِّقْنِ لقوله تعالى: ?وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ? [النور: 31]، ولَمَّا كانت الرقبة لا تتمُّ إلاّ بجزءٍ من الذقن وجب دخوله فيه عملاً بقاعدة:« مَا لاَ يَتِمُّ الوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ »، فإن أرادت الخروج والبروز من مسكنها فلا يكفي الدرع والخمار، ولا بدَّ لها فوق الخمار من مُلاءة من فوق رأسها إلى ما أسفل سابغًا، لقوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ? [الأحزاب: 59]، وهذا كلّه في حالة بروزها من مَنْزِلها، وكذلك حال استقبالها لأقارب الزوج وغيرهم من الأجانب الذين لا يساكنونها في محلٍّ واحد، أمّا في الصلاة فيسعها أن تصلي بالدرع والخمار، بدون أن يكون عليها زخرفة وزينة، لكن الأفضل لها في صلاتها أن تكون بثلاث قطع: خمار ودرع وجلباب.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 3 من ذي الحجة 1427ه
الموافق ل: 23 ديسمبر 2006م
في تحديد النسل وقطع الإنجاب(9/28)
الفتوى رقم: 614
في تحديد النسل وقطع الإنجاب
السؤال:
أرادت امرأةٌ أن تستأصلَ رحِمَهَا أو أن تربط المبيضتين لتقطع الإنجاب، وتضع حدًّا له مؤبّدًا بسبب تضرّرها بالولادة فهل يجوز لها ذلك؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فاستئصالُ الرَّحِمِ إنما يجوز في حالةِ ما إذا كان بقاؤُه مؤدِّيًا إلى هلاك البَدَن، كحُلُول وَرَمٍ خبيثٍ في جِدار الرَّحِمِ مثلاً يخشى إتلاف النفس بتفاقمه إذا لم يستأصله، فجواز نزعه مَبْنِيٌّ على دفع أخفِّ الضَّرَرَين وأهونِ الشرّين، لقوله تعالى:( وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا? [النساء: 29]، وقوله تعالى: ?وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ? [البقرة: 195]، وبقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ »(1).
أمّا إذا كان ضررها دون هلاك النفس أو إتلاف عضو بحيث يمكن معالجته بعموم الأدوية فلا يجوز للمرأة تحديد نسلها بالاستئصال بِنَزْع رحمها وإنما يجوز لها أن تُعالِج نفسها وتُباعِد بين الولادات بتنظيم النَّسْلِ استبقاءً لوظيفة المرأة في الإنجاب، كما لها أن تستعمل العوازلَ التي تحول دون الإنجاب في تلك الفترة حتى تسترجع قوَّتها ويَزُولَ ضررُها؛ ذلك لأنّ نَزْعَ الرحمِ واستئصالَه تغييرٌ لخلق الله تعالى من غير موجب شرعي ولا إذن، وهو محرّم بقوله تعالى -في إبليس-: ?وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ? [النساء: 119]، ولعن رسول الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم المغيّرات لخلق الله تعالى(2).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 1 صفر 1428ه
الموافق ل: 19 فيفري 2007م
__________
1- أخرجه ابن ماجه في «الأحكام »: (2430)، وأحمد: (23462)، والبيهقي: (12224)، من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه. قال النووي تحت الحديث رقم (32) من «الأربعين النووية »:« وله طرق يَقْوى بعضُها ببَعض »، وقال ابن رجب في «جامع العلوم والحكم » (378):« وهو كما قال »، وصحّحه الألباني في «الإرواء »: (896). وفي «السلسلة الصحيحة »: (250)، وفي «غاية المرام »: (254).
2- أخرجه البخاري في «اللباس »: (5931)، ومسلم في «اللباس والزينة »: (5695)، وأبو داود في «الترجل »: (4169)، والترمذي في «الأدب »: (2782)، والنسائي في «الزينة »: (5099)، وابن ماجه في «النكاح »: (1989)، وأحمد: (4212)، والدارمي: (2703)، والبيهقي: (15230)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.(9/29)
الفتوى رقم: 636
في ستر المرأة وجهها
السؤال:
يكثُر الجدال بيننا على مسألةِ تغطيةِ المرأةِ لوجهها، مع اتفاقنا على أفضلية التغطية، نرجو منكم بيانًا على حُكم تغطيةِ المرأةِ لوجهها، وهل بالإمكان أن تُرْشِدُونا إلى كتاب يتناول هذه المسألة بالتفصيل، وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فَسِتْرُ المرأةِ وَجْهَهَا أفضلُ من كَشْفِهِ، فهو سُنّةٌ مستحبّةٌ لا إلزامَ فيها على ما ترجّحَ من أقوالِ الأئمّةِ والفقهاءِ من السَّلَف والخَلَفِ، ويُمكن مراجعةُ كتابِ «الرَّدُّ المُفْحِمُ على مَنْ خالَفَ العلماءَ وتشدَّدَ وتعصَّبَ وألزمَ المرأةَ أن تَسْتُرَ وجهَهَا وكفَّيْهَا وأوجَبَ ولم يَقْنَعْ بقولهم: إنه سُنَّةٌ ومستحبٌّ » للعلاّمة المحدّثِ محمّدِ ناصرِ الدِّينِ الألبانيِّ -رحمهُ اللهُ تعالى- ففيه البيانُ الشافي الكافي المفصّل على هذه المسألة.
واللهُ الموفِّقُ لكلّ خيرٍ، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 10 صفر 1428ه
الموفق ل: 28 فبراير 2007م(9/30)
الفتوى رقم: 676
في ارتباط منافع تعلم المرأة بالضوابط الشرعية
السؤال:
ما هو السنُّ الذي يَحرُمُ على البنتِ الذهابُ فيه إلى المدارسِ المختلطةِ؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فلا تختلفُ نعمةُ القراءةِ والكتابةِ عن النِّعم الحِسِّية كنِعْمَةِ البصر والسمع والكلام، وقد امتَنَّ اللهُ تعالى بها على عباده حيث قال: ?اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ? [العلق: 1-4]، وهذه النعمةُ لا يَسْتَأْثِرُ بها الرِّجالُ عن النساء، بل لهنّ الحقُّ في تعلُّم ما ينفعُهنّ كما هو شأنُ الرجال، إذ لا تفريقَ بينهما في الأحكامِ وتحصيلِ النِّعَم إلاّ بدليلٍ، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ »(1)، ويؤيِّدُ جوازَ تعلُّمِ النساءِ الكتابةَ والقراءةَ ما ثَبَتَ عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حَثْمَةِ القرشي -رحمه الله- أنَّ رجلاً من الأنصار خرجت به نَمْلة، فدُلَّ على أنّ الشِّفَاءَ بنتَ عبدِ اللهِ ترقي من النَّمْلَة، فَجَاءَهَا وَسَأَلَهَا أَنْ تَرْقِيَهُ، فَقَالَتْ: وَاللهِ مَا رَقَيْتُ مُنْذُ أَسْلَمْتُ، فَذَهَبَ الأَنْصَارِيُّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي قَالَتِ الشفَاءُ، فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ الشِّفَاءَ فَقَالَ:« اعْرِضِي عَلَيَّ فَعَرَضَتْهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: ارْقِيهِ، وَعَلِّمِيهَا حَفْصَةَ كَمَا عَلَّمْتِيهَا الكِتَابَ(2).
وهذه المشروعيةُ في تحصيل منافعِ التعلُّم غيرُ مرتبطةٍ بسِنٍّ معيَّنةٍ أو مدّةٍ محدّدةٍ، وإنما ترتبطُ بالضوابط الشرعيةِ، فلا تخرجُ المرأةُ من بيتها إلاّ باللِّباس الشرعي لقوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ? [الأحزاب: 59]، ولا تخرج متطيِّبَةً لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ:« إِذَا شَهِدَتْ إِحْدَاكُنَّ المَسْجِدَ فَلاَ تَمَسَّ طِيبًا »(4)، ولقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ:« لاَ تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللهِ مَسَاجِدَ اللهِ، وَلَكِنْ لِيَخْرُجْنَ وَهُنَّ تَفِلاَتٍ »(5)، ويُلحق بالطِّيبِ ما في معناه كحُسن الملبس، والحُلِّيِّ الذي يظهر أثرُه، والهيئةِ الفاخرة، وأن يكون أماكن تعليمهنّ في منأى عن مواضع الرجال، وذلك بتخصيص مدارسَ ومعاهدَ خاصّةٍ بهنّ، فقد ثبت في البخاريِّ عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ رضي الله عنه قال:« جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللهِ ذَهَبَ الرِّجَالُ بِحَدِيثِكَ فَاجْعَلْ لَنَا مِنْ نَفْسِكَ يَوْمًا نَأْتِيكَ فِيهِ تُعَلِّمُنَا مِمَّا عَلَّمَكَ اللهُ، فَقَالَ: اجْتَمِعْنَ فِي يَوْمِ كَذَا وَكَذَا فِي مَكَانِ كَذَا وَكَذَا، فَاجْتَمَعْنَ فَأَتَاهُنَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَعَلَّمَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَهُ اللهُ »(6).
والمرأةُ وإن كانت مأمورةً بلزوم البيت إلاّ ما اقتضته الحاجةُ لقوله تعالى: ?وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى? [الأحزاب: 33]، فإنها مأمورةٌ -أيضًا- بترك أسبابِ الفتنةِ ودواعي الفساد لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ:« مَا تَرَكْتُ فِتْنَةً أَضَرَّ بِهَا عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ »(7)، لذلك فَمَنْ وجد سبيلاً إلى المدارس الخاصّةِ بالبنات فله أن يدفع إليها لتحصِّل فيها منافعَ العلمِ والكتابةِ وبالضوابط الشرعيةِ، وأن يعمل الأولياءُ على قيام العدل مع أولادهم في التربية على الأخلاق الإسلامية والتعليمِ بما ينفعهم في دنياهم وأخراهم، والعناية بهم كالعناية بالنِّعم الأخرى الحِسِّية والمعنوية، لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ:« اتَّقُوا اللهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ »(8). ومَن تعذّر عليه هذا السبيلُ فعليه أن يقي مَن تحت مسئوليته فتنة الاختلاط بالتحرّز والإنكار ما وسعه من غير حِرمان بناته من نعمة القراءة والكتابة وتعلّم الدِّين، ولو في غير المقاعد الدراسية المنتظمة.
هدى اللهُ الحكّامَ والمحكومين لإصلاح المدارس والمعاهد والكليات والجامعاتِ، وإبعادِ أسبابِ الشرِّ وفتنة الاختلاطِ عنها وما ينجرّ عنها بما يوافقُ أحكامَ الشريعةِ الغرّاءِ الحريصةِ على خيرِ العباد بدفع مظاهرِ الفسادِ، والآمرةِ بالتخلّص من آثامها وآثارها.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 19 محرم 1428ه
الموافق ل: 7 فبراير 2007م
__________
1- أخرجه أبو داود في «الطهارة »، باب في الرجل يجد البلة في منامه: (236)، والترمذي في «أبواب الطهارة » باب ما جاء فيمن يستيقظ فيرى بللا ولا يذكر: (113)، وأحمد: (25663)، وأبو يعلى: (4694)، والبيهقي: (818)، من حديث عائشة رضي الله عنها. والحديث صححه الألباني في «صحيح الجامع »: (2333)، وفي «السلسلة الصحيحة »: (2863).
2- أخرجه الحاكم في «المستدرك »: (6888)، من حديث الشفاء بنت عبد الله رضي الله عنها. والحديث صححه الألباني في «السلسلة الصحيحة »: (178).
3- أخرجه أبو داود في «الطب »: (3887)، وأحمد: (26555)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (20149)، من حديث الشفاء بنت عبد الله رضي الله عنها. والحديث صححه الألباني في «السلسلة الصحيحة »: (178).
4- أخرجه مسلم في «الصلاة »: (997)، وابن خزيمة في «صحيحه »: (1680)، من حديث زينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنها.
5- أخرجه أبو داود في «الصلاة » باب ما جاء في خروج النساء إلى المسجد: (565)، وأحمد (2/439)، والدارمي: (1256)، وابن الجارود: (169)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه البغوي في «شرح السنة »: (2/420)، وابن الملقن في «البدر المنير »: (5/46)، والألباني في «الإرواء »: (515).
6- أخرجه البخاري في «الاعتصام بالكتاب والسنة »: (6880)، ومسلم في «البر والصلة »: (6699)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
7- أخرجه البخاري في «النكاح »: (5096)، ومسلم في «الرقاق »: (7121)، والترمذي في «الأدب »: (3007)، وابن ماجه في «الفتن »: (4133)، وأحمد: (22463)، والحميدي في «مسنده »: (574)، والبيهقي: (13905)، من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما.
8- أخرجه البخاري في «الهبة » باب الإشهاد في الهبة: (2587)، ومسلم في «الهبات »: (4181)، والبيهقي: (12351)، من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.(9/31)
الفتوى رقم: 725
في تكشف المرأة عند طبيب مختص تَعذَّرَ رفع الضرر مع جنس الطبيبات
السؤال:
هل يجوز للمرأة كشف بطنها -دون العورة المغلظة- وبالتحديد مكان الرحم ومن غير خلوة، بل بحضور الزوج أو الأخت أو الأم لطبيب مسلم حاذق بصنعته، بعد عجز النساء الطبيبات المختصات في أمراض النساء والولادة عن علاجها؟ وهل يجوز للمرأة التي لم تنجب بعد زواجها بمدّة عرضُ نفسِها على طبيب مختص؟ علمًا أنّ حالات عجزت النساء الطبيبات المختصات بأمراض النساء والولادة، وبالتحديد في مسائل الحمل والولادة وما ينجر عنها من مضاعفات عن مداواتها أو من لم تنجب بعد سنين من زواجها، أفيدونا بارك الله فيكم
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالمعلوم أنّ السبب الموجب للترخيص في كشف العورة إنما هو وجود الحاجة الداعية إليه لدفع المفسدة والمشقة أو رفعهما، وقد بيّنت في فتوى برقم 18 في تمريض المرأة الرجل بعض الآثار المجيزة للمداواة لمكان الحاجة، كما يقوِّي ذلك أنّ الصحابة رضي الله عنهم -في حكم سعد رضي الله عنه بقتل مقاتلة بني قريظة وسبي ذراريهم- أنهم كانوا ينظرون إلى العانة، فمن وجدوه أنبت قتلوه، ومن لم يجدوه كذلك تركوه(1). وقد جاءت مجمل القواعد العامة على وَفق هذا المعنى من أنّ «المَشَقَّةَ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ » و«الضَّرَرَ يُزَالُ » غير أنّ المريض مطالب بستر المواضع الزائدة عن قدر الحاجة كما يقتصر الطبيب على النظر في الموضع المحتاج إلى مداواته جريًا على قاعدة «مَا أبيح لِلضَّرُورَةِ يُقَدَّرُ بِقَدَرِهَا ».
ومن شرط الحكم بجواز التطبيب والمداواة فضلاً عن وجود الحاجة الموجبة له أن يكون النظر من الجنس إلى الجنس لكونه أسهل، فإن تعذّر الجنس المثيل جاز التطبيب والمداواة مع اختلاف الجنس، لكن العبرة بالمقصود في تحقيق رفع الضرر والحرج، وإزالة المرض، فإن لم يتحقّق مع جنس النساء الطبيبات إمّا لعدم الاختصاص أو قلة الخبرة والتأهيل فإنّ أحكام المعدوم تجري عليهنّ بناءً على قاعدة «إِعْطَاءُ المَوْجُودِ حُكْمَ المَعْدُومِ » أمّا الحالات المذكورة في السؤال فهي استثناءات نادرة لا تنزّل منزلة حكم الأصل إلاّ إذا وُجد موجبها؛ لأنّ «العَادَةَ تُعْتَبَرُ إِذَا اطُّرِدَتْ أَوْ غَلَبَتْ » وَفقًا لقاعدة:« العِبْرَةُ لِلغَالِبِ الشَّائِعِ لاَ لِلنَّادِرِ ».
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 4 جمادى الثانية 1428ه
الموافق ل: 19 جوان 2007م
__________
1- أخرجه أبو داود في «الحدود »، باب في الغلام يصيب الحد: (4404)، والدارمي في «سننه »: (2372)، وابن حبان في «صحيحه »: (4781)، والحاكم في «المستدرك »: (8173)، من حديث عطية القرظي رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في «المشكاة »: (3901)، والوادعي في «الصحيح المسند »: (942).(9/32)
الفتوى رقم: 772
في مقدار الكعب العالي المنهي عنه
السؤال:
ما حكم لبس المرأة الحذاء ذا الكعب العالي بين النِّساء، وما هو المقدار المُحدَّد في طوله؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالكعبُ العالي لا يجوز، لِما فيه من التشبُّه بالفاسقات من بني إسرائيل، اللواتي كُنَّ يَتَّخِذنَ أَرجُلاً خشبية يَتَشَرَّفْنَ بها الرجال، بالمظاهر الكاذبة الخادعة وقد أخبر النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم عن «امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ قَصِيرَةً, وَاتَّخَذَتْ رِجْلَيْنِ مِنْ خَشَبٍ وَخَاتَمًا لَهُ غَلْقٌ وَطَبَقٌ, وَحَشَتْهُ مِسْكًا، وَخَرَجَتْ بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ أَوْ جَسِيمَتَيْنِ, فَبَعَثُوا إِنْسَانًا يَتْبَعُهُمْ فَعَرفَ الطَّوِيلَتَيْنِ، وَلَمْ يَعْرِفْ صَاحِبَةَ الرِّجْلَيْنِ مِنْ خَشَبٍ »(1)، وفي الكعب العالي من الاحتيال على النّاس والتغرير بهم ما لا يخفى حيث تبدو طويلةً وليست كذلك، فضلاً عن أنّه يُحدِث فتنة بِتَمايُلِها، وضررا بصحتها، كما قرّره الأطباء، و«الضرر يُزَال » على ما قعده الفقهاء.
ومقدار طول الكعب يُصار فيه إلى العرف، فمتى أَحدَثَ طولُه تغريرًا وفتنةً بالتمايُلِ فإنّه يحكم على أنّ ذلك المقدار ممنوع شرعًا.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 3 صفر 1428ه
الموافق ل: 21 فبراير 2007م
__________
1- أخرجه ابن خزيمة في «التوحيد »، بَاب ذكرِ ما يعْطِي اللَّهُ عَزَّ وَجلَّ منْ نِعمِ الْجَنَّة وَملكِها: (447)، من حديث أبي سعيد الخدري أو جابر رضي الله عنهما. والحديث صححه الألباني في «السلسلة الصحيحة »: (591).(9/33)
الفتوى رقم: 775
في حكم تعليم المرأة الأطفال المميِّزين
السؤال:
إذا كانت الأحكامُ التكليفيةُ لا تثبتُ في حقِّ المميِّزِ فهل يجوز للمرأة أن تعلِّم الأطفالَ المميِّزين ذُكورًا وإناثًا؟ مع العلم أنَّ الشيخَ محمَّدَ بنَ محمٍّدٍ المختارَ الشنقيطي يجيز لها ذلك إذا انضبطت بالشروط الشرعية.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصّلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فالصبيُّ -كما ورد في السؤال- لا تثبتُ في حقِّه التكاليف الشرعيةُ من الواجبات والمحرَّمات ولا التصرُّفات من العقود والفسوخ وغيرها باتفاق, غير أنَّ هذا يُعَدُّ أحدَ الأقسامِ المتعلِّقة بأحكام الصّبيِّ, وفيه ما هو في حكم البالغ باتفاق, وقسمٌ آخرُ مُختلَفٌ فيه لتردُّدِه بين لحوقه بالبالغ من عدمه.
والطفلُ في هذه المسألة على شِقَّيْنِ:
أحدهما: إذا كان صغيرًا لم يبلغ حَدَّ الشهوة والقدرة على الجِماع ولم يميِّز بين عورات النّساء والرجال لصغره وهو المعبَّر عنه بالصّبي المميّزِ، فلا حَرَجَ أن تُظْهِرَ المرأةُ زينتَها أمامه ولها أن تُرَبِّيَهُ، وتعلِّمه العلوم الدينية النافعة لقوله تعالى: ?أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء? [النور: 31]، فلا يُلحَقُ بالبالغ باتفاق.
والثاني: إذا كان صغيرًا مميّزًا بين العورة وغيرها أو مُقاربًا للاحتلام فحُكمه بالنسبة للنظر للأجنبية عنه كالبالغ, فلا يجوز للمرأة أن تُبْدِيَ زينتَها له أو أمامه. فمثل هذا الصِّنِفِ من الصِّبيان أَمَرَهُمُ اللهُ تعالى بالاستئذان في بعض الأوقات، قال تعالى: ?وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ? [النور: 58].
وعليه؛ فإنّ الصّبي المميِّزَ إذا كان يُلْحَقُ بالبالغ في الشهوة فهو في حكم الأجنبي عنها جريًا على أنّ:« كُلُّ مَا قَارَبَ الشَّيْءَ أَخَذَ حُكْمَهُ »، وتعليمُ المرأةِ للأجنبيِّ البالغِ فَضْلاً عن الخُلوةِ به غيرُ جائزٍ شرعًا سواء في بيتها أو في مكان آخرَ, أو كان واحدًا أو أكثرَ ولو بالشّروط الشرعية على الأصحِّ, قال النووي في مَعرِض شرح حديث:« لاَ يَخْلُوَنَّ رُجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ »(1):« لو اجتمعَ رجالٌ بامرأةٍ أجنبيةٍ فهو حرامٌ، بخلاف ما لو اجتمعَ رجلٌ بنسوةٍ أجانب فإنَّ الصحيح جوازُه »(2).
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 6 من ذي الحجة 1417ه
الموافق ل: 13 أفريل 1997م
__________
1- أخرجه البخاري في «الجهاد »، باب من اكتتب في جيش فخرجت امرأته حاجة وكان له: (2844)، ومسلم في «الحج »، باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره: (3272)، من حديث ابن عباس رضي الله عنه.
2- «شرح مسلم » للنووي: (9/87).(9/34)
الفتوى رقم: 791
في الحدود الشرعية لحرية التعبير
السؤال:
هل يخدش في حشمة المرأة وحيائها وعِفَّتِها أن تشاركَ في المنتديات والمجلاَّت بكتاباتٍ أدبيةٍ أو شِعرية وعليها اسمها، وتتضمَّن مواضيعَ دعويةً، أو قصصًا فيها وصف بديع الخلق، أو هموم الإنسان وخواطره؟ وما هي نصيحتكم جزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالحكمُ يدور في هذه المسألة بين موضوع الكتابة ونوعِها، وأهلية الكاتبة ومقاصدِها، وصفةِ المجلات والمنتديات ودعوتها.
فالمرأةُ المسلمةُ في حكم الرجل لها أن تُبديَ الرأيَ، وتُعبِّرَ عمَّا تراه محقِّقًا للحقِّ، موافقًا للدِّين مع توخِّي الأمانةِ والصِّدقِ، كما لها أن تدافعَ عن المبادئ الإسلاميةِ، والشعائر الدِّينية، والعقيدةِ، والأخلاق، فتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، إذ من حقِّها التفقُّهُ في الدِّين، ومن شأن الفقيه التوجيهُ والإرشادُ، والفتوى والمشاورةُ، والأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المنكرِ، فهي تتمتَّعُ بهذا الحقِّ مثل الرجال، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ »(1)، أي: في الحكم إلاَّ ما ورد من خصوص انفراد الرجال بمهام مستقلَّة استثناءً من هذا الأصل؛ ذلك لأنَّ الغايةَ من مشروعيةِ مباشرةِ الرأيِ السديدِ باللسان والقلم والعملِ هو إظهارُ الحقِّ وإفادةُ السامع به ليتحقَّق الصلاحُ، ويضمحلَّ الفسادُ، ويزهقَ الباطلُ، ويُقوِّي هذا المعنى قولُه تعالى: ?وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ? [التوبة: 71]، وعمومُ قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« الدِّينُ النَّصِيحَةُ قُلْنَا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: للهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأئِمَّةِ المسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ »(2).
غيرَ أنَّ حُرِّيَّةَ التعبير والرأيِ لا تكون -في الإسلام- مُطلقةً عن تقييدٍ، بل هي مُنضبطةٌ بحدودٍ شرعيةٍ وأخلاقيةٍٍ؛ ذلك لأنَّ من حقِّ الشرع عدمَ التطاولِ على دِينه وعقيدته بالطعن، والمساسِ بأحكامه بالتجاسر عليها بالتسفيهِ والتضليلِ أو الدعوةِ للخروج عنها، أو بإيذاءِ أهلِ الحقِّ والدعوةِ والتشهيرِ بهم وتكبيرِ عيوبهم، والتنكيلِ بعموم المسلمين والإضرارِ بهم نتيجةَ الجهل أو فسادِ العلمِ أو الحِقدِ على المسلمين، لذلك لا يجوز للمسلم أو المسلمة أن تتعاونَ بنشر رأيٍ أو مقالٍ أو كلمةٍ في منتدى أو صحيفةٍ أو مَجلَّةٍ تحمل عداءً للإسلام والمسلمين، أو تنشر الفسادَ وتدعو إلى الإفساد، وتستهتر بأحكام الله، وتتلاعب بآياته، أو تسَفِّه شعائرَه، وتستهزئ بمظاهره؛ لأنّ فيه تعاونًا على الإثم والعدوان والظلم والباطل «والتَعَاونُ عَلَى المعْصِيةِ مَعْصِيَةٌ »، وقد أمر الله تعالى بالتعاونِ الأَخَوِيِّ المبنيِّ على البِرِّ والتقوى، قال تعالى: ?وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ? [المائدة: 2].
كما أنَّ على صاحبَ المقال والرأي أن لا يُعَبِّرَ عن خُلُقٍ غير مرضي أو جلب غريزةٍ أو الانسياق بأسلوبٍ لإثارةِ فتنةٍ، وعليه -أيضًا- أن يجرِّدَ نفسَه من المقاصدِ السيِّئة من السُّمعة والرِّياء وإلباسِ الحقِّ بالباطل والتعالم، فلا يتعرَّض لمواضيعَ دينيةٍ دعويةٍ إلاَّ إذا كان يتمتَّع بأهليةٍ صادقةٍ وكفاءةٍ جديرةٍ بأن تعكسَ شخصيَّتَه فيعبِّر عن رأيه وأفكاره بميزان الشرع حتى لا يقع في الشطَطِ، ومن الكذب والزور أن يُظْهِرَ للناس ما ليس فيه، وقد قال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« المتَشَّبِعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلاَبِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ »(3)، بل عليه أن يتحَلَّى بخُلق الإخلاص والصِّدق، يُبْدي الرأيَ السديدَ من مُعتقَدٍ سليمٍ، يُؤازرُه العلمُ النافع والعمل الصالحُ والخلقُ القويم، بعيدًا عمَّا قد يروم الوصول إليه من تحقيق منصب أو مغنم أو مكسب، قال تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا? [الأحزاب: 70-71]، وإذا انتقل الرأي من العدل إلى الظلم غاب سدادُه وصار أداةَ تحريفٍ وتضليلٍ وتخريبٍ وخرجَ عن نطاق المشروع.
نسأل اللهَ أن يُريَنا الحقَّ حقًّا، ويرزقَنا اتباعَه، والباطلَ باطلاً ويرزقَنا اجتنابَه، وأن يوفِّقنا لحقِّ العلم وخيرِ العلم، وخيرِ العمل؛ فإنّه الزاد المديدُ للقول السديد والرأي المفيد.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 15 من ذي القعدة 1428ه
الموافق ل: 25 نوفمبر 2007م
__________
1- أخرجه أبو داود في «الطهارة »، باب في الرجل يجد البلة في منامه (236)، والترمذي في «أبواب الطهارة » باب ما جاء فيمن يستيقظ فيرى بللا ولا يذكر (113)، وأحمد (25663)، وأبو يعلى (4694)، والبيهقي (818)، من حديث عائشة رضي الله عنها. والحديث صححه الألباني في «صحيح الجامع » (2333)، وفي «السلسلة الصحيحة » (2863).
2- أخرجه مسلم في «الإيمان »، باب بيان أن الدين النصيحة: (205)، وأبو داود في «الأدب »، باب في النصيحة: (4946)، والترمذي في «البر والصلة »، باب ما جاء في النصيحة: (1926)، والنسائي في «البيعة »، باب النصيحة للإمام: (4214)، وأحمد في مسنده: (17403)، والحميدي في «مسنده »: (875)، من حديث تميم الداري رضي الله عنه.
3- أخرجه البخاري في «النكاح »، باب المتشبع بما لم ينل: (5219)، ومسلم في «اللباس والزينة »، باب النهي عن التزوير في اللباس وغيره: (5706)، وأبو داود في «الأدب »، باب في المتشبع بما لم يعط: (4999)، وأحمد: (27680)، وابن حبان: (5831)، والحميدي في «مسنده »: (338)، والبيهقي: (15191)، من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما.(9/35)
الفتوى رقم: 793
في عدم اشتراط لُبس القفازين لستر حلي المرأة
السؤال:
هل يُشتَرَط للمرأة أن تلبس قُفَّازًا لتستر الحُلِيَّ الذي تَتحلَّى به؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فلا يُشتَرَط ذلك، لِما ورد في روايةٍ عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما في قوله تعالى: ?إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا? [النور: 31]، قال:« الكُحْلُ وَالخَاتَمُ وَالسِّوَارُ وَالخِضَابُ »(1).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في 26 من ذي الحجة 1427ه
الموافق ل: 15 يناير 2007م
__________
1- انظر:« تفسير القرطبي »: (12/288)، و«تفسير ابن كثير »: (3/283).(9/36)
الفتوى رقم: 802
مقدار الثياب الذي ترخيه المرأة والاختلاف في موضع ابتدائه
السؤال:
ما هو المقدار الذي تُرخيه المرأةُ من ثيابها في الأرض؟ وما هو تحديدُ موضعِ ابتدائه؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فاعلم أنَّ جمهورَ العلماء يذهبون إلى أَنَّ قدمَ المرأة عورةٌ خلافًا للأحناف، وهم يختلفون في تحديد موضع ابتداءِ سترِ القدمين على ثلاثةِ آراء، فبعضهم يرى بدايته من الكعبين لكونه محلّ تحريم الزيادة على الرِّجال، وقال آخرون من منتصف الساقين لكونه محلَّ الأسوة بالنبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، ولقوله عليه الصلاة والسلام:« النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِجَالِ »(1)، أي: في الأحكام ما لم يرد دليل يخصِّصُهُنَّ، وفيه رأيٌ ثالثٌ يرى أنّ ابتداءَه إنَّما يكون من أول ما يمسّ الأرض اعتمادًا على السائلة للنبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قالت:« كَمْ تَجُرُّ الْمَرْأَةُ مِنْ ذَيْلِهَا؟ قَالَ:« شِبْرًا » قُلْتُ: إِذاً يَنْكَشِفُ عَنْهَا. قَالَ:« ذِرَاعٌ، لاَ تَزِيدُ عَلَيْهِ »(2)، على أنَّ الظاهر أنَّ لها أن تجرَّ على الأرض منه ذراعًا ويكون ابتداءّ محل الغاية من الأرض، ولا تخرج هذه الأقوال الثلاثة عمَّا يحقِّق سترَ القدمين من حيث مقصودُ الشارعِ وغايتُه، إلاَّ مَا كان من الأحناف الذين يرون أنَّ قدمي المرأة ليستَا بعورة، إلحاقًا قياسيًّا باليَدين من حيث تكشفُهما، ولا يخفى مرجوحيةُ هذا المذهب، لوقوع القياس في مقابلة النص، وما كان كذلك فسد اعتبارُه.
وإذا صحَّ ما تقدَّم تقريرُه، عُلِمَ أنَّ الخلاف في محلِّ الابتداء -بعدما تبين وجوب ستر القدمين- لفظي وليس معنويًّا، ومن ناحية أخرى فالذي يظهر ذلك حقيقةً أنَّ حديثَ أمِّ سلمةَ رضي الله عنها يَدور بينَ كَشْفِ القَدَمَيْنِ في قولها:« إِذًا يَنْكَشِفُ عَنْهَا » وبينَ الإسرافِ المنهيِّ عنه في الحديث نفسِه في قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« لاَ تَزِيدُ عَلَيْهِ »، فالواجب إذًا من ثيابها ما يستر جميعَ بدنها بما في ذلك قدميها، فإذا العبرة في التعبّد ستر القدم لا بذات الشبر والذراع؛ لأنَّ كلاًّ منهما وسيلةٌ إلى التستُّر وليستا بغاية فيه، فمتى حصل التستُّر حصل المقصود، وهو تقرير مذهب الجمهور سابقًا وإن اختلفوا في تحديد محلِّ الابتداء فيبقى الخلاف صوريًّا لا تأثير له على الحكم.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 18 جمادى الأولى 1421ه
الموافق ل: 19 أوت 2000م
__________
1- أخرجه أبو داود في «الطهارة »، باب في الرجل يجد البلة في منامه: (236)، والترمذي في «أبواب الطهارة »، باب ما جاء فيمن يستيقظ فيرى بللا ولا يذكر: (113)، وأحمد في «مسنده »: (25663)، وأبو يعلى: (4694)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (818)، من حديث عائشة رضي الله عنها. والحديث صححه الألباني في «صحيح الجامع »: (2333)، وفي «السلسلة الصحيحة »: (2863).
2- أخرجه أبو داود في «اللباس »، باب في قدر الذيل: (4117)، والنسائي في «الزينة »، باب ذيول النساء: (5339)، وابن ماجه في «اللباس »، باب ذيل المرأة كم يكون: (3580)، وأحمد في «مسنده »: (26106)، من حديث أم سلمة رضي الله عنها، والحديث صححه الألباني في «السلسلة الصحيحة »: (460).(9/37)
الفتوى رقم: 814
في حكم تغيير لون شعر الرأس
السؤال:
ما حكمُ تغييرِ لونِ شعرِ الرأس بالحناء وغيرها من الأصباغ الأخرى بالنسبة للنساء؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فيجوز للمرأة خضابُ شعرها بالأحمر والأصفر والأسود غيرِ الخالص المَشُوبِ بِحُمْرَةٍ إذا كان مُشَوَّهًا بشيب أو غيره، سواء لغرض مخالفة أهل الكتاب، أو لتنظيف الشعر، ومِمّا يتعلَّق به -كما نصَّ عليه الإمام النووي رحمه الله- تزيينُ نفسِها لزوجها غير أنّه لا يجوز لها أن تصبغه بالأسود الخالص، ولا أن تَخضِبَهُ على طريقة الكافرات أو العاهرات، كما لا يجوز أن تصبغ بعضَه وتتركَ بعضَه، على هيئة القزع في الحلق المنهي عنه، ويشهد على هذا قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« إِنَّ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى لاَ يَصْبِغُونَ؛ فَخَالِفُوهُمْ »(1)، وقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم حين جيء بأبي قُحافة يومَ الفتح:« اِذْهَبُوا بِهِ إِلَى بَعْضِ نِسَائِهِ؛ فَلْيُغَيِّرْهُ بِشَيْءٍ، وَجَنِّبُوهُ السَّوَادَ »(2)، وقد كان رأسُه يومئذ كأنّه ثَغَامة، وفي رواية أخرى:« فَأَسْلَمَ وَلِحْيَتُهُ وَرَأْسُهُ كَالثَّغَامَةِ بَيَاضًا، فقال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« غَيِّرُوهُمَا، وَجَنِّبُوهُمَا السَّوَادَ »(3).
وكَانَ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم يأمر بالاختضاب بِالحِنَّاءِ وَالكَتَمِ، وكان يقول:« إِنَّ أَحْسَنَ مَا غُيِّرَ بِهِ هَذَا الشِّيبُ الحِنَّاءُ وَالكَتَمُ »(4)، أمّا تحريمه للسواد الخالص في قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« وَجَنِّبُوهُ السَّوَادَ… »، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا:« يَكُونُ قَوْمٌ يَخْضِبُونَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ بِالسَّوَادِ، كَحَوَاصِلِ الحَمَامِ، لاَ يَرِيحُونَ رَائِحَةَ الجَنَّةِ »(5). هذه الأحاديث الآمرة بصَبغِ الشَّعر لمخالفة أهل الكتاب، تشمل -أيضًا- النساء، وكذلك الأحاديث الواردة في تغيير لون الشيب بخضابه؛ لأنّ المعلوم أنّ «النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ »(7).
أمّا إذا كان الشعر طبيعيًّا لم يَتعرَّض لأيِّ تشويهٍ، أو لَم يدخله الشيب، فإنّه لا مجال لتغييره، ولا حاجة إلى صبغه بل يترك على ما هو عليه في أصل طبيعته.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في 18 صفر 1428ه
الموافق ل: 07 مارس 2007م
__________
1- متّفق عليه: البخاري في «اللباس »: (5559)، ومسلم في «اللباس والزينة »: (5510)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2- أخرجه مسلم في «اللباس والزينة »: (5508)، وأبو داود في «الترجل »: (4204)، والنسائي في «الزينة »: (5076)، وأحمد: (13993)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
3- أخرجه ابن حبان في «صحيحه »: (5375)، وأحمد: (12224)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال الهيثمي في «مجمع الزوائد »: (5/285):« ورجال أحمد رجال الصحيح ». وصحّحه الألباني في «الصحيحة »: (1/895).
4- أخرجه أبو داود في «الترجل »: (4205)، والترمذي في «اللباس »: (1753)، والنسائي في «الزينة »: (5077)، من حديث أبي ذر رضي الله عنه. وصحّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة »: (4/14).
5- أخرجه أبو داود في «الترجل »: (4212)، والنسائي في «الزينة »: (5075)، وأحمد: (2466)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وجوّد إسناده العراقي في «تخريج الإحياء »: (1/196)، وصحَّحه أحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد »: (6/137)، والألباني في «صحيح الجامع » (8153).
6- أخرجه أبو داود في «اللباس »: (4033)، وأحمد: (5232)، والطحاوي في «مشكل الآثار »: (198)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وصحَّحه العراقي في «تخريج الإحياء »: (1/359)، والألباني في «الإرواء »: (1269). وحسَّنه ابن حجر في «فتح الباري »: (10/282).
7- أخرجه أبو داود في «الطهارة »: (236)، والترمذي في «أبواب الطهارة »: (113)، وأحمد: (25663)، وأبو يعلى: (4694)، والبيهقي: (818)، من حديث عائشة رضي الله عنها. والحديث صحَّحه الألباني في «صحيح الجامع »: (2333)، وفي «السلسلة الصحيحة »: (2863).(9/38)
الفتوى رقم: 852
في حكم خروج المرأة ليلا لأداء صلاة التراويح في المسجد
السؤال:
هل يجوز للمرأة أن تخرج ليلاً لأداء صلاة التراويح في المسجد؟ وجزاكم اللهُ خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فإن كان خروجُ النساء ليلاً لأداء صلاة التراويح بموافقة أوليائهنَّ أو أزواجهنَّ ولم تترتَّب على خروجهنَّ مفسدةٌ فلا ينبغي مَنعهُنَّ إن رغبن في صلاة جماعة المسلمين وشهود الخير، أمَّا إن كان في خروجهن فتنة وضرر فالصلاةُ في بيوتهنَّ خير لهنَّ، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« لاَ تَمْنَعُوا نِسَاءَكُمُ المسَاجِدَ وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ »(1)، ولحديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا:« صَلاَةُ المَرْأَةِ في بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلاَتِهَا في حُجْرَتِهَا، وَصَلاَتُهَا في مَخْدَعِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلاَتِهَا في بَيْتِهَا »(2).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 29 رمضان 1418ه
الموافق ل: 27 جانفي 1998م
__________
1- أخرجه أبو داود في «الصلاة »، باب ما جاء في خروج النساء إلى المسجد: (567)، وأحمد في «مسنده »: (5468)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وهو في الصحيحين بلفظ:« لاَ تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللهِ بُيُوتَ اللهِ »، والحديث صححه النووي في «الخلاصة »: (2/678)، وأحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد »: (7/232)، والألباني في «الإرواء »: (2/294).
2- أخرجه أبو داود في «الصلاة »، باب التشديد في ذلك: (570)، وابن خزيمة في «صحيحه »: (1688)، والحاكم في «المستدرك »: (757)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (5462)، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، والحديث جوّد إسناده المنذري في «الترغيب والترهيب »: (1/141)، وصححه النووي في «الخلاصة »: (2/677)، والألباني في «صحيح الجامع »: (3833)، والوادعي في «الصحيح المسند »: (865).(9/39)
الفتوى رقم: 862
في عورة المرأة مع النساء المسلمات
السؤال:
ما هي المواضع التي يجوز للمرأة أن تكشفها من بدنها أمام النساء؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فأرجحُ الأقوالِ في عورة المرأة المسلمة مع المحارم والنِّساء المسلمات جواز كشفها للزينة الخفية المتمثِّلة في: الساقين واليدين بما في ذلك الساعد والعضد والرأس والصدر للرّضاعة، فهي المواضع التي تتحلَّى فيها المرأة بزينتها، وتحتاج إلى إبدائه إذا اجتمعت بهنَّ، لقوله تعالى: ?وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ? [النور: 31]ُ، فهؤلاء يجوز للمرأة أن تكشف أمامهم شيئًا من زينتها الخفية لكن لكلٍّ منهم حدٌّ مُعيَّن، ويدلُّ عليه حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم أتى فاطمة بعَبْدٍ كان قد وهبه لها، قال: وعلى فاطمةَ رضي الله عنها ثوبٌ إذا قَنَّعَتْ به رأسها لم يبلغ رِجليها، وإذا غطَّت به رجليها لم يبلغ رأسها، فلمَّا رأى النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم ما تَلْقَى، قال:« إِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْكِ بَأْسٌ، إِنَّمَا هُوَ أَبُوكِ وَغُلاَمُكِ »(1)، أمّا ما عدا ذلك من زينتها الخفية: كالبطن والظهر فالأحوط ستره ولا حاجة في كشفه إلاَّ المقدار السابق الذي في ستره مشقَّة، والمشقَّة مدفوعة بالنصِّ الشرعي في قوله تعالى: ?يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ? [النساء: 28]، وقوله تعالى: ?يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ? [البقرة: 185]، وقوله تعالى: ?وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ? [الحج: 78]، وغيرها من الآيات المبيّنات، وممَّا يدلُّ على الاحتياط من جهة، ومرجوحية قول الجمهور القائلين بأنَّ عورة المرأة أمام النساء المسلمات ما بين السرة إلى الركبة، والأحناف الذين أضافوا الركبة إلى العورة، وكذا ابن حزم الذي قصر عورتها أمام المسلمات في القُبل والدُّبر، من جهة أخرى هو قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« لاَ تُبَاشِرُ المَرْأَةُ المَرْأَةَ فَتُنْعِتُهَا لِزَوْجِهَا كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا »(2)، والحديث ينهى عن الفعل الموقع للزوج في الإعجاب بالوصف المذكور له والمفضي إلى تطليق الواصفة أو الافتتان بالموصوفة، لذلك ينبغي الاحتياط فيما لا حاجة إلى كشفه سدًّا لذريعة الفتنة.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 8 ربيع الأول 1428ه
الموافق ل: 15 مارس 2008م
__________
1- أخرجه أبو داود في «سننه » كتاب اللباس، باب في العبد ينظر إلى شعر مولاته: (4106)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (7/95)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. والحديث صححه ابن القطان في «أحكام النظر »: (196)، وجوّد إسناده ابن الملقن في «البدر المنير »: (7/510)، وصححه الألباني في «الإرواء »: (1799)، وحسنه الوادعي في «الصحيح المسند »: (60).
2- أخرجه البخاري «صحيحه » كتاب النكاح، باب لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها: (4942)، وأبو داود في «سننه »، كتاب النكاح، باب ما يؤمر به من غض البصر: (2150)، والترمذي في «سننه » كتاب الأدب، باب في كراهية مباشرة الرجال الرجال والمرأة: (2792)، وأحمد في «مسنده »: (4179)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.(9/40)
الفتوى رقم: 870
في حكم دخول المرأة الحمام مع زوجها في غرفة خاصة
السؤال:
هل يجوز للمرأة أن تدخل الحمام مع زوجها في غرفة خاصة لوحدهما؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فلا يجوز للمرأة دخول الحمام إلاَّ لضرورة، ولا يجوز للرجل أن يأذن لزوجته -أو في معناها ممَّن يكون تحت حكمه وولايته من أُمِّه وابنته وأخته وغيرهم- بدخول الحمام أو بإعطائها أجرته ولا أن يشاركها الدخول إليه، فلا يكون لها مُعينًا على المنكر لا بالمشاركة ولا بالإذن والأجرة، وذلك لعموم قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يُدْخِلْ حَلِيلَتَهُ الحَمَّامَ »(1)، عِلمًا أنه يُشرع للزوج الاغتسال مع زوجته في غير الحمام العمومي، لحديث عائشة رضي الله عنها قالت:« كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ، تَخْتَلِفُ أَيْدِينَا فِيهِ »(2)، وفي رواية قالت -رضي الله عنها-:« كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِنَاءٍ بَيْنِي وَبَيْنَهُ وَاحِدٍ، فَيُبَادِرُنِي حَتَّى أَقُولَ: دَعْ لِي، دَعْ لِي. قَالَتْ: وَهُمَا جُنُبَانِ »(3).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 29 صفر 1429ه
الموافق ل: 07/03/2008م
__________
1- أخرجه الترمذي في «سننه » كتاب الأدب، باب ما جاء في دخول الحمام: (2801)، والحاكم في «المستدرك »: (7779)، وأحمد في «مسنده »: (15027)، من حديث جابر رضي الله عنه. وحسنه الألباني في «صحيح الجامع »: (6506)، وصححه في «صحيح الترغيب والترهيب »: (164)، و«آداب الزفاف »: (67).
2- أخرجه البخاري في «صحيحه » كتاب الغسل، باب هل يدخل الجنب يده في الإناء قبل أن يغسلها: (258)، ومسلم في «صحيحه » كتاب الحيض، باب القدر المستحب من الماء في غسل الجنابة: (731)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
3- أخرجه مسلم في «صحيحه » كتاب الحيض، باب القدر المستحب من الماء في غسل الجنابة: (732)، والنسائي في «سننه » كتاب الطهارة: (239)، وأحمد في «مسنده »: (24202)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (920)، من حديث عائشة رضي الله عنها.(9/41)
الفتوى رقم: 884
في حكم الزيادة عن الثقب الواحد في أذن الأنثى
السؤال:
انتشر في أوساط النساء ثقب الأذن أكثر من مرة، قد تصل إلى خمس ثقوب في الأذن الواحدة لأجل وضع الأقراط فيها للتزين، فنود سؤالكم عن حكم هذا العمل، وهل هو من التزين المباح للمرأة؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فالأصلُ أنه لا يجوز للمرأة تغييرُ شيءٍ من خِلقتها بزيادةٍ أو نَقصٍ، التماسَ الحُسْنِ، لا للزوج ولا لغيره، إلاَّ ما استثناه النصُّ أو ما يحصل الضررُ والأذى الحسيُّ أو المعنويُّ.
وثقب أُذُن الأنثى للزِّينة جائزٌ، مُحقِّق للمصلحة في التحلِّي بالمباح للصغيرة والكبيرة على حدٍّ سواء، ولا يُعدُّ ذلك من التغيير لخلق الله المحرَّم؛ لأنَّ الإسلام أَذِنَ لها بالتحلِّي، لقوله تعالى: ?أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ? [الزخرف: 18]، وثقب أُذُنها يتضمَّن عمومَ جوازِ التحلِّي، ويشهد لذلك قولُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم لعائشة رضي الله عنها في حديث أُمِّ زَرْعٍ:« كُنْتُ لَكِ كَأَبِي زَرْعٍ لأُمِّ زَرْعٍ »، مع قول أم زرع:« أُنَاسَ مِنْ حُلِيِّ أُذُنَيَّ »(1)، أي: ملأها من الحلي حتى صار ينوس فيها، أي: يتحرَّك ويجول، وفي الصحيحين لَمَّا حرَّض النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم على الصدقة «جَعَلَتِ المَرْأَةُ تُلْقِي خُرْصَهَا.. »(2) الحديث، والخُرص: هو الحلقة الموضوعة في الأذن.
ويكفي في جواز ثُقب الأنثى أذنيها أنَّ اللهَ ورسوله عَلِم بفعل الناس وأقرَّهم عليه، فلو كان ممَّا نهى عنه لبيَّنه الشرعُ، إذ «تَأْخِيرُ البَيَانِ عَنْ وَقْتِ الحَاجَةِ لاَ يَجُوزُ »(3).
هذا، وأمَّا الزيادةُ عن الثقب الواحد في كلا الأذنين فتحتاج إلى دليلٍ يُسند حكمَها؛ لأنَّ المقرَّر أنَّ: ما أذن فيه الشرع فيقصر على أقصى ما يدلُّ عليه، ولا يتعدَّى محلَّه، بل إنَّ الزيادة عليه تشويهٌ ومُثْلَةٌ مخالفة للأصل المتقدِّم، فضلاً عن التشبُّه بأهل الفِسق والفجور من اليهود والنصارى، وقد ثبت في الحديث:« مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ »(4).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 30 ربيع الأول 1429ه
الموافق ل: 06/04/2008م
__________
1- أخرجه البخاري في «صحيحه » كتاب النكاح، باب حسن المعاشرة مع الأهل: (4893)، ومسلم في «صحيحه » كتاب فضائل الصحابة، باب ذكر حديث أم زرع: (6305)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
2- أخرجه البخاري في «صحيحه » كتاب العيدين، باب الخطبة بعد العيد: (921)، ومسلم في «صحيحه » كتاب صلاة العيدين، باب ترك الصلاة قبل العيد وبعدها في المصلى: (2057)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
3- انظر:« تحفة المودود » لابن القيم: (215).
4- أخرجه أبو داود في «سننه »، كتاب اللباس، باب في لباس الشهرة: (4033)، وأحمد في «مسنده »: (5232)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. والحديث صحَّحه العراقي في «تخريج الإحياء »: (1/359)، وحسَّنه ابن حجر في «فتح الباري »: (10/288)، والألباني في «الإرواء »: (1269).(9/42)
الفتوى رقم: 904
في أهلية التعبد للصبي
السؤال:
متى يُلزم الوالدان البنتَ التي دون البلوغ بالحجاب؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فقد اعتبر الفقهاء تمامَ السنة السابعة من عُمُر الصبي في الحالة الطبيعية السليمةِ مبدأً لطور التمييز، حيث يصبح للصبي بصرٌ عقلي يستطيع بواسطته التمييزَ بين الحسن والقبيح، والنفع والضرر، وسِنُّ التمييز يُؤهِّله لممارسة العبادات المشروعة، وتثبت للصبي أهليةٌ كاملةٌ من أول طور التمييز، وتسمَّى «بأهلية التعبُّد »، أو «أهلية الأداء الدِّينية »، كالصلاة والصيام وإن كانت غيرَ مفروضة عليه؛ لأنَّ الأهلية تجعله أهلاً للممارسة الدِّينية، ولا توجب عليه فعلها، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« مُرُوا أَوْلاَدَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرِ سِنِينَ »(1).
فسِنُّ التمييز يُدخل الصبيَّ في كمال أهلية التعبُّد بالتمييز من غير إلزامٍ؛ لأنَّ الواجبات تكاليفُ تُناطُ بأول شرائطها، وهو البلوغ لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلاَثٍ، عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَكْبُرَ »(2)، وفي رواية:« حَتَّى يَحْتَلِمَ »(3)، وعليه فلا يكون العبد مُكلَّفًا بالواجبات الشرعية العملية إلاَّ بعد البلوغ.
لذلك، وما دام للصغيرة أهلية دينية كاملة بالتمييز فإنه كما تُؤمر بالصلاة والصيام بإجماع المسلمين وتصحُّ منها وهي غيرُ مكلَّفةٍ بهما، ولا يجبان عليها اتفاقًا وهما أعظم، فكذلك تؤمر بارتداء الحجاب قبل سِنِّ البلوغ قصد التعوُّد عليه والتجانس معه، وعدمِ النُّفور منه، ويصبح الجلباب لازمًا مع أول شرائط التكليف، وهو البلوغ الذي من علاماته الحيض، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« يَا أَسْمَاءُ إِنَّ المَرْأَةَ إِذَا بَلَغَتِ المَحِيضَ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يُرَى مِنْهَا إِلاَّ هَذَا وَهَذَا، وَأَشَارَ إِلَى وَجْهِهِ وَكَفَّيْهِ »(4)، ويُجبِرها وليُّها عليه عملاً بقوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ..? الآية. [الأحزاب: 59].
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 4 جمادى الأولى 1429ه
الموافق ل: 9 ماي 2008م
__________
1- أخرجه أبو داود في «سننه » كتاب الصلاة، باب متى يؤمر الغلام بالصلاة: (495)، وأحمد في «مسنده »: (6717)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (3318)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. والحديث حسّنه النووي في «الخلاصة »: (1/252)، وصححه ابن الملقن في «البدر المنير »: (3/238)، والألباني في «الإرواء »: (1/266).
2- أخرجه أبو داود في «سننه » كتاب الحدود، باب في المجنون يسرق أو يصيب حدا:(4398)، والنسائي في «سننه » كتاب الطلاق، باب من لا يقع طلاقه من الأزواج: (3432)، وابن ماجه في «سننه » كتاب الطلاق، باب طلاق المعتوه والصغير والنائم: (2041)، من حديث عائشة رضي الله عنها، وأخرجه أحمد في «مسنده »: (1364)، من حديث علي رضي الله عنه.
3- أخرجه أبو داود في «سننه » كتاب الحدود، باب في المجنون يسرق أو يصيب حدا :(4403)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (5191)، من حديث علي رضي الله عنه. وأخرجه الحاكم في «المستدرك »: (2350)،. وأحمد في «مسنده »: (24173)، والدارمي في «سننه »: (2211)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (11644)، من حديث عائشة رضي الله عنها. قال ابن حجر في «فتح الباري »:(12/124):« له شاهد وله طرق يقوي بعضها بعضاً »، وصححه النووي في «الخلاصة »: (1/250)، وأحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد »: (2/188)، والألباني في «الإرواء »: (297).
4- أخرجه أبو داود في «سننه » كتاب اللباس، باب فيما تبدي المرأة من زينتها: (4104)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (3302)، من حديث عائشة رضي الله عنها، والحديث حسّنه الألباني في «الإرواء »: (6/203).(9/43)
الفتوى رقم: 922
في لون الخمار المغاير للملاءة
السؤال:
ترتدي بعضُ النساء خمارًا بلونٍ مُغايِرٍ للون العباءة، وقد يكون في بعض الأحيان مُلفِتًا للأنظار، فهل يجوز التغاير بين الخمار والعباءة؟ وما هي الألوان التي يمكن أن يكون عليها الخمار بصفة شرعية؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالواجب في الخمار ابتداءً أن تُلقِيَهُ المرأةُ على رأسها وتُلويَه على عنقها، وتُرخيَه على صدرها، بحيث تسدله على رأسها وتُغطِّي به عنقها وأذنيها وصدرَها ونحو ذلك، لقوله تعالى: ?وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ? [النور:31]، والمراد بالجيب هو موضع القطع من الدِّرع والقميص، أي: الفتحة من الأعلى التي يبدو فيها شيءٌ من الصدر والعنق.
والمعلوم -من جهة ثانية- أنَّ النساء شقائق الرجال في الأحكام ما لم يرد دليلٌ شرعي يُفرِّق بين الجنسين في الحكم، كما أنَّ الأصلَ في ألوانِ اللِّباس الحِلُّ والإباحةُ إلاَّ إذا ورد دليلٌ يمنعه عليهما جميعًا أو يخصِّص أحدهما بالمنع دون الآخر، وتظهر الألوان على الوجه التالي:
أمَّا اللون الأسود للنساء فقد ثبت ذلك من حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت:« لَمَّا نَزَلَتْ ?يُدَنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ? خَرَجَ نِسَاءُ الأنْصَارِ كَأَنَّ عَلَى رُؤوسِهِنَّ الْغِرْبَانَ مِنَ الأكْسِيَةِ »(1). وقد شبَّهت -رضي الله عنها- ما على رؤوسهنَّ من الأكيسة المتخذة جلابيب بالغربان من جهة سواد لونها، ويدلُّ على إباحة اللون الأسود للنساء -أيضًا- حديثُ أُمِّ خالد بنت خالدٍ أنّها قالت:« أُتي النبيُّ بثيابٍ فيها خَميصةُ سوداءُ صغيرةٌ فقال:« مَن تَرَون أن نكسوَ هذهِ »؟ فسكتَ القومُ. قال:« ائتُوني بأمِّ خالدٍ »، فأتيَ بها تُحمل، فأخذ الخميصةَ بيدهِ فألبَسَها وقال: أبْلِي وأخلِقي. وكان فيها عَلمٌ أخضرُ أو أصفر »(2).
أما اللون الأخضر للنساء فقد ثبت في البخاري «أنَّ رفاعة طلَّقَ امرأتَهُ، فتزوجَها عبدُ الرحمن بن الزُّبير القُرَظيّ، قالت عائشة رضي الله عنها: وعليها خِمارٌ أخضر، فشكَتْ إليها، وأرَتها خُضرةً بجلدها.. »(3).
وأمَّا اللون الأحمر فيدلُّ على جوازه للنساء دون الرجال ما أخرجه مسلم عن عبد الله بن عمرو قال:« رَأَى النَّبِيُّ عَلَيَّ ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ. فَقَالَ:« أَأُمُّكَ أَمَرَتْكَ بِهَذَا؟ » قُلْتُ: أَغْسِلُهُمَا، قَالَ:« بَلْ احْرِقْهُمَا »(4).
والمراد بثوبين مُعصفرين أي: مصبوغين بالعصفر الذي له صباغ أحمر. قال النووي في قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« أَأُمُّكَ أَمَرَتْكَ بِهَذَا؟ »:« معناه أنَّ هذا من لباس النساء وزيِّهنَّ وأخلاقهنَّ »(5)، ويدلُّ عليه -أيضًا- حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال:« هَبَطْنَا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وآله وسَلَّم مِنْ ثَنِيَّةٍ فالْتَفَتَ إلَيَّ وَعَليَّ رَيْطَةٌ مُضَرَّجَةٌ بالْعُصْفُرِ فقال: مَا هذِهِ الرَّيْطَةُ عَلَيْكَ؟ فَعَرَفْتُ مَا كَرِهَ، فأَتَيْتُ أهْلِي وَهُمْ يَسْجُرُون تَنُّورًا لَهُمْ فَقَذَفْتُهَا فِيهِ ثُمَّ أتَيْتُهُ مِنَ الْغَدِ، فقال: يَا عَبْدَ اللهِ مَا فَعَلْتَ الرَّيْطَةَ، فأَخْبَرْتُهُ، فقال: ألاَ كَسَوْتَهَا بَعْضَ أهْلِكَ فإنَّهُ لاَ بَأْس بِهِ لِلنِّسَاءِ »(6).
وأمَّا الأبيضُ من الثياب فلعموم قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« الْبِسُوا مِنْ ثِيَابِكُمُ الْبَيَاضَ فإنَّهَا مِنْ خَيْرِ ثِيَابِكمْ، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُم »(7)، وكذا الأصفر للرجال فقد ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:« وَأَمَّا الصُّفْرَةُ فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَصْبِغُ بِهَا فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَصْبغَ ِبهَا »(8- أخرجه البخاري في «صحيحه » كتاب الوضوء، باب غسل الرجلين في النعلين: (164)، وأبو داود في «سننه » كتاب المناسك، باب في وقت الإحرام: (1772)، وأحمد في «مسنده »: (5316)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.)، وفي سُنن أبي داود عنه رضي الله عنه، قال:« ..وَقَدْ كَانَ يَصْبِغُ بِهَا ثِيَابَهُ كُلَّهَا حَتَّى عِمَامَتَهُ »(9)، والأحاديث السابقة دالَّةٌ على إباحة اللون الأسود والأخضر والأحمر للنساء بالتنصيص عليها، وهي تشمل الرجال -أيضًا- بالأصل السابق البيان ما عدا الأحمر فهو خاصٌّ بالنساء، وأمَّا الأبيض والأصفر فيجوز للمرأة -أيضًا- بموجب الأصل المقرَّر السابق البيان في إباحة الألوان لعدم وجود ما يمنعه أو يخصِّصُه.
هذا، ويجدر التنبيه إلى أنَّ الألوان المهيِّجة أو ذات اللمعان التي يرتديها أهل الخنا والهوى والردى فتُمنع من جهة التشبُّه والإثارة، وكذلك الألوان التي يرتديها بعض الجماعات الدِّينية خاصَّة، فيمنع تقصد الزَّيِّ واللون الَّذَيْنِ يعرف بهما حذرًا من الحدث والبدعة في الدِّين، كما يمنع التَّزَيّ بألوان علم لبلد أو فريقٍ أو نادٍ وخاصة الكافرة منها، لما يقضي إلى شرك المحبة والتعظيم وعقد الولاء والولاء لغير أهله.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 06 جمادى الثانية 1429ه
الموافق ل: 10 جوان 2008م
__________
1- أخرجه أبو داود في «سننه » كتاب اللباس، باب في قوله تعالى يدنين عليهن من جلابيبهن: (4101)، من حديث أم سلمة رضي الله عنها. والحديث صحَّحه الألباني في «جلباب المرأة المسلمة »: (82).
2- أخرجه البخاري في «صحيحه » كتاب اللباس، باب الخميصة السوداء: (5485)، وأبو داود في «سننه » كتاب اللباس، باب فيما يدعى لمن لبس ثوبا جديدا: (4024)، وأحمد في «مسنده »: (26517)، من حديث أم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص رضي الله عنها.
3- أخرجه البخاري في «صحيحه » كتاب اللباس، باب الثياب الخضر: (5487)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
4- أخرجه مسلم في «صحيحه » كتاب اللباس والزينة، باب النهي عن لبس الرجل الثوب المعصفر: (5436)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه.
5- «شرح مسلم » للنووي: (14/55)، وقال:« وأما الأمر بإحراقها، فقيل: هو عقوبة وتغليظ لزجره وزجر غيره عن مثل هذا الفعل، وهذا نظير أمر تلك المرأة التي لعنت الناقة بإرسالها، وأمر أصحاب بريرة ببيعها وأكر عليهم اشتراط الولاء ونحو ذلك ».
6- أخرجه أبو داود في «سننه » كتاب اللباس، باب في الحمرة: (4066)، وابن ماجه في «سننه » كتاب اللباس، باب كراهية المعصفر للرجال: (3603)، وأحمد في «مسنده »: (6813)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. والحديث صححه أحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد »: (11/76)، والألباني في «صحيح أبي داود »: (4066).
7- أخرجه أبو داود في «سننه » كتاب الطب، باب في الأمر بالكحل (3878)، والترمذي في «سننه » كتاب الجنائز، باب ما يستحب من الأكفان: (944)، وابن ماجه في «سننه » كتاب الجنائز، باب ما جاء فيما يستحب من الكفن: (1472)، وأحمد في «مسنده »: (3332)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. والحديث صححه ابن الملقن في «البدر المنير »: (4/671)، وأحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد »: (5/143)، والألباني في «جلباب المرأة المسلمة »: (82).
8- أخرجه البخاري في «صحيحه » كتاب الوضوء، باب غسل الرجلين في النعلين: (164)، وأبو داود في «سننه » كتاب المناسك، باب في وقت الإحرام: (1772)، وأحمد في «مسنده »: (5316)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
9- أخرجه أبو داود في «سننه » كتاب اللباس، باب في المصبوغ بالصفرة (4064)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. والألباني في «المشكاة »: (4405).(9/44)
الفتوى رقم: 991
في حكم لبس المرأة للبنطلون
السؤال:
كثيراتٌ من النسوة المسلمات يسألن عن حكم لباس السِّروال أو البنطلون الخاصِّ بالمرأة المجسِّم للعورة، والظهورِ به أمام الزوج بُغية التزيُّن له، أو تحقيقِ رغبته في ذلك، فإن كان هذا جائزًا؛ فهل يُعمَّم الحكمُ في ذلك على الظهور به أمام النساء، وأمام الأولاد في البيت؟
نرجو من فضيلتكم تفصيلاً في المسألة، ووفَّقكم الله إلى قول الصواب.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالأصلُ في النساء أنهنَّ مأموراتٌ بالاستتارِ والاحتجابِ دون التبرجِ والظهورِ، لذلك فالمرأة ترتدي من الثيابِ ما يُصلح حالها ويناسب مقصودَ الشارع المحقق لمعنى الستر، ولا يشرع لها ضِدُّ ذلك، ولا يبعد عن أهل النظر أنَّ مقصودَ الثياب في معناه وعلته يشبهُ مقصود المساكن، وقد جاء في شأن المساكن والبيوت قوله تعالى: ?وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى? [الأحزاب: 33]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لاَ تَمْنَعُوا نِسَاءَكُمُ المسَاجِدَ، وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ»(1)، إذ المساكنُ من جنس الملابس، والعلةُ فيهما الوقايةُ ودفع الضرر، فالوقايةُ من الحرِّ والبرد وسلاحِ العدو ونحو ذلك، يوجد في المساكن والملابس، لذلك قال الله تعالى: ? وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ? [النحل: 81] وقال تعالى: ?وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ? [النحل: 5] أي: من البرد.
وإذا تقرر أنَّ الشريعة تأمر النساء بالاستتار والاحتجاب، فإنَّ هذا المقصود الشرعي يظهر الفرق في اللباس بين المرأة والرجل، فاللباس إن كان عائدًا إلى ذات الستر فهذا يُؤمر به النساء بما كان أستر لهنَّ، إذ أنَّ كُلَّ لباسٍ قريبٍ من مقصود الشارع بالاستتار فالنساء أولى به، وكان ضِدّه للرجالِ إلاّ ما استثناه الدليلُ.
أمَّا إن كان اللباسُ عائدًا إلى العادة، وتضمَّن في ذاته الستر المطلوب فإن جرت عادة أهل البلاد أن يلبس الرجال مثل هذه الثياب دون النساء فإنَّ النهي عن مثلِ هذا يتغيّر بتغيّر عاداتِ النَّاس في أحوالهم وبلادهم.
ومن منطلقِ هذا التقعيدِ فإنّ السروال أو البنطلون معدودٌ من أخصِّ ثياب الرجال، فإن كان محجمًا للعورة، ومحدِّدًا لأجزاء البدن، ومظهرًا لتقاطيع الجسم فهو بهذه الصفة لا يجوز للرجل بله المرأة سواء مع المحارم أو الأجانب، ويتعيّن المنع عليها من جهتين:
- الجهة الأولى: أن في لُبسه فتحًا لباب لباس أهل النار وتشبهًا بهم في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «صِنْفَانِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَمْ أَرَهُمَا: قَوْمٌ مَعَهُمْ سِيَاطٌ كَأَذْنَابِ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَاتٌ، مُمِيلاَتٌ مَائِلاتٌ، رُؤُوسُهُنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ الْمَائِلَةِ، لاَ يَدْخُلْنَ الْجَنَّةَ، وَلاَ يَجِدْنَ رِيحَهَا»(2)، والمراد به النساء اللواتي يلبسن الخفيفَ من الثياب الذي يصف ولا يستر، فهنَّ كاسياتٌ بالاسم عارياتٌ في الحقيقة(3)، والتشبه بأهل النار أو بالعاهرات لا يجوز شرعًا، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ»(4)، وحتى يغيب معنى التحجيم والعري أمرَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم الرجلَ الذي كسَى امرأته قبطية: « مُرْهَا فلتَجْعَلْ تَحْتَهَا غِلاَلةً، فإنَّي أخافُ أنْ تَصِفَ حَجْمَ عظامِهَا»(5).
- والجهة الثانية: أنّ في لبس البنطلون تشبهًا بالرجال في أخصّ ثيابهم، وقد جاءت صيغة النهي بلفظ التشبه بقول ابن عباس رضي الله عنهما: «لَعَنَ رسول اللهُ صلى الله عليه وآله وسلم المُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بالرِّجَالِ، وَالمُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرَّجَالِ بالنِّسَاء»(6) وقال: «لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ المُخَنَّثيِنَ مِنَ الرِّجَالِ وَالمُتَرَجِّلاَتِ مِنَ النِّسَاءِ»(7)، وفي حديث آخر «لَعَنَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ الرَّجُلَ يَلْبَسُ لِبْسَةَ الْمَرْأَةِ، وَالمَرْأةَ تَلْبَسُ لِبْسَةَ الرَّجُلِ»(8). وقد علّق الحكم باسم التشبه سواء في اللباس أو في غيره، و لا يخفى أنَّ المشابهة في الأمور الظاهرة تورث المشابهة في الأخلاق والتناسب في الأعمال، فالمرأةُ المتشبهةُ بالرجال تنطبعُ بأخلاقهم، الأمر الذي ينافي الحياء والخَفَرَ(9) المشروع للنساء، ويتجسَّد فيها معنى التبرج والبروز ومشاركة الرجال فيؤدي ذلك إلى إظهار بدنها كما يظهره الرجل، وتطلب العلو على الرجل كما تعلو الرجال على النساء، وهذا القدر قد يحصل بمجرد المشابهة، وقد نبه على هذه القاعدة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه «اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم».
هذا وتزول الآفتان السابقتان فيما إذا لبست المرأة سروالاً وفوقه ملابسُ سابغةٌ، حيث ينتفي فيه التشبه بالرجال، لتحوِّل المظهر الخارجي الظاهر إلى لباسٍ داخليٍّ مستورٍ تختفي فيه المعاني السابقة ويتحقق الستر والاحتجاب المطلوب -شرعًا- من النساء تحصيله، وضمن هذا المنظور قال ابن تيمية رحمه الله: «فلو لبست المرأةُ سراويلَ أو خفًّا واسعًا صلبًا كالموقِ(10)، وتدلى فوقه الجلبابُ بحيث لا يظهرُ حجمُ القدمِ لكان محصلا للمقصودِ»(11).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 27 المحرم 1430ه
الموافق ل: 23 جانفي 2009م
__________
1- أخرجه أبو داود كتاب «الصلاة»، باب ما جاء في خروج النساء إلى المسجد: (567)، وأحمد: (5460)، والحديث صححه النووي في «الخلاصة»: (2/678)، وأحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد»: (7/232)، والألباني في «الإرواء»: (2/294). وأخرجه البخاري (858) ومسلم (442) دون زيادة «وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ».
2- أخرجه مسلم كتاب «اللباس والزينة»: (5582)، وأحمد: (8451)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
3- انظر: «شرح مسلم» للنووي: (14/110)، «فيض القدير» للمناوي: (4/209)، «تنوير الحوالك» للسيوطي: (3/103).
4- أخرجه أبو داود كتاب «اللباس»، باب في لباس الشهرة: (4033)، وأحمد: (5232)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. والحديث صححه العراقي في «تخريج الإحياء»: (1/359)، وحسّنه ابن حجر في «فتح الباري»: (10/288)، والألباني في «الإرواء»: (1269).
5- أخرجه أحمد: (21279)، والبيهقي في «السنن الكبرى»: (3346)، من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه. قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (5/139): « فيه عبد الله بن محمد بن عقيل، وحديثه حسن وفيه ضعف، وبقية رجاله ثقات»، وحسّنه الألباني في «جلباب المرأة المسلمة»: (131).
6- أخرجه البخاري كتاب «اللباس»، باب المتشبهين بالنساء والمتشبهات بالرجال: (5885)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
7- أخرجه البخاري كتاب «اللباس»، باب إخراج المتشبهين بالنساء من البيوت: (5547)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
8- أخرجه أبو داود كتاب «اللباس» باب لباس النساء: (4098)، وأحمد: (8110)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في «صحيح الجامع»: (5095).
9- الخَفَر: شدة الحياء. [«النهاية» لابن الأثير: (2/35)، «مختار الصحاح» للرازي: (182)].
10- الموق: خف غليظ يلبس فوق الخف. [«مختار الصحاح» للرازي: (639)، «المعجم الوسيط»: (2/892)].
11- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية: (22/148).(9/45)
02- عقد الزواج
01- الخطبة
الفتوى رقم: 134
في حدود رؤية الخاطب لمخطوبته والتحدث معها
السؤال: ما هي حدودُ رؤية الخاطب لِمخطوبته، وهل يجوز له أن يتَّصلَ بها هاتفيًّا، وإذا عقد مجلس الرؤية فهل له أن يجلس معها من غير خلوة أي مع ذي محرم، وهل له بعد تمام العقد أن يُلْبِسها خاتم الخطبة؟ أفتونا مأجورين.
الجواب: الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فقد شرع الله سبحانه للخاطب أن يرى المرأةَ قبل الزواج ما يدعوه إلى نكاحها، إن استطاع إلى ذلك سبيلاً لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« انْظُرْ إِلَيْهَا فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا »(1)، ولقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« إِذَا خَطَبَ أَحَدُكُمُ المَرْأَةَ فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَا يَدْعُوهُ إِلَى نِكَاحِهَا فَلْيَفْعَلْ »(2)، وفي رواية مسلم: أنّ رجلاً ذكر لرسول الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم أنَّه خطب امرأةً فقال له صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« أَنَظَرْتَ إِلَيْهَا؟ » قال: لا، قال:« اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا »(3)، والحكمة من مشروعيته قبل الزواج تكمن في أنّ النظر يكون أقرب إلى التوفيق في الاختيار وأسلم للعاقبة.
أمّا المكالَمَات الهاتفية مع المخطوبة إن كانت ضمن اتفاق على مسائل عقد الزواج لإعداد عدّته بعد الاستجابة له فلا مانع إن كان بقدر الحاجة وأمن الفتنة، والأولى أن يتمّ أمرها عن طريق وليها؛ لأنّه أحوط لها وأبعد عن الشكّ والريبة.
أمّا المكالَمات الهاتفية في غير المعنى السابق بل في إطار التعارف والتقارب فهذا ممنوع شرعًا، إذ الأصل في المرأة أن لا تُسْمِعَ صوتها للرجل الأجنبي إلاَّ للحاجة وبالكلام المعروف الذي فيه الحياء والحشمة تفاديًا للفتنة والريبة، لقوله تعالى: ?فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوْفًا? [الأحزاب: 32]، لذلك كانت المُحْرِمَةُ في الحجِّ والعمرة تُلَبِّي ولا ترفع صوتها، وأَمَرَهَا الشرع أن تُصَفِّقَ ولا تُسبِّح في الصلاة كلّ ذلك اتقاءً للفتنة وتفاديًا من الوقوع في المعصية.
كما لا يجوز للخاطب أن يجالس مخطوبته أو يخرج معها ولو مع وجود محرم لها لمكان إثارة الشهوة غالبًا، وإثارةُ الشهوة على غير الزوجة أو المملوكة حرام؛ لأنّه يؤدّي إلى المعصية، وما أفضى إلى حرام فحرام.
أمّا لبس خاتم الخطبة سواء للخاطب أو المخطوبة فليس له دليل في الشرع، بل هو من الأمور التي نُهِينَا أن نتشبَّه فيها بالنصارى أو اليهود، لذلك ينبغي تركه وخاصّة إن كان من الذهب على الرجال فيشتد التحريم لنهيه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم عن التحلي بالذهب للرجال والتختم به.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 7 شعبان 1424ه
الموافق ل: 14 أكتوبر 2002م
__________
1- أخرجه الترمذي كتاب «النكاح » باب ما جاء في النظر إلى المخطوبة: (1110)، والنسائي كتاب «النكاح » باب إباحة النظر قبل التزويج: (3248)، وابن ماجة كتاب «النكاح » باب النظر إلى المرأة إن أراد أن يتزوجها: (1939)، والدارمي كتاب «النكاح » باب الرخصة في النظر إلى المرأة عند الخطبة: (2227)، وأحمد: (4/144) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه. وصحَّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة »: (1/1/198) رقم (96).
2- أخرجه أبو داود كتاب «النكاح » باب في الرجل ينظر إلى المرأة وهو يريد تزويجها: (2084)، وأحمد: (3/334 و360)، وغيرهما، من حديث جابر رضي الله عنه. وصحَّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة » (1/1/204) رقم (99).
3- أخرجه مسلم كتاب «النكاح »: (3550)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(9/46)
الفتوى رقم: 248
في التحدث مع أجنبية بغرض الزواج
السؤال: هل يجوز التّحدّث مع فتاة أجنبية بغرض التعارف والزّواج وفي الأخير أشكركم على الاهتمام في تنوير الأمّة وحفظكم الله ورعاكم .
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصّلاة والسّلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فلا يجوز التّحدث مع الأجنبية لغير حاجة، والحاجة تقدّر بقدرها أي إذا انتفت الحاجة فينتفي الجواز خشية الوقوع في الحرام مع الإتيان بكافة الضوابط الشرعية من غضّ البصر وعدم الخضوع بالقول، وقول المعروف، لقوله تعالى ?فلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً?[الأحزاب:32]، وقوله صلى الله عليه وسلم:" ما تركت بعدي فتنة أضرّ على الرّجال من النساء"(1) وطرق التّعرّف على المرأة ممكنة من خلال إرسال أخت أو أمّ أو غيرهما من النساء.
أمّا التعارف المقتضي للمجالسة وتبادل الكلمات والنظرات والرسائل وما إلى ذلك فهذا محرّم شرعًا لأنّه يفضي إليه عملاً بقاعدة:" ما أدى إلى حرام فحرام"، ولا يخفى أنّ كلّ محرم له حريم يحيط به، والحريم هو المحيط بالحرام كالفخذين فإنّهما حريم للعورة الكبرى، والاختلاط الآثم والخلوة بالأجنبية فإنّهما حريم للزنى، والقاعدة تنص على أنّ:" الحريم له حكم ما هو حريم له"(2)، وقد قال تعالى: ?وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً? [الإسراء:32].
والله أعلم وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على نبينا محمّد وعلى آله وسلّم تسليمًا.
__________
1- أخرجه البخاري في النكاح(5096)، ومسلم في الرقاق(7121)، والترمذي في الأدب(3007)، وابن ماجه في الفتن(4133)، وأحمد(22463)، والحميدي في مسنده(574)، والبيهقي(13905)، من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما.
2- انظر القاعدة في الأشباه والنظائر للسيوطي:125.(9/47)
الفتوى رقم: 422
في المرض الذي يستوجب إخبار الخاطب به
السؤال: لي أخت مخطوبة وقد كانت مرضت سابقا، وأخبرها الطبيب أنّها تستطيع الزواج إلاّ أنّها لم تشف تماما، وقد يعاودها المرض عند تقدمها في السن فهل يجب إخبار الزوج؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فإنَّ عيب المرض إن كان مزمنا فالواجب إخبار الزوج عنه لئلا يغرر به، فإن قَبِلها بمرضها أعانها على الاستشفاء، وأنفق عليها ما يجب الإنفاق على من تلزمه النفقة، ، وإن عدل عنها فيفتح الله لها جهة أخرى ما دام تصدق مع غيرها وهي خصلة يحبها الله سبحانه وتعالى وقد أمر بها في قوله : ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ? [التوبة: 119].
أمَّا إذا شفيت من مرضها شفاء تاما ففي هذه الحال لا يلزم الإخبار عما حدث وارتفع، وإذا كان مرضها عارضًا غير مزمن فلا داعي للإخبار عنه لزواله كالزكام ونحوه، ولأنَّ الناس تعوَّدوا على عوارض الأمراض غير المزمنة، والعادة محكمة.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 6 ربيع الثاني1427ه
الموافق لـ: 4 مارس 2006م(9/48)
الفتوى رقم: 456
في حكم استمرار علاقة مع كتابية لغرض دعوي
السؤال: أخ يسأل عن حكم مواصلة علاقته مع كتابية في مقتبل العمر من أوربا، يذكر أنّها ذات خلق وما بقي لها إلاّ أن تسلم، فهل يواصل معها ويتزوجها ثمّ يدعوها للإسلام؟، ما هي نصيحتكم أفيدونا بارك الله فيكم؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فاعلم -وفقك الله إلى الخير- أنّ الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى لا ينبغي أن تكون مطية لاقتراف المناهي وارتكاب المعاصي فالدعوة إلى الله قائمة على أساس إيضاح الدين للناس عامّة، وتنوير الطريق بما يحمله الداعي إلى الله من علم شرعي وإخلاص وتقوى بخلقه وصدقه مع الله في الدعوة إليه على بصيرة وحجة، فالذي يعقد المكالمات الهاتفية ويتلذذ خلال المخاطبة ويتبادل المشافهات التي تحرك الشهوة وتثير الغريزة ليست من الدعوة في شيء هذا من جهة.
أمّا بخصوص المرأة الكتابية فلا تكون كذلك حتى تكون متعبدة بدينها غير متخذة للأخدان (الصواحب)، فمثل هذا الأمر يمنع على المسلمة، فلا يرغب في الزواج بالزانية المسلمة بله الكتابية إن كانت من هذا الصنف لقوله تعالى: ?الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَا إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكُ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى المُؤْمِنِينَ?[النور: 3] فحرّم الله على المؤمنين نكاح البغايا والزانيات، ولقوله سبحانه: ?الخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلْطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ?[النور: 26] لذلك جعل الله تعالى من شرط الزواج بالكتابية أن تكون من أهل الإحصان والعفة بعيدة عن الفسق والفجور، فمن كان شأنها الزنى والفسق لا يرغب في نكاحها الصالح المؤمن من الرجال، وإنّما يرغب الذي هو من جنسها من الرجال فقد شرط الله في الرجال العفة وعدم المجاهرة بالزنا وعدم اتخاذ أخدان كما شرط في النساء أن يكن كذلك أي: أنّ الخدن يقع على الذكر والأنثى والمراد اتخاذ معشوقات، قال الله تعالى: ?وَطَعَامُ الذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلُّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ، وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ المُؤْمِنَاتِ وَالمُحْصَنَاتُ مِنَ الذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْذَانٍ? [المائدة: 5] فمن رأى فيها قبول الدين وشرط الإحصان وأنّها تنتفع بالاهتداء جاز له أن يتخذها لنفسه زوجة، وإن كانت الأخرى فينبغي له العدول عنها وقطع مثل هذه المكالمات والاتصالات التي تجعل فيها الدعوة للإسلام سبيلا إلى مخالفة نصوص الشرع فمثل هذه الارتباطات خطيرة على دين المرء، وخاصة في بلاد يكثر فيها المجون والخلاعة.
هذا ما يمكن نصيحتك ابتداء والإحصان في الزواج بامرأة مسلمة تقية عفيفة أحب إلينا من الكتابية لقوله سبحانه وتعالى: ?ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم?[البقرة: 221]، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« فاظفر بذات الدين تربت يداك"(1) فذات الدين هي الصالحة وهي المطيعة لزوجها وهي المحافظة له كما قال تعالى: ?فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ? [النساء: 34].
والعلم عند الله وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمّد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
الجزائر في: 30 ربيع الثاني 1426هـ
الموافق لـ: 7 جوان 2005 م
__________
1- أخرجه البخاري في النكاح (5090)، ومسلم في الرضاع (3708)، وأبو داود في النكاح (2049)، والنسائي في النكاح (3243)، وابن ماجه في النكاح (1931)، وأحمد (9769)، والدارمي (2225)، والدارقطني في السنن (3846)، والبيهقي (13848)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(9/49)
الفتوى رقم: 513
في حكم خطبة المرأة المتبرجة
السؤال: هل يجوز لي أن أتقدم لخطبة امرأة تصلي لكنها متبرجة، وأريد أن أفرض عليها الجلباب بعد الزواج؟ فما نصيحتكم.
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فينبغي أن تكون الصلاة سببا لاستقامة الإنسان، قال صلى الله عليه وسلم:" أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الصَّلَاةُ، فَإِنْ صَلَحَتْ صَلَحَ لَهُ سَائِرُ عَمَلِهِ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَسَدَ سَائِرُ عَمَلِهِ "(1)، والذي لا تكون صلاته تنهاه عن الفحشاء والمنكر فأعماله ناقصة، ومن الفحشاء التبرج، والله سبحانه وتعالى أمر الناس ألاّ يكشفوا عوراتهم: ? ياَ بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ ?[الأعراف: 31] وقال: ?يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ?[الأعراف: 26-27-28]، وكانوا في الجاهلية يطوفون عراة، فالعري والتكشف يدخل في عموم الفاحشة.
وقد أمر الله النساء بالتستر فقال: ?وََقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى? [الأحزاب: 33] ، وقال تعالى: ? يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ?[الأحزاب: 59]، فإذا كانت هذه المرأة لا تتجاوب مع النصوص الشرعية الآمرة بالتستر، ولا تعكس صلاتها عليها إيجابا من حيث ترك الفحشاء والمنكر، فلا ننصح بالإقدام عليها، ولا يساورنا شك بأنّ الرجل بعد تزوجه بها يصعب عليه أن يحولها إلى الطريق الذي يراه، وقد قرر العلماء تأصيلا قاعدة:" الدفع أولى من الرفع" ولأن يتخلى عنها اليوم خير من أن يتزوجها ثمّ يُحدث طلاقا أو فسخا لعدم ائتمارها بأمره، وشر من ذلك ما يخشى عليه أن يسايرها في هواها، فيقع في شراكها، ويتأثر بفتنتها، ثم يرضى بالمنكر بعد أن صار عنده معروفا، والله المستعان.
والعلم عند الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
الجزائر في: 20رجب1427ه
الموافق ل: 14أوت2006م
__________
1- أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (1929)، والضياء في المختارة (209/2)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(1358)، وفي "صحيح الجامع" (2573).(9/50)
الفتوى رقم: 542
في حكم تأخير مدة الخِطبة إلى العقد، وكذا من العقد إلى الدخول
السؤال: ما حكم تأخيرِ المدّةِ بين الخِطبة والعقد الشرعيِّ؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فالواجبُ على مَن أقبلَ على الزواجِ أن يختارَ من الزَّوجة ما يَدعوهُ إلى نكاحِها، والأَوْلَى أن تكونَ ذاتَ دينٍ للحديثِ «فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ »(1)، فإنِ اختار الجمالَ لغضِّ بصره وتحصين فرجه مع الدين لكان أفضل لأنَّ «اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمَالَ »(2)، فإن رغبتِ المرأةُ وأهلُها انتظارَهُ إلى مدّةٍ جاز إذا اشترطَ ذلكَ وقُبل شرطُهُ، ولا يستطيعُ الغيرُ أن يخطبَها عليه، وإن عَقَد عليها وترك الدخولَ إلى مدّةٍ فجائز -أيضًا- لقول عائشةَ رضي الله عنها:« أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَهَا -وَهِيَ بِنْتُ سِتِ سِنِينَ-، وَأُدْخِلَتْ عَلَيْهِ -وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ- وَمَكَثَتْ عِنْدَهُ تِسْعًا »(3).
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 21 رجب 1427ه
الموافق ل: 15 أوت 2006م
__________
1- أخرجه البخاري في النكاح (4802)، ومسلم في الرضاع (3635)، وأبو داود في النكاح (2047)، والنسائي في النكاح (3230)، وابن ماجه في النكاح (1858)، وابن حبان (4036)، وأحمد (9769)، والدارمي (2093)، والدارقطني في السنن (212)، والبيهقي (13848)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2- أخرجه مسلم في الإيمان (265)، والترمذي في البر والصلة (1999)، وابن حبان (5466)، والحاكم (7365)، وأحمد (7379)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
3- أخرجه البخاري في النكاح (4840)، وابن حبان (1718)، والطبراني في المعجم الكبير (42)، وفي المعجم الصغير (2042)، من حديث عائشة رضي الله عنها.(9/51)
الفتوى رقم: 568
في حكم مراسلة الأجنبيات عبر الإنترنت
السؤال: هل يجوز مراسلة الأجنبيات عن طريق الإنترنت للتعرُّف والزواج؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فالمراسلة مع المرأة الأجنبية والمكالمة معها ولو بحجّة التعرّف أو دعوى الزواج غير جائزة شرعًا سواء بالوسائل العادية أو عبر الإنترنت لما في ذلك من فتح باب الفتنة، وتوليد دوافعَ غريزيةٍ تبعث في النفس حُبَّ الْتِمَاسِ سُبُلِ اللقاءِ والاتصال وما يترتّب على ذلك من محاذيرَ لا يُصان فيها العِرض ولا يحفظ بها الدِّين، لقوله صلى الله عليه وآله وسلّم:« مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ »(1)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ »(2)، ذلك لأنه مهما احترز من الشيطان وعداوته له في موضع المفسدة فإنه يُوقعه في المحظور بإغرائه بها وإغرائها به، قال تعالى: ?إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ? [فاطر: 6]، وقال تعالى: ?أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً? [الكهف: 50].
هذا، والأصل وجوبُ إبعادِ مفسدةِ الفتنةِ والإثارةِ، ودرؤُها مقدّمٌ على مصلحة التعرّف والزواج عملاً بقاعدة:« دَرْءُ المَفَاسِدِ أَوْلَى مِنْ جَلْبِ المَصَالِحِ ».
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 14 من ذي القعدة 1427ه
الموافق ل: 5 ديسمبر 2006م
__________
1- أخرجه البخاري في «النكاح » (4706)، ومسلم في «الرقاق » (7121)، والترمذي في «الأدب » (3007)، وابن ماجه في «الفتن » (4133)، وأحمد (22463)، والحميدي في «مسنده » (574)، والبيهقي (13905)، من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما.
2- أخرجه مسلم في «الذكر والدعاء » (6948)، والترمذي في «الفتن » (2191)، وابن حبان (3221)، وأحمد (10785)، والبيهقي (6746)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.(9/52)
الفتوى رقم: 895
في حدود تكشُّف المخطوبة للخاطب
السؤال:
أرجو منكم أن تبيِّنوا لنا لباسَ المخطوبة الذي تدخل به على الخاطب عند الرؤية الشرعية، أي: هل يجب عليها أن تدخل عليه بالدِّرع والخمار والجِلباب, أم بالخمار والدِّرع, أم بالخمار وأحدِ فساتين البيت؟ وما هي المواضع التي تكشفها المخطوبة للخاطب؟ وجزاكم اللهُ كلَّ خيرٍ.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فيجوز للمخطوبة أن تبديَ للخاطب -في لباسها الشرعي الكامل- حدودَ أقلَّ ما قيل في جواز النظر، وهو: الوجه والكفان، وهذا القدر مُجمعٌ عليه بين أهل العلم؛ لأنه أجنبي عنها، وليس له أن يطالبَها بأزيدَ من ذلك؛ لأنها ليست مُكَلَّفَةً بالتكشُّف له، وإنما تعلَّق خطاب الشرع في النظر بالخاطب لا بالمخطوبة، لذلك يسعه أن ينظر إلى كلِّ ما يدعوه إلى نكاحها سواء بالاختباء لها بقصد النظر كما فعل جابرٌ بنُ عبدِ الله رضي الله عنهما حيث روى عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم أنه قال:« إِذَا خَطَبَ أَحَدُكُمُ المَرْأَةَ فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَا يَدْعُوهُ إِلَى نِكَاحِهَا فَلْيَفْعَلْ »، فقال:« فخطبتُ جاريةً فكنتُ أتخبَّأُ لها، حتى رأيتُ ما يدعوني إلى نكاحها وتزوُّجها، فتزوَّجْتُهَا »(1)، أو بالاستفسار عن محاسنها الزائدةِ عن الوجه والكفين بواسطة محارمه.
وانطلاقًا من النصوص الشرعية الآمرة بالنظر على وجه الاستحباب فلا يشترط استئذان المخطوبة أو استئذانُ وليِّها للنظر إليها، ولا يُشترط عِلمها بالنظر إليها؛ لأنَّ النصوص جاءت مُطلقةً بالإذن فيه من غير تقييدٍ، مثلُ قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« انْظُرْ إِلَيْهَا، فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا »(2)، ولقولِه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« اذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا فَإِنَّ فِي أَعْيُنِ الأَنْصَارِ شَيْئًا »(3).
وعليه، فإنَّ له أن ينظرَ إليها بغَرَضِ الزواج مقدارَ الحاجة إلى الاقتناع بأهلِيَّتها وصلاحيتها بأن تكون زوجةً له، ولو أدَّى الأمرُ إلى تَكرُّر النظر تفاديًا لحصول الندم بعد الزواج، وإذا ما زالت الحاجة والعذرُ عاد الحَظْرُ، عملاً بالنصوص الشرعية المانعة من النظر إلى الأجنبية حتى يَعقِدَ عليها، وللمخطوبة بالمقابل أن تنظر إلى خاطِبها ما يعجبها منه، وحدودُ النظر إليه ليست قاصرةً على الوجه والكفين؛ لأنَّ «عورةَ الرجل ما بين السُّرة والركبة ».
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 23 ربيع الثاني 1429ه
الموافق ل: 29/04/2008م
__________
1- أخرجه أبو داود في «سننه » كتاب النكاح، باب في الرجل ينظر إلى المرأة وهو يريد تزويجها: (2082)، والحاكم في «المستدرك »: (2696)، وأحمد في «مسنده »: (14176)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. والحديث حسنه ابن حجر في «الدراية »: (2/226)، وفي «فتح الباري »: (9/87)، والألباني في «الإرواء »: (1791)، وفي «السلسلة الصحيحة »: (99).
2- أخرجه الترمذي في «سننه » كتاب النكاح، باب ما جاء في النظر إلى المخطوبة: (1087)، والنسائي في «سننه » كتاب النكاح، باب إباحة النظر قبل التزويج: (3235)، وابن ماجه في «سننه » كتاب النكاح، باب النظر إلى المرأة إذا أراد أن يتزوجها: (1865)، وأحمد في «مسنده »: (17688)، من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
3- أخرجه مسلم في «صحيحه » كتاب النكاح، باب ندب النظر إلى وجه المرأة وكفيها لمن يريد تزوجها: (3485)، والنسائي في «سننه » كتاب النكاح، باب إذا استشار رجل رجلا في المرأة هل يخبره: (3246)، وأحمد في «مسنده »: (7783)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(9/53)
02- إنشاء عقد الزواج
الفتوى رقم: 143
في حكم المهر
السؤال: اعتادت بعض العائلات الجزائرية -خاصة القبائل- بعدم اشتراط أي شيء من المهر على الخاطب فيقولون: لا نشترط شيئا. فيبرم العقد الشرعي على هذا الأساس فسائلة تسأل: إذا وعد الخاطب المخطوبة بعد ذلك أن يقدم لها مهرا معينا ولكن تعسر عليه الحال مع العلم أنّه قدّم لها خاتما من ذهب وبعض الملابس فهل يبقى باقي المهر- الذي وعد به - في ذمته لا ينفك منه إلاّ بتقديمه أم لا ؟ علما أنّ المخطوبة قد تنازلت عنه فنطبق قوله تعالى:?فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنهُ نَفْسا فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً? [النساء: 4].
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فاعلم أنّ المهر واجب شرعا في كلّ عقد نكاح على الزوج لزوجته بمجرد عقد النكاح الصحيح سواء سمي المهر وهو الواجب على الزوج، جميعه بالدخول، ونصفه بالطلاق قبله، أو لم يسمّ المهر كان الواجب على الزوج بالدخول عليها هو مهر المثل(أي مثلها من النساء في طبقتها)، أمّا قبل الدخول وحصل الطلاق فالواجب المتعة لقوله تعالى:?وَمَتِعُوهُنَّ عَلَى المُوسِرِ قدَرُهُ وَعَلَى المُقْتِرِ قدَرُهُ مَتَاعاً بالمَعْرُوفِ حَقاً عَلَى المُحْسِنِينَ? [البقرة:236]، ولا يجوز عقد النكاح إلاّ بالمهر لقوله تعالى: ?أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ? [النساء: 24]، فإن مات عنها زوجها ولم يكن قد سمى لها مهرا فلها مهر مثلها من النساء كذا جاء قضاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قصة بروع بنت واشق الأشجعية(1) الذي مات عنها زوجها قبل أن يدخل بها ولم يكن قد سمّى لها مهرا في عقد النكاح فأعطاها النبي صلى الله عليه وسلم مهر نسائها لا وكس ولا شطط حكما شرعيا.
والعلم عند الله تعالى وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّ اللّهم على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلّم تسليما.
__________
1- هي بَرْوَعَ بنت واشق الرواسية الكلابية أو الأشجعية, مات عنها زوجها هلال بن مرة الأشجعي قبل أن يدخل بها ولم يفرض لها صداقا, فقضى لها النبي صلى الله عليه وسلم بمثل صداق نسائها أنظر: الاستيعاب لابن عبد البر: (4/1795)، أسد الغابة لابن الأثير: (5/408)، الإصابة لابن حجر: (4/251).(9/54)
الفتوى رقم: 171
نصيحة لمن تؤخر زواجها
السؤال: ما نصيحتكم في امرأة تؤخر زواجها إذا خطبها صاحب دين وأخلاق بادعائها أنّه ليس طالب علم، وهي لا تتصور أن تعيش مع رجل لا يعرف عن الإسلام سوى الخطوط العريضة.
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان, أمّا بعد:
فإنّ ما صرحت به النصوص الحديثة أنّ المرأة هي صاحبة الشأن الأول والقرار في الزواج, فلا يحلّ أن يهمل رأيها أو يغفل رضاها أو يتعسف في عدم استشارتها.
والعاقلة لا تؤخر أمر زواجها إذا ما خطبها رجل كفء صاحب دين وشرف وحسن سمت فقد قال عليه الصلاة والسلام:" إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلاّ تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير"(1) ولا يخفى أنّ الحديث قيّده بالدين والخلق لأنّ صاحب الدين إن عاشرها عاشرها بالمعروف وإن سرحها سرحها بإحسان على ما أشارت إليه الآيات، فكم من طالب علم لم ينتفع بما تعلّم وحرم العمل الذي هو ثمرة العلم، واتّصف بمساوئ الأخلاق وابتعد عن الشرع.
ويكفي في اعتقادي أن يكون الرجل المناسب متّصفا بالتقوى يحبّ العلم والعلماء، وإن لم يكن عالما أو طالب علم، ولهذا لمّا قيل للحسن بن علي: إنّ لي بنتا فمن ترى أن أزوجها له؟ فقال:" زوجها لمن يتقي الله فإن أحبّها أكرمها وإن أبغضها لم يظلمها"، هذا كلّه بغض النظر عن قدرة الزوج على النفقة الواجبة عليه بالدخول، فإن كان عاجزا عن ذلك فقد تخلف فيه شرط النكاح وإن كان دينا وصاحب خلق، لقوله صلى الله عليه وسلم:"يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج" (2).
فإن كانت السائلة لا تتصور أن تعيش مع زوج لا يعرف عن الإسلام سوى الخطوط العريضة, فإنّ لها أن تشترط على من ذكرنا ممّن يتصف بالدين والخلق في عقد النكاح أن يفسح لها المجال للمزيد من طلب العلم وأن لا يحرمها من المجالس العلمية عامة كانت أو خاصة, فالحاصل إن وجد الفقيه أو طالب العلم ديِّنا أو صاحب خلق فخير كبير تتمناه السائلة، ونسأله تعالى أن يرزقها بهذا المرغوب فيه، وإن تعذر وخيف فوات الأوان في البحث، فصاحب الدين والخلق أولى من طالب العلم أو الفقيه الفاقد لمعاني التقوى وحسن الخلق.
والله أعلم بالصواب وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّ اللّهم على محمّد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائرفي : 9 رجب 1416ه
الموافق ل : 1 ديسمبر 1995م
__________
1- أخرجه الترمذي كتاب النكاح باب ما جاء إذا جاءكم من ترضون دينه فزوجوه(1108)، والبيهقي كتاب النكاح باب الترغيب في التزويج من ذي الدين والخلق المرضي(13863)، من حديث أبي حاتم المزني رضي الله عنه، وحسنه الألباني في الإرواء(1868).
2- أخرجه البخاري في كتاب النكاح باب من لم يستطع الباءة فليصم رقم(5066)، ومسلم في كتاب النكاح: باب من استطاع منكم الباءة فليتزوج رقم(1400) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.(9/55)
الفتوى رقم: 179
في حكم الزواج بامرأة تابت من زناها
السؤال: فضيلة الشيخ، هل أستطيع أن أتزوج بالمرأة التي زنيت بها؟ مع العلم أنّها تابت إلى الله، غير أنّها زنت قبل توبتها مع رجل آخر فأدى بها ذلك إلى فقدانها لبكارتها. وجزاكم الله خيرا.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فلا يجوز التزوج بالمرأة التي زني بها إلاّ بشرطين:
الشرط الأول: التوبة النصوح لكل واحد منهما، وذلك بالتخلي عن هذه المعصية وسائر المعاصي، والندم على هذا الذنب وسائر الذنوب السالفة، والعزم على عدم العودة إليه في مقبل العمر لقوله تعالى: ?يَا أَيُهَا الذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُّكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنهَارُ? [التحريم:8] فإن تابا انتفى عنهما وصف الزنى لقوله صلى الله عليه وسلم:"التائب من الذنب كمن لا ذنب له"(1) لكن إن لم يتوبا، فإن الزانية لا يجوز أن يتزوجها مؤمن والزاني لا يجوز للإنسان أن يزوجه ابنته لقوله تعالى: ?الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَا إِلاّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكُ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى المؤْمِنِينَ? [النور:3].
الشرط الثاني: الاستبراء بحيضة واحدة حتى يتأكد من براءة رحمها قبل العقد عليها، فإن تبيّن أنّها حامل فلا يجوز العقد عليها حتى تضع الحمل وعلى مذهب الجمهور أنّ ولد الزنى لا يلحق بالزاني خلافا لابن تيمية رحمه الله تعالى لقوله صلى الله عليه وسلم:"الولد للفراش وللعاهر الحجر"(2).
والعلم عند الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
__________
1- أخرجه ابن ماجة في الزهد(4391)، والبيهقي(21070)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وحسنه في صحيح الجامع(3008)، وفي صحيح الترغيب والترهيب(3145).
2- أخرجه البخاري في البيوع(2053)، ومسلم في الرضاع(3686)، وأبو داود في الطلاق(2275)، والنسائي في الطلاق(3497)، وابن ماجة في النكاح(2082)، ومالك(1424)، وأحمد(25717)، والدارقطني(3895)، من حديث عائشة رضي الله عنها.(9/56)
الفتوى رقم: 184
في حكم التحاق ابن الزنى بأبيه الكافر ومدى صحة كسب جنسية الملتحق به
السؤال: رجل يبلغ في العمر 25 سنة، والداه أنجباه بطريقة غير شرعية، ليس بينهما عقد شرعي للزواج، الأم جزائرية والأب إسباني الأصل، فرنسي الجنسية وليس مسلمًا. يعيش الابن مع أمه في الجزائر، وأبوه يعيش في فرنسا، والأب معترف به، هذا الابن مسجل في البلدية يستطيع إخراج شهادة الميلاد رقم (12) فقط. هذا الابن حاليا بدون جنسية ولا حتى بطاقة تعريف وهو في وضعية حرجة.
ولمشكلته حلاّن:
1. إذا أراد أن يحمل الجنسية الجزائرية فعليه أن ينتسب إلى أمه.
2. إذا أراد المحافظة على اسمه الأصلي فعليه أن يحمل الجنسية الفرنسية وهذا الحل الثاني فيه كثير من الذل، لأنّ هذا الابن ملتزم وسيجد الكثير من الصعوبات الدينية والإدارية مع القنصلية الفرنسية وغيرها من المصالح الفرنسية.
السؤال هو:
هل الحل الأول يبيحه الشرع الإسلامي؟ وما حكم الحل الثاني؟ أفيدونا من فضلكم، وجعل الله عملكم في ميزان حسناتكم. وبارك الله فيكم.
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فاعلم أنّ العلماء مجمعون على تحريم زواج المسلمة بغير المسلم سواء كان من أهل الكتاب أو وثنيًا أو مجوسيًّا أو لا يدين بأي دين، فالكفر ملة واحدة، وإذا اتفقوا على تحريم الزواج من الكافر فإنّ وطء الكافر للمسلمة بوجه غير شرعي أي عن طريق الزنا أشدّ تحريمًا لأنّ مثل هذا الفعل -فضلا عن أنه فاحشة ومقتٌ وساء سبيلاً- فإنّ فيه من الغضاضة على الإسلام والمسلمين ما لا يخفى، لقوله تعالى : ?وَلاَ تُنكِحُوا المشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا، وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ، أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الجنَّةِ وَالمغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبيِّنُ آيَاتِهِ للنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَرُونَ? [البقرة:221].
كما اتفق الأئمة الأربعة على عدم جواز استلحاق ولد الزنا بأبيه ولو اعترف به فإنّ نسبه لا يثبت لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« الولد للفراش وللعاهر الحجر »(1) وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حظ الزاني الحجر ولا حظّ للعاهر من النسب، وقد نفى الحديث أن يلحق في الإسلام ولد الزاني، ونفي النسب من الزاني حق الشرع وحده، لذلك فإنّ ولد الزنا وولد اللّعان ينسبان لأمّهما ولا يلحق بأبيه وإن استلحقه على مذهب جمهور أهل العلم.
والعلم عند الله تعالى وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
الجزائر في: 04 رمضان 1424ه
الموافق ل : 31 أكتوبر 2003 م
__________
1- أخرجه البخاري في البيوع(2053)، ومسلم في الرضاع(3686)، وأبو داود في الطلاق(2275)، والنسائي في الطلاق(3497)، وابن ماجة في النكاح(2082)، ومالك(1424)، وأحمد(25717)، والدارقطني(3895)، من حديث عائشة رضي الله عنها.(9/57)
الفتوى رقم: 192
في صيغة العقد الشرعي وتكراره
السؤال: حدث في قريتنا خلاف بين إمامين حول صيغة العقد الشرعي للزواج (كأن يقول الخاطب: جئتك خاطبا ابنتك، فيجيبه: زوجتك ابنتي)، هل تكون مرة واحدة أو ثلاث مرات؟ وما هي الصيغة الصحيحة؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فاعلم أنّ ركن عقد الزواج هو الإيجاب والقبول، والإيجاب هو ما صدر أولا من أحد العاقدين والقبول هو ما صدر ثانيا من العاقد الآخر، فإذا تحقق هذا الركن وجد عقد الزواج بعد توافر شروطه الأخرى، ولا خلاف بين أهل العلم في أنّ الإيجاب والقبول في عقد النكاح يصح أن يكونا بلفظ التزويج أو بلفظ الإنكاح، لأنهما أدل على غيرهما على إرادة عقد النكاح المعروف، وهذان اللفظان ينبغي استعمالهما في عقود الزواج، لكن إذا استعمل لفظ "الخطبة" وقصد به الزواج وتعارفا عليه فإنّ العقد يقع صحيحا على أرجح أقوال العلماء، وهو من اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث قال:" وينعقد النكاح بما عدّه النّاس نكاحا بأي لغة ولفظ كان، ومثله كل عقد"(1)، لأنّ العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني، فأي صيغة تدل على الغرض يحصل بها المقصود، وتكفي صيغة الإيجاب والقبول مرة واحدة، وتكرارها لا وجه له في الشرع، وفي الحديث:" مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ"(2).
هذا، ويمكن مراجعة تفصيل شروط عقد النكاح في الشريط رقم:(36) من الأجوبة الطلابية.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
الجزائر في: 3 رمضان 1426ه
الموافق ل: 6 أكتوبر 2005م
__________
1- الاختيارات الفقهية: 119.
2- أخرجه مسلم في الأقضية (4590)، وأحمد (25870)، والدارقطني في سننه (4593)، من حديث عائشة رضي الله عنها.(9/58)
الفتوى رقم: 199
في حكم زواج امرأة المفقود
السؤال: أخت زوجها من المفقودين منذ (10) سنين مع العلم أنّ هذا الزوج لم يدخل بها وهو عاقد عليها مدنيا، وهذه الأخت ترفض الخطّاب وتسأل هل تؤجر إذا انتظرته أم الأفضل لها إذا جاءها خاطب أن تتزوج وهل عليها عدة المفقود؟ وبارك الله فيكم.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فمن حقّ الزوجة أن تطلب تطليقا مدنيا من القاضي بعد مرور أربع سنوات من يوم الإخبار عنه والبحث والتحري، وإذا صدر الحكم بفقده عدّ ميّتا حكمًا، وتعتد عدّة وفاة وترثه، ولها بعد ذلك أن تتزوج من كفء لها صاحب دين وخلق، وليس الانتظار في صالحها مع الجهالة بعودته وتقدم سنها وكبرها، لذلك نوصيها أن تحرص على ما ينفعها في دينها ودنياها، قال صلى الله عليه وآله وسلم:« احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز"(1).
والعلم عند الله وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في:27ربيع الأول1425ه
الموافق ل : 11 ماي 2004م
__________
1- أخرجه مسلم في القدر(6945)، وابن ماجه في المقدمة(83)، وأحمد(9026)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(9/59)
الفتوى رقم: 200
أحكام تخص زوجة المفقود
السؤال: امرأة زوجها مفقود، وذلك منذ خمس سنوات والزوجة الآن عند والدها الذي يتكفل بها منذ أربع سنوات، نرجو منكم توضيح ما يلي:
1. هل يجب على الزوجة عدة ؟
2. هل الأفضل لها أن تنتظره مع عدم وجود ما يرجح حياته؟
3. هل ترثه إن تزوجت غيره؟
4. إن تزوجت غيره ثمّ ظهر أنّه حي، كيف الحكم في ذلك؟
بارك الله لكم شيخنا في أوقاتكم وأعمالكم وسدد خطاكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فاعلم أنّ من حق زوجة المفقود أن تصبر وتنتظر ولا تطلب التفريق حتى يتبين حال زوجها من حيث حياته أو موته، كما لها الحق في الأخذ بمبدأ التفريق لفوات الإمساك بمعروف بسبب غيبة الزوج وفقدانه فتعين التسريح بإحسان إن طلبته الزوجة لأنّه حقها لقوله تعالى: ?الطَلاَقُ مَرَّتَان فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوف أو تَسْرِيحٌ بإِحْسَان? [البقرة: 229]، وللقاضي الحكم للغائب عند اقتضاء المصلحة الشرعية، وقد قضى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالتفريق بين المرأة وزوجها المفقود وبه قال جماعة من الصحابة كعلي وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم وغيرهم، وبه قضى ابن الزبير ولم ينقل خلاف في ذلك.
أمّا الأحاديث الواردة في "أنّها امرأته حتى يأتيها البيان"(1) فرواية ضعيفة لا تصلح للاحتجاج، وقد نقل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنّه قال:"هي امرأته ابتليت فلتصبر حتى يستبين موت أو طلاق"، فمرسل وقد جاء من المسند ما يعارضه وهو الموافق لقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في القول بالتفريق لفقدان الزوج، ولا يخفى أنّ من قواعد الترجيح من جهة السند تقديم الخبر المسند على المرسل.
ومن جهة أخرى فإنّ غيبة المفقود تسبب لزوجته ضررا مؤكدا لكون فقدانه يفوت على الزوجة أغراض الزواج، والضرر يزال عملا بقوله صلى الله عليه وسلم "لا ضرر ولاضرار"(2) ، فيدفع قبل الوقوع ويرفع بعده، وإذا كان تشريع الإيلاء والتفريق للإنفاق أو لعدم الإنفاق على الزوجة أو لعنة الزوج لدفع الضرر عنها فالتفريق لفقد الزوج أحق وأولى بالأخذ، ولها الخيار بين الحقين السابقين، والأفضل أن ترجح ما يدفع عنها الضرر ويحقق لها مصلحتها.
هذا، ومدة التربص أربع سنوات مع اختلاف في ابتدائها فقيل أنّها تبدأ من حين انقطاع خبر الزوج المفقود لأنّ الانقطاع ظاهر في موته فكانت ابتداء المدة منه ولا يفتقر الأمر إلى الحاكم فلو مضت المدة والعدة تزوجت بلا حاكم وهي الرواية الثانية للحنابلة وبها قال ابن تيمية كما في الاختيارات. وعندي أنّ بداية التربص من حين قرار الحاكم لضبط القضايا والأحكام، ولكون تاريخ مراجعة الزوجة للقاضي ثابتا ومحددا ولا مجال فيه للاجتهاد والاختلاف مع العلم أنّ للقاضي تحديد بدء المدة من أيام أعمال التحري والتفتيش على المفقود، ولأنّ الثابت عن عمر رضي الله عنه أنّه أمر زوجة من فقدت زوجها أن تتربص أربع سنوات من حين رفع أمرها إلى الحاكم.
هذا وبعد مضي المدة المذكورة فإنّ الزوجة تعتد عدة الوفاة إذا لم تتيقن حياته، لأنّ المفقود بعد مضي المدة في حكم الميت، وقد تتقرر هذا الحكم قضائيا، وفي مدة التربص نفقتها من مال زوجها لأنّها لاتزال زوجته المحبوسة من أجله، وأمواله تابعة للحكم بموته وتقسم بين الورثة وهي منهم، فإن ظهر حيا أخذ ما بقي من أمواله بأيدي الورثة، وإن كانت عودته قبل مضي تربص الزوجة أو قبل عدتها فإنّها زوجته لأنّ التفريق لم يقع، فإن انتهى أجلها وعدتها قبل تزوجها من آخر فتبقى امرأته، لأنّه إذا أبيح لها الزواج فذلك محمول على الحكم بموته فإذا ظهر حيا بطل ذلك الظاهر وانخرم وكان النكاح بحاله، أمّا إذا كانت عودة الزوج المفقود بعد أن تزوجت فإمّا أن يكون قد دخل بها الزوج الثاني أم لا؟ فإن كان قبل الدخول ترد إلى زوجها الأول بنكاحها الأول كما لم تتزوج لأنّ النكاح إنّما صح في الظاهر دون الباطن فلما ظهر المفقود فإنّ النكاح صادف امرأة ذات زوج فكان باطلا.
وإن كانت عودته بعد الدخول فله التخيير بين أخذها فتكون زوجته بالعقد الأول لأنّ نكاح الثاني كان باطلا في الباطن، ويجب على زوجها الأول اعتزالها حتى تقضي عدتها من الثاني، وبين أخذ صداقها فتكون زوجة الثاني، ويرجع بالصداق الذي أصدقها هو، فإن لم يدفع إليها صداقا فلا يرجع بشيء وهذا الحكم مذهب عمر وعثمان رضي الله عنهما وقضى به ابن الزبير رضي الله عنه ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم فكان إجماعا، على أنّ الزوجة إن عادت إلى الأول فلا يرجع الثاني على الزوجة بما أخذ منه وهو أظهر القولين قضاء الصحابة للثاني بالرجوع.
والعلم عند الله تعالى وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّ اللّهم على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلّم تسليما.
__________
1- أخرجه الدارقطني(ص:412)، وعنه الديلمي(1/1/219)، والبيهقي (15973)، من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه. قال الألباني في السلسلة الضعيفة: ضعيف جدا. حديث رقم(2931).
2- أخرجه ابن ماجه في الأحكام(2340)، وأحمد(1/313)من حديث ابن عباس رضي الله عنه الله عنهما، والحديث صححه الألباني في إرواء الغليل(3/408)رقم896 وفي السلسلة الصحيحة رقم250 وفي غاية المرام(68).(9/60)
الفتوى رقم: 208
في حكم تكرار زيارة الزوجة في بيت وليّها بعد العقد الشرعي وقبل الدخول
السؤال: فضيلة الشيخ اعتاد الكثير من الإخوة بعد إجراء العقد الشرعي الذهاب إلى بيت الزوجة لزيارة زوجته في البيت وهذه العادة عند الكثير من الناس في المجتمع القسنطيني منبوذة ولا يحبذونها وهذا ما يسبب للأخوات الإحراج مع أهليهم خاصة وأنّ بعض الإخوة ربما يجلس لمدة طويلة والزيارة متكررة دائما. فما هو الحكم الشرعي بارك الله فيكم ؟ وفقكم الله لما فيه الخير إنّه ولي ذلك والقادر عليه
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فالذي ينبغي على العاقد أن لا يُثقل على زوجته المعقود عليها خشية تنفيرهم منه، وإحراجهم وخاصّة مع تكرار الزيارة وهذا مخالف لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« زر غِباً تزدد حبًّا"(1) والحرج مدفوع بنص الشرع لقوله تعالى:? وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ? [الحج: 78].
فعلى العاقد أن يتوخَّى أوقاتا يكون فيها أهل الزوجة على استعداد في أن يرحبُّوا به، ولا يزعجهم بإرادة الجلوس مع زوجته وإذا استعجل أمره بتحصين فرجه ونفسه فعليه أن يهيئ نفسه وبيته لنقل زوجته إليه، لذلك أنصح الإخوة العاقدين أن لا يحرجوا أهالي زوجاتهم بما يخالف طبائعهم وعاداتهم غير المنافية للشرع وليعلموا أنه ما دامت الزوجة في بيت وليها قبل الدخول عليها أن وليها هو المتصرف في شأنها وله كامل الطاعة في المعروف لقيامه بالنفقة عليها، وإنما طاعة الزوج ملزمة عليها بعد الدخول بها والنفقة عليها، هذا والتصرفات غير المشفوعة بالتطيِيب والترحاب من قبل أهالي زوجته يُخشى أن تؤدي إلى فَقْدِ محبَّتهم لهم ومحبَّة الناس مطلوبة شرعا كما في الحديث عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: أَتَى النبي صلى الله عليه وآله وسلم رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا أَنَا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِي اللَّهُ وأحبني النَّاسُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم «ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ وَازْهَدْ فِيمَا في أيدي النَّاسِ يُحِبُّوكَ »(2)، فضلاً عن ذلك لما ثبت عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضي الله عنه قال: مَرُّوا بِجَنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم « وَجَبَتْ ». ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا فَقَالَ «وَجَبَتْ ». فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه ما وَجَبَتْ قَالَ «هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا فَوَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ »(3)، ولاشكَّ أنَّ النَّاس إن شهدوا خيرًا فخير، وإن شرًّا فشرّ، فلا يدع المرء نفسه أن يكون ثقيلاً على نفوس الغير لئلاَّ تملّه النفوس وتبغضه، وما أُبغض شيء إلاَّ ذُلَّ واحتقر والعزَّة الدينية مطلوبة لقوله تعالى ?وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ?[المنافقون: 8]
و العلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
الجزائر في:12 رمضان 1426ه
الموافق: 15 أكتوبر2005م
__________
1- رواه الطبراني من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ،والحديث صحيح لغيره كما في" صحيح الترغيب والترهيب" (2583)
2- أخرجه ابن ماجه في كتاب الزهد(4241)، وصححه الألباني في صحيح الجامع(922).
3- أخرجه البخاري في كتاب الجنائز (1367)، ومسلم في الجنائز(2243).(9/61)
الفتوى رقم: 246
في اكتمال العقد الشرعي بالعقد المدني
السؤال: هل يكفي العقد الشرعي للخروج مع الزوجة أو الخلوة بها بدون عقد مدني؟ أفيدونا.
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فالذي يقتضيه الواجب أن يقال بعدم كفاية العقد الشرعي أو العرفي إلاّ إذا اكتمل بالعقد المدني أو الاكتفاء بالعقد المدني ليكون منتجا لآثار العقد، ذلك لأنّ العقد الشرعي مجرد خطبة في نظر القضاء الجزائري فلا يكون للمرأة الحصانة القضائية الكافية للمطالبة بحقوقها فيما إذا توفي أحدهما أو حدث نزاع بينهما أدّى إلى الفراق بعد أنِ اختلى بها واختلط، لذلك يجب إتمام العقد الشرعي بالعقد المدني، ومع ذلك لا يجوز له الخروج معها بالنظر إلى تغيّر الأزمان وفسادها، وخلوته بها في أماكن التّهم التي تنعكس سلبا على عموم الملتزمين من جهة، ومن جهة أخرى فسح المجال له لقضاء مآربه قد يورّثه بغضا وكراهة لها، و "من استعجل الأمر قبل أوانه عوقب بحرمانه" الأمر الذي يعجل في انحلال الزواج القائم بينهما، وقد أفتى بعض علماء الأحناف بناء على جواز تغيير الحكم بتغيير الزمان بأنه لا تخرج المرأة إلى الصلاة في المساجد خشية الافتتان، ومما يؤكد ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تزوج عائشة رضي الله عنها وهي بنت ست مكتملة وداخلة في السابعة، وكانت بنت تسع سنين(1) حين دخل بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في شوال في السنة الأولى من الهجرة (2) ولم يعلم عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه خرج معها أو اختلى بها وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
هذا كلّه في حالة ما إذا حدث قبل الخلوة بها والخروج معها، أمّا إذا قام بالفعل فينصح ألاّ يعود ولا يترتّب على فعله إثم لوجود العقد الرابط بينهما شرعا.
والحاصل أنّ العقد يجيز له ما لا يجيز لغير العاقد، لكن يمنع ممّا يباح له أصالة تأسيا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وخشية تضرّر المرأة بعدم الحصانة، وما يترتّب عليه في ظل فساد الزمان والمجتمع.
والعلم عند الله وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 20رجب1427ه
الموافق ل: 14أغسطس2006م
__________
1- أخرجه البخاري في النكاح (4841)، ومسلم في النكاح (1422)، وأبو داود في الأدب (4935)، والنسائي في النكاح (3387)، وابن حبان (7097)، وأحمد (24346)، وسعيد بن منصور في سننه (515)، وأبو يعلى في مسنده (4673)، والبيهقي (13954)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
2- أخرجه مسلم في النكاح (1423)، والنسائي في النكاح (3377)، وابن ماجه في النكاح (1990)، والدارمي (2131)، وابن حبان (4058)، وأحمد (23751)، وعبد الرزاق في المصنف (10459)، والبيهقي (15067)، من حديث عائشة رضي الله عنها.(9/62)
الفتوى رقم: 250
تردد عانس في التخيير بين الزواج بعقيم من امتناع الزواج به
السؤال: أخ ملتزم تقدم لخطبة أخت فلما تمّ القبول، وبعد العقد الشرعي صرح لها بمشكلة وهي: أنّ به نقصا في جهازه التناسلي وأنّه عديم خصية، فالأخت لمّا سألت قيل لها إنّه يمكن أن يكون عقيماً فطرحت عليه أن يذهب إلى الطبيب ويجري تحاليل طبية والتي أظهرت أنّ بمائه حيوانات منوية جلّها ضعيفة وغير طبيعية وأنّ هناك احتمال كبير للعقم، علماً أنّ الأخت كبيرة في السن (30) سنة، فإذا رفضته يمكن ألا تتزوج وإذا قبلت به خشيت ألا تطيق العيش من غير أولاد. فنرجو منكم يا شيخنا الفاضل النصيحة والتوجيه.
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فاعلم أنّ من حقّ المرأة فسخ عقد الزواج لوجود عيب في زوجها، ويجوز لها أن تستبقي الزواج ولا تبطله إن رضيت بحاله، فهي بخير النّظرين، فإن رأت في زواجها به عِفّة نفسها وحفظ فرجها والأمن تحت عصمة رجل صاحب خلق ودين فلها أن ترضى به وتستبقي العقد ولا تلغيه والولد ليس بشرط في الزواج ولكنّه يستحبّ إنجابه لقوله صلى الله عليه وسلّم:" تزوّجوا الولود الودود فإني مكاثر ٌ بكم الأمم يوم القيامة "(1)، وقد امتنّ الله تعالى على قوم شعيب عليه السلام بتكثير العدد في قوله تعالى: ?وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ? [الأعراف:86]، وكما امتنّ على الرّسل وعلى الناّس في قوله تعالى: ?وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ? [الرعد:38]، وقوله تعالى: ?وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ? [النحل:72]، لذلك كان من حقّ كلا الزّوجين تحقيق نعمة الولد والشّكر عليها ومن شكره عليها تقويم الولد وتصليحه، وليس كلّ من له الولد يستطيع شكر النعمة عمليا بتقويم اعوجاجه إلاّ من قدّره الله سبحانه وتعالى على ذلك، فقد يرهق الولد الوالد طغيانا وكفرا قال تعالى: ?الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً)[الكهف:46]، وقال تعالى: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ? [التغابن:15] وقال تعالى: ?وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً? [الكهف:80].
هذا، وعلى كلّ فالعقيم كالسليم من حقّه أن يتزوّج لقوله صلى الله عليه وسلّم:« يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ »(2).
فإن رأت من نفسها إعانته على تحصين فرجه وعفّة نفسها فلها أن ترضى به، وخاصّة إذا بان لها أنّ حظوظ
الزواج ضئيلة وتخشى على نفسها الفتنة، وإن راعت الولد في نظرها مع التّحصين ولها في ربّها كبير الثّقة في أن يفتح الله عليها بزوج أولى وأحسن فلها أن تمتنع وتصبر إلى أن يفتح الله وهو خير الفاتحين، وعليها باللجوء إلى استخارة ربِّها في خير الأمرين ثمّ الإقدام عليه، والخير فيما اختاره الله تعالى.
والعلم عند الله تعالى وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على نبينا محمّد وعلى آله وسلّم تسليمًا.
الجزائر في : 22 جمادى الثانية 1426ه
الموافق ل : 28 جويلية 2005م
__________
1- أخرجه ابن حبان في صحيحه(1228)، وأحمد(12948)، وسعيد بن منصور في سننه(490)، والبيهقي(13858)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. وصححه الألباني في الإرواء(1784).
2- أخرجه البخاري في النكاح(5066)، ومسلم في النكاح(3466)، والترمذي في النكاح(1103)، والنسائي في النكاح(3222)، وابن ماجه في النكاح(1918)، وأحمد(4104)، والدارمي(2220)، والحميدي في مسنده(122)، والبيهقي(13829)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.(9/63)
الفتوى رقم: 256
في حكم الزواج من مسيحي ترجى هدايته
السؤال: أنا شابة جزائرية مسلمة تعرفت على شاب فرنسى مسيحى طيب الخلق والسلوك يريد الزواج منّي، ولكن بسبب الدين خفت من الله. علما بأنّه لا يحق لمسلمة الزواج بغير مسلم فهل عندما يصير مسلما يحق لي الزواج معه؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فاعلمي -وفقك الله إلى كلّ خير- أنّه يحرم زواج المرأة المسلمة بالكافر إجماعا(1) لما في ذلك من الغضاضة على الإسلام والابتذال الذي يأباه الشرع، كما لا يجوز إقامة علاقة صداقة ومودة مع رجل أجنبي بله كافر لما في ذلك من الاختلاط المؤدي إلى الفتنة والفساد إلاّ أنّه إذا كان الكافر أسلم عن اقتناع واعتقاد، وحَسُنَ إسلامه بظهور الأعمال الصالحات في سيرته وسلوكه، فإنّه يجوز له أن يتقدم لطلب الزواج من ولي أمرك، وعليه أن يختار لك أهل الكفاءة هذا كلّه إذا ما تحقق في نيته الصادقة بما يشفع له من الدوام على الصالحات التي يعملها بعد فترة من إسلامه.
وأخيرا اعلمي أنّ الخيرية في أهل الإيمان الصادق ولا خير في من لا يدين بدين الإسلام مهما سما خلقه وأعجبك حسبه وماله لقوله تعالى: ?وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ?[البقرة: 221]، أي ذلك المشرك ولو أعجبكم خلقه وسيرته وأمواله يدعو إلى الأعمال الموجبة للنّار، بسبب معاشرتهم وصحبتهم ?وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ?[البقرة: 221].
والعلم عند الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه وسلم تسليما.
الجزائر في:26 جمادى الثانية 1426هـ
الموافق لـ: 01 أوت 2005 م
__________
1- قال القرطبي في تفسيره (3/72):" وأجمعت الأمة على أنّ المشرك لا يطأ المؤمنة بوجه، لما في ذلك من الغضاضة على الإسلام".(9/64)
الفتوى رقم: 286
في منع الولي ابنته من التزوج من كفء ظلما
السؤال: أريد أن أسألكم عن قضية زواجي من بنت مغربية الأصل راغبة في الزواج بي لكن أباها يأبى ويرفض لأني جزائري الجنسية، بالإضافة إلى الذي تعاني منه هذه البنت في بيتها من جهل للعلم الشرعي في البيت وسوء معاملة أخيها وأبيها. وقد حاولت عدة مرات لأطلعه على كفاءتي بمساعدة إمام الحي وأمها، لكن دون جدوى وهجر المسجد بسبب مساندة إمام الحي لي ووقوفه إلى جانبي في هذه القضية.
فهل تسقط ولاية الأب عن بنته في هذه الحال؟ وما تنصحوننا به بارك الله فيكم.
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فاعلم أنّ العلماء متفقون على أنّه ليس للولي أن يمنع موليته دون مسوغ شرعي فيظلمها من الزواج من كفء يرضى دينه وخلقه بمهر مثلها، فإن فعل فإنّه يعد عاضلا قال تعالى: ?وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ? [البقرة : 232] ومن حقها أن ترفع أمرها إلى القاضي ليزوجها، لأنّ العضل ظلم، وولاية رفع الظلم مسندة إلى القاضي، فإن تعذر الوصول إلى القاضي، فلها أن يزوجها منه أولياؤها الأقربون فإن امتنعوا فلها أن يصيِّر أمرها إلى إمام مسجد أو من يوثق به من جيرانها فيزوجها ويكون هو وليها، لأنّ هذا من قبيل التحكيم، والمحكَّم يقوم مقام الحاكم، ولأنّ النّاس مضطرون إلى الزواج وإنّما يعملون فيه بأحسن ما يمكن، ونقل القرطبي عن الإمام مالك في المرأة الضعيفة الحال أنّه يقول:" إنّه يزوجها من تسند أمرها إليه، لأنّها ممّن تضعف عن السلطان فأشبهت من لا سلطان بحضرتها، فرجعت في الجملة إلى أنّ المسلمين أولياؤها"(1).
والعلم عند الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه وسلم تسليما.
الجزائر في: 8 شعبان 1426هـ
الموافق لـ : 12 سبتمبر 2005م
__________
1- تفسير القرطبي: 3/76.(9/65)
الفتوى رقم: 296
في التزوج بمن تكبره سنا
السؤال: أريد نصيحة لمن يريد الزواج بفتاة تكبره بثلاث أو أربع سنوات. حفظك الله.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فالمعيار الشرعي في اختيار الزوجة ليس بالسنِّ وإنَّما بالدِّين لما ثبت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ:" تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأَرْبَعٍ لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ"(1)، فالمرأة الصالحة التي ذكرت في القرآن وفي السنة هي التي ينبغي الظفر بها قال الله تعالى: ?فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ? [النساء: 34] وقال صلى الله عليه وآله وسلم:« إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحصنت فرجها وأطاعت زوجها قيل لها ادخلي الجنة من أي أبواب الجنة شئت"(2)، والسِنُّ لا يمنع من التزوُّج بها ويكفيك أنَّ النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم تزوَّج خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وكانت تكبره بسنوات وكانت من أحبّ الناس إليه وهي التي ولدت له الأولاد دون سائر نسائه والتي كان من نسلها الحسن والحسين رضي الله عنهما، لذلك كان السنُّ ليس مانعًا من اختيار الزوجة الصالحة التي تعينه على إقامة الدين وتحقيق المودَّة والرَّحمة والسكون التي ذكرت في قوله تعالى: ?وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ? [الروم: 21]
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
الجزائر في: 12 رمضان 1426ه
الموافق ل: 15 أكتوبر2005م
__________
1- أخرجه البخاري في النكاح (5090)، ومسلم في الرضاع (3708)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2- أخرجه أحمد (1683)، من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه. وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب(1932).(9/66)
الفتوى رقم: 299
في صحة التوقف عن العمل كشرط في الزواج
السؤال: أختٌ تعمل مضطرَّةً في مؤسّسة مختلطة، تقدّم لخِطبتها أخ ملتزم، فاشترط عليها التخلِّي عن هذا العمل، والمكوثَ بالبيت بسبب الاختلاط، وبُعْدُ مقرِّ العمل [88 كلم]، فقبلتْ الأخت هذا الشرطَ. غير أنَّ والد الأخت تدخَّل في الأمر واشترط على الخاطب أن تواصل ابنته العمل الذي لم يبق من عقده غير أربعة أشهر لإدماجها وترسيمها فيما بعد، لكن الخاطب رفض هذا الطلبَ إطلاقًا. وسعيًا لإنجاح المشروع تضطرّ الأخت لمواصلة عقد العمل، وفي هذه الفترة تتمكّن من الالتحاق ببيت الزوج، وتتحرّر من مطالب أبيها السالفة الذكر. فهل يجوز لها أن تقوم بهذا العمل المذكور؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فالمؤمنون على شروطهم فما دام أنهم اتفقوا على أن لا تعمل فالواجب عليها أن تلتزم بالعهد، لقوله تعالى: ?وَأَوْفُواْ بِالعَهْدِ إِنَّ العَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً? [الإسراء: 34]، وقد خيَّرها بين أمرين بين الزواج والبيت الزوجية وبين بقائها في عملها فاختارت الأوّلَ، والأوَّلُ أحبُّ إلى الشرع من الثاني؛ لأنَّ أَمْرَ الزواج مرغوب فيه، وإيجاد الذرية ممَّا ندب الشرع إليه، أمَّا العمل فَمَنَعَهُ إلاَّ لضرورةٍ أو حاجة وبالضوابط الشرعية، لقوله سبحانه تعالى: ?وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى? [الأحزاب: 33]، فالأصل أنّ المرأة تلزم بيتَها، ولا تختلط بالرجال وتخالف أمرَ ربِّها، وتعمل على تحاشي ما فيه تضيع القِيَمِ والأخلاق مِنْ جَرَّاء خروجها بما لا حاجة إليه لكفاية نفقتها ومؤنتها من زوجها.
الحاصل أنَّ الحقَّ مع الزوج وإن امتنع فامتناعه موافق لدلالة النصوص السابقة، وأنَّ شرطَه هذا ليس من قبيل ما أحلَّ حرامًا وحرَّم حلالاً، بل هو ممَّا حرّم حرامًا، وطاعة الوالدين إنما تكون في المعروف لا في المعصية.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على محمَّد، وعلى آله وصحبه وإخوانه، إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 12 رمضان 1426ه
الموافق ل: 15 أكتوبر 2005م(9/67)
الفتوى رقم: 384
في حكم اشتراط علم الزوجة الأولى للزواج بالثانية
السؤال: هل يجوز الزواج بامرأة ثانية دون علم الأولى، بحيث يكون مقر سكناها بعيدا عن سكن الزوجة الأولى؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلم تسليما، أمّا بعد:
فقد أجاز الله تعالى للرجل أن يزيد عن الأولى إلى غاية أربع نسوة، لقوله تعالى: ?فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ?[النساء: 3]، فاشترط العدل، وألاَّ تكون الثانية على حساب الأولى في النفقة وفي غيرها من الأمور، ومن حسن العشرة تبادل الثقة بين الزوجين، وائتمان كل واحد منهما على الآخر في ماله وعرضه، وفي سائر شؤونه.
وتأسيسا على ذلك فالأولى عليه أن يخبر زوجته بما هو قادم عليه سواء أيَّدته أم لا، ولا يشترط في صحة الزواج، لكنّه أحسن ممَّا إذا تزوج من غير علمها، وفي كل الأحوال إذا ما تم له الزواج بالثانية فإنّ زواجه صحيح ومشروع تترتب عليه كافة آثاره.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 23 صفر 1426ه
الموافق لـ: 23 مارس 2006م(9/68)
الفتوى رقم: 424
في شرط الولاية على المسلمة
السؤال: أودُّ الزواجَ من امرأةٍ مَجَرية مسلمة، ووالداها نصرانيان، فمن يكون وليها؟ وهل يجوز الاكتفاء بالعقد الشرعي لأن توثيقه يتطلب إجراءات معقدة؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فالمسلمة تتزوّج في كلِّ الأحوال ومن شرط الولي: الإسلام إذا كان المولى عليه مسلمًا، وعليه فلا يجوز أن يكون لغير المسلم ولاية على المسلم ولو كان أباها، لقوله تعالى: ?وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً? [النساء: 141]، ولقوله تعالى: ?وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ? [التوبة: 71]، فإن لم يجد وليًّا فعليه بالقاضي إن قدر الوصول إليه، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« فَإِنْ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لاَ وَلِيَّ لَهُ"(1)، فإن تعذَّر عليه الوصول إلى السلطان، وأمكنه أن يزوّجه إمام راتب في أيِّ مسجد فيزوِّجها ويكون وليّها في هذه الحال، وإلاَّ فيزوجها أيُّ مسلم من المسلمين؛ لأنّ النّاس لا بد لهم من التزويج، وإنّما يعملون فيه بأحسن ما يمكن، والمسلم الذي يتولى أمرها ويزوجها بالنظر إلى فقدان الولي فإنّ ولايته من قبيل التحكيم، و"المحكَّم يقوم مقام الحاكم" كما نقل ذلك عن الشافعي.
ولا يكفي العقد الشرعي بمفرده في استمرار الحياة الزوجية لا بدَّ من أن يصب في شكله الرسمي لدى المصالح المعنية حتى تصان كافة الحقوق التي للزوجين الحالية والمآلية كالميراث والأولاد وما إلى ذلك.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيِّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليمًا.
الجزائر في: 9 ربيع الأول 1427ه
الموافق ل: 6 أفريل 2006م
__________
1- أخرجه أبو داود في النكاح (2083)، وابن ماجه في النكاح (1879)، والدارمي (2106)، وابن حبان (4075)، والحاكم (2708)، وأحمد (23851)، وسعيد بن منصور في سننه (528)، وأبو يعلى في مسنده (4837)، وعبد الرزاق في المصنف (10472)، والبيهقي (13952)، من حديث عائشة رضي الله عنها. وصححه ابن الملقن في "البدر المنير" (7/533)، وحسنه ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" (2/205)، وصححه الألباني في "الإرواء" (1840)، وفي "مشكاة المصابيح" (3067)، ومقبل الوادعي في "الصحيح المسند" (1628).(9/69)
الفتوى رقم: 438
في اعتياد دخول شرط الزوجة في مهرها
السؤال: اعتاد أولياء البنت عند تحديد المهر أن يطلبوا من الزوج إحضار الألبسة والذهب، ودفع تكاليف وليمة العرس الذي يقام في بيت الزوجة، فهل يعد هذا من المهر؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فيوجد فرق بين المهر الذي يجب في عقد الزواج على الزوج، ويسمى صداقا لإشعار بصدق رغبة باذله في النكاح، وبين جهاز الزوجة وهو كل ما تحتاجه لنفسها في بيت الزوجية من ملابس وفراش وغطاء وأثاث البيت ومتاعه ولوازمه، والزوج هو المكلف بتجهيز بيته، ولا يلزم المرأة بإعداد شيء من ذلك من مالها الخاص سواء المهر الذي أخذته لأنَّه حق خالص لها، وإنما تستحقه بحكم الشرع بموجب عقد الزواج لقوله تعالى: ?وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً? [النساء: 4]فافترض الله سبحانه على الرجال أن يعطوا النساء مهرهن عطية، ولم يبح للرجال منها شيئا إلاَّ بطيب أنفس النساء، فلذلك لا تجبر المرأة ولا يلزم عليها تجهيز نفسها من مهرها ولا من غيره مما تملكه من الأموال، لكن لا تمنع إن أرادت المشاركة بمالها أو بمهرها على وجه الاختيار المحض منها لا إلزام فيه، وتبقى الأشياء التي ساهمت فيها مملوكة لها ينتفع بها الزوج بإذنها ورضاها صراحة أو دلالة، ومن التزامات الزوج -أيضا- الوليمة التي تجب في حقه عقب الدخول -بزوجته - إن قدر على ذلك- لأنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعا القوم بعد الدخول بزينب رضي الله عنها وإلاَّ جاز عند الدخول أو عقب العقد أو عنده، فإنَّ هذا الأمر يتوسع فيه عادة لكن يبقى الزوج مطالبا به لقوله صلى الله عليه وآله وسلم لعبد الرحمن بن عوف:" أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ"(1)، وفي حديث بريدة رضي الله عنه أنه قال صلى الله عليه وآله وسلم لما دخل علي بفاطمة رضي الله عنهما:" إِنَّهُ لاَ بُدَّ لِلْعُرْسِ مِنْ وَلِيمَةٍ"(2)، هذا ولا تجب على المرأة وليمة العرس، ويجوز لأولياء المرأة أن يشترطوه في العقد كشرط يعود عليهم بالمنفعة فإن قبله الزوج وجب الوفاء به لقوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ? [المائدة: 1] وقوله سبحانه: ?وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً? [الإسراء: 34] ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ إِلاَّ شَرْطًا حَرَّمَ حَلاَلاً أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا"(3)، وهو معدود من شرط النكاح لا من مهره.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في:29 ربيع الثاني 1427ه
الموافق ل: 27 مايو 2006م
__________
1- أخرجه البخاري في النكاح (5153)، ومسلم في النكاح (3556)، وأبو داود في النكاح (2111)، والترمذي في النكاح (1117)، والنسائي في النكاح (3364)، وابن ماجه في النكاح (1982)، ومالك (1142)، وأحمد (13022)، والدارمي في سننه (2116)، والحميدي في مسنده (1271)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
2- أخرجه أحمد (23737)، من حديث بريدة الأسلمي رضي الله عنه. وصححه الألباني في صحيح الجامع (2419).
3- أخرجه الترمذي في الأحكام (1403)، والدارقطني في سننه (2931)، والبيهقي (11762)، من حديث عمرو بن عوف رضي الله عنه. وصححه الألباني في الإرواء (1303).(9/70)
الفتوى رقم: 446
في الإقبال على العاميات في الزواج والعدول عن الملتزمات
السؤال: يجنح كثير من الإخوة المستقيمين عند إرادة الزواج إلى خطبة النساء العاميات بحجة دعوتهم للمنهج السوي، غاضين الطرف عن المستقيمات، فما هو توجيهكم شيخنا؟ وجزاكم الله خيرا.
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فإنَّ الذي يسعني أن أنصح به الزوج السني هو اختيار ما يسعده في دنياه وأخراه وهو اختيار الزوجة الصالحة التي تحافظ على الدين قولاً وعملاً، وتتمسك بفضائله وأخلاقه، وترعى حق الزوج، وتحمي أبناءه، فهذا الذي عني الإسلام به من معاني الفضل والصلاح والعفة، أمَّا السعي إلى من تجرَّدت من هذه المعاني واغتر بحسنها وجمالها وجاهها ونسبها، فإنه يخشى منه الفتنة في ضياع نفسه وأبنائه، إذ من الصعب بمكان تحويل من أشربت في قلبها حب مظاهر الدنيا، وركنت إلى زخارفها، ومالت إلى ملذاتها، إذ الحكمة نطقت بأنَّ:" من شبَّ على شيء شاب عليه"، وأنّ "ما ثبت على خُلُقٍ وطبعٍ نبت عليه"، بل يخشى أن يجرَّ إلى خلقها ويطاوع رغباتها فيبتعد بذلك عمَّا كان يصبو إليه من معاني الحياة الإسلامية الجامعة على حب الله وطاعته، ويندم على ما اغترَّ به:" فَاظْفرْ بِذَاتِ الدِّينِ، تَرِبَتْ يَدَاكَ"(1).
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 7 جمادى الأولى1427ه
الموافق ل: 3 جوان 2006م
__________
1- أخرجه البخاري في النكاح (5090)، ومسلم في الرضاع (3708)، وأبو داود في النكاح (2049)، والنسائي في النكاح (3243)، وابن ماجه في النكاح (1931)، وأحمد (9769)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(9/71)
الفتوى رقم: 464
في حكم نكاح الزانية واستلحاق ولده منها
السؤال: هل فتوى الإمامين أبي حنيفة وابن تيمية -رحمهما الله تعالى- بجواز نكاح الزانية ممن زنى بها، وقد حملت منه فقط لا من غيره، وهذا خلاف قول جماهير العلماء، هل هذه الفتوى يؤخذ بها في حالات معينة؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فهذا السؤال يتضمن مسألتين وهما:
- الأولى: في حكم نكاح الزانية.
- والثانية: في حكم استلحاق الزاني ولده من الزنا.
* أما المسألة الأولى: فقد اشترط ابن تيمية وفاقًا لطائفة من السلف والخلف التوبة أولاً وهو مذهب أحمد(1)، فيحرم نكاح الزانية قبل التوبة سواء كان هو الذي زنى بها أو غيره لقوله تعالى:? الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إلاّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلاّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ? [النور: 3] ويزول عنها وصف الزنا بعد التوبة لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« التَائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لاَ ذَنْبَ لَهُ"(2)، ويؤيد المعنى السابق قوله صلى الله عليه وآله وسلم:« لاَ يَنْكِحُ الزَّانِي المَجْلُودُ إِلاَّ مِثْلَهُ"(3)، قال الشوكاني:" وفيه دليل على أنه لا يحل للمرأة أن تتزوج من ظهر منه الزنى، وكذلك لا يحل للرجل أن يتزوج بمن ظهر منها الزنى، وتدل على ذلك الآية السابقة"(4).
أمَّا مذهب أبي حنيفة والشافعي ومالك فلا يشترطون للجواز شرط التوبة(5) وإن كان في المدوّنة ما يشعر بهذا الشرط(6)، ومن هنا يتبين لك اختلاف ابن تيمية مع مذهب أبي حنيفة في هذا الشرط، بل يزيد شيخ الإسلام ابن تيمية لهذا الشرط امتحانَ الزانية حتى يُتأكد من صدق توبتها، ومستند هذا التقرير قوله تعالى: ? إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ?[الممتحنة: 10]ويُطلَق المهاجِر على التائب أيضا، ودليل تناوله قوله صلى الله عليه وآله وسلم:« المُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ "(7) "وَالمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السُّوءَ"(8)، فما دامت دعوى هجر السوء قائمةً فيشرع فيها الامتحان للآية السابقة.
والشرط الثاني: الذي اشترطه ابن تيمية هو الاستبراء بحيضة للحائل، وأمَّا الحامل فحتىّ تضع وهو مذهب مالك وأحمد(9) خلافًا لأبي حنيفة الذي يرى جواز العقد قبل الاستبراء إذا كانت حاملاً ووافقه عليه محمد بن الحسن الشيباني خلافًا لأبي يوسف(10)، ومن منطلق هذا الشرط والذي قبله يتبين اختلاف مذهب أبي حنيفة واختيار ابن تيمية، أمَّا عند الشافعي فيجوز العقد والوطء مطلقًا لأنَّ ماء الزاني غيرُ محترم(11)، ولا يخفى ضعف هذا الدليل العقلي للشافعي والذي قبله من النصوص الواردة في مضمون هذا الشرط وهو الاستبراء ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم:« لاَ تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلاَ غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً "(12) وبقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« لاَ يَحِلُّ لاِمْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَسْقِىَ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ وَلاَ يَحِلُّ لاِمْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَقَعَ عَلَى امْرَأَةٍ مِنَ السَّبْي حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا "(13) وبقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« لاَ تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلاَ حَائِلٌ حَتىَّ تَسْتَبْرِئ"(14).
* أمَّا المسألة الثانية: في حكم استلحاق الزاني ولده من الزنا، فإنَّ التوافق بين أبي حنيفة وابن تيمية رحمهم الله ظاهر في النتيجة والحكم، حيث إنَّ أبا حنيفة لا يرى بأسًا إذا زنا الرجل فحملت منه أن يتزوجها مع حملها ويستر عليها، والولد ولد له، واختيار ابن تيمية ينتهي إلى هذا الحكم، فالرجل إذا استلحق ولده من الزنا ولا فراش لحقه(15)، غير أنَّ الفرق بين كلاميهما هو ما تقدم في الشرط الثاني من المسألة الأولى وهي اشتراط وضع الحامل أو الاستبراء بحيضة للحائل خلافًا لأبي حنيفة، هذا والقول باستلحاق الرجل ولده من الزنا ليس قاصرًا على الإمامين بل قال به أيضًا إسحاق بن راهويه وسليمان بن اليسار وابن سيرين والحسن البصري وإبراهيم النخعي وغيرُهم، وقد عارضَ هذا القولَ جمهورُ أهل العلم ومنهم الأئمة الأربعة الذين يقرون بعدم استلحاق ولده من الزنا إن أراد استلحاقه سواءً ولد على فراش أو ولد على غير فراش(16).
وسبب الخلاف في هذه المسألة يرجع إلى تأويل حديث:"الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الحَجَرُ"(17)، فإنَّ ابن تيمية - رحمه الله- يرى أنَّ الحديث قاصر حكمه على المرأة إذا كانت فراشًا لرجل آخر، فيبقى الولد ملتحقا بصاحب الفراش إلاَّ أن ينفيه باللعان، ويكون للعاهر الحجر، أي أنَّ الزاني ليس له إلاَّ الخيبة(18)أمَّا المرأة إذا لم تكن فراشًا فلا يتناوله الحديث، ويتعين تسمية المرأة فراشًا عند أهل اللغة والعرف بعد البناء عليها، ولهذا ذهب ابن تيمية إلى أنَّ المرأة تعد فراشا بعد معرفة الدخول المحقق لا بمجرد العقد عليها خلافًا لأبي حنيفة - رحمه الله -، وعليه فالعاهر لا يلحقه الولد إذا كان للمرأة زوج دخل بها، فإن لم يكن لها زوج فليست فراشًا ولا يتناول الحديث حكمها، فإذا ولد لها ولد زنية واستلحقه أبوه لحقه، وقد تقدم أنَّ مذهب الجمهور لا يستلحقونه سواء ولد على فراش أو على غير فراش بناء على تأويلهم للحديث، والظاهر أنَّ سبب ورود الحديث يساير في سياقه ومضمونه التفريق الذي ذهب إليه شيخ الإسلام، حيث إنَّ قضاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قصة ابن وليدة زمعة بن الأسود، وكان قد أحبلها عتبة بن أبي الوقاص، فاختصم فيه سعد وعبد بن زمعة فقال سعد: ابن أخي عهد إليَّ أنَّ ابن وليدة زمعة هذا ابني، فقال عبدُ: أخي وابن وليدة أبي على فراش أبي، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:« هُوَ لَكَ يَا عَبْد بنَ زمعة، الوَلَدُ لِلفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الحَجَرُ، احْتَجِبِي مِنْهُ يَا سَوْدَة "(19)، فكان قضاؤه صلى الله عليه وآله وسلم لمن كانت الأمة فراشًا له دون غيره مع شبهه البيِّن بعتبة، فدلَّ ذلك على خصوص الحديث بما كانت المرأة فراشًا، وانتفى الحكم عمن لم تكن فراشًا، وقد أيَّد ابن تيمية -رحمه الله- لحوق ولده من الزنا إذا استلحقه ولا فراش بما رواه مالك في الموطإ:" أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يليط أولاد الجاهلية بمن ادعاهم في الإسلام"(20)أي كان يلحقهم بهم وينسبهم إليهم وإن كانوا زنية، وقد روى عيسى عن ابن القاسم في جماعة يسلمون فيستلحقون أولادًا من زنى، فإن كانوا أحرارًا ولم يدعهم أحد لفراش فهم أولادهم، وقد ألاط عمر من ولد في الجاهلية بمن ادعاهم في الإسلام إلاَّ أن يدعيه معهم سيد الأمة أو زوج الحرة لأنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:" الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الحَجَرُ " ففراش الزوج والسيد أحق(21).
فإذا تقرر رجحان أحد القولين بدليله وجب الفتوى بما ترجح عند الناظر أو المجتهد ويفتي بما ترجح بها مطلقا في كلِّ الحالات ولا يعدل عنها إلى حالات معينة للإجماع على أنَّ المجتهد أو من في حكمه (كالمجتهد المُتَجَزِّىء) يجب عليه اتباع ما أدَّاه إليه اجتهاده وأن يفتي به، ولا يجوز له ترك ذلك إلاَّ إذا تبين له خطأ ما ذهب إليه أوَّلا، فيتركه إلى القول الآخر اتباعًا للدليل، وهذا إنما إذا كان فيه الحق ظاهرًا بيٍّنًا موافقًا للكتاب والسنة فيجب على المفتي أن يفتي بالحق وما اقتضاه الدليل ولو خالف مذهبه، فإن كان الدليل مع مخالفه فلا يجوز له أن يفتي بالمرجوح، أمَّا في مسائل الاجتهاد التي الأدلة فيها متجاذبة، فهذا قد يفتي به وقد لا يفتي حسب النظر كما قرر هذه الأقسام ابن القيم رحمه الله(22)ولم يرد في أقسامه أنه يفتي في حالات معينة دون حالات أخرى.
هذا ما ظهر لي في هذه المسألة، والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في:20 جمادى الأولى 1427ه
الموافق لـ:16 جوان 2006م
__________
1- انظر المغني لابن قدامة: 6/601، 602. مجموع الفتاوى لابن تيمية: 32/109، 110.
2- أخرجه ابن ماجة في الزهد(4391)، والبيهقي(21070)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وحسنه الألباني في صحيح الجامع(3008)، وفي صحيح الترغيب والترهيب(3145).
3- أخرجه أبو داود في النكاح (2052)، والحاكم في المستدرك (2784)، وأحمد (8101)، والبيهقي (14197)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.قال ابن كثير في "إرشاد الفقيه" (2/149):" إسناده جيد قوي". وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة"(2444)، وحسنه مقبل الوادعي في "الصحيح المسند" (1451)
4- نيل الأوطار للشوكاني: 7/320.
5- الهداية للمرغناني: 1/194. تكملة المجموع شرح المهذب: 16/220، 221.
6- المدونة لابن القاسم: 2/187.
7- أخرجه البخاري في الإيمان (10)، وأبو داود في الجهاد (2483)، والنسائي في الإيمان وشرائعه (5013)، وأحمد (6671)، والحميدي في مسنده (623)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
8- أخرجه الحاكم (25)، وأحمد (12151)، وأبو يعلى في مسنده (4187)، من حديث أنس رضي الله عنه، وأحمد (6886)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه. وصححه أحمد شاكر في تحقيقه لمسند أحمد(11/190)، والألباني في صحيح الترغيب (2555).
9- مجموع الفتاوى لابن تيمية: 32/109، 110.
10- الهداية للمرغناني: 1/194.
11- المغني المحتاج للشربيني: 3/187.
12- أخرجه أبو داود في النكاح (2159)، وأحمد (11911)، والدارمي في سننه (2350)، والحاكم في المستدرك (2790)، والبيهقي (11105)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وحسنه ابن عبد البر في "التمهيد"(3/143)، وابن حجر في تلخيص الحبير (1/275)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (7479).
13- أخرجه أبو داود في النكاح (2160)، وأحمد (17435)، والبيهقي (16002)، من حديث رويفع بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه. وصححه ابن كثير في "إرشاد الفقيه" (2/236)، وحسنه الألباني في الإرواء (5/140).
14- أخرجه عبد الرزاق في المصنف (12903)، قال الألباني في الإرواء (1/200):" فقد روى ابن شيبة في "المصنف" كما في "نصب الراية"(4/252) عن الشعبي أنّه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أوطاس أن توطأ حامل حتى تضع، أو حائل حتى تستبرئ. وكذلك رواه عبد الرزاق وإسناده مرسل صحيح".
15- مجموع الفتاوى لابن تيمية: 32/112، 113، 139.
16- المغني لابن قدامة: 6/266.
17- أخرجه البخاري في البيوع(2053)، ومسلم في الرضاع(3686)، وأبو داود في الطلاق(2275)، والنسائي في الطلاق(3497)، وابن ماجة في النكاح(2082)، ومالك(1424)، وأحمد(25717)، والدارقطني(3895)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
18- ومعنى له الحجر: الخيبة أي لا شيء له في الولد، والعرب تقول: له الحجر وبفيه التراب: يريدون ليس له إلاَّ الخيبة، وقيل المراد بالحجر أنه يرجم بالحجارة إذا زنى ولكنه لا يرجم بالحجارة إلاَّ المحصن فقط ( نيل الأوطار للشوكاني: 8/88)
19- أخرجه البخاري في العتق (2533)، ومالك في الموطإ (1424)، والدارمي في سننه (2292)، والدارقطني في سننه (4652)، والبيهقي (11795)، من حديث عائشة رضي الله عنه.
20- أخرجه مالك في الموطإ (1426)، والبيهقي (21799)، من رواية سليمان بن يسار. قال الألباني في الإرواء (6/25):" ورجاله ثقات رجال الشيخين، ولكنه منقطع، لأن سليمان بن يسار لم يدرك عمر، لكن جاء موصولا من طريق أخرى عنه..."
21- انظر المنتقى للباجي: 6/11.
22- إعلام الموقعين: 4/237.(9/72)
الفتوى رقم: 496
في الزواج من مطلقة من غير معرفة والديه بحالها.
السؤال: لي أخت مطلقة ولها طفل، وقد تقدم لخطبتها رجل أصغر منها سنا، لكن الشيء الذي أشكل علينا هو أن الخطيب لا يريد إخبار والديه بأمر سنها وطلاقها، لأنهما سوف يعارضانه إذا علما بحالها، فهل يجب علي أن أخبر والديه؟ وهل العقد صحيح إذا لم يعلما بالحقيقة؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فمن مقتضى الأمانة والعدل أن يخلص من تولى أمر زواج أخته لمن يريد أن يتزوج بها بأن يبين للخاطب وجوب تحصيل رضى الوالدين لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« رِضَى الرّبِ فِي رِضَى الوَالِدَيْنِ وَسَخطُهُ في سَخطِهِمَا"(1) وأنه لا يكمل عقد الزواج إلاَّ إذا حضر كلا الوالدين أو أحدهما مجلس العقد تحقيقا للبر والإحسان لهما، وذلك لئلاَّ يعين الخاطب على معصية الله بمعصيتهما لقوله سبحانه وتعالى: }وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ {[المائدة: 2]، كما يحث هذا الابن على إخبار والديه بالحقيقة حتى لا يكون مشاركا في عصيانهما وإخفاء الحقيقة عليهما لأن التعاون ينبغي أن يكون على البر والتقوى.
ويجدر التنبيه إلى أنه إن حصل العقد الشرعي ولو مع إخفاء الحقيقة عن والديه فزواجه صحيح مع الإخلال بحق من حقوق بر الوالدين.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 4 ربيع الأول 1427هـ
الموافق لـ: 2 أفريل 2006م
__________
1- أخرجه الترمذي في البر والصلة (1899)، والحاكم في المستدرك (7249)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وحسنه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (516).(9/73)
الفتوى رقم: 502
في عدم تأثير العلاقة بالأجنبية في صحة عقد الزواج عليها
السؤال: تعرفت على فتاة بغيةَ الزواج، وبقيت معها على اتصال عبر الهاتف والانترنت دون علم وليها، ثمّ تقدمت لخطبتها وأجرينا العقد الشرعي بحضور وليها وشاهدين عدلين. فهل هذا الزواج صحيح؟ وهل طريقة العقد صحيحة؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فإنّ الله تعالى منع كلّ الوسائل التي تؤدّي إلى الحرام وجعل للحرام حريمًا، وحريم الحرام مقدّماته كالخلوة والاختلاط والكلام الزائد عن محلّ الحاجة، والكلام المثير للشهوة، مثل هذا يمنعه الشرع؛ لأنه يفضي إلى أقصى غايته وهو الزنا، غير أنّ هذه المقدّمات ليست من حيث الإثم بمنزلة الغايات، ولا يترتب عليها الجزاء الدنيوي المعروف، وإنما هي ذنوب يمكن تكفيرها بالتوبة والعمل الصالح والاستكثار من الذكر، على ما ورد في ذلك من الأحاديث الصحيحة منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم:« الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ، وَالجمُعَةُ إلَى الجمُعَة، وَرَمَضَانُ إلَى رَمَضَانَ، مُكَفّرَاتٌ لما بَيْنَهُنَّ، مَا اجْتُنبَت الكَبَائرُ »(1)، ويمكن مراجعة المقالة الموسومة ب:" طرق الخلاص من الذنوب" بشيء من التفصيل على الموقع(2).
أما النيابة في العقد وفي الأموال جائزة باتفاق، ويعمل النائب أو الوصي أو الوكيل عمل الأصيل، فإذا طابق القبول الإيجاب مطابقة تامة، أي على ما اتفق عليه بحضور شاهدي عدل فإنّ عقد الزواج يصحّ، ولكن ينبغي استتباعه بالعقد المدني، حصانةً للعقد ولحقوق الطرفين، لكون القضاء الجزائري يعتبر العقد الشرعي خطبة.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبيه محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلّم وتسليمًا.
مكة في: 19 رمضان 1427ه
الموافق لـ: 12 أكتوبر 2006م
__________
1- أخرجه مسلم في الطهارة (551)، وأحمد (8944)، والبيهقي (21356)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2- انظر أرشيف الكلمة الشهرية على الموقع الرسمي.(9/74)
الفتوى رقم: 505
في حكم المهر المؤخر في زواج مفسوخ
السؤال: عقد رجل على امرأة عقدا شرعيًّا، على أن يكون مهرها مالاً وذهبًا، وبعد مدة فسخَ العقد ولم يدفع المهر كاملا، ثمَّ أراد أن يعود إليها. فهل يكمل لها المهر الأول ويضيف لها مهرًا آخر؟ وهل يجوز عدم إخبار والد البنت بفسخ العقد، ويكون أخوها وليها في العقد الجديد ؟ وما هي الأحكام المترتبة على فسخ العقد قبل الدخول؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فإذا فسخ العقد بسبب عيب من العيوب في المرأة أو لأسباب أخرى قبل الدخول بها سقط مهرها، واستحقه كاملاً دون الهدايا المقدمة، فإن عقد عليها ثانية بعد الفسخ فيصحُّ له أن يجعل ما أمهرها في العقد الأول صداقًا لها على العقد الجديد، ويكمل ما بقي في ذمته، والولي ينبغي إعلامه بأمر موليته، ويجوز له أن يتنازل عن حقه في الولاية لابنه أو لغيره نيابة عنه.
أمَّا إذا قصد السائل بالفسخ الطلاق، فإنَّ المرأة تستحق نصف المهر المسمى من المال والذهب، ويصح له أن يتزوجها بعقد جديد ومهر جديد، ويسعه أن يجعل لها نصف الصداق الأول مهرًا جديدًا لها، لكن إن رجعت إليه بعد العقد فلا يملك عليها سوى طلقتين بالنظر إلى إيقاع الطلقة الأولى.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 21 رجب 1427ه
الموافق لـ: 15 أوت 2006م(9/75)
الفتوى رقم: 533
في حكم العقد من غير تسمية المهر
السؤال: عُقد على امرأةٍ ولم يُسَمَّ لها مهرٌ أثناءَ العقد، فهل العقد باطل؟ مع العلم أنّ أهلَ الرجل أحضروا بعد العقد خاتَمًا وأشياء أخرى.
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فالعقد صحيحٌ لا غُبارَ عليه؛ لأنّه نكاح التفويض وهو: العقد الذي لم يُسَمَّ فيه مهرٌ، ويجوز استمرارُه إلى ما بعد الدخول، وغاية ما في الأمر أنّه يَختلف عن المهر المسمَّى في: أنّ المرأة إذا طلَّقها قبل الدخول فلها المُتْعَةُ لقوله تعالى: ?لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الموسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى المُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالمعْرُوفِ حَقًا عَلَى المحْسِنِينَ? [البقرة: 236].
والمتعة هي: نصيبٌ من المال يقدِّره القاضي ومَن قام مقامه بحَسَب حال الرَّجل من اليسر أو الإعسار، أمّا إذا دخل بها ولم يُسَمِّ لها مهرًا فلها مهر المثل؛ أي: مِثْلِهَا من النساء في طبقتها، وعليه: فإنّ ما قدّمه من خاتَمٍ وغيره من الأمتعة على وجه الصداق لا الهدية، ودخل بها فإن كان ذلك الخاتَمُ وغيرُه يساوي مهرَ المثل من النساء بمنزلتها وطبقتها فقد وفَّى الزّوجُ مهرَه وأخذت حقّها منه، أمّا إذا كان ما أعطى دون مهر المثل فمن حقِّها أن تطالبه بزيادة المال استيفاءً لحقّها.
وفي حالة حصول نزاع، فإنّ للحَكَمَيْنِ من الطرفين فَكَّ النِّزاع بتقدير مهر المثل في حالة الدخول أو المتعة قبله لقوله تعالى: ?فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا? [النساء: 35]، وذلك كحلٍّ بالتراضي قبل اللجوء إلى الجهة القضائية لرفع الخصومة.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله على نبيِّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 20 رجب 1427ه
الموافق ل: 14 أوت 2006م(9/76)
الفتوى رقم: 594
في مسئولية الولي في اختيار الكفء لموليته
السؤال: لقد تقدّمَ لخطبة أختي رجلٌ من الذين يحملون عقيدةَ التكفير العامِّ والخروج، فرفضت هذا الأمر مطلقًا، ولكنَّ الأختَ راضيةٌ ومقتنعةٌ قناعةً تامّةً به بحجّة أنه تاب من هذه العقيدة، ولعلَّ اللهَ يهديه، والوالدة كذلك وافقت، وحتى العمّات طَلَبْنَ من الوالد الموافقة مع العلم أنَّهنَّ لا يعرفنه، فاحتارَ الوالدُ في هذا الأمر مع أنَّه غيرُ راضٍ ولكنَّهُ لم يجد إلى الرفض سبيلاً، وهذا الرجل لا يزال يخالط بعضَ مَن كان معهم في نفس العقيدة، ولا يجالس أهل السنّة ولا يقترب منهم، فنرجو منكم بيان ما يلي:
- هل ينبغي لها إن كانت سُنِّيةً سلفية أن تتزوّج ممّن هذا حاله؟
- هل للوالد الحقّ في منعها من هذا الزوج؟
- كيف يكون تعاملنا معه لو تمَّ هذا الزواج مع أنِّي قلت لها بأنِّي أعرفه، ولن أدخل بيته، وتبقين أختي، فلم تُعِرْ لهذا الكلام اهتمامًا ولا وزنًا؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فالوَلِيُّ مسئولٌ في اختيار الكُفْءِ لمُوَلِّيَتِه، والكفاءةُ الدينيةُ مطلوبةٌ شرعًا، قال تعالى: ?إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ? [الحجرات: 13]، وقال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« إِذَا أَتَاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزوِّجُوهُ، إِلاَّ تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ »(1)، وفي الحديث توجيهُ الخطابِ للأولياء في أن يُزوِّجوا مُوَلِّيَاتِهِمْ من ذوي الدِّين والأمانةِ والأخلاقِ، فإن لم يفعلوا كانت الفتنةُ والفسادُ الذي لا آخرَ له، فالمرأةُ يُحتاطُ في حقِّها فيُختارُ لها صاحبُ الدِّين وحُسْنِ الخلق؛ لأنها رقيقة بالنكاح لا مُخَلِّصَ لها وقد نقل عن بعض السلف أنَّ «النكاح رِقٌّ فلينظر أحدُكم أين يضع كَرِيمَتَه »(2)؛ لأنَّ صاحب الدينِ والخُلُقِ إن عاشرَها عاشرَها بمعروف وإن سرَّحها سرَّحها بإحسان، ومَنْ زوَّج مولِّيَّتَه من ظالِمٍ أو فاسقٍ أو مُبتدِعٍ أو شاربِ خمرٍ فقد جَنَى على دينه بسوءِ الاختيارِ؛ ذلك لأنَّ شرط الكفاءةِ للمرأة الصالحةِ استقامةُ الرجلِ، وليس معنى ذلك أن يُهملَ رَأْيُ المرأةِ أو يُتعسَّفَ في استشارتها، بل عليه أن يُطْلِعَ كريمَتَه صلاحَ الرجل من عدم صلاحِه، ويجوز له إن تحقّق من توبة الفاسق بامتحانه أن يزوَّجَها له؛ لأنَّ صفةَ الفِسق ترتفع عنه بالتوبة النصوح عمّا اعتقده أو ارتكبَه بشرط أن يكون صادقًا في توبته؛ لأنَّ «التَّائِبَ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لاَ ذَنْبَ لَهُ »(3)، على ما جاء في الحديث، و«النَّدَمُ تَوْبَةٌ »(4)، أمَّا المصرُّ على ما اعتقده واقترفه فلا يُعان على الزواج من الصالحة قال ابن تيمية -رحمه الله-:« إذا كان مُصِرًّا على الفِسق فإنّه لا ينبغي للولي تزويجُها له، كما قال بعض السلف: من زوج كريمته من فاجر فقد قطع رحمها، لكن إن علم ».
أمَّا إذا زوَّجها أبوها من فاسقٍ أو فاجرٍ أو مبتدِع ورضيَتْ به على صِفته وإصراره على المعصية فشأنهم شأن المسلم العاصي الذي يهمل بعض الواجبات ويفعل بعض المحرَّمات التي لا تصل إلى حدِّ الكفر الأكبر على ما ثبت أنَّ رجلاً في عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم كان يشرب الخمر، فأتي به إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم فَلَعَنَهُ رجلٌ وقال: ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« لاَ تَلْعَنُوهُ فَوَاللهِ مَا عَلِمْتُ إِلاَّ أَنَّهُ يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ »(5).
وعليه فهؤلاء يستحقُّون الولاء من جهة الإيمان والطاعة ويستحقُّون البراء من جهة الذنب والمعصية، ولا يلزم البراء منهم من جهة المعصية الإساءةُ لهم بالأقوال والأفعال، ولا يمنعه بُغْضُ المعصية وعدمُ الرضا بها أداءَ الحقوق لهم، وحُسنَ المخالقة معهم ولو كانوا أهل الكتاب، قال تعالى: ?لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ? [الممتحنة: 8]، وقال سبحانه في معاشرة الزوجة الكتابية وغير الكتابية: ?وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ? [النساء: 19]، وقال في الأبوين المشرِكَيْنِ: ?وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا? [لقمان: 15]، وإذا كان هذا في شأن أهل الكفر والشرك فإنَّ أهل المعاصي من أهل الإيمان أحقُّ بالبرِّ والصِّلةِ والإحسانِ لعُمومِ قوله تعالى: ?وَاعْبُدُواْ اللهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالجَارِ ذِي القُرْبَى وَالجَارِ الجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ? [النساء: 36]، فبُغْضُ المعصيةِ وعدمُ الرضا بالذنب لا ينافي بالضرورة حُسْنَ المعاملة والمخالقة.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 5 شعبان 1427ه
الموافق ل: 29 أوت 2006م
__________
1- أخرجه ابن ماجه في «النكاح »: (1967)، والحاكم في «المستدرك »: (2695)، والطبراني في «المعجم الصغير »: (466)، وحسّنه الألباني في «السلسلة الصحيحة »: (1022)، وفي «صحيح الجامع »: (270).
2- قال البيهقي في «السنن الكبرى »: (7/82):« ويذكر عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنها قالت:« إنما النكاح رق فلينظر أحدكم أين يرق عتيقته ». وروي ذلك مرفوعًا والموقوف أصحّ والله سبحانه أعلم ». وقال العراقي: في «تخريج الإحياء » (3/488):« رواه أبو عمر التوقاني في معاشرة الأهلين موقوفًا على عائشة وأسماء ابنتي أبي بكر ».
3- أخرجه ابن ماجه في «الزهد »: (4250)، والبيهقي: (21150)، والطبراني في «المعجم الكبير »: (10281)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. قال ابن حجر في «فتح الباري »: (13/557):« سنده حسن »، وحسّنه الألباني في «صحيح الجامع »: (3008).
4-أخرجه ابن ماجه في «الزهد »: (4252)، وابن حبان: (612)، والحاكم: (7612)، وأحمد: (3558)، وأبو يعلى في «مسنده »: (4969)، والبزار في «مسنده »: (1926)، والطبراني في «المعجم الصغير »: (80)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وحسّنه ابن حجر في «فتح الباري »: (13/557)، وصحّحه الألباني في «صحيح الجامع »: (6802).
5- أخرجه البخاري في «الحدود »: (6398)، وأبو يعلى في «مسنده »: (176)، وعبد الرزاق في «المصنف »: (17082)، والبزار: (269)، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.(9/77)
الفتوى رقم: 603
في قَبول الملتزمة الزواجَ من مغترب ينوي العودة إلى بلده
السؤال: أُخْتٌ ملتزمة تقدَّمَ لخِطبتها رجلٌ مقيم في بلاد الكفر، فأخبرته أنَّ الإقامةَ بها لا تجوز، فقال لها بأنه بعد أن يُتم سنتين من العمل ويحصل على منحةِ التقاعد يرجع إلى الجزائر، فهل تقبل به زوجا وتنتظره أم لا؟
الجواب: الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فالمرأة بحَسَبِ حالها، فإذا كانت شابةً صغيرةَ السنِ لا يهملها الخطاب في الجملة فأنصحها بأن تَتَرَيَّثَ حتى تصيبَ زوجًا ممن يُرضى دينُه وخلقُه؛ لأنّ المقيم في بلاد الكفر المدةَ الطويلة ليس له عِلْمٌ بالدِّين والاستقامة على الهدى والتقوى إلاّ النَّزْر اليسير، إذ غالبًا ما ينطبع المغترب بعادات ديار الكفر وخصائصها فيصعب على الملتزمة أن تحقِّق معه حياةً زوجيةً على النمط الذي يُرضي اللهَ تعالى، بل يؤثِّر على دينها وسلوكها مع مرور الوقت، أمّا إذا كانت كبيرةً في السنِّ وقد لا يأتيها الخطّابُ، وأبدى هذا الخاطب صِدْقًا في الالتزام بالدِّين وإظهار شعائره فلها أن تقبل به وتنتظرَه حتى يرجعَ من بلاد الكفر.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 20 من ذي الحجة 1427ه
الموافق ل: 9 جانفي 2007م(9/78)
الفتوى رقم: 615
في إخفاء المرأة نسبها عند الزواج
السؤال:
أنا شابٌّ طلبت مني والدتي أن أتزوّج بنتًا اختارتها لي، وبعد أن رأيتُها اتفقنا على كلِّ الشروط، وأخبرتني بأن أباها توفي، وعند صدور العقد المدني تبيّن لي أن البنت تحمل لقب أُمِّها، فاتصلت بوالدتها قصد الاستفسار فقالت:« نسيت أن أخبركم أن أباها توفي قبل أن أعقد العقد المدني »، فطلبتُ منها دليلاً فلم تجد، وقالت: إنّ المحكمة طلبت شهودًا من أهل الوالد لإثبات نسب البنت لكنّهم رفضوا حتى لا يكون لها نصيب من إرث أبيها. فأنا محتار هل أتزوّج بها أم أطلِّقها؟ أتمنى أن ألقى عندكم جوابًا شافيًا. وجزاكم الله خيرا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فإذا خشي أن لا يتحقّق مقصود الزواج بهذا العقد بسبب ما أخفي عليه من أمرها تدليسًا وكان له فيه منغصة فإنه يثبت له الخيار، وجاز له الفسخ وليس لها المهر قبل الدخول بسبب التدليس، قال ابن القيم:« كُل عَيب يَنْفرُ الزوجُ الآخر منه، ولا يحصلُ به مقصودُ النكاح من الرحمة والمودة يُوجبُ الخيارَ، وهو أولى من البيع »(1)، أمّا إن رضي بما هي عليه بعد حصول العلم فإن العقد يثبت ولا خيار له.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزاء في: 19 محرم 1428ه
الموافق ل: 7 فبراير 2007م
__________
1- «زاد المعاد في هدي خير العباد »: (1/1977).(9/79)
الفتوى رقم: 639
في حكم استعمال حبوب إضعاف الرغبة الجنسية وتسكينها
السؤال:
ما حكمُ استعمالِ حبوبٍ لتقليص الرغبة الجنسية وتسكينها لدى الشابِّ غيرِ القادرِ على الزواج؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فإذا تعذّرَ على الشابِّ المسلمِ أن يُعِفَّ نفسَه ويعالِجَهَا بالطبِّ النبويِّ المتمثّلِ في الزواج والصيامِ في قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّج ْفَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ »(1)، فإنه يجوز له أن يَكْبَحَ جِمَاحَ شهوتِه بحبوبِ تسكين الرغبة الجنسيةِ، والحدُّ منها للوقاية من الوقوع في فتنة الشهوات، إذا خَلَتْ من أعراضٍ جانبيةٍ ومضاعفاتٍ ضارّةٍ بالجسم والبدن والصحّة، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ »(2)، وَيَحْسُنُ أن يكون استعماله لها باستشارة طبيبٍ مختصٍّ.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 23 صفر 1428ه
الموافق ل: 12 مارس 2007م
__________
1- أخرجه البخاري في «الصوم »: (1905)، ومسلم في «النكاح »: (3464)، وأبو داود في «النكاح » (2048)، والترمذي في «النكاح »: (1103)، والنسائي في «الصيام »: (2251)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
2- أخرجه ابن ماجه في «الأحكام » باب من بنى في حقه ما يضرّ بجاره: (2431)، وأحمد: (2921) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. قال النووي في الحديث رقم (32) من «الأربعين النووية »:« وله طرق يَقْوى بعضُها ببَعض »، وقال ابن رجب في «جامع العلوم والحكم » (378):« وهو كما قال ». والحديث صحّحه الألباني في «الإرواء »: (3/408) رقم: (896)، وفي «غاية المرام » رقم: (68).(9/80)
الفتوى رقم: 687
في حكم الزواج من شيعي رافضي
السؤال:
أنا أختٌ جزائرية سُنِّيَة المذهب والحمد لله، أبلغ من العمر 40 سنة، لم يسبق لي الزواج، وفي هذه الأيام تقدّم لخطبتي رجل متزوّج، ويبحث عن زوجةٍ ثانية، ولكنَّ المشكلة أنه صرّح لي مؤخّرًا أنه شيعي المذهب، رافضي المشرَب، وأنا اليومَ في أشدِّ الحَيرة من أمري، ولا أخفيكم بأني لا أعرف ديني بصفة كافية، وقد يستغلُّ جهلي للتشكيك في معتقداتي، فأسألكم المساعدة والنصيحة؟ وجزاكم اللهُ عني كلَّ خير.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فيَحْرُمُ على المرأةِ السُّنِّيةِ الموحِّدة أن تنكحَ رجلاًَ رافضيًا مشركًا مُضِرًّا بالدِّين والتوحيد؛ ويحرم أيضًا العكس فلا يجوز للسني أن يتزوج رافضيةً مشركةً لقوله تعالى: ?وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكَوَافِرِ? [الممتحنة: 10]، ولقوله تعالى: ?وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ? [البقرة: 221]، ذلك لأنّ عقيدةَ الرافضةِ تتضمَّن تكفيرَ عامَّة المهاجرين والأنصار، وكلِّ مَن ترضَّى عنهم، واستغفرَ لهم، مع استحلال دمائهم وتحريم ذبائحهم، وادعاءَ العصمةِ في الأئمَّة المزعومين، ووصفهم بالصفات الإلهية، واستعمالَهم التَّقِيَّة، ويقصدون بها الكذب كدِينٍ يرضونه، ولهم تفسيراتٌ باطنيةٌ للقرآن الكريم، وادعاءَهم أنَّ أهلَ البيتِ قد خُصُّوا بالعلوم والأسرارِ التي لم يطَّلع عليها غيرُهم، وتعطيلَهم للمساجد، وبناءَ ما يسمُّونه بالمشاهد والقبور، وتعظيمَها أكثرَ من المساجد، وتمجيدَهم مهديَهُم المنتظر، وجَعْلَ الإيمان به ركنًا في الإيمان، وتعليقَ الحلال والحرام به، ولو كانت تخالف الكتاب والسُّنَّة، هذا غَيْضٌ من فَيْضِ عقيدةِ الرافضةِ.
والواجب على المرأة أن تقيَ نفسها من النار، لقوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا? [التحريم: 6]، والوقاية من النار هو الابتعاد عن كلّ ما يقرب منها ويبعد عن الله تعالى.
نسألُ اللهَ تعالى أن يَرْزُقَكِ زوجًا سُنِّيًّا صاحبَ خُلُقٍ ودِينٍ، ويُبْعِدَ عنك الرذائلَ والخبائثَ ما ظهر منها وما بطنَ.
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 30 جمادى الأولى 1428ه
الموافق ل: 16 جوان 2007م(9/81)
الفتوى رقم: 838
في العزم على التَّزوُّج من ثيِّب مطلقة مع المعارضة الأبوية
السؤال:
عزمتُ على الزواج من امرأةٍ مُطلَّقةٍ لها بنتٌ، والذي دفعني إلى ذلك كونُها على دِينٍ وخُلُق، ولأني أَوَدُّ جَبْرَ كَسْرِهَا ومواساتها في مصيبتها، لكني وجدتُ معارضةً من أبويَّ تمسُّكًا بالعُرف السائد، فأودُّ من شيخنا أن يرشدَنا بكلمةٍ توجيهيةٍ تكون مفتاحَ خيرٍ ينشرح لها صدرُ الوالدين، وجزاكم اللهُ خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فعلى المسلمِ أن يتحرَّى في اختياره الزوجةَ الصالحةَ صاحبةَ دِينٍ وخُلُق، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ »(1)، وأن تكون ممَّن تحفَظ مالَه، وتصون عِرضَهُ، وترعى حالَه، وتحنو على ولده، وترضى باليسير، وتترك التبذيرَ والإسرافَ في الإنفاق، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« تَزَوَّجُوا الوَدُودَ الْوَلُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأُمَمَ »(2).
هذا، والأفضلُ في اختيار الزوجةِ أن تكون بِكْرًا، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« عَلَيْكُمْ بِالأَبْكَارِ فَإِنَّهُنَّ أَعْذَبُ أَفْوَاهًا، وَأَنْتَقُ أَرْحَامًا، وَأَرْضَى بِاليَسِيرِ »(4)، وفي حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال له رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« فَهَلاَّ بِكْرًا تُلاَعِبُهَا وَتُلاَعِبُكَ وَتُضَاحِكُهَا وَتُضَاحِكُكَ »(5)، غير أنه إن وَجَدَ في الثَّيِّبِ مَزِيَّةً على البِكْرِ في التمسُّكِ بدينِها، والخِبرة في حسن معاملتها للزوج، والصبر على خدمته، فكان اختيار الثَّيِّب للزواج أفضل، وقد صَوَّبَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم تعليل جابر بن عبد الله رضي الله عنهما حيث قال:« إِنَّ عَبْدَ اللهِ هَلَكَ وَتَرَكَ بَنَاتٍ، وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَجِيئَهُنَّ بِمِثْلِهِنَّ، فَتَزَوَّجْتُ امْرَأَةً تَقُومُ عَلَيْهِنَّ وَتُصْلِحُهُنَّ »، فقال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« بَارَكَ اللهُ لَكَ -أَوْ خَيْرًا- »(6).
هذا، وإذا انصرف اختيارُ العاقلِ للثَّيِّب للمقاييس السابقة فلا ينبغي أن يُهْمَلَ اختيارُه ويُمنَع من الثَّيِّب إن رغب فيها سواء من الوالدين أو غيرهما، خاصَّة إن وجد في الثَّيِّب معونةً له على دِينه ومساندةً له على راحته فيواسيها في مصيبتها بالزواج ويتكفَّل بالربِيبة ليحقِّق قولَه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« أَنَا وَكَافِلُ اليَتِيمِ فِي الجَنَّةِ هَكَذَا. وأشار إلى السبابة والوسطى »(7). ولا ينبغي للعُرْفِ السائدِ أن يكون صادًّا عمَّا شَرعه اللهُ للناس إذ لم يُفَرِّقِ الشرعُ من حيث الصلاحُ والدِّين بين البِكر والثيِّب، فمَنْ يتحلَّى بهما منهنَّ كان الأَوْلَى والأفضل، لعموم قولِه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« مَنْ رَزَقَهُ اللهُ امْرَأَةً صَالِحَةً فَقَدْ أَعَانَهُ عَلَى شَطْرِ دِينِهِ فَلْيَتَّقِ اللهَ فِي الشَّطْرِ البَاقِي »(8 ).
فاللهَ نَسألُ أن يوفِّقكم لأسباب السعادة في الدُّنيا والآخرة، ويبعد عنكم أسبابَ الشَّقاء وعواملَ الفساد، وأن يجمع كلمةَ والديكم على الخير وعلى صِحَّة اختياركم.
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 27 المحرم 1424ه
الموافق ل: 04/02/2008م
__________
1- أخرجه البخاري في «النكاح »، باب الأكفاء في الدين: (4802)، ومسلم في «الرضاع »، باب استحباب نكاح ذات الدين:(3708)، وأبو داود في «النكاح »، باب ما يؤمر به من تزويج ذات الدين:(2047)، والنسائي في «النكاح »، باب كراهية تزويج الزناة: (3230)، وابن ماجه في «النكاح »، باب تزويج ذات الدين:(1858)، وأحمد في «مسنده »: (9769)، والدارمي في «سننه »: (2225)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2- أخرجه ابن حبان في «صحيحه » :(1228)، وأحمد في «مسنده »: (12948)، والطبراني في «الأوسط »: (1/1/163)، وسعيد بن منصور في «سننه »: (490)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (13858)، من حديث أنس رضي الله عنه. وأخرجه أبو داود في «النكاح »: (2050)، والنسائي في «النكاح »: (3227)، والمحاملي في «الأمالي »: (21)، من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه، والحديث حسنه الهيثمي في «مجمع الزوائد »: (4/474)، وصححه ابن حجر في «فتح الباري »: (13/293)، والألباني في «الإرواء »: (1784)، وفي «آداب الزفاف » (ص :132).
3- أخرجه البخاري في «النفقات »، باب حفظ المرأة زوجها في ذات يده والنفقة: (5050)، ومسلم في «فضائل الصحابة »، باب من فضائل نساء قريش: (6456)، وأحمد في «مسنده »: (9505)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
4- أخرجه ابن ماجه في «النكاح »، باب تزويج الأبكار: (1861)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (13758)، والطبراني في «المعجم الأوسط »: (1/144)، من حديث عبد الرحمن بن سالم بن عتبة بن عويم بن ساعدة الأنصاري عن أبيه عن جده مرفوعا، والحديث حسنه الألباني في «السلسلة الصحيحة »: (623).
5- أخرجه البخاري في «النكاح »، باب تستحد المغيبة وتمتشط الشعثة: (4949)، ومسلم في «الرضاع »، باب استحباب نكاح البكر: (3637)، وأحمد في «مسنده »: (13894)، والطيالسي في «مسنده »، واللفظ له: (1/237)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
6- أخرجه البخاري في «النفقات »، باب عون المرأة زوجها في ولده: (5052)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
7- أخرجه البخاري في «الأدب » باب فضل من يعول يتيمًا: (5659)، وأبو داود في «الأدب » باب في من ضمّ اليتيم: (5150)، والترمذي في «البر والصلة » باب ما جاء في رحمة اليتيم وكفالته: (1918)، وابن حبان في «صحيحه »: (460)، وأبو يعلى في «مسنده »: (7553)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (12930)، من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.
8- أخرجه الحاكم في «المستدرك »، (2/175)، والطبراني في «المعجم الأوسط »: (1/294)، والبيهقي في «شعب الإيمان »: (4/383)، من حديث أنس رضي الله عنه. والحديث حسنه الألباني في «صحيح الترغيب والترهيب »: (1916).
9- أخرجه مسلم في «الرضاع »، باب خير متاع الدنيا المرأة الصالحة: (3649)، وابن ماجه في «النكاح »، باب أفضل النساء: (1855)، من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه.(9/82)
الفتوى رقم: 896
في حكم إجبار البكر البالغة العاقلة
السؤال:
أجبر والدٌ ابنتَه -وهي كارهةٌ على الزواج- من رجلٍ لا ترغب فيه زوجًا، وقد دفع كُلَّ المهر، فهل هذا الزواج صحيح؟ وهل للمرأة حقٌّ في ردِّ هذا الزواج؟ وجزاكم اللهُ خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فلا يجوز للوليِّ إجبارُ وليَّته البِكر البالغة العاقلة على الزواج، على الراجح من قولي العلماء، وهو مذهب الأحناف ورواية عن أحمد، وهو اختيار ابن تيمية رحمهم الله، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما:« أَنَّ جَارِيةً بِكْرًا أَتَتِ النَّبِيَّ صَلَى الله عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَتْ أَنَّ أَبَاهَا زَوَجَّهَا وَهِيَ كَارِهَةٌ فَخَيَّرَهَا النَّبِيُّ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ »(1) ولقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« لاَ تُنْكَحُ البِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ »(2)، ولقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« البِكْرُ يَسْتَأْذِنُهَا أَبُوهَا »(3)، وأصل ذلك أنَّ تصرف الولي في بُضْع وليتِهِ كتصرفِه في مالها، وإذا كان لا يجوز أن يتصرفَ في مالها إذا كانت رشيدةً إلاَّ بإذنها فإنّه أحرى أن لا يجوز أن يتصرفَ في بُضعها مع امتناعها وكراهيتها ورشدها؛ لأنَّ بُضْعَها أعظمُ من مالها.
ومن جهةٍ أخرى فإنَّ المرأة قد شُرِعَ لها الخُلْعُ للخلاص من الزوجِ الذي تكرهه فكيف يجوز تزويجها له ابتداءً؟
قال ابن تيمية رحمه الله:« وأمَّا تزويجها مع كراهتها للنكاح فهذا مخالفٌ للأصول والعقول، والله لم يُسوِّغ لوليِّها أن يُكْرِهَهَا على بيع أو إجارة إلاَّ باذنها، ولا على طعامٍ أو شرابٍ أو لباسٍ لا تريده، فكيف يُكرهُها على مباضعة ومعاشرةِ من تكره مُباضَعَتَهُ، ومعاشرةِ من تكره معاشرتَه؟ واللهُ قد جعل بين الزوجين مودَّةً ورحمةً، فإذا كان لا يحصل إلاَّ مع بغضها له ونفورها عنه فأيُّ مودَّةٍ ورحمةٍ في ذلك »(4).
ومردُّ الاختلاف في هذه المسألة يرجع إلى مناط الإجبار: هل هو الصغر أم البكارة؟ والأحاديث ترجِّح الصغر، وكذا القياس والمعقول.
هذا، وإذا زوَّجها وليُّها بغير إذنها فإنَّ العقد قابلٌ للإبطال موقوفٌ على إجازتها له أو إلغائها، فإن أجازته فيصير العقدُ صحيحًا، لا يحتاج إلى استئنافه من جديد، أمَّا إذا أبطلته وصرَّحتْ بذلك فلا يصحُّ العقدُ بغير إذنها، فإن رضيت به بعد ذلك فلابُدَّ لها من استئناف العقد من جديد.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 25 ربيع الثاني 1429ه
الموافق ل: 01 ماي 2008م
__________
1- أخرجه أبو داود في «سننه » كتاب النكاح، باب في البكر يزوجها أبوها ولا يستأمرها: (2096)، وابن ماجه في «سننه » كتاب النكاح، باب من زوج ابنته وهي كارهة: (1875)، وأحمد في «مسنده »: (2465)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. والحديث صححه أحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد »: (4/155)، والألباني في «صحيح أبي داود »: (2096).
2- أخرجه البخاري في «صحيحه » كتاب النكاح، باب لا ينكح الأب وغيره البكر والثيب إلا برضاها: (4843)، ومسلم في «صحيحه » كتاب النكاح، باب استئذان الثيب في النكاح بالنطق والبكر بالسكوت: (3473)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
3- أخرجه مسلم في «صحيحه » كتاب النكاح، باب استيذان الثيب في النكاح بالنطق، والبكر بالسكوت: (3478)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (13441)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
4- مجموع الفتاوى لابن تيمية: 32/25.(9/83)
الفتوى رقم: 936
في حكم طاعة الوالدة الآمرة ابنها بطلاق زوجته
السؤال:
إذا أمرت الأُمُّ ابنَها بطلاق زوجتِه إثرَ خصوماتٍ وقعت بين الأُمِّ وعائلة زوجته، لا دخل للزوجة فيها، علمًا بأنَّ الزوجة ظاهرة في الاستقامة والصلاح، فهل تجب طاعة الأم في أمرها بالطلاق؟ أفيدونا -جزاكم الله خيرًا- والأمر مستعجل!!
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فالمعلوم أنَّ النصوص الشرعية المتعلِّقةَ بالوالدين وطاعتهما كثيرة، تأمر بِبِرِّهما والإحسان إليهما، لقوله تعالى: ?وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا? [الإسراء: 23]، غير أنَّ تنفيذ أمرهما وطاعتهما إنما يكون مقيّدًا بالمعروف دون المعصية والمنكر، لقوله تعالى: ?وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا? [لقمان: 15]، ولقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي المَعْرُوفِ»(1).
وعليه، فإذا أمرت الوالدة ابنَها بطلاق زوجته وكانت الأسباب الدافعة مبنيةً على مجرَّد الهوى والتشهي في التفريق بين المرء وزوجه، أو من أجل العداوة والبغضاء التي حدثت من جراء الخصومات بين العائلتين التي لا دخل لزوجة ابنها فيها، وإنما أرادت الأم أن تثأر لنفسها بالأمر بالطلاق نكايةً بالزوجة وبأهلها، فإنَّ هذا الأمر غيرُ مبني على سببٍ شرعيٍّ صحيحٍ، فلا يلزم الابن طاعةَ والدته بتنفيذ أمرها بتحقيق شهوة التعدِّي بالطلاق، إذ «لاَ طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الخَالِقِ»(2)، وخاصة إن ظهرت في زوجته خصال التقوى وعلامات الصلاح والاستقامة طيلة مكوثها في البيت الزوجية، بل الواجب نصرة أمه بترك طلاقها لئلاَّ تقع في ظلم الغير والتعدِّي على حياة الزوجين بسبب العداوة الواقعة بين الأسرتين، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا، قَالُوا: نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟ فَقَالَ: تَرُدُّهُ عَنْ ظُلْمِهِ، فَذَاكَ نُصْرَةٌ لَهُ»(3).
أمَّا إذا كان أمر الوالدة ابنها بطلاق زوجته مؤسَّسًا على سببٍ شرعيٍّ تتحقق مصلحته الشرعية كأن تكون زوجته مُتَّهمةً حقيقة بشرٍّ، سواء بتعاطيها السحر والكهنة، أو في تصرفاتها مع الرجال الأجانب، أو ثبت عنها السرقة، أو الخيانة الزوجية، أو كونها تخرج من البيت في أوقات مشبوهة بغير إذن، أو علم أنها تاركة للفرائض والمباني أو سيئة الخلق ونحو ذلك، وثبت عنها ذلك ثبوتًا مؤكَّدًا لا مجرّد دعوى فإنَّ ذلك يعكس حكم والدته وميزانها في تقويم زوجته كان عدلاً وقصدها حسنًا، فإنه -والحال هذه- وجب طاعة والدته بتطليقها عملاً بمقتضى حديث ابن عمر عن أبيه رضي الله عنهما، قال: «كانت عندي امرأة أحبها وكان أبي يكرهها، فأمرني أن أطلقها فأبيت، فذكرت ذلك للنبي صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم فقال: «يَا عَبْدَ اللهِ طَلِّقِ امْرَأَتَكَ» فطلقها»(4). والحديث دلَّ على أنَّ مِن حقِّ الوالد إذا كان عدلاً وقصده حسنًا إذا كره من زوجة ابنه كراهة شرعية أن يسأله طلاقها ويجيبه إلى ذلك، وإذا كان ذلك في حقِّ الوالد على ولده كان من حقِّ الوالدة على ولدها أوجب ولولدها ألزم؛ لأنَّ حقَّ الوالدة على الولد يتجاوز حقَّ الوالد عليه إذا كان بالاعتبار الشرعي السالف البيان.
قال أبو جعفر الطحاوي: «والذي يؤمر به الولد في هذا غير مبيح له فيه طلاق زوجته في الموضع الذي نهاه الله عز وجل عن طلاقها فيه، وإنما هو طلاقه إياها في الموضع الذي أباح الله الطلاق فيه لا في ضده»(5).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 15 شعبان 1429ه
الموافق ل: 16 أوت 2008م
__________
1- البخاري في «صحيحه» كتاب الأحكام، باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية: (6727)، ومسلم في «صحيحه» كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية: (4765)، وأبو داود في «سننه» كتاب الجهاد، باب في الطاعة: (2625)، والنسائي في «سننه» كتاب البيعة، باب جزاء من أمر بمعصية فأطاع: (4205)، وأحمد في «مسنده»: (623)، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
2- أخرجه أحمد في «مسنده»: (1095)، من حديث علي رضي الله عنه، والحديث صححه أحمد شاكر في «تحقيقه على المسند»: (2/248)، والألباني في «صحيح الجامع»: (7396)، وانظر «مجمع الزوائد» للهيثمي: (8903)، و«السلسلة الصحيحة» للألباني: (1/348).
3- أخرجه البخاري في «صحيحه» كتاب المظالم، باب أعن أخاك ظالما أو مظلوما: (2312)، والترمذي في «سننه» كتاب الفتن: (2421)، وأحمد في «مسنده»: (13421)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وأخرجه مسلم في «صحيحه» كتاب البر والصلة والآداب، باب نصر الأخ ظالما أو مظلوما: (6582)، من حديث جابر رضي الله عنه.
4- أخرجه الترمذي في «سننه» كتاب الطلاق واللعان، باب ما جاء في الرجل يسأله أبوه أن يطلق زوجته: (1189)، والحاكم في «المستدرك»: (7253)، وأحمد في «مسنده»: (4991)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. والحديث صححه أحمد شاكر «في تحقيقه لمسند أحمد»: (9/181)، والألباني في «صحيح الترمذي»: (1189). وانظر «الإرواء» للألباني: (7/136).
5- «مشكل الآثار» للطحاوي: (3/404).(9/84)
الفتوى رقم: 959
المرأة في الجنة لآخر زوج صالح
السؤال:
تقدَّم لخطبتي -بعد انقضاء عِدَّتي من وفاة زوجي- عِدَّةُ خطاب، وامتنعت عن الزواج لأكون زوجة لزوجي المتوفى، الذي لي معه ثلاث بنات، وحُجَّتي قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «المَرْأَةُ لآخِرِ أَزْوَاجِهَا»، وقد عملت به أم الدرداء رضي الله عنها، فهل يلحقني إثم في امتناعي عن قَبول من يُرضى دينُه وخلقه؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالمرأةُ إذا كانت تحت زوجٍ صالحٍ ثُمَّ مات عنها، وبقيت أرملةً بعده لم تتزوَّج، جمع اللهُ بينهما في الجنة، وإن كان لها أزواجٌ في الدنيا فهي في الجنة مع آخر أزواجها إذا تَسَاوَوْا في الخُلُق والصلاح لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «المَرْأَةُ لآخِرِ أَزْوَاجِهَا»(1).
والمرأةُ إذا خشيت على نفسها الفتنة أو لم يسعها لوحدها القيام على نفسها وشئون أولادها المادية والتربوية، فإن تقدَّم إليها خاطب ممَّن يُرضى دينُه وخُلُقه، وله قُدرة في تغطية حاجياتها ونفقات أبنائها فلا ينبغي أن تَرُدَّهُ لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «إِذَا أَتَاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ»(2)، وعملاً بقاعدة «دَرْءُ المَفَاسِدِ أَوْلَى مِنْ جَلْبِ المَصَالِحِ»، فإن تساوى مع زوجها الأول الميت عنها في الخلق والصلاح فهي لآخرهما، وإلاَّ فتختار أحسنهما صلاحًا وخُلُقًا، وقد ورد هذا المعنى ضعيفًا منكرًا من حديث أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها، حيث سألت النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم عن المرأة تتزوَّج الرجلين والثلاثة والأربعة ثمَّ تموت ويدخلون معها من يكون زوجها؟ قال: «يَا أُمَّ سَلَمَةَ إِنَّهَا تُخَيَّرُ فَتَخْتَارُ أَحْسَنَهُمْ خُلُقًا»(3)، وكذا من حديث أم حبيبة رضي الله عنها(4)، إلاَّ أنه يمكن الاستدلال بعموم قوله تعالى: ?فِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ? [الزخرف: 71]، أنها تخيَّر فتختار الذي تحبُّه وتشتهيه خُلُقًا وصلاحًا، كما قد تفيده الآية في قوله تعالى: ?هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلاَلٍ? [يس: 56]، على أنَّ المرأة تكون مع الأقرب لها دينًا وخُلُقًا وطبعًا لما في معنى الزوجية من المودَّة والرحمة والتقارب والتحابب، لقوله تعالى: ?وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ? [الروم: 21]، وكذلك المرأة العَزَبَة ماتت ولم يَسبق لها زواجٌ فإنها تخيَّر فتختار ما تحب أن يكون الأقرب لها طبعًا وخُلُقًا فإنَّ الله يُوفِي لها طلبها، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «مَا فِي الجَنَّةَ أَعْزَبُ»(5).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 26 من ذي القعدة 1429ه
الموافق ل: 23 نوفمبر 2008م
__________
1- أخرجه الطبراني في «المعجم الأوسط»: (3/275)، من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في «السلسلة الصحيحة»: (3/275).
2- أخرجه الترمذي كتاب النكاح باب ما جاء إذا جاءكم من ترضون دينه فزوجوه: (1108)، والبيهقي كتاب النكاح باب الترغيب في التزويج من ذي الدين والخلق المرضي: (13863)، من حديث أبي حاتم المزني رضي الله عنه، وحسنه الألباني في الإرواء: (6/266).
3- أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير»: (23/ 367)، وفي «الأوسط»: (3/279)، من حديث أم سلمة رضي الله عنها. قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (7/255): « رواه الطبراني وفيه سليمان بن أبي كريمة ضعفه أبو حاتم وابن عدي»، وضعفه الألباني في «ضعيف الترغيب والترهيب»: (2/ 254).
4- أخرجه الطبراني في «الكبير»: (23/222)، وعبد بن حميد في «مسنده»: (1/ 365)، قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (8/52): « رواه الطبراني والبزار باختصار وفيه عبيد بن إسحاق وهو متروك وقد رضيه أبو حاتم، وهو أسوأ أهل الإسناد حالا».
5- أخرجه مسلم في «صحيحه» كتاب الجنة ونعيمها، باب أول زمرة تدخل الجنة...(7147)، وأحمد في «مسنده»: (7112)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(9/85)
الفتوى رقم: 976
في عدم تأثير الشرط الباطل في مقتضى العقد
السؤال:
يرفض أبٌ تزويج ابنته من كفءٍ إلاّ بشرطِ إتمام دراستها المختلطة في كلية الطب، مع ممارسة فعلية للوظيفة بعد التخرُّج -وهي ترفض ذلك-، فهل يصحّ هذا الشرط مع تعنُّت أبيها؟ وهل يصحّ قبوله ظاهرًا مع العزم على نكثه باطنًا، وجزاكم الله خيرا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فإنِ اشترطَ الوليُّ على العاقدِ في النكاح شرطَ ممارسة موليته للوظيفة أو الاستمرار في الدراسة المختلطةِ مع وجودِ المخالفات المنافية لأخلاقِ الإسلام وقِيَمِهِ، فهو شرطٌ باطلٌ مناف لأصل القرار في البيت والمكوث فيه لا يحلُّ اشتراطُه، فإن اشترط فوجودُه كعدمهِ، وحكمُه كمن اشترطوا على عائشةَ رضي الله عنها أن لا يبيعُوا بريرةَ إلاَّ بشرط أن يكون الولاءُ لهم فقال لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «ابْتَاعِيهَا، وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الوَلاَءَ فَإِنَّمَا الوَلاَءُ لمنْ أَعْتَقَ»(1) أي: اقْبلي شرطَهم وابتاعيها منهم، فإنه شرط باطلٌ غير مؤثر في مقتضى العقد الذي منه أن الولاء لمن أعتق، وقد علم مشترطوه ذلك بعد أن قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ في كِتَابِ الله؟ مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ في كِتَابِ الله فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ»(2).
وعليهِ، فإنَّ مقتضى الأصولِ والنصوصِ أنَّ الشرطَ يلزم إلاَّ إذا خالفَ كتابَ الله، فإنَّهُ ينبني عليه عدم لزومِ العقدِ بدونِ الشرطِ.
وهذَا كلُّه إذا كانَ العاقدُ أهلاً للزواجِ أي: صاحبَ دينٍ وخلقٍ، وصادقًا في إقامةِ البيتِ الزوجيةِ، ومُستعدًّا له بالرِّعايةِ والنفقةِ.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 23 المحرم 1430ه
الموافق ل: 20 جانفي 2009م
__________
1- أخرجه البخاري في مواضع كثيرة من صحيحه منها: «كتاب الصلاة»، باب ذكر البيع والشراء على المنبر في المسجد: (444)، وكتاب «الشروط» باب المكاتب وما لا يحل من الشروط (2584)، والنسائي كتاب «الطلاق»، (3451)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
2- سبق تخريجه.(9/86)
الفتوى رقم: 994
في الجمع بين الزواج والدراسة
السؤال:
هل يجوز عقد الزواج على فتاةٍ تدرس في الجامعة، وهي ترغب في التوقف، غير أنَّ أباها يرفض ذلك ويلزم الخاطب بالعقد دون الخطبة، مع العلم أنه قد يبقى على الدراسة سوى النَّزر اليسير؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فيجوز العقدُ على امرأةٍ أو الدخولُ بها مع التزامِ شرط وَليِّها في مواصلة الدِّراسة حتى تنتهيَ منها، بشرط خروجها بالضوابط الشرعية وخلوِّ دراستها من محذورٍ شرعيٍّ، إذ لا منافاةَ بين الزواج والدِّراسة لإمكانية الجمع بينهما تحقيقًا لمصالح الزواج لقوله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ»(1).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 19 ربيع الأول 1430ه
الموافق ل: 16 مارس 2006م
__________
1- أخرجه البخاري «كتاب» النكاح، باب من لم يستطع الباءة فليصم: (5066)، ومسلم «كتاب النكاح»: (1/630) رقم: (1400)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.(9/87)
03- موانع الزواج
01- الرضاع
الفتوى رقم: 13
الرضاع المحرّم (1)
السؤال: خطبني ابن خالتي وتبين بأنّ هذه الخالة ( أي أمه ) قد أرضعت أمي، وعندما سألناها ( أي المرضعة ) قالت بأنها أرضعتها رضعة ثم ربما زادتها رضعة أخرى أي بمعنى أصح رضعة أو رضعتين، وتشهد أختها ( أي خالة أخرى ) على أنها شهدت الرضعة الثانية ولا تدري إن زادت عن ذلك أم لا.
والخلاصة أن الرضاع قد تم برضعتين على الأكثر، وحين سألنا في هذه المسألة قيل لنا أن الرضاع يحرم بخمس و ذلك موافق لحديث عائشة "كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن فنسخن بخمس معلومات فتوفي الرسول ( صلى الله عليه وسلم) و هن فيما يقرأ من القرآن "(1) وحديث مسلم " لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان"(2).
ولكن المشكل الذي وقعنا فيه هو ما هي الرضعة ؟ أي ما الذي نقول عنه أنه رضعة؟
فقد جاء في جواب أحد الأئمة الذين سألناهم: أن التحريم يقع بخمس رضعات إلا أنه تابع قوله بأن الرضعة في المذهب الشافعي وأحمد ليست الشبعة وهو أن يلتقم الطفل الثدي ثم يسيبه ثم يلتقمه ثم يسيبه حتى يشبع بل إذا أخذ الثدي ثم تركه باختياره فهي رضعة ثم أخذه وتركه فرضعة أخرى وإن تركه بغير اختياره ثم عاد إليه قريبا ففيه نزاع.
إن هذا القول قد حيرني كثيرا، فهل هذا هو الصحيح في صفة الرضعة ومفهومها ؟ كما أنني قرأت قولا آخر يخالف هذا القول يقول: بأن الرضعة لا تحسب إلا إذا عدت في العرف رضعة كاملة.
ولهذا أتساءل هل إذا رضع الطفل أو إذا تناول الثدي ثم انصرف عنه للتنفس أو لشيء آخر ثم عاد إليه هل تسمى رضعة ثانية أو أن كل ذلك يسمى رضعة واحدة. ماهو الدليل الذي يؤيد الرأي الأول و ما هو الدليل الذي يؤيد الرأي الثاني ؟ وشكرا.
الجواب: الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فاعلمي أنّ ما أفتيت به من أنّ التحريم لا يثبت بأقل من خمس رضعات متفرقات هو المذهب الظاهر والأقوى ويدل عليه حديث عائشة - رضي الله عنها - الذى رواه مسلم المذكور في محل السؤال، و هو تقييد لإطلاق الكتاب و السنة، وتقييد المطلق بيان لا نسخ ولا تخصيص، وما اعترض عليه من أن الحديث تضمن الخمس رضعات قرآنا، والقرآن شرطه التواتر ولم يتواتر محل النزاع، فمردود لأن التواتر شرط في التلاوة لا شرط في الحكم و قصد المستدل بهذا إثبات الحكم لا إثبات التلاوة، والحجة تثبت بالظن و يجب عنده العمل و قد عمل الأئمة بقراءة الآحاد في مسائل كثيرة منها قراءة ابن مسعود و أُبي ووقع الإجماع على ذلك و لا مستند له غيرهما، و في المسألة تحقيق طويل يمكن الرجوع إلى زاد المعاد لابن القيم(3)، المحلى ابن حزم(4)، بداية المجتهد لابن رشد(5)، المغني لابن قدامة(6)، شرح مسلم للنووي(7)، زاد المسير لابن الجوزي(8)، نيل الأوطار للشوكاني(9)، وهذا القول هو مذهب ابن مسعود وإحدى الروايات عن عائشة، وعبد الله بن الزبير و عطاء وطاووس والشافعي و أحمد في ظاهر مذهبه و ابن حزم و ابن القيم و أكثر أهل الحديث.
أما الإرضاع فلا يتحقق إلا برضعة كاملة، وهي أن يمتص الصبي اللبن من الثدي ولا يدعه إلا طائعا باختياره من غير عارض، والمصة والمصتان دون الرضعة لا تؤثر في الغذاء لا إنباتا للّحم ولا إنشازا للعظم فلا تحرم لحديث عائشة -رضي الله عنها- قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) "لا تحرم المصة والمصتان(10) وفي رواية "لا تحرم الإملاجة ولا الاملاجتان"(11)، والمراد بالإملاجة مثل المصة هي الإرضاعة الواحدة وهو أخذ اليسير من الشيء، فإذا قطع الصبي رضعته لعارض كتنفس أو استراحة يسيرة أو لشيء يلهيه ثم يعود من قريب لا يخرجها عن كونها رضعة واحدة وهذا هو مذهب الشافعي في تحقيق الرضعة الواحدة وهو موافق للغة على ما ذكره الصنعاني في سبل السلام 3/438، فإذا حصلت خمس رضعات على هذه الصفة حرمت و إلا فلا.
والله أعلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين .
__________
1- أخرجه مسلم كتاب الرضاع(3670)، وأبو داود كتاب النكاح باب هل يحرم ما دون خمس رضعات(2064)، والنسائي كتاب النكاح باب القدر الذي يحرم من الرضاعة(3320)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
2- أخرجه مسلم كتاب الرضاع (3666)، وابن ماجه كتاب النكاح باب لا تحرم المصة والمصتان(2016) من حديث أم الفضل رضي الله عنها.
3- (5/571).
4- (10/9).
5- (2/35-36).
6- (7/536).
7- (10/29).
8- (2/46).
9- (8/170).
10- أخرجه مسلم كتاب الرضاع (3663)، وأبو داود كتاب النكاح باب هل يحرم مادون خمس رضعات(2065)، والترمذي كتاب الرضاع (1182)، والنسائي كتاب النكاح باب القدر الذي يحرم من الرضاعة(3322)، وابن ماجه كتاب النكاح باب لا تحرم المصة والمصتان(2017)، وأحمد(7/48) رقم(23506) عن عائشة رضي الله عنها.
11- أخرجه مسلم كتاب الرضاع (3664)، والنسائي في كتاب النكاح باب القدر الذي يحرم من الرضاعة(3321)، وأحمد(7/476) رقم(26332) من حديث أم الفضل رضي الله عنها.(9/88)
الفتوى رقم: 127
الرضاع المحرّم (2)
السؤال: رجل تقدم ليتزوج فتاة من قرابته وأمّه تقول إنّها أرضعتها، وأمّ الفتاة تنكر ولا تذكر عدد الرّضعات، فهل تثبت الأخوة من الرّضاع ؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين أمّا بعد:
فإنّه إذا أثبتت أمّ الخاطب الرّضعة وأنكرت أمّ الفتاة إنكاراً غير مؤكد أي لم يستند نفيها إلى العلم بالعدم فالمثبت مقدّم على النّافي على ما تقرر في الأصول لاشتماله على زيادة علم، فتثبت الرضعة أو الرضعات التي تذكرها.
أمّا إذا كان إنكارها مؤكداً أي استند النفي إلى العلم بالعدم فيتساقطان ويكون المصير إلى الأصل وهو العدم، ذلك لأنّ الرّضاع من الأمور الحسية وليس من الأمور الاجتهادية، فالعقل يقتضي بأن تكون إحداهما يلزم منها الخطأ، ولمّا كان الخطأ غير معين لزم الإثبات من وجه آخر فإن تعذر فالأصل عدم تحقق الرّضاع، وإذا شكت في عدد الرضعات في الحالة الأولى وهي تقديم المثبت على النافي فينبغي البناء على اليقين, لأنّ اليقين لا يزول بالشك كما تقرّر في علم القواعد, وهي قاعدة مجمع عليها, قال القرافي:" وهي أنّ كلّ مشكوك فيه يجعل كالمعدوم الذي يجزم بعدمه"(1)، ذلك لأنّ المعتبر في قاعدة الأصل في الأبضاع التحريم فيما إذا كان في المرأة سبب محقق للحرمة، فلو كان في الحرمة شك لم يعتبر، ويمثل أهل العلم بما إذا أدخلت المرأة حلمة ثديها في فم رضيعة ووقع الشك في وصول اللبن إلى جوفها لم تحرم، وكذلك إذا قالت لم يكن في ثديي لبن حين ألقفتها ثديي ولم يعلم ذلك إلاّ من جهتها جاز لابنها أن يتزوج بهذه الصبية(2).
وعليه إذا لم تتيقن الخمس رضعات المحرمات على أظهر المذاهب وأقواها فإنّ العدم يصير ثابتا متيقنا، لا يرتفع بمجرد طروء الشّك عليه إذ لا يعقل إزالة ما كان يقينيا بما هو أضعف منه بل ما كان مثله أو أقوى منه.
لذلك يكون الحكم عدم ثبوت التحريم بينهما بسبب الرّضاع لعدم وجود المانع وهو اكتمال العدد المحرم إلاّ إذا تيقنت أمّ الخاطب أنّ العدد مستوفى فيثبت التحريم وقتئذ.
والله أعلم وبالله التوفيق، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلّم تسليما.
الجزائر في: 4 شوال 1417ه
الموافق ل : 11 فيفري 1997 م
__________
1- الفروق للقرافي (1/111).
2- الأشباه والنظائر للسيوطي (61)، الأشباه والنظائر لابن نجيم (67).(9/89)
الفتوى رقم: 128
الرضاع المحرّم (3)
السؤال: إلى فضيلة الشيخ: محمد علي فركوس- حفظه الله -
توفيت أمّي يوم (08 مارس 2002م)، بعد ذلك تقدمت خالتي لخطبتي لابنها.
ولكن قبل أن تموت أمّي سألتها من الذي أرضعت في أولاد خالتي، قالت لي أرضعت ابن خالتك، سألتها لمّا علمت أنّه يريد الزواج منّي. لم أخبر أمّي بالموضوع.
خالتي تقول بأنّ أمّي قالت لها لمّا كنّا نحن صغارا: إنّها لم ترضعه.
أختي الكبرى أيضا قالت لي: بأنّ أمّي أخبرتها بأنّها لم ترضعه: الذي يريد الزواج مني(أختي سألت أمّي في شهر أكتوبر 2002م)، أنا سألت أمّي في شهر أكتوبر 2002م. هل يجوز الزواج أم لا؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فإن حصل اليقين في عدم إرضاعها له أكثر من مرة فإنّ الرضعة الواحدة -وإن كانت ثابتة- فلا توجب التحريم عند من يرى أنّ مقدار الرضعات المحرم خمس وهو الأظهر وهو مذهب أهل التحقيق، ذلك لأنّ ما ثبت باليقين لا يزول إلاّ بيقين مثله.
أمّا إن شكت في الأكثر فالأولى العمل بالحيطة "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"(1) وعملا بقاعدة: ما لا يتم ترك الحرام إلا بترك الجميع فتركه واجب.
والعلم عند الله تعالى وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
الجزائر في: 2 ربيع الثاني 1422ه
الموافق لـ 12 جوان 2002م
__________
1- أخرجه الترمذي في «صفة القيامة والرقائق والورع » (2518)، والنسائي في «الأشربة » باب: الحث على ترك الشبهات (5711)، وابن حبان (722)، والدارمي (2437)، والحاكم (2169)، والطيالسي (1178)، وأحمد (1729)، وأبو يعلى (2762)، من حديث الحسن بن علي رضي الله عنه، وصححه أحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد » (3/169) والألباني في «الإرواء » (1/44) رقم (12)، وفي صحيح الجامع (3373)، والوادعي في «الصحيح المسند » (318).(9/90)
الفتوى رقم: 645
في صفة رضاع الكبير الذي تثبت به الحرمة
السؤال:
أنا شابٌّ تربيت في بيت أحد المحسنين، من أمٍّ لا أعرف غيرَ اسمها وأبٍ مجهول، وبعد مُدّة من الزمن عَلِمت أنّ هذه المرأة التي رعتني لا يجوز لي الخلوة بها، ولا أن تكشف لي زينتها، ثمّ اطلعت على فتوى في حكم رضاع الكبير، فقمت بشرب مقدار كوب تقريبًا من حليب بنت أخيها قسمته على خمس جرعات في مجلس واحد، ثمّ طلبت كوبًا آخر خوفًا من أن لا يكفي الأوّل فشربته على خمس جرعات في مجلس واحد أيضًا، فهل هذا الرضاع محرّم وكيف أتعامل مع مرضعتي وهل لهذين المحسنَين حقّ الوالدين في البر والصلة؟ وهل يحلّ لزوجتي أن تبديَ زينتَها لأبي علمًا أني أعيش اليوم معهما في بيت واحد؟ أرجو التفضّل بالإجابة حتى يذهب عني القلق والحيرة.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فالأصل الراجحُ من مذاهب العلماء أنّ الرضاعَ المعتبرَ والمؤثّرَ هو خمسُ رضعات في الحولين الأَوَّلَين من عُمُر الرضيع، غيرَ أنّ الحاجةَ إذا دَعَت إلى إرضاع الكبير الذي لا يستغني عن دخوله على المرأة، ويشقّ احتجابُها منه، فإنّ الحُرمة تثبت بالرضاع كالحاجة التي دعت سهلةَ بنت سهيل زوج أبي حذيفة إلى إرضاع سالم مولى أبي حذيفة وهو كبير بأمر النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم حيث قال لها:« أَرْضِعِيهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ »(1)، وما سوى ما دعت إليه الحاجة لا يجوز إرضاع الكبير، وهو مذهب ابن تيمية وابن القيم واختاره الشوكاني -رحمهم الله-، وهو المذهب الذي تجتمع فيه كافة الأدلةّ وتتوافق.
هذا، ولا يشترط -عند جمهور العلماء- التقام ثدي المرضعة وإنما كما يتحقّق التحريم بالمصِّ يتحقّق بما إذا حُلب له في إناء وشربه منه بأي صفة كانت سواء وَجُورًا [وهو ما وضع له في الفم] أو سعوطًا [وهو ما وضع له بالأنف]، وتتحقّق المحرمية بالرضاع في جانب المصاهرة -أيضًا- وهو مذهب الجمهور وقول الأئمة الأربعة، خلافًا لابن تيمية وابن القيم لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« يُحْرَمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يُحْرَمُ مِنَ النَّسَبِ »(2)، وعليه فإنّ المحرمية تتحقّق مع عمّته من الرضاع بسبب رضاعه من بنت أخيها، أما زوجة الرضيع فأجنبية على زوج عمّته من الرضاع فلا يجوز إبداءُ مواضعِ الزينة أمامه.
هذا، ويلتزم اتجاه مَن قام بتربيته ورعايته بنفس الآداب والحقوق التي يلتزم بها مع والديه خصوصًا ومع أهل الإسلام عمومًا، لأنهما بمنْزِلة والديه، تربيةً وتعليمًا ورعايةً وإنفاقًا، فالواجب صِلَتُهُما وبِرُّهما والإحسانُ إليهما، قال تعالى: ?إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي القُرْبَى? [النحل: 90]، وقال تعالى: ?فَآتِ ذَا القُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ? [الروم: 38].
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 5 من ذي القعدة 1427ه
الموافق ل: 25 ديسمبر 2006م
__________
1- أخرجه مالك: (1265)، وابن حبان: (4215)، وأحمد: (25122)، من حديث عروة بن الزبير. قال الألباني في «الإرواء » (6/263):« وظاهر إسناده الإرسال، ولكنّه في حكم الموصول فإنّه عند الآخرين عن عروة عن عائشة، وزاد أبو داود:« وأم سلمة »، وصحح إسناده الحافظ (9/122) » أهـ.
2- أخرجه البخاري في «الشهادات »: (2502)، والنسائي في «النكاح »: (3306)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وأخرجه النسائي في «النكاح »: (3301)، وابن ماجه في «النكاح »: (1937)، وابن حبان: (4223)، وأحمد: (24191)، من حديث عائشة رضي الله عنها.(9/91)
الفتوى رقم: 696
في مراعاة استمرار الحرج في رضاع الكبير
السؤال:
قرأت فتواكم الموسومة ب:« في صفة رضاع الكبير الذي تَثبُتُ به الحُرمة »، رقم: (645)، ولي صورة تشبهها، وهي كالتالي: أنا أُمٌّ لبنتين، أسكن وزوجي في بيت والديه المكوَّنِ من أربعِ غُرَفٍ مع إخوته الذكور الأربعة غيرِ المتزوجين، منذ ثماني سنوات، وزوجي يعمل معلِّمًا بالمستوى الابتدائي، ولا يسمح له دخلُه بشراء شقّة، ولا بكرائها، وقد لحقتني مشقّة وحرجٌ كبيران من جراء ستري لجميع بدني -ما عدا الوجه والكفين- في البيت، مع وجود خُلوة أثناء غياب الزوج وخروج والديه، فهل يجوز لي إرضاعُ إخوة زوجي، دفعًا للمشقَّة؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فلا تتحقَّق المحرميةُ بإرضاع الكبيرِ الأجنبيِّ في الصورة المذكورةِ في السؤال؛ لأنّ المشقَّةَ والحرجَ مؤقَّتان من جهة السائلة أوّلاً، ومن جهة إخوة الزوج ثانيًا، وأحكامُ التأبيدِ مختلفةٌ على أحكامِ التأقيت فافترقَا وزالتْ صورةُ التشابه.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 11 جمادى الأولى 1428ه
الموافق ل: 28 ماي 2007م(9/92)
الفتوى رقم: 924
في تعارض دعوتي إرضاع بإثبات ونفي
السؤال:
رجلٌ عَقَدَ على امرأةٍ ادَّعت أُمُّها أنَّ أُمَّها الميتة جَدَّة البنت قالت أنها أرضعَتْهُ، من غير ذكر أو معرفة عدد الرضعات، أو أيّ تفصيلٍ آخر، مع العلم أنَّ أُمَّ الرجل تنكر ذلك، وعندها قرائنُ دالَّةٌ على عدم مفارقتها لابنها في تلك الفترة، وجدَّته التي كانت تحمله دائمًا تُقسم على عدم صِحَّة من يدَّعي أنه أرضع حفيدَها.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فإنه بغضِّ النظر عن المقدار المحرِّم للرضاع والشهادةِ على الشهادة، وشهادةِ المرأة منفردةً وغيرها من جزئيات المسألة، فإنَّ تقرير الجواب عليها على الوجه التالي:
فإذا ادُّعِيَ إرضاعُه بالإثبات، واستند النافي للإرضاع إلى علمٍ بالعدم فإنه يمتنع تقديم المثبِت على النافي في هذه الحالة؛ لأنَّ جهةَ الإثبات والنفي تستويان في العلم، إذ ما يستدلُّ له على صدق المثبِت للرضاع موجودٌ في النافي له؛ ولأنَّ كلَّ واحدٍ منهما يُدلِي أمورًا حِسِّيةً خبريةً لا تتعلَّقُ بالاجتهاد، والعقلُ يقتضي لزوم الخطأ في أحدهما من غير تعيين فتساقط ما ادَّعى كلّ واحد منهما، ووجب المصيرُ إلى براءة الذِّمة من الرضاع حتى يثبت العكس.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 10 جمادى الثانية 1429ه
الموافق ل: 14 جوان 2008م(9/93)
04- الكفاءة
الفتوى رقم: 757
في عضل الولي موليته من الزواج من كفء
السؤال:
رجلٌ تُوفِّيَتْ زوجتُه، وله بنتٌ في سِنِّ الزواجِ، تقدَّمَ لخِطبتها الكثيرُ، فرفضهم أبوها لإبقائها في خِدمته، وتخشى أن لا يُرْغَبَ فيها زوجةً إذا تقدم سِنُّها، فهل تنتقلُ الولاية من الأب إلى غيره لدفع الضرر عنها؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فإن كان امتناعُ وَلِيِّها من تزويجها بسبب عُذْرٍ شرعيٍّ مقبولٍ كأن يكون الخاطبُ غيرَ كُفْءٍِ لها، أو لوجود خاطبٍ آخرَ أَوْلَى منه كفاءةً ودينًا وخُلُقًا؛ فإنّ الولاية تبقى قائمةً وثابتةً له ولا تنتقل إلى غيره.
أما إذا كان الامتناع لأسبابٍ تتضمَّن ظُلمًا وهَضْمًا لحقِّها في الزواج، كأن يتقدَّم من يُرضى دينُه وخلقُه، فيمنعها الولي من التزويج به, فذلك يُعدُّ عَضْلاً لموليته لا حقَّ له فيه وهو حرام باتفاق أهل العلم. و قد أخرج البخاريُّ و غيرُه: أنّ معقل بن يسار زوّج أختَه من رجلٍ من المسلمين فكانت عنده ما كانت, ثمّ طلّقها تطليقة ثمّ تركها ومضت العِدَّةُ فكانت أحقَّ بنفسها، فخطبها مع الخطّاب فرضيت أن ترجع إليه فخطبها إلى معقل فغضب معقل وقال:« أَكْرَمْتُكَ بِهَا فَطَلَّقْتَهَا لاَ وَاللهِ لاَ تَرْجِعُ إِلَيْكَ آخِرَ مَا عَلَيْكَ » قال: ففيّ نزلت هذه الآية: ?وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ? [البقرة: 232]، قال:« فكفرت عن يميني فأنكحتها إياه »(1).
وفي حالة العضل فإنّ الولاية تنتقل مباشرة إلى الولاية العامة المتمثلة في ولاية القاضي حال رفع أمرها له، ولا تنتقل إلى من يلي الولي المعضل من الرتبة من الأولياء، ذلك لأن العضل ظلم وولاية رفع الظلم مسندة إلى القاضي.
أمّا إذا تعذر وجود القاضي أو لا تستطيع أن تصل إليه فإنّه يزوِّجها أحدُ أوليائها ممن يلي ولاية المعضل، فتكون ولايته من قبيل التحكيم والمحكم يقوم مقام الحاكم على ما قرره الشافعي، وللأب أن يأخذ لنفسه زوجة تخدمه.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 2 ذو القعدة 1417ه
الموافق ل: 11 مارس 1997م
__________
1- أخرجه البخاري في «الطلاق »، باب وبعولتهنّ أحقّ بِرَدِّهِنَّ في العِدَّة وكيف يراجع: (5021)، وأبو داود في «النكاح »، باب في العضل: (2087)، والترمذي في «تفسير القرآن »، باب ومن سورة البقرة: (2981)، من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه.(9/94)
الفتوى رقم: 762
في حكم زواج امرأة من كافر أسلم بالقول دون عمل
السؤال:
أنا امرأةٌ متزوِّجة من رجلٍ فرنسيِّ الأصل والجنسية، أسلم قُبَيْلَ زواجنا حيث آمن بجميع مقتضيات الدِّين الإسلامي من الأقوال والأعمال، وبعد مضي ثلاث سنوات من زواجنا لم يطبق شيئًا ممّا آمن به فهل يُعدّ هذا مسلمًا؟ وهل يجوز لي طلب الانفصال عنه علمًا أنّ لي منه بنتًا؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام، على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين؛ أما بعد:
فإنَّ أَوَّلَ واجبٍ يجب على المكلَّف شهادة أن لا إله إلاَّ الله وأن محمَّدًا رسولُ الله، فالفاعل لذلك ظاهره الإسلام، وهو مأمور بفعل الطاعات واجتناب المعاصي والمنهيات، ويُعلم صِدقُه إلى الله بالمبادرة إلى الامتثال والطاعة، والكافر إذا أسلم وجب عليه الغسل، والاختتان، و لو كان كبيرَ السنِّ، فقد روى البخاري، أنّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم قال:« اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ الرَّحْم?نِ بَعْدَمَا أَتَتْ عَلَيْهِ ثَمانونَ سَنَةً، وَاخْتَتَنَ بالقَدُومِ »(1)، كما يجب عليه أن يأتي سائر الفرائض الواجبة على المسلم من عقائد الإيمان وقواعد الإسلام، وطرائق الإحسان، فإن كان جاهلاً بها وجب عليه أن يتعلَّم ما يصحِّح به عقيدته وعبادتَه ومعاملاتِه، ليعمل بها على وجهها الصحيح فإن فعل ذلك فقد أتى بحقّ الشهادة التي نطق بها، وخاصّة ظهور أعمال الباطن بأعمال الجوارح من صلاة وصيام وزكاة وحجّ، وغيرها من شعب الإيمان التي هي تابعة لأعمال القلوب ولازمة لها، فالتارك لبعض أفراد العمل المعلومة فرضيتها عليه مؤمن بإيمانه، فاسقٌ بمعصيته عند أهل السُّنَّة، فلا يُعدّ من أهل الإسلام تارك جنس العمل، إذ ليس في الشريعة إيمان لا يقابله عمل، ولا يصدر هذا إلاّ مع نفاق في القلب وزندقة لا مع إيمان صحيح، لأنّ الإيمان إذا كان قولاً بلا عمل فهو كفر، وإذا كان قولاً وعملاً بلا نية فهو نفاق.
وعليه، إن بقي ممتنعًا عن أداء الفرائض الواجبات وعن الإتيان بالطاعات الصالحات -بعد حصول العلم- ثبت في حقّه حكم الارتداد عن الإسلام -والعياذ بالله- وتنفسخ العلاقة الزوجية، وتنقطع آثارها من ميراث وولاية ونحوهما، ولا يجوز -والحال هذه- أن تبقى المرأة معه إذا لم يمكن تقويمه؛ لأنّ المرتد لا دين له، والرِّدَّة توجب الفرقة بينهما، وهي تُعَدُّ فَسْخًا لا طلاقًا، وللمرتد أحكام أخرى، وقد ذكر القرطبي إجماعَ الأُمَّةِ على أنّ المشرك لا يطأ المؤمنةَ بوجهٍ لما في ذلك من الغضاضة على الإسلام(2- تفسير القرطبي: (3/72))، لقوله تعالى: ?وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ? [البقرة: 221]، وقوله تعالى: ?لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ? [الممتحنة: 10] أي: لم يحلّ الله مؤمنة لكافر، ولا نكاح مؤمن لمشركة.
هذا، ويجدر التنبيه أنّ الكافر إذا أسلم ينبغي -قبل التعامل معه في مسائل النكاح وغيرها- أخذ شيء من الحذر والمراقبة ليَتَبَيَّنَ حُسْنُ نيّته وقصده، ويظهرَ صدقُ إيمانه بإقامة شعائر الإسلام وفي طليعتها إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وغيرهما مع تعقبه بالنصح والإرشاد والتوجيه.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في 26 جمادى الأولى 1421ه
الموافق ل: 26 أوت 2000م
__________
1- أخرجه البخاري كتاب «الأنبياء »، باب قول الله واتخذ الله إبراهيم خليلا:(3178)، ومسلم في «الفضائل »، باب من فضائل إبراهيم الخليل : (6141)، وأحمد في «مسنده »: (8082) واللفظ له، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (18062)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2- تفسير القرطبي: (3/72).(9/95)
05- الحقوق الزوجية
01- حقوق منفردة
الفتوى رقم: 129
زيارة زوجة المفقود لأرحامها
السؤال: امرأة فقد زوجها منذ أكثر من (06) أشهر وهي تسأل: هل يجوز أن تخرج لتزور بيت والدها وتصل أرحامها، مع الإشارة إلى مسألة ما إذا منعت أمّ الزوج الزوجة من الخروج، وهذا موجود في عرفهم؟
أفيدونا جزاكم الله خيرا، وزادكم لله علماً وعملاً بما علّمكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجواب: الحمد لله والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين، أمّا بعد:
فمن حق الزوج إمساك زوجته في المسكن الشرعي اللائق بها، ولا يحلّ لها أن تخرج إلا بإذنه وإن خرجت بغير إذنه كانت ناشزة عاصية لله ورسوله ومستحقة للعقوبة(1)، غير أنّه لا ينبغي له أن يمنعها من زيارة أبويها أو عيادتهما، ولها أن تُمرِّض المريض منهما إذا تعذر وجود من يقوم بذلك، وإن لم يرض الزوج ولم يأذن، إذ لا يحق له أن يمنعها من واجب لزمها، قال ابن قدامة:" ... ولكن لا ينبغي للزوج منعها من عيادة والديها وزيارتهما، لأنّ في ذلك قطيعة لها وحملا لزوجته على مخالفته، وقد أمر الله تعالى بالمعاشرة، وليس هذا من المعاشرة بالمعروف"(2).
كما لا ينبغي أن يمنعها من الخروج إلى طلب العلم الشرعي لتتعلم الضروري من أحكام دينها ولو من غير إذنه إذا لم تكن الزوجة عالمة بما فرضه الله عليها من أحكام، وإذا لم يكن الزوج قادرا على تعليمها أو كان قادرا ولم يفعل، لأنّ طلب العلم فريضة عليها كشقيقها الرجل، ولأنّ حاجتها لإصلاح دينها وتزكية روحها ليست أقلّ من حاجتها إلى الطعام والشراب الواجب بذلهما، لقوله تعالى:) يَا أَيُّهَا اّلذِينَ آمَنُوْا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيْكُمْ نَارًا( [التحريم: 6]. والمرأة من الأهل ووقايتها من النار بالإيمان والعمل الصالح، ولا يخفى أنّ العمل الصالح يلزمه العلم النافع حتى يمكن القيام به على الوجه المطلوب شرعا فلا يحق للزوج أن يمنعها كما لا يحق له أن يمنعها إذا استأذنت للخروج إلى المسجد لقوله صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنه " إذا استأذنت المرأة أحدكم إلى المسجد فلا يمنعها"(3).
وهذا إنّما يكون بحضرة الزوج، والمرأة مأمورة بالاستئذان منه لأنّه إذا كان الخروج إلى المسجد يقتضي الاستئذان فالخروج إلى غيره ممّا ليس بفرض أولى، أمّا إذا كان الزوج غائبا وكان في منزلها من يقوم مقامه كوالده مثلاً فالحكم السابق بالنسبة للزوج يساق إلى حكم نائبه لكونه يمثِّل الأصيل، وله أن يرافقها إلى محلِّ الحاجة والضرورة.
أمّا إن خشيت على نفسها حالة الخروج مع منع أمّ الزوج لها سوءَ العاقبة والإخلال بالحياة الزوجية الراغبة في انتظامها، فالأولى أن تصبر حتى يفتح الله تعالى وهو خير الفاتحين عملاً بأخفّ الضررين وأهون المفسدتين.
والله أعلم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلّم تسليما.
__________
1- مجموع الفتاوى لابن تيمية (32/281).
2- المغني (7/20-21).
3- أخرجه البخاري كتاب النكاح باب استئذان المرأة زوجها في الخروج إلى المسجد وغيره(5238)، ومسلم كتاب الصلاة (1016)، من حديث ابن عمر رضي الله عنها.(9/96)
الفتوى رقم: 131
حق الزوجة على الزوج
السؤال: إنّ زوجي لا يقدر مسؤولية الحياة الزوجية التي على عاتقه حق المقدرة، مهملا أولاده، مقصرا في النفقة، بل تكاد تنعدم، ويظل طيلة وقته حبيس المقاهي والقمار ونحو ذلك إلى غاية منتصف الليل، ويتغافل عن وجودي معه كزوجة وأمّ لأولاده، ولم أجد من سلاح ما أواجه به هذا الموقف سوى الفراش، فأصبحت أنام على البلاط وينام هو على السرير وبعد مضي أزيد من ربع قرن معه أصبحت لا أطيق العيش معه في هذه الحياة الزوجية، فالرجاء أن تقدموا لي نصيحة ترفع من معنوياتي.
وما هو الموقف الذي يمليه عليّ الشرع باعتباري زوجته؟. -جزاكم الله خيرا-
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين و الصلاة و السلام على محمّد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وبعد:
فاعلمي أنّ الزوج الذي لا يقوم بكفاية زوجته أو تَركَها بدون النفقة الواجبة بالكتاب والسنة والإجماع، أي أنّه لا يوفر ما تحتاج إليه من طعام ومسكن وخدمة ودواء وما إلى ذلك -وإن كانت غنية- فلها أحد الأمرين:
- إمّا أن تطلب من القاضي إلزام الزوج بالدفع ويجبره متى تحققت صحة دعواها.
- وإمّا أن تأخذ من ماله ما يكفيها وأولادها بالمعروف إن كانت رشيدة تحسن التقدير من غير إسراف في الأخذ وإن لم يعلم الزوج إذ لها الحق فيما هو واجب عليه، تأخذ حقها بيدها إن قدرت عليه، ويدلّ على ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عائشة -رضي الله عنها-قالت:"إنّ هندا قالت: يا رسول الله إنّ أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلاّ ما أخذت منه وهو لا يعلم فقال:" خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف"(1).
ويجدر التنبيه إلى أنّها تستحق النفقة بشرط أن تسلم نفسها إلى زوجها وأن تمكنه من الاستمتاع بها، أمّا إذا امتنعت ونامت لوحدها أو ابتعدت عنه كلما طلبها فهي آثمة من جهة وغير مستحقة للنفقة من جهة أخرى وذلك لانتفاء سبب الاحتباس، وقد تزوج النبي صلى الله عليه و سلّم عائشة-رضي الله عنها - وبنى بها بعد سنتين ولم يلتزم نفقتها لما سبق إلا من حين دخل بها غير أنّ نفقة الأولاد الصغار تبقى قائمةعلى ذمة الزوج.
هذا ثمّ اعلمي أنّ ما تعانيه مع زوجك هو غيض من فيض داخل هذا المجتمع إذ أنّ أكثر الأزواج غافلون عن أمور دينهم و مقصرون في أعمالهم والنّاس يختلفون في أخلاقهم وأمزجتهم، والكيس الفطن في مثل هذه المواقف أن يؤدي حقوق زوجه الواجبة عليه وطاعته في المعروف والاستعانة -بعد الله تعالى- بمن يسمع له ويؤثر فيه من أقاربه ورجال حيّه ليقوموه على ما فيه من اعوجاج وانحراف ثمّ يعمل على تحصيل المودة و الرحمة و تحقيق السعادة باتخاذ سبيل الفوز والنجاح المتمثل في الاحتمال والصبر والعفو والصفح على ما أرشد به الله تعالى في العديد من الآيات قال الله تعالى: ?فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره? [البقرة: 109]، وقال عزّ وجل ?ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنّه ولي حميم وما يلقاها إلاّ الذين صبروا وما يلقاها إلاّ ذو حظ عظيم? [فصلت: 34]، وقال أيضا ?وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربّك بصيرا? [الفرقان: 20]، وفي آية أخرى قال عزّوجل: ?ولمن صبر وغفر إنّ ذلك لمن عزم الأمور? [الشورى: 43].
ولعلّ في هذه الآيات البينات ما يرفع المعنويات، وينبغي إخلاص صبرها لله حتى تنال الأجر والثواب قال تعالى: ?والذين صبروا ابتغاء وجه ربّهم? [الرعد: 22]. فإنّ العسر سبب الكرب وكلا منهما مفتقر إلى الصبر وثمرات تحمله النصر والفرج واليسر قال صلى الله عليه وسلم :" واعلم أنّ النصر مع الصبر وأنّ الفرج مع الكرب وأنّ مع العسر يسرا"(2).
كلّ ذلك من فضل رحمته قال سبحانه: ?سيجعل الله بعد عسر يسرا? [الطلاق: 7]، وقال: ?إنّ مع العسر يسرا إنّ مع العسر يسرا? [الشرح: 5 - 6].
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلّم تسليما.
الجزائر في:3 رمضان 1417ه
الموافق ل :14 جانفي 1997م
__________
1- أخرجه البخاري كتاب النفقات، باب إذا لم ينفق الرجل فللمرأة أن تأخذ بغير علمه ما يكفيها وولدها بالمعروف(5364)، ومسلم كتاب الأقضية، (4574)، وأبو داود، كتاب الإجارة، باب في الرجل يأخذ حقه من تحت يده(3534)، والنسائي في كتاب آداب القضاة، باب قضاء الحاكم على الغائب إذا عرفه(5437)، وابن ماجة: كتاب التجارات، باب ما للمرأة من مال زوجها(2381)، وأحمد (7/60رقم 23597) من حديث عائشة رضي الله عنها.
2- أخرجه أحمد(1/307)، والضياء في المختارة(59/199-200) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة(2382) وفي ظلال الجنة في تخريج السنة(315).(9/97)
الفتوى رقم: 173
في العدل بين الزوجتين
السؤال: ما حكم رجل له زوجتان و لا يعدل بينهما؟
الجواب: الحمد لله والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وآله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما، أمّا بعد:
فإذا كان للزوجة ضرة، فالواجب على الزوج أن يعدل بينها وبين ضرتها في عموم النفقة من المأكل والمشرب واللباس والمسكن، والمبيت في الفراش، ولا يجوز له أن يحيف في شيء من ذلك أو يجور لقوله تعالى: ?فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ? [النساء: 3] ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« مَنْ كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ، يَمِيلُ لِإِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى، فَلَمْ يَعْدِلْ بَيْنَهُمَا جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ يَجُرُّ أَحَدَ شِقَيْهِ سَاقِطاً أَوْ مائلا"(1)، ولأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصى بهن الخير، فقال:" خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي" وكما يجب عليه العدل يجب عليه المعاشرة بالمعروف والإحسان إليهما لعموم قوله تعالى: ?إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ? [النحل: 90]، وقوله سبحانه: ?وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ? [النساء: 19] وذلك من حقوق الزوجة على زوجها.
هذا، ومن العدل مبيت الزوج في الفراش وإن لم يحصل معه جماع لعدم وجوب التسوية في الجماع بإجماع(2)، لأنّ سبيله الشهوة والمحبة والميل، ويتعذر التسوية بينهن لتحقق ميل قلب الزوج إلى إحداهما دون الأخرى، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما سئل عن أحب الناس إليه قال:" عَائِشَةُ"(3).
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وآله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 09 ذي الحجة 1426ه
الموافق لـ: 09 يناير 2005م
__________
1- أخرجه أبو داود في النكاح (2135)، وابن ماجه في النكاح (2045)، وأحمد (8156)، والدارمي في سننه (2261)، والبيهقي (15135)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وصححه الألباني في إرواء الغليل: (7/80)، (2017).
2- المغني لابن قدامة: 9/618.
3- أخرجه البخاري في فضائل الصحابة (3662)، ومسلم في فضائل الصحابة (6328)، والترمذي في المناقب (4259)، وأحمد (18286)، من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه، .(9/98)
الفتوى رقم: 174
في تأثير الوحم على طباع المرأة الحامل
السؤال: هل الوحم يؤثر في طباع المرأة ويحملها على أن تعامل زوجها بما لايليق؟ وإذا كان هذا صحيحا فما هي أقرب وسيلة للتعامل معها؟ بارك الله في شيخنا.
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما أمّا بعد:
فاعلم أنَّ الوحم في اللغة هو ما تشتهيه المرأة الحامل ليس إلاَّ، أمّا ما يدعيه البعض بأنّه إذا لم يلبَّ طلبها فإنَّ عيبًا يخرج في جسد الجنين، فإنَّ مثل هذا لا أعلم له أصلاً في الشرع، ولعل المرأة تحتاج في تلك الفترة إلى شيء من الرعاية، والحنان، والقيام بما تشتهيه، وعلى الزوج أن يرعى حالها، ويحسن معاملتها، ويتجنب إذاية جنينها بإذايتها، ويحتسب ذلك أجرًا عند الله، والله سبحانه وتعالى خير كفيل بالثواب.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله وصل الله على نبينا محمد وآله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 22 رجب 1426ه
الموافق ل: 17 أوت 2005م(9/99)
الفتوى رقم: 195
في خروج الزوجة إلى بيت أهلها في غياب الزوج
السؤال: هل يجوز للزوجة الذهاب إلى بيت أهلها في غياب الزوج؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما، أمَّا بعد:
فالأصل أنّ للزوج على زوجته حقا يجب عليها التزامه وهو طاعته في غير معصية، ومن طاعته وجوب استئذانه قبل الخروج، فإن أذن لها إذنا خاصًّا أو عامًّا جاز لها الذهاب إلى أهلها، وخروجها مقيَّد بالضوابط الشرعية، لكن إن منعها من واجب شرعي كصلة رحمها إذا لم تتمكن من صلتهم إلا بالخروج إليهم جاز لها الخروج إليهم لأنَّه: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق(1).
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.
الجزائر في: 23 صفر 1427ه
الموافق لـ: 23 مارس 2006م
__________
1- أخرجه أحمد (1095)، من حديث علي رضي الله عنه، وصححه أحمد شاكر في تحقيقه على المسند (2/248)، والألباني في صحيح الجامع (7396)، وانظر مجمع الزوائد للهيثمي (8903)، والسلسلة الصحيحة للألباني (179).(9/100)
الفتوى رقم: 227
في حكم الإخلال بشروط عقد الزواج
السؤال: أخت تزوجت من رجل كان يسكن فرنسا، وله زوجة غير ملتزمة وولدان، فعند خطبة الثانية تعاقدا على المكوث في العاصمة وأن يتركها تحضر الحلقات العلمية، ولكنّه بعد الرجوع من فرنسا تشاغل بفتنة التجريح ومنعها من حضور الحلقات، وأصبح يعاملها بالسوء، فالبنسبة إليها ضاقت معيشتها، فهل لها أن تطالب بفسخ العقد؟ وما نصيحتكم جزاكم الله خيرا.
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فلا يحق للزوج أن يخل بالتزامه بالشروط التي يجب عليه الوفاء بها لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« أحق ما أوفيتم من الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج"(1)، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم:«المسلمون على شروطهم، إلاّ شرطا حرّم حلالا أو أحلّ حراما "(2)، والمرأة إذا اشترطت على زوجها الخروج إلى المسجد لتتعلم الضروري من أمور دينها فمثل هذا الشرط ليس ممّا حرّمه الله بل ممّا أوجبه قال تعالى: ?يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالعُقُودِ?[المائدة:1] ولا يخفى أنّ العقود عهود والله سبحانه وتعالى قال: ?وَأَوْفُوا بِالعَهْدِ إِنَّ العَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً? [الإسراء:34]، وللزوجة إن رأت من زوجها عدم الوفاء بالشروط التي تضمنها عقد الزواج فيسعها إن أرادت فسخ العقد أن تفسخه فذلك من حقها. وخاصة إن لم يعاملها بالمعروف لقوله تعالى: ?وَعَاشِرُوهُنَّ بِالمَعْرُوفِ? [النساء:19] وذلك من حق الزوجة على زوجها.
أمّا إذا رأت في مجمله الخلق والدين والقيام على شؤونها وسد حاجيتها وأنّ أمر الشروط ليس من الأهمية التي تعكّر جو الحياة الزوجية فما عليها إلاّ أن تتنازل عن هذه الشروط وتصبر عليه وتخرج لاكتساب الضروري من دينها لكونه واجبا عليها ولا يستطيع أن يمنعها من واجب لقوله سبحانه وتعالى: ?يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا... ? [التحريم:6]، والوقاية من النار بتعلم العلم الشرعي الموصل إلى معرفة الحلال والحرام ومعرفة التوحيد من الشرك، والآية شاملة للذكور والإناث لأنّ الأهل هم زوجات الرجل وأولاده، كما قال تعالى: ?وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا? [طه:132] "والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم"(3) ولا يخفى أنّ تحصيل العلم مطلوب، فاقتضى المقام والحاجة إلى خروجها لقوام دينها ولو من غير إذنه إذا لم يوفر لها في بيتها ما تستغني به عن الخروج، وإذا كان الرجل لا يجوز له أن يمنع زوجته من الذهاب إلى المسجد مع أنّ المسجد ليس واجبا عليها فمن باب أولى أن لا يمنعها من الخروج إلى ما هو فرض وواجب عليها كصلة رحمها وتعلم أمور دينها وغير ذلك لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« طلب العلم فريضة على كلّ مسلم"(4)، لكن خروجها ينبغي أن يكون بالضوابط الشرعية في اللباس والهيئة ومكان الطلب والعبادة وغيرها.
هذا، وما يحمله هذا الزوج من تجريح فهو موكول إلى دينه في معرفة الحق من الباطل في تجريح أهل الباطل من أهل الحق ينبغي التوثيق والركون إلى أهل المعرفة بالرجال وغير ذلك من الضوابط التي ينبغي على المجرح القيام عليها أو من في شاكلته وهو مؤاخذ بلا شك إن لم يراعها والعهدة عليه.
والعلم عند الله وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمّد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
__________
1- أخرجه البخاري في النكاح(5151)، ومسلم في النكاح(3557)، وأبو داود في النكاح(2141)، والترمذي في النكاح(1154)، والنسائي(3294)، وابن ماجه في النكاح(2030)، وأحمد(17765)، والدارمي(2258)، من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه.
2- أخرجه الترمذي في الأحكام(1403)، من حديث عمرو بن عوف رضي الله عنه. وصححه الألباني في الإرواء(1303).
3- أخرجه البخاري في العتق(2554)، ومسلم في الإمارة(4828)، وأبو داود في الخراج(2930)، والترمذي في الجهاد(1806)، وأحمد(4589)، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
4- أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (4096)، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وصححه الألباني في صحيح(3913).(9/101)
الفتوى رقم: 283
في اشتراط المرأة التدريس بالمسجد كشرط لقبول الزواج
السؤال: لقد ورد في الأوسط للطبراني عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنّه قال:" من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه الله على شطر دينه فليتق الله في الشطر الباقي"(1) لذا فلقد حرصت على أن أعمل بنصيحة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم في قوله:" فاظفر بذات الدين .."(2) وتقدمت لخطبة إحدى طالبات العلم اللاتي نحسب أنّها تتوفر فيها شروط نصيحة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، ولما في أهلها من صفات الصلاح والوقوف على حدود الله -ولا نزكي على الله أحدا- وأكبر شيء دعاني لأتقدم إلى هذه الفتاة هو علمي بحرصها على نشر دعوة الحق وتعليم العامّة الدين الصحيح، فطلبت رؤية شرعية، وقد تحصلت على تسهيلات من طرفها ومن طرف أهلها مع علمهم بقلة مالي ونقص تفقهي في الدين. وقبل أن تتم الرؤية تمّ إبلاغي أنّ لها شرطا هي عازمة على أن لا يتمّ عقد النّكاح إلا به. والشرط متمثل في أن تقوم بحِلَق التعليم في المسجد بعد حصولها على رخصة تسلم من طرف الإمام. فكما تقدم شيخنا إن أول ما دعاني لأتقدم إليها حرصها على نشر الدعوة ولو أنّ شرطها هذا جاء في صيغة طلب لوافقت حتى وإن كانت الحِلَق تقام يوميا -والله شهيد على ما أقول- ولكن أن يكون شرطا يُبنى عليه عقد النكاح -ولو حصة واحدة في الأسبوع- فأنا أرفض هذا لأنني أرى فيه فقدانا لبعض قوامة الرجل على المرأة، ثم إن شرطا كهذا يوحي بنقص الثقة. وأخيرا لم أجد أثرا لهذا الشرط من نساء الصحابة أو التابعين. شيخنا أرجو أن تبين الفرق بين الشرط الذي يبنى عليه عقد النكاح والشرط الذي يبنى به عقد النكاح. وأرجو منكم تقديم النصيحة لكل طالبات العلم إن كنت محقا لأنني أظن أنّ الأخطاء المنهجية قد تكون خفية ولكن عواقبها جلية ومدمرة للدعوة الحقة المبنية على التأسي بمن سبقنا، خاصة إذا وقع فيها من له منبر يحدث الناس منه أو ممن لها حلقة تعليم خاصة بالنساء اللائي ينتظر منهن أن تنجبن من لن يضرهم من خذلهم إلى يوم القيامة -معذرة على الإطالة-
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فعلى العموم المرأة لها أن تشترط ما تراه صالحا وواجبا من غير أن يصطدم بنصٍّ شرعي أو بتعاليم الشّريعة وأحكامها لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« المسلمون على شروطهم إلاّ شرطا حرم حلالا أو أحل حراما"(3) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل"(4) كما أنّ للرّجل له أن يشترط ما يراه نافعا له من غير شرط يعود على مصلحة الزّوجين بالفساد أو يخالف مقتضاه ، فإذا كانت المرأة تشترط شروطا مطلقة فللرّجل أن يشترط شروطا مقيّدة ممّا يوقع الانسجام بين شرطها وشرطه إذ العمل بالمقيّد وحمل المطلق عليه أمر سائغ عند كافة أهل الأصول.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما.
__________
1- أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (7862)، والبيهقي في شعب الإيمان (5246)، من حديث أنس رضي الله عنه. وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1916).
2- أخرجه البخاري في النكاح(5090)، ومسلم في الرضاع(3708)، وأبو داود في النكاح (2049)، والنسائي في النكاح(3243)، وابن ماجه في النكاح(1931)، وأحمد(9769)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
3- أخرجه أبوداود في الأقضية (3593)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والترمذي في الأحكام (1352)، من حديث عمرو بن عوف عن أبيه عن جده، والحاكم في البيوع عن أبي هريرة وعن عائشة رضي الله عن الجميع. والحديث صححه الألباني في الإرواء (5/142) رقم ( 1303)، والسلسلة الصحيحة رقم (2915).
4- أخرجه النسائي في الطلاق (3451)، وابن ماجة في العتق (2521)، من حديث عائشة رضي الله عنها. وصححه الألباني في إرواء الغليل(5/152).(9/102)
الفتوى رقم: 487
في سبيل التعايش مع زوجة عاصية
السؤال: أعيش في فرنسا ولي زوجة تاركة الصلاة وتستمع الغناء، وأثرت على أولادنا بمعاصيها سلبا، وقد هددتها بالطلاق ولم يُجْدِ فيها نفعا ولا تغييرا، فما هو الطريق الأمثل في التعامل معها؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فالمرأة بهذه الأوصاف وما تقترن بها من مثالبَ وعيوبٍ إن بقيت مصرة عليها فلا تصلح أن تكون قرينةَ زوج يريد الالتزام بأحكام الشرع اتجاه نفسه وأهله وإذا نفدت كافة الطرق الشرعية من وعظ وهجر في الفراش وضرب غير مُبرِّح المأمور به بقوله تعالى:? فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً ? [النساء: 34] فإنه والحال هذه لزمه أن يتبرأ من صنيعها ولا يرضى عنها ولا عن أفعالها لئلاَّ يكونَ مشاركًا للمعصية لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« إِذَا عُمِلَتِ الخَطِيئَةُ فِي الأَرْضِ كَانَ مَنْ شَهِدَهَا فَكَرِهَهَا (وقال مرة: فَنَكِرَهَا) كَمَنْ غَابَ عَنْهَا وَمَنْ غَابَ عَنْهَا فَرَضِيَهَا كَانَ كَمَنْ شَهِدَهَا"(1)، ومع ذلك لا يستطيع استمرار حياته مع وجود السيئات والأعمال القبيحة ممَّا لا تستقيم حياة المسلم مع هذه المعاصي فالواجب عليه حيالها إمّا أن يطلب فسخا للعقد لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« ثَلاثَةٌ يَدْعُونَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ فَلاَ يُسْتَجَابُ لَهُمْ: رَجُلٌ كَانَتْ تَحْتَهُ امْرَأَةٌ سَيِّئَةُ الخلُقِ فَلَمْ يُطَلِّقْهَا..." الحديث(2)وإمَّا أن يطلب طلاقًا يعصم به دينه ويطلب منها الأولاد فإن رفضت بدعوى الحضانة وأيَّدها الحكم فلا يرضى عن تربيتها حتى لا يكون مشاركًا معها في سُوء الرعاية والتنشئة، قال الله تعالى لنوح عليه السلام بعد أن سأله عن ابنه الذي كان في المعصية: ? قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ? [هود: 46] .
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يهدي زوجتك سواء السبيل، و أن تعود إلى رشدها وتقوم بمسؤوليتها تجاهك وتجاه أولادك وأن يقوي إيمانك للعمل الصالح وتقوى الله سبحانه وتعالى مع الشكر الدائم والثناء الموصول لقوله سبحانه وتعالى: ?وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم: 7]، هذا ما بان لنا من خلال سؤالكم جريا على التفاصيل المذكورة.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما
الجزائر في: 29 جمادى الأولى 1427ه
الموافق لـ: 25 جوان 2006م
__________
1- أخرجه أبو داود كتاب الملاحم، باب الأمر والنهي، عن العرس بن عميرة الكندي رضي الله عنه، والحديث حسنه الألباني في صحيح الجامع (702)، وصحيح أبي داود (4345).
2- أخرجه الحاكم (3181)، والبيهقي في السنن (21104)، وفي شعب الإيمان (8041)، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (3075)، وكذا في "السلسلة الصحيحة" (1805).(9/103)
الفتوى رقم: 512
في تقصير الزوج بواجبه مع ربِّه وأهله وعياله
السؤال: هل يجوز البقاء مع زوج لا ينفق على أهله وعياله، وغير مكترث بهم، وهو مضيِّع-أيضا- للصلاة؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فاعلم أنّ نفقة الزوج على زوجته وأولاده واجبة بالكتاب والسنة، فمن الكتاب قوله تعالى: ? وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ?[النساء: 19] وقوله تعالى:? لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ ?[الطلاق: 7] أمّا على الأولاد فبقوله تعالى: ?وََعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ?[ البقرة: 233] ومن السنة قوله صلى الله عليه وآله وسلم:« لهنّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنّ بِالمعْرُوفِ "(1)، ونفقة الزوج على زوجته مرجعها العرف، وليست مقدرة بالشرع، وتكون بحسب استطاعة الزوج المنوطة بالإعسار واليسار، شريطة مطاوعة الزوجة له في الحقوق التي تجب عليها اتجاهه.
فإن ثبت بعد ذلك عجزه عن النفقة عليها وعلى أولاده وكان مضيِّعا لهم، جاز لها حالتئذ أن ترفع أمرها إلى القاضي بحجة إعساره وعدم قدرته على الإنفاق من أجل فسخ عقد الزوجية أو إجبار الزوج على النفقة.
ومن باب أولى إن كان الزوج تاركا للصلاة مضيعا لها، فلا يجوز لزوجته البقاء معه لعدم حصول كفاءة الدين إذ أقل ما يقال فيه أنّه معدود من أعظم الفسّاق، إن لم يكن خارجا عن الملة بتركه لعماد الدين التي عليها مدار الأعمال والله المستعان.
والعلم عند الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
الجزائر: 20رجب1427ه
الموافق ل14: أوت 2006م
__________
1- أخرجه مسلم في الحج (1218)، وابن خزيمة (2809)، وابن حبان (1457)، والدارمي (1850)، والبيهقي (15090)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.(9/104)
الفتوى رقم: 531
في التعدي بالإجهاض على الجنين
السؤال: أنا امرأةٌ عجوزٌ قمتُ أيامَ شبابي بإسقاط جنيني تعدِّيًا عليه بعد مرور مدّة، ولا أذكر ثلاثةَ أو أربعة أشهر، وبقى هذا الأمر يعذِّبني ليلاً ونهارًا، فهل يسعكم من حلٍّ أو توجيهٍ يرفع عنِّي همِّي وغمِّي؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فالأصل في الإجهاض الحظرُ والمنعُ؛ لأنه جنايةٌ على موجودٍ حاصلٍ، وتكون الجنايةُ عليه في أَوَّلِ مراحلِ الوجود، وتزداد الجناية تفاحُشًا إن نُفخَ فيه الرُّوح، واستوتِ الخِلقةُ، فإن وقعت الجنايةُ عليه -بعد تمام أربعةِ أشهرٍ أي بعد مرور مِائةٍ وعشرين يومًا، وتُيُقِّنَتْ حركتُهُ- سواء عمدًا أو خطأ فإنه يستوجب التعدّي عليه الكفارةُ كحقٍّ لله، وَدِيَةٌ كحقٍّ للعبد، وتؤدَّى الكفارة بعتق رقبة مؤمنة، فمن لم يجد رقبةً يعتقها فصيام شهرين متتابعين، فمن لم يستطع الصيام بقي في ذمَّته على قولٍ لبعض أهل العلم، أو يتحوَّل إلى إطعام ستين مسكينًا على رأي آخر، فإن لم يستطع وجب في ذمَّته إلى أن يَسْتَطِيعَهُ، والحيضُ لا يقطع تتابُعَ صومِ المرأةِ في الكفارة، أمَّا الدِّيَةُ فتجب في مال أُمِّهِ، وهي مُقَدَّرَة بنصف عشر الدية(1)، والدِّيَة يرثها ورثةُ الجنين كما لو قُتِلَ بعد الولادة، ولا ترث منه أمّه لجِنايتها عليه، فإن تنازلوا عنها فلا شيءَ عليها، لقوله تعالى: ?وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ? [النساء: 92].
أمَّا إذا كان الجنين المجني عليه دون الأربعةِ أشهرٍ فلا كفارة عليه؛ لأنه لم يُنفخِ الروحُ فيه بَعْدُ، والكفارة تجب في القتل الخطأ ولا يكون إلاّ من ذي روح، لكنه إذا كان مُضْغَةً بحيث تظهر فيه صورةُ الآدمي أو بعضُ أعضائه فيُعطى حكمُ الجنين من جهة وجوب الدِّيَة.
وعلى الجانية أن تتوب إلى الله وتكثر من الحسنات والطاعات، فقد ثبت أنَّ «النَّدَمَ تَوْبَةٌ »(2)، وأنَّ «التَّائِبَ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لاَ ذَنْبَ لَهُ »(3)، قال تعالى: ?قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ? [الزمر: 53].
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 17 جمادى الأولى1427ه
الموافق ل: 13 جوان 2006م
__________
1- وهي خمس من الإبل، أو خمسون دينارًا ذهبيًّا، أو ستمائة درهم من الفضة، فهذه المقادير هي عشر دية المرأة المسلمة أو نصف عشر دية المسلم.
2- أخرجه ابن ماجه في الزهد (4252)، وابن حبان (614)، والحاكم (7612)، وأحمد (3558)، وأبو يعلى في مسنده (4969)، والبزار في مسنده (1926)، والطبراني في المعجم الصغير (80)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. والحديث حسّنه ابن حجر في «فتح الباري » (13/479)، وصحّحه أحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد » (5/194)، والألباني في «صحيح الجامع » (6802)
3- أخرجه ابن ماجة في الزهد (4391)، والبيهقي (21070)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وحسّنه الألباني في صحيح الجامع (3008).(9/105)
الفتوى رقم: 800
في استحقاق الزوج مهر زوجته عند وفاتها قبل الدخول
السؤال:
إذا تُوُفِّيَت المرأةُ قبلَ الدخول، هل يبقى المهرُ عند أهل الزوجة أم يسترجعه زوجُها؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالزوجةُ إذا تُوُفِّيَتْ قبل الدخول لَزِمَ الزوجَ كامل المهر من موتها كحقٍّ عليه، وله ميراثها، لِما أخرجه أهلُ السنن وأحمدُ وغيرُه:« أَنَّ امرأةً تَزَوَّجَها رجلٌ ومات عليها، ولم يَفرِض لها صَدَاقًا، ولم يكن دخل بها، قال عبد الله ابن مسعود:« أرى لها مهرَ نسائِها، ولها الميراث، وعليها العدّة »، فشهد معقل بن سنان الأشجعي أنّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قضى في بَرْوَعَ بنت واشقِِِ(1) بِمِثلِ ما قضى به عبد الله بن مسعود رضي الله عنه »(2). وهذا ما يدلُّ على أنّ الموت يجب به المهر سواء مات أحد الزوجين أو كلاهما، وهي تستحقُّه كاملاً، سواء مهر المِثل، أو المهرُ المسمَّى(3)؛ لأنَّ حديث بَرْوَع بنتِ واشق الذي مات عنها زوجها قبل الدخول يدلُّ على استحقاقها مهرَ مثلها في طبقتها، مع العلم بعدم تسمية مهرها، إذ لو كان بالطلاق لَم يلزم فيه سوى المُتعة، لقوله تعالى: ?لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ? [البقرة: 236]، فاستحقاقُ ذلك لمن سَمَّى لها مهرًا من بابٍ أَوْلى، عَمَلاً بفحوى الخطاب، ولا معارضةَ بين حديث بَروَع بنت واشق والآية السابقة وقوله تعالى: ?وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ? [البقرة : 237]؛ لأنَّ الآيتين وردتَا في خصوص الطلاق، والحديث صحَّ في الموت، ويَتَعذَّر قياسُ الموتِ على الطلاق لفساد الاعتبار، بالنظر لوقوعه في مقابلة النصِّ، أمّا حديث بَروَع بنتِ واشق يدلُّ من جهةٍ أخرى على وجوب الميراث بين الزوجين، وهذا مِمَّا لا نزاع فيه، فالزوجةُ كما تدخل تحت آية التوارث بين الزوجين، فيدخل الزوج -أيضًا-، وحَقُّه في جميع تركتها ومالها، بِما في ذلك مهرها، النِّصفُ فَرْضًا في حالة عدم وجود فرعٍ وارث لها، وإلاَّ فحَقُّه الرُّبُع، لقوله عزّ وجلّ: ?وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ? [النساء: 12].
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 26 من ذي الحجة 1427ه
الموافق ل: 15 يناير 2007م
__________
1- هي بَرْوَع بنتُ واشق الرواسية الكلابية أو الأشجعية، مات عنها زوجها هلال بن مُرَّة الأشجعي قبل أن يدخل بها، ولم يَفرِض لها صَداقًا، فقضى لها النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم بِمثل صَداق نسائها.
انظر:« الاستيعاب » لابن عبد البرّ: (4/1795)، «أسد الغابة » لابن الأثير: (5/408)، «الإصابة » لابن حجر: (4/251).
2- أخرجه أبو داود في «النكاح »: (2114)، والترمذي في «النكاح »: (1145)، والنسائي في «النكاح »: (3355)، وابن ماجه في «النكاح »: (1891)، وأحمد: (4264)، من حديث عبد الله بن مسعود . والحديث صحَّحه ابن الملقن في «البدر المنير »: (7/680)، وأحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد »: (6/137)، والألباني في «الإرواء »: (1939).
3- وهو مُجمَعٌ عليه. انظُر:« بدائع الصنائع » للكاساني: (2/434)، و«الفقه الإسلامي » للزحيلي: (7/289).(9/106)
الفتوى رقم: 876
في عدم التزام الزوج بالشرط الفاسد
السؤال:
اشترطتُ على زوجي قبل العقد الشرعي التنازل على جميع حقوقه إذا أراد التعدّد إلاّ أنّ الشرط تمَّ بيني وبينه، والآن وبعد عشرة زوجية دامت خمس عشرة سنة، قرّر زوجي التعدّد ناقضا الشرط بحجّة أنه لم يُذكر أثناء العقد الشرعي. فما هو الموقف الشرعي الواجب اتخاذه معه؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فاعلمي أنّ الشرطَ الذي يُحلّ حرامًا أو يُحرِّم حلالاً باطلٌ؛ لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ »(1)، ولقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« المُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ إِلاَّ شَرْطًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلاَلاً »(2)، فاشتراطُ التنازلِ على كافَّة حقوق الزوج مع بقاء زوجته في العصمة معنى ذلك حِرمانه من حقّه في الفراش والطاعة وفي غيرها مع لزوم النفقة عليه لها ولأولادها، وهذا الحيف والجور في هذا الشرط ظاهر، فلو اشترطت عليه أن لا يعدّد وقَبِل شرطها أمكن والحال هذه أن تفسخ عقد الزوجية إن رغبت أن تلغيه، لكنها إذا اشترطت التنازل على كافة حقوقه فإنّ الشرط باطل والعقد صحيح، وزواجه من الثانية لا يؤثّر في العقد على الأولى، والواجب على المرأة أن ترضى بقضاء الله وبأحكامه، وما شرعه في حقّ الزوج ما دام يقوم بالواجبات تُجاهها.
صانك الله من كلّ مكروه، ووفّقك لما يحبّ ويرضى، والزمي طاعة زوجك بالمعروف، فإنه جنّتك ونارك(3).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 5 جمادى الأولى 1428ه
الموافق ل: 22 مايو 2007م
__________
1- أخرجه البخاري في «صحيحه » كتاب البيوع، باب البيع والشراء مع النساء: (2047)، ومسلم في «صحيحه » كتاب العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق: (3776)، والنسائي في «سننه » كتاب الطلاق، باب خيار الأمة تعتق وزوجها مملوك: (3451)وابن ماجه في «سننه » كتاب، العتق، باب المكاتب: (2521)، وأحمد في «مسنده »: (25189)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
2- أخرجه أبو داود في «سننه » كتاب الأقضية، باب في الصلح: (3594)، والحاكم في «المستدرك »: (2309)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (11618)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه الترمذي في «سننه » كتاب الأحكام، باب ما ذكر عن رسول الله في الصلح بين الناس: (1352)، من حديث عمرو بن عوف رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في «الإرواء »: (1303).
3- أخرجه أحمد في «مسنده »: (18524)، والطبراني في «الكبير »: (25/183)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (14483)، من حديث حصيب بن محصن رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في «السلسلة الصحيحة »: (2612).(9/107)
الفتوى رقم: 980
في حدود مطالبة المرأة زوجها بسكن مستقل
السؤال:
تسكن امرأة متزوجة مع عائلة زوجها، وكثيرًا ما تتفاجأ بدخول أقارب زوجها البيت من غير استئذان، بالإضافة إلى وقوعها في خلوة بين فترة وأخرى مع أخ الزوج الذي بدأت تظهر عليه علامات البلوغ، فما عليها فعله في مثل هذه الحالات؟ وما واجب الزوج؟ وهل يصح لها المطالبة ببيتٍ مُستقلٍّ ليزول عنها الحرج؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فالواجبُ على الزوجةِ أن تسترَ محاسنَها وكلَّ ما يكونُ سببًا في الفتنةِ، فإن كانت في بيتِها فلا يجوزُ للأجنبي ولو كانَ من أقاربِ الزوجِ الدخول عليها أو مباغتتها وهي غير متحجِّبةٍ، أو مع غير ذي محرم لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِيَّاكُمْ وَالدُخُولَ عَلَى النِّسَاءِ»، قَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: أَرَأَيْتَ الحمْوَ؟ قال: «الحمْوُ الموْتُ»(1)؛ ذلك لأنَّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، كما لا تجوز الخلوةُ بواحدٍ منهم، أو من غيرهم ممَّن ليسوا بمَحْرَمٍ لها لقوله صَلَّى الله عليه وآله وسلم: «لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَيْطَانُ»(2)، فالخلوة بالأجنبية مثار شهوة، والشهوة الجنسية لا حدود لها، ولها الجلوس مع زوجها أو مع ذي محرم لها إن كانت مستترة بلباسٍ سابغٍ يخفي عورتها ولا يظهر مفاتنها ولو مع أقاربه، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ»(3).
هذا، وعلى المرأة -في هذه الوضعية الحرجة- أن تحترز قدر الإمكان عن الوقوع في هذه المحاذير التي لا يعبأ بها معظم العائلات والأسر، ويغفلون عن نتائجها الضارة، كما أنه لا ينبغي لها تكليفُ الزوج بتوفير مسكنٍ خاصٍ في الحال إذا كانت حدودُه الماليةُ لا تفي بهذه المطالبة، أو يكون الحجم المالي يُثقل كاهلَه لقوله تعالى: ?لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا? [البقرة: 286]، ولقوله تعالى: ?فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ? [التغابن: 16].
فإن كان قادرًا على إزالةِ مفسدةِ الاختلاطِ والخلوةِ بتوفير مسكنٍ مستقلٍ وجب عليه ذلك في الحال ليصون فيه عرضه، ويحفظ أهله ويدفع الحرج عنهم، وإن لم يقدر وجب عليه تقليلُ المفسدة بأخذ الاحتياطات اللازمة لتجنب الخلوة والاختلاط في البيت، ونصيحة أقاربه بالحكمة والموعظة الحسنة، وتعريفهم بالحكم الشرعي وتعويدهم على التزامه، مع التعامل في تقديم النصيحة لهم بخلق الأناة والحلم والصبر إلى أن يفتح الله وهو خير الفاتحين.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 10 صفر 1430ه
الموافق ل: 05 فبراير 2009م
__________
1- أخرجه البخاري كتاب «النكاح»، باب لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم والدخول: (4934)، ومسلم كتاب «السلام»: (5674)، من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه.
2- أخرجه الترمذي كتاب «الفتن»، باب ما جاء في لزوم الجماعة: (2165)، وأحمد: (178)، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في «الإرواء»: (6/215). وانظر طرقه في: «البدر المنير» لابن الملقن: (8/257)، و«نصب الراية» للزيلعي: (2/249).
3- أخرجه البخاري كتاب «الجهاد والسير»، باب من اكتتب في جيش فخرجت امرأته حاجة: (2844)، ومسلم كتاب «الحج»: (3274)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.(9/108)
02- حقوق مشتركة
الفتوى رقم: 130
حبوب منع الحمل
السؤال: حول حبوب منع الحمل للأسباب التالية:
- ضيق المسكن، غرفة واحدة للوالدين والأطفال.
- صغر سن الطفل الأول.
- المرض أي مرض الأم أو ضعفها جسديا.
هل يجوز أن تستعمل الحبوب في هذه الحالات؟ وإن جاز فبأي نية يفعل ذلك: التنظيم..الحرج. وإن كان لا يجوز فهل لذات الحبوب يمنع أم لوجود طريقة أخرى أم عدم الجواز مطلقا ؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فإذا أخبر ثقات من الأطباء تضرر صحة الأم بالحمل والوضع جاز تباعد الولادة إلى حين زوال الضرر لقوله تعالى: ?ولا تقتلوا أنفسكم إنّ الله كان بكم رحيما? [النساء: 29]، وقوله: ?ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة? [البقرة: 195]، وقوله صلى الله عليه وسلم:" لا ضرر و لا ضرار"(1).
ويجوز التنظيم بمعنى تباعد الولادة من أجل الإشفاق على الأولاد من تدني صحتهم واختلال تربيتهم لما رواه أحمد ومسلم عن أسامة بن زيد أخبر والده سعد ابن أبي وقاص أنّ رجلاً جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال:" يا رسول الله أعزل عن امرأتي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم تفعل، فقال الرجل: أشفق على ولدها أو قال على أولادها، فقال الرسول صلى الله عليه و سلم: لو كان ضارًا لضر فارس والروم"(2). وللزوج أن يعزل ماءه عن أهله أو ما يقوم مقام العزل من مطاط واق أو حبوب شريطة أن لا تكون مضرة بصحتها، وأن لا تكون عاملة على إسقاط النطفة بعد استقرارها في الرحم على ما هو ظاهره المنع من مذهب مالك رحمه الله، مع التأكد من عدم ضررها وتأثيرها باستشارة أهل الخبرة الثقات في هذا المجال.
والله أعلم وفوق كل ذي علم عليم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلّم تسليما
__________
1- أخرجه ابن ماجة كتاب الأحكام، باب من بنى في حقه ما يضر بجاره، وأحمد(1/313)من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.والحديث صححه الألباني في إرواء الغليل(3/408)رقم896 وفي السلسلة الصحيحة رقم250 وفي غاية المرام(68).
2- أخرجه مسلم كتاب النكاح باب جواز الغيلة وهي وطء المرضع، وأحمد(5/203).(9/109)
الفتوى رقم: 138
إسقاط الجنين
السؤال: ممّا هو معلوم من الدين بالضرورة أنّ دية الجنين غرة وحددها العلماء بعشر دية الحرة فإن أجهضت المرأة جنينها بنفسها فهل تدفع الدية؟ ولمن؟ وهل يستوي الأمر إذا كان هذا الفعل عن عمد أو خطأ؟
أفيدونا بارك الله فيكم لأنّ هذا الأمر ممّا تعمّ به البلوى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فإذا أجهضت المرأة جنينها بنفسها وتعمدت قتله بدون ضرورة شرعية ومعتبرة أو إذن الزوج أثمت وضمنت دية الجنين ولا ترث منه شيئا وعليها الكفارة على الصحيح، وتؤدي الدية إلى ولي أمره وهو الزوج ما لم يتنازل عنه ويسقطه.
والله أعلم، وفوق كلّ ذي علم عليم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في:12رجب1420ه
الموافق ل :27 أكتوبر1999م(9/110)
الفتوى رقم: 151
المواضع المشروعة لاستمتاع الزوجين
السؤال: أستاذي الكريم: يسعدني أن أتقدم إليكم بهذا السؤال الذي طالما احترنا في كيفية الرّد عليه للسائلين والذي طالما تكرر علينا في أكثر الأحيان وهو الآتي ذكره، هل يجوز للرجل أن يتمتع بزوجته كيف يشاء إلاّ أن يأتيها في دبرها ؟ (كأن يطلب منها أن تمّص ذكره أو أن يلحس فرجها)، معذرة على هذه الصياغة ولكن الأمر ملح جدا، وجزاكم الله خيرا.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فأهل العلم تختلف أنظارهم في حكم هذا الفعل بين مجيز وهو مذهب الحنابلة وبعض المالكية كأصبغ، ومانع مطلقا ومكرِّه له.
أمّا المانعون فاستدلوا بطريق الأولى بالأحاديث المانعة من نظر الرجل والمرأة إلى عورة كلّ واحد منهما مثل قول عائشة رضي الله عنها في ذكر حالها مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم :"ما رأيت ذلك منه ولا رأى مني"(1) فإذا كان النظر ممنوعا فيمنع مسّ الفرج أو الذكر ومصّه من باب أولى.
أمّا القائلون بالجواز مطلقا أو بالتفصيل استدلوا على أنّ الأصل الإباحة في استمتاع كلّ واحد منهما ولم يستثن الشرع سوى أن يأتيها في الدبر، أو في القبل حال الحيض والنفاس أو حال تضررها لقوله تعالى: ?وَالّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّّهُمْ غَيْرُ مَلُومِين? [المؤمنون: 5/6] ولقوله تعالى: ?نِساَؤُكُم حَرْثٌ لّكُمْ فَأتُوا حَرْثَكُمْ أّّنىَّ شِئتُم? [البقرة: 223] ولقوله صلى الله عليه وسلم "لا ضرر ولا ضرار"(2) ولقوله صلى الله عليه وسلم حال الحيض "اصنعوا كلّ شيء إلا النكاح"(3) ومعنى الحديث أنّ لكل من الزوجين أن يستمتع بالآخر بما شاء إلا الوطء في محلّ الوطء في محل الحيض، وردوا على حديث عائشة رضي الله عنها أنّه ضعيف لا يصلح للاستدلال بل الأحاديث الصحيحة تخالفه من اغتسال النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أزواجه ومعاشرته صلى الله عليه وسلم تدلّ على جواز النظر، فضلا عن كونه معارضا لقوله صلى الله عليه وسلم :"احفظ عورتك إلاّ من زوجتك"(4) والحديث على فرض صحته فهو محمول على الأدب على ما قال ابن العربي.
ومن نصوص الحنابلة ما ذكره المرداوي في الإنصاف قال:
"إحداهما: قال القاضي في الجامع:" يجوز تقبيل فرج المرأة قبل الجماع، ويكره بعده، وذكره عن عطاء.
الثانية: ليس لها استدخال ذكر زوجها وهو نائم بلا إذنه، ولها لمسه وتقبيله بشهوة، وجزم به الرعاية، وتبعه في الفروع، وصرح به ابن عقيل وقال: لأنّ الزوج يملك العقد وحبسها.."(5) ومن نصوص المالكية ما نقله القرطبي في تفسيره عن أصبغ المالكي أنّه قال:" يجوز له أن يلحسه بلسانه"(6).
هذا، وعندي أنّ هذه العادة مكروهة للأسباب التالية:
أولا: إنّ اللسان محل الذكر ينبغي أن يُصان من المواضع التي يخرج منها البول والمذي والودي.
ثانيا: إنّنا مأمورون بمجانبة النجاسات، ولا يخفى أنّه في حال مباشرة هذا العمل قد لا يسع التحرز من المذي وهو ماء أبيض لزج رقيق يخرج عند المداعبة أو تذكر الجماع أو إرادته، وقد لا يشعر الإنسان بخروجه، وهو من النجاسات التي يشقّ الاحتراز منها، الأمر الذي لا يبعد أن يخالط الريق حال مباشرة هذا الفعل.
ثالثا: قد تتعلق بمحل التقبيل أشياء قذرة أو لها رائحة قذرة أو يتعلق بفرجه علّة، فإن لم تكن عرضة للأمراض فإنّ هذا الفعل مكروه بالطبع تستقذره النفوس السليمة.
رابعا: وقد يحصل كثيرا العدول عن الاستمتاع بالجماع في الفرج الذي هو محلّ الحرث ومصدر النسل والذرية بسبب التلذذ بهذه الكيفية.
والعلم عند الله تعالى؛ وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليمًا.
الجزائر في:6ربيع الثاني 1424ه
الموافق ل : 3 جوان 2003م
__________
1- أخرجه ابن ماجه (262/1922)، وأحمد في مسنده (6/63) من حديث عائشة رضي الله عنها، وفي لفظ: (ما رأيت فرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قط) والحديث ضعفه الشيخ الألباني رحمه الله كما في الإرواء (6/213 رقم: 1812)، وآداب الزفاف (ص 34).
2- أخرجه ابن ماجه في الأحكام رقم(2341)، وأحمد(3/267)، وصححه الألباني في الإرواء(3/408) رقم(896)، وفي غاية المرام:(68).
3- أخرجه مسلم في الحيض رقم(301)، وأبو داود في الطهارة رقم(258)، من حديث أنس رضي الله عنه.
4- أخرجه أبو داود في الحمّام رقم(4017)، والترمذي في الأدب رقم(2794)، وابن ماجة في النكاح رقم (1920)، وأحمد(5/3- 4)، والبيهقي في الطهارة رقم(988)، من حديث معاوية بن حيدة رضي الله عنه، والحديث حسنه الألباني في الإرواء(6/212) رقم(1810)، وفي آداب الزفاف ص(111).
5- (8/32).
6- (12/232).(9/111)
الفتوى رقم: 153
تحديد النسل
السؤال: إلى شيخنا ووالدنا أبي عبد المعز -حفظه الله- ونفع بعمله الجميع، أسأل الله العلي القدير أن تكونوا بخير وعافية وأن يبارك في وقتكم وعمركم وأن يثبتكم على الحق ويرزقكم العلم النافع والعمل الصالح إنه سميع مجيب أمّا بعد:
فأرجوا المعذرة يا شيخنا على الأخذ من وقتكم الثمين لطرح هذا السؤال والذي نصه:
هناك أمّ تسأل عن حكم عملية ربط المبيضين وهذا بطلب من الطبيب، وسبب هذه العملية أنّ صحتها أصبحت لا تتحمّل الحمل مرة أخرى علمًا أنّها أمّ لخمسة أطفال والسادس سقط لها في الشهر الخامس، وهذا راجع لظروف صحّتها، وهي تقول: إنّها عندما تكون حاملاً خلال الأشهر الأخيرة تصاب بشلل نصفي وأمراض أخرى ولا تقدر على شرب حبوب منع الحمل وهي تقول: إنّ هذه الطبيبة ذات كفاءة وخبرة في مهنتها، فخيرتها بين هذه العملية أو أن تستعمل اللولب خلال كل سنة، ولكنها مترددة في كلا الاقتراحين وتسأل عن العمل الصحيح.
وأعتذر شيخنا عن الإطالة وجزاكم الله خيرًا.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه أجمعين، أمّا بعد:
فالأصل أنّه لا يجوز قطع النسل إلاّ عند الضرورة إذا قرّر الأطباء الأكفاء أنه يخشى من الحمل الهلاك خوفًا غالبًا ففي هذه الوضعية لا حرج في إجراء العملية بعد استشارة الزوج، أمّا إذا كانت أسباب الخطر آنية يمكن أن تعالجها بالأدوية أو الراحة، فليس لها سبيل قطع النسل وجاز لها التباعد بين الولادات باستخدام الوسائل المانعة من الحمل التي لا تضرّ لتعود بعد ذلك إلى وظيفتها.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 24 محرم 1422ه
الموافق ل : 27 مارس 2003م(9/112)
الفتوى رقم: 169
ضابط جواز استعمال حبوب منع الحمل
السؤال: من المعلوم بداهة أنّ المرأة في حالة الحمل تتغير عادتها فتؤثر سلبا في سلوكها ممّا قد يؤدي إلى اختلافات مع أهل زوجها (لأنّها تقطن معهم في مسكن واحد) وهذا خاصة في السنة الأولى من زواجها (هناك حالات وقعت)
فهل يجوز استعمال الحبوب لمنع الحمل في السنة الأولى من زواجها حتى يتمكن لها أن تتعرف على أهل زوجها ويتعرفون عليها؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فاعلم أنّ الأصل في الزواج تحقيق سنة الله في الخلق والكون، وهي الأسلوب الذي اختاره الله تعالى للتكاثر واستمرار الحياة ويدلّ عليه قوله تعالى:?ومن آياته أن خلق لكم من أنفُسِكُم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة، إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكرون? [الروم: 21] وقال أيضا إخبارا عن الرسل والأنبياء الواجب الاقتداء بآثارهم والاهتداء بهداهم:?ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية? [الرعد: 38] وقال عز وجل في معرض الامتنان على خلقه ?والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات? [النحل: 72] وقال عليه الصلاة والسلام:"تزوجوا الودود الولود فإنّي مكاثر بكم الأمم يوم القيامة"(1) .
وعليه فإنّه لا يعدل عن هذه الحكم التشريعية المقررة في العلاقات الزوجية إلاّ إذا اقترن بها دليل يرجع أساسا إلى الضرر الجسماني الذي يلحق الزوجة من جراء الحمل أو يرجع للأولاد عموما، وفي هذه الحال يصح أن تستعمل هذه العوازل استثناء عن الأصل المقرر المتقدم، أمّا السبب المذكور في السؤال فلا يصلح أن يستثنى من القاعدة السالفة البيان، والله أعلم.
والله أعلم بالصواب وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّ اللّهم على محمّد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما.
__________
1- أخرجه ابن حبان في صحيحه رقم(1228)، وأحمد رقم(12948)، والطبراني في الأوسط(1/1/163)، وسعيد بن منصور في سننه(490)، والبيهقي(13858)، من حديث أنس رضي الله عنه. وأخرجه أبو داود في النكاح رقم(2050)، والنسائي في النكاح رقم(3227)، والمحاملي في الأمالي(21)، من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه، وصححه الألباني في الإرواء(6/195)، رقم(1784)، وفي آداب الزفاف ص:(132).(9/113)
الفتوى رقم: 414
في حكم إجهاض حيٍّ بسبب الإعاقة والتشويه
السؤال: لقد رزق الله عز وجل أحد إخواننا ولدا، لكن بعد مرور أربعة أشهر من الحمل أبلغه الأطباء أن ابنه إن ولد سيولد معوَّقا أو مشوَّها، ولا يكون كسائر الأطفال، فتعجل هدا الأخير في أمره وتسرع في قراره وقام بإسقاط هذا الجنين والله المستعان. وللعلم -شيخنا- أن وجود الولد لم يكن يشكل أي خطر على صحة الأم إن بقيت به حاملا.
يسأل هذا الأخ عن حكم الشرع في هذا العمل الذي كان نتيجة التعجل بدون علم وبدون استشارة أهل الشرع في ذلك، وهل عليه دية وإن كانت فلمن يعطيها؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فإنه إذا استقرت النطفة برحم المرأة فلا يجوز إسقاطها سواء قبل نفخ الروح فيه أو بعد، إلاَّ إذا اقترن بما تتضرر به المرأة بصحتها فإنه يجوز إسقاطه قبل نفخ الروح فيه كما يجوز عند جمهور أهل العلم إسقاط الجنين في صورة ما إذا شكَّل خطراً على حياتها، أو بما يؤدي إلى إماتة أمِّه التي كانت سببا في وجوده، ولو بعد نفخ الروح فيه، لأنها سبب لوجوده فلا يكون سببا في إعدامها وإماتتها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنه من حقِّ الجنين ولو مع حدوث إعاقات له في جسده فإنه من النظرة الشرعية مخلوق تام الخلقة ولو مع وجود هذه العيوب لقوله تعالى: ?الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ? [السجدة: 7]، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« كُلُّ خَلْقِ اللهِ حَسَنٌ"(1)، لكن هذه العيوب بالنظر إلى من كَمُلت أجزاؤه تعدُّ عيوبا وإلا فهي خلقة تامة وافقت حكمة الله سبحانه وتعالى وسنته في عباده ومخلوقاته، ومن حق المخلوق أن يعيش عمره كبقية الناس فلا يجوز وضع حدٍّ لحياته إجهاضًا بعد نفخ الروح فيه أو غير ذلك من الوسائل، ومن قتل نفسا بعد نفخ الروح فيه غير مصحوبة بأسباب مرضية كما تقرر ذكره لا يقصد من وراء ذلك العمد والعدوان خاصة من أب أو أمٍّ اشتركا في ذلك فإنه يتقرر في حقهم صيام شهرين متتابعين ولا يأخذا من الدية شيئا إن قدمها لوارثيه فإن تنازلوا عنه فليس عليهما إلا كفارة الصيام كحق من حقوق الله سبحانه وتعالى.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 14 ربيع الأول 1427ه
الموافق لـ: 12 أنريل 2006م
__________
1- أخرجه أحمد (19130)، والحميدي في مسنده (782)، والطحاوي في مشكل الآثار (2/287)، من حديث الشريد بن سويد رضي الله عنه. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1441).(9/114)
الفتوى رقم: 458
في حكم استعمال الحبوب لمعالجة العجز الجنسي
السؤال: هل يجوز استعمال المضخة الهوائية (آلة تكبير حجم الذكر)؟ أو تناول حبوب لنفس الغرض؟ وهل يجوز تناول حبوب وأدوية تساعد على تأخير قذف المني أثناء الجماع؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فلا مانع من استعمال المضخة الهوائية [آلة تكبير حجم الذكر] أو تناول حبوب العجز الجنسي أو الحبوب المساعدة على خروج المني عند الجماع إذا خلت من أضرار جانبية أو مضاعفات على البدن والصحة، وذلك بعد استشارة طبيب مختص، ترغيبًا لتحقيق المودة والسكون كما في قوله تعالى: ?وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ?[الروم: 21]، ولئلا يفوِّت عن زوجته حقها في اللَّذَّة والاستمتاع المشروع.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 17 جمادى الأولى1427ه
الموافق ل: 13 جوان 2006م(9/115)
الفتوى رقم: 697
في استحباب الخروج من الخلاف
محافظةً على مقاصد الزواج
السؤال:
تقدَّم لخِطبتي أخٌ مستقيمٌ -أحسبه كذلك ولا أزكِّي على الله أحدًا- وكان من بين شروطه أن لا أتحلى بالذهب المحلَّق؛ لاعتقاده حرمتَه، فهل يصحُّ له أن يشترط عليّ عدمَ لُبسه مع أني أعتقد حِلِّيتَه؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فإنه بِغَضِّ النظرِ عن حُكم مسألةِ الذهبِ المُحَلَّقِ، فإنّ مَنِ اعتقدَ بِحِلِّيَّتِهِ يستطيعُ رَدْمَ الخلافِ بتحقيقِ مصلحةٍ راجحةٍ مِن تأليف القلوبِ عملاً بقاعدةِ:« يُسْتَحَبُّ الخُرُوجُ مِنَ الخِلاَفِ »، وقد ترك النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم تغييرَ بناءِ البيتِ لِمَا فيه من جَمْعِ القلوب(1)، وصَلَّى ابنُ مسعودٍ خَلْفَ عثمانَ رضي الله عنهما بعد إنكاره لإتمامِ الصلاةِ في السفر نَبْذًا للخلاف ودفعًا للشقاقِ(2)، وإنما مَن عنده الحكمُ الأخفُّ -المتضمّنُ لجوازِ التركِ والفعلِ- عليه أن يوافق من يتمسَّك بالحكم الأثقل الذي يعتقد حُرمتَهُ لا العكس.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 24 ربيع الثاني 14258ه
الموافق 12 ماي 2007م
__________
1- أخرجه مسلم في «الحج »، باب نقض الكعبة وبنائها: (3242)، والترمذي في «الحج »، باب ما جاء في كسر الكعبة (875)، والنسائي في «مناسك الحج » باب بناء الكعبة: (2902)، والحاكم في «المستدرك »: (1764)، وأحمد: (24188)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
2- عن عَبْدِ الرَّحْم?نِ بنِ يَزِيدَ، قال:« صَلَّى عُثْمانُ بِمِنًى أَرْبَعًا، فقال عَبْدُ الله: صَلَّيْتُ مَعَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم رَكْعَتَيْنِ وَمَعَ أبي بَكْرٍ رَكْعَتَيْنِ، وَمَعَ عُمَرَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ تَفَرَّقَتْ بِكُمُ الطُّرُقُ، فَلَوَدِدْتُ أَنَّ لِي مِنْ أرْبَعِ رَكَعَاتٍ رَكْعَتَيْنِ مُتَقَبَّلَتَيْنِ. قال الأَعمَشُ: فحَدَّثَني مُعَاوِيَةُ بنُ قُرَّةَ عن أشْيَاخِهِ أنَّ عَبْدَ الله صَلَّى أرْبَعًا. قال: فقِيلَ لَهُ: عِبْتَ عَلَى عُثْمانَ ثُمَّ صَلَّيْتَ أرْبعًا. قال: الخِلاَفُ شَرٌّ ». أخرجه أبو داود في «المناسك »: (1960)، وابن خزيمة في «صحيحه »: (2941)، وأبو يعلى في «مسنده »: (5377)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (5536). والحديث صحَّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة »: (1/444).(9/116)
الفتوى رقم: 918
في حكم التبني وآثاره
السؤال:
تبنَّى زوجان بنتًا من الأولاد الذين تقوم الدولة على رعايتهم، وذلك بتسجيلها في الأحوال الشخصية منسوبةً لهما، وقد كَبِرت هذه البنتُ، وتقدَّم لخطبتها رجلٌ يعلم حالَها، فنرجو توضيح ما يأتي مفصَّلاً، إن أمكن وبارك الله فيكم:
هل يجوز الزواج بهذه البنت منسوبة لهذين الزوجين بالتبني؟ وهل يجب أن يتبرأ من هذا التبني البنتُ والزوجان؟ وهل يكفي في التوبة من هذا التبني تبرؤ البنت والزوجين منه قلبًا وأمامَ كلِّ الناس، أم يجب السعي لدى المصالح الحكومية لإلغائه؟ وكذا في حالة موافقة البنت على إلغاء هذا التبني لدى المصالح الحكومية وَرَفَضَ الزوجان ذلك سواء بحجة أنهما يُحبَّان هذه البنت، ويعتبرانها بنتًا لهما وأنهما يرفضان مصطلح التبني، و إنما لجئَا لتسجيلها في الدفتر العائلي لما تفرضه القوانين على أخذ الأولاد، أو بحُجَّة العراقيل الإدارية لدى المحاكم؟ واللهَ نسأل أن يجزيَكم خيرَ الجزاء.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فلا يصحُّ لأحدٍ أن يُثبت نسبَه لأحدٍ بالتبنِّي؛ لأنَّ نظام التبنِّي كان معمولاً به في الجاهلية وفي أول ظهور الإسلام، ويرتِّبون عليه تحقُّق البُنُوَّة النسبية وغيرها من الآثار، والإسلام نسخ نظام التبني وأبطل جميع آثاره في قوله تعالى: ?مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ? [الأحزاب: 4]، فالكلام باللسان لا يُبدِّل الوقائعَ ولا يغيِّر الحقائقَ ولا تجعل الدَّعِيَّ ولدًا ولا الغريبَ قريبًا ولا الأجنبي أصيلاً، فالواجب نسبته إلى أبيه الحقيقي إن عُلم، فإن تعذَّر معرفة ذلك فهو من الإخوان في الدِّين والموالي، ففي الأُخوة في الدِّين والموالاة عِوض عمَّا فاته من النسب، لقوله تعالى: ?ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا? [الأحزاب: 5].
هذا، وإذا كان الإسلام حَرَّم التبني وأبطله فإنّه لم يمنع أهلَ الاستطاعة مِنَ القيام على شئون اليتامى واللُّقَطاء أو الأطفال المجهولي النسب وتربيتهم والإحسان إليهم، بل ندب إلى التكفل بهم على وجه يصلح حالهم برعايتهم جسميًّا وتربيتهم دينيًّا وخُلُقيًّا حتى يكبروا ويرشدوا، وهو مأجورٌ على إحسانه إليه وتربيته له، لكن لا يجوز شرعًا أن يُعطي له الكفيل لقبَ عائلته مهما كان عُذر الكفيل أو أضاف إلى عذره حُجَّة الرحمة به والشفقة عليه والعطف على تربيته، أو لإشباع غريزة الأُبوة والأمومة إذا كان الكفيل عقيمًا أو زوجته عاقرًا، فهذه الأسباب أو غيرُها لا تجعل الدعي ولدًا، ولا يترتَّب على التبنِّي أحكام البنوة الحقيقية لما يخلفه من آثار سيئة كالكذب والزور، واختلاط الأنساب والتلبيس فيها، وتغيير قسمة المواريث على وجه يحرم المستحق ويعطي غير المستحق، وتحليل الحرام في الخلوة والتكشف ونحوهما من الأعراض، وتحريم الحلال كنكاح الابن من الصلب بالبنت من التبني أو بالعكس، ونحو ذلك من أسباب التعدِّي على حدود الشريعة وانتهاك لحرمات الله سبحانه وتعالى.
وفي هذا المضمون من إحلال الغريب الأجنبي الدَّعِيِّ محلَّ الولد القريب الأصيل ونسبته إلى غير أبيه ومواليه تأتي أقوال النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم محذِّرةً من هذه الكبيرة، ومنكرةً للكذب والزور، ومحرِّمةً لتجاوز حدود الله فيها، في قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ -وَهُوَ يَعْلَمُ- فَالجنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ »(1)، وفي قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُهُ إِلاَّ كَفَرَ »(2)، وفي حديث آخر:« مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ أَوِ انْتَمَى إِلَى غَيْرِ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ المتَتَابِعَةُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ »(3)، وفي قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم -أيضًا-:« مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ أَوْ انْتَمَى إِلَى غَيْرِ مَوَالِيهِ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لاَ يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ يَوْمَ القِيَامَةِ صَرْفًا وَلاَ عَدْلاً »(4) أي: لا يقبل منه توبةً ولا فِدية(5).
هذا، والواجب تعديل لقب البنت بالتبني وتغييره إلى أصلها ونسبها الحقيقي، وذلك بالرجوع إلى سجلات بيوت الحضانة والأيتام الحكومية، فإن كانت يتيمةً مات عنها أبوها فإنَّها تنسب إليه، وإن ولدت من سفاح فإنَّها تُنسب إلى أُمِّها الواضعة لها، وعلى المتبنِّي الكفيل أن يبذُل قُصَارى جهده ليصحِّح خطأه إن استطاع إلى ذلك سبيلاً، فإن تعذَّر لموانعَ قانونيةٍ أو لأسباب إدارية، فإنَّه يختار لها اسمًا يناسبها كأَمة الله، أو أمة الرحمن، ونحو ذلك، ووجب عليها أن تتبرَّأ من انتسابها للمتبني مع اعترافها بالجميل والمعروف الذي بذله من أجلها، وبالمقابل يتبرَّأ من نسبتها إليه، ويتوبَ من صنيعه إذا كان يعلم الحكم وتعدَّى حدود الله، واللهُ تعالى يقبل التوبةَ من عباده، قال سبحانه وتعالى: ?قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ? [الزمر: 53].
ويجوز الزواج بها ويتولَّى أمرَها الحاكمُ أو من يقوم مقامه، فإن تعذَّر فإمامٌ راتبٌ وإلاَّ فللكفيل أن يتولَّى تزويجها مع مراعاة بقية شروط عقد الزواج.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 28 جمادى الأولى 1429ه
الموافق ل: 03 جوان 2008م
__________
1- أخرجه البخاري في «صحيحه » كتاب المغازي، باب غزوة الطائف: (3982)، ومسلم في «صحيحه » كتاب الإيمان باب بيان حال إيمان من رغب عن أبيه وهو يعلم: (220)، من حديث سعد بن أبي وقاص وأبي بكرة رضي الله عنهما.
2- أخرجه البخاري في «صحيحه » كتاب المناقب، باب نسبة اليمن إلى إسماعيل: (3317)، ومسلم في «صحيحه » كتاب الإيمان، باب بيان حال إيمان من قال لأخيه المسلم: يا كافر: (217)، من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
3- أخرجه أبو داود في «سننه » كتاب الأدب، باب في الرجل ينتمي إلى غير مواليه: (5115)، من حديث أنس رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في «صحيح الجامع »: (5987).
4- أخرجه مسلم في «صحيحه » كتاب الحج، باب فضل المدينة ودعاء النبي فيها بالبركة: (3327)، والترمذي في «سننه » كتاب الولاء والهبة، باب ما جاء فيمن تولى غير مواليه: (2127)، وأحمد في «مسنده »: (616)، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
5- «النهاية » لابن الأثير: (3/24).(9/117)
06- آداب الزواج
الفتوى رقم: 132
الحناء في الأعراس
السؤال: إلى شيخنا أبي عبد المعز محمد علي فركوس زاده الله علما وفضلا.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد:
يوجد في الأفراح في بلدنا عادة وهي عادة (الحنّة) وقد اجتمعت حول هذه العادة الأمور التالية:
- اعتقاد أنّه إذ لم تحن العروس (المرأة) فلن تُنجب ذرية.
- بعد إنهاء الحنّة يجب إخفاء الإناء الذي مزجت فيه الحنّة كي لا يقع في أيد خبيثة حاسدة
فتستعمله في السحر وإلحاق الضرر بالعروس، وكذا الحنّة التي في يد العروس يجب
أن لا تقع في يد أحد فيستعملها في السحر والعياذ بالله.
- تُمزج الحنّة أحيانا بالبيض اعتقادا منهن أنّ البيض من علامات الإنجاب والولادة.
بعد ما سبق سرده من اعتقادات حول هذه العادة، ما حكم هذه العادة ؟ مع العلم أنّ النساء يُنكرن هذه الأمور ويحتججن بأنّها عادة وعلامة فرح وأنّ نيتهن صافية، وإذا طلب منهن عدم القيام بها بناءً على أنّها عادة وأنّها تضرّ إن لم تفعل أبيْنَ وأَصْرَرْنَ عليها.
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فاعلم أنّ النية الحسنة لا تبرر الحرام بحال، فإذا كانت هذه العادة ممزوجة بتلك العقيدة فإنّ القيام بفعلها ضرب من الشرك الذي يزجر عنه الشرع، ففي الحديث:" إنّ الرقى والتمائم والتوله شرك"(1) وفي حديث آخر مرفوعا:" من علّق شيئا وُكِلَ إليه"(2).
وكلّ عادة محرّمة الأصل فالتذرع بتحكيمها مضاد للشرع، إذ أنّ العرف أو العادة إذا كان يحرّم حلالا أو يحلّ حراما فهو فاسد وباطل، والاعتداد به غير جائز شرعا وآثم صاحبه.
وما دام الاعتقاد به على هذا الوجه المنهي عنه متفش عند عامة النّاس فإنّ إنكار البعض بقلوبهم لا يصيّره حلالا، لأنّ الأصل معروف بهذا الاعتقاد المحرّم والتمسك بإرادة التزيين والتجميل لا ينفي بقاء المعتقد الفاسد في آحاد النّاس فيكون العمل به على هذا النحو إعانة على الباطل والإثم، قال تعالى: (ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) [المائدة: 2]، لذلك يمنع طريق الفساد إليه مطلقا عملا بمبدأ سدّ الذرائع، ولأنّ دفع مفسدة الاعتقاد المحرّم أولى من جلب مصلحة التجميل والتزيين كما هو مقرر في قواعد مصالح الأنام.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
__________
1- أخرجه أبو داود في رقم(3883)، وابن ماجة في رقم(353)، وأحمد(2682)، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1/648) رقم (331).
2- أخرجه الترمذي في الطب رقم(2072)، والحاكم(4/216)، وأحمد رقم(19294)، من حديث عبد الله بن عكيم رضي الله عنه. وحسنه الألباني في غاية المرام ص:(181) رقم(296).(9/118)
الفتوى رقم: 133
الرقص في الزفاف
السؤال: ما حكم الرّقص مع الغناء في الزفاف؟
أفتونا مأجورين إن شاء الله، وبارك الله في عملكم وعمركم هو وليّ ذلك والقادر عليه والحمد لله ربّ العالمين.
الجواب: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فرقص المرأة أمام غيرها من نساء المسلمين على وَقْع غناء مباح، فإن كان الرقص فطريا بتحريك الرأس وترويح اليدين والتلويح بهما وخلا من هزٍّ للخصور والأرداف، وكلّ تحريك يثير النفس ويجلب دواعيها الشهوانية فلا أرى مانعا في جوازه.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
الجزائر في: 5 ربيع الأول 1418ه
الموافق ل :10 جويلية 1997 م(9/119)
الفتوى رقم: 136
التلقيح الاصطناعي
السؤال: شيخنا: أفتنا في امرأة سقط لها الحمل مرتين، وبعدما أجريت لها التحاليل الطبية في كلّ مرة منها لم يشخصوا المرض وبالأحرى لم يثبُت هناك مرض أصلا، وفي نفس الوقت لم تحمل بعد، فتعين للأطباء بعد متابعتها بالأدوية، أنّ الهرمونات البيضوية في رحمها ضعيفة، فاضطروا إلى عملية التلقيح الاصطناعي كحل أخير، وهو أخذ مني الزوج وزرعه في بويضة الزوجة، وربما كلّ هذا يندرج تحت عمل شعوذي أو سحر...إلخ(1).
فهل يجوز شيخنا هذا التلقيح، مع التوضيح والشرح، ونطلب منك نصيحة للزوجين، فهما وبعد خمس سنوات لازالا صابرين يحتسبان أمرهما لله تعالى، وجزاكم الله خيرا ونفعنا الله بعلمكم وحفظكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فهذه المسألة عند الفقهاء ترجع إلى مدى اعتبار العقم ضررا، فمن اعتبر كذلك أباح اللجوء إلى طلب علاجه كغيره من الأمراض كالعمى والعرج بجامع إصابة ينتج عنها خلل وظيفي، وهو ما قرره المجمع الفقهي الإسلامي في دورته الثالثة المنعقدة في عمان (صفر 1407ه) أنّ فيه طرقا جائزة وأخرى محرمة شرعا، وممّا قرروه أنّه لا حرج في اللجوء إلى تلقيح بويضة الزوجة بمني زوجها تلقيحا اصطناعيا ثمّ إعادته إلى رحم الزوجة ليتمّ الحمل عاديا عند الحاجة مع التأكد على ضرورة الأخذ بكلّ الاحتياطات اللازمة.
أمّا من لم يعتبره ضررا لا يرى إباحة علاج العقم لانتفاء الضرورة الشرعية والحاجة الشديدة إلى إزالته.
والذي تميل إليه نفسي أنّ العقم يمكن اعتباره ضررا نفسيا يولد آلاما عميقة وسط الأسرة الخالي بيتها من الأطفال، وباتجاه كلّ ألم تكمن الضرورة والحاجة، إذ الأمر إذا ضاق اتسع، غير أنّ الذي يعكر على الحكم بالجواز على عمليات التلقيح الصناعي خطورة احتمال الخطأ فيها وترتب اختلاط النسب بالتبع، إذ لا يأمن أن يدخل في العملية ما هو محظور كأن يضيف المختص في المخبر إلى مني الرجل الضعيف منيا آخر ليقويه، أو يغير بعض مقومات بويضة الزوجة بإحلال مقومات أخرى لبويضة أجنبية قصد إصلاحها وطمعا في رفع نسبة النجاح، علما أنّ التنافس بين المراكز المخبرية المتعددة في تحسين نسبة النجاح وطلب الربح والتجارة فيه لا يستبعد من ورائه - إطلاقا - وقوع إهمالات وتجاوزات، الأمر الذي يؤدي إلى المساس بعرض الرجل ودينه، فهذه المفسدة الشرعية مرتبطة أساسا بعدالة المختصين المباشرين لعملية التلقيح الصناعي ومقدار الأمانة وحجم الثقة الموضوعة فيهم، فضلا عن تكشف المرأة أمام طبيبة أو طبيب غالبا يقوم بقذف البويضة الملقحة بحقنة في جهاز المرأة التناسلي.
ولا يخفى أنّ مثل هذه المفاسد من العسير التحري منها واتخاذ الاحتياطات اللازمة لها، وإذا تعذر ذلك علم أنّ مصلحة الإنجاب عورضت بمفسدة اختلاط الأنساب الواجب تقديمه حالة التعارض عملا بقاعدة درء المفاسد مقدم على تحقيق المصالح، ولا يخفى -أيضا- أنّ مثل هذه المفاسد غائبة في المقيس عليه العمى والعرج فلا يصح القياس مع ظهور الفارق بينهما والطارئ الذي يلتبس به أحدهما.
والعلم عند الله تعالى؛ وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلّم تسليما.
الجزائر في 11 شعبان 1421ه
الموافق ل : 8 نوفمبر 2000م
__________
1- كان الزوج له ضعف جنسي حاد فلما أرقي شفي بإذن الله تعالى، أما عند الزوجة فقد شرعت في البكاء أثناء الرقية، ولم تستمر بعد ذلك في الرقية.(9/120)
الفتوى رقم: 154
حكم ما يقع في الأعراس
السؤال: إنّ هناك أمورا كثيرة تقع في أعراس النّاس اليوم، حتى أصبحت من الضروريات اللازمة في كل عرس وخاصة بين النساء (التصديرة للعروس، الغناء...)
فما هو المشروع من هذه الأمور وكيف يمكن أن يكون العرس الشرعي اليوم؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فلا يخفى أنّ في العرس ما هو حلال بيِّن وفيه ما هو حرام بيِّن، أمّا الشبهات التي ينبغي أن تطرح للنظر فيما إذا كانت داخلة في شق الحلال أو في الشق المحرم.
ومع ذلك يمكن أن يقال إنّ الأصل في الأعراس الجواز ما لم تخالف نصا محرما أو تعاليم شرعية تنهى عنها أو تتضمن شركا، ومن الشركيات: الحنّة التي يراد بها جلب السعادة، أو تكسير الطبق أو الإناء الذي تعجن فيه الحناء، وغيرها.
ومن المنهيات: الاختلاط وكشف العورات والرقص الماجن، وتغيير ألبسة العروس وما يترتب عليه من النظر إلى مواضع يحرم فيها النظر وغيرها؛ هذا.
والله أعلم بالصواب وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّ اللّهم على محمّد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 5 شعبان 1418ه
الموافق ل : 2 ديسمبر 1997م.(9/121)
الفتوى رقم: 290
في حكم إقامة وليمة العرس بقاعة الأفراح
السؤال: ما حكم إقامة الأعراس بقاعات الأفراح؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فإنّ إقامة الأفراح والأعراس واختيار الأمكنة الأنسب لها يدخل في حكم العادات والأصل في العادات العفو والإباحة فلا يحظر فيها إلاّ ما حرّمه الله تعالى وإلاّ دخلنا في معنى قوله تعالى: ?قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ? [يونس: 59] ولا يُعدل عن هذا الأصل إلاّ إذا اقترن به محذور شرعي يرجع إلى وجود اعتقاد فاسد أو يخالف حكمًا شرعيا ثابتاً أو يلحق ضررًا آكدًا أو متوقّعًا.
ولمّا كانت معظم قاعات الحفلات والأفراح وعاءًا لمفاسد خُلُقية من العُرْي والسّفور والرّقص الفاتن الموروث من تقاليد أهل الكفر والضلال وغيرها فضلاً عن المجاهرة بالسوء والإضرار الذي يلحق بالناس، وما يلمز به أصحاب هذه القاعات -لسان حالهم- المتورعين من سماع مزامير الشيطان وأصوات الملاعين من أعوانه من المغنيين والمغنيات من غير مبالاة ولا احترام ليغيظوا بها أهل الإيمان والالتزام والتقوى، فإنّ إيجار هذه القاعات مع تضمّنها للمساوئ السالفة البيان وانتيابها من قِبَل الملتزمين لَهُوَ تزكية لأهل الفجور والفسوق ومباركة لهم على صنيعهم وتقوية لهم على المزيد من الرذائل واستمرار نشرها بين الناس، وهذا تعاون يأباه الشرع وينهى عنه قال تعالى ?وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ? [المائدة: 2]
لكن إذا وجدت قاعات للاستراحة والأفراح غير مشتهرة بمثل هذه القبائح وخلت منها، فيبقى حكم العادة فيها ساري المفعول وهو العفو والإباحة -كما تقرر سابقا-.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
الجزائر في: 19 رجب 1426ه
الموافق لـ: 24 أوت 2005م(9/122)
الفتوى رقم: 294
في حكم تزيين السيارات يوم الزِّفاف
السؤال: هل يجوز في عُرس الزِّفاف تخصيص سيارة جميلة، وتزيينها بقطع أو شرائط من قماش لتُعرف في الزِّفافٌ؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فتخصيص سيارة للعروس وتزيينُها بحيث تتميَّز عن بقيَّة السيَّارات وسائر المراكب لا مانع من ذلك، إذا ما حُفَّت به من قطع قماش تُزيَّن به السيارة، شأنه في ذلك كشأن الهودج الذي كان يُخصَّص للمرأة المتزوِّجة على بعير قويٍّ يحملها، وهي مُغشَّاة بِمُختلف الأكسية الجديدة، تعبيرًا عن الفرحة والسرور، فلا يخرج ذلك عن عموم الأعياد وسائر الأفراح، غير أنّ الورود التي توضع في السيارة، هي من عادات غيرنا، وهذا معروف عند النصارى بعد عقد قِرَان الزوجين في الكنيسة، يأخذون صُوَرًا فوتوغرافية على باب الكنيسة، ثمّ يُرشَقُون بالورود ويُقذَفُون بها، وهم كذلك حتَّى يركبوا في السيارة المليئة بالورود والمزيَّنة من جميع جوانبها، من داخلها وخارجها، وهذا أَمرُهُم، وهو لا يَعنِينَا، و«مِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ »(1).
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 26 ذو الحجة 1427ه
الموافق ل: 15 يناير 2007م
__________
1- أخرجه ابن ماجه (2/1315)، والترمذي (4/558)؛ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وصحّحه الألباني في «صحيح الجامع » (رقم 5911)، وقال في «صحيح الترغيب والترهيب » :« إسناده حسن »، (رقم 2881 ).(9/123)
الفتوى رقم: 479
في بقاء المحظور إذا غيرت العروس ملابسها لوحدها
السؤال: قلتم -شيخنا- بمحظورية التصديرة للعروس، فهل المحظور في كثرة تغيير الفساتين؟ أم في كشف عورتها لمن تعينها على التغيير؟ وهل إذا غيّرت ملابسها لوحدها يبقى المحظور قائما؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فالملابس التي تتصدَّر بها العروس مجلسَها فيها من الإسرافِ والتبذيرِ في اللباس ما لا يخفى إذ مُعظم هذه الألبسة تترك استعمالها فضلاً عن كونها مدعاة للافتخار والمباهاة، ومن المفاسد أيضا أنَّ المغلاق العمودي أو السلسلة توجد في أعلى ووراء تلك الفساتين والملابس الأمر الذي يتعذر عليها تغيير ملابسها لوحدها فتُرى عورتها الواجبة الستر.
فالحاصل أنَّ هذه الملابس -فضلا- عن تضمنها الإسراف والتبذير والمباهاة والتفاخر، فإنَّ هذا يكفي في المنع، ويزيد على ذلك ظهور عورتها في تأكيد المنع.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 10 جمادى الثانية 1427ه
الموافق لـ: 5 يوليو 2006م(9/124)
الفتوى رقم: 488
في حكم لبس العروس العباءة البيضاء ليلة الزفاف
السؤال: ما حكم لبس العروس العباءة البيضاء ليلة الزفاف؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فالمعروف أنَّ لبس الفستان الأبيض والعباءة البيضاء من خصائص أعراس النصارى ومن ألبستهم ديناً ودنيا، وإذا كان من حقوق البراء أن لا يشارك المسلم الكفار في أعيادهم وأفراحهم ولا يهنئهم عليها لكونها من الزور كما فسَّر بعض أهل العلم قوله تعالى:?وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ?[الفرقان: 72] أي: أعياد المشركين وأفراحهم، فإنه لا يجوز التشبه بهم في صفة أعيادهم وطريقة ألبستهم فيها، وقد صحَّ النهي عن التشبه بهم في صفة أعيادهم وطريقة ألبستهم فيها في قوله صلى الله عليه وآله وسلم:« مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ »(1) وفي صحيح مسلم أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:« هَذِهِ مِنْ ثِيَابِ الكُفَارِ فَلاَ تَلْبَسْهَا »(2)، إذ المعهود في المجتمعات الإسلامية خصوصيته بالذكور دون الإناث، والعروس المتزينة بالبياض متشبهة بالرجال، وقد " لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم الْمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ "(3) فضلاً عن تضمنه للباس الشهرة المنهي عنه لذلك ينبغي تركه والعدول عنه إلى ما يساير اللباس الشرعي الخاص بالإناث على وجه يوافق النصوص ولا يخالفها.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في:7 جمادى الثانية 1427ه
الموافق لـ:2 يوليو 2006م
__________
1- أخرجه أبو داود في اللباس(4033)، وأحمد(5232)، وابن أبي شيبة في المصنف (33016)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. والحديث حسنه ابن حجر في "فتح الباري"(10/271)، وصححه العراقي في "تخريج الإحياء"(1/359)، والألباني في الإرواء (1269). وانظر "نصب الراية" للزيلعي (4/347)
2- أخرجه مسلم في اللباس والزينة (2077)، والبيهقي (8900)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه.
3- أخرجه أبو داود في اللباس (4097)، والترمذي في الأدب (2784)، وابن ماجه في النكاح (1904)، وأحمد (2291)، والطبراني في المعجم الأوسط (4003)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. والحديث صححه أحمد شاكر في تحقيقه لمسند أحمد (4/79)، والألباني في صحيح الجامع(5100)، وفي غاية المرام (87).(9/125)
الفتوى رقم: 543
في حكم استعمال الدف البلاستيكي
السؤال: اختلفت الآراءُ حول حكم الدف البلاستيكي:
- فمِن مُجيزٍ باعتبار خُلُوِّه من الأوتار، وأنه ذو وجهٍ منفرد (أي خرج عن كونه طبلاً) وأنه باقٍ على الحِلِيَّة.
- وَمِن مُحَرِّمٍ له باعتبار مادّةِ صُنعِه، إذْ أنّه -كما ترون- مصنوع من مادة بلاستيكية، فلمّا كان له شكلُ الدفّ واختلفت مادةُ صنعِهِ -من جلد الحيوان إلى البلاستيك- تغيّر معه الحكم من الإباحة إلى الحُرمة، إذْ أنّه أصبح مثلُه مثلَ أيِّ آلةٍ موسيقيةٍ.
فأيَّ الاعتبارين ترون فيه الحكمَ صوابًا؟ وما حكمُ استعمالِ هذا الدُفِّ؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فإن كانت المغايرةُ مع الدُّفِّ الأصليِّ في مادتِهِ البلاستيكيةِ نُظِر في صفةِ وَقْعِهِ الطَرَبيِّ الموسيقيِّ، فإن ماثله فهو مثلُه، وإن شابهه فيُلْحَقُ به في الحكم، أمّا إن أحدث وَقْعًا مَغَايِرًا فليس بالدفِّ المرخّصِ في إباحتِهِ استثناءً بالنصوص الحديثية، بل هو معدودٌ من جملةِ آلات الطَّرَبِ بالاعتبار السابق.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 27 شعبان 1427ه
الموافق ل:20 سبتمبر 2006م(9/126)
الفتوى رقم: 545
في حكم «الزغاريد »
السؤال: ما حكم «الزغاريد »؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
«فالزغاريد » تعبيرٌ عن الفرحة، لا يخرج عن جملة الغناء المباح في النكاح والعيد، ويجب أن يُقتصر على النساء فقط، ولا يجوز أن يَتَعَدَّى هذا الصوتُ إلى غيرِهنّ.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في الاثنين 26 ذو الحجة 1427ه
الموافق ل: 15 يناير 2007م(9/127)
الفتوى رقم: 567
حكم وليمة العرس لمن عليه دَين
السؤال: إذا كان على العريس دينٌ مالي مطالبٌ به، فهل تجب عليه الوليمة؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فالمعلوم أنّ الوليمةَ واجبةٌ، فلا بُدَّ له (أي: العريس) من وليمة بعد الدخول، لأمر النَّبِيّ صلى الله عليه وآله وسلم عبدَ الرحمن بنَ عوف ?رضي الله عنه? بذلك، وهذه الوليمة ينبغي أن تكون ثلاثة أيّام عَقِب الدخول، كما هو منقول عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وأن يكون الذين يُدعَوْنَ إلى هذه الوليمة من المسلمين المتقين لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« لاَ تُصَاحِبْ إِلاَّ مُؤْمِنًا، وَلاَ يَأْكُلُ طَعَامَكَ إِلاَّ تَقِيٌّ »(1).
وأن يُولِمَ بشاةٍ أو أكثر إن وجد في ذلك سعة، وأمّا إن تَعذَّر عليه ذلك فلا يُشتَرَط في الوليمة أن تكون باللحم، إذ تجوز بدونه، ومَن كان عليه دَيْن فعليه أن يَتَرَجَّى صاحبَه بأن يَطلُبَ منه أن يُمْهِله، صيانةً لعرضِهِ من القدح فيه والوقوع في الْمُحرَّمات، فإن تَزوَّج وعليه دَينٌ فزواجه صحيح لا غُبار عليه، ووجب رَدُّ الدَّيْن الذي عليه والقضاء بالأحسن إن أمكن.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في 2 محرم 1428ه
الموفق ل: 21 يناير 2007م
__________
1- أبو داود (4832)، والترمذي (2390)، وأحمد في «مسنده » (3/238)، والحاكم في «مستدركه » (4/128)؛ من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وهو حسنٌ، كما في «صحيح الجامع » للألباني (2/7341).(9/128)
الفتوى رقم: 585
في حكم التِّجوال بالعروس مع مجموعة من السيارات يوم الزِّفاف
السؤال: هل يجوز التِّجْوال بِمَوْكب العروس (أي: الزوجة) يوم زفافها إلى العريس، وعدم اختصار الطريق بها إلى بيت زوجها؟ وهل تجوز أصوات مُنبِّهات السيَّارات أثناء سير هذا الموكب؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فإذا كان التِّجوالُ بالعروس من باب الإعلان عن النكاح فلا بأس بذلك، بشرط أن لا يكون فيها مخالفات شرعية، كَبُرُوز النساء متكشِّفات على السيَّارات، أو ما يصحب من مختلف المزامير والطبول والمنبِّهات التي تزعج الناس عمومًا، وفي فترات القَيْلُولة خصوصًا، فإنّ مثل هذا الضرر يلحق بالناس، والضرر ينبغي أن يزال، كما جاء في حديث ابن عبّاس ?رضي الله عنهما? أنّ النّبِيّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قال:« لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ »(1).
أمّا إذا استُعمِلَت المنبِّهات عند الوصول إلى بيت العريس تنبيهًا عن المجيء، ففي هذا الحال يجوز ذلك لبعث الاستعداد في نفس الزوج وإدخال الغبطة والسرور على عائلته.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 3 صفر 1428ه
الموافق ل: 21 فبراير 2007م
__________
1- أخرجه ابن ماجه في (الأحكام: 2340)، وأحمد (1/313)؛ من حديث ابن عبّاس ?رضي الله عنهما?. والحديث صحّحه الألباني في «إرواء الغليل » (3/408 ? رقم: 896).(9/129)
الفتوى رقم: 586
في حكم توزيع الحلوى (المقروط) صبيحة الزِّفاف بعد البناء
السؤال:« الْمَقْرُوط » حلوى تُعطى وتُوَزَّع صبيحةَ زِفاف المرأة إن ظهر أنّ العروس بِكرٌ بعد البناء بها، وإلاّ فلا، فما حكم ذلك؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فإذا كان ذلك مصحوبًا بِمثل هذا الاعتقاد فإنّه لا يَصحُّ، فإن خلا من هذا الاعتقاد، فمعلومٌ أنّ الحلوى من مُتمِّمَات السرور، فهي بهذا الاعتبار عادة مُعبِّرة عن الفرحة فلا بأس بها.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 3 صفر 1428ه
الموافق ل: 21 فبراير 2007م(9/130)
الفتوى رقم: 587
في حكم استعمال شريط الأناشيد في العرس
السؤال: هل يجوز استعمال شريطِ الأناشيد في العرس؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فإن خَلَتْ هذه الأناشيدُ أو الغناء من مزاميرِ الطربِ وآلاتِه ما عدا الدُّفَّ المرخَّص فيه، وتَجَرَّدَت كلماتُها مِن وصفٍ للخُدُود والخمور والخواصر، وذِكْرٍ للفُجُور، وكان إعلان النكاح بين النساء، والْمُنشدةُ منهنّ، بهذه الشروط السابقة أرجو أن يصحّ ذلك، لما ثبت عن عائشة رضي الله عنها:« أَنَّهَا زَفَّتْ امْرَأَةً إِلَى رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: يَا عَائِشَةُ! مَا كَانَ مَعَكُمْ لَهْوٌ؟ فَإِنَّ الأَنْصَارَ يُعْجِبُهُمُ اللَّهْوُ »(1)، وعن الربيع بنت معوذ رضي الله عنها قالت:« جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُ حِينَ بُنِيَ عَلَيَّ، فَجَلَسَ عَلَى فِرَاشِي كَمَجْلِسِكَ مِنِّي، فَجَعَلَتْ جُوَيْرِيَّاتٌ لَنَا يَضْرِبْنَ بِالدُّفِّ، وَيَنْدُبْنَ مَنْ قُتِلَ مِنْ آبَائِي يَوْمَ بَدْرٍ، إِذْ قَالَتْ إِحْدَاهُنَّ: وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ، فَقَالَ: دَعِي هَذِهِ، وَقُولِي بِالَّذِي كُنْتِ تَقُولِينَ »(2).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم:« فَصْلُ مَا بَيْنَ الحَلاَلِ وَالحَرَامِ: الصَّوْتُ بِالدُّفِّ »(3).
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 3 صفر 1428ه
الموافق ل: 21 فبراير 2007م
__________
1- أخرجه البخاري: كتاب «النكاح » باب النسوة اللاتي يهدين المرأة إلى زوجها، رقم: (4867)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
2- أخرجه البخاري في «النكاح »: (4852)، والترمذي في «النكاح »: (1090)، وابن ماجه في«النكاح »: (1897)، والبيهقي: (15054)، من حديث الربيع بنت معوذ رضي الله عنها.
3- أخرجه النسائي في «النكاح »: (3369)، والحاكم: (2750)، وأحمد (17815)، وسعيد بن منصور في «سننه » (629)، من حديث محمد بن حاطب رضي الله عنه. وحسنه الألباني في «الإرواء »: (1994)، وفي «آداب الزفاف »: (111).(9/131)
الفتوى رقم: 588
حكم إطلاق البارود أو الرصاص قصد إعلان النكاح والتعبير عن الفرحة
السؤال: هل يجوز في العرس إطلاق البارود أو الرصاص قصد إعلان النكاح والتعبير عن الفرحة؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فإنّ ضرب البارود أو الرصاص يختلف باختلاف الْمُعتَقَد.
إن كان يُضرب قصدًا لدفع العَين أو الجنِّ وما إلى ذلك، أو كان يُوقِع في مفسدةٍ، فإنّه يُمنَع للاعتقاد الفاسد، وللضرر الْمُتَوَقَّع لأنّ «الدَّفْعَ أَسْهَلُ مِنَ الرَّفْعِ ».
أمّا إذا خلا من ذلك، وكان المراد به الإعلان عن النكاح بوسيلة البارود لانتشار صوتِ طَلَقَاتِهِ فأرجو أن يصحَّ لعموم الإعلان الذي يحصل بالدُّفّ وبغيره في قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسلّم:« أَعْلِنُوا النِّكَاحَ واضْرِبُوا عَلَيْهِ الدُّفَّ »(1)، والمسألة ترجع إلى عُرف النّاس ومعتقدهم، فعلى السائل أن يَتَبَيَّن عُرف بلده، ويَدَعَ كلَّ ما من شأنه أن يقدح في عقيدته أو يَتَسَبَّب في ضرره أو ضرر غيره. فإن شكّ في ذلك فليعمل بقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ »(2).
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 3 صفر 1428ه
الموافق ل: 21 فبراير 2007م
__________
1- أخرجه ابن ماجه: (1685)، والطبراني: (29/1/1) من حديث عبد الله بن الزبير عن أبيه رضي الله عنه مرفوعًا، والحديث حسّنه الألباني في «آداب الزفاف »: (184)، وفي «صحيح الجامع »: (1/243).
2- أخرجه الترمذي في «صفة القيامة والرقائق والورع »: (2518)، والنسائي في «الأشربة »: (5711)، وابن حبان (722)، والدارمي (2437)، والحاكم (2169)، والطيالسي (1178)، وأحمد (1729)، وأبو يعلى (2762)، من حديث الحسن بن علي رضي الله عنه، وصححه أحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد » (3/169) والألباني في «الإرواء » (1/44) رقم (12)، وفي صحيح الجامع (3373)، والوادعي في «الصحيح المسند » (318).(9/132)
الفتوى رقم: 589
حكم دعوة تاركي الصلاة إلى العرس
السؤال: هل يجوزُ دعوةُ الجيرانِ إلى الوليمةِ إذا كانوا تاركي الصلاة، أو من أهلِ الموبقات والكبائرِ؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فإنّ النَّبيّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قال:« لاَ تُصَاحِبْ إِلاَّ مُؤْمِنًا، وَلاَ يَأْكُلُ طَعَامَكَ إِلاَّ تَقِيٌّ »(1)، يعني: أن يَدْعُوَ الصالحين إليها [الوليمة] سواء كانوا فقراء أو أغنياء.
أمّا دعوةُ الجيرانِ غيرِ الْمُصلِّين مع ما هُم عليه من الكبائر والموبقاتِ فلا تجوز دعوتُهم إلاَّ إذا كان يُرجى منهم الاستقامة والهدايةُ والرَّشادُ، ففي هذه الحال تجوز دعوتهم إلى الوليمة؛ ذلك لأنّ دعوةَ أهلِ المعاصي فيه نوعُ رضًى بذنبهم ومعصيتِهم، والرضى بالمعصية معصية.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 9 صفر 1428ه
الموفق ل: 27 فبراير 2007م
__________
1- أبو داود: (4832)، والترمذي: (2390)، وأحمد في «مسنده »: (3/238)، والحاكم في «مستدركه »: (4/128)؛ من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وهو حسنٌ، كما في «صحيح الجامع » للألباني: (2/7341).(9/133)
الفتوى رقم: 590
حكمُ صلاةِ الركعتين ليلةَ الزِّفاف إذا كانت الزوجةُ حائضًا
السؤال: إذا وَجَدَ الزوجُ زوجتَهُ حائضًا ليلةَ زِفافها، فهل يُصلِّي الركعتين وحدَه أم ينتظر حتَّى تَطْهُرَ؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فأمّا صلاةُ الزَّوجَين معًا، فإنّه يستحبُّ أن يُصلِّيَا ركعتين معًا لثبوت الآثار في ذلك(1)، وأن يَضَعَ يَدَه على رأس الزوجةِ، ويَدعُوَ عند البناء بها، وقبل البِنَاء، ويُسمِّيَ اللهَ ?سبحانه وتعالى?، ويدعوَ ليُبارِكَ له ولها، كما ورد في الحديث:« اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِهَا وَخَيْرِ مَا جَبَلْتَهَا عَلَيْهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا جَبَلْتَهَا عَلَيْهِ »(2).
لكن إن وَجَدَ أهلَه حائضًا في تلك الليلة فالظاهرُ أن يُصلِّيَ وحدَه لوجود المانعِ من صلاتها معه، ويُحتَسَبُ لها أجرُ صلاتها لقيام النِّيَّة ?إن شاء الله تعالى?، ويُبادِر بالركعتين شُكرًا لله ?عزّ وجلّ? على ما وَفَّقَهُ للامتثال لسُنَّة الأنبياء والمرسلين، الذين نهتدي بهداهم ونقتفي آثارهم، كما قال سبحانه وتعالى: ?وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً? [الرعد: 38].
وكما لا يخفى أنّ المرأةَ حالَ حيضتِها يَحْرُمُ عليها الصلاةُ وغيرُ ذلك من الأفعال، لقول النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« دَعِي الصَّلاَةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ »(3)، لكن مع ذلك فإنّ حيضتَها غيرُ مانعةٍ لأفعالٍ أخرى جاء استحبابُها في ليلةِ الزِّفافِ، كمُلاطَفَتِهَا ووضع اليد على رأسها والاستمتاع بها دون الفرج.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 10 صفر 1428ه
الموفق ل: 28 فبراير 2007م
__________
1- عن أبي سعيد مولى أبي أسيد:« تَزَوَّجْتُ وَأَنَا مَمْلُوكٌ فَدَعَوْتُ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ: ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو ذَرٍّ وَحُذَيْفَةُ يُعَلِّمُونَنِي، فَقَالَ: إِذَا دَخَلَ عَلَيْكَ أَهْلُكَ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلِ اللهَ مِنْ خَيْرِ مَا دَخَلَ عَلَيْكَ، ثُمَّ تَعَوَّذْ بِهِ مِنْ شَرِّهِ، ثُمَّ (شَأْنُكَ) وَشَأْنُ أَهْلِكَ ». أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنّف »: (25469)، وعبد الرزاق في «المصنف »: (11542).
وعن أبي وائلٍ قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ: إِنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً، وَإِنِّي أَخَافُ أَنْ تَفْرَكَنِي، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ:« إِنَّ الإِلْفَ مِنَ اللهِ، وَإِنَّ الفَرْكَ مِنَ الشَّيْطَانِ، لِيُكَرِّهَ إِلَيْهِ مَا أَحَلَّ اللهُ، فَإِذَا أَدْخَلْتَ عَلَيْكَ فَمُرْهَا فَلْتُصَلِّ خَلْفَكَ رَكْعَتَيْنِ ». أخرجه الطبراني في «الكبير »: (8993)، وعبد الرزاق في «المصنف »: (11541). وقال في «مجمع الزوائد »: (4/536) «رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح ». وانظر:« آداب الزفاف »: (22-24) للألباني رحمه الله.
2- أخرجه البخاري في «أفعال العباد »: (ص 77)، وأبو داود: (2/616)، وابن ماجه: (1/617)، والحاكم: (2/185)؛ من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه رضي الله عنه. وقال الألباني ?رحمه الله? في «آداب الزفاف » (ص 20):« إسناده حسن ».
3- أبو داود: (680)، والنسائي: (1/121، 183)؛ من حديث عائشة ?رضي الله عنها?. وصحّحه الألباني في «صحيح أبي داود »، و«الإرواء »: (2118، 2119).(9/134)
الفتوى رقم: 654
في حكم حقيبة لوازم العروس ووليمة الزفاف التي يقيمها أهلُها لها
السؤال:
جرتِ العادة عندنا أنّه قبل العرس بيومين تقريبًا, يُعطِي أهلُ الزوجة للزوج حقيبةً تسمى عندنا: (بشنطة الجهاز)، وبها ملابس المرأة, والحناء, وعطور وسكر ونحو ذلك، وفي ليلة الزفاف لا بدّ أن يذهب وفدٌ من أهل العريس ليَحْضُرَ وليمة عرس المرأة, ويذهب معهم عادةً عجوزان أو أكثر ويأخذون معهم الحقيبة, ويسمّى هذا الوفد ب:« القفافة ».فما حكم هذا العمل؟ وما حكم وليمة العرس التي يقيمها أهل المرأة؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فلا أعلم أنّ للعروس وليمةً تلزمها، وإنما وليمة العرس واجبةٌ على كلّ مَن يبني بأهله بما قلّ أو كثر، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم لعليٍّ لما خطب فاطمة رضي الله عنها:« إِنَّهُ لاَ بَدَّ لِلْعُرْسِ -وفي رواية: لِلْعَرُوسِ(1)- مِنْ وَلِيمَةٍ »(2)، ولأمره صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم عبد الرحمن بن عوف بها فقال له:« أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ »(3)، وقَد «تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ صَفِيَّةَ، وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا وَجَعَلَ الوَلِيمَةَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ »(4)، وغيرِها من الأحاديث التي تدلّ على وجوب الوليمة على الزوج في عرسه.
أمّا حكم العادة المذكورة في السؤال فإن كان ما يحمل في حقيبة الجهاز من حناء وسكر ونحو ذلك مما يعتقِد فيها كثيرٌ من الناس أنها جالبةُ الخيرِ والسعادةِ على الزوجين ودافعةٌ للشرِّ والعين عنهما فإنّ هذه العادةَ تحرم لاقترانها بفسادِ مُعتقدٍ، أمّا إن خلت من أيِّ محذورٍ شرعيٍّ فتكره لِمَا في تلك العادة من تكلّفٍ وتعمّقٍ في أمرٍ يسَّره الله تعالى وسهّله.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 29 المحرم 1428ه
الموافق ل: 17 فبراير 2007م
__________
1- يقال للرجل عروسًا كما يقال للمرأة، وهو اسم لهما عند دخول أحدهما بالآخر. (النهاية لابن الأثير: 3/206).
2- أخرجه أحمد: (22526)، من حديث بريدة الأسلمي رضي الله عنه. وصححه الألباني في «صحيح الجامع »: (2419). وأمّا رواية:« للعروس »: فأخرجها أحمد كما في:« مجمع الزوائد »: (4/73)، والطبراني في «الكبير »: (2/20) رقم (1153)، من حديث بريدة الأسلمي رضي الله عنه، قال ابن حجر في «فتح الباري »(10/287):« وسنده لا بأس به ».
3- أخرجه البخاري في «النكاح »: (4860)، ومسلم في «النكاح »: (3490)، وأبو داود في «النكاح »: (2109)، والترمذي في «النكاح »: (1094)، والنسائي في «النكاح »: (3372)، وابن ماجه في «النكاح »: (1907)، من حديث أنس رضي الله عنه.
4- أخرجه أبو يعلى في «مسنده »: (3834)، من حديث أنس رضي الله عنه. وأخرجه البخاري في «النكاح »: (4874)، ومسلم في «النكاح »: (3498)، وأبو داود في «النكاح »: (2054)، وابن ماجه في «النكاح »: (1957)، وأحمد: (12455)، دون تحديد الأيام. والحديث بالتحديد حسنه ابن حجر في «فتح الباري »: (10/300)، والألباني في «آداب الزفاف »: (74).(9/135)
الفتوى رقم: 680
في حكم تخاطب الزوجين بألفاظ الوقاع الصريحة حال الجماع
السؤال:
هل يشرع للزوجين عند المداعبة أو الجِماع, مخاطبةُ بعضهما بكلّ أعمال الجماع بالعامية أو اللهجة المحلية, ممّا يعتبر سفَاَهَةً وسبًّا وعيبًا وفُحشًا من الكلام عند عامّة الناس؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فلا ينبغي التخاطبُ بالعباراتِ الصريحةِ عن الأمور المستقبحة بألفاظ الوِقاع وما ينطق به سواء لإثارة الشهوة حالَ المداعبة والجِماع، أو لتهوين المخاطَب والتقليلِ من شأنه أو غيرِ ذلك، لِمَا فيه من التشبُّه بأهلِ الفساد من استعمالٍ لعباراتٍ فاحشةٍ لا يرضاها اللهُ تعالى، فقد جاء في عموم النهي في قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الفَاحِشَ المُتَفَحِّشَ »(1)، والمراد بالفُحْشِ هو: كُلُّ ما خرج عن مقداره حتى يُسْتَقْبَحَ، ويدخل في القول والفعل والصفة، بمعنى هو: الزيادةُ على الحدّ في الكلام والفعل السيّء، وأمّا المتفحِّشُ هو الذي يتكلّف الفُحشَ ويتعمَّدُه لفسادِ حاله، وقد وصفتْ عائشةُ رضي الله عنها خُلُقَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم فقالت:« لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا وَلاَ مُتَفَحِّشًا وَلاَ سَخَّابًا فِي الأَسْوَاقِ… »(2)، وفي روايةٍ:« لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا وَلاَ مُتَفَحِّشًا وَكَانَ يَقُولُ: إِنّ خِيَارَكُمْ أَحْسَنُكُمْ أَخْلاَقًا »(3)، وقد نهى النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم عن العُنف والفُحش(4). وخيرُ الهديِ هَدْيُ محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم.
وأهلُ الصلاح يتحاشَوْنَ التعرّضَ للأمور المستقبحةِ بالعبارات الصريحةِ، وإنما يُكَنُّونَ عنها ويَدُلُّون عنها بالرموز.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 14 ربيع الأول 1428ه
الموافق ل: 2 أبريل 2007م
__________
1- أخرجه أبو داود في «الأدب »: (4792)، والبخاري في «الأدب المفرد » (776)، والحديث حسنه الألباني في «الإرواء »: (7/208).
2- أخرجه الترمذي في «البر والصلة »: (2016)، وأحمد: (25019)، من حديث عائشة رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في «المشكاة »: (5820).
3- أخرجه البخاري في «المناقب »: (3366)، ومسلم في «الفضائل »: (6033)، والترمذي في «البر والصلة »: (1975)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
4- أخرج البخاري في صحيحه كتاب «الأدب »، باب لم يكن النبي فاحشًا ولا متفحشًا: (5683) من حديث عائشةَ رضيَ الله عنها:« أنَّ اليهودَ أتوُا النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: السامُ عليك. قال: وعليكم. فقالت عائشة: السامُ عليكم ولعنَكمُ اللهُ وغَضِبَ عليكم. فقال رسولَ الله صلى الله عليه وسلم: مَهلاً يا عائشة، عليكِ بالرفق، وإياكِ والعُنف والفُحش قالت: أوَ لم تَسمعْ ما قالوا؟ قال: أَوَ لم تَسمعي ما قلتُ؟ ردَدْتُ عليهم، فيُستجابُ لي فيهم، ولا يُستَجاب لهم فيَّ ».(9/136)
الفتوى رقم: 745
في حكم الهدية الإجبارية عند العرس [عادة «تارزيفت »]
السؤال:
جَرَتِ العادةُ عندنا في بلدنا المغرب الأقصى أنّه عند إقامةِ حفلٍ أو عُرسٍ، يُلْزِمُ صاحبُه المدعوين بإحضار هدايا معهم وُجوبًا، وإلاّ تعرّض عِرضه للتحقير والطعن، ويسمُّونها ب:« تَارزِيفت ». فما حكم هذه العادة؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالعادةُ الجماعيةُ التي تعارف عليها الناسُ تنقسم إلى: عادةٍ صحيحةٍ مقبولةٍ لا تُحَرِّمُ حلالاً ولا تُحِلُّ حرامًا، كالعادة في تقديم عُربونِ في عقد الاستصناع، أو عدم انتقال الزوجة إلى بيتِ زوجِها إلاّ بعد قبضِ جزءٍ من المهر، وإلى: عادة فاسدةٍ غيرِ مقبولةٍ وهي التي تُحِلُّ الحرامَ كعادة اختلاطِ النساءِ بالرجال وإظهارِ المحاسنِ أمامَهم في قاعات الأفراح والحفلاتِ والأَنْدِيَةِ العامَّة والخاصَّة، وفي الجامعات ومختلف المراحل التعليمية في المؤسَّسات التربوية، وكالعادة في التعامل مع المصارف المالية بالفوائد الربوية، والعادةِ في إحياء الحفلات المحرَّمة والمناسبات البدعية، والعادةِ في لعب أنواع مسابقات القمار والرهان، والعادةِ في ترك الصلوات المفروضة أثناء اجتماع المسئولين أو مَن دونهم وتأخيرها إلى فوات وقتها ونحو ذلك.
فالقاعدة العامَّة -إذن- أنّ «الأَصْلَ فِي عَادَاتِ النَّاسِ وَأَعْرَافِهِمْ الجَوَازُ وَالحِلُّ »، ولا يُعْدَلُ عن هذا الأصلِ إلاّ إذا اقترن به محذورٌ شرعيٌّ، يرجع إلى وجود اعتقاد فاسدٍ أو يُلْحِقُ ضررًا آكدًا أو متوقَّعًا أو يخالف نصًّا شرعيًّا ثابتًا أو قاعدةً أساسيةً.
ويندرج ضمنَ هذا المعنى ما ورد في مسألة إلزامِ المدعويين بالهدايا في الولائم المشروعةِ، ذلك لأنَّ فيه مِن استدراكٍ على الشرع يتمثَّل في فرض الهدية بالعرف لم يفرضها الشرعُ، واللهُ تعالى قد أتمَّ دينَه فلا ينقصه ورضيه فلا يَسْخَطُه، كما أنَّ هذه العادة تخالف مقاصدَ الشرع ومراميه إذ فيه تكليفُ المدعو بما يجد فيه المشقةَ نفاها الله تعالى عنه بقوله: ?لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا? [البقرة: 286]، وهي تؤدّي أيضًا بطريقٍ أو بآخر إلى تضييع واجب تلبية الدعوة بسبب عدم قدرة المدعو على إجابتها، فضلاً عن إلحاق المدعويين بالطعن في عِرضهم والنيل منهم بالغِيبة والتحقير خاصّة إذا كانت هذه الهدية دون مستوى ما يرغب فيه المضيف.
فالحاصل: أنّ هذه العادة فاسدةٌ لا يجوز قَبولها ولا اعتبارها لاقترانها بأوصاف منهي عنها، فضلاً عن أنّ الاستمرارَ فيها يضيع الشريعة على مرّ الزمن، ويغيّر حُكمها، ويبدّل مقاصدَها ومراميها؛ ذلك لأنّ المقصودَ من التشريع دفعُ الحرج والمشقَّة وجلبُ المصلحة وتحقيق التيسير، مِصداقًا لقوله تعالى: ?وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ? [الحج: 78]، وقوله تعالى: ?يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ? [البقرة: 185]،
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 14 رجب 1428ه
الموافق ل: 28 جويلية 2007م(9/137)
الفتوى رقم: 778
في حكم خروج العروس بالجلباب الأبيض يوم زِفافها
السؤال:
هل يجوزُ للمرأة -يوم زفافها- الخروج بجلبابٍ أبيضَ من بيتِها؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالظاهرُ مَنْعُهُ؛ لأنَّ فيه معنَى لباسِ الشُّهرة حيثُ تتميّزُ فيه عن أَخَواتها باللَّون أو الشَّكْلِ، وتجلب انتباهَ الناسِ وأبصارَهم إليها، كما أنّ فيه تَشَبُّهًا بالفستان الأبيضِ للعروس عند النصارى، فالأَوْلَى تركُهُ والعدولُ عنه إلى غَيره.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في 26 ذو الحجة 1427ه
الموافق ل: 15 يناير 2007م(9/138)
الفتوى رقم: 782
في حكم ذهاب العروس للحمام والحلاقة والتزين بالحناء
السؤال:
ما حكم ذهابِ العروس إلى الحمّام والحلاّقة والتزيُّن بالحناء؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فأمّا الحمّام فلا يجوز للمرأة دخولُه للنصّ الوارد في ذلك في قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يُدْخِلْ حَلِيلَتَهُ الحَمَّامَ »(1)، ولقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« الحَمَّامُ حَرَامٌ عَلَى نِسَاءِ أُمَّتِي »(2)، ولقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَزَعَتْ ثِيَابَهَا فِي غَيْرِ بَيْتِ أُمَّهَاتِهَا فَقَدْ هَتَكَتِ السِّتْرَ الَّذِي بَيْنَهَا وَبَيْنَ الرَّحْمَانِ »(3).
أمّا ذهابها للحلاَّقة فيُمنَع سدًّا للذريعة؛ ذلك لأنّ غالب القائمات على صالونات الحلاقة والتزيين إمّا أن يَكُنَّ مُختَلِطاتٍ برجال، فلا يجوز لها أن تُظهِر نفسها لهم، أو نساء غير ملتزمات بالدِّين، فالذهاب إليهنّ إقرار بِما هُنّ عليه من الفساد والإفساد، بالتغيير لخلق الله والفتنة، وعلى تقدير أنّهنّ ملتزمات فلا يجوز لها تسريح شعرها على موضة الكافرات والعاهرات أو الفاسقات، أمّا إن مَشَطَت لها أختُها على غير ذلك فإنّه يجوز لها للتَّجمُّل لزوجها.
أمّا «الحناء » فإن كان تَزَيُّنها لزوجها فمستحبٌّ، ولنفسها جائزٌ، إلاَّ أنه لا تبديه للناس لدخوله في عموم الزينة، وأمّا إن كان يوم «التصديرة » فإنّه يَصحَبُها عادةً اعتقاداتٌ فاسدة، منها: العروس التِي لم تُحَنَّ لن تُنجِبَ الذرّيّة، وأنّها تدفع العين، وتجلب السعادة، فمثل هذا يُمنَع حَسْمًا لمادة الشرك.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 3 صفر 1428ه
الموافق ل: 21 فبراير 2007م
__________
1- أخرجه الترمذي في «الأدب » (3031)، وأحمد (15027)، من حديث جابر رضي الله عنه. وحسَّنه الألباني في «صحيح الجامع » (6506)، وصحَّحه في «صحيح الترغيب والترهيب » (164)، و«آداب الزفاف » (67).
2- أخرجه الحاكم (7784)، من حديث عائشة رضي الله عنها. وحسَّنه الألباني في «صحيح الجامع » (3192)، وصحَّحه في «السلسلة الصحيحة » (3439).
3- أخرجه أبو داود في كتاب «الحمام » من «سننه » (4010)، والترمذي في «الأدب » (2803)، وابن ماجه في «الأدب » (3750)، والحاكم (7781)، وأحمد (25772)، من حديث عائشة رضي الله عنها. والحديث صحّحه الألباني في «صحيح الجامع » (2710)، وفي «صحيح الترغيب والترهيب » (165).(9/139)
الفتوى رقم: 799
في لزوم دعوة وليمة بالهاتف أو ما يقوم مقام العبارة
السؤال:
بعد زواجي بثلاث سنواتٍ من أخٍ مستقيمٍ -أحسَبه كذلك ولا أزكِّي على الله أحدًا- تزوَّجَتْ أختي من رجلٍ لم يُبْدِ رغبةً في التعرف عليه، وبعد سنةٍ تقريبًا ولد لأختي مولود، وعندما طلبتُ من زوجي أخذي لزيارتها رفض بحُجَّة أنه لا يعرف زوجها ولا أهله، وممَّا زاد من إصرار زوجي على رفض زيارته أنَّ زوجَ أختي قام بدعوته إلى نسيكة ابنه بالهاتف في آخر لحظة؟ فهل تعتبر الدعوة بالهاتف ملزمة لإجابتها؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فلا ينبغي للزوج أن يمنعَ زوجتَه من صلة رحمها؛ لأنَّ الله تعالى أمر بصلة الرحم وإن قطعوه، وبعيادة المريض منهم، وتهنئةِ المعافى، ومواساةِ المنكوب، وتعزيةِ المصاب ونحو ذلك، ويلين لهم وإن قَسَوْا عليه قال تعالى: ?إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى? [النحل: 90]، وقال تعالى: ?فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ? [محمَّد: 22]، وقال تعالى: ?إلاَّ الفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ? [البقرة: 26-27]، وقال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: أَنا الرَّحْم?نُ وَهِيَ الرَّحِمُ شَقَقْتُ لَها اسْمًا مِنِ اسْمي، فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ وَمَنْ قَطَعَها قَطَعْتُهُ »(1)، ومَنْ منع مِنْ واجبٍ من واجبات الشرع وحدوده فهو صادٌّ عن سبيل الله، وهي خصلة أهل الكفر يصدُّون عن سبيل الله ويبغونها عِوَجًا، قال الله تعالى: ?إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ? [الحج: 25]، ولا يجوز أن يتصف المسلمُ بصفات أهل الكفر والنِّفاق.
والمسلمُ من جهةٍ أخرى إن لم يُدْعَ إلى وليمةِ أخيه المسلم وإن كانت بينهما صلة، فالواجب عليه أن يحمل أخاه على أحسن المحامل، فقد يكون في أثناء عرسه شارد الفكر مشغول البال، فلا ينبغي أن يُظَنَّ به سوءًا، لقوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ? [الحجرات: 12]، وقوله تعالى: ?لَوْلاَ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا? [النور: 12]، وقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« إِيَّاكُمْ وَالظَنَّ فَإِنَّ الظَنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ »(2).
هذا، وتقع الدعوة إلى الولائم وغيرها بالتخاطب الشفهي باللسان وهو الأصل في الدلالة على الأشياء، والتعبير بالمكالمة على عموم التصرُّفات والعقود والالتزامات ونحوها، سواء كان بالتعبير عن إرادته مباشرة أو بواسطة وسائط التوصيل كالهواتف أو ما يقوم مقام اللفظ من مظاهر خارجية أخرى كالرسالة والكتابة والإشارة من الأخرس فإنَّها في حكم المخاطبات الشفاهية، ولهذا قيل:« القَلَمُ أَحَدُ اللِّسَانَيْنِ »، و«الكِتَابَةُ مِمَّنْ نَأَى بِمَنْزِلَةِ الخِطَابِ مِمَّنْ دَنَا »، وقد صاغ الفقهاء على ذلك قاعدة:« الكِتَابُ كَالخِطَابِ »، وقاعدة:« الإِشَارَةُ المعْهُودَةُ مِنَ الأَخْرَسِ كَالبَيَانِ بِاللِّسَانِ »، قال ابن القيم رحمه الله:« والألفاظ لم تقصد لذواتها، وإنما هي أدلة يستدل بها على مراد المتكلم، فإذا ظهر مراده ووضَحَ بأيِّ طريق كان عُمِلَ بمقتضاه، سواء كان بإشارة، أو كتابة، أو بإيماءَةٍ أو دلالة عقلية، أو قرينة حالية، أو عادة له مُطّردة لا يُخِلُّ بها »(3) وإذا كانت الإشارة تقوم مقام العبارة عند العجز عنها، والكتابة تقوم مقام العبارة عند الحاجة فالأقرب منهما أولى بالحكم.
وعليه فإذا دعي المسلم بالهاتف كوسيلة تخاطب فإنّه يلزم إجابة الدعوة لقوله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« مَنْ دُعِيَ إِلَى عُرْسٍ أَوْ نَحْوِهِ فَلْيُجِبْ »(4).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 22 من ذي القعدة 1428ه
الموافق ل: 02 ديسمبر 2007م
__________
1- أخرجه أبو داود في «الزكاة »، باب في صلة الرحم: (1694)، والترمذي في «البر والصلة »، باب ما جاء في قطيعة الرحم: (1907)، وأحمد في «مسنده »: (1684)، والحاكم في «المستدرك »: (7272)، من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، والحديث صححه أحمد شاكر في «تخريجه لمسند أحمد »: (3/139)، والألباني في «السلسلة الصحيحة »: (520).
2- أخرجه البخاري في «النكاح »، باب لا يخطب على خطبة أخيه حتى ينكح أو يدع: (4849)، ومسلم في «البر والصلة والآداب »، باب تحريم الظن والتجسس والتنافس والتناجش: (6536)، وأبو داود في «الأدب »، باب في الظنّ: (4917)، والترمذي في «البر والصلة »، باب ما جاء في ظنّ السوء: (1988)، وأحمد في «مسنده »: (7798)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
3- «أعلام الموقعين » لابن القيم: (1/218).
4- أخرجه مسلم في «النكاح »، باب الأمر بإجابة الداعي إلى دعوة: (3514)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.(9/140)
الفتوى رقم: 804
في حكم العروس مجتمعة بعريسها في سيارة يوم زفافها
السؤال:
ما حكم خروج العريس مع عروسه يومَ الزِّفاف على سيارةٍ تحملهما، أو على عربة يَجُرُّها حصان؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فهذه عادةٌ مستورَدةٌ من عادات النصارى، ومَن شابههم؛ لأنَّ العروسَ مأمورةٌ بالحياءِ، وعدمِ الظهور أمامَ الناس بِمَظهَرٍ لا يليق شرعًا، إذ هذا الصنيعُ يَرفَعُ الحياءَ ويُثبِتُ الرذيلةَ، وقد جاء في الحديث الصحيح:« وَالحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ »(1).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في 18 صفر 1428ه
الموافق ل: 07 مارس 2007م
__________
1- شطرٌ من حديثٍ مُتَّفق عليه: أخرجه البخاري في «الإيمان »: (9)، ومسلم: (152)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(9/141)
الفتوى رقم: 805
في حكم بطاقات الدعوة إلى الوليمة وكتابة البسملة عليها
السؤال:
ما حكم بطاقاتِ الدعوة إلى وليمة العرس؟ وما حكمُ كتابة البسملة أو آيةٍ أو حديثٍ عليها؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فلا تختلف العباراتُ الشفهيةُ عن العبارات الكتابية من حيث الحكمُ جَرْيًا على قاعدة:« الكِتَابُ كَالخِطَابِ »، أو قاعدة:« الكِتَابَةُ مِمَّنْ نَأَى بِمَنْزِلَةِ الخِطَابِ مِمَّن دَنَا »، فالحُكْمُ أحدُ اللسانين -كما قيل-.
لذلك، فالدعوةُ إلى الوليمة باللِّسان أو بالكتابة سِيَّان من حيث الجوازُ والبيانُ، فإن غلب على ظنِّه أنّ هذه البطاقات مآلها أن تُلقَى في القمامات أو في المزابل بعد انتهاء مُدَّتِها لضعف الوازِعِ، أو لعدم المبالاة، أو لأسباب أخرى؛ فإنّ الأَوْلَى تَجَنُّب كتابةِ البَسْمَلَةِ، أو آيةٍ من القرآن، أو حديثٍ، خشيةَ تعريضِ ذِكْرِ اللهِ للاِمْتِهانِ، على أنّه إن كتب البسملة فجائزٌ؛ لأنّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم كان يبدأ رسائلَه بالبسملة، وتَأَسِّيًّا بِما عليه السور القرآنية.
وعلى مَن استَلَم البطاقةَ أن يَحرِصَ على تجنيبها كُلَّ مَحَلٍّ يُرغَب عَنه، وهو المسؤول إن خالف، ويترتَّب عليه الإثمُ دون الكاتب.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في 18 صفر 1428ه
الموافق ل: 07 مارس 2007م(9/142)
الفتوى رقم: 841
في إجابة دعوة الوليمة بالدعوة الكاملة والجائزة
السؤال:
قد طرح عليكم سؤالٌ تحت عنوان:« في لزوم دعوة وليمة بالهاتف أو ما يقوم مقام العبارة »، غير أنَّ الإشكال حول الدعوة بالهاتف ما زال قائمًا، من حيثُ كونُ الدعوة بالهاتف مخصوصةً بمن يُعرَفُ معرفةً جيِّدة، أمَّا غيره ممَّن يُعرف معرفةً سطحيةً فينبغي دعوته مباشرة بغير واسطة، وهذا التفريق مُستمَدٌّ من عُرْفِ الآباء والأجداد لئلاَّ يجد المدعو حَرَجًا في الذهاب إلى أناس لا يعرفهم ولم يلتقهم من قبل، فما توجيهكم؟ جزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالعُرْفُ السائِدُ المذكورُ إنما هو الأَلْيَقُ بالدعوة إلى الوليمة، ويكون بدعوةِ المضيف لها شخصيًّا كلَّ من يرغب أن يكون ضيفًا له من الأفراد المدعوِّين، وقد يُكمِّلها بتسليم بطاقةٍ بنفسه ويكتب عليها اسمَ ضيفِه، وهذه صورة دعوة كاملة، لكن المعلوم أنَّ التفاضل في عموم الأشياء موجودٌ بين الجائز والكامل، والحسن والأحسن، واللائق والأليق، والصحيحِ والأصحِّ ونحو ذلك، وفي كلِّ هذه الأحوال يتحقَّق الحكم ويتقرَّرُ بأدنى مراتبه وهو الصحيح الجائز، ألا ترى أنَّ الغُسل فيه ما هو جائزٌ اكتفاءً بتعميم الماء على الجسد، وما هو أكمل بزيادة الوضوء عليه، ويتحقَّق الحكمُ وهو وجوبُ الغسل بأدنى الأمرين، وكذلك صلاة المرأة تصحُّ بالدِّرْعِ والخمار، والأكمل لها بالملاءة، كما تجوز صلاة الفاضل وراء المفضول والعكس أحسن وأكمل، وغير ذلك مما هو معروف في العبادات والعادات.
وعليه، فإذا تحقَّقت الدعوة إلى الوليمة بأدنى مراتبها وجبت التلبية لها من معروفٍ معرفةً قديمةً أو سطحيةً، والتفاوتُ بين الدعوات من حيث لياقتها بمقام المدعو -لا تأثير له على الحكم، ولا حرج في إجابتها، وإنما الحرج في مخالفة أوامر الشرع والعدول عن الالتزام بأحكامه.
واللهَ نسألُ أن يهديَنا إلى خير العلم وحقِّه، والسدادِ في القول والعملِ إنه ولي ذلك والقادرُ عليه، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 29 المحرم 1429ه
الموافق ل: 06/02/2008م(9/143)
الفتوى رقم: 869
في حكم آلة الدربوكة وصحة قياسها على الدُّفِّ
السؤال:
هل يجوز الضرب بالدربوكة في حفلات الزفاف؟ وهل يصحُّ قياسها على الضرب بالدُفِّ؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فاعلم أنَّ الدُّفَّ جائزٌ في الأعياد والأعراس لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« فَصْلُ مَا بَيْنَ الحَرَامِ والحَلاَلِ الدُّفُّ والصَّوْتُ »(1). أمَّا الدربوكة فمعدودة من عموم آلات المعازف والطرب ولا شبه لها بالدف؛ لأنَّ لها شكلاً مُختلفًا عن الدُّفِّ ووقعًا مغايرًا عنه، فلا تلحق به، لذلك فهي مشمولة بقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ والحَريرَ والخَمْرَ وَالمَعَازِفَ »(2)، ولقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« صَوْتَانِ مَلْعُونَانِ فِي الدُّنيَا وَالآخِرَةِ: مِزْمَارٌ عِنْدَ نِعْمَةٍ وَرَنَةٌ عِنْدَ مُصِّيبَةٍ »(3).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 13 شعبان 1428ه
الموافق ل: 26 أوت 2007م
__________
1- أخرجه الترمذي في «سننه » كتاب النكاح، باب ما جاء في إعلان النكاح: (1088)، والنسائي في «سننه » كتاب النكاح، باب إعلان النكاح بالصوت وضرب الدف: (3369)، وابن ماجه في «سننه » كتاب النكاح، باب إعلان النكاح: (1896)، وأحمد في «مسنده »: (15025)، من حديث محمّد بن حاطب رضي الله عنه. والحديث حسَّنه الألباني في «الإرواء »: (7/50).
2- أخرجه البخاري مُعلَّقًا بصيغة الجزم في «صحيحه » كتاب الأشربة، باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه: (5268)، وأخرجه موصولاً: ابن حبان في «صحيحه »، ذكر الأخبار عن استحلال المسلمين الخمر والمعازف في آخر الزمان: (6754)، والطبراني في «المعجم الكبير »: (3/282)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (21590)، من حديث أبي عامر أو أبي مالك الأشعري رضي الله عنه. قال ابن القيم في «تهذيب السنن » (10/111):« فالحديث صحيح بلا ريب »، وقال الهيتمي في «الزواجر » (2/203):« صح من طرق بأسانيد صحيحة لا مطعن فيه »، وانظر:« السلسلة الصحيحة » للألباني: (1/186)، و«تحريم آلات الطرب » له -أيضًا-: (1/82).
3- أخرجه البزار في «مسنده » كما في «مجمع الزوائد » للهيثمي: (3/100)، من حديث أنس رضي الله عنه. والحديث حسنه الألباني في «السلسلة الصحيحة »: (427)، وفي «تحريم آلات الطرب »: (1/51).(9/144)
03- إنتهاء عقد الزواج
01- الطلاق
الفتوى رقم: 135
طلاق الحائض
السؤال: امرأة طلقها زوجها سنة 1992 في فترة حيضها في رمضان تلفظ بلفظ الطلاق و تم الطلاق مدنيا سنة 1993 وكانت قد اعتدت في بيت أبيها، فهي تسأل الآن بعد أن تمّ الطلاق مدنيا وعلمت بحكم الطلاق الذي وقع في فترة الحيض أنه لا يقع صحيحا ما العمل ؟ هل يتم بالطلاق المدني أم هي لا تزال زوجة له بعد مضي ثلاث سنوات ؟ أفيدونا أثابكم الله.
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فبخصوص الطلاق في زمن الحيض ففيه خلاف فقهي والمذهب القوي وقوعه مع الإثم لأنّه طلاق بدعي على ما أختاره، وعليه لا يرد إشكال في انفصام العصمة الزوجية بانتهاء العدة المقررة شرعا بثلاثة قروء لقوله تعالى: )والمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ( [البقرة: 228] وعلى تقدير عدم وقوع الطلاق فلا اعتداد عليها، لأنّ العدة إنما تكون من طلاق ولم يقع، و قد وقع الطلاق القضائي صحيحًا، وثلاث سنوات متضمنة لزوما لمدة العدة وهي أجنبية عنه تأكيدا ولا تحتاج إلى إعادتها.
والله أعلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في : 17 صفر 1417ه
الموافق ل : 02 جويلية 1996م.(9/145)
الفتوى رقم: 137
زنا الزوجة هل يوجب التطليق
السؤال: ما حكم امرأة متزوجة ارتكبت معصية الزنا فهل واجب الزوج أن يطلقها بعد علمه بالواقعة؟، وإن أبى فهل تبقى معه وهي تبغضه ولا تطيق معاشرته؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان، أمّا بعد:
فالمعلوم شرعا أنّ زنى أحد الزوجين يوجب الرجم، لكنّه إذا انتفى بانتفاء شروطه فلا ينفسخ النكاح بزنا أحدهما ولا يوجب فسخه سواء قبل الدخول أو بعده عند عامة أهل العلم، ولا يلحق باللّعان في كون الزوجة تبين عنه إذا ما رماها بالزنى لأنّ اللّعان يقتضي الفسخ بدون الزنى، ويدلّ على عدم ثبوت زناها في اللّعان أنّها تقابل اللاعن بملاعنته، وليس الزنا ذنبا كالردة الموجب لانفساخ العقد، وإنّما هو معصية لا تخرج صاحبها عن دائرة الإسلام فأشبهت شرب الخمر والسرقة ونحوهما فإنّ أهل هذه المعاصي لا ينفسخ حكم النكاح في حقهم.
غير أنّه يستحب للرجل مفارقة زوجته إذا زنت بأن يطلقها خشية أن تفسد فراشه وتلحق به ولدا ليس منه، وإذا استبقاها فلا يطؤها حتى يستبرئها بحيضة واحدة لقوله صلى الله عليه و سلم:«لا يحلّ لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماءه زرع غيره »(1).
هذا، وإذا كانت الزوجة لا تطيق معاشرة زوجها بسبب البغض والكراهة فإنّه إذا تضاعف بينهما الشقاق واشتد وأصبحت الحياة الزوجية غير قابلة للإصلاح، وخشيت أن تعصي الله فيه، فلها أن تفارقه ببَذَل يحصل له، أي تفتدي نفسها بأن تقضي ما كانت أخذت منه باسم الزوجية لينهي علاقته بها، وهذا ما يسمى في اصطلاح الشرع بالخلع أوالفدية.
والله أعلم بالصواب وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّ اللّهم على محمّد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في:27صفر1419ه
الموافق ل :18جوان1998م
__________
1- أخرجه أبو داود في النكاح(2157)، وأحمد(17453)، والبيهقي(16002)، من حديث رويفع بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه. وحسنه الألباني في صحيح الجامع(7654).(9/146)
الفتوى رقم: 165
حكم طلب الطلاق من زوج تارك للصلاة وشارب للخمر
السؤال: امرأة تسأل عن زوجها الذي يتكاسل عن أداء صلاته بشكل مستمر، وكذلك يشرب الخمر احتراما لأصدقائه الفرنسيين ولا يتعاطاها (مع العلم أنّ الزوجين يقطنان بفرنسا)، وتقول هذه المرأة إنّها تزوجته منذ عام فقط بعد وفاة زوجته السابقة ويبلغ من العمر (70) سنة، أمّا هي ف :(50)سنة وقيل لها في الخِطبة من أحد معارفه أنّه إنسان متدين والواقع غير ذلك (كما تلاحظون)، وتقول أيضًا: إنّها نهته عن هذا الفعل مدة طويلة ولم ينته، فانزعجت وحطّمت القارورات فزجرها لهذا.
من أجل هذا تسأل عن جواز أن تطلب الطلاق أم لا؟ أفيدوها جزاكم الله خيرًا.
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فإن كان هذا الزوج تارك الصلاة - إن لم يكن كافرًا - فهو من أفسق الناس، وتركه لها من أعظم الفواحش، فضلاً عمّا هو عليه من شربٍ لأمّ الخبائث: الخمرة، ومجالسة الأشرار، وغيرها، ممّا ينبغي أن لا يتصف المسلم الغيور على دينه، وعليه فإنّه لا يجوز البقاء معه هجرًا للمعاصي والسيئات، لقوله صلى الله عليه وسلم:" المهاجر من هجر ما نهى الله عنه"(1) والواجب أن تفارقه لأنّ حالته غير مرضية ولا تعود إليه إلاّ أن يهديه الله ويتوب ويقلع عمّا هو عليه من الفساد، فإن أبى فلها أن تفسخ العقد قضائيا لعدم كفاءته لها في الاستقامة والخلق.
والعلم عند الله تعالى وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلّ اللّهم على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 03 صفر1424ه
الموافق ل : 05 أفريل 2002م
__________
1- أخرجه البخاري في الإيمان(10)، وأبو داود في الجهاد(2483)، والنسائي في الإيمان وشرائعه(5013)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه.(9/147)
الفتوى رقم: 172
في حكم تعليق النساء
السؤال: ما هو الحكم الشرعي لبعض الأزواج الذين يذهبون عن أزواجهن وأبنائهم ويتركونهم بدون نفقة أو كفالة وقد يستمر هذا الأمر عدة سنوات؟
وما هو الحكم الشرعي للأزواج الذين يعلقون زوجاتهم (لا هي مطلقة ولا هي متزوجة) ويستمر هذا الأمر أحيانا إلى وفاة أحد الزوجين.
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فقد اتفق العلماء على وجوب نفقات الأزواج على أزواجهنّ إذا كانوا بالغين إلاّ الناشز منهنّ لقوله تعالى:" وَعَلَى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالمَعْرُوفً "[البقرة: 233] ولقوله تعالى:" أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ، وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ، وَإِنْ كُنَّ أُولاَتُ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ " [الطلاق: 6] وقوله تعالى:" لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ، لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاََّ مَا آتَاهَا"[الطلاق: 7] وفي ذلك أحاديث كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم ففي حجة الوداع:" فاتقوا الله في النساء فإنّكم أخذتموهنّ بكلمة الله واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله، ولكم عليهنّ أن لا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهنّ ضربًا غير مبرح، ولهنّ عليكم رزقهنّ وكسوتهنّ بالمعروف"(1) وفي حديث عائشة رضي الله عنها في قصة هند بنت عتبة قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:" خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف"(2).
هذا ومن شروط استحقاق النفقة صحة عقد الزواج وتمكنه من الاستمتاع بها وعدم امتناعها من الانتقال حيث يريد الزوج، وأن يكونا من أهل الاستمتاع، فالإخلال بشرط من الشروط السابقة يجعل النفقة غير واجبة.
وبناء عليه فالزوج مكلّف بأن يمسك زوجته بالمعروف أو يطلقها بإحسان لقوله تعالى: ?فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ?[البقرة:229] وترك النفقة عليها ينافي الإمساك بمعروف، والمرأة تتضرّر بترك الإنفاق والله تعالى يقول: ?وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا?[البقرة:231] والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:" لا ضرر ولا ضرار"(3) لذلك يجوز للمرأة أن تطلب من القاضي أن يرفع الضرر، ويزيل الظلم لعدم الإنفاق عليها بسبب غياب الزوج عنها لغير عذر مقبول وتضررت من غيابه، ولها أن تطلب -أيضًا- من القاضي التفريق إذا غاب عنها زوجها ولو كان له مال تنفق منه وهو مذهب مالك وأحمد رحمهما الله، وتطلب التفريق للضرر الواقع عليها لبعد زوجها عنها لا لغيابه، والعلماء وإن اختلفوا في المدة التي يتحقق فيها الضرر بالزوجة وتشعر فيها بالوحشة وتخشى الوقوع في المحظور وإن كان التقدير عند مالك -رحمه الله- هو سنة هلالية إلاّ أنّ أدنى مدة يجوز لها أن تطلب المرأة فيها التفريق بعدها ستة أشهر وهي أقصى مدة تستطيع المرأة فيها المرأة الصبر على غياب زوجها وبهذا قال عمر بن الخطاب وحفصة رضي الله عنهما وبه أخذ أحمد رحمه الله.
هذا، وتعليق الزوجات من غير أداء لحقوقهنّ مخالف للكتاب والسنة فيما أمروا به من حسن معاشرة الأزواج قال تعالى: ?وَعَاشِرُوهُنَّ بِالمَعْرُوفِ?[النساء:19]
وقوله صلى الله عليه وسلم:" خيركم خيركم لأهله"(4) والمعاشرة بالمعروف تستلزم إعطاء المرأة حقها من النفقة والاستمتاع وغيرهما من الحقوق، وإهمال ذلك يفضي إلى الظلم والضرر المنهي عليهما، الأمر الذي يستوجب من القاضي دفع الضرر وإزالة الظلم بطلب من المتضرر.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين و سلم تسليما.
الجزائر في:26 محرم 1426ه
الموافق ل : 07 مارس 2005 م
__________
1- أخرجه مسلم في الحج(3009)، وأبو داود في المناسك(1907)، وابن ماجة في المناسك(3190)، من حديث جابر رضي الله عنه.
2- أخرجه البخاري في النفقات(5364)، ومسلم في الأقضية(4574)، وأبو داود في الإجارة(3534)، والنسائي في الأقضية(5437)، وابن ماجة في التجارات(2381)، وأحمد(248454)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
3- أخرجه ابن ماجة في الأحكام(2430)، وأحمد(23462)، من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه. وصححه الألباني في إرواء الغليل(896).
4- أخرجه الترمذي في المناقب(4269)، والدارمي(2315)، والبيهقي(16117)، من حديث عائشة رضي الله عنها، وابن ماجة في النكاح(2053)، من حديث ابن عباس رضي الله عنه.وصححه الألباني في صحيح الجامع(3314)، والسلسلة الصحيحة(285). وآداب الزفاف(ص:197).(9/148)
الفتوى رقم: 190
في تقدير النفقة بعد الطلاق
السؤال: ما هو مقدار النفقة الذي يحدده الشرع للزوجة بعد وقوع الطلاق؟ وهل يراعى فيه دخل الزوج وحالته المالية ؟ وبارك الله فيكم.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فاعلم أنَّ النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها رجعة، فللمعتدَّة في الطلاق الرجعي النفقة والسكنى لقوله تعالى: ?أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ? [الطلاق: 6]، وكذلك للمعتدة الحامل النفقة سواء كانت في عدَّة الطلاق الرَّجعي أم البائن أم كانت في عدَّة وفاة لقوله تعالى: ?وَإِن كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ? [الطلاق: 6]، أمَّا المبتوتة فلا نفقة لها ولا سكنى على الصحيح من أقوال أهل العلم لقوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث فاطمة بنت قيس:" لَيْسَ لَكِ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ"(1) وفي رواية "لاَ نَفَقَةَ لَكِ وَلاَ سُكْنَى"(2) هذا ما رجَّحه ابن القيِّم والشوكاني وغيرهما، كما أنَّ المبتوتة لا نفقة لها فكذلك المعتدة من وفاة إلاَّ أن تكونا حاملتين لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« لاَ نَفَقَةَ لَكِ إِلاَّ أَنْ تَكُونِي حَامِلاً"(3).
هذا، وإذا كانت الزوجة المطلقة طلاقا رجعياً مقيمة مع زوجها، ويتولى إحضار ما يكفيها من حاجياتها إلى طعام وكسوة وغيرهما، فلا حقَّ للمرأة أن تطلب فرض النفقة لقيام الزوج بواجبه، فإذا كان بخيلاً أو تركها بدون نفقة فلها أن ترفع أمرها للقاضي ليقضي لها بالنفقة، أو تأخذ من ماله ما يكفيها بالمعروف لحديث هند بنت عتبة فقال لها رسول الله:" خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالمعْرُوفِ"(4).
فالحاصل أنَّ النفقة تقدَّر بكفاية المرأة مع التقييد بالمعروف، وهو يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال والأشخاص، وترجع السلطة التقديرية للقاضي في تقدير النفقة وتقريرها.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصلى الله على محمَّد وآله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 12 رمضان 1426ه
الموافقل: 15 أكتوبر 2005م
__________
1- أخرجه مسلم في الطلاق (3770)، وأبو داود في الطلاق (2286)، ومالك في الموطإ (1228)، والبيهقي (14394)، من حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها.
2- أخرجه مسلم في الطلاق (3771)، والبيهقي (16132)، من حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها.
3- أخرجه أبو داود في الطلاق (2292)، وأحمد (28097)، من حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها.
4- أخرجه البخاري في النفقات (5364)، ومسلم في الأقضية (4574)، وأبو داود في الإجارة (3534)، والنسائي في الأقضية (5437)، وابن ماجه في التجارات (2381)، وأحمد (248454)، من حديث عائشة رضي الله عنها(9/149)
الفتوى رقم: 287
في تقدير نفقة بنت المطلقة بالتراضي
السؤال: شيخنا -أحسن الله إليكم- افترقت أنا وزوجتي بالتراضي وبيننا بنت وقد عرضت عليها نفقة البنت بمبلغ (1500) لأني مدان وأنفق على أبي وأمي ومقبل على الزواج وأنا في أشغال بناء في البيت. وكي لا تكلفني المحكمة بما لا أطيق إذا كنت معسرا حددت النفقة بهذا المبلغ لأن المحكمة إذا حكمت بمبلغ لا تراعي حالة الزوج بعد ذلك إن صار معسرا. أما إذا كنت موسرا فأوسع في النفقة .
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فالنفقة ينبغي أن تكون بالمعروف، فإذا كان المبلغ المعطى لابنتك لا تفي بالحاجة فالواجب -إذا وجد المال- أن تقتطع لها مزيدا من مرتبك لسد جميع حاجياتها وتغطية جميع نفقاتها لقوله تعالى: ? وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ? [البقرة:233]، وفي حديث هند بنت عتبة قال لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم:« خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف"(1).
والعلم عند الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه وسلم تسليما.
الجزائر في:8 شعبان 1426هـ
الموافق لـ :12 سبتمبر 2005م
__________
1- أخرجه البخاري في النفقات (5364)، ومسلم في الأقضية (4574)، وأبو داود في الإجارة (3534)، والنسائي في الأقضية (5437)، وابن ماجة في التجارات (2381)، وأحمد (248454)، من حديث عائشة رضي الله عنها.(9/150)
الفتوى رقم: 494
في تحريم الزوجة من غير قصد لمعنى اللفظ
السؤال: عقدت على فتاة عقدا شرعيا، وصرت أختلي بها وأباشرها من غير جماع، ثم وقعت بيننا خلافات فقلت لها:" أنت محرمة"، ولم أكن أعلم أنّه ظهار، وبعد فترة طلقتها بقولي "أنت طالق طالق طالق"، فما الذي يترتب عليّ؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فإذا قصد السائل بلفظ "التحريم" الطلاق غير قاصد لذات اللفظ فإنه يقع طلاقًا بحسب قصده، وإن قَصد به الظهارَ ترتَّب حكمُه عليه، وهو أن تَحْرمَ عليه بظهاره قربانها حتى يكفِّرَ عنه بعتق رقبة، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فمن لم يستطع فعليه أن يطعم ستين مسكينا لقوله تعالى: ?وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ* فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ?[المجادلة:3- 4].
أمّا إن قصد به الطلاق ووقع فإنّ زوجته تبين عنه وتستحق نصف الصداق لوقوع الطلاق قَبْلَ الدخول لقوله تعالى:? وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ?[البقرة : 237]، ويقع الطلاق الثلاث باللفظ الواحد-بعده- لغوًا لعدم مصادفة محله، لأنَّ المرأة أجنبية عنه قد بانت منه بالطلقة الأولى، أمَّا إن قصدها ظهارًا فإنَّ الطلاق الثلاث قبل الدخول بها يُوجب طلقةً بائنة فلها نصف المهر، ولا تحلُّ له حتى يعقد عليها بعقد جديد ومهر جديد وأن يكفر عن ظهاره كما تقدم، وتعود إليه ولا يملك عليها سوى طلقتين بالنظر لإيقاعه للطلقة الأولى، ولا يمنع هذا الحكم الخلوة بها من غير مسيس بالجماع، لأنَّ الخلوة المجرَّدة ليست مسًّا بالجماع وهو مذهب ابن عباس رضي الله عنهما وغيره، خلافا للجمهور.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 9 جمادى الثانية 1427ه
الموافق لـ: 4 يوليو 2006م(9/151)
الفتوى رقم: 530
في حكم الطلاق التعسفي
السؤال: امرأةٌ طلَّقها زوجُها من غير أسبابٍ شرعيةٍ مقبولة، وفرضت المحكمة على الزوج مبالغَ ماليةً أثقلت كَاهِلَه بدعوى الطلاق التعسُّفي، فهل للزوجة حقٌّ في هذه الأموال أم لا؟ أفيدونا جزاكم الله خيرًا.
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فإنَّ الطلاق من حقِّ الشرع جعله بيد الرَّجل إن شاء أَمْسَكَ وإن شاء طلَّق، و«الجواز ينافي الضمان » أو التعويض كما هو مقرّر في القواعد، ولأنَّه على فرض تقدير المسئولية على الزوج في إساءة استعماله حقّ الطلاق فإنَّما هي مسئولية دينية لا تدخل تحت سلطان القضاء، لذلك فليس للمرأة من حقٍّ في أموال زوجها إلاَّ المهر والنفقة الواجبة وما عدا ذلك فلا يجوز للمرأة المطالبة بالتعويض لكونه مشمولاً بالنهي في قوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ? [النساء: 29]، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« لاَ يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِطِيبِ نَفْسٍ مِنهُ »(1).
وبناءً عليه فالواجب على المرأة ردّ الأموال إلى صاحبها، إلاَّ إذا أَذِنَ الرجل بطيب نفسه وتكرُّمٍ فحينئذ تكون حلالاً عليها ومشمولاً بعموم قول الله تعالى: ?أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ? [البقرة: 229].
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 21 رجب 1427ه
الموافق ل: 15 أوت 2006م
__________
1- أخرجه أحمد (20172)، والبيهقي (11740)، وأبو يعلى (1570)، من حديث أبي حنيفة الرقاشي رضي الله عنه. وصحّحه الألباني في «الإرواء » (1459)، وفي «صحيح الجامع » (7539).(9/152)
الفتوى رقم: 534
في حكم وقوع الطلاق بالكناية
السؤال: قال رجل لزوجته:« السّماح…، إنّي ذاهب لأَجْلِ جمع الصّداق »، وكان قد أخذها إلى بيتها بسبب المشكلات التي جَرَت بينهما. فهل يقع هذا طلاقًا أم لا؟ عِلْمًا أنه صرَّح بعدم قصده للطلاق في عبارته السابقة وكانت زوجته حائضًا في أثنائها، واعتذر عن إرجاعها ووطئها لشبهة على حدّ ما ذكره.
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فاعلم -وفّقك اللهُ تعالى- أنّ الطلاقَ بالكناية يلزم لوقوعه نيةُ الطلاق؛ لأنّ اللفظَ المحتمَلَ للطلاق وغيرَه لا يُصرف إلى الطلاق إلاّ بنية، فكان الذي يُعيِّن مرادَه من لفظه المحتمَلِ للطلاقِ وغيرِه هو النِّيَّةُ والقصدُ، كما يلزم مطابقة نيّته للفظ المذكور، فلو كانت نية الطلاق قائمةً بنفسه وتلفّظ بالطلاق الكنائي مِن غير أن يقصد بذلك اللفظِ الطلاقَ لم يقعْ طلاقُه، أمّا إذا كان اللفظ لم يوضع للطلاق خاصّةً ولم يَحتملِ الطلاق أصلاً لم يكن كناية بل لغوٌ لا يقع به شيء.
هذا، أمّا المسائل الأخرى المفرّعة منها كالطلاق البدعي، والإعذار من وطء الشبهة، إنّما يلزم الإجابة عنها إذا ما تقرّر وقوعُ طلاقِه، حيثُ إنّ السائل لم يأت في لفظه ما يفيد الطلاق ولا يحتمله، ولو احتمله فقد انتفت نيّته فيه بالتصريح عنها، فيُصدَّق قضاءً ولا يقع طلاقه، أمّا ديانةً فَتُوكَلُ سريرَته إلى الله تعالى هو المطّلع عليها، العالِمُ بأسرارها الرقيبُ على أعمالها.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيِّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 8 رجب 1426ه
الموافق ل: 13 أوت 2005م(9/153)
الفتوى رقم: 535
في جواز فسخ العقد بسبب إعاقة عقلية
السؤال: تَزَوَّجَتْ امرأةٌ من ابنِ عمٍّ لها، وأنجبت منه ابنةً مُعاقةً، وبعد مُدّة ظهر بأنّ هذا الزوج مصاب بجنون يعتريه بين فترة وأخرى، فهل يجوز لها أن تطلب فسخ عقد الزواج؟ وإذا تمَّ الفراق بينهما فمن يَكفُل البنت؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فإنه إذا ظهر في الزوج عيبٌ كَتَمَهُ على زوجته، فإنَّ العقد ينقلب جائزًا بعد أن كان لازمًا، وتستطيع المرأةُ أن تتحلَّل مِنْ هذا العقدِ بِفَسْخِهِ بالنظر إلى ما اقترن بالعقد من عيوب، ولها أن تبقى معه إن رغبت فيه، واستقام دينُها وأمرُها بصحبته، وإلاَّ فَمِنْ حقِّها أن ترفع أمرها إلى القاضي ليَفسخَ العقدَ بصورة رسمية إذا رأت أن بقاءَها معه يُفسد دينَها، وعواقبَ أمرها، أمَّا ابنتُها فهي أحقُّ بها من غيرها لحديث المرأة التي قالت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم:« يا رسول الله إِنَّ ابْنِي كَانَ بَطْنِي لَهُ وِعَاءً، وحِجْرِي لَهُ حِوَاءً، وثَدْيِي لَهُ سِقَاءً، وَزَعَمَ أَبُوهُ أَنَّهُ يَنْزِعُهُ مِنِّي فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ:« أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي »(1).
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى اللهُ على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 2 محرم 1427ه
الموافق ل: 1 فبراير 2006م
__________
1- أخرجه أبو داود في الطلاق (2276)، والدارقطني (418)، والحاكم (2830)، وأحمد (6668)، والبيهقي (16191)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وصحّحه ابن الملقن في «البدر المنير » (8/317)، وابن كثير في «إرشاد الفقيه » (2/250)، وأحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد » (10/177)، وحسّنه الألباني في «إرواء الغليل » (7/244)، وفي «السلسلة الصحيحة » (1/709).(9/154)
الفتوى رقم: 551
في فسخ عقد شرعي بسبب تماطل الزوج
السؤال: عقد عليَّ أخٌ عقدًا شرعيًّا، ومنذ ذلك الحين لم يسأل عني ولم يتصل بي ولم أعرف عنه شيئًا، ولما اتصلت بأهله أجابوا:« بِأَنْ لا شأن لهم به »، مع العلم أنهم كانوا على علم بهذا الزواج، وقد مر على زواجنا على هذا النحو عامان ونصفٌ وأنا معلّقة، ولما أخبرته بأني لا أطيق البقاء على هذه الحال سكت ولم يفعل أي شيء حتى الآن. فكيف العمل ؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فللمرأة حقٌّ بأن تُلزِمَهُ على طريق أوليائها بوقتٍ محدّدٍ ليتمّ الزواجُ بينهما والدخول، وأن يُمكِّنَها من بيتٍ لائق بها بحيث لا يغيب عنها، بحَسَب ما أملاه العقدُ مِن شروط بينهما، فَإِن أبى أو تجاوز الوقتَ المضروبَ له، فلها الحقّ في أن تفسخ العقد وترد له ما كان قد أعطاها بمجلس فسخٍ يُقِيمُهُ أولياؤها، سواء حضر المعنيُّ بالأمر أو غاب عن المجلس، وسواء أناب غيره أو لم يُنِبْ، هذا كلّه إذا كان العقد عقدًا شرعيًّا، فإذا كان العقد مدنيًّا وجب أن ترفع أمرها للقاضي ليفسخ العقد بينهما.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 22 شوال 1247ه
الموافق ل: 14 نوفمبر 2006م(9/155)
الفتوى رقم: 624
في حالات تطليق القاضي
السؤال:
ما هي الحالات التي يمكن فيها للقاضي أن يُطلِّق المرأةَ من زوجها؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فاعلم أنّ للقاضي حالاتٍ تُرفعُ إليه، ويُوقِعَ التفريقَ بين الزوجين فيها، منها:
التفريق بسبب اللِّعان أو بسبب الظِّهار أو بسبب الإِيلاَءِ، أو التفريقُ بينهما بسبب الضَّرر اللاحِقِ بالزوجة، أو بسبب غَيبة الزوج لغير عُذر مقبولٍ مع حصولِ التضرُّر بغيابه، أو التفريق بسبب عدم الإنفاقِ، وهذه الأسباب في مُجملها لا تخرج عن أنواع الإيذاءِ والأضرار التي تحصل للزوجة ممَّا لا يُطاق معه دوام العِشرة، فيتولَّى القاضي -عند عجز الإصلاح بينهما- تطليقها بعد التثبّت من ذلك عملاً بقوله تعالى: ?وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُواْ? [البقرة: 231]، ولقولِه تعالى: ?فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ? [البقرة: 229]، فوجب على من لَمْ يُمسك بالمعروف أن يسرِّح بإحسان، ولقوله تعالى: ?وَلاَ تُضَارُّوهُنَّ? [الطلاق: 6]، ولقوله تعالى: ?وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ? [النساء: 19]، ولقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ »(1)، فإذا لم يعاشرِ الزوجُ أهلَه بالمعروف وأضرّ بها بالأسباب السالفة البيان فإنّ مُهمّةَ القاضي رفعُ الظُّلْمِ والضرر بالعمل على التفريق بينهما عملاً بالنصوص السابقة.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في 1 محرم 1428ه
الموافق ل: 20 يناير 2007م
__________
1- أخرجه ابن ماجه في كتاب «الأحكام »: (2431)، ومالك في «الأقضية »: (1435)، وأحمد: (2921) من حديث عبادة ابن الصامت رضي الله عنه، وصحَّحه الألباني في «الإرواء »: (896) ، و«غاية المرام »: (68).(9/156)
الفتوى رقم: 668
في حكم طلاق امرأة بسبب عيوب قابلة للعلاج
السؤال:
تزوَّجتُ منذ عَشَرَةِ أشهرٍ بامرأةٍ مستقيمةٍ ذاتِ خُلُقٍ، غيرَ أني وجدت بها ثلاثةَ عيوبٍ، الأول: أنها إذا نامت تشخر شخيرًا مزعِجًا، ولم تخبرني بهذا الأمر عندما تقدّمتُ لخِطبتها، مع أني طلبتُ منها ومن أهلها إن كان بها عيب أن تذكرَه لي، والعيب الثاني: أني منذ تزوجت بها لم تهيء نفسها عند الجماع، والعيب الثالث: أنه تخرج من فرجها رطوبة لها رائحة كريهة بعد الجماع، حتى إنّ حيضتها تطول إلى خمسةَ عشر يومًا، وقد قمت بأخذها لعِدّة أطباء مختصين للمعالجة، كما جلبت أحد إخواني العارفين بالرقية فرقاها، ولحدّ كتابة هذا السؤال ما زالت الأمور على ما هي عليه، ولَمَّا أصبحت أنفر منها، ولا أشعر معها بالسكينة ولم أجد منها ما يجده الرجال من زوجاتهم -مع أنها من ناحية الأخلاق نعمت المرأة- عزمت على أن أطلقها، غير أني خشيت أن أظلمَها، مع أني أشهد الله عزّ وجلّ أني لم أشأ تطليقها إلاّ من أجل الأسباب المذكورة وأكبرها الشخير، فهل ما سأُقدِم عليه جائز شرعًا؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فاعلم أنّ العيوبَ المذكورةَ لا ينبغي أن تؤثِّر على الحياة الزوجية ما دُمْتَ ظَفِرْتَ بذات الدِّينِ من جهة، والعيوب المذكورة قابلةٌ للعلاج من جهة أخرى.
وحقيقٌ بالتنبيه أنّ الشخيرَ حَسَبَ خبرةِ أطباء أمراض الأنف والحنجرة يمكن أن يُعالج بنحو عملية جراحية على الأنف، وكذلك إزالة الرطوبة الكريهة على ما تمّ التصريح به من اختصاصي في أمراض النساء، أمّا البرودة الجنسية فهي بحَسَب راحةِ المرأةِ واستقرارِها، وخُلُوِّ مشاغلِها، وهو أمرٌ -أيضًا- يقبل العلاج بالتروِّي ومرورِ الوقت، إذ الوقتُ جزءٌ من العلاج.
وعلى العاقل أن يقدّم المصلحةَ الشرعيةَ المعتبرة دون لفت نظر إلى المفسدة المنغمرة تحتها، لإمكان إزالتها بالوسائل الصحية المتاحة.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 21 ربيع الثاني 1428ه
الموافق ل: 30 أبريل 2007م(9/157)
الفتوى رقم: 707
في حكم الرجعة من الطلاق البدعي
السؤال:
هل يجب على من طَلَّقَ زوجَتَهُ وهي حائض -ثمَّ علم بأنَّ ذلك منهيٌّ عنه- أن يراجعها، ثمّ يطلقها بعد أن تطهر؟ وإن كان لا يجب فمتى تبدأ عِدَّتها؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالطلاقُ البدعيُّ منهيٌّ عنه وفاعلُه آثِمٌ، وحُكمُه الوقوعُ، وهو مذهبُ جمهورِ السَّلفِ والخَلَفِ، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ العِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ »(1)، والمراجعةُ إنما تكون من طلاقٍ قد وقعَ، ويُؤيّدُه حديثُ ابنِ عمرَ رضي اللهُ عنهما:« أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فَأَتَى عُمَرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَجَعَلَهَا وَاحِدَةً »(2).
والأمرُ بالمراجعةِ في حديثِ ابنِ عمرَ رضي اللهُ عنهما محمولٌ على الوجوبِ، وهو مذهبُ مالكٍ وأصحابِه، والأصحُّ عند الحنفيةِ، وبه قال داودُ الظاهريُّ؛ لأنَّ «الأَصْلَ فِي الأَمْرِ إِذَا تَجَرَّدَ عَنِ القَرَائِنِ أَفَادَ الوُجُوبَ » من جهة، وبه يحسم الإثم بحسم أثره وهو العِدَّة، ويُدفع ضررُه بتطويل مدّة العِدّة من جهة أخرى، خلافًا لِمَنْ حَمَل الأمرَ على الاستحبابِ، وهو مذهبُ الشافعيِّ وأحمدَ في المشهورِ عنه؛ لأنهم لم يختلفوا أنها إذا انقضت عِدّتُها لم يؤمر برجعتها، كما علَّلوا بأنه طلاقٌ لا يَرتفع بالرجعة، ولا يزيل الزوج بالرجعة المعنى الذي حرم الطلاق، لذلك لم تجب عليه الرجعة وإنما يستحبّ.
وعليه، فإن راجعها وجوبًا فإنه يستحبُّ له أن يمسكها حتى تحيضَ حيضةً أُخرى ثمّ تطهر -أي ينتظر أن تطهُرَ المرأةُ طُهرين- بعد الحيضة التي طلّقها فيها حتى يَسَعُهُ أن يطلّقها إن رغب في ذلك، وهذا إنما هو من باب الاستحباب، ويجوز له -جمعًا بين الأدلة- إذا راجعها أن يُمْسِكَهَا حتى تطهُر بعد الحيضة التي طلّقها ليحلّ له طلاقُها بعدها لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: أَمَرَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا فَإِذَا طَهُرَتْ فَأَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَا(3)، ويؤيّده حديثُ:« مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلاً »(4).
وإذا طلّقها في طُهْرٍ لم يمسَّها فيه تعتدّ إن كانت من ذوات الحيض بثلاث حيضات، تبدأ الحيضة الأولى منه بعد الطلاق، أمّا على مذهب من استحبّ له الرجعة ولم يوجبها عليه فإنّ الحيضة التي وقع فيها الطلاق لا تحتسب من العدّة؛ لأنّ الحيضة لا تتبعّض وإنما تعتدّ بالحيضة التي تليها.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 2 جمادى الثانية 1428ه
الموافق ل: 18 جوان 2007م
__________
1- أخرجه البخاري في «الطلاق »: (4953)، ومسلم في «الطلاق »، باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها: (3652)، وأبو داود في «الطلاق »، باب في طلاق السنة: (2179)، والنسائي في «الطلاق »، باب وقت الطلاق للعدة التي أمر الله: (3390)، وأحمد: (5299)، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
2- أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى »: (15181)، والطيالسي في «مسنده »: (68)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. والحديث صححه الألباني في «الإرواء »: (7/126).
3- أخرجه البخاري في «الطلاق »، باب من طلق وهل يواجه الرجل امرأته بالطلاق: (4958)، ومسلم في «الطلاق »، باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها:(3657)، وأحمد: (5248)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
4- أخرجه مسلم في «الطلاق »، باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها:(3659)، والترمذي في «الطلاق »، باب ما جاء في طلاق السنة: (1176)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.(9/158)
الفتوى رقم: 732
في حدود علاقة الرجل بمطلقته من أجل أولادها
السؤال:
تزوَّجت من رجلٍ كان قد طلّق امرأته الأولى وله منها ولدان، وبقي معها على اتّصال بشؤون حالتهما، ولكن في بعض الأحيان يتجاذبان أطراف الحديث في أمور خارجة عن الحاجة، فما هو ضابط جواز تكليمه ومحادثته لها؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالرجلُ إن طلق زوجتَه وخرجت من عدّتها بانت عنه، ولا يجوز له معها ما كان جائزًا بعقد الزَّواج لكونها أجنبية عنه، ولها أن تُكلِّمه بما لا يزيد عن قدر الحاجة وبالكلام المعروف الخالي من الفتنة والريبة من غير مباسطة ولا بصوت فاتن قصد استمالة قلبه لقوله تعالى: ?فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفًا? [الأحزاب: 32]، وكذا العكس فلا يجوز له أن يفتنها ويتخذ الأولاد سبيلاً للوصول إلى الفتنة وما لا يُرضي الله تعالى، وعليه أن يتقي الله ويخاف منه، فإنَّه يعلمُ ?خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ? [غافر: 19]، وَ?مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ? [النمل: 74].
ومع ذلك فقد جعل الله لذلك مخرجًا إن رغب فيها ولم تَبِنْ عنه بينونة كبرى (أي لم يكن قد طلّقها ثلاثًا) أن يعدّد بها بعقد زواج مع لزوم تحقيق العدل في المسكن والمعاشرة بينهما تفاديًا للمحرمات وأسباب الفتنة.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 14 رجب 1428ه
الموافق ل: 28 جويلية 2007م(9/159)
الفتوى رقم: 751
في طلاق الغضبان ثلاثًا في مجلس واحد
السؤال:
رجلٌ طلّقَ زوجَتَه في حالةِ الغضب ثلاث طلقات في نفس الوقت، وذلك إثر مشكل بين زوجته وأُمِّه وهو الآن نادمٌ، فهل الطلاقُ يُعتبر بائِنًا أم لا؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالطلاقُ الثلاثُ باللفظ الواحدِ محلُّ خلافٍ بين أهل العلم، والصحيحُ الراجحُ من هذه الأقوالِ أنه يقع طلقةً واحدةً رجعيةً، أفتى به بعضُ المالكية وهو منقولٌ عن ابنِ عباسٍ وابنِ مسعودٍ وعبدِ الرحمن بنِ عوف رضي الله عنهم وعطاء وطاوس وغيرِهم، واختاره ابنُ تيمية وتلميذُه ابنُ القيم، ولا تَبِينُ عنه إلاّ إذا لم يدخل بها أو وفَّت عِدَّتها، غيرَ أنّ المعلومَ -أيضًا- من فقه العلماء أنّ طلاق الغضبان الغضب المنغلق عليه باب العلم والإرادة أي: الذي لا يعي ما يقول فيصير كالمجنون فطلاقه لا يقع قولاً واحدًا، أمَّا الذي يعي ما يقول ويريد الطلاقَ ويقصِده بحيث لا يتغيّر عقله ولا ذهنه، فإن أوقعه وقع واحدة سواء تعدّدت المجالس أو لم تتعدَّد على ما تقدّم تقريرُه، أمّا إذا لم يكن يحدّث نفسَه بالطلاق وتلفَّظ به إثر غضبٍ توسَّط بين المرتبتين بحيث يغلب على حاله الاضطراب في الأقوال والأفعال، ويمنعه الخلل من التعقّل والاتزان والتثبُّت ولا يتغير عقله وذهنه، ثمّ يندم على فعله بعد سكوت غضبه؛ فإنّ طلاقَه على الصحيح من أقوال أهل العلم عدمُ وقوعه، وهو اختيارُ ابنِ تيمية وابنِ القيم، لعدم تواطؤِ لسانِه مع قلبه، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« أَلاَ وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ »(1).
قال ابنُ القيِّم -رحمه الله-:« والأدلةُ الشرعيةُ تدلُّ على عدم نفوذِ طلاقِهِ، وعتقِه، وعقودِه التي يُعتبر فيها الاختيارُ والرِّضَا، وهو فرعٌ من الإغلاق كما فسّره به الأئمَّةُ »(2).
فالحاصل إذن: أنّ الطلاق ولو تعدّد لفظُه ومجالسُه يقع طلقةً واحدةً على الراجح ما لم يقترن به غضبٌ أغلق عليه علمه وإرادته، أو جرّه الغضبُ إلى الخلل والاضطراب في أقواله وأفعاله، فإنّ في هذه من الحالتين لا يقع فيهما طلاقُه.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 5 شعبان 1428ه
الموافق ل: 18 أوت 2007م
__________
1- أخرجه البخاري في «الإيمان »: (1/126) باب فضل من استبرأ لدينه، ومسلم في «المسَاقاة »: (11/27) باب أخذ الحلال وترك الشبهات من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.
2- «إغاثة اللهفان في طلاق الغضبان »: (39).(9/160)
الفتوى رقم: 811
في عدم وقوع الطلاق على شرط قسمي
السؤال:
ما حكم رجلٍ قال لزوجته:« أنتِ عليَّ حرامٌ إن دخل ابنُكِ البيتَ »، وكان يَقصِد بهذا الكلام أمرين اثنين:
الأوّل: أراد بهذا الكلام أن يتراجع الابنُ عن صُحبة جماعة أشرار.
الثاني: لتَعلَمَ الأمُّ مآلَها إن مَدَّت له يَدَ المَعُونَة، فإذا أحسَّ الابنُ بفَقدِ المُساعِدِ، ووجد نفسه وحيدًا بلا ناصر، تَخَلَّى عن أفكاره، وعاد إلى البيت.
يقول الزوج:« وكنتُ أَنوِي بلفظ التحريم الطلاق ».
علمًا أنّه قد سبق له أن طلَّق طلاقين رجعيين.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فإنَّ صيغةَ الطلاق بالحلف به قد تأتي بصورة تعليق الطلاق على شرطٍ، فإن قصد بلفظ «أنتِ حرامٌ عليَّ إن دخل ابنُكِ البيت » مَنْعَها من الفعل، أو تخويفها باليمين، أو تحذيرها به أو تهديدها، ولا يقصد إيقاع الطلاق إذا خالفَتْ، فهذا يُعَدُّ حالفًا، وليس مُوقِعًا للطلاق، إذ أنَّ الحالفَ لا يكون كذلك إلاَّ إذا كره وقوع الجزاء عند حصول الشرط، أمّا إن كان يريد وقوع الجزاء عند حصول الشرط، كأن يقول لها:« إن زَنَيتِ فأنتِ طالق »، ومقصوده إذا فعلت ذلك يُطلِّقُها إمّا عقوبةً لها، وإمّا كراهيةً لمقامه معها، فهذا ليس بيمين، بل يقع به الطلاق إن وُجِد الشرط، وهو الأمر الذي نصَّ عليه شيخُ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- بقوله:« وما عَلِمتُ أحدًا من الصحابة أفتَى في اليمين بلزوم الطلاق عند الحنث، كما لم أَعلَم أحدًا منهم أفتَى في التعليق الذي يقصد به اليمين، وهو المعروف عند جمهور السلف »(1).
وأمّا المنقول عن الصحابة في إيقاع الطلاق المعلَّق فهو محمولٌ على التعليق المحضِ الذي لا يُقصَد به اليمين، أمّا ما يُقصَد به اليمين فلا يُحفَظ عن الصحابة الفتوى بوقوعه، على ما تقدَّم تقريره عن شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى-.
وعليه، فإن قَصَدَ بتعليقه إيقاع الطلاق عند وجود الشرط فيقع طلاقًا، ولا تَحِلُّ له مِن بَعدُ حتّى تنكح زوجًا غيرَه، ما دام أَتَمَّ الطلقة الثالثة، وإلاَّ فهي يَمِينٌ يُكفِّرُها.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في 18 صفر 1428ه
الموافق ل: 07 مارس 2007م
__________
1 -مجموع الفتاوى لابن تيمية (33/224).(9/161)
الفتوى رقم: 812
في حكم الطلاق الثلاث بلفظ واحد
السؤال:
ما حكم الطلاق الثلاث بلفظ واحد؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فمسألةُ الطلاقِ الثلاثِ بلفظٍ واحدٍ مسألةٌ كثيرةُ النُّقُول، وطويلةُ الذيول، قديمةُ الخلاف، ومُتشَعِّبةُ الأطراف، وأقوى الأقوالِ فيها حُجَّةً، وأَصَحُّها نَظَرًا مذهبُ القائلين بأنَّ الطلاقَ الثلاثَ بكلمةٍ واحدةٍ، أو بكلماتٍ في مجلسٍ واحدٍ أو مجالس متعدّدة من غيرِ تَخَلُّلٍ برجعةٍ لا يقع إلاَّ طلقةً واحدةً، وهو مذهبُ أهلِ التحقيق، وبه قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيمية، وتلميذُه ابنُ القيِّم، ورجّحه الشوكانيُّ -رحمهم الله تعالى-.
هذا، وعُمدةُ رأيِهِم حديثُ ابن عبَّاٍس رضي الله عنهما الثابتُ في «صحيح مسلم » وغيرِه بإسنادٍ كُلُّ رجالِه أَئِمَّة: أنّ أبا الصهباء قال له:« أَلَمْ تَعْلَمْ أنّ الثلاثَ كانت واحدةً على عهدِ رسول الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، وأبي بكر، وصَدرًا من خلافة عمر؟ » قال:« نعم »(1)، وللحديث ألفاظٌ وأسانيدُ، وهو واضح الدِّلالة على اعتبار الطلاق الثلاث بكلمة واحدة على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم وأبي بكر طلقة واحدة، وهو الحكمُ المُعوَّلُ عليه الذي أقرَّه رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، وتَمَّ إجماعُ الصحابة عليه في زمن أبي بكر، وإنَّما أمضاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثلاثًا على سبيل العقوبة، لاِسْتِهانَتِهِمْ بأمر الطلاق، ولم يأتِ مَن حاول التخلُّصَ عنه بِحُجّة تنفق.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في 18 صفر 1428ه
الموافق ل: 07 مارس 2007م
__________
1- أخرجه مسلم في «الطلاق »: (3674)، وأبو داود في «الطلاق »: (2200)، والنسائي في «الطلاق »: (3406)، من حديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما.(9/162)
02- الخلع
الفتوى رقم: 159
الخلع على إسقاط الحضانة
السؤال: لو تتكرمون أحسن الله إليكم بالإجابة على مسألة تطرحها إحدى الأخوات فستكون لكم من الشاكرين ولمعروفكم من الذاكرين والله لا يضيع أجر المحسنين وخلاصة المسألة: أنّ المرأة بعد استحالة العيش مع زوجها لأمور عديدة سعت في طلب سراحها ولم تتمكن إلاّ بشرط شرط عليها في مجلس حضره شهود، وهذا الشرط هو تمكين المرأة هذا الرجل من استلام الوليد الذي كان إذ ذاك حملا- بعد سنتين- فقبلت المرأة الشرط قبول المكره في صورة المختار لأنّها لم تجد لها سبيلا للخلاص إلاّ هذا وهي الآن تسأل هل مثل هذا الشرط جائز شرعا؟ وهل يلزمها الوفاء به؟ وهل يترتب عليها إن هي رجعت فيه إثم؟.
هذا ملخص سؤالها. وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فهذه المسألة ترجع إلى الاختلاف في التكييف الشرعي للحضانة، أهي حق للحاضنة أم واجب عليها أم الحضانة حق مشترك بين الصغير وأمه، أم هو حق خاص للولد الصغير؟ علماً أنّ الأصل في الحضانة للنساء على الأولاد الصغار ذكورا وإناثاً لأنّهن أشفق وأرفق وأهدى إلى تربية الصغار وتأديبهم.
وأرجح الأقوال في هذه المسألة أنّ الحضانة حق للولد الصغير لاحتياجه إلى من يرعاه ويحفظه ويقوم على شؤونه ويتولى تربيته، فمشروعية الحضانة قائمة على أساس تحصيل مصلحة الصغير المحضون وهي أحقية ثابتة لهذا المعنى لا من أجل تحصيل مصلحة المستحق للحضانة، وعليه فالحضانة حق مشروع ثابت من أجل تحصيل مصلحة الصغير، وكلّ من هو أقدر على تحقيق مصالحه وتحصيل منافعه ورعايته كان أولى به.
هذا، وإذا كانت الحضانة حقا للولد الصغير، فإنّ الأمّ تجبر عليها لزوما إذا احتاج الطفل إليها حتى لا يضيع حقه في الحفظ والرعاية والتربية والتأديب، وكلّ شرط وقع لإهدار حق الولد المشروع في الحضانة لمن كان أقدر على تحصيل مصالحه فهو باطل، فإذا اختلعت المرأة زوجها على أن تترك له ولدها، فالخلع جائز صحيح، والشرط فاسد ويقع لاغيا لا يلزمها الوفاء به، لأنّه إذا ثبت أنّ هذا من حق الولد فليس له ولا لها أن تبطله بالشرط لقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم:«كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط »(1) أي ليس في كتاب الله جوازه أو وجوبه، ولقوله صلى الله عليه وسلم:« المسلمون على شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا »(2) وهذا بخلاف ما لو تزوجت لم تكن أحق بالحضانة لانشغالها بخدمة زوجها فلا منفعة للولد في كونه عندها لقوله صلى الله عليه وسلم «أنت أحق به ما لم تنكحي »(3) وتناط الحضانة لمن يليها في الاستحقاق لتحصيل مصلحة المحضون نظرا لوجود مانع الزواج، ويعود حق الحضانة لها إذا زال المانع بناء على قاعدة: إذا زال المانع عاد الممنوع أو: إذا زال الخطر عاد الحظر.
والعلم عند الله تعالى وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّ اللّهم على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلّم تسليما.
الجزائر في: 17 ربيع الأول 1425ه
__________
1- أخرجه النسائي في الطلاق(3451)، وابن ماجة في العتق(2521)، من حديث عائشة رضي الله عنها. وصححه الألباني في إرواء الغليل(5/152).
2- أخرجه أبوداود في الأقضية (3593)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والترمذي في الأحكام(1352)، من حديث عمرو بن عوف عن أبيه عن جده، والحاكم في البيوع عن أبي هريرة وعن عائشة رضي الله عن الجميع. والحديث صححه الألباني في الإرواء (5/142) رقم ( 1303)، والسلسلة الصحيحة رقم (2915).
3- أخرجه أبو داود في الطلاق(2276)، والدارقطني(418)، والحاكم(2830)، وأحمد(6668)، والبيهقي(16191)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وصححه ابن الملقن في البدر المنير (8/317)، وابن كثير في إرشاد الفقيه (2/250)، وأحمد شاكر في تحقيقه لمسند أحمد (10/177)، وحسنه الألباني في إرواء الغليل(7/244)، وفي السلسلة الصحيحة(1/709).(9/163)
الفتوى رقم: 866
في الخلع من مفرط في حقوق الله
السؤال:
تزوّجت امرأة منذ أربع سنوات من رجلٍ ظاهره الصلاح، إلاّ أنه في السنة الأخيرة ترك أدَاء الصلاةِ بدون سببٍ، رَغْمَ نُصحها الدائم له، فهل يجب عليها أن تبقى تحت عصمته إذا أصر على فعله؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فيُستحَبُّ للمرأة أن تَخْتلِعَ من زوجها إذا كان مُفرِّطًا في حقوقِ الله هجرا للمعصية وأهلها لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« المُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللهُ عَنْه »(1)، بل قد يجب عليها أن تفارقه إذا بقي مُصِرًّا على ترك الصلاة خاصّةً، لأنَّ مدارَ كُلِّ الأعمال عليها، وهذا إذا لم يُجْدِ نَفْعًا التذكيرُ بلزوم أداءِ ما فَرَضَ اللهُ عليه، لكونه تَلَبَّسَ بما يكفر به سواء اعتقادًا أو عملاً.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 14 من ذي القعدة 1428ه
الموافق ل: 24 نوفمبر 2007م
__________
1- أخرجه البخاري في الإيمان (10)، وأبو داود في الجهاد (2483)، والنسائي في الإيمان وشرائعه (5013)، وأحمد (6671)، والحميدي في مسنده (623)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.(9/164)
الفتوى رقم: 887
في انحلال الزواج بالخلع
السؤال:
اختلعت امرأة من زوجها، وقد أصدرت المحكمة حكما بالتطليق عن طريق الخلع محتويا آثارَ الطلاق، فهل ثمة فرق بينهما؟ وهل لهما نفس الأحكام؟ وجزاكم الله خيرا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالخلعُ يكون بتراضي الزوج والزوجة عليه، فإِنْ تعذَّر التراضي بينهما، فإنَّ للقاضي إلزام الزوج بالخلع، والحكم من قبل القاضي يُسمَّى تطليقًا، ويدلُّ عليه حديثُ ابن عباس رضي الله عنهما قال:« جاءت امرأةُ ثابتٍ بنِ قيسٍ بن شماس إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم فقالت: يا رسول الله ما أعتبُ عليه في خُلُقٍ ولا دِين، ولكني أكره الكفر في الإسلام، فقال رسولُ الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟ قالت: نعم، فقال رسولُ الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« اقْبَلِ الحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً »(1)، فإنَّ ثابتًا وزوجتَه رَفَعَا أمرهما للنبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، وألزمَهُ الرسول بأن يقبل الحديقة ويُطلِّق.
هذا، وجمهورُ العلماء يَعُدُّون الخلعَ طلاقًا بائنًا خِلافًا لمن عدَّه فسخًا، وهو الصحيحُ لمخالفته للطلاق من عدّة وجوه منها:
- أنَّ الزوج في الطلاق أحقُّ بالرجعة فيه، أمَّا الخلعُ فقد ثبت بالنصِّ والإجماع أنه لا رجعةَ فيه.
- كما أنه ثبت بالسُّنَّة وأقوال الصحابة أنَّ العِدَّة في الخُلْعِ حيضةٌ واحدةٌ، بينما العِدَّة في الطلاق ثلاثةُ قروءٍ.
- والخلع ثبت بالنصِّ جوازُه بعد طلقتين، ووقوع الثالثة بعده، بينما الطلاق محسوبٌ من الثلاث، فلا تحلُّ له حتى تَنكحَ زوجًا غيره،
ومِن هنا كانت أحكام الطلاق مُباينة لأحكام الفسخ ومُنتفية عنه.
فهذا ما تقرَّر فقهًا، لكن المعتَبر ما تجري عليه محاكم الأحوال الشخصية قضاءً.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 30 ربيع الأول 1429ه
الموافق ل: 06/04/2008م
__________
1- أخرجه البخاري في «صحيحه » كتاب الطلاق، باب الخلع وكيف الطلاق فيه: (4971)، والنسائي في «سننه » كتاب الطلاق، باب ما جاء في الخلع: (3463)، وابن ماجه في «سننه » كتاب الطلاق، باب المختلعة تأخذ ما أعطاها: (2056)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.(9/165)
03- العدة
الفتوى رقم: 524
في تحريم النكاح في العدة
السؤال: هل العقد الشرعي على امرأة حال حيضها صحيح؟ وما معنى قول الفقهاء:« لا يجوز النكاح في العِدَّة »؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فالعقد الشرعي المُستوْفَى الشروط والأركان صحيحٌ بلا خلاف، ولو كانت المرأة حين العقد حائضًا أي في أثناء عادتها الشهرية، وإنَّما يَبْطُلُ العقدُ على امرأةٍ مطلَّقةٍ طلاقًَا رجعيًّا أو باتًّا أو مات عنها زوجها وهي في عدَّة طلاقٍ(1) أو وفاةٍ، فإنه إذا نَكَحَتِ المرأةُ في عِدَّتها فإنَّه يُفرَّق بينهما، ولها الصداق بما استحلَّ من فرجها، وتُكمِل ما أفسدت من عدَّة الأوَّل، وتعتدُّ من الآخر، لِقولِ عُمَرَ بنِ الخطَّاب رضي الله عنه:« أيُّما امرأة نَكَحَتْ في عدَّتها، فإن كان زوجها الذي تزوّجها لم يدخل بها، فُرِّقَ بينهما، ثمَّ اعتدَّت بقيةَ عدَّتها من زوجها الأوَّل، ثمَّ كان الآخر خاطِبًا من الخُطَّاب، وإن كان دخل بها فُرِّق بينهما ثمَّ اعتدَّت بقيةَ عِدَّتها من الأوَّل، ثمَّ اعتدَّت من الآخر، ثمَّ لا يجتمعان أبدًا، قال سعيد: ولها مهرها بما استحلَّ منها »(2).
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 28 شعبان 1426ه
الموافق ل: 2 أكتوبر 2006م
__________
1- وتعتدُّ بثلاث حِيَضٍ على أحد قولي العلماء إن كانت حائلاً، لقوله تعالى: ?وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ? [البقرة: 228] وبالوضع إن كانت حاملاً وثلاثة أشهر إن كانت يائسةً من المحيض أو لم تحض بعد لقوله تعالى: ?وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ? [الطلاق: 4].
2- أخرجه مالك في الموطإ (1115)، والشافعي في مسنده (1597)، والبيهقي (15316)، عن سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار رحمهم الله. والأثر صحّحه ابن كثير في «إرشاد الفقيه إلى معرفة أدلة التنبيه » (2/235)، والألباني في «إرواء الغليل » (7/203).(9/166)
الفتوى رقم: 558
في بداية وقت عدّة المطلقة
السؤال: إذا طَلَّق الرجل امرأته فهل تبدأ العِدَّةُ عند التلفُّظ بالطلاق، أم عند صدور حكمِ الطلاق من المحكمة؟ وإذا انقضتِ العِدّة قبل صدور حكمِ الطلاقِ ولم تَحدثْ المراجعة بينهما، وتقدّم لخِطبة المرأة المطلّقة رجلٌ آخر، فهل الخِطبة صحيحةٌ؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فإنَّ الطلاقَ إن صدر من الزوج وصادف محلَّه من زوجةٍ ولم تقترن به الموانعُ التي تحول دون وقوعه؛ فإنَّ الاعتداد بطلقته لا بطلاق المحكمة، وبناءً على ذلك تعتدُّ العِدَّةَ المقترنة سواء كانت حاملاً إلى حين أن تضع الحمل أو يائسًا ثلاثةَ أشهر أو من ذوات الحَيْضِ ثلاثةَ قروء، فالعبرة بطلاق الزوج؛ لأنَّ الطلاق جعله الشرع من حقِّه وأسند الأمر للزوج إن شاء طلَّق وإن شاء أمسك، فمسئوليته -إذن- مسئولية دينية وليست مسئوليةً قضائيةً، فإنَّ العِدَّة إذا ابتدأت من يوم طلاقه وانتهت، أصبحت المرأة أجنبيةً عنه، ويكون زوجها أسوة بجميع الخطباء، ولها أن تختار منهم ما تقيم به حياتها الزوجية، فإن عاد إليها بعقد جديد ومهر جديد إن كان قد طلقها دون الثلاث فإنّ الطلقة تحتسب عليه إن رجعت إليه، فإن كان قد طلقها طلقة ورجعت إليه فلا يملك عليها سوى طلقتين، وعليه فإن تزوجت زوجًا غيره وصدر حكم الطلاق بعد ذلك من المحكمة، فإن ذلك لا يقدح في عقد الزواج.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 21 رجب 1427ه
الموافق ل: 15 أوت 2006م(9/167)
الفتوى رقم: 716
في لزوم المعتدة من طلاق رجعي بيت الزوجية
إلاّ عند الفاحشة المبينة
السؤال:
تزوّجت منذ أربع سنوات، غيرَ أنّ حياتنا الزوجية لم تكن مستقرّة أبدًا إلاّ في النادر، وكانت زوجتي تطلب مني أن أطلّقها لأتفه الأسباب، وترتكب من أجل ذلك حماقات كبيرة بأن تَعمد لرمي نفسها من فوق سطح البيت، حتى يمنعها بعض أفراد العائلة، والقطرة التي أفاضت الكأس أنها أشارت إلي بسكين إن لم أطلقها ستقتلني أو تقتل نفسها [مع العلم أنها لا تعاني من أي مرض عصبي]، فطلقتها وأخذتها إلى بيت والديها، وقد علمت أنّ عدّة الحامل أن تبقى في بيت الزوجية إلى غاية وضع حملها، لكني أخشى على نفسي وولدي أو أحد أفراد عائلتي، فهل يجوز أن تعتد في بيت والديها؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالأصلُ أنّ المعتدّةَ مِنْ طلاقٍ تلزم بيت الزوجية حتى تنقضي عِدُّتها، ولا يحلُّ لزوجها أن يُخرِجَهَا من بيتِها، وليس لها أن تَخْرُجَ هي منه، وإن خرجتْ وجب عليها أن تعودَ إليه ما لم ترتكب المرأةُ فاحشةً مُبَيِّنَةً، فإنها تخرج منه، والمرادُ بالفاحشة المُبَيِّنَةِ هي كلُّ ما يَشتدُّ قُبْحُهُ من الذنوب والمعاصي والخِصال القبيحة، ويشملُ ذلك الزِّنى كما قاله ابنُ مسعودٍ وابنُ عباس رضي الله عنهم، كما تشمل لفظةُ الفاحشةِ ما إذا نَشَزَتِ المرأةُ، أو بَذَتْ على أهلِ الرجلِ، وآذتهم في الكلام والفِعال كما قاله أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ وابنُ عَبَّاسٍ(1) رضي الله عنهم وغيرُهم، وصُورَةُ الواقعةِ المذكورة لا تخرج عن هذا المعنى، ويدلّ عليه قوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا العِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ? [الطلاق: 1].
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 18 ربيع الثاني 1428ه
الموافق ل: 06 ماي 2007م
__________
1- انظر هذه الآثار في:« تفسير الطبري »: (28/121)، و«تفسير القرآن العظيم » لابن كثير: (8/165)، و«المصنف » لابن أبي شيبة: (14061)، و«المصنف » لعبد الرزاق الصنعاني: (12101)، «السنن الكبرى » للبيهقي: (15775).(9/168)
الفتوى رقم: 836
في أحكام المعتدة عن وفاة زوجها
السؤال:
ما هي أحكام المعتدة من وفاة زوجها سواء كانت شابة أو غير ذلك، وهل يجوز لها زيارة والديها في حالة مرضهما، أو شهادة جنازة قريب لها؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالمرأةُ المتوفى عنها زوجها إن لم تكن حاملاً فعِدَّتها أربعةُ أشهرٍ وعشرٌ، لقوله تعالى: ?وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا? [البقرة: 234]، فإن كانت حاملاً فتنتهي عدّتها بوضع حملها، لقوله تعالى: ?وَأُوْلاَتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ? [الطلاق:4] فإن حصل وأن طلق الرجل زوجتَه طلاقًا رجعيًّا ثمَّ توفي عنها -وهي في عِدَّة الطلاق الرجعي- فإنها تعتدُّ بعِدة الوفاة؛ لأنه مات عنها وهي زوجته في العِدَّة.
هذا، ويجب على المعتدة من وفاة زوجها أن تعتدَّ في بيت الزوجية الذي كانت تسكنه قبل وفاته، لحديث الفريعة بنت مالك الأشجعي -وهي أخت أبي سعيد الخدري- رضي الله عنهم أنها جاءت إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وآله وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة ، فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا حتى إذا كانوا بطرف القَدُوم لحقلهم فقتلوه، فسألت رسولَ الله صَلَّى الله عليه وآله وسَلَّم أن أرجع إلى أهلي فإني لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة، فقال رسولُ الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسلم:« نَعَمْ »، قالت: فخرجتُ حتى إذا كانت في الحجرة أو في المسجد، دعاني أو أَمَرَ بي فَدُعِيتُ له، فقال: كيف قلتِ؟ فرددت عليه القِصَّةَ التي ذكرت من شأن زوجي. فقال :«امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ »، قالت: فاعتدت فيه أربعةَ أشهرٍ وعشرًا، قالت: فلمَّا كان عثمان بن عفان أرسل إليَّ فسألني عن ذلك، فأخبرته فاتبعه وقضى به »(1)، وعن سعيدٍ بن المسيِّب:« أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يردُّ المتوفى عنهنَّ أزواجهنَّ من البيداء يمنعهنَّ الحجَ »(2)، فهذا مذهب جمهور أهل العلم وهو الأحوط لدينها، ولا تعتدُّ في غير بيت الزوجية، إلاَّ لعُذْرٍ كخوف هدم، أو غرق أو غزوٍ، أو كان في بيتها أجانب وليس معها محارم ونحو ذلك، فلها أن تنتقل إلى غير بيت الزوجية، وتكمل عِدَّتها فيه لأنَّ الواجب عليها فعل السُّكنى لا تحصيل المسكن، وإذا تعذَّرت السكنى سقطت(3).
هذا، والمتوفى عنها زوجها ليس لها حقّ في نفقة أو سكن إلاَّ مقدار نفقتها سواء كانت حاملاً أو حائلاً، ويدلُّ عليه قولُ ابنِ عباسٍ -رضي الله عنهما- بأن آية الميراث نسخت قوله تعالى: ?وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ? [البقرة: 240](4).
لذلك إذا احتاجت للخروج لقضاء حوائجها وأمورها أو احتيج إليها حاجةً مؤكَّدة جاز لها الخروج لكنها لا تبيت إلاَّ في بيتها. وسُئِلَ ابن تيمية -رحمه الله- عن امرأةٍ معتدَّةٍ عِدَّة الوفاة ولم تعتدّ في بيتها بل تخرج في ضرورتها الشرعية فهل يجب عليها إعادة العِدَّة؟ وهل تأثم بذلك؟ فأجاب:« العِدَّة انقضت بمضي أربعة أشهر وعشر من حين الموت، ولا تقضي العِدَّة، فإن كانت خرجت لأمر يحتاج إليه، ولم تبت إلاَّ في مَنْزِلها فلا شيء عليها، وإن كانت قد خرجت لغير حاجة وباتت في غير مَنْزِلها لغير حاجة أو باتت في غير ضرورة، أو تركت الإحداد فلتستغفر اللهَ وتتوبَ إليه من ذلك، ولا إعادة عليها »(5).
ولا تمس طِيبًا أي: أن تجتنبَ الزينة والطيبَ طيلةَ فترة العِدَّة، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« لاَ يحَلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا »(6)، قال ابن تيمية -رحمه الله-:« ...ولا تخرج ليلاً ولا نهارًا إلاَّ لأمرٍ ضروريٍّ، وتجتنبُ الزينةَ والطيبَ في بيتها وثيابها، ولتأكل ما شاءت من الحلال، وتشم الفاكهة، وتجتمع بمن يجوز لها الاجتماع به في غير العِدَّة، لكن إن خطبها إنسان فلا تجيبه صريحًا »(7).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 20 المحرم 1429ه
الموافق ل: 27 جانفي 2008م
__________
1- أخرجه أبو داود في «الطلاق »، باب في المتوفى عنها تنتقل: (2300)، والترمذي في «الطلاق واللعان »، باب ما جاء أين تعتد المتوفى عنها زوجها: (1204)، والنسائي في «الطلاق »، باب مقام المتوفى عنها زوجها في بيتها حتى تحل: (3528)، وابن ماجه في «الطلاق »، باب أين تعتد المتوفى عنها زوجها: (2031)، والدارمي في «سننه »: (2202)، والحاكم في «المستدرك »: (2832)، وأحمد في «مسنده »: (26547)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (15910)، من حديث فريعة بنت مالك رضي الله عنها. والحديث صححه ابن الملقن في «البدر المنير »: (8/243)، وابن القيم في «أعلام الموقعين »: (4/293)، والألباني في «صحيح أبي داود »: (2300).
2- أخرجه مالك في «الموطإ »: كتاب الطلاق، باب مقام المتوفى عنها زوجها في بيتها حتى تحل: (1230)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (15917)، قال الألباني في «الإرواء » (7/208):« وهذا إسناد رجاله ثقات ».
3- انظر:« زاد المعاد » لابن القيم: (5/688).
4- أخرجه أبو داود في «سننه »: كتاب الطلاق، باب نسخ متاع المتوفى عنها بما فرض لها من الميراث: (1/700)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (7/427)، عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفا. والأثر حسنه الألباني في «صحيح أبي داود »: (2012).
5- «مجموع الفتاوى » لابن تيمية: (34/28).
6- متفق عليه: أخرجه البخاري في «الطلاق »، باب تحد المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرًا: (5334)، ومسلم في «الطلاق »، باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة: (3725)، من حديث أم حبيبة رضي الله عنها. وورد الحديث عن جماعة من أزواج النبي صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم وغيرهن رضي الله عنهن، انظر طرقه في:« نصب الراية للزيلعي »: (3/260-261)، «الإرواء » للألباني: (7/193-195).
7- «مجموع الفتاوى » لابن تيمية: (34/29).(9/169)
04- الظهار
الفتوى رقم: 289
في حكم ظهار المرأة من زوجها
السؤال: هل الظّهار يكون من المرأة كما يكون من الرّجل؟ أم هو خاص بالرجل دون المرأة؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحجمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فظهار المرأة كقولها لزوجها:" أنتَ عليَّ كظهر أبي" لا يقع ظهارا عند الأئمة الأربعة خلافا لبعض السلف كالزهري والأوزاعي وهو مرويّ عن الحسن والنخعي حيث يرون أنه ظهار واختار القول الثاني شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهم الله(1).
واختلف القائلون بعدم كونه ظهارا، هل على المرأة كفارة أم لا؟ والصحيح أنّه لا كفارة عليها، لا كفّارة ظهار ولا كفارة يمين وهو مذهب مالك والشافعي ورواية عن أحمد وبه قالت الأحناف، ذلك لأنّ الله تعالى خصّ الظهار بالرّجال في قوله تعالى "والذِين يُظَاهِرُونَ مِن نِسَائِهِم"[ المجادلة: 3] فكان حكمه كالطلاق(2).
والله أعلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
__________
1- مجموع الفتاوى لابن تيمية: 34/9 .
2- للمزيد انظر بداية المجتهد: 4/437 و المغني: 7/256.(9/170)
*************** 10- فتاوى المعاملات المالية **************
01- البيوع
الفتوى رقم: 88
بيع الحلوى المصنوعة من مادة "الجيلاتين"
السؤال: هل يجوز بيع حلويات مستوردة من " إنجليترا" تحتوي على مادة " الجيلاتين " الموجودة في عظام ولحم البقرة علما بأن أهل البلاد وغيرها لا يذبحون غالبا؟
الجواب: الحمد لله والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين، أمّا بعد:
فأقول وبالله التوفيق:
لا إشكال يرد في بيع الحلويات المستوردة إن خالطها شيء من ذبائح أهل الكتاب ممّا لهم فيه ممارسة وصناعة إذا كانت محلا للذّبح لقوله تعالى:( وَطَعَامُ الّذِينَ أُوْتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لهُمْ?[المائدة 5] وإنّما يرد الإشكال فيما إذا كانت هذه الحيوانات توقذ صعقا على ما هو جار في معظم بلاد الغرب الأوروبي من أهل الكتاب، أو كانت من ذبائح المجوس، الأمر الذي أحدث خلافا بين أهل العلم في الجواز والمنع، واختلافهم ناشئ عن اختلافهم في لبن الميتة وإِنفِحَتها، هل هما طاهران أو نجسان، فمن رأى نجاستها تقرر عنده تحريم ما يصنع بالإنفحة، حلويات كانت أو أجبانا، وهو مذهب مالك والشافعي ورواية عن أحمد ومن رأى طهارتهما حكم بجوازها وهو مذهب أبي حنيفة(1)، والرواية الأخرى عن الإمام أحمد ارتضاها شيخ الإسلام ابن تيمية(2)، وهو الظاهر من القولين عملا بفعل الصحابة لمّا فتحوا بلاد العراق أكلوا جبن المجوس وشاع هذا بينهم من غير نكير، فضلا على أنّ اللبن و الإنفحة ليسا محلا للموت، وإنما أخذ حكم نجاستها عند من يقضي بنجاستها لكونهما مستخرجين من ذات الميتة وهي وعاء نجس، غير أنّه لا يتم التسليم أن المائع ينجس بملاقاة النجاسة لعموم حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا :" الماء طهور لا ينجسه شيء"(3) وهذا ما لم يتغير بعض أوصافه، ريحه أو طعمه أو لونه، فإن تغير فهو نجس إجماعا على ما نقله ابن المنذر وابن الملقن، أما من احتج بأحاديث الاستيقاظ والماء الدائم والولوغ، فقد ورد الأمر باجتنابها وغسلها لا من أجل النجاسة، وإن سلّمنا فغاية ما يدل النهي عليه في هذه الأحاديث الكراهة ولا تخرج عن كونها طاهرة والمائعات كلها حكمها حكم الماء قلت أو كثرت وعليه يتقرر حكم بيع الحلويات والأجبان وهو الحل والجواز ما لم يعلم احتواؤهما على مادة محرمة كشحم الخنزير أو أحد أجزاء الميتة ممّا تحلُّها الحياة، ففي هذه الحال تحرم قطعا إذا لم تتغير حقائقها.
والله أعلم وفوق كل ذي علم عليم وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلّم تسليما.
__________
1- أجزاء الميتة الصلبة التي لا دم فيها كالقرن والسن والحافر والخف والإنفحة الصلبة طاهرة عند الأحناف لأنّ هذه الأشياء ليست بميتة لعدم دخول الحياة فيها، والميتة من الحيوان اسم لما زالت حياته، فالإنفحة الصلبة متفق على طهارتها، أمّا الإنفحة المائعة واللبن في ضرع الميتة فالأظهر طهارتها (البدائع1/63).
2- مجموع الفتاوى لابن تيمية (21/60).
3- أخرجه الشافعي (1/20) وأحمد (3/15، 86) وأبو داود كتاب الطهارة باب ما جاء في بئر بضاعة، والترمذي كتاب أبواب الطهارة باب ما جاء أن الماء لا ينجسه شيء، والنسائي كتاب المياه باب ذكر بئر بضاعة، والبيهقي (1/4، 5)، والبغوي (1/60) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وهو صحيح بطرقه وشواهده، انظر التلخيص الحبير لابن حجر (1/13، 14) و إرواء الغليل للألباني (1/45) رقم (14).(10/1)
الفتوى رقم: 89
إلزام الزبائن شراء سلعة غير مرغوب فيها
السؤال: معاملة تجارية تعمّ بها البلوى وهي: أن تكون لتاجر ما سلعة غير مرغوب فيها لرداءتها أو لعيب فيها أو لغير ذلك، وتكون عنده سلعة على عكسها (مرغوب فيها ويقبل الناس على شرائها بكثرة) فيشترط على من يريد شراء هذه السلعة المرغوب فيها أن يأخذ معها السلعة غير المرغوب فيها طوعا أو كرها.
فما حكم هذا الشرط؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان أمّا بعد:
فاعلم وفقك الله إلى أنّ مثل هذه الشروط فاسدة تبطل العقد من أصله لكونها اشتراط عقد في عقد، ووجه فساده اشتراطه على صاحبه عقدا آخر ضمنه، كأن يبيعه شيئا بشرط أن يبيعه شيئا آخر، أو يقرضه، أو يزوجه، أو يشتري منه ونحو ذلك.
ودليل الفساد قوله - صلى الله عليه وسلم - :" لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع "(1) وقد ورد النّهي عن البيعتين في بيعة من حديث عبد الله بن مسعود، وحديث أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهم كما في سنن أبي داود وغيره(2).
غير أنّه إذا كان تعدد العقد من طرف واحد جاز، كأن يقول له: بعتك السيارة وأجرتك البيت بكذا دينار، وإذا كان اللفظ الفاسد لا يلتفت إليه- عند الجمهور- إذا كان معلوما حلالا، فمن باب أولى إذا كان فاسدا أو رديئا أو معيبا.
أمّا إذا اشترط أحد الطرفين نفعا معلوما في البيع سواء كان الاشتراط من البائع كأن يسكن الدار المبيعة شهراً، أو من المشتري كاشتراط إيصال المبيع إلى محل إقامته ونحو ذلك إذا كانت تلك المنفعة ممّا يجوز استبقاؤها في ملك الغير فإنّ البيع صحيح مع الشروط العائدة للبائع أو المشتري من منافع معلومة في المبيع، وهو مذهب المحققين من أهل العلم وبه قال ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما(3).
إذ الأصل في العقود والشروط الإباحة والجواز ولا يصرف عن هذا الأصل لغير دليل شرعي والأدلة توافق هذا الأصل ولا تخالفه منها:" المسلمون على شروطهم إلا شرطا حرّم حلالا أو أحلّ حراما "(4) وحديث جابر عند الشيخين في قوله:" ...واستثنيت حملانه إلى أهلي "(5) وحديثه أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم " نهى عن الثنيا إلاّ أن تعلم "(6).
وعليه فإنّ مثل هذه الشروط التي لا تتضمن أي محذور ولا مفسدة فيها مطلقا، وليست وسيلة إلى مفسدة فهي باقية على الأصل المقرر في المعاملات.
والله أعلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلّم تسليما.
الجزائر في : 26 رمضان 1417 هـ.
الموافق لـ: 2 فيفري 1997 م.
__________
1- أخرجه أبو داود كتاب البيوع باب في الرجل يبيع ما ليس عنده، والترمذي كتاب البيوع باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك، والنسائي كتاب البيوع باب بيع ما ليس عند البائع وأحمد رقم (6918)، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده . والحديث حسنه الألباني في الإرواء (5/147).
2- انظر تخريج هذه الأحاديث والحكم عليها في الإرواء (5/148 إلى 151).
3- انظر كتاب مختارات من نصوص حديثية في فقه المعاملات المالية للشيخ أبي عبد المعز-حفظه الله- ( ص50 إلى 71).
4- أخرجه أبو داود في الأقضية (3593)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والترمذي في الأحكام(1352)، من حديث عمرو بن عوف عن أبيه عن جده، والحاكم في البيوع عن أبي هريرة وعن عائشة رضي الله عن الجميع. والحديث صححه الألباني في الإرواء (5/142) رقم ( 1303)، والسلسلة الصحيحة رقم (2915).
5- أخرجه البخاري كتاب الشروط باب إذا اشترط البائع ظهر الدابة إلى مكان مسمى جاز، ومسلم كتاب المساقاة باب بيع البعير واستثناء ركوبه.
6- أخرجه مسلم كتاب البيوع باب النهي عن المحاقلة والمزابنة، وأبو داود كتاب البيوع باب في المخابرة، والنسائي كتاب المزارعة باب ذكر الأحاديث المختلفة في النهي عن كراء الأرض بالثلث والربع.(10/2)
الفتوى رقم: 94
بيع جلود الأضاحي لمصلحة المسجد
السؤال: فضيلة الشيخ علي فركوس -حفظه الله-السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،وبعد:
فنحن لجنة دينية لبناء مسجد بمدينة س/بلعباس، قمنا بمناسبة عيد الأضحى المبارك بجمع جلود الأضاحي من سكان الحي، وكنّا قد أعلمناهم مسبقا أنّنا سنقوم بهذه العملية طالبين منهم التصدق بالجلود لصالح المسجد، حيث تقوم اللجنة بجمعها وبيعها، واستعمال هذه الأموال في بناء المسجد وكان الأمر كذلك.
فنحن نسأل سماحة الشيخ الفاضل هل هذا الفعل فيه مخالفة شرعية ؟ فبينوا لنا جزاكم الله كلّ خير.
اللجنة الدينية لمسجد معاذ بن جبل س/بلعباس.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فحكم هذا التصرف يرجع تأسيسه من حيث الجواز والمنع على حكم بيع جلد الأضحية، والفقهاء في حكمها مختلفون على أقوال، أظهرها عدم جواز بيع شيء من الأضحية، جلد ولا غيره، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد في المشهور وأبي يوسف صاحب أبي حنيفة رحمهم الله تعالى، لما ثبت من حديث علي رضي الله عنه قال:" أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بُدنه فأقسم جلالها وجلودها، وأمرني أن لا أعطي الجازر منها شيئا، وقال: نحن نعطيه ما عندنا "(1) وعليه فلا يجوز التصرف فيها إلاّ ما أباحه صلى الله عليه وسلّم وهو الانتفاع بجلدها فيصنع منها النعال والخفاف والفراء والحقائب ونحو ذلك فكان بمثابة الوقف.
هذا، وإذا تبين أنّ التصرف لا يجوز أصالة فلا تجوز النيابة عنه أيضا، والغاية لا تبرر الوسيلة، فينبغي أن تستصحب طهارة المساجد في التعمير والبناء والتشييد وهي إحدى الطهارتين أخت الطهارة الإيمانية بل هي وليدة عنها.
والعلم عند الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
الجزائر12 ربيع الثاني 1422 هـ
الموافق لـ22 جوان 2002 م
__________
1- أخرجه البخاري كتاب الحج باب يتصدق بجلود الهدي، ومسلم كتاب المناسك باب من جلّل البدنة، وأحمد(1/79)، والدارمي(2/74)، من حديث علي رضي الله عنه، وانظرالإرواء(1161).(10/3)
الفتوى رقم: 99
بيع الذهب نسيئة
السؤال: نرجو من فضيلة شيخنا الجواب على هذا السؤال مفصلا كما عهدناه منكم -بارك الله فيكم-
تاجر في الذهب (محل صائغ مجوهرات) عندما يشتري من صاحب المحل بالجملة يعطيه السلعة ويتراضوا فيما بينهم على أن يكون الثمن إلى أجل غير مسمى، ما حكم هذه المعاملة إذا تم التراضي بينهما؟
وفي حين الرّد تقبلوا مني فائق الاحترام والتقدير.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فالعملة الورقية هي عملة نقدية قائمة بذاتها، لها صفة الثمنية كاملة، وتجري فيها الأحكام الشرعية المقررة للذهب والفضة من جهة الربا والسلم والزكاة وما إلى ذلك من بقية الأحكام، وهذا القول هو السائد حاليا ودرج عليه غالبية المسلمين الملتزمين بالشريعة في معاملاتهم المالية، وصدرت بموجبه قرارات في مجامع فقهية، كما صدرت على وفقه كثير من الفتاوى الشرعية.
وبناء عليه فإن شراء الذهب بالفضة أو العكس أو بيعها بالورق النقدي يجوز التفاضل بينهما على اشتراط التقابض في المجلس الواحد، ويُعد عدم التقابض -إذا وقع- ربا النسيئة ذلك لأن الوصف الجامع بين الذهب والفضة والأوراق النقدية هو الثمنية، ومستند تجويز التفاضل في بيع الذهب والفضة مع اشتراط اتحاد مجلس العقد هو قوله صلى الله عليه وسلم من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه:"... فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيفما شئتم إذا كان يداً بيد"(1).
ثم اعلم أن حق الله تعالى لا مدخل للتراضي فيه أي لا يكفي لجوازه رضا الآدمي فرضاه غير معتبر فيه أصلا كالربا والزنا والمقامرة والحدود ونحوها وإنما الذي يقبل الصلح والإسقاط والمعاوضة عليها هو حق الآدمي فرضاه معتبر في الجواز.
والعلم عند الله تعالى؛ وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلّم تسليما.
الجزائر في: 10 محرم 1420هـ
الموافق لـ: 26 أفريل 1999م
__________
1- أخرجه مسلم في المساقاة(4147)، وأحمد(23396)، والدارقطني في السنن(2915).(10/4)
الفتوى رقم: 100
النداء بالسلعة قصد بيعها
السؤال: ما حكم النداء بالسلعة قصد بيعها؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فرفع الصوت بما لا حاجة تدعو إليه، مذموم شرعا وشبهه القرآن الكريم بالحمير في نهيقه وهو بغيض عند الله تعالى وما كان كذلك فيستوجب التحريم لقوله صلى الله عليه وسلم:"ليس لنا مثل السوء...."(1) الحديث، وفي غيره قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان، فإنها رأت شيطانا"(2)، وما أجيز للحاجة فلا يتعدى موضعها.
والله أعلم، وفوق كلّ ذي علم عليم، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله على محمد.
__________
1- أخرجه البخاري في الهبة(2622)، والنسائي في الهبة (3698)، والترمذي في البيوع (1298)، من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. وانظر الإرواء(6/65).
2- أخرجه البخاري في بدء الخلق(3303)، ومسلم في الذكر والدعاء والتوبة (7096)، وأبو داود في الأدب(5102)، والترمذي في الدعوات(3459)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(10/5)
الفتوى رقم: 101
بيع أدوات الحلاقة
السؤال: ما حكم بيع أدوات الحلاقة؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فأدوات الحلاقة لها حكم مقاصدها، فإذا استعملت في معصية كحلق اللحى والوجه وما يمنع من الجسد أخذه، وكذلك المثلة شعر الرأس والقزع وغيرها، فإنّ الحكم هو منع بيعها وحرمة ثمنها لما فيه من الإعانة على المعصية لقوله تعالى:?ولا تعاونوا على الإثم والعدوان?[المائدة:2]، أمّا إذا استعملت في المواضع المباحة على الوجه المطلوب والمشروع صح البيع والثمن لما فيه من التعاون على البر والتقوى، غير أنّه لمّا كان في هذا المجتمع استعمال النّاس لهذه الأدوات على غير الوجه الشرعي فالواجب اتقاء الشبهات خشية الوقوع في الحرام، ذلك لأنّ معظم الشيء يقوم مقام كلّه على ما تقرر في القواعد، هذا ويجوز -في كلّ الأحوال- معاملة من علم من حاله على وجه التعيين استعمالها بما لا يتنافى مع تعاليم الشريعة.
والله أعلم، وفوق كلّ ذي علم عليم، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.(10/6)
الفتوى رقم: 102
بيع السمك مزايدة
السؤال:
ما حكم بيع السمك بالمزايدة سرّا، مع العلم أن البائع يطلب الزيادة علانية؟
الجواب:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين أمّا بعد:
فإنّ ما عليه جمهور أهل العلم جواز بيع المزايدة خلافا لمن حصرها في الغنائم والمواريث وهو مذهب عطاء ومجاهد والأوزاعي وإسحاق، وخلافا لمن كرّهها مطلقا وهو مذهب إبراهيم النّخعي.
ويظهر أنّ منشأ الخلاف في هذه المسألة يعود إلى النهي الوارد عن سوم الرجل على سوم أخيه هل يحمل على جميع الأحوال أو على حالة بعد حالة على ما أفاده ابن رشد(1).
وبالنظر إلى أنّ الأحاديث المجيزة لبيع المزايدة والمانعة لها لا تصلحان للاحتجاج من حيث ضعف سندها من جهة وتقابلها المفضي إلى إسقاطها من جهة أخرى فإنّ الرأي المختار هو ما سلكه الجمهور في جواز بيع المزايدة باعتبار أنّ المزايدة لا يتمّ التسليم بأنّها بيع مشمول بالنهي عن سوم على سوم الغير لحصول الفرق بينهما من ناحية أنّ بيع المستام المنهي عنه إنّما يتفرّد بعد التراضي الأوَّلي على الثمن وركون البائع إلى المشتري، أمّا بيع المزايدة فهو دعوة إلى التعاقد وليس ثمّة تراضٍ على الثمن ولا ركون البائع إلى المشتري فافترقا.
ولو سلمنا شمولية النهي عن بيع المستام لبيع المزايدة، فإنّ صورة بيع المزايدة تخرج عن عموم النهي للإجماع المنقول عن ابن عبد البر وابن قدامة في المغني حيث يقول:«وهذا أيضا إجماع المسلمين يبيعون في أسواقهم بالمزايدة »(2)، وقد أخرج ابن أبي شيبة بسنده إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه " أنّه باع إبلا من إبل الصدقة فيمن يزيد"(3)، ولم ينقل له مخالف ولا منكر من الصّحابة رضي الله عنهم فكان ذلك إجماعا منهم على تسويغه، كما أنّ الحكمة تقتضيه لأنّ في تركه إلحاق ضرر بالباعة، وخاصة للمحتاجين الذين كسدت تجارتهم فلا يملكون وسيلة للوصول إلى تغطية متطلباتهم المعيشية إلاّ بمثل هذه الطرق، فالحاجة داعية وماسة إليه.
هذا، والمزايدة السرية كالعلنية سواء كان السرُّ عن طريق الهمس في الأذن أو عن طريق عرض مكتوب ومغلق في رسائل ومظاريف موجهة إلى البائع لفتحها في يوم محدّد، فإنّ حكمها لا يخرج عن حكم عقد بيع المزايدة وهي لا تتنافى ونصوص الشرع في عمومها، بل الشّريعة تراعي أعراف الناس وتقرّر مبدأ:المعروف عرفا كالمشروط شرطا.
وجدير بالتنبيه والبيان أنّه يشترط في بيع المزايدة شروط على ما هو جار في سائر العقود، غير أنّه على وجه التأكيد والوضوح يشترط في بيع المزايدة أولا التّعريف بالسلعة المراد بيعها تعريفا تامّا وصادقا للابتعاد عن التغرير والتدليس، كما يشترط خلو البيع من النجش(وهو تواطؤ البائع مع غيره قصد الزيادة في ثمن السلعة لنفع البائع وإضرار المشتري) كما يشترط خلوه من الصورة العكسية للنّجش (وهو تواطؤ المشتري مع المنافسين معه قصد إرساء المزاد على سعر قليل).
وعليه فإنّ الإخلال بمثل هذه الشروط يجعل عقد بيع المزايدة غير جائز شرعا لما فيه من انتفاء حكمة التشريع في دفع المفاسد وجلب المصالح.
والله أعلم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّ اللّهم وسلم على محمّد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلّم تسليما.
الجزائر في: 23 شوال 419 هـ
الموافق لـ: 10 فيفري 1999م
__________
1- بداية المجتهد لابن رشد (2/165).
2- المغني لابن قدامة (4/236).
3- مصنف ابن أبي شيبة (4/291).(10/7)
الفتوى رقم: 105
شراء السلعة وبيعها في السوق نفسه
السؤال: تاجر يشتري سلعة ويدفع عليها عربونا ثمّ يبيعها في نفس السوق بسعر أغلى، وهي لا تزال عند البائع فهل هذه الصورة جائزة شرعا ؟ وجزاكم الله خيرا
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة السلام على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فإنّ هذه الصورة من البيع غير جائزة لعدم حيازة المشتري سلعته إلى رحله وهو المكان الخاص به، و دليله حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال :" ابتعت زيتا في السوق فلما استوجبته لقيني رجل فأعطاني به ربحا حسنا، فأردت أن أضرب على يد الرجل، فأخذ رجل من خلفي بذراعي، فالتفت فإذا هو زيد بن ثابت، فقال : لا تبعه حيث ابتعته حتى تحوزه إلى رحلك ، فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم "(1).
ولأن المشتري إذا لم يحزها أو يقبضها لا تدخل تحت ضمانه إذا تلفت و يكون الضمان على حساب مال البائع و في ذلك ربح للمشتري لم يضمنه و قد نهى النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عمر و بن شعيب عن أبيه عن جده "عن ربح ما لم يضمن "(2) والربح الذي يضمنه الغير ظلم و الظلم منهي عنه شرعا.
والله أعلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
__________
1- رواه أحمد(6/246) رقم(21160) و أبو داود كتاب الإيجار باب في بيع الطعام قبل أن يستوفى و ابن حبان كتاب البيوع باب البيع المنهي عنه والحاكم كتاب البيوع رقم(2271) أنظر صحيح أبي داود(3499).
2- رواه النسائي كتاب البيوع باب سلف وبيع، وأحمد (2/418) رقم(6879).انظر الإرواء(5/147).(10/8)
الفتوى رقم: 109
بيع البيوت المؤجرة من غير إذن أصحابها
السؤال: نص السؤال على النقاط التالية:
1. عمارة يملكها صاحبها وقد اكترى شققها للناس منذ مدة بعيدة؛
2. صاحب العمارة له ضرائب طائلة على عاتقه ويرفض دفع ثمنها للدولة؛
3. هذه العمارة حالتها مزرية حيث تعرضت جدرانها للتصدع وقنوات المراحيض بلغت الذروة في التعطل عن القيام بمهامها، الأمر الذي جعل سكان العمارة يقومون بتصليح بيوتهم والقنوات الرئيسية على حسابهم الخاص؛
4. الدولة خيّرت صاحب العمارة (بعد مجالس قضائية) بين دفع الضرائب التي على كاهله وإصلاح العمارة للسّكان حتى لا تصير خطرا حقيقيا عليهم، وبين (في حالة رفضه للأمر الأول) التنازل عنها لتصير من حق الدولة وبالتالي يكون من حق هذه الأخيرة التدخل في الشؤون الخاصة بالعمارة وسكانها وفعلا قامت بنقل عدد لا بأس به من السكان إلى مساكن أخرى مع بقاء الأغلبية في عمارتهم العتيقة؛
5. صاحب العمارة لم يكترث لهذه الأوامر وبقي كعضو أشل، حيث إنّه لم يدفع الضرائب، ولم يصلح العمارة، ولم يعد يأتي أصلا ليتقاضى كراء وهذا منذ أكثر من عشرين سنةّ
6. الدولة بدورها أهملت السكان الباقين ولم تعطهم أي وثائق رسمية لمساكنهم؛
7. السكان بدورهم تحرروا من صاحب العمارة ومن الدولة أيضا، حيث إنّهم (ونظرا لتفاقم أزمة السكن عندنا) أصبحوا يبيعون بيوتهم بطريقة البيع (بالكلمة فقط) أي بدون وثائق رسمية ما عدا وصل الكراء والغاز والماء، وليس كلّ السكان يملك هذه الأوراق الأخيرة؛
8. الشاهد ممّا سبق عرضه أنّ بعض السكان المتدينين يسألون هذا السؤال:
ما حكم بيع بيوتهم بهذه الطريقة؟ ألا يدخل هذا في بيع ما لا يُملك؟
إذا كان الجواب بعدم جواز بيع مثل هذه البيوت فما حكم المال الذي تقاضاه صاحبه بعد أن باع بيته بدون أوراق رسمية وبقبول تام من المشتري؟ (أي أنّ المشتري اهتم بالمسكن حتى وإن كان بدون وثائق).
أفتونا مأجورين وجزاكم الله خير الجزاء
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين؛ والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد
فإنّ هذه المعاملة المذكورة في نص السؤال ليست بيعا عينيا حقيقيا، لأنّ باذل العوض لا يملكها أولا، ولا تنتقل ملكيتها إلى المشتري ثانيا، فانتفاء شرط ملكية الشيء المبيع ورضا صاحبه يفضي إلى الحكم بالمنع شرعا لقوله تعالى:?ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل? [البقرة:188] ولقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تبع ما ليس عندك"(1) الدال على أنّه لا يحلّ بيع الشيء قبل أن يملكه، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"لا يحلّ مال امرئ مسلم إلاّ بطيب نفس منه"(2) والقواعد الشرعية المتفق عليها تأباه أيضا مثل قاعدة أن المالك أحق بالتصرف في ملكه.
غير أنّ صورة السؤال المطروح إنّما تتعلق بأخذ بدل الخلو من مستأجر لآخر، أي يأخذ المستأجر الأول مالا في مقابل إخلائه المحلّ لمستأجر جديد يحلّ مكانه.
وفي تقرير الحكم، فالمسألة تحتاج إلى تفصيل، وبيانه: إمّا أن يكون عقد الإيجار محددا بوقت بين المالك والمستأجر أو لا؟
فإن كان محددا وبقي جزء من مدة التعاقد بين المالك والمستأجر، جاز للمستأجر الأول أخذ مال من مستأجر جديد مقابل إخلائه المحلّ له ليحلّ مكانه، وهو ما يسمى ببدل الخلو، ومشروعيته مستمدة في حقيقة الأمر من جواز بيع المدة الباقية من المنفعة المستحقة بعقد الإيجار.
أمّا إذا كانت المدة طويلة الأجل أو غير محددة أصلا على ما هو جار في بعض القوانين خلافا لنص عقد الإجارة الشرعية، فإنّه في هذه الحالة لا يسوغ بيع المدة أو استئجار العين، ولا يصح أخذ البدل المالي إلاّ بموافقة المالك فإن رضي استحق بدل الخلو وأخذه، وإن سخط فالأصل أن يعود المستأجر الأول والجديد إلى ما كانا عليه قبل التعاقد.
والعلم عند الله تعالى؛ وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
__________
1- أخرجه أبو داود في البيوع رقم(3503)، والنسائي في البيوع رقم(4613)، والترمذي في البيوع رقم(1232)، وابن ماجه في التجارات رقم(2187)، وأحمد رقم(15705)، والشافعي رقم(1349)، والدارقطني رقم(292)، من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه، وصححه الألباني في الإرواء(5/132)رقم(1292).
2- أخرجه الدارقطني رقم(300)، وأحمد رقم(21237)، والبيهقي في السنن رقم(11877)، من حديث أبي حرة الرقاشي، وصححه الألباني في الإرواء(5/279)، رقم(1459)، وصحيح الجامع(7539).(10/9)
الفتوى رقم: 115
في حكم المتاجرة بالعملات الورقية
السؤال: ما حكم المتاجرة بالعملات الورقية؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وآله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فاعلم أنَّ علة العملات الورقية النقدية كعلة الذهب والفضة ترجع إلى الثمنية، والأثمان ليس لها قيمة ذاتية مقصودة، وإنما قيمتها اعتبارية، فلا غرض في عينها قال أبو حامد الغزالي -رحمه الله-:" وكل من عامل معاملة الربا على الدراهم والدنانير فقد كفر النعمة وظلم، لأنهما خلقا لغيرهما لا لنفسهما، إذ لا غرض في عينها، فإذا اتجر في عينهما فقد اتخذهما مقصودًا على خلاف وضع الحكمة"(1)، فالأوراق النقدية -إذن- مقياس للأموال لا تقصد لعينها وإنما يتوسل بها إلى السلع وسد الحاجيات، فهي تدخل في باب الوسائل لتحصيل المطالب والمقاصد ولا ينتفع بذاتها، وفي هذا المعنى يقول ابن تيمية-رحمه الله-:" فإن المقصود من الأثمان أن تكون معيارًا للأموال يتوسل بها إلى معرفة مقادير الأموال، ولا يقصد الانتفاع بعينها، فمتى بيع بعضها ببعض إلى أجل قصد بها التجارة التي تناقض مقصود الثمنية"(2).
وعليه، فالاتجار بما جُعل ثمنًا للسلع والمبيعات خروج عن الحكمة الموضوعة لهما، فضلاً عن إضرار الناس وإفساد لمعاملاتهم، و"الضرر يزال" كما تقرر في القواعد، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ »(3) وفي معرض ذكر مفاسد التجارة فيها قال ابن القيم -رحمه الله-:" ويمنع -أي الحاكم- من إفساد نقود الناس وتغييرها، ويمنع من جعل النقود متجرًا، فإنه يدخل على الناس من الفساد مالا يعلمه إلاَّ الله، بل الواجب أن تكون النقود رؤوس أموال يتجر بها ولا يتجر فيها، وإذا حرم السلطان سكة أو نقدًا منع من الاختلاط بما أذن من الاختلاط به"(4).
أما الأصناف الربوية الأخرى الواردة في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه كالبر والشعير والتمر والملح وما يلحق بها فإنّه يجوز الاتجار فيها لأنهما ليست أثمانًا، وإنما هي عروض، والعروض يجوز الانتفاع بعينها، بخلاف الأثمان، فإنه يجوز الاتجار بها ولا يجوز الاتجار فيها بعملية الصرف إلا في حدود الحاجة، وبشرط اتحاد المجلس إذا اختلفت أجناسها، وأن يتم الصرف بسعر يومه وهو السعر العام المتعارف عليه غالبًا.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 17 ذي الحجة 1426ه
الموافق ل: 17 جانفي 2006م
__________
1- إحياء علوم الدين للغزالي: 4/92.
2- مجموع الفتاوى لابن تيمية: 29/471-472.
3- أخرجه ابن ماجه في الأحكام (2430)، وأحمد (23462)، والبيهقي (12224)، من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.وصححه الألباني في الإرواء (896). وفي السلسلة الصحيحة (250)، وفي غاية المرام (254).
4- الطرق الحكمية لابن القيم: 219-220.(10/10)
الفتوى رقم: 118
في حكم بيع الفول السوداني بالتمر
السؤال: هل يجوز بيع الفول السوداني بالتمر وهو غائب؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما أمّا بعد:
فلا يجوز بيع الفول السوداني بالتمر وهو غائب، لفقدان شرط التقابض في المجلس الواحد وهو من ربا النسيئة في البيوع ودليل المنع قوله صلى الله عليه وآله وسلم:« الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالفِضَّةُ بِالفِضَّةِ وَالبُّرُّ بِالبُّرُّ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ مِثْلاً بِمِثْلٍ سَوَاءً بِسَوَاءٍ يَدًا بِيَدٍ، وَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ"(1) وفي رواية أخرى لأبي سعيد الخدري رضي الله عنه "وأَمَرَنَا أَنْ نَبِيعَ الْبُرَّ بِالشَّعِيرِ وَالشَّعِيرَ بِالْبُرِّ يَدًا بِيَدٍ كَيْفَ شِئْنَا"(2)، مع العلم أن الفول السوداني تشمله علة الربا من ناحية كونه مطعوما ومكيلا وهي العلة المركبة من الطعم والكيل بالنسبة للأصناف الأربعة الواردة في حديث عبيدة بن الصامت رضي الله عنه.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 21 شعبان 1426ه
الموافق لـ: 25 سبتمبر 2005م
__________
1- أخرجه مسلم في «المساقاة »، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدا: (4063)، وأبو داود في «البيوع »، باب في الصرف: (3350)، والنسائي في «البيوع »، باب بيع البر بالبر: (4561)، والدارمي في «سننه »: (2481)، وابن حبان في «صحيحه »: (5018)، وأحمد في «مسنده »: (22175)، من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
2- أخرجه النسائي في البيوع (4578)، وابن ماجه في التجارات (2339)، وأحمد (23398)، من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.(10/11)
الفتوى رقم: 123
في حكم التعامل مع ما يسمى بـ:" أسرتك" لبيع أجهزة الكمبيوتر
السؤال: ظهرت في المدة الأخيرة معاملة تجارية لبيع أجهزة الكمبيوتر، تعرف ب:[أسرتك]، فما هي الصورة الحقيقية لهذه المعاملة؟ وما حكمها شرعا؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما، أمّا بعد:
فحاصل ممنوعية المعاملة تكمن في القروض الربوية، حيث يأخذ البنك في تعامله بهذه الطريقة نسبة تقدر بـ: 8 % في السنة، ويدخل في هذا التأمين على عدم الخضوع، والتأمين على الموت وعلى الحوادث، وإذا كانت القروض الربوية سبب التحريم فمن باب أولى إذا اجتمع معها التأمين على الأشياء والأشخاص، وكلاهما على حكم واحد.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.
الجزائر في: 27 محرم 1427ه
الموافق لـ: 26 فبراير 2006م(10/12)
الفتوى رقم: 167
في حكم التجارة بالملابس المحرمة والأكل من مالها
السؤال: أبتدئ بكمال الشكر والحمد لله أن منّ الله علينا في هذا البلد بأعظم نعمة بعد ما أصبح العلم غريبا، وهو شيخنا(أبو عبد المعز) ننهل من علمه الغزير، ونأخذ من خلقه الكريم، ونعمل بنصائحه الغالية، ونسير على وفق ما سار عليه شيخنا والصالحون من قبله من الاقتداء بقدوتنا وأسوتنا صلى الله عليه وسلم تسليما مزيدا.
ثمّ أستأنف هذا، بطرح مسألة قد بدأت نيران الفتنة العائلية تتأجج منها-نسأل الله السلامة والعفو والعافية- تتمثل في أنّه لي قريب في العائلة مصدر ماله وعيشه وقوته مع أولاده وأسرته هو بيع لباس التبرج للنّساء الذي يدعو إلى الرذيلة والوقوع في الفاحشة عياذا بالله، فغالب ما يستورده من بلاد الكفر هو ما ترون النّساء الآن في الشارع يلبسنه من الضيّق والمكشوف والله المستعان. أضف إلى ذلك أنّه يعطي رشوة للجمارك مقابل تمكنّه من إمرار كمّية كبيرة من هذا اللباس وقد عادت إليه التجارة-الخاسرة مع الله- بالربح الكبير والأموال العظيمة.
فما هو حكم هذه الأموال التي مصدرها بهذه التجارة ؟
وما حكم إجابة دعوته للطعام والشراب في بيته ؟
تكملة: إضافة إلى هذا كلّه فهو يقوم باستيراد الذهب من بلاد الكفر ويبيعه للناس بالتقسيط
فنرجو منكم الإجابة عن هذا كله جزاكم الله خير الجزاء، وبارك الله فيكم وفي علمكم وأمدّ في عمركم.
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فمن المعلوم أنّ الاتجار في المحرّمات محرّم شرعا، "وكلّ ما حرّم لذاته حرّم على المسلم المتاجرة به وبيعه"، وقد "نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن"(1) والحديث دلّ على تحريم ما تأخذه الزانية مقابل زناها وهو مال حرام يحرم أخذه لحرمة وسيلة كسبه، ويلحق به المال المتحصل عليه من الغناء والرقص والمجون، والمتاجرة بالأعراض والأجساد، ويلحق بذلك التجارة في السلع التي تدعو إلى الفاحشة وإثارة الشهوات وهي تنافي الشرع والأخلاق، فإنّ طريق الكسب محرّم والتعاون فيه إثم وخطيئة لقوله تعالى: ?وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِّرِّ وَالتَقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ وَاتََّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ? [المائدة:2] ولقوله تعالى:?إِنَّ الذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ?[النور:19]، والمال المأخوذ من هذه الأعمال محرّم لشبهه بما يُؤخذ من مهر البغي الذي يدخل في حكم النهي الذي تضمنه الحديث، قال ابن تيمية-رحمه الله-:" والمال المأخوذ على هذا [أي تعطيل الحد بمال يؤخذ] يشبه ما يؤخذ من مهر البغي وحلوان الكاهن وثمن الكلب، وأجرة المتوسط في الحرام: الذي يسمى القواد...ليجمع بين اثنين على الفاحشة، وكان حاله شبيها بحال عجوز السوء امرأة لوط، التي كانت تدل الفجار على ضيفه، التي قال الله فيها:?فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الغَابِرِينَ?[الأعراف:83]، وقال تعالى:?فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدُ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ?[هود:81]. فعذّب الله عجوز السوء القوادة بمثل ما عذّب قوم السوء الذين كانوا يعملون الخبائث، وهذا لأنّ هذا جميعه أخذ مال للإعانة على الإثم والعدوان"(2)
هذا، وقد اتفق العلماء على تحريم كسب المال بطريق محظور شرعا ويكون محرّما على المسلم تملّكه، ولا تجوز معاملته فيما عنده من مال محصل عليه بهذا الطريق، ويحرم إجابة دعوته إلى الطعام، وكذلك يحرم قبول هديته، لأنّ العوض المدفوع ثمنا لهذا الطعام ولهذه الهدية مال خبيث جاء عن طريق كسب محرّم.
والعلم عند الله تعالى وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّ اللّهم على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلّم تسليما.
الجزائر في:07 شوال 1422هـ
الموافق لـ:11 ديسمبر 2002م
__________
1- أخرجه البخاري في البيوع(2237)، ومسلم في المساقاة(4092)، وأبو داود في الإجارة(3430)، وأحمد(17553)، والدارمي (2623)، من حديث أبي مسعود البدري رضي الله عنه. وصححه الألباني في إرواء الغليل(1291).
2- مجموع الفتاوى لابن تيمية:(28/305-306).(10/13)
الفتوى رقم: 187
في حكم من يبيع بأدنى سعر ممن يشتري منه
السؤال: صاحب مكتبة اشترى بضاعة بـ1000دينار وباعها بـ950دينار وهو يقول بأنّ له فائدة في غير هذه البضاعة تعوضه هذه الخسارة والهدف الظاهر من هذه العملية استقطاب الزبائن.
أو قد يبيع البضاعة بنفس سعر الشراء وهو لا يريد الربح من ورائها بل استقطاب الزبائن، والفائدة يربحها في منتوجه الخاص. فهل مثل هذا التصرف جائز؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فإنّ هذا الفعل يؤدّي بطريق أو بآخر إلى الإضرار بالبائع الأول صاحب السلعة ولو صفت نية البائع الثاني، ويشتدّ الضرر خاصة إذا تمحورت تجارة البائع الأول على تلك السلعة وجمعهم مكان واحد، والحديث ينهى عن الضرر كما ثبت من حديث ابن عباس رضي الله عنه مرفوعا:« لا ضرر ولا ضرار »(1) وعليه فإنه إذا تحقق الضرر فلا يلتفت إلى ما يرمي إليه البائع الثاني بنيته وغرضه، ما لم يعارضه ضرر أقوى أو مصلحة راجحة، جريا على قاعدتين وهما :
- الأولى: إنّ "التحريم يتبع الخبث والضرر"
- والثانية: إنّ "النية الحسنة لا تبرر الحرام".
ولا يخفى أنّ مثل هذا التدخل المفتعل في السوق يؤثر على الأخوة الإيمانية ويرجع عليها بالإفساد المنهي عنه وذلك بإيقاع الفتنة والبغضاء، وإيغار الصدور بين المسلمين، وفي شأن ما هو مفسد للعلاقة الأخوية كالقمار والميسر قال تعالى:( إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُّوقِعَ بَيْنَكُم العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالميْسَرِ وَيَصُّدَكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعَن الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ )[المائدة:141]، وشبيهه بيع النجش المنهي عنه، وهو أن يزيد في ثمن السلعة من لا يريد شراءها ليغري المشتري، فهو مصدر نزاع مؤثر على جانب الأخوة الإسلامية لذلك منعه الشارع في قوله صلى الله عليه وسلم:" لا تناجشوا ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا"(2). فمن أفسد العلاقة الأخوية بمثل هذا التصرف أو تسبب فيه أو شجع عليه أو رضي به فهو آثم بفعله أو بنيته، لكن ذلك لا يؤثر على صحة بيعه و لا يعكر على حلية أرباحه.
والعلم عند الله وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
الجزائر في :30 ذي الحجة 1425هـ
الموافق لـ: 09 فبراير 2005 م
__________
1- أخرجه ابن ماجة الأحكام(2430)، وأحمد(23462)، والبيهقي(12224)، من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.وصححه الألباني في الإرواء(896). وفي السلسلة الصحيحة(250)، وفي غاية المرام(254).
2- أخرجه مسلم في النكاح(3525)،وأبو داود في الإجارة(3440)، والترمذي في البيوع(1352)، والنسائي في النكاح(3252)، وابن ماجة في التجارات(2258)، وأحمد(8956)، والحميدي في مسنده(1074)، والبيهقي(11199)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(10/14)
الفتوى رقم: 188
في معرفة صورة بيع حاضر لباد المنهي عنها
السؤال: ما هو تفسير قول النبي صلى الله عليه وسلم:" لا يبع حاضر لباد"؟(1).
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فصورة بيع الحاضر للبادي المنهي عنه هي: أن يحمل البدوي متاعه إلى البلد ليبيعه بسعر يومه ويرجع فيأتيه البلدي فيقول:"ضعه عندي لأبيعه على التدريج بزيادة سعر".
وإنما منع الشرع هذه المعاملة لأنها تعود على أهل البلد بالضرر، لذلك قدمت مصلحة أهل البلد المتمثلة في أهل السوق بشراء المتاع رخيصا على مصلحة الجالب في بيع متاعه غاليا، تقديما للمصلحة العامة على المصلحة الخاصة(2).
وقد ذكر أهل العلم شروطا استنبطوها من معنى نص حديث النهي عن بيع الحاضر للبادي وخصصوا بها الحديث وفي مقابل ذلك امتنع آخرون عن اشتراطها، منها:
- البداوة هل هي قيد في الحديث فلا يلتحق بالبادي إلاّ من كان يشبهه كما هو مذهب مالك رحمه الله وعليه فلا يدخل أهل القرى والمدن الذين يعرفون أثمان السلع والأسواق ، أمّ أنّ "البادي" في الحديث خرج مخرج الغالب الأعمّ فلا مفهوم له، وعليه يلتحق به من شاركه في عدم معرفة السعر من أهل القرى والمدن لعلة إضرار أهل البلد، وهي علة الحكم المستنبطة من نص الحديث وهذا تفسير الشافعية والحنابلة؟
- ومن القيود الأخرى المختلف فيها: قيد بزمن الغلاء، وبما يحتاج أهل البلد إليه، وقيد كون الممنوع محصورا في البيع بالتدريج بأغلى من سعر الحال، وغيرها من الشرائط والقيود التي تدور في أغلبها بين اعتبار المعنى واتباع اللفظ، الوارد بناؤه على قاعدة أصولية مختلف فيها وهي:" النص إذا استنبط منه معنى هل يعود عليه بالتخصيص أم لا؟" وقد أجاب ابن دقيق العيد بما نصه:" ولكن ينبغي أن ينظر في المعنى إلى الظهور والخفاء، فحيث يظهر ظهورا كثيرا فلا بأس باتباعه، وتخصيص النص به، أو تعميمه على قواعد القياسيين، وحيث يختفي، أو لا يظهر ظهورا قويا، فاتباع اللفظ أولى"(3).
والعلم عندالله وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
الجزائر في :30 ذي الحجة 1425هـ
الموافق لـ: 09 فبراير 2005م
__________
1- أخرجه مسلم في البيوع(3899)، وأحمد(10506)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وأبو داود في الإجارة(3444)،والحميدي في مسنده(1324)، من حديث جابر رضي الله عنه.
2- راجع تفصيل هذه المسألة في مؤلفي:"مختارات من نصوص حديثية: 99/117"
3- "الإحكام":(3/115).(10/15)
الفتوى رقم: 218
في حكم بيع دم الآدمي
السؤال: يعمد بعض النّاس إلى بيع دمائهم إلى المصحات أو إلى المرضى، وقد يبيع بعضهم الدماء المتبرع بها إلى المستشفيات أو العيادات، فما حكم بيع هذه الدماء؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فدم الآدمي لا يجوز بيعه لنهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم "عن ثمن الدم وثمن الكلب وكسب الأمة"(1)وبيع الدم كبيع الميتة والخنزير إجماعا(2)، وهو يتناوله قوله صلى الله عليه وآله وسلم:«قاتل الله اليهود إنّ الله لمّا حرّم عليهم الشحوم جملوه ثمّ باعوه فأكلوا ثمنه"(3) وفي رواية:"إنّ الله إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه"(4).
والله سبحانه وتعالى يقول:?حُرِّمَتْ عَلَيْكُم المّيْتَةُ وَالدَّمُ?[المائدة:3]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:«فإنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا"(5).
ويؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم:«قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل باع حرّا فأكل ثمنه... "(6)، والجزء له حكم الكلّ، فالدم جزء من الرجل الحر، والنهي المطلق يشمل جميع جزئياته، فضلا عن أنّ دم الآدمي حق لله فلا يجوز التصرف فيه إلاّ بإذن شرعي.
والعلم عند الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
الجزائر في:3 ربيع الأول1426هـ
الموافق لـ:11 مايو 2005م
__________
1- أخرجه البخاري في البيوع(2238)،من حديث أبي جحيفة رضي الله عنه.
2- الإجماع لابن المنذر:(101).
3- أخرجه البخاري في البيوع(2236)، وفي التفسير(4633)، والنسائي في الفرع والعتيرة(4273)، من حديث جابر رضي الله عنه.
4- أحمد(2730)، والدارقطني(2852)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وصححه الألباني في غاية المرام(318).
5- أخرجه البخاري في العلم(67)، ومسلم في القسامة(4477)، وأحمد(2923)، والدارمي(1968)، والبيهقي(9894)، من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.
6- أخرجه البخاري في البيوع(2227)، وابن ماجه في الرهون(2536)، وأحمد(8926)، والبيهقي(11376)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(10/16)
الفتوى رقم: 220
في حكم من اشترى أرضا محصلة عن طريق الرشوة
السؤال: ما حكم من اشترى قطعة أرض على رجل تحصّل عليها عن طريق الرشوة؟ علما أنّ هذا الرجل لا يحترف هذا الأمر.
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فإذا علم اتخاذ بيع الأرض ذريعة لفتح مجال السمسرة القائمة على جلب زبائن لبيع القطع الأرضية بالتعامل الرشوي، فهذه البيوع -في حقيقة الأمر-ما هي إلاّ وسائل غير شرعية تقوي الفساد، فتمنع لقوله تعالى:?وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ?[المائدة:2]، عملا بمبدإ: سد الذرائع، وفي حالة تمام الصفقة فالبيع على هذه الحال صحيح، وعلى الراشي والمرتشي فضلا عن المعين بالشراء الإثم لسوء نيته، إذ الإعانة على الإثم إثم وعلى المعصية معصية، وما أدى إلى حرام فحرام، غير أنّ فعله أقلّ جناية منهما ما لم يكن في حالة الاضطرار ولم تشده وسيلة سوى هذا.
أمّا إذا لم يعلم البيع على ما تقدم في الصورة الأولى، فإنّ الشراء صحيح إذا تحققت الشروط والأركان في عقد البيع وانتفت الموانع، والوزر على الراشي والمرتشي ليس إلاّ، ذلك لأنّ الرشوة معصية عارضة على البيع الأول فلا تفسده بناء على أنّ النهي الوارد فيها واقع في المعاملات وخارج عن ماهية البيع، وليس وصفا لازما بل عارض، وعليه يحكم بصحة العقد الثاني تأسيسا على صحة الأول، ودرءا لتعطيل مصالح الأنام.
والعلم عند الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
الجزائر في:3 محرم 1417هـ
الموافق لـ:22 ماي 1996م(10/17)
الفتوى رقم: 237
في حكم البيع بالتقسيط
السؤال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: فضيلة الشيخ نحن عمال شركة وطنية تمّ تعاقدها مع شركة (طيوطا) لبيع السيارات على أن تتم عملية البيع كما يلي: يدفع العامل القسط الأول والمقدر بـ: (25) مليون أو (30) مليون من ثمن السيارات لشركة (طيوطا) على أن يتمّ دفع المبلغ المتبقى من ثمن البيع بدفعات شهرية لمدة (5) سنوات، علما أنّ ثمن البيع معلوم من قبل العامل عند تعاقده مع الشركة، وهو يفوق ثمن السيارة الحقيقي في السوق، أي أنّ عملية الدفع بأقساط تزيد من ثمن السيارة الحقيقي غير أنّ هذا المبلغ يكون معلوما من قبل المشتري.
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فاعلم أنّ بيع التقسيط له ثلاث حالات:
- فإن اتفق المتابيعان على ثمن واحد يدفع على أقساط دورية فجائز باتفاق.
- وإن كان على أساس أنّه ثمنان: ثمن الحال وثمن الآجل، فهذا محل خلاف وما عليه أكثر العلماء جوازه وبهذا أفتت هيئة كبار العلماء.
- والحالة الثالثة : أن يكون على أساس بيع المرابحة، أي يشتري له سيارة ثمّ يبيعها له بأقساط يدفعها تدريجيا إلى أن ينتهي الأجل فهذا -في حقيقة الأمر-عبارة عن قرض ربوي في صورة بيع، والبنوك على هذا التصرف من القروض المقنعة بالبيع تتعامل مع زبائنها، وبيع المرابحة البنكي أسوأ حالاً من بيع المرابحة الفقهي الذي لم يجزه الجمهور، لعدم انتقال الملكية في البيع أولا، ولإجبار المشتري على التأمين على كل الأخطار كشرط في أصل المعاملة. فضلا عمّا تقدم من أنّه ليس بيعا حقيقيا لعدم حاجة البنك ابتداء لما يحتاجه المشتري وإنّما غرض البنك في الفوائد الربوية المعطاة بقرض محلّى بالبيع.
وعليه، إذا كانت هذه الشركة تتعامل بنفس أسلوب البنك فذلك غير جائز شرعا، أمّا على الصورة الأولى والثانية فظاهرهما الجواز.
والله أعلم وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم تسليما.
الجزائر في: 11 جمادى الثانية 1426هـ
الموافق لـ: 17 جويلية 2005 م(10/18)
الفتوى رقم: 281
في حكم بيع جهاز:" سكانير"
السؤال: ما حكم بيع جهاز « سكانير » خاص بالإعلام الآلي؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فإنّ جهاز "سكانير" يعد وسيلة يختلف حكمها باختلاف المقصد من استعمالها، فإن علم البائع أنّ الجهة المشتغلة له تستخدمه على وجه الباطل والظلم كالبنوك الربوية، ومختلف المؤسسات الضريبية المعتدية على أموال الناس، أم مع من يستعملها للتزوير أو الغش، وما إلى ذلك فإنّ العلم بالمقصد الفاسد يستوجب حرمة الوسيلة إليه، لأنّ الوسائل لها حكم المقاصد كما هو مقرر في الأصول، والتعاون الأخوي مبني على البر والتقوى كما قال تعالى:? وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ? [المائدة:2]، أمّا إذا تعددت وجوه استعماله ولم يعلم قصد المستخدمين له، فينظر في غالب استعمالات الناس له بالحل والحرمة، فإن كان الأكثر في الحل يستخدمونه جاز، وإن كان الأكثر في الحرمة منع، لأنّ:« الأكثر له حكم الكل »، «ومعظم الشيء يقوم مقام كله » على ما تقتضيه قواعد الشريعة.
والعلم عند الله وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه وسلم تسليما.
الجزائر في:10رجب 1426هـ
الموافق لـ: 15 أوت 2005م(10/19)
الفتوى رقم: 288
في حكم التجارة بالهواتف النقالة المزودة بآلة تصوير
السؤال: ما حكم المتاجرة بالهواتف النقالة المزودة بآلة تصوير وكاميرا ؟ وهل يجوز اقتناؤها والتصوير بها ؟ زادكم الله علما وعملا صالحا.
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فبغض النظر عن اختلاف العلماء في التصوير الفوتوغرافي، فإنّ الكاميرا وسيلة يختلف حكمها باختلاف مقصدها، فإن كان لها مقصد واحد نظر في حكمه، إن حلالا كان أم حراما، وتأخذ الوسيلة حكم أحدهما، لأنّ الوسائل لها حكم المقاصد، أمّا إن تعددت المقاصد فينظر في غالب استعمال الناس لها، ولمّا كانت الكاميرا تستعمل في معظم الأحيان في مشاهد تنافي الأخلاق والآداب الشرعية سواء في الأعراس أو على الشواطئ أو في مناسبات تظهر منها كشف ما لا ينبغي إظهاره من سفور وعري وغيرهما فإنّ هذه الوسيلة تأخذ حكم الغالب وهو المنع ولا حكم للنادر لقوله تعالى: ?وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ? [المائدة:2].
هذا، أمّا إذا علم من يقتنيها إنّما يستعملها فيما ليس فيه منكر ولا عصيان فيجوز أن يبيعها له.
والعلم عند الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في:10 رجب 1426هـ
الموافق لـ: 15 أوت 2005م.(10/20)
الفتوى رقم: 354
حقوق التسجيل والتأليف
السؤال: إلى فضيلة الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس (حفظه الله).
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أمّا بعد:
فلقد أخبرنا بعض إخواننا بفتوى لفضيلتكم في قضية معروفة باسم (حقوق تسجيل أشرطة الشيخ الألباني رحمه الله) مضمونها على سبيل الإجمال لا التفصيل قولكم بأنّ الشيخ الألباني أوقف أشرطته وبذلك لا يجوز لورثته أو لغيرهم أن يدعي حفظ حقوق الشيخ وعلى أنّه لا يجوز الرجوع في الوقف.
نغتنم هذه الفرصة لنسأل الشيخ حول نسبة هذا الكلام إلى فضيلته؟
ثمّ هذه مراحل قضية حقوق أشرطة الشيخ الألباني رحمه الله كما عاشتها مؤسسة منار السبيل من أولها إلى يوم كتابة هذا المقال...
لقد كانت أول وقفة مع حقوق الشيخ رسالة (التوحيد أولا) وهي عبارة عن شريط فرغه أبو يوسف الأثري وراجعه الشيخ علي حسن الحلبي حفظه الله ثمّ طبع في المجلة السلفية بالمملكة العربية السعودية، وبحكم اتصالنا المستمر بالشيخ علي حسن بغية طبع بعض كتبه (ولقد تمّ هذا ولله الحمد) سألناه الإذن في طبع الرسالة المذكورة فأجاب الشيخ بأنّه لا يملك هذا الإذن وأنّه علينا أن نتصل بالشيخ سعد بن عبد الرحمان الراشد صاحب مكتبة المعارف بالرياض لأنّه صاحب الحقوق فقلنا له سائلين: إنّ أصل الرسالة شريط مفرغ فأجاب بأنّ حق الشريط ملكه أيضا. فكانت (كالصدمة) فاغتنما هذه الفرصة وسألناه كيف المخرج ونحن نسجل أشرطة الشيخ رحمه الله فأجاب بأنّ الأمر لم ينضبط بعد والشيخ سعد لم يطالبكم بشيء.
وبعد أيام...
جاء الشيخ سعد بن عبد الرحمان الراشد إلى الجزائر في زيارة عمل فعرضنا عليه القضية وطلبنا منه الإذن لتسجيل أشرطة الشيخ الألباني رحمه الله فأجاب بالمنع وقدم لنا عقودا مع الشيخ الألباني رحمه الله، ورجع إلى بلده ولم نتفق معه على الشروط المقترحة من طرفه (وليس هذا المقال محل بسط لكل التفاصيل) فما كان من منار السبيل إلاّ التوقف عن أشرطة الشيخ رحمه الله. وبعد أن سمع بعض إخواننا المشتغلين بتسجيل أشرطة الشيخ رحمه الله أثاروا قضية أبي ليلى مسجل أشرطة (سلسلة الهدى والنور) ولمّا كنّا في اتصال مستمر بالشيخ علي حسن حفظه الله سألناه على هذه القضية فكان جوابه صريحاً لا لبس فيه وهو أنّ الحق للشيخ سعد الراشد ولا يملك أبو ليلى دليلا على دعواه وما دام سعد الراشد جاءكم فاستأذنوه واسألوه.
وبقيت عندنا بعض أشرطة الشيخ رحمه الله مسجلة فطلبنا الإذن من الشيخ سعد الراشد في بيعها فأذن لنا دفعا للمفسدة على أن نتوقف بعدها.
وبعد مضي بضعة أشهر أعدنا الاتصال بالشيخ سعد الراشد وعرضنا عليه اقتراحات جديدة فوافق ولله الحمد والمنة ومضت منار السبيل في تسجيل أشرطة الشيخ رحمه الله.
وبقي بعض إخواننا يسجلون معتمدين على قول الشيخ علي حسن: الأمر لم ينضبط بعد مع العلم بأنّ هذا الكلام كان قبل مجيء الشيخ سعد الراشد للجزائر أما وقد جاء وقال: لا أسمح بتسجيل أشرطة الشيخ رحمه الله وكان هذا في جلسة حضرها أبو عبد الباري العيد شريفي بمناسبة دعوة أحد الإخوة للشيخ سعد الراشد للعشاء في (واد الرمان).
ثمّ أعدنا الاتصال بالشيخ علي حسن والشريط مسجل وقلنا له بأنّ بعض إخواننا ينسبون لكم قولا مفاده أنّ الأمر في قضية الشيخ لم ينضبط بعد. فأجاب حفظه الله وقال: والآن الأمر انضبط وبالأمس كان عندنا سعد الراشد ودعناه فمن أراد التسجيل فليراجعه.
وفي إطار اتصالاتنا بالشيخ سعد بن عبد الرحمان جددنا معه الاتفاق بشروط جديدة. وبعدها جاء سؤال من تسجيلات الغرباء الأثرية لفضيلة الشيخ سليم الهلالي وهو بعنوان مكالمات هاتفية مع مشايخ الدعوة السلفية فكان الجواب موافقا لما قاله الشيخ علي حسن بأنّ الحقوق ملك للشيخ سعد الراشد. وفي النهاية جاء كلام فضيلتكم المذكور في أول المقال هذا باختصار وهذه لكم بعض التساؤلات التي نطرحها عن قضية أشرطة الشيخ رحمه الله وقضية الحقوق بشكل عام.
يقولون: إنّ إذن الشيخ الألباني يعد وقفا عاما.
السؤال: ألا يقال بأنّ بيع الشيخ لحقوقه يسقط فهمهم هذا لأنّ العبرة بالنيات والمعاني لا الألفاظ والمباني؟
والذي يؤيد هذا الفهم موافقة تلاميذه على هذا وهم على التوالي: الشيخ علي حسن والشيخ سليم الهلالي والشيخ حسن العوايشة والشيخ أبو يسر علي خشان حفظهم الله.
1. يقول بعض أصحاب التسجيلات: بأنّ الحقوق محفوظة لأصحابها في بلدهم فهل يصح هذا؟
2. والبعض يقول: بأنّ أشرطة القرآن الكريم غير محفوظة الحقوق ولو كتب أصحابها عليه الحقوق محفوظة؟
3. والبعض الآخر يقول: بالتفريق بين الشريط والكتاب بناء على الجهد المبذول فهل هذا صحيح؟
4. والبعض يقول: هذا دين الله فلا حقوق أفيدونا جزاكم الله خيرا؟
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من مؤسسة منار السبيل للنشر والتوزيع
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فبعد الاطلاع على سؤالكم المفصَّل بمراحل قضية حقوق أشرطة الشيخ الألباني -رحمه الله- والاستظهار بآراء فقهاء الأردن -حفظهم الله - من قبل تلامذة الشيخ الألباني -رحمه الله تعالى- ففي اعتقادي أنّ الطرح ليس على مسألة ما اصطلح عليه بحق الإنتاج الذهني، أو الحق الفكري أو حق الابتكار بشقيه الأدبي والمالي، هذا نوع من الحق الذي لم يكن معروفا في الشرائع القديمة، تولَّد من العوامل والوسائل المدنية والاقتصادية الحديثة، وفرض نفسه كمبدأ شرعي مخرَّج على قاعدة المصالح المرسلة في مجال الحقوق الخاصة، فإنّ المنظور المقاصدي في إقرار مثل هذه الحقوق مبنى على تشجيع الاختراع والإبداع بحمايته من سطو الغير على حصيلة الجهد وثمرة الابتكار والتفكير، ولا شك أنّ حرمة هذا الحق من جهته الأدبية يبقى لصاحب الحق خالصا من غير منازع وهو ما تقتضيه الديانة وتحمّل الأمانة، لكن الطرح الذي يفرض نفسه يكمن في التساؤل عن حرمة هذا الحق من جانبه المالي بعد انتشار الإنتاج الذهني على وجه العموم واستفادة الناس منه من غير مطالبة صاحب الحق-مبدئيا- بحق الاحتفاظ به، فهل ينقلب الحق الخاص من هذا الجانب إلى حق عام يفقد صاحبه حماية الحق المالي أم لا ؟؟
وفي تقديري أنّ حقه الخاص صار من حق الأمّة في الاستفادة من تلك العلوم والمعارف الشرعية لسد حاجاتها وتنمية مواهبها وتعميم نفعها، فلا يسعه المطالبة بحماية الحق المالي مادام أنّه لم يشترط ابتداء حمايته وإنّما أطلقه للنفع العام مع آكدية الاحتفاظ بحقه الأدبي ومراعاة شروطه وآدابه والأحكام المتعلقة به شأنه في ذلك كالمؤلفات القديمة والكتب التراثية. والعلم عند الله.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلّم تسليما.
الجزائر في: 9 ربيع الثاني 1422ه
الموافق ل : 20 جوان 2002م(10/21)
الفتوى رقم: 359
في التعامل بالبضائع ذات عنوان تجاري مزوّر
السؤال: لقد عمّت ظاهرة الغش في المعاملات التجارية، حتى أضحى كثير من المستوردين يأخذون سلعة أصلية إلى الصين، ويصنعون أمثالها، وتوضع في علب شبيهة بالأصلية، وتسوَّق على أنّها الأصلية، فهل يعدّ هذا اعتداء على حقوق الغير؟ وماذا يلزم من يملك مثل هذه البضائع؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فالمسلم ينبغي أن يكون صادقًا، ويلتزمه كخلق له ظاهرًا وباطنا، فإذا عامل غيره صدقه في معاملته فلا يغشه، ولا يخدعه، ولا يغرّر به، ولا يزوّر عليه بحال من الأحوال، ذلك لأنَّ الصدق من متمّمات إيمانه، ومكمّلات إسلامه قال تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ?[التوبة: 119].
وهذه المعاملة غير جائزة شرعًا، لما فيها من اعتداء على مال الغير بغير إذنه، والكذب على الناس وغِشّهم، ومخالفة وليِّ الأمر، وهذه صفات قبيحة، وإذاية للمسلمين، والقبح لا يكون خُلُقًا للمسلم ولا وصفًا له بحال قال تعالى: ?وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً?[الأحزاب: 58]، وقال تعالى: ?وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ?[فاطر: 43].
والمسلم قريب من الخير، بعيد عن الشر، فيجتنبه ولا يعين عليه لقوله تعالى? :وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ?[المائدة: 2].
وبناء عليه، فمن باع هذه السلع والبضائع المغشوشة على صفتها فهو غير ناصح ولا أمين، وفي الحديث:" أدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَن ائْتَمَنَكَ وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ"(1) ويلحقه الإثم، وربحه ليس محرما لذاته، وله أن ينتفع به، ومن بقيت عنده من تلك البضاعة، فعليه تعريف المشتري بحالها، إن رغب في شرائها منه، ويمتنِع بعد التخلص منها عن الإعانة عليها، وعلى المسلم أن يتقي الله، ويسلك طرق الكسب الحلال، فإنَّ تقوى الله وإرضاءه سبب لتيسير الله أمره، قال تعالى: ?وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً *وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ، وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ، إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً?[الطلاق: 2-3].
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.
الجزائر في: 1 صفر 1427ه
الموافق لـ: 1 فبراير 2006م
__________
1- أخرجه الترمذي في "البيوع" (1264)، وأبو داود في "الإجارة" (3535)، والدارمي في كتاب "البيوع" باب: في أداء الأمانة واجتناب الخيانة (2652). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في "سلسلة الأحاديث الصحيحة" رقم (424).(10/22)
الفتوى رقم: 393
في حكم بقايا أثمان ديون المبيعات
السؤال: أنا أعمل في صيدلية، حيث يكثر التعامل بالمال باعتبار كثرة بيع الأدوية، ولا يخفى عليكم -حفظكم الله- أن تجارة الأدوية بالذات تخضع إلى أثمان ثابتة ومحددة تصل في معظمها إلى التقدير بالسنتيم، فيقع لنا أن نبيع أدوية إلى أشخاص ويتبقى من ثمن الدواء ما نراه معتبرا، رجاء أن يلحق المشتري ما عليه بعد مدة هو يحددها، فيكون كالدين عليه، لكن الإشكال أننا لا نكتب هذه الأموال باعتبار قيمتها إلى قيمة الدواء كله، فمثلا تكون قيمة الدواء 253000 سنتيما، فيدفع المريض 250000 وتبقى 3000 سنتيما عليه، إلا أنّنا بحكم كثرة التعامل ودقته ننسى تلك القيم و أصحابها في الغالب لا يأتون لسدادها. هل نقوم بتقدير قيمة معينة نردها إلى صاحب الصيدلية حتى نبرأ إلى الله مما علينا أم هل هناك من حكم آخر ؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فالأصل أنَّ العاملين في الصيدلة أمناء ينبغي أن يحرصوا على أن لا يضيع حق من استأمنهم على الأموال التي بين أيديهم، فإن فرَّطوا فيها، أو تصرفوا بما لم يحققوا منافع مؤجرهم أو موكلهم، أو تجاوزوا ذلك، أو قصروا في حقه، فالواجب أن يجبروا تقصيرهم بالمعلوم من الأموال الضائعة، وإلاَّ بالاجتهاد في التقدير، ما لم يُعلم رضا صاحب الشأن فيتسامح في مجموعة الأموال التي تراكمت على حساب صيدلته.
العلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 23 صفر 1426ه
الموافق لـ: 23 مارس 2006م(10/23)
الفتوى رقم: 399
في حكم أخذ الوكيل فضل ما أنقصه للتاجر بغير إذن الأصيل
السؤال: كلفتني امرأة بشراء حقيبة نسوية لها، وأعطتني مبلغا من المال، فاشتريتها وطلبت من التاجر أن ينقص لي من ثمنها، فهل يجوز لي أن آخذ ما فضل من المال الذي أنقصه لي التاجر أم أرده لصاحبة الحقيبة؟ وجزاكم الله عنا خيرا.
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وآله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فإنَّ الأصل في الأمين أن يردَّ ما أُؤتمن عليه من مال لقوله تعالى: ?إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا? [النساء: 58] ولقوله تعالى: ?إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً? [الأحزاب: 72]، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« أدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَن ائْتَمَنَكَ وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ"(1)، والوكيل أمين في تصرفاته، ينبغي أن يتصرف في حدود أمانته، فإن وقع الاتفاق بين الأصيل والوكيل في أن يأخذ هذا الأخير نسبة من المال، جاز له أن يأخذ هذه النسبة، فإن لم يتفق معه ابتداء ولم يكن معروفا بينهما فالحكم أن الوكيل يرد كافة أمواله ويأخذها أجرا أخرويا، وإنما ذكرتُ المعروف بينهما، لأنّ ما يجري في القواعد العامة أن المعروف عرفا كالمشروط شرطا، والوفاء بكل المال لصاحبته من الخُلُق الحسن، الذي ينبغي أن يتحلى به المسلم، ولا يتعدى فيه إلى أموال الغير إلا إذا كان منهم بطيب نفس ورضى لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« لاَ يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ"(2).
هذا، وفي الأخير نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقك لما يحب ويرضى بأداء الحقوق ورد الأمانات وأن يكون لك عونا على طاعته فإنه خير كفيل بالأجر والمثوبة وهو ولي ذلك والقادر عليه
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 2 محرم 1427ه
الموافق ل: 1 فبراير 2006م
__________
1- أخرجه الترمذي في البيوع (1264)، و أبو داود في الإجارة (3535)، والدارمي في البيوع (2652)، والحديث صححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم (424).
2- أخرجه أحمد (5/72)، والدارقطني (300 )، وأبو يعلى (1537)، والبيهقي (11877)، من حديث حنيفة الرقاشي رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في الإرواء (5/279) رقم (1459)، وفي صحيح الجامع (7539).(10/24)
الفتوى رقم: 410
في حكم بيع البنطال والبدلة العصرية
السؤال: ما حكم بيع البنطال والبدلة المعروفة باسم (costume)؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وآله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فاعلم أنَّ الشرع الحنيف لا ينهى عن التشبه بمن يفعل ما أذن فيه، وجاء على وفق شرعه من إيجاب وندب أو إباحة، فلا يترك من أجل فعلهم له، على أن يكون الباعث على العمل النصوص الآمرة في ذلك، وإنما المقصود بالنهي عن التشبه بالكفار فيما فعلوه على خلاف مقتضى شرعنا فيما هو معروف من خصوصياتهم من الألبسة والهيئة البدنية العامة كحال البدلات المعبرة عن تلك الهيئة، فإنَّ ذلك منهي عنه لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ"(1) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لعمرو بن العاص رضي الله عنه لما رأى عليه ثوبين معصفرين فقال:" إِنَّ هَذِهِ مِنْ ثِيَابِ الْكُفَّارِ فَلاَ تَلْبَسْهَا"(2)، وعليه، فكلّ لباس يختص به الكفار لا يلبسه ولا يعين على لُبسه.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 4 ربيع الأول 1427هـ
الموافق لـ: 3 أبريل 2006م
__________
1- أخرجه أبو داود في اللباس (4033)، وأحمد (5232)، والطحاوي في مشكل الآثار (198)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وصححه العراقي في تخريج الإحياء (1/359)، والألباني في الإرواء (1269). وحسنه ابن حجر في فتح الباري (10/282).
2- أخرجه مسلم في اللباس والزينة (5555)، والنسائي في الزينة (5333)، وأحمد (7110)، والبيهقي (6148)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه.(10/25)
الفتوى رقم: 426
في حكم بيع واقتناء الملابس المحتواة على أشكال الصليب
السؤال:
ما حكمٌ اقتناءِ وَبَيْعِ قَميصِ «الحرمين » الذي يحتوي على خُطوطٍ تُشْبِهُ شكلَ الصليبِ؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَن أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فبغضِّ النظرِ عن قميصِ الحرمين وما فيه من الأشكالِ المتنوِّعةِ، فإنَّ كلَّ ما فيه تقاطعٌ غيرُ متواصِلٍ بحيثُ يتشكَّلُ على زوايا قائمةٍ، ويكون أسفلُهُ أطولَ من أعلاهُ فهو صليبٌ مَنهيٌّ عن اقتنائه؛ ذلك لأنّ الصليبَ شعارُ النصارى وهو موضعُ تقديسِ الأكثرين، فَإِنْ أمكنَ نقضُهُ، أو كان التقاطعُ خفيًّا لا يُرَى أو كان التقاطعُ مُتَواصلاً فيجوز ارتداءُ الثوبِ ولُبْسُهُ، أمَّا إذا بقي ظاهرًا بارزًا غيرَ متواصِلٍ وبالشَّكْلِ المعهودِ عند النصارى فَيُمْتَنَعُ لُبسه تَجَنُّبًا لعقيدةِ التثليثِ الفاسدةِ.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصَحْبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 14 ربيع الثاني 1427ه
الموافق ل: 11 ماي 2006م(10/26)
الفتوى رقم: 435
في حكم المتاجرة بالملابس القديمة "الشيفون"
السؤال: ما حكم المتاجرة في الملابس القديمة أي: ما يعرف في بلادنا بـ:" الشيفون" علما بأنّ هذه الملابس تدخل بلادنا مهرَّبةً من الحدود؟ وهل يجوز اقتناؤها ولُبسها؟ وقد تكون هذه الملابس ملطخة بنجاسات ولكن أصحابها لا يخبرون المشتري عنها كما قد يصاب المشتري لها بأمراض جلدية كـ"الجرب"، فضلا عن أنّها تباع في أكياس مغلقة لا يطلع المشتري على ما تحتويه إلاّ بعد فتحها، فهل يعتبر هذا البيع حلالا؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فالأكياس المتضمنة للملابس القديمة الموجهة إلى البلدان الإفريقية الفقيرة إن كانت ممَّا يتمُّ السطو عليها في بعض الموانئ، ثمّ يتم إدخالها بواسطة شبكة التهريب، فهذه لا يجوز التعامل فيها تجاريا لما فيها من أكل أموال الناس بالباطل، أمَّا إذا تحقق أنَّها غير مسروقة بل مشتراة من مالكيها فإنّه ينظر إلى محتواها، فإن كانت الملابس ممَّا يروج بها الرذيلة كالضيقة والحازقة والمكشوفة والشفافة وغيرها ممّا هو معروف من موضات ألبسة الكفار فلا يجوز التعامل فيها أيضا لما في انتشارها من إشاعة الفاحشة وإفساد المجتمع المسلم قال تعالى: ?إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ? [النور: 19].
أمَّا إذا خلت من ذلك فإنه يجوز التجارة فيها لأنَّ الأصل في التجارات وسائر أنواع المكاسب الحل والجواز، ولو بيعت مغلقة لكن بشرط أن يكون للمشتري خيار الرؤية، فإن رأى بداخلها عيبًا أو تدليسًا أو غشًّا جاز له أن يردها على البائع لهذه العلل المذكورة والشأن في ذلك كمبيعات اللوز والجوز والبيض، وغيرها ممّا تباع بقشرتها، ويردها المشتري إن رأى فيها عيبًا أو فسادًا، أو احتوت على أمراض أو تسمم ونحو ذلك من العيوب التي تجعل العقد موقوفا بطلانه على إرادة المشتري .
غير أنَّه لما كانت الشبه قائمة فيها، والردُّ بالعيب أو بالرؤية ونحو ذلك من الخيارات يكاد يكون مستحيلا في أسواقنا، وكثر التهريب والسطو والسرقات، وضعف الوازع الديني وغابت السلطة الشرعية، فالواجب أن يدع ما يشكُّ فيه إلى ما لا يشك فيه عملاً بقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقََدْ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ"(1)، وفي قوله صلى الله عليه وآله وسلم:« دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ"(2).
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 29 ربيع الثاني 1427ه
الموافق ل: 27 مايو 2006م
__________
1- أخرجه البخاري في «الإيمان » باب فضل من استبرأ لدينه (50)، ومسلم في «المساقاة » (4094)، وأبو داود في «البيوع » باب في اجتناب الشبهات (3330)، والترمذي في «البيوع » باب: ما جاء في ترك الشبهات (1205)، وابن ماجه في «الفتن » باب الوقوف عند الشبهات (3984)، والدارمي (2436)، وأحمد (17907)، والبيهقي (10537)، من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
2- أخرجه النسائي كتاب الأشربة باب الحث على ترك الشبهات (5711)، والترمذي كتاب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم باب (60)رقم(2518)، والحاكم (4/99)، والطيالسي (1178)، وأحمد (1/200)، وأبو نعيم في الحلية (8/264)، من حديث الحسن بن علي رضي الله عنها،وصححه الشيخ الألباني في الإرواء (1/44) رقم (12)، وفي صحيح الجامع (3373).(10/27)
الفتوى رقم: 439
في حكم استيراد قطع الغيار غير الأصلية وبيعها
السؤال: أنا أعمل في محل لاستيراد وبيع قطع الغيار، ولكن أصحاب هذا المحل يشترون أولا العملة الصعبة لأجل، كما أنّ سلعتهم مختلطة: بين أصلية وغير أصلية مغلفة بأغلفة أصلية، وهم يعلمون بأنّ شراء هذه الأموال وبيع هذه السلع غير أصلية محرم، ولكن أحد الإخوة أخبرني بأن كلامي معهم لا يعتبر حجة فلا بد من حجة من عند عالم فهل هذا صحيح؟ وهل عملي عندهم يعتبر إعانة لهم حتى ولو اتفقت معهم على أن أبيع إلا السلع الأصلية؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
ففي عملية الصرف إذا فقد شرط التقابض في المجلس الواحد فيعد من ربا النسيئة في البيوع لما صحَّ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:" وَلاَ تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ"(1) ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ"(2)، وعليه إذا كان التجار يتعاملون صرفًا بهذه الكيفية، فضلاً عن غشهم في السلع حيث يبيعون غير الأصلية أصلية، فإنَّ العمل فيها تعاون مع أهلها على الإثم والعدوان وذلك منهي عنه لقوله تعالى: ?وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ? [المائدة: 2]، كما يمتنع الاتفاق معهم على بيع السلعة الأصلية دون المغشوشة في محلٍّ واحد لحصول العلم بنوع غشهم ومشاركتهم بأكل أموال الناس بالباطل ولو بالسكوت والإقرار، لذلك ينبغي الابتعاد عن المعاصي وأهلها لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« المهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى الله عَنْهُ"(3)، وفي رواية:" المهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السَّيِئَاتَ"(4)، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« لاَ تُصَاحِبْ إِلاَّ مُؤْمِنًا وَلاَ يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلاَّ تَقِيٌّ"(5)، فإنَّ عواقب اكتساب المال بالطرق المحرمة وخيمة ولو أنفقها صاحبها في أنواع البر وطرق الخيرات لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« مَن اكْتَسَبَ مَالاً مِنْ مَأْثمٍٍَ، فَوَصَلَ بِهِ رَحِمَهُ، وَتَصَدَّقَ بِهِ، وَأَنْفَقَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ، جمعَ لَهُ ذَلِكَ كُلّهُ وَقذفَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ"(6)، نسأل الله لنا ولكم العافية في الدنيا والآخرة.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في:1 جمادى الأولى 1427ه
الموافق ل:28 مايو 2006م
__________
1- أخرجه البخاري في البيوع (2177)، ومسلم في المساقاة (4138)، والترمذي في البيوع (1286)، والنسائي في البيوع (4587)، ومالك في الموطإ (1381)، وأحمد (11791)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
2- أخرجه مسلم في المساقاة(4147)، وأبو داود في البيوع (3352)، والدارقطني في سننه (2915)، والبيهقي (10818)، من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
3- أخرجه البخاري في الإيمان(10)، وأبو داود في الجهاد(2483)، والنسائي في الإيمان وشرائعه(5013)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه.
4- أخرجه ابن حبان في صحيحه (196)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه. وصححه الألباني في تخريج كتاب الإيمان لابن تيمية(3).
5- أخرجه أبو داود في الأدب (4834)، والترمذي في الزهد (2574)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وصححه الألباني في صحيح الجامع (7341).
6- أخرجه أبو داود في المراسيل (233)، من حديث القاسم بن مخيرة رضي الله عنه، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1721).(10/28)
الفتوى رقم: 445
في التعامل مع العلامة التجارية ذات شعار معين
السؤال: شيخنا الفاضل عندنا منتوج تركي هو عبارة عن قطعة شوكولاطة اسمه "JUPITER" يقال: إنه إله من آلهة الإغريق، فهل يجوز بيعه وشراؤه؟ وبارك الله في علمكم.
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فاعلم -رحمك الله- أن القاعدة العامة في التعامل مع مثل هذه العلامات والأسماء التجارية أنه يفرق فيها بين ما إذا كانت مجردَ علامةٍ تجارية، أو كانت تحمل شعارا معينا، سواء كانت هذه العلامة تعبّر عن شعار ديني أو عرقي أو حزبي أو طائفي.
فإن كانت هذه العلامات تجارية وضعها صاحب المصنع أو البلد لتعرف سلعته وتميز جودتها عن غيرها، فالظاهر أنه لا حرج في ذلك إن شاء الله تعالى بيعا وشراء.
وأما إن كانت هذه العلامة تعبِّر عن شعار أو فكر يناهض مبادئ الشريعة الإسلامية سواء كان الشعار لمبدأ معين، أو عقيدة، أو حضارة، أو طائفة، أو عرق، أو حزب، وذلك مثل شعار الشيوعية المتمثل في المِنجل والمطرقة، وشعار اليهود المتمثل في نجمة داوود، وشعار الصليب بالنسبة للنصارى، فإنه يمنع منه شرعا ولا يجوز أينما كانت سواء في المأكولات أو المشروبات أو الملبوسات بيعا وشراء واتخاذا، وذلك لأن اتخاذه يدل على المساندة والموافقة والموالاة لتلك الأفكار ظاهرا، وإن كان لا يوافقهم بقلبه لعدم جواز الموالاة إلا لأهل الإيمان والجماعة، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ألبسة الكفار لكونها من خصوصياتهم، فمن باب أولى إذا كانت تحمل شعارا فاسدا، أو فكرا كاسدا.
وبناء على ماسبق فإن كانت علامة "jupiter" أو غيرها من العلامات مثل "nike" ترمز إلى آلهة النصر عند الإغريق فهي تعبر عن شعار وعقيدة، لا عن علامة تجارية، فتكون ممنوعة شرعا، ومثلها الألبسة والأحذية المشتملة على علامة شجرة الغرقد.
هذا، والقاعدة العامة هي ماذكرته ابتداء، ويبقى تحقيق المناط في كون العلامة شعارا أم لا؟
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلم تسليما.
الجزائر في: 8 جمادى الأولى 1427ه
الموافق لـ: 4 جوان 2006م(10/29)
الفتوى رقم: 481
في بيع الأدوات المدرسية لمن يستعملها في المحاذير الشرعية
السؤال: أعمل في بيع الأدوات المدرسية حيث أقوم بشرائها من تجار الجملة لأبيعها لأصحاب محلات التجزئة، وبعض المحلات متواجدة بأحياء سكنية جامعية للإناث، وبعضها بالقرب من الجامعات، ومعاهد الفنون الجميلة، والمراكز الثقافية، مما أحدث لي إشكالا من حيث توفير المواد المدرسية للبنات اللواتي يستعملنها في المدارس المختلطة، وفي الرسم والتصوير وغيرها من المحاذير الشرعية، فهل يعد هذا إعانة على المنكر؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فاعلم -وفقك الله للخير- أنَّ الوسائل التي تفضي إلى المفسدة حتمًا على وجه القطع لا خلاف بين أهل العلم في اعتبار سد الذرائع فيها، كما أنَّ الوسائل التي تفضي إلى مفسدة نادرة لا خلاف في إلغاء مبدأ سدِّ الذرائع فيها، لكن الخلاف فيما يؤدي إلى مفسدة غالبًا أي كثيرًا أو مع التساوي فيه، والتمسك بمبدأ سد الذرائع فيها الذي هو مذهب مالك وأحمد وأكثر أصحابهما أولى بالمراعاة والعمل، والأخذ به لا يخرج عن مراعاة المصلحة الملائمة في الجملة لمقاصد الشريعة، غير أنه لا يصح التوسع فيه من غير تحقيق المناط في حدوث المفسدة الغالبة أو المساوية لئلا يفضي إلى المنع مما هو حلال أو إلى حمل الناس على التهمة.
وعليه، فإنَّ ما ذكر في السؤال إن كان يحقق مفسدة غالبة أو مساوية فينبغي اجتناب التعامل به سدًّا لذريعة المحرم، واحتياطًا للدين والعرض، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتِبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الحرَامِ"(1).
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 1 جمادى الثانية 1427ه
الموافق لـ: 26 جوان 2006م
__________
1- أخرجه البخاري في «الإيمان » باب فضل من استبرأ لدينه (50)، ومسلم في «المساقاة » (4094)، وأبو داود في «البيوع » باب في اجتناب الشبهات (3330)، والترمذي في «البيوع » باب: ما جاء في ترك الشبهات (1205)، وابن ماجه في «الفتن » باب الوقوف عند الشبهات (3984)، والدارمي (2436)، وأحمد (17907)، والبيهقي (10537)، من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.(10/30)
الفتوى رقم: 490
في حكم بيع أدوات الزينة
السؤال: ما حكم بيع أدوات الزينة؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
لا يلحق المنع أدوات الزينة من حيث ذاتها، وإنما حكمها باعتبار مآلها وذلك يختلف باختلاف البلد الذي تجري فيه المعاملات المذكورة من جهة فساد مجتمعه فيه أخلاقيًّا وتربويًّا من صلاحه.
فإن كان المجتمع في طابعه العام منحلاًّ أخلاقيًّا تستعمل فيه أدوات الزينة لإثارة الشهوات فإنَّه يمنع بيعها خشية ترويج الفتنة وإشاعتها عملاً بمبدأ سد الذرائع لقوله تعالى: ?إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ?[النور: 19]، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« مَا تَرَكْتُ فِتْنَةً أَضَرَّ بِهَا عَلَى الرِِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ »(1) ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« ...فَاتَقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ فَإنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي النِّسَاءِ »(2) ومنه يظهر التعاون الآثم الذي نهى عنه المولى عزَّ وجلَّ في قوله تعالى:? وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ?[المائدة: 2] بخلاف ما لو كان المجتمع في مجمله صالحًا، والنساء ماكثات في البيوت لا يخرجن إلاَّ للحاجة الشرعية وبالضوابط الشرعية فإنَّ بيع مثل هذه الأدوات جائز واقتناءها مثله في الجواز لانتفاء ظهور الفتنة والبعد عن الإثارة.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في:7 جمادى الثانية 1427ه
الموافق لـ:2 يوليو 2006م
__________
1- أخرجه البخاري في النكاح (4706)، ومسلم في الرقاق (6945)، والترمذي في الأدب(2780)، وابن ماجه في الفتن (3998)، وابن حبان (5967)، وأحمد (22463)، والحميدي في مسنده(574)، والبيهقي (13809)، من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما.
2- أخرجه مسلم في الرقاق (6948)، والترمذي في الفتن (2191)، وابن حبان (3406)، والبيهقي(6746)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.(10/31)
الفتوى رقم: 499
في حكم شراء سلعة من السوق وبيعها في نفس السوق.
السؤال: هل يجوز شراء سلعة من دكان يقع في سوق الجملة للخضر والفواكه وبيعها في دكان آخر يقع في نفس السوق؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وآله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فإذا حاز المشتري بضاعة إلى رحله، أي المكان الخاص به، أي: خرجت السلعة من حيازة البائع وضمانه، فإنَّ المشتري يجوز له أن يبيعها في السوق وينقلها للمشتري الثاني ليبيعها له لأنَّ ضمان الإتلاف بعد الحيازة يكون على المشتري الناقل لها لقول الصحابي :" نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم أَنْ تُبَاعَ السِّلَعُ حَيْثُ تُبْتَاعَ حَتَّى يَحُوزَهَا التُّجَارُ إِلَى رِحَالِهِمْ ".(1)
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وآله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 17 ربيع الأول 1427هـ
الموافق لـ: 15 أفريل 2006م
__________
1- أخرجه أبو داود في الإجارة (3499)، والحاكم في المستدرك (2271)، والدارقطني في سننه (36)، من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه، وصححه ابن حبان كما في "فتح الباري" لابن حجر (4/350)، والطحاوي في "شرح مشكل الآثار" (8/190)، وقال الألباني في صحيح أبي داود:"حسن بما قبله"(3499).(10/32)
الفتوى رقم: 509
في حكم نسخ الأقراص المضغوطة وبيعها بدون إذن أصحابها
السؤال: ما حكم نسخ الأقراص المضغوطة التي تحتوي على برامج؟ وما حكم بيعها في مكاتب الإعلام الآلي؟ مع الأخذ بعين الاعتبار أنَّ معظم الأقراص الموجودة في السوق غير أصلية؟ وجزاكم الله كل خير.
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وآله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فإنَّ الأقراص التي تحمل انتاجًا ذهنيًا تدخل في حقِّ الابتكار، أو في الحق الفكري بشقيه الأدبي والمالي، وهي معدودة من الانتاجات العلمية والفكرية والأدبية لا تختلف عن حقوق التأليف والابتكار الذي هو حق ذهني مخرَّج على قاعدة المصالح المرسلة في مجال الحقوق الخاصة، والغاية من هذا الحق تشجيع الاختراع والإبداع بحمايته من كلِّ اعتداء على حصيلة جهد الغير وثمرة أتعابه، والذي تقتضيه أحكام الشريعة وتحمُّل الأمانة أن حرمة هذا الحق يبقى خالصًا لصاحب الحق من جهته الأدبية فلا يجوز تغيير اسمه وإحلال غيره محله، أو تزوير ما أنتجه أو السطو على ما حققه لأنه من الغش والكذب والخيانة والإخلال بالأمانة، أمَّا من حيث جهته المالية فلا يجوز أيضا الاعتداء على ماله لأنَّ الأصل في الأموال الحرمة، وتحصيل الأرباح والأموال على حقِّ الغير من غير طيب نفس منه ظلم وفي الحديث قال الله تعالى:" يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُّحَرَّمًا فَلاَ تَظَالَمُوا"(1)، وفي قوله صلى الله عليه وآله وسلم:« لاَ يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِطِيبِ نَفْسٍ مِّنْهُ"(2)، وقد يستثنى مما تقدَّم من الجهة المالية نسخ قرص أصلي أو شراؤه للحاجة إليه في الاستعمال الشخصي إذا لم يجد إلاَّ القرص المنسوخ في السوق، أو وجد الأصلي لكن بثمن يعجز عليه وحاجته إليه ضرورية ولا تكفيه استعارته، وعلى كلِّ حال لا يجوز له الانتفاع به في التعامل التجاري إلاَّ بإذن صاحبه سواء بإذن خاص أو عام، ويجوز الانتفاع به في الاستعمال الشخصي عند الحاجة وبشرطها المتقدم.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 1 شعبان 1427ه
الموافق لـ: 25 أوت2006م
__________
1- أخرجه مسلم في البر والصلة (6572)، وابن حبان (619)، والبخاري في الأدب المفرد (497)، وعبد الرزاق في المصنف (20272)، من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
2- أخرجه أحمد (20172)، وأبو يعلى في مسنده (1570)، والبيهقي (11740)، من حديث حنيفة الرقاشي رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في "الإرواء" (1459)، وفي "صحيح الجامع" (7539).(10/33)
الفتوى رقم: 569
في وسيلة الخلاص من بضاعة لا يحتاج إليها
السؤال: اشتريت بضاعة قصد بيعها ثمّ بدا لي -بعد أن بعت كَمِّيةً منها- أن لا أتاجر فيها، فماذا أفعل بها الآن ؟ بارك الله فيكم .
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فمَن اشترى بضاعةً ثمّ ظهر له عدم حاجته إليها جاز له أن يطلب من البائع الإقالةَ وفسخَ العقدِ، وكذلك مَن باع شيئًا ثمّ بدا له أنه بحاجة إليه فله أن يطلب فسخًا للعقد من المتعاقد معه، وإذا أقاله وانفسخ العقد عاد كلٌّّ من المتعاقِدَيْنِ إلى الحالة التي كانا عليها قبل العقد، وهي أنَّ كلَّ واحد بما كان له فيأخذ المشتري المالَ ويأخذ البائعُ العينَ المبيعةَ، وهو أمرٌ مرغَّبٌ فيه شرعًا لقوله صَلَّى الله عليه وآله وسلم:« مَنْ أَقَالَ مُسْلِمًا أَقَالَ اللهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ »(1).
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 19 من ذي القعدة 1427ه
الموافق ل: 10 ديسمبر 2006م
__________
1- أخرجه أبو داود في «البيوع » (3460)، وابن ماجه في «البيوع » (2199)، وابن حبان (4934)، والبيهقي (11202)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث صحّحه السخاوي في «المقاصد الحسنة » (465)، والألباني في «الإرواء » (1333)، وفي «السلسلة الصحيحة » (2614)، والوادعي في «الصحيح المسند » (1373).(10/34)
الفتوى رقم: 573
في بيع مسحوق طبيعي كبديل عن «الشمّة »
السؤال: انتشر بين الإخوة مؤخّرًا مسحوقٌ يشبه مسحوق «الشمّة » تمامًا، إلاّ أنها تختلف عنها في كونها مسحوقًا مُكَوَّنًا من الزنجبيل، والزيزفون، والنعناع، وعود الأراك، تطحن كلّها وتُسْحَقُ، ويدَّعي صانعوها أنها تفيد في القضاء على صُداع الرأس وبعض الأمراض الصدرية كما أنها تستعمل كبديلٍ للتخلُّص من مسحوق «الشمّة ». فما حكم استعمال هذا النوع من المسحوق؟ وجزاك الله خيرًا.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فهذا المسحوق من حيث ذاتُه لا تحريمَ يَرِدُ عليه؛ لأنَّه مُكوَّنٌ من أعشاب طبيعية، والأصلُ في الأشياء والأعيان المنتفع بها على الجواز والإباحة، كما أنّ الأصل فيها الطهارةُ، غير أنّ المنع قد يَرِدُ من باب سدّ ذريعة التعامل مع أعيان المتعاطين له من أهل الفجور والانحراف غالبًا، والتشبّه بهم في صفة تعاطيهم له، الأمر الذي يورِّث تُهمةً لأهل الالتزام والاستقامة فضلاً عن نسبة القُبح والرذيلة لهم، وإضافة المسحوق إلى منهجهم(1- مثل قولهم: شمة السلفيين، أو شمة الإخوة، أو شمة أصحاب اللحى، ونحو ذلك من القبائح التي تنسب إليهم ظلمًا وعدوانًا). فما لم يُمنع بالأصل قد يمنع سدًّا لذريعة الممنوع.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصَلَّى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 15 محرم 1428ه
الموافق ل: 3 فيفري 2007م
__________
1- مثل قولهم: شمة السلفيين، أو شمة الإخوة، أو شمة أصحاب اللحى، ونحو ذلك من القبائح التي تنسب إليهم ظلمًا وعدوانًا.(10/35)
الفتوى رقم: 609
في حكم التَّنازل عن أرض فلاحية
السؤال:
تحصل شخص على أرض فلاحية في إطار استصلاح الأراضي والتنمية الريفية ومحو البطالة، تقدر مساحتها بأكثر من 8 هكتارات، (la concession)، ولم يقم باستصلاحها ولا يملك منها إلا المنفعة كالأشجار أو حصاد الثمار التي قام بغرسها، وأريد شراء هذه الأرض بحيث يتنازل عن حقه، لكن الدولة تقبل التنازل ولا تقبل البيع مع العلم أني عاطل عن العمل وليس لدي مدخول وأنا متحصل على شهادة تربص في إحدى المجالات الفلاحية، وبهذا التنازل أستطيع الحصول على إعانات من طرف الدولة والعمل لكسب المال.
فهل التنازل عن حقه في الانتفاع بالأرض مقابل مبلغ من المال جائز شرعًا؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فإذا أقرّت الدولةُ هذا التنازلَ سواء كان بعوض أو بغير عوض واستبدلت من يتعامل معها ببديل آخر فإنّ المعاملة جائزة ما دام أنّ الدولة هي مالكة الأرض وصاحبة السيادة عليها، ولها أن تتعامل مع المستخلَفِ البديلِ وَفْقًا لما يحقق لها النمو الزراعي والإنتاج الفلاحي، الذي هو من مقاصد الاستفادة.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 27 شعبان 1427ه
الموافق ل: 20/10/2006م(10/36)
الفتوى رقم: 612
في شرط بيع الذهب بالورق النقدي
السؤال:
ما حكمُ بيعِ قطعةِ 50دج المعدنية -المصنوعة بشيء من الذهب كما يقول من يبيعها- بمبلغ: 350دج إلى الصائغي ليحولها إلى أشياء أخرى؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فإنّ بيع الذهب بالأوراق النقدية المعاصرة جائز، وتلحق به جميع أحكام بيع الذهب بالفضة لعلة جامعة وهي الثمنية؛ لأنّ الأوراق النقدية نقود اعتبارية فيها صفة الثمنية كاملة، لذلك يجوز فيها التفاضل والجزاف، لكن يشترط فيها التقابض في المجلس الواحد.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 19 المحرم 1428ه
الموافق ل: 7 فبراير 2007م(10/37)
الفتوى رقم: 642
في حكم ردّ المبيع (السيارة) بسبب احتمال الغش والتدليس
السؤال:
باع رجلٌ سيارةً -عليها لوحة تحويل رقم الطراز عند الباب-، مُظهرًا عَيْبَهَا المتمثِّلَ في عدمِ وضوحِ بعضِ أرقامِها، فوافق المشتري بعد استشارته بعض العارفين ببيع السيارات، وبعد مدّة خمسة أشهر أراد المشتري بيع السيارة ولَمَّا كان هذا البيع يقتضي تغيير لوحة الترقيم لاختلاف الولاية كان لزامًا على هذا الأخير أن يعرض السيارة على مهندس المناجم، وبعد المعاينة أخبره المهندسُ أنّ هذه السيارةَ تحتاج إلى مراجعةِ الشركة الأصليةِ، وأعلمتْ هذه الأخيرةُ بأنّ الإجراءات تتطلَّبُ مدّةً زمنيةً قد تدوم عدّةَ أشهر، وهو مستعجل بالبيع لحاجته الماسة إلى ثمنها. فهل هذا الأمر يعتبر عيبًا من العيوب يُردُّ به المبيع شرعًا؟ أم أنّ المشتري يتحمّل هذه التبعات؟ مع العلم أنّ الشركة بعد تحقّقها من أرقام السيارة قد يتبيّن لها أنها مغشوشة؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَن أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فإذا أَظْهَرَتِ الشركةُ الأصليةُ أنّ السيارةَ مغشوشةٌ وتأكّد أمرُها فإنّ العقد يصيرُ قابلاً للإبطال، موقوفًا على اختيار المشتري بين إمضاء العقد أو فسخه، فإن اختار ردَّ المبيع بعيب الغِشِّ والتدليس انفسخ العقد سواء أعلم البائع بالغِشِّ أو لم يعلم، ورجع المتعاقدان إلى ما كانا عليه قبل التعاقد، وليس في مدّة انتفاع المشتري بالسيارة تعويض؛ لأنّ مدّة انتفاعه في مقابل ضمانه لأصل المبيع عملاً بقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« الخَرَاجُ بِالضَّمَانِ »(1).
أمّا إذا أكّدت الشركة الأصلية سلامةَ رقمِ طِرازِها من أيِّ غِشٍّ أو تدليسٍ فإنَّ طول مدّة الإجراء الإداري والتقني غيرُ مؤثّر على لزوم العقدِ ونفاذِه، لسلامة المبيع بإبلاغ البائع عيبَ عدمِ وُضوحِ بعضِ أرقامِ لوحة التحويل عند العقد، وتَحقُّقِ علمِ المشتري به بعد الاستشارةِ من غيرِ إكراهٍ ولا إخفاءٍ، وقد تمَّ من جهته عقدُ البيع على ذلك باختياره ورضاه فلا يُعتبر رجوعُ المشتري، ويتحمَّل كُلَّ ما يترتّب على المبيع من أعباء وتبعات؛ لأنّ السيارةَ مِلكُه وهو ضامنٌ لها.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 26 من ذي القعدة 1427ه
الموافق ل: 17 ديسمبر 2006م
__________
1- أخرجه أبو داود في «الإجارة »: (3508)، والترمذي في «البيوع »: (1286)، والنسائي في «البيوع »: (4490)، وابن ماجه في «التجارات »: (2243)، وابن حبان: (4927)، والحاكم: (2181)، وأحمد: (23704)، من حديث عائشة رضي الله عنها. والحديث حسنه البغوي في «شرح السنة »: (4/321)، وصححه ابن القطان في «الوهم والإيهام »: (5/211)، وحسنه الألباني في «الإرواء »: (1315).(10/38)
الفتوى رقم: 651
في حكم المتاجرة بموادَّ تحمل علاماتٍ تجاريةً مزوَّرةً
السؤال:
ما حكم المتاجرةِ في السِّلعِ ذاتِ علاماتٍ تجاريةٍ مزوّرة (غيرِ أصلية)؟ وما حكم شرائها؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فإن كانت هذه البضاعةُ المعروضةُ للبيع تحملُ علاماتٍ تجاريةً لشركاتٍ أخرى لم ترخِّصْ فيها فإنَّ ذلك يُعَدُّ اعتداءً على حقِّ الابتكارِ الصناعي وعلى العنوان التجاري، وهي داخلةٌ في الحقوق المالية، والأصلُ في الأموال التحريمُ إلاّ ما كان بطيبِ نَفْسٍ من أصحابها، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وَسَلَّم:« لاَ يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ »(1)، والشأنُ في ذلك كشأنِ كُلِّ الحقوقِ الذِّهنية والعينية والتبعية. وعليه، إن كانت له هذه البضائع التي لم يعلم حقيقتَها أو حُكمَها فإنّه يتخلَّص منها ثمّ لا يرجع إلى المتاجرة فيها، أمّا إذا لم يقبضها بعدُ فينبغي التخلِّي عن التعامل بها، علمًا أنّ أبوابَ الرِّزق واسعةٌ، وليتخَيَّرْ منها ما ينشر به الفضيلةَ، ويُحقِّق به الرزقَ الطيبَ الحلالَ.
أمّا المشتري إذا أضحى مُعطّلاً لفقدان بعض اللوازم التي يحتاجها لأدواته وآلاته وسيارته، ولم يجد الأصليَّ من المواد المصنَّعة وقطعِ الغيار إلاّ ما راج مغشوشًا من الموادِّ ذاتِ حاجةٍ أكيدةٍ فيجوز -برضاه- أن يشتري المغشوشَ والمعيبَ، ولو اطَّلع عليه وعلم به للحاجة، «والحَاجَةُ تُنَزَّلُ مَنِْزَلَةَ الضَّرُورَةِ عَامَّةً كَانَتْ أَوْ خَاصَّةً ».
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيّنا محمّد، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في 27 من ذي القعدة 1427ه
الموافق ل: 19 ديسمبر 2006م
__________
1- أخرجه الدارقطني: (300)، وأحمد: (5/72)، والبيهقي: (6/100)، والحديث صحَّحه الألباني في «الإرواء »: (5/279) رقم: (1459)، وفي «صحيح الجامع »: (7539).(10/39)
الفتوى رقم: 653
في جواز بيع السلع القابلة للتأخير
السؤال:
هل يجوز شراء السلع عن طريق الإنترنت، حيث يُدفع ثمنُ البضاعةِ عن طريق بطاقةٍ إلكترونيةٍ ويتمّ استلام البضاعة بعد مُدَّةٍ؟ وهل يُشترط في هذه المعاملة التقابض في المجلس الواحد؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فالبيوعُ في العموم تقع صحيحةً سواء باللفظ أو بالكتابة أو المراسلة؛ لأنّ هذه الوسائلَ تُعَدُّ من جملةِ المُشْعِرَات بالرِّضا الواجب توافره في العقود والبيوع، لقوله تعالى: ?إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ? [النساء: 29]، وبِطِيبِ نَفْسٍ في عقد التبرّع، في قوله تعالى: ?فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا? [النساء: 4].
وإنما يشترطُ التماثلُ والمساواةُ مع حصول التقابضِ في مجلسِ العقدِ في الأصناف السِّتَّةِ المذكورةِ في حديث عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه وما شاركَهَا في العِلَّةِ، في قولِه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالفِضَّةُ بِالفِضَّةِ، وَالبُرُّ بِالبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالمِلْحُ بِالمِلْحِ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ »(1).
والعلّةُ في تحريم الرِّبا في النقدين الثمنيةُ، فَيُلْحَقُ بالذَّهَب والفضّةِ كلُّ ما جُعِلَ أثمانًا كالأوراق النقدية، والعلّةُ في بقية الأصناف الأخرى (البر والشعير، والتمر، والملح) هي الكيل والوزن مع الطُّعْمِ، فيُلْحَقُ بها كلُّ ما جُعِل مكيلاً أو مَوزونًا مطعومًا.
وعليه تَتَبَيَّنُ صورةُ ربا الفضل وربا النسيئة فيما يأتي:
- إذا بِيعَ نَقْدٌ بِجِنسه كذهب بذهب، أو فضّة بفضّةٍ أو وَرَقٍ نقديٍّ بمثله (كدولار بدولار مثلِهِ، أو دينار جزائريٍّ بمثلِهِ، أو بيعَت عينٌ بجنسها من بُرٍّ بمثله، وشعير بشعير، وجبتِ المساواة في المقدار مع اتحاد المجلس -أي: التقابض في مجلس واحد-، فإن حصل التفاضُلُ ولم تتحقّق المساواة فهو ربا الفضل، وإن لم يتمَّ التقابضُ في مجلسٍ واحدٍ فهو ربا النسيئةِ في البيوع.
- إذا بيع نقدٌ بنقد بغير جنسه مع اشتراكهما في العِلّة كذهب بفضّة، أو دولار بدينار جزائريٍّ مثلاً، أو يَنٍّ يبانيٍّ بدولارٍ، أو بيع بُرٌّ بشعيرٍ، أو شعير بِبُر؛ فإنه يجوز التفاضل بينهما في المقدار ولكن يشترط الحلولُ والتقابضُ في المجلس ولا يجوز فيهما التأجيل.
- إذا بيع جنس بغير جنسه مع اختلافهما في علّة التحريم كبيع ذهبٍ ببرٍّ، أو دولار بشعير، أو دينار جزائريٍّ بأرز، فإنه يجوز التفاضلُ والتأجيلُ، ولا تشترط المساواة والحلول عند اختلاف الجنس والتقدير عند جمهور العلماء لِمَا عُلِمَ من حديث عائشةَ رضي الله عنها قالت:« اشْتَرَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا بِنَسِيئَةٍ وَأَعْطَاهُ دِرْعًا لَهُ رَهْنًا »(2)، وقد توفي النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّمَ وبقيت دِرعُهُ مرهونةً عند اليهودي(3)، فإنّ هذا يخصّص عمومَ ما أفاده حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه في قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ ».
هذا، وإذا دفع المشتري الثمنَ مُقدّمًا مع تأجيل تسليم البضاعة، وكان البَدَلاَنِ ممَّا يصحّ فيهما التأخير والنَّسَاء، فإنه يصحّ هذا البيع ويدخل في بيع السَّلَم أو السَّلَف، فهو عقد مَوْصوفٌ في الذِمَّة بِبَدَلٍ يُعْطَى عاجلاً، أي: بيعٌ عُجِّل ثَمَنُهُ وأُجِّل مُثْمَنُهُ.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيّنا محمّد، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في 19 من ذي القعدة 1427ه
الموافق ل 10 ديسمبر 2006م
__________
1- أخرجه مسلم في «المساقاة »، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدا: (4063)، وأبو داود في «البيوع »، باب في الصرف: (3350)، والنسائي في «البيوع »، باب بيع البر بالبر: (4561)، والدارمي في «سننه »: (2481)، وابن حبان في «صحيحه »: (5018)، وأحمد في «مسنده »: (22175)، من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
2- أخرجه مسلم في «المساقاة »: (4114)، والنسائي في «البيوع »: (4650)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
3- أخرجه البخاري في «الجهاد »: (2759)، وابن حبان: (5936)، من حديث عائشة رضي الله عنها. والترمذي في «البيوع »: (1214)، والنسائي في «البيوع »: (4651)، عن ابن عباس رضي الله عنه.(10/40)
الفتوى رقم: 666
في معنى الاحتكار والصورة الخارجة عنه
السؤال:
اشترى رجلٌ سلعةً، ثمَّ أودعَهَا مَخزنَه، ونيتُه في ذلك أن يخرجَها إذا زادَ ثمنُها، علمًا بأنّ هذه السلعةَ موجودةٌ قبل شرائه لها وبعده فهل هذا الفعلُ جائز؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فإذا اشترى سلعةً للتجارة ولا يبيعها في الحال بل يدّخرها لِيَغْلُوَ ثمنُها، فإِنَّ حَبْسَهَا عن البيع هو الحُكْرَةُ المحرّمة بنصِّ قولِه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« لاَ يَحْتَكِرُ إِلاَّ خَاطِئٌ »(1)، والمراد بالخاطئ هو العاصي الآثمُ، والظاهرُ من الحديث شمولُه لعموم الأقواتِ وسائرِ السلعِ، وإن وردت بعضُ الروايات بالتصريح بلفظ «الطعام »(2) إلاّ أنها غيرُ صالحةٍ لتخصيصِ العمومِ في الروايات الأخرى؛ لأنّ نفيَ الحكمِ عن غير الطعام إنما هو من مفهوم اللقب، وهو ضعيفٌ عند كلِّ محصِّلٍ من القائلين بالمفهوم، لذلك كانت من قبيل التَّنصيص على فردٍ من أفراد العُموم لا من تخصيصِه؛ لأنه إذا كانت العِلةُ هي الإضرارُ بالمسلمين لم يحرم الاحتكار إلاّ على وجهٍ يضرُّ بهم، ويستوي في ذلك القوتُ وغيرُه لتضررّهم بالجميع كما يستوي وجود السلعة قبل شرائه لها وبعده، أمّا لو اشتراه في وقت الرخص أو الغلاء لحاجته إلى أكله أو بيعه في وقته فلا تحريمَ فيه.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في 14 ربيع الثاني 1428ه
الموافق ل: 2 ماي 2007م
__________
1- أخرجه مسلم في «المساقاة »: (4123)، وأبو داود في «الإجارة »: (3447)، والترمذي في «البيوع »: (1267)، وابن ماجه في «التجارات »: (2154)، والدارمي في «البيوع »: (2448)، وأحمد: (15331)، من حديث معمر بن عبد الله رضي الله عنه.
2- أخرجه الحاكم في «المستدرك »: (2163)، والبيهقي في «سننه »: (11325)، وفي «شعب الإيمان »: (11212)، من حديث أبي أمامة رضي الله عنه.(10/41)
الفتوى رقم: 670
في حكم اتخاذ وسيلة الغِشِّ لإبعاد الخسارة والكساد
السؤال:
نحن جماعةٌ من العمَّال نعملُ في مصنعٍ لأحد الخواصِّ لإنتاج الحليب، حيث يقوم صاحبُ المصنع بشراء المادةِ الأولية للحليب من مؤسّسة حكوميةٍ، ونقوم بتحويلها إلى حليبٍ سائلٍ، يباع بثمن مسعّر من الدولة، وفي المدّة الأخيرة قامت هذه المؤسّسة الحكوميةُ برفع ثمن المادة الأولية، في حين لم تسمح برفع ثمن بيعِ الحليب، مما يؤدي إلى خسائرَ جسيمةٍ، الأمر الذي حمل صاحبَ المصنعِ إلى الإنقاصِ من مادة الحليب ومن وزن كِيسِه تفاديًا للخسارة، وتباع على أساس أنها بالمقاييس المطلوبة، ونحن نعلم أنّ هذا من الغشّ، ولكن صاحب المصنع يقول: إنه سيخسر كثيرًا من رأس المال بَلْهَ الربح، فنرجو من فضيلتكم بيانَ حكمِ العمل في هذا المصنع إذا استمرّ الأمرُ على الحال؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فإنّ هذا الصنيعَ معدودٌ من الاستيلاءِ على مال الغير من غير وجه حقٍّ، لِمَا فيه من الغِشِّ والخِداعِ والتَّغْرِيرِ بالمشترين، لقوله تعالى: ?وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالبَاطِلِ? [البقرة: 188]، ولقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا »(1)، إذ ليس لصاحب المصنع أن يَتَّخِذَ الوسيلةَ المحرّمةَ للكَسْبِ المادِيِّ وإبعادِ الخسارةِ أو الكسادِ عنه؛ لأنَّ «الغايةَ لا تُبَرِّرُ الوسيلةَ »، تقريرًا لقاعدة:« مَا أَدَّى إِلَى حَرَامٍ فَهُوَ حَرَامٌ »، فضلاً عن أنّ مصلحةَ المستهلكين لمادة الحليب مصلحةٌ عامّةٌ لا يجوز تقديمُ المصلحة الخاصّةِ عليها.
هذا، والمتسبِّبُ في الزيادة الماليةِ على ثمن المبيع هو المؤسّسة الرسمية التي اشترطت شرطًا جائرًا يتضمّن اغتناءها على حساب افتقار صاحب المصنع وكسادِ تجارتِه، فهو شرطٌ باطلٌ مُنَافٍ لمقتضى العقد لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« فَمَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ »(2)، ولقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« المُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ إِلاَّ شَرْطًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلاَلاً »(3).
والأصلُ أنّ الحاكمَ مُطالَبٌ برعايةِ مصالحِ البائعِ والمبتاعِ، فلا يَمْنَعُ البائعَ ربحًا ولا يشترط عليه شروطًا جائرةً، كما لا يجوّز له منه ما يضرّ به الناس عملاً بقاعدة:« يُتَحَمَّلُ الضَّرَرُ الخَاصُّ لِدَفْعِ الضَّرَرِ العَامِّ ».
هذا، والواجبُ على التاجر الأمانةُ والصدقُ وتركُ الكَذِبِ والخيانةِ والغِشِّ، ولا يمكن التعاونُ مع مَنْ أخلَّ بالأمانة وأَبَى إلاّ أن يجعل من الخيانة خُلُقًا له مستمرًّا عليه، لقوله تعالى: ?وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ? [المائدة: 2]، ولقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« لاَ تُصَاحِبْ إِلاَّ مُؤْمِنًا.. »(4)، ولقولِه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« المُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السَّيِّئَاتِ »(5)، وفي رواية:« المُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ »(6).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 28 ربيع الأول 1428ه
الموافق ل: 16 أبريل 2007م
__________
1- أخرجه مسلم في «الإيمان »: (283)، وأحمد: (9129)، والحاكم في «المستدرك »: (2154)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2- أخرجه البخاري في «البيوع »: (2060)، ومسلم في «العتق »: (3779)، وأحمد: (25189)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
3-أخرجه أبو داود في «الأقضية »: (3593)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والترمذي في «الأحكام »: (1352)، من حديث عمرو بن عوف رضي الله عنه، والحاكم في «البيوع » (2310)، عن أبي هريرة وعن عائشة رضي الله عن الجميع. والحديث صححه الألباني في «الإرواء »: (5/142) رقم: ( 1303)، وفي «السلسلة الصحيحة »: (2915).
4- أخرجه أبو داود في «الأدب »: (4832)، والترمذي في «الزهد »: (2390)، وأحمد في «مسنده »: (10944)، والحاكم في «مستدركه »: (7169)؛ من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. والحديث حسنه البغوي في «شرح السنة »: (6/468)، والألباني في «صحيح الجامع »: (7341).
5- أخرجه ابن حبان في «صحيحه »: (196)، وعبد بن حميد في «مسنده »: (338)، والعدَني في «الإيمان »: (26)، وابن منده في «الإيمان »: (318)، والمروزي في «تعظيم قدر الصلاة »: (545)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وصححه الألباني في «تحقيق كتاب الإيمان » لابن تيمية: (3).
6- أخرجه البخاري في «الإيمان »: (10)، وأبو داود في «الجهاد »: (2483)، والنسائي في «الإيمان وشرائعه »: (5013)، وأحمد: (6671)، والحميدي في «مسنده »: (623)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.(10/42)
الفتوى رقم: 672
في حكم التصرُّف في المبيع بالبيع قبل قبضه
السؤال:
أعملُ تاجرًا حُرًّا في شراء الأراضي وبيعها، ومن الصور التي أتعامل بها: أني أشتري الأرضَ من صاحبها بدون كتابة عقد البيع، فأطلب منه أن ينظرني، وعندما أجد مشتريًا أحضره وتتمُّ المكتابة بينهما وآخذ أرباحي، فما حكم هذه المعاملة؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فلا يجوزُ شرعًا التصرُّفُ في المبيع إلاّ بعد قَبْضِهِ؛ لأنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« نَهَى أَنْ تُبَاعَ السِّلَعُ حَيْثُ تُبْتَاعُ حَتَّى يَحُوزَهَا التُّجَارُ إِلَى رِحَالِهِمْ »(1). وقَبْضُ المبيعِ إن كان منقولاً فَبِحِيازته ونقلِهِ إلى مكان المشتري، وإن كان عقّارًا كالأراضي والبيوت ونحوِهما فبالتَّخْلِيَةِ بأن يمكِّن البائعُ المشتري منها، ويخلّيَ بينه وبين العَقَّارِ ليتصرّفَ فيه المشترِي تصرّف المالك، وليكون الضمانُ على المشتري بالقبضِ، وفي زماننا هذا قد تكون التخليةُ بتسليم مفاتيح البيت أو على الأقلِّ يُؤكَّدُ عقدُ البيع بورقةٍ ولو عُرفيةٍ لتَثْبُتَ ملكيتُهُ عليها، حَسْمًا للنِّزَاع وقَطْعًا للخصوماتِ؛ لأنّ بقاءَ السلعةِ في يد البائعِ قد يَتَصَرَّفُ فيها على وجهٍ يُحدثُ خصومةً ومنازعةً، بسبب تصرّفِ البائعِ فيه، لذلك نهى النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم عن بيعه إلاّ بعد القبضِ الشرعيِّ.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 18 ربيع الثاني 1428ه
الموافق ل: 05 ماي 2007م
__________
1- أخرجه أبو داود في «الإجارة »: (3499)، والحاكم في «المستدرك »: (2271)، والبيهقي: (10832)، من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه. وصححه الطحاوي في «شرح مشكل الآثار »: (8/190)، وحسّنه ابن القطان في «الوهم والإيهام »: (5/401)، وكذا الألباني في «صحيح أبي داود »: (3499).(10/43)
الفتوى رقم: 686
في الوكيل المتعامل ببطاقة الائتمان القرضية
السؤال:
تقوم شركة لتصنيع برامج الإعلام الآلي، بتسويق سلعها عن طريق موقع متخصِّصٍ في البيع عبر الانترنت، حيث يقوم هذا الأخير بأخذ نسبةٍ مئويةٍ من ثمن البيع كلَّمَا بيعت نسخةٌ من البرامج، ويرسل باقي الثمن للشركة الأصلية عبر صك أو تحويل بنكي، علمًا أنّ هذا الموقع يتقاضى أموال الزبائن ببطاقات الائتمان (Cartes de crédit)، فهل يجوز للشركة بيع برامجها بهذه الكيفية إذا لم يكن هناك طريقة أخرى؟ وإذا كان الأمر غيرَ جائزٍ فما حكم المال المكتسب من هذه المعاملة؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فلا يجوز للشركة الصانعة لبرامج الإعلام الآلي أن تتعاون مع الموقع المتخصِّصِ في البيع عبر الإنترنت كوكيلٍ عنها بالبيع إذا ما تعامل مع الزبائن ماليًّا بواسطة بطاقة الائتمان القرضية، أو ما تسمى ببطاقة التسديد بالأقساط؛ لأنها أشدّ البطاقات المصرفية فَرْضًا للفوائد على حاملها الذي يلتزم بدفوعات أربعة وهي: رسم الاشتراك «العضوية »، ورسوم التجديد، وفوائد الإقراض، وفوائد التأخير، فهي في حقيقتها عقد ربويٌّ مستتِّرٌ بالبطاقة التي اتفقت فيه أطرافها على التحايل على انتهاك محارم الله بأكل الربا والتعاون على الإثم والعدوان، ولما كان الموقع المتخصّص بالبيع وكيلاً عن الأصيل ونائبًا عنه في التعامل المالي بنسبةٍ، «فَمَا لاَ يَجُوزُ لِلأَصِيلِ مِنَ العُقُودِ بِالأَصَالَةِ لاَ يَجُوزُ بِالنِّيَابَةِ ».
وإن كان الأصيل جاهلاً بالحكم، وكان الوكيل قد أمضى الصفقة مع الزبائن بواسطة بطاقة الائتمان أو باشرها، فللأصيل أن يأخذ ثمن المبيع المتفق عليه في تلك الصفقة، واجتهد في بذل وُسعه لاجتناب ما حرَّم الله والتحري فيما أحله الله؛ وفي مجالات الحلال والتكسّب من الطيبات غنية عن الحرام وسعة عن الوقوع فيما يُغضبُ اللهَ تعالى.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 26 جمادى الأولى 1428ه
الموافق ل: 11 جوان 2007م(10/44)
الفتوى رقم: 691
في حكم البيع في ساحة المسجد
السؤال:
ما حكم البيعِ داخلَ ساحةِ المسجدِ؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فإنّ فناءَ المسجدِ وساحتَهُ ورَحَبَتَهُ وحوالَيْهِ وما أُضيفَ إليه وما اتصل به خارجَه أو داخلَه يُعَدُّ من حريم المسجد على الأصحِّ، وحريمُ المسجدِ حُكمُه حُكمُ المسجدِ من حيث عدمُ مشروعيةِ البيع فيه وإنشادِ الضالَّة أو الاستنجاءِ، وتغسيلِ الموتى ونحو ذلك، سواء أحيطت مساحتُه المضافةُ إليه إضافةَ قرارٍ ببنيانٍ أو سِيَاجٍ أو غير محاطةٍ ما دامت مساحتها معلومةَ الحدود، كما أنه يُشرع فيها الاقتداءُ بمن في المسجد إذا اكتظّ بالمصلين، أو تحيةُ المسجد، وغيرُ ذلك من الأحكام المتعلِّقة بالمسجد، وَفْقًا لقاعدة:« الحَرِيمُ لَهُ حُكْمُ مَا هُوَ حَرِيمٌ لَهُ »(1)، التي أصلُها قولُه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلاَ وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ »(2).
أمّا إذا كانت توابعُ المسجدِ من ساحته وفنائِه مضافةً إلى المسجدِ وهي مُنفصلةٌ عنه بطريقٍ أو مَمَرٍّ بحيث لا يقتدر على الدخول إلى التوابع إلاّ بعد الخروج من المتبوع فلا تمنع -والحال هذه- ممَّا يمنع في التوابع المتصلة اتصال قرارٍ لكونها منفصلة عنه انفصالاً حقيقيًّا وفعليًّا، فتبعيتها للمسجد تبعية اسمية وشكلية لا فعلية لذلك يختلف حكمها.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 1 جمادى الثانية 1428ه
الموافق ل: 17 جوان 2007م
__________
1- «الأشباه والنظائر » للسيوطي: (125).
2- متفق عليه: أخرجه البخاري في «الإيمان » باب فضل من استبرأ لدينه: (50)، ومسلم في «المساقاة »: (4094)، وأبو داود في «البيوع » باب في اجتناب الشبهات: (3330)، والترمذي في «البيوع » باب: ما جاء في ترك الشبهات: (1205)، وابن ماجه في «الفتن » باب الوقوف عند الشبهات: (3984)، والدارمي: (2436)، وأحمد: (17907)، والبيهقي: (10537)، من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.(10/45)
الفتوى رقم: 693
في المُقاصة الجبرية
السؤال:
أعملُ تاجرًا في قطع غيار السيارات، ولي على التجار ديون يماطلون في دفعها، ومن أجل استردادها يأتيني الزبون يطلب قطعة غيار غير موجودة عندي، فأوجهه إلى تاجر ممن لي عليه دين بوصل ليسلمه تلك القطعة وأقبض منه المال، فهل هذه المعاملة جائزة؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فيجوز أن تقعَ المُقاصَّة بين هذين الدَّينَيْنِ بمجرَّد ثبوت الدّين الثاني، وهي معدودةٌ من المُقاصَّة الجبرية التي لا تتوقّف على تراضي الطرفين ولا طلبِ أحدِهما، وليس من شرطها أن يكون الدَّينان من نوعٍ واحدٍ، فيجوز تحقّق المقاصة بأن يكون أحدُهما قرضًا والآخرُ ثمنًا مبيعًا، وإن اختلف السببُ، وإنما يُشترط أن لا يترتَّبَ على المقاصة محظورٌ دينيٌّ أو يترتبَ على وقوعِها ضررٌ لأحدٍ كتعلق حقّ الغير بأحد الدينين مثلاً.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 8 جمادى الأولى 1428ه
الموافق ل: 25 ماي 2007م(10/46)
الفتوى رقم: 698
في حكم شراء السلع المحجوزة بالمزاد العلني
السؤال:
هل يجوز شراءُ السِّلعِ والحوائجِ التي تقوم المحكمةُ بحجزها ثمّ بيعِها بالمزاد العلني؟ وشكرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فإن كان ما تحجُزُه المحكمةُ من مُعدّاتِ المؤسّساتِ المُفْلِسَةِ المُثْقَلَةِ بالدُّيون قَصْدَ تسديدِ ديونِ الدائنينِ على الغارمين فالظاهرُ جوازُ شراءِ ما تُعدُّه للبيع بالمزاد العلنيِّ استبقاءً للحقوق وردًّا للمظالِمِ.
أمّا ما تحجُزُه الجماركُ من أموال الناسِ وسِلَعهم الذين لا يقتدرون على دفع الضرائب الجُمْرُكية المفروضة جبرًا، أو تلك السلع التي أباحها الشرعُ ومنعتها السلطاتُ بدعوى مصلحةِ البلاد والعبادِ فالظاهرُ أنه لا يجوز شراؤُها إلاّ إذا رضي أصحابُها أو دُفع لهم قيمة سلعتهم(1).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 11 جمادى الأولى 1428ه
الموفق ل: 28 ماي 2007م
__________
1- ملاحظة: يمكن مراجعةُ حكم البيع بالمزاد العلني أو السري في فتوى موسومة ب:« بيع السمك مزايدةً » برقم: 102.(10/47)
الفتوى رقم: 748
في حكم المتاجرة في الأسماك المصطادة بطريق المتفجرات
السؤال:
ما حكم المتاجرة في الأسماك المصطادة بطريقة وضع المتفجرات في أماكنِ تواجدِها، علمًا أنَّ الدولة تمنع الاصطياد بهذه الطريقة؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فإنه وَفقًا لقاعدة أن تصرّف الحاكم منوطٌ بالمصلحة، فإنه لا يجوز الخروج عن التنظيمات التي يجعلها الحاكم في صالح الأفراد والبيئة والمجتمع، لما يترتّب عليه من الأضرار، والضَّررُ محرَّم ويجب أن يزال، لقوله صَلَّى الله عليه وآله وسَلَّم:« لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ »(1)، والقواعدُ العامَّة تقضي بأنّ «التَّحْرِيم يَتْبَعُ الخُبْثَ وَالضَّرَرَ »، ومن ضروب الضرر الصيد بالمتفجرات، حيث قد تتسرَّبُ بعضُ الجزئيات في الأسماك وتشكِّل خطرًا على المستهلك، هذا من جهة، ومن جهة أخرى قد تؤدِّي ببيض السمك إلى إتلافه وذلك فيه ضياعٌ للمال، وإتلافٌ للثروة السمكية من البحر، وقد نهى صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم عن إضاعة المال(2)، ومن جهة ثالثة قد تؤدّي المتفجرات إلى قتل وإتلافِ أشياءَ أخرى لا علاقةَ لها بالسمك بل تتعلَّق ربما بقُوته أو لاعتبارات أخرى، وإذا انفرد واحد من هذه الأمور لزم منه المنع، فمن باب أولى إذا اجتمعت كُليَّةً.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 5 شعبان 1428ه
الموافق ل: 18 أوت 2007م
__________
1- أخرجه ابن ماجه في «الأحكام » باب من بنى في حقه ما يضرّ بجاره: (2431)، وأحمد: (2921) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. قال النووي في الحديث رقم (32) من «الأربعين النووية »:« وله طرق يَقْوى بعضُها ببَعض »، وقال ابن رجب في «جامع العلوم والحكم » (378):« وهو كما قال ». والحديث صحَّحه الألباني في الإرواء: (3/408) رقم (896)، وفي «غاية المرام » رقم (68).
2- أخرجه البخاري في «الرقاق »، باب ما يكره من قيل وقال: (6108)، ومسلم في «الأقضية »، باب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة: (4485)، من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.(10/48)
الفتوى رقم: 774
في حكم عقد بيع مُعلَّق على شرط موت البائع
السؤال:
قامت جمعيةُ مسجدٍ كائنٍ بفرنسا بالاتفاق مع صاحبِ عمارةٍ على شراء شقّة لوقفها مسجدًا، على أن يدفع المشتري ثمنًا معلومًا كلَّ شهر إلى حين موت البائع، وللمشتري حين ذاك مُطلق التصرّف في هذه الملكية، فهل هذه المعاملة صحيحة؟ وهل يجوز إقامة الصلاة في هذه الشقّة؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فاعلم أنّ هذا العقدَ غيرُ صحيحٍ؛ لأنّه إمّا أن يكون عقدَ بيعٍ فإنّه يتعذَّر نقل الملكية إلى المشتري لكون العقد موقوفًا فيه على شرط الموت، وهو شرط محتمل احتوى على جهالة مفضية إلى الغرر وقد نهى النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم عن الغرر كما ثبت ذلك صحيحًا من حديث ابن عمر رضي الله عنهما(1)، وإمّا أن يكون إيجارًا، فمن شرط الإجارة أن تكون معلومة المدّة، ولم يتحقّق هذا الشرط لجهالة المدّة.
وإمّا أن تكون عقدَ إيجار منتهيًا بالتمليك، والموقوف على شرط الموت محتمل، لذلك لا يصحُّ -أيضًا- لأنّ العقد -في هذه الحال- يتضمَّنُ قيدين مُتضادَّين، فالإيجار ليس فيه تمليك عين، والبيع تمليك العين والمنفعة فافترقَا في عقدٍ واحدٍ، كما يقترن به الشرط الفاسد المتضمِّن للجهالة.
هذا، وإذا كان العقدُ باطلاً فلا يلزم من الصلاة في المحلّ المعقود عليه فسادها، بل هي صحيحة لإجازة صاحب المحلّ وهو البائع في بيته، ولا تصير وقفًا لازمًا إلاَّ بعد أن يكون الواقف أي: (المشتري) كامل الأهلية ومالكًا للمحلِّ، وهو في هذه الحال ليس مالكًا له، لذلك لا ينقلب المحلُّ إلى مسجدٍ إلاّ بعد عقدِ بيعٍ صحيحٍ تنتقل فيه الملكية إلى المشتري بجميع حقوق الملكية من تصرّفٍ وانتفاعٍ وارتفاقٍ، فإِنْ وقفَها مسجدًا فَتَأْخُذُ صفةَ اللزوم، أمّا والحال هذه فهي صلاة صحيحةٌ في مُصَلَّى بيت البائع.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 23 شعبان 1428ه
الموافق ل: 04 نوفمبر 2007م
__________
1- أخرجه ابن حبان في «صحيحه »: (4972)، وأحمد في «مسنده »: (6401)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (11028)، من حديث ابن عمر رضي الله عنه. والحديث صححه أحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد »: (9/171)، وأخرجه مسلم في «صحيحه » كتاب البيوع، باب بطلان بيع الحصاة والبيع الذي فيه غرر: (3808)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(10/49)
الفتوى رقم: 803
في حكم جلد النسيكة وسواقطها
السؤال:
ما حكم جِلْدِ النسيكة وما حكم سواقطها؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فلحمُ النسيكة وجِلدُها حُكم الضحايا يُؤكلُ من لحمها ويتصدَّقُ به، والأفضلُ عند العلماء أن يُؤكلَ الثُّلُث ويتصدَّقَ بالثلث ويدَّخرَ الثلث، ولا يباع شيءٌ منها لا لحمها ولا جِلدها ولا سواقطها، وإنَّما يجعله لله ولا يبيعه، والنبي صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم أمر عليًّا أن يتصدَّق بالجلال والجلود(1). ويُسنُّ له أن يطبخها ويأكلُ منها أهلُ البيت وغيرُهم في بيوتهم.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 9 ربيع الأول 1428ه
الموافق ل: 28 مارس 2007م
__________
1- أخرجه البخاري في «الحج » (1630)، ومسلم (3180)، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.(10/50)
الفتوى رقم: 822
في اقتناء السجل التجاري
السؤال:
يُفرضُ على التجَّار لممارسة أيِّ نشاطٍ حُصولُهم على سِجِلٍّ تجاريٍّ، فهل عدمُ اقتنائِهِ يُعَدُّ محذورًا شرعيًّا؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالتجارةُ لا يُشترطُ لها -شَرْعًا- سِجِلٌّ تجاريٌّ، وإنَّما تَفرضُه السلطةُ الدنيوية جَبْرًا على التجار لتُرَتِّبَ عليه مُكُوسًا وضرائبَ ورسومًا لفائدة الخزينة العامَّةِ للدولة، والتاجر إن كان لا مَحيدَ له من ممارسة تجارته إلاَّ بالسِّجلِّ التِّجاري المفروض عليه قَسْرًا، فإنَّ له أن يمارسها به ضرورةً لا دِينًا، وحالُ هذه المسألة كحال التأمين التِّجاري المتضمِّن لعقود الغرر على السيارات وغيرها مع أنَّه لا مناصَ له منه ولو أمَّن بأدنى الأخطار.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 21 رجب 1446ه
الموافق ل: 26 أوت 2005م(10/51)
الفتوى رقم: 827
في اشتراط التأمين على بيع السيارات بالتقسيط
السؤال:
تبيع بعضُ المؤسساتِ السياراتِ بالتقسيطِ الذي أجازه مجموعة من العلماء، من دون اللجوء إلى البنك غير أنها تشترط على المشتري أن يُؤمِّنَ سيارته بأعلى مراتب التأمين، فما حكم شراء السيارة بهذه الكيفية؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فبيعُ السيارة بالتقسيط جائزٌ، إذا كانت السيارةُ والأقساطُ المدفوعةُ معلومةَ الثمنِ والأجل، أمَّا أنواع التأمين التجاري لا تجوز لما تتضمَّنه من الغرر والمقامرة، وقد جاء نهيُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم عن الغرر(1) لكونه يُفضي إلى أكل أموال الناس بالباطل، وعليه فلا ينبغي أن يقترن البيع بمثل هذه الشروط الفاسدة، غير أنه إن أُجبر على التأمين بعد شرائه للسيارة أَمَّنها بأدنى قيمة على الأخطار ضرورة لا دينًا.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 16 المحرم 1429ه
الموافق ل: 24/01/1428م
__________
1- أخرجه مسلم في «البيوع »، باب بطلان بيع الحصاة والبيع الذي فيه غرر: (3881)، وأبو داود في «البيوع »، باب في بيع الغرر: (3376)، والترمذي في «البيوع »، باب ما جاء في كراهية بيع الغرر: (1275)، والنسائي في «البيوع »، باب بيع الحصاة: (4518)، وابن ماجه في «التجارات »، باب النهي عن بيع الحصاة وعن بيع الغرر: (2294)، وأحمد في «مسنده »: (9119)، والدارمي في «سننه »: (2609)، والدارقطني في «سننه »: (2879)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (10720)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(10/52)
الفتوى رقم: 833
في حكم اشتراط الحلول في بيع الحلي المصوغ
السؤال:
هل الذهب المصوغ أو الحليّ سلعة أو ثمن؟
إذا كان من عروض التجارة، فهل يجوز شراؤه بالنقد المتداوَلِ نسيئةً أم يُشترط فيه أن يكون يدًا بيدٍ؟
-وسَدَّد اللهُ إجابتكم-.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالسؤال الثاني فرعٌ مُترتِّبٌ عن السؤال الأوَّل المتمثِّل في حقيقة الحُلي والسبائك وأواني الذهب والفضَّة، هل هي من سلع عروض التجارة أم رؤوس أثمان يجري فيها حكم الربا؟
فالظاهرُ أنَّ الحلي والسبائكَ وأواني الذهب والفضة المعروضة للبيع لم تسقط عنها جوهريةُ الأثمان مهما تغيَّر شكلُها وصورتُها فهي بمَنْزِلة الدراهم المضروبة، ويدلُّ عليه حديثُ عُبادةَ بنِ الصامت رضي الله عنه مرفوعًا:« الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالفِضَّةُ بِالفِضَّةِ، وَالبُرُّ بِالبُرُّ وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالمِلْحُ بِالمِلْحِ، مِثْلاً بِمِثْلٍ، سَوَاءً بِسَوَاءٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ »(1)، ففي إطلاقِ الأصناف السَّتَّة في الحديث من غير تقييدٍ يدلُّ على دخول -في كلِّ صنف- جميع أنواعه فهو عمومٌ شامِلٌ للجيِّدِ والرديءِ، والصحيحِ والمكسَّر، والخالِصِ والمغشوش، والمنقوش، والحُلي والتِّبْرِ، وقد نقل النوويُّ الإجماع على هذا(2)، ثمَّ إنَّ التفاضُلَ في الصفات سواء كان أثرًا لفعل الآدميِّ أو لم يكن لا اعتبار له في تجويز الزيادة والأجل لتبعية ربا النسيئة لربا الفضل فَكُلُّ مَا حَرُمَ فِيهِ التَّفَاضُلُ حَرُمَ فِيهِ النَّسَاءُ، فلو قوبل بها لجاز بيع الجيِّد من الذهب أو الفضَّة بالرديء منها، فلما أبطله الشرعُ دلَّ على مَنْعِ مقابلة الصفات بالزيادة فلا يتغيَّر حُكمُها بتغيُّرِ الصفة ولا الصنعة، ويدلُّ عليه حديثُ فَضَالة بن عُبيدِ رضي الله عنه قال: أُتِيَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، وَهُوَ بِخَيْبَرَ، بِقِلاَدَةٍ فِيهَا خَرَزٌ وَذَهَبٌ -وَهِيَ مِنَ المَغَانِمِ- تُبَاعُ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ بِالذَّهَبِ الَّذِي فِي القِلاَدَةِ فَنُزِعَ وَحْدَهُ. ثُمَّ قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَزْنًا بِوَزْنٍ »(3)، ولا يخفى أنَّ القِلادة من الحُلي وليست نقودًا مع ذلك أوجب النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم التماثلَ في الذَّهَب، فلو كان للصياغة اعتبارٌ لَمَا أبطلَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم عملَ الصائغ في القلادة.
ثمَّ إنَّه من جهةٍ أخرى لولا أنَّ صفةَ جوهريةِ الأثمان لا تفارقها لما حُرِّمَ اتخاذُها للاستعمال والزينة؛ ولأنَّ اتخاذ أواني الذهب والفضَّة يجب فيها الزكاة إن بلغ نِصابًا وكذلك ما اتخذته المرأةُ حُليَّا ليس لها اتخاذه كحلية السيف، أو ما ادخرته من سبائك وحلي لا على وجه الاقتناء فإن فيه الزكاة إجماعًا، أو كان حليَّا مباحًا على الأصحِّ من أقوال أهل العلم، فمتى بلغ مقدار المملوك منهما نصابًا، وحال عليه الحول، وكان مفرغًا عن الدَّين، والحاجات الأصلية وجب فيه الزكاة سواء أكانَا نقودًا أم سبائك أم تِبْرًا، لقوله تعالى: ?وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ? [التوبة: 34] فدلَّ ذلك على أنَّ السبائك والأواني لا يُخرجها شكلُها وصورتُها عن جوهرية الأثمان التي تتَّصف بها الدنانير والدراهم المضروبة ولو كانت معروضة للبيع، ولذلك لا يجوز السَّلَمُ في السبائك والأواني والحلي بالدراهم والدنانير -على الأصحِّ- لأنَّ من شرط المُسْلَمْ فيه أن يكون مؤجَّلاً، وهذا الشرط ينافي شرطَ التقابض في المجلس الواحد في المسائل الربوية. وكذلك عقد الاستصناع سواء مَن جعله نوعًا من السلم وهم من عَدَا الأحناف أو ممَّن اعتبره بيعًا وهم الأحناف فإنَّ أحكام الرِّبا يجب مراعاتها بين الشيء المصنوع والثمن المقابل له.
هذا، ولو اعترض -على ما تقرَّر ذِكْرُهُ- من أنه يجوز الاستصناع في الذهب والفضَّة استدلالاً بفعله صَلَّى الله عليه وآله وسَلَّم من أنه:« اسْتَصْنَعَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ ثُمَّ أَلْقَاهُ، وَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ وَتَبِعَهُ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ وَفَعَلُوا مَا فَعَلَ »(4) فجوابه من جهتين:
الأولى: إنه يحتمل أن يكون حكم الإباحة بفعله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم كان قائمًا في جواز الاستصناع في حلي الذهب والفِضَّة قبل نزول آيات تحريم الرِّبا التي كانت من آخر الآيات التي نزل بها القرآن.
الثانية: إنَّ عقد الاستصناع -خلافًا لعقد السلم- لا يجب فيه تعجيل الثمن، بل يجوز تعجيله وتأخيره إلى وقت القبض أو بعد القبض كما يجوز فيه التقسيط فيحتمل أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم أخَّر الثمن إلى وقت القبض، وأجرى التقابض بين الثمن والمثمن في مجلس واحد، فانتفت فيه صورة الرِّبا المنهي عنها، إذ لا لزوم لعقد الاستصناع إلاَّ بعد تحضير المصنوع على الصفة المشروطة.
والاحتمال الأخير أقرب الوجهين لدفع التعارض بين أقواله وأفعاله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم إذ الواجب درء التعارض بين أدلة الشرع ما أمكن وقد قال عليه الصلاة والسلام:« إِنَّ القُرْآنَ لَمْ يَنْزِلْ يُكَذِّبُ بَعْضُهُ بَعْضًا، بَلْ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَمَا عَرَفْتُمْ مِنْهُ فَاعْمَلُوا بِهِ، وَمَا جَهِلْتُمْ مِنْهُ فَرُدُّوهُ إِلَى عَالِمِهِ »(5).
وعليه، فإن تغير التِّبْرِ والفضَّة وانقلابهما إلى عروض التجارة أو أثمان قيم فإنَّ الرِّبا يجري فيهما ما دام كلٌّ منهما يتَّصف بجوهرية الأثمان أو رؤوس الأثمان ولا يَرِدُ حكم المنع إلاَّ بشرطه فيوجد الحكم كُلَّمَا وُجدت العِلة المتمثِّلة في النقدية أو الثمنية وينتفي بانتفائها على مسلك الطرد والعكس.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 06 رجب 1419ه
الموافق ل: 27 أكتوبر 1998م
__________
1- أخرجه مسلم في «المساقاة »، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدًا: (4063)، وأبو داود في «البيوع »، باب في الصرف: (3350)، والنسائي في «البيوع »، باب بيع البر بالبر: (4561)، والدارمي في «سننه »: (2481)، وابن حبان في «صحيحه »: (5018)، وأحمد في «مسنده »: (22175)، من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
2- «شرح صحيح مسلم » للنووي: (11/10). قال ابن حجر في الفتح: (4/378):« والذهب يطلق على جميع أنواعه المضروبة وغيرها، والورق الفضة... والمراد هنا جميع أنواع الفضة مضروبة وغير مضروبة ».
قلت: ولا يعلم من فرَّق بين أنواع الذهب والفضَّة -في حدود علمي- من جهة جريان أحكام الرِّبا فيها إلاَّ شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله تعالى وقد سُبِقُوا بالإجماع المنقول عن ابن عبد البَرِّ والنووي، قال ابن حجر في «فتح الباري »: (4/380):« ونقل النووي تبعًا لغيره في ذلك الإجماع ».
3- أخرجه مسلم في «المساقاة »، باب بيع القلادة فيها خرز وذهب: (4075)، وأبو داود في «البيوع »، باب في حلية السيف تباع بالدراهم: (3353)، وأحمد في «مسنده »: (23448)، من حديث فضالة بن عبيد الأنصاري رضي الله عنه.
4- أخرجه البخاري في «اللباس »، باب خاتم الفضة: (5528)، والنسائي في «الزينة »، باب طرح الخاتم وترك لبسه: (5292)، وأحمد في «مسنده »: (6295)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
5- أخرجه أحمد في «مسنده »: (6663)، والبيهقي في «شعب الإيمان »: (2258)، والطبراني في «الأوسط »: (3/227)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، والحديث حسنه العراقي في «تخريج أحاديث الإحياء »: (2/285)، والألباني في «المشكاة »: (1/80)، وصحَّحه أحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد »: (11/26).(10/53)
الفتوى رقم: 856
في حكم اكتساب جنسية بالشراء لغرض صحيح
السؤال:
هل يجوز للفتاةِ أن تشتريَ جِنسيةً لبَلدٍ مُسلم، من أجل الدِّراسة في مدرسةٍ خصوصيةٍ، حتى تجتنب المدارسَ المختلطة؟ وجزاكم اللهُ خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالجنسيةُ ليست مَحَلاًّ للبيع والشِّراء لدخولها ضِمْنَ النِّظام العامِّ، وإذا كان الشخصُ لا يستطيع أن يتنازل عن أهلِيَّته أو يزيدَ فيها أو يُنقصَ منها باتفاقٍ خاصٍّ مهما كانت صُورةُ الاتفاقِ فلا يستطيع أيضًا اكتسابَ الجنسيةِ باتفاقٍ خاصٍّ، ويكون المالُ المأخوذُ بناءً على الاتفاق الخاصِّ سُحْتًا ورشوةً، لوقوعه مخالِفًا لهذا المعنى، وفضلاً عن المال المحرَّم المعطى قد يحصل التغييرُ في أوراقِ الميلاد، والتبديلُ في أماكنِ الازدياد ونحوها، لتحقيق هذا الغَرَض بالتزوير، الأمرُ الذي تَعْظُمُ فيه المفسدةُ بسلوك بهذه الطرق غيرِ المشروعةِ.
ولا يخفى أنَّ المفسدة بهذا المنظور تماثلُ بل تفوقُ المفسدةَ الحاصلةَ بالاختلاط، والمعلومُ -جريًا على القواعدِ العامَّةِ- أنّ «المَفْسَدَةَ لاَ تُزَالُ بِمِثْلِهَا » إذ الضررُ يُزال بلا ضرر، ومن بابٍ أَوْلَى إذا كانت تفوقُها، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارٍ »(1).
هذا، والغايةُ إذا كانت مشروعةً ومطلوبةً فينبغي أن تكونَ الوسيلةُ أيضًا؛ لأنَّ «الغَايَةَ لاَ تُبَرِّرُ الوَسِيلَةَ ».
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 26 صفر 1429ه
الموافق 23/02/2008م
__________
1- أخرجه ابن ماجه في «الأحكام » باب من بنى في حقه ما يضرّ بجاره: (2431)، وأحمد في «مسنده »: (2921) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. قال النووي في الحديث رقم (32) من «الأربعين النووية »:« وله
طرق يَقْوى بعضُها ببَعض »، وقال ابن رجب في «جامع العلوم والحكم » (378):« وهو كما قال ». والحديث صحَّحه الألباني في الإرواء: (3/408) رقم (896)، وفي «غاية المرام » رقم (68).(10/54)
الفتوى رقم: 861
في بيان بعض أحكام المضاربة
السؤال:
نرجو من شيخنا -حفظه الله- أن يذكر بعض الأحكام المتعلقة بالمضاربة؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فيمكن ذكر الأحكام المتعلقة بالمضاربة -باختصار- من الحيثيات التالية:
- فمن حيث التسميةُ فإنَّ المضاربة مأخوذةٌ من الضَّرْبِ في الأرض بمعنى السفر، وهي المعاملة على السفر للتجارة طلبًا لرزق الله تعالى، قال الله تعالى ?وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللهِ? [المزّمِّل: 20]، والمضاربة تسمَّى القِراض في لغة أهل المدينة.
• ومن حيث تعريفُها اصطلاحًا هي:« دَفْعُ مَالٍ مَعْلُومٍ لِلعَامِلِ قَصْدَ الاتِّجَارِ بِهَا بِبَعْضِ رِبْحِهِ ». ومعنى التعريف: أن يعطي صاحبُ المال من النقود للعامل قصدَ الاتجار بها، وما يحصل بينهما من الرِّبح فبحَسَب ما يتشارطان عليه، وتعيينُ مِقدار نصيبِ العامل شرطُ صِحَّةِ المضاربة كالمناصفة أو ثُلُثِ الرِّبح، وما إلى ذلك فتقديرُ حِصَّة العامل إنما تكون بالشرط، بينما ربُّ المال فإنه يستحقُّه بماله لا بالشرط. قال ابن المنذر:« أجمعوا على أنَّ العامل أن يشترط على ربِّ المال ثُلُث الرِّبح، أو نصفه أو ما يجتمعان عليه، بعد أن يكون معلومًا، جزءًا من الأجزاء »(1).
- ومن حيث حكمُها فالمضاربةُ جائزة بالإجماع، ومُستند الإجماعِ إقرارُه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم في زمنه من غير نكيرٍ، والمضاربةُ داخلةٌ تحت قوله تعالى: ?وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ? [البقرة: 275]، وهي مشمولةٌ بقوله تعالى: ?تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ? [النساء: 29]، وكذا بأدلةِ جوازِ البيع والإجارةِ والوكالةِ؛ لأنّ المضارِبَ أمينٌ وأجيرٌ ووكيلٌ وشريكٌ -كما قال ابنُ القيم(2)-.
• من حيث أحكامُها -فضلاً عمَّا تقدَّم من أحكامٍ- فإنَّ المضاربةَ تصحُّ مؤقتةً بزمنٍ محدَّدٍ، كما تجوز معلَّقةً على شرطٍ؛ لأنَّ المضاربة تَصَرُّفٌ مأذونٌ فيه، ويجوز تعليقه على شرطٍ مستقبَل، فإنَّ المضارِبَ أمينٌ فإذَا قبضَ المالَ فالواجبُ أن يحافظَ عليه، ويتَّقيَ اللهَ فيما وُكِّلَ فيه، فلا يجوز أن يُنْفِقَ من مال المضاربة على منافعِهِ الخاصَّة -أو نفقات العلاج ونحوه- ولا أن يستعمله لمصلحة المضاربة في أسفاره وتنقلاته إلاَّ بسابق اشتراطٍ على صاحب المال؛ لأنَّ العامل أجيرٌ فيما يُباشرُه بنفسه من العمل، وشريكٌ إذا ظهر فيه الرِّبح فهو يعمل بجزء من ربحه، والزيادة على الربح لا يستحقُّها إلاَّ بشرط، أو جريًا على العادة التي تجري مجرى الشرط عملاً بقاعدة «المَعْرُوفُ عُرْفًا كَالمَشْرُوطِ شَرْطًا ».
والعامل لا يَستحِقُّ من الرِّبح شيئًا إلاَّ بعد كمال رأس المال، وإذا فَسَدت المضاربةُ وبَطَلَتْ فلا يكون للعامل إلاَّ أجرة مثله لاستحقاقه الرِّبح بالشرط، إذ المعلوم أنه إذا فسد المتبوع وهو المضاربة فسد التابع وهو الشرط،؛ لأنَّ «التَّابِعَ تَابِعٌ »، و«إِذَا سَقَطَ الأَصْلُ سَقَطَ الفَرْعُ »، أمَّا ربُّ المال فيكون الرِّبح له إذا ما فسدت المضاربة لأنَّ الربح نماء ماله.
- والمضارِبُ يملك بيع مال المضاربة نقدًا؛ لأنَّ المضارَبة قد انعقدت بقصد التجارة وطلب الرِّبح، والبيع نقدًا من أهمِّ وسائل التجارة، غير أنه من الأمانة أن لا يعمل بمال شخصٍ آخرَ على وجهٍ يضرُّ بصاحب المال الأول إلاَّ إذا أَذِن له، إذ قد يستغرق مالُ العاقد الثاني جُلَّ وقتِ العامل فيُشغِلُه عن المضاربة والاتجار بمال الأوَّل، وخاصَّة إذا كان المالُ كثيرًا، الأمر الذي يؤدِّي إلى الضرر، والضررُ منهي عنه بقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارٍ »(3)، فإن أذن له صاحبُ المال الأول بالعمل بالمال للعاقد الثاني ولم يلحقه ضرر فلا مانع في هذه المضاربة وازدواج عمل العامل.
أمَّا إذا حصل الضرر على صاحب المال الأوَّل فالواجب على العامل ردُّ حِصَّته من الرِّبح في مضاربته مع الثاني إلى شركته مع صاحب المال الأول، فالمضارِبُ الثاني يأخذ نصيبَه من الرِّبح، أمَّا نصيب العامل من الرِّبح فيضُمُّه مع المضاربة الأُولى لاستحقاق المضاربة الأولى المنفعة التي بذلها العامل في المضاربة الثانية، ويكون الربح بينهما بحسَب ما اشترطاه.
هذا، ولما كان الربح المجعول بينهما وقاية لرأس المال فلا يجوز قسمته في المضاربة قبل انتهاء العقد بينهما إلاَّ إذا حصل بينهما تراضٍ، إذ المعلوم أنَّ الربح قد يغطي ما يقع من خسارة في بعض الصفقات التجارية ويؤمنها بالربح، فإذا ما قسَّم المردود ووزع الربح المالي قبل انتهاء عقد المضاربة لم يبق -حالتئذ- رصيد يجبر به الخسارة.
وأخيرًا، ومن منطلق الأمانة -أيضًا- فإنه إن حدث نزاع فإنَّ العامل يُقبَل قوله في دعواه على مقدار الرِّبح والخسارة، وما حصل من تلف وعطب، كما يُقبل قولُه فيما يُبيِّنُه من مشتريات عَقَدَها لنفسه لا للمضاربة، وأخرى أبرمها للمضاربة لا لنفسه؛ لأنه أمينٌ على ما تحت يده من مال المضاربة، فيَضْمَنُ ما تلف منه إذا كان بتعدٍّ بتصرف لا يملكه من عموم التصرُّفات، أو تفريطٍ في حفظه، ولا يضمن إذا لم يَتَعَدَّ ولم يفرِّط إجماعًا(4).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 4 ربيع الأول 1429ه
الموافق ل: 11/03/2008م
__________
1- «الإجماع » لابن المنذر: (111).
2- «زاد المعاد » لابن القيم: (1/154).
3- أخرجه ابن ماجه في «الأحكام » باب من بنى في حقه ما يضرّ بجاره: (2431)، وأحمد في «مسنده »: (2921)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. قال النووي في الحديث رقم (32) من «الأربعين النووية »:« وله طرق يَقْوى بعضُها ببَعض »، وقال ابن رجب في «جامع العلوم والحكم » (378) «وهو كما قال ». والحديث صححه الألباني في «الإرواء » (3/408) رقم: (896)، وفي «غاية المرام » رقم: (68).
4- انظر «الاستذكار » لابن عبد البر: (7/5)، «بداية المجتهد » لابن رشد: (2/236)، «المغني » لابن قدامة: (5/76).(10/55)
الفتوى رقم: 865
في حكم إعادة بيع وصل الإسمنت
السؤال:
ما حكمُ إعادةِ بيع وشراءِ وصلِ الإسمنت. ومثله وصل شراء أجهزة كهرومَنْزِلية من محلاَّت معيِّنة متعاقدة مع الشركة يعطى من طرف الشركة كهدية، في كلِّ هذه الحالات يباع الوصل بزيادة أو نقصان عن القيمة الحقيقية.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فوصل الإسمنت لا تجري فيه أحكام التعامل الصرفي؛ لأنَّه لا يُعدُّ صَكًّا بالنقود، وإنما هو وثيقةٌ معبِّرةٌ عن مقدارٍ مُعيَّنٍ من الإسمنت تكون سَنَدًا لحاملها.
- فإن كان حامل الوصل أخذه بعقدِ بيعٍ دفع ثمنه عِوضًا، فإنَّ للمشتري الحقَّ الماديَّ في مِلكية الكمية المتضمِّنة في الوثيقة الإثباتية التي يتمُّ بها وفاءُ المنتوج الإسمنتي من قبل المصانع أو الشركة المنتِجة له، غيرَ أنَّ صاحبَ الحقِّ الماديّ لا يجوز له شرعًا أن يبيعَ وصله أو وثيقته للمشتري إلاَّ بعد حيازة سِلعته إلى رحله وهو المكان الخاصُّ به، وقد جاء في الحديث:« نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلى اللهُ عَلَيْهِ وآله وسَلَّم أنْ تُبَاعَ السِّلَعُ حَيْثُ تُبْتَاعُ حَتَّى يَحُوزَهَا التُّجَّارُ إلَى رِحَالِهِمْ »(1)، والحديث عامٌّ في كلِّ السِّلع، ويدلُّ عليه قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم في حديث حكيمٍ بنْ حِزام:« إِذَا اشْتَرَيْتَ بَيْعًا فَلاَ تَبِعْهُ حَتَّى تَقْبِضَهُ »(2)، وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قال:« مَنِ ابْتَاعَ طَعامًا فَلاَ يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ »، قال ابن عباس رضي الله عنهما:« وَأَحسب كلّ شيء مثله »(3).
- أمَّا إذا كان حامل الوصل قد تلقَّاه معونةً من شركته أو هبةً أو هديةً من مصنعه من غير أن يشتريَها بعوضٍ ماليٍّ، فإنَّه على أرجح قولي العلماء جواز بيع الوصل بهذه الصفة قبل قبض المنتوج، وهو مذهب المالكية والشافعية؛ لأنَّ النهي في الأحاديث السابقة لا تشمل سوى ما كان مأخوذًا بعقد عوضٍ ماليٍّ، أمَّا هذه الحالة فمختلفة عنها، تحكمها عمومُ أدلَّة الإباحة، إذ «الأَصْلُ فِي التِّجَارَةِ وَسَائِرِ المَكَاسِبِ وَالمُعَامَلاَتِ الحِلُّ وَالجَوَازُ »، بخلاف من اشتراها منه فلا يجوز له أن يبيعَها إلاَّ بعد قبضِها؛ لأنَّ النهيَ متوجِّهٌ له بصفته مُشترٍ لها -كما تقدَّم ذِكره-.
- أمَّا إذا اشترى وَصْلاً بقيمة ماليةٍ ترقُّبا لتحصيل مالٍ أكثر منه مع احتمال تضييع ماله المبذول في هذه المعاملة كما هو الشأن في وصل الرهان الرياضي وغير الرياضي، أو شراء وصلٍ رجاءَ الحصول على سيارة ونحو ذلك فإنَّ هذه المعاملة محرَّمة لكونها معدودةً من المَيْسِرِ، لقوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ? [المائدة: 90].
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 12 ربيع الأول 1429ه
الموافق ل: 19 مارس 2008م
__________
1- أخرجه أبو داود في «سننه » كتاب الإجارة، باب في بيع الطعام قبل أن يستوفي: (3499)، والحاكم في «المستدرك »: (2271)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (10832)، من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه. والحديث حسَّنه ابن القطان في «الوهم والإيهام »: (5/401)، والألباني في «صحيح أبي داود »: (3499).
2- أخرجه أحمد في «مسنده »: (14892)، وعبد الرزاق في «المصنف »: (14214)، والحديث صحَّحه شعيب الأرناؤوط في «تحقيقه لمسند أحمد »: (3/402).
3- أخرجه البخاري في «صحيحه » كتاب البيوع، باب بيع الطعام قبل أن يقبض وبيع ما ليس عندك:(2028)، ومسلم في «صحيحه » كتاب البيوع، باب بطلان بيع المبيع قبل القبض: (3838)، وأبو داود في «سننه » كتاب ، باب في بيع الطعام قبل أن يستوفى: (3497)، والترمذي في «سننه » كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع الطعام حتى يستوفيه: (1291)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.(10/56)
الفتوى رقم: 891
في اشتراط الإيواء إلى الرحال في المعقود عليه بمعاوضة
السؤال:
لقد ورد النهي عن بيع السلع في المكان الذي اشتريت منه حتى تُحاز إلى الرحل، لكن سمعنا من البعض أن المشتري إذا ضمن أي تلف قد يلحق بها جاز له أن يبيعها في مكانها ولا ينقلها إلى رحله، وما الجواب على من قصر أدلة النهي على الطعام قبل قبضه وإباحته في ماعدا الطعام، فهل هذا صحيح؟ وجزاكم الله خيرا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فاعلم أنًَّ مِنْ شروط المبيع المعقود عليه أن يكون مقبوضًا إن كان قد استفاده بمعاوضة؛ لأنّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« نَهَى أَنْ تُبَاعَ السِّلَعُ حَيْثُ تُبْتَاعُ حَتَّى يَحُوزَهَا التُّجَارُ إِلَى رِحَالِهِمْ »(1)، ولما روى ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قال:« مَنِ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلاَ يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ »، قال ابن عباس:« لا أحسب كُلَّ شيء إلاَّ مثله »(2)، فهذه الأحاديث وغيرها عامَّة في النهي وهي شاملة لكلِّ السلع المعقود عليها، وتدلُّ على فساد المنهى عنه، وهو مذهب الجمهور.
هذا، ولا يصلح قصر النهي على الطعام قبل قبضه وإباحته فيما عداه عملاً بتخصيص عموم النهي بحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« اشترى من عمر بَكْرًا كان ابنه راكبًا عليه، ثمَّ وهبه لابنه قبل قبضه »(3)، أو بحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم اشترى من جابرٍ رضي الله عنهما جَمَله، وقال:« فَلَمَّا بَلَغْتُ أَتَيْتُهُ بِالجَمَلِ فَنَقَدَنِي ثَمَنَهُ، ثُمَّ رَجَعْتُ فَأَرْسَلَ فِي أَثَرِي فَقَالَ:« أَتُرَانِي مَاكَسْتُكَ لآخُذَ جَمَلَكَ، خُذْ جَمَلَكَ وَدَرَاهِمَكَ فَهُوَ لَكَ »(4)، فالظاهرُ من كِلا الحديثين أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قد تصرَّف في المبيع بالهبة قبل قبضه.
فجوابه: أنَّ غايةَ ما في الحديثين جواز التصرُّف في المبيع قبل قبضه بالهبة بغير عِوض، ولا يصلح إلحاقه بالبيع وسائر التصرُّفات؛ لأنَّ البيع معاوضة بعوض، وكذا الهبة بعوض، أمَّا الهبة الواقعة من النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم فليست على عِوض فافترق الأمران، وإنما يمكن إلحاق كُلِّ التصرفات التي لا عوض فيها بالهبة، وجواز التصرُّف فيها قبل قبضها وحيازتها دون التصرفات بعوض كالبيع، وبذلك تجتمع الأدلة وتتَّفق ولا تختلف، ويشهد لذلك الإجماعُ على صِحَّة الوقف والعِتق قبل القبض، لكونهما من التصرفات التي لا عوض فيها.
وأجود تعليلٍ للنهي عن البيع قبل القبض هو إفضاء التصرُّف إلى الرِّبا، ووجهُهُ: أنه إذا باع المشتري قبل القبض، وتأخر المبيع في يد البائع يكون قد باع دراهم بدراهم متفاضلة، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما:« دَرَاهِمُ بِدَرَاهِمَ وَالطَّعَامُ مُرْجَأٌ »(5)، وبيَّن ذلك فيما أخرجه مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لما سأله طاوس: ألا تراهم يتبايعون بالذهب والطعام مرجَأٌ؟(6) قال الشوكاني:« وذلك لأنه إذا اشترى طعامًا بمائة دينار ودفعها للبائع ولم يقبض منه الطعام، ثمَّ باع الطعام إلى آخر بمائة وعشرين مثلاً فكأنه اشترى بذهبه ذهبًا أكثر منه، ولا يخفى أنَّ مثل هذه العِلة لا تنطبق على ما كان من التصرفات بغير عوض.. لأنَّ الصحابة أعرف بمقاصد الرسول صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم »(7).
هذا، وإن كان مذهب بعض أهل العلم عدم اشتراط الإيواء إلى الرحال -كما ذكره ابن حجر- بل يكفي عندهم- فيه القبض؛ لأنَّ الحديث خرج مخرج الغالب الأعمِّ فلا مفهومَ له، إلاَّ أنَّ هذا القولَ يخالف ظاهرَ الحديث الذي يدلُّ على أنه لا يكفي مجرَّد القبض بل لا بُدَّ من تحويله إلى المكان الخاصِّ به، وتدلُّ عليه الرواية الأخرى:« حَتَّى يُحَوِّلُوهُ »(8)، وكذلك رواية ابن عمر:« حَتَّى يَنْقُلُوهُ »(9)، والأحوط التمسُّك بهذه النصوص الصريحة لمكان التعليل السابق.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 17 ربيع الثاني 1429ه
الموافق ل: 23/04/2008م
__________
1- أخرجه أبو داود في «سننه » كتاب الإجارة، باب في بيع الطعام قبل أن يستوفي: (3499)، والحاكم في «المستدرك »: (2271)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (10832)، من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه. والحديث حسَّنه ابن القطان في «الوهم والإيهام »: (5/401)، والألباني في «صحيح أبي داود »: (3499).
2- أخرجه البخاري في «صحيحه » كتاب البيوع، باب بيع الطعام قبل أن يقبض وبيع ما ليس عندك:(2028)، ومسلم في «صحيحه » كتاب البيوع، باب بطلان بيع المبيع قبل القبض: (3838)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
3- أخرجه البخاري في «صحيحه » كتاب البيوع، باب إذا اشترى شيئا فوهب من ساعته قبل أن يتفرقا...(2009)، وابن حبان في «صحيحه »: (7073)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
4- أخرجه مسلم في «صحيحه » كتاب المساقاة، باب بيع البعير واستثناء ركوبه: (498)، وأبو داود في «سننه » كتاب الإجارة، باب في شرط في بيع: (3505)، والنسائي في «سننه » كتاب البيوع، باب البيع يكون فيه الشرط فيصح البيع والشرط: (4637)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
5- أخرجه البخاري في «صحيحه » كتاب البيوع، باب ما يذكر في بيع الطعام والحكرة: (2025)، وأحمد في «مسنده »: (2275)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
6- أخرجه مسلم في «صحيحه » كتاب البيوع، باب بطلان بيع المبيع قبل القبض: (3839)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
7- «نيل الأوطار » للشوكاني: (6/298).
8- أخرجه مسلم في «صحيحه » كتاب البيوع، باب بطلان بيع المبيع قبل القبض: (3846)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
9- أخرجه البخاري في «صحيحه » كتاب البيوع، باب ما ذكر في الأسواق: (2017)، وأبو داود في «سننه » كتاب الإجارة، باب في بيع الطعام قبل أن يستوفي: (3494)، والنسائي في «سننه » كتاب البيوع، باب بيع ما يشترى من الطعام جزافا قبل أن ينقل: (4607)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.(10/57)
الفتوى رقم: 894
في معنى الخيار وأقسامه
السؤال:
يذكر العلماء كثيرًا في باب البيوع لفظةَ «الخيار »، ولذا نرجو من شيخنا -حفظه الله- أن يوضِّح المقصود منه؟ وبعضَ أنواعه؟ وجزاه الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالخِيارُ:« هو طَلَبُ خَيْرِ الأَمْرَيْنِ مِنَ الإِمْضَاءِ أَوْ الفَسْخِ وَالإِلْغَاءِ »، بمعنى أنَّ العاقد مُخيَّر بين هذين الأمرين، إن كان الخيارُ خيارَ شرطٍ أو رُؤية أو عيب أو تدليس... أو يختار أحدَ المبيعين إن كان الخيار خيار تعيين(1).
والأصلُ في عقد البيع أن يكون لازمًا متى استكمل شرائطَه، ومعنى اللزوم: أن لا يستطيع أحدُ المتعاقدين التحلُّلَ من قَيده بعد تمام العقد ولا تعديلَه؛ لأنَّ الوفاء بالعقود واجبٌ شرعًا لقوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الْذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ? [المائدة: 1]، إذ أنَّ الرجوعَ فيه تغييرٌ للوضع الحقوقي الذي استقرَّ عليه المتعاقدان، وأنَّ إرادة أحدِ المتعاقدين غيرُ كافيةٍ في نقض هذا الوضع أو تعديله، إلاَّ إذا تطابقت إرادتَا المتعاقدَين على التحلُّل منه، أو تعديله عن طريق التراضي كركن أساسي وجوهريٍّ في العقود من جهة، أو بسبب الأحكام التي يقرِّرها الشرعُ من جهة أخرى.
ومن هنا يتجلَّى بوضوحٍ مصدرُ الخيارات المشروعة استثناء من اللزوم في العقود، ويتمثَّل هذا المصدر في:
- اتِّفاق العاقدين، كخيار الشرط مثلاً.
- وفي حكم الشرع كخيار التدليس والرؤية مثلاً.
هذا، وقد شُرعت الخيارات لحِكمةٍ جليلةٍ، مُتَجلِّيةٍ في حِفظ مصلحةِ المتعاقدين وضمانِ رضاهما، وفي دفع الضرر الذي قد يلحق أحدَ العاقدين، وعلى ذلك مَنَحَ الشارع لهذا العاقد فرصةً يحتاط فيها لنفسه متداركًا فيها ما قد يفوته ويندم عليه، ومع هذا كلِّه لم يُطلق الشارع أمرَ الخيار، بل قَيَّده بشروطٍ حفاظًا على قيمة العقد كي لا يتعرَّض للنقض والإبطال من غير سببٍ صحيحٍ.
والخيار ينقسم -بحسَب الاستقراء- إلى أنواعٍ متعدَّدة، يمكن حصر الكلام في ستَّة أنواعٍ منها:
1- خيار المجلس: وهو أن يكون لكلٍّ من العاقدين حقّ فسخ العقد بعد تمامه ما داما في مجلس العقد لم يتفرَّقا عنه.
2- خيار الشرط: وهو أن يشترط أحد المتعاقدين أو كلاهما الخيارَ لنفسه في فسخ العقد أو إمضائه خلال مُدَّةٍ معلومةٍ، أو يخيِّر أحدهما الآخرَ في مجلسِ العقد فيختار إمضاء العقد ولزومه.
3- خيار الغَبن: وهو عدم التعادل والتساوي بين ما يعطيه العاقد وما يأخذه، والمراد بالغَبن في هذه الصورة المسترسِل: وهو من جهل القيمةَ، ولا يُحسِنُ المماكسةَ من بائع ومشتر، فيحصل له الغَبن لجهله بالبيع، فهو شبيه بالقادم من سفر، ويلاحظ -أيضًا- أنَّ المقصود بالغَبن الذي لا يخرج عن العادة أو عن المعروف في السوق، وله صُوَرٌ أخرى منها خيار تلقِّي الركبان، وخيار النَّجش.
4- خيار التدليس: وهو أن يدلِّس البائع على المشتري ما يزيد به الثمن، فيَحِقُّ للمشتري فسخَ البيع على نحو ما ورد في حديث المصرّاة(2).
5- خيار العيب: وهو أن يكون لأحد العاقدين الحقُّ في فسخ العقد أو إمضائه إذا وجد عيبًا في أحد البَدَلَين، ولم يكن صاحبه عالمًا به وقت العقد.
6- خيار الرؤية: وهو أن يكون للمشتري حقُّ فسخ العقد أو إمضائه عند رؤية المعقود عليه، إذا كان المبيع معلومًا لكن لم يشاهد عند إنشاء العقد أو قبله بوقت لا يتغيَّر فيه عادة.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 25 ربيع الثاني 1429ه
الموافق ل: 1 ماي 2008م
__________
1- خيار التعيين: هو أن يكون للعاقد حقّ تعيين أحد الأشياء الثلاثة المختلفة في الثمن والصفة المذكورة في العقد: وعند التعيين يصير المعقود عليه معلومًا بعد أن كان مجهولاً نسبيًا، وهو مختلف فيه، فمنعه الشافعي وأحمد وزُفَر من الحنفية، وأجازه أبو حنيفة وصاحباه، «تبيين الحقائق » للزيلعي: (2/27)، «البدائع »: (261).
2- عن أَبي هريرة رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قَالَ:« لاَ تُصَرُّوا الإِبِلَ وَالغَنَمَ، فَمَنِ ابْتَاعَهَا بَعْدُ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْتَلِبَهَا، إِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَصَاعَ تَمْرٍ » متّفق عليه: البخاري: (2041)، ومسلم: (3830)، ولمسلم: (3832) «فَهُوَ بِالخِيَارِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ».(10/58)
الفتوى رقم: 907
في حكم بيع التورق
السؤال:
يَرِدُ كثيرًا في كتب العلماء جملة «بيع التورق »، فما هي صورته؟ وما هو حكمه؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فصورةُ مسألة بيع التورُّق هي عند قيام الحاجة إلى مالٍ وتعذُّر الاقتراض يقوم المحتاج بشراء سلعةٍ تساوي ألفَ دينارٍ حالاً بألفٍ وعشرين دينارًا نسيئةً لغير قصد الانتفاع بها، وإنَّما ليبيعَها المشتري من آخرَ بما يساويها حالاً،( أي: بألف دينار)، فينتفعَ بثمنها؛ لأن غرضه الورق أي الدراهم لا السلعة.
وقد اختلف العلماء في حكم بيع التورُّق بين مجيزٍ ومانعٍ، والجواز هي الرواية الأولى عن الإمام أحمد، مستدلِّين بحديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِي رضي الله عنه قَالَ:« جَاءَ بِلاَلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم بِتَمْرٍ بَرْنِيٍّ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« مِنْ أَيْنَ هَذَا »؟ قَالَ بِلاَلٌ: كَانَ عِنْدَنَا تَمْرٌ رَدِيءٌ، فَبِعْتُ مِنْهَ صَاعَيْنِ بِصَاعٍ لِمَطْعَمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم عِنْدَ ذَلِكَ:« أَوِّهٍ أَوِّهٍ، عَيْنُ الرِّبَا، عَيْنُ الرِّبَا، لاَ تَفْعَلْ، وَلَكِنْ إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَشْتَرِيَ فَبِعِ التَّمْرَ بِبَيْعٍ آخَرَ، ثُمَّ اشْتَرِ بِهِ »(1)، خلافًا للرواية الأخرى القائلة بأنَّ بيع التورُّق مكروه، وهذا الحكم مرويٌّّ عن ابن عباسٍ وعمر بن عبد العزيز، وهو قول مالك(2)، والمراد بالمكروه في بيع التورق إنما هو الكراهة التحريمية، لما نقله ابن تيمية عن عمر بن عبد العزيز من أنَّ التورُّق آخِيَّةُ الرِّبا، أي: أصل الربا. ويمكن ترجيحُ القولِ بالمنع إذا ما تقيَّد البيعُ بمقصود المتعاقد للوصول إلى الرِّبا عن طريق هذه المعاملة سدًّا لذريعة المحرَّم، وهي صورةٌ تتحقَّق غالبًا عند الحاجة إلى الدراهم مع تعذُّر الاقتراض، وإلاَّ فالظاهرُ أنَّ الرواية الأولى أقوى؛ لأنَّ عموم النصوص تدلُّ على الجواز؛ ولأنَّه لا فرق في مقصود المشتري بين أن ينتفع بالسلعة من استهلاكٍ أو استعمالٍ أو تجارةٍ وبين أن يشتريها لينتفع بثمنها، وليس فيه محذورٌ شرعيٌّ قائمٌ، ولا تحيُّلٌ على الرِّبا بوجهٍ من الوجوه، لذلك وجب الرجوعُ إلى الأصل وهو الحلُّ والإباحة، الذي تقتضيه النصوص العامَّة والاعتبار.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 14 جمادى الأولى 1429ه
الموافق ل: 19 ماي 2008م
__________
1- متفق عليه: أخرجه البخاري في «صحيحه » كتاب الوكالة، باب إذا باع الوكيل شيئًا فاسدًا فبيعه مردود: (2188)، ومسلم في «صحيحه » كتاب المساقاة، باب بيع الطعام مثلاً بمثلٍ: (4083)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
2- «بداية المجتهد » لابن رشد: (2/162).
3- «مجموع الفتاوى »: (29/442-446)، «الاختيارات الفقهية »: (129).(10/59)
الفتوى رقم: 937
في حكم تهريب البضائع
السؤال:
ما حكمُ تهريب السِّلَع عن الجمارك والضرائب والمشاركة مع المهرِّبين أو الإرسال معهم، خاصة مع تفشي البطالة، وعدم توفر مناصب العمل؟ وهل تجوز التجارة فيها بعد دخولها أو خروجها من مناطق الحدود؟ أفيدونا -جزاكم الله خيرًا-.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فإنَّ دولة بلدٍ إذا منعت إدخال المواد المهرَّبة أو تهريبها إلى بلدان مجاورة تحقيقًا للمصلحة العامَّة للمسلمين فإنَّه لا يجوز مخالفة الحاكم بالإقدام على التهريب أو المشاركة مع الممارسين له، أو الإرسال معهم البضائع والسلع؛ ذلك لأنَّ «تصرف الحاكم منوط بالمصلحة» يقتضي عدم مخالفته خاصة إذا كانت المواد المهربة غير مرخَّص فيها تُلحِق ضررًا مستَنْزِفًا باقتصاد الأُمَّة من جهة، فضلاً عن نوع ضرر المواد المستجلبة أو رداءة المنتوج المهرب، ونحو ذلك ممَّا يؤثِّر بطريقٍ أو بآخرَ في المنتجات المحلية بشكلٍ يُسبِّب إخلالاً في مناصب العمل، وزعزعة العلاقات الاجتماعية.
وهذا كلُّه إذا ما روعيت في الجانب الاقتصادي مصلحة الأُمَّة، والمحافظة على استقرارها بتنظيم طرق استيراد البضائع وتصديرها على وجهِ عدلٍ يخدم المسلمين، فإنَّ الواجب الطاعة في المعروف.
أمَّا إذا انتفت دوافع تحقيق المصلحة العامَّة، وحلَّت محلَّها دوافع المنع القائمة على تحقيق مصالح الأشخاص وأصحاب النفوذ في الاستحواذ على الأسواق، واحتكار المنتوجات، والاستبداد بالأسعار، والإضرار بالمستهلك، وخلت طرق الاستيراد والتصدير من أي تنظيم عادل يخدم به مصلحة المسلمين، فإنَّ الأَوْلى ترك التهريب والتجاوز مع المهربين لما فيها من تعريضٍ بالنفس للخطر والإذلال والإهانة والتحقير، وتعريضٍ بالأموال للتلف والمُصَادَرَة والضياع، والمعلوم أنَّ المحافظة على النفس والمال والعِرْض من مقاصد الشريعة التي أُمِرْنَا أن نحافظ عليها.
هذا، وحكم التجارة بالسلع المهربة إذا كانت غير محرَّمة في ذاتها، ولا تخدم الرذيلة، وليست محلاًّ لمصادرتها إذا ما وجدتها المصالح المعنية في السوق فإنه لا بأس بالمتاجرة فيها خاصَّة مع التبرير السابق من إحداث عمل مُلحٍّ وامتصاص حجم البطالة.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 18 شعبان 1429ه
الموافق ل: 19 أوت 2008م(10/60)
الفتوى رقم: 945
في الشرط الفاسد
السؤال:
تشترطُ بعض الجهات التجارية على الزبائن عدمَ بيعِ مشترياتها إلاَّ بعد انقضاء خمس سنوات من تاريخ البيع؟ فما حكم هذه المعاملة؟ وجزاكم اللهُ خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فالمعلومُ أنَّ كُلَّ شَرْطٍ لا يُخالِفُ حكمَه ولا يناقضُ كتابَه فهو لازمٌ بالشرط، إذ «الأَصْلُ فِي العُقُودِ وَالشُّرُوطِ الجَوَازُ وَالصِّحَةُ»، وكلُّ شرطٍ خالفَ حُكم اللهِ وناقض كتابَه فهو باطلٌ، كائنًا مَن كان سواء وضعه الحاكم أو القاضي أو المفتي أو غيرهم، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، كِتَابُ اللهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللهِ أَوْثَقُ»(1)، ولقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «المُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ إِلاَّ شَرْطًا حَرَّمَ حَلاَلاً أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا»(2).
وعليه، فاشتراط البائع -بغضِّ النظر عن صفته- شرطًا يمنع المشتري من أحد حقوق الملكية كحقِّ التصرُّف أو حقِّ الانتفاع كأَنْ يشترط أن لا يبيع المبيعَ أو أن لا يَهَبَهُ أو أن يُحِدَّ من الانتفاع به، يُعَدُّ شرطًا باطلاً مُنافيًا لمقتضى العقد، فليس للمشترِط أن يُبيحَ ما حَرَّم اللهُ، ولا يُحرِّمَ ما أباحه اللهُ، ولا أن يشترط شرطًا مخالفًا لمقتضى العقد، فإِنِ اشترط فشرطُه باطلٌ والبيعُ صحيحٌ.
هذا كُلُّه في ملكية المنقول الذي لا يحتاج إلى توثيقٍ رسميٍّ لانتقال الملكية، أمَّا العقار أو ما في حكمه من سيارات ووسائل النقل التي تستوجب توثيقًا رسميًّا بالنظر لأهمية العقار وخطورته لئلاَّ يتعرض للنقض والإبطال من غير سبب صحيح فليس للمشتري -والحال هذه- الإقدام على شرائها لتعذُّر نقل الملكية إليه، وبقائها عند البائع حتى تنقضي المدَّة المفروضة.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 28 شعبان 1428ه
الموافق ل: 29 أوت 2008م
__________
1- أخرجه البخاري في «صحيحه» كتاب البيوع، باب إذا اشترط شروطا في البيع لا تحل: (2060)، ومسلم في «صحيحه» كتاب العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق: (3779)، بلفظ: « مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ...» وأخرجه ابن ماجه في «سننه» كتاب العتق: (2521)، بلفظ: « كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ...»، من حديث عائشة رضي الله عنها. وانظر: في «إرواء الغليل» للألباني: (5/152).
2- أخرجه الترمذي في «سننه» كتاب الأحكام، باب ما ذكر عن رسول الله في الصلح بين الناس: (1352)، والدارقطني في «سننه»: (3/27)، والبيهقي في «السنن الكبرى»: (6/79)، من حديث عمرو بن عوف رضي الله عنه. قال ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (29/147): « وهذه الأسانيد وإن كان الواحد منها ضعيفاً فاجتماعها من طرق يشد بعضها بعضاً»، والحديث صححه بمجموع طرقه الألباني في «الإرواء»: (1303).(10/61)
الفتوى رقم: 954
حكم بيع المصحف
السؤال:
قرأت كلاما لابن عمر رضي الله عنهما بخصوص بيع المصحف أنه يمنعه، حيث قال: «لَوَدِدْتُ أَنَّ الأَيْدِي قُطعَتْ في بَيْعِ المصْحَفِ»(1) وأنه كان يمر بأصحاب المصاحف فيقول: «بئس التجارة» (2) وقد روى عبد الله بن شقيق قال: «كَانَ أَصْحَابُ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَكْرَهٌونَ بَيْعَ المصَاحِفِ» (3) فهل معنى هذه الآثار عدم جواز بيع المصاحف؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالصحيح من أقوال المذاهب جواز بيع المصحف للمسلم وعدم جوازه لغير المسلم لعموم الأدلة القاضية بجواز التجارة والبيع، منها قوله تعالى: ?وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا? [البقرة: 275]، وقوله تعالى: ? إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ ? [النساء: 29]، ويُستصحب هذا الأصل ما لم يرد دليل مفصِّل من الشرع يقضي بتحريمٍ أو كراهةٍ، قال تعالى: ?وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ? [الأنعام: 119]، ولو ورد التفصيل في تحريمه لحفظه الله تعالى حتى تقوم به الحجة، قال تعالى: ?وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً? [مريم: 64]، ويُلحق بيع المصحف -من جهة القياس- بسائر الأموال الطاهرة المُنتفَع بها في جواز البيع والشراء.
أمّا الآثار الواردة في السؤال فإنها إن صحَّت فهي معارِضة لعموم أدلة جواز البيع، لذلك يُحمل الحكم فيها على التجارة بالمصاحف على وجه الابتذال المنافي للتعظيم المخل بشرف المصحف، المهينُ بمنزلة كلام الله سبحانه وتعالى.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر 14 من ذي القعدة 1429ه
الموافق ل: 12 نوفمبر 2008م
__________
1- أخرجه عبد الرزاق في المصنف: (8/90) رقم: (14604)، وابن أبي شيبة في «المصنف»: (4/287) رقم: (20209)، عن ابن عمر رضي الله عنهما. والأثر ضعفه الألباني في «الإرواء»: (5/137)، وصححه زكريا بن غلام قادر الباكستاني في «ما صح من آثار الصحابة في الفقه»: (2/906).
2- أخرجه عبد الرزاق في المصنف: (8/90) رقم: (14608)، والبيهقي في «السنن الكبرى»: (6/16) رقم: (10852)، والبغوي في «حديث علي بن الجعد»: (1/328)، رقم: (2245)، عن ابن عمر رضي الله عنهما.
3- أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى»: (6/16) رقم: (10853)، عن عبد الله بن شقيق رحمه الله، والأثر صححه النووي في «المجموع شرح المهذب»: (10/388).(10/62)
الفتوى رقم: 960
في شراء الأموال المحجوزة مصادرة
السؤال:
هل يجوز شراء ما صادرته الدولة من السلع والبضائع المهربة بالمزاد العلني؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالبضائعُ والسِّلعُ ومختلَفُ الأموالِ غير المرخَّص فيها التي أخذتها الدولة من أصحابها مصادرةً، سواء كان تبريرُ مصادرتها مصبوغًا بالشرعية من تحقيق المصلحة العامَّة للأُمَّة، والمحافظة على استقرارها اقتصاديًّا واجتماعيًّا، أو تجرَّدت مُصادَرتها من أي صبغةٍ شرعية، فإنَّ الحيطة الدِّينية تقتضي اتقاءَ المشاركة في التجارة على ممتلكات الغير، سواء بالمزاد العَلَني أو السِّرِّي، خشيةَ الوقوع في أكلِ أموال الناس بالباطل المحرَّم بنصِّ قولِه تعالى: ?وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ? [البقرة: 188]، وقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «كُلُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ»(1).
وتفصيل تعليل ترك التجارة فيها لا يخرج عن ثلاث حالات:
- الحالة الأولى: أن تكون مصادرة الدولة لأملاك الناس بغير سببٍ شرعيٍّ، فإنَّ شراء البضائع المهرَّبة -والحال هذه- يُعَدُّ شراء المغصوب من الغاصب، سواء كانا شخصين طبيعيين أو شخصين معنويين أو أحدهما طبيعيًّا والآخر معنويا اعتباريًّا.
- الحالة الثانية: أن تكون مصادرةُ الدولة لأملاكهم عقوبةً استحقاقية يشفع لها مذهب المجوِّزين للعقوبة التعزيرية المالية، فإنَّ المواضع المخصوصة للتعزير بالمال ليس فيها ما يجيز للحاكم أن يسلب الناسَ أموالهم بما في يده من سلطة التعزير.
وأقوى الأقوال في التعزير المالي منع هذه العقوبة لما فيها من التعدِّي على حقِّ المسلم المالي ممَّا لا يرضاه الله تعالى إلاَّ في حدود ما جاءت به النصوص من الجواز، وهي تكاد أن تكون محصورة في مواضع ثلاثة: الإتلاف، والتغيير، والتغريم، والمطلوب في هذه المسألة منتف.
هذا، وعلى تقدير أنَّ المسألة خلافية فإنَّ ترك الشراء وعموم التجارة فيما فيه شبهة الحرام أحوط للدِّين وأبرأ للذِّمَّة، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الحَرَامِ»(2).
- الحالة الثالثة: إذا كان صاحب المتاع المحجوزِ مصادرةً يأذن لغيره شراء بضاعته بطيب نفسٍ منه، أو يتنازل له فيها فجائز لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «لاَ يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ»(3).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 19 شعبان 1429ه
الموافق ل: 20 أوت 2008م
__________
1- أخرجه مسلم في «صحيحه» كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه: (6706)، وأبو داود في «سننه» كتاب الأدب، باب في الغيبة: (4884)، والترمذي في «سننه» كتاب البر والصلة، باب ما جاء في شفقة المسلم على المسلم: (2052)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2- أخرجه البخاري في «صحيحه» كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه: (50)، ومسلم في «صحيحه» كتاب المساقاة: (4094)، وأبو داود في «سننه» كتاب البيوع، باب في اجتناب الشبهات: (3330)، والترمذي في «سننه» كتاب البيوع، باب: ما جاء في ترك الشبهات: (1205)، وابن ماجه في «سننه» كتاب الفتن، باب الوقوف عند الشبهات: (3984)، والدارمي في «سننه»: (2436)، وأحمد في «مسنده»: (17907)، من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.
3- أخرجه أحمد في «مسنده»: (21237)، والدارقطني في «سننه»: (300)، والبيهقي في «السنن الكبرى»: (11877)، من حديث أبي حرة الرقاشي، والحديث صححه الألباني في «الإرواء»: (5/279).(10/63)
الفتوى رقم: 962
في بيع الغاصب
السؤال:
اشترى رجلٌ قطعةَ أرضٍ، ودفع للبائعِ عُربونًا، ومَلَّكه الأرضَ، وتأخَّر التوثيق الرسميُّ للبيع، وبعد مُدَّةٍ عَلِم المشتري أنَّ صاحب القطعة الأرضية باعها بيعًا آخر لمشترٍ آخر، فهل تصرُّفه هذا يُعَدُّ صحيحًا؟ وما هو الموقف الشرعيُّ في مثل هذه المعاملات؟ وجزاكم اللهُ خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فإذا حصل الاتفاقُ بين البائع والمشتري على وجهِ التراضي على عقدٍ مباحٍ معلومٍ للطرفين، ومقدور التسليم، فإنَّ العقد يصبح لازمًا بعد التفرُّق بالأبدان، والواجبُ على كلِّ واحدٍ الوفاءُ بالتزامه، لقوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ? [المائدة: 1]، والعقودُ عهودٌ، والله تعالى قال: ?وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً? [الإسراء: 34]، ولا يمكن لأحد الطرفين التحلُّل منه إلاَّ بعقدٍ جديدٍ آخر يجري بين الطرفين يأتي لاحقًا عن العقد الأول، ويستوي في الحكم السابق العقار والمنقول خلافًا لما عليه التقنين الوضعي من أنَّ العقار لا ينتقل إلاَّ بعقدٍ رسميٍّ مُوَثَّقٍ.
وإذا صرف النظر إلى الجانب الشرعي، ولم يتم بين الطرفين فسخ العقد، فملكية المشتري تبقى قائمة، ولا يجوز للبائع التصرُّف في ملكِ الغير إلاَّ بإذن صاحبه، ويدخل تصرف البائع في تصرف الغاصب الذي باع ملك غيره -جبرًا- من غير أن يكون مالكًا ولا مأذونًا له فيه، وفي حديث حكيم بن حزام جاء إلى النبي صَلَّى الله عليه وآله وسلم فقال: إِنَّهُ يَأْتِينِي الرَّجُلُ يَسْأَلُنِي البَيْعَ لَيْسَ عِنْدِي فَأَبِيعَهُ مِنْهُ، ثُمَّ أَبْتَاعُهُ مِنَ السُّوقِ، فَقَالَ: «لاَ تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ»(1)، فيدلُّ الحديث على أنَّ المبيعَ إذا تصرَّف فيه العاقدُ بالبيع وهو ليس مالكًا له أو ليس عنده وقتَ العقد فإنَّ البيع لا يصحُّ شرعًا، ومردودٌ عليه.
أمَّا المشتري الثاني فالأصل أن لا يبيع على بيع أخيه، ومِن بابٍ أَوْلَى يحرم شراء ملكيته من غير علم المالك وإذنه، وينتفي عنه الإثم إن لم يحصل له العلم، لكن عقده يقع باطلاً من الناحية الشرعية، وللمشتري المالك أن يستردَّ أرضَه وملكَه لأحقِّيَّته بها، فإن انتزعها من يد المشتري الثاني بالبيِّنة رجع هو بالثمن على البائع الغاصب(2)، واشتراط الكتابة الرسمية في التقنين الوضعي إنما اتخذ في العقود على وجه الاحتياط حفاظًا على قيمة العقد، لكيلاَ يتعرَّض للنقض من غير سببٍ صحيحٍ من جهة، وتشكل الكتابة الرسمية والتوثيق بالدرجة الأولى -من جهة أخرى- موردًا ماليًّا للخزينة العامَّة عن طريق رسوم العقود المدفوعة، الأمر الذي لا ينفي صِحَّة انعقاد البيع شرعًا بدون الإجراء التوثيقي.
هذا، وإذا كانت الجهات القضائية لا تأخذ بعين الاعتبار الجانب الشرعي لهذه المسألة، ولا تعين المستحِقَّ في استرداد حَقِّهِ بالمنظور الشرعي، فإنَّ لصاحب الحقِّ الحالات التالية:
الحالة الأولى: أن يُقِرَّ المشتري الأول حيازةَ المشتري الثاني على أرضه، ويعود الأول على البائع الغاصب.
الحالة الثانية: للمشتري الأول أن يستردَّ أرضَه، ويعود المشتري الثاني بالثمن على البائع الغاصب، إن قَبِلَ التحاكم إلى الشرع، لقوله صَلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «إِذَا كَانَ الَّذِي ابْتَاعَهَا مِنَ الَّذِي سَرَقَهَا غَيْرُ مُتَّهَمٍ يُخَيَّرُ سَيِّدُهَا فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الَّذِي سُرِقَ مِنْهُ بِثَمَنِهَا وَإِنْ شَاءَ اتَّبَعَ سَارِقَهُ»(3).
قال الخطابي: «هذا في الغصوب ونحوها إذا وجد ماله المغصوب والمسروق عند رجل كان له أن يخاصمه فيه ويأخذ عين ماله منه، ويرجع المأخوذ منه على من باعه إياه»(4).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في : 25 جمادى الثانية 1429ه
الموافق ل: 29 جوان 2008م
__________
1- أخرجه أبو داود في «سننه» كتاب الإجارة، باب في الرجل يبيع ما ليس عنده: (3503)، والترمذي في «سننه» كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك: (1232)، والنسائي في «سننه» كتاب «البيوع»، باب بيع ما ليس عند البائع: (4613)، وابن ماجه في «سننه» كتاب «التجارات»، باب النهي عن بيع ما ليس عندك: (2187)، وأحمد في «مسنده»: (15705)، من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه، والحديث صحَّحه ابن الملقن في «البدر المنير»: (6/448)، والألباني في «الإرواء»: (1292).
2- «شرح السنة» للبغوي: (8/232).
3- أخرجه النسائي في «سننه» كتاب «البيوع»، باب الرجل يبيع السلعة فيستحقُّها مستحقّ: (4680)، وعبد الرزاق في «المصنف»: (18829)، من حديث أسيد بن حضير رضي الله عنه. والحديث صحَّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة»: (609).
4- «معالم السنن» للخطابي: (3/802).(10/64)
الفتوى رقم: 963
في حكم بيع عقار بنية التجارة بجزء من ثمنه
السؤال:
رجل باع دارًا فهل يجوز له أن يأخذ جزءًا من تلك الأموال ليتاجر بها.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فإن كانت الدارُ أو الأرض التي يريد بيعَها زائدةً عن حوائجه الأصليةِ حيث يمكن الاستغناء عنها بغيرها أو يجعل ثمنها في مثلها فلا حرج في ذلك، أمَّا إذا كانت حاجته إلى أرضه أو داره قائمةً وَمُلحَّة ثمَّ باعها وجعل ثمنها في تجارة فلا يبارك الله له في هذه التجارة، كما أخبر النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم حيث قال: «مَنْ بَاعَ دَارًا ثُمَّ لَمْ يَجْعَلْ ثَمَنَهَا فِي مِثْلِهَا لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهَا»(1- أخرجه الطيالسي في «مسنده»: (1/56)، والبيهقي في «السنن الكبرى»: (6/33)، من حديث حذيفة رضي الله عنه، والحديث حسّنه الألباني في «صحيح الجامع»: (2119)، وانظر «السلسلة الصحيحة»: (5/427))، وفي حديثٍ آخر قال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسلم: «مَنْ بَاعَ مِنْكُمْ دَارًا أو عقارًا فَلْيَعْلَمْ أَنَّهُ مَالٌ قَمِنٌ أَنْ لاَ يُبَارَكَ لَهُ فِيهِ إِلاَّ أَنْ يَجْعَلَهُ فِي مِثْلِهِ»(2- أخرجه ابن عدي (9/1)، وابن ماجه في «سننه» كتاب الرهون، باب من باع عقارًا ولم يجعل ثمنه في مثله: (2490)، وأحمد في «مسنده»: (18264)، بنحوه من حديث سعيد بن حريث رضي الله عنه. والحديث حسَّنه الألباني في «صحيح الجامع»: (6120))، قال المناوي: «لأنَّ الإنسان يُطلب منه أن يكون له آثار في الأرض فلمَّا محى أثره ببيعها رغبة في ثمنها جوزي بفواته»(3- «فيض القدير» للمناوي: (6/93)).
والظاهر أنَّ الحكم لا يلحق المضطرَّ لاختلاف الأحكام العادية والاضطرارية، والتجارة بجزءٍ من ثمنها عند الحاجة لا يدخل في الحكم مراعاةً لشرط الضرورة التي تقدَّر بقدرها، وقد جاء في معنى هذا الحكم حديثُ معقل بن يسار في قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسلم: «مَنْ بَاعَ عقْرَ دَارٍ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ سَلَّطَ اللهُ عَلَى ثَمَنِهَا تَالِفًا يُتْلِفُهُ»(4- أخرجه الطبراني في «المعجم الأوسط»: (8/263)، من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه، قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (4/200): «رواه الطبراني في الأوسط وفيه جماعة لم أعرفهم منهم عبد الله بن يعلى الليثي». وانظر: «السلسلة الضعيفة» للألباني: (10/83))، والحديث وإن ضعَّفه أهل العلم إلاَّ أنه يشهد للمضطرِّ عمومُ النصوص الشرعية الواردة في باب الضرورة.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 19 صفر 1429ه
الموافق ل: 26/02/2008م
--------------------------------------------------------------------------------
1- أخرجه الطيالسي في «مسنده»: (1/56)، والبيهقي في «السنن الكبرى»: (6/33)، من حديث حذيفة رضي الله عنه، والحديث حسّنه الألباني في «صحيح الجامع»: (2119)، وانظر «السلسلة الصحيحة»: (5/427).
2- أخرجه ابن عدي (9/1)، وابن ماجه في «سننه» كتاب الرهون، باب من باع عقارًا ولم يجعل ثمنه في مثله: (2490)، وأحمد في «مسنده»: (18264)، بنحوه من حديث سعيد بن حريث رضي الله عنه. والحديث حسَّنه الألباني في «صحيح الجامع»: (6120).
3- «فيض القدير» للمناوي: (6/93).
4- أخرجه الطبراني في «المعجم الأوسط»: (8/263)، من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه، قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (4/200): «رواه الطبراني في الأوسط وفيه جماعة لم أعرفهم منهم عبد الله بن يعلى الليثي». وانظر: «السلسلة الضعيفة» للألباني: (10/83).(10/65)
02- الإجارة
الفتوى رقم: 6
العمل في الضرائب
السؤال: إلى الشيخ الفاضل، إنّي تحصلت على شهادة في الجباية ( الضرائب ) وأنا أريد أن أوجه لك بعض الأسئلة على حكم العمل في مصالح الضرائب.
السؤال الأول: هل يجوز لي العمل في مصالح الضرائب وهل يعتبر حلالا شرعا؟
السؤال الثاني: هل يجوز فرض الضرائب إلى جانب الزكاة في الدولة الإسلامية ؟
السؤال الثالث: إذا كان العمل جائزا في هذه المصالح كيف يمكن تفسير أو تأويل حديث ذم المكس والمكاسين والعشارين ؟
أرجو أن تشفي غليلي في هذه المسألة وجزاك الله خيرا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فينبغي -قبل الشروع في الإجابة- التفريق بين نوعين من الضرائب التي يسمّيها بعض الفقهاء من المالكية بـ " الوظائف " أو بـ " الخراج " وسمّاها بعض الأحناف بـ "النوائب" أي نيابة الفرد عن السلطان وعند بعض الحنابلة بـ:" الكلف السلطانية ".
- ضرائب مأخوذة بحق على سبيل العدل وبشرطها.
- ضرائب تؤخذ على سبيل الظلم والتعدي.
فالضرائب التي يفرضها الحاكم المسلم لضرورة قاضية أو لسدّ حاجة داعية أو لدرء خطر داهم أو متوقع، ومصدر الخزينة العامة للدولة لا تفي بالحاجيات ولا تغطيها بالنفقات، فإنّ العلماء أفتوا بتجويز فرضها على الأغنياء عملا بالمصالح المرسلة وتأسيسا لقاعدة: تفويت أدنى المصلحتين تحصيلا لأعلاهما وقاعدة: يتحمل الضرر الخاص لدفع ضرر عام وبه قال أبو حامد الغزالي في المستصفى والشاطبي في الاعتصام حيث نصّ على أنّه إذا خلا بيت المال وزادت حاجة الجند فللإمام أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافيا لهم في الحال، ولا يخفى أنّ الجهاد بالمال مفروض على المسلمين وهو واجب آخر غير فريضة الزكاة، قال تعالى:( إِنَّمَا الُمؤْمِنُونَ الّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُوْلئَِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ?[الحجرات 15] وقوله تعالى:( انفِرُوا خفافا ًوَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيْلِ اللهِ?[التوبة 41] وقوله تعالى: ? وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ تُلقُوا بِأَيِْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ?[البقرة 195] وقوله عزّ وجلّ:( تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولهِ ِوَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ?[الصف 11]، فيكون من حق أولي أمر المسلمين أن يحددوا نصيب كلّ فرد قادر من عبء الجهاد بالمال على ما قرره صاحب "غياث الأمم " ورجح النووي وغيره من أئمة الشافعية أنّه يلزم أغنياء المسلمين إعانتهم من غير مال الزكاة، ويدخل ضمن ما ذكرنا سائر المرافق العامة العائدة على أفراد المجتمع كافة سواء كانت مصلحة الجماعة وتأمينها عسكريا واقتصاديا يحتاج إلى مال لتحقيقها ولم تكفهم الزكاة بل وحتى إذا كانت الدعوة إلى الله وتبليغ رسالته يتطلب ذلك إذ أنّ تحقيقها حتم لازم على ساسة المسلمين وفرض الزكاة، لا يفي بما هو لازم وإنّما يتمّ الواجب بفرض مال ضريبة غير الزكاة، فيقرر الوجوب عندئذ بناء على قاعدة: ما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب.
ثمّ إنّ الفرد يغنم من تلك المرافق العامة الممهدة لفائدته والمهيأة لمصلحته من قبل الدولة المسلمة، فإنّه عليه بالمقابل أن يدفع ما هو داخل في التزامه عملا بمبدأ: الغرم بالغنم.
غير أنّ هذا التشريع مقيّد بجملة من الشروط منها:
1_ خلو بيت المال وحاجة الدولة إليه حقيقية وانعدام الموارد المالية الأخرى لها.
2_ وجوب إنفاقها في مصالح الأمة على سبيل العدل.
3_ التماس مشورة أهل الرأي ورجال الشورى في تقدير حاجات الدولة إلى المال العاجلة، ومدى كفاية الموارد عن عجزها، مع مراقبة جمعها وتوزيعها بالصورة المطلوبة شرعا.
هذا النوع من الضرائب الذي يقسم بالعدل والقسط بحق فقد أقره فقهاء المذاهب الأربعة تحت تسميات مختلفة كما يؤيد ذلك فعل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أثناء خلافته أنّه كان يفرض على تجار أهل الحرب العشر، ويأخذ من تجار أهل الذمّة نصف العشر ومن تجار المسلمين ربع العشر.
أمّا النوع الثاني من الضرائب المجحفة والجائرة فليست سوى مصادرة لجزء من المال يؤخذ من أصحابه قسرا وجبرا وكرها من غير طيب نفس منه، مخالفين في ذلك المبدأ الشرعي العام في الأموال وهو أنّ الأصل فيها التحريم استنادا إلى نصوص كثيرة منها قوله - صلى الله عليه وسلم - :" لا يحلّ مال امرئ مسلم إلاّ بطيب نفس منه"(1) وقوله عليه الصلاة والسلام:" من قتل دون ماله فهو شهيد"(2) وقوله :" ألا إنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ... "(3) الحديث .
وعليه فإنّ ما ورد ثابتا أو غير ثابت من أحاديث ذمّ المكاس والعشار واقترانها بالوعيد الشديد إنّما هي محمولة على الجبايات والضرائب الجائرة والقاسطة التي تؤخذ بغير حق وتنفق في غير حق ومن غير توجيه، بمعنى أنّ الموظف العامل على جبايتها يستخدمه الملوك والحكام وأتباعهم لقضاء مصالحهم وشهواتهم على حساب فقراء ومظلومي مجتمعاتهم من شعوبهم، وضمن هذا المنظور والمحتوى يقول الذهبي في الكبائر:" المكاس من أكبر أعوان الظلمة، بل هو من الظلمة أنفسهم، فإنّه يأخذ ما لا يستحق ويعطيه لمن لا يستحق.
هذا هو حال التعامل الذي ساد العالم عند ظهور الإسلام ولا تزال هذه الضرائب المجحفة تفرضها الحكومات اليوم على أوساط الناس وفقرائهم من مجتمعاتهم وبالخصوص الشعوب الإسلامية، وتُرَدُّ على الرؤساء والأقوياء والأغنياء، وتصرف غالبا في شهواتهم وملذاتهم المتمثلة في البروتوكولات الرسمية في استقبال الزائرين من ملوك ورؤساء، وفي ولائمهم ومهرجاناتهم التي يأخذ فيها الفجور والخمور وإظهار الخصور نصيب الأسد فضلا عن أنواع الموسيقى وألوان الرقص والدعايات الباطلة وغيرها من شتى المجالات الأخرى المعلومة والمشاهدة عيانا باهضة التكاليف المالية فكانت هذه الضريبة فعلا - كما عبّر عنها بعض أهل العلم- بأنّها: تؤخذ من فقرائهم وتردّ على أغنيائهم، خلافا لمعنى الزكاة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم:" تؤخذ من أغنيائهم و ترد على فقرائهم"(4).
وبناء على ما تقدم فإنّه يجب على المسلم الحريص على دينه أن يتجنب المحرمات والمعاصي وأن يبتعد عن كلّ عمل يلوثه بالآثام والذنوب وينجس أمواله ويقذرها، كما ينبغي عليه أن لا يكون آلة ظلم ووسيلة قهر يستخدمه الظلمة سوط عذاب لإرهاق النّاس بالتكاليف المالية بل قد يكون من الظلمة أنفسهم لأنّه غالبا ما يشارك الظالمين ظلمهم ويقاسمهم الأموال المحرمة، على أنّ الشرع إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه قال عليه الصلاة والسلام:" قاتل الله اليهود لمّا حرّم عليهم شحومها جملوه ثمّ باعوه فأكلوا ثمنه"(5).
أمّا فرض الضرائب إلى جانب الزكاة إذا لم يوجد المورد لسدّ هذه الحاجة إلاّ بالضرائب فيجوز أخذها بل يجب أخذها عند خلو بيت المال وإنفاقها في حقها وتوزيع أعبائها بالعدل والمساواة على ما تقدم في الضرائب العادلة وما تأيّد به من فعل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - .
هذا ما بدا لي في هذه المسألة فإن أصبت فمن الله وإن أخطأت فمن نفسي، والله نسأل أن يسدد خطانا ويبعدنا من الزلل ويوفقنا لما فيه خير الدنيا والآخرة، ويجعلنا عونا في إصلاح العباد والبلاد إنّه ولي ذلك والقادر عليه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين؛ وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في : 12 جمادى الأول 1417هـ.
الموافق لـ : 26 سبتمبر 1996م.
__________
1- أخرجه الدارقطني (300 ) وأحمد (5/72) وأبو يعلى والبيهقي (6/100)، والحديث صححه الألباني في الإرواء (5/279) رقم (1459)، وفي صحيح الجامع(7539)
2- رواه البخاري كتاب المظالم، باب من قاتل دون ماله، ومسلم كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره بغير حق.. والترمذي كتاب الديات باب ما جاء فيمن قتل دون ماله فهو شهيد، والنسائي: كتاب تحريم الدمن باب من قتل دون بابه، وأحمد (2/348) رقم (6486) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، وأبو داود كتاب السنة باب في قتال اللصوص وابن ماجه: كتاب الحدود، باب من قتل دون ماله فهو شهيد من حديث سعيد بن يزيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنه.
3- رواه البخاري كتاب العلم باب قول النبي ربّ مبلغ أوعى من سامع ومسلم كتاب القسامة ، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال عن ابي بكرة والترمذي كتاب الفتن باب ما جاء في دماءكم وأموالكم عليكم حرام وابن ماجه كتاب المناسك باب الخطبة يوم النحر وأحمد(5/443) رقم (18487) واللفظ له من حديث عمرو بن الأحوص رضي الله عنه.
4- رواه البخاري كتاب الزكاة باب وجوب الزكاة ومسلم كتاب الإيمان باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام وأبو داود كتاب الزكاة باب في زكاة السائمة والترمذي كتاب الزكاة باب ما جاء في كراهية أخذ خيار المال في الصدقة والنسائي كتاب الزكاة باب وجوب الزكاة وابن ماجه كتاب الزكاة باب فرض الزكاة وأحمد (1/386) رقم(2072) من حديث ابن عباس .
5- رواه البخاري كتاب البيوع باب بيع الميتة والأصنام ومسلم كتاب المساقاة باب تحريم الخمر والميتة والخنزير والأصنام وأبو داود كتاب الإجارة باب في ثمن الخمر والميتة والترمذي كتاب البيوع باب ما جاء في بيع جلود الميتة والأصنام,والنسائي كتاب الفرع والعتيرة باب النهي عن الانتفاع بشحوم الميتة وابن ماجه كتاب التجارات باب ما لا يحل بيعه وأحمد(4/270) رقم(14063) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.(10/66)
الفتوى رقم: 11
العمل في شركة الطيران مع وجود بعض المنكرات
السؤال الأول: هل يعتبر عامل في شركة النقل الجوي، سواء كان ممن يقدمون الخدمات في الطائرة أو قائدها وعلى متنها المسافرون و قد يشربون الخمر أو ما يشابهها من المحرمات كما هو معلوم في مصلحة خدمة المسافرين في الطائرة، أو هم ممن يهيئون ذلك، كالمهندس مثلا في مصلحة صيانة الطائرات فهل يعتبرون ممن تعاونوا على الإثم؟
السؤال الثاني: نفس مضمون السؤال الأول ولكن لرجل يعمل مع فريق النقل البحري فبعضهم يشرب الخمر ثم هو ينهاهم ثم لا يستجيبون، فهل يعتبر ممن قال فيهم سبحانه: ?...كَانُوْا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُوْنَ ? [المائدة: 79] وهي اللعنة التي لحقت بني إسرائيل الكافرين منهم - فهو ينهاهم ثم يتعامل معهم - بحكم تقديم الخدمات للفريق، وهل يعتبر كذلك ممن قال فيهم سبحانه: ?وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَالَكُم مِّن دُونِ الله ِمِنْ أَوْلِِيَاءَ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ? [هود: 113] أو هو ممن اتبع هواه؟ وكذلك إذا ما حمل شيء من الخمر في الباخرة فمن تلحقه اللعنة، نرجو البيان والتوضيح.
الجواب: الحمد لله وصلى الله على محمّد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فاعلم أنّ المسلم ما دام قادرًا على أداء واجباته و تحمل تبعات عمله يجوز له أن يكسب رزقه عن طريق الوظيفة التي أسندت إليه أو العمل الذي أوكل إليه إذا كان أهلاً له، شريطة أن لا تتضمن الوظيفة أو العمل ضررًا على المسلمين أو ظلمًا كالعمل الربوي أو حرامًا كالعمل في ملهى يشتمل على محرمات كالرقص و الرهان و بيع الخمر و نحو ذلك، سواء باشره العامل أو شارك فيه بجهد مادي أو أدبي عملي أو قولي فإنه يعتبر معينًا على المعصية شريكًا في الإثم على ما تقرّر من أن "ما أدى إلى حرام فهو حرام" على أنّ الإثم تختلف درجاته على الجميع باختلاف قدر مشاركته، و لذلك لما حرم الشرع الزنا حرم كلّ ما يفضي إليه من وسائل وسد الذرائع والمقدمات والدواعي الموصلة إليه من صور خليعة وتبرج جاهلي واختلاط مذموم وخلوة غير آمنة وآثمة وغناء فاحش يحرك الشهوات ونحوه وكذلك لعن النبي صلى الله عليه وسلم المشاركين لآكل الربا من كاتب وشاهديه، والمشاركين في الرشوة من الراشي والمرتشي والرائش، ومن هذا القبيل وردت اللعنة على عاصر الخمر ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وساقيها وبائعها وآكل ثمنها والمشتري لها والمشتراة إليه والكلّ تلحقه اللعنة على قدر مشاركته إذ كلّ إعانة على الإثم إثم و قد قال تعالى: ?وَ تَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَ التَّقْوَى وَ لاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَ العُدْوَانِ? [المائدة: 2].
هذا كله فيما إذا لم تقتض الضرورة الملحة إلى اللجوء إلى هذا الأمر، فإن اقتضت فقد قرر العلماء اللجوء إلى ذلك إذا طرأت ضرورة حقيقية أو حاجة تنزل منزلتها بحيث لا يسعه الاستغناء عن حوائجه الأصلية من مأكل وملبس وعلاج يقيه الهلاك من غير أن يكون باغ للذة طالب لها، ولا عاد حد الضرورة مع كراهيته لذلك العمل واستمراره في البحث عن غيره حتى يفتح الله عليه بكسب حلال طيب يغنيه عن خبائث الحرام.
هذا، وفيما يظهر لي أنّ الأصل في شركتي النقل الجوي والبحري عدم التحريم وإنما اعترى الأصل بعض المحرمات، والحرام لا يحرم الحلال والفرع لا يلغي الأصل، ولذلك فمن اشتغل بعيدا عن أوزار الحرام في كلتا الشركتين فلا بأس به و إن لم يرض عن الوضع الكلي فعليه أن ينهى عن ارتكاب المآثم والمحرمات التي تفعل جهارا على درجات الإنكار لئلا يرتكب مثل الذي ارتكبوه، فضلا عن هجرة أهل الفجور والعصيان والابتعاد عن الفسقة خشية الميل إليهم إلا ما دعت الضرورة أو الحاجة إليه عملا بالآيتين المذكورتين في السؤال، قال القرطبي في قوله تعالى: ?وَ لاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّّكُمُ النَّارُ ? [هود:113]: وأنّها دالة على هجران أهل الكفر والمعاصي من أهل البدع وغيرهم، فإن صحبتهم كفر أو معصية، إذ الصحبة لا تكون إلا عن مودة، وقد قال حكيم:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ...... فكل قرين بالمقارن يقتدي
وصحبة الظالم على التقية فمستثناة من النهي بحال الاضطرار(1) .
هذا جواب إجمالي على محتوى الأسئلة الثلاثة بالنظر إلى تقارب مضامينهم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
__________
1- الجامع لأحكام القرآن (9/ 72)، دار الكتب العلمية.(10/67)
الفتوى رقم: 91
خطأ الصانع في تقدير ثمن ما يصنعه لزبونه
السؤال: ما الحكم في هذه المسألة: صانع يحدد ثمنا لزبونه مقابل أن يصنع له شيئا وبعد مباشرته لعمله تبين له أنّ ذلك الثمن المحدد قليل (أي أقلّ من رأسماله أعني: تكاليف المصنوع أو قدر رأس المال فيضيع جهده وعرقه.)
فتخاصم هو وزبونه فما العمل ؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فإنّ ما ادعاه الأجير الصانع وإن يوافق ظاهر الحال فلا يتمسك به في إثبات الاستحقاق لعدة اعتبارات منها:
- لكون الصانع مقرا بالمبلغ المتفق عليه حال العقد، فالمعتبر عندئذ قول الأصيل لقوله تعالى:( يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود? [المائدة 1]، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - :" المسلمون على شروطهم "(1).
- ولأنّ الصانع قصّر في طلب الحظ لنفسه بعدم سعيه للتعرف على القيمة الحقيقية للصفقة المراد إبرامها، وذلك معدود من تفريطه وتقصيره فلا يضمنه الغير.
وينبني عليه أنّ الصانع إن علم بالقيمة الحقيقية لتكاليف الصنعة عند العقد فلا استحقاق له البتة لسوء نيته، وإن علم أثناء عمله فالواجب تبليغ الأصيل وإعلامه بها فإن رضي بها أُلغيَ العقد الأول وصار العقد الثاني لازما، ومن حقه أن يطالبه بالزيادة حالتئذ بناء على العقد الثاني، وإن سخط وامتنع الأصيل فلهما أن يفسخا العقد، ويستحق الأجير الصانع سوى مقدار ما أنفقه من عمله بأجر المثل، أي أجرة المدة التي عمل فيها ولا يستحق الأجرة الكاملة.
أمّا إن علم بقيمة تكاليف الصفقة الحقيقية واستمر في العمل من غير إشعار الأصيل المتعاقد معه بها كان عمله شبيها بتصرف الفضولي، وتصرفاته تقع صحيحة غير أنّها موقوفة على إجازة صاحب الشأن، وهو من صدر التصرف لأجله، إن أجازه نفد وإن ردّه بطل كما هو الراجح من قولي أهل العلم وهو مذهب الحنفية و المالكية.
والله أعلم؛ وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليما.
الجزائر في :15ذي القعدة 1417 هـ
الموافق لـ :28 مارس 1997 م
__________
1- أخرجه أبو داود في أول كتاب الأقضية رقم(3593)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والترمذي في الأحكام رقم(1352) من حديث عمرو بن عوف، والحاكم كتاب البيوع عن أبي هريرة وعن عائشة رضي الله عن الجميع. والحديث صححه الألباني في الإرواء (5/142) رقم ( 1303)، والسلسلة الصحيحة رقم (2915).(10/68)
الفتوى رقم: 110
أخذ الأجرة على تعليم القرآن
السؤال: فضيلة الشيخ -جزاكم الله خيرا وأعانكم على خدمة الإسلام والمسلمين- أفتونا مشكورين على هذه الأسئلة الهامة ، جزاكم الله خيرا وأحسن إليكم وسدد خطاكم.
السؤال1: ما حكم من يأخذ الأجر على تحفيظ القرآن وتعليم الناس الحروف كماً وكيفاً؟ مع العلم أنّ الفقراء معنيون بهذا، للانضباط في آن واحد مع أولياء التلاميذ.
السؤال2: إذا كان بالجواز هل يوجد هناك تفريق بين من يأخذ أجرته عليها من الوزارة (وأعني معلمي القرآن) وبين من لا يأخذ أجرته على هذا التعليم (وأعني الأئمة المدرسين والقيمين والمؤذنين)؟، هذا من جهة ومن جهة أخرى المتطوعون الذين لا دخل لهم على الإطلاق ومن أي جهة كانت إلا هذه الأجرة التي يتقاضونها من أولياء التلاميذ.
ومع العلم فضيلة الشيخ أنّ الذين يتقاضون رواتبهم الشهرية من الوزارة أغلبهم لا يصل راتبه عشرة آلاف دينار(مليون) وهم بحاجته إلى تدعيم قدراتهم المادية.
أفيدونا ممّا علمكم الله -جزاكم الله عنّا وعن المسلمين كلّ خير- ونستسمحكم إن أطلنا عليكم أو أخذنا من أوقاتكم الثمينة ولأنّ هذه المسألة ممّا عمّت به البلوى في جلّ المساجد إن لم أقل كلّ المساجد وعلى رأسها التي تقتدي بالسلف الصالح. وبارك الله فيكم وجزا كم خيرا.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين؛ أمّا بعد:
فاعلم أنّ ما عليه جمهور أهل العلم جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن استدلالا بما ثبت في الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :"إنّ أحق ما أخذتم عليه أ جرا كتاب الله"(1) ،وبما ثبت في الصحيحين أيضا من حديث المرأة التي زوجها النبي صلى الله عليه وسلم برجل على أن يعلمها ما معه من القرآن(2) ،وبقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه:"ما آتاك الله -عز وجل- من هذا المال من غير مسألة ولا إشرافٍ فخذه، فتموله، أو تصدق به، وما لا، فلا تُتْبعه نفسك"(3)
أمّا ما استدل به الحنفية ومن وافقهم من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال:"علمت ناسا من أهل الصفة الكتاب والقرآن فأهدى إلي رجل منهم قوسا فقلت ليست بمال وأرمي عنها في سبيل الله عز وجل، فلمّا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن كنت تحب أن تُطوّق طوقا من نار فاقبلها"(4) والحديث له طرق وشواهد فقد روي معناه عن أبي بن كعب وعن عبد الرحمن بن شبل وعن عمران ابن حصين(5) مؤولين حديث ابن عباس بأنّ المراد بالأجر فيه الثواب، وذهب آخرون إلى القول بأنّه منسوخ بالأحاديث الواردة في الوعيد عن أخذ الأجرة على تعليم القرآن ومنها حديث عثمان بن العاص قال:" من آخر ما عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن اتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا "(6) فإنّ الجمهور يردون ما اعترض به الحنفية على أنّ حديث عبادة في سنده من هو مختلف فيه وهو المغيرة بن زياد، وكلّ الشواهد الأخرى لم يصح فيها شيء، وليس فيها ما تقوم به الحجة، لذلك رجحوا حديث ابن عباس رضي الله عنهما في البخاري لعدم وجود من هو مختلف في عدالته، ترجيحا بالاتفاق على عدالة الراوي وهو من وجوه الترجيح من جهة السند باعتبار حال الراوي.
وعلى تقدير أنّ مجموع ما تفيده هذه الأحاديث تورث ظنا بعدم الجواز وتنتهض للاستدلال على المطلوب فجوابه أنّ تلك الأحاديث ليس فيها تصريح بالمنع على الإطلاق بل هي وقائع أحوال محتملة للتأويل لتوافق الأحاديث الصحيحة على ما بينه ابن حجر(7) والشوكاني في النيل(8)
وأمّا حمل الأجر في حديث ابن عباس رضي الله عنهما على الثواب فبعيد لأنّ سياق القصة التي في الحديث يأبى هذا التأويل، والقول بأنّه منسوخ متعقب بأنّ النسخ لا يثبت بالاحتمال.
هذا وقد سلك بعض العلماء مسلك الجمع بين هذه الأحاديث التي ظاهرها التعارض، وأظهر وجوه الجمع هو حمل حديث ابن عباس رضي الله عنهما على العموم بما في ذلك تعليم القرآن وعلوم الشريعة وأخذ الأجرة على التلاوة لمن طلب من القارئ ذلك وأخذ الأجر على الرقية ونحو ذلك ويخص من هذا العموم تعليم المكلّف ويبقى ما عداه داخلا تحت العموم وبه قال الشوكاني(9)
وعندي أنّه يجوز أخذ الأجرة كمصدر رزق في مقابل التفرغ لأداء الطاعات والقربات على الوجه الأكمل وليس ذلك بعوض عن الطاعات وإنّما للإعانة عليها، ذلك لأنّ الاشتغال بتحصيل ما به قوام حياتهم وحياة من يعولونهم تضييع للقرآن الكريم والشرع الحنيف بانقراض حملته، وهذا لا يخرجه عن كونه قربة وطاعة ولا يقدح في الإخلاص وإلاّ ما استحقت الغنائم وسَلَبُ القاتل، ثمّ إنّ في تعليم القرآن والعلوم الشرعية ما يساعد على نشر الإسلام وتعاليمه، لذلك أفتى الشافعية بجواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن والفقه والحديث استثناء من أصلهم وعدولا عن مذهبهم استحسانا موافقين في ذلك مذهب الجمهور،هذا كلّه فيما إذا كان المعلّم غير مشمول برزق من الجهة الوصية أو غيرها، أمّا إذا كان المعلّم تجري عليه مرتبات مالية من قبل وزارته فلا يصح أن يأخذ مالا زائدا من جهة أولياء التلاميذ، لأنّ العمل المعلوم مدفوع الأجر وما زاد فبأي حق يأخذه؟ اللّهم إلاّ إذا عمل عملا آخر خارجا عن إطار عمله كفضل زائد من غير إخلال بالعمل الأصلي ولا أن يحدث اضطرابا في انتظامه فله -والحال هذه- أن يعين نفسه وأهله من متطلبات المعيشة والحاجيات الأساسية بأن يأخذ البذل المعلوم الزائد في مقابل العمل المعلوم الزائد.
وإذا استناب غيره في عمله للحاجة فلا يحق للغير أن يأخذ مالا في عمل الأصيل الذي يتقاضى عليه أجرا، وله أن يعطيه من ماله دون أن يطالب بمال غيره.
والعلم عند لله تعالى؛ وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلى اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلم تسليما.
الجزائر في: 12ذي الحجة 1420هـ
الموافق لـ: 19 مارس 2000م
__________
1- أخرجه البخاري في الطب رقم: (5737)، والدارقطني في سننه: (3082)، والبيهقي في سننه: (2101)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
2- أخرجه البخاري في فضائل القرآن رقم: (5029)، وفي النكاح رقم: (5132)، ومسلم في النكاح رقم: (3454)، من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.
3- أخرجه البخاري في الزكاة رقم: (1473)، ومسلم في الزكاة رقم: (1045)، والنسائي في الزكاة رقم: (2605) واللفظ له، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وانظر السلسلة الصحيحة: (2209).
4- أخرجه أبو داود في الإجارة رقم: (3416)، وابن ماجه في التجارات رقم: (2157)، وأحمد رقم: (23357)، من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة: (1/1/515).
5- انظر بعض هذه الأحاديث والشواهد في إرواء الغليل: (5/316)، والسلسلة الصحيحة: (1/1/517).
6- أخرجه الترمذي في الصلاة رقم: (209)، وابن ماجه في الأذان رقم: (714)، من حديث عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه، والحديث صححه الألباني في الإرواء: (5/316).
7- الفتح: (4/573).
8- نيل الأوطار للشوكاني: (7/35).
9- وبل الغمام للشوكاني: (2/161).(10/69)
الفتوى رقم: 114
في حكم العمل في ورشة يُظنُ تعاملها بالربا
السؤال: لي صديق يعمل بورشة صياغة الذهب، وهذا الصديق يشك في أن صاحب المحل قد فتح هذه الورشة باستعمال أموال مصدرها بيع الذهب بالتأجيل، فما حكم عمله هذا؟
الجواب: الحمد لله والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وآله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أما بعد:
فإذا كان تعامله باقتراض الذهب ثم إرجاعه لأصحابه بنفس مقداره وزنًا فجائز سواء ارتفع سعره أو انخفض لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« الذهب بالذهب وزنًا بوزن ومثلاً بمثل"(1).
لأنَّ القرض من شرطه الأجل، بخلاف البيع فيشترط لصحته التقابض في المجلس الواحد لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« لا تبيعوا الذهب بالذهب إلاَّ مثلاً بمثل، ولا تشفُّوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبًا بناجز"(2)، ومذهب الجمهور عل عدم صحة بيع الذهب أو الفضة بالتأجيل من غير اعتبار لصفتهما حليًا كان أو تبرًا أو منقوشة أو مضروبة أو مشروبة أو غيرها لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« لا ربا إلاَّ في النسيئة"(3) خلافًا لابن تيمية وابن القيم وغيرهما.
وعليه إذا تحقق أنَّ صاحب الورشة يتعامل بالكيفية الممنوعة فلا يجوز التعاون معه في الممنوع لقوله تعالى: ?وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ? [المائدة: 2]
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
الجزائر في : 19 شوال 1426ه
الموافق ل 21 نوفمبر 2005م
__________
1- رواه مسلم في المساقاة (4152) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2- رواه البخاري (4/ 379-380)، ومسلم (6/8-10)، وأحمد (3/4)، والبيهقي في السنن الكبرى (5/276) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
3- رواه البخاري (4/381)، ومسلم (6/25-26)، والنسائي (7/231) وابن ماجه (2/758) وأحمد (5/200) من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه.(10/70)
الفتوى رقم: 117
في حكم مال مكتسب من شركة إشهارية فيها اختلاط
السؤال: ما حكم المال المكتسب من العمل في شركة إشهار، فيها اختلاط؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وآله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما، أمّا بعد:
فالمردود المادي يختلف حكمه باختلاف نوع الإشهار أوَّلاً، فإن كان الإشهار قائمًا على نشر الرذيلة والفساد كإشهار لوحات الخمور، والخدود، والخصور، والملابس السافرة وغيرها مما يشيع الفاحشة في الذين آمنوا، فالمال المتقاضى من أجله باطل، لا يجوز اكتسابه لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« إنَّ الله إذا حرَّم شيئا حرَّم ثمنه"،(1) أمَّا إذا كان الإشهار قائمًا على الفضيلة في الجملة أو نشر المباحات مما هي سبيل إلى اقتنائها وحاجة الناس إليها، فإنَّ المال المأخوذ جائز، ولا يعكر عليه أمر الاختلاط إذا كان لا يستطيع التخلص منه لندرة خلو أماكن العمل منه، ذلك لأنّ الاختلاط عارض على العمل، وعوارض الشيء لا تبطل الأصل، لكن فاعله آثم إذا لم يسدّ باب الفتنة.
وبناء عليه، إذا كان في هذه المؤسسة الإشهارية التي لا تخدم الرذيلة والفساد، لكن يوجد فيها اختلاط لا يؤثر في سيرته وسلوكه، ولا يخشى عليه التأثر، فإنه يجوز العمل ويحاول اجتنابهن قدر الإمكان لقوله تعالى: ?فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ? [التغابن: 16]، ولأن الأصل انتياب الرجل أماكن العمل، لأنّه مأمور بالاكتساب والنفقة، والمرأة حال اختلاطها به آثمة، لأنها خالفت أصلها في القرار في البيت والمكوث فيه لقوله تعالى: ?وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ? [الأحزاب: 33]، فإن خشي على نفسه ميول قلبه والتأثر بالاختلاط المفضي إلى الفحشاء فالواجب عليه أن يغير عملاً آخر بعيدًا عن الفتنة -إن أمكن- عملاً بقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« مَا تَرَكْتُ بَعْدِى فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ"(2)، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ"(3).
هذا، ونسأل الله لنا ولكم حسن العون والسداد والتوفيق لما يحب ويرضى وأن يبعدنا عن الزلل والفساد والفتن ما ظهر منها وما بطن.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 20 محرم 1426ه
الموافق لـ: 01 مارس 2005م
__________
1- أخرجه أحمد (2730)، وابن حبان (5028)، والدارقطني في سننه (2852)، من حديث ابن عباس رضي الله عنه. وصححه أحمد شاكر في تحقيقه لمسند الإمام أحمد (4/347)، والألباني في غاية المرام (318).
2- أخرجه البخاري في النكاح (5096)، ومسلم في الرقاق (7121)، والترمذي في الأدب (3007)، وابن ماجه في الفتن (4133)، وأحمد (22378)، والحميدي في مسنده (574)، من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه.
2- أخرجه مسلم في الرقاق (7124)، والترمذي في الفتن (2350)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.(10/71)
الفتوى رقم: 124
في حكم عمل المحاسب
السؤال: ما حكم دراسة المحاسبة في الجامعة؟ وما حكم العمل كمحاسب؟ وبارك الله فيكم.
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما، أمّا بعد:
فإنَّ مجال عمل المحاسب في الغالب يدور على البنوك المتعاملة بالربا المحرّم، أو الضرائب التي تأكل أموال الناس ظلمًا وعدوانًا، أو الشركات الصناعية والتجارية، بحيث يتولى فيها المحاسب تقييد الدفاتر، وطلب القروض الربوية لمشاريع الشركة، وحساب الفوائد الربوية، وتوزيعها على العمال والموظفين، على شكل علاوات وغيرها، إذ هو ممثل الشركة من الناحية المالية حيث يتعامل نيابة عنها في كلّ المعاملات المالية ولصالحها، وإذا كان غالب عمل المحاسب لايخرج في الجملة عن هذا العمل، فلا ينصح به ولا بدراسته لمآلها إليه، ولا يخفى أنَّ الوسائل لها حكم المقاصد، والتابع يشارك المتبوع في الحكم.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.
الجزائر في: 29 محرم 1427ه
الموافق لـ: 28 فبراير 2006م(10/72)
الفتوى رقم: 149
في حكم صناعة أحذية فيها صور الحيوانات
السؤال:
إنّ لي أخا يعمل في أحد الشركات الخاصة لكن هذه الشركة تصنع أحذية فيها حيوانات وأشياء فيها روح مثل الإنسان.
ونريد منكم أن تفتونا مأجورين في هذه المسألة الحساسة جدا، وهناك نماذج من هذه الصور أرسلتها لكم، فهل يجوز العمل أم لا يجوز؟ وشكرا وبارك الله فيكم وأطال في عمركم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجواب:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فاعلم أنّه يوجد فرق في الحكم بين التصوير واقتناء الصورة.
أمّا مباشرة التصوير بصياغته باليد عن طريق النحت أو النقش أو الرسم فالأصل فيه التحريم لما فيه من مضاهاة لخلق الله تعالى على نحو ماثبتت فيه جملة من النصوص الحديثية تحرّم ذلك وتعلل التحريم بهذا المعنى.
ويستثنى من ذلك الصور الخالية من الروح والصورة التي ليست متصلة الهيئة كصورة اليد أو الرجل أو العين أو الأصبع ونحوها لكونها غير كاملة الخلق، كما يستثنى من التحريم لُعب الأطفال وما على شاكلتها ممّا يتلهى به الصغار لحديث عائشة المعروف(1- أخرجه أبو داود في الأدب: (4932)، من حديث عائشة رضي الله عنها قالت:«قدم النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أو خيبر وفي سهوتها ستر فهبت ريح فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة لعب فقال: ما هذا يا عائشة؟ قالت: بناتي. ورأى بينهنّ فرسا له جناحان من رقاع فقال: ما هذا الذي أرى وسطهن قالت: فرس، قال: وما هذا الذي عليه؟ قالت: جناحان، قال: فرس لها جناحان، قالت: أما سمعت أنّ لسليمان خيلا لها أجنحة، قالت، فضحك حتى رأيت نواجذه ». وصححه الألباني في آداب الزفاف: (170)) ما لم تقترن بتلك اللّعب مظاهر العري والسفور وفساد الأخلاق، أو كانت لا يلعب بها وإنّما تُعلق على الجدران أو توضع على الرفوف فتمنع لما فيها من معنى التعظيم كما سيأتي.
أمّا اقتناء الصورة واستعمالها فلها أحكام مختلفة حسب القرائن والأحوال المصحوبة لذلك الاستعمال:
• فإن كان الاستعمال باتخاذ صورة مجسمة لها ظل من ذوات الأرواح فإنّ الإجماع مستقرّ على تحريمها سواء كانت معلّقة أو منصوبة أو محفوظة.
• أمّا غير المجسمة التي خلت من ظل فإمّا تكون معلّقة أو غير معلّقة:
- فإن كانت معلّقة على الحائط مطبوعة الصورة عليه أو منقوشة على الستائر أو غيرها فإن كانت معظمة فحكمها التحريم، وإن لم يقصد بها التعظيم فحكمها الكراهة الشديدة.
- أمّا غير المعلّقة وكانت ممتهنة بأن تداس أو توطأ أو تلبس أو تجلس عليها كالمخاذ والوسائد ونحو ذلك من أنواع الاستعمالات التي تخرج عن هيئة التعظيم والتعليق فلا مانع في اقتنائها واستعمالها لحديث أبي طلحة رضي الله عنه مرفوعا "إلاّ رقما في ثوب"(2- أخرجه البخاري في «اللباس »، باب من كره القعود على الصور: (5613)، ومسلم في «اللباس والزينة »، باب تحريم تصوير صورة الحيوان: (5640)، وأبو داود في «اللباس »، باب في الصور: (4155)، والترمذي في «اللباس »، باب ما جاء في الصورة: (1750)، والنسائي في «الزينة »، باب التصاوير: (5350)، من حديث أبي طلحة رضي الله عنه) وغيره من الأحاديث.
وبناء على ذلك: فإن كانت مؤسسة الأحذية هي التي تباشر التصاوير ذوات الأرواح بصناعتها نقشا أو رسما فيحرم ذلك، أمّا إذا جاء مصنوعا ومصورا والمؤسسة عملها أنّها تضعه على الأحذية فإنّ ظاهر الملبوس ممتهن يخرج عن هيئة التعليق والتعظيم وتصاويره عرضة للامتهان والزوال في كل وقت، فحكمه الجواز، وهذا كلّه إذا لم تكن هذه التصاوير تعبر عن شعار ديني أو عرقي أو قلبي أو حزبي فإنّه يمنع ذلك لعدم جواز الموالاة إلاّ لأهل الإيمان والجماعة.
والعلم عند الله تعالى وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلّى اللّه على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلّم تسليما.
باب الزوار في: 24 رمضان 1421ه
__________
1- أخرجه أبو داود في الأدب: (4932)، من حديث عائشة رضي الله عنها قالت:«قدم النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أو خيبر وفي سهوتها ستر فهبت ريح فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة لعب فقال: ما هذا يا عائشة؟ قالت: بناتي. ورأى بينهنّ فرسا له جناحان من رقاع فقال: ما هذا الذي أرى وسطهن قالت: فرس، قال: وما هذا الذي عليه؟ قالت: جناحان، قال: فرس لها جناحان، قالت: أما سمعت أنّ لسليمان خيلا لها أجنحة، قالت، فضحك حتى رأيت نواجذه ». وصححه الألباني في آداب الزفاف: (170).
2- أخرجه البخاري في «اللباس »، باب من كره القعود على الصور: (5613)، ومسلم في «اللباس والزينة »، باب تحريم تصوير صورة الحيوان: (5640)، وأبو داود في «اللباس »، باب في الصور: (4155)، والترمذي في «اللباس »، باب ما جاء في الصورة: (1750)، والنسائي في «الزينة »، باب التصاوير: (5350)، من حديث أبي طلحة رضي الله عنه.(10/73)
الفتوى رقم: 211
في حكم تضخيم مدة العمل في الشهادات
السؤال: أنا حرفي في الكهرباء منذ خمس عشرة سنة وليست لدي شهادة تؤهلني لاحتراف هذه المهنة، وتقدمت لطلب عمل كهربائي في إحدى المؤسسات، فطلبت منّي شهادة تثبت ممارستي لهذه الحرفة مدة سنتين على الأقل، وقبل أحد المقاولين أن يمنحني هذه الشهادة بالمدة المطلوبة لكنّني لم أعمل عنده إلاّ ثلاثة أشهر فهل يجوز لي هذا ؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فعند اطلاعنا على فحوى السؤال المتضمن تضخيم المقاول لفترة العمل التي يمنحها للعامل من ثلاثة أشهر إلى أربع وعشرين شهرا-عامين- كان الجواب أنّ هذه الشهادة باطلة وأنّ هذا الفعل لا يجوز لأنّ فيه إخبارا بما يخالف الواقع، لقوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ?[التوبة:119]، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« عليكم بالصدق فإنّ الصدق يهدي إلى البر وإنّ البر يهدي إلى الجنّة، وما زال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإيّاكم والكذب فإنّ الكذب يهدي إلى الفجور وإنّ الفجور يهدي إلى النّار وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذّابا »(1) وفيه أيضا إشهاد للمقاول على الزور المتمثل في أنّ العامل عمل عنده أربعا وعشرين شهرا في حين أنّه لم يعمل عنده سوى ثلاثة أشهر، وقد حرمت شهادة الزور في نصوص كثيرة واعتبرها الشارع من أكبر الكبائر.
ويمكن لهذا العامل أن يأخذ من عند مقاول عمل عنده شهادة بحسب المدة التي عملها ويجمع هذه الشهادات حتى تصل إلى المدة المطلوبة، كما يمكن للمقاول أن يمنح العامل شهادة تدلّ على أنّه متقن لعمله كمن يحوز شهادة تكوين لمدة عامين إن لاحظ عليه أنّه أهل لهذه الشهادة.
والعلم عند الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلم تسليما.
الجزائر في:12من ذي القعدة1424ه
الموافق ل : 04جانفي 2004 م
__________
1- أخرجه البخاري في الأدب(6094)، ومسلم في البر والصلة والآداب (6805)، وأبو داود في الأدب(4991)، والترمذي في البر والصلة(2099)، وأحمد(3710)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.(10/74)
الفتوى رقم: 231
في حكم بناء فندق احتوى على حانة خمر
السؤال: أنا مهندس مدني أعمل حاليا في إنشاء فندق فاخر، إلاّ أنّه ومع الأسف يوجد به حانة لتقديم الخمور، فما حكم العمل فيه؟ وجزاكم الله خيرا.
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فاعلم -وفقك الله للخير وجعلك من أهل الطاعة- أنّ كل عمل اقتضى شرطه إعانة على ظلم وتعاون على باطل ومساعدة على محرمات فحكمه المنع والتحريم لقوله تعالى: ?وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِّرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ? [المائدة:2] والإعانة على الظلم ظلم، والتآزر على المعصية معصية، ولا يخفاك أنّ الفنادق الفاخرة ذات النجوم الكثيرة لا تحتوي على حانات فحسب وإنّما فيها أماكن للرقص والدعارة، بل قد توجد بنوك في ضمنها وأعمال محرمة أخرى، وهذا أمر معهود على سائر الفنادق في الجزائر وفي البلدان الأخرى لذلك ينبغي على المرء أن يحرص في أن لا يكون أداة هدم للقيم والدين ولا معول تحطيم للأخلاق بنشره للرذائل، فإنه يأخذ مع كل رذيلة نصيباً من غير أن تنتقص من ذنوب العاصي شيئا لقوله صلى الله عليه وسلم "من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص من آثامهم شيئا "(1) فاسع جاهداً على أن يكون مالك حلالا لتنفقه في مجاري الحلال فإنّ التقوى والعمل الصالح أسباب المال الطيب لقوله سبحانه وتعالى ?مَنْ عَمِلَ صَالِحا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِن فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاة طَيِّبَة وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَن مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ?[النحل:97] والحياة الطيبة في الدنيا هي الرزق الحلال، وكذلك في قوله سبحانه وتعالى ? وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً ? [الطلاق : 4] فكان سبب اليسر عليه تقوى الله.
فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيننا على تقواه ويرزقنا الثبات في الدنيا والآخرة والسداد في القول والعمل إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
__________
1- أخرجه مسلم في العلم(6980)، وأبو داود في السنة(4611)، والترمذي في العلم(2889)، وابن ماجه في المقدمة(211)، وأحمد(9398)، والدارمي(522)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(10/75)
الفتوى رقم: 240
في حكم شراء كمبيوتر مع إدخال ثمنه في فاتورة المؤسسة
السؤال: الحمد لله والصّلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلّم. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فضيلة الشيخ فركوس: أرجو من الله تعالى أن يجازيك خيرا على الإجابة السابقة وأن يوفقنا جميعا . شيخنا الفاضل إنّ لي كمبيوتر اشتراه لي أبي ولكن طريقة الشراء كانت مشكوكة بحيث أ دخل ثمن شرائه في فاتورة المؤسسة التي يعمل فيها وهو مدير تلك المؤسسة ، وإني أستعمله في طلب العلم الديني والدنيوي وأنسخ منه أقراصا علمية وأنشرها في سبيل الله . فهل يمكن لي أن أستعمله في طلب العلم الديني والدنيوي؟ وبارك الله فيكم .
الجواب: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وسلم أمّا بعد:
فإن كان إدخال ثمن شراء الكومبيوتر في فاتورة المؤسسة تمّ شراؤه له بمال والدك للانتفاع الشخصي فلا بأس من استعماله والانتفاع به، أما إذا تحايل فاشتراه بمال المؤسسة فإنّ ذلك يعدّ أخذا لأموال الغير بغير حقّ وأكلا لأموال الناس بالباطل قال تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ? [النساء : 29] ولقوله صلّى الله عليه وسلّم:" كلّ المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه"(1) سواء كان ذلك متّجها نحو شخص طبيعي أو شخص اعتباري (المؤسسة) والمقام يقتضي التّوبة عن هذا الفعل وعدم موافقة وطاعة الوالدين في المعصية؛ ومن شرط التوبة التّخلّص من المال الحرام وذلك بإرجاع الكومبيوتر إلى المؤسسة أو دفع مالها المسروق وتسديد نفقة الكومبيوتر فإن تعذّر ذلك وكانت المؤسسة تابعة للدولة فإنه بإمكان معرفة ثمن الكومبيوتر وإفراغ ذلك المبلغ في الخزينة العامة للدولة ، وفي كلِّ الأحوال لا يجوز الانتفاع به حتىّ يقوم على تبييضه وتحليله على نحو ما تقدّم.
والله أعلم وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصلى الله على نبيّنا محمّد وآله وسلّم.
الجزائر في: 11 جمادى الثانية1426 هـ
الموافق لـ: 17 جويلية 2005 م
__________
1- أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب (6706)، وأبو داود في الأدب(4884)، والترمذي في البر والصلة(2052)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(10/76)
الفتوى رقم: 252
في حكم أخذ ثمن على وقت لم يتم استغلاله
السؤال: أنا شاب أعمل في مقهى إنترنت حيرني ما حكم أخذ مال مقدار (1) دينار مثلا عندما يأتي شخص ويستعمل الجهاز مثلا (55) دقيقة وسعر الساعة (50) دج علما أنّني احتسبها بسعر ساعة وأطلب منه دفع (50) دج.؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فالمقرّر شرعا أنّ ثمن العوض بحسب ما اتفق عليه، أمّا إن كان دون الوقت المستعمل المتفق عليه فالواجب تحديد سعر كلّ فترة بثمنها أو تغطية سعر الفترة بقيمة معينة يعلمها الزبون أو المتعاقد معه، وهذا الذي ينبغي أن يجري بين المتعاقدين، لكن إذا لم يحدّد سعر الفترة المستغلّة وأخذ منه سعرها مع عدم استكماله لها فالواجب إخباره عنها فإن تنازل له عنها بطيب نفس جازت له، وإن امتنع عن التنازل عنها وجب ردّ قيمة الفترة غير المستغلّة، لأنّ الغنم بالغرم، فإن لم يعد إليه، أنفقه في المرافق العامة أو على الفقراء والمساكين.
ملاحظة: ينبغي الحرص على توجيه مقاهي الإنترنيت باستخدامها في منافع المسلمين بما يرضي الله تعالى والحذر من الانحراف بها في إفساد دينهم وأخلاقهم.
والله أعلم وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على نبينا محمّد وعلى آله وسلّم تسليما.
الجزائر في: 20 جمادى الثانية 1426هـ
الموافق لـ: 26 جويلية 2005 م.(10/77)
الفتوى رقم: 255
في حكم العمل في شركات لها تعامل مع البنوك الربوية
السؤال: أريد أن أسأل عن حكم العمل في شركات لها تعامل مع البنوك أي شركات تعمل في مجالات تجارية وصناعية لكنّها تلجأ إلى البنوك لطلب سلفة تحتاجها في عملياتها اليوميّة. جزاكم الله خيرا.
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فإذا كانت هذه الشركات مؤسّسة ابتداء على القروض الرّبوية، وتُجري تلك العمليات بشكل دائم فلا يجوز العمل فيها، وبخاصّة إذا كان العامل فيها يطلب لشركته القروض الرّبوية، كأن يكون محاسبا أو نحوه، أمّا إذا لم تكن المؤسسة كذلك واقترضت، فيجوز العمل فيها للحاجة مع عدم الرِّضا من غير أن يكون باغيا ولا عاديا.
والله أعلم وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصلى الله على نبينا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلّم تسليما.(10/78)
الفتوى رقم: 311
في حكم هدايا العمال
السؤال: رجل يعمل في شركة للهندسة المعمارية أو التقنية وهو يتعامل مع مقاولين مشرفين على بناء مشاريع (سكنات) بحيث يراقب ويتتبع جميع مراحل أعمال البناء وفي بعض الأحيان يعطون له مبالغ مالية، فهو يسأل عن هذه المعاملات هل هي داخلة في الرشوة أم لا؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فلا تجوز العطية إلى العمال ولا الهدية إليهم مهما كانت صفتها ووجوه تبريرها، لأنّ ذلك معدود من أكل أموال الناس بالباطل المنهي عنه في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال الله تعالى: ?وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ? [البقرة: 188]، وقال أيضا: ?لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ? [المائدة: 63]، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه:" فَإِنِّى أَسْتَعْمِلُ الرَّجُلَ مِنْكُمْ عَلَى الْعَمَلِ مِمَّا وَلاَّنِى اللَّهُ، فَيَأْتِي فَيَقُولُ هَذَا مَالُكُمْ وَهَذَا هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي. أَفَلاَ جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ حَتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ"(1) الحديث...، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَرَزَقْنَاهُ رِزْقًا فَمَا أَخَذَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ غُلُولٌ"(2) والواجب التعاون على البر والتقوى فهو أساس التعامل الأخوي وتجنّب تعكير التعامل بالتعاون على الإثم والعدوان.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
الجزائر في: 20 محرم 1426ه
الموافق لـ:01 مارس 2005م
__________
1- أخرجه البخاري في الحيل (6979)، ومسلم في الإمارة (4845)، وابن خزيمة في صحيحه (2151)، وابن حبان في صحيحه (4598)، والحميدي في مسنده (879)، من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه.
2- أخرجه أبو داود في «الخراج »، باب في أرزاق العمال (2945)، وابن خزيمة في «صحيحه »: (2178)، والحاكم في «المستدرك »: (1424)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (13401)، من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه. والحديث صححه ابن الملقن في «البدر المنير »: (9/564)، والألباني في «صحيح الجامع »: (6023)، وفي «غاية المرام »: (460).(10/79)
الفتوى رقم: 313
في حكم العمل في الضمان الاجتماعي
السؤال: لي أخت تعمل في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وعندها كفارة يمين التي هي إطعام عشرة مساكين وأنا تكفلت بهذا الأمر حيث كلفت أحد الإخوة عنده مطعم بإطعام عشرة مساكين فكمل إطعامهم ولكن بقي عليَّ إعطاء صاحب المطعم المال وذلك أنني تورعت في إعطائه المال حتى أعرف الحكم الشرعي في ذلك المال، وأمر آخر وهو أنَّ أختي تهدي أحيانا لي أشياء من ذلك المال كالملابس مثلا وأشياء أخرى فما العمل؟ بارك الله فيكم.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فاعلم أن الصورة الجائزة شرعًا للضمان الاجتماعي أو التأمين التعاوني الذي هو من عقود التبرع أن يكون له صندوق من تبرعات المحسنين يرمي من ورائه مساعدة المحتاج والمكروب والمنكوب بتفتيت الأخطار والاشتراك في تحمل المسؤولية عند الحوادث والكوارث، ولا يعود فيه على المشتركين أيّ عائد استثماري من أرباح أو رؤوس الأموال أو فوائد أخرى، لأنّ القصد من الاشتراك تحصيل الثواب الأخروي بإزالة الضرر عن الغير عملاً بقوله تعالى: ?وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ?[المائدة: 2]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« والله في عون العبد ماكان العبد في عون أخيه"(1).
أمَّا صورة الضمان الاجتماعي الحالي فهو عبارة عن صندوق يقوم المشرفون عليه باقتطاع جزء من الأموال من مرتبات العمال والموظفين بصورة دورية جبرًا من غير اختيار من أصحابها ولا رضا منهم، ولا يخفى أنَّ الأصل في الأموال التحريم ولا تكون إلاَّ برضا منهم قال تعالى: ?وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ? [البقرة: 188]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« لا يحلُّ مال امرئ مسلم إلاَّ بطيب نفسه"(2) "كلُّ المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه"(3) علمًا أنه يعود صندوق الضمان على المشتركين بمبالغ وفوائد فضلاً عن الشركة (الضمان) وإذا كان لا يجوز أخذ أموال الناس قسرًا من غير رضا منهم لما فيه من الظلم فإنَّه بالمقابل يجوز للمظلوم الذي شُرِّك من غير اختيار في الضمان الاجتماعي أن يسترجع ما أُخذ منه جبرًا عن طريق تعويضات عن العلاج وغيرها. ومن جهة أخرى يجوز تسديد صاحب المطعم بذلك المال وكذلك الملابس مادام حكم المنع لم يصل إلى علم المكلَّف، لقوله تعالى: ?فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ? [البقرة: 275]، أمَّا بعد وصوله فلا يجوز، مع ترتيب الإثم على التقصير في معرفة الحكم الشرعي قبل الشروع في العمل.
وبغض النظر على حكم الضمان الاجتماعي، فإنّ أصل المرأة قرارها في البيت ولزومها فيه ما لم تفقد المنفق على حاجياتها ومتطلباتها المعيشية.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
الجزائر في:14 رمضان 1426ه
الموافقل: 17 أكتوبر2005م
__________
1- أخرجه مسلم في: الذكر والدعاء والتوبة (7028). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2- أخرجه الدارقطني (300) وأحمد (5/72) وأبو يعلى والبيهقي (6/100) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، والحديث صححه الألباني في الإرواء (5/279) رقم (1459)، وفي صحيح الجامع(7539).
3- أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب (6706)، وأبو داود في الأدب (4884)، والترمذي في البر والصلة (2052)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(10/80)
الفتوى رقم: 315
في حكم تقاضي الأجرة على الشهادات المهنية وغيرها من غير عمل أصحابها
السؤال: انتشرت في الجزائر معاملات جديدة ونريد منكم تبيان مشروعيتها جزاكم الله خيرا، والمعاملة كالتالي:
يقوم أصحاب المقاولات (entrepreneur) بأخذ شهادة خرجي الهندسة لمدة معينة مقابل مبلغ مالي بعد اتفاق الطرفين بدون أن يقوم هذا المهندس أو التقني بأي عمل بدني أو ذهني مع هذا المقاول، أو يقوم صاحب المقاولة بتشغيل هذا المهندس أو التقني معه في هذا المشروع مقابل الشهادة، وكذلك كما هو منتشر مع أصحاب الصيدليات مع العلم أن المقاول يقوم بتجديد ملفه المهني بهذه الشهادة.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فاعلم -وفقك الله إلى الخير- أنَّ الشهادات الجامعية أو المهنية أو بطاقات التعريف وغيرها لا تدخل في حقوق العباد حتى يصح التصرف فيها بالبيع والإجارة أو الإبراء أو التنازل وما إلى ذلك، وإنما هي خاضعة للدولة وهي المخولة الوحيدة في التصرف فيها وفق ما يمليه النظام العام، لذلك فكل ما يدخل في النظام العام لا يصح التصرف فيه ماليًا مثل لوحات المرور وإشارته وغيرها.
كذلك لا يصح الدخول بهذه الشهادات منفردة على وجه المضاربة، لأنَّ من شرطها أن يكون الرأسمال نقدًا على الراجح من قولي العلماء وهو مذهب الجمهور، والشهادات غير معدودة نقدًا في ذاتها، لكن يسعه أن يدخل بشهادته وعمله أو بشهادته ورأس مال معلوم مع الاتفاق على نسبة معلومة من الربح.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
الجزائر في: 5 ذي القعدة 1426ه
الموافقل: 7 ديسمبر2005م(10/81)
الفتوى رقم: 322
في حكم تقديم خدمات لمكتب المحاماة
السؤال: رجل مهنته لحام يسأل عن حكم صناعة شبابيك حديدية لامرأة من أقاربه تشتغل في المحاماة وهذا خاص بالمكتب الذي تعمل فيه، وهي لا تريد أن يقوم غيره بهذا العمل، مع العلم أن له شريكاً في الورشة مصر على تقديم الخدمة للمحامية، فهل يجوز هذا العمل؟ جزاكم الله خيرا.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فاعلم أن حكم المحامي من حيث صحة وكالته بالخصومة يختلف باختلاف مرافعاته القضائية -وهذا بغض النظر على شخصيته- فإن كان مصدر مرافعاته الشريعة الإسلامية فهذا في المبدأ تحكيم لشرع الله سبحانه، ويتوقف سعيه على نوع الحماية التي يقوم بها، إحقاقًا للحق أم إحقاقًا للباطل وأهله وإبطالاًَ للحق وأهله.
أما إذا كان مصدرها التشريعات الوضعية، فتدخل هذه المرافعات في التحاكم إلى غير شرع الله، وذلك شرك في الحاكمية لقوله تعالى: ?وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً?[الكهف: 26]، وعليه فالتعاون يخضع للتفريق السابق، فعلاً أو تركًا لقوله تعالى: ?وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ?[المائدة: 2]
و العلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
الجزائر في: 3 رمضان 1426ه
الموافق ل: 6 أكتوبر 2005م(10/82)
الفتوى رقم: 363
تزوير الشهادات للتوظيف في الشركات
السؤال: هذا سؤال من أخ عن مؤسسة تشترط لقبول الموظفين الحصول على شهادة خبرة لا تقلّ مدتها عن خمس سنوات لكنّ هذا السائل ليس له من الخبرة في ميدان عمله إلاّ (19) شهرا، ويقول في سؤاله: بأنّ الأمر يتعلق بجميع المؤسسات دون استثناء واحدة منها، لكنّ المؤسسة التي أراد دخولها والعمل فيها يتوقف قبوله فيها على أساس النجاح في المسابقة التي تدوم أشهرا دون مراعاة شرط الشهادة في النجاح، فحاصل المسألة أنّ شهادة الخبرة لا تطلب إلاّ عند تقديم الملف ولا تراعى بعده إنّما يراعى الامتحان فقط. أجيبونا بارك الله فيكم.
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان, أمّا بعد
فالأصل في هذه المسألة يعود إلى تحريم الكذب والتزوير لعدم دخولها في المقاصد العليا ومرامي الشرع على نحو ما أجازه صلى الله عليه وسلم في ثلاث: إصلاح ذات البين وحال القتال وعن الزوجة(1) فهذه الثلاث المستثنيات ومن في معناها مقصوده حسن فإن لم يستطع الوصول إليها بالطريق المباح جاز اتخاذ الكذب ذريعة لتحقيق تلك المقاصد بخلاف هذه المسألة وخاصة إذا أضرّ بالغير وأخذ حقوقهم أو تأهل في مكان ليس مؤهلا إليه, ففي هذه الحالة اتخاذ وسيلة الإخبار بخلاف الواقع (الكذب) ممنوع لما يُخلِّفه من آثار سيئة.
ولا يخفاك أنّ الإثم يحوك في الصّدر, والقلب يأباه، وإنّ في الحلال غنية عن الحرام، والرزق من الله وهو المتفضل به على عباده المتقين كما قال تعالى: ?ومن يتق الله يجعل له مخرجا و يرزقه من حيث لا يحتسب و من يتوكل على الله فهو حسبه? [الطلاق:2-3].
والعلم عند الله وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.
__________
1- أخرجه أحمد(6/459-461)، والترمذي كتاب البر والصلة باب ما جاء في إصلاح ذات البين، عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها، وحسنه الألباني في صحيح الجامع(7600)، وانظر: السلسلة الصحيحة(2/85).(10/83)
الفتوى رقم: 377
في حكم صناعة منفضة السجائر
السؤال: ما حكم صناعة منفضة السجائر؟ وجزاكم الله خيرا.
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وآله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما، أمَّا بعد:
فاعلم أنَّ الوسائل لها حكم المقاصد، فوسيلة المقصود تابعة للمقصود، وكلاهما مقصود، فالتدخين منهي عنه قصد غاية لضرره بالبدن، وكلُّ توابعه مقصودة قصد وسائل، وعليه فالنهي عن الشيء نهي عنه وعن كلِّ ما يؤدي إليه، أو أعان عليه، لذلك وضع الفقهاء قاعدة:" كلُّ ما أدَّى إلى حرام فحرام لا يجوز التعاون عليه" لقوله تعالى: ?وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ? [المائدة: 2].
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.
الجزائر في: 12 صفر 1427ه
الموافق ل: 12 مارس 2006م(10/84)
الفتوى رقم: 401
في حكم العمل في ورشة كل أدواتها من القروض الربوية
السؤال: هل يجوز لي أن أعمل في ورشة اشترى صاحبها الآلات اللازمة عن طريق القرض من بنك ربوي؟ وبارك الله فيكم شيخنا.
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فإذا كان صاحب الورشة حاز هذه الآلات عن طريق القروض الربوية وهو يعلم ذلك وغير مستاء من فعله ولا منكر لخساسة صنيعه، فإنه يتحاشى العمل عنده لكونه لا يكترث في فعل الحرام ولا يبالي لارتكابه المنكرات، ومن كان كذلك يجب الابتعاد عنه لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« الْمُهَاجِرَ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ"(1) وفي رواية:" المهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السَّيِئَاتِ"(2) والمراد بالسيئات أهلها ومرتكبوها، ولقوله تعالى: ?وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ? [المدّثر: 5]، أما إذا حصَّل على هذه الآلات وهو لايعلم الحكم وندم على صنيعه هذا وتمنى لو أنه ما باشر هذا العمل الربوي، فإنه والحال هذه إذا احتاج إلى العمل ولم يجد عملا آخر جاز له العمل عنده مع قيام النكير على صنيعه -ولو بأضعف الإيمان- لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« إِذَا عُمِلَتِ الْخَطِيئَةُ في الأَرْضِ كَانَ مَنْ شَهِدَهَا فَكَرِهَهَا -وَقَالَ مَرَّةً «أَنْكَرَهَا »- كَمَنْ غَابَ عَنْهَا وَمَنْ غَابَ عَنْهَا فَرَضِيَهَا كَانَ كَمَنْ شَهِدَهَا"(3).
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياك لما يحب ويرضى وأن يسدد خطانا ويثبت أقدامنا على الحقِّ إنَّه وليُّ ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 8 ربيع الأول 1427هـ
الموافق لـ: 6 أبريل 2006م
__________
1- أخرجه البخاري في الإيمان (10)، وأبو داود في الجهاد (2483)، والنسائي في الإيمان وشرائعه (5013)، وأحمد (6671)، والحميدي في مسنده (623)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
2- أخرجه ابن حبان (196)، وعبد بن حميد في مسنده (338)، والعدَني في الإيمان (26)، وابن منده في الإيمان(318)، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (545)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وصححه الألباني في تحقيق كتاب الإيمان لابن تيمية (3).
3- رواه أبو داود كتاب الملاحم، باب الأمر والنهي (4347)، عن العرس بن عميرة الكندي رضي الله عنه، والحديث حسنه الألباني في صحيح الجامع (702) وصحيح أبي داود (4345).(10/85)
الفتوى رقم: 412
في إجارة كتب مسجد الحي الجامعي وفرض عقوبة على التأخير
السؤال: وضعت إدارة مكتبة مسجدنا بالحي الجامعي قانونا داخليا يتضمن البنود التالية:
- يحق للطالب المقيم في الحي استعارة ما يلي:
- مجلد وكتاب ديني وثلاث رسائل لمدة أسبوع.
- ثلاثة أشرطة وقرص مضغوط لمدة ثلاثة أيام مع دفع ثلاثة دنانير.
- كتاب علمي (العلم الدنيوي) لمدة أربعة أيام.
- ملاحظة: أي تأخر يدفع صاحبه دينارين عن كلّ يوم.
فهل في هذه البنود مخالفات شرعية؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فتنظيم المكتبة بجملة من القيود والشروط المالية التي يشترطها أصحاب التنظيم يختلف باختلاف ما إذا كانت هذه المكتبة وقفا من طلبة أو كانت ملكا للدولة، إن كانت وقفا فلا يجوز أخذ المال على الوقف الخيري لمن حبس الكتاب وسبَّل فائدته فإنَّ فائدة المحبوس يرجوها الواقف من تناول فائدة الكتاب ليرجع عليه بالأجر والثواب حيًّا كان أو ميِّتا، أمَّا إذا كانت المكتبة هي ملكا للدولة والمؤسسات الجامعية، ولم تأذن في أن تكترى هذه الكتب بل جعلتها لمصلحة الطلبة فلا يجوز أيضا استغلال الإشراف على هذه الكتب لفرض مال على الطلبة لم تفرضه مؤسستهم الجامعية فيكون في كلتا الحالتين امتلاك على أموال الغير بغير وجه حق وهو مشمول بقوله سبحانه وتعالى: ?وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ? [البقرة: 188]، وأمَّا إن أجازت هذه المؤسسات استغلال هذه الكتب بالإيجار لتعود الفائدة على الدولة، أو على المكتبة، فإنَّ إيجار المنافع جائزة كما هو مقرر فقها وهذا كله فيما إذا كانت الكتب المستعارة بعوض لا تحمل أفكارا وآراء مخالفة لتعاليم الدين وأحكام الشريعة، أو مناقضة لعقيدة المسلمين، أو مصادمة للسنة المطهرة، أو كانت تحمل أفكار تحزب أو خروج، وما إلى ذلك، فإنَّ مثل هذه الكتب لا يجوز الاستفادة منها بله يُأخذ عليها أجر الإيجار.
وأمّا فرض عقوبة الغرامة على كلِّ متأخر عن ردِّ هذه الكتب في وقتها وزيادة المال عليها بزيادة الإطالة في التأخر فإنها فوائد تأخيرية معدودة من الربا المنهي عنه شرعا لقوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ? [آل عمران: 130]
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 01 ربيع الثاني 1427هـ
الموافق لـ: 29 أبريل 2006م(10/86)
الفتوى رقم: 425
في حكم حلق شعر القفا وحكم المال المكتسب منه
السؤال: ما حكم حلق شعر القفا؟ وما حكم المال المكتسب منه؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فحلق شعر القفا وترك غيره يدخل في عموم النهي عن القزع الثابت من حديث ابن عمر رضي الله عنه، ويؤيده ما صح أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى صبيًّا قد حلق بعض رأسه وترك بعضه فنهاهم عن ذلك وقال:" احْلِقُوهُ كُلَّهُ أَوِ اتْرُكُوهُ كُلَّهُ"(1)، والمراد بالقزع حلق بعض الرأس مطلقا أي من أيِّ جهات الرأس كان، على نحو ما ذكره النووي، وهو تفسير الراوي للحديث وهو غير مخالف للظاهر، قال ابن القيم رحمه الله في تحفة المودود:" قال شيخنا -أي ابن تيمية رحمه الله-: وهذا من كمال محبة الله ورسوله للعدل، فإنه أمر به حتى في شأن الإنسان مع نفسه، فنهاه أن يحلق بعض رأسه ويترك بعضه، لأنَّه ظلم للرأس حيث ترك بعضه كاسيًا وبعضه عاريًا، ونظير هذا: أنه نهى عن الجلوس بين الشمس والظل، فإنه ظلم لبعض بدنه، ونظيره: نهى أن يمشي الرجل في نعل واحدة، بل إمَّا أن ينعلهما أو يحفيهما"(2).
هذا، وقد ذكر النووي الإجماع على أنَّ النهي محمول على الكراهة التنزيهية(3)، وإذا تقرر ذلك فإنَّ المال المكتسب منه يلحق بهذا الحكم.
والعلم عند الله تعالى وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في:8 ربيع الثاني: 1427هـ
الموافق ل: 5 مايو 2006م
__________
1- أخرجه أبو داود في الترجل (4197)، والنسائي في الزينة (5065)، وأحمد(5748)، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. وصححه النووي في المجموع (1/296)، وابن كثير في إرشاد الفقيه (1/32)، والألباني في صحيح الجامع (212).
2- تحفة المودود لابن القيم: 114-115.
3- نيل الأوطار للشوكاني: 1/190.(10/87)
الفتوى رقم: 434
في حكم أخذ الأجرة على الحجامة
السؤال: ما حكم أخذ الأجرة على الحجامة؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فكسب الحجام حلال وهو محمول على الكراهة التنزيهية كما هو عند الجمهور استدلالاً بحديث ابن عباس رضي الله عنهما قَالَ:" احْتَجَمَ النّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَعْطَى الَّذِي حَجَمَهُ، وَلَوْ كَانَ حَرَامًا لَمْ يُعْطِهِ"(1)، وفي رواية أبي داود:" وَلَوْ عَلِمَهُ خَبِيثًا لَمْ يُعْطِهِ"(2)، كما استدلوا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« مَا أَصَابَ الْحَجَّامُ فَاعْلِفُوهُ النَّاضِحَ"(3) وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم دَعَا حَجَّامًا فَحَجَّمَهُ وَسَأَلَهُ:" كَمْ خَرَاجُكَ؟ فَقَالَ: ثَلاَثَة آصُعٍ، فَوَضَعَ عَنْهُ صَاعاً وَأَعْطَاهُ أَجْرَهُ"(4)، وفي حديث علي رضي الله عنه "أنَّ النبي صلى الله عليه وآله احْتَجَمَ وَأَمَرَنِي فَأَعْطَيْتُ الْحَجَّامَ أَجْرَهُ(5) وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:" احْتَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَجَمَهُ أَبُو طَيْبَةَ فَأَمَرَ لَهُ بِصَاعَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَكَلَّمَ أَهْلَهُ فَوَضَعُوا عَنْهُ مِنْ خَرَاجِهِ"(6)، أمَّا حديث أبي مسعود رضي الله عنه قال:" نَهَى رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم عَنْ كَسْبِ الحَجَّامِ"(7)، وحديث رافع بن خديج أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:" كَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ"(8) فهو محمول على الكراهة التنزيهية لدناءة العمل وخسته لا على المحرم، إذ يسمى راذل المال ودنيء المال خبيثا كما في قوله تعالى: ?وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ? [البقرة: 267]، قال النووي:" هذه الأحاديث التي في النهي على التنزيه والارتفاع عن دنيء الأكساب والحثِّ على مكارم الأخلاق ومعالي الأمور، ولو كان حراما لم يفرق بين الحر والعبد، فإنه لا يجوز للسيد أن يطعم عبده ما لا يحل"(9)، وعليه فإنَّ دفْعَ التعارض يكون بحمل النهي على الكراهة التنزيهية جمعًا بين الأدلة.
هذا، ولا يلحق بدلالة الاقتران على "ثَمَنُ الْكَلْبِ خَبِيثٌ وَمَهْرُ الْبَغِيِّ خَبِيثٌ وَكَسْبُ الْحَجَّامِ خَبِيثٌ"(10) فإنهما على التحريم لأنَّ الكلب نجس الذات وما حرم لذاته حرم ثمنه لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا حَرَّمَ شَيْئًا حَرَّمَ ثَمَنَهُ"(11) ولأنَّ الزنا محرم وبذل العوض عليه وأخذه في التحريم مثله لأنَّه وسيلة إلى محرم والوسائل لها حكم المقاصد، ودلالة الاقتران ضعيفة عند الأصوليين لأنَّ الاقتران في النَّظم لا يستلزم منه الاقتران في الحكم إذ قد يُجمع الكلام بين القرائن في اللفظ ويفرق بينهما في المعاني بحسب الأغراض والمقاصد، وهذا إنَّما يُعلم ذلك بدلائل الأصول وباعتبار معانيها.
هذا، والحجامة معدودة من فنون الطبِّ، وفيها نفع وصلاح الأبدان، ويجوز فيها ما لا يجوز في الطبِّ كما يشترط فيها ما لا يشترط فيه في الجملة قال ابن قدامة في مختصر منهاج القاصدين [17]:" ولا يتعجب من قولنا: إنَّ الطبَّ والحساب من فروض الكفايات...(11) بل الحجامة فإنَّه لو خلا البلد من حجام لأسرع الهلاك إليهم، فإنَّ الذي أنزل الداء أنزل الدواء وأرشد إلى استعماله".
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 29 ربيع الثاني1427ه
الموافق ل: 27 مايو 2006م
__________
1- أخرجه البخاري في البيوع (2103)، ومسلم في المساقاة (4124)، وأحمد (3035)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
2- أخرجه أبو داود في الإجارة (3425)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3423).
3- أخرجه أحمد (17731)، من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه. وصححه الألباني في صحيح الجامع (5532). وفسره بعضهم بالرقيق الذين يكونون في الإبل، فالغلمان نضّاح، والإبل نواضح [النهاية لابن الأثير:5/69].
4- أخرجه الترمذي في الشمائل المحمدية (1/301) رقم (364)، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وصححه الألباني في الشمائل المحمدية (312).
5- أخرجه ابن ماجه في التجارات (2247)، وأحمد (1142)، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (1770).
6- أخرجه البخاري في البيوع (2102)، ومسلم في المساقاة (4121)، وأبو داود في الإجارة (3426)، والترمذي في البيوع (1325)، ومالك في الموطإ (1791)، وأحمد (12291)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
7- أخرجه ابن ماجه في التجارات (2165)، من حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو رضي الله عنه. وصححه العراقي في تخريج الإحياء (2/143)، والألباني في صحيح الجامع (6976).
8- أخرجه مسلم في المساقاة (4095)، وأبو داود الإجارة (3423)، والترمذي في البيوع (1322)، وأحمد (16227)، والدارمي في سننه (2677)، من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه.
9- شرح مسلم للنووي: 10/233.
10- أخرجه مسلم في المساقاة (4095)، وأبو داود الإجارة (3423)، والترمذي في البيوع (1322)، وأحمد (16227)، والدارمي في سننه (2677)، من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه.
11- أخرجه أحمد (2730)، والدارقطني (2852)، وصححه الألباني في غاية المرام (318).
12- راجع الفتاوى الطبية.(10/88)
الفتوى رقم:448
في أخذ أجرة على خدمة التحويل
السؤال:
نودُّ من فضيلتكم إجابتَنَا على السؤال التالي: أنا شابٌّ لديَّ محلٌّ خاصٌّ بالخدمات الهاتفية، وأسألُ عن حكم أخذِ أجرةٍ عن خدمة تحويل الرصيد (نقل المال) من هاتفي النقال الخاصّ إلى نقال الزبون، علمًا بأنّ هذه الأجرة تقدر ب: 20دج لكلّ تحويل (10دج ثمن الرسالة المقتصة زائد 10 دج ثمن الخدمة)؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فإن كان المُرسِل يُحوِّل منفعةَ بطاقةِ التعبئة التي تمثِّلُ قيمةً معيَّنةً مع أخذ أُجرة الخدمة، فلا مانعَ من ذلك، بل حتى التحويل الداخلي والخارجي للنقود عن طريق البنك أو البريد كخدمات مأجورة دون أي زيادة على الأجر المستحَقّ فإنَّ هذه الخدماتِ ظاهرُها الجواز لعدم وجود ما يقضي بحُرمتها.
أمّا إذا كان المرسِلُ يأخذ نسبةً من الرِّبح من الجهة المتعاقَد معها مقابلَ هذه الخدمات، فلا يجوز له أن يأخذَ أجرًا على خدماته مرّتين.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في:10 جمادى الأولى 1427ه
الموافق ل:6 جوان 2006م(10/89)
الفتوى رقم: 486
في حكم العمل في المؤسسات الإدارية ذات موارد محرمة.
السؤال: ما حكم العمل في المؤسسات الإدراية، إذا كانت موارد ميزانيتها من المكوس، وغيرها من الأموال المحرمة ؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فالموظف في المؤسسات الإدارية للدولة أو غيرها التابعة لها يقدم - في حدِّ ذاته- عملاً مشروعًا ومباحًا، ومن هنا كان الفرق ظاهرًا مع الموظَّف في المؤسسات إدارية كل مواردها محرمة، أو أصل تأسيسها على محرم كالإقراض الربوي في المؤسسات المالية أعني البنوك بالدرجة الأولى لأنَّ الموظف فيها يقدم عملاًَ محرَّمًا في ذاته، فهو إن لم يكن كاتبًا للربا يكون شاهدًا عليه وقد جاء في الحديث "لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صَلَى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلمَ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ"، قال: هُمْ فِي الوِزْرِ سَوَاء"(1)، ويلحق بهذا النوع الموظفون في الضرائب والمكوس ونحوها، لكن المصدر المالي لهذه المؤسسات الحكومية مختلط بين الحلال والحرام، لأنَّه عادة ما تكون أموال الخزينة مما تحصِّلها الدولة من الضرائب والمكوس والفوائد الربوية والملاهي المحرمة والقمار وغيرها، فباذل المال فيها غير مخصوص، لذلك لا يمنع هذا الاختلاط من استيفاء الديون والتكسب الوظيفي إذ لا يحكم على الموظف بأنَّه آخذ للمال الحرام بسبب اختلاطه، وقد علم في زمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والخلفاء الراشدين من بعده أنَّ أثمان الخمور ودراهم الربا والغلول المختلطة بأموال الناس قد كانت تجعل في خزانة بيت المال، وقد كان العمال يأخذون رواتبهم من بيت المال، وقد أدرك الصحابة رضي الله عنهم نهب المدينة في عصر يزيد بن معاوية وتصرف الظلمة، ولم يقل أحد بمنع التعامل ولو فعلوا ذلك لانسدَّ باب جميع التصرفات ولحصل للأمة ضيق شديد وحرج عظيم، وما دام أنه من المحال أن تصفو خزانة الدولة من المال الحرام، والمال الحرام مال عام فإذا لم يعلم صاحبه فمآله إلى بيت مال المسلمين لينفقه على المرافق العامة وأهل الوظائف بالمرافق العامة يستحقونها بناء على مشروعية عملهم في الأصل، وعليه فلا يسع القول بحرمة الرواتب المأخوذة من العمل في المؤسسات الحكومية ما لم يكن المباشر فيها يعمل عملاً غير مشروع في ذاته، لثبوت حق الموظف في ذمة الدولة لا في عين المال المحرم.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 20 جمادى الثانية 1427ه
الموافق لـ: 17 جويلية 2006م
__________
1- أخرجه مسلم في المساقاة (1598)، وأبو يعلى (1849)، والبيهقي في شعب الإيمان (5506)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.(10/90)
الفتوى رقم: 489
في حكم المال الزائد عن القيمة المدفوعة الناتج عن خطإ المؤسسة أو نسيان الزبون
السؤال: أشتغل موظف استقبال في مستشفى خاص ونحن نقوم بأخذ قيمة الكشف من المريض وتسليمه فاتورة نحتفظ نحن بنسخة منها نسلِّمها آخر اليوم لقسم الحسابات، ولأنه من طبع البشر الخطأ، فإن المستشفى يعطينا نصيبًا ماليًّا محدَّدًا كبدل عجز أي أن هذا متوسط ما قد يحصل للموظفين من عجز أثناء تسليم المال وفي حال عدم حصول العجز فإن هذه الزيادة تدخل في راتب الموظف وإن كان العجز المالي أكثر من النصيب الممنوح فإن الموظف يدفعه من ماله ولا يهم المستشفى حتى وإن أخطأ الموظف وتسببت غفلته في دفع راتبه في يوم واحد كبدل عجز، والإشكال ليس هنا إنما هو في المال الزائد عن قيمة الفواتير التي يجب تسليمها للحسابات وقد يكون بسبب نسيان أحد المرضى أخذ الباقي أو بسبب خطأ ناجم عن نظام الشركات والفواتير أحيانا حيث يعطي الكمبيوتر نسبة لا تكون هي المطلوبة أو لغيرها من الأخطاء. وسؤالي -حفظكم الله- هو ما حكم المال الزائد؟ وهل يجوز للموظفين إبقاؤه في خزينتهم لدفعه في حال حصول عجز كبير لهم؟ مع ملاحظة أن المستشفى كبير ويتعامل مع العشرات في اليوم الواحد ويصعب معرفة مصدر الزيادة كما يصعب معرفة مصدر العجز الذي يفوق المبلغ المعطي بكثير. بارك الله فيكم ووفقكم لما يحبه ويرضاه
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فالأصل في الأموال التحريم، ولا يحلُّ أن يتصرَّف في مال الغير إلاَّ بإذنه لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« لاَ يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ"(1- أخرجه الدارقطني (300) وأحمد (5/72)، والبيهقي (6/100) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، والحديث صححه الألباني في الإرواء (5/279) رقم (1459)، وفي صحيح الجامع (7539)) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ..."(2- أخرجه البخاري في العلم (67)، ومسلم في القسامة (4477)، وأحمد (2923)، والدارمي (1968)، والبيهقي (9894)، من حديث أبي بكرة رضي الله عنه) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« كُلُّ المسْلِمِ عَلَى المسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ"(3- أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب (6706)، وأبو داود في الأدب (4884)، والترمذي في البر والصلة (2052)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه) لذلك كانت حقوق العباد واجبة الأداء لأصحابها ولا يجوز تغطية بها العجز الناجم عن الخطإ في هذه المؤسسة الاستشفائية أو غيرها، لأنَّ هذه الأموال ليست ملكه ولا ملك المستشفى، ووجب ردها لأصحابها، وفي حالة العجز عن ردِّها واليئس من رجوع أصحابها، تنفق في المرافق العامة وإن تعذَّر تصدق الفقراء بالنيابة عن أصحابها، فإن عادوا أخبروا بأمرها، فإن طالبوا بإرجاع حقهم رُدَّ لهم المبلغ، وكان أجر الصدقة له.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في:29 جمادى الثانية 1427ه
الموافق لـ: 25 جوان 2006م
__________
1- أخرجه الدارقطني (300) وأحمد (5/72)، والبيهقي (6/100) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، والحديث صححه الألباني في الإرواء (5/279) رقم (1459)، وفي صحيح الجامع (7539).
2- أخرجه البخاري في العلم (67)، ومسلم في القسامة (4477)، وأحمد (2923)، والدارمي (1968)، والبيهقي (9894)، من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.
3- أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب (6706)، وأبو داود في الأدب (4884)، والترمذي في البر والصلة (2052)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(10/91)
الفتوى رقم: 504
في حكم العمل في صندوق التأمين الفلاحي
السؤال: هل يجوز العمل في صندوق التأمين الفلاحي ؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فلا يجوز العمل في مؤسسات التأمين، لأن التأمينات بسائر أنواعها يقترن بها الغرر وتلحقها المحاذير الشرعية الأخرى كما بيّنها العلماء في كتبهم وقد أجمعت هيئة كبار العلماء على عدم جواز التأمينات بمختلف أشكالها ولا يخفى أنّ العمل تعاون والأصل أنّ التعاون الأخوي يكون مبنيًّا على البر والتقوى لقوله تعالى: ?وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ? [المائدة: 2].
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبيه محمّد وآله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليمًا.
الجزائر في: 20رجب1427ه
الموافق ل: 14أوت2006م(10/92)
الفتوى رقم: 516
في شرط وجود العامل في شركتي الأبدان والأموال
السؤال: هل يجوز لي المطالبة برأس مالي، والفوائد إذا ما قرّرتُ الغياب عن الشركة والتخلِّي عنها؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وآله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فبحسب محتوى السؤال يختلف الجواب باختلاف ما إذا كانت الشركة شركة أبدان أو شركة أموال، فإن روعيت الشركة الأولى فإنّ من شرطها وجود العامل بعمله وهو شرط أساسي للشركة، وغيابه يقتضي انحلاله من الشركة باعتبار انتفاء عنصر العمل البدني فيها، أمّا إذا كانت الشركة مؤسسة على الأموال بحيث لا يشترط تواجد المشارك ضمن الشركة فإنّه إن لم يعلق العقد على مدة مقيدة فإنّه يستصحب بقاؤه إلى حين أن يثبت عكسه جريا على قاعدة:" استصحاب الحال" ولا يجوز لهم فسخ العقد معه إلاّ بعد إعلامه ثمّ فصل الشركة معه بإرجاع أمواله بما في ذلك الفوائد إليه بحسب ما اتفقوا به عليه. وإذا تقرر الأمر الثاني فمن حقك المطالبة بكل الصفقات التي أجريت واستعملت فيها أموالك ما لم تتنازل عنها.
هذا ما بان لنا من مضمون السؤال، ويبقى الأمر في تعيين أحدهما موكولا إلى ما قرر الشركاء في العقد الأول.
والعلم عند الله تعالى وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
الجزائر في: 20رجب1427ه
الموافق ل: 14أوت2006م(10/93)
الفتوى رقم: 521
في حكم أخذ عوض مالي على معلومات مستخرجة من الإنترنت
السؤال: طلب منّي شخصٌ أن أبحث عن معلومات عن طريق الإنترنت مقابِل أخذ أجرة على البحث، وعلى طباعة الأوراق، فهل هذا المال مباح؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فيختلف الحكم باختلاف ما إذا كان المصدر المأخوذ عنه تلك المعلومات يأذن في استعمالها والانتفاع بها من غير اشتراطٍ من جهة، وصفة تلك المعلومات المستخرجة من حيث صلاحُها من فسادها من جهة ثانية، فإن كانت صالحة ومأذوناً فيها من غير تقييد ولا اشتراط جاز استعمالها انتفاعًا وأخذ الأجرة مقابل أتعاب البحث والعمل، أمّا إن كانت غيرَ صالحة أو غيرَ مأذونٍ في استخراجها إلاّ بإذن من الجهة المسئولة عنها فلا يجوز إلاّ بموافقتهم وإذنهم، أمّا إذا كانت هذه الجهة تجيز الانتفاع الشخصي دون التجاري فيجوز أن يأخذ في مقابِل عمله أجرةَ البحث والأوراق المستخرجة من الطابعة تقصّدًا للتعاون مع الغير في ذلك الانتفاع الشخصي ولا يتعدّاه، استنادًا إلى النصوص الشرعية المحرِّمة لأموال المسلم إلاّ بطيب نفسٍ منه، والنصوص الأخرى الآمرة بالتعاون على البرِّ والتقوى الناهية عن التعاون على الإثم والعدوان.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيِّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا.(10/94)
الفتوى رقم: 648
في حكم عمل سائق أجرة بدون ترخيص (فرُودْ)
السؤال:
أعملُ بسيارتي سائقَ أجرةٍ أسترزقُ بها, بدون ترخيصٍ من الدولة بما يسمى (فرُودْ) لظروف اجتماعية، فهل كسبي حرامٌ بدون ترخيص؟ أفيدونا بالحكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالأصلُ في الأشياءِ والأعيانِ المنتَفَعِ بها ومختلَفِ المكاسِبِ وأنواعِ التجاراتِ والعقودِ والشروطِ الحِلُّ والإباحةُ، ولا تحريمَ فيها إلاّ ما ثَبَتَ فيه الدليلُ على تحريمه، لقوله تعالى: ?هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا? [البقرة: 29]، وقولِه تعالى: ?أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً? [لقمان: 20]، وقولِه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« الحَلاَلُ مَا أَحَلَّهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ وَالحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَمِمَّا عَفَا عَنْهُ »(1)، ولذلك كان التحليلُ والتحريمُ حقًّا لله تعالى وحدَه يحكمُ ما يشاء، قال تعالى: ?وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا? [الكهف: 26]، وقال تعالى: ?قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ? [يونس: 59]، وقال تعالى: ?وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ? [النحل: 116].
أمّا تصرُّفات الولاةِ والعمال والحكام فَمَنُوطَةٌ بالمصلحة، وعامّة تصرُّفاتهم إنما تكون ملزمةً على العامّة والرعيةِ إذا كانت مبنيةً على مصلحة الجماعة، ومعلّقةَ القصدِ على خيرها، برعاية خير التدابير لإقامة العدلِ وإزالةِ الظلمِ وإحقاقِ الحقِّ، وصيانةِ الأخلاق، والحِرْصِ على الأموال العامّة ورعايتِها وإنفاقِها في وجوه الخير ومنافعِ المسلمين؛ لأنّ «مَنْزِلَةَ الإِمَامِ مِنَ الرَّعِيَّةِ مَنْزِلَةُ الوَلِيِّ مِنَ اليَتِيمِ » كما أُثِرَ ذلك عن الإمام الشافعيِّ(2)، ومُسْتَنَدُهُ قولُ عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه:« إِنِّي أَنْزَلْتُ نَفْسِي مِنْ مَالِ اللهِ بِمَنْزِلَةِ وَالِي اليَتِيمِ، إِنِ احْتَجْتُ أَخَذْتُ مِنْهُ، فَإِذَا أَيْسَرْتُ رَدَدْتُهُ، فَإِذَا اسْتَغْنَيْتُ اسْتَعْفَفْتُ »(3).
وعليه، فإن كان تصرّف الولاة بفرض ترخيص على سيارات الأجرة محقّقًا لهذا المعنى بحماية الزبائن من جَشَعِ التُّجار، وذلك بتقييدهم بعدّاد لا يرهقون به الزَّبُونَ ولا يُظْلَمُ فيه صاحبُ السيارةِ، كان تصرّفًا صحيحًا نافذًا شرعًا؛ لأنه تحقيقٌ للعدل، إذ «لاَ يَجُوزُ لأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ مَالَ أَحَدٍ إِلاَّ بِحَقٍّ ثَابِتٍ مَعْرُوفٍ »، وما لم يكن محقّقًا للمصلحة العامّة ولا مبنيًّا على المقاصد الشرعية لم يكن تصرّفهم صحيحًا ولا نافذًا على نحو ما بيّناه في فتوى سابقة موسومة بعنوان:« في الاعتدادِ بِحُكمِ الحاكمِ في رفع الخلاف »(4- رقم الفتوى: 457).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 4 صفر 1428ه
الموافق ل: 22 فيفري 2007م
__________
1- أخرجه الترمذي في «اللباس »: (1830)، وابن ماجه في «الأطعمة »: (3492)، والبيهقي: (19873)، من حديث سلمان رضي الله عنه. وصححه الألباني في «صحيح الجامع »: (3195).
2- انظر المنثور للزركشي:(1/183).
3- أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى »: (11164)، من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه. وصححه ابن كثير في «إرشاد الفقيه »: (2/51)، وفي «تفسير القرآن العظيم »: (2/190).
4- رقم الفتوى: 457.(10/95)
الفتوى رقم: 656
في حكم تغيير سجل الأداء المعيق لعمل صاحب الشاحنة
السؤال:
هل يجوز لسائقِ شاحنةِ بضائعَ أن يُغَيِّرَ في سِجِلِّ الأداءِ المحدِّدِ لعددِ ساعاتِ السياقةِ في اليوم من طرفِ المصالح العمومية لدولةٍ أجنبيةٍ غيرِ مسلمةٍ بالزيادةِ على مُدَّة السياقة المحدَّدة بستِّ ساعات. علمًا أنّ هذا التحديدَ يُعِيقُ عملَ السائقِ في إكمال مهامِّهِ تجاهَ صاحبِ العمل والزَّبونِ، ويُسبِّبُ له مفاسدَ ماليةً وصِحِيَّةً؟
الجواب:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وآله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أما بعد:
فإذا كانتِ السلطاتُ المسئولةُ في هذه البلادِ تحدِّدُ عددَ ساعاتِ سياقةِ الشاحناتِ في اليوم بستٍّ ساعات في سجل الأداء المثبَّت على متن الشاحنة، واتخذت هذه التدابير للتنظيم الحسَنِ للمرور ودفعًا للزحمة التي تسبِّبُها كثرةُ الشاحنات تتعدَّى من خلالها إلى حقوق الآخرين على أن تمنح تعويضًا مناسبًا لأصحاب الشاحنات عن الساعات التي لم يعملوا فيها بسبب الحظر التي فرضته عليهم، فإنّ مثل هذه التدابير لا تخرج عن وجه العدل ما دامت تعوِّضُ النقصانَ تعويضًا مناسِبًا من جهة، وتصونُ حقوقَ الآخرين من جهة أخرى، وبالتالي فإنه لا يجوز الإخلالُ بالتدابير المفروضة بالتزوير والمساسِ بالعَدَّاد وغيرِها من الأمور المعلومِ خطرُها على أصحاب الشاحنات.
أمَّا إذا لم تراعِ الجهاتُ المسئولةُ على التدابير المتَّخذة أحقِّيةَ كسبِ المستحقِّين وصيانة مساعيهم وتصرّفاتهم، فإنّ مثل هذه القوانينِ والتنظيماتِ تورثُ ظلمًا ولا تحقّق عدلاً وهي مبايِنَةٌ لشرعنا الحنيفِ، وقد ثبت من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: غلا السِّعْرُ في المدينة على عهد رسولِ الله صَلَّى الله عليه وآله وسَلَّم فقال الناس: يا رسول الله غلا السعر، فسَعِّرْ لَنَا، فقال رسولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وآله وسَلَّم:« إِنَّ اللهَ هُوَ المُسَعِّرُ القَابِضُ البَاسِطُ الرَّازِقُ، وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنكُمْ يَطْلُبُنِي بِمَظْلَمَةٍ فِي دَمٍ وَلاَ مَالٍ »(1- أخرجه أبو داود في «الإجارة »: (3451)، والترمذي في «البيوع »: (1314)، وابن ماجه في «التجارات »: (2200)، وأحمد: (13643)، وأبو يعلى: (3830)، من حديث أنس رضي الله عنه. قال ابن عبد البر في «الاستذكار » (5/423):« روي من وجوه صحيحة لا بأس بها »، وصحّحه ابن الملقن في «البدر المنير »: (6/507)، والألباني في «غاية المرام »: (323))، فاستفيد تحريم التسعير من كونه مظلمةً، والظلمُ حرامٌ قطعًا، وقد حرَّمه اللهُ تعالى على نفسه وعلى عباده في آيات وأحاديث كثيرة منها قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم فيما يرويه عن ربه:« يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلاَ تَظَالَمُوا »(2- أخرجه مسلم في «البر والصلة »: (6582)، والبخاري في «الأدب المفرد »: (497)، من حديث أبي ذر رضي الله عنه)، ووجه الظلم في الحديث أنّ فيه إجبارًا للبائع وإكراهه في البيع بغير رضاه وهو منافٍ لقوله تعالى: ?إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِنكُمْ? [النساء: 29]، فالتسعيرُ حَجْرٌ على حُرِّية الأفرادِ وتضييقٌ على تصرُّفاتهم لذلك حَذَّر النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم أُمَّته من الوقوع في مظالم الناس عامَّة سواء في الدماء أو في الأموال وأراد لقاء الله تعالى بريئًا من تبعيتها.
وبناءً عليه، فإنه إذا ضُيِّق عليهم في حرية كَسْبِهِمْ ومعاشهم وحُجِرَ على تصرُّفاتهم ومنافعهم على وجه التعسّف والتسلّط فإنّ بابَ اللهِ أوسعُ وحكمُه أمضى، «وَإِذَا ضَاقَ الأَمْرُ اتَّسَعَ » واتساعه في حدود الأحقّية وقيود الحاجة لأنّ «الأَمْرَ إِذَا اتَّسَعَ ضَاقَ » على نحو ما تجري عليه القواعد العامَّة.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 7 رمضان 1427ه
الموافق ل 30/09/2006م
__________
1- أخرجه أبو داود في «الإجارة »: (3451)، والترمذي في «البيوع »: (1314)، وابن ماجه في «التجارات »: (2200)، وأحمد: (13643)، وأبو يعلى: (3830)، من حديث أنس رضي الله عنه. قال ابن عبد البر في «الاستذكار » (5/423):« روي من وجوه صحيحة لا بأس بها »، وصحّحه ابن الملقن في «البدر المنير »: (6/507)، والألباني في «غاية المرام »: (323).
2- أخرجه مسلم في «البر والصلة »: (6582)، والبخاري في «الأدب المفرد »: (497)، من حديث أبي ذر رضي الله عنه.(10/96)
الفتوى رقم: 677
في مشروعية استخدام المقاول مال المستصنع في مشروعه العمراني
في مشروعه العمراني
السؤال:
أمتلكُ قطعةَ أرضٍ وأريدُ أن أبنيَ عليها عمارةً تحتوي شُقَقًا للبيع يُدفع الثمن على شكلِ أقساطٍ، بعضه معجّل، علمًا أنّي لا أملك مالاً وإنّما أبتدئ البناء بما يدفعه الزبائن من الأقساط المعجّلة، فما حُكم هذا العمل؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
فلا يُشترطُ في الصانع أن يعمل بماله الشخصيِّ في عقد الاستصناع(1)، بل يجوز أن يستخدمَ مالَ المُستصنِعِ في مشروعه سواء قَبَضَ رأسَ مالِ المستصنِعِ في مجلس العقد كُلَّه أو أجّل الثمنَ كُلَّه أو أخذه منه على شكلِ أقساطٍ معلومةٍ لآجالٍ معلومةٍ؛ لأنّ الاستصناعَ عَقْدٌ واردٌ على العمل والعَيْنِ في الذِّمَّة، وإنما يُشترَطُ فيه بيانُ جنسِ المستصنَعِ، وقدره، ومساحته، ونوعه، وأوصافه المشروطة والمطلوبة منها تحديد الأجل ويكون مُلْزِمَ الطَّرفينِ إذا توفّرت فيه الأركان والشروط.
وكذا القول بالنسبة لعقد السَّلَمِ(2) غيرَ أنه يُشترط فيه قبضُ رأسِ المالِ في مجلسِ العقد حتى يَصِحَّ عند الجمهور خلافًا لمالك -رحمه الله-.
كما يفارق السَّلَمُ عقدَ الاستصناعِ في أنّ المبيعَ في السَّلَم دَيْنٌ تحتمله الذِّمَّة، أمَّا المبيع في الاستصناع فهو عينٌ لا دَيْنٌ، ولا يشترطُ فيه قبضُ رأسِ مالِ المستصنِعِ كما تقدّم، لكن في كِلاَ العقدين يجوز له استعمال مالِ المستصنِعِ أو المُسلم فيه المعطى له في كلا المبيعين، ويتحقّق الارتفاق لكلا الطرفين، فيرتفق الصانع أو المسلَم إليه برأس المال المعجّل أو بعضِ أقساطِهِ فينفقه في مصالحه فتندفع حاجتُهُ الحاضرةُ، ويرتفق المسلِم أو المستصنع بالرخص، فيربح الفرق بين قيمة المبيع والبيع المطلق تحقيقًا لمصلحة الطرفين معًا، فلو لا ذلك لعمّ الضيقُ والحَرَجُ على كثير من الناس و«المَشَقَّةُ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ »، قال تعالى: ?وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ? [الحج: 78].
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمّد، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 25 ربيع الثاني 1428ه
الموافق ل: 13 ماي 2007م
__________
(1) الاستصناع: عقد على مبيع في الذمة شرط فيه العمل على وجه مخصوص بثمن معلوم.
أركانه: 1 - المستصنِع: طالب الصنعة فردا أو مؤسسة أو دولة.
2 - الصانعُ: من يقوم بتحضير المواد الأولية ويتولى عمل تصنيعها ،وهو بمثابة البائع في البيع.
3 - العين المصنوعة: المادة الأولية الخام،وهي التي يقوم الصانع بتحويلها إلى المطلوب.
4 - الثمن: المال الذي يدفعه المستصنع للصانع نظير المطلوب.
5 - الصيغة: ما يعبر به عن العقد ويتم بها ابرامه.
(2) السلم: بيع موصوفٌ في الذمة مؤجّل بثمن مقبوض في مجلس العقد.
أركانه: 1 - العاقدان: البائع والمشتري (المُسْلِم: المشتري، والمُسْلَم إليه: البائع).
2 - المعقود عليه: شيئان رأس مال السَّلَم: الثمن، والمُسْلَم فيه: المُثْمَن.
3 - الصيغة: الوسيلة التي يتم بها العقد.(10/97)
الفتوى رقم: 834
في العمل عند من غلب على كسبه الحرام
السؤال:
لي صديق تاجرٌ اكتسب مالاً كثيرًا من كراء سِجِّله التجاري لغيره من التجار، وقام مع شخصٍ آخرَ يُتاجِرُ في الهوائيات المقعَّرة، وأجهزةِ استقبالِ القنوات الفضائية، بتأسيس شركةٍ للسفر والسياحة بغرض أخذ الناس لأداء مناسك العمرة والحجِّ، وقد عرض عليَّ أن أعمل معه مُرشِدًا للمعتمرين، فما حُكم العمل في هذه الوكالة؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالذي لا يتحرَّى الحلالَ في مَكاسِبِه، ولا يُبالي بأكل الحرام، ولا بطريقة جمعه للمال على صفة ما أخبر به المصطفى صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« لَيأتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمانٌ لاَ يُبَالِي المَرءُ بِمَا أَخَذَ المالَ أَمِنْ حَلالٍ، أمْ مِنْ حَرامٍ »(1)، وفي الحديث:« مَنِ اكْتَسَبَ مَالاً مِنْ مَأْثَمٍ فَوَصَلَ بِهِ رَحِمَهُ، أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ، أَوْ أَنْفَقَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ جُمِعَ ذلِكَ كُلُّهُ جَمِيعًا فَقُذِفَ بِهِ فِي جَهَنَّمَ »(2)، فإن كان هذا حاله فلا ينصح بالعمل معه ولا مصاحبته إذا لم يتب ممَّا جمع من غير الطيب من المال، ولم يعزِم على التخلُّص منه على وجه التقوى والإخلاص، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسلم:« لاَ تُصَاحِبْ إِلاَّ مُؤْمِنًا وَلاَ يَأْكُلُ طَعَامَكَ إِلاَّ تَقِيٌّ »(3)، وفي الحديث:« أَرْبَعٌ إذَا كُنَّ فِيكَ فَلاَ عَلَيْكَ مَا فَاتَكَ مِنَ الدُّنْيَا: حِفْظُ أَمَانَةٍ، وَصِدْقُ حَدِيثٍ، وَحُسْنُ خَلِيقَةٍ، وَعِفَّةٌ فِي طُعْمَةٍ »(4).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 20 المحرم 1429ه
الموافق ل: 27 جانفي 2008م
__________
1- أخرجه البخاري في «البيوع »، باب قول الله: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً?: (2083)، وابن حبان في «صحيحه »: (6726)، والدارمي في «سننه »: (2441)، وأحمد في «مسنده »: (9528)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2- نسبه المنذري في «الترغيب والترهيب » (2/148) لأبي داود في «المراسيل » من حديث القاسم بن مخيمرة رضي الله عنه، وحسنه الألباني في «صحيح الترغيب والترهيب »: (1721).
3- أخرجه أبو داود في «الأدب »، باب من يؤمر أن يجالس: (4832)، والترمذي في «الزهد »، باب ما جاء في صحبة المؤمن: (2395)، وأحمد في «مسنده »: (10944)، والحاكم في «مستدركه »: (7169)؛ من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. والحديث حسَّنه البغوي في «شرح السنة »: (6/468)، والألباني في «صحيح الجامع »: (7341).
4- أخرجه أحمد في «مسنده »: (6614)، والبيهقي في «شعب الإيمان »: (4801)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. والحديث حسنه الهيثمي في «مجمع الزوائد »: (10/529)، وصحَّحه أحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد »: (10/138)، والألباني في «صحيح الجامع »: (873).(10/98)
الفتوى رقم: 874
في الحرفة إذا ما اقترنت بشبهة الحرام
السؤال:
أعمل كهربائي المنازل، وليست لي حرفة أخرى، وقد أوقعني بعضُ الإخوة في حيرة، حيث أخبروني بأنّ عملي قد يكون حرامًا، وحُجتهم أنَّ غالبية العائلات تقتني التلفاز والهوائي وغيرها مما يستعمل في الحرام، وبعضهم أخبرني بأن العبرة بالغالب، والغالبُ استعمالها فيما هو حلال.
فأرجو جوابًا شافيا لحالتي، وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فاعلم أنَّ أصْحابَ المِهَنِ الحُرَّة والصنَاعَاتِ والحِرَف والوظَائفِ العامَّةِ إنْ باشَرُوا عملَهُم في أَصلٍِ مشروعٍ خالٍ من مُحَرَّماتٍ ومُنكراتٍ، أو أَعَانُوا عليهِ علَى وَجْهٍ تَسُدُّ حَاجَةَ المجتَمَعِ، أَو تَجْلُبُ لهم نَفعًا حقيقيًّا فهو عملٌ صالحٌ، وكسبٌ حلالٌ، وتعاونٌ على الخيرِ.
أمَّا إذَا كَانَ مِن شَأْنِ هذهِ المِهَنِ والحِرَفِ والصنَاعَاتِ وَالوظَائِفِ مباشَرَةُ الحَرامِ أو الظُلْمِ أو الفَسَادِ فلا يَجُوزُ العملُ فيهَا وَلا الإعَانَةُ عليهَا، فالتعَاوُنُ على مَا أَصْلُه مُحرَّمٌ أَو شَرٌّ مَحْضٌ أَو فَسَادٌ ظاهِرٌ تعاونٌ على الإثْمِ والعُدْوانِ، لقوله تعالى: ?وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ? [المائدة: 2]، كالتعَاوُنِ على عَمَلٍ رِبَوِيٍّ، أَوْ نَادٍ للرَّقْصِ واللَّهْوِ والفُجُورِ، أوْ مَحَلٍّ للخَمْرِ والمخَدِّرَاتِ، أو قَاعَاتٍ للفُنُونِ الجِنْسِيَةِ، والأفْلامِ الماجِنَةِ والخَلِيعَةِ، وأمَاكِنِ كَشْفِ العَوْراتِ، أو مَصَانِعَ للتدْخِينِ والتِّبْغِ وصناعَةِ التمَاثِيلِ ونحو ذَلكَ، فالتحريمُ يشْملُ كلَّ مَنْ شَارَكَ فيهِ بِجُهْدٍ مادِيٍّ أَوْ أَدَبِيٍّ أَوْ أَعَانَ عليهِ، وكُلُّ كَسْبٍ يأْتِي بهذه الطرِيقِ فهُو سُحْتٌ خَبِيثٌ، و«كُلُّ لحمٍ نبتَ مِن سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى به »(1)، ولاَ يعفى من الإثم من لا يباشر الحرام ولا يقترفه إن أعان عليه؛ لأنَّ الإعانة على الإثم إثمٌ، ولهذا لعن النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم آكلَ الرِّبا وموكله وكاتبه وشاهديه، وقال:« هُمْ سَوَاءٌ »(2) -أي: في الوزر- ولعن عاصرَ الخمر وحامِلَها والمحمولةَ إليه، وعمومَ المتعاونين عليها كما لعن شاربَها(3).
أمَّا إذا اقترن بعمل مشروع مفاسدُ محتملةٌ أو نادرةُ الوقوع أو مستبعدة، أو تكون منغمرةً تحت أصل عملِه الحلال؛ فإنَّ العبرة فيها بالغالب ولا حُكم للنادر، فإن قويت عنده شُبهة المفاسد والمحرمات التي يَرِقُ فيها الدِّين، ويضْعفُ فيهَا اليَقِينُ، فإن كانت قابلة للانفكاك والتجزئة فيما لا علاقة له بالشبهة القوية عمل فيما اطمأنت نفسه من الحلال البين وإن كانت لا تقبل التجزئة أولها علاقة بمحل الشبهة فالوَاجِبُ علَى المسْلِمِ أنْ يَكُونَ بِمَنْأَى عَنْ مَوَاطِنِ الشُبُهَاتِ ولَوْ كَانَ فيهَا الكَسْبُ ثَمِينًا وَفِيرًا، عَمَلاً بقَوْلِهِ صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهُاتِ وَقَعَ فِي الحَرَامِ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ »(4) ولقوله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ »(5)
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 24 ربيع الأول 1429ه
الموافق ل: 31 مارس 2008م
__________
1- أخرجه الترمذي في «سننه » كتاب العيدين، باب ما ذكر في فضل الصلاة: (614)، والدارمي في «سننه »: (2674)، من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه، وأخرجه ابن حبان في «صحيحه »: (1723)، والحاكم في «المستدرك »: (8302)، وأحمد في «مسنده »: (14032)، من حديث جابر رضي الله عنه، والحديث صححه الألباني في «السلسلة الصحيحة »: (6/214)، وحسنه الوادعي في «الصحيح المسند »: (260).
2- أخرجه مسلم في «صحيحه » كتاب المساقاة، باب لعن آكل الربا ومؤكله: (4093)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
3- أخرجه أبو داود في «سننه » كتاب الأشربة، باب العنب يعصر للخمر:(3674)، وابن ماجه في «سننه » كتاب الأشربة، باب لعنت الخمر على عشرة أوجه: (3380)، وأحمد في «مسنده »: (4772)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. والترمذي في «سننه » كتاب البيوع، باب النهي أن يتخذ الخمر خلا: (1295)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. والحديث صححه ابن الملقن في «البدر المنير »: (8/699)، والألباني في «إرواء الغليل »: (2385)، وحسنه الوادعي في «الصحيح المسند »: (59).
4- أخرجه البخاري في «صحيحه » كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه: (50)، ومسلم في «صحيحه » كتاب المساقاة: (4094)، وأبو داود في «سننه » كتاب البيوع، باب في اجتناب الشبهات: (3330)، والترمذي في «سننه » كتاب البيوع، باب: ما جاء في ترك الشبهات: (1205)، وابن ماجه في «سننه » كتاب الفتن، باب الوقوف عند الشبهات: (3984)، والدارمي في «سننه »: (2436)، وأحمد في «مسنده »: (17907)، من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.
5- أخرجه الترمذي في «سننه »كتاب صفة القيامة والرقائق والورع: (2518)، والنسائي في «سننه »كتاب الأشربة، باب الحث على ترك الشبهات: (5711)، وابن حبان في «صحيحه »: (722)، والدارمي في «سننه »: (2437)، والحاكم في «المستدرك »: (2169)، وأحمد في «مسنده »: (1729)، من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما، والحديث صححه أحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد » (3/169) والألباني في «الإرواء »: (12)، وفي «صحيح الجامع »: (3373)، والوادعي في «الصحيح المسند » (318).(10/99)
الفتوى رقم: 875
في حكم التعاون مع مقاول يتقاضى ثمن المبيعات من البنك
السؤال:
يملك شخص ورشة تلحيم، يقوم بصناعة آلات غزل النسيج لصالح مقاول وهو بدوره ببيعها ويتقاضى ثمنها من البنك، فهل يجوز لي العمل عند صاحب ورشة التلحيم؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فإذا كان المقاول يأخذ ثمن المبيعات من الرصيد البنكي للمشتري فلا حرج في ذلك، أما إذا كان البنك يتعامل مع المستفيدين من آلات غزل النسيج عن طريق القروض الربوية الصريحة أو المقنعة بالبيع فلا يجوز التعاون مع صفقات ربوية سواء تمَّت الصفقات مباشرة مع الورشة أو بواسطة مقاول لكون التعامل مبنيًّا على الظلم وأكل أموال الناس بالباطل قال تعالى: ? وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ? [المائدة:2]
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 24 رجب 1426ه
الموافق ل: 29 أوت 2005م(10/100)
الفتوى رقم: 964
في حكم خياطة ملابس المرأة المنزلية يُحتمل خروجها بها
السؤال:
ما حكم خياطة الملابس النسائية والثياب المَنْزلية التي لا تُغَطَّى بها مواضع الزينة، وبعض الثياب التي تُلبس في الأفراح المحتوية على رسوماتٍ بالحرير؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فإنَّه يُشترط لجواز مثل هذه الملابس المزيَّنة بالأشكال والرسوم أن تكون خاليةً من ذوات الأرواح، ومُخصَّصَةً بالبيوت والمنازل وأن لا تُرى فيها المرأة إلاَّ من زوجٍ أو ذي محرم.
ولمَّا عمَّت البلوى بخروج المرأة من بيتها من غير ضوابطَ شرعيةٍ على وجه يمنعه الشرع، أو تستقبل بثيابها الأجانبَ من غير حياءٍ ولا اكْتِرَاثٍ، فكان الجدير بالمتعامِل أن لا يتعاون على هذا النوع من الخياطة لما له من إعانةٍ على انتشار الفتنة، قال تعالى: ?وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ? [المائدة: 2]، والاحتمال في الوقوع في مثل هذه المخالفات غالبٌ، والحكم له لا للنادر، وإلاَّ فإنَّ هذا العمل يُوَرِّثُ شبهةً واجبةَ الترك لقِلَّةِ الدِّين والحَيَاء، قال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسلم: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ»(1)، وقال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسلم: «فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فََقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ فَقَدْ وَقَعَ فِي الحرَامِ»(2)، وعملاً بالقاعدة القائلة :«مَا لاَ يَتِمُّ تَرْكُ الحَرَامِ إِلاَّ بِتَرْكِ الجَمِيعِ فَتَرْكُهُ وَاجِبٌ».
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 28 جمادى الأولى 1423ه
الموافق ل: 8أوت 2002م
__________
1- أخرجه الترمذي في «صفة القيامة والرقائق والورع» (2518)، والنسائي في «الأشربة» باب: الحث على ترك الشبهات (5711)، وابن حبان في «صحيحه»: (722)، والدارمي في «سننه»: (2437)، والحاكم في «المستدرك»: (2169)، والطيالسي في «مسنده»: (1178)، وأحمد في «مسنده»: (1729)، وأبو يعلى في «مسنده»: (2762)، من حديث الحسن بن علي رضي الله عنه، والحديث صححه أحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد» (3/169) والألباني في «الإرواء» (1/44) رقم: (12)، وفي صحيح الجامع: (3373)، والوادعي في «الصحيح المسند»: (318).
2- أخرجه البخاري في «الإيمان» باب فضل من استبرأ لدينه (50)، ومسلم في «المساقاة»، باب أخذ الحلال وترك الشبهات (4094)، وأبو داود في «البيوع» باب في اجتناب الشبهات (3330)، والترمذي في «البيوع» باب: ما جاء في ترك الشبهات (1205)، وابن ماجه في «الفتن» باب الوقوف عند الشبهات (3984)، والدارمي (2436)، وأحمد (17907)، والبيهقي (10537)، من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.(10/101)
03- الهبات
الفتوى رقم: 1
القسمة بين الأولاد في العطية
السؤال: نرجو من شيخنا أبي عبد المعز -حفظه الله ونفع به- أن يتفضل بالإجابة على السؤال الآتي: اتفق شخص (وهو على قيد الحياة) مع أولاده ذكورا و إناثا على السواء على قسمة أرض يملكها، فهل تتم هذه القسمة على أساس الميراث، أم على أساس التساوي في العطية؟
أفيدونا مما أفادكم الله، وجزاكم الله خيرا.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين و الصلاة والسلام على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد :
فإنّ التسوية في العطية المطلوبة شرعا بين الذكور والإناث التي يتحقق بها العدل هي أن يعطي الذكر ضعف قدر ما يعطى للأنثى على حسب قسمة المواريث، وبهذا قال عطاء وشريح و إسحاق بن محمد ومحمد بن الحسن الشيباني وهو مذهب الحنابلة وبه قال ابن تيمية رحمهم الله، وخالف في ذلك مالك والشافعي وابن مبارك وأبو يوسف وأهل الظاهر وغيرهم فجعلوا التسوية في مقدار العطية أن تعطى للأنثى بقدر ما يعطى للذكر، لأنّها عطية في الحياة فاستوى فيها الذكر و الأنثى كالنفقة و الكسوة، كما استدلوا بظاهر الأمر بالتسوية الوارد في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم لبشير بن سعد:" أيسرك أن يستووا في بِرِّكَ قال: نعم، قال: فسوِّ بينهم"(1) والبنت كالابن في استحقاق برّها فكذلك في عطيتها، و بحديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله عليه و سلم "سوّوا بين أولادكم في العطية فلو كنت مفضلا أحدا لفضلت النساء"(2) ولأنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل على أولاد بشير بن سعد أكلهم ذكور أو فيهم أنثى؟ و ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزّلُ منزلة العموم في المقال كما هو مقرر في القواعد ).
والجواب: أنّ المولى عزَّ وجل قسمَ المواريث بين الذكور و الإناث للذكر مثل حظ الأنثيين، وتفضيل الذكر في قسمة المواريث فلزيادة حاجته، إذ المهر والنفقة عن الزوجة والأولاد إنما هي على الذكر. والأنثى لها ذلك كله، و هذا المعنى موجود في العطية سواءً باعتبار الحال أو المآل وغير موجود في الكسوة والنفقة، وعطية الوالد لولده إذا كانت في الحياة هي إحدى حالتي العطية، فينبغي أن لا تختلف عن الأخرى وهي حالة الموت، الأولى وقسمة لله تعالى وردهم إلى فرائضهم وسهامه، أما حديث النعمان فلم يرد ما يدل على حال أولاده و لعل النبي صلى الله عليه و سلم علم أنه ليس له إلا الذكور، و على تقدير العموم في تركه للاستفصال فإن الاحتجاج به على التسوية في نفس العطية لا يصلح لاحتمال أن المراد بالتسوية في أصل العطاء لا في صفته، لذلك تحمل التسوية الواردة في حديث النعمان على القسمة على كتاب الله تعالى و هي صفة العطاء، أمّا حديث ابن عباس -رضي الله عنهما - فلا يتمّ الاحتجاج بالشطر الثاني منه لكونه ضعيفا وهو محل الشاهد لأنّ في إسناده سعيد بن يوسف متفق على تضعيفه، وذكر ابن عدي في "الكامل" أنّه لم يُر له أنكر من هذا الحديث. هذا وإن كان الحافظ حسّن إسناده إلاّ أنه ضعف ابن يوسف هذا في تقريبه، لذلك قال الألباني معقبا عليه: (ومنه تعلم أن قول ابن حجر في الفتح " إسناده حسن" غير حسن) وأضاف قائلا : (ثمّ وجدت الحديث قد رواه أبو محمد الجوهري في الفوائد المنتقاة و عند ابن عساكر من طريق الأوزاعي قال حدثني يحي بن أبي كثير قال رسول الله صلى الله عليه و سلم فذكره، و هذا إسناد معضل، و هذا هو أصل الحديث، فإنّ الأوزاعي ثقة ثبت، فمخالفة سعيد بن يوسف إياه إنما هو من الأدلة على وهنه و ضعفه)(3).
وعليه فالواجب العدل في عطية الأولاد على حسب ميراثهم و هو ما كان عليه الأمر في العهود المفضلة قال عطاء : (ما كانوا يقسمون إلا على كتاب الله تعالى ) و هذا خبر عن جميعهم، وفي هذا حجة على أنهم كانوا يعطون الذكر مثل حظ الأنثيين، وجاء عن شُريح أنه قال لرجل قسم ماله بين أولاده: (رُدوهم إلى سهام الله تعالى وفرائضه) والله أعلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلّم تسليما.
الجزائر في 15 ذو الحجة 1417ه
الموافق ل: 22 أفريل 1997م
__________
1- رواه مسلم، كتاب الهبات، باب كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة.
2- أخرجه البيهقي(12357)،وابن عدي في الكامل(178/2)، والخطيب في تاريخ بغداد(11/108)، وضعفه الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة: (1/347)، وإرواء الغليل: (6/67).
3- سلسلة الأحاديث الضعيفة: (1/347)، وإرواء الغليل: (6/67).(10/102)
الفتوى رقم: 17
الرجوع في الوقف
السؤال: أرض حبسها والدي خلال سنة (1965م) لله من أجل استعمالها لأغراض دينية، ولم تستغل هذه الأرض من طرف الأوقاف حتى أممت من طرف الثورة الزراعية سنة (1971م) وفي سنة (1991م) أعيدت إليَّ الأرض حيث بقيت مسجلة على الوالد رحمه الله الذي وافته المنية سنة (1982م) ولم تسجل لدى أملاك الدولة على الأوقاف، وقد سبق أن طلبت فتوى لدى بعض الفقهاء فقيل لي إنّ هذه الأرض إن لم تستغل من طرف الأوقاف حتى تُوفي الموقف تصبح الأرض ملكاً لورثته. أفيدونا بفتوى صحيحة في الموضوع يرحمكم الله.
الجواب: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين ، أمّا بعد:
فاعلم أنّ ما عليه أهل العلم عدم جواز الرجوع في وقف المسجد ولا التغيير فيه، ويعد تصرف الواقف لازما، لأنّ وقف المسجد حين يتمّ يصير خالصاً لله وخلوصه لله يقتضي عدم الرّجوع ويتحقق لزوم الوقف بمجرد الصيغة أو ما يقوم مقامها كالتخلية بين الذّات الموقوفة وبين النّاس على أرجح قولي أهل العلم و به قال المالكية و هو المشهور عند الحنابلة وإليه ذهب أبو يوسف من الحنفية خلافاً لمن يشترط تسليم المال الموقوف ويجعل اللزوم متوقفاً على تمام التسليم، وذلك بإلحاق الوقف على الهبة والصّدقة المستقبلة إذ هما تمليك فلا اعتبار إلا بالهبة والصدقة المنجزة أي أنّ كلاّ لا يتم إلاّ بالتسليم إلى الموهوب له أو المتصدق عليه، وبهذا قال محمد بن الحسن وهو إحدى الروايتين عن أحمد، ولا يخفى الفرق في القياس السابق على الهبة والصدقة، ذلك لأنّ كلاّ منهما تمليك مطلق للمال ومنفعته معاً بخلاف الوقف فهو تسبيل للثمرة وتحبيس للعين لا تمليك لها بل تمليك للمنفعة مع إسقاط لملكية العين فأشبه بالعتق الذي يلزم ويتم بمجرد الصيغة.
غير أنّ الوقف قد يبطل عند حدوث مانع يحول دون التمكن من الانتفاع به ويستمر المانع قائماً إلى موت الواقف قبل القبض الفعلي دون أن يتحقق غرض المُحبس ويبقى عديم الجدوى إلى حين موت المُحبس ففي هذه الحالة يصير الوقف ملكاً لورثته، كما هو الشأن بالنسبة للغصب المُقنن المتمثل في "الثورة الزراعية" أو "الإصلاح الزراعي".
والعلم عند الله تعالى وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّ اللّهم على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلّم تسليما.
الجزائر في : 11 صفر 1417ه(10/103)
الفتوى رقم: 148
في حكم الهبة في مرض الموت
السؤال: عائلة تتكون من خمسة إخوة: أختين وثلاث إخوة وأمّهم، توفي أبوهم سنة(1397ه-1976م)، ثمّ توفي جدهم سنة(1405ه-1984م)-(جدهم أبو أبيهم).
البيت الذي يسكنونه كان ملكا لجدهم أبي أبيهم.
-هذا الجد له ابن واحد متزوج ويسكن وحده (عمّ الإخوة الخمسة)، وكان متبعا لزوجته الفاسدة الأخلاق والسيرة، ولظروف خاصة(من الناس من يقول كان مسحورا من طرف زوجته الفاسدة)، لم يهتم بوالديه، ولم يساعد الإخوة أبناء أخيه الخمسة اليتامى، بل لم يساعد حتى أباه.
-هذا الجد له أيضا بنت واحدة متزوجة عمّة الإخوة اليتامى الخمسة.
لمّا مرض هذا الجد وأوشك على الوفاة، ذهب مع ابنته وبرضاها ومع أمّ الإخوة الخمسة إلى الموثق (رأوا من باب المصلحة أن يجعلوا مأوى لهؤلاء الأطفال اليتامى)، وكتب عقدا يُؤكد فيه أنّ البيت هبة للإخوة الخمسة اليتامى الذين لا مأوى لهم ولا عائل ولا والد.
لمّا كبر هؤلاء الإخوة الخمسة، أنفقوا على هذا البيت القديم لترميمه.
عم وعمة الإخوة الخمسة لا يزالون على قيد الحياة.
1) ما هو الحكم الشرعي في هذه الهبة.
2) هل يترتب على هؤلاء الإخوة الخمسة إثم إثر اكتسابهم لهذه الدار.
3) هل صحيح أنّ العمّ والعمّة، يجب أن يأخذوا حقوقهم رغم هذه الظروف.
4) هل كاتب العقد (الجد) له إثم إثر هذا الإجراء الذي رأى فيه المصلحة.
والسلام عليكم و رحمة الله و بركاته
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فهذه الهبة إن كانت منجزة في الحال غير معلّقة على شرط ولا مضافة إلى المستقبل(1) ووقعت في حالة صحة الجدّ الواهب فإنّها تخرج من جميع أمواله قولا واحدا لا خلاف فيه(2) وإن كان الجدّ في حالة مرض الموت، فإنّ هذه الهبة تخرج منها الثلث(3) مادام الموهوب لهم غير ورثة وتنزل الهبة منزلة الوصية(4) فإن كانت الهبة زائدة على ثلث ماله يكون الزائد موقوفا على إجازة الورثة، فإن أجازوه نفذ، وإن لم يجيزوه بطل الزائد على الثلث(5).
فإن تقررت الحالة الأولى وهي حالة الصحة فلا يلحق الإثم الجد ولا الإخوة، وليس للعمّ والعمّة أي مطالبة بتلك الدار الموهوبة لهم.
أمّا الحالة الأخرى وهي حالة المرض فإنّه إن لم يقصد بتصرفه الإضرار بالورثة فلا يترتب عليه إثم-إن شاء الله-.
والعلم عند الله تعالى وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّى اللّه على محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما.
الجزائر في:23 ربيع الأول 1422ه
الموافق ل :14 جويلية 2001م
__________
1- لأنّ الهبة تمليك لمعيّن في الحياة فإن علقها على شرط كان وعدا(المغني لابن قدامة:5/658).
2- المغني لابن قدامة:(6/71).
3- بداية المجتهد لابن رشد:(2/46).
4- قال ابن المنذر في "الإجماع"(125):" وأجمعوا على أنّ حكم الهبات في المرض حكم الوصايا، وتكون من الثلث إن كانت مقبوضة".
5- المغني لابن قدامة:(6/71)، مغني المحتاج للشربيبي:(3/50).(10/104)
الفتوى رقم: 305
القسمة في عطية الأولاد
السؤال: هل يجوز للأب أو صاحب المال أن يقسم تركته من مال وأرض ... لأبنائه وبناته وزوجته قبل وفاته؟
مثلا: عن طريق الوصية أو شيء من هذا القبيل(موثق)، اجتنابا للفتنة بين الأبناء بعد ذلك، إن كان الجواب بالنفي فكيف الحل؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فاعلم أنّ التركات لا تقبل القسمة إلاّ بعد تحقق موت الموَرّث وتحقق حياة الوارث وإنّما يسعه أن يقسم أمواله بين أولاده من باب الهبة أو العطية، ويشترط فيها وجوب التسوية بين الأولاد والعدل بينهم ذكورا و إناثا وتحريم التفضيل والتخصيص عملا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم:«اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم »(1) وقوله صلى الله عليه وسلم للبشير بن سعد:«أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟ » قال: نعم، قال:" فسوّ بينهم"(2) وصفة العدل والتسوية بين الأولاد أن يعطى للذكر ضعف قدر ما يعطى للأنثى على حسب قسمة المواريث، وبهذا قال عطاء وشريح ومحمد بن الحسن الشيباني وهو مذهب الحنابلة وبهذا قال ابن تيمية(3)، ذلك لأنّ تفضيل الذكر في قسمة المواريث إنّما لزيادة حاجته، إذ المهر والنفقة عن الزوجة والأولاد هي على الذكر أمّا الأنثى فلها ذلك وهذا المعنى موجود في الهبة، وهذه الصفة في العطية كانت معروفة في العهود المفضلة كما قال عطاء:« ما كانوا يقسمون إلاّ على كتاب الله » وهو خبر عن جميعهم، وفي ذلك حجة شرعية قائمة على أنّهم كانوا يعطون الذكر مثل حظ الأنثيين. ولا يتمّ الاحتجاج بالشطر الثاني الذي هو محلّ الشاهد من رواية ابن عباس رضي الله عنه مرفوعا:« سوّوا بين أولادكم في العطية، فلو كنت مفضلا أحدا لفضلت النساء »(4) هذا الشطر من الحديث الذي استدل به من قال بالتسوية المماثلة بين الذكر والأنثى لا ينتهض لكونه ضعيفا لأنّ في سنده سعيد بن يوسف وهو متفق على تضعيفه.
والله أعلم،وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين و صلّ اللهم على محمّد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في:12ربيع الأول1420ه
الموافق ل :26جوان1999م
__________
1- متفق عليه: البخاري في الهبة، باب الإشهاد في الهبة(2587)، ومسلم في الهبات(4267)، والبيهقي(12351) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.
2- أخرجه مسلم في الهبات(4272)، وأحمد(18856).
3- انظر المغني لابن قدامة(5/606-607)، مجموع الفتاوى لابن تيمية(39/276-297).
4- أخرجه البيهقي(12357)،وابن عدي في الكامل(178/2)، والخطيب في تاريخ بغداد(11/108)، وضعفه الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة: (1/347)، وإرواء الغليل: (6/67).(10/105)
الفتوى رقم: 309
هبة الأولاد
السؤال: تملك جدتي (16) قطعة ذهبية وأبناؤها سبعة ذكور وبنتان، وحيث إنّ أولادها الذكور قصَّروا في معاملتها من طرف زوجاتهم! (كذا) فأعطت القطع الذهبية لأحفادها وبناتها وبقي أربعة أبناء غير متزوجين لم ينالوا حقّهم، ماذا يترتب عليها؟ وهل يجب أن تعطيهم أم لا؟ علما أنّها في حالة غضب وأقسمت ألاّ تعطي أولادها وأعطت الأحفاد، فما حكم ما عملت جدّتي جزاكم الله خيرا ؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدّين، أمّا بعد:
فاعلم أنّ التسوية بين الأولاد في العطايا والهبات محلّ اتفاق بين العلماء لما فيه من تحقيق العدل، وتصفية القلوب من الضغينة والحقد والعداوة والقطيعة، وإشعارهم بالمودّة والإخاء، حتى نقل عن السلف أنّهم كانوا يسوُّون بين أولادهم في القُبَل.
هذا، والعلماء وإن كانوا يختلفون في حكم التسوية بين الوجوب والاستحباب، إلاّ أنّ المذهب الراحج من حمل نصوص الأحاديث النبوية الواردة في هذا الشأن على وجوب التسوية بين الأولاد وتحريم التفضيل بينهم وتخصيص بعضهم وهو مذهب أحمد وبعض أهل الحديث وأهل الظاهر، والمشهور من هذا المذهب بطلان الهبة أو العطية المجرّدة عن التسوية بين الأولاد، وذلك لما اتفق عليه الشيخان من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: أعطاني أبي عطية فقالت عمرة بنت رواحة:"لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم" فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:" إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية، فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله " فقال "أعطيت سائر ولدك مثل هذا" قال: لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم" قال "فرجع فردّ عطيته"(1) وفي رواية:" كلّ بنيك نحلت؟"(2) وفي رواية:" لا أشهد على جور"(3) "أشهد على هذا غيري"(4)، "سووا بين أولادكم"، ففي هذا الحديث اعتبره النبي صلى الله عليه وسلم عملاً منافياًَ للتقوى لما فيه من الجور والظلم، وما كان كذلك فالأصل فيه المنع، ولمجيء الأمر بالعدل معرّى عن قرينة صارفة، وأوامره بهذا الشكل تفيد الوجوب، ثمّ إنّ قوله صلى الله عليه وسلم للبشير بن سعد رضي الله عنه "فاردده"(5) وفي رواية "فارتجعه"(6) أي على العطية ممّا يدلّ على بطلانها، ولو لم تكن الهبة بهذه الصورة ممنوعة لما كانت باطلة.
فالحاصل أنَّ ما أعطت هذه الجدّة لبناتها وأحفادها إمّا أن يكون لموضع الحاجة فيجوز ولكن يقدّر بقدرها، أو لكونهم أنفقوا عليها من مالهم، وأرادوا الرجوع فلها أن تعطيهم من مالها في حدود ما أنفقوا عليها، لأنّ نفقة الوالدين من مالهما، وإن كانت عطيّتها لبعض الأولاد وحرمان البعض الآخر فإنّ هذا الفعل باطل لما فيه من الظلم والجور كما تقدّم في الحديث ويؤدّي إلى العقوق وقطيعة الرحم وما أدّى إلى حرام فحرام، لأنّ الوسائل لها حكم المقاصد.
فالواجب أن تردّها وترجعها ما لم تكن لها إرادة في أن تسوي الأمر مع بقية أولادها المحرومين، أو رضي أولادها المحرومون بهذا التفضيل أو التخصيص فتصحّ في هذه الحالة ما وهبته لهم، أمّا إذا لم تكن لها إرادة التسوية أو لم يرض أبناؤها المحرومون وجب عليها أن ترتجع الهبة وتكفّر عن يمينها لقوله تعالى:? ولَكِن يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيٍكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيْرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ? [المائدة 89].
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
__________
1- متفق عليه: البخاري كتاب الهبة باب الإشهاد في الهبة (2587)، ومسلم كتاب الهبات (4267)، والبيهقي (12351)، من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.
2- أخرجه النسائي في النحل(3679)، والبيهقي (12358).
3- أخرجه البخاري الشهادات(2650)، ومسلم في الهبات(4269)، والنسائي في النحل(3682)، وأحمد(18860).
4- أخرجه البيهقي (12360).
5- أخرجه مسلم في الهبات(4263)، والنسائي في النحل(3677)، وابن ماجه (2376)، وأحمد(18879)، والحميدي في المسند(968)، والبيهقي(12350).
6- أخرجه البخاري في الهبة (2586)، ومسلم في الهبات (4262)، والنسائي في النحل (3688)، وابن حبان (5100)، والبيهقي (12349)، من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.(10/106)
الفتوى رقم: 381
في استحقاق الأحفاد العدل في العطية
السؤال: هل عدم العدل بين الأولاد يتضمن الأحفاد ؟ أحسن الله إليكم.
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فلا خلاف بين أهل العلم في أنّ ولد الأبناء ولد لجدهم من حيث النسب لدخولهم في قوله تعالى ?يُوصِيكُم اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ?[النساء:11] فالولد في الشرع يقع حقيقة على من يرجع النسب إليه من جهة الأبناء، لذلك اتفق العلماء على أنّ الابن وابن الابن يرث ولو سفل إذا كان يرجع بنسب آبائه إلى الميت ولم تحل بين ابنين منهما أو ما لم يكن هناك ابن حي أو ابن أقرب منه(1)، وقد استشهد الفرضيون على دخول ولد الأبناء في الميراث بقول الشاعر:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ==== بنوهن من أبناء الرجال الأباعد.
وإذا تقرر أنّ ولد الأبناء ولد لجدهم كانوا أسوة بآبائهم في استحقاق العدل في الهبة والعطية إذا عدم آباؤهم لعموم قوله صلى الله عليه وسلم "اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم"(2).
والعلم عند الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 5ربيع الثاني 1426ه
الموافق ل: 14 مايو 2005م
__________
1- مراتب الإجماع لابن حزم: (98).
2- أخرجه البخاري في الهبة(2587)، ومسلم في الهبات(4267)، من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.(10/107)
الفتوى رقم: 452
في قبول أموال تاجر اختلطت بالحرام
السؤال: أقدم تاجر على تمويل مكتبة مسجد بما تحتاجه، غير أنّ القائمين عليها تحرجوا من قبول إعانته لكون تجارته اختلط فيها الحلال بالحرام، فما حكم قبول إعانته؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فمن اختلط ماله الحلال بالحرام، فإنَّه تجوز معاملته إذا كان غالبه من الحلال، ذلك لأنَّ "الغالب له حكم الكلِّ"، و"معظم الشيء يقوم مقام كلِّه" على ما تجري به القواعد العامة، ويستدلُّ لذلك بقوله تعالى: ?يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا? [البقرة: 219] فسبب المنع كون الإثم أكبر من النفع وهو معنى: أنَّه إذا غلب الحرام الحلال فإنَّ الحكم للحرام، وعكسه إذا غلب الحلال الحرام فإنَّه يَحِل حكمًا، وهذا مذهب الحنفية ومالك وابن القاسم والحنابلة ورجحه ابن تيمية حيث قال:" فإنَّ كثيرًا من الناس يتوهم أنَّ الدراهم المحرمة إذا اختلطت بالدراهم الحلال حرم الجميع، فهذا خطأ، وإنما تورع البعض فيما إذا كانت قليلة، وأما مع الكثرة فما أعلم فيه نزاعًا"(1).
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 8 جمادى الأولى 1427ه
الموافق ل: 4 جوان 2006م
__________
1- مجموع الفتاوى لابن تيمية: 29/321.(10/108)
الفتوى رقم: 482
في تخصيص أحد الأولاد بعطية مع رضا إخوته
السؤال: أنا شاب متكفِّل بوالديّ وإخوتي والعامل الوحيد في هذه الأسرة، وقد استفاد والدي من قطعة أرضية من مصالح البلدية، وكنت أنا الذي دفع ثمنَها، وبعد مدة بِعْنَا القطعة الأرضية، واشتريت بثمنها منزلا، وتمَّ هذا الشراء برضا جميع الأسرة، فهل في هذا الصنيع محظور؟
الجواب: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين ، أمّا بعد:
فالأصل أن يسوِّي الوالدُ في الهبة والعطية بين أولاده بالعدل، فلا يخصص بعضهم دون بعض ولا يفضّل بعضهم على بعض لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:«اتَقُوا اللهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ"(1)، لكن إذا أجاز كل الأولاد بما خُصَّ به أخوهم وتنازلوا له عن التخصيص أو التفضيل بمحض إرادتهم، جاز له أن يستأثر بالعطية دون بقية إخوته، غير أنه إذا منع بعضُهم في البداية فتلغى العطية في حقه لقوله صلى الله عليه وآله وسلم للبشير بن سعد رضي الله عنه:"فارْجِِعْهُ"(2) أي العطية لعدم وجود العدل بين الأولاد.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في:12 جمادى الثانية 1427ه
الموافق لـ:7 جويلية 2006م
__________
1- متفق عليه: البخاري في الهبة، باب الإشهاد في الهبة(2587)، ومسلم في الهبات(4267)، والبيهقي(12351) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.
2- أخرجه البخاري في الهبة (2586)، ومسلم في الهبات (4262)، والنسائي في النِحل (3688)، وابن حبان (5100)، والبيهقي (12349)، من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.(10/109)
الفتوى رقم: 527
في قبول هدية من اختلط ماله بالحرام
السؤال: لي أختٌ تعمل في شركة التأمين التجاري، وقد نصحتها مرارًا، لكن دون جدوى، فهل يجوز لي أن أقبل هداياها؟ عِلمًا أنّ لها مالاً تحصلت عليه عن طريق الإرث.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فالأموالُ التي تَرِدُ من جهاتٍِ قام الدليلُ على منعها كالبنوك الربوية المحرّمة أو شركات التأمين التي مبناها على الجهالة والغرر المنهي عنه فهي أموالٌ لا يجوز أخذها كهدايا أو قَبول إنفاق، إلاّ لذوي الحاجات وأهل الاضطرار، فهؤلاء يسعهم أن يأخذوا بقدر الحاجة مع الكراهة والإنكار لقوله تعالى: ?فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ? [النحل: 115]، كما ينبغي أن يكون قلبه غيرَ راض بكلِّ عمل ظهر له من الشرع حُرْمَتُهُ، حتى يتمّ له أمر البراء من المعاصي لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« إِذَا عُمِلَتِ الخَطِيئَةُ فِي الأَرْضِ كَانَ مَنْ شَهِدَهَا فَكَرِهَهَا [وفي رواية: فَنَكِرَهَا] كَمَنْ غَابَ عَنْهَا وَمَنْ غَابَ عَنْهَا وَرَضِيَهَا كَمَنْ شَهِدَهَا »(1- أخرجه أبو داود في (4345)، من حديث العرس بن عميرة الكندي رضي الله عنه. وحسّنه الألباني في «صحيح الجامع » (689)، وفي المشكاة (5069)).
فالأموال التي ورثتها فإن كانت عبارة عن عَقَّار أو أثاث فيبقى الحكم على ما هو عليه، أمّا إن كانت نقودًا فإن كان فيها الغالب وهو المستعمل جاز ذلك، فإن اختلط بغيره اختلاطًا يمكن تمييزه بين الحلال والحرام عمل بالتمييز وإلاّ فما كان أكثر حلالاً فجاز له، وما كان دون ذلك أو ساوى بين الحلال والحرام فيتركه توّرعًا.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 7 ربيع الأول 1427ه
الموافق ل: 6 أفريل 2006م
__________
?- أخرجه أبو داود في (4345)، من حديث العرس بن عميرة الكندي رضي الله عنه. وحسّنه الألباني في «صحيح الجامع » (689)، وفي المشكاة (5069).(10/110)
الفتوى رقم: 541
في حكم الهدايا الإشهارية
السؤال: ما حكمُ الهدايا الإشهارية التي توزّعها الشركات؟ علمًا أنّ تكاليفها تخصم من قيمة الضرائب.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فإذا كان المقصودُ من المنظمين للهدايا الإشهارية التعريف بالشركات التجارية، ونوعية المنتوج على وجه الإشهار فضلاً عن استرداد مالهم بالتقليص من حجم الضرائب المفروضةِ، فلا أرى مانعًا في التعامل بها وتوزيعها بحَسَب المناطق الإشهارية، ما لم تقترن الهدايا بالأعياد البِدْعِية كنهاية السنة الميلادية أو الهجرية أو ما لها طابعٌ عَقَدي منهي عنه شرعًا أو تضمنت هدايا العمّال أو الإضرار بالتجار فإنّ هذه الهدايا تمنع بهذه الأسباب والمحاذير الشرعية، فإذا انتفت، فالأصل فيها الحلّ والجوازُ.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 21 رجب 1427ه
الموافق ل: 15 أوت 2006م(10/111)
الفتوى رقم: 604
في صفة اشتراط الإقامة للاستفادة من منحة العاطلين
السؤال: أَمْتَلِكُ إقامةً فرنسية ولستُ مُقيمًا بها، والدولة الفرنسية تمنحني مبلغًا من المال كمِنْحَةٍ مُسَاعِدة للعاطلين عن العمل، فهل يجوز لي أخذها؟
الجواب: الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فالمالُ الذي تمنحه الدولةُ مُساعدةً للعاطلين عن العمل إنما يدخل في باب الهبات، فإن كانت الدولة المانحة تشترط لإعطاء هذه العطية شروطًا أساسيةً منها: وجوب الإقامة ببلدها على وجه الاستقرار والاستمرار لتُسْتَحَقَّ هذه المنحةُ فإنَّ تخلُّلَ إقامته بأسفارٍ من حين لآخر لا يمنع أخذ هذه المنحة لوقوعها على شرط الدولة الواهبة، لأنّ «الأصلَ في الأموال التحريم » إلاَّ ما كان عن رضًا وطيبِ نفسٍ، أمّا إذا غاب عن محلّ الإقامة غيابًا معتبرًا لا تجيزه الدولة الواهبة فإنّ المال الممنوح لم يؤخذ على وَفْقِ شرطها، هذا كله إذا كان شرط الإقامة أساسيًّا أمّا إذا كانت الإقامة مشترطةً على وجه الكمال فإنه لا يُسْقِطُ تغيُّبُه عن محلّ الإقامة أخذَ ما تمنحه الجهة الواهبة(1).
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في 25 من ذي القعدة 1427ه
الموافق ل: 16 ديسمبر 2006م
__________
1- ملاحظة: هذا، وجدير بالتنبيه إلى خطر الإقامة في بلدان الكفر ومساكنتهم على دين المسلم وعرضه، وقد نبهت على ذلك في فتاوى سابقة، مثل الفتوى الموسومة ب:« الإقامة في بلاد الكفر لطلب العلم الشرعي » ضمن فتاوى متنوعة، والفتوى الموسومة ب:« في شرط السفر إلى بلاد الكفر » ضمن فتاوى العقيدة.(10/112)
الفتوى رقم: 634
في توقف الانتفاع بالمنحة على تحقيق شرط المانح
السؤال:
إذا اتفق شخصٌ مستفيدٌ من عقود ما قبل التشغيل لخِرِّيجي الجامعات مع صاحب العمل أو المؤسّسة على عدم الحضور، ويقوم صاحبُ العمل بالتوقيع له على كشف الحضور كلّ شهر، فهل له أن يأخذ هذه المنحة للحالتين التاليتين: الأولى: لمواصلة الدراسة في الجامعة، والثانية: لعدم وجود ارتباطات أخرى.
نرجو التفصيل في ذلك؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فإذا اتفقَ صاحبُ العملِ أو المؤسَّسة مع المستفيد من عقدِ ما قبلَ التشغيل على الغياب وعدمِ العمل مع توقيعِه له على التزام حضوره والعمل على حساب ما تمنحه الدولة من مالٍ للمستفيد ولربِّ العمل، فإنّ ذلك يُعدُّ خيانةً وظلمًا وزورًا، وأكلاً لأموال الناس بالباطل، والذي ينبغي على المسلم أن يتحلَّى بالصِّدق في كلّ أحواله فلا يَغُشُّ ولا يخدع ولا يُزوِّر ولا يخون ولا يحتالُ على مال الغير ولا يُعين على ذلك، قال الله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ? [التوبة: 119]، وقال سبحانه: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالعُقُودِ? [المائدة: 1]، وقال سبحانه: ?وَأَوْفُواْ بِالعَهْدِ إِنَّ العَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً? [الإسراء: 34]، وقال تعالى: ?وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ? [المائدة: 2]، وقال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« كُلُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ »(1).
واعلم أنّ «الأصلَ في الأموال التحريمُ »، وما تمنحه الدولة للمستفيدين هو هِبةٌ مشروطةٌ بعملٍ داخلةٌ في باب التبرّعات، وكلّ ما أُخِذَ على غير وجهه الشرعي فهو أكلُ أموال الناس بالباطل، ولا يجوز له الانتفاع به إلاّ بعد تحقيقِ شرطِ الواهب.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 16 صفر 1428ه
الموافق ل: 06 مارس 2007م
__________
1- أخرجه مسلم في «البر والصلة والآداب »: (6706)، وأبو داود في «الأدب »: (4884)، والترمذي في «البر والصلة »: (2052)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(10/113)
الفتوى رقم: 649
في حكم ما زاد عن الثمن الممنوح من الدعم الفلاحي
السؤال:
قامتِ الدولةُ بإعطائنا أرضًا ودعمًا ماليًّا لغرس أشجار النخيل, وخصّصَتْ مبلغًا معيّنًا لكلّ لوازمِ هذه المزرعةِ، فشراءُ النخيلِ بمبلغٍ, والكهرباءُ بمبلغٍ, ومضخّاتُ الماءِ بمبلغٍ, وحفرُ البئرِ بمبلغ, وهذا الأخيرُ [أي: حفر البئر] خصّصتْ له -كأقصى حدٍّ- مبلغًا يقدر بخمسةٍ وعشرين ألفَ دينارٍ جزائريٍّ, وكنّا قد وكّلنا مُقاوِلاً لحفر البئر, فقام هذا الأخيرُ بحفره بمعدّل أمتارٍ لا تصل للثمن الذي خُصّص لنا, وفي غيابنا سجّل الفاتورةَ بالمبلغ كلِّه الذي خُصّص لنا -ولعلّ نيّتَه أن نعطيه شيئًا من المال الزائد عن الثمن الحقيقي للبئر- وقد استلمنا الثمنَ كلَّه ولا نستطيع ردّ المال الزائد لصندوق الدعم الفلاحي, ولم يبق من الدعم المالي الذي خصّص لنا إلاّ ثمن المضخات لم نأخذه بعد, وهو يعادل تقريبًا الثمنَ الزائد لكلفة حفر البئر, فهل الواجب علينا عدمُ أخذِ ثمنِ المضخّات مقابلَ ذاك المالِ الزائدِ؟ أو نأخذُ ثمنَ المضخّاتِ, ونَصْرِفُ المبلغَ الزائدَ على المزرعة؟ مع العلم أنّ المزرعة عند انتهاء الأشغال بها ستصبح مِلكًا شخصيًّا لنا. وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالأصلُ في الأموال التحريمُ، و«لاَ يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ »(1)، سواءٌ أكان شخصًا طبيعيًّا أو شخصًا معنويًّا اعتباريًّا، ودعمُ الدولةِ الفلاحيُّ هو مساعدةٌ ماليةٌ تمنحها الدولةُ لغرضِ تحقيقِ التنميةِ الفلاحيةِ المرجوَّةِ، وهي داخلةٌ في الهِبةِ المشترطةِ بالشرط المتقدّم.
وعليه، فما أُخِذَ زيادةً على المبلغ الممنوحِ فهو تَعَدٍّ على مالِ الغيرِ وظُلْمٌ له، وقد جاء في الحديث:« كُلُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ »(2)، والواجبُ عليه إن لم يستطع ردَّه إلى صندوق الدعم الفلاحي، أن يرجعه إلى الخزينة العامَّة للدولة، فإن لم يصل إليها فعليه أن يستغني عن المضخّات المقدّرة بثمنها مُقاصّةً، فإن كان الدعم زائدًا عنها واستحالت كافة طرق الإرجاع إلى الدولةِ مالكةِ المال، فإنه ينفقه على المرافق العامّة؛ لأنها إحدى نفقات الدولة، فإن تعذّر ذلك أنفقها على الفقراء والمساكين والمحتاجين. وهو أولى منهم إن كان فقيرًا مسكينًا، يأخذ حاجته منه وينفقه على غيره من الفقراء والمساكين.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 14 ربيع الأول 1428ه
الموافق ل: 2 أبريل 2007م
__________
1- أخرجه أحمد: (20172)، وأبو يعلى في «مسنده »: (1570)، والبيهقي: (11740)، من حديث حنيفة الرقاشي رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في «الإرواء »: (1459)، وفي «صحيح الجامع »: (7539).
2- أخرجه مسلم في «البر والصلة والآداب »: (6706)، وأبو داود في «الأدب »: (4884)، والترمذي في «البر والصلة »: (2052)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(10/114)
الفتوى رقم: 663
في حكم رجوع الابن على ما أنفقه على ملكية أبيه
السؤال:
يملك والدي مسكنين، وقد شاركت بمبلغ كبير في شراء أحدهما وبنائه، ولم يسهم باقي إخوتي بشيء في إنشائه، كما أنّ والدي وعدني أنه إذا باع المسكنَ أن يعوِّضَ لي ما بذلتُ، فهل يجوز لوالدي أن يبيعه لي بحيث نقدِّر القِسط المبذولَ وننقصه من قيمة المسكن ثمّ أدفع له الباقي؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فإذا كان الابن ما نوى الإنفاق على مسكن أبيه إلاّ ليرجع في ذلك المال، حلف على ذلك ورجع فيه، وله أن يجعله قسطًا من القيمة الحقيقية للمسكن الذي يريد شراءه إن رضيه أبوه؛ لأنّ غيره ليس أولى منه، وله أن يشتريَه دون القيمة الحقيقية إن رضيه الجميع ولم يُلحِق بهم ضررًا عملاً بقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارٍ »(1).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 14 ربيع الثاني 1428ه
الموافق ل: 2 ماي 2007م
__________
1- أخرجه ابن ماجه في «الأحكام »: (2430)، وأحمد: (23462)، والبيهقي: (12224)، من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.وصحّحه الألباني في «الإرواء »: (896). وفي «السلسلة الصحيحة »: (250)، وفي «غاية المرام »: (254).(10/115)
الفتوى رقم: 727
في التباس الهدية بالرشوة
السؤال:
ما حكم أخذ أو أكلِ ما يحضره بعضُ الطلبةِ لمعلم القرآن من أكل، أو ما يبعث به أولياؤهم من مال أو هدايا، مع العلم أنه لا يطلب منهم ذلك؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فَلاَ مانعَ من قَبول الهديةِ إذا كان قصد المُهدي استجلاب المودّة والمعرفة والإحسان، عملاً بقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« تَهَادُّوا تَحَابُّوا »(1)، ويُكره ردُّها لغير مانعٍ شرعيٍّ، ففي الحديث:« مَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ »(2)، أمّا إن كان قصد المهدي التوصّل -بقصده- إلى إبطال حقٍّ أو تحقيق باطل فما قدّمه من الهدية إنما هو رشوة محرّمة لم يحلّ قَبولهُا، وصاحبُها ملعونٌ على لسان النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم حيث قال:« لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الرَّاشِي وَالمُرْتَشِي »(3)، وتَرِدُ الرشاوى على شكل هدايا لأهل الولايات والمناصب الإدارية والقضائية ونحوها توصّلاً إلى أن يميلوا مع المهدي، ويدلّ عليه قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« هَدَايَا العُمَّالِ غُلُولٌ »(4)، وفي قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَرَزَقْنَاهُ رِزْقًا فَمَا أَخَذَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ غُلُولٌ »(6)، وقال ابن مسعود رضي الله عنه لمّا سئل عن السُّحْتِ:« الرجل يطلب الحاجة للرجل فيقضيها، فيهدي إليه فيقبلها »(7).
والعِلةُ في منع الهدية في هذه الأحوال إنما هي خشية تَحَوُّلها إلى الرشوة مآلاً: إمّا في ذات الحكم، وإمّا في شيء ممَّا يجب قيام المسئولية من أهل الولايات به، «وَمَا أَدَّى إِلَى حَرَامٍ فَهُوَ حَرَامٌ ».
فالحاصل: أنّ الأصلَ في الهدية الجوازُ، ويُكرهُ ردُّها إلاّ لوجود مانعٍ شرعيٍّ قام الدليل على مَانِعِيَّتِهِ من قَبول الهدايا، فله -والحالُ هذه- حكم الرشوة المحرَّمة كما تقدّم في شأن أهل المناصب والمصالح والولايات ونحوها.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 9 جمادى الثانية 1428ه
الموافق ل: 24 جوان 2007م
__________
1- أخرجه البخاري في «الأدب المفرد »: (607)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (12168)، وأبو يعلى في «مسنده »: (6148)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والحديث جوّد إسناده العراقي في «تخريج الإحياء »: (2/53)، وحسنه ابن حجر في «تلخيص الحبير »:(3/1047)، والألباني في «الإرواء »: (1601).
2- أخرجه أبو داود في «الزكاة » باب عطية من سأل بالله عز وجلّ: (1672)، والنسائي في «الزكاة »، باب من سأل بالله (2567)، وأحمد: (5357)، وابن حبان في «صحيحه »: (2071)، والحاكم (2410)، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. والحديث صححه العراقي في «تخريج الإحياء »: (1/300)، وأحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد »: (8/63)، والألباني في «السلسلة الصحيحة »:(254)، وفي «صحيح الجامع »: (5898).
3- أخرجه ابن ماجه في «الأحكام »، باب التغليظ في الحيف والرشوة: (2313)، وأحمد: (6945)، وعبد الرزاق في «المصنف »: (14669)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. والحديث حسنه البغوي في «شرح السنة »: (5/330)، وصححه أحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد »: (11/172)، والألباني في «صحيح الترغيب »: (2211).
4- أخرجه أحمد: (23090)، والبزار في «مسنده »: (9/172)، من حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في «الإرواء »: (2622).
5- أخرجه أبو داود في «الخراج »، باب في أرزاق العمال (2945)، وابن خزيمة في «صحيحه »: (2178)، والحاكم في «المستدرك »: (1424)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (13401)، من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه. والحديث صححه ابن الملقن في «البدر المنير »: (9/564)، والألباني في «صحيح الجامع »: (6023)، وفي «غاية المرام »: (460).
6- أخرجه أبو داود في «الإجارة »، باب في الهدية لقضاء الحاجة: (3541)، وأحمد: (21748)، والطبراني في «الكبير »: (7928)، من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه. والحديث حسنه الألباني في «السلسلة الصحيحة »: (3465).
7- أخرجه الطبري في «التفسير »: (6/154)، وابن أبي شيبة في «المصنف »: (16617).(10/116)
الفتوى رقم: 741
في مسابقات رمضان وحكم تخصيصها بالسابع والعشرين منه
السؤال:
ما حكمُ مسابقاتِ حفظِ القرآن والعلومِ الشرعية، التي تقام بالمساجد للطلبة، تشجيعًا لهم على مُواصلة الطلبِ والحفظِ، وما حكمُ تخصيصِها بليلة السابعِ والعشرين؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فلا مانعَ من جواز المسابقات -في حدِّ ذاتها- على حِفْظِ القرآن الكريم ومعرفةِ معانيه وحفظِ الحديث النبويِّ ودراستِه، والفقهِ الإسلاميِّ وأصولِه وغيرِهما من العلوم النافعة، تقصّدًا في معرفة الصواب فيها من الخطأ في القضايا المطروحة في المسابقات، بل يُرَغَّبُ فيها، حيث تبعث المسابقاتُ العِلميةُ في النَّفْسِ الهمةَ في البحث والتقصِّي في مسائله، نتيجةَ التنافس الذي تحثُّه هذه المسابقاتُ، ويجوز -أيضًا- على أرجح قولي العلماء بذلُ العِوَضِ الماليِّ فيها، وهو مذهبُ الحنفيةِ وَوَجْهٌ عن الحنابلة واختاره ابنُ تيمية وابنُ القيِّم(1)؛ لأنّ المستثنيات في قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« لاَ سَبَقَ إِلاَّ فِي خُفٍّ أَوْ فِي حَافِرٍ أَوْ نَصْلٍ »(2)، إنما ذُكِرَ بَذْلُ العِوض منها على سبيل التمثيل لما فيها معنى إعداد العدّة المادية في الجهاد، وهذا المعنى موجودٌ فيما هو أولى منه، وهو إعداد العدّة الإيمانية؛ ذلك لأنّ الدِّين قوامه بالحُجَّة والجهاد، فإذا جازت المراهنة والمسابقة على آلات الجهاد فهي في العلم أولى بالجواز.
أمّا عقدُ المسابقات القرآنيةِ والعلميةِ في ليلة السابع والعشرين من رمضان فلا يُشرع هذا التخصيص لمخالفته لهدي النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، عِلمًا بأنّ الاحتفالَ بليلة القدر من محدثات الأمور، وكلّ محدثة بدعة، وإنما المشروع إحياؤها بقراءة القرآن والصلاة والصدقة والدعاء، وغيرِ ذلك من أنواع العبادات المشروعة فيها، فالإكثار من العبادات فيها كسائر العشر الأواخر؛ لأنه كان صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم يوقظ أهلَه ويَشُدُّ مِئْزَرَه ويُحيي ليلهُ(3)، وأكّد ذلك بقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ »(4)، وقال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم -أيضًا-:« مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ »(5)، وقد عَلَّمَ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم عائشةَ رضي الله عنها أن تدعوَ -إن وافقت ليلةَ القدر-:« اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ العَفُّوَّ فَاعْفُ عَنِّي »(6)، وخيرُ الهديِ هديُ محمَّد صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم.
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 29 صفر 1428ه
الموافق ل: 18 مارس 2007م
__________
1- «حاشية ابن عابدين »: (6/403)، «الاختيارات الفقهية »: (160)، «الفروسية » لابن القيم: (65).
2- أخرجه أبو داود في «الجهاد »، باب في السبق:(2574)، والترمذي في «الجهاد »، باب ما جاء في الرهان والسبق: (1700)، والنسائي في كتاب «الخيل »، باب السبق:(3585)، وابن ماجه في «الجهاد »، باب السبق والرهان: (2878)، وابن حبان:(1638)،وأحمد: (2/474)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث حسّنه البغوي في «شرح السنة »: (535/5)، وصححه ابن القطان في «الوهم والإيهام »: (5/382)، وأحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد »: (13/232)، والألباني في «الإرواء »: (1506)، والوادعي في «الصحيح المسند »: (1408).
3- أخرجه البخاري في «صلاة التراويح »، باب العمل في العشر الأواخر من رمضان: (1920)، وابن حبان في «صحيحه »: (321)، وابن خزيمة: (2214)، وأحمد: (23611)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
4- أخرجه البخاري في «الإيمان »، باب تطوع قيام رمضان من الإيمان: (37)، ومسلم في «صلاة المسافرين وقصرها »، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح: (1779)، وأبو داود في «الصلاة »، باب في قيام شهر رمضان: (1371)، والترمذي في «الصوم »، باب الترغيب في قيام رمضان: (808)، والنسائي في «قيام الليل »، باب ثواب من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا: (1602)، وأحمد: (9034)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
5- أخرجه البخاري في «الصوم » باب من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا ونية: (1802)، ومسلم في «صلاة المسافرين »، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح: (1781)، وأبو داود في «الصلاة »، باب في قيام شهر رمضان: (1372)، والترمذي في «الصوم »، باب ما جاء في فضل شهر رمضان: (683)، والنسائي في «الصوم »: (2207)، وأحمد: (9767)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
6- أخرجه الترمذي في «الدعاء »: (3513)، وابن ماجة في «الدعاء »، باب الدعاء بالعفو والعافية: (5830)، والحاكم في «المستدرك »: (1942)، وأحمد: (24856)، والبيهقي في «شعب الإيمان »: (3700)، من حديث عائشة رضي الله عنها، والحديث صحّحه النووي في «الأذكار »: (247)، وابن القيم في «أعلام الموقعين »: (4/249)، والألباني في «صحيح الجامع »: (4423).(10/117)
04- الديات
الفتوى رقم: 222
فيمن يضمن دية طفلة ماتت سقوطا من بنيان غير مؤمن
السؤال: سقطت طفلة صغيرة تبلغ من العمر أربع سنوات من فوق بنيان جديد فماتت، وكانت أمّها في ذلك الوقت في غرفة من ذلك البيت، فهل على أمّها شيء؟ علما بأنّ هذه الطفلة قد سقطت مرة قبل هذه المرة من ذلك المكان.
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فالمتسبب -في تقديري- في هذه الحادثة هو صاحب البنيان الجديد إذا تمّ تسليم البنيان لصاحبه أو مالكه الذي فرّط في إحاطته بسياج يقيها من السقوط، فكان عندئذ متعديا بإهماله في اتخاذ الحيطة، والمتسبب لضرر الغير يوجب عليه الضمان حتى وجد التعدي، ولا ينظر إلى التعمد والقصد لأنّ حقوق الغير مضمونة شرعا في حالتي العمد والخطأ وسواء كان صاحب الملكية هو أبو الطفلة الميتة أو أمّها، عملا بقاعدة:" المتسبب لا يضمن إلاّ بالتعدي"(1). ذلك لأنّ إتلاف المتسبب كإتلاف المباشر في أصل الضمان.
أمّا إذا لم يتم تسليم البنيان الجديد، وكان تحت حيازة المقاول البناء فإنّ الضمان عليه لا على صاحب الملكية، لكونها تحت حيازة إذ الفعل إنّما "يضاف إلى الفاعل لا إلى الآمر ما لم يكن مجبرا"(2)، والفاعل هو المقاول فهو مسؤول ضامن، كما تتجسد مسؤوليته إذا كان الفاعل هو صاحب الملكية، وفي ذات الوقت هو الباني.
هذا، ويترتب على القول بالضمان دية الخطأ كحق الآدمي وصيام شهرين متتابعين كحق لله تعالى، نظرا لانعدام العتق: أي عتق رقبة مؤمنة سليمة من العيوب.
والعلم عند الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
__________
1- انظر: الفروق للقرافي:(2/206) (3-4/27)، المغني لابن قدامة:(12/88)، مجلة المجلة وشروحها مادة:(93)، المدخل الفقهي للكردي:(112).
2- مجلة الأحكام وشروحها مادة(89).(10/118)
الفتوى رقم: 353
القتل دفاعا عن النفس
السؤال: قصتي بدأت في الحيّ الذي أسكن فيه؛ إذ جاء المتشردان فدفعاني فسبني أحدهما، ورددت عليهما ذلك الفعل ثمّ قال لهما أخي: لا تسبا، أرادوا ضربه، فكنت عليهم بالمرصاد وأدبت أحدهما، ثمّ أخرجا في وجهه سكينا -وكان من بين الشخصين القتيل- وضرباه ضربا مبرحا.
وحين خرجت رأيت أخي عيناه منتفختان وفمه، وفي تلك الليلة رفع أبي شكوى ضدهما ومعه الشهود.
وحينها تذكرت بأنّهما هددا أخي بسكين فقلت إذاً هما قادران على أن يفعلا ذلك معي أيضا فأخذت سكينا خوفا من اعتدائهما عليّ.
وفي يوم الغد ذهبت لأدرس من الثامنة إلى الثانية عشر وحين خروجي ذهبت لأتناول وجبة الفطور ثمّ عدت على الساعة الواحدة والنصف، وبعد فترة رأيتهما نزلا من سيارة وجاءاني، قال لي أحدهما انظر ماذا فعلت لي ثمّ ضمّني إليه وطمأنني، ثمّ جاء الآخر مسرعا وأخذ في ضربي، وفجأة رأيته يضع يده في جيبه، فسحبت سكيني أهددهما به لعلّهما يخافا ويبتعدا عني لكنهما لم يخافا لأنّهما متناولان للمخدرات.
فحدث ما حدث -والحمد لله على كل حال- فأنا لم يكن في قصدي القتل ولكن من شدة الخوف على نفسي أن يضربني بالسكين طعنته بسكين المطبخ فمات، أسأل الله عزّ وجلّ أن يغفر لي، وأحيطكم علما بأنّي أصوم الكفارة، انتهى.
نريد منكم يا شيخنا أن تبيّنوا لنا الحكم الشرعي في هذا القتل وجزاكم الله خيرا.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فاعلم أنّ على صاحب حق دفع الصائل شروطا يجب تحققها ليكون في حالة الدفاع الشرعي الخاص، وفي طليعة الشروط أن يكون العدوان واقعا على نفس المصول عليه أو عرضه أو ماله، أو واقعا على نفس الغير أو عرضه أو ماله، كما يشترط حلول العدوان في الحال، لأنّ صورة الدفاع تظهر بحلول العدوان، فإن كان مؤجلا أو تهديدا مؤخرا فلا يجوز دفعه، لأنّه في الحالة هذه لا يُعدّ محلا للدفاع، كما أنّ من شروطه عدم إمكان إبعاده إلاّ بدفعه بهذه الوسيلة، فإن أمكن دفعه دون استعمال القوة والعنف والسلاح فلا يسعه أن يستخدمه، ومن شرطه أيضا أن يدفع العدوان بأيسر طريق يندفع به، لأنّ المقصود دفع ظلم المعتدي فإذا اندفع بالقليل فلا داعي للأكثر فلا يجوز أن يدفع ما زاد عن القدر اللازم لدفعه وإلاّ عُدَّ اعتداءً لا دفاعًا، فإن استطاع كفّ عدوان الظالم بالتهديد والضرب فلا يجوز له أن يضربه، وإن ظهر له أنّه بإمكانه دفع عدوان الصائل بالعصا فلا يجوز له أن يضربه بالحديد لكونه أداة قتل بخلاف العصا، وإن علم أنّه لا يندفع إلاّ بالقتل وخشي على نفسه أن يبادره به إن لم يقتله فله أن يدفع بالقتل أو بتر أطرافه وما أتلفه منه لا ضمان عليه بالقصاص ولا بالدية، لأنّه تلفٌ في مقابلة دفع شر أو ضرر عليه، فإن اختل أحد الشروط السابقة المذكورة فلا يعتبر في حالة الدفاع الشرعي الخاص، وإنّما اعتداء وعدوان فإن انتفت معه النية الإجرامية والقصد الجنائي فإنّه تترتب عليه أحكام القتل شبه العمد، ويوجب الديّة المغلظة على العاقلة مؤجلة إلى ثلاث سنين، والكفارة بصيام شهرين متتابعين بالنظر إلى تعذر وجود رقبة مؤمنة سليمة من العيوب المخلة بالعمل والكسب كحقين واجبين الأول حق الآدمي والثاني حق لله سبحانه وتعالى.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
الجزائر في 22 صفر 1422ه
الموافق ل :16 ماي 2001م(10/119)
الفتوى رقم: 372
في حكم ضمان من جهل المباشر الحقيقي في قتل الخطأ
السؤال: كان شخص يقود سيارة في الطريق السريع، وفجأة قطع الطريق رجل فدهسته السيارة، ولمّا توقف السائق لنجدة المصاب، جاءت سيارة ثانية وصدمت الشخص المصاب ليلقى حتفه على الفور لكن السائق الثاني فرّ ولم يتوقف، فما هو الحكم الشرعي فيما يتعلق بموضوع الدية والكفارة بالنسبة للسائق الأول، علما أنّه لا يدري متى وقعت الوفاة أبعد الصدمة الأولى أو الثانية ؟ وجزاكم الله خيرا؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فاعلم أن السيارة الأولى والثانية باشرتا قتله، والمباشر يضمن وإن لم يتعمد، لأنَّ الخطأ يرفع إثم قتل معصوم الدم لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« وُضِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ"(1) ولكنه لا يرفع عنه ضمان القتل لكونه متعدِّيًا نتج عن تعدية الضرر الحاصل للغير، لذلك لا يصلح عدم تعمد القتل كعذر مسقط للحكم، بل تكفي المباشرة علة موجبة للضمان عن المباشر المتعدي . وبناء عليه يجب على كلا السائقين:
1- الكفارة ووجوبها بقوله تعالى: ?وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيما? [النساء: 92] أي أنَّ حق الله تعالى يتجلى في عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين.
2- وأما الدية وهي مائة من الإبل أو قيمتها حسب ما تساوي في كل عصر بحسبه، فإنما تجب على العاقلة ولا تجب في مال القاتل، قال ابن المنذر :" أجمع كلّ من نحفظ عنه من أهل العلم أنّ دية الخطإ تحمله العاقلة"(2) فإن لم يكن بيت المال منتظمًا أو عَدُم فالدية في مال الجاني.
وإذا تنازل أولياء ورثة المقتول مما أوجب الله لهم من الدية عليهم فإنه تبرأ ذمته بإسقاطهم عليه كل الدية أو جزءًا منها لقوله تعالى : ?إِلاَّ أَن يصَّدَّقُوا? [النساء: 92].
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 28 ذي القعدة 1426ه
الموافق ل: 30 ديسمبر 2005م
---
1- أخرجه البيهقي (11787)، من حديث ابن عمر رضي الله عنه وصححه الألباني في صحيح الجامع (7110). وأخرجه ابن ماجه في الطلاق (2123)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ:" إنّ الله وضع عن أمّتي...".
2- الإجماع لابن المنذر: 141.(10/120)
الفتوى رقم: 433
في حكم جواز التورية لتحصيل التعويض المالي
السؤال: هل تجوز التورية في هوية قاتلي والدي عند ملء استمارة للاستفادة من التعويض الذي منحته الدولة لضحايا المأساة؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فإنَّ البدل الممنوح لضحايا المأساة الذي تعوضه الدولة لأهالي الضحايا إنّما هو عطية لتأليف القلوب، والجبر للنفوس، فإنَّ من توفرت فيه الشروط الموضوعة للتعويض من قبل الدولة استحق أخذه للعوض، بغضِّ النَّظر عن صفة المقتول والجهة التي نفذت فيه القتل، أي: لا يلزم التحقيق في كيفية قتله، ولا التدقيق في أوصاف قاتليه قصد إثباتها في الاستمارة المطلوبة بل يجوز البيان بأقرب طريق إلى الفهم.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 29 ربيع الثاني1427ه
الموافق ل: 17 مايو 2006م(10/121)
الفتوى رقم: 565
في ضمان المتسبّب بالتعدي في القتل الخطأ
السؤال: تعرَّض رجلٌ لحادثِ مُرُورٍ وهو يسوق سيارته بعد أن كان مُرهقًا ولم يأخذ قِسطًا من الراحة، فتسبّب الحادث في وفاة أمّه وجدّته اللتين كانتَا ترافقانه. وبعد مرور حوالي سَنَةٍ طالبه أخواله بالدِّية. فما حكم هذا الطلب؟ وهل تجب عليه الكفارة؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فاعلم أنّ المتسبِّبَ في القتلِ الخطإِ إنما يضمن إذا تعدّى بتفريطه وتقصيره -وهو أمر ملاحظ في السؤال- وتترتّب عليه الكفارةُ كحقٍّ لله تعالى متمثّلةً في صيام شهرين متتابعين على كلِّ واحدةٍ منهنّ، وديةٌ كحقٍّ للعبد على كلّ نفس ما لم يتنازلْ عنها أولياءُ الدم لقوله تعالى: ?وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ? [النساء: 92].
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في 13 ذي القعدة 1427ه
الموافق ل: 4 ديسمبر 2006م(10/122)
الفتوى رقم: 920
في شرط دية جراح العمد
السؤال:
ما حكم من اعتدى على غيره بآلة حادَّةٍ ترتَّب عليه جرح على ذراعه وجزء من إبطه؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فاعلم أنَّ جراح العمد لا تجب فيها القصاص إلاَّ إذا كان ممكنًا بحيث يكون مساويًا لجراح المجني عليه من غير زيادة ولا نقص، لذلك كانت الخارصِة، وهي: التي تشق الجلد قليلاً، والباضِعة: التي تشقُّ اللحم بعد الجلد، والدَّامِية أو الدامغة: التي تُنْزِل الدم، والمتلاحمة وهي: التي تغوص في اللحم، وغيرها إلاَّ الموضحة: وهي التي تكشف عن العظم، كلَّها لا قصاص فيها لعدم إمكان مراعاة المماثلة والمساواة فيها؛ ذلك لأنَّ المماثلة المشروعة بقوله تعالى: ?فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ? [البقرة: 194] وقوله تعالى: ?وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا? [الشورى: 40] إذا كانت لا تتحقَّق إلاَّ بمجاوزة القدر أو بمخاطرة أو إضرار فإنَّه لا يجب القصاص فيها، وإنَّما تجب الدِّيَة بشرطها، وشرطها تمام البرء من الجراحة التي أصيب بها المجني عليه، وتُؤمَّن السِّراية، فإذا سرت الجناية إلى أجزاء أخرى من البدن ضمنها الجاني، ودليله حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه:« أَنَّ رَجُلاً طَعَنَ رَجُلاً بِقَرْنٍ فِي رُكْبَتِهِ، فَجَاءَ إِلَى النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَقِدْنِي، فَقَالَ: حَتَّى تَبْرَأَ ثمَّ جَاءَ إِلَيْهِ فَقَالَ: أَقِدْنِي، فَأَقَادَهُ، ثمَّ جَاءَ إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ عَرجْتُ، فَقَالَ صَلَى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: قَدْ نَهَيْتُكَ فَعَصَيْتَنِي، فَأَبْعَدَكَ اللهُ وَبَطلَ عَرَجُكَ، ثُمَّ نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقْتَصَّ مِنْ جُرْحٍ حَتَّى يَبْرَأَ صَاحِبُهُ »(1).
وبناءً عليه فإذا برئ وعاد إلى هيئته فليس فيه عقل أو دية؛ لأنَّه لم يحدث شيء للمجني عليه سوى الألم ولا قيمة لمجرَّد الألم لكن عليه أجر الطبيب وثمنُ الدواء ومصاريف النقل، وإذا برء ولم يعد إلى هيئته بحيث ظهر النقص أو العتل فيه بعد البرء فتُقَوَّم ديَّتُه وعقله على حساب ما حدث له من نقص.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 12 رجب 1420ه
الموافق ل: 22 أكتوبر 1999م
__________
1- أخرجه أحمد في «مسنده »: (7034)، والدارقطني في «سننه »: (3/88)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (16550)، من حديث ابن عمرو رضي الله عنهما. والحديث صححه الألباني في «الإرواء »: (2237).(10/123)
05- الميراث
الفتوى رقم: 112
حكم حق استغلال المحل التجاري في الميراث
السؤال: لجأت إلى عدة جهات سواء دينية، مدنية، العدالة... أريد فتوى ترضي الله قبل أن ترضيني، لكي ألقى الله دون أن يكون شك في ما أفعله اليوم.
قضيتي لم أجد لها حلا مقنعا إلى يومنا هذا.
فالأصل، جدي -رحمه الله- اشترى حق استغلال محل تجاري ويدفع الكراء كل شهر منذ الربعينات (1940م) وكانت الوصلات باسمه إلى غاية سنة (1982م) تاريخ تبديل صاحب المحل التجاري الوصلات باسم أبي رحمه الله. أمّا السجّل التجاري فكان في الأول باسم جدي ثمّ تغير إلى عمّي الأول الذي توفي ثمّ رجع باسم جدّي، وفي سنة (1968م) جدي أرجع السجل التجاري باسم أبي رغم كون الوصلات دائمة باسم جدي، وفي سنة (1970م) نظرا لعدة ضغوطات، سافر أبي إلى الخارج لإيجاد عمل وبذلك حلّ المشاكل التي أرغمته للسفر وطوال غيابه أعطى جدي المحل التجاري لرجل آخر (خارج عن عائلتنا) مقابل كراء شهري إلى غاية وفاة جدي رحمه الله سنة (1980م) فتابعت جدتي الكراء لذلك الرجل رغم عودة أبي من الخارج ولم ترد جدتي وابنتها الأولى (عمّتي الأولى) أن يرجع أبي للعمل في ذلك المحلّ ولكن بعد عدة قضايا مدنية أمام العدالة وبعد تدخل ابن عمّ أبي الأكبر للفصل في القضية، وصلوا في نهاية سنة (1983م) إلى عقد اتفاق يعطي أبي الحق في استغلال المحلّ التجاري مقابل كراء لكلّ أعضاء العائلة (جدتي، عمّي الثاني وعمتي الأولى وعمّتي الثانية) لكون عمّي الأول وعمّتي الثالثة توفوا قبل وفاة جدّي دون أن ينسى أبي أن يدفع الكراء لصاحب المحل، ويدفع الغرامة وكلّ ما يعني المحلّ التجاري دون أن يشارك الأعضاء الآخرون بأي دينار في استغلال هذا المحلّ رغم كونهم يأخذون كراءً من أبي لاستغلاله هذا المحلّ، وبعد هذا الاتفاق ذهب أبي إلى صاحب المحلّ الذي أرجع الوصلات باسم أبي وذلك ابتداءً من نهاية سنة (1982م) ثمّ استخرج أبي السجل التجاري الجديد تعديلا للسجل الذي كان باسمه منذ سنة (1968م) الذي لم يتم إلغاءه أو شطبه في مصالح السّجل التجاري.
ولكن لم يتم تنفيذ الاتفاق ولو للمرة الأولى، ولم يطالب أعضاء العائلة الآخرون كراءهم من أبي الذي واصل في مساعدة أخيه المعوق في جميع حاجياته بحيث عندما وصلت إحدى بناته للزواج جعل أبي زواج ابنة عمي وزواج ابنه أي أخي في نفس اليوم وتمّ ذلك في بيتنا، دون أن ننسى أنّ أبي آوى جدتي في بيتنا إلى غاية وفاتها سنة (1989م).
واصل أبي العمل في هذا المحلّ إلى غاية وفاته سنة (1993م) ولكن قبل هذا طالبت عمّتي الأولى حقها في تركة جدي عن طريق العدالة وذلك من أبي فقط، والعدالة أدخلت الأعضاء الآخرون (عمّتي الثانية وعمّي الثاني) وسارت القضية بمراحلها إلى يومنا هذا والنزاع دائم على المحلّ التجاري وبقية تركة جدي، والمحلّ التجاري لبث مغلوقا منذ وفاة أبي إلى غاية هذه السنة حيث حصلنا على إذن من العدالة لاستغلاله دون الفصل في قضية دخول هذا المحلّ في تركة جدي أم لا.
ولكوني أبحث عن فتوى ترضي الله أطلب منكم بذل جهدكم للبحث عن الآيات القرآنية، أو أحاديث الرّسول صلى الله عليه وسلم أو أي قاعدة فقهية توجهني إلى القول أنّ هذا المحلّ التجاري يدخل ضمن تركة جدي، فهل يرث حق استغلال المحلّ التجاري الذكور فقط ؟ أم الإناث لهم الحق في استغلال هذا المحل أيضا ؟ رغم كون هذا المحلّ ليس ملكا لنا ولكن كراء انتقل من جدي إلى أبي وكان جدّي حيا وراغبا بهذا الانتقال حسب الوثائق التي يستخرج أبي بها السجل التجاري سنة ( 1968م).
في انتظار فتوى ترضي الله قبل أن ترضيني، أستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فإنّه إذا جاز شراء حق استغلال المحلّ التجاري وقاعدته التجارية منفصلا عن جدرانه من الناحية الشرعية فإنّ حق الاستغلال يورث كباقي الحقوق وهو تابع لتركة الجدّ، ويكون الأب فيه وارثا أسوة بالورثة الآخرين، وليس في توكيل الجدّ للأب أو العمّ في تسيير شؤون المحلّ التجاري تمليك لهما، وعليه فإنّ المحلّ التجاري بهذا الاعتبار يخضع لأحكام الميراث كما أنّ مصاريف المحلّ وتكاليفه تسدد قبل فترة التركة أو توزيع أرباحها بحسب نصيب كلّ واحد المتمثل في:
السدس (1/6) للعمّة الأولى، والسدس للعمّة الثانية، والثلث (1/3) للعمّ الأول، والثلث أيضا لأب السائل، وحق الأب ينتقل إلى سائر ورثته بما فيهم السائل، ما لم يكن الوارث الوحيد لأبيه فينتقل إليه نصيب أبيه كاملا كما يأخذ قبل القسمة أو توزيع الأرباح أجرة عمله الخاصة بعمله في ذلك المحلّ خارجا عن نصيب والده، ولا يخفى أنّ المواريث قسمة شرعية، وهي وصية من الله تعالى قال سبحانه:)يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُم لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْن[[النساء 11]، وقال أيضا)وَصِيَّة ًمِنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيم[[النساء 12].
فالحاصل: أنّ كلّ مصاريف المحلّ وتكاليفه وأعباءه وكذلك أجرة الأب في عمله فيه بعد دفعها وطرحها من نتاج المحلّ فما بقي يقسم على الورثة بما فيهم الأب قسمة مواريث شرعية.أمّا إيواؤه لأمّه والنفقة عليها إلى غاية وفاتها فإنّ ذلك واجب على أبنائها وتكون النفقة عليها من مالها، ويخضع ما زاد من مالها بعد النفقة للقسمة الشرعية، فإن كان متبرعا بها عليها يبتغي برها ومرضاتها فإنّه يحصل له بقدر نيته ولا يعود بعدها على أموالها بسبب النفقة عليها لأنّ العائد في هبته كالكلب العائد في قيئه، ولكنّه يكون أسوة بالورثة في جميع أموالها بعد وفاتها.
والعلم عند الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين ، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلّم تسليما.
الجزائر في:ذي الحجة 1421هـ
الموافق لـ: مارس 2001م.(10/124)
الفتوى رقم: 156
مسألة في الميراث
السؤال: توفيّ رجل، وله: أربعة أولاد (ذكور)، وبنتان، وزوجة، علما أنّ هذه الزوجة هي زوجته الثانية، حيث أنّ زوجته الأولى قد توفيت وكل أولاده من الزوجة الأولى المتوفاة، وترك هذا الرجل داراً كبيرة، فأراد أهله (السابق ذكرهم) بيع هذه الدار، وتقاسم مبلغها فيما بينهم..
فما هو فضيلة الشيخ: نصيب كل شخص من أهله المذكورين، لو افترضنا أنّ هذه الدار بيعت بـ: مئة مليون دينار جزائري؟
وماذا فضيلة الشيخ: لو رفض شخص ما من أهله العمل بهذه القسمة، كأن يقول لهم: نتقاسم المبلغ بالتساوي نحن السبعة؟
علما فضيلة الشيخ أنّ هذه الواقعة حقيقية، حيث رفضت إحدى البنات القسمة الشرعية.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه أجمعين، أما بعد:
فأما ما يتعلق بالسؤال الأول فإنّ نصيب زوجة الميت هو: (10/80)، ونصيب الذكر الواحد: (14/80)، ونصيب أربعة ذكور: (56/80)، ونصيب الأنثى الواحدة: (7/80)، ونصيب الأنثيين: (14/80)، ومجموع الأنصبة = (10)زائد (56) زائد (14) =(80). ويقسم المال المتروك المتمثل في: (س) ويقسم على (80)، والناتج يضرب على (14) يتخرج حصة الابن الواحد، كما أنّ الناتج يضرب على (7) لتخرج حصة الأنثى الواحدة، كما أنّ الناتج يضرب على (10) لتخرج حصة الزوجة.
وهذه القسمة شرعية ثابتة في قانون الأسرة لا يجوز لأحد أن يرد قسمة الله تعالى في عباده لأنّ المال مال الله تعالى وهو سبحانه يقسمه كيفما شاء، ويوشك من أعرض عن حكم الله الوقوع في الكفر وبالتالي لا يستحق من هذا المال شيئا إن ظهر اعتراضه عن شريعة الإسلام قبل موت المورث لأنّ الكافر لا يرث المؤمن كما صرح بذلك الحديث(1)، وما أخذه منه فهو حرام عليه أي أخذ شيئا لا يستحقه شرعا ويشمله قوله تعالى :? ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل? [البقرة 188].
والعلم عند الله تعالى؛ وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصل الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في:18 رجب 1424ه
الموافق ل :12 سبتمبر 2003م
__________
1- أخرجه البخاري في الفرائض رقم(6764)، ومسلم في الفرائض رقم(1614)، وأبو داود في الفرائض رقم(2909)، والترمذي في الفرائض رقم(2107)، عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم".(10/125)
الفتوى رقم: 259
في حكم المطالبة بميراث بيع لأحد أولاد المورث قبل موته
السؤال: توفى أبي منذ (15سنة) ولي خمسة بنات أخوات، وكان لنا مَنْزل صغير وبعد وفاة أبي بسنة قمت ببيع البيت وتمّ بيعه بمبلغ (1000 ألف جنيه)، وقد عرضت على إخوتي البنات حينها أن أعطيهم إرثهنّ ولكنهنّ أعرضن و قلن أنت أخونا ولا نريد منك شيئا، والآن يطلبن مني الميراث فهل أعطيهن الميراث من الألف جنيه أم أثَمِّن البيت في هذا الوقت وأعطيهن بسعر اليوم أم بسعر البيع منذ (14سنة)، مع العلم أنّ أبي قد باع لي البيت في حياته والبيت كان مكتوبا باسمي بيعا وشراء، وإذا طلبن منّي بسعر اليوم لا أستطيع أن أكفي مطالبهن وأخاف من عذاب الله. فماذا أفعل؟ أفتوني والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فإن كان شراؤك البيت على أبيك من دون أن تدفع له الثمن في حياته وبرضا جميع أولاده، فإنّه بعد وفاتهنّ يتمّ قسمة المال المتفق عليه بينك وبين أبيك على الورثة بقسمة الميراث للذكر مثل حظّ الأنثيين، حيث مسألتكم من: 7: للابن(2)، وللبنات(5) أسهم لكلّ بنت سهم واحد.
وإن كنت قد دفعت الثمن لأبيك مع رضا الجميع بذلك الثمن الذي باع به الأب فلا حَظَّ للبنات من مال ذلك المحل، وليس لهنّ المطالبة به أصلا، بل تقتصر ترِكَتُهُمْ على الأشياء الأخرى وثمن البيت غير البيت المبيع، أماّ عن تنازل البنات حينذاك، فربّما كان من أجل صغرهنّ أو لحيائهنّ، فإن أردت إعطائهنّ إبراءً لذِمّتك فلك ذلك، وقسمة التركة إن تمّت إنّما تتمّ على ثمن البيت وهو القيمة القديمة له وقت البيع لا الحديثة لاستواء الورثة في القسمة ولأنّه ليس قرضا أقرضوه إيّاه.
والله أعلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما.(10/126)
الفتوى رقم: 310
هل تخضع منحة الوفاة لقسمة الميراث؟
السؤال: امرأة توفي زوجها وترك لها طفلاً عمره عام وطفلة عمرها (5) سنوات تحصلت هذه المرأة من مصلحة المتكفلين بالموتى:
- Capital décès- على مبلغ قدره (4) ملايين.
هي تسأل هل المبلغ من حقها لوحدها أو عليها أن تعطي منه لأمّ الزوج وأخوته، وإذا كان الجواب بنعم كم هو مقدار ذلك، مع العلم أنّ أب الزوج توفي قبل وفاة ابنه أمّا أمّه فمازالت حية، أمّا بالنسبة لعدد الإخوة ( أي أخوة الزوج) فهم (3) رجال و(6) نسوة.
شيخنا الفاضل نشكر لكم تكرمكم على قبول الإجابة على هذا السؤال، ونسأل الله أن يجعلكم من ورثة جنّة النّعيم".
و جزاكم الله خيرا.
الجواب: الحمد لله ربّ العاملين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدّين، أمّا بعد:
فالحكم في هذه المسألة يختلف باختلاف صفة الحصول على هذا المال من قِبَلِ صندوق الضمان الاجتماعي أهو على وجه العطية والهبة والمنحة ؟ أم هو حق الهالك المقتطع من مرتبة الشهري الذي كان يتقاضاه ؟ فإن كان الأول أي منحة مقدمة من الضمان الاجتماعي باعتباره شخصاً معنوياً يتمتع بذمة مالية مستقلة عن ذمة شركائه، مساعدة لأهل الهالك وأبنائه واعترافاً للخدمة التي قدمها طيلة عمله بالمؤسسة، ففي هذا الحال يوزع المال على الموهوب لهم ممّن عينهم الضمان الاجتماعي في وثائقه ولا تخضع الأموال للتركات، أمّا إذا كان الثاني أي حق الهالك المأخوذ من أجرة عمله، فإنّ المال حينئذ يُعدُّ تركة يخضع وجوباً لأحكام الميراث الشرعي ويكون المال مقسماً عليهم على الوجه التالي:
- لأمّ الميّت : السدس (1/6) لوجود الفرع الوارث وهو -12/72 وهو يمثل (6666.66دج ) .
- لزوجة الميّت : الثمن ( 1/8) لوجود الفرع الوارث وهو -9/72 وهو يمثل (4999.995دج).
- لابن الميّت : عصبة بالغير ونصيبه -34/72 وهو يمثل (18888.87دج).
- ولبنت الميّت : عصبة بالغير ونصيبها -17/72 وهو يمثل (9444.435دج).
وليس لأخوة الميّت وأخواته حق في الميراث لكونهم محجوبين بالفرع الوارث الذكر ولاحَقَ لأب الميّت من ميراثه لأنّ الميت توفى بعده أي بعد أبيه، وهو يرثه وينتقل نصيبه إلى ورثته السابق ذكرهم.
ويكون المجموع الكلّي للأنصبة : 6666.66 زائد 4999.995 زائد 9444.435 زائد 18888.87 = 39999.96دج.
فالمسألة-إذا- تحتاج إلى تحقيق مناط.
والله أعلم وفوق كل ذي علم عليم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
الجزائر في:14صفر1417ه
الموافق لل : 30 جوان 1996 م(10/127)
الفتوى رقم: 312
في الانتفاع بوصية غير مسلمة لحفيدتها المسلمة
السؤال: توفيت امرأة غير مسلمة وتركت وصية لحفيدتها المسلمة وبناتها، ولم تترك شيئا توصي به لابنها الكافر، فهل يجوز الانتفاع بهذه الوصية؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فلا يشترط لصحة الوصية اتحاد الدين بين الموصي والموصى له، فتجوز وصية غير المسلم لغير أهل ملته، فهي تجري مجرى الهبات والتبرعات، والهبة تصح من كافر لمسلم فكذلك الوصية، غير أنه يشترط لنفاذ الوصية ألاَّ يكون الموصى له وارثا للموصي عند موت الموصي أولاً لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« إنَّ الله قد أعطى كلَّ ذي حقٍّ حقه فلا وصية لوارث"(1) كما يشترط أن يكون مقدار الوصية لا يتعدى الثلث لقوله صلى الله عليه وآله وسلم "الثلث والثلث كثير"(2) ثانيا، غير أن الزيادة على مقدار الثلث موقوف على إجازة بقية الورثة المستحقين للإرث، فإن رضوا على التنازل عنه لفائدة الموصى له استحق كل المال.
وعليه فإن الحفيدة المسلمة (الموصى له) غير وارثة تستحق من جدتها غير المسلمة (الموصي) مقدار الثلث من تركتها، والباقي تمتلكه بإجازة ابنها، وذلك تحكيما لشريعتنا في هذه المسائل، ولأن في عدم إجازته لها فيه إيغار للصدور وما يفضي إلى الشقاق والنزاع وقطع الرحم وإثارة البغضاء والحسد.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في : 15 شوال 1426ه
الموافق ل: 17 نوفمبر 2005م
__________
1- رواه ابن ماجه في الوصايا (2818)، الترمذي في الوصايا (2266)، من حديث أبي أمامة الباهلي، وصححه الألباني في سنن أبي داود برقم (3565).
2- رواه البخاري في الفرائض (6733)، مسلم في الوصايا (4296) من حديث سعد بن أبي وقاص.(10/128)
الفتوى رقم: 319
في تخصيص بعض الأولاد بالوصية
السؤال: تزوج رجل بامرأة وأنجبت له تسعة أطفال ثمّ طلقها، وتزوج بامرأة ثانية فأنجبت له ستة أطفال، ثمّ توفي عنها، وترك بيتا قيمته (80) مليون سنتيم. فهل أبناء الزوجة الأولى لهم نصيب من تركة أبيهم؟ علما أنّ الميت أوصى بأن يكون الإرث للزوجة الثانية وأبنائها فقط؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما، أما بعد:
فاعلم أنَّ كلَّ أولاد الميت يستحقُّون نصيبهم من تركة أبيهم لقوله تعالى:" يُوصِيكُمْ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ"[النساء: 11]، أمّا زوجتاه فلا تستحقان الإرث إلا من كانت مرتبطة به بعقد الزواج، أمّا المطلقة فلا حقَّ لها في التركة لعدم توفر سبب الإرث وهو النكاح، وتصرف الميت بتخصيص بعض أولاده بالوصية باطل لمخالفته لنصَِّ الآية السابقة، ولمصادمته لقوله صلى الله عليه وآله وسلم :" إنَّ اللهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقِّ حَقَّهُ فَلاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ"(1).
فالقسمة الميراثية الشرعية تقتضي أن تأخذ زوجته الثانية الثمن، وأولاده من الأولى والثانية يقسمون بقية التركة، للذكر مثل حظ الأنثيين.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.
الجزائر في: 27 محرم 1427هـ
الموافق لـ: 26 فبراير 2006م
__________
1- أخرجه أبو داود في الوصايا (2872)، والترمذي في الوصايا (2266)، وابن ماجه في الوصايا (2817)، وأحمد (22954)، من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، وصححه الألباني في إرواء الغليل (1655).(10/129)
الفتوى رقم: 323
في المستحقين للإرث
السؤال: تملك امرأة عازبة قسطا من المال، توفيت ولها أمّ، وأخ شقيق من أبيها وأمها، له ابنان وبنت، وإخوة من الأب: ثلاثة ذكور، وأربع إناث، وأخ من الأم، فمن يستحق الميراث منهم؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما، أما بعد:
فأمَّا ثلاثة إخوة لأب (03) وأربعة أخوات لأب (04) فلا يرثون لكونهم محجوبين حجب حرمان بالأخ الشقيق، وأمها ترث السدس (6\1)، والأخ لأم يرث السدس (6\1) أيضا، وهؤلاء يرثون بالفرض، أمّا الأخ الشقيق من أبيها وأمها فهو عصبة بالنفس، يرث الباقي بعد أصحاب الفروض، ويتمثل الباقي في (6\4)، أمّا أولاد الأخ الشقيق فلا يرثون لأنهم محجوبون بأبيهم لكونه الأقرب إلى الميت.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرة.
الجزائر في: 27 محرم1427ه
الموافق لـ: 26 فبراير 2006م(10/130)
الفتوى رقم: 374
في حكم الوصية بكل مال الموصي، وفي حكم تنفيذها بخير ما أوصى
السؤال: أوصت امرأة مسلمة، سويسرية الجنسية والإقامة، قبل موتها بأن تُنفق أموالها كلها على أولاد المسلمين على أن تتولى تنفيذ الوصية صديقتها الألمانية، وهي تسأل عن :
- حكم الوصية بكلّ المال، علما أنّ عائلة المرأة المتوفاة كفار، وليس فيهم من يدين بالإسلام ؟
- هل يمكن تنفيذ الوصية بأرض الجزائر ما دامت الموصِية لم تحدد مكانا خاصا ؟
- هل يمكن إنشاء مدرسة لتحفيظ القرآن بمال الوصية ليكون النفع بالمال أكثر؟ ولتبقى صدقة جارية على الموصِية؟
- لا يمكن استخراج مال المتوفاة إلاّ بعد دفع ضريبة، فهل يجوز دفع قيمة الضريبة من مال الموصية ؟
وجزاكم الله خيرا.
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما، أمَّا بعد:
فالوصية بما زاد عن ثلث التركة أو بكلِّ المال جائز شرعًا، لأنَّ المنع من الوصية بالزائد عن الثلث من أجل تعلق الحق بالورثة لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ"(1)، ولما انعدم الوارث زال المانع الذي تعلَّق حقه بماله، فأشبه ما لو تصدَّق بماله في حال الصحة، وبه قال ابن مسعود رضي الله عنه، وهو مذهب الحنفية والحنابلة ورجحه ابن القيم الجوزية.
وإذا أوصت بإنفاق أموالها على أولاد المسلمين، لزمت بمجرد الموت، وصرفت على بعضهم ولو كانوا في الجزائر أو غيرها.
والوصية مادامت مطابقة للحق، لا جنف فيها ولا مضارة، فالواجب تنفيذها على وجهها المشروع، لأنَّ الله قد توعد من تساهل بشأنها أو غيرَّها أو بدلها من غير مسوِّغ شرعي، وأنه يبوء بالإثم قال تعالى: ?فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ? [البقرة: 181]
وإنما يجوز التبديل وعدم إمضاء الوصية إذا أوصى بحرام أو بشيء من المعاصي وهذا لا خلاف فيه. فإن قدرت المكلفة بالوصية تنفيذها على وجه يكون خيرا للموصي وأنفع له كالصدقة الجارية التي يتجدد ثوابها بتجدد الانتفاع بالوقف فلها ذلك سواء وضعتها في دار الأيتام أو بيت السبيل إن وجدت إلى ذلك سبيلا، سواء في بلدها أو في أي بلد مسلم آخر ولو بإعطاء ضريبة عليه، ما لم تكن الضريبة تبلغ ثلث المال أو تتجاوزه، فإن تعذر فلها أن تجتهد في وضعه في بدل آخر يقوم مقامه ويتحقق به المقصود من الوصية.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 5 صفر 1427ه
الموافق لـ: 5 مارس 2006م
__________
1- أخرجه البخاري في الجنائز (1295)، ومسلم في الوصية (4296)، وأبو داود في الوصايا (2866)، والترمذي في الوصايا (2262)، ومالك (1461)، وأحمد (1542)، والبيهقي (12941)، من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.(10/131)
الفتوى رقم: 385
في حكم الوقف الأهلي القاصر على الذكور
السؤال: في بعض المناطق تمنع المرأة من الميراث ويسمون ذلك "الحبوس"، فما حكم هذا الصنيع؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وآله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فالحبوس شرعا هي الأوقاف، لأنّ الوقف هو حبس الأصل وتسبيل الثمرة، والأوقاف إذا كانت مؤسسة على ما يخالف نصا شرعيًّا ثابتا أو وردت فيما يُحِل به حراما، أو يُحرِم به حلالا فهي باطلة، والوقف الأهلي (الحبس الأهلي) إذا قصد الواقف تخصيص الذكور بالانتفاع دون الإناث بحرمانهن بالانتفاع فذلك حبسٌ باطل، لأنّه معارض للنصوص الموجبة في التسوية بين الذكور والإناث، للذكر مثل حظِّ الأنثيين في الميراث، والوصايا وغيرها من الحقوق .
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصلى الله على مبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 1 ربيع الثاني 1427ه
الموافق لـ: 29 أبريل 2006م(10/132)
الفتوى رقم: 407
في الوصية الإجبارية (مسألة التنزيل)
السؤال: لرجل ثلاثة أولاد وست بنات، توفي أحد أولاده تاركا ولدين وثلاث بنات، وتوفيت إحدى بناته تاركة بنتين، وتوفي بعدهم ذاك الرجل، فهل للأحفاد حق في ميراث جدهم؟ وما هي أنصبتهم؟ وهل القانون المعمول به يوافق الحكم الشرعي؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فإن أوصى الجد لأحفاده أو للأقارب الذين لا يرثون فإنَّ الوصية تنفذ على أن لا تزيد على ثلث التركة، أمَّا إذا لم يوص فإنه بناء على نظام الإرث الإسلامي لا يستحق هؤلاء الحفدة شيئا من ميراث الجد أو الجدة لوجود أعمامهم على قيد الحياة، هذا ما تقرر عند جمهور أهل العلم لعدم وجود مستند فقهي للوصية الواجبة، أما آية الوصية في قوله تعالى: ?كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ? [البقرة: 180] فهي منسوخة بآية الميراث مع قوله صلى الله عليه وآله وسلم:« لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِث"(1)، وبهذا قال ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما -أي بالنسخ- وذهب بعضهم إلى نسخ الوجوب ونفي الندب، وذهبت طائفة إلى القول بأنَّ آية الوصية محكمة وهي وإن كانت عامة فمعناها الخصوص والمراد بها من الوالدين من لا يرث كالأبوين الكافرين، ومن الأقربين ما عدا الورثة منهم، فالوصية جائزة في حقهم، بل يرى بعض الفقهاء كابن حزم والطبري وأبي بكر بن عبد العزيز من الحنابلة أن الوصية واجبة ديانة وقضاء للوالدين والأقربين الذين لا يرثون لحجبهم عن الميراث، أو لمانع يمنعهم من الإرث كاختلاف الدين فإن لم يوص الميت للأقارب شيئا وجب على الورثة أو على الوصي إخراج شيء غير محدد المقدار من مال الميت وإعطاؤه لغير الوارثين من الأقارب وبهذا الرأي أخذ المقنن الجزائري تبعًا للقانون المصري والسوري فأوجب الوصية لبعض المحرومين من الإرث وهم الأحفاد الذين يموت آباؤهم في حياة أبيهم أو أمهم، أو يموتون معهم ولو حكمًا كالغرقى والهدمى، واستنادا -أيضا- لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:" مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَىْءٌ ، يُوصِى فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ ، إِلاَّ وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ"(2)،لذلك ذهب أصحاب هذا الرأي إلى أنه لما كانت الوصية لا تتوفر لها مقومات الوصية الاختيارية لعدم الإيجاب عن الموصي والقبول من الموصى له فيسلك فيها مسلك الميراث لكونها أشبه به لذلك كانت إجبارية.
والمختار جواز الوصية في حقهم -لو لم يُوصَ لهم- لأنّ الأصل عدم النسخ، وليس بين آية الوصية وآية الميراث تعارض إذا ما حملت على الجمع، والجمع أولى من النسخ الاحتمالي على الراجح من أقوال الأصوليين، ووجه التوفيق أنّه تحمل آية الوصية على من لا يرث كالأبوين الكافرين والأقربين ما عدا الورثة منهم، وآية الميراث مع ضميمة حديث:" لا وصية لوارث" تحملان على الورثة من الوالدين والأقربين، وبذلك يتم إعمال الدليلين معا، وهو أولى من إهمالهما أو إهمال أحدهما.و إهمال أحدهما أمّا الوصية بالتطوعات والقربات فحكمها الاستحباب لمن أراد كثرة الأجر والتطوع، علمًا بأن الوصية قد تعتريها الأحكام الأخرى فقد تكون الوصية محرمة فيما إذا كان فيها إضرار، أو قد تكون مكروهة أو مباحة على نحو ما بينه الصنعاني رحمه الله وغيره.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 1 ربيع الثاني 1427ه
الموافق لـ: 29 أبريل 2006م
__________
1- أخرجه الترمذي في الوصايا (2266)، وابن ماجه في الوصايا (2818)، من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، وحسنه ابن عبد البر في التمهيد (24/439)، وابن الملقن في ا لبدر المنير (7/263)، وقال ابن حجر -رحمه الله- في "الدراية في تخريج أحاديث الهداية"(2/290):" إسناده قوي"، وحسنه في التلخيص الحبير: (3/1082)، وصححه الألباني في سنن أبي داود برقم (3565)،
2- أخرجه البخاري في الوصايا (2738)، ومسلم في الوصية (4291)، وأبو داود في الوصايا (2864)، والترمذي في الجنائر (990)، والنسائي في الوصايا (3630)، وابن ماجه في الوصايا (2803)، ومالك (1458)، وأحمد (5236)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.(10/133)
الفتوى رقم: 566
في عدم استحقاق أبناء الإخوة الأشقاء للإرث مع وجود الأخت الشقيقة المعصبة مع البنت
السؤال: هلك هالك وترك زوجة وبنتًا وأختًا شقيقة وأبناءَ إخوةٍ أشقاء. فمن الوارث منهم وما نصيبه؟
الجواب: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين ، أمّا بعد:
فأمّا الزوجة ففرضها الثمن 1/8 لوجود الفرع الوارث، وبنت الميت فرضها النصف 1/2، والأخت الشقيقة عصبة مع البنت، أمّا أبناء الإخوة الأشقاء فمحجوبون بالأخت الشقيقة المعصَّبةِ مع البنت، لأنّ هذا التعصيبَ يمنحها قوة الأخ الشقيق فتحجب كلّ ما يحجبه الأخُ الشقيق وهو يحجب حجب حرمان الأخ لأب وأبناء الإخوة الأشقاء أو لأب.
وأصل المسألة على ثمانية:للزوجة 1/8، وللبنت 4/8، ولأخت الشقيقة 3/8.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 13 من ذي القعدة 1427ه
الموافق لـ: 4 ديسمبر 2006م(10/134)
الفتوى رقم: 661
في حكم المال الربوي قبل القسمة الإرثية
السؤال:
كان والدي -رحمه الله- قد تحصَّل على فوائدَ ربويةٍ ضخمةٍ, والذي أعلمُه من حال هذا المالِ الربويِّ أنه اشترى لنا به بيتًا, وأخشى أن يكون قد أدخل شيئًا منه في تجارته, فهل يجب علينا التخلّصُ من هذا المالِ الربويِّ قبلَ تقسيم الميراث؟ وكيف تكونُ طريقةُ التخلّص؟ أرجو منكم التكرّمَ بإجابتي, راجيًا من الله عزّ وجلّ أني إذا فعلت ما يرضيه -تُجَاهَ هذا المالِ الحرام- أن يغفر لأبي زلّته العظيمةَ.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالمالُ المكتسَبُ من طريقٍ محظورٍ غيرِ مشروعٍ لا يدخلُ في مِلْكِ المسلم بِحَالٍ، وَيُمْنَعُ عليه حِيازتُه، فإِنْ حازَهُ بهذا الوصفِ كان مُخالِفًا لأحكام الشريعةِ، خارجًا عن قواعدِها، والموتُ لا يُطيبُ المالَ الحرامَ سواء كان بِيَدِ المورِّث أو بيد الوارث.
وعليه، فإنّ ثبوتَ المالِ الحرامِ لا يُبيح انتقالَه إلى يدِ الوارث، وإنما يسعى هذا الأخيرُ إلى تبرئةِ ذِمَّةِ مُورِّثه الميّت، وإسقاطِ الإثم الذي تعلّق بها، وذلك بالتخلّص من القدر الذي يعلم أنه فوائدُ ربويةٌ، ويعمل على ردّ الحقوق والمظالم إلى أصحابها إن عُرِفوا، فإن تعذَّر معرفتُهم فالواجبُ انفاقها في المرافق العامّة فإن تعذّر تصدق بها على الفقراء والمساكين، والقدرُ المشتبَه بين الحلال والحرام يستحبّ له تركه.
هذا، ولا يجوز له الانتفاع بالمال الحرام إلاّ إذ حُرِمَ الوارث من الحاجيات الضرورية، وافتقر -حال التخلّص منه بإنفاقه في وجوه البرِّ- فكان الوارث أولى من الفقراء والمحرومين فيأخذ ما يخصُّه منه لدفع حاجياته الضرورية، فيصرفه في قضاء الدَّين أو نفقةِ عِيالٍ ونحو ذلك، ويتعفّف ممَّا هو حرام، وينصح ورثة أبيه بالتخلّص منه تبرئةً لذمّةِ أبيهم، ولا يشاركهم فيه إِنْ أَبَوْا ورفضوا ويطرحُه من نصيبه بعد القسمة الإرثية.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ربيع الأول 1428ه
الموافق ل: 20 مارس 2007م(10/135)
الفتوى رقم: 955
في التصرف في تركة الميت من غير إذن الورثة
السؤال:
امرأةٌ تصرفت في تركة أختها المتوفاة فأنفقتها في أنواع البِرِّ، ولم تخضعها لأحكام الميراث جهلاً، فما حكم هذا التصرُّف؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فإنَّ تصرُّف المرأةِ في تركة أختها من غير إذن الورثة وعِلمهم حرامٌ لما فيه من الاعتداء على مال الوارث، ففي الحديث: «كُلُّ المسْلِمِ عَلَى المسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ»(1)، وقوله صَلَّى الله عليه وآله وسلم: «لاَ يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ»(2)، وعليه فإنَّ ذمتها مشغولة فيما أنفقته بتصرفها غير المأذون فيه، وذلك فيما دون حقِّها منه، ولا تبرأ ذمَّتُها منه إلاَّ بعد ردِّ كلِّ مالِ الورثة المستحقِّين له، ما لم يصرِّح الورثةُ بالتنازل عليه، أو بإجازة تصرُّفها فيه.
هذا، والمعلوم أنَّ الجهل لا تأثير له على حقوق الناس وأموالهم، كما لا تأثير له في انتفاء الإثم عليها لوجودها في دار الإسلام حيث مظنة العلم؛ لأنَّ الشرع أَمَرَ بالعلم والتعلُّم وسؤال أهل الذِّكر، وبيَّنه لمن صلحت نيَّته وحسن منهاجه، قال تعالى: ?فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ? [الأنبياء: 7]، وقال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «أَلاَ سَأَلُوا إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا إِنَّمَا شِفَاءُ العَيِّ -أي: الجهل- السُؤَالُ»(3)، وقد وضع العلماء قاعدةً مقتضاها أنه: «لاَ يُقْبَلُ فِي دَارِ الإِسْلاَمِ عُذْرُ الجَهْلِ بِالحُكْمِ الشَّرْعِيِّ».
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 18 من ذي القعدة 1429ه
الموافق ل: 15 نوفمبر 2008م
__________
1- أخرجه مسلم في «صحيحه» كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه: (6706)، وأبو داود في «سننه» كتاب الأدب، باب في الغيبة: (4884)، والترمذي في «سننه» كتاب البر والصلة، باب ما جاء في شفقة المسلم على المسلم: (2052)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2- أخرجه أحمد في «مسنده»: (5/72)، والدارقطني في «سننه»: (300 )، وأبو يعلى في «مسنده»: (1537)، والبيهقي في «سننه»: (11877)، من حديث حنيفة الرقاشي رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في «الإرواء»: (5/279)، وفي صحيح الجامع (7539).
3- أخرجه أبو داود في «الطهارة»: (1/240)، باب في المجروح يتيمم، وابن ماجه في «الطهارة وسننها»: (1/189)، باب في المجروح تصيبه جنابة فيخاف على نفسه إن اغتسل، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. والحديث حسّنه الألباني في «صحيح أبي داود»: (1/101)، وفي «صحيح ابن ماجه»: (1/178).(10/136)
الفتوى رقم: 956
في حكم تمليك الأم ابنتها بالوصية
السؤال:
امرأةٌ أَوْصَتْ لإحدى بناتها بحُلِيِّها من الذَّهب، فهل من حقِّ البنت أن تطالب بحليِّ أُمِّها بعد وفاتها؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أَمَّا بعد:
فهذه وصيةٌ وليست هبة؛ لأنها تمليكٌ مضافٌ إلى ما بعد الموت بطريق التبرُّع بخلاف الهبة، فالتمليك المستفاد بها يثبت في الحال، وعليه فلا تصحُّ الوصية بهذا الاعتبار لكون البنت وارثة، ومن شرط الموصَى له أن لا يكون وارثًا، للموصِي لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسلم: «إِنَّ اللهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍ حَقَّهُ أَلاَ لاَ وَصِيَةَ لِوَارِثٍ»(1)، والحديث تلقَّته العلماء بالقَبول وأجمعت العامَّة على القول به.
وإذا بَطَلت الوصية بانتفاء شرطها فإنَّ حُلِيَّ الأُمِّ يجب إخضاعه لعموم تَرِكَتِهَا، وقسمته بين الورثة على قواعد الميراث وأحكامه للذَّكَر مثل حظِّ الأُنثيين. ولها أن تستأثر بحُلِيِّ أُمِّها دون بقية الورثة إذا ما وافقوا على تنازلهم لها عليه ورضوا بذلك.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 18 من ذي القعدة 1429ه
الموافق ل: 16 نوفمبر 2008م
__________
1- أخرجه ابن ماجه في «سننه» كتاب «الوصايا»، باب لا وصية لوارث: (2714)، من حديث أنس رضي الله عنه، وأخرجه من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه بلفظ مقارب: أبو داود في «سننه» كتاب «الوصايا»، باب ما جاء في الوصية للوارث: (2870)، والترمذي في «سننه» كتاب «الوصايا»، باب ما جاء لا وصية لوارث: (2120)، وابن ماجه: (2713)، وأحمد: (21791)، كما ورد عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، قال ابن الملقن في «البدر المنير» (7/269): «وبالجملة فالضعف في بعض طرقه يجبر ما فيها الصحيحة والحسنة»، وقد حسَّنه ابن حجر في «التلخيص الحبير»: (3/199)، وصحَّحه الألباني في «الإرواء»: (6/87).(10/137)
06- أخرى
الفتوى رقم: 4
كيفية استيفاء المال المأخوذ ظلما
السؤال: رجل استأجر أجراء لينجزوا له عملا ثم لم يوفهم حقهم، فهل يجوز لهم أخذ حقهم بالقوة إن استطاعوا أو يأخذونه خفية إن كانوا ضعفاء، ومن إخواننا من خرّج هذا الصنيع على حديث هند عندما شكت زوجها إلى رسول صلى الله عليه وسلم ونسب ذلك إلى ابن حزم -رحمه الله- وشكرا.
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان، أما بعد:
فإنّ ما تضمنه فحوى السؤال يعرف بمسألة الظفر، و للعلماء فيها أقوال، والجمهور على استحباب عدم مجازاة من أساء بالإساءة لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أد الأمانة إلى من ائتمنك و لا تخن من خانك "(1)، والحامل على حكم الاستحباب آيات تدل على الجواز كقوله تعالى :( وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا )[الشورى 40] ?وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوْقِبْتُمْ بِهِ"[النحل 126] وغيرها.
والرأي المعتبر في هذه المسألة القول بوجوب الأخذ قدر حقه من مال ظفر به لظالم سواء كان من جنس ما أخذ عليه أو من غيره مع إنصاف المظلوم منه، وذلك باستيفاء حقه بعد البيع فما زاد عن حقه رده له أو لورثته، وإن كان دون حقه بقي مطلوبا في ذمة الظالم، ولا يخرج عن هذا الحكم إلا بالتحليل والإبراء.
والمعتمد في ذلك قوله تعالى:( وَلَمَنِ انتصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلئِكَ مَا عَلَيْهِم مِنْ سَبِيْل )[الشورى41] وقوله عز وجل :( والّذِينَ إذَا أَصَابَهُمُ البَغْيُُ هُم يَنْتَصِرُونَ )[الشورى39] و بقوله تعالى :( وَالحُرُمَاتُ قِصَاص )[البقرة194] وبقوله عز وجل :( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُم فاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُم )[البقرة 194] أما من الحديث فبقوله - صلى الله عليه وسلم - لهند زوجة أبي سفيان " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف "(2) لحقها في النفقة ، ولما رواه البخاري :" إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا، وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف"(3).
هذا وحديث أبي هريرة المتقدم "ولا تخن من خانك" فعلى تقدير صحته فلا وجه للاحتجاج به في مثل هذه المسألة لأنه لا يعد انتصاف المرء من حقه خيانة بل هو حق وواجب و إنما الخيانة أن يخون بالظلم والباطل من لا حق له عنده كذا قرره ابن حزم الظاهري و تبعه الصنعاني بقوله: (ويؤيد ما ذهب إليه حديث "أنصر أخاك ظالما أو مظلوما"(4) فإن الأمر ظاهر في الإيجاب و نصر الظالم بإخراجه عن الظلم وذلك بأخذ ما في يده لغيره ظلما).
قلت: وهذا كله فيما إذا لم يترتب على استيفاء حقهم بهذا الطريق مفسدة مساوية للمصلحة المراد تحقيقها أو أقوى منها، فإن ترتب على فعلهم مفسدة فلا يجوز عملا بقاعدة درء المفاسد أولى من جلب المصالح.
و الله أعلم، و صلى الله على محمد وعلى آله و صحبه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليما.
الجزائر في : 19 رمضان 1417.
الموافق لـ : 28 جانفي 1997.
__________
1- أخرجه الترمذي كتاب البيوع ،(1264) و أبو داود (3535) كتاب الإجارة ، باب في الرجل يأخذ حقه من تحت يده، والدارمي كتاب البيوع باب في أداء الأمانة واجتناب الخيانة(2652). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم (424).
2- أخرجه البخاري كتاب النفقات، باب إذا لم ينفق الرجل فللمرأة أن تأخذ بغير علمه(5364)، ومسلم كتاب الأقضية، (4574)، وأبو داود، كتاب الإجارة، باب في الرجل يأخذ حقه من تحت يده(3534)، والنسائي في كتاب آداب القضاة، باب قضاء الحاكم على الغائب إذا عرفه(5437)، وابن ماجه: كتاب التجارات، باب ما للمرأة من مال زوجها(2381)، وأحمد (7/60رقم 23597) من حديث عائشة رضي الله عنها.
3- أخرجه البخاري كتاب المظالم باب قصاص المظلوم إذا وجد مال ظالمه(2461)، ومسلم كتاب اللقطة (4613)، وأبو داود كتاب الأطعمة، باب ما جاء في الضيافة(3754) وابن ماجه: كتاب الأدب، باب حق الضيف(3807)، وأحمد ( 5/145) رقم (16894)، من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه.
4- أخرجه البخاري في «المظالم »، باب أعن أخاك ظالما أو مظلوما: (2443)، والترمذي في «الفتن »: (2421)، وأحمد: (13421)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وأخرجه مسلم في «البر والصلة والآداب »، باب نصر الأخ ظالما أو مظلوما (6582) من حديث جابر رضي الله عنه.(10/138)
الفتوى رقم: 16
المشاركة في الألعاب التجارية
السؤال: هل يجوز المشاركة في لعبة (JOKER 88 )
ما هو ضابط المسابقات المبرمة ؟
وبناء على هذا ما حكم المشاركة في مسابقة (JUMBO ) ونحو ذلك من المسابقات المعروضة في التلفاز والجرائد والمجلات، ولا سيما المروجة للبضائع والسلع.
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان، أمّا بعد:
فإن المسابقات والمغالبات والألعاب التنافسية عموما إن كانت محرمة لوحدها بأن تؤدي إلى حدوث ضرر راجح، أو كانت محرمة لعارض كإثارة العداوة والبغضاء أو الصد عن ذكر الله وعن الصلاة فإن بذل العوض فيها لا يغير حكم التحريم باتفاق.
أمّا المسابقات المباحة لعدم المضرة الراجحة كالسباق على الأقدام و الصراع والسباحة ونحو ذلك فلا يشرع بذل العوض من الطرفين أو الأطراف المتنافسة بحيث إن سبق أحدهما فله المال وإن سُبق فيغرم لأنه ضرب من ضروب القمار المحرم وأخذ العوض فيه أكل المال بالباطل، ومن جهة أخرى يشرع فيه بذل المال و أخذه إذا قدم من أجنبي أو أن يقول أحد المتسابقين لصاحبه إن سبقتني أو غلبتني فتغنم وإن سبقتك أو غلبتك فلا تغرم، أو كان مع المتسابقين محلل يأخذ المال إن سبق ولا يغرم إن سُبق. أما المكافآت على المسابقات المقدمة لأوائل الفائزين أو الناجحين المبنية على التزام عوض معلوم أو مجهول عسر علمه، فإن كان مضمونها مما يحل فيه السباق كالسباق على الإبل والخيل والرمي وما يشابهها لوجود معنى شرعي متمثل في إعلاء كلمة الله بالجهاد في سبيله ويدخل في هذا المعنى كل ما تتعلق به العدة الإيمانية أو يحقق معنى تربويا أو شرعيا يساعد على فتح مجاري البر وانتشار الفضيلة داخل المجتمع فلا مانع من العوض أن يؤخذ من باب الجعل المشروع وهو ما يسمى بالوعد بالجائزة أو بالأجر ويدل عليه ما جاء في السنة من جواز أخذ الأجرة على الرقية بالفاتحة والحديث رواه الجماعة إلا النسائي من حديث أبي سعيد الخدري(?).
غير أن الذي يمنع من هذه المسابقات تلك العوارض المقترنة بها التي تحث على انتشار الرذيلة والفجور والعصيان وهذا بغض النظر عن نوايا منظميها.
وعليه يظهر الضابط في ذلك على الوجه التالي : كل ما جاز أخذ العوض عليه في الإجارة من الأعمال جاز أخذ العوض عليه في الجعل، و ما لا يجوز أخذ العوض عليه في الإجارة لا يجوز أخذ الجعل عليه لقوله تعالى ? وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ? [المائدة: 2].
أما لعبة "الجوكي" إن كانت قوانينها بحسب فهمي هي أن يدفع المشارك قسطا من المال يذهب نصفه إلى الشركة المنظمة والنصف الآخر إلى الشريك الذي قبله، ويأخذ نصف المال الذي يدفعه من يليه بعده في الرتبة والنصف الآخر يؤول إلى الشركة أيضا وهكذا، فإن مثل هذا العمل لا يحل لما فيه من تجويز أكل المال من غير مجهود مبذول من جهة ولأنه ذريعة إلى الاشتغال به واتخاذه صناعة ومكسبا ومتجرا تأباه حِكَمُ التشريع ومقاصدها الكلية من جهة ثانية.
والله أعلم؛ وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين؛ وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في : 2 ذو القعدة 1417ه
__________
1- رواه البخاري كتاب الإجارة باب ما يعطى في الرقية على أحياء العرب بالفاتحة، ومسلم كتاب السلام باب جواز أخذ الأجرة على الرقية بالقرآن، وأبو داود كتاب الإجارة، باب في كسب الأطباء، والترمذي كتاب الطب، باب ما جاء في أخذ الأجرة على التعويذ، وابن ماجه كتاب التجارات، باب أجر الراقي.(10/139)
الفتوى رقم: 86
حكم العمل في مطبعة تابعة للبنك
السؤال: الحمد الله وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أمّا بعد:
فهذا سؤال عن أخ يعمل في مطبعة تابعة للبنك الجزائري المركزي والتي وظيفتها صنع الدراهم وطبع الجوازات والطوابع البريدية وغيرها من الأمور المطبعية.
فهل يجوز لهذا الشخص العمل في هذه المطبعة، أجيبونا مأجورين وجزاكم الله خيراً.
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه والتابعين إلى يوم الدين أمّا بعد؛
فاعلم -وفقك الله تعالى وأرشدك إلى طاعته- أنّ تركيب النظام الاقتصادي الحالي وجهازه الحالي عموماً مبني على التعامل بالرِّبا المحرّم، والأصل أنّ كل عمل تضمن ضرراً على المسلمين أو ظلماً أو تحريماً فلا يجوز مباشرة العمل فيه ولا المشاركة فيه بأيّ جهد مادي أو معنوي عملي أو قولي، فإنّ المُعين على المعصية يُعدّ شريكاً في الإثم، وكلّ وسيلة إلى الحرام تُحرَّم وهو معنى التقعيد القائل: ( ما أدى إلى حرام فهو حرام ) والكلّ تلحقه اللّعنة بقدر المشاركة في الإثم والذنب، لذلك نجد الشارع يحرّم المشاركة مع آكل الرّبا في قوله - صلى الله عليه وسلم - :" لعن الله آكل الرّبا وموكله وشاهديه وكاتبه "(1) إذا عملوا ذلك - ملعونون على لسان محمّد - صلى الله عليه وسلم - إلى يوم القيامة، وفي رواية مسلم قال :"هم سواء"(2) إذ أنّ كلّ إعانة في الظلم ظلم والتعاون على الإثم إثم مصداقاً لقوله تعالى:( ولا تَعَاونُوا عَلَى الإِثمِ و َالعُدْوَان? [المائدة 2].
وما كان في حكم التابع فهو فرع يلحق به الأصل لأنّ التابع تابع لمتبوعه عملاً بمقتضى القاعدة الفقهية: ( التابع لا يفرد بالحكم ما لم يصر مقصوداً).
هذا، ويذهب بعض العلماء المحدثين إلى جواز العمل في البنوك الرّبوية والمصاريف المالية الحالية لأنّ أعمال البنوك أقلها هو الحرام وأغلبها حلال طيب، بحجة أنّ في العدول عن ذلك خطورة على الإسلام وهذا الأمر الذي يؤدّي بطريق أو بآخر إلى سيطرة غير المسلمين عليه وما يترتب على ذلك من عواقب وخيمة وبلاء على الأمّة، ولا يخفي أنّ كلّ هذا التحليل لا يقوي على القول بحلية العمل في البنوك ولواحقها وضروريّاتها، إذ الأصل فيها قيامها على أساس موجب لحرب من الله ورسوله جريا على قاعدة : من ملك شيئا ملك ضرورياته وليس الأمر كذلك لمن كان أصله غير محرّم لكنّه شابته شائبة التحريم في أحد لواحقه فالأمر يختلف ولا يقاس هذا على ذاك، فيتمتع فقط في تلك اللواحق المحرّمة.
والله أعلم؛ وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العاملين؛ وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
__________
1- أخرجه أحمد (4/43) رقم (3809)، وأبو داود كتاب البيوع باب في آكل الربا وموكله(3335)، والترمذي كتاب البيوع باب ما جاء في أكل الربا(1248) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه والحديث صححه الألباني في الإرواء (1335).
2- أخرجه مسلم باب المساقاة (4177)، من حديث جابر رضي الله عنه.(10/140)
الفتوى رقم: 87
حكم من وجد مبيعه المسروق عند من اشتراه من السارق
السؤال: ما حكم من وجد مبيعه المسروق عند من اشتراه من السارق هل يجوز له أخذه منه، أم يجب عليه إتباع السارق ؟
أفيدونا جزاكم الله خيرا.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، أمّا بعد:
ففي تقديري أنّه يجب التفريق في هذه المسألة بين حالة الاتهام وغيره. ففي حالة العلم بأنّ المال مسروقٌ واشتراه من السارق أو الغاصب فإنّ صاحبه إن وجد ماله عنده فهو أحق بعين ماله، وعلى المشتري ملاحقة المعتدي عند القاضي بناء على سوء نية المشتري واتهامه بالتّورط في عقد منهي عنه شرعا وذلك عملا بحديث سمرة :" من وجد عين ماله عند رجل فهو أحق به، ويتبع البيّع من باعه"(1) ويؤيده ما كتب الخليفة معاوية إلى مروان قوله:" أيّما رجل سرق من سرقة فهو أحق بها حيث وجدها ".
أمّا في حالة عدم العلم بأنّ المال مسروق واشتراه من السارق حملا له على الصلاح فلصاحب المال التخيير بين أمرين وهما:
1. أن يأخذ ماله بثمن.
2. متابعة السارق وملاحقته قضائيا.
وتقرر التخيير خلافا للحالة الأولى بناء على حسن نية المشتري وعدم اتهامه ويدل على هذا التخيير بهذا المعنى حديث أسيد بن حضير أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:" إذا كان الذي ابتاعها من الذي سرقها غير متهم يُخيَّر سيِّدها، فإن شاء أخذَ الذي سُرق منه بثمنها، وإن شاء اتّبع سارقه"(2) ويشهد له قضاء الخلفاء الراشدين، وحديث سمرة، وإن أعلّه الشيخ محمد ناصر الدين الألباني كما بينه في التعليق على المشكاة ومنع صلاحيته لمعارضة حديث أسيد على ما ذكره في سلسلة الأحاديث الصحيحة (2/167) إلاّ أنّ في تقديري انتقاء التعارض بين الحديثين إذا حمل الحديث الأول على حالة الاتهام وسوء النيّة وحمل الثاني على حالة عدم الاتّهام وحسن النيّة وينتفي التعارض أيضا بين قضاء الخلفاء الراشدين وأسيد بن حضير وبين قضاء معاوية بن أبي سفيان -الذي صححه الشيخ الألباني نفسه- إذا ما تم الحمل على الحالتين السابقتين هذا ما ظهر لي في هذه المسألة.
والله أعلم؛ وفق كلّ ذي علم عليم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
الجزائر في 16 صفر 1417هـ
الموافق لـ: 2 جويلية 1996م
__________
1- أخرجه أبو داود كتاب البيوع أبواب الإجارة باب في الرجل يجد عين ماله عند رجل(3533)، والنسائي كتاب البيوع باب في الرجل يبيع السلعة فيستحقها مستحق(4698)، من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه. وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة(2061).
2- أخرجه أحمد(5/266) رقم(17525)، والنسائي كتاب البيوع باب في الرجل يبيع السلعة فيستحقها مستحق(4697)، والحاكم كتاب البيوع.وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم (609).(10/141)
الفتوى رقم: 90
مسألة في المضاربة
السؤال: ويتعلق بمسألة البيوع، ومضمونه:
أنّ رجلين الأول زيد و الثاني عمرو، اكترى الأول حانوتا للمواد الغذائية وطلب من الثاني أن يشاركه في ذلك بماله وبدنه تناصفاً، شاء الله تعالى أن يطلب الثاني الخروج من الشركة لأنّه وجد مشروعا آخر، على كلّ حال وافق الأول، إلاّ أنّ عمرا عرض على زيد -وهو الرجل الأول- أن يقبل طرفا آخر يدخل مكانه، وافق زيد بشرط أن يمهل خالدا مدة أسبوع يراجع فيها نفسه.
بعد انقضاء المدة وافق خالد على المشاركة ببدنه مع شطر ماله، موضع الإشكال هنا هو أنّ زيدا بعد مرور مدة زمنية من الاشتراك مع خالد طلب زيد من خالد أن يخلي له الحانوت ويتفرقا لأسباب منها ضعف المدخول.
السؤال هو: من الذي يحقّ له البقاء في الحانوت زيد أم خالد و بأيّ حجّة ؟
الشطر الثاني من السؤال أنّه وقع الانفصال فعلا وبقي زيد في الحانوت بحجّة أنّه أول من اكترى الحانوت وأنّ خالدا إنّما دخل بعد مرور مدة زمنية من وجود زيد في الحانوت ثمّ نصيحتكم فيمن قاطع أخاه لهذه المشكلة (أعني بالمقاطعة أنّه لا يسلّم عليه ولا يبتسم في وجهه)
أفتونا مأجورين -حفظكم الله- مع إيراد الأدلة على ذلك ونرجوا -حفظكم الله- أن يكون الجواب كتابيا.
الجواب: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فإنّ الشركة عقد جائز لا لازم يمكن فسخه في أي وقت ولذلك لا يلزم بيان مدّته وإذا بينت فالمسلمون على شروطهم ما لم يظهر من هذه الشركة ما يتنافى مع مقصود العقد كما علل زيد بضعف الربح وقلته، ولذلك يعود المتعاقدان بعد النسخ إلى ما كان عليه أمرهما قبل التعاقد، و قد كان زيد قبل التعاقد مع خالد يحوز الدّكان فهو أولى به وإذا اتجر فيه خالد بعد إبطال العقد وفسخه فليس له سوى أجرة مثله، وما كان من ربح أو خسارة فهي على صاحب الدّكان، لأنّ العامل أجير والأجير لا يضمن إلاّ بالتعدي.
هذا وإذا تبين لهذا الأخ الحق فلا يحلّ له الإعراض عنه ومعاندة الحق الظاهر والغضب للنفس والانتصار لها بالباطل فيجفو أخاه المسلم ويقاطعه ويعرض عنه ويدابره على أمر دنيوي فإنّ هذا من سوء الخلق وفساد القلب ولم يرخص الشرع الهجران للدنيا إلاّ في ثلاثة أيام يدع فيها نوازع الكبر والغضب والخصومة لقوله - صلى الله عليه وسلم - :" لا يحلّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام"(1) ثمّ ليعلم أنّ عاقبة التمادي في الشحناء والتدابر وتقطيع أواصر الأخوة هو الحرمان من مغفرة الله تعالى ورحمته، فقد أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة مرفوعا:" تفتح أبواب الجنّة يوم الإثنين والخميس فيغفر الله عزّ وجلّ لكلّ عبد لا يشرك بالله شيئا، إلاّ رجلا كان بينه وبين أخيه شحناء فيقول: أنظروا هذين حتّى يصطلحا، أنظروا هذين حتّى يصطلحا، أنظروا هذين حتّى يصطلحا "(2) فإنّ الدنيا أهون على الله والمسلم من أن تفضي إلى هذه العاقبة.
والله أعلم وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه.
__________
1- أخرجه البخاري كتاب الاستئذان باب السلام للمعرفة وغير المعرفة(6237)، ومسلم كتاب البر والصلة والآداب (6697) من حديث أبي أيوب رضي الله عنه.
2- أخرجه مسلم كتاب البر والصلة والآداب (6709)، وأبو داود كتاب الأدب باب فيمن يهجر أخاه المسلم(4918)، والترمذي كتاب البر والصلة باب ما جاء في المتهاجرين(2155)،والبخاري في الأدب المفرد باب الشحناء، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(10/142)
الفتوى رقم: 92
القرض المشروط
السؤال: رجل اقترض من آخر مبلغا ليستثمره في تجارة وشرط على نفسه أن يعطي المقرض نسبة من الربح، فهل هذا جائز؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فإذا أبرم الاتفاق بينهما ابتداء على أن يعطيه منفعة أو ربحا فهو ربا محرّم شرعا، لأنّ المنفعة مشروطة من المقرض أو في حكم المشروطة، وهذا ما يعرف بربا الديون المتعلّق بالذمم المتمثل في قاعدة (أنظرني أزدك) فتحريمه تحريم مقاصد كما قرره ابن القيم -رحمه الله- وكلّ الآيات القرآنية الواردة في تحريم الرّبا إنّما نزلت في هذه الصورة من صور الرّبا المحرّم، أمّا إذا لم يشترط عليه ربحا أو منفعة بل أراد المقترض من طيب نفسه أن يجازيه على معروفه و يقضي دينه بالإحسان، فإنّ ذلك يُعدّ تبرعا من المستقرض سواء كان في الصفة أو المقدار أو العدد ويدلّ عليه ما رواه مسلم من حديث أبي رافع - رضي الله عنه - " أنّ النّبي - صلى الله عليه وسلم - استَسْلف من رجل بَكْراً، فقدمت عليه إبل من إبل الصّدقة، فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بَكْره، فقال: لم أجد فيها إلاّ خِيَاراً رَبَاعِياً، فقال: أعطه إيّاه، إنّ خِيار النّاس أحسنُهم قضاءً "(1) وفي رواية البخاري ومسلم من حديث جابر بن عبد الله قال:" كان لي على رسول الله دين فقضاني وزادني"(2) وفي الحديث:" من صنع إليكم معروفا فكافئوه"(3).
أمّا حديث "كل قرض جر منفعة فهو ربا"(4) وإن كان ساقط الإسناد على ما ذكره ابن حجر إلا أنّ المعنى بالتحريم متميز بما إذا كان نفع القرض مشروطا أو متعارفا عليه كاتفاق سبق بين المقرض والمقترض جمعا وتوفيقا بين الأدلة.
والله أعلم؛ وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليما.
__________
1- أخرجه البخاري كتاب(2392) عن أبي هريرة رضي الله عنه، ومسلم كتاب المساقاة (4192)، وأبو داود كتاب البيوع باب في حسن القضاء(3348)، والترمذي كتاب البيوع باب ما جاء في استقراض البعير أو الشيء من الحيوان أو السنّ(1367)، من حديث أبي رافع رضي الله عنه.
2- أخرجه البخاري كتاب الصلاة باب إذا دخل المسجد فليركع ركعتين(443)، ومسلم كتاب صلاة المسافرين وقصرها (1689)، وأبو داود كتاب البيوع باب في حسن القضاء(3349)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
3- أخرجه أبو داود في «الزكاة » باب عطية من سأل بالله عز وجلّ: (1672)، والنسائي في «الزكاة »، باب من سأل بالله (2567)، وأحمد: (5357)، وابن حبان في «صحيحه »: (2071)، والحاكم (2410)، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. والحديث صححه العراقي في «تخريج الإحياء »: (1/300)، وأحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد »: (8/63)، والألباني في «السلسلة الصحيحة »:(254)، وفي «صحيح الجامع »: (5898).
4- أخرجه البغوي في (حديث العلاء بن مسلم)(ق10/2)عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وضعفه الشيخ الألباني في إرواء الغليل(5/235)رقم(1398)،وضعيف الجامع(4244).(10/143)
الفتوى رقم: 93
تجارة قاعة الألعاب
السؤال: الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمّد رسول الله أمّا بعد:
سؤالي يتعلق بحكم تجارة (قاعة الألعاب)، فضيلة الشيخ أنا أملك محلا تجاريا بمقر سكناي وأمارس فيه هذا النوع من التجارة ونظرا للشبهة التي أراها (اللهو) أتقدم إليكم سائلا عن حكمها وموضعها من الحلال والحرام رغم أنّني أقوم بالتزامات حسنة اتجاه هذا العمل من بينها:
1. ممنوع التدخين داخل القاعة
2. مراقبة شديدة لمنع أي نوع من أنواع القمار
3. غلق المحل قبل أذان العشاء
4. أمارس هذه التجارة بسبعة آلات إلكترونية ممتنعا عن آلات أخرى (BILLARD - BABYFOOT)
5. مصدر قوت العائلة من هذه التجارة.
فضيلة الشيخ أتمنى أن يكون الجواب بالتدقيق حيث إذا كان حكم هذه التجارة غير مشروع فما هو مصير الآلات التي أمتلكها حيث كنت أقوم بكرائها قبل أن يتسنى لي شراؤها. وأنا أملك الآن بعض الأموال من أرباح هذه التجارة ومرّ عليها الحول فقد زكيت عليها مؤخرا فكيف أتصرف بها -جزاكم الله خيرا- شكرا.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدّين، أمّا بعد:
فاعلم أنّ كلّ ما تضمن ترك واجب كتضييع الصلاة أو تضييع واجباتها، أو صد عن ذكر الله أو إثارة الشحناء والبغضاء، أو اشتمل على الكذب أو الظلم أو الغش أو الكلام الرديء، أو الفحش ونحو ذلك أو تضمن ترك ما يجب عليه من المصالح كالقيام بالمعاش والسعي للاسترزاق فإنّه تحرم المسابقات فيه واللعب اتفاقا.
والألعاب الإلكترونية المعتمدة على المهارات الذهنية التي تقوي المعلومات وتنمي الاهتمامات إذا خلت مما سبق ذكره فحكمها الإباحة والجواز، فليست قائمة على الحظ والمصادفة حتى تُحرم كما هو شأن النردشير ولعب الورق وغيرهما غير أنّه لمّا كانت هذه الألعاب الإلكترونية ليست من آلات الجهاد ولا معينة عليه -ولو اشتملت هذه الألعاب على حروب وهمية تدرب على التصرف في الأحوال المشابهة- فإنّه يحرم فيها العوض ولا يدفع فيها المال للفائز بسبب فوزه، وإذا التزم اللاعبون الحدود والقيود الشرعية الآنفة الذكر ودفعوا المال لصاحب المحلّ والآلات فلا أرى مانعا في أخذه لكونه داخلا في باب الإجارات المباحة، ومع ذلك فالأفضل-عندي- أن يغير صاحب المحل تجارته هذه إلى أخرى ينشر بها الخير والفضيلة، وذلك لصعوبة التحكم في المخالفات الشرعية التي تحدث بين اللاعبين.
هذا والأسئلة الأخرى الواردة في النص هي نتيجة لازمة لحكم هذه المقدمة.
والعلم عند الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلّم تسليما.(10/144)
الفتوى رقم: 95
الدعم الفلاحي البنكي
السؤال: الدّعم الفلاحي يشمل (70%) بدون طالع (فائدة) و(30%) فيها الفائدة جلّ الفلاحين أخذوا (70%) لأنّها ليست فيها فائدة، لكن صندوق التعاون الفلاحي اشترط شروطا في أخذ هذه (70%) من بينها: شراء أسهم من البنك الفلاحي الخاص بالصندوق، فهل يجوز علما أنّ (70%) لا تعطى لهم إلاّ بعد إنجاز المشاريع التي يريدون إنجازها.
كما أنّ هذه الأسهم:
1. منها الطالع : بفائدة محددة و غير محددة
2. شراؤها من أجل أن تكون منخرطا في الصندوق الفلاحي لدعم هذا الصندوق ماليا (تعويض الضرر إذا وقع مثلا).
هل يجوز هذا؟ علما أنّه يمكن سحب مبالغ هذه الأسهم بعد سنة، والبنوك معروفة في معاملاتها المالية.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله و صحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فاعلم أنّ بيع وشراء أسهم شركات تودع أموالها في المصارف والبنوك الربوية وتأخذ على الودائع فوائد ربوية، وتقترض بفوائد ربوية، أنّ ذلك حرام وباطل، لأنّ النصوص صريحة وقاطعة بالحرمة والبطلان لا تستطيع أن تنفذ من نزاعات الأهواء، لا سيما والعاقد يدخل فيها عالما بها، وقد اتفق الأئمة مالك والشافعي وأحمد وجمهور من أتباعهم على أنّ العقود التي يدخلها الربا تقع باطلة للنهي عنها ولا يخفى أنّ النهي إذا عاد إلى وصف في المنهي عنه فهو كالمنهي عنه لعينه.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
الجزائر في 24 رمضان 1422هـ
الموافق لـ 10نوفمبر 2001 م(10/145)
الفتوى رقم: 96
إعطاء الرشوة من أجل دفع ضرر الضرائب
السؤال: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ما حكم الشرع في دفع مال لشخص معيّن حتى يقوم هذا الأخير بسحب وثيقة ما، وينجرّ عن بقائها في مستندات أو ملف شخص آخر معاملته معاملة قاسية من حيث الغرامة المالية، والضرائب الجبائية علما أنّ هذا الشخص المعيّن يعمل في المصلحة المختصة نفسها.؟
أفتونا مأجورين، وأجركم على الله، وجزاكم الله خيرا ورجائي أن يكون الجواب كتابيا -إن أمكن- وشكرا.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وبعد:
فإنّ من حبس عن ماله - ابتداء- فبذل إلى غيره مالا للسعي إلى خلاصه، أو ليحكم له بحق، أو لدفع ظلم عنه ولم يجد وسيلة للوصول إليه سواه، وكان الساعي موظفا في مصالح محلّ سعيه حين وقوع المظلمة فسق الآخذ فقط دون المعطي لاضطراره إلى التوصل إلى حقه بأيّ طريق كان، وأصل تأثيمه ما أخرجه أبو داود والحاكم وصححه من حديث بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال:" من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا -أي منحناه راتبا- فما أخذ بعد ذلك فهو غلول "(1) ودليل تبرئة المعطي من الإثم حديث الملحِّينَ الذين لا يستحقون الصدقة فيعطيها لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عند سؤالهم له قال عليه الصلاة والسلام:" إنّ أحدكم ليخرج بصدقته من عندي متأبطها، وإنّما هي له نار"، فقال عمر: يا رسول الله كيف تعطيها و قد علمت أنّها له نار؟ قال:"ما أصنع؟ يأبون إلاّ مسألتي ويأبى الله عزّ وجلّ لي البخل"(2) غير أنّه لا يجوز الدوام على هذا العمل إن علم أنّ المظلمة لا ترتفع إلاّ به لما فيه من الإعانة على الظلم وأكل أموال النّاس بالباطل، فضلا عن أنّ الاستمرار فيه يوّرث الرضا بالمعصية، وينقلب المنكر معروفا والمعروف منكرا لا يمكن تغييره، ولو بأضعف الإيمان فيمنع هذا الطريق سدا للذريعة.
هذا، وأخيرا فإنّ الواجب يقتضي نصر المظلوم بإخراجه من الظلم، وذلك بعدم التعاون معه على الإثم والعدوان المنهي عنهما بنص الآية ففي صحيح البخاري:" أنصر أخاك ظالما أو مظلوما"، قالوا يا رسول الله هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما؟ قال:" تمنعه من الظلم فذلك نصر له"(3).
والله أعلم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلّم تسليما.
الجزائر في: 21 رمضان 1417 هـ
الموافق لـ: 31 جانفي 1997 م
__________
1- أخرجه أبو داود كتاب الخراج والإمارة والفيء باب في أرزاق العمال، من حديث بريدة رضي الله عنه، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع(5899)، وفي صحيح الترغيب والترهيب(779).
2- أخرجه أحمد (11296)، وابن حبان رقم(840)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب(1/498)، وفي غاية المرام ص:(266) رقم(463).
3- أخرجه البخاري في «المظالم »، باب أعن أخاك ظالما أو مظلوما: (2443)، والترمذي في «الفتن »: (2421)، وأحمد: (13421)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وأخرجه مسلم في «البر والصلة والآداب »، باب نصر الأخ ظالما أو مظلوما (6582) من حديث جابر رضي الله عنه.(10/146)
الفتوى رقم: 97
مسابقة الدولار الصاروخي
السؤال: ظهرت في المدة الأخيرة لعبة أموال تسمى:" الدولار الصاروخي" ليست في صورة "يانصيب"، لها شروط ومعلومات خاصة موجودة على البطاقة المرسلة إليكم، فالرجاء أن تبينوا لنا الحكم الشرعي لهذه اللعبة.-وجزاكم الله خيرا-
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وبعد:
فإذا كانت لعبة "الدولار الصاروخي" من الألعاب التنافسية فإنّه لا يشرع العوض فيها لقوله صلى الله عليه و سلم:" لا سَبَقَ إلاّ في نصل أو خف أو حافر"(1) وإذا كان المقصود به المكسب والتجارة فلا يحلّ العوض فيه أيضا للاعتبارات التالية منها:
- كسب المال بغير مجهود مبذول(وإن بذل في أوله فيسير) حيث يتسلسل كسبه المالي بيسر دون عناء، اعتمادا على مجهود غيره، ولذلك اشتق الميسر من اليُسر الذي يُؤخذ فيه مال الغير بسهولة ويسر من غير نصب ولا كدٍّ ولا تعب.
- العملة الورقية والنقد عموما ليست قيمته مقصودة بذاتها وإنّما تُعتبر قيمتها بالنظر إلى كونها وسيلة إلى السلع و تحصيل المطالب, لذلك كان الاتجار والكسب في ذاتها محظورا, وضمن هذا المنظور يقول أبو حامد الغزالي في معرض الحديث عن الدنانير والدراهم ما نصه:" لأنهما خلقا لغيرهما لا لنفسهما, إذ لا غرض في عينهما, فإذا اتجر في عينهما فقد اتخذهما مقصودا على خلاف وضع الحكمة"، ويؤكد هذا المعنى شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله:" فإنّ المقصود من الأثمان أن تكون معيارا للأموال يتوسل بها إلى معرفة مقادير الأموال ولا يُقصد الانتفاع بعينها"
لذلك فالواجب الاتجار بها لا الاتجار فيها على ما قرره ابن القيم لأنّ النقود لا تلد نقودا لكونها غير مقصودة لذاتها وإنّما هي وسيلة لسدّ حاجات النّاس ومتطلباتهم المعيشية, وطريق لأداء ما أوجب الشرع من الكفارات والوفاء بها وما شرعه من الإعانات في أنواع البر وألوان الإحسان, وعليه فإنّ اتخاذ النقود صناعة ومكسبا فضلا عن الاعتماد على مجهودات الغير لتحصيلها، وبغض النظر عن الجهة المروجة لها فطريق يأباه الشرع ويتنافى مع المقاصد الكلية للتشريع.
والله أعلم بالصواب وفوق كلّ ذي علم عليم وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر : 20 صفر 1418هـ
الموافق ل : 25 جوان 1997م
__________
1- أخرجه أبو داود في «الجهاد »، باب في السبق:(2574)، والترمذي في «الجهاد »، باب ما جاء في الرهان والسبق: (1700)، والنسائي في كتاب «الخيل »، باب السبق:(3585)، وابن ماجه في «الجهاد »، باب السبق والرهان: (2878)، وابن حبان:(1638)،وأحمد: (2/474)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث حسنه البغوي في «شرح السنة »: (535/5)، وصححه ابن القطان في «الوهم والإيهام »: (5/382)، وأحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد »: (13/232)، والألباني في «الإرواء »: (1506)، والوادعي في «الصحيح المسند »: (1408).(10/147)
الفتوى رقم: 98
شراء مسكن عن طريق البنك
السؤال: فضيلة الشيخ، السلام عليكم ورحمة الله و بركاته، استسمحك أن تنفعنا بما علمك المولى تبارك وتعالى بتبيين حكم الشرع في المسألة التالية:
أنا أب لعشرة أطفال ( 4 ذكور و6 إناث ) تتراوح أعمارهم ما بين (25) سنة و(8) سنوات، اثنتان من البنات متزوجات والباقي غير متزوجات، ساكن عند حماتي ( أمّ الأهل ) منذ (20) سنة في بيت ومطبخ، دفعت عدة طلبات للحصول على سكن طيلة هذه المدة (20 سنة ) لكن دون جدوى، والأولاد منهم من بلغ (23) سنة ومنهم من بلغ(22) سنة ومنهم من بلغ (21) سنة ومنهم من بلغ (20) سنة، وأختهم الكبرى (25) سنة متزوجة -والحمد لله- كذلك صاحبة (20) سنة فالحمد لله، لكن البقية لم يتزوجوا بعد، فالإناث أسأل الله أن يفرج عليهن بالأزواج الأكفاء، أمّا ابني صاحب (23) سنة فهو خاطب منذ (7) أشهر لكن بسبب السكن تعسر عليه القيام بالعرس، وهذا الأخير قام بعدة محاولات لكراء أو شراء مسكن لكن لم يستطع لغلاء أسعار المساكن حتى جاء اليوم الذي طرح عليه أحد أصحابه أمرا -وهو بيت القصيد- حيث أنّ هذا الأخير تنازل له عن نصيب من التراب الذي أعطتهم إياه الشركة التي يعمل فيها، وهو عبارة عن قطعة أرض يتكفل بها الصندوق الوطني للتوفير والاحتياط (C N E P) أي تمويل مشروع بناء هذه السكنات بحيث تدفع مثال (10) ملايين لبناء السكنات والباقي تتكفل به (C N E P) و هو عبارة عن قرض يعوضه أو يسدده المستفيد من مرتبه الشهري لكن بالفوائد الربوية -انتهى ذكر المسألة-
السؤال: ما حكم الشرع في شراء هذا النوع من المساكن مع العلم بأحوال العائلة المذكورة أعلاه ؟ وبارك الله فيكم.
ملاحظة: أرفق بيانا بأنّ السائل لا يملك أي ملكية سكنية غير التي يقطن فيها حاليا لا هو ولا زوجته ولا أبناؤه عبر القطر، والله عز وجلّ على ما أقول شهيد.
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فإنّ الاقتراض من البنوك أو ما يماثلها من المصارف المالية الحالية المؤسسة على التعامل الربوي حرام قطعا بنص الآيات القرآنية المنزلة على هذا النوع من ربا الديون الذي آذن الله الذين يتعاملون به بحرب من الله و رسوله، والأحاديث النبوية الكثيرة التي تنهى أيضا عنه.
غير أنّ مثل هذا الحرام القطعي يُجوِّزه العلماء لضرورة حادثة أو حاجة ملحة اقتضت اللجوء إليه بعد تعذر كافة السبل للخروج من الضيق المادي والمأزق الاجتماعي كالقوت الضروري لنفسه ولأولاده لدفع المجاعة عنهم، والملبس والمسكن الواقيان، والعلاج الضروري الذي يخشى تفاقم المرض إن لم يعالج في الحال ونحو ذلك مم يبلغ فيها العبد حالة إذا لم تراع لجزم أو خيف أن تضيع مصالحه الضرورية من حفظ الكليات الخمس على أن تكون هذه الضرورة قائمة بالفعل لا متوهمة أو متوقعة، وتقدير الضرورة موكول لدينه، فإذا تحققت الضرورة انتفت عنه الحرمة بمقدار ما يدفع الضرورة بناء على ما تمليه القواعد المبنية على النصوص الشرعية منها:"الضرورات تبيح المحظورات" وقاعدة "إذا ضاق الأمر اتسع" مصداقا لقوله تعالى: ?وما جعل عليكم في الدين من حرج?[الحج: 78] وقوله تعالى: ?ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج?[المائدة: 6].
هذا ولا يفوتني أن أذكر بأنّ الضرورات و الحاجيات المنزلة منزلتها يجب أن تكون بقدرها أخذا بقاعدة " الضرورات تقدر بقدرها " وقاعدة " إذا اتسع الأمر ضاق " وقاعدة " إذا زال الخطر عاد الحظر".
على أنّه -أخيرا- إذا أقدم عليه يكون له كارها له ساخطا عليه غير باغ ولا عاد والله غفور رحيم.
والله أعلم بالصواب وفوق كلّ ذي علم عليم وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 26 شعبان 1415ه
الموافق ل: 28 يناير 1995م(10/148)
الفتوى رقم: 103
الدورات الرياضية بين المساجد
السؤال: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد:
فنرجو من شيخنا الفاضل-أبي عبد المعز- حفظه الله ورعاه وأطال في عمره ونفع بعلمه أن يفصل لنا في هذه المسألة التي عمّت بها البلوى خاصة في فصل الصيف، ألا وهي: (الدورات الرياضية) وتفاصيلها كما يلي:
تنظم هذه الدورة بين المساجد، حيث كلّ مسجد يكوِّن فريقا خاصا به، ويساهم كلّ لاعب بمبلغ من المال عادة ما يكون (200دج)، ثمّ تجمع تلك الأموال، ويشترى بها رسائل فقهية أو في التوحيد لعوام الناس؛ أو تجمع وتعطى لفقير أو توزع على الفقراء أو لأمر آخر.
ثمّ تلعب هذه الفرق المشاركة وفق البرنامج المنظم لهذه الدورة، إلى أن يتفرد فريقان في الأخير ويلعبان الدور النهائي، وبعدها تقسم تلك الرسائل بين المساجد بالتساوي، ويتكفل بالتوزيع كلّ فريق بمسجده وتوزع على عوام النّاس.
فنرجو من حضرتكم أن توضحوا لنا هذا الأمر، وإن كان هناك طرق أو أساليب أخرى أفضل من هذه الدورات فلا تبخلوا علينا بنصائحكم ونكون لكم بإذن الله شاكرين.
وجزاكم الله خيرا وأطال في عمركم وبارك لكم في وقتكم ونفع بعلمكم، إنّه سميع مجيب.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين أمّا بعد:
فإنّ عموم المسابقات يمكن ضبطها بضابط شرعي يظهر في أنّ: كلّ مسابقة تُحرم إذا ما اشتملت على محرّم ذاتي أو وصفي أو شرطي أو صدّت عن واجب شرعي كالصلاة والذكر، أو استوعبت جميع الوقت بحيث تصرف عن واجبات الحياة، أو ترتب عليها ضرر مؤكّد أو مفسدة متحققة فرديّة أو اجتماعية كالتحزّبات وإثارة الفتن وتنمية الأحقاد والبغضاء والتنافر، أو كانت قائمة على الحظ والمصادفة كالنرد وشبهه وفي مثل هذه المسابقات يحرم بذل العوض عليها اتفاقا.
أمّا إذا انتفت هذه الأوصاف عنها، فإن كانت مبنية على تحصيل المقاصد الشرعية في الغزو والانتفاع بها في الجهاد في سبيل الله فإنّ السباق عليه محبوب ومرغوب فيه ومرضي لله تعالى، ويستحب بذل العوض عليه، وإن كانت خالية من المقاصد السابقة ولا معنى لها سوى بناء الجسم وإعداده للقوة بتقوية البدن وتنشيط الدم والعضلات بالحركات قصد قلع الأمراض العالقة والأسقام المزمنة، فإنّ مثل هذه المسابقات تندرج تحت قاعدة: الأصل في الأشياء والأعيان المنتفع بها على الإباحة والجواز وهي لا تنافي أصول الشريعة في الجملة الآمرة بإعداد القوّة الجسدية الجسمانية. ولكن بذل العوض عليها غير جائز شرعا.
ودليل عدم مشروعية بذل العوض على مثل هذه المسابقات ما أخرجه الأربعة وأحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:« لا سَبَق إلا في نصل أو خف أو حافر »(1) وهذا الحديث وإن روي بإسكان الباء في قوله « لا سبْق... » إلاّ أنّ المحفوظ من الروايات بفتحها وهذا المراد منه العوض أو الجعل أو الرهان، ورواية الإسكان-وإن سلمت- لكانت محمولة على نفي الكمال والتمام أي لا سبْق أكمل منفعة وأتمّ مصلحة إلاّ في الثلاثة، والحديث يدلّ على مشروعية المسابقات وحصر بذل العوض على المذكورات في الحديث بكونها رياضة محمودة باعثة على تحصيل المقاصد الشرعية السالفة البيان، وما عدا ذلك فقد نفاه الشرع إمّا بمفهوم الحصر أو بكون الأصل في الأموال التحريم، وعليه فلا يعدل عن المنع ولا يخرم الحصر الوارد في الحديث إلاّ بوجود دليل صارف أو قياس سائغ تتجلى فيه تلك المقاصد الشرعية حتى يصح بذل الجعل أو العوض عليها.
وممّا يعدل به عن الأصل المقرر في المنع لوجود نص صارف عنه مصارعة النبي صلى الله عليه وسلم ركانة بن عبد يزيد على شاة فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم ثمّ عاد فصرعه فأسلم وردّ عليه الغنم(2)، والحديث جوّده ابن القيم(3) وحسنه الألباني(4)، فيكون الحديث مخصصا لعموم منع البذل بالعوض بالشروط والقيود المذكورة آنفا.
ويلحق به كذلك المسابقات العلمية على حفظ القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف ودرايته، ومعرفة أحكام الفقه الإسلامي والسيرة النبوية وغيرها من العلوم النافعة إذ تنمّي القدرات العلمية وتوسع دائرتها وتبعث في النفس حب التعلم والمعرفة وتشجع التنافس على الخير والنفع، ويدلّ عليه ما أخرجه الترمذي من أنّ أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه راهن كفار مكة على غلبة الروم للفرس، وقد بذل كلّ منهما جعلا للآخر(5) والحادثة وقعت في زمانه صلى الله عليه وسلم واشتهرت ولم تكن لتخفى عنه صلى الله عليه وسلم من غير نكير فدلّ على إقراره له، علما بأنّ الروم إنّما انتصرت في السنة السادسة من الهجرة أو ما بعدها ولم يقم دليل نسخه، ومن جهة أخرى فإنّ الدين قيامه بالحجة والجهاد، فإذا جازت المراهنة على آلات الجهاد فهي في العلم أولى بالجواز، وهو مذهب الأحناف(6)، وبه قال ابن تيمية(7) وارتضاه ابن القيم(8) رحمهم الله تعالى.
ومن بين الأقيسة التي يمكن إلحاقها بالمستثنيات الثلاثة السابقة المذكورة في الحديث في جواز بذل العوض عليها: المسابقة على الأقدام مشيا وجريا وقد نقل النّووي وابن القيم جواز المسابقة على الأقدام بدون عوض ومستند الإجماع أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لمّا كان في سفر مع عائشة رضي الله عنها فسابقته على رجلها فسبقته، فلمّا حملت اللّحم سابقته فسبقها فقال:" هذه بتلك السبقة"(9)، وروى مسلم من أنّ سلمة بن الأكوع سابق رجلا من الأنصار بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم في يوم ذي قرد(10).
أمّا بذل العوض في المسابقة على الأقدام فحكمها الجواز على الصحيح لما فيه من رياضة على البدن وتمرينه على خفة الحركة والإسراع والنشاط ممّا هو مطلوب في الغزو ويستعان به في تحصيل المقاصد الشرعية وهو لا يختلف عن الخيل في قتال الفرسان وهو داخل تحت قوله تعالى: ?وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوّةٍ...? الآية[الأنفال:60]، قال الزهري: كانوا يسابقون على الخيل والركاب وعلى أقدامهم(11). وإلى تجويز البذل قال الأحناف(12) وبعض الشافعية(13) وهو من اختيارات ابن تيمية(14) رحمهم الله تعالى.
وعليه فإنّ الحديث الوارد في نفي السَبَق لا يحمل على النفي المطلق ولا يكون التنصيص على الثلاثة في الحديث استثناء وإن خرج مخرج الاستثناء وإنّما المقصود به التوكيد على معنى أنّ أحق ما بذلتم عليه السَبَق هذه المذكورات الثلاثة لشمول نفعها وتمام مصلحتها وهو لا ينفي جواز ما عداه في بذل العوض ومثله قوله صلى الله عليه و سلم:« لا ربا إلا في النّسيئة »(15) أي الربا الأغلظ والأشد في النسيئة ولا ينفي ربا الفضل.
هذا، وإذا تقرّر عدم جواز بذل العوض في المسابقات التي لم يدلَّ عليها النّص أو لم تكن في معنى النص كالمسابقات بالكرة عموما فإنّه يمنع فيها بذل العوض بأن يأخذ أحد منهما بسبب فوزه مبلغا ماليا أو عينيا أو نسبة يتميز بها الفائز عن المفضول، سواء كان البذل من الإمام أو من أجنبي خارج عن المتسابقين أو أحد المتسابقين أو المتسابقين جميعا ببذل جزء من ذلك الجعل.
وهذا كلّه فيما إذا كان المال مشروطا للسابق على سبقه، وهو الجعل الواقع رهنا على المسابقة، أمّا إذا كانت المسابقة غير مرهونة بمال وإنّما المراد منها خصوص المسابقة واستعمالها طريقا لجمع المال على جهة التبرع قصد المساعدة والتعاون طلبا للثواب من الله تعالى فهو بهذه الصورة معدود من عقود الارتفاق وهي خارجة عن عقود السبق والجعل، ذلك لأنّ التبرع والهبة يختلف من عدة جوانب عن عقد السَبق، فمن حيث القصد فنية المسابق أو المراهن قائمة على السعي لتحقيق الكسب المادي الدنيوي وتحصيل التفوق وانتزاعه بالغلبة بحيث يكون غالبا وخصمه مغلوبا خلافا للمتبرع أو الواهب فغرضه مساعدة الناس ونفعهم وإعانتهم على تحقيق حاجياتهم مع قصد الثواب الأخروي، ومن جهة أخرى فإنّ حقيقة التبرع غير مبنية على عمل يقوم به الغير إذ لو كان كذلك لخرج عن حقيقته كهبة وانقلب إلى عقد معاوضة، كما يظهر الفرق بينهما جليا من حيث التسمية والحكم، ذلك لأنّ اسم السبق والرهان والخطر والجعل غير الهبة والتبرع والصدقة ولكل منهما أحكام مغايرة للأخرى ومخالفة لها.
وبناء على ما تقدم فإنّ الصورة المذكورة في السؤال لا يحكمها عقد السبق وإنّما تندرج ضمن عقود التبرعات باتخاذ هذه المسابقات-و هي جائزة في الأصل- وسيلة تبرع ونفع النّاس، إذ حقيقة التبرع إخراج الإنسان ماله لغيره بقصد الإعانة دون طلب العوض وهو من عقود الارتفاق، وما كان داخلا تحتها فالأصل فيه الحل والجواز، بينما حقيقة السبق المتمثل في بذل مال على عمل أو نفع على وجه العوض وهو أقرب إلى عقود المعاوضات من غيرها فافترقا.
وتقرير حكم الجواز لا ينبغي أن يزاحمه ما يتنافى وأحكام الشرع مما تقدم ذكره فضلا عن كشف العورات وضياع الصلاة والأوقات وحدود الكلام القبيح من اللاعبين، على أن يلتزم الكلّ بروح التسامح والتآلف والتآخي المستوحاة من المُثُل الإسلامية العليا بتطهير النفس والضمير ممّا يعكر صفوه من الضغينة والحقد والتنافر المتولد من مثل هذه المنافسات بين الغالب والمغلوب، وحاصل نصيحتي وتوصيتي أن يحرص كلّ لاعب على استبقاء كرة القدم في قدمه وعدم ارتقائها إلى قلبه.
والله أعلم بالصواب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّ اللهم على محمّد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلّم تسليما.
الجزائر في:21صفر1419هـ
الموافق لـ:16جوان1998م
__________
1- أخرجه أبو داود في «الجهاد »، باب في السبق:(2574)، والترمذي في «الجهاد »، باب ما جاء في الرهان والسبق: (1700)، والنسائي في كتاب «الخيل »، باب السبق:(3585)، وابن ماجه في «الجهاد »، باب السبق والرهان: (2878)، وابن حبان:(1638)،وأحمد: (2/474)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث حسنه البغوي في «شرح السنة »: (535/5)، وصححه ابن القطان في «الوهم والإيهام »: (5/382)، وأحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد »: (13/232)، والألباني في «الإرواء »: (1506)، والوادعي في «الصحيح المسند »: (1408).
2- أخرجه البخاري في التاريخ الكبير(1/1/82/221)، وأبوداود في اللباس(4078)، والترمذي في اللباس(1784)، والحاكم(3/452)، من حديث أبي جعفر بن محمد بن علي بن ركانة عن أبيه.
3- الفروسية لابن القيم(202).
4- إرواء الغليل(5/329).
5- أخرجه الترمذي في التفسير(3193)، من حديث ابن عباس رضي الله عهما.
6- انظر حاشية ابن العابدين(6/403)، تبيين الحقائق للزيلعي(6/228).
7- الاختيارات الفقهية(160).
8- الفروسية لابن القيم(97).
9- أخرجه أبو داود في الجهاد (2578)، وأحمد(27031)، وأبو نعيم في رياضة الأبدان(39/2)، من حديث عائشة رضي الله عنها، وصححه الألباني في الإرواء(5/327).
10- أخرجه مسلم في الجهاد والسير(4779)، وأحمد(16988)، والبيهقي(20251)، من حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه.
11- مصنف ابن أبي شيبة(12/550).
12- بدائع الصنائع للكساني(8/3878)، حاشية ابن العابدين(6/402).
13- المجموع شرح المهذب(14/27)(14/30).
14- الاختيارات لابن تيمية(160).
15- أخرجه البخاري في البيوع(2179)، ومسلم في المساقاة(4173)، وابن ماجه في التجارات(2257)، وأحمد(22394)، من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما.(10/149)
الفتوى رقم: 104
طريق التخلص من الفوائد البنكية
السؤال: ماذا يفعل الإنسان بالفوائد البنكية؟ وهل يجوز إنفاقها على الفقراء والمساكين وهل يأخذ أجرا عن هذه الصدقة؟ وما هي الطرق الأخرى لإنفاق هذه الفوائد الربوية؟
وجزاكم الله خيرا.
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فالفوائد الربوية الصادرة عن البنك فهي محرمة ويجوز التصدق بها بنية المظلوم على المصالح العامّة للمسلمين وعلى كلّ ما يرجع إليهم بالنفع وكذا على الفقراء والمساكين لأنّه ما كان محرّما من الأموال فحكمه إن لم يعلم صاحبه ولا ورثته يتحول إلى مال عام يشترك فيه عموم النّاس ويرجع إلى منافعهم العامة.
والله أعلم،وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين و صلّ اللهم على محمّد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في:12ربيع الأول1420هـ
الموافق لـ:26جوان1999م.(10/150)
الفتوى رقم: 106
المال المكتسب من التأمين على الحياة
السؤال: أصيب أبي بمرض فيأس الأطباء من برئه فألح عليه أصدقاؤه ليوقع على أوراق التأمين على الحياة فوقع على جهل منه، أو لحالته الصحية لأنّ المرض كان قد استفحل في جسده، (وكلّ هذا بدون علمنا)، وعند وفاته أنكرت على أهلي هذا الأمر فلم يكترثوا بما قلته فأخذوا النقود وأتمموا بها بناء مسكن لنا و انتقلوا إليه وبقيت أنا في بيت جدي فنبهني بعض الإخوة إلى أنّ ذلك يؤدي إلى قطع الرحم، فأردت السؤال:
- هل بإمكاني الانتقال إلى هذا المسكن الجديد معهم، مع العلم أنّي طالب جامعي؟
- هل يمكنني أن أستغل الأموال التي نحصل عليها من كراء الدكاكين في هذا المسكن الجديد؟
- كيف يمكن استدراك هذا الخطأ أي لكي يصبح مسكنا حلالا؟
تنبيه: التأمين على الحياة هو أن يدفع العامل(70) دينار جزائري كلّ شهر فإن توفي قبل تقاعده يأخذ ورثته مبلغ(70)مليون سنتيم، وإن لم يمت فلا يأخد شيئا وينقطع عن دفع(70)دج.
مع العلم أنّ أبي لم يدفع شيئا، أو على أكثر تقدير دفع مدة شهرين.
- قيمة المسكن الحالية تقارب (400) أو (500) مليون سنتيم.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين أمّا بعد:
فإذا كان غالب المسكن أو أكثره من حلال فإنّه بإمكان الانتقال إليه للحاجة أو عند الاضطرار، ونظرا لتعذر وجود المقدار المعلوم الواجب إخراجه في الحال، فإنّ الواجب يستدعي تخصيص نصيب من مدخول الدّكاكين على وجه الاستمرار بقصد الإخراج حتى يفي بالمقدار المالي المحرّم الذي حصل عليه الوالد بعقد باطل غير شرعي، وعندئد يبقى ما بقي حلالا.
وينفق المال الحرام في إصلاح المرافق العامة وفي مختلف وجوه البر من فقراء ومساكين.
والله أعلم بالصواب وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّ اللّهم على محمّد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما.(10/151)
الفتوى رقم: 107
التعامل مع صاحب المال الحرام
السؤال:
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، شيخنا الفاضل: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أمّا بعد:
فأستسمحكم شيخنا -رعاك الله- أن أقتطع جزءا من وقتكم عسى أن تجيبوا على مسألتي وتجدوا حلاّ لمشكلتي، وهي أنّ أخي موظف بشركة قائمة على أساس غير شرعي إذ هو مفتش في الضرائب وهو غير متزوج يقيم معنا في البيت، ولكونه لا يستحلّ بماله لشراء لوازم البيت فإنّي أجد حرجا في الانتفاع بما يأتي به أكلا أو استعمالا مع العلم أنّه ليس هو المعني بالإنفاق بل الوالد هو المنفق لكن يساعده في كل شيء تقريبا، فهل يحرم عليّ الانتفاع بما يجلبه إلى البيت أم لا ؟ وأحيانا يكون الأكل مزيجا من المال الحلال أي: مال الوالد ومال أخي الذي لا أستطيع أن أقول إنّه حرام حيث إنّ هذه الكلمة لها مدلول عظيم مؤثر على العائلة ولا يقبلونه، وذلك أنّ أخي استفتى إماما بالحيّ فأجاز له العمل في الشركة علما أنّه يعتبره أهلا للسؤال والفتوى باعتباره إماما يُصلّي بالنّاس، حافظ للقرآن له علم. وأمّا أنا فلا أعتبره كذلك إذ هو حافظ للقرآن فقط وليس له أصول وضوابط المجتهد -فيما أعلم- بل سمعت عنه أمورا تجعلني لا أثق فيه منها أنّه يكتب التمائم ويرقي بأساليب غير شرعية كسؤاله عن اسم والدة المريض وغيره.
فهل يكون بهذا إثمه على من أفتاه وماله حلال ينتفع به الجميع أم يبقى بالنسبة إليّ حراما لعدم صدور الفتوى من أهلها؟
كذلك هو يسأل عن كونه أحيانا يساعد أصحاب المحلات في تقليص وتخفيض قيمة الضريبة وكثيرا ما يكون جزاء هذا العمل أنّهم يقدمون له هدايا وسلعا من تلك المحلات والمصانع فما حكم عمله هذا للمساعدة ؟
وما حكم الهدايا ؟ ودائما تحت فتوى الإمام السابق أنّها حلال ما دام لم يطلبها هو
أفيدونا شيخنا حفظكم الله.
ملاحظة: وإن لم أستطع إقناع أخي أنّ المؤسسة غير شرعية إلاّ أنّه بدأ يشك في الأمر لذا فهو يحاول أن يدخل ميدان التجارة غير أنّه لم يوفق بعد، لعلّ سبب ذلك المال الحرام فأطلب منكم شيخنا الدعاء له بالتوفيق دون أن تنسوا صاحب السؤال.
الجواب:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فبالنسبة لصاحب العمل غير المشروع في الأصل إذا قبض المال بطريق فاسد يعتقد صحته بناء على فتوى من ظن السائل أنّه أهلا لها واطمأنت نفسه إليه فإنّه يملك ما قبضه لأنّه سلك لمعرفة الحكم الشرعي الطريق المطلوب المتمثل في قوله تعالى: ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) [النحل43]، وفي قوله صلى الله عليه و سلم:" ألا سألوا إذا لم يعلموا إنّما شفاء العي السؤال"(1)، وإن وقع الإثم فإنّما يقع على من أفتاه من غير ثبت أو سند شرعي أو لم يكن أهلا للاجتهاد والفتوى, فإذا توفرت في المفتي الشروط المعتبرة في الفتوى فهو مأجور أصاب أو أخطأ لحديث عمرو بن العاص رضي الله عنه مرفوعا:" إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر"(2)، والعامي لا مذهب له، وله أن يتخيّر من العلماء إذا عجز عن إدراك الأفضل علما وورعا, فإن علم بعد ذلك حكم التحريم فيه وجب عليه التخلص منه ورده إن كان باقيا أو بدله إن كان فائتا, فإن لم يعلم صاحبه, فإلى المرافق العامة يوّجه, وإلاّ فإلى الفقراء والمساكين والمحتاجين يتصدق به لقوله تعالى: (و ذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين) [البقرة278] وقوله تعالى:(فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف) [البقرة275]
ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إنّ الله طيّب لا يقبل إلاّ طيبا، وإنّ الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: (يا أيها الرّسل كلّوا من الطيبات و اعملوا صالحا) [المؤمنون51] وقال تعالى:(يا أيّها الذين آمنوا كلّوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا الله إن كنتم إيّاه تعبدون)[البقرة172]، ثمّ ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمدّ يديه إلى السماء: يا ربّ يا ربّ، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذّي بالحرام فأنّى يستجاب لذلك"(3) والهدايا والعطايا المأخوذة بسبب المنصب حرام وغلول لقوله صلى الله عليه وسلم "من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا فما أخذه فهو غلول"(4) ولقوله صلى الله عليه و سلم:" لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول"(5) وفي الحديث أيضا:"من شفع لأخيه شفاعة فأهدى له هدية عليها فقبلها فقد أتى بابا عظيما من أبواب الربا"(6) .
أمّا بالنسبة للسائل المعتقد للتحريم - وهو في يد أبويه - فإن كان المال المحرم الممزوج بغيره من الحلال من غير تمييز أقلّ من الحلال حلّ لأنّ الأقل يتبع الأكثر، فإن امتنع عنه للورع فإنّه يعارضه الورع في طلب رضا الوالدين وهو آكد من الأول فضلا عن حاجة بدنه إليه, وإن كان الأكثر حراما حرم, إقامة للأكثر مقام الكلّ، قطع به ابن الجوزي في المنهاج تأسيسا على قاعدة أنّ للأكثر مقام الكلّ إذ معظم الشيء يقوم مقام كلّه على ما قرره الزركشي في قواعده وعليه فليمتنع عن مؤاكلة والديه وإن كانا يسخطان فلا يوافقهما على الحرام المحض بل ينهاهما، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق, وإن رأى من نفسه أنّه لا سبيل لقوام بدنه إلاّ عن طريقه فليقلل من الأكل ولا يوسع إلاّ بقدر الحاجة عملا بقاعدة الضرورات تقدر بقدرها، وما زاد عن ذلك فهو عدوان.
والله أعلم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليما.
__________
1- أخرجه أبو داود كتاب الطهارة باب في المجروح يتيمم(336)، والدارقطني في سننه(744)، والبيهقي(1115)، من حديث جابر رضي الله عنه، والحديث حسنه الألباني في تمام المنة (ص131)، وفي صحيح سنن أبي داود(336) .
2- أخرجه البخاري في «الاعتصام بالكتاب والسنة » باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ (6916)، ومسلم في «الأقضية » باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ: (4487)، وأبو داود في «الأقضية » باب في القاضي يخطئ (3574)، وابن ماجه في «الأحكام » يجتهد فيصيب الحق (2314)، وأحمد: (17360)، من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه.
3- أخرجه مسلم كتاب الزكاة باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
4- أخرجه أبو داود كتاب الخراج والإمارة والفيء باب في أرزاق العمال، من حديث بريدة رضي الله عنها، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع(5899)، وفي صحيح الترغيب والترهيب(779).
5- أخرجه مسلم كتاب الطهارة باب وجوب الطهارة للصلاة، والترمذي كتاب الطهارة باب ما جاء لا تقبل صلاة بغير طهور، وابن ماجه كتاب الطهارة وسننها، باب لا يقبل الله صلاة بغير طهور، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
6- أخرجه أو داود كتاب البيوع باب في الهدية لقضاء الحاجة، من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة(3465).(10/152)
الفتوى رقم: 108
التعامل مع البنك
السؤال: في سنة (1996م) أجّرنا محلاتنا لبنك البركة الجزائري على أساس أنّه بنك إسلامي مقابل إيجار قدره: (20000) دج للشهر مع دفع سنة مقدما.
ثمّ حصلنا على قرض من البنك عل شكل أو صيغة مرابحة قدره (5000000) دج، ثمّ سنة بعد ذلك توفي أبونا تاركا ديونا عليه تقدر تقريبا بـ:(9000000)دج، فتحملنا نحن الورثة (الأم، الذكور، الإناث) هاته الديون وفي نفس الوقت لم نستطع سداد قرض البنك علما بأنّهم أقرضونا بغير رهن وذلك بسبب خطأ إداري من جهتهم.
ثمّ أردنا نحن الإخوة القيام بمشروع صناعي فتلقينا وعودا من البنك بإقراضنا دينا جديدا، لأجل ذلك أنفقنا (3200000)دج (جمعناهم على شكل قروض) منها (1400000)دج أرسلناها إلى ألمانيا كعربون لإنجاز الآلات ولكن البنك لم يف بعهده فازدادت بذلك ديوننا ولم يكن لنا وسيلة مع هذا البنك الذي عرفنا في أثناء ذلك أنّه بنك ربوي، وذلك عن طريق مشايخنا.
ولأجل استرداد أمواله، عرض علينا البنك مراجعة ثمن الكراء مع تسديد مسبق لـ (3) أو(5) سنوات يأخذ هو منها ثمن قرضه وما تبقى فهو لنا.
ثمّ عرضنا عليه فكرة البيع وذلك بثمن نستطيع قضاء (80 %) من ديوننا وفسح المجال لنا للتجارة بالباقي وقضاء ما تبقى من الديون بعد ذلك، علما بأنّنا ليس لنا الآن أي مداخيل إلاّ منحة التقاعد التي تتقاضاها أمّنا من فرنسا والجزائر.
وفي أثناء التفاوض مع البنك الذي دام قرابة عامين إلى الآن اتخذنا عدة إجراءات قانونية حصّلنا بفضلها على حجة قانونية تسمح لنا بمتابعته قضائيا لأجل طرده من محلاتنا ولكن ذلك يمكن أن يدوم سنة إلى ما فوق.
وبسبب ضغوط أصحاب الديون وانعدام المداخيل تقريبا لأنّ المنحة التقاعدية التي تستفيد منها أمّنا لا تغطي حاجياتنا، لأنّها تنفق على أكثر من (20) فردا (عشرون فردا)، وعلما أيضا أنّ من أصحاب الديون من له اعترافات بدين وهم يتابعوننا قضائيا إمّا أن نقضي ديونهم أو السجن، فنحن الآن منقسمون بين من يريد الإيجار الذي يمكننا من سداد (50%) من الديون والبيع الذي سبق وأن ذكرناه ومتابعة البنك قضائيا لأجل إخراجه ممّا يعني أنّ الأمور ستبقى على حالها إلى أن يشاء الله، فهل يجوز لنا البيع أو الإيجار أو أنّه علينا طردهم من محلاتنا مهما كانت.
بارك الله فيكم ونفعنا بكم
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فالذي ينبغي أن يعلم أنّ المصارف التجارية الحالية تمارس أعمالا مشروعة متمثلة في تقديم خدمات وتسهيل قضاء الحاجات وهي المعروفة بأعمال الخدمات، وأخرى غير مشروعة وهي الغالبة في أعمالها حيث يقترن بها الفوائد الربوية المنهي عنها شرعا بالنصوص الصريحة، التي تتمّ عن طريق القروض أو الدخول في مشروعات محرمة أو إبرام عقود فاسدة، ولا يخفى أنّه إذا اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام على الحلال، والعبرة بالغالب، إذ معظم الشيء يقوم مقام كلّه، كما تقرر في القواعد.
هذا، والبنوك الإسلامية -وإن اقترن بها وصف الإسلام- فلا تخرج عمّا هي عليه سائر البنوك والمصارف المالية في الجملة، وما يجري في البنوك الإسلامية من بيوع المرابحة القائمة مقام الإقراض الربوي في البنوك الربوية ما هو سوى حيلة مقنعة لعملية الإقراض بفائدة فضلا عن مناهٍ أخرى ترتبط بالعقد كبيع ما ليس عنده وهو بيع ما لم يملك، وبيع التعليق.
وعليه، فالتعاون في بيع عقار أو غيره لمن يعلم أنّه يستخدمه فيما لا يرضي الله تعالى فهو تعاون على الإثم والعدوان، ذلك لأنّه يعين هذا الكيان المعنوي القائم على أصل ربوي ويستبقيه ويهيئ له استمراره، فضلا عن كون هذه المعاملة تعد إقرارا أو اشتراكا وتعاونا على عمل غير جائز بطريق غير مباشر.
ونظير ذلك في التحريم بيع العنب لمن يتخذه خمرا، أو بيع السلاح لمن يثير الفتنة، إذ لا يقتصر الحرام على فاعله المباشر بل يتعدى إلى كلّ من يشاركه فيه بأي جهد مادي أو أدبي، لذلك يلعن النبي صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، فهؤلاء ينالون من الإثم على قدر مشاركتهم، فكلّ ما أدى إلى حرام فهو حرام، وكلّ من أعان على الحرام فهو حرام، وكلّ من أعان على الحرام فهو شريك في الإثم، قال تعالى:?وَتَعاونُوا على البِرِّ والتَقْوَى وَلا تَعَاوَنوا على الإِثمِ وَالعُدوان?[المائدة:2]
والعلم عند الله؛ وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلّم تسليما.
الجزائر في : 18 شعبان 1424هـ
الموافق لـ : 15 نوفمبر 2000م(10/153)
الفتوى رقم: 111
دفع الرشوة للحاجة
السؤال: شخص أبدل سيارته بسيارة أخرى تحمل وثائق فرنسية (البطاقة الرمادية فرنسية) ثمّ أراد أن يغيّر البطاقة الرمادية في المصلحة المعنية، فاستحال ذلك إلاّ بدفع مبلغ مالي قدره (12000) دينار جزائري، وإذا علمنا أنّه لا يستطيع أن يرجع هذه السيارة إلى صاحبها ولا يبيعها. فما حكم هذه المعاملة ؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان، أمّا بعد:
فإذا كان البائع سيئ النّية بحيث يعلم أنّ ما باع إلاّ ليأخذ سيارة متعاون لا يحق له من جهة النظام العام أن يشتريها إلاّ إذا احتال على التنظيم بدفع مبلغ للجهة المعنية بالبطاقة الرمادية فهذا لا يجوز له ذلك، لأنّه مأمور بطاعة أولي الأمر في المعروف و"تصرفات الحاكم منوطة بالمصلحة"، والتجاسر على هذه المصلحة اعتداء وظلم.
وإن كان المشتري حسن النّية بحيث لا يعلم مثل هذه الإجراءات أو استعملها في مكان غيره فلا إثم عليه، وفي كلا الحالتين فله أن يبيعها قطع غيار ليستوفي بها ثمنه ولا يدفع رشاوى لمن يأكلون أموال الناس بالباطل لأنّها معصية، وقد توعد الشرع عليهم بها شرا.
والله أعلم بالصواب وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّ اللّهم على محمّد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر :18 ذي القعدة 1417هـ
الموافق ل : 25 مارس 1997م(10/154)
الفتوى رقم: 113
في حكم الاقتراض من تاجر في المفرقعات
السؤال: هل يجوز اقتراض مال من رجل عمله قاصر على التجارة في المفرقعات؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فالمفرقعات وسيلة تهييجية تثار غالبًا في الأعياد البدعية كالمولد النبوي والأعياد الوطنية والاحتفالات السنوية وما تتضمنه من موافقة اليهود والنصارى فضلاً عن الأضرار التي تسببها، وما ينجم عنها من إضاعة الأموال، ولا يخفى أنَّ الوسائل لها حكم المقاصد في الجواز والمنع، لذلك كان الاقتراض منه يمتنع من جهة كون أمواله الآتية من المفرقعات المعينة على الباطل وكلّ ما أدى إلى باطل فباطل، وقد أمرنا أن نجتنبه ولا نتعاون عليه قال تعالى: ?وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَتَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ والعُدْوَانِ? [المائدة: 2] ومن جهة أخرى فالاقتراض منه تزكية له على فعله، ورضا بصنيعه، وهو غير جائز أيضًا لأنَّ الرضا بالمعصية معصية.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
الجزائر في: 24 ذي القعدة 1426ه
الموافق ل: 26 ديسمبر 2005م(10/155)
الفتوى رقم: 116
في حكم دفع مال للحصول على عمل
السؤال: شيخنا بارك الله فيكم، تضاربت لدي الأقوال في مسألة دفع الأموال للحصول على عمل في المؤسسات الخاصة أو العامة (الحكومية) على ثلاثة أقوال:
- القول الأول: الجواز.
- القول الثاني: جائز بضوابط: (الأهلية، عدم أخذ مكان الغير، وأن يكون العمل في ذاته مباحاً، وأن تكون حاجة ملحة أو ضرورة ملموسة).
- القول الثالث: جائز لكن في المؤسسات الخاصة بضوابط القول الثاني وغير جائز في المؤسسات الحكومية.
أرجو منكم الترجيح في هذه المسألة، وجزاكم الله خيرا.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فالقول الثاني الذي يجيز إعطاء مال مصانعة للتحصيل على منصب عمل بالضوابط المذكورة في السؤال أقرب صوابًا، وأصحُّ نظرًا مطلقًا سواء في المؤسسات العامة أو الخاصة، لأنَّه بهذه الشروط تتجلى أحقية المنصب والأولوية فيه، فالمال المعطى محرم على الآخذ دون المعطي لأنه مدفوع لإحقاق حقٍّ متمثِّل في تقرير أولويته للمنصب رتبة، ولا تكون المصانعة بالمال فيه على حساب ظلم حقوق الآخرين، لأنَّ مصانعة الحكام ومن على شاكلتهم بالأموال ليقطعوا حقَّ الغير لمصلحة المصانع حرام لقوله تعالى: ?وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ? [البقرة: 188]، وهذا الوجه الذي وردت فيه الأحاديث الناهية عن هدايا العمال لاقتضائها الظلم والعدوان، والتعاون عليه محرم شرعا لقوله تعالى: ?وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ? [المائدة: 2].
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
الجزائر في: 07 رمضان 1426ه
الموافق ل: 10 أكتوبر 2005م(10/156)
الفتوى رقم: 119
في حكم التأمين التجاري
السؤال: نحن عمال شركة، إذا أردنا أن نقتني سيارة جديدة من أحد الوكلاء أو الموزعين المعتمدين في بيع السيارات عن طريق التقسيط يلزمنا دفع مبلغ قدره (30%) من قيمة السيارة كدفعة أولى والباقي على شكل أقساط، بالإضافة إلى دفع مبلغ التأمين على السيارة بإحدى شركات التأمين وبوجهتين لا مفر منهما:
الأولى: تأمين السيارة من جميع المخاطر ويتم التعويض الكامل في حالة حدوث حادث.
الثانية: -وهي محل السؤال- وتسمى التأمين على الحياة بحيث تقوم شركة التأمين بدفع جميع الأقساط المتبقية في حالة الوفاة. فما الحكم الشرعي في ذلك؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فاعلم أنَّ التأمين في كافة صوره سواء كان على الأشخاص، أو على الأشياء ممنوع شرعًا لما اشتمل عليه من محاذير شرعية من أكل أموال الناس بالباطل، والغرر، والمقامرة، وغيرها قال تعالى: ?وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ? [البقرة: 188]، وقد نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع الغرر(1)، فضلاً عن أنَّ شركة التأمين تجري عقود التأمين على وجه يعود عليها ربح استثماري، لم تبذل عملاً للمستأمن، وإنّما كان منها مجرد التعاقد مع المستأمن على ضمان الخطر على تقدير وقوعه، فهذا إلزام بما لم يلزم شرعًا، وعمل بما لم تبذله شركة التأمين فكان ممنوعًا، لذلك لا تجوز مثل هذه العقود - إن كانت اختيارية- سواء وقعت مقرونة بالبيع أو بغيره، والتعامل بها تعاون على الإثم والعدوان.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
الجزائر في: 24 ذي القعدة 1426ه
الموافق ل: 26 ديسمبر2005م
__________
1- أخرجه مسلم في البيوع (3881)، وأبو داود في البيوع (3378)، والترمذي في البيوع (1275)، والنسائي في البيوع (4535)، وابن ماجه في التجارات (2278)، وأحمد (9119)، والدارمي (2609)، والدارقطني (2879)، والبيهقي (10720)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(10/157)
الفتوى رقم: 120
في حكم تسديد الضرائب بالفوائد الربوية
السؤال: ما حكم تسديد الضرائب بمبالغ الفوائد الربوية؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما، أمّا بعد:
فالذي ينبغي أن يعلم أنَّ إيداع الأموال في البنوك لا يجوز شرعًا للمساهمة مع نشاط البنوك في المعاملات الربوية المحرمة بالنصوص الشرعية الدالة على تحريم الربا منها قوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ*فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ? [البقرة: 278-279]، وقوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً?[آل عمران: 130]، وغيرها من الآيات والأحاديث المرهِّبة من هذا التعامل المحرّم.
أمّا إذا تولّدت على أمواله المودعة في البنك فوائد ربوية، فالواجب أن يتوب من ظلمه بأكله أموال الناس بالباطل، وتتوقف توبته على التخلص من المال الحرام الذي ليست له ولا للبنك صفة المالك، وإنما المال الحرام مال عام يرجع فيه إلى المرافق العامة، ومنافع المسلمين، ومصالحهم، أو الفقراء والمساكين عند تعذر ذلك بالنظر إلى عدم معرفة الأشخاص الذي ظلموا في هذه المعاملات الربوية وأخذت منهم الفوائد الربوية.
ولما كانت الفوائد الربوية مال عام يملكه عموم المسلمين، فلا يستطيع بملك الغير أن يسدّد به الضرائب التي فرضت عليه على وجه الاعتداء أيضا، لأنَّ "الضرر يزال بلا ضرر"، "والضرر لا يزال بمثله" كما تقضي به القواعد العامة ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم "أَدّوا إليهم حقهم وسلوا الله حقكم"(1).
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 20 محرم 1427ه
الموافقل: 19 فبراير 2006م
__________
1- أخرجه البخاري في "الفتن" 7521، والترمذي في "الفتن" 3349، وأحمد: 3712.(10/158)
الفتوى رقم: 121
في الإعانة على تعويض لدى شركة التأمين
السؤال: بعت سيارة لشخص، وهو بدوره باعها لشخص آخر، ولكن الوثائق الرسمية مدونة باسمي الشخصي، وشاء الله سبحانه أن يموت مالكها الأخير، إثر حادث، فقام أهل الضحية بتقديم ملف تعويض عند شركة التأمين، وهذه الأخيرة أخبرتهم أنني الوحيد الذي يمكنه أن يحصل على هذه الأموال، فهل أساعدهم على ذلك علما أنّ هذه الأموال قد تتعدى مبالغ الاشتراكات التي أمّنا بها في السابق؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما، أمّا بعد:
فإذا تعذَّر على وليِّ الدم الحصول على دية من القاتل خطأ إثر حادث السيارة، ولا من الدولة التي لم تغطِّ هذا المال إلاَّ بواسطة التأمين، فالأشبه- عندي- جواز مساعدتهم لتحصيل هذا المال، لأنَّ مال التأمين مال عام مأخوذ على وجه الغرر والظلم، ومآل المال العام إلى بيت مال المسلمين [ الخزينة العامة] لينفقه على موارده، وهذا أحد موارده.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.
الجزائر في: 29 محرم 1427هـ
الموافق لـ: 28 فبراير 2006م.(10/159)
الفتوى رقم: 122
في حكم البناء والسكن التساهمي المدعوم
السؤال: ما حكم البناءات التساهمية؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما، أمّا بعد:
فالسكن التساهمي أو السكن المدعوم، هو إعانة الدولة للطبقات ذات الدخل المتوسط في إنجاز، أو شراء مسكن تعسَّر عليها الحصول عليه، فتدعَّم بإعانة مالية مقترنة بشروط يجب توافرها في المستفيد، فهي بهذه الصورة هبة، أو منحة متوقفة على شرط الواهب (الدولة)، لا تجوز إلا لمن توفرت فيهم شروط الواهب.
غير أنّه قد تكون الإعانة المالية متمثلة في قرض من البنك يمنح للمستفيد، تتكفل الدولة بتسديد الفوائد الربوية المترتبة على القرض الممنوح، ففي هذه الحالة يحرم هذا التعامل، لاشتماله على الربا المحرم بالنصوص الشرعية، إذ لا يخرج القرض عن كونه ربويا في الأصل، بغض النظر عن مسدده سواء المستفيد أو غيره، للنصوص الوعيدية الواردة في هذا التعامل.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.
الجزائر في: 28 محرم 1427ه
الموافق لـ: 27 فبراير 2006م(10/160)
الفتوى رقم: 125
في حكم المال المعطى من صندوق التقاعد
السؤال: يقدم لي صندوق التقاعد بعد وفاة والدتي مبلغا ماليا شهريا بسبب دراستي، وكذا الحال بالنسبة لأخي الذي يدرس في الجامعة، فما حكم هذا المال؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما، أما بعد:
فإذا كانت أموال والدتك يعطيها لك صندوق التقاعد باعتبار كون المال مأخوذ من مرتبها الشهري طيلة سنوات عملها فإنَّ ذلك جائز إن شاء الله، وكذلك منحة أخيك الدراسية.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 11 صفر 1427ه
الموافق ل: 11 مارس 2006م(10/161)
الفتوى رقم: 126
في دفع الرشوة للتهرب من المكوس
السؤال: أنتم على علم -شيخنا- بما تحدده الدولة من القيمة المالية التي يحملها معه من أراد الخروج من الوطن وهي 7600 أورو، ولكن هذه القيمة لا تساعد التجار لشراء السلع، حيث إنهم يحتاجون قيمة أكبر لشراء سلعهم، وبهذه الطريقة هم مضطرون إلى الإدلاء في الفواتير التي تمر على البنك بالقيمة الحقيقية للسلع، وهذا يجعل التجار في الخارج لا يبيعون لهم السلع ويقبضون حقهم عن طريق البنوك، لأنهم يريدونها نقدا وهم أيضا يخافون من بُنوكِنا لما شاع عليها من اختلاسات من جهة، ومن جهة أخرى هذا التصريح الحقيقي لأسعار البضائع يجعلهم يدفعون مكوسا كبيرة عند الجمارك، وعند مصالح الضرائب، فمنهم من يلجأ -في هذه الحالة- لدفع رشاوى للجمارك من أجل إخراج قيمة كبيرة ليسدد ثمن البضاعة هناك نقدا، وقيمة صغيرة تسدد عن طريق البنك هروبا من المكوس، ومنهم من يشتري العملة في الخارج على أن يدفع لأصحابها الدينار في الجزائر سواء مسبقا أو آجلا حتى لا يدفع الرشوة للجمارك، أو يدفع مكوسا كبيرة، فهل يجوز إعطاء رشوة من أجل التهرب من المكوس الزائدة؟ وهل شراء العملة بهذه الكيفية تهربا من الرشوة والمكوس يعتبر جائزا؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما، أما بعد:
فإنَّه يجوز للتاجر أن يصانع بماله عند اضطراره مع إثم القابض دون الدافع(1)، غير أنه ينبغي أن يَكره الفعل وينكر على الفاعل ولو بأدنى درجات الإنكار لئلا يكون راضيًا باغيًا، وحريٌّ بأهل التقوى والدين أن يجتنبوا مخالطة المعصية وأهلها خشية تهوين الإثم، ولو من جانب واحد لكثرة التعامل به فينقلب المنكر معروفًا، فيضيِّع حدود الله تعالى، والحريص على دينه أن يهجر المعصية لأنها رجس لقوله تعالى: ?وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ?[المدّثر: 5]، ولقوله صلى الله صلى الله عليه وآله وسلم:« المُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السَيِّئَات"(2).
أمَّا تحويل الدينار الجزائري من بلد لآخر بالعملة الورقية الأجنبية وفق إجراءات الاستيراد فجائز، ولو حصل تفاوت بين العوضين في القدر لاختلاف الجنس، ويكفي قبض الحوالة فهي في حكم التقابض المشروط في المجلس الواحد، أما أن يشتري المال في الخارج ويعطي لأصحابها الدينار في الجزائر فإنَّ عملية الصرف هذه غير جائزة لتخلف شرط التقابض في المجلس الواحد لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« وَلاَتَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ"(3)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« فَإِذَا اخْتَلَفَتِ الأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُم إِذَاكَانَ يَدًا بِيَدٍ"(4).
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصلى الله على نبيينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 16 صفر 1427ه
الموافق لـ: 16 مارس 2006م
__________
1- راجع فتوى بعنوان:" في حكم من صانع بماله عند اضطراره" على الموقع في زر فتاوى المعاملات المالية. برقم: 36.
2- أخرجه البخاري في الإيمان (10)، وأبو داود في الجهاد (2483)، والنسائي في الإيمان وشرائعه (5013)، وأحمد (6671)، والحميدي في مسنده (623)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
3- رواه البخاري (4/379-380)، ومسلم (6/8-10)، وأحمد (3/4)، والبيهقي في السنن الكبرى (5/276) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
4- أخرجه مسلم في المساقاة (4147)، وأبو داود في البيوع (3352)، وأحمد (23396)، والدارقطني (2915)، والبيهقي (10818)، من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.(10/162)
الفتوى رقم: 160
التعويض بسبب الحوادث
السؤال: أصيب عامل في ورشة عمل بحادث تسبب في جرح عميق لعضو من أعضائه، فهل يلزم صاحب الورشة أن يعوض لهذا العامل.؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه أجمعين، أمّا بعد:
فاعلم أنّه إذا كان المتسبب صاحب الورشة بإهماله للوسائل الوقائية التي تحول دون الوقوع في الخطر، فإنّه يطعن بسبب تقصيره وتعديه إذا ما أصيب أحد عماله وتضرر بحسب العمل الخالي من الوقاية المطلوبة.
غير أنّه ممّا يجدر التنبيه له أنّ الأصل في المجروح أن لا ديّة له حتى يبرأ ويصح، فإن برأ وصح وعاد إلى هيئته الطبيعية الأولى فليس فيه دية ولا تعويض سوى أجر الطبيب وثمن الدواء، فإن لم يعد إلى هيئته الأولى فإنه يقدر له ديّة بحسب ما نقص من عضوه، فإن كان تقدير العجز الجزئي الدائم بـ 18% بعد البرء فهو محل اعتبار وإلا فيعاد تقديره من جديد بحضرة المعني بالأمر، وما انتهت إليه الخبرة الطبية فإنه يعوض على قيمتها مكونة بحسب طبيعة الضرر وحجم العجز، وإذا سبق وأن دفع له طيلة فترة عجزه عن العمل أجرة شهرية كعامل بنية تغطية ضرره فإنّه يحتسب ذلك بعد التقويم للخبرة الطبية.
والعلم عند الله تعالى؛ وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصل الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر: 16 ربيع الأول 1425ه
الموافق لـ: 6 ماي 2004م(10/163)
الفتوى رقم: 198
في حكم الشراكة في مشروع ربوي
السؤال: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، فأرجو من فضيلتكم أن تعينوني بنصائحكم وتوجيهاتكم في مشكلتي التي أنا في حيرة من أمري للتخلص منها.
أنا شاب بطّال ذو مستوى جامعي ومنذ انتهاء دراستي وأنا أبحث على العمل، وقدر لي أن أعمل شريكا في محلّ تجاري "فضاء الانترنت" ولكن تنازلت عن ذلك لما فيه من مفاسد بعد أن سألت، وجراء ذلك لاقيت بعض المشاكل مع أهلي وخاصة والدي الذي هو متقاعد والآن يعمل حارسا مؤقتا لقلة الكسب، وكان يرى أن أعينه بأي وسيلة خاصة أنّه مريض بالضغط الدموي والسكري، ممّا دفعني إلى البحث عن عمل آخر، فقدر لي أن أعمل عند الخواص مدة ممّا دفع بوالدي إلى نسيان ما جرى، ثمّ بعد انتهاء هذه المدة وكثرة المشاكل عرض عليّ العمل في الجمارك فرفضت ممّا زاد الطين بلة، ثمّ عرض عليّ بعد ذلك العمل في بنك القرض الشعبي الجزائري فرفضت أيضاً ممّا جعل أهلي كلهم يتهمونني بالتعصب وعدم الواقعية والتكاسل ثمّ لم يتركوني وكانوا دائمًا يلومونني صباح ومساء.
أصبحت أتجنب الدخول إلى المنزل وكنت في ظروف نفسية صعبة فاقترح عليّ مشروعا وهو مشكلتي الحالية" وهي :
أن أكون شريكا لعمّي في وحدة للعتاد الفلاحي فأمضيت على العقد دون التعرف أو الاستعلام على كيفية العمل، وكلّ ذلك لكي أرضي والديّ وأتخلص من المشاكل ثمّ تبين لي بعد ذلك أنني أستفيد من عتاد بقيمة (400) مليون سنتيم من شركة "سالم" حيث تساهم الدولة بـ (50%) من قيمة العتاد التي هي (200) مليون سنتيم تدفع مباشرة على شركة "سالم" بدون فائدة ولها تعويض بالنسبة لي فيبقى من قيمة العتاد (200) مليون تساهم بها نفس الشركة والتي تشترط فائدة بـ (8%) أي (16) مليون أي أبقى مدان (216) مليون لشركة "سالم" تُسدد في (5) سنوات.
هل يعتبر هذا ربا ؟ وإن كان كذلك فأحيطكم علما أني لم أستفد بعد من هذا المشروع ولكنّه في الخطوات الأخيرة وذلك بعد مضي (8) أشهر من إيداع هذا الملف، فهل إذا أتممت الخطوات مع العلم بأنّ كلّ شيء باسمي وبعد الاستفادة أتنازل عن الملكية وأترك عمّي وأهلي يعملون به لكي لا يلحقني منهم مشاكل ويشتد التوتر والنزاع
ومن فضلكم إذا كان لديكم حلول فلا تبخلوا عليّ.
خالص دعائكم في ظهر الغيب وبارك الله فيكم وفي علمكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أما بعد:
فاعلم أنّ المشروع الذي أقحمت نفسك فيه ربويّ بلا شك، لاشتراط الزيادة عند العقد وكلّ عقد جرّ منفعة فهو رباً، وأنّ التقصير في السؤال لمعرفة صفة العقد قبل الشروع فيه لا يعفي من المسؤولية وترتب الإثم على الفعل، ولا يصلح التذرع بالجهل مع وجوه من يعلم مثل هذا الحكم لقوله صلى الله عليه وسلم:" ألا سألوا إذ لم يعلموا إنّما شفاء العي السؤال"(1) وهو صريح كقوله تعالى: ?فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ?[النحل:43] وعلى أساسهما وضعت قاعدة:" لا يقبل في دار الإسلام عذر الجهل بالحكم الشرعي".
هذا، والأصل في كلّ تصرف ربوي بطلانه، لقوله صلى الله عليه وسلم:" كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد"(2) ويعود المتعاقدان إلى ما كانا عليه قبل التعاقد، لكن إذا ما تمّت خطوات العقد وامتنع الطرف المقرض من الفسخ والإلغاء إمّا لفوات الأوان أو لأسباب أخرى تمسك بها لتأييد الحكم الوضعي لمثل هذه الوضعية بالنظر إلى غياب السلطة الشرعية، وألزم بدفع الزيادة الربوية في كلّ الأحوال، صار المستقرض عند - تعذر وسيلة الإلغاء - مجبرا على الالتزام بالعقد الربوي ولاخيار له وإلا ترتبت عليه كافة التبعات والعقوبات المالية حال العدول على التزامه بتنفيذ مقتضى العقد المبرم بينهما، حالتئذ صُحح له العقد ضرورة لا دينا، وله أن يلتزم بما يحتويه العقد مع دفع تلك الزيادة اضطرارا - وهو غير باغ ولا عاد- شأنه في هذه الحال كمن يدفع الضرائب والرسوم المفروضة عليه ظلماً وعدواناً فيدفعها - وهو كاره-
هذا، وإذا صحّ العقد في حقه ضرورة، أمضى فيه كالعقد الصحيح ابتداء، لكن يبقى مطالباً بالتوبة إلى الله عن فعله الأول الذي انجر عنه مثل هذا التصرف الممنوع شرعاً، وعليه أن يكثر من الاستغفار، وعمل البر والصالحات، فإنّ الحسنات يذهبن السيئات.
والعلم عند الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.
الجزائر في:4 صفر 1424هـ
الموافق لـ:6 أفريل 2003م
__________
1- أخرجه أبو داود كتاب الطهارة باب في المجروح يتيمم(336)، والدارقطني في سننه(744)، والبيهقي(1115)، من حديث جابر رضي الله عنه، والحديث حسنه الألباني في تمام المنة (ص131)، وفي صحيح سنن أبي داود(336).
2- أخرجه مسلم في الأقضية(4590) وأحمد(25870)، والدارقطني في سننه(4593)، من حديث عائشة رضي الله عنها.(10/164)
الفتوى رقم: 207
في حكم من صانع بماله عند الاضطرار
السؤال: فالبرغم ما ندفعه من ضرائب ورسوم للدولة، فإنّه كثيرا ما تجمّد حاوياتنا في الميناء، فتمنع أمتعتنا، وبالتالي تتعطل مصالحنا وتتكسد تجارتنا إذا لم ندفع أموالا للجمارك، فهل يجوز أن ندفع المفاسد عن أموالنا بالرشوة؟ أفيدونا جزاكم الله خيرا.
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فالرشوة في الأصل حرام وهي من الكبائر، غير أنّ العلماء يستثنون من حكم التحريم من صانع بماله عند اضطراره ويؤثمون الآخذ المرتشي دون الراشي، ذلك لأنّ الرشوة إنّما هي ما يُعطى لإحقاق باطل أو إبطال حق(1)، ويخرج من مفهوم هذا الضابط من سلك طريقها للوصول إلى حق مهدد أو رفع عدوان ظالم أو دفعه قبل حصوله، ويدلّ عليه ما أخرجه أحمد وأبو يعلى بسند صحيح وأورده الهيتمي:"أنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: دخل رجلان على النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسألانه في شيء، فأعانهما بدينارين فخرجا فإذا هما يثنيان خيرا، فدخلت عليه، فقلت: يا رسول الله رأيت فلانا وفلانا خرجا من عندك يثنيان خيرا، قال: لكن فلانا ما يقول ذاك، وقد أعطيته ما بين عشرة إلى مائة فما يقول ذلك، وإنّ أحدكم ليخرج بصدقته من عندي متأبطها(يحملها تحت إبطه) وإنّما هي له نار، قال عمر: يا رسول الله كيف تعطيه وقد علمت أنّها له نار؟ قال: فما أصنع؟ يأبون إلاّ مسألتي، ويأبى الله عزّ وجلّ لي البخل"(2)، و إذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعطي السائل الملحَّ في طلبه مالا، وهو يعلم عدم استحقاقه له وهو له نار وكان عطاؤه نتيجة الإلحاح في المسألة، فمن باب أولى ما تكون الحاجة داعية إلى استرجاع حق مضيع، أو دفع ورفع جور ظالم. وقد روى أهل الحديث أنّ عبد الله بن مسعود لمّا كان بالحبشة رشا بدينارين وقال:" إنّما الإثم على القابض دون الدافع"(3).
هذا، وقد نقل ابن العربي في العارضة(4) ما يتفق على هذا المعنى، وجاء في التحفة(5) وفي المغني(6) عن جماعة من أئمة التابعين قولهم:" لا بأس أن يصانع الرجل عن نفسه وماله إذا خاف الظلم"، وقال جابر بن يزيد:" رأينا في زمن زياد أنفع لنا من الرشا" و قد ذكر القرطبي رواية عن وهب بن منبه أنّه قيل له: الرشوة حرام في كلّ شيء؛ فقال: لا، إنّما يكره من الرشوة أن ترشي لتعطى وليس لك أو تدفع حقا قد لزمك، فأمّا أن ترشي لتدفع عن دينك ودمك ومالك، فليس بحرام
قال أبو الليث السمرقندي الفقيه: وبهذا نأخذ أن يدفع الرجل عن نفسه وماله بالرشوة"(7). ولأنّ المعطي كالمكره على إعطائه يستنقذ ماله كما يستنقذ الرجل أسيره، وضمن هذا المنظور أيّد شيخ الإسلام ابن تيمية -بعد تفصيل طويل في المجموع- ما سبق تقريره في المضطر إلى المصانعة بماله، وقد بيّن في سياق الاستدلال قاعدة فقهية مهمة مقتضاها:"أنّ التحريم في حق الآدميين إذا كان من أحد الجانبين لم يثبت في الجانب الآخر"(8). وقد أورد لهذه المسألة جملة من الأمثلة منها:
- شراء الرجل ملكه المغصوب من الغاصب، فإنّ البائع يحرم عليه الثمن، والمشتري لا يحرم عليه أخذ ملكه ولا بذل ما بذله من الثمن.
- وكذلك الأسير والعبد المعتق إذا أنكر سيده عتقه.
- والزوجة يطلقها زوجها ثمّ ينكر طلاقها فكلّ منهما يفدي نفسه بالمال ليحق حقا وهو العتق والطلاق ومعلوم أنّهما حق لله تعالى وإلاّ بقيت الزوجة على غير عصمة(9).
هذا، ونختم الجواب بما جاء في الزواجر قوله:" فمن أعطى قاضيا أو حاكما رشوة وأهدى إليه هدية فإن كان ليحكم له بحق أو دفع ظلم عنه أو لينال ما يستحقه فسق للآخذ ولم يأثم المعطي لاضطراره إلى التوصل إلى حقه بأي طريق كان. أمّا الرائش (الساعي بين الراشي والمرتشي) فتابع للراشي في قصده إن قصد خيرا لم تلحقه اللعنة وإلا لحقته"(10).
والله أعلم.
ملاحظة:
وجدير بالتنبيه أنّ الذي يصانع بماله ينبغي عليه أن يكره الفعل وينكر على الفاعل ولو بقلبه من غير أن يكون راضيا أو باغيا له. هذا والحريص على دينه-إن لم يكن مضطرا بمثل هذه الأعمال التجارية- أن يهجرها إلى أعمال أخرى تجنبا للمعصية ومخالطة أهل المعاصي والآثام والظلم والعدوان، وابتعادا عن الآثام لئلا تهون عنده المعصية فيتعامل بها ويرضى ويحث الناس عليها فقد جاء في الحديث:" المهاجر من هجر ما نهى الله عنه"(11) وما نهى عنه رجس والمسلم مأمور باجتناب الرجس قال تعالى: ?والرُّجْزَ فَاهْجُرْ? [المدثر:5].
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
الجزائر في: 20 ذي القعدة 1418هـ
الموافق لـ: 19 مارس 1998 م
__________
1- التفريعات للجرجاني: (111).
2- أخرجه أحمد (11422)، وابن حبان (3414)، والحاكم (143)، وأبو يعلى في مسنده (1327)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (844)، وفي غاية المرام (463).
3- تفسير القرطبي: (6/184).
4- عارضة الأحوذي لابن العربي: (6/80).
5- تحفة الأحوذي للمباركفوري: (4/565).
6- المغني لابن قدامة: (3/219)،(9/77-278).
7- تفسير القرطبي: (6/183).
8- مجموع الفتاوى (29/258).
9- المصدر السابق، الجزء والصفحة نفسها.
10- الزواجر للهيتمي :(630).
11- أخرجه البخاري في الإيمان (10)، وأبو داود في الجهاد (2483)، والنسائي في الإيمان وشرائعه (5013)، وأحمد (6671)، والحميدي في مسنده (623)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.(10/165)
الفتوى رقم: 224
في صلاحية صيانة العمارة كمصرف للفوائد الربوية
السؤال: هل يجوز صرف الفوائد الربوية في مصالح العمارة التي أسكن فيها مثل: صيانة العمارة، أو شراء المصابيح، أو دفع فاتورة الكهرباء الخاصة بالعمارة؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فالفوائد البنكية تصرف ابتداء في المرافق العامة وفي مصالح المسلمين لينتفعوا بها على وجه العموم، علما أنَّ هذه الفوائد الربوية ليست ملكا للبنك، ولا للتاجر، ولا للمودع فوجب صيرورتها إلى بيت مال المسلمين أو الخزينة العامة للدولة إذا أمكن وإلاَّ فإنّه ينفقها في نفس المرافق التي تنفقها خزينة الدولة كبيوت الأيتام والحضانة وبيوت العجزة وتصليح الأرصفة أو إصلاح القنوات القذرة وحفر الآبار وغير ذلك، فإن تعذر عليه هذا الأمر فإنها تصرف على الفقراء والمساكين، أمّا العمارة فلا يُنتفع بها على وجه العموم وإنما هي خاصة بساكنيها لذلك لا يصلح أن تفرغ في خصوص تلك العمارة دون بقية العمارات الأخرى.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في:7 ربيع الثاني 1427هـ
الموافق ل: 6 مايو 2006م(10/166)
الفتوى رقم: 229
في حكم شراكة ملغاة بدون إخطار
السؤال: أنا أحد ثلاثة شركاء، اشتركنا في تأجير محل تجاري لبيع مستلزمات الكهرباء العامة وقد كتبنا السجل التجاري الخاص بهذا المحل -علما أنّنا شركاء في هذا السجل- باسم أحدنا، وكان هذا من باب الثقة، وكتب الله لي أن فتح عليّ بعمل في دولة الإمارات فسافرت إلى هناك وأنا معتقد بقائي شريكا في المحل إلاّ أنني فوجئت بتوقيفي من الشراكة دون سابق إبلاغ وما علمت بهذا إلا بعد مضي بضعة أشهر حيث قام هذان الشريكان بتوقيف المحل رغبة منهما من دون إبلاغي وبعدها أجرى صاحبنا الذي على اسمه السجل التجاري صفقة تجارية جنى منها مائة مليون سنتيم ربحا، وما علمت بهذه الصفقة إلاّ بعد رجوعي إلى أرض الوطن بعد سنة ونصف وبلغني الخبر من شخص غير الشريكين والذي كان هو صاحب فكرة الصفقة ومع كلّ هذا أنا لست راضيا بهذه الأعمال كلّها فأرجو من فضيلة الشيخ فركوس أن يفصل لنا في قضيتنا هذه بالحكم الشرعي فيها وجزاكم الله عنّا وعن كل المسلمين خيرا وأمد الله في عمركم وبارك في علمكم ونفع بكم.
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فبحسب محتوى السؤال يختلف الجواب باختلاف ما إذا كان من شرط الشركة وجود العامل بعمله وهو شرط أساسي للشركاء وغيابه يقتضي انحلاله من الشركة باعتبار انتفاء عنصر العمل البدني فيها، أو ما إذا كانت الشركة مؤسسة على الأموال بحيث لا يشترط تواجد المشارك ضمن الشركة فإنّه إن لم يعلق العقد على مدة مقيدة فإنّه يستصحب بقاؤه إلى حين أن يثبت عكسه جريا على قاعدة:" استصحاب الحال" ولا يجوز لهم فسخ العقد معه إلاّ بعد إعلامه ثمّ فصل الشركة معه بإرجاع أمواله بما في ذلك فوائده بحسب ما اتفقوا عليه. وإذا تقرر الأمر الثاني فمن حقك المطالبة بكل الصفقات التي أجريت واستعملت فيها أموالك ما لم تتنازل عنها.
هذا ما بان لنا من مضمون السؤال، ويبقى الأمر في تعيين أحدهما موكولا إلى ما تقرر بينكم في العقد الأول.
والعلم عند الله وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.(10/167)
الفتوى رقم: 235
في حكم من تاب بعد قرض ربوي لم يرجعه كاملا
السؤال: اقترضت مبلغا من البنك -مضطرا- من أجل شراء مسكن يأويني وعائلتي، واليوم -والحمد لله- عرفت الحكم الشرعي، وأريد أن أتوب، فما عساني أن أفعل علما أنّني لم أتمم بعد إرجاع القرض كاملا؟ وجزاكم الله خيرا.
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فالأصل في القرض الربوي التحريم والبطلان لقوله تعالى:(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ?[البقرة :278-279]، كما أنّ الأصل لا يسع للمسلم أن يجهل ما هو ضروري لأمور دينه ودنياه لوجوب طلب العلم الشرعي لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:«طلب العلم فريضة على كل مسلم"(1)، ولا يجوز الجهل بما هو معلوم من الدين ضرورة أو كان مشتهرا. ولأجل هذا وضع علماء القواعد قاعدة مقتضاها:« لا يقبل في دار الإسلام عذر الجهل بالحكم الشرعي »، وعليه لما غابت السلطة الشرعية في ترتيب الأحكام المتعلقة بالعقود من حيث بطلانها وإعادة المتعاقدين إلى ما كانا عليه قبل التعاقد، ولأنّ التصرف الربوي الذي قام به والمخالف لحكم الله سبحانه وتعالى لا يستطيع العودة فيه إلى ما كان عليه قبل التعاقد، فلما تعذرت كل الأحوال صحح له العقد ضرورة لا دينا وأتم رد ما أوجبه عليه البنك من غير أن يكون باغ ولا عاد.
أمّا التذرع بالاقتراض من أجل الضرورة فإنّ الضرورة هي: أن يبلغ فيها المرء درجة يوشك على الهلاك أو يقرب منه، بمعنى أن يكون اقترافه للمعصية أهون من تركها ومثل هذه المسائل من حيث العلم بها موكولة إلى دين المرء في تقديرها، وتقدير حجمها، فإن كانت حقيقة ما يذكره السائل أنّه وقع في ضرورة ملحة يوشك على الهلاك في دينه أو في ماله أو في عرضه جاز ذلك ولكن بقدرها ولهذا وضع العلماء قاعدة مقتضاها: إذا ضاق الأمر اتسع وإذا اتسع ضاق، وقاعدة أخرى: الضرورات تبيح المحظورات ولكن تقدر بقدرها.
ثمّ اعلم أنّ التوبة يجب أن تكون نصوحة وذلك بالتخلي عن هذه المعصية وعن سائر المعاصي الأخرى على أن يعزم أن لا يعود إليها وأن يستتبعها بالعمل الصالح لقوله سبحانه وتعالى: ?إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً? [الفرقان : 70]، ومن كان صادقا في توبته عنها يهدي الله له أسباب الفوز والنجاح في الدنيا والآخرة قال تعالى: ?َتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ?[النور : 31].
والعلم عند الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
الجزائر في:29 جمادى الأولى 1426هـ
الموافق لـ: 06 جويلية 2005م
__________
1- أخرجه ابن ماجه في «المقدمة »، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم: (224)، وأبو يعلى في «مسنده »: (2837)، والبيهقي في «شعب الإيمان »: (1665)، من حديث أنس رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في «صحيح الجامع »: (3914)، وفي «المشكاة »: (214).(10/168)
الفتوى رقم: 247
في حكم فتح هاتف عمومي
السؤال: ما حكم فتح هاتف عمومي ؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فاعلم أنّ اتخاذ الهاتف واستعماله جائز، لعموم الآيات والأحاديث القاضية بأنّ الأصل في الأشياء والأعيان المنتفع بها الإباحة، والهاتف العمومي يختلف باختلاف الاستعمال؛ لأنّه وسيلة، والوسائل لها حكم المقاصد، فإن كان الغالب فيه استعماله فيما هو من المفاسد كما هو جار اليوم في المدن في معظم المكالمات الهاتفية الغزلية المنافية للآداب الشرعية، فلا يجوز إنشاؤه، لأنّ العبرة للغالب ولا حكم للنادر، وإن كان في جهة مأمونة من انتشار الفساد فلا بأس من إنشائه موافقة للأصل.
هذا، والأصل في مثل هذه المسائل الرجوع إلى الأدلة العامة الآمرة بالتعاون على البر والتقوى والناهية عن التعاون على الإثم والعدوان، قال تعالى: ?تَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ? [المائدة:2].
والله أعلم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمّد وآله وسلّم تسليما.(10/169)
الفتوى رقم: 253
في حكم اقتراض مال من غير فوائد لكن القرض مشروط بعقد التأمين
السؤال: ما حكم اقتراض مال من الشركة بدون فوائد، ولكن العقد يتضمن بندا ينص على إبرام عقد التأمين على الحياة، وهذا يكون بمجرد إمضاء العقد من طرف المستفيد، تقوم الشركة بإبرام العقد المذكور آنفا وتقوم باسترجاع مبلغ التأمين من أجرة المستفيد بعد موافقته سنويا مدة القرض وهي (10سنوات) أفيدونا حفظكم الله ؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فأهل العلم قعّدوا قاعدة فقهية مقتضاها "كلّ قرض جرّ منفعة فهو ربا" وأصلها حديث نبوي غير أنّه لا يصحّ عنه صلى الله عليه وسلّم(1)، ومراد القاعدة أنّ المنفعة المشترطة في القرض ابتداء تعدّ ربا محرّما شرعا، بخلاف ما إذا ردّ المقترض مقدار القرض من غير زيادة أو منفعة مشترطة في أوّله وطابت نفسه -عند رد القرض- في إعطائه ما جادت نفسه فلا يدخل في القاعدة وإنّما هو من حسن القضاء كما صحّ عنه صلى الله عليه وسلّم أنه قال:" خياركم أحاسنكم قضاء"(2).
هذا، واشتراط التأمين مع القرض - بغض النّظر عن حكم التأمين - إن كان يجرّ منفعة للمقرض فهو ربا، عملا بما تقرر في القاعدة السالفة البيان.
والله أعلم وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على نبينا محمّد وعلى آله وسلّم تسليما.
الجزائر في:19 جمادى الثانية 1426هـ
الموافق لـ: 25 جويلية 2005م
__________
1- أخرجه البغوي في (حديث العلاء بن مسلم) (ق10/2) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وضعفه الشيخ الألباني في إرواء الغليل: (5/235)رقم: (1398)،وضعيف الجامع: (4244).
2- أخرجه البخاري في الوكالة: (2305)، ومسلم في المساقاة: (4194)، والترمذي في البيوع: (1364)، وابن ماجه في الصدقات: (2518)، وأحمد: (10438)، والبيهقي: (11268)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(10/170)
الفتوى رقم: 261
في حكم إجبار أم زوجة على الإنفاق على أسرتها وهي غير محتاجة
السؤال: أمٌّ تطالب ابنتها المتزوجة بالإنفاق من مالها الذي تدّخره لشراء بيت، مع العلم أنّها تقطن في مسكن والدة الزّوج والأمّ غير محتاجة، وهذا الإنفاق يكون على سائر الأسرة بمن فيها إخوة وأخوات والأب الذي لا يعمل، وإن عصت أمرها فإنّ والدتها لا تكلّمها ولا تريد أن تزورها فهل هي آثمة إن لم تعط أمها ما تريد ؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فاعلم أنّ المرأة إذا خرجت من عصمة أبويها وكانت تحت عصمة زوجها فهي مأمورة بعدم التّصرف في مالها بالعطية أو النفقة إلاّ بإذن زوجها لقوله صلى الله عليه وسلّم من حديث عبد الله بن عمرو "لا يجوز لامرأة عطية في مالها إلاّ بإذن زوجها"(1)، ويجوز لها إذا كانت رشيدة وغير سفيهة أن تعطي وتهب لأمّها دون أن تضرَّ بنفسها وزوجها حتّى لا تقطع صلة أمِّها وتطيّب خاطرها إكراما لها وبِرّاً وصلة لها، ولو مع عدم علم الزّوج إذا فعلت ذلك بالمعروف لورود الأحاديث في الحثِّ على صدقة المرأة كحديث جابر المتفق عليه وفيه "فجعلن يتصدَّقن من جلبابهنّ و يلقين في ثوب بلال من أقراطهنّ وخواتمهن"(2). وكذلك في الأحاديث الواردة في حثِّ المرأة على النفقة من طعام بيتها.
والله أعلم وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.
__________
1- أخرجه أبو داود في الإجارة(3549)، والنسائي في الزكاة(2552)، وأحمد(6846)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه. وصححه الألباني في صحيح الجامع (7626)، وحسنه في السلسلة الصحيحة(825).
2- أخرجه مسلم في صلاة العيدين(2085)، من حديث جابر رضي الله عنه.(10/171)
الفتوى رقم: 274
في الانتفاع بالكسب الحرام
السؤال: رجل كان يعمل في مجال الغناء جاهلا حكمه واشترى بالمال المكتسب منه قطعة أرض فهل يجوز له ولأبنائه الانتفاع بها؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فالجاهل الذي لم يتمكن من تحصيل العلم بالحكم، أو استفتى فأفتي بجواز التكسب بالغناء والموسيقى.فإن هذا النوع من الجهل يعذر صاحبه، ويعفى عن المال الذي اكتسبه من مصدر محرم قبل معرفته للحكم الصحيح لقوله تعالى: ?فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ? [البقرة : 275] فالآية -وإن نزلت في شأن من يتبايع بالربا من المسلمين- فالعبرة فيها بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وإذا كان الله تعالى قد عفا للمسلم عن المال المكتسب بالربا قبل نزول التحريم فيلحق به سائر المكاسب المحرمة قبل العلم بها، وعليه فهي له حلال ولأبنائه فلا يحكم عليها بالرد والتخلص والبطلان. أمّا من قدر على التعلم ومعرفة الحكم أو تمكن من العلم بالحكم وتركه تكاسلا أو فعله رغبة في المال أو استفتى فحصل له العلم بالتحريم بالفتوى فإنّ هذا الكسب لا يجوز والواجب التوبة ومن شروطها التخلص من الكسب الحرام، فإذا افتقر إذا تخلص منه جميعا جاز أن يأخذ منه قدر حاجته وينفق ما بقي على مصالح المسلمين ومنافعهم وإن تعذر فعلى الفقراء والمساكين.
والعلم عند الله وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 21 رجب 1426هـ
الموافق لـ : 26 أوت 2005 م(10/172)
الفتوى رقم: 382
في استرداد مبلغ تعويض الضمان لغير المستفيد
السؤال: هل يجوز كتابة وصفة الدواء باسم شخص له تأمين اجتماعي لأخذ مبلغ التأمين باعتبار أنّ مجموع المبلغ المستقطع من أجرته شهريا أكبر بكثير من المبلغ المأخوذ؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما، أما بعد:
فبغض النظر عما تقرر في فتاوى سابقة عن ممنوعية التأمين بكافة أنواعه فإن الأموال المقتطعة من المرتب الشهري للمؤَمَّن له يجوز له أن يسترجعها عن طريق تعويضات الدواء وغيرها، ثم تعود إليه عن طريق التقاعد، وبعدها على صورة رأسمال وفاة، وما دامت هذه الأموال في حيازة الضمان الاجتماعي فإنه لا يجوز لغير المستفيد أن ينتفع بها، خاصة إذا كانت مأخوذة عن طريق تزوير شخصية المستفيد غشا وتدليسا، وفي الحديث:" الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلاَبِسِ ثَوْبَىْ زُورٍ"(1)، وقد أمرنا أن نكون مع الصادقين في القول والعمل والحال، قال تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ? [التوبة: 119]. وثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:" مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا"(2).
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.
الجزائر في: 16 صفر 1427ه
الموافق لـ: 16 مارس 2006م
__________
1- أخرجه البخاري في النكاح (5219)، ومسلم في اللباس والزينة(5706)، وأبو داود في الأدب (4999)، وأحمد (27680)، وابن حبان (5831)، والحميدي في مسنده (338)، والبيهقي (15191)، من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما.
2- أخرجه مسلم في الإيمان (175)، وأحمد (9232)، وابن حبان (4996)، والحاكم في المستدرك (2112)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وابن ماجه في التجارات (2310)، عن أبي الحمراء رضي الله عنه، والدارمي في سننه (2596)، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.(10/173)
الفتوى رقم: 411
في الاقتراض من البنك للحصول على وثيقة الدعم المالي
السؤال: لدي قطعة أرض للبناء، وتحصلت على دعم مجاني من طرف الدولة للبناء، لكن بشرط أن اقترض مبلغا ماليا من بنك ربوي للحصول على هذا الدعم المجاني، يعني أنه لن يتأتى هذا الدعم إلاّ بوثيقة تثبت اقتراضي من البنك الربوي: فهل يجوز لي أن أقترض من هذا البنك الربوي للحصول على الوثيقة من غير أن أستعمل الأموال الربوية؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فإذا كان البنك يمنحك وثيقة صورية أي شكلية للتوسط بها إلى دعم الدولة فأرجو أن يصح ذلك أمّا إذا تعذَّر أخذ هذه الوثيقة إلاَّ بالاقتراض الفعلي بحيث أنه لا يستطيع ردَّ المبلغ إلاَّ بزيادة ربوية فإنَّ النصوص الناهية عن الربا صريحة للتحريم بقوله سبحانه وتعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ? [البقرة: 278]، ولقوله تعالى: ?الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا? [البقرة: 275]، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« لَعَنَ اللَّهُ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ"(1).
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 14 ربيع الأول 1427هـ
الموافق لـ: 12 أبريل 2006م
__________
1- أخرجه أحمد (3836)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وصححه أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (5/274)، والألباني في إرواء الغليل (5/184).(10/174)
الفتوى رقم: 431
في حكم قرض جر منفعة سكن ووجه تغيير العقد فيه
السؤال: اشترى أخٌ قطعة أرض بمبلغ كبير، وطلب منّي أن أشاركه في شراء هذه الأرض، ووعدني أن يشتري لي شقة للسكن، وقد أخبرني بعض الإخوة أنّ هذا الصنيع ربا لأنّه قرض جرّ منفعة، فهل هذا صحيح؟ وهل نستطيع أن نغير العقد إلى مضاربة؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فإنَّ المال المعطى على وجه القرض إن كان مشروطا ابتداءً بمسكن أي في أول القرض، فإنَّ العقد يعدُّ باطلاً لربوية المسكن فيه، وهي منفعة محرمة شرعًا لقوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ? [البقرة:278-279]، وغيرها من الآيات والأحاديث المحرمة لهذا الربا المتفق عليه، وهو ربا الديون المتعلق بالذمة وقاعدته:" أنظرني أزدك"، أي كلّ قرض جرَّ منفعة مشترطة في بداية العقد فهو ربا، بخلاف ما إذا أقرضه من غير شرط ثمّ طابت نفس أخيه فأعطاه منفعة أو فائدة على إحسانه له فذلك جائز بل مستحب، لأنَّه من القضاء بالأحسن لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحْسَنَكُمْ قَضَاءً"(1)، وإذا أراد المقترض أن يغير صفته إلى مضارب فإنه لا يستطيع إلاَّ بعد رجوع المتعاقدين إلى الحالة التي كانوا عليها قبل التعاقد بحيث يأخذ المقرض أمواله المقترضة فإن أراد أن يساهم مع أخيه مضاربة أو شركة فيجوز له ذلك مع الاتفاق على كافة الشروط التي تمليها أحكام الشركة.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في:24 ربيع الثاني 1247هـ
الموافق ل: 21 مايو 2006م
__________
1- أخرجه البخاري في الوكالة (2305)، ومسلم في المساقاة (4194)، والترمذي في البيوع (1364)، والنسائي في البيوع (4635)، وابن ماجه في الصدقات(2518)، وأحمد (10438)، والبيهقي (11268)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(10/175)
الفتوى رقم: 436
في نظام الدفع من أجل الغير
السؤال: شيخنا أنا مريض بمرض مزمن - عافاكم الله - و لأنّي لا أستطيع تحمل مصاريف الدواء نظرا لكوني غير عامل، انخرطت في صندوق الضمان الاجتماعي فيما يسمى: نظام الدفع من أجل الغير، يعني: لا أدفع شيئا للصندوق، وآخذ الدواء مجّانا من الصيدلية وآخذ تعويضا من الصندوق بنسبة معينة عن مصاريف الطبيب، فما حكم الاستفادة من هذا التعويض ؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فاعلم -وفقك الله لكلِّ خير- أنَّ التأمينات بكل أشكالها وأنواعها متضمنة للغرر والجهالة، وفيها من أكل أموال الناس بالباطل ما لا يخفى، وقد فرضت هذه التأمينات نفسها في مجتمعنا تقليدًا للدول المتبوعة التي لا تراعي أحكام الشرع وتعاليمه في تعاملها، لذلك فإذا اقتضى التعامل معها على وجه الجبر و اللزوم فليس للمتعامل معها سبيل لصرفها عنه، خشية تضييع مصالحه الأخرى جاز له أن يتعامل من غير أن يكون باغيا ولا عاديا، ويكتفي بأخذ ما دفعه، وإن كان ذلك على وجه الاختيار فلا يجوز له أن يتعامل مع هذه المؤسسات فيما يُخالف الشرع فيه ويتجاوز حدوده.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 29 ربيع الثاني 1427ه
الموافق ل: 27 مايو 2006م(10/176)
الفتوى رقم: 437
في الاقتراض ممن يودع أمواله في البنوك
السؤال: هل يجوز اقتراض مبلغ مالي من رجل يودع أمواله في البنوك الربوية؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فإذا احتاج المقترض إلى مالٍ لم يسعفه إلاَّ أموال المقرض الصحيحة الموضوعة في البنك دون الأموال الربوية ولم يشترط زيادة على قرضه، فإنّه يجوز له أن يقترض منه مع عدم رضاه بمساهمة المقرض بإيداع أمواله في المؤسسات الربوية، ونصحه إن استطاع إلى ذلك سبيلاً عملاً بقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ"(1) وبقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« الدِّينُ النَّصِيحَةُ..."(2) الحديث.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في:1 جمادى الأولى 1427ه
الموافق ل: 28 مايو 2006م
__________
1- أخرجه البخاري في الإيمان (13)، ومسلم في الإيمان (179)، والترمذي في صفة القيامة (2705)، والنسائي في الإيمان وشرائعه (5033)، وابن ماجه في الإيمان (69)، وأحمد (13138)، والدارمي في سننه (2796)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
2- أخرجه مسلم في الإيمان (205)، وأبو داود (4946)، والنسائي في البيعة (4214)، وأحمد (17403)، والحميدي في مسنده (875)، من حديث تميم الداري رضي الله عنه. والحديث علقه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب رقم (42).(10/177)
الفتوى رقم: 440
في حكم التعامل مع المرابين
السؤال: أنا رجل أعمل عند أخ له محل للمواد الغذائية العامة، وفي بعض الأحيان نبيع سلعا لبعض البنوك المجاورة للمحل، وفي أخرى نضطر لأن نقرض لهم بعض السلع بدون عقد على أي وثيقة، فما حكم هذه المعاملة؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فإنَّ ما تمليه القواعد الشرعية العامة: أنَّ حيازة الأموال بلا سبب مشروع معدود من أكل أموال الناس بالباطل، فإنَّ تحقق العلم بأنَّ الكسب حرام وجب اجتنابه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:" ما في الوجود من الأموال المغصوبة والمقبوضة بعقود لا تباح بالقبض إن عرفه المسلم اجتنبه"(1) والمعامل يستوي بآخذ المال الحرام، ذلك لأنَّ المكتسب سبب الحرام وسيلة الكسب المحرم ، والمعامل سبب الحرام التعامل في ملك الغير بغير إذنه، ذلك لأنَّ الله إذا حرم شيئا حرَّم ثمنه، والتعامل معه إقرار على الكسب الحرام وإعانة له وتشجيع على فعل المنهي عنه، الأمر الذي يجعل المتعامل شريكًا في الإثم والمؤاخذة، لأنَّ الإعانة على المعصية معصية، وهذا القول شامل للمرابي والغاصب والسارق وغيرهم، بعد حصول العلم ووقوعه بالكسب المحرم -كما تقدم- ويدل على ذلك أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم:« نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَمَهْرِ الْبَغِىِّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ"(2)، فالنهي الوارد في الحديث غير قاصر على الآخذ بل يشمل الأخذ ابتداءً والإبقاء انتهاءً، فهو حرام على حائزه فيمتنع الانتفاع به، وحرام على من عامله به لعموم العلة واتحادها، وهي حرمة المال المكتسب، وعليه فهو كسب خبيث يجب التصدق به، ولا يُرد إلى الدافع لأنه دفعه باختياره في مقابل عوض لا يمكِّن صاحب العوض استرجاعه، وهو اختيار ابن القيم رحمه الله تعالى، وقد أخرج البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها قالت:" كَانَ لأَبِى بَكْرٍ غُلاَمٌ يُخْرِجُ لَهُ الْخَرَاجَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَأْكُلُ مِنْ خَرَاجِهِ، فَجَاءَ يَوْمًا بِشَيءٍ فَأَكَلَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ لَهُ الْغُلاَمُ تَدْرِى مَا هَذَا فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَمَا هُوَ قَالَ كُنْتُ تَكَهَّنْتُ لإِنْسَانٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَمَا أُحْسِنُ الْكِهَانَةَ، إِلاَّ أَنِّى خَدَعْتُهُ، فَلَقِيَنِي فَأَعْطَانِي بِذَلِكَ، فَهَذَا الَّذِي أَكَلْتَ مِنْهُ. فَأَدْخَلَ أَبُو بَكْرٍ يَدَهُ فَقَاءَ كُلَّ شَيءٍ فِي بَطْنِهِ"(3) قال ابن حجر:" والذي يظهر أنّ أبا بكر إنّما قاء لما ثبت عنده من النهي عن حلوان الكاهن"(4)، هذا، وأمّا ما اكتسبه عن طريق تعامله قبل حصوله العلم فإنه ينتفع به لقوله تعالى: ?فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ? [البقرة: 275]
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في:2 جمادى الأولى 1427ه
الموافق ل: 29 مايو 2006م
__________
1- مجموع الفتاوى لابن تيمية (29/323).
2- أخرجه البخاري في البيوع (2237)، ومسلم في المساقاة (4092)، وأبو داود في الإجارة (3430)، والترمذي في النكاح (1162)، والنسائي في الصيد والذبائح (4309)، وابن ماجه في التجارات (2243)، ومالك في الموطإ (1359)، وأحمد (17535)، من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه.
3- أخرجه البخاري في فضائل الأنصار (3842)، والبيهقي (11860)، من حديث عائشة رضي الله عنه.
4- فتح الباري لابن حجر: 7/154.(10/178)
الفتوى رقم: 441
في حكم الاقتراض لضرورة العلاج
السؤال: لي ابن مصاب بشلل مخي منذ الشهر السابع من ولادته سنة، وعمره الآن ثلاث سنوات ونصف، ومنذ ذلك الوقت وهو طريح الفراش حيث إنّه لا يعرف كيفية الحبو ولا الجلوس بمفرده، ولا يستطيع الوقوف على قدميه، بل لا يعرف حتى كيفية ابتلاع الشيء الذي نضعه في فمه من أكل وشرب ودواء، وقد راجعت الكثير من الأطباء الذين صرحوا لي بأنّ حالة ابني تستدعي العلاج مدة طويلة قد تصل إلى مدى الحياة وحينها سطروا برنامجا علاجيا قصد المحافظة على نمو الجسم والهيكل العظمي، وكذا تطور الجهاز العصبي، وهذا بإجراء حصص علاجية تتضمن التدليك الخارجي للأعضاء بالطرق الطبية والمعالجة بالمياه المعدنية، وكذا استعمال الأدوية المضادة للصرع، وكلّ هذا يتم في المستشفى الذي يبعد عن المدينة التي أقطنها بعشرات الكيلومترات حيث أضطر إلى اصطحابه إلى هذه الأخيرة مرتين على الأقل في الأسبوع مستعملا في هذا وسائل النقل المتوفرة، وبالفعل بدأت بتنفيذ هذا البرنامج منذ ما يقارب الثلاث سنوات، لأنّ أيَّ توقف أو تغيب عن الحصص العلاجية يؤثر على مستقبل شفاء ابني حيث يعرضه لتشوهات واعوجاج على مستوى الهيكل العظمي، ولكثرة المصاريف أصطحبه لوحده دون والدته، وهو في هذه السنّ أحمله على كتفي ذهابا وإيابا، متنقلا بين البيت والمحطات والمستشفى حيث يصل وزنه إلى 15 كيلوغرام، وهو يزيد يوما بعد يوم حيث أصبحت أعاني من ثقل حمله، ناهيك عن المشاكل التي أصادفها أثناء السفر من طول انتظار وازدحام رهيب بين المسافرين وعدم توفر وسائل النقل في بعض الأحيان كما لا أنسى أن أذكر مدى غبني و تعبي عندما لا تكون الأحوال الجوية في صالحي أنا وابني، فهل يجوز لي أن أقترض مبلغا ماليا من البنك مقابل دفع فوائد ربوية قصد شراء سيارة أُقِلُّ فيها ابني ووالدته للعلاج بين مختلف الأطباء والمستشفيات؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فإنَّه إذا خاف على ابنه الهلاك أو التلف عن النفس وتحرَّج بذلك، ولم يجد وسيلة يدفع بها حرجه ومشقته، لا بإعانة ذويه وجيرانه وإخوانه، ولا بتكفل جهة طبية بابنه، أو جهة حكومية، ولا استطاع أن يصل إلى قرض حسن وبقيت سوى الوسيلة المحرمة ليدفع بها الضرر قدر الإمكان واضطر إليها، جاز له دفع ضرورته بإزالة الضرر اللاحق بابنه أو التخفيف عنه، لأنَّ المحافظة على النفس من أعظم الواجبات الشرعية التي يستوجب إباحة المحظورات عند وقوع الإنسان في حالة الضرورة، قال تعالى: ?وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيما? [النساء: 29] وقال تعالى: ?وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ? [البقرة: 195] وعليه فلا حرام مع الضرورة ، ولكن ليس له أن يتوسع في الممنوع، بل يقتصر على قدر ما تندفع به ضرورته لقوله تعالى: ?فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ? [البقرة: 173] وهذه الآية غير مقصورة على المحرمات من الأطعمة بل هي شاملة لكلّ ما يتحقق الاضطرار إليه لأجل الحياة ودفعًا للهلاك إذا لم يعارضه ما يساويه مفسدة أو أقوى منه.
هذا، وفي كلِّ الأحوال، فالمرء موكول لدينه في تقدير حقيقة الضرورة والحرج الشديد، وفي عدم وجود الطرق المباحة في دفعها.
نسأل الله تعالى أن يشفي مريضكم، ويرده إليكم سالمًا معافى، كما نسأل الله تعالى لنا ولكم العافية في الدنيا والآخرة، والصدق في القول والعمل، والثبات على الحق والدين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 2 جمادى الأولى 1427ه
الموافق ل:29 مايو 2006م(10/179)
الفتوى رقم: 465
في الاقتراض من البنوك الإسلامية
السؤال: ما الذي توصلتم إليه في شأن بنك البركة؟ هل يسوغ توجيه من كان في حاجة ماسة إلى التعامل معه، إذا علمنا أنه سيذهب إلى البنوك الأخرى لا محالة؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فالصفات والأسماء التي تعطى للبنوك لا يلزم مطابقتها للموصوفات والمسميات، فالعبرة بالمسميات لا بالأسماء، فالبنوك الإسلامية الحالية لا تختلف في جوهرها وحقيقتها عن البنوك الربوية، حيث تتعامل تحايلاً على الشرع ضمن ما يسمى ببيع المرابحة الذي هو في حقيقته قرض ربوي مقنع بالبيع، حيث يقوم البنك بشراء سلعة للتاجر التي لا يمتلكها البنك، وليس له حاجة إليها، وإنما حاجته وقصده هو تحقيق نسبة المرابحة، فيقصد مع التاجر بيعا لا حقيقة له في الواقع وإنما هو عقد صوري أخفي فيه القرض الربوي المحرم بنصوص الوعيد، وأظهر فيه البيع، وفي الحديث:" يَأْتِي زَمَانٌ عَلَى أُمَّتِي يَسْتَحِلُّونَ الرِّبَا بِالبَيْعِ"(1).
وعليه، فإن تحقق فيه التعامل الربوي فلا يجوز شرعًا أن نرشد إليه الغير سواء ظهر الربا فيه أو خفي، وسواء علمنا أنَّ السائل سيذهب إلى البنوك الأخرى أو لا يذهب، لما فيه من محذور عظيم مؤدي إلى "محاربة الله ورسوله"، والإرشاد إلى المعاصي والذنوب تعاون على الإثم والعدوان.
أمّا المضطر الذي لا حيلة له ولا مخرج إلاَّ البنوك، فإنه يُعرَّف بحكم الضرورة أو الحاجة الشديدة، ويوكل أمره إلى دينه في تقدير حاله من تلك الضرورة أو الحاجة.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 23 جمادى الأولى 1427ه
الموافق لـ: 19 جوان 2006 م
__________
1- أخرجه الخطابي في "غريب الحديث" (ق42/1)، عن الأوزاعي مرفوعا. قال ابن القيم في "إغاثة اللهفان" (1/520):" هذا وإن كان مرسلا فإنّه صالح للاعتضاد به بالاتفاق وله في المستندات ما شهدت له وهي الأحاديث الدالة على تحريم العينة"، وذكر مثل هذا الكلام في "إعلام الموقعين" (3/144)، وفي "تهذيب السنن" (9/345). وقال السخاوي في "الأجوبة المرضية" (1/214):" مرسل وهو صالح ويتأكد به المسند". وقال الألباني في "غاية المرام" (25) بعد تضعيفه للحديث:" أقول هذا لبيان حال الإسناد، ولكي لا ينسب المسلم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما لم يقل، وإلاّ فمعنى الحديث واقع كما هو مشاهد اليوم، لكن لا يلزم منه الجزم أنّ الحديث قد قاله صلى الله عليه وآله وسلم كما هو معلوم عند أهل المعرفة والعلم".(10/180)
الفتوى رقم: 467
في الاستفادة من البنوك بواسطة ديوان تشغيل الشباب
السؤال: ما يجري الآن في بلادنا (الجزائر) من معاملات مما يسمى تشغيل الشباب حيث تعطي الحكومة للشباب آلات للعمل عن طريق البنك وهؤلاء الشباب يسدِّدون ثمن تلك الآلات بالتقسيط وبزيادة على سعرها يوم أن قبضوها من البنك الذي دفع ثمنها لبائعي الآلات. لقد وضح لي أنه ربا، لكن نسمع بعض المفتين الفضلاء يفتي بالجواز بناء على أنه مرابحة!! فهل هذا صحيح؟ مع الأخذ بالحسبان باب الحاجة ( التي يسميها بعضهم ضرورة ولكنها في الحقيقة ليست ضرورة شرعية) وهذه الحاجة هي عدم وجود العمل لكثير من الناس، لفوضى التوزيع وعدم التنظيم. فهل هذه الأشياء تبيح هذا الشيء (تشغيل الشباب) كما أباحت الحاجة التأمين على السيارات؟ والمعروف أنَّ التأمين يدخل فيه الربا والقمار، والغرر، والجهالة. أفيدونا أفادكم الله.
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فإنَّ ما يجريه ديوان تشغيل الشباب من معاملات لفائدة الشباب عن طريق البنك حيث يحصلون على آلات العمل ويسددونها بالتقسيط بواسطة بيع المرابحة الذي يقوم مقام الإقراض الربوي الجاري في البنوك الربوية، حيث يَعِدُ البنك بأن يشتري البضاعة على أن يبيعها بربح معلوم للمشتري الذي يلتزم بشرائها منه على مجرد الوعد بالبيع ويسددها له بالتقسيط ضمن آجال محددة، هذا التعامل الذي يرى فيه بعض المفتين الفضلاء إلزامية الوفاء بالوعد بالبيع ويجعلونه في مقام العقد بناء على ظواهر الآيات القرآنية والسنة النبوية منها قوله تعالى: ?إِنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ ?[يونس: 55] وقوله تعالى: ?وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً?[مريم: 54] وقوله تعالى: ?فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ? [التوبة: 77] وقوله تعالى: ?وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ?[الأحقاف: 16]، ومن السنة قوله صلى الله عليه وآله وسلم:« آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ"(1) ولا يخفى أنه ليس في هذه النصوص الشرعية ما يدلُّ على تحريم إخلاف الوعد ولزوم الوفاء به ذلك لأنَّ الوعد في سورة التوبة إنما المقصود به العهد الذي هو الميثاق والالتزام والنذر على نحو ما بينته الآية التي قبلها، وهو خارج عن محل النزاع، كما أنَّ الوعد للمستقبل لا ينطبق عليه الصدق والكذب كما بينه صاحب الفروق في "الفرق: 214":" بين قاعدة الكذب وقاعدة الوعد وما يجب الوفاء به وما لا يجب" حيث يقول:" إنَّ المستقبل زمان يقبل الوجود والعدم، ولم يقع فيه بعد وجود ولا عدم فلا يوصف الخبر عند الإطلاق بعدم المطابقة و لا بالمطابقة لأنه لم يقع بعد ما يقتضي أحدهما، وحيث قلنا الصدق القول المطابق والكذب القول الذي ليس بمطابق ظاهر في وقوع وصف المطابقة أو عدمها بالفعل، وذلك مختص بالحال والماضي، وأما المستقبل فليس فيه إلاَّ قبول المطابقة وعدمها"(2)، وأمَّا الإخلاف في صفة المنافق في الحديث، فليس فيه دليل على لزوم الوفاء بالوعد، لأنَّ غاية ما يدل عليه هو ما كان الإخلاف بالوعد على وفق مقتضى حاله، وكان سجية له وطبعًا، وما كان كذلك فلا يغيب على بال أنه يحسن الذم بها. فالحاصل أنَّ العلماء أجمعوا على أنَّ من وعد إنسانًا شيئًا ليس بمنهي عنه فينبغي أن يفي بوعده، وأنَّ ذلك معدود من مكارم الأخلاق(3)، لكن الوفاء به -على مذهب الجمهور- غير لازم وإنما يستحب له ذلك فلو تركه فاته الفضل وارتكب المكروه كراهة شديدة ولكنه لا يأثم، وبهذا قال أبو حنيفة ومالك في رواية والشافعي وأحمد وابن حزم وغيرهم(4).
وإذا تقرر عدم لزوم الوفاء بالوعد ظهر الفرق بينه وبين العقد، فالعقد هو تطابق إرادتين وارتباطهما على وجه التحقق والإنجاز، بينما الوعد هو إبداء الرغبة في تحقيق فعل للغير على وجه الإحسان والمعروف، فمن وعد بالوفاء به وهو عاقد العزم على تحقيقه له، لكن حالت الظروف دون ذلك فأخلف فلا حرج عليه، وإنما الحرج والضيق فيمن عَزْمُه على الإخلاف بالوعد معقود فهو واقع في المكروه ولا يلحقه إثم، ولا يلزم الوفاء بوعده.
ومن هنا يظهر أنَّ بيع المرابحة الذي يجري في البنوك القائمة على الإلزام بالمواعدة إنما هي طريقة قائمة مقام الإقراض الربوي، وخاصة وأنَّ البنك - في كل الأحوال- يضمن الربح، ويشترط على المتعامل معه التأمين على كل الأخطار على حساب المتعامل، وبغضِّ النظر عن ممنوعية التأمين، فإنَّ البنك يجعل لنفسه مأمنًا تعويضيًّا عن أيِّ خسارة قد تنجر من هذه المعاملة المالية.
وعليه، فإنَّ ديوان تشغيل الشباب إن كان طموحه لتوفير اليد المهنية وامتصاص البطالة وتقوية الاقتصاد فالواجب عليه أن يسعى إلى توفير مناصب شغل بقروض حسنة خالية من عوائد مادية، وذلك بإبعاد التدخل المفتعل للبنوك التي مدار تعاملها على أكل أموال الناس بالباطل، ولا يهمها تشغيل الشباب من تضييعه، وهي لا تزيد الشباب العاطل إلاَّ محقاً وفقرًا وتهوينًا. والله المستعان.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 25 جمادى الأولى 1427ه
الموافق ل: 21 جوان 2006م
__________
1- أخرجه البخاري في الإيمان(33)، ومسلم في الإيمان (59)، والترمذي( 2631)، وأحمد( 8470)، والبيهقي( 11652) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2- الفروق للقرافي: 4/23.
3- الأذكار للنووي: 270.
4- المحلى لابن حزم: 8/28. الفروق للقرافي: 4/24.(10/181)
الفتوى رقم: 520
في حكم التعويض من التأمين التجاري والاجتماعي
السؤال: تعرّضت لحادث مرور أثناء ركوبي لسيارة أجرة حيث انقلبت بنا عدة مرات فتعرضت لكسر على مستوى العمود الفقري مما أدَّى ذلك إلى إعاقة نصفية، وكما جرت العادة فإنّ شركة التأمين التجاري تدفع للشخص المتضرر قيمة محدّدة من المال نظير هذا الضرر ويكون موزَّعًا على قسمين: قسم للمتضرر وقسم ثان للشخص الذي يتكفل به ويساعده في دفع كرسيه المتحرك، فما حكم هذا التعويض؟ وما حكم القسم الثاني من التعويض للشخص المساعد؟ وبسبب هذا الحادث مُنِحَت لي إجازةٌ مرضيةٌ لمدة طويلة، فما حكم راتبي الشهري الذي أتقاضاه من شركة التأمين في هذه المدة؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فالتأمين التجاري في الأصل معدود من عقود المعاوضات المالية الاحتمالية المشتملة على الغرر الفاحش والجهالة والقمار والرهان، وكذلك التأمينات الأخرى، لذلك المسلم يحرص على الابتعاد عنها ما أمكن، فإن أجبر على دفع الأقساط وألزمته الدولة بها في مجال من المجالات فهي ضرورة يدفع الأقساط وهو لها كاره، ويجوز له أن يأخذ تعويضًا عن الأضرار اللاحقة به سواء من التأمين التجاري إذا لم يعوِّضه المباشر في الحادث أو المتسبب فيه، واقترنت الضرورة الملحة إليه لعدم وجود سبيل لتغطية حاجته إلى العلاج والتداوي أو من الضمان الاجتماعي بقدر ما دفعه وما زاد على ذلك فإن عَلِمَ أنَّ التأمين يستمرُّ في اقتطاع جزء من مرتبه الشهري جاز له أن يستفيد بالمبالغ المعطاة له من جهة التأمين تعويضًا عن الأضرار اللاحقة به بالنظر إلى أنَّها ستأخذها منه مقتطعة تدريجيًّا جريًا على قاعدة "الغنم بالغرم".
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 1 شعبان 1427 ه
الموافق ل: 25 أوت 2006م(10/182)
الفتوى رقم: 522
في حكم الانتفاع بهاتف مؤسسة لغرض شخصي
السؤال: هل يجوز استعمال هاتف المؤسسة للأغراض الشخصية؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فإنه يتحرى سؤال الإدارة المسئولة عن إجازة المكالمات الشخصية الخارجة عن مصلحة الإدارة، فإن منعت فلا يجوز التصرف في ملك الغير إلاَّ بإذنه لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« لاَ يَحِلّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ"(1- أخرجه أحمد (20172)، وأبو يعلى في مسنده (1570)، والبيهقي (11740)، من حديث حنيفة الرقاشي رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في "الإرواء" (1459)، وفي "صحيح الجامع" (7539))، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« كُلُّ المسْلِمِ عَلَى المسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ" (2- أخرجه مسلم في البر والصلة (6706)، وأبو داود في الأدب (4882)، والترمذي في البر والصلة (1927)، وابن ماجه في الفتن (4068)، وأحمد (7943)، والبيهقي (11830)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه)، والشخص المعنوي (الشركة أو المؤسسة) كالشخص الطبيعي في الحكم، ما لم تقترن به حاجة ملحة وليس له وسيلة في الحال سواها فيباح له استعماله من غير تعدٍّ، قدر الحاجة، «إذ الحاجة تنزّل منزلة الضرورة ».
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصلى الله على نبيِّنا محمّد، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا.
__________
?- أخرجه أحمد (20172)، وأبو يعلى في مسنده (1570)، والبيهقي (11740)، من حديث حنيفة الرقاشي رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في "الإرواء" (1459)، وفي "صحيح الجامع" (7539).
?- أخرجه مسلم في البر والصلة (6706)، وأبو داود في الأدب (4882)، والترمذي في البر والصلة (1927)، وابن ماجه في الفتن (4068)، وأحمد (7943)، والبيهقي (11830)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(10/183)
الفتوى رقم: 523
في استمرار التعامل مع من في ماله ريبة
السؤال: تفضّلتم شيخنا بالإجابة لي بارك الله فيكم حول عدم جواز التعامل مع البنوك من بيع لها بعض اللوازم الغذائية من ماء معدني وقهوة... فما نصيحتكم لي في بقائي في هذا المحل بما أنني عامل فيه فقط، إذا رفض صاحب المحل قطع بيعه مع هذه البنوك؟ أفيدونا بارك الله فيكم.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فلا يخفى أنَّ البنوك تقوم أساسًا على الإقراض الربوي المنهي عنه بنصوص شرعية متكاثرة، منها قوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ، فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ? [البقرة: 278 - 279]، وقوله تعالى: ?وَأَحَلَّ اللهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا? [البقرة: 275]، وقوله تعالى: ?الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ? [البقرة: 275]، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:« آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَكَاتِبَهُ »(1- أخرجه أحمد (3886)، وأبو يعلى في مسنده (4981)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.وصححه أحمد شاكر في تحقيقه لمسند أحمد (5/309)، والألباني في "إرواء الغليل" (5/184)) وقال:« هُمْ سَوَاءٌ »(2- أخرجه مسلم في المساقاة (4177)، وأبو يعلى في مسنده (1849)، والبيهقي (10774)، من حديث جابر رضي الله عنه).
وإذا كان الأصل في المناهي وجوب تركها وهجرانها لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« المهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السَّيِئَاتِ »(3- أخرجه ابن حبان (196)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. وصححه الألباني في تحقيقه للإيمان لابن تيمية (3)) وفي رواية:« المهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ »(4- أخرجه البخاري في الإيمان (10)، وأبو داود في الجهاد (2483)، والنسائي في الإيمان وشرائعه (5013)، وأحمد (6671)، والحميدي في مسنده (623)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما)، فإنَّ التعاون مع أهل المعاصي في معصيتهم معصية وذنب لقوله تعالى: ?وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ? [المائدة: 2].
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيِّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 26 جمادى الأولى 1427ه
الموافق ل: 23 جوان 2006م
__________
?- أخرجه أحمد (3886)، وأبو يعلى في مسنده (4981)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.وصححه أحمد شاكر في تحقيقه لمسند أحمد (5/309)، والألباني في "إرواء الغليل" (5/184).
?- أخرجه مسلم في المساقاة (4177)، وأبو يعلى في مسنده (1849)، والبيهقي (10774)، من حديث جابر رضي الله عنه.
?- أخرجه ابن حبان (196)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. وصححه الألباني في تحقيقه للإيمان لابن تيمية (3).
4- أخرجه البخاري في الإيمان (10)، وأبو داود في الجهاد (2483)، والنسائي في الإيمان وشرائعه (5013)، وأحمد (6671)، والحميدي في مسنده (623)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.(10/184)
الفتوى رقم: 600
في وكيلٍ ينافسُ أصيلَه بعد توقُّفه عن العمل عنده
السؤال:كنتُ أعملُ عند أحدِ وُكلاء إحدى الشركات -الذي يتولَّى توزيع مواد هذه الشركة- وذلك منذ أربع سنوات حيث عرفني الزبائن في السوق بأني عامل هذا الوكيل، ثمّ قدَّرَ اللهُ عزَّ وجلَّ أن وقع سوء خلاف بيننا ممَّا اضطرَّني للتوقّف عن العمل عنده، فاتجهت للعمل عند وكيل آخر لنفس الشركة يوزّع المواد نفسها التي يوزّعها الوكيلُ الأوّل وفي ذات المدينة -مع العلم أني أخبرت كلّ الزبائن عن انفصالي عن الوكيل الأول- فاستمرّ بعض الزبائن يشترون مني وانقطع آخرون، ونظرًا للتنافس القائم بين الوكيلين في السوق فقد طلب مني الوكيل الأول التوقّف عن العمل عند منافسه؛ لأنه لا يجوز لي العمل عنده كوني أُلْحِقُ الضَّرر به من حيث كسادُ سلعته، فهل كلامه هذا صحيح؟
الجواب: الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فإذا أخبر الزبائنَ عن انتهاء مهامِّه كوكيلٍ عند الموزِّع الأَوَّلِ فقد انتفى الغِشُّ واللَّبس عن الزبائن، وتحقّق صدق حاله عندهم، وهم أحرار في تصرّفاتهم، ولا حجر في شرائهم على أي طرف كان، لقوله تعالى: ?إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِنكُمْ? [النساء: 29]، وله أن يُبَاشر عملَه كوكيلٍ عند أصيل آخر (موزّع جديد) ولو في المواد نفسها المتنافس عليها، ما دام أنه لم يتخذ الوكالةَ الأولى ذريعةً للإضرار بمنافسه، وما حَصَل من ضرر وكساد في السوق فهو نتيجة حتمية تقتضيها طبيعةُ المنافسة، ومدى قوَّة التحكّم في أساليبها، وهو أمر خارج عن نطاق الوكالة.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في 15 محرم 1428ه
الموافق ل: 3 فبراير 2007م(10/185)
الفتوى رقم: 607
في إقامة شراكة مع متعامل بالربويات
السؤال: اقترضت مالاً من البنك لشراء عتاد، وهذا قصد الدخول في شراكة مع شخص آخر له سيارة ومحل، فأشكل عليه جوازُ الدخول في هذه الشراكة، مع العلم أنّ سداد الدَّين متعلِّقٌ بي أنا فقط. فما هو الحكم الشرعي في هذه الشراكة؟
الجواب: الحمدُ لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فإذا كان الرجل يعلم بعدم جواز الاقتراض من البنك، ولم يدفعه إلى الاقتراض دافع الضرورة؛ فإنّ عقد القرض يبطل ولا تجوز المشاركة معه بأمواله؛ لأن ربا الديون المتمثّل في قاعدة:« أنظرني أزدك » التي تتعامل بها البنوك محرَّم اتفاقًا، وإذا كان الرضا بالمحرم غيرَ جائز فالتعاون عليه من باب أولى. لقوله تعالى: ?وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ? [المائدة: 2]، مع العلم أنّ الشركة مُصاحَبةٌ وخُلْطَةٌ وقد نهى الشرع عن مصاحبة أهل السيئات والمعاصي وأوجب البعدَ عن التعامل معهم لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« المهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السَّيِئَاتِ »(1)، وأمر بمصاحبة الأخيار من أهل التقوى والإيمان فقال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« لاَ تُصَاحِبْ إِلاَّ مُؤْمِنًا وَلاَ يَأْكُلُ طَعَامَكَ إِلاَّ تَقِيٌّ »(2).
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلّم تسليمًا.
الجزائر في 24 شوال 1427ه
الموافق ل: 16 نوفمبر 2006م
__________
1- أخرجه ابن حبان: (196)، وعبد بن حميد في «مسنده »: (338)، والعدَني في «الإيمان »: (26)، وابن منده في «الإيمان »: (318)، والمروزي في «تعظيم قدر الصلاة »: (545)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وصحّحه الألباني في تحقيق كتاب «الإيمان » لابن تيمية (3).
2- أخرجه أبو داود في «الأدب »: (4832)، والترمذي في «الزهد »: (2395)، وابن حبان: (560)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، والحديث حسنه البغوي في «شرح السنة »: (6/468)، والألباني في «صحيح الجامع »: (7341).(10/186)
الفتوى رقم: 620
في حكم الزيادة المالية المفروضة على التأخير في التسديد
السؤال:
ما حُكمُ الزيادات المالية التي تفرضُ على التأخير في تسديد فواتير الهاتف؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فالزيادةُ على الثمن الرسميِّ المفروضِ بسبب التأخير في التسديد، إنما هي فوائد تأخيرية معدودة من الرِّبا المنهي عنه شرعًا في قوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ? [آل عمران: 130]، لذلك ينبغي عليه أن لا يتأخّر في تسديد فواتير الهاتف -من جهة- لئلاَّ يتعاون بالتأخير مع المؤسّسات العدوانية في أكل أمواله بالباطل، ومن جهة أخرى لا يرضى بالمعصية ولا يقرُّ بها ولو من أجنبي غير مسلم؛ لأنّ الرضا بالمعصية معصية لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« إِذَا عُمِلَتِ الخَطِيئَةُ فِي الأَرْضِ كَانَ مَنْ شَهِدَهَا فَنَكِرَهَا -وَقَالَ مَرَّةً: فَكَرِهَهَا- كَمَنْ غَابَ عَنْهَا، وَمَنْ غَابَ عَنْهَا وَرَضِيَهَا كَمَنْ شَهِدَهَا »(1)، وإذا فُرضت عليه بعد التسبّب في التأخير دفعها لهم وهو كاره غيرُ راضٍ.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 4 من ذي الحجة 1427ه
الموافق ل: 24 ديسمبر 2006
__________
1- أخرجه أبو داود في «الملاحم »، باب الأمر والنهي: (4345)، والطبراني في «المعجم الكبير »: (345)، من حديث العرس بن عميرة الكندي رضي الله عنه، والحديث حسّنه الألباني في «صحيح الجامع »: (702) و«صحيح أبي داود »: (4345).(10/187)
الفتوى رقم: 628
في القضاء بالأحسن
السؤال:
هل يجوز لِمَنِ اقْتَرَضَ مالاً أن يردّه بزيادة من دون أن يطلبَها أو يشترطَها المقرِضُ من باب القضاء بالأحسن لِقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحْسَنَكُمْ قَضَاءً »(1)؟ وجزاكم اللهُ عنِّي وعن الإسلام كلّ خير.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فإذا لم تكنِ الفائدةُ أو المنفعةُ مشروطةً من المُقرِضِ أو في حكم المشروطة وانتفى بينهما التواطؤُ والحيلةُ على تعدِّي حدودِ الله، فإنّه يجوز للمقترِضِ بل يُستحبُّ له أن يُعْطِيَ خيرًا على ما أخذَ، وذلك من مكارم الأخلاق شرعًا وعُرْفًا، ولا يدخل في القرض الذي جرَّ منفعةً، وإنّما هو تبرُّعٌ من المستقرِض للحديث المذكور في السؤال.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 14 صفر 1428ه
الموافق ل: 04 مارس 2007م
__________
1- أخرجه البخاري في «الوكالة »: (2305)، ومسلم في «المساقاة »: (4194)، والترمذي في «البيوع »: (1364)، والنسائي في «البيوع »: (4635)، وابن ماجه في «الصدقات »: (2518)، وأحمد: (10438)، والبيهقي: (11268)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(10/188)
الفتوى رقم: 724
في حالات ضمان المستعير
السؤال:
هل يلزم مَنِ استعارَ من أخيه شيئا ما، ثمَّ قدَّر اللهُ أن وقع له عطب، أن يتحمّل جميع تكاليف الإصلاح؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالواجبُ على المستعيرِ المحافظةُ على العاريةِ كمحافظته على ماله، وله أن ينتفع بها في حدودِ المعروف، ولا يُسرف في استعمالها إلى حدِّ التَّلَف، وليس له أن يستعملَها في غير ما يصلح له لكون الإعارة داخلةً في عموم الأمانات التي يلزم ردّها لقوله تعالى: ?إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا? [النساء: 58].
فإن تعدّى باستعماله لها في غير ما استعيرت له فَتَلِفَتْ، أو تعهّدَ المستعيرُ ضمانَهَا فإنّ الضمانَ يلزم المستعيرَ لحديث صفوانَ بنِ أُمَيَّةَ رضي الله عنه أنّ رسولَ الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّمَ:« اسْتَعَادَ أَدْرَاعًا يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَقَالَ: أَغَصْبٌ يَا مُحَمَّدُ؟ فَقَالَ: لاَ، بَلْ عَارِيَةٌ مَضْمُونَةٌ »(1)، وزاد أحمدُ وغيرُه: قال:« فَضَاعَ بَعْضُهَا فَعَرَضَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَضْمَنَهَا لَهُ، قَالَ: أَنَا اليَوْمَ يَا رَسُولَ اللهِ فِي الإِسْلاَمِ أَرْغَبُ »(2). وفي الحديث دليلٌ على أنّ العاريةَ تُضمن إمّا بطلب صاحبها أو بِتبرُّع المستعير، ويشهد إلى هذا المعنى ما روي بسند ضعيف قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« عَلَى اليَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ »(3)، ويدخل في الضمان -أيضًا- ما إذا تعارف جريانُ الضمانِ في عُرْفِ معاملاتهم عملاً بقاعدة:« المَعْرُوفُ عُرْفًا كَالمَشْرُوطِ شَرْطًا ».
أمّا إذا تلفت العارية في يد المستعير من غير تعدٍّ ولا تعهّد بالضمان ولا تعارف عليه وجب أداء العارية ما بقيت عينُها، ولا يجب عليه الضمان إن تلفت، لحديث صفوان بن أُمَيَّة رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« إِذَا أَتَتْكَ رُسُلِي، فَأَعْطِهِمْ ثَلاَثِينَ دِرْعًا وَثَلاَثِينَ بَعِيرًا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَعَارِيَةٌ مَضْمُونَةٌ أَوْ عَارِيَةٌ مُؤَدَّاةٌ؟ فَقَالَ: لاَ، بَلْ عَارِيَةٌ مُؤَدَّاةٌ »(4).
فالحاصل: أنّ العارية لا تضمن بالقيمة إن تلفت إلاّ في حالة تعدِّي المستعير، أو تعهّده بالضمان أو جرى التعارفُ على تضمينها وما عدا ذلك فعاريةٌ مؤدّاةٌ يجب تأديتها مع بقاء عينها، فإن تلفت لم تضمن بالقيمة.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 6 جمادى الأولى 1428ه
الموافق ل: 22 ماي 2007م
__________
1- أخرجه أبو داود في «الإجارة »، باب في تضمين العارية: (3562)، والحاكم في «المستدرك »: (2300)، وأحمد: (14878)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (11673)، من حديث صفوان بنِ أُمَية رضي الله عنه، قال ابن كثير في «إرشاد الفقيه » (2/67):« له طرق من وجوه يشد بعضها بعضا وقد روي من حديث جابر وابن عباس وهو من الأحاديث المشهورات الحسان »، وصححه الألباني في «الإرواء »: (5/346).
2- أخرجه أحمد: (14878)، و(27089)، والدارقطني في «سننه »: (2912). قال الألباني في «السلسلة الصحيحة » (2/207):« ولهذه الزيادة شاهد مرسل عن أناس من آل عبد الله بن صفوان عند أبي داود وغيره، ورجاله ثقات ».
3- أخرجه أبو داود في «الإجارة »، باب في تضمين العارية: (3561)، والترمذي في «البيوع »، باب ما جاء في أن العارية مؤداة (1266)، وابن ماجه في «الصدقات »، باب العارية: (2400)، والحاكم في «المستدرك »: (2302)، وأحمد: (19582)، من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه، والحديث ضعفه الألباني في «الإرواء »: (1516).
4- أخرجه أبو داود في أبو داود في «الإجارة »، باب في تضمين العارية: (3566)، وأحمد: (17490)، من حديث يعلى بن أمية رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في «الإرواء »: (1515).(10/189)
الفتوى رقم: 742
في اللُّقَطَةِ وسبيل التعريف بها
السؤال:
وجدت مبلغًا من المال في طريق عام، فقمت بإخبار صاحب مقهى قريب من المكان المذكور، ثمّ كتبت إعلانات فيها رقم هاتفي وعنوان مكتبةٍ لتسهيل الاتصال بيني وبين صاحب الضالة، ولكنَّ الإشكالَ أنِّي أقوم بتعليق الإعلانات في أول النهار، وفي المساء أجد أن كثيرًا من هذه الإعلانات قد مزّقت وأزيلت، والسؤال كيف تبرأ ذمّتي في تعريف هذه الضالة والحال كما ذكرت؟.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فإذا كان المالُ الضائعُ من صاحبه لا تتبعه هِمَّةُ أوساط الناس بأَنْ كان خسيسًا فهذا يمتلكه واجده وينتفع به من غير تعريف، أمَّا إذا كانت اللُّقَطَةُ ثمينةً فلا يجوز له أخذها إلاَّ إذا عَرف من نفسه الأمانةَ في حفظِها والقدرةَ على تعريفها، فإن قوي على ذلك ضبط صفاتِهَا وقدرَها وجنسَها ثمَّ عرَّف بها سنة كاملةً بحسب العرف وما جرت به عادة التعريف، سواء بالمناداة أو في مجامع النَّاس كالأسواق، والمقاهي ونحوهما، دون المساجد(1)، سواء قام به أصالةً أو بالنيابة، أو علَّقها أو نشرها على صورة ما ذُكِر في السؤال، كلّ ذلك في حدودِ قدرته وبالوسائل المتاحة، وتبرأ ذِمَّته بذلك إذا كان حَسَنَ النية، فإذا جاء صاحبُها يطلبها فَوَصَفهَا بما يوافق وَصْفَها ويطابِقُهُ وجب عليه أن يدفعَهَا له من غير بيِّنةٍ ولا يمينٍ، لقيام صفاتها مقامَ البينة واليمين، ولحديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: سُئِلَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم عن لُقَطَةِ الذَّهب والوَرِقِ؟ فقال:« اعْرِفْ وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ لَمْ تَعْرِفْ فَاسْتَنْفِقْهَا، وَلْتَكُنْ وَدِيعَةً عِنْدَكَ، فَإِنْ جَاءَ طَالِبُهَا يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ، فَادْفَعْهَا إِلَيْهِ »(2)، فإذا لم يأت صاحبُها بعد مُدَّة التعريف كانت مِلكًا لواجدها، لكن مِلكه لها مراعى بزوال ظهور صاحبها ومطالبته، فإن جاء صاحبها في أي وقتٍ من الزمان ردّها عليه عينًا إن كانت موجودةً، أو بَدَلَهَا إن استهلكت أو تلفت.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 22 رجب 1428ه
الموفق ل: 5 أغسطس 2007م
__________
1- لما أخرجه مسلم في «صحيحه »، كتاب: المساجد، باب النهي عن نشد الضالة في المسجد، وما يقوله من سمع الناشد (1260)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:« مَنْ سَمِعَ رَجُلاً يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ، فَليَقل: لاَ رَدَّهَا الله عَلَيْكَ. فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِه?ذَا ».
2- أخرجه البخاري في «اللقطة »، باب إذا جاء صاحب اللقطة بعد سنة ردها عليه: (2304)، ومسلم في «اللقطة »: (4502)، واللفظ له، وأبو داود في «اللقطة »: (1704)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (12315)، من حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه.(10/190)
الفتوى رقم: 844
في حكم الانتفاع بالمال المحرم المقبوض قبل حصول العلم
السؤال:
تحصَّلتُ على مالٍ كثيرٍ أَقَلُّ ما يُقال فيه: إنه مالٌ فيه شبهةٌ، اشتريت منه مَنْزِلاً وأثاثًا وأُمورًا أخرى، وفي ذلك الوقت لم يُوجد من يُبَصِّرني بحُكمه، ولكن وبعد مَعرفتي للحكم الشرعي فيه، فهل يجوز لي الانتفاع بما اقتنيتُ من ذلك المال؟ وجزاكم اللهُ خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعدُ:
فكلُّ مَن يُعَدُّ جاهلاً بالحُكم الشرعيِّ غيرَ مُقصِّرٍ في معرفته، جَهْلاً يَتعذَّرُ الاحترازُ عنه عادةً، كاشتهار العملِ به بين الناس وشيوعه بينهم من غير نَكِيرٍ يُعلَم، وخاصَّةً مع وجود الفقهِ في الدِّين وأهله، ممَّن يبيِّنون الحكمَ الشرعيَّ ويقيمون الحجَّةَ، فكيف مع غيابه؟ فإنَّ جَهْلَ المكلَّف بالحُكم -والحالُ هذه- مُوجِبٌ للعُذْرِ، ينتفي بوجوده الإثمُ في أحكام الدنيا والآخرة -إن شاء اللهُ- ويُباحُ له الانتفاع بالمال المحرَّم المقبوض جهلاً بعقدٍ أو عملٍ محرَّمٍ؛ لأنَّ أخذَه وقع في ظَرْفٍ يعتقد المكلَّف حِلِّيَّةَ اكتسابِهِ من غيرِ أن يتعمَّد إيقاعَه على الوجه المحرَّمِ، لتَنَاوُلِ الآيةِ الكريمةِ له في قوله تعالى: ?فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ? [البقرة: 275]، إِذْ هي تشمل بعمومها ما اكْتَسَبَ مِنْ مالٍ حرامٍ قبلَ الإسلام وبعدَ نزولِ التحريمِ، كما تشمل -أيضًا- على ما حازه مِنْ مَالٍ محرَّمٍ قَبَضَهُ بعد الإسلام وقبل نزول التحريم، فالأوَّل لا حرام يقترن بكسبه في مُعتقده؛ لأنَّه قابضٌ قبل شمول حُكمِ الحرام له، والثاني ينتفي عنه التحريمُ في نظره؛ لأنَّه قابضٌ له قبل معرفته بالحكم الشرعي.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 30 ربيع الأول 1422ه
الموافق ل: 13 جوان 2001م(10/191)
الفتوى رقم: 850
في حكم ادخار المال في صناديق التوفير والاحتياط
السؤال:
ما حكمُ ادِّخارِ المالِ في صناديق التوفير والاحتياط؟ وجزاكم اللهُ خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فادخارُ المالِ في صناديق التوفير والاحتياط غيرُ جائزٍ شرعًا لِمَا يُعلَمُ أنَّ هذه الصناديقَ تتعاملُ بالرِّبا المحرَّم شرعًا المتمثِّلة في عبارة:« أَنْظِرْنِي أَزِدْكَ »، وقد نزلتْ -في شأن هذا التعامل- كُلُّ الآيات القرآنية المانعة من الرِّبا، منها قوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ? [البقرة: 278-279]، ومنها قوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً? [آل عمران: 130] وغيرُها من الآيات، والتعاملُ الأَخَوِيُّ السليمُ ينبغي أن لا يكون في هذا الموقف من محاربة الله ورسوله، بل يجب أن يُؤسِّس تعامله على التعاون على البِرِّ والتقوى، كما قال تعالى: ?وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ? [المائدة: 2].
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 29 رمضان 1418ه
الموافق ل: 27 جانفي 1998م(10/192)
الفتوى رقم: 858
في التفريق في التعامل بين التأمين الجبري والاختياري
السؤال:
أصيب والدي بمرض خطير، وأجرى عمليةً استئصالية لكن المرض تفشى في جسمه خاصة في دمه، فوصف له الطبيب حقنة كل ثلاثة أشهر طول حياته، يُقدَّر ثمنها بأربعين ألف دينار جزائري: (40000دج)، ونظرا لكون الدخل العائلي ضعيفا قام الوالد بتكوين ملف صحي لطلب المساعدة من جهات صحية حكومية وأخرى اجتماعية لتسديد مستحقات الحقنة، فطلبوا منه إحضار ورقة تثبت أنه لا يملك أي اشتراك في أي صندوق للتأمينات، وبحكم أنه كان يملك اشتراكا إجباريا قديما في مؤسسة التأمين للعاملين غير الأجراء طلبوا منه تسديد ما بقي عليه من المستحقات بالإضافة إلى ضريبة التأخر في دفعها، ثم هو مخير بعد ذلك بأن يستمر في الاشتراك أو ينسحب من الصندوق وتضيع كل مستحقاته التي دفعها من قبل، فهل يجوز للوالد تسديد المستحقات الباقية لصندوق التأمينات، والاستمرار في الاشتراك فيه بغية استرجاع مستحقاته القديمة، والاستعانة بهذا الصندوق في تسديد تكاليف العلاج فيما يأتي من العمر سواء بالنسبة له أو للوالدة المريضة بضغط الدم؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فلا يخرجُ التأمين الطِبيُّ عن التأمين التجاري، فإن كان تأمينه على اختيارٍ منه فلا يجوز مثل هذه العقود لتضمُّنها الغرر والمقامرة المنهي عنها شرعًا، أمَّا إن كان التأمين مفروضًا عليه جبرًا بحيث لا يسعه التخلُّص منه، فالواجب عدم الرضا به ولو بأدنى درجات الإنكار، وله أن يسترجع ما أُخذ منه من أموال عن طريق تسديد الصندوق بتكاليف العلاج ونحو ذلك إذا استطاع إلى ذلك سبيلاً، وأهل المعرفة بالله موقنون بأنَّ تقوى اللهِ سبب تيسير الأمور وتحصيلِ الرِّزق والخروج من ضائقة العيش والمال، قال الله تعالى: ?وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ? [الطلاق: 2-3]، وقال تعالى: ?وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا? [الطلاق: 4].
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 28 صفر 1429ه
الموافق ل: 06/03/2008م(10/193)
الفتوى رقم: 867
في مكس أصحاب الحافلات
السؤال:
قام شخص بإنشاء حظيرة إجبارية للحافلات على أرض شاغرة ملكٍ للدولة، من غير ترخيص، يؤدي فيها الحراسة وتنظيم دخول وخروج الحافلات بمقابل مالي مفروض، وحاولت السلطات غلق هذه الحظيرة لكن دون جدوى، واستمرَّ عملها حتى أصبحت ضرورية إذ تحافظ على نظام سير الحافلات تنظيما محكمًا، فنرجوا -من شيخنا- أن يبيِّن لنا حكم هذا الكسب؟ وجزاكم اللهُ خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فاعلم أنَّ ما أُخِذَ من أصحاب الحافلات أو السيارات من الأموال بالكيفية المذكورة في السؤال يُعدُّ من المكس والانتقاص من حقوق الناس والظلم لهم، وهو من البخس الذي قال الله تعالى فيه: ?وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ? [هود: 85]، سواء كان الظلم بالمكس فرديًّا أو جماعيًّا أو عن طريق هيئات عامَّةٍ أو خاصَّة، وإن غلب استعمال المكس فيما يأخذه أعوان السلطان ظلمًا عند البيع والشراء أو عند إدخال المبيعات المدن(1)، ويتأوَّلون فيه معنى الزكاة أو الصدقات، فقد كان هذا من سُنَّة أهل الجاهلية والعجم الذين كانوا يفرضون على التجار عُشرَ أموالهم ضريبةً يجبونها منهم إذا مرُّوا عليهم، قال أبو عبيد عن المكس:« إنه كان له أصلٌ في الجاهلية يفعله ملوك العرب والعجم جميعًا، فكانت سُنَّتهم أن يأخذوا من التجار عشر أموالهم، إذا مرُّوا عليهم »، إلى أن قال:« فعلمنا بهذا أنه قد كان من سُنَّة الجاهلية مع أحاديث فيه كثيرة فأبطل الله ذلك برسوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم وبالإسلام، وجاءت فريضة الزكاة بربع العشر، من كلِّ مائتي درهم خمسة »(2).
والمكسُ قد ورد فيه الوعيد والتغليظ، وهو من الكبائر، قال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« إِنَّ صَاحِبَ المَكْسِ فِي النَّارِ »(3)، وجاء في قصة توبة الغامدية قولُه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ »(4)، قال النووي:« فيه أنَّ المكس من أقبح المعاصي والذنوب الموبقات، وذلك لكثرة مطالبات الناس له وظلاماتهم عنده، وتكرّر ذلك منه، وانتهاكه للناس، وأخذ أموالهم بغير حقِّها، وصرفها في غير وجهها »(5).
وعليه، فإنَّ الاسترزاق بهذه الطريق معدود من المكاسب المحرَّمة الداخلة في قوله تعالى: ?وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ? [البقرة: 188].
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 11 ربيع الأول 1428ه
الموافق ل: 18/03/2008م
__________
1- قلت: والمكوسُ لم يُقصَر أمرها على التجار -في زمننا- بل تعدَّ حتى أصبح المكس يُؤخذ لزومًا من الحجَّاج القاصدين بيت الله الحرام لأداء فريضة الحجِّ. والله المستعان.
2- «الأموال » لأبي عبيد القاسم بن سلام: (212).
3- أخرجه أحمد في «مسنده »: (16553)، والطبراني في «المعجم الكبير »: (5/29)، من حديث رويفع بن ثابت رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في «السلسلة الصحيحة »: (3405)، وحسنه شعيب الأناؤوط في «تحقيقه لمسند أحمد »: (4/109).
4- أخرجه مسلم في «صحيحه » كتاب الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنى: (4432)، وأبو داود في «سننه » كتاب الحدود، باب المرأة التي أمر النبي برجمها من جهينة: (4442)، وأحمد في «مسنده »: (22440)، من حديث بريدة الأسلمي رضي الله عنه.
5- «شرح مسلم » للنووي: (11/203).(10/194)
الفتوى رقم: 897
في أحكام لقطة الأموال ما عدا الحيوان
السؤال:
نرجو منكم أن تبيِّنوا مُجملَ أحكامِ اللقطة، وكيفية تعريفها، وضابط معرفة اللقطة الحقيرة؟ وشكرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فاللُّقَطَةُ هي:« كلُّ مالٍ معصومٍ مُعرَّضٍ للضياع لا يُعرف مالكُه »، فإن كان المعني في السؤال الأموال ما عدا الحيوان، كالنقود والأمتعة والأواني ونحو ذلك ممَّا ليس بحقيرٍ ولا ما يخشى فساده، فحكمه يدور بين الاستحباب واللزوم والحرمة، فإن كان في موضعٍ يأمن عليها الملتقِط إذا تركها فإنه يستحبُّ له أخذها، فإن كان الموضعُ غيرَ مأمونٍ لَزِمه حِفظُها أمانةً بيده، والتعريفُ بها في مجامع الناس. أمَّا إن علم من نفسه الطمعَ فيها، أو لم يَقْوَ على التعريف بها فيُحرَم عليه الإقدامُ على أخذها، فإن أخذها -والحال هذه- فَيَدُهُ يَدُ عُدوانٍ، وعُدَّ غاصبًا لاستيلائه على مال غيره من غير وجه حقٍّ، فضلاً عن تضييع مالِ غيره بالأخذ.
وأصلُ اللقطة ما جاء عن زيدٍ بن خالدٍ رضي الله عنه قال: سُئِلَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم عن لقطة الذهب والوَرِق؟ فقال:« اعْرِفْ وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا، ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ لَمْ تَعْرِفْ فَاسْتَنْفِقْهَا، وَلْتَكُنْ وَدِيعَةً عِنْدَكَ، فَإِنْ جَاءَ طَالِبُهَا يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ فَأدِّهَا إِلَيْهِ »(1)، والمراد بالوِكاء: الخيط الذي يُشدُّ به على رأس الصرَّة أو الكيس أو الوعاء، والعِفاص هو: الوعاء من جِلد أو نسيجٍ أو خشبٍ أو غيرِه الذي تكون فيه النفقة.
والحديث دلَّ على أنّه يجب على مُلتقطِها أن يتبيَّن علاماتِها المميِّزَةَ لها عن غيرها من وعاءٍ ورباطٍ وقَدْرٍ وصِنْفٍ وجِنسٍ، لئلاَّ تختلطَ اللقطةُ بمالِ الملتقِطِ من جهةٍ، وحتى يمكنَه إذا ما جاء صاحبُها أن يستوصفَه عن تلك العلامات الخاصَّة بها ليعلم صدقه من كذبه.
هذا، واللقطة تبقى عنده وديعةً، يحفظها كما يحفظ مالَه ولا يضمنها إلاَّ بالتعدِّي، والواجب أن ينشر خبرها في مجامع الناس كالأسواق، وعند أبواب المساجد لا داخلَها لورود النهي عن إنشاد الضالَّة في المسجد(2)، وغيرها من الأماكن التي يُتوقَّع وجودُ صاحبها فيها، ويبقى التعريف بها مستمرًّا لسنة كاملة، ففي الأسبوع الأول ففي كُلِّ يوم، لقُوَّة احتمال مجيءِ صاحبِها فيه، ثمَّ بعد الأسبوع يجري التعريف بها بحسَب عادة الناس.
فإن جاء صاحبُها ووصفَها بالعلامات والأماراتِ المميِّزة لها بما يُطابق وصفَها حلَّ للملتقِط أن يدفعها إليه وجوبًا، لقوله تعالى: ?إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا? [النساء: 58]، ولا يجوز له أن يطالبَه بالبيِّنة أو اليمين لقيام صفتها مقامهما؛ ولأنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم أمر بدفعها إليه بلا شرطٍ، و«تَأْخيِرُ البَيَانِ عَنْ وَقْتِ الحَاجَةِ لاَ يَجُوزُ ».
فإن عجز عن بيان أوصافها أو وَصَفَها بما لا يُطابق وصفَها فلا يحلُّ للملتقِط دفعَها إليه؛ لأنها أمانةٌ في يده، والأمانات إنما تُدفع لأهلها، لقوله تعالى: ?فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ? [البقرة: 283]، ولقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ »(3)، وقد أجمعوا على أنَّ الأماناتِ مردودةٌ إلى أربابها(4).
أمَّا إن لم يظهر صاحبها بعد سنةٍ كاملة من التعريف بها فإنها تصير مِلكًا لملتقِطِها، وله أن ينتفعَ بها سواء كان غنيًّا أو فقيرًا من غير ضمان يلحقه، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« فَإِنْ لَمْ تَعْرِفْ فَاسْتَنْفٍِقْهَا »، أي: يجوز لواجدها أن يتصرَّف فيها وينتفع على وجه الملكية بعد الحول وضبط صفاتها لحديث أوس بن كعب رضي الله عنه قال:« وجدتُ صرةً فيها مائة دينار، فأتيت النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم فقال: عَرِّفها حولاً، فعرَّفتها حولاً، فعرفتها فلم أجد، ثمَّ أتيته ثلاثًا، فقال: احْفَظْ وِعَاءَهَا وَعَدَدَهَا وَوِكَاءَهَا فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلاَّ فَاسْتَمْتِعْ بِهَا »(5).
غير أنَّ ملكيةَ الواجد لها والانتفاعَ مؤقَّتٌ ينتهي بمجيءِ صاحبها مهما طال زمنه، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« وَلْتَكُنْ وَدِيعَةً عِنْدَكَ، فَإِنْ جَاءَ طَالِبُهَا يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ فَأدِّهَا إِلَيْهِ »، فإن أتى صاحبها ردَّ له عينَها إن كانت موجودةً سواء قبل الحول أو بعده، أمَّا إن تلفت بتَعَدٍّ منه وتفريطٍ في الحول ردَّ بدلَها إن وُجِد أو قيمتَها إذا تعذَّر البَدَلُ، فحكمها حُكم الوديعة، فإن ادعى الملتقِطُ أنها ضاعت منه من غير تفريطٍ يُقبلُ قولُه مع يمينه إجماعًا، قال ابن المنذر:« أجمعُوا على أنَّ المودعَ إذا أحرزَ الوديعةَ، ثُمَّ ذكر أنها ضاعت، أنَّ القولَ قولُه مع يمينه »(6)، أمَّا إذا ضاعت بعد الحول فلا ضمانَ عليه عملاً بقاعدة أنَّ «الجَوَازَ يُنَافِي الضَّمَانَ ».
هذا، ويُستثنى من اللقطة: المأكولُ الذي يُخشى فسادُه كتمرة أو رغيف أو حَبَّةٍ من خضروات فإنه يجوز الانتفاع بها بالأكل من غير تعريف؛ لأنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم مرَّ بثمرة في الطريق فقال:« لَوْلاَ أَنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الصَّدَقَةِ لأَكَلْتُهَا »(7)، ويدخل في الاستثناء -أيضًا- الحقير من الأشياء الذي لا تتبعه هِمَّةُ أوساطِ الناس كالحبل والسوط والنعل والعصا لحديث جابر بن عبد الله قال:« رَخَّصَ لَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي العَصَا وَالسَّوْطِ وَالحَبْلِ وَأَشْبَاهِهِ يَلْتَقِطُهُ الرَّجُلُ يَنْتَفِعُ بِهِ »(8)، والحديث وإن لم يصحَّ سندُه مرفوعًا فإنه يُؤيِّدُ معناه حديثُ عليٍّ رضي الله عنه أنه جاء إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم بدينارٍ وجده في السوق فسأل رسولَ الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم فقال:« هَذَا رِزْقُ اللهِ فَاشْتَرِ بِهِ دَقِيقًا وَلَحْمًا »، فأكل منه رسولُ الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم وعليٌّ وفاطمةُ، ثمَّ جاء صاحبُ الدِّينار ينشر الدينار فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« يَا عَلِيُّ أَدِّ الدِّينَارَ »(9)، وإذا كان دون الدينار ينتفع به دون تعريف فالقليل التافه يُنتفَع به من بابٍ أَوْلَى.
وإذا وجد اللقطة في المسجد أو في محلٍّ فيه مسئولٌ عن الأمانات الضائعةِ فسلَّمها للإمام أو المسئولِ عن هذه الأمانات فإنه -والحال هذه- يقوم مقامَه في أحكام اللقطة.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 26 ربيع الثاني 1429ه
الموافق ل: 02 ماي 2008م
__________
1- أخرجه البخاري في «صحيحه » كتاب اللقطة، باب إذا جاء صاحب اللقطة بعد سنة ردها عليه: (2304)، ومسلم في «صحيحه » كتاب اللقطة، باب معرفة العفاص والوكاء وحكم ضالة الغنم والإبل: (4502)، واللفظ له، من حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه.
2- عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:« مَنْ سَمِعَ رَجُلاً يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ، فَليَقل: لاَ رَدَّهَا الله عَلَيْكَ. فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ لَمْ تُبْنَ لِه?ذَا ». أخرجه مسلم في «صحيحه »، كتاب: المساجد، باب النهي عن نشد الضالة في المسجد، وما يقوله من سمع الناشد: (1260).
3- أخرجه أبو داود في «سننه » كتاب الإجارة، باب في الرجل يأخذ حقه من تحت يده: (3535)، والترمذي في «سننه » كتاب البيوع: (1264)، والدارمي في «سننه »: (2499)، والحاكم في «المستدرك »: (2296)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال السخاوي في «المقاصد الحسنة » (51):« قال ابن ماجه: وله طرق ستة كلها ضعيفة، قلت: لكن بانضمامها يقوى الحديث ». وصححه الألباني بمجموع طرقه في «السلسلة الصحيحة »: (423).
4- «الإجماع » لابن المنذر: (117).
5- أخرجه البخاري في «صحيحه » كتاب اللقطة، باب وإذا أخبره رب اللقطة بالعلامة دفع إليه: (2294)، وأبو داود في «سننه » كتاب اللقطة: (1701)، والترمذي في «سننه » كتاب الأحكام، باب ما جاء في اللقطة وضالة الإبل والغنم: (1374)، من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه.
6- «الإجماع » لابن المنذر: (118).
7- أخرجه البخاري في «صحيحه » كتاب اللقطة، باب إذا وجد تمرة في الطريق: (2299)، ومسلم في «صحيحه » كتاب الزكاة، باب تحريم الزكاة على رسول الله وعلى آله: (2478)، من حديث أنس رضي الله عنه.
8- أخرجه أبو داود في «سننه » كتاب اللقطة: (1717)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (11878)، من حديث جابر رضي الله عنه. والحديث ضعفه الألباني في «الإرواء »: (6/15).
9- أخرجه أبو داود في «سننه » كتاب اللقطة: (1714)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (12325)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، والحديث حسنه ابن حجر في «التلخيص الحبير »: (3/165)، والألباني في «صحيح أبي داود »: (1/322).(10/195)
الفتوى رقم: 903
في الإشراف على تدعيم القروض الربوية
السؤال:
أعمل بمديرية المصالح الفلاحية، ووظيفتي هي مراقبة المشاريع الفلاحية المدعَّمة من طرف الدولة عن طريق صندوق دعم المشاريع الفلاحية، وتتمُّ على قسمين:
القسم الأول: مراقبة المشاريع الجديدة، حيث تُسلَّم للفلاح شهادةُ دعمٍ من البنكِ الرّبوِي بعد موافقتي على أنَّ المشروع منجزٌ ميدانيًّا.
القسم الثاني: مراقبة المشاريع القديمة التي قد تمَّ قبض مبالغها من طرف الفلاحين أصحابِ هاته المشاريع، والمهمل منهم يُرسل إليه مُقرَّرة استرجاع المبلغ الذي أَخَذَهُ من البنك الربوي إلى حسابِ الصندوقِ بناءً على إمضائي، فما حكم هذا العمل؟ وما حكم الراتب المأخوذ منه؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فاعلم أنَّ المقاصد إن كانت حسنة باعتبار غاياتها فلا تُبرّر الوسيلة إليها إن كانت فعلاً محرَّمًا أو تصرُّفًا منهيًّا عنه، ولا تزكيه وتبيِّض سوادَه مهما عظم نفع المقاصد، والقاعدةُ الميكيافلية القائلةُ بأنَّ الغايةَ تبرِّرُ الوسيلة لا جدوى لها في شريعتنا، فالتعاملُ بالوسائل المحرَّمة كالتعامل بالمقاصد السيئة المنهى عنها، فالوسائل الربوية لا يقتصر التحريم فيها على المباشِر لهما بل يتعدَّى إلى كلِّ مُشاركٍ لها بِجُهدٍ مادِّيٍّ أو أدبي، إذ التعاونُ عَلَى الحرَامِ شَرِيكُ الإثْمِ، وقَدْ قَالَ تَعَالى: ?وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ? [المائدة: 2]، ولِلَعْنِ النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم آكلَ الرِّبا ومُوكِلَه وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ، وَقَالَ:« هُمْ سَوَاءٌ »(1).
وللمُوظَّف إن غاب عنه الحكم الشرعي لجهلٍ منه دون تفريط أن ينتفع بما حاز من أموالٍ من مُرتَّب وظيفته، ولا يسَعُه الانتفاعُ بما يَحْصُل عَليْه مِن أَمْوالٍ بعْدَ تَحَقًُّقِّ العلمِ بالحُكْمِ الشَّرْعِي، لقوله تعالى: ?فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ? [البقرة: 275].
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 7 جمادى الأولى 1429ه
الموافق ل: 12/05/2008م
__________
1- أخرجه مسلم في «صحيحه » كتاب المساقاة، باب لعن آكل الربا ومؤكله: (4093)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.(10/196)
الفتوى رقم: 916
في حكم اقتراض عُملة ورقية والوفاء بعملة مغايرة إلى أجل
السؤال:
لي صديق يقيم في الخارج، وقد كلَّفته بأن يشتري لي بالعملة الصعبة بعضَ الحاجيات قرضًا، على أن أدفع ثمنَها بالعُملة المحلية لأخيه المتواجد معنا، فما حكم هذه المعاملة؟ أفيدونا جزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالمعلوم أنه لصِحَّة عملية الصَّرف يُشترط التقابض بين البَدَلين في مجلس العقد، أي: من شرطه الحلول، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم في حديث عًبَادة بن الصامت رضي الله عنه:« فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الأَصْنَافُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إِذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ »(1)، وفي قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله سلم في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه:« لاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ وَلاَ تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ وَلاَ تَبِيعُوا الوَرِقَ بِالوَرِقِ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ وَلاَ تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ وَلاَ تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ »(2)، بينما القرض فشرطه الأجل، ولا يصح إحلالُ البيع محلَّ القرض لافتراقهما في شرط الأجل، وعليه فمن استسلف مالاً على وجه القرض كعُملة صعبةٍ ووكَّله في أنه يشتري له به فلا يصحُّ له أنه يُوفِّيَهُ مالاً غير عملة المال الذي استسلفه منه؛ لأنه ينقلب إلى بيع وشرطه الحلول والتقابض في مجلسٍ واحدٍ قبلَ التفرُّق، والواجب والحال هذه أن يَرُدَّ له نفسَ العملة التي اقترضها منه، إذا وجد إلى ذلك سبيلاً، وذلك تفاديًا لصورة رِبا النسيئة في البيوع.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 27 جمادى الأولى 1429ه
الموافق ل: 02 جوان 2008م
__________
1- أخرجه مسلم في «صحيحه » كتاب المساقاة، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدًا: (4063)، وأحمد في «مسنده »: (23396)، والدارقطني في «سننه »: (2915)، من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
2- أخرجه البخاري في «صحيحه » كتاب البيوع، باب بيع الفضة بالفضة: (2068)، ومسلم في «صحيحه » كتاب المساقاة، باب الربا: (4054)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.(10/197)
الفتوى رقم: 957
في ضوابط الإعلان الإشهاري
السؤال:
ممَّا لا يخفى أنَّ الإعلام التجاري -في إطار المنافسة التجارية- قد أضحى في عصرنا الحالي وسيلةً أساسيةً للتعريف بالسِّلع والبضائع والخدمات، والسؤال الذي يفرض نفسه: ما حكم تصميم الإعلانات الإشهارية؟ وكذا عرض اللوحات الإشهارية في مختلف الأماكن والمحطَّات في الطرقات والقطارات والحافلات وغيرها؟ أفيدونا جزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالإعلاناتُ الإشهاريةُ سواء كانت تجاريةً أو غيرَ تجاريةٍ تدخل في قسم المعاملات والعادات، والأصل فيها الإباحة والجواز ما لم يقترن بها محظورٌ شرعيٌّ ينقل الحكمَ إلى المنع، ويمكن أن يحافظ الإعلان الإشهاري على حكم الإباحة والحِلِّ إذا ما انضبط بجُملةٍ من الشروط تظهر على الوجه التالي:
الأول: أن يكون الإعلان الإشهاري مباحًا في حَدِّ ذاته، خاليًا من الدِّعايات المبتذلة التي تنافي الأحكام الشرعيةَ، والأخلاق والقِيَمَ الإسلاميةَ وآدابَها، فلا يجوز تصميم الإعلانات التي تحتوي على الصور المثيرة للغرائز والشهوات، كعرض جسد المرأة بما فيها من العُري والتبرج والفتنة، وعموم الأفلام الماجنة والمثيرة، ولا للنوادي الليلية والحفلات المنكرة، وكتب أهل الفساد والفجور والضلال، ولا يجوز الترويج للخمر والدخان والمخدِّرات وغيرها، ولا لنوادي القِمار والرهان سواء كان رياضيًّا أو غيرَ رياضي، ويجب تجنُّبَها سواء كانت مصحوبةً بموسيقى أو خاليةً منها.
فالحاصل: أنَّ كُلَّ وسيلةٍ أبطلها الشرعُ وذمَّها لفسادها وإفسادها للدِّين والخُلق فهي محرَّمة، والتعاون عليها محرَّمٌ بنصِّ قوله تعالى: ?وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ? [المائدة: 2].
الثاني: أن يتحرَّى المعلِنُ الصدقَ والأمانةَ في عرض السلع والخدمات، فلا يصوِّر الأمر على غير حقيقته بالكذب وإخفاء العيوب، أو بالمبالغة في حجم المنتوج المراد تصميم إعلانه ونشره، أو تضخيم محاسنه للمستهلك أو الزبون، فالواجب أن يكون الإعلان مطابقًا لحقيقة ما يعرضه من السلع والمنتوجات والخدمات على وجه الصدق والأمانة، لوجوب التحلِّي بالصدق وهو سبب البركة، وحرمة الكذب وكتمان العيوب، لأنه عِلة الكساد والمَحْقِ، قال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «المُتَبَايِعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا»(1).
الثالث: ومن هذا القبيل لا يجوز إشاعةُ إعلانٍ إشهاريٍّ فيه غِشٌّ وخِداع، ولا تهويل ما فيه مكرٌ وتزوير، ولا إيهام ما فيه تدليس لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا، وَالمَكْرُ وَالخِدَاعُ فِي النَّارِ»(2)، ولقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ، وَلاَ يَحِلُّ لمِسُلْمٍ إِذَا بَاعَ مِنْ أَخِيهِ بَيْعًا فِيهِ عَيْبٌ أَنْ لاَ يُبَيِّنَهُ»(3)، ولقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «مَنْ أَشَارَ عَلَى أَخِيهِ بِأَمْرٍ يَعْلَمُ أَنَّ الرُّشْدَ فِي غَيْرِهِ فَقَدْ خَانَهُ»(4).
الرابع: أن لا ينعكس إعلانه الإشهاري سلبًا على غيره من التجار، بحيث يحدث ضررًا بمنتوجاتهم وسلعهم بالتحقير لأصنافها، والتهوين لأوصافها، والذمِّ لحسنها، كل ذلك لتحقيق مصالحه المادية على حساب مصالح غيره من التجار، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارٍ»(5)، ولقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»(6).
الخامس: أن يجتنب التغرير بالمستهلكين عن طريق استغلال التشابه في الاسم التجاري أو في العلامة التجارية سواء وقع التشابه في التسمية موافقة، أو تعمده بسوء نيته، ليبتغي من ورائها إيهام المستهلكين والزبائن بأنها هي البضائع المشهورة في الأسواق، أو المماثلة لها في الجودة والإتقان ليقع المستهلك فريسة التضليل والإيهام، وهو مخالف لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ، قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: للهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِكِتَابِهِ وَلأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ»(7) الحديث.
السادس: أن يحرص على أن يكون عقد الإعلان الإشهاري مستوفى شروط عقد الإجارة، ومن جملتها: العلم بثمن الإجارة، ومُدَّتها بين المتعاقدين، وأن يكون محلّ الإجارة منتفعًا به، ومقدور التسليم مع خلو العقد من الجهالة والغرر.
هذا ما بان لي من ضوابط الإعلان الإشهاري قصد المحافظة على سلامة أصلِ الإباحة والجواز.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 26 شعبان 1429ه
الموافق ل: 27 أوت 2008م
__________
1- أخرجه البخاري في «صحيحه» كتاب البيوع، باب إذا بين البيعان ولم يكتما ونصحا: (1973)، ومسلم في «صحيحه» كتاب البيوع، باب الصدق في البيع والبيان: (3858)، من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه.
2- أخرجه ابن حبان في «صحيحه» كتاب البر والإحسان، باب الصحبة والمجالسة: (567)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في «السلسلة الصحيحة»: (1058).
3- أخرجه ابن ماجه في «صحيحه» كتاب التجارات، باب من باع عيبا فليبينه: (2246)، والحاكم في «المستدرك»: (2152)، من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، وأخرجه أحمد في «مسنده»: (15583)، من حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه. والحديث حسّنه الحافظ ابن حجر في «فتح الباري»: (4/364)، وصححه الألباني في «صحيح الجامع»: (6705).
4- أخرجه أبو داود في «سننه» كتاب العلم، باب التوقي في الفتيا: (3657)، والحاكم في «المستدرك»: (350)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث حسّنه الألباني في «صحيح الجامع»: (6068).
5- أخرجه ابن ماجه في «سننه» كتاب الأحكام، باب من بنى في حقه ما يضر بجاره: (2340)، وأحمد في «مسنده»: (23462)، من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في «إرواء الغليل»: (896).
6- أخرجه البخاري في «صحيحه» كتاب الإيمان، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه: (13)، ومسلم في «صحيحه» كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير: (170)، من حديث أنس رضي الله عنه.
7- أخرجه مسلم في «صحيحه» كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة: (205)، وأبو داود في «سننه» كتاب الأدب، باب في النصيحة: (4946)، والترمذي في «سننه» كتاب البر والصلة ، باب ما جاء في النصيحة: (1926)، والنسائي في «سننه»، كتاب البيعة، باب النصيحة للإمام: (4214)، وأحمد في مسنده: (17403)، من حديث تميم الداري رضي الله عنه.(10/198)
الفتوى رقم: 977
في حكم العاجز عن التسديد
السؤال:
هل يجوز لمن تراكمت عليه الديون وانقطعت به سبلُ تسديدِها أن يلجأَ إلى الاقتراضِ من البنك؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فما دامَ المدينُ معسرًا عاجزًا عن التسديدِ فالواجبُ -عند مطالبةِ الغرماءِ وكثرةِ الديونِ وعدمِ إسقاطها عليهِ- خلعُ كلِّ مالٍ زائدٍ عن مقدارِ حاجتهِ وحاجةِ عيالهِ وأهلهِ، فيسدِّدُ به الدَّين ويتركُ الضروريَّ لقوامِ الأبدانِ، فإن لم يبلغ الوفاء فما على الدائنين إلاَّ انتظار يسرِ حالِه من جهةِ المالِ لقوله تعالى: ?وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ? [البقرة:280]، فكُلُّ مَنْ أعسر أُنْظِرَ، وقد روى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أصيب رجلٌ في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ثمار ابتاعها فكثر دينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «تصدَّقُوا عَلِيهِ» فتصدَّق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاءَ دَينهِ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لغرمائه: «خُذُوا مَا وَجَدْتُمْ وَلَيْسَ لَكُمْ إِلاَّ ذَلِكَ»(1)، وفي بعض الروايات: «فَلَمْ يَزِدْ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ غُرَمَاءَهُ عَلَى أَنْ خَلَعَ لَهُمْ مَالَهُ»(2).
وهذا الحكمُ إنما هو مع عدم المال والفقر الصريح، والواجب -في هذه الحال- التأخير وانتظار يسر الغريم، وقد ندب الله تعالى بالآية السابقة إلى الصدقة على المدين المعسر وجَعَلَ ذلك خيرًا من إنظاره بل هو معدودٌ بهذا الاعتبار من الفقراء الغارمين المستحقِّين للزكاة.
ولا ينبغي اللجوءُ إلى البنك لتسديد الديون؛ لأنَّ الشرع لم يجعل للمحرَّم سبيلاً، والبنكُ لا يزيد المقترض إلاَّ همًّا وغمًّا بقرضه الربوي المحرَّم، وينضافُ البنك -في الأخير- إلى قائمة دائنيه.
وأخيرًا، عليك بالاجتهادِ وتقوى الله، فإنَّ ?مَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا? [الطلاق:2-3].
نسأل اللهَ تعالى أن يفتح عليك أبواب الخيرات والبركات وأن يُغنيَك بحلاله عن حرامه.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 23 المحرم 1430ه
الموافق ل: 20 جانفي 2009م
__________
1- أخرجه مسلم كتاب «المساقاة»: (3981)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
2- أخرجه البيهقي كتاب «التفليس»، باب لا يؤاجر الحر في دين عليه و لا يلازم إذا لم يوجد له شيىء: (11451)، من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه.(10/199)
************** 11- فتاوى الأشربة والأطعمة **************
01- الأشربة
الفتوى رقم: 180
في حكم مشروبات «بيرقولد »
السؤال: لقد ظهرت في المدة الأخيرة نوع من المشروبات التي تسمى بـ:(bieregold) ويقال إنّها خالية من المادة الكحولية، فكثر فيها الكلام، وكثر فيها القيل والقال، وأشكل الأمر على كثير من الناس حكم شربها أو بيعها، فنرجو من شيخنا الفاضل أبي عبد المعز أن يبين لنا الحكم في هذه المسألة، وجزاكم الله خيرا وحفظكم الله ورعاكم وأطال عمركم ونفع بكم.
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فالمعهود في تحريم الخمر إنّما هو لإسكارها والسكر علة التحريم ويدور معها وجودا وعدما، فمتى وجد الإسكار وجد التحريم وإذا انتفى ينتفي معه الحكم، فإنّ عصير العنب قبل تخميره وحلول الإسكار فيه جاز، وإذا تخمر حرم، ثمّ إذا تخلل انتفى عنه حكم التحريم لتغير حقيقته وزوال الإسكار عنه، وهذا حكم عام لسائر المشروبات التي يطرأ عليها الإسكار فيحرمها وإلاّ فلا.
فالمذكور في السؤال لا يخرج حكمه عمّا ذكرنا لانتفاء الإسكار عنه، غير أنّه لمّا كان هذا المشروب مشتهرا عند العامة بوصف الإسكار وأنّ متعاطيه سكران، ولمّا كانت خشية تهمة المسلم لاصقة به إذا ما شربه، أو يخطر بباله حال شربه له أنّه يشرب خمرا مسكرا منع من ذلك سدا لذريعة التهمة وحمله على الصلاح ودفعا لما يخطر بباله من المفاسد التي قد تؤثر على سلوكه.
فالحاصل أنّه لا تحريم يرد على هذا المشروب بالنظر إلى خلوه عن مسكر في الأصل وإنّما المنع قد يرد عارضا من باب سد الذرائع وحمل الناس على الصلاح وإبعادهم عن التهمة وتجنب النفس الوساوس الشيطانية لئلا يقع في مصايد وشراك الشياطين والنفس الأمارة بالسوء.
والله أعلم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في:28جمادى الثانية1418ه
الموافق لل: 30 أكتوبر1997م(11/1)
الفتوى رقم: 366
الخل المحتوي على نسبة من الكحول
السؤال: فضيلة الشيخ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ نرجوا من فضيلتكم أن توضحوا لنا مسألة أشكلت كثيرا على بعض الإخوة وجزاكم الله خير الجزاء.
ما حكم استهلاك الخل الذي يباع في الأسواق المحتوي على نسبة من الكحول؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه أجمعين، أمّا بعد:
فلا خلاف بين أهل العلم المعتبرين أنّ الخمر إذا تخللت بنفسها يحل شرب الخل اتفاقا، أما إذا تخللت بالعلاج ففيها خلاف، والصحيح أنَّ الخل المتولد عن الخمر حلال سواء تخلل بالعلاج أو تخلل بنفسه، لأنّ الخل المتولد عن الخمر هو خلٌّ لغة وشرعا، ويدل على حليته قوله صلى الله عليه وسلم :"نعم الإدام الخلّ"(1) والحديث لم يفرق بين الخلّ المتولد عن الخمر، والخلّ المصنوع مباشرة، والتفريق يحتاج إلى بيان، "وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز"، ولأنّ التخليل يزيل الوصف المفسد ويجعل في الخمر وصف الصلاح، فلم تبق خمرا بعد تحولها، ويعرف التخلل بالتغيير من المرارة إلى الحموضة، لذلك لا يضر وجود بعض درجات الكحول فيها اكتفاءً بظهور الحموضة فيها، لأنّها دليل الخليّة في المشروب، فضلا عن أنّه ليس كل كحول مسكرا، فمثلا: قشر البرتقال يحتوي على كحول لكنه غير مسكر، وعليه فالخل طاهر طيب للحديث السابق، ولأنّه تتناوله عموم آيات الجواز والإباحة كقوله تعالى: ?اليَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ? [المائدة:5] وقوله تعالى ? ويُحِلُّ لَهم الطَّيِّبَات? [الأعراف:157]، والخل مع ذلك دواء نافع قال ابن القيم في[زاد المعاد] "وخلّ الخمر ينفع المعدة الملتهبة، ويقمع الصفراء، ويدفع ضرر الأدوية القتّالة، ويُحلِّل اللبن والدم إذا جمدا في الجوف، وينفع الطِّحال، ويدبغ المعدة، ويَعقِلُ البطن، ويقطع العطش، ويمنع الورم حيث يريد أن يحدث ويعيين على الهضم، ويضاد البلغم، ويلطف الأغذية الغليظة، ويرق الدم...."(2) قال المناوي في [فيض القدير]:"وقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم يحبه ويشربه ممزوجا بالعسل، وذلك من أنفع المطعومات، قال ابن العربي: ولذلك جمعها العلماء وجعلوها أحل المشروبات ولم يكن في صناعة الطب شراب سواه"(3).
هذا، وسبب اختلاف العلماء في المسألة السابقة يرجع إلى الخمر هل تطهر بإلقاء شيء فيها من ملح أو خل أو نحو ذلك وبعد أن تصير حامضا أم تبقى نجسة؟ علما أنّ الخلاف مبني على اعتقاد نجاسة الخمر، فمن رأى أنّها لا تطهر استند إلى حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الله عنه قال:"سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وسلم عن الخمر تتخذ خلاً؟ قال: لا "(4) ومعنى الاتخاذ -عندهم- هو تحويل الخمر إلى خل بالعلاج لها، أما إذا تخللت بنفسها فليست داخلة تحت النهي، والشيء الذي طرح في الخمر لتخليلها يتنجس بعد انقلابها خلاًّ فلا تطهر بحال من الأحوال وهو مذهب الشافعي وأحمد رحمهم الله تعالى.
ومن رأى أنّها تطهر استند إلى حديث عائشة رضي الله عنها في قوله صلى الله عليه وسلم :"نعم الإدام الخل"(5) حيث أطلق ولم يفرق بين ما إذا تخللت بنفسها أو بالعلاج وهو مذهب الأحناف.
والصحيح أنّ الخمر طاهرة لأنّ الأصل في الأعيان الطهارة ولم يرد نص شرعي يفيد نجاستها كما فصلناه في كتابنا ?مختارات من نصوص حديثية في فقه المعاملات المالية ?(6) والتحريم لا يلازم النجاسة، أمّا النجاسة فيلازمها التحريم، فكل نجس محرم ولا عكس.
وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه الله عنه السابق يحمل على محظورية ترك الخمر مدة للتخليل لما فيه من مخالفة الأمر الإلهي في قوله تعالى: ?فاجتنبوه? [المائدة:90]، وإن سلّمنا نجاسة الخمر فإنّ الحرمة ههنا لا تستلزم نجاسة الخل، وإنّما أوجب إراقتها سدّا لذريعة المحرم، وتضييق مجاري الشيطان الذي يجري من ابن آدم مجرى الدم، ويغرره بشرب الخمر المتواجدة عنده، لذلك كان ترك الخمر مدة التخليل ممنوعا شرعا، والله أعلم.
ثمّ إنّ المعروف أنّ الشيء إذا تغيرت حقيقته واضمحل وتبدل إلى شيء آخر زال الحكم المتعلق به قبل تغيره واستحالته ولم تعد هي بنفسها بل صارت شيئا آخر طاهرا، فهي كالنجاسة إذا وقعت في ماء كثير ولم تغير أحد أوصافه الثلاثة: لونه وطعمه ورائحته، والمسكر إذا مزج بالدواء وذهب أثره لم يكن في هذه الحالة مسكرا وإنّما هو دواء طاهر ذاب فيه شيء من المسكر، كالخمرة التي استحالت بنفسها وصارت خلا كانت طاهرة باتفاق العلماء.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 24 ذي القعدة 1424ه
الموافق ل: 27 جانفي 2003م
__________
1- أخرجه مسلم في الأشربة رقم(2052)،وأبو داود في الأطعمة رقم(3821)، والترمذي في الأطعمة رقم(1839)، والنسائي في الأيمان والنذور رقم(3796)، وابن ماجه في الأطعمة رقم(3317)، وأحمد(4/239) رقم(13849). من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
2- (4/306).
3- (6/385).
4- أخرجه مسلم في الأشربة رقم(1983)، وأبو داود في الأشربة رقم(3675)، من حديث أنس رضي الله عنه.
-5 تقدم تخريجه.
6- من ص: 30 إلى ص: 39.(11/2)
الفتوى رقم: 369
في حكم ألبان البقر المعلوفة بمواد محرمة
السؤال: هناك أنواع من الحليب تأتي من مناطق غير مسلمة ويطعمون أبقارهم علفا لا ندري ما هو وقد يكون مخلوطا ببعض المنتجات الحيوانية في بلادهم بعد طحنه ومعالجته فهل هذا محرم ؟ جزاكم الله خيرا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فبخصوص ألبان الأبقار التي تعلف المواد التي يشكّ فيها أنّها محرّمة، فإنّ جواب هذا السّؤال يظهر على الوجه التالي:
- إنّه إذا خفيت عنّا ما تعلف هذه الأنعام، فإنّ الأصل أنّنا لا نسأل عنها بناء على القاعدة:" ما غاب عنّا لا نسأل عنه " كما صحّ عن عائشة رضي الله عنها أنّها سألت النّبيّ صلى الله عليه وسلّم:" إِنَّ هُنَا أَقْوَامًا حَدِيثًا عَهْدُهُمْ بِشِرْكٍ، يَأْتُونَا بِلُحْمَانٍ لاَ نَدْرِى يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا أَمْ لاَ قَالَ «اذْكُرُوا أَنْتُمُ اسْمَ اللَّهِ وَكُلُوا »(1)، أمّا إذا علم علما قويّ الظنّ فيه أنّها تعلف من نجاسات تعطى لها فإنّ حكمها -والحال هذه- من الجلالة التي في الأصل أن تبقى حتى تصفو ويحلّ لحمها ولبنها؛ هذا إذا كان غالب ما فيها من النجاسات أمّا إذا كان من النجاسات ما ينغمر تحت الأعلاف الطيّبة الطاهرة من المواد التي تعطى لهذه الأنعام فحكمها حلّ لحمها إن ذبحت بيد مسلم أو من أهل الكتاب وتصحّ ألبانها جريا على قاعدة أنّ معظم الشيء يقوم على مقام الكل أو قاعدة: الأكثر يقوم مقام الكلّ.
والله أعلم وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على نبينا محمّد وعلى آله وسلّم تسليما.
الجزائر في:28 جمادى الثانية 1426ه
الموافق ل : 24 جويلية 2005م.
__________
1- أخرجه البخاري في التوحيد (7398)، وأبو داود في الضحايا(2831)، والنسائي في الضحايا(4453)، ومالك(1045) والبيهقي(19361)، من حديث عائشة رضي الله عنها.(11/3)
02- الأطعمة
الفتوى رقم: 362
أكل لحوم الجلالة وشرب ألبانها
السؤال: شيخنا الفاضل أبا عبد المعز حفظه الله تعالى ورعاه، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
فما حكم أكل لحوم الماشية وشرب ألبانها، إذا كان عامة غذائها من كلأ يسقى من المياه النجسة القذرة التي مصدرها قنوات صرف المياه، فهل لها حكم الجلاّلة التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل لحومها وشرب ألبانها، أم أنّ الأمر في ذلك يرجع إلى مدى تأثر لحومها وألبانها بما قد يحصل فيها من قذر وتغير رائحة، وحصول ضرر بحيث يقال: إن حصل فيها ذلك وجب الامتناع عن تناولها وإن لم يحصل لم يجب، أجيبونا مأجورين مشكورين وبارك الله فيكم وفي علمكم ونفع بكم.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فإنّ الرأي الثاني هو الظاهر حكما ذلك لأنّ الجلالة تلتقط النجاسات وتتبعها وتأكل العذرة حتى يتغير ريحها، وهي علة النهي عن ركوبها وأكل لحمها وشرب لبنها حتى يتغير ريحها على ما ورد من أحاديث صحيحة تقضي بهذا الحكم، هذا والماشية المذكورة في سؤالكم لا تلتقط عين النجاسة وإنّما تأكل الكلأ الذي سقي بماء نجس ولا يلزم من نموه به أن يكون الكلأ نجسا، ولا يخفى أنّ النجاسة إن كانت مائعة فجفاف الأرض طهورها، أي أنّ الأرض تطهر بالجفاف هي وما يتصل بها قرار، كالشجر والبناء وما إلى ذلك، فضلا عن أنّه لا يحصل لها تغيير واسم الجلالة يقترن به إذ لو حبست الجلالة بعيدة عن النجاسة والعذرة مدة علفت طاهرا فطاب لحمها وذهب عنها اسم الجلالة وحلّت.
والعلم عند الله تعالى؛ وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في9 ذي القعدة 1420 ه
الموافق ل : 15 فبراير 2000م(11/4)
الفتوى رقم: 364
استعمال عصفور ميت في الصيد
السؤال: ما حكم من يستعمل عصفورا ميّتا لجلب العصافير قصد اصطيادها، أو من يصطاد عصفورا فيقتلها ضربا بالنظر إلى عدم جدواها ليصل إلى تحقيق ربح من خلال كثرة اصطياده، علما أنّ هذا العمل هو مصدر رزق وقوت لهم، فنرجو من شيخنا الفاضل -حفظكم الله- ورعاكم وأطال في عمركم- أن تفصلوا في هذه المسألة، وجزاكم الله خيرا.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين؛ أمّا بعد:
فاعلم أنّ من خُلق المسلم أن لا يكون مضيعا للمال مفسدا له، عابثا بصيده للحيوانات والطيور مزهقا للأرواح من غير قصد منه إلى أكلها أو الانتفاع بها، ذلك لأنّ الإتلاف من غير منفعة عبث، والعبث إضاعة للمال وقد ثبت النهي في الحديث عن إضاعة المال.
هذا، والصائد بالعصفور الميت الذي مات حتف أنفه ليحصل به على الحي من العصافير بقصد التملك والتجارة به، فلا أرى أي تحذير شرعي يمنع من ذلك ولا ضرر حاصل بممارسته، بل المنفعة به مستجلبة وحرمة الميت منها مفتقدة، وحبس الحي من العصافير واللعب بها ثبت ما يدل على جوازه، ففي حديث أنس
قال:" كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل علينا ولي أخ صغير يكنى أبا عمير، وكان له نغر يلعب به فمات فدخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فرآه حزينا فقال : يا أبا عمير ما فعل النغير"(1) كما أن الانتفاع بالميتة فيه ما يدلّ على جوازه بما صح من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في جواز الانتفاع بشحوم الميتة من طلي السفن وادهان الجلود والاستصباح بها(2) كما صح أيضا في شاة ميمونة(3)رضي الله عنها.
أما الصائد بما يقتله من العصافير طعمة ليمسك الأحياء منها فإنّ هذا يدخل من باب الإفساد والإتلاف والتعذيب بغير حق ومن غير ضرر يتأذى به فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تعذيب الحيوان بأي نوع من أنواع التعذيب في قوله صلى الله عليه وسلم :"دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلا هي أطعمتها، ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت هزلا"(4) وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم طيرا اتخذ هدفا يرمونه بسهامهم فقال:" لعن الله من اتخذ شيئا فيه الروح غرضاً"(5)
بل خلق المسلم الرحمة بها والإشفاق وإطعامها إذا جاعت وسقيها إذا عطشت ومداواتها إذا مرضت، وتجنيبها الأذى لقوله صلى الله عليه وسلم:"في كل ذات كبد رطبة أجر"(6) وفي الحديث :"من لا يرحم لا يرحم"(7)
وجدير بالتنبيه أن يحذر الصائد الغفلة التي تدركه حال تشاغله بصيده عن طاعة الله أو اللهو بما اصطاده عن ذكر الله لقوله تعالى:(يا أيها الّذينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُم أَمْوَالُكُم وَلاَ أَولاَدُكُم عَنْ ذِكرِ الله) [المنافقون:9]، وفي الحديث :"ومن اتبع الصيد غفل"(8) وقد عدّ بعض أهل العلم الاشتغال واللعب بالحمام والعصافير من خوارم المروءة(9).
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلى اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلم تسليما.
الجزائر في:12 جمادى الثانية 1418ه
الموافق لـ:14 أكتوبر 1997م
__________
1- أخرجه البخاري في الأدب رقم(6129)، ومسلم في رقم(5747)، وأبو داود في الأدب رقم(4969)، والترمذي في الصلاة رقم(333)، وفي البر والصلة رقم(1989)، وابن ماجه في الأدب رقم(3720)، وأحمد رقم(13298)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
2- أخرجه البخاري في البيوع رقم(2236)، ومسلم في المساقاة رقم(4132)، وأبو داود في الإجارة رقم(3486)، والترمذي في البيوع رقم(1297) والنسائي في الفرع والعتيرة رقم(4256)، من حديث جابر رضي الله عنه.
3- أخرجه البخاري في الزكاة رقم(1492) ومسلم في الحيض رقم(832)، والنسائي في الفرع والعتيرة رقم(4238)، وأحمد رقم(3586)، والدارمي في سننه رقم(2040)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما"تصدق على مولاة لميمونة بشاة فماتت فمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به، فقالوا: إنها ميتة فقال: إنّما حرم أكلها".
4- أخرجه البخاري في المساقاة رقم(2365)،وفي الأدب المفرد رقم(379)، ومسلم في التوبة رقم(7158)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
5- أخرجه مسلم في الصيد والذبائح رقم(5174)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
6- أخرجه مالك في الموطأ ص:(929-930)، وعنه البخاري في المساقاة رقم(2363)، وفي الأدب المفرد رقم(378)، ومسلم في السلام رقم(2244)، وأبو داود في الجهاد رقم(2550)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
7- أخرجه الطبراني في المعجم الكبير(2/351/2476)، وأبو الحسن الحربي في الفوائد المنتقاة(3/155/1)، من حديث جرير رضي الله عنه، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة(483).
8- أخرجه أبو داود في الصيد رقم(2859)، والنسائي في الصيد رقم(4321)، وأحمد رقم(3421)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وأخرجه أحمد رقم(971)، وابن عدي(14/1)، والبيهقي في السنن رقم(20752)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم(1272).
9- انظر: المروءة وخوارمها لأبي عبيدة مشهور: (131-132).(11/5)
الفتوى رقم: 525
في حكم أكل ما يجلب من مطبخ مؤسسة بدون إذن المسئول عنها
السؤال: أختٌ تسأل عن والدها الذي يعمل في مطبخ مؤسّسة، ويحضر لهم أكلاً بترخيص من رئيس المطبخ دون علم المدير. فهل يجوز لها أن تأكل ممّا يحضره أبوها؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فلا يجوز للمؤتمَن على أموال الغير أن يتصرّف فيها وفق مصلحته، ومن دون إذن أصحابها؛ لأنَّ ذلك الفعل معدودٌ من أكل أموال الناس بالباطل، وقد ورد في ذلك النهي في قوله تعالى:وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالبَاطِلِ [البقرة: 188]، وقولِه صلى الله عليه وآله وسلم:«كُلُّ المسْلِمِ عَلَى المسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ »(1)، وقولِه صلى الله عليه وآله وسلم:« لاَ يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلاَّ بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ »(2)، والأحاديثُ كثيرةٌ تصبُّ في هذا المعنى، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم:« أدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ »(3)، ولا يخفى على علم كلِّ مسلم مطيع أنَّ الأمانة هي من أهمِّ الطاعات، فقد وردت الآيات في هذا الشأن منها قولُه تعالى: ?إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً? [الأحزاب: 72]، وقولُه تعالى: ?إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا? [النساء: 58]، ولا ينبغي لهذا الوليّ أن يطيع مسئولَه في التعاون معه على الإخلال بالأمانة التي وُكِّلَتْ إليه؛ لأنه تعاونٌ على الإثم والعدوان، وإنما يصحّ له أن يأخذ من المطعم الذي هو مؤتمَنٌ عليه الطعام المتروك الذي يكون مآله القمامة إذا صلح أكلُه، ففي هذه الحال يؤجر إذا أخذه أو أطعمه إلى ناس محتاجين إليه إذا صفت نيّته إلى ذلك؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينهى عن إضاعة المال، وجحود النعمة بإتلافها ليس من شكر المُنْعِمِ، فإن تولَّى أخذها قبل أن تُرمى، وأعان بها المحتاجين والجائعين فإنه يُؤجَر على صنيعه هذا، سواءً أطعم به أسرتَه أو أُسَرًا أخرى.
هذا، وإذا كان وليُّ أمرِ البنت يأتي بالمواد التي لا تزال صالحة للأكل إلى البيت، فإنه لا يجوز لها أن تأكل ممَّا يجلبه لهم، وتتحرَّى في إطعام نفسها الحلال دون الحرام والمشبوه، لكن إذا كانت مُقِرَّةً في بيتها ولم يكن لها في البيت سوى ذلك الطعام واحتاجت حاجة أكيدة إليه لقَوَامِ بدنها، فلا يجوز لها أن تأخذ منه إلاَّ مقدار ما تقيم به بدنها عملاً بقاعدة:« الضرورات تقدَّر بقدرها ».
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيِّنا محمّد، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 9 ربيع الأول 1427ه
الموافق ل: 6 أفريل 2006م
__________
1- أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب (6541)، وأبو داود في الأدب (4882)، والترمذي في البر والصلة (1927)، وابن ماجه في الفتن (3933)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2- أخرجه أحمد (20172)، وأبو يعلى في مسنده (1570)، والبيهقي (11740)، من حديث حنيفة الرقاشي رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في "الإرواء" (1459)، وفي "صحيح الجامع" (7539).
3- أخرجه أبو داود في الإجارة (3535)، والترمذي في البيوع ،(1264)، والدارمي في البيوع، باب في أداء الأمانة واجتناب الخيانة(2499)، والحاكم في المستدرك (2296)، والبيهقي (21912)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال السخاوي في "المقاصد الحسنة" (1/17):" قال ابن ماجه: وله طرق ستة كلها ضعيفة، قلت: لكن بانضمامها يقوى الحديث". والحديث صححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (424).(11/6)
الفتوى رقم: 592
في حكم التوسعة والسرورِ في ليلة عاشوراء
السؤال: جرتِ العادةُ عندنا أنّ الكثيرَ من العائلات يَقُمْنَ بإعداد طعامٍ خاصٍّ (كالكُسْكُسِ باللَّحم أو الشَّخْشُوخَةِ أو غيرِها) ليلةَ عاشوراء سواءً صاموا أو لم يصوموا، فما حكم صُنْعِ هذا الطعام؟ وما حكم تلبيةِ الدعوةِ إليه؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فَيَوْمُ عاشوراء من بركات شهر الله المحرَّم وهو اليوم العاشرُ منه، وإضافة الشهر إلى الله تعالى تدلّ على شرفه وفضلِه؛ لأنّ الله تعالى لا يُضيف إليه إلاّ خواصَّ مخلوقاته، قال صلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللهِ المُحَرَّمِ »(1)، وحُرمة العاشِرِ منه قديمةٌ، وفضلُه عظيمٌ، ففيه أنجى اللهُ موسى عليه الصلاة والسلام وقومَه، وأغرق فرعونَ وجنودَه، فصامَهُ موسى عليه الصلاةُ والسلامُ شكرًا لله، وكانت قريشٌ في الجاهلية تصومُه، وكانت اليهودُ تصومُه كذلك، فقال لهم رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« فَنَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ »(2)، فصامه رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم وأَمَرَ بصيامِه، وكان صيامُه واجبًا على أقوى الأقوال وأرجحِها، ثمّ صار مستحبًّا بعد فرض صيام شهر رمضان، ويستحبُّ صومُ التاسعِ معه، مخالفةً لليهود في إفراد العاشر، وفضلُه العظيم تكفير السَّنَة الماضية، فهذا هو الثابت في السُّنَّة المطهّرة، ولا يُشرع في هذا اليوم شيءٌ غيرُ الصيام.
أمّا محدثاتُ الأمور التي ابتدعَتْهَا الرافضةُ(3) فأبى فتركوه ورفضوه، أي: قاطعوه وخرجوا من بيعته، ومن أصولهم: الإمامة، والعصمة، والمهدية، والتقية، وسب الصحابة وغيرها) من التعطّش والتحزّن ونحوِ ذلك من البدع، فاتخذوا هذا اليومَ مأتمًا، ومن قابلهم الناصبة(4) بإظهار الفرح والسرور في هذا اليوم وتوسيع النفقات فيه، فلا أصلَ لهؤلاء وهؤلاء يمكن الاعتماد عليه، إلاّ أحاديث مُختلَقَة وُضعتْ كذبًا على النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم أو ضعيفة لا تقوى على النهوض.
وقد بيّن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ذلك بقوله:« مِثْلُ ما أحدثه بعضُ أهلِ الأهواء في يوم عاشوراء، من التعطّش والتحزّن والتجمّع، وغيرِ ذلك من الأمور المحدثة التي لم يُشَرِّعْهَا اللهُ تعالى ولا رسولُه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم ولا أحدٌ من السلف ولا من أهلِ بيتِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم ولا من غيرهم… وكانت هذه مُصيبةً عند المسلمين -أي: قتلَ الحسين رضي الله عنه- يجب أن تُتَلَقَّى بما تُتَلَقَّى به المصائب من الاسترجاع المشروع، فأحدثَتْ بعضُ أهل البدع في مثل هذا اليوم خلافَ ما أَمَرَ اللهُ به عند المصائب، وَضَمُّوا إلى ذلك الكذبَ والوقيعةَ في الصحابة البُرَآءِ من فتنة الحُسَين رضي الله عنه وغيرِها أمورًا أخرى ممَّا يكرهُهُ الله ورسوله.. وأمّا اتخاذ أمثال أيام المصائب مآتم فهذا ليس في دين المسلمين بل هو إلى دين الجاهلية أقرب » إلى أن قال -رحمه الله-:« وأحدثَتْ بعضُ الناس فيه أشياءَ مستنِدةً إلى أحاديثَ موضوعةٍ لا أصلَ لها مثلَ: فضلُ الاغتسالِ فيه، أو التكحّلُ، أو المصافحةُ، وهذه الأشياء ونحوُها من الأمور المبتدَعَة كلُّها مكروهةٌ، وإنما المستحبّ صومه.. والأشبه أنّ هذا الوضع لَمَّا ظهرت العصبية بين الناصبة والرافضة فإنّ هؤلاء اتخذوا يوم عاشوراء مأتمًا، فوضع أولئك فيه آثارًا تقتضي التوسّع فيه واتخاذه عيدًا، وكلاهما باطل »(5).
وإذا عُلم اقتصار مشروعيةِ هذا اليوم في الصيام فقط فلا يجوز تلبيةُ دعوة من اتخذه مأتمًا، ولا من اتخذه عيدًا؛ لأنه لا يجوز لأحد أن يغيّرَ من شريعة الله شيئًا لأجل أحدٍ أو يزيدَ عليها ويستدركَ.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في 16 محرم 1428ه
الموافق ل: 4 فبراير 2007م
__________
1- أخرجه مسلم في «الصيام »: (2755)، وأبو داود في «الصوم »: (2429)، والترمذي في «الصلاة »: (438)، والنسائي في «قيام الليل »: (1613)، وابن ماجه في «الصيام »: (1742)، وأحمد: (8158)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2- أخرجه البخاري في «الصوم »: (2004)، ومسلم في «الصيام »: (2656) أبو داود في «الصيام »: (2444)، وابن ماجه في «الصيام »: (1734) الحميدي في «مسنده »: (543)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
3- الرافضة: فرقة من الشيعة الكبرى، بايعوا زيد بن علي ثمّ قالوا له: تبرّأ من الشيخين (أبي بكر وعمر رضي الله عنهما) فأبى فتركوه ورفضوه، أي: قاطعوه وخرجوا من بيعته، ومن أصولهم: الإمامة، والعصمة، والمهدية، والتقية، وسب الصحابة وغيرها.
4- الناصبة: هم الذين يبغضون عليًّا وأصحابه، انظر:« مجموع الفتاوى »: (25/301).
5- «اقتضاء الصراط المستقيم » لابن تيمية: (2/129-133).(11/7)
الفتوى رقم: 669
في حكم «الوكيرة »
السؤال:
جرتِ العادةُ عندنا أنّ الرجلَ إذا رُزِقَ ببيتٍ أو أتمَّ بناءَه، صَنَعَ طعامًا ودعا إليه الأقاربَ والجيرانَ والأحبابَ، وفي النادر من يهتمُّ بدعوة الفقراء والمساكين، فأرجو منكم إفادتَنا في حكم صنع هذا الطعام، وإن كان مشروعًا فهل تجب تلبيةُ الدعوة أم تستحبُ فقط؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالطعامُ المُعَدُّ عند الفراغ من البناء يُسمًّى «الوكيرةَ » للمسكن المتجدّد مأخوذ من الوَكْرِ وهو المأوى، ووليمتُه من الأطعمة المعتادةِ التي تجري مَجْرَى شُكران النِّعمة والزيادةِ في الإحسان، وسبيلُها الطبخ(1).
ومن آدابها عدم التخصيص بدعوة الأغنياء دون الفقراء، والوجهاء دون البسطاء، لما رواه مسلم وغيرُه أنّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قال:« شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الوَلِيمَةِ يُدْعَى لَهَا الأَغْنِيَاءُ، وَيُمْنَعُهَا المَسَاكِينُ، وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى اللهَ وَرَسُولَهُ »(2)، كما أنّ من آدابها القصد بها اتباع السُّنَّة في إكرام الضيوف وإطعام الأخيار لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« لاَ تُصَاحِبْ إِلاَّ مُؤْمِنًا وَلاَ يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلاَّ تَقِيٌّ »(3)، وقولِه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« إِنَّ مِنْ إِجْلاَلِ الله إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ المُسْلِمِ وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالجَافِي عَنْهُ، وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ المُقْسِطِ »(4).
ومع ذلك فمذهب جمهور الصحابة والتابعين القول بوجوب الإجابة إلى سائر الولائم بما في ذلك الوكيرة(5) ما لم تتضمّن منكرًا.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 13 ربيع الثاني 1428ه
الموافق ل: 1 ماي 2007م
__________
1- «تحفة المودود » لابن القيم: (90)، «شرح مسلم » للنووي: (9/171).
2- أخرجه مسلم في «النكاح »: (3525)، والبيهقي (14889)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه البخاري في «النكاح »: (4882)، وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه موقوفا عليه وهو في حكم المرفوع كما بينه الحافظ ابن حجر في «فتح الباري »: (9/175)، وانظر «السلسلة الصحيحة » للألباني: (3/72)، و«الإرواء »: (7/4).
3- أخرجه أبو داود في «الأدب »: (4832)، والترمذي في «الزهد »: (2390)، وأحمد في «مسنده »: (10944)، والحاكم في «مستدركه »: (7169)؛ من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. والحديث حسنه البغوي في «شرح السنة »: (6/468)، والألباني في «صحيح الجامع »: (7341).
4- أخرجه أبو داود في «الأدب » باب في تنزيل الناس منازلهم :(4843)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (17125)، وفي «شعب الإيمان »: (2685)، وابن أبي شيبة في «المصنف »: (17671)، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. والحديث حسنه العراقي في «تخريج الإحياء »: (245/2)، وابن حجر في «تلخيص الحبير »: (673/2)، والألباني في «صحيح الجامع »: (2199).
5- «نيل الأوطار » للشوكاني: (7/378).(11/8)
الفتوى رقم: 728
في حكم الجلاّلة من الطيور
السؤال:
ما حُكم الجلاّلة من الطيور التي يُؤكل لحمُها كالدجاج؟ وهل ورد في حبسها مدة معينة؟ وبارك الله فيكم .
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالجلالةُ هي الحيوانُ الذي يأكلُ العَذِرَةَ سواء في ذلك بهيمة الأنعام كالإبل والبقر والغنم أو غيرِها كالدجاج والإِوَزِّ ونحوهما، وحُكمها تحريمُ أكلِها وركوبِها، لحديث ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قال:« نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْلِ الجَلاَّلَةِ وَأَلْبَانِهَا »(1)، وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال:« نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَنْ لُحُومِ الحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ، وَعَنِ الجَلاَّلَةِ: عَنْ رُكُوبِهَا وَأَكْلِ لُحُومِهَا »(2). وعِلَّةُ النهيِ في الحديث التغييرُ، لكنّهم اختلفوا في سبب إطلاقِ الجلالة أهي ما كان أكثر عَلفها النجاسة أم لا اعتدادَ بالكثرة؟ بل الرائحة والنَّتَن، ويلزم ممّن علّقها على كثرة علفها للنجاسة أن يكون مفهومه بالمخالفة انتفاءَ وصف الجلالة على ما كان أكثرُ علفِها الطاهرَ، أمّا من علّقها على الرائحة النَّتِنة إن وجد فيها تغيير ريحِ مَرَقِها أو لحمِها أو لونها، وإن خلت من تلك الرائحة فليست بجلالة.
وعلى كلٍّ إذا حُبِسَتْ، وعَلَفتْ طاهرًا فطاب لحمُها حَلَّتْ إجماعًا، قال ابنُ القيم -رحمه الله-:« أجمعَ المسلمون على أنّ الدابَّةَ إذا علفت بالنجاسة ثمّ حُبستْ وعلفت الطاهرات، حلَّ لبنُها وأكلُها، وكذا الزورعُ والثمارُ، إذا سُقيت بالماء النجسِ ثمّ سُقيت بالطاهر حلّت لاستحالة وصف الخبث وتبدّله بالطَّيِّب »(3).
وليس للحبس مدّة معلومة شرعًا(4)، وإنما تقدير أيام صفائها بتعليفها الطاهر موكولٌ إلى العُرْفِ، ويستحبُّ تحبيسُها ثلاثة أيام لأثر ابن عمر رضي الله عنهما:« أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَكْلَ الجَلاَّلَةِ حَبَسَهَا ثَلاَثًا »(5).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 11 جمادى الثانية 1428ه
الموافق ل: 26 جوان 2007م
__________
1- أخرجه أبو داود في «الأطعمة »،باب النهي عن أكل الجلالة وألبانها :(3785)، والترمذي في «الأطعمة »، باب ما جاء في أكل لحوم الجلالة وألبانها: (1824)، والحاكم في «المستدرك »: (2248)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (20015)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. والحديث صححه الألباني في «الإرواء »: (2503).
2- أخرجه أبو داود في «الأطعمة »،باب في لحوم الحمر الأهلية: (3811)، والحاكم في «المستدرك »: (2498)، وأحمد: (6999)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (20023)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. والحديث حسنه ابن حجر في «فتح الباري »: (9/660)، والألباني في «الإرواء »: (8/151).
3- «إعلام الموقّعين » لابن القيم: (2/14).
4- لا تصحُّ أحاديثُ تعليفِ الجلالةِ أربعين يومًا، وقيّد بعضُهم تحبيسَ الإبلِ والبقرِ بأربعين يومًا، والغنمِ بسبعةِ أيامٍ، والدجاجِ بثلاثٍ.
5- أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف »: (20351). والأثر صححه ابن حجر في «فتح الباري »: (9/660)، والألباني في «الإرواء »: (2504).(11/9)
الفتوى رقم: 730
في حكم الوليمة المعقودة على شكر النعمة
السؤال:
جرتِ العادة عندنا أنَّ المرء إذا حصل له نجاح في أمر خيرٍ من دينه كأن: يختم حفظ القرآن، أو يعقد على امرأة عقدًا شرعيًّا، أو في أمرٍ من أمور دنياه كأن: ينجح في شهادة من شهاداته الدراسية، أو يحصل على وظيفةٍ، يصنع طعامًا ويدعو إليه النّاس، فما حكمُ هذا الصنيع؟ واللهَ نسألُ أن يجزيك خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالأصلُ في الأطعمةِ المعتادةِ التي تجري مجرى شكرانِ المُنْعِمِ والزيادةِ في الإحسان الجوازُ إلاّ إذا ثبتَ دليلٌ ناقلٌ عن هذا الأصلِ إلى المنعِ، أو اقترنتْ بها مقاصدُ فاسدةٌ أو اعتقاداتٌ منافيةٌ لجنابِ التوحيد.
والولائمُ أنواعٌ متعدِّدةٌ وسبيلُها الطبخُ، والإطعامُ لها أحسنُ من تفريق اللحمِ في مكارم الأخلاق والجود إذ يُمَتَّعُ الجيرانُ والأولادُ والمساكينُ هنيئةً ومكفيةَ المؤنة.
وقد تناول العلماءُ جملةً من هذه الولائمِ بالذِّكْرِ(1)، وهي لا تخرجُ عمّا تقرّرَ في أصلِ الولائم.
ومن مقاصدها الحسنةِ: إكرامُ الفقراءِ والبُسَطاءِ من غير تمييزهم عن الأغنياءِ والوجهاءِ، واتباعُ السُّنَّة في إكرامِ الضيوف وإطعامِ الأخيار، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الوَلِيمَةِ يُدْعَى إِلَيْهَا الأَغْنِيَاءُ وَيُتْرَكُ الفُقَرَاءُ »(2)، وقولِه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« وَلاَ يَأْكُلُ طَعَامَكَ إِلاَّ تَقِيٌّ »(3)، وقولِهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« إِنَّ مِنْ إِجْلاَلِ اللهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ المُسْلِمِ وَحَامِلَ القُرْآنِ غَيْرَ الغَالِي فِيهِ وَلاَ الجَافِي عَنْهُ وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ المُقْسِطِ »(4).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 12 جمادى الثانية 1428ه
الموافق ل: 27 جوان 2007م
__________
1- انظر «التمهيد » لابن عبد البرّ: (10/182)، «الاستذكار » لابن عبد البر: (5/535)، «تحفة الأحوذي » لابن العربي: (4/183)، «تحفة المودود » لابن القيم: (90)، «شرح مسلم » للنووي: (9/171)، «فتح الباري » لابن حجر: (9/241)، «نيل الأوطار » للشوكاني: (7/377).
2- أخرجه البخاري في «النكاح »،باب من ترك الدعوة فقد عصى الله ورسوله: (4882)، ومسلم في «النكاح »،باب الأمر بإجابة الداعي إلى دعوة: (3521)، موقوفا عن أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه مرفوعا عنه: مسلم في «النكاح »،باب الأمر بإجابة الداعي إلى دعوة: (3525)، وانظر «الإرواء » للألباني: (7/4-5).
3- أخرجه أبو داود في «الأدب »، باب من يؤمر أن يجالس: (4832)، والترمذي في «الزهد »، باب ما جاء في صحبة المؤمن: (2395)، وأحمد في «مسنده »: (10944)، والحاكم في «مستدركه »: (7169)؛ من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. والحديث حسنه البغوي في «شرح السنة »: (6/468)، والألباني في «صحيح الجامع »: (7341).
4- أخرجه أبو داود في «الأدب »، باب في تنزيل الناس منازلهم: (4843)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (17125)، والبخاري في «الأدب المفرد »: (362)، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. والحديث حسنه العراقي في «تخريج الإحياء »: (2/245)، وابن حجر في «تلخيص الحبير »: (2/673)، والألباني في «صحيح الجامع »: (2199).(11/10)
الفتوى رقم: 783
في مشروعية وليمة الختان
السؤال:
هل تشرع وليمة الختان؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فمذهب القاضي عياض والنووي وابن القيم والشوكاني جواز الولائم التي سبيلها الطبخ وهي الأطعمة التي تجري مجرى الشكران، أي شكر المنعم على ما أنعم، وذلك من قبيل الإحسان، ومن طرقه إقامة «العذيرة » و«الإعذار » هي طعام الختان(1).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 20 محرم 1428ه
الموافق ل: 8 فبراير 2007م
__________
1- «النهاية » لابن الأثير: (3/197).
2- انظر:« تحفة المودود » لابن القيم: (90)، «نيل الأوطار » للشوكاني (7/377).(11/11)
الفتوى رقم: 934
الزلابية وغيرها من الطيبات بين الأصل العام والحكم التفصيلي
السؤال:
لقد نشرت إحدى الصُّحفِ الجزائريةِ الأسبوعيةِ عنكم القولَ بتحريم أكْلِ حَلْوى «الزلابية» التي تنتشِرُ بكثْرَةٍ في شَهر رَمَضَانَ المباركِ، وكذا إباحتكم للرشوة والتعريض، فنريدُ مِنْكُم شيخَنَا بَيَانًا شَافِيًا عَنْ مَدَى صِحَةِ مَا نُشِرَ عنكم؟ وهل يُعَدُّ تَنَاوُلُ الزلابية من بِدَعِ رمضَانَ؟ وهل من نصيحةٍ تقدِّمونها لمن ينقل فتاويكم، وجزاكم اللهُ خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فاعلم أنَّ «الزلابية» كغيرهَا من الحلْوى مَعْدُودَةٌ من الطيِّبَات يَتَغَذَّى بها الجسْم كسائرِ الأطعمةِ التي يكونُ لها أثرٌ طيِّبٌ على قِوامِ بدنِ الإنسانِ، والأَصْلُ فِيهَا الحلُّ، لقوله تعالى: ?هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا? [البقرة: 29]، وقولِهِ تعالى: ?يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّبًا? [البقرة: 168]، وقولِه تعالى: ?قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ? [الأعراف: 32]، واللهُ تعالى أباحَ لعبادِه المؤمنين الطيِّباتِ لينتفعُوا بها، قال تعالى: ?يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ? [المائدة: 4]، وقال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «الحَلاَلُ مَا أَحَلَّ اللهُ فِي كِتَابِهِ وَالحرَامُ مَا حَرَّمَ الله فِي كِتَابِهِ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ»(1)، والحكْمُ بإباحَتِها كأَصْلٍ عامٍّ لا يجوز تَحْرِيمُه بحالٍ إلاَّ إذا فَصَّل الله لنا ما حرَّم، فما كان حرامًا أو مكروهًا فلا بُدَّ أَنْ يكُونَ تَحْريمهُ مُفَصَّلاً على وجْهِ الاستِثْنَاءِ من الأَصْلِ العامِّ، لقَوْله تعَالى: ?وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ? [الأنعام: 119]، ويعُود التفصيلُ إلى جُمْلةِ حالاتٍ وعِللٍ تقترنُ بالحلِّ فتُصيِّره مَنْهِيًا عنْه مُحرَّما أوْ مكْروهًا بحسَبِ الحالَةِ، ومِن هذِه العِلَلِ والحالاتِ: المَضَرَّةُ والإسْرَافُ، والاسْتِعَانَةُ بِه على المعصيةِ، والتَشْريعُ. وليْسَ الحكْمُ المفصَّلُ خَاصًّا ب «الزلابية»، وإنما هو عامٌّ لكلِّ طعامٍ طاهرٍ طَيِّبٍ، وَعليه:
- فكلُّ طَعَامٍ طاهرٍ لا مضرَّةَ فيه، فهو مباحٌ، فإنْ أحْدَثَ ضَرَرًا عنْد تَنَاوُلِهِ فيُمْنَعُ شرْعًا وَطِبًّا، لِعلَّةِ الضررِ، لِوجوبِ المحافظةِ على الأبدانِ في قوله تعالى: ?وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا? [النساء: 29]، ولقوله تعالى: ?وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ? [البقرة: 195]، ولقوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ»(2)، ومن عمُومِ هذِه النصوصِ قُعِّدتْ جُمْلةٌ من القواعدِ الفقهيةِ منها: أنَّ «التَحْرِيم يَتْبَعُ الخَبَثَ وَالضَرَرَ».
- كلُّ طعامٍ طاهرٍ لا مَضَرَّةَ فيه مُباحٌ مَا لم يَصِل إلى حدِّ الإسرافِ والتبذيرِ فَيُمنعُ لهذه العلةِ ويشهدُ لذلك قولُه تعالى: ?وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ? [الأعراف: 31]، ولقولِه تعالى: ?وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا? [الإسراء: 26-27].
- وكلُّ طعامٍ طاهرٍ لا مَضَرَّةَ فيه ولا إسرافَ ولا تبْذيرَ مُباحٌ بشرطِ أنْ يُسْتعانَ بِهِ على الطاعةِ، ويحْرمُ إِن اسْتُعينَ به على مَعْصِيةٍ، كمن يتغذَّى باللحمِ والخبزِ والتمرِ أو الحلْوَى ليستعِينَ بها على شُربِ الخمْرِ، وإتْيانِ الفواحشِ، أو يتغذَّى ليَقْوَى على مُحَارَبَةِ دَعْوَة التوحيدِ التي جَاءَ بها النبيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ صَافيةً بالتشويهِ والتَضلِيلِ والصدِّ عنْ سبيلِ الله، أو يَسْتعِينُ بها على الاعتداءِ على دماءِ المسلمينَ وأمْوالهم وأعراضِهم، فَإنَّ هذهِ الطيِّباتِ يُسْأَلُ عنْها؛ لأنَّه لم يُؤَدِّ شُكْرَها، لقوله تعالى: ?لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ? [المائدة: 93]، ولقوله تعالى: ?ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ? [التكاثر: 8]، أي: عن الشكرِ عليْهِ.
-وكلُّ طعامٍ طاهرٍ لا مَضرةَ فيه ولا إسرافَ ويُستعانُ به على الطاعةِ، فلا يجوز أن يُخصَّص أيُّ مَطْعُومٍ بالعبادةِ استدراكًا على صاحبِ الشريعةِ بعدَ مَا أَتمَّها اللهُ بنبيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْه وآله وَسَلَّمَ، وأكملَهَا قال تعالى: ?الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا? [المائدة: 3]، فدَلَّتِ الآيةُ على كمالِ الشريعةِ واستغْنَائهَا عنْ زيادةِ المبتدعين، واسْتدراكاتِ المستدركين، وقد أَتَمَّ الله هذَا الدِّينَ فلا يُنْقِصُهُ أبدًا، ورضِيَهُ فلا يَسْخَطُهُ أبدًا، وقد جاء عن النبيِّ صَلَّى الله عليه وآله وسَلَّم قولُه: «وَأَيْمُ اللهِ لَقَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى مِثْلِ الْبَيْضَاءِ، لَيْلُهَا وَنَهَارُهَا سَوَاءٌ»(3)، وقد بيَّن النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم هذا الدِّينَ أتمَّ البيانِ، وقامَ بواجبِ التبليغِ خيرَ قيامٍ، ممتَثلاً لقول ربِّه: ?يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ? [المائدة: 67]، وقد شهدت له أُمَّتُه بِإبلاغِ الرسالةِ وأداءِ الأمانةِ، واسْتنطَقَهُمْ بذلكَ في أعظمِ المحافلِ في خُطبتِهِ يوْمَ حجَّةِ الوداعِ.
وعليْه، فمنْ أوْجبَ طعامًا في موْضِعِ عبادةٍ أو اسْتَحَبَّه ولم يرِدْ في الكتاب والسُّنَّة ذِكْرُه فقد شَرَّعَ أمْرًا ما أنزلَ الله به من سلطانٍ، ومثلُ هذا التشريعِ محرَّمٌ بنصِّ قوله تعالى: ?أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللهُ? [الشورى: 21]، فالحكمُ الشرعيُّ إنما يُؤخذُ من الشرعِ، إذِ الحكم لله وحدَهُ، ولا يجوزُ إثباتُ حكمٍ شرعيٍّ بغير الأدلة الشرعية التي جعلها اللهُ طريقًا لمعرفةِ أحكامه، وهذا أصلٌ عظيمٌ من أصول هذا الدين(4)، وعليه فإنَّ القولَ على الله بغير علمٍ محرمٌ، لقوله تعالى: ?وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ? [النحل: 116]، ومنه يُفْهمُ أنَّ اعتقادَ الصَّائِم أنَّ صِيامَهُ لا يَكْمُلُ أو لاَ يُجْزِئُ إلاَّ بأمورٍ يُشَرِّعُهَا لنفْسِهِ، سواء كانت «الزلابية» أو غيرَها أو يعتقِدُ أنَّ عقيقَتَهُ لا تَصحُّ و لا تَكْمُل إلاَّ بـ «الطمينة» أو غيرِها فيحتاجُ هذا التشريعُ إلى دليلٍ من صاحبِ الشريعةِ، وإلاَّ كان بدعةً إضافيةً أصلُها شرعيٌّ ونوعُ إيرادِها باطلٌ، واعتقادُ العبادةِ فيها بدعةٌ، وهذا جريًا على قاعدة: «كُلُّ مَا أُضِيفَ إلى حُكْمٍ شرعِيٍّ يحتَاجُ إلى دَليلٍ».
وهذا القولُ لم أنْفرد به بل كُتُبُ المالكيةِ طافحةٌ بذلكَ، وعلى سبيلِ المثال: ذَكَرَ ابْنُ الحَاج المالكي في «المدخل» بدعةَ اليومِ السابعِ عن الميِّت قَالَ: «عمل الزلابية أو شراؤها وشراءُ ما تُؤْكَلُ به في اليومِ السابعِ»(5)، وقال في معرِضِ ذِكْرِ بعض بدع الخروج بالجنازة: «حملُ الخبز والخرفان أمام الجنازة وذَبحُها بعْد الدفنِ وتفريقُهَا مع الخبزِ»(6)، وذَكَرَ علي محفوظ في «الإبداع» عن الطيبات المقرونة بالتشريع على وجه البدعة، قال: «ذبْحُ الجامُوسِ عنْد وُصُول الجنازةِ إلى المقبرة قبل دفنِها وتفريقُ اللحمِ على مَنْ حَضَرَ»(7)، وذَكَرَ «الخِرْفَان تُذْبَحُ عند خروج الجنازة تحت عَتَبَةِ البابِ»(8).
هذه بعض الصورِ من البدع الإضافيةِ، ولم يقُلْ أَحَدٌ أنَّ ذَبْح الخرفانِ محرَّمٌ ولا الجاموس ولا حملُ الخبز ولا أكلُ «الزلابية» ولا شراؤها أو شراءُ ما تُؤكلُ به؛ لأنَّ أصْلَها طيِّب صحيحٌ، لكن لما وردَت في أحوالٍ أو أيامٍ أو أماكنَ مخصوصةٍ على وجهِ العبادةِ والتشريعِ، مُنعَتْ مِنْ أجلِ هذا الاعتقادِ الفاسدِ الذي فيه اتهامٌ للشرعِ بالنقصانِ، وللنبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم بعدمِ تبليغهِ للرسالةِ التي كُلِّف بها، ولا شكَّ أنَّ صَاحب هذا الاعتقادِ يتقرَّب إلى الله بالمشروع وهو الصيامُ أو العقيقةُ، ويتقرَّب أيضًا بغيرِ المشروعِ؛ لأنَّ الشرعَ لم يجعل العبادةَ في هذينِ المطعومينِ من الحلوى، والواجبُ كما يكونُ العملُ مشروعًا باعتبار ذاتهِ يجب أن يكونَ مشروعًا باعتبار كيفيتهِ، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»(9)، والمعتقِدُ فيهمَا قد خلَط عملاً صالحًا وآخر سيِّئًا، وهو يعتقِدُ أنَّ الكلَّ صالح، وقد أوضَح الإمامُ أبُو إسحاقَ الشاطبي المالكي -رحمه الله- في كتابه «الاعتصام» أقوى إيضاح في الباب الخامس: «في أحكام البدع الحقيقية والإضافية والفرق بينهما»(10).
فالحاصل، أنَّه كما لا يجوز إباحةُ ما حرَّم الله بالتفصيلِ لا يجوز تحريمُ ما عفَا الله بالأصلِ العامِّ ولم يُحرِّمْه، ولا تلازمَ بين إباحةِ الطيِّباتِ بالأصل الكليِّ، ومنعها بالدليلِ الجزئيِّ على نحوِ ما فصَّلناه.
وأمَّا الرشوة فالحكم فيها -أيضًا- يدور بين الأصل العامِّ والحكم التفصيلي كما بيَّنته -مفصَّلاً- في فتوى «في حكم من صانَع بماله عند الاضطرار» تحت رقم: (207).
وأَمَّا التعريضُ فقد ذكر الإمام النووي في «الأذكار» نقلاً عن أهل العلم أنهم ضَبَطوا بابَ التعريض جمعًا بين الآثار المبيحة وغير المبيحة له على الوجه التالي: «إِنَّ دَعَتْ إلى ذلك مصلحةٌ راجحةٌ على خداع المخاطَب، أو حاجة لا مندوحة عنها إلاَّ الكذب فلا بأس بالتعريض، وإن لم يكن شيءٌ من ذلك فهو مكروهٌ، وليس بحرام إلاَّ أن يتوصَّل به إلى أخذ باطل أو دفع حقٍّ فيصير حينئذ حرامًا»(11)، هذا ما فصَّلناه لمن ابتغى الحقّ أو ألقى السمع وهو شهيد.
لكنَّ الذي كلَّف نفسَه بالردِّ وتفعيلِ الشرِّ وتسطيره -مع عدم تأدُّبه واحترامِ مَنْ يَكبُره- فأتَى بالعجائبِ حيثُ خلَط بيْن مَا هو أصلٌ عامٌّ وبينَ ما هو مُفصَّلٌ ونَسَبَ هذا لهذا، وهذا لذاك، ثمَّ رمَى به بريئًا، قال تعالى: ?وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا? [النساء: 112].
هذا، وأخيرًا فإنَّ النصيحة التي أقدِّمها في هذا المقام وجوب التبيُّن من نَقَلة الأخبار، والتثبُّت من أقوالهم، بالنظر إلى تفشِّي شهادة الزور وكتمان الحقِّ وقِلَّة التورُّع عن كثرة الكذب، فقد أَمَرَنا الله تعالى بذلك فقال: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ? [الحجرات: 6].
ومن انعكاس الحقائق وتغيُّر الأحوال ما هو مشاهَدٌ في هذا الزمن من استئثار الأسافل بالأمور، وارتفاع الأراذل في المقام، وإسناد الأمر إلى غير أهله، وتكلُّم من لا يهتمُّ بدينه في غير فَنِّه، وذلك من علامات الساعة، فقد روى أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «إِنَّهَا سَتَأَتْيِ عَلَى النَّاس سِنُون خَدَّاعَة، يُصَدَّق فيها الكاذِب، ويُكَذَّبُ فيها الصادِقُ، ويُؤْتَمَنُ فيها الخَائِنُ، ويُخَوَّنُ فيها الأَمِينُ، ويَنْطِقُ فيها الرُوَيْبِضَةُ، قيل: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قال: «السَّفِيهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ العَامَّةِ».
نسأل اللهَ تعالى أن يحفظَ لنا عقولَنا ويسدِّد لنا خُطانا وأقوالنا ويُثبتَنَا بالقولِ الثابتِ في الحياة الدنيا والآخرة، ويحشُرنَا مع المتقينَ أهلِ العدلِ والدِّينِ.
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 04 رمضان 1429ه
الموافق ل: 04 سبتمبر 2008م
__________
1- أخرجه الترمذي في «سننه» كتاب اللباس، باب ما جاء في لبس الفراء: (1726)، وابن ماجه في «سننه» كتاب الأطعمة، باب أكل الجبن والسمن: (3367)، والحاكم في «المستدرك»: (7115)، والبيهقي في «السنن الكبرى»: (19873)، من حديث سلمان رضي الله عنه. وصحَّحه الألباني في «صحيح الجامع»: (3195).
2- أخرجه ابن ماجه في «سننه» كتاب الأحكام: (2430)، وأحمد في «مسنده»: (23462)، من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه. وصحَّحه الألباني في «إرواء الغليل»: (896).
3- أخرجه ابن ماجه في «المقدمة» باب اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (5)، من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، والحديث حسَّنه الألباني في «السلسلة الصحيحة»: (688)، وفي «صحيح الجامع»: (9).
4- انظر: «إعلام الموقعين» لابن القيم: (1/50-51)، و«أضواء البيان» للشنقيطي: (7/162-173).
5- «المدخل» لابن الحاج: (3/292).
6- «المدخل» لابن الحاج: (3/366-367).
7- «الإبداع» للشيخ محفوظ: (114).
8- المصدر السابق.
9- أخرجه مسلم في «صحيحه» كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور: (4493)، من حديث عائشة رضي الله عنها، وقد اتفق الشيخان على إخراجه بلفظ «من أحدث من أمرنا ما ليس منه فهو رد».
10- انظر: «الاعتصام» للشاطبي: (1/286).
11- «الأذكار للنووي» (338) باب التعريض والتورية.(11/12)