الكتاب : فتاوى الشيخ أبي عبد المعز محمد علي فركوس الجزائري
المصدر: موقع الشيخ: http://www.ferkous.com/
الكتاب مرتب على حسب الترتيب الجديد لموقع الشيخ * التبويب الفقهي للفتاوى الشرعية *.
كل فتوى في صفحة وعددها: 994 فتوى وصفحة.
قام بإعداده للشاملة: أبوحذيفة يوسف الفضالي -غفر الله له ولوالديه-.
- الجزائر حرسها الله-.
لا تنسونا من دعائكم.(/)
****************** 01- فتاوى العقيدة ******************
01- التوحيد وما يضاده
01- الربوبية
الفتوى رقم: 20
كيفية الردِّ على من أنكر قدرة الله على خلق المستحيل
السؤال: عندنا أستاذُ فلسفةٍ في الثانوية من مدينة «عنابة » يسأل التلاميذ:« إذا كان اللهُ قادرًا على كلّ شيء فهل يستطيع أن يخلق إلهًا أقوى منه أو مثله » فكيف نردّ عليه؟.
الجواب: الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فاللهُ سبحانه وتعالى قادرٌ على أن يخلق كلَّ شيء بدون استثناءٍ ممّا يسبقه العدم القابل للخلقة، وهو ما يسمَّى بالممكن الجائز كالعالَم وسائرِ أجزائه، أمّا واجب الوجود، وهو الله سبحانه وتعالى وصفاتُه الذاتية القائمة به، فهو الموجود الذي لم يَسبِقْ وجودُه عدمٌ، ووجوده من ذاته لذاته لا من سبب خارج ولا لِعِلَّةٍ خارجة، وهو معنى قوله تعالى:( هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ ) [الحديد: 3]، أي ليس قبله شيء ولا بعده شيء، لذلك لا يجوز أن يقال: إنّ الله يخلق ذاتَه؛ لأنّ الخلقَ هو إيجاد الشيء من العدم، والله تعالى لم يسبق وجودَه عدمٌ، كما أنّ الذي يقبل الخلقة مفتقر في وجوده إلى سبب مؤثّر فيه خارج عن ذاته، وما كان يسبقه العدمُ ويقبل الخلقة لا يكون مثل الله سبحانه ولا أقوى منه أبدًا. تعالى الله عمّا يقولون. والأصل عدم التعرّض لمثل هذا، وهذا الرجل الذي يريد أن يثير الفتن سفسطائي مُغالِطٌ يُلقي الشُّبَهَ والشكوكَ ويريد أن يُزَحْزِحَ العقيدةَ السليمة لتلامذته، والواجب الحذر منه ومن الفلسفة اليونانية ومن أصحابها ومريديها.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.(1/1)
الفتوى رقم: 906
في العلاقة التلازمية بين أنواع التوحيد
السؤال:
هل من تفصيلٍ في العلاقة بين توحيدِ الربوبية وتوحيدِ الأُلوهية وكذا توحيد الأسماء والصفات؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فاعلم أنَّه لا يكمل لأحد توحيدُه إلاَّ باجتماعِ أنواعِ التوحيدِ الثلاثةِ وهي: توحيدُ الربوبيةِ، والأسماءِ والصفاتِ، والألوهيةِ، فلا ينفعُ توحيدُ الربوبيةِ بدونِ توحيدِ الألوهيةِ، ولا يقومُ توحيدُ الألوهيةِ بدونِ توحيدِ الربوبيةِ، ولاَ يَسْتَقيمُ تَوحيدُ الله في رُبُوبيتِهِ وأُلُوهِيَتِهِ بِدُونِ توحيدِه في أسمائِه وصفاتِه(1)، فهذِه الثلاثةُ متلازِمَةٌ يُكَمِّلُ بعضُهَا بعضًا، ولا يَسَعُ الاستِغْناءُ بِبعضِها عن البعْضِ الآخرِ، فالعلاقَةُ الرابطةُ بينَ هذِه الأقسامِ هي علاقةُ تلازُمٍ وتضمُّنٍ وشُمُولٍ.
فتوحيدُ الربوبيةِ يستلْزِمُ توحيدَ الألوهيةِ، ومَعْنى ذلكَ أنَّ تَوحيدَ الألوهيةِ خَارجٌ عَن مَدلُولِ توحيدِ الربوبيةِ، فلا يتحَقَّقُ توحيدُ الربوبيةِ إلاَّ بتوحيدِ الألوهيةِ، أي: أنَّ تَوحيدَ الربُوبيةِ لا يُدْخِل مَنْ آمن بِه في الإسْلاَمِ، بِخلافِ تَوْحِيدِ الألُوهِيةِ فَإنَّه يَتَضمَّنُ تَوْحيدَ الربوبيةِ(2)، أي: أنَّ توحيدَ الربوبيةِ جزْءٌ مِن معنى توحيدِ الألُوهيةِ فالإيمانُ بتوحيدِ الألُوهيةِ يُدْخِلُ في الإسلامِ.
فيتقَرَّرُ عِنْدئذٍ أنَّ توْحيدَ الربُوبيةِ عِلْمِيٌّ اعْتِقَادِيٌّ، وتَوحِيدُ الألُوهيةِ عَمَلِيٌّ طَلَبِيٌّ، والعمليُّ متضَمِّنٌ للعِلْمِيِّ؛ ذلك لأنَّ متعلّقاتِ الربوبيةِ الأمورُ الكونيةُ، كالخلقِ والرِّزقِ، والتدبيرِ والإحياءِ، والإمَاتَةِ وغيرِ ذلكِ، بينَمَا مُتعلّقَاتُ تَوحِيدِ الألُوهِيةِ الأوامِرُ والنواهِي، فإذَا عَلِم العَبْدُ أنَّ الله ربُّهُ لا شَرِيكَ لَه في خَلْقِه وأسمائِه وصفاتِه ترتَّبَ عنه أن يعمَلَ عَلى طاعتِه وامتثالِ أوامرِه واجتنابِ نواهِيهِ، أي: يعْمَلَ عَلَى عبادتِه(3)، ومنهُ يُفْهَم أنَّ عبادَةَ اللهِ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ هِي نتيجةٌ لاعترافٍ أَوَّليٍّ بأنَّه لا ربَّ غيرُ الله يُشْرِكهُ في خلْقِهِ وأَمْرِه، أي: تَعلّقُ القَلْبِ ابتداءً بتوحيدِ الربوبيةِ ثمَّ يَرتَقِي بعدهَا إلى توحيدِ الألوهيةِ، ولهذا قال ابنُ القيِّم:« إنَّ الإلهية التي دعت الرسل أُممَهم إلى توحيد الربِّ بها هي العبادة والتألُّه، ومن لوازمها توحيد الربوبية الذي أُمر به المشركون فاحتجَّ الله عليهم به، فإنَّه يلزم من الإقرار به الإقرار بتوحيد الألوهية »(4)، ومعنى كلامِ ابن القيِّمِ أنَّ الله تعالى احتَجَّ على المشْرِكينَ بتوحِيدِ الربوبيةِ عَلى توحيدِ الألوهيةِ والعبادةِ ولا العكسُ، ومنْهُ يُفْهمُ -أيضًا- أنَّ توحيدَ الربوبيةِ والأسماءِ والصفاتِ وحدهُ لا يكفِي لإدْخَالِ صاحبِه في الإسلامِ ولا يُنْقِذُه من النَّارِ، ولا يَعْصِمُ مالَه ودَمَهُ إلاَّ بتوحِيدِ الألوهيةِ والعبادةِ.
أمَّا توحيدُ الأسماءِ والصفاتِ فهو شَاملٌ للنوعينِ معًا (توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية)؛ وذلك لأنَّه يقومُ على إفرادِ الله تعالى بكلِّ مَا لَهُ منَ الأسماءِ الحسْنَى والصِّفاتِ العُلَى التي لا تُبْتَغَى إلاَّ لهُ سبحانَه، والتي من جُمْلتِها: الربُّ، الخالقُ، الرَّازِقُ، الملِكُ وهذا هو توحيدُ الربوبيةِ، وكذلِك من جُمْلتِها: الله، الغفُورُ، الرَّحيمُ، التوَّابُ، وهذا توحيد الألوهيةِ(5).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 14 جمادى الأولى 1429ه
الموافق ل: 19 ماي 2008م
__________
1- «الكواشف الجلية » للسلمان: (422).
2- «شرح العقيدة الطحاوية » لابن أبي العزّ: (1/41).
3- انظر المصدر السابق: (1/42)، «دعوة التوحيد » لهراس: (83، 84).
4- «إغاثة اللهفان »: (2/135).
5- «الكواشف الجلية » للسلمان: (442)، «دعوة التوحيد » لهراس: (84).(1/2)
02- الأسماء والصفات
الفتوى رقم: 5
هل صفات الله تعالى الفعلية توقيفية أم لا ؟.
السؤال: إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، أمّا بعد:
فشيخنا -حفظكم الله تعالى- نرجو من الله عز وجلّ أن يبارك في عمركم ونسأله تعالى أن تصل رسالتنا هذه إليكم وأنتم في أحسن الأحوال وما ذلك على الله بعزيز.
فإنّه ممّا لا يخفي عليكم -حفظكم الله- شؤم الجهل وقبحه، وأنّه يفعل في صاحبه ما الله به عليم، وشفاؤه كما قال عليه الصلاة والسلام:" السؤال"(1).
لذا ارتأينا نحن الإخوة من بلعباس أن نسألكم عمّا أشكل علينا:
إنّه قد ورد كلام للإمام ابن الصلاح في كتابه "صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط وحمايته من الإسقاط والسقط" قوله -رحمه الله-: (إنّ الأمر في إضافة الأفعال إليه سبحانه واسع حتى لا يتوقف فيها على التوقيف كما يتوقف عليه في أسمائه وصفاته، ولذلك توسع النّاس قديما وحديثا في ذلك في خطبهم وغيرها) أهـ.
موضع الإشكال أنّه -حفظكم الله- الصفات نوعان: صفات الذّات وصفات الفعل وكما يتوقف في صفات الذّات كذلك يتوقف في صفات الفعل، وعلى هذا فما هو توجيه كلام الإمام ابن الصلاح -رحمه الله تعالى-؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فمراد ابن الصلاح -رحمه الله تعالى- أنّه يجوز إضافة الأفعال إليه سبحانه إذا كانت صفة كمال وإضافتها إليه من باب الإخبار عنه سبحانه وتعالى فإنّه لا يتوقف فيها على التوقيف، فما كان على الكمال فتقيد به، وما كان من باب الإخبار فهو أوسع ممّا يدخل في باب أسمائه على ما أفاده ابن القيم -رحمه الله تعالى- في "البدائع"(2) فصفة المريد والصانع والفاعل هي صفات أفعال كمالية لا تدخل في أسمائه بل تقيد بالكمال إخبارًا عنه بتلك الصفة، ولذلك استعمل ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في بعض المواضع من "المجموع" وصف القديم -وهو المتقدم على غيره- وإن لم يدخل في أسمائه إلاّ أنه استعمله مخبرًا عنه سبحانه، فباب الإخبار عنه سبحانه وتعالى أوسع من أسمائه وصفاته التوقيفية.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلم تسليما.
__________
1- أخرجه أبو داود كتاب الطهارة باب في المجروح يتيمم (336)، والدارقطني في سننه (744)، والبيهقي (1115)، عن جابر رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:" فإنّما شفاء العيِّ السؤال". وأخرجه أبو داود في الطهارة (337)، وابن ماجه في الطهارة وسننها (615)، والدارقطني (745)، والدارمي (777)، والبيهقي (1114)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال ابن الملقن في "البدر المنير"(615/2):" إسناد رجاله ثقاة"، وقال أحمد شاكر في تحقيقه لمسند أحمد (22/5):" إسناده صحيح" وحسنه الألباني في تمام المنة (ص 131)، وفي صحيح سنن أبي داود (336).
2- بدائع الفوائد لابن القيم (1/161).(1/3)
الفتوى رقم: 7
اسم الخالق
السؤال: هل اسم الله "الخالق" من الأسماء الخاصة؟ وما معنى قوله تعالى:( التي لَمْ يُخْلَقْ مِِثلُهَا في البلاَدِ )[الفجر:8] ؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فاسم "الخالق" مختص بالله تعالى ولا يجوز التسمي بأسماء الله تعالى المختصة به والتي لا تليق إلاّ له سبحانه كالرّحمن والقدوس والخالق، وغيرها من الأسماء ويلحق بها شاهان شاه وقاضي القضاة، وما شابههما.
أمّا قوله تعالى:( التي لَمْ يُخْلَقْ مِِثلُهَا في البلاَد )[الفجر:8]، أي تلك القبيلة وهي "إِرَمَ" من عاد الأولى ذات البناء الرفيع الذين كانوا يسكنون بالأحقاف بين عُمان وحضرموت تلك القبيلة لم يخلق الله مثلهم في قوتِهم وشدتهم وضخامة أجسامهم.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلم تسليما.(1/4)
الفتوى رقم: 21
الدعاء بصفات الله تعالى
السؤال: ذكر سماحة الشيخ ابن باز:'' أنّ دعاء الصفة لا يجوز قولاً واحدًا لأهل السنة '' كيف نجمع بين هذا الكلام وحديث النبي صلى الله عليه وسلم:" يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث"(1)؟.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فاعلم أنّ الرحمة المضافة إلى الله تعالى على قسمين:
- إضافة المفعول إلى الفاعل، أو إضافة المخلوق إلى الخالق، فهي رحمة مخلوقة، ومنه قوله تعالى:( وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا )[فصلت:50]، وقولُه تعالى:( وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً )[هود:9]، ومنه تسمية المطر رحمةً كقوله تعالى:( وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ )[الأعراف:57]، وفي الحديث:" احتجّت الجنة والنار، فقالت النار: فِيَّ الجبّارون والمتكبِّرون، وقالت الجَنَّة: فِيَّ ضعفاء الناس ومساكينهم. فقضى الله بينهما: إنّك الجنة رحمتي أرحم بكِ من أشاء، وإنّك النار عذابي أعذب بكِ من أشاء، ولكليكما عليّ ملؤها"(2)، وقوله صلى الله عليه وسلم:" أنزل رحمةً من رحمتك "(3).
- وأمّا القسم الثاني فهو مضاف إليه إضافة صفة إلى موصوف ومثله قوله تعالى:( إِنّ رَحمةَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ المحسْنِينَ )[الأعراف:56]، وقوله صلى الله عليه وسلم:" يا حيّ يا قيوم برحمتك أستغيث".
هذا، والدعاء بصفة من صفات الله تعالى المضافة إليه كالرحمة والقوة والعزة والكلام لا يجوز ذلك شرعًا، والمتعبّد بصفة من صفاته لم يكن متعبّدًا لله عز وجل الموصوف بجميع الصفات؛ لأنّ الصفة غير الموصوف، فعزة الله ليست هي الله عز وجل، والعبد مأمور بعبادة رب العالمين كما قال تعالى:( قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِين )[الأنعام:162]. وإذا كان هذا غير جائز في الصفة المضافة إلى موصوف فإنّ الدعاء بالصفة المخلوقة من باب أولى في التحريم و المنع باعتبار كونه شركًا.
وهنا ينبغي لَفتُ النظر إلى أنّ الصفة إن أُوتِي بها لوحدها في الدعاء أو كانت مضافة إلى لفظ الجلالة، ويدعو العبد بتلك الصفة على أنّها هي الفاعلة دون الموصوف فلا يجوز، كقول القائل: (يا عزة الله أعزيني)، (يا قوة الله قويني)، (يا رحمة الله ارحميني)، فكانت الصفة هاهنا هي الفاعلة والمؤثِّرة دون الموصوف، لأنّ التعبد بصفة من صفاته لم يكن متعبّدا لله تعالى، لأنّ الله تعالى موصوف بجميع الصفات كما في حديث:" يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث"، فلا يُفهم منها أنّ الصفة هي الفاعلة دون الموصوف وإنّما المؤثِّر هو الله تعالى المُتَّصِف بصفات الكمال منها الحياة والقيومية وهي من أسمائه سبحانه وتعالى.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليما.
__________
1- أخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة (46)، وكذا النسائي (381/570)، والبزار في مسنده (4/25/3107)، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضي الله عنها:" ما يمنعك أن تسمعي ما أوصيك به؟ أن تقولي إذا اصبحت وإذا أمسيت: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث وأصلح لي شأني كلّه ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا"، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1/449).
2- أخرجه مسلم في الجنة (2847)، وأحمد (12073)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
3- أخرجه أبو داود في الطب (4892) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (5422).(1/5)
الفتوى رقم: 22
تفسير المَلال، وحكمه على الله
السؤال: ما معنى حديث:« إِنَّ الله لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا »؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فهذا الحديث أخرجه البخاري في الإيمان: باب أحبُّ الدين إلى الله أدومه، ومسلم في صلاة المسافرين: باب أمر من نعس في صلاته من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي امرأة حسنة الهيئة، فقال: من هذه؟ قلت: هي فلانة بنت فلان، وهي يا رسول الله لا تنام الليل، فقال:« مَهْ، خذوا من العمل ما تطيقون، فإنّ الله لا يَمَلُّ حتى تَمَلُّوا، وأحبُّ العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبُه وإن قلّ »(1).
والمَلال: هو استثقال الشيء ونفور النفس عنه بعد محبته، وهو يُفضي إلى الترك؛ لأنّ مَن ملّ شيئًا تركه وأعرض عنه.
وقد تباينت تفاسير معنى قوله صلى الله عليه وسلم:« فإن الله لا يمل حتى تملوا » ومردُّها إلى التحقيق في حرف "حتى" في الحديث، فمن حملها على انتهاء الغاية فسّر معناها على وجهين:
الأول: إنّ الله لا يقطع عنكم فضله حتى تملوا سؤاله فتزهدوا في الرغبة إليه.
الثاني: إنّ الله لا يترك الثواب والجزاء ما لم تملوا من العمل، فكان بهذا الاعتبار معنى "الملال": الترك لأنّ مَن ملّ شيئًا تركه فكنَّى بالملال عن الترك لأنّه سببه، فسمي ذلك من باب تسمية الشيء باسم سببه، ولو ثبت حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعا:« اكلفوا من العمل ما تطيقون، فإنّ الله لا يمل من الثواب حتى تملوا من العمل » لكان تفسيرًا لمعناه، لكن في سنده موسى بن عبيدة وهو ضعيف كما ذكر الحافظ في الفتح(2)، وقال في موضع آخر:" أخرجه الطبري في تفسير سورة المزمل، وفي بعض طرقه ما يدل على أنّ ذلك مدرج من كلام بعض رواة الحديث"(3).
هذا، ومنهم من حمل "حتى" بمعنى "الواو" ويكون التقدير: لا يمل وتملون، فنفى عنه الملل وأثبته لهم، ومنهم من حملها بمعنى "حين" أي: لا يمل الله حين تملون، وقد جعلها بعضهم بمعنى "إنَّ" وتقديره:" إنّ الله لا يمل وإن مللتم"، وهو ما ذكره البغوي في"شرح السنة" وقال:" بأنّ الملال على الله لا يجوز"(4)، ونقل الحافظ في "الفتح" الاتفاق على أنّ الملال على الله محال.
قلت: إن كانت دلالة الحديث مثبتةً لوصف الملل على الله تعالى فينبغي حمله على وجه يليق بجلاله سبحانه وتعالى من غير أن يتضمَّن شيئا من النَّقص أو العيب الذي يعتري حال الإنسان، ذلك لأنّ الصفات المذمومة من البشر لا يقتضي نفيها عن الله تعالى جريًا على قاعدة أهل السنة والجماعة أن يوصف الله تعالى بما وصف به نفسه وبما وصفته به رسله إثباتًا بلا تمثيل، وتنزيهًا بلا تعطيل لأنّ الله تعالى لا شبيه له في ذاته ولا صفاته ولا أفعاله، ولا يلزم من تماثل الشيئين في الاسم والصفة أن يتماثلا في الحقيقة، فلا يجوز أن يقاس بخلقه، لأنّ القياس إنّما يكون للنظيرين، والله سبحانه لا نظير له، فقد يحسن منه ما لا يجوز للبشر الاتصاف به كالعظمة والكبرياء، وقد يحسن من خلقه ما ينزّه عنه سبحانه كالعبودية.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليما.
__________
1- أخرجه البخاري في الإيمان (43)، ومسلم (1870)، وأبو داود في التطوع (1368)، والنسائي في القبلة (762)، وابن ماجة (4238)، ومالك في الموطأ (258)، وأحمد (24853)، والحميدي في مسنده (191)، والبيهقي (4925)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
2- فتح الباري (1/137- 138).
3- فتح الباري (3/48).
4- شرح السنة للبغوي (4/49).(1/6)
الفتوى رقم: 27
في صِحَّة تعداد اسم «المعزّ » من أسماء الله تعالى
السؤال: هل اسمُ «المعزّ » من أسماء الله الحُسْنَى؟
الجواب: الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فاسمُ «المُعِزِّ » يختلف ثبوتُه باختلاف صحّة الروايات في سَرْدِ الأسماء الحسنى المثبتة لهذا الاسم ولغيره أو ضعفها، فمن حَكَم على هذه الروايات جميعِها بالضعف إمّا من جهة السَّنَدِ أو المتن أو كليهما، فإنّه لم يُثْبِتْ هذا الاسمَ؛ لأنَّ أسماء اللهِ لا تثبت إلاّ بنصٍّ، ولم يصحَّ حديثٌ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّمَ في حصر الأسماء بعدد معيَّن، ولا في تعيين الأسماء الواردِ فضلها يمكن أن يحتجّ به، وإن ورد ذلك الاسم في الصفة إلاَّ أنه يدلُّ على معنًى قائمٍ بالذات فقط ولا يشتقّ الاسم من تلك الصفة.
أمّا من صحَّح هذه الروايات وخاصّة الرواية المشهورة عن الوليد بن مسلم عن شعيب ابن أبي حمزة التي عوَّل عليها غالب من شرح الأسماء الحسنى كابن مَنْدَهْ وابن العربي والبيهقي، وغيرهم والتي أخرجها الترمذي في سننه(1)، فقد أثبت اسم «المعز »، وجعله من أسماء الله الحسنى، وممّن صحّح الحديث ابن حبان والحاكم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وحسّنه النوويُّ في الأذكار، وأيَّده الشوكاني في «تحفة الذاكرين » حيث قال:« ولا يخفاك أنَّ هذا العدد قد صحّحه إمامان، وحسّنه إمام، فالقول أنَّ بعض أهل العلم جمعها من القرآن غير سديد، ومجرّد بلوغ واحد أنّه رفع ذلك لا ينتهض لمعارضة الرواية، ولا تُدفع الأحاديث بمثله، وأمّا الحديث الذي ذكره [أي: ابن كثير] عن الإمام أحمد، فغايته أنَّ الأسماء الحسنى أكثر من هذا المقدار، وذلك لا ينافي كون هذا المقدار هو الذي ورد الترغيب في إحصائه وحفظه، وهذا ظاهر مكشوف لا يخفى »(2).
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 28 محرم 1427ه
الموافق ل: 27 فبراير 2006م
__________
1- أخرجه الترمذي في «الدعوات »: (3849)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2- «تحفة الذاكرين » للشوكاني: (70).(1/7)
الفتوى رقم: 239
في إمكان إثبات لفظ «القديم » كاسم لله تعالى
السؤال: قرأتُ في أجوبتِكَ على المسائل الاعتقادية أنّ لفظ «القديم » يُطْلَقُ من باب الإخبار عن الله جلّ في علاه لا من باب الصفات التوقيفية، ألا يمكن القول أنّ لفظ «القديم » ممّا وصف به نفسه، وهذا للدعاء الوارد عن النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّمَ عند دخول المسجد:« أَعُوذُ بِاللهِ العَظِيمِ وَبِسُلْطَانِهِ القَدِيمِ… »(1). وبما أنّ سلطانَه جلّ وعلا من صفاته الذاتية وهي موصوفة بالقِدَم. فنقول أنّ الله موصوف بالقِدم تطبيقًا للقاعدة: الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات. أفيدونا -رعاكم الله-.
الجواب: الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فاعلم أنّ أسماءَ الله تعالى توقيفيةٌ، أي تَثْبُتُ من نصوص الكتاب والسُّنَّة، كما أنّ الاسم يُشتقُّ منه الصّفة والفعل، ولا يُشتقُّ من الصّفة والفعل اِسمًا كما هو معروف في قواعد أهل السُّنَّةِ والجماعة، ذلك لأنّ باب الصفات أوسعُ من باب الأسماء. وعليه، فإنّ الاسم إذا أُطلق عليه جاز أن يشتقَّ منه المصدر والفعل، فيُخْبَرُ به عنه فعلاً ومصدرًا إن كان متعدِّيًا، كاسم الله «السميع »، فَوُرُودُهُ في القرآن والسُّنَّة مراده التسمي، كما في قوله تعالى: ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ? [الشورى: 11]، وهو من الفعل المتعدِّي سَمِعَ، قال تعالى: ?قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا? [المجادلة: 1]، ويقال في غير القرآن سَمِع اللهُ ويَسْمَعُ فلانًا، ويشتقُّ منه المصدر (سمع) فيقال مخبرًا به: للهِ سَمْعٌ، وسَمْعُ اللهِ مُحِيطٌ بجميع مخلوقاته، فَإِنْ كان الفعل لازمًا لم يخبر به عنه بل يُطلق عليه الاسم والمصدر دون الفعل، كاسم الله (الحي) فلا يخبر عنه بفعله، أمّا المصدر والاسم منه فيجوز الإخبار بهما فيقال: اللهُ حَيٌّ، والحيُّ هو اللهُ(2)، واسم «القديم » فمراد أهل السُّنَّة بأنه لم يُسبَق بِعدَم أي: غير مخلوق؛ فمقصوده واجب الوجود، وهو معنى قوله تعالى: ?هُوَ الأَوَّلُ? [الحديد: 3]، وفي قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّمَ:« اللَّهُمَّ أَنْتَ الأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ »(3)، وليس «القديم » من أسماء الله الحسنى، وإنّما أدخله المتكلِّمون في أسمائه، لكن العرب لم يستعملوا هذا الاسم إلاّ في المتقدِّم على غيره لا فيما لم يسبقه عدم، فإذا وجد جديد قيل للأول قديم كما قال تعالى: ?حَتَّى عَادَ
كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ? [يس: 39]، فالعرجون القديم الذي يبقى إلى حين وجود العرجون الثاني(4) ثمّ استعمل «القديم » بمعنى غير مخلوق وهو واجب الوجود في مقابلة «الحادث » وهو ممكن الوجود وهو ما كان وجوده بعد العدم ومعناه أنّه مخلوق.
وعليه، يكون لفظ «القديم » من باب الإخبار لعدم وروده في الكتاب والسُّنَّة، ولا يكون اسمًا لأنّ باب الأخبار أوسع من باب الصّفات، وباب الصفات أوسع من باب الأسماء. أمّا لفظ:« سلطان » فهو بمعنى القوّة والقهر، وهو في الحديث من باب إضافة الصفة إلى الموصوف فيكون من الصفات الذاتية اللازمة التي لم يشتقّ لها اسم، فلا يمكن تسميته تعالى بما لم يُسمِّ به نفسه فلا يقال «سليط ».
أمّا قاعدة:« القَوْلُ فِي الصِّفَاتِ كَالقَوْلِ فِي الذَّاتِ، وَالقَوْلُ فِي بَعْضِهَا كَالقَوْلِ فِي البَعْضِ الآخَرِ » فهي متعلِّقةٌ بقواعد الردِّ والمناظرة، وهي غير واردة هنا لأنّها تتعلّق بشقَّين:
- الأول: بيان بطلان التكييف وهو حكاية حقيقة الصفة كما هو متَّصف بها تعالى.
- والشقُّ الثاني: بيان بطلان التمثيل وهو: دعوى إثبات المساواة له بالمخلوقات، فيكون ردًّا على الأشاعرة القائلين بنفي بعض الصفات، والمعتزلة القائلين بنفي الصفات، والجهمية بنفي الأسماء والصفات، فكانت القاعدة متعلِّقة بإثبات أسماء الله وصفاته من غير تكييف ولا تشبيه ولا تحريف ولا تعطيل، فكما نقول في ذاته: ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ? [الشورى: 11]، فكذلك نقول في الصفات الذاتية أو الصفات الفعلية، كما أنّها تستعمل في الردّ على مَنْ أثبتَ بعض الصّفات ونفى بعضها أو أثبت ذاتًا ولم يثبت صفةً.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
__________
1- أخرجه أبو داود في «الصلاة »: (466)، وصحَّحه الألباني في «صحيح الجامع »: (4715 ).
2- انظر: معنى هذه القاعدة في:« بدائع الفوائد » لابن القيم: (1/162).
3- أخرجه مسلم في «الذِّكر »: (2713)، والبخاري في «الأدب المفرد »: (1212)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
4- شرح العقيدة الطحاوية لأبي العز الحنفي: (1/77).(1/8)
الفتوى رقم: 264
في صفة يدي الله سبحانه وتعالى
السؤال: كيف الجمع بين هذين الحديثين:« إِنَّ المُقْسِطِينَ عَلَى مَنَابِرَ عَلَى يَمِينِ الرَّحْمَنِ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ » أخرجه مسلم، وجاء في صحيح مسلم لفظة الشمال:« ثُمَّ يَطْوِي الأَرَضِينَ بِشِمَالِهِ »، ويندرج تحت هذا السؤال: هل يقال للرحمن جلّ وعلا: يمين وشمال؟
الجواب: الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَن أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يومِ الدِّين، أمّا بعدُ:
فإنّ منهجَ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ إثباتُ ما أثبته اللهُ لنفسه من الأسماء الحسنى والصفات العُلَى وما أثبته له رسولُه صَلَّى اللهُ عليه وآلِه وَسَلَّم الذي لا ينطق عن الهوى، إثباتًا بلا تكييفٍ ولا تمثيلٍ، وتَنْزيهُهُ سبحانه عن مشابهة خلقه تَنْزيهًا بلا تَأويلٍ ولا تعطيل، وهذا من الأمور التي أَجْمَعُوا عليها واتفقت عليها كلمتهم، فَيَدَا الله سبحانه اثنتان بلا ريب كما وردت فيه النصوص الشرعية من ذلك قوله صَلَّى اللهُ عليه وآلِه وَسَلَّم:« إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَبَضَ قَبْضَةًَ بِيَمِينِهِ فَقَالَ: هَذِهِ لِهَذِهِ وَلاَ أُبَالِي، وَقَبَضَ قَبْضَةً أُخْرَى -يعني بيده الأخرى- فَقَالَ: هَذِهِ لِهَذِهِ وَلاَ أُبَالِي »(1)، وأنّ كلمة «بشماله » الثابتة في رواية مسلم في صحيحه:« ثُمَّ يَطْوِي الأَرَاضِينَ السَّبْعَ ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِشِمَالِهِ »(2)، فإن كانت محفوظةً فالواجب إثباتها ولا تعارض يحصل مع قوله صَلَّى اللهُ عليه وآلِه وَسَلَّم:« كِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ »(3)؛ لأنَّ المراد أنّ شماله سبحانه ليست بأَنْقَصَ عن يمينه كما هو شأن المخلوق بل إنّ كِلْتَا يديه يمين فقوله صَلَّى اللهُ عليه وآلِه وَسَلَّم واصِفًا المقسطين أنّهم على منابر من نور لبيان فضلهم أنّهم على يمين الرحمن، وليست يمينه سبحانه بأفضل من شماله ولا شماله سبحانه بأنقص عن يمينه بل كِلْتَا يديه يمين.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصَحْبِه وإخوانِه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 30 جمادى الثانية 1426ه
الموافق ل: 5 أوت 2005م
__________
1- أخرجه أحمد: (18060)، والبزار: (3/20)، من حديث أبي عبد الله رجل من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عليه وآلِه وَسَلَّم، وصحَّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة »: (50).
2- أخرجه مسلم في «صفة القيامة والجنة والنار »: (7228)، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
3- أخرجه مسلم في «الإمارة »: (4825)، والنسائي في «آداب القضاة »: (5396)، وأحمد: (6648)، والحميدي: (616)، والبيهقي: (20657)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.(1/9)
الفتوى رقم: 265
في اعتبار التردُّد صفة لله عزّ وجلّ
السؤال: جاء في الحديث المشهورِ الذي رواه البخاري:« مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا… » في آخره:« وَمَا تَرَدَّدْتُ فِي شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ »، فهل يعتبر التردُّد صفةً لله عزّ وجلّ؟
الجواب: الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فإنّ حقيقةَ التردّد أن يكون الشيءُ الواحدُ مُرادًا من وجهٍ مكروهًا من وجهٍ مع لزوم ترجيح أحد الجانبين، مثل إرادة المريض لدوائه الكريه وحصول الترجيح بتناوله مع كُرْهِهِ له، وكذلك ترجيح القتال مع كرههم له أو التزام الطاعات مع حصول المكاره في قوله تعالى: ?كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ? [البقرة: 216]،
وقولِه صَلَّى الله عليه وآله وسَلَّم:« حُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ، وَحُفَّتِ الجَنَّةُ بِالمَكَارِهِ »(1)،
ومنه يتبيَّنُ أنّ الله تعالى يحبّ محبوبَه الذي يتقرَّب إليه بالفرائض والنوافل، فيحبّ ما يحبُّه ويكره ما يكرهه، فالله تعالى يكره أن يسيء لمحبوبه بالموت لأنّه يكرهه، غير أنّ الله تعالى قضى بالموت، فكلّ ما قضى به فهو يريده ولا بدّ من حصوله، وحصوله مع مساءة لمحبوبه، فصار الموت مرادًا لله تعالى من وجه، مكروهًا له من وجه وهذا معنى التردُّد مع ترجيح إرادة الموت وكراهة مساءة عبده. وضمن هذا المنظور يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-:« فبيّن -سبحانه- أنّه يتردّد، لأنّ التردّدَ تعارض إرادتين، فهو سبحانه يحبّ ما يحبّ عبدُه، ويكره ما يكرهه، وهو يكره الموت، فهو يكرهه كما قال:« وَأَنَا أَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ »(2)، وهو -سبحانه- قد قضى بالموت، فسمّى ذلك تردّدًا ثمّ بيّن أنّه لابدّ من وقوع ذلك »(3).
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 30 جمادى الثانية 1426ه
الموافق ل: 5 أوت 2005م
__________
1- أخرجه مسلم في «صفة القيامة والجنة والنار » (7308)، والترمذي في «صفة الجنة » (2757)، وأحمد (12875)، من حديث أنس رضي الله عنه
2- أخرجه البخاري في «الرقاق » (6502)، والبيهقي (21508)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
3- «مجموع الفتاوى »: (10/58-59)(1/10)
الفتوى رقم: 276
في اشتقاق بعض أسماء اللهِ وتعبيد الصفة دون الموصوف
السؤال: قرَّر الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- في «القواعد المثلى »: أنّ القولَ بأنّ أسماءَ الله كلَّها حُسْنَى معناه أنّ كلَّ اسمٍ مِنْ أسماء الله يتضمَّن صفةً، لكن وقع لي إشكال في بعض الأسماء لم أجد لها صفةً تشتقُّ منها: وهي اسم:« المتين » و«التواب »؟ وهل يجوز التعبيد للصفة بأن يقال: عبد الرحمة، عبد القدرة ؟.
الجواب: الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
ف «المتين » اسمٌ من أسماءِ الله تعالى الحُسنى ويَدُلُّ عليه قوله تعالى:( إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ الْمَتِينُ ) [الذاريات: 58]، وحديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: أقرأني رسولُ الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« إِنِّي أنا الرزاق ذو القوة المتين »، ونسبة الصفة إلى الموصوف على مراتب، وهذه المرتبة من نسبة الاسم إلى الاسم:( إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ الْمَتِينُ )، وصيغته على وزن فَعِيل ومعناه: الشديد. قاله ابن عباس رضي الله عنهما، أي: شديد الحول والقوّة، أي: الذي لا تتناقص قوّته ولا تَفتر، وهو مشتقٌّ من «المتن » وهي الشِدَّة والاقتدار، أمّا التوَّاب فهو اسمٌ من أسماء الله الحُسنى ويدلُّ عليه قوله تعالى:( أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ )[التوبة: 104]، ونسبته نسبة الاسم إلى الاسم -أيضًا- ومعناه: التّواب الذي يتوب على عباده فيوفِّقهم للتوبة ويقبل توبتهم كلّما تكرَّرت التوبة تكرَّر القَبول، قال تعالى:( ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ ) [التوبة: 118]، واللهُ تَوَّابٌ والعبد تَائبٌ، وهو مشتقٌّ من «التوب أو التوبة »، فالله يوقِعُ في قلب عبدِه التوبة إليه والإنابة إليه، فيقوم بالتوبة وشروطِها، ثمّ يقبل عليه توبته، قال تعالى:( وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ) [الشورى: 25].
ولا يخفى أنّ كلَّ اسمٍ من أسمائه الحُسنى مشتقٌّ من صِفة مستقلَّة بمعناها، فَلَه كمالٌ من كلّ اسم سمَّى به نفسَه، ومِن كلِّ صفةٍ اشتقّ منها ذلك الاسم، والتسمية ملازِمة للوصفية، وأمّا الوصفية فقد يوصف الربُّ بصفةٍ ولم يطلق عليه اسم منها، فباب الصفات أوسع من باب التسمية من جهةِ أنّ كلَّ اسمٍ له تعالى فلا بدَّ وأنّه مشتقٌّ من صفةٍ، وأمّا كلّ صفة فلا يجب أن يشتقَّ له اسمٌ منها، لأنّ دلالةَ الصفاتِ على الأسماءِ دلالةٌ لغويةٌ، واشتقاقُ الأسماءِ من الصفات أحكام شرعية فباب دلالة الصفات أوسعُ من باب اشتقاق الأسماء، هذا وإن كانت الصفات تتَّفق مع الأسماء في أن تكون توقيفيَّةً فإنّها تختلف عنها في أنَّ النصَّ ورد بذكر الاسم دون الصفة وهو أخصّ كما تقدَّم، ومن جهة أخرى أنَّ من شرط الأسماء الحُسنى أنّها تقتضي المدح والثناءَ بنفسها بخلاف الصفة فلا بدَّ من إضافتها إلى موصوفها، فاسم « الرحمن » يقتضي إطلاقَ الكمالِ بنفسه دون متعلِّق أو قَيد، بخلاف الرحمة فيلزم إضافتها إلى موصوفها ولذلك لا يجوز تعبيد الصفة دون الاسم ولا الدعاء بالصفة دون الاسم كالقوّة والعزّة والرحمة، فالمتعبِّد بصفة من صفاته لم يكن متعبِّدًا اللهَ عزّ وجلّ الموصوف بجميع الصفات؛ لأنّ الصفة غيرُ الموصوف، فعزّة الله مثلاً ليست هي الله عزّ وجلّ، وقد تقدّم الجواب على جزئية الدعاء بصفة الرحمة على أنّها هي الفاعلة دون الموصوف في فتاوى العقيدة(1).
فليراجعها.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 10 رجب 1426ه
الموافق ل: 15 أوت 2005م
__________
1- راجع الفتوى رقم (21).(1/11)
الفتوى رقم: 282
في تحقيق تأويل ابن عباس رضي الله عنهما لصفة «الساق » في الآية:( يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ ).
السؤال: ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد في تفسير آية:( يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ ) [القلم: 42]، بشدَّة الهول والأمر، ألا يُعدُّ هذا من تأويل الصفات؟ أفيدونا جزاكم الله خيرًا.
الجواب: الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فإنّ الآية يختلف تفسيرها عند السلف باختلاف إطلاق لفظة « الساق » من غير إضافتها إلى الله تعالى، أو مع إضافتها إليه سبحانه وتعالى، وبناءً عليه فإنّ لفظة:« الساق » تحتمل معنيين:
- المعنى الأول: فمن فسَّر الآيةَ بمفردها من غير إضافة « الساق » إلى الله تعالى حملها على المعنى اللغوي وهو شدَّة الهول والأمر العظيم، ولا يلزم من هذا التفسير تأويل الصفات، لأنّ الآية ليست بهذا الوجه من آيات الصفات أي: أنّها ليست دالَّة على صفة -عنده- أصلاً لأنّها لم تضف «الساق » إلى الله تعالى، وعلى هذا يحمل تفسير ابن عباس رضي الله عنهما.
- المعنى الثاني: ومن فسَّر الآية على أنّ « الساق » مضافة إلى الله تعالى، وتجريدها عن الإضافة من باب التعظيم واحتجَّ لها بحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:« يَكْشِفُ رَبُّنَا عَنْ سَاقِهِ، فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ، وَيَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ فِي الدُّنْيَا رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَيَذْهَبُ لِيَسْجُدَ فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا »(1)، كانت الآية في هذه الحالة من جملة آيات الصفات التي يجب إثباتها من غير تأويلها بشدَّة الهول وعظم الأمر خلافًا للمعطِّلة الذين حَمَلوا الآية على شدَّة الأمر مع نفيهم لصفة « الساق » مطلقًا ولا يثبتونها لا بالقرآن ولا بالسُّنة.
هذا، وعلى التفسير الثاني فلا يقتضي منافاة بين الآية والحديث، لأنّه يوم يكشف ربُّنا عن ساقه حقيقةً من غير تأويلٍ ولا تعطيلٍ ولا تشبيهٍ ولا تمثيلٍ ولا تحريفٍ، فإنّ ذلك اليوم أمر عظيم ويوم شدَّة وهول على المنافقين والكافرين لعجزهم عن السجود لربّ العالمين.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
__________
1- أخرجه البخاري في التفسير (4919)، وفي التوحيد (7439)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.(1/12)
الفتوى رقم: 617
في فرعية الكلام في الصفات عن الكلام في الذات
السؤال:
هل الجواهِرُ المفردة ممَّا يُعرفُ عند المخلوق أجزاء وأبعاض (اليد، العين، الأصابع...) صفاتٌ، عِلمًا أنّ الصفةَ تبيّن ما انبهمَ من الذوات.
فإن قلنا أنها من باب الإخبار لقولنا: لله يد، لله عين، فهل القول فيها كالقول في الصفات.
السلف قالوا بإثباتها إثبات وجود، فهل هذا الإثبات يعدو عن كونها كائنة إلى كونها معقولة لغة مجهولة الكيف؟
كيف نعقل عَلَمًا دالاًّ على اسم العين مما لا نلحظه ولا اشتراك فيه بل ما نعلمه هو تواطؤ الألفاظ لا غير؟ تكرموا علينا يا شيخ بما يشفي، مما عهدناه منكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فاعلم أنه ينبغي إثبات صفات الله تعالى الذاتية والخبرية والفعلية على الوجه اللائق بجلاله وعظمته، ونفي ما يضادّ كمال الله المقدّس، والقول في صفات الله تعالى المضافة إليه على وجه الاختصاص كالقول في الذات، والقول في بعضها كالقول في البعض الآخر؛ لأنّ الأصل في ذلك أنّ الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات ويحتذى في ذلك حذوه، إذ العلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الموصوف، ونفي العلم بكيفية الصفة يستلزم نَفْيَ العلم بكيفية الموصوف، فالذات والصفة من باب واحد، فكما أنّ ذاته سبحانه وتعالى لا يعلم أحدٌ كيفيتَها وحقيقةَ كُنْهِهَا، فكذلك أسماؤه وصفاته لا يعلم كيفيتَها أحدٌ سواه، ومردُّ العلم في باب الأسماء والصفات إلى خَبَرِ اللهِ تعالى وخبرِ رسولِه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم لانقطاع طُرُقِ العلم إلاّ من هذه الجهة، وصفاتُ الله تعالى غيبيةٌ لا يجوز مجاوزة القرآن والسنّة فيها لقوله تعالى: ?وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ? [البقرة: 169]، ولقوله تعالى: ?وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً? [الإسراء: 36]، وإذا تقرّرت غَيبتُها فإنَّ العقل لا يُدرِك منها ممَّا يجبُ لله أو يمتنع عليه إلاَّ على وجه الإجمال والعمومِ لكن حقيقتها على وجه التفصيل لا يدركها، فلا مدخل للعقل في باب الأسماء والصفات على جهة التفصيل، وتوضيح ذلك أنّ العقلَ يدرك على وجه الإجمال أنّ كلَّ صفةِ نَقْصٍ ممتنعة على الله تعالى كما يدرك أن كلَّ صفة كمال باعتبار الصفة من حيث هي صفة لا باعتبار إضافتها للإنسان فالله أحقّ بها، فإذًا العقل يدرك بأنّ الله كامل الصفات إثباتًا ونفيًا، لكن هذا لا يعني أنّ العقل يُثْبِتُ كلّ صفة بعينها أو يَنفيها، فالعقل يدرك أنّ اللهَ خالقٌ يُمتنع أن يكون حادثًا بعد العدم؛ لأنه صفة نَقص وأنّ الله
سميع بصير لأنها صفة كمال، فهو يدرك بأنّ العجز والعمى والصمم وغيرَها من النقائص لا يجوز أن يوصف الله بها إلى هذا الحدّ من العموم ينتهي إدراكه، أمّا تفصيل ذلك فهو عاجز عن إدراك حقيقته ويتوقّف فيه على الدليل السمعي ليس إلاَّ. ونقرِّب ذلك بمثال آخر، وهو أنَّ العقل يدرك على وجه الإجمال بعضَ مخلوقات الله تعالى الغَيبية كالجنَّة ونعيمِها من فاكهة ونخل ورمَّان وحور وغيرِها لكن حقيقتها تغيب عنه لقوله تعالى: ?فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ? [السجدة: 17]، ولقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم -في حديث قدسي-:« أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ »(1)، فإذا كان هذا في مخلوقاته سبحانه فكيف بصفات الخالق عزّ وجلَّ؟ لذلك وجب إجراءُ النصوص الشرعية على ظاهرها فنثبت اللازم والملزوم، فالله سبحانه وَصَفَ نفسَه بأنَّ له عينًا ويدًا ووجهًا فَنُثْبِتُ له حقيقةَ العَيْنِ والرؤيةِ اللاَّزمة لها، ونُثبت حقيقةَ اليد وما أسبغه اللهُ من النِّعم على عباده، ونُثبت له حقيقةَ الوجه كمَلزوم عن لازم ذاته سبحانه، والصفات الخبرية هذه مما تُسمَّى بالأبعاض أو الأجزاء هي ملازمة للذات غير منفكَّة عنها فلم يزل سبحانه بها ولم يحدث له شيء من ذلك بعد أن لم يكن بل هو موصوف بها أزلاً وأبدًا، فالله تعالى لم يَزل يسمع ولا يَزال كقدرته وعلمه وحياته وليس سمعه يتجدّد بل هو أزلي أولي وإنما يتجدّد المسموع، ولا يلزم من تجدّد المسموع تجدّد السمع إذ لا أثر للمسموع في صفة السمع.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في 1 محرم 1428ه
الموافق ل: 20 يناير 2007م
__________
1- أخرجه البخاري في «بدء الخلق »: (3072)، ومسلم في «الجنة وصفة نعيمها وأهلها »: (7132)، والترمذي في «التفسير »: (3197)، وابن ماجه في «الزهد »: (4328)، وابن حبان: (369)، وأحمد: (9365)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(1/13)
الفتوى رقم: 702
في حكم السؤال بوجه الله تعالى
السؤال:
ما حكم إجابة من سأل بالله أو بوجهه ؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فمن سأل أحدًا بالله أو بوجهه أجابه إلى سؤاله وإن لم يكن مستحقًّا لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« مَنْ سَأَلَ بِاللهِ فَأَعْطُوهُ »(1)؛ لأنّ في إعطائه تعظيمَ الله تعالى وتحقيقَ حاجة السائل ما لم يتضمّن السؤال إثمًا أو قطيعة رحم، أو يحدث ضررًا للمسؤول أو يسأل أمرًا قبيحًا لا يليق شرعًا، كمن يسأل بالله مالاًَ ليبتاع محرمًا كالخمر والدخان وكل ما يعود عليه بالخبث والضرر، لأنّ « التَّحْرِيمَ يَتْبَعُ الخُبْثَ وَالضَّرَرَ »، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« مَلْعُونٌ مَنْ سَأَلَ بِوَجْهِ اللهِ، وَملْعُونٌ مَنْ سُئِلَ بِوَجْهِ الله ثُمَّ مَنَعَ سَائلَهُ مَا لَمْ يَسْأَلْ هُجْرًا »(2).
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 12 ربيع الثاني 1428ه
الموافق ل: 30 أبريل 2007م
__________
1- أخرجه أبو داود في «الزكاة »: (1672)، والنسائي في «الزكاة »: (2567)، وابن حبان: (3408)، والحاكم: (1502)، وأحمد: (5342)، والبيهقي: (7982)، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. وصحّحه النووي في «الأذكار »: (458)، وأحمد شاكر في «تحقيقه لمسند الإمام أحمد »: (7/195)، والألباني في «الإرواء »: (6/60).
2- أخرجه الطبراني في «الكبير » وفي «الدعاء »: (1993)، وابن عساكر: (8/397/2)، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، والحديث حسنه العراقي في «طرح التثريب في شرح التقريب »: (4/80)، والألباني في «السلسلة الصحيحة »: (2290)، وفي «صحيح الجامع »: (5890).(1/14)
الفتوى رقم: 768
في رؤية المؤمنين الله تعالى يوم القيامة
السؤال:
نحن شبابٌ من مدينة غرداية المنتحلة -كما هو معروف- للمذهب الإباضي، أحببنا أن نسأل فضيلتَكم عن قول من ينكر رؤيةَ اللهِ تعالى يومَ القيامة، كما نرجو من السادةِ العلماءِ أن يوضِّحوا هذه المسألة ويُبيّ ِنوا الحقَّ فيها؟ وجزاكم اللهُ خيرًا.
الجواب:
فالمعتقدُ الصحيحُ ما أجمعَ عليه أهلُ الحقِّ واتفقَ عليه أهلُ التوحيد والصِّدْقِ أنّ اللهَ تعالى يراه المؤمنون بأبصارهم كما يرون القمرَ ليلةَ البَدْرِ، ويرونه كما يرون الشّمسَ ليس دونها سحاب، وقد تضافرت على مسألةِ رُؤيةِ اللهِ تعالى يومَ القيامة نصوصٌ من الكتابِ والسُّنَّة وإجماعِ السلف، قال تعالى: ?وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ? [القيامة: 22-23]، وإضافةُ النظر إلى الوجهِ الذي هو محلّه في الآية، وتعديته بأداة «إلى » صريحةٌ في نظر العين التي في الوجه إلى نفس الربّ جلّ جلاله، وبقوله تعالى: ?لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ? [يونس: 26]، وفسّر النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم «الحُسْنَى » بأنها الجنَّة، وفسّر «الزِّيَادَة » بأنها النظرُ إلى وجهِ اللهِ الكريمِ، وهو ثابتٌ في صحيح مسلم(1)، ولقوله تعالى في أصحاب الجنّة: ?لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ? [ق: 35]، وفُسِّر «المزيد » بالنظر إلى وجه الله تعالى، وبقوله تعالى عن الكفار: ?كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ? [المطففين: 15]، فالآية دلّت بمفهومها على أنّ المؤمنين ليسوا محجوبين عن الله يوم القيامة، وأنهم يرونه بالنظر إليه يوم القيامة.
أمّا الأحاديثُ المثبِتَةُ لرؤيةِ الله سبحانه يومَ القيامة فكثيرةٌ جدًّا حتى بلغت حدَّ التواتُرِ كما جَزَمَ به جَمْعٌ من الأئمّة، وقد أفردها بعضُهم لكثرتها بمصنّفات خاصّة كالدارقطني والآجري، وأبي نعيم الأصفهانيِّ والبيهقيِّ، ومن هذه الأحاديث: ما اتفق عليه الشيخان من حديث جريرِ بن عبد الله البَجَلي رضي الله عنه قال:« كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إِذْ نَظَرَ إِلَى القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ، قَالَ: إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا القَمَرَ لاَ تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لاَ تُغْلَبُوا عَلَى صَلاَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَصَلاَةٍ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَافْعَلُوا »(2).
وعن أَبي سعيدٍ الخدريِّ قال:« قُلْنَا: يا رسول اللهِ هل نرى ربَّنا يوم القيامة؟ قال: هل تضارُّون في رؤية الشمس والقَمر إذا كان صَحوًا؟ قلنا: لا، قال: فإِنكم لا تضارُّون في رؤية ربِّكم يومئذٍ إلا كما تضارُّون في رؤيتهما »(3)، أي: لا تزدحمون على رؤية الله تعالى، كلٌّ يراه وهو في مكانه؛ لأنّ الناسَ كما يرون الشمسَ والقمرَ من غير زحام وهما مخلوقان فكيف بالخالق.
قال ابن أبي العزّ الحنفي -رحمه الله-:« ليس تشبيهُ رؤيةِ الله برؤية الشّمس والقمر تشبيهًا لله، بل هو تشبيهُ الرؤية بالرؤية، لا تشبيهُ المَرئي بالمرئي، ولكن فيه دليلٌ على علوِّ الله على خلقه، وإلاّ فهل تعقل رؤية بلا مقابلة؟! ومن قال: يُرى لا في جهةٍ فليراجِعْ عقلَه!! فإمَّا أن يكون مكابِرًا لعقله أو في عقله شيءٌ، وإلاّ فإذا قال: يُرى لا أمامَ الرائي ولا خلفَه ولا عن يمينه ولا عن يساره، ولا فوقه ولا تحته رَدَّ عليه كلُّ من سمعه بفطرته السليمة »(4).
هذا، ولم ينكر الرؤيةَ إلاّ أهلُ البدع كالجهميةِ والمعتزلة، وتلتقي الإباضية -وهي إحدى فِرق الخوارج- إلى حدّ كبيرٍ مع المعتزلة في تأويل الصفات وفي إنكار رؤية الله تعالى في الآخرة وفي غيرها من المعتقدات، مجانبةً لعقيدة أهلِ الحقّ والإيمانِ. ومن شُبَهِهِم العقليةِ في إنكار الرؤية أنه يلزم من إثبات الرؤيةِ أن يكون اللهُ تعالى في جهةٍ، واللهُ تعالى في مُعتقدهم ليس في جهة، و هو عندهم لا داخلَ العالَم ولا خارجَه، ولا فوقَ ولا تحتَ ولا يَمنةً ولا يسرةً، لذلك نَفَوْا الرؤيةَ؛ لأنّ الله تعالى ليس في جهة، وهذا من أبطل الباطل؛ لأنّ هذه الأوصاف تقتضي أن يكون عَدَمًا لا وجودَ له سبحانه، ولهذا قال بعض العلماء الممثل أعشى والمعطل أعمى، فالمعطّل يعبد عدمًا والممثل يعبد صنمًا والموحِّد يعبد واحدًا صمدًا (5).
أمّا شُبهتُهم الشرعيةُ فيستدلُّون بقوله تعالى: ?لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ? [الأنعام: 103]، على أنه لا تراه الأبصار، وبقوله تعالى عن موسى: ?رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي? [الأعراف: 143]، دليل على نفي الرؤية. ولا يخفى أنّ نفيَ الرؤيةِ في الآيتين إنّما يفيدُ نفيَهما عنه سبحانه في الدنيا، والأدلةُ السابقةُ تدلّ على إثباتها في الآخرة، ولا تعارضَ بينها، كما أنّ الإدراكَ المنفيَّ في الآية معناه الإحاطة، وهو قدرٌ زائدٌ على الرؤية، والمراد أنّ العيونَ لا تحيطُ به لكِبره وعظمته وإن رأته، فالسماءُ نراها بالعيون ولا نحيطُ بها، فاللهُ أعظم وأكبر، والدليلُ على الفَرْقِ بين الرؤية والإحاطة قوله تعالى في أصحاب موسى وقومِ فرعون: ?فَلَمَّا تَرَاءى الجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ? [الشعراء: 61-62]، فالآية نفتِ الإدراكَ ولم تنفِ الرؤيةَ، «فالرؤية والإدراك كل منهما يوجد مع الآخر وبدونه، فالرب تعالى يُرى ولا يُدرك، كما يُعلم ولا يُحاط به علما، بل الشَّمس المخلوقة يراها ولا يتمكن رائيها من إدراكها »(6).
أمّا سؤال موسى رؤية اللهِ فدليلٌ على جواز الرؤية وإمكانها، واللهُ تعالى أخبره أنه لا يُرى في الدنيا، فقال: ?لَنْ تَرَانِي? ولم يقل:« إني لا أُرى »، وقد ثبت في الصحيح:« أَنَّ أَحَدًا مِنَّا لاَ يَرَاهُ حَتَّى يَمُوتَ »(7)، وعليه فالله يُرى في الآخرة، وأولى الناس بهذه الرؤية الأنبياء، وقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ القَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلاَّ رِدَاءُ الكِبْرِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ »(8).
هذا، ولإجماع السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأئمّة أهل السُّنَّة على إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، وكثرة ما ورد في إثباتها من الأدلَّة من نصوص الكتاب والسُّنَّة، وهي ممَّا استفاضت وتواترتْ، ولا يجحَدُها أو يردّ أخبارَها إلاّ مارق عن الدِّين خارج عن مِلَّتِهِ. قال الآجري:« وقد قال الله عزّ وجلّ لنبيِّه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: ?وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ? [النحل: 44]، وكان ممّا بيّنه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم لأمّته في هذه الآيات أنه: أعلمَهم في غير حديث:« إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ »، رواه جماعةٌ من صحابته رضي الله عنهم، وقَبِلها العلماءُ عنهم أحسن القَبول، كما قَبِلوا عنهم عِلمَ الطهارة والزكاة والصيام والحجّ والجهادِ، وعلمَ الحلال والحرام، كذا قَبِلوا منهم الأخبارَ: أنّ المؤمنين يرون اللهَ عزّ وجلّ لا يشكّون في ذلك، ثمّ قالوا: من ردّ هذه الأخبار فقد كفر »(9).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:« والذي عليه جمهور السلف أنّ من جَحَدَ رؤيةَ الله في الدار الآخرة فهو كافرٌ، فإن كان ممّن لم يبلغه العلمُ في ذلك عُرِّف ذلك، كما يُعَرَّف من لم تبلغه شرائع الإسلام، فإن أصرّ على الجحود بعد بلوغ العلم له فهو كافر »(10).
ورؤيةُ الله تعالى في الآخرة -فضلاً عن ثبوتها- فإنها أعزّ ما يطلبه أهلُ الإيمان والعبوديةِ، وأقصى الغايات التي يتسابق عليها المتسابقون، وفي معرض وصف هذا المطلب العظيم يقول ابن القيم:« وهي العناية التي شمر إليها المشمرون، وتنافس فيها المتنافسون، وتسابق إليها المتسابقون، ولمثلها فليعمل العاملون، إذا ناله أهل الجنّة نسوا ما هم فيه من النعيم، وحُرمانه والحجاب عنه لأهل الجحيم أشدّ عليهم من عذاب الجحيم، اتفق عليها الأنبياء والمرسلون، وجميعُ الصحابة والتابعون، وأئمّة الإسلام على تتابُعِ القرون، وأنكرها أهلُ البدع المارقون »(11).
نسألُ اللهَ تعالى أن يرزقَنَا لذّةَ النظرِ إلى وجهه الكريم، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ، وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 1 جمادى الثانية 1428ه
الموافق ل: 17 جوان 2007م
__________
1- أخرجه مسلم في «الإيمان »، باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه: (450)، والترمذي في «صفة الجنة »، باب ما جاء في رؤية الله: (2558)، من حديث صهيب رضي الله عنه.
2- أخرجه البخاري في «مواقيت الصلاة »، باب فضل صلاة العصر: (529)، ومسلم في «المساجد »، باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما: (1434)، وأبو داود في «7429 »، باب في الرؤية:(7429)، والترمذي في «صفة الجنة »، باب ما جاء في رؤية الله:(2551)، وابن ماجه في «المقدمة »، باب فيما أنكرت الجهمية: (177)، وأحمد: (18766)، من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه.
3- أخرجه البخاري في «التوحيد »، باب قول الله تعالى وجوه يومئذ ناظرة: (7886)، ومسلم في «الإيمان »، باب معرفة طريق الرؤية: (454)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
4- «شرح العقيدة الطحاوية » لابن أبي العز: (1/219).
5- «مجموع الفتاوى » لابن تيمية: (5/196-261)، «الصواعق المرسلة » لابن القيم: (1/148)، «شرح قصيدة ابن القيم » لأحمد بن إبراهيم: (1/28).
6- «شرح العقيدة الطحاوية » لابن أبي العز: (1/215).
7- أخرجه مسلم في «الفتن وأشراط الساعة »، باب ذكر ابن صياد: (7356)، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
8- أخرجه البخاري في «التفسير »، باب قوله ومن دونهما جنتان: (4597)، وابن حبان في «صحيحه »: (7386)، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
9- «الشريعة » للآجري: (253).
10- «مجموع الفتاوى » لابن تيمية: (6/486).
11- «حادي الأرواح » لابن القيم: (204).(1/15)
الفتوى رقم: 859
في حكم التعبيد باسم « السَّتَّار »
السؤال:
لقد انتشر عند كثيرٍ من الناس أنَّ « السَّتَّار » من أسماء الله تعالى، فهل هذا صحيح؟ وهل يجوز تعبيد الأسماء به؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فاعلم أنَّ الأسماءَ الحُسنى -عند السلف- توقيفيةٌ لا تُؤخذُ من غيرِ النصوص الشرعية الثابتةِ، وهي غيرُ محصورةٍ بعددٍ مُعيَّنٍ، واستأثرَ اللهُ تعالى بعلمه بها، وأسماؤُه سبحانه محكمةٌ وهي دالَّةٌ على ذاتِ الله مع دلالتها على الصِّفة، فإن أُريد بالصِّفة المتضمِّنة في الاسم معناها فهذا مُحكَمٌ، وإن أريد حقيقة الصفة وكيفيتها فهذا من المتشابه الحقيقي الذي لا يعلمه إلاَّ الله، لذلك يجب الإيمان بالاسم، وبما دلَّ عليه من معنى بلا كَيْفٍ، وبما تعلَّق به من أَثَرٍ، فهذه أركان الإيمان بأسمائه الحسنى في كمالها وجلالها وليس فيها ما يتضمَّن الشرَّ.
واسم «الستير » من أسماء الله الحسنى الثابتة بما أخرجه أبو داود وغيرُه بسندٍ صحيحٍ من حديث يعلى بن أُمَيَّة رضي الله عنه: أنَّ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم رَأَى رَجُلاً يَغْتَسِلُ بالبَرَازِ بِلاَ إزَارٍ، فَصَعِدَ المِنْبَرَ فَحَمِدَ اللهَ وَأثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قال:« إنَّ اللهَ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الحَيَاءَ وَالسِّتْرَ فإذَا اغْتَسَلَ أحَدُكُم فَلْيَسْتَتِرْ »(1).
أما اسم «السَّتَّار » فلا أعلمُه من أسماءِ الله الحسنى الثابتةِ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، وهو اسمٌ متداولٌ خطأً عند عامَّة المجتمع الجزائريِّ حتى عُبِّدت أسماءُ الناس به، فسمّوا ب:« عبد الستار »، والصواب الصحيح أن يعبَّد بالاسم الثابت عنه فيقال:« عبد السِّتِّير ».
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 03 ربيع الأول 1429ه
الموافق ل: 10 مارس 2008م
__________
1- أخرجه أبو داود في «سننه » كتاب الحمام، باب النهى عن التعري: (4012)، والنسائي في «سننه » كتاب الغسل والتيمم، باب الاستتار عند الاغتسال: (406)، وأحمد في «مسنده »: (17509)، من حديث يعلى بن أمية رضي الله عنه، والحديث صححه النووي في «الخلاصة »: (1/204)، والألباني في «الإرواء »: (2335).(1/16)
الفتوى رقم: 905
في اسمي النافع والضار ومدى صحة إطلاق الضار على الله تعالى
السؤال:
لقد ذكرتم في الكلمة الشهرية المعنونة ب:« نصيحة لمغرور » أنَّ الله النافع الضار، وكنت سمعت من بعض أهل العلم أن اسم الضار لم يصح إطلاقه على الله واستدلّ بأنه لم يأت دليل على ذلك، لذلك قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام: ?وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ? [الشعراء: 80]، وقول النبي صَلَّى الله عليه وآله وسلم:« والشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ »(1)، فنريد منكم -شيخنا- زيادة بيان وتوضيح؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فينبغي التفريقُ بين الاسم والصِّفة من حيث إثباتُ «النافع والضار » من جهة، وبين الإرادة والمحبةِ في النفع والضرر من جهة أخرى.
فالمعلوم عند أهل السُّنَّة أنَّ أسماءَ الله توقيفيةٌ، بمعنى أنهم لا يُثبتون لله من الأسماء إلاَّ ما أثبتَه الله لنفسه في كتابه أو أَثْبته له رسولُه في سُنتِه من الأسماء والصفات، وإثباتُ اسمَيِ «النافع والضار » متوقِّفٌ على صِحَّة حديثِ أبي هريرة مرفوعًا عند الترمذي(2)، هما اسمان مِنْ سَرْدِ الحديث، والحديث صححَّه قوم وضعَّفه آخرون، وممَّن صحَّحه الحاكمُ، وابنُ حبان، وحسَّنه النووي في «الأذكار »(3)، وهو الذي ارتضاه الشوكاني في «تحفة الذاكرين »(4)، وذهب جماعةٌ من الحفَّاظ إلى أنّ سرد الأسماء في حديث الوليد عن الترمذي مُدرَج فيه، وبهذا قال ابن كثير(5)، ورجَّحه ابن حجر(6)، وعلَّق الصنعاني على كلام ابن حجر بقوله:« اتفق الحفَّاظُ مِن أئمَّة الحديث أنَّ سردها إدراجٌ من الرواة »(7). والحديثُ ضعَّفه الألباني(8). قال ابن تيمية -رحمه الله-:« قد اتفق أهلُ المعرفة بالحديث على أنَّ هاتين الروايتين -يعني رواية الترمذي من طريق الوليد، وابنِ ماجه من طريق عبد الملك بن محمَّد- ليستا من كلام النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، وإنما كلٌّ منهما من كلام بعضِ السلف »(9).
وعليه، فمن أثبت الحديثَ عَدَّ «النافعَ والضارَّ » مِن أسماء الله الحسنى، ومَن ضعَّفه ومنع الاحتجاجَ به ردَّ الاسمين، مع إقراره بصفة النفع والضُّرِّ الثابتة بنصوص أخرى من غير اشتقاق اسم منها.
هذا، والذي يجب اعتقاده أنَّ كُلَّ شيءٍ يجري بتقدير الله سبحانه ومشيئتِهِ لا يخرج عن تقديره الخير والشرّ، والنفع والضُّرّ، والطاعة والمعصية، والإيمان والكفر، والعلم والجهل، والمرض والصِّحة، والغِنى والفَقر، وليس في ملكه شيء لم يقدِّره ولا يريده، وأهلُ السُّنَّة مُجمعون على أنَّ ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا يكون شيء إلاَّ بمشيئته وقدرته، وأنهم متَّفقون على أنَّ الله لا يحبُّ الفسادَ، ولا يَرضى لعباده الكفر، لذلك يفرِّقون بين إرادتين:
- إرادةٌ قَدَرية كَوْنية: وهي المشيئةُ الشاملةُ لجميع الموجودات خيرًا كانت أو شرًّا، نفعًا أو ضُرًّا، نعمةً أو نِقمةً، قال تعالى: ?إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ? [الحج: 18]، وقال سبحانه: ?إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ? [الحج: 14]، وهذه الإرادة لا تستلزم محبَّةَ اللهِ ورضاه.
- وإرادة شرعية دينية: فهذه متضمّنة لمحبة الله ورضاه، مثل قوله تعالى: ?وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ? [النساء: 27]، ولكنها قد تقع وقد لا تقع، وتسمَّى الأولى بالإرادة والثانيةُ بالمحبة.
ومن هنا يُعلم أنه لا يلزم من وقوع الشيء وَفْقَ إرادته أنه يحبُّه، فالحبُّ غيرُ الإرادة، والأشياءُ المكروهة لا تُضاف إلى محبته، وإن كانت لا تخرج عن إرادته ومشيئته، وهو معنى قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ ».
فالله سبحانه وتعالى يضرُّ من يشاءُ من عباده بالفَقر والمرض والعِلل، ونحو ذلك وينسب إلى فعله، فالضرُّ من مفعولاته سبحانه وتعالى وأفعاله من مشيئته وإرادته، لكن لا يحب الضرَّ لذاته، وإنما يحبه لغيره الذي لا يترتَّب عليه إلاَّ الخير، لذلك بيَّن المولى عزَّ وجلَّ المسَّ الذي هو من فِعل الله تعالى وإرادة الخير التي هي من محبة الله وفعله ومشيئته -أيضًا- في قوله عز وجل: ?وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ? [يونس: 107].
وعليه، فلا يُنسب الشرُّ والضرُّ إلى الله تعالى تأدّبًا مع أنه لا يخرج عن إرادته ومشيئته، ولا يلزم ذلك محبته، وهذا المعنى من التأدُّب مع الله تعالى ظهر في كلام الجِنِّ عندما جزموا أنَّ الله تعالى أراد أن يحدث حادثًا كبيرًا من خيرٍ أو شرٍّ فقال الله تعالى على لسانهم: ?وَأَنَّا لاَ نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا? [الجن: 10]، وفي هذا بيانٌ لأدبهم إِذْ أضافوا الخيرَ إلى الله تعالى، والشرَّ حذفوا فاعلَه تأدبًا.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 07 جمادى الأولى 1429ه
الموافق ل: 12/05/2008م
__________
1- سيأتي تخريجه.
2- أخرجه الترمذي في «سننه » كتاب الدعوات، : (3507)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
3- «الأذكار » للنووي: (94).
4- «تحفة الذاكرين » للشوكاني: (70).
5- «تفسير ابن كثير » (3/257).
6- «التلخيص الحبير » لابن حجر: (4/190).
7- «سبل السلام » للصنعاني: (4/108).
8- «ضعيف الجامع » للألباني: (2/178).
9- «مجموع الفتاوى » لابن تيمية: (6/379).(1/17)
الفتوى رقم: 942
في بيان المنطوق الصريح وغير الصريح من قوله تعالى: ?إِنَّ اللهَ هو السَمِيعٌ البَصِيرٌ?
السؤال:
في قوله تعالى: ?إِنَّ اللهَ هُوَ السَمِيعٌ البَصِيرٌ? [غافر: 20]، ما هي دلالة المطابقة، ودلالة التضمُّن، ودلالة الالتزام في هذه الآية؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فلفظ الجلالة «الله» يدلُّ على خصوص المستحِقِّ للعبادة على وجه المطابقة وهو نفس ذات الرب سبحانه، فاسم «الله» دالٌّ بالمطابقة على ذات رب العالمين، وعلى صفة الأُلوهية خاصة.
وكذلك «السميع» و«البصير» ونحوهما من أسمائه الحسنى دالَّة على ذاتِ الرب سبحانه بالعَلَمية وعلى صفة السمع والبصر بالوصفية المختصَّة؛ لأنَّ اسمي «السميع» و«البصير» لا يدلاَّن إلاَّ على خصوص صفة السمع والبصر بالمطابقة دون غيرها من الصفات كالحياة والإرادة وغيرهما.
وتدلُّ صفتا «السمع» و«البصر» الذاتيتين المعنويتين بالتضمُّن على ذاتِ الله تعالى؛ لأنَّ دلالتهما على الذات جزء المعنى أو بعضُه.
وكذلك يقال في اسم «السميع» يدلُّ على صفة السمع لوحدها، و«البصير» يدلُّ على صفة البصر لوحدها على فرض عدم دلالتهما على الذات يسمَّى تضمُّنًا؛ لأنَّ الاسم دلَّ على جزء معنى «السميع» وهو صفة السمع، ويدلُّ -أيضًا- بالتضمُّن على ذات الله تعالى وحدها على فرض عدم دلالته على صفة السمع، وكذلك القول في اسم «البصير»، فكانت دلالة اسم «السميع» و«البصير» على ذات الله تعالى دلالة تضمُّنية؛ لأنَّ لكل من اسم «السميع» أو «البصير» له جزءان: ذاتٌ وصفة السمع، أو ذاتٌ وصفة البصر، ودلالته على الذات جزء المعنى وبعضه.
أمَّا دلالة اللفظ بالالتزام فهو: أن يدلَّ على معنى خارجٍ عن مُسمَّى اسمه، له تعلُّق وثيق به، فاسم «السميع» أو «البصير» يدلُّ كلُّ واحدٍ منهما على صفات الله الأخرى، غير داخلة في مدلول اللفظ مطابقة وتضمنًا، فهي تدلُّ عليها بالالتزام: فالسميع يدلُّ على الحياة والقدرة والعلم وغيرها من صفات الكمال بالالتزام، إذ أنَّ كُلَّ صفةٍ لَهُ دالَّة على كمالٍ يستلزم كمالاً، فله من كل اسم مدح من دلالته الخاصة على الصفة الموافقة للفظه ومعناه، ودلالةٌ على الكمال من لزوم من اتصف بها أن يتصف بغيرها من صفات الكمال.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 03 رمضان 1429ه
الموافق ل: 03 سبتمبر 2008م(1/18)
03- الألوهية والعبادة
الفتوى رقم: 8
التوكل على غير الله
السؤال: من أنواع العبادة "التوكل" فهل يجوز أن أقول لأحد "توكلت عليك"؟.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فلا يقول "توكّلت عليك" وإنّما يقول:" وكّلتُك، وتوكّلت على الله"؛ لأنّ التوكّل هو اعتماد القلب على الله في جلب المنافع ودفع المضارِّ مع الثقة بالله وفعل الأسباب، والتوكّل بهذا الاعتبار خاصّ بالله سبحانه قال تعالى:( وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَلُوا إِن كُنتُمْ مُؤْمِنِين )[المائدة:23]، وقال تعالى في آية أخرى:( وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْم إِن كُنتُم آمَنتُم بِاللهِ فَعَلَيهِ تَوَكَّلوُا إِن كُنتُمْ مُسلِمِين )[يونس:84]، فجعل الله التوكّل عليه في الآيتين شرطا في الإيمان والإسلام .
أمّا المسائل التي تدخل تحت قدرة العبد فتجوز نيابته فيها عليها كالبيع والشراء ونحوهما لكونها من جملة الأسباب، لكنّه لا يعتمد على وكيله في حصول ما وكل إليه فيه وإنّما يتوكّل على الله في تحصيل المراد وتيسير أمره أو أمر نائبه، وعليه فإنّ الوكالةَ تُعَدُّ من جملة الأسباب، والأسباب لا يُعتمد عليها وإنّما يُعتمد على مسبِّب الأسباب وخالق السبب والمسبَّب وهو الله جلّ وعلا.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليما.(1/19)
الفتوى رقم: 19
نصيحة لمن وقع في بعض الشركيات
السؤال: بعض الإخوة في فرنسا لهم مشاكل مع أهليهم من ناحية أنّهم يقعون في الشرك ولا يقبلون منهم النصيحة، فما تنصحهم؟، ووقع جرّاء ذلك فتنة عظيمة بين هؤلاء الإخوة وأهليهم.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فالواجب اتجاههم أن يحسن دعوتهم إلى الله تعالى ولا يفارقهم بل يصاحبهم في الدنيا بالمعروف على ما نصّت عليه الآية في قوله تعالى:( وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشِْركَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُنْيَا مَعْرُوفًا ) [لقمان:15]، ويلين في دعوته إليهم وأن يبتعد عن الغِلظة في الدعوة والشّدة المنفِّرة لقوله تعالى:( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعظَةِ الحَسَنَِةِ وَجَادِلْهُمْ بِالََََّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) [النحل:125]، فإنّ هذا الأسلوبَ الدعوي المنتهج من أهمّ أسباب انتفاع عوام الناس بدعوة الدعاة وبإرشادهم وتوجيهاتهم فقد قال صلى الله عليه وسلم:" لأن يهدي الله بك رجلا خير لك من حمر النّعم"(1).
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليما.
الجزائر في: 26 رجب 1424ه
الموافق لـ: 20 أوت 2002م
__________
1- أخرجه البخاري كتاب الجهاد(2942) باب غزوة خيبر، ومسلم كتاب فضائل الصحابة (6367)، من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.(1/20)
الفتوى رقم: 157
ردّ مقالة الصوفية في تركهم الخوف والرجاء
السؤال: فضيلة الشيخ: هل يعبد المسلمُ اللهَ تعالى لأنّه يستحقّ العبادة، أم يعبده طمعًا في جَنَّته وخوفًا من ناره ؟.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فإنّ من حقّ الله سبحانه وتعالى على عباده توحيده وإخلاص العبادة له سبحانه، وهو يأمر عباده أن يدعوه ويعبدوه خوفًا من ناره وعذابه، وطمعًا في جنته ونعيمه قال تعالى في سورة الأعراف:( وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعًا ) [الأعراف: 56]، والخوف والرغبة من أنواع العبادة المقرِّبة إليه سبحانه، إذ الخوف من الله يحمل العبدَ على الابتعاد عن المعاصي والنواهي، والطمع في جنته يحفِّزه على العمل الصالح وكلِّ ما يرضي اللهَ تعالى، لذلك امتدح الله أنبياءَه في سورة الأنبياء بقوله:( إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ) [الأنبياء: 90]، أي راغبين في جَنَّته، وخائفين من عذابه، وقد قال الله تعالى في سورة الحج:( نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنََا الغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العَذَابُ الأَلِيمُ )[الحجر:49، 50]، وقال تعالى في سورة الأنعام وهو يخاطب رسولَه الكريم:( قُلْ ِإنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) [الأنعام: 15].
هذا، والصوفية في معتقدهم خالفوا هذه النصوص الصريحة في دعوتهم إلى أن تكون عبادة الله لا خوف فيها من النّار، ولا طمع فيها في الجنة، بل يجعلون ذلك من الشرك بالله تعالى كما جاء عن بعض المفسرين المتصوفة، هؤلاء يتركون صريح القرآن والسنة وما أجمعت عليه الأمة، ويستشهدون بقول رابعة العدوية:( اللهم إن كنت أعبدك طمعًا في جنتك فاحرمني منها وإن كنت أعبدك خوفًا من نارك فاحرقني فيها)، وبقول عبد الغني النابلسي:( من كان يعبد الله خوفًا من ناره فقد عبد النار، ومن عبد الله طلبًا للجنة فقد عبد الوثن )، فالله المستعان.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليما.
الجزائر في : 18 رجب 1424 ه
الموافق ل : 12 سبتمبر 2003م(1/21)
الفتوى رقم: 206
في حصرية الفأل ونوع إعجابه صَلَّى الله عليه وآله وسلم
السؤال: شيخَنا -حفظك الله- هل قولُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّمَ:« يعجبني كذا »، هو من باب طبيعته البشرية أم أنّه يدّل على حكم شرعي؟
مثل قوله صلى الله عليه وسَلَّمَ:« لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ، وَيُعْجِبُنِي الفَأْلُ »، قَالُوا: مَا الفَأْلُ؟ قال:« الكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ » رواه الشيخان(1).
- وفي الحديث السابق:« الكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ » هو مُكوَّن من جزأين معرّفين، وهذا يفيد الحصر، فهل نقول إنّ: الفأْل محصور في الكلمة الطيبة أم أنّه يشمل غيرها. - بارك الله فيك-.
الجواب: الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فمعنى «يعجبني » أي: يسرّني الفأل لكونه تأميل خير، وتأميل الخير مطلوب، لأنّ الطيرة سوء الظنّ بالله، والفأل حسن الظنّ بالله، والنبي صَلَّى الله عليه وآله وسَلَّم قد أبان عن مقتضى الطبيعة البشرية، وحب الفطرة الإنسانية التي تميل إلى ما يوافقها ويلائمها كما أفصح عن ذلك ابن القيم(2)، وقال:« حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ، وذكر: النِّسَاءَ والطِّيبَ »(4)، وكان يُحِبُّ حسن الصوت بالقرآن والأذان، وبالجملة كان يحب كلَّ كمالٍ وخيرٍ وما يُفضي إليهما.
هذا، والحصر الذي يُعبِّر عنه الأصوليون بتعريف الجزأين كما في حديث:« تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْليِمُ »(5)، إنّما يقع الحصر في الخبر، ومفهومه أنّه لا يمكن الدخول في الصلاة إلاّ بالتكبير ولا يخرج منها إلاّ بالتسليم وهو مذهب الجمهور خلافًا للأحناف والظاهرية.
والقاعدة: أنّ هذا الأسلوب يفيد حصر ما لم يرد دليل على منعه فيصار -عندئذٍ- إلى الدليل، وظاهر الحديث أنّه يفيد العموم والاستغراق لكلِّ كلمة يكون طريقها الخير، وأنّ الفأل ليس محصورًا في الكلمة الطيبة، بل هو شامل لكلِّ ما ينشرح به الصدر ويُؤْمَل به الخير سواءً كانت كلمةً طيبةً أو اسمًا حسنًا أو شخصًا صالحًا أو مكانًا طيِّبًا مرَّ عليه، فهذه كلُّها داخلة في حسن الظنِّ بالله تعالى، ولهذا كان يعجبه الفأل لأنه من حسن الظنِّ به سبحانه وتعالى.
وممّا يدلّ على عدم حصره في الكلمة الطيبة أنّه لَمّا أقبل سهيل بن عمرو في قصة الحديبية ليتفاوض مع الرسول صَلَّى الله عليه وآله وسَلَّم ورآه مقبلاً، قال صَلَّى الله عليه وآله وسَلَّم:« سُهِّلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ »(6)، فكان على نحو ما أمل فحصل بمجيئه الخير.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
__________
1- أخرجه البخاري في «الطب » (5776)، ومسلم في «السلام »: (5934)، من حديث أنس رضي الله عنه.
2- مفتاح دار السعادة لابن القيم: (3/306).
3- أخرجه البخاري في «الأطعمة »: (5431)، ومسلم في «الطلاق » (3752)، وأبو داود في «شراب العسل »: (3715)، وابن ماجه في «الأطعمة »: (3323)، وأحمد: (25048)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
4- أخرجه النسائي في «عشرة النساء »: (3956)، والحاكم: (2/160)، وابن عدي في «الكامل »: (3/305)، وأحمد: (12627)، والبيهقي: (13836)، من حديث أنس رضي الله عنه. وصحّحه الألباني في «صحيح الجامع »: (3124)، وفي «الروض النضير »: (53)، و«المشكاة »: (2561).
5- أخرجه أبو داود في «الطهارة »: (61)، والترمذي في «الطهارة »: (3)، وابن ماجه في «الطهارة وسننها »: (228)، وأحمد: (1018)، والدارمي: (712)، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
6- أخرجه البخاري في «الشروط »: (2731)، من حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنه.(1/22)
الفتوى رقم: 238
في حكم حَلِّ سِحْرٍ بسحر مماثل
السؤال: هل يجوزُ ردُّ السِّحْرِ بسحرٍ مماثلٍ؟ أو بالأحرى أيجوز الدفاعُ عن النَّفس بسِحْرٍ ضدَّ سِحْرٍ ما، رغم أنّي أعلم أنّه من السبع الموبقات، وهذا مُلَخَّصُ مشكلتي: لي من الأقارب مَن عُمي بصرُه لثلاثِ مرَّات، والرقاة يقولون: أنّه بسبب ساحرٍ أو مُشَعْوِذٍ بطلبٍ من إنسان يريدُ إفسادَ العلاقةِ الزَّوجيةِ، ولا ندري ما السببُ؟ وفي كلِّ مرَّة بعد الرقية يأتي الله بشفائه بعد مدّة، ثمّ تعود العِلَّة ويذهب البصر من جديد وأنت تعلم ما للبصر من أهمية عندنا!! لذلك نريد إيجاد الحلِّ الذي بإذن الله يحمينا من هؤلاء عَبَدَةِ الشيطانِ. أيحقُّ لي أن أقع في فَخِّهم وأستخدم سِحْرًا مماثلاً لردّ ذلك السحر؟ أم ماذا أستطيع أن أفعل؟ وجزاك الله خيرًا.
الجواب: الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فاعلم أنَّ العلاجَ بالسّحر محرّمٌ شرعًا لقوله تعالى: ?وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ? [البقرة: 102]، وقولِه تعالى: ?وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى? [طه: 69]، ولقولِه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّمَ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه:« اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ -وذكر منها- السِّحْر »(1). وثبت -أيضًا- من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال سمعتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّمَ يقول:« إِنَّ الرُّقَى وَالتَّمَائِمَ وَالتِّوَلَةَ شِرْكٌ »(2).
فالمقصود بالرُّقى في الحديث غير الشرعية، والتميمة ما يُعلَّقُ لدفع العَين، والتِّوَلَةُ: هي شيءٌ كانت المرأة تجلِبُ به محبَّةَ زوجِهَا، وهو ضَرْبٌ من السِّحر، فأفاد الحديث منعَ التداوي بالسّحر، وما كان فيه شيءٌ منافٍ للتوحيد بحيث يصيرُ القلبُ معلَّقًا بغيرِ اللهِ في دفع ضَرَرٍ أو جَلْبِ نفعٍ، وعن جابر بن عبدِ الله رضي الله عنهما أنّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّمَ سُئِلَ عن النُّشْرَةِ؟ فقال:« هِيَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ »(3)، وعملُ الشيطانِ مذمومٌ وقبيحٌ شرعًا يحرم فعلُه، وقد دلَّتِ السّنةُ على ما هو مشروعٌ من الرُّقى، قال ابن القيم -رحمه الله-:« وَمِنْ أنفعِ علاجاتِ السِّحر الأدوية الإلهية، بل هي أدويتُه النافعةُ بالذات، فإنه من تأثيرات الأرواح الخبيثة السفلية، ودفعُ تأثيرِها يكون بما يعارضُها ويقاومُها من الأذكار، والآيات، والدَّعوات التي تُبْطِلُ فعلَها، وتأثيرَها »(4).
فالحاصلُ: أنّ ما كان بالقرآن والدعوات والأدويةِ المباحةِ فجائزٌ، وما كان منه بالسحر فيُحرم.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 11 جمادى الثانية 1426ه
الموافق ل: 17 جويلية 2005م
__________
1- أخرجه البخاري في «الوصايا »: (2766)، ومسلم في «الإيمان »: (272)، وأبو داود في «الوصايا »: (2876)، والترمذي في «الوصايا »: (3686)، والبيهقي: (13042)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2- أخرجه أبو داود في «الطب »: (3858)، وابن ماجه في «الطب »: (3660)، وأحمد: (3682)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وصحَّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة »: (331).
3- أخرجه أحمد في «مسنده »: (3/294)، وأبو داود في «الطب »: (3868)، وحسَّنه الحافظ في «الفتح »: (10/233)، وعبد القادر الأرناؤوط في تخريج أحاديث «فتح المجيد »: (343).
4- «زاد المعاد »: (4/126).(1/23)
الفتوى رقم: 394
في حقيقة أفضلية شرح سيد قطب لمعنى «لا إله إلاّ الله »
السؤال: هل شرحُ سيّد القطب ل:« لا إلهَ إلاّ اللهُ » يُعَدُّ أفضل شروحات كلمة التوحيد؟
الجواب: الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فتفسيرُ سيّد قطب وأخيه محمّد لمعنى:« لا إله إلاَّ الله » بالحاكمية -أي: لا حاكمَ إلاَّ الله- تفسيرٌ قاصرٌ غيرُ صحيحٍ فكيف يكون الأفضل؟!! فهو مخالِفٌ لِمَا عليه تفسيرُ السلف الصالح لمعنى «لا إله إلاَّ اللهُ » وهو لا معبودَ بحقٍّ إلاَّ اللهُ، ويدلُّ عليه قولُه تعالى: ?ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ البَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ? [الحج: 62]، وقولُه تعالى: ?وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ? [النحل: 36]،
وقولُه تعالى: ?وَاعْبُدُواْ اللهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا? [النساء: 36]، وقولُه تعالى: ?وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ? [الذاريات: 56]، وقولُه صَلَّى الله عليه وآله وسَلَّم:« أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ »(1)، لذلك كان تفسير السلف الصالح لها هو التفسيرُ الوحيدُ الذي لا يصحُّ تفسيرٌ غيرُه، وهو إخلاصُ العبادة لله وحدَه لا شريك له، ويدخل فيها تحكيم الشريعة قال تعالى: ?وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ? [البينة: 5]، فهو تفسيرٌ أعمُّ وأشملُ بخلاف الحاكمية فهي جزءٌ من توحيد الربوبية، وهي في عمومها ناقصة لإخراجها توحيد الإلهية وكثيرًا من الأصول والأركان من الحكم بما أنزل اللهُ تعالى، فقد صحَّ عن النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم أنه قال:« لَيُنْقَضَنَّ عُرَى الإِسْلاَمِ عُرْوَةً عُرْوَةً فَكُلَّمَا انْتَقَضَتْ
عُرْوَةٌ تَشَبَّثَ النَّاسُ بِالَّتِي تَلِيهَا، وَأَوَّلُهُنَّ نَقْضًا الحُكْمُ وَآخِرُهُنَّ الصَّلاَةُ »(2).
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 5 ربيع الأول 1427ه
الموافق ل: 3 أفريل 2006م
__________
1- أخرجه البخاري في «الزكاة »: (1399)، ومسلم في «الإيمان »: (133)، وأبو داود في «الزكاة »: (1558)، والترمذي في «الإيمان »: (2810)، والنسائي في «الزكاة »: (2455)، وابن ماجه في «الفتن »: (4061)، وأحمد: (9139)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2- أخرجه أحمد: (22817)، وابن حبان: (6839)، والطبراني في «المعجم الكبير »: (7360)، من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه. وحسّنه مقبل الوادعي في «الصحيح المسند »: (490)، وصحّحه الألباني في «صحيح الجامع »: (5075).(1/24)
الفتوى رقم: 419
في الاستسقاء بالأنواء ومدى جواز تسمية المطر بالنوء
السؤال: يسمي الناس -في منطقتنا- المطر بالنوء، فما حكم الاستسقاء بالأنواء، وهل يجوز التعبير بهذه التسمية مع الاعتقاد بأنّ المطر من الله تعالى؟
الجواب: الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فمسألةُ الاستسقاء بالأنواء يختلف الحكم فيها باختلاف المعتقَد في النَّجْمِ الطالع والغارب، فإن اعتقد أنَّ النجم مؤثّر بذاته، أي: هو الفاعل دون الله تعالى أو معه في إنزال المطر، فهذا شرك أكبر في الربوبية، وإِنْ توجَّه إليه بالدعاء والعبادة كان شركًا أكبر في الألوهية، ولا يخفى أنَّ الشرك في الألوهية يتضمَّن الشرك في الربوبية؛ لأنَّه ما توجَّه إلى النجوم بالدعاء إلاَّ لاعتقاده أنَّها فاعلة ومؤثِّرة تدفع الأضرار وتقضي الحوائجَ فمثل هذا الشرك ينافي التوحيد.
أمَّا إذا اعتقد أنَّ المطلع النجمي سببٌ، وأنَّ منزِّل المطر هو اللهُ سبحانه فهو شرك أصغر، ينافي كمال التوحيد؛ لأنَّ الله تعالى لم يجعله سببًا لا بنصٍّ ولا تقدير.
هذا، وقد جاء من كلام العلماء التفريقُ بين باء السببية في قولهم: مُطِرْنَا بنوء كذا، و التعبير ب «في » الظرفية في قولهم: سُقِينا في نوء كذا، أي: في ذلك الوقت، ويجوز التعبير بالظرفية دون السببية؛ لأنه ليس فيها نسبة المطر إلى النجم، بخلاف باء السببية، فإنَّ في التعبير بها نسبة المطر إلى الطالع أو الغارب، فلا يجوز ولو من باب التساهل في التعبير.
وبناءً عليه فإِنْ أُطْلِقَ النوء على وقت جرت عادة الله تعالى في أن يأتي المطر في تلك الأوقات جاز من غير اقترانه بالاعتقاد السابق.
أمَّا إذا تعارف أهلُ منطقةٍ إطلاقَ النوء على ذات المطر من غير التفات أصلاً إلى الطالع والغارب من النجم وغلب عرف استعمالهم فيه، فأرجو أن يجوز ذلك من غير حرج -إن شاء الله تعالى-.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 8 ربيع الثاني 1427ه
الموافق ل: 5 ماي 2006م(1/25)
الفتوى رقم: 497
في حكم إطلاقِ الكفر على من أتى بالكفريات
السؤال: هل يجوزُ أن يُطْلَقَ على المسلمِ وصفُ الكفرِ إذا وقع في أمور مكفِّرات؟
الجواب: الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
ففي إصدارِ حُكْمِ التكفيرِ يجبُ التفريقُ بين الإطلاقِ والتعيينِ، فقد يكون الفعل أو المقالةُ كفرًا، ويُطلقُ القول بتكفير من قال بتلك المقالةِ أو فَعَلَ ذلك الفعلَ على سبيل الإطلاق من غير تعيينِ أحدٍ بعينه، مثل أن يقول: من قال كذا فهو كافرٌ، أو من فعل كذا فهو كافرٌ، لكن الشخصَ المعيّن الذي قال ذلك القول أو فَعَلَ ذلك الفِعل لا يُحْكَمُ بكُفره حتى تقام عليه الحجّة الرسالية التي يكفر تاركها وحتى تزال عنه الشبهة وتنتفيَ موانعُ التكفير، ولا يُمْتَنَعُ إطلاقُ اسمِ الكفرِ على من أطلقه الشارعُ عليه، بل يجب القولُ بما قاله
الشارعُ؛ لأنّه حُكْمٌ شرعيٌّ أطلقه الشرعُ على هذه الأحوال، أمّا إطلاق حكمِ الكفر على المعيّن فينبغي التثبُّت عند الإطلاق؛ لأنّه ليس كلّ من جاء بمكفِّر كان كافرًا، أو قال كلمةَ الكفرِ أصبح كافرًا، قال ابن تيمية -رحمه الله-:« وليس كلُّ من خالفَ في شيءٍ من الاعتقادِ يجبُ أن يكون هالكًا، فإنّ المنازع قد يكون مجتهدًا مخطئًا يغفر اللهُ خطأَهُ، وقد لا يكون بَلَغَهُ في ذلك من العلم ما تقوم به عليه الحُجَّةُ، وقد يكون له من حسناتٍ ما يمحو به سيِّئاتِه، وإذا كانت ألفاظُ الوعيد المتناولة له لا يجب أن يدخل فيها المتأوِّلُ، والقانِتُ، وذو الحسناتِ الماحيةِ، والمغفورُ له، وغيرُ ذلك، فهذا أولى، بل موجب هذا الكلام أنّ مَنِ اعتقد ذلك نَجَا من هذا الاعتقاد، ومن اعتقد ضدَّه قد يكون ناجيًا، وقد لا يكون ناجيًا، كما يقال: مَنْ صَمَتَ نَجَا »(1)، ولا يشهد على معيّن من أهل القِبلَة بأنه من أهل النار لجواز أن لا يلحقَه الوعيدُ لفوات شرطٍ أو لثبوتِ مانعٍ(2).
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في 21 رجب 1426ه
الموافق ل: 26 أوت 2005م
__________
1- «مجموع الفتاوى » لابن تيمية: (3/179).
2- «مجموع الفتاوى » لابن تيمية: (35/ 165، 166)، (10/370، 372).(1/26)
الفتوى رقم: 529
في كيفية التعامل مع امرأةٍ تمارس السحر
السؤال: كيف يمكنُ التعاملُ مع امرأةٍ تُؤْذِي جميعَ أفراد العائلة بِشَرِّهَا واستعمالها السحر، رغم أنّ أفرادَ العائلةِ كلَّهم مسالِمون؟ أفيدونا جزاكم الله خيرًا.
الجواب: الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فإذا تحقَّقَ مَنْ يُسَاكِنُهَا مِن استعمالها السحرَ وفسادِها به أن يَرفع أمرَها إلى وَلِيِّ الأمر ليُنْزِلَ عليها ما تستحقُّه من عقوبةٍ جَزَاءَ عَمَلِهَا، والواجبُ على وليِّ الأمر تخليصُ المجتمعِ من فسادِ السحرةِ، ليَسْلَمَ الناسُ من شرِّهم، وإلاَّ فينبغي اجتنابها واتقاءُ شرِّها في حدود الإمكان. واللهُ المستعان؛
ذلك لأنّ السّحر محرَّمٌ بالكتاب والسُّنَّة والإجماع، قال الله تعالى: ?وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ? [البقرة: 102]، وقال تعالى: ?وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى? [طه: 69]، وقال الله تعالى عن موسى مع سحرة فرعون: ?فَلَمَّا أَلْقَواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ? [يونس: 81]، وقال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الموبِقَاتِ: الشِّرك بِاللهِ، وَالسِّحْر... »(1).
وذَكَرَ الإمامُ النوويُّ إجماعَ العلماءِ على تحريم السِّحْرِ، وهذا كلُّه إذا كان سِحْرُها بواسطة الشياطين فإنَّها تكفر، ولكن إذا كان سحرها بالأدوية والعقاقير فلا تكفر، وإنَّما تكون عاصية.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيِّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 22 رجب 1427ه
الموافق ل: 16 أوت 2006م
__________
1- أخرجه البخاري في «الوصايا »: (2615)، ومسلم في «الإيمان »: (89)، وأبو داود في «الوصايا »: (2874)، والنسائي في «الوصايا »: (3671)، وابن حبان: (5561)، والبيهقي: (12935)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(1/27)
الفتوى رقم: 593
حُكم «صلاة الفاتح لِمَا أُغلق »
السؤال: ما حُكْمُ صلاةِ الفاتِحِ التي يلتزمها التِّيجانِيُّون عَقِبَ الصلواتِ وَفْقَ الطريقةِ الصُّوفيةِ؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فمِنَ المؤاخَذاتِ التي تُلاحَظُ على وِرْدِ «صلاةِ الفاتحِ لِمَا أُغْلِقَ »(1) للفِرقَة التيجانية ما جاء في «جواهر المعاني » الذي قام بجمعه عليُّ بنُ حَرَازِم:« إنّ المرَّةَ الواحدةَ من صلاة الفاتح تَعْدِلُ كلَّ تسبيحٍ وقع في الكون، وكلّ ذِكْرٍ، وكلّ دعاءٍ كبيرٍ أو صغيرٍ، وتعدلُ تلاوةَ القرآن سِتّةَ آلافِ مرّة ».
ولا يخفى ضلالُ هذا القول بجعل «صلاة الفاتح » أفضل من ذكرٍ واحدٍ مأثورٍ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم فضلاً عن سائر الأذكار التي وقعت في الكون، بل تفوقُ تلاوةَ القرآن أجرًا ومثوبةً، وقد ثبت عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم أنه قال:« أَفْضَلُ مَا قُلْتُهُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدْيرٌ »(2).
ومن هذه الاعتقادات الفاسدةِ قولهم:« مَنْ لم يعتقدْ -أي: صلاةَ الفاتح- من القرآن لم يصبِ الثوابَ فيها »، وقال في «الدُّرَّةِ الخَرِيدَةِ شَرْح الياقوتةِ الفريدة » للسُّوسِي:« إنّ هذه الصلاةَ هي من كلامِ الله تعالى بِمَنْزلة الأحاديث القُدسية »، «وأنّ مَن قرأها كُفِّرت به ذُنوبُه، وَوُزِنَتْ له سِتَّةُ آلافٍ من كلِّ تسبيحٍ ودعاءٍ وذِكْرٍ وَقَعَ في الكون »، «وأنّ من تلا الفاتحَ عشرَ مرَّات كان أكثرَ ثوابًا من العارفِ الذي لم يذكرها، ولو عاش ألفَ ألفَ سنةٍ ».
وجاء في «جواهر المعاني » -أيضًا-:« إنّ هذا الوردَ ادّخره لي رسول الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم ولم يعلِّمه لأحدٍ من أصحابه… لِعِلْمِهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم بتأخير وقته، وعدمِ وجود من يُظهرُه اللهُ على يديه »، وقد نهى النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم أحمدَ التِّيجاني عن التوجّه بالأسماء الحسنى، وأمره بالتوجّه بصلاة الفاتح لِمَا أُغلق.
ولا يغيبُ عن كلِّ ذي عقلٍ ما فيه من اتهامِ النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم بكِتمان العلم وخيانته للأمانة، وهو محالٌ على الأنبياء والرسل، قال تعالى:( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ) [المائدة: 67]، ثمّ إنّ أَمْرَهُ له بِعَدَمِ التوجّه إلى الله تعالى بأسمائه الحُسنى وصفاته العُلْيَا مخالفٌ لصريح قوله تعالى:( وَللهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا ) [الأعراف: 180].
فهذا غَيْضٌ من فَيْضٍ مِنْ مُعْتَقَدِ الفِرقة التِّيجانية في «صلاة الفاتح لِمَا أُغْلِقَ » فضلاً عن الأفكار البدعية والمعتقدات الشركيةِ التي تَعتقدها هذه الطريقةُ الصوفيةُ كإيمانهم بوِحْدَةِ الوُجُودِ، وإيمانهم بالفَنَاءِ الذي يطلقون عليه اسم «وِحْدَة الشُّهود »، وتقسيم الغيب إلى: غيبٍ مُطلَقٍ استأثرَ اللهُ بعلمه، وغيبٍ مُقيّدٍ وهو ما غاب عن بعض المخلوقين وعَلِمَه أربابُ الأحوال من مشايخ المكاشفات بإظهار المضمرات وإخبار المغيَّبات وعلمٍ بعواقب الحاجات وما يترتّب عليها من المصالح والآفات وغير ذلك من الأمور الواقعات…
فاعتبروا يا أولي الأبصار.
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 2 صفر 1428ه
الموافق ل: 20 فبراير 2007م
__________
1- صيغة «صلاة الفاتح لِمَا أُغْلِقَ » التي يدّعي أحمد التيجاني أنه تعلّمها من النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم في لقاء مباشر في اليقظة حسي ومادي ما يلي:« اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ الفَاتِحِ لِمَا أُغْلِقَ، وَالخَاتِمِ لِمَا سَبَقَ، نَاصِرِ الحَقِّ بِالحَقِّ، الهَادِي إِلَى صِرَاطِكَ المُسْتَقِيمِ، وَعَلَى آلِهِ حَقَّ قَدْرِهِ وَمِقْدَارِهِ العَظِيمِ ».
2- أخرجه الطبراني في:« فضل عشر ذي الحجة »: (13/2) كما في «السلسلة الصحيحة »: (4/6) ، وإسماعيل بن عبد الغافر الفارسي في «الأربعين »، كما في «كنز العمال » للمتقى الهندي: (1/836)، من حديث علي رضي الله عنه. والحديث حسنه الألباني في «السلسلة الصحيحة »: برقم: (1503).(1/28)
الفتوى رقم: 667
في ثبوت وصف الشرك مع الجهل وقبل قيام الحجة
السؤال:
لا يخفى عليكم ما ابْتُلِيَتْ به هذه الأمّةُ بوقوعها في أكبر الذنوب وهو الشرك بالله جلّ وعلا، وفي مدينتنا لا تكاد تجد بيتًا يخلو من التعلّق في الصالحين والاعتقادِ فيهم ببعض خصائصِ الربوبيةِ، والتقرّبِ إليهم بأنواعٍ من العبادة، وذلك عن جهلٍ وكثرةِ دُعاة الضلالة إلى ذلك.
وسؤالنا: هل يُحكم على هؤلاء بعينهم أنهم مشركون ويعامَلون معاملتَهم؟ وهل إذا ماتوا على ذلك يجوز الترحّم عليهم والدعاء لهم؟ أفيدونا، وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فلا ترتفعُ صفةُ الشِّركِ على المتلبِّسِ بالشرك الأكبرِ، وتثبتُ مع الجهل قبل قيام الحُجَّة الرِّسالية وبعدَها؛ لأنّ عبادةَ غيرِ اللهِ لا توجد مع الإسلام البتة، ولا توجد إلاّ من مُشركٍ وإن كان مُصرّحًا بالإسلام، ومعنى ذلك أنّ مَنْ عَبَدَ اللهَ تعالى وعَبَدَ معه إلهًا آخَرَ لم يكن مُسلمًا، ومَن لَمْ يَعْبُدْهُ بل استكبرَ عن عبادته لم يكن مُسلمًا، فالمشركُ ليس من عِداد المسلمين؛ لأنّ دِينَ الإسلام الذي ارتضاه اللهُ وبعثَ به رُسُلَهُ هو الاستسلام لله وحده، والخضوعُ له وحده لعبادته دون ما سواه؛ ذلك لأنّ الناس على صِنفين: إمّا موحّد لا يعبد إلاّ الله وحده لا شريك له، وإمّا مُشركٌ يعبدُ غيرَ اللهِ تعالى، وليس في بني آدمَ قسم ثالث، فكلّ من قدّم شيئًا لغير الله ممَّا لا يكون إلاّ لله من خصائص الإلهية فليس ممَّن عَبَدَ اللهَ مُخلصًا له الدِّين، وإذا لم يكن مُوحِّدًا كان مُشركًا ولا ثالث لهما، وقد ذَكَرَ ابنُ القيِّم -رحمه الله- في معرِض قوله تعالى: ?وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ? [البقرة: 130]، أنّ الله تعالى قسم الخلائق قسمين: سفيهًا لا أَسْفَهَ منه، ورشيدًا؛ فالسفيهُ من رَغِبَ عن مِلَّتِهِ إلى الشِّرك، والرشيدُ من تَبَرَّأَ من الشِّرك قولاً وعملاً وحالاً فكان قولُه توحيدًا، وعملُه توحيدًا، وحالُه توحيدًا، ودعوتُه توحيدًا. فالمعرِضُ عن التوحيد مُشرك شاءَ أم أبى، والمعرِض عن السُّنَّة مُبتَدِعٌ ضالٌّ شاء أم أبى(1).
هذا، وينبغي أن يعلم أنّ ثبوت صفة الشرك قبل قيام الحُجَّة عليه له حكم يختلف عنه بعد قيام الحُجَّة، فصاحبُ الشِّرْكِ قَبْلَ قيام الحُجَّة مُشركٌ لكن لا يستحقُّ صاحبُه العقوبةَ في الدَّارَيْنِ: القتل في الدنيا، والخلود في النار في الآخرة، وهذا إنما يكون للمشرِك بعد قيام الحجَّة الرِّسالية(2)؛ لأنّ العقوبةَ والعذابَ متوقّفٌ على بلاغ الرسالة لقوله تعالى: ?وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً? [الإسراء: 15]، فالشركُ ثابتٌ في كِلتا الحالتين: قبل البلاغ وبعده، غير أنه من لم تبلغه الحُجَّة الرِّسالية فشركه غير معذّب عليه؛ لأنه «لاَ تَكْلِيفَ إِلاَّ بِشَرْعٍ »، «وَالشَّرْعُ يَلْزَمُ بِالبَلاَغِ مَعَ انْتِفَاءِ المُعَارِضِ »، وأهله قبل بلوغ الحُجَّة ليسوا بموحِّدين.
فالحاصل: إنّ مَنْ لَمْ تبلغْهُ الدعوةُ والحُجَّة الرِّساليةُ وكان متلبِّسًا بالشرك الأكبر فمعذورٌ لعدم البلاغ لا لمجرّد الجهل، إذ لا يعذر في أصول الإيمان بجهله، قال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه:« وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلاَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ »(3)، فمن لم تبلغه الدعوةُ بحالٍ ولا سمع بها بخبر فينتفي عنهم الكفر باعتبار ما يترتَّب عليه من العقوبة في الدارين -كما تقدّم- غير أنه لا يُحكم بإسلامهم ولا يدخلون في مُسَمَّى المسلمين؛ لأنّ الشرك يصدق عليهم واسمه يتناولهم ولا يبقى إسلام مع مناقضة قاعدته الكبرى شهادة:« أن لا إله إلاّ الله »؛ فشأنهم كشأن أطفال المشركين الذين ماتوا قبل أن يميّزوا شيئًا فينتفي عنهم الشرك باعتبار أنه لا يترتَّب عليهم من العقوبة في الدارين غير أنهم مشركون في أحكام الدنيا لهم حكم أوليائهم.
أمّا مَنْ بلغته الحُجَّة الرِّسالية -خاصّة ممّن يعيش في البلدان الإسلامية- فإنّ وصف الشِّرك يثبت في حقّه بمجرّد فِعله ويستحقّ الوعيد بالعذاب ولا عُذر له بالجهل بأصول الإيمان، -لِمَا تقدَّم من حديث أبي هريرة السابق- ولا علاقةَ ترابطية بين حُكم الشِّرك ونفي العذاب، فكلُّ مُعذّب في الدارين فهو مُشرك، وليس كلّ مشركٍ معذّبًا إلاّ بعد قيام الحجّة الرسالية.
هذا، ويفترض في الناطق بالشهادتين تحقّق شروط التوحيد «لا إله إلاّ اللهُ »، وتجري عليه أحكام الإسلام ما لم يقترن به شركٌ أو تغيَّر اعتقاده بإتيانه بناقِضٍ من نواقض الشهادتين، فتجري عليه أحكام الردّة.
والواجب على المسلم بُغْضُ الشِّركِ وأهلِْهِ بلا محبّةٍ فيه ويوافق ربَّه فيما يَسخَطُه ويكرهه ولا يرضاه من الأقوال والأفعال والاعتقادات، فيتبرّأ منها على وجه الملازمة والاستمرار، ومن حقوق البراء عدم مودّة أهل الشرك واتخاذهم أولياء، لقوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ? [الممتحنة: 1]، وألا يستغفر لهم ولا يترحّم عليهم، قال تعالى: ?مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجَحِيمِ? [التوبة: 113]، غير أنّ معاداةَ أهل الشرك وعدمَ الرضا عنهم لا تعني الإساءة إليهم بالأقوال والأفعال، فبرُّ الوالدين المشركَين ومعاشرةُ الزوجةِ الكتابية بالإحسان والتعاملُ مع الكفار عمومًا بالمخالَقَةِ الحَسَنَةِ خُلُقٌ نَبِيلٌ يأمر به الشرعُ، حيث يقول سبحانه وتعالى: ?وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا? [لقمان: 15]، وقال سبحانه: ?وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ? [النساء: 19]، وقال تعالى: ?لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ? [الممتحنة: 8]، هذا من حيث المعاملةُ، أمّا تأييد أهل الشرك على شركهم ونصرته لهم فحرامٌ، وقد ترتقي حُرمَتُهُ إلى حدِّ الكفر بالله تعالى، قال عزّ وجلّ: ?وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ? [المائدة: 51].
هذا، ونسأل اللهَ تعالى أن يُبْعِدَنَا من الشِّرك والفِتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يوفِّقَنَا لأَنْ نكون كُلُّنَا له في محيانا ومماتِنا وسائرِ تصرّفاتِنا وأعمالِنا، مِصْدَاقًا لقوله تعالى: ?قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ? [الأنعام: 162-163].
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 9 ربيع الأول 1428ه
الموافق ل: 28 مارس 2007م
__________
1- مدارج السالكين لابن القيم: (3/446).
2- مسألة إيقاع العقوبة على المشرك الداخلة في مسائل الردّة والتكفير إنما هي من اختصاص القضاء الشرعي الذي يخوّله الحاكم المسلم لأهل العلم والمشهود لهم بالتمكين والعدل من أهل السنّة الذين أخذ الله عليهم العهد والميثاق، وليس لأحد أن يولي نفسه لهذا الأمر بدون تخويل من السلطة الشرعية.
3- أخرجه مسلم في «الإيمان »: (153)، وأحمد: (8397)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(1/29)
الفتوى رقم: 675
في تحديد شكل الصليب المنهى عنه
السؤال:
هل تعتبر العلامة الموجودة في مقدّمة ومؤخّرة سيارة (المرسداس (Mercedes على شكل صليب، وسيارة (الشوفرولي Chevrolet) صليبًا؟ وهل يجب إزالته، ولو أدّى ذلك لتقهقر ثمنها في السوق عند بيعها؟ وفّقكم الله لبيان الحكم الشرعي، وجزاكم اللهُ كلَّ خير.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فلا يعدُّ كُلُّ تقاطُعٍ صليبًا مَنْهيًّا عنه ومحذورًا، وإنما الصليبُ هو المعروف حاليًّا كشِعارٍ للنصارى تقدِّسُهُ وتعظِّمُهُ على وَجْهِ العبادة، وهو -في الغالب الأعمِّ- يظهرُ شكلُ التقاطعِ فيه على زوايا قائمةٍ، ويكون أسفلُ الصليب أطولَ من أعلاه تحمله النصارى كعلامةٍ بارزةٍ وسمة غالبة على أنهم أتباعُ المسيحِ عيسى بنِ مريمَ عليه السلام(1)، ومِنْ ثَمَّةَ فلا يجوزُ لمسلمٍ أن يرفعَ هذا الشعارَ الشركيَّ لِمَا فيه من عبادةٍ من دون الله، والتشبهُ بهم فيه حرامٌ، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ… »(2).
وعليه، فالصليبُ بهذا الاعتبار إِنْ دخلَ تحت مِلكه وحِيازته نَقَضَهُ بالطَّمْسِ أو اللصق أو اللطخ أو بأيِّ وسيلةٍ تتلاءم مع المحافظة على أصل الشيء الذي تعلّق به الصّليب بحيث تُغَيَّبُ هيئته أو تُزالُ، لحديث عِمران بنِ حِطَّانَ أنّ عائشةَ رضي الله عنها حَدَّثَتْهُ أنّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« لَمْ يَكُنْ يَتْرُكُ فِي بَيْتِهِ شَيْئًا فِيهِ تَصَالِيبُ إِلاَّ نَقَضَهُ »(3)، قال ابنُ حَجَرٍ:« فإذا كان المرادُ بالنَّقْضِ الإزالةُ دَخَلَ طَمْسُهَا فيما لو كان نقشًا في الحائط أو حكّها أو لطّخها بما يُغَيِّبُ هَيْئَتَهَا »(4)، فإن لم يستطع باليد غيرَّ ببقية مراتبِ الإنكار الأخرى، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ »(5).
هذا، وإذا تبيّن شكلُ الصليبِ الذي تتّخذه النصارى شِعارًا لها وهو موضع التقديس والتعظيم فليس في كِلْتَا السيارتين المذكورتين وَجْهٌ له حتى يَنْقُضَهُ.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 18 ربيع الثاني 1428ه
الموافق ل: 05 ماي 2007م
__________
1- للصليب أنواعٌ متعدّدة منها: صليب القدّيس جورج، وصليب القدّيس أندرو، وصليب لورين، وصليب مالطا، وصليب الكنيسة الكاثوليكية، وصليب أطوني، وصليب أورشليم، والصليب المعكوف وغيرها، ويدخل فيه «الصليب الأحمر » والتصاليب الموضوعة على أعلام بعض الدول الأوروبية كعَلم سويسرا وإنجلترا وفنلاندا وغيرها، والمتعارف عليه عند الكلّ ما ذكر في نصّ الجواب.
2- أخرجه أبو داود في «اللباس »: (4033)، وأحمد: (5232)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وصححه الألباني في «الإرواء »: (1269).
3- أخرجه البخاري في «اللباس »: (5608)، وأبو داود في «اللباس »: (4151)، وأحمد: (23740)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
4- «فتح الباري » لابن حجر: (10/385-386).
5- أخرجه مسلم في «الإيمان »: (177)، وابن ماجه في «الفتن »: (4013)، والبيهقي: (20759)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.(1/30)
الفتوى رقم: 715
في حكم ذمّ عصر الفتن وتقبيح الزمن والأيام
السؤال:
يقوم بعضُ الناس فيما نسمعه بذمِّ عصر الفتن وتقبيح أيّامِها السود؛ فهل هذا ينافي التوحيد أم لا؟ أفيدونا جزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فمن سبّ الوقتَ وقبّحَ الزمنَ وذمّ الدهرَ فقد سبّ الفاعلَ وهو الله تعالى، فالأيامُ والسِّنُون ليست محلاًّ للسبّ والتقبيح؛ لأنّها ليست هي التي أوجدت ما يكرهه السابُّ، وإنّما هو الله تعالى الفاعِلُ والموجِدُ لها، وفي حديث أبي هريرة المتّفق عليه أنّ رسول الله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قال:« قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَم يَسُبُّ الدَّهْرَ وَأَنَا الدَّهْرُ أُقَلِّبُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ »(1)، وَفي رواية لمسلم:« لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ يَا خَيْبَةَ الدَّهْرِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الدَّهْرُ »(2)، والمراد:« فَأَنَا الدَّهْرُ » أي: مُدبِّر الدهر ومصرِّفه بإرادته سبحانه وتعالى، لقوله تعالى: ?وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ? [آل عمران: 140]، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
فمن سبَّ الوقتَ وقبّح الأيام والشهور والسنين فقد آذى الله سبحانه وتعالى؛ لأنّه هو سبحانه الذي أوجد ما يكرهه العبدُ ويتألّم به، واللهُ تعالى يتأذّى ببعض أفعال عباده وأقوالهم التي فيها إساءة في حقّه، كما قال صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« لَيْسَ أَحَدٌ أَصْبَرَ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنَ اللهِ تَعَالى، إِنَّهُمْ لَيَدعُونَ لَهُ وَلَدًا، وَيَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ »(3)، فالأَذِيَّة لله ثابتة؛ لأنّ الله أثبتها لنفسه كما في الحديثين السابقين، وفي قوله تعالى: ?إِنَّ الذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا? [الأحزاب: 57]، ولكنّها ليست كأَذِيَّة المخلوق، لقوله تعالى: ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ? [الشورى:11]، والأذية وإن كانت ثابتة لله تعالى فإنّه سبحانه لا يتضرّر بذلك؛ لأنّ الله تعالى لا يضرّه شيء، قال سبحانه: ?وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا? [آل عمران: 176]. وفي الحديث:« يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي »(4).
والواجب على أهل الإيمان حسن الظنِّ بالله ـ إذا أصابهم ما يكرهون ـ وأن يحمدوا الله على كلّ حال، ويرضوا بقضاء الله وقدره، وأنّ ما أصابهم إنّما بسبب الذنوب والمعاصي، وعليهم أن يرجعوا إلى الله بالتوبة والإنابة ويصبروا على ما حلّ بهم من مصائب ويحتسبوا أجرها عند الله تعالى.
وجديرٌ بالتنبيه أنّه لا يدخل في باب سبّ الوقت أو ذمّ الزمن أو تقبيح الدهر وصف السنين بالشدَّة والأيّام بالنحس إذا ما أضيف الوصف إلى الناس لا إليها، كقوله تعالى: ?ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ? [يوسف: 48] أي: شداد عليهم، وفي قوله تعالى: ?فِي يَوْمٍ نَحْسٍ مُسْتَمِر? [القمر: 19] أي: نحس على الناس، أمّا الأيّام والسنون فليس لها من الأمر في شيء، والأمر كلّه لله.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 6 شعبان 1428ه
الموافق ل: 19 أغسطس 2007م
__________
1- أخرجه البخاري: (13/464) في التوحيد: باب قول الله تعالى: ?يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللهِ?، ومسلم: (15/3) في «الألفاظ من الأدب وغيره »: باب النهي عن سبّ الدهر، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2- أخرجه مالك في «الموطأ »: (3/148) في «الكلام »: باب ما يكره من الكلام، والبخاري: (10/564) في «الأدب »: باب لا تسبوا الدهر، ومسلم: (15/3). في «الألفاظ من الأدب وغيره »: باب النهي عن سب الدهر، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
3- أخرجه البخاري: (13/360) في التوحيد: باب قول الله تعالى: ?إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينِ?، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
4- أخرجه مسلم: (16/132) في «البر والصلة »: باب تحريم الظلم، من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه.(1/31)
الفتوى رقم: 842
في الضابط المميِّز لمجال الشرك الأكبر من الأصغر
السؤال:
أريد أن أسأل عن كيفية معرفة الأمور التي نحكم عليها بأنها شرك أكبر مميَّزًا عن الشرك الأصغر بتحديد ضابطٍ يُفرِّق بين مجال كُلِّ واحدٍ منهما؟ وجزاكم اللهُ خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فاعلم أنَّ مجالَ الشِّركِ الأكبرِ يكمن في عقائدِ القلوبِ سواء بتسوية غير الله بالله فيما هو من خصائص الله تعالى، وهو المعنى العامُّ للشرك الأكبر، أو باتخاذ مع الله ندًّا أو نظيرًا يعبده كما يعبد الله، ويطيعه كما يطيع الله تعالى، قال الله تعالى: ?وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاَءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ? [يونس: 18]، وقال تعالى: ?أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللهُ? [الشورى: 21]، ومنه يتبيّن أن الشرك الأكبر ينافي التوحيد.
أمّا مجال الشرك الأصغر فهو في هيئة الفعل أو القول باللسان أو الإرادات الخفية، مثل تسوية غير الله بالله في هيئة الفعل: التطير، والتمائم، والرقى الشركية، والنشرة إذا أتى بها من غير اعتقاد فاعليتها أو تأثيرها بنفسها، والاستسقاء بالأنواء إذا اعتقد أنّ ذلك بإذن الله.
- وقد تكون تسوية غير الله بالله سبحانه في قول اللسان كالحلف بغير الله، وقول القائل: ما شاء الله وشئت، أو اللهم اغفر لي إن شئت، وقوله:« قاضي القضاة » أو كالتعبُّد لغير الله كعبد الرسول، وعبدِ النبي، وعبدِ الحارث، وما إلى ذلك، قال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« إِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ لاَ يُلْقِي لَهَا بَالاً يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ »(1).
- وقد تكون تسوية غير الله بالله سبحانه في الإرادات القلبية الخفية كالرياء فقد ثبت في الحديث قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« أَخْوَفُ مَا أَخَافُهُ عَلَيْكُمُ الشِّرْك الأَصْغَر »، فسئل عنه، قال:« الرِّيَاءُ »(2)، ومنها: والسمعة والتصنُّع وإرادة الدنيا ببعض الأعمال ونحو ذلك.
غير أنّ هذه الأقسام من الشرك الأصغر تنافي كمال التوحيد وقد تنقلب إلى شرك أكبر إذا لازمه اعتقاد قلبي بتعظيم غير الله كتعظيم الله، أو يغلب على أعمال العبد الرياء والإرادة بعمله الدنيا، ولا يريد به وجهَ الله تعالى، أو يكون المراءاة في أصل الإيمان، لذلك ينبغي الحذر كلّ الحذر من الشرك الأصغر خشية الوقوع في الأكبر لكثرة الاشتباه فيه، فقد يحصل الظنّ فيما هو من الشرك الأصغر ولكنه في حقيقته يعدّ من الشرك الأكبر، ولا يخفى أنّ الشرك الأكبر مخرج للعبد من مِلَّةِ الإسلام، ومحبط للأعمال كلِّها جملة وتفصيلاً، ومُحِلٌّ للأموال والنفوس، وإذا مات عليه من غير توبة لم يدخل تحت المشيئة كما هو حال الشرك الأصغر، وإنما كان ذلك موجبًا للخلود في النار -والعياذ بالله- قال تعالى: ?إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ? [النساء: 48].
وحَرِيٌّ بالتنبيه إلى وجود فَرْقٍ بين الشِّرك والكفرِ الذي يتَّفق مع الشرك في تسوية غير الله مع الله، ويزيد عليه بالجحد المطلق، وهو جحد ما لا يتمُّ الإسلام بدونه أو كماله، ومن هذا التصوُّر يظهر بينهما العموم والخصوص المطلق، فكلُّ شركٍ كفرٌ وليس كلُّ كُفرٍ شرك ، والكفر على نوعين -أيضًا- أكبر وأصغر، ومن أنواع الكفر الأكبر: كفر التكذيب، والشك، والإباء والاستكبار، وكفر الجهل، والنِّفاق، والاعتقاد، والفعل، والقول، ومن الكفر القولي: كفر تكذيب، وتعطيل، وتمثيل.
أمّا الكفر الأصغر فهو أنواع أيضًا منها كفر النعمة، وترك الصلاة، وإتيان المرأة في دبرها ونحو ذلك.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا التوحيد الخالص، والاتباع الصادق، وأن يجنِّبنا ما يضادّ التوحيد مما ينافيه أو ينافي كماله من الشرك الكفر الأكبر والأصغر ونحوهما.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 01 صفر 1429ه
الموافق ل: 08/02/2008م
__________
1- أخرجه البخاري في «الرقاق »، باب حفظ اللسان..: (6113)، ومسلم في «الزهد »، باب حفظ اللسان: (7481)، والترمذي في «الزهد »، باب فيمن تكلم بكلمة يضحك بها الناس: (2314)، وابن ماجه في «الفتن »، باب كف اللسان في الفتنة: (3970)، وأحمد في «مسنده »: (8206)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2- أخرجه أحمد في «مسنده »: (23119)، والبيهقي في «شعب الإيمان »: (6831)، والطبراني في «المعجم الكبير »: (4/253)، من حديث محمود بن لبيد رضي الله عنه. وجوّد إسناده المنذري في «الترغيب والترهيب »: (1/34)، والألباني في «السلسلة الصحيحة »: (951).(1/32)
02- أركان الإيمان
01- مسائل الإيمان
الفتوى رقم: 204
دخول الأعمال في مسمى الإيمان
السؤال: ما هو القدر المجزئ من الإيمان الذي يستحق صاحبه دخول الجنة؟ أهو قول واعتقاد فقط؟ وإن كان قولا واعتقادا وعملا فما هو القدر المجزئ من العمل؟ وفقكم الله لما يحبه ويرضاه وجزاكم الله خيرا.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فبغضّ النظر عن حكم تكفير تارك الصلاة من عدم تكفيره، فإنّ جنس العمل عند أهل السُنّة والجماعة هو من حقيقة الإيمان وليس شرطًا فقط، فالإيمان هو: قول ، وعمل، واعتقاد، لا يصح إلاّ بها مجتمعة، ولذلك كان الإمام الشافعي -رحمه الله- يرى عدم تكفير تارك الصلاة مع حكايته الإجماع أنّه لا يجزئ إيمان بلا عمل، والفرق مع الخوارج والمعتزلة الذين يقررون أنّ الإيمان: قول وعمل واعتقاد أنّ الإيمان -عندهم- يزول بزوال العمل مطلقاً بخلاف أهل السُنّة ففيه من الأعمال ما يزول الإيمان بزواله سواء كان تركاً -كترك الشهادتين وجنس العمل اتفاقاً، أو ترك الصلاة على اختلافٍ بين أهل السنة أو كان فعلاً كالذبح لغير الله والسجود للصنم...- والعمل في هذا القسم شرط في صحته، وفيه من العمل ما ينقص الإيمان بزواله ولا يزول كلّياً، أي: يبقى معه مطلق الإيمان لا الإيمان المطلق مثل الذنوب دون الكفر، فالعمل في هذا القسم شرط في كماله.
وعليه، فخلُوّ إيمان القلب الواجب من جميع أعمال الجوارح ممتنع وغير متصوَّر، وضمن هذا التقرير يصرِّح ناشر مذهب السلف شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- بقوله :" إنّ جنس الأعمال من لوازم الإيمان، وإنّ إيمان القلب التامّ بدون شيء من الأعمال الظاهرة ممتنع سواءً جعل الظاهر من لوازم الإيمان أو جزءًا من الإيمان"(1).
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليما.
الجزائر في:09 ربيع الأول 1426هـ
الموافق لـ: 18 أفريل 2005م
__________
1- مجموع الفتاوى:(7/616).(1/33)
الفتوى رقم: 217
في مسألة الاستثناء في الإيمان
السؤال: هل معتقدُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ هو الاستثناء في الإيمان، أم أنّهم يمنعون الاستثناءَ فيه لكونه شكًّا في الإيمان؟ أفيدونا جزاكم اللهُ خيرًا.
الجواب: الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فقول الرجل:« أنا مؤمنٌ إن شاء الله »، هو مذهب أهلِ السُّنَّة في مسألة الاستثناء في الإيمان، لكن باعتبار كمال الإيمان وعدم العلم بالعاقبة، لا باعتبار أصل الإيمان أو الشكِّ فيه، ومِنْ عُلماء أهل السُّنَّة والجماعة من يرى التفصيل في هذه المسألة: فإِنْ صَدَرَ منه الاستثناء في الإيمان عن شكٍّ فيه أي: الشكّ في وجود أصل الإيمان وهو مُطلق الإيمان، فهذا محرَّم، بل هو كُفْرٌ لِصُدُورِهِ عن شَكٍّ مُنَافٍ للإيمان المطلوبُ فيه الجزم والقطع بحصوله، أمّا إن صدر منه الاستثناء لا على وجه الشَكِّ، وإنّما خشية الشهادة للنفس بتحقيق الإيمان المطلق، أي: أنَّ المستثنيَ يخاف تزكيةَ النفس باستكمال الإيمان، فهذا الاستثناء واجب تجنُّبًا من الوقوع في محذور تزكية النفس والشهادة لها بما يخاف أن لا يكون متحقّقًا فيه، أي: لا يدري أهو ممّن يستحقّ حقيقة الإيمان أم لا؟، وتجديد المشيئة منه تزكية للنفس بلا علم، ولهذا لَمَّا قيل لابن مسعود رضي الله عنه:« إنّ هذا يزعم أنّه مؤمن »، قال:« فَسَلُوهُ أَفِي الجَنَّةِ هُوَ أَوْ فِي النَّارِ؟ »، فقال الرجل:« الله أعلم »، فقال ابن مسعود رضي الله عنه:« فهلاَّ وَكَّلْتَ الأُوْلَى كَمَا وَكَّلْتَ الآخِرَةَ »(1). ذلك لأنّ جميع الطاعات -عند أهل السُّنَّة- داخلة في مُسَمَّى الإيمان، وهو متضمِّنٌ لفعل الواجبات فلا يشهدون على أنفسهم القيام بجميع الطاعات بما في ذلك الواجبات، فمن هذا المأخذ يقتضي وجوب الاستثناء، وإنّما يكون في الأعمال الموجبة لحقيقة الإيمان، ولكن ذلك لا يمنع من ترك الاستثناء إذا ما أريد أصل الإيمان أو مطلقه.
أمّا إن كان يقصد بالاستثناء أنّ ما حصل له في قلبه من الإيمان هو بمشيئة الله، أو أنّه عَلَّقه على وجه بيان التعليل، أو قصد به التبرُّك بذكر المشيئة ونحو ذلك فجائز، وقد جاء التعليق بمشيئة الله في بعض النصوص على أمور محقّقة، لا يعتريها شكّ على نحو قوله تعالى:( لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الحَرَامَ إِن شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ ) [الفتح: 27]، وفي قوله صَلَّى الله عليه وآله وسَلَّم في زيارة القبور:« السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ دِيَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لاَحِقُونَ »(2)، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قال:« لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ، وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لأُمَّتِي يَوْمَ القِيَامَةِ فَهِيَ نَائِلَةٌ -إِنْ شَاءَ اللهُ- مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لاَ يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا »(3).
هذا، وجدير بالتَّنْبِيه أنّ أصلَ مسألةِ الاستثناءِ أَحْدَثَهَا المرجئةُ لِيَجِدُوا حُجَّةً على مقالتهم في الإيمان تشفع لهم صِدْقَ اعتقادهم، وَوَجْهُ ذلك أنّ الرجل يعلم من نفسه أنّه ليس بكافر، بل يجد قلبَه مصدِّقًا بما جاء به الرسول صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، فيقول: أنا مُؤْمِنٌ، فيحرم عليه الاستثناء مُطلقًا، ليثبت لهم أنّ الإيمان هو عبارة عن التصديق القلبي فحسب(4)، وأمّا الكلابية فقالوا بوجوب الاستثناء مُطلقًا، وقول كلا الطائفتين خطأ سواءً القول بتحريم الاستثناء مطلقًا أو بوجوبه مطلقًا، ومذهب الحقّ هو الوسط بلا إفراط ولا تفريط وهو مذهب السلف فأجازوا الاستثناء باعتبار كمال الإيمان وعدم العلم بالعاقبة، ومنعوه باعتبار أصل الإيمان، أو الشكّ فيه(5).
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
__________
1- أخرجه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب «الإيمان »: (67)، والآجري في «الشريعة »: (139)، وابن بطة في «الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية »: (2/869).
2- أخرجه مسلم في «الطهارة »: (607)، وأبو داود في «الجنائز »: (3239)، والنسائي في «الطهارة »: (151)، وابن ماجه في «الزهد »: (4448)، ومالك في «الموطأ »: (59)، وأحمد: (8214)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
3- أخرجه مسلم في «الإيمان »: (512)، والترمذي في «الدعوات »: (3951)، وابن ماجه في «الزهد »: (4449)، وأحمد: (9752)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
4- مجموع الفتاوى لابن تيمية: (7/448).
5- انظر: تفصيل المسألة في المصدر السابق: (7/429-460)، شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز: (351-353).(1/34)
الفتوى رقم: 455
في قابلية تأويل حديث عمران بن حصين رضي الله عنه لعدم العذر بالجهل
السؤال: عن عِمْرَان بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّمَ أَبْصَرَ عَلَى عَضُدِ رَجُلٍ حَلْقَةً أُرَاهُ قَالَ مِنْ صُفْرٍ فَقَالَ:« وَيْحَكَ مَا هَذِهِ؟ قَالَ: مِنَ الوَاهِنَةِ. قَالَ: أَمَا إِنَّهَا لاَ تَزِيدُكَ إِلاَّ وَهْنًا، انْبِذْهَا عَنْكَ فَإِنَّكَ لَوْ مِتَّ وَهِىَ عَلَيْكَ مَا أَفْلَحْتَ أَبَدًُا »(1)، هل الحديث صحيح؟ وما معنى قوله:« فَإِنَّكَ لَوْ مِتَّ وَهِىَ عَلَيْكَ مَا أَفْلَحْتَ أَبَدًا ».
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فحديثُ عمرانَ بنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه ضعيفٌ بشواهده، لا يحتجُّ به(2)، وعلى تقدير صِحَّة الحديث فإنَّ عبارة:« فَإِنَّكَ لَوْ مِتَّ وَهِىَ عَلَيْكَ مَا أَفْلَحْتَ أَبَدًا » قابلة للتأويل ووجهه: إن عَمِلْتَ هذا العملَ بعد قيام الحُجَّة عليك من رسول الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وَسَلَّم ما أفلحت أبدًا، أي: يكون عدمُ العذر بالجهالة بعد قيام الحُجَّةِ عليه، أو تكون الحُجَّة قائمة عليه، والمعتبر في بلوغ الحُجَّة إمكان العلم وعدم الجهل، إذ لا تكليف إلاَّ بعد العلم بالحُجَّة الشرعية الرسالية على حال المعيّن على وجه الخصوص، لذلك تقرَّر عند العلماء أنَّ: مِنْ شَرْط تحقيق الشهادتين قَبولُها، وقَبولُها: العلمُ المنافي للجهل، واليقين المنافي للشكِّ.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في:29 ربيع الثاني 1427ه
الموافق ل: 27 ماي 2006م
__________
1- أخرجه ابن حبان: (6085)، وأحمد: (20535)، وأخرجه ابن ماجه في «الطب »: (3661) مختصرًا ليس فيه:« لَوْ مِتَّ وَهِىَ ... »، من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه. قال الشيخ الألباني في «السلسلة الضعيفة » (3/101):« ...وهذا سند ضعيف وله عِلَّتان: الأولى: عنعنة المبارك وهو ابن فضالة فقد كان مدلّسًا… الثانية: الانقطاع بين الحسن وعمران بن حصين، فإنّه لم يسمع منه كما جزم بذلك ابن المديني وأبو حاتم وابن معين ».
2- «سلسلة الأحاديث الضعيفة » للألباني: (1029)، وضعّفه في:« ضعيف ابن ماجه »: (709)، وفي:« غاية المرام »: (181)، وفي «موارد الظمآن »: (166).(1/35)
الفتوى رقم: 471
في الفرق بين الاسم المطلق ومطلق الاسم
السؤال: لقد أشكلَ علينا فَهْمُ كلامٍ لشيخ الإسلام في «العقيدة الواسطية » عند قوله:« وَنَقُولُ هو مؤمنٌ ناقصُ الإيمانِ، أو مُؤمنٌ بإيمانه فاسقٌ بكبيرته، فلا يُعطى الاسم المطلق، ولا يُسْلَبُ مطلق الاسم ». فما معنى قوله:« فلا يُعطى الاسم المطلق، ولا يُسلب مطلق الاسم »؟
الجواب: الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فعبارةُ شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- متعلِّقة بالفاسق المِلِّي، ومرادُه أنَّ أهلَ السُّنَّةِ والجماعةِ لا يُكفِّرون بمطلق المعاصي والكبائر، ويُفرِّقون بين مُطلق الشيء بمعنى أصل الشيء وبين الشيء المطلق الذي يعني الكمال، فهم لا يُسلِبونَ الفاسقَ المِلِّيَّ الإسلامَ بالكُلِّيَّةِ، أي: لا يُنْفُونَ عنه الإسلام، فلا يقال له: ليس بمؤمن؛ لأنَّ الله تعالى أثبت الأُخوَّةَ الإيمانية لهم مع وجود المعاصي، فقد جعل اللهُ المقتولَ أخًا للقاتل فاعلِ الكبيرةِ كما في آية القصاص من قوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ فِي القَتْلَى? إلى قوله تعالى: ?فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ? [البقرة: 178]، كما جعل اللهُ تعالى الطائفةَ المصلحة إخوة للطائِفَتين المقتَتِلَتَيْنِ الأخويتين مع وجود البغي وقتال المؤمن للمؤمن وهي كبيرة ومعصية، قال تعالى: ?وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ? [الحجرات:9-10]، كما لا يُعطى الفاسقُ الاسمَ المطلقَ في الإيمان، وهو الاسمُ الكاملُ الذي لا يدخلُ الفُسَّاقُ وأهلُ المعاصي فيه، وإنما هذا الاسم المطلق خاصٌّ بأهل الإيمان المطلق الذين آمنوا بالله ورسوله، وقاموا بشعائر دينه من القيام بالواجبات، واجتناب المحرَّمات مخلصين له الدِّين وقد وصفهم الله تعالى بقوله: ?إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ، أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ? [الأنفال: 2- 4]، فهؤلاء يستحقُّون الولاءَ المطلق، بينما الفاسق المِلِّي يستحقُّ الولاء من جهة إيمانه، ويستحقُّ البراء من جهة عصيانه حيث يهمل بعض الواجبات ويفعل بعض المحرَّمات التي لا تصل إلى الكفر الأكبر، وقد ثبت أَنَّ رَجُلاً عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وآله وسَلَّم كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللهِ، وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَارًا، وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قَدْ جَلَدَهُ فِى الشَّرَابِ، فَأُتِىَ بِهِ يَوْمًا فَأَمَرَ بِهِ فَجُلِدَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ اللَّهُمَّ الْعَنْهُ مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« لاَ تَلْعَنُوهُ، فَوَاللهِ مَا عَلِمْتُ أَنَّهُ يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ »(1).
فالفاسقُ المِلِّي يدخل تحت مُطْلَقِ اسمِ الإيمانِ ولا يدخل في اسمِ الإيمان المطلق؛ لأنَّ أهلَ الإيمان المطلق لا يتركون الواجبات ولا يقترفون المحرَّمات من زنا وسرقة وشرب خمر، ولذلك نفى النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّمَ عنهم الإيمانَ الكاملَ بارتكابهم المحرَّماتِ في قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« لاَ يَزْنِى الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلاَ يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلاَ يَشْرَبُ الخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلاَ يَنْتَهِبُ نُهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ »(2).
وعليه، فلا يُعطى الفاسقُ الاسمَ الكاملَ وهو الإيمانُ المطلَقُ لارتكابه للمعاصي، ولا يُسْلَبُ عنه مُطْلَقُ الاسمِ لوجود أصلِ الإيمان، ولهذا يقال له: مُؤمنٌ ناقصُ الإيمانِ، أو مُؤمِنٌ بإيمانه فَاسِقٌ بكبيرته، وهذا بخلاف الخوارج الذين يُكَفِّرونَ بمطلق المعاصي، والمرجئة الذين يعطون الفاسقَ المليَّ الاسمَ الكاملَ، يعني الإيمان المطلق، والمعتزلة الذين يجعلونه في مَنْزلة بين المَنْزلتين، فأهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ أهلُ الإنصافِ والعدلِ مَذْهَبٌ وَسَطٌ بين الإفراطِ والتفريطِ وبين الغُلُوِّ والجفاءِ.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 27 جمادى الأولى 1427ه
الموافق ل: 23 جوان 2006م
__________
1- أخرجه البخاري في «الحدود »: (6780)، والبيهقي في «سننه »: (17951)، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
2- أخرجه البخاري في «المظالم »: (2475)، ومسلم في «الإيمان »: (211)، وأبو داود في «السنة »: (4691)، والترمذي في «الإيمان »: (2834)، والنسائي في «قطع السارق »: (4887)، وابن ماجه في «الفتن »: (4071)، وأحمد: (9130)، والدارمي: (2159)، والبيهقي: (21271)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(1/36)
الفتوى رقم: 625
في ناقض الإيمان القولي: سب الله عزّ وجلّ
السؤال:
نحن جماعةٌ من طلبة العلم، نسأل عن أمر عظيم يكثر فيه الجدال عندنا، ألا وهو مسألة سبّ الله عزّ وجلّ -والعياذ بالله- وقبل السؤال نطرح عليكم هذه المقدّمة:
هذا الجرم العظيم منتشرٌ عندنا بكثرة منذ زمن بعيد حيث شبّ عليه الصغير، وشاب عليه الكبير، وهَرِمَ عليه الشيخ -إلاّ من رحم ربي- فعموم الناس إذا ما وقع بينهم شجار يتلفّظون بألفاظ فيها سبّ لله بل منها ما هو أشدّ من سبّ الله عزّ وجلّ حتى ممّن هم مواظبون على الصلاة, وإذا سكن عنهم الغضب وسئلوا صرحوا بأنهم نادمون عمَّا قالوا، وأنهم ما كانوا يقصدون سبّ الله عزّ وجلّ، ولكنهم تربّوا على هذه الألفاظ منذ الصغر.
فنرجو منكم تفصيلاً شافيًا عن حكم سبّ الله عزّ وجلّ, وعن حكم هؤلاء الناس الذين يقولون: لم نكن نقصد سبّ الله عزّ وجلّ. وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالسبُّ شتمٌ، وهو كلّ قبيح يستلزم الإهانةَ ويقتضي النَّقص، وضابطُهُ العُرْفُ، فما عَدَّه أهلُ العرف سَبًّا وانتقاصًا أو عيبًا أو طَعْنًا ونحو ذلك فهو من السَّبِّ، وحُكم ساب الله تعالى طوعًا من غير كره كافرٌ مرتدٌّ قولاً واحدًا لأهل العلم لا اختلاف فيه، سواء كان جادًَّا أو مازحًا، وهو من أقبح المكفرات القولية التي تناقض الإيمان، ويكفر ظاهرًا وباطنًا عند أهل السُّنَّة القائلين بأنّ الإيمان قول وعمل، وقد نقل ابن عبد البر المالكي في «التمهيد » عن إسحاق بن راهويه قولَه:« قد أجمع العلماءُ على أنَّ مَنْ سَبَّ اللهَ عزّ وجلَّ، أو سبَّ رسولَه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم، أو دَفَعَ شيئًا أنزله اللهُ، أو قتل نبيًّا من أنبياء اللهِ، وهو مع ذلك مُقِرٌّ بما أنزل اللهُ أنه كافر »(1).
وقال القاضي عياض المالكي:« لا خلاف أنّ سابّ الله تعالى من المسلمين كافر حلال الدم، واختلفوا في استتابته »(2)، وقال ابن قدامة المقدسي الحنبلي:« ومَنْ سبَّ اللهَ تعالى كَفَرَ سواء كان مازحًا أو جادًّا »(3)، ومثله عن ابن تيمية قال:« إنّ من سبَّ الله أو سبَّ رسولَه كفر ظاهرًا وباطنًا، سواء كان السابُّ يعتقد أنّ ذلك محرّمٌ أو كان مستحلاًّ أو كان ذاهلاً عن اعتقاده، هذا مذهبُ الفقهاءِ وسائرِ أهلِ السُّنَّةِ القائلين بأنّ الإيمانَ قولٌ وعملٌ »(4).
ذلك، لأنّ في سبِّ الله تنقيصًا لله تعالى، واستخفافًا واستهانة به سبحانه، وانتهاكًا وتمرّدًا على ربِّ العالمين، ينبعث من نفس شيطانية ممتلئة من الغضب، أو من سفيه لا وقار لله عنده، فحاله أسوأ من حال الكافر، إذ السابّ مظهر للتنقّص ومفرط في العداوة ومبالغ في المحاداة بينما الكافر يعظّم الربّ، ويعتقد أنّ ما هو عليه من الدِّين الباطل ليس استهزاءً بالله ولا مسبّة له، وهو -أيضًا- من جهة أخرى أسوأ حالاً من المستهزئ؛ لأنّ الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر بنصِّ قوله تعالى: ?وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ، لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ? [التوبة: 65-66]، وإذا كان الاستهزاء كفرًا فالسبُّ المقصود من بابٍ أولى، والآية دلّت على مساواة الجِدّ واللعب في إظهار كلمة الكفر، وضمن هذا المعنى يقول ابنُ العربي المالكي:« لا يخلو ما قالوه -أي: المنافقون- من ذلك جِدًّا أو هزلاً، وهو كيفما كان كُفر، فإنّ الهزل بالكفر كُفر لا خلاف فيه بين الأمّة، فإنّ التحقيقَ أخو العلم، والحقّ والهزلَ أخو الجهل والباطل »(5).
فالحاصل، أنّ أصل الدين مبني على تعظيم الله تعالى وإجلاله، وتعظيم دينه ورسله، فإذا كان الاستهزاء بشيء من ذلك يناقض هذا الأصلَ وينافيه، فإنّ السبّ يناقضه أشدّ المناقضة، بل يتضمّن قدرًا زائدًا على الكفر؛ لأنّ الله تعالى نهى المسلمين أن يسبُّوا الأوثانَ لئلاَّ يسبّ المشركون اللهَ تعالى وهم على شركهم وتكذيبهم وعداوتهم لرسوله، في قوله تعالى: ?وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّواْ اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ? [الأنعام: 108]، فتبيّن أنّ سبّ الله تعالى أعظم من الشرك به وتكذيبِ رسوله ومعاداته، قال ابن تيمية في «الصارم المسلول »:« ألا ترى أنّ قريشًا كانت تقارُّه عليه الصلاة والسلام على ما كان يقوله من التوحيد وعبادة الله وحده، ولا يقارونه على عيب آلهتهم والطعن في دينهم وذمّ آبائهم، وقد نهى الله المسلمين أن يسبُّوا الأوثان لئلاَّ يسبّ المشركون اللهَ مع كونهم لم يزالوا على الشرك، فعُلِم أنّ محذورَ سبِّ اللهِ أغلظُ من محذورِ الكفرِ به »(6).
هذا، والمُخلِّص الوحيد الذي يمحو اللهُ تعالى به الكفرَ بعد ثُبوته هو توبة المذنِب، وذلك برجوع العبد إلى الله تعالى، ومفارقتِه لصراط المغضوب عليهم والضالِّين، واللهُ تعالى يقبل توبةَ العبدِ من جميع الذنوب: الشركِ فما دونه، لقوله تعالى: ?قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ? [الزمر: 53]، وقولِه تعالى: ?أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ? [المائدة: 74]، وقولِه تعالى: ?قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ? [الأنفال: 38]، ومِن شَرْطِ التوبة أن يخلصَها لله تعالى، ويتحسّرَ على فعله، ويندمَ على ما اقترفه، وأن يُقْلِعَ عنه ولا يُصِرَّ عليه، ويعزمَ أن لا يعودَ إليه في المستقبل، وأن تكونَ توبتُه في زمنٍ تنفع فيه التوبةُ(7).
- أمّا إذا سبَّ اللهَ تعالى وهو مغلَقٌ على قلبه كمن تكلّم بكلمة الكفر وهو على غضبٍ شديد لا يدري ما يقول ولا يَعِي، وإذا ذُكِّرَ لا يتذكّر ولا يستحضره، أو صدرت منه كلمة الكفر وهو في حالة جنون أو إغماء أو غيبوبة أو نطق بها خطأ لم يقصدها فإنّ ذلك مانعٌ من تكفير المعيّن بسببها لفساد قلبه؛ لأنّ جميع الأقوال والتصرّفات مشروطة بوجود التمييز والعقل، فمن لا تمييز له ولا عقل ليس لكلامه في الشرع اعتبار كما قال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« أَلاَ وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ »(8)، ولقَوْلِ الرجل من شدّة الفرح:« اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي، وأَنَا رَبُّكَ » فقال النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الفَرَحِ »(9)، فإنّ هذا حصل له الكلام من غير قصدٍ منه ولا إرادةٍ، فهو غيرُ مؤاخَذ عليه، لقوله تعالى: ?لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ? [المائدة: 89]، وقولِه تعالى: ?وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا? [الأحزاب: 5].
فمن هنا يتقرّر أنّ مَنْ وَقَعَ في الكفر فلا يلزم وقوع الكُفرِ عليه لوجود مانعِ إلحاقِ الكفرِ به ابتداءً، بخلاف من وقع الكفر عليه لانتفاء المانع، فإنّ التوبة تمنع إطلاق الكفر عليه بعد رجوعه عنه.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 22 محرم 1428ه
الموافق ل: 10فبراير 2007م
__________
1- «التمهيد » لابن عبد البر: (4/226).
2- «الشفا » للقاضي عياض: (2/229).
3- «المغني » لابن قدامة: (10/103).
4- «الصارم المسلول » لابن تيمية: (512).
5- «أحكام القرآن » لابن العربي: (2/976).
(6)- «الصارم المسلول » لابن تيمية: (557).
(7)- يفوت وقت قبول التوبة فلا تنفع التوبة فيها في ثلاث حالات: الأولى: إذا بلغت الروح الحلقوم وحضر الأجل لقوله تعالى: ?وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّار? [النساء: 18]، وقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« إِنَّ اللهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ العَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ ». أخرجه الترمذي في «الدعوات »: (3537)، وابن حبان (628)، والحاكم (7659)، وأحمد (6372)، من حديث ابن عمر رضي الله عنه، وصححه أحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد »: (9/18)، وحسنه الألباني في «صحيح الجامع »: (6132). الثانية: إذا نزل العذاب، قال تعالى: ?فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ، فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ? [غافر: 84-85]. الثالثة: إذا طلعت الشمس من مغربها فلا تقبل فيها التوبة، لقوله تعالى: ?يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا? [الأنعام: 158]، وفي الحديث:« لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَى تَطْلٌعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا فَإِذَا طَلَعَتْ وَرَآهَا النَّاسُ آمَنُوا أَجْمَعُونَ وَذَلِكَ حِينَ لاَ يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا. ثم قرأ الآية »، أخرجه البخاري في «التفسير »: (4360)، ومسلم في «الإيمان »: (396)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ).
(8)- أخرجه البخاري في «الإيمان » (52)، ومسلم في «المساقاة » (4178)، وأبو داود في «البيوع » (3330)، والترمذي في «البيوع » (1205)، وابن ماجه في «الفتن » (3984)، والدارمي (2436)، وأحمد (17970)، من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
(9)- أخرجه مسلم في «التوبة »: (6960)، من حديث أنس رضي الله عنه.(1/37)
الفتوى رقم: 917
في توجيه حديثي عائشة ومعاذ رضي الله عنهما في العذر بالجهل في مسائل الاعتقاد
السؤال:
لقد طرحتم مسألةَ عدمِ العُذر بالجهل في أصولِ الإيمان والتوحيد في إحدى الفتاوى المتعلِّقة بالعقيدة، وقد أحببتُ أن أعرف ما إذا كان هذا الحكم غير معارض بشكِّ عائشة رضي الله عنها عندما قالت للنبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسلم:« مَهْمَا يَكْتُمِ النَّاسُ يَعْلَمْهُ اللهُ، نَعَمْ »، وبحديث سجود معاذ بن جبل رضي الله عنه للنبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، وقد نهاه وأعذره عمَّا هو من الشرك الأكبر؟ أفيدونا جزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فأمَّا قولُ عائشةَ رضي الله عنها:« مَهْمَا يَكْتُمِ النَّاسُ يَعْلَمْهُ اللهُ، نَعَمْ »(1) فليس فيه شكّ في علمِ الله تعالى، بل بالعكس فيه تقرير للعلم، ويدلُّ على ذلك تصديق نفسها حيث أكدَّت مقالتها بالإثبات.
قال النووي:« وهو صحيح، وكأنَّها لما قالت: مَهْمَا يَكْتُمِ النَّاسُ يَعْلَمْهُ اللهُ، صدَّقت نفسها، فقالت: نَعَمْ »(2)، فليس في عبارتها محذورٌ شرعي إذ لو وقعت فيه حقيقة للزم البيان على الفور من غير تَراخٍ، وخاصَّة في مسائل الإيمان والاعتقاد؛ لأنَّ «تَأْخِيرَ البَيَانِ عَنْ وَقْتِ الحَاجَةِ لاَ يَجُوزُ » قولاً واحدًا عند أهل العلم، ولما عدم البيان في موضع الحاجة إليه دلَّ على العدم، بل دلَّ على صِحَّة معتقدها الذي أكدته بالتصديق «بنعم ».
هذا، ولا ينبغي أن يضاف -لأُمِّنا عائشة رضي الله عنها زوج النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم في الدنيا والآخرة، وأفقه نساء المؤمنين- الشكّ في صفة ذاتية لله سبحانه المتعلِّقة بالعلم، كيف وقد أسلمت في العهد المكي، وتربَّت في بيت النبوة التي يُتلى فيه آياتُ الله والحكمة، ومن آيات الله قوله تعالى: ?يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى? [طه: 7]، وقوله تعالى: ?يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ? [غافر: 19]، وقوله تعالى: ?قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ? [الفرقان: 6]، وغيرها من الآيات الدالة على أنَّ الله لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
وأمَّا سجود معاذ رضي الله عنه للنبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم(3) فما عليه جمهور أهل العلم والحديث أنّه سجود تحية لا عبادة، وقد كان مثل هذا السجود جائزًا في الشرائع السابقة إذا سلَّموا على الكبير يسجدون له، وبقي ذلك على الجواز من لدن آدم إلى شريعة عيسى عليه السلام، فحرم هذا في هذه الملة بما في حديث معاذ رضي الله عنه، وأصبح السجود مختصًّا بجناب الرب سبحانه وتعالى، قال ابن كثير -رحمه الله- في معرض قوله تعالى: ?وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ? [البقرة: 34]:« فكانت الطاعة لله والسجدة لآدم، أكرم الله آدم أن أسجد له ملائكتَه، وقال بعضُ الناس كان هذا سجود تحية وسلام وإكرام، كما قال تعالى: ?وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا? [يوسف: 100]، وقد كان هذا مشروعًا في الأمم الماضية، ولكنَّه نسخ في مِلتنَا، قال معاذ: (ثمّ ذكر الحديث) »(4).
هذا، ولا يخفى أنَّ السجود لغير الله على وجه العبادة شركٌ محرَّم في كلِّ الشرائع السابقة، فكيف يسوغ أن ينسب هذا الأمر الجَلل من عِبادة غير الله إلى هذا الصحابي الجليل الذي اختاره النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم لمناظرة أهل الكتاب وتبليغهم التوحيد وأصل الدِّين، ثمَّ إنه -من ناحية أخرى- لو كان السجود للعبادة لما قال له النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِغَيْرِ اللهِ، لأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا »، وحاشا رسول الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم أن يأمر بالمعصية بَلْهَ السجود لغير الله تعالى، قال الله عزَّ وجلَّ: ?وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ? [آل عمران: 80].
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 26 جمادى الأولى 1429ه
الموافق ل: 31 ماي 2008م
__________
1- أخرجه مسلم في «صحيحه » كتاب الجنائز، باب ما يُقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها: (2255)، من حديث عَائِشَة رضي الله عنها قَالَتْ : أَلا أُحَدِّثُكُمْ عَنِّي وَعَنْ رَسُولِ اللهِ قُلْنَا: بَلَى. قَالَتْ: لَمَّا كَانَتْ لَيْلَتِي الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ فِيهَا عِنْدِي، انْقَلَبَ فَوَضَعَ رِدَاءَهُ، وَخَلَعَ نَعْلَيْهِ، فَوَضَعَهُمَا عِنْدَ رِجْلَيْهِ، وَبَسَطَ طَرَفَ إِزَارِهِ عَلَى فِرَاشِهِ، فَاضْطَجَعَ. فَلَمْ يَلْبَثْ إِلاَّ رَيْثَمَا ظَنَّ أَنْ قَدْ رَقَدْتُ، فَأَخَذَ رِدَاءَهُ رُوَيْدًا، وَانْتَعَلَ رُوَيْدًا، وَفَتَحَ الْبَابَ فَخَرَجَ. ثُمَّ أَجَافَهُ رُوَيْدًا. فَجَعَلْتُ دِرْعِي فِي رَأْسِي، وَاخْتَمَرْتُ، وَتَقَنَّعْتُ إِزَارِي. ثُمَّ انْطَلَقْتُ عَلَى إِثْرِهِ. حَتَّى جَاءَ الْبَقِيعَ فَقَامَ. فَأَطَالَ الْقِيَامَ. ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ. ثُمَّ انْحَرَفَ فَانْحَرَفْتُ. فَأَسْرَعَ فَأَسْرَعْتُ. فَهَرْوَلَ فَهَرْوَلْتُ. فَأَحْضَرَ فَأَحْضَرْتُ. فَسَبَقْتُهُ فَدَخَلْتُ. فَلَيْسَ إِلاَّ أَنِ اضْطَجَعْتُ فَدَخَلَ. فَقَالَ:« مَالَكِ؟ يَا عَائِشُ حَشْيَا رَابِيةً »، قَالَتْ: قُلْتُ: لاَ شَيْء. قَالَ:« لَتُخْبِرِينِي أَوْ لَيُخْبِرَنِّي اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ »، قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي فَأَخْبَرْتُهُ. قَالَ:« فَأَنْتِ السَّوَادُ الَّذِي رَأَيْتُ أَمَامِي؟ » قُلْتُ: نَعَمْ. فَلَهَدَنِي فِي صَدْرِي لَهْدَةً أَوْجَعَتْنِي. ثُمَّ قَالَ:« أَظَنَنْتِ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْكِ وَرَسُولُهُ؟ »، قَالَتْ مَهْمَا يَكْتُمِ النَّاسُ يَعْلَمْهُ اللهُ، نَعَمْ. قَالَ:« فَإِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي حِينَ رَأَيْتِ، فَنَادَانِي فَأَخْفَاهُ مِنْكِ. فَأَجَبْتُهُ. فَأَخْفَيْتُهُ مِنْكِ. وَلَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ عَلَيْكِ وَقَدْ وَضَعْتِ ثِيَابَكِ وَظَنَّ وَظَنَنْتُ أَنْ قَدْ رَقَدْتِ. فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَكِ. وَخَشِيتُ أَنْ تَسْتَوْحِشِي. فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَ أَهْلَ الْبَقِيعِ فَتَسْتَغْفِرَ لَهُمْ ». قَالَتْ: قُلْتُ: كَيْفَ أَقُولُ لَهُمْ؟ يا رَسُولَ اللهِ قَالَ:« قُولِي: السَّلاَمُ عَلَى? أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَيَرْحَمُ اللهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِينَ. وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ، بِكُمْ لَلاَحِقُونَ ».
2- «شرح مسلم » للنووي: (7/44).
3- أخرجه ابن ماجه في «سننه » كتاب النكاح، باب حق الزوج على المرأة: (1853)، وأحمد في «مسنده »: (18913): عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ مُعَاذٌ مِنَ الشَّامِ سَجَدَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قَالَ:« مَا ه?ذَا يَا مُعَاذُ؟ » قَالَ: أَتَيْتُ الشَّامَ فَوَافَقْتُهُمْ يَسْجُدُونَ لأَسَاقِفَتِهِمْ وَبَطَارِقَتِهِمْ. فَوَدِدْتُ فِي نَفْسِي أَنْ نَفْعَلَ ذلِكَ بِكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ:« فَلاَ تَفْعَلُوا. فَإِنِّي لَوْ كُنْتُ آمِرًا أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِغَيْرِ اللهِ، لأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا. وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ تُؤَدِّي الْمَرْأَةُ حَقَّ رَبِّهَا حَتَّى تُؤَدِّيَ حَقَّ زَوْجِهَا وَلَوْ سَأَلَهَا نَفْسَهَا، وَهِيَ عَلَى قَتَبٍ، لَمْ تَمْنَعْهُ ». والحديث حسَّنه الألباني في «الإرواء »: (7/56).
4- «تفسير ابن كثير »: (1/77، 2/491).(1/38)
الفتوى رقم: 926
في تأويل حديث القدرة
السؤال:
أضيفُ إلى ما سبق في مسألة العذر بالجهل في المسائل العقدية حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتعلِّق بالرجل الذي جهل قدرة الله تعالى فقال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم حكاية عنه:« فَوَاللهِ لئِنْ قَدَرَ اللهُ عَلَيْهِ لَيُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا لاَ يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ العَالَمِينَ »(1)، ومع ذلك عذره الله تعالى بجهله وغفر له، فهل هذا الحديث يصلح للاستدلال به في العذر بالجهل في مسائل التوحيد والاعتقاد؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالجوابُ على الاستدلال بحديث جهلِ الرجل قدرة الله تعالى وإعذاره له من الوجوه التالية:
الأول: عدمُ التسليم بأنه كان يجهل قدرةَ الله تعالى لظهور إيمانه بقُدرة الله تعالى فيما أخرجه مسلم، قوله:« فَإِنِّي لَمْ أَبْتَهِرْ عِنْدَ اللهِ خَيْرًا، وَإنَّ الله يَقْدِرُ عَلَيَّ أَنْ يُعَذِّبَنِي »(2)، وفي هذه الرواية ليس فيها نفي حقيقة القدرة، بل بالعكس فيه تقرير لإيمان الرجل بقدرة الله على البعث والتعذيب، وإذا رجّح هذا المعنى لم يبق أي وجهٍ أو طريقٍ للاستدلال له على مسألة العذر بالجهل.
الثاني: فيما إذا ما قوبلت رواية الجمهور بالرواية الأخرى أمكن الجمع بينهما من المناحي التالية:
1- حمل «قدر الله » على القضاء، ويكون المعنى:« فوالله لئن قضى الله عليه ليعذبنَّه.. »، وقدر بالتخفيف والتشديد بمعنى واحد.
2- حمل «قدر الله » على التضييق لقوله تعالى: ?وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ? [الطلاق: 7]، ?فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ? [الفجر: 16]، وهو أحد الأقوال في قوله تعالى: ?فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ? [الأنبياء: 87]، ويكون المعنى:« لئن ضيق الله عليه »، والتأويلان ذكرهما النووي(4)، غير أنَّ هذين التأولين يعكّر عليهما ما جاء في غير مسلم حديث:« لَعَلِّي أُضِلُّ اللهَ »(5)، أي: أغيب عنه وهو يدلُّ على أنَّ قوله:« لئن قدر الله » على ظاهره فلا يحتاج إلى تأويل.
3- ولو حمل الحديث على ظاهره فإنه يمكن الجمع -أيضًا- بين الحديثين من زاوية ثالثة بحمل رواية الجمهور على الممكنات والرواية الأخرى على الممتنعات، فيكون التقدير: إنَّ الله قادر على أن يعذبني إن دفنتموني بهيئتي، فأمَّا إن سحقتموني وذريتموني في البَرِّ والبحر فلا يقدر علي.
ومعنى هذا أنَّ الرجل مُوقِنٌ بأن الله متصف بكمال القدرة في الممكنات دون الممتنعات، لظنه أن جمع ما تفرق من رماده في البر والبحر ممتنع، والممتنع خارج عن قدره الله تعالى، ومثل هذا التفصيل في القدرة لا يعلم إلاَّ بنصٍّ شرعي فالجهل بالدقيق من صور القدرة لا يؤثِّر في ربوبية الله تعالى ولا في ألوهيته، بخلاف مَن شكَّ في أصل القدرة فهو كافر؛ لأنه ينسب إلى الله العجزَ والضعف عن إمكان الخلق، فالجهل بدقيق الصفات لا يلزم منه الجهل بأصل الصفة، كما أنَّ الجهل بالصفات لا يلزم منه الجهل بالذات، إلاَّ إذا كانت الذات لا تتصور إلاَّ بتلك الصفة، ولما كانت جزئيات المسائل تحتاج في بيانها إلى نصٍّ شرعيٍّ عذر الرجل لجهله بها؛ لأنه لا يثبت حكم الخطاب إلاَّ بعد البلاغ، قال ابن تيمية رحمه الله:« من شكَّ في صفة من صفات الله تعالى ومثله لا يجهلها فمُرتد، وإن كان مثله يجهلها فليس بمرتدٍّ، ولهذا لم يكفر النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم الرجل الشاكَّ في قدرة الله وإعادته؛ لأنه لا يكون إلاَّ بعد الرسالة »(6).
هذا، والمعلوم أنَّ الحديث ورد في جهل صفة أو شك فيها ولم يرد في التوحيد وترك الشرك الذي هو أصل الدِّين كله؛ ذلك لأنَّ الرجل كان موحّدًا، يشهد له ما رواه أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« كَانَ رَجُلٌ مِمَنْ قَبْلَكُمْ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطّ إِلاَّ التَوْحِيدَ.. »(7)، فلو كان التوحيد منتفيًا عنه ومات مشركًا للزم عقابه بنصِّ الآية سمعًا، ولم يكن محلاًّ للغفران لقوله تعالى: ?إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ? [النساء: 48]، فهذا أصل كلي قطعي أنَّ مَن مات على التوحيد دخل الجنة، فلا يخلد في النار أحد مات على التوحيد، ولو عمل من المعاصي ما عمل، كما أنه لا يدخل الجنة أحدٌ مات على الكفر ولو عمل من أعمال البر ما عمل، وجحد صفة القدرة كفر اتفاقً(8)، والرجل في الحديث -كما تقدم- كان موحِّدًا ومؤمنًا بقدرة الله تعالى في الجملة على إحيائه، ولم يكن شاكًّا للبعث بل كان موقنًا، وقد بيَّن إيمانه باعترافه بأنه فعل ذلك من خشية الله تعالى، ولعلَّه لم يشكَّ أصلاً في قدرة الله في الممكنات ولا في الممتنعات، وإنما قال ذلك «في حالة غلب عليه فيها الدهش والخوف وشدة الجزع بحيث ذهب تيقُّظه وتدبر ما يقوله فصار في معنى الغافل والناسي، وهذه الحالة لا يؤاخذ فيها، وهو نحو قول القائل الآخر الذي غلب عليه الفرح حين وجد راحلته:« أنت عبدي وأنا ربك »، فلم يكفر بذلك الدهش والغلبة والسهو »(9)، قال ابن حجر -رحمه الله-:« وأظهر الأقوال أنه قال ذلك في حال دهشته وغلبة الخوف عليه حتى ذهب بعقله لما يقول، ولم يكن قاصدًا لحقيقة معناه، بل كان فيها كالغافل والذاهل والناسي الذي لا يؤاخذ بما يصدر منه »(10).
ومن هنا يتبيّن من خلال أقوال العلماء -بغض النظر عن خروج هذه المسألة عن محل النِّزاع لعدم تعلقها بالتوحيد- اتفاقًا على أنَّ ظاهر الحديث غير مراد، إذ لو كان مرادًا لما صاروا إلى تأويله وأعذروه بالجهل لكن لم يأت من أقوالهم ما يفيد ترك التأويل وإعذاره بالجهل، بل بالعكس إنما صرفوا اللفظ عن ظاهره ضرورة لتعارضه كدليل جزئي على قضية معيَّنة مع القواعد والأصول الكلية جمعًا بين النصوص الشرعية، فاقتضى -والحال هذه- وجوب تأويل دليل قضية عين جزئية وصرفها عن ظاهر معناها لتساير أحكام القواعد الكلية، إذ لا تنتهض الجزئيات على نقض الكليات، استبقاءً لأحكام القواعد الكلية جارية في الجزئيات وقاضية بعدم العذر بالجهل في أصول الإيمان والتوحيد.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 07 جمادى الثانية 1429ه
الموافق ل: 11 جوان 2008م
__________
1- عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنَّ رسول اللهَ صلى الله عليه وآله وسلم قال:« قَالَ رَجُلٌ -لَمْ يَعْمَلْ خَيْراً قَطُّ - إِذَا مَاتَ فَحَرِّقُوهُ واذرُوا نِصفَه في البرّ ونصْفهَ في البَحْرِ، فواللهِ لئِنْ قَدَرَ اللهُ عَلَيْهِ ليُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا لا يعَذِّبهُ أحدًا من العالمين، فَأَمَرَ اللهُ البَحْرَ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، وَأَمَرَ البرَّ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: لِمَ فعلْتَ؟ قَالَ: مِنْ خَشْيَتِكَ وَأَنْتَ أَعْلَمُ، فَغَفَرَ لَهُ ». أخرجه البخاري في «صحيحه » كتاب التوحيد، باب قول الله يريدون أن يبدلوا كلام الله: (7067)، ومسلم في «صحيحه » كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله وأنها سبقت غضبه: (6980).
2- أخرجه مسلم في «صحيحه » كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله وأنها سبقت غضبه: (6984)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
3- «شرح مسلم » للنووي: (17/73).
4- المصدر السابق، الجزء نفسه (ص 71).
5- أخرجه أحمد في «مسنده »: (19540)، من حديث معاوية بن حيدة رضي الله عنه. قال الهيثمي في «مجمع الزوائد »(10/320):« رواه أحمد والطبراني بنحوه في الكبير والأوسط ورجال أحمد ثقات ». والحديث صحَّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة »: (7/106)، والوادعي في «الصحيح المسند »: (1127).
6- «الفتاوى الكبرى » لابن تيمية: (4/606).
7- أخرجه أحمد في «مسنده »: (7980)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث صحَّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة »: (3048). وأخرجه أحمد كذلك من حديث عبد الله بن مسعود (3776)، وصحَّحه أحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد »: (5/296).
8- «فتح الباري » لابن حجر: (6/523).
9- «شرح مسلم » للنووي: (17/71).
10- «فتح الباري » لابن حجر: (6/523).(1/39)
الفتوى رقم: 935
في تقويم الاستدلال بشك الحواريين في العذر بالجهل في أصول الإيمان
السؤال:
فضيلة الشيخ، ذكرتم في حديث القدرة أنَّ ظاهر الحديث غيرُ مرادٍ، وأنه قضية عين جزئية لا تنتهض في نقض الكُليات التي تقضي بعدم العذر بالجهل في مسائل أصول الإيمان والتوحيد، غير أنه قد أشكل علي شكُّ الحواريين في قُدرة الله تعالى في إنزال مائدة من السماء، وشكِّهم في صدق رسالة عيسى بن مريم عليه السلام، حيث قال الله تعالى مبيِّنًا حوار الحواريين مع نبيِّهم: ?إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُواْ اللهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ، قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ? [المائدة: 113]، فالرجاء التفضُّل بإيضاح هذه المسألة المستشكلة عليّ؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
ففيما أخبر الله تعالى عن الحواريِّين في قوله: ?هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ? فإنَّ ما عليه الجمهور من المفسِّرين أنَّ الحواريين لم يحدث لهم شكٌّ في قدرة الله تعالى، حتى يُعذَروا، وإنما هو تلطّف في العبارة والسؤال، وأدب مع الله تعالى. ووجه تقدير سؤالهم على حالتين:
الحالة الأولى: على قراءة علي وعائشة وابن عباسٍ ومعاذٍ بنِ جبل رضي الله عنهم، وجماعة من التابعين كمجاهد وسعد بن جبير وغيرِهم: «هل تستطيع» بالتاء، «ربَّك» بنصب الباء، فيكون المعنى: هل تستطيع أن تدعو ربَّك وتسألَه أن يُنَزِّل مائدةً من السماء، وهي قراءة الكسائي، فلم يكن الحواريون شاكِّين أنَّ الله تعالى قادر أن يُنَزِّل عليهم ذلك، وإنما قالوا ذلك لعيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام(1).
الحالة الثانية: وعلى قراءة الباقين: «هل يستطيع ربُّك»، فإنَّ تقدير معنى السؤال الفِعل والإجابة، وهذا مشهورٌ في كلام العرب، وهذا مثل قول الرجل لغيره، هل يستطيع فلان أن يأتي أو يساعدني، وقد علمت أنه يستطيع، فيكون المعنى: هل يفعل ذلك؟ وهل يجيبني إلى ذلك؟(2). وذكر ابن تيمية في معرض بيان الاستطاعة الكونية القدرية والمقارنة للفعل التي هي مناط القضاء والقدر، حيث قال: «وكذلك قول الحواريين»: ?هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ? إنما استفهموا عن هذه القدرة، وكذلك ظنّ يونس أن لن نقدر عليه، أي: فسّر بالقدرة، كما يقال للرجل: هل تقدر أن تفعل كذا؟ أي: هل تفعله؟ وهو مشهور في كلام الناس»(3).
أمَّا المقصود من العلم في قوله تعالى مخبرًا عنهم: ?وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا? [المائدة: 113]، فلم يشكوا في صدق رسالة نبيِّهم صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم، وإنما حصل لهم علم اليقين بالدليل والخبر فأرادوا علم معاينة ونظر في آية حسية تطمئنُّ قلوبهم بمشاهدتها ويزدادوا إيمانًا ويقينًا بالمعاينة التي لا يدخلها ريب ولا شبهة، فأرادوا الانتقال من علم اليقين إلى عين اليقين، على مثال ما سأل إبراهيم عليه السلام ربَّه، قال تعالى: ?رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي? [البقرة: 260]، والمعلوم أنّ العرب تضع الرؤية مكان العلم، والعلم مكان الرؤية(4).
فعلى مذهب الجمهور -إذن- أنَّ الحواريين لم يشكوا في قُدرة الله تعالى ولا في صدق نُبوَّة رسولهم صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم وإنما سألوا آية حِسيةً تقوِّي إيمانهم، ويزدادوا بها يقينًا وصدقًا خالصًا من شوائب الخواطر والهواجس النفسية.
وذهبت طائفة من أهل العلم إلى ترجيح الشكِّ في قدرة الله تعالى، والشكِّ في صدق رسالة نبيِّهم عليه الصلاة والسلام، وذلك في أول معرفتهم قبل أن تستحكم معرفتهم بالله تعالى، وفي شكّهم في قدرة الله على إنزال مائدة من السماء كُفر، لذلك استتابهم ودعاهم إلى الإيمان به وبرسوله حيث قال: ?اتَّقُواْ اللهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ? [المائدة: 112]، وهو الذي رجَّحه الطبري وقوَّاه(5).
قلت: وإن كان الصحيح من التفسيرين المذهب الأول؛ لأنَّ السؤال عن استطاعته ينافي ما حكوه عن أنفسهم بقولهم: ?قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ? [المائدة: 111]، إلاَّ أنه ليس في كِلا التفسيرين السابقين أدنى مسكة في الاحتجاج بالآية في العذر بالجهل والشكّ في مسائل التوحيد وأصول الإيمان؛ لأنَّ الجمهور على عدم الشكِّ، وغيرهم على الاستتابة وعدمِ الإعذار به.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 20 جمادى الثانية 1429ه
الموافق 24 جوان 2008م
__________
1- انظر: «تفسير الطبري»: (7/129)، «تفسير البغوي» (2/77)، «تفسير القرطبي» (6/264)، «تفسير ابن كثير»: (6/112)، «فتح القدير» للشوكاني: (2/92).
2- المصادر التفسيرية السابقة.
3- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (8/374).
4- العرب تضع العلم مكان الرؤية، مثل قوله تعالى في تحويل القبلة: ?إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ? [البقرة: 143]، معنى لنعلم: لنرى. وتضع الرؤية مكان العلم كقوله تعالى: ?أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ? [الفيل: 1]، بمعنى: ألم تعلم. [انظر: «تفسير القرطبي»: (2/156)].
5- «تفسير الطبري»: (7/130).(1/40)
الفتوى رقم: 952
في الاستدلال بحديث حذيفة في العذر بالجهل بتفاصيل الإسلام وأركانه
السؤال:
واختم أسئلتي بحديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: «قال رسولُ الله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «يَدْرُسُ الإِسْلاَمُ كَمَا يَدْرُسُ وَشْيُ الثَّوْبِ، حَتَّى لاَ يُدْرَى مَا صِيَامٌ وَلاَ صَلاَةٌ وَلاَ نُسُكٌ وَلاَ صَدَقَةٌ، وَلَيُسْرَى عَلَى كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي لَيْلَةٍ، فَلاَ يَبْقَى فِي الأََرْضِ مِنْهُ آيَةٌ، وَتَبْقَى طَوَائِفُ مِنَ النَّاسِ: الشَّيْخُ الكَبِيرُ، وَالعَجُوزُ، يَقُولُونَ: أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا عَلَى هَذِهِ الكَلِمَةِ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، فَنَحْنُ نَقُولُهَا».
فقال له صِلَةُ: ما تغني عنهم «لا إله إلاَّ اللهُ» وهم لا يدرون ما صلاة ولا صيام ولا نسك ولا صدقة؟ فأَعْرَضَ عنه حذيفةُ، ثمَّ رَدَّهَا عليه ثلاثًا، كُلَّ ذلك يُعرِضُ عنه حذيفةُ، أقبل عليه في الثالثة، فقال: يا صلةُ! تُنجيهم من النار -ثلاثًا-»(1).
فهذا الحديث يفيد أنَّ الجهل يفشو في آخر الزمان وتغيب كثيرٌ من الأحكام الظاهرة والمتواترة لاِنْدِرَاسِ كثير من علوم الكتاب والسُّنَّة، فدلَّ ذلك دلالة واضحة على إعذارهم بالجهل لأركان الإسلام وتفاصيله، وهذا المعنى مطلوبٌ توجيهه إن أمكن وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالحديث خارج عن مسألة التوحيد وترك الشِّرك الذي هو أصل الدِّين كُلِّه، فلم يرد عنهم أنهم أتوا ما يناقض كلمة الإخلاص التي كانوا يقولونها، وغاية ما يدلُّ عليه أنهم تركوا كثيرًا من تفاصيل الإسلام وأركانه الظاهرة والمتواترة بالنظر إلى فُشُوِّ الجهل واندراس الدِّين، ويكفي المسلم أدنى الإيمان في قلبه، والإقرار بالشهادتين بلسانه إذا لم يقدر على أداء ما افترض اللهُ عليه من أركان الإسلام وتفاريعه، كمن مات قبل التمكُّن من الامتثال بالفعل أو كان قريبَ عهدٍ بالإسلام أو في بلدٍ انْدَرَسَتْ فيه تعاليمُ الإسلام، بحيث تكون مسائل الاعتقاد والأحكام خفيةً، وقضاياها غيرَ معلومة، أو كانت أدلَّتها غير ظاهرة، ففي هذه الأحوال يُعذر بالجهل قبل قيام الحُجَّة الرِّسالية، وكشف الشُّبهة وإظهار المحجَّة، بخلاف حال من نشأ في بلدِ عِلْمٍ، والأمور الشرعية والمسائل الدينية منتشرة، ومشهورة بين الناس: عالمهم وعامِّيهم.
وضمن هذا المنظور قال ابن تيمية -رحمه الله-: «.. وأمَّا الفرائض الأربع فإذا جحد وجوب شيءٍ منها بعد بلوغ الحُجَّة فهو كافر، وكذلك مَن جحد تحريمَ شيءٍ من المحرَّمات الظاهرة المتواتر تحريمها، كالفواحش والظلم، والكذب والخمر، ونحو ذلك، وأمَّا من لم تقم عليه الحُجَّة مثل أن يكون حديث عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، لم تبلغه فيها شرائع الإسلام ونحو ذلك، أو غلط فظنَّ أنَّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات يُستثنون من تحريم الخمر، كما غلط في ذلك الذين استتابهم عمر، وأمثال ذلك، فإنهم يستتابون وتقام الحُجَّة عليهم، فإن أصروا كفروا حينئذٍ، ولا يحكم بكفرهم قبل ذلك، كما لم يحكم الصحابة بكفر قدامة بن مظعون وأصحابه لما غلطوا فيما غلطوا من التأويل»(2).
وقال -رحمه الله- في موضعٍ آخر: «.. مثل من قال: إنَّ الخمر والربا حلال لقرب عهده بالإسلام أو لنشوئه في بادية بعيدة، أو سمع كلامًا أنكره ولم يعتقد أنه من القرآن، ولا أنه من أحاديث رسول الله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم كما كان بعض السلف ينكر أشياء حتى يثبت عنده أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قالها، وكما كان الصحابة يشكُّون في أشياء مثل رؤية الله وغير ذلك حتى يسألوا عن ذلك رسول الله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم(3)
وجاء في كتاب «التوضيح عن توحيد الخلاق» ما نصه: «وأمَّا إخراج الله من النار مَن لم يعمل خيرًا قط، بل كفى عن العمل وجود أدنى إيمان في قلبه وإقرار بالشهادتين في لساله فهو إمَّا لعدم تمكُّنه من أداء ما افترض الله عليه من أركان الإسلام بل بمجرَّد أدنى إيمان في قلبه وشهادة بلسانه خرمته المنية، لكنه قد عمل عملاً مفسِّقًا به لوجود ما صدر منه عالِمًا به فاستحقَّ دخول النار عليه، وإمَّا لكونه نشأ في مكانٍ قريبٍ من أهل الدِّين والإيمان فلم يعمل ما أوجب اللهُ على خلقه من تفاصيل الدِّين والإيمان والإسلام وأركانه، بل جهل ولم يسأل أهل الذِّكر عنه، وبأنَّ الله أوجب على خلقه المكلَّفين التفقُّه في الدِّين وإن لم يحصل إلاَّ بقطع مسافة كثيرة غير معذور بهذا الجهل، إذ مثله لا يجهل ذلك لقُربه من المسلمين، فيعاقبه الله على ترك تعلُّم ما أوجب الله عليه، ولهذا لا يخلَّد في النار إن لم يوجد منه منافٍ للإسلام من إنكار أمر عُلم من الدِّين بالضرورة، ولم يمتنع من إجابة إمام المسلمين إذا دعاه لتقويم أركان الدِّين، بل هو مؤمنٌ بالله لكنه جهل تفاصيل ذلك وأحكامَه وما يحب عليه منه»(4).
قال سفيان الثوري -رحمه الله- ضمن ردِّه على المرجئة-: «ركوب المحارم من غير استحلال معصية، وترك الفرائض متعمِّدًا من غير جهل ولا عُذر هو كفر»(5).
هذا بالنسبة لتارك تفاصيل الإسلام وأركانه الظاهرة أو المتواترة، أمَّا مَن وقع في المعصية جهلاً أو لقِلَّة العلم كالشِّرك والقتل والزِّنا فإنَّ هذه الأفعال توصف بالقُبح قبل ورود الشرع وبعده، ويُسمَّى فاعلُها بها، فمن قتل يسمَّى قاتلاً، يثبت وصف القتل مع الجهل قبل قيام الحُجَّة وبعدها، وكذلك من زنا يسمَّى زانيًا أو أشرك يسمَّى مشركًا فإنَّ وصف الزِّنا والشِّرك يثبتان للمتَّصف بهما مع الجهل قبل قيام الحُجَّة وبعدها، فإنَّ هذا من جهة تسمية الصِّفة المتلبَّس بها، أمَّا من جهة الحكم فإنَّ مرتكِب هذه المعاصي لا يستحق العقاب إلاَّ بعد البلاغ، لقوله تعالى: ?وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً? [الإسراء: 15]، ولقوله تعالى: ?كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ، قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ? [الملك: 8-9]، فدلَّت الآية على اعتراف كُلِّ فوجٍ ممَّن يدخل النار أنه جاءهم نذير، فمن لم يأته نذير لم يدخل النار(6)، إذ «لاَ تَكْلِيفَ إِلاَّ بِشَرْعٍٍ»، و«الشَّرْعُ يَلْزَمُ بِالبَلاَغُ مَعَ انْتِفَاءِ المُعَارِضِ».
وقد بيَّن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- هذا التفصيل بيانًا شافيًا بقوله: «وقد فرَّق اللهُ بين ما قبل الرِّسالة وما بعدها في أسماء وأحكام، وجمع بينهما في أسماء وأحكام، وذلك حُجَّة على الطائفتين: على مَن قال: إنَّ الأفعال ليس فيها حسن وقبيح، ومن قال: إنهم يستحقُّون العذاب على قولين، أمَّا الأول فإنه سمَّاهم ظالمين وطاغين ومفسدين، لقوله تعالى: ?اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى? [النازعات: 17]، وقوله: ?وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلاَ يَتَّقُونَ? [الشعراء: 10-11]، وقوله: ?إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ? [القصص: 4]، فأخبر أنه ظالم وطاغ ومفسد هو وقومه، وهذه أسماء ذمّ الأفعال، والذمّ إنما يكون في الأفعال السيِّئة القبيحة، فدلَّ ذلك على أنَّ الأفعال تكون قبيحةً مذمومةً قبل مجيء الرسول إليهم، لا يستحقُّون العذاب إلا بعد إتيان الرسول إليهم، لقوله: ?وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً? [الإسراء: 15]، وكذلك أخبر عن هود أنه قال لقومه: ?وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ? [هود: 50]، فجعلهم مفترين قبل أن يحكم بحكمٍ يخالفونه، لكونهم جعلوا مع الله إلهًا آخر.
فاسم المشرك ثبت قبل الرِّسالة، فإنه يشرك بربِّه ويعدل به، ويجعل معه آلهةً أخرى، ويجعل له أندادًا قبل الرسول، ويثبت أنَّ هذه الأسماء مقدم عليها، وكذلك اسم الجهل والجاهلية، يقال جاهلية وجاهل قبل مجيء الرسول، وأمَّا التعذيب فلا»(7).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 5 من ذي القعدة 1429ه
الموافق ل: 3 نوفمبر 2008م
__________
1- أخرجه ابن ماجه في «سننه»، كتاب «الفتن»، باب ذهاب القرآن والعلم (4049)، والحاكم في «المستدرك» (4/520)، من حديث حذيفة رضي الله تعالى عنه. والحديث قوى إسناده الحافظ في «فتح الباري» (13/16)، وصحّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (1/171).
2- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية: (7/609 -610).
3- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية: (35/165).
4- «التوضيح عن توحيد الخلاق في جواب أهل العراق» لسليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب (105-106)، وقد رجّح الدكتور عبد العزيز بن محمّد بن عبد اللطيف أنه من تأليف الشيخ محمّد بن علي بن غريب، والشيخ حمد بن معمر، والشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب. انظر «دعواى المناوئين» (59).
5- «السنة» لعبد الله بن أحمد: (745).
6- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (19/215).
7- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (20/37-38).(1/41)
الفتوى رقم: 968
في رؤية النبي صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم ربَّه
السؤال:
هل رأى النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم ربَّه حقيقةً بعينه، أم رآه بقلبه، أم أنه لم يره بعينه ولا بقلبه، وإنما رآه رؤيةً لا يُعقل معناها؟
وهل حديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا: «رَأَيْتُ رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى»(1) يُؤكِّد المعنى الأول أنه رآه حقيقة بالرؤية البصرية؟ وشكرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فلا يخفى أنَّ الأُمَّة أجمعت على أنَّ اللهَ تبارك وتعالى لا يراه أحدٌ بعينه حتى يموت لقوله تعالى لموسى عليه السلام: ?لَن تَرَانِي? [الأعراف: 143]، أي: في الدنيا، ولقوله تعالى: ?وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ? [الشورى: 51]، ولقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم في معرض التحذير من الدَّجَّال: «تَعَلَّمُوا أَنَّه لَنْ يَرَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى يَمُوتَ»(2).
هذا، والظاهر أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم لا يخرج حُكمُه عن عموم النصوص الشرعية القاضية بنفي الرؤية البصرية، لذلك شَدَّدت عائشة رضي الله عنها النكير على مَنْ قال أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم رأى ربَّه عزَّ وجَلَّ بعينه حتى قالت: «مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللهِ الفِرْيَةَ»(3)، وقد نُقل هذا النفيُ عن غيرها من الصحابة رضي الله عنهم، وقد جاء -صريحًا- نفي الرؤية البصرية في حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ قَالَ: نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ؟»(4).
قال ابن تيمية -رحمه الله-: «وليس في الأدلة ما يقتضي أنه رآه بعينه، ولا ثبت ذلك عن أحدٍ من الصحابة، ولا في الكتاب والسُّنَّة ما يدلُّ على ذلك، بل النصوص الصحيحة على نفيه أدلّ»(5).
أمَّا حديث ابن عباس رضي الله عنهما فلم يثبت لفظٌ صريحٌ عنه بأنه رآه بعينه، فقد جاء في بعض الألفاظ عنه التصريح بالرؤية مُطلقًا كما في الحديث المذكور في السؤال، وورد في بعضها عنه مقيَّدًا بالرؤية القلبية، فقد روى مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما بعد ذكره لقوله تعالى: ?مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى? [النجم: 11]، ولقوله عزَّ وجلَّ: ?وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى? [النجم: 13]: «رَآهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ»(6).
وقد جمع الحافظ ابن حجر -رحمه الله- بين النفي والإثبات جمعًا ارتضاه أهلُ العلم حيث قال: «وعلى هذا فيمكن الجمع بين إثبات ابن عباس ونفي عائشة بأن يحمل نفيها على رؤية البصر وإثباته على رؤية القلب، ثمَّ المراد برؤية الفؤاد رؤية القلب لا مجرَّد حصول العلم؛ لأنَّه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم كان عالمًا بالله على الدوام»(7).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 1 المحرم 1430ه
الموافق ل: 29 ديسمبر 2008م
__________
1- أخرجه أحمد في «المسند»: (2629)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (1/250): «رواه أَحمد، ورجاله رجال الصحيح»، وصححه الألباني في «صحيح الجامع»: (3466).
2- أخرجه مسلم كتاب «الفتن» وأشراط الساعة: (7356)، والترمذي كتاب «الفتن»، باب ما جاء في علامة الدجال: (2235)، وأحمد في «المسند»: (23160)، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
3- أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم آمين والملائكة في السماء.. (3062)، ومسلم، كتاب الإيمان: (439)، والترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة الأنعام: (3068)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
4- أخرجه مسلم، كتاب الإيمان: (443)، وأحمد في «المسند»: (21017)، من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
5- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية: (6/509).
6- أخرجه مسلم، كتاب الإيمان: (437)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
7- «فتح الباري» حجر: (8/608).(1/42)
02- الرسل
الفتوى رقم: 24
في صِحَّة رؤيةِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسلم في المنام
السؤال: شيخَنا، رأيتُ في منامي رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم ثلاثَ مرَّاتٍ ليست على التوالي، فما تأويل رؤياي؟ بارك الله فيكم.
الجواب: الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فاعلم أنّ رؤيةَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم في المنام إذا وافقت صفتَه التي كان عليها في الدنيا فقد رأى الحقَّ لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم :« مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لاَ يَتَمَثَّلُ بي »(1)، وفي رواية:« مَنْ رَآنِي فَقَدْ رَآى الحَقَّ »(2)؛ ذلك لأنّ رؤيتَه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم في النوم لا تكون حقًّا إلاَّ إذا طابقت صفتَه المعلومةَ في شمائله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، فإن لم تكن على وجه الموافقة فما هي إلاَّ أضغاث أحلام، ومن تلاعب الشيطان بابن آدم، إذ الشيطان يتمثَّل في صورة أخرى يخيّل للرائي الجاهل بصفته التي كان عليها صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم أنها صورة النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم وليست كذلك، ولهذا كان ابن سيرين -رحمه الله- إذا قصَّ عليه رجل أنه رأى النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قال:« صِفْ لي الذي رأيتَه، فإن وصف له صفةً لا يعرفها، قال: لم تره »(3). وبهذا المقياس يُعلم من رأى رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم حَقًّا ممَّن يخيِّل إليه الشيطان رؤيتَه.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 07 محرم 1427ه
الموافق ل: 06 فبراير 2006م
__________
1- أخرجه البخاري في «العلم »: (110)، وفي «الأدب »: (6179)، ومسلم في «الرؤيا »: (6056)، وابن ماجه في «تعبير الرؤيا »: (4034)، وأحمد: (7367)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2- أخرجه البخاري في «التعبير »: (6996)، ومسلم في «الرؤيا »: (6058)، وأحمد: (22096)، والدارمي: (2195)، من حديث أبي قتادة رضي الله عنه.
3- علّقه البخاري في صحيحه، «كتاب التعبير » (3/449)، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في «الفتح »: (12/465):« وقد رويناه موصولاً من طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي وسنده صحيح »، وانظر:« السلسلة الصحيحة »: (6-1/517).(1/43)
الفتوى رقم: 26
في الفرق بين الرَّسولِ والنَّبِيِّ
السؤال: قرأتُ في كتابٍ أنّ الرسولَ هو الذي أوحي إليه بشرعٍ ولم يؤمر بتبليغه، وقرأتُ في كتابٍ آخرَ أنّ هذا التعريفَ غيرُ صحيح؛ لأنّه لو كان صحيحًا لَمَا لام موسى هارونَ، فما هو الفرق بين الرسولِ والنَبِيِّ؟
الجواب: الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فإنّ لفظَ النبوَّة والرسالة مختلفان في أصل الوضع، فالنُّبُوَّةُ من النَّبأ وهو الخبر، والنَّبيُّ في العُرف هو المنبَّأُ من جهة الله بأمرٍ يقتضي تكليفًا، فإن أرسل مع ذلك إلى من خالف أمرَ اللهِ ليبلِّغه رسالةً من اللهِ إليه فهو رسولٌ، وعلى هذا فالرسولُ أخصُّ من النَّبي، فكلُّ رسولٍ نبيٌّ ولا عكسَ، لكن الرسالة أعمّ من جهة نفسها، والنبوَّة جزءٌ من الرسالة، فإنّ النبي والرسول اشتركَا في أمرٍ عامٍّ وهو النبأ، وافترقَا في الرسالة، فالرسالةُ تتضمَّن النبوَّةَ، فهو رسولٌ نبِيٌّ، والنبوَّةُ لا تستلزمُ الرسالةَ، أي: لا يلزم من النبيِّ أن يكون رسولاً، فالرسالةُ أعمُّ من جهة نفسها وأخصُّ من جهة أهلها.
هذا، والأنبياءُ والرسلُ أرسلهم اللهُ تعالى، كما جاء في قوله تعالى: ?وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ? [الحج: 52]، فالنبي مرسَلٌ، ولا يسمَّى رسولاً عند الإطلاق؛ لأنّه لم يرسل إلى قومٍ بما لا يعرفونه، وإنّما كان يأمر المؤمنين بما يعرفون أنّه الحقُّ بالشريعة التي قبله، أمّا من أرسل إلى من خالفَ أمرَ اللهِ ليبلِّغَهُ رسالةً من الله إليه فإنّ هذا هو الرسول المطلق الذي أمره بتبليغ رسالته إلى من خالف اللهَ سبحانه وتعالى(1).
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 25 شعبان 1426ه
الموافق ل: 29 سبتمبر 2005م
__________
1- انظر:« النبوات » لابن تيمية: (255)، «شرح العقيدة الطحاوية » لابن أبي العز: (1/155).(1/44)
03- اليوم الآخر
الفتوى رقم: 23
في صحّة صورة الشاب المعذّب في قبره وحكم ترويجها
السؤال: انتشرَ في ساحة الدعوة قرص يحتوي على صُوَرٍ لشابٍّ يقال أنَّه أُخرِج من قبره، بعد ثلاث ساعات من دفنه، ووُجد على جسده آثار تعذيبٍ نُسِبَتْ لعذابه في القبر، وأرجعوا ذلك لكون الشاب منحرفًا، تاركًا للصلاة، وقد قام البعضُ بنشره، فهل هذه الآثار يمكن أن تكون نتيجةَ عذابه في القبر؟ وهل يجوز ترويج هذا القرص كأسلوب دعوي؟ جزاكم الله خيرًا.
الجواب: الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فمعتقدُ أهل السُّنَّة والجماعة أنَّ عذاب القبر حقٌّ، يجب الإيمان به، لثبوته بنصوصٍ شرعيةٍ مُتكاثرةٍ ومتواترةٍ، وأنَّ النعيمَ والعذابَ يقع على الروح والبدن جميعًا باتفاق أهل السُّنَّة، وتنعمُ الروح وتعذّب مفردةً عن البدن ومتصلّةً به، أي: أنَّ الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعّمةً أو معذّبةً، وأنها تتَّصلُ بالبدن أحيانًا، فيحصل معها النعيم والعذاب سواء قُبر الميت أو لم يُقبَر، غير أنه لما كان الغالب على الموتى أنهم يقبرون كان ألصق في التسمية، فمن لم يُدفن من مصلوب ونحوه يناله نصيبُه من فتنة السؤال، وضغطة القبر أيضًا، قال ابن القيم في كتاب «الروح »:« ممَّا ينبغي أن يُعلم أنَّ عذاب القبر هو عذاب البرزخ، فكلُّ من مات فهو مستحِقٌّ للعذاب ناله نصيبه منه قُبر أم لم يُقبر، فلو أكلته السباع، أو حُرِقَ حتى صار رمادًا، أو نسف في الهواء، أو غرق في البحر، وصل إلى روحه وبدنه من العذاب ما يصل من المقبور ».
وعليه، يتجلَّى واضحًا أنَّ الذي يحول دون تصديق صورة المعذب في قبره واعتقاد صحّتها عدّة موانع منها:
أولاً: إنَّ دار البرزخ عكس دار الدنيا، إذ الأرواح تابعة للأبدان في أحكام الدنيا، حيث إنَّ العقوبات الدنيوية تقع على البدن الظاهر، وتتألّم الروح بالتبعية، أمّا في أحكام البرزخ فتقع على الأرواح، والأبدان تبع لها في نعيمها وعذابها، فكان العذاب والنعيم على الروح بالأصالة والبدن تابع للروح كما قرّره ابن القيم رحمه الله.
ثانيًا: إنّ الله تعالى جعل أمر البرزخ والآخرةِ غَيْبًا وحَجَبَهُ عن إدراك العقولِ في هذه الدار، وذلك من كمال حِكمته وليتميَّز الذين آمنوا بالغَيب عن غيرهم، لذلك لا يجوز قياس أحوال البرزخ والآخرة بأحوال الدنيا لافتراق أحوالهما.
ثالثًا: ولأنَّ الله تعالى لم يُسمِع الأحياءَ من الآدميِّين أصوات المعذبين في قبورهم، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« إِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ تُبْتَلىَ فِي قُبُورِهَا فَلَوْلاَ أَنْ لاَ تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ اللهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ مِنْهُ »(1)، فلِحِكمة الله الإلهية، وغَلَبة الخوف عند سماعه، كتمه الله عنَّا حتى نتدافن، لعدم القدرة على سماع شيء من عذاب الله في هذه الدنيا، فكذلك صورة العذاب أُخْفِيَتْ علينا لعدم وجود الطاقة على النظر إلى شيء من عذاب الله تعالى في هذه الدار، لضعف القُوى.
هذا، وبغضِّ النظر عن تأثير هذه الصور في العامَّة، واستعمالها كأسلوب دعوي، فإنَّ الدعوةَ إلى الله بفساد المعتقد لا تُشرع؛ لأنَّ الغاية لا تبرِّرُ الوسيلةَ، والنيةُ الحسنةُ لا تبرِّر الحرامَ، لذلك فالتجارة بها وترويجها يتبعه في حكم المنع، لما فيها من القدح في سلامة الطوية وصحَّة السريرة.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصَلَّى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 21 محرم 1427ه
الموافق ل: 20 فبراير 2006م
__________
1- أخرجه مسلم في «الجنة وصفة نعيمها وأهلها »: (7392)، وابن أبي عاصم في «السنّة »: (720)، وابن أبي شيبة في «مسنده »: (122)، وفي «المصنف »: (11845)، واللالكائي في «شرح أصول اعتقاد أهل السنّة والجماعة »: (1724)، من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه.(1/45)
الفتوى رقم: 297
في سؤال الملكين للميت الغريق
السؤال: هل سؤال الملكين للميت الغريق يكون بعد خروج الروح أم بعد أن يُقْبَرَ؟ جزاكم الله عنَّا كلّ خير.
الجواب: الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فمن المعلوم أنّ سُؤال الملكين للمقبور يكون بعد وضعه في قبره كما ثبت ذلك عن النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وآله وسَلَّم أنّه قال:« إِنَّ العَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ، فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ… » الحديث(1).
أمّا من لم يوضع في القبر كمن أكلته السباع والحيتان أو من احترق حتى صار رمادًا أو من شَتَّتَهُ انفجار قنبلة فإنّه ولا شكّ يسأل لكن مع الجهل بالكيف؛ لأنّه أمر غَيْبِيّ توقيفي لا يجوز فيه قياس عالَم الغيب على عالم الشهادة، أمّا عذاب القبر فيكون للنفس والبدن جميعًا باتفاق أهلِ السُّنَّة والجماعةِ، تُنعَّم النفس وتعذّّب مفردة عن البدن ومتّصلة به، فكلُّ من مات وهو مستحقّ للعذاب ناله نصيبُه منه، قُبِرَ أو لم يُقْبَرْ(2).
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 25 رجب 1426ه
الموافق ل: 30 أوت 2005م
__________
1- أخرجه البخاري في «الجنائز »: (1374)، ومسلم في «الجنّة وصفة نعيمها »: (7395)، والنسائي في «الجنائز »: (2062)، وأحمد: (12605)، من حديث أنس رضي الله عنه.
2- للمزيد من التوسّع راجع «الروح » لابن القيم: (81-88).(1/46)
الفتوى رقم: 898
في مستقر الأرواح ما بين الموت إلى قيام الساعة
السؤال:
وَرَدَ في بعض الأحاديث عن مكانِ أرواح الأنبياء والشهداء والصالحين في حياة البرزخ، ولكن حَسَب اطلاعي المتواضع جدًّا لم يرد أيُّ شيءٍ عن أرواح الصِّدِّيقين فهلاَّ أفدتمونا في هذا الجانب؟ بارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فقد تعدَّدتِ الأقوالُ في مسألة مُستقَرِّ الأرواح ما بين الموتِ إلى قيام الساعة على أقوال لَخَّصها ابنُ أبي العِزِّ الحنفي في «شرح العقيدة الطحاوية »(1)، وأصل هذه المسألة يعود مبناه إلى ما أجمع عليه أهلُ السُّنَّةِ على أَنَّ الروحَ مُحدَثةٌ مخلوقةٌ مصنوعة ومربوبة ومدَبَّرةٌ، وممَّن نقل الإجماعَ محمَّدُ بنُ نصر المَرْوَزِيُّ، وابنُ قُتيبةَ وغيرُهما، وهو معلومٌ بالضرورة من دِينهم أنَّ العالَمَ مُحدَثٌ، خلافًا لمن زعم أنَّ الروح قديمةٌ، كما أنَّ أصل المسألة يعود إلى ما استقرَّ عليه أهلُ السُّنَّة من أنَّ الروحَ لا تفنى بعد خروجها من الجسد عند الموت خلافًا لمن يزعم أنها تموت.
ومِن منطلق مبنى المسألتين السابقتين يتجلَّى الخِلافُ في مسألة مُستقَرِّ الأرواح، وهي ولا شكَّ من مسائل الغَيب التي تحتاج إلى سَنَدٍ من كتابٍ أو سُنَّةٍ، ولا يُقالُ فيها بالرأي لافتراق عالَم الغَيب عن عالَم الشهادة، ولعلَّ أقوى الأقوال وأصحَّها: أنَّ أرواح المؤمنين مُطلقًا سواء كانوا شهداءَ أم غيرَ شهداء هم عند ربهم في الجنة إذا لم يُحبسوا عنها بكبيرة أو دَين، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« إِنَّما نَسَمَةُ المُؤْمِنِ طَيْرٌ يُعَلَّقُ فِي شَجَرِ الجَنَّةِ حَتَّى يُرْجِعَهُ اللهُ تَعَالَى إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ يَبْعَثُهُ »(2)، ونسمة المؤمن هي: روحُه، والحديث عامٌّ في الشهيد وغيرِه، ثمَّ خُصَّ الشهيد بقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« لَمَّا أُصِيبَ إِخْوَانُكُمْ -يعني يوم أُحُد- جَعَلَ اللهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ، تَرِدُ أَنْهَارَ الجَنَّةِ، وَتَأْكُلُ ثِمَارَهَا، وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ مُعَلَّقَةٍ فِي ظِلِّ العَرْشِ »(3). والدليلُ على أنَّ الشهيدَ يُحبسُ روحُه عن دخول الجَنَّة لدَيْنٍ عليه والأَوْلَى منه غيرُ الشهيد: أنَّ رجلاً جاء إلى النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم فقال: يَا رَسُولَ الله: مَا لِي إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللهِ قَالَ: الجَنَّة، فلمَّا وَلَّى، قال:« إِلاَّ الدَّيْن، سَارَّنِي بِهِ جِبْرِيلُ آنِفًا »(4)، ومِن الأرواح من يكون محبوسًا على باب الجنة كما ثبت في قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« إِنَّ صَاحِبَكُمْ فُلاَنًا احْتُبِسَ عَنِ الجنَّةِ مِنْ أَجْلِ الدَّيْنِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ فَإِنْ شِئْتُمْ فَافْدُوهُ مِنْ عَذَابِ اللهِ، وَإِنْ شِئْتُمْ فَأَسْلِمُوهُ »(5)، وتشهد السُّنَّة لمن كان محبوسًا في قبره أو محبوسًا في الأرض ونحو ذلك، ما لم يتلقَّاهم ربهم بالعفو والمغفرة.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 26 ربيع الثاني 1429ه
الموافق ل: 03 ماي 2008م
__________
1- «شرح العقيدة الطحاوية »: (453).
2- أخرجه النسائي في «سننه » كتاب الجنائز، باب أرواح المؤمنين: (2073)، وابن ماجه في «سننه » كتاب الزهد، باب ذكر القبر والبلى: (4271)، وأحمد في «مسنده »: (15365)، من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في «صحيح الجامع »: (2373).
3- أخرجه أبو داود في «سننه » كتاب الجهاد ،باب في فضل الشهادة: (2520)، والحاكم في «المستدرك »: (3165)، وأحمد في «مسنده »: (2384)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. والحديث صححه أحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد »: (4/123)، والألباني في «صحيح الجامع »: (5205)، والوادعي في «الصحيح المسند »: (63).
4- أخرجه بهذا اللفظ أحمد في «مسنده »: (16802)، من حديث عبد الله بن جحش رضي الله عنه. والحديث جوّد إسناده الألباني في «الإرواء »: (5/19). وأخرجه مسلم في «صحيحه » كتاب الإمارة، باب من قتل في سبيل الله كفرت خطاياه إلا الدين: (4880) بلفظ:« إِلاَّ الدَّيْنَ فَإِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ لي ذَلِكَ »، من حديث أبي قتادة رضي الله عنه.
5- أخرجه أبو داود في «سننه » كتاب البيوع، باب في التشديد في الدين: (3341)، وأحمد في «مسنده »: (19719)، والحاكم في «المستدرك »: (2214)، والطبراني في «المعجم الكبير »: (6753)، من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في «صحيح الجامع »: (7017)، وانظر «أحكام الجنائز » له: (26).(1/47)
الفتوى رقم: 946
في أسماء الجنة من جهة ترادفها وتباينها
السؤال:
ذكر الله تعالى في القرآن الكريم عدة أسماء للجنة فمنها: الفردوس والخلد والنعيم والمأوى وعدن ودار السلام وغيرها، فهل هذه الأسماء مترادفة تدل على معنى واحد أم هي مختلفة ومتباينة؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فهذه أسماء الجنة الواردة في القرآن الكريم مترادفة، ومسماها واحد باعتبار الذات فأسماء الجنان هي أسماء لدار الحياة الدائمة، فسميت جنة الخلد والنعيم والمأوى وعدن ونحوها لبقاء المؤمنين فيها وعدم فنائها وتنعمهم فيها وهي مأواهم ودار مقامهم على وجه الدوام والخلود.
هذا باعتبار الذات، أما باعتبار صفات الجنة فهي متباينة ومختلفة لأنّ الجنة جنان كثيرة كما ورد في الصحيح أن أمّ الرُّبَيِّع بنت البراء -وهي أم حارثة بن سراقة- أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا نبي الله ألا تحدثني عن حارثة - وكان قُتل يوم بدر أصابه سهم غرب(1) فإن كان في الجنة صَبرتُ، وإن كان غير ذلك اجتهدتُ عليه في البكاء ؟ قال: « يَا أُمَّ حَارِثَةَ إِنَّهَا جِنَانٌ في الجنَّةِ وَإِنّ ابْنَكِ أَصَابَ الفِرْدَوْسَ الأَعْلَى»(2 ) وفي رواية: « إِنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ»(3)
فالفردوس -مثلا- يطلق على الجنة باعتبار الذات، ويطلق باعتبار الصفة على أعلى الجنة وأوسطها، ومنه تفجر أنهار الجنة كما ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: « فَإِذَا سَأَلْتُم الله فَاسْأَلُوهُ الفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الجنَّةِ وَأَعْلَى الجنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحمنِ وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الجنَّةِ»(4) وفي حديث آخر عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «الجنَّةُ مِائَةُ دَرَجَةٍ، كُلُّ دَرَجَةٍ مِنْهَا مَا بَيْنَ السَمَاءِ وَالأَرْضِ، وَإِنَّ أَعْلاَهَا الفِرْدَوْس، وَإِنَّ أَوْسَطَهَا الفِرْدَوْس، وَإِنَّ العَرْشَ عَلَى الفِرْدَوْسِ، مِنْهَا تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الجنَّةِ، فَإِذَا مَا سَأَلْتُم الله فَسَلُوهُ الفِرْدَوْسَ»(5)
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 07 شوال 1429ه
الموافق ل: 06 أكتوبر 2008م
__________
1- سهم غرب: أي لا يعرف راميه. النهاية لابن الأثير: (2/657)
2- أخرجه البخاري في «صحيحه» كتاب الجهاد والسير، باب من أتاه سهم غرب فقتله: (2654)، وأحمد في «مسنده»: (13330)، من حديث أنس رضي الله عنه.
3- أخرجه البخاري في «صحيحه» كتاب المغازي، باب فضل من شهد بدرا: (3761)، من حديث أنس رضي الله عنه.
4- أخرجه البخاري في «صحيحه» كتاب الجهاد والسير، باب درجات المجاهدين في سبيل الله: (2637)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
5- أخرجه الترمذي في «سننه» كتاب صفة الجنة، باب ما جاء في صفة درجات الجنة: (2530)، وابن ماجه في «سننه» كتاب الزهد، باب صفة الجنة: (4331)، ومسند أحمد في «مسنده»: (21582)، من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في «صحيح الجامع»: (3121)، وانظر: «السلسلة الصحيحة» له: (2/592).(1/48)
04- القدر
الفتوى رقم: 28
في اختيارِ العبدِ لأفعاله بإرادته
السؤال: عقيدةُ أهلِ السُّنةِ والجماعةِ أنّ ما شاء اللهُ كان وما لم يشأ لم يكن، وهنا تنقدح في نفسي شبهة وهي: الفعل -بغضِّ النظر عن مشيئة العبد له أو عدمها- واقع بمشيئة الله، فإذا عصى العبدُ اللهَ فإنّ عصيانَه بمشيئة اللهِ، وتَوسُّطُ مشيئةِ العبدِ بين مشيئة الله والفعلِ لا وَزْنَ له؛ لأنّها -أي: مشيئةُ العبدِ- وجودُها كعدمها سواء إلى جانب مشيئة الله، فإذا شاء الله شيئًا شاءه العبدُ وفَعَلَهُ، وإذا لم يشأ اللهُ شيئًا لم يشأه العبدُ ولم يفعلْهُ.
سؤالي: ألا يعني هذا أنّ العبدَ مُكْرَهٌ ومجبور على أفعاله الحسن منها والقبيح؟ وإذا كان الجواب بنعم: فكيف يعاقب على عصيانه؟ أفيدونا جزاكم اللهُ خيرًا، فهذا أمر حيَّرَني.
الجواب: الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فاعلم -وفَّقك اللهُ للخير- أنه حتى تستبين المسألةُ ينبغي التفريقُ بين القضاء الكوني والقضاء الشرعي.
فالأول: هو قضاءٌ كوني قَدَرِيٌّ، ووقوعُه ضروريٌّ لِمشيئةِ الله النافذة في مُلكه، وهو لا يخلو من الحِكمة، قال تعالى: ?إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ? [البقرة: 117]، وقوله تعالى: ?وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ? [الرعد: 11]، بمعنى أنَّ عِلْمَ اللهِ تعالى السابق بما سيكون ووقوعه إِنَّمَا يكون وِفْقَ عِلْمِهِ، ولا يُجْبِرُ أحدًا من عباده على فعل الطاعة أو المعصية ولا يقهرهم عليها؛ لأنَّ علمه سبحانه صفة انكشاف وإحاطة لا صفة تفعيل وتأثير، والقضاء الكوني القدري محجوب علمه عنَّا، لذلك لا يحاسب عليه العبد ثوابًا ولا عقابًا، ولكن يلزمه الشكر إن ترتّب عن نفاذ قضائه نعمة، والصبر إن أصابه سوءٌ عن نفاذ قضائه، وعليه فلا تبنى إرادة العبد عليه ولا اختيارُه، بخلاف القضاء الشرعي الديني فإنَّ إرادةَ العبد واختيارَه تتعلّق به، ويبنى عليه التكليفُ الشرعي بالأمر والنهي وهو مَنَاط الثواب والعقاب، واللهُ سبحانه وتعالى أظهر لنا إرادتَه الشرعية الدينية وقضاءَه عن طريق الرسل والوحي من حلالٍ وحرامٍ، وَوَعْدٍ ووعيدٍ، وَمَنَحَ لذلك القدرةَ والاستطاعةَ، ولَمَّا كان القضاءُ الكونيُّ القدريُّ شاملاً لكلِّ ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، فإنَّ القضاء الدينيَّ الشرعيَّ يخضع له، ولا يخرج عنه إذ لا يشذّ عن القضاء الكوني القدري شيء من الموجودات.
وعليه، فالله تعالى أراد من عباده الطاعةَ، وأمر بها، ولم يُرِدْ منهم المعصية، ونهى عنها قضاءً شرعيًّا دينيًّا تكليفيًّا، يدخل في قدرة المكلَّف الفعلُ والتركُ، وموكولٌ إلى اختياره، لكن سبق علم الله أنَّ بعضهم سَيَمْضِي باختياره سبيلَ الحقِّ والطاعةِ، كما عَلِمَ سبحانه أنَّ بعضهم يختارُ سبيل الغَيِّ والضلالِ، فقضى سبحانه لأهلِ الطاعة بالثواب، وقضى لأهل الغَيِّ والضلالِ بالعقاب قضاءً كونيًّا قدريًّا سَبَقَ علمه سبحانه إلى ذلك، وليس في سَبْقِ علمه عزَّ وجلَّ قهرٌ ولا جَبْرٌ بما سيفعله المكلَّف باختياره؛ لأنه قضاءٌ كونيٌّ غيبيٌّ لا يعلمه إلاَّ الله سبحانه، لذلك لا يجوز للعاصي أن يحتجَّ في ذنبه وتقصيره عن أداء الطاعة بالقضاء الكوني القدري حيث لا حجَّة فيه لأحدٍ، ومن جهة أخرى لا يجوز لأحد ترك العمل من باب الاتكال على ما سبقت به إرادةُ اللهِ الكونيةُ القدريةُ، لذلك قال النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَّسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ »، ثمَّ قرأ: ?فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى، وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى، وَكَذَّبَ بِالحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى? [الليل: 5-10](1)، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-:« إنَّ القَدَرَ ليس حجَّةً لأحدٍ على اللهِ، ولا على خَلْقِهِ، ولو جاز لأحدٍ أن يحتجَّ بالقَدَر على ما يفعله من السيِّئات لم يُعاقَبِ الظالِمُ، ولم يُقتلِ المشرِكُ، ولم يُقَمْ حدٌّ، ولم يُكفَّ أحدٌ عن ظلم أحدٍ، وهذا من الفساد في الدين والدنيا المعلوم ضرورة »(2).
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 17 صفر 1427ه
الموافق ل: 18 مارس 2006م
__________
(1)- أخرجه البخاري في «التفسير »: (4949)، ومسلم في «القدر »: (6903)، وأحمد: (1365)، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
(2)- «مجموعة الرسائل الكبرى »: (1/353).(1/49)
الفتوى رقم: 278
في علاقة القدر باختيار الإنسان
السؤال: ما علاقةُ القَدَرِ باختيار الإنسان؟
الجواب: الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فاعلم أنَّ المسلمين وسائرَ أهلِ الْمِلَلِ متّفقون على أنّ الله تعالى على كلِّ شيء قديرٌ وأنّ قدرتَه عامّةٌ على كلِّ شيء بما في ذلك أفعال العباد واختياراتهم، كما أنّ الله قدّر على الخلق ما يكون من أعمالهم من خير وشرٍّ من شقِيٍّ وسعيد، كما ثبت عن النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه:« مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ، مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلاَّ كُتِبَ مَكَانُهَا مِنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ وَقَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّة أَوْ سَعِيدَة »(1)،
لأنّ القدر لا يمنع العمل ولا يوجب الاتكال بل يوجب الجِدَّ والحِرْصَ على الأعمال الصالحة لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ »(2)، إلاّ أنّ الإنسان أَلْهَمَهُ اللهُ تعالى عَقْلاً به يختار سبيلَ الخيرِ أو سبيلَ الشّرِّ قال الله تعالى: ?وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا? [الشمس: 7]، فالإنسانُ مخيَّر في فعل الأوامر أو تركها وفي اجتناب المعاصي أو فعلها، وهذا الذي يحاسب عليه المرء يوم القيامة فلا يمكنه أن يحتجّ بالقدر فيما أمره الله تعالى أو نهاه عنه، وشرُّ الناس من يحتجُّ بالقدر على نفسه ولا يراه حُجَّة على غيره، يستند إليه في الذنوب ولا يطمئنُّ إليه في المصائب، أمّا خير الخلق فيستغفرون في المعايب والذنوب ويصبرون على المصائب والكروب.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصَلَّى الله على نبيِّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
__________
1- أخرجه البخاري في الجنائز (1362)، ومسلم في القدر (6901)، وأبو داود في السنة (4696)، وأحمد (1079)، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
2- أخرجه البخاري في الجنائز (6605)، ومسلم في القدر (6903)، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.(1/50)
الفتوى رقم: 506
في الفرق بين القَدَر والمكتوب، وتغيير المكتوب بالدعاء
السؤال: ما الفرقُ بين القَدَر والمكتوبِ في اللَّوحِ المحفوظِ؟ وهل يتغيَّر القَدَرُ بالدعاءِ؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فمرتبةُ الكتابةِ: كتابةُ اللهِ لجميع الأشياءِ باللوح المحفوظ الدقيقةِ والجليلةِ، ما كان وما سيكون هي إحدى مراتبِ القَدَر الأربعِ المتمثلةِ في إثباتِ عِلْمِ اللهِ بكلِّ شيءٍ، وكتابةِ اللهِ لجميعِ الأشياءِ باللوح المحفوظِ، والمشيئةِ الشاملةِ النافذةِ التي لا يردُّها شيءٌ، وقُدرته التي لا يُعجِزُهَا شيءٌ، والمرتبةِ الرابعة هي الإيمان بأنَّ اللهَ خالقُ الأشياءِ كلِّها وموجِدُها، وعليه فإذا أُطلق المكتوبُ فهو من باب إطلاق الجزء وإرادة الكلّ، ودليل هذه المرتبة قولُه تعالى: ?مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ? [الحديد: 22]، وقولُه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ القَلَمَ فَقَالَ: اكْتُبْ، فَقَالَ: يَا رَبِّ وَمَاذَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ » الحديث(1).
والدعاءُ من جُملة الأسبابِ التي لها تأثير في مسبّباتها لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« لاَ يَرُدُّ القَضَاءَ إلاَّ الدُّعَاءُ، وَلاَ يَزِيدُ فِي العُمُرِ إلاَّ البِرُّ »(2)، فالدعاء سببٌ في ردِّ الأمر المقدَّر، والبِرُّ سببٌ في الزيادة في العُمُرِ الذي كان يقصر لَولاَ بِرُّهُ، فالدعاءُ والبِرُّ وغيرُهما من الأسباب التي لها تأثيرٌ في تغيير الأمرِ المقدَّر، غير أنَّ ذلك التغيير هو -أيضًا- مكتوبٌ بسبب الدعاء فلا يخرج عمَّا قدَّره اللهُ سبحانه وتعالى كالدواء للمريض فهو سببٌ في الشِّفاء، وله تأثيرٌ فيه، لكن لا يخرج عمَّا قدَّره اللهُ تعالى، لقوله سبحانه: ?إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ? [القمر: 49].
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 22 رجب 1427ه
الموافق ل: 16 أوت 2006م
__________
1- أخرجه أبو داود في «السنة »: (4700)، والترمذي في «التفسير »: (3319)، وأحمد: (22199)، والبيهقي: (21475)، من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه. وصحّحه الألباني في «صحيح الجامع »: (2018).
2- أخرجه الترمذي في «القدر »: (2139)، والبزار في «مسنده »: (2540)، والطبراني في «المعجم الكبير »: (6128)، من حديث سلمان رضي الله عنه. وحسّنه الألباني في «السلسلة الصحيحة »: (154)، وفي «صحيح الجامع »: (7687).(1/51)
03- الولاء والبراء
الفتوى رقم: 29
التجنُّس بالجِنسية الأوربية
السؤال: أنا شابٌّ جزائريٌّ مستقيمٌ على أَمْرِ ديني -إن شاء الله تعالى- وأعيشُ في كَنَدَا منذ مُدَّة، وأحاولُ الخروجَ منها في أسرع وقتٍ، ولكن ليس لي سَكَنٌ لأستقرَّ في بلدي، والسكن في الجزائر غالٍ، وليس لي إمكانيات ولا أموالٌ حتى تمكنني من ذلك، إلاّ أن أعمل بالتجارة، والتجارة تتطلَّب أموالاً -والله المستعان- وأنا قد تجاوزت الثلاثين ولم أتزوّج بعد، المهمُّ أسألُ اللهَ التيسير. والمكوث في هذا البلد صعب من حيث الفتن الدنيوية، وأيضًا المكوثُ حتى جمع المال الكافي يستغرق وقتًا طويلاً وطويلاً جِدًّا، فالسؤال هو: هل يمكنني أخذ الجواز الكَنَدِي -بشروط أذكرها بعد قليل- إذ أنّه يعينني على الخروج من هذا البلد والدخول إلى دول الخليج ومحاولة الإقامة هناك؛ لأنّهم لا يشترطون التأشيرات لحامل هذا الجواز، وعلمًا أنه يفيدني في التجارة -أيضًا-، إذ أنّ التنقُّل به لا يحتاج إلى تأشيرات للدخول إلى الدول، وفيما يلي أذكر الشروط:
أولاً: إنّ أخذ الجواز الكندي لا يلغي جنسيتي الجزائرية بل تكون هي الأصلية وهذا مقرَّرٌ عندهم ومكتوب في الجواز الكندي نفسِه -لأنّ الدولة الكنديةَ تتدخّل وتحمي صاحب هذا الجواز ما عدا في بلده الأصلي فليس لها أيّ دخل-. فالمقصود أني أبقى جزائريًّا، واعلموا أنّ الدولة الجزائرية تقبل التعدّد.
ثانيًا: يمكنني التخلِّي عن هذا الجواز في أي وقت شِئْتُهُ بدون أي مشكلة، وهذا أيضًا مقرَّرٌ عندهم في قوانينهم.
ثالثًا: يمكنني تفادي القَسَم على احترام المَلِكَة وأبنائها ومَلِكِها بأن أجلس في آخر القاعة ولا أتلفَّظ بأي شيء. أفيدونا بارك الله فيكم
الجواب: الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فإنّه لا يجوز التجنُّس بالجِنسية الكُفرية ولو مع المحافظة على الجنسية الأصلية للآثار السلبية التي تعود على دينِ المسلم وعقيدته، ويكفي أن يُعْلَمَ تَرَتُّب الرضا الضِّمْنِي بتطبيق الأعراف والقوانين الكُفْرِية لذلك البلد، فضلاً عن التحاكم إليهم، والاعتزاز بكونه مواطنًا كَنَدِيًّا، وما يُفضي إليه من المودَّة والتشبُّه بأفعالهم وأقوالهم وهو ينافي الإيمان إمَّا في كماله أو في أصله بحَسَب الحال، قال تعالى: ?لاَ تَجُدُ قوْمًا يُؤْمِنُوْنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ يُوَآدُّوْنَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَو كَانُوا آبآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُم أَوْ إخْوَانَهُم أَوْ عَشِيرَتَهُمْ…? [المجادلة: 22].
فالمسلمُ مطالبٌ بإكمال دينه وزيادة إيمانه بالدعوة إلى الله تعالى وإظهار الإسلام، إذ من شروط إباحة السفر إلى بلاد الكفر إظهارُ الدِّينِ، ويجهر بشعائره على سبيل الكمال بلا معارضة في شيء منها، مع الاستطاعة على الولاء والبراء، ومن لا يقدر على ذلك فالواجب عليه أن يعود من حيث جاء ويجتهد في طلب العمل ويكتفي بالقليل، وليسألِ اللهَ التوفيقَ فهو خيرُ مُعِينٍ وأحسن كفيلٍ.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 24 محرم 1424ه
الموافق ل: 27 مارس 2003م(1/52)
الفتوى رقم: 30
في حكم قراءةِ الإنجيل والتوراة
السؤال: ما حكمُ قراءةِ الإنجيلِ والتوراةِ؟ وما شبهةُ ثبوتِ قراءتها عن شيخ الإسلام؟
الجواب: الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فلا يجوزُ قراءةُ الكتب التي امتزج بها حقٌّ وباطلٌ دَرْءًا للمفسدة الحاصلة بقراءتها على دين المسلمين، والمبتغي للحقِّ يجده في مَصْدَرَيِ الثِّقة والائتمان وهما: الكتاب والسُّنَّة إذ لا يخرج الحقُّ عنهما، ولذلك حذّر النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّمَ من كُتُبِ أهلِ الكتابِ كما في قِصَّة عُمَرَ بنِ الخطَّاب رضي الله عنه الذي أتى النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم بكتابٍ أصابه من بعضِ أهلِ الكتاب فَغَضِبَ، وقال:« أَمُتَهَوِّكُونَ يَا ابْنَ الخَطَّابِ؟! وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، لاَ تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلاَّ أَنْ يَتْبَعَنِي »(1).
هذا، ومن كان محصَّنًا بعلمِ الكتابِ والسُّنَّة واحتاجَ إلى نُصرة الدين وإعلاءِ كلمةِ الحقِّ بدراسة كُتُبِ أهلِ الأهواء والبدع والمتكلِّمين دراسةً نقديةً معمَّقةً لإيضاح عَوَارِهَا وبيانِ تناقُضِها، جاز ذلك للعالِمِ المتمكِّن كما هو صنيعُ شيخِ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- مع كتب المناطقة وردِّه على المنطقيِّين والفلاسفة، كما درس كُتُب الرافضةِ من أهل الشيعة وردَّ عليهم في كتاب:« منهاج السنة النبوية »، كما بيَّن -رحمه الله- التناقضَ الحاصلَ بين الأناجيل المختلفة وضلال النصارى في معتقدهم.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 14 ربيع الأول 1426ه
الموافق ل: 23 أفريل 2005م
__________
1- أخرجه أحمد: (15546)، والدارمي: (1/115)، من حديث جابر رضي الله عنهما، والحديث حسَّنه الألباني في «ظلال الجنة »: (1/27)، وقال:« إسناده ثقات غير مجالد، وهو ابن سعيد فإنّه ضعيف لكن الحديث حَسَنٌ له طُرُقٌ أشرتُ إليها في «المشكاة »: (177) ثمّ خرَّجت بعضها في «الإرواء »: (1589) ».(1/53)
الفتوى رقم: 161
في حكم الاحتفال برأس السَّنَةِ الميلادية
السؤال:
ما رأيُ الإسلامِ فيما يُعرف الآن باسم: (Bonne Année)؟ أجيبونا مأجورين.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فيَجُدُرُ التَّنبيهُ أَوَّلاً إلى أنّه ليس للإسلام رأيٌ في المسائل الفقهية والعقائدية على ما جاء في سؤالكم كشأن المذاهبِ والفِرَقِ، وإنّما له حُكْمٌ شَرْعِيٌّ يَتَجَلَّى في دليله وأمارته. ثمّ اعلم أنّ كلَّ عملٍ يُرادُ به التقرُّب إلى الله تعالى ينبغي أن يكون وِفْقَ شَرْعِهِ وعلى نحو ما أدّاه نبيُّهُ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّمَ، مُراعيًا في ذلك الكمِّيةَ والكيفيةَ والمكانَ والزمانَ المعيَّنِين شرعًا، فإن لم يهتد بذلك فتحصل المحدثات التي حذَّرنا منها النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّمَ في قوله:« وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ وَكُلَّ ضَلاَلَةٍ فِي النَّارِ »(1)، وقد قال تعالى: ?وَمَا آتَاكُم الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا? [الحشر: 7]، وقوله تعالى: ?فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ? [النور: 63].
ومَوْلِدُ المسيحِ لا يَخْتَلِفُ في حُكْمِهِ عن الاحتفال بالمولدِ النبويِّ إذ هو في عُرْفِ النَّاس لم يكن موجودًا على العهد النبويِّ، ولا في عَهْدِ أصحابِه وأهل القرون المفضَّلة، وإنّ كلَّ ما لم يكن على عهد رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّمَ وأصحابِه دينًا لا يكون اليوم دينًا على ما أشار إليه مالكٌ -رحمه الله- وقال:« مَنِ ابْتَدَعَ فِي الإِسْلاَمِ بِدْعَةً يَرَاهَا حَسَنَةً فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ قَدْ خَانَ الرِّسَالَةَ، وَذَلِكَ لأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: ?اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا? [المائدة: 3] ». فضلاً عن أنَّ مثلَ هذه الأعمالِ هي من سُنَنِ النَّصارى من أهلِ الكتاب الذين حذَّرنا الشرعُ من اتباعهم بالنصوص الآمرة بمخالفتهم وعدمِ التشبُّهِ بهم، لذلك ينبغي الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة اعتقادًا وعِلْمًا وعَمَلاً؛ لأنّه السبيلُ الوحيدُ للتخلُّص من البدع وآثارها السيِّئةِ.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 24 شعبان 1416ه
الموافق ل: 15 جانفي 1996م
__________
1- أخرجه أبو داود في «السُّنَّة »: (4609)، وأحمد: (17608)، والدارمي: (96)، من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، وصحَّحه الألباني في «صحيح الجامع »: (2549)، و«السلسلة الصحيحة »: (6/526) رقم: (2735).(1/54)
الفتوى رقم: 203
في حكم التحدث باللغة العربية
السؤال: نحن في البيت غالب محادثاتنا تقع باللغة الفرنسية ولا نتكلم بالعربية إلاّ نادرا، فهل التكلم بغير العربية حرام؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فالأصل عدم جواز التشبه باليهود والنصارى والأعاجم ووجوب مخالفتهم للنصوص الكثيرة الواردة في هذا الشأن، ومن آحادها التحدث بلغتهم وتقليدهم في نبراتهم وحركاتهم حال التحدث بها، فإنّ ذلك مشعر بمودتهم وميل القلب إليهم، لأنّ الظاهر يعطي نسبًا وتشاكلاً بما يحصل في الباطن، كما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله- غير أنّه -استثناء من هذا الأصل- يجوز التكلم بها للحاجة كما يجوز تعلّم لغة الأعاجم وكتابتهم والاستفادة من علومهم ونقلها إلى اللغة العربية لأمن مكرهم وشرهم لقوله صلى الله عليه وآله وسلم لزيد بن ثابت رضي الله عنه:"تعلّم كتاب اليهود، فإنّي لا آمنهم على كتابنا"(1).
هذا ويجدر التنبيه إلى أنّ تعلم لغة الأعاجم إنّما تكون للعلة السابقة، أمّا أن تجعل نمط حياة المسلمين في خطاباتهم ومراسلاتهم في سائر شؤون الحياة فلا يجوز ذلك البتة، واستبدال العربية بالأعجمية استبدال الأدنى بالذي هم خير، وهو نوع من الولاء لأهل الكفر مذموم شرعا على ما نصت عليه النصوص القرآنية في شأن الولاء والبراء، وهما أوثق عرى الإسلام.
والعلم عند الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
__________
1- أخرجه البيهقي(12557)، من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة(1/364) رقم(187).(1/55)
الفتوى رقم: 275
في شرط السفر إلى بلاد الكفر
السؤال: أنا أخٌ هاجرتُ من فرنسا إلى الجزائر مع عائلتي منذ سنةٍ، وحتى الآن لم أجد عملاً، فهل يجوز لي الذهاب إلى فرنسا لمدّة أقصاها ثلاثة أشهر للعمل؟
الجواب: الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فإذا سافر إلى بلاد الكفرِ من أجل العمل أو التجارة وهو عارف بدينه، آمن عليه، قادرٌ على الجهر بشعائره على سبيل الكمال، مع قدرته على الولاء والبراء فإنّه يجوز له ذلك، أمّا إذا لم يأمن على دينه أو لا يستطيعُ إظهارَ شعائرِ الإسلامِ على وَجْهِ التَّمَامِ فهذا يحرم السفر إلى بلاد الكفر خشيةَ موالاتهم ومحبَّتهم.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 21 رجب 1426ه
الموافق ل: 26 أوت 2005م(1/56)
الفتوى رقم: 302
في حكم العمل في مقبرة النصارى
السؤال: أعملُ في مِشْتَلَةِ أزهارٍ وأشجارٍ، عُرِضَ على صاحبِ المشتلة عملٌ في مقبرة للنصارى؟ فما حكم غرس الأشجار والأزهار في المقبرة؟ وما حكم تنظيفها من الأعشاب الضارّة التي تُعيق المشي فيها؟ وبارك الله فيكم.
الجواب: الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فاعلم أنه لا يُشرع غَرْسُ الأشجارِ أو وضعُ الورودِ والآسِ ونحوِها من الرياحين في المقبرة أو على القبور عامَّةً سواء في مقبرة المسلمين أو النصارى أو غيرهما؛ لأنه ليس من فِعْلِ السلف الصالح -أوَّلاً- ولو كان خيرًا لسبقونا إليه، وقد قال ابن عمر رضي الله عنهما:« كُلُّ بدعةٍ ضلالةٌ، وإِنْ رآها الناسُ حسنةً »(1)، ولِمَا فيه من مخالفة المقصدِ التشريعي لزيارة القبور في تذكّر الآخرة والموت، ولِمَا فيه من التشبُّه باليهود والنصارى في تزيِين القبور والبناءِ عليها، فضلاً عن أنه يجرُّ اعتقادًا فاسدًا متعلِّقًا بِنَفْعِيَّتِهَا للميت كوضع الورود وغرس الأشجار والجريد، وقد رأى ابن عمر رضي الله عنهما فُسطاطًا على قبر عبد الرحمن، فقال:« انزِعْهُ يَا غُلاَمُ فَإِنَّمَا يُظِلُّهُ عَمَلُهُ »(2).
أمَّا العمل بمقبرة النصارى فلا تشرع ولو تنظيفًا لِما فيها من الشركيات والمخالفات كَبِنَاءِ القبور والتثليث ونحوِهما، وقد صحَّ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّمَ أنه قال:« لاَ تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلاَءِ المُعَذَّبِينَ إِلاَّ أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلاَ تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ لاَ يُصِيبُكُمْ مَا أَصَابَهُمْ »(3)، وقال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« حَيْثُمَا مَرَرْتَ بِقَبْرِ مُشْرِكٍ فَبَشِّرْهُ بِالنَّارِ »(4)، فمن وقعت نقمةُ اللهِ عليه وعذابُه فكيف يَحْظَى بمثل هذا التعاون ترحيبًا وتقديرًا؟! والتعاونُ ينبغي أن يكون على البرِّ والتقوى لا على الإثم والعدوان، فلا يأمنُ أن يجرَّه ذلك إلى العمل بمثل أعمالهم فيصيبُه ما أصابهم، والله المستعان. نسأل اللهَ لنا ولكم حُسْنَ الخاتمة وكريمَ العاقبةِ.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 14 شوال 1426ه
الموافق ل: 16 نوفمبر 2005م
__________
1- أخرجه اللالكائى في «أصول الاعتقاد »: (1/21)، وابن بطة في «الابانة »: (2/112)، والبيهقي في «المدخل »: (191)، وابن نصر في «السُّنَّة »: (70).
2- أخرجه البخاري في «كتاب الجنائز » باب الجريد على القبر: (81).
3- أخرجه البخاري في «كتاب الصلاة »: (433)، ومسلم في «كتاب الزهد والرقائق »: (7655) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
4- أخرجه ابن ماجه في «كتاب الجنائز »: (1640) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وصحَّحه الألباني في «الصحيحة » رقم: (18)، و«صحيح الجامع »: (3165).(1/57)
الفتوى رقم: 308
في حكم العمل عند الكفار بأُجرة، ومدى دخوله في عقيدة الوَلاَء والبَرَاء
السؤال: هل يجوزُ للمسلمِ أن يقومَ بِخِدمة الكافر مقابلَ أَجْرٍ؟ أي: يقوم بخِدمته وخِدمة أعماله اليومية، وهل هذا العمل لا يدخل في عقيدة الولاء والبراء؟ وبارك الله فيكم.
الجواب: الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَن أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يومِ الدِّين، أمّا بعدُ:
فاعلم أنَّ مِنْ أصولِ العقيدة الإسلامية أن يُوالِيَ المسلمُ أهلَها ويُعَادِيَ أعداءَها، لكن معاداتُنا للكُفَّارِ وهي البَرَاءُ لا تعني الإساءةَ لهم بالأقوال والأفعال، فالتبرُّؤُ مِنَ المشركين وبُغْضُهُم لا يمنع من أداء الحقوق لهم وقَبول شهادةِ بعضهم على بعضٍ وحُسْنِ المخالقة معهم، قال تعالى: ?لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ? [الممتحنة: 8]، كما لا يمنع من معاشرة الكتابية بالمعروف: ?وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ? [النساء: 19]،
وذلك غير مانع -أيضًا- من الإحسان إلى الوالدين والأقربين وأهل الجِوار ولو كانوا مشركين، بل هو من كريم خُلُق المسلم، أَمَرَهُ اللهُ تعالى به، وحضَّه على سلوكه، قال تعالى: ?وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا? [لقمان: 15]، وقال تعالى: ?وَاعْبُدُواْ اللهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالجَارِ ذِي القُرْبَى وَالجَارِ الجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا? [النساء: 36].
أمّا التأييد للكُفْرِ ونُصْرَةُ أهلِه فهو محرَّم يَصِلُ إلى الكفر بالله، قال الله تعالى: ?وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ? [المائدة: 51] وهو المقصودُ بالبَرَاءِ، ومن حُقوق البراء بُغْضُ الشِّرك وأهلِه والكُفْر وأعوانِه، وعَدَمُ اتخاذِ الكفار أولياء أو مودَّتِهم وعدم التشبُّه بهم فيما هو من خصائصهم دِينًا وَدُنْيَا، وعَدَمُ مناصرتِهم ولا مدحِهم، ولا إعانتِهم على المسلمين، وعدم الاستعانة بهم واتخاذِهم بطانةً له يحفظون سرَّه ويقومون بأهمّ أعماله، وعدم مشاركتهم في أعيادهم وأفراحهم وعدم جواز تهنئَتهم عليها، وعدم التحاكُمِ لهم أو الرِّضَى بحُكْمِهِم وترك حكم الله تعالى، وما إلى ذلك.
فالحاصلُ، إذا كان عمل المسلم عند الكافر يتضمَّن مُداهَنَةً ومَداراةً على حِساب الدِّين، أو كان العملُ في ذاته غيرَ مشروعٍ، وكان المسلم في موضع إذلال وسُخرية واستهزاءٍ فلا يجوز العمل عنده لما فيه من تعظيم الكافر وتعظيم معصيته، وقد أذلَّه الله وأخزاه قال تعالى: ?حَتَّى يُعْطُواْ الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ? [التوبة: 29]، أمّا إذا خَلاَ من ذلك فهي معاملة جائزة وإجارة مباحة، ومع ذلك فلا يُسَوِّدُه ولا يبدؤه بالسلام لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم في شأن المنافق:« لاَ تَقُولُوا لِلْمُنَافِقِ: سَيِّدٌ فَإِنْ يَكُ سَيِّدًا فَقَدْ أَسْخَطْتُمْ رَبَّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ »(1)، والكافر بطريق أولى، وقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« لاَ تَبْدَؤُوا اليَهُودَ بِالسَّلاَمِ وَالنَّصَارَى بِالسَّلاَمِ، فَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي الطَّرِيقِ فَاضْطَرُّوهُمْ إِلَى أَضْيَقِهِ »(2)، ما لم يكن مع الكفَّار مسلمون فيجوز له التسليم؛ لأنّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« مَرَّ عَلَى مَجْلِسٍ فِيهِ أَخْلاَطٌ مِنَ اليَهُودِ وَالمُسْلِمِينَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ »(3).
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصَحْبِه وإخوانِه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 25 شعبان 1426ه
الموافق ل: 29 سبتمبر 2005م
__________
1- أخرجه أبو داود في «الأدب »: (4979)، وأحمد: (23641)، والبخاري في «الأدب المفرد »: (760)، وصحَّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة »: (371)، من حديث بريدة رضي الله عنه.
2- أخرجه مسلم في «السلام »: (5789)، وأبو داود في «الأدب »: (5207)، وأحمد: (7831).
3- أخرجه البخاري في «كتاب الأدب »: (6207)، ومسلم في «كتاب الجهاد والسير »: (4760).(1/58)
الفتوى رقم: 733
في شروط السفر إلى بلاد الكفر
السؤال:
ما هي شروط السفر إلى بلاد الكفر من أجل الدراسة؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فيُجَوِّز أهل العلم السفر إلى بلاد الكفر لغرضٍ دعوي أو دنيوي بشرط: أن يكون عارفًا بدينه، آمنًا على إيمانه وإسلامه، قادرًا على الجهر بشعائر الإسلام، وأدائها على وجه التمام لا يمنعه من ذلك مانع من التزام الهدي المستقيم في هيئته وملبسه وعموم ظاهره المخالف لمظاهر المشركين، قادرًا على التزام عقيدة الولاء والبراء التي هي لازم من لوازم الشهادة وشرط من شروطها، فمن حقوقِ البراءِ بُغْضُ أهل الشرك والكفر وأهله، وعدمُ التشبّه بهم فيما هو من خصائصهم دينًا ودنيا، أو مشاركتُهم في أفراحهم وأعيادهم، ولا تهنئتُهم عليها، وعدمُ اتخاذِهم أولياءَ ومودّتِهم، قال تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ? [الممتحنة: 1]، ومن ذلك أيضًا عدمُ مداهنتهِم والتحاكمِ إليهِم والرضى بحكمهِم، وتركِ حكمِ الله تعالى، وعدمُ بدئهم بالسلام، ولا تعظيمُهُم بلفظٍ أو فعلٍ.
فالحاصل: عدمُ التولي العام لهم، ويحصل ذلك بموالاتهم في الظاهر والباطن، فمن لم يستطع أن يجهرَ بالشعائر على وجهِ التَّمَامِ أو لم يكن آمنًا على دينه فإنّ سفرَه محرَّمٌ، ويُعدُّ كبيرةً من الكبائر، أمّا إن جَعَلَ سفرَه محبةً لأهلِ الكفر وموالاةً لهم في الظاهرِ والباطنِ اسْتِحْسَانًا لما هم عليه فهو كَافِرٌ خارجٌ عن مِلَّةِ الإسلامِ لقوله تعالى: ?وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ? [المائدة: 51].
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في 8 رجب 1428ه
الموافق ل: 22 جويلية 2007م(1/59)
الفتوى رقم: 743
في تَعداد مداهنةِ من يطعن في الصحابة من قوادح عقيدة الولاء والبراء
السؤال:
أعمل مع رجل شيعي رافضي، يسب أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، وأحيانًا أضاحكه، وأجالسه، فهل يُعَدُّ هذا قدحًا في الولاء والبراء ومحبةِ أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالواجبُ على المسلم أن يحبَّ أصحابَ رسولِ الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم وآلَ بيتِهِ لِحُبِّ اللهِ تعالى وحُبِّ رسولِهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم لهم كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله: ?فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ? [المائدة: 54]، وقد أثنى اللهُ عليهم في العديد من المواضع من القرآن الكريم، فقال تعالى: ?مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ? [الفتح: 29]، وقال تعالى: ?وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الفَوْزُ العَظِيمُ? [التوبة: 100]، وقال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَوْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيفَهُ »(1)، وقال عليه الصلاة والسلام:« خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ.. »(2).
كما على المسلم أن يعترفَ بمناقِبِهم ويُقِرَّ بفضائلهم ومَزَاياهُم، وأن يعتقدَ أنّ أبا بكرٍ الصديقَ رضي الله عنه أفضلُ أصحابِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم على الإطلاق، لقولِه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلاً لاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ وَلَكِنْ أَخِي وَصَاحِبِي »(3)، ثمّ يليه عمرُ، وعثمانُ، وعليٌّ رضي الله عنهم وأرضاهم، لقول عليٍّ رضي الله عنه:« خَيْرُ هَذِهِ الأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ، وَلَوْ شِئْتُ لَسَمَّيْتُ الثَّالِثَ » -يَعْنِي عُثْمَانَ-(4). وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما:« كُنَّا نَقُولُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ حَيٌّ: أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ، ثُمَّ عَلِيٌّ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُنْكِرْهَا »(5).
والواجبُ على المسلم أن يَكُفَّ عن ذِكْرِ الصحابةِ رضي الله عنهم بسوءٍ، ويَسْكُتَ عن الخلاف الذي شَجَرَ بينهم، ولا يذكرَهم إلاّ بخير، فهذا من أصولِ أَهْلِ السُّنَّةِ والجماعة لسلامة قلوبهم من الغِلِّ والحِقدِ والبُغْضِ، وسلامة ألسنتِهم من الطَّعْنِ واللَّعْنِ والسَّبِّ لأصحاب رسولِ الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم لاختصاصِهم بصُحْبَتِهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم وسَبْقِهِمْ في تحمُّل الشريعة عنه، وتبليغِها لِمَنْ بَعْدَهُمْ، ولجهادِهم مع رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم ومناصرتِهِم له، وقد وَصَفَهُمْ اللهُ به في قوله تعالى: ?وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ? [الحشر: 10]، وقولِه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي »(6) الحديث.
هذا، وموقفُ أهلِ السنّةِ والجماعةِ من الصحابة الاعتدالُ والوسطُ بين الإفراط والتفريط، ويتبرَّؤون من طريقة الروافضِ الذين يُبْغِضُونَ الصحابةَ ويسبُّونهم، ومِن طريقة النَّوَاصِبِ الَّذِينَ يُؤْذُونَ أهلَ البيتِ بقولٍ أو عملٍ، ومع ذلك لا يعتقدون أنّ كلّ واحد من الصحابة معصومٌ عن الإثم بل تجوز عليهم الذنوب في الجُملة، ولهم سوابقُ وفضائلُ ما يوجب مغفرةَ ما يصدر عنهم إِنْ صَدَرَ عنهم، ومن حقّق النظرَ في سِيرَتهم ومزاياهم وفضائِلهم لا ينتابه شكٌّ على أنهم خيرُ الخلق بعد الأنبياء.
هذا، ولا تجوز المداهنةُ والمجاملةُ والمداراةُ على حساب الدِّين والمعتَقَدِ، فإنّ مثل هذا الصنيع يطعنُ في عقيدة الولاء والبراء، وهي أوثقُ عُرَى الإسلام، وهي -أيضًا- من لوازمِ الشهادتين وشرطٌ من شروطِها. قال تعالى: ?وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ? [القلم: 9] والواجبُ اتِّجَاهَهُ نَقْضُ مقالتِهِ وعَدَمُ الرِّضا بما هو فيه ولا مودّته، ونصحُه بالاستقامة في حقِّ الصحابة رضي الله عنهم وغيرِهم، وأن يسعى لردّه عن ظُلمه لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« انصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا. فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللهِ أََنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرهُ؟ قَالَ: تَحْجُزُهُ أَوْ تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلْمِ، فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ »(7)، فإن أصرّ على خُبثه وفسادِه هجر مجلسه وصحبته لقوله تعالى: ?وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ? [هود: 113]، ولقولِه تعالى: ?وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ? [النساء: 140]، ولقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« لاَ تُصَاحِبْ إِلاَّ مُؤْمِنًا وَلاَ يَأْكُلُ طَعَامَكَ إِلاَّ تَقِيٌّ »(8)، وقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« المُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السَّيِّئَاتِ »(9).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 26 ربيع الأول 1428ه
الموافق ل: 14 أبريل 2007م
__________
1- أخرجه البخاري في «فضائل الصحابة »، باب قول النبي لو كنت متخذا خليلا: (3470)، ومسلم في«فضائل الصحابة »، باب تحريم سب الصحابة: (6488)، وأبو داود في «السنة »، باب في النهى عن سب أصحاب رسول الله: (4658)، والترمذي في «المناقب »: (3861)، وأحمد: (11214)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
2- أخرجه البخاري في «الشهادات » باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد: (2509)، ومسلم في «فضائل الصحابة » باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين...: (6472)، والترمذي في «المناقب » باب ما جاء في فضل من رأى النبي وصحبه: (3859)، وابن حبان في «صحيحه »: (7228)، وأحمد: (5383)، والبزار في «مسنده »: (1777)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
3- أخرجه البخاري في «فضائل الصحابة »، باب قول النبي لو كنت متخذا خليلا: (3456)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرجه مسلم في «فضائل الصحابة »، باب من فضائل أبي بكر الصديق: (6172)، وابن حبان في «صحيحه »: (6856)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
4- أخرجه أحمد في «مسنده »: (881)، والبزار في «مسنده »: (488)، وابن أبي شيبة في «المصنف »: (27685)، والطبراني في «الكبير »: (1/107)، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والأثر صححه أحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد »: (2/148)، والألباني في «ظلال الجنة »: (1201).
5- أخرجه أبو داود في «السنة »،باب في التفضيل: (4628)، والترمذي في «المناقب »،باب في مناقب عثمان بن عفان: (3707)، وزاد الطبراني في «الكبير » (12/285):« ويسمع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ولا ينكره »، والأثر صححه الألباني في «ظلال الجنّة »: (1193). وأخرجه البخاري في «فضائل الصحابة »، باب فضل أبي بكر: (3455)، بلفظ:« كنَّا نخيُر بينَ الناسِ في زمنِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فنُخيِّرُ أبا بكر، ثمَّ عمرَ بن الخَطَّاب، ثمَّ عثمانَ بن عَفَّانَ رضيَ اللهُ عنهم ».
6- سبق تخريجه.
7- أخرجه البخاري في «الإكراه »،باب يمين الرجل لصاحبه إنه أخوه إذا خاف عليه: (6552)، والترمذي في «الفتن »: (2255)، وابن حبان في «صحيحه »: (5167)، وأحمد: (11538)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (11703)، من حديث أنس رضي الله عنه.
8- أخرجه أبو داود في «الأدب »،باب من يؤمر أن يجالس: (4832)، والترمذي في «الزهد »،باب ما جاء في صحبة المؤمن: (2395)، وابن حبان: (560)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، والحديث حسنه البغوي في «شرح السنة »: (6/468)، والألباني في «صحيح الجامع »: (7341).
9- أخرجه ابن حبان في «صحيحه »: (196)، وعبد بن حميد في «مسنده »: (338)، والعدَني في «الإيمان »: (26)، وابن منده في «الإيمان »: (318)، والمروزي في «تعظيم قدر الصلاة »: (545)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وصحّحه الألباني في تحقيق كتاب «الإيمان » لابن تيمية (3).(1/60)
الفتوى رقم: 759
في حكم الإقامة في بلد الكفر للحاجة
السؤال:
أَجْرَت أختٌ عقدَها الشرعيَّ والمدنيَّ مع أخٍ مسلمٍ ولد في فرنسا وله جنسية فرنسية، ومن أسباب بقائه هناك تكفّله بأُمِّه المريضة، كما أنّه وَعَدَها بتغيير إقامته إلى بلد مسلم، فهل يجوز له الإقامة في بلاد الكفر والحالة كذلك؟ وهل يجوز لها مرافقته مع العزم على الرحيل متى تهيأت الظروف؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فلا يساورنا شَكٌّ في خطورة الإقامةِ والحلول في بلدان الكفر على دين المسلم وأخلاقه وسلوكه، والقول بعدم جواز السفر إلى بلدان الكفر والإقامة بين ظهور المشركين لمن لا يأمن الفتنة، أو لا معرفة له بدينه، أو لا يستطيع أن يُظهر شعائرَ الدِّين ويجهر بها على وجه الكمال هو القول الأسلم لدينه والأحفظ له من انصهار شخصيته في المجتمع الكفري والهَوِيِّ به في مهالكه ومفاسده، أمّا إذا تمكَّن المسلم من إظهار دينه وشعائره، والجهر بها: من إقامة الصلوات والصيام والحجّ والجمعة والجماعات وغيرها من شعائر الإسلام وقدر على الولاء والبراء، متجنِّبًا موالاةَ الكفار ومحبتَهم، بل يبقى مُضمرًا لبغضهم ولعداوتهم وعدم الرضى بأفعالهم؛ لأنّ محبة أعداء الله تستلزم موافقتهم واتباعَهم والرضى بفعلهم، وهذا كما لا يخفى منافٍ لعقيدة الولاء والبراء، وهي أوثق عُرَى الإسلام قال تعالى: ?لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ? [المجادلة: 22]، وقال تعالى: ?وَمَن يَتَولَّهُم مِنكُم فَإِنَّهُ مِنْهُم? [المائدة:51]، وقال صَلَّى الله عليه وآله وسلم:« مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ »(1)، وقال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم -أيضًا- «المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ »(2)، كما يكون المسلم المقيم له معرفةٌ بأحكام دِينِه ما يكفيه للحفاظ عليه والأمن من الفتنة، والانحراف عن جادّة الطريق، وعليه فإن تحقَّقت هذه الضوابط فيباح له الإقامة بقدر حاجة أُمِّه إلى العلاج، لأنّ القائم على المريض في حكمه أي تنصرف أحكامه إليه، وخاصّة إن كان مُسْتَضْعَفًا تحول دون ترك تلك البلدان الظروف الصحية والجغرافية والسياسية.
والزوجة في حكم زوجها لأنّها تابعةٌ له، و«التَّابِعُ تَابِعٌ »، ومن حقِّها أن تشترط عليه حالَ العقد عدم السفر بها إلى هذه البلدان، فإنّ «المسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ »(3).
ثمّ ينبغي أن يُعلَمَ أنّ الإقامة السكنية غيرَ مقرونة بالضرورة الشرعية أو الحاجة الشرعية من أعظم المفاسد وأخطر المهالك على دين المسلم؛ ذلك لأنّ المساكنة تدعو إلى المشاكلة، ومشاكلة الكفار في عاداتهم وأخلاقهم وسلوكهم وطبائعهم مع ما يعلنونه من حكمٍ بغيرِ ما أنزل اللهُ وغيرِها من الشعائر الشركية، الأمر الذي قد يفضي بالمسلم إلى مماثلتهم كما صَرَّح النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم بقوله:« مَنْ جَامَعَ المشْرِكَ وَسَكَنَ مَعَهُ فَإِنّهُ مِثْلُهُ »(4)، والحديث وإن كان ضعيفًا -عند بعض أهل الحديث- إلاّ أنّ معناه صحيحٌ من ناحية أنّ «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ » وكذلك من رضي وأحبّ.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 26 صفر 1422ه
الموافق ل: 20 مايو 2001م
__________
1- أخرجه أبو داود في «اللباس »، باب في لباس الشهرة: (4033)، وأحمد: (5232)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وصححه العراقي في «تخريج الإحياء »: (1/359)، وحسنه ابن حجر في «فتح الباري »: (10/288)، والألباني في «الإرواء »: (1269).
2- أخرجه البخاري في «الأدب »، باب علامة حب في الله: (6169)، ومسلم في «البر والصلة والآداب »، باب المرء مع من أحب: (6888)، وأحمد: (3790)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وأخرجه الترمذي في «الزهد » (2385)، وأحمد: (12339)، من حديث أنس رضي الله عنه، وأخرجه الترمذي كذلك في «الزهد »: (2387)، وأحمد: (18579)، من حديث صفوان بن عسّال رضي الله عنه.
3- أخرجه أبو داود في «الأقضية »، باب في الصلح: (3594)، والحاكم في «المستدرك »: (2309)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والترمذي في «الأحكام »، (1352) من حديث عمرو بن عوف رضي الله عنه، والحديث صححه الألباني في الإرواء (5/142) رقم: ( 1303)، وفي «السلسلة الصحيحة » رقم: (2915).
4- أخرجه أبوداود في «الجهاد »،باب في الإقامة بأرض الشرك: (2787)، من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه. والحديث حسنه الألباني في «السلسلة الصحيحة » (5/434) رقم: (2330).(1/61)
الفتوى رقم: 873
في الحكمة من منع التشبُّه بأهل الكفر
السؤال:
ما هي الحكمةُ من مخالفة من أُمرنا بمخالفتهم؟ وما هو الضابط في مخالفتهم في اللباس؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فإنَّ ما تُرجى به الحِكمة مِن مَنْعِ التشبُّه بأهل الكفر في عاداتهم ولباسهم وما يتَّصل بهم إنما هو دفع خطرٍ مُحدِقٍ وإثمٍ كبير مِن جَرَّاء موافقتهم، إذ قد تجرُّ المشابهةُ بهم في الظاهر إلى استمالة القلب إليهم، ومشاركتِهم فيما يستحسنون ما يستقبحه شرعُنا ويَذمُّه، بل قد تجرُّ المشابهةُ في الظاهر إلى الرِّضا بما هم عليه في الباطن من الزيغ والضلال العقائدي، فضلاً عن الرِّضا بالسلوك الماجن والانحلال الخُلقي، الأمرُ الذي يُفضي بطريقٍ أو بآخرَ إلى الانفصال عن الإسلام والانسلاخِ منه، وهي الغايةُ القبيحةُ التي حَذَّرَ منها الشارعُ، وسدَّ الطريقَ إليها بالنهي عن التشبُّه، والأمرِ بالمخالفة، قال صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ »(1)، وأقلُّ أحوال الحديث اقتضاءُ تحريمِ التشبُّهِ بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفرَ المتشبِّه بهم، كما في قوله تعالى: ?وَمَن يَتَوَلَّهُم مِنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ? [المائدة: 51](2).
وتأسيسًا على هذا البيانِ يمكن إظهارُ طريقِ المنع في الضابط الذي ذكره ابنُ تيمية في «الاقتضاء » بقوله:« فيما كان أصله مشروعًا لنا وهم يفعلونه فإنَّا نخالفهم في وَصْفِهِ، فأمَّا ما لم يكن في دِينِنا بحالٍ بل هو في دينهم المبتدَعِ والمنسوخِ فليس لنا أن نشابههم لا في أصله ولا في وصفه »(3).
وعليه، فإنه إذا تبيَّنتِ الحكمةُ مِن وراء النهي عن التشبُّه بأهل الكفر من جهة، وأنَّ اللباسَ ممَّا هو مشروعٌ في دِيننا وهم يفعلونه، فالواجب أن تكون المخالفةُ في صفة اللباس، شريطةَ أن تكون الصفةُ مشروعةً -أيضًا- محقِّقةً لشروطِ اللباس الشرعيِّ.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 02 رمضان 1418ه
الموافق ل: 19 ديسمبر 1997م
__________
1- أخرجه أبو داود في «اللباس »، باب في لباس الشهرة: (4033)، وأحمد: (5232)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وصححه العراقي في «تخريج الإحياء »: (1/359)، وحسنه ابن حجر في «فتح الباري »: (10/288)، والألباني في «الإرواء »: (1269).
2- «اقتضاء الصراط المستقيم » لابن تيمية: (1/270).
3- (1/214).(1/62)
****************** 02- فتاوى منهجية *****************
الفتوى رقم: 31
ضابط إقامة الحجة
السؤال: له علاقة بالعقيدة وبالضبط في مسألة التكفير.
بعض الإخوة عندنا يقولون إنّه بمجرد أن يسمع معين بالآية التي تثبت كفر من فعل هذا الفعل فإنّه قد قامت عليه الحجّة فهو كافر مرتد، ذكرنا أنّه لابد من البيان والتوضيح فإن أصرّ فهو كما قلت وإلاّ فلا.
نرجوا -حفظكم الله- توجيها لهذه المسألة مع ذكر كلام علمائنا في ذلك إن أمكن بطبيعة الحال الدليل أولا، وقد استدل لما ذكر بحديث أنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قال:" من سمع بي من يهودي أو نصراني و لم يؤمن بي كان حقا على الله أن يدخله النّار"(1).
والله نسأل التوفيق لنا ولكم، وسبحانك اللّهمّ وبحمدك أشهد أن لا إله إلاّ أنت أستغفرك وأتوب إليك.
والسلام عليكم و رحمة الله وبركاته.
الجواب: الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فالاستدلال بالحديث الذي أخرجه مسلم في كتاب الإيمان في قوله صلى الله عليه وسلم "والذي نفس محمّد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمّة يهودي ولا نصراني ثمّ يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلاّ كان من أصحاب النّار"(2) على من وصف بالإسلام ثمّ تلبس بشيء من مظاهر الشرك، فإنّه استدلال في غاية البطلان ذلك لأنّ المراد بالحديث أنّ العبد لا يكون مسلما في أحكام الدنيا إذا لم يحقق الالتزام الإجمالي بالشريعة التي هي اتباع النبي صلى الله وآله وسلم والانقياد لحكم الله وشرعه، وعليه فالعبد الذي قامت عليه الحجّة الشرعية بالرسالة المحمّدية ولم يلتزم بها فهو كافر معاند في أحكام الدنيا والآخرة، أمّا إذا لم تبلغه الدعوة ولم تقم عليه الحجّة أو وصلته مشوهة فهو كافر جاهل في أحكام الدنيا أمّا في الآخرة فحكمه إلى الله تعالى وهو أعلم به لكونه لم يحقق الالتزام الشرعي بالانقياد إلى ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وقد أشار ابن القيم -رحمه الله تعالى- إلى هذا المعنى بما نصه: (والإسلام هو توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، والإيمان بالله ورسوله واتباعه فيما جاء به، فما لم يأت العبد بهذا فليس بمسلم وإن لم يكن كافرا معاندا فهو كافر جاهل) ثمّ اعلم أنّ من وصف بالإسلام ثمّ أتى ببعض مظاهر الشرك أو لم يلتزم ببعض جوانب الشريعة فإنّ ما عليه أهل السنة أن لا تكفير إلاّ بشرط قيام الحجّة عليه لا بمجرد فعله الظاهر، والمعتبر في بلوغ الحجة إمكان العلم وعدم إمكان الجهل إذ لا تكليف إلاّ بمعلوم ولأنّ الأصل في المكلّف عدم العلم حتّى تثبت أنّ الحجة قد بلغته يقينا لا احتمال فيها، ولا تكون إلاّ بالعلم بحال المعيّن على الخصوص وتبين أمره ومدى قيام الحجة عليه، لذلك لا يمكن الاعتبار بمجرّد النظر إلى الحجّة ظهورها من غير التبين من حال المعين، وقد جرى عمل الصحابة في عدم المؤاخذة والعقاب مع تحقق الجهل من المعيّن(3).
أمّا إذا قامت الحجة عليه تامّة فإنّ من أصرّ على فعله بعد التعريف والبيان يكفر، فهذا مستحلّ لذنبه كما بينه ابن تيمية في مناهج السنة(4).
والله أعلم وفوق كل ذي علم عليم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلّم تسليما
الجزائر في: 15 ربيع الأول 1418هـ
الموافق لـ: 20 جويلية 1997م.
__________
1- سيأتي تخريجه.
2- أخرجه مسلم: كتاب الإيمان (403)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
3- راجع كلام ابن حزم في المحلى: (11/184).
4- منهاج السنة:(5/130).(2/1)
الفتوى رقم: 32
في حكم الأناشيد الإسلامية والدعوة بها
السؤال: ما حكم الأناشيد الإسلامية؟ وهل يجوز اتخاذها وسيلة للدعوة؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فتجدر الملاحظة -أولا- إلى أنَّ تقييد الأناشيد المتضمنة للأشعار والأرجاز بكونها "إسلامية" أو "دينية" غير معروف عند خير الناس من القرون المفضلة، ولا من بعدهم، وإنما كانوا يفرقون بين الحسن والقبيح من الشعر والرجز، أو بين المحمود والمذموم، أو بين ما يكره وما يجوز.
أمّا الأناشيد إن كانت عبارة عن أشعار أو أرجاز تُرنَّم لإظهار السرور بها أو قطع المسافات في الأسفار، أو ترويح النفس، وكانت مشتملة على مواعظ وأمثال وحِكَم، وخالية من المعازف وآلات الطرب، باستثناء الدف في العيد والعرس، وكانت سالمة من الفحش والخناء، الذي يثير الشهوة ويدفع إلى الفاحشة، أو يصف محاسن المرأة والخمرة والتشجيع على شربها، أو تضمن الشعر شركًا بالله أو كذبًا على الله ورسوله وأصحابه، فلا مانع منه إن خلا من ذلك ولا محذور فيه، لكن الإكثار منه غير ممدوح بل مرغوب عنه، إذ ليس كل مباح يباح على الإطلاق، وخاصة إذا كان يصرف سامعها عن قراءة القرآن أو عن طلب العلم النافع، أو الدعوة إلى الله تعالى، وقد أقرَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الشعر والرجز والحُداء، وبوَّب البخاري:" باب ما يجوز من الشعر والرَّجز والحُداء وما يكره منه"(1) وكان البراء بن مالك رضي الله عنه يحدو بالرجال، وكان أنجشة يحدو بالنساء، وكان حسن الصوت، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يَا أَنْجَشَةُ رُوَيْدَكَ سَوْقًا بِالقَوَارِيرِ"(2) والحُداء في الغالب إنما يكون بالرجز وقد يكون بغيره من الشعر وهو ضرب من الغناء، وشبيهه غناء الركبان وغناء النصب، وقد نقل ابن عبد البر جواز هذه الأوجه جميعًا بلا خلاف، إن سلم الشعر من الفحش والخناء.
أمّا الأناشيد المسماة إسلامية تقام على وجه ينشد الشعر بالألحان والتنغيم استجلابًا للتطريب في حلق الذكر وغيرها وقد يصاحبه بعض المعازف وآلات الطرب كالدف والطبل والقضبان وغيرها فهذا أشبه بالتغبير الذي ذمّهُ الشافعي وأحمد وغيرهما من الأئمة المتقدمين، فقد صحَّ عن الشافعي أنه قال:" خلَّفت بالعراق شيئا يسمى التغبير وضعته الزنادقة، يشغلون به الناس عن القرآن" وصحَّ عن أحمد أنه قال عنه:" بدعة محدثة".
ويكفي أنَّ المذاهب الأربعة اتفقوا على تحريم آلات الطرب تحريمًا كليًّا إلاَّ ما استثناه الدليل وهو الدف في النكاح والعيد، وقد وردت نصوص كثيرة من الكتاب والسنة تذم آلة الطرب وتمنعها(3)، منها قوله صلى الله عليه وآله وسلم:« صَوْتَانِ مَلْعُونَانِ، صَوْتُ مِزْمَارٍ عِنْدَ نِعْمَةٍ، وَصَوْتُ وَيْلٍ عِنْدَ مُصِيبَةٍ"(4)، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ وَالحَرِيرَ وَالخَمْرَ وَالمعَازِفَ"(5) وغيرها من الأدلة الشرعية.
هذا، وأما اتخاذ اللهو والغناء وسيلة للدعوة إلى الله فلا يخفى على عاقل عدم مشروعيته، لأنَّ ممارسة العمل الدعوي ومباشرته دون معرفة حكمه، والاستناد إلى دليله الشرعي تَحَكُّم، واتّباع للهوى، وهو مردود على صاحبه، إذ لا يجوز الخروج عن الحكم الشرعي في المناهج والمقاصد والوسائل لقوله تعالى:" ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ "[الجاثية: 18]
وقال صلى الله عليه وآله وسلم:« مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ"(6)، فوسائل الدعوة إلى الله ينبغي موافقتها للنصوص الشرعية العامة أو الخاصة، أو قواعد الشرع الكلية، وإذا كان وسيلة الغناء تابعة لمقاصد طائفية أو تخدم أغراضا حزبية أو جهوية، فتمنع بحكم تبعيتها، لأنَّ طرق المناهي والمكروهات تابعة لها،والنهي عن الشيء نهي عمّا لا يتم اجتنابه إلاَّ به، وإذا كانت وسيلة الغناء تمثل شعارًا خاصًّا لجماعة معينة ذات منحى عقائدي تدعو إليه أو طائفي أو حزبي تسير على هديه فإنَّ الوسيلة تمنع لتعلّق وصف منهي بها، فلذلك سيَّب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسيلة النفخ في البوق للدعوة إلى الصلاة لكونه شعار اليهود، وتخلى عن الضرب بالناقوس لكونه شعار النصارى، وترك إيقاد النار لكونه شعار المجوس.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.
الجزائر في: 01 صفر 1427ه
الموافق لـ: 01 مارس 2006م
__________
1- صحيح البخاري: (10/627)، في الأدب باب رقم:90.
2- أخرجه أحمد (14020)، والبيهقي (21563)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3205).
3- للشيخ الألباني رسالة نشرت في الرد على ابن حزم ومن تبعه في إباحته لآلات الطرب تحقيقا وتفنيدًا.
4- أخرجه البزار (1/377/395)، وصححه ابن القيم في "مسألة السماع" (318)، وحسنه الألباني في االسلسلة الصحيحة (427).
5- أخرجه البخاري تعليقا (5590)، ووصله ابن حبان (6719)، والطبراني (1/167/1)، والبيهقي (6317)، من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه. انظر السلسلة الصحيحة للألباني (1/186).
6- أخرجه مسلم في الأقضية (4590)، وأحمد (25870)، والدارقطني في سننه (4593)، من حديث عائشة رضي الله عنها(2/2)
الفتوى رقم: 210
في حكم جماعة التبليغ ودعوتها
السؤال: ما حكم جماعة الدعوة والتبليغ في البلدان الإسلامية والبلدان الكافرة؟ وجزاكم الله خيرا
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فجماعة التبليغ أسست على رؤيا رآها شيخهم محمد إلياس، وزعم أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كلّفه بهذه المهمّة في المنام، وهذه الجماعة تقوم على الأصول الستة، مبنية على كلمة السر وهي: أنّ كلّ شيء يسبب النفرة أو الفرقة أو الاختلاف بين اثنين -ولو كان حقا- فهو مبتور ومقطوع، وملغى من منهج الجماعة.
وهذه الجماعة مباينة للحق، صوفية المنهج والمشرب، لها العديد من الأخطاء، للمزيد من الاطلاع يمكن مراجعة كتاب "القول البليغ في التحذير من جماعة التبليغ" للشيخ حمود بن عبد الله التويجري -رحمه الله- وكتاب "الجماعات الإسلامية" تأليف : سليم الهلالي وزياد الربيج .
والله أسأل أن يبصرنا بالحق ويهدينا سبيل الرشاد. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلّم تسليما.
الجزائر في:14ربيع الأول1426 هـ
الموافق لـ: 23 أفريل 2005 م(2/3)
الفتوى رقم: 234
نصيحة لملتزم في وسط عائلي منحرف
السؤال: فضيلة الشيخ لي مشاكل مع والدي، أريد أن أطبق كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ولكن أهلي منعوني من ذلك، ولا أدري ما العمل، فما هي نصيحتكم لي؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فالالتزام بشعائر الإسلام والتمسك بأخلاقه والاعتصام بالكتاب والسنة يقتضي وجوبا الصبر واحتمال الأذى في ذات الله ذلك الأذى الذي يواجهه من أقرب الناس إليه نسبا قال تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ? [آل عمران : 200]، لذلك كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع ما يلاقيه من أبناء عشيرته من أنواع الظلم والتعدي وكان صبورا حليما يواجه المصائب بحكمة ويتبرأ من أعمالهم ويسأل الله هدايتهم قال تعالى:? وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ ?[الشعراء:214-215-216]، ومن خلال مكابدته لأنواع الظلم كتب الله له الفوز والنصر بسببه وقد جاء ذلك مصداقا لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« اعلم أنّ النصر مع الصبر وأنّ الفرج مع الكرب وأنّ مع العسر يسرا"(1).
ثمّ إنّ مصاحبتك للوالدين مأمور بها شرعا ولو كانا مشركين لكن طاعتهما إنّما تكون في المعروف لا في المعصية لقوله تعالى:? وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا?[لقمان:15]، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« إنّما الطاعة في المعروف"(2)، وإذا أمرك والدك بما يزيل الهدى الظاهري من لحية وقميص وغير ذلك ويتوعد بإخراجك من البيت فالواجب أن لا تخرج وأن تبقى وتصبر على ذلك الهدي ولو أوجعك ضربا لما هو معهود في السيرة النبوية مع أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع ما كانوا يلاقونه من التعذيب لكنّهم صبروا على ذلك، والعجب لا ينقطع في امرأة من جملة عموم النسوة في عائلة محافظة زعموا تأبى إلا أن تخرج بغير ضوابط شرعية وتصبر على الأذى الذي يصيبها من قبل الوالدين في سبيل الشيطان وتبقى مصرة على ذلك حتى يلين قلب الوالدين ويصبح المنكر معروفا في حقها فلا يقع عليها لوم ولا عتاب ولا عقاب في خروجها ودخولها في عملها وتبرجها وفي كافة أعمالها بل يصبح والدها مطيعا لها، وإذا كان الأمر كذلك أفما يحق لملتزم أن يجاهد في سبيل الله ويصيِّر المنكر معروفا ولا ينال نصيبه من جهاده؟! هذا وقد قال تعالى: ?وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ?[العنكبوت : 69]، فإذا كان الجواب على الإثبات فما عليك إلاّ أن تبذل ما يسعك من أجل الفوز والنصر الذي وعد به المتقون، فالنصر مع الصبر فهو بضاعة الصديقين وشعار الصالحين قال صلى الله عليه وآله وسلم:« عجبا لأمر المؤمن إنّ أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له"(3).
فعليك أن تتحمل وتحتسب ولا تشكو ولا تتسخط، ولا تدفع السيئة بالسيئة وإنّما ادفع السيئة بالحسنة ?وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ?[لقمان : 17].
والعلم عند الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
__________
1- أخرجه الخطيب في "التاريخ"(10/287)، والديلمي(4/111-112)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. وأخرجه أحمد(2857)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. انظر السلسلة الصحيحة(2382).
2- أخرجه البخاري في الأحكام(7145)، ومسلم في الإمارة(4871)، وأبو داود في الجهاد(2627)، والنسائي في البيعة(4222)، وأحمد (632)، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
3- أخرجه مسلم في الرقاق(7692)، وأحمد(19448)، من حديث صهيب بن سنان رضي الله عنه.(2/4)
الفتوى رقم: 257
في كتاب "شرح السنة" للبربهاري ومن يطعن فيه
السؤال: ما هو قولكم في كتاب شرح السنة للبربهاري؟، وما قولكم فيمن يطعن فيه؟.
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فالبربهاري هو أبو محمد الحسن بن علي بن خلف شيخ الحنابلة بالعراق في عصره، كان محدثا، حافظا، فقيها، توفي سنة:329ه(1) من مصنفاته "شرح السنة" الذي يقرر فيه منهج أهل السنة والجماعة في النواحي الاعتقادية سواء تعلقت بذات الله وأسمائه وصفاته وبمسائل الإيمان، ولا شك أنّ من يطعن في منهج أهل السنة والجماعة وعقيدتهم ويتحامل عليهم إلاّ إذا كان مطبوعا بعقيدة أهل الأهواء والبدع، لأنّ:" من علامة أهل البدع الوقيعة في أهل الأثر"، ولا يصدر هذا إلاّ من جاهل أو معاند حاقد لذلك ينبغي إظهار السنة وتعريف المسلمين بها وقمع البدعة بما يوجبه الشرع من ضوابط وعدم الاشتغال بسفاسف الأمور وأهلها لدنو منزلتهم، وعلى المسلم أن يسعى إلى إدراك المطالب العالية التي تمكنه من العزة الدينية، وتجنب أسباب المذلة المخزية ?ولِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ? [المنافقون:8].
والعلم عند الله وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
__________
1- انظر ترجمته في: شذرات الذهب لابن العماد:(2/319)، ومعجم المؤلفين لكحالة:(3/253).(2/5)
الفتوى رقم: 258
في التعامل مع إمام مبتدع
السؤال: في مسجد حينا إمام مبتدع، كيف نتعامل معه؟ أفيدونا جزاكم الله خيرا.
الجواب: أمّا التعامل مع أهل البدعة فيختلف المقام باختلاف حال الضعف وحال القوة، وبين المستتر ببدعته والمظهر لها الداعي إليها، أمّا في حالة الضعف وظهور أهل البدعة فالواجب أن يداريهم ويصبر عليهم، ولا يبدي لهم مواقف قد تشجعهم على الاستبداد وقهر أهل السنة وإبعادهم من المسجد وتطويق نشاطهم، مع القيام بالواجب اتجاه أهل البدع ببيان حالهم والتحذير منهم وإظهار السنة وتعريف المسلمين بها، أمّا إذا كان أهل السنة لهم الشوكة والقوة فينبغي قمع البدع بما يوجبه الشرع من ضوابط بالغلظة والشدة والهجر-إن اقتضى المقام ذلك- حتى يعودوا إلى السداد وهو مقتضى أوامر الشرع ونواهيه، ولمّا كان السالكون لطريقها مؤيدون، فمقتضى تعاليم السيرة النبوية تدفعنا إلى أن نسلك معهم سبيل المداراة من غير مداهنة، مع القيام بواجب البيان والتحذير.
أمّا المستتر ببدعته فنكل سريرته إلى الله تعالى كذا كان يعامل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصحبه المنافقين في زمانه وزمن الصحابة الكرام.
والعلم عند الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما(2/6)
الفتوى رقم: 260
في حكم الفرق الضالة من أهل القبلة
السؤال: هل الفرق الضالة كلها تخلد في النار أم أنّها تعذب ثمّ تدخل الجنّة؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فالفرق الضالة إمّا أن يكون ضلالها لا يخرجها من حظيرة الإسلام وتكون من عموم أمّة الهداية، فهؤلاء إن ماتوا على فسقهم فيردون النار ولا يخلدون فيها فيخرجون بشفاعة الشافعين، أو من يخرجه ربّ العالمين، ممّن تكون في قلبه ذرّة من إيمان كما وردت به الأحاديث الصحيحة، ولقوله صلى الله عليه وسلّم:" ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة"(1). ففرق أهل القبلة الخارجة عن أهل السنة متوعدون بالهلاك والنار، وحكمهم حكم عامة أهل الوعيد إلاّ من كان منهم كافرا في الباطن.
أمّا إذا كان ضلالها أخرجها بعد قيام الحجّة عليها من دائرة الإسلام والارتداد عنه فهؤلاء تُجرى عليها أحكام أهل الكفر وحكمهم حكم المرتدين، ولا يدخلون تحت المشيئة لقوله تعالى: (إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً)[النساء:48]، وغيرها من الآيات التي نزلت تتوعد الكفار بالخلود في النار.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
الجزائر في:8 جمادى الثانية1426هـ
الموافق لـ: 14 جويلية 2005م
__________
1- أخرجه أبو داود في السنة(4599)، وأحمد(17400)، من حديث معاوية رضي الله عنه. وصححه الألباني في صحيح الجامع (2641)، وفي السلسلة الصحيحة(204).(2/7)
الفتوى رقم: 263
تعريف موجز بالإباضية ومعتقداتهم
السؤال: نرجو من فضيلتكم توضيح الرؤى حول المذهب الإباضي السائد عندنا في مدينة غرداية.
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فالإباضية من فرق الخوارج وليسوا من غلاتهم كالأزارقة، ولكنّهم يتّفقون مع الخوارج في أصول عديدة منها: تعطيل الصّفات، والقول بخلق القرآن، وتجويز الخروج على أئمة الجور وغيرها، وتنسب الإباضية إلى مؤسِّسها عبد الله بن إباض التميمي الذي يعتبر نفسه امتدادا للمحكمة الأولى من الخوارج، وكانت لهم صولة وجولة في جنوبي الجزيرة العربية حتّى وصلوا إلى مكّة والمدينة النّبوية، وانتشر مذهبهم في الشّمال الإفريقي بين البربر، وكانت لهم دولة عرفت بالدولة الرستمية وعاصمتها " تاهرت" وحكموا الشّمال الإفريقي قرابة مائة وثلاثين سنة حتّى أزالهم الفاطميون (العبيديون) ولا يزال تواجدهم في وقتنا في كلّ من عُمان وليبيا وتونس والجزائر وبالخصوص في مدينة غرداية وما جاورها وفي واحات الصحراء الغربية وفي زنجبار بتنزانيا .
ومن معتقدات الإباضية بغضّ النّظر عمّا تقدّم:
- إنكارهم لرؤية الله في الآخرة.
- صفات الله ليست زائدة على ذات الله ولكنّها هي عين ذاته.
- يؤولون بعض مسائل الآخرة تأويلاً مجازيا كالميزان والصراط وغيرها.
- يعتقدون أنّ أفعال الإنسان خلق من الله، واكتساب من الإنسان، وهم بذلك يقفون موقفا وسطا بين القدرية والجبرية.
- ومرتكب الكبيرة -عندهم- كافر كفر نعمة أو كفر نفاق لا كفر ملّة، ومع ذلك يقولون بأنّ العاصي مخلّد في النّار ومنه إنكارهم الشفاعة لعصاة الموحدين، وعليه فالناس في نظر الإباضيين على ثلاثة أصناف: مؤمنون أوفياء بإيمانهم، ومشركون واضحون في شركهم، وصنف أعلنوا كلمة التوحيد وأقرّوا بالإسلام لكن لم يلتزموا به سلوكا وعبادة، فهم مع المسلمين في أحكام الدنيا لإقرارهم بالتوحيد، وهم مع المشركين في أحكام الآخرة لعدم وفائهم بإيمانهم ولمخالفتهم ما يستلزمه التوحيد من عمل أو ترك، لذلك لا يجوز -عندهم- أن يدعو شخص لآخر بخير الجنة وما يتعلّق بها إلاّ إذا كان مسلما موفيا لدينه مستحقا الولاية بسبب طاعته، أمّا الدّعاء بخير الدنيا فهو جائز لكلّ المسلمين تقاة وعصاة.
هذا، ويتّفق محدثوا الإباضية مع القدامى في أنّ دار مخالفيهم من أهل الإسلام هي دار توحيد إلاّ معسكر السّلطان فإنّه دار بغي، كما أنّهم يعتقدون أنّ أهل القبلة من مخالفيهم كفار غير مشركين، ومناكحتهم جائزة وموارثتهم حلال وغنيمة أموالهم حلال وما سواه حرام. ومن فروعهم في الصلاة:
- عدم رفع اليدين في تكبيرة الإحرام - والسّدل في الصلاة - وعدم تحريك السبابة في التّشهّد - والسّر في جميع صلواتهم حتّى الجهرية - وسجود لكلّ صلاة ولو لم يسه، وغيرها من مسائل الفروع، وأصل هذه المعتقدات تأثرهم بالمعتزلة في قولهم بخلق القرآن واعتمادهم على القرآن ومسند الربيع بن حبيب وعلى الرّأي والإجماع، ووقوفهم عند بعض النصوص الدينية موقفا حرفيا ويفسّرون نصوص الكتاب والسنة تفسيرا ظاهريا، واستنادهم في كتاباتهم الفقهية إلى آراء الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة دون تحامل، ومن أشهر مراجعهم كتاب:" النيل وشفاء العليل " الذي شرحه محمد بن يوسف إطفيش المتوفى سنة (1332ه) جمع فيه المذهب الإباضي وعقائده.
ولا يخفى أنّ الإباضية قد خالفوا عقيدة جماعة الإسلام الذين اجتمعوا على الحقّ ولم يتفرّقوا في الدين فهي أصول الإسلام الذي هو عقيدة بلا فِرَق ولا طرق، وخالفوا منهج أهل السنة والجماعة في قواعدهم وأصولهم في مجال التّلقي والاستدلال، وفي الاتباع وترك الابتداع، والاجتماع ونبذ الفرقة والاختلاف في الدين، والتّوسّط بين فرق الغلوّ والتّفريط، والاقتداء والاهتداء بأئمة الهدى العدول المقتدى بهم في العلم والعمل والدعوة من الصحابة ومن سار على نهجهم ومجانبة من خالف سبيلهم قال تعالى: ?وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً? [النساء : 115]
والعلم عند الله وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على نبينا محمّد وعلى آله وسلّم تسليما.
الجزائر في: 29 جمادى الثانية 1426هـ
الموافق لـ: 4 أوت 2005م .(2/8)
الفتوى رقم: 272
في صفة المبتدع
السؤال: متى يوصف الرجل بالمبتدع؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فاعلم أنّ البدعة لا تسري في العادات لأنّها تتبع العرف والعادة وإن كانت تسمى بدعة لغوية فليست بدعة في الدين فهي التي ورد فيها النكير والتحذير وهي التعبد لله بما لم يشرعه ولم يكن عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا خلفاؤه الراشدون لقوله تعالى: ?أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ ?[الشورى: 21]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ "(1).
ولا يجوز تبديع كل واحد أو الإسراف في إطلاق لفظة " البدعة" على من خالف بعض المخالفات، فمن ارتكب محرما، أو وقع في معصية يسمى عاصيا وليس كل عاص أو مخطئ مبتدعا، وإنّما كان السلف يصفون بالبدعة من فعل فعلا يتقرب به إلى الله من غير بصيرة وحجة تسند فعله لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ "(2) وفي رواية:" مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ"(3) وعليه فإنّ من أحدث شيئا في الدين لا دليل شرعي عليه فهو صاحب بدعة، والواجب اتجاهه إقامة الحجة عليه وإزالة ما تعلق به من شبهات ونصحه حتى يرجع عمّا هو عليه، فإن أبى الرجوع أو لم يقبل النصيحة أصلا فهو مبتدع، فإن كانت بدعته مكفرة فيجادَلُ بالتي هي أحسن من غير قدح فيما هو عليه من اعتقاد لقوله تعالى: ?وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ? [الأنعام: 108] فإن وجد منه الظلم والعناد والاستكبار فالواجب بيان باطله من غير أن يجادله ثمّ وجب هجره. أمّا إذا كانت بدعته مفسقة فإنّ الأصل في المسلم يحرم هجره وإن كان فاسقا لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« لاَ يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ"(4) ما لم يكن في هجره مصلحة ملتمسة تأديبا له للرجوع عن فسقه كمستحضر دواء لداء بدعته، أمّا إذا زاد في معصيته بالهجر والعتو فيها وخاصة إذا كانت شوكة أهل البدع قوية فانحاز إليهم ولا يرجى عودته إلى الحق فإنّه لا يترتب على هجره مصلحة وإنّما المصلحة في ترك هجره.
والعلم عند الله وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 21 رجب 1426هـ
الموافق لـ : 26 أوت 2005م
__________
1- أخرجه الترمذي (2891)، وابن ماجه في المقدمة(44)، وأحمد (17606)، من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (936).
2- أخرجه البخاري في الصلح(2697)، ومسلم في الأقضية(4589)، وأبو داود في السنة(4608)، وابن ماجه في المقدمة(14)، وأحمد(26786)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
3- أخرجه مسلم في الأقضية (4590)، وأحمد (25870)، والدارقطني في سننه (4593)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
4- أخرجه البخاري في الأدب (6077)، ومسلم في البر والصلة والآداب (6679)، من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه.(2/9)
الفتوى رقم: 320
في حكم عموم الإضرابات والاعتصامات والمظاهرات
السؤال: شيخنا الفاضل إنّي أستاذ في قطاع التربية وفي الأيام المقبلة سيدخل عماله في إضراب من أجل مطالب موضوعية، فما حكم الشرع في الإضراب؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فالإضرابات بمختلف أنواعها من أساليب النظم الديمقراطية التي يمارس فيها الشعب مظاهر سيادته المطلقة، وتعد الإضرابات في عرف الديمقراطيين على الأوضاع القيمة ظاهرة صحة، يصحح بها الوضع السياسي أو الاجتماعي أو المهني من السيئ إلى الحسن، أو من الحسن إلى الأحسن، أما المنظور الشرعي للنظم الديمقراطية بمختلف أساليبها فهي معدودة من أحد صور الشرك في التشريع، حيث تقوم هذه النظم بإلغاء سيادة الخالق سبحانه وحقه في التشريع المطلق لتجعله من حقوق المخلوقين، وهذا المنهج سارت عليه العلمانية الحديثة في فصل الدين عن الدولة والحياة، والتي نقلت مصدرية الأحكام والتشريعات إلى الأمة بلا سلطان عليها ولا رقابة والله المستعان.
وهذا بخلاف سلطة الأمة في الإسلام فإن السيادة فيها للشرع، وليس للأمة أن تشرع شيئًا من الدين لم يأذن به الله تعالى، قال سبحانه: ?أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ? [الشورى: 21].
وعليه، فإن الإضرابات والاعتصامات والمظاهرات وسائر أساليب الديمقراطية هي من عادات الكفار وطرق تعاملهم مع حكوماتهم، وليست من الدين الإسلامي في شيء، وليس من أعمال أهل الإيمان المطالبة بالحقوق ولو كانت مشروعة بسلوك طريق ترك العمل ونشر الفوضى وتأييدها وإثارة الفتن والطعن في أعراض غير المشاركين فيها وغيرها مما ترفضه النصوص الشرعية ويأباه خلق المسلم تربيةً ومنهجًا وسلوكًا، وإنما يتوصل إلى الحقوق المطلوبة بالطرق المشروعة، وذلك بمراجعة المسؤولين وولاة الأمر، فإن تحققت المطالب فذلك من فضل الله سبحانه، وإن كانت الأخرى وجب الصبر والاحتساب والمطالبة من جديد حتى يفتح الله وهو خير الفاتحين، فقد صحَّ من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه ما يؤيد ذلك، حتى يقول فيه:« دَعَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَبَايَعْنَاهُ فَكَانَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا وَأَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ، إِلاَّ أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ »(1) وزاد أحمد:« وَإِنْ رَأَيْتَ أَنَّ لَكَ »(2) أي:" وإن اعتقدت أنّ لك في الأمر حقًّا، فلا تعمل بذلك الظن، بل اسمع وأطع إلى أن يصل إليك بغير خروج عن الطاعة"(3) وفي رواية ابن حبان وأحمد:« وَإِنْ أَكَلُوا مَالَكَ، وَضَرَبُوا ظَهْرَكَ »(4)، وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال؟:« إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً وَأُمُورًا تُنْكِرُونَهَا، قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: أَدُّوا إِلَيْهِمْ حَقَّهُمْ، وَسَلُوا اللهَ حَقَّكُمْ »(5).
وأخيرًا، نسأل الله أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصل الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما .
الجزائر في: 16 ذي الحجة 1426ه
الموافق لـ: 16 جانفي 2006م
__________
1- أخرجه البخاري في الفتن 7056، ومسلم في الإمارة 4877، وأحمد 23347، والبيهقي 16994، من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
2- أخرجه أحمد برقم (23405). وصححه الألباني في "ظلال الجنة": (1028)، وروى هذه الزيادة البيهقي في سننه كتاب القسم والنشور من حديث أم أيمن رضي الله عنها (15174)
3- فتح الباري لابن حجر: (13/10).
4- أخرجه ابن حبان (4645)، كتاب السير باب طاعة الأئمة، وابن أبي عاصم في السنة (857)، وصححه الألباني في تخريج السنة (1026). أمّا رواية أحمد (24140) فهي بلفظ:" وإن نهك ظهرك وأخذ مالك" من حديث حذيفة رضي الله عنه.
5- أخرجه البخاري في الفتن (7052)، والترمذي في الفتن (2349)، وأحمد (3713)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.(2/10)
الفتوى رقم: 373
في حكم انتخابات الطلبة داخل الأحياء الجامعية
السؤال: ما حكم الشرع في الانتخابات التي تنظم داخل الأحياء الجامعية من أجل اختيار لجنة الإقامة، والتي تعنى بشؤون الطلبة مع الإدارة الرسمية، وهل يجوز الانتخاب على قائمة الاتحاد الوطني للطلبة الجزائريين الذي هو على علاقة طيبة مع الإخوة السلفيين ؟ وبارك الله فيكم.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فاختيار لجنة مكونة من الطلبة للقيام بشؤون الطلبة، وحاجياتهم بالتنسيق والتعاون بصورة رسمية مع الإدارة في الإقامات الجامعية وغيرها، فلا أعلم ما يمنع ذلك من حيث المبدأ لأنّ سعي اللجنة في تحقيق المطالب الدنيوية المتعلقة بالطلبة وظروفهم العامة، والدراسية، جائز شرعًا، بخلاف الجماعات المتعلقة بالمناهج الدينية والعقدية التي يتجسد من خلالها تفرق المسلمين في دينهم شيعا وأحزاباً، يلعن بعضهم بعضا ويضرب بعضهم رقاب بعض، فإنّ مثل هذا مذموم شرعًا بآيات وأحاديث كثيرة تذم التفرق في الدين منها قوله تعالى: ?إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ? [الأنعام: 159]، وقوله تعالى: ?وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ? [آل عمران: 105]، وقوله تعالى: ?وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا?[آل عمران: 103]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم "لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ"(1).
وعليه، فما تقدم فمن حيث المبدأ، أمّا إذا كان عمل اللجنة يندرج تحت إطار حزبي، إسلاميًا كان أو غير إسلامي، أو يساير النظام الديمقراطي أو الاشتراكي في عمله التنظيمي للتجمعات، والإضرابات، والمظاهرات، وإقامة الحفلات في المناسبات البدعية، وكل ما هو مستورد مما هو غير مشروع في ديننا، فلا يجوز التعاون عليه لكونه من التعاون على الإثم والعدوان الذي نهانا الله تعالى عنه في قوله تعالى: ?وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ? [المائدة: 2]، والعلاقات الطيبة لا تجوز أن تبنى على العواطف والرغبات، وإنما يكون مقيدا بحكم الشرع، لأن ميزانه لا يتأثر بالعواطف ولا يترجح بالرغبات.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
الجزائر في: 23 ذي القعدة 1426ه
الموافق ل: 25 ديسمبر 2005م
---
1- أخرجه البخاري في العلم (121)، ومسلم في الإيمان (232)، والنسائي في تحريم الدم (4148)، وابن ماجه في الفتن (4077)، وأحمد (19686)، والدارمي في سننه (1973)، من حديث جرير رضي الله عنه. وورد الحديث عن:
- ابن عمر رضي الله عنه: أخرجه البخاري في الديات (6868)، ومسلم في الإيمان (234)، وأبو داود في السنة (4688)، والنسائي في تحريم الدم (4142)، وابن ماجه في الفتن (4078)، وأحمد (5711).
- وابن عباس رضي الله عنه: أخرجه البخاري في الحج (1739)، والترمذي في الفتن (2353)، وأحمد (2067)، والبيهقي (11857).
- وأبي بكرة رضي الله عنه: أخرجه البخاري في الحج (1741) ومسلم في القسامة (4477)، والنسائي في تحريم الدم (4147)، وأحمد (20945)، والبيهقي (9894).
- وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أخرجه النسائي في تحريم الدم (4144)، وأحمد (3892).(2/11)
الفتوى رقم: 387
في حكم من يصف الدولة المطبقة لشريعة الإسلام بأنها كهنوتية
السؤال: ما هو الحكم الشرعي فيمن يصف الدولة التي تطبق الشريعة الربانية بأنها دولة كهنوتية ويقول: لا حاجة لنا لدولة كهنوتية على الإطلاق ونحن نعرف كيف نستقي من الشريعة ما يلزم أن نستقيه، ونعرف كذلك ما نستقيه من القوانين الوضعية؟
الجواب: الحمد لله والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما، أما بعد:
فهذه العبارة تتضمن كفرًا من حيث وصف أهل الإسلام وتشبيههم في تطبيق الشريعة بما هم عليه رجال الدين عند النصارى في تنظيمهم الكهنوتي الذي استعارته الكنيسة في عهودها الأولى من الرومان حيث كان يرأسها أكبرهم سنًّا على أمل عودة المسيح ابن مريم عليه الصلاة والسلام، وهؤلاء يقدسون رهبانهم ورجال كنيستهم ويجعلون لهم السلطة المطلقة في الدين ومنح صكوك الغفران وقد بيَّن الله تعالى كفرهم وانحرافهم عن سواء السبيل بقوله تعالى: ?اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ? [التوبة: 31]، كما ينتقض إيمان من يقبل بعض الشريعة دون البعض الآخر، لأنَّه إعراض عن الدين وعدم قبوله كما شرعه الله تعالى، قال تعالى:? وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ? [الأحقاف: 3].
هذا، ومن تكلم بهذه العبارة الكفرية إمَّا أن يكون معتقدًا ذلك بقلبه فلا ريب في كفره، أمَّا إن لم يكن معتقدًا بقلبه ولم يكره على قولها وإنَّما فعله عن اختيار طمعًا في الدنيا وملذاتها فإنَّه يكفر كفرًا مخرجًا عن الملَّة لظاهر قوله سبحانه وتعالى: ?ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ?[النحل: 107]فسماهم كافرين لتقديمهم الدنيا على الدين، وإمَّا أن تكون هذه العبارة صدرت منه على وجه المزاح واللعب استهزاءا بالدين ففاعله كافر أيضا لقوله تعالى: ?قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ? [التوبة: 65-66]، أمَّا إن قالها على وجه الإكراه من غير اختيار وقلبه مطمئن بالإيمان فهذا دفعًا للإكراه رخّص له ذلك لقوله تعالى: ?إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ? [النحل: 106]فما عدا هذه الحالة الأخيرة فإنَّ صاحبها يكفر إذا تحققت فيه شروط تكفير المعين كأن يقصد المعين بكلامه المعنى المكفِّر، وقيام الحجة عليه، و انتفت في حقه موانع تكفير المعين كالخطإ والجهل والعجز والإكراه، وعلى القائل التوبة إلى الله تعالى والرجوع إليه والندم على ما صدر منه رجاء أن يعفو الله عنه وعن زلاته إنه عفوُّ غفور.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد ربِّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائرفي: 12 رمضان 1426ه
الموافق ل: 15 أكتوبر2005م(2/12)
الفتوى رقم: 404
في الاحتفال باليوم الربيعي
السؤال: ما حكم الاحتفال باليوم الربيعي؟ وبعض الناس يقولون: إنّ الاحتفال به من العادات لا من العبادات، ولسنا نتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى، ولذا فهو يفارق الاحتفال بالمولد النبوي، فهل هذا صحيح؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فاعلم -وفقك الله لكل خير- أنَّ الفرق بين العبادة والعادة، أنَّ العبادة يلتمس من ورائها الأجر والثواب والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بسائر أنواع الطاعات وهي لا تصح إلاّ بما شرع الله تعالى، فكلما وُجدت هذه المعاني أضيفت إلى العبادة، أمَّا إذا خلت منها فهي إلى العادة أقرب، ولمَّا كانت هذه الاحتفالات وتخصيص أيامها بالأكل والشرب والإطعام والفرحة جانست بشكلها أعياد المسلمين التي يتوخى من ورائها التماس الأجر وتحقيق المودة والقربة والألفة والاجتماع في ذلك اليوم أكلاً وشربًا ولهوًا وما إلى ذلك مما تعرف في الأفراح، لذلك القول بأنها عادة فقط غير صحيح لملابستها لأفعال أعياد أهل الإسلام، وأهل الإسلام ليس لهم إلاَّ عيدان عيد الأضحى وعيد الفطر، ومن جهة أخرى فإنَّ الاحتفال بالفصول هو أشبه ما يكون بالاحتفال بالنجوم الذي كانت الصابئة تحتفل بتلك المواسم على أنها مؤثرة فاعلة في الإيجاد والخلق، ومثل هذا الاعتقاد ينافي التوحيد لكونه شركًا أكبر، كما تعرف مثل هذه العادات إذا حملناها على كونها مجردة عن العبادة عند النصارى حيث يعظمون الربيع باحتفالهم لخصوصيات ثمار الربيع كالكرز والفرولة وغيرها مما ينبت في فصل الربيع ولاشك أنَّ التشبه بالصابئة والنصارى ومن شاكلهم لا يجوز فضلا عن جعل ما لم يشرعه الله عيدا معدود من التقدم بين يدي الله ورسوله قال تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ? [الحجرات: 1]، إذ كلّ ما كان من أعياد الجاهلية أبطله الله تعالى، وذلك لما قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة وجد للأنصار يومين يلعبون فيهما ويعتبرونها أعيادا فقال صلى الله عليه وآله وسلم:« إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا يَوْمَ الأَضْحَى وَيَوْمَ الْفِطْرِ"(1) كما أنَّ مثل هذه المواسم للاحتفال لا تعرف عند السلف الصالح، وما ذكرها أهل العلم في كتبهم، ولو كانت خيرا لسبقونا إليه، وكل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 9 ربيع الأول 1427ه
الموافق لـ: 7 أبريل 2006م
__________
1- أخرجه أبو داود في الصلاة(1136)، والنسائي في صلاة العيدين (1567)، وأحمد (12332)، والبيهقي (6342)، من حديث أنس رضي الله عنه.وصححه ابن حجر في فتح الباري (2/513)، والألباني في السلسلة الصحيحة (2021).(2/13)
الفتوى رقم: 416
في رفع شكوى جماعية لأولي الأمر لإزالة المنكر
السؤال: كيف يتصرف المسلم الغيور على دينه مع أناس يسبون الله ودينه في الطرقات، وهل يجوز الإمضاء على شكوى جماعية يطالب فيها المشتكون السلطات المعنية بالتصدي للتجاوزات التي تحصل من طرف بعض المنحرفين؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فقد أجمعت الأمة على وجوب إنكار المنكر لما فيه من صلاح العباد والبلاد قال تعالى: ?كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ?[آل عمران: 110]، وقال تعالى: ?وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ? [التوبة: 71]، لكل بحسب قدرته على تغيير المنكر بالقول أو الفعل، أو بيده ولسانه أو بقلبه لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ"(1).
وإنكار المنكر بالقلب من الفروض العينية ويكون بكراهة المنكر وحصول الأثر في القلب بسبب ذلك ولا يسقط الإنكار بالقلب عن أحد في كل الأحوال قال صلى الله عليه وآله وسلم:« إِذَا عُمِلَتِ الْخَطِيئَةُ فِي الأَرْضِ كَانَ مَنْ شَهِدَهَا فَكَرِهَهَا -وَقَالَ مَرَّةً «أَنْكَرَهَا »-كَمَنْ غَابَ عَنْهَا وَمَنْ غَابَ عَنْهَا فَرَضِيَهَا كَانَ كَمَنْ شَهِدَهَا"(2).
أمَّا التغيير باليد واللسان فهو على الكفاية مالم يتغير المنكر إلاَّ بواحد من الجماعة لقدرته على التغيير فتعين عليه وجوبًا مع القدرة، والتغيير باليد يكون من السلطان ونوابه في الولايات العامة، ويجوز استعمال التدرج الإداري والأمني لرفع المنكرات وقمع أهل المعاصي والفجور وتخليص الناس من أضرارهم برفع شكوى جماعية أو منفردة للمصالح المعينة وبالطرق الإدارية المعلومة من غير أن يأخذ هذا المسلك طابع تأليب الناس على ولاة أمورهم، والتشهير بعيوبهم بسببها والتشنيع عليهم، لأنَّ هذا المسار يؤدي بطريق أو بآخر إلى إثارة الرعاع، وإشعال الفتنة، ويوجب الفرقة بين الإخوة، وهذه النتائج غير مرضية شرعا والغاية فيها لا تبرر الوسيلة.
هذا، والتغيير باليد واجب أيضا لمن يتمتع بقدرة على التغيير في الولايات الخاصة كصاحب البيت مع من هم تحت سقفه وولايته، أو من له عليهم سلطة أدبية كالمعلم والمدرس مع تلامذته، ونحوهم وإلاَّ انتقل إلى الإنكار باللسان.
والتغيير ينبغي أن يكون بأسلوب اللين والمجاملة والمداراة والحكمة والموعظة الحسنة كما نصت على ذلك الآيات والأحاديث الشرعية، وهذا إذا كان حال المأمور أو المنهي أنفع له وأبلغ في الزجر، فالناس محتاجون إلى مداراة ورفق والأمر بالمعروف بلا غلظة إلاَّ رجلاً معلناً بالفسق فلا حرمة له كما قال الإمام أحمد، قال تعالى: ?يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ? [التوبة: 73] وقال تعالى: ?وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ? [العنكبوت: 46].
هذا، ولا يجب على الواحد مصابرة أكثر من اثنين إلاَّ إذا قدر على ذلك، ولا يسقط عنه واجب الإنكار بالسب والشتم والكلام السيء إذا قوي على رده مع وجوب تحمل الأذى، والصبر لله ربِّ العالمين، قال تعالى: ?يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ?[لقمان: 17].
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 9 ربيع الثاني 1427هـ
الموافق لـ: 6 مايو 2006م
__________
1- أخرجه مسلم في الإيمان (186)، وأبو داود في الصلاة (1142)، والنسائي في الإيمان وشرائعه (5025)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1334)، وأحمد(11371)، والبيهقي (11847)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
2- أخرجه أبو داود كتاب الملاحم، باب الأمر والنهي، عن العرس بن عميرة الكندي رضي الله عنه، والحديث حسنه الألباني في صحيح الجامع (702) وصحيح أبي داود (4345)(2/14)
الفتوى رقم: 428
في حكم الوجبات الخاصة بالأعياد الوطنية
السؤال: هل يجوز أكل الوجبة التي تقدم في الجامعات بمناسبة الأعياد الوطنية؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فاعلم أنَّ الله تعالى أبطل أعياد الجاهلية، وأبدل أهل الإسلام عيدين يجتمعون فيهما للذكر والصلاة وهما: عيد الفطر وعيد الأضحى، فقد ثبت أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما قدم المدينة وجد للأنصار يومين يلعبون فيهما، ويعتبرونهما أعيادا فقال صلى الله عليه وآله وسلم:« إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا يَوْمَ الأَضْحَى وَيَوْمَ الْفِطْرِ"(1)، كما شرع لأهل الإسلام الاجتماع للعبادة وذكر الله يوم الجمعة، ويوم عرفة، وأيام التشريق، أمَّا ما عدا ذلك فلا يجوز الاحتفال بالأعياد الوطنية: كعيد الاستقلال، واندلاع حرب التحرير، والأعياد الأخرى: كأعياد الميلاد والعمال، والمرأة، وعيد العلم، والطفل، والشجرة وأشباه ذلك من محدثات الأمور التي سلك فيها كثير من المسلمين طريق أعداء الله من اليهود والنصارى وأشباههم، وقلدوهم في أعيادهم وأخلاقهم وسيرتهم وسائر أنماط حياتهم، قال صلى الله عليه وآله وسلم:« لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: فَمَنْ"(2).
فالواجب -إذن- ترك كل ما لم يشرع الله لنا عيدًا وترك توابعه وملحقاته كالاجتماع فيها على الدروس أو المحاضرات أو الطعام أو إقامة الأفراح لأنَّ توابع الشيء منه، ويلحق حكمه به جريا على قاعدة:" التابع تابع" ، وأسباب المنع والتحريم يمكن تلخيصها فيما يلي:
أولا: إنَّها من قبيل محدثات الأمور، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أَّنه قال:" وَإيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ، وَكُلَّ ضَلاَلَةٍ فِي النَّارِ"(3)، وفي قوله صلى الله عليه وآله وسلم:« وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ"(4)، وبقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ"(5)، وبقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ"(6).
ثانيًا: ولأنَّ الاحتفال بالمواسم والأعياد البدعية تَقَدُّمٌ بين يدي الله ورسوله في اعتبار أيام مخصوصة لم يعتبرها الشرع أعياداً، قال تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ? [الحجرات: 1].
ثالثا: ولأنَّ فيه تشبُّهًا باليهود والنصارى ومن على شاكلتهم في أعيادهم وتقاليدهم وعاداتهم، وهو نوع من الموالاة لهم وقد قال تعالى: ?وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ?[المائدة: 51]، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:«مَنْ تَشَبَهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ"(7).
وعليه فالمشاركة في هذه الأعياد غير المشروعة بالاجتماع على الموائد، والاحتفال على المنصات، إقرار بالبدعة، ورضى بما نهى الله عنه، وتعاون على الإثم والعدوان.
واللهَ أسأل أن يصلح حال المسلمين، ويزكي قلوبهم وأعمالهم مما يخالف صفاء الدين، وأن يوفقهم للتمسك بكتاب ربِّهم وسنة نبيهم محمد صلى الله عليه و آله وسلم وعلى اتِّباع سبيل المؤمنين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في:24 ربيع الثاني 1427ه
الموافق ل: 21 مايو 2006م
__________
1- أخرجه أبو داود في الصلاة (1136)، والنسائي في صلاة العيدين (1567)، وأحمد (12332)، والبيهقي (6342)، من حديث أنس رضي الله عنه.وصححه ابن حجر في فتح الباري (2/513)، والألباني في السلسلة الصحيحة (2021).
2- أخرجه البخاري في الاعتصام بالكتاب والسنة (7320)، ومسلم في العلم (6952)، وأحمد (12120)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
3- أخرجه أبو داود في السنة (4609)، وأحمد (17608)، والدارمي (96)، من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، وصححه ابن الملقن في "البدر المنير" (9/582)، والألباني في صحيح الجامع (2549)، والسلسلة الصحيحة (6/526) رقم (2735).
4- أخرجه مسلم في الجمعة (2042)، والنسائي في العيدين (1589)، وابن ماجه في المقدمة (47)، وأحمد (14707)، والدارمي في سننه (212)، والبيهقي (5963)، من حديث جابر رضي الله عنهما.
5- أخرجه البخاري في الصلح (2697)، ومسلم في الأقضية (4589)، وأبو داود في السنة (4608)، وابن ماجه في المقدمة (14)، وأحمد (26786)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
6- أخرجه مسلم في الأقضية (4590)، وأحمد (25870)، والدارقطني في سننه (4593)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
7-أخرجه أبو داود في اللباس (4033)، وأحمد (5232)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وصححه العراقي في "تخريج الإحياء" (1/359)، وحسنه ابن حجر في "فتح الباري" (10/288)، والألباني في الإرواء (1269).(2/15)
الفتوى رقم: 443
نصيحة لمبتدئ في الالتزام
السؤال: مبتدئ في الالتزام بالشرع ومحتاج إلى توجيه يمكنه أن ينتهج به في الحياة، فأرجو من شيخنا النصيحة. وشكرا.
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فكن ممن يقتفي آثار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتطبيقها على نفسكِ، وابتغ سبيل السلف الصالح من الصحابة فمن بعدهم في جميع أبواب الدين واتَّبع سبيلهم في التوحيد العلمي والطلبي وفي حقوق التوحيد ومكملاته من أمر ونهي وإلزام وترك، واترك سبل الجدال والمراء والخوض فيما يجلب الآثام ويصد عن تعاليم الشرع ويوقع في محاذيره، قال تعالى: ?وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ? [الأنعام: 153]، وقال -أيضا-: ?وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً? [النساء: 115].
والتزم خشية الله بسلوك طريق العلم النافع، وداوم مراقبته سبحانه وتعالى في السر والعلن، فإنَّ من أخلص القصد لله واستعان عليه أثمر علمه ثمرة خاصة به وهي علامة نفعه متجلية في خشية الله تعالى، فإنَّ رأس الحكمة، وأصل العلم مخافة الله تعالى قال عز وجل: ?إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ? [فاطر: 28]، ولتكن عمارة الظاهر والباطن مليئة بخشية الله، فإنَّ من خشيته المسارعة إلى فعل الخيرات والمسابقة لها، قال تعالى: ?فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ? [البقرة: 148]، وقال عز وجل : ?وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ? [آل عمران: 133] قال سبحانه: ?إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ *? [المؤمنون: 57-61].
ومن أعظم الخيرات المحافظة على شعائر الإسلام، وإظهار السنة ونشرها بالعمل بها والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، والتعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق والصبر، متحملا ذل التعلم لعزة العلم، ذليلا للحق بثبات وتثبت في التلقي والطلب مع لزوم المحجة ودوام السكينة والوقار، وحسن السمت والهدي الصالح، فإنَّ من " ثبت نبت".
والتزم الرفق والصبر، فإنَّ الرِّفق ما كان في شيء إلاَّ زانه، والرفق في القول مما تألف به النفوس العاصية، إذ الكلمة الطيبة تثمر في النفوس الزكية، والكلمة الجافية منفرة، أمَّا الصبر فهو طريق الظفر بالمطلوب، إذ النصر مع الصبر وهو السلاح الفعال لقهر العدو الظاهر والخفي، فإن استطاع قهر نفسه وشيطانه وهواه، بأن يحبس نفسه على مرضاة الله وطاعته أشرق صدره بالحق واستنار قلبه به مصداقا لقوله صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه مسلم:" والصّبْرُ ضِيَاءٌ"(1).
وختاما، كن على الحق، وقم بواجباتك في فعل الطاعات وترك المنهيات، و لا تُصْغِ لمثبطي العزائم فقد يجعلون من الحبة قبة، ويصيِّرون التمرة جمرة، ويقلبون الشحمة فحمة، ولا لمن يخيفك بعواقب الأمور من ضعفاء الإيمان واليقين، لأنَّ ما قُدِّرَ لك لابد أن يصيبك: ?قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا? [التوبة: 51]، وفي الحديث:" وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ"(2).
والعلم عند الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 6 ربيع الأول 1419هـ
الموافق ل: 20 جوان 1998م
__________
1- أخرجه مسلم في الطهارة (556)، والترمذي في الدعوات (3859)، والنسائي في الزكاة (2449)، وابن ماجه في الطهارة وسننها (293)، وأحمد (23605)، من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.
2- أخرجه الترمذي في صفة القيامة (2706)، وأحمد (2857)، والحاكم (6304)، والطبراني في الكبير (11560)، من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في صحيح الجامع (7957).(2/16)
الفتوى رقم: 472
نصيحة إلى متعالم
السؤال: عندنا شاب متحمس يقول إن باستطاعته أن يستنبط الأحكام الشرعية من الآيات والأحاديث، وأن يناقش في المسائل العلمية، مع أنّه لا يعرف بطلب العلم، فما هي نصيحتكم شيخنا؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فالذي يدَّعي استنباط الأحكام من الآيات والأحاديث من غير سابق علم فإنَّ قوله مردود بالكتاب والسنة والإجماع.
أمَّا من الكتاب فبقوله تعالى: ?فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ? [محمد: 19] فأثبت أنَّ العلم يكون أوَّلاً، كما حصر الخشية على وجهها الأمثل في العلماء في قوله تعالى: ?إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء? [فاطر: 28]، وقد جاء في السنة قوله صلى الله عليه وآله وسلم:« يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا العِلْمُ بِالتَعَلُمِ، وَالفِقْهُ بِالتَفَقُهِ، وَمَنْ يُرِد اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِهْهُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ"(1)، وأجمع كل ذي عقل أنَّ العمل يكون تاليًا للعلم فلا عمل بدون علم، وكل عمل بني على غير علم فهو باطل مردود.
والذي ننصحه به هو أن يبدأ أوَّلاً بالتعلم بالأهم فالأهم بدءًا بالشهادتين وأن يتدرج في مدارج العلم والكمال مع الصبر عليه، وأن يشتغل بمعالي الأمور ويعرض عن الفضول وسفاسف الأمور، لأنَّ الذي يقتصر على ما يعنيه سلم من كثير من الآثام والشرور، ذلك لأنَّ من صفات المسلم ودلائل استقامته تركه ما ليس له فيه دخل من شؤون غيره، فذلك من كمال إسلامه وتمامه قال صلى الله عليه وآله وسلم:« مِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ"(2) لأنَّ الاشتغال بما لا يعني تفويت لأداء الواجبات وتضييع للقيام بالمسؤوليات، وعليه أن يؤدب نفسه ويهذبها عن الرذائل والنقائص وأن يحرص على ما ينفعه في دنياه وأخراه لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَلاَ تَعْجِزْ"(3).
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 2 جمادى الثانية 1427ه
الموافق لـ: 27 جوان 2006م
__________
1- أخرجه الطبراني في الكبير (16296)، من حديث معاوية رضي الله عنه. قال المناوي:" رواه ابن أبي عاصم أيضا، قال ابن حجر في "المختصر": إسناده حسن، لأن فيه مبهما اعتضد بمجيئه من وجه آخر". نقلا من السلسلة الصحيحة للألباني (1/2/672).
2- أخرجه الترمذي في الزهد (2487)، وابن ماجه في الفتن (4111)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه مالك في الموطإ (1638)، وأحمد (1758)، من حديث حسين بن علي رضي الله عنه. وحسنه النووي في الأذكار (509)، وصححه أحمد شاكر في تحقيقه لمسند أحمد (3/177)، والألباني في صحيح الجامع (5911).
3- أخرجه مسلم في القدر (6945)، وابن ماجه في المقدمة (83)، وابن حبان (5721)، وأحمد (9026)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(2/17)
الفتوى رقم: 685
الجرح والتعديل من مسائل الاجتهاد
السؤال:
هل المسائلُ الخلافيةُ الواقعةُ بين العلماء في جرح وتعديل الأشخاص أو في كلام بعضهم في بعض لها أحكام المسائل الفقهية الاجتهادية من حيث ما يترتب عليها من سعة الصدر وعدم التشنيع على المخالف وحمله على أحسن المحامل والنظر في قوله تصويبًا وتخطيئًا لا قدحًا وتبديعًا؟ وجزاكم الله خيرًا .
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فأقوالُ العلماء في الجرح والتعديلِ أو في كلامِ بعضِهم في بعضٍ أمرٌ اجتهاديٌّ يَقبلُ الإصابةَ والخطأَ، والمجتهدُ مأجورٌ على اجتهادِهِ وإن أخطأَ فله أجرٌ واحدٌ، فهو بكُلِّ حالٍ مأجورٌ، والإثمُ عنه مرفوعٌ، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« إذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ، فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ، ثُمَّ أَخْطَأَ، فَلَهُ أَجْرٌ »(1)، ويترتَّب على ذلك ما ورد في السؤال من سعة الصدر وعدمِ التشنيعِ على المخالف وحملِهِ على أحسنِ المحامل؛ لأنّ الأصلَ في العلماء أنهم أهلُ عَدْلٍ وإنصافٍِ، وإنما قد يقع منهم من الطَّعن غيرِ المعتبر لِهَوًى، ومسالكُ الهوى ومساربه دقيقَةٌ، والمعصومُ من عصمه اللهُ.
قال الإمام الذهبي:« لسنا ندَّعِي في أئمَّةِ الجرح والتعديل العصمةَ من الغلط النادِرِ، ولا من الكلام بنَفَسٍ حادٍّ فيمن بينه وبينهم شحناء وإحنة، وقد عُلِمَ أنّ كثيرًا من كلامِ الأقران بعضِهم في بعض مُهْدَرٌ لا عبرةَ به، لا سيما إذا وَثَّقَ الرجلَ جماعةٌ يلوح على قولهم الإنصاف »(2)، وقال -رحمه الله- في مؤلَّف آخر:« وكلام الأقران بعضِهم في بعضٍ لا يعبأ به لا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد وما ينجو منه إلاّ من عصمه الله، وما علمت أنّ عصرًا من الأعصار سَلِمَ أهلُهُ من ذلك سِوَى الأنبياءِ والصدِّيقين ولو شئتُ لسَرَدْتُ من ذلك كراريس »(3).
وقال ابنُ عبد البر:« إنّ من صحّت عدالتُهُ، وثبتت في العلم أمانتُهُ، وبانت ثقتُهُ وعنايته بالعلم لم يُلتفتْ إلى قول أحدٍ إلاّ أن يأتي في جرحه بِبَيِّنَةٍ عادلةٍ يصحُّ بها جرحه على طريق الشهادات والعمل فيها من المشاهدات والمعاينة(4).
هذا، ولا ينبغي أن يفهم أنّ قاعدة:« الجَرْحُ مُقَدَّمٌ عَلَى التَّعْدِيلِ » على إطلاقها، بحيث ترد قاعدة:« كَلاَمُ الأَقْرَانِ فِي بَعْضٍ يُطْوَى وَلاَ يُرْوَى »؛ لأنَّ الصحيح أنه إذا لم تدلَّ على جَرحه بيِّنةٌ عادلةٌ بقيتْ عدالتُهُ قائمةً خاصّةً إذا كَثُرَ مادحوه، وقلّ جارحوه، قال التاج السبكي:« الحذر كلّ الحذر أن تفهم قاعدتهم:« الجرح مقدم على التعديل » على إطلاقها، بل الصواب أنّ من ثبتت إمامته وعدالته وكثر مادحوه وندر جارحوه، وكانت هناك قرينة دالة على سبب جرحه من تعصَّب مذهبيٍّ أو غيرِه لم يلتفت إلى جرحه »(5)، ثمّ زاد -رحمه الله- قائلاً:« عرفناك أنّ الجارح لا يقبل منه الجرح، وإن فسّره في حقّ من غلبت طاعته على معاصيه، ومادحوه على ذامّيه، ومُزَكُّوه على جارحيه، إذا كانت هناك منافسة دنيوية، كما يكون بين النظراء أو غير ذلك، وحينئذٍ فلا يلتفت لكلام الثوريِّ وغيرِه في أبي حنيفة، وابن أبي ذئب وغيرِه في مالكٍ، وابنِ معينٍ في الشافعي، والنسائيِّ في أحمدَ بنِ صالحٍ ونحوِه، ولو أطلقنا تقديم الجرحِ لَمَا سَلِمَ لنا أحدٌ من الأئمّة، إذ ما من إمامٍ إلاّ وقد طَعَنَ فيه الطاعنون، وهَلَكَ فيه الهالكون »(6).
أمّا إذا قامت البيِّنة العادلة على خطئه أو عُرِضَ كلامُهُ على الكتاب والسُّنَّة فخالفهما فإنّ قولَه مردود، ولا يلزم -حَسَب قواعدِ أهل العلم- أن يبدّع أو يحكم بخروجه من أهل السنّة بمجرّد خطئه في المسائل العلمية والعملية، فإن أصرَّ على خطئه أو بانت معصيته فالجَرح المفسّر مقدَّمٌ على التعديل لاشتماله على زيادة علم.
أمّا إن جهل مراده فينظر في سيرة المجتهد إن كانت حسنةً حمل كلامه على الوجه الحسن، لقوله تعالى: ?وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ? [الأعراف: 58]، وإن كانت سيرته غيرَ ذلك حمل كلامه على الوجه السيِّء لقوله تعالى: ?وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا? [الأعراف: 58].
أمّا إذا عرف مراد المتكلّم لكنه جهل حكم الشرع فيه، فالواجب أن يمسك عنه ولا يجوز له أن يتكلّم إلا بعلم، فالعلم ما قام الدليل عليه، وشهد له البرهان وأيّدته الحجّة.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في 20 جمادى الأولى 1428ه
الموافق ل: 06 جوان 2007م
__________
1- أخرجه البخاري في «الاعتصام بالكتاب والسنة » باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ (6916)، ومسلم في «الأقضية » باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ: (4487)، وأبو داود في «الأقضية » باب في القاضي يخطئ (3574)، وابن ماجه في «الأحكام » يجتهد فيصيب الحق (2314)، وأحمد: (17360)، من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه.
2- «سير أعلام النبلاء » للذهبي: (7/40-41).
3- «ميزان الاعتدال » للذهبي: (1/111).
4- «جامع بيان العلم وفضله »: (2/152).
5- «طبقات الشافعية » للسبكي: (1/188).
6- المصدر السابق: (1/190).(2/18)
الفتوى رقم: 692
في حكم امتحان الناس بقضايا التجريح
السؤال:
ما رأيكم في امتحان الناس وإلزام طلبة العلم بقول العلماء في تجريح الأشخاص أو غيرها من القضايا الخلافية بين أهل السنة؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فاعلم أنّ مِن صفات المسلِمِ الاشتغالُ بمعالي الأمور المتعلّقة بضرورة حياته في معاشه وبسلامته في معاده وآخرته، فهذا الذي يَعْنِيهِ، فيحرِصُ على تأديب نفسِه وتهذيبها عن الرذائل والنقائص، وتركِ ما لا جَدْوَى فيه ولا نفع، ووسيلةُ ذلك العلمُ وطلبُهُ والاستزادَةُ منه، قال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« مِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ »(1).
وممَّا لا يعنيه امتحانُ الناس بما لم يأمر اللهُ به ولا رسولُه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم والتزامٌ باتخاذ مواقفَ مؤيّدةٍ لمواقفهم على وجه التحزّب لشخصٍ والتعصّب لأقواله والدعوة إلى طريقته، يوالي ويعادي عليها غير طريقة النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، وكلُّ موقف مُبايِنٍ لمواقف الممتحنين يُنسبُ أهلُهُ إلى التميُّع والبدعة، الأمرُ الذي يترتَّب عليه نشوءُ الفظاظةِ والجفاءِ والغِلظةِ، ويَحدثُ من -جرّاءِ ذلك- ما نهى الشرع عنه من الوحشةِ والتدابُرِ والعداوةِ والبغضاءِ بين الأُخوَّة الإيمانيةِ، وتؤول مضارُّها إلى التفريق بين الأُمَّة وتشتيت جماعتها وتمزيق شملها، وليس معنى هذا عدم نبذ البدعة وأهلِها والتحذيرِ منها وممَّن يدعو إليها بعد ثبوت البدعة وإقامةِ الحجّة، فإنّ محاربة البدع في الدِّين من أبرزِ سمات المنهج السلفيِّ لمناقضة البدع لأحد شَرْطَيِ العبادةِ وهو مُتابعةُ الرسولِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، فمسألةُ التحذير والهجرِ تَنْدَرِجُ تحت عقيدة «الولاء والبراء » لكن مع خضوع الهجر لضوابطَ شرعيةٍ يرعاها ليكون وَسَطًا بين الإفراط والتفريط(2).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 25 جمادى الأولى 1428ه
الموافق ل: 10 جوان 2007م
__________
1- أخرجه الترمذي في «الزهد »: (2487)، وابن ماجه في «الفتن »: (4111)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه مالك في «الموطإ »: (1638)، وأحمد: (1758)، من حديث حسين بن علي رضي الله عنه. وحسنه النووي في «الأذكار »: (509)، وصححه أحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد »: (3/177)، والألباني في «صحيح الجامع »: (5911).
2- انظر: ضوابط الهجر في «مجالس تذكيرية على مسائل منهجية »: (73).(2/19)
الفتوى رقم: 695
في التعاون على جبر من سبيله النصح
السؤال:
قد يضطرُّ إمامُ المسجد للقيام ببعض المخالفات البدعية، والمشاركةِ في احتفالاتِ المولد النبوي المشتملةِ على جملةٍ من المحاذير بحُجَّة الحفاظِ على منصبه الدعوي، فبغض النظر عن ضعف حُجَّته، فما هو الموقف الشرعي اتجاهه؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فلا ينبغي لِمَنْ له مكانةٌ في المجتمع أو مَنْصِبٌ أدبيٌّ -إن دفعه الاضطرار إلى فعلِ محرّم أو بدعة- أن يأتي بالمحظور إلاّ مع بيان حُكمه للناس لئلاَّ يغترُّوا بفعلِه، ويقتدون بسيرته في غير المشروع؛ ذلك لأنَّ فِعْلَ المحرَّم مُنكرٌ، والمنكر يجب إنكارُه وعدمُ الرضا به، فالأمر بالمعروف والنهيُ عن المنكر عبادةٌ مطلوبةٌ شرعًا، بل هو من أعظم الواجبات الشرعية بعد الإيمان بالله سبحانه، حيث ذكره الله تعالى في كتابه الكريم بعد الإيمان به سبحانه مقرونًا معه، قال تعالى: ?كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ? [آل عمران: 110]، وقال تعالى: ?الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ? [الحج: 41]، وهكذا شأنُ أهلِ الإيمانِ بالله وأهلِ نُصْرَتِهِ وولايتِه، قال تعالى: ?وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ? [التوبة: 71].
هذا، والأمر قد يزيد سوءًا إذا اقتدى به غيرُه اغترارًا بفعله، وأخذ عنه حِلِّيَةَ بدعتِه فأحياها أو مُنكرٍ فاستحسنه، فإنّ المقتدى به يتحمّل أوزارَ مَن تَبِعه من غير نقصانٍ عنهم، قال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« وَمَنْ دَعَا إِلَى? ضَلاَلَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لاَ يَنْقُصُ ذلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئَا »(1).
هذا، والواجبُ اتجاهَهُ نصيحتُه بأدبٍ وحُسْنِ خُلُقٍ، فَيُؤْمَرُ بِرِفْقٍ، ويُنْهَى بِلِينٍ لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« الدِّينُ النَّصِيحَةُ، قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: للهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ »(2)، وأن ينصر بحقٍّ لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا، قَالُوا: نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قَالَ: تَرُدُّهُ عَنْ ظُلْمِهِ »(3)، ولقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« مَا كَانَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلاَّ زَانَهُ »(4).
فإن عجز اللسان عن تغيير المنكر أو الأمر بالمعروف اكتفى بتغييره بالقلب، وهو أضعف الإيمان كما جاء في الحديث، ولقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« إِذَا عُمِلَتِ الخَطِيئَةُ فِي الأَرْضِ كَانَ مَنْ شَهِدَهَا فَنَكِرَهَا -وَقَالَ مَرَّةً: فَكَرِهَهَا- كَمَنْ غَابَ عَنْهَا، وَمَنْ غَابَ عَنْهَا فَرَضِيَهَا كَمَنْ شَهِدَهَا »(5). وهذا كُلُّه لئلاَّ يكون تركُ الأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المنكر موجبًا للعقوبة والعذاب، قال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بالمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكَرِ وَلَيُوشِكَنَّ اللهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ فَتَدْعُونَهُ فَلاَ يَسْتَجِيبُ لَكُمْ »(6)، كذا كان أمر بني إسرائيل فيما نهاه اللهُ عليهم، قال تعالى: ?لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ? [المائدة: 78-79]، وقال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي، إِلاَّ كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمِ خُلُوفٌ، يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا لاَ يُؤْمَرُونَ، فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذلِكَ مِنَ الإِيمَانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ »(7).
نسألُ اللهَ أن يثبِّتَ المُصْلِحَ على ما هو عليه ويزيدَهُ قوّةً وَعَزْمًا، وأن يهديَ الضالَّ على ما كان عليه، وأن يفتحَ علينا جميعًا بالاعتصام بحَبْلِهِ المتينِ، ويُعِينَنَا على التعاون على البرّ والتقوى والتواصي بالحقّ والصبر، إنه وليُّ ذلك والقادرُ عليه. وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ، وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 22 صفر 1427ه
الموافق ل: 11 مارس 2007م
__________
1- أخرجه مسلم في «العلم »، باب من سن سنة حسنة أو سيئة: (6804)، وأبو داود في «السنة »، باب لزوم السنة: (4609)، والترمذي في «العلم »، باب ما جاء فيمن دعا إلى هدى فاتبع: (2674)، وابن ماجه في «المقدمة »: (206)، وأحمد: (8915)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2- أخرجه مسلم في «الإيمان »، باب بيان أن الدين النصيحة: (205)، وأبو داود «الأدب »، باب في النصيحة: (4946)، والترمذي في «البر والصلة »، باب ما جاء في النصيحة: (1926)، والنسائي في «البيعة »، باب النصيحة للإمام: (4214)، وأحمد: (17403)، والحميدي في «مسنده »: (875)، من حديث تميم الداري رضي الله عنه.
3- أخرجه البخاري في «المظالم »، باب أعن أخاك ظالما أو مظلوما: (2443)، والترمذي في «الفتن »: (2421)، وأحمد: (13421)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وأخرجه مسلم في «البر والصلة والآداب »، باب نصر الأخ ظالما أو مظلوما (6582) من حديث جابر رضي الله عنه.
4- أخرجه مسلم في «البر والصلة »، باب فضل الرفق: (6602)، وأبو داود في «الجهاد »، باب ما جاء في الهجرة وسكنى البدو: (2478)، وأحمد: (25181)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
5- أخرجه أبو داود في «الملاحم »، باب الأمر والنهي: (4345)، والطبراني في «المعجم الكبير »: (345)، من حديث العرس بن عميرة الكندي رضي الله عنه، والحديث حسّنه الألباني في «صحيح الجامع »: (702) و«صحيح أبي داود »: (4345).
6- أخرجه الترمذي في «الفتن »، باب ما جاء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :(2169)، وأحمد: (22816)، من حديث حذيفة رضي الله عنه. والحديث حسنه البغوي في «شرح السنة »: (7/357)، والألباني في «المشكاة »: (5068).
7- أخرجه مسلم في «الإيمان »، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان: (50)، وأحمد: (4375)، من حديث عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه.(2/20)
الفتوى رقم: 714
في ثبوت العدالة والتزكية بقول الواحد
السؤال:
هل التبيُّنُ الواجبُ في قوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا? [الحجرات: 6] المتعلّق بعدالة الناقل، هل يكفي فيه أن يشهد له شاهد واحد أم يلزم شاهدان؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فلا خلافَ بين أهل العلم في وجوب ردّ شهادةِ الفاسِقِ، وعدمِ قَبول خبرِه، لورود التصريح في عدم قَبول شهادته في قوله تعالى: ?وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ? [النور: 4].
غيرَ أنّ الفاسقَ إذا أمكن معرفة حقيقة ما جاء به من نبإٍ محتملٍ للصدق والكذب وجب فيه -والحال هذه- التبيّن والتثبّت فيما أخبر به حتّى تتجلّى الحقيقة، وينكشف صدق ما أخبر به من عدمه، وهو المعنى الذي أشارت إليه الآية في سورة الحجرات: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ? [الحجرات: 6].
وهذه الآية تدلّ -أيضًا- بدليل الخطاب، أو ما يسمّى ب «مفهوم المخالفة » أنّ المخبِر أو الناقل للخبر إن كان عدلاً غيرَ فاسقٍ(1) لا يلزم التبيّن في نبئه، ولا التثبّت في خبره. والعدالة لا تعرف بمجرّد إيمانه، بل هي تفتقر إلى معرِّف لها يكفي في التعديل أو التزكية ثبوتها بقول واحد، وهو اختيار أبي بكر الخطيب، سواء في الرواية أو الشهادة مطلقًا، ذكرًا كان أو أنثى، حرًّا أو عبدًا، لشاهد أو مخبر، خلافًا لمن لم يقبل في التعديل إلاّ رجلين في الرواية والشهادة، وهو مذهبُ الباقلاّني وأكثرِ الفقهاء، وخلافًا -أيضًا- لمن يرى أنّه يكفي في الرواية تزكية العدل، ويُلزِم باثنين في الشهادة، وبه قال الفخر الرازي والآمدي.
والصحيح المذهب الأوّل؛ لأنّ التزكية تدخل في باب الأخبار، فلا يشترط العدد في قَبول رواية العدل، بخلاف الشهادات.
ومِمّا تثبت به العدالة -أيضًا- الاستفاضة والشهرة، فلا يحتاج من اشتهر بها إلى توثيق أو تعديل.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 6 شعبان 1428ه
الموافق ل: 19 أغسطس 2007م
__________
1- و«العدالة »: هي عبارة عن استقامة السيرة والدِّين، وحاصلها يرجع إلى هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروءة جميعًا، حتّى تحصل ثقة النفوس بصدقه، وذلك يتحقّق باجتناب الكبائر وبعض الصغائر وبعض المباحات.(2/21)
الفتوى رقم: 720
في التعريف بالفرقة الأحمدية وأبرز معتقداتها
السؤال:
ما هي الجماعة الأحمدية؟ وما هي أبرز مخالفاتها ومعتقداتها؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالأحمدية فِرقةٌ ضالَّةٌ تنسب إلى مِرْزَا غُلام أحمد القَادْيَانِي البنجابي الهندي الهالك سنة 1908م، تقوم دعوتها على عقائد باطلة تخالف عقيدة المسلمين، منها: اعتقادهم في أنّ النبوَّةَ لم تختم بمحمّد صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم بل هي باقية بحسب حاجة الأُمَّة، ويعتقدون أنّ جبريل عليه السلام كان يوحي إلى غلام أحمد، وأنَّ نبوته أرقى وأفضل من الأنبياء جميعًا، ولهم كتاب مُنَزَّل -في زعمهم- يحمل اسم «الكتاب المبين » هو غير القرآن الكريم، فلا قرآن -عندهم- إلاّ الذي قدّمه أحمد القادياني الذي يعتبرونه بأنه المسيح الموعود، ولا يعملون بحديث إلاّ على ضوء توجيهاته، إذ لا نبي إلاّ تحت سيادة غلام أحمد القادياني.
فالفرقة الأحمدية على الرغم من ادعائها الإسلام ظاهرًا فإنّ تأثّرهم بالمسيحية واليهودية والحركات الباطنية لا تخفى على متبصِّر بسلوكهم وعقائدهم، لذلك أجمع علماء الأمة من أهل السُّنة على كفرهم، وقد صدر من الحكومة الباكستانية بأنها فرقة خارجة عن الإسلام، والحكمُ نفسُه صدر من رابطة العالم الإسلامي بمكة، وعن قرار من مجلس هيئة كبار العلماء باعتبار القاديانيِّين فرقة كافرة.
ومن موجبات تكفيرهم:
- إنكارهم ختم نبوة محمّد صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم -كما تقدّم- وادعاؤهم لنبوة غلام أحمد، وتفسيرهم للقرآن والسنة بتفسيرات باطنية، وإلغاؤهم الحج إلى «مكة » وتحويل المناسك إلى «قاديان »، حيث يعتقدون أنّ «قاديان » أفضل من مكة والمدينة، وأرضها حرم، وهي قبلتهم وإليها حجّهم، وإيمانهم بعقيدة التناسخ والحلول، ونسبتهم الولد إلى الله تعالى، ومن عقيدتهم -أيضًا- تكفيرهم لكل المسلمين إلاّ من دخل في القاديانية، ونسخهم لفريضة الجهاد خدمة للاستعمار، فضلاً عن استحلالهم للمسكرات والأفيون والمخدّرات ونحوها.
هذا، وللقاديانيين نشاط موسع، لهم مهندسون وأطباء ودعاة متفرغون للدعوة إلى ضلالهم، ولهم قناة فضائية باسم «التلفزيون الإسلامي » يلاحظ لهم نشاط مكثّف في إفريقيا والدول الغربية بتدعيم الجهات الاستعمارية. لذلك ينبغي تحذير المسلمين من عقيدتهم ونشاطهم لما يحملونه من ضلالات وأفكار منحرفة وعقائد فاسدة حتى لا يغتر بهم المسلمون.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 7 رجب 1428ه
الموافق ل: 21 جويلية 2007م(2/22)
الفتوى رقم: 723
في حدود استعمال وسائل الدعوة إلى الله تعالى
السؤال:
من المعلوم أنّ الأمّةَ مأمورةٌ بالأخذ بوسائلِ الدعوةِ وتحصيلِ أسبابها، فهل يُشترط الاقتصارُ على الوسائل المنصوصِ عليها، أو التي فعلها النبيّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، أم يجوز التوسّع باستعمال الوسائل الدعوية، وإن لم يَرِدْ نصٌّ عليها، وهي لا تخالف الشرع؟ وبعبارة أخرى مقتضبة: هل وسائل ُالدعوة توقيفيةٌ أم اجتهاديةٌ؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فقد جاءتْ نصوصٌ عامّةٌ من الكتاب تأمر بالدعوة إلى الله تعالى وتبليغ الرسالة من غيرِ تقييدٍ بوسائلَ معيّنةٍ، مثل قوله تعالى: ?ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ? [النحل: 125]، وقوله تعالى: ?وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ? [القصص: 87]، وقوله عزّ وجلّ: ?وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ? [الشعراء:214]، وقوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ? [المائدة: 67]، فهذا الميدانُ الدعويُّ في حاجته إلى وسائل أمر بدهي، إذ «الأَمْرُ بِالشَّيْءِ أَمْرٌ بِلَوَازِمِهِ »(1)، وإذا كان الأمرُ بالدعوة والتبليغِ لا يتمُّ إلاَّ بتحصيل الوسائلِ وتحقيقِ الأسباب، كان الأخذُ بها واجبًا أو مستحبًّا بِحَسَبِهِ، جريًا على قاعدة:« الوَسَائِلُ لَهَا أَحْكَامُ المَقَاصِدِ، فَمَا لاَ يَتِمُّ الوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَمَا لاَ يَتِمُّ المَسْنُونُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ مَسْنُونٌ، وَطُرُقُ الحَرَامِ وَالمَكْرُوهِ تَابِعَةٌ لَهُ، وَوَسِيلَةُ المُبَاحِ مُبَاحَةٌ »(2).
غيرَ أنّ هذه الوسائلَ -مِن حيثُ سعتُها- شاملةٌ للوسائلِ العباديةِ والعاديةِ، ومجالُ توقيفِ العاديةِ شرعًا أوسعُ من أن يكون نصًّا خاصًّا يشملُها، بل يتعدّى إلى ما كان عامًّا، أو إلى قاعدة علمية يمكن أن يستند إليها في تقرير شرعية هذه الوسائل؛ ذلك لأنّ مُمارسةَ العملِ الدعويِّ ومباشرتَهُ دون معرفةِ حُكمه والاستنادِ على دليلِهِ الشرعيِّ تَحكُّم، وعملٌ بالجهل، واتّباعٌ للهوى، وهو مردودٌ على صاحبه، إذ كما لا يجوز الخروج عن الحكم الشرعيِّ في المناهجِ والمقاصدِ؛ لا يجوز كذلك في الوسائلِ، لقوله تعالى: ?ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ? [الجاثية: 18]، ولقوله تعالى: ?اِتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ? [الأعراف: 3]، ولقوله تعالى: ?وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً? [الإسراء:36]، ولقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ »(3).
وعليه؛ فعمومُ الوسائل الشرعيةِ سواء كانت عبادية أو عادية لا مدخل للعقل والرأيِ المجرّدِ في حُكمها.
ولمزيد من التوضيح في هذا المقام نلفت النظر إلى أنّ الوسيلةَ إن كانت من جِنس العبادات فإنّها تحتاج إلى نصٍّ خاصٍّ يقضي بمشروعيّتها، ذلكّ لأنّ «العِبَادَات أَصْلُهَا التَّوْقِيفُ وَالمَنْعُ حَتَّى يَرِدَ الدَّلِْيلُ النَّاقِلُ عَنْهُ »؛ فلا يُشرع منها إلاّ ما شرعه الله تعالى وأذن فيه، لقوله تعالى: ?أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ?[الشورى: 21].
وبناءً عليه؛ فإنّ الوسائلَ العباديةَ توقيفيةٌ، وحُكمها يُؤخذُ من جهةِ الشرعِ، وبالدليلِ الخاصِّ بها، لا بوصف العمومِ والإطلاقِ، إذ لا يلزم ما أمر اللهُ للعمل بوصف العموم والإطلاق -في باب العبادات- أن يكون مشروعًا بوصف الخصوص والتقييد، أو مأمورًا به، إلاّ إذا جاء دليلٌ مُبيِّنٌ للإجمال الحاصلِ في صفة العموم والإطلاق، ويكون حُكم الخصوصِ والتقييدِ تابعًا للدليل، فإن جاء موافقًا للأمر العامِّ أو المطلقِ كان تحصيلُ المعيّنِ بالخصوصِ والتقييدِ من باب عطف الخاصِّ على العامِّ، بتظافر الأدلةّ وتَعَاضُدِهَا، وإن جاء الدليل مخالفًا للأمر العامِّ أو المطلَقِ كان تحصيلُه من باب تخصيص العموم وتقييد المطلق، وهذا التقرير -وإن كان يشمل جانب العبادات والعادات والمعاملات- إلاّ أنّ باب العبادات قُيِّد بالدليل الخاصِّ؛ لأنّ الأصل فيها التوقيف والمنع -كما تقدّم-.
وهذا بخلاف الوسيلة الداخلةِ في جنس العاداتِ والمعاملاتِ؛ فلا يَلزم لثبوتها الأدلّّةُ الخاصّةُ، بل تكفي الأدلّة والقواعد العامّة في إثباتها وتقريرها، ذلك لأنّ «الأَصْل فِي المُعَامَلاَتِ وَالعَادَاتِ الإِبَاحَةُ وَالجَوَازُ » حتّى يَرِدَ الدليلُ الناقلُ عنه، فلا يمنع منها شيءٌ إلاّ ما منعه الشرعُ وحَرَّمه، لقوله تعالى: ?قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً، قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ? [يونس: 59]، ولقوله تعالى -مُمتَنًّا على عباده-: ?هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا?[البقرة: 29]، ولقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« الحَلاَلُ مَا أَحَلَّهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ، وَالحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ »(4). فالوسائلُ العادية يُؤخذ حُكمها -أيضًا- من جهة الشرع، لكن لا يُشترط أن يدلَّ عليها دليلٌ خاصٌّ، بل يجوز العمل فيها بالأوامر العامّة والمطلقة، كما يجوز أن تحال أحكامها إلى القواعد العامّة.
ولا شكّ -بعد هذا البيان- أنّ الوسائلَ الدعويةَ في تعلّقها بالعادات إن تضمّنت مصلحةً راجحةً للدعوة ولم تخالف نصًّا شرعيًّا فيجوز مباشرتها لدخولها إمّا في القواعد العامّة الكلّية، أو لاتّصاف الدليل عليها بصفة العموم والإطلاق؛ ذلكّ لأنّ تحصيل المعيَّن في الوسيلة إن كان مشمولاً بالأمر العامّ أو المطلق ولم تتعرّض له الأدلّة بأمر أو نهي بقي على وصف العموم والإطلاق، وجاز العمل بأيّ فعل معيَّن يتحقّق به امتثال الأمر العامّ أو المطلق؛ ذلك لأنّ «الأَصْل فِي العَادَاتِ وَالمُعَامَلاَتِ الإِبَاحَةُ وَالجَوَازُ » -كما تقدّم-، ويدلّ عليه عمل النبي صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم بعموم قوله تعالى: ?وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ? [الشعراء: 214]، حيث اختار النبي صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم في الدعوة وسيلة الصعود على الصفا ومخاطبة بطون قريش، وهذا الاجتهاد في الوسيلة إنّما جاء بناؤه على ضوابط عامّة متمثّلة في الحكمة والموعظة الحسنة المأمور بهما، واتّخذ هذه الوسيلة لتكون أسرع إلى الفهم، وأدعى إلى الانقياد، وأقوى في التأثّر والاستجابة. وكذلك إجماع الصحابة على وجوب المصير إلى وسيلة جمع القرآن الكريم في مصحف واحد، لحفظ كلام الله سبحانه وتعالى، وقد تردّد الصحابة في أوّل الأمر لعدم ورود دليلٍ خاصٍّ يؤيّدُ هذا الفعلَ، كما أنّه لم يفعله النبي صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، ثمّ اعتبروا قوّةَ هذه الوسيلةِ لحفظ القرآن الكريم المتمثّلةِ في جمعِهِ في مُصحَفٍ واحدٍ لِمَا في ذلك من مصلحةٍ راجحةٍ.
فالحاصل؛ أنّ وسائلَ الدعوةِ إلى الله تعالى في تقرير مشروعيّتها يجب أن تراعى فيها جُملةٌ من الضوابط تتمثّل في: وجوب موافقتها للنصوص الشرعية العامّة والخاصّة أو قواعد الشرع الكلّية، كما أنّ الوسائل إن كانت تابعةً لمقاصدَ مخالفةٍ للشرع، فتُمنَعُ بحكم تبعيّتها للممنوع؛ لأنّ طُرُقَ الحرام والمكروهات تابعة لها، و«النَّهْيُ عَنِ الشَّيْءِ نَهْيٌ عَمَّا لاَ يَتِمُّ اجْتِنَابُهُ إِلاَّ بِهِ »، وتُمنع -أيضًا- الوسيلة إذا ما تعلّق بها وصف منهيّ عنه، فتبطل لاقترانها به، كأن يكون شعارًا لليهود والنصارى والمجوس، فقد سيَّب النبي صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم وسيلةَ النفخ في البوق للدعوة للصلاة لكونه شعار اليهود، وتخلّى عن الضرب بالناقوس لكونه شعار النصارى(5).
هذا؛ ويشرع الأخذ بالوسيلة المشروعة إلى المقصد المشروع شريطةَ أن لا يترتّب على الأخذ بها مفسدةٌ مساويةٌ أو أكبرُ من المصلحة المرجوّة، وإلاّ بَطَلَت الوسيلةُ، عملاً بقاعدة:« الضَّرَرُ لاَ يُزَالُ بِمِثْلِهِ »، وقاعدة:« دَرْءُ المَفَاسِدِ أَوْلَى مِنْ جَلْبِ المَصَالِحِ ».
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 10 شعبان 1428ه
الموافق ل: 23 أغسطس 2007م
__________
1- انظر تفصيل هذه القاعدة في "مجموع الفتاوى" لابن تيمية: (20/159) وما بعدها.
2- انظر:" أعلام الموقّعين" لابن القيّم: (3/135)، "القواعد والأصول الجامعة" للسعدي: ص (10، 11).
3- أخرجه مسلم بهذا اللّفظ: (12/16) في الأقضية: باب نقض الأحكام الباطلة وردّ محدثات الأمور واتّفق الشيخان: البخاري: (5/301) في الصلح: باب إذا اصطلحوا على صُلح جَوْرٍ فالصلح مردود، ومسلم: (12/16) على إخراجه بلفظ:« من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردّ » من حديث عائشة رضي الله عنها وعند البخاري:« ما ليس فيه... ».
4- أخرجه الترمذي: (4/220) في اللّباس: باب ما جاء في لُبس الفِراء، وابن ماجه: (2/1117) في الأطعمة: باب أكل الجبن والسمن، من حديث سليمان الفارسي -رضي الله عنه- . والحديث حسّنه الألباني في "صحيح سنن الترمذي": (2/267 ـ 268)، وفي "صحيح سنن ابن ماجه": (3/141)، وفي "صحيح الجامع الصغير" (3/102).
5- انظر "صحيح مسلم": (4/75) في الصلاة: باب بدء الأذان من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-.
6- انظر:" فتح الباري" لابن حجر (2/80).(2/23)
الفتوى رقم: 744
في حكم إنشاء جمعية خيرية دعوية
السؤال:
ما حكمُ إنشاءِ جمعيةٍ هدفُها الدعوةُ إلى الكتاب والسُّنَّة على فهم سلف الأُمَّة، والحفاظ على العقيدة الصحيحة مع العلم أنَّنا في بلدنا المجاور لبلدكم لا يُسمح لنا بالاجتماع في الدور للدعوة أو طلب العلم؟ أفتونا بارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فعمومُ الجمعيات مهما كانت صفتُها إذا عُقِدَ عليها الولاءُ والبراءُ والحبُّ والعداءُ، أو اتخذَت أقوالَ قادتِها ومُسَيِّرِيهَا أصولاً بلا دليلٍ، أو التسليمُ بآراء الجماعة وجعلُها قطعيَةَ الثبوتِ غيرَ قابلة للنقاش أو النقد، ونحو هذه المعاني فهي جمعيةٌ حزبية ولو وُسمت باسم الإسلام، فهي بهذا الاعتبار عينُ مشاقَّةِ الله ورسوله ومحادَّة الله ورسوله؛ لأنّ محورَ الولاء والبراء هو الإيمان بالله ورسوله، قال تعالى: ?لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ? [المجادلة: 22]، فالتجمُّع الحزبي مقيتٌ فَرَّقَ الأمّةَ شِيَعًا وأحزابًا وما زادها إلاَّ خبالاً، على مَرِّ العصور وَكَرِّ الدُّهور، فإنّ الدين أمرنا بالاجتماع على عقيدة التوحيد وعلى متابعة الرسول صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، قال تعالى: ?وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ? [آل عمران: 103]، وقال تعالى: ?إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ? [الأنعام: 159].
وإذا كان التجمُّع الحزبيُّ لا يجوز فإنّه لا يمنع من التعاون الشرعي الأخوي المبني على البرِّ والتقوى والمنضبط بالكتاب والسُّنَّة، لقوله تعالى: ?وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ? [المائدة: 2]، كما يدخل ضمن عموم الأمر بالتعاون الشرعي ما يقوم به الحاكم من تنظيم المسلمين في شكل هيئاتٍ رسميةٍ كالوزارات والمؤسَّسات التي لا تحمل الطابعَ الحزبيَّ ليوزِّع عليهم مهامًّا وأعمالاً، تخصُّ الحياةَ الدينيةَ والدنيويةَ، فلا تتناوله النصوصُ التي تَذُمُّ الخروجَ عن وحدة الأُمَّة التي أمر بها أن تكون واحدة، فقال تعالى: ?وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ? [المؤمنون: 52].
وعليه، فإنّ مجالَ التعاونِ الأخويِّ المنضبطِ بالشرع المبني على البرِّ والتقوى مشروعٌ ومطلوبٌ.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 22 رجب 1428ه
الموافق ل: 6 أغسطس 2007م(2/24)
الفتوى رقم: 758
في حكم التكفير بلازم المذهب
السؤال:
هل لازم المذهبِ مذهبٌ؟ وهل يجوز التكفير بلازمه، أي: هل يصحّ التكفير بالمآل؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالذي عليه أهلُ التحقيقِ أنّ لازمَ المذهبِ إن صرَّح به صاحبُهُ، أو أشار إليه، أو التزمه(1)، أو عُلم من حاله أنّه لا يمتنع من التزامه بعد ظهوره؛ فهو مذهبٌ له.
فإن كان لازمُ قوله حقا، فإنّه يضاف إليه؛ لأنّ لازمَ الحقِّ حقٌّ، وكذلك لازمُ الباطل باطلٌ؛ ذلك لأنّ لوازمَ الأقوالِ من جُملة الأدلّة في الحكم على صحّتها أو فسادها، حيث يُستَدَلُّ بصحّة اللازم على صحّة الملزوم، وبفساد اللازم على فساد الملزوم. لذلك كان اللاّزم من قول الله تعالى وقولِ رسولِه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم يثبت ويحكم به؛ لأنّ كلامَ الله ورسولِه حقٌّ، ولازمُ الحقِّ حقٌّ؛ ولأنّ الله تعالى عالِمٌ بما يكون لازمًا من كلامه وكلامِ رسوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم فيكون مرادًا(2).
أمّا إذا كان لازمُ قولِه الذي لم يصرّح به، أو لم يُشِرْ إليه، ولم يلتزمه، أو سكت عنه، ولم يذكره بالتزام ولا منعٍ، أو صرّح بمنع التلازم بينه وبين قوله. فالصحيح أنّ نسبة القول إليه تقويلٌ له ما لم يقل، ولا يُلزَم بما لم يَلْتَزِمه، ولا يؤاخذ به، إذ «لاَ يُنْسَبُ لِسَاكِتٍ قَوْلُ قَائِلٍ »؛ لأنّه قد يصدر منه ما يلزمه، وهو ذاهلٌ عن فساد اللاّزم، ولو كان قريبًا، لقصور علم المخلوق وعدم عصمته. وعليه؛ فإنّه بهذا الاعتبار لا يضاف إليه قول، ولا يقوَّل ما لم يقل، لكن غاية ما يستفيده من معرفة اللاّزم فسادَ قول الخصم، وتناقضَه، ولا يتعدّى به إلى التكفير؛ لأنّ التكفيرَ بالمآل تقويلٌ وافتراءٌ يفتقر إلى دليلٍ شرعيٍّ يُسنِده، قال ابنُ تيمية -رحمه الله-:« ولو كان لازم المذهب مذهبًا للزم تكفيرُ كلِّ من قال عن الاستواء وغيرِه من الصفات إنّه مجازٌ ليس بحقيقة، فإنّ لازم هذا القول يقتضي أن لا يكون شيء من أسمائه أو صفاته حقيقة »(3).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 14 رمضان 1428ه
الموافق ل: 26 سبتمبر 2007م
__________
1- مثل أن يقال لمن يثبت وزن الأعمال في الآخرة، يلزمك القول بجواز وزن الأعراض، فيصرّح بإثبات اللاّزم أو يلتزمه أو أنّه لا يمنع من التزامه بعد ظهوره، كان يقول: إنّ أحوال الآخرة مختلف عن أحوال الدنيا، واللهُ تعالى على كلّ شيء قدير، ثمّ أنّه لا يمنع ذلك لما علم وجود في عصرنا موازين للحرارة والبرودة والإضاءة وغيرها من الأعراض. فهذا اللاّزم حقّ يضاف إليه.
2- انظر:« القواعد المثلى » للعثيمين: (15).
3- «مجموع الفتاوى » لابن تيمية: (20/217).(2/25)
الفتوى رقم: 847
في موقف المسلم من الجهات المموِّلة لِمشاريع الفساد
السؤال:
لا يخفى عليكم أنَّ بعض المتعاملين في مجال الاتصالات الهاتفية يعمل على تمويل مشاريع الفساد ومحاربة الجِلباب الشرعيِّ، ونحو ذلك، وذلك بتخصيص جزءٍ من ميزانيته لتجسيد الإباحية بأسفلِ معانيها، تقصُّدًا للإفساد الدِّيني والخُلقي لمجتمعنا المسلم، وقد تمَّ التصريح بهذه النوايا جِهارًا.
فالرجاءُ من -شيخنا- حفظه اللهُ، التكرُّم ببيان موقف المسلم منها، وتوجيهه لكيفية التعامل مع هذه الجهات؟ وجزاكم اللهُ خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعدُ:
فالمسلمُ لا ينبغي له أن يرضى بأي مسلكٍ مُناقِضٍ للشريعة ولا بأيِّ دعوةٍ تهدف إلى نشر الفساد في الأرضِ وإفسادِ المجتمع، ونشرِ الرذيلة، وتعميمِ الشُّرور والمهالك، سواء تعلَّق الأمر بالعقيدة أو بالأخلاق والقِيَمِ الإسلامية من أيِّ الجهات الداعية لها، وفي أي بلدٍ كان الفساد، ?وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ? [البقرة: 205]، والمعلومُ أنَّ المساس بدِين المسلم وعقيدتِه أعظم اعتداءً وجُرمًا من المساس بنفسه وماله وعِرضه، فالدِّين أَوْلَى الكُلِّيات الخمس في مقاصد التشريع، لذلك فالتعاون على الإثم والعدوان محرَّمٌ، لقوله تعالى: ?وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ? [المائدة: 2]. وحَرِيٌّ بالتنبيه أنَّ التغيير بترك التعامل مع مَن هذا غرضُه ومَقصَدُه، والسعي للانتقال من السيِّءِ إلى الحسن لهو عمل بالمعروف ونهيٌ عن المنكر، لقوله تعالى: ?كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ? [آل عمران: 110]، ولقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« مَنْ رَأَى مِنكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ »(1).
والمسلمُ في كلِّ أحواله يسعى جاهدًا لتحقيق أسباب العِزَّة الدِّينية، بتجنُّب الرذيلة والانتقال إلى الفضيلة التي هي من مطالب الشرع تبرئةً للدِّين، وصيانةً للمسلمين، وحفظًا لأخلاقهم من كلِّ أسباب الفساد والفتنةِ.
ولا يصلح أن يُتَرْجَمَ معنى هذا الانتقال بالقطيعة؛ لأنَّ أمرها مُناطٌ بالإمام الحاكِمِ الذي بيده سلطة القرار، والسلطةُ التقديرية فيمَن يتعاملون معه في تقويم مصالح العباد والبلاد، لكن الذي نملكه -والحال هذه- تقديم النصيحة لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمعَ وهو شهيد، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« الدِّينُ النَّصِيحَةُ، قُلْنَا لِمَنْ، قَالَ: للهِ، وَلِرَسُولِهِ وَلِكِتَابِهِ، وَلِلأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ »(2).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 16 صفر 1429ه
الموافق ل: 23/02/2008م
__________
1- أخرجه مسلم في «الإيمان »، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان: (177)، وأبو داود في «الصلاة »، باب الخطبة يوم العيد:(1140)، والنسائي في «الإيمان وشرائعه »، باب تفاضل أهل الإيمان: (5008)، وابن ماجه في «إقامة الصلاة »، باب ما جاء في صلاة العيدين: (1275)، وأحمد في «مسنده »: (11068)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
2- أخرجه مسلم في «الإيمان »، باب بيان أن الدين النصيحة: (205)، وأبو داود في «الأدب »، باب في النصيحة: (4946)، والترمذي في «البر والصلة »، باب ما جاء في النصيحة: (1926)، والنسائي في «البيعة »، باب النصيحة للإمام: (4214)، وأحمد في «مسنده »: (17403)، والحميدي في «مسنده »: (875)، من حديث تميم الداري رضي الله عنه.(2/26)
الفتوى رقم: 848
في توضيح ما أشكل من فتوى:« حكم امتحان الناس بقضايا التجريح »
السؤال:
بعد قراءة جوابكم المعنون ب:« في حكم امتحان الناس بقضايا التجريح » علَّق عليه بعضُ طلبة العلم بأنَّ الأشخاصَ المتكلَّم فيهم ليسوا طبقةً واحدة، فمنهم السُّنِّيُّ السلفيُّ المظلومُ الذي لم يناقِض أصولَ أهلِ السُّنَّة والجماعةِ، ولكنَّه وقع منه الزلل على وجه الخطأ في التفريع على أصول أهل السُّنَّة والجماعة وكان له سلفٌ فيما ذهب إليه -حقًّا أو زعمًا- فهذا الذي لا يُشتغَلُ بالردِّ عليه، ولا يجوز امتحان الناس به، ومنهم الذي يَتعبَّدُ بالبدع وينصرها ويدعو إليها فهذا لا يجوز للسني أن يُثْنِيَ عليه، فضلاً عن الدفاع عنه والإرجاف على الرادِّين عليه، وفي مثله تتنزَّل أقوال السلف من مثل:« مَنْ وَقَّرَ صَاحِبَ بِدْعَةٍ فَقَدْ أَعَانَ عَلَى هَدْمِ الإِسْلاَمِ »(1)، فنرجو منكم شيخنا زيادةَ بيانٍ وتوضيحٍ، ليزول الإشكال؟ وفَّقكُمُ اللهُ لِمَا فيه رضاه.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فما ذُكِرَ في استفساركم أقول بموجبه لكن المسألة ليست في تصنيف الأشخاص المتكلَّم فيهم، وإنَّما تتجلَّى في تفعيل أسئلةٍ لأهل السُّنَّة في قضايا التجريح وغيرِه على وجه الامتحان طمعًا في تصيُّد مخالفتهم لمشايخهم أو لترجيحاتهم، فيُشكِّلوا بها عثراتٍ وسَقَطاتٍ ويُقدِّموها لمشايخهم -على وجه التحزُّب لهم والتعصُّب لآرائهم- للتجهيز والفصل، طمعًا للوصول إلى زلزلة منصبهم الأدبي وتأليب الناس عليهم، فوسيلةُ الأسئلة الفخاخية أنموذجٌ سلبيٌّ يُحدِثُ العداوةَ والبغضاءَ، وتُفضي نتيجتُهُ إلى تَصدُّعِ أركانِ الأُخوَّة الإيمانية وتشتيتِ الشَّمْلِ، والغايةُ بهذه المفاسد محرَّمةٌ شرعًا -بلا شكٍّ- وهذا المعنى الذي قصدته من «حكم امتحان الناس بقضايا التجريح »، قال ابنُ تيمية -رحمه الله-:« وليس لأحدٍ أن ينصب للأمة شخصًا يدعو إلى طريقته، ويوالي ويعادي عليها، غير النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، ولا ينصب لهم كلامًا يوالي عليه ويعادي، غير كلام الله ورسوله وما اجتمعت عليه الأُمَّة، بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصًا أو كلامًا يفرِّقون به بين الأُمَّة، يوالون به على ذلك الكلام أو تلك النِّسبة ويعادون »(2)، وقال في موضعٍ آخر:« وليس للمعلِّمين أن يحزِّبوا الناسَ ويفعلوا ما يُلْقِى بينهم العداوة والبغضاءَ، بل يكونون مثل الإخوة المتعاونين على البِرِّ والتقوى، كما قال تعالى: ?وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ? [المائدة: 2] »(3).
ومن جهة مقابلة فإنَّ من عُرِفَ بمواقفه المناقضة لمتابعة الرسول صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم ويدعو إلى ما يخالفه ويضادّ الحقّ، فإنَّ الحريص لا يُقْصِرُ حياتَه في الاشتغال به إلاَّ على وجه التِّبيان، ثمَّ التحذير والتعريف والهجر بضوابطه على وَفْقِ عقيدة «الولاء والبراء »، لكن بعد تحقُّق الغرض في حقِّه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالواجب أن يشتغل بما يُصلِحُ به عقيدتَه ويصحِّح عبادتَه ويزكِّي أخلاقَه، ويهذِّبها عن قبائح الأمور ورذائلها، مِصداقًا لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« مِنْ حُسْنِ إِسْلاَمِ المرْءِ تَرْكُهُ مَا لاَ يَعْنِيهِ »(5).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في:16 صفر 1429ه
الموافق ل: 23 فيفري 2008م
__________
1- أخرجه اللالكائي في:« شرح أصول اعتقاد أهل السُّنة والجماعة »: (1/139)، عن إبراهيم بن ميسرة.
2- «مجموع الفتاوى » لابن تيمية: (20/164).
3- المصدر السابق: (28/15-16).
4- المصدر نفسه: (3/415).
5- أخرجه الترمذي في «الزهد »: (2487)، وابن ماجه في «الفتن »: (4111)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه مالك في «الموطإ »: (1638)، وأحمد: (1758)، من حديث حسين بن علي رضي الله عنه. وحسَّنه النووي في «الأذكار »: (509)، وصحَّحه أحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد »: (3/177)، والألباني في «صحيح الجامع »: (5911).(2/27)
الفتوى رقم: 892
في أدلة مشروعية دفع الصائل
السؤال:
نود من شيخنا أن يذكر لنا أدلة مشروعية دفع الصائل، وحكمه الشرعي؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فمسألة دفع الصائل وهو ما يعرف بالدفاع الشرعي الخاص، مشروع ليحمي الدافع نفسه أو عرضه أو ماله، أو يحمي نفس غيره أو عرضهم أو أموالهم لقوله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا »(1) ويكون ذلك بدفع كل اعتداءٍ حالٍ غيرِ مشروعٍ بالقوة اللازمة لدفع ذلك الاعتداء.
ويدلّ على مشروعية دفع الصائل قوله تعالى: ?فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ? [البقرة: 194]، وقوله تعالى: ?وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ? [النحل: 126]، وما رواه سعيد بن زيد رضي الله عنه مرفوعا:« مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ »(2)، وبما رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه جاء رجل إلى النبي صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم فقال:« يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي؟ قَالَ: فَلاَ تُعْطِهِ مَالَكَ. قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِي؟ قَالَ: قَاتِلْهُ. قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي؟ قَالَ: فَأَنْتَ شَهِيدٌ. قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُهُ؟ قَالَ: هُوَ فِي النَّارِ »(3)، وفي حديث آخر لأبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قال:« لَوْ أَنَّ امْرَأً اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ فَخَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ »(4)، وفي حديث عمران بن حصين رضي الله عنه قال :« قَاتَلَ يَعْلَى بْنُ مُنْيَةَ أَوْ بْنُ أُمَيَّةَ رَجُلاً فَعَضَّ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَانْتَزَعَ يَدَهُ مِنْ فَمِهِ فَنَزَعَ ثَنِيَّتَهُ فَاخْتَصَمَا إِلَى النَّبِيِ صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم فَقَالَ: أَيَعَضُّ أَحَدُكُمْ كَمَا يَعَضُّ الفَحْلُ، لاَ دِيَةَ لَهُ »(5).
والعلماء يتفقون على أن دفع الصائل واجب على المدافع حال الاعتداء على العرض لأنّه لا سبيل إلى إباحته، ولكنهم يختلفون في دفع العدوان على النفس والمال، وسبب اختلافهم يرجع إلى أنّ الدفاع عن النفس والمال أهو حق أم واجب؟ ولا يخفى أن الحق يقابله الواجب وكلاهما يختلف عن الآخر في طبيعة حكمه، فالحق يجوز فعله ولا يأثم صاحبه ولا يعاقب على تركه بينما الواجب محتم لازم فعله ويأثم صاحبه ويعاقب على تركه، وأن فعله -في الأصل- لا يُعدّ جريمة سواء أدى الواجب أو استعمل الحق، لأنّ حكم الفعل -في حدّ ذاته- مباح، والتفرقة بين الحق والواجب من هذه الجهة متفق عليها.
ويفترق الحق عن الواجب من جهة أخرى، وهي أن الحق مقيّد بشرط السلامة أي أن صاحب الحق مسئول دوما عن سلامة المحل الذي باشر عليه حقه لكونه مخيّرا بين الفعل والترك، بخلاف الواجب فلا يتقيّد بشرط سلامة المحل الذي مارس عليه واجبه لكونه ملزما بتأدية الواجب على الوجه المطلوب، وهذه التفرقة بينهما مختلف فيها قال بها الأحناف والشافعية خلافا لما عليه الأمر بالنسبة لمذهبي مالك وأحمد -رحمهم الله- من أن الحق كالواجب لا يتقيّد بشرط السلامة، ذلك لأن استعمال الحق عمل مباح ولا تتحدَّد المسئولية على المباح.
والرأي المعتبر في دفع الصائل عن النفس والمال أن تكييف الفعل كماهية أنّه حق جائز مطلقا سواء في حالة الفتنة أو غير الفتنة، وليس واجبا، ويدلّ عليه قوله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« سَتَكُونُ بَعْدِي أَحْدَاثٌ وَفِتَنٌ وَاخْتِلاَفٌ، فَإِن اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ عَبْدَ اللهِ المقْتُولَ لاَ القَاتِلَ فَافْعَلْ »(6) فالحديث يدل على جواز الاستسلام في النفس والمال بالأولى، أما حديث «فَلاَ تُعْطِهِ »(7) فحمول نهيه على غير التحريم، وقد روى أبو موسى الأشعري في حديث له في الفتن:« قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: كُونُوا أَحْلاَسَ بُيُوتِكُمْ »(8)، وهذا الحديث وغيره ممّا يدلّ على عدم وجوب الدفاع عن النفس، ويدلّ من جهة أخرى على ترك القتال عند ظهور الفتن، والتحذير من الدخول فيها، ويؤيد ما ذكر عن عمل عثمان بن عفان رضي الله عنه حيث صحّ أنّه منع عبيده أن يدفعوا عنه وكانوا أربعمائة، وقال:« من ألقى سلاحه فهو حر »(9)، فترك القتال مع إمكانه وهو يعلم أنّ الثوار يريدون نفسه.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 01 شعبان 1419ه
الموافق ل: 20 نوفمبر 1998م
__________
1- أخرجه البخاري في «صحيحه » كتاب المظالم، باب أعن أخاك ظالما أو مظلوما: (2311)، والترمذي في «سننه » كتاب الفتن: (2255)، من حديث أنس رضي الله عنه.
2- أخرجه أبو داود في «سننه » كتاب السنة، باب في قتال اللصوص: (4772)، والترمذي في «سننه » كتاب الديات، باب ما جاء فيمن قتل دون ماله فهو شهيد: (1418)، من حديث سعيد بن زيد رضي الله عنه. وأخرجه البخاري في «صحيحه » كتاب المظالم، باب من قاتل دون ماله: (2348)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
3- أخرجه مسلم في «صحيحه » كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره بغير حق كان القاصد مهدر الدم...: (360)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
4- أخرجه البخاري في «صحيحه » كتاب الديات، باب من اطلع في بيت قوم ففقؤوا عينه فلا دية له: (6506)، ومسلم في «صحيحه » كتاب الآداب، باب تحريم النظر في بيت غيره: (5642)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
5- أخرجه البخاري في «صحيحه » كتاب الديات، باب إذا عض رجلا فوقعت ثناياه: (6497)، ومسلم في «صحيحه » كتاب القسامة والمحاربين، باب الصائل على نفس الإنسان أو عضوه إذا دفعه المصول عليه...:(4366)
6- أخرجه أحمد في «المسند »: (21993)، والحاكم في «المستدرك »: (8578)، من حديث خالد بن عرفطة رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في «الإرواء »: (8/104).
7- سبق تخريجه.
8- أخرجه أبو داود في «سننه » كتاب الفتن والملاحم، باب في النهي عن السعي في الفتنة: (4262)، والحاكم في «المستدرك »: (8360)، وأحمد في «مسنده »: (19163)، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في «صحيح الترغيب والترهيب »: (2742).
9- قال ابن حجر في «التلخيص الحبير » (4/86):« لم أجده وفي بن أبي شيبة من طريق عبد الله بن عامر سمعت عثمان يقول إن أعظمكم عندي حقا من كف سلاحه ويده ».(2/28)
الفتوى رقم: 893
نصيحة إلى أصحاب التسجيلات الإسلامية
السؤال:
سيقدُم بعضُ الإخوة على فتح محلٍّ لبيع الأشرطة الدينية، فما هي النصيحة التي تقدِّمونها لهم، وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فنصيحتي لأهل التسجيلات أن يُوظِّفوا منهجَ أهل السُّنَّةِ في حقِّ المخالفين لمنهج الحقِّ، آخذين بعين الاعتبار الضوابطَ والآدابَ التي يجب مراعاتها لتحقيق الواسطية بين المغالاة والمجافاة، ومن أجلِّها: إخلاص العمل لله تعالى، وحسن النية، بأن تكون الدوافعُ والبواعثُ مُتَّجهةً نحوَ تحقيقِ المصلحة الشرعية، كعمل يُتقرَّب به إلى الله تعالى، إذ مِن شرط قَبول العمل: الإخلاص والمتابعة، مُبعدين العداوةَ الدنيويةَ، ومجتنبين حظوظَ النفس ومسالك الهوى في النفس، وأن يكونوا وسيلةً لمحاربة البِدع في الدِّين ونبذها والتحذير منها لمناقضتها لأحد شَرْطَيِ العبادة: وهو المتابعة للرسول صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، وذلك بنشر كتب أهل السُّنَّة وتوزيع أشرطتهم، ومحاصرة كتب المخالفين لمنهج الحقِّ وتطويق آرائهم وشبهاتهم، صيانةً لقلوب المسلمين، وحمايةً لعقولهم منها، وأن يطيعوا العلماءَ الربانيِّين العدولَ من توجيهاتهم ونصائحهم وتحذيراتهم التي بيَّنوا فيها أخطاء المخالفين لمنهج الحقِّ، وانحرافهم عن النصوص الشرعية والأصول المعتمدة، ومن قواعد أهل العلم أن لا يُبَدَّع أحدٌ من أهل السُّنَّة و لا يُحكَم بخروجه من أهل السُّنَّة بمجرَّد خطئه سواء في المسائل العلمية أو العملية..
وأخيرًا، فإنَّ المسلم مأمورٌ بالتعاون على نشر السُّنَّة وإقامتها وتوسيع دائرة الفضيلة، فإنَّ ذلك من التعاون على البِرِّ والتقوى، كما أنَّه مأمورٌ بالامتناع عن التعاون على نشر البدعة لما فيها من ضلال وهلاك وإثمٍ وفسادٍ، والمرءُ بحَسَب تعاوُنِه، وتتعدَّى نتائجُ تعاونه إلى الغير نفعًا أو ضرًّا، فضيلةً أو رذيلةً، قال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« مَنْ دَعَا إِلى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لاَ يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلى ضَلاَلَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لاَ يَنْقُصُ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا »(1).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 25 ربيع الثاني 1429ه
الموافق ل: 1 ماي 2008م
__________
1- أخرجه مسلم في «صحيحه » كتاب العلم، باب من سنّ سنة حسنة أو سيّئة: (6804)، وأبو داود في «صحيحه » كتاب السنّة، باب لزوم السنة: (4609)، والترمذي في «صحيحه » في العلم، باب فيمن دعا إلى هدى: (2674)، وابن ماجه: في «صحيحه » كتاب المقدّمة، باب من سنّ سنة حسنة: (206)، وأحمد في «مسنده »: (8915)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(2/29)
الفتوى رقم: 899
في حدود التعامل المنيع
السؤال:
بلغنا كلام الشيخ -حفظه الله- في إحدى الشركات العابثة بالقيم الإسلامية، وللعلم أنَّ هذه الشركة لها مجموعة من المصانع والخدمات ونحوهما، فهل يُلحق الجميع بكلام الشيخ؟ أفيدونا جزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فاعلم أنَّ الأُمَّة أجمعت على وجوب إنكار المنكر وعدم الرِّضا بالفساد والإفساد، وكُلٌّ بحَسَبِ طاقته، لقوله تعالى: ?كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ? [آل عمران: 110]، وقوله تعالى: ?وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ? [التوبة: 71]، ولقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« مَنْ رَأَى مِنكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ »(1).
وعليه، فالنشاط التجاري لأيِّ مؤسَّسة أو شركة إن كان عملها مشروعًا في ذاته لكن عُلم بتصريح أصحابها وترويج روَّادها بأنها تعمل على تغذية الفساد وتدعيم سُبُله أو إحلاله محلَّ القيم الإسلامية في المجتمع، فإن كان نوعُ نشاطها المشروعِ يشاركه غيرُها من شركات مماثلة لها فالواجب التعبير عن إنكار المنكر بالتخلِّي عنها إلى غيرها، بحسب إمكانيته وقدرته، أَمَّا إن كان نوعُ نشاطها تنفرد به السوق وحاجةُ الناس إليه مُلحَّة ومؤكَّدة، فالتعامل معها إنما يكون في حدود الحاجة؛ لأنَّ «الحَاجَةَ تُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الضَّرُورَةِ عَامَّةً كَانَتْ أَوْ خَاصَّةً »، والحاجات كالضرورات تقدَّر بقدرها، مع قيام الإنكار القلبي الذي يُعَدُّ من الفروض العَينية التي يُكلَّف بها كُلُّ مسلمٍ ولا يسقط بحالٍ، وعدم الرضا بالخطيئة؛ لأنَّ الرضا بالخطئية يُفوَّتُ به إنكار القلب، أَمَّا مشاركةُ الشركات مع الدولة في إنشاء المصانع وبناء المجمعات السكنية ونحوها فلا يمنع من العمل فيها إن كانت مشروعة الأصل؛ لأنه إذا كانت المشاريع الإنمائية للدولة لا تستغني عن البنوك الربوية -في عموم الأحوال- مع ذلك يصحُّ العمل -ضرورة- في تلك المصانع والمؤسَّسات الإدارية والتربوية ونحوها -وَفق ضابط الحاجة السالف البيان- فلأنْ يعمل مع غيرها من بابٍ أَوْلَى.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 28 ربيع الثاني 1429م
الموافق ل: 04 ماي 2008م
__________
1- أخرجه مسلم في «صحيحه » كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان: (177)، وأبو داود في «سننه » كتاب الصلاة ، باب الخطبة يوم العيد: (1140)، والنسائي في « سننه » كتاب الإيمان وشرائعه، باب تفاضل أهل الإيمان: (5008)، وابن ماجه في «سننه » كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في صلاة العيدين: (1275)، وأحمد في «مسنده »: (11068)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.(2/30)
الفتوى رقم: 914
في حكم تقسيم الشريعة إلى ثوابت ومتغيرات
السؤال:
نريد معرفةَ ما يتردَّد على ألسنة بعض الأساتذة مِن أنَّ الشريعة تنقسم إلى ثوابتَ ومُتغيِّراتٍ؟ فهل هذا التقسيمُ صحيح؟ أفيدونا جزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فتقسيمُ الدِّين الإسلاميِّ إلى ثوابتَ ومُتغيِّراتٍ باطلٌ، لا يُعرف له أصلٌ في الشرع، والمعلوم أنَّ الله تعالى أكملَ أحكامَه وشرعَه ودِينَه بنبيِّه صلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، وتمَّت نعمتُه واستقرَّت، فدِينُ الله كلُّه حقٌّ ثابتٌ ?لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ?، وليس لأحدٍ أن يُغيِّرَ شيئًا منه أو يبدِّلَ أو يزيدَ عليه أو يُنقصَ منه؛ لأنَّ الشريعة كاملةٌ غيرُ منقوصةٍ، وتامَّةٌ لا تحتاج إلى زيادة المبتدعين واستدراكاتِ المستدركين، وقد أتمَّ اللهُ هذا الدِّينَ فلا ينقصه أبدًا، ورضيه فلا يَسْخَطُهُ أبدًا، كذا ينبغي أن يكون عليه إيمان المسلم الصادق، قال تعالى: ?الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا? [المائدة: 3]، وقال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« وَأَيْمُ اللهِ لَقَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى مِثْلِ البَيْضَاءِ لَيْلُهَا وَنَهَارُهَا سَوَاءٌ »(1).
هذا، وإن أُريد بالمتغيِّرات آراءُ المجتهدين الذين يبذلون الوسعَ في النظر في الأدلة الشرعية لاستنباط الأحكام الشرعية منها، فقد يُغيِّر الرأيَ في المسألةِ المجتهَدِ فيها أو في حقِّ نازلةٍ يبْحَث فيها في محاولةٍ للكشْفِ عن حُكمها الشرعيِّ، فإنه يجوز للمجتهِد تغييرُ رأيِهِ وتبديلُ اجتهادِه، والعدولُ عنه إلى قولٍ آخرَ اتباعًا للدليلِ الشرعي، والقولُ بالمتغيِّرات بهذا الوجهِ هو محمَلُ هؤلاء الأساتذة؛ لأنَّ المجتهِد لا يصحُّ أن يقطع بصواب قوله وخطأِ مَن خالفه، فيما إذا كانت المسألة محتملة، إلاَّ أنَّ الجدير بالتنبيه والتذكيرِ في باب الاجتهاد أنَّ آراء المجتهِد وأنظارَه وأقوالَه لا يُسمَّى تشريعًا، فإنَّ التشريع هو الكتاب والسُّنَّة، أمَّا الاجتهاد فهو رأيُ الفقيه أو حُكم الحاكم، وقد قال النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم لأمير سرية:« وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ فَلاَ تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ، فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللهِ فِيهِمْ أَمْ لاَ »(2).
فالحاصل: أنه كما أنَّ اجتهادات المجتهدين لا تنقسم إلى ثوابتَ ومتغيِّرات؛ لأنَّ المسائل الاجتهادية ظنِّيةٌ في الغالب، لا يُقطع فيها بصحة القول وخطئه، فهي قابلةٌ للتغيير متى كانت مخالفةً للدليل الشرعي، فليس في اجتهاداتهم ثوابتُ، بل هي من المتغيرات، وبالعكس فأحكام الله قضايا تشريعية يقينية يجزم فيها بحكم الله تعالى، فهي حقٌّ ثابتٌ لا يقبل التغيير ولا التبديلَ، ولذلك فنسبة الثوابت والمتغيرات للدِّين غيرُ صحيحٍ، وإضافتها إلى المجتهدين غير سليمٍ.
وأخيرًا، نلفت النظر إلى أنه بواسطة تسمية الحقِّ بغيره تأتي مثل هذه العبارات يتشوَّف بها أهل الأهواء تسلُّلاً للوصول إلى تمييع الدِّين وصرف الناس عن الحقِّ، ?وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ? [المؤمنون: 71].
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 22 جمادى الأولى 1429ه
الموافق ل: 27 ماي 2008م
__________
1- أخرجه ابن ماجه في «سننه » كتاب المقدمة، باب اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (5)، من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، والحديث حسنه الألباني في «السلسلة الصحيحة »: (688)، وفي «صحيح الجامع »: (9).
2- أخرجه مسلم «صحيحه » كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصية إياهم بآداب الغزو وغيرها: (4522)، وأبو داود في «سننه » كتاب الجهاد، باب في دعاء المشركين: (2612)، والترمذي في «سننه » كتاب السير، باب ما جاء في وصيته في القتال: (1617)، وأحمد في «مسنده »: (22521)، من حديث بريدة الأسلمي رضي الله.(2/31)
الفتوى رقم: 969
في حكم مظهر السياحة
السؤال:
هل السياحةُ في الأرض والخروج منها وتركُ الأهل والأوطان، طريقٌ مشروعٌ في الإسلام أم مرفوضٌ؟
الجواب:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فليس في ترك الأهل والأمصار والبلدان والهِيام في الأرض من الدِّين الإسلامي، ولا هو طريقُ عبادةٍ مشروعةٍ في شيءٍ، بل هو أحد مظاهر التصوُّفِ، الذي لم يُؤْثَرْ مسلكه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم ولا عن صحابته الكرام، ولا من تبعهم بإحسان، اللهمَّ إلاَّ إذا كان الخروج لطلب العلم النافع لقوله تعالى: ?فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ? [التوبة: 122]، أو الخروج للدعوة إلى الله على بصيرة بحَسَب حجم الإمكانيات والقدرة، من غير تقييدٍ بأيامٍ كأربعين يومًا، لقوله تعالى: ?قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ? [يوسف: 108]، إذ طلب العلم فريضةٌ والعلم لا يتأتَّى إلاَّ بالتعلُّم، ولا يحصل بالإلهام، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «إِنَّمَا العِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ وَالحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، وَمَنْ تَحَرَّ الخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَّقِ الشَّرَّ يُوقَهُ»(1).
وعليه، فالخروج من غير اعتبارٍ بطلب العلم أو الدعوة إلى الله بالحُجَّة والبرهان مرفوضةٌ لا يُسنِدها دليلٌ شرعيٌّ، فضلاً عن أنَّ السياحةَ والخروجَ يُشغل عن طلب العلم، ويُفتر الهِمَّة فيه، ولا يخفى أنَّ العمل بدون علمٍ ضلالٌ.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 03 المحرم 1430ه
الموافق ل: 31 ديسمبر 2008م
__________
1- أخرجه الطبراني في «المعجم الأوسط»: (3/118)، والبيهقي في «شعب الإيمان»: (7/398)، من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه. وأخرجه ابن الجوزي في «العلل المتناهية»: (1/85)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث حسّنه الألباني في «السلسلة الصحيحة»: (1/670).(2/32)
في شرط الرؤيا الصالحة والعمل بها
الفتوى رقم: 973
السؤال:
تُروَّجُ بين آونة وأخرى رسالةٌ يزعم صاحبها -بعدما ختم القرآن- أنّه رأى في منامه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وحدّثه بأنه: « في هذا اليوم مات من الدنيا ستة آلاف (6000) مسلم ولم يدخل أحد منهم الجنة، فالزوجات لا تطعن أزواجهن، والأغنياء لا يساعدون الفقراء، والناس لا تؤدي المناسك المطلوبة منهم، والمسلمون لا يصلّون الصلوات بانتظام، كلٌّ على حدة، والشيخ أحمد يتولى لكم هذا...» الخ يدّعي مروجوها أنه من لم يطبعها ولم يوزعها على خمس وعشرين شخصا ولم يبال بها لن يرى الخير بعد ذلك، وأن من طبعها ووزعها سوف ينال الأجر. كما زعم أنّ شخصا اعتنى بها وكان لا يعمل فرُزِق بعمل، وأن آخر كان عاملا أهملها فضيّع عمله ومنصِبَه.
فنرجو منكم بيان ما مدى صحة الرؤيا المنامية؟ وما حكم نشر هذه الرسالة؟ وجزاكم الله خيرا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فاعلم أن من شرط الرؤيا الصالحة أن تتجلى صلاحيتها في عدم مخالفتها للمعتقد السليم وللحكم الشرعي الصحيح، وأن تكون من الرجل الصالح، وهذه الشروط غير متحققة الوقوع في الرسالة المزعومة، ولا مضامينُها مطابقة للمنهج السليم، ويظهر بطلانها أن المدعي «صاحب الرسالة» مجهول العين لا يُعلم صلاحُه وتقواه من ضلاله ودجله، وأمّا قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ رَآني في المنَامِ فَقَدْ رَآني، فَإِنَّ الشَيْطَانَ لاَ يَتَمَثَّلُ بِي»(1) فإنّ رؤيته صلى الله عليه وآله وسلم في المنام لا تكون حقا إلا إذا وافقت صورتَه وصفتَه التي كان عليها في الدنيا، فقد قصَّ رجل على ابن سيرين أنه رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له: «صف لي الذي رأيته»، فإن وصف له صفة لا يعرفها قال: «لم تره»(2).
وعليه، فالحكم بأحقيةِ ما رآه النائم من صورة النبي صلى الله عليه وآله وسلّم يجب أن تحصل المشابهة في صورته الحقيقية بأوصافها الخِلقية والخُلقية التي جمعتها السنن والآثار في الجملة، فإن وقعت المخالفة في أحدِ الأوصاف المعروفة أو في مجموعها فلا تكون إلاّ أضغاث أحلام سببها تلاعب الشيطان بابن آدم، ذلك لأنّ الشيطان لا يتمثّل بصورة النبي صلى الله عليه وآله وسلّم الحقيقية، وإنما يتمثّل في صورة أخرى يُخيَّل للرائي أنها صورةُ النبي صلى الله عليه وآله سلم وليست كذلك، ومن جهة أخرى كيف يأمن العبدُ أن تكون رؤيا صالحةً، أو يكونَ هو من الصالحين وهو أمر لا يُعرف إلاّ بموافقة الشرع، لذلك فلا عصمة فيما يراه النائم، ويلزمه -والحال هذه- عرض ما رآه على الشرع فإن وافقه فالحكم بما استقرّ عليه الشرع، إذ أحكامُ الشريعة وأصول الدين غير موقوفةٍ على ما يُرى في المنامات، وإن خالف الشرع رُدَّ مهما كان حال الرائي أو المرئي، ويُحكم على تلك الرؤيا بأنها حُلم من الشيطان، وأنها كاذبة وأضغاث أحلام.
وإذا تقرر هذا المسلك فإنّ هذه الرسالة المزعومة شطحةٌ صوفيةٌ لا ينبغي تصديقُها، ناهيك عن اعتقاد محتواها أو تنفيذ مضمونها بالطباعة والتوزيع، والتزامُ العمل بمثل هذه الرؤيا المخالفة للمُتيقَّن من الشرع إنّما هو عمل بالظنون والأوهام، فكيف يترك المتيقّن للموهم؟
وبناء عليه: فإنّ تنفيذ مضامين هذه الرسالة أو العمل بمقتضاها المخالف للشرع ما هو إلاّ اعتقاد كامن في أنّ الشريعة قابلةٌ للنسخ بالرؤى المنامية، وهو -بلا شك- إقرارٌ ضمني بتجديد الوحي بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو باطل بإجماع المسلمين.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 09 المحرم 1430هـ
الموافق لـ: 06 جانفي 2009م
__________
1- أخرجه البخاري كتاب العلم، باب إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (110)، وفي كتاب الأدب، باب من سمى بأسماء الأنبياء: (6179)، ومسلم كتاب الرؤيا: (6056)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2- علّقه البخاري: (3/449)، قال الحافظ ابن حجر في «الفتح»: (12/465): «وقد رويناه موصولاً من طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي وسنده صحيح»، وانظر: «السلسلة الصحيحة»: (6-1/517).(2/33)
****************** 03- فتاوى الطهارة *****************
01- المياه والنجاسات
الفتوى رقم: 33
الجمع بين حديث الماء طهور وحديث القلتين
السؤال: وجود تعارض بين حديث أبي سعيد "الماء طهور لا ينجسه شيء"(1) وحديث القلتين(2) فكيف يمكن الجمع بينهما ؟.
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فإنّه يظهر التعارض بين حديث القلتين وحديث أبي سعيد فيما إذا بلغ الماء مقدار القلتين فصاعداً بناء على مفهوم العدد، فإنّه لا تحُلّه النّجاسة ولا يؤثر الخبث على هذا المقدار، ولا يخرجه عن كونه مطهراً إلاّ إن تغيّر ريحه أو طعمه أو لونه فينجس بالإجماع على ما نقله ابن المنذر وابن الملقّن(3) فالإجماع إذن مخصِّص للحديثين فيما إذا تغيّر أحد أوصافه بالمشاهدة وضرورة الحسّ، قليلاً الماء كان أو كثيراً، والتخصيص بالإجماع لا يُعرف خلاف فيه(4).
أمّا إذا كان الماء دون القلتين فوقعت فيه نجاسة وغيّرت أحد أوصافه خرج عن الطهارة بالإجماع السابق، ومفهوم المخالفة ( دليل الخطاب)(5) من حديث القلّتين فالإجماع ومفهوم المخالفة _عند من يقول بحجيّته_ يخصّصان عموم حديث أبي سعيد " الماء طهور لا ينجسه شيء"(6) أمّا إذا لم يتغير الماء بملاقاة النجاسة فهاهنا يبدو التعارض بين الدليلين في نظر المجتهد لمَظِنَّة حمل الخبث، فإنّ حديث القلّتين يدلّ على عدم طهورية الماء بملاقاة النجاسة، عملاً بما يقتضيه دليل الخطاب، مؤيّدا بخبر الاستيقاظ والولوغ وغيرهما، في حين أنّ حديث أبي سعيد يدلّ بعمومه على عدم خروجه عن الطهارة لمجرد ملاقاتها، ومنشأ الخلاف يرجع إلى مسالة أصولية متمثلة في جواز التخصيص بمفهوم المخالفة للعموم الوارد(7)، فمن أجاز تخصيص العموم بدليل الخطاب عمل به و عضده ببقيّة الأدلة الحديثية المتمثلة في حديث الاستيقاظ(8) وحديث الماء الدائم(9) وحديث ولوغ الكلب والأمر بإراقة الإناء إذا ولغ الكلب فيه(10)، فإنّ هذه الأحاديث تقضي بأنّ قليل النجاسة بنجّس قليل الماء وهي قرائن تقوّي المفهوم السابق.
ومن منع تخصيص العموم بمفهوم المخالفة عمل بحديث أبي سعيد وقوّاه بحديث الأمر بصب ذنوب من ماء على بول الأعرابي في المسجد(11).
وفي تقديري أنّ ما يجب قبل النظر في التخصيص بالمفهوم، النظر في إمكانية الجمع أولاً، ثمّ في حجيّة المفهوم ثانيا؛ أمّا الجمع بين مفهوم حديث القلتين وبين سائر الأحاديث ممكن إذا ما حملنا الخبث المخرج عن الطهورية هو وذلك الموجب لتغيّر أحد أوصاف الماء أوكلّها، فلا يحمل ما كان دون القلّتين على الخبث إذا لم يتغيّر، إذ أنّ هذا الحمل لا يستلزم النجاسة، ولا يخرجه عن صفة كونه مطهّراُ، إلاّ ذلك المقدار الذي وقعت فيه النجاسة قد يحملها دون بقية الماء، أمّا إذا استلزم تغيّر أحد أوصافه أو كلّها فهذا الخبث مخرِج عن الطَهورية، وموجب للنجاسة عملا بالإجماع السالف الذكر، ومن هنا يتحقق التوافق بحمله على الخبث الخاص.
وعلى فرض تعذر الجمع، وجب النظر في حجّية المفهوم، وما عليه جمهور الأصوليين القول بحجية مفاهيم المخالفة ما عدا مفهوم اللقب(12) خلافا لمن أنكره كأبي حنيفة والظاهرية، وبهذا قال أبو بكر القفّال وأبو العباس ابن سُريج والقاضيان أبو حامد المروزي والباقلاّني وأبو الوليد الباجي وغيرهم، وهو اختيار الآمدي(13).
ولا يخفى أنّ إنكار حجّية المفهوم يستوجب عدم جواز تخصيص اللّفظ العام به، فإن سبب الخلاف في ترجيح أحدهما على الآخر يرجع لاعتبار كون المفهوم دليلا خاصّا والخاص يرجّح على العام أو يقدّم العموم عليه، لعدم حجّية المفهوم، أو ضعفها أمام قوة دلالة العموم، وعندي أنّ العموم أقوى، ذلك لأن دلالة العام قطعية على أصل المعنى، مع الاختلاف على دلالته على أفراده، بينما حجّية مفهوم المخالفة محل خلاف بين أهل العلم، فتقديم المتفق عليه أولى من المختلف فيه، وما كان دلالته قطعية أولى مما كانت دلالته ظنية، ولأن اللفظ إذا وضع للعموم فهو على مرتبة واحدة يجب اعتقاده والعمل بمقتضاه، بخلاف مفهوم المخالفة، فإن الظنون المستفادة منه متفاوتة قوة وضعفا، بتفاوت مراتبه، فضلا عن أنّ العموم منطوق مقدّم على المفهوم حال التعارض، فهو أقوى منه دلالة، وعليه فإن المفهوم لا يقوى على معارضة العموم من حيث الحجّية ولا من حيث الترجيح.
ومن جهة أخرى فإنّ من شرط العمل بمفهوم المخالفة -عند القائلين به- أن لا يقع ذكره جوابا لسؤال، فالتخصيص بالذكر في هذه الحالة لا يدل على اختصاصه بالحكم دون المسكوت عنه(14)، غير أنّ الذي يُعكّر عليه عدم ذكر المقدار في السؤال في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- وعلى من احتج بالتفريق بين قليل الماء وكثيره فلا يقال بأنّ خبر الاستيقاظ والنهي عن البول في الماء الدائم وخبر الولوغ أدلة تقوِّي مذهب التفريق، لأنّها -بغض النظر عن وقوعها في معارضة عموم حديث أبي سعيد وحديث بول الأعرابي- فلا تدل على المطلوب، وليست واردة لبيان حكم نجاسة الماء بل إنّ علتها لم تدرك فورود الأمر باجتنابها ثبت تعبُّدا لا لأجل النجاسة، وإن سلّمنا بالنجاسة فغاية ما يدل النهي في هذه الأحاديث على الكراهة، ولا تخرج عن كونها مطهِّرة، تقييدا بما تقدم لأن التعبُّد إنّما هو بالظنون الواقعة على الوجه المطابق للشرع، قال ابن رشد:" وأحسن طريقة في الجمع بين الأحاديث، هو أن يحمل حديث أبي هريرة وما في معناه على الكراهة، وحديث أبي سعيد وأنس [أي حديث بئر بُضاعة] على الجواز، لأنّ هذا التأويل يُبقي مفهوم الأحاديث على ظاهرها"(15) والعمل بعموم حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- مذهب مالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه وهو مروي عن جمع من الصحابة.
فالحاصل أنّ الماء يبقى طاهرا ومطهِّرا، ولا يخرجه عن الوصفين إلا ما غيّر ريحه أو لونه أو طعمه من النجاسات، وهو أظهر الأقوال وأرجحها.
والله أعلم، وآخر دعوانا أن الحمد الله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين.
__________
1- أخرجه الشافعي (1/20) وأحمد (3/15، 86) وأبو داود(1/55) كتاب الطهارة باب ما جاء في بئر بضاعة، والترمذي (1/95رقم96) أبواب الطهارة باب ما جاء أن الماء لا ينجسه شيء، والنسائي(1/174) كتاب المياه باب ذكر بئر بضاعة، والبيهقي (1/4، 5)، والبغوي (1/60) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وهو صحيح بطرقه وشواهده، انظر التلخيص الحبير لابن حجر (1/13، 14)، والمجموع للنووي(1/82)، وإرواء الغليل للألباني (1/45) رقم (14).
2- أخرجه الشافعي في مسنده 7، والدارمي في سننه (1/187)، وأبو داود(1/51) كتاب الطهارة باب ما يُنَجِس الماء(رقم:63)، وابن ماجه كتاب الطهارة باب مقدار الماء الذي لا ينجس، والترمذي(1/97) أبواب الطهارة باب ما جاء أنّ الماء لا ينجسه شيء، والنسائي(1/175) كتاب المياه باب التوقيت في الماء، وابن خزيمة في صحيحه (1/49)، والدارقطني في سننه (1/14) والطحاوي في شرح معاني الآثار(1/15)، عن ابن عمر رضي الله عنهما عن أبيه قال :"سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وسلم عن الماء وما ينوبه من الدواب والسباع فقال صلى الله عليه وسلم :" إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث".
3- نقل النووي في المجموع (1/110) والحافظ عنه في التلخيص (1/15) إتفاق المحدثين على تضعيف الزيادة "إلا ما غلب على ريحه أو لونه أو طعمه "، ولكن وقع الإجماع على مدلولها، انظر: الإجماع لابن المنذر: (19) ، البدر المنير لابن الملقّن: (1/59)، نصب الراية للزيلعي: (1/94)، التلخيص الحبير لابن حجر(1/14 - 16)، قال في البدر المنير(1/59):" فتلخّص أنّ الاستثناء المذكور ضعيف فتعيّن الاحتجاج بالإجماع كما قال الشافعي والبيهقي وغيرهما".
4- إرشاد الفحول للشوكاني: (160) شرح الكوكب المنير للفتوحي: (3/369)، مذكّرة الشنقيطي.
5- قال الفُتوحي:"وإنّما سُمِّيّ بذلك لأنّ دلالته من جنس دلالات الخطاب، أو لأنّ الخطاب دالّ عليه، أو لمخالفته منظوم الخطاب" (شرح الكوكب المنير: 3/489).
6- نيل الأوطار(1/57)، السيل الجرّار للشوكاني (1/55).
7- يجوز تخصيص اللفظ العامّ بالمفهوم مطلقا سواء كان مفهوم موافقة أو مخالفة، عند الجمهور القائلين بالعموم و المفهوم، خلافا للأحناف والظاهرية، قال ابن دقيق العيد:"قد رأيت في بعض مصنّفات المتأخّرين ما يقتضي تقديم العموم". انظر هذه المسألة في: العُدّة لأبي يعلى (1/578)، البرهان للجويني (1/449)، المستصفى للغزالي (2/105)، المحصول للرازي(1/3/13)، روضة الناظر لابن قدامة (2/167)، الإحكام للآمدي (2/153)، شرح تنقيح الفصول للقرافي (215)، شرح الكوكب المنير للفتوحي (3/366)، فواتح الرحموت للأنصاري (1/353)، إرشاد الفحول للشوكاني (160).
قلت ينبغي إخراج تخصيص العموم بمفهوم الموافقة عن محلّ النزاع، لأنّ دلالته قطعية، بخلاف مفهوم المخالفة.
8- أخرجه مالك في الموطّإ (1/43-44)، والشافعي في مسنده (10)، وابن أبي شيبة في مصنّفه (1/98)، والبخاري (1/263)، ومسلم (3/178)، وأبو داود (1/78)، وابن ماجة (1/139)، والترمذي (1/36)، والنسائي (1/7)، والدارقطني (1/49)، والبغوي في شرح السنة (1/406) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعا:"إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتّى يغسلها ثلاثا، فإنه لا يدري أين باتت يداه".
9- أخرجه البخاري: (1/346) بلفظ "لا يُبال في الماء الدائم الذي لا يجري ثمّ يُغسَل فيه"، ومسلم(3/187) ولفظه "ثمّ يُغسل منه"، والترمذي (1/100) ولفظه "ثمّ يُتوضَّأ منه" من حديث أبي هريرة.
10- متّفق عليه: أخرجه مالك في الموطّإ (1/55)، والشافعي في مسنده (7-8) وفي الأم (1/6)، وأحمد في مسنده (2/245، 460)، والحميدي في مسنده (2/428)، والبخاري (1/274)، ومسلم (3/182)، وابن ماجه (1/130)، والنسائي (1/52)، وابن خزيمة في صحيحه (1/51)، والبيهقي في سننه الكبرى (1/240) من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة -رضي الله عنه- وهذا الحديث له طرق عديدة كلّها صحيحة (انظر: التلخيص الحبير لابن حجر(1/23، 39)، إرواء الغليل للألباني (1/60)، طريق الرشد لعبد اللطيف (22)).
11- أخرجه الشافعي(1/23)، وأحمد (2/239)، والبخاري(1/322، 323)، ومسلم (3/190)، وأبو داود (1/264)، والترمذي (1/275) من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
12- مفهوم اللقب هو "تعليق الحكم بالاسم" ، وحجّيته منتفية عند الجمهور، ولهذا قال الغزالي:" وقد أقرّ ببطلانه كلّ محصّل من القائلين بالمفهوم"، خلافا لمن أجازه، وهو قول بعض الشافعية والحنابلة، كما نُسب القول إلى ابن خويز منداد وابن القصّار من المالكية.(انظر: العدّة لأبي يعلى (2/475)، شرح اللمع للشيرازي (1/441)، المستصفى للغزالي(2/204)، روضة الناظر لابن قدامة (2/224)، الإحكام للآمدي (2/231)، شرح تنقيح الفصول للقرافي (271) ، تقريب الوصول لابن جزي (89)، فواتح الرحموت للأنصاري (1/432)، مفتاح الوصول للتلمساني (566)، إرشاد الفحول للشوكاني (182)).
13- انظر: شرح اللمع للشيرازي (1/428)، الإحكام لابن حزم (7/2)، إحكام الفصول للباجي (514)، البرهان للجويني(1/449)، المستصفى للغزالي(2/204)، روضة الناظر لابن قدامة (2/203)، الإحكام للآمدي (2/214)، مفتاح الوصول للتلمساني (556)، فواتح الرحموت للأنصاري(1/414)، إرشاد الفحول للشوكاني (179).
14- انظر: منتهى السول لابن الحاجب (149)، بيان المختصر للأصفهاني(2/446)، القواعد والفوائد للبعلي (292)، نهاية السول للإسنوي (1/430)، الإبهاج للسبكي وابنه (1/371)، جمع الجوامع لابن السبكي (1/246)، شرح العضد(2/174)، مفتاح الوصول للتلمساني (557)، شرح الكوكب المنير للفتوحي (3/392)، فواتح الرحموت للأنصاري (1/414)، إرشاد الفحول للشوكاني (180)، نشر البنود للعلوي (1/98)، مذكّرة الشنقيطي (241).
15- بداية المجتهد لابن رشد (1/26).(3/1)
الفتوى رقم: 449
في طهارة المني وطرق تنظيفه
السؤال: ما هي الكيفية الثابتة في السنة في تنظيف المني؟ وهل هو نجس؟ وهل يصح الأثر الذي رواه الإمام مالك دليلا على نجاسة المني ونصه كما يلي: عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ أَنَّهُ اعْتَمَرَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِى رَكْبٍ فِيهِمْ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَرَّسَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ قَرِيبًا مِنْ بَعْضِ الْمِيَاهِ فَاحْتَلَمَ عُمَرُ وَقَدْ كَادَ أَنْ يُصْبِحَ فَلَمْ يَجِدْ مَعَ الرَّكْبِ مَاءً فَرَكِبَ حَتَّى جَاءَ الْمَاءَ فَجَعَلَ يَغْسِلُ مَا رَأَى مِنْ ذَلِكَ الاِحْتِلاَمِ حَتَّى أَسْفَرَ فَقَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ أَصْبَحْتَ وَمَعَنَا ثِيَابٌ فَدَعْ ثَوْبَكَ يُغْسَلُ. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَاعَجَبًا لَكَ يَا عَمْرُو بْنَ الْعَاصِ لَئِنْ كُنْتَ تَجِدُ ثِيَابًا أَفَكُلُّ النَّاسِ يَجِدُ ثِيَابًا وَاللَّهِ لَوْ فَعَلْتُهَا لَكَانَتْ سُنَّةً بَلْ أَغْسِلُ مَا رَأَيْتُ وَأَنْضِحُ مَا لَمْ أَرَ(1).
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فاعلم أنَّ كلاً من المسح والغسل والفرك ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ففي حديث عائشة رضي الله عنها قالت:" وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي أَفْرُكُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرْكًا فَيُصَلِّي فِيهِ"(2) فقد كانت رضي الله عنها تحكُّه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يابسًا بظفرها كما ثبت في رواية أخرى(3)، أمَّا المسح فقالت:" كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْلُتُ الْمَنِي مِنْ ثَوْبِهِ بِعِرْقِ الإِذْخِرِ ثُمَّ يُصَلِّى فِيهِ وَيَحُتُّهُ مِنْ ثَوْبِهِ يَابِساً ثُمَّ يُصَلِّي فِيهِ"(4) وهذا يدلُّ على طهارة المني، إذ لو كان نجسًا لما صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ثوبه، أمَّا الأحاديث الثابتة في غسل مَنِيِّهِ فمنها قول عائشة رضي الله عنها :" كُنْتُ أَغْسِلُ الْجَنَابَةَ مِنْ ثَوْبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، فَيَخْرُجُ إِلَى الصَّلاَةِ، وَإِنَّ بُقَعَ الْمَاءِ فِي ثَوْبِهِ"(5)، فلا تدل على النجاسة وإنما تدل على الندب والأفضل لأنَّ الرجل يحبُّ أن لا يرى على ثوبه أثر المني، وذلك إنما يكون لأجل التنظيف وإزالة القذر والدرن فأشبه بالبزاق والمخاط ونحوهما فإنه يكره بقاؤها على ثياب المصلي وليست نجسة، ولو كان نجسًا لما صحَّ المسح والفرك كما تقدم، فالجمع إذن أن يحمل الغسل على الاستحباب للتنظيف لا على الوجوب كما ذكره ابن حجر في الفتح(6).
وإذا تقرر ذلك فلا يخرج عن هذا المعنى ما سيق في السؤال من أثر.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 7 جمادى الأولى 1427ه
الموافق ل: 3 يونيو 2006م
__________
1- أخرجه مالك في الطهارة (115)، وعبد الرزاق في "المصنف" في الصلاة (1447) من حديث يحيى بن عبد الرحمان بن حاطب رحمه الله.
2- أخرجه مسلم في الطهارة (694)، والبيهقي (4334)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
3- أخرجه مسلم في الطهارة (700)، والبيهقي (4340)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
4- أخرجه ابن خزيمة في صحيحه (294)، وأحمد (26812)، والبيهقي (4343)، من حديث عائشة رضي الله عنها. وحسنه الألباني في إرواء الغليل (1/197).
5- أخرجه البخاري في الوضوء(229)، والنسائي في الطهارة (297)، وابن حبان في صحيحه (1381)، والبيهقي (4350)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
6- فتح الباري لابن حجر: 1/417(3/2)
الفتوى رقم: 801
في حكم لعاب المولود وريقه وقيئه
السؤال:
ما حكم لُعابِ ورِيقِ المولود وقيئه؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالأصلُ فِي الأَشْيَاءِ الطَّهَارَةُ؛ فرِيقُ المَوْلُودِ ولعابُه وقيئُه طاهرٌ بل قَيْءُ الآدَمِيِّ طاهرٌ.
ولا دليلَ على نجاستِه، ولم يُنقل عن ذلك ناقلٌ صالح للاحتجاج أنّه محمولٌ على النجاسة، بل هو طاهرٌ، والصبيُّ يَقِيءُ كثيرًا، ولعابُه وريقُه لا يزال يسيل على من يربِّيه فهي مسألةٌ تعمُّ بها البلوى، ومع ذلك لم يأمر الشارع بغسل الثياب في ذلك، ولا منع الصلاة فيها، ولا أمر من التحرُّز من ريق الطفل.
أمّا الإجماع المنقول على نجاسة قيء الآدمي فهي دعوى منقوضة بمخالفة ابن حزم(1)، حيث صرَّح بطهارة قيء المسلم، كما أنَّ الشوكاني لم يعدَّ القيءَ من النجاسات بل رجَّحَ طهارةَ قيءِ الآدميِّ مُطلقًا؛ لأنَّ الأصلَ الطهارةُ فلا ينقل عنها إلاَّ ناقلٌ صحيحٌ لم يُعَارِضْهُ ما يساويه أو يقدِّمه عليه(2).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 9 ربيع الأول 1428ه
الموافق ل: 28 مارس 2007م
__________
1- «المحلى » لابن حزم (1/183).
2- «الروضة الندية » لمحمد صديق خان: (1/118)، «السيل الجرار » للشوكاني: (1/43(3/3)
الفتوى رقم: 908
في تعيُّن التراب والغسلات السبع في تطهير ولوغ الكلب
السؤال:
هل يجوز غسل الإناء الذي وَلَغَ فيه الكلبُ بغير التراب؟ وإذا جاز فهل يُغسل سبع مرَّات أيضًا؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فلا يجزي عن التراب المطهِّراتُ والمزيلاتُ الأخرى، ويتعيَّن التراب وسبع غسلات تعبُّدًا لمورد النصِّ في قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولاَهُنَّ بِالتُّرَابِ »(1)، والواجب اتباع النصِّ، إذ لو قام غيرُه مقامَ التراب لبيَّنه النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، والأُشنان وغيرُها من المطهِّرات كانت موجودةً في زمنه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، ?وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا? [مريم: 64]، ولعلَّه -من جهة أخرى- أنَّ اختيار الشارع التراب دون غيره لوجود مادة لها خاصية في قتل الجراثيم التي تخرج من لعاب الكلب، أو لحِكَمٍ أخرى في التراب تحصل للإنقاء دون غيره من المزيلات لم ندرك عِلَّتها، ولذلك ما ثبت تعبّدًا يجب الوقوف على مورد النصِّ والتقيُّد به على وجه الاحتياط والاستبراء للدِّين، وإذا تقرَّر هذا الحكم فلا محلَّ للجزئية الثانية من السؤال.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 15 جمادى الأولى 1429ه
الموافق ل: 20 ماي 2008م
__________
1- أخرجه مسلم في «صحيحه » كتاب الطهارة، باب حكم ولوغ الكلب: (651)، في «سننه » كتاب الطهارة، باب الوضوء بسؤر الكلب: (71)، والترمذي في «سننه » كتاب الطهارة، باب ما جاء في سؤر الكلب: (91)، والنسائي في «سننه » كتاب المياه، باب تعفير الإناء بالتراب من ولوغ الكلب فيه: (338)، وأحمد في «مسنده »: (9227)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه(3/4)
الفتوى رقم: 967
في ثنائية تقسيم المياه
السؤال:
هل المياه تنقسم إلى: طهور، وطاهر، ونجس أم إلى: طهور ونجس. أريد من فضيلتكم أن تبينوا لي أي القسمتين أصح ؟ وجزاكم الله خيرا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فاعلم أن «الطاهر» من القسمة الثلاثية لا وجود له في الشريعة، إذ لم ترد به الأخبار مع توفر الدواعي إلى نقله لو كان ثابتا، وذلك لحاجة الناس إلى معرفته، لأنه إمَّا أن يتطهر بهذا الماء فهو طهور أو يعدل عنه إلى التيمم، فتبيَّن ثنائية قسمة المياه إلى: طهور ونجس. فما تغير بنجاسة فهو نجس، وما لم يتغير بنجاسة فهو طهور، وهذا مذهب أبي حنيفة وأحمد في رواية صوَّبها ابن تيمية رحمهم الله جميعا(1).
هذا، ويدل عليه عموم قوله تعالى: ?فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً? [النساء:43] فهو شامل للماء المطلق والمقيّد والمستعمل وغيره، لأنّ لفظ «الماء» في الآية نكرة في سياق النفي تعم كل ما هو ماء لا فرق بين نوع وآخر، ولأنه صلى الله عليه وآله سلم عندما سُئل عن ماء البحر قال: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الحِلُّ مَيْتَتُهُ»(2) ومع حصول تغيير طعم البحر وشدة ملوحيته سماه طهورا، وما كان دونه في التغير أولى بهذا الاسم، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أمر بغسل المُحرم الذي وقصته دابته بماء وسدر»(3) كما «أَمَرَ النَّبيُّ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِغسْلِ ابْنَتِهِ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ»(4) فلو كان التغيير بالسدر المضاف يُفسد الماء وينقله إلى طاهر غير مُطهِّر لم يأمر به، وكذلك ما روته أم هانئ رضي الله عنها « أَنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ اغْتَسَلَ وَمَيْمُونَة مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ في قصْعَةٍ فِيهَا أَثَرُ العَجِينِ»(5) وهذا يدل على أن الماء المتغيِّر بالطاهرات كالعجين والسِّدر والأُشنان والصابون لا يؤثر في طهوريته مادام يُسمَّى ماءً سواء كان التغيير أصلياً كماء البحر أو طارئا عليه بفعل فاعل كوضع الملح فيه أو التمر أو نحو ذلك، وسواء كان التغيير يشق الاحتراز منه أو لا يشق، ما لم يغلب على الماء أجزاء غيره، وهذا هو المذهب الصحيح في المسألة -إن شاء الله- خلافا لمذهب مالك والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه (6)
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 27 من ذي الحجة 1429ه
الموافق ل: 25 ديسمبر 2008م
__________
1- المغني لابن قدامة: 1/12. مجموع الفتاوى لابن تيمية: 19/236. 21/24،25. بدائع الصنائع للكساني: 1/15.
2- أخرجه أبو داود: كتاب الطهارة، باب الوضوء بماء البحر: (83)، والترمذي: كتاب الطهارة، باب ما جاء في ماء البحر أنه طهور: (69)، والنسائي: كتاب الطهارة، باب ما جاء في ماء البحر أنه طهور: (59)، وابن ماجه: كتاب الطهارة وسننها، باب الوضوء بماء البحر: (386)، وأحمد: (8855)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال ابن عبد البر في «الاستذكار» (1/185): «اختلف العلماء في هذا الإسناد فقال محمد بن عيسى الترمذي: سألت البخاري عنه فقال: حديث صحيح» وصححه أيضا: ابن الملقن في «البدر المنير»: (9/383)، والألباني في «الإرواء»: (1/42).
3- أخرجه البخاري: كتاب الجنائز، باب الكفن في ثوبين: (1206)، ومسلم: كتاب الحج: (2891)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
4- أخرجه البخاري: كتاب الجنائز، باب يجعل الكافور في آخره: (1200)، ومسلم، كتاب الجنائز: (2168)، من حديث أم عطية رضي الله عنها.
5- أخرجه النسائي كتاب الطهارة، باب ذكر الاغتسال في القصعة التي يعجن فيها: (240)، وابن ماجه: كتاب الطهارة وسننها، باب الرجل والمرأة يغتسلان من إناء واحد: (378)، وأحمد: (26356)، من حديث أم هانئ رضي الله عنها. والحديث صححه النووي في «الخلاصة»: (1/67)، والألباني في «الإرواء»: (1/64).
6- «الكافي»: لابن عبد البر: 15. «المغني»: لابن قدامة: 1/12. «منهاج الطالبين»: للنووي:3.(3/5)
02- الوضوء
الفتوى رقم: 36
في اعتبار الخارج غير المعتاد ناقضا
السؤال: إذا خرج ناقض الوضوء من غير مخرجه المعتاد (من البطن مثلا) فهل يعتبر ناقضا؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فالأصل المقرّر في نواقض الوضوء هو اعتبار المخرجين والصفة أي: ما يخرج من السبيلين (القبل والدّبر)، مع مراعاة صفة الخروج، فإنّ ما يخرج منهما على وجه المرض كسلس البول، وفقعات الريح، ونحوهما فلا ينقض وضوء تلك الصلاة، وعليه أن يجدّد الوضوء لكلِّ صلاة إلحاقا قياسيا بالمستحاضة في قوله صلى الله عليه وآله وسلم لها:" تَوَضَئِي لِكُلِّ صَلاَةٍ "(1).
أمّا إذا خرج من غير سبيله المعتاد كالبول يخرج من السّرّة مثلا، فلا يعدّ ذلك ناقضا للوضوء لعدم خروجه من المخرجين المعتادين، إلاّ على مذهب الحنفية الذين يرون أنّ الناقض للوضوء باعتبار الخارج من أيِّ مكان ويدخل فيه المخرجان، والصحيح الأول.
هذا، واللافت للنظر أنّ من تحوّل سبيله المعتاد إلى سبيل آخر اعتاده ينتقل الحكم إليه كمن يُجعل له كيس يتبرّز فيه من بطنه في عمليّة جراحيّة بدلاً من محلّ دبره، فحكم هذا أنّه يتوضّأ لكلّ صلاة كالمستحاضة لأنّ خروج الغائط منه على وجه المرض.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما.
الجزائر في: 11 جمادى الثانية 1426ه
الموافق لـ: 17جويلية 2005م.
__________
1- أخرجه البخاري في الوضوء (228)، وأبو داود (298)، والترمذي في الطهارة (125)، وابن ماجه في الطهارة وسننها (667)، وأحمد (26429)، من حديث عائشة رضي الله عنها.(3/6)
الفتوى رقم: 38
في حكم المسح على خفين من حرير
السؤال: إذا لبس الرجل خفين من حرير لمرض برجليه، فهل يجوز أن يمسح عليهما؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وآله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما، أمّا بعد:
فيجوز أن يمسح على الخفين أو النعلين أو التساخين أو اللفائف مادام اسمه باقيا، والمشي عليه ممكنا، وحكم الحرير للمريض بالحكة جائز للرجال ما دامت العلة قائمة، وهو مرخص له في لبس الحرير وفي المسح عليه، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:« إنَّ اللهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ"(1)، فإذا زال مرضه وعلته، فإنّ حكم تحريم الحرير على الرجال يعود بناء على قاعدة:" إذا زال الخطر عاد الحظر"، وإذا مسح على خفيه من حرير من غير مرض ولا علة فهو آثم لارتكابه النهي في قوله صلى الله عليه وآله وسلم:« إِنَّ هَذَيْنِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِى حِلٌّ لإِنَاثِهِمْ"(2) يعني الذهب والحرير، لكن وضوءه يصح لانفكاك جهة الأمر والنهي.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلم تسليما.
الجزائر في: 12 صفر 1427ه
الموافق ل: 12 مارس 2006م
__________
1- أخرجه أحمد (6004)، والبيهقي (5623)، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. وصححه أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (8/135)، والألباني في إرواء الغليل (564).
2- أخرجه ابن ماجه في اللباس (3726)، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وصححه الألباني في صحيح الجامع (2274).(3/7)
الفتوى رقم: 182
في معنى إطالة الغرة والتحجيل
السؤال: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته في حديث لرسول الله صلى الله عليه و سلم إن الأمة سيبعثون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء وقال:" إنّه من استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل". فهل المقصود هنا أن يطيلها العبد في الزمن أم أن يزيد في غسل الأعضاء على المقدار الواجب شرعا (كما هو الأمر عند السيد سابق في كتابه فقه السنة) وهل تنصحوننا بالقراءة له (سيد سابق ) أفتونا مأجورين بارك الله فيكم وفي سعيكم . والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته .
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فالحديث يفيد استحباب زيادة غسل الوجه إلى مقدم الرأس ويسمى إطالة الغرة وغسل ما فوق المرفقين والكعبين ويسمى إطالة التحجيل على نحو ما ورد في مضمون سؤالكم، وقد أخرج مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه:" أنّه توضأ فغسل يديه حتى أشرع في العضدين، وغسل رجليه حتى أشرع في الساقين، ثمّ قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ"(1)، وعنه قال:" سمعت خليلي صلى الله عليه وآله وسلم يقول:تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء"(2).
أمّا كتاب فقه السنة للسيد سابق فإن كان مصحوبا في قراءته ومدارسته بكتاب "تمام المنة" للشيخ الألباني-رحمه الله- فحسن لما فيه من تعليقات جيدة ومفيدة على فقه السنة، تخريجا، وتصحيحات، وفقها، وتصويبا.
والعلم عند الله وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في:21صفر 1426هـ
الموافق لـ:31 مارس 2005م
__________
1- أخرجه مسلم في الطهارة (602)، والبيهقي(365).
2- أخرجه مسلم في الطهارة(609)، وأحمد(9075)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(3/8)
الفتوى رقم: 304
في صحة تعداد القيء والرعاف من نواقض الوضوء
السؤال: ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما قال (إذا رعف الرجل أوذرعه القيء أو وجد مذيا فإنه ينصرف فيتوضأ ثم يرجع فيبني على ما مضى إن لم يتكلم)(1)، هل القيء والرعاف من نواقض الوضوء؟ وما هو الحكم المستنبط من قوله رضي الله عنه (فيبني على ما مضى)؟. وجزاكم الله خيرا.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فالأصل استصحاب الوضوء حتى يثبت انتقاضه، والحديث الوارد في السؤال ضعيف لا يحتجّ به، أمّا حديث " أنّه قاء فتوضّأ"(2) فغاية ما يدلّ عليه مشروعية الوضوء واستحبابه لمن قاء، لأنّ الأصل في أفعال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم إذا لم تكن لبيان مجمل ووَرَدَتْ قربة فإنّها تحمل على النّدب والزيادة عليه تحتاج إلى دليل، وكذلك القول في الرّعاف أو خروج الدّم أو الحجامة ونحو ذلك وقد بيّنّا في جواب سابق أنّ الصحابة رضي الله عنهم كانوا يصلّون في جراحاتهم ودمائهم(3).
هذا، ويتفرّع عن هذه المسألة أنّ الأحناف يوجبون البناء على من رعف أو قاء في الصلاة، بمعنى أنّ ما أدركه مع الإمام قبل الانصراف يعتدّ به عند الائتمام به من جديد ويبني عليه عملاً بمقتضى حديث عائشة رضي الله عنها الذي لم يعمل به الجمهور لضعفه(4)، لذلك يرون بحتمية الإعادة عليه.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
الجزائر في: 25 رجب 1426ه
الموافق لـ: 30 أوت 2005م
__________
1- أخرجه مالك في الطهارة (78)، والبيهقي في الصلاة (3517) قريبا من هذا اللفظ.
2- أخرجه أبو داود(2381)، والترمذي(87) وهو صحيح انظر" الإرواء"(111).
3- أخرجه البخاري معلقا عن الحسن البصري رحمه الله (1/336). ووصله ابن أبي شيبة بسند صحيح كما في الفتح(1/337) .
4- وقد ضعفه الألباني في ضعيف سنن ابن ماجه تحت رقم ( 225).(3/9)
الفتوى رقم: 415
في حكم من شك في طهارته
السؤال: رجل يعاني من خروج قطرة أو قطرات صغيرة جدًّا بعد الاستنجاء، ولا يعلم هل هي من البَوْلِ أو بقايا ماء الاستنجاء، مما أورثه شكًّا في طهارته، فما هو الحل الشرعي لمشكلته ؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فإنه إذا تمّ استنجاؤه وفرغ منه فلا عبرة بالشكّ الذي ينتابه بعد حصول اليقين جريًا على قاعدة أنّ « اليقين لا يزول بالشكّ ».
أمَّا إذا تيقن خروج البول منه، فإمّا أن يكون على سبيل المرض، وهو من سلس البول، فإنه يجب عليه الوضوء لكل صلاة، ولا يعتدّ بما خرج منه، فإن لم يشعر بخروج شيء منه بقي على وضوئه مستصحبًا له.
أمّا إذا تيقن خروجه على غير وجه المرض، فإنه يعيد الوضوء عملاً بقاعدة:« من تيقن الطهارة وشكّ في الحدث فهو متطهِّر، أو من تيقَّن في الحدث وشكَّ في الطهارة فهو مُحْدِث » فهذه القاعدة مُخَرَّجة على أنّ الأصل:« بقاءُ ما كان على ما كان ».
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليمًا.
الجزائر في: 01 ذو القعدة 1426ه
الموافق ل: 03 ديسمبر 2005م(3/10)
الفتوى رقم: 562
في حكم المسح على القلنسوة
السؤال: هل يجوز المسح على القَلنسوة قياسًا على المسح على العمامة؟ وهل المسح على العمامة يشترط فيه ما يشترط في المسح على الخف؟ أفيدونا مأجورين.
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فقد ثبت في السنّة جواز المسح على العِمامة من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال:« إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ تَوَضَأَ فَمَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ وَعَلَى العِمَامَةِ »(1)، وعنه قال:« إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ عَلَى العِمَامَةِ وَمُقَدَّمِ رَأْسِهِ وَعَلَى عِمَامَتِهِ »(2)، وفي حديث بلال رضي الله عنه:« أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ عَلَى الخُفَيْنِ وَالخِمَارِ »(3)، ويجوز له أن يمسح على رأسه تارة، وعلى العمامة تارة، وعلى الناصية والعمامة تارة، ولا يشترط في المسح على العمامة أن تتقدّمها طهارة، ولا يقترن بالمسح توقيت أو تحديد لانتفاء النصّ الشرعي الدالّ على ذلك، وإلحاقها بالمسح على الخفين قياس مع ظهور الفارق؛ لأنّ الخفين والجوربين والنعلين تُلبسُ على عُضْوٍ مغسول بينما العمامة تُلبَس على عضوٍ ممسوح طهارته أخفّ، وإذا تقررتْ مفارقة إلحاق مسح العمامة على الخفّ، فإنّ القَلَنْسُوة تفارق العمامة أيضًا ولا تُلحَق بها في الحُكم، ذلك لأنّ القَلنسوة هي لباس للرأس مختلف الأشكال والأنواع منها: الطاقية والقبعة والطربوش ونحو ذلك، بينما العمامة هي كلّ ما يُلفُّ على الرأس، والأذنان منه كما ثبت من حديث بلال المتقدّم أنه مسح على الخمار والمراد به العمامة -كما قال ابن الأثير في النهاية- لأنّ الرجل يغطي بها رأسه كما أنّ المرأة تُغطِّيه بخمارها وقد جاء من حديث ثوبان «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَمْسَحُوا عَلَى العَصَائِبِ وَالتَّسَاخِينِ »(4)، والمراد بالعصائب كلّ ما يعصّب به الرأس، وإنما رخص في المسح عليها لمشقّة نزعها والقَلنسوة ليست كذلك، فالحاصل أنّ القَلنسوة لا تدخل في حكم العمامة إلاّ إذا كانت ملفوفة على الرأس أو مُدارة على الرقبة أو الحلق لمكان المشقّة في نزعها ثمّ إعادتها.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 2محرم 1427ه
الموافق ل: 1 فبراير 2006م
__________
1- أخرجه مسلم في «الطهارة » (636)، والنسائي في «الطهارة » باب المسح على العمامة مع الناصية (108)، وابن حبان (1346)، وابن خزيمة (1645)، وأحمد (17717)، والطبراني في «المعجم الصغير » (370)، من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
2- أخرجه مسلم في «الطهارة » (634)، وأبو داود في «الطهارة » باب المسح على الخفين (150)، والنسائي في «الطهارة » باب كيف المسح على العمامة (109)، وابن حبان (1346)، وأحمد (17707)، من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
3- أخرجه مسلم في «الطهارة » (637)، والترمذي في «الطهارة » باب ما جاء في المسح على العمامة (101)، والنسائي في «الطهارة » باب المسح على العمامة (104)، وابن ماجه في «الطهارة » باب ما جاء في المسح على العمامة (561)، وابن خزيمة (189)، والبزار في «مسنده » (1358)، من حديث بلال رضي الله عنه.
4- أخرجه أبو داود في «الطهارة » باب المسح على العمامة (146)، وأحمد (21878)، والحاكم (612)، والبيهقي (290)، من حديث ثوبان رضي الله عنه. والحديث قوى إسناده الذهبي في «سير أعلام النبلاء » (4/491)، وصححه الألباني في «صحيح أبي داود » (146).(3/11)
الفتوى رقم: 571
في صحَّة الوضوء على عُضو تعلَّق به دهن زيتي
السؤال: هل يصحُّ الوضوءُ إذا كان على اللحية أو على أحد الأعضاء دُهْنٌ زيتي؟ أفتونا مأجورين، وجزاكم الله خيرًا.
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فالأصلُ في جميع الأعضاء المأمورِ بغسلها أو المسح عليها أن يتحقّق وصول الماء إليها، الأمر الذي يستدعي إزالةَ ما يحول بينها وبين وصول الماء إلى البشرة، لقوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكَعْبَينِ ) [المائدة: 6]، والدُّهْنُ إن كَوَّنَ طبقةً جامِدَةً في مَحَلِّ الوضوء والمسح فالواجبُ لتصحيح الوضوء إزالتُهُ، أمّا إن بقي أثر الدُّهْنِ خفيفًا لا يمنع من وصول الماء إلى البشرة فلا يَلْزَمُ إزالتُه لتصحيح طهارته.
وتقرير هذا التفريق بِحَمل أثر الدهن غير المانع من وصول الماء على خاتم النبي صَلَّى الله عليه وآله وسَلَّم حيث إنه لم يُنقل عنه أنه نَزَعَهُ عند الوضوء أو حَرَّكَهُ في أثنائه فَعُلِمَ أنه لا يلزمُ إزالة ما لا يَمْنَعُ من وصول الماء إلى مواضع الطهارة.
هذا، وتتميمًا للفائدة فإنه يُفَرَّقُ بين اللحية الكثيفة التي تستر البشرة وبين الخفيفة في الوضوء، فإنه لا يجب غسل اللحية الكثيفة إلاّ ظاهرَها فقط، بخلاف الخفيفة فإنه يجب غسلُهَا أو غسلُ ما تحتها. وهذا التفريق غير مُعْتَبَرٍ في الغسل من الجنابة فيجب فيها إيصال الطَّهور إلى ما تحت اللحية ولو اختلفت صفتها من كثيفة أو خفيفة، أمَّا في طهارة التيمم فلا يجب إيصال الطَّهور إلى ما تحت الشَّعر مطلقًا خفيفًا كان أو ثقيلاً.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 19 من ذي القعدة 1427ه
الموافق ل: 10 ديسمبر 2006م(3/12)
الفتوى رقم: 637
في مس الصبي المصحف
السؤال:
هل يجوز للصبي أن يَمَسَّ المُصحفَ من غير وُضوء؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فاعلم أنّ الولدَ إذا كان في بطن أُمِّهِ فهو جنينٌ، فإذا ولدته سُمِّيَ صَبِيًّا، فإذا فطم سُمِّيَ غلامًا إلى سبع سنين، ثمّ يصير يافعًا إلى عشر، ثمّ يصير حزورًا.
والصبيُّ إن كان غيرَ مميِّز -أي: إلى سبع سنين- لا ينبغي لوليِّه أو مُعَلِّمِه أن يُمكِّنَهُ من المصحف خشيةَ امتهانه وانتهاكِه، أمّا إن كان مميِّزًا فلا يجب على الراجح تكليفُه بالطهارة لِحَمْلِ المصحف واللوح ومسّهما، وإنما أبيح له ذلك ضرورة لمشقّة تكليفهم بالطهارة على ما نقله النوويُّ(1)، وفي رواية:« حَتَّى يَكْبُرَ »(3)، وفي أخرى:« حَتَّى يَعْقِلَ »(4).
أمّا الصبيُّ الذي يُقارِبُ البلوغَ فإنه يُلْحَقُ بالبالغِ في الطهارة في مَسِّ المصحف وفي غيرها من التكاليف الشرعية، جَرْيًا على قاعدة:« كُلُّ مَا قَارَبَ الشَّيْءَ أَخَذَ حُكْمَهُ ».
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 23/صفر/1428ه
الموافق ل: 12/مارس/2007م
__________
1- «المجموع » للنووي: (2/69).
2- أخرجه أبو داود في «الحدود »: (4403)، والبيهقي: (5191)، والحاكم: (2350)، وأحمد: (24173)، والبيهقي: (16410)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
3- أخرجه أبو داود في «الحدود »: (4398)، والنسائي في «الطلاق »: (3432)، وابن ماجه في «الطلاق »: (2041)، من حديث عائشة رضي الله عنها، وأحمد: (1364)، من حديث علي رضي الله عنه.
4- أخرجه أبو داود في «الحدود »: (4399)، والبيهقي: (17566)، من حديث علي رضي الله عنه، وأحمد: (24719)، من حديث عائشة رضي الله عنها. والحديث صححه النووي في «الخلاصة »: (1/250)، وقال ابن حجر في «فتح الباري »:(12/124):« له شاهد وله طرق يقوي بعضها بعضاً »، وصححه أحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد »: (2/188)، والألباني في «الإرواء »: (297).(3/13)
الفتوى رقم: 711
في مشروعية الوضوء للمعذور بعد رفع الحدث بالتيمّم
السؤال:
إذا تيمَّمَ المكلَّف لعُذْرٍ مُبِيحٍ، ثمّ أحدث وقدر على الوضوء دون الغسل، فهل يكتفي بالوضوء باعتباره الأصل؟ أم يصير إلى البدل وهو التيمم مجدِّدًا له كلّما أراد الصلاة؟ ومثله إذا تيمّم ولبس الخفين، فهل يجوز المسح عليهما في الوضوء بعد ذلك؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فهذه المسألة مَبْنِيَّةٌ على مسألة:« التَّيَمُّمُ هَلْ يَرْفَعُ الحَدَثَ أَمْ لاَ؟ ».
ويتفرّع عن القول بعدم ارتفاع الحدث بالتيمّم عدم صحّة الوضوء والمسح على الخفّين والوطء قبل الاغتسال، وإنما على المتيمِّم أن ينوي استباحة ما لا يباح إلاّ بالطهارة، وما يقابله يعاكسه في الحكم.
ولعلّ أقرب مذهب إلى الصواب الذي تنتظم فيه الأدلة ويندفع فيه التناقض: يتمثّل في أنّ التيمُّمَ يرفع الحدثَ رفعًا مؤقّتًا، وبه قال الصنعاني، واختاره الشنقيطي؛ للإجماع الحاصل على أنّ الصلاة تصحُّ بالتيمّم كما تصحّ بالماء، فيستلزم ارتفاع صفة الحدث عنه باللزوم الشرعي.
وقد أطلق الشرع عليه تسمية الطَّهور والوَضوء، في قوله تعالى:( فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ ) [المائدة: 6]، وفي الحديث:« جُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا »(1)، وقولِه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« إِنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ وَضُوءُ المُسْلِمِ »(2)، وقولِه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« إِنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ طَهُورُ المُسْلِمِ »(3).
فجعله الشرع بدلاً عن الماء فيأخذ حكمَه، والإجماع الحاصل -من جهة أخرى- على وجوب الاغتسال أو الوضوء بعد زوال العذر، وهذا يدلُّ على أنّ الحدث بقي مطلقًا، لم يرتفع كلية فيتعيّن حالتئذٍ الارتفاع المؤقت.
ولازمُ هذا المذهب يقضي بأنّ المتيمم من الجنابة إن قدر على الوضوء بعد حدثه له أن يتوضّأ كالطاهر ما دام العذر الذي أبيح من أجله التيمّم لا يزال قائمًا، وكذلك يجوز المسح على الخفين في الوضوء بعد تيمّمه ولبسهما، كما يجوز وطء الحائض إذا طهرت وَصَلَّتْ بالتيمُّم للعُذر قبل الاغتسال.
أمّا الاستدلال بقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم لعمرو بن العاص:« صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ؟! »(4) على إثبات بقاء جنابته بعد التيمّم؛ إذ مُقتضى الحديث أنّ جنابتَهُ حاصلةٌ له في نفس وقت الصلاة؛ لأنّ الحال هي كونه جُنُبًا، وعاملها قوله:« صَلَّيْتَ ». فيلزم اتحاد وقت الصلاة مع الجنابة، على ما قرّره أهل اللسان من لزوم اقتران الحال وعاملها في الزمان؛ بمعنى أنّ وقت عامل الحال هو بعينه وقت الحال.
فإنّ هذا الاستدلال لا يُشكِل على ما تقدَّم تقريره من تعيّن الارتفاع المؤقّت، ذلك لأنّ النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم إنما وصفه بالجنابة قبل عِلمه بعُذره المتمثّل في خشية الهلاك والموت بالاغتسال، فلما علم أقرَّه بعذره المبيح للتيمّم، ولم يُلزمه بالإعادة، فظهر جليًّا أنه كان طاهرًا غير جنب حال صلاته بأصحابه.
وعلى فرض التسليم أنه كان جُنُبًا حال صلاته فيمكن حَمل إطلاق هذا الوصف على عدم الارتفاع الكلي، وهذا لا ينفي الارتفاع المؤقت، بأن كان وقت صلاته غير جنب، وبه تتَّحد الأدلة وتتوافق.
والجمع بينها واجب متى أمكن كما تقرّر في أصول الفقه.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 28 ربيع الأول 1428ه
الموافق ل: 15 أبريل 2007م
__________
1- أخرجه البخاري في «أبواب المساجد »، باب قول النبي جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا: (427)، ومسلم في «المساجد »، باب المساجد ومواضع السجود: (1163)، والنسائي في «التيمم »، باب التيمم بالصعيد: (432)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
2- أخرجه أبو داود في «الطهارة »، باب الجنب يتيمم:(332)، والنسائي في «الطهارة »،باب الصلوات بتيمم واحد : (322)، والحاكم في «المستدرك »: (627)، وأحمد (20863)، من حديث أبي ذر رضي الله عنه، والحديث صححه الألباني في «صحيح الجامع »: (3861).
3- أخرجه الترمذي في «الطهارة »، باب ما جاء في التيمم للجنب إذا لم يجد الماء (124)، من حديث أبي ذر رضي الله عنه، والحديث صححه الألباني في «الإرواء »: (153).
4- أخرجه أبو داود في «الطهارة »، باب إذا خاف الجنب البرد أيتيمم: (334)، وأحمد: (17479) من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه، والحديث علّقه البخاري وقوّاه الحافظ في «فتح الباري »: (1/541)، وصحّحه الألباني في «إرواء الغليل »: (1/181).(3/14)
الفتوى رقم: 729
في حكم رفع الإصبع بالتشهد عند الوضوء
السؤال:
هل رفع الإصبع عند الانتهاء من الوضوء مشروع؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فلا أعلمُ مشروعيةَ الإشارةِ بالإصبع في الوضوء على وجه التشهد أو عند الأذانِ بعد الفراغ منهما عند الذِّكْرِ والدعاءِ إلاّ فيما ثبتت مشروعيتُه في جلسةِ التشهُّدِ دونَ الجلسةِ التي بين السجدتين، لحديث الزُّبَيرِ بن العوام رضي الله عنه أنّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« كَانَ إِذَا جَلَسَ فِي الثِّنْتَيِنِ أَوْ فِي الأَرْبَعِ يَضَعُ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ أَشَارَ بِإِصْبَعِهِ »(1)، وفي رواية أحمدَ:« كَانَ إِذَا جَلَسَ فِي التَّشَهُّدِ وَضَعَ يَدَهُ اليُمْنَى عَلَى فَخِذِهِ اليُمْنَى، وَيَدَهُ اليُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ اليُسْرَى وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَلَمْ يُجَاوِزْ بَصَرُهُ إِشَارَتَهُ »(2).
والمعلوم أنّ «الأَصْل فِي العِبَادَاتِ التَّوْقِيفُ »، فلا يشرع منها إلاّ ما شرعه الله تعالى، لقوله سبحانه:( أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللهُ )[الشورى: 21].
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ، وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 6 جمادى الثانية 1428ه
الموافق ل: 21 جوان 2007م
__________
1- أخرجه النسائي في «التطبيق »، باب الإشارة بالأصبع في التشهد: (1161)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (2839)، من حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في «السلسلة الصحيحة »: (2248).
2- أخرجه أحمد في «مسنده »: (15792)، وأخرجه بنحوه: أبو داود في «الصلاة »، باب الإشارة في التشهد: (990)، والنسائي في «السهو »، باب موضع البصر عند الإشارة: (1275)، من حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه، والحديث صححه النووي في «الخلاصة »: (1/427)، وانظر «السلسلة الصحيحة » للألباني: (5/314).(3/15)
الفتوى رقم: 755
في حُكم المسح على خُفَّينِ مَنْزُوعَين ثمَّ لُبسهما على طهارة المسح
السؤال:
هل نزعُ الخُفَّين بعدَ المسح عليهما، ثمّ لُبسهما من جديدٍ بطهارةِ المسح السابقةِ يُعدُّ من نواقض الوضوء؟ وبارك اللهُ فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فجريًا على مقتضى القياس أنَّ نزعَ الخُفَّينِ أو الجوربَين وإعادةَ إدخالهما لا يلزم منه نقضُ الوضوء؛ لأنَّ النَّزْعَ ليس بحَدَث، والطهارةُ لا تَبْطُلُ إلاَّ بالحَدَث، فتعيَّنَ صِحَّةُ الطهارة وصِحَّةُ المسح ما لم تنقض مُدَّة المسح، لكن لم يُنقل عن العلماء -في حدود المعلوم- أنهم أجازوا المسحَ عليهما بعد إدخالهما من غير تعرّض لغسلهما، وحيث إنَّ المسكوت عنه -بالرَّغم من توافر الدواعي على نقله ومرور الأحقاب الزمنية على نشره- ولم يفرض في فروع المسح على الخفين، فالأحوط للدِّين وتبرئة للذِمَّة يُعيد غسلَهما لقوله صَلَّى الله عليه وآله وسَلَّم:« فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ »(1).
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 24 ربيع الثاني 1427ه
الموافق ل: 21 مايو 2006م
__________
1- أخرجه البخاري في «الإيمان » باب فضل من استبرأ لدينه: (50)، ومسلم في «المساقاة »: (4094)، وأبو داود في «البيوع » باب في اجتناب الشبهات: (3330)، والترمذي في «البيوع » باب: ما جاء في ترك الشبهات: (1205)، وابن ماجه في «الفتن » باب الوقوف عند الشبهات: (3984)، والدارمي: (2436)، وأحمد: (17907)، والبيهقي: (10537)، من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.(3/16)
الفتوى رقم: 785
في تحرج وضوء العروس المستعملة للمكياج يوم زفافها
السؤال:
تقوم المرأةُ يومَ زِفافِها بتزيين وجهها بمُختلف المساحيق، وقد يدخل عليها وقت الصلاة، فهل تَمسَحُ على هذه المساحيق للوضوء أو تتيمَّم؟ أم ماذا تعمل؟ علمًا أنّ ذلك يشقُّ عليها.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فأدوات التزيين المرهمية العالمية المشهورة متكوِّنة -بعد التحقيق العلمي- من لُحُوم الأَجِنَّة التي تسقط من أرحام الأُمَّهات بِمُبَرِّر أو بغير مُبَرِّر، ولا شكّ أنّ التجميل بلحم الآدمي لا يجوز. وكذلك يحكم بالمنع فيما إذا كانت المساحيق تضرّ بشرة الوجه بحيث تؤدّي إلى تشويه الوجه وتقبيحه.
أمّا إذا خلا من ذلك فيجب أن تكون صفةُ استعمال هذه المساحيق غيرَ شبيهة بالكافرات ولا بالعاهرات، فإن استعملته دون تَشبُّهٍ بالكافرات ولا بالعاهرات فإنّه يصحُّ تجمّلها به لزوجها، لكنّه مع وجود الماء لا يجوز لها أن تصلِّيَ بالتيمُّم، فلا بُدَّ أن تستعمل الماء لوجوده، بحيث يصل إلى أعضاء الوضوء ثمّ تصلِّي به، لكن إن حصل لها حرج في ذلك، فالظاهر -والله أعلم- أن تجمع بين الصلاتين؛ لأنّ «النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم جَمَعَ فِي حَضَرٍ مِنْ غَيْرِ سَفَرٍ وَلاَ مَطَرٍ »، قال ابن عباس:« أراد أن لا يُحرِج أُمَّتَهُ »(1).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في 26 ذو الحجة 1427ه
الموافق ل: 15 يناير 2007م
__________
1- أخرجه مسلم في «صلاة المسافرين » (1629)، وأبو داود في «الصلاة » (1211)، والترمذي في «الصلاة » (187)؛ من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.(3/17)
الفتوى رقم: 949
في حكم نتر الذكر بعد الاستنجاء
السؤال:
بعد الفراغ من الاستنجاء هل يلزمني أن أستخرج بقيةَ البَول بالجَذْبِ أو لا؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فمَسْحُ الذَّكَرِ ونَتْرُه أي: جذبه بجفاء لاستخراج بقية البول ليس بواجبٍ ولا سُنَّة، بل هو فعل غير مشروع يضرُّ بالمسالك البولية، ويكون سببًا في إدرار البول، وقد شَبَّه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- صورتَه بالضَّرْعِ حيث قال: «إنه كالضرع إن تركته قرَّ وإن حلبته درَّ»(1).
أمَّا الاستدلال بحديث: «إِذَا بَالَ أَحَدُكُمْ فَلْيَنْتُرْ ذَكَرَهُ ثَلاثًا»(2) فقد ضعَّفه البخاري(3)، وابن تيمية(4)، ونقل النووي في «المجموع»(5) اتفاقهم على ضعفه، والأكثرون على أنه مرسل.
قلت: وعلى فرض صِحَّته يمكن حمله على المبتلى -عادة- بخروج قطرات البول عند القيام بعد فراغه منه، أو عند المشي خطوات، فله تَكراره من مجامع العروق ثمَّ نتره دفعًا للريبة والشَّك واستبراء من البول.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 16 شوال 1429ه
الموافق: 15 أكتوبر 2008م
__________
1- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية: (21/106).
2- أخرجه ابن ماجه في «سننه» كتاب الطهارة وسننها، باب الاستبراء بعد البول: (326)، وأحمد في «مسنده»: (19076)، وانظر: السلسلة الضعيفة للألباني: (4/124).
3- «التاريخ الكبير» للبخاري: (1/391).
4- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية: (21/106).
5- «المجموع» للنووي: (2/91).(3/18)
الفتوى رقم: 974
في حكم أخذ ماء جديد للأذنين في الوضوء
السؤال:
هل يُسنّ أخذُ ماءٍ جديدٍ لمسحِ الأذنينِ في الوضوءِ؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فلا يُسنُّ أخذ ماءٍ جديدٍ لمسح الأذنين في الوضوء، وهو مذهب الحنفيةِ وروايةٌ عن الحنابلةِ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «الأُذُنَانِ مِنَ الرَّأْسِ»(1) وكلُّ من وصفَ وضوءَه صلى الله عليه وآله وسلم لم يذكر أنه جدّد الماء للأذنينِ، وقد روى أبو داودَ وغيرُه بسندٍ صحيحٍ من حديثِ عبد الله بن زيدٍ «أنَّ النبيَّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ مَسَحَ رَأْسَهُ بماءٍ غيرِ فضْلِ يَدَيْهِ»(2).
أمّا مَا رواه البيهقي من حديث عبدِ الله بنِ زيدٍ «أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ يَتَوَضَأُ فَأَخَذَ لأذُنَيْهِ مَاءً خِلاَفَ الماءِ الذِي لِرَأْسِهِ»(3) فشاذٌّ لمخالفتهِ للحديثِ المتقدمِ، وقد صَرَّحَ بشذوذِه الحافظُ ابنُ حجر في «بلوغ المرام»: (1/102)، ومع ذلكَ يمكنُ حملُه على انتهاءِ البللِ منْ على يديه قبلَ استيعابِ الرأسِ فاحتاجَ إلى أخذِ ماءٍ جديدٍ لاستكمالِ المسحِ على الأذنينِ جمعًا بينَ الروايتينِ وتوفيقًا بين الحكمينِ.
أمَّا حديثُ: «خُذُوا للرَأْسِ مَاءً جَدِيدًا»(4) فضعيفٌ جدًّا لاَ يقْوَى على النهُوضِ والاحتجاجِ.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 22 المحرم 1430ه
الموافق ل: 19 جانفي 2009م
__________
1- أخرجه أبو داود كتاب الطهارة، باب صفة وضوء النبي: (134)، والترمذي كتاب الطهارة، باب ما جاء أن الأذنين من الرأس: (37)، وابن ماجه كتاب الطهارة، باب الأذنان من الرأس: (444)، وأحمد: (21779)، من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه. والحديث حسّنه ابن دقيق العيد، وقوّاه ابن القطان كما ذكر الزيلعي في «نصب الراية» (1/18)، وصححه الألباني في «السلسلة الصحيحة»: (1/81).
2- أخرجه أبو داود كتاب الطهارة، باب صفة وضوء النبي: (120)، والترمذي كتاب الطهارة، باب ما جاء أنه يأخذ لرأسه ماء جديدا: (35)، وأحمد: (16005)، من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في «صحيح أبي داود» (120)، وانظر «المشكاة»: (1/130).
3- أخرجه الحاكم في «المستدرك»: (1/252)، والبيهقي في «السنن الكبرى»: (313)، من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه. وانظر لمعرفة شذوذه: «السلسلة الصحيحة» للألباني: (1/905)، و«السلسلة الضعيفة» (2/424).
4- أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير» (2/260)، عن نمران بن جارية عن أبيه. قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (1/536): «وفيه دهثم بن قران ضعفه جماعة وذكره ابن حبان في الثقات»، وانظر «السلسلة الضعيفة»: (2/423).(3/19)
03- الغسل
الفتوى رقم: 226
في حكم غسل الجمعة على من لا تجب عليه
السؤال: في قوله صلى الله عليه وآله وسلم:«غسل الجمعة واجب على كلّ محتلم"(1) هل هذا الغسل هو من أجل صلاة الجمعة أو ليوم الجمعة؟ فإن كان للصلاة فهل هو واجب على النساء وأصحاب الأعذار؟.
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فغسل الجمعة يتعلق بالصلاة والذهاب إلى المسجد لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:«من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثمّ راح فكأنّما قرب بدنة..."(2) الحديث، ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:" من جاء منكم الجمعة فليغتسل"(3)، والحديثان يدخل فيهما كلّ من يصح التقرب منه ذكرا وأنثى حرا وعبدا(4)، والمرأة لها أن تغتسل مرة في الأسبوع والأفضل أن يكون يوم الجمعة لما رواه النسائي مقيدا بلفظ:" على كلّ رجل مسلم في كلّ سبعة أيام غسل يوم وهو يوم الجمعة"(5)، وقد وردت صيغ أخرى مطلقة منها: حيث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:« لله تعالى على كلّ مسلم حق أن يغتسل في كلّ سبعة أيام يوما"(6)، والحديث شامل للمرأة والعبد والمسافر والمعذور وتقييده بالجمعة للأفضلية، لكن المرأة وأصحاب الأعذار إن أرادوا صلاة الجمعة فيتعلق الغسل بهم وجوبا لا بالحكم التكليفي وهو عدم وجوب الجمعة عليهم-كما تقدم-.
والعلم عند الله وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمّد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
الجزائر في: 1 جمادى الأولى 1426هـ
الموافق لـ: 8 جوان 2005 م
__________
1- أخرجه البخاري في الجمعة(879)، ومسلم في الجمعة(1994)، وأبو داود في الطهارة(341)، والنسائي في الجمعة(1388)، وابن ماجه في إقامة الصلاة(1142)، ومالك (229)، وأحمد(11892)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
2- أخرجه البخاري في الجمعة(881)، باب فضل الجمعة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
3- أخرجه البخاري في الجمعة(894)، باب هل على من لم يشهد الجمعة غسل، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
4- فتح الباري لابن حجر(2/366)
5- أخرجه النسائي في الجمعة(1387)، من حديث جابر رضي الله عنه. وصححه الألباني في صحيح الجامع(4034).
6- أخرجه البخاري في الجمعة(898)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(3/20)
الفتوى رقم: 829
في قراءة القرآن للمحدث والحائض من غير مس للمصحف
السؤال:
هل يجوز للمحدث والجُنُب والحائض القراءة من المصحف من غير مسٍّ وكذلك عمومُ الأذكار؟.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فقراءةُ المحدِثِ والجُنبِ والحائضِ مِنْ غيرِ مسِّ المصحف: مشروعٌ لِما رواه مسلمٌ من حديث عائشةَ رضي الله عنها قالت:« كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ اللهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ »(1).
ومعنى الحديث: أنه صَلَّى الله عليه وآله وسلَّم كان يذكر اللهَ تعالى مُتطهِّرًا ومُحدثًا وجُنُبًا وقائمًا وقاعدًا ومُضْطَجِعًا وماشيًا(2)، كما قال تعالى:( يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ ) [آل عمران: 191].
ويؤيّد ذلك: قوله صَلَّى الله عليه وآله وسلَّم حين ردَّ السلام عقب التيمُّم:« إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَذْكُرَ اللهَ إِلاَّ عَلَى طَهَارَةٍ »(3).
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 23 المحرم 1249ه
الموافق ل: 31 جانفي 2008م
__________
1- أخرجه البخاري معلَّقًا بصيغة الجَزم (1/407)، ومسلم مَوصولاً في «الحيض »،باب ذكر الله في حال الجنابة وغيرها: (826)، وأبو داود في «الطهارة »، باب في الرجل يذكر الله على غير طهر: (18)، والترمذي في «الدعوات »، باب ما جاء أن دعوة المسلم مستجابة: (3384)، وابن ماجه في «الطهارة »،باب ذكر الله على الخلاء والخاتم في الخلاء: (302)، وأحمد: (23889)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
2- شرح مسلم للنووي: (4/64)، نيل الأوطار للشوكاني: (1/322).
3- أخرجه أبو داود في «الطهارة »، باب أيرد السلام وهو يبول: (17)، والنسائي في «الطهارة »، السلام على من يبول: (37)، وابن ماجه في «الطهارة »، باب الرجل يسلَّم عليه وهو يبول: (1/126)، وأحمد في «مسنده »: (20237)، والحاكم في «المستدرك »: (6026)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (428)، من حديث المهاجر بن قنفد رضي الله عنه. والحديث صححه النووي في «الخلاصة »: (1/158)، والوادعي في «الصحيح المسند »: (1161)، وانظر «السلسلة الصحيحة » للألباني: (834).(3/21)
الفتوى رقم: 832
في صِحَّة احتجاج ابنِ حزم برسالة النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم إلى هِرَقْلَ على مسِّ المصحف
السؤال:
هل يصحُّ احتجاجُ ابنِ حزمٍ برسالة النبيِّ صَلَّى الله عليه وآله وسلَّم إلى هرقل عظيمِ الروم، وما حَوَتْهُ من ذِكْرٍ ولفظِ الجلالةِ وتضمُّنِها لآية من القرآن الكريم من قوله تعالى:( يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ) إلى قوله: ( مُسْلِمُونَ ) [آل عمران: 64]، وقد أيقن النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم أنَّ النصارى يمسُّون ذلك الكتاب؟ أفيدونا -جزاكم اللهُ خيرًا-.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالنبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم لم يأمر حاملَ كتابِهِ هذا بالمحافظة على الطهارة لأجل المشقَّة الحاصلة، وكذلك أجاز تَمكين المُشرك من مسِّ ذلك المقدار للمصلحة الدعوية العاجلة، كدعوته إلى الإسلام، وكإنزاله صَلَّى الله عليه وآله وسلَّم وفدَ ثَقيفٍ في مسجده قبل إسلامهم، وبَنَى لهم خيامًا ليسمعوا القرآن ويروا الناس إذا صَلَّوْا رجاءَ إسلامهم وهدايتهم، وهذا في حال التسليم بأنه لا يجوز مسُّ ما كتب به القرآن، ولو مع اختلاطه بغيره.
ولكن الصحيح في المسألة أنه لا يحرم مسُّه حال اختلاطه بغيره، ككتب التفسير؛ لأنها تعتبر تفسيرًا؛ إذ الآيات التي فيها أقلّ من التفسير يقترن بها، والحكم للأكثر عملاً بقاعدة أنّ:« مُعْظَمَ الشَّيْءِ يَقُومُ مَقَامَ كُلِّهِ »، ويستدلُّ لهذا بكتابة النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم للكفَّار الكتب وفيها آيات من القرآن الكريم(1).
وأمّا حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعًا:« كَانَ يَذْكُرُ اللهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ »(2): فمحمول على القراءة له بدون مسٍّ للمصحف، جمعًا بين الأدلة.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 26 المحرم 1429ه
الموافق ل: 03/02/2008م
__________
1- وفي حالة اجتماع التفسير والقرآن وتساويهما من غير تمييز، فالأظهر: القول بالمنع؛ عملاً بقاعدة تقديم الحاظر على المُبيح.
2- أخرجه البخاري معلَّقًا بصيغة الجَزم (1/407)، ومسلم مَوصولاً في «الحيض »، باب ذكر الله في حال الجنابة وغيرها: (826)، وأبو داود في «الطهارة »، باب في الرجل يذكر الله على غير طهر: (18)، والترمذي في «الدعوات »، باب ما جاء أن دعوة المسلم مستجابة: (3384)، وابن ماجه في «الطهارة »، باب ذكر الله على الخلاء والخاتم في الخلاء: (302)، وأحمد: (23889)، من حديث عائشة رضي الله عنها.(3/22)
04- التيمم
الفتوى رقم: 3
إتمام الطهارة بالتيمم
السؤال: مريض إذا أصاب الماء قدمه تضرر هل يتيمم ؟ أم يتوضأ ويسقط العضو؟ أم يجمع بين التيمم والوضوء مع إسقاط العضو؟
إذا كان مرضه هذا مزمنا هل يعتبر فاقدا للعضو فيؤمر بالوضوء مع إسقاط العضو؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فإذا خاف باستعمال الماء على منفعة عضو حدوث مرض أو زيادته أو تأخر برئه إما بالعادة أو بإخبار طبيب خبير، فالواجب ترك غسل ما لا يقدر على غسله و يعدل إلى التيمم، لأن كل ما عجز عنه المكلف سقط عنه بنص الآية ?لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا?[البقرة:286] ، والحديث المتفق عليه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه -:" إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"(1) فالنص يدل على العفو عن كل ما خرج عن الطاقة وقد استدل بهذا النص -من جهة أخرى- على أنّ ما دخل تحت الاستطاعة ففرضه العمل، وعليه فلا يكون مجرد خروج بعضه عن الاستطاعة موجبا للعفو عن جميعه " لأن الميسور لا يسقط بالمعسور »، و »معظم الشيء يقوم مقام كله »، والأقل يتبع الأكثر » في كثير من الأحكام خصوصا فيما يحتاط فيه، و من منطلق هذه القواعد ذهب بعض أهل العلم إلى أن الجنب إذا أصيب بجراحة على رأسه و أكثر أعضائه سليم، فإنه يدع الرأس و يغسل سائر الجسد ويمسح موضع الجراحة عملا بحديث جابر بن عبد الله في الرجل الذي شج فاغتسل فمات فقال صلى الله عليه وسلم :" إنما كان يكفيه أن يتيمم، و يعصب على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده "(2). وبما ثبت عن ابن عمر- رضي الله عنهما- أنه توضأ وكفٌّه معصوبة، فمسح على العصائب وغسل سوى ذلك(3)، ومدَعّماً جواز المسح على الجبيرة بالقياس على المسح على العمامة والخفين تقوية للنص بالقياس(4).
وفي تقديري أن هذا الرأي معتبر لو صح الشطر الثاني منه عند قوله :" و يعصب على جرحه" و هي - عند أهل الاختصاص - زيادة ضعيفة لا تصلح للاحتجاج وإن ورد في المسح عليها أحاديث أخرى لا يصح تقوية الحكم بها لشدة ضعفها، و لم يثبت فيه سوى الشطر الأول منه(5).
وأما أثر ابن عمر رضي الله عنهما فهو فعل صحابي لا حجة فيه، توجب العمل به لمخالفة غيره من الصحابة له فيه، كابن عباس وعمرو بن العاص، رضي الله عنهما، فالواجب عند اختلاف الصحابة فيما بينهم، التخير من أقوالهم بحسب الدليل، قال ابن تيمية : » وإن تنازعوا رُدَّ ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول ولم يكن قول بعضهم حجة مع مخالفة بعضهم له باتفاق العلماء »(6).
أما الاستدلال بالقياس على المسح على العمامة والخفين كأصل في إثبات العبادات فإنه على رأي من لا يجيز القول به في العبادات ظاهر في عدم الاحتجاج به، وأما من يحتج بالقياس في العبادات ويثبته في كل ما جاز إثباته بالنص، إذ القياس الصحيح دائر مع أوامر الشريعة ونواهيها وجودا وعدماَ، إذ ليس في الشريعة ما يخالف القياس(7). فإن إجراء القياس في هذه المسألة متعذر من عدة جوانب:
الأول: أن القياس فرع تعقُلِ المعنى المعلل به الحكم في الأصل، فيتعذر البناء لعدم تعقل معنى الأصل.
الثاني: أن الأصل المقيس عليه رخصة أي منحة من الله فلا تتعدى فيها موردها إلى غير محلها والقياس مبني على تعدية العلة.
وثالثها: أنه لو سلم هذا القياس بأنه صحيح إلا أنه معارض بتعين الجمع بين الوضوء والتيمم توفيقاَ بين الروايتين جميعا ولا يخفى أن القياس فاسد الاعتبار إذا عارضه نص صحيح أو إجماع موثوق -كما سيأتي-.
هذا، و لا يعطى ما لا يقدر على غسله حكم المعدوم وفق قاعدة التقديرات لأنه يحتاج إليها إذا دلّ دليل على ثبوت الحكم مع عدم سببه أو شرطه أو مانعه، و إذا لم تدع الضرورة إليها لا يجوز التقدير حينئذ لأنه خلاف الأصل كذا قرره القرافي في فروقه(8)، ذلك لأن قاعدة إعطاء الموجود حكم المعدوم والمعدوم حكم الموجود ليست من قواعد أصول الخلاف بل تذكر جمعا للنظائر الداخلة تحت هذا الأصل، و لا يخفى عدم ورود دليل يعطي بعض الأعضاء حكم المعدوم في الوضوء، بل في الحديث السابق ما يدل على العدول إلى التيمم عند تعذر استعمال الماء، فضلا عن أن الغاسل لبعض الأعضاء دون الأخرى لا يسمى في عرف الشرع متوضئاً، و لا يصدق عليه أنه أتى بما أمره الله تعالى من الوضوء، لذلك وجب المصير إلى البدل الذي جعله الشرع عوضا عن الوضوء عند تعذر استعمال بعض أعضاء الوضوء، وأن ما دخل تحت استطاعته من المأمور به وجب الإتيان به، أي وجوب استعمال الماء الذي يكفي لبعض الطهارة، ذلك لأنه ليس مجرد خروج بعضه عن الاستطاعة موجبا للعفو عن جميعه، عملا بقوله تعالى: ?فاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ?]التغابن:16] وفي حديث أبي هريرة المتقدم "ما أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" إذ فيهما دليل على العفو عن كل ما خرج عن الطاقة، ووجوب استعمال ما يكفي بعض طهارته مع التيمم للباقي ، وقد وردت بعض ألفاظ روايات حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه وفيه"غسل مغابنه وتوضأ وضوءه للصلاة، ثم صلى بهم فذكر نحوه ولم يذكر التيمم"، قال أبو داود »وروى هذه القصة الأوزاعي عن حسان بن عطية ، قال فيه :" فتيمم " » قال الشوكاني »ورجح الحاكم إحدى الروايتين، وقال البيهقي يحتمل أن يكون قد غسل ما أمكنه وتيمم للباقي، وله شاهد من حديث ابن عباس ومن حديث أبي أمامة عند الطبراني »(9)، وأيد النووي هذا الجمع بين الوضوء والتيمم وقال » وهو متعين »(10)، وجاء في المغني » إذا كان به قرح أو مرض مخوف أو أجنب فخشي على نفسه إن أصاب الماء ، غسل الصحيح من جسده وتيمم لما لم يصبه »(11). ويرى شيخ الإسلام ابن تيمية أن الجريح إذا كان محدِثاً حدثاً أصغر يصح أن يتيمم بعد كمال الوضوء، ثم قال » بل هذا هو السنة »(12)، ومثل هذا الجمع ينعكس معنا ه على قاعدة: »الميسور لا يسقط بالمعسور ».
هذا واستعمال التيمم لا يقدر بوقت معين، بل هو مشروع وإن طال العهد لحديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه مرفوعاً "إن الصعيد الطيب طهور وإن لم يجد الماء عشر سنين"(13).
والله أعلم و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، و صلى الله على محمد و على آله وصحبه و التابعين لهم بإحسان و سلم تسليما.
الجزائر في : 09 شوال 1417 هـ.
الموافق لـ : 16 فيفري 1997 م.
__________
1- متفق عليه.أخرجه البخاري (13/251) ومسلم(9/100) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
2- أخرجه أبو داود(1/239) وابن ماجة(1/189) والحاكم(1/178) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه
3- سنن البيهقي(1/328)
4- سبل السلام للصنعاني(1/204)
5- انظر تمام المنة للألباني(131) وتخريج شرح السنة للأرناؤوط(2/121).
6- مجموع الفتاوى لابن تيمية(20/14).
7- المصدر السابق(19/289) إعلام الموقعين لابن القيم(2/71).
8- الفروق(2/199-203).
9- نيل الاوطار للشوكاني(1/387).
10- الفتح لابن حجر(1/454).
11- المغني لابن قدامة(1/261).
12- الاختيارات الفقهية لابن تيمية للبعلي(ص21)
13- أخرجه أبو داود(1/235-237) والترمذي(1/212) والنسائي(1/171) وأحمد(5/146) من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه والحديث صححه الترمذي والألباني في الإرواء(1/181).(3/23)
الفتوى رقم: 37
في حكم التيمم على فاقد مكان آمن للاغتسال
السؤال: إذا كان الشخص لديه الماء الكافي للغسل من الجنابة، ولكن لا يجد المكان المناسب للاغتسال، فهل هذه الحال مبيحة للتيمم؟ وهل يمكنه دخول المسجد، ومس المصحف، وقراءة القرآن، وهو متيمم؟.
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما أمّا بعد:
فإنه يستباح التيمم إذا تعذَّر عليه وجود الماء، أو خشي الضرر من استعماله له، إما لعلة مرض أو جرح أو شدة برد بحيث يعجز عن تسخينه، أو تمكَّن لكن تعذَّر عليه وجود مكان ساخن فأشفق على نفسه إن اغتسل هلك، فيجوز له التيمم، غير أنَّ عدم وجدان مكان آمن يسلم في أن يعرض نفسه للهلاك موكول إلى دين المعني بالأمر في تقدير الضرر والهلاك بعدم وجود المكان، ويدل عليه حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل فأشفقتُ إن اغتسلتُ أن أهلك، فتيممتُ، ثم صليتُ بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال:" يا عمرو، صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إني سمعت الله يقول:( وَلا َتَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا)[النساء: 29] فضحك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يقل شيئا"(1)، وفي رواية:" فغسل مغابنه، وتوضَّأ وضوءه للصلاة، فذكر نحوه ولم يذكر التيمم"(2).
هذا، والتيمم يرفع الحدث رفعًا مؤقتًا على الصحيح من أقوال أهل العلم، ويسعه فعل ما يفعله المتوضي الطاهر، غير أنه إذا زال عذره وجب عليه الاغتسال، لأنَّ الحدث بقي مطلقًا لم يرتفع كلية، فيتعين -حالتئذ- الارتفاع المؤقت.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.
الجزائر في: 5 صفر 1427ه
الموافق لـ: 5 مارس 2006م
__________
1- أخرجه أبو داود في الطهارة (334)، وأحمد (18287)، والحاكم (589)، والدارقطني في سننه (693)، والبيهقي (1110)، من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه. قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (1/568):" وإسناده قوي"، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (334)، وانظر "الثمر المستطاب" (1/34).
2- أخرجه أبو داود في الطهارة (335)،. وصححه الألباني في صحيح أبي داود (335).(3/24)
الفتوى رقم: 469
فيمن تيمم مع وجود الماء خشية فوات الجماعة
السؤال: استيقظ رجل -بعد أداء صلاة الصبح- على جنابة ولم يتمكن من الاغتسال لأجل الالتحاق بالعمل، ولما حانت صلاة الظهر جمع بين الوضوء والتيمم، قصد إدراك صلاة الجماعة، فهل الصلاة صحيحة؟.
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فالصلاة بالتيمم متوقفة صحتها على وجود الماء والقدرة على استعماله في ذلك الوقت الذي وجبت فيه الصلاة، فإن لم يجد، أو وجده وخاف الجنب على نفسه المرض والهلاك أو حال بينه وبين الماء حائل يتعذَّر معه الوصول إليه، وصلى بالتيمم فصلاته صحيحة ولا إعادة عليه ولو وجد الماء واغتسل.
أمَّا من وجد الماء ولا عائق في استعماله لكنه قدَّم صلاة الجماعة باستعمال التيمم، فإنَّ صلاته يعيدها في الوقت أو يقضيها خارج الوقت، لأنَّ التيمم لا يستباح به الصلاة إلاَّ لسبب فقدان الماء لقوله تعالى: ?فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً?[النساء: 43]أو لوجود مانع من استعماله لمرض أو جرح أو شدة برودة أو لتعذُّر تسخين الماء ونحو ذلك لقوله تعالى: ?وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ? [البقرة: 195]ولقوله تعالى: ?وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً?[النساء: 29] وهي الآية التي استند إليها عمرو بن العاص رضي الله عنه بحضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما سأله:" يَا عَمْرُو صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ"(1) الحديث.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 27 جمادى الأولى 1427ه
الموافق ل:23 جوان 2006م
__________
1- عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنه قَالَ احْتَلَمْتُ فِى لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فِى غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلاَسِلِ فَأَشْفَقْتُ إِنِ اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلِكَ فَتَيَمَّمْتُ ثُمَّ صَلَّيْتُ بِأَصْحَابي الصُّبْحَ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فَقَالَ:« يَا عَمْرُو صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ ». فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي مَنَعَنِي مِنَ الاِغْتِسَالِ وَقُلْتُ إِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ: (وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَلَمْ يَقُلْ شَيْئا". أخرجه أبو داود في الطهارة (334)، وأحمد (18287)، والدارقطني في سننه (693)، والبيهقي (1110)، من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه. وصححه الألباني في الإرواء (154)، وصحيح أبي داود (1/94).(3/25)
الفتوى رقم: 626
في محل التيمم
السؤال:
ما حكم التيمُّمِ بما اتصلَ بالأرض من أحجار وحديدٍ ونحاسٍ وأشجارٍ وحشيشٍ وغيرِها؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فاتفق العلماءُ على جواز التيمّم بالتراب الطيِّبِ، واختلفوا فيما عداه من أجزاء الأرض المتولّدة عنها.
وأقوى الأقوالِ -في تقديري- جواز التيمّم بكلّ ما صَعِدَ على وجه الأرض إذا لم يجدْ ترابًا، وهو إحدى الروايات عن أحمد اختارها ابن تيمية، وفي أجزاء الأرض يُقدِّم ما عَلِقَ عليه الترابُ أو الغبارُ على غيره تقديمًا ترتيبيًّا لمحلّ الوفاق، وهو التراب، فإذا تعذَّر فما عَلِق عليه الغبار لعدم الخلاف فيه عند القائلين بجواز التيمّم بكلّ ما صَعِدَ على وجه الأرض، فإن تعذّر فبأجزاء الأرض ممَّا لا تحمل غبارًا.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 23 محرم 1428ه
الموافق ل: 11 فبراير 2007م(3/26)
الفتوى رقم: 722
في حكم استصحاب التيمم لمصلٍ علم بوجود الماء أثناءها
السؤال:
ما حكم مَن شرع في الصلاة بالتيمّم لانعدام الماء، ثمّ عَلِمَ بوجودِهِ أثناءَ الصلاة؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فقد اتّفق العلماءُ على أنّ المتيمِّمَ إذا وجد الماءَ قبل الصلاةِ بَطَلَ تيمُّمُه ووجب عليه استعمالُ الماء، وكذلك إذا لم يجدِ الماءَ قبلَ الصلاةِ جاز له الدخولُ فيها، وكانت صلاتُه صحيحةً إذا أتَمَّها ولم يجد الماء خلالَهَا.
أمّا من صلّى بالتيمّم ثمّ وجد الماءَ بعد الفراغ من الصلاة وقبلَ خروجِ الوقتِ، فلا إعادةَ عليه على أظهر أقوال أهل العلم، وبه قال أبو حنيفةَ ومالكٌ وداودُ وأصحابُه وابنُ خزيمة وابنُ تيمية واختاره الشوكانيُّ، لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرج رجلان في سفرٍ، فَحَضَرَتِ الصلاةُ وليس معهما ماءٌ، فتيمَّمَا صعيدًا طيِّبًا، فصلَّيا، ثمّ وَجَدَا الماءَ في الوقت، فأعاد أحدُهما الصلاةَ والوضوءَ، ولم يُعِدِ الآخرُ، ثمّ أَتَيَا رسولَ الله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم فذكرَا ذلك له، فقال للذي لم يُعِد:« أَصَبْتَ السُّنَّةَ، وَأَجْزَأَتْكَ صَلاَتُكَ »، وقال للذي توضّأ وأعاد:« لَكَ اْلأَجْرُ مَرَّتَيْنِ »(1).
قلت: ولعلّ الثاني أخطأ السُّنَّة من ناحية تَعَيُّنِها في الأوّل بقوله:« أَصَبْتَ السُّنَّةَ »، إذ الصلاة في اليوم مرّتين منهيٌّ عنها، كما صحّ مرفوعًا:« لاَ تُصَلُّوا الصَّلاَةَ فِي يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ »(3) ورجّحه ابن القيّم(5).
ومبنى هذه المسألة على القول ب «اسْتِصْحَابِ حُكْمِ الإِجْمَاعِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ »(7)، ومبناها -أيضًا-:« إِذَا أَجْمَعُوا عَلَى حُكْمٍ، ثُمَّ حَدَثَ فِي المُجْمَعِ عَلَيْهِ صِفَةٌ، فَهَلْ يُسْتَدَلُّ بِالإِجْمَاعِ فِيهِ مِنْ قَبْلِ الصِّفَةِ عَلَيْهِ بَعْدَ الصِّفَةِ؟ أَمْ لِلاجْتِهَادِ فِيهِ مَجَالٌ بَعْدَ حُدُوثِ الصِّفَةِ؟ ».
وغايةُ ما يُستدِلُّ به المجوِّزون لهذا الاستصحاب: أنّ الإجماعَ قد انعقد على صحّة صلاته حالةَ الشروع، والدليلُ الدالُّ على صحّةِ الشروعِ دالٌّ على دوامه إلاّ أن يقوم دليلُ الانقطاع، وهذا مدفوعٌ بأنّ الإجماع إنّما دلَّ على الدوام فيها حالَ عدم الماء، أمّا مع وجوده فإنّ الإجماعَ مُنْتَفٍ، إذ لا إجماعَ مع الاختلاف، فيتعذّر استصحابُه عند انتفائه لاستحالته، فحُكمه كالعقل الدالِّ على البراءة الأصلية بشرط عدم دليل السمع، فلا يبقى له دلالة مع وجود دليل السمع.
ولأنّه من جهة أخرى يؤدّي القول باستصحاب حكم الإجماع في محلّ الخلاف إلى تكافؤ الأدلّة، بحيث يحتجّ بها كلّ خصم على ما يوافق مذهبه، كأن يستدلّ على استصحاب صحّة الصلاة قبل رؤية الماء إلى ما بعد رؤيته على صحّتها، ويستدلّ الآخر على الإجماع على بطلانها عند رؤية الماء قبل الصلاة، فيستصحبها إلى أثناء الصلاة فتكون باطلة، إذ كلّ دليل يضادّه نفس الخلاف لا يمكن استصحابه معه.
وعليه فالمذهب الأقوى أنّه لا يُستصحَب الإجماع في محلّ الخلاف، وبه قال أكثرُ أهلِ العلم، وعليه فإنّ التيمُّمَ يَبطُلُ فلا يستمرُّ في الصلاة بل لا بدّ من الطهارة المائية، ثمّ إنّ التيمّم ضرورة، فبطلت بزوال الضرورة، كطهارة المستحاضة إذا انقطع دمها(8).
ويؤيّده حديث أبي ذرّ رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قال:« إِنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ طَهُورُ الْمُسْلِمِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ، فَإِذَا وَجَدَ الْمَاءَ فَلْيَمَسَّهُ بَشَرَتَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ »(9)، فالحديث مُطلَقٌ على وجوب الإعادة فِيمَن وجده بعد الوقت، ومَن وجده قبل خروجه وحال الصلاة وبعدها، وتتقيّد صورةُ مَن وجد الماء في الوقت بعد الفراغ من الصلاة بحديث أبي سعيد الخدري المتقدّم(10)، ولا يشكل على الاستدلال بهذا الحديث قوله:« فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ » على عدم وجوب المدّعى، لأنّه لا يلزم من ذكر لفظ «خير » عدم الوجوب، كما قال تعالى:( وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ )(11)، إذ الإيمان فرض، وعبّر عنه بلفظ «خير »، وهو أعمّ من أن يحدث منافاة بينهما.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 10 شعبان 1428ه
الموافق ل: 23 أغسطس 2007م
__________
1- «صحيح سنن أبي داود »: (327).
2- «نيل الأوطار » للشوكاني: (1/388).
3- «صحيح سنن أبي داود »: (540).
4- «الموطّأ » لمالك: (1/55)، «الأمّ » للشافعي: (1/41).
5- «إعلام الموقّعين »: (1/343).
6- «حاشية ابن عابدين »: (1/255)، «المغني » لابن قدامة: (1/197).
7- انظر المسألة في:« تخريج الفروع على الأصول » للزنجاني: (21)، «المستصفى » للغزالي: (1/128)، «روضة الناظر » لابن قدامة: (1/392-393)، «مذكّرة الشنقيطي »: (160).
8- «المغني »: (1/198)، «فتح القدير »: (1/92).
9- أخرجه أبو داود في «الطهارة »، باب الجنب يتيمم:(332)، والنسائي في «الطهارة »،باب الصلوات بتيمم واحد : (322)، والحاكم في «المستدرك »: (627)، وأحمد (20863)، من حديث أبي ذر رضي الله عنه، والحديث صححه الألباني في «صحيح الجامع »: (3861).
10- «نيل الأوطار » للشوكاني: (1/400).
11- جزء من آية 110 من سورة آل عمران.(3/27)
05- الحيض والنفاس
الفتوى رقم: 34
السن الذي ينقطع فيه دم الحيض وما يترتب عليه من أحكام
السؤال: والدتي تبلغ من العمر 53 سنة ولحد الآن لا يزال يأتيها الدم (دم الحيض) بانتظام وفيما مضى كانت إذا أتاها الدم انقطعت عن الصيام والصلاة حتى تطهر، ولكن في شعبان من السنة الماضية قرأت فتوى للشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى، إجابة عن سؤال طرح له ونص الفتوى موجود لديكم إن شاء الله(1)، وعندما أخبرت والدتي بالفتوى أصبحت تصوم وتصلي وعليها الدم، وقد أخبرتها أنّنا ولله الحمد لم نتبع في ذلك الهوى لكن كان اعتمادا على فتوى لعالم ثقة، علما أنّ الطبيبة أخبرتها مؤخرا أنّ هذا الذي يأتيها هو دم حيض ما دام أنها حين حاضت أول مرة كان سنّها 16 سنة والطبيبة تقول: إنّ انقطاع الحيض عنها سيكون عند بلوغها سن 54 إلى 56 سنة ووالدتي الآن تسأل هل تصلي وتصوم وهي في تلك الحال أم لا؟ وهل تقضي الأيام التي كانت صامتها في رمضان الماضي وعليها الدم ؟.
أفيدونا يرحمكم الله؛ والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل وبارك الله فيكم وجزاكم عنّا خير الجزاء، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فإنّ الذي أفتى به سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله تعالى- هو رواية عن أحمد نقلها الخرقي عنه، وبها قال إسحاق بن راهويه، وروي هذا عن عائشة موقوفا عليها، وفي هذه المسألة أقوال أخرى مختلفة في تحديد سنّ اليأس، وغالبها يبني المسألة على العرف وعادة النساء بالتتبع والاستقراء، وفي تقديري أنّ أقوى الأقوال من يرى أنّه لا وقت لانقطاع الحيض وبه قال ابن حزم وابن تيمية رحمهما الله وغيرهما، ذلك لأنّ دم الحيض معروف في تكوينه، كثيف كأنّه محترق، له رائحة كريهة وهو أسود محتدم، وقد يتغير إلى الحمرة والصفرة والكدرة، وقد يكون مخاطا وله وقت تعتاده النساء، وهو دم لا يتجلط: أي لا يتجمد في الأوعية الدموية، بخلاف دم الفساد أو الاستحاضة فهو أحمر قاني ليس له رائحة ويتجلط ويأتي مستمرا أو في غير الوقت الذي تعتاده النساء.
وعليه فالمرأة المسنة التي رأت الدم بمثل هذه الأوصاف المذكورة فهو حيض مانع لها من الصلاة والصوم والطواف والوطء، لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث فاطمة بنت أبي حبيش:"إذا كان دم الحيض فإنّه أسودُ يُعْرَف"(2) وأمر صلى الله عليه وسلم أن من رأته أن تترك الصلاة، والصيام في الحديث المتفق عليه:"أليس إذا حاضت المرأة لم تصل ولم تصم"(3) وفي شأن الحيض يقول عليه الصلاة والسلام :"هذا شيء كتبه الله على بنات آدم"(4) ولم يفصل في مقام الاحتمال بين الشابة والمسنة من بنات آدم، وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، كما أنّه لم يرد نص ولا إجماع بأنّه ليس حيضا، فيستصحب الحكم ويبقى ما كان على ما كان.
هذا والمستفتي تابع للمفتي في اجتهاده وفتواه، ولا يترتب على العمل بالفتوى عتاب وقضاء ولا كفارة ولا عقاب، بل هو مأجور للامتثال للأمر الوارد في قوله تعالى : ?فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ?[النحل:43] وقوله صلى الله عليه وسلم:"ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنّما شفاء العي السؤال"(5)، اللّهم إلاّ إذا ظهر في المسألة المستفتى فيها خطأ قطعا لكون المفتي خالف نصا لا معارض له أو إجماع أمة، فعلى المفتي أن يخبر المستفتي إن كان قد عمل بالفتوى الأولى، وعليهما أن يعدلا عن العمل بها، وإذا كانت الفتوى الأخرى المعتمدة توجب أحكاما ترتبت هذه الأحكام عليهما.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
الجزائر في 5 رجب 1421هـ
الموافق 5 أكتوبر2000 م
__________
1- نص فتوى سماحة الوالد، الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
صلاة المستحاضة:
س- امرأة تبلغ من العمر اثنتين وخمسين سنة يسيل معها دم ثلاثة أيام بقوة والباقي خفيف في الشهر، هل تعتبر ذلك دم حيض وهي فوق خمسين سنة مع العلم بأنّ الدم يأتيها بعد شهر في بعض الأحيان أو شهرين أو ثلاثة؟ فهل تصلي الفريضة والدم يسيل معها؟ كذلك هل تصلي النوافل كالرواتب وصلاة الليل؟
ج- مثل هذه المرأة عليها أن تعتبر هذا الدم الذي حصل لها دما فاسدا لكبر سنها واضطرابه عليها. وقد علم من الواقع وممّا جاء عن عائشة -رضي الله عنها- أنّ المرأة إذا بلغت خمسين عاما انقطع عنها الحيض والحمل أو اضطرب عليها الدم، واضطرابه دليل على أنّه ليس هو دم الحيض، فلها أن تصلي وتصوم، وتعتبر هذا الدم بمثابة دم الاستحاضة لا يمنعها من صلاة ولا صوم، ولا يمنع زوجها من وطئها في أصح قولي العلماء، وعليها أن تتوضأ لكلّ صلاة، وتتحفظ منه بقطن ونحوه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للمستحاضة:"توضئي لكل صلاة"رواه البخاري في صحيحه . الشيخ ابن باز
2- أخرجه أبو داود كتاب الطهارة باب من قال إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة(286)، والنسائي كتاب الطهارة باب الفرق بين دم الحيض والاستحاضة(217)، من حديث فاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنها. وصححه الألباني في الإرواء(1/223) رقم(204).
3- متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أخرجه البخاري كتاب الحيض باب ترك الحائض الصوم(304)، ومسلم كتاب الإيمان (252).
4- أخرجه البخاري كتاب الحيض باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت(305)، ومسلم كتاب الحج (2976)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
5- أخرجه أبو داود كتاب الطهارة باب في المجروح يتيمم(336) من حديث جابر رضي الله عنه، والحديث حسنه الألباني في تمام المنة (ص131)، وفي صحيح سنن أبي داود(336).(3/28)
الفتوى رقم: 35
دخول الحائض المسجد
السؤال: يرجى من الشيخ أبي عبد المعز أن يبين لنا على وجه التحقيق مسألة دخول الحائض المسجد مطلقا أو للحاجة مع التفصيل. وشكرا.
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فلم يرد دليل ثابت وصريح في حق الحائض ما يمنعها من دخول المسجد، والأصل عدم المنع، وقد وردت جملة من المؤيدات لهذا الأصل مقررة للبراءة الأصلية منها: ما ثبت من حديث عائشة رضي الله عنها فيما رواه البخاري وغيره:" أنّ وليدة سوداء كانت لحي من العرب فأعتقوها، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأسلمت فكان لها خباء في المسجد أو حفش"(1) ولا يخفى عدم انفكاك الحيض عن النساء إلا نادرا، ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنّه أمرها باعتزال المسجد وقت حيضتها والأصل عدمه، ولا يصح أن يعترض عليه بأنّه واقعة عين وحادثة حال لا عموم لها، لأنّ الذي يضعف صورة تخصيصها بذلك كون القصة مؤكدة للبراءة الأصلية، يؤيدها عموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم:« إنّ المسلم لا ينجس »(2) ويقوي هذا الحكم مبيت أهل الاعتكاف في المسجد مع ما قد يصيب المعتكف النائم من احتلام، والمعتكفة من حيض، وهي أحوال غير خفيّة الوقوع في زمنه صلى الله عليه وآله وسلم ومنتشرة انتشارا يبعد معه عدم علم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وهو المؤيَّد بالوحي.
ويشهد للأصل السابق قوله صلى الله عليه وآله وسلم لعائشة رضي الله عنها في حجة الوداع لمّا حاضت:« افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري »(3)، ولم يمنعها النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الدخول إلى المسجد والمكث فيه، وإنّما نهاها عن الطواف بالبيت، لأنّ الطواف بالبيت صلاة، وقد ثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها قالت:" إنّ أول شيء بدأ به النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين قدم مكة أنّه توضأ ثمّ طاف بالبيت"(4) فهذا يدل على وجوب الطواف على طهارة، بناء على أنّ كلّ أفعاله صلى الله عليه وسلم في الحج محمولة على الوجوب في الأصل. ومعلوم للعاقل أنّ الفعل لا يمكن أن يؤمر به وينهى عنه من وجه واحد لاستحالة اجتماع الضدين، وهو تكليف بما لا يطاق، وإنّما يجوز أن يكون الفعل مأمورا به من وجه ومنهيا عنه من وجه آخر لإمكان اجتماع مصلحة ومفسدة في الفعل الواحد، وبالنظر لوجود الوصف المانع من الطواف نَهَى عنه النبي صلى الله عليه وسلم لاشتماله على مفسدة، وأمرها بما يفعله الحاج لاشتماله على تحصيل مصلحة، ولا يخفى أنّ جنس فعل المأمور به والمثوبة عليه أعظم من جنس ومثوبة ترك المنهي عنه، وأنّ جنس ترك المأمور به والعقوبة عليه أعظم من جنس العقوبة على فعل المنهي عنه(5)، وإذا تقرر ذلك فإنّ أمره صلى الله عليه وآله وسلم لعائشة رضي الله عنها-وهي حائض- أن تفعل ما يفعله الحاج إنّما هو من جنس المأمور به وهو أعظم من جنس ترك المنهي عنه، فلو كان أمره صلى الله عليه وآله وسلم مقتضيا لعدم جواز دخول الحائض المسجد لكان عدولا عن جنس المأمور به إلى المنهي عنه، وهو دونه في الرتبة، فيحتاج -حالتئذ- إلى بيان في الحال وتأخيره عن وقت الحاجة لا يجوز كما تقرر في الأصول(6).
ويشهد-أيضا- للأصل المتقدم، إنزاله صلى الله عليه وآله وسلم وفد ثقيف في المسجد قبل إسلامهم، ومكث فيه الوفد أياما عديدة وهو صلى الله عليه وآله وسلم يدعوهم إلى الإسلام، كما استقبل في مسجده نصارى نجران حينما جاءوه لسماع الحق ومعرفة الإسلام، هذا وغيره وإن كان يدلّ على جواز إنزال المشرك في المسجد والمكث فيه لمن كان يرجى إسلامه وهدايته مع ما كانوا فيه من رجس معنوي كما قال تعالى:( إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) [التوبة:28] ولا يبعد أن تتعلق بهم جنابة من غير اغتسال أو نجاسة حسية من بول أو غائط لعدم الاحتراز، فإنّ المسلم والمسلمة أطهر حالا وأعلى مكانا وأولى بدخول المسجد والمكث فيه ولو اقترن بهم وصف الجنابة أو الحيض أو النفاس لكون المسلم طاهرا على كلّ حال لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« إنّ المسلم لا ينجس »(7)، ولا يصح أن يُعترض بأنّ حكم المنع خاص بالمسلمين دون المشركين فلا يلحق بهم إلحاقا قياسيا، ذلك لأنّ المعتقد قائم في أنّ الكفار مخاطبون إجماعا بالإيمان -الذي هو الأصل- ومطالبون بالفروع مع تحصيل شرط الإيمان للأوامر الشرعية الموجبة للعمل المتصفة بالعموم لسائر الناس كقوله تعالى:( ولله على الناس حج البيت لمن استطاع إليه سبيلا )[آل عمران:97] وغيرها والكافر معاقب أخرويا على ترك أصل الإيمان أولا، وما يترتّب عليه من فروع الشريعة ثانيا، لِما أخبر به تعالى عن سائر المشركين في معرض التصديق لهم، تحذيرا من فعلهم:( ما سلككم في سقر، قالوا لم نك من المصلين، ولم نك نطعم المسكين، وكنا نخوض مع الخائضين، وكنا نكذب بيوم الدين ، حتى أتانا اليقين )(8) [المدثر:42/47].
هذا، وغاية ما يتمسك به المانعون من دخول الحائض المسجد:
أولا: إلحاقها بالجنب إلحاقا قياسيا إذ الجنب-وهو المقيس عليه- ورد النهي عن قربانه المسجد إلاّ إذا اتخذه طريقا للمرور وذلك في قوله تعالى:( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة و أنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا )[النساء:43]، ويكون حمل الآية على الإضمار تقديره:" لا تقربوا مواضع الصلاة "، أو كناية عن المساجد حيث أقيمت مقام المصلى أو المسجد، وهذا التفسير -وإن نقل عن بعض السلف كابن مسعود وسعيد بن جبير وعكرمة والزهري وغيرهم- إلاّ أنّه معارض بتفسير آخر يحمل الصلاة على نفسها ويكون معنى الآية:" ولا تقربوا الصلاة جنبا إلا أن تكونوا مسافرين ولم تجدوا ماء فتيمموا " وهذا التفسير منقول عن علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهم ومجاهد والحسن بن مسلم وغيرهم، وبه قال أحمد والمزني.
والتفسير الأول الذي حمل الصلاة على مواضعها أو حمله كنايةً عن المساجد مخالف للأصل، إذ الأصل في اللفظ أن يكون مستقلا ومكتفيا بذاته، لا يتوقف معناه على تقدير، خلافا للإضمار، وإذا دار اللفظ بين الاستقلال والإضمار، فإنّه يحمل على الاستقلال لقلة اضطرابه، والتفسير الثاني مستغنٍ في دلالته عن الإضمار بخلاف الأول فمفتقر إليه، ومعلوم أنّ الألفاظ المقدرة إنما يُصار إليها عند الحاجة وانعدام وجود لفظ مناسب لمعنى اللفظ ضرورة لتصحيح الكلام، وقد استقام المعنى بالتفسير الثاني فلا يُعدل عنه إلى غيره، وقد يُعترض أنّ تأوُّل الآية على أنّ ( عابري سبيل ) هم المسافرون، ولم يكن في إعادة ذكره في قوله تعالى:( وإن كنتم مرضى أو على سفر) معنى مفهوم، إذ لا فائدة في تكراره وانتفاؤها عبث يجب تنزيه الشارع عنه، ولو أفاد تكراره التأكيد لكان خلاف الأصل، إذ الأصل التأسيس وهو أولى من التأكيد، ذلك لأنّ الأصل في وضع الكلام إنّما هو إفهام السامع ما ليس عنده.
فجوابه أنّ التأسيس مبني على صرف كلمة "الصلاة" عن معناها الحقيقي إلى المعنى المجازي وهو خلاف الأصل، إذ المقرّر في الأصول أنّ النص إذا دار بين الحقيقة الشرعية والمجاز الشرعي، فحمل اللفظ الشرعي على حقيقته أولى من حمله على المجاز، فضلا عن ذلك فإنّه يلزم على القول بأنّ في القرآن مجازا، أن القرآن يجوز نفيه لإجماع القائلين بالمجاز على أنّ كلّ مجاز يجوز نفيه ويكون نافيه صادقا في نفس الأمر ولا ريب أنّه لا يجوز نفي شيء من القرآن(9)، وبناء على ما تقدم فحمل اللفظ المبني على حقيقته الشرعية المكتفي بذاته على وجه الاستقلال، -وإن أفاد التأكيد- أولى من حمله على المجاز المفتقر في دلالته على الإضمار -وإن أفاد التأسيس- لأصالة الحقيقة الشرعية وهي مقدّمة على الحقيقة العرفية واللغوية فمن باب أولى مع المجاز الشرعي.
ولو حملنا تفسير الآية على تقدير الإضمار فإنّ الحكم يقتصر على الجنب ولا تُلحق به الحائض إلاّ بنوع قياس يظهر قادح الفرق بينهما جليا من ناحية أنّ الجنب غير معذور بجنابته وبيده أن يتطهر، والآية تحثه على الإسراع في التطهر، بخلاف الحائض فمعذورة بحيضتها، فلا تملك أمرها ولا يسعها التطهر من حيضتها إلاّ بعد انقطاع الدم، فحيضتها ليست بيدها، وإنّما هي شيء كتبه الله على بنات آدم، وهذا الفرق الظاهر بين المقيس والمقيس عليه يقدح في القياس فيفسده. وتبقى الآية محصورة في الجنب دون الحائض جمعا بين الأدلة.
ومع ذلك فحمل لفظ "الصلاة" على الحقيقة الشرعية والاستقلال أولى بالتفسير لما يشهد لذلك عموم حديث «المسلم لا ينجس » وما تقدم من أدلة شاهدة على الجواز كمبيت الوليدة السوداء وأهل الاعتكاف وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة لما حاضت:« افعلي ما يفعله الحاج إلا أن تطوفي بالبيت » وفضلا عن ذلك لو سُلّم القياس على الجنب فقد ثبت أنّ أصحاب الصّفّة كانوا يبيتون في المسجد لا مأوى لهم سواه(10) ويؤيد ما ذكرنا ما أخرجه سعيد بن منصور في سننه بإسناد حسن عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار قال:"رأيت رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجلسون في المسجد وهم مجنبون إذا توضؤا وضوء الصلاة"(11).
ثانيا: وأمّا الاستدلال بحديث جسرة بنت دجاجة قالت:" سمعت عائشة رضي الله عنها تقول:"جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد، فقال:« وجهوا هذه البيوت عن المسجد » ثمّ دخل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصنع القوم شيئا رجاء أن تنزل فيهم رخصة فخرج إليهم بعد، فقال:« وجهوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب »(12) فلو صح الحديث لكانت دلالته صريحة على تحريم دخول المسجد للحائض والجنب، ولكنّه ضعيف لا يصلح للاحتجاج به لمجيئه عن طريق جسرة، وحاصل القول فيها أنّ الحجة لا تقوم بحديثها إلاّ بشواهد، و لهذا قال الحافظ في التقريب:" إنها مقبولة"(13) أي مقبولة إذا توبعت وإلا فليّنَة، وفي هذا الحديث لم تتابع، والحديث ضعفه جماعة منهم: الإمام أحمد والبخاري والبيهقي وابن حزم وعبد الحق الإشبيلي وغيرهم.
ثالثا: أمّا حديث أمّ عطية قالت:" أمرنا أن نخرج في العيدين العواتق وذوات الخدور، وأمر الحيض أن يعتزلن مصلى المسلمين"(14) الذي استدل به على منع الحائض من المصلى فتكون ممنوعة من المسجد من باب أولى، ومن جهة أخرى فلو حمل اللفظ على "الصلاة" لأفاد التأكيد الذي يقصد به تقوية لفظ سابق، وهو على خلاف الأصل، لأنّ الأصل في وضع الكلام إنّما هو التأسيس، لذلك كان حمله على "المصلّى" أولى من حمله على "الصلاة" فالصواب أنّه لا دلالة فيه على هدا المعنى، لأنّ المراد بالمصلى في الحديث إنّما هي الصلاة ذاتها بدليل رواية مسلم وغيره وفيه:" فأمّا الحيض فيعتزلن الصلاة". ويقوي هذا المعنى رواية الدارمي:" فأمّا الحيض فإنّهنّ يعتزلن الصف"(15)، فحمله على الصلاة نفسها ليس فيه خلاف بينما إذا ما حملت على لفظ "المصلى" فمختلف فيه، وقد تقرر أنّ المتفق عليه أرجح من المختلف فيه. ومن زاوية أخرى فحمله على التأكيد-وإن كان خلاف الأصل- إلاّ أنّه أولى بالتقديم لوجود قرائن تدلّ عليه، منها: أنّ لفظ الاعتزال الذي هو التنحي والبعد عن الشيء يتعدى بحرف"عن" الدّال على المجاوزة، وهو يدلّ بدلالة الالتزام على ابتداء الغاية، إذ كلّ مجاوزة فلا بدّ لها من ابتداء غاية، فيكون المصلى هو مبدأ الاعتزال وهو الغاية المأمور بها، فدلّ على أنّ الحائض حلّت به ابتداء، علما أنّ المصلى غير محدود بحدّ حتى يمكن أن تخرج منه، ولو سُلّم أنّه محدود حدّا عرفيا لما وسعها أن تَرِده من جديد عند سماع خطبة العيد ودعوة المصلين الذي هو علة خروجها إلى المصلى، فدلّ ذلك على أنّ المراد بالمصلى الصلاة ذاتها.
وعلى تقدير حمل الحديث على اللفظين معا، للزوم أحدهما الآخر باعتزال الحائض المصلى والصلاة بحيث لا يكون أحد اللفظين نافيا للآخر فلا دلالة فيه-أيضا- على منع الحائض من دخول المسجد، ذلك لأنّ صلاة العيد التي كان يؤديها النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أصحابه إنّما كانت بالفضاء ولم ينتقل عنه بسند مقبول على أنّه أداها في المسجد، وقد جعلت الأرض كلّها مسجدا، والحائض والجنب يباح لهما جميع الأرض بلا خلاف، وهي مسجد فلا يجوز أن يُخَصّ بالمنع من بعض المساجد دون بعض(16).
-أمّا قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها:" ناوليني الخمرة من المسجد" قالت: فقلت: إنّي حائض فقال:« إنّ حيضتك ليست في يدك »(17) وفي رواية مسلم:" تناوليها فإن الحيضة ليست في اليد"(18) وقد اختلف في فقه الحديث وهل الخمرة كانت داخل المسجد أو خارجه؟
فمن أجاز لها دخول المسجد بظاهر لفظ الحديث السابق الذي يفيد أن الخمرة كانت بداخل المسجد، فقد حمل قوله صلى الله عليه وآله وسلم:« إن حيضتك ليست في يدك » على قيام عذرها بحيضتها ولا دخل لها ولا إرادة لها فيها، ويعضد هذا المعنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم لها:« إن هذا شيء كتبه الله على بنات آدم » وعليه فلا دلالة على منع الحائض من الدخول فيه، ومن منع منه الحائض استدل برواية النسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد قال:« يا عائشة ناوليني الثوب" فقالت: إني لا أصلي، فقال:« ليس في يدك » فناولته(19). وفي رواية أبي هريرة رضي الله عنه: قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد فقال:" يا عائشة ناوليني الثوب" فقالت: إني حائض فقال:« إنّ حيضتك ليست في يدك »(20) فإنّ ظاهر الروايتين يفيد أنّ الخمرة كانت خارج المسجد وأنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أذن لها في إدخال يدها فقط دون سائر جسدها ولو كان أمرها بدخول المسجد لم يكن لتخصيص اليد معنى.
والحديث تنازعه الفريقان والظاهر أنّه غير صريح في المنع ولا في الإباحة، وينبغي العدول عنه إلى غيره من الأدلة، وإذا لزم الترجيح بينهما لكان حمل قوله:« إن حيضتك ليست في يدك » على معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم:« إن هذا شيء كتبه الله على بنات آدم » وتفسيره به أولى، لأنّ ما يعضده دليل مقدّم على ما لم يعضده دليل آخر، ومن جهة أخرى فإنّ الاستدلال بالحديث على تخصيص إدخال اليد في المسجد دون سائر الجسد تأباه الصناعة الأصولية وقد تقرر في القواعد أنّ "تحريم الشيء مطلقا يقتضي تحريم كل جزء منه"(21)، لذلك كانت الأدلة المقررة للبراءة الأصلية مثيرة لغلبة الظن وموجبه للعمل.
ومع ذلك فإن كان في ترك الحائض دخول المسجد ما تحقق به مصلحة راجحة من تأليف القلوب عن طريق ردم الخلاف فإنه:" يستحب الخروج من الخلاف"(22) وقد ترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم تغيير بناء البيت لما فيه جمع القلوب وتأليفها وصلّى ابن مسعود خلف عثمان رضي الله عنهما بعد إنكاره عليه لإتمام الصلاة في السفر دفعا للخلاف ونبذا للشقاق، أمّا إذا كانت الحاجة أو المصلحة داعية إلى دخول المسجد لطلب العلم الشرعي أو للاستفتاء مثلا كان مأخذ المخالف ضعيفا، وحالتئذ فليس الورع والحيطة الخروج من الخلاف، لأنّ شرطه أن لا يؤدي مراعاته إلى ترك واجب أو إهمال سنة ثابتة أو خرق إجماع، بل الورع في مخالفته لموافقة الشرع فإنّ ذلك أحفظ و أبرأ للدين والذمة.
والله أعلم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّ اللّهم على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلّم تسليما.
الجزائر في:22 محرم 1419هـ
__________
1- أخرجه البخاري في الصلاة(439)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
2- أخرجه مسلم في الحيض(851)، وأبو داود في الطهارة (230)، والنسائي في الطهارة(268)، وابن ماجه في الطهارة(535)، وأحمد(24169) من حديث حذيفة رضي الله عنه.
3- أخرجه البخاري في الحيض(305)، ومسلم في الحج(2977)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
4- أخرجه البخاري في الحج(1641)، ومسلم في الحج(3060)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
5- انظر أفضلية جنس فعل المأمور به على جنس ترك المنهي عنه في "المجموع" لابن تيمية(20/85) وما بعدها، و"الفوائد" لابن القيم(157) وما بعدها.
6- نقل ابن قدامة عدم الخلاف على هذا الأصل، انظر:"روضة الناظر" لابن قدامة:(2/57)، "المسوّدة" لآل تيمية:(181). وأفاد الشيخ الشنقيطي أنّ من أجازه وافق عدم وقوعه("المذكرة":185، "أضواء البيان":1/98،97).
7- تقدم تخريجه.
8- انظر اختلاف العلماء في مسألة مخاطبة الكفار بفروع الشريعة في"المعتمد" لأبي الحسين:(1/295)، "التبصرة" للشيرازي:(80)، "الإشارة" للباجي:(174)، "المحصول" للفخر الرازي:(1/145)، "الإحكام" للآمدي:(1/110)، "شرح تنقيح الفصول" للقرافي:(163)، "أصول السرخسي":(1/87)، "مجموع الفتاوى" لابن تيمية:(22/7-16)، "زاد المعاد" لابن القيم:(5/698-699)، "فواتح الرحموت" للأنصاري:(1/128)، "شرح الكوكب المنير" للفتوحي:(1/503)، "الأشباه والنظائر" للسيوطي:(253)، "إرشاد الفحول" للشوكاني:(10)، "مذكرة الشنقيطي":(33-34).
9- انظر"منع جواز المجاز" للشنقيطي:(4-5). وأهل السنة يختلفون في وقوع المجاز في القرآن، فمنهم من منع وقوعه مطلقا، ومنهم من أجازه فيما عدا آيات الصفات الواجب حملها على الحقيقة دون المجاز، والظاهر أنّ الخلاف لفظي على ما صرح به ابن قدامة-رحمه الله-.
(انظر المسألة في "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة:(103-109-132) "الفقيه والمتفقه" للخطيب البغدادي:(1/64)، "روضة الناظر" لابن قدامة:(1/182)، "مجموع الفتاوى" لابن تيمية:(5/200-201)(7/88-90-96-108)، "الصواعق المرسلة" لابن القيم:(2/632)، "شرح الكوكب المنير":(1/191))
10- انظر صحيح البخاري:(11/281)، في الرقاق، باب كيف كان عيش النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
11- تمام المنة للألباني ص:(118).
12- أخرجه أبو داود:(1/157-159)، والبيهقي:(2/442-443)، وابن خزيمة:(2/284)، من حديث عائشة رضي الله عنها. وحديث جسرة بنت دجاجة ذكره الألباني في الإرواء(1/162)، وقال:(ضعيف، في سنده جسر بنت دجاجة، قال البخاري: عندها عجائب ، وقد ضعف الحديث جماعة منهم البيهقي وابن حزم وعبد الحق الإشبيلي، بل قال ابن حزم:" إنّه باطل"، وقد فصلت القول في ذلك في "ضعيف السنن" رقم:32)، وخرجه في الإرواء برقم:193، وضعفه وذكر علل من ضعفه، وذكر أنّه رد في ضعيف سنن أبي داود على من صححه كابن خزيمة وابن القطان والشوكاني، وضعفه أيضا في تمام المنة:ص(118) .
13- تقريب التهذيب لابن حجر:(2/593).
14- متفق عليه: البخاري في العيدين (974)، ومسلم في صلاة العيدين(2091)، من حديث أم عطية رضي الله عنها.
15- أخرجه الدارمي(1662)، من طريق عبد العزيز بن عبد الصمد عن هشام بن حسان عن حفصة عن أم عطية، ورجال سنده كلهم ثقات، أمّا عبد العزيز إن كان هو العمى فهو ثقة حافظ، وهشام بن حسان الأزدي فهو ثقة -أيضا-.
16- انظر المحلى لابن حزم(2/182).
17- أخرجه مسلم في الحيض(715)، وأبو داود في الطهارة(261)، والترمذي في الطهارة(134)، والنسائي في الطهارة(271)، من حديث عائشة رضي الله عنها. وانظر الإرواء(1/212).
18- مسلم في الحيض(716).
19- النسائي في الطهارة(270).
20- مسلم في الحيض(717)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
21- مجموع الفتاوى لابن تيمية(21/85).
22- انظر هذه القاعدة في الأشباه والنظائر للسيوطي(136)، القواعد الفقهية للندوي(336).(3/29)
الفتوى رقم: 39
في اغتسال الحائض من الجنابة
السؤال: إذا كانت المرأة في عادتها الشهرية، وأصابتها جنابة فهل عليها غسل؟ أم تنتظر حتى تطهر من الحيض وتغتسل غسلين؟.
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فالظاهر من النصوص الحديثية أنَّ المرأة تغتسل إذا وقعت في الجنابة مطلقًا سواء في طهرٍ أو في حيضٍ، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم لأمِّ سُليم امرأة أبي طلحة عندما سئلته :" هَلْ عَلَى المرْأةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا احْتَلَمَتْ؟" فقال:" نَعَمْ، إِذَا هِيَ رَأَتِ الماءَ"(1)، فقد عُلِّق الاغتسال برؤية الماء، ولم يستفصل في مقام الاحتمال فدلَّ ذلك على عموم الحالتين عملاً بقاعدة:" ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال"، وبهذا قال عطاء والنخعي والحسن البصري وغيرهم، وفي المسألة أقوال أخرى. هذا، وليس للمرأة عند اغتسالها من الجنابة نقض شعرها، غير أنها توصل الماء إلى أصول شعرها.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرا.
الجزائر في: 24 صفر 1427ه
الموافق لـ: 24 مارس 2006م
__________
1- أخرجه البخاري في الغسل (282)، ومسلم في الحيض (738)، والترمذي في الطهارة (122)، والنسائي في الطهارة (198)، وابن ماجه في الطهارة وسننها (643)، ومالك في الموطإ (117)، وأحمد (27260)، والبيهقي (823)، من حديث أمّ سلمة رضي الله عنها.(3/30)
الفتوى رقم: 574
في أقصى مدّة النفاس
السؤال: ما حُكْمُ الدَّمِ إذا نزل من النُّفَسَاءِ بعد الأربعين إلى ما يتعدَّى التسعين يومًا؟ بارك الله فيكم وجزاكم خيرًا.
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فأقصى مدّة تنتظرها المرأةُ في النِّفاس إذا استمرَّ بها الدَّمُ أربعين يومًا، فلا تدعُ الصلاةَ بعد هذه المدّة، وتُعَدُّ مُستحاضةً، وهو مذهب جمهور العلماء لحديث أمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قالت:« كَانَتِ المَرْأَةُ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ تَقْعُدُ فِي النِّفَاسِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، لاَ يَأْمُرُهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِقَضَاءِ صَلاَةِ النِّفَاسِ »(1)، وعنها أيضًا قالت:« كَانَتِ النُّفَسَاءُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ تَقْعُدُ بَعْدَ نِفَاسِهَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا، أَوْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً »(2)، وبهذا القول ذهب جماعةٌ من الصحابة منهم: عمر وابن عباس وعثمان ابن أبي العاص وأنس وأمّ سلمة رضي الله عنهم، ولم يُعْرَفْ لهم مخالفٌ في عصرهم فكان إجماعًا، وقد حكاه الترمذي إجماعًا(3)، وهو مقدّم على الاجتهادات الواردة في تقرير أكثر مدّته بستين يومًا كما هو مذهب المالكية ورجّحه ابن العثيمين، أو من جعل مدّته سبعين يومًا -وهو أضعف الأقوال- إذ المعلوم أَنْ لا اجتهادَ في مورد النصِّ والإجماع.
هذا، والنُّفَسَاءُ لها أحكامُ الحائضِ في جميعِ الأحكامِ كالصلاة والصيام والطواف والوَطْءِ في الفَرْجِ، ويُسْتَثْنَى حالة العِدّة فلا تحصل بالنِّفاس؛ لأنّ العِدّة تنقضي بوضع الحمل قبله، وإذا انقطع عنها دَمُ النفاس قبل الأربعين فحُكمُها حكم الطاهرات.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 19 من ذي القعدة 1427ه
الموافق ل: 10 ديسمبر 2006م
__________
1- أخرجه أبو داود في «الطهارة » (312)، والحاكم في «المستدرك » (622)، والبيهقي (1654)، من حديث أم سلمة رضي الله عنها. وحسنه الألباني في «الإرواء » (201).
2- أخرجه أبو داود في «الطهارة » (311)، والترمذي في «أبواب الطهارة » (139)، وابن ماجه في «الطهارة » (648)، والدارمي (949)، والحاكم (622)، وأحمد (26044)، وأبو يعلى (7023)، والبيهقي (1652)، من حديث أم سلمة رضي الله عنها. وصحّحه ابن القيم في «زاد المعاد » (4/369)، وحسّنه الألباني في «الإرواء » (211).
3- سنن الترمذي: (1/378).(3/31)
الفتوى رقم: 597
في حكم المستحاضة
السؤال: امرأةٌ حاضت في أَوَّلِ رمضان، واستمرَّ حيضُها إلى أكثرَ من عشرين يومًا، فهل تجري عليها أحكامُ الحائض؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فإذا استمرَّ عليها الدَّمُ دائمًا سواءً قليلاً أو كثيرًا فإنّها تُعَدُّ مستحاضةً.
فإذا كانت لها عادة معروفة فتعمل بالعادة، فلا تصومُ ولا تصلي ولا يأتيها زوجُها ولا تَمَسُّ المصحفَ في أيام حَيْضِهَا، وما زاد عن ذلك فهو استحاضةٌ فتغتسل بعد انقضاء أيام عادتها وتُعَدُّ من الطاهرات، فتصلي وتصوم، وتقضي الصيامَ الذي تَرَكَتْهُ في أيام حيضها ولو رأت الدم بعدها لقوله صَلَّى الله عليه وآله وسَلَّم:« تَنْتَظِرُ قَدْرَ اللَّيَالِي وَالأَيَّامِ الَّتِي كَانَتْ تَحِيضُهُنَّ وَقَدْرَهُنَّ مِنَ الشَّهْرِ فَتَدَعُ الصَّلاةَ ثُمَّ لِتَغْتَسِلْ وَلِتَسْتَثْفِرْ ثُمَّ تُصَلِّي »(1).
أمّا إن لم يكن لها عادة، لكنّها تميّز الحيض عن غيره، فتعمل بالتمييز لحديث فاطمة بنت أبي حُبَيْش رضي الله عنها أنّها كانت تُسْتَحَاضُ فقال لها النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّمَ:« إذَا كَانَ دَمُ الْحَيْضَةِ فإنَّهُ دَمٌ أسْوَدُ يُعْرَفُ، فإذَا كَانَ ذَلِكَ فَأمْسِكِي عَنِ الصَّلاَةِ، فإذَا كَانَ الآخَرُ فَتَوَضَّئِي وَصَلِّي فَإِنَّمَا هُوَ عِرْقٌ »(2).
فإن لم تكن لها عادة ولا تمييز؛ فإنّها تمكث ستةَ أيام أو سبعة على غالب عادة النساء وتعتبرها أيامَ حَيْضٍ، وما زاد على ذلك فهو استحاضة، لقوله صَلَّى الله عليه وآله وسَلَّم لِحَمْنَةَ بنتِ جَحْشٍ:« إنَّمَا هِذِهِ رَكْضَةٌ مِنْ رَكْضَاتِ الشَّيْطَانِ، فَتَحَيَّضِي سِتَّةَ أيَّامٍ أوْ سَبْعَةَ أيَّامٍ في عِلْمِ اللهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ، ثُمَّ اغْتَسِلِي، حَتَّى إذَا رَأيْتِ أَنَّكِ قَدْ طَهُرْتِ وَاسْتَنْقَأْتِ فَصَلِّي ثَلاَثًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً أوْ أرْبعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً وَأيَّامَهَا وَصُومِي فإنَّ ذَلِكَ يُجْزِيكِ »(3).
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في 10 محرم 1428ه
الموافق ل: 1 فيفري 2007م
__________
1- أخرجه أبو داود في «الطهارة »: (274)، وأحمد: (26105)، والدارمي: (787)، ومالك في «الموطأ »: (134)، والبيهقي: (1606)، من حديث أم سلمة رضي الله عنه، قال النووي في «الخلاصة »: (1/238):« صحيح بأسانيد على شرط البخاري ومسلم »، وصحّحه الألباني في «صحيح الجامع »: (5076).
2- أخرجه أبو داود في «الطهارة »: (286)، والنسائي في «الطهارة »: (217)، وابن حبان: (1468)، والحاكم في «المستدرك »: (629)، والبيهقي: (1582)، من حديث فاطمة بنت حبيش رضي الله عنها. قال النووي في «الخلاصة »: (1/232):« صحيح وأصله في (الصحيحين) بغير هذا اللفظ »، وصحَّحه الألباني في «الإرواء »: (204).
3- أخرجه أبو داود في «الطهارة »: (287)، وأحمد: (27063)، والحاكم في «المستدرك »: (625)، من حديث حمنة بنت جحش رضي الله عنها. والحديث حسَّنه البغوي في «شرح السنة »: (1/422)، والألباني في «الإرواء »: (205).(3/32)
الفتوى رقم: 660
في حكم الصفرة والكدرة قبل زمن الحيض أو بعده
السؤال:
هل تُعتبر الكُدرةُ قبل نزولِ دَمِ الحيض المعروفِ بيومين من الحيض؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَن أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعدُ:
فإن رأتِ المرأةُ الماءَ كالصَّدِيدِ يَعْلُوهُ اصْفِرَارٌ أو ينحو نحوَ السَّوادِ، في أيام الحيض فهو منه، وإن كان في غيرِ وقت الحيض فليس حيضًا، لحديث أُمِّ عَطِيَّةَ:« كُنَّا لاَ نَعُدُّ الصُّفْرَةَ وَالكُدْرَةَ بَعْدَ الطُّهْرِ شَيْئًا »(1)، حيث يدلُّ بمفهومه تَعدادُه من الحيض قبل الطُّهْرِ، ويؤيِّد هذا المعنى قولُ أمِّ علقمةَ مولاةِ عائشةَ رضي الله عنها:« كَانَ النِّسَاءُ يَبْعَثْنَ إِلَى عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ بِالدِّرَجَةِ فِيهَا الكُرْسُفُ فِيهِ الصُفْرَةُ مِنَ الحَيْضِ يَسْأَلْنَهَا عَنِ الصَّلاَةِ، فَتَقُولُ لَهُنَّ: لاَ تَعْجَلْنَ حَتَّى تَرَيْنَ القَصَّةَ البَيْضَاءَ -تُرِيدُ بِذَلِكَ الطُّهْرَ مِنَ الحَيْضَةِ- »(2). وبهذا قال جمهور أهل العلم.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيّنا محمّد، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في 5 محرم 1428ه
الموافق ل: 24 يناير 2007م
__________
1- أخرجه النسائي في «الحيض » (368)، وابن ماجه في «الطهارة » (647)، والدارمي: (864)، والبيهقي: (1642)، من حديث أم عطية رضي الله عنها. وصححه الألباني في «الإرواء » (199).
2- ذكره البخاري تعليقا في كتاب «الحيض » باب إقبال المحيض وإدباره: (1/557)، وأخرجه موصولا مالك في «الموطإ »: (128)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (1634)، من حديث أمّ علقمة مولاة عائشة رضي الله عنها. والحديث صححه النووي في «الخلاصة »: (1/233)، والألباني في «الإرواء »: (198).(3/33)
الفتوى رقم: 760
في المتردّدة بين دم النفاس والحيض والعلة
السؤال:
أنا شابٌّ متزوّجٌ وقد رُزقتُ -ولله الحمد- بولد, ولكن ما يُحيِّرُني أنَّ زوجتي مكثت في نفاسها ما يقرب من ستين يومًا, ثمّ طهرت بعد ذلك لكن عاد إليها الدم بعد أربعة أيام، وعند استشارة الطبيبة المختصّة قالت: بأنّ هذا الدم ليس بدم نفاس ولا حيض، وإنّما هو دم يخرج من جراء تناول حبوب منع الحمل؟ فهل يحل لي جماعها؟.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالأصلُ أنَّ أنّ أقصى مُدَّة النّفاس أربعون يومًا، فإنها تطهر ولو استمر بها الدم على مذهب جمهور العلماء، وإن انقطع الدم وعاد إليها فالأصل في الدماء الحيض، لكن إذا أخبرت طبيبةٌ مختصّة بأنّ هذا الدَّمَ ليس حيضًا ولا نفاسًا وإنما هو دم عِلَّة تُحْدِثه حبوبُ منع الحمل، فإن تُؤُكِّد من ذلك فالمرأة معدودة من الطاهرات، ويجوز للرجل أن يجامعَهَا ولو مع خروج دم العِلَّة بسبب حبوب منع الحمل غير أنه إذا لم يطمئنّ وارتاب في الأمر فعليه أن يدع جِماعها إلى أن تصفوَ من دمها عملاً بقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ »(1)، ولقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبَرَأَ لِدِينِهِ وَعِرِضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الحَرَامِ »(2)، وفي كلِّ الأحوال له أن يُباشرَها بغير جِماع، ويعاملَها معاملة الحائض -حتى يستيقن-، درءًا للشُّبهة وعملاً بالحيطة.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 6 ربيع الثاني 1428ه
الموافق ل: 24 أفريل 2007م
__________
1- أخرجه الترمذي في «صفة القيامة والرقائق والورع »: (2518)، والنسائي في «الأشربة » باب: الحث على ترك الشبهات (5711)، وابن حبان: (722)، والدارمي: (2437)، والحاكم: (2169)، والطيالسي: (1178)، وأحمد: (1729)، وأبو يعلى: (2762)، من حديث الحسن بن علي رضي الله عنه، وصححه أحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد » (3/169) والألباني في «الإرواء » (1/44) رقم (12)، وفي «صحيح الجامع »: (3373)، والوادعي في «الصحيح المسند » (318).
2- أخرجه البخاري في «الإيمان » باب فضل من استبرأ لدينه: (50)، ومسلم في «المساقاة »: (4094)، وأبو داود في «البيوع » باب في اجتناب الشبهات: (3330)، والترمذي في «البيوع » باب: ما جاء في ترك الشبهات: (1205)، وابن ماجه في «الفتن » باب الوقوف عند الشبهات: (3984)، والدارمي: (2436)، وأحمد: (17907)، والبيهقي: (10537)، من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.(3/34)
الفتوى رقم: 815
في اضطراب عادة المرأة
السؤال:
إذا كانت عادةُ المرأة سبعةَ أيامٍ، فحاضت أربعةَ أيامٍ، ثمَّ انقطع الدمُ أربعةَ أيامٍ، ثمَّ عاودها من جديدٍ أربعةَ أيامٍ أخرى، فهل الدمُ الأخير يُعتبر حيضًا أم استحاضة.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فإذا انقطع عن المرأة دمُ الحيض وطهرت فهو طُهْرٌ إذ لا حَدَّ لأقلِّ الحيضِ ولا لأكثرِه على أظهر أقوال أهل العلم، إذ لم يَرِدْ دليلٌ صحيحٌ من نصٍّ أو إجماعٍ أو قياسٍ يُعتمَد عليه أو يصلح للاحتجاج به على التقديرات والتفصيلات التي أوردها الفقهاء، مع أنَّ الضرورة داعية للبيان، وتأخيرُه عن وقت الحاجة لا يجوز، لذلك وجب التمسُّك بمسمَّى الحيض الذي علقت به الأحكام وجودًا وعدمًا، وعليه فإذا وُجِدَ ورأته عادةً مُستمرَّةً فهو حيضٌ، وإذا انقطع فهو طُهْرٌ، وخاصَّةً إذا ما رأت القُصَّةَ البيضاءَ(1)، ولا يمنع الدمُ من الصلاة والصيام وجماع زوجها، فإن عاودها الدم فإمَّا أن ترى ما يدلُّ على أنَّه حيض وإلاَّ فهو استحاضة؛ فلو رأت بعد الطهر صفرة أو كدرة أو رطوبة أو نقطة فلا تنتقل إلى الحيض بل تستصحب في هذه الحالة حكمَ الطُّهْرِ لحديث أم عَطيةَ رضي الله عنها قالت:« كُنَّا لاَ نَعُدُّ الصُّفْرَةَ وَالكُدْرَةَ بَعْدَ الطُّهْرِ شَيْئًا »(2)، ذلك لأنَّ «الأَصْلَ فِي كُلِّ مَا يَخْرُجُ مِنَ الرَّحِمِ مِنَ دَمٍ طَبِيعِيٍّ إِنَّمَا هُوَ حَيْضٌ » حتى يقوم الدليل على أنَّه استحاضة، فإن لم تعلم ولم تر فتُحَكِّمُ الأصلَ السابقَ.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في 1 المحرم 1429ه
الموافق ل: 9 جانفي 2008م
__________
1- القصة البيضاء هي: ماء أبيض كالخيط يدفعه الرَّحِمُ عند انقطاع الحيض كلّه. [«النهاية » لابن الأثير: (4/71)].
2- أخرجه النسائي في «الحيض » (368)، وابن ماجه في «الطهارة » (647)، والدارمي: (864)، والبيهقي: (1642)، من حديث أم عطية رضي الله عنها. وصححه الألباني في «الإرواء » (199).(3/35)
الفتوى رقم: 831
في تفنيد الاستدلال بحديث «افعلي ما يفعله الحاج » على عدم اشتراط الطهارة للحائض في مس المصحف.
السؤال:
ما جوابكم فيمن استدل على عدم اشتراط الطهارة لمس المصحف للحائض والجنب والمحدث بقوله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم لعائشة رضي الله عنها في حَجَّة الوداع لما حاضت:« افْعَلِي مَا يَفْعَلُهُ الحَاجُّ إِلاَّ أَنْ لاَ تَطُوفِي بِالبَيْتِ »؟.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فإنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم علَّق حُكمَها بوصف:« الحاجِّ » لبيان ما يجوز فيه النُّسُكُ للحائض المُحْرِمَة وما يَحْرُمُ عليها، فلا يحتاج المَقام حَالَتَئِذٍ إلى بيان حكم مسِّ القرآن؛ لأنه ليس من شعائر الحجِّ ومناسكه، فشأنه أنه ليس من لوازم الحجِّ كصوم الحاج، فإنه يصحُّ صومه منه دون الحائض -كما هو معلوم-.
ومع ذلك لم يمنعِ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم عائشةَ رضي الله عنها منه في الحديث السابق، ولا يعني ذلك جوازه لها، غاية ما في الأمر: أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسلَّم في معرض بيان خصوص ما يتعلَّق بمناسك الحجِّ للحائض المُحْرِمَة، وأمرُ الصوم ومسِّ القرآن ليس من مُتعلّقاته صحّةً وبطلانًا، وعليه فإنَّ السكوت عن مسِّ المُصحف في الحديث ليس دليلاً في المسألة ولا نصًّا في إباحته.
ولو سُلِّم جوازه فإنه يستدلُّ عليه بورود الحديث مُطلقًا مقرِّرًا للبراءة الأصلية ومُبقيًا لها، وقد جاء ما يفيد تقييدَه بما ثبت من حديث عمرو بن حزم في كتابه:« لاَ يَمَسُّ القُرْآنَ إِلاَّ طَاهِرٌ ».
فهو خبرٌ ناقلٌ عن أصل البراءة والناقل عنه أَوْلَى بالتقديم(1)، لِمَا يفيده من حكمٍ شرعيٍّ ليس موجودًا في الخبر المُبقي للبراءة الأصلية، وما كان كذلك فهو أَوْلَى بأن تُشغل الذمَّة به، خاصَّة إذا أفاده الحكم الشرعي الجديد محظورًا، لما تقرَّر أصوليًّا بأنّ « الدليل الحاظِرَ مقدَّم على المبيح »، إذ ترك المُباح لاجتناب المحرَّم أَوْلَى من عكسه.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 23 المحرم 1429ه
الموافق ل: 31 جانفي 2008م
__________
1- هذا عند جمهور الأصوليين، وذهب الفخر الرازي إلى تقديم ما كان مقرِّرًا لحكم البراءة على ما كان ناقلاً عنها، واختاره البيضاوي، لاعتضاد المقرٍّر بدليل الأصل.
انظر:« المعونة » للشيرازي: (276)، «المحصول » للفخر الرازي: (2/2/579)، «روضة الناظر » لابن قدامة: (2/461)، «شرح تنقيح الفصول » للقرافي: (424)، «المسوَّدة » لآل تيمية: (314)، «الإبهاج » للسبكي وابنه:« 3/233)، «نهاية السول » للإسنوي: (3/242)، «تقريب الوصول » لابن جزي: (166)، «إرشاد الفحول » للشوكاني: (279)، «نشر البنود » للعلوي: (2/299).(3/36)
الفتوى رقم: 948
في حكم الدم العائد للمرأة بعد طهرها من النفاس
السؤال:
امرأةٌ طَهُرَتْ بعد الأربعين من نفاسها وقد تخللها في أثنائه انقطاع ثمَّ عاد إليها الدم من جديد، فهل هو دَمُ نِفاسٍ أم حيضٍ أم فسادٍ؟ أفيدونا جزاكم اللهُ خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فالدَّمُ العائد على المرأة بعد طُهرها من النِّفاس يختلف باختلاف القرائن والأحوال، فإن كان الدم العائد بأوصاف دمِ النفاس من لونٍ ورائحةٍ فهو نفاسٌ، فإن وافق الدم العائد عادةَ حيضها فهو حيضٌ، وفي كلا الحالتين لا تصلي ولا تصوم ولا يقربها زوجها بالوطء، وعليها بعد طُهرها قضاءُ الصوم الواجب دون الصلاة، فإن عَلِمَت بانتفاء أوصاف النفاس والحيض وأحوالهما في الخارج منها فهي معدودة في حكم الطاهرات؛ لأنه دَمُ استحاضة لا يمنع الصلاة والوطءَ والطوافَ ولا يلحقها قضاء.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 17 شوال 1429ه
الموافق ل: 16 أكتوبر 2008م(3/37)
الفتوى رقم: 966
في حكم نقطتي دم في أثناء العادة
السؤال:
رأت امرأة -أثناء صومها وفي عادتها الشهرية- نقطتين من دمٍ بنيتين، فأفطرت ثمَّ تبيَّن لها أنه لم يَنْزِل منها دَمٌ بعد مرور يومين، فهل تُعتبر النقطتان حيضًا؟ وهل عليها قضاء؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فإذا كانت النقطتان في أيام عادتها الشهرية فإنه يعدُّ حيضًا؛ لأنَّ الطهر أو اليبوسة الحاصلة أيام حيضتها تتبع الحيض ولا يُعتبر طهرًا.
أمَّا إذا لم تكن في أيام عادتها فلا تُعتبر حيضًا، وإنَّما هي من العروق؛ لأنَّ الأصلَ الطهارةُ وعدمُ الحيض حتى يتبيَّن لها أنَّه حيض. وقد أُثِر عن عليٍّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه بأنَّ هذه النقاط الشبيهة برعاف الأنف ليست حيضًا(1)، ويحمل قوله رضي الله عنه على غير أيام العادة.
وإذا تقرَّر أنَّه حيض لكونه في وقت حيضها فلا صلاة ولا صيام يتبعها لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ؟»(2)، وحكمها بعد انقطاع الحيض حكم الطواهر فتغتسل وتُصلي وتقضي صيامها بعد رمضان دون الصلاة بالإجماع.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 22 رمضان 1418ه
الموافق ل: 21 جانفي 1998م
__________
1- أخرجه الدارمي في «سننه»: (879)، عن علي رضي الله عنه موقوفًا.
2- أخرجه البخاري في «الحيض»، باب ترك الحائض الصوم: (298)، وابن خزيمة في «صحيحه»: (2043)، والبيهقي في «السنن الكبرى»: (1517)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه(3/38)
06- سنن الفطرة
الفتوى رقم: 201
في حكم إعفاء اللحية
السؤال: ذكر لي بعض الأئمة أنّه لا يوجد دليل على وجوب إعفاء اللحية وأنّ إرخاءها لا يُعدّ من العبادات المأمور بها وإنّما هي من عادات العرب، فهل هذا القول صحيح؟ وما دليله؟ أفتونا مأجورين.
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فاعلم أنّ أصل إعفاء اللحية واجب وهو قول جماهير العلماء من أصحاب المذاهب بما فيهم المذاهب الأربعة وغيرهم، بل نقل ابن حزم الإجماع على ذلك(1)، ومستند الإجماع قوله صلى الله عليه وآله وسلم:« جزوا الشوارب، وأرخوا اللحى، وخالفوا المجوس »(2) وقوله صلى الله عليه وسلم:« خالفوا المشركين، ووفروا اللحى، واحفوا الشوارب »(3) وفي رواية:«أنهكوا الشوارب واعفوا اللحى »(4)، فهذه بعض الأدلة على وجوب إعفائها وتحريم حلقها لأنّ حلق اللحية مخالف لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد جاء خطاب الله محذرا من مخالفة الرسول في قوله تعالى: ?فَلْيَحْذَر الذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ? [النور:63]، ولأنّ حلقها تغيير لخلق الله وقد قال تعالى حكاية عن إبليس: ?وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ? [النساء:119] ولهذا كان حلقها مثلة، قال ابن تيمية:"وأمّا حلقها فمثل حلق المرأة رأسها أو أشد لأنّها من المثلة المنهي عنها" ولأنّ في حلقها تشبها بالنساء وقد زيّن الله الرجال باللحى وميزهم عليهنّ بها وقد روى ابن عباس رضي الله عنه:" لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال"(5) ولأنّ حلقها تبديل للفطرة التي فطر الناس عليها، كما أنّ في حلقها تشبها بالكفار الذين أمرنا الشرع بمخالفتهم في قوله صلى الله عليه وآله وسلم:« خالفوا المشركين »،«خالفوا المجوس » لذلك كان حالقها آثما لتركه لوجوب الإعفاء على ما
نصت عليه الأدلة السابقة، ولا يساورنا أدنى شك أنّ توفير اللحية من سنن الفطرة التي واظب النبي صلى الله عليه وآله وسلم على فعلها ولم ينقل عن أحد من أصحابه أنّه حلقها بل أمر بتوفيرها حتى أضحت سمة ظاهرة من سمات أهل الإسلام تميزهم عن أهل الشرك والضلال.
والعلم عند الله تعالى وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
الجزائر في: 10 ربيع الأول 1425ه
الموافق ل : 30 أفريل 2004 م
__________
1- مراتب الإجماع لابن حزم:(157).
2- أخرجه مسلم في الطهارة(626)، وأحمد(9020)، والبيهقي(710)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
3- أخرجه البخاري في اللباس(5892)، ومسلم في الطهارة(625)، والبيهقي(709)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
4- أخرجه البخاري في اللباس(5893)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
5- أخرجه البخاري في اللباس(5885)،وابن ماجة في النكاح(1979)، وأحمد(2306)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما(3/39)
الفتوى رقم: 473
في حكم دفن الأظافر بعد تقليمها
السؤال: سمعنا من البعض أنه يجب على الإنسان أن يدفن أظافره إذا قلمها، فهل هذا صحيح ؟.
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فقد استحبَّ بعض أهل العلم دفن ما قلم من الأظفار وما أزيل من الشعر لما رُوِي عن ميل بنت مشرح الأشعرية قالت:" رأيت أبي يقلم أظفاره ويدفنها ويقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفعل ذلك"(1) وسئل أحمد عن الرجل يأخذ من شعره وأظفاره أيدفنه أم يلقيه؟ قال: يدفنه، فقال: بلغك فيه شيء؟ قال:" كان ابن عمر يدفنه"(2).
والحديث وإن لم يرتق إلى درجة الصحة إلاَّ أنَّ وجه الاستحباب فيه من جهة النظر هو أنَّ الجزء المستأصل من البدن قد يعطى حكم البدن إجراء للجزء مجرى الكل.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 7 جمادى الثانية 1427ه
الموافق لـ: 2 يوليو 2006م
__________
1- قال الهيثمي في "مجمع الزوائد ومنبع الفوائد" (2/333):" رواه البزار والطبراني في الكبير والأوسط من طريق عبيد الله بن سلمة بن وهرام عن أبيه وكلاهما ضعيف وأبوه وثق". وقال ابن حجر في التلخيص الحبير (2/341):" وإسناده ضعيف".
2- المغني لابن قدامة: 1/88.(3/40)
الفتوى رقم: 477
في الأفضلية في الأخذ من الشارب
السؤال: ما هو الأفضل في الأخذ من الشارب: حلقه أم قصه؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فالعلماء يختلفون في الأفضلية بين الإحفاء والتقصير، وقد احتجَّ المحفون بأحاديث الأمر بالإحفاء منها:" احْفُوا الشَّوَارِبَ"(1) ومنها "جُزُوا الشَّوَارِبَ"(2) ومنها "أَنْهِكُوا الشَّوِارِبَ"(3)، وبالإحفاء قال جماعة من الصحابة رضي الله عنهم كأبي سعيد، وأبي هريرة رضي الله عنهم وغيرهم، أمَّا من لم ير إحفاء الشارب فاستدلَّ بجملة أخرى من الأحاديث الصحيحة منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه:" عَشْرٌ مِنَ الفِطْرَةِ"(4) فذكر قص الشارب وفي رواية:" الفِطْرَةُ خَمْسٌ"(5) فذكر قص الشارب، و"أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ من شارب المغيرة على سواكه"(6) وغيرها من الأدلة.
والذي يترجح عندي التخيير بين الإحفاء والتقصير حملاً للأدلة على الجمع على تغاير الأحوال وهو مذهب أحمد وغيره، أمَّا فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان إذا غضب فتل شاربه(7) فلا يعارض الإحفاء لأنَّه أخذ بإحدى الحالتين على التخيير وهي لا تنافي الأخرى، فضلا عمَّا تقدم من ذكر جملة من الصحابة رضي الله عنهم أخذوا بالحالة الأخرى المغايرة لفعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 10 جمادى الثانية 1427ه
الموافق لـ: 5 يوليو 2006م
__________
1- أخرجه البخاري في اللباس (5892)، ومسلم في الطهارة (623)، والترمذي في الأدب (2990)، والنسائي في الطهارة (15)، وأحمد (4756)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وأخرجه أبو داود في الترجل (4201) بلفظ:" أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بإحفاء الشارب".
2- أخرجه مسلم في الطهارة (626)، وأحمد (9013)، والبيهقي (710)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وأخرجه أحمد (5256) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ:" أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تعفى اللحى وأن تجزَّ الشوارب".
3- أخرجه البخاري في اللباس، باب إعفاء اللحى (5893)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
4- أخرجه مسلم في الطهارة (627)، وأبو داود في الطهارة (53)، والترمذي في الأدب (2982)، وابن ماجه في الطهارة وسننها (308)، وأحمد (25802)، والبيهقي (156)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
5- أخرجه البخاري في اللباس (5891)، ومسلم في الطهارة (620)، وأبو داود في الترجل (4200)، والنسائي في الطهارة (9)، والبيهقي (6175)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
6- أخرجه أبو داود في الطهارة (188)، وأحمد (18704)، من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه. وصححه الألباني في صحيح أبي داود (188).
7- أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (52)، عن عامر بن عبد الله بن الزبير. وصححه الألباني في "آداب الزفاف" (137).(3/41)
الفتوى رقم: 576
في تختين المولود في غير اليوم السابع
السؤال: هل يجوز أن يُخَتَّن المولودُ في غير اليوم السابع؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وأصحابه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فيجوز أن يُخَتَّنَ المولود في غير اليوم السابع شريطةَ أن لا يتجاوز الحدّ الأعلى وهو البلوغ، وإنّما ختانه يومَ سابِعِه مستحبّ وهو الحدّ الأدنى، ويُعذر في تركه ذلك اليوم لعلّة الضعف، فإذا وجده لا يحتمل الختان فله أن يؤجِّلَه إلى يوم القدرة، فإذا استمرّ به الضعف وخشي عليه التلف فيسقط وجوبُ الختان بالعَجْزِ كسائر الواجبات؛ لأنّ الواجبات لا تجب مع العجز أو خوف التَّلَفِ أو الضرر، ويستحبّ عند المالكيةِ تأخيرُه حتى يُؤْمَرَ الصبي بالصلاة وذلك من سبعٍ إلى عَشْرِ سنين(1).
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 20 محرم 1428ه
الموافق ل: 8 فبراير 2007م
__________
1- «شرح الزرقاني على خليل »: (3/47)(3/42)
الفتوى رقم: 577
في حكم ختان النساء
السؤال: هل يُشرع الخِتان للنّساء؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وأصحابه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فيستحبُّ الختان في حقِّ النّساء ولا يجب، لقول النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم لبعض الخاتنات في المدينة:« إِذَا خَتَنْتِ فَلاَ تنْهكِي، فَإِنَّ ذَلِكَ أَحْظَى لِلْمَرْأَةِ وَأَحَبُّ لِلْبَعْلِ »(1)، وفي رواية:« اخْفضِي وَلاَ تَنْهِكِي فَإِنَّهُ أَنْضَرُ لِلْوَجْهِ وَأَحْظَى لِلزَّوْجِ »(2) ، ولقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« إِذَا الْتَقَى الخِتَانَانِ فَقَدْ وَجَبَ الغُسْلُ »(3)، ففيه دليل على أنّ النساء يُخَتَنَّ، وإنّما يكون ذلك في حال صغرها ويكون بالصفة الشرعية وهو ما يُسَمَّى ب «الخفاض »، ومسألة الختان في حقِّ البنت خلافية بين أهل العلم ولو صحّ حديث:« الخِتَانُ سُنَّةٌ لِلرِّجَالِ مَكْرَمَةٌ لِلنِّسَاءِ »(4) لكان ذلك قاطعًا في الموضوع، لكن الحديث ضعّفه الألباني في «ضعيف الجامع »، وقد رُجِّحَ القولُ بالاستحباب في حقِّ الأنثى، والوجوب في حقّ الذكر لوجود الفارق بينهما؛ لأنّ فائدة الخِفَاضِ بالنسبة للأنثى هي التقليل من شهوتها وهو طلب كَمَالٍ، ويدخل في رفع الأذى والضرر، بينما يتعلّق الخِتان في حقّ الذكر بالأذى والنجاسة لتعلُّق البول بالقُلْفَة، الأمر الذي يؤدّي إلى الالتهاب أو إلى الاحتراق أو نجاسة الثوب عند الحركة، فإنَّ قَطْعَ القُلفةِ رفعُ مفسدةٍ شرعيةٍ متعلِّقةٍ بالطهارة وشروط الصلاة، فافترق الحكم بين ما كان واجبًا في حقّ الذكر وما كان مستحبًّا في حقّ الأنثى.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 20 محرم 1428ه
الموافق ل: 8 فبراير 2007م
__________
1- أخرجه أبو داود (5266)، والبيهقي (17966)، من حديث أم عطية رضي الله عنها.
2- أخرجه أبو داود (5671) من حديث أم عطية رضي الله عنها وصحّحه الألباني في «الصحيحة » (722)، وللشيخ الألباني كلام نفيس في هذا الباب فراجع «الصحيحة » (2/353).
?- أخرجه الترمذي (108 ـ 109) وابن ماجه (608) وأحمد (6/161) وعبد الرزاق (1/245 ـ 246) وابن حبان (1173)من حديث عائشة رضي الله عنها. انظر:« الصحيحة » للألباني (1261) و«الإرواء » (80).
4- أخرجه أحمد في «المسند » (5/75) من حديث أسامة الهذلي رضي الله عنها، وضعّفه الألباني في «ضعيف الجامع الصغير » (2937) وفي «الضعيفة » (4/1035) (2938)، وانظر ما قاله الحافظ في «الفتح »: (10/341).(3/43)
الفتوى رقم: 857
في حكم تقصير اللحية بأمر إداري من ولاة الأمر
السؤال:
أصدرت بعض الجهات الإدارية قانونا يلزم الموظفين بتقصير اللحية، فهل يطاع ولي الأمر في ذلك؟ جزاكم اللهُ خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فاعلم أنَّ السُّنَّةَ التي جرى عليها السلفُ من الصحابة وغيرهم إعفاءُ اللِّحية إلاَّ ما زاد على القبضة فتؤخذ الزيادة بالقصِّ، فقد روى أبو داود وغيرُه عن مروان بن سالم قال:« رَأَيْتُ ابنَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يَقْبِضُ عَلَى لِحْيَتِهِ فَيَقْطَعُ مَا زَادَ عَلَى الكَفِّ »(1)، وهو المنقول عن أبي هريرة رضي الله عنه(2)، وقال ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما في معرض تفسيره لقوله تعالى: ?ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ? [الحج: 29]:« التَّفَثُ: حلق الرأس، وأخذ الشاربين، ونتف الإبط، وحلق العانة، وقص الأظفار، والأخذ من اللحية، ورمي الجمار، والموقف بعرفة والمزدلفة »(3)، وقد استحبَّ ذلك مالكٌ وأحمدُ وغيرُهما، فقد روى ابنُ القاسم عن مالك:« لا بأس أن يؤخذ ما تطاير من اللحية وشَذَّ، قيل لمالك: فإذا طالت جِدًّا؟ قال: أرى أن يُؤخذ منها وتُقصُّ، وروى عن عبد الله بن عمر وأبي هريرة أنهما كانا يأخذان من اللِّحية ما فضل عن القبضة »(4)، قال الباجي المالكي:« وقد استحبَّ ذلك مالكٌ -رحمه الله-؛ لأنَّ الأخذ منها على وجه لا يغيِّر الخِلْقَةَ من الجمال، والاستئصال لهما -أي: الرأس واللحية- مُثْلَة كحلق رأس المرأة فمنع من استئصالهما أو أن يقع فيهما ما يُغيِّر الخلقة ويُؤدِّي إلى المثلة، وأمَّا ما تزايد منها وخرج عن حدِّ الجمال إلى حدِّ التشعُّت وبقاؤه مثلة، فإنَّ أخذه مشروع »(5).
وعليه، فإن كان الأخذ منها ما فضل عن القبضة فقد تقدم أنَّ ذلك كان معروفًا عند السَّلف فعله، وتلزم طاعة من أمر اللهُ بطاعته في المعروف، أمَّا أن يزيد على القبضة فإنَّ هذا مخالف لأوامر النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم بإعفاء اللِّحَى وإرخائها، وهي محمولة على الوجوب في قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« وَاعْفُوا اللِّحَى »(6)، و«أرخوا اللِّحَى »(7)، والمعلوم أنَّ طاعة الحاكم إنَّما تكون في طاعة الله ورسوله، فلا يجوز للمسلم أن يقدم عليهما لقوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ? [الحجرات: 1]، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، و«إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي المَعْرُوفِ »(8)، كما ثبت في الصحيحين عنه صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 17 صفر 1429ه
الموافق ل: 24 فيفري 2008م
__________
1- أخرجه أبو داود في «الصيام »، باب القول عند الإفطار: (2357)، والحاكم في «المستدرك »: (1536)، والدارقطني في «سننه »: (2/185)، من طريق مروان بن سالم، والأثر حسنه الألباني في «الإرواء »: (4/39).
2- أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف »: (25481)، وانظر «السلسلة الضعيفة » للألباني: (5/376).
3- أخرجه الطبري في «تفسيره »: (9/134)، وابن أبي شيبة في «المصنف »: (15673)، من طريق عطاء، والأثر صححه الألباني في «السلسلة الضعيفة »: (5/376).
4- المنتقى للباجي: 7/266.
5- المصدر السابق: 3/32.
6- أخرجه البخاري في «اللباس »،باب إعفاء اللحى : (5554)، ومسلم في «الطهارة »، باب خصال الفطرة: (600)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
7- أخرجه مسلم في «الطهارة »، باب خصال الفطرة: (603)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
8- أخرجه البخاري في «الأحكام »، باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية: (6727)، ومسلم في «الإمارة »، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية: (4765)، وأبو داود في «الجهاد »، باب في الطاعة: (2625)، والنسائي في «البيعة »، باب جزاء من أمر بمعصية فأطاع: (4205)، وأحمد في «مسنده »: (623)، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.(3/44)
****************** 04- فتاوى الصلاة ******************
01- الأذان
الفتوى رقم: 47
أذان الفجر الشرعي
السؤال: إنّ الحمد لله نستعينه ونستغفره والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، وبعد: فالسلام عليكم ورحمة الله
أجيبونا -جزاكم الله خيرا- فيمن يؤذّن متأخرا عن الوقت المحدد في الرزنامة الرسمية بعشر دقائق (10)، وذلك في صلاة الفجر. كم يضيف إليها (20) دقيقة بين الأذان الثاني والإقامة للصلاة ؟ بارك الله فيكم.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فاعلم -وفقك الله- أنّ الفجر فجران، فجر صادق وصفته أن ينتشر ممتدا في الأفق الشرقي، والمراد بالأفق هو ما يرى من السماء متصلا بالأرض، والثاني: فجر كاذب وصفته أنّه يرتفع في السماء مثل العمود ولا يكون ممتدا في الأفق، وقد عبّر عنه الحديث بـ "ذنب السّرحان"(1) أي ذيل الذنب.
والفجر الحقيقي الذي تحلّ فيه الصلاة هو الفجر الصادق، أما الفجر الكاذب هو الفجر الأول إنّما يكون بالليل، ومن افتتح الصلاة قبل طلوع الفجر الآخر يجب عليه الإعادة لحديث ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :"الفجر فجران: فجر يحرم فيه الطعام وتحل فيه الصلاة، وفجر تحرم فيه الصلاة ويحل فيه الطعام"(2).
والأذان الرسمي الحالي المبني على التوقيت الفلكي لم يراع حقيقة طلوع الفجر الصادق ولا صفته والمفارقة فيه ظاهرة للعيان، وإنّما يدخل الفجر الصادق بعد مضي الأذان الرسمي بحوالي عشر دقائق إلى عشرين دقيقة، بحسب فصول السنة حرصا على أهمّ ركن في الدين وهو الصلاة، وحملا لأفعال المصلين على الصحة والسلامة، وتجاوبا مع ما يمليه الشرع ويأمر به. قال تعالى: ? يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا اسْتَجِيْبُوا لِلَّهِ وَللِرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيْكُمْ? [الأنفال 24]، وقال عزَّ وجل:?ومَا آتَاكُمُ الرَّسُوْلُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا? [الحشر 7]، وقد أمر الله تعالى بالمحافظة على الصلوات وفي وقتها المحدد لها شرعا قال تعالى ?إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِيْنَ كِتَاباً مَّوْقُوْتاً? [النساء 103] أي أجلا محددا، وقال سبحانه:?حَافِظُواْ عَلَى الصَّلوَاَت وَالصَّلاَةِ الوُسْطَى? [البقرة 238]، ويصف سبحانه وتعالى المؤمنين وعباد الرحمن بقوله: ?وَالَّذِيْنَ هُمْ عَلَى صَلواتِهِمْ يُحَافِظُوْنَ ? [المؤمنون 9] أي يحافظون على أدائها بالوجه الشرعي وفي الوقت الذي عيَّنه الله تعالى لأداء الصلاة. نسأله تعالى أن يعيننا على أدائها بالوجه الأكمل وأن يجعلنا من المحافظين عليها العاملين بما أمر الله تعالى المنتهيين عمّا نهى عنه المولى عزَّ وجل.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في 24 شعبان 1422 ه
الموافق 4 نوفمبر 2001 م.
__________
1- أخرجه الحاكم(1/191)،وعنه البيهقي(1/377)، والديلمي(2/244) من حديث جابر رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في السلسلة الصحيحة(2002).
2- أخرجه ابن خزيمة في صحيحه (1/52/2)،وعنه الحاكم(1/425)، والبيهقي(1/377 و457 و4 م216) من حديث ابن عباس رضي الله عنه، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة(693).(4/1)
الفتوى رقم: 54
أذان المنفرد
السؤال: هل الأذان واجب للوقت أم للصلاة؟ بمعنى هل يجب على المنفرد الأذان للصلاة وعدم الاكتفاء بأذان المسجد؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فالمسألة خلافية مردها إلى تردد الأذان والإقامة بين أن يكون قولا من أقاويل الصلاة المختصة بها أو يكون المقصود به هو الدعاء إلى الاجتماع للصلاة، فمن قال بالثاني اعتبرها سنة مؤكدة في المساجد أو فرضا في المواضع التي تجتمع إليها الجماعة.
والظاهر الأقوى القول بالوجوب على الكفاية ويكفيه من كان في جماعة أذان المؤذن لها وإقامته لجملة من الأحاديث الدالة على وجوب الأذان والإقامة منها حديث أبي الدرداء مرفوعا:"ما من ثلاثة في قرية فلا يؤذن ولا تقام فيهم الصلوات إلاّ استحوذ عليهم الشيطان"(1)، والحديث دال على وجوب الأذان والإقامة، لأنّ الترك الذي هو نوع من استحواذ الشيطان يجب تجنبه، ولحديث مالك بن الحويرث وفيه:" إذا حضرت الصلاة ليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم"(2)، وصيغة الأمر تدلّ على الوجوب كما هو مقرر في موضعه، فهذه الأحاديث فإنّها بغض النظر عن دلالتها في الجملة على الوجوب فهي تدلّ من جهة أخرى على عدم اختصاصها بالجماعة كما ثبت في حديث البخاري وغيره مرفوعا:" إذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت بالصلاة، فارفع صوتك بالنداء فإنّه لا يسمع مدى صوت المؤذن جنّ ولا إنس ولا شيء إلاّ شهد له يوم القيامة"(3)، وما ثبت أيضا من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" يعجب ربكم من راعي غنم في رأس شظية بجبل يؤذن بالصلاة ويصلي، فيقول الله عز وجلّ: انظروا إلى عبدي هذا يؤذن ويقيم الصلاة، يخاف مني فقد غفرت لعبدي وأدخلته الجنّة"(4)، والحديث دل على استحباب الأذان والإقامة للمنفرد، وقد جاء في بعض طرق حديث المسيء صلاته، فلو صحت هذه الطرق لكان ألصق بالوجوب، وشأن النساء في ذلك كشأن الرجال لكونهنّ شقائق الرجال، وما ورد من أدلة في تخصيصهم لا يصلح به التخصيص من الحكم السابق.
والله أعلم، وفوق كلّ ذي علم عليم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
__________
1- أخرجه أبو داود في الصلاة (547)، والنسائي في الإمامة(847)، وأحمد (28279)، والبيهقي في السنن(5126)، من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه.
2- متفق عليه :أخرجه البخاري في الأذان(628)، ومسلم في المساجد(1567)، والنسائي في الأذان(636)، وأحمد(16003)، والدارمي في السنن كتاب الصلاة(1300)، والدارقطني في السنن(1078)، والبيهقي في السنن كتاب الصلاة(1880)، من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه.
3- أخرجه البخاري في الأذان(609)، ومالك (151)، وأحمد(11611)، والبيهقي في السنن كتاب الصلاة(1934)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
4- أخرجه أبو داود(1203)، والنسائي (1/108)، من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، والحديث صححه الألباني في الصحيحة(1/65).(4/2)
الفتوى رقم: 405
في صحة إجابة المؤذن قبل دخول الوقت الشرعي
السؤال: هل يجاب المؤذن إذا أذن في غير الوقت الشرعي؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فلا يجوز ترديد الأذان وراء المؤذن إلاَّ في الأذان المشروع، المأذون فيه، لأنَّ قوله صلى الله عليه وآله وسلم:« فَقُولُوا مِثْلَ ما يَقُولُ"(1) مطلق، والأمر المطلق لا يتناول المكروه لاستحالة اجتماع الضدين في محل واحد، فالأمر المطلق -إذن- لا يشمل إلاَّ ما أذن فيه.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 5 ربيع الأول 1427ه
الموافق لـ: 3 أفريل 2006م
__________
1- أخرجه البخاري في الأذان (611)، ومسلم في الصلاة (874)، وأبو داود في الصلاة (522)، والترمذي في الصلاة (208)، والنسائي في الأذان (681)، ومالك في الموطإ (148)، وأحمد (11816)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.(4/3)
الفتوى رقم: 478
في شروط متابعة المؤذن
السؤال: ذكرتم في فتواكم:" ما حكم الصلاة وراء إمام يمارس أعمال السحر والكهانة" أنّ إمام المسجد إذا ثبت بيقين كونه مشعوذا ساحرا يتعامل مع الشياطين، فإنّه لا يُصلَّى خلفه، فهل يُلحَق به مؤذنه فلا يُردَّد الأذانُ بعده؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فلا تلازم بين الأذان والصلاة، لأنَّ الأذان هو الإعلام بوقت الصلاة بألفاظ مخصوصة، فإذا وقع الأذان من مسلم في وقته المشروع ومرتَّبًا على نحو ما علَّمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبا محذورة رضي الله عنه، فإنه يُشرع عند النداء أن يقولوا مثل ما يقول المؤذن، ويصلوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد الانتهاء من الأذان، ويسألوا الله تعالى له الوسيلة كما ثبت ذلك في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول:" إِذَا سَمِعْتُمُ الْمُؤَذِّنَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يَقُولُ ثُمَّ صَلُّوا عَلَيَّ فَإِنَّهُ مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا ثُمَّ سَلُوا اللَّهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِى الْجَنَّةِ لاَ تَنْبَغِي إِلاَّ لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ فَمَنْ سَأَلَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ"(1).
أمَّا إذا كان المؤذن غيرَ مسلم، أو جاء أذانُه في غير المشروع من الوقت، أو وقع غيرَ مرتَّب من حيثُ ألفاظُه فلا يُعدُّ أذانا شرعيًّا، ولا تُشرع متابعتُه.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 10 جمادى الثانية 1427ه
الموافق لـ: 5 يوليو 2006م
__________
1- أخرجه مسلم في الصلاة (875)، وأبو داود في الصلاة (523)، والنسائي في الأذان (686)، وابن حبان (1690)، وابن خزيمة (418)، من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه.(4/4)
الفتوى رقم: 599
في مشروعية متابعة المقيم في ألفاظ الإقامة
السؤال: هل تشرع متابعة المقيم في ألفاظ الإقامة ؟ وهل يشرع للمرأة أن تؤذن وتقيم لنفسها أو بين النساء؟
الجواب: الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فقد تقدّم جواب عن أذان المرأة وإقامتها(1)، وذكرنا أنّها لا تخرج عن حكم الرجال؛ لأنّ «النِّسَاءَ شَقَائِقُ الرِّجَالِ »(2)، وقد ثبت في حقِّ الرجُل المنفرد وجوبُ الأذان والإقامة في حديثِ المسيءِ صلاتَه الذي أمره النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم بالأذان والإقامة(3).
أمّا عن مشروعية المتابعة في الإقامة، فالظاهر عدم مشروعيتها؛ لأنّ حديث «بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلاَةٌ »(4)، ذُكر على سبيل تغليب التذكير على التأنيث كالقمرين [الشمس والقمر]، والأبوين [الأب والأمّ]، وحَمْل أحد الاسمين على الآخر شائع في كلام العرب؛ لأنّ «الأصل في العبادات التوقيف ما لم يرد دليل »، ولم يُعلم عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يتابعون المقيم في ألفاظ الإقامة، مع احتمال أن يكون اسم الأذان حقيقةً لكلّ منهما؛ لأنّ الأذان في اللّغة بمعنى الإعلام، وهو في الاصطلاح إعلام بحضور الوقت، والإقامة إعلام بحضور فعل الصلاة.
فالحاصل أنّ من يرى أنّ الإقامة أذانٌ أنزل أحكامَ الأذانِ على الإقامة، ومن رأى أنّها ليست بأذان، وإنّما ذكرت على وجه التغليب قال بعدم مشروعية متابعته في ألفاظ الإقامة حتى يأتي الدليل، ولعلّ هذا القولَ أقربُ إلى الصواب.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 24 رجب 1426ه
الموافق ل: 9 أوت 2005م
__________
1- انظر الفتوى الموسومة ب:« أذان المنفرد » على الموقع برقم: 54.
2- أخرجه أبو داود في «الطهارة »، باب في الرجل يجد البلة في منامه: (236)، والترمذي في «أبواب الطهارة » باب ما جاء فيمن يستيقظ فيرى بلَلاً ولا يذكر: (113)، وأحمد: (25663)، وأبو يعلى: (4694)، والبيهقي: (818)، من حديث عائشة رضي الله عنها. والحديث صحّحه الألباني في «صحيح الجامع »: (2333)، وفي «السلسلة الصحيحة »: (2863).
3- أخرجه أبو داود في «الصلاة » باب صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود: (861)، والترمذي في «الصلاة »: باب ما جاء في وصف الصلاة: (302)، والنسائي مختصرًا في «الأذان » باب الإقامة لمن يصلي وحده: (667)، من حديث رفاعة بن رافع رضي الله عنه. والحديث صحّحه الألباني في «صحيح أبي داود »: (861).
4- أخرجه البخاري في «الأذان »: (624)، ومسلم في «صلاة المسافرين »: (1977)، من حديث عبد الله بن مغفل المزني رضي الله عنه.(4/5)
الفتوى رقم: 608
في شروط صحة الأذان
السؤال: ما هي الشروط الواجب توافرها لصحة الأذان؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فالأذانُ المشروع هو الذي توفَّرت فيه شروط الصحَّة منها: أن يكون الأذان واقعًا في وقته المحدَّد إعلامًا بدخول الوقت مع التزام الكلمات التوقيفية التي علَّمها النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم لأبي محذورة رضي الله عنه، وأن تكون مرتَّبةً ترتيبًا توقيفيًّا لا يجوز فيها التقديم ولا التأخير ولا التنكيس مع مراعاة الألفاظ على وجهها الصحيح الثابت بالنصوص الشرعية، فضلاً على أن يكون المؤذِّن مؤدِّيًا للأذان بألفاظه الشرعية مرتبة، وأن يكون مسلمًا، فإن روعيت هذه الشروط كان الأذان صحيحًا ومشروعًا.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليمًا.
الجزائر في: 19 جمادى الثانية 1427ه
الموافق ل:15 جويلية 2006م.(4/6)
الفتوى رقم: 910
في حكم التعوُّذ والبسملة قبل الأذان
السؤال:
يبتدئُ بعضُ المؤذِّنين قبل الشروع في الأذان بالتعوُّذِ والبسملة، فهل يُشرعُ الجهر بهما أو يكتفي بالسرِّ كشأن الصلاة؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فأمّا التعوذ والبسملة في الصلاة فمشروع، ويسر بالاستعاذة والبسملة ولا يجهر بهما، أما في الأذان فلم تنقل لنا كتب الحديث والآثار في حدود علمي أي أصل يمكن أن نعتمد عليه في الحكم بمشروعية التعوذ والبسملة قبل الأذان، سواء بالنسبة للمؤذن أو لمن يسمعه، ويتعذر القياس في التعبدات لعدم إدراك العلة الجامعة بين الأصل والفرع، لذلك يبطل القياس ولا يصح، أنَّ الأصل في العبادات المنع حتى يرد الدليل، وقد ثبت في الحديث قوله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ »(1).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 17 جمادى الأولى 1429ه
الموافق ل: 22 ماي 2008م
__________
1- أخرجه مسلم بهذا اللّفظ: (12/16) في الأقضية: باب نقض الأحكام الباطلة وردّ محدثات الأمور واتّفق الشيخان: البخاري: (5/301) في الصلح: باب إذا اصطلحوا على صُلح جَوْرٍ فالصلح مردود، ومسلم: (12/16) على إخراجه بلفظ:« مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدُّ » من حديث عائشة رضي الله عنها وعند البخاري:« ما ليس فيه... ».(4/7)
الفتوى رقم: 944
في كيفية إجابة المؤذن عند الحيعلتين
السؤال:
ما معنى قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «وَأَنَا، وَأَنَا»، عند ما يسمع المؤذِّن، وما هي كيفية الإجابة الصحيحة عند قول المؤذِّن «حي على الصلاة» مرَّتين، و«حي على الفلاح» مرَّتين، فهل يقول مثلَ قول المؤذِّن؟ أم يقول مكانهما: «لا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله» أم يجمع بينهما؟ أفيدونا -حفظكم الله-.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالنبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم كان إذا سمع المؤذِّنَ يقول عند شهادة أن لا إله إلاَّ الله يقول: و«أنا»، وعند شهادة أنَّ محمَّدًا رسول الله فيقول: «وأنا»(1)، أي: بدلاً من أن يردِّد مع المؤذِّن الشهادتين يقتصر أحيانًا على قوله: «وأنا، وأنا».
وأمَّا إجابة المؤذِّن عند الحَيْعَلَتَين فإنَّ أقوى الأقوال فيها أن يجمع بينها وبين الحوقلة بالتنويع، فهو من التنويع المباح، فتارةً يقول: «حي على الصلاة» مرَّتين، و«حي على الفلاح» مرَّتين، أي: يأتي بالحَيْعَلَتَيْنِ، عملاً بقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «فقولوا مثلَ ما يقول»(2)، أي: المؤذِّن، وتارةً يقول مكانهما: «لا حول ولا قُوَّة إلاَّ بالله»، أي: يأتي بالحوقلتين، عملاً بحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «إذا قال المؤذِّن: ..ثمَّ قال: حي على الصلاة، قال: لا حول ولا قُوَّة إلاَّ بالله، ثمَّ قال: حي على الفلاح، قال: لا حول ولا قُوَّة إلاَّ بالله»(3). الحديث.
فالحاصل، أنه يقول مثل ما يقول المؤذِّن إلاَّ في الحيعلتين، فتارةً يُحَوْقِلُ، وتارةً يُحَيْعِلُ، وبه قال ابن حزم(4)، وبعض متأخري الأحناف إعمالاً للدليلين العامِّ والخاصِّ، والجمع بينهما بالتنويع أَوْلَى من الجمع بين العامِّ والخاصِّ في وقتٍ واحدٍ، وهو وجهٌ عند الحنابلة(5)؛ لأنَّ السُّنَّة في باب الأذكار إنما تكون بالتنويع الذي له نظائر كثيرة في الشرع كتنويع أدعية الأذكار، ودعاء الاستفتاح، وأنواع الأذان ونحوها.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 28 شعبان 1429ه
الموفق ل: 29 أوت 2008م
__________
1- أخرجه البخاري في «صحيحه» كتاب الجمعة، باب يؤذن الإمام على المنبر إذا سمع النداء: (872)، من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما.
2- أخرجه البخاري في «صحيحه» كتاب الأذان، باب ما يقول إذا سمع المنادي: (586)، ومسلم في «صحيحه» كتاب الصلاة، باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه: (848)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
3- ومسلم في «صحيحه» كتاب الصلاة، باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه: (850)، وأبو داود في «سننه» كتاب الصلاة، باب ما يقول إذا سمع المؤذن: (527)، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
4- «المحلى» لابن حزم (3/148).
5- «فتح الباري» لابن حجر (2/91).(4/8)
02- أحكام الصلاة
الفتوى رقم: 2
حكم الصلاة باللباس الأحمر
السؤال: ما حكم الصلاة باللباس الأحمر ؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، أمّا بعد:
فبخصوص سؤالكم عن لباس الأحمر في الصلاة، فإن المسألة راجعة إلى حكم لباس الأحمر أولا، وما عليه المالكية والشافعية وغيرهم الجواز مطلقا لحديث البراء ابن عازب قال:" كان رسول الله مربوعا، بَعِيد ما بين المنكبين، له شعر يبلغ شحمة أذنيه، رأيته في حلة حمراء، لم أر شيئا قط أحسن منه"(1) ولحديث أبي جحيفة عند البخاري وغيره:" أنّه رأى النبي صلى الله عليه وسلم خرج في حلة حمراء مشمرا صلى إلى العَنزةِ بالناس ركعتين"(2) وعند أبي داود حديث عامر المزني بإسناد فيه اختلاف قال:" رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى وهو يخطب على بغلة وعليه برد أحمر "(3).
هذا، وفي المسألة أدلة مانعة من لبس الأحمر، غاية ما فيها إن صحت إفادتها الكراهة دون التحريم، فما بالك وهي غير صالحة للاحتجاج لما في أسانيدها من المقال ؟ فضلا عن معارضتها بالأحاديث الصحيحة الثابتة وما صح منها قابل للتأويل.
وعليه يمكن تعليل النهي عن لبس الأحمر بالتعليلات التالية وكلها لا تخلو من نظر:
- فإذا عللنا المنع بأن الحمرة هي حب الشيطان وزينته، لما وردت -في الباب- أحاديث لو صحت فقد لبس النبي صلى الله عليه وسلم الحلة الحمراء في غير مرة، فيبعد منه أن يلبس ما حذرنا عن لبسه، ولا يمكن التذرع بعدم تعارض الخاص من القول مع فعله، لأن العلة المذكورة مشعرة بعدم الاختصاص، بل النبي صلى الله عليه وسلم أحق الناس بتجنب ما يلابسه الشيطان، بناء على أن الأصل ما يثبت لأمته فيثبت له ما لم يرد دليل خاص به، ولا خصوص يصاحبه.
- وإذا عللنا النهي بمنع التشبه بالكفار للحديث الذي رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو قال:" رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ ثوبين معصفرين فقال: إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها"(4) فإن النهي يتوجه إلى نوع خاص من الحمرة وهي الحمرة الحاصلة عن صباغ المعصفر على ما قرره ابن القيم جمعا بينه وبين ما ثبت في الصحيحين من" أنه صلى الله عليه وسلم كان يلبس حلة حمراء"(5).
وبنفس الكلام يرد على ما ثبت في صحيح البخاري وغيره من النهي عن المياثر الحمر(6)، فإن غاية ما تدل عليه تحريم الميثرة الحمراء، وليس فيه ما يدل على تحريم ما عداها مع ما ثبت لبسه للحلة الحمراء مرات.
- وإذا عللنا النهي عن لبس الأحمر لأجل التشبه بالنساء لكونه من زينتهن أو من أجل الشهوة وخرم المروءة، فإنّ النهي - كما لا يخفى - غير واقع على ذات الحمرة بل على غيرها، ويعارض ذلك لبسه لها.
- أما ما قرره ابن القيم - جمعا بين الأحاديث من أن الحلة الحمراء بردان يمانيان منسوجان بخطوط حمر مع الأسود، فإنّ هذا الجمع يفتقر إلى دليل لما علم أن الصحابي وهو من أهل اللغة واللسان قد وصفها بأنها حمراء فينبغي حملها على الأحمر البحت لأنه هو المعنى الحقيقي لها، وحمل مقالة ذلك الصحابي على لغة قومه آكد ولا يصار إلى المعنى غير الحقيقي إلا بدليل صارف على ما هو مقرر في موضعه.
لذلك ينبغي استصحاب الإباحة العقلية المقواة بأفعاله صلى الله عليه وسلم الثابتة المجيزة للبسه لها لا سيما وقد ثبت لبسه لذلك بعد حجة الوداع التي لم يلبث بعدها سوى أيام يسيرة.
وهذا الرأي ذهب إليه جمع من الصحابة والتابعين وبه قال المالكية والشافعية على ما قدمنا وارتضاه الشوكاني. فإن استقر الحكم على هذا، فإن الصلاة باللباس الأحمر صحيحة من غير كراهية،
والله أعلم وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
__________
1- رواه البخاري كتاب المناقب (3551)، ومسلم كتاب الفضائل (6210)، ، والنسائي كتاب الزينة (5249)، وابن حبان كتاب التاريخ باب صفة من صفته صلى الله عليه وسلم وأخباره، وأحمد(18971)، من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه.
2- رواه البخاري كتاب الصلاة (376) ومسلم كتاب الصلاة(503)، وأبو داود كتاب الصلاة(520)، من حديث أبي جحيفة رضي الله عنه.
3- أخرجه أبو داود كتاب اللباس باب الرخصة في الحمرة (4073)، من حديث عامر المزني رضي الله عنه. وقال الألباني في صحيح أبي داود (4073):" صحيح" .
4- رواه مسلم كتاب اللباس والزينة (2077)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه.
5- سبق في حديث البراء بن عازب ، وحديث أبي جحيفة رضي الله عنهما.
6- رواه البخاري من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه: كتاب اللباس، باب لباس القِسِّي (5500)، والنسائي من حديث علي رضي الله عنه: كتاب الزينة، باب خاتم الذهب(5182).(4/9)
الفتوى رقم: 52
هل الفخذ عورة ؟
السؤال: ما حكم رؤية اللاّعبين في التلفزة كاشفين لأفخاذهم وهل يعتبر الفخذ عورة أم لا؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلّم تسليما أمّا بعد:
فقد تنازع العلماء في كون الفخذ عورة على مذاهب، ولكلٍّ أدلة ثابتة وصحيحة لكنّها متعارضة وإعمال الجمع فيها متعذر والصيرورة إلى الترجيح حتم، ولا يخفاك أنّ الذي يرى عدم معارضة الدّليل الفعلي للقولي كالشوكاني لا يصير إلى الترجيح لانتفاء التعارض بين الأدلة إذ الترجيح لا يحصل إلاّ عند حدوث التعارض، وعند من يعتبر هذا فلا إشكال عنده في كون الفخذ عورة إعمالا للأدلة القولية.
وإذا أمعنت النّظر وجدت فضلا عن تعارض الأدلة تعارض ترجيحين، الأول باعتبار السند ومعارضه الآخر باعتبار المتن والحكم أو المدلول.
فباعتبار السند يظهر دليل من قال بأنّ الفخذ ليس بعورة استناداً إلى ما رواه البخاري من حديث أنس بن مالك "أنّ النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر حسر الإزار عن فخذه حتى إنّي لأنظر إلى بياض فخذه"(1) أصح إسنادا من حديث جرهد الذي رواه مالك وعلّقه البخاري في صحيحه "غطِّ فخذيك فإن الفخذ عورة "(2) وما كان أقوى سندا أحق بالتقدم.
أمّا باعتبار المتن فتظهر أدلة من قال أنّ الفخذ عورة أقوى لأنّها أدلة قولية تقابلها أدلة فعلية، والقول مقدّم على الفعل حيث أنّ الفعل يدخله احتمالات من خصوصية وسهو وذهول بخلاف القول، وما لا يدخله احتمال أولى بالتقديم لقوته.
كما تظهر أدلة من يرى الفخذ عورة باعتبار الحكم أو المدلول أولى لكونها حاظرة (أي تفيد التحريم) في حين أنّ أدلة المعارض تفيد الإباحة ولا يخفي أنّ النّص الدّال على المنع مقدّم على الدّال على الإباحة لأنّ ترك المباح أهون من ارتكاب حرام.
ويمكن تحرير القول بين الترجيحين المتعارضين بأنّ حديث أنس رضي الله عنه وإن كان أصح سندا إلاّ أنّ دلالته محتملة للوجوه التالية:
1. أنّه محتمل للخصوصية ولغيرها من المحتملات.
2. أنّه لا يظهر من فعله (صلى الله عليه وسلم) التقصد والعمدية.
3. أنّه حادثة حال وواقعة عين لا عموم لها.
4. أنّه قبل ورود النهي عنه.
ولو لم تعكس عليه هذه الوجوه لكان الترجيح به أقوى وأولى، أمّا حديث جَرهد فيترجح باعتبار أنّه تشريع عام يلزم العمل به غير أنّ تقرير تحريم الفخذ من قبل الإتباع للأصل، لأنّ لكلّ محرّم حريماً يحيط به، " والحريم له حكم ما هو حريم له." غير أنّ الحريم أخفّ من المحرّم وعورة الفخذين أهون من عورة السوأتين، فالأولى عورة مخففة والثانية مغلّظة، ولذلك حرم الاختلاط والخلوة بالأجنبية لأنّها مقدمة الجماع، والجماع أشدّ تحريما من مقدماته فكان تحريمهما أشدّ للوقوع في الحرام، كالرّاعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، وحرم تخليل الخمر وإن كان لا يسكر لأنّه يفضي إلى السكر ويدعو إليه، فكذلك حرم النظر إلى الفخذ لاتصاله بالسوأتين، وهذه الحرمة منسحبة على حريمه كموشك حمى الحرام، وقاية له وسياجا مانعا حوله كما قال صلى الله عليه وسلم:" ألا وإنّ لكلّ ملك حمى ألا وإنّ حمى الله محارمه"(3).
والله أعلم؛ وفوق كل ذي علم عليم وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلّم تسليما.
الجزائر في : 5 جمادى الأولى 1417 هـ.
الموافق لـ: 15 سبتمبر 1996 م.
__________
1- أخرجه البخاري كتاب الصلاة باب ما يذكر في الفخذ(371)، ومسلم كتاب النكاح (3563)، والنسائي كتاب النكاح باب البناء في السفر(3393)، وأحمد (3/537) رقم (11581)، من حديث أنس رضي الله عنه.
2- أخرجه البخاري معلّقا كتاب الصلاة باب ما يذكر في الفخذ. قال الحافظ: (وحديثه موصول عند مالك في الموطأ والترمذي وحسنه وابن حبان وصححه وضعفه المصنف في التاريخ للاضطراب في إسناده، وقد ذكرت كثيرا من طرقه في تغليق التعليق) الفتح(1/720)، الترمذي كتاب الأدب باب ما جاء أنّ الفخذ عورة(3025)، وابن حبان كتاب الصلاة باب شروط الصلاة، ذكر الأمر بتغطية فخذه إذ الفخذ عورة، ومالك- من رواية أبي مصعب الزهري المدني- كتاب الجامع، باب ما يكره من الصدقة.
3- أخرجه البخاري في «الإيمان » باب فضل من استبرأ لدينه (50)، ومسلم في «المساقاة » (4094)، وأبو داود في «البيوع » باب في اجتناب الشبهات (3330)، والترمذي في «البيوع » باب: ما جاء في ترك الشبهات (1205)، وابن ماجه في «الفتن » باب الوقوف عند الشبهات (3984)، والدارمي (2436)، وأحمد (17907)، والبيهقي (10537)، من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.(4/10)
الفتوى رقم: 158
ضابط حد عورة المسلم في الصلاة وخارجها
السؤال: وهو لأخ يسأل عن العورة، هل السُّرّة تُعدُّ من العورة؟ وما هو الدليل على أنّ عورة المصلي هي من السُّرّة إلى الفخذ؟ أي قولنا "من" للابتداء، نسترها أم لا؟
وهل هناك فرق بين العورة في الصلاة، والعورة بالنسبة للنظر إليها؟
وكل هذه المسائل طرحت، لأنّه كان يسبح في البحر بسروال يغطِّي فخذيه، لكن سرته كانت مكشوفة، فأنكر عليه بعض الإخوة، فلمَّا طالبهم بالدليل أو أصل ردُّوا عليه بكلام لم يقنعه، فأرجو أن يساعدك هذا على فهم الأسئلة السابقة، والإشكال كله في السرة هل هي عورة خارج الصلاة ؟ وجزاكم الله خيرا.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه أجمعين، أمّا بعد:
فينبغي أن يعلم أنه يوجد فرق بين عورة المسلم في الصلاة وخارجها، أما داخل الصلاة فيجب أن يستر القسم الأعلى من بدنه كما يستر فيه القسم الأسفل والذي يصلي كاشف الصدر أو الظهر لا تصح صلاته لحديث بريدة بن حصين قال:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي الرجل في سراويل وليس عليه رداء"(1) ويؤيده حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يصليّنَ أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه[وفي رواية: عاتقيه] منه شيء"(2)
أما خارج الصلاة فيجب ستر ما بين السرة إلى الركبة لقوله صلى الله عليه وسلم:"ما بين السُّرة والركبة عورة"(3) والظاهر من الحديث أنّ السُّرة ليست بعورة لكن ما أسفلها، وانّ الركبة ليست بعورة ولكن ما أعلاها، إلاّ أنّه يجب ستر جزء من السُّرة والركبة مع العورة إذا تعذر ستر ما بينهما إلا بستر جزء فيهما فيدخل ذلك في حريم الواجب عملا بقاعدة: الحريم له حكم ما هو حريم له.
هذا ما ظهر من حكم هذه المسائل؛والعلم عند الله تعالى؛ وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصل الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في:18 رجب 1424 هـ
الموافق لـ: 12 سبتمبر 2003م
__________
1- أخرجه أبو داود في الصلاة رقم(636)، من حديث بريدة رضي الله عنه، وحسنه الألباني في صحيح الجامع(6707)، وانظر السلسلة الصحيحة(6/959).
2- أخرجه البخاري في الصلاة رقم(309)، ومسلم في الصلاة رقم(516)، وأبو داود في الصلاة رقم(626)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
3- أخرجه أبو داود في الصلاة رقم(496)، وأحمد(6/295)، رقم(6756)، من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. والحاكم رقم(6418)، من حديث عبد الله بن جعفر رضي الله عنه، وصححه الألباني في صحيح الجامع(5459)، وفي الإرواء(247) و(271).(4/11)
الفتوى رقم: 163
في حكم قضاء من ترك الصلاة متعمدا
السؤال: امرأة تابت في كبرها، هل عليها أن تصلي ما فاتها من صلاة من بلوغها إلى يوم توبتها؟ أجيبونا مأجورين
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على محمّد وعلى آله وأصحابه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فإنّ الصحيح الراجح من أقوال أهل العلم أنّ تارك الصلاة متعمّدا لا يجب عليه القضاء، وهو مذهب ابن حزم وابن تيمية وابن القيم وغيرهم من أهل التحقيق، لأنّ الأمر بالفعل وجب في زمن مؤقت لا يترتب إلاّ على مصلحة خاصّة بذلك الوقت ترجيحا له من بين سائر الأوقات، لقوله تعالى: ?إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً?[النساء:103] ولأنّ القضاء -في الأصل- لا يجب بأمر الأداء وإنّما يجب بأمر مجدد وهو ما عليه جمهور الأصوليين، وليس في أمر المتعمد أمر جديد سوى في النوم والنسيان لقوله صلى الله عليه وسلم:" من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها"(1) فلو لم يرد هذا الحديث في وجوب القضاء على النائم والناسي لما وجب، ذلك لأنّ المتعمد إخراجها عن وقتها مفرّط عن صلاته ومضيع لها ومقصر عن أداء واجبه، فلا يعذر، وغير المعذور لا يعطى حكم المعذور، وعليه فلا قضاء عليه لقوله صلى الله عليه وسلم:"إنّه لا تفريط في النوم إنّما التفريط في اليقظة أن تؤخر الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى"(2)
أمّا ما يحتج به من يقول بالقضاء بقوله صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما في مسألة الحج من قصة المرأة الخثعمية:" فإنّ الله أحق بالوفاء"(3) وحديث ابن عباس رضي الله عنهما-أيضا- في قصة المرأة التي ماتت وعليها صوم رمضان فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" فدين الله أحق بالقضاء"(4) فلا يصلح للاحتجاج به على المفرط وإنّما محمول على المعذور، فضلا أنّ النذر فيه مطلق ليس محدود الوقت ومثله الحج بخلاف الصلاة فهي عبادة مؤقتة محدودة الطرفين تُعد من أحد أقسام الواجب المقيّد: وهو الواجب الموسع.
قال ابن حزم:" وأمّا من تعمّد ترك الصلاة حتى خرج وقتها، فهذا لا يقدر على قضائها أبدا، فليكثر من فعل الخير وصلاة التطوع، ليثقل ميزانه يوم القيامة وليستغفر الله عزّ وجلّ"(5)
والله أعلم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
الجزائر في: 24 شعبان 1416هـ
الموافق لـ: 15 جانفي 1996 م
__________
1- أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة (597)، ومسلم في المساجد (1600)، وأبو داود في الصلاة (442)، والنسائي في المواقيت(613)، والترمذي في المواقيت (178)، وابن ماجة في الصلاة (696)، من حديث أنس رضي الله عنه.
2- أخرجه أبو داود في الصلاة(441)، والترمذي في الصلاة(177)، والنسائي في المواقيت(622)، وابن ماجه في الصلاة(745)، وأحمد(23209)، من حديث أبي قتادة رضي الله عنه، وصححه الألباني في صحيح الجامع(5415)
3- أخرجه البخاري في الاعتصام بالكتاب(7315)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
4- أخرجه مسلم في الصيام(2749)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
5- المحلى لابن حزم:(2/235/244)، المسألة(279)(280).(4/12)
الفتوى رقم: 243
في حكم صلاة المرأة في حافلة خشية خروج الوقت
السؤال: ما حكم صلاة المرأة في حافلة العمال مع أنه يتواجد رجال ونساء حتى لا تخرج الصلاة عن وقتها فهي عند خروج العمل ، يؤذّن المؤذّن للصلاة وإذا تركتها حتى أدخل إلى البيت تفوت عني الصلاة بنحو ساعتين فهل يجوز أم لا؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فالأصل في صلاة المرأة أن تكون في بيتها فهو خير لها فإن احتاجت إلى الصلاة في أي مكان آخر جاز لها لكونها شقيقة الرجل في الحكم لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« وجعلت لي الأرض مسجدا"(1) ويستثنى من ذلك المقبرة والحمام(2) والأماكن النجسة ولا يجوز لها إخراج وقت صلاتها بغير عذر شرعي لقوله تعالى: ?إِنّ الصَلاَةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَابا مَّوْقُوتاً? [النساء:103]، وعملها بغض النظر عن حكمه ليس عذرا شرعيا لإخراج الصلاة عن وقتها وإذا صلت فالواجب أن تستر بدنها وأن تتخذ سترة لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:«إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة وليدن منها"(3).
والعلم عند الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.
__________
1- أخرجه البخاري في التيمم(335)، والنسائي في الغسل والتيمم(435)، والدارمي في سننه(1440)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، والترمذي في السير(1640)، وابن ماجه في الطهارة وسننها(610)، وأحمد(7468)، والحميدي(992)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2- أخرجه الترمذي في الصلاة(318)، وابن ماجه في المساجد والجماعات(794)، وأحمد(12104)، والدارمي(1441)، والبيهقي(4445)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:« الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام"
3- أخرجه أبو داود في الصلاة(698)، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها(1007)، والبيهقي (3580)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وصححه الألباني في صحيح الجامع(641)(4/13)
الفتوى رقم: 244
في حكم قضاء فائتة صلاة الحائض بعد الطهارة
السؤال: عندما تطهر المرأة من الحيض هل تصلي ما تبقى لها من الصلاة لذلك اليوم أم تصلي كلّ يوم مثلا إن تطهرت بعد صلاة المغرب واغتسلت هل تصلي صلاة العصر أم تنتظر صلاة المغرب ؟
الجواب: إذا طهرت المرأة من الحيض قبل خروج وقت الصلاة فإنّه يجب عليها قضاء تلك الصلاة فلو طهرت قبل غروب الشمس بمقدار ركعة وجب عليها قضاء صلاة العصر لقوله صلى الله عليه وآله وسلم :"من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر"(1) وكذلك إذا طهرت قبل أن تطلع الشمس بمقدار ركعة وجب عليها أن تقضي صلاة الفجر، ويقابل ذلك إذا حاضت بعد دخول وقت الصلاة فيجب عليها أن تقضي تلك الصلاة بعد دخولها إذا لم تصلها حتى أتاها الحيض لقوله صلى الله عليه وآله وسلم :"من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة"(2).
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
__________
1- أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة(597)، ومسلم في المساجد(1404)، وأبو داود في الصلاة(186)، والنسائي في المواقيت(522)، ومالك في الموطأ(5)، وأحمد(10213)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2- أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة(580)، ومسلم في المساجد(1401)، وأبو داود في الصلاة(1123)، والترمذي في الصلاة(527)، والنسائي في المواقيت(558)، ومالك الموطأ (15)، وأحمد(7880)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(4/14)
الفتوى رقم: 279
في حكم الصلاة بقميص فيه دم
السؤال: ما حكم من وجد آثار دم في قميصه وصلى على ذلك الحال ولم ينتبه له إلا وقت النوم وهذه الآثار ناتجة عن جرح، فهل يعيد صلاة اليوم كلّه؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فاعلم أنّ الدماء ما عدا الحيض حكمها الطهارة سواء كان الدم دم إنسان أو دم مأكول من حيوان استصحابا للبراءة الأصلية إذ الأصل في الأعيان الطهارة ولا يعدل عن هذا الأصل إلاّ بنص شرعي صحيح، ولم يأت من خالف هذا بحجة ظاهرة سوى نصوص مشتملة على تحريم الدماء، ولا يخفى أنّه لا يلزم من التحريم النجاسة بخلاف النجاسة فإنّه يلزم منها التحريم، قال الحسن البصري:" ما زال المسلمون على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلون في جراحاتهم"، وصلى ابن مسعود رضي الله عنه وعلى بطنه فرث ودم جزور نحرها ولم يتوضأ ، وفي غزوة ذات الرقاع ذلك الصحابي الذي رماه المشرك بثلاثة أسهم وهو قائم يصلي فاستمر في صلاته والدماء تسيل منه، وكذلك صلاة عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنّه صلى وجرحه يثغب دما.
وعليه فالصلاة صحيحة وإن علم بوجود الدم قبل الصلاة أو أثناءها، ولو سلمنا جدلا، أنّ الدم نجس وكان قد انتهى من صلاته ثمّ علم بالنجاسة على ثوبه لصحت صلاته أيضا ولا قضاء ولا إعادة عليه لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في خلع النبي صلى الله عليه وآله وسلم نعليه في الصلاة قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره، فلما رأى القوم ذلك ألقوا نعالهم، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاته قال:" ما حملكم على إلقائكم نعالكم" قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا، فقال رسول الله صلى الله عيه وآله وسلم:"إنّ جبريل عليه السلام أتاني فأخبرني أنّ فيهما قذرا " وقال:" إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر فإن رأى في نعليه قذرا أو أذى فليمسحه وليصل فيهما ".
والله أعلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في:10رجب1426هـ
الموافق لـ: 15أوت 2005م(4/15)
الفتوى رقم: 429
فيمن انتقض وضوؤه ولم يسجد للسهو
السؤال: سها رجل في صلاته، ولما سلم انتقض وضوؤه ولم يسجد للسهو، فماذا يترتب عليه؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فإن نسي ركنًا أو واجبًا في صلاته فأتمه، ثم تذكَّر بعد السلام بزمن يسير ولم يسجد للسهو فلا شيء عليه، لكن إن طال الفصل أو انتقض وضوؤه، وجب عليه استئناف الصلاة من جديد لتعذُّر بناء الصلاة عليه، ذلك لأنَّ سجود السهو واجب لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم :" لِكُلِّ سَهْوٍ سَجْدَتَانِ بَعْدَ مَا يُسَلِّمُ"(1)،وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« إِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَتِهِ فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ ثُمَّ لْيُسَلِّمْ ثُمَّ لْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ"(2)، وهو مذهب الجمهور ولا يتخلف هذا الواجب عن واجبات الصلاة الأخرى، فمن ترك واجبًا من الواجبات في الصلاة متعمِّدًا بطلت صلاته، وإذا انتقض وضوؤه لا يصح له البناء عليها إلاَّ على مذهب الحنفية، والأول هو الصحيح، لما تقدم بيانه، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« لاَ تُقْبَلُ صَلاَةُ مَنْ أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ"(3).
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 24 ربيع الثاني 1427هـ
الموافق ل: 21 مارس 2006م
__________
1- أخرجه أبو داود في الصلاة (1040)، وأحمد(23080)، والبيهقي (3988)، من حديث ثوبان رضي الله عنه. قال ابن كثير في "إرشاد الفقيه إلى معرفة أدلة التنبيه" (1/161):" حسن إلا أنه اختلف في إسناده ، وقال الألباني في الإرواء (2/47):" ضعيف لكن له شواهد يتقوى بها"، وحسنه في صحيح الجامع (5166).
2- أخرجه البخاري في الصلاة (401)، ومسلم في المساجد (1302)، وأبو داود في الصلاة (1022)، والنسائي في السهو (1250)، وأحمد (4258)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
3- أخرجه البخاري في الوضوء (135)، ومسلم في الطهارة (599)، وأبو داود في الطهارة (60)، والترمذي في الطهارة (76)، وأحمد (8299)، والبيهقي (581)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(4/16)
الفتوى رقم: 508
في حكم صلاة مكشوف العاتقين
السؤال: ما حكم صلاة مكشوف العاتقين؟ وما حكم الصلاة بالفنيلة؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فإذا ما جعل المصلي شيئًا من الثياب على عاتقيه- وهو ما بين المنكبين إلى أصل العنق- فإنَّ صلاته تصحُّ بخلاف ما إذا صلَّى مكشوف القسم الأعلى من بدنه من غير أن يضع على عاتقيه شيئا فإنَّه منهي عنه لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« لاَ يُصَلِيَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ"(1) ويوضحه حديث بُريدة رضي الله عنه:" نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم أَنْ يُصَلِيَ الرَّجُلُ فِي سَرَاوِيلَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ رِدَاءٌ"(2) فظاهر النهي في هذه الأحاديث تفيد بطلان صلاة القادر على الفعل بتركه لها، وهو مذهب أحمد في رواية عنه، وإن كان الجمهور حملها على الكراهة التنزيهية لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« أَوَلِكُلِكُمْ ثَوْبَانِ"(3) وفي حديث جابر رضي الله عنه قال:" رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ"(4) غير أنَّ هذه الأحاديث لا يستدلُّ بها إلاَّ مقيدة بتغطية العاتقين جمعًا بين الدليلين لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« مَنْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ فَلْيُخَالِفْ بَيْنَ طَرَفَيْهِ"(5) وفي حديث عُمَرَ بن أبي سلمةَ رضي الله عنه:" أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم صَلَّى فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ قَدْ خَالَفَ بَيْنَ طَرَفَيْهِ"(6)، ولا يخفى أنَّ من يخالف بين طرفيه لا يسعه إلاَّ بجعل شيء على عاتقيه، ولمَّا كان المذكور في السؤال من الثياب يغطي القسم الأعلى من بدن المصلي وعلى عاتقيه منه شيء فإنَّ صلاته صحيحة جائزة - إن شاء الله تعالى-.
أمَّا المرأة فأقل ما يمكن أن تصح صلاتها: الدرع والخمار، فقد كانت ميمونة وأم سلمة يصليان في الدرع والخمار وليس عليهما إزار، والأكمل لها في صلاتها: الدرع والخمار والملحفة، لحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:" تصلي المرأة في ثلاثة أثواب: درعٍ وخمارٍ وإزارٍ"(7).
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 23 رجب 1427ه
الموافق لـ:17 أوت 2006م
__________
1- أخرجه البخاري في الصلاة (352)، ومسلم في الصلاة (1151)، والدارمي (1371)، والبيهقي (3103)، وأبو عوانة في مسنده (1456)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2- أخرجه أبو داود في الصلاة (636)، والحاكم في المستدرك (914)، والبيهقي (3093)، من حديث بريدة رضي الله عنه، والحديث حسنه الألباني في "صحيح أبي داود" (3/202).
3- أخرجه البخاري في الصلاة (351)، ومسلم في الصلاة (1148)، وأبو داود في الصلاة (625)، والنسائي في القبلة (763)، ومالك (318)، والدارمي (1343)، وابن حبان (2295)، وابن خزيمة (758)، وأحمد (7551)، والبيهقي (3362)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
4- أخرجه البخاري في الصلاة (346)، ومسلم في الصلاة (1156)، وأحمد (13706)، وعبد الرزاق في المصنف (1366)، والبيهقي (3363)، من حديث جابر رضي الله عنه.
5- أخرجه البخاري في الصلاة (353)، وابن حبان (2304)، وأحمد (7553)، وعبد الرزاق في المصنف (1374)، والبيهقي (3371)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
6- أخرجه البخاري في الصلاة (347)، ومسلم في الصلاة (1154)، وأحمد (15900)، وعبد الرزاق في المصنف (1365)، والبيهقي (3366)، من حديث عمر بن أبي سلمة رضي الله عنه.
7- أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (6168)، البيهقي (3080)، وقال الألباني في "تمام المنة" (162):" وإسناده صحيح". وانظر "ما صح من آثار الصحابة في الفقه" لزكريا بن غلام قادر الباكستاني (1/280).(4/17)
الفتوى رقم: 528
حكم الصلاة في الأرض المغصوبة
السؤال: ما حكم الصلاة في الأرض المغصوبة؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فلا خلافَ بين أهلِ العلمِ إن كانت جهة الأمر وجهة النهي منفكَّتَيْنِ، فالفعل الواقع صحيح أمَّا إذا كانتَا غير منفكّتين فالفعل باطلٌ لاستحالة اجتماع الضِدَّين في محلٍّ واحد، لكن العلماء يختلفون في الأرض المغصوبة هل جهة الأمر فيها منفكّة عن جهة النهي أم غير منفكّة، فمن رأى بانفكاك الجهة كما هو مذهب مالك والشافعي قال بصحّة الصلاة مع الكراهة، ومن رأى عدم انفكاكها قال ببطلان الصلاة وهو الصحيح من مذاهب العلماء؛ لأنَّ المكان الذي يشغله بالصلاة إنما يشغل حيِّزًا من الفراغ بالركوع والسجود والقيام هو عاص بفعله لها في ذلك الحيِّز، فكيف يتقرّب إلى الله بالمعصية، و«اللهُ طيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا »(1)، والصلاة في الأرض المغصوبة كشأن الصلاة في المقبرة، والمرأة في زمن الحيض فإنّ ركوعها وسجودَها وقيامَها يشغل حيِّزًا من الزمن يُنهى عن إيقاع الصلاةِ فيه، وهو زمن الحيض، ولَمَّا كانت صلاتها لا تصحُّ بالإجماع فلا يختلف الأمر بالنسبة للمكان من حيث العصيان وعدم صحّة الصلاة، فجهة الزمان والمكان واحدةٌ فلا يختلفان من حيث الحكم، هذا كلّه إذا عَلِمَ المصلي أنَّ المكان الذي يصلي فيه مغصوب، فإن صلَّى ـ وهو لا يعلم ـ صَحَّتْ صلاتُه لفقدان العلم بالنهي المتعلِّق بذلك المكان، فتصحُّ صلاته لما ثبت أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أخبره جبريلُ عليه السلام أنّ في خُفَّيْهِ أَذًى فَأَلْقَاهُمَا عن شماله وَمَضَى في صلاته(2)، وَبَنَى بَقِيَّةَ صلاتِه على الأُولى، فلو كان الجزء الأَوَّلُ من صلاته باطلاً لَلَزِمَ البطلان كلَّ صلاته، لأنَّّ ما بُنِيَ على فَاسِدٍ ففاسدٌ، لكن لَمَّا صَحَّت الصلاة على هذه الحال، كان الحكم على من لم يعلم بتعلّق النجاسة به الصحّة أيضًا، وليس عليه إعادة ولا قضاء.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 7 ربيع الأول 1427ه
الموافق ل: 5 أفريل 2006م
__________
1- أخرجه مسلم في الزكاة (1015)، والترمذي (2989)، والدارمي (2717)، وأحمد (8330)، وعبد الرزاق في المصنف (8839)، والبيهقي في شعب الإيمان (1159)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2- أبو داود في الصلاة (650)، والدارمي (1351)، وابن حبان (2185)، وابن خزيمة (786)، وأبو يعلى في مسنده (1194)، وعبد الرزاق في المصنف (1516)، والبيهقي (4350)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وصحّحه النووي في «المجموع » (3/132)، والألباني في «إرواء الغليل » (284).(4/18)
الفتوى رقم: 613
في ضابط الحرج وحالات الجمع بين الصلاتين
السؤال:
ما هو ضابط الحرج في الجمع بين الصلاتين في الشتاء؟ وإذا حاك في صدر المرء حرج من جمع الإمام, فهل له أن ينوي معه العشاء نافلة ثمّ يصليها في بيته عند دخول وقتها ؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالحَرَجُ في الجُمْلَةِ هو كُلُّ ما يُوجِبُ التضييقَ على البَدَنِ والنَّفْسِ والمالِ في الدنيا والآخرة وفي الحال والمآل، قال تعالى: ?وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ? [الحج: 78]، أي: ما كَلَّفكم ما لا تطيقون وما ألزمكم بشيء يَشقُّ عليكم إلاّ جعل اللهُ لكم فَرَجًا ومخرجًا.
ومن الحالات التي تُسبِّبُ الحرجَ ويُرخَّص فيها الجمعُ عند وجودِه: السفر، والمطر، والمرض، والحاجة العارضة وغيرها.
أمّا الحالات التي يجوز فيها الجمع بين الصلاتين في فصل الشتاء غالبًا فمنها: المطر، والبَرْدُ الشديد، والريح العاصف، والوَحْلُ الكثير، والثلج ونحوها، أمّا المطر فيجوز فيه الجمع سواءً كان نازلاً أو متوقّع النُّزول، أمّا البرد والثلج والوحل فيجوز فيها الجمع وإن لم يكن المطر نازلاً لحصول الضيق والحرج على المكلّفين و«المشَقَّةُ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ »، ولا يخفى أنّ الصلاة في المسجد جمعًا أولى من الصلاة في البيوت مفرّقةً، ولأنّ ما انعقد عليه الإجماعُ في أولوية إقامِ الصلاةِ المفروضةِ في المسجدِ جماعةً على إقامتِها في البيوتِ قولاً واحدًا.
أمّا إن جمع الإمام مع انتفاء الحرج كليًّا فله أن ينوي المقتدي به فضلَ الجماعة نفلاً ثمّ يقيمها فرضًا بعد دخول وقتها في المسجد مع المتخلّفين عن الصلاة أو في البيت مع جماعة إن أمكنه ذلك، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم في قصّة الرجلين:« إذَا صَلَّيْتُمَا فِي رِحَالِكُمَا ثُمّ أَتَيْتُمَا مَسْجِدَ جَمَاعَةٍ فَصَلِّيا مَعَهُمْ، فَإِنَّهَا لَكُمَا نَافِلَةٌ »(1) أو كما قال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 25 المحرم 1428ه
الموافق ل: 13 فبراير 2007م
__________
1- أخرجه أبو داود في «الصلاة »: (575)، والترمذي في «الصلاة »: (219). والنسائي في «الإمامة »: (858)، وأحمد (17937)، من حديث يزيد بن الأسود العامري رضي الله عنه. وصحّحه النووي في «الخلاصة »: (1/271)، وابن الملقن في «البدر المنير »: (4/412)، والألباني في «صحيح الجامع »: (666).(4/19)
الفتوى رقم: 619
فيمن أوقع صلاته قبل وقتها جهلاً
السؤال:
يعمل رجلٌ في شركةٍ وطنيةٍ، ينتمي إلى مجموعة عمال تباشر عملها قبل الفجر، فقرّر أن يصلي صلاة الفجر قبل حلول الوقت الشرعي ظنًّا منه جوازها فيه، وقد عمل بذلك لمدّة تزيد عن عشرين يومًا، والآن بعدما تبيّن له أنه كان مخطئًا في تحديد الوقت الشرعي يسأل عن حكم فعله وهل يعيد كلّ تلك الصلوات؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فإذا أوقع الصلاةَ قبل دخول وقتِها فإنّ صلاتَه لا تصحُّ لاختلال شرط صحَّتها ووجب عليه إيقاعها في وقتها المحدَّد لها شرعًا لقوله تعالى: ?إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا? [النساء: 103]، فإن ظنَّ أنّه برئت ذمّته بإيقاعها قبل وقتها لذلك لم يبال بالتثبّت والسؤال فإنّ هذا نوع من الجهل لا يُعذر به صاحبه، ويلحقه الإثم بسبب تقصيره في معرفة الحكم بالسؤال عنه تهاونًا عليه وقد تقرَّر في القواعد أنّه:« لاَ يُقْبَلُ فِي دَارِ الإِسلاَمِ عُذْرُ الجَهْلِ بِالحُكْمِ الشَّرْعِيِّ ».
وبناءً عليه، فإنّ ذمّته تبقى مشغولة بالقضاء؛ لأنّ سببَ الوجوب انعقد عليه لكن منع من تمامه مانع الجهل، لذلك يبقى مكلَّفًا بقضاء كافَّة الصلوات بحَسَب ما تيسَّر له من قدرة.
ويجدر التنبيه إلى أنّ الجاهل الذي لا يقوم التكليف معه، ويسقط عنه القضاء والإعادة إذا انقضى وقت الخطاب إنّما هو الجهل الذي يُعذر صاحبه كمن لم يتمكّن من تحصيل العلم ولم يقتدر عليه كما هو شأن المسيء صلاته(1)، وحديث المرأة المستحاضة(2)، وغيرهما، فافترق النوعان.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في 1 محرم 1428ه
الموافق ل: 21 يناير 2007م
__________
1- أخرجه البخاري في «الاستئذان »: (5897)، ومسلم في «الصلاة »: (885)، وأبو داود في «الصلاة »: (856)، والترمذي في «الصلاة »: (303)، والنسائي في «الافتتاح »: (884)، وابن ماجه في «الصلاة »: (1060)، وأحمد (9352)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2- أخرجه أبو داود في «الطهارة »: (287)، وأحمد: (27063)، والحاكم في «المستدرك »: (625)، من حديث حمنة بنت جحش رضي الله عنها. والحديث حسّنه البغوي في «شرح السنة »: (1/422)، والألباني في «الإرواء »: (205).(4/20)
الفتوى رقم: 824
في حكم الصلاة باللباس المحتوي على صور ذات أرواح
السؤال:
هل الصلاةُ باللباس المحتوي على صُوَرٍ ذاتِ أرواحٍ صحيحةٌ؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالصلاةُ بلباسٍ فيه صُوَرٌ ذاتُ أرواحٍ تُكرَهُ كراهةً شديدةً مع صِحَّتِهَا، لانفكاك جهة الأمر بالصلاة عن جهة النهي عن الصور ذات الأرواح، كالصلاة بالحرير والذهب للذكور، وقد اتفق الفقهاءُ على أنَّه إذا انفكت جهةُ الأمرِ عن جهةِ النهي أنَّ الفعل صحيحٌ مع اختلافهم في صور الانفكاك.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 28 شعبان 1226ه
الموافق ل:02 أكتوبر 2005م(4/21)
الفتوى رقم: 849
في حكم البكاء في الصلاة
السؤال:
ما حكم البكاءُ حالَ قِراءةِ القرآنِ في الصلاة؟ وجزاكم اللهُ خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فيجوزُ البكاءُ والأنينُ والتأوُّهُ إذا ما غَلَبَ المصلِّي بحيث لا يسعه دَفْعُهُ، ويدلُّ عليه قولُه تعالى: ?إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا? [مريم: 58]، والآية عامَّةٌ للمصلي وغيرِه ، وقد «صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهُ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَفِي صَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ المِرْجَلِ مِنَ البُكَاءِ »(1)، وفي مرض موته صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم أَمَرَ أبا بكرٍ رضي الله عنه أن يُصلِّيَ بالناس فقالت عائشة رضي الله عنها:« إِنَّ أَبا بكرٍ رجلٌ رَقيقٌ إِذا قرأَ غلبَهُ البكاءُ. قال: مُروهُ فيصلِّي. فعاودَتْهُ، قال: مُروه فيُصلِّي، إِنَّكنَّ صَواحِبُ يوسفَ »(2)، وروى البخاري عن عمر رضي الله عنه أنَّه صَلَّى الصبحَ وقرأَ سورةَ يوسفَ حتى بلغ قولَه تعالى: ?إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ? [يوسف: 86] فسُمِع نشيجُه(3)، والمراد بالنَّشيج هو: صوت معه توجُّعٌ وبُكاءٌ(4).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 29 رمضان 1418ه
الموافق ل: 28 جانفي 1998م
__________
1- أخرجه أبو داود في «الصلاة »، باب البكاء في الصلاة: (904)، والنسائي في «السهو »، باب البكاء في الصلاة: (1214)، وابن حبان في «صحيحه »: (665)، وابن خزيمة في «صحيحه »: (900)، وأحمد في «مسنده »: (15877)، من حديث عبد الله بن الشخير رضي الله عنه. والحديث صحَّحه النووي في «الخلاصة »: (1/497)، والألباني في «المشكاة »: (1/219)، والوادعي في «الصحيح المسند »: (579).
2- أخرجه البخاري في «الإمامة »، باب أهل العلم والفضل أحقّ بالإمامة: (650)، ومسلم في «الصلاة »، باب استخلاف الإمام: (940)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
3- أخرجه البخاري في «صحيحه » معلَّقًا، كتاب «الأذان »، باب إذا بكى الإمامُ في الصلاةِ: (1/252)، وأخرجه موصولاً ابن أبي شيبة في «المصنّف »: (3565)، وعبد الرزاق في «المصنف »: (3565)، والبيهقي في «شعب الإيمان »: (2057)، عن عبد الله بن شداد. والأثر صحَّحه ابن حجر في «تغليق التعليق »: (2/300).
4- «النهاية » لابن الأثير: (5/52-53).
قال ابن حجر في «الفتح »: (2/206): قال بن فارس: نشج الباكي ينشج نشيجًا إذا غصّ بالبكاء في حلقه من غير انتحاب، وقال الهروي: النشيج صوتٌ معه ترجيع، كما يردِّد الصبيُّ بكاءَه في صدره. وفي المحكم هو: أشدُّ البكاء.(4/22)
الفتوى رقم: 851
في لباس المرأة في الصلاة
السؤال:
ما هو لباسُ المرأةِ في الصلاة؟ وهل يجب عليها تغطيةُ قَدَمَيْهَا حالَ أداءِ الصلاة؟ وجزاكم اللهُ خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فإنَّ أقلَّ ما يجب على المرأة في الصلاة الخِمارُ والدِّرْعُ السابغُ، فقد كانت أُمُّ سَلَمَة(1) وميمونةُ(2) من أزواجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم تُصلِّيانِ في دِرْعٍ وخِمارٍ ليس عليهما إزار، وقد صَحَّ عن عطاء وعُروةَ بنِ الزُّبَيْر وجابرٍ بنِ زيد والحسنِ وغيرِهم(3) القولُ بأنَّ صلاةَ المرأةِ يكفيها الدِّرعُ والخِمارُ، أَمَّا ما أُثِرَ عن عُمَرَ(4) وابنِهِ(5) أنَّ المرأةَ تُصلِّي في الدِّرع والخِمار والمِلْحَفَةِ لا ينافي ما تقرَّر، لإمكان حمله على الاستحباب ومزيدِ الاحتياط.
وعليه، فإن كانت صلاةُ المرأةِ بحضرة زوجِها أو محارمها أو نساءِ المؤمنين فلا يَضُرُّ انكشافُ قَدَمَيْهَا وبخاصَّة في حالة الركوع والسُّجود، أَمَّا إذا كانت بحضرة الأجانب فلا يجوز كشف قَدَمَيْهَا بحالٍ، بل الواجب سِترُهما عَمَلاً بحديث:« المرْأةُ عَوْرَةٌ »(6)، وبقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« فَتُرْخِيهِ ذِرَاعًا لاَ يَزِدْنَ عَلَيْهِ »، ففيه دلالةٌ على وجوبِ تغطيةِ القدمين مع الأجانب، فضلاً عن كون ذلك أبعدَ لها للفتنة وأأمنَ لها من الشرِّ، وأحوطَ للمسلمين.
أمّا حديث أُمِّ سلمة رضي الله عنها وفيه:« الدِّرْع سَابِغًا يُغَطِّي ظُهُورَ قَدَمَيْهَا »(7)، فهو ضعيفٌ مرفوعًا وموقوفًا.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 29 رمضان 1418ه
الموافق ل: 27 جانفي 1998م
__________
1- أخرجه عبد الرزاق في «المصنف »: (5027)، والأثر صحَّحه الألباني في «تمام المنة »: (162)، وغلام قادر الباكستاني في «ما صح من آثار الصحابة في الفقه »: (1/279).
2- أخرجه مالك في «الموطإ »: كتاب الصلاة، باب الرخصة في صلاة المرأة في الدرع والخمار: (1/142)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (3073)، والأثر صحَّحه الألباني في «تمام المنة »: (162)، وغلام قادر الباكستاني في «ما صحَّ من آثار الصحابة في الفقه »: (1/279).
3- انظر هذه الآثار في:« المصنف » لابن أبي شيبة: (2/36 وما بعدها)، و«المصنف » لعبد الرزاق الصنعاني: (3/128 وما بعدها)، و«ما صح من آثار الصحابة في الفقه » لغلام قادر الباكستاني: (1/278-279).
4- أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف »: (2/129)، والأثر صحَّحه ابن كثير في «إرشاد الفقيه »: (1/110)، وابن حجر في «المطالب العالية »: (1/162)، والألباني في «تمام المنة »: (162).
5- أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف »: (2/129)، والأثر صحَّحه الألباني في «جلباب المرأة المسلمة »: (135)، وفي «تمام المنة »: (162).
6- أخرجه الترمذي في «الرضاع »: (1173)، وابن حبان في «صحيحه »: (5598)، وابن خزيمة في «صحيحه »: (1685)، والبزار في «مسنده »: (2061)، والطبراني في «المعجم الكبير »: (9481)، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. قال الهيثمي في «مجمع الزوائد » (2/156):« رجاله موثوقون »، وصحَّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة »: (2688)، والوادعي في «الصحيح المسند »: (881).
7- أخرجه مالك في «الموطإ »: كتاب الصلاة، باب الرخصة في صلاة المرأة في الدرع والخمار: (1/142)، وأبو داود في «الصلاة »، باب في كم تصلي المرأة: (639)، (640)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (3334)، مرفوعًا وموقوفًا عن أم سلمة رضي الله عنها. والحديث أَعَلَّهُ بالانقطاع ابنُ القطان في «أحكام النظر »: (184)، وضعَّفه الألباني في «الإرواء »: (1/304).(4/23)
الفتوى رقم: 882
في حكم البناء في الصلاة لمن انتقض وضوؤه
السؤال:
إذا خرج المصلي من الصلاة لانتقاض وضوئه، أو لتذكره أنه على غير طهارة، ثمُّ رجع، فهل يبني على ما سبق من صلاته، أو يستأنفها من جديد؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فهذه المسألةُ مبنيةٌ على حديثين ظاهرهما التعارضُ، فالأولُ حديثُ أبي بكرة رضي الله عنه عند أبي داود وابن حبان:« أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ صَلاَةَ الفَجْرِ فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ أَنْ مَكَانَكُمْ، ثُمَّ جَاءَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ فَصَلَّى بِهِمْ »(1)، وفي رواية قال في أوله:« فَكَبَّرَ »، وقال في آخره: فَلَمَّا قَضَى الصَّلاَةَ قَالَ:« إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنِّي كُنْتُ جُنُبًا »(2)، فهذا الحديثُ يدلُّ على أنه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم انصرف بعدما دخل في الصلاة وكبَّر، ويعارضه ما ورد في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه:« أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ وَقَدْ أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ وَعُدِّلَتِ الصُّفُوفُ، حَتَّى إِذَا قَامَ فِي مُصَلاَّهُ انْتَظَرْنَا أَنْ يُكَبِّرَ، انْصَرَفَ، قَالَ: عَلَى مَكَانِكُمْ، فَمَكَثْنَا عَلَى هَيْئَتِنَا، حَتَّى خَرَجَ إِلَيْنَا يَنْطُفُ رَأْسُهُ مَاءً، وَقَدِ اغْتَسَلَ »(3)، فهذه الرواية تدلُّ دلالة صريحة على أنه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم انصرف بعدما قام في مُصلاَّه، وتذكر أنه على جنابة قبل أن يكبر، وهي مستفادة -أيضًا- من زيادة مسلم:« قَبْلَ أَنْ يُكَبِّرَ فَانْصَرَفَ »(4)، وفي رواية البخاري في آخره:« فَكَبَّرَ فَصَلَّيْنَا مَعَهُ »(5).
واختلف العلماء في هذه المسألة بناء على اختلاف مسالكهم:
- فمن رجَّح روايةَ أبي بكرة رضي الله عنه؛ لأنها زيادة حافظٍ يجب قَبولُها، وأنها تفيد فائدةً جديدةً وهي التكبير في أوَّلِ الصلاة، والإشارة إليهم أن امكثوا ولم يتكلم، قال بالبناء عملاً بقاعدة «المُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي ».
- ومن سلك الجمعَ بين الدليلين قال: يحمل «كبَّر » في حديث أبي بكرة رضي الله عنه على أنه أراد أن يكبر بأن تهيَّأَ للإحرام بالصلاة، ولم يُحْرِمْ بالتكبير جمعًا بين الحديثين بحمل الحقيقة على المجاز، فهذه الصورة الأولى للجمع، أمَّا الصورة الثانية فهي حمل الحديثين على أنهما واقعتان، وهذا ما أبداه عياض والقرطبي(6)، فإن تعذَّر الجمع فيجب تقديمُ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه لوروده في الصحيحين ترجيحًا بالرِّواية، إذ يُرجَّح المسنَد من كتابٍ موثوقٍ بصِحَّته على المسنَد إلى كتابٍ غيرِ مشهورٍ بالصِّحة كسُنن أبي داود ونحوه من كتب السنن.
وعليه، فإنه يستأنف صلاته ولا يبني على ما صنع من صلاته وهو على غير طهارة.
قلت: ويؤيِّد هذا القولَ قولُه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« لاَ يَقْبَلُ اللهُ صَلاَةً بِغَيْرِ طُهُورٍ »(8)، والمراد بنفي القَبول في الحديث نفيُ صِحَّة الفعل بغير طهارة، وتكبيرة الإحرام ركنٌ من أركان الصلاة، وبناء الصلاة عليها من غير طهارة غير مجزئة عملاً بمقتضى الحديث.
هذا، والمثبِت مُقدَّمٌ على النافي على مذهب الجمهور، لاشتماله على زيادةِ علمٍ، إنما يكون إذا لم يستند النافي إلى عِلم بالنفي، أمَّا إذا صَرَّح الراوي بنفي التكبير -كما تقدَّم في زيادة مسلم- فقد استند النافي إلى علم بالعدم، فاستوت -والحال هذه- صورة الإثبات مع النفي، ولا ترجيحَ بينهما، وإنما يُطلَب مُرجِّحٌ من جهةٍ أخرى.
أمَّا حملُ الحديثين على واقعتين فإنَّ صورة التعارض تبقى قائمةً، وإحدى الواقعتين تنافي مقتضى ما تضمَّنه الحديث من عدم صِحَّة الصلاة بغير طهارة، فإمَّا أن تكون واقعةُ أبي هريرة رضي الله عنه متأخِّرةً عن واقعة أبي بكرة رضي الله عنه وناسخةً لها لتعضيدها بما تقرَّر إجماعًا على عدم صِحَّة الصلاة بغير طُهور، أو يُصار إلى الترجيح، فقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم مُقدَّمٌ على فِعله.
والجمع التوفيقي إنما يكون بانتفاء صورة التعارض، وهو يتجلى في الجمع بحمل «التكبير » في حديث أبي بكرة رضي الله عنه على إرادة التكبير، وبه تجتمع الأدلة وتتوافقُ، وهو أَوْلى من الترجيح، وإلاَّ فما ثبت في الصحيحين أصحُّ، وما ثبت من قوله فأحقُّ أن يقدّم.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 05/ربيع الثاني/1429ه
الموافق ل: 11/04/2008م
__________
1- أخرجه أبو داود في «سننه » كتاب الطهارة، باب في الجنب يصلي بالقوم وهو ناس: (233)، وابن حبان في «صحيحه »: (2235)، وأحمد في «مسنده »: (20477)، من حديث أبي بكرة رضي الله عنه. والحديث صححه النووي في «الخلاصة »: (2/696)، والألباني في «صحيح أبي داود »: (233).
2- أخرجه أبو داود في «سننه » كتاب الطهارة، باب في الجنب يصلي بالقوم وهو ناس: (234)، وأحمد في «مسنده »: (20436)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (4930)، من حديث أبي بكرة رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في «صحيح أبي داود »: (234)، والوادعي في «الصحيح المسند »: (1190).
3- أخرجه البخاري في «صحيحه » كتاب الأذان، باب هل يخرج من المسجد لعلة: (613)، ومسلم في «صحيحه » كتاب المساجد، باب متى يقوم الناس للصلاة: (1367)، وأحمد في «مسنده »: (8261)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
4- أخرجه مسلم في «صحيحه » كتاب المساجد، باب متى يقوم الناس للصلاة: (1367)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
5- أخرجه البخاري في «صحيحه » كتاب الغسل، باب إذا ذكر في المسجد أنه جنب يخرج كما هو: (271)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
6- «فتح الباري » لابن حجر: (2/122)، «شرح الزرقاني على الموطأ »: (1/99)، «عون المعبود » للمبارك فوري: (1/396).
7- «شرح مسلم » للنووي: (5/103).
8- أخرجه مسلم في «صحيحه » كتاب الطهارة، باب وجوب الطهارة للصلاة: (535)، والترمذي في «سننه » كتاب الطهارة، باب ما جاء لا تقبل صلاة بغير طهور: (1)، وأحمد في «مسنده »: (4686)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وأخرجه أبو داود في «سننه » كتاب الطهارة، باب فرض الوضوء: (59)، والنسائي في «سننه » كتاب الطهارة، باب فرض الوضوء: (139)، وأحمد في «مسنده »: (20185)، من حديث أسامة الهذلي رضي الله عنه.(4/24)
الفتوى رقم: 883
في أفضل كيفية لصلاة الخوف
السؤال:
ما هي أفضل كيفيات صلاة الخوف؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فأمَّا صلاةُ الخوفِ فإنما تُشرع في كلِّ قتالٍ واجبٍ أو جائزٍ شرعًا، لقوله تعالى: ?وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا? [النساء: 102].
ولصلاة الخوف كيفيات وصور متعددة تجزئ فيها كل صلاة، مع أنَّ العلماء يختلفون في الأفضلية، ويمكن تقسيمها إلى صلاة الخوف العادي أو الطبيعي وصلاةِ الخوف الشديد.
فأمَّا الثاني فصورته أنه إذا اشتدَّ الخوفُ والتحمت الصفوف للمبارزة والقتال كان على كلِّ واحدٍ أن يُصلي على قدر استطاعته سواء راكبًا أو راجلاً مستقبلاً القِبلة أو غير مستقبل لها، وله أن يُومِئَ بالركوع والسجود، وما عجز عنه فهو ساقطٌ عنه، وهذه الصورة ثابتةٌ في البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما(1).
أمَّا إذا كان الخوف عاديًّا ولم يشتدَّ فللصلاة كيفيات كثيرة بلغت سبعة عشر، وأصولها ست صفات على ما ذكره ابنُ القيم رحمه الله، وسبب ذلك يرجع إلى اختلاف الرواة في القصة المورودة عن النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، ومِن أهل العلم من يجعل هذه الكيفيات ضمن قسمين: الأول أن يكون العدوُّ في غير جهة القبلة، والثاني أن يكون العدو في جهتها.
هذا، وما دام العلماء يختلفون في الأفضلية، فإنه يمكن الاقتصار على كيفيةٍ واحدةٍ في حال قَصْرِ الصلاة، وهي أن يُصلِّيَ الإمامُ بكلِّ طائفةٍ صلاةَ قَصْرٍ كاملة ويُسلِّم بها، فتكون الركعتان الأُولَيتَان له فرضًا والركعتان الأخريتان له نفلاً، لجواز اقتداء المفترض بالمتنفل بناءً على أنَّ تبايُنَ النِّيةِ مع الإمام جائزٌ واختلافَ نِيَّتِهما لا يضرُّ، وهذه صفةٌ حَسَنَةٌ كما وصفها ابنُ قُدَامة المقدسي، وقليلةُ الكُلفة، ولا يحتاج فيها إلى مفارقة الإمام، ويدلُّ عليها حديثُ أبي بكرة رضي الله عنه قال:« صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خَوْفٍ الظُهْرَ فَصَفَّ بَعْضَهُمْ خَلْفَهُ وَبَعْضُهُمْ بِإِزَاءِ العَدُوِّ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ فَانْطَلَقَ الَّذِينَ صَلّوا مَعَهُ فَوَقَفُوا مَوْقِفَ أَصْحَابِهِمْ ثُمَّ جَاءَ أُولَئِكَ فَصَلّوا خَلْفَهُ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ فَكَانَتْ لِرَسُولِ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعًا وَلأَصْحَابِهِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ »(2).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 11 ربيع الثاني 1429ه
الموافق ل: 17/04/2008م
__________
1- أخرجه البخاري في «صحيحه » كتاب التفسير، باب فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ: (4261)، ومسلم في «صحيحه » كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الخوف: (1944)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
2- أخرجه أبو داود في «سننه » كتاب الصلاة، باب من قال يصلي بكلِّ طائفة ركعتين: (1248)، والنسائي في «سننه » كتاب الإمامة، باب اختلاف نية الإمام والمأموم: (836)، من حديث أبي بكرة رضي الله عنه. والحديث حسَّنه النووي في «الخلاصة »: (2/699)، وصحَّحه الزيلعي في «نصب الراية »: (2/246)، والألباني في «صحيح أبي داود »: (1248).(4/25)
الفتوى رقم: 890
في حكم نسيان الإمام تكبيرة الانتقال وترك سجود السهو
السؤال:
إذا نسي الإمامُ تكبيرةَ الانتقال، ولم يسجد للسهو، فما هو واجب المأمومين؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فتكبيرةُ الانتقالِ واجبةٌ في الصلاة على المنفرد والإمام والمأموم، على أرجح قَوْلَيِ العلماء، وبه قال الإمامُ أحمد والشوكانيُّ وغيرُهما، خلافًا لمن قال بسُنَّتِها وهو مذهب الجمهور.
ويدلُّ على صِحَّة الموجبين لها أمرُه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم المسيء صلاته فقال:« إِنَّهُ لاَ يَتِمُّ صَلاَةٌ لأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ حَتَّى يَتَوَضَّأَ فَيَضَعَ الوُضُوءَ مَوَاضِعَهُ، ثُمَّ يُكَبِّرَ وَيَحْمَدَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ وَيُثْنِيَ عَلَيْهِ، وَيَقْرَأَ بِمَا شَاءَ مِنَ القُرْآنِ، ثُمَّ يَقُولَ: اللهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ يَرْكَعَ حَتَّى تَطْمَئِنَّ مَفَاصِلُهُ، ثُمَّ يَقُولَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، حَتَّى يَسْتَوِيَ قَائِمًا، ثُمَّ يَقُولَ: اللهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ يَسْجُدَ حَتَّى تَطْمَئِنَّ مَفَاصِلُهُ، ثُمَّ يَقُولَ: اللهُ أَكْبَرُ، وَيَرْفَعَ رَأْسَهُ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَاعِدًا، ثُمَّ يَقُولَ: اللهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ يَسْجُدَ حَتَّى تَطْمَئِنَّ مَفَاصِلُهُ، ثُمَّ يَرْفَعَ رَأْسَهُ فَيُكَبِّر، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ تَمَّتْ صَلاَتُهُ »(1)، والأصلُ في جميع الأمور الواردة في حديث المسيءِ صلاته الوجوب، ويؤكِّد الوجوبَ مواظبته صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم عليها، فقد أخرج البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال:« كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ، ثُمَّ يَقُولُ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، حِينَ يَرْفَعُ صُلْبَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، ثُمَّ يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ: رَبَّنَا لَكَ الحَمْدُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَهْوِي، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَسْجُدُ، ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، ثُمَّ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي الصَّلاَةِ كُلِّهَا حَتَّى يَقْضِيَهَا، وَيُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ مِنَ الثِّنْتَيْنِ بَعْدَ الجُلُوسِ »(2)، وثبت عنه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم أنه قال:« صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي »(3)، و«الأصلُ فِي الأَمْرِ الوُجُوبِ ».
وإذا تقرَّر وجوبُ تكبيرةِ الانتقالِ وَسَهَا فيها الإمامُ وسجد لها فعلى المأمومِ أن يسجدَ معه لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلاَ تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ »(4)، ولأنَّ المأمومَ تابعٌ في حُكمه للإمام إذا سها وإذا لم يَسْهُ.
أمَّا إذا سها الإمام فيها ولم يسجد للسهو فإنه على أرجح قوليِ العلماءِ أنَّ المأموم يسجد لها وإن لم يسجد الإمام؛ لأنَّ كُلاَّ من الإمام والمأموم مؤدٍّ فريضةً فما وجب عليهم فلا يزول عنهم بتركه ما وجب عليه، وإنما يضمن الإمام سهوَ المأموم، أمَّا سهو نفسه فلا يضمنه ولا يضمنه المأموم، في قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« الإِمَامُ ضَامِنٌ، فَإِنْ أَحْسَنَ فَلَهُ وَلَهُمْ، وَإِنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهِ وَلاَ عَلَيْهِمْ »(5).
فإذا لم يسجد الإمامُ ولا المأموم وانتقض وضوءُ كُلِّ واحدٍ منهما بعد السلام من الصلاة الناقصة بَطَلَت الصلاة، والواجب على كلِّ واحدٍ منهما استئناف الصلاة من جديد، أمَّا إذا لم ينتقض وضوء كلٍّ منهما وطال الفصل، فالواجب على كلِّ واحدٍ منهما البناء على صلاته والسجود للسهو؛ لأنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم سَلَّم ساهيًا، وتكلَّم وراجع وخرج من المسجد ودخل بيتَه ثُمَّ عَرَفَ فخَرجَ فأتمَّ ما بقي من صلاته وسجد للسهو سجدتين؛ ولأنّ سجودَه تابع لصلاته وهو مأمور بإتمامها، ووقته عند تذكُّرها لعموم قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« مَنْ نَسِيَ صَلاَةً أَوْ نَامَ عَنْهَا فَكَفَّارَتُهَا أَنْ يُصَلِّيَّهَا إِذَا ذَكَرَهَا »(6).
وهذا كلُّه على تقريرِ حكمِ وجوبِ تكبيرةِ الانتقال، أمَّا على مذهب القائلين باستحبابها فإنَّ الصلاة تصحُّ ولا يلزم إتيانها، ويُستحبُّ سجودُ السهو لها من غير إلزامٍ.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 15 ربيع الثاني 1429ه
الموافق ل: 21/04/2008م
__________
1- أخرجه أبو داود في «سننه » كتاب الصلاة، باب صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود: (857)، من حديث رفاعة بن رافع رضي الله عنه. وصححه الألباني «صفة الصلاة »: (86).
2- أخرجه البخاري في «صحيحه » كتاب صفة الصلاة، باب التكبير إذا قام من السجود: (756)، والنسائي في «سننه » كتاب التطبيق، باب التكبير للسجود: (1150)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (2826)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
3- أخرجه البخاري في «صحيحه » كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة والإقامة: (605)، والدارمي في «سننه »: (1233)، وأحمد في «مسنده »: (20007)، من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه.
4- أخرجه البخاري في «صحيحه » كتاب الجماعة والإمامة، باب إقامة الصف من تمام الصلاة:(689)، ومسلم في «صحيحه » كتاب الصلاة، باب ائتمام المأموم بالإمام: (935)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
5- أخرجه ابن ماجه في «سننه » كتاب إقامة الصلاة، باب ما يجب على الإمام: (981)، والحاكم في «المستدرك »: (785)، من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في «السلسلة الصحيحة »: (1767).
6- أخرجه البخاري في «صحيحه » كتاب مواقيت الصلاة، باب من نسي صلاة فليصل إذا ذكرها ولا يعيد..:(572)، ومسلم في «صحيحه » كتاب المساجد، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها :(1600)، من حديث أنس رضي الله عنه.(4/26)
الفتوى رقم: 901
في كيفية رد المصلي السلام وهو ساجد
السؤال:
كيف يكون الردُّ على مَن ألقى السلام أثناء الصلاة في حالة السجود وإذا كان لا يمكن الردُّ عليه فهل على السائل أن لا يلقي السلام؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فردُّ السلامِ في الصلاة على من سَلَّم على المُصلِّي واجبٌ؛ لأنَّ الردَّ بالقول واجبٌ على الكفاية ما لم يتعيَّن، ولَمَّا تعذَّر الردُّ بالقول في الصلاة لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« إِنَّ اللهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ، وَإِنَّ اللهَ جَلَّ وَعَزَّ قَدْ أَحْدَثَ مِنْ أَمْرِهِ أَنْ لاَ تَكَلَّمُوا فِي الصَّلاَةِ »(1)، فإنه يبقى الردُّ بأيِّ ممكنٍ، وقد أمكن الإشارةُ بيده أو برأسه أو بأُصبُعه، وقد جعله الشارع ردًّا وسمَّاه الصحابة ردًّا، وهذا القول هو أقرب الأقوال للدليل، فقد ثبت عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال:« خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إِلَى قُبَاءَ يُصَلِّي فِيهِ، قَالَ: فَجَاءَتْهُ الأَنْصَارُ فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي، قَالَ: فَقُلْتُ لِبِلاَلٍ: كَيْفَ رَأَيْتَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ حِينَ كَانُوا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي؟ قَالَ: يَقُولُ، هَكَذَا، وَبَسَطَ كَفَّهُ، وَبَسَطَ جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ كَفَّهُ، وَجَعَلَ بَطْنَهُ أَسْفَلَ، وَجَعَلَ ظَهْرَهُ إِلَى فَوْقٍ »(2)، وعن صهيب رضي الله عنه أنه قال:« مَرَرْتُ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -وَهُوَ يُصَلِّي- فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ إِشَارَةً، قَالَ: وَلاَ أَعْلَمُهُ إِلاَّ قَالَ: إِشَارَةً بِإِصْبَعِه »(3)، وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه:« أَنَّهُ سَلّمَ عَلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي فَأَوْمَأَ لَهُ بِرَأْسِهِ »(4).
ومن مجمل هذه الأحاديث فيمكن الردُّ على من ألقى السلام أثناءَ الصلاة وفي حالة السجود بالممكِن من الإشارة فإن لم يستطع بيده فبأُصبُعه، فإن لم يقدر فيؤَّخر ردَّ السلامِ بعد الرفع من السجود، ويكفيه غيرُه إن ردَّ السلامَ عليه سواء بالقول لمن كان خارج الصلاة أو بالإشارة إن كان داخلها.
وأمّا حديث:« مَنْ أَشَارَ فِي صَلاَتِهِ إِشَارَةً تُفْهَمُ عَنْهُ، فَلَيُعِدْ صَلاَتَهُ »(5) فهو حديث باطلٌ؛ لأنه مِن رواية أبي غطفان عن أبي هريرة وهو رجل مجهول.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 26 ربيع الثاني 1429ه
الموافق 03 ماي 2008م
__________
1- أخرجه أبو داود في «سننه » كتاب الصلاة، باب رد السلام في الصلاة: (924)، وأحمد في «مسنده »: (4403)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. والحديث صححه أحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد »: (6/91)، والألباني في «صحيح الجامع »: (1892). قال ابن حجر في «فتح الباري » (13/498):« أصل هذه القصة في الصحيحين من رواية علقمة عن ابن مسعود لكن قال فيها إن في الصلاة لشغلا ».
2- أخرجه أبو داود كتاب «سننه » كتاب الصلاة، باب ردّ السلام في الصلاة: (927)، والبزار في «مسنده »: (4/194)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. والحديث صححه النووي في «الخلاصة »: (1/508)، والألباني في:« السلسلة الصحيحة »: (185).
3- أخرجه أبو داود في «سننه » كتاب الصلاة، باب ردّ السلام في الصلاة: (925)، والترمذي في «سننه » كتاب مواقيت الصلاة، باب ما جاء في الإشارة في الصلاة: (367)، والنسائي في «سننه » كتاب السهو، باب ردّ السلام بالإشارة في الصلاة: (1186)، وأحمد في «مسنده »: (18951)، من حديث صهيب رضي الله عنه، والحديث صحّحه الألباني في «صحيح أبي داود »: (925).
4- أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى »: (3222)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
5- أخرجه أبو داود في «سننه » كتاب الصلاة، باب الإشارة في الصلاة: (944)، والدارقطني في «سننه »: (2/83)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. جاء في «نصب الراية » للزيلعي: (2/90):« قال إسحاق بن إبراهيم بن هانئ : سئل أحمد عن حديث من أشار في صلاته إشارة تفهم عنه فليعد الصلاة ؟ فقال : لا يثبت إسناده ليس بشيء »، وقال أبو داود في «سننه » (1/312):« هذا الحديث وهم »، وضعف الحديثَ كذلك: النووي في «الخلاصة »: (1/511)، والألباني في «السلسلة الضعيفة »: (1104).(4/27)
الفتوى رقم: 921
في إشكال وضع النعلين بين رجلي المصلي
السؤال:
لقد طرأ لي إشكالٌ في الحديث الذي رواه أَبو هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ أَنَّ رسولَ الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسلم قال:« إِذَا صَلَّى أَحَدُكُم فَلاَ يَضَعْ نَعْلَيْهِ عن يَمِينِهِ وَلاَ عن يَسَارِهِ فَتَكُونَ عن يَمِينِ غَيْرِهِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ عن يَسَارِهِ أَحَدٌ وَلْيَضَعْهُمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ »(1). ووجه الإشكال أنّ الصفوف إذا كانت مكتملة ووضع المصلي نعليه بين رجليه فتكون حينذاك أمام رأس مصلٍ في الصف الخلفي، وإذا كان الحديث نهى عن وضعهما عن يسار المصلي حتى لا تكونا عن يمين غيره فمن باب أولى أن لا تكونا أمام رأسه، أرجو منكم حلَّ هذا الإشكال، وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فاعلم -وفَّقك الله تعالى- أنّه لا إشكالَ في وضْعِ النعلينِ بين رجلي المصلي على ما ورد فيه الحديث ولو كانتَا تتقدَّمُ رأسَ المصلي خلف صفِّه إذا كانتا طاهرتين، وقد دلَّت أحاديثُ قوليةٌ وفعليةٌ صحيحةٌ وآثارٌ عن الصحابة على ثبوت شرعية الصلاة في النعال، ولا يخفى أنَّ الصلاة فيهما يقتضي أن تكونَا أمام رأس من يصلي خلفه، ولعلَّ نهيه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم في الحديث عن وضع النعل عن اليمين وهو عن اليسار ورد تعبُّدًا، أو لئلاَّ يُقطع الصفُّ بالنعلين المأمور وصله وسد فُرَجه، ولذلك وضعهما بين رجليه لمن أراد نزعهما امتناع انقطاع الصفّ.
هذا، وإنّما الحرج فيما إذا كان النعل تعلَّقت به نجاسة وهو غيرُ عالمٍ بها أو نسيها ثمَّ تذكَّرها في أثناء صلاته، فالواجب إزالتُها وعدم جواز تركها بين رجليه خشية إيذاء من يصلي معه، بل إلقاؤها ثمَّ الاستمرار في صلاته، ويبني على ما قد صَلَّى على ما ترجَّح من أقوال عند أهل العلم.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 22 ذو القعدة 1415ه
الموافق ل: 22 أبريل 1995م
__________
1- أخرجه أبو داود في «سننه » كتاب الصلاة، باب المصلي إذا خلع نعليه أين يضعهما: (654)، وابن خزيمة في «صحيحه »: (1016)، والحاكم في «المستدرك »: (954)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث صحَّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة »: (645).(4/28)
الفتوى رقم: 923
في أحكام الفتح على الإمام
السؤال:
ما هي أحكام الفتح على الإمام؟ وهل يجوز للبعيد عن الإمام أن يصحح له مع العلم أنه لابدّ أن يرفع صوته؟ وهل يجوز تصحيح الآية إذا غيَّر معناها ساهيًا كمن قرأ قوله تعالى: ?وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ? [البقرة : 51]، فقال:« من بعده لعلكم تشكرون »؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالفتح على الإمام هو تلقينه الآيةَ عند التوقُّف فيها، وقد اتفق الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة وابنِ حزمٍ على وجوب الفتح على الإمام في فاتحة الكتاب لكونها رُكنًا في الصلاة، فإذا التبست على الإمام وجب تلقينه من باب «مَا لاَ يَتِمُّ الوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ ».
أمَّا في غير فاتحة الكتاب فأباح المالكية الفتحَ عليه، وهو روايةٌ عن أحمدَ، قال بها جمهورُ أصحابه، ومنع الفتحَ عليه ابنُ حزمٍ، واستحبَّه الشافعية، وهو أظهر الأقوال وأقواها، لما رواه عبد الله بنُ عمر رضي الله عنهما:« أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ صَلَّى صَلاَةً فَقَرَأَ فِيهَا فَلُبِسَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ لأُبَيٍّ: أَصَلَّيْتَ مَعَنَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَمَا مَنَعَكَ »(1)، ويشهدُ له -أيضًا- حديثُ المسور بن يزيد أنه قال: شَهِدْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الصَّلاَةِ فَتَرَكَ شَيْئًا لَمْ يَقْرَأْهُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ تَرَكْتَ آيَةَ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ:« هَلاَّ أَذْكَرْتَنِيهَا »(2)، فالحديثان يدلاَّن على استحباب تلقين الإمام إذا التبست عليه القراءة أو ترك ناسيًا لآية أو آيتين؛ لأنَّ أدنى درجات العبادة الاستحباب، ولو لم يكن مستحبًّا لما سأل عن أُبي وعن سبب امتناعه عن الفتح، وعن تذكيره بما ترك كما في الحديث الثاني، وقد صحَّ ما رواه أبو عبد الرحمن السلمي عن علي رضي الله عنه أنه قال:« إِذَا اسْتَطْعَمَكُمُ الإِمَامُ فَأَطْعِمُوهُ »(3).
ثمَّ اعلم أنَّ أحقَّ الناس بالصفِّ الأول ممَّا يلي الإمام خلفَه مباشرةً أُولُوا الأحلام والنُّهى من أهل العقل والدِّين والعلم والرشاد، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« لِيَلِنِي مِنْكُمْ أُولُوا الأَحْلاَمِ وَالنُّهَى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، وَلاَ تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ، وَإِيَّاكُمْ وَهَيْشَاتِ الأَسْوَاقِ »(4)، قال النووي:« في هذا الحديث تقديمُ الأفضل إلى الإمام؛ لأنه أَوْلَى بالإكرامِ؛ ولأنه ربما احتاج الإمامُ إلى استخلافٍ فيكون هو أَوْلَى؛ ولأنه يتفطَّن لتنبيه الإمام على السهو لما لا يتفطَّن له غيرُه، وليضبطوا صفةَ الصلاةِ ويحفظوها وينقلوها ويُعلِّموها الناسَ، ويقتدي بأفعالهم مَن وراءَهم »(5).
هذا، والأصل في الصلاة الخشوعُ وتحريمُ الكلام إلاَّ للحاجة، وإذا تحقَّقت صحة الصلاة أو كمالها بالفتح على الإمام بالواحد فلا يجوز ازدحام أصوات المصلين واجتماعُهم عليه بالفتح والتصحيح والتذكير، والقريب من الإمام يُغني عن البعيد، فإن لم يفتحِ القريبُ على الإمام في فاتحة الكتاب وجبَ على البعيد ولو بمَدِّ صوته، أمَّا في غير فاتحة الكتاب فلا يصلح للبعيد الفتح والتصحيح إذا كان الإمام يعسر عليه فهم ما صُحِّح له لما فيه من الكُلفة والاضطراب، وللإمام في هذه الحالة أن يركع بما قرأه في غير الفاتحة، لاستحباب إتمام قراءته وعدم وجوبها.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 09 جمادى الثانية 1429ه
الموافق ل: 13 جوان 2008م
__________
1- أخرجه أبو داود في «سننه » كتاب الصلاة، باب الفتح على الإمام في الصلاة: (907)، وابن حبان في «صحيحه »: (2242)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (5877)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. والحديث صححه النووي في «الخلاصة »: (1/503)، والألباني في «صفة الصلاة »: (128).
2- أخرجه أبو داود في «سننه » كتاب الصلاة، باب الفتح على الإمام في الصلاة: (907)، وابن حبان في «صحيحه »: (2241)، من حديث المسور بن يزيد رضي الله عنه. والحديث حسنه النووي في «الخلاصة »: (1/504)، والألباني في «صحيح أبي داود »: (907).
3- أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى »: (5886)، والدارقطني في «سننه »: (1/400)، عن علي رضي الله عنه موقوفا. والأثر صححه زكريا بن غلام قادر الباكستاني في «ما صح من آثار الصحابة في الفقه »: (1/374).
4- أخرجه مسلم في «صحيحه » كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف وإقامتها وفضل الأول فالأول : (974)، وأبو داود في «سننه » كتاب الصلاة، باب من يستحب أن يلي الإمام في الصف: (675)، والترمذي في «سننه » كتاب الصلاة، باب ما جاء ليليني منكم أولو الأحلام والنهى: (228)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
5- «شرح مسلم » للنووي: (4/155).(4/29)
في عارضية رخصة الجمع لأهل الأعذار
الفتوى رقم: 975
السؤال:
بمدينتنا مساجدُ اشتهرت بالجمع بين الصلاتين حالَ نزول المطر، ويقصِد المسجدَ مَن لا يحضر الصلواتِ الخمسَ أبدًا، فهل يجوز لهؤلاء الجمع؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فاعلم أنَّ الجمعَ بينَ الصلاتينِ ثبتَ رخصةً لأهلِ الأعذارِ، وهيَ رخصةٌ عارضةٌ لرفعِ الحرجِ عنهم، الذي هو الضيقُ والمشقَّةُ بشرطِ أن لاَ يُتَّخذ الجمعُ عادةً(1)، وهذَا من تخفيفِ الشريعةِ وتيسيرها وسماحتها، وقد جاءت النصوصُ الشرعيةُ برفعِ الحرجِ، منها: قولُه تعالى: ?يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ? [البقرة: 185]، وقولُه تعالى: ?لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا? [البقرة: 286]، وقولُه تعالى: ?فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ? [التغابن: 16]، وقولُه صلى الله عليه وآله وسَلَّم: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»(2).
لذلك يُباحُ الجمعُ إذا كان في تركهِ حرجٌ قد رفعه الله عن الأُمَّة، ولا يختصُّ الجمعُ بالسفرِ وإنما يتعلَّقُ بالحاجةِ التي معها مشقَّةٌ سواء كانَ ذلكَ في السفرِ أو الحضرِ، للمطرِ أو المرضِ أو الوحلِ ونحو ذلك، فإذا احتاجَ الإمامُ إلى الجمعِ لمطرٍ أو وحلٍ شديدٍ أو ريحٍ باردةٍ قويةٍ، ونحو ذلكَ فله أن يجمعَ بين الصلاتينِ، وذلكَ أولى من أن يصليَ الناسُ في بيوتهم منفردينَ أو مجتمعينَ، إذ الصلاةُ جمعًا في المساجدِ أولى من الصلاةِ في البيوتِ مفرقةً باتفاقِ الأئمةِ الذينَ يجيزونَ الجمعَ كمالكٍ والشافعي وأحمدَ كما قرَّره ابنُ تيميةَ رحمه الله(3).
ويؤيِّدُ ذلكَ قولُ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما من أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلَّم صَلَّى الظهرَ والعصرَ جميعًا بالمدينةِ في غيرِ خوفٍ ولا سفرٍ، وسألَ سعيدُ بنُ جبيرٍ ابنَ عباسٍ رضي الله عنهما: لم فَعَلَ ذلكَ؟ قَال: «أَرَادَ أَلاَّ يُحْرِجَ أَحَدًا مِنْ أُمَّتِهِ»(4)، وفي لفظ آخر: «جَمَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الظُّهْرِ والعَصْرِ والمغْرِبِ والعشَاءِ بالمدينةِ في غَيْرِ خَوْفٍ ولاَ مَطَرٍ...» الحديث(5).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في 22 المحرم 1430ه
الموافق ل: 19 جانفي 2009م
__________
1- «شرح مسلم» للنووي: (5/219).
2- أخرجه البخاري كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة»، باب الاقتداء بسنن رسول الله: (6858)، ومسلم كتاب «الحج»: (3257)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
3- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية: (24/29-30).
4- أخرجه مسلم كتاب «صلاة المسافرين»: (1629)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
5- أخرجه مسلم كتاب «صلاة المسافرين»: (1633)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. قال الألباني -رحمه الله- في «الإرواء» (3/37): «ولعلَّ الصواب الرواية الأولى فإنَّ لفظ "المدينة" معناه في "غير سفر" فذكر هذه العبارة مرة أخرى لا فائدة منها بل هو تحصيل حاصل بخلاف قوله "في غير خوف " ففيه تنبيه إلى معنى لا يستفاد إلا به فتأمل». قلت: وهو الصحيح عملا بقاعدة: «أن التأسيس مقدم على التأكيد».(4/30)
الفتوى رقم: 982
في حكم جلوس الإمام بعد الانصراف من التسليم
السؤال:
ما هي السُّنَّة في جلوس الإمام للذِّكر بعد التسليم من الصلاة؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالسُّنَّة للإمام بعد الفراغ من التسليم أن ينصرف عن يمينه تارة وعن شماله تارة أخرى، وهو مُخَيَّرٌ بين الأمرين عملاً بالجمع بين التخيير بين حديث ابن مسعود رضي الله عنه، قال: «لَقَدْ رَأَيتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كَثِيرًا يَنْصَرِفُ عَنْ يَسَارِهِ»(1)، وبين حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «أَكْثَرُ مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَنْصَرِفُ عَنْ يَمِينِهِ»(2)، والجمع أَوْلى من الترجيح، وله أن يستقبل الناس بوجهه، ويمكثَ في المسجد يسيرًا قبل انصرافه عن مجلسه، وقد ذكر ابنُ رجب -رحمه الله-: «أنه كان يمكث بعد إقباله على الناس بوجهه لا يمكث مستقبلاً القبلة»(3)، ويدلّ على إقباله على الناس حديثُ سَمُرَةَ بنِ جُنْدُب رضي الله عنه قال: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ»(4)، وحديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: «كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَحْبَبْنَا أَنْ نَكُونَ عَنْ يَمِينِهِ يُقْبِلُ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، قَالَ: فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: رَبِّ قِنِي عَذَابَكَ يَوْمَ تَبْعَثُ أَوْ تَجْمَعُ عِبَادَكَ»(5)، ويدلُّ على أنه كان يجلس صَلَّى الله عليه وآله وسلم قبل انصرافه يسيرًا ما أخرجه مسلمٌ من حديث البراء بن عازبٍ رضي الله عنه قال: «رَمَقْتُ الصَّلاَةَ مَعَ مُحَمَّدٍ، فَوَجَدْتُ قِيَامَهُ، فَرَكْعَتَهُ، فَاعْتِدَالَهُ بَعْدَ رُكُوعِهِ، فَسَجْدَتَهُ، فَجَلْسَتَهُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، فَسَجْدَتَهُ، فَجَلْسَتَهُ مَا بَيْنَ التَّسْلِيمِ وَالانْصِرَافِ، قَرِيبًا مِنَ السَّوَاءِ»(6)، قال النووي: «دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يجلس بعد التسليم شيئًا يسيرًا في مصلاه»(7).
قلت: ولعلَّهُ مقدار ما يستغفر ثلاثًا ثمَّ يقول: «اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلاَمُ وَمِنْكَ السَّلاَمُ تَبَارَكْتَ يَا ذَا الجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ، رَبّْ قِنِي عَذَابَكَ يَوْمَ تَبْعَثُ عِبَادَكَ» أو نحو ذلك.
ويُستثنى في ذلك الجلوس بعد الفجر فيستحبُّ للإمام أن يمكث جالسًا بعد استقباله للناس إلى أن تطلع الشمس، ويدلُّ عليه ما رواه مسلم عن جابر بن سمرة أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم: «كَانَ لاَ يَقُومُ مِنْ مُصَلاَّهُ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الصُّبْحَ حتى تَطْلُعَ الشَّمْسُ»(8).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 21 صفر 1430ه
الموافق ل: 16 فيفري 2009م
__________
1- أخرجه البخاري كتاب «الصلاة»، باب الانفتال والانصراف عن اليمين والشمال: (814)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
2- أخرجه مسلم كتاب «صلاة المسافرين وقصرها»: (1/320)، رقم (708)، والنسائي كتاب «الصلاة»، باب الانصراف من الصلاة: (1359)، وأحمد: (12435)، من حديث أنس رضي الله عنه.
3- فتح الباري لابن رجب: كتاب الصلاة: (6/116).
4- أخرجه البخاري كتاب «الصلاة»، باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم: (809)، من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه.
5- أخرجه مسلم كتاب «صلاة المسافرين وقصرها»: (1/321)، رقم: (709)، من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه.
6- أخرجه مسلم كتاب «الصلاة»: (1/217)، رقم: (471)، من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه.
7- شرح مسلم للنووي: (4/188).
8- أخرجه مسلم كتاب «المساجد ومواضع الصلاة»: (1/301)، رقم: (670)، وأبو داود كتاب «الصلاة»، باب صلاة الضحى: (1294)، وأحمد: (20333)، من حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه.
9- شرح مسلم للنووي: (15/79).(4/31)
الفتوى رقم: 992
في قنوت النازلة وأحكامه
السؤال:
ظَهَرَ في الآونة الأخيرة -تزامُنًا مع العدوان الصُّهيوني على غزَّةَ- خلافٌ بين الناس فيما يتعلَّق بقنوت النوازل، من حيث تفاصيلُ مشروعيته، وهل يُشترط فيه إذن الحاكم أم لا؟
وإذا منعه الحاكم لأسباب ظهرت له فهل على مَن خالفه إثمٌ في ذلك؟
وهل يُشرع في هذا القنوت تسمية المعتدين بأعيانهم، كما هو هديُ النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم؟
دُلُّونا -حفظكم الله- على الصيغة المشروعة الموافقة لسُنَّة النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم مشكورين ومأجورين.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فلا نِزاعَ بين الأئمَّة في مشروعية القنوت ولا في مشروعيته للنازلة، وإنما النِّزاع في بقاء مشروعيته لغير النازلة، فمالك -رحمه الله- يرى دوام قنوت النوازل في الفجر بالدعاء على الكفار والاستعانة بالله عليهم(1) لدوام أسبابها، قال ابن العربي المالكي: «ويرى مالكٌ والشافعيُّ أنَّ ذلك من كَلَب العدو ومقارعته معنى دائم فدام القنوت بدوامه»(2)، والصحيح أنَّ القنوت في مشروعيته متوقِّف على وجود سببه ويزول بزواله، وما ذكره ابن العربي مِن عِلَّة في استدامة القنوت عند مالكٍ فهي واردة في زمانه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم وفي زمن الصحابة رضي الله عنهم فلم يُجْمِعُوا على الاستمرار عليه ولا حدَّدوه بشهر؛ لأن التحديد فيه ناسب زمن النازلة فكان غير مقصود، فقد ترك النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم القنوت لما زال سببه، بقدوم من قَنَتَ لهم، قال ابن القيم: «فإنه إنما قنت عند النوازل للدعاء لقومٍ، وللدعاء على آخرين، ثمَّ تركه لما قدم من دعا لهم وتخلَّصوا من الأسر، وأسلم من دعا عليهم، وجاؤوا تائبين، فكان قنوته لعارضٍ فلمَّا زال ترك القنوت»(3).
هذا، ومن تفاصيل مشروعيته أنَّ قنوت النازلة يُشرع في الركعة الأخيرة بعد الرفع من الركوع في الصلوات المكتوبات كلِّها، ولم يكن من هديه تخصيصه بالفجر بل كان أكثر قنوته فيها(4)، وهو قول عامَّة فقهاء أهلِ الحديث، وهو المأثور عن الخلفاء الراشدين، ويدلُّ على هذا المضمون من التفاصيل نصوصٌ حديثيةٌ كثيرةٌ منها:
حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «كَانَ القُنُوتُ فِي المَغْرِبِ وَالفَجْرِ»(5)، وعنه رضي الله عنه: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ قَنَتَ شَهْرًا يَلْعَنُ رِعْلاً وَذَكْوَانَ وَعُصِيَّةً عَصَوُا اللهَ وَرَسُولَهُ»(6)، وعنه رضي الله عنه -أيضًا-: «أنَّ رِعْلاً وَذَكْوَانَ وَعُصِيَّةَ وَبَنِي لِحْيَانَ اسْتَمَدُّوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَدُوٍّ فَأَمَدَّهُمْ بِسَبْعِينَ مِنَ الأَنْصَارِ، كُنَّا نُسَمِّيهِمُ القُرَّاءَ فِي زَمَانِهِمْ، كَانُوا يَحْتَطِبُونَ بِالنَّهَارِ وَيُصَلُّونَ بِاللَّيْلِ حَتَّى كَانُوا بِبِئْرِ مَعُونَةَ قَتَلُوهُمْ وَغَدَرُوا بِهِمْ، فََبلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَقَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو فِي الصُّبْحِ عَلَى أَحْيَاءٍ مِنَ أَحْيَاءِ العَرَبِ عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَعُصِيَّةَ وَبَنِي لِحْيَانَ، قَالَ أَنَسٌ فَقَرَأْنَا فِيهِمْ قُرْآنًا، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ رُفِعَ، (بَلِّغُوا عَنَّا قَوْمَنَا أَنَّا لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَانَا)»(7).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: قال: «لأَقُرِّبَنَّ صَلاَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقْنُتُ فِي الرَّكْعَةِ الأَخِيرَةِ مِنْ صَلاَةِ الظُّهْرِ وَصَلاَةِ العِشَاءِ وَصَلاَةِ الصُّبْحِ بَعْدَمَا يَقُولُ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَيَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ، وَيَلْعَنُ الكُفَّارَ»(8)، وعنه رضي الله عنه قال: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فِي الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ مِنْ صَلاَةِ العِشَاءِ قَنَتَ: اللَّهُمَّ انْجِ عَيَّاشَ بْنَ أَبْي رَبِيعَةَ، اللَّهُمَّ انْجِ الوَلِيدَ بْنِ أَبِي الوَلِيدَ، اللَّهُمَّ انْجِ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، اللَّهُمَّ انْجِ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ»(9).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «قَنَتَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ شَهْرًا مُتَتَابِعًا فِي الظُّهْرِ وَالعَصْرِ وَالمَغْرِبِ وَالعِشَاءِ وَصَلاَةِ الصُّبْحِ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ إِذَا قَالَ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ يَدْعُو عَلَى أَحْيَاءٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَعُصِيَّةَ وَيُؤَمِّنُ مَنْ خَلْفَهُ»(10).
فمجموع هذه الأحاديث تفيد أنَّ قنوت النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم كان جُمَلاً قليلة، وقد سُئِلَ أنس بن مالك: هل كان النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم يقنت في صلاة الصبح؟ قال: «نَعَمْ، بَعْدَ الرُّكُوعِ يَسِيرًا»(11)، ويقتصر في الدعاء على النازلة، وقد يُكرَّر الدعاء نفسه في الأيام التي يقنت فيها، ويجهر في قنوته، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ويدعو في كلِّ نازلةٍ بما يناسب المقصود منها، ويتابع المأمومُ إمامَه في قنوته ويُؤَمِّنُ على دعائه، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وليس للقنوت صيغة مُعَيَّنَة، وله أن يدعو في كلِّ نازلة بما يتوافق مع المقصود منها، وله أن يُسَمِّيَ من يدعو لهم من أهل الإيمان ومن يدعو عليهم من أهل الكفر، لثبوت ذلك عنه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم. قال ابن تيمية: «وينبغي للقانت أن يدعو عند كلِّ نازلة بالدعاء المناسب لتلك النازلة، وإذا سمَّى من يدعو لهم من المؤمنين، ومن يدعو عليهم من الكافرين المحاربين كان ذلك حسنًا»(12)، وقال: -رحمه الله- في موضعٍ آخر: «بل عمر قنت لما نزل بالمسلمين من النازلة، ودعا في قنوته دعاءً يناسب تلك النازلة، كما أنَّ النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم لما قنت أَوَّلاً على قبائل بني سليم الذين قتلوا القُرَّاء دعا عليهم بالذي يناسب مقصوده، ثمَّ لما قنت يدعو للمستضعفين من أصحابه دعا بدعاء يناسب مقصوده، فسُنَّة رسول الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم وخلفائه الراشدين تدلُّ على شيئين:
أحدهما: أنَّ دعاء القنوت مشروع عند السبب الذي يقتضيه ليس بسُنَّة دائمة في الصلاة.
الثاني: أنَّ الدعاء فيه ليس دعاءً راتبًا، بل يدعو في كلِّ قنوتٍ بالذي يناسبه، كما دعا النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم أَوَّلاً وثانيًا، وكما دعا عمر وعلي رضي الله عنهما لما حارب من حاربه في الفتنة فقنت، ودعا بدعاء يناسب مقصوده»(13).
هذا، ويسنُّ للإمام والمأموم رفع اليدين في قنوت النازلة لثبوته عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم وعن أصحابه رضي الله عنهم لحديث أنسٍ رضي الله عنه قال: «..فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَجَدَ عَلَى شَيْءٍ قَطُّ وَجْدَهُ عَلَيْهِم، -يَعْنِي القُرَّاءَ- فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي صَلاَةِ الغَدَاةِ رَفَعَ يَدَيْهِ فَدَعَا عَلَيْهِمْ»(14)، وقد ثبت ذلك عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- رفع يديه في القنوت وكذا وابن مسعود وغيرهم، قال النووي: «هذه الأحاديث صحيحة عن رسول الله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم وأصحابه»(15).
أمَّا القنوت في صلاة الجمعة والنوافل وللمنفرد فلا أعلم له حديثًا أو أثرًا صحيحًا يدلُّ على مشروعية القنوت فيها، والمعلوم أنَّ «الأَصْلَ فِي العِبَادَاتِ التَّوْقِيفُ وَالحَظْرُ».
وكذلك مسح الوجه بعد دعاء القنوت فليس فيه إلاّ حديث أو حديثان ضعيفان لا تقوم بهما الحجة، كما نص على ذلك البيهقي(16) وابن تيمية(17) والنووي(18).
فالحاصل: ينبغي على الإمام مراعاةُ التيسير، وتحاشي التطويل، وترك التصنُّع، والابتعاد عن المبالغة بإقحام أدعية إضافية لا علاقةَ لها بالنازلة، وأن يجعل توسُّلَه بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى مناسبًا لمقام دعاء النازلة، فلا يتوسَّل بصفة الرحمة والمغفرة في مقام لعن الكفار وذَمِّهم، والدعاء عليهم بالشِّدَّة والسِّنين، كما لا يجوز أن يتعدَّى بالدعاء فيصيب أعراض المسلمين، ولا ينتهز الفرصة ليؤلب الناس بدعائه على الحكام والمسؤولين المسلمين، والتهوين بهم، ونحو ذلك ممَّا ليس من المشروع في الأدعية ولا هو من مقاصد الشريعة.
هذا، وقنوت النازلة سُنَّة ثابتةٌ تُشرع لعارِض -كما تقدَّم- وتقامُ في المساجد ولا تحتاج إلى إذن الإمام الحاكم أو نائبه، وهي شعيرة ظاهرةٌ تحقِّقُ مَقصدًا شرعيًّا عامًا يتجلى أداؤها في المشاركة المعنوية الأَخَوِيَّة، والاهتمام بالمسلمين، وحفز الهمم، وإبداء التعاطف والتعاون، وإظهار التناصر والتآزر الأخوي، المشعر بأنهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائرُ الجسد بالسهر والحُمَّى، لذلك لا يقتصر حكم أدائه على مسجدٍ خاصٍّ يُقيمُ فيه الإمامُ الأعظم أو نائبه القنوتَ، كما لا يختصُّ ببلد دون بلد، ولا يلزم فيه إذن الإمام الحاكم، إذ القنوت شرع تعبدي عامّ، والأصل في أفعال النبيِّ صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم العموم لجميع المسلمين ما لم يرد دليلٌ التخصيص، وقد دلَّ قولُه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم على هذا الأصل من العموم بصيغة الطلب: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي»(19)، لذلك لا يجوز العدول عن هذا الأصل بإضافة تخصيصٍ أو تقييدٍ أو شرطٍ أو وصفٍ زائدٍ إلاَّ بدليلٍ شرعيٍّ أو مُسوِّغٍ مقاصديٍّ، وإلاَّ كان الوصف الزائد بدعةً إضافيةً، إذ لم يكن من فقه الصحابة رضي الله عنهم أن يعتبروا القنوت من خصائص الإمام الحاكم ولا أنه مُقيَّدٌ بمسجده، وقد ثبت عنهم -من غير خلافٍ يُعلَم- سواء ممَّن رَوَوْا أحاديثَ قنوتِ النازلة أو من غيرهم رضي الله عنهم أنهم يقنتون في الصلوات المكتوبة وبالأخص صلاة الصبح من غير توقُّف على الإمام الحاكم أو إذنه فكان ذلك منهم إجماعًا عمليًّا.
علمًا أنَّ القول بخصوصية قُنوت النوازل مُتعلِّق بالإمام الأعظم إنما هو من مفردات الحنابلة في إحدى الروايات عن الإمام أحمد -رحمه الله-(20)، وله وجه صحيحٌ إذ يمكن حمله على من يريد أن يُفرِّق جمعَ المسلمين ويحدث الاضطراب في صفِّهم بالرأي الفردي -تعنُّتًا- لتحدِّي الإمام والجماعة: فيُشترط إذن الإمام أو نائبه لقطع سبيل منتهزي فرص قنوت النوازل للحطِّ من شأن الإمام المسلم، والتهوين بأعوانه المسؤولين، والمسيس بأعراضهم، وحشر عامَّتهم في من يستحقُّون اللعن والذمَّ والشدَّةَ، وتأليب الناس عليهم، ونحو ذلك من صيغ الأدعية المنافية للأخلاق ولأصول الاعتقاد الصحيح لإدخال البلاد في الفتنة، لذلك كان إذن الإمام مشروطًا في حدود هذه المقاصد من إحلال الاستقرار الأمنيِّ، ودفع الشغب والاضطراب عن الأُمَّة خدمةً للعباد والبلاد.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 1 صفر 1430ه
الموافق ل: 27 يناير 2009م
__________
1- «المدونة الكبرى» لابن القاسم (1/103).
2- «القبس» لابن العربي (1/348).
3- «زاد المعاد» لابن القيم (1/272).
4- المصدر السابق الجزء والصفحة نفسها.
5- أخرجه البخاري كتاب «الصلاة»، باب فضل اللهم ربنا ولك الحمد (765)، وفي باب القنوت قبل الركوع وبعده (959)، من حديث أنس رضي الله عنه.
6- أخرجه مسلم كتاب «المساجد»: (1552)، من حديث أنس رضي الله عنه.
7- أخرجه البخاري كتاب «المغازي»، باب غزوة الرجيع ورعل وذكوان وبئر معونة: (3862)، من حديث أنس رضي الله عنه.
8- أخرجه البخاري كتاب «الصلاة»، باب فضل اللهم ربنا ولك الحمد: (764)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
9- أخرجه البخاري كتاب «الاستسقاء»، باب دعاء النبي اجعلها عليهم سنين كسني يوسف (961)، ومسلم كتاب «المساجد»: (1540)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
10- أخرجه أبو داود في «الصلاة»، باب القنوت في الصلوات: (1443)، وأحمد: (2741)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. والحديث صححه النووي في «الخلاصة»: (1/461)، وأحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد»: (4/263)، والألباني في «الإرواء»: (2/163).
11- أخرجه البخاري كتاب «الوتر»، باب القنوت قبل الركوع وبعده: (956)، ومسلم كتاب «المساجد»: (1545)، من حديث أنس رضي الله عنه.
12- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (22/271).
13- المصدر السابق (23/109).
14- أخرجه أحمد: (11994)، والبيهقي في «السنن الكبرى»: (3229)، من حديث أنس رضي الله عنه، والحديث جوّد إسناده العراقي في «تخريج الإحياء»: (1/130)، وانظر «الإرواء»: (2/163).
15- «المجموع» للنووي (3/511).
16- «سنن البيهقفي» (2/212).
17- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (22/519).
18- «المجموع» للنووي (3/500).
19- أخرجه البخاري كتاب «الأذان»، باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة والإقامة: (605)، من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه.
20- «الإنصاف» للماوردي (2/175).(4/32)
03- صفة الصلاة
الفتوى رقم: 12
حديث المسيء صلاته وما تضمن من أحكام
السؤال: لقد تقرر عند جمهور العلماء أن الأمر إذا ورد من الشارع أفاد الوجوب إلا لقرينة صارفة و هذا ما قرروه في بيان الأحكام الشرعية ومنها: الأحكام المتعلقة بالصلاة فكل أمر عندهم صدر بصيغة "افعل" أو "أمر" أو غيرهما من الألفاظ الدالة على الأمر أفادت عندهم الوجوب إلا لصارف، إلا أنهم اختلفوا في الأوامر التي صدرت منه صلى الله عليه و سلم بخصوص الصلاة والتي لم يرد ذكرها في حديث المسيء صلاته فقال بعضهم بعدم وجوب كل ما جاء منه صلى الله عليه و سلم من أمر لم يرد ذكره في حديث المسيء وجعلوا هذا الأخير قرينة صريحة في صرف تلك الأوامر مطلقا، وذهب بعضهم إلى أن حديث المسيء ليس صارفا مطلقا وإنما يكون كذلك على التفصيل التالي وهو ما قرره الشوكاني -رحمه الله- في نيل الأوطار، قال رحمه الله جوابا على من قالوا إن حديث المسيء صارف للأوامر الأخرى مطلقا: [فنحن لا نوافقه بل نقول إذا جاءت صيغة "أمر" قاضية بوجوب زائد على ما في هذا الحديث فإن كانت متقدمة على تاريخه كان صارفا لها إلى الندب لأن اقتصاره صلى الله عليه وسلم في التعليم على غيرها وتركه لها من أعظم المشعرات بعدم وجوب ما تضمنه لما تقرر من أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، و إن كانت متأخرة عنه فهو غير صالح لصرفها لأن الواجبات الشرعية ما زالت تتجدد وقتا فوقتا وإلا لزم قصر واجبات الشريعة على الخمس المذكورة في حديث ضمام بن ثعلبة وغيره أعني الصلاة والصوم والحج والزكاة والشهادتين لأن النبي صلى الله عليه وسلم اقتصر عليها في مقام التعليم والسؤال عن جميع الواجبات واللازم باطل فالملزوم مثله، وإن كانت صيغة الأمر الواردة بوجوب زيادة على هذا الحديث غير معلومة التقدم عليه ولا التأخر ولا المقارنة فهذا محل الإشكال ومقام الاحتمال والأصل عدم الوجوب بالبراءة منه حتى يقوم دليل وجوب الانتقال عن
الأصل والبراءة ولا شك أن الدليل المفيد للزيادة على حديث المسيء إذا التبس تاريخه محتمل لتقدمه عليه وتأخره فلا ينتهض للاستدلال به على الوجوب وهذا التفصيل لا بد منه وترك مراعاته خارج عن الاعتدال إلى حد الإفراط أو التفريط لأن قصر الواجبات على حديث المسيء فقط وإهدار الأدلة الواردة بعده تخيلا لصلاحيته لصرف كل دليل يرد بعده دالا على الوجوب سد لباب التشريع ورد لما تجدد من واجبات الصلاة ومنع للشارع من إيجاب شيء منها وهو باطل لما عرفت من تجدد الواجبات في الأوقات والقول بوجوب كل ما ورد الأمر به من غير تفصيل يؤدي إلى إيجاب كل أقوال الصلاة وأفعالها التي ثبتت عنه صلى الله عليه و سلم من غير فرق بين أن يكون ثبوتها قبل حديث المسيء أو بعده لأنها بيان للأمر القرآني أعني قوله تعالى: ?وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ? [البقرة: 43] ولقوله صلى الله عليه وسلم :"صلوا كما رأيتموني أصلي "(1) وهو باطل لاستلزامه تأخير البيان عن وقت الحاجة وهو لا يجوز عليه صلى الله عليه سلم](2) أ.هـ
فما وجه صحة هذا التفصيل الذي ذكره الإمام الشوكاني -رحمه الله- وهل يستقيم قوله أنه إذا جهل تاريخ التقدم أو التأخر لزم الرجوع إلى البراءة لأن الأصل عدم الوجوب أو يقال بل الواجب الرجوع إلى الوجوب لإفادة قوله تعالى ?وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ? [البقرة: 43] ولقوله (صلى الله عليه و سلم):" صلوا كما رأيتموني أصلي "(3) ذلك ولأن ما ورد في خصوص الصلاة من النصوص إنما يكون بيانا لذلك المجمل فيأخذ حكمه.
وما هو التوجيه الصحيح لحديث المسيء صلاته مع النصوص الأخرى الموجبة لبعض الأقوال و الأفعال في الصلاة و التي لم يرد ذكرها فيه ؟
أفيدونا بارك الله فيكم وأمتعكم بنعمه وزادكم فضلا على فضل، نقول لكم أفضل ما يقال لمن يقدم معروفا :" فجزاكم الله خيرا" شاكرين لكم فضلكم علينا وسعيكم في نقل هذا العلم الموروث إلى طلبتكم.
الجواب: الحمد لله رب العالمين و الصلاة والسلام على أشرف المرسلين و على آله و صحبه و إخوانه إلى يوم الدين، أما بعد؛
ففعلا استدل بحديث أبي هريرة المعروف بحديث (المسيء صلاته) على وجوب كل ما ذكر فيه لكونه مساقا بصيغة الأمر بعد عبارة "إنها لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء..."(4) الحديث ، كما يستدل به -من جهة أخرى- على عدم وجوب كل ما لم يذكر فيه لأنه في مقام تعليم حكم في الصلاة فاقتصاره على غيرها مع تركه لها مشعر بعدم الوجوب، فلو ترك ذكر واجب لكان فيه تأخير البيان عن وقت الحاجة و هو غير جائز إجماعا، وما فصله الإمام الشوكاني في صيغة الأمر القاضية بوجوب زائد على ما في حديث أبي هريرة معتبر عموما، وعندي تفصيل آخر يمكن بيان وجهه على ما يأتي:
إن ما يتضمنه حديث المسيء صلاته من وجوب أو عدمه إذا ما عارضه دليل أقوى منه وجب المصير إلى الأقوى لأن العمل بالأقوى واجب، بغض النظر ما لو كان الدليل متقدما عن الحديث أو متأخرا عنه، كالنية المتفق على وجوبها في الصلاة مع أن الحديث لم يذكرها، ولا يخفى من حيث الزمن - تقدم وجوب النية على حديث المسيء صلاته، ولم يأت الحديث صارفا لحكم وجوب النية إلى الندب مع العلم بالسبق، و من هنا يظهر عدم تحقق المراد من تفصيل الإمام الشوكاني على ما مضى، لأنه - في نظري - دليل النية أقوى في الوجوب من حديث المسيء صلاته لانعقاد الإجماع عليه.
وإن سلمنا أن حديث المسيء صلاته شامل للنية في قوله صلى الله عليه وسلم:" إذا قمت إلى الصلاة ..."(5) دال عل إيجابها من ناحية أن المعني بالنية ما هو إلا القصد إلى فعل الشيء، فالمسألة غير مطردة في موضع آخر كما في القعود الأخير في الصلاة وهو من الواجب المتفق عليه و لم يذكره حديث أبي هريرة المتأخر عنه ولم يصرفه إلى الندب على ما يرى، وإن كان حديث المسيء صلاته يساوي في القوة صيغة الأمر القاضية بوجوب زائد فما أفاده الإمام الشوكاني إذا علم بتاريخ أحدهما على الآخر تقديما وتأخيرا يظهر وجيها، لأنّ الصيغة المقتضية للوجوب إن كانت متقدمة على خبر المسيء صلاته كان هذا الأخير صارفا لها إلى الندب، لأنه موضع بيان واجب في الصلاة، وترك بعض ما هو واجب تأخير للبيان عن وقت الحاجة وهو غير مستساغ أصوليا على ما تقدم.
وإن كانت الزيادة بعده ومتأخرة عنه فلا يقوى على صرفها إلى الندب فيتقرر وجوبها حكما، لأن إحداث الأوامر في الزمن غير ممتنع عقلا ولا شرعا قال تعالى: ?إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ? [الحج: 14] و في آية ?فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ? [البروج: 16] و في ثالثة ?لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ? [الأنبياء: 23] وقال عليه الصلاة والسلام في حديث ابن مسعود:"إن الله يحدث في أمره ما يشاء وإن ما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة "(6) ففهم تغيير الأحكام من مباح أو مندوب إلى واجب أو إلى حرام أو بالعكس نسخا في الزمن، أمور داخلة تحت المشيئة وتقتضيه الحكمة الإلهية، فعلم تجدد الواجبات في الأوقات.
وإن كانت الزيادة الواجبة غير معلومة التاريخ، احتمل بقاء الصيغة الآمرة على ظاهرها من الوجوب ويحتمل أيضا أن يكون حديث المسيء صلاته قرينة صارفة لها إلى الندب ولا يفك الإشكال - في نظري -أي: ما اختاره الشوكاني - رحمه الله - من الرجوع إلى أصل عدم الوجوب والبراءة منه حتى يرد دليل يوجب الانتقال عن الأصل وعن البراءة، لأن هذا الأصل معارض بمثله المفيد للوجوب في النص الشرعي عند قوله تعالى: ?وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ? [البقرة: 43] وحديث :" صلوا كما رأيتموني أصلي"(7) فالزيادة المبينة للإجمال الوارد في النصين الآمرين السابقين تقتضي الحكم بالوجوب، ويترتب عليه تعارض الأصلين، ويبقى الإشكال قائما. وعليه، فإن الرأي عندي أن مقام الاحتمال يحتاج إلى مرجح للعمل لإزالة ما عليه من إشكال، والترجيح المعول عليه في مثل هذا المقام إنما يكون باعتبار الحكم، فإن ما مدلوله وجوب مقدم على ما مدلوله ندب، لأن الترجيح عليه أحوط في العمل على ما قرره أهل الأصول، ولذلك فإن الحكم ببقاء الصيغة الآمرة الدالة على الوجوب أقوى وأولى.
والله أعلم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين وسلم تسليما.
الجزائر في : 25 جمادي الثانية1416هـ
الموافق لـ : 18 نوفمبر 1995م.
__________
1- أخرجه البخاري كتاب الأذان باب الأذان للمسافر(631)، من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه.
2- نيل الأوطار(م/2 ص 44-45)
3- أخرجه البخاري كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر(631)، من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه.
4- أخرجه أبو داود كتاب الصلاة باب صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود(858)، والنسائي كتاب التطبيق باب الرخصة قي ترك الذكر في السجود(1144)، والترمذي كتاب الصلاة باب ما جاء في وصف الصلاة، وابن ماجة كتاب الطهارة وسننها باب ما جاء في الوضوء على ما أمر الله تعالى(496)، والدارمي(1379)، من حديث رفاعة بن رافع رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في صحيح أبي داود(858).
5- أخرجه البخاري كتاب صفة الصلاة باب وجوب القراءة للإمام والمأموم,ومسلم كتاب الصلاة باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة ,وأبو داود كتاب الصلاة باب ما جاء في وصف الصلاة,والنسائي كتاب الافتتاح باب فرض التكبيرة الأولى,وابن ماجة كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها باب إتمام الصلاة وأحمد(17913) رقم(9352) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
6- أخرجه أحمد(1/622) رقم(3565)، وأبو داود كتاب الصلاة باب رد السلام في الصلاة والنسائي كتاب السهو باب الكلام في الصلاة,وابن حبان كتاب الصلاة باب ما يكره للمصلي وما لا يكره.من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وقال الشيخ الألباني في صحيح أبي داود(1/243) حسن صحيح .
7- سبق تخريجه.(4/33)
الفتوى رقم: 40
التكبير لسجود التلاوة في الصلاة
السؤال: الحمد لله وكفى والصلاة على المصطفى صلى الله عليه وسلم، إلى الأستاذ محمد علي فركوس -حفظه الله- أمّا بعد:
فقد تنازع أهل المسجد في أمر التكبير لسجود التلاوة في صلاة التراويح وقد اختار بعضهم رأي الشيخ الألباني الذي مال إلى رأي أبي حنيفة في عدم مشروعية هذا التكبير لعدم صحة الحديث فيه، فضلا عن آثار الصحابة وقد بالغ بعضهم في مناصرة رأيه إلى القطع بأن هذا العمل إنما هو بدعة ضلالة. فالمرجو منكم الإفادة والتوضيح على ما عاهدناه منكم وجزاكم الله خيرا .
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فإنّ حديث ابن عمر(1) الذي يدل على مشروعية التكبير لسجود التلاوة في إسناده العمري عبد الله بن عمر المكبر وهو ضعيف، وقد ضعف إسناده النووي(2) والحافظ(3) ووافقهما الألباني(4)، وأخرجه الحاكم من رواية العمري أيضا لكن وقع عنده مصغرا عبيد الله بن عمر، والمصغر ثقة، ولهذا قال الحاكم على شرط الشيخين غير أنه ليس في روايته لفظ "كبر" قال الحافظ: (وأصله في الصحيحين من حديث ابن عمر بلفظ آخر).
وقد أورد الألباني حفظه الله الأثر القولي لابن مسعود "إذا قرأت سجدة فكبر واسجد، وإذا رفعت رأسك فكبر"(5) وتعقبه بأنّه لم يجد من عزاه لابن مسعود وإنما علقه البيهقي لغيره في سنده الربيع بن صبيح قال الحافظ :( صدوق سيئ الحفظ ) ووجد له أصلا من فعل ابن مسعود إلا أن في سنده أيضا عطاء بن السائب كان اختلط، ولما لم يرد عن الصحابة الذين رووا سجوده صلى الله عليه وسلم للتلاوة ذكر تكبيره للسجود، مال ورجح الشيخ الألباني عدم مشروعية التكبير وهو رواية عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله(6).
وفي تقديري أن أمر التكبير لسجود التلاوة إذا لم يثبت فيه نص وجب المصير إلى النص العام لا إلى الأصل العدمي الذي هو استصحاب العدم الأصلي حتى يرد دليل ناقل عنه وهو ما يعرف بالإباحة العقلية أو البراءة الأصلية لوجود الناقل. ويتمثل النص العام في ظاهر حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال:" رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يكبر في كل رفع وخفض وقيام وقعود"(7).
والحديث أخرج نحوه البخاري ومسلم من حديث عمران بن حصين ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنهما ورفع الترمذي هذا عن الخلفاء الأربعة وغيرهم ومن بعدهم من التابعين، وهذا العموم هو عموم الجنس لأفراده وهو يصدق فيه الاسم العام على آحاده، فإن قوله:" يكبر في كل رفع وخفض " يصدق في الفرض والنفل والفذ والجماعة وقد احتج به الجمهور في هذين الموضعين كما يصدق في سجود الصلاة وسجود التلاوة، ومعلوم أصوليا أنّ العام يجري على عمومه ما لم يقم دليل يدل على التخصيص، ولا يقال إنّ هذا العموم مخصص بما ورد من تكبيراته صلى الله عليه وسلم الانتقالية في الصلاة، ومثل هذا لا يصح على القواعد العلمية، لأن دليل الخصوص لا يعارض دليل العموم بل يؤكده في خصوصه ولا ينافيه في عمومه لكونه من جنسه، وإنما يتقيد العموم بالخصوص إذا لم يكن من جنسه ويبقى العموم - عندئذ - بعد التخصيص حجة عند الجمهور.
ومثل هذا العموم معمول به في مواضع من الصلاة كاحتجاج الشافعية بعموم قوله صلى الله عليه وسلم :" صلوا كما رأيتموني أصلي"(8) على أن المأموم يقول :" سمع الله لمن حمده" مع أنه صلى الله عليه وسلم قال :" إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد"(9) ولم ينقل الصحابة أن أحدهم قال :"سمع الله لمن حمده"، بل نقل عن بعضهم قوله :"ربنا لك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه"(10)، وكسجود السهو فقد استدل العلماء بعموم ما رواه مسلم من قوله صلى الله عليه وسلم :" إذا زاد الرجل أو نقص فليسجد سجدتين"(11) فقد عملوا بالزيادة والنقصان على تفصيل بينهم في الصلاة دون التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
هذا، وينبغي العمل بألفاظ الشرع وعموماتها ولا يجوز صرفها إلى تأويل عار عن الدليل أو تخصيص خال عن الحجة، ولا يلزم من عدم ذكر الصحابة الذين رووا سجوده صلى الله عليه وسلم للتلاوة تكبيرا عدم الوقوع، لاحتمال أنه ترك للعلم به أو للغفلة عنه أو الذهول أو ما إلى ذلك ويؤيد ذلك عموما الحديث السابق، والأحاديث المقطوعة عن بعض السلف كأبي قلابة عبد الله بن زيد والحسن وابن سيرين ومسلم بن يسار فضلا عن إقرار الجمهور له وأئمة الحديث لدليل على أن فيه أصلا محفوظا وأن حالهم كانوا يكبرون للتلاوة، فلو لم يكونوا كذلك لنقل إلينا تركهم له لأنه على خلاف الأصل.
قال ابن تيمية : ( وهذه الأمور التي ذكرناها منتفية في سجود التلاوة والشكر ... إلى قوله : ولا جعل لها تكبير الافتتاح وإنما روي عنه أنه كبر فيها إما للرفع وإما للخفض والحديث في السنن)(12).
ومن هذا المنطلق لا يصح الجزم ببدعية التكبير لسجود التلاوة وأن ذلك خطأ ظاهر يرده ما ذكرنا، وقد قرر شيخ الإسلام في مسألة السنة والبدعة أن البدعة في الدين هي ما لم يشرعه الله ورسوله، وهو ما لم يأمر به أمر إيجاب أو استحباب، فأما ما أمر به أمر إيجاب واستحباب وعلم الأمر بالأدلة الشرعية فهو من الدين الذي شرعه الله وإن تنازع أولوا الأمر في بعض ذلك.
والقول بمشروعية التكبير لسجود التلاوة هو ما أختاره وأرجحه ولا أدعي القطع بصواب ترجيحي فإن مثل هذا القطع مجازفة في القول لا تليق بالبحث العلمي الصحيح.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه وسلم تسليما.
الجزائر في: 11 رمضان 1417هـ.
الموافق ل: 20 جانفي 1996م.
__________
1- أخرجه أبو داود كتاب الصلاة باب في الرجل يسمع السجدة وهو راكب. انظر الإرواء: (471 -472).
2- قال النووي في المحموع "إسناده ضعيف" (89/5).
3- في التلخيص الحبير
4- تمام المنة (267).
5- انظر تمام المنة(268)
6- تمام المنة (268)
7- أخرجه أحمد (1/638)رقم (3652) والترمذي كتاب أبواب الصلاة (254)، والنسائي كتاب التطبيق (1091). والحديث صححه الألباني في الإرواء: (330)
8- أخرجه البخاري كتاب الأذان باب الأذان للمسافر(631)، من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه.
9- أخرجه البخاري كتاب الأذان(689) ، ومسلم كتاب الصلاة(948)، وأبو داود كتاب الصلاة (601)، والترمذي كتاب أبواب الصلاة (362) والنسائي كتاب التطبيق(1069)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
10- أخرجه البخاري كتاب الأذان (689)، ومسلم في الصلاة(948) ومالك في الموطأ كتاب القرآن، باب ما جاء في ذكر الله وأحمد (5/449) رقم (18517) وأبو داود في كتاب الصلاة (601)، والنسائي كتاب التطبيق، باب ما يقول المأموم عن رفاعة بن رافع الزرقي. انظر (صفة الصلاة للألباني 138)
11- أخرجه مسلم كتاب المساجد ومواضع الصلاة (1315) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
12- مجموع الفتاوى (23-102).(4/34)
الفتوى رقم: 44
كيف فرضت الصلاة؟
السؤال: كيف كانت صلاة النّبي صلى الله عليه وسلم في مكة قبل أن تفرض أربعاً ؟ وهل هي منسوخة ؟.
هل يمكن قياس صلاة النّبي صلى عليه وسلم بمكة التي سمِّيت عندهم بدار الحرب على ما نحن عليه الآن ؟ مع العلم أنّهم يقولون إنّهم في دار الحرب.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على خاتم النّبيين وإمام المرسلين محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين أمّا بعد:
فإنّ الصلاة المفروضة كانت قبل الإسراء ثنتين قبل طلوع الشمس في وقت الفجر وقبل الغروب في وقت العصر، وقيام الليل كان واجباً على النّبي صلى الله عليه وسلم وعلى أمّته حولاً ثمّ نسخ في حق الأمّة وجوبه، ثمّ نسخ الله تعالى ذلك كلّه ليلة الإسراء بخمس صلوات قال الله تعالى:? وَسَبِّح بحَمْدِ رَبِّكَ قبْلَ طُلُوِع الشَّمْسِ وَقبْلَ الغُرُوبِ? [ق:39] هذا ما ذكره العلماء وبه قال أهل التفسير والإشكال الحاصل بين حديث عائشة -رضى الله عنها- في قولها" فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ركعتين في الحضر والسفر،فأُقِرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر"(1) وبين حديث ابن عباس قال" فرض الله الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعتين"(2) يزول بدفع التعارض بأن يُقال بأنّ الصلوات الخمس فُرضت ليلة الإسراء ركعتين ركعتين إلاّ المغرب، ثمّ زِيدت بعد الهجرة إلاّ الصبح على ما رواه ابن خزيمة وابن حبان عن عائشة - رضي الله عنها -
ثم بعد أن استَقَرَ فرض الرباعية خفّف منها في السفر عند نزول قوله تعالى: ? فلََيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تقصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ? [النساء:101] ويكون المراد من قول عائشة " وأقرت في السفر على فرضها ركعتين " أي باعتبار ما آل إليه الأمر من التخفيف.
وبعد هذا التّبيان فإنّ ما وجب على الّنبي صلى الله عليه وسلم من الصلوات الخمس ليلة الإسراء إنّما كان بمكة ولم تكن حالتئذ بدار إسلام، وكانت تؤدى ركعتين ركعتين فإن أُريد بإلحاق صلاتهم على صلاة النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة فلم تتميز وقتئذ دار الإسلام عن دار حرب، وإن أُريد بالإلحاق بعد الهجرة وظهور دار الإسلام فإنّ إلحاق صلاتهم بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة ظاهر البطلان لاستقرار فرض الرباعية ولا يجوز القصر إلاّ من شملهم أمر التخفيف.
والله أعلم و فوق كلّ ذي علم عليم وآخر دعونا أن الحمد الله ربِّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى اله وصحبه والتابعين.
الجزائر في : 14 رمضان 1417 هـ
__________
1- أخرجه البخاري كتاب الصلاة باب كيف فرضت الصلوات في الإسراء(350)، ومسلم كتاب صلاة المسافرين(1603)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
2- أخرجه مسلم كتاب صلاة المسافرين وقصرها(1604)، والنسائي في كتاب صلاة الخوف(1543)،وأحمد(2333) من حديث ابن عباس رضي الله عنه.(4/35)
الفتوى رقم: 45
ضابط إقامة الجمعة
السؤال: أربعة أشخاص يعملون حُرّاسا في مؤسسة وطنية يتعذر عليهم الذهاب كلّهم إلى الجمعة وترك المؤسسة علما بأنّ فيها عتاداً ثمينا وأفراناً مشعلة باستمرار. فهل يجوز لهم ترك الجمعة أو التناوب في الذهاب ؟ أفتونا مأجورين.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدّين، أمّا بعد:
فإنّ كلّ من يشق عليه الذهاب إلى الجمعة لعذر لصيق به فقد رخص الشارع له ترك الجماعة إذا كان العذر قائما سواء كان مدينا معسرا أو خائفا من حبس أو مختفيا من حاكم أو مريضا يخاف زيادة المرض أو تأخيره. والعلماء يلحقون من يقوم بتمريضه على وجه لا يسع الاستغناء عنه. كذلك يدخل في العذر من خاف على نفسه مفسدة أو على أمواله ضياعا أو خشي إتلاف الأمانات التي بحوزته والداخلة في حراسته ويدلّ عليه ما أخرجه أبو داود من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النّبي صلى الله عليه وسلم قال:" من سمع المنادي فلم يمنعه من اتّباعه عذر-قالوا: وما العذر؟ قال: خوف أو مرض- لم تقبل منه الصلاة التي صلّى"(1) وفي رواية لابن ماجه :"من سمع النّداء فلم يجب فلا صلاة له إلاّ من عذر"(2).
غير أنّه إن أمكن تفادي ترك الجمعة على الجميع وجب العمل على التفادي كأن يصلي بعضهم في مسجد قريب تقام الجمعة في وقت الظهر عند الزوال فللبعض الآخر الصلاة بعد أول وقت الظهر وعندئذ يحصل التوفيق، وإن تعذر ذلك وأمكن المحافظة على الأموال وعدم تعرضها للتلف بالواحد وجبت الجمعة على غيره لأنّ المَيْسُورَ لاَ يَسْقُطُ بِالمَعْسُور(3) وما لا يدرك كلّه لا يترك جلّه ويتداول في شأن المعذور. ذلك لأنّ المقدور عليه لايسقط بسقوط المعجوز عنه فعليهم أن يأتوا بما قدروا عليه ويسقط عنهم ما عجزوا عليه إذ القاعدة تقول: إنّ المتعذر يسقط اعتباره والممكن يستصحب فيه التكليف على ما قرره القرافي في فروقه(4).
ومع ذلك كله، فإن وجدوا عملا آخر يتيح لهم إقامة الجمعة وشهود الجماعات فالواجب التحول إليه والالتحاق به محافظة على العبادات والتزام الطاعات.
والله أعلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه.
الجزائر في 12 رجب 1417هـ.
الموافق لـ 32 نوفمبر 1996م
__________
1- أخرجه أبو داود أول كتاب الصلاة باب في التشديد في ترك الجماعة(551)، والدارقطني في سننه(1576)، والبيهقي(5249)، من حديث ابن عباس رضي الله عنه. قال الألباني في الإرواء:(2/336) (ضعيف بهذا اللفظ). وقال في المشكاة:وإسناده ضعيف فيه أبو جناب يحيى ابن أبي حية الكلبي وهو ضعيف مدلس، وقد عنعنه لكن صح الحديث بلفظ آخر -سيأتي في الكتاب-صححه جماعة وقد تكلمت عليه في صحيح أبي داود(560). وضعفه كذلك في تمام المنة ص: ( 327)
2- أخرجه ابن ماجه كتاب المساجد والجماعة باب التغليظ في التخلف عن الجماعة، وابن حبان كتاب الصلاة باب فرض الجماعة والأعذار التي تبيح تركها، والحاكم كتاب الصلاة (1/363). والحديث صححه الألباني في الإرواء(2/337) وفي تمام المنة (ص327) وفي صحيح الترغيب والترهيب(1/301) رقم (426).
3- وهذه القاعدة من أشهر القواعد المستنبطة من قوله صلى الله عليه وسلم "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" [انظر الأشباه والنظائر لابن السبكي 1/155].
4- الفروق للقرافي (3/198).(4/36)
الفتوى رقم: 46
الصيغة المشروعة في التسليم على النبي صلى الله عليه وسلم في تحية الصلاة
السؤال: هل التحية التي نذكر في الصلاة توقيفية أو توفيقية؟ "السلام على النبي" أو "السلام عليك أيّها النبي"؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فكلا الصيغتين توقيفي غير أنّ صيغة "السلام عليك أيّها النبي" ذكرت بكاف الخطاب في التشهد والنبي صلى الله عليه وسلّم حي بين أظهر الصحابة رضي الله عنهم، والصيغة الأخرى وهي "السلام على النبي" ترك فيها الصحابة الخطاب بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلّم وذكروه بلفظ الغيبة, قال ابن مسعود رضي الله عنه:" وهو بين ظهرانينا, فلمّا قبض قلنا: السلام على النبي"(1).
ولا يخفى أنّ الصحابة لا يعدلون عن توقيف إلاّ بتوقيف آخر، وأمّا أثر عمر بن الخطاب الذي أخرجه مالك رحمه الله(2) فغاية ما يدلّ عليه تأكيد الصيغة بكاف الخطاب وتنفي ما عداه، بينما صيغة ابن مسعود رضي الله عنه مبنية على التأسيس والإثبات، وما تقرر عند علماء الأصول أنّ التأسيس مقدم على التأكيد، والمثبت مقدم على النافي.
والعلم عند الله؛ وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلّم تسليما.
الجزائر : 8 ذو القعدة 1416هـ
الموافق ل: 28 مارس 1996م.
__________
1- أخرجه البخاري كتاب الاستئذان باب الأخذ باليد، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وانظر صفة الصلاة للشيخ الألباني (161)، وإرواء الغليل(2/26) رقم(321).
2- قال ابن عبد البر في الاستذكار:(1/483):" ولمّا علم مالك أنّ التشهد لا يكون إلاّ توقيفا عن النبي صلى الله عليه وسلم اختار تشهد عمر، لأنّه كان يعلّمه للناس وهو على المنبر من غير نكير عليه من أحد من الصحابة وكانوا متوافرين في زمان، وأنّه كان يعلمه من التابعين وسائر من حضره من الداخلين في الدين، ولم يأت عن أحد حضره من الصحابة أنّه قال ليس كما وصفت".(4/37)
الفتوى رقم: 64
في حكم إيصال سترة مرتفعة عن الأرض بسواك أو غيره
السؤال: يوجد في مقدمة مسجد منبر، وبعض الإخوة يضعون السواك قائما متكئا على المنبر كسترة، لأنّ المنبر مرتفع على الأرض بحوالي عشر سنتمترات، فهل فعلهم صحيح؟ وهل يعتبر المنبر مع وجود فراغ فيه سترة؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما، أمّا بعد:
فإنّ السترة إنّما تتحقق بمثل مؤخرة الرّحل-وهي في حدود ذراع- وهو أقلّ ما يجزئ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« إِذَا وَضَعَ أَحَدُكُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلَ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ فَلْيُصَلِّ وَلاَ يُبَالِ مَنْ مَرَّ وَرَاءَ ذَلِكَ"(1) فإن كان المنبر مرتفعاً عن الأرض بذراع أو أزيد منه فالظاهر أنّه لا يصلح سترة بخلاف ما إذا كان دونه، فإن وضع شيئا يوصله بالأرض ويصلي إليه أجزأه - إن شاء الله- سترة، وله أن يتخذ قوائم المنبر سترة له، فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:" وَاللهِ لَقَدْ رَأَيْتُ النَبِيَّ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَإِنِّي عَلَى السَّرِيرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ القِبْلَةِ مُضْطَجِعَةٌ"(2).
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصل الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 14ذي الحجة 1426ه
الموافق ل: 14 يناير 2006م
__________
1- أخرجه مسلم في الصلاة (1139)، وأبو داود في الصلاة (680)، والترمذي في الصلاة (336)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (943)، وأحمد (1404)، وابن خزيمة (811)، والبيهقي (3589)، والبزار في مسنده (844)، من حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه.
2- أخرجه البخاري في الصلاة (514)، ومسلم في الصلاة (1171)، والبيهقي (3849)، من حديث عائشة رضي الله عنها(4/38)
الفتوى رقم: 65
في مشروعية أذكار السجود في سجود السهو
السؤال: هل يشرع الإتيان بأذكار السجود في سجود السهو؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فيشرع للساهي في صلاته أن يقول في سجود السهو ما يقوله في سجود صلب الصلاة، لأنّه سجود تشمله عموم النصوص الواردة في السجود وصفاتها وما يتعلق بها، واستحب له ذلك غير أنّه ينهى عن القرآن في الركوع والسجود.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
الجزائر في:14ذي الحجة 1426ه
الموافقل: 14 يناير 2006م(4/39)
الفتوى رقم: 68
إيراد إشكال في فتوى سابقة متعلقة بمقدار السترة
السؤال: شيخنا لقد أشكل عليّ فهم فتواكم المتعلقة بمقدار السترة، وذلك في قولكم:" فإن كان المنبر مرتفعا عن الأرض بذراع أو أزيد منه فالظاهر أنّه لا يصلح سترة بخلاف ما إذا كان دونه" اه، فهلاّ تفضلتم بمزيد توضيح؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فقد تقدم في جواب سابق أنّ علوّ السترة من الأرض مثل مُؤْخِرة الرَّحْل بمقدار ذراع أو شبرين، وهو أدنى ما تتحقق به السترة، فلو صلى -مثلا- إلى غير قوائم طاولة، لكان الفراغ في وسطها الذي صلّى إليه يزيد عن مقدار ذراع أو شبرين من الأرض، فهو أشبه بمن لم يتخذ سترة، بخلاف ما إذا كان وسطها نازلا إلى ما دون الذراع كالمنبر، فإنّه يجزيه لدخوله في الذراع أو الشبرين، فهو ألصق من هذه الجهة بالسترة من انتفائها كما في الصورة الأولى عملاً بقياس العكس.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 14 محرم 1427ه
الموافقل: 14 فبراير 2006م(4/40)
الفتوى رقم: 193
في حكم الانحراف عن القبلة تقصداً لتحقيق السترة
السؤال: بعض المصلين ينحرفون عن القبلة يمينا ويسارا اتجاه الجدار بحجة السترة، فما حكم هذا الفعل؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فلا يجوز للمصلي الذي اتخذ سترة اتجاه قبلته أن يتحول عنها بتحول سترته لأنّ الله تعالى قال: ?فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسْجِدِ الحرَامِ وَحَيْثُمَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ?[البقرة:150]، والمراد بالشطر هو جهة القبلة على القول الصحيح، دفعا للمشقة والحرج في إدراك عين القبلة، وإنّما يندب أن يخطو خطوة أو خطوتين إلى القبلة التماسا للسترة إن وجدت ولا يجب عليه، فإن كانت المسافة بعيدة فلا يجوز له أن يخطو الخطوات الكثيرة لأنّ المشي ينافي الخشوع والطمأنينة في الصلاة، وهم ركن في الصلاة لقوله تعالى: ?وَالذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ?[المؤمنون:2]، ولا يخفى أنّ المراد بالخشوع ههنا خشوعان: خشوع القلب وخشوع الجوارح، والمشي ينافي خشوع الجوارح، وله أن لا يزيد عمّا فعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما جاءت شاة تسعى بين يديه فسابقها حتى ألزق بطنه بالحائط ومرت من ورائه، ومعنى ذلك كان سعيه للحاجة في حدود ثلاث إلى أبع خطوات ذهابا وإيابا، حال تقدمه إلى السترة وتقهقره عنها. وتقرير حكم الندب وعدم الوجوب مع أنّ الحديث في قوله صلى الله عليه وآله وسلم:«إذا صلى أحدكم فليصلّ إلى سترة وليدن منها »(1) يفيد الوجوب، ولكن يحمل هذا الوجوب على من كان مبتدئا في الصلاة، أمّا المسبوق فقد امتثل الأمر مع إمامه، لأنّ سترة إمامه له سترة، وبعد انصرافه عنه فهل يبقى حكم الوجوب أم لا؟
فهذه المسألة راجعة إلى مسألة أصولية مختلف فيها وهي: هل الأمر المطلق المجرد عن القرائن يفيد التكرار أم لا؟
فمن رأى حكمها الأول أنّه على الوجوب ورأى أنّ الأمر يفيد التكرار اعتقد الوجوب، ومذهب الجمهور أنّه لا يفيد التكرار، وإنّما يفيد المرّة ويخرج منها بأداء الواجب مرة واحدة، مع العلم أنّ جمهور الفقهاء يقررون استحباب السترة بحكم أصلي.
والمذهب المختار أنّ الأمر المطلق يفيد مطلق الطلب ويتحقق بالمرة الواحدة، وهو مذهب مالك واختاره الآمدي وغيره، وعليه يظهر الحكم جلياً من عدم وجوب السترة والدنو إليها بعد تحصيلها في المرة الأولى، وإنّما يستحب ذلك إذا لم يكن فيه إخلال بالخشوع الواجب في الصلاة.
والعلم عند الله، هذا ما حفظناه عن الشيخ أبي عبد المعز في إحدى جلساته بمسجد الهداية الإسلامية، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
__________
1- أخرجه أبو داود في الصلاة (698)، وابن ماجة في إقامة الصلاة (1007)، والبيهقي(3580)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وصححه الألباني في صحيح الجامع(641).(4/41)
الفتوى رقم: 194
في كيفية الخروج من الصلاة عند إقامة الحاضرة
السؤال: عند تعارض إقامة صلاة مكتوبة مع مكتوبة فائتة أو تحية مسجد أو صلاة تطوع أيهما يقدم وكيف يكون الخروج من الصلاة هل بالتسليم أم لا؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فإذا دخل المصلي في صلاة فريضة يقضيها كالظهر مثلا وأقيمت صلاة العصر فالأولى تركها وإن شرع فيها ابتداء فيسلم ويصليها مع الإمام بنية مخالفة له على الراجح، وإن كان في إحدى ركعاته ويعلم أنّه يلتحق بالركعة مع إتمام صلاته فليتممها لقوله تعالى:?وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ?[محمد:33]، ويدخل مع الإمام بنية موافقة.
لكن هل يخرج بالتسليم أو لا؟ ويرجع الخلاف في هذه المسألة إلى اعتبار صحة الصلاة مع الصلاة المكتوبة الحاضرة من عدم صحتها إن أكملها فلازم قول من يرى صحتها الخروج منها بالتسليم لقوله صلى الله عليه وسلم:«مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير وتحليلها التسليم »(1)، أمّا من قضى بفسادها فلا تسمى صلاة بالمعنى الشرعي، وإنّما هي صلاة صورة لا حقيقة فلازم هذا المذهب الخروج منها بغير التسليم، وأصل هذا الخلاف يرجع إلى قاعدة: هل النفي الوارد في الحديث نفي صحة أو نفي إجزاء وكمال؟ فمن قرر أنّه نفي صحة نفى أن تكون صلاة حقيقة وأبطلها فلا يخرج بسلام وإلاّ فإنّه يخرج بسلام بالنظر إلى اعتبارها صحيحة، والصحيح في النفي أنّه: إن ورد على أمر تعبدي أفاد نفي صحة وإن ورد على أمر معقول المعنى أفاد نفي الإجزاء والكمال ما لم يدل دليل على غير هذا الأصل، ويدل على الخروج عن الأصل حديثان:
1- خروج الصحابي من الصلاة بالتسليم(في قصة معاذ رضي الله عنه)(2).
2- قوله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي كان يصلي صلاة الفجر عند إقامة صلاة الصبح فقال له:« الصبح أربع ركعات، الصبح أربع ركعات »(3)، فخرج هذا الصحابي بالسلام.
هذا إذا كان نفلا ويخرج من الفريضة بالسلام لكونها صحيحة ولأنّه لا يشملها قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلاّ المكتوبة"(4)، لأنّ المستثنى من الحديث بأداة «إلاّ » شامل للسابقة والحاضرة غير أنّ المراد بالحديث هو الصلاة الحاضرة فلا يشمل السابقة للنفي الوارد في الحديث، وإن شملها فيبقى الحكم عليها كالحكم على النوافل السابقة، وقد قطع الحافظ في الفتح(5) أنّ بحينة رضي الله عنه خرج من الصلاة بالتسليم، وهذا يؤيد المذكور آنفا.
ثمّ إنّ النفي الوارد بصيغة النهي مختلف فيه عند الأصوليين على أكثر من أربعة أقوال: هل النهي يقتضي فساد المنهي عنه أم لا؟ فمنهم من يرى أنّه يقتضيه، ومنهم من يرى اقتضاؤه له مطلقا، ومنهم من يفرق بين المعاملات في العبادات فيفسد المنهي عنه إذا كان في العبادات دون المعاملات، ومنهم من يفرق ما بين حقوق الله وحقوق الآدميين. والذي عليه أهل التحقيق: أنّ النهي إن ورد على ذات المنهي عنه أو على شرط من شروطه أو ركن من أركانه أفاد فساده، وإن ورد على أمر خارج عنه غير لازم لم يفد الفساد.
وبناء عليه فإنّه يستفاد من النهي في الحديث توجهه إلى ما يشغل المصلي عن صلاته لا عن ذات الصلاة وإن ورد لفظ النهي عليها كما هو ظاهر من حديث عائشة رضي الله عنها في قوله صلى الله عليه وسلم:«لا صلاة بحضرة الطعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان »(6) فقد حمل الجمهور صلاتهما بهذه الصفة والصورة على الكراهة مع وجود النفي الداخل على الصلاة وهو أمر تعبدي فدلّت صحتها على أنّ النهي ليس منصبا حقيقة على الصلاة ولكن على ما يشغلها، فكان الشاغل عنها خارجا عنها وليس داخلا فيها لقوله صلى الله عليه وسلم:«إنّ في الصلاة لشغلا »(7)، فهذا من الوجوه المرجحة لتقرير حكم الخروج من الصلاة بالسلام فرضا كانت أو تطوعا.
والعلم عند الله وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
هذا ما أجاب به شيخنا على سؤال وجّه إليه في يوم:
11ذي الحجة 1416هـ
الموافق لـ:24 أفريل 1996م
__________
1- أخرجه أبو داود في الطهارة(61)، والترمذي في الطهارة(3)، وابن ماجه في الطهارة وسننها(288)، وأحمد(1018)، والدارمي(712)، والدارقطني في سننه(1375)، والبيهقي(2353)، من حديث علي رضي الله عنه. وصححه الألباني في صحيح الجامع(5885).
2- أخرجه البخاري في الأذان(705)، وفي الأدب(6106)، ومسلم في الصلاة (1068)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
3- أخرجه البخاري في الأذان(663)، ومسلم في صلاة المسافرين(1683)، والنسائي في الإمامة(875)، وأحمد(23623)، من حديث مالك بن بحينة رضي الله عنه.
4- أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (1678)، وأبو داود في التطوع(1268)، والترمذي في الصلاة(423)، والنسائي في الإمامة(873)، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة (1205)، وأحمد(10130)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
5- فتح الباري لابن حجر(2/196).
6- أخرجه مسلم في المساجد(1274)، وأبو داود في الطهارة(89)، وأحمد(24895)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
7- أخرجه البخاري في العمل في الصلاة(1199)، ومسلم في المساجد(1229)، أبو داود في الصلاة(924)، وابن ماجة في إقامة الصلاة(1072)، وأحمد(3629)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.(4/42)
الفتوى رقم: 251
في حكم وضع اليد على الأخرى في القيام أثناء الإقامة
السؤال: ما حكم وضع اليد اليمنى على اليسرى أو العكس أثناء الإقامة؟ وجزاكم الله خيرا.
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فلا أعلم في السنة التي بيّنها النّبي صلى الله عليه وسلّم بقوله:" صلّوا كما رأيتموني أصلّي"(1) أن يقبض المصلي على يديه أو يضع اليد اليمنى على اليسرى أو العكس أثناء الإقامة وقبل الشروع في الصلاة على وجه العبادة والتقرّب، والأصل فيما لم يثبت من وضعية في الصلاة في السنة المبينة فتحمل على الوضعية الطبيعية وهي سدل اليدين، فمن تقرّب بهذه الكيفية فيُعد ممّن أحدث في الدين، ففي الحديث:" من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ "(2) وقال صلى الله عليه وآله وسلم " وإياكم ومحدثات الأمور، فإنّ كلّ محدثة بدعة وكلّ بدعة ضلالة وكلّ ّضلالة في النار"(3).
أمّا من انتفت عنده نية التّقرّب بها، وإنّما قبض يديه خشية التضييق على من يجاوره من المصلّين أو لضيق المكان في الصّف، فلا بأس بذلك ولا حرج فيه-إن شاء الله-.
والله أعلم وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على نبينا محمّد وعلى آله وسلّم تسليما .
الجزائر في:21جمادى الثانية1426هـ
الموافق لـ: 27 جويلية 2005م
__________
1- أخرجه الشافعي في "مسنده" : 55، والبخاري : 2/111 من حديث مالك بن الحويرث، رضي الله عنه.
2- أخرجه البخاري في الصلح(2697)، ومسلم في الأقضية(4589)، وأبو داود في السنة(4608)، وابن ماجه في المقدمة(14)، وأحمد(26786)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
3- أخرجه أبو داود في السنة(4609)، وأحمد(17608)، والدارمي(96)، من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، وصححه الألباني في صحيح الجامع(2549)، والسلسلة الصحيحة(6/526) رقم(2735).(4/43)
الفتوى رقم: 262
في محل الدعاء من الصلاة
السؤال: قوله صلى الله عليه وسلم لما سئل أي الدعاء أسمع؟ قال: (جوف الليل الآخر ودبر الصلوات المكتوبة) هل يكون الدعاء بعد الفراغ من الصلاة أو قبل الفراغ منها؟ وإذا كان قبل الفراغ من الصلاة فهل محله بعد التشهد الأخير؟ أفيدونا جزاكم الله خيرا وبارك الله فيكم.
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فاعلم أنّ دبر كلّ شيء آخر أوقاته من الصّلاة وغيرها، وينبغي التفريق بين الدّعاء والذّكر في الأحاديث الواردة في هذا الشأن، فالنّبي صلى الله عليه وآله وسلّم كان يدعو دبر صلواته قبل الخروج منها، وعليه فمشروعية الدعاء إنّما تكون قبل السّلام ولم ينقل أحد عن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم أنّه كان يدعو بعد السلام في كافّة صلواته ولا عن أصحابه رضي الله عنهم،
وإنّما ثبت عنه صلّى الله عليه وآله وسلم أنّه كان يستقبل أصحابه ويذكر الله ويعلمهم ذكر الله بعد السلام والخروج من الصلاة، فقد صحّ عن كعب بن عُجرة رضي الله عنه عن رسول صلى الله عليه وآله وسلّم قال:" معقبات لا يخيب قائلهنّ أو فاعلهنّ دبر كلّ صلاة مكتوبة: ثلاث وثلاثون تسبيحة، وثلاث وثلاثون تحميدة، وأربع وثلاثون تكبيرة"(1) والمراد بالمعقّبات هي كلمات تقال عقب الصلاة، والمعقب ما جاء عقب ما قبله، وفي الصحيح أنّه كان قبل أن ينصرف يستغفر ثلاثا ويقول:" اللّهمّ أنت السّلام ومنك السّلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام"(2) كما صحّ عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنّ النّبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقول دبر كلّ صلاة مكتوبة حين يسلّم:" لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كلّ شيء قدير، اللهمّ لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدّ"(3). وعلى هذا فقول عقبة بن عامر رضي الله عنه:" أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن أقرأ بالمعوّذات دبر كلّ صلاة"(4) فهذا بعد الخروج من الصّلاة، أمّا حديث أبي أمامة رضي الله عنه قال:" قيل يا رسول الله أيّ الدعاء أسمع؟ قال: جوف الليل الأخير ودبر الصلوات المكتوبة "(5) فهذا قبل الخروج منها(6).
والعلم عند الله وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على نبينا محمّد وعلى آله وسلّم تسليما.
الجزائر في: 29 جمادى الثانية 1426هـ
الموافق لـ: 4 أوت 2005م
__________
1- أخرجه مسلم في المساجد(1377)، والترمذي في الدعوات(3741)، والنسائي في السهو(1357)، والبيهقي(3147)، من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه.
2- أخرجه مسلم في المساجد(1362)، والترمذي في الصلاة(301)، والنسائي في السهو(1345)، وابن ماجه في إقامة الصلاة(981)، وأحمد(23026)، والدارمي(1399)، من حديث ثوبان رضي الله عنه.
3- أخرجه البخاري في الأذان(844)، ومسلم في المساجد(1366)، وأبو داود في الوتر(1507)، والنسائي في السهو(1349)، وأحمد(18629)، من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
4- أخرجه أبو داود في الوتر(1525)، وأحمد(17879)، من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه. وصححه الألباني في المشكاة(969).
5- أخرجه الترمذي في الدعوات(3838)، من حديث أبي أمامة رضي الله عنه. وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترغيب(1648).
6- للمزيد من التفصيل في هذه المسألة يمكن الرجوع إلى تفصيل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى : 22/ 492وما بعدها .(4/44)
الفتوى رقم: 402
في فوات الصف الأول باتخاذ السترة
السؤال: هل يجوز أن أصلي تحية المسجد والسترة بعيدة بخطوات، علما أني إن اتخذت السارية - وهي في غير الصف الأول- سترة، فاتني الصف الأول، وإن كان بعدم الجواز فبما تنصحوننا مأجورين إن شاء الله؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فاعلم أنَّ أهل العلم يختلفون في حكم السترة، وأظهر القولين حملها على الوجوب لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيُصَلِّ إِلَى سُتْرَةٍ وَلْيَدْنُ مِنْهَا"(1)، والأمر يقتضي الوجوب مالم ترد قرينة صارفة منه إلى الاستحباب، ولم يعلم عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه صلى إلى غير سترة لذلك تعينت السترة على المصلي ما لم يكن مأمومًا فسترة الإمام له سترة.
وإذا تقرر الوجوب فإنه لا يسعه أن يتخلف عن السترة تقصدا لإدراك الصف الأول، بل عليه أن يأتيها ثم يعود إلى الصف الأول فإن ترك شيئا في الصف الأول، ثمّ عاد إليه بعد صلاته إلى سترة، جاز له ذلك جمعا بين المصلحتين وتحقيقا لمنفعتهما الشرعية.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 9 ربيع الأول 1427هـ
الموافق لـ: 6 أبريل 2006م
__________
1- أخرجه أبو داود في الصلاة (698)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1007)، والبيهقي (3580)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وصححه النووي في الخلاصة (1/518)، والألباني في صحيح الجامع(641).(4/45)
الفتوى رقم: 409
في كيفية أداء الصلاة على متن وسيلة نقل
السؤال: إذا كان الإنسان على سفر وأدركته الصلاة المفروضة، وهو على متن وسيلة نقل، فكيف يؤدي الصلاة ؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فإنه يختلف الأمر بين الصلاة المفروضة التي يمكنه أن يجمعها مع غيرها أم لا، فإن كان المركب يتوقف في محطة بحيث يسعه أن يصلي في الأرض صلى فيها، ولا يعدل عنها إلى غيرها، وإن كان يعلم أن السائق لا يسمح بالتوقف للصلاة، فإنَّ له أن يجمع بين الصلاتين إما تقديما أو تأخيرًا، للحرج فقد جمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حضر من غير سفر ولا مطر قال ابن عباس رضي الله عنهما:" أراد أن لا يحرج أمّته"(1)، وأمّا إن وجد على مركبه ولم يصل بعدُ، وليس الصلاة ممّا يمكن أن تجمع مع غيرها، كالصبح، والعصر مع المغرب، وخشي فواتها ولم يسعه النزول فليصل بحسب قدرته وبالهيئة التي يستطيعها ، إذ لا تكليف إلا بمقدور لقوله تعالى ?لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا?[البقرة: 286].
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
الجزائر في: 14 ذي الحجة 1426ه
الموافق ل: 14 يناير 2006م
__________
1- أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (1667)، وأبو داود في صلاة المسافر (1213)، والترمذي في الصلاة (187)، والنسائي في المواقيت (609)، وأحمد (1981)، والبيهقي (5761)، من حديث ابن عباس رضي الله عنه.(4/46)
الفتوى رقم: 421
في الطريقة الصحيحة للتسبيح
السؤال: ما هي الطريقة الثابتة في التسبيح؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فاعلم أنَّ الوارد في التسبيح أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يعقد التسبيح بيمينه(1)، وعلى أنامل يده، وقد اختلف العلماء في صفة التسبيح بناء على اختلافهم في معنى الأنملة فمن حملها على رؤوس الأصابع جعل التسبيح معقودًا على رؤوسها إمَّا أن يضعها على باطن كفه وإمَّا أن يسبِّح بوضع إبهامه على رؤوس أصابعه، أمَّا من يرى أنَّ الأنملة شاملة للسلميات في الأصابع جعل التسبيح معقودًا عليها سواء ابتداء من الخنصر إلى الإبهام أو العكس، والذي يتقرر في مثل هذه المسائل في العبادات التي لم يرد في الشرع نص يوضح الصفة فإنَّ في الأمر سعة بمعنى أنَّ أيَّ صفة يتحقق معها التسبيح فهي مشروعة، الشأن في ذلك كشأن المسح على الخفين فلم ترد في النصوص الحديثية صفة تبين كيفية المسح على الخفين أيكون بجزء من أعلى الخف أو في وسطه أو الكل، أو بكلتا يديه في أعلى الخف وفي عقبه، فلما لم يرد ما يحدد كيفية المسح كان في الأمر سعة.
هذا بخصوص مسائل العبادات، أما في المعاملات إن لم يرد في بيان الصفة أو المقدار أو الكمية أو الكيف شيء وُكِّل أمره إلى العرف هذا ما بان لنا في أمر هذه المسألة.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 6 ربيع الثاني 1427هـ
الموافق ل: 4 مارس 2006م
__________
1- أخرجه ابن ماجه في الوتر (1504)، والترمذي في الدعوات (3740)، والنسائي في السهو (1363)، وابن حبان (843)، والحاكم (2006)، والبزار في مسنده (2406)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه، والحديث حسنه ابن حجر في نتائج الأفكار في تخريج أحاديث الأذكار (1/87)، والنووي في الأذكار (24)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4989).(4/47)
الفتوى رقم: 450
في الإسراع لإدراك الصلاة
السؤال: ما حكم الذهاب إلى المسجد على متن الدراجة الهوائية، علما أنّه يدخل الصلاة وهو يلهث؟ وإذا صلى على هذه الحال هل تعد صلاته صحيحة؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فلا مانع من الذهاب إلى المسجد بوسيلة المركوب أو بالمشي لثبوت ذلك في السنة، وقد طاف صلى الله عليه وآله وسلم بالبيت وهو على ناقته(1)، غير أنَّ الإسراع في إدراك الصلاة منهي عنه بقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« إِذَا سَمِعْتُمُ الإِقَامَةَ فَامْشُوا إِلَى الصَّلاَةِ، وَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ وَلاَ تُسْرِعُوا، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا"(2)، والحديث وإن ورد النهي فيه عند الإقامة إلاَّ أنه ثبت ما يدلُّ على النهي عن الإسراع قبل الإقامة -أيضا- لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« إِذَا أَتَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا"(3)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« ...فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في صلاة"(4) ولاشكَّ أنَّ الإسراع ينافي السكينة والوقار، وقد نبّه بذلك على أنَّه لو لم يدرك من الصلاة شيئا لكان محصِّلاً لمقصوده لكونه في صلاة، فضلاً عن أنَّ ذهابه إلى المسجد ماشيًا وعدم الإسراع يستلزم كثرة الخطوات وهو معنى مقصود لذاته كما صحَّ في حديث أنَّ:" بِكُلِّ خُطْوَةٍ دَرَجَةً"(5) وفي رواية أخرى:" ... لَمْ يَرْفَعْ قَدَمَهُ الْيُمْنَى إِلاَّ كَتَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ حَسَنَةً وَلَمْ يَضَعْ قَدَمَهُ الْيُسْرَى إِلاَّ حَطَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ سَيِّئَةً"(6) الحديث. والصلاة صحيحة لكون الإسراع منفكا عنها.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 8 جمادى الأولى 1427ه
الموافق ل: 4 جوان 2006م
__________
1- أخرجه البخاري في الحج (1607)، والترمذي في الحج (875)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرجه مسلم في الحج (3134)، وأبو داود في المناسك (1882)، والنسائي في مناسك الحج (2988)، من حديث جابر رضي الله عنه
2- أخرجه البخاري في الأذان (636)، وأحمد (11182)، والبيهقي (5350)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
3- أخرجه البخاري في الأذان (635)، والدارمي في سننه (1331)، والبيهقي (6084)، من حديث أبي قتادة رضي الله عنه.
4- أخرجه مسلم في المساجد ومواضع الصلاة(602)، وابن خزيمة في "صحيحه" في الصلاة (1065)، والبيهقي في السنن الكبرى في الجمعة(5664)، وأبو يعلى في مسنده (6497) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
5- أخرجه مسلم في المساجد (1550)، وأحمد (14985)، من حديث جابر رضي الله عنه.
6- أخرجه أبو داود في الصلاة (563)، والبيهقي (5209)، عن رجل من الأنصار رضي الله عنه. وصححه الألباني في صحيح الجامع (440).(4/48)
الفتوى رقم: 453
في حكم البسملة من القرآن، وصحة الإسرار بها في الصلاة الجهرية
السؤال: هل البسملة آية من القرآن؟ وهل السنة الجهر أم الإسرار بها في الصلاة الجهرية؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فلا خلاف بين أهل العلم أنّ البسملة بعض آية من سورة النمل، ولا خلاف أيضا بأنها ليست آية بين سورتي الأنفال والتوبة، ولكنهم يختلفون في البسملة هل هي آية من القرآن أو ليست بآية على خمسة أقوال، والذي يلوح رجحانه أنّ البسملة آية من سورة الفاتحة، وليست بآية من أول كلّ سورة، وليست آية للفصل بين السور، وإنما هي آية لابتداء السور، ويدلّ على أنّ البسملة آية كاملة من الفاتحة ما روته أمّ سلمة رضي الله عنها قالت:" كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم إِذَا قَرَأَ يُقَطِّعُ قِرَاءَتَهُ آيَةً آيَةً ?ِبسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ(1) الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ(3)?"(1)، ويؤيد هذا الحديث ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:« إِذَا قَرَأْتُمُ (الْحَمْدُ لِلَّهِ) فَاقْرَءُوا (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) إِنَّهَا أُمُّ الْقُرْآنِ وَأُمُّ الْكِتَابِ وَالسَّبْعُ الْمَثَانِي وَ(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) إِحْدَاهَا"(2)، والحديثان صريحان في الدلالة على أن البسملة آية كاملة من سورة الفاتحة، ولا يستقيم قول من قال إنه من كلام أبي هريرة وأمّ سلمة رضي الله عنهما، إذ يبعد أن يُدرج كلٌّ منهما في الحديث كلامه من غير التنبيه خاصة مع أهمية هذه المسألة، كما لا يصح القول بأن أبا هريرة رضي الله عنه سمع النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم يجهر بها فظنَّها من السورة، فقد جاء من حديث
أم سلمة رضي الله عنها ما يدفع هذا الاحتمال، كما لا يستقيم توجيه حديث أم سلمة رضي الله عنها بأن البسملة فيها آية مفردة للفصل بين السُّوَر، لأنه لو كانت كتابتها للفصل في المصحف لكتبت بين الأنفال والتوبة، ولأَمْكَن حدوثُ الفصل بدون البسملة، ولوجودها في بداية الفاتحة وليس قبلها ما يفصل بها.
أما البسملة في غير الفاتحة فهي آية لابتداء السور على الصحيح من أقوال أهل العلم، لقول ابن عباس رضي الله عنهما قال:" كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم لاَ يَعْرِفُ فَصْلَ السُّورَةِ حَتَّى تُنَزَّلَ عَلَيْهِ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)"(3)، فإن ظاهره يدل على أنها آية لابتداء السور وبها يعرف الفصل، ويدل على أنها آية من كل سورة وليست آية للفصل أنه يؤتى بالبسملة قبل الفاتحة مع أنه ليس قبلها سورة ليفصل بها، ويؤيد هذا الحكم انعقاد الإجماع على أن سورة الإخلاص أربع آيات، وسورة الكوثر ثلاث آيات، وأن سورة الملك ثلاثون آية فلو كانت البسملة آية منها لعُدَّت مع السور السابقة، وهذا مخالف للإجماع، وقد صح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:" إِنَّ سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ ثَلاَثُونَ آيَةً شَفَعَتْ لِرَجُلٍ حَتَّى غُفِرَ لَهُ وَهِىَ (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ)"(4) فلو كانت البسملة منها لكانت إحدى وثلاثين آية وهو مخالف لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإجماع القراء والفقهاء.
هذا، والقول بأن البسملة آية من الفاتحة لا يلزم الجهر بها في الصلاة الجهرية بل يُسِرُّ بقراءتها كالفاتحة في الأُخْرَيَيْنِ من الرباعية والثالثة من الثلاثية، ولما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه "أَنَّ النَّبِيّ صلى الله عليه وآله وسلم وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما كَانُوا يَفْتَتِحُونَ الصَّلاَةَ بِـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)"(5) وفي رواية:" لاَ يَجْهَرُونَ بـ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)"(6) وفي رواية لابن خزيمة:" كان يُسِرّ..."(7) الحديث.
والعلم عند الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وإخوانه إلى يوم، الدين وسلم تسليما.
الجزائر: 12 جمادى الأولى 1427ه
الموافق ل: 8 جوان 2006م
__________
1- أخرجه أبو داود في الحروف والقراءات (4003)، والترمذي في القراءات (3177)، وأحمد (27324)، والحاكم في المستدرك (2910)، والدارقطني (1204)، والبيهقي (2479)، وأبو يعلى في مسنده (7022)، من حديث أم سلمة رضي الله عنها. قال الدارقطني في سننه (1/651):" إسناده صحيح وكلهم ثقات". وصححه الألباني في إرواء الغليل (2/60).
2- أخرجه الدارقطني (1202)، والبيهقي (2486)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال ابن الملقن في "تحفة المحتاج" (1/292):"إسناده كلّ رجاله ثقات"، والألباني في السلسلة الصحيحة (1183).
3- أخرجه أبو داود في الصلاة (788)، والبيهقي (2473)، من حديث ابن عباس رضي الله عنه. قال ابن كثير في "إرشاد الفقيه إلى معرفة أدلة التنبيه"(1/122):" إسناده صحيح على شرط الشيخين"، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4864).
4- أخرجه الترمذي فضائل القرآن (3134)، وأحمد (8195)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وصححه أحمد شاكر في تحقيقه لمسند أحمد (15/129)، والألباني في صحيح الجامع (2092).
5- أخرجه البخاري في الأذان (743)، وأبو داود في الصلاة (782)، والترمذي في الصلاة (247)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (862)، وأحمد (12317)، والدارمي في سننه (1287)، والدارقطني في سننه (1218)، والحميدي في سننه (1252)، والبيهقي في سننه (2515)، من حديث أنس رضي الله عنه.
6- أخرجه ابن حبان (1802)، أحمد (13182)، والبيهقي (2473)، من حديث أنس رضي الله عنه، قال الزيلعي في "نصب الراية"(1/329):" رجاله كلهم ثقات مخرج لهم في الصحيحين".
7- أخرجه ابن خزيمة (498) كتاب الصلاة، باب "ذكر الدليل على أن أنسا إنما أراد بقوله لم أسمع أحدا منهم يقرأ "بسم الله الرحمن الرحيم" أي لم أسمع أحدا منهم يقرأ جهرا "بسم الله الرحمن الرحيم"، وأنهم كانوا يسرون "بسم الله الرحمن الرحيم" في الصلاة، لا كما توهم من لم يشتغل بطلب العلم من مظانه وطلب الرئاسة قبل تعلم العلم"، من حديث أنس رضي الله عنه.(4/49)
الفتوى رقم: 501
في حكم متابعة الإمام في قنوت الصبح
السؤال: ما حكم متابعة الإمام إذا قنت في صلاة الصبح؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فأهل العلم يفرقون بين قنوت الدعاء وقنوت النازلة، وقد ثبت في صلاة الصبح قنوت النازلة من حديث أنس بن مالك أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قنت في صلاة الصبح(1)، ولم يثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قنت قنوت الدعاء إلاَّ في وتره، وهو الصحيح من المذاهب، لذلك فإنَّ المأموم إذا صلى وراء الإمام يعتقد قنوت الدعاء في الصبح، فإنَّ المأموم لا يوافقه على ما يخالف فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيبقى منتظرًا له إلى غاية انتهائه ثم يركع معه، الشأن في ذلك كانتظاره في إتمام الركعة الرابعة من صلاة العشاء إن صلى معه بنية مباينة صلاة المغرب وينتظر إلى غاية انتهائه من صلاة الرابعة، أو كالإمام الملغي لركعة وقام إلى الخامسة فإنّ على المأموم انتظاره جالسا وهو في صلاته ثم يتحي معه ويسلم عقبه.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 23 صفر 1427هـ
الموافق لـ: 23 مارس 2006م
__________
1- أخرج البخاري في الوتر (956)، ومسلم في المساجد (1546)، عن محمد قال:" سئل أنس أقنت النبي صلى الله عليه وسلم في الصبح قال نعم فقيل له أو قنت قبل الركوع قال بعد الركوع يسيرا". وأخرج مسلم في المساجد (1548) عن أنس بن مالك رضي الله عنه:" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قنت شهرا بعد الركوع في صلاة الفجر يدعو على بني عصية". وانظر طرقه ورواياته في "إرواء الغليل" للألباني (2/160-162).(4/50)
الفتوى رقم: 610
في حكم الدعاء في الصلاة بغير العربية
السؤال:
هل يجوز للأعجمي أن يدعو في الصلاة بغير اللغة العربية؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فالقادرُ على الصلاة والدعاء باللغة العربية تلزَمُهُ ألفاظُها وخاصَّةً فاتحةُ الكتاب والتشهدُ ونحوُ ذلك، أمّا العاجزُ عن اللغة العربية والنطق بها فله أن يأتي بالصلاة بلغته ما عدا فاتحةَ الكتاب لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ »(1)، فهي أقلُّ ما يجزئ صلاتَه بها من القرآن الكريم، فإن عَجَزَ عنها بعد جهد واجتهاد فله أن يأتي مكانها بالتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والحوقلة لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم للرجل الذي قال: لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئًا:« قُلْ سُبْحَانَ اللهِ وَالحَمْدُ لله وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ العَلِّيِّ العَظِيمِ »(2)، ولأنّ العاجز لا يأتي من الأوامر الإلهية إلاّ في حدود استطاعته لقوله تعالى: ?لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا? [البقرة: 286]، وقولِه تعالى: ?فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ? [التغابن: 16]، وقولِه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْء فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ »(3)، جريًا على قاعدة:« لاَ تَكْلِيفَ إِلاَّ بِمَقْدُورٍ »، والدعاء لا يخرج عن هذا المعنى، فيجوز الدعاء بأي عبارة يتقرّب بها إلى الله تفيد معنى التذلّل والانكسار والانقياد لله سبحانه وتعالى، مهما كانت عُجْمَتُهُ لعموم قوله تعالى: ?ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ? [غافر: 60]، ولقوله تعالى: ?فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ? [البقرة: 186]، وخاصّة لمن لم ينطق بلغة القرآن ولسان العرب، أو يجد صعوبةً في التلفّظ بها، واللهُ تعالى يجيبُه إذا توفَّرت الشروط وانتفعت الموانعُ، سواء بتعجيلها له أو ادِّخارِها أو دفعِ البلايا والرزايا عليه(4).
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 11 ذو القعدة 1427ه
الموافق ل: 2 ديسمبر 2006م
__________
1- أخرجه البخاري في « الصلاة »: (723)، ومسلم في «الصلاة »: (874)، وأبو داود في «الصلاة »: (822)، والترمذي في «الصلاة »: (247)، والنسائي في «الافتتاح »: (910)، وابن ماجه في «إقامة الصلاة »: (837)، وأحمد (22169)، من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
2- أخرجه أبو داود في «الصلاة »: (832)، وأحمد: (18617)، وابن حبان: (1360)، والبيهقي: (4008)، من حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه. وحسّنه الألباني في «المشكاة »: (819).
3- أخرجه البخاري في «الاعتصام بالكتاب والسنة »: (6858)، ومسلم في «الحج »: (3257)، وابن حبان: (19)، وأحمد: (9239)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
4- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنَّ النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قال:« مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلاَ قَطِيعَةُ رَحِمٍ، إِلاَّ أَعْطَاهُ اللهُ بِهَا إِحْدَى ثَلاَثٍ: إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا قَالُوا: إِذاً نُكْثِرُ؟ قَالَ: اللهُ أَكْثَرُ » أخرجه أحمد: (10903)، والبخاري في «الأدب المفرد »: (731)، والحاكم: (1852)، وابن أبي شيبة في «المصنف »: (24906)، وصحّحه الألباني في «صحيح الأدب المفرد »: (547)، والوادعي في «الصحيح المسند »: (421).(4/51)
الفتوى رقم: 630
في حكم القراءة باختلاف الروايات
السؤال:
عندنا إمامٌ لم يتلقَّ أداءَ القراءاتِ على شيخٍ مسنَدٍ, وإنما تعلَّم أحكامَ التجويدِ لَمَّا كان يدرسُ بالجامعة الإسلامية, وله صوتٌ حَسَنٌ, يقرأ لوَرْشٍ من طريقِ الأزرق, إلاّ أنه يقرأ في صلاة الفريضة وقيام رمضان في الركعة الواحدة بعدة قراءات: فيقرأ بالهمز فيما لم يهمز الأزرق, ويسكت مرّات سكتات حفص, ويقرأ فرش حروف بعض الكلمات لبعض القراءات التي لا يعلمها إلاّ خواص الطلبة، فما حكم هذا الصنيع؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فإنّ الصلاةَ تصحُّ بالقراءة المتواترة اتفاقًا، وغيرِ المتواترة إذا صَحَّ سَنَدُهَا على أرجحِ أقوالِ العُلماءِ، وهو اختيارُ ابنِ تَيْمِيَّةَ(1)؛ لأنّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قال:« خُذُوا القُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ: مِنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَسَالِمٍ، وَمُعَاذٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ »(2)، وهذا يدلُّ على جوازِ القراءةِ بها في الصلاةِ سواءً ثَبَتَتْ عنهم بالتواتُرِ أو بالشُّهْرَةِ أو صَحَّ سندُها إليهم بطريق الآحاد، والصحابةُ رضي الله عنهم كانوا يُصَلُّون بقراءاتهم في عهد النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم وبعده وكانت صلاتُهم صحيحةً بلا شكّ(3)، وإذا تقرَّرَ ذلك فإنه يجوز -أيضًا- القراءة لوَرْشٍ أو لنافع أو لغيرهما باختلاف الروايات، قال ابنُ تيميةَ -رحمه الله-:« يجوز أن يقرأ بعضَ القُرْآن بحَرْفِ أبي عَمْرٍو، وبعضَه بحرف نافع، وسواءٌ أكان ذلك في ركعة أو ركعتين، وسواء أكان خارجَ الصلاةِ أو داخلَها »(4).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 29 صفر 1428ه
الموافق ل: 19 مارس 2007م
__________
1- «الاختيارات الفقهية »: (53).
2- أخرجه البخاري في «فضائل الصحابة »، باب: مناقب أبي بن كعب (3597)، ومسلم في «فضائل الصحابة »: (6334)، والترمذي في «فضائل الصحابة »: (3810)، والحاكم في «المستدرك »: (6242)، وأحمد: (6487)، والبزار: (1526)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
3- «المغني » لابن قدامة: (1/535).
4- «مجموع الفتاوى » لابن تيمية: (22/445).(4/52)
الفتوى رقم: 644
في محلّ التكبير من السجدة الثانية لمن يعقد جلسة الاستراحة
السؤال:
بعد السجدة الثانية من الركعة الأولى أو الثالثة, هل يُكبّر للقيام للركعة الثانية إذا جلس جلسة الاستراحة, أو يكبِّر بعد قيامه من جلسة الاستراحة, وإذا كان التكبير بعد قيامه من جلسة الاستراحة, ماذا يفعل الذي يؤمّ الناس وفيهم من لا يجلس أو لا يعرف مثل هذا الجلوس؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فجلسةُ الاستراحةِ جلسةٌ خفيفةٌ بعد الفراغ من السجدة الثانية من الركعة الأولى أو الثالثة وقبل النهوض إلى الركعة الثانية أو الرابعة، فلا يجوز في جلسة الاستراحة إحداث تكبيرتين كما يذهب إلى ذلك بعضُ الشافعية: تكبيرة يفرغ منها في الجلوس، والأخرى عند إرادة النهوض؛ لافتقارها إلى دليل شرعي يسندها، وقد قال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ »(1)، ولا يستدلُّ بحديث:« أَنَّهُ كَانَ يُكَبِّرُ عِنْدَ كُلِّ خَفْضٍ وَرَفْعٍ »(2) لخروجِ جلسة الاستراحة من العموم؛ ذلك لأنّ النقولَ السُّنِّية في بيان صِفة اعتماده صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم على الأرض إلى الركعة الثانية لم يُذكر فيها سوى تكبيرة واحدة، وإذا لم تثبت الثانية فيمكن الاستدلال بحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:« كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ كَبَّرَ ثُمَّ سَجَدَ، وَإِذَا قَامَ مِنَ القَعْدَةَ كَبَّرَ ثُمَّ قَامَ »(3)، على أنّ تكبيرةَ جلسةِ الاستراحةِ إنّما تكون عند إرادته للقيام بعد القعدة؛ لأنّ هذا الحديث وإن كان المتبادر إليه جلسة التشهّد إلاّ أنّه يشمل أيضًا بعمومه جلسةَ الاستراحةِ.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 14 صفر 1428ه
الموافق ل: 04 مارس 2007م
__________
1- أخرجه البخاري في «الصلح »: (2697)، ومسلم في «الأقضية »: (4589)، وأبو داود في «السنة »: (4608)، وابن ماجه في «المقدمة »: (14)، وأحمد: (26786)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
2- أخرجه الترمذي في «الصلاة »: (253)، والنسائي في «التطبيق »: (1083)، وأحمد: (3652)، وأبو يعلى في «مسنده »: (5128)، والبزار في «مسنده »: (1609)، وصححه ابن الملقن في «البدر المنير »: (3/605)، وأحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد »: (5/241)، والألباني في «صحيح النسائي »: (1083)، والوادعي في «الصحيح المسند »: (893).
3- أخرجه أبو يعلى في «مسنده »: (6029)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الألباني في «السلسلة الصحيحة » (1/155):« ...وهذا إسناد جيد رجاله كلهم ثقات معروفون... ».(4/53)
الفتوى رقم: 694
في الاعتداد بالركوع دون الصف
السؤال:
إذا ركع المسبوقُ دونَ الصفِّ، ولم يلحق به إلاّ بعد أن رفع الإمام وسجد, فهل يعتدّ بتلك الركعة؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فإذا ركعَ دون الصفِّ ثمّ دخل فيه سواءً رفع الإمامُ قبل أن ينتهيَ إلى الصفِّ أو لم يرفعِ الإمامُ رأسَه من الركوعِ فإنَّ الركعةَ تجزيه، وهو مذهبُ مالكٍ والشافعيِّ وروايةٌ عن أحمدَ وأصحابِ الرأيِ؛ لأنّ أبا بكرةَ رضي الله عنه أحرمَ خَلْفَ الصفِّ بمفرده ثمّ تقدّم فدخل في الصفّ فقال له النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم بعد فراغه من صلاته:« زَادَكَ اللهُ حِرْصًا وَلاَ تَعُدْ »(1)، ولم يأمره بالإعادة، وإن صَلَّى خَلْفَ الصفِّ وحده أعاد الصلاةَ لحديث علي بن شيبان رضي الله عنه أنّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم رأى رجلاً صَلَّى وحده خَلْفَ الصَّفِّ فقال له:« أَعِدْ صَلاَتَكَ فَإِنَّهُ لاَ صَلاَةَ لفَرْدٍ خَلْفَ الصَّفِ »(2).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 2 صفر 1428ه
الموافق ل: 20 فبراير 2007م
__________
1- أخرجه البخاري في «الصلاة »: (750)، وأبو داود في «الصلاة »: (683)، والنسائي في «الإمامة »: (871)، وابن حبان: (2195)، وعبد الرزاق في «المصنف »: (3376)، من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.
2-أخرجه ابن ماجه في «إقامة الصلاة »: (1003)، وابن حبان في «صحيحه »: (2202)، وابن خزيمة في «صحيحه »: (1569)، وأحمد: (16735)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (4995)، من حديث علي بن شيبان بن محرز اليمامي رضي الله عنه. والحديث حسَّنه ابن كثير في «إرشاد الفقيه »: (1/176)، وصحَّحه ابن القيم في «أعلام الموقعين »:(2/259)، والألباني في «الإرواء »: (2/329).(4/54)
الفتوى رقم: 746
في حكم الاقتصار على آية واحدة في صلاة الفريضة
السؤال:
هل تصحُّ صلاةُ من قرأ في الفرض بعد الفاتحة بآيةٍ واحدةٍ مثل: ?مُدْهَامَّتَانِ? [الرحمن: 64]، أو ?ذَوَاتَا أَفْنَانٍ? [الرحمن: 48].
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
ففي مسألةِ ما يُشرَع من القراءة بعد الفاتحة في الصلاة فإنّ أظهرَ الأقوال أَنْ لا حَدَّ للقراءة بعد الفاتحة، وتحصلُ بمطلق القراءة، وبهذا قالتِ المالكيةُ وهو الظاهرُ من مذهب الشافعيةِ لقوله تعالى: ?فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ? [المزّمِّل: 20]، وقد روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال:« أُمِرْنَا أَنْ نَقْرَأَ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ وَمَا تَيَسَّرَ »(1)، وبقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم للمسيء صلاته:« … ثُمَّ اقْرَأْ بِأُمِّ القُرْآنِ وَبِمَا شَاءَ اللهُ أَنْ تَقْرَأَ »(2)، ولأنّ المقصود هو قراءة القرآن، ويحصل ذلك بما يمكن أن يطلق عليه قراءة ولو كان يسيرًا، لكنه لما كان معنى القرآن مقصودًا بالقراءة فلا يكفي المقروء حتى يفيد معنًى أو حُكمًا مستقلاًّ سواء آية أو أقلّ، بحيث لا يحتاج ما قبله أو ما بعده لإكمال معناه، أمّا آية ?مُدْهَامَّتَانِ? [الرحمن: 64] أو غيرها فقد أجازها أبو حنيفة في روايةٍ عنه وجعلها من القدر المفروض بالآية القصيرة، ولا يخفى أنّ المقصودَ من القراءة بهما غير متحقّق فلا يكفي حتى تستقلّ بمعنى أو بحكم.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في 9 جمادى الثانية 1428ه
الموافق ل: 24 جوان 2007م
__________
1- أخرجه أبو داود في «الصلاة »،باب من ترك القراءة في صلاته بفاتحة الكتاب: (818)، وابن حبان: (1790)، وأبو يعلى في «مسنده »: (1210)، وعبد الرزاق في «المصنف »: (2671)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. والحديث صححه ابن حجر في «التلخيص الحبير »: (1/422)، والألباني في «صحيح أبي داود »: (818)، والوادعي في «الصحيح المسند »: (410).
2- أخرجه أبو داود في «الصلاة »، باب صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود: (859)، وأحمد: (18516)، من حديث رفاعة بن رافع الزرقي رضي الله عنه، والحديث حسنه الألباني في «صحيح الجامع »: (324).(4/55)
الفتوى رقم: 911
في صفة الاستعاذة
السؤال:
هل يجوز الاكتفاء في الاستعاذة لقراءة القرءان في الصلاة وغيرها ب «أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ »، أم يجب أن يأتي القارئ بالصيغة التالية:« أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ »(1)، مع جواز الزيادة أحيانًا «أَعُوذُ بِاللهِ السَّمِيعِ العَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ »(2)؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالاستعاذةُ للقراءة في الصلاة واجبةٌ على أرجح المذاهب، لقوله تعالى: ?فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ? [النحل: 98]، والأمرُ للوجوب، وهو عامٌّ للاستعاذة للقراءة في الصلاة أو خارجها، ولا يُحتجُّ بما نقله الحنفية(3) من أنَّ الأمر مصروفٌ عن الوجوب إلى السُّنَّة لإجماع السلف على سُنِّيَّة الاستعاذة فهو إجماعٌ غير صحيحٍ، فقد قال بوجوبها بعضُ السلف كعطاء بن أبي رباح، وابن سيرين وغيرِهما؛ ولأنَّ في الاستعاذة دفعَ شرِّ الشيطان، ودرءُ شرِّه واجبٌ، و«مَا لاَ يَتِمُّ الوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ »، وقد ثبت عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم أنه:« كَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلاَةِ يَتَعَوَّذُ بِاللهِ السَّمِيعِ العَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِهِ »، كما ثبت عنه الصيغ الأخرى على نحو ما جاء في السؤال، إلا أنّ الاقتصار على صيغة التعوّذ:« أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ » فلا أصل لها(4)، فيمكن الاستدلال بلفظ «كان » الدالّ على المواظبة غالبًا، وقد قال عليه الصلاة والسلام:« صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي »(5)، فدلَّ ذلك على أنَّ الاستعاذة للقراءة في الصلاة واجبةٌ، ومن آثار الصحابة ما رواه الأسود بن يزيد قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين يفتتح الصلاة، يقول:« سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، وَتَبَارَكَ اسْمُكَ، وَتَعَالَى جَدُّكَ، وَلاَ إِلَهَ غَيْرُكَ، ثُمَّ يَتَعَوَّذُ »(6).
هذا، ويشرع الاستعاذة في القراءة بالصيغ المذكورة، ولم يرد تحديد صيغة معيَّنة لذلك، وغاية ما في الآية الأمر بالاستعاذة، فيجزيه بأي صيغةٍ كانت لثبوت الجميع عنه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم. قال ابن قدامة:« وهذا كلُّه واسعٌ، وكيفما استعاذ فحَسَنٌ »(7).
ويجدر التنبيه إلى أنَّ تقرير وجوبِ الاستعاذة لا يلزم من تركها بطلان الصلاة لبطلان القراءة؛ لأنَّ الاستعاذة إنما هي واجبةٌ للقراءة وليست واجبةً فيها، والواجب للماهية لا يلزم بطلانها بتركه لذلك، فالصلاة صحيحة ولو مع تركها، هذا من جهة، والأصل في الأذكار الإسرار لقوله سبحانه وتعالى: ?وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ? [الأعراف: 205]، والتعوُّذ معدودٌ من الأذكار، فالأصل الإسرار به، ولم يُنقل عن النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم أنه جهر بها، ولا عن الخلفاء الراشدين بعده، ويجوز للإمام أن يجهر بها تارةً قَصْدَ تعليمِ الناس على نحو ما نقلت إلينا صيغ الاستعاذة السالفة البيان من النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، أمَّا المداومةُ على الجهر بها لا يجوز، وفي هذا المعنى يقول ابن تيمية -رحمه الله-:« وأمَّا المداومة على الجهر بذلك فبدعةٌ مخالِفةٌ لسُنَّة رسولِ الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم وخلفائه الراشدين، فإنهم لم يكونوا يجهرون بذلك دائمًا، بل لم ينقل أحد عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم أنه جهر بالاستعاذة »(8).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 15 جمادى الأولى 1429ه
الموافق ل: 20 ماي 2008م
__________
1- أخرجه أبو داود في «سننه » كتاب الصلاة، باب ما يستفتح به الصلاة من الدعاء: (764)، ابن ماجه في «سننه » كتاب إقامة الصلاة، باب الاستعاذة في الصلاة: (807)، من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في «الإرواء »: (2/54).
2- أخرجه أبو داود في «سننه » كتاب الصلاة، باب من رأى الاستفتاح بسبحانك اللهم بحمدك: (755)، والدارمي في «سننه »: (1219)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. والحديث حسّنه الألباني في «الإرواء »: (2/54).
3- انظر:« المبسوط » للسرخسي: (1/13)، «البحر الرائق » لابن نجيم: (1/211).
4- قال الألباني في «تمام المنة » (176):« لم أقف على هذا في شيءٍ من كُتب السنة المعروفة إلاَّ ما في «مراسيل أبي داود » عن الحسن أنَّ رسول الله صَلَّى الله عليه وآله وسلم كان يتعوَّذ فَذَكَرَهُ، وهذا مع ضعفه؛ لأنه من مراسيل الحسن البصري، فليس فيه أنَّ هذه الصيغة كانت في الصلاة »، وقال في «إرواء الغليل » (2/53):« لا أعلم له أصلاً ».
5- أخرجه البخاري في «صحيحه » كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة والإقامة: (605)، والدارمي في «سننه »: (1233)، وابن حبان في «صحيحه »: (1872)، وابن خزيمة في «صحيحه »: (397)، من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه.
6- أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف »: (1/ 214)، والدارقطني في «سننه »: (1/300)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (2/36)، عن الأسود بن يزيد -رحمه الله-. والأثر صحَّحه الألباني «الإرواء »: (2/48). ورواه مسلم في «صحيحه » مرسلاً: (1/ 299).
7- «المغني » لابن قدامة: (1/476).
8- «الفتاوى الكبرى » لابن تيمية: (1/87).(4/56)
04- صلاة الجماعة
الفتوى رقم: 62
في حكم ترك جماعة المسجد للمشقة
السؤال: رجل عنده دكان للمواد الغذائية ويخرج بعضا من سلعته من الدكان كصناديق الفواكه وغيرها، ويحصل له نوع من المشقة إن أخرجها وأدخلها عند كلّ صلاة، فهل يجوز له أن يترك أحدا يخلفه ليدرك الجماعة، أم له عذر في تركها؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فعلى مذهب من يشترط المسجد لصلاة الجماعة فإنّ الحكم يختلف باختلاف ما إذا كان المسجد بقرب منه أم بعيدا عنه، فإن كان بعيدا عنه بحيث لا يسمع النداء إذا ما أذن بغير مكبر صوت فإنّه لا تجب عليه الجماعة في المسجد، أمّا إذا كان يسمع النداء فإمّا أن يخشى ضياع سلعته إن تركها، أو يجد وسيلة لإدخال سلعته من غير عناء ولا نصب؟، فإن استعمل للسلعة التي يخرجها إلى الرصيف وسيلة جرّ بعجلات ووضع سِلَعَه عليها بحيث إذا أذن المؤذن أمكنه جرها إلى الداخل وإغلاق الأبواب، فإنّه لا يشفع له بقاؤه في الدكان ولا أن يستخلف غيره فيه، أمّا إذا تعذرت عليه الوسيلة ويخشى ضياع ماله، وإن أدخل السلعة في الدكان قد يفوته الوقت فالواجب عليه والحال هذه أن يحافظ على العصرين (صلاة العصر، وصلاة الصبح) مع الجماعة، لحديث فضالة رضي الله عنه قال: علمني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان فيما علمني أن قال لي:" حافظ على الصلوات الخمس" فقلت: إنّ هذه ساعات لي فيها أشغال، فمُرْني بأمر جامع إذا أنا فعلته أجزأ عنّي، قال:" حافظ على العصرين: صلاة قبل طلوع الشمس، وصلاة قبل غروبها "(1) فإن وصل وقت العصر أدخل هذه السلعة ولا يستخلف إلاّ في أوقات أخرى غيرها، إذ الخطاب إذا لم يتحقق مع الاثنين تحقق من واحد جريا على قاعدة "المعسور لا يسقط الميسور".
والعلم عند الله وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمّد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
الجزائر في:1جمادى الأولى 1426هـ
الموافق لـ: 8 جوان 2005 م
__________
1- أخرجه أبو داود في الصلاة(428)، والبيهقي(2277)، من حديث فضالة الليثي رضي الله عنه، والحديث صححه الألباني في السلسلة الصحيحة(1813)، وصحيح الجامع(3122).(4/57)
الفتوى رقم: 66
في حكم ما يفيده حديث "خير صفوف الرجال أولها..."
السؤال: ما معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم:« خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا وَشَرُّهَا آخِرُهَا وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُهَا وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا"(1)، وهل يفيد الوجوب؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فمعنى الحديث أنَّ مرتبة الرجال متقدمة على مرتبة النساء، فمن كان أقربهم من الإمام وأبعدهم من النساء خير ممن كان أقربهم إلى النساء وأبعدهم من الإمام، إذ الصف الأول أعلم بحال الإمام وأقوى في المتابعة وأدعى للانقياد والخشوع وأوفر ثوابًا، ومن كان أكثر تقدمًا كان أكثر تعظيمًا لأمر الشرع.
وبالعكس صنف النساء فبعدهن من الرجال خير من قربهن منهم، لأنَّ مرتبة النساء متأخرة عن مرتبة الذكور، فيكون آخر الصفوف أليق بمرتبتهن، لأنهن مأمورات بالاحتجاب من جهة، وأليق مطابقة لقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه:" أَخِرُوهُنّ حَيْثُ أَخَرَهُنّ اللهُ"(2) من جهة أخرى، والخيرية تفيد الاستحباب والترغيب في تحصيل الفضيلة، وتنافي النهي والتحريم.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
الجزائر في: 26 ذي القعدة 1426ه
الموافق ل: 28 ديسمبر 2005م
__________
1- أخرجه مسلم في الصلاة (1013)، وأبو داود في الصلاة (687)، والترمذي في الصلاة (224)، والنسائي في الإمامة (228)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1053)، وأحمد (7565)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2- أخرجه ابن خزيمة (1606)، وعبد الرزاق في المصنف (4964)، والطبراني في المعجم الكبير (9372)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه موقوفا وروي مرفوعا ولا يصح. انظر نصب الراية للزيلعي: 2/36، والدراية في تخريج أحاديث الهداية لابن حجر العسقلاني:1/171، والسلسلة الضعيفة للألباني: 2/319.(4/58)
الفتوى رقم: 71
في حكم إمامة من يَلْحَن في القراءة
السؤال: ما حكم إمامة رجل يلحن في قراءته للقرآن؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما، أما بعد:
فلا خلاف بين المذاهب الأربعة في عدم صحة صلاة وإمامة من يتعمَّد اللحن المحيل للمعنى، أما من يحيل المعنى غير متعمِّد في ذلك، فإن كان ذلك في الفاتحة لم تصح إمامته وإن كان في غيرها صحت مع الكراهة وهو مذهب الشافعي وأحمد، أما مذهب المالكية فلا تصح إمامة اللحان في الفاتحة أو في غيرها، وذهب بعضهم إلى صحة إمامته في غير الفاتحة بلا كراهة.
والصحيح عدم صحتها، لأنَّ القرآن معجز بلفظه ومعناه، وإذا لَحَن في الفاتحة لحنًا يحيل المعنى بضم أو كسر تاء"أنعمتُِ" من الفاتحة زال إعجازها فلا تسمى قرآنًا، وفي حديث:" لاَ صَلاَةَ إلِاَّ بِفَاتِحَةِ الكِتَاب"(1)، ولأنه لم يقرأها قراءة صحيحة على الصفة التي أَمَرَ بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومن تمَّ لا تصحُّ إمامته، أما ما عدا الفاتحة فأهون، إذ تصحُّ الصلاة بالفاتحة، أما القراءة بعدها فمستحبة على القول الراجح.
هذا، وإذا كان يَلْحَن لحنا لا يحيل المعنى كضم الهاء من لفظ الجلالة في قوله تعالى:" الحمد لله ُ" وفتح النون والميم في قوله تعالى:" الرحمنُ الرحيمُ" فإنه على أصحِّ الأقوال كراهة إمامته وهو أيضا مذهب الشافعي والحنابلة خلافًا للمالكية الذين يرون عدم صحة إمامته، والأول هو الصحيح، لأنَّ مدلول اللفظ مع اللَّحْن الذي لا يحيل المعنى باق من جهة، وقد أتى بفرض القراءة من جهة أخرى فتصح صلاته وإمامته.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
الجزائر في: 25 شعبان 1426ه
الموافقل: 29سبتمبر 2005م
__________
1- أخرجه البخاري في الأذان (756)، ومسلم في الصلاة (900)، وأبو داود في الصلاة (822)، والترمذي في الصلاة (248)، والنسائي في الافتتاح (918)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (886)، وأحمد (23345)، من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.(4/59)
الفتوى رقم: 144
حكم الصلاة وراء إمام يصلي الفريضة قبل دخول وقتها
السؤال: إذا أقيمت صلاة الفريضة قبل الوقت المخصوص لها. فهل يجوز أن نصلي مع الجماعة بنية النافلة وبعد دخول الوقت نصلي الفريضة أم لا يجوز ذلك؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فتجوز صلاة النافلة مع إمام يصلي الفريضة قبل دخول وقتها ثمّ يعيدها عند دخول وقتها عملا بجواز تباين النية، الثابت بأدلة متكاثرة، ولحديث أبي ذر رضي الله عنه فيما رواه مسلم قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:« كيف أنت إذا كان عليك أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها؟ قال: فما تأمرني؟ قال: صل الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم فصل فإنها لك نافلة"(1) ولا يخفى أنّ إيقاع الصلاة بعد خروجها عن الوقت بالتأخير كإيقاع الصلاة قبل دخولها عن الوقت بالتقدم.
والعلم عند الله تعالى وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّ اللّهم على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلّم تسليما.
باب الزوار:28 محرم1421هـ
الموافق لـ: 2 ماي 2000 م
__________
1- أخرجه مسلم في المساجد(1497)،والنسائي في الإمامة(867)، والدارمي في سننه(1275)، والبيهقي في سننه(5521)، من حديث أبي ذر رضي الله عنه.(4/60)
الفتوى رقم: 168
ما حكم الصلاة وراء من يمارس أعمال السحر والكهانة
السؤال: إمام مسجدنا يقوم بأعمال شركية:(كاهن، عرّاف، يكتب الطلاسم). وقد سألناك شيخنا على حكم الصلاة خلفه فأجبتنا بعدم الجواز.
ونحيطك علما أنّه في بلدتنا يوجد مسجد واحد وإذا لم نصلّ الجماعة فيه يترتب على ذلك فتنة حيث إنّ العامّة سيظنون أنّنا نكفر الإمام دون سبب لجهلهم بالعقيدة الصحيحة(فهم يجهلون أنّ الذي يقوم بكتابة الطلاسم والاستغاثة بالجنّ يفقده أصل الإيمان، وبالتالي يجهلون حكم الصلاة وراءه، ولقد سألناك من قبل على هذا الأمر فأجبتنا بالصلاة وراءه ثمّ إعادتها.
ولقد امتثلنا لهذا الأمر لمدة ثمّ تهاون البعض منّا، والبعض الآخر نظر نظرة أخرى، وهي أنّنا يجب أن لا نصلي وراءه لنهجره هجرا تامّا ليتضح أمره للناس. وبسبب هذا كلّه ترتب ما يلي:
- عدم التقاء الإخوة وبالتالي انتفاء مجالس العلم.
- عدم التناصح بين الإخوة.
- التهاون في أوقات الصلاة.
- نظرة العوام للإخوة أصبحت نظرة سلبية حيث قالوا: إنّ الإخوة متهاونون في صلاة الجماعة، ووصل بعضهم إلى رمي الإخوة بالنفاق.
- التأثير سلبيا في الدعوة إلى الله (فقد العوام الثقة في الإخوة).
- تأثر بعض الإخوة سلبيا بحيث أصبحوا يتهاونون في أوقات الصلاة، وبعض الواجبات مثل إعفاء اللحية، وبعض الليالي(حتى في رمضان) في قاعة الإنترنت ومع الألعاب وغير ذلك.
شيخنا إذا كانت نفس الفتوى أي الصلاة معه ثمّ إعادتها، فتترتب عليها كذلك بعض الأسئلة منها:
- إذا دخل أحدنا المسجد والإمام يصلّي فهل يصلي تحيّة المسجد حيث إنّها واجبة في حقه، أم يدخل مباشرة مع الإمام ؟
- إذا صلينا وراء هذا الإمام هل نصلّيها صلاة عادية(بالتكبير وقراءة الفاتحة...) أم بمجرد حركات دون ذكر؟
- هل نردد الأذان وراء الإمام أم لا؟
- هل الأفضل صلاة الفريضة أولا في المسجد منفردا ثمّ الصلاة وراء هذا الإمام، أم العكس؟، مع العلم أنّ هذا الإمام يتغيّب في بعض الأحيان.
وبارك الله فيك ونفعنا بعلمك.
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فاعلم أن السحر والكهانة والعرافة من جهة ما فيها من دعوى علم الغيب ومشاركة الله في علمه وسلوك الطرق المفضية إليه، فإنّ ذلك كلّه من شعب الشرك والكفر، فهي شركيات من عمل الشيطان يفعله في الإنسان بنفثه ونفخه وهمزه ووسوسته، وما عليه أكثر أهل العلم أنّ الساحر كافر وهو المنقول عن الصحابة رضي الله عنهم، وبهذا قال أبو حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم(1)، وقد جاء التصريح في كتاب الله بأنّ السحر كفر قال تعالى: ?وَاتَّّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا...? [البقرة:102] فكفر الشياطين الذي صرحت به الآية منوط بتعليم السحر للناس، ذلك لأنّ ترتيب الحكم على الوصف ينبه على عليته ويومئ إليها، وبيّنت الآية أنّ:? مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَق? [البقرة:102] أيّ حظ ولا نصيب ومثل هذا لا يكون مفلحا كما في قوله تعالى:? وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى? [طه:69]، لأنّ الفلاح لا ينفى بالكلية نفيا شاملا لأنواع الفلاح ولا لسائر الأمكنة إلاّ عمّن انتفت الخيرية عنه وهو الكافر، وفي الحديث:" إنّ الرقى والتمائم والتولة شرك"(2) وفي قوله صلى الله عليه و سلم:"من أتى عرافا، أو ساحرا أو كاهنا فسأله وصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه و سلم"(3) وفي الحديث أيضا:" ليس منّا من تطيّر أو تطيّر له، أو تكهن أو تكهن له، أو سَحَر أو سُحر له"(4) ومعلوم أنّ الصحابة رضي الله عنهم أمروا بقتل أولئك السحرة ولا يتقرر هذا الأصل إلاّ إذا كان
الساحر كافرا مرتدا إذ أنّ دماء المسلمين محرمة إلاّ ما استثناه الشرع لقوله صلى الله عليه وسلم:" لا يحلّ دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة"(5) فإذا لم يكن زانيا محصنا، ولا قاتل نفس فلم يبق أن يتعين بالكفر والارتداد.
هذا وإن ثبت عن هذا الإمام هذه الأعمال الشركية -ولم يرجع عنها بعد البيان- فإنّ الصلاة خلفه لا تصح لنفسه ولا لغيره إذا ما أقامها العالم بحاله، ولا تؤكل ذبيحته، والواجب أن ينصح إلى الخير ويرشد إلى الحق، فإن تاب وقطع الأعمال الشيطانية التي يمارسها فالحمد لله، وإلاّ فليسع جماعة المسجد إلى تغييره لدى نظارة الشؤون الدينية، فإن ثبتوه على ما هو عليه، فليصلوا في مسجد إمامه سني إذا وجدوا إلى ذلك سبيلا، فإن تعذر عليهم إقامة صلاة الجماعة إلاّ في ذلك المسجد فما عليهم إلاّ التأسي بقول إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى:? وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِِ اللهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَنْ لاَ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً? [مريم:48] ويكون لهم عذر خاص، وقد ذكر السيوطي رحمه الله في الأشباه والنظائر الأعذار المرخصة في ترك الجماعة على نحو أربعين عذرا(6)، وممّا ذكره ابن القيم رحمه الله قال:" هجران المسلمين عذر يبيح له التخلف عن الجماعة"(7)، [أي إذا كان هجرانهم له بحق]، "لأنّ هلال بن أمية، ومرارة بن الربيع قعدا في بيوتهما، وكانا يصليان في بيوتهما ولا يحضران الجماعة"(8).
هذا، والانقطاع عن الجماعة بهذا العذر أو بغيره من الأعذار المبيحة للتخلف عن الجماعة لا يترتب عليه إثم، بل يسقط الإثم مع حصول فضيلة الجماعة وثوابها لقوله صلى الله عليه وسلم:" إنّك لن تدع شيئا لله عز وجلّ إلاّ أبدلك الله به ما هو خير لك منه"(9) وقوله صلى الله عليه وسلم:" إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيما صحيحا"(10).
أمّا ما نقلتم عنّي بدوام الصلاة وراءه ثمّ إعادتها بعد ذلك محافظة على الجماعة، فإنّ المعلوم عندي وجوب إعادتها لمن صلّى خلفه وهو يعلم بحاله لا دوام الصلاة معه ثمّ إعادتها إذ ليس من المشروع الأمر بالصلاة مع العلم بفسادها كالصلاة بغير طهارة.
هذا وأخيرا فإنّه لا يسعني إلاّ أن أنصح ما نصح به لقمان لابنه وهو يعظه في قوله تعالى: ?يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ المُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ? [لقمان:17] .
والعلم عند الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
الجزائر في: 28 شوال 1425هـ
الموافق لـ: 11 ديسمبر 2004 م
__________
1- انظر تفسير القرطبي:(2/47) وما بعدها.
2- أخرجه أحمد: (1/381) وأبو داود: (3883) وابن ماجة: (3530) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وصححه الألباني في:« السلسلة الصحيحة » (1/2/648) وفي:« صحيح الجامع » رقم: (1632).
3- أخرجه البزار وأبو يعلى، قال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب(رقم3048):" صحيح موقوف" عن ابن مسعود رضي الله عنه.
4- أخرجه الطبراني في الكبير(ق73/1- منتقى) والبزار(ص169- زوائده)، من حديث عمران بن الحصين رضي الله عنه. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة(2195)، وصحيح الجامع(5435).
5- أخرجه البخاري في الديات(6878)، ومسلم في القسامة(4470)، والنسائي في تحريم الدم(4033)، والدارقطني في سننه(3134)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
6- الأشباه والنظائر للسيوطي:(439-440).
7- زاد المعاد لابن القيم:(3/580).
8- المصدر السابق.
9- أخرجه أحمد(23776)، وصححه الألباني في السلسلة الضعيفة(1/61).
10- أخرجه البخاري في الجهاد(2996)، وأحمد(20209)، والبيهقي(6785)، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.(4/61)
الفتوى رقم: 285
في حكم الصلاة وراء الفاسق
السؤال: عندنا في مدينة "البرواقية " ثلاثة مساجد، صلينا الجمعة في مسجد قام إمامه عند الخطبة برمى الشباب السني السلفي بكلام فاحش قال:" إنهم كالفيروس ويضعون أخشابا في أفواههم، ولا تتركوهم يجمعوا معكم التبرعات.." ويعادي أهل السنة ويمقتهم ونحن قمنا بهجره ولا نصلى ورآه ونرى أنّ الصلاة لا تجوز وراءه. هل هذا صحيح؟ أفيدونا أفادكم الله، والله يحفظك يا شيخنا.
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فالأصل أنّ الفاسق لا يولى الإمامة ردعا له عن فسقه وفجوره، فإن لزم الأمر وفرض إماما فلا يكون مخالفا لمضمون قوله صلى الله عليه وآله وسلم:« ليصلِّ أحدكم في المسجد الذي يليه ولا يتتبع المساجد"(1) من تخطى إلى غيره من المساجد لجواز الانتقال حال كون الإمام يلحن في صلاته، أو يرمى ببدعة أو يعلن بفجور كما بيّن ذلك شيخ الإسلام ابن القيم في إعلام الموقعين:(3/148).
ومن صلى خلف الإمام الفاسق فصلاته صحيحة فلا تعاد لما رواه مسلم وغيره من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال:" قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:« كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها؟" قال: قلت: فما تأمرني؟ قال:" صلّ الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم فصلِّ فإنّها لك نافلة"(2) ولا يخفى أنّ من أمات الصلاة بإخراجها عن وقتها المحدد لها شرعا فهو غير عدل، ومع ذلك أذن بالصلاة خلفهم وجعلها نافلة، ومن ذلك أيضا قوله صلى الله عليه وآله وسلم:« يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم"(3) وقد أجاز النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة خلف هؤلاء الأئمة مع صدور الخطإ منهم والإساءة على نحو ما ورد في رواية أخرى:" وصلوا وراءهم، فإن أحسنوا فلكم ولهم، وإن أساؤوا فلكم وعليهم"(4) لكن خطؤهم وإساءتهم قاصرة عليهم دون المأمومين، فضلا عن كون القياس يقتضيه فكما تصح الصلاة إذا صلى لنفسه فتصح لغيره وإذا صحت إمامته صحت صلاته من صلى خلفه.
هذا، وقد ورد أنّ ابن عمر رضي الله عنهما كان يصلي خلف الحجاج بن يوسف الثقفي(5) وقد كان الحجاج فاسقا، ولم يرد أنّ ابن عمر أعاد صلاته ولا أعاد واحد من الصحابة ممن صلى خلفه، فكان ذلك إجماعا على صحة الصلاة خلف الفاسق، وقد بوب البخاري في صحيحه:" باب إمامة المفتون والمبتدع، وقال الحسن: صل وعليه بدعته"(6) وقال الشوكاني في السيل الجرار:" وإذا عرفت هذا فلا تحتاج إلى الاستدلال على جواز إمامة الفاسق في الصلاة، ولا إلى معارضة ما يستدل به المانعون، فليس هنا ما يصلح للمعارضة وإيراد الحجج، وبيان ما كان عليه السلف الصالح من الصلاة خلف الأمراء المشتهرين بظلم العباد والإفساد في البلاد"(7).
والعلم عند الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه وسلم تسليما.
الجزائر في:8 شعبان 1426هـ
الموافق لـ :12 سبتمبر 2005م
__________
1- أخرجه الطبراني (3/199/2)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وصححه الألباني في صحيح الجامع(5456)، وفي السلسلة الصحيحة(2200).
2- أخرجه مسلم في المساجد (1497)، وأبو داود في الصلاة (431)، وأحمد (22107)، من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
3- أخرجه البخاري في الأذان(694)، وأحمد (8897)، والبيهقي(2433)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
4- أخرجه الدارقطني في سننه (1779)، أخرجه الدارقطني (1536)، والطبراني في المعجم الأوسط (6492)، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1862)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
5- انظر الإرواء: 525.
6- كتاب الأذان باب: 56 رقم (695).
7- السيل الجرار للشوكاني:1/247.(4/62)
الفتوى رقم: 295
في حكم الاستنابة على بضاعة عند حضور صلاة الجماعة
السؤال: أعمل في السوق أنا وصديقي وإذا حضر وقت الصلاة يبقى واحد منّا يبيع فما الحكم في ذلك ؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فالله تعالى أباح لنا الأموال والأولاد لكن شريطة أن لا تكون مانعة من القيام بالحقوق ولا صادرة عن أداء الواجبات لقوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ? [المنافقون: 9] وقال سبحانه وتعالى: ?رِجَالٌ لاّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ? [النور: 37]، فينبغي أن يحرص هو وغيره على صلاة الجماعة لما فيها من الفضل العميم لكن إذا كان له شاغل أو حال بينه وبين صلاة الجماعة مانع يخشى أن يرتِّب على نفسه أو على أمواله أو على عرضه مفسدة جاز له أن يصلي في المكان خشية ضياع سلعته لكن يعمل أن لا يُعوِّد نفسه على ذلك فقد صحَّ الحديث عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ فَضَالَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ عَلَّمَنِى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَكَانَ فِيمَا عَلَّمَنِى «وَحَافِظْ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ ». قَالَ قُلْتُ إِنَّ هَذِهِ سَاعَاتٌ لِى فِيهَا أَشْغَالٌ فَمُرْنِى بِأَمْرٍ جَامِعٍ إِذَا أَنَا فَعَلْتُهُ أَجْزَأَ عَنِّى فَقَالَ «حَافِظْ عَلَى الْعَصْرَيْنِ » وَمَا كَانَتْ مِنْ لُغَتِنَا فَقُلْتُ وَمَا الْعَصْرَانِ؟ فَقَالَ «صَلاَةٌ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَصَلاَةٌ قَبْلَ غُرُوبِهَا »(1)، والمتروك على البضاعة التي يحرسها له ينبغي أن ينبهه على أمر
الصلاة لئلاَّ يكون هو سببًا في تركه للصلاة وإن كان لا يصلي ينبهه على عظمها وخطورة تضييعها، فإن كان يصلي فعلى الأقل أن يصلي بالتناوب معه إذ ما لا يدرك كلّه لا يترك جلّه.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
الجزائر في: 14 رمضان 1426ه
الموافق ل: 17 أكتوبر2005م
__________
1- أخرجه أبو داود في الصلاة (428)، والبيهقي(2277)، من حديث فضالة الليثي رضي الله عنه. وصححه الألباني في صحيح الجامع (3122)، وفي السلسلة الصحيحة (1813).(4/63)
الفتوى رقم: 316
في حكم الصلاة وراء إمام يأتي بأوراد تيجانية
السؤال: عندنا إمام يأتي بأوراد تيجانية بعد صلاة العصر يوم الجمعة، ويأتي بصلاة الفاتح ظهر الجمعة أيضا، وليس لنا مسجد آخر نذهب إليه في الحي الذي نسكنه والإخوة السلفيين قلة ليست لهم كلمة تسمع، هل تجوز الصلاة خلف هذا الإمام؟
الجواب: الحمد لله والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وآله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أما بعد:
فتختلف صحة الصلاة وبطلانها باختلاف حكم الإمام فإن كان يعتقد الطريقة التيجانية اعتقادًا تصوفيًّا شِركيًّا كطوافه بالضريح والدعاء إليه والذبح له والقيام بالحضرات والمدائح الشركية وغيرها من الأمور المنكرة فلا شك أنَّ الصلاة وراءه لا تصحُّ لأنَّ هذه الصفات تناقض التوحيد من كل وجه(1)، أمَّا إذا كان يذكر هذه الكلمات الشركية تقليدًا لا يدري معناها، ولم يلتزم الطريقة التي يلتزمها التيجانيون، ولا يحمل عقيدتهم، فالصلاة في نفسه تصحُّ وصلاة المأموم وراءه تصحُّ أيضا، والواجب اتجاهه تقديم النصيحة له بالالتزام بالتوحيد الخالص وترك أعمال الجاهلية، والاستقامة على الدين، فإن أبى وظلَّ متمسكًا بما هو عليه فلا يصلى خلفه، ويسعى إلى الصلاة في مسجد سني تقام فيه الجماعة.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
الجزائر في: شوال 1426ه
الموافق ل: نوفمبر 2006م
__________
1- وقد أفتت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بعدم صحة الصلاة خلف من يعتقد العقيدة التيجانية لأنها عقيدة كفر وضلال. (انظر: فتاوى اللجنة الدائمة جمع وترتيب الدويش: 7/362.)(4/64)
الفتوى رقم: 413
في التوفيق بين العمل وصلاة الجماعة
السؤال: كيف يمكن التوفيق بين العمل وصلاة الجماعة؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وآله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين ، أمَّا بعد:
فصلاة الجماعة واجبة على أرجح أقوال العلماء، وهي حق من حقوق الله، ولا يجوز أن يكون العمل عائقا على أدائها في المسجد ومع الجماعة إلاَّ إذا وُجِد عذر من مرض أو خوف، كما يجوز التخلف عن صلاة الجماعة لشغل أو حرج كما ورد في حديث فضالة الليثي رضي الله عنه قَالَ: عَلَّمَنِى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَانَ فِيمَا عَلَّمَنِى «وَحَافِظْ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ ». قَالَ: قُلْتُ: إِنَّ هَذِهِ سَاعَاتٌ لِى فِيهَا أَشْغَالٌ فَمُرْنِى بِأَمْرٍ جَامِعٍ إِذَا أَنَا فَعَلْتُهُ أَجْزَأَ عَنِّى فَقَالَ «حَافِظْ عَلَى الْعَصْرَيْنِ ». وَمَا كَانَتْ مِنْ لُغَتِنَا فَقُلْتُ: وَمَا الْعَصْرَانِ فَقَالَ:« صَلاَةٌ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَصَلاَةٌ قَبْلَ غُرُوبِها »"(1)، وكنزول المطر أو وجود الوحل وما إلى ذلك ومع هذه إذا أمكنه أن يصلي جماعة في بيته أو محل شغله فليفعل وإذا تعذر عليه ذلك -وهو حريص على إقامتها في الجماعة- فأقامها منفردا للعذر أجزأته جماعة إن شاء الله تعالى، لأنّ المرء يبلغ بنيته ما لا يبلغه بعمله.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 1 ربيع الثاني 1427ه
الموافق لـ: 29 أبريل 2006م
__________
1- أخرجه أبو داود في الصلاة (428)، وأحمد (19540)، والبيهقي (2277)، من حديث فضالة الليثي رضي الله عنه، والحديث صححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1813)، وصحيح الجامع (3122).(4/65)
الفتوى رقم: 427
في حكم قراءة المأموم للفاتحة خلف الإمام في الجهرية
السؤال: ما حكم قراءة المأموم سورة الفاتحة خلف الإمام في الصلاة الجهرية؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فالقراءة خلف الإمام في الجهرية من الصلوات،كانت مشروعة في بداية الأمر، ثم ورد النهي عن جميعها وانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما جهر فيه، وقرؤوا في أنفسهم فيما لا يجهر فيه الإمام(1)، فالحكم إذن سقوط القراءة عن المأموم ووجوب الاستماع والإنصات في الصلاة الجهرية استثناء وتخصيصا عن الأصل في أنه لا تصح إلاَّ بقراءة سورة الفاتحة في كلِّ ركعة من ركعات الفرض والنفل، لقوله تعالى: ?وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ? [الأعراف: 204] فالآية دالة على وجوب الإنصات عند قراءة القرآن بعمومها الشامل لقراءة الفاتحة وغيرها، داخل الصلاة أو خارجها، كما يشهد الاكتفاء بقراءة الإمام ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:" مَنْ كَانَ لَهُ إِمَامٌ فَقِرَاءَةُ الإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ"(2) فكان الإنصات والاستماع إليه من تمام الاقتداء به فقد قال عليه الصلاة والسلام:" إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا"(3)، ثم إن وجبت القراءة عليه مع العلم بعدم ثبوت سكتة الإمام بعد انتهاء الفاتحة التي لا تلزمه حالتئذ، فمتى يقرأ؟ وهل يتابع الإمام في القراءة وينازعه فيها؟ وقد ورد النَّهي عن ذلك، وعليه يتبين أنه لا سبيل إلى القراءة في الصلاة الجهرية مع الإمام وهو مذهب الأئمة مالك وأحمد، وهو مروي عن الزهري وابن المبارك ونصره شيخ الإسلام ابن تيمية للأدلة السابقة من الكتاب والسنة، والجمع بين ما كان ظاهرها التعارض فضلاً عن تعضيد عمل أهل المدينة له، فلم يسع المأموم سوى قراءة القلب بالتدبر والتفكر.
هذا، ويجب التنبيه إلى وجوب القراءة في الصلاة السرِّية للأصل المتقدم المبني على عموم الأخبار الواردة في هذا الشأن، وكذلك تجب القراءة في الصلاة الجهرية إذا تعذَّر على المأموم الاستماع إلى الإمام.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 7 ربيع الثاني 1427ه
الموافق ل: 6 مايو 2006م
__________
1- أخرجه البخاري في جزء "القراءة خلف الإمام" (68)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الألباني في صفة الصلاة(99).
2- أخرجه ابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها (899)، وأحمد (15019)، والدارقطني (1246)، والبيهقي (3013)، من حديث جابر رضي الله عنه. وحسنه الألباني في الإرواء (500).
3- أخرجه مسلم في الصلاة(932)، وأبو داود في الصلاة (604)، والنسائي في الافتتاح (929)، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها (895)، وأحمد (9678)، والدارقطني (1257)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(4/66)
الفتوى رقم: 518
في الأماكن المشروعة لصلاة الجماعة
السؤال: ما حكم صلاة الجمعة في مسجد يصلى فيه الصلوات الخمس المفروضة علما أن ذلك المسجد داخل شركة خاصة أعمل فيها؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فالجمعة تصلح تأديتها في جميع الأماكن سواء في مصر أو قرية أو مسجد أو أبنية بلد أو الفضاء التابع لها، فالجمعة من جنس الصلوات إجماعا لا تختص بحكم يخالف غيرها إلا بدليل، وقد ثبت قوله صلى الله عليه وآله وسلم:« وَجُعِلَت لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا "(1)، وقد كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أهل البحرين:" أَنْ جَمّعُوا حَيْثُمَا شئْتُمْ " (2) وهو شامل لكل الأماكن حتى أهل المياه على نحو ما صح الأثر عن أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
هذا، والمعلوم أن الجمعة لم تكن تصلى في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم والخلفاء الراشدين إلا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتعطل بقية المساجد والمصليات، لغرض الاجتماع والتآلف على إمام واحد، لذلك كانت السنة في الجمعة أن لا تعدد في البلد الواحد إلا للحاجة الشرعية كالمشقة والحرج والبعد أو اكتظاظ المسجد وعدم اتساعه لعدد المصلين وما إلى ذلك، وأما تكثير الجمع في أحياء متقاربة وفي مساجد صغيرة ضيقة التي يمكن الاستغناء عنها بالمساجد الواسعة الكبيرة، فإن مثل هذا الإكثار مخالف للهدي ومخرج للجمعة عن موضوعها(3).
وجدير بالتنبيه إلى أنّه: إذا كانت الجهات المسئولة والأمنية في الدولة لا تجيز إقامة الجمعات إلاّ بترخيص منها، فعلى المسؤولين داخل المؤسسة أو الشركة-إذا كانت الحاجة قائمة- أن يطلبوا الرخصة من الجهة المعنية تفاديا لكل مفسدة وتجاوبا مع التنظيم العام.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
الجزائر في: 25 من ذي الحجة1421هـ
الموافق لـ: 21مارس2001م
__________
1- أخرجه البخاري في التيمم (328)، والنسائي في الغسل (432)، والدارمي في الصلاة (1361)، والبيهقي (958)، من حديث جابر رضي الله عنه.
2- أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف"(5068) باب من كان يرى الجمعة في القرى وغيرها، قال ابن حجر في"فتح الباري"(2/467):" صححه ابن خزيمة"، وقال الألباني في الضعيفة (2/318):" إسناده صحيح على شرط الشيخين"، وانظر "الإرواء" (3/66).
3- انظر "المغني" لابن قدامة: 2/324، "مجموع الفتاوى" لابن تيمية: 24/208، "إصلاح المساجد" للقاسمي: 60-62.(4/67)
الفتوى رقم: 665
في حكم صلاة المأموم المتقدّم على إمامه عند الضرورة
السؤال:
يضيقُ المسجد برُوَّادِهِ في صلاة الجمعة، مما يجعل بعضَهم يؤدِّي الصلاةَ في الطريقِ خارجَ ساحةِ المسجدِ، وبالتالي يتقدّمون على الإمام، فما حكم صلاتهم؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالأصلُ في صلاة الجماعة أَنْ يقفَ المأمومُ خَلْفَ الإمام ولا يتقدّمَ عليه، فهذه هي السُّنَّةُ الثابتةُ، فَإِنْ وقفوا قُدّامَهُ لَمْ تَصِحَّ صلاتُهم عند الجمهور، وبهذا قال أبو حنيفةَ والشافعيُّ والحنابلةُ، خلافًا لِمالكٍ وإسحاقَ؛ لأنه لم يُنْقَلْ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم ولا عن الخلفاءِ مِنْ بعدِه تجويزُ صلاةِ المأمومِ السابق لإمامه في المكان لا قولاً ولا فعلاً، بل المأمومُ يحتاجُ إلى الاقتداء بأفعال الإمامِ لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ »(1)، الأمر الذي يستدعي الالتفات إلى وارئه، فلم يصحَّ كما لو صَلَّى في بيته بصلاة الإمام.
غير أنّ هذا الحكم يتعلّق بحالة سِعة المسجد أو عدمِ اكتظاظه بالمصلِّين، أو وجود أماكنَ للصلاة خارج المسجد خلفه أو على جانبيه، فَإِنْ ضاقَ المسجدُ بالمصلِّين ولم يَسَعْهُمْ أماكنُ الصلاةِ إلاّ الوقوف قُدَّامَهُ مع إمكان الاقتداء به من غيرِ التفاتٍ؛ فإنّ الصلاة تصحُّ لكونها أشبه بمن صَلَّى خلفه، عملاً بقوله تعالى: ?لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا? [البقرة: 286]، وبقوله تعالى:( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ )[الحج: 78]، وبقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ »(2)، وهذه النصوص شواهدُ على أنّ «الأَمْرَ إِذَا ضَاقَ اتَّسَعَ ».
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 13 ربيع الثاني 1428ه
الموافق ل: 1 ماي 2007م
__________
1- أخرجه البخاري في «الأذان »: (722)، ومسلم في «الصلاة »: (935)، وأحمد: (8379)، والدارقطني: (1259)، والبيهقي: (2379)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2- متفق عليه: أخرجه البخاري في «الاعتصام بالكتاب والسنة »: (6885)، ومسلم في «الحج »: (1337) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .(4/68)
الفتوى رقم: 671
في حكم الصلاة في صفوفٍ مستويةٍ ومُتَراصَّةٍ غيرِ مكتملةِ الجوانبِ
السؤال:
لمسجدنا مدخلان: أحدُهما على اليمين والآخرُ على الشمال، فإذا دخل بعضُ المسبوقين إلى المسجد يعمِدُون إلى إنشاء صفٍّ جديد، وقد تكون الصفوف الأولى غيرَ مكتملةِ الجوانبِ من جهة الباب الآخر، على أساسِ أن يأتي المسبوقون من الجهة الأخرى فيُكْمِلُونَ ما تبقَّى من الصفِّ، وقد تُقْضَى الصلاةُ والصفوف غيرُ مكتملةِ الأطرافِ، فما حكمُ صلاتهم؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فإذا تُرِكَ مجالٌ للمسبوقين للدخول إلى المسجد يمينًا أو شمالاً من غيرِ اكتمالِ جانِبَيِ الصفوفِ فضلاً عن كون الصفِّ الأخيرِ غير مكتمل الجانبين، أي: لم يلتصق بجدار المسجد فإنّ الصلاة صحيحةٌ إذا كانت الصفوفُ متّصلةً متراصّةً مستويةً؛ لأمره صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قال:« أَقِيمُوا الصُّفُوفَ، وَحَاذُوا بَيْنَ المَنَاكِبِ، وَسُدُّوا الخَلَلَ، وَلاَ تَذَرُوا فُرُجَاتٍ لِلشَّيْطَانِ، مَنْ وَصَلَ صَفًّا وَصَلَهُ اللهُ، وَمَنْ قَطَعَ صَفًّا قَطَعَهُ اللهُ »(1)، ويُؤجرُ الثواب الجزيل كلّ من عمل على سدّ فُرجة في الصّف أو إتمام جزء من طرفي الصفّ غير المكتمل، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الَّذِينَ يَصِلُونَ الصُّفُوفَ »(2)، وقولِه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« خِيَارُكُمْ أَلْيَنُكُمْ مَنَاكِب فِي الصَّلاَةِ، وَمَا مِنْ خُطْوَةٍ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ خُطْوَةٍ مَشَاهَا رَجُلٌ إِلَى فُرْجَةٍ فِي الصَّفِّ فَسَدَّهَا »(3).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 17 ربيع الثاني: 1428ه
الموافق ل: 5 ماي 2007م
__________
1- أخرجه أبو داود في «الصلاة »: (666)، وأحمد: (5691)، والبيهقي: (5288)، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. والحديث صححه النووي في «الخلاصة »: (2/707)، وأحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد »: (8/82)، والألباني في «صحيح الجامع »: (1187).
2- أخرجه ابن ماجه في «الصلاة »: (995)، وابن حبان: (2163)، وابن خزيمة: (1550)، والحاكم في «المستدرك »: (775)، وأحمد: (23860)، والبيهقي: (5301)، والألباني في «السلسلة الصحيحة »: (2234)، وفي «صحيح الجامع »: (1843).
3- أخرجه الطبراني في «المعجم الأوسط »: (1/32/2)، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. وصححه الألباني في «السلسلة الصحيحة »: (2533).(4/69)
الفتوى رقم: 679
في حكم إنشاء صف وراء صف مقطَّع
السؤال:
من دخل المسجدَ مسبوقًا فوجد أصحابَ الصَّفِّ الأخير يُصلُّون بين السواري -وفي المسجد متَّسع- فهل يدخل معهم أو ينشئ صفًّا جديدًا فيصلي منفردًا؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَن أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِهِ إلى يوم الدِّين، أمّا بعدُ:
فقد وَرَدَ النهيُ عن إقامة الصفِّ بين السواري، فعن قُرَّةَ بنِ إياسٍ رضي الله عنه قال:« كُنَّا نُنْهَى أَنْ نَصُفَّ بَيْنَ السَّوَارِي عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَنُطْرَدُ عَنْهَا طَرْدًا »(1)، وعِلَّةُ النهي الانقطاعُ، فإذا خلا الصفّ من انقطاعٍ كالصفِّ الصغير الذي يكون قدر ما بين السَّارِيَتَيْنِ لم يُكْرَه، وكذلك وقوف الإمام بين ساريتين لا يَضُرُّ؛ لأنَّ النبيَّ صَلَّى الله عليه وآله وسَلَّم صَلَّى في الكعبة بين سواريها(2)، وهذا النهي إنما يتعلَّق بما إذا كان في المسجد سَعَة، فإِنْ ضاق بأهله ولم يجد مكانًا إِلاَّ بين السواري فلا بأس بالصلاة فيه جَرْيًا على قاعدة:« إِذَا ضَاقَ الأَمْرُ اتَّسَعَ »، و«المَشَقَّةُ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ »، وقد نقل ابنُ العربي المالكي عَدَمَ اختلافِ العلماءِ في جوازه عند الضيق(3). غير أنّ أفضليةَ الصفّ غيرِ المقطوعِ تبقى قائمةً ولو ضاقَ المسجدُ؛ لأنّ الجوازَ لا ينافي الأفضليةَ.
وعليه، فَإِنْ رأى المسبوقُ -في مسجد واسع- الصفَّ منقطِعًا وأمكن إحداثُ صفٍّ آخرَ بمن معه أو يعلم أنّ المسبوقين مثلَه يلتحقون بصفِّه جاز له ذلك اتقاءً للنهي واستبراءً لدينه، أمَّا إذا غلب على ظَنِّه أنه يُصَلِّي خلفَ الصفِّ المقطّع لوحده بحيث لا يصطفُّ غيرُه معه وخاصّة عند انتهاء صلاة الإمام فعليه أن يعدل عنه لحديث علي بن شيبان رضي الله عنه أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وآله وسَلَّمَ رأى رجلاً صَلَّى وحدَه خَلْفَ الصَّفِّ فقال له:« أَعِدْ صَلاَتَكَ فَإِنَّهُ لاَ صَلاَةَ لفَرْدٍ خَلْفَ الصَّفِ »(4)، ويلزمه الالتحاقُ بالصفِّ المقطّع اضطرارًا لصحّةِ صلاةِ غيرِ المنفردِ ولو مع قطع الصفِّ دون المنفرد عملاً بأهون الشَّرَّيْنِ وأخفِّ المفسدتين، وجزاء النهي يترتّب على المتسبِّب في قطع الصفوف لقوله صَلَّى الله عليه وآله وسَلَّم:« مَنْ قَطَعَ صَفًَّا قِطْعَةً قَطَعَهُ اللهُ »(5).
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيّنا محمّد، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 12 محرم 1428ه
الموافق ل: 31 يناير 2007م
__________
1- أخرجه ابن ماجه في «إقامة الصلاة »: (1002)، وابن حبان: (2177)، والحاكم: (819)، والبيهقي: (5244)، من حديث معاوية بن قرة رضي الله عنه، وحسنه الألباني في «السلسلة الصحيحة »: (355).
2- أخرجه البخاري في «الصلاة »: (483)، ومسلم في «الحج »: (3230)، وأبو داود في «المناسك »: (2023)، والنسائي في «القبلة »: (749)، وأحمد: (5891)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
3- عارضة الأحوذي: (2/28).
4- أخرجه ابن ماجه في «إقامة الصلاة »: (1003)، وابن حبان في «صحيحه »: (2202)، وابن خزيمة في «صحيحه »: (1569)، وأحمد: (16735)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (4995)، من حديث علي بن شيبان بن محرز اليمامي رضي الله عنه. والحديث حسنه ابن كثير في «إرشاد الفقيه »: (1/176)، و صححه ابن القيم في «أعلام الموقعين »:(2/259)، والألباني في «الإرواء »: (2/329).
5- أخرجه أبو داود في «الصلاة » (666)، والنسائي في «الإمامة » (819)، وابن خزيمة (1549)، وأحمد (5691)، والبيهقي (5288)، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، والحديث صححه النووي في «الخلاصة » (2/707)، وأحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد » (8/82)، والألباني في «السلسلة الصحيحة »(6/76).(4/70)
الفتوى رقم: 681
مقدار مسافة السترة المتاحة للمسبوق
السؤال:
كم هي المسافة التي يستطيعُ أن يخطوَها المسبوقُ لِيَدنُوَ من السُّترةِ؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فالسنّةُ أَنَّ المصليَّ يَتَّخِذُ سُتْرَةً يُصَلِّي إليها لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« لاَ تُصَلِّ إِلاَّ إِلَى سُتْرَةٍ… »(1) وفي حديثٍ آخرَ:« إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيُصَلِّ إِلَى سُتْرَةٍ وَلْيَدْنُ مِنْهَا… »(2).
وهذا الحكمُ خاصٌّ بالإمام والمنفردِ، أمّا المأمومُ فسترةُ الإمامِ له سترةٌ، فلا يَضُرُّهُ من مرَّ بين يديه لحديث ابنِ عباس رضي الله عنهما قال:« جِئْتُ أَنَا وَالفَضْلُ عَلَى أَتَانٍ، وَرَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِعَرَفَةَ، فَمَرَرْنَا عَلَى بَعْضِ الصَّفِّ، فَنَزَلْنَا فَتَرَكْنَاهَا تَرْتَعُ… »(3)، وفي روايةٍ:« أنَّ الأَتَانَ مَرَّتْ بَيْنَ بَعْضِ الصَّفِّ الأَوَّلِ »(4).
هذا، والمسبوقُ بعد انصراف إمامِه من الصلاة لا يبقى مأمومًا، وإنما يَصِيرُ منفردًا، ويُستحبُّ له أن ينحازَ إلى سترةٍ تَقْرُبُ منه يمينًا أو شمالاً، أو إلى الخلفِ يُقَهْقِرُ قليلاً، أمَّا إن كان بعيدًا أقام وحاول دَرْءَ المَارِّ ما أمكن، وبهذا قال مالكٌ وغيرُه.
أمَّا ضابطُ القُرْبِ من السترة التي يريد الانحيازَ إليها والدُّنُوَّ منها فهي في تقديري لا تعدو أربعةَ أمتارٍ تقريبًا؛« لأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السُّتْرَةِ ثَلاَثَةُ أَذْرُعٍ »(5)، و« كَانَ إِذَا صَلَّى وَجَاءَتْ شَاةٌ تَسْعَى بَيْنَ يَدَيْهِ فَسَاعَاهَا -أَيْ: سَابَقَهَا- حَتَّى أَلْزَقَ بَطْنَهُ بِالحَائِطِ وَمَرَّتْ مِنْ وَرَائِهِ »(6).
والذِّرَاعُ مِقْيَاسٌ، أَشْهَرُ أَنْوَاعِهِ: الذراع الهاشمية ، وهي تمثل: اثنين وثلاثين إِصبعًا، أي: ما يساوي أربعةً وستين سنتمترًا، فإذا ضربت الذراع في سِتَّةٍ ذهابًا وإيابًا تحصَّلت على مسافة ثلاثة أمتار وأربعة وثمانين سنتمترًا. أي: أربعة أمتار تقريبًا. وعليه، يتقرَّر ضابطُ القرب للمصلي المسبوقِ ودنوِّه من السترة.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزار في 12 محرّم 1428ه
الموافق ل: 31 يناير 2007م
__________
1- أخرجه ابن حبان في «صحيحه »: (2362)، وابن خزيمة في «صحيحه »: (820)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. والحديث صححه الألباني «صفة الصلاة »: (82).
2- أخرجه أبو داود في «الصلاة »: (698)، وابن ماجه في «إقامة الصلاة والسنة فيها »: (1007)، والبيهقي: (3580)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. والحديث صححه النووي في «الخلاصة »: (1/518)، والألباني في «صحيح الجامع »: (641).
3- أخرجه البخاري في «العلم »: (76)، ومسلم في «الصلاة »: (1124)، وأبو داود في «الصلاة »: (715)، والنسائي في «القبلة »: (752)، وابن ماجه في «إقامة الصلاة »: (947)، وأحمد: (1894)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
4- أخرجه البخاري في «جزاء الصيد »: (1758)، وأحمد: (2372)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
5- أخرجه البخاري في «الصلاة »: (500)، وأبو داود في «المناسك »: (2024)، والنسائي في «القبلة »: (749)، وأحمد:( 5910)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
6- أخرجه ابن خزيمة:« في صحيحه »: (2371)، والحاكم في «المستدرك »: (934)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. والحديث صححه الألباني في «صفة الصلاة »: (83)، والوادعي في «الصحيح المسند »: (622).(4/71)
الفتوى رقم: 787
في أفضلية صفوف النساء إذا صلين لوحدهن
السؤال:
إذا أقامت النساءُ جماعةً لوحدهنَّ، فهل تبقى أفضليةُ الصف الأخير في حقهنَّ قائمة؟ أم يصبح الصفُّ الأول فاضلاً؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فالحديثُ الوارد في بيان صفوفِ النساءِ أنَّ خَيْرَهَا آخرُها لكثرة الثواب والفضلِ والبعدِ عن مخالطة الرجال، وذُمَّ أوَّلها لعكس، ذلك فإنَّ الظاهرَ منه بقاءُ عمومِه إذا صَلَّيْنَ مع الرِّجال سواء مع وجود حائلٍ يُفصلُ بين النساء والرجال أو مع انعدامه.
أمَّا إذا صَلَّيْنَ لوحدهنَّ متميِّزاتٍ من غير وجود الرجال معهنَّ، فإنَّ خيريةَ الصفوفِ من شرِّها تأتي موافِقةً للرجال في الحُكم ومطابقةً لهم من حيث كثرةُ ثوابِ الصفوف الأولى وقِلة فضل الأخيرة، ويَدلُّ على أنَّ الخيريةَ والأفضليةَ لا تخرج عن الصفوف الأولى كون المرأة إذا أَمَّتِ النساءَ تقوم بَينهُنَّ في وسطهن من الصف الأول، ثمّ تليها الصفوف الأخرى من جهة الثواب والأفضلية، وقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها «أَنَّهَا أَمَّّتْ نِسْوَةً فِي المَكْتُوبَةِ فَأَمَّتْهُنَّ بَيْنَهُنَّ وَسَطًا »(1)، وكذلك أُمُّ سلمةَ رضي الله عنها في صلاة العصر قامت بينهنَّ(2).
قال النووي -رحمه الله-:« أَمَّا صفوفُ الرِّجال فهي على عمومها فخيرها أولها أبدًا وشرُّها آخرها أبدًا، أمَّا صفوفُ النساء فالمراد بالحديث صفوف النساء اللواتي يُصلِّينَ مع الرِّجال، وأمَّا إذا صَلَّينَ متميِّزات لا مع الرجال فهنَّ كالرجال خير صفوفهنَّ أوَّلها وشرُّها آخرها. والمراد بشرِّ الصفوف في الرجال والنساء أقلّها ثوابًا وفضلاً وأبعدها من مطلوب الشرع، وخيرها بعكسه، وإنما فضل آخر صفوف النساء الحاضرات مع الرجال لبعدهِنَّ من مخالطة الرجال ورؤيتهم وتعلق القلب بهم عند رؤية حركاتهم وسماع كلامهم ونحو ذلك، وذم أول صفوفهن لعكس ذلك »(3).
قلت: ومعنى تعليل النووي بأنَّ شرَّ صفوف النساء فلأجل قُربهنَّ من الرجال على وجه المخالطة والفتنة، وهذا التعليل -وإن كانت له وجاهته- إلاَّ أنّه قد يعكِّر عليه عدم سدِّه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم لذريعة المخالطة والفتنة في المسجد بوضع حائل يفصل بين صفوف الرجال والنساء قطعًا للمخالطة والفتنة، ولما كان النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قد أَدَّى أمانة الدعوة والتبليغ خير أداء، وقام بواجب نصح الأُمّة أتمَّ القيام فلم يترك أمرًا من أمور الدين صغيرًا كان أو كبيرًا إلاّ بلغه لأمته، قال تعالى: ?يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ? [المائدة: 67].
وعليه، فإنّ هذه المسألة لا تخرج عن أمرين:
- إمَّا أن يكون النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم رأى مصلحةً غالبةً في عدم وضع حائلٍ فاصلٍ بين الذكور والإناث على مفسدة المخالطة والفتنة.
- وإمّا أن يكون ورد الحكم تعبّدًا لحكمة يعلمها الله تعالى، وغابت عن عقولنا القاصرة.
والأسلم في ذلك العمل بالنصّ الوارد في خير صفوف الرجال وشرّ صفوف النساء إذا صلين مع الرجال مطلقًا سواء بوجود حائل فاصل أو مع عدم وجوده. بخلاف ما إذا صلين متميّزات لوحدهنّ فإنّ حكمَ صفوفهنّ كصفوف الرجال.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في 18 شعبان 1426ه
الموافقل: 2 أكتوبر 2005م
__________
1- أخرجه الحاكم في «المستدرك »: (731)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (5393)، وابن أبي شيبة في «المصنف »: (4945)، وعبد الرزاق في «المصنف »: (5083).
2- أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف »: (4944)، وعبد الرزاق في «المصنف »: (5079)، والأثران صححهما النووي في «الخلاصة »: (2/679)، ووافقه الزيلعي في «نصب الراية »: (2/31)، وسكت عنهما الحافظ في «تلخيص الحبير »: (2/90-91)، وقواهما الألباني في «تمام المنة »: (153).
3- «شرح مسلم » للنووي: (4/159-160).(4/72)
05- المساجد
الفتوى رقم: 9
استعارة المصحف من المسجد
السؤال: الحمد لله و الصلاة و السلام على من لا نبي بعده وبعد:
شاب ليس له مصحف في المنزل، وهو بحاجة ماسة له ولا تتوفر لديه الإمكانيات لكي يشتري مصحفا، ففي هذه الحالة هل بإمكانه استعارة مصحف من المسجد لمدة معينة ؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فتجوز إعارة المصحف لمن احتاج إلى القراءة فيه و لم يجد مصحفا غيره، بل ما عليه الفتوى عند الحنابلة وجوب الإعارة ، لأنه على وفق مقصود الواقف، ولأن الحاجة تدعو إلى الانتفاع به ولا ضرر في بذله لتيسيره وكثرة وجوده، والاستعارة إلى البيت لا تزيل وقفيته - كما لا يخفى - إذ ليست الاستعارة في معنى البيع أو الهبة أو الإرث حتى يتقرر المنع بحديث ابن عمر في قوله صلى الله عليه و سلم " لا يباع أصلها ولا يوهب ولا يورث "(1)، لأن هذه المذكورات تصرفات تزيل وقفيته وبالتالي الغرض الذي أنشئ من أجله الوقف.
هذا وعلى أمين المسجد المعير أن يتصرف مع المستعير في الحدود و القيود التي تحول دون تعطل منافع الوقف وعلى المستعير رده بعد اكتفاء نفعها لقوله تعالى: ?إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا?[النساء:58] و في الحديث " أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك"(2) وفي قوله صلى الله عليه وسلم أيضا :" العارية مؤداة "(3) علما بأن للأمين المعير أن يسترد المصحف متى شاء ما لم يسبب ضررا للمستعير؛
والله أعلم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.
__________
1- رواه البخاري كتاب الوصايا باب الوقف كيف يكتب(2772)، ومسلم كتاب الوصية باب الوقف(4311) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
2- رواه الترمذي كتاب البيوع (1264)، و أبو داودكتاب الإجارة ، باب في الرجل يأخذ حقه من تحت يده (3535)، والدارمي كتاب البيوع باب في أداء الأمانة واجتناب الخيانة. والحديث صححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم (424).
3- رواه أبو داود كتاب الإجارة باب في تضمين العارية(3567) ، والترمذي كتاب البيوع باب ما جاء في أنّ العارية مؤداة(1312)، وابن ماجة كتاب الصدقات باب العارية(2489)، وأحمد(5/267) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، وانظر الإرواء(5/245).(4/73)
الفتوى رقم: 43
استبدال الوقف
السؤال: شاب لديه مصحف في البيت ولكن برواية "ورش" وهو بحاجة لمصحف برواية "حفص" فهل بإمكانه استبدال مصحف بمصحف آخر؟ نرجو التفصيل وجزاكم الله خيرا.
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فإبدال المصحف بمثله أو بخير منه جائز إذا كان الإبدال للحاجة أو للمصلحة الراجحة وبه قال أحمد وغيره من العلماء وهو مذهب ابن تيمية خلافا لمالك والشافعي، وتشهد للأول النصوص والآثار والقياس الصحيح، فمن ذلك ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة :" يا عائشة لولا أنّ قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض وجعلت لها بابين بابا شرقيا وبابا غربيا وزدت فيها ستة أذرع من الحجر"(1) إذ لولا المعارض الراجح لغيّر النبي صلى الله عليه وسلم بناء الكعبة، ولذلك يجوز تغيير الوقف من صورة إلى أخرى لأجل المصلحة الراجحة ومن الآثار فعل عمر وعثمان - رضي الله عنهما - إذ بنيا مسجد النبي صلى الله عليه وسلم على غير بنائه الأول وزادا فيه.
وعليه فإذا كان المصحف الموقوف متعطل المنفعة أو مهملا بحيث أن أهل البلد يفضلون رواية "ورش عن نافع" على "حفص عن عاصم" كما هو شأن أهل المغرب أو لكون الموقوف ممزق الأوراق أو حبيس الرفوف غير متماسك أو نحو ذلك فيجوز إبداله بغيره أو بخير منه.
والله أعلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين وسلم تسليما.
الجزائر في : 7 ذو الحجة 1417 هـ .
الموافق لـ: 14 أفريل 1997 م .
__________
1- رواه مسلم كتاب الحج (3308) من حديث عائشة رضي الله عنها.(4/74)
الفتوى رقم: 49
المحراب والمقصورة
السؤال: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلّم, أمّا بعد:
فضيلة الشيخ لقد تقرر عندنا أنّ المحراب بدعة محدثة, لكن السؤال الذي يطرح نفسه أنّ النّاس الآن يقولون: إنّنا نبني المقصورة, ومعلوم أنّ المحراب لا يتمّ إلاّ ببناء المقصورة على الغالب, والقاعدة "ما أدى إلى حرام فهو حرام" و "ما لا يتمّ ترك الحرام إلاّ به فهو واجب" فهل نقول إنّ بناء المقصورة الآن محرم لغيره ؟ أفتونا مأجورين، جزاكم الله خيرا.
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فعطفا على ما تقدم من أنّ إحداث المحراب أمر لم يكن عليه سلف الأمة, وكلّ طريق أو وسيلة مؤدية إلى تحقيقه فإن كانت مقصودة بالفعل من أجل غرض بدعي فحيلة محذورة شرعا, لأنّ حكم الوسيلة لها حكم الغاية, والنهي عن الشيء يقتضي النهي عن جميع لوازمه وأجزائه كما تقرر في علم القواعد.
أمّا إن بنيت المقصورة ولم يكن القائم بها له غرض ومقصد من ورائها سوى الحاجة والمصلحة المقتضية لها, فإن كانت موجودة فلا يجوز إحداث مقصورة أخرى لأنّه يؤدي إلى تضييق المسجد على المصلّين يوم اجتماع النّاس،فضلا عن كونها زيادة عن الحاجة, فيكون من قبيل تحصيل الحاصل, وتحصيله محال, أمّا إن انعدمت فإقامتها من غير ذلك المقصد السابق فتشرع في الحدود التي تلبي حاجيات أهل المسجد، والمقصورة معدودة من المسجد لكونها من توابع المسجد المتصلة به اتصال قرار، هذا كلّه مبني عل المقاصد والنيات عملا بقوله صلى الله عليه وسلم "إنّما الأعمال بالنيات وإنّما لكلّ امرئ ما نوى"(1) فإن نوى التدرع بالمقصورة للوصول إلى ما لا يرضاه الشرع فإثمه عليه، والأمور بمقاصدها كما تأصّل في قواعد الفقه.
والله أعلم بالصواب وفوق كلّ ذي علم عليم وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 20 ربيع الثاني 1418ه
الموافق لـ : 25 أوت 1997م
__________
1- أخرجه البخاري في بدء الوحي رقم(1)، ومسلم في الإمارة رقم(5036)، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.(4/75)
الفتوى رقم: 50
إلقاء السلام على المصلين في المسجد
السؤال: هل يجوز إلقاء السلام على المصلين في المسجد وهم يصلّون صلاة الجماعة وهل هذا جائز في صلاة النفل والفرض؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فإذا حملت رواية أبي هريرة رضي الله عنه عند أبي داود على نصب لفظة "تسليم" في قوله صلى الله عليه وسلم :"لا غِرارَ في صلاة ولا تسليمَ"(1) يكون ذلك اللفظ معطوفا على لفظ "غرار" ومعناه، لا نقص ولا تسليم في الصلاة لورود النهي عن الكلام في الصلاة بغير كلامها، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم :"إنّ الله عزّ وجلّ يُحدث من أمره ما يشاء، وإنّ الله تعالى قد أحدث من أمره أن لا تكلَّموا في الصلاة، فردَّ عليّ السلام"(2).
غير أنّ المعهود أصوليا أنّ النكرة في سياق النهي تفيد العموم، ويقتضي ذلك تناول تسليم المصلّي على المصلّي، وردّ المصلّي على من سلّم عليه، كما يشمل غير المصلّي على المصلّي كما هو ظاهر من تفسير الإمام أحمد لهذا الحديث بقوله:"أن لا تسلِّم ولا يُسلًَّم عليك.."(3) لكن هذا العموم غير مراد لقيام دليل تخصيص صورة تسليم غير المصلّي على المصلّي بالإقرار، وردّ المصلّي عليه بالإشارة من فعله صلى الله عليه وسلم، وذلك في عدّة أحاديث منها حديث ابن عمر رضي الله عنه قال:"خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قُباء يصلي فيه، قال: فجاءته الأنصار فسلَّموا عليه وهو يصلي، قال: فقلت لبلال: كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يردُّ عليهم حين كانوا يسلمون عليه وهو يصلي؟ قال: يقول، هكذا، وبسط كفه، وبسط جعفر بن عون كفه وجعل بطنه أسفل، وجعل ظهره إلى فوق"(4) وفي حديث آخر عن صهيب أنّه قال:"مررت برسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو يصلي- فسلّمت عليه فردّ إشارة، قال: ولا أعلمه إلا قال: إشارة بإصبعه"(5).
ففي هذه الأحاديث دليل على جواز تسليم غير المصلّي على المصلّي حيث أنّ الصحابة رضي الله عنهم سلّموا عليه من غير نكير منه، بل وافقهم عليه بأن ردَّ السلام بالإشارة، ولا يُقال عن هذه الأحاديث أنّها خاصة بالنفل دون الفرض لورود العموم في لفظ "الصلاة" عند قوله صلى الله عليه وسلم :"إنّ في الصلاة لشغلا"(6) وقوله صلى الله عليه وسلم :"لا تكلموا في الصلاة"(7)، وهو شامل للنفل والفرض، وإلاّ فإنّه يلزم نسخ الكلام في صلاة النفل دون الفرض، ولا شك أنّ اللازم باطل والملزوم مثله.
هذا، وإن كان السلام على المشتغل بالصلاة جائزا ويكفيه الردّ بالإشارة كما يجوز له أن يردّ بعد فراغه من صلاته، على نحو ما ثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه، إلاّ أنّه يُكره الإكثار من السلام على المصلّي وترداده عليه مع كلّ داخل إلى المسجد أو تكرار عليه مع كلّ مار عليه، لأنّ المصلّي يناجي ربّه بالقرآن والذكر والدعاء، الأمر الذي يستدعي الاستغراق بخدمته فلا يصح الاشتغال بغيره لقوله صلى الله عليه وسلم:"إن في الصلاة لشغلا"(9) لذلك لا تقاس حالة غير الصلاة على الصلاة للفارق بينهما. قال النووي:(إنّ وظيفة المصلي الاشتغال بصلاته وتدبر ما يقوله فلا ينبغي له أن يعرج على غيرها).
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
__________
1- أخرجه أبو داود كتاب الصلاة: باب ردّ السلام في الصلاة، والحاكم (1/246) وأحمد (2/461)، والطحاوي في مشكل الآثار (2/229) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة رقم (318).
2- أخرجه أبو داود كتاب الصلاة: باب ردّ السلام في الصلاة، والنسائي كتاب السهو: باب الكلام في الصلاة، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع (1888).
3- ذكر هذا القول أبو داود في سننه بعد حديث (لا غِرار في صلاة ولا تسليم) رقم (928).
4- أخرجه أبو داود كتاب الصلاة: باب ردّ السلام في الصلاة، عن ابن عمر رضي الله عنهما وانظر الصحيحة (1/2/633).
5- أخرجه أبو داود كتاب الصلاة باب رد السلام في الصلاة، والنسائي كتاب السهو باب: رد السلام بالإشارة في الصلاة. والترمذي كتاب مواقيت الصلاة: باب ما جاء في الإشارة في الصلاة، من حديث صهيب رضي الله عنه، وصححه الشيخ الألباني في صحيح أبي داود (858).
6- متفق عليه، البخاري كتاب مناقب الأنصار، باب هجرة الحبشة، ومسلم كتاب المساجد ومواضع الصلاة: باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحة من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
7- جزء من الحديث السابق (إن الله عزّ وجل يحدث من أمره ما يشاء)
8- سبق تخريجه.(4/76)
الفتوى رقم: 59
في حكم نزع الملكية لإقامة مسجد وصحة الصلاة فيه
السؤال: شيخنا الفاضل إليكم معطيات قضية مسجد أبي بكر الصديق بقرية رمضان جمال ولاية سكيكدة:
أولا: نلفت انتباهكم عن وضعية هذه الدائرة إذ غالب أراضيها ملكية خاصة ولذا يضطر ولاة الأمور لانتزاعها من أجل المصالح العمومية مثل الطريق العام، السوق، المستوصف وبعض البنايات فهذه المؤسسات مبنية على أراضي أخذت من أصحابها علما بأنّ بعضهم لم يرض ومنهم المعني صاحب الأرض، إذ انتزعت منه قطعة أخرى وعوض لكنّه لم يرض كذلك، وكان التعويض بقطعتين أرضيتين في ملكه فقبل رغما عن أنفه.
ثانيا: المشكلة بدأت سنة(1987م) حيث قرر ولاة الأمور انتزاع ملكية المعني للقطعة الأرضية المقدرة بـ(6900هكتار) مقابل مبلغ مالي قدرته مصالح تقويم أملاك الدولة بالسعر المرجعي للدولة للمصلحة العامة، المعني رفض الأخذ ابتداءً وطعن في الحكم عند محكمة الدولة التي حكمت مجددا بنفس المبلغ تعويضا لكنهم طعنوا مرة أخرى ليستقر الحكم على التعويض المالي المذكور.
في سنة(1994م) تمّ تحويل الأرضية إلى مسجد كبير جامع وطني وجعلت وقفا لوزارة الشؤون الدينية وبما أنّ المسجد قد فرغ من طابقه السفلي ودخله مصلون كثيرون، وأصبحت تقام فيه الجمعة والجماعات، أشكلت علينا قضية الصلاة فيه هل هي جائزة أم باطلة؟ لانقسامنا إلى قائل أنّها مغصوبة لعدم رضا صاحبها وقائل بأنّها ليست كذلك نظرا لفتوى المجمع الفقهي علما بأنّ جميع شروطه محققة.
ثالثا: قد قامت البلدية بعد جهود جبارة من المواطنين بإشراف لجنة المسجد وإمامها في إطار غير رسمي لمحاولة إعطائه قطعة أرض يرضى بها لكن البلدية لا تستطيع ذلك لعدم حيازتها لها فهي تابعة لمؤسسة وطنية هي أملاك الدولة ممّا اضطرها إلى استبدالها بقطعة أخرى في إطار غير رسمي سعيا منها لإخماد الفتنة فعرضت عليه تبعا قطعة أرض زراعية كبيرة في آخر القرية فرفضها بحجة أنّه يريد قطعة أرضية في مكان تجاري، فعرضت البلدية مرة أخرى قطعة أخرى داخل المحيط العمراني صالحة للبناء ولم يقبلها لأنّ أرضه الأصلية(أرض المسجد) ذات مكاني عمراني تجاري، هذا طبعا بالإضافة إلى المبلغ المالي المذكور سالفا.
رابعا: بعد التحقيق في أصل ملكيته تبين ما يلي:
- هذه الأرض ملك أصلا لمعمر فرنسي قام باستبدالها مع جد المدعو مقابل قطعة أخرى.
- اشترى هذا الجد قطعته من عند جزائري.
- وجرى هذا التبادل لتحسين العلاقة نصراني مسلم باستبدال المعمر قطعته (4هكتار) وحيازته على قطعة الجزائري (6هكتار) بعقود ملكية هي:
• عقد الجزائري من عند المدعو [س].
• عقد الفرنسي في إطار شراكة فرنسية تضم عدة معمرين.
الأسئلة:
1- هل هذه المبادلة بين الجزائري والفرنسي شرعية؟ وهل العقد صحيح؟ وهل تصح شرعا ملكية الجزائري لأرض المسجد؟
2- هل انتزاع ولي الأمر لقطعة الأرض هذه مع التعويض بدون الرضا يُعدّ غصبا للأرض؟ أم أنّه من باب تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة؟
3- هل تجوز الصلاة في هذا المسجد؟
4- هل هذه المسألة خلافية؟ والإخوة المانعون والمجيزون يسعهم الخلاف أم لا؟
بارك الله فيكم وحفظكم الله، وثبتكم على طاعته.
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فبعد الاطلاع على فحوى سؤالكم المفصّل، وما يحمله من إرادة معرفة الصواب في المسألة المطروحة، فأقول-وبالله التوفيق والسداد-:
إنّ عقود الملكية، وسائر التصرفات المالية من مبادلات أو تنازلات أو هبات وغيرها المبرمة بين المسلمين وغيرهم من أهل الكفر التي يتطلب إثباتها بالتوثيقات الرسمية وخضعت لها فعلا سواء أكانت هذه الإجراءات التوثيقية وقعت في عهد الاستعمار الفرنسي المحتل أو بعد جلائه من هذه الديار تُعد صحيحة لا يعتريها فساد ولا يعترضها بطلان، ذلك لأنّ مسألة استيلاء الكفار لأموال المسلمين محل خلاف بين أهل العلم من ناحية امتلاكهم لها، فأثبت الأحناف أحقية الملك لهم(1)، ومنع الشافعية ذلك(2)، أمّا مذهب المالكية فإنّهم يرون استيلاء الكفار لأموال المسلمين يفيد شبهة الملك لا حقيقته(3)، هذا الخلاف لا أثر له سوى فيمن وجد ماله هل يكون أحق به من غيره أم لا؟ ولا يخفى أنّه لا جدوى من ترتيب هذا الأثر في مسألتنا هذه، لأنّ مالكها الأول قبل استيلاء الكفار على أرضه لا مطمع في معرفته هذا من جهة، ومن جهة أخرى أنّه لو تقرر لمثل هذه العقود حكم البطلان للزم إبطال كافة العقود والتصرفات التي أجريت في عهد الاستعمار بين المسلمين والكفار، وإذا كان اللازم باطلا فالملزوم مثله، ولا شك أنّ مثل هذا الحكم يتنافى مع ما ثبت في السنة من جواز هذا التعامل وقد جرى به العمل أولا، وأنّ القضاء بالإبطال يتولد عنه الاضطراب وحصول الشغب بين الناس لعدم الاستقرار في أموالهم، الأمر الذي يسبب المشقة والحرج وذلك مدفوع بالنص.
هذا، وإذا تقرر صحة ملكية أرضه، فينبغي أن يعلم أنّ هذه الملكية لا تنتقل من يده إلى غيره إلاّ بأحد العقدين:
الأول: العقد الرضائي وهو الأصل في انتقال الملكية لاشتراط التراضي في العقود كركن جوهري.
والثاني: الجبري الذي تجريه السلطة القضائية وهو على صفتين:
-الأول: العقد الجبري الصريح كبيع مال المدين جبرا نيابة عن المالك الحقيقي لوفاء ديونه.
-الثاني: العقد الجبري المفترض كالشفعة فتنتقل حصة الشريك إلى الشريك بمثل العوض المسمى، أو كنزع الملكية للامتلاك للصالح العام، وهو الذي تشهد له السنة وعمل الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم.
وفي مثل هذا العقد لا يشترط فيه رضا المالك، وإنّما يتم جبرا من السلطة القضائية عن صاحبها للضرورة، أو للمصلحة العامة كتوسيع مسجد، أو بنائه أو شق طريق أو توسيعها أو إقامة جسر ونحو ذلك، لأنّ الأمر إذا دار بين ضررين أحدهما أشد من الآخر، فيتحمل الضرر الأخف، ولا يرتكب الضرر الأشد.
وتأييدا لهذا المعنى وردت جملة من القواعد، وإن اختلفت ألفاظها فهي متحدة في المفهوم والمعنى منها:
"يتحمل الضرر الخاص لدفع ضرر عام"، وقاعدة:" إذا اجتمع ضرران أسقط الأصغر للأكبر"، وقاعدة:" الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف"، وقاعدة:" يختار أهون الشرين، أو أخف الضررين"، وقاعدة:" يدفع الضرر الأعم بارتكاب الضرر الأخص"، وغيرها من القواعد.
واللافت للنظر-بعد هذا البيان- أنّ نزع الملكية تستوجب تعويضا عادلا كشرط لجوازه وإلاّ عُدَّ غصبا وتعديا، ولمّا كان تعويض مالك الأرض بالسعر المرجعي للدولة الذي يقل عن السعر الجاري المتعامل به يتعذر على المالك شراء مثلها لنقصان التعويض عن ثمن المثل، ولولا ما أضيف له من قطع أرضية تكملة للنقصان للزم الحكم بأنّ الأرض المنزوعة لم تقابل بتعويض عادل، الأمر الذي يصيِّر نزع الأرض اعتداء وغصبا، لكن ردّه للأراضي المعروضة عليه ليس مبررا يسعه للدفع بعدم عدالة السعر المعطى، ولمّا كانت الشروط الشرعية متوفرة في نزع الملكية فلا يحتج بالغصب المجمع على تحريمه بالنصوص المتكاثرة.
فالحاصل-إذن- أنّ نزع الملكية للمصلحة العامة المتمثلة في بناء المسجد لحاجة الناس إلى مكان عبادة يجمعهم ليس هو من الغصب في شيء، وإنّما هو عقد جبري أجرته السلطة القضائية في استملاك الأرض بسعرها العادل تحقيقا للمصلحة العامة.
وعملا بما تقرر في القواعد العامة السابقة فإنّه ينتفي عن هذا المسجد أدنى حالة غصب وعدوان لما تقدم بيانه، لذلك لا يجوز أن يحول الشك والوهم دون إقامة الصلاة فيه إذ "اليقين لا يزول بالشك" "وإنّما يزول بيقين مثله"، ولا يجوز للقريب من المسجد أن يعدل عنه بدعوى الغصب وينتقل إلى غيره بعدما تبيّن له الهدى لقوله صلى الله عليه وسلم:" ليصلّ أحدكم في المسجد الذي يليه ولا يتخطى إلى غيره"(4).
والله أعلم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه على يوم الدين.
__________
1- انظر: الأشباه والنظائر لابن مودود:(2/4/133). تبيين الحقائق للزيلعي:(3/260).
2- انظر: المهذب للشيرازي:(2/243)، فتح الباري لابن حجر:(6/182).
3- انظر: بداية المجتهد لابن رشد:(1/398)، القوانين الفقهية لابن جزي(151).
4- أخرجه الطبراني، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وصححه الألباني في صحيح الجامع(5456)، والسلسلة الصحيحة(2200).(4/77)
الفتوى رقم: 61
في حكم بناء المسجد بجوار آخر
السؤال: ما هو حكم من يقوم ببناء مسجد بجوار مسجد آخر بحجة أنّ هذا المسجد لا تجوز فيه الصلاة لأنّه تتولى الإشراف عليه الدولة ؟ وهذه المجموعة تعتبر الحكام طواغيت حسب قولها وبأنها لم تعقد البيعة لهم، كما أنّها أيضا تصلي صلاة العيد منفردة عن جماعة المسلمين، بحجة عدم جوازها خلف بعض الأئمة لأنّهم لا يصلون صلاة الجمعة، فهل هذا مبرر لتفريق جماعة المسلمين؟ ما هو الحكم الشرعي في المعاملة مع هذه الجماعة؟.
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فقد نصّ العلماء على تحريم بناء مسجد بجوار مسجد أو قربه منه لقصد الإضرار والمنافسة لما فيه من تفريق جماعة المسلمين وإحداث التقاطع بينهم وشق عصاهم، فإنّ كلّ مسجد بني تحديا للمسلمين وإضرارا بهم أو للرياء والسمعة فهو مسجد الضرار أو في حكمه، يصنع فيه كما يصنع في المسجد الضرار قال تعالى: ?وَالّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ المُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحُسْنَى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ، لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ، فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهّرُوا و اللهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ? [التوبة:107-108].
هذا، وقد أجمع العلماء على وجوب طاعة الحاكم المتغلب وإن لم يستجمع شروط الإمامة، فإمامته صحيحة ولا يجوز الخروج عنه قولا واحدا عن أهل العلم والسنة
، ولو ظهر منهم الجور والظلم فالواجب الصبر عليهم والصلاة خلفهم، وأنّ طاعتهم خير من الخروج عليهم، لما في ذلك من حقن الدماء والمحافظة على الأموال والأعراض، وتسكين الدهماء قال صلى الله عليه وسلم:"من كره من أميره شيئا، فليصبر، فإنّه من خرج على السلطان شبرا مات ميتة جاهلية"(1) وقال صلى الله عليه وسلم:" إنّكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض"(2) [ويمكن مراجعة تفصيل هذه المسألة في "مجالس تذكيرية على مسائل منهجية"].
وعليه فلا تكون دعوى ما يقع من ظلمهم وجورهم بتأويل سائغ أو غير سائغ ترك الصلاة والجمعة والجماعات فليس ذلك من أصول أهل السنة والجماعة قال شيخ الإسلام ابن تيمية:" ولهذا كان التاركون للجمعة والجماعات خلف أئمة الجور مطلقا معدودين عند السلف والأئمة من أهل البدع"(3).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين و سلم تسليما.
الجزائر في:26 محرم 1426هـ
الموافق لـ: 07 مارس 2005م
__________
1- أخرجه البخاري في الفتن(7053)، ومسلم في الإمارة(4897)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
2- أخرجه البخاري في مناقب الأنصار (3792)، ومسلم في الإمارة(4885)، من حديث أسيد بن حضير رضي الله عنه.
3- المجموع لابن تيمية:(23/342).(4/78)
الفتوى رقم: 74
بناء المسجد في المقبرة
السؤال: عزم بعض أهالي بلاد القبائل على بناء مسجد في مقبرة قديمة للمسلمين تزال عنها القبور إزالة جماعية بما في ذلك رفاتها بطريق الآلة الجارفة بدعوى أنّ المقبرة تتوسط كلّ القرى المجاورة فينتفي الحرج والمشقة عنها جميعا، علما أنّه توجد قطعة أخرى بقرب تلك المقبرة صالحة لهذا المشروع، فما حكم الشرع فيما هم عازمون عليه، وما نصيحتكم وتوجيهكم لهم؟
سدد الله شيخنا الفاضل وأجزل لكم المثوبة.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فاعلم -وفقني الله وإيّاكم- أنّه لا يجتمع في دين الله مسجد وقبر، وقد وردت الأحاديث النبوية الصحيحة الصريحة في النهي عن اتخاذ المساجد على القبور، وتلعن اليهود والنصارى الذين اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد وتحذر ممّا صنعوا، وهذا الحكم ثابت مقرر إلى يوم الدين، فمن هذه الأحاديث الشريفة قوله صلى الله عليه وسلم:"لعن الله اليهود والنصارى اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد"(1) تقول عائشة رضي الله عنها:(يحذّر مثل الذي صنعوا) وفي رواية جندب بن عبد الله البجلي أنّه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس يقول:"...ألا وإنّ من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإنّي أنهاكم عن ذلك"(2) ففيه دليل واضح على ذمّ من يفعل فعلهم من هذه الأمّة إذ الاعتبار بالمعنى لا بالاسم، وهذا سدّا لذريعة الشرك وقطعا للسبل المؤدية إلى عبادة من فيها كما حصل مع عبادة الأصنام، إذ لا يخفى أنّ النهي عن ذلك إنّما هو الخوف على الأمّة من الوقوع فيما وقعت فيه اليهود والنصارى وغيرهم من الشرك اللاحق بمن عصى الله تعالى وارتكب النهي واتبع الهوى ولم يع معنى (لا إله إلاّ الله)، ومن الأحاديث أيضا قوله صلى الله عليه وآله وسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه:"إنّ شرار الناس من تدركه الساعة وهم أحياء، ومن يتخذ القبور مساجد"(3) والمتمعن في هذه الأحاديث يدرك تحريم هذا الاتخاذ المذكور بجميع معانيه سواء اتخاذ القبور مساجد للسجود عليها أو إليها أو استقبالها بالصلاة والدعاء، وبناء المساجد عليها وقصد الصلاة فيها، وهذا الفعل لا شك أنّه من الكبائر إذ لا يمكن أن يكون اللعن الوارد في النص فضلا عن وصفهم شرار الخلق عند الله تعالى إلاّ في حق من يقترف ذنبا عظيما وإثما كبيرا، وقد أجمع العلماء على النهي عن البناء على القبور وتحريمه ووجوب هدمه، فالطارئ منهما على الآخر يزال، أي الحكم للسابق، فلو طرأ القبر على المسجد أزيل القبر، ويزال المسجد إن كان طارئا على القبر لكونه لم يبن على تقوى من الله ورضوان، ولو وضع وقفا لبطل الوقف ولم تصح الصلاة فيه إن قصد فيها القبور والتبرك بها كما يعتقده معظم العوام وبعض الخواص للعن من فعل ذلك وتحريم الصلاة فيها، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه كما تقرر في أصول الشريعة، إذ لا يخفى أنّ بناء المساجد على القبور ليس مقصودا بذاته وإنّما مقصوده الصلاة فيها فالنهي عن الوسيلة يستلزم النهي عن المقصود بها والمتوسل بها إليه.
أمّا إذا لم يتقصد الصلاة فيها من أجل القبر وإنّما وقع اتفاقا فحكمها الكراهة عند الجمهور خلافا للإمام أحمد الذي يحكم ببطلانها لأجل النهي واللعن الوارد في ذلك ولكونها ذريعة إلى الشرك بالله بتقصد المسجد لأجل القبور ودعائهم والدعاء بهم والدعاء عندهم، ولعلّ هذا القول أحسم لمادة الشرك وأقطع لسبيله باجتناب الصلاة في المسجد بين القبور مطلقا وعلى كلّ حال سواء كان القبر خلفه أو عن يمينه أو عن يساره وأقبح من ذلك ما كان أمامه عملا بمبدإ سد الذرائع وتحريم الوسائل إليها، وترك الشبهات والاحتياط للدين خشية الوقوع في المحذور لقوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث أبي عبد الله النعمان بن بشير رضي الله عنه:"...فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه"(4) .
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:«دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"(5) وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّه قال:"إنّي أحب أن أدع بيني وبين الحرام سترة من الحلال لا أخرقها"وما ذلك إلاّ أسوة بالنبي صلى الله عليه وسلم حيث يقول:"إنّي لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي فأرفعها لآكلها، ثمّ أخشى أن تكون من الصدقة فألقيها"(6) فرضي الله عن سلفنا الصالح فقد اجتنبوا المعاصي وابتعدوا عن الشبهات واستبرؤوا لدينهم تمام البراءة.
ثمّ اعلم-هداني الله وإيّاكم-أنّ الثابت إجماعا عدم جواز نبش قبور المسلمين وإخراج الموتى منها للانتفاع بالأرض أو البناء عليها حفاظا على كرامة الميّت وحرمته لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:«كسر عظم المؤمن ميتا ككسره وهو حيّ"(7) إلاّ إذا وجد مسوّغ مقبول وسبب شرعي يقتضي نبش القبور، وبناء المساجد على القبور ليس سببا مسوغا للقيام بهذا الفعل، والتعليل بتوسط المقبرة كلّ القرى ليس هو الآخر مبررا شرعيا كافيا لما علم من النصوص المتقدمة من عدم اجتماع مسجد وقبر في دين الإسلام، والأسبقية للأول ويهدم الثاني، فضلا عن وجود محلّ لبناء هذا المسجد خارجا عن المقبرة، وعليه يتضح عدم مشروعية ما هم عازمون على الإقدام عليه، والله المستعان.
أمّا النصيحة المقدمة فأكتفي بنقل ما ذكره الشيخ العلامة عبد الحميد بن باديس رحمه الله تعالى في الآثار(2/153) بعد ما أورد الآيات القرآنية التي تأمر باتّباع الرسول صلى الله عليه وسلم والنهي عن مخالفته، قال رحمه الله تعالى:" نسأل كلّ مؤمن بهذه الآيات أن يعمل بنهي النبي صلى اله عليه وسلم عن البناء على القبر، فلا يبني على القبر، ولا يعين بانياً، ويعلن هذا الحديث في الناس، ويذكرهم به، ولا يفتأ يقرع به أسماع الغافلين، ويفتح به أعين الجاهلين ?والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا وإنّ الله لمع المحسنين?[العنكبوت 69]."
وقال رحمه الله في موضع آخر:" فيا أيّها المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم، المصدقون لحديثه، إيّاكم والبناء على القبور، إيّاكم واتّخاذ المساجد عليها إن كنتم مؤمنين، وعليكم بتبليغ هذا الحديث والتذكير به، والتكرير لذكره يكن لكم أجر المجاهدين في سبيل ربّ العالمين لإحياء سنّة سيّد المرسلين، عليه وعليهم الصلاة أجمعين"
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
__________
1- أخرجه البخاري في الصلاة رقم (435)، ومسلم في المساجد رقم(1212)، والنسائي في الجنائز رقم(2046)، وأحمد(218/1)، من حديث عائشة وابن عباس رضي الله عنهم.
2- أخرجه مسلم في المساجد رقم(1216)، وأبو عوانة(1/401)، والطبراني في الكبير(1/84/2)، من حديث جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه.
3- أخرجه ابن خزيمة (1/92/2)، وابن حبان رقم(340و341)، وابن أبي شيبة في المصنف(4/440)، وأحمد رقم(4143، 3844)، من حديث عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه. والحديث حسنه الألباني في تحذير الساجد(ص19).
4- أخرجه البخاري في «الإيمان » باب فضل من استبرأ لدينه (50)، ومسلم في «المساقاة » (4094)، وأبو داود في «البيوع » باب في اجتناب الشبهات (3330)، والترمذي في «البيوع » باب: ما جاء في ترك الشبهات (1205)، وابن ماجه في «الفتن » باب الوقوف عند الشبهات (3984)، والدارمي (2436)، وأحمد (17907)، والبيهقي (10537)، من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
5- أخرجه الترمذي في «صفة القيامة والرقائق والورع » (2518)، والنسائي في «الأشربة » باب: الحث على ترك الشبهات (5711)، وابن حبان (722)، والدارمي (2437)، والحاكم (2169)، والطيالسي (1178)، وأحمد (1729)، وأبو يعلى (2762)، من حديث الحسن بن علي رضي الله عنه، وصححه أحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد » (3/169) والألباني في «الإرواء » (1/44) رقم (12)، وفي صحيح الجامع (3373)، والوادعي في «الصحيح المسند » (318).
6- أخرجه البخاري في اللقطة رقم(2432)، ومسلم في الزكاة رقم(2525)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
7- أخرجه أبوداود في الجنائز رقم(3207)، وابن ماجة في الجنائز رقم(1616)، والطحاوي في مشكل الآثار(2/108)، وأحمد(6/58)، من حديث عائشة رضي الله عنها، وصححه الألباني في الإرواء(3/214) رقم(763).(4/79)
الفتوى رقم: 141
في حكم الصلاة في مسجد بني على أرض انتزعت من صاحبها جبرا
السؤال: هل تصح الصلاة في مسجد بني على أرض انتزعت من صاحبها جبرا من غير رضاه، علما بأنّ جماعة المسجد عوّضوه بأرض أخرى ومالٍ، لكنّه أبى أن يأخذ التعويض وأصرّ أن يعيد أرضه؟ فما حكم ذلك جزاكم الله خيرا.
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فاعلم أنّ المالك مسلط على ملكه، وله حق التصرف فيه والانتفاع في حدود المشروع، ذلك لأنّ أصول الشريعة تحترم الملكية الخاصة وترعاها وتصونها من أي اعتداء، وهذا أمر معلوم من الدين بالضرورة، ولا يخفى أنّ حفظ المال أحد الضروريات الخمس، ومع ذلك- وفي حالة تعارضها مع المصلحة العامة- فإنّه يجوز نزع ملكية العقار من صاحبه للنفع العام وهو ما تشهد له السنة وعمل الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم، ولا يشترط فيه رضا المالك، وإنّما هو عقد جبري يجريه ولي الأمر أو نائبه في ذلك المجال ويتمه بناء على الضرورة أو المصلحة العامة كتوسيع مسجد، أو صلاحية بنائه في ذلك المكان أو شق طريق أو توسيعها أو إقامة جسر أو توسيع مقبرة وما إلى ذلك، على أن يقابل نزع الملكية بتعويض فوري وعادل، وأن لا يعجل نزع الملكية قبل أوانه، وأن لا يكون مصير الملكية المنزوعة إلى توظيفها في الاستثمار العام أو الخاص، وهذه الشروط إن روعيت جاز على ضوئها نزع الملكية للمنفعة العامة، وإلاّ فإنّ اختلال بعض الشروط أو كلّها يجعله من الظلم والتعدي والغصب المحرّم شرعا، وإنّما جاز ذلك عملا بالقواعد الشرعية العامة في رعاية المصالح وتنزيل الحاجة العامة منزلة الضرورة، لأنّ الأمر إذا دار بين ضررين أحدهما أشدّ من الآخر، فيتحمل الضرر الأخف، ولا يرتكب الضرر الأشدّ.
ومن هذه القواعد الواردة في هذا الشأن، و إن اختلفت ألفاظها فهي متحدة في المفهوم والمعنى منها:
- قاعدة :" يتحمل الضرر الخاص لدفع ضرر عام"
-وقاعدة :" إذا اجتمع ضرران أسقط الأصغر للأكبر"
-وقاعدة :" الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف"
-وقاعدة :" يختار أهون الشرين، أو أخف الضررين"
-وقاعدة:" يدفع الضرر الأعم بارتكاب الضرر الأخص"
وغيرها من القواعد التي تصب في هذا المعنى.
هذا، وإذا تقرر جواز نزع الملكية للمصلحة العامة في حق من كان صاحب العقار ومالكه، فإنّ غير المالك لا يسأل عنه وقوله مهمل، إذ لا حق له في أرض لا يملكها ولا يسعه التصرف فيها ولا يمكنه الانتفاع بها بأي وجه من الوجوه، ولو وضع يده عليها ثمّ ملكها لجاز نزع ملكيته لها للمصلحة العامة وفق الشروط والضوابط الشرعية السالفة البيان.
وعليه فإنّ الصلاة جائزة من غير كراهة في المسجد الذي بني على أرض منتزعة من صاحبها قهرا للمصلحة العامة المتحققة الشروط، وهي أولى من المصلحة الخاصة-كما تقدم-
والعلم عند الله تعالى وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّ اللّهم على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلّم تسليما.
الجزائر في:17 من ذي الحجة 1422هـ
الموافق لـ: أول مارس 2002م(4/80)
الفتوى رقم: 183
في حكم تخطي المساجد ومستثنياته
السؤال: شيخنا حفظكم الله، نريد جوابا على مسألة تخطي المساجد وهل هناك رخصة للتخطي بالنسبة للمساجد البدعية؟ وجزاكم الله خيرا.
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فالأصل أنّ تخطي المساجد منهي عنه بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مرفوعا:« ليُصَلِّ أحدكم في المسجد الذي يليه، ولا يتخطى إلى غيره » وفي رواية:« ولا يتبع المساجد »(1) لأنّ في التخطي إلى مسجد آخر يحدث إيحاشا في صدر الإمام كما علله أهل الفقه، لكن استثني من هذا النص ما إذا كان الإمام يلحن في قراءته ويخطئ فيها، أو يعلن بفجور، أو رمي ببدعة وغيرها من العيوب القادحة، فقد أجاز أهل العلم في الانتقال إلى غيره كما صرح بذلك ابن القيم الجوزية في إعلام الموقعين(2) ويجوز الانتقال أيضا لمصلحة وجدت في المسجد الذي تخطي إليه كترقب حلقة علمية، أو لقاء أو زيارة اقترنت بموعد الصلاة في ذلك المسجد، وتدخل هذه وفي معناهما ضمن هذه المستثنيات.
والعلم عند الله تعالى وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
الجزائر في: 27 ربيع الأول 1425هـ
الموافق لـ: 17 ماي 2004 م
__________
1- أخرجه الطبراني (3/199/2)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وصححه الألباني في صحيح الجامع(5456)، وفي السلسلة الصحيحة(2200).
2- إعلام الموقعين لابن القيم:(3/148)، وقد ذكره الإمام ابن القيم-رحمه الله- في معرض إيراد الأدلة على:"منع فعل ما يؤدي إلى حرام ولو كان جائزا في نفسه".(4/81)
الفتوى رقم: 307
في صحة الصلاة في مسجد فيه صور وتماثيل
السؤال: هل تجوز الصلاة في مسجد فيه صور و تماثيل؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فتُكْرَهُ الصلاة في مسجد فيه تماثيل وصور لانفكاك الجهة، جهة الأمر مع جهة النهي، وقد اتفق أهل العلم على أنَّ عند انفكاك الجهتين يكون الفعل صحيحا، أمَّا عند عدم انفكاكها يكون الفعل ممنوعًا، وما دام الصلاة تُعقَدُ بدون صوَر، والصوَر توجد بدون صلاة عُلم انفكاك الجهتين، ولكن الكراهة آتية من جهة كون هذه الصُّور تُلهي المصلي عن صلاته وهي التي كانت وسيلة لعبادة غير الله تعالى بها قال عمر رضي الله عنه في شأن الصلاة في كنائس النصارى:" إنا لا ندخل كنائسهم من أجل التماثيل التي فيها الصور، وكان ابن عباس رضي الله عنه يصلي في البيعة إلا بيعة فيها تماثيل"(1)، وفي كلِّ الأحوال ينبغي على المصلي أن يذهب إلى مسجد آخر للصلاة فيه بالنَّظر إلى خلوِّه ممَّا يشغله في صلاته لقوله صلى الله عليه وآله وسلم "إنَّ في الصلاة لشغلا"(2) وذهابه إلى المسجد الآخر لا يتعارض مع قوله صلى الله عليه وآله وسلم " ليصلِّ أحدكم في المسجد الذي يليه ولا يتخطَّاه إلى غيره"(3) لأنّه يجوز أن يتخطى إلى غيره إذا وُجد في المسجد ما يعكِّر عليه صلاته في كيفيتها وآدائها.
و العلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
الجزائر في: 7 رمضان 1426ه
الموافق ل: 10 أكتوبر 2005م
__________
1- أخرجه البخاري في كتاب الصلاة (52) باب الصلاة في البيعة.
2- أخرجه البخاري في كتاب مناقب الأنصار باب الهجرة إلى الحبشة( 3875)، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحته (537 ) من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه.
3- أخرجه الطبراني(3/199/2)من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2200)، و صحيح الجامع الصغير( 5456).(4/82)
الفتوى رقم: 403
في حكم الصلاة في مسجد به قبر بساحته
السؤال: ما حكم الصلاة في مسجد به قبر بساحته من جهة القبلة، ولا يفصل بينهما سوى حائط المسجد؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فعلى نحو ما تقرَّر أنه لا يجتمع في دار الإسلام قبر ومسجد والطارئ على أحدهما يزال، فإن كان المسجد طرأ على القبر يزال، وإن كان القبر طرأ على المسجد يزال القبر، فقد ورد الحديث في ذلك صريحا في قوله صلى الله عليه وآله وسلم:« أَلاَ وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ أَلاَ فَلاَ تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ"(1)، ولا يختلف أهل العلم لمن جاء المسجد الذي يوجد فيه قبر إذا صلى لأجل التبرك بالقبر، أو اعتقاد أنَّ للمسجد زيادة فضل بزيادة بركة المقبور أنَّ الصلاة تبطل قولاً واحدًا من أهل العلم جميعًا، غير أنهم يختلفون فيمن صلى ولم تقترن بنفسه في تعلق القبر محبةٌ وتيمنٌ وبركةٌ، أي خلا قلبه من ذلك، فعلى مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي أنَّ الصلاة تصح مع الكراهة، وتزداد الكراهة كلما كان القبر باتجاه المسجد ذلك لأنَّ مالكا رحمه الله على مذهبه أنه تجوز الصلاة مع الكراهة في المقبرة، وحمل النهي الوارد عنها في قوله صلى الله عليه وآله وسلم:« وَجُعِلَتْ لي الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا"(2) فحمل النهي الذي عنده للتحريم واقتضائه الفساد على الكراهة وعدم البطلان ولوجود الدليل السابق، وإذا كانت الصلاة تصح في المقبرة مع الكراهة فتصح أيضا في نفس الحكم في المسجد بني على قبور أو فيه قبور، ومذهب الإمام أحمد أنه لا تصح الصلاة في مسجد على قبور حسما لمادة الشرك، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« لاَ
تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ وَلاَ تُصَلُّوا إِلَيْهَا"(3) فالنهي يقتضي الفساد والبطلان، ولأنه لا تصح الصلاة في المقبرة على مذهب الإمام أحمد لأنَّ الحديث:" وَجُعِلَتْ لَنَا الأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا إِذَا لَمْ نَجِدِ الْمَاءَ"(4) عام في كلِّ مكان وخصص منه المقبرة والحمام، وغيرها من المخصصات فدلَّ ذلك على عدم جواز الصلاة في المقبرة عملاً بالجمع بين الدليلين، وهذا والجمع أولى من الجمع بصرف النهي إلى الكراهة.
وعليه، فإنَّ أولى الأقوال وأصحها دليلاً ونظرًا ما ذهب إليه القائلون بعدم صحة الصلاة في المسجد الذي بني على القبر سواء نوى بها التبرك بذلك القبر، أو اعتقد الصلاة فيه أو لمجاورة المقبور بذلك المسجد أم لا، حسمًا لمادة الشرك وقطعًا لسبيل الشيطان وعملا بالنصوص الواردة في ذلك وبنصيحة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي زجر عن بناء المساجد على المقابر والصلاة فيها، والزجر أشد من النهي.
هذا، ويجدر التنبيه إلى أنَّ الذي صلى في مسجد لا يعلم وجود القبر ثم علمه فإنَّ صلاته تمضى ولا يعيدها ولا يقضيها، وشأن الجاهل بالحكم يلحق به، بخلاف العالم بوجود القبر في المسجد.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 9 ربيع الأول 1427ه
الموافق ل: 6 أفريل 2006م
__________
1- أخرجه مسلم في المساجد (1216)، وابن حبان (6532)، والطبراني في المعجم الأوسط (4507)، من حديث جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه.
2- أخرجه البخاري في التيمم ( 335)، والنسائي في الغسل والتيمم (435)، والدارمي (1440)، والبيهقي (1057)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
3- أخرجه مسلم في الجنائز ( 2294 )، وأبو داود في الجنائز (3231)، والترمذي في الجنائز (1069)، وأحمد (178679)، من حديث أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه.
4- أخرجه مسلم في المساجد ( 1193 )، الدارقطني في سننه (681)، والبيهقي (1062)، من حديث حذيفة رضي الله عنه.(4/83)
الفتوى رقم: 483
في حجز الأماكن في المساجد
السؤال: ما حكم حجز الأماكن في المساجد ؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فإذا فارق المصلي مكانه للحاجة ليعود إليه فهو أحق بمكانه سواء حجزه بشيء أو لم يحجزه، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُ بِهِ "(1) غير أنَّ الأحقية بالمجلس إنَّما تتقرر بالمفارقة اليسيرة كالتوضؤ وقضاء الحاجة أو الشغل اليسير أوَّلاً، كما يكون أحق بمجلسه في تلك الصلاة وحدها دون غيرها كما صرَّح به النووي في شرحه على مسلم(2) ثانيًا.
فإذا انتفى أحد شرطي الأحقية بالمجلس أو كليهما انتفى المشروط، ولم يبق للمكان المحجوز أي وجهة للمطالبة والاستحقاق.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في:13 جمادى الثانية 1427ه
الموافق لـ:8 جويلية 2006م
__________
1- أخرجه مسلم في السلام (5818) أبو داود في الأدب (4853)، والدارمي في سننه كتاب الاستئذان (2555)، وابن حبان في صحيحه (588)، وأحمد (7514)، والبيهقي (12059)، والبخاري في الأدب المفرد (1171)، وعبد الرزاق في المصنف (19792)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2- شرح النووي على مسلم: 14/161-162.(4/84)
الفتوى رقم: 484
في حكم تعليق اللوحات التعليمية والتنبيهية والتوجيهية في المسجد
السؤال: ما حكم تعليق اللوحات التعليمية المحتوية على صفة الصلاة والوضوء وغيرها، واللوحات التنبيهية والتوجيهية في المسجد؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فتعليق اللوحات الخاصة بالمفقودات بالمسجد من مفاتيح ونحوها فهو ضرب من إنشاد الضالة يتناوله عموم حديث النهي عن إنشاد الضالة في المسجد.(1)
وكذلك لا يجوز تعليق واللوحات المبيِّنة لتاريخ بناء المسجد مقرونة باسم من بناه، خاصة إن كان على وجه الرياء والسمعة.
وأمَّا تعليق اللوحات من القرآن الكريم والسنة النبوية فإنه يكره ذلك خاصة إذا كانت هذه اللوحات مقابلة للمصلي وعلى جدار قبلته، لأنَّ المسجد مكان عبادة وصلاة، وليس للنزهة الفنية وكلّ ما يَشغَل ينبغي إبعادُه عن المصلي لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« إِنَّ فِي الصَّلاَةِ لَشُغْلاً "(2)، وإنما القرآن والسنة وحيٌ نزل للعمل والاعتبار والاتعاظ لا للعرض والتزيين والزخرفة.
وأمَّا تعليق اللوحات ذات التوجيهات النافعة المختلفة فلا مانع من تعليقها عند بوابة المسجد لا داخله بحيث توضع لوحة تفصيلية خاصة بالتوجيهات والتنبيهات اللازمة والضرورية صيانة للمسجد وتحقيقا لمصلحة المصلين، غير أنه يشترط أن لا تحتوي هذه اللوحات على رسومات متنوعة أو ذات الأرواح، أو أشكال مزخرفة أو تتضمن كلامًا مخلاًّ بالعقيدة أو أحاديث لا يصح الاستناد إليها يعود ضررها على المسلمين، كما لا يجوز أن تكون لوحات إعلامية أو إشهارية أو إخبارية لأنَّ المساجد لم تُبْنَ لهذا "وَإِنَّمَا لِذِكْرِ اللهِ وَالصَّلاَةِ وَقِرَاءَةِ القُرْآنِ "(3).
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 29 جمادى الأولى 1427ه
الموافق لـ: 25 جوان 2006م
__________
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:« مَنْ سَمِعَ رَجُلاً يُنْشِدُ ضَالَةً فِي المسْجِدِ فَلْيَقُلْ لاَ رَدَّهَا الله عَلَيْكَ فَإِنَّ المسَاجِدَ لمَ تُبْنَ لهذَا". أخرجه مسلم في المساجد (568)، والدارمي في الصلاة (1373)، والبيهقي (4445).
2- أخرجه البخاري في العمل في الصلاة(1199)، ومسلم في المساجد(1229)، أبو داود في الصلاة(924)، وابن ماجة في إقامة الصلاة(1072)، وأحمد(3629)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
3- أخرجه مسلم في الطهارة (285)، وابن حبان (985)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(4/85)
الفتوى رقم: 596
في منع لبس الجوارب في المسجد
السؤال: أَمَرَ إمامُ مسجد حيِّنا المصلِّينَ بعدم لبس الجوارب في المسجد، ولكنَّ بعضَ الإخوةِ يمتنعون من نزع جواربهم حفاظًا على مُدَّةِ المسحِ عليها، فهل يُعدُّ أمرُ الإمام بِنَزْعِ الجوارب في المسجد صحيحًا؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فلا ينبغي مَنْعُ الناسِ من الصلاة بالجوارب النَّقية التي لا تحمل نجاسةً، وليس بها أَذًى أو صَدُّهم عن المساجد بسببها، لجواز الصلاة بها اتفاقًا، سواءً بغَرَضِ المسح عليها أو لا، وسواءً في المسجد أو خارجِه، ولأنّ النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم «مَسَحَ عَلَى الجَوْرَبَيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ »(1)، وثبت أنه صَلَّى حافيًا ومتنعِّلاً(2)، وكلاهما سُنَّةٌ، لذلك لا يصحّ أن يُتَقَرَّبَ إلى اللهِ تعالى بِنَزْع الجوارب أو التساخينِ أو اللفائف الطاهرةِ بدعوى زيادةِ الأجرِ والمثوبة بالصلاة حافيًا، لأنّ كلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، قال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ »(3).
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في 19 من ذي الحجة 1427ه
الموافق ل: 8 جانفي 2007م
__________
1- أخرجه أبو داود في «الطهارة » باب المسح على الجوربين: (159)، والترمذي في «الطهارة » باب ما جاء في المسح على الجوربين والنعلين: (99)، والنسائي في «الطهارة » باب المسح على الخفين في السفر: (125)، وابن ماجه في «الطهارة » باب ما جاء في المسح على الجوربين والنعلين: (599)، وابن حبان: (1338)، وابن خزيمة: (199)، وأحمد: (17864)، من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه. وصحّحه الألباني في «الإرواء »: (101).
2- أخرجه أبو داود في «الصلاة » (653)، من حديث عائشة رضي الله عنها، وابن ماجه في «إقامة الصلاة »: (1038)، وأحمد: (6610)، وعبد الرزاق في «المصنف »: (4490)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه. وصحّحه أحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد »: (10/158)، والألباني في «المشكاة »: (734).
3- أخرجه البخاري في «الصلح »: (2697)، ومسلم في «الأقضية »: (4589)، وأبو داود في «السنة »: (4608)، وابن ماجه في «المقدمة »: (14)، وأحمد: (26786)، من حديث عائشة رضي الله عنها.(4/86)
الفتوى رقم: 647
في حكم تخصيص جزء من المسجد لنقل مكتبة إليه
السؤال:
هل يجوز نقل المكتبة العلمية والصوتية لمسجد ما من مكانها إلى مكان مخصّص للصلاة، بعد أن ضاقت بروادها؟ أجيبونا مشكورين بارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فَيُعَمَّرُ المسجدُ عمارةَ بنيانٍ وعمارةَ إيمانٍ، لقولِه تعالى: ?إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ? [التوبة: 18]، وقولِه تعالى: ?فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالغُدُوِّ وَالآصَالِ? [النور: 36].
وتخصيصُ مكتبةٍ مسموعةٍ أو مقروءةٍ في المسجدِ من لَوَازِمِ العمارة الإيمانيةِ التي هي أَوْلَى وَأَجْدَرُ من عمارة البنيان، وتحصيلُ منافعِ العلم الشرعيِّ فيها معدودٌ من الذِّكر، وهو يُمثِّلُ أحدَ شَطْرَيْ رسالة المسجد كما جاء في قولِه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم للأعرابيِّ الذي بَالَ على سارية المسجد:« إنَّمَا بُنِيَ هذَا المَسْجِدُ لِذِكْرِ اللهِ والصَّلاةِ »(1)، لذلك كان اقتطاعُ جزءٍ من مساحته المخصّصة للصلاة -إن تعذّر غيرها- وتخصيصُه للمكتبة لا يُعطِّل منافعَه، وإنما يخدم رسالتَه، على أن تفتح المكتبة للمصلين إذا ضاق المسجد بهم.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 25 المحرم 1428ه
الموافق ل: 13 فبراير 2007م
__________
1- أخرجه ابن حبان: (985)، وأحمد: (10308)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وحسن هذه الرواية الألباني في «الإرواء »: (1/190). ورواية مسلم في «الطهارة » من حديث أنس رضي الله عنه: (661)، «إنما هي لذكر الله والصلاة ».(4/87)
الفتوى رقم: 776
في حكم دخول المتبرجة والمترجلة المسجد
فالمسلمة ينبغي عليها أن تسترَ نفسَها باللِّباسِ الشرعيِّ الذي أمر به تعالى إذ يقول: ?يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ? [الأحزاب: 59]، ولقوله صَلَّى اللهِ عليه وآله وسلم:« وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنِ امْرَأَةٍ تَضَعُ ثِيَابِها فِي غَيْرِ بَيْتِ أَحَدٍ مِنْ أُمَّهاتِهَا إِلاَّ وَهِيَ هَاتِكَةٌ كُلَّ سِتْرِ بَيْنَها وَبَيْنَ الرَّحْمنِ »(1)، كما لا يجوز لها أن تتشبَّهَ بأهلِ الكفرِ في عاداتهم ولباسِهم وما يتصلُ بهم لنهي النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم عن التشبُّه بهم فقال:« مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ »(2)، قال شيخُ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-:« وهذا الحديث أقلّ أحواله أن يقتضي تحريم التشبّه بهم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبّه بهم، كما في قوله: ?وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ? [المائدة: 51] »(3)، كما لا يجوز أن يكون لباسُها شبيهًا بلباسِ الرِّجال لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال:« لَعَنَ رَسُولُ الله صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّم الْمُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، وَلَعَنَ الْمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ »(4).
والأصل أنّ المرأة بهذه الصفةِ من التبرّجِ والعريِّ والترجّلِ لا يجوزُ لها أن تدخلَ المسجدَ إلا لحاجة أو ضرورة وبإذن من الإمام؛ لأنّ الصورة الظاهرة للمرأة غيرُ مرضيةٍ شرعًا، وكلّ ما ينهى الشرع عنه ولا يرضى به يدخل في الرجز والنجاسة، لقوله تعالى: ?فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالغُدُوِّ وَالآصَالِ? [النور: 36] فالآية تدلُّ على وجوب تعظيم المساجد ورفع شأنها بتطهيرها من الأقذار والأنجاس الحِسِّية والمعنوية.
هذا، وفي أحوالٍ استثنائيةٍ يجوز للإمام أو من يقوم مقامه إن رأى مصلحة أو ضرورة دافعة إلى إدخالها المسجد فيجوز له ذلك خروجًا عن الأصل لقيام الحاجة مع النكير ولو بأضعف الإيمان، كالتي يُرجى هدايتُها أو كالسائلة عن أمور دينها وتحتاج إلى تبصيرها به، أو ليفكّ النِّزاع مع زوجها، ولكنّه مع ذلك لا يُفوِّت الفرصةَ في نصيحتها بالاستقامة على الدِّين والتستُّرِ المأمور به، وغيرِ ذلك ممّا يرى فيه الإمام أو من يقوم مقامه نافعًا لدينها وعاقبةِ أمرها، وإنّما استُثْني ذلك خروجًا من أصل المنع عملاً بالقياس الأولويِّ في أنّه إذا جاز للمُشْرِكِ دخولُ المسجد بإذن الإمام على أرجح الأقوال في المسألة فإنّه يجوز للمسلم دخولُه من بابٍ أَوْلى، وخبثُ التبرُّج أهونُ من خبث الشِّرك ونجاستِه المعنوية، ويدلّ على جواز دخولِ المشرك المسجدَ بإذن الإمام عِدَّةُ أحاديثَ منها:
- حديث محمّد بن جُبَيرٍ عن أبيهِ: -وكان جاءَ في أُسارَى بَدرٍ- قال:« سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي المَغْرِبِ بِالطُّورِ »(5).
وفي رواية:« أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي فِدَاءِ بَدْرٍ -قَالَ ابْنُ جَعْفَرٍ: فِي فِدَاءِ المُشْرِكِينَ- وَمَا أَسْلَمَ يَوْمَئِذٍ، فَدَخَلْتُ المَسْجِدَ وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي المَغْرِبَ فَقَرَأَ بِالطُّورِ فَكَأَنَّمَا صُدِعَ عَنْ قَلْبِي »(6).
- ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال:« بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ خَيْلاً قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ ثُمَامَةُ بْنُ أُثالٍ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي المَسْجِدِ »(7).
قال ابن حزم:« ودخول المشركين في جميع المساجد جائز حاشا حرم مكة كلّه المسجد وغيره، فلا يحل البتة أن يدخله كافر، وهو قول الشافعي وأبي سليمان »(8)، ويدلّ عليه قوله تعالى:(إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا )[التوبة: 28]، فإنّ في الآية تحريمَ دخول الكفار والمشركين إلى المسجد الحرام، وتخصيص المسجد الحرام بالذِّكر في الآية الكريمة يدلّ بالمفهوم على أنّ غيره من المساجد ليس في حكمه، ويتأيَّد بمنطوق الأحاديث السابقة.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 24 شوال 1428ه
الموافق ل: 05 نوفمبر 2007م
__________
1- أخرجه أحمد في «مسنده »: (26498)، من حديث أم الدرداء رضي الله عنها. والحديث صححه الألباني في «الثمر المستطاب »: (1/31)، قال الهيثمي في «مجمع الزوائد » (1/617):« رواه أَحمد والطبراني في الكبير أسانيد ورجال أَحدها رجال الصحيح »، وصححه الألباني في «آداب الزفاف »: (68)، وانظر «السلسلة الصحيحة »: (7/1308).
2- أخرجه أبو داود في «اللباس »، باب في لباس الشهرة: (4033)، وأحمد: (5232)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وصححه العراقي في «تخريج الإحياء »: (1/359)، وحسنه ابن حجر في «فتح الباري »: (10/288)، والألباني في «الإرواء »: (1269).
3- اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية: (1/241).
4- أخرجه البخاري في «اللباس »، باب المتشبهين بالنساء والمتشبهات بالرجال: (5885)، وابن ماجة في «النكاح »، باب في المخنثين: (1979)، وأحمد في «مسنده »: (2306)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
5- أخرجه البخاري في «الجهاد والسير »، باب فداء المشركين: (2885)، من حديث جبير بن مطعم.
6- أخرجه أحمد في «مسنده »: (16444)، والبيهقي في «سننه »: (4366)، من حديث جبير بن مطعم.
7- أخرجه البخاري في «المساجد »، باب دخول المشرك المسجد: (457)، وابن حبان في «صحيحه »: (1239)، وأحمد في «مسنده »: (9523)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
8- «المحلى » لابن حزم: (4/443).(4/88)
06- صلاة السفر
الفتوى رقم: 53
حكم الموالاة في الجمع بين الصلاتين
السؤال: حكم الموالاة في الجمع بين صلاتين، أي هل يصح أن يصلي في مكان في وقت ثمّ لا يَصِلُ بها الصلاة الأخرى إلا بعد مدة وفي مكان آخر ولكنه في الوقت نفسه.
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فلا تشترط الموالاة بين المجموعتين مطلقا سواء في وقت الأولى أو في الثانية، وهو الأظهر من قولي العلماء أي يجوز الجمع وإن طال الفصل بينهما ما لم يخرج وقت الأولى وهو مذهب بعض الشافعية كأبي سعيد الاصطخري وبعض الحنابلة وهو من اختيارات ابن تيمية، وقد نص الإمام أحمد رحمه الله في جمع المطر، أنّه إذا صلى إحداهما في بيته، والصلاة الأخرى في المسجد فلا بأس. وهذا بخلاف مذهب الجمهور الذين يرون اشتراط الموالاة بين المجموعتين في وقت الأولى دون الثانية.
والصحيح أنّ الوقت مشترك عند الحاجة، والتقديم والتوسط ليس له حد في الشرع وإنّما يقع بحسب المصلحة والحاجة، واشتراط الموالاة لا يتحقق معه معنى المصلحة والحاجة ومراعاته يسقط مقصود الرخصة.
والعلم عند الله تعالى وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.(4/89)
الفتوى رقم: 56
المدة التي يقصر المسافر الصلاة
السؤال: ما صفة الصلاة وحكمها في سفر وإقامة...(أعني النازل في أثناء السفر)، بارك الله فيكم؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فالمسافر الذي لم ينو الإقامة الدائمة في البلد الذي سافر إليه ولا يعلم متى يرجع من سفره فإنّ له القصر، ولو أقام مدة طويلة تفوق مدة القصر أي ولو أقام سنين وهو أرجح أقوال أهل العلم وبه قال إسحاق بن راهويه وروي هذا عن ابن عمر وأنس وغيرهما(1) لأنّ الإقامة لا تخرج عن حكم السفر سواء طالت أم قصرت إذا لم يستوطن المكان وهو ما اختاره ابن القيم رحمه الله- قال ابن المنذر:"أجمع أهل العلم أنّ للمسافر أن يقصر ما لم يجمع إقامة وإن أتى عليه سنون" وذلك لأنّه ليس في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلاّ مقيم ومسافر كما قال تعالى: ?يوم ظعنكم ويوم إقامتكم?[النحل:80]، والمقيم هو المستوطن الذي اتخذ مسكنا خاصا ينوي الإقامة فيه مطمئنا فهذا لا يشرع له القصر، أمّا المقيم غير المستوطن الذي ينزل بمكان لا ينوي الإقامة به ولا يشعر بالاستقرار فهو مسافر يقصر الصلاة ولو أقام في مكان شهورا، لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يحد الإقامة بزمن محدود (لا ثلاثة، ولا أربعة، ولا اثنا عشر، ولا خمسة عشر)، وقد وردت آثار سلفية تشهد لهذا المذهب منها: أنّ المسلمين أقاموا بنهاوند ستة أشهر يقصرون الصلاة مع علمهم أنّ حاجتهم لا تنقضي في أربعة أيام ولا أكثر(2) وأقام ابن عمر رضي الله عنهما بأذربيجان ستة أشهر أريح عليهم الثلج فكان يصلي ركعتين،(3) والمعلوم أن الثلج لا يتحلل ويذوب في أربعة أيام، وعن أبي المنهال العنزي قال: قلت لابن عباس رضي الله عنهما: إنّي أقيم بالمدينة حولا لا أشد على سير؟ قال:"صلّ ركعتين"(4) وعن مسروق أنّه أقام بالسلسلة سنتين
يقصر الصلاة التماسا للسنة(5) وغيرها من الآثار التي تقوي هذا الرأي الذي تجتمع عليه كافة الأدلة.
والعلم عند الله تعالى وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّ اللّهم على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلّم تسليما.
الجزائر في:22ربيع الأول1419هـ
الموافق لـ:7جويلية1999م
__________
1- انظر المجموع للنووي:(4/365).
2- مجموع الفتاوى لابن تيمية:(24/18)
3- أخرجه البيهقي (3/152)، وأحمد(2/83-154) بنحوه مطولا بسند حسن، انظر الإرواء:(577)
4- أخرجه عبد الرزاق في مصنفه:(2/209).
5- أخرجه عبد الرزاق في مصنفه:(2/210)، وابن أبي شيبة في مصنفه:(2/353).(4/90)
الفتوى رقم: 57
مسافة القصر
السؤال: اختلف أهل العلم في تحديد مسافة السفر، فمنهم من يرى مطلق الضرب في الأرض، لكون الأدلة مطلقة، ومنهم من يحدد المسافة ب (80) كيلومتر بمسافة يوم وليلة للإبل والمشاة السير العادي، لكونها المسافة التي تعتبر سفرا عرفا بخلاف ما دونها.
يا شيخنا، فما الذي يجب اعتقاده في هذه المسألة، مع أنّه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال:«لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة وليس معها ذو حرمة معها »(1) ألا يفهم منه يا شيخنا بارك الله فيك تحديد مسافة السفر من النبي صلى الله عليه وسلم، ووجه الدلالة منه: مفهوم الحديث أنه يجوز لها أن تخرج مسيرة ما دون يوم وليلة من غير ذي حرمة منها، فكأنّه يشير إلى ما دون مسيرة يوم وليلة ليس بمسافة سفر، لأنّ الأصل في سفر المرأة أن تكون مع ذي حرمة منها كما في الحديث والله أعلم؟
أفيدونا يا شيخنا جزاكم الله عن المسلمين خير الجزاء.
وفي الختام أعتذر مرة أخرى عن تقصيري في طريقة السؤال عن الدين وجزاكم الله عن المسلمين خير الجزاء وأطال من عمركم يا شيخنا الفاضل.
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فالذي ينبغي أن يعلم أنّه لا تلازم بين اعتبار المحرم للمرأة ووجوب القصر على غيرها من المسافرين لاختلاف العلة في كل منهما، إذ علة مشروعية المَحْرم ليس ذات السفر وإنّما شرع لها احتياطا لسمعتها وكرامتها وحماية لها من مخاطر الاعتداء ومن طمع الذين في قلوبهم مرض، فتحريم سفرها ليس لذاته وإنّما حرم بغير محرم سدا للذريعة، بخلاف علّة مشروعية رخصة القصر إنّما هي ذات السفر بغض النظر عن جنس المسافر فافترقا، فلم يبق التمسك بظاهر الحديث لتقرير حكم السفر لعدم ثبوت التلازم بين العلتين.
فليس في الحديث أنّ السفر لا يطلق إلاّ على اليوم والليلة وإنّما فيه أنّه لا يجوز أن تسافر المرأة بغير محرم هذا السفر الخاص، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه كان إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ(شك شعبة) قصر الصلاة(2) بل ثبت عن بعض الصحابة القصر في أقل من هذه المسافة. قال ابن عمر رضي الله عنهما:"تقصر الصلاة في ثلاثة أميال"(3) وفي ذلك آثار أخرى(4).
ولو سلم -جدلا- مدلول حديث النهي عن سفر المرأة مسيرة يوم و ليلة لكونه سماه النبي صلى الله عليه وسلم سفرا وهو أقل مسافة لعدم ثبوت حديث أو رواية:«أن تسافر بريدا »(5) فجوابه أن ما فوق يوم وليلة يكون مشمولا بالحديث ويعتبر معنى السفر فيه عن طريق فحوى الخطاب، لكن لا يلزم منه عدم مشروعية القصر فيما دون "يوم و ليلة" إلاّ عن طريق مفهوم المخالفة أو دليل الخطاب الذي لا تصلح حجيته ههنا عند القائلين به لانتفاء شرط اعتباره المتمثل في أن لا يكون تخصيصه بالذكر لأجل التوكيد كما ورد في مذكرة الشنقيطي(6) وفضلا عن ذلك فلو سلمنا حجيته لما صلح الاستدلال به إلاّ أن يثبت عند أهل اللغة وفي لسان أهل الشرع أنّ من قصد دون "يوم وليلة" لا يقال له مسافر، لذلك كانت التقديرات الواردة في الأحاديث ليست فيها دلالة على عدم جواز القصر فيما كان أقلّ منها مع كونها محتملة أن يكون قاصدا لسفر هو خلف ذلك المقدار وأن يكون ذلك هو منتهى سفره على ما قرره الشوكاني في السيل وقال:"فالواجب الرجوع إلى ما يصدق عليه أنّه سفر وأنّ القاصد إليه مسافر ولا ريب أنّ أهل اللغة يطلقون اسم المسافر على من شدّ رحله وقصد الخروج من وطنه إلى مكان آخر فهذا يصدق عليه أنّه مسافر وأنّه ضارب في الأرض ولا يطلقون اسم المسافر على من خرج مثلا إلى أمكنة قريبة من بلده لغرض من الأغراض، فمن قصد السفر قصَرَ إذا حضرته الصلاة و لو كان في ميل بلده"(7) وقد سبق أنّ ابن تيمية رجح هذا المعنى في السفر الذي تقصر فيه الصلاة(8) حيث رجح جوازه في كلّ سفر قصيرا كان أو طويلا كما قصر أهل مكة خلف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة ومنى، وبين مكة وعرفة نحو أربعة فراسخ، وقال:" وبهذا قال طائفة أخرى من أصحاب أحمد وغيرهم، أنّه يقصر في السفر الطويل والقصير، لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يوقت للقصر مسافة ولا وقتا، وقد قصر خلفه أهل مكة بعرفة ومزدلفة، وهذا قول كثير من السلف والخلف وهو أصح الأقوال في الدليل، لكن لا بد أن يكون ذلك ممّا يسود في العرف سفرا قبل أن يتزود له ويبرز للصحراء"(9) وقال في موضع آخر:" كل اسم ليس له حد في اللغة ولا في الشرع، فالمرجع فيه إلى العرف، فما كان سفرا في عرف الناس، فهو السفر الذي علق به الشارع الحكم"(10).
ويؤيد ذلك -عندي- أنّ صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بأهل مكة وغيرهم من أهل المشاعر في منى ومزدلفة وعرفة في حجة الوداع كانت بهم قصرا ولم يصنع مثل هذا في يوم الفتح حيث إنّ النبي صلى الله عليه وسلم صلى في دارهم وهو مسافر ثمّ قال:«أتمّوا صلاتكم فإنّا قوم سفر »(11) فلو كان أهل مكة والمشاعر غير مسافرين لأمرهم بالإتمام كما جاء في هديه، لكنّهم لمّا تأهبوا وشدوا الرحال عدّوا مسافرين بالرغم من قصر سفرهم وجرت عليهم أحكام أهل الآفاق البعيدين، وهذا الهدي سلكه من بعده أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ومن بعدهم من القرون المفضلة من غير نكير.
والعلم عند الله تعالى وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّ اللّهم على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلّم تسليما.
__________
1- أخرجه البخاري في تقصير الصلاة(1088)، ومسلم في الحج (3330)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2- أخرجه أحمد (3/169)، والبيهقي(3/146)، من حديث أنس بن مالك رضي اله عنه، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة(رقم:163).
3- أخرجه ابن أبي شيبة وصححه الألباني في الإرواء(3/18)
4- انظر الآثار المروية عن الصحابة رضي الله عنهم في مصنف عبد الرزاق وابن أبي شيبة وقد نص على بعضها في الإرواء:(3/16) وما بعدها.
5- أخرجه أبو داود في الحج(1725)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وحكم عليه الألباني بالشذوذ في تحقيقه لسنن أبي داود رقم:(1725)، وصححه في صحيح الجامع:(7302).
6- مذكرة الشنقيطي:(241).
7- السيل الجرار للشوكاني(1/308).
8- مجموع الفتاوى:(24/15.12).
9- مجموع الفتاوى لابن تيمية(24/15).
10- المصدر السابق(24/40)
11- أخرجه أبو داود في صلاة السفر(1229)، من حديث عمران بن الحصين قال: غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم وشهدت معه الفتح، فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلاّ ركعتين، يقول:"يا أهل البلد صلوا أربعا فإنّا قوم سفر" وأخرجه كذلك ابن خزيمة:(1643)، والبيهقي(5593)، وضعفه الألباني في سنن أبي داود(1229). وصحّ موقوفا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.(4/91)
الفتوى رقم: 58
حكم صلاة المسافر مع الجماعة
السؤال: ما حكم الصلاة مع جماعة المقيمين للمسافر؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فحكم صلاة المسافر مع الجماعة فإنّ أكثر أهل العلم يرون أنّ المسافر إذا كان نازلا وقت إقامتها فلا جمعة عليه تلزمه، ولكنه يحرص على صلاة الجماعة في المسجد أو في غيره ولا يدعها لأنّ النبي صلى الله وسلم كان يسافر فلا يصلي الجمعة، فصلى الظهر والعصر جمع تقديم جماعة ولم يصل جمعة، وكذلك كان فعل الخلفاء وغيرهم من بعده، ولما رواه يزيد بن الأسود قال: صلينا مع النبي صلى الله عليه وسلم الفجر بمنى فجاء رجلان حتى وقفا على رواحلهما، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فجيء بهما ترتعد فرائصهما فقال لهما:« ما منعكما أن تصليا مع الناس، ألستما مسلمين ؟ »، قالا:بلى يا رسول الله إنا كنا قد صلينا في رحالنا، فقال لهما:« لا تفعلوا إذا صلى أحدكم في رحله ثمّ أدرك الإمام ولم يصل فليصل معه فإنّها له نافلة »(1) وفي لفظ:«إذا صليتما في رحالكما ثمّ أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم، فإنّها لكما نافلة »(2) ولقوله صلى الله عليه وسلم:"إذا كنتما في السفر فأذنا وأقيما ويؤمكما أكبركما"(3)، ولأن الله أمر بصلاة الجماعة في حال الخوف في قوله تعالى ?وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة...? الآية[النساء:102] ففي حال الأمن أولى، لذلك تناول الخطاب الإلهي الجماعة في جميع الأحوال بالتوجيه والإرشاد في قوله تعالى: ?ياأيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون?[الحج:77]، وقوله تعالى: ?وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين?[البقرة:43].
هذا وإذا اقتدى المسافر بمقيم يتم ولا يقصر لقوله صلى الله عليه وسلم:«إنّما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه »(4) ولحديث قتادة عن موسى بن سلمة الهذلي قال:كنا مع ابن عباس فقلت: إذا كنّا معكم صلينا أربعا وإذا رجعنا إلى رحالنا صلينا ركعتين قال:" تلك سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم"(5) وعلى هذا جرى عمل السلف، وبه قال الأئمة الأربعة وغيرهم من جماهير العلماء وقد صح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّه أقام بمكة عشر ليال يقصر الصلاة إلا أن يصليها مع الإمام فيصليها بصلاته(6).
إمّا أن يدرك معه أقل من ركعة فإنّ عليه القصر، لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم جعل أقل ما تدرك به الصلاة هو الركعة وبهذا قال الزهري والنخعي ومالك رحمهم الله.
أمّا إذا أدرك معه الركعتين الأخيرتين أو أدرك ركعة واحدة فهو مخير بين الاقتصار على الركعتين أو يتمّ صلاته على ما يشهد لذلك بعض الآثار عن التابعين، وبهذا قال ابن حزم، غير أنّ التخيير لا يلزم منه التسوية لذلك كان الأحبّ عندي إتمامها أربعا موافقة للجمهور، وبه قال ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما.
والعلم عند الله تعالى وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّ اللّهم على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلّم تسليما.
__________
1- أخرجه أبو داود في الصلاة:(575) وأحمد:(17940) من حديث يزيد بن الأسود العامري رضي الله عنه.
2- الترمذي في الصلاة (219). والنسائي في الإمامة(858)، وأحمد(17937)، وصححه الألباني في المشكاة(1152).
3- أخرجه البخاري في الأذان(630)، ومسلم في المساجد(1570)، من حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه.
4- أخرجه البخاري في الأذان(722)، ومسلم في الصلاة(957)، وأحمد(8379)، والدارقطني(1259)، والبيهقي(2379)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
5- أخرجه مسلم في صلاة المسافرين(1609)، والنسائي في تقصير الصلاة في السفر(1443)، وأحمد(1890)، وابن خزيمة(951)، وابن حبان(4/185/2744)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة(6/386)، وكذا في إرواء الغليل(3/21).
6- أخرجه مالك في الموطأ(1/164)، والطحاوي في شرح المعاني (1/244)، عن نافع، وانظر السلسلة الصحيحة(6/388).(4/92)
الفتوى رقم: 67
في حكم جمع تقديم بين صلاة المغرب والعشاء ومحل الوتر حال التقديم
السؤال: هل يجوز أن تصلى صلاة العشاء جمع تقديم بعد صلاة المغرب في المسجد جماعة والوتر أيضا؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما، أما بعد:
فيجوز للمصلي أن يجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء سواء كان الجمع تقديمًا أم تأخيراً لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم:« أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالعَصْرِ، وَالمغْرِبِ وَالعِشَاءِ بِالمدِينَةِ فِي غَيْرِ خَوْفٍ وَلاَ مَطَرٍ"(1) وغيرها من الأحاديث الصحيحة، كما ثبت عن ابن عمر رضي الله عنهما:" أَنَّهُ كَانَ إِذَا جَمَعَ الأُمَرَاءُ بَيْنَ المغْرِبِ وَالعِشَاءِ فِي المطَرِ، جمَعَ مَعَهُمْ"(2)، ولا وجود لجمع آخر، فإن جمع للحرج في السفر أو المطر أو المرض أو للحاجة العارضة بين المغرب والعشاء جمع تأخير فإنّه يجوز له أن يوتر بعد العشاء وهو أول الليل، أما إن جمع جمع تقديم فلا يجوز له أن يوتر إلا بعد دخول وقت الوتر، لأنَّ وقته من بعد صلاة العشاء في وقتها الأصلي حتى الفجر لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« إِنَّ اللهَ زَادَكُمْ صَلاَةً، وَهِيَ الوِتْرُ، فَصَلُّوهَا بَيْنَ صَلاَةِ العِشَاءِ إِلَى صَلاَةِ الفَجْرِ"(3) كما يجوز له أن يؤخر الوتر إلى أوسط الليل وآخره لحديث عائشة رضي الله عنها قالت:" مِنْ كُلِّ اللَّيْلِ قَدْ أَوْتَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ وَأَوْسَطِهِ وَآخِرِهِ، فَانْتَهَى وِتْرُهُ إِلَى السَّحَرِ"(4).
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه على يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 28 من ذي الحجة 1426ه
الموافق ل: 28 يناير 2006م
__________
1- أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (1667)، وأبو داود في صلاة المسافر (1213)، والترمذي في الصلاة (187)، والنسائي في المواقيت (609)، وأحمد (1981)، والبيهقي (5761)، من حديث ابن عباس رضي الله عنه.
2- أخرجه مالك (333)، والبيهقي (5766)، وعبد الرزاق في المصنف (4288)، عن نافع رحمه الله، وصححه الألباني في إرواء الغليل: (583).
3- أخرجه أحمد (24580)، والحاكم في المستدرك (6591)، والطحاوي في مشكل الآثار (3853)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (596).
4- أخرجه البخاري (966)، ومسلم في صلاة المسافرين (1771)، والترمذي في الصلاة (459)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1241)، وأحمد (24920)، والحميدي في مسنده (196)، والبيهقي (5030)، من حديث عائشة رضي الله عنها.(4/93)
الفتوى رقم: 181
في مسألة قصر صلاة المسجون المسافر به
السؤال: يرجى منكم إفادتنا عن حكم صلاة الأسير الذي برز عن محل إقامته إلى سجن آخر محتمل، هل يقصر صلاته أم يتم؟ وشكرا
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فاعلم-وفقك الله- أنّ الاستقلال بالرأي من الأمور المشترطة لصحة القصر، فمن كان تابعا غيره-أمرا ونهيا- ممن هو مالك أمره كالزوجة مع زوجها، والجندي مع أميره، والخادم مع سيده، والمسجون مع ساجنه، فكلّ واحد منهم إذا علم مقصده، فحكم التابع حكم المتبوع في قصره، لأنّ شرط قصد موضع معين تحقق، فإن لم يعلم قصده، وقطع به مسافة تعيّن من خلالها طول سفره، فالواجب أن يقصر وإن لم يقصر المتبوع، أمّا إن لم يتقين فحكمه الإتمام ولا يقصر صلاته.
والله أعلم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.(4/94)
07- الجمعة
الفتوى رقم: 48
الجمعة للمسافر
السؤال: شخص سافر من الجزائر إلى الشلف وبقي فيها ثلاثة أيام، وفي اليوم الثاني كانت الجمعة، فهل له أن يصلي الجمعة في المسجد أم لا؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فله أن يصلي الجمعة في المسجد وله أيضا أن يصلي الظهر قصرا مع اختلافهم في الأفضلية والأفضل عندي شهود الجمعة والجماعات ما لم يكن يضرب في الأرض ويسير فالظهر قصرا جماعة أفضل لعدم ثبوت دليل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه صلّى الجمعة في سفره ولا عن الخلفاء الراشدين من بعده كما لم يحفظ عنهم ترك صلاة الجماعة في حضر ولا سفر ولا جهاد.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.(4/95)
الفتوى رقم: 51
ترك صلاة الجمعة من أجل العمل
السؤال: بعض المصالح الخاصّة توجب على عمالها البقاء يوم الجمعة للمداومة في مؤسّستها فهل يصلّون ظهرا أم جمعة؟ وإن كان الأول فهل يجب أن يصلّوها جماعة؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فاعلم أنّ صلاة الجمعة فرض عين على المسلم الحرّ العاقل البالغ المقيم القادر على السعي إليها الخالي من الأعذار المبيحة للتخلف عنها باتّفاق، لقوله تعالى: { يَاأَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُوْدِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَومِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا البَيْعَ، ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ?[الجمعة 9] ولقوله صلى الله عليه وسلم:"لينتهينَّ أقوامٌ عن وَدْعِهم الجمعات، أو ليختمنَّ الله على قلوبهم ثمّ ليكونُنَّ من الغافلين"(1) ولقوله صلى الله عليه وسلم:"من ترك ثلاث جُمَعٍ تهاونا بها طبع الله على قلبه"(2) هذا، والجمعة تصلح تأديتها في جميع الأماكن سواء في مصر أو قرية أو مسجد أو أبنية بلد، أو الفضاء التابع لها، فالجمعة من جنس الصلوات إجماعا، فهي لا تختص بحكم غيرها إلاّ ما استثناه الدليل، لقوله صلى الله عليه وسلم:" وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا"(3)، وقد كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أهل البحرين :"أن جمعوا حيثما كنتم"(4) وهو شامل لكلّ الأماكن حتى أهل المياه على نحو ما صحّ الأثر عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإن تعذّر إقامتها لسبب أو لآخر، فقد تقدّم أنّ من شرط وجوب الجمعة أن يكون الساعي لها خاليا من الأعذار المبيحة للتخلّف عنها، وفي الجملة كلّ من تلحقه مفسدة أو مضرة عند السعي إليها فهو معدود من أهل الأعذار عملا بقوله صلى الله عليه وسلم:"من سمع النداء ولم يجبه، فلا صلاة له إلا من عذر"(5) والعذر المتمثل في المشقة والحاجة والضرورة الذي هو سبب الرخصة أمر إضافيّ نسبيّ لا أَصْلِي يرجع تقديره إلى اجتهاده الشخصي ووسعه وطاقته الخاصّة وهو موكول إلى دينه وإيمانه وورعه وتقواه في اعتباره، فكلّ مكلّف فقيه نفسه في الأخذ بالرخصة ما لم يجد فيها حدًّا شرعيا فيقف عنده.
وتتميماً للفائدة فإنّ الحديث السابق يفيد -أيضا- أنَّ من شرط وجوب الجمعة والجماعة سماع النداء، وهو شامل بالضرورة المتواجد خارج البلد فضلا عمن بداخله، والاعتبار في سماع النداء أن يكون المؤذن صيتاً، والأصوات هادئة والرياح ساكنة، والعوارض منتفية.
هذا، وممّا تقرر فقهاً، أنَّ من لا تجب عليه الجمعة ولم يحضرها يصلّيها ظهرا.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
__________
1- أخرجه مسلم كتاب الجمعة: باب التغليظ في ترك الجمعة، والدارمي كتاب الصلاة: باب في من يترك الجمعة من غير عذر، والبغوي في شرح السنة كتاب الجمعة: باب وعيد من ترك الجمعة بغير عذر، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2- أخرجه أبوداود كتاب الصلاة :باب تفريع أبواب الجمعة: باب التشديد في ترك الجمعة، والترمذي كتاب الجمعة: باب ما جاء في ترك الجمعة من غير عذر، وابن ماجة كتاب إقامة الصلاة و السنة فيها، باب فيمن ترك الجمعة من غير عذر، وأحمد (3/424-425)، وابن حبان كتاب الصلاة: باب صلاة الجمعة رقم (2775) من حديث أبي الجعد الضمري رضي الله عنه، والحديث صححه الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (727).
3- أخرجه البخاري كتاب الصلاة: باب جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، ومسلم كتاب المساجد ومواضع الصلاة عن جابر رضي الله عنه.
4- أخرجه ابن أبي شيبة : باب من كان يرى الجمعة في القرى وغيرها، قال الألباني في الضعيفة (2/318): إسناده صحيح على شرط الشيخين
5- أخرجه ابن ماجة كتاب المساجد والجماعة: باب التغليظ في التخلف عن الجماعة، وابن حبان كتب الصلاة: باب فرض الجماعة والأعذار التي تبيح تركها، والحاكم كتاب الصلاة(1/363)، وانظر الإرواء (2/337)، تمام المنة (367)، صحيح الترغيب والترهيب (1/301) رقم (436).(4/96)
الفتوى رقم: 60
ما حكم صلاة الجمعة في المنفى، والقصر فيه للمدة الطويلة
السؤال: بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد:
نضع بين أيديكم شيوخنا الأفاضل هذه الأسئلة والاستفسارات التي نريد من سيادتكم الإجابة عليها بالأدلة الشرعية.
- نريد أن نضع سيادتكم في الواقع الذي نعيش فيه وهو أنّه لا يخفى عليكم بأنّنا قمنا منذ حوالي(30) سنة في أرض اللجوء، وقمنا بتأسيس وزارات، وجميع هياكل الدولة، من برلمان، وجيش، ودرك، وشرطة، وجمارك، وبناء المستشفيات والمدارس ومحطات البث الإذاعي، ومراكز الهاتف ومحطة تلفزة محلية، وبناء الأسواق ودور الشباب، ومراكز الإنترنت، وبناء بعض المزارع التي تشرف الدولة عليها، وانتشار حركة التجارة بيننا وبين الجزائر وموريتانيا، وقد استتب الأمر منذ أن تمّ توقيف إطلاق النار الذي أشرفت عليه الأمم المتحدة سنة (1991م)، وللعلم فإنّ أهل المنطقة يفتقدون إلى أهل العلم، وفي المدة الأخيرة قامت الدولة ببناء بعض المساجد وتمّ إقامة صلاة الجمعة فيها وهي الخطوة التي لاقت تجاوبا كبيرا من الشعب، ولكن تفاجئنا ببعض الشيوخ الذين يعارضون بناءها بحجة عدم الاستيطان، مع العلم بأنّ جميع مرافق الحياة قد تمّ بناؤها كما ذكر ولم يعترضوا عليها، وللعلم فإنّ أغلب الدعم نتلقاه من المنظمات الأوروبية.
- ولذا نريد من سيادتكم بيان الحكم الشرعي في إقامة هذه الشعيرة العظيمة التي لا يستقيم أمر جماعة المسلمين دون إقامتها.
- وما هو حكم من يقصر الصلاة منذ (30)سنة، ولا يصوم شهر رمضان مع العلم أنّ حاله كما ذكر في السؤال السابق؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فمن المعلوم شرعا أنّ صلاة الجمعة مجمع على فرضيتها عينا على المسلم البالغ المقيم القادر على السعي لها الخالي من الأعذار المبيحة للتخلف عنها، ومن أهل الأعذار ممّن يرخص لهم في التخلف عنها المسافر ولو كان نازلا وقت إقامتها فإنّ أكثر أهل العلم على القول بعدم وجوبها عليه لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يسافر فيصلي الظهر والعصر جمع تقديم جماعة ولم يصلّ جمعته، غير أنّ النازلين بالمنفى المدّة الطويلة أشبه بالمقيمين المستوطنين بالنظر إلى عدم قدرتهم على الرجوع إلى بلدهم حال رغبتهم في الانتقال إليه، فضلا عن طبيعة سكنهم والاستقرار به المتجلي في تعمير منطقتهم بالمرافق الضرورية التي يحتاج إليها المقيم، فهم في حكمه، ويشهد لذلك فعل عثمان بن عفان رضي الله عنه لمّا تأهل صلّى بمنى أربع ركعات، وإذا تقررت إقامتهم وجب عليهم أداء هذه الشعيرة الإسلامية الخالدة وهي صلاة الجمعة، حيث أمروا بأدائها والتجميع لها حتى في القرى وما دونها من أماكن التجمع لقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما سئل عن الجمعة فكتب إليهم:"جمعوا حيثما كنتم"(1) وروى ابن أبي شيبة بسند صحيح عن مالك أنّه قال:"كان أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم في هذه المياه بين مكة والمدينة يجمعون"(2) وهذا ما يوافق النصوص الشرعية العامة الآمرة بإقامتها والمحذرة من تركها قوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلْصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَ ذَرَوا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ?[الجمعة:9] وبقوله صلى الله عليه وسلم:" لينتهينّ أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثمّ ليكوننّ من الغافلين"(3) وضمن هذا المنظور يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:" فإن كان قوم كانوا مستوطنين ببناء متقارب لا يظعنون عنه شتاء ولا صيفا تقام فيه الجمعة إذا كان مبنيا بما جرت به
عادتهم من مدر وخشب أو قصب أو حديد أو سعف أو غير ذلك، فإنّ أجزاء البناء ومادته لا تأثير لها في ذلك إنّما الأصل أن يكونوا مستوطنين ليسوا كأهل الخيام والخلل الذين ينتجعون في الغالب مواقع القطر، وينتقلون في البقاع، وينقلون بيوتهم معهم إذا انتقلوا وهذا مذهب الجمهور"(4).
- أمّا السؤال الثاني فهو متفرع عن المسألة السابقة، فإنّ المستوطن في غير بلده إن حطّ رحله فيه ومسكنه مطمئنا فهذا مقيم لا يشرع القصر له لأنّ العبرة في السفر والإقامة بطبيعة السكن والاستقرار به لا بالمدة، وبناء عليه فإنّ على من كان يقصر الصلاة إتمامها، وعلى من أفطر رمضان قضاء أيامه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين و سلم تسليما.
الجزائر في:26 محرم 1426هـ
الموافق لـ: 07 مارس 2005 م
__________
1- أخرجه ابن أبي شيبة : باب من كان يرى الجمعة في القرى وغيرها، قال الألباني في الضعيفة (318/2): إسناده صحيح على شرط الشيخين
2- أخرجه ابن أبي شيبة(2/102)، وانظر تمام المنة للألباني(332).
3- أخرجه مسلم في الجمعة(2039)،والنسائي في الجمعة(1330)، وأحمد(5689)، من حديث ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم.
4- مجموع الفتاوى لابن تيمية(24/166).(4/97)
الفتوى رقم: 63
في حكم الجمعة للمعذور
السؤال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته إلى مشرفي موقع الشيخ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من سألكم بالله فأعطوه) وأنا أسألكم بالله أن توصلوا سؤالي إلى الشيخ فركوس، فنحن في خطر كبير أنا شاب سُني من جنوب العراق، وهذه المنطقة غالبيتها شيعة، والمنطقة التي أسكن بها لا يتجاوز أهل السنة فيها واحدا بالمائة، ولنا ثلاثة مساجد في المنطقة ذلك لأنّ الحكومة السابقة كانت حكومة سنية لذلك فالشيعة يهددون مصالحها فأكثرت من مساجدنا في المنطقة ونحن الآن مضطهدون من الناس الذين يسكنون المنطقة ومن الحكومة العراقية فأهل السنة الفعالون والذين يتكلمون أكثرهم اعتقلتهم الحكومة العراقية، وسؤالي هو هل نحن نعتبر آثمين إذا لم نذهب إلى صلاة الجمعة أو الجماعة لأن هذا يعتبر تهديدا لحياتنا واحتمال أن نعتقل من قبل الحكومة وكثير من أهل السنة ذهبوا إلى مناطق أخرى في العراق ولكن الذين بقوا لا يستطيعون الهجرة فأجيبوا على سؤالي مأجورين وتعجلوا بالإجابة لأن الشباب ينتظرون ردكم يا سماحة الشيخ ونحن نعتقد فيكم السنة فلذلك استفتيناكم في هذه المسألة الخطيرة ولكن أرجو منكم أن توصلوا صوتي إلى العلماء في المملكة فنحن نحبهم، وشكرا أخوكم العراقي
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فاعلم -ثبّتك الله على الحقّ- أنّ الجمعة واجب شهودها على المسلم الحرّ الذكر العاقل البالغ الصحيح المقيم القادر على السعي إليها الخالي من الأعذار المبيحة للتّخلّف عنها، ووجوب صلاتها فرضٌ عينيّ إجماعاً لقوله تعالى: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ? [الجمعة:9]، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلّم:" لينتهينّ أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمنّ الله على قلوبهم ثمّ ليكوننّ من الغافلين"(1) ولقوله صلى الله عليه وآله وسلّم "من ترك ثلاث جمع تهاونا بها طبع الله على قلبه"(2) وفي رواية أخرى:" من ترك ثلاث جمعات من غير عذر، كتب من المنافقين"(3).
ومن الأعذار المبيحة للتخلّف عن الجمعة والجماعة، الخوف من ضرر يلحقه في نفسه أو ماله أو عرضه(4) كالمختفي من الحاكم الظالم والمدين المعسر ونحوهما، فقد روى ابن عباس رضي الله عنهما أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم قال:" من سمع النداء فلم يُجِب فلا صلاة له إلاّ من عذر" قالوا يا رسول الله وما العذر ؟ قال :" خوف أو مرض"(5)، وهذه الرواية وإن لم يصحّ فيها جملة العذر إلاّ أنّ العلماء لا يختلفون في أنّ المرض والخوف من الأعذار المبيحة للتّخلف عنها ، غير أنّ الخوف نسبيّ يختلف باختلاف الأشخاص ، وليسوا سواء فمن حلّ فيه الخوف وزاد عليه ولم يأمن فمعذور في تخلّفه ، ومَن أمِن ولم يحصل له خوف فغير معذور في تركه الجمعة والجماعات ، ولا يمكن التسوية بين الخائف وغير الخائف ولا أن يفرض على غير الخائف أمر الخائف سواء بعد تحرّي الأمور وعواقبها أم لم يتحرّ ، لكن واجب النصيحة قائم فيمن يخشى منه إلقاء بنفسه إلى التهلكة أو إلى أيِّ مفسدة أخرى لقوله تعالى : ?وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً?[النساء: 29] ولقوله تعالى: ?وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ?[البقرة: 195].
هذا ومن لم يستطع إظهار دينه أو يؤدّي شعائر الدين وخاصة الجمعة والجماعات لعدم أمنه ولا يستطيع ذلك إلاّ بالهجرة من ذلك المكان فتكون هجرته منه واجبة إذ ما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب قال تعالى " يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ " [العنكبوت : 56]، وقال تعالى: ?إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً?[النساء: 97] ، وهذا بالنسبة لأهل القدرة على الهجرة أمّا العاجزون عنها من المستضعفين فإنّ الله سبحانه عفا عنهم لعجزهم عن الهجرة إذ لا تكليف إلاّ بمقدور قال تعالى: ?لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا?[البقرة: 286] قال الله تعالى: ?إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً?[النساء: 98] .
نسأل الله لكم الثبات في الدنيا والآخرة والسداد في القول والصّبر على الحقّ والصّدع به واحتمال الأذى قال تعالى عن لقمان -وهو يعظ ابنه- ?يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ? [لقمان: 17].
والعلم عند الله وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على نبينا محمّد وعلى آله وسلّم تسليما.
الجزائر في: 2 رجب 1426ه
الموافق لـ: 7 أوت 2005م.
__________
1- أخرجه مسلم كتاب الجمعة (2039)، والدارمي كتاب الصلاة: باب في من يترك الجمعة من غير عذر(1622)، والبغوي في شرح السنة كتاب الجمعة: باب وعيد من ترك الجمعة بغير عذر، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2- أخرجه أبو داود في الصلاة(1054)، والنسائي في الجمعة(1378)، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها(1179)، وأحمد(15897)، من حديث أبي الجعد الضمري رضي الله عنه. وقال الألباني في صحيح سنن ابن ماجه(1/357):"حسن صحيح". وصححه في صحيح الجامع( 6143 ).
3- أخرجه الطبراني في الكبير(422)، من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه. وصححه الألباني في صحيح الجامع(6144).
4-انظر: المغني لابن قدامة: 1/451. الأشباه والنظائر للسيوطي : 439.
5- أخرجه أبو داود(551)، والدارقطني(1576)، والبيهقي(5249)، من حديث ابن عباس رضي الله عنه.(4/98)
الفتوى رقم: 70
فيما يترتب على من لم يدرك صلاة الجمعة بعذر
السؤال: انقطع التيار الكهربائي في مسجد حيّنا -وهم في صلاة الجمعة- فلم تسمع النساء خطبة الجمعة ولا الصلاة، فهل يصلينها ظهرا: أربع ركعات، أم ركعتين؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وآله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فالواجب على من لم يدرك الجمعة أن يصليها ظهرًا بأربع ركعات، ما لم يكن مسافرًا فيصلي الظهر ركعتين، لما ثبت من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:« مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الْجُمُعَةِ أَوْ غَيْرِهَا فَقَدْ تَمَّتْ صَلاَتُهُ"(1) فإنه يدل بالمفهوم على أن من لم يدرك ركعة فقد فاتته الجمعة، ووجب في حقه الظهر، ويؤيده قول ابن مسعود رضي الله عنه:" مَنْ فَاتَتْهُ الرَّكْعَتَانِ فَلْيُصَلِّ أَرْبَعًا"(2).
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرًا.
الجزائر في: 13 محرم 1427ه
الموافقل: 12 فبراير 2006م
__________
1- أخرجه النسائي في "المواقيت" (562)، والدارقطني في "سننه" (1627)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. قال الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (14/195):" صحيح غريب". وقال الألباني في "إرواء الغليل" (3/90):" وجملة القول أنّ الحديث بذكر الجمعة صحيح من حديث ابن عمر مرفوعا وموقوفا، لا من حديث أبي هريرة. والله تعالى ولي التوفيق".
2- أخرجه الطبراني في "الكبير" (9431)، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه موقوفا. وحسنه الهيثمي في "مجمع الزوائد" (2/192)، انظر "تمام المنة" للألباني: (340).(4/99)
الفتوى رقم: 72
في تدريس يوم الجمعة قبل الخطبة
السؤال: لنا إمام في مسجدنا يقتصر نشاطه على إقامة الصلوات الخمس، وخطبة الجمعة، ولا يلقي دروسا أسبوعية، فاستأذنته في إقامة دروس في التوحيد فأذن شريطة أن تكون هذه الدروس يوم الجمعة قبل الخطبة بحجة كثرة المصلين في هذا الوقت، فما هي نصيحتكم؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما، أما بعد:
فإنه بغض النظر عن الشروط المؤهلة لتصدر مجالس العلم والتوجيه، فإنَّ العلم الشرعي هو:" قال الله قال رسوله"، وقد "نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن التحلق قبل الجمعة"(1) فكيف يدعو الموجه إلى التوحيد بقوله ما يخالف العلم بفعله؟ لذلك كان اتباع الوحي، والتزام العمل بالنصوص الشرعية من مقتضى توحيد الله والإيمان به قال تعالى: ?مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ?[النساء: 80] وقال تعالى: ?قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ?[آل عمران: 32] وقال تعالى: ?اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء?[الأعراف: 3]، فلا نجاة من الله إلا بتوحيدين: توحيد المُرسِل، وتوحيد متابعة الرسول، فلا يُحاكم إلى غيره، ولا ترضى بحكم غيره.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 23 محرم 1427ه
الموافق لـ: 22 فبراير 2006م
__________
1- أخرجه أبو داود في الصلاة (1081)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه. وصححه الألباني في صحيح الجامع (6885).(4/100)
الفتوى رقم: 155
الأعذار المبيحة لترك الجمعة
السؤال: أعمل في مركب المنظفات بمدينة "سور الغزلان" وهذا المصنع يبعد عن المدينة بستة (06) كيلومترات كما أني لا أسمع النداء لصلاة الجمعة، وحيث أكون في مدة العمل وقت الصلاة، ورئيس المصلحة لا يسمح لي بالخروج قبل الوقت.
لذا أبحث عن حكم مايلي:
1. حكم العمل في هذا اليوم "الجمعة"؟
2. إذا كان العمل المُوجب ترك الجمعة لمدة أربعة أشهر فقط حيث أتخلف عن الجمعة مرة في كل شهر، فما هو الحكم؟
3. هل صلاة الجمعة متعلقة بسماع النداء؟
4. إذا كان الحكم بترك العمل نهائيا، أعلمكم أنّ ذلك يحدث مفاسد تصل إلى حد الطرد من البيت مع أهلي، فهل هذه المفسدة تغيِّر من الحكم؟
5. إذا كان العمل يوم الجمعة مرة في الشهر، وذلك بصفة دائمة، فما هو الحكم؟
أفتونا مأجورين
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه أجمعين، أمّا بعد:
فاعلم أنّه من شرط وجوب الجمعة أن يكون الساعي إليها خاليا من الأعذار المبيحة للتخلف عنها، كما هو الشأن بالنسبة للمدين المعسر الذي يخشى الحبس، والمختفي عن الحاكم الظالم، أو المرض الشديد الذي يشق معه الذهاب إلى المسجد، أو يخاف أن يترصد له في طريقه إلى المسجد أو في المسجد فيقبض عليه أو يقتل، وأمثال ذلك، وفي الجملة كل من تلحقه مفسدة ومضرة فهو معدود من أهل الأعذار عملا بقوله صلى الله عليه وسلم:"من سمع النداء ولم يجبه، فلا صلاة له إلا من عذر"(1) ويفيد الحديث -من جهة أخرى- بمفهومه أنّ من شرط وجوب الجمعة والجماعة سماع النداء، ويؤيده ما ثبت أنّ "الجمعة على من سمع النداء"(2) فتجب الجمعة على المقيم في البلد، مصر أو قرية وعلى من في خارجه إن سمع النداء للحديث السابق وهو شامل لحال السائل، فإذا سمع النداء لزمه، وبهذا قالت الشافعية ومن وافقهم، والاعتبار في سماع النداء أن يكون المؤذن صيتا، والأصوات هادئة والرياح ساكنة والعوارض منتفية، ومن لا تجب عليه الجمعة ولم يحضرها يصليها ظهرا.
ثمّ اعلم- وفقك الله- أنّ من موجبات الرزق وتوسعة الله على خلقه طاعته وتقواه، ومن أعظم أنواع تقوى الله أداء الصلوات في المسجد ومع الجماعة قال تعالى" ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب، ومن يتوكل على الله فهو حسبه، إنّ الله بالغ أمره، قد جعل الله لكلّ شيء قدرا"[الطلاق:2/3]
والعلم عند الله تعالى؛ وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصل الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في:22 رمضان 1422هـ
الموافق لـ: 01 ديسمبر 2001م
__________
1- أخرجه ابن ماجه في المساجد والجماعة رقم(791)، وابن حبان في الصلاة رقم(2064)، والحاكم في الصلاة رقم(893)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وصححه الألباني في الإرواء(2/337)، وفي صحيح الترغيب والترهيب(1/301).
2- أخرجه أبو داود:(1056) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، والحديث حسنه الألباني في الإرواء:(3/58) وفي صحيح الجامع:(3/84).(4/101)
الفتوى رقم: 230
في حكم الجمعة للمعلول
السؤال: أرجو من سماحتكم إرشادنا إلى حكم صلاة الجمعة بالنسبة لشخص لديه مشكل تمزق رباط من أربطة الركبة، كما أنّه يؤدي الصلاة كلّها وقوفا.
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فاعلم أنّ صلاة الجمعة واجبة إلاّ من عذر، والمرض والعلة من الأعذار التي تسقط الجمعة والجماعات إذا كان المرض يشق عليك الذهاب إلى الجمعة أو تخاف زيادة المرض أو بطأه وتأخيره فإنّه يجوز لك أن تصلي في البيت وتسقط عنك الجماعة والجمعة لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:«الجمعة حق واجب على كلّ مسلم في جماعة إلاّ أربعة: عبد مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض"(1)، وقد روى البخاري أنّ عتبان بن مالك كان يؤم قومه-وهو أعمى- وأنّه قال لرسول الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله إنّها تكون الظلمة والسيل، وأنا رجل ضرير البصر، فصلّ يا رسول الله في بيتي مكانا أتخذه مصلى، فجاءه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أين تحب أن تصلي؟ فأشار إلى مكان من البيت، فصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم"(2)، وقد بوب البخاري "باب الرخصة في المطر والعلة أن يصلي في رحله" والمرء موكول إلى دينه في تقدير حالته الصحية عجزها من قدرتها.
هذا وإذا كان المصلي لا يقدر على طي ركبتيه لشدة الألم الذي يصيبه فيصلي على الصورة التي يقدر عليها لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« صلّ قائما فإن لم تستطع فجالسا فإن لم تستطع فعلى جنب"(3)، ولقوله تعالى: ?فَاتَقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ? [التغابن:16]، وهو مطابق لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« وما أمرتكم به من شيء فأتوا منه ما استطعتم"(4) ومن الآية والحديث استخلص العلماء قاعدة: المعسور لا يسقط الميسور.
والعلم عند الله وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
__________
1- أخرجه أبو داود في الصلاة(1069)، عن طارق بن شهاب، وصححه الألباني في صحيح الجامع(3111).
2- أخرجه البخاري في الأذان (667)، من حديث محمود بن الربيع الأنصاري.
3- أخرجه البخاري في تقصير الصلاة(1117)، وأبو داود في الصلاة(953)، والترمذي في الصلاة(373)، وابن ماجه في إقامة الصلاة(1281)، وأحمد(20350)، والدارقطني في سننه(1440)، والبيهقي(3807)، من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه.
4- أخرجه البخاري في الاعتصام بالكتاب (7288)، ومسلم في الحج(3321)، وأحمد(9771)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(4/102)
الفتوى رقم: 400
في حكم دخول عرض الحفظ قبل الجمعة في النهي عن الحلق
السؤال: هل عرض الحفظ بين الطلبة قبيل الجمعة من التحليق المنهي عنه؟ وجزاكم الله خيرا.
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فإنَّ عرض الحفظ بين الطلبة قبيل الجمعة يدخل في عموم النهي عن الحِلَق يوم الجمعة في المسجد لنهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ولفظه:" نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ فِى الْمَسْجِدِ وَأَنْ تُنْشَدَ فِيهِ الأَشْعَارُ وَأَنْ تُنْشَدَ فِيهِ الضَّالَّةُ وَعَنِ الْحِلَقِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الصَّلاَةِ"(1)، والظاهر من النهي خصوصه بالمسجد لورود التنصيص عليه من جهة، ولدلالة الاقتران بالبيع والشراء، وإنشاد الضالة فيه من جهة ثانية، لذلك يمتنع التحليق يوم الجمعة في المسجد مطلقًا، ويجوز في غيره عملاً بدليل الخطاب، والأولى التبكير إلى المسجد والاشتغال بالصلاة دون تحليق لذكر أو حفظ أو غيرهما، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« مَنْ غَسَّلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاغْتَسَلَ ثُمَّ بَكَّرَ وَابْتَكَرَ وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ وَدَنَا مِنَ الإِمَامِ فَاسْتَمَعَ وَلَمْ يَلْغُ كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ عَمَلُ سَنَةٍ أَجْرُ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا"(2) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« لاَ يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَيَتَطَهَّرُ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ ، وَيَدَّهِنُ مِنْ دُهْنِهِ ، أَوْ يَمَسُّ مِنْ طِيبِ بَيْتِهِ ثُمَّ يَخْرُجُ ، فَلاَ يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ ، ثُمَّ يُصَلِّى مَا كُتِبَ لَهُ ، ثُمَّ يُنْصِتُ إِذَا تَكَلَّمَ الإِمَامُ ، إِلاَّ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْجُمُعَةِ الأُخْرَى"(3) فهذا المأثور عن الصحابة رضي الله عنهم، فقد كانوا إذا أتوا المسجد يوم الجمعة اشتغلوا بالصلاة من حين يدخلون ما تيسر، فمنهم من يصلي عشر ركعات، ومنهم أكثر، ومنهم دون ذلك.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 4 ربيع الأول 1427ه
الموافق لـ: 3 أبريل 2006م
__________
1- أخرجه أحمد (6836)، وابن خزيمة (1240)، وابن أبي شيبة في مصنفه (5329)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. وصححه أحمد شاكر في تحقيقه للمسند (10/156)، وحسنه الألباني في تحقيقه على صحيحه ابن خزيمة (1304).
2- أخرجه أبو داود في الطهارة (345)، والترمذي في الصلاة (498)، والنسائي في الجمعة (1409)، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها (1140)، وأحمد (16603)، من حديث أوس بن أوس الثقفي رضي الله عنه. وصححه الألباني في صحيح الجامع (6405).
3- أخرجه البخاري في الجمعة (883)، وأحمد (24431)، الدارمي (1593)، والبيهقي (6103)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (1391)، من حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه.(4/103)
الفتوى رقم: 540
في إلقاء خطب الجمعة والأعياد بغير العربية
السؤال: ما حكمُ إلقاءِ خُطَب الجمعةِ والأعيادِ بالأمازيغية؛ عِلمًا أنَّ بعضَ سُكَّانِ مناطقِ القبائلِ لا يفهم العربية؟ أفيدونا جزاكم الله خيرًا.
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فالغرضُ من خُطبة الجمعة إرشادُ الناس إلى ما يُحْمَدُ من الأخلاق وما يُذَمُّ منها، ووعظُهُم لالتزام حدود الشرع فيما أَمَرَ أو نهى وزجر، بتعليم حُكم، أو تصحيح مُعْتَقَدٍ، أو عبادةٍ، أو مُعاملَةٍ، ولا يخفى أنَّ طريقَ البيانِ ووسيلةَ التبليغِ إذا تعذّرت إلاَّ بلغةٍ يفقهُها الناسُ وليست لهم معرفةٌ باللغة العربية فيجوز مخاطبتهم باللسان الذي يفهمونه حتى يتحقّق الغرضُ ويحصلَ المطلوبُ من الدعوة إلى الله تعالى، لقوله سبحانه: ?وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ? [إبراهيم: 4].
فوسيلة البيان ليست توقيفية إلاَّ ما اشتملت عليه من توقيف كخطبة الحاجة والآيات القرآنية والأحاديث النبوية فينبغي أن يقرأها بنحو ما أُنزلت؛ لأنَّها وحْيٌ، وله أن يفسّرها بعد ذلك بلسان قومه إذا اقتضى المقام.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى اللهُ على نبيِّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 13 شعبان 1427ه
الموافق ل: 6 سبتمبر 2006م(4/104)
الفتوى رقم: 682
في حكم تقييد الفوائد أثناء خطبة الجمعة
السؤال:
ما حكم تقييدِ الفوائد العلمية التي يذكرها الإمام أثناء خُطبة الجمعة؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فأمّا تقييدُ الفوائد أثناءَ خطبة الإمام فلا يليق؛ لأنه -بغضّ النظر- عن الاشتغال بالكتابة عن الإنصات فإنه من جهة أخرى يتسبّب في صرف نظر المصلِّين إلى مقيِّد السطور، وشغلهم به يحول بينهم وبين الإنصات الواجب، وفي الحديث:« إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ: أَنْصِتْ، يَوْمَ الجُمُعَةِ، وَالإِمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْتَ »(1)، وله أن يسجّل الخطبة، ويستفيد من موضوعها بعد ذلك.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمّد، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين وسلّم تسليمًا.
الجزائر في 24 شوال 1427ه
الموافق ل: 16 نوفمبر 2006م
__________
1- أخرجه مسلم في«الجمعة »: (1965)، والنسائي في «الجمعة »: (1402)، وابن ماجه في «إقامة الصلاة »: (1110)، وابن خزيمة: (1806)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(4/105)
الفتوى رقم: 705
في حكم تناول مسافر لغذاء في مطاعم وقت صلاة الجمعة
السؤال:
إذا كنا مسافرين يوم الجمعة، فإننا نتوقّف أحيانًا ببعض المطاعم التي على حافة الطريق، لتناول وجبة الغداء ممّا يزامن مع وقت إقامة صلاة الجمعة، والقائمون على هذه المطاعم لا يؤدّونها، فهل يجوز لنا تناول الأكل عندهم؟ نرجو من فضيلتكم بيان الحكم الشرعي، وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فاعلم أنّ النهي عن البيع وقت النداء يوم الجمعة في قوله تعالى: ?إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا البَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ? [الجمعة: 9]، يشمل -عند الجمهور- سائرَ العقودِ، والمسافرُ - وإن لَمْ تجب عليه جمعةٌ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قال:« لَيْسَ عَلَى المُسَافِرِ جُمُعَةٌ »(1)- إلاّ أنّ وجوب السعي لها لمن تلزمه هو حقّ لله تعالى، والتعاقد المفضي إلى ترك هذا الحقّ بطريق أو بآخر لا يجوز لكلا الطرفين، أحدهما بالأصالة والآخر بالتعاون، لذلك ينبغي على المسافر -إن لم يَسْعَ إلى صلاة الجمعة- أن يتناول طعامه قبل النداء أو بعد صلاة الجمعة لئلاّ يعرِّض نفسه وغيرَه للإثم والمعصيةِ.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 28 ربيع الأول 1428ه
الموافق ل: 16 أبريل 2007م
__________
1- أخرجه الدارقطني في «سننه »: (1559)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وصحّحه الألباني في «صحيح الجامع »: (5405).(4/106)
الفتوى رقم: 717
في حكم الصلاة على النبي صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم والتأمين على دعاء الخطيب يوم الجمعة
السؤال:
إذا كان الإمام يخطب يوم الجمعة وذكر اسمَ الرسول صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم أو صلّى على رسول الله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم فهل يجوز للمستمعين إليه الصلاة عليه؟ وإذا كان الخطيب يدعو فهل يشرع التأمين على دعائه؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فمَرَدُّ هذه المسألة إلى إحدى المشكلاتِ الأُصولية التي تباينت فيها أقوالُ العلماء واختلفت، وتُعرف ب :« تعارض عُمومَين من كلّ وجه »، إِذْ أنَّ الأمرَ بالصلاة والسلام على النّبي صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم عامٌّ
في الأوقاتِ خاصٌّ في الكلامِ، والنهيُ عن الكلام عامٌّ في كلِّ كلامٍ خاصٌّ في الوقتِ، أي: حالَ الخُطبة، وفي مثل هذه المسألة ينبغي سلوكُ المراتب التدريجية، وعند من قال بالترجيح يرى تعذّر التوفيق الصحيح والجمع المعقول بين عموم الأمر بالإنصات وعدمه من جهة، ومن جهة ثانية فخصوص كلّ العمومين من وجه معارض بخصوص الآخر؛ لأنّ لكلٍّ منهما جهة عموم تطرّقت إليه ظنّيّة الدلالة فلا ينتهض للتخصيص، وحالتئذ وجب المصير إلى الترجيح، وقد سلكه بعضُ أهل العلم من ناحية أنّ الشرع عَدَّ قول القائل:« أنصت » من اللغو مع أنّه داخل في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، علمًا أنّه لا يُسمّى لغةً لغوًا. وعليه، فقد غلَّب وجوبَ الإنصاتِ والنهيَ عن الكلام مطلقًا، عملاً بقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الجُمُعَةِ أَنْصِتْ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْتَ »(1)؛ ذلك لأنّ عمومَه مقصودٌ ومستهدفٌ ابتغاء الإنصات لموعظة الخطيب، فيُرَجَّح من باب «تقديم الأهمّ على المهمّ » المتمثّل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويترتب على ذلك -دخول ضمن النهي عن الكلام- كلّ ما كان في مرتبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما كان دونهما، وهذا ما قرّره الشيخ الألباني في «الأجوبة النافعة »(2).
وفي تقديري أنّ عموم النهي عن مكالمة الناس أثناء الخطبة لموعظة الخطيب وإن كان مهمًّا -على التوجيه السابق-، إلاَّ أنّ دلالة العموم تَضْعُفُ كلّما دخلها التخصيص، كما هو مقرّر في الأصول، وقد تطرّق التخصيص إلى عموم الأمر بالإنصات بتحيّة المسجد، ففي الحديث المتّفق عليه:« إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الجُمُعَةِ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، وَلْيَتَجَوَّزْ فِيهِمَا »(3)، ولا يخفى ما ينتج من الكلام في صلاة التحيّة من قراءة وتسبيح وتشهّد ودعاء يُشغَل به المصلّي عن أمر الإنصات، كما يدخله التخصيص بإنذار الأعمى من وقوعه في البئر، وتحذير من قَصَدَتْه حيَّةٌ، أو عقربٌ يَدِبُّ إلى إنسان، أو خشي عليه حريقا ونحوه(4)، إذا لم يمكن الاستغناء عن الكلام ولا يحصل المقصود بالإشارة(5)، فقد رُويَ في ذلك إجماع؛ ذلك لأنّ مثل هذا جائز في الصلاة مع النهي عن الكلام الخارجي غير المأذون فيه والعمل فيها، فههنا أولى. كما يتطرّق التخصيص إلى من كلّم الإمام الخطيب أو كلّمه الإمام الخطيب فإنّه معدود من مخصّصات الأمر بالإنصات جمعًا بين الأخبار وتوفيقًا بينها، لحديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: دخل رجلٌ يوم الجمعة المسجد والنّبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم يخطبُ فقال له:« أَصَلَّيْتَ؟ »، قال: لا، قال:« فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ »(6)، ولحديث أنس بن مالك رضي الله عنه: أنّ رجلاً دخل المسجدَ يومَ الجمعة ورسول الله صَلَّى اللهُ عليه وآله
وسَلَّم قائمٌ يخطب، فاستقبل رسولَ الله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قائمًا، ثمّ قال: يا رسول الله هلكتِ الأموال، وانقطعتِ السُّبُل، فادْعُ اللهَ أن يُغِيثَنَا، قال: فرفع النَّبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم يديه، ثمّ قال:« اللَّهُمَّ أَغِثْنَا... »(7.
هذا ولو سُلّم أنّ وجوب الصلاة على النبي صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم مخصّص بترك الصلاة عليه صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم حال انشغاله بصلاة الفرض أو النفل، فكان عمومه مخصّصًا، وليس أحد العمومين أولى من الآخر، فجوابه أنّ جملة إقامة صلاته وأدائها لا تخلو من الصلاة على النبيّ صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم كما في شأن الصلوات الإبراهيمية فلا يلحقه ترك الأمر الوارد في الصلاة عليه صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، وعلى فرض إقرار التخصيص فيبقى عموم الصلاة عليه صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم أقوى من عموم الإنصات لقلّة مخصّصاته، وهو أقرب إلى العامِّ المحفوظ، إذ:« كُلُّ مَا قَرُبَ مِنْ الشَّيْءِ أَخَذَ حُكْمَهُ ».
وعليه، فإنّ كلّ ما سبق وغيره يُضْعِف دلالة عموم النهي عن المكالمة بالنظر إلى قابليته للتخصيص، لذلك تُقدَّم النصوص الواردة في الصلاة على النّبي صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم عليه لقوّتها؛ لأنّ العموم المحفوظ الذي لا يدخله التخصيص أقوى وأولى بالتقديم من العموم الذي دخله التخصيص، هذا من جهة الترجيح.
وأمّا من جهة التوفيق، فإنّ الذي يظهر لي -ممّا تقدّم- أنّ اللّغو من الكلام المنهي عنه يوم الجمعة والذي لا فائدة فيه ولا طائل تحته، إنّما هو الكلام الذي يحصل به التشويش ويصرف نظر الحاضرين عن الإمام وخطبته، و يكون ذلك في حالتين:
1 - إذا ارتبط كلامه بمكالمة الناس، سواء كان في مرتبة الواجب كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتشميت العاطس وردِّ السلام، أو ما كان دونه، إلاَّ إذا لحق ضرر بالمصلِّين -كما سبق بيانه-؛ لأنّ المراد بالإنصات هو السكوت عن مكالمة الناس مطلقًا إذ ظاهر الحديث يمنع هذا.
2 - إذا رفع المتكلّم صوته بحيث يَسمعه غيرُه، لكونه يصرف نظر الناس إليه ويشوّش على السامعين وتحدث الغفلة عن كلام الخطيب.
أما المتكلّم سِرًّا، كالداعي سرًّا، فهو مُنْصِت، بل ساكت، وقد ورد وصفُه في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عندما سكت الرسول صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم هُنَيْهة قبل القراءة وبعد التكبير، فسأله أبو هريرة بقوله:« يا رسول الله -بأبي أنت وأمي- أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة، ماذا تقول؟ قال:« أَقُولُ: اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ... »(8)، فوصف قوله بالسكوت وسمّاه ساكتًا لكونه سرًّا.
فالحاصل: أنّه تجوز متابعة الخطيب في الصلاة على النّبي صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم أو إذا أمر بالصلاة عليه، فضلاً عن الذكر والدعاء، وليس ذلك من قبيل اللغو إذا ما تكلّم سرًّا لعدم خروجه عن الإنصات المطلوب شرعًا، فبهذا يتحقّق التوفيق بين الأدلة المتعارضة، والجمع بينهما أولى من إهمال أحدهما والعمل بالآخر على ما قرّره أهل الأصول.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 6 شعبان 1428ه
الموافق ل: 19 أغسطس 2007م
__________
1- متّفق عليه: أخرجه البخاري: (2/414) في «الجمعة » باب الإنصات والإمام يخطب، ومسلم: (6/137) في «الجمعة » باب الإنصات يوم الجمعة في الخطبة، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2- انظر:« الأجوبة النافعة » للألباني: (59 - 60)، «القول المبين » لمشهور: (345).
3- متّفق عليه من حديث جابر، وهذه رواية مسلم في «صحيحه »: (6/164) في «الجمعة » باب تحيّة المسجد والإمام يخطب، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
4- كإنقاذ غريق أو واجب خشي فوته؛ ذلك لأنّ من حقّ المسلم على المسلم أن لا يُسْلِمَه، بأن يتركه يموت غريقًا أو حريقًا وهو مستمرّ في صلاته وأخوه يعاني غمرات الموت، قال الإمام أحمد:« وإذا رأى صَبِيَّيْنِ يقتتلان يتخوّف أن يلقي أحدهما صاحبه في البئر، فإنّه يذهب إليهما فيخلّصهما ويعود إلى صلاته »، وقد ثبت من حديث جريج أنّه لَمَّا دعته أمّه وهو يصلّي فقال: اللّهمّ أمّي وصلاتي، وتردّد أيّهما، فأقدم فعوقب تلك العقوبة، والحال أنّ إجابته لأمّه وقضاء حاجتها لا تفوت باستمراره في الصلاة وإكمالها، فكيف يستمرّ في الصلاة ويؤثر بها مع ما يترتّب عليه به هلاك مسلم، وأمكنه تحصيل حياته، وقد قال صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا »، [مسلم: (2/35)]، وحقيق بالتنبيه أنّ حديث جريج وإن كان شرع من قبلنا لكنّ الني صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم حكاه لنا، ولم يُذكر ما يخالفه في شرعنا فكان شرعًا لنا، على ما تقرّر في القواعد الأصولية [«المغني » لابن قدامة: (2/247-249)، «السيل الجرّار » للشوكاني: (1/242-244)].
5- لأنّ الإشارة تجوز في الصلاة التي يبطلها الكلام ففي الخطبة أولى.
6- متّفق على صحّته: أخرجه البخاري: (2/412) في «الجمعة » باب من جاء والإمام يخطب صلّى ركعتين خفيفتين، ومسلم: (6/162) في «الجمعة »: باب التحيّة والإمام يخطب، والترمذي: (2/384) في «الصلاة » باب ما جاء في الركعتين إذا جاء الرجل والإمام يخطب، وأحمد: (3/297، 316)، من حديث جابر رضي الله عنه.
7- متّفق على صحّته: أخرجه البخاري: (2/507) في «الاستسقاء »: باب الاستسقاء في خطبة الجمعة، ومسلم: (6/191) في «صلاة الاستسقاء »: باب الدعاء في الاستسقاء، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
8- متّفق عليه: أخرجه البخاري: (2/227) في «صفة الصلاة »: باب ما يقول بعد التكبير، ومسلم: (5/96)، في «المساجد »: باب ما يقال بين تكبيرة الإحرام والقراءة، وأبو داود: (1/493) في «الصلاة »: باب السكتة عند الافتتاح، والنسائي: 2/128 في «الافتتاح »: باب الدعاء بين التكبيرة والقراءة، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(4/107)
08- العيد
الفتوى رقم: 10
صلاة العيد في المدرسة (في غير المكان المخصص للصلاة)
السؤال: هل تشرع صلاة العيد بمدرسة بجوار المسجد يصلي فيه الرجال، وأخرى تصلي فيها النساء يفصل بينهما طريق عمومي، مع بقاء المسجد خاليا اعتقادا للأفضل في أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي العيد في المصلى؟ وهل تصح الصلاة مع أن الصفوف يقطعها طريق عمومي؟
الجواب: الحمد لله والصلاة والسلام على أشرف خلق الله وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان، أمّا بعد:
فالأصل جواز اقتداء المأموم بالإمام ولو كان بينهما حائل إذا علم المقتدي انتقالات إمامه برؤية أو سماع، ويعضد هذا الأصل فعل أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه صلى على ظهر المسجد بصلاة الإمام، وفعل أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنه كان يجمع في دار أبي نافع عن يمين المسجد بصلاة الإمام، ويأتم بالإمام مع سكوت الصحابة على فعله(1) وهذا إنما يحمل على الحاجة والعذر توفيقا بينه وبين الأمر الوارد بوصل الصفوف وسد الفرج في جملة من الأحاديث الثابتة في هذا الموضوع، ومن تلك الأعذار الموجبة لفعل الصحابة امتلاء المسجد واشتداد الزحام، فلا يُصَفُّ ويُصلَّى مع خلو المسجد، لذلك صلى هشام وأبوه عروة في دار عند مسجد قد امتلأ بصلاة الإمام بينهما طريق(2)، وفي هذا المعنى يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (فإن امتلأ المسجد بالصفوف صفوا خارج المسجد فإن اتصلت الصفوف حينئذ في الطرقات والأسواق صحت صلاتهم، أما إذا صفوا بينهم وبين الصف الآخر طريق يمشي الناس فيه لم تصح صلاتهم في أظهر قولي العلماء، وكذلك إذا كان بينهم وبين الصفوف حائط بحيث لا يرون الصفوف، ولكن يسمعون التكبير من غير حاجة، فإنه لا تصح صلاتهم في الأظهر، وكذلك من صلّى في حانوته والطريق خال لم تصح صلاته وليس له أن يقعد في الحانوت وينتظر اتصال الصفوف به، بل عليه أن يذهب إلى المسجد، فيسد الأول فالأول)(3).
قلت: لو لم يكن التزام الصف وسد الفُرج واجبا إلا من عذر لصحت الصلاة وراء الإذاعة المسموعة والمرئية، وهذا خلاف ما عليه الفتوى الشرعية.
أما عن صلاته صلى الله عليه وسلم للعيد إنما كانت في المصلى(4) وهو الصحراء أو الفضاء خارج البلد القريب منه عرفا، ولم يثبت عنه أنه أداها في المسجد، وبناء عليه فالسنة عند الجمهور أن موضع أدائها المصلى لا المسجد إلا من ضرورة أو عذر، ما عدا مكة فالأفضل أداؤها في الحرم المكي لشرف المكان وهذا خلافا للشافعية الذين يرون أنّه إذا كان المسجد ضيقا فالسنة أن تصلى في المصلى وإن كان واسعا فالأفضل الصلاة في المسجد.
ولا يخفاك أن العلماء إنما اختلفوا في الأفضلية في هذين الموضعين دون سواهما، وإيقاع صلاة العيد داخل المدرسة خارج عن الموضعين السابقين إذ لا يطلق -يما أعلم- اسم المصلى بالمعنى العرفي على ساحة المدرسة ولا على فنائها، وعليه فإن الصلاة بهذا الاعتبار تكره لعدم وقوعها على الوجه المطلوب شرعا، بل قد لا تصح للعدول عن المسجد وإخلائه عن المصلين والانتقال بهم إلى المدرستين بجواره فضلا عن انقطاع الصف بالطريق العمومي ولذلك ينبغي أن تؤدى الصلاة في المصلى لفعله صلى الله عليه وسلم إن أمكن، فإن تعذر أدّاها في المسجد وإن ضاقت وخرجت الصفوف عنه فيسد الأول فالأول ولو وصلوا إلى المدرستين أو تجاوزوهما فإنّ الصلاة بهذا الاعتبار صحيحة لا غبار عليها.
والله أعلم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين وسلم تسليما.
__________
1- انظر نيل الأوطار للشوكاني، 4/104.
2- مصنف عبد الرزاق، 3/82.
3- مجموع الفتاوى، 23/410.
4- للشيخ الألباني رسالة في سنية العيد في المصلى، فراجعها.دد(4/108)
الفتوى رقم: 633
في حكم خروج المرأة لصلاة العيد
السؤال:
هل يجب على النساء حضورُ صلاة العيد؟ أفيدونا بارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالأصلُ أنّ النِّساءَ شقائقُ الرِّجالِ في الأحكامِ، فما ثَبَتَ للرجلِ ثَبَتَ للمرأة إلاّ ما استثناه الدليلُ، لكن الدليل جاء مؤكّدًا لهذا الأصلِ حيث أَمَرَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم النساءَ بالخروجِ لصلاة العِيدِ حتَّى ذوات الخدورِ والحُيَّضَ، وأَمَرَهُنَّ أن يَعْتَزِلْنَ المُصَلَّى، بل وأَمَرَ مَنْ لا جلبابَ لها أن تُلْبِسَهَا أُخْتُها مِنْ جِلبابها، كما ثبت ذلك في حديث أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها(1)، وفي حديث ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما قال:« خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فِطْرٍ أَوْ أَضْحَى، فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ، ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ وَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ »(2).
وصلاةُ العِيدِ مُسْقِطَةٌ للجُمعة إذا اتَّفَقَا في يومٍ واحدٍ وما ليس بواجبٍ لا يُسْقِطُ ما كان واجبًا، ولم يأمر النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم النساءَ بالجمعة وأَذِنَ لهنّ فيها وقال:« صَلاَتُكُنَّ في بُيُوتِكُنَّ خيرٌ مِنْ صَلاَتِكُنَّ في دُورِكُنَّ، وَصَلاَتُكُنَّ فِي دُورِكُنَّ أَفْضَلُ مِنْ صَلاَتِكُنَّ فِي مَسْجِدِ الجَمَاعَةِ »(3)، في حينِ أَمَرَهنّ بشهودِ صلاةِ العيدِ، وممّا يؤكد هذا الحكمَ في وجوب خروجِ النساءِ إلى مُصَلَّى العِيدِ ما أخرجه أحمدُ والبيهقيُّ وغيرُهما عن أختِ عبدِ اللهِ بنِ رَوَاحَةَ الأنصاريِّ عن رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم أنَّه قال:« وَجَبَ الخُرُوجُ عَلَى كُلِّ ذَاتِ نِطَاقٍ -يعني في العِيدَين »(4)، وهو مذهبُ أبي بكر وعليٍّ وابنِ عُمَرَ على ما حكاه القاضي عياضٌ، ورواه ابنُ أبي شيبةَ(5). والأحاديثُ القاضيةُ بخروج النساء في العِيدَيْنِ مُطْلَقَةٌ لم تُفَرِّقْ بين البِكْرِ والثَّيِّبِ والشَّابَّةِ والعجوزِ والحائضِ وغيرِها ما لم يكن لها عُذْرٌ، وإذا خرجتْ فإنها تلتزم بآداب الخروج من تَرْكِ التَّطَيُّب والتزيُّن وأن تكون في غايةِ التستُّرِ.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 10 صفر 1428ه
الموافق ل: 28 فبراير 2007م
__________
1- أخرجه البخاري في «العيدين »: (938)، وأبو داود في «الصلاة »: (1136)، وأحمد: (20269)، والبيهقي: (6330)، من حديث أم عطية رضي الله عنها.
2- أخرجه البخاري في «العيدين »: (932)، والنسائي في «صلاة العيدين »: (1586)، وابن حبان: (2823)، وأحمد: (3348)، وأبو يعلى: (2701)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
3- أخرجه البيهقي: (5472)، وابن أبي شيبة في «المصنف »: (7601)، من حديث أم حميد رضي الله عنها. وحسنه الألباني في «صحيح الجامع »: (3844).
4- أخرجه أحمد: (26609)، والبيهقي: (6271)، وأبو يعلى: (7154)، من حديث أخت عبد اللهِ بنِ رواحَة الأنصاريِّ رضي الله عنه. قال ابن حجر في «فتح الباري » (3/150):« وقد ورد هذا مرفوعا بإسناد لا بأس به »، وصححه الألباني في «صحيح الجامع »: (7105).
5- «المصنف » لابن أبي شيبة: (2/87).دد(4/109)
الفتوى رقم: 701
في التحقيق في خطبة العيد ومحل قيام الخطيب
السؤال:
هل خُطبة العِيدين خُطبة واحدةٌ أم ثنتان كخطبتي الجمعة؟ وإذا أُقيمت صلاة العيد في المسجد فهل يلقي الإمام الخطبةَ على المنبر أو قائمًا على الأرض كما تؤدّى في المصلى؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالأقربُ إلى الصواب من قَوْلَيِ العلماءِ أنّ خُطبةَ العيدِ خطبةٌ واحدةٌ لم يَثبتِ الجلوسُ في وسطها كهيئة الجمعة، وهو المنقول عن الخلفاء: أبي بكر وعمرَ وعثمانَ وعليٍّ والمغيرةِ بنِ شعبةَ رضي الله عنهم، خلافًا لِمَا عليه المذاهبُ الأربعةُ وابنُ حَزْمٍ وهو مذهب الجمهور؛ لأنّ إطلاقَ الخُطبةِ -في الأصل- ينصرف إلى الواحدة إلاّ إذا جاء دليلٌ على أنها خطبتان، وقد ورد في السُّنَّة الصحيحة وغيرِها مثل هذا الإطلاق كما جاء من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال:« شَهِدْتُ العِيدَ مَعَ رَسُولِ اللهِ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ فَكُلُّهُمْ كَانُوا يُصَلُّونَ قَبْلَ الخُطْبَةِ »(1)، وكذا ثبت عن ابن عمر(2) وجابرِ بنِ عبدِ الله(3) رضي الله عنهم، وإطلاقُ الخطبة على خطبتي الجمعة فلوجود ما يرجّحه، ويؤيّد هذا المعنى ما ثبت في الصحيحين من جواز خطبة العيد على الراحلة من حديث أبي بكرةَ رضي الله عنه قال:« لَمَّا كَانَ ذَلِكَ اليَوْمُ قَعَدَ عَلَى بَعِيرِهِ… أَلَيْسَ بِيَوْمِ النَّحْرِ… »(4)، ومفاد مشروعية الخطبة على الراحلة عدم الفصل بين الخطبتين بجلوس؛ لأنه إنما خطب جالسًا على راحلته، وقد كان يفعله الصحابة رضي الله عنهم، فقد نقل إبراهيم النخعي قوله:« كَانَ الإِمَامُ يَوْمَ العِيدِ يَبْدَأُ فَيُصَلِّي ثُمَّ يَرْكَبُ فَيَخْطُبُ »(5)، وعن ميسرة أبي جميلة قال:« شَهِدْتُ مَعَ عَلِيٍّ العِيدَ فَلَمَّا صَلَّى خَطَبَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، قَالَ: وَكَانَ عُثْمَانُ يَفْعَلُهُ »(6).
نعم لو ثبت أثرُ عبدِ اللهِ بنِ عُتبةَ قال:« السُّنَّةُ أن يخطبَ الإمامُ في العِيدين خُطبتين يفصل بينهما بجلوس »(7)، وما أخرجه ابن ماجه من حديث جابر رضي الله عنه قال:« خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الفِطْرِ أَوِ الأَضْحَى فَخَطَبَ قَائِمًا ثُمَّ قَعَدَ قَعْدَةً ثُمَّ قَامَ »(8)، للزم حمل الدليلين المتعارضين على تغاير الحال فيجوز الأمران جمعًا بين الأدلة، وهو أَوْلَى من الترجيح، لكن كِلاَ الحديثين ضعيفان لا يُحتجُّ بهما. قال النووي:« ولم يثبت في تكرير الخُطبة شيءٌ، ولكن المعتمد فيه القياس على الجمعة »(9)، وقال الصنعاني:« وليس فيه أنها خطبتان كالجمعة وأنه يقعد بينهما، ولعلّه لم يثبت ذلك من فعله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم وإنما صنعه الناس قياسًا على الجمعة »(10).
ولا يخفى أنّ الاعتماد على قياس لم تُدْرَكْ عِلَّتُه، وطريق صحّته غير ناهض لعدم معقولية المعنى فيه من جهة؛ ولأنه -من جهة أخرى- ثبتت خطبتا الجمعة بالدليل خروجًا عن الأصل و«مَا ثَبَتَ عَلَى خِلاَفِ القِيَاسِ فَغَيْرُهُ عَلَيْهِ لاَ يُقَاسُ »، ولو صحّ القياس للزم ما يلزم الجمعة من جملة أحكامٍ مغايرة للعيد من حيث إيقاعها بعد الخُطبة وجواز صلاتها قبل الزوال وبعده وغيرها من الأحكام، وإذا بَطَلَ اللاَّزِمُ بَطَلَ الملزومُ. ثمّ لِمَ لا يقاس بما هو أقرب منها وهي خُطبة يومِ عَرَفَةَ بِنَمِرَةَ؟ فقد كانت خُطبةً واحدةً على الصحيح(11).
هذا، والمعلوم في السنّة أنّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّمَ لم يصلّ العيدَ إلاّ في المصلَّى ولم يثبت عنه أنه كان يُخرِجُ المنبرَ إلى أرضية المصلَّى، ولا أنه كان يرتقي على شيء إلاّ على راحلته، فتحقّق أنّ خُطبتَهُ إمّا على الراحلة كما تقدّم، وإمّا قائمًا على الأرض. وقد صحّ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم «كَانَ يَخْرُجُ يَوْمَ الأَضْحَى وَيَوْمَ الفِطْرِ فَيَبْدَأُ بِالصَّلاَةِ، فَإِذَا صَلَّى قَامَ قَائِمًا عَلَى رِجْلَيْهِ، فَأَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ بِوَجْهِهِ وَهُمْ جُلُوسٌ فِي مُصَلاَّهُمْ، فَإِنْ كَانَ لَهُ حَاجَةٌ بِبَعْثِ ذِكْرِهِ للنَّاسِ، أَوْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ بِغَيْرِ ذَلِكَ أَمَرَهُمْ بِهَا، وَكَانَ يَقُولُ: تَصَدَّقُوا تَصَدَّقُوا تَصَدَّقُوا، وَكَانَ أَكْثَر مَا يَتَصَدَّقُ النِّسَاء، ثُمَّ يَنْصَرِفُ »(12)، وفيه دليل على قيام الإمام في خُطبة العيد على رجليه، فظهر من الحالتين أن لا تعدّدَ في الخطبة ولا فصلَ بينها بالجلوس؛ إذ يتعذّر في الأولى ولم ينقل في الثانية.
ويمكن الاستئناس بمرسَلِ عطاء عندما سُئل عن الخروج يوم الفطر إلى الصلاة أنه قال:« مَا جَلَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَلَى مِنْبَرٍ حَتَّى مَاتَ، مَا كَانَ يَخْطُبُ إِلاَّ قَائِمًا، فكيف يخشى أن يحبسوا الناس؟ وإنما كانوا يخطبون قيامًا لا يجلسون، إنما كان النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ يَرْتَقِي أَحَدُهُمْ عَلَى المِنْبَرِ فَيَقُومُ كَمَا هُوَ قَائِمًا لاَ يَجْلِسُ عَلَى المِنْبَرِ حَتَّى يَرْتَقِيَ عَلَيْهِ، وَلاَ يَجْلِسُ عَلَيْهِ بَعْدَمَا يَنْزِلُ، وَإِنَّمَا خُطْبَتُهُ جَمِيعًا وَهُوَ قَائِمٌ إِنَّمَا كَانُوا يَتَشَهَّدُونَ مَرَّةً وَاحِدَةً، الأولى قَالَ: لَمْ يَكُنْ مِنْبَرٌ إِلاَّ مِنْبَرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ حَتَّى جَاءَ مُعَاوِيَةُ إِذْ حَجَّ بِالمِنْبَرِ فَتَرَكَهُ، قال: فَلَمْ يَزَالُوا يَخْطُبُونَ عَلَى المَنَابِرِ بَعْدُ »(13). فهذا الأثر يفيد أنّ الخطبةَ كانت واحدةً ولم يكن لهم مِنْبَرٌ في المصلى حيث كانوا يخطبون قيامًا من جلوس.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 7 ربيع الأول 1428ه
الموافق ل: 26 مارس 2007م
__________
1- أخرجه البخاري في «العيدين »، باب الخطبة بعد العيد (919)، والنسائي في «صلاة العيدين »، باب الخطبة في العيدين بعد الصلاة: (1569)، والدارمي في «سننه »: (1565)، وأحمد: (3215).
2- أخرجه أحمد: (4588)، والطبراني في «الكبير »: (13208).
3- أخرجه البخاري في «صلاة العيدين »، باب المشي والركوب إلى العيد: (915)، ومسلم في «صلاة العيدين »: (2047)، وأبو داود في «الصلاة »، باب الخطبة يوم العيد: (1141)، والنسائي في «صلاة العيدين »، باب قيام الإمام في الخطبة متوكئا على إنسان: (1575)، وأحمد: (14011).
4- أخرجه البخاري في «العلم »، باب قول النبي رب مبلغ أوعى من سامع: (67)، ومسلم في «القسامة »، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال: (4384)، من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.
5- أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف »: (5851).
6-أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف »: (5844).
7- أخرجه الشافعي في «الأم »: (1/273)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (6305)، وضعفه النووي في «الخلاصة »: (2/838).
8- أخرجه ابن ماجه في «الصلاة »، باب ما جاء في الخطبة في العيدين: (1289)، من حديث جابر رضي الله عنه. قال البوصيري في «مصباح الزجاجة » (1/234):« هذا إسناد فيه إسماعيل بن مسلم وقد أجمعوا على ضعفه، وأبو بحر ضعيف »، وقال الألباني في «السلسلة الضعيفة » (12/635):« منكر »، وأشار إلى ضعفه ابن رجب الحنبلي في «فتح الباري »: (6/99).
9- الخلاصة للنووي: (2/838).
10- سبل السلام للصنعاني: (2/670).
11- قال ابن القيم في «زاد المعاد »: (2/306):« وَهِمَ من زعم أنه صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم خطب بعرفة خطبتين جلس بينهما، ثمّ أذّن المؤذّن، فلمَّا فرغ أخذ في الخطبة الثانية، فلمّا فرغ منها أقام الصلاة، وهذا لم يجئ في شيء من الأحاديث ألبتة، وحديث جابر صريح في أنه لما أكمل خطبته أذّن بلال وأقام الصلاة، فصلى الظهر بعد الخطبة ».
2- أخرجه مسلم في «صلاة العيدين »: (2053)، وابن ماجه في «إقامة الصلاة »، باب ما جاء في الخطبة في العيدين: (1288)، وابن خزيمة في «صحيحه »: (1449)، والحاكم في «المستدرك »: (1101)، وأحمد: (10922).
13- أخرجه عبد الرزاق في «المصنف »: (5265). دددد(4/110)
الفتوى رقم: 877
في صيغة التكبير يوم العيد وأيام التشريق
السؤال:
ما هي الصيغة الصحيحة للتكبير يوم العيد وأيام التشريق؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فلم يَصِحَّ في صيغة التكبير حديثٌ مرفوعٌ، وأصحُّ ما وردَ فيها ما أخرجه عبدُ الرزاق بسندٍ صحيحٍ عن سلمان رضي الله عنه قال:« كَبِّرُوا: اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا »(1)، ونُقِلَ عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما أنه كان يقول:« اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، وَللهِ الحَمْدُ، اللهُ أَكْبَرُ وَأَجَلُّ، اللهُ أَكْبَرُ عَلَى مَا هَدَانَا »(2).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 26 ربيع الأول 1429ه
الموافق ل: 02 مارس 2008م
__________
1- أخرجه عبد الرزاق في «المصنف »: (11/295)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (6076)، قال ابن حجر في «الفتح » (2/569):« أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح ».
2- أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى »: (6074)، وصححه الألباني في «الإرواء »: (3/126).
3- «فتح الباري » لابن حجر: (2/462). دددد(4/111)
الفتوى رقم: 879
في حكم الجهر بالتكبير أيام العيد
السؤال:
ما حكم الجهر بالتكبير يومَ العيد وأيامَ التشريق؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فيمكن الجواب على هذا السؤال من المناحي التالية:
الأولى: يُشرَعُ التكبيرُ -جهرًا- في عيد الأضحى مِن صُبحِ يومِ عرفةَ إلى عصرِ آخرِ أيَّام التشريق، لقوله تعالى: ?وَاذْكُرُواْ اللهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ? [البقرة: 203]، وهي أيام التشريق على ما قاله ابنُ عباس رضي الله عنهما(1)، وقد صحَّ ذلك عن عليٍّ رضي الله عنه أنه «كان يُكبِّر بعد صلاة الفجر يومَ عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيَّام التشريق، ويُكبِّر بعد العصر »(2)، وهو المنقولُ عن ابن مسعود(3) وغيرهما رضي الله عنهم.
الثانية: يُشرعُ التكبيرُ جهرًا في الطريق إلى المصلَّى، فعن ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما:« أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم كان يَخرجُ في العِيدين مع الفضلِ بنِ عباسٍ وعبدِ الله، والعباسِ، وعليٍّ وجعفرَ، والحسنِ والحسين، وأسامةَ بنِ زيدٍ، وزيدٍ بن حارثةَ، وأيمنَ بنِ أُمِّ أيمنَ -رضي الله عنهم- رافعًا صوتَه بالتهليل والتكبير »(4).
الثالثة: يُستحبُّ الجهر بالتكبير إذا دعت الحاجةُ إلى رفعه، لثبوت الأخبار في رفع الصوت بالتكبير والتلبيةِ وغيرِهما، أمَّا إذا لم تَدْعُ الحاجةُ إلى رفع الصوت به كان خَفْضُه أبلغَ في توقيره وتعظيمِه، فعن أبي موسى الأشعري قال: كُنَّا مع النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم في سفرٍ فجعل الناسُ يجهرون بالتكبير فقال النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« يَا أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِنَّكُمْ لَيْسَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا وَهُوَ مَعَكُمْ »(5)، وبوَّب له النوويُّ:« باب استحباب خفضِ الصوت بالذِّكر إلاَّ في المواضعِ التي ورد الشرعُ برفعه منها كالتلبية وغيرِها »(6).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 26 ربيع الأول 1429ه
الموافق ل: 03 أفريل 2008م
__________
1- أخرجه البخاري معلِّقًا في «صحيحه » كتاب العيدين، باب فضل العمل في أيام التشريق: (1/329)، قال ابن حجر في «الفتح » (2/564):« وقد وصله عبد بن حميد... وروى ابن مردويه من طريق ابن بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال:« الأيام المعلومات التي قبل يوم التروية ويوم التروية ويوم عرفة، والمعدودات أيام التشريق » إسناده صحيح ».
2- أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف »: (1/488)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (3/314)، وصححه الألباني في «الإرواء »: (3/125)، وزكريّا بن غلام الباكستاني في «ما صح من آثار الصحابة في الفقه »: (1/502).
3- أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف »: (1/488)، وانظر «الإرواء » للألباني: (3/125).
4- أخرجه ابن خزيمة في «صحيحه »: (1431)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (5925)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. والحديث صحَّحه الألباني في «الإرواء »: (3/123).
5- أخرجه البخاري في «صحيحه » كتاب الجهاد والسير، باب ما يكره من رفع الصوت في التكبير: (2830)، ومسلم في «صحيحه » كتاب الذكر والدعاء، باب استحباب خفض الصوت بالذكر...: (6862)، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
6- «شرح مسلم » للنووي: (17/25). دددد(4/112)
الفتوى رقم: 880
في حكم التكبير الجماعي أيام العيد
السؤال:
ما حكم التكبير الجماعيِّ بصوتٍ واحدٍ يومَ العيد وأيامِ التشريق؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فالتكبير الجماعيُّ والاجتماعُ عليه بصوتٍ واحدٍ لم يُنقل عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، ولا عن الصحابةِ رضي الله عنهم ما يَقضي بمشروعيته، بل كُلُّ ذِكر لا يُشرَعُ الاجتماعُ عليه بصوتٍ واحدٍ، سواء كان تهليلاً أو تسبيحًا أو تحميدًا أو تلبية أو دعاءً، شُرِع رفع الصوت فيه أم لم يشرع، فكان الذِّكر المنفردُ هو المشروعُ برفع الصوت أو بخفضه، ولا تَعَلُّقَ له بالغير، وقد نقل -في حَجَّة الوداع- أنَّ أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم كان منهمُ المكبر ومنهم المهلِّل ومنهم الملبِّي(1)، و«الأَصْلُ فِي العِبَادَاتِ التَّوْقِيفُ وَأَنْ لاَ يُعْبَدَ اللهُ إِلاَّ بِمَا شَرعَ »، والمعلوم في الاجتماعِ على صوتٍ واحدٍ أنه من عبادةِ النصارى في قراءتهم الإنجيل جماعةً في كنائسهم، ولا يُعلم ذلك في شرعنا، أمَّا الآثارُ الثابتةُ عن بعضِ السلف كابن عمرَ وأبي هريرةَ رضي الله عنهما أنهما:« كَانَا يخرجان إلى السُّوقِ في أيَّام التشريق يُكبِّران، ويُكبِّرُ الناسُ بتكبيرهما »(2)، وما روى ابنُ أبي شَيبةَ بسندٍ صحيحٍ عن الزهريِّ قال:« كَانَ النَّاسُ يُكَبِّرُونَ يَوْمَ العِيدِ حِينَ يَخْرُجُونَ مِنْ مَنَازِلِهِمْ، حَتَّى يَأْتُوا المُصَلَّى، وَحَتَّى يَخْرُجَ الإِمَامُ، فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ سَكَتُوا، فَإِذَا كَبَّرَ كَبَّرُوا »(3)، فإنَّ المراد منها أنهم يقتدون به في التكبير وفي صفته، لا أنهم يجتمعون على التكبير بصوتٍ واحدٍ، كصلاة المأمومين مع إمامهم، فإنهم يُكبِّرون بتكبيره. لذلك ينبغي الاقتداءُ بالنبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، والاستنانُ بسُنَّته وسُنَّةِ الخلفاء الراشدين، وصحابته المرضيِّين السالكين هديَه، والمتَّبعين طريقتَه في الأذكار والأدعية وغيرهما، والشرُّ كُلُّ الشرِّ في مخالفته والابتداع في أمره، قال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ »(4)، وقال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« إِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ، وَكُلَّ ضَلاَلَةٍ فِي النَّارِ »(5)، وقال تعالى: ?فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ? [النور: 63].
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 26 ربيع الأول 1429ه
الموافق ل: 03 أفريل 2008م
__________
1- أخرجه البخاري في «صحيحه » كتاب العيدين، باب التكبير أيام منى وإذا غدا إلى عرفة: (927)، ومسلم في «صحيحه » كتاب الحج، باب التلبية والتكبير في الذهاب من منى إلى عرفات في يوم عرفة: (3098). عن محمَّد بن أبي بكر الثقفي قال:« قلت لأنس بن مالك غداة عرفة: ما تقول في التلبية هذا اليوم؟ قال: سرت هذا المسير مع النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم وأصحابِه فمِنَّا المكبِّر ومِنَّا المهلِّل، ولا يَعيب أحدُنا على صاحبه ».
2- أخرجه البخاري معلقا بصيغة الجزم في «صحيحه » كتاب العيدين، باب فضل العمل في أيام التشريق: (1/ 329)، وصححه الألباني في «الإرواء »: (3/124).
3- أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف »: (1/ 488)، وصححه الألباني في «الإرواء »: (2/121).
4- أخرجه البخاري في «صحيحه » كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود: (2550)، ومسلم في «صحيحه » كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور: (4492)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
5- أخرجه أبو داود في «سننه » كتاب السنة، باب في لزوم السنة: (4607)، والترمذي في «سننه » كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع: (2676)، وابن ماجه في «سننه » باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين: (42)، وأحمد في «مسنده »: (17608)، من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، والحديث صححه ابن الملقن في «البدر المنير »: (9/582)، وابن حجر في «موافقة الخبر الخبر »: (1/136)، والألباني في «السلسلة الصحيحة »: (2735)، وشعيب الأرناؤوط في «تحقيقه لمسند أحمد »: (4/126)، وحسَّنه الوادعي في «الصحيح المسند »: (938). دددد(4/113)
الفتوى رقم: 881
في حكم التكبير عقب الصلوات المكتوبة أيام التشريق
السؤال:
ما حكم التكبيرِ عَقِبَ الصلوات المكتوبة أيامَ العيد والتشريق؟ وجزاكم اللهُ خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فيُستحبُّ الاستكثارُ من التكبير دُبُرَ الصلواتِ، وسائرَ الأوقات بلا عددٍ مخصوصٍ، ولا وقتٍ مخصوصٍ، أي: أن لا يُقتَصَر استحبابه عَقِبَ كُلِّ صلاةِ فريضةٍ ثلاثَ مرَّاتٍ، ولا عَقِبَ كُلِّ صلاة نافلةٍ مرَّةً، فإنَّ هذا لا دليلَ عليه، بل هو مُستحبٌّ في كلِّ وقتٍ من تلك الأيام المعدوداتِ، بلا تخصيصِ عددٍ ولا وقتٍ، لقوله تعالى: ?وَاذْكُرُواْ اللهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ? [البقرة: 203]، ولسائر الأدلة المطلقة الأخرى، وقد جرى عليها عمل السلف:« وكان ابنُ عمرَ رضي الله عنهما يُكبِّر بِمِنًى تلك الأيامَ، وخَلْفَ الصلوات، وعلى فراشه، وفي فسطاطه، ومجلسِه، وممشاه تلك الأيامَ جميعًا »(1).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 26 ربيع الأول 1429ه
الموافق ل: 03 أفريل 2008م
__________
1- أخرجه البخاري معلّقًا بصيغة الجزم في «صحيحه » كتاب العيدين، باب التكبير أيام منى، وإذا غدا إلى عرفة: (2/461)، قال ابن حجر في «الفتح » (2/568):« وصله ابن المنذر والفاكهاني في "أخبار مكة" ». دددد(4/114)
09- صلاة التطوع
الفتوى رقم: 41
تكرار صلاة الاستخارة
السؤال: هل يشرع تكرار الاستخارة ؟ وهل هو من قبيل الإلحاح في الدعاء ؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة السلام على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فلا تكرير لصلاة الاستخارة وهي مشروعة بلا خلاف، فإذا استخار مضى بعدها إلى ما ينشرح له صدره، وإن كرر الدعاء في نفس صلاة الاستخارة فجائز لما أخرج مسلم في صحيحه أنه صلى الله عليه وسلم "كان إذا دعا كرره ثلاثا"(1).
والله أعلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
__________
1- أخرجه مسلم كتاب الجهاد والسير (4750)، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.(4/115)
الفتوى رقم: 42
الجهر بالقراءة في صلاة النافلة
السؤال: هل يشرع الجهر بالقراءة في النوافل؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة السلام على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فلم يرد في قراءة التطوع ما يمنع الجهر والإسرار في صلاة الليل و النهار، وعليه فيباح الجهر والإسرار للذكور والنساء على حد سواء، غير أنه إذا خشي من الافتتان بصوت المرأة لوجود أجانب غير محارمها فعليها بخفض صوتها فلا ترفعه إلا قدر ما تسمع نفسها لأن أمور المرأة مبنية على الستر، وخفض صوتها أنسب لذلك، ويشهد لذلك عدة نظائر في الشرع منها:
عدم جواز رفع صوتها بالتلبية وفي تكبير يوم العيد فلا ترفع صوتها بأكثر مما تحتاجه لإسماع نفسها إن كانت بحضرة الأجانب و يجوز لها رفع الصوت إذا انفردت أو كانت مع المحارم، و كذلك لا يشرع لها التسبيح إذا سها الإمام أو نسي وإنما تصفق للحديث الذي أخرجه مسلم "التسبيح للرجال و التصفيق للنساء "(1).
والله أعلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.
الجزائر في7 ذي الحجة 1417هـ
الموافق لـ 14 أفريل 1997 م
__________
1- رواه البخاري كتاب أبواب العمل في الصلاة باب التصفيق للنساء(1203) ,ومسلم كتاب الصلاة (982)، وأبو داود كتاب الصلاة باب التصفيق في الصلاة(940)، والترمذي كتاب أبواب الصلاة باب ما جاء في أنّ التسبيح للرجال والتصفيق للنساء(470)، والنسائي كتاب السهو باب التصفيق في الصلاة(1215)، وابن ماجة كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها باب التسبيح للرجال في الصلاة والتصفيق للنساء(1087) وأحمد(2/514) رقم(7497)والدارمي(1414)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(4/116)
الفتوى رقم: 55
في قضاء الوتر ونقضه
السؤال: ثبتَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنّه أمر بقضاء الوتر لِمَن فاته، وثبت أيضًا أنّه كان إذا فاته ورده من الليل يقضيه في النهار بأن يُشفِّعه، كيف يمكن الجمع بين هذين الحديثين فإن هو قضى الوتر -ركعة واحدة- وقضى ورده شفعًا، فيكون بالتالي كمن لم يشفع ورده لأنّه أضاف له ركعة الوتر؟ أم الأمر غير هذا؟ وما صحّة مسألة نقض الوتر؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على مَن أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فالمسألة المطروحة متعلّقة بالمعذور، أمّا غير المعذور فلا وتر له لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« مَنْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ وَلَمْ يُوتِرْ فَلاَ وِتْرَ لَهُ »(1)، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« إِنَّمَا الوِتْرُ بِاللَّيْلِ »(2).
وهذه الأحاديث إنما تحمل على غير المعذور لتعلّق النصوص الأخرى الواردة في مشروعية قضاء الوتر وغيره بمن فاتته الصلاة بغير عذر توفيقًا بين الأدلة وجمعًا للنصوص، منها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم:« مَنْ نَامَ عَنْ وِتْرِهِ أَوْ نَسِيَهُ فَلْيُصَلِّهِ إِذَا ذَكَرَهُ »(3) وبعموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم:« مَنْ نَامَ عَنْ صَلاَةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا »(4)، وبقول عائشة رضي الله عنها:« كَانَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يُصْبِحُ فَيُوتِرُ »(5)، وأن ابن مسعود رضي الله عنه حدّث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم:« أنه نَامَ عَنِ الصَّلاَةِ حَتَى طَلَعَتِ الشَّمْسُ ثُمَّ صَلَّى »(6)، فهذه النصوص إنما تدلّ على جواز تأخيرها لعذر كما هو بيِّن من ظواهرها، لكن صفة قضاء الوتر بالنهار يختلف عن الليل بأن يكون شفعًا لا وترًا لحديث عائشة رضي الله عنها قالت:« كَانَ النَّبِيُّ صَلَى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إِذَا نَامَ أَوْ مَرِضَ صَلَى بِالنَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشرَةَ رَكْعَةً »(7)، وعليه فمن كانت عادته أن يوتر بواحدة قضى من النهار ركعتين، ومن كانت عادته أو يوتر بثلاث قضاها أربعًا، وبخمس قضاها ستًّا وهكذا؛ لأنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي من الليل إحدى عشرة ركعة فصلى بالنهار ثنتي عشرة ركعة.
أمّا الورد فهو الورد من القرآن المراد به الحزب كما ثبت من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:« مَنْ نَامَ عَنْ حِزْبِهِ مِنَ اللَّيْلِ أَوْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ فَقَرَأَهُ مَا بَيْنَ صَلاَةِ الفَجْرِ وَصَلاَةِ الظُّهْرِ، كُتُبَ لَهُ كَأَنَّمَا قَرَأَهُ مِنَ اللَّيْلِ »(8).
وقيل: إنّ المراد بالحزب هو ما كان معتاده من صلاة الليل، وإذا حمل على هذا المعنى فلا إشكال في أن يختم صلاته بالوتر.
أمّا إن فاته الوتر لعلّة كنوم أو نسيان أو مرض فإنه يقضيه من النهار شفعًا كما تقدّم.
وأمّا المسألة المعروفة بنقض الوتر بأن يضيف إليه ركعة ثانية ويوتر أخرى بعد التنفل شفعًا فهي ضعيفة من وجهين:
1 - أحدهما: أنّ النفل بواحدة غير معروف من الشرع.
2 - والثاني: أنّ الوتر لا ينقلب إلى النفل بتشفيعه؛ لأنّ مَن أوتر من الليل فقد قضى وتره، فإن قام من نومه وصلى ركعة أخرى فهي مستقلّة عن الأخرى فلا يصيران صلاة واحدة لما تخلَّلَهُمَا من نوم وحدث ووضوء وكلام، ويكون والحال هذه قد أوتر مرَّتين، وإذا أضاف الوتر الأخير فيكون موترًا ثلاث مرّات، وهذا مخالفٌ لقوله صلى الله عليه وسلم:« لاَ وِتْرَانِ فِي لَيْلَةٍ »(9) من جهة، ومخالف لقوله صلى الله عليه وسلم:« اجْعَلُوا آخِرَ صَلاَتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا »(10)، ووجه المخالفة أنّه جعل وتره في مواضع من صلاة الليل.
أمّا المنقول عن ابن عمر (11) وعلي بن أبي طالب(12) رضي الله عنهم جواز نقض الوتر بإضافة ركعة، فإنّ الأثرين يعارضهما المرفوع من حديث ابن عمر رضي الله عنهما المتفق عليه «اجْعَلُوا آخِرَ صَلاَتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا » والعبرة بما روى لا بما رأى.
فالحاصل أنّ كلاًّ من الشفع والوتر منحصرٌ في معناه الشرعي، فإذا رعينا هذا المعنى فلا ينقلب الوتر شفعًا لأنّ الشفع نفل والوتر سنّة مؤكّدة أو واجبة على خلاف.
وإذا تقرّرت مرجوحية نقض الوتر فإنّ ما عليه أكثر العلماء جواز الصلاة بعد الوتر من غير أن يعيده وهو مروي عن أبي بكر وسعد وعمار وابن عباس وعائشة(13) رضي الله عنهم، ويدلّ على ذلك حديث عائشة رضي الله عنها قالت:« إِنَّ النَّبِيَّ صَلَى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُسَلِّمُ تَسْلِيمًا يُسْمِعُنَا ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَمَا يُسَلِّمُ وَهُوَ قَاعِدٌ »(14) وحديث أم سلمة رضي الله عنها:« أَنَّ النَّبِيَّ صَلَى الله عَلَيْهِ وَآلْهْ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الوِتْرِ وَهُوَ جَالِسٌ »(15). وقد تقدّم حديث "لا وتران في ليلة" المفيد لِمَنْع تكرار الوتر.
والعلم عند الله تعالى، وفوق كلّ ذي علم عليم، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 17 من ذي القعدة 1427م
الموافق ل: 8 ديسمبر 2006م
__________
1- أخرجه ابن حبان في صحيحه (2408)، وابن خزيمة (1092)، والحاكم (1159)، وعبد الرزاق في المصنف (4591)، والطيالسي في مسنده (2192)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. والحديث صححه الحاكم في "المستدرك" ووافقه الذهبي (1/441)، وصححه كذلك الألباني في "الإرواء" (2/154).
2- أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (891)، وعبد الرزاق في المصنف (4607)، من حديث معاوية بن قرة رضي الله عنه، والحديث حسنه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (1712).
3- أخرجه أبو داود في الصلاة أبواب الوتر (1431)، والترمذي في الوتر (465)، وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنّة فيها (1188)، والدارقطني (1656)، والبيهقي (4711)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وصحّحه الألباني في الإرواء (2/189).
4- أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة (597)، ومسلم في المساجد (1600)، وأبو داود في الصلاة (442)، والنسائي في المواقيت (613)، والترمذي في المواقيت (178)، وابن ماجه في الصلاة (696)، من حديث أنس رضي الله عنه.
5- أخرجه أحمد (25527)، وعبد الرزاق في مصنفه (4603)، والبيهقي (4620)، من حديث عائشة رضي الله عنها. والحديث حسنه الهيثمي في "مجمع الزوائد" (2/511)، وصححه الألباني في "الإرواء" (2/155).
6- أخرجه النسائي في المواقيت (612)، والبيهقي (4637)، والبزار في مسنده (2030)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وصححه الألباني في "الإرواء" (2/156).
7- أخرجه أبو داود في الصلاة (1342)، والترمذي في أبواب الصلاة (445)، وابن حبان (2619)، وأحمد (24384)، من حديث عائشة رضي الله عنها. وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"(1342)، وصحيح الترمذي (445).
8- أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (1779)، وأبو داود في الصلاة أبواب قيام الليل (1313)، والترمذي في الصلاة (518)، والنسائي في قيام الليل وتطوع النهار (1790)، وابن ماجه في الصلاة (1343)، والدارمي (1529)، والبيهقي (4737)، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
9- أخرجه أبو داود في الصلاة (1438)، والترمذي في الوتر (470)، والنسائي في قيام الليل وتطوّع النهار (1679)، وأحمد (16733)، والبيهقي (5039)، من حديث طلق بن علي رضي الله عنه. وصحّحه الألباني في صحيح الجامع (7567).
10- أخرجه البخاري في الوتر (998)، ومسلم في صلاة المسافرين (1755)، وأبو داود في الوتر (1438)، وأحمد (4813)، والبيهقي (5023)، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
11- أخرجه أحمد (6155)، وصححه أحمد شاكر في تحقيقه لمسند أحمد (9/39)، وحسنه الألباني في "الإرواء" (2/194).
12- أخرجه عبد الرزاق في المصنف (4684)، وصححه زكريا بن غلام قادر الباكستاني في "ما صح من آثار الصحابة في الفقه" (1/395).
13- انظر هذه الآثار وتخريجها في "ما صح من آثار الصحابة في الفقه" لزكريا بن غلام قادر الباكستاني (1/394-398).
14- أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (1739)، وأبو داود في الصلاة (1343)، والنسائي في السهو (1315)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1191)، وابن خزيمة (1078)، وأحمد (23876)، والبيهقي (4852)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
15- خرجه الترمذي في أبواب الوتر (471)، وابن ماجه في إقامة الصلاة (1195)، وأحمد (26013)، ، وصححه الألباني في "المشكاة" (1284).(4/117)
الفتوى رقم: 69
في مشروعية الرواتب لمن فاتته صلاة الجمعة
السؤال: إذا فاتت الرجل صلاة الجمعة، هل يصلي الرواتب البعدية والقبلية؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلم تسليما، أمّا بعد :
فالظاهر أنَّ من فاتته صلاة الجمعة بعذر فإنّه يصليها ظهرًا مع سننها المرتبة قبلها وبعدها لتعلق صلاة الرواتب بفريضة الظهر، أمّا صلاة الجمعة فليس لها سنة قبلية، أمّا بعدها فله أن يصلي أربعا أو اثنين لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُصَلِيًا بَعْدَ الجمُعَةِ فَلْيُصَلِ أَرْبَعًا"(1) وفي حديث ابن عمر رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:« كَانَ لاَ يُصَلِّى بَعْدَ الْجُمُعَةِ حَتَّى يَنْصَرِفَ فَيُصَلِّى رَكْعَتَيْنِ فِى بَيْتِهِ"(2).
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما كثيرًا.
الجزائر في: 20 محرم 1427ه
الموافقل: 19 فبراير 2006م
__________
1- أخرجه مسلم في الجمعة (2075)، وأبو داود في الصلاة (1133)، والترمذي في الصلاة (525)، والدارمي(1627)، والحميدي في مسنده (1023)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2- أخرجه البخاري في الجمعة (937)، ومسلم في الجمعة (2077)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.(4/118)
الفتوى رقم: 447
في حد وقت راتبة الفجر بعد طلوع الشمس للمعذور
السؤال: جاء في الحديث عن أبي هريرة؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ''من لم يصل ركعتي الفجر، فليصلهما بعدما تطلع الشمس''، فإلى متى يمتد وقت راتبة الفجر من بعد طلوع الشمس في حال القضاء؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فاعلم أنَّ قضاء ركعتي الفجر يجوز بعد الفريضة والأفضل قضاؤها بعد طلوع الشمس لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« مَنْ لَمْ يُصَلِّ رَكْعَتَي الْفَجْرِ فَلْيُصَلِّهِمَا بَعْدَمَا تَطْلُعُ الشَّمْسُ"(1)، والظاهر من الحديث أنَّ إيقاع قضاء ركعتي الفجر إنما هو محدد بوقت طلوع الشمس لمن لم يقترن به عذر، فإنَّ ذلك هو وقت القضاء، لأنَّ قوله صلى الله عليه و آله وسلم :" فليصلهما بعدما تطلع الشمس" جواب الشرط واللام فيه للأمر، وأول وقت الطلوع قطعي وبعده محتمل، مالم يمنعه من أدائه بعد طلوع الشمس مانع نوم أو نسيان أو عذر آخر، كان وقت أدائه عند زوال عذره.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 7جمادى الأولى 1427ه
الموافق ل: 3 جوان 2006م
__________
1- أخرجه الترمذي في الصلاة (425)، وابن حبان في صحيحه (2472)، والحاكم في المستدرك (1015)، والدارقطني في سننه (1451)، والبيهقي في سننه (4735)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال النووي في "الخلاصة"(1/612):" إسناده جيّد"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2361)، وفي صحيح الجامع (6542).(4/119)
الفتوى رقم: 538
في معنى الشفع ووقت إيقاعه
السؤال: من الشائع بين الناس عند الفراغ من صلاة العشاء، القيام إلى صلاة الشفع ثمّ تليها ركعة الوتر، فإذا نوى المصلي أن يقوم الليل فهل يصلي ركعتي الشفع مع العشاء أم يجعلها مع قيامه؟.
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فيوجد فرقٌ بين سُنَّة الراتبة البعدية المؤكّدة وبين صلاة الليل:
- أمَّا الأولى: فقد ثَبَتَتْ من حديثِ ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قال:« حَفِظْتُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ رَكَعَاتٍ: رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الظُّهْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَهَا، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ المغْرِبِ فِي بَيْتِهِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ العِشَاءِ فِي بَيْتِهِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلاَةِ الصُّبْحِ، وَكَانَتْ سَاعَةً لاَ يُدْخَلُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِيهَا »(1).
- أمَّا صلاة الليل: فهي ما كانت مع صلاة الوتر الذي يبدأ وقتُها من بعد صلاة العشاء حتَّى الفجر لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« إنَّ اللهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الوِتْرَ، فَأَوْتِرُوا يَا أَهْلَ القُرْآنِ »(2)، وفي حديث عائشة رضي الله عنها:« مِنْ كُلِّ اللَّيْلِ قَدْ أَوْتَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ وَأَوْسَطِهِ وَآخِرِهِ فَانْتَهَى وِتْرُهُ إِلَى السَّحَرِ »(3)، فأعلى عدد الوِتر إحدى عشر ركعةً، وأَقلُّه ركعةٌ واحدةٌ، والصلاةُ إن أدَّاها مثنى: -أي ركعتين- مع الوتر سُمّيت شفعًا لغةً، والشفع بمعنى الزوج، وهو اسمُ جنسٍ يقع على كلِّ عدد زوجي، ولم يأت من الشرع تسميتها بذلك لا فرضًا ولا نفلاً، وقد ثبت ذلك في رواية البخاري قوله صلى الله عليه وآله وسلم:« صَلاَةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَنْصَرِفَ فَارْكَعْ رَكْعَةً تُوتِرُ مَا قَدْ صَلَّيْتَ »(4)، وفي حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ رجلاً سأل رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم عن صلاة الليل، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:« صَلاَةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُم الصُّبْحَ، صَلَى رَكْعَةً وَاحِدَةً تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى »(5).
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 2 شعبان 1427ه
الموافق ل: 26 أوت 2006م
__________
1- أخرجه البخاري في «أبواب التطوّع » (1126)، والترمذي في «أبواب التطوّع » (433)، وابن حبان (2454)، وابن خزيمة (1197)، وأحمد (5394)، وأبو يعلى في «مسنده » (5776)، وعبد الرزاق في «المصنف » (4811)، والبيهقي (4578)، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما
2- أخرجه أبو داود في «الصلاة » (1416)، والترمذي في «الوتر » (453)، والنسائي في «قيام الليل » (1675)، وابن ماجه في «إقامة الصلاة » (1169)، وابن خزيمة (1067)، والحاكم (1118)، وأحمد (1229)، وأبو يعلى في «مسنده » (585)، والبيهقي (4558)، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وصحّحه أحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد » (2/164)، والألباني في «صحيح الجامع » (7860)، وحسّنه مقبل الوادعي في «الصحيح المسند » (981).
3- أخرجه البخاري في «الوتر » (951)، ومسلم في «صلاة المسافرين » (1737)، والنسائي في «قيام الليل » (1681)، والدارمي (1549)، وأحمد (25165)، وأبو يعلى في «مسنده » (4370)، وعبد الرزاق في «مصنّفه » (4624)، والبيهقي (4940)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
4- أخرجه البخاري في «الوتر » (948)، والنسائي في «قيام الليل » (1692)، وابن حبان (2624)، وأحمد (5084)، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
5- أخرجه البخاري في «الوتر » (946)، ومسلم في «صلاة المسافرين » (1748)، وأبو داود في «الصلاة » (1326)، والترمذي في «أبواب الصلاة » (437)، والنسائي في «قيام الليل » (1694)، ومالك في «الموطإ » (267)، وابن حبان (2426)، وعبد الرزاق في «المصنف » (4680)، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.(4/120)
الفتوى رقم: 646
في مشروعية قضاء فوائت السنن والرواتب
السؤال:
هل يجوز قضاءُ الرواتبِ؟ مثلاً: مَن فاتته راتبةُ الظهر هل يقضيها وقتَ العصر أو المغرب؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالرواتبُ هي السُّنَنُ التابعةُ للفرائض الخمسِ، وقد تتقدَّمُ عليها وتُسمّى بالسُّنَّة القبلية، وقد تتأخّر عنها وتسمَّى بالسنّة البعدية، ومن هذه الرواتبِ ما هو مؤكَّد لفعلِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم لها ومداومتِه عليها، وهي عشر كما ثبت في حديث ابنِ عمر رضي الله عنهما(1)، وبها قالت الشافعيةُ والحنابلةُ، أو اثنتا عشرة وهي كالعشر لكن قبل الظهر أربع ركعات وبه قال الحنفية، والذي ورد الندب إلى فعلها من غير تأكيد تعدُّ من الرواتب غير المؤكّدة.
ومن الرواتب التي جاء توكيدها سنّة الفجر، ف «لَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَلَى شَيْءٍ مِنَ النَّوَافِلِ أَشَدَّ مِنْهُ تَعَاهُدًا عَلَى رَكْعَتَي الفَّجْرِ »(2)، وفي رواية عن عائشة أيضًا:« لَمْ يَكُنْ يَدَعُهُمَا أَبَدًا »(3).
وقد ثبت في السُّنَّة مشروعية قضاء فوائت السنن والرواتب، ويجوز إيقاعها بعدَ زوال العذر ولو في وقت الكراهة، فعن قيس بنِ عمرٍو قال: رأى رسولُ الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم رجلاً يُصلِّي بعد صلاة الصبح ركعتين، فقال رسولُ الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« صَلاَةُ الصُّبْحِ رَكْعَتَانِ »، فقال الرجل: إني لم أكن صليت الركعتين اللتين قبلهما، فصليتهما الآن، فسكت رسولُ الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم(4)، وقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« مَنْ لَمْ يُصَلِّ رَكْعَتَيْ الفَجْرِ، فَلْيُصَلِّهِمَا بَعْدَمَا تَطْلُعُ الشَّمْسُ »(5)، وكذلك ثبت قضاء السُّنَّة القبلية والبعدية لصلاة الظهر لمن فاتته لعذر، منها: قول عائشة رضي الله عنها أنّ النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« كَانَ إِذَا لَمْ يُصَلِّ أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ صَلاَهُنَّ بَعْدَهَا »(6)، ولحديث أم سلمة رضي الله عنها أنها رأت النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم يصلي ركعتين بعد العصر -وقد نهى عن ذلك- فسألته عنها فقال:« يَا ابْنَةَ أَبِي أُمَيَّةَ سَأَلْتِ عَنْ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ العَصْرِ، فَإِنَّهُ أَتَانِي أُنَاسٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ القَيْسِ شَغَلُونِي عَن الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ وَهُمَا هَاتَانِ »(7)، ولقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم «مَنْ نَامَ عَنْ صَلاَةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا »(8)، فإنه يفيد عموم كل صلاة منسية أو له عذر فيها تخرج من جملة الصلوات المنهي عنها في أوقات الكراهة.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في 14 من ذي القعدة 1427ه
الموافق ل: 5 ديسمبر 2006م
__________
1- أخرجه البخاري في «أبواب التطوع »، باب الركعتين قبل الظهر: (1109)، والترمذي في «أبواب التطوّع »: (433)، وابن حبان: (2454)، وابن خزيمة: (1197)، وأحمد: (5394)، وأبو يعلى في «مسنده »: (5776)، وعبد الرزاق في «المصنف »: (4811)، والبيهقي: (4578)، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
2- أخرجه البخاري في «أبواب التطوع »، باب: تعاهد ركعتي الفجر ومن سمّاهما تطوعًا: (1099)، ومسلم في «صلاة المسافرين »: (1686)، وأبو داود في «الصلاة » باب: ركعتي الفجر: (1254)، وابن حبان في «الصلاة » باب النوافل: (2463).
3- أخرجه البخاري في «أبواب التهجد »: (1106)، والبيهقي: (4511)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
4- أخرجه أبو داود في «الصلاة »: (1267)، والبيهقي: (4655)، من حديث قيس بن عمرو بن سهل الأنصاري رضي الله عنه. وصحّحه الألباني في «صحيح أبي داود »: (1267).
5- أخرجه الترمذي في «الصلاة »: (423)، وابن حبان: (2472)، والحاكم: (1015)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث قال عنه النووي في «الخلاصة »: (1/612):« إسناده جيد »، وصحّحه الألباني في «صحيح الجامع »: (6542).
6- أخرجه الترمذي في «الصلاة »: (426)، من حديث عائشة رضي الله عنه. وصحّحه الألباني في «صحيح الترمذي »: (426). وانظر «الضعيفة » للألباني: (9/223).
7- أخرجه البخاري في «السهو »: (1176)، ومسلم في «صلاة المسافرين »: (1933)، وأبو داود في «الصلاة »: (1237)، وابن حبان: (1576)، من حديث أم سلمة رضي الله عنها.
8- أخرجه البخاري في «مواقيت الصلاة »: (597)، ومسلم في «المساجد »: (1566)، وأبو داود في «الصلاة »: (442)، والنسائي في «المواقيت »: (613)، والترمذي في «المواقيت »: (178)، وابن ماجه في «الصلاة »: (696)، من حديث أنس رضي الله عنه.(4/121)
الفتوى رقم: 652
في حكم تحية المسجد
السؤال:
ما هو القولُ الراجِحُ في حُكم تحيةِ المسجد؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالظاهرُ من النُّصوص الحديثية أنّ تحيةَ المسجدِ واجبةٌ لقولِهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ المَسْجِدَ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ »(1)، وفي لفظ:« فَلاَ يَجْلِسْ حَتَّى يَرْكَعَ رَكْعَتَيْنِ »(2)، فالحديثُ يدلُّ على وجوب ركعتي تحية المسجد؛ لأنّ الأمرَ للوجوب كما في الرواية الأولى، والنهيَّ للتحريم كما في الرواية الثانية. وهذا هو الظاهر ومَنْ أزالهما عن الظاهر فهو محتاجٌ إلى الدليل. ومِنْ مُؤكِّدات الإيجاب حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قطع خطبتَه وأمر سُلَيْكًا الغَطَفَانِيَّ أَنْ يُصَلِّيَهُمَا(3).
وغايةً ما يَستدِلُّ به الجمهورُ أنّ الوجوبَ مصروفٌ إلى الندب ببعض النصوصِ الحديثيةِ منها: قولُ السائلِ:« يَا رَسُولَ اللهِ أَخْبِرْنِي مَاذَا فَرَضَ اللهُ عَلَيَّ مِنَ الصَّلاَةِ قَالَ: الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ » قال: هل عَلَيَّ غيرهنّ؟ قال:« لاَ إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ »(4)، فيدلّ على أنّ تحيةَ المسجد ليستْ واجبةً. وحديثُ:« اجْلِسْ فَقَدْ آذَيْتَ وَآنَيْتَ »(5) فأمره صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم بالجلوس ولم يأمره بتحية المسجد، يدلُّ على أنها ليستْ بواجبةٍ، وكذلك حديثُ النَّفَرِ الثلاثةِ، أقبل اثنان إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم وذهب واحد.. فأمّا أحدهما فرأى فُرْجَةً في الحلقة فجلس فيها، وأمّا الآخر فجلس خَلْفَهُم، وأمّا الثالث فأدبر ذاهبًا… »(6)، الحديث يفيد أنه لم يأمره صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم بصلاة تحية المسجد فدلّ على عدم وجوبها إذ لا يُقرّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم على باطل.
فمجموع هذه الأدلة يمكن الجواب عنها فيما يلي:
أولاً: يحتمل في حديث:« إلاّ أن تطّوّع » أنه كان قبل أن يجب غيرُها من الصلوات، فيكون حصر واجبات الصلاة باعتبار وقت السائل الذي سأله فيه، ولم يقل له: إنه لا يجب عليه ما يوجبه الله من بعد، بل ما أوجبه الله وجب، بدليل أنّ صلاة الجنازة واجبة ولم تذكر في محصور الحديث، وهذا الجواب يشمل أيضًا لحديث:« اجلس فقد آذيت… » وحديثِ النفر الثلاثة؛ لأنّ الشريعة تكاملت شيئًا فشيئًا.
ثانيًا: إنّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم لَمَّا نفى وجوبَ الواجباتِ ابتداءً في قوله:« إلاّ أن تطّوّع » لا الواجباتِ بأسبابٍ يختار المكلّف فعلها كدخول المسجد، فلا يصحُّ شمول هذا الصارف وغيرِه لمثلها. وعليه، فإنّ إيجاب ركعتي تحية المسجد هو الجاري على مقتضى الأوامر والنواهي.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 15 صفر 1428ه
الموافق ل: 5 مارس 2007م
__________
1- أخرجه البخاري في «المساجد »: (433)، ومسلم في «صلاة المسافرين »: (1654)، والترمذي في «الصلاة »:(316)، والنسائي في «المساجد »: (730)، ومالك في «الموطإ »: (386)، والدارمي في «سننه »: (1365)، وابن حبان: (2499)، وأحمد: (22088)، من حديث أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه.
2- أخرجه البخاري في «التطوع »: (1110)، ومسلم في «صلاة المسافرين »: (1655)، وابن خزيمة: (1829)، وأحمد: (22095)، من حديث أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه. وأخرجه ابن ماجه في «إقامة الصلاة »: (1012)، وابن خزيمة: (1325)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
3- أخرجه مسلم في «الجمعة »: (2023)، وأبو داود في «الصلاة »: (1116)، وابن ماجه في «إقامة الصلاة »: (1112)، وابن حبان: (2500)، وابن خزيمة: (1835)، وأحمد: (13996)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
4- أخرجه البخاري في «الإيمان »: (46)، ومسلم في «الإيمان »: (100)، وأبو داود في «الصلاة »: (391)، والنسائي في «الصلاة »: (458)، ومالك في «الموطإ »: (423)، وابن حبان: (1724)، وابن خزيمة: (306)، من حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه.
5- أخرجه ابن ماجه في «إقامة الصلاة »: (1115)، من حديث جابر رضي الله عنه. وأخرجه وأبو داود في «الصلاة »: (1118)، والنسائي في «الجمعة »: (1399)، وابن حبان: (2790)، وابن خزيمة: (1812)، وأحمد: (17344)، والبيهقي: (5915)، والحاكم: (1093)، من حديث عبد الله بن بسر رضي الله عنه. والحديث صحّحه الألباني في «صحيح الجامع »: (155).
6- أخرجه البخاري في «العلم »: (66)، ومسلم في «السلام »: (5681)، والترمذي في «الاستئذان »: (2724)، ومالك في «الموطإ »: (1724)، وابن حبان: (86)، وأحمد: (21400)، من حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه.(4/122)
الفتوى رقم: 734
في حكم قيام رمضان في ليلة الشك
السؤال:
أعمل معلّم قرآن، وفي رمضان يكلّفني الإمام بصلاة التراويح قبلَ الإعلان عن دخول أولِ رمضان، وكذا بالنسبة لليلةِ الشَّكِّ لأول شوَّال، فما حكم قيام ليلة الشكّ فيهما؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فصلاةُ التراويحِ سنّةٌ مؤكّدةٌ للرجال والنساء في رمضانَ، وهي من شعائر الإسلام الظاهرةِ، وتعلُّقُها برمضان يقتضي بدء قيامها من أوّل ليلة من رمضان جماعةً، وأفضل وقتِها أوّل الليل بعد صلاة العشاء، لقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه:« نِعْمَ البِدْعَةُ هَذِهِ، وَالَّتِي يَنَامُونَ عَنْهَا أَفْضَلُ مِنَ الَّتِي يَقُومُونَ -يَعْنِي آخِرَ اللَّيْلِ- وَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَهُ »(1)، وقد أشار الإمامُ أحمدُ إلى هذا الأثرِ حين سُئل: يُؤخَّر القيام -أي التراويح- إلى آخر الليل؟ فقال:« لا، سُنَّةُ المسلمينَ أحبُّ إليَّ »(2). كما ينتهي وقتُها مع آخر رمضان لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ »(3)، وعن عائشة رضي الله عنها قالت:« كان رسولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يُصلِّي منَ الليلِ في حُجرتِه وجِدارُ الحجرةِ قصيرٌ، فرأَى الناسُ شخصَ النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، فقام أُناسُ يُصلُّونَ بصلاتهِ، فأَصبَحوا فتحدَّثوا بذلك، فقامَ ليلةَ الثانيةِ فقام معَهُ أُناسُ يُصلُّون بصلاتهِ، صنعوا ذلك ليلَتين أو ثلاثًا، حتى إذا كان بعدَ ذلك جلسَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فلم يَخرُجْ، فلما أصبحَ ذكرَ ذلكَ الناسُ، فقال:« إِنِّي خَشيتُ أَن تُكتَبَ عَلَيْكُمْ صَلاَةُ اللَّيْلِ »(4)، ففي الحديثين دليلٌ على مشروعية صلاة الليل في رمضان جماعةً وذلك يستلزم إيقاعها في ليالي رمضان دون ما قبله أو ما شكّ أنه من رمضان حتى يتيقّن، ولا ينبغي له ترضية الناس بمخالفة المشروع؛ لأنه مداهنة منهي عنها بقوله تعالى: ?وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ? [القلم: 9]، وقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« مَنْ أَرْضَى اللهَ بِسَخَطِ النَّاسِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَى عَنْهُ النَّاسَ، وَمَنْ أَرْضَى النَّاسَ بِسَخَطِ اللهِ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَسْخَطَ عَنْهُ النَّاسَ »(5).
وإذا لم تكن الليلة من رمضان فلا يقيمها لهم، وله أن يقوم الليل إذا اعتاد قيامه وأفضل أوقاته في الثلث الأخير من الليل ليتعرّض للنفحات العظيمة في تلك الأوقات.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 19 جمادى الأولى 1428ه
الموافق ل: 6 جوان 2007م
__________
1- أخرجه البخاري في «صلاة التراويح »، باب فضل من قام رمضان: (1906)، ومالك في «الموطإ »: (250)، وابن خزيمة في «صحيحه »: (1100)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (4708)، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
2- رواه أبو داود في «مسائله » (ص 62).
قلت: الأفضل في سائر الأيام تأخير القيام إلى آخر الليل ما عدا قيام رمضان فالأفضل في أوله، لفعله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، ولأنّ الناس كانوا يقومونه في أوله، ووافقه قول عمر رضي الله عنه، وهي سنة المسلمين إلى أيامنا هذه، والحمد لله رب العالمين.
3- أخرجه البخاري في «الإيمان »، باب تطوع قيام رمضان من الإيمان: (37)، ومسلم في «صلاة المسافرين وقصرها »، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح: (1779)، وأبو داود في «الصلاة »، باب في قيام شهر رمضان: (1371)، والترمذي في «الصوم »، باب الترغيب في قيام رمضان: (808)، والنسائي في «قيام الليل »، باب ثواب من قام رمضان إيمانا واحتسابا: (1602)، وأحمد: (9034)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
4- أخرجه البخاري في «الجماعة والإمامة »، باب إذا كان بين الإمام وبين القوم حائط: (696)، ومسلم في «صلاة المسافرين »، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح: (1783)، وأحمد: (24834)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
5- أخرجه الترمذي في «الزهد »: (2414)، وابن حبان في «صحيحه »: (276)، والشهاب القضاعي في «مسنده »: (499)، من حديث عائشة رضي الله عنها. وصححه الألباني في «السلسلة الصحيحة »: (2311).(4/123)
الفتوى رقم: 789
في حكم تنبيه المصلين بسجود التلاوة في صلاة التراويح
السؤال:
ما حكمُ إعلامِ الناس في صلاة التراويح عن طريق مُكبِّر الصوتِ بوجود سجدةٍ للتلاوة، مع العلم أنَّ الكثير من الناس يُصلُّون خارجَ المسجد، كما أنَّ قاعةَ النساء في الطابق السفلي منه، وبالتالي لا يتنبهن إلى سجود التلاوة، فيقع لهنَّ خلط في الركوع والسجود؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فاعلم أنَّ إعلامَ الناس بوجود سجدة تلاوة في الركعة الأولى أو الثانية من صلاة التراويح على وجه الاستمرار والدوران، أي: كُلَّما وُجدت سجدةٌ من القرآن أخبر بها المصلين، فإنَّه لا يشهد على هذا الفعل سُنَّةٌ ولا عملٌ، وما ذُكر من التعليلات فإنَّ المقتضي لفعلها كان موجودًا في زمنه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم مع انتفاء الموانع، وانعدام وسائل تكبير الصوت، ومع ذلك لم ينقل عنه أنّه فعلها أو أرشد إليها ولا فعلها من بعده صحابتُه الكرام ومَن بعدهم ممَّن تبعهم بإحسان، ولو بُنِيَ استحباب الفعل على جملةِ التعليلات العقلية المذكورة للزم استحباب الأذان للتراويح، ولصلاة العِيدين، ونحو ذلك، ولم تعُدْ مصلحةُ التعليلات على الشريعة بالحفظ والصيانة، بل بالهدم وانفتاح باب الابتداع في الدِّين، وإذا كان اللازم باطلاً فالملزوم مثلُه.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 23 من ذي القعدة 1428ه
الموافق ل: 03 ديسمبر 2007م(4/124)
الفتوى رقم: 951
في صفة القراءة في نوافل الليل والنهار
السؤال:
هل يُشرع للنوافل التي ليس لها جماعة الإسرار بالقراءة أو الجهر بها؟ وما حكم قراءة المرأة فيها؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فأهل العلم يفرِّقون بين النوافل النهارية التي لا يشرع لها عقد جماعة، والنوافل الليلية:
فأمَّا النوافل النهارية فعلى أرجح المذاهب أنه يستحب الإسرار بالقراءة فيها ولا يجب، والجهر بها خلاف الأَوْلى، وهو أحد قولي المالكية والأصح عند الشافعية(1)، وقد استدلُّوا على مذهبهم بحديث: «صَلاَةُ النَّهَارِ عَجْمَاءُ»(2) على عموم استحباب الإسرار في الفرائض والنوافل النهارية التي لا تعقد لها جماعة وذلك لعجميتها، بحيث لا تسمع فيها قراءة، وهذا الاستدلال -وإن كان لا يتم لعدم ثبوته عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم- إلاَّ أنَّ إلحاق نوافل النهار بفرائض النهار ألصق قياسًا؛ ذلك لأنَّ الحكم فيها إذا كان واحدًا فإنَّ «ما ثبت في الفرض يثبت في النفل» من غير تفريقٍ إلاَّ ما استثناه الدليل، ولم يرد ما يفرِّق.
وأمَّا نوافل الليل فللمُتَنفِّل الخيار بين الجهر والإسرار فيها، و«لا يلزم من التخيير التسوية بينهما»، ويكون الجهر فيها أفضل إذا كان جالبًا للنشاط وفائدة المراجعة والحفظ، ويكون الإسرار أفضل إذا ترتَّب في جهره بالقراءة مفسدة التشويش على مصلٍّ آخر، أو التعكير على باحثٍ بالجهر، أو إيقاظ نائم ونحو ذلك، وهو مذهب الجمهور، ويدلُّ عليه ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: «كَانَتْ قِرَاءَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِاللَّيْلِ يَرْفَعُ طَوْرًا وَيَخْفِضُ طَوْرًا»(3)، وقد سُئلت عائشةُ رضي الله عنها عن قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالليل؟ فقالت: «كُلُّ ذلك كان يفعل، ربما أسرَّ بالقراءة، وربما جهر»(4)، ويدلُّ على أنَّ الإسرار في القراءة بالليل أفضل إذا كان سببًا في ترتُّب مفسدةٍ عليه ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: اعتكف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد، فسمعهم يجهرون بالقراءة فكشف الستر، وقال: «أَلاَ إِنَّ كُلَّكُمْ مُنَاجٍ رَبَّهُ فَلاَ يُؤْذِيَنَّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَلاَ يَرْفَعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ في القِرَاءَةِ» أو قال: «في الصَّلاَةِ»(5).
وحكم المرأة في القراءة بالإسرار والجهر يستوي مع الرجل، سواء فرضًا أو نفلاً لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ»(6)، أي في الأحكام، ويستثنى فيها حالة ما إذا كان صوتها بالجهر يسمعه الرجال الأجانب فإنها تخفضه ولا ترفعه، وتُسِرُّ به ولا تجهر للقراءة في الفرض والنفل احترازًا من الافتتان.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 26 شوال 1429ه
الموافق ل: 25 أكتوبر 2008م
__________
1- «الشرح الكبير» للدردير، و«حاشية الدسوقي» عليه: (1/313)، «شرح منح الجليل» لعليش: (1/205)، «المجموع» للنووي: (3/391)، «مغني المحتاج» للشربيني: (1/162)، «الإنصاف» للمرداوي: (2/57)، «الفروع» لابن مفلح: (1/566).
2- قال النووي في «الخلاصة» (1/394): «باطل لا أصل له»، وقال الزيلعي في «نصب الراية» (2/6): «قلت: غريب، ورواه عبد الرزاق في «مصنفه» من قول مجاهد . وأبي عبيدة...».
3- أخرجه أبو داود في «سننه» كتاب الصلاة، باب رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل (1328)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قال الألباني في «المشكاة» (1/377): «بإسناد ضعيف، لكن معناه صحيح، فإن له شاهدًا من حديث عائشة، أخرجه مسلم».
4- أخرجه مسلم في «صحيحه» كتاب الحيض، باب جواز نوم الجنب واستحباب الوضوء له: (705)، وأبو داود في «سننه» كتاب الصلاة، باب في وقت الوتر: (1437)، باب ما جاء في قراءة الليل: (449)، والنسائي في «سننه» كتاب قيام الليل وتطوع النهار، باب كيف القراءة بالليل: (1662)، وأحمد في «مسنده»: (24497)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
5- أخرجه أبو داود في «سننه» كتاب الصلاة، باب رفع الصوت بالقراءة في صلاة الليل: (1332)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. والحديث صححه ابن عبد البر في «التمهيد»: (23/318)، والألباني في «السلسلة الصحيحة»: (4/129).
6- أخرجه أبو داود في «سننه» كتاب الطهارة، باب في الرجل يجد البلة في منامه (236)، والترمذي في «سننه» كتاب أبواب الطهارة، باب ما جاء فيمن يستيقظ فيرى بللا ولا يذكر (113)، وأحمد في «مسنده»: (25663)، والبيهقي في «السنن الكبرى»: (818)، من حديث عائشة رضي الله عنها. والحديث صححه الألباني في «صحيح الجامع» (2333)، وفي «السلسلة الصحيحة» (2863).(4/125)
****************** 05- فتاوى الجنائز ******************
الفتوى رقم: 73
الصلاة على الميت في المقبرة
السؤال: ما حكم الصلاة في المقبرة على الميّت؟ وما الجواب على من يستدلون بالجواز بحديث صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على المرأة السوداء في المقبرة؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فالغالب على هديه صلى الله عليه وسلم في صلاة الجنازة إيقاعه لها في موضع خارج عن المسجد معدٍّ للصلاة على الجنائز، وهو المعروف بـ"مصلى الجنائز" وقد كان لاصقا بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم من جهة الشرق، ويشهد لذلك جملة من الأحاديث الصحيحة المثبتة لذلك، ولا يخفى أنّ هديه صلى الله عليه وسلم هو الأفضل، لكن هذه الأفضلية لا تمنع من مشروعية الصلاة على الجنازة داخل المسجد لما رواه مسلم وغيره أنّ عائشة رضي الله عنها قالت:" والله ما صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء وأخيه إلاّ في جوف المسجد"[وفيه قصة](1). أمّا رواية "من صلّى على جنازة في المسجد فلا شيء له"(2) فلا تنافي رواية عائشة رضي الله عنها، لأنّ النفي فيه عن أجر خاص بصلاة الجنازة في المسجد، لا نفي أجر الصلاة عليها مطلقا وعليه، فحديث عائشة رضي الله عنها يفيد جواز صلاة الجنازة في المسجد والأفضل أن تكون خارج المسجد في المصلى-كما تقدم- وممّا يقوي المشروعية صلاة عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أبي بكر رضي الله عنه في المسجد، وصلاة صهيب على عمر رضي الله عنه في المسجد.
أمّا المقبرة فليست موضعا للصلاة فيها، ولا تجوز الصلاة فيها ولا إليها للأحاديث الناهية عن ذلك، منها حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" الأرض كلّها مسجد إلاّ المقبرة والحمّام"(3) وحديث أنس رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن الصلاة بين القبور"(4) ولحديث أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا إليها"(5)، ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إنّ الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة"(6). ويتضمن هذا العموم صلاة الجنازة مع أنّه قد ورد التصريح بالنهي عن الصلاة فيها في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه:" أنّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلى على الجنائز بين القبور"(7) هذه الأحاديث يشمل عموم النهي فيها جنس الصلاة سواء كان فرضا، أداء كانت أو قضاء، أو نفلا، مطلقا كان أو مقيدا، كما تعمّ الصلاة على الميت سواء كانت على الجنازة أو في قبره، لكن لمّا ورد حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال:" مات رجل-وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده- فدفنوه بالليل، فلمّا أصبح أعلموه، فقال:" ما منعكم أن تعلموني ؟" قالوا: كان الليل، وكانت الظلمة، فكرهنا أن نشق عليك، فأتى قبره، فصلى عليه، قال: فأمّنا،وصفّنا خلفه، وأنا فيهم، وكبّر أربعا"(8)، ومثله عن المرأة السوداء التي كانت تلتقط الخرق والعيدان من المسجد الثابت من حديث أبي هريرة رضي الله عنه(9)، فخصّ من عموم نهيه عن الصلاة في المقبرة صورة الصلاة عن الميّت في قبره بهذه الأدلة وبقي عموم النهي شاملا للصلاة على الجنازة وغيرها، أي بقاء النهي من حيث عمومه متناولا ما عدا صورة التخصيص، وبهذا الجمع التوفيقي بين الأدلة يزول الإشكال وترتفع الشبهة، ويعمل بكلّ دليل في موضعه، تحقيقا
لقاعدة الإعمال أولى من الإهمال.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
__________
1- أخرجه مسلم في الجنائز رقم(973)، وأبو داود في الجنائز رقم(3189) من حديث عائشة رضي الله عنها.
2- أخرجه أبو داود في الجنائز رقم(3191)، وابن ماجة في الجنائز رقم(1517)، والطحاوي في شرح المعاني(1/284)، وابن عدي (2/198)، وعبد الرزاق في المصنف(6579)، وأحمد(2/444و455)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة(2351). وقال -رحمه الله- في السلسلة الصحيحة(5/462):" وشذ عنهم جميعا أبو داود في روايته فلفظها:" فلا شيء عليه".
3- أخرجه أبو داود في الصلاة رقم(492)، والترمذي في الصلاة رقم(317)، وابن ماجة في المساجد والجماعة رقم (745)، والدارمي في الصلاة رقم(1441)، والبيهقي في السنن رقم (4454)، وأحمد (12104)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وصححه الألباني في الإرواء(1/320).
4- أخرجه البزار (441)و(442)و(443)، من حديث أنس رضي الله عنه، وصححه الألباني في أحكام الجنائز ص:(270).
5- أخرجه مسلم في الجنائز رقم(972)، والنسائي في القبلة رقم(760)، وأحمد رقم(17678)، من حديث أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه.
6- أخرجه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها رقم(780)، والترمذي في الأدب رقم (2877)،وأحمد رقم(8040)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
7- انظر أحكام الجنائز للألباني (270).
8- أخرجه ابن ماجة في الجنائز رقم(1530)، والبيهقي في السنن رقم(7159)، وصححه الألباني في الإرواء(3/183) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
9- أخرجه البخاري في الصلاة(460)، ومسلم في الجنائز (2259)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(5/1)
الفتوى رقم: 75
في حكم الموعظة الليلية في بيت أهل الميت
السؤال: ما حكم من يقوم بالموعظة في الليل عند أهل الميّت مع العلم أنّ هذا الإنسان يفعل هذا الأمر دائما عند كلّ ميّت بنية الموعظة؟
الجواب: الحمد لله والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وآله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فاعلم أنه لا يُعلم في الاجتماع للعزاء أصل مشروع عند السلف، بل كان معدودًَا عندهم من النياحة، فقد صح من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أنه قال:" كُنَّا نَعُدُّ [وفي رواية: نَرَى](1) الاِجْتِمَاعَ إِلَى أَهْلِ المَيِّتِ، وَصَنِيعَةَ الطَّعَامِ بَعْدَ دَفْنِهِ مِنَ النَّيَاحَةِ"(2) وإذا كان الاجتماع غير مشروع فإنَّ الخطبة أو الوعظ يتبعه في الحكم، إذ الخطبة أو الوعظ مقترن بالاجتماع، ولوازم الشيء منه.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
الجزائر في: 26 ذي القعدة 1426ه
الموافق ل: 28 ديسمبر 2005م
__________
1- أخرجه ابن ماجه في الجنائز (1680).
2- أخرجه أحمد (7084)، وصححه النووي في:" شرح المهذب" (5/320)، والألباني في "أحكام الجنائز": (73).(5/2)
الفتوى رقم: 147
في حكم غسل بعض أجزاء الميت وكفنه والصلاة عليه
السؤال: وجد في قريتنا جسم لإنسان مقطوع الرأس وبعد التعرّف على شخصيته لم يعثروا على بقية جسمه، واختلفوا في غسله وكفنه والصلاة عليه بهذه الصورة.
وما دام الأمر مستعجلا، فيرجى منكم الجواب عن حكم غسل وكفن والصلاة على بعض الميت كأطرافه وأجزائه؟ وجزاكم الله خيرا.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فلم يختلف أهل الفقه في أنّ غسل الميّت المسلم وتكفينه والصلاة عليه ودفنه فرض كفاية لأمره صلى الله عليه وسلم، ومحافظة المسلمين عليه، كما اتفق الأئمة الأربعة وغيرهم على أنّ الميت المسلم إن وجد أكثر من نصفه غسل وصلّي عليه ودفن، غير أنّهم يختلفون فيما إذا عثر على نصفه أو دون النصف على قولين، والمختار في ذلك مذهب الشافعي وأحمد(1) وابن حزم الظاهري(2) وهو أن تغسل أطرافه وتكفن ويُصلّى عليه وإن كان دون النصف وأقل منه خلافا لأبي حنيفة ومالك. اللّهمّ إلاّ أن يكون شهيدا فلا يُغسل وإن كان جنبا ولا يُصلى عليه(3)
ويدلّ على مشروعية الغسل والتكفين والصلاة فعل الصحابة من ذلك: صلاة عمر بن الخطاب رضي الله عنه على عظام بالشام، وصلاة أبي أيوب الأنصاري على رِجْلٍ(4)، وبما نقله الشافعي قال: بلغنا أنّ طائرا ألقى يدا بمكة في وقعة الجمل، فعرفوها بالخاتم، فغسلوها وصلوا عليها، وكان ذلك بمحضر الصحابة(5) هذا كلّه إن لم يكن قد صلي عليه، فإنّه يغسل ويصلى على ذلك الجزء ويدفن، لأنّ الآثار السابقة وإن كانت دائرة بين الضعف والإرسال إلاّ أنّ الأقرب إلى الصواب هذا القول لأنّه موافق لأصل وجوب الصلاة على المسلم، وإذا جازت الصلاة على الميّت الغائب فإنّه تجوز على جزء منه جريا على الكلّ. أمّا إذا صلى عليه ثمّ وجد جزء منه فأنّه يغسل ويدفن.
غير أنّه إن صلى على بعضه ينوي بالصلاة على كلّه جسده وروحه على ما قرره أهل العلم، وهذا كلّه إن تيقن موته، فإن كان العضو قطع من حي كيد السارق، أو شك في العضو أهو منفصل من حي أو ميّت لم يصل عليه على أرجح الأقوال(6).
والله أعلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
__________
1- المجموع للنووي:(5/253-255).
2- المحلى لابن حزم:(5/138).
3- وعدم الصلاة على الشهيد لا ينافي مشروعية الصلاة عليه بدون وجوب، لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم صلى على حمزة رضي الله عنه دون بقية شهداء أحد، كما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على أهل أحد بعد ثمان سنين صلاته على الميّت كالمودع للأحياء والأموات[راجع أحكام الجنائز للألباني:45-82].
4- قال الألباني في الإرواء(3/169):"موقوفات ضعيفة".
5- الأم للشافعي:(1/268).
6- المجموع للنووي:(5/254).(5/3)
الفتوى رقم: 254
في تجهيز الميت
السؤال: تجهيز الميت هل يكون من ماله الخاص أو من مال أبنائه ؟ وهل نفس الحكم يترتب على الأم ؟ جزاكم الله خيرا ونفعنا بعلمكم والسلام عليكم ورحمة الله.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فالمعلوم أنّ الميت لا تقسم تركته إلاّ بعد تجهيزه بماله الخاص وتسديد ديونه وتنفيذ وصاياه، فإن جهّزه أحد أولاده فإن كان ينوي الرجوع عليه بعد ذلك فإنّه يعطى له نصيبه قبل القسمة الإرثية، أمّا إذا تبرع له بما جهّزه به من باب البر والإحسان فجائز ولا يسعه بعد ذلك أن يعود على بقية الورثة بما قدمه له، وهذا الحكم عام سواء لأهل القرابة أو لغيرهم.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلي الله على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في:20جمادى الأولى1426هـ
الموافق لـ: 26 جويلية 2005م.(5/4)
الفتوى رقم: 266
في حكم تعزية الكافر
السؤال: هل يجوز تعزية الكافر؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فتجوز تعزية الكفار بما نقل عن بعض السّلف أنّه عزّى نصرانياً فقال "عليك بتقوى الله والصّبر" ونقل عن الحسن قال:" إذا عزَّيت الذمِّي فقل: لا يصيبك إلاّ خير" وعن إسحاق أنّه يقول في تعزية المشرك:" أكثر الله مالك وولدك "(1)، ولعلّ ذلك خاص بالذمي والمعاهد والمستأمن دون المحارب، ويدخل ذلك في عموم الأمر ببرهم والعدل فيهم في قوله تعالى: ? لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ?[الممتحنة: 8]
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
الجزائر في: 30 جمادى الثانية 1426هـ
الموافق لـ: 5 أوت 2005م
__________
1- انظر أحكام أهل الذمة لابن القيّم : 1/204-205.(5/5)
الفتوى رقم: 466
في حكم تغطية الميت بكساء عليه آية الكرسي
السؤال: ما حكم تغطية الميت بكساء مكتوب عليه آية الكرسي وأسماء الله الحسنى علمًا أنه يُنْزع بعد وضعه في القبر ؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فإنّ تغطية الميت بغطاء أو إزار مكتوب عليه آية الكرسي أو آيات من القرآن الكريم لا يجوز شرعًا لما يجرُّ هذا الفعل من اعتقاد فاسد بانتفاع الميت بهذا الغطاء المكتوب، الموضوع فوق النعش، المحمول إلى المقبرة، ومثل هذا الاعتقاد بحصول النفع أمر غيبي لا يُبنى على آراء الرجال وأهوائهم بل يستند إلى دليل شرعي يفتقر إليه، ولا يشهد له عمل السلف مع وجود المقتضي له، فضلاً عن أنه لا يخفى على عاقل أنّ تغطية الأحياء أو الأموات بالآيات القرآنية سواء في كسوة أو إزار أو غطاء أو جلباب لا يليق بكلام الله سبحانه وتعالى لما فيه من ابتذال للقرآن الكريم، وامتهان سُوَرِه وآياته، الأمر الذي ينافي التأدّب مع الله تعالى وتعظيم أمره.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا.
الجزائر في: 14 رمضان 1427ه
الموافق ل: 7 أكتوبر 2006م(5/6)
الفتوى رقم: 564
في وصول العبادات المالية إلى الميت
السؤال: هل يصِلُ ثواب العباداتُ التاليةُ إلى الوالد المتوفى؟
1 - الصدقة.
2 - الصدقة الجارية (لبناء مسجد مثلاً).
3 - تلاوة القرآن.
4 - القربان.
5 - الأضحية.
وهل المسألة خلافية؟ ما ترجيحكم لها؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فقد نقل النوويُّ(1) وابنُ كثيرٍ (2) إجماعَ العلماءِ على وصول ثواب الدعاء والصدقةِ إلى الميت، ومستند الإجماع النصوص الدالة على مشروعية الدعاء للأحياء والأموات كقوله تعالى: ?وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ، وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا? [الحشر: 10]، ومن ذلك مشروعية الدعاء في صلاة الجِنازة والدعاء للميت بعد الدفن، والدعاء عند زيارة القبور.
أمّا وصول الصدقة فبما ثبت عن عائشة رضي الله عنها:« أَنَّ رَجُلاً قَالَ: إِنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا، وَلَمْ تُوصِ وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، فَهَلْ لَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، فَتَصَدَّقْتُ عَنْهَا »(3)، وقد روى البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال:« يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ أُمِّي تُوفِيّتْ وَأَنَا غَائِبٌ فَهَلْ يَنْفَعُهَا إِنْ تَصدَّقْتُ عَنْهَا بِشَيْءٍ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنِّي أُشْهِدُكَ أَنَّ حَائِطِي الذِّي بِالمِخْرَافِ صَدَقَةٌ عَنْهَا »(4)، وبما رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم:« إِنَّ أَبِي مَاتَ وَتَرَكَ مَالاً وَلَمْ يُوصِ، فَهَلْ يُكَفِّرُ عَنْهُ أَنْ أَتَصَدَّقَ عَنْهُ ؟ قَالَ: نَعَمْ »(5).
وفي الجملة فإنّ العبادات المالية: من صدقة بمختلف وجوهها: عينيةٍ أو نقديةٍ أو بتقديم القرابين قابلةٌ للنيابة فيها على الأحياء والأموات، لذلك أقرّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضاء الدَّيْنِ كما في حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، وفيه: قضاء أبي قتادة عن الميت الغريم(6)، وقد صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتى بكبش فذبحه فقال:« بِسْمِ اللهِ وَاللهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ هَذَا عَنِّي وَعَمَّنْ لَمْ يُضَحِّ مِنْ أُمَّتِي »(7)، وفي رواية أحمد: أنه ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ قال في أحدهما:« اللَّهُمَّ هَذَا عَنْ أُمَّتِي جَمِيعًا »(8)، وفي الزكاة تحمَّل النبي صلى الله عليه وآله وسلم زكاةَ عمِّه العباس رضي الله عنه(9)، كما وردت نصوص شرعية أخرى في جواز النيابة في صوم النذر والحجّ والعِتق وغيرِها استثناءً من قوله تعالى: ?وَأَن لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى? [النجم: 39]، ومن قوله صلى الله عليه وآله وسلم:« إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةِ أَشْيَاءَ: إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، وَعِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَوَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ »(10).
لأنّ هذه من كَسْبِهِ وعمله وما خلَّفه من آثار صالحة وصدقات جارية لقوله تعالى: ?إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ المَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ? [يس: 102]، أمّا إهداء ثواب القراءة إلى الميّت فلم يرد في جوازه نصّ، ولم يكن من عادة السلف إهداء الثواب إلى الأموات -وهم أحرص الناس على الثواب-، وقد ذكر ابن كثير أنّ الشافعي -رحمه الله- استنبط من قوله تعالى: ?وَأَن لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى?:« أنّ قراءة القرآن لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى، لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم، ولهذا لم يَنْدُبْ إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمّته، ولا حثّهم عليه، ولا أرشدهم إليه بنصّ ولا إيماء، ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه، وباب القربات يقتصر فيه على النصوص، ولا يُتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء »(11).
والجدير بالملاحظة والتنبيه أنّ من الفروق بين الإهداء والنيابة، أنّ المهدي ينوي بنيّته أصالةً، ويهدي ثواب عمله إلى الغير، أمّا النيابة فينوي بنيّة غيره نيابة عنه ليصل إلى الأصيل ثوابه، وعليه فإنّ انقطاع انتفاع الرجل بانقطاع عمله بعد موته الذي هو من كسبه يلزم انقطاع عمل غيره الذي ليس هو من كسبه من بابٍ أولى إلاّ ما استثناه النصّ الشرعي.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في 5 رمضان 1427ه
الموافق لـ 28 سبتمبر 2006م
__________
(1) «شرح صحيح مسلم » للنووي (11/71)
(2) «تفسير القرآن العظيم » لابن كثير (330).
(3)- أخرجه البخاري في الجنائز (1322)، مسلم في الزكاة (2326)،، وأبو داود في الوصايا (2881)، والنسائي في الوصايا (6349)، وابن ماجه في الوصايا (2717)، وابن حبان (3353)، ومالك في الموطإ (1451)، وأبو يعلى (4434)، والبيهقي (7204)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
(4)- أخرجه البخاري في الوصايا (2605)، وأبو داود في الوصايا (2882)، والترمذي في الزكاة (669)، وابن خزيمة (2501)، وأحمد (3070)، وعبد الرزاق في المصنف (16337)، والبيهقي (12296)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
(5)- أخرجه مسلم في الوصية (4219)، والنسائي في الوصايا (3652)، وابن ماجه في الوصايا (2716)، وأحمد (8677)، وابن خزيمة (2301)، والبيهقي (11842)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(6) أخرجه البخاري في الحوالات (2168)، والبيهقي (10677)، من حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه.
(7) أخرجه أبو داود في الضحايا (2810)، والترمذي في الأضاحي (1521)، والحاكم (7553)، وأحمد (14477)، والبيهقي (19720)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. والحديث حسنه ابن حجر في «المطالب العالية » (3/32)، وصحّحه الألباني في «الإرواء » (4/394).
(8) أخرجه أحمد (26587)، والحاكم (3437)، والبيهقي (17444)، من حديث أبي رافع رضي الله عنه.
(9) - أخرجه مسلم في الزكاة (2277)، وأبو داود في الزكاة (1623)، والترمذي في المناقب (3760)، وابن حبان (3273)، وأحمد (8085)، والبيهقي (7462)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(10) أخرجه مسلم في الوصية (4223)، وأبو داود في الوصايا (2880)، والترمذي في الأحكام (1376)، والنسائي في الوصايا (3651)، وابن حبان (3016)، وأحمد (8627)، والبيهقي (12900)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(11) تفسير القرآن العظيم لابن كثير (330).(5/7)
الفتوى رقم: 572
في صلاة الغائب على التائبِ من المَظالِم
السؤال: تساءل كثير من إخواننا حول جواز صلاة الغائب على الرئيس العراقي التي أقيمت بالبلاد فامتنع البعض بحجة أنه صُلي عليه، وقال الآخر بحُرمة الصلاة عليه لكونه كافرًا؛ فأفيدونا بعلمكم بارك الله فيكم.
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فإنّ من تغيَّر حالُه بالتوبة إلى اللهِ على المظالِم المرتَكَبَة ونَدِمَ على تفريطه وتقصيره وأَقْلَعَ عن ذلك، فالموقف الشرعي يستوجب قَبول توبته بحَسَب سلوكه وحاله، وقد قال صَلَّى الله عليه وآله وسَلَّم:« النَّدَمُ تَوْبَةٌ »(1)، وقد ثبتت توبة قاتل المائة المعلومة قصّته(2) وما تحمله من عِبَر، وقوله صَلَّى الله عليه وآله وسَلَّم:« إِنّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ، فَيَدُخُلُ الجَنَّةَ »(3)، وقد أخبرنا النبيُّ صَلَّى الله عليه وآله وسَلَّم عن «رَجُلَيْنِ كَانَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مُتَحَابَّيْنِ: أَحَدُهُمَا مُجْتَهِدٌ فِي العِبَادَةِ، وَالآخَرُ مُذْنِبٌ، فَجَعَلَ المُجْتَهِدُ يَقُولُ: أَقْصِرْ عَمَّا أَنْتَ فِيهِ، فَيَقُولُ: خَلِّنِي وَرَبِّي، حَتَّى وَجَدَهُ يَوْمًا عَلَى ذَنْبٍ اسْتَعْظَمَهُ، فَقَالَ: أَقْصِرْ، فَقَالَ: خَلِّنِي وَرَبِّي، أَبُعِثْتَ عَلَيَّ رَقِيبًا؟ فَقَالَ: وَاللهِ لاَ يَغْفِرُ اللهُ لَكَ أَبَدًا، وَلاَ يُدْخِلُكَ الجَنَّةَ، فَبَعَثَ اللهُ إِلَيْهِمَا مَلَكًا، فَقَبَضَ أَرْوَاحَهُمَا فَاجْتَمَعَا عِنْدَهُ، فَقَالَ لِلْمُذْنِبِ: ادْخُلِ الجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، وَقَالَ لِلآخَرِ: أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تَحْظُرَ عَلَى عَبْدِي رَحْمَتِي؟ فَقَالَ: لاَ يَا رَبِّ؟ قَالَ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى النَّارِ »(4).
أمّا صلاة الغائب إن مات في بلد لم يُصلَّ عليه فيه، فإنّه تُصَلَّى عليه صلاة الغائب، كما صَلَّى النبيُّ صَلَّى الله عليه وآله وسَلَّم على النجاشي لأنّه مات بين الكفار ولم يصلَّ عليه، فلو صلي عليه حيث مات لم تجز صلاة الغائب عليه، لأنّ الفرض سقط بصلاة المسلمين عليه ولم يكن هديُ النبيِّ صَلَّى الله عليه وآله وسَلَّم وسنّته الصلاةَ على كلّ ميتٍ غائب، فقد مات خلق كثير من المسلمين وهم غِيَب فلم يصلِّ عليهم، وعليه فالنبي صَلَّى الله عليه وآله وسَلَّم صَلَّى على الغائب وتركه وكلاهما سُنّة، فمتى صُلِّي عليه في بلده فتركه سنّة، ومتى لم يصلّ عليه ففعله سنّة فلكلٍّ موضعه، وهو مذهب المحقِّقين، وبه قال الخطَّابي وابن تيمية وابن القيم رحمهم الله، وغيرهم.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 20 من ذي الحجة 1427ه
الموفق ل: 9 يناير 2007م
__________
1- أخرجه ابن ماجه في «الزهد » (4252)، وابن حبان (614)، والحاكم (7612)، وأحمد (3558)، وأبو يعلى (4969)، والبزار (1926)، والبيهقي (12147)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وحسنه ابن حجر في «فتح الباري » (13/557)، وصححه أحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد » (6/45)، والألباني في «صحيح الجامع » (6802).
2- أخرجه البخاري في كتاب « الأنبياء » من صحيحه (3283)، ومسلم في «التوبة » (7008)، وابن ماجه في «الديات » (2622)، وابن حبان (615)، وأحمد (11290)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
3- أخرجه البخاري في «بدء الخلق » (3036)، ومسلم في «القدر » (6723)، وأبو داود في «السنة » (4708)، والترمذي في «القدر » (2137)، وابن ماجه في «المقدمة » (76)، وابن حبان (6174)، وأحمد (3617)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
4- أخرجه أبو داود في «الأدب » (4901)، وابن حبان (5712)، وأحمد (8093)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. وصححه الألباني في صحيح أبي داود (4901)، وحسنه مقبل الوادعي في «الصحيح المسند » (1318).(5/8)
الفتوى رقم: 641
في كتابة اسم الميت على قبره
السؤال:
ما حكم وضع حجرين من مادة الإسمنت على القبر، يُكتب على أحدهما اسم المُتوفَّى لتعليم قبره لئلاَّ يشتبه بقبر آخر؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فالأصلُ أنه لا يجوز بناءُ القبور وتجصيصُها، والكتابةُ عليها، والقعودُ عليها، لما أخرجه مسلمٌ وغيرُه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:« نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجَصَّصَ القَبْرُ، وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ أَوْ يُزَادَ عَلَيْهِ، أَوْ يُكْتَبَ عَلَيْهِ »(1)، وفي حديث أبي الهياج الأَسْدِيِّ قال:« قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَلاَ أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، أَن لاَ تَدَعَ تِمْثَالاً فِي بَيْتٍ إِلاَّ طَمَسْتَهُ، وَلاَ قَبْرًا مُشْرِفًا إِلاَّ سَوَّيْتَهُ »(2).
هذا، وإن كان أهلُ العلم يكرِّهون الكتابةَ على القبر مُطلقًا إلاّ أنهم يستثنون ما تدعو الحاجة إليه كالتعرّف على القبر بأن يُكتفى بكتابة اسم الميّت لا على سبيل الزخرفة، إلحاقًا قياسيًّا على «وَضْعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ الحَجَرَ عَلَى قَبْرِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ »(3)، وهو من تخصيصِ عمومِ النهي بالقياس وهو جائزٌ عند الجمهور.
غير أنه يُقتصر على أدنى ما يحصل به التعرّف عليه إذا خُشِيَ زوالُه أو نسيانُه سواء بكتابة اسمه فقط أو رقمه العددي من غير الزيادة عليه ببناءٍ أو غيرِه جريًا على قاعدة:« مَا جَازَ لِعُذْرٍ بَطَلَ بِزَوَالِهِ »، وهذا إذا تعذّر تعليمه بحَجَرٍ ونحوِه، كلُّ ذلك سَعْيًا لتحقيق الغاية التي من أجلها وَضَع النبيُّ صَلَّى الله عليه وآله وسلم الحجرَ على قبر عثمان بن مظعون رضي الله عنه وهي قوله:« أَتَعَلَّمُ بِهَا قَبْرَ أَخِي، وَأَدْفِنُ إِلَيْهِ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِي »(4).
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمّد، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 25 من ذي الحجة 1427ه
الموافق ل: 14 يناير 2007م
__________
1- أخرجه مسلم في «الجنائز »: (2245) دون ذكر الكتابة، وأبو داود في «الجنائز »: (3226)، والنسائي في «الجنائز »: (2027)، والحاكم: (1396)، من حديث جابر رضي الله عنه. والحديث مع ذكر الكتابة صححه ابن الملقن في «البدر المنير »: (5/320)، والألباني في «أحكام الجنائز »: (260).
?- أخرجه مسلم في «الجنائز »: (2243)، وأبو داود في «الجنائز »: (3218)، والترمذي في «الجنائز »: (1049)، والنسائي في «الجنائز »: (2031)، وأحمد: (743)، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
3- أخرجه ابن ماجه في «الجنائز » باب ما جاء في العلامة في القبر: (1561)، من حديث أنس رضي الله عنه، قال الألباني في «صحيح ابن ماجه » (1/498):« حسن صحيح ».
4- أخرجه أبو داود في «الجنائز »: (3206)، والبيهقي: (6843)، من حديث المطلب بن عبد الله بن حنطب رضي الله عنه. والحديث حسنه ابن الملقن في «البدر المنير »: (2/29)، وابن حجر في «تلخيص الحبير »: (5/229)، والألباني في «السلسلة الصحيحة »: (7/161).(5/9)
الفتوى رقم: 678
في حكم نعي الميّت
السؤال:
جرتِ العادةُ عندنا أنه إذا مات شخصٌ يقوم أهلُه بتعليق إعلان فيه إخبار بوفاته ووقت دفنه على أبواب المساجد، والمقاهي وغيرها، فهل هذا من النعي المنهي عنه؟ أفيدونا بارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
- فالإخبارُ بموتِ الميِّتِ وإذاعتُهُ على رؤوسِ المنائِرِ أو تعليقُ إعلانات وفاته على أبواب المساجدِ والمقاهي وغيرِها فإنّ هذا يُعَدُّ من نعيِ أهلِ الجاهلية، وقد ثبت عن حذيفةَ بنِ اليَمَانِ رضي الله عنه أنه قال:« إِذَا مِتُّ فَلاَ تُؤْذِنُوا بِي أَحَدًا، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ نَعْيًا، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَنْهَى عَنِ النَّعْيِ »(1).
قال ابن حَجَرٍ:« وإنما نهى عمّا كان أهلُ الجاهلية يصنعونه، فكانوا يُرسِلون من يُعلن بخبر موتِ الميت على أبواب الدُّورِ والأسواق… »(2).
- أمّا إذا كان الإيذانُ بموته والإعلامُ به مجرّدًا عن إذاعةٍ وإعلانٍ فجائزٌ كما ثبت في الصحيحين أنه قال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم لَمَّا رأى قبرًا دفن ليلاً:« مَتَى دُفِنَ هَذَا؟ فَقَالُوا: البَارِحَةَ، قَالَ: أَفَلاَ آذَنْتُمُونِي »(3).
- وقد يكون الإعلان عن وفاته واجبًا إذا لم يكن عنده من يقوم بحقّه من الغُسل والتكفينِ والصلاةِ عليه لحديث أبي هريرة رضي الله عنه:« أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ نَعَى النَّجَاشِيَّ فِي اليَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَخَرَجَ إِلَى المُصَلَّى، فَصَفَّ بِهِمْ وَكَبَّرَ أَرْبَعًا »(4)؛ ولأنّ حضورَ مَن يتولى تجهيزَه وحملَهُ والصلاةَ عليه لازمٌ ولا يتمُّ إلاّ بالإخبار عن موتِه، و«مَا لاَ يَتِمُّ الوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ » فضلاً عن انتفاعِ الميت بكثرةِ المصلين عليه فهم شفعاؤُهُ.
فالحاصل: أنّ النعيَ ليس ممنوعًا كلُّه، وإنما الممنوعُ ما كان عليه صنيعُ أهلِ الجاهليةِ، ومِنْ صُوَرِهِ ما هو وَارِدٌ في السؤال.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 24 ربيع الثاني 1428ه
الموافق ل: 12 ماي 2007م
__________
1- أخرجه الترمذي في «الجنائز »: (986)، وابن ماجه في «الجنائز »: (1476)، وأحمد: (23072)، والبيهقي: (7210)، من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه. والحديث حسنه ابن حجر في «فتح الباري »: (3/452)، والألباني في «أحكام الجنائز »: (44).
2- فتح الباري لابن حجر: (3/452).
3- أخرجه البخاري في «الجنائز »: (1258)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
4- أخرجه البخاري في «الجنائز »: (1268)، ومالك في «الموطإ »: (532)، وابن حبان في «صحيحه »: (3103)، وأحمد: (10624)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(5/10)
الفتوى رقم: 690
في رفع الأيدي والتأمين الجماعي في الدعاء للميِّت المقبور
السؤال:
عند الفراغ من دفن الميت يرفع أحدُ الحضور صوته بالدعاء رافعًا يديه مُتَّجهًا إلى القِبلة، والناسُ من ورائه يؤمِّنون على دعائه، فما حكم هذا الفعل؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فلا يُعْلَمُ في السُّنَّة المطهَّرةِ مشروعيةُ الدعاءِ للميِّت بعد الدَّفنِ بالجهر بالدعاء ورفع الأيدي وتأمين الناس على الدعاء، ولو كانت أيديهم مرفوعةً نحوَ القِبلة.
وإنما السُّنَّةُ الثابتةُ أنه كان صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم إذا فرغ من دفن الميِّت وقف عليه وقال:« اسْتَغْفِرُوا لأَخِيكُمْ، وَاسْأَلُوا اللهَ لَهُ التَّثْبِيتَ، فَإِنَّهُ الآنَ يُسْأَلُ »(1)، فيكتفي السُّنِّيُّ بالوقوف على القبر والدعاءِ له بالتثبيت، والاستغفارِ له على وجه الانفراد، وإذا أعاد دعاءَه ثلاثًا جاز لِمَا عُلِمَ أنّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم كان «يُكرِّرُ دُعَاءَهُ ثَلاَثًا »(2)، وله أن يأمر الحاضرين بالاستغفار للميِّت وسؤالِ اللهِ له التثبيتَ للحديث السابق، ولا يزيدُ على ذلك، ولا يستدرك على الشرع؛ لأنّ الله تعالى أكمل دينَه فلا يُنقِصُه، ورضِيَهُ فلا يَسْخَطُهُ أبدًا.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 1 جمادى الثانية 1428ه
الموافق ل: 17 جوان 2007م
__________
1- أخرجه أبو داود في «الجنائز » باب الاستغفار عند القبر للميت في وقت الانصراف :(3221)، والحاكم في «المستدرك »: (1372): والبيهقي في «السنن الكبرى »: (7163)، من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه. وحسنه النووي في «الخلاصة »: (1028/2)، والوادعي في «الصحيح المسند »: (933)، وصححه الألباني في «صحيح الجامع »: (4760).
2- أخرجه مسلم كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أذى المشركين والمنافقين: (4649)، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.(5/11)
الفتوى رقم: 704
في حكم دفن موتى المسلمين في تابوت بديار الكفر
السؤال:
تقدّمت جمعيةٌ من الجالية الجزائرية بفرنسا، إلى الإدارة الفرنسية المتمثِّلة في البلدية بطلب منحهم قطعة أرض يتّخذونها مقبرة، وقد قُبِل الطلب بشرط أن يتم بناء القبر بالإسمنت الصلب: قاعِه وجوانبِه الأربع، ويوضع الميت في صندوق ثم يغلق عليه بقطعة من الإسمنت الصلب حتى سطح الأرض بدون رمي التربة فوقه بحجة أنّ الأرض التي تتخذ مقبرة معرّضة للحركة والانجراف. فما حكم بناء القبر على هذا الشكل؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فإذا مُنِحَتْ أرضٌ بديار الكفر لدفن موتى المسلمين خاصّة دون سائر الملل؛ فإنه يجوز دفنهم فيها، إذ المعلوم عدم جواز دفن كافر في مقبرة المسلمين ولا مسلم في مقبرة الكفار، أمَّا دفنه في تابوت اسمنتيٍّ أو خشبي يحول بينه وبين الأرض فإنه يكره ذلك اتفاقًا، قال النووي:« هو مذهبنا ومذهب العلماء كافة وأظنُّه إجماعًا »(1).
هذا، غير أنّ العلماء استثنوا من هذا الأصل ما إذا كانت الأرض رخوةً غيرَ متماسكةٍ لكثرة المياه أو الوحل والطين، قال النووي عن الشيرازي وسائر الأصحاب:« يكره أن يدفن الميت في تابوت إلاّ إذا كانت رخوةً أو نديةً، قالوا: ولا تنفذ وصيته به إلاّ في مثل هذا الحال »(3). وهذا كله فيما إذا لَمْ تُهَنْ أجسادُ موتى المسلمين في ديار الكفر بالإتلاف أو الإحراق ونحو ذلك إذا لم تدفع المبالغ المالية على وجه الاستحقاق للإدارة العمومية في ديار الكفر، فإنّ احتمال وجود هذا الشرط يعرِّض موتى المسلمين للابتذال والإهانة ويمنع تجويز الدفن بتلك الأراضي ولو في مقبرة خاصَّة بالمسلمين، سدًّا لذريعة الإهانة والتحقير بأهل الإسلام، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« كَسْرُ عَظْمِ المُؤمِنِ مَيْتًا كَكَسْرِِهِ حَيًّا »(4).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 22 صفر 1428ه
الموافق ل: 11 مارس 2007
__________
1- «المجموع » للنووي: (5/287-288).
2- «المغني » لابن قدامة: (2/503).
3- «المجموع » للنووي: (5/287). انظر:« المغني المحتاج » للشربيني: (1/361).
4- أخرجه أبو داود في «الجنائز »: (3207)، وابن ماجه في «الجنائز »: (1616)، وأحمد: (6/58)، والطحاوي في «مشكل الآثار »: (2/108)، من حديث عائشة رضي الله عنها، وصحّحه الألباني في «الإرواء »: (3/214) رقم (763)، وحسنه الوادعي في «الصحيح المسند »: (1597).(5/12)
الفتوى رقم: 752
في اعتبار الموت بالتيار الكهربائي من وجوه الموت بالحرق في الشهادة الحُكمية
السؤال:
توفي زوجي في رَيْعَان شبابه، وهو من المحافظين على صلاة الصبح في المسجد ومع الجماعة، وفي اليوم الذي توفي فيه صَلَّى صلاةَ الظهر كالمعتاد وخرج إلى العمل وتوفَّاه اللهُ تعالى بسبب التيار الكهربائي وهو يزاول عمله، فهل يُعَدُّ هذا من حُسْنِ الخاتمة؟ وهل التيار الكهربائي يندرج تحت شهادة صاحب الحريق؟ وأرجو من -فضيلة الشيخ- أن يدعو اللهَ له بالمغفرة والرحمة ولأهله بالرضى والصبر، وجزاكم الله كلّ خير.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فمِنَ العلامات التي يُستدلُّ بها على حُسْنِ الخاتمةِ: الموتُ على عملٍ صالحٍ، ومِنْ أفضلِ الطاعاتِ والأعمالِ الصالحةِ الصلاةُ في وقتِها ومع الجماعةِ، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّمَ عندما سُئِلَ عن أفضل الأعمالِ إلى الله تعالى قال:« الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا »(1)، وقولِه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ اللهِ »(2)، وكذلك قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ خُتِمَ لَهُ بِهَا دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ صَامَ يَوْمًا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ خُتِمَ لَهُ بِهَا دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ خُتِمَ لَهُ بِهَا دَخَلَ الجَنَّةَ »(3)، والمذكوراتُ في الحديثِ ليست محصورةً فيها، وتدخلُ الصلاةُ في الحديث من بابٍ أولى لكونها أفضلَ العباداتِ البدنيةِ.
ومن علامات حُسن الخاتمة أيضًا الموتُ بالحَرْقِ، وذلك بغضِّ النظر عن وسائله المختلفة وأسبابه المتشعّبة، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« الشَّهَادَةُ سَبْعٌ سِوَى القَتْلِ في سَبِيلِ الله: المَطعُونُ شَهِيدٌ، وَالغَرِقُ شَهِيدٌ وَصَاحِبُ ذَاتِ الجَنْبِ شَهِيدٌ، وَالمَبْطُونُ شَهِيدٌ، وَصَاحِبُ الحَرِيقِ شَهِيدٌ، وَالَّذِي يَمُوتُ تَحْتَ الْهَدْمِ شَهِيدٌ، وَالمَرْأةُ تَمُوتُ بِجُمْعٍ شَهِيدةٌ »(4).
نسأل الله تعالى أن يعاملَه بغفرانه، ويجعلَه مع الذين أنعم اللهُ عليهم في دار رضوانه، اللهمَّ اغْفِرْ له، وارْفَعْ درجتَهُ في المهديِّينَ، واخْلُفْهُ في عَقِبِهِ في الغابِرينَ، واغفرْ لنا وله يا ربَّ العالمين، وافْسَحْ له في قَبْرِهِ، ونَوِّرْ له فيه، وارْزُقْ أهلَهُ وذَوِيهِ الرِّضا بقضائك، والصبرَ على بلائك يا أرحمَ الراحمين يا ربَّ العالمين.
والحمدُ لله ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 11 جمادى الأولى 1428ه
الموافق ل: 27 ماي 2007م
__________
1- أخرجه البخاري في «مواقيت الصلاة »، باب فضل الصلاة لوقتها: (504)، ومسلم في «الإيمان »، باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال: (254)، والنسائي في «مواقيت الصلاة »، باب فضل الصلاة لمواقيتها: (610)، وأحمد في «مسنده »: (3880)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
2- أخرجه مسلم في «المساجد »، باب فضل صلاة العشاء والصبح في جماعة: (1493)، والترمذي في «الصلاة »، باب ما جاء في فضل العشاء والفجر في الجماعة: (222)، وأحمد في «مسنده »: (18335)، من حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه.
3- أخرجه أحمد في «مسنده »: (22813)، من حديث حذيفة رضي الله عنه. قال الهيثمي في «مجمع الزوائد » (3/66):« رجاله موثوقون »، وقال المنذري في «الترغيب والترهيب » (2/51):« رواه أحمد بإسناد لا بأس به »، وصحّحه الألباني في «أحكام الجنائز »: (58).
4- أخرجه أبو داود في «الجنائز »، باب في فضل من مات في الطاعون: (3111)، والنسائي في «الجنائز »، باب النهي عن البكاء على الميت: (1846)، ومالك في «الموطإ »: (554)، والحاكم في «المستدرك »: (1300)، وأحمد في «مسنده »: (23241)، من حديث جابر بن عتيك رضي الله عنه. والحديث صحّحه الألباني في «المشكاة »: (1505).(5/13)
الفتوى رقم: 761
في حكم الموعظة التي تُلْقَى عند القبر
السؤال:
ما حكم الموعظة التي تلقى في المقابر بعد الدفن؟
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلامُ على من أرسله اللهُ رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه، وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالذي ثبت من حديث البراء بن عازبٍ رضي الله عنه: أنّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم خرج في جنازةِ رجلٍ من الأنصار فانتهى إلى القبر لم يُلْحَدْ بَعْدُ، فجلس يُحدِّث أصحابَه من حوله عن مراحل انتقال الميّت وأحوال نعيم القبر وعذابه(1)، كما ثبت أنّه كان إذا فرغ من دفن الميّت وقف عليه، فقال:« اسْتَغْفِرُوا لأَخِيكُمْ وَسَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ فَإِنَّهُ الآنَ يُسْأَلُ »(2)، كما أنّه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم حدّثهُم قائمًا على قبر إحدى بناتِه وهي تُدْفَن(3)، وهذه الحالات المنقولةُ عنه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم إنّما صدرت منه على وجه تعليم حُكْمٍ، أو نصيحةٍ بفعلٍ، أو إخبارٍ بغيبٍ، أو إرشادٍ إلى اعتقادٍ، فلم تَجْرِ على هيئةِ الخُطَب الدينية التي شأنها البسط والإيضاحُ ولا المواعظ المنبرية، لذلك لم يُنْقَل عن السلف من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين أنّهم جعلوا مَحَلَّ القبرِ مقامَ خُطْبَة الناس ووعظهم عند الدفن أو في أثنائه أو بعده.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 09 شوال 1428ه
الموافق ل: 21 أكتوبر 2007م
__________
1- أخرجه أبو داود في «السنة »، باب في المسألة في القبر وعذاب القبر: (4753)، وأحمد في «مسنده »: (18186)، من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في «صحيح أبي داود »: (4753)، وحسنه الوادعي في «الصحيح المسند »: (150).
2- أخرجه أبو داود في «الجنائز »، باب الاستغفار عند القبر للميت في وقت الانصراف: (3221)، والحاكم في «االمستدرك »: (1372)، من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه. والحديث حسّنه النووي في «الأذكار »: (212)، وفي «الخلاصة »: (1028/2)، وصححه الألباني في «صحيح الجامع »: (4760).
3- أخرجه البخاري في «الجنائز »، باب من يدخل قبر المرأة: (1277)، والحاكم في «المستدرك »: (6853)، وأحمد في «مسنده »: (11866)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (7146)، من حديث أنس رضي الله عنه.(5/14)
الفتوى رقم: 878
في حكم فتح معبر للأحياء على مقبرة قديمة
السؤال:
أراد أعيان إحدى القرى بناء سور لمقبرة قديمة يحدد معالمها، وليفتحوا معبرا للأحياء بجانبها، غير أنهم وجدوا بعد الحفر عظامًا في المساحة المحاذية للمقبرة، فهل يجوز أن يغيروا مكانها؟ نرجو إفادتنا بالجواب، وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فإذا وُجِدت عِظام موتى المسلمين في مساحةٍ مُحاذيةٍ للمقبرة فإنها معدودةٌ منها، ولصاحب القبر حُرمة، وهو أحقُّ بالقبر من ذوي المصلحة الخاصَّة، وعليه حقٌّ على الحيِّ في أن لا يَمتهِنَ قبرَه، بأن يوطأ، ولا يجلِس عليه، ولا يمشي فوقه برجله ولا بمركوبٍ، ولا أن يَرْعَى فيه غنمَه وبهائمَه ونحو ذلك، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« لأَنْ يَجْلِسَ أَحَدُكُمْ عَلَى جَمْرَةٍ فَتَخْرِقَ ثِيَابَهُ فَتَخْلُصَ إِلَى جِلْدِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَجْلِسَ عَلَى قَبْرٍ »(1)، ولقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« كَسْرُ عَظْمِ المُؤْمِنِ مَيِّتًا كَكَسْرِهِ حَيًّا »(2)، ولقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« لاَ تَجْلِسُوا عَلَى القُبُورِ وَلاَ تُصَلُّوا إِلَيْهَا »(3).
وفي المقابل ينهى عن الغُلوِّ فيها أو في أسبابها ممَّا يُفضي إلى شِرك العبادة كالبناء عليها وتَجْصِيصها أو الكتابة عليها إلاَّ عند قائم الحاجة.
هذا، والمقبرةُ سواء كانت قديمةً أو حديثةً فهي من أملاك الدولة العامَّة والأوقاف، فإنَّ الواجب على أهل المنطقة أن يرفعوا أمرَها إلى وُلاة الأمر من المسئولين في البلديات والدوائر لاتخاذ التدابير الوقائية اللازمة لحماية المقبرة وصِيانتها عن الابتذال والامتهان، وفتح معبرٍ للناس إلى أطراف جهات أخرى، مراعاةً للمصلحة العامة للأحياء، وحفظ حُرمة الأموات في المقبرة من الامتهان من جهة ثانية.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 26 ربيع الأول 1429ه
الموافق ل: 02/04/2008م
__________
1- أخرجه مسلم في «صحيحه »، كتاب الجنائز، باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه: (2248)، وأبو داود في «سننه » كتاب الجنائز، باب في كراهية القعود على القبر: (3228)، والنسائي في «سننه » كتاب الجنائز، باب التشديد في الجلوس على القبور: (2044)، وابن ماجه في «سننه » كتاب الجنائز، باب ما جاء في النهي عن المشي على القبور: (1566)، وأحمد في «مسنده »: (8046)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2- أخرجه أبو داود في «سننه » كتاب الجنائز، باب في الحفار يجد العظم هل يتنكب ذلك المكان: (3207)، وابن ماجه في «سننه » كتاب الجنائز، باب في النهي عن كسر عظام الميت: (1616)، وأحمد في «مسنده »: (23787)، من حديث عائشة رضي الله عنها. والحديث حسّنه ابن القطان في «الوهم والإيهام »: (4/212)، وصححه ابن الملقن في «البدر المنير »: (6/769)، والألباني في «الإرواء »: (763).
3- أخرجه مسلم في «صحيحه » كتاب الجنائز، باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه: (2250)، وأبو داود في «سننه » كتاب الجنائز، باب في كراهية القعود على القبر: (3229)، والترمذي في «سننه » كتاب الجنائز، باب ما جاء في كراهية المشي على القبور والجلوس: (1050)، والحاكم في «المستدرك »: (4976)، وأحمد في «مسنده »: (16765)، من حديث أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه.(5/15)
الفتوى رقم: 900
في صفة مُهدي ثواب الصدقة إلى الميت
السؤال:
هل يجوز التصدُّق على بعض العلماء أو التابعين رحمهم الله أو الصحابة رضي الله عنهم؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فاعلم أَنَّ باب القُرُبات يقتصر فيه على النصوص ولا يُتصرَّف فيه بأنواعٍ من الأقيسة والآراء، فالأحاديث الواردة في الصدقة على الأموات إنما وردت قاصرةً على الولد بوالديه بعد موتهما بدون وصية منهما، ويصل إليهما الثواب، مثل ما ثبت عن عائشة رضي الله عنها: «أَنَّ رَجُلاً قَالَ: إِنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا، -وَلَمْ تُوصِ- وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، فَهَلْ لَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، فَتَصَدَّقْتُ عَنْهَا»(1)، وبما ثبت في الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أنَّ سعد بن عبادة توفيت أُمُّه -وهو غائب عنها- فقال: «يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ أُمِّي تُوفِّيَتْ -وَأَنَا غَائِبٌ- فَهَلْ يَنْفَعُهَا إِنْ تَصدَّقْتُ عَنْهَا بِشَيْءٍ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنِّي أُشْهِدُكَ أَنَّ حَائِطِي الذِّي بِالمِخْرَافِ صَدَقَةٌ عَنْهَا»(2)، وبما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رجلاً قال للنبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «إِنَّ أَبِي مَاتَ وَتَرَكَ مَالاً وَلَمْ يُوصِ، فَهَلْ يُكَفِّرُ عَنْهُ أَنْ أَتَصَدَّقَ عَنْهُ ؟ قَالَ: نَعَمْ»(3).
فهذه الأحاديثُ وغيرُها لا تعارِض قولَه تعالى: ?وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى? [النجم: 39]؛ لأنه قد ثبت أنَّ ولد الإنسان مِن سعي والديه وكسبِهما في قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ، وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ»(4)، فإنَّ ما يفعله الولدُ الصالحُ من الأعمال الصالحة فإن لوالديه مثل أجره دون أن ينقص من أجره شيئًا؛ ولأنَّ الوالد يزكي نفسه بتربيته لولده وقيامه عليه فكان له أجره، لقوله تعالى: ?وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ? [فاطر: 18].
أمَّا غيرُ الولد فإنَّ عموم الآية السابقة تدلُّ على أنه لا يصل ثوابه إلى الميت، فيُحكَّم العموم حتى يأتي دليلٌ يقتضي تخصيصَه، وقد ورد الدليل في أمر الدعاء لغير الولد في قوله تعالى: ?وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا…? [الحشر: 10]، ومن ذلك مشروعية الدعاء في صلاة الجِنازة، والدعاء له بعد الدفن وعند الزيارة له، ويخصِّص عمومَ الآية -أيضًا- قضاءُ الدَّين عن الميت، فقد أقرَّ ذلك النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم في حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليه وَآلِهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِجِنَازَةٍ، فَقَالُوا: صَلِّ عَلَيْهِ، قَالَ: هَلْ تَرَكَ شَيْئًا؟ قَالُوا لاَ، قَالَ: هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ قَالُوا: ثَلاَثَةُ دَنَانِيرَ، قَالَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ، قَالَ رَجُلٌ مِن الأَنْصَارِ يُقاَلُ لَهُ أَبُو قَتَادَةَ: صَلِّ عَلَيْهِ يَا رَسُولَ اللهِ وَعَلَيَّ دَيْنُهُ»(5)، وقضاءُ الدَّين فكٌّ له عن الاحتباس، يجوز أن يتولَّى ذلك غيرُ الولد، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم فيمن كان محبوسًا على باب الجنة من أجل الدَّين: «فَإِنْ شِئْتُمْ فَافْدُوهُ مِنْ عَذَابِ اللهِ، وَإِنْ شِئْتُمْ فَأَسْلِمُوهُ»(6).
ويجوز -أيضًا- لغير الولد إن أَوْصَى الميت؛ لأنَّ الوصية -أيضًا- تدخل ضمن مساعي الميت وكسبِه.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 26 ربيع الثاني 1429?
الموافق ?: 03 ماي 2008م
__________
1- أخرجه البخاري في «صحيحه» كتاب الجنائز، باب موت الفجأة البغتة: (1322)، مسلم في «صحيحه» كتاب الزكاة، باب وصول ثواب الصدقة عن الميت إليه: (2326)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
2- أخرجه البخاري في «صحيحه» كتاب الوصايا، باب إذا وقف أرضا ولم يبين الحدود فهو جائز: (2618)، وأبو داود في «سننه» كتاب الوصايا، باب ما جاء فيمن مات عن غير وصية يتصدق عنه: (2882)، والترمذي في «سننه» كتاب الزكاة، باب ما جاء في الصدقة عن الميت: (669)، وأحمد في «مسنده»: (3070)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
3- أخرجه مسلم في «صحيحه» كتاب الوصية، باب وصول ثواب الصدقات إلى الميت: (4219)، والنسائي في «سننه» كتاب الوصايا، باب فضل الصدقة عن الميت: (3652)، وابن ماجه في «سننه» كتاب الوصايا، باب من مات ولم يوصي هل يتصدق عنه: (2716)، وأحمد في «مسنده»: (8677)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
4- أخرجه أبو داود في «سننه» كتاب الإجارة، باب في الرجل يأكل من مال ولده: (3528)، والنسائي في «سننه» كتاب البيوع، باب الحث على الكسب: (4452)، وابن ماجه في «سننه» كتاب التجارات، باب الحث علي المكاسب: (2137)، وأحمد في «مسنده»: (25083)، من حديث عائشة رضي الله عنها. والحديث صحَّحه الألباني في «الإرواء»: (1626).
?- أخرجه البخاري في «صحيحه» كتاب الحوالات، باب إن أحال دين الميت على رجل جاز: (2168)، وأحمد في «مسنده»: (16092)، من حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه.
5- أخرجه أبو داود في «سننه» كتاب البيوع، باب في التشديد في الدين: (3341)، وأحمد في «مسنده»: (19719)، والحاكم في «المستدرك»: (2214)، والطبراني في «المعجم الكبير»: (6753)، من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه. والحديث صحَّحه الألباني في «صحيح الجامع»: (7017)، وانظر «أحكام الجنائز» له: (26).(5/16)
الفتوى رقم: 915
في حكم استقبال المصلِّين الجنازة بصلاة الفريضة
السؤال:
كثيرًا ما توضع الجَنازة في المسجد أمامَ المحراب، وتُؤدَّى صلاةُ الفريضة، وهي في قِبلة المصلِّين، بغيةَ الصلاة عليها بعد الانتهاء من الفريضة، فما حكم صلاة الفريضة في هذه الحالة؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فقد وردت مناهي عديدة في اتخاذ القبور مساجد، والنهي عن اتخاذها لا يخرج عن معنى السجود عليها وإليها، واستقبالها بالصلاة والدعاء، وبناء المساجد عليها، وتقصّد الصلاة فيها، وهو شامل لها جميعًا، ويدلُّ عليه قوله صَلَّى الله عليه وآله وسلم:« لاَ تُصَلُّوا إِلَى قَبْرٍ وَلاَ تُصَلُّوا عَلَى قَبْرٍ »(1)، وقوله صَلَّى الله عليه وآله وسلم:« لاَ تَجْلِسُوا عَلَى القُبُورِ وَلاَ تُصَلُّوا إِلَيْهَا »(2)، «وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلاَةِ إِلَى القُبُورِ »(3)، كما «نَهَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبْنَى عَلَى القُبُورِ، أَوْ يُقْعَدَ عَلَيْهَا أَوْ يُصَلَّى عَلَيْهَا »(4)، ولا خلافَ بين الأئمَّة والعلماء المعروفين في تحريم ذلك.
هذا، وإذا كان استقبال القبر والصلاة إليه منهيًّا عنه فمن بابٍ أَوْلَى أن ينهى نهيًا مؤكَّدًا عن استقبال الجنازة الموضوعة إلى قِبلة المصلين في الصلاة المكتوبة، لِمَا تشمله صورة استقبال الجنازة بالأحروية تلك المعاني السالفة البيان من تحريم اتخاذ القبور ليُسجَد عليها أو إليها وليستقبلها بالصلاة والدعاء، وفي مضمون هذا المعنى من النهي إلى الصلاة إليها يقول المُلاَّ علي القاري في «مرقاة المفاتيح » ما نصَّه:« ولو كان هذا التعظيم حقيقة للقبر أو لصاحبه لكفر المعظِّم، فالتشبه مكروه، وينبغي أن تكون كراهةَ تحريمٍ، وفي معناه بل أَوْلَى منه الجنازة الموضوعة، وهو ممَّا ابتلي به أهلُ مكةَ حيث يضعون الجنازة عند الكعبة، ثمَّ يستقبلون إليها »(5).
وعليه، فلا ينبغي للمصلي استقبال الجنازة لا بمفرده ولا مع الإمام، فإن صَلَّى -والحال هذه- أثِمَ وأعادها، أمَّا إن صلَّى وهو لا يعلم بوجودها في قِبلة المصلين صحَّت صلاته من غير إثم، والواجب أن توضع الجنازة خارج المسجد في «المصلى » أو على أبعد تقدير خلف المصلين حتى لا يقع المصلُّون في هذه المخالفة المنهي عنها.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 21 جمادى الأولى 1429ه
الموافق ل: 26 ماي 2008م
__________
1- أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير »: (11/ 376)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. والحديث صححه الألباني في «السلسلة الصحيحة »: (1016).
2- أخرجه مسلم في «صحيحه » كتاب الجنائز، باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه: (2250)، وأبو داود في «سننه » كتاب الجنائز، باب في كراهية القعود على القبر: (3229)، والترمذي في «سننه » كتاب الجنائز، باب ما جاء في كراهية المشي على القبور والجلوس: (1050)، والحاكم في «المستدرك »: (4976)، وأحمد في «مسنده »: (16765)، من حديث أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه.
3- أخرجه ابن حبان في «صحيحه »: (2323)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في «صحيح الجامع »:( 6893).
4- أخرجه أبو يعلى «مسنده »: (2/297)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. قال الهيثمي في «مجمع الزوائد » (3/191):« رجاله ثقات »، والحديث صححه الألباني «تحذير الساجد »: (30).
5- «مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح » لعلي القاري: (4/178).(5/17)
الفتوى رقم: 940
في حكم تطييب كفن المرأة الميتة
السؤال:
هل يجوز تطييبُ المرأة الميتة بجعل بخور من طِيبٍ على كَفَنها؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فممََّا يُستحبُّ في الكَفَنِ فضلاً عن البياض تطييبه ثلاثًا أو تبخيره، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «إِذَا جَمَرْتُمُ المَيِّتَ فَأَجْمِرُوهُ ثَلاَثًا»(1)، ولدليل الخطاب في قوله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم في المُحْرِمِ الذي وَقَصَتْهُ الناقة: «..وَلاَ تُحَنِّطُوهُ»(2)، وفي رواية: «وَلاَ تُطَيِّبُوهُ»(3)، فإنَّ مفهومَه يدلُّ على أنَّ غيرَ المحرِم حقيقٌ بالتطييب، والمرأة كالرجل في الحكم، ما لم يدلَّ دليلٌ على تخصيصها به لقوله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «النِّسَاءُ شَقَائِقُ الرِّجَالِ»(4)، ولا يَلحَقُ منعُ تعطُّرها للزينة حالَ خروجها بهذه المسألة لقيام الفرق في القصد والحكم بين الحي والميت.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 14 شعبان 1429ه
الموافق ل: 16 أوت 2008م
__________
1- أحمد في «مسنده»: (14131)، وابن أبي شيبة في «المصنف»: (2/467)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. والحديث صححه النووي في «الخلاصة»: (2/965)، والألباني في «أحكام الجنائز»: (64).
2- أخرجه البخاري في «صحيحه» كتاب الجنائز، باب الكفن في ثوبين: (1206)، ومسلم في «صحيحه» كتاب الحج، باب ما يفعل بالمحرم إذا مات: (2890)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
3- انظر: «أحكام الجنائز» للألباني (23).
4- أخرجه أبو داود في «سننه» كتاب الطهارة، باب في الرجل يجد البلة في منامه: (236)، والترمذي في «سننه» كتاب الطهارة، باب ما جاء فيمن يستيقظ فيرى بللا ولا يذكر: (113)، وأحمد في «مسنده»: (25663)، من حديث عائشة رضي الله عنها. والحديث صححه الألباني في «صحيح الجامع»: (2333)، وفي «السلسلة الصحيحة»: (2863).(5/18)
الفتوى رقم: 971
في حكم أجرة تغسيل الميّت ونحوه
السؤال:
ما حكم أخذ الأجرة على تغسيل الميّت؟
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على مَن أرْسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فيجوزُ أخذُ الأجرةِ على تغسيلِ الميّتِ، وعلى حملهِ والحفرِ له، ونحو ذلك، لأنَّ هذهِ الأعمال عبادات معقولةُ المعنى، تصحُّ ولو لم ينوِ فاعلُها التقربَ بها إلى الله تعالى، فنيةُ التقربِ شرطُ الثوابِ لا الصحةِ.
والأولى له القيامُ بهذه الأعمالِ على وجه التبرعِ تقربًا إلى الله تعالى، لينالَ الأجرَ والثوابَ إنْ تيسر ذلكَ وأمكنَ، فإن كان القائمُ بها من أهلِ القُربة وكان محتاجًا، أخَذَ قدر عملهِ، وأرجُو أن ينالَ ثوابهُ عندَ الله تعالى.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانَا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمينَ، وصلَّى الله عَلَى محمَّدٍ وعلَى آلهِ وصحبهِ وإخوانِهِ إلى يومِ الدِّينِ وسلم تسليمًا.
الجزائر في: 08 المحرم 1430ه
الموافق ل: 05 جانفي 2009م(5/19)
****************** 06- فتاوى الزكاة ******************
الفتوى رقم: 82
زكاة الحلي
السؤال: شيخنا الفاضل نستسمحكم لنأخذ قسطا من وقتكم الثمين لمعرفة الحق وبيانه في مسألة كلفتني إحدى النساء بسؤال أهل الذكر عنها، فشاء المولى عز وجل أن تكونوا المجيبين عليها وأرجو الله عز وجل أن لا يكون في سؤالي هذا حرج و إزعاج لكم سائلته جل وعلا أن ينفعكم بما آتاكم من فضله وأن يرزقكم الفردوس الأعلى نزلا.
أمّا المسألة: فإنّ هذه المرأة تسأل عن زكاة حليها، وكنت قد سألتكم وقلتم أنّ الراجح الزكاة في حلي المرأة، وقد نقلت ذلك ( أي الحكم ) ولكن أشكل عليها عملية إخراج الزكاة على السنوات التي مضت والتي كانت خلالها جاهلة بحكم زكاة الحلي، وتفصيل هذا كما يلي:
منذ 1981 إلى غاية 1994 كان لها من الذهب ( حلي ) ما يبلغ مقدار 93،1 غ - أي بلغ النصاب- وفي هذه الفترة كلها لم تزك ، لكونها لم تكن تعلم بوجوب زكاة الحلي.
ومن 1995 إلى يومنا هذا، خلال هذه الفترة علمت بحكم زكاة الحلي و لكن لجهلها بكيفية إخراج الزكاة و حكم السنوات التي مضت لم تزك، ومع ذلك باعت من الذهب ما يعادل (33،2 غ) استعملت العائد منهما من المال ولم يبق منه سوى مليونين لم تستعملهما.
فهي تسأل: هل تزكي عن السنوات الماضية وكيف يكون ذلك مع الصعوبة في معرفة مقدار النصاب لكل سنة لم تزك عنها، فهي ترجو من فضيلتكم بيانا مفصلا وواضحا.
شيخنا الفاضل نشكر لكم تواضعكم وتكرمكم بقبول الإجابة، ونسأله جلّ وعلا أن يجعلكم من ورثة جنّة النّعيم. جزاكم الله خيرا، والسلام عليكم ورحمة الله.
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فإنّ في حلي المرأة إذا بلغ النصاب، الزكاة على الأصح من أقوال أهل العلم يشهد لذلك عمومات النصوص و خصوص السنة وهو مذهب أبي حنيفة و ابن حزم وغيرهما خلافا للأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد، وعليه فإن السائلة إذا لم تزك في السنوات السابقة بناء على فتوى شرعية من أحد أئمة المساجد أو العلماء أو أنها علمت بالحكم بالنظر إلى عموم الناس فيما يشتركون فيه من التزامهم للمذهب المالكي في هذه الديار القاضي بعدم وجوب الزكاة بالغا ما بلغ ، فإنه لا زكاة تجب عليها لانتفاء الجهل بالحكم طيلة هذه المدة، تأسيسا على علمها بعدم الوجوب إلى علمها بالوجوب و يبتدئ الوفاء بالزكاة من سنة 1995م.
أمّا إن جهلت حكم الوجوب و لم تسأل عنه أهل الذكر فلا تقبل منها دعوى الجهل، ويبقى في ذمتها دين يجب الوفاء به ما دام النصاب مكتملا و تاما، و النصاب بالذهب ثابت غير متغير و هو عشرون دينارا ذهبيا الواحد منه يمثل: 4،25 × 20 = 85 غ ، وتخرج لمدة أربع سنوات بالغرامات الذهبية الخالصة التي يجوز إخراجها نقدا بعد تقويمها ابتداء من تكوين وبلوغ النصاب بالمقدار من الذهب الخالص غير المختلط بغيره ويمكن بيانه على الجدول التالي :
السنة ------------ النصاب ------------ مقدار الاستحقاق
1981 ---------- 93،1 غ ------------ 2.3275
1982 ---------- 90،7725 غ --------- 2.2693
1983 ---------- 88.5032 غ --------- 2.2125
1984 ---------- 86.2907 غ --------- 2.1572
المقدار الواجب الدفع هو : 8.9665 غ(1).
لأنّه إذا انتقصنا من النصاب 86.2907 مقدار 2.1572 لكان المبلغ 84.1335 غ وهو دون النصاب المقدر شرعا ب 85 غ كما تقدم.
والعلم عند الله وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين؛ وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
__________
1- تقسيم الزكاة بهذا الوجه إنّما بناه الشيخ على ما اختاره من أنّ وجوب الزكاة يقع في عين المال وهو مذهب الأحناف ومالك ورواية عن الشافعي وأحمد، ثم غيّر اختياره إلى أنّ الزكاة تجب في ذمّة صاحب المال لا في عين المال وبه قال الشافعي وأحمد وابن حزم وغيرهم، وعليه يكون المقدار المستحق الدفع =9,31غ، والله أعلم.(6/1)
الفتوى رقم: 83
حساب الزكاة من القرض
السؤال: رجل أقرض آخر مالا، وعندما جاء وقت زكاة ماله، حسب المبلغ الذي اقترضه وجعله من المقدار المخرج من الزكاة أي جعله زكاة على المدين، فما حكم هذا العمل؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فإنّ إسقاط الدَّين عن الفقير يجزئه عن الزكاة إذا لم يكن يائسا من قبضه، ولا يشترط قبضه بل يكفي أن يترجح قبض هذا الدين ويغلب على ظنه قبضه ولو لم يقبضه، فيكون -عندئذ- إبراؤه منه في حكم التسليم إليه، كمن له مال وديعة ودفعها عن الزكاة فإنّه يجزئه سواء قبضها أم لا، هذا كلّه فيما إذا أعلم المدين بتحويل دينه إلى زكاة عليه وقبله، فإن لم يرض بذلك فلا يجزيه عنه.
والله أعلم؛ وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه والتابعين وسلّم تسليما.
الجزائر في: 17 شعبان 1417 هـ
الموافق ل: 28 ديسمبر 1996م(6/2)
الفتوى رقم: 84
في حكم زكاة القرض
السؤال:
إذا أقرض شخص شخصا آخر مبلغا من المال فما هي تفاصيل قضية زكاة هذا المال باعتبار حالة الدائن و المدين من حيث الاتفاق بينهما ؟ أفتونا مأجورين -إن شاء الله- وجزاكم الله خيرا.
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فمن أقرض غيره مالا، فإمّا أن يكون المال ميئوسا منه أو مرجوّا عودته إليه، فإن كان المال ميئوسا منه فلا زكاة فيه، أمّا إن كان مرجوا عودته إليه ففيه حالات:
- فإن كان الدائن المقرض يستطيع استرداد ماله عند المدين المقترض في أيّ وقت شاء فإنّه يزكّيه بعد كل حول قمري.
- وإن كان لا يستطيع استرداده إلاّ بعد مدّة زمنية، فإمّا أن تكون المدّة معلومة بالشهور أو السنوات فإنّه يزكّي قرضه ويحتسبه مع أصل ماله إن وجد، وإمّا أن تكون المدّة مجهولة فإنّه يزكّيه لسنة واحدة على أرجح أقوال أهل العلم ثمّ لا يزكيه إلاّ بعد قبضه، فإن قبضه زكاه للسنوات التي لم يزكّها، فإن لم يقبضه فلا زكاة له عليه بعد أن زكى السنة الأولى من قرضه.
والعلم عند الله تعالى وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على نبينا محمّد وعلى آله وسلّم تسليما
الجزائر في: 23 جمادى الثانية 1426هـ.
الموافق لـ: 29 جويلية 2005م.(6/3)
الفتوى رقم: 85
في مقدار نصاب الركاز ومصارف زكاته
السؤال: ما هو مقدار نصاب زكاة الركاز؟ وما هي مصارف زكاته؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما، أمّا بعد:
فالركاز هو كل مال مدفون في الأرض مطلقًا، بغض النظر عن صفة المعدن ونوعه، أي أنه لا يختص بالذهب والفضة على الصحيح من أقوال أهل العلم، وهو مذهب الجمهور، وقد اتفقوا -أي الجمهور- على أنه لا يشترط في الركاز الحول، ولا اعتبار للنصاب، وإنما يجب إخراج الخمس في الحال وعلى الفور، قلَّ أو كثُر، نصيبا مفروضًا، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« وَفِي الرِّكَازِ الخُمُس"(1)، ويصرف في المنافع العامة، ومصالح المسلمين، فإن تعذر، فعلى السائل والمحروم من الفقراء والمساكين وغيرهم.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم اللدين وسلم تسليما كثيرا.
الجزائر في: 20 محرم 1427ه
الموافقل: 19 فبراير 2006م
__________
1- أخرجه البخاري في الركاز (1499)، ومسلم في الحدود (4562)، وأبو داود في الخراج (3087)، والترمذي في الزكاة (643)، والنسائي في الزكاة (2507)، وابن ماجه في اللقطة (2605)، ومالك (589)، وأحمد (7319)، والدارمي (1721)، والدارقطني (3349)، والحميدي في مسنده (1128)، والبيهقي (7895)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(6/4)
الفتوى رقم: 291
في استنابة مدين في إخراج الزكاة عن الدائن بما تبقى عليه من الدين
السؤال: أرجو منكم الإجابة على المسألة التالية:
تاجر يبيع بالجملة له دَيْنٌ على أحد تجار التجزئة، وعندما حضر موعد التسديد لم يتمكن تاجر التجزئة أن يفي بالمبلغ كاملا، بحيث بقي منه جزء لم يسدد. فطلب تاجر الجملة من تاجر التجزئة أن يخرج عنه المبلغ المتبقي كزكاة لماله. فهل برئت ذمة تاجر الجملة بتكليفه تاجر التجزئة بإخراج الزكاة عنه من الدين؟ ويسأل تاجر التجزئة هل يمكنه أن يخرج الزكاة بشطب ديون زبائنه هو(أي الذين يتعاملون معه) وهو يعلم أنهم معسرون لا يقدرون على التسديد بحيث يعتبر أنه قد أخرج مبلغ الزكاة الذي كلف بإخراجه (مع العلم أنه لم يخبر صاحب المال و لا الزبائن)؟ و بارك الله فيكم.
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فالأصل أنّه لا تبرأ ذمّة المزكي حتى يخرجها بنفسه أو عنه نائبه أو وكيله، ولا يخفى أنّ النيابة في العبادات المالية جائزة، لكن لمّا كان المدين (تاجر التجزئة) ليس عنده المال في الحال ليزكي به عنه، وقد يعسر ويتعذر عليه أن يستنيبه لأنّ فاقد الشيء لا يعطيه، الأمر الذي يتخلف فيه حق الفقير والمسكين وغيرهما بتخلف الدائن (تاجر الجملة) عن إخراجها، لذلك وجب عليه أن يخرجها عند وجوبها عليه، أو يسلم الزكاة إلى وكيله أو نائبه قصد إخراجها عنه من غير تأخير عن مستحقيها جريا على قاعدة أنّ:" المحقق لا يترك للموهم".
ومن جهة أخرى فإنّه على أصح قولي العلماء يجوز إسقاط الدين عن الزكاة إذ غلب على ظن الدائن المزكي قبض هذا الدين من الغريم المدين، أي لم يكن الدين ميئوسا من قبضه، وأن يُعلم المدين بذلك ويقبله.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إليى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 25 شعبان 1426هـ
الموافق لـ: 29 سبتمبر 2005م(6/5)
الفتوى رقم: 388
في حكم زكاة عروض التجارة وكيفية إخراجها وصحة وضعها في صندوق الزكاة
السؤال: هل في عروض التجارة زكاة؟ وما هي كيفية إخراجها؟ وهل يجوز صرف الزكاة لصندوق الزكاة؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فاعلم أنَّ ما عليه جمهور أهل العلم وجوب الزكاة في عروض التجارة لقوله سبحانه وتعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ ) [البقرة: 267]، وصح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يؤدي زكاة ما يَعدُّه للبيع(1)، وأدلة الجمهور كثيرة تطمئنّ النفس لها، والواجب على صاحب التجارة تجريدُ كُلِّ عروض التجارة لمعرفة قيمتها، والأموال التي يمتلكها وما أعطى للغير من أموال ديونا، يجمعها جميعا ويُخرج منها ربعَ العشر، وإنما يتم بسعر الحال لأنه أحظى للفقير، ولا يَهُمُّ دخولُ وخروج البضائع إذا كان النصاب قائما ولم ينتقص، وإنما يَنْظر في آخر شهر من الحول القمري فيخرج من أمواله بما وجب عليه ـ شرعا ـ إخراجه وهو ربع العشر، ولما كان إخراجه الزكاة بنفسه إلى مستحقيها المعلومين بنص الآية(2) محقَّقًا بخلاف صندوق الزكاة فإخراجه مُوهَم(3)، فإنّ "المحقق لا يُترك للموهَم" كما تقرر في القواعد.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
2 محرم 1427ه
الموافق ل:1 فبراير 2006م
__________
1- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:" ليس في شيء من العروض زكاة إلا للتجارة". أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (3/183)، وابن زنجويه في"الأموال"(3/942)، والبيهقي (4/187)، من طريق عبيد الله العمري عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه. وصححه ابن حزم في "المحلى" (5/234)، والنووي في "المجموع" (6/48)، وابن حجر في "الدراية في تخريج أحاديث الهداية" (1/261) وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال:" ما كان من مال في رقيق أو دواب أو في بز للتجارة فإن فيه الزكاة في كل عام". أخرجه عبد الرزاق في المصنف (4/97)، وأبو عبيد في "الأموال" (521)، وابن زنجويه في "الأموال"(3/943)، من طريق موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما. انظر "ما صح من آثار الصحابة في الفقه" لزكريا بن غلام قادر الباكستاني (2/603).
2- ونص الآية قوله تعالى: ?إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ? [التوبة: 60].
3- راجع مسألة حكم القرض الحسن الممنوح من أموال الزكاة في فتوى رقم: 468.(6/6)
الفتوى رقم: 468
حكم القرض الحسن الممنوح من أموال الزكاة
السؤال: ما حكم القرض الحسن الذي هو عبارة عن مال الزكاة تقرضه الدولة للمحتاج ، علما أنّه يسدده بعد فترة من الزمن بدون فائدة؟ وبارك الله فيكم.
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فإنَّ الآية في قوله تعالى:( إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ )[التوبة: 60]، إنما ذكرت هذه الأصناف لبيان المصرف لا لوجوب استيعابها وهو قول عامة أهل العلم، فيجوز للحاكم أو من يتولى قسمتها أن يعطي من حضر عنده من هذه الأصناف، ولا يجب عليه التسوية بينهم ولا يشترط تعميمهم بالعطاء، فيجوز أن يعطي بعض الأصناف أكثر من البعض الآخر، وله أن يمنح البعض دون البعض إذا كان في تصرفه مصلحة عائدة على الإسلام وأهله، ولكنه لا يجوز له أن يُخْرجَ عنهم أو يتصرف في أموالهم لنفع غيرهم، ونقل ابن تيمية -رحمه الله- عن الإمام أبي جعفر الطبري -رحمه الله- قوله:" عامة أهل العلم يقولون: للمتولي قسمتها، ووَضْعها في أيِّ الأصناف الثمانية شاء، وإنما سمى الله الأصناف الثمانية إعلامًا منه أنّ الصدقة لا تخرج من هذه الأصناف إلى غيرها، لا إيجابًا لقسمتها بين الأصناف الثمانية"(1).
وعليه، فلا يجوز لمن يتولى توزيعها أن يعتمد على المعنى الواسع في تفسير صنف"في سبيل الله" بحيث يدخل كافة أنواع البر وسائر أعمال الخير، لأنَّ تفسيره بهذا المعنى يقضي بطريق أو بآخر على الحصر الوارد في الآية، المخصص للأصناف الثمانية دون غيرهم، والعمل بمقتضى هذا التفسير يؤدي إلى قلب فائدة الآية من تأسيسية إلى تأكيدية، فضلا عن أنّه لم يُنقل عن أحد من السلف هذا المعنى، ولا قائل بذلك من المسلمين، قال أبو عبيد في "الأموال":" فأمَّا قضاء الدين عن الميت، والعطية في كفنه، وبنيان المساجد، واحتفار الأنهار، وما أشبه ذلك من أنواع البر، فإنَّ سفيان وأهل العراق وغيرهم من العلماء، مجمعون على أنَّ ذلك لا يجزئ من الزكاة، لأنَّه ليس من الأصناف الثمانية"(2).
قلت: وممَّا يدخل في سياق أبي عبيد-رحمه الله- تصرف متولي الزكاة وقسمتها بالقرض الحسن للمحتاج، إذ لا يخفى أنَّه اجتهاد من الحاكم أو من ينوب منابه وهو منتقض لمخالفته للنص الشرعي والإجماع، وقد سبق وأن بينت ذلك في مسألة: متى يرفع الحاكم الخلاف؟ فيما مضى من الفتوى(3).
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 28 جمادى الأولى 1427ه
الموافق لـ:24 جوان 2006م
__________
1- مجموع الفتاوى لابن تيمية: 25/ 40.
2- الأموال لأبي عبيد: 243(1980).
3- راجع الفتوى 25 من فتاوى أصول الفقه والقواعد الفقهية .(6/7)
الفتوى رقم: 476
في توجيه مال الزكاة المعطي إليه خطأً
السؤال: استدان رجل مبالغ مالية، وعند حلول الأجل عجز عن تسديد الدين نظرا لعدم قبض أمواله الناتجة عن عمله الشخصي، فأعطاه أخوه -الذي هو أغنى منه- زكاة ماله باعتبار أنّه من الغارمين، وقبل تسديد دينه بها قبض جميع أمواله التي هي محصلة عمله، فهل يجوز له أخذ هذه الزكاة من مال أخيه ؟ وإذا كان لايجوز فكيف يتصرف بها؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فمن علم أنَّ أمواله ترجع إليه باعتبار المآل فهو غني وليس معدودًا من الغارمين حتى يستحق الزكاة، ومن كان في هذه الحال فبإمكانه الاقتراض من أخيه لتسديد ديونه ثم يردها لأخيه بعد تسلمها من الجهات المدينة له، وعليه فإنَّ زكاة أخيه المعطاة له إمَّا أن يردَّها لأخيه حتى يزكيها على وجهها الصحيح، لعدم براءة ذمته منها، وإمَّا أن يقوم هو بالنيابة عن أخيه بعد إعلامه في صرفها على المستحقين المذكورين في الآية: ?إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ?[التوبة: 60]، ولا تجوز في غير هؤلاء المذكورين وليس هو من المستحقين لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« لاَ صَدَقَةَ لِغَنِيٍ وَلاَ لِذِي مِرَّةٍ قَوِيٍ"(1).
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 11 جمادى الثانية 1427ه
الموافق لـ: 6 جويلية 2006م
__________
1- أخرجه أبو داود في الزكاة (1636)، والحاكم (1478)، والدارقطني في سننه (2015)، والبيهقي (13534)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وحسنه ابن حجر في التلخيص الحبير (4/152).(6/8)
الفتوى رقم: 503
في انتفاء وجوب الصدقة إلا من نذر
السؤال: اعتاد رجلٌ أن يتصدَّق كلَّ شهر بمبلغ مالي، بحسب إمكانه وقدرته، وفي شهر من الشهور أصيب بضائقة مالية، فهل يجب عليه أن يواصل صدقته أم هو معذور؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فإذا كان ما أخرجه على وجه النذر فينبغي أن يوفي بنذره في حدود القدرة المناط بها التكليف، فإن تعذَّر عليه وجب عليه أن يكفِّر عن نذره كفارة يمين لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« كَفَّارَةُ النََّذْرِ كَفَّارَةُ اليَمِينٍ »(1)، أمَّا إذا لم يكن تصرفه مقيَّدًا بنذر وإنما بعموم الصدقة فهو أمير نفسه متى وجد أعطى بحَسَب ما يقدر عليه من باب التطوع غير الملزم.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليمًا.
الجزائر في: 23 صفر 1427ه
الموافق ل: 23 مارس 2006م
__________
1- أخرجه مسلم في النذور (1645)، وأبو داود في الأيمان والنذور (3323)، والترمذي في النذور والأيمان (1528)، والنسائي في الأيمان والنذور (3832)، وأحمد (16850)، من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه.(6/9)
الفتوى رقم: 532
في حكم زكاة الحلي وكيفية إخراجه
السؤال: هل تجب الزكاة في الحلي؟ وكيف يتمُّ إخراجها هل بالقيمة أم بالوزن؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فلا خلافَ بين أهل العلم في أنَّ الحُلي الحرام: وهو ما حرم استعماله واتخاذه من الذهب والفضة كالأواني الذهبية والفضِّية، والمجامر والملاعق وما يقتنيه الرجال من حلي حرَّمه الشرعُ عليهم فإنَّ الزكاة تجب فيها.
وإنَّما الخلاف في حلي الذهب والفضّة للنساء، ومن أسبابه أنَّ مَن اعتبر المادةَ التي صُنعت منها الحليُّ، وهي نفس المعدن الذي وجبت فيه الزكاة بالإجماع، أوجب الزكاةَ في الحلي كما أوجبها في النقد، ومَنْ نَظَرَ إليها باعتبار الصناعة والصياغة فأشبهت بالصناعة عمومَ المتاع الذي يُقتنى لإشباع الحاجيات الشخصية وهي ليست من الأموال النامية أو قابلة للنَّماء والاستغلال كالأثاث والثياب التي لا تجب فيها الزكاة إجماعًا نفي الزكاةَ في الحلي بهذا الاعتبار.
والظاهر أنَّ مَنِ اعتبر المادَّة التي صُنِعت منها الحُلي أَوْلَى في تقريرِ وجوبِ الزكاة فيها، ويشهد لذلك عمومُ الآيات والأحاديثِ الشاملةِ لها والآمرة بالزكاة، منها: قوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ? [التوبة: 34]، وفي الحديث:« مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلاَ فِضَّةٍ لاَ يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا إِلاَّ إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ، صُفِحَتْ لَهُ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ فَأُحْمِيَ بِهَا جَنْبُهُ وجَبِينُه وَظَهْرُهُ… »(1)، وقد اتفق العلماء على أنَّ المراد بالكنز المذكور في النصوص هو: كلُّ ما وجبت فيه الزكاةُ فلم يؤدّ زكاته، فعن أُمِّ سلمةَ رضي الله عنها قالت:« كُنْتُ أَلْبِسُ أَوْضَاحًا(2) مِنْ ذَهَبٍ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَكَنْزٌ هُوَ؟ فَقَالَ: مَا بَلَغَ أَنْ تُؤَدَّى زَكَاتُهُ فَزُكِّيَ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ »(3).
فالحاصل أنَّ الكتاب يشهد لقول من أوجبها والأثر يؤيّده كما قال الخطابي:« ومَن أسقطها ذَهَبَ إلى النظر ومعه طرف من الأثر، والاحتياط أداؤها »(4).
والاعتبار في الزكاة بالوزن لانضباطه لا بالقيمة لاضطرابها، ولأنَّه قد اعتبرنا الحُليَّ مِن المعدن الذي خلقه الله ليكون نقدًا يجري فيه التعامل بين النَّاس فكان نصاب زكاة الذهب عشرين دينارًا، وهو يُمثِّل خمسًا وثمانين غرامًا [85غ] وفيه ربعُ العشر اثنان ونصف [2.5%]، أمَّا نصاب الفضّة فمِائتا درهم وهو يمثّل: خمسمائة وخمسة وتسعين غرامًا [595غ] وفيه ربع العشر أيضًا.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 21 رجب 1427ه
الموافق ل: 15 أوت 2006م
__________
1- أخرجه مسلم في الزكاة (987)، وابن حبان (3253)، وابن خزيمة (2252)، وأحمد (7663)، والبيهقي (7625)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2- الأوضاح: نوع من الحلي يعمل من الفضة سميت بها لبياضها. [النهاية لابن الأثير: 5/196].
3- أخرجه أبو داود في الزكاة (1564)، والحاكم في المستدرك (1438)، والبيهقي (7335)، والحديث حسنه النووي في «المجموع » (6/33)، وقال العراقي في «طرح التثريب » (4/7):« إسناده جيد »، وقال الألباني في «السلسلة الصحيحة » (2/103):« حسن أو صحيح ».
4- «معالم السنن للخطابي »: (2/214).(6/10)
الفتوى رقم: 563
في حكم نقل زكاة الفطر
السؤال: أسكنُ في فرنسا ويصعب عليَّ إخراجُ زكاة الفطر في هذا البلد، فهل يجوز لي إخراجُها في غير البلد الذي صمتُ فيه بتوكيل أحدِ الإخوة بإخراجها في الجزائر من مالي الخاص؟ وبارك الله فيكم وجزاكم الله خيرًا.
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فإنّ إخراجَ زكاة الفطر في غير البلد الذي صام فيه إن كان أهلُ ذلك البلد يستغني عنها أو تعذر عليه إخراجها في البلد المقيم فيه لعدم معرفة أعيان المساكين المخرج إليهم فإنه يصحُّ له نقلها أصالةً أو بالنيابة إلى مسلمين من مساكين في بلد آخر، وإذا لم يستغن عنها من يستحقّها من المسلمين في ذلك البلد، ولم يتعذّر عليه معرفتهم فإنها تُفرق في البلد الذي وجبت عليه فيه لأنّ الزكاة تتعلّق بعينه وهو سبب الوجوب، لكن إن خالف وأخرجها في غير البلد الذي وجبت عليه فيه فإنّ زكاة فِطره تصحّ بشرطها وإن كان خالف الأَولى.
ملاحظة:
وتجدر الملاحظة إلى أنه لا يجوز إعطاء صدقة الفطر إلاّ لمساكين المسلمين دون مساكين الأمم الأخرى، لقوله صلى الله عليه وآله وسلّم:« وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ »(1) فإنّ ظاهرَها يفيد حصرَها بالمساكين من أهل الإسلام.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا.
مكة في 4 شوال 1427
الموافق ل: 26 أكتوبر 2006م
__________
1- أخرجه أبو داود في «الزكاة » باب زكاة الفطر (1609)، وابن ماجه في «الزكاة » باب صدقة الفطر (1827)، والحاكم (1521)، والدارقطني (2037)، والبيهقي (7715)، وصحّحه الألباني في «صحيح الجامع » (3570).(6/11)
الفتوى رقم: 631
في زكاة مالك النصاب المدّخر لشراء مسكن
السؤال:
بصفتي مُستأجِرٌ وعائلتي تحتاج إلى مسكن خاصٍّ أمتلكه، وعندي مبلغٌ من المال أدَّخره لشرائه، ولا أزال أجمعه وقد بَلَغَ النصابَ, وحال عليه الحولُ, وقد أضطرّ للدَّين، فهل يجب عَلَيَّ فيه الزكاة؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فحقُّ المستحقِّين للزكاة من الفقراءِ والمساكينِ وغيرِهم يبقى عالقًا بذمَّة مالكِ النِّصابِ الذي حال الحول عليه، ولو لم يجد ما يفي بكفايته؛ لأنَّ مالَه -في نموّه- يحتاج إلى تطهيرٍ ممَّا قد يعتريه من شُبهاتٍ أثناءَ كَسْبِهِ، ومن جهة أخرى فهو غَنِيٌّ يَمْلِكُ نصابًا، وكُلُّ غَنِيٍّ يحتاج إلى أن يتزكَّى بالبَذْلِ والإنفاق، وأن يتطهَّر من رذيلة الشُّحِّ وحُبِّ الذات، قال تعالى: ?خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا? [التوبة: 103]، وقال صَلَّى اللهُ عليه وآله وَسَلَّم:« مَنْ أَدَّى زَكَاةَ مَالِهِ فَقَدْ ذَهَبَ عَنْهُ شَرُّهُ »(1).
ولا يخفى أنَّ الزكاة لا تُنقص من المال بل يُربِّيه الله تعالى ويزيدُه، قال تعالى: ?وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ? [الروم: 39]، وقال صَلَّى اللهُ عليه وآلِه وسَلَّم:« مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ -وَلاَ يَقْبَلُ اللهُ إِلاَّ الطَّيِّبَ- فَإِنَّ اللهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ وَيُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ »(2)، وفي حديث آخر:« مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ »(3).
هذا، والغَنِيُّ إذا احتاجَ ما يدفع الهلاكَ عن نفسه أو عِيَالِهِ تحقيقًا أو تقديرًا فهو غَنِيٌّ باعتبار تحقُّقِ شروطِ الزكاة فيه، وفقيرٌ من جهة أنه لا يملك ما يقوم بكفايته فيُعطى من الزكاة بهذا الاعتبار.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 29 المحرم 1428ه
الموافق ل: 17 فبراير 2007م
__________
1- أخرجه بهذا اللفظ الطبراني في «المعجم الأوسط »، كما ذكر المنذري في «الترغيب والترهيب »: (1/301)، من حديث جابر رضي الله عنه. وأخرجه ابن خزيمة: (2247)، والحاكم: (1472)، والبيهقي: (7269)، بلفظ:« إذَا أدَّيْتَ زكاةَ مالِكَ فَقَدْ أَذْهَبْتَ عَنْكَ شَرَّهُ »، قال ابن حجر في «تلخيص الحبير »: (2/737):« وله شاهد صحيح عن أبي هريرة ». والحديث كان قد ضعفه الألباني في «الضعيفة »، ثمّ تراجع عن التضعيف وقال:« ثمّ وجدت للحديث شاهدًا من رواية أبي هريرة بسند حسن، ومن أجله كنت أوردته في «صحيح الترغيب » (8-صدقات)، فهو به قوي، وينقل إلى «الصحيحة » »، «السلسلة الضعيفة »: (5/248) رقم: (2219).
2- أخرجه البخاري في «التوحيد »: (6993)، ومسلم في «الزكاة »: (2342)، والترمذي في «الزكاة »: (661)، والنسائي في «الزكاة »: (2525)، وابن ماجه في «الزكاة »: (1842)، وأحمد (8737)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
3- أخرجه الترمذي في «الزهد »: (2325)، وأحمد: (17570)، من حديث أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه. وأخرجه البزار في «مسنده »: (1032)، والطبراني في «المعجم الصغير »: (142)، من حديث أم سلمة رضي الله عنها. وصححه ابن كثير في «تفسير القرآن العظيم »: (2/396)، والألباني في «صحيح الجامع »: (3024). وأخرج مسلم في صحيحه كتاب «البر والصلة »: (6592)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:« مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ ».(6/12)
الفتوى رقم: 635
في حكم نقل الزكاة من بلد أو قطر إلى غيره
السؤال:
ما حكم نقل الزكاة من ولاية إلى ولاية؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالأصلُ صَرْفُ الزكاة إلى الأصناف الثمانية إن كانوا موجودين، وإلاّ صُرفت إلى الموجودِ منهم في البلد نفسه، فلا تنقل لبلد آخر، لحديث معاذ أنّ النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قال:« فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ »(1)، لكن متى استغنى أهلُ بلدِ المزكِّي عنها أو لم تقترن بهم حاجة أكيدة بل كان غيرُهم أشدَّ منهم حاجة، أو لم توجد الأصناف المزكَّى لهم فلا مانع من نقلها إلى حيث يوجدون، كما يجوز نقلها لمصلحة شرعية.
ومع ذلك فإِنْ نقلها بغير هذه المسوِّغات المذكورة تجزيه ويكون قد خالف الأَوْلَى والأفضل، قال ابن قدامة:« فإِنْ خالف ونقلها أجزأته في قول أكثر أهل العلم...، وإن استغنى عنها فقراء أهل بلدها جاز نقلها »(2)، [أي: عند المانعين].
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في 25 من ذي القعدة 1427ه
الموفق ل: 16 ديسمبر 2006م
__________
1- أخرجه البخاري في «الزكاة »: (1389)، ومسلم في «الإيمان »: (121)، وأبو داود في «الزكاة »: (1584)، والترمذي في «الزكاة »: (625)، والنسائي في «الزكاة »: (2435)، وابن ماجه في «الزكاة »: (1783)، وأحمد (2072)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
2- المغني لابن قدامة: 2/672-673(6/13)
الفتوى رقم: 658
في حكم زكاة الخضروات
السؤال:
هل في الخضروات مثل البطاطا والفلفل زكاة؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فليس في البطاطا والفُلْفُل ونحوِهما زكاةٌ سواءً عند من قال: لا زكاةَ إلاَّ في الأصناف الأربعة من الزُّرُوع والثمارِ وهي: الحِنْطَةُ والشعيرُ والتَّمرُ والزبيبُ فقط، ولا شيءَ فيما عداها، وهو مذهبُ كثيرٍ من السلف وروايةٌ عن أحمدَ، واختاره ابنُ حَزْمٍ والشوكانيُّ وغيرُهم، كما ليس فيها زكاةٌ على مَنْ قال: إنَّ الزكاةَ في كُلِّ ما يُقْتَاتُ ويُدَّخَرُ، وهو مذهبُ مالكٍ والشافعيِّ، ولا على مذهب مَنْ قال: إنَّ الزَّكاةَ في كلِّ ما يَيْبَسُ ويبقى وَيُكَالُ، وهو قولُ أحمدَ في أشهر الروايات عنه، وإنما أوجب الزكاةَ فيها مَنْ قال: إنَّ الزكاةَ تجب في كلِّ ما أخرجتِ الأرضُ ممَّا يزرعُهُ الآدميُّ، وهو مذهبُ أبي حنيفةَ وداودَ الظاهريِّ، والصحيحُ المذهبُ الأوّل، لحديث أبي موسى ومعاذٍ رضي الله عنهما حين بعثهما رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم إلى اليمن يُعلِّمان الناسَ أَمْرَ دِينِهم:« لاَ تَأْخُذُوا الصَّدَقَةَ إِلاَّ مِنْ هذِهِ الأَرْبَعةِ: الشَّعيرِ والحِنْطَةِ والزَّبيبِ وَالتَّمْرِ »(1) وهي مُجْمَعٌ عليها، قد خصَّها النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّمَ وأَعْرَضَ عَمَّا سِواها، وقد كان يعلم أنَّ للناس أقواتًا وأموالاً مما تُخْرِجُ الأرضُ سِواها، فكان تركُه ذلك وإعراضُه عنه عفوًا منه كعفوه عن صدقة الخيل والرقيق. وغايةُ ما يستدِلُّ به مَنْ أَوْجَبَ الزكاةَ فيها -وهو مذهبُ أبي حنيفةَ- بنصوصٍ عامَّةٍ، ولا يخفَى أنَّ الخاصَّ قاضٍ على العامِّ في محلِّ التعارُضِ كما هو مُقرَّرٌ في القواعدِ، ومع ذلك فله أن يُخْرِج الزكاةَ المطلقةَ أي: الصدقةَ غيرَ الواجبةِ ولا مقيّدة بِزَمَنٍ أو كمِّيةٍ، ويخرجُ منها بما تطيبُ نفسُ صاحبِها لعموم النصوص الآمرة بالإنفاق كقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ العِبَادُ فِيهِ إِلاَّ مَلَكَانِ يَنْزِلاَنِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا »(2).
كما يلزمه إخراجُ الزكاة من مداخيل الخضروات المباعة بشرطها سواء كانت مالاً أصليًّا أو مستفادًا.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في 25 من ذي القعدة 1427ه
الموافق ل: 16 ديسمبر 2006م
__________
1- أخرجه الحاكم في «المستدرك »: (1492)، والدرقطني في «سننه »: (1893)، من حديث أبي بردة رضي الله عنه. وصحَّحه الألباني في «الإرواء »: (801)، وفي «السلسلة الصحيحة »: (2/540).
2- أخرجه البخاري في «الزكاة » باب قولِ الله: ?فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالحُسْنَى?: (1374)، ومسلم في «الزكاة » باب في المنفق والممسك: (2336)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(6/14)
الفتوى رقم: 662
في حكم زكاة المرأة لزوجها المنتسب إلى بني هاشم
السؤال:
هل يجوز للمرأة أن تُعطيَ من زكاتها لزوجها؟ علمًا أنّ له نَسَبًا للنبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم من جهة أُمِّه؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فيجوزُ للزوجةِ أن تُعطيَ من زكاتِها لزوجها إن كان من أهلِ الزَّكاة على أصحِّ قَوْلَيِ العلماء، وهو مذهب الشافعيِّ وروايةٌ عن أحمدَ، وغيرِهم؛ لأنه لا تجب على المرأة نفقةُ زوجها فهو كالأجنبيِّ في استحقاق الزكاةِ، ولا يوجد نصٌّ يمنع ذلك ولا إجماعٌ، بل يؤيّد ذلك حديثُ أبي سعيد رضي الله عنه أنّ زينبَ امرأةَ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنهم قالت: يَا نَبِيَّ اللهِ إِنَّكَ أَمَرْتَ اليَوْمَ بِالصَّدَقَةِ، وَكَانَ عِنْدِي حُلِيٌّ لِي، فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهَا، فَزَعَمَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّهُ وَوَلَدَهُ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتُ بِهِ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ:« صَدَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ، زَوْجُكِ وَوَلَدُكِ أَحَقُّ مَنْ تَصَدَّقْتِ بِهِ عَلَيْهِمْ »(1).
هذا، غيرَ أنّ الزوجَ إن كان مُنتسبًا إلى بني هاشمٍ وهم: [آلُ عليٍّ، وآلُ عقيل، وآلُ جعفر، وآل العباس، وآل الحارث، وكذلك آل المطَّلِب على الصحيح لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« إِنَّمَا بَنُوا المُطَّلَبِ وَبَنُو هَاشِمٍ شَيْءٌ وَاحِدٌ »(2)]، فلا يحلّ له أن يأخذ من الزكاة المفروضةِ باتفاق العلماء، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« إِنَّ الصَّدَقَةَ لاَ تَنْبَغِي لآلِ مُحَمَّدٍ وَإِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ »(3)، ولقول النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم للحسن بنِ عليٍّ عندما جعل تمرة من تمر الصدقة في فيه:« كِخْ كِخْ ارْمِ بِهَا، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّا لاَ نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ »(4).
ويثبت شرفُ النسبة إلى آل محمّدٍ من جهة الأب، وكذلك من جهة الأم على الراجح، قال ابنُ إسحاق:« عبدُ شمسٍ وهاشمٌ والمطَّلبُ إخوةٌ لأمٍّ وأُمُّهم عاتكةُ بنتُ مُرّةَ، وكان نَوْفَلُ أخاهم لأبيهم »(5).
هذا، وقد اختار ابنُ تيمية القولَ بجواز دفع الزكاة إلى بني هاشم إذا مُنعوا من خُمُسِ الخُمُس؛ لأنه محلّ حاجة وضرورة، وهو رواية عن أبي حنيفة وأحمد، وحكى الرافعيُّ نحوَه عن محمّد بن يحي صاحب الغزالي، ورجّحه متأخّروا المالكية، قال العدوي في حاشيته:« محلّ عدم إعطاء بني هاشم إذا أعطوا ما يستحقُّونه من بيتِ المال، فإن لم يُعْطَوْهُ وأضرَّ بهم الفَقْرُ أعطوا منها… وقد ضَعُفَ اليقين في هذه الأعصار المتأخّرة، فإعطاء الزكاة لهم أسهل من تعاطيهم خدمة الذمِّي، والفاجر، والكافر »(6).
وكذلك يجوز لبني هاشم أن يأخذوا من زكاة الهاشميِّين لا من زكاة الناس وبهذا قال أبو حنيفة وأبو يوسف وهو اختيار ابن تيمية؛ لأنّ النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم نهى الهاشميِّين عن أخذ زكاة الناس؛ لأنها أوساخهم فلكرامتهم وتَنْزيههم عنها منعهم، لكن لا يمنع أن يأخذ الهاشمي من هاشميٍّ مثله؛ لأنه تربط بينهم صلةُ القُربى، ولا مذلّةَ في أن يأخذ بعضُهم من بعضٍ.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 10 ربيع الأول 1428ه
الموافق ل: 29 مارس 2007م
__________
1- أخرجه البخاري في «الزكاة »: (1393)، وابن حبان: (5744)، وابن خزيمة: (2462)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
2- أخرجه البخاري في «أبواب الخمس »: (2971)، وأحمد: (16299)، والبيهقي: (13109)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
3- أخرجه مسلم في «الزكاة »: (2481)، وأبو داود في «الخراج »: (2985)، والنسائي في «الزكاة »: (2609)، وأحمد: (17064)، من حديث عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب رضي الله عنه.
4- أخرجه البخاري في «الزكاة »: (1420)، ومسلم في «الزكاة »: (2473)، والدارمي: (1599)، والبيهقي: (13512)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
5- ذكره البخاري تعليقًا في «صحيحه » كتاب الزكاة، باب: ومن الدليل أنّ الخمس للإمام...، قال ابن حجر في «فتح الباري »: (6/309):« وصله المصنف في التاريخ ».
6- انظر:« حاشية العدوي على الخرشي »: (2/214)، وانظر:« حاشية الدسوقي »: (1/493، 494).(6/15)
الفتوى رقم: 674
في سؤال الزكاة لشراء مسكن
السؤال:
أعمل موظَّفًا لدى إحدى المؤسّسات الحكومية، ويقدر دخلي ب: خمسةَ عشرَ ألفَ دينارٍ جزائريٍّ، متزوّج وأب لعِدَّة أولادٍ، أسكن حاليا مع والدي وقد أضطرُّ للكراء الذي يأخذ تقريبًا نصف مرتّبي؛ لأن المنْزِل لا يسعنا كُلَّنا، وأريد الحصول على مسكن عن طريق البناء التساهمي الذي تمنح الدولة فيه للفرد هبة مالية، غير أنني لا أملك المبلغ الباقي من حصة المساهمة والذي هو أكبر من هبة الدولة بكثير، ولا أستطيع القرض من البنك لِحُرمة ذلك، فهل يجوز لي أخذ الزكاة من أهل الخير بُغيةَ شراء مسكنٍ يأويني وعائلتي؟ فالرجاء التكرّم ببيان الحكم الشرعي. وجزاك الله كلّ خير .
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فلا يُجزئُ دفعُ الزكاةِ إلاّ في الأصنافِ التي عَيَّنَهَا اللهُ سبحانه وتعالى بقوله: ?إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ? [التوبة: 60]، ولا يجوز صَرْفُ شيءٍ منها إلى غيرِهم إجماعًا.
وَيَحِلُّ للسائل المسألة إن كان منها أو من الغارمين حتى يسدّ به الحاجة من عيش ويعطى قدر حاجته لا أكثر، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« يَا قَبِيصَةُ! إِنَّ المَسْأَلَةَ لاَ تَحِلُّ إِلاَّ لأَحَدِ ثَلاَثَةٍ: رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً(1)، فَحَلَّتْ لَهُ المَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمْسِكُ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ(2) اجْتَاحَتْ مَالَهُ، فَحَلَّتْ لَه المَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا(3) مِنْ عَيْشٍ -أَوْ قَالَ: سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ- وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُومَ ثَلاَثَةٌ مِنْ ذَوِي الحِجَا(4) مِنْ قَوْمِهِ: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلاَنًا فَاقَةٌ، فَحَلَّتْ لَهُ المَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ -أَوْ قَالَ: سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ- فَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ المَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ سُحْتًا(5) يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا »(6).
فإن لم يكن من ذوي الاستحقاق فلا تَحِلُّ له المسألةُ، وأزمتُهُ السَّكَنِيَّةُ لا تُخوِّلُ له التعدِّي على أموال الغير، ويبقى مَطلبُهُ السكنيُّ كسائرِ المحتاجين إليه بين يدي الجهةِ المسئولةِ عن إصلاح الوضعيةِ الاجتماعية، والطريقة التي تسوس بها الرعية، إذ الإمام [الحاكم] راعٍ وهو مسئولٌ عن رعيته.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 19 ربيع الثاني 1428ه
الموافق ل: 06 ماي 2007م
__________
1- ما يستدان من مال لإصلاح ذات البين.
2- الجائحة: هي الأرضة أو الآفة التي تهتك الثمار والزروع والأموال وتهلكها.
3- القِوام المراد به السداد وهو ما يسد به الحاجة.
4- الحجا هو العقل.
5- السحت: الحرام.
6- أخرجه مسلم في «الزكاة »: (2404)، وأبو داود في «الزكاة »: (1640)، والنسائي في «الزكاة »: (2580)، والدارمي في «سننه »: (1630)، وابن حبان: (3291)، وابن خزيمة: (2375)، وأحمد: (15486)، من حديث قبيصة بن مخارق رضي الله عنه.(6/16)
الفتوى رقم: 684
في حكم الزكاة لمدين عاجز في غير معصية
السؤال:
وجد رجلٌ شبابًا يسرقون محلاًّ تجاريًّا، ولَمَّا نهاهم هدّدوه، وبعد مناوشات تشاجر مع أحدهم ودفاعًا عن نفسه قام بضربه، فقام هذا الأخير برفع دعوى قضائية ضدّه مع شهادة زملائه المشاركين له في السرقة، وفي غياب دليل يبرئ ذمَّته حكمت عليه المحكمة بتعويض مالي قدره خمسون ألف دينار جزائري، وأمهلته مدّةً فإن لم يدفع القيمة المالية فسيتعرض للسجن وحالته المادية غير ميسورة، فهل يجوز لي أن أعطيه من الزكاة؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فيجوزُ أن تعطى الزكاةُ للمدين العاجزِ عن الوفاء بديونه التي لزمته من غير معصيةٍ، أو تحمّل الدَّيْن أو أُكرِهَ على تحمّله وشقّ عليه أداؤُه لدخوله في سهم الغارمين في قوله سبحانه: ?إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ? [التوبة: 60]، وقولِه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« لاَ تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِّيٍّ إِلاَّ لِخَمْسَةٍ: لِلْعَامِلِ عَلَيْهَا، أَوْ رَجُلٍ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ، أَوْ غَارِمٍ، أَوْ غَازٍ فِي سَبْيلِِ اللهِ، أَوْ مِسْكِينٍ تُصُدِّقَ عَلَيْهِ فَأَهْدَى مِنْهَا لِغَنِّيٍّ »(1).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 25 جمادى الأولى 1428ه
الموافق ل: 10 جوان 2007م
__________
1- أخرجه أبو داود في «الزكاة » باب من يجوز له أخذ الصدقة وهو غني: (1635)، ومالك في «لموطإ »: (604)، والحاكم في «المستدرك »: (1480)، وأحمد: (11298)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (13440)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في «الإرواء »: (870).(6/17)
الفتوى رقم: 719
في اعتبار صحة دخول طالب العلم في سهم «وفي سبيل الله »
السؤال:
قرأتُ في تفسير الشيخ السعدي -رحمه الله- في آية الزكاة من سورة التوبة في بيان صنف «وفي سبيل الله » قولَه:« وقال كثير من الفقهاء: إنْ تفرغ القادر على الكسب لطلب العلم، أعطي من الزكاة؛ لأنّ العلم داخل في الجهاد في سبيل الله » اه.
فهل يدخل في سهم «في سبيل الله » طالب العلم؟ كأن يعطى من المال من أجل السفر لطلب العلم؟أو لشراء الكتب؟ وجزاكم الله كلّ خير.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فبغضِّ النَّظَرِ عن مذهب المُوَسِّعين في معنى «في سبيل الله » في آية مصارفِ الزكاةِ: ?إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ…? [التوبة: 60]، فإنّ ما دلّت السُّنَّةُ الصحيحةُ دخولُ صِنفينِ فيه فقط، وهما:
الأول: الغازي الذي ليس له سَهْمٌ أو راتِبٌ في الخزانة العامّة ولو كان غنيًّا لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« لاَ تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِّيٍّ إِلاَّ لِخَمَسْةٍ: لِلْعَامِلِ عَلَيْهَا، أَوْ رَجُلٍ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ أَوْ غَارِمٍ، أَوْ غَازٍ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَوْ مِسْكِينٍ تُصُدِّقَ عَلَيْهِ فَأَهْدَى مِنْهَا لِغَنِيٍّ »(1)، ولقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« ثَلاَثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللهِ عَوْنُهُمْ: المُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَالمُكَاتِبُ الَّذِي يُرِيدُ الأَدَاءَ، وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ العَفَافَ »(2).
الثاني: الحاجّ حَجّة الإسلام فهو في سبيل اللهِ، ويُعطى من الزكاة ما يحجّ به إن كان فقيرًا، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال:« أَرَادَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ الحَجَّ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ لِزَوْجِهَا: أَحِجَّنِي مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا عِنْدِي مَا أُحِجُّكِ عَلَيْهِ، قَالَتْ: أَحِجَّنِي عَلَى جَمَلِكَ فُلاَنٍ، قَالَ: ذَلِكَ حَبِيسٌ فِي سَبِيلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَتِي تَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلاَمَ وَرَحْمَةَ اللهِ، وَإِنَّهَا سَأَلَتْنِي الحَجَّ مَعَكَ، قَالَتْ: أَحِجَّنِي مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: مَا عِنْدِي مَا أُحِجُّكِ عَلَيْهِ، فَقَالَتْ: أَحِجَّنِي عَلَى جَمَلِكَ فُلاَنٍ، فَقُلْتُ: ذَاكَ حَبِيسٌ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَقَالَ: أَمَا إِنَّكَ لَو أحْجَجْتَهَا عَلَيْهِ كَانَ فِي سَبِيلِ اللهِ »(3). وأخرج ابنُ خزيمةَ مِنْ حديثِ أبي لاَسٍ الخُزَاعِيِّ رضي الله عنه قال:« حَمَلَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِبِلٍ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ ضِعَافٍ لِلْحَجِّ.. »(4) الحديث. وقد سُئِلَ ابنُ عمر عن امرأةٍ أوصت بثلاثين دِرْهَمًا في سبيل الله، فقيل له: أتُجْعَلُ في الحجِّ؟ فقال:« أَمَا إِنَّهُ فِي سَبِيلِ اللهِ »(5).
أمّا صَرْفُ الزكاةِ لطالبِ العِلْمِ وإن كان له وَجْهٌ في اندراجه ضِمْنَ معنى الجهاد عند القائلين بأنّ الآية من بقية الجهاد إلاّ أنّ التصريح بالغازي في الحديث يمنع هذا المعنى من جهة، ولأنّ الآية ?إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ…? نزلت وليس فيها طلبةُ العلمِ بالمفهوم الحالي من التدرج في مدارج العلوم والتفرغ لها اللهمّ إلاّ الاستفادة بالأحكام الشرعية من النبي صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم مباشرة أو بواسطة.
علمًا أنّ أهلَ التفسيرِ اختلفوا في معنى قوله تعالى: ?وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً…? [التوبة: 122] هل أنه من بقية أحكام الجهاد أم لا؟ «وقد ذهب جماعةٌ إلى أنّ الآيةَ ليست من بقية أحكام الجهاد، وهي حكم مستقلٌّ بنفسه في مشروعية الخروج لطلب العلم الشرعي والتفقّه في الدِّين، وجعله الله متصلاً بما دلّ على إيجاب الخروج إلى الجهاد، فيكون السفر نوعين: الأول: سفر الجهاد، والثاني: السفر لطلب العلم »(6)، وعلى هذا المعنى لا تكون الآية من بقية أحكام الجهاد، فلا يصحّ أن يُلْحَقَ طالبُ العلم بالغازي في سبيل الله، وإلاّ لَلَزِمَ إدخالُ كُلِّ ما فيه نُصرةٌ للإسلام وإعلاءُ كلمتِهِ أيًّا كان نوع هذا الجهاد وسلاحه، سواء كان الجهاد بالقلم واللسان، أو بالسيف والسِّنان، أو تعليميًّا أو تربويًّا، أو ما إلى ذلك، فمثل هذا التوسّع في المعنى لا أعلم له نقلاً عن الرَّعِيلِ الأَوَّلِ، لذلك يقصر معناه على ما ثبت في السُّنَّة أنّ «في سبيل الله » في مصارف الزكاة ?إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ…? للغزاة والحجّ.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 27 ربيع الثاني: 1428ه
الموافق ل: 15 ماي 2007م
__________
1- أخرجه أبو داود في «الزكاة » باب من يجوز له أخذ الصدقة وهو غني: (1635)، ومالك في «لموطإ »: (604)، والحاكم في «المستدرك »: (1480)، وأحمد: (11298)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (13440)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في «الإرواء »: (870).
2- أخرجه الترمذي في «الجهاد »، باب ما جاء في المجاهد والناكح والمكاتب: (1655)، والنسائي في «النكاح »، باب معونة الله الناكح الذي يريد العفاف: (3218)، وابن ماجه في «العتق »: (2518)، والحاكم: (2859)، وأحمد: (7368)، والبيهقي: (22231)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث حسَّنه البغوي في «شرح السُّنة » (5/6)، والألباني في «غاية المرام »: (210)، وصحَّحه أحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد »: (13/149).
3- أخرجه البخاري في «الإحصار وجزاء الصيد »، باب حج النساء: (1764)، ومسلم في «الحج »، باب فضل العمرة في رمضان: (3039)، وأبو داود في «المناسك »، باب في العمرة: (1990)، وابن خزيمة في «صحيحه »: (3077)، والحاكم في «المستدرك »: (1779)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
4- أخرجه ابن خزيمة في «صحيحه »: (2377)، والحاكم في «المستدرك »: (1624)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (10454)، من حديث أبي لاس الخزاعي رضي الله عنه، والحديث حسنه الألباني في «السلسلة الصحيحة »:(5/ 342).
5- أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف »: (26573).
6- «فتح القدير » للشوكاني: (2/416).(6/18)
الفتوى رقم: 726
في التفريق بين الفقير والمسكين والغارم وشرط الزكاة لهم عدم الاستعانة بها على المعصية
السؤال:
هل يوجد فرق بين الفقير والمسكين والغارم؟ وهل يجب أن يكونوا من أهل الصّلاح حتى تُعْطَى لهم الزكاة؟ وبارك الله في جهدكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فليس بين الفقير والمسكينِ فرقٌ من حيث الحاجةُ واستحقاقُ الزكاةِ، وإنما الفرق فيمن هو أشدّ حاجة لشدّة فاقته.
والظاهرُ أنّ الفقيرَ هو: المتعفّف الذي لا شيءَ له ولا يسألُ الناسَ شيئًا، والمسكينَ هو: الذي له بعضُ ما يكفيه ويسأل الناسَ ويطوفُ ويتبعهم، لذلك قدّم الفقراء على بقية المستحقّين في قوله تعالى: ?إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ? [التوبة: 60] الآية؛ لأنهم أحوج من غيرهم وأسوأُ حالاً، وقد تكون لهم موانعُ تحولُ دونَ تكسُّبِهم أو لا يَقدِرون على التكسّب لأسباب خاصّةٍ، بحيث يظنُّهم من لا يعرفهم مكفيّين ما يحتاجون إليه، قال تعالى: ?لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا? [البقرة: 273]، بينما المسكين الذي له شيء لكنه لا يكفيه ويسأل الناسَ ويطوف بهم، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« لَيْسَ المِسْكِينُ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ، تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَلَكِنَّ المِسْكِينَ الَّذِي لاَ يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، وَلاَ يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقْ عَلَيْهِ وَلاَ يَقُومُ فَيَسْأَلُ النَّاسَ »(1)، والحديث يبيّن الأَوْلى منه بالصدقة وهو من لا يسأل الناسَ ولا يُفطن له بالصدقة، ولا يجد ما يغنيه، أمّا المسكين فهو واجِدٌ ما يغنيه طالَمَا سألَ الناسَ وفطن له بالصدقة، ويؤيّده قوله تعالى: ?أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي البَحْرِ? [الكهف: 79]، فسمّاهم مساكينَ مع أنّ لهم سفينة يعملون فيها.
أمّا الغارمُ فهو: من تحمّل الدَّينَ وشقَّ عليه أداؤه، فقد يكون غنيًّا وقد يكون فقيرًا مسكينًا، ويجوز إعطاءُ الزكاة للفقيرِ والمسكينِ والغارِمِ وغيرهم إذا لم يُستَعَنْ بها على المعصية، كما يجوز إعطاءُ الزكاة لهم إذا كان فيه تأليفٌ لقلبهم. وأولويةُ الزكاةِ لأهل الصلاح مقدّمةٌ. قال شيخ الإسلام ابن تيمية:« ولا ينبغي أن يُعطيَ الزكاة لِمَن لا يستعين بها على طاعة الله، فإنّ الله تعالى فرضها معونةً على طاعته لِمَنْ يحتاجُ إليها من المؤمنين، كالفقراء والغارمين أو لمن يعاون المؤمنين، فمن لا يصلي من أهل الحاجات لا يُعطى شيئًا حتى يتوبَ، ويلتزمَ أداءَ الصلاةِ في وقتها »(2).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 2 جمادى الثانية 1428ه
الموافق ل: 17 جوان 2007م
__________
1- أخرجه البخاري في «الزكاة »، باب قول الله لا يسألون الناس إلحافا: (1409)، ومسلم في «الزكاة »، باب المسكين الذي لا يجد غنى ولا يفطن له: (2393)، وأبو داود في «الزكاة »، باب من يعطى من الصدقة وحد الغني (1631)، والنسائي في «الزكاة » باب تفسير المسكين: (2572)، وأحمد: (10191)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2- «اختيارات ابن تيمية » للبعلي : (103).(6/19)
الفتوى رقم: 820
في طريقة إخراج زكاة الحليّ
السؤال:
ما هي الكيفيةُ الصحيحةُ في إخراج زكاة الحُليِّ؟ وجزاكم اللهُ خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالمعلومُ مِنْ فِقه الزكاة -في الجملة- أنَّ المالَ يُخرَجُ من نفس الجِنس الواجب الزكاة فيه، إن كان متعاملاً فيه، إلاَّ ما استُثنِى منه كعروض التجارة ونحوها على خلاف، فإن كان حُليًّا مِنْ ذَهَبٍ، وبلغ نصابُه خمسةً وثمانين غرامًا (85غ) وَزْنًا من الذَّهب الخالص كحدٍّ أدنى، أو بلغ نصابُهُ من الفِضَّة خمسةً وتسعين وخمسمائة (595غ) فالواجب أن تزكي المرأة عليه وجوبًا على أظهر قَوْلَيِ العلماء، والأصلُ أن تُزكِّيَ من نفس جِنْسِ الحُليِّ المتعامل فيه، ولَمَّا كان الذهب والفِضَّة غيرَ مُتعامَل بهما وجب المصير إلى البديل عنهما وتقويمهما بالنقود، فإن كان لديها مال أدَّت زكاتها الواجبة، وإن أدَّى عنها زوجُها أو قريبُها صحَّت النيابةُ في العبادات والمعاملات وأجزأ عنها، فإن لم تجد سبيلاً إلاَّ بِبَيعِ جُزْءٍ منه بقدر الزَّكاة فإنَّه يلزمها ذلك وتخرج من عهدة الامتثال بأداء ما وجب عليها، ويتقرَّر وجوبُ إخراجِ الزَّكاة في كلِّ حَوْلٍ، وتستمرُّ في الإخراج عنه حتى يكون ما دون النِّصاب فيرتفع وجوب الزكاة عليه إلاَّ إذا أعدَّته للتجارة كعروض للتكسُّب فإنه يُقوَّم بالنقود، فإذا حَلَّ فيه النصاب وجبت الزكاةُ فيه، وإن لم يبلغ خمسة وثمانين غرامًا وهو المقدار المُقرَّر للذَّهَبِ.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 04 جمادى الثانية 1418ه
الموافق ل:06 أكتوبر 1997م(6/20)
الفتوى رقم: 821
في إخبار مُستحِقِّ الزكاة عنها
السؤال:
هل على الْمُزَكِّي إذا أَدَّى زكاة ماله لمستحقِّها أن يُعْلِمَهُ بأنها زكاةٌ أم يكتفي بتسليمها له؟ وشكرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فيُفَرَّقُ بين أهلِ الاستحقاقِ مِمَّن يَقْبَلُ منهم الزكاةَ ومَن يَرفُضُهَا؛ فإن كان المعروفُ من حال المستحِقِّ أخذَ الزكاةِ أو تَعَوَّدَ في قَبولها من غير رفضٍ ولا ردٍّ فإنَّه لا يَلزَمُ إعلامُهُ بها، بل ينبغي إخفاؤها عنه؛ لأنَّ في إخبار من جَرَتْ عادتُه بأخذها إظهارًا للمنِّ، وسبيلاً للإبطال، قال سبحانه وتعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى? [البقرة: 264]، بخلاف من ليست له عادةٌ بأخذها، أو لا يُعلم من حاله أنَّه يَقبل الزكاةَ أو جَرَتْ عادتُه برفض الزكاةِ وإبايته لها فإنَّ إعلامَه بها لازمٌ من باب تبصيره بحقيقتها ليأخذ من أمرها مَوقِفًا بالقَبول أو الردِّ.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 08 المحرَّم 1429ه
الموافق ل: 16/01/2008م(6/21)
الفتوى رقم: 839
في حكم صرف الزكاة لصنفين من المستحقِّين
السؤال:
إذا كانت قيمةُ الزكاة المخرجةِ كثيرةً، فهلِ الأفضل أن تُعْطَى كاملةً لمن يريد الحجَّ، أو تُقسم بين الفقراء والمساكين بحَسَب حاجتهم؟ أفتونا مأجورين.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فإن كان مقدارُ الزكاةِ الذي يخرجه المزكي كثيرًا فيستحبُّ له أن يَصرِفَ زكاتَه للأصناف المستحقِّين على وجه الاستيعاب إن وُجِدُوا، لكلِّ صِنفٍ حقٌّ من المجموع الحاصلِ في قوله تعالى: ?إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ? [التوبة: 60]، فإن تعذَّر عليه ذلك للمشقَّة الحاصلة، أو لقِلَّة مقدار الزكاة ونحو ذلك، فله أن يصرفها على صِنْفٍ أو صنفين، فإنه يجزيه ذلك مع مراعاة نوع المستحقِّين، إذ منهم من يأخذها لحاجته، ومن من يأخذها لنفعه، وليس الآخذ لها لقيام بدنه بأَوْلَى من المنتفِعِ بها لقيام دِينه؛ لأنَّ الحكمة من مشروعية الزكاة إنما تكمن -كما قال ابن القيم رحمه الله- في:« أنّ الشارع أوجب الزكاة مواساةً الفقراء، وطُهرةً للمال، وعبوديةً للرب، وتقرُّبًا إليه بإخراج محبوب العبد له وإيثارِ مرضاته »(1).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 29 المحرم 1429ه
الموافق ل: 06/02/2008م
__________
1- «إعلام الموقعين » لابن القيم: (2/109).(6/22)
الفتوى رقم: 855
في أولوية الناس استحقاقًا للزكاة
السؤال:
هل يجوز إعطاء الزكاة لرجلٍ فقيرٍ يستعين بها لأداء مناسك الحجِّ؟ ومَن هم أَوْلى الناس استحقاقًا للزكاة والصدقة؟ وجزاكم اللهُ خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فاعلم أنَّ أَوْلَى الناسِ بالصدقة قَرابةُ المتصدِّق، ولو كان منهم من يُضْمِرُ عداوتَهُ، ثمَّ معارفُه وجيرانُه، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الكَاشِحِ »(1)، والمرادُ بالكاشح هو العدوُّ الذي يُضمر عداوتَه ويطوي عليها كَشْحَهُ، أي: باطنه(2)، ولقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ »(3).
فإن كان من هؤلاء ممَّن لا يَقترنُ بهم الفَقرُ والمسكنةُ ولكنَّهم في عَجْزٍِ مُستمرٍّ على أداء حَجَّةِ الإسلام لعدم القُدرة المالية، فله أن يُسْعِفَهم بالزكاة كسبيلٍ لأداء ما فرضَ اللهُ عليهم.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 16 صفر 1429ه
الموافق ل: 23/02/2008م
__________
1- أخرجه الدارمي في «سننه »: (1631)، وأحمد في «مسنده »: (14896)، والطبراني في «المعجم الكبير »: (3/202)، من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه، والحديث حسنه الهيثمي في «مجمع الزوائد »:
(3/296)، وصحَّحه الألباني في «الإرواء »: (892).
2- «النهاية » لابن الأثير: (4/175).
3- أخرجه البخاري في «الأدب »، باب الوصاة بالجار: (5668)، ومسلم في «الأدب »، باب الوصية بالجار والإحسان إليه: (6685)، وأبو داود في «الأدب »، باب في حق الجوار: (5151)، والترمذي في «البر
والصلة »، باب ما جاء في حق الجوار: (1942)، وابن ماجه في «الأدب »، باب حق الجوار: (3673)، وأحمد في «مسنده »: (23739)، من حديث عائشة رضي الله عنها.(6/23)
الفتوى رقم: 912
في إخراج الزكاة خطأ لغير أهل الاستحقاق
السؤال:
هل تسقط الزكاة على من أخطأ في دفعها، فأعطاها إلى غير المستحقِّين لها؟ وخاصَّة إذا كان إخراجها بناءً على فتوى بعض أئمَّة المساجد؟ فيُرجى التوضيح والتفصيل إن أمكن وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالواجبُ على المسلم التثبُّت من دفع الزكاة، فلو دفع زكاته لمن يظنُّه مُستحِقًّا لها فأعطاها خطأ وهو لا يعلم بحقيقة أمره، اكتفاءً بظاهر حاله، أو بتوجيهٍ ممَّن يعرف حالَه، فبان غيرَ مستحِقٍّ لها؛ فإنَّ الزكاة تسقُط عنه، لحديث مَعْنٍ بنِ يزيد رضي الله عنه قال: «بَايَعْتُ رسولَ الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم أنا وأبي وجدِّي، وخطب عليَّ فأنكحني وخاصمت إليه، وكان أبي يزيد أخرج دنانير يتصدَّق بها، فوضعها عند رجلٍ في المسجد، فجئت فأخذتها فأتيته بها، فقال: والله ما إياك أردت، فخاصمته إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، فقال: لَكَ مَا نَوَيْتَ يَا يَزِيدُ، وَلَكَ مَا أَخَذْتَ يَا مَعْنُ»(1)، وبوَّب له البخاري: «باب إذا تصدّق على ابنه وهو لا يشعر»(2)، ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قال: «قَالَ رَجُلٌ: لأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَةٍ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ سَارِقٍ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ عَلَى سَارِقٍ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ، لأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَةٍ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ زَانِيَةٍ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ: تُصُدِّقَ اللَّيْلَةَ عَلَى زَانِيَةٍ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ، لأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ، فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدَيْ غَنِيٍّ، فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ: تُصُدِّقَ عَلَى غَنِيٍّ، اللَّهمَّ لَكَ الحَمْدُ عَلَى سَارِقٍ وَعَلَى زَانِيَةٍ وَعَلَى غَنِيٍّ، فَأُتِيَ فَقِيلَ لَهُ: أَمَّا صَدَقَتُكَ عَلَى سَارِقٍ فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعِفَّ عَنْ سَرِقَتِِهِ، وَأَمَّا الزَّانِيَةُ فَلَعَلَّهَا أَنْ تَسْتَعِفَّ عَنْ زِنَاهَا، وَأَمَّا الغَنِيُّ فَلَعَلَّهُ أَنْ يَعْتَبِرَ، فَيُنْفِقُ مِمَّا أَعْطَاهُ اللهُ»(3)، والحديث بوَّب له البخاريُّ: «باب إذا تصدق على غني وهو لا يعلم»(4)، أي: فصدقته مقبولة(5).
هذا، ويلحقُ الحكمُ -أيضًا- بما أفتاه له المفتي من صِحة إخراج الزكاة لبعض الأصناف فأخرجها بناءً على الفتوى، ثمَّ تبيَّن له خطؤُها فإنه تسقط عنه الزكاة، ولا يُطالَب بإعادةِ إخراجها، اكتفاءً بغلبةِ الظنِّ، وله ما نوى، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى»(6)، وهذا بخلاف العالمِ بعدمِ أهلية السائل فلا تسقط عنه، ولا يخرج من عهدة الامتثال إلاَّ بإخراجها لأهلها، لما أخرجه أبو داود وغيره: «أَنَّ رَجُلَيْنِ أَتَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ وَهُوَ يُقَسِّمُ الصَّدَقَةَ فَسَأَلاَهُ مِنْهَا، فَرَفَعَ فِينَا النَّظَر وَخَفَضَهُ فَرَآنَا جَلْدَيْنِ(7)، فَقَالَ: إِنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا وَلاَ حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلاَ لِقَوٍّي مُكْتَسِبْ»(8).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 16 جمادى الأولى 1429ه
الموافق ل: 21/05/2008م
__________
1- أخرجه البخاري في «صحيحه» كتاب الزكاة، باب إذا تصدق على ابنه وهو لا يشعر: (1356)، والدارمي في «سننه»: (1595)، وأحمد في «مسنده»: (15433)، من حديث معن بن يزيد رضي الله عنه.
2- «صحيح البخاري بشرح فتح الباري»: (3/291).
3- أخرجه البخاري في «صحيحه» كتاب الزكاة، باب إذا تصدق على غني وهو لا يعلم: (1355)، ومسلم في «صحيحه» كتاب الزكاة، باب ثبوت أجر المتصدق وإن وقعت الصدقة في يد فاسق ونحوه: (2362)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
4- «صحيح البخاري بشرح فتح الباري»: (3/290).
5- «فتح الباري» لابن حجر: (3/290).
6- أخرجه البخاري في «صحيحه» كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله: (1)، ومسلم في «صحيحه» كتاب الإمارة، باب قوله إنما الأعمال بالنية: (4927)، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
7- الجَلَد: القوة والصبر. [«النهاية» لابن الأثير: (1/284)].
8- أخرجه أبو داود في «سننه» كتاب الزكاة، باب من يعطى من الصدقة وحد الغني: (1633)، والنسائي في «سننه»، كتاب الزكاة، باب مسألة القوي المكتسب: (2598)، وأحمد في «مسنده»: (17511)، والبيهقي في «السنن الكبرى»: (13436)، من حديث عبد الله بن عدي بن الخيار أن رجلين أخبراه. قال صاحب "التنقيح": حديث صحيح، ورواته ثقات، قال الإمام أحمد رضي الله عنه: «ما أجوده من حديث هو أحسنها إسنادا» انظر: نصب الراية للزيلعي: (2/401)، والحديث صححه الألباني في «الإرواء»: (3/381).(6/24)
الفتوى رقم: 989
في حكم زكاة العجول المراد بيعها
السؤال:
نملك عشر بقرات، ونبيع في السنة عجلين أو ثلاثًا، فهل في هذه الأبقار زكاة؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فكلُّ ما يُعرض للبيع يدخلُ في عمومِ الأموالِ التجاريةِ التي تجب الزكاةُ فيها وهو مذهب الجمهور، لقوله تعالى: ?وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ? [الذاريات: 19]، ولقوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ? [البقرة: 267]، ولقولِ ابنِ عمرَ رضي الله عنهما: «ما كان من مالٍ في رقيقٍ أو في دوابٍّ أو في بَزٍّ للتجارة، فإنَّ الزكاة في كلِّ عامٍ»(1)، وعنه رضي الله عنه قال: «ليس في شيءٍ من العروض زكاة إلاَّ للتجارة»(2).
وعليه، فإن بلغت العُجُولُ المراد بيعُها في أثناءِ الحولِ قيمةَ الزكاةِ المفروضةِ وحالَ عليها الحولُ قوَّمَها وأخرجَ زكاتها من قيمتِها لا من عينِها.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 10 ربيع الأول 1430ه
الموافق ل: 07 مارس 2009م
__________
1- أخرجه عبد الرزاق في «المصنف»: (4/77) رقم (7133)، والأثر صححه زكريا بن غلام قادر في «ما صح من آثار الصحابة في الفقه»: (2/603).
2- أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف»: (3/183)، والأثر صححه الألباني في «تمام المنة»: (1/364)، وزكريا بن غلام قادر في «ما صح من آثار الصحابة في الفقه»: (2/603).(6/25)
الفتوى رقم: 990
في حكم صرف الزكاة على ابنته المتزوجة
السؤال:
أنا امرأة متزوجة ولي أولادٌ، ووالدهم محدود الدخل لا يقدر على الإنفاق عليهم وتوفيرِ ما يحتاجونه من المطعم والملبس ونحو ذلك، فهل يجوز لي أن أَقْبل الزكاة من والدي الغني؟ لأنه قيل لي إن والدَك يجب عليه أن ينفقَ عليك لا أن يُعطيك الزكاة؟ فأرشدني -حفظكم الله- إلى الجوابِ الذي أهتدي به في هذه المسألةِ. وجزاكم الله خيرا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالأصل المتقرر -فقهًا- أنّ كلّ قريبٍ سواء من جهة الأصول كالآباءِ أو الأمهاتِ وإن عَلوا، أو من جهة الفروع كالأولادِ وإن نزلوا ممن يكون المزكي هو المسئولُ عنهم في الإنفاق، لا يجوزُ له أن يدفعَ إليهم زكاتَه من أجل النفقة، وإن كانوا فقراء، لأنهم أغنياء بغناه، ودفعُ الزكاة إليهم مجلبة للمزكي وتحصيلُ النفع بتوفير ماله، لذلك لا تجتمع زكاةٌ ونفقةٌ.
ومعيارُ النفقة الواجبةِ تتلخص في: أنّ كلّ من يرثه المزكي لو افترِض موته، فإنه تلزمه نفقته إذا تولى أمره، أمّا إذا استقلَّ بنفقتِه على نفسِه، أو تولّى مسئوليةَ الإنفاق عليه إلا أنّه عاجزٌ عن النفقةِ عليه، أو صرف الزكاةَ إليه من غير باب النفقة، كسهم «الغارمين» أو «في سبيل الله» أو «ابن السبيل» فإنّ هذه الأحوالَ تخوِّل له -شرعًا- صرفهَا إليهم، ودفعها إلى أقربائه أولى ولو كان هو المسئول عنهم في الإنفاق. لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: « الصَّدَقَةُ على المسْكِينِ صَدَقَةٌ وهِيَ على ذِي الرَّحِمِ ثِنْتَانِ: صدَقَةٌ وصِلَةٌ»(1).
ولا يخفى أنّ المسئول عن المرأة المتزوجة في الإنفاق -كما في السؤال- إنما هو زوجها لقوله تعالى: ?وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ? [البقرة: 233] وقوله تعالى: ? لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا? [الطلاق: 7]، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «وَلهنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالمعْرُوفِ»(2).
فإن كان الزوجُ صاحبُ الدخلِ المحدودِ لا يسعُه المالُ للإنفاق، ولا يكفيه راتبُه للقيام بمصارفه ومصارف عياله، فإنّ أبَ الزوجةِ الغني إنْ أعطى زكاته للزوج تمكينًا له للقيامِ بما يلزمُه من النفقة على عِياله كانَ حسنًا.
أمّا إنْ صرفَها الأبُ على ابنته فإنها تصح بالأحروية: صدقةً وصلةً -كما تقدَّم في الحديث- لعدمِ وجوب النفقة عليه، وقد روى ابن خزيمةَ في «صحيحه» بإسنادِه حديثَ عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه: أنّ رجلا تصدّق على ولده بأرضٍ فردَّها إليه الميراث، فذُكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له: «وَجَبَ أَجْرُكَ وَرَجَعَ إِلَيْكَ مُلْكُكَ»(3).
هذا، ولوالدِ الزوجةِ إن رأى عدمَ كفايةِ الزكاةِ المصروفةِ إليها، وأرادَ أن يُكرمها بعطيةٍ زائدةٍ عن الزكاة لسدِّ مزيدِ حاجتها، فيجوز له ذلك، ويدخلُ فعله في باب الهبةِ والعطية، ولا يُشترط عليه فيها العدلُ بين أولاده لقيام سلطانِ الحاجة فيها دونهم، وهم أغنياءُ بغناه إن كانوا تحت مسئوليتِه في الإنفاق.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 26 المحرم 1430ه
الموافق ل: 22 جانفي 2009م
__________
1- أخرجه الترمذي كتاب «الزكاة»، باب ما جاء في الصدقة على ذي القرابة: (658)، والنسائي كتاب «الزكاة»، باب الصدقة على الأقارب: (2582)، وأحمد: (15794)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث حسّنه الألباني في «الإرواء»: (3/387).
2- جزء من حديث جابر رضي الله عنه في صفة حجة النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أخرجه مسلم كتاب «الحج»: (2950).
3- أخرجه ابن خزيمة كتاب «الزكاة»، باب صدقة المرء على ولده: (2465)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه. والحديث حسّنه الألباني في «صحيح ابن خزيمة»: (2465).(6/26)
****************** 07- فتاوى الصيام ******************
01- أحكام الصيام
الفتوى رقم: 78
في حكم صيام من علمت أنّها تطهر من حيضها بعد الفجر
السؤال: الحائض إذا علمت بأنّها طاهر في الصباح هل تصوم ذلك اليوم وتقضيه لأنّها لم تبيت النية من الليل أم أنّ صيامها صحيح؟ وجزاكم الله خيرا.
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فالحائض إذا طهرت قبل الفجر أو علمت أنّها تطهر بعده في أول نهار رمضان ولم تكن مفطرة صح صيامها ولا قضاء عليها، لأنّ تبييت النية من الليل-في الحالة الثانية- غير مقدور عليه، وقيل: هذه الصورة مخصصة من حديث حفصة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له »(1)، فالخبر فيه دليل على وجوب تبييت النية وإيقاعها في جزء من أجزاء الليل غير أنّه محمول لمن دخل ذلك تحت قدرته، إذ لا تكليف إلاّ بمقدور ويستثنى من ذلك كل من لم يدخل تحت القدرة فظهر له وجوب الصيام عليه من النهار، كالصبي يحتلم والمجنون يفيق والكافر يسلم، وكمن انكشف له النهار أنّ ذلك اليوم من رمضان عملا بحديث سلمة بن الأكوع والربيع بنت معوّذ عند الشيخين أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمر رجلا من أسلم أن أذن في الناس:«من أكل فليصم بقية يومه، ومن لم يأكل فلا يأكل »(2).
والعلم عند الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
__________
1- أخرجه أبو داود في الصوم(2456)، والترمذي في الصوم(734)، والنسائي في الصيام(2345)، وأحمد(27214)، والدارقطني في سننه(2239)، والبيهقي(8161)، من حديث حفصة رضي الله عنها. وصححه الألباني في صحيح الجامع (6538)، وفي المشكاة(1987).
2- أخرجه البخاري في الصوم (1924) و(1960)، ومسلم في الصيام (2724)، من حديث سلمة بن الأكوع، والربيع بنت معوذ، رضي الله عنهم(7/1)
الفتوى رقم: 162
في إكمال عدّة شعبان إذا لم يعلم حلوله برؤية أو إخبار
السؤال: أفطرَ شابٌّ فطورَ الصباح وأثناءَ الأكلِ أخبرتْهُ والدُتُه أنّه يومُ شكٍّ فأكمَلَ فُطُورَهُ، وقال في نفسه: إِنْ كانتْ إحدَى الدولِ الأخَرى صائمةً فسأُمْسِكُ وإلاّ أكملتُ عَلَى ما أنا عليه من إفطاري. ما حُكْمُه؟ وماذا يترتّب عليه؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فإنّه يجب على مَن لَمْ يَرَ الهلالَ ولا أخبره مَن شاهده أن يُكمِل عِدَّةَ شعبانَ ثلاثينَ يومًا ثُمَّ يصومَ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمِّيَ عَلَيْكُمُ الشَّهْرُ فَعُدُّوا ثَلاَثِينَ »(1)، ولا يَحِلُّ له أن يصومَ يوم الثلاثينَ من شعبانَ لأنّه يومُ الشَّكِّ، وقد وردَ النهيُ عن صيامِ يومِ الشَّكِّ في حديثِ عمّارِ بنِ ياسرٍ رضي الله عنه:« مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِ فَقَدْ عَصَى أَبَا القَاسمِ »(2)، غيرَ أنّه ينبغي أن يتحرَّى في أمر صيامه قدرَ الاستطاعةِ وبالوسائل المتوفرة ليطيعَ اللهَ بحقٍّ وعلى بَيِّنَةٍ، ويُبَيِّتُ النية من الليلِ إذا عَلِمَ بحلولِ رمضانَ من يومِ غدٍ برؤيةِ هلالٍ.
هذا، وإن كان القول بتوحيد الرؤية يوجب التوافق بين أحكام الشرع وأوضاع الكون، ويتفق مع رغبة الشريعة في وحدة المسلمين واجتماعهم في أداء شعائرهم الدينية وإبعادهم عن كلّ ما يفرق جمعهم، إلاّ أنّ الميزان المقاصدي يقتضي أنّه إذا ثبت عند ولي المسلمين أحد النظرين إمّا توحيد المطالع أو اختلافها، وأصدر حكما على وفقه لزم على جميع من تحت ولايته الالتزام بصوم أو إفطار لاعتقاده بأحقيته في اجتهاده ولو في خصوص بلد إسلامي، إذ العبرة في العبادات الجماعية مع الجماعة وإمامهم درءا للفرقة، قولا واحدا سواء عند من اعتبر المطالع في ثبوت الأهلة أو من نازعه في هذا الاعتبار لقوله صلى الله عليه وسلم:"الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون"(3).
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 24 شعبان 1416ه
الموافق ل: 15 جانفي 1996م
__________
1- أخرجه البخاري في «الصوم » (1909)، ومسلم في «الصيام » (2568)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2- أخرجه البخاري تعليقًا بصيغة الجزم، باب قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:« إذا رأيتم الهلال فصوموا.. »، وأبو داود في «الصوم » (2336)، والترمذي في «الصوم » (689)، والنسائي في «الصيام » (2200)، وابن ماجه في «الصيام » (1714)، والدارقطني في «سننه » (2147)، من حديث عمّار بن يسار رضي الله عنه. وانظر الإرواء للألباني (4/126)، وللشيخ أبي عبد المعز رسالة في مباحث هذا الحديث، ضمن «سلسلة فقه أحاديث الصيام »، العدد الثاني.
3- أخرجه الترمذي في الصوم(701)، وابن ماجة في الصيام(1729)، والدارقطني في سننه(2206)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة:(1/45)، والأرناؤوط في تحقيقه لشرح السنة للبغوي(6/248).(7/2)
الفتوى رقم: 293
في وجوب الصوم والإفطار مع الجماعة
السؤال: قام بعض النّاس بالإفطار قبل الأذان بحجة أنّ الأذان لا يرفع في الوقت الشرعي، فهل هذا الفعل جائز؟
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فيفرّق ما بين صوم رمضان وهو الصوم الجماعي وغيره من الصوم الواجب في غير الجماعة والمستحبّ التطوعي الفردي، أمّا الصيام المفروض الذي يكون جماعة فينبغي عليه أن يصوم ويفطر مع جماعة النّاس وإمامهم لحديث عائشة رضي الله عنها:« الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون والأضحى يوم تضحون »(1) فصرّح بوجوب أن يكون الصوم والإفطار والأضحية مع الجماعة وعظم النّاس، سواء في ثبوت رمضان أو العيد أو في غروب الشمس أو طلوع الفجر فيجب على الآحاد اتباع الإمام والجماعة فيها ولا يجوز لهم التفرد فيها جمعا للأمة وتوحيدا لصفوفها وإبعادا للآراء الفردية المفرقة لها فإن يد الله مع الجماعة، أمّا صيام الواجب والتطوّع الفردي فيوكل كلّ بحسب دخول وقت المغرب أو وقت طلوع الفجر عملا بقوله تعالى: ?وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْر? [البقرة:187] ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم »(2) وفي ذلك أحاديث أخرى.
والعلم عند الله وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
__________
1- أخرجه الترمذي في الصوم (701)، والدارقطني (2205)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الألباني في إرواء الغليل (905).
2- أخرجه البخاري في الصوم (1954)، ومسلم في الصيام (2612)، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه).(7/3)
الفتوى رقم: 314
في حكم صوم تارك الصلاة
السؤال: هل صيام تارك الصلاة جائز صحيح؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وآله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أما بعد:
فلا خلاف بين أهل العلم في عدم صحة صيام من ترك الصلاة منكرًا بفرضيتها جاحدًا بوجوبها، لأنه كافر كفرًا مخرجًا من الملة قولاً واحدًا، وأعمال الكفار تقع باطلة لأنَّ صحة العمل مشروط بالإيمان وهو -في هذه الحال- منتفٍ عنه، قال تعالى: ?وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً? [الفرقان: 23] وقال تعالى: ?وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ?[النور: 39]، وقال تعالى: ?مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ? [إبراهيم: 18]
أمَّا تارك الصلاة عمدًا وكسلاً وتهاونًا مع الإقرار بفرضيتها فحكمه مختلف فيه بين أهل العلم بين مكفر له لورود نصوص شرعية تقضي بذلك وبه قال الإمام أحمد وغيره، وغير مكفر لتاركه لوجود أدلة أخرى مانعة من تكفيره وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وغيرهم، وتخريج هذه المسألة مردها إلى حكم تكفيره، فمن كفر تارك الصلاة عمدًا وتهاونًا ألحقه بالمنكر لفرضيتها فلم يعتد بصيامه وسائر أعماله -كما تقدم- لانتفاء شرط الإيمان الذي يتوقف عليه عمله وصيامه، ومن لم يكفره عَدَّه مؤمنا عاصيًا، ولم يخرجه من دائرة الإيمان، وبناء عليه تصح أعماله وصيامه لوجود الإيمان المشروط في الأعمال والعبادات.
والراجح من القولين هو التفصيل، ووجهه أن من ترك الصلاة كلية ويموت على هذا الإصرار والترك فلا يكون مؤمنًا ولا يصح منه صوم ولا عمل وهو المعبر عنه بالترك المطلق، أما من يصلي ويترك فهذا غير محافظ عليها وليس بكافر، بل مسلم يدخل تحت المشيئة والوعيد ويصح صومه وهو المعبر عنه بمطلق الترك ويؤيده قوله صلى الله عليه وآله وسلم:« خمس صلوات كتبهن الله على العباد في اليوم والليلة، فمن حافظ عليها كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يحافظ عليهن لم يكن له عند الله عهد، إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة"(1)، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« إنَّ أول ما يحاسب به العبد صلاته، فإن أتمها، وإلاَّ نظر هل له من تطوع، فإن كان له تطوع أكملت الفريضة من تطوعه"(2) وهذا التفصيل من اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية(3) رحمه الله-.
و العلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
الجزائر في: 16 ذي القعدة 1426ه
الموافقل: 18 ديسمبر 2005م
__________
1- رواه أبو داود في الوتر (1422)، والنسائي في الصلاة (465)، وأحمد (23361) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب:(1/370)، وفي صحيح الجامع: (3243).
2- رواه الترمذي في الصلاة (415)، والنسائي في الصلاة (469) وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة (1491) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الألباني في صحيح الجامع (2020).
3- مجموع الفتاوى لابن تيمية: (7/ 614، 615، 616)، ( 22 / 49).(7/4)
الفتوى رقم: 391
في حكم صوم المستمتع بالأجنبية في رمضان من غير جماع
السؤال: شاب في ريعان شبابه وهداه الله للطريق المستقيم، يسأل عن ما يكفِّر عن بعض ذنوبه السابقات وخصوصا عن الصيام، يقول بأنه كانت له خليلة وفي أحد أيام شهر رمضان اختلى بها وفعل معها بعض الفعال غير أنه لم يجامعها (عالما بحرمة ماسبق)، فيسأل عن ما يترتب عن ذلك من أحكام شرعية. بارك الله فيكم ،والسلام عليكم.
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فلا يخفى أنَّ حرمة شهر رمضان عظيمة، وانتهاك الحرمة فيه له كبير الذنب والإثم لعظمة الشهر، ومن حرمات هذا الشهر تجنب الرفث وقول الزور وغيرها من القبائح، والوقوع فيها -من حيث أثره- يتجلى في أمرين:
الأول: الإثم الذي يجب على فاعله أن يتوب عنه فورًا، ويستكثر من الحسنات لقوله تعالى: ?إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ?[هود: 114]، ولقوله تعالى: ?إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً?[الفرقان: 70]، ومن كان صادقا في توبته ويقلع عن ذنبه يجد الله غفورًا رحيمًا.
الثاني: فساد صومه بالجماع سواء كان مباحًا أو محرمًا، ويترتب عليه ذلك اليوم مع كفارة شهرين متتابعين، أمّا من لم يصل إلى الجماع المحرم وذلك بعدم إيلاج فرج مشتهى طبعًا محرم شرعًا، فإنه على أرجح قولي أهل العلم أنَّ المعاصي لاتبطل الصوم إنما تنقص كماله غير أنه إذا كانت هذه الخلوة بالأجنبية ومداعبتها سببا في إنزال المني، فإنه يقضي ذلك اليوم على أحد الوجهين لأهل العلم، ولا تترتب عليه الكفارة.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 7 صفر 1427ه
الموافق لـ: 8مارس 2006م(7/5)
الفتوى رقم: 470
في حكم إفطار الحامل والمرضع
السؤال: هل على الحامل والمرضع إذا أفطرتا في رمضان القضاء أم الفدية ؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فلا قضاءَ على الحامل والمرضع إذا لم تُطِيقَا الصومَ، أو خافتَا على أنفسهما أو ولديهما وإنما يشرع في حقِّهما الفدية بإطعام مكان كلّ يوم مسكينًا إذا أفطرتا لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« إِنَّ اللهَ وَضَعَ عَنِ المُسَافِرِ شَطْرَ الصَّلاَةِ، وَالصَّوْمَ عَنِ المُسَافِرِ وَعَنِ المُرْضِعِ وَالحُبْلَى »(1) فثبت القضاء على المسافر في قوله تعالى: ?وَمَن كَانَ مِنكُم مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ? [البقرة: 185]، وثبت الطعام للشيخ الكبير والعجوز، والحبلى والمرضع لقوله تعالى: ?وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةُ طَعَامِ مِسْكِينٍ? [البقرة: 184]، والحكم على الحامل والمرضع بالإفطار مع لزوم الفدية وانتفاء القضاء هو أرجح المذاهب، وبه قال ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم وغيرهما، فقد صحّ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال:« إذا خافت الحاملُ على نفسها والمرضعُ على ولدِها في رمضان قال: يفطران، ويطعمان مكان كلّ يوم مسكينًا ولا يقضيان »(2)، وعنه أيضًا:« أنه رأى أمّ ولد له حاملاً أو مرضعًا فقال: أنت بِمَنْزلة من لا يطيق، عليك أن تطعمي مكان كلّ يوم مسكينًا، ولا قضاء عليك »(3)، وروى الدارقطني عن ابن عمر رضي الله عنهما:« أنّ امرأته سألته - وهي حبلى - فقال: أفطري، وأطعمي عن كلّ يوم مسكينًا، ولا تقضي »(4).
ولأنّ قول ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم انتشر بين الصحابة ولم يعلم لهما مخالف من الصحابة فهو حجّة وإجماع عند جماهير العلماء، وهو المعروف عند الأصوليين بالإجماع السكوتي(5)، ولأنّ تفسير ابن عباس رضي الله عنهما تعلق بسبب نزول الآية والمقرر في علوم الحديث أن تفسير الصحابي الذي له تعلق بسبب النزول له حكم الرفع(6)، وما كان كذلك يترجح على بقية الأقوال الأخرى المبنية على الرأي والقياس.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين. وصلى الله على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.
تنبيه:
1 - المرضعة في زمن النفاس تقضي ولا تفدي لأن النفاس مانع من الصوم بخلاف زمن الطهر.
2 - وإذا أرضعت بالقارورة فيجب عليها الصوم أيضًا لأنها مرضعة مجازًا لا حقيقةً.
3 - توجد على الموقع فتوى أخرى مماثلة يمكن الاستفادة منها بعنوان "في ترخيص الفطر على المرضع مع وجوب الفدية" (اضغط هنا).
الجزائر في: 10 رمضان 1427ه
الموافق ل: 3 أكتوبر 2006م
__________
1- أخرجه أبو داود في الصوم (2408)، والترمذي في الصوم (715)، والنسائي في الصيام (2275)، وابن ماجه في الصيام (1667)، وابن خزيمة (2042)، وأحمد (19841)، والبيهقي (8172)، من حديث أنس بن مالك الكعبي القشيري رضي الله عنه، وهو غير أنس بن مالك رضي الله عنه. والحديث حسنه الترمذي، وصححه الألباني في صحيح أبي داود: (2/71)، والوادعي في "الصحيح المسند" (74)، والأرناؤوط في «جامع الأصول » (6/410).
2- أخرجه الطبري في تفسيره (2758)، وقال الألباني في "الإرواء" (4/19):" وإسناده صحيح على شرط مسلم".
3- أخرجه أبو داود (2318). والطبري في «تفسيره »: (2/136)، والدارقطني في «سننه »: (2/206)، وقال:« إسناد صحيح »،.قال الألباني: إسناده صحيح على شرط مسلم، انظر الإرواء (4/19).
4- أخرجه الدارقطني في «سننه »: (2/207). قال الألباني في «الإرواء »: (4/20):« وإسناده جيد ».
5- انظر إعلام الموقعين لابن القيم: (4/120)، المسودة لآل تيمية: (335).
6- انظر مقدمة ابن الصلاح: (24)، تدريب الراوي للسيوطي: (1/157)، توضيح الأفكار للصنعاني: (1/280)، أضواء البيان للشنقيطي: (1/144).(7/6)
الفتوى رقم: 500
في حكم من انتقل إلى بلد بنقصان صيام أو زيادة
السؤال: ما حكم من صام اليوم الأول من رمضان في بلده وهو في اليوم الثاني في البلد الذي انتقل إليه، وقد يصوم أهل ذلك البلد تسعةً وعشرين يومًا (29 يومًا) في حين أنه لم يصم من العدد سوى ثمانية وعشرين يومًا (28 يومًا)، فهل يكمل صومه في اليوم الذي يفطر فيه أهل البلد المتواجد معهم أم أنه يفطر معهم ثم يقضي ما بقي، وما حكم من حدث له العكس بحيث أنه صام في بلده يومًا قبل البلد الذي انتقل إليه، فماذا يفعل إن صام البلد ثلاثين يومًا (30 يومًا)؟ فهل يصوم واحدًا وثلاثين يومًا (31 يومًا)؟ أفيدونا جزاكم الله خيرًا.
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فالأصل أن المسلم يصوم ويفطر مع الجماعة وعِظَمِ الناس وإمامهم حيثما تواجد، سواء مع أهل بلده أو مع بلدِ غيره لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ، وَالفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ، وَالأَضْحَى يَوْمَ تُضَحُّونَ »(1)، وهذا المعنى من وجوب الصوم والفطر مع الجماعة في الحديث احتجّت به عائشة رضي الله عنها على مسروق حين امتنع من صيام يوم عرفة خشية أن يكون يوم النحر، حيث قال:« دَخلتُ على عائشةَ رضي الله عنها يوم عرفة، فقالت: اسقوا مسروقًا سويقًا، وأكثروا حلواه، قال: فقلت: إني لم يمنعني أن أصوم اليوم إلاّ أني خفت أن يكون يوم النحر، فقالت عائشة رضي الله عنها: النَّحْرُ يَوْمَ يَنْحَرُ النَّاسُ، وَالفِطْرُ يَوْمَ يُفْطِرُ النَّاسُ »(2)، ومنه يفهم أنه في العبادة الجماعية كالصوم والإفطار والأضحية والتعييد ونحوها لا عبرة فيها للآحاد، وليس لهم التفرّد فيها، ولا أن يتبعوا الجماعة غير الجماعة التي يتواجدون بينهم، بل الأمر فيها إلى الإمام والجماعة التي وجد معهم صومًا وإفطارًا. وإذا كان حكمهم يلزمه، فإن أفطر لأقلَّ من تسعةٍ وعشرين يومًا مع البلد الذي انتقل إليه وجب أن يقضي بعده ما نقص من صومه، لأن الشهر القمري لا ينقص عن تسعة وعشرين يومًا ولا يزيد عن ثلاثين يومًا لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لاَ نَكْتُبُ وَلاَ نَحْسُبُ الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا »(3) هذا وكذلك إذا أكمل صيام ثلاثين يومًا ثمّ انتقل إلى بلد بقي على أهله صيامُ يوم أو أكثر وجب عليه موافقتهم في صومهم، وما زاده من الشهر كان له نفلاً كما يوافقهم في فطرهم والتعييد معهم تحقيقًا لرغبة الشريعة في وحدة المسلمين واجتماعهم في أداء شعائرهم الدينية وإبعادهم عن كلّ ما يفرق صفّهم ويشتّت شملهم، فإنّ يد الله مع الجماعة.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليمًا.
الجزائر في 11 رمضان 1427ه
الموافق ل 4 أكتوبر 2006م
__________
1- أخرجه أبو داود في الصيام (2324)، والترمذي في الصوم (697)، وابن ماجه في الصيام (1660)، وعبد الرزاق في المصنف (7304)، والدارقطني (35)، والبيهقي (6378)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وصححه ابن كثير في "إرشاد الفقيه" (1/280)، وحسنه الألباني في "الإرواء" (4/13)
2- أخرجه البيهقي (8301)، وجود الألباني سنده في "السلسلة الصحيحة" (1/1/442).
3- متفق عليه: أخرجه البخاري في الصيام (1814)، ومسلم في الصيام (1080)، وأبو داود في الصوم (2319)، والنسائي في الصيام (2140)، وأحمد (4997)، والبيهقي (8292)، والبغوي في شرح السنّة (6/228)، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.(7/7)
الفتوى رقم: 605
في حكم إطعام الكافر في نهار شهر رمضان
السؤال: ما حكم تقديم الأكل إلى الكفار في شهر رمضان؟
الجواب: الحمدُ لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فالأصلُ أنَّ الكفار مخاطبون بالإيمان إجماعًا وبفروع الشريعة على الأصحِّ من أقوال أهلِ العلم، ومن فروع الشريعة: الصيام، وحكمه: وجوب الصيام على الكافر بعد تحقيق شرط الإيمان، أي: أنّ الكافر مُطَالَبٌ بالصيام باعتباره فرعًا من فروع الشريعة لكن مع تحصيل شرطها الذي هو الإيمان، وعليه فكما لا يجوز التعاون على إطعام العاصي من المسلمين من غير عُذْرٍ فكذلك الكافر، لوجوب الإيمان والصيام عليه، لقوله تعالى: ?وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِّرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ? [المائدة: 2].
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 8 محرم 1428ه
الموافق ل: 27 يناير 2007م(7/8)
الفتوى رقم: 738
في حكم بيع المأكولات في بلاد الكفر أثناء شهر رمضان
السؤال:
أعمل تاجرا في بلاد الكفر في محل لبيع الأكل الخفيف، فهل يجوز لي أن أبيع هذه المأكولات في أيام رمضان بعد صلاة العصر؟ مع العلم أنّ الزبائن منهم كفار، ومنهم مسلمون، وجزاكم الله خيرا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فلا يجوز التعاون مع من يلزمه صيام شهر رمضان أصالة كالمسلمين أو بعد تحقق شرط الإسلام كالكفار في انتهاك شهر رمضان بالأكل، لأنه تعاون على الإثم والعدوان لقوله سبحانه وتعالى: ?وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ? [المائدة:2] ذلك لأن الكفار على الصحيح مخاطبون بفروع الشريعة إذا ماتوا على الكفر من جهة ترتب العقاب على عدم أدائهم لفروع الشريعة ومنها الصيام أما وحال كفرهم إنما يخاطبون بها بعد تحقق شرط الإسلام. ويمكنك مراجعة فتوى أخرى في نفس المضمون تحت عنوان :" في حكم إطعام الكافر في نهار شهر مضان"
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.(7/9)
الفتوى رقم: 853
في حكم ترك الصيام جهلاً
السؤال:
أفطرت امرأةٌ يومًا أو يومين من رمضان بعد انقطاع الحيض للسنوات الأربع الأُولى من بلوغها سِنّ المحيض، وذلك جهلاً منها بحكم الشرع، فهل يترتَّب عليها إثمٌ؟ وهل يلزمها القضاء؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فإذا لم تتمكَّن من تحصيل العلم بالحكم الشرعي أولم تقدر على تعلُّمه ومعرفته، فإنَّ الجهلُ بالحكم يُعذر به صاحبه إذ «لاَ يَثْبُتُ حُكْمُ الخِطَابِ إِلاَّ بَعْدَ البَلاَغِ »، و«لاَ يَقُومُ التَّكْلِيفُ مَعَ الجَهْلِ ».
وعليه، فإنَّها غير مؤاخذة بإثم؛ لأنّ الإثم مرتَّبٌ على المقاصد والنِّيات، والجاهل لا يُعلم له حُكمٌ ولا قصد فلا إثم عليه، ولا يلزمها القضاء؛ لأنّ سبب الوجوب لم ينعقد عليها بسبب عدم العلم وانقضاء وقت الخطاب، قال ابن تيمية -رحمه الله-:« الأحوالُ المانعةُ من وجوب القضاء للواجب والتركِ للمحرَّم: الكفرُ الظاهرُ، والكفرُ الباطن، والكفر الأصليُّ، وكفرُ الرِّدَّة، والجهلُ الذي يُعذر به لعدم بلوغ الخطاب، أو لمعارضة تأويلٍ باجتهادٍ أو تقليدٍ »(1) اهـ.
وهذا، بخلاف الناسي والنائم والمخطئ فإنه يسقط الإثمُ عنهم إجماعًا(2)، فيجب عليهم القضاءُ لسَبْقِ علمهم بالحكم الشرعي المتمثِّل في الوجوب الذي انعقد عليهم ومنع منه مانعُ النوم أو النسيان، أو مَنَعَ من تمامه مانعُ الخطإ.
أمَّا إذا قدر على التعلُّم وتمكَّن من العلم لكنَّه ترك ذلك تكاسلاً أو تهاونًا فإنَّ صاحب الجهل لا يُعذر به ويؤاخذ على ترك ما أوجب اللهُ عليه لتفريطه، ولا قضاء على المتعمِّد المفرِّط على أصحِّ الأقوال، لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ، إِنَّمَا التَّفْرِيطُ فِي اليَقَظَةِ، أَنْ تُؤَخَّرَ صَلاَةٌ حَتَّى يَدْخُلَ وَقْتُ أُخْرَى »(3 )، وعليه أن يتوب ويُكثرَ من النوافل والصدقات وعُمومِ الخير، فإنّ الحسناتِ يُذهبن السيِّئات.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 29 رمضان 1418ه
الموافق ل: 27 جانفي 1998م
__________
1- مجموع الفتاوى لابن تيمية: 22/23.
2- «مذكرة الشنقيطي »: (48).
3- أخرجه مسلم في «الصلاة »، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها: (1562)، وأبو داود في «الصلاة »، باب في من نام عن الصلاة أو نسيها: (441)، والترمذي في «الصلاة »، باب ما جاء في النوم عن
الصلاة: (177)، والنسائي في «المواقيت »، باب فيمن نام عن صلاة: (615)، وابن ماجه في «الصلاة »، باب من نام عن الصلاة أو نسيها: (698)، من حديث أبي قتادة رضي الله عنه.(7/10)
الفتوى رقم: 919
في حكم أخذ الحبوب المانعة للحيض لأداء صيام رمضان
السؤال:
ما حكمُ أخذ الحبوب المانعة من نزول الحيض في شهر رمضان لأجل صيام الشهر كاملاً، ومن غير اللجوء إلى القضاء؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالرأي المعتبر بقاءُ المرأة على طبيعتها من غير استعمال حبوب تأخير الحيض تقصدًا لأداء رمضان، وهي مأجورةٌ في تعبُّدها لله بترك الصيام وغيره من العبادات لمانع الحيض الذي قدَّره الله تعالى لها، ولا يفوتها الأجر إن شاء الله ثم تتعبد الله تعالى بالقضاء، علمًا أنَّ باب الذِّكر مفتوح لها في أيام حيضتها هو من أفضل الأعمال، وقد كان صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم يذكر الله في كلّ أحواله(1)، وفي حالة ما إذا استعملت الحبوب وصامت صح صومها، ولا يلزمها قضاء ولا مطالبة.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 1 جمادى الثانية 1429ه
الموافق ل: 5 جوان 2008م
__________
1- أخرجه مسلم في «صحيحه » كتاب الحيض، باب ذكر الله في حال الجنابة وغيرها: (826)، وأبو داود في «سننه » كتاب الطهارة، باب في الرجل يذكر الله على غير طهر: (18)، والترمذي في «سننه » كتاب الدعوات، باب ما جاء أن دعوة المسلم مستجابة: (3384)، وابن ماجه في «سننه » كتاب الطهارة، باب ذكر الله على الخلاء والخاتم في الخلاء: (302)، وأحمد في «مسنده »: (23889)، من حديث عائشة رضي الله عنها.(7/11)
02- المفطرات
الفتوى رقم: 76
حكم البخاخات الهوائية حال الصيام
السؤال: سائلة تعاني من مرض الربو وتريد معرفة ما إذا كان يجوز لها استعمال بخاخة هوائية تعمل على توسيع المسالك الهوائية عن طريق استنشاق الدواء الموجود بها، وذلك في رمضان أو في غيره أي حين تكون صائمة.
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فإذا كانت مكونات هذه البخاخة عبارة عن هواء (أوكسجين) يساعد على فتح وتوسيع المجاري في القصبات الهوائية فلا نرى مانعا من استعماله في رمضان وغيره، ولا يمكن تعداده من المفطرات، أمّا إذا كانت تحتوي على مكونات تتركب من مواد بخارية تتحول باستعمالها إلى سوائل تشعر بمذاقها وبنزولها إلى الحلق فالمعدّة حال الاستعمال وبالتفاعل، فإنّها تعدّ من المفطرات وعليه فإن كان استعمالها بهذا الاعتبار الأخير نهار رمضان في الشهر مرة أو مرتين فهو معدود من المريض الذي يقضي ما أفطره أمّا إذا كان الاستعمال في غالب الشهر أو بحيث يتجاوز المعتاد، فحكمها حكم المريض المزمن الذي يترتب عليه الفدية.
والله أعلم؛ وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان وسلم تسليما.(7/12)
الفتوى رقم: 80
في صحة صوم من أصبح جنبا
السؤال: إذا جامع الرجل زوجته في شهر رمضان في الليل بعد المغرب، واغتسل بعد الفجر، فهل صومه باطل؟
الجواب: الحمد لله والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما، أمّا بعد:
فالنهي عن صوم الجُنُب في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال:" مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَلاَ يَصُومُ"(1) منسوخ بحديث عائشة، وأمّ سلمة رضي الله تعالى عنهما أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم:« كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ وَيَصُومُ"(2) متفق عليه وزاد مسلم في حديث أم سلمة:" ولا يقضي"(3) وفيه دليل على صحة صوم من دخل في الصباح وهو جنب من جماع، وقد رجع أبو هريرة عنه وأفتى بقول عائشة وأمّ سلمة رضي الله عنهم(4).
ومما يدل على النسخ ما أخرجه مسلم وغيره عن عائشة رضي الله عنها:" أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَفْتِيهِ وَهِىَ تَسْمَعُ مِنْ وَرَاءِ الْبَابِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ تُدْرِكُنِى الصَّلاَةُ وَأَنَا جُنُبٌ أَفَأَصُومُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَأَنَا تُدْرِكُنِى الصَّلاَةُ وَأَنَا جُنُبٌ فَأَصُومُ. فَقَالَ لَسْتَ مِثْلَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ. فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّى لأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَعْلَمَكُمْ بِمَا أَتَّقِى"(5).
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 28 من ذي الحجة 1426ه
الموافق ل: 28 يناير 2006م
__________
1- أخرجه أحمد (7591)، والحميدي في مسنده (1066)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه أحمد شاكر في تحقيقه مسند الإمام أحمد (13/118)، والألباني في السلسلة الصحيحة (3/10).
2- أخرجه البخاري في صحيحه (1926)، ومسلم في الصيام (2646)، وأحمد (27422)، من حديث عائشة وأمّ سلمة رضي الله عنهما.
3- في الصيام (2646).
4- أخرجه مسلم في الصيام (2645)، والبيهقي (8253).
5- أخرجه مسلم (2649)، وأبو داود في الصوم (2391)، ومالك في الموطأ (642)، وأحمد (26836)، من حدث عائشة رضي الله عنها.(7/13)
الفتوى رقم: 735
في حكم صيام المستمني في رمضان
السؤال:
كنت أمارسُ العادةَ السريةَ في رمضان ليلاً ونهارًا، والآن -ولله الحمد- تبت إلى الله تعالى، فما الذي يترتب عليّ؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فبِغضِّ النظر عن حُكْمِ الاستمناء الذي تقدَّمَ في فتوى سابقة(1) فلا أعلمُ خلافًا في انتفاء الكفَّارة على من باشر الاستمناءَ باليد أو بأسبابِ الإنزال الأخرى كتقبيل الرجُلِ زوجتَهُ أو ضَمِّها إليه ونحوِ ذلك؛ لأنّ الأصلَ عدمُ الكفارةِ، وإنما الخلافُ في قضائه، وأصحُّ القولين في ذلك أنّ مباشرة الاستمناءِ باليد أو غيرِه لا توجب قضاءً ولا كفارةً، وهو مذهبُ ابنِ حزم، وبه قال الصنعاني والشوكاني وغيرُهم؛ لأنّ الأصلَ استصحاب صحّة الصوم إلى أن يَرِدَ دليلٌ على الإبطال، وإلحاقه قياسيًّا بالمُجَامِعِ ظاهرٌ في الفَرْقِ لكون الجِمَاع أغلظ من الاستمناء، ويعارضه بعضُ الآثارِ السلفيةِ الدالَّةِ على أنّ المباشرةَ بغير جِماع لا تُفطر ولو أنزل، منها قولُ عائشةَ رضي الله عنها لِمَن سألها: ما يحلّ للرجل من امرأته صائمًا؟ قالت:« كُلُّ شَيْءٍ إِلاَّ الجِمَاع »(2)، وعنها رضي الله عنها قالت:« كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وسَلَّم يُقَبِّلُ وَيُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ، وَكَانَ أَمْلَكَكُمْ لإرْبِهِ »(3)، وقد ثبت عن ابن مسعود أنه كان يباشر امرأتَه نصف النهار وهو صائم(4)، وسُئِلَ جابرُ بن زيد عن رجل نظرَ إلى امرأته في رمضان فأمنى من شهوتها هل يفطر؟ قال: لا، يتمُّ صومه »(5)، وما إلى ذلك من الآثار الصحيحة.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في 22 جمادى الأولى 1428ه
الموافق ل: 7 جوان 2007م
__________
1- الموسومة ب «في حكم العادة السرية » تحت رقم:284.
2- أخرجه عبد الرزاق في «المصنف »: (1258)، وانظر «السلسلة الصحيحة » للألباني: (1/434)، و«ما صح من آثار الصحابة في الفقه » لقادر الباكستاني: (2/654).
3- أخرجه البخاري في «الصوم »، باب المباشرة للصائم :(1836)، ومسلم في «الصيام »، باب بيان أن القبلة في الصوم ليست محرمة على من لم تحرك شهوته: (2579)، وأبو داود في «الصوم »، باب القبلة للصائم: (2382)، والترمذي في «الصوم »، باب ما جاء في مباشرة الصائم: (728)، وابن ماجه في «الصيام »، باب ما جاء في المباشرة للصائم: (1687)، وأحمد: (23654)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
4- أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير »: (9/314)، وابن أبي شيبة في «المصنف »: (9399)، والأثر صححه الألباني في «السلسلة الصحيحة »: (1/436)
5- أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنف »: (9447)، قال الألباني في «السلسلة الصحيحة »: (1/437):« إسناده جيّد ».(7/14)
الفتوى رقم: 737
المعتبر في مفطرات الصيام
السؤال:
ما حكمُ استعمالِ إبرة الأنسولين بالنسبة لمريض السُّكَري؛ وذلك أثناءَ صيام شهر رمضان المبارك؟ وهل في حالة عدم القدرة على الصيام أن يُخرج قيمةَ الصَّدَقة نقودًا أو طعامًا؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالمعتبرُ في الإفطار بالأكل والشُّرب إنما هو التقصّد إلى إدخال شيءٍ من المفطرات إلى الجوف بالطريق المعتاد وهو الفَمُ، ويُلحق به المنخر، لقوله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« وَبَالِغْ فِي الاِسْتِنْشَاقِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ صَائِمًا »(1)، سواء حصل له الإنزال بما ينفع أو يضرّ، أو ما لا ينفع ولا يضرّ، والنصّ الشرعي أثبت الفطرَ بالأكل والشرب، ولا يتمّ ذلك إلاّ بالطريق المعتاد، وكلّ ما خلا هذا الطريقَ فلا يسمّى أكلاً ولا شُرْبًا، ولا يقصد به الأكل ولا الشرب، وفي معرض ذِكر الاكتحال والحقنة والقطرة وشمّ الطيب ومداواة المأمومة والجائفة ممّا يدخل إلى البدن بالطريق غير المعتاد، قال شيخ الإسلام ابن تيمية:« والأظهر أن لا يفطر بشيء من ذلك، فإن الصيام من دِين المسلمين الذي يحتاج إلى معرفته الخاصّ والعامّ، فلو كانت هذه الأمور مما حرّمها الله ورسوله في الصيام، ويفسد الصوم بها لكان هذا مما يجب على الرسول بيانه، ولو ذكر ذلك لعلمه الصحابة وبلغوه الأمة كما بلغوا سائر شرعه، فلما لم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم في ذلك لا حديثًا صحيحًا ولا ضعيفًا ولا مسندًا ولا مرسلاً، علم أنه لم يذكر شيئًا من ذلك، والحديث المروي في الكحل ضعيفٌ رواه أبو داود في «السنن » ولم يروه غيرُه(2) »(3).
هذا، ولا يلزم في علة الإفطار تخصيصها بالتغذية، وإنما يحسن فيها التركيب من التغذية والتلذّذ ليحصل المراد بالإفطار، إذ المعروف أنّ المريض قد يتغذّى بالإبر والحُقن ويبقى مشتاقًا للطعام متلهّفًا للشراب، لذلك كانت جميع أنواع الإبر والحقن المغذية منها وغير المغذّية لا تفطر الصائم لعدم تحقّق العلة المركبة؛ لأنّ «الحُكْم إِذَا تَعَلَّقَ بِوَصْفَيْنِ لاَ يَثْبُتُ بِأَحَدِهِمَا » كما هو مقرَّرٌ في علم الأصول.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 26 شعبان 1428ه
الموافق ل: 08/09/2007م
__________
1- أخرجه أبو داود في «الصوم »، باب الصائم يصب عليه الماء من العطش ويبالغ: (2366)، والحاكم في «المستدرك »: (525)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (360)، من حديث لقيط بن صبرة رضي الله عنه. وصحّحه الألباني في «الإرواء »: (935)، والوادعي في «الصحيح المسند »: (1104).
2- الحديث الذي أخرجه أبو داود: أنّ النبي صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم أمر بالإثمد الْمُرْوِحِ عند النوم، وقال:« ليتقه الصائم ». في «سننه » كتاب «الصوم »، باب في الكحل عند النوم للصائم: (2377)، والطبراني في «الكبير »: (20/341)، من حديث معبد بن هوذة الأنصاري. قَالَ أبُو دَاوُدَ في «سننه » (7/4): قال لِي يَحْيَى بنُ مَعِين:« هُوَ حَدِيثٌ مُنْكَرٌ ». وضعّفه الألباني في «الإرواء »: (936)، وفي «الضعيفة »: (1014).
3- «مجموع الفتاوى » لابن تيمية: (25/234).(7/15)
الفتوى رقم: 739
في حكم الصائمة التي أخرت الاغتسال من حيضها
إلى وقت المغرب
السؤال:
إنَّ زوجتي طَهُرَتْ من الحيض، ولكن لم تغتسل بسبب نقص الماء وأخَّرت غُسلها إلى وقت الصبح، لكن ضيق الوقت وازدحام الأشغال حال دون الاغتسال إلى وقت المغرب، فهل صيامها صحيح؟ وشكرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالمسألةُ المطروحةُ لها شِقّان: أحدُهما يتعلَّقُ بالصوم والآخرُ بالصلاة، أمَّا صومُها بعد انقطاع دمِ الحيض فصحيحٌ لعدم اشتراط الغسل للصيام، أمّا حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا:« مَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا فَلاَ يَصُومُ »(1) فمنسوخٌ بحديث عائشة وأمّ سلمة رضي الله تعالى عنهما أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« كَانَ يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ وَيَصُومُ »(2) متفق عليه، وزاد مسلم في حديث أم سلمة رضي الله عنها:« وَلاَ يَقْضِي »(3)، ولكن الأَوْلَى لها أن تكون على طهارةِ الاغتسالِ وتتطهَّر من حيضتها، لقوله تعالى: ?وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ? [البقرة: 222]، وهذا يدلُّ على كمال صَوْمِهَا.
غيرَ أنّ الشِّقَّ الثاني وهو الأَوْلَى بالاعتبار لأنَّ مَدَارَ الأعمالِ كُلِّها على الصلاة لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: :«أَوّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ العَبْدُ يَوْمَ القِيَامَةِ صَلاَتُهُ، فَإِنْ صَلَحَتْ صَلحَ سَائِرُ عَمَلِهِ وَإِنْ فَسدَتْ فَسدَ سَائِرُ عَمَلِهِ »(4)، ومِنْ شَرْطِ الصلاة الوضوءُ فإن تعذَّر فالتيمّمُ، فإن لم تفعل حتى خرج وقتُها فهي آثمة على الترك ولا يلزمها قضاء، على أصحِّ قولي العلماء عملاً بما تقرَّر أصوليًّا «أَنَّ القَضَاءَ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ لاَ بِالأَمْرِ الأَوْلِ »، وإنما تلزمها التوبةٌ بشروطها مع الإكثار من النوافل والصالحات لتتدارك ما قد فاتها من أمرِ الصلاة، فإن كان الماءُ لا يكفي أهلَ البيت في الغُسل ولجأت إلى التيمّم للصلاة أجزأتها صلاتها كاملةً وهي في ذلك موافقة لأمر الشرع، لقوله تعالى: ?فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ? [النساء: 43]، ولا يخفى أنَّ «اليَسِيرَ مِنَ المَاءِ الَّذِي يَحْتَاجُ إِلَيْهِ عُمُومُ الأُسْرَةِ يَجْرِي فِيهِ أَحْكَامُ المَعْدُومِ ».
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 10 رمضان 1428ه
الموافق ل: 22 سبتمبر 2007م
__________
1- أخرجه أحمد: (7591)، والحميدي في «مسنده »: (1066)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصحَّحه أحمد شاكر في تحقيقه «مسند الإمام » أحمد: (13/118)، والألباني في «السلسلة الصحيحة » (3/10).
2- أخرجه البخاري في «صحيحه »: (1926)، ومسلم في «الصيام »: (2646)، وأحمد: (27422)، من حديث عائشة وأمّ سلمة رضي الله عنهما.
3- في الصيام (2646).
4- أخرجه بهذا اللفظ الطبراني في «المعجم الأوسط »: (1859)، والمقدسي في «الأحاديث المختارة »: (2579)، من حديث أنس رضي الله عنه، وصحَّحه الألباني في «صحيح الجامع »: (2573)، وفي «السلسلة الصحيحة »: (1358).(7/16)
03- القضاء
الفتوى رقم: 202
في حكم الإفطار في رمضان لعذر مع عدم القدرة على الفدية
السؤال: امرأة غير متزوجة في عائلة جد فقيرة، و هي في حالة مرض خطير مسموح لها بالإفطار في رمضان ولا تستطيع على الفدية. فما حكمها؟ وشكرا وأجركم على الله.
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فهذه المرأة إن كان مرضها ظرفيا فالواجب عليها صيام أيام أخر لقوله تعالى: ?فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّة مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ? [البقرة:184 ] أمّا إن كان مرضها مزمنا فعليها الفدية عن كلّ يوم تعطي للمسكين مقدار نصف صاع من بر ما يعادل الكيلوغرام الواحد من الدقيق، فإن عجزت عن الإطعام وتكفل بالفدية غيرها نيابة عنها في الإطعام أجزأها، والنيابة في الأموال جائزة، فإن لم تجد من ينوبها في دفع الفدية عنها فإنّ الإطعام يبقى في ذمّتها حتى تقدر، فإن توفيت من غير قدرة على الإطعام فلا شيء عليها لقوله تعالى: ?لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا?[البقرة:286] وقوله عزّ وجلّ: ?لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا?[الطلاق:7]
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
الجزائر في:4 رمضان 1424هـ
الموافق لـ: 11 أكتوبر 2003 م(7/17)
الفتوى رقم: 221
في حكم قضاء رمضان عن الميت المعذور
السؤال: فتاة مريضة لم تصم رمضانين متتاليين، ولم تستطع أن تقضي بسبب مرضها، وتوفيت وهي مريضة، فما على أوليائها فعله؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فمن مات وعليه صيام فرض رمضان أن يطعم عنه مكان كلّ يوم نصف صاع على كلّ مسكين، ولا يجوز أن يصام عنه لأنّ فرض الصيام يجري مجرى الصلاة، فكما لا يصلي أحد عن أحد فكذلك الصيام، ما لم يكن عليه-أيضا- صيام نذر، فإن كان قضى وليه عنه لحديث عائشة رضي الله عنها أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:" من مات وعليه صيام، صام عنه وليه"(1)، والحديث وإن كان مطلقا فهو محمول على صوم النذر، لأنّ النذر التزام في الذمّة بمنزلة الدين فيقبل قضاء الولي له كما يقضي دينه، وهذا مذهب عائشة وابن عباس رضي الله عنهم، وهو مروي عن سعيد بن جبير وأحمد بن حنبل رحمهما الله، وبه قال ابن قيم الجوزية(2)، ويؤيد ذلك الحديثان التاليان:
- حديث ابن عَباسٍ -رضي الله عنهما- قال: جاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وآله وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنّ أمّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا فَقَالَ:« لَو كَان عَلَى أُمِّكَ دَيْنٌ أَكُنْتَ قَاضِيَهُ عَنْهَا »، قَالَ نَعَمْ، قَالَ:« فَدَين اللّه أحَقُّ أَنْ يُقْضى »(3).
- وعنه أيضا: أنّ سعد بن عبادة رضي الله عنه استفتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إنّ أمّي ماتت وعليها نذر فقال:" اقضه عنها"(4).
فصح الصوم عن الميت في النذر بمثل هذه الأحاديث ويبقى عموم الصوم مشمولا بقول ابن عمر رضي الله عنهما:" لا يصوم أحد عن أحد"(5).
والعلم عند الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
__________
1- أخرجه البخاري في الصوم(1952)، ومسلم في الصيام(2748)، وأبو داود في الصوم(2402)، والدارقطني في سننه(2359)، والبيهقي(8481)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
2- في إعلام الموقعين(4/382)، وفي تهذيب السنن(7/38).
3- أخرجه البخاري في الصوم(1953)، ومسلم في الصيام(2750)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
4- أخرجه البخاري في الوصايا(2761)، ومسلم في النذور(4323)، وأبو داود في الأيمان والنذور(3309)، والترمذي في الأيمان والنذور(1632)، والنسائي في الوصايا(3672)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
5- أخرجه مالك في "الموطأ" (676)، والبيهقي(8475)، وصححه الألباني في "المشكاة" (1977)، وانظر "نصب الراية" للزيلعي(2/334)، و"التلخيص الحبير" لابن حجر(2/209).(7/18)
الفتوى رقم: 317
في ترخيص الفطر على المرضع مع وجوب الفدية
السؤال: هل يجوز للمرضع الإفطار في شهر رمضان، وهل يجب في حقها الإطعام أم القضاء؟ أفيدونا جزاكم الله خيرا
الجواب: الحمد لله والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وآله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أما بعد:
فالمرضع وكذا الحامل إذا خشيتا على أنفسهما أو خافتا على أولادهما فتلزمهما الفدية بالفطر ولا قضاء عليهما على الراجح من أقوال أهل العلم، لأنهما بمنزلة الذي لا يطيق وبهذا قال ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم، وذلك عملا بالآية في قوله تعالى:? وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ? [البقرة: 184]، فالآية ليست منسوخة وإنما محمولة على من يطيق الصيام بمشقة، كالشيخ الكبير والمرأة العجوز والحامل والمرضع والمريض مرضا مزمنا، فتكون الفدية بإطعام مكان كل يوم مسكينًا، ويؤيده قوله صلى الله عليه وآله وسلم:« إنَّ الله وضع عن المسافر شطر الصلاة، والصومَ عن المسافر وعن المرضع والحبلى"(1)، هذا كله إذا كانت ترضع من ثديها، أما إن أرضعت صبيها من مرضعة أخرى، أو من قارورة حليب اصطناعي فتنتفي في حقها رخصة الإفطار.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين.
الجزائر في: 19 شوال 1426ه
الموافق ل:21 نوفمبر 2005م
__________
1- أخرجه أبو داود: 2/796، والترمذي: 3/94، والنسائي: 4/180، وابن ماجه: 1/533، والبغوي في"شرح السنة": 6/315، والبيهقي في "السنن الكبرى": 4/231، من حديث أنس بن مالك الكعبي رضي الله عنه، وصححه الألباني في صحيح أبي داود: (2408).(7/19)
الفتوى رقم: 736
في حكم من شربت الماء عمدًا في رمضان ثمّ حاضت إثره
السؤال:
في أحد أيام رمضان توفّيت والدتي، ولفاجعة المصيبة أصبت بإغماء، فسقوني ماء، وبعدما أفقت بوقت يسير جاءتني العادة الشهرية، فماذا يجب علي اتجاه هذا اليوم؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فليس على الحائضِ إذا طَهُرتْ إلاّ أن تقضيَ الصومَ ولا تقضيَ الصلاةَ، وشُربُها للماءِ قبل حيضِها غيرُ مؤثِّرٍ في الحكم، ودليلُ قضائها قولُ عائشةَ رضي الله عنها:« كُنّا نَحِيضُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَكُنَّا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ وَلاَ نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلاَةِ »(1).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 18 جمادى الأولى 1428ه
الموافق ل: 4 جوان 2007م
__________
1- أخرجه البخاري في «الحيض »، باب لا تقضي الحائض الصلاة: (315)، ومسلم في «الحيض »، باب وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة: (761)، وأبو داود في «الطهارة »، باب في الحائض لا تقضي الصلاة: (262)، والترمذي في «الطهارة »، باب ما جاء في الحائض أنها لا تقضي الصلاة: (130)، والنسائي في «الصوم »، باب وضع الصيام عن الحائض: (2318)، وابن ماجه في «الطهارة »، باب الحائض لا تقضي الصلاة (631)، وأحمد: (25420)، من حديث عائشة رضي الله عنها.(7/20)
الفتوى رقم: 740
في قضاء المرضع صيامها أيام النفاس والحيض
السؤال:
أفطرت ستة أيام من رمضان بسبب إرضاعي لولدي، ولكني اضطررت -أحيانًا- لإرضاعه بالقارورة بسبب نقص حليبي الطبيعي، كما أنّي تركت صيام أربعة عشر (14) يومًا -حال الرضاعة- لعذر العادة الشهرية، وبعد انقضاء شهر رمضان، صمت خمسة أيام قضاءً بمشقَّة كبيرة، فهل الأيام المتبقية يلزمني فيها قضاء أو فدية؟ وما مقدار الفدية؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالحاملُ والمرضِعُ إذا لم تُطِيقَا الصومَ أو خافتَا على أنفسِهِمَا وأولادهِمَا أفطرَتَا وعليهما الفديةُ، ولا قضاءَ عليهما لقوله تعالى:« وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ » [البقرة: 184]، ولقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« إِنَّ اللهَ وَضَعَ عَنِ المُسَافِرِ شَطْرَ الصَّلاَةِ، وَالصَّوْمَ عَنِ المُسَافِرِ وَعَنِ المُرْضِعِ وَالحُبْلَى »(1)، وقد ثبت عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم القول بأنَّ «الحامل والمرضع تفطر ولا تقضي »(2)، وهذا كلُّه إذا كان الرضاعُ طبيعيًّا ولا يُلحقُ الحكمُ بالرضاع الاصطناعي، وكذلك لا يُلحق حكم الترخيص بالفدية إذا كانت المرضعُ حائضًا؛ لأنَّ الحائضَ لا يلزمها الصومُ بل تتعبَّد اللهَ بالإفطار ثمَّ بقضاء الصوم، ذلك لأنّ مانعية الحيض من الصوم أخصُّ من عُذر الرضاع في الإفطار والفدية، والخاصُّ أولى بالتقديم، وإذا تبيَّن ذلك فإنَّ الفديةَ تلزم في ستة أيام (06) ليس إلاَّ، بناءً على وجوب الفدية على المرضع، تُطعم عن كلِّ يومٍِ مسكينًا، نصف صاعٍ من دقيق مقداره واحد كيلوغرام تقريبًا. أمَّا استعمال حليب القارورة استعمالا كليَّا أو جزئيَّا غالبًا بحيث تحلّ الرضاعة الاصطناعية محلّ الرضاعة الطبيعية، أو غلب استعمال الاصطناعي ففي هذه الحال يلزمها الصوم ما لم تكن مريضةً، فتفطر وتقضي؛ لأن «مُعْظَمَ الشَّيْءِ يَقُومُ مَقَامَ كُلِّهِ »، أمّا الأيام التي أفطرتها المرأة بسبب الحيض -وهي مرضع- فيلزمها القضاء لمكان مانعية الحيض -على ما تقدَّم- وعليه ضمن أربعة عشر يومًا (14) الباقية يلزم القضاء فيها تسعة أيام وتكون مشغولةَ الذِّمَّة بها ما دام وفت بخمسة أيام، ولها أن تقضيَها عند زوال العذر أو المانع هذا، وللتذكير فإنَّ الصبيَّ إذا بلغ خمسةَ أشهرٍ فما فوق بحيث يستطيع أن يتغذَّى من غير لبنٍ من أنواع الخضر والفواكه فإنَّ الرضاعةَ الطبيعيةَ لا تكون عُذرًا في الإفطار.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 22 شعبان 1428ه
الموافق ل: 04 سبتمبر 2007م
__________
1- أخرجه أبو داود في «الصوم »: (2408)، والترمذي في «الصوم »: (715)، والنسائي في «الصيام »: (2275)، وابن ماجه في «الصيام »: (1667)، وابن خزيمة: (2042)، وأحمد: (19841)، والبيهقي: (8172)، من حديث أنس بن مالك الكعبي القشيري رضي الله عنه، وهو غير أنس بن مالك رضي الله عنه. والحديث حسنه الترمذي، وصححه الألباني في صحيح أبي داود: (2/71)، والوادعي في "الصحيح المسند" (74)، والأرناؤوط في «جامع الأصول » (6/410).
2- أخرجه الدارقطني في «سننه »، كتاب: الصيام، باب طلوع الشمس بعد الإفطار: (2/435)، وقال:« هذا صحيح »، وانظر «إرواء الغليل » للألباني: (4/20).(7/21)
الفتوى رقم: 764
في حكم الجماع في قضاء رمضان عمدًا
السؤال:
هل على من أتى أهله في صيام القضاء الكفارةُ؟ وهل تجب عليهما جميعا أم على الرجل دون المرأة؟ وهل إذا لحقهما الإثم يُعدُّ من الكبائر؟ فالرجاء إرفاق الجواب بالدليل.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فمن أفسدَ صومَ قضاءِ رمضانَ أو صومِ الكفارةِ أو أيِّ صومٍ واجبٍ -ما عدا صومَ رمضانَ- بجماعٍ أو غيرهِ من المفسداتِ عمدًا من غيرِ عذرٍ شرعيٍ فإنّه يترتبُ علَى إفسادِ هذه العبادةِ الواجبةِ: لحوقُ الإثمِ ووجوبُ القضاءِ.
أمّا دليلُ وجوبِ القضاءِ فظاهرٌ من حديثِ أمِّ هانئٍ رضي الله عنها: أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شَرِبَ شرابًا، فناولها لتشربَ، فقالت: إنّي صائمةٌ، ولكنْ كَرِهْتُ أن أردَّ سُؤْرَكَ فقال:« إِنْ كانَ قَضَاءً مِنْ رَمَضَانَ فَاقْضِي يَوْماً مَكَانَهُ، وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعاً فَإنْ شِئْتِ فَاقْضِي، وَإِنْ شِئْتِ فَلا تَقْضِي »(1).
وأمّا دليلُ لحوقِ الإثمِ على إفسادِ الصَّومِ الواجبِ عَمْدًا فقوله تعالى: ?وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ? [محمد: 33]، إذ لا فرقَ بينَ قضاءِ رمضانَ وأدائِهِ في لحوقِ الإثمِ من حيثُ عَدَمُ جوازِ إبطالِهِ بمفسداتِ الصَّومِ، فلا يُوجدُ ما يخصِّصُّ عمومَ الآيةِ، ولا يُقَال: إِنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أقرّ أمَّ هانئ وَلم ينكرْ إفطارهَا ولو كان من القضاءِ، لأنّه صلى الله عليه وآله وسلم في مقامِ بيانٍ، وتَأْخِيرُ البَيَانِ عَنْ وَقْتِ الحَاجَةِ لاَ يَجُوزُ، فاكتفى ببيانِ وجوبِ القضاءِ طلبًا جازمًا مع جوازِ إفطارِ القاضي له إقرارًا، وبهذا قال الشوكاني(2)، وهذا غيرُ صحيحٍ لأنّ أمرَه صلى الله عليه وآله وسلم بالقضاءِ لأمّ هانئ لو أفطرت منه لا يلزمُ جواز فعلِهَا، لأنّ من شروطِ الإقرارِ -الذي هو حجة- أن لا يدلَّ عليه دليلُ المنع من جهةٍ، وأن لا يكون المسكوتُ عنه قد اعترفَ بذنبهِ وخطئه، وقد أقرَّت أمُّ هانئ رضي الله عنها بذلك في رواية الترمذي بقولها:« إِنِّي أَذْنَبْتُ فاسْتَغْفِر لِي. قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَتْ: كُنْتُ صَائِمَةً فأَفْطَرْتُ، فَقَالَ: أَمِنْ قَضَاءٍ كُنْتِ تَقْضِينَهُ؟ قَالَتْ: لاَ. قَالَ: فَلاَ يَضُرُّكِ »(3)، ويؤكِّده مفهومُ قولِه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« فَلاَ يَضُرُّكِ »، وفي رواية أبي داود بزيادة:« فَلاَ يَضُرُّكِ إنْ كَانَ تَطَوُّعًا »(4)، فإنّه يدلّ بمفهومه على أنّه إن كان صومها من قضاءٍ واجبٍ فإنّ إفسادَه يضرُّها.
هذا، ولا يرتقي إثمُ إفسادِ الصَّومِ إلى الكبائر لانتفاءِ الوعيدِ الخاصِّ عَلَى ارْتِكَابهِ المعيَّن له صراحة، اللهمّ إلاّ إذا استدلّ بحديث أبي أُمامة الباهلي رضي الله عنه أنّه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قال -في رُؤْيِةٍ منامية-:«ثُمَّ انْطُلِقَ بِى فَإِذَا أَنَا بِقَوْمٍ مُعَلَّقِينَ بِعَرَاقِيبِهِمْ، مُشَقَّقَةٌ أَشْدَاقُهُمْ تَسِيلُ أَشْدَاقُهُمْ دَمًا، قَالَ قُلْتُ: مَنْ هَؤُلاَءِ؟ قَالَ: هَؤُلاَءِ الَّذِينَ يُفْطِرُونَ قَبْلَ تَحِلَّةِ صَوْمِهِمْ »(5)، والوعيدُ في الحديث يَلْحَقُ مَن يُفطر قبل غروبِ الشمس.
ولهما أن يُكَفِّرا عنه بالتوبة والعملِ الصَّالحِ، ويلزمهما القضاءُ دون وجوبِ الإمساكِ والكفَّارةِ المشرَّعة للجماع لثبوتِ خصوصِيتهما في رمضان في قصّة الأعرابي المجامعِ في رمضانَ عمدًا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه(6)، ولا يخفى أنّ واجبَ صومِ رمضانَ مضيَّقٌ من حيثُ وقتُه، بينما صومُ القضاءِ فمطلقٌ، فافترقَ حكمُ القضاءِ عن الأداءِ، لذلكَ احتاجت الكفَّارةُ -باعتبارها حكمًا شرعيًا- في تقريرِ مشروعيتها في القضاءِ إلى دليلٍ شرعيٍّ يُسْنِدُهَا وهو منتفٍ عنهَا.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 10 شوال 1428ه
الموافق ل: 22 أكتوبر 2007م
__________
1- أخرجه أحمد في «مسنده »: (26371)، والدارمي في «سننه »: (1686)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (8446)، والطيالسي في «مسنده »: (1617)، والدارقطني في «سننه »: (2193)، من أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها. والحديث صححه الألباني في «السلسلة الصحيحة »:(2802).
2- السيل الجرار للشوكاني: 2/151.
3- أخرجه الترمذي في «الصوم »، باب ما جاء في إفطار الصائم المتطوع:(731)، وابن أبي شيبة في «المصنف »: (9068)، من أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها. قال الألباني في «تخريج المشكاة »: (1/642):« إسناده جيّد ».
4- أخرجه أبو داود في «الصوم »، باب في الرخصة في ذلك: (2456)، والدارمي في «سننه »: (1687)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (8362)، من أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها. وصححه الألباني في «صحيح أبي داود »: (2456).
5- أخرجه ابن خزيمة (1865)، وابن جبان (7615)، والحاكم في مستدركه (2788)، والبيهقي (7537)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3951)، وصحيح الترغيب: 1/588 رقم: (1005)، ومقبل الوادعي في "الصحيح المسند" (483).
6- أخرجه البخاري في «كفارات الأيمان »، باب متى تجب الكفارة على الغني والفقير: (6331)، ومسلم في «الصوم »، باب تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان: (2595)، والترمذي في «الصوم »، باب ما جاء في كفارة الفطر في رمضان: (724)، وابن ماجه في «الصيام »، باب ما جاء في كفارة من أفطر يوما من رمضان: (1671)، والدارمي في «سننه »: (1668)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(7/22)
04- صوم التطوع
الفتوى رقم: 392
في صحة الجمع بين حديث النهي عن صيام الجمعة،وصيام المرأة تطوعا في غير رمضان إلاّ بإذن زوجها
السؤال: تعرضت لي شبهة فأردت من فضيلة شيخنا أنّ يشفي غليلي منها بالجواب الشافي وهي: هل نستطيع الجمع بين الحديثين:
- حديث أم المِؤمنين جويرية رضي الله عنها أَنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهْىَ صَائِمَةٌ فَقَالَ:« أَصُمْتِ أَمْسِ » . قَالَتْ: لاَ . قَالَ:« تُرِيدِينَ أَنْ تَصُومِي غَدًا » . قَالَتْ: لاَ . قَالَ:« فَأَفْطِرِي »(1).
- وحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم "لاَ تَصُومُ المرْأَةُ يَوْمًا تَطَوُّعًا فِي غَيْرِ رَمَضَانَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ إِلاّ بِإِذْنِهِ"(2) هل نستطيع القول و الله أعلم بالصواب :
بأن صيامها يوم الجمعة صيام فرض لا صيام نفل لعدم طلبها الإذن بالصيام من زوجها صلى الله عليه و سلم، لأنّه لم يكن يعلم عن صيامها شيئا.
بارك الله فيك وجزاك الله عنا وعن الإسلام والمسلمين كلّ خير وأطال الله في عمرك لخدمة راية التوحيد.
الجواب: الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فاعلم أنَّ هذا الجمع والتأويل لا يستقيم، لأنّ صيام جويرية رضي الله عنها كان تطوعا بلا خلاف أعلمه، إذ لو كان فرضًا لما أمرها بصيام يوم قبله أو يوم بعده، وهذا الاقتران إنما يكون في النفل دون الفرض لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« لاَ يَصُومَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، إِلاَّ يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ"(3) والخطاب عام للذكور والإناث، ولأنَّ الفرض يجوز صيامه منفردًا أو صومه بيوم قبله أو يوم بعده، والشأن في ذلك كقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« إِلاَّ رَجُلٌ كَانَ يَصُومُ صَوْمًا فَلْيَصُمْهُ"(4) أي يوافق يومًا معتادًا وعلى هذا المعنى يلحق القضاء والنذر والكفارة إلحاقًا قياسيا أولويا لوجوبهم لأنَّ الأدلة قطعية على وجوب القضاء والكفارة والوفاء بالنذر، إذ تقرَّر أصوليًّا أنَّ القطعي لايبطل بالظني ولا يعارضه.
هذا، وأمّا حديث أبي هريرة رضي الله عنه فمشتبه، إذ يحتمل قوله صلى الله عليه وآله وسلم لجويرية رضي الله عنها ذلك قبل حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وإن سلم أنّه كان بعده فإنّه يحتمل أيضا أنّه إنّما يجب الإذن إذا كان زوجها حاضرا أو كان يومه عندها لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« وزوجها شاهد" أي: حاضر لاحتمال حاجته إليها، ومفهومه أنها لا تحتاج إلى الإذن إن كان غائبا أو لم يكن يومه عندها، لأنّ التقرب بالنوافل والتطوعات لا تحتاج في الأصل إلى إذن الزوج إلاّ إذا تعارض حقه بها، وعليه فإذا وردت مثل هذه الاحتمالات فلا يترك المحكم للمتشابه.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 22 محرم 1427ه
الموافق لـ: 17 فبراير 2006م
__________
1- أخرجه البخاري في الصوم (1986)، وأبو داود في الصوم (2424)، وأحمد (27512)، من حديث جويرية رضي الله عنها.
2- أخرجه الترمذي في الصوم (787)، وابن ماجه (1833)، و الدارمي (1730)، والحميدي في مسنده (1064)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (395).
3- أخرجه البخاري في الصوم (1985)، وأبو عوانة في مستخرجه (2347)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
4- أخرجه مسلم في الصيام (2570)، والنسائي في الصيام (2184)، وابن ماجه في الصيام (1719)، وأحمد (7400)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(7/23)
الفتوى رقم: 766
في حكم صيام التطوّع قبل قضاء الواجب
السؤال:
هل يجوز صيامُ التطوُّع قبلَ قضاءِ رمضان؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فلا خلافَ في أنَّ قضاءَ الصِّيامِ الواجبِ أَحرى من أداء التطوُّع، لقوّة الواجب وعُلُوِّ مرتبتِهِ على المستحَبِّ، إِذِ الواجباتُ والفرائضُ من أحبِّ القُرَبِ إلى الله تعالى، قال اللهُ تعالى في الحديث القُدْسي:« وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِليَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهٌ عَلَيْهِ »(1)، كما يتأكَّدُ -من جهةٍ أخرى- وجوبُ تقديم قضاءِ رمضانَ على التطوّع إذا ما خشي المكلَّفُ به فواتَ صحةٍ أو ضعفِ قُدرةٍ أو ضيقِ وقتٍ، فإنّه يَأْثَمُ بتأخير القضاء عند حصول العجزِ عن القيام به، إذ الواجبُ المطلقُ من ناحيةِ وقته أصبحَ مُقَيَّدَ الزَّمَنِ، يتعيَّن القيام بما هو مكلَّفٌ به في الحال وإلاَّ كان مُضيِّعًا للمأمور بأدائه. وفي كلّ الأحوال ينبغي المسارعة إلى الطاعة بالمبادرة إلى قضاء الواجب عليه لقوله سبحانه وتعالى: ?فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ? [المائدة: 48]، وقولِه تعالى: ?وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ? [آل عمران: 133].
كما أنّ الحديث الواردَ في فضل صيام الأيام السِّتَّة من شوال ينصُّ بظاهره أنّه لا يتحصّل على ثواب صوم الدّهر إلاَّ مشروطًا بصيام رمضان ثمّ إتباعه بستٍّ من شوالَ، في قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالَ كَانَ كَصِّيَامِ الدَّهْرِ »(2)، إذ يلزم من تقديم صيام السِّتِّ من شوال على قضاء رمضان عدم استكمال الشهر وهو مخالفٌ لمفاد الحديث، لذلك يُستحبُّ تقديم قضاء رمضان ليُتبعَ بصيام سِتٍّ من شوال تحقيقًا لظاهر الحديث ليحوز على ثواب صومِ الدّهر.
وإنّما ذكرت الاستحباب بدلاً من الوجوب لاحتمال توجيه الخطاب بالحكم للعامّة؛ لأنّ عامّة الصّائمين الذين رَغَّبَهُم الشّرع بالتطوّع يؤدُّون صيَامَ رمضانَ جميعَه، الأمرُ الذي يقوِّي احتمالَ كونِ لفظِ الحديثِ في قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالَ » قد خرج مخرج الغالب الأعمِّ فلا مفهومَ له، ويُؤكِّدُ هذا الاحتمالَ حديثُ ثوبانَ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم قال:« مَنْ صَامَ رَمَضَانَ فَشَهْرٌ بِعَشرَةِ أَشْهُرٍ، وَصِيَامُ سِتَّةِ أَيَّامٍ بَعْدَ الفِطْرِ فَذَلِكَ تَمَامُ صِيَامِ السَّنَةِ »(3)، فإنّ ظاهر الحديث يدلّ على أنّ صيام شهر رمضان بعشرة أشهر؛ لأنّ الحسنة بعشر أمثالها، وكذلك في السِّتَّة أيام من شوال في كلا الحالتين يحصل ثواب صوم الدّهر سواء تخلّف القضاء عن التطوّع أو تقدّم عليه.
فالحاصل: إنّه إذا قوي هذا الاحتمال وظهر؛ فإنّه -بِغَضِّ النظر عن أولوية الفرض عن التطوّع والنفل- يتقرّر جواز صيام السّت من شوال قبل قضاء رمضان خاصّة لمن ضاق عليه شهرُ شوال بالقضاء.
أمّا صيام سائر التطوّعات الأخرى كصيام عرفة أو عاشوراء أو أيام البيض ونحوها فإنّه على الصحيح من أقوال أهل العلم جواز الاشتغال بالتطوّع قبل قضاء رمضان وهو مذهب الأحناف والشافعية ورواية عن أحمد، إذ لم يرد من الشَّرع دليلٌ يمنع من ذلك، بل ورد من النَّصِّ القرآني ما يفيد أنّ وقت القضاء مُطلق في قوله تعالى: ?فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ? [البقرة: 184]، حيث يدلّ نص الآية على جواز تأخير رمضان لمن أفطر مُطلقًا من غير اشتراط المبادرة بالفعل بعد أول الإمكان، ومُطلقيةُ وقت القضاء هو مذهب جماهير السّلف والخلف كما يدلّ عليه -أيضًا- إقرار النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم لفعل عائشة رضي الله عنها قالت:« كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَ إِلاَّ فِي شَعْبَانَ »(4)، قال ابن حجر -رحمه الله-:« وفي الحديث دلالةٌ على جواز تأخير قضاء رمضان مُطلقًا سواء كان لعُذْرٍ أو لغير عُذر؛ لأنّ الزيادة كما بيَّناه مدرجة(5- مقصوده الرواية التي أخرت فيها القضاء إلى شعبان لمانع الشغل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم.)، فلو لم تكن مرفوعة لكان الجواز مُقيَّدًا بالضرورة؛ لأنّ للحديث حكم الرفع، لأنّ الظاهر اطلاع النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم على ذلك، مع توفّر دواعي أزواجه على السؤال منه عن أمر الشرع، فلولا أنّ ذلك كان جائزًا لم تواظب عائشة رضي الله عنها عليه »(6).
قلت: إنّما جاز تأخيرها للقضاء مع انتفاء الشّك في حرصها على عدم التفويت عن نفسها -رضي الله عنها- لفضائل صيام النفل أثناء السَّنَة كحرصها على العمرة حيث وجدت في نفسها أن ترجع صواحباتها بحجّ وعمرة مستقلّين وترجع هي بعمرة في ضمن حَجَّتها فأمر النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم أخاها أن يعمرها من التنعيم تطييبًا لقلبها(7)، أمّا من جهة المعقول فإنّه في الواجب الموسّع إذا جاز الاشتغال بالتطوّع من جنس الواجب قبل أدائه كالرواتب القبلية للصّلوات المفروضة فإنّه يجوز في الواجب المطلق من بابٍ أولى كما هو شأن قضاء رمضان.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 12 شوال 1428ه
الموافق ل: 15 أكتوبر 2007م
__________
1- أخرجه البخاري في «الرقاق »، باب التواضع: (6137)، وابن حبان في «صحيحه »: (347)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه أحمد في «مسنده »: (25794)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
2- أخرجه مسلم في «الصيام »، باب استحباب صوم ستة أيام من شوال أتباعا (2758)، والترمذي في «الصوم »، باب ما جاء في صيام ستة أيام من شوال: (759)، وعبد الرزاق في «المصّنف »: (7918)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (8516)، من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه.
3- أخرجه أحمد في «مسنده »: (21906)، من حديث ثوبان رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في «صحيح الترغيب »: (1007).
4- أخرجه البخاري في «الصوم »، باب متى يقضى قضاء رمضان: (1849)، ومسلم في «الصيام »، باب قضاء رمضان في شعبان: (2687)، وابن خزيمة في «صحيحه »: (2046)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (8302)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
5- مقصوده الرواية التي أخرت فيها القضاء إلى شعبان لمانع الشغل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
6- «فتح الباري » لابن حجر: (4/191).
7- «زاد المعاد » لابن القيم: (2/94)، وانظر فتوى رقم: (712) (في حكم تكرار العمرة).(7/24)
الفتوى رقم: 817
في حكم صيام شهر الله المحرم
السؤال:
هل يُشرَعُ صيامُ شهرِ مُحرَّمٍ كُلِّه؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فَقَبْلَ الجوابِ على سؤالكم فينبغي التنبيهُ على خطأ شائعٍ في إطلاق لفظ «محرم » مجرّدًا عن الألف واللاَّم؛ ذلك لأنّ الصواب إطلاقه معرَّفًا، بأن يقال:« المحرَّم »، لورود الأحاديث النبوية بها معرَّفة؛ ولأنَّ العرب لم تذكر هذا الشهر في مقالهم وأشعارهم إلاّ معرَّفًا بالألف واللام، دون بقية الشهور، فإطلاق تسميته إذًا سماعي وليس قياسًّا.
هذا، وشهر المحرّم محلُّ للصيام لذلك يستحبُّ الإكثار من الصيام فيه، لقوله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللهِ المُحَرَّمِ، وَأَفْضَلُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الفَرِيضَةِ صَلاَةُُ اللَّيْلِ »(1).
ويتأكّد استحباب صوم عاشوراء وهو اليوم العاشر من المحرّم، لقوله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« هَذَا يَوْمُ عَاشُورَاء، وَلَمْ يَكْتُبِ اللهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، وَأَنَا صَائِمٌ، فَمَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيُفْطِرْ »(2)، وصيام عاشوراء يكفِّر السنة الماضية، لقوله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاء، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ »(3)، ويستحب أن يتقدّمه بصوم يوم قبله وهو التاسع من المحرّم لحديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال:« حين صامَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم يومَ عاشوراء، وأمر بصيامه، قالوا: يا رسول الله، إنه يومٌ تُعظِّمه اليهودُ والنصارى، فقال رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« فَإِذَا كَانَ العَامُ المُقْبِلُ -إِنْ شَاءَ اللهُ- صُمْنَا اليَوْمَ التَّاسِعَ »، قال فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم »(4)، وفي روايةٍ:« لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لأَصُومَنَّ التَّاسِعَ »(5)، كما يستحبُّ له أن يصوم يومًا بعده وهو اليوم الحادي عشر، لما رُوِيَ موقوفًا صحيحًا عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله:« صُومُوا يَوْمَ عَاشُورَاء، وَخَالِفُوا اليَهُودَ، صُومُوا قَبْلَهُ يَوْمًا أَوْ بَعْدَهُ يَوْمًا »(6)، قال الحافظ -رحمه الله-:« ..صيام عاشوراء على ثلاث مراتب: أدناها أن يصام وحده، وفوقه أن يصام التاسع معه، وفوقه أن يصام التاسع والحادي عشر »(7).
وجديرٌ بالتنبيه أنَّ شهرَ اللهِ المحرَّم يجوز الصيامُ فيه من غير تخصيص صوم يوم آخرِ العام بنية توديع السَّنَةِ الهجرية القمرية، ولا أول يوم من المحرم بنية افتتاح العام الجديد بالصيام باستثناء ما ذُكِرَ من تخصيص عاشوراء ويومي المخالفة فيهما لليهود، ومن خصّص آخر العام وأوَّلَ العام الجديد بالصيام إنما استند على حديثٍ موضوع:« مَنْ صَامَ آخِرَ يَوْمٍ مِنْ ذِي الحِجَّةِ وَأَوَّلَ يَوْمٍ مِنَ المُحَرَّمِ، خَتَمَ السَّنَةَ المَاضِيَةَ وَافْتَتَحَ السَّنَةَ المُسْتَقْبلَةِ بِصَوْمٍ جَعَلَ اللهُ لَهُ كَفَّارَةَ خَمْسِينَ سَنَةً »(8)، وهو حديث مكذوبٌ ومُختلَقٌ على النبي صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، قال أبو شامة:« ولم يأت شيءٌ في أول ليلة المحرم، وقد فَتَّشْتُ فيما نقل من الآثار صحيحًا وضعيفًا، وفي الأحاديث الموضوعة فلم أر أحدًا ذكر فيها شيئًا، وإني لأتخوّف -والعياذ بالله- من مفترٍ يختلق فيها حديثًا »(9).
فلا يشرع -إذن- في شهر المحرم ولا في عاشوراء شيء إلاّ الصيام، أمّا أداء عمرة أول محرم أو التزام ذكرٍ خاصٍّ أو دعاء، أو إحياء ليلة عاشوراء بالتعبّد والذِّكر والدعاء فلم يثبت في ذلك شيء عن النبي صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم ولا عن أصحابه رضي الله عنهم، ولا عن التابعين الكرام، قال صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ »(10).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 04 من المحرم 1429ه
الموافق ل: 11/01/2008م
__________
1- أخرجه مسلم في «الصيام »، باب فضل صوم المحرَّم: (2755)، وأبو داود في «الصوم »، باب في صوم المحرم: (2429)، والترمذي في «الصلاة »، باب ما جاء في فضل صلاة الليل: (438)، والنسائي في «قيام الليل وتطوع النهار »، باب فضل صلاة الليل: (1613)، وأحمد في «مسنده »: (8329)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2- أخرجه البخاري في «الصوم »، باب صيام يوم عاشوراء: (1899)، ومسلم في «الصوم »، باب صوم يوم عاشوراء: (2653)، ومالك في «الموطإ »: (663)، وأحمد في «مسنده »: (16425)، من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما.
3- أخرجه مسلم في «الصيام »، باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كلّ شهر وصوم: (2746)، وأبو داود في «الصيام »، باب في صوم الدهر تطوعًا: (2425)، وابن ماجه في «الصيام »، باب صيام يوم عاشوراء: (1738)، وأحمد في «مسنده »: (23290) من حديث أبي قتادة الأنصاري.
4- أخرجه مسلم في «الصيام »، باب أي يوم يصام في عاشوراء: (2666)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
5- أخرجه مسلم في «الصيام »، باب أي يوم يصام في عاشوراء: (2667)، وابن ماجه في «الصيام »، باب صيام يوم عاشوراء: (1736)، وأحمد في «مسنده »: (3203)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
6- أخرجه مرفوعًا: ابن خزيمة في «صحيحه »: (2095)، وأحمد في «مسنده »: (2155)، قال الألباني في «صحيح ابن خزيمة » (3/290):« إسناده ضعيف لسوء حفظ ابن أبي ليلى وخالفه عطاء وغيره فرواه عن ابن عباس موقوفًا وسنده صحيح عند الطحاوي والبيهقي ».
وأخرجه موقوفًا: الطبري في «تهذيب الآثار »: (مسند عمر /1430)، والأثر صحَّحه الألباني كما سبق، وزكريا بن غلام قادر الباكستاني في «ما صحَّ من آثار الصحابة في الفقه »: (2/675).
7- «فتح الباري » لابن حجر: (4/246).
8- حكم عليه بالوضع: ابن الجوزي في «الموضوعات »: (2/199)، والسيوطي في «اللآلئ »: (2/108)، والشوكاني في «الفوائد » (ص:96).
9- «الباعث على إنكار البدع والحوادث »: (239).
10- أخرجه بهذا اللّفظ مسلم في «الأقضية »، باب نقض الأحكام الباطلة وردّ محدثات الأمور: (4590)، واتّفق الشيخان: البخاري في «الصلح »: (2697)، ومسلم في «الأقضية »: (4589) على إخراجه بلفظ:« مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدُّ » من حديث عائشة رضي الله عنها وعند البخاري:« ما ليس فيه... ».(7/25)
****************** 08- فتاوى الحج *******************
01- أحكام الحج
الفتوى رقم: 140
البقاء في الأرض الحجازية أكثر من المدة المعينة.
السؤال: بعض الناس يبقى لأداء مناسك الحج بعد شهر رمضان من غير ترخيص من الجهات المعنية من الأراضي الحجازية، فما حكم هذا الفعل؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فلا يخفى ما يترتب على بقاء كل معتمر قادم من كلّ بلد في الأراضي الحجازية من إخلال بالتنظيم العام وما يجره من مفاسد كظاهرة التسول والسرقة وغيرهما، لذلك كانت تأشيرة الحج أو العمرة مقرونة بمدة محددة لا يتجاوزها إلاّ بترخيص آخر تنظيما لفئة المعتمرين لتحسين وضعيتهم ضمن الوضع العام الأمر الذي يجعل هذا التصرف ملزما على المعتمرين ويجب عليهم تنفيذه والوفاء به لعلتين:
- الأولى: إنّ تصرف الإمام الحاكم أو نوابه بتوقيت المدة وتحديد العدد مبني على مصلحة الجماعة وخيرها، فكانت تصرفاته واجبة التنفيذ وملزمة على من تحت رعايته بناء على قاعدة:" التصرف في الرعية منوط بالمصلحة"(1) وأصل هذه القاعدة قول الشافعي رحمه الله:" منزلة الإمام في الرعية منزلة الولي من اليتيم"(2) وهذا الأصل مأخوذ من قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه:"إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة والي اليتيم، إن احتجت أخذت منه، فإذا أيسرت رددته، فإن استغنيت استعففت"(3)، ويشهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم:" الإمام راع ومسئول عن رعيته"(4).
- الثانية: إنّ إعطاء تأشيرة للمعني بالأمر مشروطة بعهد هو بقاؤه لتلك المدة المحددة، والعهد يجب الوفاء به لقوله تعالى: ?وَأَوْفُوا بِالعَهْدِ إِنَّ العَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً?[الإسراء:34]، وقوله تعالى:?وَالمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا?[البقرة:177].
وبناء عليه، فإنّه ينبغي على المعني بالأمر أن يسعى لتحصيل تأشيرة الحج ابتداء قبل طلبه لتأشيرة العمرة حتى يسعه تأدية المناسك الواجبة عليه على الوجه المطلوب، فإن تعسر أخذ تأشيرة إلاّ لعمرة راعى شرطها، غير أنّه إن بقي إلى وقت الحج وخالف من غير ترخيص، فحجه صحيح ولا تقدح في صحته هذه المخالفة وبخاصة إن كان ذلك-في حقه- حجة الإسلام.
والله أعلم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في:15ذي القعدة1425هـ
الموافق لـ:27ديسمبر2004م
__________
1- انظر هذه القاعدة في: المنثور للزركشي:(1/183)، الأشباه والنظائر للسيوطي:(134)، مجموع الحقائق للخادمي:(316)، الوجيز للبورنو:(292).
2- انظر المنثور للزركشي:(1/183).
3- أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى »: (11164)، من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه. وصححه ابن كثير في «إرشاد الفقيه »: (2/51)، وفي «تفسير القرآن العظيم »: (2/190).
4- أخرجه البخاري في الأحكام (7138)، ومسلم في الإمارة(1829)، وأبو داود في الإمارة(2928)، والترمذي في الجهاد(1705)، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.(8/1)
الفتوى رقم: 150
في حكم المصانعة بمال لأجل تأشيرة الحج
السؤال: ما حكم إعطاء مال مقابل الحصول على تأشيرة الحج، وبخاصة مع فرض بعض وكالات السفر لذلك؟
وهل التنازل المفروض لدخول البقاع المقدسة في الحجاز من أجل أداء مناسك الحج مشروع أم لا؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فإن كانت الجهات المعنية تفرض مالا على شكل ضرائب ورسوم لمنح تأشيرة أو رخصة مقابل أداء مناسك الحج أو العمرة، ولا يستطيع المكلف من أداء هذه العبادة إلاّ بدفع المال، فله أن يدفعه والإثم على الآخذ دون المعطي، لأنّ المال المكتسب بهذه الطريقة غير مشروع ولو أذن فيه المالك جريا على قاعدة:" الأصل في الأموال التحريم"، "ولا يجوز لأحد أن يأخذ مال أحد بلا سبب شرعي" لقوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكَلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ?[النساء:29]، وقد وردت نصوص كثيرة تمنع أخذ مال المسلم إلاّ ما طابت له نفسه ورضي به سواء كان ظلما أو غصبا أو نهيا أو نحوها.
ولا يتدرع بترك أداء الحج أو العمرة من أجل الرسوم والضرائب المفروضة، فليست -في الحقيقة- عذرا مانعا لأداء المناسك إن كان قادرا عليها، ولا يلحقه إثم إن لم يرض بها. والجواب على السؤال الثاني كالأول لتقاربهما.
والعلم عند الله تعالى وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلّ اللّهم على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلّم تسليما.
الجزائر في: 6 ذي القعدة 1425هـ
الموافق لـ: 18ديسمبر2004م(8/2)
الفتوى رقم: 196
في شمول حكم الدفع من مزدلفة ليلا للمرافقين للضعفة
السؤال: هل للطبيب ولمرافقي الضعفة الدفع من مزدلفة بالليل؟
الجواب: الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فيجوز للضعفة من النساء والصبية والعجزة ونحوهم أن يخرجوا من مزدلفة قبل طلوع الفجر وزحمة الناس على وجه الرخصة، فعن ابن عمر رضي الله عنهما:" أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أذن لضعفة الناس من المزدلفة بليل" وقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم لسودة بنت زمعة(2) -زوج النبي صلى الله عليه وسلم- وأمّ حبيبة رضي الله عنها(3) وغيرهما أن يدفعوا قبل أن يدفع الإمام، ويشمل هذا الخروج من مزدلفة بليل مرافقي النساء والعجزة الذين يقومون بخدمتهم ورعايتهم وإسعافهم، فقد روى مسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال:"بعثني النبي صلى الله عليه وسلم في الضعفة من جمع بليل"(4)، وروى البخاري عن عبد الله مولى أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهم، وفيه:"أنّه خرج مع أسماء من مزدلفة بغلس إلى منى"(5)، غير أنّه إذا تحققت الرخصة للمرأة وأمنت في خروجها من مزدلفة بالمرافق الواحد من زوج أو ذي محرم فلا يسع لكل محارمها، وإذا كان الضعيف أو المريض يحتاج من يسعفه من أهل الإسعاف والطب إن تحققت حاجته بالواحد فتسعه الرخصة ولا تسع الجميع لأنّ "الأمر إذا ضاق اتسع" و"إذا اتسع ضاق"، وهذا كلّه إذا خشي الضعفة حطمة الناس لئلا يتأذوا بالزحام، ولكن إذا أمنوا منه، فالمستحب في حقهم المبيت بمزدلفة.
والعلم عند الله وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في:06ربيع الأول1426هـ
الموافق لـ: 15 أفريل 2005م
__________
1- أخرجه أحمد(5003)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.وأخرجه النسائي في الكبير(4037)، وأخرجه بنحوه مطولا البخاري(1676)، ومسلم(1295/304)، وفي الباب عن ابن عباس عند البخاري(1677)،(1678)، ومسلم(293)، وعن عائشة رضي الله عنها عند البخاري(1680)، ومسلم(1290)، وعن أسماء بنت الصديق رضي الله عنهما عند البخاري(1679)، ومسلم(1291)، وعن أمّ حبيبة رضي الله عنها عند مسلم(1292).
2- أخرجه البخاري في الحج(1681)، ومسلم في الحج(3178)، والبيهقي(9785)،من حديث عائشة رضي الله عنها.
3- أخرجه مسلم في الحج(3184)، وأحمد(27533)، والدارمي(1938)، من حديث أمّ حبيبة رضي الله عنها.
4- أخرجه البخاري في الحج(1677)، ومسلم في الحج(3186)، والترمذي في الحج(901)، وأحمد(2242)، والبيهقي(9782)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
5- أخرجه البخاري في الحج،(1679)، ومسلم في الحج(3182)، والنسائي في المناسك(3063)، ومالك(881)، من حديث عبد الله مولى أسماء رضي الله عنها.(8/3)
الفتوى رقم: 236
في مشروعية الوتر وسنة الفجر للحاج بمزدلفة
السؤال: هل يشرع للحاج بمزدلفة أن يصلي صلاة الوتر ورغيبة الفجر؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فيجوز للحاج أن يصلي الوتر وسنة الفجر لأنّ الأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يرد الدليل على خلاف ذلك، وقد ثبتت أحاديث في الوتر وسنة الفجر منها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم:« اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا"(1) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:« ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها"(2) وكذلك فعله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه كان لا يدع الوتر وركعتي الفجر لا في حضر ولا في سفر، فدلت هذه الأحاديث الصحيحة بعمومها على الصحة والجواز ولم يرد ما يخصصها أو يستثنيها، أمّا الأحاديث الواردة في صفة حج النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه لم يذكر فيها الوتر ولا راتبة الفجر منها حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما "أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد، وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئا ثمّ اضطجع حتى طلع الفجر"(3) فإنّه لم يرد فيها ما يوجب تركهما أو النهي عنهما، والأصل استصحاب عموم النصوص السابقة المثبتة لهما، وذلك باستدامة ما كان ثابتا حتى يقوم الدليل على تغييره.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في:04جمادى الثانية 1426هـ
الموافق لـ: 10جويلية 2005م
__________
1- أخرجه البخاري في الوتر(998)، ومسلم في صلاة المسافرين(1791)، وأبو داود في الوتر(1440)، وأحمد(4813)، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
2- أخرجه مسلم في صلاة المسافرين(1721)، والترمذي في الصلاة(418)، والنسائي في قيام الليل وتطوع النهار(1770)، وأحمد(27040)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
3- أخرجه مسلم في الحج(3009)، وأبو داود في المناسك(1907)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.(8/4)
الفتوى رقم: 301
في لحوق الوعيد لمن ترك الحج مع القدرة عليه
السؤال: قرأت في كتاب الكبائر للإمام الحافظ شمس الدين الذهبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من ملك زادا وراحلة تبلغه حج بيت الله الحرام ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا" و أنا أملك المال الكافي لذلك، ولكني وفرته أنا و زوجي لشراء مسكن فما حكم ذلك؟
الجواب: الحمد لله والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:
فالمقصود من الحديث التغليظ في الوعيد لمن استطاع الحج، ولم يحج والمبالغة في الزجر على من تركه، وذلك بتشبيه له باليهودي والنصراني، ووجه التخصيص بأهل الكتاب كونهما غير عاملين بالكتاب، فشبه بهما من ترك الحج حيث لم يعمل بكتاب الله تعالى، ونبذه وراء ظهره كأنه لا يعلمه. والمعلوم أن الاستطاعة في الحج إنما تكون بعد الحوائج الأصلية للإنسان من مأكل ومشرب وملبس وغيرها من أساسيات المعيشة.
غير أن الحديث المذكور في السؤال لا يمكن الاستدلال به على المعنى السابق لعدم انتهاضه للحجية فقد أخرجه الترمذي في كتاب الحج رقم (817) من حديث علي رضي الله عنه مرفوعا وقال:"هذا حديث غريب، وفي إسناده مقال"، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع برقم (5860) وفي ضعيف الترغيب والترهيب برقم (753).
هذا، وينبغي للمكلف أن يعلم بأنَّ الحاجة الأصلية إلى مسكن إنما تكون عند انعدامه في حقه بحيث لايمتلك لنفسه سكنا خاصًّا، أمَّا إذا وُجِدَ في مأوى لائق أو سعى إلى مسكن آخر زيادة عن حاجته فالواجب عليه - والحال هذه- أن يقدم الحج ويؤدي واجبه ما دامت القدرة متوفرة.
والعلم عند الله تعالى وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليما.
الجزائر في: 13 شوال 1426ه
الموافق ل: 15 نوفمبر 2005م(8/5)
الفتوى رقم: 517
في حكم المبيت بمنى يوم التروية وحكم صلاة الجمعة إذا صادف ذلك اليوم
السؤال: ما حكم المبيت بِمِنًى يوم التروية، وإذا صادف يوم الجمعة فهل يخرج إلى مِنًى أم يجب عليه أن يصلي الجمعة بمكة ؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فيوم التروية هو اليوم الثامن من ذي الحجة، وسمي بذلك لأنّهم كانوا يرتوون فيه من الماء لما يُعِدُّونه ليوم عرفة، فأهل التمتع أو من كان مقيما بمكة من أهلها أو من غيرهم أن يحرموا يوم التروية حين يتوجهون إلى مِنًى، لما رواه مسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:"أَمَرَنَا النَِّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لمَاَّ أَحْلَلْنَا أَنْ نُحْرِمَ إِذَا تَوَجَّهْنَا إِلَى مِنًى، فَأَهْلَلْنَا مِنَ الأَبْطَحِ"(1) وفي حديث:" حَتىَّ إِذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ جَعَلْنَا مَكَّةَ بِظَهْرٍ أَهْلَلْنَا بِالحَجِّ "(2)، وفي رواية:" فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ تَوَجَّهُوا إِلىَ مِنًى فَأَهَلُّوا بِالحَجِّ"(3)، فإذا وصل المحرم إلى مِنًى يصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح اقتداء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأفعاله عليه الصلاة والسلام وإن كانت تحمل في المناسك على الوجوب لاندراجها تحت مجمل قوله صلى الله عليه وآله وسلم:« خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ"(4) إلاّ أنّه وجد دليلٌ يصرفها إلى الاستحباب هو اتفاقهم على عدم الوجوب، قال ابن قدامة:"وليس ذلك واجبا في قولهم جميعا"(5)، ونَقَلَ عن ابن المنذر عدم الخلاف، وذلك لاشتغال الناس يوم التروية بمكة إلى آخر النهار، فقد تخلفت عائشة رضي الله عنها ليلة التروية حتى ذهب ثلثا الليل، وصلى ابن الزبير رضي الله عنه بمكة.
فإن وافق يوم التروية يومَ الجمعة يفرق بين حلول الزوال وما قبله على من تجب عليه الجمعة بمكة، فمن أقام بها إلى الزوال فلا يخرج منها حتى يصليها تقديما لفرضية الجمعة للمقيم على سنية الخروج إلى منى، أمّا قبل الزوال فهو على التخيير بين الخروج إلى منى أو البقاء في مكة حتى يصلي الجمعة، والخروج إلى منى في يوم التروية الموافق ليوم الجمعة منقول عن عمر بن عبد العزيز أيام خلافته.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلم تسليمًا.
الجزائر في:27ربيع الأول1426ه
الموافق ل: 6 ماي 2005م
__________
1- أخرجه مسلم في الحج (2941)، من حديث جابر رضي الله عنه. والأبطح: مسيل فيه دقائق الحصى، ويضاف إلى مكة وإلى منى، لأن مسافته منهما واحدة وهو المحصَّب: حنيف بني كنانة. [مراصد الاطلاع للصفي البغدادي: 1/17].
2- أخرجه البخاري معلقا في كتاب الحج، باب الإهلال من البطحاء وغيرها للمكي وللحاج إذا خرج إلى منى، ومسلم في الحج (2944)، والنسائي في مناسك الحج (2949)، وأحمد (14246)، والبيهقي (8571)، من حديث جابر رضي الله عنه.
3- أخرجه مسلم (2950)، وابن حبان (3944)، وابن أبي شيبة في المصنف (14705)، وعبد بن حميد في مسنده (1135)، من حديث جابر رضي الله عنه.
4- أخرجه مسلم في الحج (3137)، وأبو داود في المناسك (1970)، والنسائي في مناسك الحج (3062)، وابن خزيمة (1877)، وأحمد (14010)، وأبو يعلى (2147)، (9608)، من حديث جابر رضي الله عنه.
5- المغني: (3/406).(8/6)
الفتوى رقم: 519
في ضابط الحج عن الغير
السؤال: هل تجوز النيابة في الحج على من كان قادرًا عليه لكن سَوَّف أمره، ومات وهو مفرِّط في أدائه؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين أمّا بعد:
فاعلم - وفّقك الله - أنّه لا تجوز النيابة على الحي القادر لأنّه هو المكلّف بأداء الواجبات ابتلاءً وامتحانًا، كذلك لا تجوز النيابة في الحجّ على من ترك الواجبات التي عليه من مباني الإسلام، وفرّط في الحجّ ولم تنهضه هِمَمُهُ لأداء الفرائض، وكذلك الحي القادر الذي ترك واجبَ الحجّ مع القدرة عليه، وتعمّد على عدم الحجّ الواجب عليه، فهذا لا نيابةَ عنه في الحجّ، ولكن الذي يناب عنه هو ذلك القادر العاجز الذي أراد أن يحجَّ ولكن منعه مانع العجز أو توفي وأوصى بالحجّ عنه أو كان متأمّلاً في أن يحجّ لكن اخترمه الموت، فهؤلاء الذين تجوز النيابة في الحجّ عنهم، ومن شرط النائب أن يكون قد حجّ عن نفسه لقوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث شُبرُمة لَمّا سمع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الرجل يقول:" لبيك عن شُبرُمة"، قال:" وَمَنْ شُبْرُمَة؟" قال:"أخٌ لي"، قال:" أَحَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ؟"، قال:"لا"، قال:"فَاحْجُجْ عَنْ نَفْسِكَ ثمّ عَنْ شُبْرُمَةَ"(1).
والظاهر من الحديث عدم جواز حجّ الإنسان عن غيره قبل أن يحجّ عن نفسه إلاّ أنّ القول بجواز الحجّ عن غيره لمن لم يحجَّ عن نفسه إذا لم يكن مستطيعًا عن الحجّ عن نفسه أصحّ نظرًا، وهو مذهب أحمد في رواية عنه وبه قال الثوري، وبناءً على هذا الرأي فالحديث محمول على أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلّم كان يعلم من حال المُلَبِّي أنه قادر على الحجّ عن نفسه، ولو كان غير قادر لاعتذر له بعدم الاستطاعة ولم ينقل ذلك، ومع ذلك فالأولى بالنيابة في الحجّ أن يحجّ عن نفسه أولاً، ثمّ عن غيره ثانيًا.
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 21 رجب 1427ه
الموافق ل: 15 أغسطس 2006م
__________
1- أخرجه أبو داود في المناسك (1811)، وابن ماجه في المناسك (2903)، وابن حبان (3988)، وابن خزيمة (3039)، والطبراني في "المعجم الصغير" (613)، والبيهقي (8766)، والدارقطني (148)، من حديث ابن عباس رضي الله عنه. قال البيهقي في "السنن الكبرى" (4/336):" هذا إسناد صحيح ليس في هذا الباب أصح منه". وقال ابن حجر في "الفتح" (12/398):" سنده صحيح". وصححه الألباني في "الإرواء" (994)، والوادعي في "الصحيح المسند"(629).(8/7)
الفتوى رقم: 657
في حكم الحجّ بالمال الحرام
السؤال:
ما حكم الحجِّ بالمال الحرام؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالحجُّ عبادةٌ مفروضةٌ مركَّبةٌ من القدرة البدنيةِ والماليةِ، فينبغي على المكلَّفِ أداؤُها بالمالِ الطيِّب والرِّزق الحلالِ لتحصيل الأجرِ والثوابِ، لقوله تعالى: ?وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى? [البقرة: 197]، ولقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا »(1).
غيرَ أنّ من حَجَّ بِمَالٍ حرامٍ فإنّ حَجَّهُ صحيحٌ على أرجح قَوْلَي العلماء، وتسقط به الفريضةُ، ولا تشغل به ذِمّته، وهو آثمٌ بفعل الحرام، لانفكاك جهة الأمر عن جهة النهي، ولا أجرَ له على حجّه لِمَا تقدّم من الأحاديث الصحيحة؛ ذلك لأنّ النفقة المالية ليست مقصودةً في ذاتها لجواز حجّ المكلَّف عن نفسه بنفقات غيره تبرُّعًا، فإذا حصل الإنفاق بالحلال وقع به الأجر وإلاّ لم يحصل له أجر، ولأنّ النفقة المالية ليست شرطًا في صحّة الحجّ وإنما هي شرط وجوب في حقّ البعيد دون القريب، إذ القريب المتمكّن من أداء الحجّ بدون نفقة فحجّه صحيح، ولم يرد عن العلماء القول بفساد حَجّه، فظهر بوضوح انفكاك الجهتين. أمّا حديث:« مَنْ حَجَّ بِمَالٍ حَرَامٍ فَقَالَ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ:« لاَ لَبَّيْكَ وَلاَ سَعْدَيْكَ وَحَجُّكَ مَرْدُودٌ عَلَيْكَ »(2)، وغيرُه من الأحاديث فهي ضعيفةُ السند لا تقوى على النهوض والاحتجاج.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 1 صفر 1428ه
الموافق ل: 19 فبراير 2007م
__________
1- أخرجه مسلم: كتاب «الزكاة » باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها. رقم: (2346)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2- انظر: مجمع «الزوائد » للهيثمي: (10/522)، «المقاصد الحسنة » للسخاوي: رقم (57)، «السلسلة الضعيفة » للألباني: (3/211) رقم (1091).(8/8)
الفتوى رقم: 703
في مشروعية عموم الاشتراط في الحج والعمرة
السؤال:
هل الاشتراط في الحجّ والعمرة خاصّ بمن كان به مرض أو هو عام لكلّ من أراد الإحرام بهما أو بأحدهما؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فلا تتعلّقُ مشروعيةُ اشتراطِ المُحْرِمِ على الله تعالى للتحلُّل من مناسكِ الحجّ والعمرةِ بمن كان به مرض خاصّةً، وإنما هو اشتراطٌ عامٌّ سواءٌ لِمَنْ لَمْ يكن به مرضٌ أو من تعلَّق به مرض، فيُشْرَعُ لِمَنْ لَبَّى مُحرِمًا أن يُقرِنَ تلبيتَهُ باشتراط التحلُّل من نُسُكِهِ متى حَبَسَهُ عارضٌ من مرضٍ أو خوفٍ عن إتمام نسكه بقوله:« اللَّهُمَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي »، فإن حبس لعارض فليس في ذمّته دَمٌ ولا حجّ من قابِلٍ، باستثناء حَجّة الإسلام فلا تسقط عنه إجماعًا، ويلزمه قضاؤها(1).
هذا، وباشتراط التحلّل بعذر قال عمر بنُ الخطاب وعلي وابن مسعود وغيرُهم وجماعة من التابعين، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور والشافعي في أصحّ قوليه، وحجّتهم ما ثبت صحيحًا من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: دخل رسولُ الله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم على ضُباعةَ بنتِ الزبير فقال لها:« لَعَلَّكِ أَرَدْتِ الحَجَّ؟ » قالت: واللهِ لاَ أَجِدُنِي إِلاَّ وجعة، فقال لها: حُجِّي وَاشْتَرِطِي، قُولِي: اللَّهُمَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي »(2). وهذا خلافًا لمذهب مالك وأبي حنيفة وبعضِ التابعين فإنه لا يصحّ الاشتراط مطلقًا عامًّا كان أو خاصًّا بمن به مرض، والحديث مخصوص -عندهم- بضُباعة بنت الزبير وأنّ القصّة قضيةُ عين لا عموم لها.
والصحيح أصوليًّا أنّ الخطاب الخاصَّ بواحد من الأمّة يشمل المخاطَبَ وغيرَه حتى يقوم دليلُ التخصيصِ، لعموم الحجّة الرِّسالية الشاملة للناس كافّةً، ولعمل الصحابة رضي الله عنهم بقضايا الأعيان عمومًا، وفي هذه المسألة خصوصًا، ففيه دليل على عدم التفريق في الأحكام الشرعية بين المخاطَبِ وغيرِه كما سبق بيان المسألة أصوليًّا(3).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 14 ربيع الأول 1428ه
الموافق ل: 2 أبريل 2007م
__________
1- ويلزم لمن لم يشترط -إذا حبسه عارض من مرض أو خوف- دم، لقوله تعالى: ?فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ? [البقرة: 196]، كما يلزمه حج من قابل.
2- أخرجه البخاري في «النكاح »: (4801)، ومسلم في «الحج »: (2902)، وابن حبان: (3774)، وأحمد: (25131)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
3- انظر: الفتوى الموسومة ب:« في العمل بقضايا الأعيان » تحت رقم: 454 على الموقع الرسمي للشيخ حفظه الله تعالى:www.ferkous.com.(8/9)
الفتوى رقم: 710
في تعيين الأفضل بين تكرار الحجّ تطوّعًا أم التصدّق على الفقراء
السؤال:
ما هو الأفضل للموسِرِ شرعًا تَكرار الحجِّ تطوُّعًا في كلِّ عامٍ أوِ التصدُّق بالمال المخصَّص للحج على الفقراء والمساكين والمحتاجين؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالنصوصُ الحديثيةُ الواردةُ في الترغيبِ في الحجِّ تدلُّ على أفضليةِ الحجِّ ولو تطوُّعًا على التصدّق على الفقراء والمساكين في الجُملة، ومن هذه النصوصِ:
- إنّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم سُئِلَ: أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قال:« إِيمَانٌ بِاللهِ وَحْدَهُ، ثُمَّ الجِهَادُ، ثُمَّ حَجَّةٌ بَرَّةٌ، تَفْضُلُ سَائِرَ الأَعْمَالِ كَمَا بَيْنَ مَطْلَعِ الشَّمْسِ إِلَى مَغْرِبِهَا »(1).
- وقولُه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« تَابِعُوا بَيْنَ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ، فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الفَقْرَ وَالذُّنُوبَ كَمَا يَنْفِي الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، وَلَيْسَ لِلْحَجَّةِ المَبْرُورَةِ ثَوَابٌ إِلاَّ الجَنَّةَ »(2).
- وقولُه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« العُمْرَةُ إِلَى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلاَّ الجَنَّةُ »(3)، وقولُه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« وَأَنَّ الحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ »(4).
- وقولُه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« مَا تَرْفَعُ إِبِلُ الحَاجِّ رِجْلاً، وَلاَ تَضَعُ يَدًا إِلاَّ كَتَبَ اللهُ لَهُ بِهَا حَسَنَةً، أَوْ مَحَا عَنْهُ سَيِّئَةً، أَوْ رَفَعَهُ بِهَا دَرَجَةً »(5).
- وقولُه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّ عَبْدًا صَحَّحْتُ لَهُ جِسْمَهُ، وَوَسَّعْتُ عَلَيْهِ فِي المَعِيشَةِ، تَمْضِي عَلَيْهِ خَمْسَةُ أَعْوَامٍ لاَ يَفِدُ إِلَيَّ لَمَحْرُومٌ »(6). وبهذا أفتى ابنُ تيمية(7 ) -رحمه الله-.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 12 جمادى الأولى 1428ه
الموفق ل: 29 مايو 2007م
__________
1- أخرجه أحمد: (18531)، والطبراني في «الكبير »: (20/344)، من حديث ماعز رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في «صحيح الجامع »: (1091).
2- أخرجه الترمذي في «الحج »، باب ما جاء في ثواب الحج والعمرة: (810)، والنسائي في «الحج »، باب فضل المتابعة بين الحج والعمرة: (2631)، وابن حبان في «صحيحه »: (3693)، وأحمد: (3660)، والبزار في «مسنده »: (1722)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.والحديث صححه أحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد »: (5/244)، وحسنه الألباني في «السلسلة الصحيحة »: (3/197)، ومقبل الوادعي في «الصحيح المسند »: (897).
3- أخرجه البخاري في «أبواب العمرة »، باب وجوب العمرة وفضلها: (1683)، ومسلم في «الحج »، باب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة: (3289)، والنسائي في «مناسك الحج »، باب فضل العمرة: (2629)، وابن ماجه في «المناسك »، باب فضل الحج والعمرة: (2888)، وابن حبان في «صحيحه »: (3696)، وابن خزيمة في «صحيحه »: (3072)، وأحمد: (7307)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
4- أخرجه مسلم في «الإيمان »، باب كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة: (321)، وابن خزيمة في «صحيحه »: (2515)، من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه.
5- أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان »: (4116)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. والحديث حسنه الألباني في «صحيح الجامع »: (5596).
6- أخرجه ابن حبان في «صحيحه »: (3703)، وأبو يعلى في «مسنده »: (1031)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (10530)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في «صحيح الجامع »: (1166).
7- وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن أفضلية الحجّ عن نفسه تطوّعًا أو على والده أم الصدقة على الفقراء والمساكين حيث قال له السائل في هذه الأبيات الشعرية:
مَاذَا يَقُولُ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي رَجُلٍ ........ آتَاهُ ذُو العَرْشِ مَالاً حَجَّ وَاعْتَمَرَا
فَهَزَّهُ الشَّوْقُ نَحْوَ الْمُصْطَفَى طَرَبًا ...... أَتَرَوْنَ الْحَجَّ أَفْضَلَ أَمْ إيثَارَهُ الفُقَرَا
أَمْ حَجَّةً عَنْ أَبِيهِ ذَاكَ أَفْضَلُ أَمْ ........ مَاذَا الَّذِي يَا سَادَتِي ظَهَرَا
فَأَفْتُوا مُحِبًّا لَكُمْ نَفْسِي فَدَيْتُكُمُو ...... وَذِكْرُكُمْ دَأَبَهُ إنْ غَابَ أَوْ حَضَرَا
فأجاب -رحمه الله-:
نَقُولُ فِيهِ: بِأَنَّ الْحَجَّ أَفْضَلُ مِنْ ...... فِعْلِ التَّصَدُّقِ وَالإِعْطَاءِ لِلْفُقَرَا
وَالْحَجُّ عَنْ وَالِدَيْهِ فِيهِ بِرُّهُمَا ....... وَالأُمُّ أَسْبَقُ فِي الْبِرِّ الَّذِي ذَكَرَا
لَكِنْ إذَا الْفَرْضُ خَصَّ الأَبَ كَانَ إذًا ..... هُوَ الْمُقَدَّمَ فِيمَا يَمْنَعُ الضَّرَرَا
كَمَا إذَا كَانَ مُحْتَاجًا إلَى صِلَةٍ ....... وَأُمُّهُ قَدْ كَفَاهَا مَنْ بَرَا الْبَشَرَا
هَذَا جَوَابُك يَا هَذَا مُوَازَنَةً ....... وَلَيْسَ مُفْتِيك مَعْدُودًا مِنْ الشُّعَرَا
[مجموع الفتاوى: لابن تيمية: 26/10].(8/10)
الفتوى رقم: 749
في الطعام الذي يصنعه الحاج عند عودته من سفره
السؤال:
جرت العادة عندنا أنّ الحاجَّ إذا أراد الذهاب إلى الحجِّ صنع طعامًا ودعا الأقارب والأحباب والجيران إليه، ويفعل الشيء نفسه عند عودته، وتسمّى هذه الدعوة عندنا بقولهم:« عشاء الحاجّ »، فنرجو منكم بيانَ حكم صنع هذا الطعام، وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فالطعامُ المعدُّ عند قدومِ المسافر يقال له «النقيعة »، وهو مُشتقٌّ من النَّقْعِ -وهو الغبار- لأنّ المسافر يأتي وعليه غبارُ السفر، وقد صحَّ عن النبيِّ صَلَّى الله عليه وآله وسَلَّم:« أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ المَدِينَةَ نَحَرَ جَزُورًا أَوْ بَقَرَةً »(1)، والحديثُ يدلّ على مشروعية الدعوة عند القدوم من السفر(2)، وقد بوّب له البخاري:« باب الطعام عند القدوم، وكان ابنُ عمرَ رضي الله عنهما يُفطِر لمن يغشاه »(3)، أي: يغشونه للسلام عليه والتهنئة بالقدوم، قال ابن بطال في الحديث السابق:« فيه إطعام الإمام والرئيس أصحابَه عند القدوم من السفر، وهو مستحبٌّ عند السلف، ويسمَّى النقيعة، ونقل عن المهلب أن ابن عمر رضي الله عنهما كان إذا قدم من سفر أطعم من يأتيه ويفطر معهم، ويترك قضاء رمضان لأنه كان لا يصوم في السفر فإذا انتهى الطعام ابتدأ قضاء رمضان ».
هذا، ومذهبُ جمهورِ الصحابة والتابعين وجوبُ الإجابة إلى سائرِ الولائم، وهي على ما ذكره القاضي عياض والنووي ثمان(4) منها:« النقيعة »، مع اختلافهم هل الطعام يصنعه المسافرُ أم يصنعه غيرُه له؟ ومن النصِّ السابقِ والأثرِ يظهر ترجيحُ القولِ الأَوَّل.
أمَّا إعدادُ الطعام قبل السفر فلا يُعلم دخوله تحت تَعداد الولائم المشروعة؛ لأنها وليمة ارتبطت بالحجّ وأضيفت إليه، و«كُلُّ مَا أُضِيفَ إِلَى حُكْمٍ شَرْعِيٍّ يَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ يُصَحِّحُهُ ».
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في 26 من ذي الحجة 1427ه
الموافق ل: 15 يناير 2007م
__________
1- أخرجه البخاري في «الجهاد والسير » باب الطعام عند القدوم: (2923)، وأبو داود في «الأطعمة » باب الإطعام عند القدوم من السفر: (3747)، وأحمد: (13922)، والبيهقي: (10421)، من حديث جابر رضي الله عنه.
2- «عون المعبود » العظيم آبادي: (10/211).
3- «فتح الباري » لابن حجر: (6/194).
4- «شرح مسلم » للنووي: (9/171)، «تحفة المودود » لابن القيم: (127)، «نيل الأوطار » للشوكاني: (6/238).(8/11)
الفتوى رقم: 750
في تخصيص وليمة «النقيعة » بالحج
السؤال:
كنتم قد تفضّلتم بالإجابة عن حكم صنعِ الطعامِ للعائد من الحجِّ، وفهمتُ من جوابكم أنّ هذا من ضِمن ما يُسمَّى بطعام «النقيعة » غير أنه استشكل عليَّ أمرٌ وهو أنّ هؤلاء الذين يصنعون الطعام عندنا للعائد من الحجّ يخصّون سفر الحجِّ دون غيره بصنع الطعام، وقد يكونون من الذين لا يعقُّون عن أولادهم، فإذا عَلِمَ المرءُ أنهم على هذه الحال فهل يجب عليه أن يلبي دعوتهم؟ وبارك الله فيكم.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمّا بعد:
فإذا صَنَعَ العائدُ مِنْ سَفَرِهِ من الحجِّ طعامًا ودَعَا إليه شكرًا للمُنعِم على ما أنعم عليه بالحجِّ وسلامة العودةِ إلى بلده وأهله، فإنه تُلَبَّى دعوته بناءً على ما تقدّم في مسألة «النقيعة »، ما لم يُعلم بقرائنِ الأحوالِ أنّ دوافعَ الإطعامِ مَبْنِيَّةٌ على حُبِّ المحمدةِ والظهورِ والتفاخُرِ أو الخُيَلاَءِ، كَقَرِينة تركه سُنّة الأضحية والعقيقة المؤكّدتين بالنصوص الحديثية؛ فإنه في هذه الحال لا تجب عليه تلبية الدعوة وشهودها، أمّا العقيقة فهي سُنَّةٌ واجبةٌ على المولود له على الصحيح من أقوال العلماء لأنّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسلم أمر بها وعمل بها في قوله:« مَعَ الغُلاَمِ عَقِيقَةٌ فَأهْرِيقُوا عَنْهُ دَمًا، وَأَمِيطُوا عَنْهُ الأَذَى »(1) ولقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« كُلُّ غُلاَمٍ مُرْتَهَنٌ بِعَقِيقَتِهِ. تُذْبَحُ عَنْهُ يَوْمَ السَّابِعِ، وَيُحْلَقُ رَأْسُهُ، وَيُسَمَّى »(2)، وتبقى ذِمَّةُ المولود له مشغولة بالعق عن مولوده.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: أول محرم 1428ه
الموافق ل: 20 يناير 2007م
__________
1- أخرجه البخاري في «العقيقة »: (5471)، وأبو داود في «الضحايا »: (2839)، والترمذي في «الأضاحي »: (1515)، والنسائي في «العقيقة »: (4214)، وابن ماجه في «الذبائح »: (3164)، وأحمد: (15796)، من حديث سلمان بن عامر الضبي رضي الله عنه.
2- أخرجه أبوداود في «الأضاحي »: (2838)، والترمذي في «الأضاحي »: (1522)، والنسائي في «العقيقة »: (4220)، وابن ماجه في «الذبائح »: (3165)، والحاكم في «المستدرك »: (7587)، وأحمد: (19676)، من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه. والحديث قال عنه ابن حجر في «فتح الباري » (9/507):« رجاله ثقات »، وصحَّحه ابن الملقن في «البدر المنير » (9/333)، والألباني في «صحيح الجامع » (4184).(8/12)
الفتوى رقم: 777
في حكم شراء جواز سفر خاصّ بالحج
السؤال:
لا يخفى على فضيلتِكم أنّ الدولةَ عندنا -في الجزائر- تمنح جوازاتِ سفرٍ خاصَّةٍ بالحجِّ بالمجَّان، وأكثرها يحصل عليه المسجِّلون في بَلَديَّاتهم وَفق عملية القرعة، كما تمنح عددًا من هذه الجوازات إلى أشخاص أو جهات إدارية معيّنة من إطارات وموظفي الدولة بالمجَّان أيضًا، فيحصل بعضُ الأفراد على عددٍ منها بحكم القرابة أو الصداقة فيقومون ببيعها إلى من يريد الحجّ.
فهل يجوز بيعُ هذه الجوازات بحُجَّة أنّه صارت مِلكًا لصاحبها؟ وهل يجوز شراؤها لمن لم يتيسَّر له الحصولُ عليها من الطرق المعلومة؟ وإذا جاز شراؤها فهل هو في الحجِّ الواجب فقط أم يشمل حجَّ التطوّع أيضًا؟ أفتونا مأجورين.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فإنّه ممّا ينبغي أن يُعلمَ أنّ جواز السفر الأصلي المستجمع للبيانات الشخصية للفرد لا يصلح -أصلاً- أن يكون محلاًّ للتعامل فيه بالتنازل والإبراء أو الهِبَةِ أو البيع والشراء ونحو ذلك ممّا يدخله التراضي بين الطرفين من قسم:« حقّ العبد »، وعِلَّة المنع انتظامه ضمن معيارِ المصلحة العامَّة المتعلِّقة بنظام المجتمع، وهو ما اصطلح عليه في الشريعة ب:« حقّ الله » أو «حقّ الشرع »، وأضيف الحقّ لله تعالى لعِظَمِ خطره وشمول نفعه، لذلك لا يجوز فيه العفو أو الإبراء منه أو الصلح عليه أو الاتفاق على ما يخالفه، وبعبارة مقتضبة: أنّه لا يقبل التراضي، ونظيرُه في الاصطلاح السائد: النظام العامّ، حيث لا يستطيع شخص -مثلاً- أن يتنازل عن اسمه ولقبه العائلي لغيره، أو يُعَدِّلَ فيه بحَسَبِهِ، إذ قواعد الأهلية من حقّ الله تعالى، وتندرج ضمن النظام العامِّ، فلا يستطيع شخص أن يتنازل عن أهليته أو يزيدَ فيها أو ينقصَ منها باتفاق خاصٍّ، مهما كانت صورة الاتفاق، وكذلك لا يجوز النُّزول عن البُنُوَّة أو الصلح على النَّسَب، وعليه يبطل كُلُّ تصرُّفٍ يقع مخالفًا لحقِّ الله تعالى، وكلُّ كَسْبٍ على عمل غير مشروع يحرم ويأثم صاحبه ويستحقُّ العقابَ.
أمّا الجواز المخصَّص للحجِّ الخالي من البيانات الشخصية فلا يصلح فيه -أيضًا- التعامل المالي بالبيع والشراء دون الهبة والتنازل باعتبار أنّ الجواز الخاصَّ بالحجِّ لا يمثِّل في ذاته قيمةً ماليةً متقومة شرعًا، أي: أنّ الشرع لم يُقِرَّ بماليته حتى يُملَّك ويصبح محلاًّ للكسب بالبيع والشراء؛ ذلك لأنّ جواز السفر وسيلةٌ إداريةٌ لا تخرج طبيعتُه عن النظام العامِّ حيث تتصرَّف فيه الدولةُ إداريًّا على وَفْقِ المصلحة العامّة، ولا يصير -بحال- مِلكًا لحائزه، إذ لا قيمة لأوراقه بدون الجهة الحكومية المستوجبة للإجراءات البيانية والإدارية لتحصيل الترخيص بالحجِّ بالختم والإمضاء من الدوائر التابعة لها.
ومن جهة أخرى فإنَّ الغرض الذي خُصِّصَ من أجله الجواز إنّما هو الاستعانة به كوسيلة لأداء مناسك الحجِّ القائمة على عهدة الجهة المانحة للجواز، فالتعامل المالي ببيع الجواز وشرائه يتنافى مع طبيعة المسلك الإداريِّ المنظِّم لهذه العبادة، وعليه فإذا انتفت الملكيةُ الفرديةُ للجواز لكونه معدودًا من النِّظام العامِّ، وتعارض التعاقدُ المالي مع الغرض الذي خُصِّصَ من أجله الجوازُ فلا يختلف الحكمُ عن سابقه بوقوع التعامل به باطلاً لمخالفته لحقِّ الله تعالى والتعدِّي على المنفعة العامَّة والمصلحة الشرعية التي خُصِّص من أجلها الجواز وَ«مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ »(1).
هذا، وإذا تقرَّر الحكم بالمنع في الأصل فلا يمنع من الخروج عنه استثناءً لمن تعيَّنت عليه حَجَّةُ الإسلام، وتعذَّر عليه الحجُّ إلاَّ بهذا السَّبيل فإنّه يحلُّ لمعطي المال لأداء واجب الحجِّ في حَقِّه عند تحقُّق شرطه ما لا يحلُّ للآخِذِ، إذ الفعل الواحد يجوز أن يكون مأمورًا به من وجهٍ، منهيًّا عنه من وجهٍ آخرَ؛ لأنّ الفعل قد تجتمع فيه مصلحةٌ ومفسدةٌ من جهاتٍ مختلفةٍ.
وتبريرُ الاستثناء من الأصل السابق يكمن في أنَّ العبادة حقٌّ خالصٌ لله تعالى لقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسلم:« حَقُ اللهِ عَلَى العِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا »(2)، والمعلومُ أنّ كُلَّ حقِّ يقابله واجبٌ، وترك عبادة الحجِّ لمن وجب عليه تضييع لحقِّ الله تعالى، وتركُ المأمورِ به أعظمُ ذنبًا من ترك المنهي عنه، فمفسدة بَذْلِ المالِ لأجل تحصيل الجواز مغمورةٌ في مصلحة العبادة العُلْيَا، وهي مُقَدَّمَةٌ عليها كما تقرَّر في علم المقاصد؛ ولأنّ «جِنْسَ فِعْلِ المَأْمُورِ أَعْظَمُ مِنْ جِنْسِ تَرْكِ المَنْهِيِّ عَنْهُ »؛ ولأنّه إذا جاز -في حقوق العباد- دفعُ مالٍ لإحقاقِ حقٍّ أو إبطالِ باطلٍ أي: جازَ للمعطي دون الآخذ، فكذلك في حقِّ الله في العبادة، فظهر جَلِيًّا أنّ من تعلَّق الوجوبُ في ذِمَّته يجوز له الانتفاع بالجواز مع بذل العِوَضِ المالي عليه دون غيره.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 19 شعبان 1428ه
الموافق ل: 01 سبتمبر 2007م
__________
1- أخرجه مسلم في «الأقضية »، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور: (4493)، وأحمد: (25870)، والدارقطني في «سننه »: (4593)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
2- أخرجه البخاري في «التوحيد »، باب ما جاء في دعاء النبي أمته إلى توحيد: (9638)، ومسلم في «الإيمان »، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا: (143)، والترمذي في «الإيمان »، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة: (2643)، وابن ماجه في «الزهد »، باب ما يرجى من رحمة الله يوم القيامة: (4296)، وأحمد: (21553)، من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه.(8/13)
الفتوى رقم: 780
في حكم الاقتراض لأجل الحج
السؤال:
شخص رزقه اللهُ مالاً، أراد أن يحجَّ به، لكنَّه لا يكفيه لنفقة الحجِّ وكُلفته، فَهَمَّ ليقترض من غيره فحصل عنده تردُّد؛ فهل يجوز أن يقترض ما يتمِّم به نفقةَ الحجِّ، وهو لا يعلم هل يقدر على الوفاء وتسديد الدَّين أم لا يقدر؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالاستطاعةُ شرطُ وجوبٍ في الحجِّ، لا شرط في صِحَّته لقوله تعالى: ?وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً? [آل عمران: 97]، وما كان شرطًا للوجوب لا يلزم المكلَّفَ تحصيلُه لكونه من خطاب الوضع، والوجوبُ منتفٍ عند عدمه، إذ «مَا لاَ يَتِمُّ الوُجُوبُ إِلاَّ بِهِ فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ »، ومن جهة أخرى فإنَّ المتقرِّر في القواعد العامَّة أنّ «كُلَّ عِبَادَةٍ اعْتُبِرَ فِيهَا المَالُ، فَإِنَّ المُعْتَبَرَ مِلْكُهُ لاَ القُدْرَة عَلَى مِلْكِهِ »، وإذا كان الحجُّ في حقِّ غير المستطيع ليس واجبًا فإنَّ الشارعَ لا يُلزِمُهُ بالاستدانة له، وقد ورد من حديث بن أبي أَوْفَى رضي الله عنه أنّه لما سُئِلَ عن رجلٍ يستقرض ويحُجُّ؟ قال:« يَسْتَرْزِقُ اللهَ، وَلاَ يَسْتَقْرِضُ. قال: وَكُنَّا نَقُولُ: لاَ يَسْتَقْرِضُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَفَاءٌ »(1).
وعليه، فإن كان المكلَّفُ غيرَ واثق من قدرته على الوفاء بما استقرضه من الدَّين فلا يجوز له أن يتكلَّف أمرًا يسَّره اللهُ رأفةً بالناس ولم يوجِبْه، ولم يترتَّب عليه إثم إن مات ولم يحجّ وهو غير ملوم بخلاف ما إذا كانت ذمَّتُهُ مشغولةً بالدَّين الذي اقترضه واخترمه الموت فيبقى مطالبًا به؛ لأنّه حقٌّ العبيد، ولا يخفى أنّ حقَّ الله تعالى مبني على المسامحة والمساهلة، وحقّ العبد مبني على المشاحّة والمضايقة؛ لأنّه يَنْتَفِعُ بِحصوله، ويَتَضَرَّرُ بِفواته دون البَارِي تعالى فلا يَتَضَرَّرُ بفوات حقوقه ولا يَنْتَفِعُ بِحصولها، غَير أنّه إن استقرضَ وَحَجَّ -وهو على هذه الحال- فحجُّه صحيح وتبرأ ذِمَّته منه، وتبقى مشغولةً بقضاء دَيْنه.
أمّا إذا كان قادرًا على الوفاء به -في الحال- فيلزمُه الحجُّ مع توثيق القرض برهن أو كفيل، أو وصية بتسديد المبلغ المقترَضِ في حالة ما إذا حصل له مكروه يمنعه من الوفاء به.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 11 شعبان 1428ه
الموافق ل: 24 أوت 2007م
__________
1- أخرجه البيهقي في «الحج »، باب الاستسلاف للحج: (8737)، وابن أبي شيبة في «المصنف »: (15014). وصححه الألباني في «السلسلة الضعيفة »: (13/1/329).(8/14)
الفتوى رقم: 781
في حكم الفوز في المسابقات بأداء حج أو عمرة
السؤال:
تقوم بعضُ المؤسَّسات الإعلامية بإجراء مسابقات موسمية يحصل فيها الفائزُ على نفقةٍ كاملةٍ لحج أو عمرة، فما حكم المشاركة فيها مع العلم أنَّ الأسئلة المطروحة قد تكون متعلِّقةً بالأفلام أو الألعاب الرياضية أو الموسيقى ونحوها؟
وما حكم حجّ أو اعتمار الفائز في تلك المسابقات بمثل هذه الجائزة؟
وهل ينطبق الحكم على جميع المسابقات التي تكون في أنواع العلوم: كالعلوم الشرعية والعلوم الكونية ونحو ذلك؟ نريد تفصيلاً جزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فينبغي التفريق بين المسابقات الدِّينية ذات الجوائز المالية من ولاة الأمور أو جمعيات خيرية أو من المحسنين، وبين المسابقات التي تنشرها المؤسَّسات الإعلامية، فإنّ الصورة الأولى للمسابقات منتظَمَةٌ وَفق مقصود الشارع من إعداد العُدَّة الإيمانية: من حفظ القرآن والسُّنَّة، وتحصيلِ المسائلِ العلميةِ الشرعيةِ، وهي مُلحقةٌ بالمسابقات التي حدَّدَها النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم بقوله:«لاَ سَبَقَ إلاَّ في خُفٍّ أوْ حَافِرٍ أوْ نَصْلٍ »(1)، أي: ركوب الخيل والإبل والرماية، وكلُّ ما فيه من إعداد للعُدَّة المادية من وسائل الجهاد في سبيل الله في تقوية شوكةِ المسلمين، فيصحُّ السَّبَقُ في هذه المسابقات، إذ كِلاَ العُدَّتين من مطالب الشرعِ ومقاصدِه؛ لأنّها وسائلُ لغايةٍ شرعيةٍ، و«الوَسَائِلُ لَهَا حُكْمُ المَقَاصِدِ ».
لذلك فالجوائز المباحة الممنوحة من المتبرِّعين لمصلحة الفائزين تحقيقًا لهذا المبتغى يجوز الانتفاع بها مُطلقًا سواء في حجٍّ أو عمرةٍ أو غيرهما من غير حَرَجٍ.
أمّا المسابقات التي تنشرها المؤسَّسات الإعلامية: من جرائدَ وصُحُفٍ ومَجلاَّت ونحوها، فلا تجوز المشاركة فيها؛ لأنّها تتضمَّن المقامرة والميسر، إذ المشارك يدفع مالاً ولو زهيدًا لشراء الوسيلة الإعلامية، في حين أنّ المؤسَّسة الإعلامية تحصل بترويج المسابقات على زيادة كسبٍ، وفضلِ دخلٍ متولِّدٍ عنها.
ومن جهة أخرى لا يتحقَّقُ بها مقصود الشارع بل بالعكس تضادُّه، حيث تتبلور من خلال جريان المسابقات آثارُ الخلاعة والعري والتبرج، ومظاهرُ الفتنة بترويج الأفلام، ونشر المعازف والموسيقى، وغيرها من الأخلاق المنافية لديننا الحنيف، وإن وُجِدَ السَّليم منها فمغمورٌ في وسطٍ فاسدٍ، وكأنَّ إرادةً مفروضة تعمل بواسطة هذه الوسيلة الإعلامية لتحطيم القيم الإسلامية، واستبدالها بدناءة قيم الحضارة الغربية لفصل الدِّين عن حياة المجتمع تحت تأثير العِلمانية التي يشهدها العالم الإسلامي اليوم، وبغفلة المغرورين من بني جِلدتنا.
هذا، ولَمَّا كانت «الوسائلُ لَهَا حُكْمُ المَقَاصِدِ » فإنَّ الجوائز المعطاة بهذه الكيفية لا يجوز الانتفاع بها للجهتين السابقتين، فمن حصل على الجوائز بعد العلم بالتحريم فالواجب أن يتصدَّق بها أو يُنفق ثمنَها في وجوه البِرِّ؛ ذلك لأنَّ من شَرْطِ التوبةِ التخلصَ من المال الحرام، غيرَ أنَّ من حَجَّ بِهذا المال فإنَّ حَجَّهُ صحيحٌ على أرجحِ قَوْلَي العلماء، وتسقط به الفريضةُ، ولا تُشغَلُ به ذِمَّتُهُ، وهو آثمٌ بفعلِ الحرام، لانفكاك جهة الأمر عن جهة النهي، ولا أجرَ له على حَجِّهِ، لقوله تعالى: ?وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى? [البقرة: 197]، ولقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا »(2)؛ أمّا قبل العلم بتحريمها فلا يلحقُه إثمٌ لكونه معذورًا بالجهل، مِصداقًا لقوله تعالى: ?فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ? [البقرة: 275].
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 14 شعبان 1428ه
الموافق ل: 27 أوت 2007م
__________
1- أخرجه أبو داود في «الجهاد »، باب في السبق:(2574)، والترمذي في «الجهاد »، باب ما جاء في الرهان والسبق: (1700)، والنسائي في كتاب «الخيل »، باب السبق: (3585)، وابن ماجه في «الجهاد »، باب السبق والرهان: (2878)، وابن حبان: (1638)،وأحمد: (9788)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث حسنه البغوي في «شرح السنة »: (535/5)، وصححه ابن القطان في «الوهم والإيهام »: (5/382)، وأحمد شاكر في «تحقيقه لمسند أحمد »: (13/232)، والألباني في «الإرواء »: (1506)، والوادعي في «الصحيح المسند »: (1408).
2- أخرجه مسلم: كتاب «الزكاة » باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها. رقم: (2346)، والترمذي في «تفسير القرآن »، (2989)، وأحمد: (8148)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(8/15)
الفتوى رقم: 835
في الحد الأدنى المجزئ للمبيت بمنى
السؤال:
ما هو الحدُّ الأدنى المجزئُ للمبيت في مِنًى؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالمبيتُ بِمِنًى أيام التشريق واجبٌ على أرجح قَوْلَيِ العلماء، وبه قال الجمهورُ من المالكية والشافعية وهو المشهور عند الحنابلة، لفِعله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، وقد قال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« خُذُوا عَنِّي منَاسِكَكُمْ »(1)، ولأنه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم رخَّص للعبَّاس أن يبيت بمكةَّ ليالَ مِنًى(2) من أجل السِّقاية، ورخَّص -أيضًا- لرُعاة الإبل أن يبيتوا خارجَ مِنًى(3)، والمعلومُ أنَّ الرخصةَ لا تكون إلاَّ عن عزيمةٍ، قال الحافظُ ابنُ حجر:« والحديثُ دليلٌ على وجوب المبيت بمنى، وأنه من مناسك الحجِّ؛ لأنَّ التعبيرَ بالرخصة يقتضي أنَّ مقابلها عزيمةٌ، وأنَّ الإذنَ وقع للعِلَّة المذكورة، وإذا لم توجد أو ما في معناها لم يحصل الإذن »(4).
والواجبُ في المبيت بِمِنًى معظمُ الليل، وهو أدنى ثُلُثَيِ الليلِ، إمَّا من أَوَّله أو من آخِره، ولو قُدِّر أنَّ زمنَ الليلِ كله اثنتا عشرة ساعة فأقلُّ ما يجزئُ فيه المبيت سبعُ ساعات، أمَّا بقيةُ الليل فليس بواجبٍ ولا شرطًا في المبيت؛ لأنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« كَانَ يَزُورُ البَيْتَ كُلَّ لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي مِنًى »(5).
هذا، فإن ترك مبيت الليالي الثلاث لغير عُذر فعليه دَمٌ عند الأئمَّة الثلاثة، أمَّا إن ترك مبيت ليلة أو ليلتين فيلزمه التصدقُ بأقلِّ ما يُسمَّى صدقةً عن كُلِّ ليلةٍ فيما دون الثلاث؛ لأنَّ الليلة ليست نُسُكًا بمفردها خلافًا للمالكية(6).
أمّا من ترك المبيت في مِنًى لعُذْرٍ سواء كان العذر لأمرٍ عامٍّ أو خاصٍّ فلا شيءَ عليه على الصحيح من أقوال العلماء، وبه قال ابنُ عباس رضي الله عنهما؛ لأنَّ «النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ لِرُعَاءِ الإِبِلِ فِي البَيْتُوتَةِ، يَرْمُونَ يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ يَرْمُونَ الغَدَ، وَمِنْ بَعْدِ الغَدِ بِيَوْمَيْنِ، وَيَرْمُونَ يَوْمَ النَّفْرِ »(7).
قلت: والذي يتأخَّر به الطوافُ بالبيت حتى يمضي عليه مُعظمُ الليلِ أو فاته الليلُ كلُّه لمشقَّةِ العودة إلى مِنًى أو لازدحام المواصلات أو لسبب إسعاف غيره والحاجةُ إليه قائمةٌ، فإنَّ هذه الأعذارَ وغيرَها مشمولةٌ بالرخصة.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 22 المحرم 1429ه
الموافق ل: 29/01/2008م
__________
1- أخرجه مسلم في «الحج »، باب حجة النبي صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: (2950)، والدارمي في «سننه »: (1854)، وابن خزيمة في «صحيحه »: (2784)، من حديث جابر بن عبد الله عنهما.
2- أخرجه البخاري في «الحج »، باب سقاية الحاج: (1634)، ومسلم في «الحج »،باب وجوب المبيت بمنى ليالي أيام التشريق والترخيص في تركه لأهل السقاية: (3177)، وأبو داود في «المناسك »، باب يبيت بمكة ليالي منى:(1959)، وابن ماجه في «المناسك »، باب البيتوتة بمكة ليالي منى: (3065)، وأحمد في «مسنده »: (4717)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
3- أخرجه أبو داود في «المناسك »، باب في رمي الجمار: (1975)، والترمذي في «الحج »، باب ما جاء في الرخصة للرعاء أن يرموا يوما ويدعوا يوما: (955)، والدارمي في «سننه »: (1834)، والحاكم في «المستدرك »: (1759)، وأحمد في «مسنده »: (23264)، من حديث عاصم بن عدي رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في «الإرواء »: (1080).
4- «فتح الباري » لابن حجر: (3/579).
5- أخرجه الطبراني في «الكبير »: (12/205)، وفي «الأوسط »: (6/197)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (9742)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. والحديث صححه الألباني في «السلسلة الصحيحة »: (804).
6- فعند المالكية أنَّ من ترك المبيت بمنى لغير عذر وجب عليه دم كلّ ليلة من لياليها كاملة أو جلها. [انظر:« الكافي » لابن عبر البر: (145)].
7- سبق تخريجه، انظر الهامش رقم (4).
8- «المجموع » للنووي: (8/248).(8/16)
الفتوى رقم: 843
في تعيين المراد بالمسجد الحرام
السؤال:
هل أجرُ الصلاة في المسجد الحرام يُلحق به بقيةُ مساجد مكةَ؟ -مع التفصيل إن أمكن- وجزاكم اللهُ خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فقد يُطلقُ لفظُ المسجِدِ الحرامِ وَيُرَادُ به مَعَانٍ مُتعدِّدةٌ منهَا: الكَعْبَةُ كما في قوله تعالى: ?فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ? [البقرة: 144]، وقد يُرَادُ به الكَعْبَةُ وما حَوْلَهَا كما في قوله تعالى: ?أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ..? [التوبة: 19]، وقد يُرَادُ به الحَرَمُ كُلُّهُ بحدودِه المعروفةِ كما في قوله تعالى: ?إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا? [التوبة: 28]، وقد يُرَادُ به مَكَّةُ كما في قوله تعالى: ?..ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ? [البقرة: 196].
هذا، ولا خلافَ بَيْنَ العُلَمَاءِ في دُخُولِ الكَعْبَةِ وما حولها في المسْجِدِ الحرامِ، ولَكِنَّ الخِلاَفَ فِيمَا عَدَاهُمَا، وَسَبَبُ اختلافِهم يرْجِعُ إلى المعاني السَّابِقَةِ للمَسْجِدِ الحرامِ. وفي تقديري أنَّ قَصْرَ المسْجِدِ الحرَامِ على الكَعْبَةِ وما حَوْلَهَا هو الأَقْرَبُ إلى الصَّوَابِ، وهو مذهبُ الشَّافِعِي وبعضِ المالكيةِ، خِلاَفًا لمنْ يَرَى أَنّه الحَرَمُ كُلُّه بحدودِهِ المعروفَةِ، وهو مذهبُ بعضِ الشَّافعيةِ وأكثرِ الأحنافِ والحنابلةِ، وهو المنقولُ عن ابن عباسٍ وأبي هريرةَ رضي الله عنهم، وخلافًا لمنْ عمَّمهُ على كلِّ مَكَّةَ، ويمكن أن يُعَلَّلَ هذَا الاختيارُ بما يلي:
- إنَّ القدر المكاني المتمثِّل في الكعبة وما حولها متفقٌ عليه بين العلماء.
- ولأنَّ جريانَ عُرْفِ الناسِ في اعتبار المسجدِ: مكان إيقاع الصلاة في الكعبة وما حولها، ويشهد لذلك قولُه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا، خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إِلاَّ الْمَسْجِد الْحَرَامَ »(1)، وتنصرف الإشارةُ بقوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم:« هَذَا » إلى المعهود في زمنه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم، والأجر إنَّما خُصَّ بموضعِ الصلاة، فكان مرادُه الكعبة وما حولها. وممَّا يشهد لذلك قولُه تعالى: ?جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاما لِّلنَّاسِ? [المائدة: 97]، وقولُه تعالى: ?..لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ..? [الفتح: 27]، وقولُه تعالى: ?..وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ..? [الحج: 25]، إنَّما يرادُ بهذه الآيات الكعبة وما حولها.
- ولأنَّ الثابتَ أنَّه أُسْرِيَ به من المسجدِ الحرامِ كَمَا ثَبَت في الصحيحين(2)، وذلك في قوله تعالى: ?سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى? [الإسراء: 1]، ولا يُعارَض برواية إسرائه من بيت أمِّ هانئ الذي هو داخلُ حدود الحرم لأنَّها رواية مرسلة، قال ابن كثير -رحمه الله-:« أرسل هذا الحديثَ غيرُ واحدٍ من التابعين وأئمِّة المفسِّرين »(3)، وعلى فرض صِحَّتها فهي معارضة بالروايات الصحيحة التي تُقدَّم عليها بالنظر إلى أنّه لم يثبت له إسراء إلاَّ مرَّة واحدة، لذلك يتعذَّر الجمع بين الروايتين.
- أمَّا الآيات التي تقضي بظاهرها شمولَ الحرمِ كلِّه وكذا عموم مَكَّةَ فيمكن الجواب عنها من جهتين:
الأولى: إنَّه من إطلاق الكلِّ وإرادة الجزء.
الثانية: إنّها محتملة الشمول وغير متيقّنة، والمعلوم أنّه:« لاَ يُتْرَكُ المتَيَقَّنُ لِلْمُحْتَمَلِ »، «وَلاَ المُحَقَّقُّ لِلْمُوهَمِ ».
- ولأنَّ قصرَ المسجدِ الحرام على الكعبة وما حولها في تحصيل الأجر عمل بالاحتياط، وهو الأَوْلَى بالأخذ به لسلامته وقربه من تحصيل المصلحة.
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 05 صفر 1429ه
الموافق ل: 12 فبراير 2008م
__________
1- متفق عليه: أخرجه البخاري في «التطوع »، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة: (1133)، ومسلم في «الحج »، باب فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة: (3375)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
2- أخرجه البخاري في «المناقب »، باب كان النبي تنام عينه ولا ينام قلبه: (3377)، ومسلم في «الإيمان »، باب الإسراء برسول الله إلى السم?وات: (414)، من حديث أنس رضي الله عنه.
3- «تفسير ابن كثير »: (3/21).(8/17)
الفتوى رقم: 863
في حكم التشريك بين إرادة الحج والتجارة
السؤال:
هل تجوز التجارةُ أثناءَ أداءِ مناسكِ الحجِّ أو العمرة؟ وهل يُعدُّ التشريكُ بين الإرادتين شِركًا وقَدْحًا في الإخلاص؟
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمّا بعد:
فالحاجُّ القاصدُ للتجارة صحيحٌ حَجُّهُ بالنصِّ القرآنيِّ والإجماعِ، فقد رَخَّص اللهُ سبحانه وتعالى لمن حَجَّ في التجارة والتكسُّبِ من غير أن يُرتِّب أيَّ إثمٍ على تشريك الإرادة في قصد العبادة لتحصيل طاعة الله بالحجِّ والعمرة، وتحصيلِ غرض التكسُّب والتجارة، قال الله تعالى: ?لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ? [البقرة: 198]، والمراد بالفضل في الآية كُلُّ الأعمال التي يُحَصَّلُ بها شيءٌ من الرِّزق، فدلَّت الآيةُ على إباحة قصد ابتغاء فضلِ الله حالَ السفر لتأدية ما افترضه اللهُ من الحجِّ، وقد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ الآيةَ لما خاف المسلمون من الاتجار في أسواق الجاهلية في مواسم الحجِّ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: كانت عكاظ ومجنَّة وذو المجاز أسواقًا في الجاهلية فلمَّا كان الإسلام تأثموا من التجارة فأنزل الله تعالى:« لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فِي مَوَاسِمِ الحَجِّ » قرأ ابن عباس كذا(1). وفي سنن أبي داود عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنَّ الناس في أول الحجِّ كانوا يتبايعون بمنًى وعرفة وسوق ذي المجاز، ومواسم الحجِّ، فخافوا البيع -وهم حُرُم- فأنزل الله سبحانه: ?لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ? «في مواسم الحج »(2).
هذا، وتشريكُ إرادة الحجِّ والتجارة ليس شِركًا، ولا يدخل في مناهي الإرادات الخفية كالرِّياء وإرادةِ بعمله الدنيا؛ لأنه ليس مقصود الحاجِّ أو المعتمر المراءاة والسُّمعة ونحوهما، وإنما مقصوده الحجُّ والتجارة وقد أباح الله له هذا القصد. ولمزيد بيان هذه المسألة فقد ذكر الإمام القرافي في «فروقه » فَرْقًا دقيقًا بين قاعدة الرِّياء في العبادة والتشريك فيها، فأوضح أنَّ الرياءَ شركٌ وتشريكٌ مع الله تعالى في طاعته، وهو موجب للمعصية والإثمِ والبطلان في تلك العبادة، وأنَّ ضابطَها: أن يعمل للعمل المأمور به المتقرب إلى الله ويقصد به وجهَ الله تعالى وأن يعظِّمه الناس أو بعضُهم فيصل إليه نفعهم أو يندفع به ضررهم، فهذا أحد مسمَّى الرِّياء، وهو «رياء الشرك »، وقسم آخرُ يعمل العمل لا يريد به وجهَ الله البتة بل يريد الناس فقط، فهذا القسم يسمَّى:« رياء الإخلاص » فالغرض من الرياء هو التعظيم وما يتفرَّع عنه من جلب المصالح ودفع المضارِّ الدنيوية.
وأمّا مُطلق التشريك كمن يجاهد لتحصيل طاعة الله بالجهاد، وليحصل له المال من الغنيمة، فهذا لا يضره، ولا يحرم عليه بالإجماع؛ لأنَّ الله جعل له هذا في العبادة، فَفَرْقٌ بين جهاده ليقولَ الناسُ: هذا شجاعٌ، أو ليعظِّمه الإمامُ فيكثر عطاؤه من بيت المال، وهذا ونحوه رياءٌ حرامٌ، وبين أن يجاهد لتحصيل المغانم من جهة أموال العدو مع أنه قد شرَّك، فلا يصدق على المال المأخوذ في الغنيمة لفظ الرياء لعدم الرؤية فيها.
وكذلك من حَجَّ وشرَّك في حَجِّه غرضَ المتجَرِ، ويكون جُلُّ مقصوده أو كُلُّه السفر للتجارة خاصَّة، ويكون الحجُّ إمَّا مقصودًا مع ذلك أو غير مقصود، ويقع تابعًا اتفاقًا، فهذا أيضًا لا يقدح في صِحَّة الحجِّ ولا يوجب إثمًا ولا معصية.
وكذلك من صام ليصحَّ جسدُه، أو ليحصل له زوال مرض من الأمراض التي ينافيها الصوم ويكون التداوي هو مقصوده أو بعض مقصوده، والصوم مقصود مع ذلك وأوقع الصوم مع هذه المقاصد، لا يقدح في صومه بل أمر بها صاحب الشرع في قوله:« يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ »(3).
واستتبع -رحمه الله- كلامه بقوله :« وجميع هذه الأغراض لا يدخل فيها تعظيم الخلق بل هي تشريك أمور من المصالح، ليس لها إدراك، ولا تصلح للإدراك، ولا للتعظيم فلا يقدح في العبادات ».
ثمّ قال -رحمه الله-:« فظهر الفَرْقُ بين قاعدة الرِّياء في العبادات وبين قاعدة التشريك فيها غرضًا آخر غير الخلق مع أنَّ الجميع تشريك، نعم لا يمنع أنّ هذه الأغراض المخالطة للعبادة قد تنقص الأجر، وأنّ العبادة إذا تجرّدت عنها زاد الأجر وعظم الثواب، أمَّا الإثم والبطلان فلا سبيل إليه، ومن جهته حصل الفرق لا من جهة كثرة الثواب وقِلَّته »(4).
والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 02 ربيع الأول 1429ه
الموافق ل: 08/03/2008م
__________
1- أخرجه البخاري في «صحيحه »، كتاب البيوع باب ما جاء في قول الله فإذا قضيت الصلاة: (1945)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
2- أخرجه أبو داود في «سننه » كتاب المناسك، باب الكري: (1734)، والحاكم في «المستدرك »: (1771)، والبيهقي في «السنن الكبرى »: (8742)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. والحديث صححه في «صحيح أبي داود »:(1734).
3- أخرجه البخاري في «صحيحه » كتاب الصوم، باب الصوم لمن خاف على نفسه العزوبة: (1806)، ومسلم في «صحيحه » كتاب النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنة: (3398)، وأبو داود في «سننه » كتاب النكاح، باب التحريض على النكاح: (2046)، والترمذي في «سننه » كتاب النكاح، باب ما جاء في فضل التزويج والحث عليه: (1108)، والنسائي في «سننه » كتاب الصيام: (2239)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
4- «الفروق » للقراني: (3/22).(8/18)