التَّقدِمة
بقلم المُعتَني بهذه الفتاوى
مجد أحمد مكي
الحمد لله القائل: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّين ولِيُنذِروا قَوْمَهُم إذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)(1)
والصلاة والسلام على سيدنا محمد القائل: "مَن يُرِد الله به خيرًا يُفَقِّه في الدِّين"(2)، وعلى آله الكرام الطيِّبين، ورضي الله عنه أصحابه الغُرِّ الميامين، وعن الأئمة الفقهاء المجتهدين، والعلماء العاملين.
أما بعد:
فإن من نِعم الله ـ عزَّ وجل ـ علي، أن سلك بي طريق طلب العلم، وحبَّب إلى مجالَسة العلماء، والنهل من نَمير علمهم، والعَلَّ من أطايِب كلامِهم.
ومن كبار أعلام هذا العصر الذين تشرّفت بلقائهم، وسعدت بصحبتهم أستاذنا الشيخ مصطفى الزرقا. أمتع الله المسلمين بحياته، ونفعهم بعلمه.
وتعود صلتي به منذ نشأتي العلمية الأولى، فاسمه كان يتردد في مجالس العلماء، فهو سَليل الفقهاء الأنجاب، ووارث علوم الآباء والأجداد.
وكان من فضل الله سبحانه عليّ أن قصدته في الزيارة في عمان سنة 1397هـ أثناء قيامه بالتدريس في الجامعة الأردنية، وسعدت بلقائه، ولمست منه عطف الآباء، وتواضع الأتقياء، وعزة العلماء.
ثم تعدَّدت لقاءاتى به ـ حفظه الله تعالى ـ في حلب الشهباء، وأذكر أنِّي في إحدى زياراته لحلب في صيف 1398 هـ أخبرته بقدوم الأستاذ عبد الفتاح أبو غدة ـ رحمه الله تعالى ـ من الرياض، فسرعان ما بادَر بالذهاب للسلام عليه في منزله، فأعلمت الشيخ عبد الفتاح بقُدوم الأستاذ الزرقا، فتَرك المجلس الحافِل بالمرحبين بقُدومه، ونزل ليسلِّمَ على الشيخ، ويُقبِّل يديه، ويقدِّمه بالكلام ولا يتقدم عليه.
فكان مشهدًا أثَّر في نفسي، وموقفًا من المواقف التي تمثل أدب العلماء، وما كنت أعلم حينذاك أن الأستاذ الشيخ عبد الفتاح ـ رحمه الله تعالى ـ من تلاميذ الأستاذ الزرقا، فازدادت محبَّتي له وإعجابي به.(1/1)
ولما أكرمني الله تعالى بالإقامة بجوار بيته العتيق بمكة المكرّمة ـ حرسها الله تعالى ـ ومتابعة دراستي الجامعية في جامعة أم القرى، وكنتُ أترقَّب قدوم الأستاذ الزرقا إلى المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي، وأحرِص على زيارته وملازمته، وصحبته لزيارة الأستاذ الشيخ على الطنطاوي وغيرها من مجالس العلم والفقه والأدب.
ورأيت من حق الأجداد على الأحفاد أن يقوموا بالعناية بتراثهم، وحفظ آثارهم، فعرضت على الشيخ فكرة جمع فتاويه النافعة، وترتيبها، وبحوثه الفقهية، ومقالاته العلمية والأدبية. فاستحسن هذه الفكرة، ورَغِبَ فيها، وبخاصة أنها غير مجموعة لديه، وليس عنده متَّسع من الوقت لجمعها وترتيبها.
فقمت بالبحث والتنقيب في المجلات والدوريات، وعثرت على كثير من فتاويه في عدد من المجلات، وخاصة مجلة "حضارة الإسلام" الدمشقية، وكان في سنواتها الأولى ركن للفتاوى تعرض فيه الأسئلة على أستاذنا الزرقا.
كما قمت بجمع الكثير من بحوثه الفقهية ومقالاته العلمية من عدد من الدوريات، مما أعْزِمُ على نشره من آثاره العلمية والأدبية، يسَّر الله ذلك بمنَّه وكرمه.
وقد قدَّمت للشيخ ما جمعته من فتاوى، ثم أكرمني بما تجمع لديه من فتاوى مخطوطة لم تنشر، فشرعت في ترتيبها وتبويبها وطباعتها، ثم قدمتها للشيخ مطبوعة، فنظر فيها، وكتب مقدمة لها منذ أكثر من ثلاث سنوات.
وتجمع لدي خلال تلك المدة عدد من الفتاوى الجديدة التي كانت ترسل للشيخ من أنحاء شتى، ويجيب عليها بالفقس ـ كما يسميه شيخنا.(1/2)
فقمت بإضافة هذه الفتاوى الجديدة، وضمها إلى نظائرها وتصحيحها، وقدَّمت لها بترجمة مختصرة عن أستاذنا الشيخ مصطفى الزرقا، وكتابة كلمة عن مزايا هذه الفتاوى، ومنهجه فيها، مما سيأتي من صفحات. فالحمد لله على ما يسَّر لي، ووفقني إليه من القيام بهذا العمل المتواضِع الذي أرجو أن يضيف للمكتبة الفقهية مصدرًا مفيدًا، ولكتب الفتاوى الشرعية رافدًا جديدًا، وأسأله سبحانه أن يوفِّقَني لخدمة دينه، وحمل أمانة العلم بإخلاص، وتبليغها بصدق. والله الموفق والهادي إلى الصراط المستقيم.
وصلى الله وسلم وبارك على معلِّم الناس الخيرَ سيدِنا محمد وعلى آله وصحبه.
مجد أحمد مكي
ترجمة العلامة الفقيه
الشيخ مصطفى بن أحمد الزرقاء(3)
هو العلامة الفقيه الأصولي الأديب النحوي الشاعر الشيخ مصطفى بن العلامة الشيخ أحمد بن العلامة الشيخ محمد بن السيد عثمان بن الحاج محمد بن عبد القادر الزرقا.
1 - ولادته:
ولد بمدينة حلب في عام 1322 هـ الموافق 1904م من أبويْن صالحين، فوالده هو العلّامة الفقيه الكبير الشيخ أحمد الزرقا، ووالدته السيدة زينب بنت الحاج محمد جَلَب، وكانت امرأة أميَّة صالحة، ولما حملت به والدتُه، ولم تكن تشعُر بحملها، رأت في الرؤيا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يبشرِّها بأنّها حامل بذَكَر، وأوصاها أن تُسمِّيَه باسم أخيه الذي تُوفِّيَ قبله (مصطفى)(4).
2 - نشأته:
ولد أستاذنا الزرقا في بيئة إسلامية، وأسرة علمية، أسَّس دعائم العلم فيها جدُّه العلامة الكبير الفقيه العمدة الشيخ محمد الزرقا(5) (ت1343هـ) وورثه ابنه والد شيخنا العلامة الفقيه الشيخ أحمد الزرقا(6) (ت1357هـ) رحمهما الله تعالى، وتسلسل العلم في الأسرة، وحمل راية العلم من بعدهما أستاذنا الجليل فقيه العصر الأستاذ مصطفى الزرقا، حفظه الله تعالى.(1/3)
واستمر العلم في هذه الأسرة، فابن شيخنا الأستاذ الدكتور أنس الزرقا من علماء الفقه، ومتخصِّص بالدراسات الاقتصادية الإسلامية، وقد أطلق شيخنا الأديب العلامة الفقيه الأستاذ علي الطنطاوي على هذه السلسلة العلمية: (سلسلة الذهب).
فنشأ الشيخ مصطفى في تلك البيئة الصالحة، والجو العلمي الذي يقدح العزائم، ويُحرِّك الهمم، ويدفع إلى العلم النافع، والعمل الصالح، في بيت جدِّه العلامة الكبير الفقيه العمدة الشيخ محمد الزرقا وتحت رعايته، وفي ظلال والده الفقيه الشيخ أحمد الزرقا.
3 – بداية دراسته :
بدأ دراسته في كتاتيب القرآن الكريم، فكان الكتاب الذي التحق به هو الذي تخرَّج فنه والده رحمه الله تعالى، ويقوم عليه العبد الصالح الشيخ محمد الحجار من كبار الحفّاظ المقرئين المتقنين، وتلقَّى فيه القراءة والكتابة والحساب.
وقرأ في أول مراحل دراسته على العلامة المحقِّق الرُّحَلة الشيخ محمود بن سعيد السنكري(7)، "الكفراوي على الآجرومية".
ثم ألحقه والده ـ رحمه الله تعالى ـ بمدرسة الفرير الفرنسية بحلب، وهو دون سن العاشرة، وتلقَّى فيه مبادئ اللغة الفرنسية؛ لأن والده كان يشعر بالتطور السريع الذي يستدعي تزويد النشء بالثقافة الحديثة إلى جانب الثقافة الأصيلة، وكانت الفرنسية تعتبر ـ آنذاك ـ لغة الثقافة العالمية.
وكان والده ـ رحمه الله تعالى ـ واعيًا للخطر التبشيريِّ الذي تنطوي عليه تلك المدارس، واثقًا من قدرته على تَحصين ابنه من تلك الأخطار.
وتوجهَّت رغبة الشيخ إلى التجارة، ولكن جده العلامة الشيخ محمد الزرقا، أصرَّ على والده أن يُسجِّلَه في المدرسة الخسرويّة الشرعيّة التي جدَّدتها مديريّة الأوقاف في حلب في عهد مديرها مرعي باشا الملاح، وكان رحمه الله تعالى من أهل الإيمان والبصيرة.
4 - أساتذته:(1/4)
من أبرز شيوخه الذين أثرَوا في حياته العلمية: والده العلامة الفقيه الشيخ أحمد الزرقا، درس عليه الفقه الحنفي، وقواعد المجلة، والعلامة المؤرِّخ الشيخ محمد راغب الطباخ، درس عليه الحديث والسيرة النبوية، وقرأ على العلامة الشيخ محمد الحنيفي، ودرس عليه في التوحيد شرحه لجوهرة التوحيد: "المنهاج السديد" و "رسالة التوحيد" للشيخ محمد عبده، وكما درس عليه التفسير والبلاغة، وهؤلاء الثلاثة هم أبرز شيوخه، وأعظمهم تأثيرًا فيه، وسيأتي ذكر جوانب من سيرتهم، وبيان أثرهم في تكوين الشيخ العلمي.
ومن شيوخه الذين تلقَّى عليهم العلم في تلك المرحلة: العلامة المحدِّث الفقيه الأصولي النحوي الشيخ أحمد المكتبي الشافعي (1263ـ 1342هـ).
درس عليه الألفية في النحو مع شرح ابن عقيل بحاشية الخضري(8)، وقد تلقّاها العلامة المكتبي بالجامع الأزهر شفاهًا عن شيخ الأزهر العلامة الأنبابي (1240 ـ 1313هـ) رحمهما الله تعالى.
ومن أساتذته أيضًا : الشيخ أحمد الكُردي (1299 ـ 1373هـ) أمين الفتوى بحلب الشهباء، درس عليه النحو، وكان رجلاً فقيهًا مستوعبًا، والشيخ إبراهيم السلقيني (الجد) (1270 ـ 1367هـ) درس عليه الفقه والحديث والشيخ عيسى البيانوني (1290 ـ 1362هـ)، درس عليه النحو أيضًا، والشيخ أحمد الشماع (1287 ـ 1373هـ) درس عليه التفسير مدة يسيرة، والشيخ محمد الناشد (ت 1362هـ). الملقَّب بـ (الزمخشري) ، درس عليه النحو والبلاغة وسائر علوم الآلات، وكان عالمًا متفنِّنًا في العلوم الشرعية كلِّها.
5 - طريقة الدراسة:
وكانت معظم دراسته الأولى على الرُّكب والحصير والبساط، على طريقة الأولين من طلاب العلوم الإسلامية.
وكانت مدة الدراسة ستَّ سنوات يرتقي الطالب فيها من سنة إلى أخرى بصفوف ومراحل متتابعة حتى ينتهي إلى التخرُّج، ويتعاقب عليها مدرسون في حِصص يومية، ومقررات نظامية تشمل مختلَف العلوم والفنون.(1/5)
وكانت الخسروية قد أدخلت إلى مناهجها بعض العلوم العصرية كالحساب والجغرافيا والتاريخ والصحة، ليكون طلاب العلم على معرفة بالثقافة الحديثة العامة.
وكان الخرِّيجون من هذه المدرسة تُوليهم إدراة الأوقاف عنايتها وتُعيِّنهم في وظائف الإمامة والخَطابة.
6 - حرصه على دروس والده:
ولم يقتصر الشيخ خلال دراسته في الثانوية الشرعية على دروسها، بل كان يتابع دروس والده في مختلف المساجد، علاوة على دروسه التي كان يتلقاها منه في المدرسة، حيث كان يدَرِّسهم فيها مقرَّرات الفقه.
7 ـ متابعته للدراسة العصرية:
لم تصرفه الدراسة الشرعية والعربية عن متابعة الدراسة العصرية، وتعلُّم اللغة الفرنسية، فقد اتفق مع بعض الأساتذة النَّصارى على متابعة تقويته فيها لقاءَ أجر معلوم.
وكان كثير التطلع للإلمام بمجريات الثقافة الحديثة العامة، وخاصة أن لديه من اللغة الفرنسية الأساسَ الذي لابد منه لتحقيق ما يصبو إليه.
واتفق مع صديقه ورفيق صباه معروف الدواليبي على متابعة الدراسة الثانوية العامة.
واتفقا مع بعض أساتذة الثانوية العصرية الوحيدة في حلب، فرتبوا لهما جدولاً دراسيًّا، فحصص للفيزياء، وأخرى للرياضيات.. وهكذا في سائر المقرّرات.
وصبَّرا أنفسهما في هذا السبيل حتى أنهيا المقرَّرات الدراسية كلّها، وتقدّما إلى الامتحان على نظام البكالوريا الرسمية.
وأحسَّ الشيخ أثناء دراسته الثانوية أن السلاح الوحيد الذي يعوز المؤمنين لمواجهة هجوم المُنحلِّين والمُلحدين، والوقوف أمام التيار الإلحادي ومقاومته ومقارعته، وهو الجمع بين حقائق الإسلام وحقائق العلوم الكونية.
وقد دخل الامتحان في شعبتي الكبالوريا الأولى (العلوم والآداب) معًا.
وقدَّر الله تعالى له النجاح بالدرجة الأولى على طلاب سورية جميعًا. على الرغم من دراستهم النظامية طوال سني المنهاج.(1/6)
ومن ثَمَّ توجّه إلى دمشق سنة 1929، لأنّه لم يكن في سورية كلها إلا صف واحد بدمشق (لدراسة البكالوريا الثانية ـ قسم الفلسفة) وقدَّر الله نجاحه بتفوق؛ إذ أحرز الأوليّة على طُلّابِها جميعًا.
8 - حضوره دروس الشيخ بدر الدين الحسني:
ولما أنهى البكالوريا الثانية ودخل الجامعة كان يتردَّد على دروس العلامة المحدِّث الأكبر الشيخ محمد بدر الدين الحسني اليومية بعد المغرب في منزله، كما كان يحضر درسه يوم الجمعة في الجامع الأموي.
9 - دراسته الجامعية:
التحق ـ بعد إحرازه البكالوريا الثانية ـ بالجامعة السورية التي سُمِّيَت فيما بعد (جامعة دمشق).
وقد جمع بين كليتي الحقوق والآداب، فكان يحضر دروس الحقوق قبل الظهر، ودروس الآداب بعد الظهر.
10 - تخرُّجه في كليتي الحقوق والآداب العليا:
وفي عام 1933م تخرّج في الكليتين معًا، وأحرز الدرجة الأولى في كلتيهما بفضل الله تعالى، فكان بذلك أول من جمع في سورية بين الثقافات الثلاث: الشّرعيّة والقانونيّة والأدبيّة.
ثم حاز في عام 1947م دبلوم الشريعة الإسلامية من كلية الحقوق بجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حاليًا).
أبرز العلماء الذين لهم أثَر في تكوينه العلميّ
1 - العلامة الجدّ الفقيه الكبير الشيخ محمد الزرقا المولود سنة 1258 والمتوفَّى سنة 1343هـ رحمه الله تعالى:
أعمق الناس تأثيرًا في نفسه: جدُّه العلامة المحقق المَكين الشيخ محمد الزرقا وهو لم يدرس عليه، لأنه لما بدأ الدراسة في مطلع شبابه كان جده اعتزل التدريس لتَقَدُّم سنِّه، إلا درسًا واحدًا في الأسبوع يتطوع به في منزله لكبار أهل العلم من طبقة والده. وانتقل إلى جوار ربه سنة 1343هـ، وكان حفيده أستاذنا مصطفى الزرقا في السنة الثانية من الشرعية، وله من العمر تسعة عشر عامًا.
2 - العلامة الوالد الفقيه الكبير الشيخ أحمد الزرقا المولود نحو سنة 1285 والمتوفَّى سنة 1357 هـ رحمه الله تعالى:(1/7)
ثم يأتي بعد جدِّه ـ رحمه الله تعالى ـ في التأثير في نفسه:والده العلامة الشيخ أحمد الزرقا، وبخاصّة من الناحية الفقهية.
وكان والده ـ رحمه الله تعالى ـ فقيهًا، لا يكاد يوجد كتاب من كتب الفقه وأمهاتِه الأولى إلا ودرسه دراسة، بل وحرَثه حِراثة، ولا يعلم بعد جده ـ رحمه الله تعالى ـ مثل والده في سعة الاطلاع، وجودة الفَهم، ودقّة النظر في تخريج وتنزيل المسائل والحوادث عن القواعد.
ولم تقتصِر عَلاقته بوالده على الدروس النظاميّة في المدرسة الخسروية، بل لازمه في دروسه خارج المدرسة في جامع آل الأميري (جامع الخير)، وفي الجامع الأموي الكبير بمدينة حلب.
وممّا قرأه على والده حاشية ابن عابدين في المدرسة الشَّعبانية(9)، خارج الدروس النظامية، وكان يحضر درس والده مَن هم في سن أبيه، وكان هو أصغر الموجودين.
كما لازم والده في البيت، فقد كان يقضي معه اللياليَ الطِّوال، وربما امتد السهر إلى الساعة الثانية بعد منتصف الليل، في نقاش فقهي، يبلغ بهم أحيانًا إلى التشادِّ، كل مع دليله وطريقة فهمه، وقد ينحاز الوالد إلى رأي ابنه بعد طول جدال، وقد ينحاز الابن إلى رأي أبيه أخيرًا، فارتفعت الحُجُب بينه وبين أبيه في نطاق المناقشات العلمية، مع الحفاظ التام على كرامة الأبوة ووقارها.
كان والده معه مثل المدَرِّب الرياضي، يمرِّنُه تمرين خبير أُوتيَ صبرًا وطول أناة، فكان يشجِّعه على النقاش والجرأة في إبداء الرأي، ويدرِّبه على استخلاص الأحكمِ من خلال الأدلة والحجج.
وقد كان والده ذا ولع شديد بالأدب والشِّعر، ولم يُعرف عنه أنه مارس نظمه. ولم تكن مذاكراته كلها في حقول الفقه، بل كانت متنوعة الأشكال، متعدِّدة الألوان، فربَّما أمضَى مع والده الساعات والأيام والليالي في مطالعة الروائع من كتب الأدب كالأغاني والعقد الفريد، وما إليهما كسقط الزند، واللزوميات لأبي العلاء المعري.(1/8)
ومما قرأه على والده في الأدب أيضًا: "الطراز" لأمير المؤمنين الزيدي في البلاغة، و"شرح بانت سعاد".
3 - العلامة المُفسِّر المتكلِّم النَّظَّار الشيخ محمد الحنيفي المولود سنة 1292 والمتوفَّى بجدة سنة 1342 هـ رحمه الله تعالى:
ومن الذين تركوا أثرًا قويًّا في تكوين الشيخ الفكري والاجتماعي، وكان لأسلوبه العلمي يَدٌ لا تُنْسَى في بنائه العقلي، هو العلامة الشيخ محمد الحنيفي رحمه الله تعالى، وقد تتلمذ على جدِّه العلامة الشيخ محمد الرزقا، ثم التحق بالأزهر، وجاور فيه أربع سنوات، وتخرج على علمائه، وقرأ على شيخ الديار المصرية الشيخ محمد بخيت المطيعي في التوحيد والأصول، وقرأ على الإمام محمد عبده رسالته في "التوحيد"، وكثيرًا من التفسير، ثم عاد إلى حلب سنة 1318 ليكون من رواد الإصلاح، ومن الرَّعيل الأول الذين قاموا بالتدريس في الخسروية أول نشأتها، فكان يُدرِّس فيها التفسير والتوحيد والبلاغةَ.
4 - العلامة المُحدِّث المؤرِّخ الشيخ محمد راغب الطباخ المولود سنة 1293 والمتوفَّى سنة 1370 هـ رحمه الله تعالى:
ومن المشايخ الذين تركوا أثرًا واضحًا في حياة الشيخ العلمية، العلامة المؤرِّخ المحدِّث الشيخ محمد راغب الطباخ(10) ويقول عنه شيخنا الزرقا : "وكان ذا ولع كبير بكتب الحديث ومخطوطاته، وله تتبُّع في مخطوطات التاريخ والسيرة النبوية، يحرِص على أن يستخرج لنا العِظاتِ من حوادث السيرة، فيقف بنا على مواطن العبرة فيها مما يسمَّى اليوم بفقه السيرة، وكذلك يعمل في درس الحديث الشريف، إذ كان ينبهنا إلى العميق من علومه وكنوزه.. هذا إلى تَنَوُّر في الفكر، وانفتاح على حاجات الزمن، كشأن شيخنا الحنيفي، رحمهما الله جميعًا، ومن هنا كان أثره في توجيهي إلى حرية التفكير والبحث، وإلى ربط العلم بالحياة.. فلهذَين الأستاذين بعد والدي أكبر الأثر في تثبيت خطاي في الطريق العلمي الصحيح(11)
أعماله ووظائفه
وظائفه العلمية:(1/9)
تولَّى الشيخ مصطفى التدريسَ مكان والده العلامة الشيخ أحمد الزرقا في المدارِس التي كان يدِّرس فيها، كما تولى القيام بالدَّرس الذي كان لوالده في الجامع الأموي بحلب، وكذلك في جامع الخير، والمدرسة الشعبانية، والمدرسة الخسروية النظامية التي سميت فيما بعد بالثانوية الشرعية.
ولما تولَّى التدريسَ مبكِّرًا بالمدرسة الخسروية بعد تخرُّجه فيها درَّس الأدب العربي والفقه "الدرر شرح الغرر" ودرس الأصول في كتاب "كشف الأسرار" للبزدوي.
كما اشتغل الشيخ في المحاماة لمدة عشر سنين بعد تخرُجه في كلية الحقوق أمام المحاكم الوطنية والمُختلطة (الفرنسية) بحلب، فاكتسب خبرة عميقة في أحوال الناس.
تدريسه في كلية الحقوق والشريعة في الجامعة السورية بدمشق:
انتقل إلى دمشق للتدريس في الجامعة السورية، وعُيِّن مدرِّسًا للحقوق المدنية والشريعة في كلية الحقوق في أول عام 1944م، ودرس القانون المدني والشريعة الإسلامية، وبقِيَ فيها أستاذًا للحقوق المدنية والشريعة، ورئيسًا لقسمه إلى حين بلوغه سن التقاعد (المعاش) في آخر عام 1966م.
وعندما أنشئت كلية الشريعة سنة 1954م في الجامعة السورية كان له فيها عدد من المحاضرات، كما حاضَر في كلية الآداب لعدة سنوات في مادة الحديث النبوي وأصدر كتابه (في الحديث النبوي). وعُهِد إليه في سنة 1954م بإلقاء محاضرات عن القانون المدني السوري في معهد الدراسات العربية العالمية التابع لجامعة الدول العربية بالقاهرة، ووضع فيها كتابًا طبعتْه إدارة المعهد.
تولَّى رئاسة لجنة موسوعة الفقه الإسلامي في كلية الشريعة بجامعة دمشق، التي بدأت عام (1374هـ ـ 1955م) بالمحاولة الأولى لموسوعة الفقه الإسلامي، ووضعت خطة العمل، ونفذت بعض الخطوات التجريبية، وأشرفت على إصدار "معجم فقه ابن حزم" و "الدليل لموطن المصطلحات الفقهية".
إدارته لمشروع الموسوعة الفقهية في الكويت.(1/10)
اختارته وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في الكويت سنة (1966م) خبيرًا للموسوعة الفقهية فيها..وبَقِيَ في الكويت خمس سنوات قائمًا بهذه المهمّة.
تدريسه في كلية الشريعة بالجامعة الأردنية:
دعته الجامعة الأردنية للتدريس في كلية الشريعة، وذلك عام 1971م، وظل بها حتى عام (1409هـ ـ 1989م) قائمًا بتدريس مادة "المدخل الفقهي العام"، ومدخل العلوم القانونية، وقواعد القانون المدني الوضعي.
مشاركته في وضع مشروع القانون المدني العربي المستمد من الفقه الإسلامي:
اختارته الدائرة القانونية في الأمانة العامة بجامعة الدول العربي، عضوًا في لجنة الخبراء لوضع مشروع قانون مدني موحَّد للبلاد العربية، مستمدٍ من الفقه الإسلامي، في الفترة 1981ـ 1984.
مشاركته في المجامع الفقهية:
اختارته رابطة العالم الإسلامي عضوًا في المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة منذ إنشائه عام (1398هـ ـ 1978م)، كما اختير عضوًا خبيرًا في مجمع الفقه التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في جدة.
وقدَّم للمجمعَين دراسات فقهية عديد لمواضيع معاصرة.
اختياره عضوًا في مؤسَّسة آل البيت:
اختارته المملكة الأردنية عضوًا في مجلس المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية (مؤسسة آل البيت) في عمان، منذ عام 1981م.
نشاطات علمية أخرى:
عضو اللجنة الرسمية التي وضعت مشروع قانون الأحوال الشخصية السوري المستمدَّ من الشريعة الإسلامية عام (1372هـ ـ 1952م) وهو لا يزال نافذًا، واقتبسته عدد من البلاد العربية.(1/11)
رأس اللجنة الثلاثية التي ضمَّت مفتي الديار المصرية الشيخ حسن مأمون ـ رحمه الله ـ ووكيل مجلس الدولة بمصر الدكتور عبد الحكيم فراج، والتي وضعت في عامي (1378ـ 1379هـ ـ1959ـ 1960م) مشروع قانون موحد للأحوال الشخصية لمصر وسورية خلال وحدتهما؛ وقد وضع لهذا المشروع مذكرة إيضاحية إضافية، تبسط ما يتعلق به من الفقه، وتشرح نواحي الإصلاح ـ الذي أدخل فيه ـ ومستنداتها الشرعية.
يتميز هذان المشروعان بالاستمداد من مجموع المذاهب الفقهية، وبأحكام إصلاحية مهمّة (وبخاصة في المشروع الثاني).
كما شارك بأبحاث فقهية وإسلامية في كثير من المؤتمرات والندوات في بلدان إسلامية وغربية.
مشاركته في تأسيس وتطوير مناهج عدد من الجامعات العربية:
شارك في تأسيس وتطوير مناهج عدد من الجامعات العربية، ومن ذلك:
كلية الشريعة في جامعة دمشق، عام (1373هـ ـ 1954م)، وكليتا الشريعة وأصول الدين في الأزهر عام (1960 ـ 1961م) والجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، وكلية الشريعة بمكة المكرمة عام 1963/ 1964م.
حصوله على جائزة الملك فيصل العالمية للدراسات الإسلامية:
مُنِحَ جائزة الملك فيصل العالمية للدراسات الإسلامية عام 1404 هـ تقديرًا لإسهاماته المميَّزة في مجال الدراسات الفقهية، ولكتابة "المدخل إلى نظري الالتزام في الفقه الإسلامي"، وهو الجزء الثالث من سلسلة (الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد).
نشاطه السياسي:
انتخب عن مدينة حلب نائبًا في المجلس النيابي السوري لدورتين تشريعيتين عام 1954 ثم 1961م.
كما أُسْنِدَت إليه وزارتا العدل والأوقاف في عهود دستورية (في عامي 1956، ثم 1962).
بعض تلامذته:
درس الشيخ منذ يَفاعة شبابه، حين حلَّ مكان والده بالتدريس كما أسلفت، أي: أنه بدأ عالم التدريس منذ سنة 1925م إلى أن توجَّهَ إلى دمشق لمتابعة دراسته العصرية سنة 1929م.(1/12)
ودرس في كليتي الحقوق والشريعة منذ سنة 1944م إلى آخر سنة 1966م. ثم درَّس في الجامعة الأردنية منذ سنة 1971م إلى سنة 1989م، فكان تدريسه لمدة تنوف على الأربعين سنة.
وقد نبغ من تلاميذه الأوفياء كثير، من أشهرِهم العلامة المحدِّث الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله تعالى، والعلامة الفقيه الحنفي الضليع الشيخ محمد الملاح الذي تتلمذ عليه وعلى والده من قبل، والعلامة الأديب اللغوي الدكتور عبد الرحمن رأفت الباشا رحمهما الله تعالى.
ومنهم العلامة الفقيه الأصولي اللغوي الدكتور الشيخ محمد فوزي فيض الله حفظه الله تعالى.
آثاره الأدبية والعلمية
آثاره الأدبية:
تميَّز الشيخ بمواهبه الأدبية وملكته الشعريّة، وأحبَّ الشعر من طفولته، وأولِع بحفظ طائفة كبيرة من أصيلِه، وقضى مع والده الليالي في مُطالعة كتاب "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني، و "العقد" لابن عبد ربه، و "الحيوان" و "البيان والتبيُّن"(12)
للجاحظ: ودواوين المتنبي والبحتري والنابغة الذُّبياني، والخنساء ومراثيها في أخيها صخر، وديواني سقط الزند، واللزوميات لأبي العلاء المعري اللذين كان مولعًا بهما أشد الولع.
ثم لما دخل الجامعة السورية بدمشق صار يُمارِس قرض الشعر في مختلف المناسبات.
وقد تعددت موضوعات شعره وتنوعت من إخوانيَّات ووطنيات ومراثٍ ومدائح وغزل ومنوعات، ورأى بعد أن بلغ التسعين أن يجمع بعض أشعاره المتفرِّقة، وأن ينشرَها في ديوان سماه "قوس قُزَح" لكثرة موضوعات شعره وتنوعها(13)
آثاره العلمية:(1/13)
عندما عُيِّن الشيخ في جامعة دمشق أستاذًا لتدريس الحقوق المدنية، والشريعة الإسلامية كان أساس هذه الحقوق مجلة الأحكام العدليّة المستمَدّة من الفقه الحنفي، ولما كُلِّف بتدريسها شَعَرَ بالحاجة إلى عرض أحكامها بأسلوب عصري جديد، على نسق الأحكام التي تُعرض في القانون المدني وشروحه، وقد ضاعف من شعوره هذا ولعه الفطري بعرض الأفكار مرتبة بحيث يتدرَّج من البسيط إلى المركب، إضافة إلى ذخيرته من الدراسة القانونية وبحوثها ومناهجها ونظرياتها.
لقد كان الفقه محجوبًا عن الملأ ومقصورًا على أهل الفقه، وأَحَبَّ الشيخ أن يقرِّبه، ويُسلس قيادَه، ويسهِّل أحكامه، ويَحُلّ عقده، ويجعله في متناوَل غير رجال الاختصاص.
ولقد يسَّر الله له خلال تدريسه إخراج سلسلة "الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد"، جزاءها الأولان هما المدخل الفقهي العام، الذي شقَّ ـ في صياغة الفقه وتدريسه جامعيًّا للطُّلاب غير ذوي الخلفيّة الشرعية ـ طريقًا لم يكن معهودًا قبله، ثم لقي قَبولاً واسعًا حتى صار هو الطريقةَ الشائعةَ في أكثر الجامعات العربية(14). وجزؤها الثالث هو المدخل إلى النظرية العامة للالتزامات في الفقه الإسلامي، الذي فاز بجائزة الملك فيصل العالمية للدراسات الإسلامية عام 1404 هـ.
وأما الجزء الرابع من السلسلة فهو: "العقود المسماة في الفقه الإسلامي، عقد البيع" طبع في دمشق (1367هـ ـ 1948م).
وقد بذل جهدًا في تلخيصه وتنسيقه من مصادره الفقهية القديمة، ويُعَدُّ نموذجًا للكتابة في شرح العقود الأخرى بشكل موضوعي مع مقارنة المذاهب، وتبسيط الأحكام الشائكة، وربطها بالقواعد والضوابط والأصول. وستصدر له طبعة جديدة مَزيدة ومنقّحة.
أما السلسلة الثانية في ثلاثة مجلدات فهي في شرح القانون المدني السوري.
وأهم الكتب الأخرى للشيخ هي التالية:
1 - أحكام الأوقاف.
2 - في الحديث النبوي.
3 - الاستصلاح والمصالح المرسلة في الفقه الإسلامي.(1/14)
4 - الفعل الضّارّ والضّمان فيه.
5 - نظام التأمين، والرأي الشرعي فيه.
6 - الفقه الإسلامي ومدارسه (بتكليف من اليونسكو).
7 - رسالة بعنوان: عظمة محمد مجمع العظمات البشرية.
8 - عقد الاستصناع وأثره في نشاط البنوك الإسلامية.
9 - صياغة شرعية لنظرية التعسُّف في استعمال الحق.
وغير ذلك من البحوث الفقهية والفكرية والتربوية، التي ستنشر ـ بعون الله تعالى ـ مجموعة مرتبة، ضمن ما أقوم به من جمع آثار الشيخ الفقهية وأعماله العلمية.
فتاوى الأستاذ مصطفى الزرقا
تُمَثِّلُ فتاوى الفقهاء "الناحية التطبيقيّة العمليةَ من الفقه، وتظهر نتائج المبادئ النظرية والأحكام المقررة، ومدى ملاءمتها للمصلحة التطبيقيّة عند وقوع الحوادث غير المتوقَّعة، وهي أيضًا مصدر صالح للوقوف على النصوص الفقهية في الحوادث المتوقعة في كل وقت"(15) وفي حديثي عن هذه "الفتاوى" سأبدأ بكلمة تمهيدية عن أهمية الفتوى ومكانة المفتي، والشروط التي يجب أن تتوافر فيه بإيجاز ثم أتكلم عن مزايا هذه الفتاوى، ومنهج الشيخ في الفتوى، ثم عن عملي وطريقتي في إخراج هذا الكتاب.
أهمية الفتوى ومكانة المفتي:
قال الإمام الشاطبي(16) رحمه الله تعالى: "المُفتي قائم في الأمة مقام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، والدليل على ذلك أمور:
أحدها: النقل الشرعي. في الحديث: "إنَّ العلماء ورثةُ الأنبياء..".
والثاني: أنه نائب عنه في تبليغ الأحكام.
والثالث: أن المُفتي شارع من وجه؛ لأن ما يُبلِّغه من الشريعة إما منقول عن صاحبها، وإما مُستنبَط من المنقول.
فالأول: يكون فيه مبَلِّغًا. والثاني: يكون فيه قائمًا مقامَه في إنشاء الأحكام بحسب نظره واجتهاده، فهو من هذا الوجه شارع واجبٌ اتباعُه، والعمل على وفْق ما قال: وهذه هي الخلافة على التحقيق.(1/15)
وعلى الجملة: فالمفتي مخبِرٌ عن الله تعالى كالنبي، ومُوقِّع للشَّريعة على أفعال بحسب نظره كالنبي، ونافذ أمره في الأمة بمنشور الخِلافة كالنبيِّ، ولذلك سمُّوا ـ يعني المُفتين ـ أولي الأمر" أ.هـ.
وعبَّر الإمام القرافي(17) ـ رحمه الله تعالى ـ عن المفتي بأنه: "ترجمان عن الله تعالى"، واعتبر الإمام ابن القيم المفتي موقِّعًا عن الله تعالى فيما يُفتي به، ورسم كتابه الشهير بـ "إعلام الموقعين عن رب العالمين". وقال في فاتحته(18): "إذا كان منصِب عن المملوك بالمحلّ الذي لا يُنكَر فضلُه، ولا يُجهَل قدره، وهو من أعلى المراتب السنِيّات، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات"!!
وقد عرَف السلف رضي الله عنهم ـ للفتوى رفيعَ منزلتِها، وعظيمَ مكانتِها، فاستعظموا شأنَها، وتهيبوا أمرَها، وشعروا بعِظَم التَّبِعَة فيها.
بل كانوا يدرؤون الفُتيا عن أنفسهم ما استطاعوا، ويحاولون أن يتخلّصوا منها، ويُسندوها إلى غيرهم.
ومن ذلك ما رواه الإمام الدارمي في "السنن": باب من هاب الفُتيا، ونقل نصوصًا كثيرة" (19)
وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى: "من تَكلّم في شيء من العلم وهو يظنُّ ألَّا يسأله الله عنه: كيف أفتيتَ في دين الله؟ فقد سَهُلت عليه نفسه ودينُه"(20) وانظر على سبيل المثال في "الفَقيه والمتفقِّه" للخطيب البغدادي، العناوين الآتية: "ما جاء لمن أفتى وليس هو من أهل الفتوى"، و "الزّجر عن التسرُّع في الفتوى مخافة الزَّلَل" و "ما جاء في الإحجام عن الجواب إذا خَفِيَ عن المسؤول وجْهُ الصواب" (21)، ثم انظر "إعلام الموقِّعين" في "ذكر تحريم الإفتاء في دين الله بغير علم، وذكر الإجماع على ذلك"(22)
أهلية المفتي:(1/16)
إن المُفتي الذي يوقِّع عن الله ـ عز وجل ـ ويقوم مقام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في تبليغ أحكام الشريعة، أو إنشاء أحكامها بحسب نظره واجتهاده، يجب أن تتوافَر فيه الأهليّة التي تؤهِّله لهذا المنصِب العظيم، والمقام الرّفيع.
ولبيان شرط الأهلية للفتوى ـ بإيجاز ـ يمكن أن أقسِّمَ الحديث عنها إلى: التأهل علمًا، والتأهل ديانة وصلاحًا.
أما التأهُّل علمًا: فلابد أن توجد في المفتي شروط الاجتهاد العام(23)، بالتمكُّن في علوم الإسلام كافّة، والاطِّلاع الإجمالي على أحكام الكتاب العزيز، وكثير من السنة المُطهَّرة، ومسائل الإجماع، ودراسة مُوسَّعة لمصادر التشريع الأخرى: القياس، والاستحسان، والاستصحاب، و المصالح المُرسَلة، والاحتجاج بمذهب الصحابي، وشرع من قبلنا، وسدِّ الذرائع، وأبواب علم الأصول الأخرى، ومعرفة ودُرْبة في علوم الحديث عامة.. إلى تمكن إجمالي من علوم العربية: اللغة، والنحو، والصرف، وعلوم البلاغة الثلاثة: (المعاني والبيان والبديع) إضافة إلى العلم بمقاصد الشريعة، ومعرفة الناس والحياة.
وقد أجمل ذلك الإمام الشافعي ـ رحمه الله تعالى ـ فيما رواه عنه الخطيب، بقوله:
"لا يَحِلُّ لأحدٍ أن يُفتي في دين الله إلا رجلاً عارفًا بكتاب الله: بناسخه ومَنسوخه، وبمُحكَمه ومتشابِهه، وتأويله وتنزيله، ومَكِّيِّه ومدنيِّه، وما أُريد به، وفيما أُنزِلَ، ثمَّ يكون بعد ذلك بصيرًا بحديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: بالناسخ والمنسوخ، ويعرِف من الحديث ما عرَف من القرآن، ويكون بصيرًا باللغة، بصيرًا بالشِّعر، وبما يحتاج إليه للعلم والقرآن، ويستعمل ـ مع هذا ـ الإنصاف، وقلة الكلام. ويكون بعد هذا مُشرِفًا على اختلاف أهل الأمصار. وتكون له قَريحة بعد هذا. فإذا كان هكذا فله أن يتكلَّم ويُفتيَ في الحلال والحرام، وإذا لم يكن هكذا فليس له أن يتكلَّم في العلم ولا يُفتيَ "(24)(1/17)
وفصَّل تلك الشروط ابن عبد البر في "جامع بيان العلم"(25) تحت عنوان: "باب رتب الطلب والنصيحة في المذهب".
وذكر نحو هذه الشروط الإمام الغزالي رحمه الله، وعبَّر عن قول الشافعي المذكور هنا: "وتكون له قريحة " بعبارة أخرى يستعملها الأصوليون كثيرًا، فقال: "وفِقه النفس لابدَّ منه، وهو غَريزة لا تتعلَّق بالاكتساب" (26).
وذكر ابن القيِّم رحمه الله في "إعلام الموقِّعين" (27)، وعليه ما تقدّم، وزاد عليه.
وفي "المسوَّدة"(28) من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية الحفيد ـ رحمه الله ـ، فصل طويل عنوانه: "فصل في صفة من يجوز له الفتوى أو القضاء" فيه فوائد الفوائد.
ومن صفة المُفتي أيضًا: كثرة صوابه، ومن صفتِه بعد ذلك: اشتهاره بين معاصريه بالعلم وشهادتهم له بذلك.
قال الإمام شمس الدين السروجي ( ت710): "لا يَصير الرَّجُل أهلًا للفتوى ما لم يَصِرْ صوابُه أكثرَ من خطئِه؛ وذلك لأن صوابَه متى كثُر غَلَبَ، والمغلوب في مقابلة الغالب ساقِط "(29).
وأما شهادة شيوخه والمعاصرين له المتأهِّلين للشهادة، فقد قال الإمام مالك: "ما أفتيتُ حتّى شَهِد لي سبعون أنِّي أهلٌ لذلك" (30).
وقال أيضًا: "ما أجبتُ في الفتوى حتى سألتُ مَن هو أعلم مني: هل تراني مَوضعًا لذلك؟ سألت ربيعةَ، وسألت يحيى بن سعيد ـ الأنصاري ـ فأمَراني بذلك. فقيل له: يا أبا عبد الله لو نَهَوْك؟ قال: كنتُ أنتهي،لا ينبغِي لرجل أن يَرى نفسَه أهلاً لشيء حتى يسألَ مَنْ هو أعلم منه"(31).
وأما التأهُّل ديانةً وصلاحًا: وذلك بالتحلِّي بالعمل الصالح والتقوى والورع، ليكون جديرًا بهذا المنصِب العلمي الرفيع، وليُعْتَبر قوله، ويُسْمَع لفتواه، فلِما رُوِيَ عن علي ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: قلت: يا رسول الله، إن نزل بنا أمر ليس فيه بيان أمر ولا نهي فما تأمرنا؟ فقال ـ صلى الله عليه وسلم: "شاوروا فيه الفقهاء والعابدين" (32).(1/18)
وفي "سنن الدارمي"(33) مُرْسَلاً ـ ورجاله ثقات ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سُئِل عن الأمر يحدث ليس فيه كتاب ولا سنة؟ فقال: "ينظُر فيه العابدون من المؤمنين".
أما أن ينتصب للفتوى ويتكلَّم في العلم والدين من لم يتأهَّل علمًا ولا ديانةً، فهذا يجب أن يُحجرَ عليه من قبل الحاكم المسلم، كما قاله الفقهاء.
وقد ضَمِنَ الشَّرع الحنيف "من تَطَبَّبَ ولم يُعْلَمْ منه طِبٌّ " فحصلت منه إذاية لمريض، كما هو معلوم أيضًا، فالحَجْر على من يؤذي الناس في دينهم من باب أولى.
"وقد قال بعض الناس: أكثر ما يفْسِدُ الدنيا نصف متكلِّم، ونصف متفقِّه، ونصف مُتطبِّب، ونصف نحويٍّ ".
هذا يُفسِد الأديان، وهذا يُفسد البلدان، وهذا يُفسد الأبدان، وهذا يُفسد اللِّسان " (34).
ومن الخِذلان المبين أن نرى طُوَيْلِبَ علم لا يُقيم لسانه بالعربية، ولا يحفَظ شيئًا من القرآن، ولا يكاد يستحضِر شيئًا من السنة، فضلاً عن معرفة الفقه والأصول.. ومع هذا يقيم نفسه مقام الاجتهاد والفتوى، ويقف أمام جهابذة العلماء، وكأنه أبو حنيفة أو الشافعي! وهِجِّيراه أن يقول: أرى، وأنا، وقلت: وعندنا!
يقولونَ : هَذا عِنْدَنا غَيْرُ جَائِزٍ فَمَنْ أنْتُمُ حَتَّى يَكونَ لَكُمْ عِنْدُ
مزايا فتاوى الأستاذ الزرقا
أعود للحديث عن مزايا هذه الفتاوَى، ومنهج الشيخ فيها، من خلال استعراض عابر لنماذج من الفتاوى التي يجمعها هذا الكتاب(35) فقه المقاصد:
مما يُمَيَّز به فتاوى الشيخ الزرقا غوصُه في مقاصد الشريعة، ومعرفة أسرارها وعلِّلها، وربط بعضها ببعض، وردّ فروعها إلى أصولها، وجزئياتها إلى كليّاتها، وعدم الاكتفاء بظواهرها، والوقوف على حرفية نصوصها.(1/19)
وذلك راجع لما يتميّز به الشيخ من فكر علمي بصير "يتطلع إلى العلل، ويُولع بالنفاذ إلى أعماق الأمور، ويوازِن بينها وينقُد، فيقبل ويرد، ولا ينطبع بكل ما يُلقَى إليه، أي أنه فكر فيه موهبة التمييز، وملكة الإدراك والتحليل والنقد(36)
فهم الواقع:
ومما يتميّز به فتاوى الزرقا، فهمُه للواقع فهمًا صحيحًا، وتطبيقه النصَّ الشرعي على الواقِعة العملية، فهو قريب من واقع الناس ومشكلاتِهم، ساعده على ذلك حضوره الكثير من المؤتَّمرات، وسفره إلى عدد من البلدان، ومعرفته بأمور المعاملات المالية الحديثة.
علم أصول الفقه والقواعد الفقهية:
وممّا تتميز به هذه الفتاوى، اطلاعه الواسع على علم أصول الفقه، ومعرفته العميقة بالقواعد الفقهية، وستأتي نماذج على ذلك عند الكلام عن منهجه في الفتاوى.
الإجابة عن كثير من القضايا المعاصرة:
ومن مزايا هذه الفتاوى أنها تجيب عن كثير من القضايا المُستجِدّة في ميدان التعامل المالي والاقتصادي في عصرنا هذا الذي حفل بأعمال ومؤسَّسات جديدة في هذا الميدان لم يكن لأسلافنا عهد بها، وذلك كالشركات الحديثة بصورها المختلفة، والبنوك بأعمالها الكثيرة، وقد قدَّم الشيخ رأيه، وأفرغ وُسعه في فتاوى مفصَّلة، ودراسات متأنية، لاستنباط الحكم اللائق بهذه المعاملات في ضوء الأدلة الشرعية.
كما تضم هذه الفتاوى الكثيرَ من القضايا الجديدة في المجال العلمي الطبي، وأمور الأسرة والمرأة.
إعطاء الكثير من الفتاوى حقّها من الشَّرح والإيضاح:
ومن مزايا هذه الفتاوى : إعطاء الشيخ الكثير منها حقها من الإيضاح والتحليل، حتى تكاد أن تكون تلك الأجوبة بحوثًا مستقلة، ومن أمثلة ذلك:(1/20)
فتوى حول جواز إخراج صدقة الفطر بقيمتها من النقود(37)، في (17 صفحة)، وحكم إثبات الهلال بالحساب الفلكي في هذا العصر(38)، في (12) صفحة وميقات الإحرام للقادم بالطائرة(39)، في (13 صفحة)، وحكم الترتيب في الرَّمي والذَّبح والحَلق(40)، في (13 صفحة)، وشهادة النساء في الحدود والقصاص، وأن دية المرأة نصف دية الرجل(41)، في (6 صفحة)، وفتوى عن الحُكْر وغيره من حقوق القرار المنشأة بعرف طارئ على عقارات الوقف(42)، في (9 صفحة)، وحكم عدول المالك عن بيع الأسهم، وهل يستحق الوسيط العوض(43)، في (11 صفحة)، وحكم اشتراط الاحتفاظ بمنفعة المبيع للبائع مدة معلومة في نظر فقهاء الشريعة والقانون(44)، في (14 صفحة)، وحكم فوائد الودائع العائدة لبنك إسلامي في المصارف الأجنبية(45)، في (17 صفحة).
منهج الشيخ الزرقا في الفتوى
إن المنهج الذي اختَطَّه لنفسه يقوم على جملة من الأسس أذكرها في النقاط التالية:
الاستقلال في الفهم والبعد عن العصبية المذهبية:
1 - يبتعد الشيخ في فتاواه وبحوثه الفقهية عن العصبيّة المذهبيّة مع التوقير الكامل، والإجلال العظيم للفقهاء السابقين، والأئمة المتبوعين ـ رضي الله عنهم.
فهو يتبع الحجّة التي يبصرها، ويسير مع الدليل حيثما سار، ويستفيد من سائر المذاهب الفقهية المعتبرة وآراء المُفتين من الصحابة والتابعين.
يقول حفظه الله تعالى في مَقال قديم له بعنوان: "العصبيّة المذهبيّة في الفقه سِجن ضيق مُظلم في جنّة الشّريعة الفَيحاء" (46)(1/21)
"الواقع أن كلّ مذهب اجتهادي كنافذة واحدة في بيت من دار كثيرة البيوت والنوافذ، فكل نافذة على حِدَة لا يمكن أن تري صاحبها إلا قوسًا جزئيًا من دائرة أفق الشريعة. ولكن الذي حبس نفسه أو حبسته التقاليد الموروثة على نافذة أحد البيوت يظنُّ ألَّا منظرَ يُعتدُّ به غير ما يراه، ولو عقل ونظر لعلم أن للبيوت الأخرى مزايا في المناظر أو الأهوية لا يوجَد مثلها عنده. وإن كان عنده من ناحيةٍ أخرى ما لا يوجد في تلك، ولَكَمْ يحتاج من يُشرف بيتُه من جهة على غِياض ورياض أن يُشرف من جهة أخرى على جبل أو سهل أفيحَ !!
ومن هنا يتضح أن رؤية كل ذي مذهب للشريعة الواسعة الأرجاء المُطيفة الآفاق بعين مذهبه الخاص، أو بمنظاره إنما هي رؤية ناقصة؛ لأن الشريعة الإسلامية هي مجموعة المذاهب الاجتهاديّة التي وُجدت، والتي توجد قائمة على دعائمها قيامًا صحيحًا، وليست هي أحد المذاهب".
ويقول في فتوى مفصَّلة في ترتيب الأعمال التي يحصُل بها تحلُّل الحاج من إحرامه يوم النحر:" الشريعة وفقهها لا يمثلها مذهب واحد بخصوصه لعدم عصمته من الخطأ، بل جميع المذاهب المعتبرة تشارك في تمثيل الشريعة وفقهها، والتعصّب المذهبي يحرِم صاحبه من مزايا الشريعة، وهو جهل وضلال"(47).
ويقول أيضًا : "فالذي يمثل الشريعة هو مجموع المذاهب الفقهية المعتَبَرة، وآراء المُفتين من الصحابة والتابعين من الذين نقلت آراءهم كتب الفقه العام واختلاف الفقهاء"(48).
ويرجح في فتوى تتعلق بهدم مسجد وإعادة بنائه وتوسعته وجعله في الطابق الثاني، مذهب الحنابلة؛ لأنه أوسع المذاهب الأربعة في هذا الموضوع، فيقول: "هذا ولا يخفَى على أحد من أهل العلم أن الأمة غير مكلّفة باتباع مذهب بخصوصه من مذاهب الأئمة المجتهدين ـ رضي الله عنهم"(49).(1/22)
ويبين الطريقة الصحيحة في معالجة قضايا الساعة: "إن معالجة قضايا الساعة لا يصحُّ منا أن نعالجها ونقرر لها حلولاً شرعية منطلِقين من خلفيّة مذهبيّة، أو فكرة مُسبَقة ننظر من زاويتها إلى القضية المُستجِدّة، ونجرِّدها من ملابساتها وظروفها الخاصة لنجرها جرًّا إلى المقعد الذي هيأناه سلفًا إلحاقًا وتعميمًا، سواء أكان ملائماً لطبيعتها وظروفها وملابساتها أو غير ملائم، ولو كان هذا الإلحاق والتعميم سيزُجُّ بالمكلفين في مشقّة وحرج، نفتهما النصوص القطعية من الكتاب والسنة فقضايا الساعة يجب أن تُعالَج بفكر فقهي حرٍّ.." (50)
التخفيف والتيسير والبعد عن الحرج بضوابِطه الفقهيّة:
2 - ومن منهجه في الفتوى: تقديم التَّخفيف والتيسير على التشديد والتعسير؛ لأن الشريعة مبنية على التيسير ورفع الحرج، وهذا ما دلَّت عليه النصوص الكثيرة في الكتاب والسنة..
ويتأكَّد ترجيح الرخصة واختيار التيسير إذا ظهرت الحاجة لذلك، لضعف أو مرض أو شيخوخة، أو لشدة مشقّة. ولا سيما لمن كان حديث عهد بإسلام أو قريب عهد بتوبة.
ومن دواعي الترخيص والتيسير: مراعاة أحوال المُغتربين في بلاد المهجر.
يقول في بعض فَتاويه للأقليّات المُسلِمة التي تعيش في بلاد المهجر: "إني لأري أن أُفتيَ بأضيق المذاهب الفقهية، إذا كان بعض المذاهب فيه سعة في الموضوع أكثر من الأخرى، ولا سيّما لإخواننا الذين يعيشون في المهجر"(51).
ويقول أيضًا: "وإني لا أريد التضييق على المسلمين في البلاد الأجنبية بصورة تُهدِر أموالهم وتُحرِجهم"(52).
إلا أن الترخيص للأقليّات المسلِمة والمقيمين في دار الغربة، ليس على إطلاقه، بل هو مُقيَّد بضوابطه الفقهية.
ففي جواب له عن حكم بيع المسلم للخمر في البلاد الأجنبية يقول:
"ولكن نفسي لا تطمئن لهذه الظاهرة من التبرير، فإن المسلمَ يجِب أن يكون عنوانًا على مبادئ الإسلام في سلوكه أينما وُجِدَ "(53).(1/23)
وفي جواب آخرَ عن فتح يانصيب لغرض خيري يقول: "هذه الفكرة غير مقبولة في النظر الإسلامي، فإن فيها سلوكَ الواسطة الحرام للوصول إلى الهدف المشروع، وإن الإسلام لا يُقبَل فيه مبدأ أن الغاية تبرِّر الواسطة، فيجب أن تكون الغاية والواسطة كلتاهما مشروعتين " (54).
ومن دواعي التيسير: "اختيار الآراء الفقهيّة المُبيحة عند اختلاف الاجتهادات المعتبرة"(55).
ويبين منهجه الفقهي في معالجة بعض المعاملات المالية الجديدة في جواب قديم عن عقد التأمين: "إننا في مثل هذه العقود التي فَشَت وأصبحت من ضرورات التجارة العصرية، يجب أن نلتمس في النصوص القديمة نوافذ الترخيص والتجوُّز، فمتى وجدنا لجوازها منفذًا نفذنا منه، لا أن نأخذَ بدلائل التضييق ووجوهه عندما يكون في النص وجهان في الدلالة، هذا ما أعتقد أنه يجب أن يكون منهاجنا الفقهي في معالجة الأمور الزمنية، بعد أن تكون في هذه الأمور مصلحة ظاهرة لا مَفسدة"(56).
ويردُّ في جواب له ـ عن الطُّهر الذي تراه المرأة، وأنه لا ينقض الوضوء ـ على الذين يميلون إلى التشديد والتعسير ويستغربون مظاهر اليسر في فقه الشريعة، فيقول: "كأنما كل ما فيه تيسير وتسامح ودفع الحرج والمشقّة فيما يتصل بواقع الحياة الطبيعية، يراه أناس غريبًا، حتى كأن معنى الشريعة لا يتحقَّق إلا في الإرهاق والمشقة، مع أن هذه الشريعة الغرَّاء السمحة أساسها التيسير ورفع الحرج"(57).
ويلتزم الشيخ رُوح التوسط دائمًا، والاعتدال بين الإفراط والتفريط، والتساهل والتضييق. يقول حفظه الله تعالى: "إن التضييق تشويه والتساهل تضييع.. والتقوى هي الحِفاظ لميزان الاعتدال".
وهذه التوسعة والتيسير التي تتسم بها فتاوى الشيخ تدل على عمق فقهه، ورسوخ علمه، وسعة أفقه، فالرخصة لا تقبل إلا من ثقة في علمه ودينه واستقامته.(1/24)
قال الإمام سفيان الثوري ـ رحمه الله تعالى: "إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة، فأما التشديد فيُحسِّنه كل أحد"(58) وليس معنى التوسعة على الناس والتيسير عليهم أن يلويَ أعناق النصوص ليًّا، ليستخرج منها رخصًا تُرضِي أهواء الناس. بل إن التيسير الذي يسير عليه الشيخ هو الذي لا يُصادِم نصًّا ثابتًا محكَمًا، ولا قاعدة شرعية قاطعة، بل يسير في ضوء النصوص ومقاصد الشريعة.
ولهذا لم يتساهل قط في تحريم الفوائد الرِّبوية من البنوك، وفي وجوب حجاب المرأة، وحرمة زواج المسلمة بغير المسلم، وحرمة التبنِّي، وغيرها من الأمور القطعية الثبوت والدلالة التي وجد فيها النصوص الصريحة الملزِمة التي تدل على التحريم.
سدُّ الذَّرائع:
3 - ومن منهجه في الفتوى تطبيق مبدأ سد الذرائع كما سيرى القارئ في مقدمة الشيخ لهذه الفتاوى(59)..
وهذه بعض الأمثلة على ذلك:
في جواب له عن حكم اشتراط الاحتفاظ بمنفعة المبيع للبائع مدى حياته، إذا كان المشتري وارثًا، يبين الشيخ: "إن الباعث على هذا الشرط هو الاحتيال على الحكم الشرعي الذي لا يُجيز الوصية لوارث إلا بإجازة باقي الورثة. فيفرِّغ الوصية للوارث في قَالَب بيع مؤجَّل الأثر إلى ما بعد وفاته، فيغلِّف التصرف بغِلاف تصرف آخر، ويسميه باسمه، وينفذ بذلك إلى مقصوده الممنوع شرعًا"(60)
يقول في بيان الموقف الذي تدل عليه نصوص فقهاء الشريعة في هذه الحال: "إن من أصول الشريعة ومبادئها المقرَّرة:مبدأ سدِّ الذرائع المعروف عند العلماء، فكل طريق يمكن أن يُتَّخذ ذريعة إلى الفساد أو إلى الاحتيال على الأحكام الشرعيّة بصورة تعطِّل مقاصدها، أو تعكسها، وجب الحكم بسدِّه وردّ الشخص إلى الجادّة "(61)(1/25)
وفي جواب له عن الحكم الشرعي في صكوك الإذن الحكومية يقول بعد بيان حقيقة تلك الصكوك وتكييفها الشرعي والقانوني: "فمن الواضح جدًّا أن هذه الصكوك ليست سوى صكوك قرض بفائدة.. وتسمية هذه العملية شراء لصك إذن حكومي لا يُغيِّر من حقيقتها شيئًا، فإن الحقائق لا تتغيَّر بتغيُّر الأسماء"(62).
وينبِّه إلى طرق الاحتيال على الحكم الشرعي في كثير من المعاملات المالية:
ففي جواب له عن سندات التنمية يقول: "إن ما يسمَّى اليوم بسندات التنمية هو القرض نفسه بفائدة، وهي عين الربا المحرم، وإن التسميات المختلفة المستجِدّة لا تغير من حقيقة العمل المحرّم في شريعة الإسلام شيئًا"(63).
وفي جواب عن اتفاقية تمويل مخزون نتاج زراعي مخصّص للتصدير من قبل مجمع من البنوك الإسلامية، يكشف حقيقة الاتفاقية وما تنطوي عليه من احتيال على الحكم الشرعي، فيقول: "إنها تغطية شفافة لتمويل ربوي، قد اتَّخذت لها صورة لا تخرج عن بيع العينة المحرم، ستارًا وتغطية، إذا أريد النظر في الإفتاء إلى حقائق الأشياء دون الوقوف عند الظواهر…، وإلا كان الفقه الإسلامي شكليًّا يجري فيه التحليل والتحريم بصورة مُتناقِضة، لا ينظر فيها إلى التكييف الحقيقي لوجوه التعامل(64)..".
فقه الضرورة:
4 - ومن منهجه في الفتوى: مراعاته للضرورات التي تطرأ في حياة الناس، فللضرورات أحكامها الخاصة التي تُبيح ما كان محظورًا في حالة الاختيار.
ولذا نجده يستدل بقاعدة: "الضرورات تُبيح المحظورات" في كثير من فتاويه. ففي فتوى تتعلّق بترقيع الأحياء بأعضاء الأموات يطبق هذه القاعدة(65)، وفي حالة الإجهاض لإنقاذ حياة الأم(66)،
ويؤكد أن قاعدة الضرورة: تطبق بحدودها وشرائطها وقيودها، وتقدر بقدرها.(1/26)
مثل فتواه في : كشف العورة للطبيب(67)، والفتوى بشأن الاستمناء (العادة السرية) يقول: "فإذا خَشِيَ الوقوع في محظور أعظم كالزنى، أو الاضطرابات النفسية المُضِرّة، فإنها تباح في حدود دفع ذلك، على أساس أن الضرورات تقدَّر بقدْرها"(68).
إلا أنه مع استدلاله بهذه القاعدة: "الضرورة تُقدَّر بقدْرها" يطبق القاعدة الأخرى: "ما جاز لعُذر بطل بزواله"(69)
ففي فتوى له بشأن إيداع الأموال في البنوك الربوية بقصد صرف الفوائد في المشروعات الخيريّة يقول: "إن الإيداع في البنوك الربوية كنا نجيزه لاضطرار الناس إليه؛ إذ لا يمكن إلزام الناس بأن يُخبئوا وفرَ نقدهم في بيوتهم، لما في ذلك من محاذِيرَ ومخاوفَ معلومةٍ، ولم يكن يوجد طريق آخر لحفظ أموالهم سوى الإيداع في البنوك. لكن بعد قيام البنوك الإسلامية، ودور الاستثمار الإسلامية في مختلف البلاد العربية والإسلامية زالت الضرورة، فلا أرى جواز الإيداع في البنوك الربوية لما فيه من تقويةٍ لها على المُراباة"(70)
التعليل للحكم الفقهي:
ومن منهجه في الفتوى: ذكر الحكم الفقهي مقرونًا بحكمته وعلّته، مربوطًا بمقاصد الإسلام العامة.
يقول ـ حفظه الله ـ مُبينًا أثر العلة في فهم النص: "للعلّة تأثيرها في فهم النص وارتباط الحكم بها وجودًا وعدمًا في التطبيق، ولو كان الموضوع من صميم العبادات"(71).
ويقول مُبِينًا دور العقل في فهم النصوص الشرعية: "إن الدين الإسلامي مَزِيّتُه الأولى أنه يقوم على العقل. وأحكامه العملية معللة برعاية المصالح والأصلح. وكون النقل ـ أي النصوص ـ هو المعوَّل عليه قبل كل شيء لا يعزل العقل عن مَزيَّتِه المعروفة في الشرع؛ لأن فَهم النص يحتاج إلى عمل عقلي"(72).(1/27)
ولكن يستدرك مبينًا حدود العقل فيقول: "على أن الشخص المسلِم المؤمن لا يجوز له رفض حكم الشريعة، إذا لم تظهر له حكمته، لأن هذا يؤدِّي إلى أن يتخذ كل إنسان من عقله وعلمه القاصرين مقياسًا متفاوتًا عن مقياس غيره في قبول أحكام الشريعة ورفضها. بل عليه قَبول الحكم الشرعي في التحليل والتحريم متى ثبت وجود النص فيه، سواء أفَهِمَ الحكمةَ في ذلك أم لم يفهمْها"(73).
ففي جواب له حول ميراث الإناث، يذكر الحالات التي تأخذ فيها الأنثى نصف حِصّة الذِّكر وهي أربع حالات(74)، بين فيها حكمة الإسلام وعدالته في كل حالة، وأوضح " أن البنت تكون في حياتها كلِّها نفقتُها على الرِّجال، ففي حياة أبيها نفقتها عليه، ولو كانت بالغة، بينما إخوتها الذكور لا يكلَّف أبوهم بنفقتهم بعد بلوغهم، إذا كانوا قادرين على الكسب.
وبعد وفاة أبيها تكون نفقتها على إخوتها الذكور، إذا كانوا موسِرين، ثمَّ على من يَليهم في درجة القَرابة، ثم بعد زواجها تكون نفقتها على عاتق زوجِها، ولو كانت غنيّة، بينما أخوها الذّكر مكلّف بنفقة نفسه وزوجه وأولاده.
فإذا أخذت نصف ما يأخذ أخوها الذكر من ميراث أبيهما أو أمِّهما تكون هي أوفرَ حظًّا منه، بالنظر إلى ما يكلف به كل منهما في حاضر حياته ومستقبلها".
ثم يبين الحالات التي يتساوَى فيها الذكور والإناث في الميراث فيقول: "لا يخفَى أن النظام القانوني سلسلة متكاملة مترابطة، وحلقاتها يُكمِل بعضُها بعضًا، فلا يصحُّ النظر إلى حلقة جزئية منه، دون بقية حلقاته، وإلا كان نظرًا قاصرًا، والنظر إلى مقدار ما يأخذه كل من الأنثى والذكر في الميراث، دون نظر إلى التزامات كل منهما وتكاليفه الشرعية، هو حكم فاسد مبني على جهل، أو غرض، أو سوء قصد"(75).(1/28)
ويجيب عن مسألة عدم شهادة النِّساء في الحدود والقصاص، جوابًا مُستوفيًا للحكمة، مبنيًّا لمقصد الشريعة، فيقول: "إن التحديد الذي أتت به الشريعة على قَبول شهادة المرأة ليس عاماً شاملاً في كل أنواع الشهادة، بل قاصرًا على بعض هذه الأنواع(76) …" ثم يذكر الأحوال والتي تُقبل فيها شهادة المرأة مثل: قضايا الولادة وما يترتب عليها من إرث ونسب، والرواية عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فالحديث الذي روتْه لنا امرأة عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ له حُجِّيّة الحديث نفسه الذي يَرويه الرَّجُل.
ويقول أيضًا: "إن الحوادث التي توجب الحدود والقصاص كثيرًا ما تنطوي عن وقائع كريهة ومنفِّرة، والمرأة شديدة الانفعال والحسّاسية ممّا يصرِفها أحيانًا عن الانتباه إلى تفاصيل تلك الوقائع.
وهناك عوامل نفسية معقّدة تدخل في موضوع الشهادة، وتؤثِّر في مدى التّعويل عليها"(77)
ويقول كذلك: "إن أداء الشهادة ليس مزيّة وحقًّا في الإسلام، بل هو اجب يتَحمّل الشاهد بسببه عناءً ومشقة، وخاصة في قضايا الجنايات والحدود. لهذا نرى أن استبعاد المرأة من الشهادة في الحدود والقصاص هو أيضًا تكريم لها، وحماية من أن تتعرض إلى ما يُزعجها ويُؤذِيها نفسيًّا في كثير من الحالات "(78)(1/29)
وفي جواب له عن دية المرأة وأنها نصف دية الرّجل، يذكر تعليلاً للحكم مناسبًا فيقول: "وتعليل ذلك ـ هو أن الدية إنما هي تعويض عن الضّرر المالي الذي يُصيب أهل القَتيل في القتل الخطأ وهذا الضَّرر المالي في موارد حياة أسرة القتيل، ومن هو مسؤول عنهم فعلاً أو احتمالاً. فالرجُل هو المسؤول ماليًّا في نظام النفقات الإسلامي عن النفقة على نفسه، وعلى زوجته وأولادهما. لذلك كان الضَّرر المالي على أولياء الرجل القَتيل أكبر من الضرر المالي في حال كون القتيل امرأة، ولعل هذا هو السبب في اختلاف الدية بين الرجل والمرأة"(79) ويَزيد الأمر وضوحًا، ويربط الحكم المسؤول عنه بغيره من الأحكام فيقول: "أما في حالة القتل العمد العدواني الموجِب للقصاص فهذا مناطُه الصفة الإنسانية في القتيل، ولا فرق في هذه الصِّفة شرعًا بين الرجل والمرأة، ولذا يُقْتَل الرَّجلُ بالمرأة، والمرأة تُقْتَل بالرجل، لأن القصاص ليس مبنيًّا على تعويض الضرر الماليّ، بل على وجوب صيانة البنية الإنسانيّة من العدوان عليها، وهنا يتساوى الرجال والنساء في الكرامة الإنسانية ووجوب الصيانة"(80)
الحكم الدِّياني والحكم القضائي :
6 – ومن منهجه في الفتوى: ذكره الحكم القضائي بجانب الحكم الدِّياني، لأن " القضاء يحاكِم العملَ أو الحقّ بحسب الظاهر، أما الدّيانة فإنما تحكم بحسب الحقيقة والواقع، فالأمر أو العمل الواحد قد يختلف حكمه في القضاء عنه في الديانة.
والمفتي يبحث عن الواقع وينظر إلى الاعتبار القضائي، والاعتبار الدِّياني، فإن اختلف اتجاههما أفتى الإنسان بالاعتبار الدِّياني"(81)(1/30)
ومن أمثلة عناية الشيخ بذلك جوابه المحرَّر في مسألة تفضيل الذكور على الإناث في العطية في حال حياة المورِّث حيث يقول: "إن لهذه الحادثة حكمين، حكمًا في القضاء، وحكمًا في الديانة. أي: حكمًا يقضي به القاضي عند الخصومة، إذا تقاضي إليه الطرفان في هذه الدنيا، وحكمًا يحكم به أحد الحاكمين في الآخرة "(82)
وبعد أن يبيِّن الحكم القضائي يقول: "وفي حكم الدِّيانة.. يُعتبر تفضيل الوالد في حياته بعض أولاده على بعض ـ من ذكور وإناث ـ في العطيّة عملاً محظورًا منهيًّا عنه(83).."
وفي جواب في حكم إلزام المؤجِّر المماطل بتسليم المأجور بتغريمه بعقوبة مالية، والتعويض عن الضرر الحاصل من جرَّاء عدم تسليم المأجور، يُبيِّن حكم القضاء وحكم الشرع في تلك المسألة، ويقارن بينهما(84)
إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة التي تدلُّ على واسع اطلاع الشيخ على أحكام القضاء والقوانين، ومقارنتها بالحكم الفقهي، وإظهار مزيّة الفقه والشريعة.
الاستدلال بالقواعد الفقهية والأصولية:
7 – ومن منهجه : كثرة استدلاله بالقواعد الفقهية " وهذه القواعد مهمة في الفقه عظيمة النفع، وبقدر الإحاطة بها يَعظُم قدر الفقيه، وتتضح له مناهج الفتوى"(85).
وهذه بعض الأمثلة و النماذج:
يقول في جواب مفصّل عن حكم اشتراط الاحتفاظ بمنفعة المبيع للبائع مدة مؤقتة معلومة، لترجيح بعض الورثة على بعض: "من قواعد الشريعة وفقهها أن العبرة في العقود والتصرفات للمقاصد والمعاني، وأن الأمور بمقاصدها..." (86)
وفي حكم إبراء المدين، وأن الدَّين الذي سقط لا يعود، يستدل بالقاعدة الفقهية: "السّاقط لا يعود"(87)
وفي حكم تحديد وليِّ الأمر للإيجار (88)، وحكم قسمة الأراضي الأميرية بالتساوي بين الذكور والإناث(89)، وعدم جواز نقل ملكيّة مقابر المسلمين الدوارِس إلى البلديّات؛ لأنه ليس من مصلحة المسلمين مصادَرة أموالهم المِليَّة التي تخصُّ جماعتهم(90).(1/31)
يستدل على ذلك كله بهذه القاعدة: " التصرُّف على الرعيّة مَنوط بالمصلحة ".
وفي حكم إعطاء الفقراء مالاً حرامًا يستدل بهذه القاعدة: "إن تبدُّلَ سبب المِلك كتبدُّل الذاتِ "(91).
ويستدل بقاعدة: "الغُنْم بالغُرْم" (92)، وغيرها من القواعد الفقهية.
كما يستدل ببعض القواعد الأصولية: ومن ذلك استدلاله على وجوب نفقة المحاكمة على المَدين المماطِل بقوله: "ومن المقرّر في علم الأصول أن الأمرَ الشرعي بشيء هو أمر بكل ما يستلزمه ذلك الشيء أو يتوقّف عليه".
ثم ساق أمثلة كثيرة تتجلّى في تطبيقات هذا المبدأ، ثم قال: "ولاشكّ أن المَدين المُماطِل القادر على الدفع هو ظالم كالغاصب..والقوانين التي تجعل نفقات المحاكمة على المحكوم عليه هي من هذه الناحية موافقة للحكم الشرعي"(93).
إحالة المستفتي إلى كتاب يستوفي الموضوع المسؤول عنه:
8 – ومن منهجه في الفتوى في بعض المسائل: إحالة المستفتي في الموضوع المسؤول عنه إلى كتاب يستوفي الموضوع.
ففي جوابه المفصّل عن حكم الترتيب في الرمي والذّبح والحلق، يقول: "ومن أراد معرفة المراجع..والمَزيد من التفصيل والأدلّة دون رجوع إلى كتب المذاهب، فليرجع إلى كتاب الدكتور نور الدين العتر "الحَجّ والعمرة" فهو خير ما أُلِفَ في هذا الموضوع"(94)
وفي جواب عن حكم ذبائح أهل الكتاب يقول للسائل: "وتتميمًا للفائدة أُحِيلك في تفصيل هذا الموضوع. على كتاب "الحلال والحرام" للأستاذ الشيخ يوسف القرضاوي من أفاضل علماء العصر، وهو كتاب قيم، ينبغي لكل أسرة مسلمة أن يكون في مكتبتها البيتيّة، وينبغي لكل مثقّف مسلم أن يقرأه، وقد سدّ به مؤلفه حاجة علمية إلى مثله في الناشئة الإسلامية، وفراغًا كان ملحوظًا قبله، جزاه الله خيرًا"(95).(1/32)
وفي جواب عن عدم المُطالَبة بالإرث مع حصول تقادم الزمن يقول: "ليرجع من شاء الدليل والتوسع إلى شرح والدي رحمه الله على "القواعد الفقهية".. تحت شرح القاعدة / 50/، التي تبحث فيما يسقط من الحقوق بالإسقاط، وما لا يسقط"(96).
وفي جواب عن حكم استخدام الموسيقا لبعض المقاصِد في وسائل الإعلام، وحكم استعمال الدُّفِّ في الأناشيد الإسلامية يقول: "أحسن ما بيّنه الفقهاء في هذا الموضوع هو رسالة الشيخ عبد الغني النابلسي الحنفي ـ رحمه الله ـ المسماة: "إيضاح الدلالات في سَماع الآلات" وفيها يُفصِّل الحكم في الآلات بوجه عام.."(97) ويُحيل المستفتي أيضًا إلى : "الموسوعة الفقهية الكويتية" مادة "استماع"، وكتاب "شجرة المعارف والأحوال" للإمام العز بن عبد السلام، فصل الغناء والدف وسَماع ذلك" (98).
وفي حكم الفوائد الربوية ومُمارسة الحكومة لها يقول: وليُنْظر مثلاً في ذلك كتاب الدكتور عمر شابرا مستشار مؤسسة النقد العربي السعودي: "نحو نظام نقدي عادل"(99).
كما يُحيل المستفتي إلى بعض كتبه : ففي فتوى تتعلق بحقوق القرار على عقارات الأوقاف يقول عن أنواع حقوق القرار : (وهي موضّحة في كتابي.. (المدخل إلى نظرية الالتزام العامة في الفقه الإسلامي)(100).
سؤاله إخوانه من أهل العلم:
9 – ومن منهجه في الفتوى في المسائل المُهمّة: سؤاله إخوانَه من أهل العلم، واستشارتهم لِيَزداد استيثاقًا واطمئنانًا إلى الأمر، إيمانًا بضرورة الاجتهاد الجماعي لمواجهة المشكلات الزمنية بحلول شرعيّة حكيمة عميقة.(1/33)
ففي جواب له حول حكم التداوي بدم الحيوانات يقول: "تردّدت كثيرًا في الجواب لقوة الشبهة في الموضوع، ثم خطر لي أن أغتنمَ فرصة أسبوع الفقه الإسلامي، فأباحث فيه من يحضر هذا المؤتمر من فقهاء الشريعة، وقد فعلت، فذاكرت عددًا من كِبارهم كالأستاذ محمد أبو زهرة، والأستاذ الخفيف، وعددًا أيضًا من علمائنا كالأساتذة محمد معروف الدواليبي، والمنتصر الكتاني، ومحمد المبارك في اجتماع مشترك. وبعد البحث والتمحيص اتفقت كلمتنا جميعًا على عدم وجود مانع شرعي من تناول هذا العلاج وأمثاله"(101)
ومن أمانة الشيخ وحرصه على دقة ما يذهب إليه في فتواه فيما يتعلق بالمستجدات الزمنية والمشكلات العصرية رجوعه إلى فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي لثقته ببصيرته العلمية والزمنية، وليزداد ثقة وطمأنينة فيما أَفتى به.
إيجاد البدائل الشرعية للأوضاع المحرمة:
10_ ومن منهجه في الفتوى: تصحيح الأخطاء الفاشية في المعاملات، والدلالة على البديل الحلال، فما من شيء حرَّمه الله إلا وفيما أحلَّه ما يغني عنه.
ففي جواب له عن حكم عمليات الإيجار التي تمارِسها بعض البنوك في نشاطاتها الاستثمارية يقول: "إن هذه الإجارة بالصورة الموضّحة غير صحيحة من أساسها؛ لأنها إجارة لمعدوم، فلا تصحّ.
والواجب أن يتمَّ التوكيل بالشراء والاستيراد والتركيب لحساب البنك أولاً، ثم بعد تمام التركيب وقيام الشيء المطلوب بصورة صالحة للاستعمال، ويؤجّر بعقد جديد، يبدأ منه حساب الأجرة منذ تسليم المأجور صالحًا للاستعمال"(102).
وفي جواب آخر حول اتفاقية بنك مع إحدى الشركات، يبيّن ما في الاتفاقية من أخطاءٍ، ثُمَّ يرشد إلى الطريق الصحيح والبديل المباح فيقول: "هذا، وقد كان الطريق السليم الموصل إلى المقصود بصورة مقبولة في الشريعة والقانون سهلاً جدًّا"..ويرشد إلى بيع المُرابحة بطريقة الأمر بالشراء(103)(1/34)
وفي جواب ثالث حول مشروع تمويل مخزون نتاج زراعي للتصدير من قِبَل مجمع من البنك يذكر ما في العقد من أخطاء وتجاوزات، ثم يدلُّ على البديل المقبول شرعًا فيقول: "وفي نظري إنه لا يُمكن إيجاد بديل لمجمع البنوك الإسلامية (ولسواه من المؤسّسات الاقتصاديّة الاستثمارية) يسمّى بديلاً شرعيًا إسلاميًا، إلا بأحد المسلكين التاليين: المسلك الأول: طريق القراض (المُضاربة)، والمسلك الثاني: طريق السَّلَم"(104) ويفصل في طريقة الاستفادة من هذين البديلين الشرعيين.
وفي جواب رابع عن الحُكر وحقوق القرار المنشأة، ذكر المشكلات التي ظهرت في الوقف الذُّري على المدى الطويل، ثم بيّن علاج هذه المشكلات بتفصيل فقال: "هذه المشكلات يمكن علاجها بسهولة من صيدلية الشريعة، بدلاً من منع إنشاء الوقف الذُّري، وقطع شريان الوقف الخيري"..
وذكر طريق العلاج(105).
تقييد الفتوى بقيود وضوابط:
11 – ومن منهجه في الفتوى: تقييده الفتوى بقيود وضوابطَ، وتنبيهه إلى أمور مُهمة.
ففي جواب له في حكم ترقيع الأحياء بأعضاء الأموات بعد بيان رأيه في هذه المسألة يقول: "على أن الجواز ينبغي أن يُقيَّدَ بإذن الشخص نفسه في حياته، أو إذن أوليائه بعد وفاته، إن لم يكن قد نَهَى قبل وفاته عن أخذ شيء من أعضائه، وبشرط أن يكون ذلك تبرُّعًا إنسانيًّا ليس لقاءَ عوض" (106).
وفي جواب آخر في حكم تفضيل الوالد في حياته بعض أولاده في العطيّة، وأن ذلك عمل محظور، منهيٌّ عنه ذكر في آخر الفتوى: "إلا إذا كان التفضيل لسبب مسوَّغ شرعًا، مثل أن يكون من فضله عاجزًا، أو مريضًا مُزْمِنًا، أو طالب علم يحتاج إلى النفقة، أو صغيرًا لم ينلْه من رِفْد الوالد في حياته ما نال إخوتَه الكِبارَ، ونحو ذلك، فيكون التفضيل لهذه الأسباب بمقدار ما تقتضيه، هو الذي يحقق العدل والمُساواة) "(107).(1/35)
وفي جواب ثالث: بشأن هدم مسجد وإعادة بنائه وتوسعتِه وجعله في الطابق الثاني، لما في ذلك من مصلحة للوقف بزيادة عليه، وقدرته عل تحقيق ما وقف لأجله. إلا أنه قيد هذه الفتوى بقوله: "على أن لا يتجاوز رفع المسجد عن الأرض طبقة واحدة فقط، فلا يجوز أن يجعل تحته عدّة طبقات من المخازِن والحوانيت ونحوها من المراكز التجاريّة، وجعل المسجد فوقها جميعًا؛ لأن رفع المسجد أكثر من طبقة واحدة يؤدّي إلى صعوبة الصعود إليه، وتثاقل الناس من السعي إليه للصلوات، وهذا يعكس الغاية المصلحيّة التي بُنِيَ لأجلها المسجد، ويؤدّي إلى محذور تقليل عدد المصلِّين الآمَّين للمسجد"(108).
وفي جواب رابع: بجواز تحديد أجور العقارات من الحاكم، بعد فتوى طويلة مفصّلة، قيّد ذلك الجواز بقوله: "اللهم إلا إذا كان تحديد الأجرة في القانون غيرَ عادل، وفيه جَورٌ على المالك في نظر الخبراء العالمين بالظروف الاقتصادية في البلد، وتكاليف الحياة والأسعار العامّة فيه؛ لأن الحاكم عندئذٍ يكون في الأصل ظالمًا، وسلطته الشرعية في التّسعير ونحوه ليست سلطة مطلَقة كيفية استبداديّة، بل هي مقيّدة بعدم الجور.. ومن الواضح المعلوم شرعًا أنه لا يجوز لأحد أن يستفيد من ظلم غيره"(109).(1/36)
وأختم هذه النماذج بمثال خامس وأخير، يتعلّق بحكم الفوائد الرِّبوية من المصارف الأجنبية ذات الفروع في البلاد العربية، فقد أجاب عن هذه المسألة بجواب مُقنِع مفصَّل، وبعد أن نقل رأي الإمام أبي حنيفة وصاحبه محمد في التعامل بالرِّبا فيمن يدخل من المسلمين إلى دار الحرب يقول: "هذا وإني لا أرى أن رأي الإمامين أبي حنيفة وصاحبه محمد المذكور يقتضي أن يباح اليوم للمسلمين.. أن يتعاملوا مع البنوك الأجنبية، ويودعوا لديها أموالهم بالفوائد الربوية، ذلك لاختلاف الظروف والوسائل اليوم عما كانت عليه إذ ذاك. ففي عهد أبي حنيفة كان التعامل مع أهل دار الحرب يستلزم الذَّهاب إلى ديارهم، وفي ذلك ما فيه من الصعوبات والمشاقِّ، فيبقَى الأمر محصورًا في نطاق فردي ضئيل ومحدود. أما اليوم، وبالوسائل العصريّة في المواصلات اللاسلكية، فيستطيع أيُّ تاجر أن يتعامَل مع من شاء من أهل الأرض في دقائقَ معدوداتٍ بأي مبلغ شاء، ويقوم بتحويل ما يشاء من الأموال إلى أي مَصْرِف أو مَتْجَر.
فرأي أبي حنيفة الذي كان مبنيًّا على ظروف زمان المذكورة لو طُبِّقَ اليوم في ظروفنا، لأدَّى إلى انتقال رؤوس الأموال الإسلامية إلى البلاد الأجنبية ليستثمرَها الأجانب، وتبقَى بلاد المودِعين الإسلامية، في فاقةٍ وضعف اقتصادي. وأنا أرى ذلك جائزًا بالنظر الإسلامي، ولا سيّما بعد قيام المصارِف الإسلامية في طول البلاد وعرضها، حتى أنّه قامتْ في بعض البلاد الأجنبية أيضًا. ولو أن أبا حنيفة رحمه الله كان اليوم حيًّا لما أباح هذا التّعامل في هذا العصر.(1/37)
هذا جوابي لك أيها الأخ الكريم، وإنني أستعدي اللهَ تعالى على كل من ينسب إلىَّ فتوى أو رأيًا لم يسمعْه مني، ولم يقرأه مكتوبًا بقلمي، فقد بلغني أن أناسًا يَفترون على، وينسبون إلى من الآراء ما أنا منه براء، مستغلِّين حريّة تفكيري في الفَهم الفقهي الذي يُلهمني الله تعالي، ومنهم من يفعل ذلك على سبيل الطعن، ومنهم من يفعله لتبرير انحرافاتِه"(110).
وقد نقلت كلامَه بطوله لأهميته وضرورته، ولأنبِّهَ القارئ إلى ضرورة تفحُّص الفتوى تمام الفحص، والتأكُّد من قيودها وشروطها تمام التأكد، فلا يخطف الجواب خطفًا، قبل أن يتأمَّل أوائلَه وأواخرَه، ما يحمل في طيِّه من قيود أو أوصاف قد لا تنطبق على قضيته عند التطبيق.
فقد يُجيب بكلام مُجمَل، ثم ينبِّه في أثناء فتواه أو في آخرها، أو في مناسبة أخرى على قيد أو شرط، أو يستدرك كلامه الأول، فيقيِّد مطلَقه، أو يخصِّص عمومَه، أو يفصِّل مُجمَلَه.
وختامًا
سيجد الدارس المتأمِّل لهذه الفتاوى من المزايا ما لم أذكر، وسيقف الباحث المتعمِّق على جوانبَ أخرى من مناهج الشيخ في الفتوى لم أتعرَّض لها.
وبَقِيَ أن أُنَبِّهَ إلى أمر ضروري، قد يغفُل عنه بعض الناس، أو يتغافَلون عنه، عند نظرهم إلى من يخالفهم في رأي أو اجتهاد، وهو: أن فَهم المجتهِد، وعمل المُفتي، هو ما فَهمه من نصوص الشريعة وما يستنبِطه من تلك النصوص.
وهو بعد نظره في الأدلة، واستنفاد جُهده ووُسعه، لا يجزم بصواب قوله؛ لأنه يعلم أن دليلَه غير قطعيّ تطرأ عليه الاحتمالات.(1/38)
"وفهم كلِّ فقيه ـ مهما علا قدره ـ يحتمل الخطأ والصواب؛ لأنه غير معصوم.. فالفقه هو فهم الفقيه ورأيه، ولو كان مبنيًّا على النصِّ الشرعي، وهو قابل للمناقشة والتصويب والتخطئة، ولكن التخطئة تنصرف إلى فهم الفقيه لا إلى النص الشرعي،ومن ثم اختلفت آراء الفقهاء وردَّ بعضهم على بعض"(111) فالمجتهِد مهما قَوِيَتْ مَلَكته وقدرتُه: فقوله غير معصوم، إلا أنه لما قَصد إصابة الحق مع أهليّته للاجتهاد، كان خطؤه مغفورُا له، بل يُثاب على ما بذل من الجهد في الاجتهاد، كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم: "إذا حكم الحاكِم فاجتهد ثم أصاب: فله أجران، وإن حكمَ فاجتهد ثم أخطأ فله أجرٌ"(112).
وما أحسن كلمة الإمام أحمد في الإمام إسحاق بن راهويه ـ رحمهما الله تعالى ـ: "لم يَعْبُرِ الجِسْرَ إلى خراسان مثل إسحاق بن راهويه، وإن كان يخالفنا في أشياءَ، فإن الناس لم يَزَلْ يخالِف بعضُهم بعضًا"(113)
ويقول الإمام يحيى بن سعيد الأنصاري (ت 144): "أهل العلم أهل توسِعة، وما برح المُفتُون يختلفون، فيحلّل هذا، ويحرّم هذا، فلا يَعيب هذا على هذا، ولا هذا على هذا "(114)،وإذا ترجَّح للباحث الدراس مخالَفة في بعض الأمور الاجتهاديّة الظنيّة، تحريمًا أو إباحة، فعليه أن يدعوَ إلى رأيه بلُطف، ويبيِّن دليله مع احترام الرأي الآخر.
قال سفيان الثوري: "إذا رأيت الرَّجل يعمل العملَ وقد اختُلِفَ فيه، وأنت ترى غيره، فلا تَنْهَه"(115) وقال أيضًا: "ما اختلَفَ فيه الفقهاء، فلا أنهَى أحدًا عنه من إخواني أن يأخذ به"(116)
وقال الإمام أبو حنيفة: "هذا الذي نحن فيه رأي، لا نجبر أحدًا عليه، ولا نقول: يجب على أحد قَبوله بكراهةٍ، فمن كان عنده شيء أحسن منه فليأتِ به"(117)
عملي وطريقتي في إخراج هذا الكتاب
وبعد: فهذه فتاوى أستاذنا العلامة الشيخ مصطفى الزرقا التي قمت بجمعها وترتيبها، واتبعت في عملي الطريقة التالية:(1/39)
1 – جمعت هذه الفتاوى من عدد من المجلات الإسلامية، وفي مقدمتها مجلة "حضارة الإسلام" الدمشقية وخاصة في سنواتها الأربع الأولى (1380 ـ 1384هـ) وعزوت كل فتوى إلى موضعها الذي نشرت فيه.
2 – أضفتُ إلى هذه الفتاوى المطبوعة، ما قدَّمه لي الشيخ من فتاوى مخطوطة يحتفظ بها، وما جَدَّ لديه من فتاوى جديدة.
ولا أدَّعِي أنني جمعت كل فتاوى الشيخ المكتوبة، ولعل الله سبحانه يُيسِّر لنا الاطِّلاع على مجموعة أخرى من الفتاوى، مما غاب عني، وشكر الله لمن يدلُّني عليها ويُرشدني إليها(118)
3 – رَتَّبْتُ الفتاوى تحت عشر مجموعاتٍ رَئيسَةٍ، وجعلتها مترابطةً متسلسلة. وهذه المجموعات الرَّئيسَة تتألف من:
1 – العقائد.
2 – العبادات: (الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج).
3 – أحكام الأطعمة.
4 – فتاوى شرعيّة طبيّة.
5 – فتاوى شرعية في الأحوال الشخصية (في شؤون المرأة والأسرة وفي النسب، وفي الطلاق، وفي أحكام الميراث والوصايا).
6 – فتاوى شرعية متنوعة.
7 – فتاوى فقهية قانونية.
8 – الحدود والدِّيات.
9 – فتاوى في المعاملات المالية: (عقود التأمين، وأحكام المداينات، والإيجار، والأوقاف، ومعاملات ماليّة مختلِفة).
10 – فتاوى في أحكام التعامل مع البنوك.
وألحقت بالمجموعة العاشرة: دراسات وملاحظات مقدّمة إلى بعض البنوك الإسلامية.
وأكثر الفتاوى عددًا وتنوُّعًا ما يتعلّق بالمعاملات المالية، ويليها الأحوال الشخصية.
4 – اخترت عناوين لأكثر الفتاوى تُعرِّف بموضوعها، في بداية كل فتوى، كما ذكرت هذه العناوين أمام كل مجموعة ليُطَّلَعَ عليها، بنظرة شاملة قبل الدخول في تفصيلاتها.
5 – خرَّجت الأحاديث الواردة ضمن الفتاوى، وعَزَوْتها إلى مصادِرها.(1/40)
6 – قيّدت تواريخ الأسئلة والأجوبة قدر الاستطاعة؛ ليُعرَفَ تاريخ صدور الفتوى، والمتقدِّم والمتأخِّر فيها، وأقدم فتوى وقفت عليها بتاريخ 26 ربيع الأول (1375هـ ـ 1955م)، وآخر فتوى يضمها هذا الكتاب بتاريخ 14 ربيع الأول 1419هـ ـ 8/7/1998م. ومازال الشيخ ـ أمتع الله بحياته ـ يجيب السائلين، ويفتي المستفتين.
7 – حافظت على ذكر أسماء المستفتين إحياءً لذكرهم، وإشادة بهم، وبيانًا لحرصهم على أمور دينهم، ومعرفة أحكام شريعتهم(119) وكذلك في ذكر هذه الأسماء إشارة لمنزلة فضيلة المفتي، فقد كانت توجه إليه الأسئلة من كبار العلماء، والقضاة والمحامين(120) 8 – ذكرت قرارات المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي، ولمنظمة المؤتمر الإسلامي التي ذهب الشيخ إلى رأي يخالف فيه آراء أعضاء المجمع الاجتهادية.
9 – قدَّمت للكتاب بترجمة موجزة لفضيلة الشيخ(121)، وكما كتبت كلمة عن أهمية الفتوى ومكانة المفتي، وعن مزايا هذه الفتاوى، ومنهجه فيها.
10 – صنعت فهرسًا موجزًا وآخر مفصلاً لموضوعات الفتاوى، وكنت أود أن أصنع فهرسًا هجائيًا للمباحث والمسائل، ولكن تركت ذلك خية تأخر صدور الكتاب. ولعل الله سبحانه ييسره في طبعة قادمة بعون الله تعالى.
11 – قدمت الكتاب إلى فضيلة العلامة الفقيه المفسر الدكتور يوسف القرضاوي لإبداء رأيه في بعض الفتاوى، فتكرم بذلك مشكورًا، وعلق تعليقات يسيرة(122). وقدم بمقدمة لهذا الكتاب، أحسن الله مثوبته، وجزاه خير الجزاء، وبارك في عمره، ونفع بعلمه.
وأختم هذه المقدمة بما علمنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: "اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانا فيه يختلفون، اهدنا لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدى من تشاء إلى صراط مستقيم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد خير الخلق أجمعين.
مجد أحمد مكي(1/41)
فتاوى
مصطفى الزرقا
اعتنى بها
مجد أحمد مكي
قدم لها
الدكتور يوسف القرضاوي
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الفتاوى
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الهدى، وسيد المرسلين، وعلى آهل وصحبه الكرام ومن تبع سنتهم، واهتدى بسيرتهم.
وبعد؛ فقد كنت ـ في السنوات الأربعين الأخيرة، تأتيني استفتاءات من أشخاص وجهات، في مسائل من وقائع حياة الناس، وفي كثير من قضايا الساعة ومستجدات العصر، تارة برسائل مباشرة من السائلين، وتارة بطريق مجلات إسلامية، وبخاصة مجلة "المسلمون" التي كان يقوم عليها الأستاذ سعيد رمضان في مصر ثم في دمشق، ثم مجلة "حضارة الإسلام" التي كان يصدرها في دمشق الأستاذ مصطفى السباعي، رحمهما الله تعالى.
ومعظم أجوبتي كان تنشر، وبعضها الذي يأتيني سؤاله مباشرة بقي محفوظًا لدي.
ولم أكن أفكر بجمع فتاواي ونشرها لتعذر ذلك علي، ولكن الشاب النجيب أخانا الأستاذ مجد مكي الحلبي، من طلاب العلم النبهاء، قد نشط لجمعها من المجلات المنشورة فيها، وأضاف إليها مما عو عندي محفوظ غير منشور، واهتم بترتيبها وتيئتها للنشر، وجزاه الله عني خير الجزاء.
وقد عرضها علي بعد جمعها لمراجعتها، والتأكد من أنه ليس فيها ما يوجب استدراكات جوهرية، فقمت بمراجعتها وإدخال بعض اللمسات عليها.(1/42)
والمنهج الذي بنيت عليه في أجوبتي أنني لم أتقيد بمذهب معين فيها، بل أختار من المذاهب الفقهية في كل حادثة وسؤال ما أراه أكثر ملاءمة لظروف الحال والزمان، وأكثر جريُا وتوازيًا مع المقاصد العامة للشريعة، وأرفق وأدفع للحرج، وأبعد عن التضييق، سوى ما يستدعيه مبدأ سد الذرائع للاحتيال على الحكم الشرعي، ويخشى فيه سوء التطبيق، فإني أرى الشريعة الإسلامية السمحة الخالدة لا يمثلها مذهب واحد، أيًا كان، وإنما يمثلها مجموعة المذاهب الفقهية والاجتهادات المعتبرة في كل موضوع، ولو لم تكن في المذاهب المدونة، فأختار منها للفتوى ما أراه أسد دليلاً، وأقرب إلى مقاصد الشريعة.
وأسأل الله تعالى أن يجعلها عملاً خالصًا لوجهه الكريم، وخدمة شرعه الحكيم، وأن يغفر لي خطئي إن كان، فقد بذلت جهدي، والله تعالى هو ولي التوفيق.
في ربيع الأول / 1416هـ.
تموز / 1996م
مصطفى أحمد الزرقا
الهوامش
من سورة التوبة الآية: (122).
رواه البخاري (71) في العلم، ومسلم (1037) في الإمارة.
(3) هذه الترجمة مستفادة مما سمعته من الشيخ حفظه الله تعالى، وقيدته عنه في عدة مجالس، وممن كتاب "علماء ومفكرون عرفتهم" للأستاذ المجذوب، الجزء الثاني، ص 343 ـ 370، ومن "الاثينية" المجلد التاسع سنة 1412 هـ.
(4) وكان أخوه (مصطفى) يكبُره بأربع سنوات، وكان آية في الذكاء منذ طفولته، توفي وهو ابن ثلاث سنين، فحزن والده عليه حزنًا شديدًا،ودفن بمقبرة العرابي في حلب، وكتب والده أبياتًا يقول فيها على لسان طفله:
أبي إنْ ثكلتَ فَلَسْتَ أوَّلَ ثاكِلٍ قَبْلًا أُصِيبَ نَبِيُّنا بِبَنِيهِ
فبِه تَأَسَّ ولا تَكُنْ ذا حَسْرَةٍ فالصَّبْرُ أجَلُ حُلّةٍ لِنَبيهِ
(5) انظر ترجمة العلامة الفقيه الشيخ محمد الزرقا في كتاب تلميذه العلامة المؤرِّخ الشيخ محمد راغب الطباخ "إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء": 7/629ـ638.(1/43)
(6) انظر ترجمة الماتعة في كتاب العلامة المحدّث الشيخ عبد الفتاح أبو غدة "تراجم ستة من كبار فقهاء العالم الإسلامي في القرن الرابع عشر"، ص 83-98.
(7) كان هذا الشيخ رحّالة، طاف الدنيا، وتزوّج في كل بلد رحل إليه، ثم حطَّ عصا التَّرحال في بلدته حلب، وهو الذي قام بتصحيح "معجم البلدان" وذيل عليه "منجم العمران" عند إقامته بمصر سنة 1343هـ.
(8) وللعلامة الشيخ أحمد المكتبي حاشية على حاشية الخضري على شرح ابن عقيل، وسبب وضعه لهذه الحاشية أنه أقرأ شرح ابن عقيل وحاشية الخضري نحو عشرين مرة، فرأى أن يدون تقديراته على تلك الحاشية، وهي في (600 صفحة) كما في "إعلام النبلاء" 7/619.
(9) المدرسة الشعبانية بناها شعبان آغا بن أحمد سنة 1085هـ، وانظر الكلام عن هذه المدرسة في "إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء": 7/438ـ441.
(10) وقد قمتُ بجمع ما للعلامة الشيخ محمد راغب الطباخ من أبحاث علمية، ومقالات تاريخية مما نشر في بعض المجلات، مع ترجمة موسّعة تعرف بفضله ومكانته، وأثره العلمي الكبير، يسّر الله طباعتها.
(11) علماء ومفكرون: 2/356.
(12) اشتهر الكتاب باسم "البيان والتبيين"، وقد رجع محقِّق الكتاب الأستاذ عبد السلام هارون ـ رحمه الله ـ عن ذلك إلى ما أثبته فوق في كتابه الأخير من تراثه "قطوف أدبية" ص 97ـ98.
(13) قام الوجيه السري السيد عبد المقصود خوجة بطباعة ديوانه، ونشره في جملة ما نشر من أعمال بعض الأدباء والشعراء الذين قام بتكريمهم في أمسيته الإثنينية في قصره العامر بجدة.
(14) صدر "المدخل" في طبعة مطوّرة، وإخراج جديد مع زيادات مع بداية عام 1419هـ ـ 1998م سيصدر الجزء الثالث قريبًا بعون الله على نفس نسق المدخل، عن دار القلم بدمشق.
(15) المدخل الفقهي العام: 15/5.
(16) الموافقات: 4/244ـ245.
(17) في الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام، ص 43.
(18) إعلام الموقعين 1/10.
(19) سنن الدارمي: 1/49.(1/44)
(20) مناقب أبي حنيفة للموفق المكي، ص 351.
(21) الفقيه والمتفقِّه: 2/155، 165، 170؛ وانظر: "المدخل" للبيهقي، ص 429ـ441.
(22) إعلام الموقِّعين: 2/168.
(23) فحقيقة المُفتي بعُرف علماء أصول الفقه هو المجتهِد، سواء كان اجتهاده تامًّا أو متجزئًا. ويطلِق البعض توسعًا لفظ المفتي على من كان من أرباب التخريج أو الترجيح في المذهب. كما في "عمدة التحقيق"، ص 207، للعلامة محمد سعيد الباني رحمه الله.
(24) الفقه والمتفقه: 2/157.
(25) جامع بيان العلم، ص 462.
(26) المنخول: ص 464.
(27) إعلام الموقعين: 1/44 وما بعدها.
(28) المسوّدة: ص 513.
(29) أدب القضاء: ص 104.
(30) حلية الأولياء: 6/316
(31) الفقيه والمتفقه: 2/154.
(32) رواه الطبراني في "معجمه الأوسط" وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 1/178: رجاله موثقون من أهل الصحيح، وصححه السيوطي في "مفتاح الجنة" ص 40.
(33) سنن الدارمي: 1/49.
(34) من آخر الفتوى الحمويّة الكبرى للشيخ ابن تيمية ـ رحمه الله؛ وينظر للتوسع في هذا الموضوع "أثر الحديث الشريف"، ص 177 ـ 181، و "أدب الاختلاف في مسائل العلم"، ص 48ـ 59، وكلاهما للأستاذ المحقق الشيخ محمد عوّامة حفظه الله تعالى.
(35) وأما الكلام عن منهجه الفقهي ودوره التجديدي في الكتابة الفقهية فهو أمر يحتاج إلى دراسة موسعة، يستعرض فيها الباحث جميع كتبه، وفي مقدِّمتها : "المدخل الفقهي العام"، وسائر بحوثه الفقهية.
(36) مجلة "الشهاب" المصرية، السنة الأولى (1367هـ ـ 1947م ) مقال للأستاذ الزرقا بعنوان " الفكر العلمي والفكر العامي".
(37) الفتاوى: ص 147 ـ 153.
(38)الفتاوى: ص 157 ـ 169.
(39) الفتاوى: ص 177 ـ 190.
(40) الفتاوى: ص 197 ـ 210.
(41) الفتاوى: ص 385 ـ 390.
(42) الفتاوى: ص 467 ـ 475.
(43) الفتاوى: ص 522 ـ 532.
(44) الفتاوى: ص 535 ـ 548.
(45) الفتاوى: ص 595 ـ 613.(1/45)
(46) مجلة "الشهاب" العدد (2)، السنة الأولى 1367هـ ـ آذار 1948م.
(47) الفتاوى، ص 209 ويقول في نفس الفتوى من ص 199، عن جواب السادة الحنفية عن قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمن قدَّم أو أخَّر في أعمال يوم النحر: "افعلْ ولا حرجَ" معناه نفي الإثم، فلا ينافي وجوب الجزاء: ـ وأنا حنفي أبًا عن جدٍّ ـ أستسيغ أن أقولَ: إن هذا التأويل بعيد عن أسلوب الرسول في البيان، بل المعنى الأقرب والمتبادَر من قوله للسّائل: "ولا حَرج" أنه لا شيء عليه من إثم ولا جزاءٍ ".
(48) الفتاوى: ص 373 ـ 374.
(49) الفتاوى: ص 465.
(50) الفتاوى: ص 181.
(51) الفتاوى: ص 566.
(52) الفتاوى: ص 623.
(53) الفتاوى: ص 562.
(54) الفتاوى: ص 569.
(55) الفتاوى: ص 217.
(56) الفتاوى: ص 404.
(57) الفتاوى: ص 95
(58) حلية الأولياء لأبي نُعيم في ترجمة سفيان الثوري 6/367، وجامع بيان العلم لابن عبد البَرِّ: 2/36.
(59) الفتاوى: ص 76.
(60) الفتاوى: ص 540.
(61) الفتاوى: ص 541 وانظر كتاب "الاستصلاح والمصالح المرسَلة في الشريعة الإسلامية وأصول فقهها" للأستاذ الزرقا، ص 35-48 فقرة (28 و29).
(62) الفتاوى: ص 590
(63) الفتاوى: ص 595
(64) الفتاوى: ص 676
(65) الفتاوى: ص 230
(66) الفتاوى: ص 284.
(67) الفتاوى: ص 262
(68) الفتاوى: ص 341
(69) الفتاوى: ص 599.
(70) الفتاوى: ص 586.
(71) الفتاوى: ص 159
(72) الفتاوى: ص 579 ـ 580
(73) الفتاوى: ص 222
(74) الفتاوى: ص 315
(75) الفتاوى: ص 317ـ 318
(76) الفتاوى: ص 386
(77) الفتاوى: ص 386 ـ 387.
(78) الفتاوى: ص 389 ـ 390.
(79) الفتاوى: ص 389 ـ 390.
(80) الفتاوى: ص 390.
(81) المدخل الفقهي: 2/4.
(82) الفتاوى: ص 323.
(83) انظر: الفتاوى: ص 324.
(84) انظر: الفتاوى ص 441 ـ 442.
(85) المدخل الفقهي العام: ف 79/4، وانظر دليلية القواعد الفقهية في كتاب "القواعد الفقهية" للدكتور يعقوب الباحسين، ص 272 ـ 282(1/46)
(86) الفتاوى: ص 541، 545، 645.
(87) الفتاوى: ص 429.
(88) الفتاوى: ص 433
(89)الفتاوى: ص 332.
(90) الفتاوى: ص 453
(91) الفتاوى: ص 604
(92) الفتاوى: ص 681
(93) الفتاوى: ص 425
(94) الفتاوى: ص 202.
(95) الفتاوى: ص 214
(96) الفتاوى: ص 330
(97) الفتاوى: ص 351
(98) الفتاوى: ص 351
(99) الفتاوى: ص الفتاوى 591
(100) الفتاوى: ص 470، وانظر ص 475 وص 482.
(101) الفتاوى: ص 234.
(102) الفتاوى: ص 449
(103) الفتاوى: ص 663.
(104)الفتاوى: ص 677
(105) الفتاوى: ص 474
(106) الفتاوى: ص 231
(107) الفتاوى: ص 325
(108) الفتاوى: ص 466
(109) الفتاوى: ص 438
(110) الفتاوى: ص 617
(111) المدخل الفقهي العام: 8/2.
(112) روه البخاري 13: 318 (7352) بشرح العسقلاني، ومسلم 12 : 13 بشرح النووي، " وسنن أبي دواد " (3574) قال الخطّابي ـ رحمه الله ـ في "معالم السنن": "فأمّا من لم يكن مَحلًّا للاجتهاد فهو متكلِّف، ولا يُعذر بالخطأ في الحكم، بل يخاف عليه أعظم الوِزر".
(113) سير أعلام النبلاء: 11/371.
(114) جامع بيان العلم وفضله، لابن عبد البر 2/80.
(115)حلية الأولياء: 6/368.
(116) الفقيه والمتفقه 2/69.
(117) الانتقاء، لابن عبد البر ص 258. من الطبعة المحققة المتقنة للأستاذ الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله تعالى.
(118) وأرجو ممّن اطّلع على فتوى منشورة، أو يحتفظ بأصل خطي من فتاوى الشيخ أن يتكرم بإرسالها على عنوان النشر (دار القلم) لتضم إلى نظائرها في طبعة قادمة بعون الله تعالى.
(119) وأما الأسئلة المتعلِّقة بأمور شخصية تتعلق بزواج أو طلاق، أو مشكلة اجتماعية أو مالية، فقد أغفلت أسماء أصحابها صونًا وسترًا.(1/47)
(120) ومن هؤلاء: الدكتور محمد زكي عبد البَرّ (ص 515)، والدكتور إسحاق الفرحان وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية بالأردن ( ص 453 و 461)، والدكتور علي علي منصور، رئيس المحكمة العليا (ص 391)، والدكتور عبد الرحمن الصابوني (614)، والدكتور صبحي الصالح (407)، والمحامي حسان المحاسني (522) والمحامي أحمد سلطان (ص 376).
(121) وأما الترجمة الموسَّعة ـ بعون الله تعالى ـ فستكون في سلسلة "أعلام ومفكرون معاصرون" التي ستصدرها دار القلم.
(122) انظر الفتاوى ص 351، 393، 394، 511، 514.(1/48)
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
الدكتور يوسف القرضاوي
شرّفني شيخنا الفقيه الكبير الأستاذ مصطفى أحمد الزرقا، ـ حفظه الله ونفع المسلمين بعلمه ـ أن أكتبَ مقدمةً لكتابه هذا المُمتع الذي يضمُّ مجموعة طيبة من فتاويه التي أجاب بها تحريرًا مَن سألوه ـ طوال عمره المديد المبارك ـ في قضايا شتّى، ممّا يشغل فكر المسلم المعاصِر في شؤون الدين والحياة.
وإني ليُسعدني والله أن أكتب مقدِّمًا لفقيه الأمة الزرقا، فأزداد بذلك ـ إن شاء الله ـ قُرْبى عند الله، وفخرًا عند الناس. وما كان مثلي ليقدم مثلَه، ولكنه أمر ورغب، وليس علي إلا الطاعة، وقديمًا قال سلفنا الصالحون: الامتثال خيرٌ من الأدب.
وقد عاش العلامة الزرقا للفقه تدريسًا وتأليفًا وإفتاءً وممارسةً في الحياة وفي الجامعات، وفي المجامع الفقهية، وفي لجان التقنين، وفي مراكز البحوث، وله في كل هذه المجالات باع رحب، وآثارٌ تذكَر فتشكر، انتفع بها الناس في أنحاء ديار الإسلام (والبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُه بإذْنِ رَبِّه ) (الأعراف: 58).
ولا عجب فقد ورِثَ شيخنا الفقه كابرًا عن كابر، أبًا عن جدٍّ، فقد كان والده ـ رحمه الله ـ العلامة الشيخ أحمد الزرقا فقيهًا حنفيًّا ضَليعًا، شَهِد تلاميذه ومعاصروه، بسعة العلم، والبصيرة في الفقه، وترك لنا من آثاره العلمية، ما يدل عليه، ويُشير إليه، وهو شرح (قواعد المجلة الفقهية).
وكان جده الشيخ محمد الزرقا كذلك فقيهًا مرموقًا في حلب الشهباء، تخرج على يده كثير من العلماء، وقد كان يدرس لطلبته الحاشية الشهيرة لعلامة متأخِّري الحنفية ابن عابدين، فهو غصن باسِق في شجرة مُباركة أصلها ثابت وفرعها في السماء (ذُرِّيّةً بَعضُها مِنْ بَعْضٍ) (آل عمران : 34).(2/1)
فلا غَرو أن يَشِبَّ علامتنا في هذه البيئة العلمية المباركة، وأن يرضَع لبانَها، ويتزوّد من ثمارها، ويغترف من بِحارها، وقد آتاه الله البصيرة المتفتِّحة، والعقل النَّقّاد، والذهن الوقّاد، والذاكرة الواعية، والقدرة على الاستنباط والموازنة والتحليل والتعليل والنقد، مع غاية في التدقيق، وبراعة في التمحيص والتحقيق، ونفس سمحة تميل إلى التيسير لا التعسير، والتسهيل لا التعقيد، فكان ثمرة ذلك كله: تلك الكتب الأصيلة النافعة، التي جمعت بين أصالة القديم، ونصاعة الجديد، والتي شرّقت وغرّبت، واستفاد منها الداني والقاصي في العالم الإسلامي على امتداده، استفاد منها رجال الفقه، ورجال القانون، بل ورجال السياسة، ورجال الدعوة.
وقد اهتدى علماء الفقه منذ قرون بهدي القرآن والسنة، فكانت كتبهم على نموذجين أو نوعين: نموذج يقرر الأحكام ويفصلها ابتداء، وهو ما تقوم به كتب الفقه المعروفة في كل مذهب، ونموذج يجيب على الأسئلة المطروحة، ويقرِّر الحكم الشرعي فيها. وهو ما تقوم به كتب الفتاوى والنوازل، وهي معلومة مشهورة.
وهذا ما نجده في القرآن، فهو إما يبين الأحكام ابتداءً مثل : (يا أيُّها الذِينَ آَمَنُوا إذا تَدَايْنْتُمْ بدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فاكْتبوه) (البقرة : 282) (يا أيُّها الذين آَمَنُوا أوْفُوا بالعُقودِ) (المائدة : 1).
وإما يجيب عن أسئلة أُثيرت، كما في قوله تعالى: (يَسْأَلونَكَ عَنِ الخَمْر والمَيْسِرِ قُلْ فِيهما إِثْمٌ كَبِير ومَنافِعُ للنّاسِ وإثْمُهما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهما ويَسْألونَك ماذَا يُنْفِقون قُلِ العَفْوَ) (البقرة : 219) (ويَسْأَلونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هُو أذًى فاعْتَزِلوا النِّساءَ فِي المَحِيضِ ولا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) (البقرة 222) وأمثالها في القرآن الكريم.(2/2)
وكذلك السنة فيها أحكام يقرِّرها الرسول الكريم تعليمًا منه وتوجيهًا مبتدأ لأمته، كما في خطبة الجمعة والعيدين والكسوف والخسوف، ودروسه التي يتخوَّل بها أصحابه بالموعظة بين حين وآخر.
وفيها أحكام يُجيب بها من سأله ويُفتي في القضايا العارضة، كما سُئل عن ماء البحر، فقال: " هو الطَّهور ماؤه، الحِلّ ميتتُه ".
وقد ذكر العلامة ابن القيم جملة كبيرة من فتاويه في الجزء الرابع من كتابه "إعلام الموقعين" وهي جديرة بأن تُقدم عليها دراسة تشرح مضامينها، وتبيِّن مراميَها. وتستنبط منها الأحكام والقواعد اللازمة للفقيه والمفتي.
وكذلك كان شيخنا الزرقا. لقد صنف الكتب الأصيلة التي نهل منها الناس العلم في مشارق الإسلام ومغاربها، أمثال "المدخل الفقهي العام"، و "المدخل إلى نظرية الالتزام"، وكتابه عن "الأوقاف"، ورسائله عن "الحديث النبوي" و "المصلحة المرسلة" و "العقل والفقه في فَهم الحديث النبوي" و "الفقه الإسلامي ومدارسه" وغيرها.
كما صنف هذا الكتاب الذي جمع فيه فتاويه وإجابته عن أسئلة المسلمين، خلال عمره المديد المبارك، أفرادًا كانوا أو مؤسساتٍ، والتي قام على جمعها وترتيبها العالم الشاب النابه الأستاذ مجد مكي جزاه الله خيرًا.
هذه الفتاوى الزرقاويه، إنما هي في حقيقتها بحوث ودراسات فقهية أصيلة وعميقة، تقصُر أو تطول. ليست مجرد قول المفتي: يجوز، أو لا يجوز، أو يجوز على مذهب فلان، ولا يجوز على مذهب آخر. بل هو يغوص في المسألة، ويحلل عناصرها، ويعرضه على نصوص الشريعة الثابتة، وقواعدها الضابطة، ومقاصدها الكلية، ويقلب النظر فيا بأناة ورويّة ـ كالعهد به دائمًا ـ حتى ينتهيَ إلى ما يراه من حكم شرعي لها، مُدخلًا في اعتباره تغير الزمان والمكان والإنسان، لا يدَّعي أن رأيه الذي كونه في المسألة هو حكم الله، ولا أنه الصواب الذي لا يحتمل الخطأ، بل كما قال الأولون: رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب.(2/3)
قد يختلف بعض العلماء مع الشيخ فيما انتهى إليه من نتائجَ وأحكامٍ، ولكن لا يمكن لأحدهم أن يشكِّك في أصالة ملكته الفقهية، وقدرته على التأصيل والتفريع، وبراعته في المناقشة والاستدلال. فهو لا شكّ فقيه الأمة في هذه المرحلة: فقيه في فهم النصوص، فقيه في فهم المقاصد، فقيه في فَهم الواقع.
والحقيقة أني رأيته نسيجَ وحدِه في فقه الواقع ـ ولا سيّما في المعاملات ـ وله بصيرة متميزة في التمييز بين المتشابهات، وإدراك الفوارق الدقيقة بين الأشياء، التي يغفُل عنها الكثير من العلماء.
أذكر هنا مثالين من فتاواه للتوضيح.
أحدهما: تفريقه بين القَرض الفردي والقرض الجَماعي، فالقرض الفردي (الشّخصي) لم يَجُز أن يُزاد عليه ولو فلسًا واحدًا.
أما القرض الجماعي فينظر إلى المَقصد الكبير، هو إدامة وجود رأسمال يَستفيد منه أكبر قدر ممكِن من المنتفعين، وهنا لابد من الحِفاظ على رأس المال، وذلك بإيجاد جهاز إداري يقوم بمتابعة استرداد المبلغ، ولابد من الإنفاق على هذا الجهاز الإداري، ولما كان أحقُّ الناس بدفع قيمة المصروفات هذه للحفاظ على رأس المال هم المنتفعين من الصندوق، فلا بأس من اقتطاع نسبة معينة فوق المال المقترَض لتغطية نفقاتِ هذا الجهاز، شَريطة أن تغطِّيَ هذه النسبة كلفة تشغيل الجهاز فِعليًّا بَشريًّا ومادِّيًّا من أجور ونفقات، ولا يجوز أن تصبح فائدة باسم جديد. (الفتاوى ص 680).
ومثل ذلك :" رأيه في التفريق في الهَدايا التي يدفعها التجار لعملائهم عن طريق القرعة ـ بين الهدايا البسيطة التي هي من عادة التجار وعُرفهم لمَن يشتري كمية كبيرة من بضائعهم.. وبين الهدايا الخارجية عن ذلك العُرف، ذات القيمة الكبيرة مثل السيارة ونحوها. فالأولى جائزة، والثانية محرّمة شرعًا. (الفتاوى ص 513).
وهذا هو الفقه النَّيِّر السّليم.(2/4)
وهو في هذه الفتاوى يطبِّق فقهه على واقع الحياة، فيطِبُّ لها من صيدلية الشريعة، ويجد فيها لكل داءٍ دواءً، ولكل مشكلة حلًّا، يحقق اليسر، ولا يوجِب العسر. فهذا هو الذي يريده الله لهذه الأمة التي لم يجعل عليها في الدين من حرج، وأنزل عليها في كتابه: (يُرِيُد اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولَا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ) (البقرة: 185) (يُرِيدُ اللهُ أنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وخُلِقَ الإنْسانُ ضَعِيفًا).
(النساء : 28) وقال لها رسولُها الكريم ـ صلَّى الله عليه وسلم: "إنّما بُعِثْتُم مُيسِّرين، ولم تُبْعَثوا مُعسِّرين " رواه البخاري عن أبي هريرة.
ولقد رأيت بعض الناس ـ سامَحهم الله ـ يتَّهِمون الشيخ بالتساهُل في الدين، ونَسِيَ هؤلاء أن هذا الذي يسمُّونه (التساهل) هو (التيسير) الذي أمرنا به نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال فيما رواه عن أنس ـ رضي الله عنه:"يسِّروا ولا تُعسِّروا، وبشِّروا ولا تُنفروا" متفق عليه. وقد قال لأبي موسى ومعاذ ـ رضي الله عنهما ـ حين أرسلهما إلى اليمن: "يَسِّرا ولا تُعَسِّرا، وبَشِّرا ولا تُنَفِّر" متفق عليه.
وكأن شيخنا حفِظه الله ورعاه قد جَعل نُصْبَ عينيه تلك الكلمةَ المُضيئة التي قالها الإمام سفيان بن سعيد الثوري ـ الذي انعقدت له الإمامة في الفقه والحديث والورع ـ رضي الله عنه ـ ونقلها عنه الإمام النووي في مقدّمات المجموع: "إنّما الفقه الرُّخصةُ مِن ثِقةٍ، فأمّا التّشديد فيحسِّنُه كلُّ أحَدٍ".
ومن الناس في عصرنا مَن يحسب المُتشدِّدَ في الفتْوَى، المُعَسِّرَ في الفقه: أوْرعَ وأتقَى عند الله من الميسِّر على عباد الله. وكأنّهم ـ للأسف ـ يتوهَّمون أن التيسير على الخلق ناشئ من قلة الدِّين، وضعف اليقين.
مع أن المُيسِّر إنّما أطاع الأمر النبوي بالتيسير لا التعسير، والمشدِّد أقرب إلى الدخول في قوله ـ عليه الصلاة والسلام: "هلَك المتنطِّعون" … قالها ثلاثًا. رواه مسلم عن ابن مسعود.(2/5)
وهو عليه الصلاة والسلام كان أكثر الناس تيسيرًا على أمته، كما يتجلّى ذلك في مواقفه وفتاويه وتعامله مع الناس، ومن صفاته: أنه ما خُيِّرَ بين أمرين إلا اختار أيسرَهما ما لم يكن إثْمًا.
ولو كان ما يظنُّه هؤلاء صحيحًا، لكان حبرُ الأمة، وترجمان القرآن (ابن عباس) أولَ من يُتَهّم بضعف الدين، لكثرة ما روي عنه من التيسير والترخيص، حتى اشتهر في تراثنا: رخص ابن عبّاس في مقابلة شَدائد ابن عمر، رضي الله عنهم جميعًا.
والشيخ الزرقا أقرب إلى مدرسة ابن عباس منه إلى مدرسة ابن عمر، وأنا مثله في ذلك، ولعل هذا من الأشياء التي تُقَرِّبُني منه، وتُقَرِّبُه مني.
وأودُّ أن أنبِّه على أن هناك فرقًا كبيرًا بين التيسير لدى بعض العلماء المُعتَبرين، والتسيُّب لدى بعض الدُّخلاء على العلم، فالتيسير له أسبابه، وله أصوله وقواعده، وله شروطه وضوابطه، أما التسيُّب، فليس له أصول وضوابط، إلا اتباع الهوى، ومُجاراة العصر، والعمل على إرضاء الخلق ولو بسخط الخالق.
ولا غَرو أن نجِد الشيخ الزرقا في بعض القضايا مُيسِّرًا، كما في موقفه من (التأمين) و(الخلو)، واستخدام الموسيقى لبعض المقاصِد في وسائل الإعلام، والتّسهيل في بعض المعاملات خارج دار الإسلام كما هو مذهب أبي حنيفة، مثل شراء بيت في أمريكا عن طريق أخذ القرض من البنك الربوي هناك، ومثل فتوى الشيخ للبنك الإسلامي للتنمية منذ عشرين سنة بجواز أخذ ما تجمَّع له من فوائد لدى البنوك الأجنبية، وقد بلغت أكثر من ستين مليونًا، وصرفها على البلاد الإسلامية الفقيرة، والمنظمات الإسلامية المحتاجة، وغير ذلك من الفتاوى التي أوافق شيخنا فيها كل الموافقة.(2/6)
وفي بعض القضايا يقف كالصخرة الصَّمّاء، لا يتزحزح، ولا يلين، حتى يكاد يحسبه بعض الناس من الجامدين، وما هو من الجامدين، ولكنها مُحكمات النصوص هي التي تحدِّد موقفه، وذلك مثل فتواه في زواج المسلمة بغير المسلم، فقد سدَّ الباب إلى ذلك بقوة، ومثل ذلك جوابه عن محاولة بعض البلديّاتِ ضَمَّ المقابر الدارسة إلى ملكيّتها، وهي أوقاف إسلامية، فأفتى بأنه لا يجوز لأية سلطة وهيئة في دولة إسلامية أن تُصدِر قانونًا ينقل ملكية المقابر الدوارس إلى البلديات، فصدور قانون من هذا القَبيل لا يصلح لتبرير مثل هذا الغصب الحرام لمال جماعة المسلمين؛ لأن القانون الزمني لا يقلب الحرام حلالاً في نظر الشريعة الإسلامية.
وشرط قبول أي قانون أن يكون مُنسجِمًا مع قواعد الشريعة ومقاصدها، وغير مُصادِم لشيء من نصوصها الخاصة والعامة.
ولقد نبهَّت في بعض ما كتبته: أني وجدت فقهاء الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ أكثرَ الناس تيسيرًا على المسلمين، وتلاميذهم من التابعين لهم بإحسان قريبون منهم، وأتباع التابعين قريبون من التابعين وإن لم يبلُغوا مبلغهم في التيسير، وكلما نزلنا في القرون وجدنا التشدُّد أكثر، ولمسنا غلبة الأخذ بالأحوط على الأخذ بالأيسر. وخصوصًا مع رسوخ التقليد، وقلة الاجتهاد والتجديد.
فإذا كان الشيخ ينهَج منهج التيسير فهو يعود إلى الأصل، ويحيِي منهج الأئمة المتقدِّمين، وسلف الأمة من الصحابة والتابعين.(2/7)
ولقد رأينا من بعض زملائنا من المُشتغِلين بالفقه: من يجمد على ظواهر النصوص، ويفهمها فهمًا حرفيًّا، ولا ينفذ إلى مقصدها وهدفها، كالذين يوجِبون إخراج زكاة الفطر من الحبوب في المدن الحديثة، برغم أن الفقراء لا ينتفعون بها، فلم يعودوا يطحَنون أو يخبزون، وكالذين يمنعون رمي الجمرات قبل الزوال في ثاني وثالث أيام النحر، برغم شدة الزِّحام، الذي أدَّى أحيانًا إلى موت الناس تحت الأقدام، ورغم أن ذلك ليس خلاف الإجماع، بل قال به ثلاثة من الأئمة الكبار: عطاء فقيه مكة، وطاووس فقيه اليمن، وأبو جعفر الباقر فقيه آل البيت.
بل رأيت من هؤلاء ـ على فضلهم وإخلاصهم ـ من يجمد على أقوال الفقهاء السابقين، وعلى ما قعدوه من قواعد، وإن بدا ذلك بوضوح معارضًا لمقاصد الشرع، ورُوح الدين، وعدل الله في خلقه.
مثال ذلك: قاعدة (المثليات والقيميات) واعتبار الفقهاء النقودَ من المثليّات. فطبق هؤلاء الإخوة الفضلاء (النقود الورقية) الحديثة على (النقود المعدنية) القديمة. وأعطوا الورقية جميع أحكام النقود المعدنية. وهذا لم يجئ به كتاب ولا سنة، ولا أحسَبُ أن الفقهاء القدامى قصدوا إليه.
إن الذي رجحته وتبنيته من قديم في كتابي "فقه الزكاة" هو اعتبار النقود الورقيّة (نقودًا شرعية) تجب فيها الزكاة، ويجري فيها الربا؛ لأنها أثمانُ الناس، ومقياس قيمتهم، وأداة تبادلهم، ورؤوس أموالهم.
وردَّدت على من أنكر ذلك ممن يدَّعون العلم أو ينتسبون إلى أهلِه.
ولكن هذا لا يعني أن هذه النقود الورقية تأخذ كل أحكام النقود الأصلية من الذهب والفضة؛ لأن هذه لها قيمة ذاتية في نفسها. حتى لو بَطَلَ التعامل بها فإنها في نفسها ذات قيمة يرغَب فيها الناس.(2/8)
بل هي أشبه ما تكون بـ (الفلوس) وهي النقود الفرعية التي تُشترَى بها الأشياء البسيطة والتافهة، وتعتبر كسور النقود (الذهب و الفضة)، ولأبي يوسف فيها رأي معروف اختاره علماء المذهب الحنفي للإفتاء، خلاصته: اعتبار قيمتِها يوم ثبوتِها في الذمة لا يوم الأداء. وهو ما رجحه الشيخ الزرقا في فتاويه.
بل الفلوس في الواقع أقوى من الورقية من بعض النواحي؛ لأنه لها قيمة في نفسها من حيث هي نحاس أو معدِن. بخلاف الورقيّة، فإنها لا قيمة لها في ذاتها، إنما قيمتها في اعتبار الدولة إياها، وإعطائها قوةً شرعية بهذا الاعتبار، بحيث لو صدر قرار من السلطة المسؤولة بإلغائها، أصبحت مجرّد قطعة من الورق، لا تُسمِن ولا تُغني من جوع.
والشيخ الزرقا وإن كان من فقهاء الحنفية المعدودين ـ بحكم النشأة والدراسة ـ ليس من المتعصِّبين للمذهب الحنفي، فكثيرًا ما يخرج عليه إذا رأى غيره أرجح من ناحية الدليل، لمراعاته للنص، أو لتحقيقه مقاصد الشرع، ومصالح العباد.
وهو يرى أن الشريعة لا يمثلها مذهب واحد، وإنما يمثلها مجموع المذاهب والمدارس الفقهية على اختلاف مشارِبها، وتعدُّد مسالكها، كما يتجلَّى ذلك بوضوح في عدد من الفتاوى. وهو يرى أن العصبيّة المذهبيّة سِجن ضيِّق في جنّة الشّريعة الفَيحاء!
وحين سُئل عن قضية تتعلق بهدم مسجد وإعادة بنائه وتوسعته، وجعله في الطابق الثاني: اختار مذهب الحنابلة باعتباره أوسع المذاهب الأربعة في ذلك قائلاً: ولا يَخفَى على أحد من أهل العلم أن الأمة غير مكلَّفة باتباع مذهب بخصوصِه من مذاهب الأئمة المجتهدين ـ رضي الله عنهم. أ.هـ.
كما اختار مذهب الحنابلة في العقود والشروط، لسَعته ومُرونته في ذلك.
بل يأخذ أحيانًا بآراء بعض الصحابة والتابعين الذين نقلت آراءَهم كتبُ الآثار والفقه العام، واختلاف الفقهاء.(2/9)
وكثيرًا ما يخرج الشيخ على المعهود والنصوص في الكتب، بناءً على قراءة كتاب الواقع المَعِيش. كما في فتواه في مشاركة في بعض الفرق المُنتسِبة للإسلام، الذين عُرف من كتب الفقه أنهم مرتدُّون، فهل يجوز التعامل معهم؟
أجاب الشيخ: بأنهم لا ينطبق عليهم حكم المرتدِّ؛ لأن هؤلاء اليوم لم يدخلوا في الإسلام ثم ارتدوا، وإنما هم أجيال سلفهم الأول، الذين ارتدّوا، وأصبحوا فيما بعد فرقةً من الفرق الخارجة عن الإسلام. وهم الآن في الواقع مواطِنون، فلا بأس بالمعاملة معهم. (الفتاوى ص 560).
وللشيخ الزرقا آراءٌ فقهيّة سبق بها عصرَه، عرضَها على المجامع الفقهيّة، ولم تأخذ بها، مثل رأيه في اعتبار الحساب الفلكي في إثبات الأهلة والشهور، وخصوصًا: هلال رمضان، وهلال شوال، وهلال ذي الحجة.
ولقد سمعت رئيس المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي يقول له في عمان، وقد رفض المجمع رأيه:هذه المرة الثانية التي يرفض فيها رأي الشيخ الزرقا بإجماع الأعضاء، وقبل ذلك رفضه مجمع رابطة العالم الإسلامي: فأنت يا شيخ وحيدُ المَجمعَيْن!
وهذه الله مأثرة للشيخ، تُكتب له في سجل مفاخَره، فليس الفقيه هو الذي يساير الناس ويردِّد ما قاله من سبقوه، فما بهذا يحيا الفقه، وتزدهر أحكام الشريعة، بل الفقيه الحق هو الذي يُبدع ويجتهد، وإن انفرد وحده بالرأي، وقد كان للإمام أحمد آراء انفرد بها عن الأئمة المَتبوعين، نُظِمت في كتب وشرحت، وعُرفت بـ (مفردات المذهب) ولكلِّ إمام مسائلُ انفردَ بها عن غيره.
على أن رأي الشيخ في الأخذ بالحساب قد وافَق فيه رأي المحدِّث الفقيه العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله، الذي رجح ذلك في رسالته (أوائل الشهور العربية) كما نقلنا عنه ذلك في كتابنا "كيف نتعامل مع السنة النبوية".(2/10)
ومن حسنات الشيخ الزرقا في فتاويه هذه ـ بل في سائر كتبه ـ أنه كتبها بأسلوب الأديب الضّليع، واللغوي البليغ، فتجِد فيها السلاسة والجَزالة، والإبانة والفصاحة، بعيدًا عن وُعورة المصطلحات، وتعقيدات المتأخرين من المصنِّفين، وألغاز المتون، التي حاول أصحابها أن يضعوا فيها أهم مسائل العلم بأسلوب البرقيات. بل أخصر، وكم للشيخ من عبارات أنيقة، وصياغات رائعة، وتشبيهات معبرة، وأمثالٍ موضَّحة، تُقرِّب المعنى البعيد إلى النفوس، وتظهر المعقول في صورة المحسوس. وهذا لا يقدر عليه إلا عالم متمكِّن، ثم هو أديب وشاعر، كالشيخ الزرقا.
انظر قوله في حكمة التهرب من ضريبة الدخل ص 554: "فالضّرائب بوجه عام إذا كانت عادلة في فرضها وجِبايتها وإنفاقها: لا يجوز شرعًا في نظري أن يتهرّب المكلَّف منها، وإلا لتوقف عمل الدولة، وقعَد الجمل عن الحمل! وقديمًا قالوا: إن السّفينة لا تمشي على اليبس!! ولكن يبدو في حياة البشر: أن النظريات شيء، والواقعيات شيء آخر! "
وأمثال ذلك كثير.
سيجزي الله شيخنا الزرقا عن أمّته خير ما يُجْزَى به الأئمة الهداة، والعلماء الربانيِّين، وأمدّه برُوح من لدنه، حتى ينفعَنا بعلمه وعمله. آمين.
الدكتور يوسف القرضاوي(2/11)
الضَّوابط الشرعيَّة لأسلوب السُّخرية في الصّحافة
إلى السيدة كريمة.. المُحترمة السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
تلقيتُ رسالتك المُرسَلة بالبريد المسجَّل تطلبين فيها رأيي في موضوع السُّخرية والصحافة الساخرة والضوابط الشرعيّة فيها.
وإليك فيما يلي جوابي..والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مصطفى أحمد الزرقا
الجواب:
السُّخْرية (بضم السين وتخفيف الياء وتشديدها) لغة هي الهُزْءُ أو الاستِهزاء. يقال: سَخِرَ منه وبه، إذا هَزِئَ بِه أي استهزأ.
وطريقتها العملية: التعبير بكلمات أو خطاب في صورة مدح أحد يُراد به ذمُّه. كقولنا مثلاً: فلان علامةٌ مِفضالٌ، ومقصودُنا أنه جاهِل، وإنَّما وصفناه بالعلم استهزاءً وسخريةً، اعتمادًا على القرينة من أسلوب التعبير، أو بعض الإشارات يُجريها المتكلِّم خلال كلامه تُشعر بأنه ساخر غير جادٍّ.
جاء في "معجم مقاييس اللغة" لابن فارس: "السين والخاء والراء أصل يدلُّ على احتقار واستذلال".
والسُّخْرية بهذا المعنى تُوحي بذمٍّ مؤذٍ من الساخر للمَسخور منه. وقد يكون المَسخور منه صالحًا على عكس ما تُوحي به السخرية من الذم، فيكون حينئذٍ إيذاءً واضحًا وافتراءً. وبذلك تكون السُّخرية من الأسباب التي تُورث العداوة بين الساخِر والمَسخور منه، سواء أكانت بالحق أم بالباطل بقطع النظر عن كون المَسخور منه مستحِقًّا للسُّخرية أو لا؛ لأن الإيذاء بالسُّخرية يدفع المستهزأَ به إلى مُعاداة المُستهزئ في جميع الأحوال.
ومن ثم كانت السُّخرية مَنهِيًّا عنها بوجه عامّ بنصّ القرآن العظيم حيث جاء في سورة الحُجُرات (يا أيّها الذين آَمنوا لا يَسخرْ قَومٌ من قومٍ عَسى أن يكونوا خَيرًا مِنْهم ولا نِساءٌ من نساءٍ عَسى أن يكنَّ خَيرًا مِنْهن ولا تَلْمِزوا أَنْفُسَكم ولا تَنابَزُوا بالألقابِ بئسَ الاسمُ الفُسوقُ بَعْدَ الإيمانِ ومَنْ لَمْ يَتُبْ فأُولئِكَ هُمُ الظّالِمونَ) (الحجرات : 11).(3/1)
وهكذا يبدو من هذه الآية الكريمة أن السُّخرية من قَبيل الفسوق في نظر الإسلام إذا كان الساخِر قاصِدًا إيذاءَ المَسخور منه. ويَخرج من هذا الحكم ما إذا كان مازِحًا ويَعلم المسخور منه أنه مازِح. لكن يبقَى على كل حال أن السُّخرية من الغير هي سلوك غير مُباح.
هل ينطبق حكم السُّخرية على أسلوب الكاريكاتور المُصَوِّر في الصحف والمِجلات اليوم؟
لا شكّ أن التصوير الكاريكاتوري الشائع في الجرائد والمِجلات، وفي الصحافة بوجه عام هو فنٌّ خاص ليس مُرادفًا للسخرية بمعناها المشروح آنِفًا، ولو أنّ بعض الصحفيين يُسمِّيه: الصحافةَ الساخِرة.
ذلك أن فنَّ الرسم الكاريكاتوري يقوم على أساس تَضخيم بعض الخَصائص في خِلقة الشخص وهيئته للدلالة على شخصه بصورة فيها شيء من الهَزل. وربَّما لا يقصد بها معنى الإيذاء، بل مجرّد تعبير هزلي. والهَزْل غير السُّخْرية، فإنّ السُّخْرية تُوحي بالذَّمِّ بينما الهزل لا يُوحي بأي ذمِّ، ولكن يُراد به الفُكاهة في التّعبير، مثل المِزاح بين الأصدقاء. فالكاريكاتور التصويريّ يُستعمل في حالات التعبير بوجه عام للدلالة على الشّخص بالصورة التي تُجَسِّم بعض خصائص هيئته وطبيعته.
فلا يأخذ الكاريكاتور حكم السُّخرية، ولا سيِّما إذا أصبح مألوفًا في الصّحافة كما عليه حاله اليوم في التصوير التعبيري، لكن قد يكون الكاريكاتور في بعض الحالات والقرائن دالّاً على معنى السُّخْرية والطَّعن والذَّمِّ فيأخذ عندئذٍ حكمَها.
الضابط الشرعي:
نخلُص من ذلك إلى أن السُّخْرية الحقيقيّة هي دائمًا أسلوب مَمقوت بالنظر الشرعيّ الإسلاميّ لا ينبغي للمُسلم أن يَلجأ إليه في سلوكه التّعبيري.
أما الكاريكاتور التصويري الهازِل فلا بأسَ به بحسب المَقصود به كما أوضحت، إذا لم تدُلّ القرائنُ على أن المُراد به السخرية والاستهزاء، وإنما هو مُجرّد تعبير هزلي للفُكاهة لا غيرَ.
هذا ما يبدو لي والله سبحانه أعلم..
مصطفى أحمد الزرقا(3/2)
الرياض في 2/7/1417هـ.
13/11/1996م(3/3)
العادة السِّرّية ـ الاستمْناء(1)
جاءنا استفتاء من أحد الشُّبّان يلح فيه بالسؤال عن حكم (العادة السِّرِّيّة) شرعًا ويقول فيه إنّه أرسل سؤالاً سابقًا عن هذا الموضع فلم تنشُر عنه المجلة جوابًا، والآن يطلب الجواب بإلحاح، ويُنذِر بأنه سيُحاسبنا أمام الله ـ تعالى ـ إذا أُهْمِل سؤالُه كما أُهْمِل سابقًا.
وكانت قد جاءتنا أسئلة مماثِلة، منها سؤال يَذكر فيه صاحبُه أنه مبتلًى بالإفراط في هذه العادة، ومُتضرِّر منها في صحّته، ولا يستطيع تركَها.
وقد رجونا الأستاذ مصطفى الزرقا أن يكتب الجواب: فتفضل بكتابة ما يلي:
العادة السِّرِّيّة (أي: الاستمناء باليد) ينظر فيها من ناحيتين: الناحية الصِّحّيّة وانعكاساتها على صِحّة الجسم وأثرها فيه، والناحية الشّرعيّة لمعرفة حكم الشّريعة فيها.
أ) فأمّا من الناحية الصحية فمرجعها إلى الطِّبّ والأطِبّاء، فهم أهل الاختصاص ببيان مَضارّ هذه العادة من الناحية الصِّحِّيّة نوعًا ودرجة في مختلف الأحوال، أي: في حالة الإفراط أو الاعتدال. ولكني أستطيع هنا أن أقول: إن الشّائع بين الناس أن هذه العادة مُضِرّة صِحِّيًّا في جميع الأحوال حتّى في حالة عدم الإفراط، إلى درجة تُورِّث أوهامًا لدى من يقع فيها، ولكن الذي يقوله الأطباء المحقِّقون أن الضَّرَر الصِّحّي فيها إنما ينشأ من الإفراط، لا من أصل المُمارَسة المُقتصِدة المُقتصِرة على حالات الدوافع الشديدة.
ب) وأما من الناحية الشرعيّة والحكم فيها، فيجب أن نشير أولاً وقبل البحث إلى أنه يُروى في هذا الصّدد حديث نبوي يقول: "ناكِح الكَفِّ ملعونٌ".(4/1)
فهذا الحديث شائع بهذا اللفظ، وهو في المصادِر الحديثيّة التي تنقله جزء من حديث مَرويّ أطول منه. وقد حكم علماء الحديث عليه كلِّه بالوضع أو الضعف، فبعضهم طَعَن فيه بأنه موضوع، وبعضهم بأنه ضعيف، وفي كلا الحالين لا يجوز اعتبارُه ولا بناءُ حكم عليه(2) فالنظر الشرعي يجب أن يُبنى على أساس عدم وجود هذا النص الشائع، بل على أساس الأدلة الشرعيّة الأخرى.
وبناء على ذلك نقول: إن النصّ الوحيد الثابت الذي له صلة بالموضوع هو قوله ـ تعالى ـ في القرآن العظيم في وصف المؤمنين: (والذِين هُمْ لِفُروجِهمْ حافِظون. إِلّا عَلَى أَزْواجِهم أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانهم فإنَّهم غَيْرُ مَلومِينَ. فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العَادُونَ) (المؤمنون : 5-7).
فمن الفقهاء من يَرى أن هذه العادةَ تدخل فيما (وراء ذلك)، فتكون حَرامًا لأنها اجتياز للحدود المسموحة، وهو المعنى المقصود من قوله تعالى: (فأُولئِكَ هُمُ العادُونَ). وإلى هذا يميل الشافعيّة.
ومنهم من يرى أن المقصود بالعدوان على الحدود إنما هو الزِّنى وما بمعناه، فلا تكون العادة السِّرِّيّة داخلةً في عموم هذا النَّصِّ، بل يجب أن تُحكَّم فيها أدلة أخرى. وكلام فقهاء الحنفيّة أقرب إلى هذا المنحَى، فهم قد عالجوا حكم هذه العادة، وقالوا: إنّها من المحظورات في الأصل، ولكنها تباح بشرائط ثلاث:
1 ـ ألّا يكونَ الرجل مُتَزَوِّجًا.
2 ـ وأن يَخْشَى الوقوعَ في الزِّنَى إن لم يفعلْها.
3 ـ وألّا يكونَ قصدُه تحصيل اللذة، بل يَنوي كَسر شدّة الشَّبَق الواقع فيه.
والحاصل أن القواعد العامّة في الشريعة تقضي بحظر هذه العادة؛ لأنها ليست هي الوسيلةَ الطبيعيّة لقضاء الحاجة الجنسيّة، بل هي انحراف، وهذا يكفي للحظر والكَراهة، وإن لم يدخل الشيء في حدود الحرام القطعي كالزِّنى.(4/2)
ولكن تُحكَّم هنا قاعدة الاضطرار أيضًا من قواعد الشريعة، فإذا خَشِيَ الوقوع في محظور أعظم كالزّنى، أو الاضطرابات النفسيّة المُضِرّة، فإنها تُباح في حدود دفع ذلك، على أساس أن الضّرورات تقدر بقدرها.
ومعنى ذلك أن الإفراط في جميع الأحوال غير جائز لسببين:
أولاً: لأنّه لا ضرورة فيه؛ إذ الدّوافعُ إليه عندئذٍ ابتغاء اللّذة لا تَخفيفُ ألم الدوافع.
ثانيًا: لأنه مُضِرٌّ صِحِّيًّا دون ريب، وما كان مُضِرًّا طِبِّيًا فهو محظور شرعًا، وهذا محلُّ اتفاق بين الفقهاء.
ويجب الانتباه أخيرًا إلى أن من الملحوظ في هذا الحكم شريطتَيْن أخريين غير ما يصرِّح به الحنفية مفهومتين من القواعد العامّة أيضًا، وهما:
1 - عدم تيسُّر الزّواج للرّجل.
2 - عدم تمكُّنه من الصيام الذي أرشد إليه النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ في الأحاديث الثابتة؛ ممّن لا تساعِده ظروفُه المادِّيّة على الزواج، حيث قال ـ عليه الصلاة والسلام: "فعليه بالصّوم فإنه له وِجاء"(3). أو إذا كان لجأ إلى الصوم، ولكنّه لم يَكْفِ صومُه لكسر شدة تَوقانِه.
هذا ما أرى أنّه الموقف الشرعيّ الصّحيح في هذا المَوضوع، والله سبحانه وتعالى أعلم.
تعقيب مجلة الحضارة:
ونحن إذ نُقَدِّم هذه الفتوى الغالية الحكيمةَ التي تفضّل بها أستاذنا الزرقا ـ شكر الله له ـ لا ننسى أن نقرِّر حقيقة ماثِلةً صارخةً هي: أن عوامل التوجيه التي كان ينبغي أن تكون فِينا عواملَ ارتقاءٍ ـ كما هو الشأن في الأُمَم الغالبة اليوم ـ تَنْقلِب عواملِ إفناءٍ وتمزيق لما بقي في شَبابنا من رجولة وحياء، نحن أحوج ما نكون إليهما في كِفاحنا نحو أهدافنا المُثْلَى، هذا بالإضافة إلى إثقال العادات والتقاليد التي تعوق أمر الزواج وتُيَسِّر الفاحشة، مما لا يَرضى عنه الإسلام بحال من الأحوال.(4/3)
كما لا ننسى ذلك المستوى الرُّوحي العالي الذي يجعلنا فيه الإسلام العظيم، ذلك المصنع التّربويّ الكامل لكلِّ ذاتٍ بشريّة تبغي سُمُوًّا فوق التراب ولذّاته، وترتقي صعدًا لتحظَى بعبوديتها لله، متحرِّرة من كل عبوديّة أخرى من داخل النفس وشهواتها، أو من خارجها، بأي شكل من أشكالها ظهرت في المُجتمع.
فطوبى للشّباب المؤمِن الذي يعيش مع ربِّه خاشِعًا متعبِّدًا له، بالصّوم وغيره من القُرُبات، ذاكرًا ـ وبحُرقة صادِقة ـ أولئك الأبطال الصّادقين من أصحاب محمدٍ ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وأتباعه إلى يوم الناس هذا، فهو في نجوى دائمة مع رُوح مُصعب بن عُمير، وحمزة بن عبد المطلب، وأنس بن النّضْر، وزيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رَواحة، وغيرهم من الكثير الكثير كعُمر المختار، وعز الدين القسام في عصرنا هذا، رحمهما الله تعالى.
طوبَى لأولئك الشباب الذين تؤرِّقهم همومُ أمتهم التي تعد اليوم أكثر من ستمائة مليونٍ، والتي تقِف متطلِّعة إلى اليوم الذي تُركَز فيه راية الله في الأرض، بعد أن تحرّرت من أغلالها التي كُبِّلت فيها على مدى الزمن.
ولعل القارئ يُدرك معنا أن من طبيعة الإنسان أن تَعرض في حياته لحظةٌ من لحظات الضَّعف، يتعثَّر فيها، ولكنه كالجواد الأصيل لا يتعثَّر إلا لينطلِق من جديد، على أصالته نحو هدفه البعيد… والله المستعان.
(وإمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ) (فصلت : 36) (إنَّ الذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَان تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (الأعراف : 201).
هامش
مجلة حضارة الإسلام، العدد الخامس، السنة السادسة 1385هـ / 1965.
هذا الحديث أورده ابن كثير بلفظ آخر عند تفسير قوله تعالى: (فأولئِكَ هُمُ العادُون) من سورة المؤمنون. ثم قال: هذا حديث غريب، وإسناده فيه من لا يعرف لجَهالتِه.(4/4)
(3) عند عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "يا معشرَ الشَّباب مَن استَطاع منكم الباءةَ فليتزوجْ، فإنّه أغضُّ للبصر وأحصَنُ للفَرج، ومَن لم يستطعْ فعليه بالصّوم فإنه له وِجاء". أخرجه البخاري (5065) ومسلم (1400) في النكاح، والباءة: الجماع، والوِجاء: نوع من الخِصاء، أي أن الصّوم يقطع شهوةَ الجِماع.(4/5)
العبادة في الإسلام
عمل عقلي وتفكير فلا يجوز أن ترافقَها الموسيقا(3)
نقل إلىَّ أحد الأساتذة المحترَمين سؤالاً من أحد الموسيقيين الفنانين الأجانب؛ الذين اعتنقوا الإسلام في العصر الحاضر: إنه لِمَزيد إعجابه بتلاوة القرآن العظيم، وتأثُّره بترتيله وتجويده، يريد أن يصوغ بعض سور القرآن في مقطوعاتٍ موسيقية من الموسيقا المجرّدة الصامتة على طريقة السمفونيات، بحيث تكون القطعة الموسيقية الواحدة تعبِّر ألحانها عن السورة الفُلانية من القرآن، وتخلِّدها في لحن فني؛ وذلك لأن الرَّجل هو من الموسيقيين البارعين، فيريد أن يخدم القرآن من ناحية اختصاصه الفنيِّ، فهل هذا العمل مستحسَن من الناحية الإسلاميّة؟ وهل يكون بذلك قد أدَّى لعقيدته الإسلاميّة الجديدة التي اعتنقتها بعض حقِّها عليه؟
وقد أجَبْتُه: بأن هذا العمل لا يجوز شرعًا، فالقرآن خالد بإعجازه القائم على بلاغته وصياغته وحقائقه العليا وحكمته وإحكامه، وليس خلوده بقائم على الألحان والأنغام.
قال الأستاذ: وما حكمة هذا الحظْر؟ وبماذا نُقنِع مثل هذا الرَّجُلِ الأجنبي أن الموسيقيا لا يجوز أن تدخلَ في العبادة الإسلامية؟ فإن الأجنبي لا نستطيع إقناعَه إلا بشيء معقول، فقد يقول لنا: أليس القرآن يُرتَّل ترتيلاً في الصلاة، وهذا الترتيل فيه من الموسيقا ما يزيد القرآن رَوعة وتأثيرًا؟! فإذا دعَّمْنا موسيقا التلاوة القرآنيّة القائمة على الترتيل والتجويد بموسيقا خارجيّة تصاحبُها وتقوِّيها، لا نكون قد أدخلنا شيئًا غريبًا ليس له أصل في نظام عبادتِنا، فما هي حجّتنا المُقنِعة في الموضوع؟
قلت لصاحبي: إن الحُجّة نجدها في بالرجوع والنظر إلى مبنى نظام العِبادة في الإسلام.
فنظام العبادة في الإسلام قد بُنِيَ على أساسين:
الأول يتعلّق بغاية العبادة، والثاني بطبيعتها:(5/1)
فأمّا الأساس الأول: المتعلّق بغاية العِبادة، فإننا بالنظر إليه نجد أنّ الإسلام قد بَنَى عباداتِه على أساس يكفُل قيادة المكلَّف إلى غايةٍ رُوحية يتحقّق له فيها إصلاح نفسه؛ لتكون عنصرًا طيِّبًا نافعًا في هذا المجتمع البشري، يَنفح بالخير والنُّصح، ويتوقَّى الشَّرَّ والضُّرَّ، وذلك عن طريق محاسَبة النفس، ومُراقَبة الله تعالى واليوم الآخر.
ولذلك جعل الإسلام بعضَ عباداته إنما يجِب مرّة في العمر كالحجِّ، وبعضها مّرة في السَّنة كالصيام والزكاة، وبعضها يتكرَّر يوميًا مرة كل يوم عدة مرات كالصلاة. والأصل في العبادة التكرُّر؛ لأن الغاية منها ذلك التذكُّر للواجبات بمراقَبة النفس، والتوجُّه إلى الله تعالى؛ كي يسموَ الإنسان سموًّا رُوحيًا يتغلَّب فيه جانب الخير على جانب الشَّرِّ.
ولذا كان في الإسلام عبادات ذات ثمرة سياسيّة واجتماعية كالحج والزكاة؛ لأن غاية العبادة تمحيضُ المُكلَّف لخير نفسه وخير المجتمع، عن طريق التَّصفية الرُّوحية، ومحاسَبة النَّفس، ومُراقَبة الله، والتَّحذير من المَصير الأخير.
وبحسب المشقّة الطّبيعيّة في العبادة يكون التكرُّر فيها:
فالحجُّ مرة في العمر لما فيه من سفر ونفقة ووقت.
والزكاة سنويّة لتعلُّقها بنماء المال، وهذا النّماء دورته الطبيعية سنويّة.
وصيام الشهر دورته سنويّة أيضًا. ولو لم تكن دورته سنويّة لكان مُستمِرًّا دهريًّا، وعندئذٍ يصبح طبيعةً عادية، فيزول الإحساس به، ولا تتحقَّق وظيفته الرُّوحيّة والصحيّة والاجتماعيّة.
أما الصلاة فهي الأخفُّ عِبئًا من حيث المَشقّة، وهي الأكثر ذكرًا ومُناجاة لله تعالى وتوجُّهًا إليه؛ ولذا كانت متكرِّرة في اليوم الواحد مَرّاتٍ.(5/2)
وقد جُعِلَتْ لهذه العبادات محطات أساسية، هي الفرائض في دوراتها العُمُريّة أو السنويّة أو اليوميّة، وترك ما يزيد عنها للتطوُّع الاختياري بصورة يُحفَظ فيها حقُّ النفس في الحياة ودواعيها ولوازِمها، وحقُّ الله، وحقُّ الأسرة، وحقُّ المجتمع، دون أن يطغَى فيها جانب على جانب. فإن جار المكلَّف على أحد هذه الجوانب لأجل الآخر أصبحت عبادته معصية، كما لو أهمل نفسه في سبيل العبادة، أو أهمل زوجه أو ولده، وَفقًا لقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمن انقطع عن العبادة: "إنَّ لِرَبِّك عليك حَقًّا، ولِنَفسِك عليك حقًّا، ولأهلِك عليك حقًّا، فأعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّه"(4).
وإن دواعي الأهواء والشهوات والأطماع والمغريات وسائر أسباب الغفلة عن الله كثيرة متكرِّرة يوميًّا، فالصلوات الخمسُ إذا مُورِسَتْ بخُشوع وتدبُّر كَفيلةٌ بأنْ تردَّ الإنسان إلى الجادّة، وتذكِّره أو تنبِّهه كلّما حدثَت له غفلة؛ ليبقَى دائمًا مع الله تعالى.
وفي الوقت نفسه وَسَّعَ الإسلامُ مفهومَ العبادة، فجعل الاستمتاع واستيفاء الحظوظ، من مَطعم ومَشرب ومَنْكِح وراحة ونُزهة وغير ذلك من المُتَع الحلال، كلها تصبح عبادات ملحَقة إذا استوفاها الإنسان بنيّة الطاعة، أي: على أساس أنها أباحها الله، وأنها وسيلة لِتقوية نفسه على القيام بالواجبات.
وبذلك تكون جميع المُتع اللذيذة المُباحة هي من المؤمِن المتذكِّر عمَلًا إنسانيًا ملحَقًا بالعبادات، وتكون من غير المؤمِن عملاً حيوانيًّا، كما يقول الله تعالى: (والذِينَ كَفَروا يَتَمَتَّعونَ ويَأْكلونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنْعامُ) (محمد: 12) وذلك بحسب الفكرة التي تصاحب الاستمتاع.
والقصد أن يكون المؤمِن دائمًا مع الله، غيرَ غافل عنه.(5/3)
وأما الأساس الثاني: المتعلِّق بطبيعة العبادة، فإن الإسلام أراد أنْ يجعلَ العبادة عملًا عقليًّا وتفكيريًّا، بعدما أصبحت في كثير من المذاهب الوثنيّة وغيرها مراسم شكليّة، أو أنغامًا موسيقيّة.
فقد انتشرت قبل الإسلام وبعده إلى اليوم طرائق التعَبُّد بالموسيقا، فاختلطَتِ الأحاسيسُ والمشاعِر الفنيّة الجَميلة، وما ينشأ عنها من نشوة وطَرب، فامتزَجت بالعبادة مُناجاة الله، بينما الأحاسيس الفنية والعبادة هما أمران مُتبايِنان.
فإذا أصبحت العِبادة موسيقا وأنغامًا حُقَّ للفاسِق في الملاهي أن يُعِدَّ نَفْسَه مُتعبِّدًا بالنشوة والإحساس الفني من الموسيقا؛ التي يسمعُها في الملَهى كمن يسمعها في المَعبد!!
وهكذا ترفَّع الإسلام بالعبادة عن مُستوى المَراسم العَمياء، والطقوس الشَّكليّة المَحضة التي يُقْصَد بها السيطرة على أوهام الناس دون معنى عقلي، كما ترفَّع أيضًا عن موضوع النّشوة والطَّرب الناشئين من العمل الفني كالموسيقا، وهذا سموٌّ بالعبادة إلى مستوى رفيع يَليق بالإنسان العاقِل المتميِّز بعقله وتفكيره عن سائر المخلوقات.
ولذا نجد العباداتِ في الإسلام تشتمل كلُّها على عنصريِ التَّفكير والعزيمة الإنشائيّة، فالتفكير والعَزيمة هما ركن العبادة في الإسلام كما يتَّضِح من المُلاحظات التالية:
أولاً: إنّ العِباداتِ كلَّها أعمال إراديّة تنشأ بها العبادة بعزيمة إنشائيّة، وتنعَقِد في نظر الشَّرع كما تنعقد العقود، وتُشترَط لها شرائطُ، تخضع للصحة والبُطلان كما تخضَع العقود.
ثانيًا: إن العبادات في الإسلام تُشترَط فيها جميعها النية، والنِّيّة عمل عقلي باطني، وعزيمة فكريّة.(5/4)
ثالثًا: إن هذه النِّيّة العقليّة هي كلُّ شيء في العِبادات الملحَقة، وهي الأفعال الحيويّة والمُتع المُباحة من مَأكل ومَشرب ومَنْكِح ومُتَنَزَّهٍ، فتنقلها النِّيّة كما أشرنا إليه آنفًا من استمتاع حيوانيّ إلى عبادة عقليّة، ولذلك يقول علماء الإسلام: إن النِّيّة هي المُميِّز الفارق بين العادة والعبادة.
وتتجلَّى هذه الناحية التفكيرية في جميع العبادات الإسلامية الأربع الأساسية:
فالحج يقوم فيه المسلم بعمل فيه تفكير رُوحي واجتماعي وسياسي.
والزكاة والصيام يتجلَّى فيهما كذلك ممّن يقوم بهما أجلى صور التفكير الرُّوحي والاجتماعي.
والصلاة تَبْرُز فيها وتتجلَّى هذه الصورة من العمل العقلي السامي أكثرَ من سواها، فهي كلُّها أدعية وأذكار وقرآن ومناجاة وتضرُّع وتوجُّه إلى الله، والأعمال والحركات فيها مناسِبة للمعاني التي يردِّدها المصلِّي.
وأما الموسيقا التي تتجلَّى في ترتيل القرآن وتجويده، فإنها التوقيع الطبيعيُّ الذي يتجلَّى في حسن القراءة، وجودة النُّطق الصَّحيح والأداء المُحكَم، فهي كالجَمال الطبيعي والنَّظافة وحسن التجميل بالحدود الطبيعيّة.
فكل كلام حسن الأداء فيه موسيقا طبيعيّة ذاتيّة، وهذا غير الموسيقا الخارجية الصناعية التي هي عمل فني مستقِلّ.
وعلى هذا الأساس لا يَقبل الإسلام أن تُصاغ سور من القرآن قِطعًا موسيقيّة، كما لا يقبل أن تَصحَبَ العبادةَ موسيقا خارجيّة؛ لأن العمل العقلي في العبادة عندئذٍ يَغيب تحت رداء النشوة الفنيّة، فنخرج من حيِّز العبادة والفكر السامي إلى حيِّز الطرب الذي يكون حظُّ الحس فيه أكبر من حظ العقل، كما قد يكون حظ المُتعبَد فيه أوفَى من المتعبَد، فيضيع معنى العبادة.
ولذا نعَى القرآن على الجاهلين أن صلاتهم عند البيت ما كانت إلا مُكاءً وتصدية، أي: مراسمَ من تصويت وتصفيق.(5/5)
والخلاصة أن الإسلام ميَّز بين الأحاسيس الفنيّة التي هي مشاعر نفسية غريزيّة لا صلة لها بالعقل والتفكير، وبين العبادة المزكِية للأنفُس البشرية ويجب أن تكون تأمُّلًا وتفكيرًا.
ولما ارتقى الإسلام بالعقيدة، فجعلَها عقليّة محرّرة من الأوهام والخُرافات، ارْتَقى أيضًا بالعبادة، فجعلها عملًا عقليًّا ساميًا وتفكيرًا، وعَزيمة ونِيّة وتعبيرًا.
هوامش
(3) حضارة الإسلام، السنة الأولى ـ العدد الرابع ـ 1380هـ.
(4) رواه البخاري (1968) في الصوم، و(6139) في الأدب، والترمذي (2415) في الزهد، وزاد الترمذي فيه: "ولضيفك عليك حقًا ".(5/6)
القُرُبات التي تصِل من الأحياء إلى الأموات(9)
السؤال من السيد أحمد فهمي باتر من القنيطرة خلاصته:
إن من العاداتِ المُتَّبَعة في القرية عندهم في حال وفاة شخص أن يُقيمَ أهل المُتوفَّى ولائِمَ ومآدِب طعام فاخرةً مُدّة سبعة أيام، يُدْعَى إليها الوجهاء والأغنياء وعدد من القراء لختم القرآن على روح المُتوفَّى، وأن مثل هذه العادات تُرهِق أهل المتوفَّى، وتكلِّفهم كثيرًا، وهو يسأل: هل يصل إلى روح الميت أي ثواب من هذه الحفلات، وهل يخفِّف من عذابه شيئًا؟
الجواب: لا يصل إلى الميت من الأحياء إلا ما يُهدَى من ثواب الأعمال التي هي طاعاتٌ وقُرُبات إلى الله تعالى، ومن جملة ذلك الصدقات التي توضَع محلَّها من الفقراء الحقيقيين المُحتاجين؛ الذين هم مَحلُّ ومَصرِف الزكاة.
أما إطعام الأغنياء في حفلات تقام وفقًا لعادات وتقاليد عرفيّة، فهذه ليستْ من العبادات ولا من القُرُبات إلى الله، فليس فيها شيء يصِل إلى الميّت، والله أعلم.
الهوامش
(9) مجلة حضارة الإسلام، السنة الرابعة ـ العدد التاسع 1383هـ.(6/1)
المَسْئولية التَّقْصيرية بالتَّسبُّب
بنقْل دمٍ مُلَوَّث بفيروس الإيدْز
الأستاذ العلامة مصطفى أحمد الزرقا ـ حفظه الله ـ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فأسأل الله العلي العظيم، أن تكون في أحسن حال، وصحة جيدة...
واليوم أُثِير مع فضيلتكم موضوعًا مهمًا، عُرِض أمام محاكمنا في دولة الإمارات، وتتلخَّص وقائع هذا الموضوع:
في أن عائلةً كانت تُعالَج من مرض عُضال في أحد المستشفيات، وأثْناء ذلك تَمَّ نقل دمٍ مُلوَّث إليهم، وهذا الدَّم كان يَحتوِي مرَضِ الإيدْز. فتَمَّ رفْع دعوى على إدارة المُستشفي باعتبارها المسؤولة عن استيراد هذا الدم الملوَّث من الخارج، والذي أدَّى إلى وفاة اثنين من أفراد العائلة. فدافعَتْ إدارة المستشفي بعدم مسؤوليتها، باعتبار أن الحادث كان من عام 1982، وأنه لم يكن في ذلك الوقت، يُعرف أن في الدم مرضًا يُسمَّى الإيدْز. و بالأصحِّ لمْ تكُن هناك اكتشافات طبِّية، لفحْصِ الدَّم لبيانِ احْتِوَائه على مَرَض الإيدْز.
والسؤال المطْروح: ما مسئولية المستشفي عن التعويض؟ في ضَوء قواعد المباشَرة والتسبُّب في الفقه الإسلامي، مع العِلم أن الطَّبيب مسئوليته تَقُوم على الخطأ، ولا خَطَأَ هُنا على الطبيب المُعالِج، إذ إنه يُمْكن اعتبارُه آلةً لنقْل الدَّم إلى المَرِيض.
وإذا اعتبرنا فِعْل المستشفى من قَبِيل التَّسبُّب، فالمُتسبِّب يُشْترط له التَّعدي. فهلْ من الممكن إلحاق فعل المستشفى باستيراد دمٍ ملوَّث، بأحْوال المباشَرة واعتبار فِعْل الطبيب المُباشَرَة مُجرَّد آلة؟
وذلك قياسًا على ما جاء في مَجْمَع الضَّمَانَات ص / 151 / من اعتبار إيقاد نار في يوم عاصِف، أو حفْرٍ ودقٍّ يَنْجمُ عنْه سُقوط جِدار مُجاوِر، ضمْن أحوال المباشَرة، وكما جاء في كتابكم النَّفيس "الفعل الضار" ص 74 س 17
أرجو من فضيلتكم الإجابة بشيء من التفْصيل
ابنكم وتلميذكم
حسن بن أحمد بن علي الحمادي
قاضي محكمة أبو ظبي(7/1)
الأخ الكريم الأستاذ حسن أحمد الحمادي
قاضي محكمة "أبو ظبي" المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تلقَّيْت رسالتَكم بالفاكس تَسألونَنِي فيها رأيي في القَضِيَّة المرفوعة من إحْدى العائلات على إدارة المُستشفى الذي كانت تُعالج فيه، وأعطاها المُستشفى في عملية جراحية دمًا ملوَّثًا بفيروس الإيدز أدى إلى وفاة المريض... إلخ فهل المستشفى والطبيب الذي أعطى الدم الملوث يتحملان أو أحدهما المسئولية بالتعويض؟ مع بعض ملاحظات بيَّنْتموها حول قواعد التَّسبُّب والمباشرة في مسؤولية الخطأ.
هذه صورة جديدة مُحيِّرة من صور المسئولية التقصيرية التي تترتب على الفعل الضار، ليس لها شبيه في الأمثلة التقْليدية التي يذكرها الفقهاء.
وبعد التأمُّل والتفكُّير يترجح لدي ما يلي:
1 – أن الطبيب لا يَتحمَّل مسؤولية؛ لأنه ليس هو الذي يَستورد الدم، وليس من وظيفته فحص الدم المستورد إلى المستشفى للتأكد من سلامته، بل هو كما قُلْتم أشبه بآلة نقل الدم إلى جسم المريض.
2 – إن إدارة المستشفى هي المسؤولة بالتسبُّب وليس المُباشَرة، فهي غير مباشرة قطعًا، وإنما هي مُقصِّرة في عدم التأكُّد من سلامة الدم الذي تستورده، وتُقدِّمه إلى الأطباء الجرَّاحين حين قيامهم بالعلميات المطلوبة منهم، وهذا التقصير تسبُّب وليس مباشرة.
وإذا كان التسبُّب يُشْتَرَطُ فيه التَّعدِّي؛ فإنَّ تَقْديم الدم المُلوَّث عند الحاجة في العمليات يُعتبر تعدِّيًا بلا ريب مع ملاحظة البنْد التالي:(7/2)
3 – لكنَّ القضية التاريخية هنا ذات تأثير، فإذا كان اكتشاف أن الدماء التي تُعطَى في العمليات للمرْضى، ووسائل فحْص الدم للتأكد من سلامته أمرًا لم يكن معروفًا في تاريخ العملية التي يقول المستشفى إنها كانت في عام / 1982، ولم يكن من المعتاد طبِّيًّا أن تَفْحَص المستشفيات الدماء التي تستوردها لتَتأكَّد من سلامتها، فإن إدارة المستشفى عندئذ لا تكون مُقصِّرة، وحينئذ الضرر الذي حَصَل من باب القضاء والقدر ليس أحدٌ مسؤولاً منه.
والمَرْجع في معرفة هذه الناحية التاريخية هو أهل الخبرة من الأطباء المُتَّبِعين للمُكْتَشَفات الجديدة، ولا يَقْتصرون على ممارسة مِهْنتهم، بل يقرؤون المجلات والأخبار الطبية، ويَطَّلعون على المُسْتجدات العلمية والعملية، وما يَتوجَّب على المستشفيات.
هذا ما أراه في هذا الموضوع، وفَّقكم الله إلى السداد والصواب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مصطفى أحمد الزرقا
3 رمضان 1417هـ.
12/1/1997م.(7/3)
تفسير المصادر التي تستنِد عليها بعض المحاكِم في أحكامها
وهل هي على سبيل التّعداد أم التّرتيب؟
سيادة الأستاذ الفاضل مصطفى أحمد الزرقا المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
نصَّتْ إحدى مواد القانون في دبي على أن المحاكم فيها تستنِد في أحكامِها على:
1 - التشريعات الصّادِرة في إمارة دبي.
2 - أحكام الشّريعة الإسلاميّة.
3 - العُرف والعادة إذا لم تكن مخالفةً للقوانين والنظام والآداب العامة.
4 - مبادئ العدالة الطبيعية والحق والإنصاف.
فهل يعني هذا النصّ أن المحاكم تستند في أحكامها على التشريعات الصّادرة في إمارة دبي، فإن لم تجد نَصًّا قانونيًّا في التشريعات تبحث عن الحكم الشرعي وتستند إليه، فإن لم تجد نَصًّا في الشريعة الإسلامية تستنِد في حكمها إلى العرف والعادة، فإن لم يكن هناك عُرف تستنِد في حكمها إلى مبادئ العدالة الطبيعيّة والحقّ والإنصاف؟
أم أنّ هذا النصّ يعني أن المحاكِم تستند في أحكامها على النّصِّ أو الحلّ الذي تراه ملائمًا في أي مرجع من المراجع الأربعة دون تقيُّد بالترتيب؟ بمعنى أن المحاكم في دبي هل تستطيع أن تستند في حكمها بدعوى ما على مبادئ العدالة الطبيعية أو على العرف، رغم وجود نصٍّ تشريعي يُعالج موضوع الدعوى، أو رغم وجود نص عليه في أحكام الشريعة الإسلاميّة؟
وبعبارة أخرى: هل نَصُّ هذه المادة يقيِّد المحاكم بالترتيب الوارد في النّص أم أنه لا يقيِّد المحاكمَ بالترتيب، وهل النَّصُّ بهذا الشكل هو على سبيل التعداد أم على سبيل التّرتيب؟
أرجو التفضُّل ببيان رأيكم السّديد، ولكم من الله الأجر، ومني جزيل الشكر، والله يحفظكم.
الكويت
2/6/1971
المحامى
أحمد سلطان
وأجاب الأستاذ الزرقا ـ حفظه الله ـ على هذا السؤال:
الأخ الكريم المحامي الأستاذ أحمد سلطان المحترم
السلام عليكم ورحمة الله(8/1)
تلقَّيت سؤالكم حول ما نصَّ عليه القانون في دبي أن المحاكم فيها تستند على (1) التشريعات المحليّة (2) أحكام الشريعة الإسلامية (3) العُرف والعادة.. (4) مبادئ العدالة … هل يعني هذا النصّ الترتيب بين هذه المصادِر الأربعة، أو للقاضي الحريّة في الاستناد إلى أي من هذه المصادِر بلا تقيُّد بترتيبها؟
وجوابًا على ذلك أقول وبالله التوفيق:
إن الترتيب بين هذه المصادر الأربعة في استناد القَضاء إليها هو الفَهم الواجب الاعتبار قطعًا دون تردُّد، وإن لم يَرِد في النصِّ تصريح بهذا الترتيب بينها، وذلك للمُلاحظات التالية:
أ ـ إن هذا الترتيب هو المُعتاد في القوانين التي تنصُّ على هذه المصادر كالقانون المدني السوري، والقانون المدني المصريّ الجديد، (المادة الأولى منهما) حيث تصرِّح بهذا الترتيب فتُفيد أنه: إذا لم يجِد القاضي نَصًّا في القانون يحكم بما يجده في فقه الشريعة، فإن لم يجد فبالعرف فإن لم يجد عُرفًا في المسألة فبمبادئ العدالة…
هذا هو الترتيب المرعيِّ في هذه القوانين بنصِّها الصريح، حتى أصبح هذا الترتيب معروفًا ومألوفًا، بحيث إن عدم النّصِّ عليه صراحة في قانون ما إنَّما يُفهم منه أنه لم يصرِّح بالترتيب؛ لا لأن واضِع القانون لا يقصده، بل لأنّه مفهوم معلوم، فاكتفى بالتّرقيم المتسلسِل عن التّصريح بالترتيب.(8/2)
ولا يُقال في هذا المقام إنّ مجرّد العطف بالواو في اللغة العربية لا يقتضي الترتيب، فإن هذا حيث لا تقوم قَرينة تدلُّ على قصد الترتيب بين المَعطوفات، وإن القَرينة هنا قائمة بما ذكرنا من المألوف المُعتاد في نصوص القَوانين، وكلُّها تصرِّح بهذا الترتيب ممّا يرجِّح أن عدم النصِّ الصريح عليه كان اعتمادًا على أنّه مفهوم ملحوظ، حيث أحلَّ الترْقيم المتسلسِل محلَّ واو العطف، ولا شك أن الفرق واضح بين العطف بالواو وبين ذكر المصادر بالرّقم المتسلسل على أنّه لو كان العطف بالواو لكان المألوف المُعتاد في القوانين الأخرى بهذا الشأن قرينة كافية أيضًا على أن الترتيب هو المقصود وأنّه لم يصرَّح به اعتمادًا على أنه مفهوم ملحوظ.
ولا يقال: إنّ عدم التصريح بالترتيب دليل على قصد مخالَفة المألوف في القوانين المماثِلة التي تنصُّ على الترتيب، لا يُقال هذا، لأن هذه الحُجة تُدحَض بعكسٍ أقوى منها، وهو أنه: لو كان القصد إهمالَ الترتيب المُعتاد في القوانين المماثِلة لوجب التصريح بعدم اعتبار الترتيب بين هذه المصادِر ما دام الترتيبُ هو المألوفَ، فلو قصدت مخالفته لصرح بها واضع القانون.(8/3)
ب ـ هذا كله إذا نظرنا إلى المألوف والقرائن، ودلالة الترقيم، لكنَّ هناك دليلًا منطقِيًّا عقليًّا أقطعَ من ذلك كلِّه، وهو أنّ من بَدَهِيّات علم القانون أنّ نصَّ القانون المحلي النافذ مقدَّم في وجوب تطبيقِه على كل مصدَر آخر غير مُقنَّن. وقد جاءت في النَّصِّ المسؤول عنه (التشريعات الصادرة في إمارة دبي) أول المصادر الأربعة ذكرًا، فإذا لم يكن اعتبار الترتيب مقصودًا لَزِم منه أن يكون للقاضي حق الاستناد إلى ما يرى ويقدّر أنّه من المصدر الرابع مثلًا، وهو (مبادئ العدالة الطبيعيّة والحق والإنصاف) ولو كان التشريع المحلِّي الصادِر في الإمارة نفسِها ينصُّ صراحة على خِلافه!! أي: أن يترك القاضي القانون المحلِّيَّ النافذ فيضرب به عُرْضَ الحائط، ويلجأ إلى ما يرى بتقديره الخاصِّ أنّه من مُقتضَى مبادئ العدالة، أي: أن القاضيَ عندئذٍ يكون له حق تعطيل القانون بحجة مخالفته لما يرى أنه مقتضى العدالة والإنصاف، وهذا ما لا يُقبَل في منطِق تشريعيّ، وإلا لم يكنْ للقانون قيمة، بل يُصبح القاضي هو المشرِّعَ وهو الحاكم، وهذا لا يوجد له مَثيل في عالم القانون!!.
نعم إن هناك بِلادًا يَجعَل دستورُها للقضاء حقَّ رقابة على دستورية القوانين، ولكن هذا الأسلوب يكون في بلاد ذات دستور يعطي القاضي هذا الحقَّ، ليحتكِم والمشرِّع إلى نصوص دستوريّة محدَّدة تلزمهما معًا، أما أن يكون للقاضي نبذُ القانون النافذِ، والقضاءُ بخلافه عمدًا وصراحة بحُجّة أن ما يذهب إليه هو مقتضَى مبادئ العدالة والحقّ والإنصاف (كما يستلزم فَهم عدم الترتيب من النص المسؤول عنه) فهذا ما نعني أنه لا نَظيرَ له في عالم القانون، والله سبحانه أعلم.
الكويت 21/4/1391هـ.
14/6/1971م
مصطفى أحمد الزرقا(8/4)
تَرْقيع الأحْياء بأعضاء الأموات(1)
تَقدَّم أمين سرّ جماعة الفكر الإسلامي بجامعة الخرطوم بسؤال لفضيلة الأستاذ مصطفى أحمد الزرقا حول مسألة ترْقيع الأحياء بأعضاء الأموات من الناس، وهل تجوز شرعًا، وقد تَفضَّل فضيلته بالجواب التالي:
إن هذا الموضوع قد كثُر عنه السؤال في العصر الحاضر، وخاصة من أطباء العُيون الجرَّاحين، بعد أن وصل الطب اليوم إلى إمكان ترْقيع عيون الأحياء بعيون من يموتون حديثًا إذا أُخِذَت عين الميت إِثْرَ الوفاة فورًا، فقد أصبح من الممكن بذلك أن يَرْتدَّ الأعمى بصيرًا في بعض حالات العَمَى، كما كثُر السُّؤال في هذا الموضوع نفسه حول إنشاء مصرف للعيون على نحو مصارف الدم؛ لتُحْفظ فيه عيون الموتى بصورة فنية، تَصُون خصائصها الحيَويّة، حتَّى إذا احْتِيج إليها تَكون موْجودة جاهزة لترْقيع عين المكفوفين بها، كما تُحفظ اليوم الدماء في مصارف الدم مُصنَّفةً فيها تلك الدماء المحفوظة، بحسَب الزُّمَر الدَّموية الأربع المعروفة؛ ليُؤخَذ الدم جاهزًا معروف النوع عند الحاجة إلى الإسعاف السريع للمرضى أو المنزوفين؛ إنقاذًا لحياتهم.
وقد كان فقهاء العصر بين متردِّد ومانع في جواز الاستفادة من عيون الموتى لهذه الغاية، وكلٌّ منهم يَنْظر إلى الموضوع من زاوية شرعيَّة مُعيَّنة:
فمنهم مَن ينظر من الناحية الإنسانية في الإسلام، ونصوصها العامة المعروفة في الكتاب والسنة، فيترجَّح لديه الجواز شرعًا. ومنهم مَن ينظر إلى أن هذا انتفاع بجزء من ميِّت، فيترجَّح لديه المنْع. ومنهم مَن يرى أنه قد يجوز هذا بين المسلمين، ولكنْ لا يجوز أن يؤخَذ عضوٌ من مسلم مُتوفًّى لترْقيع جسمِ غير المسلم.
وقد صدر أخيرًا في موضوع ترْقيع العيون فتوى من المفتي العام السابق في الجمهورية العربية السورية، الأستاذ الطبيب الشيخ محمد أبي اليسر عابدين بجواز ذلك.(9/1)
والذي أرى أن قاعدة الضرورات في الشريعة الإسلامية تقتضي الجواز في جميع أنواع هذا التَّرْقيع؛ ذلك لأن ترقيع العين لإعادة البصر (وهي محل التردد والاشتباه) يُمكن قياسُه على الحَاجَة إلى استنقاذ الحياة بدفْع الهلاك، أو إلى منْع إِتلاف العُضْو عندما يتوقَّف ذلك على تناول بعض المُحرَّمات، حيث يُصرِّح الفقهاء أنه يجب تناوله لدفع الهلاك، فهنا لو قيل أيضًا بجواز أخْذ العَين مثلاً من الميِّت لإحياء حاسة البصر؛ لكان ذلك مقْبولاً شرعًا.
وإذا كان يَجوز، بل يجب وُجوبًا تشْريح الميِّت لتعلُّم الطِّب، أو لكشْف جريمة، ويجوز كشفُ عوْرة الرَّجُل والمرأة لأجْل ضرورة التطْبيب ودفْع الأذى، مع أنَّ كلَّ ذلك من المُحرَّمات القطْعيَّة في الأصل، فأُبيحَت أو وَجَبتْ بحسَب درجة الضرورة إليها، بمُقْتضى أن الضَّرورات تُبيح المحْظورات، وهي قاعدة نصَّ عليها القرآن نصًّا قطعيًّا، أفلا تكون الاستفادة من عيون الموتى لاستعادة بَصَر شخْص أعمى هي أوْلى بالجواز؟
ومما يُلْحظ في هذا الصدد: أنه لم يَتردَّد أحدٌ مِن فقهاء العصر في جواز نقل الدم من جسم إلى جسم آخر شرعًا عند الحاجة إلى الإسعاف، كما لم يَتردَّد أحدٌ في جواز تَرْقيع الجِلْد بالجلد، فما الفرق بين ذلك وبين ترْقيع العَيْن، مع العلم أن الدم عضوٌ من جُملة أعضاء البدَن في نظر الطب كالعُيون والجِلْد، ومع العلم أيضًا أن النظر الشرعي يُعتبر العضو بعد انفصاله من الحي كجزءٍ من ميِّت؟ ولذا يَنصُّ الفقهاء على أنه لو قُطِعَ عُضو من شاة وهي حيَّة، كان جزءًا من الميتة لا يَحل أكْله، إلا من السَّمك؛ فإن النص قد ورد بأن مَيْتَتَهُ حلال، فلم يُوجبِ الشرع ذبْحَه لأجل حِلِّه.(9/2)
فالذي يظهر أن الذي يُقال شرْعًا في حكْم نقْل الدم والترْقيع بالجِلْد، يُقال في شأن الترقيع بالعين. وكون الدم والجلد يُؤخَذان من حَيٍّ، والعين تؤخذ مِن ميِّت لا تأْثير له في الحكم؛ لأن حُرمة الحي أعظم من حرمة الميِّت، ولأن العضو بانفصاله من الحَي يُعتبر شرعًا كالمُنْفصل من ميِّت كما بيَّنَّا.
علَى أنَّ الجواز يَنبغي أن يُقيَّد بإذن الشخص نفسه في حياته، أو إذن أوليائه بعد وفاته، إن لم يَكُن هو قد نَهَى قبل وفاته عن أخْذ عُيونه، وبشرط أن يكون ذلك تبرُّعًا إنسانيًّا ليس لِقَاء عِوَض؛ لأن دُخول العِوَض في هذا الموضوع له محاذير، فيَتَنافى مع القواعد الشرعية في الموضوع.
وقد صدَر منذ سنواتٍ قانونٌ في سورية جَوَّز أخْذ عُيون الموتى للترْقيع بها بشرط الإذن من أولياء الميِّت، أو بوصية أو إذن من الميت قبْل وفاته، ولكنَّه لم يتعرَّض لأمر العِوَض لأنه لم يكن مَحَلَّ تفكير أو تساؤل.
هذا ما أرى في هذا الموضوع، والله سبحانه وتعالى أعلم(2).
هامش
(1) مجلَّة المسلمون، المجلد التاسع، العدد الثالث، ثم نُشر أيضًا في مجلة حضارة الإسلام، العدد الأول، السنة السادسة 1385هـ / 1965م.
(2) يُنظر قَرار مجْمع الفقه الإسلامي بشأنِ انْتفاع الإنسان بأعضاء جسمٍ آخر حيًّا كان أو ميِّتًا قرار رقم: 26(1/4).(9/3)
حكم استخدام السِّجاد المصنوع من الحرير والأواني
الفضية والذَّهبيّة للزِّينة
فضيلة الشيخ مصطفى ـ حفظه الله تعالى ـ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
1 - هل يجوز استخدامُ واستعمال السِّجاد الحرير في الأرض أو على الجُدران.
2 - هل يجوز وضع الأواني الفِضية في البُيوت كتُحَفٍ وليس للاستعمال عِلمًا أنها مَصوغة من الفِضّة الخالِصة.
3 - هل يجوز استخدام الأواني المَطليّة بالذهب على طريقة الطِّلاء الكهربائيّ وهي طريقة لا يمكن معها استرجاع الذَّهب لأنه طِلاء لون يتمُّ تثبيتُه بالكهرباء.
أفتونا جزاكم الله خيرًا
خادمكم وليد الزعيم
15/1/1998م
الجواب:
1 - ليس استخدامُ السِّجاد الحرير في الأرض أو على الجُدران حرامًا لأن المحرّم في الحرير على الرِّجال هو لُبسه، ولكنه يدخل في الإسراف فيكون مكروهًا للإسراف ومُحاكاة المتكبِّرين إذا كان الحرير أَصليًا.
2 - وضع الأواني الفضِّيّة في البيوت للزّينة كتحَف هو استعمال لها؛ لأنّها هكذا تُستعمل، فيكون مُحرّمًا.
3 - كما قلنا في الجواب الأول ليس حَرامًا، ولكنه مكروه لأنه إسراف ومُحاكاة للمتكبِّرين المُترفين، ويُوهِم الناظرَ أنّها ذَهبٌ خالِص.
والله أعلم
الرياض 19 رمضان / 1418هـ.(10/1)
حكم استخدام المُوسيقا لبعض المقاصِد
في وسائل الإعلام
هل يجوز في الأوضاع الإسلاميّة استخدام المُوسيقا بآلاتها وأصواتها المُناسبة لبعض المقاصد والتنبيهات في وسائل الإعلام الصوتية كالإذاعة دون غِناء، ولا قصد لهوٍ أو طربٍ، أو هي ممنوعة شرعًا بكل أدواتها وكل حال؟
وقد كتب الأستاذ مصطفى أحمد الزرقا الجواب التالي:
ثبت في السنة النبوية الشّريفة ما يُفيد النهي عن المَزامير ونحوها من الآلات الموسيقيّة التي يتلهى بها ويُستطرَب(4)، وثبت أيضًا في السّيرة النبوية أن الرّسول ـ صلّى الله عليه وسلم ـ لما قدم المدينة خرج إليه الناس يستقبلونه مستبشرين، وخرج الوَلائِد والصِّبْيان، وصعدت ذوات الخُدور من النِّساء، وهم يُنشدون:
طَلَعَ البَدْرُ عَلَيْنا منْ ثَنِيّاتِ الوَدَاع
وَجَبَ الشُّكرُ عَلَيْنَا ما دَعا للهِ داع(5)
وثبت أيضًا أن الرّسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمرَ بإعلان النِّكاح، وأن يُضرَب للعُرس بالدُّفوف لإشاعتِه(6)
وجاء في كتاب "الدر المختار في شرح تنوير الأبصار" من كتب الحنفية ـ بعد ذكره المَلاهي المحظورة من الأغاني، وأصوات آلاتِ الطَّرَب كضَرْبِ القَصب (الناي) ونحوه ـ ما نصُّه:
فائدة: ومن ذلك ـ أي: من المَحظورات ـ ضَرب النّوبة للتفاخُر، فلو للتَّنبيه فلا بأسَ به" (ينظر باب الحظر والإباحة من "الدر المختار" آخر الفصل الأول منه قبل فصل اللُّبس).
وقال العلامة ابن عابدين ـ رحمِه الله ـ في "حاشيته" على "رد المختار" ما نصه:
"أقول: وهذا يُفيد أن آلة اللَّهو ليستْ مُحرَّمة لذاتِها، بل لقَصد اللّهو، إما من سامِعها، أو من المشتغِل بها، وبه تُشعر الإضافةُ ـ أي: إضافة لفظ (الآلة) إلى لفظ (اللّهو)، ألا ترى أن ضرب تلك الآلةِ بعينها قد حلَّ تارةً، وحَرُم أخرى باختلاف النِّيّة بسماعِها، وأن الأمور بمقاصدها".(11/1)
ثم نقل ابن عابدين في هذا المقام عن صاحب "الدر المختار" نفسه في شرحه على كتاب: "(ملتقَى الأبحر) ما نصُّه:
"وينبغي أن يكونَ بُوق الحمّام يجوز كضربة النّوبة ـ أي : للتّنبيه لا للّهو ـ وعن الحسن: لا بأسَ بالدُّفِّ في العُرس ليشتهِرَ … ".
وقال ابن عابدين تعليقًا على ذلك:
"وينبغي أن يكون طبل المُسحِّر في رمضان لإيقاظِ النّائِمين للسّحور كبوق الحمّام".
والمُرادُ ببوق الحَمّام: البوق الذي يَضرِبه صاحِب الحمّام عند حلول الظَّلام لتنبيه الذين في داخل الحمّام بحلول اللّيل؛ لكي يُعجِّلوا بالخروج.
هذا، وإن العلامة الشيخ عبد الغني النابلسي، وهو فقيه الصُّوفية، وصوفي الفُقهاء، رحمه الله قد أوضح في كتابه: "إيضاح الدَّلالات في سماع الآلات" أن استعمالَ الآلات الموسيقية وسماعَها تَعتريه الأحكام المُختلِفة بحسَب الأحوال.
ـ فيحرُم إذا كان لاستثارة الشّهوات، أو للتلهِّي وإضاعة الوقت وترك الواجبات.
ـ ويُباح لإراحة النّفس من المَتاعب بعض الوقت لاستعادة النشاط، وقد استدلّ على ذلك بالأدلةِ الشرعيّة الوافية.
وقد كانت الطُّبول تُستعمل في الحروب الإسلاميّة لتنبيهِ الجُنود، وإعلامِهم ببعض الأوقات أو التحرُّكات، للحاجة إلى ذلك. وهذه مقاصِدُ حسنةٌ وحاجات.
فاستعمال شيء من ذلك في إذاعة إعلاميّة لا تشتَمل على منكَرات، وذلك بقَصد التّنبيه إلى الفواصِل والانتقالات بين البَرامج المُباحةـ لا بأسَ به، والله سبحانه وتعالى أعلم.
هامش
(4) من أصحِّها ما أخرجه البخاري في صحيحه (5590) عن أبي مالك الأشعري ـ رضي الله عنه ـ سمِع النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "ليكونَنَّ من أمَّتِي أقوام يستحِلون الحِرّ والحريرَ والخمرَ والمعازِف…) والحديث صحيح متّصل على شرط البخاري كما بينه الحافظ ابن حجر في تغليق التعليق: 5/17-19، والفتح 10/52-53 (مجد)(11/2)
(5) رواه البيهقي في "الدلائل" وأبو الحسن بن المقري في كتاب "الشمائل" له عن ابن عائشة: وقيل: إن هذا النّشيد كان عند مَقْدِمِه المَدينةَ في غزوة تَبُوك. وإلى هذا القول مال ابن القيِّم في "زاد المعاد" 3 : 551 وأيده الحافظ أبو زرعة العراقي في "طرح التثريب" : 7/229 وقال الزرقاني في "شرح المواهب" 3 : 82: "لا مانِعَ من تعدُّد وقوع هذا الشِّعر عند الهجرة، ومرة عند قُدومه من تبوك، فلا يُحكم بغلط ابن عائشة لأنه ثِقة. وانظر مسالك العلماء في وقت إنشاد ذلك النشيد العظيم في رسالة: "نشيد الفرح بمَقدِم النبي ـ صلى الله عليه وسلم " للشيخ إسماعيل الأنصاري رحمه الله تعالى(مجد).
(6) عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "أعلِنوا هذا النِّكاح واجعلوه في المَساجِد واضربوا عليه بالدُّفوف" أخرجه الترمذي في كتاب النكاح (1089) وقال: حديث غريب حسن في هذا الباب، وعيسى بن ميمون يُضعَّف في الحديث". وممّن حسّن حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ السخاوي في "المقاصد الحسنة" ص 66. والحديث يتقوَّى ويعتضد بشواهد أخرى، منها ما أخرجه الترمذي (1088)، والنسائي (3369)، وابن ماجه (1896) من حديث محمد بن حاطب الجمحي مرفوعًا بلفظ "فصل ما بين الحرام والحلال" الدّفّ والصوت" (مجد).(11/3)
حكم استعمال الدُّفِّ في الأناشيد
فضيلة الشيخ مصطفى الزرقا ـ حفظه المولى آمين ـ السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
نسأله تعالى أن يمدَّكم بالصحة والعافية، وأن يُطيل في عمركم، وأن ينفع بكم آمين.
سيدي الشيخ الفاضل:
ما رأي فضيلتكم في استخدام الدُّفِّ في الأناشيد عمومًا، ما كان منها مستخدَمًا للنِّساء أو للرِّجال، سواء كان ذلك مسجَّلًا في شريط كاسيت أو شريط فيديو أو شهودًا في وقته.
علمًا بأنَّ معانيَ تلك القصائد (الأناشيد) هي ممّا يدعو إليه الدِّين، وتندُب إليه الفضيلة.
راجين أن تكون إجابتكم كما علمناها شافية وافية.
تقبَّل الله جهدكم وشكر لكم وجزاكم الله خيرًا.
ابنكم محمد سداد بن الشيخ جميل العقاد.
25/6/1418هـ.
الجواب:
ابن الأخ الكريم السيد محمد سداد العقاد المحترَم حفظه المولى تعالى:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد تلقيت سؤالَك عن استخدام الدُّفِّ في الأناشيد الدينيّة المُباحة، وإليك جوابي:
أحسن ما بيّنه الفُقهاء في هذا الموضوع هو رسالة الشيخ عبد الغني النابلسيّ الحنفي رحمِه الله المسمّاة : "إيضاح الدّلالات في سماع الآلاتِ" وفيها يُفَصّل الحكم في الآلات بوجه عام، الدُّفّ وغيره؛ لأن الدُّفّ لا خصوصيّة له فهو من جُملة الآلاتِ ذات الأصوات المُطربة. وإذا كان قد ورد ذكر الدُّفِّ في بعض الأحاديث النبويّة، فلأنه كان إذ ذاك هو الآلة الموسيقيّة المُستعمَلة، ولا يوجِب ذلك تمييزَه عن غيره في الحكم.
والذي استقرَّ عليه رأي الشيخ العلامة عبد الغني النابلسي في رسالته المذكورة أن سَماع الآلات الموسيقيّة بوجهٍ عامٍّ إذا كان غيرَ مصحوب بمنكَرات ولا غِناء مُثير للغرائز، بل يقصد السامِع إجمامَ نفسه من المَتاعب وإراحة أعْصابه المرهَقة دون مداومةٍ عليه تُلهيه عن واجباتِه من أعمال وعِبادة فلا بأسَ به.(12/1)
واتَّفقوا على إباحة الدُّفِّ ونحوه من الآلات القَرْعيّة في الأعراس والأعياد، ووردت في ذلك بعض الأحاديث الصحيحة الثُّبوت(7).
ويبدو لي أن مثلَ ذلك يقال في مناسبات الاحتفالات التي تُقام في بعض الذِّكريات أو الأفراح، وتنشد فيها الأناشيد والمدائح النبوية دون حضور شيء من المنكَرات فهو مُباح أيضًا. والله أعلم.
(تنظر الموسوعة الفقهية الكويتية مادة (استماع : الاستماع لضرب الدف ج 4 /95)، وشجرة المعارف والأحوال للشيخ العلامة العز بن عبد السلام، فصل: في الغِناء والدُّفِّ وسماع ذلك ص 375).
والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مصطفى أحمد الزرقا
هامش
(7) بل قد يُقال هنا: إن الأحاديث الواردة في ذلك تُفيد الاستحباب، لا مجرّد الإباحة. والحقّ أنه لا يوجَد نَصٌّ صحيح الثبوت، صريح الدلالة، يُفيد التحريم. والأصل في الطَّيِّبات الإباحةُ. راجع: "نيل الأوطار" وغيره في هذا الباب، وفصل (اللهو والفنون) من كتابي "ملامح المجتمع الإسلامي الذي نُنشده" (القرضاوي).(12/2)
حكم تهنئةِ النّصارى بعيد الميلاد وطباعة بِطاقات
التهنئةِ بأعياد المِيلاد والتِّجارة بها
فضيلة الشيخ مصطفى الزرقا السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
يُرجَى بيان الحكم الشرعي في الأمور التالية:
1 - تهنئة النّصارَى بعيدِ المِيلاد وعيد رأس السّنة الميلاديّة.
2 - طِباعة بطاقات التّهنئة الخاصّة بأعياد المِيلاد ورأس السّنة وعيد الميلاد الشّخصِيّ.
3 - تجارة بيع بطاقات التهنئة المذكورة سابقًا.
جزاكم الله عنا الخير الجزيل
أنس محمد الصباغ
الرياض في 20/6/1417هـ
الجواب:
ابن الأخ الكريم أنس الصباغ:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
جوابًا على أسئلتكم عن تهنئةِ النّصارَى بعيد الميلاد... إلخ
إنّ تهنئةَ الشّخص المُسلِم لمعارِفه النّصارَى بعيدِ ميلاد المَسيح ـ عليه الصّلاة والسلام ـ هي في نظري من قَبيل المُجاملة لهم والمحاسَنة في معاشرتهم. وإن الإسلام لا ينهانا عن مثل هذه المجاملة أو المحاسَنة لهم، ولا سيّما أنّ السيد المَسيح هو في عقيدتنا الإسلاميّة من رسل الله العِظام أولي العزم، فهو مُعظَّم عندنا أيضًا، لكنهم يُغالُون فيه فيعتقدونَه إلهًا، تعالى الله عما يقولون عُلُوًّا كبيرًا.
ومن يتوهَّم أنّ هذه المُعايَدةَ لهم في يوم ميلاده ـ عليه السلام ـ حَرام؛ لأنّها ذات عَلاقة بعقيدتِهم في ألوهيّته فهو مُخطئ، فليس في هذه المجامَلة أي صِلة بتفاصيلِ عقيدتِهم فيه وغُلُوِّهم فيها.
وقد نُقل أن نبيَّنا محمّدًا ـ صلّى الله عليه وسلم ـ مرّت به وهو بين أصحابه جنازة يهوديّ فقامَ لها(9) فهذا القيامُ قد كان تعبيرًا عمّا للموت من هيبة وجلال، ولا عَلاقة له بعقيدة صاحب الجنازة.
والمسلِم مطلوب منه أن يُظهِرَ محاسِنَ الإسلامِ واعتدالَه لغير المسلمين، ولا يُجبِرهم إذا كانوا من رعاياه وأهل ذِمّته على اعتناق الإسلام، بل يتسامَح معهم ويترُكهم على ما يُدينون به.(13/1)
أضفْ إلى ذلك حال المسلمين اليوم من الضَّعف بين دول العالم، وتآمُر الدول الكبرى عليهم واتِّهامِهم بأنّهم إرهابيّون ومتعصِّبون لا يُطْمَأن إليهم إلى آخر المعزوفة..وحاجة المُسلمين اليوم إلى تغيير الصورة القاتمة عنهم التي يصوِّرهم بها العالَم الأجنبيّ.
ولا سيِّما أن المسلمَ قد يأتيه في عيده (الفطر والأضحى) معارِفُ له من النّصارى يُهنِّئونه فيه. فإذا لم يَرد لهم الزيارة في عيد الميلاد، كان ذلك مؤيِّدًا لِما يتَّهَم به المسلمون من الجَفوة، وعدم استعدادهم للائتلاف مع غيرهم، والمُحاسَنة في التّعامُل.
وما يقال عن التهنئة بعيد الميلاد يقال عن رأس السنة المِيلادية بطريق الأولويّة، لأن رأس السنة الميلاديّة لا صلة لها بالعقيدةِ، وإنّما هو مجرّد بداية التاريخ.
وقد كان الصّحابة الكرام حين جمعهم سيدنا عمر ـ رضي الله عنه ـ للمذاكَرة في تعيِين حَدَث يكون مبدأً لحِساب السِّنين (التاريخ) طَرحوا فيما طَرحوا من آراء أن يُعتَمَدَ تاريخ الرومِ، أو تاريخ اليهودِ، فلو كان هذا حرامًا لما عَرَضوه.
وإذا عرَفنا الرأي الشرعي في التهنئة يُعرَف حكم طباعة البِطاقات والمُتاجَرة بها؛ لأن ما كان من وسائل المُباح فهو مباح.
لكن هنا نقطة توقُّف مُهِمٍّ يجب الانتباه إليها.
فإذا كانت تهنئة المسلِم للنّصارى في ذلك مُباحة فيما يظهر لأنّها من قبيل المجاملة والمحاسَنة في التّعامُل، فإن الاحتفال برأس السنة الميلاديّة وما يجري فيه من منكَرات هو أمر آخر فيه تقليد واتباع من المسلمين لغيرِهم في عادات وابتهاج ومنكَرات يجعلُها من قَبيل الحَرام.
هذا ما يبدو لي، والله سبحانه أعلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مصطفى أحمد الزرقا
22/6/1417هـ.
3/11/1996م.
هامش(13/2)
(9) روى البخاري (1311) في الجنائز، باب من قام لجنازة يهودي، ومسلم (960) في الجنائز، وأبو داود (3174) في الجنائز والنسائي (1922) في الجنائز عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ قال: مرَّتْ جنازة، فقام رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقمنا معه، فقلنا: يا رسول الله، إنها يهوديّة، فقال: "إن للموتِ فَزَعًا، فإذا رأيتم الجنازة فقُوموا".
وروى البخاري (1312) ومسلم (961) والنسائي (1921) عن عبد الرحمن بن أبي ليلي ـ رحمه الله ـ قال: كان سَهل بن حُنيف، وقيس بن سعد قاعدين بالقادسيّة، فمُرَّ عليهما بجنازة، فقاما. فقيل لهما: إنّها من أهل الأرض، أي من أهل الذِّمّة ـ فقالا: إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مرّت به جنازة فقام، فقيل له: إنّها جنازة يهوديّة، فقال: "أليستْ نَفسًا"؟.
وانظر ما قاله الحافظ في "الفتح" 3: 181 حول القيام للجنازة وعدمه وحكمه.(13/3)
حكم ثَقْبِ الأذُن(8)
السؤال: ما حُكم ثقب الأذُن من أجل وضع الحُلِيِّ عليه، وما الفرق بينه وبين ثقب أرنبةِ الأنفِ والوشم من حيث إحداث الألم وتَغيير خلقِ الله، وهذان الأخيران محرَّمان؟
فخري أحمد : ثانوية التاج للبنات ـ عمان ـ الأردن
الجواب:
نصَّ الفقهاءُ الحنفيّة على جواز ثَقب أذن البنتِ لوضع القُرْط ونحوه للزِّينة، كما نصُّوا على جواز خَزْمها في الأنف حيث يكونُ ذلك زينةً متعارَفةً للنِّساء، ولا يجوز شيء من ذلك للصِّبْيان؛ لأن الشريعة أباحت التحلِّيَ والتَّزَيُّنَ للنِّساء دون الرِّجال، ولا يجوز تعويد الأطفال على خِلاف ما هم يُهَيَّؤُون له في الكِبَر، فيجب تعويد الصِّبيان على الرُّجولية، وتعويد البنات على أخلاق النِّساء، ويُحظَر العكس، أما الوَشم فمحظور حتى للنِّساء لأن النبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ نَهَى عنه ولعنَ الواشمةَ والمُستوشِمة، وليست العلّة في هذا النَّهْيِ هي الألمَ حتى يُقاس عليه ثقبُ الأذُن، كما أن تَغيير الخِلقة الطّبيعيّة كما يبدو في الوشم لا يُوجد نظيره في ثقب الأذُن أو الخَزْم؛ لأن هذا الثّقبَ هو مجرَّدُ إحداث مَركَز لتعليق قِطعة الحُليّ المُباحة، والله سبحانه أعلم.
هامش
(8) مجلة الوعي الإسلامي الكويتية، السنة السادسة، 1390هـ = 1970م، العدد(62).(14/1)
حكم ممارسة مهنة المحاماة.
والتأليف في شرح القوانين الوضعية
صاحب الفضيلة، الفقيه الأفيق المحقق، العلامة مصطفى أحمد الزرقا
حفظه الله تعالى.
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
ثقة في علمكم، وسديد رأيكم، نستسمِحُ فضيلتكم بعرض الأسئلة الآتية:
السؤال الأول: ما حكم ممارَسة مِهنة المحاماة بوجه عام، وعلى الأخصِّ في ضوء المفترَضات الآتية.
كون القوانين التي يُتقاضَى بها في ظِلّ أحكام مؤصّلة على الشريعة الإسلاميّة.
كون هذه القوانين وضعيّةً وتناقض أحكام الشريعة الإسلاميّة.
في هذا الفرض وإذا كان الحكم عدم الجواز، هل يَقتصِر على القضايا التي لا تخالِف القوانينَ المنظِّمة لها أحكام الشريعة الإسلاميّة، كقانون الأحوال الشخصيّة في سورية أو مصر مثلًا؟
وفي حال الجواز هل هو عامّ؟ أم يقتصر على قدر الضرورة؟
وعلى كل حال، ما هو الضابط لتأكُّد المحامي من أحقيّة صاحب الخصومة ـ موكِّله ـ في حقِّه؟ هل يكتفي المحامي بما لديه من مستنَدات، أم يحلِّفه اليمين، أم ماذا؟ وكيف الحلُّ لو تيقَّن المحامي حين قبول الترافع في الدعوى أن موكِّله على حق، وبعد السير فيها في درجات التقاضِي وقبل الفَصل فيها بحكم بات، تبين له أن موكّله يُطالب بما ليس له، أو أنّه يُدافِع عنه رغم كونِه الجانيَ فعلًا، كما في قضايا المُخدّرات مثلًا؟
السؤال الثاني: ما حكم التأليف في شرح القوانين الوضعيّة ـ كالقانون المدنيّ أو الجنائيّ السوريّ أو المصريّ ـ حين يكون ذلك على سبيل التقرير لها وخدمتها بتفصيل أحكامِها؟ وأيضًا ما حكم القيام بتدريسها في كليّات الحقوق؟
الجواب:
الأخ الكريم الأستاذ: أُسيْد محمد أديب الكيلاني المحترم.
الإمارات العربية المتحدة / العين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
جاءتني رسالتك (غير المؤرخّة) إثر خروجي من المستشفى، بعد مُكثي فيه شهرين كاملين إثر عمليّة جراحية لرُكبتي.(15/1)
وعلى كلٍّ إليك جوابي بالاختصار الذي يقتضيه كوني في طور النقاهة:
1) ممارَسة المُحاماة: إن المحاماة وِكالة بالخُصومة بالنّظر الفقهي، وهذه الوكالة جائِزة شرعًا في نظر الفُقهاء، بل لها حالات لا يجوز فيها عزلُ وكيل الخصومة إذا تعلّق بالوكالة حقّ لغير الموكِّل (كما لو أراد المَدين السّفرَ فطلب الدائنُ منعَه ليتمكّن من مخاصَمته قضائيًّا فوكّل عنه بالخُصومة).
والمُحاماة في الأصل هي مِهنة مَن يتخصّص بهذه الوكالات للخصومة، فالأصل فيها الإباحة الشرعيّة.
أما كون واقعها اليوم أن القوانين التي يترافع فيها المحامي فيها مخالَفات للشريعة (وليس كل ما فيها مخالِفًا للشريعة) فهذه القوانين ليست من صنعه، فإثمها على صانِعها، لكنّ عليه ألّا يطلبَ في مرافعته تطبيق الحكم القانوني المخالِف للشّريعة، وألّا يقبل دفاعًا عن موكِّل مُبطِل، وإذا ظهر له أثناء سير الدّعوى أن موكِّله مُبْطِل فعليه أن ينسحِب منه شرعًا، ويَستطيع أن يشترِطَ ذلك على الموكِّل.
إنني مارَست المُحاماة في حلب قُرابة عشر سنوات، ثم تخلَّيت عنها للتدريس؛ لهذا السبب؛ لأن الذي يشترط هذه الشُّروط على مَن يُريد توكيلَه لا يوكِّلُه!!
ولكن الناس اليوم في ظِلّ أصول المحاكمات وتعقيداتها، لا يستغنُون عن توكيل المُحامين الذين أصبحوا في كل البلاد هيئة عالميّة لا يُستغنَى عنها، ولو أوصينا كل مسلم متمسِّك بدينه بترك المُحاماة، لما بَقِيَ في الميدان إلا مَن لا يتورَّعون عن حرام، وفي هذا ضَرر ظاهر.
وينطبق عليها الكلمة المأثورة أنها ضَرر ضروريّ!! في ظِل الوضع الحالي في العالم، ويمكن أن تُبَرَّر بأن القاضيَ يمكن أن يُصدر حكمًا جائِرًا حتّى على الطرف المُبطل، فالمحامي عنه يُريد أن يحولَ ضِدّ ذلك.
(2) حكم التأليف في شرح القوانين الوضعية:(15/2)
القوانين الوضعيّة ليس كل ما فيها مخالِفًا للشريعة الإسلاميّة، وهي في جميع الأحوال علم مستقِلٌّ، وإن معرفة ما فيها من مخالَفات ليست محظورةً شرعًا، هذا إلى جانب ما فيها ممّا ينسجِم مع حكم الشريعة الإسلاميّة، ويُفيد الباحث تنويرًا في الاحتمالات في كل موضوع، ولا سيِّما في أسلوب العرض الذي قد يكون حسنًا ومُفيدًا في طريقة عرض أحكام الشريعة الإسلاميّة وفقهها.
فمعرفة ما عند الغير من أحكام ليس محرَّمًا شرعًا، بل هو داخل في عموم طلب العلوم على أساس أن العلم بالشيء، ولا الجهل به، ولا سيِّما إذا كان القانون المشروح نافذًا في البلد الإسلاميّ، ومطبَّقًا عليهم شاؤوا أم أبَوْا.
وتدريس هذه القوانين في كليّات هو أيضًا نوع من العلم، ولا سيِّما أيضًا إذا كانت هذه القوانين مطبَّقة في البلد الإسلامي شاء أهله أم أبوا، فالعلم ليس بمحظور، وإنَّما الإثم في التطبيق على من يملِك سلطة التغيير ولا يفعل.
لكن يجب على من يشرَح هذه القوانين، أو يدرِّسها أن ينبِّه على مواطن مخالَفتها للشريعة، ويقترح البدائلَ لها وهذا يعني وجوب معرفتِه للأحكام الشرعية: ثم إنّ مَن يتعمّقون في فَهم هذه القوانين إذا رزقهم الله الهداية، هم أقدرُ الناس على اقتراح التبديلات التي تجعلها موافقةً للشريعة، فهم عُدّة المستقبل لهذا الهَدف، وينبغي أن تكون هذه نِيّتَهم.
الرياض 27/ ربيع الأول / 1418هـ.
31 / تموز / 1998م.(15/3)
حكم من لم تبلغْه دعوةُ الإسلام
من أهل الكتاب
فضيلة الشيخ مصطفى ـ حفظه الله تعالى ـ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
ما رأي فضيلتكم بالفتوى القائلة بأن الأوربيِّين والأمريكيِّين من النَّصارى لا يُمكن أن يُعْتبروا في حُكْمِ الكُفّار الأصليِّين المُعاندين الذين ظهرت لهم البيِّنة من أهل الكتاب، لأنهم لم يتبلَّغوا الإسلام، ولا يَعرفون عنه أيَّ شيء غير الاسم وبعض المَعلومات المضلِّلة، وقد صدرت هذه الفتوى عن بعض العلماء الذين زاروا أوروبا أو أمريكا كثيرًا أو تردَّدوا عليهما، وعايَنوا جهل سكّان تلك البلاد بالإسلام.. أفتونا تؤجروا والسلام.
محبكم : وليد الزعيم
الجواب:
ليسوا سواءً: فمنهم مثقَّفون عرَفوا الإسلامَ ودعوتَه إجمالاً فهؤلاء قَطعًا كفّار إذا لم يُسلِموا. ومنهم عوامُّ لم يسمَعوا بالإسلام، أو يسمعون من القُسُس وغيرِهم أنّ المسلمين قوم وَثَنِيِّون يعبدون شخصًا اسمُّه محمّد، ويسمُّونهم محمّديِّين!! ولا شكّ أن المسلمين مقصِّرون في واجب الدعوة وشرح الإسلام لغير المسلِمين، كلٌّ بلغتِه التي يفهَمها، فهؤلاء من الصّعب أن يُحكمَ عليهم بالكفر ما لم يُبلَّغوا الإسلام، فهؤلاء كأهل الفَترة من النّصارى وغيرهم قبل مجيء الإسلام؛ لأنّ الكفر معناه أن الشّخص دُعِيَ وشُرح له ولم يستجِب. هذا ما يبدو لي.
فمن عَلِم أساس دعوة الإسلام إلى التوحيد ككثير من رجال العلم والسّياسة اليوم في العالم الشّرقيّ والغَربيّ اليوم ولم يسلِم فهو كافِر، والله سبحانه أعلم(10)
الهوامش
(10) رأيي ـ والله تعالى أعلم ـ أن جميع مَن لم يؤمِن برسالة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهو كافِر، بالنظر لأحكام الدُّنيا، فلا يجوز في أحكام الآخرة: هل هو ناجٍ عند الله تعالى أو معذَّب؟ هنا يأتي التّقسيم الذي قاله شيخنا حفِظه الله ونفع به.(16/1)
ولي بحث مطوّل عن كفر اليهود والنصارى وأنّه من المعلوم من الدِّين بالضرورة، نشرته صحف قطر منذ أشهر قريبة، وسيُنشر إن شاء الله في الجزء الثالث من كتابي "فتاوى معاصرة" (يوسف القرضاوي).
وقد بُحث هذا الموضوع في ندوة مجلة (لواء الإسلام) العدد (1)، السنة التاسعة سنة 1374ـ 1955. والتي شارك فيها الأساتذة : عبد الوهاب خلاف، ومحمد أبو زهرة، وعبد الوهاب حمودة، ومصطفى زيد، وانتهت نتيجة المناقشة في الندوة إلى أنه: لا يُمكن الجَزم بشأن بلوغ الدعوة لفردٍ بعينِه، وإنّما الذي نستطيع الجزم به أنه لا يوجَد في العالم وفي مختلف شعوب وأفراد لم تبلُغهم الدعوة الإسلاميّة على وجهها، وأن المُسلمين وعلماءَهم مسؤولون أمام الله لأنّهم لم يبلُغوا الدعوة على وجهها، وأن من لم تبلُغهم الدعوة على وجهها أو لا يُمكنهم معرفتُها، لا يُعذَّبون على عدم إسلامِهم، ولا على عدم قيامِهم بفرائضِ الإسلام بصريح الآية (لِأُنْذِرَكُمْ بِه ومَنْ بَلَغَ) (مجد مكي).(16/2)
حكْم التَّداوي بدم الحيوانات(4)
"ورد إلى الأستاذ مصطفى الزرقا السؤال الشرعي التالي، ننشره بنصه مع ذكر نشرة الدواء موضوع السؤال، ثم جواب الأستاذ عليه ".
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: أرجو من حضرتكم إعلامَنا عن هذا الدواء أيَسمح الشارع الشريف بشُرْبه أم لا. وُصِفَ لنا من قِبَل الطبيب، وبعد قراءته وجدْناه دمًا من الحيوانات لا نتجرَّأ على شُربه. سألنا الأستاذ المحترم على الطنطاوي فقال: اسألوا الأستاذ مصطفى الزرقا عنه؛ لأنه أعلم وأعرف مني بهذه الأمور،
والسلام عليكم، ولكم الشكر
دمشق، المُعَلِّمة: لطفية غربية، مَدْرسة زينب الهلالية.
نشرة الدواء
Hormodauss
Sirop
هورمودوس
إن دماء الحيوانات الفَتيَّة والقويَّة هي مستودَع غزير بالأتْوار "هُرمون" (الإفرازات الباطنية التي تُنبِّه إفرازات أخرى)؛ لهذا فكَّرنا في تحضير علاج مُستخلَص من هذا السائل يحتوي على جميع العناصر التي بوساطَتِها تُمكن المعالَجة الكامِلة "بالهُرمون"
وهذا العلاج يسمى "هورمودوس " هذا المُستحضر يحتوي على جميع الهُرْمونات الدوارة في الحيوانات الفتيَّة والقوية، وزيادة على هذا فقَد أضفنا إليه مستخلَصًا من الكبد يُقوِّي فاعليته في زيادة الكُرَيَّات الحمْراء. هذا العلاج هو مُحضَّر من خلاصة دماء الثَّور والعِجْلة والبَقَرات الفتيَّة، بيْنما هي في أشدِّ أدْوار نُموِّها ونشاطِها، وهذا المُسْتحضر يُعطِي للجهاز العضوي جميع العناصر الغددية الضرورية لحياة منتظمة.
الجواب:
حضرة الآنسة الكريمة، حفِظها الله، وأكثر من أمثالها المُتحرِّيات لِدِينِهن: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
تردَّدت كثيرًا في الجواب لقوَّة الشبْهة في الموضوع، ثم خطَر لي أن أغتنم فرصة أسبوع الفقه الإسلامي، فأُباحِث فيه من يَحْضُر هذا المؤتمر من فقهاء الشريعة في الإقليم الجنوبي مصر(5)(17/1)
وقد فعلت، فذاكَرْت عددًا من كِبَارِهم كالأستاذ محمد أبو زهرة والأستاذ الخفيف وعددًا أيضًا من علمائنا كالأساتذة الدَّواليبي والمنْتصِر الكِتَّاني والمبارك في اجتماع مشترك. وبعد البحث والتمحيص اتَّفقتْ كلمتُنا جميعًا على عدم وجود مانع شرعي من تناول هذا العلاج وأمثاله؛ لأن الدم المحرَّم بنص القرآن إنما هو الدم المسفوح، وهذا لا يقال له دم مسفوح، وإنما هو من عناصر غُدَدية مُستخْرَجة من الدم بطرُق كيماوية تؤدِّي إلى تغيُّر صِفَتِها الدموية ينْطبق عليه مبدأ الاستحالة، أي: تحوُّل الشيء من طبيعته إلى طبيعة أخْرى كتَحَوُّل الخمْر إلى خَلٍّ (التخلُّل)، وكتحوُّل مادة نَجِسَة إلى مِلْح ونحو ذلك.
فهذا العلاج لم يَبْق دمًا، بل تغيَّر وصْفه الطبيعي، فلا مانع من شربه شرعًا. هذا ما يظهر لنا، و الله سبحانه أعلم. والسلام عليكِ ورحمة الله.
هامش
(4) حضارة الإسلام ـ العدد الأول ـ السنة الثانية 1381هـ.
(5) كان هذا أيامَ الوَحْدة بين سورية ومصر ما بين عامَيْ 1958ـ 1961م.(17/2)
حول الاجتهاد الجماعي وتَقنين الفِقه
وأهميّة الجانب الاقتصاديّ في الفقه الإسلامي
أسئلة من مجلَّة اليمامة إلى فضيلة الشيخ: مصطفى الزرقا حفظه الله ورعاه.
1 - فتح العصر الحديث بتفجُّره الإعلامي آفاقًا واسعة للحوار والمناقشة، فمتى يستفيد فقهاء العالم الإسلامي من الإعلام للوصول إلى الاجتهاد الجماعي كما تسَمُّونه؟
2 – منذ عدة قرون والفقهُ الإسلامي متوقِّف عن النمو، فما أسباب هذا التوقُّف، وما تقويمكم لجهود فقهاء العصر الحديث في تطويره مع اختلاف توجهاتهم؟
3 - تقنين الفقه الإسلامي كيف ترون أهميته، وما صعوباته، ومحاذيره، وأين تقع المذاهب الفقهية منه؟
4 – يُعد الجانب الاقتصادي من الفقه الإسلامي من أعقد الجوانب وأكثرها أهمية وتفلُّتًا أيضًا ـ خاصة في العصر الحديث ـ من القواعد الإسلامية العامّة فما تقويمكم للجهود المبذولة في أسْلمة هذا الجانب؟
عبد الله محمد المفلح
أجوبة أسئلة اليمامة:
ج 1 ـ إن الاجتهاد الجماعي يحتاج أن تتعاون على تحقيقه حكومات البلاد الإسلاميّة وفقهاؤها. وتأتي في الطليعة البلاد العربية.
وبعد تفرُّق البلاد الإسلاميّة وانقسامها إلى أكثرَ مِن اثنتين وخمسين دولة مستقِلًّا بعضها عن بعض، وانتشار فقهاء الأمّة بينها جميعًا ـ لم يعُدْ في الإمكان تحقيق الاجتهاد الجماعي بصورة كاملة لتعذُّر اجتماع الفقهاء جميعًا لبحث القضايا المُستجِدَّة والمداوَلة في الحُلول اللازمة.
لكن الاجتهاد الجماعي بصورة مصغَّرة ناقصة قد أصبح أمرًا واقعيًّا بوجود المَجْمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي في مكة المكرّمة، والمجْمع الفقهي التابع لمنظَّمة العالم الإسلامي في جدّة. فكلٌّ منهما يضمُّ مجموعة محدَّدة من الفقهاء المُعاصرين، وبعض الأشخاص هو عضو في كليهما.(18/1)
ولكلٍّ منهما اجتماعات دوريّة سنويّة تدوم بضعة أيام أو أسبوعًا تبحث فيها القضايا المطروحة للبحث في جدول الأعمال، وتُتَّخَذ في كلٍّ منها القرارات بالإجماع أو بالأكثريّة.
ولكنْ يَنقُص كلّاً منهما لجنةٌ من الفقهاء المتفرِّغين طُوال العام لدراسة ما يَرِد إلى المجْمع من قضايا خلال العام ووضْع تقاريرَ فيها، تهْيئةً لعرضها على المجْمع في دورته السنويّة التي تُعْقد أيامًا محدودة لا تتسع لدراسة البحوث المقدَّمة عن تلك القضايا ومناقشاتها. والذي يمنع من تكوين اللجنة المتفرّغة فيهما أسباب ماديّة..
ج 2 ـ أسباب توقُّف الفقه الإسلاميّ منذ عدة قرون هي كثيرة نتيجة للتخلُّف العام في العالم الإسلامي، ذلك التخلُّف الذي أدّى بعلماء المذاهب الفقهيّة إلى الإفتاء بسدِّ باب الاجتهاد.
وهذا السدُّ كان بواعثُه الخشية أن يوجد من يدَّعي الاجتهاد وهو غير مؤهَّل له فيؤدِّي ذلك إلى تغيير الشريعة. فقد لوحِظ ضعف الوازع الدينيّ، وفَساد الزمان بفساد الناس، فرُئِيَ منذ القرن الخامس الهجريّ منع الاجتهاد الذي لا يجوز أن يُسدَّ، بل أن يكون العلاج هو الانتقال إلى الاجتهاد الجماعي.
لكن فكرة الاجتهاد الجماعي لم تكن قد تولَّدت بسبب العصبيّة المذهبيّة لدى أتباع المذاهب الفقهيّة الأربعة.
والحقّ أن المذاهب الأربعة يجب أن تُعتبر بمجموعها مذهبًا واحدًا يمثِّل الفقه العام، وأن يكون كلّ واحد منها بمثابة الآراء المُختلِفة في المذهب الواحد، ولكي يُستفاد منها جميعًا في وقت واحد. فكلُّ مذهب وحده بمفرده لا يكفي حاجة الأمة ولا يُغني عن سواه، ولكنَّ مجموعَها لا يَضيق عن حاجاتها المستجِدّة إذا أَردَفَه الاجتهاد في اختيار الأفضل في كل مسألة جديدة.(18/2)
ج 3 ـ التّقنين من الفقه الإسلامي هو الطريق الوحيد لحياته. وليس له محاذِير، فهو الوسيلة الوحيدة لوضع الفقه موضع العمل والتطبيق، وإخراجه من حيِّز النظريّات إلى حيِّز العمليات، فالفقه أحكامه كلُّها بمثابة نصوص تشريعيّة، والقانون الذي لا يطبّق هو في حكم الميت.
ففي فرنسا مثلًا يوجد بعض قوانين قديمة غير مطبّقة فتنُوسِيَت رغم أنها غير مُلغاة، فهكذا شأن فقهنا الإسلامي إذا لم يطبقه القضاء.
إنّ التقنين من الفقه الإسلامي يستلزم الانفتاح على المذاهب الفقهية كلّها، وأخذ أفضل ما في كل منها في كل مسألة، وهذا دافع لزيادة الاهتمام بدراسة الفقه المُقارَن في الجامعات الإسلاميّة وفي كليات القانون، وإلى خدمة فقه المذاهب بمؤلفات جديدة تُخرجه من التعقيد الوعر الذي يشاهد في كتب المذاهب، إلى التقعيد والتبسيط.
فلابد في التّقنين الفقهي أن يُستفاد من جميع المذاهب؛ لأن كلَّ مذهب بمفرده لا يمكن أن يُعتبر هو الممثل للشريعة وحده ما دام إلى جانبه مذهب آخر أو مذاهب تخالِفه في كثير.
فالذى يمثّل الشريعة هو مجموع المذاهب الفقهيّة المُعتبرة، وآراء المُفتين من الصَّحابة والتابعين من الذين نَقلتْ آراءهم كتب الفقه يؤدِّي إلى القضاء على العصبيّة المذهبيّة المُقيتة.
ج 4 - لا شكّ أن الجانب الاقتصاديَّ من الفقه الإسلامي أصبح له اليوم في عصرنا أهميّة كبرى لم يكن يَشعُر بها الفقهاءُ من قَبْل.
ونحمد الله تعالى على أنّه وُجِدَت له اليوم مراكز متخصِّصة لدراسة هذه الجوانب الاقتصاديّة من الفقه الإسلامي تقوم على بحثِه وتقديم الدِّراسات فيه ممّا يبشِّر بقُرب إمكان كتابة نظرية عامّة في الاقتصاد الإسلامي تُبرز معالِمه وتبيِّن مزاياه بالمقارَنة.(18/3)
وإن مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي في جامعة الملك عبد العزيز في جدّة يقوم بأعمال جليلة في هذا المِضمارِ. وإن المجلة التي يُصدِرها هذا المركز هي مجلة قيِّمة تخدم أغراضه. وهناك رسائل جامعية لرتبة الدكتوراه أو الماجستير أوضحت جوانب من سمات الاقتصاد الإسلاميّ واتجاهاتِه.
وقد أصبح في نظري من المُمكن بعد كلِّ الجهود التي بذلت في خدمة الاقتصاد الإسلامي أن يطلعَ علينا في المستقبل القريب كتابٌ في الاقتصاد الإسلامي بوجه عام يُبرز ملامحه وقواعده وأغراضَه في الإنتاج والتوزيع العادل، ويبين خصائصه ومزاياه.
مصطفى أحمد الزرقا
الرياض في 25/11/1418هـ.(18/4)
حول رَجْم الزانِي المُحْصَن(1)
في نَدوة التشريع الإسلامي المنعقدة في مدينة البيضاء من الجمهورية العربية الليبية قبل بِضعة أشهر، قد تَكلَّم الأستاذ العلّامة الجليل الشيخ محمد أبو زهرة حول قضية رَجْم الزانِي المُحْصَن، ونَاقَشَها، وأَعْلَن أنه يَشُكُّ كلَّ الشكِّ في ثبوت الأحاديث النبوية والآثار الواردة المنقولة في أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أَمَرَ بِرَجْم أَحَدٍ، وعلَّل الأستاذ أبو زهرة شَكَّه هذا بما مُفادُه أنَّ عقوبة الرَّجْم أقسى عقوبة على الإطلاق يَتصوَّرها الإنسان في الجزاء بالموت، وأنه لا يَستطيع أنْ يُتصوَّر أن الرسول ذا القلب الرحيم الرءوف يُطَبِّق مثل هذه العقوبة التي يَرْجُف منها قلْب السامع.
ثم بَيَّن فضيلته ـ حفظه الله ـ الوجوه التي تُنافِي بها هذه الآثار ما جاء في القرآن العظيم من عقوبة الزنى التي جعلها القرآن حدًّا واحدًا هو الجلد مائة جلدة، ولم يُمَيِّز فيها بين الثيِّب المُحْصَن وغيْره، ومن جُملة تلك الوجوه أن القرآن العظيم أَوْجَب تَنْصيفَ عقوبة الزانِي الرَّقيق عن الحُرِّ بقوله تعالى: (فعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما على المُحْصَنات من العذاب) (النساء: 25) وبَدَهِيٌّ أنَّ عقوبة الموت رَجْمًا لا تَقْبَل التَّنْصيف...إلى آخر ما بَيَّنه فضيلته وأفاض فيه، في تعليقه على الموضوعات التي قَدَّمها بعض أعضاء النَّدوة حول عقوبات الحدود بوجه عامٍّ، ورَجْم الزاني المُحْصَن بوجه خاصٍّ، وقد ناقَشَه كاتِبوها، وردُّوا على رأيه هذا.
رأيْي الشخصيُّ في الموضوع:(19/1)
1 ـ إني لا أَتَّفِقُ والأستاذ الجليل أبا زهرة في رأيه ومسلكه هذا، لأنِّي لا أجِدُ مجالًا للشك فيما شكَّ فيه من ثبوت الآثار الواردة في الرَّجْم، فإنها قد وَرَدَت في كتب الصِّحَاح التي تَلَقَّتْها الأئمة بالقَبول، سواءٌ منهم أئمة الحديث النبوي كالإمامين البخاري ومسلم، وأئمة الفِقْه من المجتهدين كالأئمة الأربعة، ولم يَشُكَّ أحَدٌ منهم في ثبوت ما صَحَّ من هذه الأخبار العديدة (خِلافًا لما ذهب إليه الخوارج من رَفْضهم هذه الآثار واقتصارهم في عقوبة الزنى على الجلد للبِكْر و الثَّيِّب).
والإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ يبين في رسالة الأصول أن الرجم عقوبة خاصة بالحُرِّ لا تُطَبَّق على الرقيق؛ لأن الله تعالى أَوْجَب تنصيف عقوبته، والرَّجْم لا يَتَنَصَّف، فدلَّ هذا على أن عقوبته مقصورة على ما يَتَنَصَّف وهو الجَلْد. ولم ير هو ولا غيْره من الأئمة أن هذا يُوجِب الشكَّ في ثُبوت الرَّجْم بالسنة النبوية، وإنما يُوجِب صَرْف عقوبة الرَّجْم عن الرقيق الثَّيِّب واستثناءه منها، انسجامًا مع خُطَّة الشارِع الإسلاميِّ العامَّة في تخفيف العقوبة عن الرقيق رعاية لِحاله؛ من أنه لا يُتاح له ما يُتاح للحُرِّ من فُرَص التعليم، والتوجيه، والتربية، والتوعية.(19/2)
2 – ولكنِّي أرَى مَجالاً كبيرًا لاحتمال أن يَكُون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أمَرَ بالرَّجْم في تلك الحوادِث الثابتة على سبيل التعزير لا على سبيل الحَدِّ، إذ رأى أنَّ زِنَى المُحْصَن المُستَغنِي بزوجة شرعية يَحتاج في ذلك العهد إلى زاجِرٍ أقوى من زاجر البِكْر، لِيَقْضِيَ على سِفَاح الجاهلية المشهور، وتَتأصَّل الرهبة من هذه الجريمة الشنعاء في نفوس المسلمين. وهذا أمر يَعُود تقديره شرعًا إلى ولي الأمر، كما في سائر الحالات التي تَستَوجِب الزجر بالتعزير المُفوَّض إلى ولي الأمر. وعندئذ يُمكن أن يُقال في أمْر الرَّجْم ما يُقال في كل تعزير من أنه مُفَوَّض إلى ولي الأمر بحسب ما يرى من المصلحة: فإنْ شاء طَبَّقَه، وإن شاء اكتفَى بالجلد الذي هو وَحْدَه الحَدُّ، وإن شاء جَمَعهما حدًّا وتعزيرًا، وإن شاء حدَّ المُحْصَن حدًّا، وزاد عليه زاجرًا آخر غيْر الرَّجْم تعزيرًا؛ لأنَّ زِناه أشدُّ وأفْظَعُ من زِنَى البِكْر، كل ذلك بحسب ما يَرَى من وجه المصلحة، والحاجة الزمنية والشخصية وَفْقًا لقاعدة التعزيرات، ونظير ما نَرَى في قوانين العقوبات اليوم من تخيير القاضي بين حدَّين أدنى وأعلى من عقوبتي التغريم والحبس كلتيهما أو إحداهما، وهو مما تَتَقَبَّلُه قاعدة التعزير الشرعي في الإسلام.
وهذا الرأي (أَعْنِي حَمْل ما وَرَدَ من السنة في الرَّجْم على قاعدة التعزير) وإن كان لم يره أحد من الأئمة الأربعة ـ تَشهد له بعض الدلائل في الحديث النبوي نفْسه الذي قرَّر حُكْم الرجم،ذلك أنه بعد أن قرر القرآن في سورة النساء العقوبة المبدئية للزِّنَى بقوله تعالى:(19/3)
(فأمْسِكوهنَّ في البُيُوتِ حتى يَتَوَفّاهنَّ المَوْتُ أوْ يَجْعَلَ اللهُ لهنَّ سبِيلًا) (النساء: 15) نَزَلت عقوبة الجَلْد في سورة النور للشرِيكَيْن المُتزانِيَيْن، فأعْلَنَها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأصحابه بقوله: "خُذُوا عنِّي، خُذُوا عَنِّي، قد جعل الله لهن سبيلًا: البِكْر بالبِكْر مائة ونَفْي سنة، والثَّيِّب بالثَّيِّب جَلْد مائة والرَّجْم بالحِجارة"(2). ففي هذا الحديث النبوي الذي هو النصُّ الأصلي في تشريع الرَّجْم، نَجَد أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أضاف على الجلد الذي ورد في القرآن تغريب عام للبكر، وأضاف الرجم للثيب، وبهذا أخذ فريق من الأئمة فقالوا: إن الحد في كل منها يَتَكَوَّن من العقوبتَيْن معًا: التغريب مع الجلد في البكر، وكذا الرجم مع الجلد في الثيب.
لكن الحنفيَّة ذهبوا إلى أن التغريب في البكر ليس جزءًا من الحد، بل هو تعزير مُفَوَّض تطبيقه وعَدَمه إلى رأي الحاكم ولي الأمر، وذلك بدليل قام لديهم من السنة نفسها، فالتغريب المَقْرون بالجلد في البكر، والمعطوف عليه عطفًا يَشرِكه في الحكم، إذا صَحَّ أن يُعتبر تعزيرًا كمذهب الحنفية، ويَكون الحدُّ هو الجلد فقط، كان هناك احتمال كبير لأن يَكون الرجم كذلك، وقد وردا في نص واحد وتعبير متماثل، وأن يَكون ما أُريد من قصْد التعزير بالتعبير الأول الذي أضاف التغريب مُرادًا أيضًا في التعبير الثاني؛ الذي أضاف الرجم في نص واحد(3). وأَتذكَّر أنَّ حمْل الرجم الوارد في السنة على التعزير المُفَوَّض لرأي الإمام هو رأي الأستاذ العلامة الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر ـ رحمه الله تعالى ـ كنتُ سَمِعتُه منه أو قرأتُه له على أنه رأيه، أو هو احتمال يَراه، ولا أسْتطيع الجَزْم.(19/4)
3 – وعلى تقدير أن هذا الاحتمال في نصوص الأحاديث النبوية التي جاءت بالرجم مرفوض لا تَحْتمله تلك النصوص، فإن هناك ملاحظة جديرة بالاعتبار، تَقتضِي تأخير وَضْع الرَّجْم الآن في تقنينات عصرية يُراد توفيقها مع أسس الشريعة في دولة تتجه إلى إعلان تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية عمليًا في قضائها، كالجمهورية الليبية العزيزة.
ذلك أن توقيت هذا التطبيق في هذا الوقت غير مناسب؛ لأنه سَيَفتح الباب على مِصراعَيْه لخصوم الشريعة لِيُهاجِموا هذه الخطوة الميمونة في الجمهورية العربية الليبية، متذرِّعين أمام الملاحدة والجاهلين والضّالين في العالم الخارجي والداخلي بقضية الرَّجْم، وأنه لا يَتَّفق مع المفاهيم العالمية اليوم للعقوبة في قَسْوته، ومحاولين أنْ يَنْفُذوا بهذا التنفير من هذه الخطوة المباركة كلها في الجمهورية الليبية.
ولا نَنسَى أنَّ الشريعة الإسلامية الغَرّاء قد سَلَك الله ـ تعالىـ ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيها خُطَّة التدرُّج في إعلان أحكامها، ونحن اليوم ـ في جاهلية عصر العلم وغُروره، وما انتَشر فيه من إلحاد وكَيْد للإسلام وشريعته في محيط أهله أنفسهم، بَلْهَ المحيطات الأجنبية ـ، قد نَكون أَحْوج في تطبيق الشريعة إلى هذه الحكمة في التدرج حين نَتمكَّن من تطبيقها في بعض الأحوال خَشية النَّكسة، وفَتْح الثُّغُرات للخصوم في الهجوم والتشويه.
فقدْ يَكون من الخير أنْ يُقتصَر الآن على إعلان تطبيق حدِّ الجَلْد فقط في جميع أحوال الزِّنَى بانتظار الوقت المناسِب لإعلان الرَّجْم تعزيرًا أو حدًّا بعد أنْ تأتلف النفوس وأحكام الشريعة، وتَرَى مزاياها.(19/5)
ولابد لي هنا من التذكير بما ورد عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ: "إنما نَزَل أولَ ما نَزَل من القرآن سورة من المُفَصَّل فيها ذِكْر الجنة والنار، حتى إذا ثابَ الناس إلى الإسلام، نَزَل الحلال والحرام، ولو نَزَل أولُ شيء: لا تَشْرَبوا الخَمْر لقالوا: لا نَدَعُ الخمر أبدًا، ولو نَزَل: لا تَزْنُوا، لقالوا: لا نَدَعُ الزِّنَى أبدًا" (4).
الهوامش
جواب مرسل للأخِ الكريم الأستاذ علي علي منصور، رئيس المَحكَمة العُليا ورئيس لجنة تعديل القوانين الليبية بما يَتَّفق مع أسس الشريعة الإسلامية.
رواه مسلم (1690) في الحدود، من حديث عُبادة بن الصامت.
(3) (كُنْتُ مع شيخنا العلامة الزرقا في نَدوة التشريع الإسلامي بمدينة البيضاء في ليبيا، واستمعتُ معه إلى العلامة أبي زهرة في رأيه في الرَّجْم الذي كَتَمَه عشرين سنة، ثم باح به، ورُدود المشاركين في النَّدوة عليه، وقد ناقشتُ شيخنا أبا زهرة هناك، وذكرتُ له توجيه الحُكْم على أنه تعزير، كما يقوله الحنفية في عقوبة التغريب. ولكنَّ أبا زهرة رَفَضَ ذلك، وقال: إنَّ هذه عقوبة يهودية في الأصل، وقد نُسِخَت بظهور دِين الرحمة، وذكَرتُ هذه التوجيه لشيخنا الزرقا، واسْتَحْسَنه، وقال لي: إنه جدير بالنَّظَر، ويبدو أنه ـ حفظه الله ـ نَسِيَ هذه المحادَثة بَيْنَنا. والمُهِمُّ أنِّى والشيخ مُتَّفقان تمامًا في هذه الوِجهة. فالرَّجْم مع الجَلْد، كالتغريب مع الجَلْد. وإنْ لم يَقُلْ بذلك أحَدٌ من الفقهاء، ولكنَّه في رأيْي اجتهاد وجيه، وقد كنتُ كَتَبْتُ في هذا شيئًا، ولكنِّي لم أجرؤ على نَشْرِه، كما أنَّ شيخنا أبا زهرة لم يَكتُب رأيه هذا فيما أَعْلَمُ، واكْتَفى بِنِسْبته إلى الخوارج في كتابه "العقوبة". (يوسف القرضاوي)
(4)الحديث رواه البخاري 9: 39 في كتاب فضائل القرآن، باب تأليف القرآن (4993).(19/6)
حَدُّ القَذْفِ في الشرع الإسلامي، وهل يَنحصِر بالزِّنَى؟
المُكَرَّم فضيلة شيخنا مصطفى الزرقا..نفع الله به
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..وبعد:
فإني أتقدم إلى فضيلتكم بهذه الأسئلة راجيًا الله أن يُيسِّر لكم الإجابة عليها.
والسؤال:
ما حدُّ القَذْفِ في الشرع؟ وهل هو خاص بِقَذْف المُحْصَنات؟ وماذا عن قذف الذُّكور؟ وهل القذف يَقتصِر على الرَّمْي بالزَّنَى دُونَ اللِّواط؟
والله يَحفَظكم،
ابنكم المُحِبّ
تركي بن عبد الله الدخيل
جريدة (المسلمون) ـ جدَّة
13/6/1416هـ
الجواب:
الأخُ الكريمُ السيد تركي بن عبد الله الدخيل المحتَرم
جوابًا على سؤالك المُرسَل بالفاقس أقول:
1) حَدُّ القَذْف في الشرع الإسلامي من نظام العقوبات هو ثمانون جلدة يَشهَدها الناس في العَلَن.
والسبب الموجِب له هو اتهام شخص شخصًا آخر مُحْصَنًا بالزِّنَى (سَواءٌ أكان القاذِف أم المَقذوف رجلاً أو امرأة) ولم يَستطع القاذِف إقامة البَيِّنة (أربعة شُهداء من الرجال مُسْتَوفِين شرائط الشهادة) على صِدْق اتهامه، فحينئذ يُحَدُّ حدَّ القَذْف، صِيانة لأعراض الناس من أن تُخدَش بالاتهامات الكاذبة، أو التي تُلقَى كيفما كان سِبابًا وشَتمًا دُونَ تَثَبُّت.
يَتَبَيَّن لك من ذلك أنَّ حدَّ القَذْف ليس مخصوصًا بِقَذْف النساء، بل يَشْمل قذف الرجال، ذلك لأن القذف بالباطل له انعكاسات ذاتُ عواقِبَ خطيرةٍ في المجتمع الإسلامي وفي الأنساب؛ التي يَحْرِص الشرع أشدَّ الحِرْص على صِيانتها، فَوَجَب الرَّدْع عنه بِزاجِر يَتناسب معه، كَيْلا يَسْهُل على الناس هذا التقاذف الخطير في السِّباب والشَّتْم.(20/1)
2) إن القَذْف وما يُوجِبُه من عقوبة الحدِّ لا يَنحصِر في القذف بالزنَى فقط، بل يَشمَل القذف باللِّواط، قِياسًا على الزِّنَى عند جمهور الأئمة سِوَى الحَنَفِيَّة، فإنهم، أي: ـ الحنفية ـ يَرَون اختصاص حدِّ القَذْف بِتُهمة الزِّنَى.
أما اللِّواط فعقوبة القذف به عندهم هي التعزير، وليست هي الحدّ المذكور (أي: ثمانين جلدة)، والتعزير عقوبة عامَّة ليس لها نوع وقَدْر محدَّدان (كما في الحدود)، بل التعزير يُفَوَّض لرأي ولي الأمر الحاكم أو القاضي فيما يَراه كافيًا للرَّدْع، نَوعًا وقَدْرًا، ولو بالإعدام، والله سبحانَه أعلم.
الرياض
7/محرم / 1416هـ
5/6/1995م(20/2)
حُكْمُ التَّبَرُّعِ بِالأَعْضَاءِ لِغَيْرِ المُسْلِمِين
سؤال: تُنْتشر في أمريكا عمليات التبرُّع بالأعضاء بعْد الموت للمستشفيات ودور العلاج المُتخصِّصة، والتي تَستعمِل تلك الأعضاء لزرْعها في أجساد المُحتاجين الذين تَتوقَّف حياتهم على ذلك. فما حكم قيام المسلمين بهذا العمل، مع ملاحظة أن الأعضاء لن تذهب إلى المسلمين على الأرجح؟
باسل الرفاعي
الجواب:
مَبدئيًّا لا أجد دليلاً يمنع من التبرُّع ببعض أعضاء الميت لمسلم ولو زُرع في جسم شخص غير مسلم؛ لأن العضو المُتبرَّع به بعد استخراجه لا يوصَف بأنه مسلم أو غير مسلم، وإنما وَصْف المسلم يَقَع على الشَّخْص لا على العُضْو. وكثير من المسلمين اليوم يَتبرَّعون بدمائهم إلى المُسْتشفيات وبنوك الدم، ثم لا يدري: هل يُعطَى ما تبرَّعوا به لمسلم أو غير مسلم، وإنَّ الدم يُعتبر في نظَر الطبِّ عضوًا من الأعضاء.
والموضوع يدخل في باب العمل الإنساني، وقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في إطعام الحيوان: " فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ"(3)
على أنه إذا حصَل شكٌّ وترددٌ في ذلك، فلا مشكلة بعدم التبرُّع حينئذٍ للخروج من الشُّبْهة أو الشَّكِّ، فإنَّ هذا التبرُّع ليس إلزاميًّا.
هذا ما أراه، فإن كان صوابًا فمن فضله تعالى، وإن كان خطأ فمن قُصوري، والله سبحانه أعلم، وهو المُلهِم للصواب.
الرياض 24/5/1417هـ
6/10/1996م.
هامش
(3) رواه البخاري (6009) في الأدب، ومسلم (2244) وأراد بالكبد الرطْبة: كُلَّ ذاتِ رُوح؛ لأنَّ الكبد لا تكون رطْبة إلا وصاحبها حَيٌّ أما الميِّت فيجِفُّ جِسْمه وكبده (مجد).(21/1)
هل هناك عقبات تَحول دون توحيد الفقه الإسلاميّ(1)
الأستاذ مصطفى الزرقا يجيب عن هذا السؤال الهام:
توحيدُ الفقه الإسلامي رغبة تتردّد أصداؤها على ألسنة بعض الناس منذ سنوات، ورغم أن هذه الرغبة تجِد صدًى طَيِّبًا وتجاوُبًا عند الكثيرين، لكنّ هذه الرّغبة يتضِح عدم جَدواها من الناحية العمليّة، حينما نتعرّف على فوائدِ تعدُد الاجتهادات في المَسألة الواحدة.
لقد توجَّهت "المسلمون" بهذا السؤال الذي طرحه عليها العديد من القرّاء إلى عالم فاضل، وفقيه موسوعي معروف بأنه أحد أعلام الفقه والقانون في العالم الإسلامي في عصرنا الحاضر، وهو فضيلة الشيخ مصطفى أحمد الزرقا.
فأدلَى فضيلته مشكورًا بالإجابة الآتية:
أولاً ـ تَوحيد الفِقه تصوُّر خيالي ساذَج وغير مُمْكِن:
يَستحيل توحيد الفقه ليس في العالَم العربي والإسلامي فحسب، بل أيضًا في دنيا القانون وعلمائه كافّة، إذا قصدنا في التعبير بالفقه معناه الحقيقيّ العلمي في اصطلاح المُتشرِّعين:
إن النُّظُم عامّة في كلِّ مجتمع نظاميّ، سواءٌ أكان نظامه وضعيًّا أم كان إلهيَّ المصدَر، إنَّما تتألّف من نصوص إلزاميّة، وإن النّصوص دائمًا لا يُمكن أن تستوعِب بالصّراحة جميع الحالات المُمكِنة الوقوع، فإذا وقعت حوادِث ممّا سكتت عنها النُّصوص، فلابد عندئذٍ من إعمال الفكر لإعطاء الحادثة حكمًا مناسِبًا لرُوح النّص، وأقرب إلى غرض الشّارع، وذلك بطريق القياس، أو بالتّخريج على القَواعد العامة، وهذا فقه.
وقد تَتعدَّد وجوهُ القياس، فتبدو للفقهاء في المَسألة الواحدة طُرق قياسيّة عديدة كلٌّ منها وجيهُ النظر، فتختلف آراؤهم في أيّها هو الأوجَه والأقوى، ويختلف في النتيجة الحكم الذي يترجّح في نظر كلٍّ منهم.(22/1)
هذا من جهة، ومن جهة أخرى قد يكون النَّص نفسه يحتمل أن يُفهَمَ على أكثر من وجه، وتكون كلُّها مقبولةً رغم اختلافها، فهذا مجال واسع في فَهم النُّصوص وتفسيرها تختلف فيه آراء العلماء للمُتشرِّعين في ترجيح الفَهم الذي يَرى العالم الفقيهُ أنّه هو الصحيح، أو الأصح أو الأقرب إلى غرض الشارع، أو الأكثر انطباقًا على القواعد المقرّرة المستمَدّة من مجموع النصوص ذات العَلاقة في كلّ موضوع. وكل ذلك أيضًا هو فقه يقوم حول النصوص التشريعيّة، فَهمًا لها وقِياسًا عليها، وتفريعًا على قواعدها، وتخصيصًا لعموماتها بالقرائن، أو تعميمًا للخاصِّ منها، ونحو ذلك ممّا لا يُمكن أن تتحِدَ فيه فُهوم العلماء، فكيف يمكن توحيد الفقه إذًا؟ إن ذلك لا يُمكن إلا إذا أمكن الحجر على أفكار العلماء المتشرِّعين، حتى لا يستطيع أحد أن يفهَم من النّص التشريعي غير ما يَفهمه سواه، ولا أحد يَتصور إمكان هذا الحَجْر!! فلابد من أن تختلف آراء الفُقهاء حول النصوص.
وهذا واقع في ظِلّ نصوص التّقنين الوضعيّ، كما في نُصوص الشريعة الإسلاميّة من الكتاب والسنة النبويّة، والفقه القانوني زاخر بالآراء والنظريات والمذاهب المختلِفة، بل والمتعاكِسة في كثير من مسائله وموضوعاتِه.
تعدُّد المذاهب واختلاف الاجتهادات:
ومن ثمّ تتكوَّن المذاهب الفقهيّة نتيجة لاختلاف الآراء الاجتهاديّة في تنزيل الوقائع على النصوص والقواعد: فتختلف آراء الفقهاء في العقود صحّةً وبُطلانًا، وفي الحقوق والالتزامات الماليّة، وفي التكاليف العملية، وفي التّحريم والإباحة إثباتًا ونَفيًا، وكلُّهم يستنِدون إلى نصوص تشريعيّة وقواعد واحدة، وكلُّ ذلك من الفقه الذي يقوم في كلِّ نِظام تشريعيٍّ حول نُصوصه وتفسيرها، واستنتاج الأحكام منها.(22/2)
ولنأخذ للإيضاح على سبيل المِثال من العِبادات نصَّ القرآن العظيم في الوُضوء لأجل أداء الصلاة: فقد أمر بغَسل الوجه واليدين ومسح الرأس وغَسل القدَمين، فثارت في الفكر الفقهي في ضوء هذا النصِّ تساؤلات كَثيرة، منها:
هل من اللازم لصحّة الوضوء أن يبدأ المكلَّف بالعضو الذي ذكره القرآن أولًا ويُثَنِّي بما ذكره ثانيًا، وهكذا..وهي مسألة التّرتيب في الوضوء بيِّن الأعضاء؟
فمن الفُقهاء من فهِموا عدم لزوم الترتيب، فلو بدأ المتوضِّئ بغُسل الرِّجلين، وانتهى بمسح الرّأس مثلاً صحّ وضوؤُه؛ لأن العطفَ بالواو لا يدلُّ لغةً على الترتيب في الحدوث. فإذا قيل: جاء زيد وعمرو وصالح. لا يُفيد هذا أيُّهم جاء قبل الآخر، ولا أنهم جاءوا منفرِدين أو مجتمِعين، فإذا أريدَ إفادة التّرتيب وَجَب العَطف بالفاءِ، فيقال عندئذٍ: جاء زيدٌ فعمرو.. وإلى هذا ذهب فَهم الإمام أبي حنيفة ـ رحمه الله تعالى.
ومنهم من فَهِمَ من نسق البيان لزوم الترتيب، لصحّة الوضوء؛ لأن ذِكرَ مسح الرأس فاصِلًا بين أعضاء ذُكِرَت قبله وبعده كلُّها مغسولة، يدلُّ على قصد الترتيب، إلى هذا ذهب فهم الإمام الشافعيّ ـ رحمه الله تعالى.
ولنأخذ مثالاً آخر من المُعاملات قول القرآ، الكريم: (يا أيُّها الذِين آَمَنوا إذَا تَدَايْنَتُم بِدَيْن إلى أَجْلِ مُسمًّى فاكتُبوه...وإنْ كُنتم على سَفَرٍ ولم تَجِدوا كاتبًا فرِهانٌ مَقبوضةٌ..) فهل وَصْف الرّهن بأنه مقبوض يُفيد وجوب قبض المَرهون ليصحَّ عقد الرهن، فإن لم يقبض في مجلس العقد كان باطلاً؛ لأن الرّهن بلا قَبْضٍ يَفقد غايتَه التّوثيقيّة؟ إلى هذا ذهب فَهم أبي حنيفة ـ رحمه الله تعالى.
أو أن هذا الوصف لا يُفيد اشتراط القبض لصحة العقد، فينعقِد الرهن دون قبض المرهون، وللمرتهِن مُطالبة الرّاهِن بتسليمه، كما يُطالب المشتري البائِعَ بتسليم المَبيع، والمستأجِر بتسليم المأجور.(22/3)
إلى هذا ذهب فَهم الإمام مالك ـ رحمه الله تعالى.
فمن الذي يَستطيع الحجر على فكرة فَقيه أن يفهَم من النّص التشريعي فَهمًا يراه هو الصّواب خلاف ما يفهَمه غيره؟ هذا مُستحيل.
ثانيًا: اختلاف الفقهاء سَعةٌ ورحمة:
هل هذا الحجرُـ لو أمْكنَ، ووحدة فهم الفقهاء في تفاصيل الأحكام الاحتمالية وتفرعاتها ـ هو الأفضل والأصلح في ظِلّ النظم التشريعيّة ونصوصها؟ بمَعنى أن اتِّفاق آراء الفُقهاء المُتشرِّعين في كلّ صغيرة وكبيرة من المسائل الأساسية والفرعيّة هو خير للأمّة؟
إنّ الخَير والأفضل هو في خلاف ذلك قَطعًا، أي: هو في اختلاف فُهومهم واجتهاداتهم؛ لأنّ هذا الاختلاف في الفَهم والاستنتاج من النُّصوص يُوجِد في الأمّة ثروة من الفِكر التشريعيّ هي محلّ اعتزاز وامتياز للأمة، ويُوجَد لديها من مختلف المبادئ والقواعد والأنظار الفقهية والنظريّات الحقوقيّة أُسسًا صالحة لحلِّ المُشكلات العارضة باختلاف الظروف، ويفتح مجالات واسعة لاختيار الحلول الأفضل كلما دعت الحاجة، وأظهر التّطبيق بعض المُشكلات، أو كشف عن بعض الفَجوات التي تحتاج إلى ملء بأحكام مناسبة مستمَدّة من رُوح النُّصوص وغرض الشارع.
ففي نظم الأحوال الشخصيّة (أحكام الأسرة) الحديثة في البِلاد العربيّة وأحكامها، التي يجِب أن تُستمدَّ من فقه الشريعة لصلتِها بالعقيدة الإسلاميّة في الحلال والحرام، أُقيمت قواعد وأحكام حُلت بها مُشكِلات، وتحقّق بها إصلاح كبير في حياة الأسرة الإسلامية، ولولا اختلاف المذاهب الفقهيّة التي استُمدت منها تلك الأحكام لما كان إليها من سبيل (مثل مشكِلة الطلاق الثلاث بلفظ واحد، ومشكِلة تعليق الطّلاق استُعمل استعمال اليمين للحثِّ أو للمَنع، ومشكِلة ابن المحروم في الميراث التي عُولَجت بطَريق الوصيّة الواجِبة المقرّرة في بعض المَذاهب الفقهيّة).(22/4)
وفي مجال العِبادات وأحكامِها التفصيليّة يُعطي اختلافُ المذاهب الاجتهاديّة كلّ مُكلَّف فُسحةً كبيرة تيسِّر له طاعةَ ربِّه، فتدفع عنه مشقّات يعرفها الممارِسون من أهل العلم، مثل الاختلاف في بعض نواقِض الوضوء كخروج الدّمِ ولمْس المرأةِ، وكالمَسح على الجَوربَيْن في الوضوء (ولا سيِّما في الشِّتاء) ومثل ذلك في المُعاملات كثُبوت خِيار العَيب للمُشتري إذا أَخفى البائع عيبًا في المَبيع عمدًا وتَدليسًا، واشترط البَراءةَ من المسؤوليّة عن العَيب؛ ممّا يجعل العاقِدَ مسؤولاً عن الغِشّ المتعمَّد رغم كلِّ اشتراط يُعفيه (وهو النظر السائد في القانون الوضعيّ أيضًا).
وهذا مُجمَل ومعنى ما ورد في الأثر: "اختلاف أمَّتي رحمة"(2)، وهو نصُّ حديث نبوي ضعيف الثبوت، لكنّه صحيح المعنى، والمُراد به الاختلاف في الفروع، أي: في مسائل الفقه العمليّة، أما الاختلاف في أصول الدِّين والعقائد فهو مُصيبة تُمزِّق الأمّة، كما أوضح الإمام المناوي وغيره (يُنظر فيض القدير شرح الجامع الصغير تحت الحديث 288) فمن الخير والنِّعمة هذا الاختلافُ الفقهي الذي أورثنا تلك الثروةَ الفقهيّة الهائلةَ، مُتعدِّدة الآراء، وجَمّة العَطاء.
ثالثًا: بين توحيد الاجتهادات وتوحيد الحكم القضائيّ:(22/5)
وهنا يجب الانتباه إلى أمر عظيم الأهمية، وهو التّمييز بين توحيد الفقه وتوحيد الحكم القضائي، فإذا كان توحيد الفِقه مُستحيلًا، وليس من مصلحة الأمّة، فإن توحيد الحكم القضائي فيها ضروريٌّ، ونَعني بتوحيد الحكم القضائي وحدةَ التّقنين من الفقه، وذلك بأن يُختار في كلِّ مسألةٍ من مسائل المُعاملات من بين الآراء الفقهيّة فيها ـ إذا كانت متعدِّدة ـ ما هو أصلح أو أعدلُ أو أوجه دليلًا أو أيسر تَطبيقًا، فتقننه السُّلطة المُختصّة حتى يكون هو وحده النافذَ المعمول به في القَضاء. فهذا التدبير النظامي في أحكام المُعاملات بغية توحيد الحكم القضائي فيها هو اجب في طريق إقامة النِّظام وتحقيق العدل، ولا يَتنافى مع تعدُّد الآراء والمَذاهب الفقهيّة مهما كثُرت واختلفت.
وذلك كما حصَل في وضع مجلة الأحكام العدليّة في أواخر عهد الدولة العثمانيّة، حيث اختِير أحسنُ الآراء الفقهيّة المختلفة من المذهب الحنفي، وصِيغت في مواد بأرقام متسلسلة، وأصدرت سنة 1293هـ فكانت أول قانون مدني مستمدٍ من الفقه الحنفي، وأصبح بها القضاة والمُتاقضُون جميعًا في الدولة أمام حكم إلزاميٍّ واحد في كل مسألة من المسائل والقضايا التي تناولتها المِجلة بالتّقنين، مهما كانت الآراء في مصادِرها الفقهيّة متعدِّدة ومختلفة.(22/6)
فلا يجوز أن يُترك القاضِي لاجتهادِه بين الآراء الفقهيّة المختلفة لِيَختار هو منها ما يَقضي به، لأنّ هذا الإطلاقَ يتنافَى مع مَبدأ علنيّة الشّرائع الذي يوجِب أن يكونَ المكلَّف في كل مجتمَع نظامي (دولة) على علم مسبَق بمَصير أعمالِه وتصرُّفاتِه في حكم النظام الذي سيقضي به القاضِي له أو عليه، وإلا كان القِضاء فوضى، والمكلّف لا يعرِف كيف يتصرّف مُطيعًا للنظام؛ لأنّه لا يستطيع أن يتنبّأ مسبقًا بموقف القَضاء من تصرُّفاته ما دام القاضِي سيقضي باجتهاده هو واختياره، وليس بحكم مُعلَن معروف، فإذا كان اختلاف الفقهاء رحمة ونعمة وثروة ومزيّة، فإن عَدَم توحيد الحُكم القضائيّ مُصيبة وبَليّة!!
هذا، وإن اختيار بعض الآراء الفقهيّة في وقت ما لتقنينِه وتوحيد الحكم القضائي عليه لا يمنع تَغيير هذا الاختيار، واستبدال غيره به من الآراء الفقهيّة الأخرى كلما تبدلّت الظروف والحاجة، أو رُؤِيَ غيرُه أصلحَ منه.
وهكذا تتحقّق للأمة مصلحتان: توحيد الحكم القضائيّ وهو أمر ضروري، والاستفادة من جميع المذاهب الفقهيّة.
وهذا الأمر ـ أعني: تقنينَ الفِقه وتوحيد الحكم القضائي فيه من بين مختلف الآراء الفقهيةـ موضوعٌ عميق وذو مُلابَسات تعصبيّة، فبعض العلماء لا يقبلونه، ويُريدون إطلاق الاجتهاد للقاضي في أحكامه دون مُبالاة بمحاذيرِ هذا الإطلاق، ومنافاتِه لمبدأ علنيّة النظام وقواعده، ومجال القول في هذا الشأن واسع، فأكتفي بهذه الإشارة إليه.
وظنِّي أن السّائل الكريم عن (العراقيلِ) التي تحول دون توحيد الفِقه، إنَّما يقصد توحيد الحكم القضائي هذا الذي أشرنا إليه، لا توحيد الفقه الذي معناه منع اختلاف الفقهاء في الرأي الاجتهادي، ولكنّه أخطأ التّعبير السّديد عن مُراده.(22/7)
وإذا صَدق ظنِّي هذا في مراد الأخ السائل فجوابي عندئذٍ أن العائِق الأساسيّ الذي يحول دون توحيد الحكم القضائي عن طريق تقنين موحَّد لأحكام المُعاملات يُختار فيه أحسنُ الآراء الفقهيّة من مختلف المذاهب، أقول: إن العائِق الذي يحول دون ذلك أمران:
الأول: هو التعصُّب المذهبيّ في بعض البلاد التي سادَ فيها أحد المذاهب وحُجِبَ عنها مزايا المذاهِب الأخرى، فصارت دراسة الفقه مذهبيّة لا مقارَنة.
الأمر الثاني: اتِّجاه فريق من المسؤولين والمُثَقّفين ذوي النفوذ في بلاد عربيّة أو إسلاميّة أخرى، ممّن عَمِلَ فيهم الغزو الفكري الأجنبِيُّ عَمَله، فجهِلوا واحتقروا قيمة تراثهم الفقهي المنقطِع النّظير، ويريدون تقنينًا أجنبيًّا، إذ يَرون أن كلَّ تقليد للغَرب، أو استمداد من حضارتِه الأجنبيّة في المَظهر أو في الجوهر الحضاري هو عنوان التقدميّة، وهذا نتيجة بعدهم عن الإسلام علمًا وعاطفة وصبغة حضاريّة، وهذا السّبب نسمِّيه: الاستغرابَ.
فأما السَّبب الأول (التعصُّب المذهبيّ) فهو بحمد الله في هذا العصر آخِذ في الاضمِحلال؛ إذ أصبح الانفتاحُ على المذاهب الفقهيّة جميعًا من سِمات الفقيه المعاِصر النِّيِّر، ومحَلًّا للتقدير.
والموسوعة الفقهيّة التي يقوم بها اليوم مشروعان اثنان أحدهما في الكويت، والآخر في مصر، ويعرض فيها فقه المذاهب مرتَّبًا بالترتيب الألفبائي المُعجمي بحسب أوائل الحروف في عناوين الموضوعات والمسائل، لتسهيل مراجعته لكل طالب هي من ثمار هذا الانفتاح الفقهي، فالموسوعة الفقهيّة تقوم بتعبيد الطريق إلى توحيد الحكم القضائي بتقنين موحّد للبلاد العربية، كما سبقت الإشارة إليه.(22/8)
وأما السّبب الثاني وهو الاستغراب فعلاجه أن يوضح للمسئولين وسائر المُستغرِبين قيمة تراثهم الفقهي وأصالته وسَعته وسموّه ودقته وامتيازه حتى يُدركوا قيمتَه، ويتّجِهوا إليه، نتيجة لشعورهم بشخصيتهم الحضاريّة المستقِلة، ويأنَفوا من التبعيّة التي تُذِيبُهم، وعلى علماء الإسلام وفقهائه أن يُبرزوا لأعينِهم صور هذا التراث الإسلامي الرائعة، بالأسلوب والطريقة واللغة التي يستطيعون فَهمها، وهذا الشعور قد ظهرت بوادِرُه ـ والحمد لله ـ أيضًا نتيجة للكوارث التي لحِقت بالبلاد العربيّة والإسلامية وأهلها من جَرّاء تلك التبعيّة الحضاريّة للطامِعين ذوي الأهداف الاستعماريّة.
ومن بوادِر هذا الشُّعور أن الدائرة القانونيّة في جامعة الدول العربية تقومُ اليوم بإعداد مشروع قانون مدنيّ موحّد للبلاد العربيّة على أساس الفقه الإسلامي بناءً وجوهرًا، بالأسلوب القانونيّ الحديث شَكلًا، والوفاء بحاجات العَصر المستجِدّة مضمونًا.
وقد أُلِّفتْ فيها لجنتان لهذا العمل: لجنةعامّة، ولجنة خبراء خاصّة تضع نصوص المشروع ومذكرته الإيضاحيّة، وهي تتابَع عملَها في دورات. وكاتب هذا الجواب من أعضائِها.
والله سبحانه هو الموفِّق الهادِي إلى سواء السّبيل، هو حسبنا ونعم الوكيل.
الهوامش
(1) مجلة المسلمون لندن 8/1/1982م.(22/9)
(2) الحديث لا يثبُت، وانظر: "المقاصد الحسنة" ص 26، و"كشف الخفا" 1: 64، و"الجامع الصغير" 2: 212: "وأما معناه فصحيح، قال الخطابي في "أعلام الحديث شرح صحيح البخاري" 1: 219: "وأما وجْه الحديث ومعناه: فإن قوله: "اختلاف أمّتي رحمة": كلام عام اللفظ المُراد، وإنَّما هو اختلاف في إثبات الصانع ووحدانيّته، وهو كفر، واختلاف في صفاته ومشيئته، وهو بدعة، وكذلك ما كان من اختلاف الخوارج والرّوافض في إسلام بعض الصّحابة. واختلاف في الحوادث من أحكام العبادات المحتمَلة الوجوه، جعله الله ـ تعالى ـ يُسرًا ورحمة وكرامة للعلماء". وقد تلقّى العلماء هذا الكلام من الإمام الخطابي بالقبول، ومنهم النووي في "شرح صحيح مسلم" 11: 91-92. ومن بعد النووي: ابن حجر، والقسطلاني، وشارحه الزرقاني، والعجلوني. وانظر كتاب "أدب الاختلاف" للأستاذ محمد عوامة ص 102 ـ 117. (مجد).(22/10)
عقيدة البعث والحساب في الإسلام
أرسل إلينا السَّيد علي أرسلان آيدين الذي يكتب رسالة للدكتوراه بإشراف الدكتور سليمان دنيا بجامعة الأزهر، أرسل إلينا أسئلة تتعلق بالحياة الآخرة في العقيدة الإسلامية، وهل هي بالروح فقط أم بكل من الجسم والرُّوح؟ وقد تفضَّل الأستاذ مصطفىالزرقا بالإجابة على ذلك، وفيما يلي نص الجواب(1)
جواب الأستاذ مصطفى الزرقا
إلى الأخ الكريم الأستاذ الدكتور سليمان دنيا المحترم
أستاذ الفلسفة المساعد
بكلية أصول الدين في الأزهر
السلام عليكم:
وبعدُ، فقد تلقيت رسالتكم الكريمة، التي تقدِّمون بها إليَّ سؤالَ الباحث السَّيد علي أرسلان آيدين الذي يهيئ رسالته للأستاذية تحت إشرافكم عن عقيدة البحث، وإني أجيب فيما يلي على السؤال المُوجَّهِ إلى في الرِّسالة بغاية ما يُمكن من الإيجاز:
1 - إن البعثَ في عقيدة الإسلام هو جِسمانيّ ورُوحاني معًا، ولم يَقُل أحدٌ فيما أعلم أنَّه جِسماني فقط لا روحاني، وإنما وُجد من قال من أهل الفِرَق المبتدِعة: إنّه رُوحاني فقط.
والدليلُ النَّصيّ الذي لا يترك مجالًا للجدل في نفي القول بروحانية البعث فقط قوله ـ تعالى ـ في سورة يس: (أو لم يَر الإنسانُ أنّا خلقناه من نطفةٍ فإذا هو خَصيمٌ مُبِينٌ. وضَرَبَ لنا مَثَلًا ونَسِيَ خَلْقَه قَالَ مَنْ يُحْيي العِظام وهِيَ رَمِيمٌ. قُل يُحْيِيها الذي أنشأها أولَ مرةً وهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيم).
فإذا كان رُوحانِيًّا فَقَطْ فَما معنى المناقشة في إحياء العِظام؟! إلى غير ذلك من الأدِلّة الكَثِيرةِ فِي القُرآن والسُّنّة.(23/1)
2 - وهنا أَجِدُ مِنَ المُفِيد الإشارةَ إلى أن عقيدةَ البعث والحِساب والعقاب ـ هي عمودُ خيمةِ الإيمان وثمراتِه في مراقبة النَّفس، وتوجيهها إلى صالح الأعمال، واجتناب المفاسد ولو دَعا إليها الهَوَى. ولولا هذه العقيدة، عقيدة البعث، التي تجعل المؤمنَ يَثِقُ بما عند الله ـ تعالى ـ للمُتَّقِين ثقة يَستهينُ الإيمانُ معها بكلِّ مَصاعب الحَياة وكَوارثِها في سَبيل القيام بالواجب؛ لِمَا كَانَ فِي الإيمانِ تِلك القُوَّةُ الدّافِعة إِلَى العَمَل الصّالِح، والمُصابَرة فِي سَبِيلِه.
(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ) (سورة المؤمنون: 115).
ومِنْ ثَمَّ يُعْرَف مَبْلَغُ المَكْرِ الهَدّام، أَو الغَفْلةُ الفادِحة فِي الفِكْرةِ التي يقول فيها بعض الشّاكِّين أو المُشكِّكينَ: إنَّ الإيمانَ يتحقق في العقيدة بالله ـ سبحانه وتعالى ـ لأنَّ كُلّ ذِي عَقْل يَشْعُر بِقُوّةِ عُظْمَى تُسَيِّرُ هذا الكونَ المُنَظَّمَ، أمَّا عَقيدة اليوم الآخِر فَلَيْسَتْ ضَروريّة لِصَيرورةِ الإنسان مُؤمنًا. ولا يَخْفَي مَا فِي هذه الفِكْرة الهَدّامة مِن خَطَرٍ يَجْعَل الإيمانَ بالله كعدمه سواءٌ بِسواءٍ، فإذا كانَ هذا يَكْفِي لِيَخْرُجَ الإنْسانُ من حَظيرة الكُفْر أو الإلحاد، ويعتبر في المؤمنين فَما الفَرْقُ عِنْدَئِذٍ بَيْنَه وبَيْن مَنْ لا يَعْتَقِد بِوجُود الله ـ تَعالى ـ ما دَام ذاك الاعْتِقادُ لا ثَمَرة له فِي يَوْم آخر؟ وإذا ارْتكبَ الجاحِدُ، أو المُعْتقدُ بوجود الله ـ تعالى ـ دون البعثِ، ما يشاءُ من مُوبقاتٍ ومَفاسِدَ وجَرَائِمَ في هذه الدُّنيا، فما هي النتيجةُ ما دام مَصِيرُهما هُو والمؤمنُ بالآخرة والثَّوابِ والعِقابِ واحِدًا إِلَى غَيْر مَسْؤولِيّة سِوَى مَا فِي هذه الدُّنْيا؟(23/2)
فهذه العَقِيدة النَّاقِصة هِي كالجُحود لِوجودِ الله ـ تعالى ـ من حيث النَّتِيجةُ، فالإيمانُ باليومِ الآخِرِ قُوَّةٌ دافِعةٌ إلى الخَيْر، ومُحاسبةِ النَّفْس مُحاسبةً تُغْني عن إقامةِ رَقيب من جانب الحاكِم فَوْق رأسِ كُلّ إِنْسانِ، ولَنْ يُمْكِنَ ذلك، ولكنَّه يُمْكِنُ عَنْ طَرِيق الإيمانِ وعَقِيدة اليَوْمِ الآخِر.
3 - أمّا الرُّوح الإنْسانِيّ فهو فِي عَقيدة الإسلام شَيْء غَيْر الجَسَدِ ذُو وُجودٍ وخُلودٍ، ولَيْسَتْ حَياةُ الإنْسانِ مُجَرَّدَ تَفَاعُلاتٍ كِيمياويَّة بَيْن أَجْزاءِ بَدَنِه بِشَرائِطَ مُعيَّنةٍ كما يَرَى المادِيّون المُلحدون.وأدلّتُه الشَّرْعِيَّة كَثِيرةٌ فِي القُرْآنِ والسُّنّة، ولَكِنَّّ حَقيقةَ الرُّوحِ وماهيتَه مجهولةٌ ؛ لأنّها مِمّا استأثر الله ـ تعالى ـ بعِلْمِه كما يقول تعالى: (ويَسْألونَكَ عَنِ الرُّوح قُلِ الرُّوح مِنْ أَمْرِ رَبِّي ومَا أًُوتِيتُمْ مِنَ العِلْم إِلَّا قَلِيلاً) (سورة الإسراء: 85).
هامش
(1) مجلة حضارة الإسلام: العدد الأول ـ السنة الرابعة 1383 / 1963.(23/3)
الطُّهْر غير ناقِض للوضوء(1)
حُكم ما يَخْرج من المرأة من رطوبة سائلة
جاءنا سؤال من بعض القراء عن حكم ما يخرج من المرأة في الحالات العادية من رطوبة سائلة، وهو ما يسمَّى بين الناس وعند النِّساء: الطُّهر، هل ينقُض الوضوء؟ فيجب على المرأة أن تتوضأ للصلاة بعد خروجه، أو أنه غير ناقض مع ملاحظة أنه لا يمكن التحرُّز منه، وهو يخرج بصورة طبيعيّة في معظم الأوقات، فما هو حكم الشَّريعة فيه؟
وقد تفضّل الأستاذ مصطفى الزرقا بالإجابة التالية ردًّا على هذا السؤال:
سُئلت فيما مضى كثيرًا عن هذا الموضوع، وكنت أبيِّن شفهيًّا للسائلين من رجال ونساء أن هذا السائل اللّزِج الذي يخرج من المرأة في الحالات العادية (لا في الحالات المرضيّة)، ويسمِّيه الناس الطُّهر ـ ليس بنجِس شرعًا ولا ينقض وضوء المرأة، كما يقرِّره الفقهاء، ومن السائلين من يَستغرب هذا الجواب؛ لأنهم متصورون خلافه، ويتأكّد مني فأؤكد لهم.. كأنما كل ما فيه تيسير وتسامح ودفع للحرج والمشقّة فيما يتَّصل بواقع الحياة الطبيعيّة، يراه أناس غريبًا، حتّى كأن معنى الشريعة لا يتحقق إلا في الإرهاق والمشقّة، مع أن هذه الشريعة الغرّاء السمحة أساسها التيسير ودفع الحرج.
وأخيرًا جاءني سؤال خطِّي، ولم يقنَع صاحبه بجوابي، فطالبني بالمستند من النصوص! لذلك سأنقل الآن للحضارة، جوابًا على هذا السؤال، النصوص التالية:
قال في كتاب الطهارة من "الدر المختار" أول بحث نواقِض الوضوء:
"وينقُضه خروج كلِّ خارج نجِس".
وقال أيضًا فى بحث الغسل: (صفحة 112 الطبعة البولاقية الأولى): "وسيجيء أن رطوبةَ الفَرج طاهِرة عنده".(24/1)
أي: عند الإمام أبي حنيفة ـ رضي الله عنه ـ خلافًا لصاحبيه . ثم أوضح ابن عابدين رحمه الله في الحاشية هنا أن محَلَّ الخلاف بين أبي حنيفة والصاحبين إنما هي رطوبة الفرج الداخلي ـ وهو الذي لا يجِب غَسله في حال لزوم الغُسل من الجنابة ـ أما رطوبة الفَرج الخارجي فهي طاهرة بالاتفاق؛ لأنها كرطوبة الفم والأنف والعَرق.
ونقل ابن عابدين في مكان آخر بعد ذلك (صفحة 208 من الطبعة المذكورة عن ابن حجر في شرح منهاج الإمام النووي الشافعي) تفسير رطوبة الفرج بأنها:
" هي ماء أبيضُ متردِّد بين المَذْي والعَرق، يخرج من باطن الفرج الذي لا يجب غَسله، أمّا ما يخرج من المكان الظّاهر الذي يجب غسله فإنه طاهر قطعًا (أي: بلا خلاف).
وقال أيضًا صاحب "الدر" في الصفحة 233 من الطبعة المذكورة:
"رطوبة الفرج طاهرة خِلافًا لهما" أي: للصّاحبين.
وقال ابن عابدين فى الحاشية تعليقًا عليه:
"ولذا نقل في التتارخانيّة أن رطوبة الولد عند الولادة طاهرة، وكذا السّخلة إذا خرجَتْ من أمِّها، وكذا البَيضة، فلا يتنجَّس بها الثوب ولا الماء" أهـ.
نقد وتعقيب:
بعد صدور هذه الفتوى من فضيلة الأستاذ مصطفى الزرقا في حكم المائع اللزِج الذي يخرج من قُبُل المرأة، وجزمه بعدم نقضه للوضوء، وترجيح جانب الطهارة، كتب فضيلة العلامة الفقيه الشيخ محمد الحامد الحموي رحمه الله تعالى ردًّا مفصّلاً في كتاب "ردود على أباطيل" ص 82 ـ 88 بعنوان: "الطُّهر ناقض للوضوء" اطّلع عليه فضيلة الأستاذ الزرقا، وكتب التعقيب الآتي:
بعد ما نشرت فتواي هذه في مجلة "حضارة الإسلام" نشر الأخ الكريم الأستاذ الشيخ محمد الحامد (من مدينة حماة) ردًّا بيَّن فيه أن الطُّهر المذكورَ الأبيضَ، الذي تراه المرأة في حالة الصحة العادية، هو ناقض لوضوئها ولو كان طاهرًا.(24/2)
وقد استشهد على ذلك بنُقول فقهيّة نقلَها من المذاهب الأربعة، رآها في نظره مؤيِّدة لرأيه، وأطال في ردّه، لكني لا أراها تؤيِّده، وتخالِف ما ذهبت إليه أنا من أنه لا ينقض وضوء المرأة إذا لم يصحبه سَيلان آخر غير طبيعي ناشئ عن التهابات مرضيّة. وسأجيب فيما يلي عمّا بيّنه الأستاذ، دفعًا للشبهة:
أولاً: إن الأستاذ الحامد بنَى رأيه على نقطة أساسية هي أنه: لا ارتباط بين أن يكون الخارج من أحد السّبيلين نجسًا وبين كونه ناقضًا للوضوء. فقد نصّ الفقهاء على أن الحَصاة والدّودة طاهرتان، ومع ذلك إذا خَرجَتا من الدُّبر تنقضانِ الوضوء.
وجوابًا على ذلك أقول: إن مُراد الفقهاء بأن الدودة والحصاة طاهرتان أنهما طاهرتان في ذاتهما، أما إذا خرجَتا من الدُّبر فإنهما لا تكونان حينئذ طاهرتين، بل متنجِّستين؛ لأنهما قد مرَّتا من مقرِّ النجاسة الرطبة فتنجَّستا ولو أنهما في ذاتهما طاهرتان، بحيث لو غسلهما الإنسان بعد خروجهما وحملهما وصلّى، فصلاتُه صحيحة.
أما ما فَهِمه الأستاذ الكريم من أنهما تخرجان من داخل الدُّبر طاهرتين فهو فَهْمٌ غير صحيح، فهما خارج نجِسٌ، ومتنجّس، فتنقضانِ الوضوء.
وهنا نقطة مُهمّة يجب التنبُّه لها، وهي ذات تأثير في الموضوع، فإن الطُّهر الأبيض اللزِج الذي يخرج من المرأة دائمًا في حال الصحة، هو إفراز طبيعي إنما يفرزه المِهبل ويخرج منه؛ ولذلك كان طاهرًا، بينما الدودة إنما تخرج من الدبر مجتازةً معدن النجاسة، فمن المعقول أن تنقض الوضوء.
ثانيًا: احتج الأستاذ الحامد أيضًا بأن الرّيح التي تخرج من الإنسان هي أيضًا طاهرة، فصحَّ أنها تنقض الوضوء.
وجوابًا على ذلك أقول: إن الرّيح غاز كالهواء، وليست جسمًا كثيفًا، فلذلك كانت طاهرة، لكنها اعتُبرت ناقضة للوضوء بنصِّ الحديث النبوي لحكمة خاصة، فلا تكون قاعدة في النواقِض، ولو اعتُبرت نجسة؛ لأنها من تبخُّرات النّجاسة، لكان في ذلك حَرَج عظيم.(24/3)
ثالثًا: نقل الأستاذ الحامد أيضًا في رده المذكور عن الإمام الشرنبلالي من الحنفيّة أن المرأة إذا ولدتْ ولم ينزل منها دم لا تُعتبر نفساءَ؛ لارتباط النفاس بنزول الدم، لكنها يجب عليها الوضوء للرطوبة التي تصاحب الولادة، فإنها تَنقُض الوضوء.
وجوابًا على ذلك أقول: إن الرطوبة المقصودة في كلام الشرنبلالي المُصاحبةَ للولادة، هي رطوبة سائلة من السائل الذي كان الجَنين يسبح فيه، وهو سائل نجس، وينزل قبل نزول الولد، فأين هذا من الطُّهر الأبيض اللزِج الذي تراه المرأة في حالات الصِّحة الطبيعيّة وهو طاهر؟!
فإذا قلنا: إن هذا الطهر ينتقض به وضوؤها، فمعنى ذلك أنه لا يستقرُّ للمرأة وضوء!! وهذا أبعد ما يكون عما تتسم به الشريعة من اليُسر، ودفع الحرج.
هامش
(1) مجلة حضارة الإسلام، العدد الثاني، السنة الرابعة 1383 هـ ـ 1963م.(24/4)
حكم الدم الذي تراه المرأة التي وصلت لسنِّ اليأس
فضيلة الشيخ مصطفى أحمد الزرقا زاده الله علمًا وجزاه خيرًا:
ما حكم الدم الذي تراه المرأة التي وصلت لسن اليأس ولم ينقطع حيضُها؛ لأنها تأخذ إبر الهرمونات حسب الطريقة المُتَّبَعة حاليًا… أفادت الطبيبة التي أعطتها الهرمونات أن المبايِض توقَّفت عن العمل لذلك يُعتبر دمُها استحاضةً، فما رأي فضيلتكم؟
الجواب:
إن سنَّ اليأس ليست محدَّدة تحديدًا منضبطًا فقد تتأخر أو تتقدم فترته، ولم يكن فقهاؤنا يعلمون الصلة بين الحيض والمبايِض ممّا كشَف عنه الطِّبُّ الحديث.
والذي يبدو لي في الموضوع المسؤول عنه أعلاه أن الدم الذي تراه المرأة بعد وصولها إلى سنِّ اليأس إن كان يأتي على حسب عادتها الشهريّة موعدًا ومدة فإنه يُعتبر حيضًا وتترتب عليه أحكام الحيض.
أما إنْ كان دمًا مستمرًّا، أو مُتَقَطِّعًا على غير عادتها في الموعد واللون فهو نزْف استحاضةٍ. والله أعلم.
الرياض 7 من المحرم / 1419(25/1)
نَجاسة الخمر(2)
السؤال: أثبتت بعض التَّجارِب العلمية الحديثة أن (الخمر) عند تحضيرها: تَمُرُّ على عمليات كيميائية. تُشبه إلى حدٍّ كبير جِدًّا العمليات الكيميائيّة التي يمُرُّ بها الطَّعام في الجهاز الهضميّ إلى أن ينتهي بالفضلات (البِراز) ما رأي الشرع إذن بعد هذه النتائج التحليلية في نجاسة الخمر؟
(حسين عبد الجليل ـ المحرر العلمي بجريدة البلاغ).
الجواب:
جمهور الفقهاء والمذاهب الأربعة مُتَّفِقة على الحكم بنجاسة الخمر كالدم والبول؛ لأن القرآن وصفها بأنّها رِجس وأَمَرَ باجتنابها، ومعنى الرجس في اللغة: القذر، واستعمله القرآن فيما يجب الابتعاد عنه بتاتًا، وهذا يوجب في نظرهم الحكم بنجاسة الخمر. والقذارة فيها اعتباريّة للتنفير.
وهناك من الفقهاء والمُجتهدين مَن يرى عدم نجاستها، بحُجّة أن الآية الكريمة لا تدلُّ على النجاسة؛ لأن الأمر باجتنابِها، إنما يدلُّ على التحريم ولا يَلزم منه النجاسة، بدليل أنها قُرِنَتْ في الآية بالمَيْسِر والأنصاب والأزلام ولم يقل أحد منهم بنجاسة شيء من هذه الأشياء، والمَيْسر لعب لا يَقبل الحكمَ بنجاسة ولا طَهارة وإن كان حَرامًا. كما أوضحه الإمام النوويّ الشافعي في المجموع (2/564).
أما مراحل التفاعل الكيماوي التي يمُرُّ بها العصيرُ إلى أن يتخمَّرَ فلا عِبرةَ له في قضية النجاسة والطهارة التي مصدرها النصُّ الشرعي، ومهما كان هذا التفاعل فإن التخمُّر في نهايته لا يُشبه تحوُّل بقايا الطّعام إلى فضلات وبراز.
هامش
(2) مجلة الوعي الإسلامي الكويتية، السنة السادسة، 1390هـ، 1970م العدد (65).(26/1)
حكم إثبات الهلال بالحساب الفلكي في هذا العصر(1)
هل يجوز في هذا العصر اعتماد الحساب الفلكيّ في حلول الشهر القمري؛ الذي رُبِط بثبوته تكاليفُ شرعيّة كبَدءِ الصيام والفِطر وغيرِهما من الأحكام أو لا يجوز؟وذلك في ضوء قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "صُوموا لِرؤيتِه وأفطِروا لِرؤيتِه،فإنْ غُمَّ عليكم فأتِمُّوا العِدّة ثلاثين "، والأحاديث الواردة في هذا الشأن؟
الجواب:
أَستهلُّ جوابي الآن: بأني لا أجدُ في اختلاف علماء الشريعة العَصريين ما يدعو إلى الاستغراب أغرب من اختلافِهم الشديد فيما لا يجوز فيه الاختلاف، حول اعتماد الحساب الفلكي في عصرنا هذا؛ لتحديد حلول الشّهرِ القمري لترتيب أحكامه الشرعية.
وأَسترْعي الانتباه إلى قولي: في عصرنا هذا .
نعم أؤكد على قصدي عصرنا هذا بالذات، ذلك لأنني لا أستغرب الموقف السلبيَّ لعلماء سَلفِنا من عدم تعويلهم على الحساب الفلكي في هذا الموضوع، بل إني لو كنت في عصرهم لقلت بقولهم، ولكنِّي أستغرب كلّ الاستغراب موقف السلبيين من رجال الشريعة في هذا العصر، الذي ارتاد علماؤه آفاق الفَضاء الكوني، وأصبح أصغرُ إنجازاتهم النزولَ على القمر، ثم وضع أقمار صناعية في مدارات فلكية محدَّدة حول الأرض، لأغراض شتَّى علميةٍ وعسكريةٍ وتجسُّسية، ثم القيام برحلات فضائية متنوعة الأهداف، والخروج من مراكبها للسياحة في الفضاء خارج الغِلاف الجوي الذي يُغلِّف الأرض، وخارج نطاق الجاذبية الأرضية، ثم سحب بعض الأقمار الصناعية الدوّارة لإصلاح ما يطرأ عليها من اختلال وهي في الفضاء!!(27/1)
إني على يقين أن علماء سلفنا الأولين الذين لم يَقْبَلُوا اعتماد الحساب الفلكي للأسباب التي سأذكرها قريبًا (نقلاً عنهم) لو أنَّهم وجدوا اليوم في عصرنا هذا وشاهدوا ما وصل إليه عِلمُ الفلك من تطوُّر وضبط مُذْهِل لَغيَّروا رأيهم؛ فإن الله قد آتاهم من سَعة الأفق الفكري في فَهم مقاصد الشريعة ما لم يُؤْتَ مِثْلُه أتباعَهم المُتأخِّرين!!
فإذا كان الرصد الفلكي وحساباته في الزمن الماضي، لم يكن له من الدقة والصدق ما يكفي للثقة به والتعويل عليه، فهل يصح أن ينسحب ذلك الحكم عليه إلى يومنا هذا؟
ولعل قائلاً يقول: إن عدم قبول الاعتماد على الحساب الفلكي في تحديد أوائل الشهور القمرية، ليس سببه الشكَّ في صحة الحساب الفلكي ودقته، وإنما سببه أن الشريعة الإسلامية، بلسان رسولها ـ صلى الله عليه وسلم ـ، قد ربطت ميلاد الأهِلّة وحلول الشهور القمرية بالرؤية البصرية، وذلك بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حديثة الثابت عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما: "صُوموا لِرؤيتِه ـ أي: الهلال ـ وأفطروا لرؤيته، فإذا غُمَّ عليكم فاقْدِروا له ".
وفي رواية ثابتة أيضًا: "فإن غُمَّ عليكم فأكملوا العدّة ثلاثين".
وقد أخرج هذا الحديث البخاري وسلم . وفي رواية لمسلم: "فإن غُمَّ عليكم فاقْدِروا ثلاثين"، وهي تفسير لمعنى التقدير المطلق الوارد في الرواية الأولى.
وفي رواية أخرى عند البخاري ومسلم والنسائي عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه: "إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غُمَّ عليكم فصوموا ثلاثين يومًا ".(27/2)
فجميع الروايات الواردة عن النبي ـ صلَّى الله عليه وسلم ـ في هذا الشأن قد رُبط فيها الصوم والإفطار برؤية الهلال الجديد. وإن القَدْر أو التَّقدير عندما تمتنع الرؤية البصرية لعارِض يحجبها من غَيْم أو ضباب أو مانع آخر، معناه: إكمال الشهر القائم ـ شعبان أو رمضان ـ ثلاثين يومًا، فلا يُحكَم بأنه تِسعٌ وعشرون إلا بالرؤية.وهذا من شؤون العبادات التي تُبْنَى فيها الأحكام على النص تعبُّدًا دون نظر إلى العلل، ولا إعمال للأَقيِسة.
هذه حُجّة مَن لا يقبلون الاعتماد على الحساب الفلكي في تحديد أوائل الشهور القمرية، ولو بلغ الحساب الفلكيُّ من الصحة والدقة مبلغَ اليقين بتقدم علمه ووسائله.
ونقول نحن بدورنا: إن كلّ ذلك مسلَّم به لدينا، وهو معروف في قواعد الشريعة وأصول فقهها بشأن العبادات، ولا مجال للجدل فيه، ولكنه مفروض في النصوص التي تُلقى إلينا مطلقة غير معلَّلة، فإذا ورد النص نفسه معللاً بعلة جاءت معه من مصدره، فإنَّ الأمر حينئذٍ يختلِف، ويكون للعلة تأثيرُها في فَهم النَّصِّ، وارتباط الحكم بها وجودًا وعدمًا في التطبيق، ولو كان الموضوع من صميم العبادات . ولكي تتضحَ لنا الرؤية الصحيحة في الموضوع نقول:
إن هذا الحديث النبوي الشريف الآنِفَ الذِّكرِ ليس هو النَّصَّ الوحيدَ في الموضوع، بل هناك روايات أخرى ثابتة عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ توضح علّة أمره باعتماد رؤية الهلال البصرية للعلم بحلول الشهر الجديد؛ الذي نِيطتْ به التكاليفُ والأحكام، من صيام وغيره.
فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أم سلمة ـ رَضِيَ الله عنها في كتاب الصيام (باب: الصوم لرؤية الهلال) أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "إن الشَّهر يكونُ تسعةً وعشرين يومًا ".(27/3)
وأخرج ـ أيضًا ـ بعده عن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: " إنا أمةٌ أُمِّيَّة لا نَكتُب ولا نحسِب، الشهرُ هكذا وهكذا، وعَقَدَ الإبهامَ في الثالثة (أي طَواه) والشَّهْرُ هكذا وهكذا يعني تمام الثلاثين" أ.هـ.
ومُفاد هذا الحديث أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أشار (أولاً) بكلتا يديه وبأصابعه العشرِ ثلاثَ مراتٍ، وطوى في الثالثة إبهامَه على راحته لتبقَى الأصابِع فيها تسعًا، لإفادة أن الشَّهر قد يكون تسعةً وعشرين يومًا، ثم كرَّر الإشارةَ ذاتَها .
(ثانيًا) دون أن يطويَ في المرة الثالثة شيئًا من أصابعه العشر؛ ليفيدَ أن الشهر قد يكون ـ أيضًا ـ ثلاثين يومًا، أي: أنه يكون تارةً تسعًا وعشرين، وتارة ثلاثين.
هكذا نقل النسائي تفسير هذا الحديث عن شعبة عن جبلة بن سُحيم عن ابن عمر. (رواه النسائي بشرح السيوطي، وحاشية السندي ج4 ص /138 و 140).
وكذلك ليس هذا هو كل شيء من الروايات الواردة في هذا الموضوع، فالرواية التي أكملت الصورة، وأوضحت العلّة، فارتبطت أجزاء ما ورد عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الشأن بعضُها ببعض، هي ما أخرجه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والنسائي (واللفظ للبخاري)، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا" يعني مرة تسعة وعشرين، ومرة ثلاثين، وكلهم أوردوا ذلك في كتاب الصوم. وقد أخرجه أحمد عن ابن عمر.
فهذا الحديث النبوي هو عماد الخيمة، وبيت القصيد في موضوعنا هذا، فقد علَّل رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلم ـ أمرَه باعتماد رُؤية الهلال رؤيةً بصرية لبدء الصوم والإفطار بأنه من أُمَّةٍ أُمِّيَّةٍ لا تكتب ولا تحسب، فما من سبيل لديها لمعرفة حلول الشهر ونهايته إلا رؤية الهلال الجديد، ما دام الشهر القمري يكون تارة تسعة وعشرين وتارة ثلاثين. وهذا ما فَهِمَه شُرّاح الحديث من هذا النَّصِّ.(27/4)
قال الحافظ ابن حجر في فَتْح الباري (ج 4/ 127): "لا نكتب ولا نحسب" (بالنون فيهما)، والمراد أهل الإسلام الذين بحضرتِه في تلك المَقالة، وهو محمول على أكثرهم؛ لأن الكتابة كانت فيهم قليلة نادرة .
والمراد بالحساب هنا حساب النجوم وتسييرها، ولم يكونوا يعرِفون من ذلك أيضًا إلا النَّزْر اليسير، فعَلَّق الحكم بالصوم وغيره بالرؤية لرفع الحرج عنهم في مُعاناة حساب التَّسيِير..)(2)
والعيني في "عمدة القاري" قد علَّل تعليق الشارع الصوم بالرؤية أيضًا بعلة رَفْع الحَرَج في مُعاناة حساب التسيير كما نقلناه عن ابن حجر. ونقل العيني عن ابن بطّال في هذا المقام قوله: "لم نكلَّف في تعريف مواقيت صومِنا، ولا عباداتِنا ما نحتاج فيه إلى معرفة حساب ولا كتابة، إنما رُبِطَتْ عِبادتنا بأعلام واضحة، وأُمور ظاهرة يستوي في معرفة ذلك الحُسَّاب وغيرهم".
وذكر القسطلاني في "إرشاد الساري شرح البخاري" ( ج 3 ص 359) مثل ما قال ابن بطال:
وقال السندي في "حاشيته على سنن النسائي" يشرح كلمة (أمية) الواردة في الحديث بقوله: "أمية في عدم معرفة الكتابة والحساب، فلذلك ما كلَّفَنا الله ـ تعالى ـ بحساب أهل النُّجوم، ولا بالشهور الشمسيّة الخَفِيّة، بل كلَّفنا بالشهور القمرية الجلية.." (سنن النسائي بشرح السيوطي ج 4/140).
وواضح من هذا أن الأمر باعتماد رؤية الهلال ليس لأن رؤيتَه هي في ذاتها عبادة، أو أن فيها معنى التَّعبد؛ بل لأنها هي الوسيلة الممكِنة الميسورة إذ ذاك، لمعرفة بدء الشهر القمري ونهايته لمن يكونون كذلك، أي: أميين لا علم لهم بالكتابة والحساب الفلكي.(27/5)
ولازم هذا المُفاد من مفهوم النَّصِّ الشرعيِّ نفسه أنَّ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وقومَه العربَ، إذْ ذاك، لو كانوا من أهل العلم بالكتاب والحساب بحيث يستطيعون أن يَرصُدوا الأجرام الفلكية، ويَضبِطوا بالكتاب والحساب دوراتِها المنتظمة التي نظمتها قدرة الله العليم القدير بصورة لا تختلُّ، ولا تتخلَّف، ولا تختلِف، حتى يعرفوا مسبقًا بالحساب متى يُهَلُّ بالهلال الجديد، فينتهي الشهر السابق ويبدأ اللاحق ـ لأمكنهم اعتماد الحسابِ الفلكي. وكذا كل مَنْ يَصِلُ لديهم هذا العلم من الدقة والانضباط إلى الدرجة التي يوثَق بها، ويطمَأن إلى صحّتها.
هذا ـ حينئذٍ، ولا شكَّ ـ أوثقُ وأضبط في إثبات الهلال من الاعتماد على شاهدين ليسا معصومَيْن من الوهم وخداع البصر، ولا من الكذب لغرض أو مصلحة شخصية مَستورة، مهما تحرَّينا للتحقُّق من عدالتهما الظاهرة التي توحِي بصدقهما، وكذلك هو ـ أي: طريق الحساب الفلكي ـ أوثقُ وأضبط من الاعتماد على شاهد واحد عندما يكون الجوُ غير صاحٍ، والرؤية عسيرةٌ، كما عليه بعض المذاهب المعتبرة في هذه الحال.
وقد وُجِدَ مِن علماء السلف ـ حين كان الحساب الفلكي في حاله القديمة غير منضبط ـ مَن قال: إن العالم بالحساب يعمل به لنفسه، قال بهذا مطرف بن عبد الله من التابعين، ونقله عنه الحطاب من المالكية في كتابه "مواهب الجليل" (2/288) ونقل العلامة العيني الحنفي في كتابه "عمدة القاري شرح صحيح البخاري" عن بعض الحنفية أنه: لا بأس بالاعتماد على قول المنجِّمين (يقصد بهم علماء الحساب الفلكي كما سبق بيانه) وذكر ذلك العلامة ابن عابدين أيضًا في رسائله (1/244).(27/6)
وقال القشيريُّ: إذا دلَّ الحساب على أن الهلال قد طلع من الأفق على وجه يُرى لولا وجود المانع كالغَيم مثلاً، فهذا يقتضِي الوجوبَ لوجود السَّبَبِ الشَّرْعِي، وأن حقيقة الرؤية ليست مشروطة في اللزوم، فقد اتفقوا على أن المحبوس في المطمورة إذا عَلِمَ بإتمام العِدة، أو بطريق الاجتهاد أنَّ اليوم من رمضان وَجَبَ عليه الصَّوم. أ.هـ (ينظر: عمدة القاري ج 10/9272).
ونقل القليوبي من الشافعية عن العبادي قوله: "إذا دلَّ الحساب القطعي على عدم رؤية الهلال لم يُقبل قول العدول برؤيته، وتُرَدُّ شهادتُهم " ثم قال القليوبي: هذا ظاهر جلي، ولا يجوز الصوم حينئذٍ، وإن مخالفة ذلك معاندة ومُكابَرة " (القليوبي 2/49).
(ولينظر في ذلك كله الموسوعة الفقهية الصادرة في الكويت ـ كلمة: رؤية الهلال ج22 /ص: 34).
وواضح أيضًا لكل ذي علم وفَهم أنَّ أمرَ الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بإتمام الشهر القائم ثلاثين حين يغمُّ علينا الهلالَ ـ بسبب ما ـ حاجبٌ للرؤية من غيم أو ضباب أو غيرهما، ليس معناه أن الشهر القائم يكون في الواقع ثلاثين يومًا، بل قد يكون الهلال الجديد متولِّدًا وقابلاً للرؤية لو كان الجو صحوًا، وحينئذ: يكون اليوم التالي الذي اعتبرناه يوم الثلاثين الأخير من الشهر هو في الواقع أول يوم من الشهر الجديد الذي علينا أن نصومه أو نفطرَ فيه، ولكن لأننا لا نستطيع معرفة ذلك من طريق الرؤية البصرية التي حجبت، ولا نملك وسيلة سواها، فإننا نكون معذورين شرعًا إذا أتممْنا شعبان ثلاثين يومًا وكان هو في الواقع تسعة وعشرين، فلم نصُم أول يوم من رمضان: إذ (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) (البقرة: 286) بنص القرآن العظيم.(27/7)
هذا تحليل الموضوع وفهمه عقلاً وفقهًا، وليس معنى إتمام الثلاثين حين انحجاب الرؤية أننا بهذا الإتمام نصل إلى معرفة واقع الأمر وحقيقته في نهاية الشهر السابق وبداية اللاحق، وأن نهاية السابق هي يوم الثلاثين.
وما دام من البَدَهِيّات أن رؤية الهلال الجديد ليست في ذاتها عبادة في الإسلام، وإنما هي وسيلة لمعرفة الوقت، وكانت الوسيلة الوحيدة الممكنة في أمة أمية لا تكتب ولا تحسب، وكانت أمِّيّتُها هي العِلّةَ في الأمر بالاعتماد على العين الباصرة، وذلك بنص الحديث النبوي مصدر الحكم، فما الذي يمنع شرعًا أن نعتمد الحساب الفلكي اليقيني، الذي يعرفنا مسبقًا بموعد حلول الشهر الجديد، ولا يمكن أن يحجب عِلْمَنا حينئذ غيم ولا ضباب إلا ضباب العقول؟!
سبب رفض العلماء المتقدمين لاعتماد الحساب:
من المسلَّم به أن الفقهاء وشُرّاح الحديث يرفضون التعويل على الحساب لمعرفة بدايات الشهور القمرية ونهايتها للصيام والإفطار، ويُقرِّرون أن الشرع لم يُكلِّفْنا في مواقيت الصوم والعبادة بمعرفة حساب ولا كتابة، وإنما رَبَط التكليفَ في كل ذلك بعلامات واضحةٍ يستوي في معرفتها الكاتبون والحاسبون وغيرهم، كما نقلناه سابقًا عن العيني والقسطلاني وابن بطال والسندي وسواهم . وإن الحكمة في هذا واضحة لاستمرار إمكان تطبيق الشريعة في كل زمان ومكان.
ولكن يحسُن أن ننقل تعليلاتِهم لهذا الرفض ليتبين سببه ومبناه، مما يظهر ارتباطه بما كانت عليه الحال في الماضي، ولا ينطبق على ما أصبح عليه أمر علم الفلك وحسابه في عصرنا هذا.
فقد نقل ابن حجر أيضًا عن ابن بزيزة أن اعتبار الحساب هو "مذهب باطل، فقد نهَت الشريعة عن الخوض في علم النجوم؛ لأنه حدْس وتخمين، وليس فيه قطع ولا ظنٌّ غالب".(27/8)
ويظهر من كلام ابن حجر وابن بزيزة أن العلة في عدم اعتماد الحساب هي أن هذا العلم في ذاك الزَّمن مجرد حَدْس وتَخْمينٍ لا قطعَ فيه، وأن نتائِجه مختلفة بين أهله فيُؤدِّي ذلك إلى الاختلاف والنِّزاع بين المكلفين.
ونقل الزرقاني في شرحه على الموطأ (ج2 ص /154) عن النووي قوله" "إن عدم البِناء على حِساب المنجِّمين لأنَّه حدْس وتخْمين، وإنما يعتبر منه ما يُعْرَفُ به القِبلةُ والوَقْت " أ.هـ. أي: أن مواقيتَ الصلاة فقط يُعتبر فيها الحساب .
وذكر ابن بطال ما يؤيد ذلك، فقال: "وهذا الحديث ـ أي: حديث "لا نكتب ولا نحسب" ـ ناسخ لمراعاة النجوم بقوانين التعديل، وإنما المُعوَّل على رؤية الأهلة، وإنما لنا أن ننظر في علم الحساب ما يكون عَيانًا أو كالعَيان، وأما ما غمض حتى لا يُدرَك إلا بالظنون، وبكشف الهيئات الغائبة عن الأبصار فقد نُهينا عنه وعن تَكلُّفه " (ر: العيني ج10/287).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في معرض احتجاجه لعدم جواز اعتماد الحساب: "إن الله سبحانه لم يجعل لمطلِع الهِلال حسابًا مستقيمًا.. ولم يضبِطوا سيرَه إلا بالتعديل الذي يتفق الحُسّاب على أنه غير مُطَّرِد، وإنما هو تقريب " (الفتاوى ج 25/183).
وقال في مكان آخر: "وهذا من الأسباب المُوجِبة لِئَلّا يعمل بالكتاب والحساب في الأهلة" (المرجع نفسه ص 181).
وقد أكد هذا المعنى في مواطنَ عديدةٍ من الفصل الذي عقده في هذا الموضوع.(27/9)
هذا، ويبدو من كلام شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ أنه يعتبر اعتماد الحساب لمعرفة أوائل الشهور القمرية من قبيل عمل العَرّافين، وعمل المنجِّمين الذين يربطون الحوادث في الأرض وطوالع الحظوظ بحركات النجوم واقتراناتها . فقد قال في أواخر الفصل الطويل الذي عقده في هذا الموضوع: "فالقول بالأحكام النجومية باطلٌ عقلاً ومحرَّم شرعًا، وذلك أن حركة الفلك ـ وإن كان لها أثر ـ ليست مُستقِلّةً، بل تأثير الأرواح وغيرها من الملائكة أشدُّ من تأثيره، وكذلك تأثير الأجسام الطبيعية التي في الأرض..".
ثم قال: "والعرّاف يَعُمُّ المنجِّمَ وغيرَه إما لفظًا، وإما معنًى. وقال ـ صلى الله عليه وسلم: "مَن اقْتبس علمًا من النجوم فقد اقتبس شُعبة من السِّحر"(3) فقد تبين تحريم الأخذ بأحكام النوم، وقد بيَّنا من جهة العقل أن ذلك أيضًا متعذَّر في الغالب، وحُذَّاق المنجمين يوافقون على ذلك، فتَبَيَّنَ لهم أن قولَهم في رؤية الهلال وفي الأحكام(4) من باب واحد يُعْلَم بأدلة العقول امتناعُ ضبط ذلك، ويُعلَم بأدلة الشريعة تحريمُ ذلك.." (الفتاوى ج 25 / 198 ـ 201).
وقد اشتد شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ على من يقول باعتماد الحساب في الأهلة، وشنَّع عليه، وقال: "فمن كتب أو حسب لم يكن من هذه الأمة في هذا الحكم، بل يكون اتبع غير سبيل المؤمنين" (الفتاوى ج 25/165و 174).
الرأي الذي أراه في هذا الموضوع:
يتضح من مجموع ما تقدم بيانه الأمور الأربعة التالية:(27/10)
أولاً: أن النَّظر جميع الأحاديث النبوية الصحيحة الواردة في هذا الموضوع، وربْطَ بعضها ببعض ـ وكلها واردة في الصوم والإفطار ـ يبرز العلة السببية في أمر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأن يعتمد المسلمون في بداية الشهر ونهايته رؤية الهلال بالبصر لبداية شهر الصوم ونهايته، ويبين أن العلة هي كونُهم أمة أمية لا تكتب لا تحسب، أي: ليس لديهم علم وحساب ومضبوط يعرفون به متى يبدأ الشهر ومتى ينتهي، ما دام الشهر القمري يكون تارة تسعة وعشرين يومًا، وتارة ثلاثين.
وهذا يدل بمفهومه أنه لو توافَر العلم بالنظام الفلكي المحكم؛ الذي أقامه الله ـ تعالى ـ بصورة لا تختلف ولا تتخلف، وأصبح هذا العلم يوصلنا إلى معرفة يقينيّة بمواعيدِ الهلال في كل شهر، وفي أي وقت بعد ولادته تُمكن رؤيته بالعين الباصرة السليمة؛ إذا انتفت العوارض الجوية التي قد تحجب الرؤية، فحينئذٍ لا يوجد مانع شرعي من اعتماد هذا الحساب، والخروج بالمسلمين من مشكلة إثبات الهلال، ومن الفوضَى التي أصبحت مُخجِلةً، بل مُذهلةً، حيث يبلغ فَرْق الإثبات للصوم بين مختلف الأقطار الإسلامية ثلاثة أيام، كما يحصل في بعض الأعوام!!(27/11)
ثانيًا: أن الفقهاء الأوائل الذين نصُّوا على عدم جواز اعتماد الحساب في تحديد بداية الشهر القمري للصوم والإفطار، وسمَّوه حساب التسيير، قالوا: إنه قائم على قانون التعديل، وهو ظني مبني على الحدس والتَّخمين (كما نقلناه عن العلامة ابن حجر وابن بطال وابن بزيزة والنووي والسندي والعينى والقسطلاني)، وكلهم قد بَنَوْا على حالة هذا الحساب الذي كان في زمنهم، حيث لم يكن في وقتهم علم الفلك (الذي كان يسمَّى علمَ الهيئة، وعلمَ النجوم، و علمَ التسيير أو التَّنجيم) قائمًا على رصد دقيق بوسائل محكمة؛ إذ لم تكن، آنذاكَ، المراصدُ المُجهَّزة بالمكبرات من العدسات الزجاجية العظيمة؛ التي تقرِّب الأبعاد الشاسعة إلى درجة يصعُب على العقل تصوُّرُها، والتي تتبع حركات الكواكب والنجوم، وتسجلها بأجزاءٍ من مئات أو آلاف الأجزاء من الثانية الواحدة، وتقارن بين دورتها بهذه الدقة؛ ولذا كانوا يسمونه علم التسيير الذي يقوم على قانون التعديل، حيث يأخذ المنجِّم الذي يحسب سير الكواكب عددًا من المواقيت السابقة، ويقوم بتعديلها بأخذ الوُسطَى منها، ويبني عليها حسابه (وهذا معنى قانون التعديل كما يُشعر به كلامُهم نفسه).
من هنا كان حسابهم حدسيًّا وتخمينيًّا، كما وصفه أولئك الفقهاء الذين نفَوا جوازَ الاعتماد عليه، وإن كان بعضهم كالإمام النووي صرح بجواز اعتماد حسابهم لتحديد جهة القبلة ومواقيت الصلاة دون الصوم (مع أن الصلاة في حكم الإسلام أعظمُ خطورةً من الصوم بإجماع الفقهاء، وأشدُّ وجوبًا وتأكيدًا).
وقد نقلنا آنفًا كلام ابن بطال بأن "لنا أن ننظر في علم الحساب ما يكون عَيانًا أو كالعَيان.." وهذا ما يتسِم به ما وصل إليه علم الفلك في عصرنا هذا من الدقة المتناهيةِ الانضباط.(27/12)
ثالثًا: أن الفقهاء الأوائل واجهوا أيضًا مشكلة خطيرةً في عصرهم، وهي الاختلاط والارتباط الوثيق، إذ ذاك في الماضي، بين العِرافة والتنجيم والكِهانة والسحر من جهة، وبين حساب النجوم (بمعنى علم الفلك) من جهة أخرى.
فيبدو أن كثيرًا من أهل حساب النجوم كانوا أيضًا يشتغلون بتلك الأمور الباطلة، التي نهت عنها الشريعة أشد النهي، فكان للقول باعتماد الحساب في الأهلة مفسدتان:
الأولى: أنه ظنيٌّ من باب الحدس والتخمين مبنيٌّ على طريقة التعديل التي بَيَّنا معناها، فلا يُعْقَل أن تُتركَ به الرؤية بالعين الباصرة رغم ما قد يعتريها من عوارضَ واشتباهات.
الثانية: وهي الأشَدُّ خطورة والأدْهَى ـ هي انسياق الناس إلى التعويل على أولئك المنجِّمين والعَرّافين؛ الذين يحترفون الضَّحك على عقول الناس بأكاذيبهم، وتُرَّهاتهم، وشَعوذاتِهم.
وهذه المفسدة الثانية هي التفسير لهذا النَّكير الشديد؛ الذي أطلقه شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ على من يلجؤُون إلى الحساب، حساب النجوم في إهلال الأهلة بدلاً من الرؤية، واعتباره إياهم من الذين يتبعون غير سبيل المؤمنين، وذلك بدليل أنه صرّح باعتبارهم من قَبيل العَرّافين، والذين يربطون أحداث الأرض وطوالع الناس وحظوظَهم بحركات النجوم، وسُمُّوا من أجل ذلك بالمنجمين، وذكر شاهدًا على ذلك الحديث النبوي الآنف الذُّكر، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "من اقتبس علمًا من النجوم فقد اقتبس شُعبةً من السحر".(27/13)
فلا يُعقل أن ينهَى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن علم يبيِّن نظام الكون، وقدرة الله تعالى وحكمته وعمله المُحيطَ في إقامة الكون على نظام دقيق لا يختل، ويدخل في قوله تعالى في قرآنه العظيم (قُلِ انظُروا ماذَا في السَّموات والأرْضِ) (يونس: 101)، فليس لهذا الحديث النبوي محمل إلا على تلك الشعوذات والأمور الباطلة: التي خلط أولئك المنجمون بينها وبين الحساب الفلكي؛ الذي لم يكن قد نضَج وبلغ في ذلك الوقتِ مرتبة العلم والثقة.
رابعًا: أما اليوم في عصرنا هذا الذي انفصل فيه، منذ زمن طويل، علم الفلك بمعناه الصحيح، عن التنجيم بمعناه العُرفي من الشعوذة، والكهانة، واستطلاع الحظوظ من حركات النجوم، وأصبح علم الفلك قائمًا على أسس من الرصد بالمراصد الحديثة، والأجهزة العملاقة التي تكتشف حركات الكواكب من مسافات السنين الضوئية، وبالحسابات الدقيقة المُتَيَقَّنة التي تحدِّد تلك الحركات بجزء من مئات أو آلاف الأجزاء من الثانية، وأُقيمت بِناء عليه في الفضاء حول الأرض محطات ثابتة، وتستقبل مركبات تدور حول الأرض..إلخ.. فهل يمكن أن يشك بعد ذلك بصحّتِه ويقين حساباتِه، وأن يُقاس على ما كان عليه من البساطة والظَّنِيّة والتعديل في الماضي زَمَنَ أسلافِنا رحمهم الله؟!
الهوامش
(1) (من كتاب "العقل والفقه في فهم الحديث النبوي" للزرقا ص 71 ـ 98 باختصار، ومن أراد الاستزادة فليرجع إلى الكتاب المذكور.
وقد بُحث هذا الموضوع في مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8-3 صفر 1407، وقُرِّر ما يلي: يجب الاعتماد على الرؤية ويستعان بالحساب الفلكي والمراصد مراعاة للأحاديث النبوية، والحقائق العلمية. "قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي المنبثق من منظمة المؤتمر الإسلامي ـ جدة" قرار رقم: 18 (316) (مجد).(27/14)
(2) أضاف ابن حجر بعد ذلك قائلاً: "واستمر الحكم في الصوم ولو حدث بعدهم من يعرف ذلك، بل ظاهر السياق يُشعر بنفي تعليق الحكم بالحساب أصلاً " أهـ. وقد ناقش فضيلة الشيخ هذه العبارة لابن حجر في كتابه "العقل والفقه في فهم الحديث النبوي" من ص 93ـ 94 فارجع إليه.
(3) رواه أبو داود في الطب (3905)، وابن ماجه في الأدب (3726)، وصححه النووي في "رياض الصالحين" رقم (1669)، والذهبي في "الكبائر" كما في "فيض القدير" 6/80.
(4) مراده أحكام النجوم، أي: تأثير حركاتها في الحوادث والحظوظ.(27/15)
هل يجب الصوم إذا رُؤِيَ الهلال في المشرق ولم يُرَ في المغرب؟
سؤال من السيد صالح العود في فرنسا:
فضيلة الشيخ مصطفى الزرقا حفظه الله ورعاه.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أما بعد: فلقد أثبتت المراصد الغربية عندنا أن ولادة الهلال القمري ستكون إن شاء الله يوم الأحد فبراير 21 شباط (الشهر الثاني الميلادي 1993م) على الساعة الثانية وخمس دقائق بتوقيت العاصمة الفرنسية (باريس).
هذا من حيث الولادة، أما الرؤية فمستبعدةٌ إلا بعد أكثر من ثماني عشرة ساعة تقريبًا في حالة الصَّحْو الجَوِي.
والمعنى: أن الرؤية غير ممكنة إطلاقًا لإثبات بدء صوم رمضان هذا العام (1413 هـ) سواء يوم 21 أو 22 فبراير.
فما الحكم، لو أن دولًة إسلامية ما أعلنت الصيام في أحد هذين اليومين (21 أو 22) وقد تكون الرؤية غيرَ ثابتة، أو حسب تقويمها، إنما فعلت لمجرد كسب قصب السَّبق بأنّها أول دولة إسلامية أعلنت صيام رمضان، هل تصوم الجاليات المسلمة في بلاد الغرب أم لا؟ علمًا أن قول "جمهور الفقهاء إذا رئي الهلال في بلد يجب الصوم على كافة البلدان".
أجيبونا بإيضاح على عجل، جزاكم الله خيرًا، وبارك فيكم، والسلام عليكم.
إلى الأخ الكريم السيد صالح على العود المحترم:
السلام عليك ورحمة الله تعالى وبركاته
تلقيت رسالتكم المرسلة بالفاكس (fax) والمؤرخّة في 18 رجب / شباط - 00بشأن موعد ميلاد هلال رمضان المُقبل في الحساب الفلكي، وعدم إمكان رؤيته لديكم في مساء يوم الأحد 21 من شهر شباط القادم (فبراير)، وتسألون عما تفعلون لو أن دولة إسلامية ثبتتْ لديها رؤية الهلال، وأعلنت أن أول رمضان يوم الإثنين 22 من شباط؟
فأُفيدكم أن معظم الاجتهادات والمذاهب الفقهية تقرر أنه: إذا رُؤِيَ الهلال في المشرق فإنه يلزم أهل المغرب؛ والعكس بالعكس؛ توحيدًا ليوم الصيام، وتسهيلاً على المكلَّفين؛ ولأن اختلاف المطالع ـ بالنسبة للهلال ـ يسيرٌ، وليس كبيرًا فلا عبرة له.(28/1)
وعليه فمتى ثبتت الرؤية في دولةٍ ما، فعلى القاطنين في فرنسا أو سواها أن يصوموا في اليوم التالي.
وقد بلغني أن المسلمين في الغرب وبخاصة في أمريكا وهم في بلد واحد (كهيوستن أو نيويورك) يبدؤون الصوم في أيام مختلفة، فمنهم من يمشي على الحساب الفلكي، ومنهم من يمشي على إثبات السعودية، ومنهم من يتم عدة شعبان ثلاثين!! وهذا أمر منكر في منتهى الإنكار في البلد الواحد.
وإني أرى أن تترقبوا وتتابعوا أخبار الإثبات في المملكة العربية السعودية، فإن كثيرًا من البلاد العربية والإسلامية تترقب إثباتها، وتمشي عليه، وما أسهل هذه المراقبةَ للأخبار، والاتصالات بالوسائل الحديثة اليوم.
والعالم الإسلامي كله يتابع إثبات المملكة العربية السعودية في الحَجِّ اضطرارًا، فلماذا لا يتابعها في الصيام؟
وكل عام وأنتم بخير، تقبل الله منا ومنكم، والسلام عليكم ورحمة الله.
الرياض 8 شعبان / 1413
مصطفى أحمد الزرقا(28/2)
وقت الإمساك في رمضان وحكم الإبر الدَّوائيّة
الأستاذ الكريم الشيخ مصطفى الزرقا حفظه الله:
السلام عليكم ورحمة الله وبعد:
لقد نُقل عنكم ما يلي:
1 - نقول: إن الإمساك عن الأكل والشُّرب وجميع المُفطرات عندما يَضرَب مِدفَع الإمساك، حتى إن الناقل ذكر أنكم قلتم: وإذا كان في فمه شيء، فأكد النفي، وأنكم قلتم: عند مدفع الإمساك.
2 - تقولون: إن الإبر التي تُسْتعمل للمَرْضَى تُفطِر، وتُفْسِدُ الصومَ.
فأرجو بيان رأيكم، وهل صحَّ ما نُقِل عنكم؟
أخوكم: يوسف عبد الرحمن البرقاوي
مراقب التوجيه الإسلامي في لواء الزرقاء
إلى الأخ الكريم الأستاذ يوسف عبد الرحمن البرقاوي المحترم مراقب التوجيه الإسلامي في لواء الزرقاء حفظه الله تعالى.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد تلقيتُ رسالتك الكريمة المؤرخة في 28 رمضان 1392 هـ الموافق 14/11/1972م فكان ما فيها من آراء سمعتها عني محلِّ استغراب كبير لديَّ.
وإليك جوابي:
1 - أنا لم أقل إن الإمساك عن الطعام والشراب في ليل رمضان واجبٌ عندما يضرب مدفع الإمساك، بل قلت العكس تمامًا. وقد بُحَّ صوتي في الإذاعة في برنامج (أنت تسأل والمفتي يجيب) في الساعة 3.30 قبل الغروب، في أيام رمضان، وأنا أقول وأُكرِّر: إن أذان الإمساك ومدفَعه ليس أذانًا توقيتيًا، بل هو أذان تنبيهي لقرب الفَجر، فليس على الإنسان فيه أن يمتنع عن المُفطرات، وإنما العِبرة بطلوع الفَجْرِ، حتى إنني أعلنت للناس أكثر من ذلك: أنه عندما يسمعُ الإنسان أذان الفجر وفي فمِه لقمة لا بأس أن يبتلعَها؛ لأن هذه المواقيت الشرعية لم يقرِّرْها الشرع على أساس الدقائق والثواني الفلكية، بل على ظهور ملامح الفَجر وضَوئه، كما تدلُّ عليه آثار كثيرة في السنة ا القوليّة والفعليّة.(29/1)
2 - بُحَّ صوتي أيضًا وأنا أقول في الإذاعة للمستمعين: إن الإبرة الدوائية لا تُفْطِر قياسًا على رأي أكثر المذاهب: إن المُفطِر هو ما يدخل إلى الجوف من منفذ طبيعي خِلْقي، وهو الفم والأنف والشَّرج. وكذلك القطرة في العين لا تُفطر ولو أحسَّ الإنسان بطعمها في حلقه كما صرح به الفقهاء، وعممت ذلك على جميع أنواع الإبر سواءٌ أكانت تحت الجلد أو في العَضَل أو في الوريد، فكيف يفهم ذلك السامع الذي نقل إليك العكس؟ وأحاديثي المذكورة في أيام رمضان كلُّها مسجلة في الإذاعة، فلو تسنَّى لك المجيء إلى عُمان، واتصلتَ بي: لأخذتك إلى الإذاعة، وأسمعتُكَها من الشريط المُسجَّل.(29/2)
أوقاتُ الصّلاة والصّيام
في البلاد القريبة من القُطب
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده، سيِّدِنا ونبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد:
فإن مجلس المجمع الفقهي الإسلامي قد اطَّلع في جلسته الثالثة صباح يوم الخميس الموافق 10/4/1402هـ المصادِف 4/2/1982م على قرار ندوة بروكسل 1400 هـ / 1980م؛ وقرار هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية رقم (61) في 12/4/1398هـ؛(6) فيما يتعلّق بمواقيت الصلاة والصوم في الأقطار التي يقصر فيها الليل جِدًّا في فترة من السنة، ويقصر النهار جِدًّا في فترة أو التي يستمر ظهورُ الشمس فيها ستةَ أشهر وغيابُها ستةَ أشهر.
وبعد مُدارَسة ما كتبه الفقهاء قديمًا وحديثًا في الموضوع قرّر ما يلي:
تنقسم الجِهات التي تقع على خطوط العرض ذات الدَّرجات العالية إلى ثلاث:
الأولى: تلك التي يستمرُّ فيها الليل أو النهار أربعًا وعشرين ساعة فأكثر بحسب اختلاف فصول السنة.
ففي هذه الحال تقدَّر مواقيتُ الصلاة والصِّيام وغيرهما في تلك الجهات على حسب أقرب الجهات إليها ممّا يكون فيها ليل ونهار متمايزانِ في ظَرف أربع وعشرين ساعة.
الثانية: البِلاد التي لا يَغيب فيها شفق الغُروب حتّى يطلع الفجر، بحيث لا يتميّز شفق الشروق من شفق الغروب، ففي هذه الجهات يقدَّر وقت العِشاء الآخرة والإمساك في الصوم وقت صلاة الفجر، بحسَب آخر فترة يتمايَز فيها الشَّفَقان.
الثالثة: تلك التي يظهر فيها الليل والنّهار خلال أربع وعشرين ساعة وتتمايَز فيها الأوقات، إلا أنّ الليل يطول فيها في فترة من السنة طولاً مُفْرِطًا، ويطول النهار في فترة أخرى طولاً مُفرِطًا.(30/1)
ومَن كان يقيم في بلاد يتمايَز فيها الليل من النهار بطلوع فجر وغروب شمس، إلا أنّ نهارَها يطول جدًّا في الصيف، ويقصُر في الشتاء، وَجَبَ عليه أن يصلِّيَ الصلواتِ الخَمْسَ في أوقاتها المعروفة شرعًا لعموم قوله تعالى: (أَقِمْ الصّلاةَ لِدُلوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وقُرْآَن الفَجْر إِنَّ قُرآنَ الفَجْرِ كان مَشهودًا) (الإسراء: 78).
وقوله تعالى: (إنَّ الصَّلاة كانتْ على المؤمِنين كِتابًا مَوقوتًا) (النساء: 103).
ولِما ثبت عن بُريدة ـ رضِي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن رجلاً سألَه عن وقت الصلاة فقال له: "صَلِّ معنا هَذَيْنِ" يعني: اليومَين، فلمّا زالت الشّمس أمَرَ بِلالاً فأذَّن، ثم أمَره فأقام الظهر، ثم أمَره فأقام العَصْرَ والشمس مرتفعةٌ بيضاءُ نقيّةٌ، ثم أمره فأقام المغرب حين غابت الشمس، ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشّفق، ثم أمره فأقام الفجر حين طلع الفجر، فلمّا أن كان اليوم الثاني أمره فأبرد بالظُّهر، فأبردَ بها، فأنعم أن يبرد بها، وصلّى العصر والشمس مرتفعة آخرها فوق الذي كان، وصلّى المغرب قبل أن يَغيب الشفق، وصلى العشاء بعدما ذهب ثلث الليل، وصلى الفجر فأسفر بها، ثم قال: "أين السّائل عن وقت الصلاة؟" فقال:" الرجل: أنا يا رسول الله . قال: "وقتُ صلاتِكم بين ما رأيتُم" رواه مسلم.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسولَ الله ـ صلّى الله عليه وسلم ـ قال: "وقت الظُّهر إذا زالت الشّمس، وكان ظلُّ الرجل كطولِه، ما لم يحضُر العصر، ووقت العصر ما لم تصفَرّ الشمس، ووقت صلاة المغرب ما لم يَغِبِ الشفق، ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط، وقت صلاة الصُّبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشَّمس، فإذا طلعت الشمس فأمسكْ عن الصلاة فإنها تطلُع بين قرنَيْ شيطان" أخرجه مسلم في صحيحه.(30/2)
إلى غير ذلك من الأحاديث التي وردَت في تحديد أوقات الصلوات الخمس قولًا وفعلًا، ولم تُفرِّق بين طول النهار وقصره وطول الليل وقصره، ما دامت أوقات الصلوات متمايِزة بالعلامات التي بينها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم.
هذا بالنسبة لتحديد أوقات صلاتهم، وأما بالنسبة لتحديد أوقات صيامهم شهر رمضان، فعلى المكلَّفين أن يُمسكوا كلّ يوم منه عن الطعام والشّراب وسائر المُفْطِرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس في بلادهم مادام النهار يتمايز في بلادهم من الليل، وكان مجموع زمانهما أربعًا وعشرين ساعة، ويحلُّ لهم الطعام والشراب والجِماع ونحوها في ليلهم فقط وإن كان قصيرًا، فإن شريعة الإسلام عامّةٌ للناس في جميع البلاد، وقد قال الله تعالى: (وكُلُوا واشْرَبوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْط الأبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيام إلى اللَّيل) (البقرة: 187).
ومَن عَجَز عن إتمام صوم يوم لطوله، أو عَلِمَ بالأمَارات، أو التَّجرِبة، أو إخبار طبيب أمين حاذِق، أو غلب على ظنِّه أن الصوم يُفضي إلى مرضه مرضًا شديدًا، أو يفضي إلى زيادة مرضه أو بطءِ بُرْئِه، أفطرَ ويقضِي الأيام التي أفطرَها في أي شهر تمكَّن فيه من القضاء. قال تعالى: (فمَنْ شَهِدَ مِنْكُم الشَّهرَ فليَصُمْه ومن كان مَريضًا أو على سَفَرٍ فعِدّة مِنْ أَيّام أُخَرَ) (البقرة: 185).
وقال الله تعالى: (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إلا وُسْعَها) (البقرة: 286).
وقال: (وما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: 78).
والله وليُّ التوفيق..وصلى الله على خير خلقه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
(توقيع) ... ... ... ... ... ... (اعتذر لمرضه)
نائب الرئيس ... ... ... ... ... رئيس مجلس المجمع الفقهي
محمد علي الحركان ... ... ... ... عبد الله بن حميد
الأعضاء(30/3)
(توقيع) ... ... ... ... (توقيع) ... ... ... ... (توقيع) ...
عبد العزيز بن باز ... ... محمد محمد الصواف ... ... صالح بن عثيمين
(توقيع) ... ... ... ... (تخلَّف عن الحضور) ... ... (توقيع) ...
محمد بن عبد الله السبيل ... مبروك العوادي ... ... محمد الشاذلي النيفر
(توقيع) ... ... ... ... (توقيع) ... ... ... ... (توقيع)
مصطفى أحمد الزرقا ... ... عبد القدوس الهاشمي ... ... محمد رشيدي
( تخلف عن الحضور) ... ... (توقيع) ... ... ... (تخلف عن الحضور)
أبو الحسن علي الحسني الندوي أبو بكر محمود جومي ... ... حسنين محمد مخلوف
(توقيع) ... ... ... ... (تخلَّف عن الحضور) ... ... (توقيع) ...
محمد رشيد قباني ... ... محمود شيت خطاب ... ... محمد سالم عدود
(مدير المجمع الفقهي الإسلامي)
محمد عبد الرحيم الخالد
ملاحظة من: مصطفى أحمد الزرقاء
كان رأيي في هذا الموضوع مخالِفًا لهذا القرار؛ لأن البِلاد التي يتميَّز فيها ليل ونهار قد يكون هذا التميُّز فيها لا يزيد عن نصف ساعة أو ساعة بحيث يكون ليلها ثلاثًا وعشرين ساعة فقط شتاء وعكسه صيفًا.
ونصُّ الحديث المنقول الذي استند إليه القرار مفروض فيه أنه لأهل الجزيرة العربيّة، فالبلاد النائية شمالاً أو جنوبًا لا يوجَد في الحديث دَلالة على رفض اعتبار الفارِق العَظيم فيها بين مسافَتَيِ الليل والنهار، بل الواجب اعتبارها مَسكوتًا عنها، عندئذٍ يجب تقريرُ حكم لها يتناسب مع مقاصِد الشريعة، وهذا التعميم الذي جرى عليه القرار بمُجرّد ظهور تميُّز بين ليل ونهار دون نظر إلى الفارق العظيم في مدّة كل منها، يتنافَى كلَّ التنافي مع مقاصِد الشّريعة، وقاعدة رفع الحرج.
وليس من المعقول توزيعُ صلوات النّهار أو الليل على مُدّة نصف ساعة مثلاً، ولا من المعقول صيام ساعة وإفطار ثلاث وعشرين أو العكس.(30/4)
وقد كان رأيي في هذه القضية الذي لم يُشِرْ إليه القرار، بل جَرى على الأكثريّة (وقد كان من الواجب أن يُشير إلى المخالفة ودليلها ) ـ كان رأيي أن تُتَّخذَ إحدى قاعدتين لهذه البلاد النائية شمالاً وجنوبًا:
إما أن يعتمدَ لها جميعًا (سواء أكانت مما يتميَّز فيها ليل ونهار أو لا) أوقات مَهْدِ الإسلام الذي جاء فيه، ووردت على أساسه الأحاديث النبوية، وهو الحِجاز، فيؤخَذ أطول ما يصل إليه ليل الحِجاز ونهاره شتاءً، أو صيفًا فيطبَّق على أهل تلك البلاد النائية في الصوم والإفطار وتوزيع الصلوات.
وإما أن نأخذ أقْصى ما وصل وامتدّ إليه سلطان الإسلام في العصور اللاحقة شمالاً وجنوبًا، وطبَّقَه العلماء فيها على ليلهم ونهارهم في فصول السنة، فنعتبره حدًّا أعلى لليل والنهار للبلاد النائية التي يتجاوز فيها الليل والنهار ذلك الحدَّ الأعلى، ففي تجاوز النّهار يُفطرون بعد ذلك، وتوزَّع الصلوات بفواصِلَ تتناسب مع فواصِلِ ذلك الحَدِّ الأعلى.
وخلاف ذلك فيه مُنتهَى الحرج الذي صرح القرآن برفعه، كما هو واضح.
فإن قيل: كيف نسمح لأناس في رمضان أن يُفطروا والشمسُ طالِعة وإن كانت لن تَغيبَ إلا نصف ساعة أو ساعة؟
قلنا: هذا سيلزمكم في البلاد التي ليلُها ستةُ أشهر ونهارها ستةُ أشهر، فإنَّكم وافقتم على أنهم يفطرون في نهارهم الممتدِّ في الوقت الذي حددتموه لهم، على الرغم من أن الشمس طالعة.
فهذا لا يضُرُّ، بسبب الضرورة، والمهم في الموضوع: رعاية مقاصِد الشّريعة في توزيع الصلوات، وفي مدة الصّوم بصورة لا يكون فيها تكليف ما لا يُطاق، ويتحقّق فيها المقصود الشرعي دون انتقاص.(30/5)
وبيت القَصيد في الموضوع والذي يكون منه المنطلق: هو أن الأحاديث الواردة التي استند إليها القَرار يجب أن يُفْتَرَضَ أنها مبنيّة على الوضع الجغرافيّ والفلكيّ في شبه الجزيرة العربيّة، وليس بجميع الكرة الأرضية التي كان معظمها من بَرٍّ وبَحْرِ مجهولاً، إذ ذاك، لا يُعرَف عنه شيء. بل إن هذه الأماكن القاصِية والمجهولة شمالاً وجنوبًا مما اكتُشِف فيما بعد. يجب أن تُعتبر مَسكوتًا عن حكم أوقات الصلاة والصِّيام فيها، فهي خاضِعة بعد ذلك للاجتهاد بما يتفق مع مقاصِد الشريعة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
الرياض 13 من المحرم / 1416هـ الأحد 11/6/1995م.
هامش
(6) من قرارات المجْمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة، والأستاذ الزرقا من أعضائه منذ أُسِّس وإلى اليوم، حفِظَه الله ونفع به. ونشر القرار المُنوَّه عنه والبحث المتعلِّق به في العدد (25) من مجلة البحوث الإسلامية لعام 1409 هـ من ص 11 إلى ص 34. ونشر تعقيب الشيخ الزرقا على هذه الفتوى في كتاب "العقل والفقه في الحديث النبوي" ص 119 ـ 126.(30/6)
حكم صلاة الجمعة في مَعمل خارِج المدينة(7)
سؤال من السيد عبد الرحيم محمود الشوربجي من داريا، ويتخلص بما يلي:
هل يُمكن إقامة صلاة الجمعة في معمل خارج المدينة أو البلدة حيث يتعذَّر مغادَرة المعمل، فهل تصحُّ صلاة الجمعة في المعمل نفسه، وقد أقيمت فعلًا دون أن نعرفَ الحكم الشرعي؟
الجواب:
إذا كان المكان خارج العمران بحيث لا يصل إليه نِداء الجمعة، أي: صوت الأذان، لا تجِب الجمعة على مَن يوجَد فيه، عند الحنفية، ويصلِّي صلاةَ الظهر، وإذا كان يصل إليه صوت المؤذِّن الجهوري الصوت تجِب فيه.
وعلى الشخص أن يلتحق بجامع للصلاة، وإذا كان في معمل فإنه يمكن أن يستأذِن للصلاة ويخرج، ولو لم يُسمحْ له إلا بحسم حِصة من أجرته عن مدة غيابه فلا باسَ؛ لأن أداء الفرائض قد يكلِّف صاحبه مالاً، وهذه من هذا القَبيل.
على أنه إذا كان داخل المعمل عدد من المصلين كافٍ لإقامة الجمعة وبينهم من يُحسن الخَطابة والإمامة، فيمكنُهم أن يعقِدوا صلاة جمعة ضِمن المعمل على مذهب الإمام الشافعي؛ الذي لا يَشترط في الجمعة أن يكون الإمام مأذونًا من الخليفة الحاكم الأعلى في الدولة أو من ينوبُ عنه.
هامش
(7) مجلة حضارة الإسلام، العدد العاشر ـ السنة الرابعة 1383هـ/ 1963م.(31/1)
صلاة المسلمين لماذا لا تجوز إلا بالعربيّة فقط؟ (5)
ترجمة الأستاذ مصطفى الزرقا
من المعلوم أن المسلمين يعتمدون اللغة العربيّة حتمًا في القيام بعمل الصلاة؛ التي تشتمل أيضًا ـ فيما سوى الأقوال ـ على حَركات فيها تعبير رمزي، وأنّهم يَتْلُون مقاطِع من القرآن، ويتلفَّظون بصيغ كلاميّة، تؤكِّد عظمة الله وخضوع الإنسان، يفعل ذلك العرب وغيرهم على السّواء، حتّى الذين لا يفهمون كلمةً من العربيّة، كان ذلك من عهد الرسول محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ولا يزال كذلك، مهما اختَلفت الظروف والمواطِن واللُّغة الوطنيّةُ الأمُّ للمسلِم.
قد يبدو لأول نظرة طبيعيًّا ومستحسَنًا أن يوجِّه المؤمِن صلواته وأدعيته من أعماق ضميره وشعوره بما يقول، ولغة الأمِّ هي الوسيلة الفُضْلَى لهذه الغاية وقد يُتَصَوَّر من هذه الناحية أفضلية تأدية الصلاة باللغة التي يتكلَّمها المسلمون في الزوايا الأربع من العالم، ولكن اعتبارًا ونظرًا أعمق من ذلك، يظهر منه أن هناك أسبابًا وجيهة تُناقض هذا التفكير والتصوّر، أي: توجِب الاقتصار على اللغة العربية، وذلك للاعتبارات التالية:
1 - فهناك أولاً مبرِّر اعتقادي (ميتافيزيكي) أو نفسي؛ ذلك أنه بمقتضَى نصِّ القرآن، قوله تعالى (النبيُّ أولَى بالمؤمنين من أنفسِهم وأزواجُه أمَّهاتُهم) (الأحزاب: 6) (33-6) تُعتبر زوجاتُ الرسول أمهاتٍ للمسلمين، ونحن نعلم أن جميع زوجاتِه المكرّمات يتكلْمن العربيّة، فبذلك تُعتبر اللغة العربية هي لغة الأم لجميع المسلمين، وحينئذٍ لا يبقَى مجال لأيّة ملاحظة قائمة على أساس ضرورة أداء الصّلوات بلغة الأمِّ .(32/1)
2 - وإذا اعتُبر هذا المبرِّر غيرَ كاف للإقناع، فإنّنا ننطلِق بالنّظر إلى ما هو أبعد، فنلاحِظ أنه بمقتضَى العقيدة الإسلامية يُعتبر القرآنُ كلام الله سبحانه، وأن تلاوته مُعتبرة بمقتضَى نصوصه نفسها من القربات المطلوبة. فمن الناحية الرُّوحيّة يَسيح المؤمِن سِياحة إلى الله تعالى بوساطة تلاوة كلامِه المقدّس.
والنصّ الأصلي لهذا الكلام الموحَى به إلى رسول الإسلام هو عربي، فمهما تكن الترجمة له من الدِّقّة بمكان، فإنها لا تخرج عن كونها من صنعة الإنسان وكلامه، وهذا لا يُمكن أبدًا أن يؤدِّيَ الغاية من تلك السّياحة الرُّوحيّة التي تتحقّق بالصّلاة.
3 - وبالنسبة لمن يفتِّشون عن سبب أو مبرّر أقوى نقول: إنه يجِب التمييز الدقيق بين الصلاة بمعنى الدعاء، والصلاة بمعناها الخاصّ في صورة عبادة الله. فأما الدعاء ـ وهو المعنى الأصلي العام للصلاة، غير الصورة الخاصة بعبادة الله، وهو ما يسمّى (مناجاة الله) ـ فإنه لا اعتراض أبدًا على حرية الإنسان في أن يوجه حاجاته وتوسُّلاته إلى ربِّه بأية لغة يختارها، وأي وضع يكون عليه؛ ذلك لأن هذه صلة شخصية خاصة بعلاقة فرديّة بين المخلوق والخالق.
أما الصلاة بمعناها الخاص ـ أي: العبادة المفروضة في صورتها الإسلامية المشروعة ـ فهي عمل عامٌّ ذو صفة جماعيّة، يجب النظر فيه إلى بقية الرِّفاق المُصاحِبين في صلاة الجماعة، فصلاة المسلِم هذه يجب مبدئيًا أن تؤدَّى بصورة مشترَكة مع الآخرين (جماعة)؛ ذلك لأن أداء الصلاة فرديًّا صحيح، ولكن المطلوب المفضَّل أداؤها بقيادة إمام (جماعة).
4 - لو كان الإسلام دينًا إقليميًّا أو قوميًّا أو مرتَبِطًا بعِرق بشري، لكان من المحتَّم فيه أن تستعمل في الصلاة لغة ذلك الإقليم أو العِرق أو القوم، أما في ديانة عالمية، فالأمر بالعكس تمامًا، حيث يتكلَّم المؤمنون بها مئات اللغات المحليّة، ولا يفهم أحدهم لغةً سواه من الأجناس البشريّة الأخرى.(32/2)
إن حياتَنا تزداد كل يوم اتِّساعًا نحو الصِّفة العالميّة، وإن كل بلد في الأرض يَستقبل فعلًا، ويُؤوي الكثيرَ من المسلمين من مختلِف المجموعات اللغويّة.
5 - في الواقع لا يوجَد دين واحد على وجه الأرض سوى الإسلام يملِك اليوم النصَّ الأصليَّ للوحي الذي يقوم على أساسه، والنصوص الأصلية لتعليمات مؤسِّسه، فالمسيحيُّون واليهود والمزدكيون، وسواهم من الجَماعات الدينيّة، لا يوجَد لدى فئة منهم سوى ترجمة للنص الأصلي في ديانتهم، أو سوى قطع مُتفرِّقة منه على الأكثر، فأي سعادة أو ثقة تُعادل ما للمسلمين؛ الذين هم الاستثناء الوحيد من هذا الواقع؛ إذ يملِكون النصَّ الأصلي لوحي الإسلام، وهو القرآن الكريم؟!
6 – علاوة على ما تقدَّم يُلحظ أن القرآن ـ وإن كان نثرًا ـ هو مشتمِل على جميع خصائص الشِّعر وعذوبته من الجَرْس اللّفظي، وتوافُق الفواصل، وجَزالة التعبير، وبلاغة الأداء.. بحيث إنَّ حذف حرف واحد من جملة، أو إضافة حرف إليها، يُورِّث فيه خَلَلًا واضطرابًا، كما لو حَصل ذلك الحذف أو الإضافة في بيت من الشعر المَوزون.
7 - يرى كاتب هذه السُّطور شخصيًّا: أن أي مسلِم لا يمكن أن يُعطِي أي ترجمة للقرآن من الاحترام الديني ما يُعطيه لنصِّ القرآن الأصلي الموحَى به من الله سبحانه إلى رسوله؛ ذلك لأن الترجمة هي صياغة شخص عادي، وليست صياغة جِهة معصومة محميّة من الخَطأ، كما هو الشّأن في نَبِيٍ.(32/3)
8 - وختامًا نشير إلى أنه يوجِد فريق من الكُتّاب يحتجُّون بأن بعض المُجتهدين الكِبار، كالإمام أبي حنيفة، كان يرى جواز تلاوة تَرجمة القُرآن في أداء الصّلاة، ولكن هؤلاء الكُتّاب ذكروا جانِبًا وأغفلوا جانِبًا آخَر، فإن الإمام أبا حنيفة، وإن كان قد رأى هذا الرأي في بداية أمره، قد رجع عنه بعد ذلك، ووافَق الأئمة الآخرين (وهذا هو المذكور في كتب المذهب الحنفي، ككتاب الهداية للمرغيناني، وكتاب الدر المختار للحصكفي، وحاشية رد المحتار وغيرها..) والإمام أبو حنيفة أيضًا يقول بأنّه في الحالات العادية الطّبيعيّة لا يجوز في الصّلاة تلاوة القرآن بغير العربيّة.
وفى الواقع يوجَد حكم استثنائي للضرورة كما في حال الشخص الذي يسلِم من جديد ولا يعرِف العربيّة، فهذا يجب عليه أن يبدأ فورًا بأداء الصلوات الخَمس يومِيًّا، وهي تشتمل على تلاوة إلزاميّة لقسم من القرآن حِفظًا عن ظهر قلب، فيُرَخَّص له بتلاوة معاني بعض الآيات باللغة التي يعرفها إلى أن يتعلّم ما يكفي للصلاة بالنص العربي.
وفي هذه المسألة يوجَد سابقة مُهِمّة من الصّحابي الجليل سلمان الفارسي الذي ترجَّم سورة الفاتحة إلى الفارسية، لكي ترسلَ إلى أناس من المؤمِنين الفُرس، وذلك بترخيص من الرسول نفسه (كما في كتاب تاج الشريعة، والنهاية حاشية الهداية: فصل الصلاة)، وهؤلاء الأعاجم استعملوا هذه التّرجمة إلى أن ائتلفت ألسنتُهم، ومَرِنَتْ على النصِّ العربي. وهكذا يمكن للمسلمين الجُدُد أن يستعملوا ترجمةَ القرآن بصورة مقبولة كأصله العربي مدّة أيّام أو لمدة أسابيعَ بحسب الحاجة والحال.
يُسْتَخْلَص من كلِّ ما تقدّم أن كلَّ مسلم بمقتضَى الوحي القرآني يَختار دائمًا اللغة العربيةَ، اللغةَ الأمَّ للرسول، وهكذا يظلُّ الإسلام المَصدرَ الحيّ الخالِدَ للغة العربيّة.
مترجم عن المجلة الفرنسية "فرنسا والإسلام" عدد آذار / 1967.
هامش(32/4)
(5) الوعي الإسلامي السنة الثالثة العدد ـ 34 ـ 1387 هـ ـ / 1968م.(32/5)
الزكاة الواجبة في الدَّين المؤجَّل
فضيلة الشيخ مصطفى الزرقا: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أفيدونا جزاكم الله خيرًا.
بعض الناس يقترِضون من أماكنِ أعمالِهم مبالغَ تتعدَّى نصابَ الزكاة، ويضعونها في البنوك لاستثمارها، وهذه المبالغ تُقسَّط على مرتباتهم شهريًّا، ويرفُضون دفع الزَّكاة عندما يحول الحول بحجة أنه مَدين، فما حكم ذلك؟
بعض الناس يشترون السّيارة بالتَّقسيط وفي الوقت نفسه يكون لديه رصيد في البنك، وحال عليه الحول، وبلغَ النصاب، فيرفُض إخراج الزكاة بحُجة أنه مَدين بثمن سيارةٍ مع أَنّه يُخْصَم قِسطُ السيارة من راتبه الشهري، فما الحكم؟
الشيخ عبد الرحمن التركي
إمام مسجد الإدارة العامة بشركة الراجحي
1 - جواب السؤال الأول:
إن الدَّين المُؤجَّل والمقسَّط (غير الحال) لا يمنَع الزكاة على المال الذي لدى الشَّخص، وإنما الذي يَطرَح الزكاة هو الدَّين الحال الخاضِع للمُطالبة حالاً حين وجوب الزكاة بحَولان الحول.
وبِناء عليه تجب الزكاة في المال الذي يأخذه الشَّخص قرضًا فيتملكه ويضعه في الاستثمار ما دام دينُ القرض المذكور مقسَّطًا على راتبه الشَّهري، وليس مطالَبًا به للحال دفعة واحدة، هذا ما يبدو لي، والله أعلم.
2 - جواب السؤال الثاني:
كما قلنا في جواب السؤال الأول، نقول: إن ثمن السيارة المُستدان ليس حالاً، وإنما هو مقسَّط على راتب مُشتريها شهريًّا، فكذلك لا يمنع وجوب الزكاة عن رَصيده الذي له في البنك إذا حال الحول، وبلغ النصاب أو جاوزه، هذا ما يبدو لي، والله أعلم.(33/1)
الزكاة الواجبة في عُروض التجارة الكاسِدة(7)
كتب الأستاذ فكري أحمد نعمان دراسة جيدة بخصوص الزكاة الواجبة في عروض التجارة الكاسدة في مجلة (الجندي) الصادرة في دولة الإمارات العربية، وأرسل إلى الأستاذ الزرقا يسأله حول هذا الموضوع، فقال:
السؤال:
"ورغبة منا في الوصول إلى وجه الصواب في المسألة أرسلنا إلى كبار العلماء المسلمين من الذين وضع الله في أيديهم موازينَ ترجيح الخلاف، ومنهم العلامة المحقق الشيخ مصطفى أحمد الزرقا ـ وفقه الله ـ وكان ردُّه كالتالي"
الجواب:
"إن ما سألتني عنه من رأيي في زكاة البضائع الكاسدة والتاجر المتربِّص، رأيي فيه من القديم هو مذهب مالك ـ رضي الله عنه ـ وهو الذي يُشعِر كلامُ شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ باستحسانه، كما استحسنه أخونا العلامة الدكتور الشيخ القرضاوي أيضًا، وضعًا للضَّرر البالغ عن التاجر المتربِّص، فأنا أُفتي به دائمًا تيسيرًا على الناس، ولا سيما في العقارات، حيث يكثر فيها المشترون المتربِّصون في عهد التضخم النقدي العام اليوم، ولا سيما في عالمنا الثالث الذي استمر فيه هبوط قيمة النقود الورقية التي انفردت في وظيفة التنمية، منذ أن حلَّت المَطابع محلَّ مناجم استخراج الذَّهب والفضة!! ولم يبقَ أمام كثير من الناس وسيلة لحفظ قيمة نقودهم وقوتها الشرائية سوى تحويلها إلى عقار والتربص به، وقد يتربَّصون بها مُددًا طويلة، وعددًا من السنين قد تَصل إلى العَشرات، ثم يبيعونها عندما يَحتاجون إلى قيمتها.(34/1)
وخلال ذلك قد ترتفع قيمتها كما كانوا يتوقَّعون من استمرار ارتفاع قيمة العَقارات في كل مكان تقريبًا، وإن لم ترتفع فإنها لا تهبِط، فأنا أفتي في هذه بأنها تزكَّى مرة واحدة عن سنة واحدة حين بيعها، لكنها يجب أن تزكّى على أساس قيمتها الحالية المرتفعة، لا على أساس قيمتها القديمة التي اشتروها بها، فإذا كانت قيمتها قد ارتفعت من البيع عشرة أضعاف مثلاً أو أكثر ـ وهذا واقع كثيرًا في الأراضي ـ فإن زكاتها تَزيد أيضًا عشرة أضعاف عن زكاتها بحسَب قيمتها الأولى التي اشْتُريتْ بها.
وفي هذا عدل، كما أنه تيسير على المكلَّف، ودفع للإرهاق عنه، ومثل ذلك التربُّص في البضائع التجارية الكاسدة.
وقد نصَّ الفقهاء على أن التاجر إذا أفرزَ بعض أموالِه ليأخذَه إلى بيته لاستعمال فيه، فإن زكاته تتوقَّف منذ ذلك؛ لأنه خرج من نطاق التِّجارة التي تُنَمِّيه، فأصبح بتحويله لاستعماله غيرَ نامٍ، والزكاة إنما هي في المال النامِي فعلاً أو تقديرًا كالنقود .
ففي رأيي أن حالة التربُّص ـ خلال مدّة التربُّص ـ تُشبهُ هذه ما دام المُتربِّص لا يُريد بيع المال المتربَّص فيه، بل تركه بمعزِل عن التداول إلى أجل غير محدَّد، فالمال في هذه الحالة أصبح غير نام، أو متوقِّف النماء، كالديون غير المرجوة الوفاء (ولو أَنّها كانت أثمانًا لمَبيعات رابحة، وليست قروضًا حسنة) فإنها بانقطاع الأمل من استيفائها خرجت عن أن تكونَ ناميةً ولو تَقديرًا.
هذا ما أراه ـ أيها الأخ الكريم ـ وأرجو من فضله ـ تعالى ـ أن يكون صوابًا مُتَّفِقًا مع مقاصد الشريعة.
بارك الله فيك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هامش
(7) نُشرت هذه الفتوى في (مجلة الجندي) التي تصدر عن مديرية الشؤون المعنوية والثقافية ـ دبي ـ 1993م.(34/2)
الزكاة والمال المدَّخَر للزَّواج(5)
إلى فضيلة الشيخ مصطفى الزرقا.
ـ المضمون: ما اجتهادُكم في استحقاق الزكاة، على:
1 - المبالغ الموفَّرة لغايات البناء والزَّواج، وما شابَه ذلك، لو أُودعت في بنك بفائدة؟
2 – المبالغ المُبدلة بسَندات حكومية، كسندات التنمية، ولو بفائدة؟
3- ما هي نظرة الشرع، حال فوْز أي من هذه السندات، بإحدى جوائز اليانَصيب المخصَّص لتشجيع اقتنائها؟
الجواب:
1- ينص الفقهاء: على أنه إذا كان عند الإنسان نصاب من المال، فاضل عن حاجته، وحاجة عياله، وقضاء ديونه، فإنه تجب فيه الزكاة إذا حال عليه الحول.
وهكذا المالُ المدَّخر لغايات البناء أو الزّواج يشمله هذا النصُّ، فالظاهر أنه تجب فيه الزكاة، إذا بلغ نصابًا، وحال عليه الحول.
والنصاب يقدَّر بعشرين مثقالاً من الذَّهب، أو ما يعادل قيمتَها، أو بمئتي درهم من الفضة، أو ما يعادِل قيمتها.
وهناك من يَرى اليوم: أن الفضة لم تَبْقَ نقدًا، وأن أسعارها غير ثابتة.
وأنه عندما وردَ تقدير النصاب منها بمئتيْ درهم، كان الدينار يساوي عشرة دراهم، فيعادل النصاب منها عشرين مثقالاً من الذَّهب باعتبار أن الدينار مثقال؛ فينفي اعتبار الذهب أساسًا، وهذا رأي له وجاهته.
2 - وفيما يتعلق بالسَّندات فهي قروض من الناس إلى الدولة، فتستحق فيها الزكاة، بشرطها المذكور إذا بلغت نِصابًا، ولكن زكاة الدُّيون ومنها القروض، إنما تجب على الدائن في مبلغ الدَّين، بعد أن يقبضه فيُزكِّيَ عنه بالنسبة إلى الماضي، وأما قبل قبضه، فلا يجب عليه زكاة فيه.
أما موضوع الفائدة، فهذا أمر آخر، فإن الفائدة ربا لا يجوز له أن يأخذَه ويستفيد منه.
فإن أراد أن يأخذه ليتصدق به على الفقراء، دون أن يحتسِبَ هذه الصدقة من الزَّكاة، بل يكون صاحبه فقط واسطة لِتحويل مبلغ الفائدة إلى الفُقراء؛ لأنّه هو لا يستحقُّه، فلا بأس بذلك .(35/1)
3 – وأما المكافأة بطريق اليانصيب، فهذه لا أرى فيها بأسًا باعتبار أنها غير مشروطة، وإنما هي من باب التشجيع على القَرض لحاجة الدولة إليه، فلا يشملها معنى الربا. وقد ثبت أن النبي ـ صلَّى الله عليه وسلم ـ استقرَضَ، ولما وفَّي زادَ صاحِبَ الدَّيْنِ شيئًا على سبيل الإحسان إلى المُحسن(6)
هامش
(5) فتوى نُشرت بجريدة الدستور العدد 2191 بتاريخ 31/8/1973م.
(6) روى البخاري (2306) في الوكالة، ومسلم (1601) في المساقاة عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: كان لرجل على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سِنٌّ من الإبل، فجاء يتقاضاه، فقال: أعطُوه، فطلبوا سنه فلم يجدوا إلا سِنًّا فوقها، فقال: أعطوه. فقال: أَوْفَيْتَنِي أَوْفاك الله. فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم: "خيرُكُم أحسنُكم قَضاءً ". ومن هذا الحديث: أخذَ العلماء أنَّ ردَّ الدَّين بزيادة عليه أمرٌ مشروع، بل ممدوح؛ لأنه من مكارم الأخلاق، ما لم يكن مشروطًا من قَبْلُ، فإذا دخله الشرط فهو ربا (مَجْد).(35/2)
حكم إخراج زكاة الفِطر بالنقود وإرسالها إلى بلد آخر
ما حكم زكاة الفِطر إذا أرسلناها إلى بلادنا لشدةِ الحاجة الناس إليها هناك؟. ونحن إذا أخرجناها حبوبًا كما هو سائد، نرى البائع الذي يَبيع الحبوب وبجواره النساء اللاتي يأخذْن الزكاة فنشتري منه ونعطي النِّسوة، فيضمن بيعها مرة أخرى للبائع بنصف الثَّمن، ألا يكون أولى أن ندفَعَها نحن نقودًا طبقًا لمصلحة الفقير؟ أفيدونا أفادكم الله.
الشيخ عبد الرحمن التركي
إمام مسجد الإدارة العامة لشركة الراجحي
الجواب: ليس في نصوص الشريعة دليل على أن زكاة الفطر لا يصحُّ إخراجُها إلا عَينًا من القَمح أو أخواته الأخرى، وذهب الحنفية أن الأفضل إخراج النقود؛ لأن الفقير أدرى بحاجته، وأن الأموال الأخرى من قمح وشعير وتمر وزبيب إنما ذُكرتْ في الحديث للتيسير على المُكلَّف الذي قد لا يملِك نقودًا، وليست للتعيين والتخصيص، وقد تكون حاجة الفقير وحاجة عياله إلى نقود وهي التي تحل مشكلتَه، وهذا أيضًا في مذهب الإمام أحمد ـ رضي الله عنه.
وإن تَحتيم الإخراج من هذه الأموال العينيّة عينًا قد أدى إلى النتيجة المُضحكة المذكورة في السؤال، وإلى عكس المقصود الشَّرعي، حيث يبيع الفقير ما أخذه من هذه الأموال العينيّة بثمن بَخْسٍ من النقود لحاجته إلى النقود، وليس إلى القمح والشَّعير ونحوهما.
فالمقصود الشرعي من زكاة الفطر إنما هو سد حاجة الفقير في ذلك اليوم، وهو أدرى بها، وإن المكلَّف يَكفي أن يوافِق عملُه أحدَ المذاهب المُعتبرة.
وأما إرسال زكاة الفطر إلى بلد آخر، فلا ينبغي إلا إذا كان البلد المُرسَل إليه أشدَّ حاجةً إليها من بلده الذي هو فيه؛ فلذلك لا بأس في إخراج زكاة الفطر بما يعادل قيمة أحد هذه الأموال العينية من النقود، والله سبحانه أعلم.
الرياض في 24 رمضان 1415هـ.
وكتبه: مصطفى أحمد الزرقا(36/1)
حكم إسقاط الدَّين عن مَدين مُعْسِر
واعتبارِه من الزكاة.
فضيلة الشيخ مصطفى ـ حفظه الله تعالى ـ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
هل يجوز تحويل دَين مستحَقّ على رجل مُعسر مستحق للزكاة، وهذا الدّين استحق نتيجة عمل تِجاري بينه وبين دائِنه، وهل يلزم الدّائنَ إبلاغُ مَدينه بأنه حوَّل هذا المبلغ إلى حساب الزّكاة وأسقطَ الدين من عليه؟
أفتونا جزاكم الله خيرًا والسلام
وليد الزعيم
8/1/1997
الجواب:
إذا كان الدائنُ يستطيع تحصيلَ الدَّين من المَدين المستحقِّ للزّكاة يجوز أن يسامِحَه به، ويعتبره من الزكاة، وفي هذه الحال لا يجب إخبارُه بذلك.
وأما إذا كانَ لا يستطيع تحصيلَه لأنه مفلِس لا شيء لديه يُوفِّي منه، فهذا الدين يعتبر مستهلكًا، فلا يجوز احتسابه من الزكاة، لأن في ذلك تضييعًا لحقِّ الفقراء.(37/1)
حكم الزكاة على آلات المصانع
فضيلة الشيخ مصطفى ـ حفظه الله ـ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
المصانع الكبيرة هل تُخرج الزكاة على قيمة المصنع بما في ذلك ماكينات الإنتاج، علمًا بأن قيمة المصنع تُعتبر معظمها في قيمة الماكينات، ولا يمتلك ـ عادةً ـ صاحِبُ المصنع سُيولة إلا قَليلاً، ولا يحول الحول عنده على أي مبلغ نقدي أو بضاعة تجارية مُصَنَّعة؛ لأنه ـ عادة ـ يقوم بشراء الماكِينات بشكل مستمر، فهل تُعتبر الماكِيناتُ مثلَ العدّة ( الآلة اليَدَويّة ) التي لا يخرج عليها زكاة…؟
أفتونا جزاكم الله خيرًا
وليد الزعيم 8/1/1998
الجواب:
ماكينات المصانع اليوم لا تُقاس على الآلات اليدوية قديمًا كمِنشار النجّار ومِطرقته، وسِنْدان الحدّاد ومِطرقته، بل إن هذه الآلات والماكِينات والأجهزة في المصانع اليوم هي رأس المال، فتقوّم سَنويًّا مع ما في المصنع من بضاعة ومواد أولية، مع ملاحظة ما تنقُص به الآلات بالاستعمال .
وإذا كان في ذلك صعوبة سنويًّا فيمكن تَزكِية مردود المَصنع كمحصول الأرض الزِّراعية: أي عُشْر المردود الصافي بعد طرح المصاريف، أو نِصف العُشر قائمًا قبل طرح المصاريف، والله أعلم.(38/1)
حكم الزّكاة بين شَريكين في شركة تجارية
سيادة العم الفاضل الأستاذ أدامه الله لنا.
شركة تجارية مؤلّفة من شخصين: الأول دفع زيادة في رأسمال الشّركة، والثاني دَفَع قِسمًا بسيطًا من رأسمال الشركة، والأرباح تقسم مناصفةً بين الأول والثاني؛ لأن الثاني مسؤول عن العمل ويبذُل جُهدًا أكبرَ في إدارة العمل ومسؤوليته الآن في الزكاة:
هل يدفع كلُّ شخص على حسب رأسماله في الشركة؟
أم يجب دفعُ الزكاة الكاملة عن الرأسمال وتحميل مبلغ الزكاة مناصفةً (أي حسب تقسيم الأرباح وليس حسب الرأسمال) بين الأول والثاني؟
منار الجلاّد
دمشق 1/2/1998
الجواب:
ابن الأخ العزيز السيد منار الجلاد، حفظه المولى.
السلام عليكم ورحمته تعالى.
تلقيت سؤالكم وإليكم الجواب:
1 - إن الزكاة لا تكونُ على الشركاء بنسبة حصصهم من الأرباح، بل تكون بحسب ما يملِكه كلّ واحد منهم في الشركة من رأس مال وربح، فمثلاً إذا كان مجموع رأس المال مائة: من الأول (80) ومن الثاني (20) والربح مناصفة بينهما، فبلغتْ موجودات الشركة في نهاية العام، بعد كل مصروف سَحَباه منها (120)، أي أنّ الربح الباقي في نهاية العام بعد كل مصروف قد بلغ عشرين، فإن الزكاة تكون كما يلي:
على الأول أن يُزكِّيَ عن (80 + 10) = 90.
على الثاني أن يزكي عن (20 + 10) = 30.
أي بحسب ما يملِكه كل منهما في نهاية الحول أصلاً وربحًا.
2 - وليس أحد من الشريكين مسؤولاً عن الآخر إذا لم يُخرج زكاته، بل كل منهما مسؤولاً عن نفسه، وإثمه في عنقه.
3 - أظن بهذا المثال قد أصبح الحكم واضحًا.
ويتبيَّن لك منه أن تَسجيل الزّكاة على كلٍّ من الشَّريكين مناصفة بصورة متساوية خطأ بسبب تفاوُت رأس مال كل منهما.
والسلام عليكم .
الرياض 7 من شوال / 1418هـ.
4/2/1998م.(39/1)
حكم العمل أو المشارَكة مع تاجر لا يُخرج الزّكاة
فضيلة الشيخ مصطفى ـ حفظه الله ـ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
1 - ما حكم عمل الموظف عند تاجر لا يُخرج زكاة لماله.
2 - ما حكم مشاركة مَن لا يخرج الزكاة.
أفتونا جزاكم الله خيرًا
أخوكم وليد الزعيم. 30/12/1997.
الجواب:
1 - لا مانع من التوظُّف عند تاجر لا يُخرج الزكاة، فإن الموظّف غير مسؤول عن التاجر.
2 – لا أرى مانعًا من صحة مشارَكة مَن لا يُخرج الزكاة، فهو المسؤول وحده؛ إذ لا تَزِرُ وازرة وزرَ أخرى، لكن الأولى عدم مشاركته، والله أعلم.
الرياض
الخميس 3 رمضان / 1418هـ.(40/1)
حكم زكاة الأراضي والعَقارات
فضيلة الشيخ مصطفى الزرقا ـ حفظه الله تعالى ـ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وكل عام وأنتم بخير وبعد:
ما حكم الأراضي والعَقارات كالبيوت والمَحلات والمستودَعات التي يشتريها الرّجل للتجارة بحيث ينتظر حتى يرتفع سعرها فيبيعها. هل تجب فيها الزكاة؟
وكيف تُقوَّم؟ هل تقوَّم بسعر شرائها أم بسعر يومِ يُريد إخراجَ الزكاة عليها ـ إن وجبتْ ـ فبعضها يكون سعره قد نزل وبعضها يكون سعره قد ارتفع؟
وما حكم رجل عنده أراضٍ ولا يعلم أنها تجب فيها الزكاة، هل يُخرج الزكاة حين يعلم بها أم يَلزمُ أن يُخرج على ما سبق حيث إن هذه الأراضي اشتراها من سنوات طويلة؟
وما حكم رجل ورِث أرضًا عن أبيه..هل يُخرج زكاة عنها؟
أفتونا جزاكم الله خيرًا
وليد الزعيم 11/4/98.
الأخ الكريم السيد وليد سعد الدين الزعيم المحترم.
السلام عليكم ورحمته تعالى وبركاته.
ج 1 ـ ما يُشترَى من العَقارات والأراضي للتجارة بها يصير كعروض التجارة، فيزكّى بحوَلان الحَول عليه بسعره الأخير .
ج 2 ـ ومَن عندَه أراضٍ لا يُريد بيعَها حاليًا، ولكن يتربَّص بها منتظرًا ارتفاع سعرها في المستقبل لبيعها فيما بعد (وهو المتربِّص) يزكِّيها عندما يبيعُها مرة واحدة بسعرِها الأخير.
ج 3 - ومَن ورِث فإنه لا يزكيها عند انتقالها إليه، ولكنْ إذا أراد الإتجارَ بها، وعرضَها للبيع والتداول، فإنه يزكِّيها بعد الحول كسائر عروض التجارة.
الرياض في 15 من ذي الحجة / 1418هـ.(41/1)
حكم زكاة الأسهم(1)
سؤال جاء من السيد عبد الله الكاتب من حلب خلاصته:
هل يُعتبر ما يملِكه المسلم في شركة من الأسهم مالاً سائلاً تجب عليه الزكاة في قيمتها سنويًّا، أو يعتبر مالاً مجمدًا فتجب عليه في رِيعِها إذا حال عليه الحول، وهو في يده كما هو الحال في عَقار مَرصود للأجرة، مع ملاحظة أنّ رِبْح الأسهم قلَّما يرْتفع إلى أكثر من 7% من الثمن، فيكون ما يترتب عليه من الزكاة في حالة وجوبها على الثمن نحو نصف الرِّيع العائد أو ثلثه.
الجواب:
إن الحالة المسؤول عنها دقيقة ومعقَّدة في عصرنا هذا، فالأسهم حِصّةٌ في الشركة في رأس مالها وأرباحها جميعًا، وقد نُوقشت في ندْوات بحثٍ، والرأي الذي تطمئن إليه نفسي فقهيًّا هو التفصيل التالي:
1 - إذا كانت الأسهم قد اقتُنيت للتجارة بها بيعًا وشراءً، أي: أن مقتنيَها تاجر أسهم، فإنها تعتبر كسائر السلع والعروض التجارية، التي في المتاجر، فتُزكَّى أعيانها بحسب قيمتها السوقية كالعروض التجارية في كل عام بنسبة اثنين ونصف في المائة (2.5%) من قيمتها.
2 - وأما إذا كانت مقتناة لأخذ عائدها من الأرباح السنوية أو الموسمية التي توزعها شركتها، فإن الذي يُزَكَّى عندئذ هو عائدها الصافي الذي توزِّعه الشركة كلما قُبِض بنسبة عشرةٍ في المائة من العائد، دون النظر إلى حولان الحول ولا إلى القيمة السوقية للسهم، وذلك قياسًا على الأرض الزراعية وما تنتجه، فالأرض لا تُزكّى عينها، وإنما يزكّى ما تنتجه يوم حَصاده.
هذا ما أُفْتي به، وأراه أفضلَ الآراء والاحتمالات في هذه المسألة من قضايا الساعة، والله سبحانه أعلم.
هامش
(1) نُشرت الفتوى في مجلة حضارة الإسلام، العدد العاشر، السنة الرابعة 1383هـ، والجواب المنشور هنا فيه تحرير وزيادة إيضاح.(42/1)
حكم زكاة الحُلِيّ
فضيلة الشيخ مصطفى ـ حفظه الله تعالى ـ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
1 - هل نُخرج زكاة الحلي إذا زادت على 500 غ ذهب للزوجة و 200غ للأولاد؟ أو ما هو النِّصاب الذي يَلزَم إخراجُ الزكاة عليه؟
2 – بالنسبة للحلي التي يدخلها أحجار كريمة مثل الماس والياقوت هل تُوزن مع الذهب أم تقدَّر قيمتها: مثلاً خاتَم الماس قيمتُه خمسة آلاف ريال ولكنَّ وزنَه لا يزيد عن 10 غ ذهب.
3 - الأولاد الصِّغار ـ أطفال غير بالغين ـ لهم حلي … هل نخرج زكاة عنها..؟
أفتونا جزاكم الله خيرًا
أخوكم وليد الزعيم
6/1/1998.
الجواب:
زكاة الحلي مختلَف فيها: فمذهب الحنفية أنه تجب على الذهب والفضة اللذين تحت الاستعمال، ومذهب الشافعية عدم الوجوب بشرط أن يكون مقدارها ما يستعمله أمثالُ أصحابِها حتى لا تصير وسيلة للتهرُّب من الزكاة بطرق الحلي الادِّخاريّة فما زاد عن هذا المِقدار يزكَّى.
النصاب هو عشرون مثقالاً من الذَّهب أو مائتا دِرهم من الفضة. والمثقال يعادِل خمسة غِرامات تَقريبًا، والدّرهم ثلاث غرامات تقريبًا.
2 - الأحجار الكريمة تقدَّر على حدةٍ.
3 - حلي الأولاد الصِّغار كحلي الزّوجة يجري فيها الخِلاف المذكور.
والله أعلم.(43/1)
حول جواز إخراج صدقة الفطر بقيمتها من النقود(8)
السؤال: يتردد على ألسنة بعض العلماء عدم جواز إخراج صدقة الفطر بقيمتها من النقود، ويتساءل بعض الناس عن حكم إخراجها بالنقود في كل عام من شهر رمضانَ، فأجاب فضيلة الشيخ الزرقا بما يأتي:
الجواب:
ثَبَتَ عن النَّبِيِّ ـ صلَّى الله عليه وسلم ـ أنه أخرَج وأمَرَ بأن يُخرِجَ مَن كان مقتدرًا زكاةً عن فطره في آخر رمضان ـ بعد صلاة الفجر وقبل صلاة العيد ـ مقدارُها عن نفسه وعن كل فرد تحت ولايته ومئونته صاعٌ من البُرِّ (القمح)، أو نصفُ صاع منه، بحسب اختلاف الرواية، أو صاع من الشعير أو من التمر أو الزبيب أو الأَقِط(9) وذلك معونة للفقراء بمناسبة عيد الفطر عَقِبَ شهر الصيام.
ورُوِيَ أنه ـ عليه الصّلاة والسلام ـ قال: "أغنوهم في هذا اليوم". ولم يُنْقَلْ في ذلك خلافٌ يعرف في الصدر الأول من الإسلام بين الصَّحابة والتابعين، فكان الناس يخرجون زكاة فطرهم ممّا يتيسَّر لهم من هذه الأموال الغذائية الخمسة سوى ما نُقل من اختلافهم بالنسبة إلى البُرِّ (القمح) بسب اختلاف الرواية فيه: هل يُخرج منه نصفَ صاع أو صاعًا كاملاً كالشَّعير؟
وواضح جدًّا من قول الرسول ـ عليه الصلاة والسلام: "أغْنُوهم في هذا اليوم"(10) أن المقصودَ الأساسيَّ من هذه العبادة المالية هو إغناء الفقير في هذا اليوم، يوم الفرحة والسرور، وليس المقصود نوعًا أو أنواعًا معينةً بذاتها من الأموال، بدليل أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ جمع بين خمسة أنواع من الأطعمة الميسورة للناس في ذلك الوقت مختلفة الوظائف: فمنها غذاء أساسي لسدِّ الجوع، ومنها ما هو للتحلية والتَّسلية في يوم الفرحة كالزَّبيب.(44/1)
ثُمَّ ما إِنْ نشأت المذاهب الفقهية، وتكوَّنت حولها الأتباع، حتى بدأ التَّرف العلمي يَذُرُّ قَرْنُه، ويمسك بنقاط فرعيةٍ في الموضوع يَقف عندها، ويتشدَّد فيها، ويربط بها أصل العبادة بتأويل يتمسك به، ولا يرى وجهًا لخلافه، وينسَى حكمة الشارع من الأحكام، وينسَى التمييز بين الوسائل والغايات، بل يعطي الوسائل غير المقصودة بالذات أكثرَ مما يعطي الغايات الشرعية الثابتة من الأهمية !!
فوُجد مَن قال من أهل المذاهب: لا يجوز أن تُخرَج زكاة الفطر إلا من هذه الأرزاق الخمسة عينًا، ولا يصح منه إعطاءُ الفقراء قيمتَها من الدراهم والدنانير.
وحجتهم في ذلك أن هذا هو الذي ورد في السنة النبوية، وأن زكاة الفطر من العبادات، وأن الأصل في العبادات التوقيف وعدم التعليل، فيجب الوقوف عند حدود النص، ولا يجري فيها القياس والاستحسان والاستصلاح. وقد كانت الدراهم والدنانير موجودة وقت التشريع ولم يذكرهما النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم يُنقل عن أحد من الصحابة أنه أخرجها بالدراهم أو الدنانير، ولو أنه حَصَل لَنُقِلَ؛ لذلك لا تصحُّ زكاة الفطر في نظرهم إلا من هذه الأعيان.
والجواب: عن هذه الحجة واضح للمتأمل: هو أن زكاة الفطر من أصلها هي معقولة المَعنى، مثل زكاة الأموال التي هي مئونة وتكليف مالي اجتماعي لمصلحة الفقراء، الذين يجب أن ينهَض بهم الأغنياء، فلا يكون المجتمع الإسلامي قسمين ولا وسط بينهما: قسمَ الأغنياء المَتخومين، وقسمَ الفُقراء المحرومين.
فتشريع زكاة الفطر وزكاة الأموال معقول المعنى، ويجب عند الاشتباه النظر إلى ما هو أنفع للفقير، أو أيسر على المكلف، وليس مثل عدد ركعات الصلوات توقيفًا محضًّا لا دخل للعقل فيه، بل الفارق بينه وبين عدد الرَّكَعَات فارِق عَظيمٌ .(44/2)
ألا ترى أن تحديد المقادير في زكاة الفطر بإجماع المذاهب إنما هو تَحديد للحدِّ الأدنى الذي لا يصح أقلُّ منه، ولو زادَ المكلَّف فيه فأعْطَى أكثرَ منه فله فَضل ثَواب، بينما لو زادَ المصلِّي فِي ركعات فَريضة الصلاة لا يجوز له ولا يُقبل منه؟!
على أن زكاة الفِطر قد جاء في الحديث النبوي نفسه تعليلها معها، فقد بيَّن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حكمتَها وغايتَها وسبب إيجابها حين قال: "أغنوهم في هذا اليوم" وأصل الإغناء يكون بالنقود التي تصلُح لجلب جميع الحاجات من أغذية وغيرها.
وأما أنَّ النبي ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لم يذكر الدنانير والدراهم في زكاة الفطر، ولم يُنقل عن أحد من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ أنه أخرجَ بها، فذلك سببه أنها كانت قليلةً في ذلك الوقت لا يَتوافَر منها إلا القليل لدى القليل من الناس، ومعظم أموالِهم التي كانوا يتداوَلونها ويتبادلون بها كأنَّها نقود، قد كانت هذه الأنواع الغذائية التي وردت في حديث زكاة الفطر، وأنواع الأنعام لدى أهل البوادي من الإبل والغَنم والبقر.
والله ـ سبحانه وتعالى ـ لم يتعبَّدْنا بشيء من أنواع الأموال أو الأغذية على سبيل التعيين والتخصيص، تحت طائلة البُطلان لو قدَّمنا في الواجبات المالية غيرَها، وإنما تعبَّدَنا بالمالية المطلَقة، وبمقاديرَ محدَّدةٍ منها؛ لأنها هي ذات الاعتبار الثابت لدى جميع البشر، وفي جميع الأزمنة. فربح التاجر وخسارته مثلاً لا يرتبطان بنوع معين من أمواله إذا زاد أو نَقَص، وإنما يرتبطان بمجموع ما عنده من أنواع المال ذات القيمة أيًّا كانت.(44/3)
إن زكاة الأموال ـ وهي أعظم عبادة مالية في تكاليف الإسلام، مع أن الله تعالى قال فيها: (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقةً تُطَهِّرُهُمْ وتُزَكِّيهِمْ بِهَا..) (التوبة: 103) ممّا يُشعِر ظاهرُه أنها يجب أن تؤخَذ من عين المال المُرادِ تزكيته ـ يصحُّ بالإجماع أن يخرج الإنسان ما يعادِل قيمتَها من النقود، بل من مال آخرَ لديه؛ لأن مقصودَ الزكاة أن يتخلى المكلَّف عن قدر من ثروتِه محدد إلى الفقراء كيلا يبقَى المجتمع الإسلامي ـ كما سبق بيانه ـ متكوِّنًا من مَتخومين ومحرومين. وأفضل ما يتخلَّى عنه المكلَّف من ثروته لمصلحة الفقراء هو النقودُ، التي يستطيع بها الفقير وفاءَ جميع حاجاته، وتحصيلها بكلِّ يسر، في حين لو اجتمع لديه مجموعة من الأرزاق بأعيانها لا يستطيع أن يستفيدَ منها ما يستفيد من النقود. على أن المزكِّيَ لو أرادَ أن يُخرج زكاتَه من أعيان المال الذي عنده لكان مقبولاً منه؛ لأنه قد يكون هو الأيسر عليه، وأن سياسة الإسلام التيسيرُ على المكلَّف.
يقول الأستاذ الكبير العلامة الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه القيم: "كيف نتعامل مع السنة النبوية" (ص: 138) ما نصه.
"السنة بين اللفظ والرُّوح أو بين الظَّواهر والمقاِصِد ".
إن التمسك بحرفية السنة أحيانًا لا يكون تنفيذًا لرُوح السنة ومَقصودها، بل يكون مُضادًّا لها، وإن كان ظاهره التمسكَ بها.
خذ مثلاً تشدُّدَ الذين يرفضون كل الرّفض، ولا يجيزون إخراج زكاة الفطر بقيمتها نقدًا، كما يُجيزه أبو حنيفة وأصحابه، وهو قول عمر بن عبد العزيز وغيره من فُقهاء السلف.
وحجة هؤلاء المتشدِّدين: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أوجبها في أصناف معينة من الطعام: التمر والزَّبيب والقمح والشّعير، فعلينا أن نقف عند ما حدَّده رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا نعارض السنة بالرأي.(44/4)
ولو تأمَّل هؤلاء الإخوة في الأمر كما ينبغي لوجدوا أنهم خالَفوا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الحقيقة، وإن اتبعوه في الظّاهر، أقصد أنهم عُنوا بجِسم السنة، وأهملوا رُوحَها.
فالرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ راعَى ظروف البيئة والزمن، فأوجب زكاة الفطر مما في أيدي الناس من الأطعمة، وكان ذلك أيسرَ على المُعطي، وأنفعَ للآخِذ.
فقد كانت النقود عزيزة عند العرب، وخصوصًا أهل البوادي، وكان إخراج الطعام ميسورًا لهم، والمساكينُ محتاجون إليه؛ لهذا فَرَضَ الصّدقة من الميسور لهم.
حتّى إنَّه رَخَّص في إخراج (الأَقِط) ـ وهو اللَّبَن المُجفَّف المنزوع زُبْدُه ـ لمن كان عنده وسهل عليه، مثل أصحاب الإبل والغنم والبقر من أهل البادية.
فإذا تغيَّر الحال، وأصبحت النقود متوافرة، والأطعمة غير متوافرة، أو أصبح الفقير غيرَ محتاج إليها في العيد، بل محتاجًا إلى أشياءَ أخرى لنفسه أو لعياله، كان إخراج القيمة نقدًا هو الأيسرَ على المُعطي، والأنفعَ للآخذ، وكان هذا عملاً بروح التوجيه النبوي، ومقصوده أ.هـ.
لقد آل تشدُّد هؤلاء المتشددين تشدُّدًا في غير محلِّه، حيث يطبق رأيهم، إلى أن تنعكس الآية بالنسبة إلى الفقراء، فيقعوا هم في الخسارة، وينالُهم الضَّرر من جرّاء هذا التّشدُّدِ !!
فقد سمعتُ، ثُمَّ رأيتُ بنفسي أن الرَّجل يأتي عندهم إلى السوق في آخر رمضان، فيشتري القمح والشعير والتمر بمقدار ما عليه من زكاة الفطر، ويأخذه إلى الفقراء القاعدين في زاوية من السوق فيعطيهم إياه، وقد يكونون محترفين، وما إن يذهب حتى يقوم هؤلاء إلى البائع نفسه فيبيعونه ما أخذوا بثمن أدنى ممّا باع به الرجل الذي اشتراه من عنده؛ لأن الفقير الذي أخذ الأرزاق ليس محتاجًا إليها، بل هو محتاج إلى النقود، فتعود النتيجة عليه بالخسارة، ولو دفع المزكِّي قيمتها مباشرة إليه لحصل على نقود أكثر.(44/5)
إن مَن يدفع قيمة صدقة الفطر من النقود للفقير يكون قد أعطاه عمليًّا أيًّا من الأطعمة الواردة في الحديث، مع زيادة، وهي فرصة اختيار ما يشاء من تلك الأطعمة، أو اختيار سواها من حاجاته التي هي في نظره أهمُّ.
وبذلك يكون معطي القيمة من النقود قد أدَّى الواجب، وأحسن بالزيادة، فكيف يقال: إن هذا غير جائز؟!
هذا، وقد نقل العلامة المرداوي من الحنابلة في كتابه"الإنصاف" أن جواز إخراج القيمة من النقود هو رواية مخرَّجة من الإمام أحمد نفسه.
تناقض هؤلاء المتشددين:
في هذا العصر وَجَد هؤلاء المتشدِّدون أنفسَهم أمام مشكلة بالنسبة إلى القمح والشعير، اللذين هما العنصر الغذائي الرئيسي بين الأنواع الخمسة الواردة في الحديث النبوي.
ذلك أنه في هذا العصر قد تبدَّلت وسائل حياة الناس تبدُّلاً عظيمًا؛ بسبب الابتكارات المذهِلة التي ظهرت خلال هذا القرن، ويسَّرت العسير، وأحدثت الكثير مما لم يكن مُمكنًا في أوائل هذا القرن.
فاليوم في المدن لم يعد أحد يتموَّن القمح أو الشعير، ويطحَن في بيته ويخبِز، بل كل أسرة تشترى خبزَها وبرغلَها جاهزًا من السوق، وتختار من أنواعه المتعددة ما تشاء. وهكذا غابت الرَّحَى السَّوداء المتنقلة من البيوت بعد أن ظلت الرَّحى القرونَ الطِّوالَ من أساسيات كلِّ بيت، ولم يبق لها وجود إلا في حياة البوادي والقبائل الرُّحَّل، فماذا يفعل اليوم الفقير بصاع القمح أو الشعير، وكيف يطحنه ويخبزه؟
هنا تنبه المتشددون في زكاة الفطر، فأفتَوا بإضافة الأُرْزِ إلى الأصناف الخمسة التي وردت في الحديث النبوي، وهنا سقطوا في التناقض!! فإن حُجَّتَهم الوحيدة في الاقتصار على الأصناف الخمسة، كما سبق بيانه، إنما هي أن زكاة الفطر عبادة، وأن العبادات مَبْنِيَةٌ على التَّوقِيف، ولا يجري فيها التعليل والقياس، فكيف ساغ لهم أن يُفْتُوا في هذا العصر بإدخال الأُرْزِ، مع أنه لم يَرِدْ بين الأصناف الواردة في الحديث؟(44/6)
إن أي حجة أو مسوغ يلتمسونه لإدخال الأرْزِ، هي نفسها حجة لإدخال النقود التي تجلب للفقير الأنواع الخمسة ذاتها والأرْز وغيره أيضًا، مما يكون في بعض البلاد هو النوع الأساسي في غذائهم، ففي بعض بلاد أفريقية اليوم يعتبر المَوز هو خبزهم وأرزهم، ويجفِّفونه ويتموَّنونه، كما يَتَمَوَّنُ غَيْرُهم القَمْحَ والشَّعير.
أسأل الله ـ تعالى ـ الهداية إلى سواء السبيل، وأن يُبصِّرَنا في شريعتنا بالبصيرة المنيرة التي تُجنبنا التضييق والتساهل، فإن التضييق تشويهٌ، والتساهل تضييعٌ، وأن يرزقنا التقوى، فإنها الحفاظ لميزان الاعتدال، إنه سميع مجيب.
وصلى الله على سيدنا محمد عبد الله ورسوله إلى العالمين، وعلى آله وصحبه ومن تَبِع سنتهم الصحيحة، واهتدى بهداهم.
الهوامش:
(8) هذه الدراسة نُشرت بتفصيل في كتاب "العقل والفقه في فهم الحديث النبوي" للأستاذ الزرقا ص 57-69، والفتوى المنشورة هنا منقولة من الكتاب باختصار.
(9) الأقِط: (وزن: كَتِف) لبن مُحمَّض يجفَّف حتى يستحجرَ، ثم يُطبخ أو يُطبخ به، كما في "المعجم الوسيط".
(10) قال الزيلعي في "نصب الراية": 2/432 (3701): "غريب بهذا اللفظ، وأخرجه الدارَقُطْني في سننه: 2/153 عن أبي معشر عن نافع عن ابن عمر. ورواه ابن عدي في "الكامل" وأعلَّه بأبي معشر نُجَيْح "ولفظه: "أغنُوهم عن الطَّواف في هذا اليوم" وأسند تضعيف أبي معشر عن البخاري والنسائي وابن معين، ومشاه هو، وقال: مع ضعفه يكتب حديثه" انتهى.(44/7)
زكاة الرواتب الشهرية للموظفين
هل تجب عند قبضها في كل شهر(2)؟!
هل تجب على ذوي الرواتب الشهرية أو السنوية من موظفين في وظائف الحكومة، أو عمال، أو مُستخدَمين ـ زكاةٌ عن هذه الرواتب بنسبة مبالغها عند قبضها في كل شهر؟
أرجو نشر الجواب في مجلة حضارة الإسلام عاجلاً ولكم الشكر.
عبد الكريم نجيب أطمه ـ الدانا ـ محافظة إدلب
الجواب:
لم تُشرع الزكاة في الإسلام على المورد المالي عند استحقاقه أو قبضه كضريبة عليه، وإنما شُرعت على نوعين من الأموال النامية، هما الأموال الظاهرة والباطنة:
فأما الظّاهرة فهي الزُّروع والمواشي بشرائط معينة.
وأما الباطنة فهي الذهب والفضة ولو غيرَ مَسكوكَين، والنقود المَسكوكة من الذهب بوجه عام مدَّخرة كانت أو مستثمرة، (ومنها الأوراق النقدية اليوم) والسلع التجارية (أي المعروضة للإتجار والاستثمار) سواء ما كان منها رأس مال، أو كان ربحًا متراكمًا متى بلغت نصابًا فاضلاً عن حاجة الشخص وحاجة عياله والتزاماته المالية كديونه، ونفقة أقاربه، والضرائب التي عليه، وحال عليها الحول، أي: متى انقضَى في مِلك مالكها عام كامل. والسلعة التي تخرُج في المبادلة التجارية بمقابل يَحِل مُقابلُها مَحلَّها في حساب الحَوْل.
وبِناءً على ذلك ليس في الرواتب الشهرية زكاةٌ مهما بلغت تلك الرواتب؛ لأنها في الأصل كِفاء المعيشة. فإذا زاد من الرواتب شيء عن الحاجات المبيَّنة آنفًا، فبلغ نصابًا من النقود ولو غيرَ مُستثْمَر، أو صار سلعًا تجارية تحت الاستثمار أو رصيدًا في مصرف، وحال عليها الحول وجبت فيها الزكاة. وإذا تكرَّر الحول عليها تكرَّرت الزكاة فيها سنويًّا.
أما ما يكون من سلع للاستهلاك لا للاستثنمار كمفروشات البيوت وتجهيزاتها. فلا زكاة عليها مهما بلغت، والله سبحانه وتعالى أعلم.
هامش
(2) مجلة حضارة الإسلام، العدد العاشر، السنة التاسعة 1388هـ/ 1969م.(45/1)
زكاة العمارات والآلات(3)
السؤال:
هل تخضع مِطحنة الحبوب ومصانع الطوب لفريضة الزّكاة؟ وإذا كانت تخضع فهل يقتصِر التكليفُ الشرعي على الآلات والبناء أو يضاف إليها الإيراد طَوال العام؟ وما حكم العمارات السَّكَنيّة وغيرها من أوجه الاستثمار بالنسبة إلى الزكاة؟
صالح حسن درويش (ج.م.ع)
الإجابة:
نص الفقهاء على أن المال الذي يخضع لفريضة الزكاة هو المال النامي فعلاً أو تقديرًا من حيوان ونبات وغيرها بشرائط.
فأما الحيوان والنبات فلكلٍّ منهما ـ شرعًا ـ نظام تفصيلي خاص ليس مسؤولاً عنه الآن.
وأما سواهما فيشمل السلع التجارية والذهب والفضة ولو غيرَ مسكوكين، ثم سائر النقود المَتداوَلة من غيرهما (يدخل فيها اليوم المسكوكات المَعدِينة والأوراق النقدية).
والمراد بالسلع التجارية ما هي تحت المتاجرة بالفعل لا مجردُ كونِها قابلة للإتجار بها.
وأما الذهب والفضة وسائر النقود فتشمل المخزون المكنوز، والمستثمر فعلاً؛ لأنها تعتبر نامية تقديرًا، والشرع يحظر النقود وتعطيلها عن الاستثمار الذي خُلقت له، بخلاف السلع، فإنها محلٌّ للانتفاع بعينها استهلاكًا أو استعمالاً، فميَّز شرعًا فيها بين النامي فعلاً وبين ما هو مخصَّص لوفاء الحاجات الشخصية كمفروشات البيت، وكُتُب القُنية ولو صاحبُها غيرَ عالِمٍ .
ويُستثنَى من ذاك بعض مستثنيات في حالات، منها آلات الحرف والصناعات التي يستخدمها صاحبها العامل فعلاً في العمل الإنتاجي بخلاف هذه الآلات إذا كان صاحبها يتاجر بها تجارة، فإنها خاضعة للزّكاة.
أما العَقار فإذا كان صاحبه يتاجر بعينه تجارة بيعًا وشراءً، فهو عندئذٍ يَتْبَع حكم السلع التجارية ويخضع للزكاة بشرائطها، وإذا كان لسُكنَى صاحبه أو لعمله فلا زكاة فيه، وإذا كان الاستغلال بالإيجار فلا زكاة في عينه؛ لأنهم اعتبروا عينه حينئذ غير نامية، ولكنّ غلته تخضع للزكاة بشرائطها من النصاب الزّائد والحول.(46/1)
هذه خلاصة موجَزة مكثَّفة (دون تفصيل الشرائط غير المسؤول عنها) لما يقرره العلماء.
ومنها يُعلم أن المَعامل سواء أكانت للطوب أم للطحن أم سوى ذلك لا تخضع آلاتها ولا بناؤها لفريضة الزكاة بحسب ظاهر نصوص الفقهاء، ولكنْ تخضع الموادُّ الأولية التي تعمل فيها وثمراتها المالية التي تنتج من استثمارها بشَريطة النصاب الزائد والحول؛ لأنها عندئذٍ مال تجاريٌّ نامٍ.
وشَريطة الحول ليس معناها أن تبقَى المنتوجات مجمَّدة حتى تمضيَ عليها سنة لكي تخضعَ للزكاة، بل إنَّ الحوْل يسْري عليها لو بَقِيَت، ويستمرُّ اعتباره ساريًا دون انقطاع على عوضها ونمائها لو بِيعت في أثنائه؛ لأن عِوَضَها خَلَفٌ عنها.
على أن من فقهاء العصر من يرى ضرورة إخضاع معامل الصناعة الآلية اليوم بآلاتها ومبانيها للزكاة؛ لأنها قد تمثل اليوم رؤوس أموال (ضخمة استثمارية نامية) بخلاف آلات الصناعة اليدوية قديمًا. لكنني أرى أن هذا لا يجوز لفرد أن يُفتيَ من تِلقاء نفسه، بل يتوقف على اجتهاد جماعي من وظيفة مَجمع فقهي نرجو أن يوجد في العالم الإسلامي.(46/2)
على أنه إذا نظرنا إلى أعمق من الظاهر قد ندرك أن المصانع الآلية المتطورة بصورتها الحاضرة الضخمة اليوم ـ آلات وبناء ـ قد يكون في عدم إخضاعها للزكاة مصلحة لا تقل عن المصلحة الملحوظة في إخضاعها إن لم تزِد، فإن ما تفتَحه من أبواب العمل المُنتج للعمال والفقراء، فتحرِّك فيهم طاقات كبرى كانت عُرضة للتعطيل والشلل، وتَدِرُّ أرزاقًا لأولادهم وأُسَرِهم، وتُدير دولاب الاقتصاد العام في جميع أنواعه، إن هذا الأثر كلَّه تستحق به المَعامل هذا التشجيع على إنشائها بعدم إخضاعها لتكليف الزّكاة لو أن أصحابَها جَنَوْا من ورائها أرباحًا وثرْواتٍ ضخمةً، ولا سيما إذا عرَفنا أن تلك الثروات والأرباح خاضعة للزكاة (إلى جانب ما تفرضه النظم المالية اليوم من ضرائب لا يفلِت منها بناءٌ ولا آلةٌ ولا دَخْلٌ) ولو أدَّى أصحابُها زكاة مواردها لكان فيها خير عَميم.
فلا أرى من الجائز بتفقُّهٍ فردي ومرتجل أن يُفْتَى بإخضاع مباني المعامل وأثاثها، وآلاتها لتكليف الزكاة، ولنسِرْ على خُطى فقهائنا الأولين في الصورة الابتدائية الأولى، ففيها حكمة ورَويّة ومصلحة تنطبق على الصورة المتطورة الحديثة لهذه المعامل .
والله سبحانه أعلم(4).
هامش
(3) مجلة الوعي الإسلامي الكويتية، السنة السادسة، 1390هـ ـ 1970م عدد (63).
(4) وانظر: ما يأتي من فتاوى الشيخ حول زكاة العمارات والآلات، وللشيخ بحث موسع بعنوان: جوانب الزكاة تحتاج إلى نظر فقهي جديد، نشر في مجلة أبحاث الاقتصاد الإسلامي بجدة، المجلد الأول، العدد الثاني (1404هـ ـ 1984م).(46/3)
أوقات رمي الجمرات في الحجّ(8)
بعث إلينا الأستاذ مصطفى أحمد الزرقا ـ خبير موسوعة الفقه الإسلامي بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة الكويت ـ بهذه الخُلاصة عن الاجتهادات المختلِفة في أوقات رمي الجمرات في الحجّ، وفيما انتهى إليه تيسير على حُجّاج بيت الله الحرام، وتخفيف للمشقّة الشديدة التي تَلحقُهم بسبب الزِّحام الشديد عند الرمي، وصدق الله العظيم (وما جَعَلَ عَلَيْكم في الدِّين مَنْ حَرَجٍ) (الحج: 78).
1 – وقت رمي جمرة العَقبة:
رمي جمرة العقبة يبدأ من فجر اليوم الأول، أي: يوم الأضحى بالإجماع، سوى أنّه عند الشّافعية يبدأ من منتصَف ليلة العيد، ويستمرُّ إلى غروب شمس آخر أيام التشريق، وهو اليوم الرابع، فيرميها الحاج ليلًا أو نَهارًا، ويكون كلُّ ذلك أداءً عندهم.
وعند الحنفيّة يستمرُّ وقته من فجر اليوم الأول إلى فجر اليوم الثاني، والأفضل عدم تأخيره عن وقت الزّوال من اليوم الأول، ويُباح تأخيره إلى الغروب، ويُكرَه بعده.
2 – رمْي الجمرات الثلاث:
رمي الجمرات الثلاث بعد اليوم الأول، يبدأ وقته من زوال كل يوم إلى فجر اليوم التالي في معظم المذاهب.
إلا أنه عند الشافعية يَبدَأ وقت الرَّمي في كل يوم بزوال الشمس فيه، ويستمر وقته إلى الغروب من آخر أيام التشريق، ولكنْ لا يصحُّ الرمي عن يوم إلا بعد الرمي عما قبله.
وعند أبي حنيفة أن اليوم الرابع من أيّام العيد، وهو يوم النفر الأخير يبدأ وقت الرّمي فيه من الفجر حتى غروب الشمس، فيستطيع المتعجِّل أن يرميَ قبل الزوال وينفرَ.
وقال إسحاق: إن يوم النَّفر الأول (وهو الثالث) هو كالرابع يبدأ الوقت فيه لأجل الرمي من الفجر أيضًا، تسهيلًا لمَن يُريد النّفر فيه (كما في نيل الأوطار للشوكاني).
أما اليوم الثاني من أيّام العيد، فالجمهور على أن وقت الرمي فيه يبدأ من الزوال، فلا يصحُّ الرمي فيه قبل الزوال، لأنه لا نفرَ فيه.(47/1)
ولكن خالَف في ذلك الإمام الباقر محمد بن علي من آل البيت (كما في بداية المجتهد)، وكذا الإمام الناصر من الزّيديّة (كما في البحر الزخار) وكذا من التابعين عطاء وطاووس (كما في نيل الأوطار) فقال هؤلاء جميعًا: إن الوقت في اليوم الثاني أيضًا يبدأ من الفجر، فيرمي قبل الزوال مُطلقًا.
وفي قول آخر عند الحنفيّة أيضًا غير القول المشهور: أنّ اليومين الثاني والثالث أيضًا يجوز الرّمي فيهما قبل الزّوال.
وعليه يكون في الأيّام الأربعة كلّها مجال للرّمي من الصّباح قبل الزوال في مختلف الاجتهادات، ولو في غير يوم النّفر للمستعجِل وغيره؛ لأن في الرمي قبل الزوال تيسيرًا كبيرًا على الناس حتى على غير المستعجِل لأجل النفر، فإن الماكِث أيضًا قد يحتاج إلى التبكير في الرمي اجتنابًا للزِّحام الشّديد في الحَرّ الشديد، ولا يخفَى أن المكلَّف عليه أن يتبع أحد المذاهب المُعتبرة أيًّا كان منها، ويتقبّل الله تعالى منه، فإن الدين يُسر بنصِّ الحديث الثابت.
هامش
(8) الوعي الإسلامي، العدد 59 السنة الخامسة 1389هـ ـ 1970م.(47/2)
القيام بالحج عن الغير ممّن يجهَل أحكام الحج (7)
هل يجوز أن يحُجّ عن الميت شخصٌ عاميٌّ جاهل بتفاصيل أحكام الحج والعمرة، ولا يَدري ما يجوز أو لا يجوز منها؟ بحيث لو سأله وليُّ الميت عن شيء من ذلك لعجز عن معرفتِه. وقد رأيت في بعض كتب الشافعيّة اشتراط علمه بذلك.
ثم لو أمكن تكليف شخص عالمٍ بتفاصيل ذلك فأيُّهما أصلح؟ أرجو أن تتكرّموا بالجواب، ودمتم.
عبد الهادي محمد
الجواب:
إن صحّة التعاقُد في إجارة، أو بيع، أو أي من العقود لا تتوقّف شرعًا على معرفة العاقدين، أو أحدهما بتفاصيل أحكام العمل المتعاقَد عليه، وإنما يتطلَّب في صحّة التعاقُد أن يجريَ العقد مُستوفِيًا أركانَه وشرائط صحّته. فلو عقد الشخص مُزارعة مثلًا مع آخر ليعمل في أرضه، لا يشترط لصحّة المُزارعة أن يكونَ العاقدان عالمين بأحكامِها الشرعيّة؛ وكذا كلُّ عقد على عمل لا يشترط فيه لصحة العقد معرفة العاقدين بأحكام هذا العمل؛ لأنّ من الممكن أن يسأل الجاهل عن الأحكام حين حاجته إليها، وعلى هذا لا يُشترط في قواعد المذهب الحنفي أن يكونَ مَن يطلب منه القيام بالحج عن الغير عالمًا بأحكام الحج، وكما لا يُشترط لصحة حجِّه هو عندما حجّ حَجَّةَ الفريضة أن يكون عالمًا بأحكام الحج؛ لأنه يسأل ويتبع عند القيام بالمناسك. ومعظم الناس الذين يتألّف منهم الحَجيج كل عامٍ هم من الجاهلين بأحكام الحج، فكما يصحّ حجِّ الإنسان وهو جاهل بالأحكام عندما يُحرِم بالحج، متى سأل وأدَّى الأعمال والمناسك في حينها، كذلك يجوز تكليفُه للحجّ عن الغير وهو جاهِل بالأحكام، ويصحُّ منه الحج متى سأل عن الأعمال والمناسك في حينها، وأداها على وجهها المشروع.
أما ما ذكرته من النّقل عن كتب السادة الشافعيّة، من أنه لا يصح استئجار شخص للحجّ عن الغير، إذا كان أحد العاقدين يجهَل أحكام الحج، فلعله رأيٌ للشافعيّة.(48/1)
أما عند الحنفيّة فالأرجح عندهم: أن الحجَّ عن الغير لا يكون أصلًا بطريق الاستئجار، بل يُكَلَّف الشخص أن يقوم بذلك تكليفًا، وإذا فعل يستحِق نفقتَه. ولكن على كل حال يجب أن يُلحظ أن الصِّحّة شيء، والأفضليّة شيء آخر، فالأفضل أن يكلِّف لذلك مَن هو عالم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
هامش
(7) مجلة حضارة الإسلام، العدد الثامن، السنة السادسة 1385هـ / 1966م.(48/2)
حكم الترتيب في الرّمي والذبح والحلق
وعلى أي شيء منها يتوقَّف التحلُّل الأصغر؟
وحكم إنابة البنك الإسلامي في ذبح الهدي
إلى معالي الدكتور أحمد محمد علي
رئيس البنك الإسلامي للتنمية حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تلقيت رسالتكم الكريمة ذات الرقم 1162/أ والمؤرخة في 5/6/1405هـ = 24/2/1985م حول (مشروع الإفادة من لحوم الهدي والأضاحي) الذي يُسهِم فيه البنك الإسلامي للتنمية لتنظيم ذبح الهدي؛ بالنيابة عمَّن يريدون من الحُجّاج إنابة البنك الإسلامي للتنمية في ذلك، فيقوم البنك ـ بوساطة الأجهزة والوسائل التي يهيِّئهاـ بذبح الذبائح وتوزيعها بصورة يجتنب فيها إهدار لحوم تلك الذبائح التي تبلغ مئات الألوف، ويتحقّق فيها المقصود الشرعي بتوزيع هذه اللحوم على الفقراء والمعوزين محليًّا، ونقل الكثير منها مصونة ومبردة إلى المحتاجين في مختلف البلاد الإسلاميّة، وإلى اللاجئين حيث يوجدون، وإلى الذين ضربَهم الجَفاف والجوع من المُسلمين في إفريقية... إلخ
وبيّنتم فيها المُشكلة التي واجهتكم في هذا المشروع العظيم: من أنّ بعض الحجّاج الذين يتّبِعون المذهب الحنفيّ كانوا يُصِرّون على أن يعرِفوا الوقت الذي يتمّ فيه نحر هديِهم، أو ذبحه بصورة محدّدة؛ ليتمكّنوا من التحلُّل الأوليِّ من إحرامهم، باعتبار أن المذهب الحنفي يُوجب ذبح الهدي في الحج على المتمتِّع والقارِن بعد الرمي وقبل الحلق أو التقصير (بهذا الترتيب) ليُمكن التحلُّل الأول من الإحرام، وبيَّنتم أن عددًا من فقهاء الشريعة أكّدوا لكم أنه يجوز للحاجِّ أن يتحلَّل التحلُّل الأولي الأصغر بعد رمي جمرة العقبة وطواف الإفاضة أو الحلق أو التقصير، ولو قبل ذبح الهدي.
وقد رغِبتم أن أبيِّنَ لكم ما أرى في هذا الأمر، فأقول ـ وبالله التوفيق ـ موجِّهًا جوابي هذا إلى كل حاج:(49/1)
إن الأعمال التي يحصُل تحلُّل الحاج من إحرامِه بعد أداء بعضها أو كلّها هي أربعة: (الرمي، وذبح الهدي، والحلق أو التقصير، وطواف الإفاضة).
وقبل طواف الإفاضة لا يحصُل بالأعمال الثلاثة الأخرى إلا التحلُّل الأوليّ الذي هو التحلُّل الأصغر، فيحلُّ به كل شيء سوى النِّساء. أما التحلُّل الأكبر الذي يخرج به الحاج من إحرامه نهائيًّا، ويحل له النساء، فلا يكون إلا بعد طواف الإفاضة (مع السعي السابق قبله، أو اللاحق بعده).
هذا محلّ إجماع بين أئمة العلم والمذاهب الفقهيّة، والإجماع أيضًا على أن الحاج المُفرِد لا ذبح عليه، وإنّما الذبح على القارِن والمتمتِّع، فإذا ذبح المُفرِد فهو تطوع، وليس بنُسُك واجب. ثم إنّ هذه الأعمال يُميّز فيها بين أمرين:
الأمر الأول ـ الترتيب فيما بينها: هل هو واجب أو سنّة وأفضيَّلة؟
والأمر الثاني: التحلُّل الأولي الأصغر على أي شيء منها يتوقّف؟
وفي كلا هذين الأمرين اختلف أئمة الفقه والمذاهب، تبعًا لدلائل الكتاب والسنة النبويّة الثابتة.
أولاً ـ في وجوب الترتيب وعدمه:
ذهب أبو حنيفة وأصحابه ـ رضي الله عنهم ـ إلى أن الترتيب بين الأعمال الثلاثة: رمي جمرة العقبة، ثم الذّبح للقارِن والمتمتِّع، ثم الحلق أو التقصير، بهذا الترتيب بين الثلاثة واجب، وهي كترتيب حروف كلمة (رذح) فالراء للرمي، والذّال للذّبح، والحاء للحلْق أو التقصير.
وحجّتهم أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ هكذا فعل في حجه بهذا الترتيب، وقد قال: "خذوا عني مناسِكَكم"(9) والإخلال بهذا الترتيب عندهم يوجب دم جزاء.
أما الأئمة الثلاثة الآخرون، مالك والشافعي وأحمد ـ رحمهم الله تعالى ـ فكلهم خالَفوا أبا حنيفة في حكم هذا الترتيب بين الأعمال الثلاثة المذكورة بأدلة أخرى من السنة النبوية نفسها:(49/2)
فالمالكيّة لا يرون ترتيبًا واجبًا إلا بالنسبة إلى الرّمي فقط، فرمي جمرة العقبة يجب عندهم أن يتقدّم على (الذبح والحلق)، أما هذان فلا ترتيب بينهما.
والشافعيّة ذهبوا إلى أنّ هذا الترتيب بين الأعمال الثلاثة جَميعًا إنّما هو سنة ليس بواجب، ولا يترتّب على عدمه جزاء، وحُجّتهم في ذلك من السنّة النبوية قويّة جِدًّا بل قاطعة، وهي حديث عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ، وهو حَديثٌ صحيح متفق عليه في البخاري ومسلم وغيرهما من كتب الصحاح: أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقَف في حجّة الوداع بمنًى فجعلوا يسألونَه، فقال رجل: لم أشعر فحلَقتُ قبل أن أذبحَ؟ قال: "اذبح ولا حرج". فجاءه آخر فقال: لم أشعُر فنحرْت قبل أن أرميَ؟ قال: "ارْم ولا حَرَجَ". فما سُئل يومئذٍ عن شيء قُدِّمَ أو أُخِّرَ إلا قال: "افعلْ ولا حَرْجَ "(10) والحنفيّة يؤوِّلون هذا الحديث تأويلًا بعيدًا فيقولون: إن قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ للسائل: لا حرج، معناه نفيُ الإثم، فلا يُنافِي وجوبَ الجزاء، وإني ـ وأنا حنفي أبًا عن جَدٍّ ـ أستسيغُ أن أقول: إن هذا التأويل بعيد عن أسلوب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في البيان، بل المعنى الأقرب والمُتبادِر من قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ للسائل: "ولا حرج" أنه لا شيء عليه من إثم ولا جزاء.
وعندئذٍ يكون الترتيب الوارد في فعله ـ عليه الصلاة والسلام ـ بين هذه الأعمال الثلاثة إنما هو للأفضليّة، وليس للوجوب، جمعًا بين قول الرسول وفعله، وهذا الجمع والتّوفيق بين دَلالات الأحاديث النبويّة هو الواجب في قواعد أصول الفقه متى كان مُمكنًا.
ثانيًا ـ في التحلُّل:(49/3)
ما تقدَّم بيانه هو ما يتعلّق بحكم الترتيب بين الأفعال الثلاثة (الرمي، ثم الذبح، ثم الحلق أو التقصير): هل هذا الترتيب بينها واجب أم سنة؟ وقد رأينا أن الوجوبَ هو رأي الحنفية فقط، أما في المذاهب الثلاثة الأخرى فهذا الترتيب بينها سُنَّة لا يترتّب على الإخلال به جزاء، إلا أن المالكيّة يُوجبون تقديم الرّمي فقط.
أما التحلُّل من الإحرام فهو أمر آخر لا عَلاقة له بهذا الترتيب، ولا يتوقّف عليه:
أ) ففي المذاهب الأربعة، حتّى الحنفيّة، يتحلّل الحاج التحلّل الأصغر بعد هذه الأعمال الثلاثة، ولو أتى بها على غير هذا الترتيب، كما لو بدأ بالحلق أو التقصير، ثم ذبح ثم رمي جمرة العقبة، ولكنه عند الحنفيّة عليه دم الجزاء لإخلاله بواجب الترتيب بينها جميعًا، وعند المالكيّة عليه دم الجزاء إذا لم يبدأ بالرّمي، فالتحلل الأصغر يحصل بهذه الأعمال الثلاثة، ولو مَع عدم ترتيبها في جميع المذاهب، وإنْ وجب دم جزاء عند بعضِهم بعدم التّرتيب.
ب) أمّا المذاهبُ التي ترى الترتيب كله سنة لا واجبًا كالشافعيّة والحنابلة؛ فإن التحلل يحصل عندهم بهذه الأفعال ولو غير مرتبة دون أي جزاء.
فالإمام أحمد بن حنبل ـ رحمه الله تعالى ـ وأتباعه يرون أن التحلّل الأصغر يحصُل بفعل اثنين من الأعمال الثلاثة: (الرّمي والذَّبح والحلق أو التقصير) أيَّ اثنين كانا. فالرّمي والحلق أو التّقصير وحدهما يحلّ به الحاج المتمتِّع أو القارِن قبل الذّبح.
وأما الإمام الشافعي ـ رحمه الله تعالى ـ وأتباعه فيرَون ألّا دخل للذَّبح في التحلُّل أصلًا، فيحلّ الحاج بالرمي والحلق أو التقصير فقط. أما الذبح فواجب منفصل على المتمتِّع والقارِن لا عَلاقة له بالتحلُّل، بدليل أنه لا يطلب الذَّبح من الحاج المفرِد، إذ يتحلَّل هذا دون ذبح أصلًا بالإجماع.(49/4)
والإمام مالك وأتباعه ـ رضي الله عنهم ـ يرَون أن التحلُّل الأصغر يحصُل برمي جمرة العقبة فقط قبل الذبح والحلق، ويؤيِّد هذا ما ترويه كتب السنة موقوفًا عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما: "إذا رميتُم الجمرة (أي: جمرة العقبة) فقد حلَّ لكم كل شيء إلا النِّساء)(11) على أن الحنفيّة يقرِّرون أن الحلقَ أو التّقصير هو وحده سبب التحلُّل مطلَقًا، الأصغر والأكبر، ولكنْ يتأخّرُ أثره وهو التحلُّل تأخُّرًا حتّى تتمُّ بقيّة المناسك الثلاثة (الرّمي والذبح وطواف الإفاضة) حتّى إنه بعد طواف الإفاضة يحلُّ النِّساء بالحلق السابق أو التقصير، لا بالطواف، فلو طاف قبل الحلق أو التقصير يبقى مُحرِمًا، ولا يحلُّ له شيء من محظورات الإحرام، فالحق عندهم هو المحلِّل، أما بقية الأعمال فهي من قَبيل الشروط، فبعضها شرط للتحلُّل الأصغر بالحلق، وبعضها (الطّواف) شرط للتحلُّل الكامل بالحلق السابق أيضًا (يُنظر الدر المختار ورد المحتار عند الكلام على طواف الزيارة ـ الإفاضة ـ من كتاب الحج).
من جميع ما تقدّم بيانُه، بالنسبة إلى الترتيب وإلى التحلُّل، نخلُص إلى ما يلي:
1) أن الترتيب بين الأعمال الثلاثة (الرمي، والذبح، والحلق أو التقصير) عند معظم الأئمة ـ رحِمَهم الله تعالى ـ ليس بواجب، ولا يقول بوجوبه إلا الحنفيّة، وأن دليل كونه سُنَّة لا واجبًا، ولا يترتب على الإخلال به إثم ولا جزاء، هو الدليل الأقوى.
2) أن التحلُّل الأصغر لا يتوقَّف على الترتيب بين الأعمال الثلاثة حتّى عند الحنفيّة أنفسِهم، فالإخلال بالترتيب بين الأفعال الثلاثة يحصل به التحلل (ولكن يجب به دم جزاء عند الحنفية فقط)، أما عند غيرهم ـ وهم أكثر الأئمة ـ فيقع التحلل مع عدم الترتيب، ولا يجب به جزاء؛ لأن الترتيب عندهم سنّة لا واجب.(49/5)
3) أن الذبح للقارن والتمتع لا علاقة له بالتحلل عند الشافعيّة، فيتحلَّل الحاج بالرمي والحلق أو التقصير فقط، ومن أراد معرفة المراجع المذهبيّة من أقرب طريق، والمزيد من التفصيل والأدلة دون رجوع إلى كتب المذاهب، فليرجع إلى كتاب الدكتور نور الدين العتر الأستاذ في كلية الشريعة بجامعة دمشق (الحج والعمرة) فهو خير ما ألف في هذا الموضوع.
ثالثاً: هل يُعتبر أداء قيمة الهدي إلى البنك الإسلامي للتنمية وتوكيله بالذبح والتوزيع كافيًا للتحلل الأصغر بعد الرمي الأول والحلق أو التقصير؟
يتضِح مما تقدَّم بيانه أنه لا إشكال في موقِع الذبح بين الأعمال الثلاثة (الرمي والذبح والحلق أو التقصير) بالنسبة إلى التحلُّل الأصغر في المذاهب الثلاثة: المالكيّ والشافعيّ والحنبليّ، فالتحلُّل في هذه المذاهب يحصُل بعد الذبح أو قبله على السواء.
ففي المذهب المالكي ـ كما رأينا آنفًا ـ يتحلَّل المُحرِم من التحلُّل الأصغر برمي جمرة العقبة قبل الذبح والحلق.
وفي المذهب الشافعي يقع التحلُّل الأول بهذا الرمي والحلق أو التقصير فقط، ولا عَلاقة للذبح بالتحلُّل.
وفي المذهب الحنبليّ، كذلك، يكفي الرمي الأول والحلق أو التقصير للتحلُّل الأول؛ لأنّه يكفي عندهم للتحلُّل فعل اثنين من الثلاثة أيًّا كان (رمي وحلق ـ رمي وذبح ـ ذبح وحلق).
وبما أن رمي جمرة العقبة يقوم به الحجيج جَميعًا بعد فجر اليوم الأول من أيام النحر، فإذا حلق الحاج بعده أو قصَّر تحلَّل التحلُّل الأصغر بإجماع المذاهب الثلاثة المذكورة، دون أي تأثيرٍ للوقت الذي سيقع فيه الذَّبح بعد ذلك من أيام النَّحر.(49/6)
فإذا دفع الحاج قيمةَ الهدي إلى البنك الإسلامي للتنمية، وأنابه عنه في شرائه وذبْحه وتوزيعه، فلا شُبهة في أنّه يتحلَّل التحلُّل الأول بمجرّد الرمي الأول والحلق أو التقصير في اليوم الأول من أيام النَّحر في هذه المذاهب الثلاثة ـ أما في المذهب الحنفي فلابد من الذَّبح للقارِن والمتمتِّع، وأن يكون هذا الذبح بعد الرمي الأول، وقبل الحلق أو التقصير، لكن قد بيَّنا فيما سبق أن هذا الترتيب عند الحنفيّة واجب مستقِلٌّ لا يتوقّف عليه التحلُّل الأول، فلو قام الحاجُّ بهذه الأفعال الثلاثة دون التقيُّد بهذا الترتيب يتحلَّل التحلُّل الأصغر، لكن يجِب عليه دم جزاء لإخلاله بهذا الترتيب الواجب عندهم.
فهل إذا دفع الحاج قيمة الهدي إلى الجهة التي تتوكَّل عنه مسبَقًا، وأنابَها عن نفسه في الذَّبح والتوزيع، يُعتبر دفعه المسبَق ـ في قواعد المذهب الحنفيّ ـ مُجزئًا بمثابة الذّبح في موقعه الواجب، فيتحلّل التحلُّل الأول عندئذٍ بمجرّد الرمي ثم الحلق أو التقصير دون أن يترتب عليه دم جزاء؟.
لا شكّ عندي في ذلك بمقتضَى المذهب الحنفي نفسه لاعتبارات التالية:(49/7)
أ) أن البنك الإسلاميّ للتنمية قد نَدَب نفسه متطوِّعًا مشكورًا لهذا الواجب الإسلامي العظيم من واجبات الكفاية؛ لينقذَ السُّمعة الإسلاميّة من مآسي ذبح الذبائح بالآلاف المؤلَّفة في منًى، بصورة فوضويّة غير منظَّمة، وطرحها في الأراضي إهدارًا لها، مما لا يُقِرُّه شرع ولا عقل؛ لأنَّ المقصود الشرعيَّ من الهدي في الحج إطعام الجائع والمُعتَرّ بنص القرآن الكريم، لا مجرد الذبح والطَّرح إهدارًا وتقذيرًا. فقام البنك الإسلامي للتنمية بتكوين جهاز كبير من الأشخاص والوسائل والأدوات لشراء الهدايا من الأنعام بالآلاف نيابة عمّن يوكِّله بذلك من الحجاج، وتنظيم ذبحها في المذابح المخصَّصة لذلك، وتوزيعها محليًّا وخارجيًّا بطائرات مجهَّزة خصيصًا ومبردة إلى جميع الفقراء والمُعْوزين، والأقليّات الإسلاميّة الفقيرة والمُجاهدين في جميع مراكز العالم الإسلامي.
وهذا البنك الإسلامي للتنمية الذي مركزه جدة من المملكة العربية السعودية توكيله بذلك ليس كتوكيل أي فرد من الناس قد يُهمِل ما يوكَّل به أو لا يقوم به أو يخون موكِّلَه إلى غير ذلك من الاحتمالات. فالبنك الإسلامي للتنمية هو مؤسَّسة رسميّة دوليّة أعضاؤه دول إسلاميّة، وله نظام دقيق محكم ومحاسبة ومسؤولية، فلا يتصور أن يحصُل منه شيء من هذه الاحتمالات التي قد تقع من بعض الأفراد، فالدفع إليه مُسبَقًا وتوكيله بالذبح والتوزيع يُطمأن معه إلى أنه سيقوم بالمُهمّة الشرعيّة في وقتها على الوجه الأكمل، وذلك قياسًا على من دفع الزكاة الواجبة عليه إلى جابي بيت المال، أو إلى المؤسّسة المختصّة في الدولة لتوزعها في مصارِفها الشرعيّة؛ فإن الدافع تَبرَأ ذمّته بهذا الدّفع من الزكاة الواجبة عليه باتفاق المذاهب، ولا سيِّما إذا لوحِظ أن مُشكلة ذبائح الهدى في الحجِّ لا يُمكن تنظيمها والقضاء على مآسيها إلا بمثل هذا الترتيب.(49/8)
ب) إذا كان القصد من تقديم الهدي في الحجّ ليس مجرَّد سقي الأرض بدماء الذبائح وترك الآلاف منها مُهدَرة، بل القصد الشرعيّ هو الأكل وإطعام الجائع القانِع والمُعْتَرّ بنصِّ القرآن الكريم، فهو عبادة ماليّة ذات مقصد دينيّ اجتماعيّ ومَبَرّة. وإذا كان هذا المقصد الشّرعيّ لم يعد من الممكن أن يتحقّق بسبب الكثرة الهائلة في عدد الحجاج من جميع أقطار العالم إلا بمثل هذا التنظيم الذي قام به البنك الإسلامي للتنمية، فإن الواجب عندئذٍ في الذبح الفعلي من الحاجِّ حيث يؤدِّي إلى تلك المشكلات من الإهدار والتقذير، ينتقل شرعًا إلى أداء قيمة الهدي للجِهة الرسميّة أو شبه الرسميّة التي تُهيَّأ للقيام بالذّبح والتوزيع بتوكيل من الحاجِّ الدافع، وهي تُحقّق هذه المهمة بصورة لا يستطيعها الحاجُّ نفسُه، إذ توزّع على فقراء محليّين وإلى محتاجين في جميع أقطار العالم الإسلامي (كما سبقت الإشارة إليه) فوريًّا بطائرات مبردة، فبمجرد أداء قيمة الهدي إلى هذه الجهة، وتوكيلها بالتنفيذ، يتحقّق به الواجب الشرعي، إذا تأمّلنا ببصيرة شرعية واعية قوله تعالى في أمر ذبائح الهدي: (لَنْ يَنَال اللهَ لُحومُها ولا دماؤُها ولكنْ يَنالُه التَّقْوى مِنْكم)، ولا شكّ أن التقوى تكون أكمل كلما كان تحقيق الغاية الشرعيّة من الأمر المكلَّف به أكمل وأشمل، ولا نظنُّ أحدًا له عقل وعلم يقول: إن ذبح الهدي في الحج وطرحه في الأرض بين الخيام هدرًا، دون قدرة لصاحبه على توزيعه للقانع والمُعْتَرِّ المحتاج كما أمر القرآن، مما يؤدي إلى إنتانه وفساده وإفساد البيئة به، كما هو الواقع من الكثيرين. إن هذا العمل بهذه الصورة تتحقق به التقوى التي أشار إليها القرآن العظيم، ولا تتحقق بهذا التنظيم الذي يقوم به البنك الإسلامي للتنمية (ويوصل به هذه اللحوم طازَجة مبردة إلى أيدي الجياع والمحتاجين من المسلمين في الأقطار الإسلامية) بحجة أن الحاج لا يعرف الوقت المعين(49/9)
الذي سيذبح فيه هديه بين رمي الجمرات والحلق أو التقصير لكي يتحلَّلَ. بل نقول له: تحلَّل هداك الله، بعد الرمي والحلق أو التقصير مادُمْتَ قد دفعت مسبقًا قيمة الهدي إلى الجهة التي ستتولَّى المهمّةَ عنك في حينها على أحسن وجه لا تستطيعه أنت، فدفع قيمة الهدي لمن يتولى التنفيذ في حينه بصورة مضمونة مأمونة يصبح في مثل هذه الحال مُجزِئًا وكافيًا شرعًا، ويُعتبر نظير تسليم ورقة (الشيك) التجاري القانوني؛ إذ يُعتبر تسليم الشيك تسليمًا لمضمونه من النقود في المعاملات التي يجب فيها التقابُض شرعًا، مثل صرف النقود بعضها ببعض، ومثل بيع السَّلَم حيث يجب شرعًا تسليم الثمن (رأس المال) في مجلس العقد، فقد استقرَّ الرأي الشرعي المعاصِر على أن من دفع نقودًا لأحد الصّيارِفة في بلد ليأخذ بقيمتها نقودًا من نوع آخر في بلد آخر (كمن دفع ريالات سعودية في مدينة جدة مثلاً ليأخذ بدلاً منها قدرًا معينًا من الدولارات في نيويورك) فهذه معاملة (سفتجه) ومصارفة في وقت واحد، فمن حيث كونُها مُصارَفة يجب التقابُض بين الجانبين في مجلس العقد، ويفسد العقد إذا افترقا دون تقابض، كما هو معلوم، سدًّا لذريعة الرّبا. فاليوم بعد وجود الشيكات التجارية وقوتها القانونيّة المُبرئة، حيث توجب النظم العالميّة جميعًا وجوب أداء مضمون الشيك المحرر بصورة صحيحة قانونًا إلى حامله دون أي تعلُّل بأية علّة، وحيث يعتبر تحرير صك لأحد دون رصيد كاف لمحرره لدى الجهة المسحوب عليها جريمة يعاقب عليها القانون عقوبة شديدة مالية وبدنية، وقد استقرّت الفتوى المعاصرة اليوم على أن تسليم الشيك يعتبر كالقبض لمضمونه فيما يجب فيه التقابض.(49/10)
ففي مثالنا المذكور إذا دفع الشخص الريالات في جدة، وسلمه الصراف شيكًا بالدولارات البديلة يكون هذا تقابضًا كافيًا شرعًا؛ لأن الشيك مَحمِيٌّ قانونًا بالصورة المبيّنة، ويُتداوَل بين الناس بالتحويل والتظهير كتداوُل النقود تمامًا. وبدون هذا التخريج تُشَلُّ معاملة ضروريّة للناس من أهم معاملات العصر الحاضر (ينظر عقد الحوالة من إصدار الموسوعة الفقهية في الكويت الفقرة / 358 ص / 232).
فتسليم قيمة الهدي مسبقًا إلى الجهة المختصّة، التي تعينها اللجنة المشرفة على المشروع مع توكيلها بذبح الهدى وتوزيعه، هو كتسليم الشيك من الأوراق الماليّة الذي يعتبر تسليمه وفاءً مبرئًا للذمة كقبض مضمونه فعلاً، بل هو أولى أن يعتبر شرعًا، وبنظر المذهب الحنفي نفسه مجزئًا للحاج عن قيامه هو بالذبح في وقته الشرعي من أيام النحر؛ إذ بدون ذلك يكون ذبح الهدايا بمئات الألوف وطرحها إهدارًا وتقذيرًا مفسدة كما هو الواقع، لا مَنسَكًا تعبديًّا، فالشرع الإسلامي ـ الذي جعله الله رحمة للعالمين ـ كله حكمة ومصالح حيوية واضحة.(49/11)
رابعًا ـ ما تقدَّم كلُّه هو فيما إذا نظرنا إلى الموضوع بالمِنظار الشرعي، العام وفقًا للقواعد القياسية العامة، أما إذا نظرنا بمنظار القواعد الشرعية الاستثنائية للحالات والظروف الخاصة، كقاعدة الضّرورات أو الحاجات العامّة، وكقاعدة الاستحسان التي تفتح طرقًا للخروج من تحت القواعد القياسية لتقرير أحكام استثنائية خاصة ببعض المسائل، رعاية لظروفها وملابساتها الخاصة التي إذا لم تراع، بل طبقت فيها القواعد القياسية العامة، تنتهي بها إلى نتائج تناقض مقاصد الشريعة، وتُوقِع في الحرج، إذا نظرنا بمنظار القواعد الاستثنائيّة التي أقامتها الشريعة لمعالجة مثل هذه الحالات والمشكلات، فإن المُشكلة مَحلولة عندئذ حتى بنظر المذهب الحنفي الذي يشترط الترتيب بين الأعمال الثلاثة (الرمي، والذبح، والحلق أو التقصير)، فقد يسقط الواجب الأصليّ حينئذٍ، ويُكتفَى بما يُمكن، وهذا من الخصائص التي بها كانت الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان.
وقد نصّ فقهاء الحنفيّة أنفسُهم على أنه في حالات الزحام وضيق المساجد بالمصلِّين في بعض الحالات، كما في الجمعة والعيدين، إذا لم يوجَد متَّسَع للسجود يسجُد المصلِّي على ظهر رفيقه، مع أن وضع الجَبهة على الأرض في السجود فريضة بإجماع الأئمة، لا تصحُّ الصلاة بدونها في الحالات العاديّة.
ونصّ الحنفيّة أيضًا على قبول شهادة التسامُع إذا كان اشتراط العيان (الذي اشترطه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقوله "إذا رأيتَ مثلَ الشمس فاشْهَدْ وإلا فدَعْ(12) ) يؤدِّي إلى ضياع الحقوق لتعذره في بعض الحالات، فأجازوا شهادة التسامع لإثبات أصل الوقف في الأوقاف القديمة؛ التي انقرض واقفوها وشهودُها؛ إذ لولا ذلك لتسلط الغاصبون على عَقارات هذه الأوقات، دون أن يمكن إثبات وَقفيّتها أمام القضاء.
وقبلوا أيضًا إثبات الوفاة والنّسب بالتسامُع للسبب نفسه.(49/12)
وقبلوا أيضًا شهادة النِّساء وحدَهن في الجرائم التي تقع في حمّامات النِّساء، مع أن اشتراط عنصر الرجال مع النِّساء في الشّهادة مطلوب بنص القرآن العظيم.
هذا إلى أحكام استثنائيّة شَبيهة كثيرة قد يطول شرحها مقرّرة في المذهب الحنفي.
فهل الترتيب الذي يَشترِطُه الحنفيّة وحدَهم دون سائر المَذاهب، بين الرمي والذبح والحلق أو التقصير أقوى وجوبًا في نظر الحنفيّة أنفسهم من جميع تلك الشرائط والواجبات والفرائض؛ التي قرّروا هم أنفسهم سقوطَها في هذه الحالات الاستثنائيّة، والاكتفاء عنها بالبَديل الممكن؟.
ونعيد إلى الذّاكرة هنا ما أسلفناه في القسم الثاني من هذا الجواب: أن الشافعيّة لا يرَون لذبح الهدي عَلاقة بالتحلل أصلًا، وأن الترتيب المذكور عند الحنفيّة أنفسهم ليس شرطًا للتحلّل، بل هو ـ أي: الترتيب ـ واجب مستقِلّ يجِب بالإخلالِ به دم جزاء، وخالفهم في ذلك المذاهب الثلاثة جميعًا، فلم يروا هذا الترتيب واجبًا.
*النتيجة:
بعد جميع تقدم أقول:
إن الحُجّاج الحنفيّة الذين يتحرّجون من دفع قيمة الهدي إلى الجهة التي تُعيِّنها اللجنة المشرِفة على المشروع، وتوكيلها بالذبح والتوزيع لعدم معرفة كل واحد منهم بوقت ذبح هديه ووقوعه بين رميه الأول ثم حلقه أو تقصيره، لكي يتحلل التحلل الأول مُطمئنًا ـ إنّ هؤلاء الحجّاج أمامهم عدة مخارج يسلكونها دون حرج:
الأول ـ أن يعتمدوا هذا التّخريج الذي ارتأيته ـ وأنا حنفي مثلهم ـ ولم أكتف فيه برأيي الشخصي، بل ذاكرت فيه عددًا من الفقهاء الذين يوثَق بعلمهم وفَهمهم وتقواهم فاستحسَنوه دون تردُّد، وهو:(49/13)
إن دفْع أحدهم قيمة الهدْي مُسبقًا إلى الجهة التي تعيّنها اللجنة المشرِفة على المشروع وتوكيله بشراء الهدْي وذبْحه في أيام النّحر، و توزيعه نيابةً عنه هو مُجزئ عنه وكافٍ لتحلّله الأصغر بعد الرمي الأول والحلق أو التقصير، ولا يترتّب عليه معه أيُّ محذور شرعي أو جزاء، بل العكس: هذا أفضل شرعًا من أن يذبح بنفسِه، ويُشارك الجَهلة في الإهدار والتقذير ممّا لا يَرضاه الشّرع.
الثاني: أنّ مَن لم يقبل هذه الفتوى يمكِنه أن يحُجّ مُفرِدًا، وحينئذٍ ليس عليه هدى، بل هو تطوُّع منه إن شاء، فإن الهديَ، كما سبق إيضاحه ـ لا يجِب على المفرِد بل على المتمتِّع والقارن فقط. وهذا ما أنصح به معظم الحجاج؛ لأن استهلاك الذبائح وإهدارها قد تجاوز الحدود المعقولة.
الثالث: إذا أراد أن يحج متمتِّعًا أو قارِنًا، فله أيضًا أن يتابع في هذه المسألة مذاهب الأئمة الذين لا يَرون للذّبح عَلاقة بالتحلُّل، بل يكفي عندهم للتحلُّل الأول رمي جمرة العقبة فقط، أو الرمي والحلق أو التقصير، أو يَرون التحلُّل بفعل اثنين فقط من الأعمال الثلاثة (الرمي، والذبح، والحلق أو التقصير) أيَّ اثنين منهما يشاء، كما سبق بيانه.(49/14)
وهذا التقليد لمذهب الغير في بعض الحالات للخروج من بعض المُشكلات جائز عند أصحاب المذاهب الأربعة جميعًا، وكثيرًا ما ينصُّ ابن عابدين من الحنفيّة في كتابه "رد المحتار على الدر المختار"، وهو الذي حرَّر به المذهبَ، وأغنَى أتباعَه، ينصُّ في كثير من المواطن التي يصادِف فيها الناس بعض المُشكلات على أنه يستحسن في تلك المسائل أن يُفتيَ بمذهب الشافعيّة أو المالكيّة أو الحنابِلة بحسب الأحوال، فالدّين يُسر كما يقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وكلُّهم من رسول الله مُقتبِس، والشّريعة وفقهها لا يمثلهما مذهب واحد بخصوصه لعدم عصمته من الخطأ، بل جميع المذاهب المعتبرة تشارك في تمثيل الشريعة وفقهها، والتعصُّب المَذهبي يَحرِم صاحبَه من مزايا الشريعة. وهو جهل وضلال.
هذا وجدير بالتنبيه أن هذا التنظيم الذي قام به البنك الإسلامي للتنمية، لا يَحرِم الذين يريدون أن يأخذوا ذبائحهم فيأكلوا ويوزِّعوا كما يشاؤون من رغبتهم هذه؛ فقد رتّب لذلك مشروعه هذا ترتيبًا: إنه إذا اتفق ثلاثون حاجًّا من الموكِّلين على ذبح ذبائحهم، وأخذْها كلِّها أو بعضها؛ ليتصرّفوا فيها أكلًا وتوزيعًا كما يشاؤون، فإنه يسلِّمهم إيّاها من مركز الذّبح مذبوحة مهيّأة، لكنه لا يستطيع وهو يقوم بذبح نحو ربع مليون ذبيحة وتوزيعها في أيام محدودة إلى أقطار العالم الإسلامي أن يتعامل هكذا مع كل واحد على حده.
أسأل الله تعالى ـ وهو خير مسؤول ـ أن يلهِمنا الصواب، ويلطُف بنا يوم الحساب، إنه هو السميع المُجيب، وصلى الله على سيدنا محمد رسول الهدى، ومعلم الخير، وعلى آله وصحبه وسلم.
الهوامش
(9) أخرجه مسلم (1297) في كتاب الحج من حديث جابر، والنسائي (3062) في مناسك الحج ولفظه: "خذوا مناسِكَكم" وليس فيه: " عنِّي" وبلفظ مسلم أخرجه أبو داود (1970).(49/15)
(10) أخرجه البخاري (1736) في الحج، باب الفتيا على الدابة عند الجمرة، ومسلم (1306) في الحج، باب مَن حَلَق قَبل أن يَنْحَر، واللفظ له.
(11)رواه النسائي (3084) في مناسِك الحجّ، باب ما يَحِل للمُحرِم بعد رمي الجِمار، وابن ماجه (3041) في كتاب المناسك.(49/16)
معلومات عمّا يجب عند دخول الحرم المكي
مُستخلصة من المذهب الحنفيّ
1 – الإحرام واجب على كلِّ مَن أراد تجاوز أحد المواقيت قاصدًا مكّة، سواء أكان قاصدًا حجًّا أو عمرة أو غير ذلك، ولو بتِجارة إلا من كان موطِنه داخل مواقيت، فله دخول الحرم بلا إحرام.
2 – مِيقات أهل المدينة ذو الحُليفة، ويسمِّيه العامة اليوم (أبيار علي) وهو على ستة أميال من المدينة.
وميقات أهل الشام الجُحْفة على ثلاث مراحل من مكة بقرب رابِغ.
ومن مرَّ بأحد المواقيت من غير أهلها يصير هذا ميقاتًا له، كالشامي إذا مرَّ بميقات أهل المدينة، فإنه يُحْرِم منه.
3 – لأجل الإحرام يُسنُّ: الوضوء والغُسل وتقليم الأظافر وقص الشارب وحلق الرأس أو تسريحه "بحسب عادة الشخص" وحلق العانة.
ثم يَلبس إزارًا ورداءً (ويُسَنُّ البَياضُ فيهما) كما يُسَنُّ إدخال الرداء تحت إبطه الأيمن، وإبقاء طرفه على الكتف الأيسر (شأن الفتوّة)، ونعلين، ويتطيّب ويصلِّي ركعتين، ثم يلبِّي عقب الصلاة قائلاً: (لَبيكَ اللَّهم لَبيك، لبيك لا شَريك لكَ لبيكَ، إنَّ الحمدَ والنِّعمة لك والمُلك، لا شَريك لك) وبهذه التلبية ينعقد الإحرام.
ومن كان يُريد حَجًّا أو عمرة يقول قبل التلبية: اللهم إني أريد الحجَّ أو العمرة (أو كليهما) فيسِّره لي، وتقبَّله مني.
وعند الحنابلة لا يجِب الإحرامُ على مَن مرَّ بأحد المواقيت إلا إذا كان قاصِدًا حَجًّا وعُمرة. أما إذا كان يُريد دخول مكَّة لأمر فلا يجب عليه الإحرام، وفي هذا تيسير على الكثيرين.
ويتجنّب خلال الإحرام المحظورات المعلومة (من التطيُّب ولُبْس المَخيط والرَّفث فعلًا وقولًا وقتل الصّيد أو أي حيوان حتّى القَملة، وتقليم الأظافر وستْر الرأس.. إلخ ) إلى أن يتحلَّل بالطّواف. وفي حالة المَعاذير من مرض أو أذى يلبَس ما يحتاج إلى لبسه ويَفدي.(50/1)
4 – والعمرة سنة مؤكّدة أو واجبة مرّة في العمر، وهي (إحرام وطواف وسعي، ثم حلق أو تقصير) وبذلك يتحلّل الإنسان منها ومن الإحرام، ويلبس بعدها ويباشر ما شاء من المباح قبل الإحرام.
5 – والطواف سبعة أشواط، فمتى دخل مكّة بدأ بالمسجد الحرام، ويبدأ الدخول ندبًا من باب السلام في النهار، ومتى شاهد البيت يكبِّر ثلاثًا، ثم يُهلِّل لإعلان البعد عن الشرك، ثم يَبتدئ الطّواف (وهو تحيّة المسجد عِوضًا عن التحية بالصلاة) فيستقبل الحجر الأسود مكبِّرًا مهلِّلًا، ويرفع يديه كالصلاة ويستلِمه بِكفَّيْه (وفي الزحام يكتفي بالإشارة) ثم يُقبِّله ويَجهر بالصلاة على النبيِّ ـ عليه الصلاة والسلام ـ ثم يُقَبِّل كَفّيه ويطوف عن يمينه جاعلًا الكعبة عن يَساره سبعة أشواط يُسرع في الثلاثة الأولى منها، ويستلِم الركن اليماني ندبًا في كل شوط بلا تقبيل، ويختِم الطواف باستلام الحجر استنانًا، ثم يصلِّي شفعًا وجوبًا في وقت مُباح، والأفضل أن تكونَ صلاتُه عند مَقام إبراهيم (وهو معروف اليوم) ثم يعود إلى التّكبير فيكبِّر ويستلِم الحجر ويهلِّل ويَخرج.
6 – والسّعي بعد الطواف للمعتمِر أو الحاج يكون بالصعود إلى الصّفا من باب الصفا، فيستقبل البيت ويكبِّر ويهلِّل ويصلِّي على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويرفع يديه ويدعو بما يشاء، ثم يمشي نحو المروة (ويسعى مُهروِلًا بين الميلين الأخضرين) ثمّ لمّا يبلغ المروة يصعد إليها ويفعل كما فعل في الصفا، وهكذا سبعة أشواط يبدؤها بالصفا ويختِمها بالمروة وجوبًا، وكل مرّة بين الصفا والمروة شوط، وكل عودة من المروة إلى الصفا شوط.(50/2)
ميقات الإحرام للقادم للحج والعمرة بالطائرة(1)
من أين يُحْرِم القادم بطريق الجوِّ لحجٍّ أو لعمرة بالطائرة؛ التي أصبحت اليوم في عصر السرعة هي الوسيلةَ الأساسية للحج والعمرة ولمختلف الأسفار؟
منذ أكثر من أربعين عامًا، والناس تتساءل، وتسأل أهل العلم من فقهاء الشريعة عن مكان الإحرام، الذي لا يجوز لقاصد البيت العتيق أن يتجاوزه إلا مُحْرِمًا ملبيًا، هاجرًا ملذَّاته ورفاهيته التي كان يعيشها، ومُتَجَرِدًا من ملابسه المَخيطة، ومُكتفيًا من متعة هذه الحياة الدنيا وزينتها بالإزار والرداء، ذلك الرمز العظيم الذي يذكره بصورة فعلية (لا قوليّةٍ فقط) بذلك اليوم الرّهيب الذي سيُقبل فيه على ربه بعد أن ينتزعه الموت المحتَّم من قلب كل مُتعة أو زينة، أو لذة، أو نعمة، أو سلطة، أو وَجاهة، أو أموال كان يتمتّع، وينعَم بها في دنياه.
هذا الإحرام الجليل المعنى الذي أوجبَه الإسلام على قاصد الحجِّ أو العمرة، أي مكان هو ميقاته لمن يأتي جوًّا بالطائرة؟ تلك الوسيلة الحديثة التي لم تكن معروفة، ولا تخطُر في البال حين حدَّد رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلم ـ حدود المواقيتِ المكانيّة للقادمين إلى الحج أو العُمرة من مختلف البِقاع والجهات الأرضيّة، فلا يجوز لأحد أن يتجاوزَها إلا مُحرِمًا؛ تعظيمًا لشأن البيتِ العَتيق قبل الوصول إليه.
فأقول مستعينًا بالله، راجيًا أن يهديَني إلى الصواب الحقِّ من أقرب مَحَجَّة، وأوضح حُجَّة،
إنه هو ولي التوفيق.
ممّا لا خِلاف فيه بين أئمة السلف من مُحدِّثين وفقهاء: أن المواقيت المكانيّة للإحرام قد حدَّدها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ للقادمين من جهاتٍ أربع كما يلي:
1 – ذو الحليفة لأهل المدينةِ، من أراد منهم الحج أو العمرة. وهذه أبعد المواقيت مَسافة عن مكّة، وتسمَّى اليوم (آبار علي).
2 – الجُحْفة لأهل الشام.
3 – قرن المنازل لأهل نجد القادمين من الشرق.(51/1)
4 – يَلَمْلَم لأهل اليمن القادمين من الجنوب.
وقد أعلن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين حدّدها أنّ هذه الحدود هي مواقيت لأهل تلك الجِهات، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممّن أراد الحجّ أو العمرة، ومن كان دون ذلك (أي: من كان مقامه في موضع يقع بين أحد هذه المواقيت وبين مكة)، فإنه يُحْرِم من مقامِه ذاك، حتى إن أهل مكّة يُهِلُّون من مكّة. (أخرجه البخاري في باب: مهلّ أهل مكة عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ، وأخرجه مسلم في مواقيت الحج والعمرة، وأبو داود، والنسائي، في ميقات أهل اليمن، كما نقله غيرهم من أئمة الحديث).
وواضح أن حديث المواقيت هذا لا يشمل بالنّص إلا أهل تلك المواقيت، ومن مرّ بها فقط، فليس فيه شيء عمّن لا يمرُّ فعلًا بأحدها، ولكنه حاذَى من قريب بعض تلك المواقيت، فإلحاق المُحاذاة بالمرور إنما تقرَّر بالاجتهاد، فقد روى أئمة الحديث أن عمر ـ رضي الله عنه ـ هو الذي حدّد ذات عِرْق ميقاتًا لأهل العراق، لمُحاذاتها قرنَ المنازل، اجتهادًا منه، وذلك بعد فتح العراق.
فقد روى البخاري عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: لما فُتِح هذان المِصران ـ الكوفة والبصرة ـ أتَوْا عمر بن الخطّاب فقالوا: يا أمير المؤمنين! إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حُدَّ لأهل نجد قرنًا، وإنّه عن طريقنا، وإن أردنا أن نأتيَ قرنًا شقَّ علينا! قال: فانظروا حذوَها من طريقكم. قال: فحدّ لهم ذاتَ عِرق.
وروى الإمام الشافعي ـ رحمه الله تعالى ـ في "الأم" عن ابن جُريج عن ابن طاووس عن أبيه، قال: "لم يوقِّت رسولُ الله ـ صلّى الله عليه وسلم ـ ذات عِرق، ولم يكن حينئذٍ أهل مَشرِق، فوقَّت النّاس ذات عِرق". وروى الشافعي مثل ذلك عن أبي الشّعثاء (ر: الأم 2/118).(51/2)
وهناك من الأئمة من يرى: أن تحديد ذات عِرق مهلًّا لأهل المَشرق وارد عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وليس اجتهادًا من عمر ـ رضي الله عنه ـ ويُوردون أحاديث في ذلك. ولكنّ جمهور أهل الحديث يقرّرون: أن الأحاديث التي ورد فيها النص على أن ذات عِرق ميقات لإحرام أهل المشرِق ـ كلّها ضعيفة لا تنهَض حجّة، فالصحيح عندهم أن هذا التحديدَ لأهل العراق والمشرِق إنّما هو اجتهاد من عمر، أخذًا بالمُحاذة السَّمْتيّة لأقرب مِيقات إلى جِهتهم. (ر:المجموع 7/191، ونيل الأوطار 4/332).
مما تقدَّم يتضح أن رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلم ـ لم يحدِّد مواقيت مكانيّة إلا للقادمين بَرًّا من أطراف شبه الجزيرة العربية الثلاثة وهي: الشّمال، والشّرق، والجنوب؛ لأن هذه الجهات الثلاث هي التي يمكن ـ إذ ذاك ـ أن يأتي منها المسلمون حُجَّاجًا أو معتمِرين، وقد حَدّد للقادمين من الشمال مِيقاتَين: واحدًا لأهل المدينة (ذو الحُليفة)، وآخر لأهل الشّام (الجُحْفَة) لأنّ الشام كان فيه لأهل الحجاز رحلة الصّيف التّجاريّة، فقد يعودون من الشّام قاصدين حَجًّا أو عمرة، فهؤلاء عندئذٍ إما أن يأتُوا من طريق يثرب، فيتبعون ميقات أهلها، وإما أن يأتُوا من طريق أخرى لا تمرُّ بيثرب، فجعل الجُحفة عندئذٍ ميقاتًا لهم، وهي قريب من مكّة.
أما جهة الغرب فلم يحدِّد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لها ميقاتًا مكانيًّا؛ لأن الجهة الغربيّة بحرٌ، وفي الغرب منه أفريقيّة التي لم يصل إليها الإسلام إذ ذاك، ولا يعلم ما سيكون من أمرها إلا الله. وقد حدّد الفقهاء فيما بعد لأهل مصر والمغرب إذا جاؤوا بطريق البَرِّ ميقات أهل الشام، وهو الجُحفة؛ لأنه طريقهم الطبيعيّ ـ إذ ذاك ـ قبل شقِّ قناة السويس في عصرنا هذا.(51/3)
وقد كان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما هو معروف ـ لا يرغَب أن يقرِّر أحكامًا مسَّبقة، لأمور غير واقعيّة، حتى إنه لم يكن يرغب أن يُسأل عمّا سكتَ عنه، بل كان يترك ذلك للاجتهاد في ضوء سنّته الشريفة، ومقاصد الشّريعة المُستفادة من كتاب الله تعالى الحكيم، وخاصّة منها رفع الحرج، كما نَوَّه به القرآن العظيم.
ومعروفة قصة الصّحابي الذي سأل عن الحجِّ حين أوجبه الله على من استطاع إليه سبيلًا: أفي كلِّ عام يا رسول الله؟ فقال له: "لو قلت نعم لوجب عليكم ولَمَا استطعتم"(2)، وكذلك قوله ـ صلّى الله عليه وسلم ـ في صحيح أحاديثه: "إن الله فرضَ فرائض فلا تضيِّعوها، وحَدَّ حدودًا فلا تعتدوها، وسكتَ عن أشياءَ رحمةً بكم فلا تسألوا عنها"(3) أي: لا تسألوا عنها قبل وقوعها، فإذا وقعت فاجتهدوا برأيكم وعلمكم، أو اسألوا عندئذٍ أهل الذِّكر والعلم، وليس المراد عدم السؤال عنها أبدًا؛ إذ لو وقعت في مستقبل الزمن، واحْتِيج إلى معرفة حكم الشرع فيها، لابد حينئذٍ من السؤال عنها، والبحث فيها لمعرفة ما يجب بشأنها في ضوء أدلة الشريعة.
وفى ضوء ما تقدّم يتبيَّن أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يحدّد أيضًا ميقاتًا بحريًّا؛ لأن المجيء للحجّ والعمرة ـ إذ ذاك ـ في حياة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يكن بالسّفينِ من جهة البحر الأحمر (بحر القلزم)، فيبقى حكمه في المستقبل للاجتهاد، إذا قدَّر الله للإسلام أن يمتدّ غربًا إلى أفريقيّة، كما حصل فيما بعد، والحمد لله.(51/4)
هذا؛ وقد قرّر الفقهاء أن من لم يمُرّ بأحد هذا المواقيت، بل سلك طريقًا بين مِيقاتين، فإنّه يتَحَرَّى ما يحاذي أحدهما من طريقه بغلبة الظّنِّ فيُحْرِم منه، فإن لم يَتبيّن له قال الحنفيّة: يُهِلُّ عندئذٍ بالإحرام على بعد مرحلتَيْن من مكّة؛ لأن هذه المسافة هي أدني تلك المواقيت إلى مكة (ر: الدر المختار 2/154 ـ البولاقية الأولى ـ والمُقنع من كتب الحنابلة 1/394 والمغني مع الشرح الكبير / "ط أولى 3/214 والإنصاف للمِرْداوي 3/427).
في ضوء ما تقدم من عرض الواقع في عهد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من تحديد ما حَدّد بالنص الصريح من مواقيت الإحرام، وما سكت عنه، وتركه للاجتهاد من علماء الأمة، وما حدث بعده من اعتماد المُحاذاة باجتهاد عمر ـ رضي الله عنه ـ، أقول: إن مُعالجة قضايا الساعة لا يصحُّ منا أن نعالِجَها، ونقرّر لها حلولًا شرعيّة مُنطلقين من خلفيّة مذهبيّة، أو فكرة مسبَقة ننظر من زاويتِها إلى القضية المستجِدّة، ونجرِّدها من مُلابساتها وظروفها الخاصّة لنجرَّها جَرًّا إلى المقعد الذي هيّأناه سلفًا إلحاقًا وتعميمًا، سواء أكان ملائِمًا لطبيعتها وظروفها وملابساتها، أو غير ملائم، ولو كان هذا الإلحاق والتعميم سيزجُّ بالمكلَّفين في مشقّة وحرج، نفَتْهما النُّصوص القطعيّة في الكتاب والسنة عن هذه الشريعة السّمحة الخالدة.(51/5)
فقضايا الساعة (ومن أكبرها أهمية وحاجة للحلول الشرعية المناسبة اليوم موضوعنا هذا، وهو: من أين يجب أن يُحْرِم القادم جَوًّا بالطائرة للحج أو العمرة) يجب أن تعالَج بفكر فقهي حرٍّ، كأنّما يريد أن يرى النصوص والأدلّة المتعلِّقة بها لأول مرّة مجرَّدًا عن الخلفيّات المذهبيّة، والآراء المسبَقة؛ التي تتحكَّم في توجيه فكره دون أن يشعُر، وعليه أن يُنعم النظر في النصوص، وأن يتفهّمها وفقًا للغة وأساليب البيان المعهود في وقت ورود النص الشرعي، وما يُوحي به للسامع من فهم بحسب القواعد والدّلالات العرفية.
هذا إلى جانب الأساس المُهِمّ الآخر، وهو مقاصِد الشّريعة التي دلت عليها النصوص القطعية العامّة، والتي لا يمكن عزلها، وقطع عَلاقتها بالنّصوص الخاصّة إذا أردنا أن نفهمها فهمًا سديدًا، لا نبغي فيه سوى معرفة حكم الشارع، والحلّ الصّحيح في القضية المستجِدة، سواء وافَق تصوراتِنا السابقة فيها، أو خالَفها، فإن التّعصُّب لرأي، أو تصوُّر سابق يحجُب عن البصيرة الرّؤية السليمة، والإحاطة بالمسألة من جميع جوانبها وظروفها، فبناء على هذا المنطلَق أقول:
إنّ حديثَ المواقيت المكانيّة الذي روته كتب السنة الصحيحة، وهو النّص الأصلي الوحيد في الموضوع، لا يمكن أن يعتبر شاملًا للطريق الجويِّ اليوم، ولو مرّت الطائرة القادمة بقاصِدي الحج أو العمرة من فوق أحد المواقيت الأرضيّة، وبالتالي: لا يمكن فيه تطبيق حكم المُحاذاة لأحد المواقيت تلك؛ المُحاذاة التي ألحقها سيِّدنا ـ عمر رضي الله عنه ـ بالمرور بالمِيقات، وذلك لما يلي:(51/6)
إن حديث المواقيت محمول على الطرق المعروفة المألوفة في ذلك الوقت، وهي الطرق البَرِّيّة، التي يُمكن أن يسلُكها القادِمون لحجٍّ أو عمرة من أطراف الجزيرة العربيّة؛ التي مدّ عليها الإسلام رواقَه، وهو في الوقت نفسه لم يحدِّد ميقاتًا، من جهة الغرب، كما سبق أن أوضحته نصًّا وصراحة بمن يمرُّ بها فعلًا، وذلك حين قال ـ عليه الصلاة والسلام: "هُنَّ لهنَّ ولمَن أتى عليهنّ من غير أهلهِنّ"(4) وهذا الإتيان لا يمكن أن يتصوّره أي سامِع، إلا أنّه المرور في الأرض. وإذا كان أهل الميقات المقيمون حوله قد وجب عليهم الإحرام منه، فمن أتى على هذا الميقات من خارجه، وكان طريقًا له، أصبح هو وأهل ذلك الميقات سواء؛ لأنه قد أصبح بينهم كواحد منهم، فلا يعقل أن يجب عليهم الإحرام منه ولا يجب عليه. وهذا المعنى لا يتحقق إلا فيمن مر بالميقات نفسه أرضًا؛ لأنّ المرور فوق الميقات جوًّا كما تمرُّ الطيور، لم يكن في بال أحد من الصحابة أهل اللسان الذين خُوطِبوا به، ولا في حسبانه، ولا يمكن أن يتصوره، حتى يفهَم: أنه داخل في هذا التحديد.
بل أستطيع القول: إن الطّيران بالطائرات التي نُسافر بها اليوم لو كان موجودًا في عصر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين حدّد هذه المواقيت الأرضيّة لأجل الإحرام، لما كان المرور جوًّا بالطائرة فوق بقعة الميقات مشمولًا بهذا الحديث؛ لأن المرور بالميقات الذي يجعل المارَّ به كأهل الميقات، لا يفهم منه في أسلوب البيان إلا المرور الأرضي فعلًا، فهذا ما يفهمه أهل اللسان الذين خوطِبوا به، وهذا ـ أي: ما يفهمه أهل اللسان في اللغة التي جاء بها النصّ ـ هو أساس في فهم النّصّ عظيم الأهميّة لا يمكن تجاهله، وتجاوزه.(51/7)
إن الإمام أبا إسحاق الشاطبيّ ـ رحمه الله ـ في كتابه الإبداعي "الموافقات في أصول الشريعة" قد بسط القول في قسم المقاصد من كتابه هذا تحت عنوان (قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام) حول أساسين في فهم قصد الشارع، لا تجوز الغفلة عنهما، وهما:
أولاً: أن هذه "الشريعة المبارَكة عربيّة، وأن القُرآن الحكيم عربي".
ثانيًا: أنّ هذه "الشريعة المبارَكة أميَّة، لأنّ أهلَها كذلك".
أما الأول فلقوله تعالى: (إنَّا أَنْزَلْناه قُرْآنًا عَرَبيًّا) (يوسف: 2) وقد تكرّر هذا الإعلان في آيات أخرى. وأما الثاني فلقوله تعالى: (هو الذي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسولًا مِنْهُمْ) (الجمعة: 2) وقد تكرّر أيضًا هذا في آيات أخرى.
وجاء أيضًا في صِحاح الأحاديث قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم: " إنّا أمّة أُمّيّة لا نحسب ولا نكتُب، الشهر هكذا وهكذا.."(5) وقد فسَّر الشاطبي الأمِّي بأنه "منسوب إلى الأم"، وهو الباقِي على أصل وِلادة الأم لم يتعلّم كتابًا ولا غيره، فهو على أصل خِلْقَته التي ولد عليها". وفسّر الأمّة الأميّة بأنهم: "ليس لهم معرفة بعلوم الأقْدمينَ"، وقد يبدو لأول وهلة أن كون القرآن عربِيًّا، والحديث النبوي عربيًّا هو من البَدَهِيّات التي لا تحتاج إلى بسط وإيضاح وشواهد وأمثلة وتنبيهات في فصول من كتاب، كما فعل الشاطبي ـ رحمه الله ـ في موافقاته.
ولكن الذي يرى النتائج التي بيّنها الشاطبي ـ رحمه الله ـ بناء على هذين الأصلين الأساسيين في فهم الشريعة، وتنزيل نصوصها في الكتاب والسنة النبوية على منازلها الصّحيحة، يدرك عندئذٍ أن قضية هذين الأساسين ليست من البَساطة والبَداهة كما يتراءى لأول وهلة. (ر: الموافقات 2/64 ـ 107).(51/8)
وأول هذه النتائج وأهمّها يتلخّص في أن المقصود هنا من بيان الأساس الأول هو أن القرآن قد نزل بلسان العرب، وأساليبهم البيانيّة، فطلب فهمه إنما يكون بالطريق التي يفهمه مَن خوطِبوا به حين أُلْقِي إليهم، وهم أهل هذا اللسان خاصّة، على أميتهم وجهلهم بالعلوم والفلسفات التي وُجِدَت لدى غيرهم من الأمم، وجهلهم بالاصطلاحاتِ والمَفاهيم الطارئة حين أُسِّسَت العلوم، ووضعت فيها الاصطلاحات، وحُدِّدت لها المفاهيم العلميّة في اللغة العربيّة بعد ذلك.
هذا يستلزم أنّ مَن يكون أكبر فقيه، وأرسخ عالم في العصور العلميّة اللاحقة، يجب أن يفهم النصَّ القرآني، أو الحديث النبوي كما يفهمه صحابة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكما يفهمه البدويُّ الأُمِّيُّ من العرب إذ ذاك؛ لأنّهم هم أهل اللسان الذي خوطِبوا به، ففهم أي عالم لمدلول النَّصِّ بعد ذلك، مهما علا كعبه في العلوم، وطال باعُه، يجب أن يكون تَبْعًا لفَهم ذلك العربيّ الأول ابن اللسان الذي جاء به ذلك النَّصّ، وخوطِب به.
قال الإمام الشاطبي ـ رحمه الله ـ في هذا المقام:
"فإن قلنا إن القرآن نزل بلسان العرب، وإنه عربيّ لا عُجْمَة فيه، فبمعنى أنّه أنزل على لسان معهود العرب في ألفاظها الخاصّة، وأساليب مَعانيها، وأنّها فيما فُطِرَت عليه من لسانِها تُخاطَب بالعام يُراد به ظاهرُه، وبالعامّ يُراد به العامُّ في وجه، والخاصُّ في وجه، وبالعام يُراد به الخاصُّ، وبالظاهر يُراد به غيرُ الظاهر، وكلُّ ذلك يُعرف من أول الكلام أو وسطه أو آخره، وأنها تتكلّم بالكلام يُنْبئ أوله عن آخره، أو آخره عن أوله، وتتكلّم بالشيء يُعرف بالمعنى، كما يُعرف بالإشارة... وكلُّ هذا معروف عندها، لا تَرتاب في شيء منه هي، ولا من تعلق بعلم كلامها.(51/9)
فإذا كان كذلك، فالقرآن في معانيه وأساليبه على هذا الترتيب...والذي نبَّه على هذا المأخذ في المسألة هو الشافعي الإمام في رسالته الموضوعة في أصول الفقه، وإن كثيرًا ممّن أتى بعده لم يأخذها هذا المأخذَ، فيجب التّنبُّه لذلك، وبالله التوفيق (الموافقات 2/66).
أقول: ومن الواضح أنّ مثلَ هذا الاعتبارِ يجب أن يُراعَى في فَهم كلام الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتنزيل أحاديثه الشريفة ـ وهي من جوامع الكَلِمِ العربي ـ على هذا الترتيب نفسه في فَهم نصوص القرآن.
ثم أفاضَ الشاطبي في شرح "أن الشريعة المباركة أمية لأن أهلها كذلك، إذ لم يكن لهم معرفة بعلوم الأقدَمين"، وأن تنزيلَها على مقتضى حال الذين نزلت عليهم من أميّتهم هو الأوفق والأحرى مع رعاية المصالح التي يقصدها الشارع الحكيم.
وقد أوضح العلامة الشيخ عبد الله دراز في تعليقاته: أنه وَفقًا لهذا الاعتبار، ربطت الشريعة مواقيت الصلاة بالدلائل الحسِّية المشهودة من الزّوال والغروب والشّفق، ممّا لا يحتاج إلى علوم كونيّة، وآلات وتقاوِيم فلكيّة...
أقول: وواضح أن الشّريعة السمحة الخالدة إذا صلحت للأميِّين حتى يسهُل تطبيقها عليهم، صلُحت لغيرهم من أهل العلوم وللناس أجمعين، ولا عكس. وهذا من أسرار آخريّتها وصُلوحها للخلود ما دام لبني الإنسان وجود، فجلَّت حكمة الله فيما شرع لعباده.
ثم قال الشاطبي بصدَد ما تفرّع عن أُمّيّة الشريعة: "إنّه لابد في فهم الشّريعة من اتباع معهود الأمِّيِّين، وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانِهم، فإن كان للعرب في لسانهم عُرف مستمرّ، فلا يصحُّ العدول عنه في فَهم الشّريعة، وإن لم يكن ثَمَّ عُرف، فلا يصحُّ أن يجريَ في فهمِها على ما لا تعرِفُه، وهذا جارٍ في المعانِي والأساليبِ".(51/10)
بعد هذه المقتطفات من كلام الإمام الشاطبي عن أن الشّريعة أميّة، وأنّها ودستورَها ـ وهو القرآن ـ عربيّان بالمعنى المشروح، (وكذلك بَيان رسولها نبي الهدي ـ صلّى الله عليه وسلم ـ ) نعود إلى موضوعنا حول ميقات الإحرام الواجب للقادم جوًّا بالطائرة لحجٍّ أو لعُمرة، في ضوء ما نقلنا عن الشاطبي رحمه الله، فأقول:
إن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد حدَّد تلك المواقيت المكانيّة لأهلها، ولمن أتى عليها، ومرّ بها من غير أهلها، وهذا منه بيان وتحديد لقوم أمّيِّين، وبلسان عربي مبين، هم أهله الأصليُّون، وأن علينا وعلى جميع الأجيال المُسلمة التي تتلوهم من علماءَ في الشريعة، وفي الطبيعة، وفي مختلف العلوم من عرب وأعاجم، أن لا نفهَم من نصوص القرآن وكلام الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا ما يفهَمُه ـ إذ ذاك ـ أولئك الأمِّيُّون أهل العربيّة المخاطَبون بها بحسب مألوفِهم، ومعهودِهم، وعُرْفِهم، كما يقول الإمام الشاطبيّ.
وإذ كان كذلك، فمن الذي يستطيع أن يزعُمَ أنهم يمكن أن يفهموا من تحديد الرسول لهم تلك المواقيت المكانيّة أنها شاملة للقادم جَوًّا بطائرة في مستقبل الدّهر إذا اخترع البشر آلة تطير بهمْ، ومرتْ بأحد ركابها فوق ميقات أرضي وهو في السماء، أو حاذَى سَمْته؟! مع العلم أننا أوضحنا قبلًا أن الحديث النبوي المذكور لا يشمل المُحاذاة من قريب أو بعيد، بل هو مقصور على أهل تلك المواقيت ومَن مَرَّ بأحدها، وأن إلحاق المُحاذاة لأحد المواقيت بالمرور به فعلًا هو اجتهادُ عمر رضي الله عنه.(51/11)
ونحن نضع اجتهادَه هذا فوق الرأس والعينين، وهو معقول في ذاته؛ لأنّ ما تَقتضيه حرمةُ البيت المعظَّم مِن أن يتهيّأ مَن يقصده لحج أو لعمرة بالإحرام قبل الوصول إليه، هو ممّا ينبغي أن يستويَ فيه كل قاصد، سواء مرّ بالميقات الذي حدّده رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو جاء من طريق أخرى لا تمرُّ به، فجعل المحاذاة لأحد المواقيت هي الحدُّ لغير مَنْ يمرُّ بالميقات، وهو قياس معقول مبنيٌّ على علّة متَّحِدة.
ولكن هذا القياس السليم لا يجوز أن يَخرج عن أرضيّة المسألة، وهي أن تلك المَواقيت التي حدّدها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يفهَم منها أهل اللسان الذين خوطِبوا به، إلا أنها لأهلها، ولن يمرَّ بها المرور المُعتاد الذي لا يعرفون سواه، وهو المرور بها في موقعها على سطح الأرض؛ لأن هذا هو ما تدلُّ عليه لغتهم التي خوطِبوا بها حين قال لهم الرسول عن هذه المواقيت: "هنّ لهُنّ ولمَن أتى عليهن من غير أهلِهن"، ولا يمكن أن يتصوَّر أحدُهم ـ إذ ذاك ـ مرورَ أحد من فوق الميقات، وهو طائر في الجوِّ.
وقد رأينا آنفًا قول الشاطبي: "إنّه لابد في فهم الشريعة من اتباع معهود الأمِّيِّين، وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم، وأنه لا يصحُّ أن يجريَ في فهمِها على ما لا يَعرفونه، وأنّ هذا جارٍ في المعاني والألفاظ والأساليب..".(51/12)
فاجتهاد عمر ـ رضي الله عنه ـ في إلحاق المحاذاة لا يمكن أن يتجاوز الأصل، فكما أن النصَّ الأصلي ـ وهو حديث المواقيت ـ معناه المرور بالميقات فعلًا على سطح الأرض، فإن المُحاذاة التي ألحقها به عمر معناها المُحاذاة ممَّن يمرُّ فعلاً حذوَ الميقات المرور المعتاد على سطح الأرض؛ ذلك لأن المَقيس لا يمكن أن يُعطَى أكثر من حكم المَقيس عليه. فإذا كان نصُّ الحديث النبوي لا يتناول القدوم جَوًّا، ممّا لم يكن في حسبان أهل اللسان، ولا مَعهودهم، فكذلك المحاذاة الملحقة بطريق القياس والاجتهاد لا تطبّق على طريق الجوِّ؛ الذي لم يكن يتصوّره عمرُ نفسُه صاحب هذا الاجتهاد القياسي.
القدوم جَوًّا لا نصَّ فيه:
إنني أخلُص من جميع ما تقدّم بيانُه: أنّ القادمين اليوم بطريق الجوِّ في الطائرات لحجٍّ أو عمرة، لا يشملُهم تحديد المواقيت الأرضيّة التي حدّدها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهم في الجوّ، فهي حالة قد سكت عنها النصّ؛ لأنّها لم تكن في التصوّر أصلًا، كما سكت عن القادمين من الجهة الغربيّة إذ لم يكن إذ ذاك مُسلمون يقدُمون من إفريقيّة من وراء البحر، ولا من مصر. أما الشّام فإنه ـ وإن لم يكن فيه مُسلمون إذ ذاك ـ فقد كانت تِجارة قريش وعَرب الحجاز قائمة مع الشام في رحلة الصيف، فقد يعودون منه قاصدين حَجًّا أو عمرة، فلذا حدّد رسول الله ـ صلّى الله عليه وسلم ـ للقادمين من الشام الجُحفة ميقاتًا لهم، كما أسلفنا بيانَه.
وإذا كان القدوم جَوًّا ليس مشمولًا بتحديد المواقيت المكانيّة لما قد بيّنا، فهو إذا خاضع للاجتهاد في تحديد ميقات مكاني للقادمين منه بالوسائِط الجديدة المبتكرة في عصرنا هذا، كسائر قضايا الساعة التي ليس عليها نصٌّ، فيجب أن يقرِّر الاجتهاد لها الحكم المناسب في ضوء أصول الشريعة ومقاصدها، وفي طليعتها رفعُ الحرج.(51/13)
وفي نظري أن الحكم المناسب في هذا الموضوع، والذي لا يترتب عليه حرج ولا إخلال: هو أنّ القادمين بالطائرات اليوم لا يَجب عليهم الإحرام إلا من بعد أن تهبِط الطائرة بهم في البلد الذي سيسلُكون بعده الطريق الأرضي، فإذا هبطت الطائرة بهم في بلد يقع خارج المواقيت، يكون عندئذٍ ميقاتُهم للإحرام هو الميقاتَ الذي سيمرُّون به، أو من الموقع الذي يحاذِي أحد المواقيت المحدّدة لمختلف الجهات، إذا كانوا لا يمرّون بأحد تلك المواقيت.
أما إذا كان المكان الذي تهبط فيه الطائرة بلدًا يقع بعد أحد المواقيت المذكورة، أي: بينه وبين الحَرَم، فإن ميقاته للإحرام هو ذلك البلد نفسه، فيصبح حينئذٍ كأهله، فلا يجوز له أن يجاوزَه إلا مُحْرِمًا.
وبما أن المطار الدوليّ اليوم الذي يهبط فيه الحُجّاج والمعتمِرون هو في مدينة جدّة، وهي واقعة ضمن بعض المواقيت، فإن القادمين بطريق الجو إلى جدة لحج أو لعمرة، يكون مِيقاتُهم للإحرام مدينة جدّة، فلا يجوز أن يتجاوزوها إلا مُحرِمين؛ لأنهم يُصبحون عندئذٍ كأهل جدة، فيُحرِمون من حيث يُحرِم أهلها.
فلو أن المطار الذي يهبط فيه الحجاج أو المعتمِرون نُقِلَ فيما بعد إلى مكّة؛ لأصبح القادمون جوًّا كأهل مكّة، فيُحرِمون من حيث يُحرم المكِّيُّون.
أي: أن القادم بالطائرة بوجه عام، من أي جهة كان قدومه، متى هبطت طائرته في مكان آخرَ لكي يتابِعَ بعده السير بالطريق البريِّ، يأخذ عندئذٍ حكمَ أهل ذلك المكان بشأن الإحرم.(51/14)
أما القول بأن عليه أن يُحرِم وهو في الطائرة في الجو متّى مرّت الطائرة بأحد المواقيت، أو حاذته، فهذا لا أرى دليلًا شرعيًّا يوجبه، وهو مبني على تصوُّر أن القدوم جوًّا بالطائرة مشمول بالحديث النبوي الذي حدَّد المواقيت الأرضيّة. وهذا في نظري رأي غير سليم في فهم النصوص فهمًا فقهيًّا كما سبق إيضاحه، علاوة على ما فيه من حَرج شديد وصعوبة، قد تصلُ إلى حد التعذُّر بالنظر إلى حال الطّائرات العاّمة، ولا سيِّما الدرجة السياحيّة فيها (وهي التي تأخذها الجماهير)، وضيق مقاعِدها لاعتبارات تِجاريّة، حتى إن الراكب ينزل في مقعَده كما ينزل الإسفينُ في الخشب، ويعسُر عليه التحرُّك في تناول وجبة الطّعام، فضلًا عن أن يخلع ملابِسه المَخيطة ويرتدي الرِّداء والإزار..وأين في الطائرة مغتسَل ومصلًّى ليقيم سُنَّة الإحرام؟
وأغرب من ذلك قول من يقول: إن هذا الحرج يمكن رفعُه، بأن يُحرِم بملابسه في الطائرة، ثم يخلعُها بعد الهبوط ويَفْدي بدم جزاء..فمتى كانت هذه الشريعة الحكيمة السمحة تُكَلِّف أحدًا ما يُشبه المستحيلَ لتعسُّره أو تعذُّره، على أن يخالِفه المُكَلَّف، ويتحمَّل بدلًا منه جزاءً مكلّفًا؟ إن الشريعة الحكيمة بَراء من مثل هذا التكليف.
وأشد غَرابة من هذا رأي من يقول ـ وكل هذا قد سمعناه ـ أن الحلّ لهذه المشكلة هو أن يُحْرِم من يريد القدوم بالطائرة من بيتِه قبل ركوبِها! فماذا يقول هؤلاء إذا كان قاصد الحج، أو العمرة من أهل موسكو أو سيبريا قادِمًا في الشتاء، حيث درجة الحرارة خَمسون تحت الصِّفر بمقياس سنتيغراد؟!(51/15)
هذا ما يبدو لي أنّه الوجه الصحيح في هذه القضية، واستنباط الحلِّ والحكم الشرعيّ الذي يُناسبها، بعد إعمال الفكر منذ سنوات في مُلابساتها، وإنعام النظر في الأدلة، والاستئناس بالدلائل، فقد كثُر السؤال عنها، وكلّما تقدّم الزمن سنة، ألحَّت الحاجة إلى البيان الشافي فيها بصورة مدروسة بصيرة، لا تَسَرُّع فيها ولا ابتسار، ينظر فيها إلى هذه القضية من مختلف الزوايا لا من زاوية واحدة، وما يَدرينا لعلّ سنواتٍ قادمةً غير بعيدة تصبح فيها الطائرة من الوسائل العتيقة البطيئة، ويحلُّ محلَّها الصاروخ الذي يطوي المسافات الزمانيّة والمكانيّة الطويلة والبعيدة، فيختزلها في دقائقَ معدوداتٍ، كما يتنبّأ به كثير من رجال العلم والفكر. وإن ما شهدناه في هذا العصر من عجيب الإنجازات، التي كلما تحقَّق منها شيء لم يكن ليصدُق لو رُؤِيَ في المنام، فتح تحقُّقُه طريقًا لما هو أعجب منه.
وهذا الحلُّ الذي ارتأيته بالدليل الذي رأيته، وأرجو أن يكون صوابًا، هو صالح لأن يتمشّى مع مختلف الوسائل المُبتكرة في النّقل والأسفار مهما تطوّرت، فإن كان صوابًا فمن فضل الله تعالى، وإن كان خطأ فمن قصور فكري وعلمي، والله سبحانه أعلم، وهو الهادي إلى سواء السبيل(6).
هوامش
من كتاب "العقل والفقه في فهم الحديث النبوي" للأستاذ الزرقا من 99-118 باختصار.
رواه مسلم (1337) في الحج، والنسائي (2619) في الحج)
رواه الدارقطني 4/183ـ 184، والطبراني في الكبير 22 / (589)، والبيهقي 10/12 من حديث أبي ثعلبة الخَشْني ـ رضي الله عنه ـ، وقد حسّنه النووي في أربعينه، وكذلك حسنه قبله الحافظ أبو بكر السمعاني في "أماليه".
رواه البخاري (1524)، ومسلم (1181) كلاهما في كتاب الحجّ.
رواه البخاري (1913)، ومسلم (1080) كلاهما في الصوم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.(51/16)
لقد بُحث هذا الموضع في مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنيّة الهاشميّة من 8-13 صفر 1407، وقرَّر: أن المواقيتَ المكانيّة التي حدَّدتْها السنة النبويّة يجب الإحرام منها لِمُريد الحج أو العمرة، للمارّ عليها أو للمحاذي لها أرضًا أو جوًّا أو بحرًا لعموم الأمر بالإحرام منها في الأحاديث النبوية "قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي المنبثق من منظمة المؤتمر الإسلامي" قرار رقم: 19 (7/3) (مجد).(51/17)
اتفاقيّة بعض البنوك الإسلاميّة مع بنك الإنماء الصناعي
في هذه الاتفاقيّة مع بنك الإنماء الصناعيّ، فإن البنك الإسلامي يعتمد فيها بنكًا صناعيًّا لأجل المساهمة عن طريقه هو؛ في شركات المَشاريع الإنمائيّة من القطاع الخاص أو المختلط.
فالبنك الصناعي ـ بمقتضَى هذه الاتفاقيّة ـ يختار المشروعات التي يدخل هو فيها مموِّلًا بقرض، أو مشارِكًا في حِصّة من رأس مالها، ويقترح على البنك الإسلامي (بتقرير تقويمي يقدِّمه إليه عن كلٍّ من مشاريع هذه الشركات ) أن يُسهِم في المشروع بشراء كميّة من أسهمه، دعمًا له، واستثمارًا فيه، والبنك الإسلامي يُوافق أو يرفض، فإذا وافق يساهم بالقدر المُقترَح عليه من الأسهم، أو بأقل منه، وحينئذٍ يكون البنك المذكور نائبًا عن البنك الإسلامي في اكتتابه بالأسهم لدى شركة المشروع، ويتلقّى منه قيمتها جملة أو أقساطًا بحسب الحال، ويقوم بتحويل مبالغها إلى شركة المشروع، كما ينوب عنه، فيمثله في مجالس إدارة الشركات التي يسهِم فيها، وفي تحصيل أرباح أسهمه فيها، ويقيِّد له هذه الأرباح في حسابه لديه، وفقًا للتعليمات التي يتلقاها منه.
هذا جوهر الاتفاقيّة كلِّها، والهيكل الذي تقوم عليه، ولقاء هذه الخدمات التي يؤدِّيها بنك الإنماء الصناعي للبنك الإسلامي، ونيابته فيها عنه، يتقاضَى مُقابِلًا لأتعابِه، لم يُحدَّد مقدارُه في الاتفاقيّة، بل يُتَّفَق بينهما ـ على تقديره مستقبلًا ـ خلال سنة من تاريخ التوقيع على هذه الاتفاقيّة.(52/1)
يتضح من هذه الخُلاصة المعروضة عن هذه الاتفاقيّة أنها لا تُقيم شركة أو مرابحة بين البنك الإسلامي والبنك الصناعي، وإنما تُنشئ بينهما وَضعًا قانونيًا، يكون فيه البنك الصناعي وسيطًا ونائبًا بين البنك الإسلامي وشركات المشاريع الإنمائية، مُهِمّته دراسة مشاريعها، وتقديم تقارير تقويميّة عن كلٍّ منها، واقتراح المساهمة على البنك الإسلامي فيما يشاء منها، وتمثيله في علاقاته معها وقبض أرباحه منها، وفي عضويّته في مجالس إداراتها، فهو في كلٍّ ذلك وكيل عن البنك الإسلامي لقاء أجر.
هذا هو تكييف هذه الاتفاقية، ووصفها الشرعي والقانوني.
الرأي الفقهي، والملاحظات:
إن هذه الاتفاقية لا شائبة فيها شرعًا من حيث الأساس، ولكن يجب التنبُّه فيها وفي أمثالها لأمرين:
(الأول) ـ أن أصل مساهمة البنك الإسلامي في المشاريع؛ التي تُعرَض عليه لأجل امتلاك أسهم فيها، يجب أن يُنظر فيه إلى طريقة تمويلها.
فإذا كان تمويلها يتم بقروض رِبويّة تأخذها شركة المشروع من البنك الصناعي، أو أي بنك آخر، كما قد يجري في بعض الحالات، فعندئذٍ لا يجوز للبنك الإسلامي الدخول فيها بامتلاك شيء من أسهمها.
وأما إذا كانت تعتمد في تمويلها على مساهمة أصحاب الأسهم، كما هو المفروض في تكوين رؤوس أموال الشّركات المساهِمة عادة، فلا بأس في مساهمة البنك فيها؛ لأنها عندئذٍ مُشارَكة استثماريّة في مشاريع إنمائيّة بطريق مشروع، وهو شراء كَميّة من أسهمها التي تمثل رأس مالها.
(الثاني) ـ إن الاتفاقيّة المذكورة نصّت على أنه:
"يدفع البنك الإسلاميُّ إلى بنك الإنماء الصناعي أتعابًا، يتمُّ الاتفاق عليها بين الطرفين في مدة أقصاها سنة من تاريخ التوقيع على هذه الاتفاقيّة".
فهذا الإرجاء في تحديد أجر الأتعاب لا يُقبل شرعًا ولا قانونًا، بل يُفسد التعاقُد بالنّظرينِ الشرعيِّ والقانونيِّ:(52/2)
أما شرعًا: فلأن هذا العقد دَاخَلَتْه جَهالة مؤثِّرة في نظر جميع المذاهب الفقهية؛ لأنها جميعًا تشترط لصحة العقد معلوميّة الأجر عند التعاقُد، وجهالته تُفسِد العقدَ.
وأوسع المذاهب الفقهيّة، وأكثرها تسامحًا في هذا الموضوع ـ فيما أعلم ـ هو المذهب الحنبليّ، حيث يُجيز بعض فقهائه، وخاصّة العلامة ابن القيم وشيخه ابن تيمية، أن يبيع الإنسان سلعة بثمن لا يُحدِّدانِه في العقد، بل يتّفقان على أن يكون الثمن بحسب ما يستقرّ عليه سعر السُّوق في يوم العقد. فبما أن سعر السوق يُعرف لدى أهلها في الوقت المعيَّن، كانت هذه الجهالة عند التعاقد مغتفَرةً، ما دامت ستزول بالرجوع إلى الأساس الذي اتفق الطرفان عليه، وهو سعر السوق (ينظر المدخل الفقهي العام ج 1 في نظرية العقود ـ بحث سلطان الإرادة العقدية في الشروط التعاقدية ـ مزايا المذهب الحنبلي).
وأما قانونًا: فلأن القوانين المدنيّة متَّفقة على أن العاقدين إذا حدَّدا الأمور الجوهريّة الأساسيّة في العقد، واتفقا على إرجاء تحديد الأمور الفرعية إلى ما بعد، كان ذلك كافِيًا لانعقاد العقد صحيحًا، ثم إذا اختلفا في تحديد الأمور الفرعيّة المُرجأة حين بحثها مستقبلًا، فإن المحكمة تقوم بتحديدها بمعرفة خُبراء.
لكن هذا التسامُح القانوني في الجَهالة عند التعاقُد مقصور على الأمور الفرعيّة (مثل من يلتزم من الطرفين بدفع تكاليف كتابة العَقد، أو دفع تكاليف حراسة الدار المأجورة، أو أجرة السمسار، ونحو ذلك). أما الأمور الجوهريّة الأساسيّة، فإن القوانين المدنيّة توجِب تحديدها في العقد تحت طائلة البُطلان.
وممّا لا ريب فيه أن العوض في عقود المعاوَضة، كالأجرة في الإجارة، والثمن من البيع، هو من النواحي الأساسية في العقد بالنظر القانوني نفسه؛ لأنه من محلِّ العقد، فتحديده فيه واجب، وجهالته مُفسدة للعقد.(52/3)
ولا يخفَى أن الأجر الذي سيدفع للبنك الصناعي لقاء أتعابه هو عوض في عقد معاوضة؛ لأن الوكالة بأجر تطبَّق عليها أحكامُ الإجارة أو عقدُ العمل، فهو ليس من الأمور الفرعيّة، بل من أساسيّات العقد، إذ من المحتمل مستقبلًا أن يُصِرَّ المُوَكِّل (في الوكالة بأجر مثلًا) على دفع أجر بخسٍ جدًّا، ولا يقبل بأزيد منه، وأن يُصِرَّ الوكيل على طلب أجر باهظ فاحش لا يرضَى بأقلَّ منه.
والمحكمة هنا ليس من شأنها التدخُّل لتحديد الأجر تفسيرًا للعقد؛ لأن تحديده ليس من الأمور الفرعيّة، وإنما أعطت القوانين القضاء سلطة (استثنائية) في الأمور الفرعية التي أرجأ الطرفان تحديدها في العقد ثم اختلفا فيها، وإنما كانت سلطة القضاء هنا استثنائيّة؛ لأن القضاء ليس من شأنه التدخُّلُ في إنشاء العقود. وإن تحديد العِوضين في المعاوَضات هو من صميم إنشاء العقد، فالعقد هو شريعة المتعاقدين يُنشِئانِه بإرادَتيْهما، والقضاء إنَّما يفصل الخلاف عند وقوعه بين العاقدين وَفقًا لنصوص عقدهما، الذي هو كقانون خاصٍّ بهما، متى كان العقد صحيحًا.
العلاج:
إنّ الطّريق الوحيدة لتصحيح مثل هذا العَقد بين الطرفين ـ هنا في مثل هذه الحال عندما لا يكون تحديد الأتعاب ومكافأتها متيسِّرًا لهما عند التعاقد ـ هي أن تتضمَّن الاتفاقيّة نصًّا يضع أساسًا صالحًا لتحديد أجر البنك الوكيل عن أتعابه في المستقبل، كما رأينا في المذهب الحنبليِّ أن بعض فقهائه يُجيز بيع السلعة بثمن لا يُحدَّد في الحال، بل بحسب ما يتبيَّن من سعر السوق في ذلك الوقت، وهذا تُقِرُّه القوانين المدنيّة أيضًا؛ لأنها توجب لصحة البيع تحديد الثمن في العقد، أو الاتفاق على أساس صالح لتحديده فيما بعد (مثلًا: كالاتفاق على أن تكون مكافأة الأتعاب نسبة مئويّة من قيمة الأسهم التي يشتريها الوكيل للمُوَكِّل، بحسب سعرها في السوق يوم الشراء).(52/4)
ولا ينبغي أن يُتوهَّم أنّ نصَّ المادة / 11 / من الاتفاقيّة، قد تضمَّن الاتفاق على التحكيم في فصل كل خِلاف ينشأ بين الطرفين بشأن هذه الاتفاقيّة، أو موضوعها، وأن هذا يمكن أن يُعتبر اتفاقًا على أساس صالح، لتحديد أجر الخدمات التي أُهمل تحديد أجرها في العقد، فهذا غير مُفيد؛ لأن الأساس الصالح للتحديد مستقبلًا ليس هو إرادة الغير، بل يجب أن يكون معيارًا لحساب ينطلق من حدٍّ ثابت في الواقع، كما لو باع أحد شيئًا بثمن لم يحدَّد في العقد، ولكنِ اتفق الطرفان على أن يكون هو كُلفةَ المَبيع على البائع، بحسب الفواتير التي ستأتي مضافًا إليها ربحٌ بمقدار مقطوع، أو بنسبة مئويّة من تلك الكلفة. فقد نصّ الفقهاء على جواز بيع الشيء برقمه (أي: بالسعر المرقوم عليه كتابة، وهو غير مكشوف وقت العقد)، ولكنهم في هذه أوجبوا للمشتري خِيارًا في القَبول أو الفَسخ إذا لم يوافِقه المبلغ المرقوم على الشيء حين انكشافه.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى يُلحظ أن المُحكَّم هو بمثابة قاضٍ خاصٍّ منصوب بين الطرفين بإرادَتيْهما، والقاضي ـ كما سبق بيانه ـ ليس من شأنه إنشاء العقود، والعوض في المعاوَضات جزء من محلِّ العقد الذي هو العوضان، وتعيين المحل هو من قواعد إنشاء العقد، ويعود للطرفين لا للقاضي ولا للمحكَّم، وإلا لصحَّ أن ينعقد العقد بقول شخص لآخر: بعتك شيئًا (هكذا بلا تعيين)، وفلان محكَّمٌ بيننا في تعيين المَبيع وتقديره ثمنه، فوافَقه الآخر، ولكن مثل هذا الكلام لا يقول بانعقاد العقد به مذهب ولا فقيه.
وقد آثرتُ أن أُعطيَ هذه الناحية حقَّها، من تفصيل القول فيها، ووضع النقاط على الحروف؛ لتُلاحظ في أمثال هذه الاتفاقيّة، وإن بُطلان العقود لعدم الانتباه إلى قواعد إنشائها، مع أنها مشروعة موضوعًا، وهو أمر خطير النتائج في المعامَلات الضخمة.
14 من ذي القعدة / 1400هـ.
24/9/1980م.(52/5)
اتفاقيّة بنك إسلامي مع إحدى الشركات
خلاصة هذه الاتفاقيّة، كما يُستفاد من مقدِّمتها (ص / 1) ومن المواد الأولى منها، أن الشركة (ع) كانت قد اشترت من شركة مصدِّرة للنفط كمية من البترول المكرَّر في 29/1/1979 بثمن قدره تسعة ملايين ونيف من الدولارات الأمريكية.
ثم جاء بنك إسلامي هو والشركة (ع) ذاتها، فاشتريا معًا وفي التاريخ المذكور نفسه من الشركة البائعة ذاتها نفس الكمية المَبيعة من قِبل للشركة (ع)، وذلك بعقد وصف في الاتفاقيّة بأنه (شِراء تكميليٌّ)!.
ثم باع البنك الإسلامي البضاعة نفسها وبالثمن نفسه مُضافًا إليه زيادة خمسة في المائة باسم فرق سعر، وذلك بعقد لاحق بتاريخ 3/2/1979م، ووُصِفَت الشركة (ع) في هذا العقد بأنها (المُستفيد)، على أن تتسلَّم هي كمية البترول ذاتها من شركة النفط المصدِّرة على شحنات، دون أن يتحمَّل البنك (المعتَبر بائعًا في هذا العقد) أيّة مسؤولية بخصوص المواصفات أو المخاطر المتعلِّقة بالشحن والتسليم، مع تقسيط الثمن عليها (أي: على الشركة ع) على ستة أقساط ربع سنويّة خلال ثمانية عشر شهرًا. هذا هو الهيكل الإجمالي لهذه الاتفاقيّة، وفي خلاله شروط وتفاصيل وترتيبات محدَّدة.
الرأي في هذه الاتفاقية:
هذه الاتفاقيّة تركيبة عَقديّة عَجيبة، لا تنطبق على الشرع ولا القانون ولا العقل، كأنما هي غِطاء مصطنَع لحقيقة تعاقديّة أخرى بين الطرفين:
فيبدو للمتأمِّل من خلال تركيبة هذه الاتفاقيّة أن الشركة (ع) كانت قد اشترت من تلقاء نفسها كمية البترول المذكورة من الشركة المصدِّرة للنفط بالثمن المعيَّن (تسعة ملايين دولار أميريكي)، ثم وجدت نفسها عاجزة عن أداء الثمن، نقدًا، ولم تقبل الشركة البائعة تسليمها البترول لتبيعه توزيعًا، وتُوَفِّيَ ثمنه من مَبيعاتِها على دفعات، فلجأت إلى بنك إسلامي لينجدَها وينقذ الموقف، ويحلَّ المشكلة بتقديم الثمن اللازم.(53/1)
والطريق المعتاد تجاريًّا ومصرفيًّا في مثل هذه الحال، أن تأخذ الشركة المشترية قرضًا تمويليًّا للصفقة المذكورة، أو يدفع عنها للبائع ثمن كل شحنة ويسجلُه البنك دينًا على الشركة (ع) المشترية، تؤدِّيه أقساطًا إلى آجال يُتَّفق عليها مع فوائدَ محدَّدةٍ.
لكن البنك الإسلامي لا يستطيع أن يُقرض قروضًا بفائدة، وفي الوقت نفسه لا يريد أن يموِّل شركة تجاريّة بهذا المبلغ الضّخم دون ربح. ويبدو أن الوقت كان ضيقًا، والحاجة قائمة إلى إنقاذ موقف الشركة (ع) ببتٍّ سريع، فلم يُمكن تركيز الموضوع على أساس صحيح سليم شرعًا وقانونًا، فسلقت هذه الاتفاقية العجيبة سلقًا سريعًا بصورة لا تنطبق على قاعدة!! كما يتضح من الملاحظات:
1 ـ بُنيت الاتفاقيّة على أساس أن يقوم البنك والشركة (ع) معًا كطرف واحد، فيشتريَا من الشركة ما سبق أن باعته إلى أحدهما، واعتبر هذا (شراء تكميليًّا) للبضاعة ذاتها التي سبق أن اشترتها وهو الشركة (ع) التي سُمِّيَت في هذا الشراء المُجَدَّد (مستفيدًا).
وفي الوقت نفسه اعتُبر البنك بائعًا لها، مع أنها هي المشتري الأصلي الأول للبضاعة نفسها من المصدر نفسه.
كل هذا الالتواء غير المعقول في اللف والدوران؛ لكي يدفع البنك عنها الثمن نقدًا عند كل شحنة، ويستردَّه منها مُقَسطًا بربح.
ووجه الخطأ الفاحش في هذه العملية هو أن الشركة المصدِّرة للبترول بعد أن باعت سابقًا هذه الكَمية من البترول لم تبق مالكة لها، وأصبح حقّ التصرُّف فيها للمشتري، وهو الشركة (ع)، إن كانت لا تستحِقُّ تَسَلُّمها قبل دفع الثمن، فإن الملكيّة وحقَّ التصرُّف شيء، وأداء الثمن شيء آخر.
فتسليم المَبيع والثمن هما تنفيذ لعقد البيع وليسا إنشاءً له، والمشتري يملك المَبيع بمجرّد العقد، وهذا في الشّرع والقانون معًا.
والشركة (ع)، بعد أن أصبحت مالكة للمَبيع بشرائها الأول، كيف يصح أن تعود فتشتريَه ثانية هي والبنك من بائعه نفسه؟(53/2)
إن تحديد عقد سابق بالشروط نفسها يقع باطلًا؛ لأنه عبث غير مُفيد، ومن شرائط انعقاد العقد أن يكون مُفيدًا ومُنتِجًا نتيجة لم تكن حاصلة قبله (ينظر المدخل الفقهي العام ج 1 نظرية العقود ـ بحث شرائط الانعقاد)، فلو جَدَّد الزوجان مثلاً عقد زواجهما دون سبق طلاق بائن لا ينعقد العقد الجديد؛ لأنه عبث، وإن من القواعد الأصوليّة أنه "لا عبث في التشريع" كما صرح بذلك الإمام أبو إسحاق الشاطبي في كتابه "المو?افقات في أصول الشريعة". وكذا لو جدَّد المُتبايعان عقد البيع بعد تمام انعقاده صحيحًا، فإنه لا ينعقد الثاني، وهكذا سائر العقود.
وقد عبر الفقهاء عن هذه القاعدة ببيت من الشعر هو:
وكُلُّ عَقْدٍ بَعْدَ عَقْدٍ جُدِّدَا فأبْطِلِ الثّاني لأنَّه سُدَى
فبأي وجه أو قاعدة يمكن أن يبيع البنك من الشركة (ع) بضاعة سبق أن اشترتها هي من مصدرِها، ويصبح البنك بائعًا جديدًا لها؛ استنادًا إلى هذا الشراء الثاني المصطنَع (الباطل) من البائع السابق نفسه؟
2 ـ هذا، وقد كان الطريق السليم (الموصِّل إلى المقصود بصورة مقبولة في الشريعة والقانون) سهلاً جِدًّا، وذلك بأن يتمَّ التفاهُم بين البنك والشركة (ع) والبائِع المصدِّر (حين رأت الشركة نفسها عاجزة عن الأداء النقدي لثمن البترول ولجأت إلى البنك لإنقاذ الموقف)، فيتفقوا على أن يتفاسخَ البائِع والمشتري البيع السابق بينهما، ثم يُدخل البنك مُشتريًا جَديدًا للبضاعة التي عادت بالفسخ إلى ملكيّة بائعها. وبذلك يحلّ البنكُ محلّ الشركة (ع)، بناء على رغبتها في ملكيّة البضاعة ذاتها، ثم يقوم البنك ببيعها (بعد أن أصبح مالِكًا لها) من الشركة (ع) بالثمن المقسّط وبربح يُتّفق عليه. وهذه هي الطريقة التي تمشي الآن عليها البنوك الإسلامية المحليّة، وهي المسمّاة باسم (المُرابحة بطريقة الأمر بالشراء).(53/3)
هذا، وفي الحالات العادية المُبتدأة (أي: التي لا يوجَد فيها شراء سابق يراد إلغاؤه بالفسخ) يكون الأمر أسهل، حيث يختار الآمر بالشراء المُحتاج إلى البِضاعة ما يُريد شراءه، ويُكلِّف البنك أن يشتريَه هو نقدًا، ثم يَبيعه منه مقسّطًا أو مؤجَّلًا بربح محدَّد.(53/4)
اتفاقيّة بنك إسلامي مع بنك إسلاميٍّ آخر
للمشارَكة في أرباح إنشاء مدينة سَكنيّة
هذه الاتفاقيّة غَريبة التّركيب، عسيرة التكييف والتخريج على القواعد الشرعيّة؛ ذلك لأن عنوانها قد يوحِي لأولِ وهلة بأنّها من قبيل الشركات المعروفة، ولا سيّما أنها معقودة بين بنكين إسلاميّين.
فهي عقد مشاركة يُسهِم فيه الطرفان بالمال لإنشاء مدينة سكنيّة بحجم معيَّن، وشرائط فنيّة مِعماريّة، ومواصفات سكنيّة محدّدة تحديدًا كافيًّا.
وهذا في ظاهره مقبول شرعًا وقانونًا، إذا حُدِّدت فيه حِصّة كُلٍّ من الطرفي في رأس المال، وفي الأرباح التي تُحصَّل من بيع تلك المساكن التي ستنشأ، أو في العائدات التي تُتَحَصَّل من إيجارها. وعندئذٍ يؤخَذ على الاتفاقيّة بعض إخلال بقواعد عقود الشركات.
من ذلك أن الاتفاقية حُدِّد فيها ما يدفعه البنك الإسلامي الأول من مساهمة في رأس المال، ولكن لم يُحدَّد فيها ما يدفعه الطرف الآخر: هل هو مقدار مساوٍ أو أكثر أو أقل؟ وإنما جاء في المادة الرابعة التي بيّنت توزيع الأرباح: "إن الربح يوزَّع بنسبة مقدار مساهَمة كلٍّ منها في المشروع بحسب قرار مجلس إدارة الطرف الثاني".
ومعنى هذا أن مبلغ المساهَمة من الطرف الثاني المذكور غير محدَّد حين هذه الاتفاقيّة، وإنما سيحدِّده مجلس الإدارة فيما بعد، وهذه جهالة مؤثِّرة في عقد الشركة، وهي مُفسدة له، إذا اعتُبرت هذه الاتفاقيّة من قَبيل شركة العِنان المعروفة، والمقرَّرة أحكامُها في الفقه الإسلامي.
ولكن شركة العنان إذا كان الذي يقوم بالعمل فيها أحد الطرفين فقط (كما في هذه الاتفاقية) لا يكون توزيع الأرباح فيها بحسب مساهَمة كلٍّ منهما في رأس المال، بل يكون فيها عادة حِصة الشريك العامل أكثر من نسبة رأس ماله، وذلك في مقابل عمله، فكيف جعل الربح في هذه الاتفاقية موزَّعًا بحسب مقدار المساهَمة في رأس المال؟(54/1)
على أن المادة الرابعة نفسها قد نصَّت في مطلعِها على "أن الطرف الثاني يأخذ من جملة الأرباح ما يُقابل مصاريف الخدمة التي قام بها، والباقي يوزَّع بنسبة مساهمة كل من الطَّرفين في رأس المال…" فهل المراد بمصاريف الخدمة التي يقوم بها الطرف الثاني ما يُقابل عمله الذي أشرت إليه آنفًا، باعتبار أنه هو وحده الشّريكُ العامل الذي يستحقُّ تفضيلًا في نسبة الربح مقابل عمله بعد التساوي في رأس المال؟ فإذا كان هذا هو المراد، فقد كان من الواجب تحديد ما يخصُّه من زيادة في نسبة حِصّة الربح لقاء عمله، ولا يجوز أن يترك ذلك بلا تحديد، وإلا كان جهالة أخرى مُفسِدةً لعقد الشركة.
ويُلحظ من جهة أخرى أيضًا في نصِّ هذه المادة الرابعة، أن التعبير بـ (مصاريف الخدمة) غامض لا يَستبين منه المعنى المقصود هنا بحسب سياق الكلام. ذلك أن كلمة (مصاريف) تنصرِف عادة إلى ما يدفعه الطّرف الثاني من مال نقدي لأناس، لقاء أعمال كُلِّفوا بها في مجال التنفيذ، أو لقاء أشياء قدّموها، في حين أنّ عبارة (الخدمة التي قام بها الطرف الثاني) تُشعر بأن المقصود بها: ما قام به الطرف الثاني بنفسه من أعمال الإشراف والتنفيذ، وإن لم يدفع من أجلها شيئًا لآخرين استعان بهم، فهذا من جملة الغُموضات التي تتراءى للناظر في هذه الاتفاقية وطبيعتها، وبحسب كلٍ من المعنيَين تختلف النتيجة:
أ ـ فبحسب المعنى الأول تكون المصاريف المذكورة من جملة نفقات الشركة، وتُطرح من الأرباح قبل توزيعها؛ لأن الربح لا يكون إلا فيما زاد عن النفقات.
ب ـ أما بحسب المعنى الثاني الذي تشعر به كلمة (الخدمة التي قام بها الطرف الثاني) فإن ما يقوم بها الطرف الثاني العامل لا يَحِقُّ له أن يقتطع عنه شيئًا من الأرباح؛ لأنه من جملة العمل المشروط عليه في مقابل زيادة حِصّته من هذه الأرباح.(54/2)
هذا كلّه على تقدير أن الاتفاقية: هي عبارة عن شركة عنان بين الطرفين في إنشاء هذه المساكن، بقصد الاتجار بها بيعًا، أو استغلالها إيجارًا.
ولكن بالرجوع إلى المادة الخامسة من الاتفاقيّة، نجدها تَنُصُّ على أن الطرف الثاني يلتزم بسداد أصل المبلغ الذي أَسهمَ به الطرف الأول، مع حِصّته من الأرباح، إليه على أربعة أقساط سنويّة في كل سنة ربعه مع أرباحه بدءًا من تمام السنة الثانية من تاريخ أداء الطرف الأول لمبلغ مساهمته.
فكيف يمكن شرعًا أن يُشترَطَ في شركة معقودة بين طرفين، التزامُ أحدهما بأن يرد إلى الآخر بتاريخ معيّن ما أَسهم به من رأس المال، كما تُرَدُّ القروض؟.
فمعنى هذا أن العقد جعل فيه أحد الشريكين ضامنًا لحِصّة شريكه في رأس المال، وهذا خلاف مقتضى عقد الشركة، بل منافٍ له؛ لأن رأس مالها يُعتبر أمانة في يد الشركاء أو الشريك العامل، فقد تخسر الشركة فينقص رأس المال على كلا الطَّرفين، ولا يقبل اشتراط أحدهما لنفسه عدم تحمُّل الخسارة، والتزام الآخر بردِّ رأس مال شريكه إليه؛ لأن هذا يجعل الشركة في معنى القرض المضمون، فلا تبقى شركة، إلا فيما يتعلّق بنسبة اقتسام الأرباح إذا ربحت.
والذي يبدو أن هذا المعنى هو المراد بهذه الاتفاقيّة؛ ولذا سُمِّيَتْ: (مشاركة في الأرباح) ممّا يُشعر بأن المقصود بها أن تكون الأرباح فقط هي المشتركة، وليس المشروع كله، أما ما يقدِّمه الطّرف المُسهِم للطرف العامل، فمضمون على هذا الثاني ولو خسر المشروع.
وعندئذٍ تكون حقيقة هذه الاتفاقيّة: أنها قرض تمويل مستور باسم المشارَكة في الأرباح، بدلًا من الفائدة عن هذا القرض بسعر مقطوع.(54/3)
ولا يخفى أن تغيير اسم القرض إلى اسم مشاركة، وتغيير اسم الفائدة وشكلها من نسبة مئويّة من مبلغ القرض إلى نسبة مئويّة من أرباح المشروع الذي يُسهِم هذا القرض في تمويله، لا يغيِّر شيئًا من حقيقته؛ فإن تغييرَ الأسماء لا يغيِّر المُسمَّيات، فالقاعدة الشرعية: هي أن العبرة في العقود للمقاصد والمعاني، وتقول قاعدة أخرى من القواعد الفقهيّة: "الأمور بمقاصدِها". وأصل هاتين القاعدتين قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم: "إنَّما الأعمالُ بالنِّيّات"(1).
النتيجة:
أنّ مشروع هذه الاتفاقيّة بين بنكين إسلاميّين للمساهَمة في مشروع إنشاء مدينة سكنيّة، تقوم على أساس غير مشروع في الشريعة الإسلاميّة، بل هي أشبهُ بقرض تمويل مضمون يقدِّمه مموِّل إلى صاحب مشروع، لقاء عائد هو حصّة من ربح المشروع، بدلًا من فائدة بنسبة مقطوعة من مبلغ القرض. أما رأس المال الذي يقدِّمه المموِّل فهو اجب الإعادة بنص الاتفاقيّة في جميع الأحوال، رَبِحَ المشروع أم خَسِرَ، وهذا الذي يجعله في معنى القرض، وإن سُمِّيَ مشاركة في الأرباح. فيجب اجتناب هذه الطريقة في معاملات البنك وطرق استثماراته.
19/11/1400هـ.
28/9/1980م.
مصطفى أحمد الزرقا
هامش
(1) رواه البخاري (1) في بدء الوحي، ومسلم (1907) في الإمارة، وأبو داود (2201) في الطلاق، والترمذي (1647) في فضائل الجهاد، والنسائي (75) في الطهارة.(54/4)
التأمين الصحي (الصيغة الشرعية المقبولة)
عُرض على فضيلة الأستاذ الزرقا صيغة شرعية لنظام التأمين الطبي التي يجري عليها العمل في مستشفى "دلَّة" بالرياض، وطُلب من فضيلته أن يبين رأيه وملاحظاتِه، ونقدم الصيغة الشرعية ثم نُتْبعها برأي الأستاذ الزرقا حفظه الله.
مقدمة:
مما لا شك فيه أن أحد أهم أولويات واهتمامات أي شخص هو المحافظة على حالته الصحية بشكل جيد، كما أن الحصول على هذه الصحة بتكلِفة معقولة نسبيًا ومريحة بشكل عام، يمثل تفضيلاً عامًا لدى البشر والمؤسسات الاعتبارية، وهذان العاملان هما بالضبط ما جعل صناعة التأمين الصحي تزدهر ازدهارًا بالغًا من جميع الأطراف:
ـ الطرف المستفيد (المريض)
ـ الطرف المؤمِّن ( مرجع المريض).
ـ وسيط التأمين (شركات التأمين).
ـ الجهات المؤمَّن لديها (المستشفيات والمؤسسات الطبية).
فالمريض الموظف يطلب علاجًا دائمًا ومُريحًا بالشكل المناسب في الوقت المناسب، وبالتكلفة المناسبة.
ومراجع هؤلاء الموظفين تطلب وسيلة معقولة لعلاج موظفيها بالشكل المناسب، وبأقل جهد إداري ممكن، وبأقل تكلفة ممكنة، أما وسيط التأمين فهو مثل أي مهنة أخرى يبحث عن مدْخول عالٍ (إيرادات بوالص التأمين) وبأقل تكلفة ممكنة (فواتير العلاج الطبيعي).
وكذلك المؤسسات الصحية فهي تبحث عن عميل جديد يزيد من الطاقة التشغيلية، وممكن استقطابه والمحافظة عليه بأسهل الوسائل.
ولما كانت التجربة الشرعية في مجال التأمين بشكل عام قصيرة نسبيًا؛ فإن أكثر الشركات القائمة هي شركات تأمين تجاري، لا يمكن قَبول التأمين لديها وبشكلها القائم شرعًا(3). وباستثناء بعض التجارب الجريئة لبعض مَن حرَص على أسْلمة أدوات الاقتصاد، وكان البديل الشرعي المناسب هو التأمين التعاوني .
صيغة التأمين الصحي بشكل عام .
في أي عملية تأمين صحي هناك عدة عوامل لابد من توافرها في عقد التأمين .
(1) المريض .
(2) مرجع المريض .
(3) شركة التأمين .(55/1)
(4) المؤسسة الصحية .
(5) قائمة بالتغطية الطبية المطلوبة .
(6) قائمة بالاستثناءات الطبية .
(7) مدة التأمين .
(8) قيمة التأمين .
(9) الشروط الأخرى (مزايا أو خصومات، سداد نقدي، حد أعلى للتغطية..)
وقد يكون المريض ومرجع المريض عاملاً واحدًا، كذلك قد يكون شركة التأمين والمؤسسات الصحية عاملاً واحدًا، ويتم بموجب ذلك اتفاق بين مرجع المريض وشركة التأمين على تقديم خدمات طبية معينة، وباستثناءات معيَّنة في مؤسسة صحية واحدة أو أكثر لمدة معينة، وفق مبلغ معين معلوم، وخدمات طبية غير معلومة.
العيوب الشرعية لعملية التأمين بشكلها الحالي:
عملية التأمين وفق الشكل السابق هي عقد معاوضة بين المستفيد (أو مرجعه) وبين شركة التأمين (أو المؤسسة الصحية)، وعقود المعاوضة يشترط لصحتها العلم بالبديل، ولكن هنا أحد البديلين معلوم وهو المبلغ الذي يدفعه المستفيد (أو مرجعه)، بينما البديل الآخر هو ما تدفعه المؤسسة الصحية للمستفيد مجهول جهالة فاحشة، وذلك لأن الخدمات الطبية التي تقدمها المؤسسة مقابل الذي تأخذه من المستفيد متوقفة على حدوث المرض، وهو أمر محتمَل الحدوث (قد يحدث وقد لا يحدث) فإذا لم يحدث فبم يستحِلُّ المستشفى المبلغ الذي أخذه؟ وإذا حدث المرض فإن نوع المرض يكون مجهولاً، وما يتطلبه من علاج يكون مجهولاً، والأدوية التي تستعمل لعلاجه مجهولة، وعدد المرضى الذين يحتاجون للعلاج مجهولون كذلك، وهذه الحالات تجعل العقد عقد غرر غير جائز شرعًا(4).
هامش
(3) فتوى رقم 7723 بتاريخ 11/11/1404هـ. رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.
(4) فتوى من الشيخ الصديق محمد الضرير بتاريخ 19/11/1412هـ.(55/2)
الحكم الشرعي في صكوك الإذن الحكومية
سماحة رئيس مجلس الإفتاء في المملكة الأردنية الهاشمية الموقَّرعمانبناءً على تكليفكم إيّاي دراسةَ موضوع الحكم الشرعي في تداول صكوك الإذن الحكومية التي تطرَح في السوق للتداول، ويتضمن الواحد منها مبلغ مائة دينار أردني تُستحَقُّ بعد ثلاثة أشهر من تاريخها، قمتُ بدراسة موضوع هذه الصكوك، وانتهيت فيها إلى التقرير التالي أقدِّمه إلى سماحتكم، ليرى مجلس الإفتاء الموقَّر رأيه فيه.
(أ) حقيقة صكوك الإذن، وتكييفها القانوني:(56/1)
إن صك الإذن الحكومي المُتداوَل والمُتضمّن مبلغًا معينًا (مائة دينار) مثلاً تُستحق على خزينة الدولة بعد ثلاثة شهور من التاريخ الذي يحمله الصكُّ، هو ليس سوى سندِ دَين لحامله الذي يشتريه ويدفع مبلغَه قَرضًا للجهة المُصدِّرة له، مطروحًا من مبلغه المذكور فيه مقدار متفق عليه (هو في الواقع أربعة دنانير من المائة) أي أن مشتريَه (المُقرِض) لا يدفع تمام المبلغ المبيَّن في الصك (وهو مائة دينار)، وإنما يدفع ستة وتِسعين دينارًا فقط، ثم يَستوفي مبلغَه المذكور كاملاً من خزينة الدولة بعد ثلاثة أشهر من تاريخه.إن الصَّك المذكورَ لا يُمكن تكييفُه إلا كذلك، أي بأنه سند دين على الجهة المُصدِرة له، ونوع هذا الدّين قرضٌ بالمبلغ الذي يتضمنه لقاء فائدة عن مدة الأجل هي المِقدار المقتطَع من مبلغ الصكِّ عند شرائه، وذلك الأجل هو ثلاثة أشهر.ذلك أن القرض بفائدة له أسلوبان:1 ـ إما أن يسلِّمَ المُقْرِض مبلغ القرض كاملاً وقتَ الاستقراض، على أن يُعيدَه المقترضُ في الموعد الآجِل مضافًا إليه الفائدة المتفقُ عليها، فيأخذ مثلاً مائة ليعيدها مائة وعشرة بعد عام.وهذه الطريقة تجري عليها الصكوك التي تسمَّى (سندات) يصدِرها البنك المركزي.2 ـ وإما أن يقتطع المُقرِضُ، مسبقًا عند الإقراض، مبلَغ الفائدة المتفقِ عليها من الأجل المحدَّد للوفاء، فيعطي المُقْرِضُ المقترضَ تسعين مثلاً، ليعيدها هذا مائة بعد عام، ويكتب الصك بمائة. وهذه الطريقة هي الأكثر شيوعًا، حيث يستوفي المقرض (المُرابي) مبلغ الفائدة مسبقًا عند الإقراض، وعليها تجري صكوك الإذن الحكوميّة التي يسمُّونها صكوك الخَزينة موضوع هذا التقرير.فمن الواضح جدًّا أن هذه الصكوك ليست سوى صكوك قروض بفائدة تصدِرها الجهة الحكوميّة لعموم الناس (لا لشخص معين، كما يحصُل بين مُراب ومقترِض معيّنين) بمبلغ صغير ليستطيعَ الكثيرون أداءه (مائة دينار) ولمدة قصيرة هي (ثلاثة أشهر)، على أن(56/2)
يدفعَ المشتري الصكّ (المقرِض) ستة وتسعين دينارًا، ويسترِدّها من الجهة المصدِرة مائة بعد ثلاثة أشهر. فحامل الصك (أو مشتريَه) هو المُقْرِض، والجهة المصدرة له مقترضة، ومبلغه قرض بفائدة سنويّة بسعر اثني عشر في المائة (3×4=12).وتسمية هذه العملية: شراء لصك إذن حكومي لا يُغَيِّر من حقيقتها شيئًا، فإن الحقائق لا تتغيّر بتغير الأسماء.
(ب) يتضح من هذا التحليل للعملية أنّه لا فرق أصلاً بين ما يسمَّى بالسندات (أو سندات التنمية)، وبين صكوك الإذن الحكومية، أو صكوك الخزينة، موضوع البحث، فكلاهما، بالنظر الشرعي والقانوني، قروضٌ بفائدةٍ، وحامل السند فيها هو المُقرِض المُسَلِّف (المُسْتَثْمِر)، والجهة المصدِرة هي المُقترضة المستلفة.(56/3)
(ج) ـ إن النقاط التي تحتاج إلى تجلِية بالنظر الفقهي بعد هذا العرض التحليلي لطبيعة الموضوع هي:1 ـ هل الفوائد في الاصطلاح العُرفي والمَصرفي والقانوني هي من الرّبا المحرَّم قطعيًّا في الإسلام، أو هي شيء آخر حلال؟2 ـ إذا كانت الفوائد مُعتَبرةً من صميم الربا، فهل من فرق في حرمتها بين قروض وفوائد يمارِسها الأفراد والمصارف فيما بينهم، أو تمارسها الحكومة معهم أخذًا وإعطاء؟3 ـ هل السندات وصكوك الإذن الحكوميّة، بحسب طبيعتها وحقيقتها، قروض رِبويّة سمِّيت بأسماءٍ أخرى (كما سبقت الإشارة إليه)، أو هي نوع آخر من التَّعامل لا يأخذ حكم القرض الرِّبوي؟النقطة الأولى:فأما النُّقطة الأولى، فإن أساطينَ الفقهاء المعاصِرين الموثوقِ بهم علمًا وتَقْوى وأمانة دينيّةً مُجمِعون على أن الفوائد هي من صميم الرّبا المُحرّم، ولو كانت محدّدة السّقف قانونًا بحدٍّ أعلى في سعرها تمنع القوانين تجاوزه، ويرون كل تخريج لإباحتها تحايُلًا باطلاً بعد قوله تعالى: (وإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤوسُ أمْوالِكم).النقطة الثانية: وأما النقطة الثانية، فإن هؤلاء العلماءَ الرّاسخين الثِّقات يُجْمِعون أيضًا فيما كتبوا ونشروا في الكتب وفي الصحف الدوريّة أنّه لا فرق في حُرْمة الرّبا القطعيّة بين أن تُمارِسه الحكومات أو يُمارِسه أفراد الشَّعب، بل المحقِّقون على أن مُمارَسة الحكومة للمُراباة أشدُّ إثمًا وخطورة على حياة الشعب الاقتصاديّة من المُراباة فيما بين الأفراد، ويأتُون على ذلك بأدلّةٍ وشواهِدَ مُفحِمة لكل مجادِلٍ، ولا مجال لعرضها هنا. (ولينظر مثلاُ في ذلك كتاب الدكتور عمر شابرا مستشار مؤسسة النقد السعودية: "نحو نظام نقدي عادل" وقد نال مؤلفه في هذا العام جائزة الملك فيصل العالمية).النقطة الثالثة:وأما النقطة الثالثة، فإن إجماع العلماء الثِّقات في علمهم وتقواهم من المعاصرين على أن ما يسمَّى اليوم بسندات التنمية هو القرض نفسه بفائدة(56/4)
وهي عين الرِّبا المحرم، وأن التّسمياتِ المختلفةَ المستجِدّة لا تغيِّر من حقيقة العمل المحرَّم في شريعة الإسلام شيئًا.لكن خرج عن هذا الإجماع مُفتي مصر الحالي الشيخ الدكتور سيد طنطاوي في فتويين أصدرهما العام الماضي، أحلَّ في إحداهما السندات المذكورة، وأحلَّ في الأخرى الفوائد المصرفية بوجه عام، معتبرًا "أن الفوائد يمكن عدُّها من قَبيل الأرباح في شركة المُضارَبة (القراض)، وإن كان رأي جمهور علماء العصر على اعتبار أنها ربا محرَّم" (هكذا يقول) وقد اقترح في فتواه هذه تغيير اسم (الفوائد) إلى (أرباح أو عوائد)، لإبعاد الأذهان عمّا لازم معنى كلمة (الفوائد) من معني الرِّبا المحرَّم!!وقد كان رأيه هذا غريبًا ومُريبًا، وأثار الشكوك حول علمِه أو تقواه، وحول دوافِعه إليه، ولا سيّما أنه هو نفسه، قبل ذلك بخمسة أشهر فقط، كان أصدر ونشر فتوى مطوَّلة ومعلَّلة بعكس ذلك، أعلن فيها أن هذه السنداتِ وفوائدَها ربا صريح محرّم بالنصوص القطعيّة!! فما الذي غيّر المفاهيم العلمية وحقائق الأشياء ودَلالات النصوص الصريحة خلال خمسة أشهر فقط؟!.(56/5)
(د) ـ هذا وقد عالَج مجمع الفقه الإسلامي الدولي المرتبط بمنظمة المؤتمر الإسلامي موضوع السندات والفوائد هذه في ضوء البحوث المتعدِّدة التي قدَّمها إليه أعضاؤه.وانتهى بالإجماع إلى تقرير تحريمها لأنها من صميم العمليات الربوية، وذلك بقراره ذي الرقم (62/11/6) الذي قال فيه ما نصه:"إن هذه السندات محرّمة شرعًا؛ لأنها قروض رِبوية، سواء أكانت الجهة المُصدِرة لها خاصة أو عامة ترتبط بالدولة. ولا تأثير لتسميتها: شهادات أو صكوكًا استثمارية، أو ادخارية، أو تسمية الفائدة الرِّبوية الملتزم بها ربحًا أو ريعًا أو عمولة، أو عائدًا ".وقد بين المجمع في الفقرة / 4 / من قراره هذا: "أن البَديل الحلال لهذه السندات هو إصدار صكوك قائمة عى أساس شركة المُضاربة في مشروع أو نشاط استثماري معيَّن".النتيجة:يتضح ممّا سَلَف بيانه أن صكوك الإذن الحكوميّة (موضوع البحث) هي مثل سندات التنمية، كلاهما قروض رِبوية لا يجوز في الشريعة الإسلامية التعامُل بها أخذًا وإعطاءً، أو بيعًا وشِراءً، ويجب على من يريد استثمار ما لديه من وفر ماليٍّ أن يلجأ إلى الطرق الحلال: إما بطريق المشاركة مع مثله يتعاونان برأس المال والعمل، أو بطريق عقد المُضاربة الشرعيّة مع عامل بخبرته، أو بإيداعه في بنك إسلامي يعمل فيه بالطرق الاستثمارية الحلال.25/1/1411هـ.26/8/1990م.(56/6)
ثم كتب فضيلة الشيخ قرارًا صادرًا عن مجلس الإفتاء بشأن تداول صكوك إذن الخزينة الحكومية، جاء فيه:القرار رقم / ....بشأن تداول صكوك إذن الخزينة الحكوميةعرض على مجلس الإفتاء السؤال الوارد من... والمُحال إلى المجلس بشأن تداول صكوك الإذن الحكومية بيعًا وشراء. وقد كلَّف المجلس أحد أعضائه الأستاذ مصطفى أحمد الزرقا، دراسة موضوع هذه الصكوك، وتقديم تقرير مُفَصَّل عنها يجلو حقيقتها، لكي يمكن الوصول إلى رأي شرعي بشأنها، فقام الأستاذ الزرقا المُشار إليه بهذه المهِمّة، وقدّم التقرير التفصيلي المربوط بهذا القرار. وبدراسة هذا التقرير رأي مجلسُ الإفتاء في المملكة الأردنيّة أنَّ ما جاء فيه من إيضاح وكشْف عن ماهيَّة هذه الصُّكوك وطبيعتها والغرض منها وتكييفها الشرعي والقانوني، مُوافِق للواقع.وقد انتهى المجلس بشأنها إلى القرار التالي:يرى مجلس الإفتاء في المملكة الأردنية أن الصُّكوك المُسمّاة بصكوك الإذن الحكومية، أو صكوك الخزينة، هي صكوك قرْض رِبَوي محرّم بالنصوص القطعيّة في كتاب الله تعالى العزيز، والسنة النبويّة الثابتة، وأن تسميتَها بخلاف ذلك لا يُغيِّر شيئًا من طبيعتها هذه.
فلا يجوز شرعًا استثْمار المال بطريق شرائها وتداوُلها، بل يجِب على المسلم اللجوء إلى الطرق المُباحة شرعًا بطريق المشاركة بمختلف صُورها، أو بالإيداع الاستثماري لدى بنك إسلامي موْثوق به في أنه يَستثمر الودائع الماليَّة التي تُودَع فيه بالطرق الحلال المبيَّنة في نظامه.(56/7)
الحكْم في شاة حملت عند البائع قبْل قبْض المُشتري
الأستاذ الكبير:
ما رأيكم ـ دام فضلكم ـ في المسألة التالية مع التعليل:
رجلٌ اشترى شاة بعشرة جنيهات، ثمَّ حملت عند البائع قبل قبض المشتري إياها (أو أنها كانت حامِلًا عنْد الشراء) فهل يجب على المُشتري زيادةٌ على الثمن مقابل هذا الحَمل؟ وما الحكم إذا جَنَى عليها البائع أو المشتري أو أجنبي، فأجهضَها، هل يجِب على الجاني شيء؟ ولمَن؟ وما الحكم إذا بان حَمْلُها لدى المُشتري بعد القبْض، وكانت حاملاً عند البائع وقت الشراء أو بعده؟ وهل يختلف الحُكم إذا كان بدل الشاة أمةً والمسألة عليها؟ وهل الحمل في كل صورة من هذه الصور أصلٌ أم وصف؟ مع تحياتي والسلام.
الدكتور: محمد زكي عبد البر
الأخ الكريم القديم الدكتور الأستاذ محمد زكي عبد البَرّ المحترم حفِظه الله تعالى
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...
أما المسألة التي سألت عنها أخاك هذا، وما أظنُّك في حاجة إلى السؤال عن مثلها، ولكنك تريد (أن يطمئن قلبك)، فإن النقاط المسؤول عنها حكمها واضح، وهو في نَظري كما يلي:
1 ـ لا يجب على المشتري زيادة في الثَّمن إذا حملت الشاة المَبيعةُ عند البائع قبل قبض المشتري إياه، أو بان أنها كانت حاملاً وقت الشراء، لأنها دخلت في ملك المُشتري بالشراء، وحملها تابِع لها يملِكه المشتري، سواءٌ أكان عند الشراء، أو حدث بعده، وذلك بمقتضَى أنَّ مِن أسباب الملكية التولُّد من المملوك.(57/1)
2 ـ وإذا جنَى عليْها البائع فأسقطتْ حَمْلَها يضمَن للمُشتَري نقصَ قيمتها، وللمُشتري الخيار في فسخ البيْع (بدلاً من أخذها ويضمن البائع فرق القيمة) لفَوات الوصْف عنْد البَائع قبل القبْض، ولو كان بلا جِناية من أحد فمن باب أولى أن يضمَن البائِع ما يفوت بجِنايته هو. هذا إذا كانت حاملاً وقت الشراء، أما إذا طرأ الحَمل بعد الشراء، فعلى البائع ضمان نُقصان القيمة فقط، ولا أرى للمشتري خِيارًا في الفسخ عندئذٍ، إذ لم يفت وصْف وقع عليه الشراء. فالحمل، وإن كان في نظر الفقهاء وصفًا، فإن الأوصاف تُضْمن بالتعدّي كما هنا.
3 ـ وإذا كان الجاني أجنبيًا، والمسألة بحالِها، فالحكم واحد كما لو كان الجاني هو البائع؛ لأن كل ما يَطْرأ عليها قبل التسليم بغير فعل المشتري هو مضمون على البائع.
والفرق الوحيد بين الحالتين أنه إذا كان الجاني أجنبيًّا، فللمشتري أن يَعْفِيَ البائعَ من الضمان، ويَعتبر نفسَه مُتسلِّمًا ويلاحق الجاني، كما أنه له تضمين البائع نقصانَ القيمة (إن لم يختر فسخ البيع)، وللبائع عندئذٍ أن يُلاحق هو الجاني لتضمينِه.
والضمان أو التعويض في الحالة الأولى (أي إذا لاحق المشتري الجاني الأجنبيّ) هو للمشتري، وفي الحالة الثانية هو للبائِع كما هو واضح.
4 ـ وإذا بان حَملها لدى المشتري، وكانت حاملاً عند البائع، فحَملها للمشتري؛ سواءٌ أكانت حامِلاً وقت الشراء أو حملت بعده، لأنه في الحالة الأولى قد دخل حملها معها في الشراء بحكم التبعيّة، وفي الحالة الثانية قد حدث الحمل وهي في ملك المشتري، فيملكه بمقتضى ما سبق بيانه، أن من أسباب الملكية التولُّدَ من المملوك.
5 ـ ولا يختلف شيء من هذه الأحكام إذا كان البيع أمةً لا شاةً.
6 ـ والحمل في جميع هذه الحالات وصف لا أصل. ولكن هذا لا ينافِي ما بيَّنت من ضمان فرق القيمة؛ لأن الأوصاف تضمن بالتعدي كما أسلفت.(57/2)
والله سبحانه وتعالى أعلم. وهذه الأحكام في نظري يستوي فيها حكم القانون المدني والشريعة الإسلامية.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وحبّذا لو بيَّنتم لي وجهة نظركم إذا كان لكم رأي مخالِف في شيء ممّا بيّنت.
4/5/1410هـ.
2/12/1989م.(57/3)
الرأي الشرعي في نظام التأمين الطبي
وأجاب الشيخ الزرقا ـ حفظه الله ـ عن هذا الموضوع فقال:
الأخ الكريم السيد طارق عثمان القصبي نائب رئيس مجموعة (دلَّة) المحترم حفظه الله تعالى.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تلقَّيْت رسالتكم الكريمة المؤرخة في 25/11/1413هـ الموافق 16/5/1993/، وفيها تسألونني عن الرأي الشرعي حول نظام التأمين الطبي، وقد بينتم صيغته التي يجري عليها العمل في مستشفى (دلَّة)، وألحقتم بها الملاحظات السلْبية التي تستند إليها بعض فتاوى تمنع عقده مع شركات تأمين تجارية، وترى أن البديل المناسب هو التأمين التعاوني.
وجوابًا على سؤالكم أقول بإيجاز:
إن الرأي الشرعي في موضوع التأمين، بوجه عام، ضد الأخطار هو محل خلاف طويل منذ أكثر من ثلاثين عامًا بين علماء العصر، وإن رأيي أنا فيه أيضًا معروف، وهو أن التأمين جائز شرعًا بفروعه الثلاثة، وقد يصبح واجبًا في بعض الحالات حفاظًا على الأرواح وبعض الممتلكات، كعَقَارات الأيتام والأوقاف.
وقد أصدرت كتابين منذ عام 1961م وقدمت بحوثًا طويلة في المجْمعين الفقهيين، وفي مؤتمرات للاقتصاد الإسلامي والفقه الإسلامي، أتيت فيها من الأدلة الشرعية نصوصًا عامة، وقواعد أصولية وفقهية، بما يُقنع كل ذي علم وعقل بأن التأمين جائز شرعًا، ولا يوجد ما يمنعه، وأن مقاصد الشريعة تؤيِّد قيامه؛ لأنه في جميع أنواعه الثلاثة هو نظام تعاوني جديد على ترميم المصائب، فإذا لم تكن للباحث خلفية مُسبقة كوَّنت لديه رواسب يتعصب لها ولا يقبل عنها تحولاً بأي برهان كان، وإنما يريد فهم الحقيقة العلمية متجرِّدًا من الخلفيات والتعصب لها، فإنه لا يتردد أبدًا في تقرير جوازه.
ولكن مع الأسف قليل ما هؤلاء!! بل هناك من يتاجرون بالسلبية فيما لا يعلمون، دلالة على أنهم ورِعون، وغيرهم لا يبالي!! لسَتْر جهلهم أو تعصُّبهم الأعمى لخلفياتهم بستار الورَع!!(58/1)
وقد بينت في كتبي وبحوثي في المجمع الفقهي أن التمييز بين تأمين تجاري وتأمين تعاوني هو خرافةٌ!! وأن هذا التمييز الوهْمي هو نتيجة عدم الإدراك لحقيقة عملية التأمين وواقعها ونشأتها التاريخية، وما استلزمه توسعُها لمَّا ظهرت مزاياها، وأصبحت تتطلبها ملايين الناس، فاحتاجت إلى إدارة أو إدارات متفرِّغة لها وهي الشركات..لكن طبيعة التأمين كله، حتى عن طريق الشركات، هي طبيعة تعاونية لا تتبدل(5).
وقد أدحَضتُ أيضًا جميع الشبهات التي يتمسك بها السلبيون ويطبقونها خطأ منهم على التأمين، وبينت بالأدلة الملموسة أنها أوهام، سوى شبهة الغَرَر، فإن الغرر قائم في العملية التأمينية لا مِراء في ذلك.. ولكني بينت في الشواهد الفقهية، ونقلت نصوص علماء السلف أن الغرر الفاحش مغْتفَر شرعًا في كل ما تدعو إليه حاجة الناس لتيسير وسائل الحياة وحركة التعامل مما تقع المشقَّة بدونه.
ومن أبرز صور الغرر الفاحش التي أقرها الفقهاء عقد الجَعالة، ودخول الحمامات العامة بأجر، واستئجار الظِّئْر (المرضع) بطعامها وشرابها..الخ وقد نقلْت لشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم عن الغرر الفاحش واغتفاره في مواطن الحاجة كلامًا نفيسًا جدًّا لهما، رحمهما الله تعالى.
فإذا كان أئمة الفقه يقرِّرون اغْتفار الغرَر الفاحش فيما تدعو إليه حاجة الناس حتى في عقود اقتصادية كالجَعالة، فماذا تقول في العلاج الطبي اليوم؟! إذ يتوقف عليه إنقاذ الأرواح العاجزة عن تكاليف التطبيب الباهظة؟ إنك أيها الأخ تعلم أنه في أمريكا ـ أكبر وأغنى دولة ـ لولا التأمين الطبي لدى شركات التأمين يعجز معظم الناس عن التداوي الضروري، ولا سيما في الإصابات الطارئه، ولا يكاد يوجد أحد هناك غير مؤمِّن على نفسه وأسرته طبيًّا.(58/2)
وقد حدثني صديق سوري منذ شهرين أن ابنًا له يعيش في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو مصوِّر صحفي، كان يصور حادثة حريق فأصابته لفْحة كادت تودي به، فبقِي في المستشفى زمنًا طويلاً نسبيًّا، وكلَّف علاجه تسعين ألف دولار دفعتها شركة التأمين، ولولا ذلك للقي حتفه. وأنت تعلم تكاليف العلاج في المملكة، وسواها في البلاد العربية إذا أريد إتقان العلاج، وما يستلزمه من كشوف تصوير وفحوص مخبرية وزرْع جرثومي لتحديد المضاد الحيوي المفيد وتخطيطات و..الخ، فمن الذي يستطيع اليوم بدون التأمين الطبي أن يحفظ صحته وصحة أسرته كما يجب سوى أصحاب الملايين الكثيرة؟ وماذا تعمل الكثرة الكاثرة من جماهير الناس؟
إن الجهالة والغرر اللذيْن أشرتم إليهما مما يورده السلبيون، قد تمسكوا بهما من منطلق خاطئ، وهو اعتبارهم عقد التأمين من قَبيل الإجارة أو المعاوضة بين المستأمِن وشركة التأمين، وهنا مكْمن الخطأ، فالتأمين عقد جديد لا يجوز قياسه وإلحاقه بأحد العقود التقليدية وتنزيل أحكامه عليه، بل يجب أن تقرَّر له أحكام تناسبه بحسب غايته ضمن إطار القواعد العامة لنظام التعاقد، ومع بعض استثنئات إذا اقتضت الحاجة ذلك، كما استثنى الفقهاء عقد الاستصناع، من عدم جواز بيع المعدوم، ومن بعض الشرائط بيع السلم لحاجة الناس إليه في كثير من لوازم حياتهم. ولا يوجَد شرعًا أي مانع من نشوء عقود جديدة لم تكن معروفة في عصور فقهائنا الأولين، وهذا محل إجماع فيما أعلم بين علماء العصر لم يخالف فيه أحد؛ لأن ظروف الحياة وتطوُّرَها مع المستجدَّات العلْمية واكتشافاتها تُوَلِّد أنواعًا جديدة من العقود، وهذا من البَدهيات، وشواهده قديمًا وحديثًا قائمة.(58/3)
وقد بيَّنت فيما كتبت قبلاً أن شركة التأمين ليست سوى وسيط، قد تَفرُغ لإدارة عملية التعاون بين مجموع المستأمِنين دافعي الأقساط إذا أصيب أحدهم؛ لكي يرمم ضرره من مجموع الأقساط التي دفعوها لأجل هذا التعاون ـ الذي أصبح لكثرة الداخلين فيه، لابد له من جهاز إدارة متخصص.
وأن الربح الذي يحصُل للشركة من وفْر الأقساط عن ترميم الأضرار الواقعة ونفقات الإدارة وحاجتها، وهو حقٌّ مشروع لقاء تفرغها لإدارة هذه العملية الواسعة على نطاق الآلاف، بل الملايين.
ومن المقرَّر شرعًا أن كل مَن يتفرَّغ للعمل لمصلحة غيره، يستحقُّ أن يعيش من هذا العمل الذي تفرغ له، حتى وصِيّ اليتيم ومتولِّي الوقف، فإن لم يستلزم العمل أن يتفرغ له، فإنه يستحق أجرًا بقدر عمله.
فالعلاقة الحقيقية في التأمين هي بين المستأمِنين دافعي الأقساط بعضهم مع بعض، وهي تعاونية بطبيعتها، وإن لم يعرفْ بعضهم بعضًا لكثرتهم. وإن ربح الشركة لقاء تفرغها لإدارة هذه العملية الواسعة لا يغيِّر من طبيعتها التعاونية شيئًا.
هذا ما يسمح به الوقت والمقام بإيجاز، ولو شرَّفتموني بزيارة لمزيد من الإيضاح، فذلك يسعدني.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مصطفى أحمد الزرقا
25/11/1413هـ.
16/5/1993م
هامش
(5) انظر ما تقدَّم تعليقًا ص 411.(58/4)
الملاحظات الشرعيّة على مشروع تمويل مخزون نتاج زراعيّ
مخصَّص للتصدير من قِبَل مجمع من البنوك الإسلاميّة.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
وبعد، فقد تلقيتُ كتابكم الكريم المؤرّخ في 19/8/1404هـ = 20/5/1984م ومعه رأي سماحة مفتي (…) بشأن مشروع تمويل مخزون نتاج زراعي مخصّص للتصدير من قبل مجمع من البنوك الإسلامية.
وقد درَست المذكرة المرفَقة التي تُبِيِّن (الخطة المتعلِّقة بهذه العمليّة) بمزيد من التدقيق والتحليل، وكذلك فتوى صاحب السّماحة (…) واستخلصت منهما الصورة والمعلومات التالية:
1 ـ إن الجَديد في هذه العمليّة هو دخول الشركة (ن) لتصدير الزيت بصفة وكيل بالشراء عن مجمع البنوك الإسلامية من الديوان القومي للزيت الذي هو في العملية البائع.
2 ـ إن الشركة (ن) الوكيلة بالشراء عن مجمع البنوك الإسلامية هي شركة ذات شخصيّة اعتباريّة مستقِلّة في معاملاتها الماليّة، لكنها شركة فرعيّة لديوان الزيت، ورأس مالها كلُّه أو أغلبُه للديوان المذكور.
3 ـ إنّ الزيت الذي تشتريه الشركة للبنوك الإسلاميّة بمقتضى وكالتها عنها، هو كمية غير معيّنة بالذات في الوجود الخارجي، بل هي معيّنة بالنوع والمقدار، وملتزِمة بالذِّمّة، ويجري تسليمها فيما بعد.
4 ـ إن دفع ثمن الزيت سيتم فَورًا من قِبل مجمع البنوك، وقد فسَّرت المذكرة الدفع الفوري بأن المراد به: فور تَسَلُّم البضاعة.
5 ـ إن الشركة (ن) وكيل الشراء تتعهّد لمجمع البنوك الإسلاميّة بأن كلَّ كمية تشتريها بمقتضى وكالتها لمجمع البنوك، ستشتري الكمية المُشتراة ذاتها من مجمع البنوك بسعر تصبح الشركة (ن) مشترية لمجمع البنوك الإسلامية، ومشترية منه فورًا بربح محدَّد وثمن مقسَّط، دون أن تستقرَّ البضاعة في ملكية مجمع البنوك وعلى عهدته إلى أن يتصرَّف بها فيما بعد بأي سعر، ربح فيه أو خسر، كما يفعل كل تاجر في العادة.(59/1)
أي: أن البضاعة لا تستقرُّ على عهدة مجمع البنوك وعلى مسئوليّته وضمانه فيما يصيبها من آفات، أو يقع فيها من ربح أو خسار بتقلُّب الأسعار.
الملاحظات الشرعيّة
6 ـ إن المَبيع في عقد البيع إما أن يكون معيّنًا بالذات، أي: محصورًا متميِّزًا عن كلِّ ما سواه في الوجود الخارجي، كما لو باع شخص هذه السيارة، أو هذا الكيس من السكر مُشارًا إليه، وعندئذٍ تجري فيه الأحكام العامّة لعقد البيع، فيصحُّ في المال القيمي والمثلي، ويجوز أن يكون الثمن فيه حالاً أو مؤجَّلًا لأجل معلوم، أو مقسَّطًا لأقساطٍ ومواعيدَ محدّدةٍ.
وإما أن يكون المَبيع معيّنًا بنوعه ومقداره فقط من الأموال التي تقبل الثبوت في الذمة، وتُوفى بأمثالها كالزيت والسكر مثلاً.
وفي هذه الحال يكون البيع سَلَمًا، والمَبيع فيه دين ملتزم في الذمة، وحينئذ يصح وإن كان المبيع معدومًا عند العقد، ولكن يجب أن يُقبض فيه الثمن في مجلس العقد، وأن يحدَّد فيه موعد تسليم المبيع؛ لأن الرسول ـ صلّى الله عليه وسلم ـ قد رخَّص في بيع السَّلَم تسهيلًا لعملية الإنتاج فيما سينتج أو يُجلب؛ ليستعين البائِع المنتج أو الجالِب برأس المال الذي يَقبضه على الإنتاج أو الجلب، كما يستفيد المشتري أنه يشتري عادة بأرخص مما لو كان المبيع حاضرًا في موسِمِه، وقال: "من أسلفَ فليُسلِفْ في كَيل معلوم، أو وزن معلوم، إلى أجل معلوم"(3)، و"نهي عن بيع الكالئ بالكالئ"(4)، أي: دين في الذِّمة بدَين في الذِّمة، وبحسب النقطة (3) أعلاه يكون الشراء الذي تُبرمه الشركة (ن) نيابة عن مجمع البنوك الإسلامية سَلَمًا في كمية من الزيت يلتزِم بها الديوان القومي للزيت معيّنة النوع والمِقدار، وملتزمة في الذّمة إلى أجل معلوم.(59/2)
وقد جاء في المذكِّرة أن الدّفع يكون عند تسلُّم البضاعة، وبذلك يختلُّ شرط تعجيل الثمن في عقد السَّلم فيفسد العقد؛ لأن الغاية الشرعيّة من تجويز السَّلَم هو الاستعانة بتعجيل الثمن على الإنتاج أو الجلب، فإذا كان دفع الثمن عند تسليم المَبيع عدمت الحكمة من تجويز السَّلَم.
7 ـ إن الشركة (ن) هي ملك الديوان القومي للزيت، ومتفرِّعة منه (النقطة 2)، فتوسُّطها في البيع والشراء بين مجمع البنوك، وبين ديوان الزيت لا يغيِّر شيئًا من طبيعة العَلاقة بين الجِهتين؛ لأنَّ لها حكم الجِهة المتفرِّعة منها والمملوكة لها (وهي ديوان الزّيت).
وعليه يكون تعهُّدها بأن تشتريَ من مجمع البنوك الكمية ذاتها التي تشتريها له، وبثمن أعلى مما اشترت لهم به، على أن يكون مؤجَّلًا عليها أو مقسَّطًا، يكون تعهدها هذا كتعهد ديوان الزيت نفسه بذلك. وهذا هو نفسه بيع العينة الذي هو حيلة لاستباحة القرض الربوي تحت ستار بيع وشراء بسعر مختلف، والفرق فيه بين السعرين هو الرّبا الذي يُريده المُقرض أو المموِّل. فبدلاً من أن يأخذ المُستقرض (أ) من المُقرض (ب) مبلغًا إلى أجل ليُعيده أكثر منه عند حلول الأجل، يَلجأ إلى هذه التغطية الزائفة، فيشتري (أ) من المُرابي (ب) شَيئًا بألف دينار مثلاً مؤجَّلة إلى أجل معيَّن، ثم يبيع (أ) الشّيء ذاتَه من المُرابي (ب) بثمن معجَّل أقل مثلًا 800 دينار، ويَقبض (أ) 800 دينار، ويعود المَبيع ذاته إلى بائعه المُرابي (ب) الذي يستوفي عند حلول الأجل من (أ) الثَّمن الأعلى المحدَّد في العقد الأول. أو يَبيع المُستقرض (أ) شيئاً من (ب) بمبلغ يأخذه فورًا، ويعود فيشتريه منه بثمن أعلى مؤجَّل أو مقسّط. والنتيجة واحدة، والفرق بين الثمنين هو الرِّبا المقصود.(59/3)
فديوان الزيت المُحتاج للتمويل بالقرض الرِّبوي، يلجأ إلى عملية التغطية هذه بستارة البيع، فيبيع الديوان بطريق الشركة (ن) التي هي منه وإليه كمية معينة من الزيت (بالمبلغ الذي كان يُريد أخذه من مجمع البنوك قرضًا)، ثم تشتري الشركة (أي: الديوان نفسه التي هي ملكه) المَبيع ذاتَه من مُشتريه، ولكن بسعر أعلى لقاءَ تبسيطه أو تأجيله.
وهكذا يتحقّق لمجمع البنوك ربح مضمون لقاءَ الأجل دون أن يكونَ بائعًا أو مُشتريًا بالمعنى الحقيقي، ودون أن يحمل مسؤولية البائع والمُشتري والتزاماتهما وتعرضهما للربح والخسارة.
هذه هي العِينة بعينها التي ندّد بها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحذر منها، وأنذر، وحرَّمها جمهور الأئمة، وقال فيها الإمام محمد بن الحسن الشّيباني صاحب أبي حنيفة ـ رضي الله عنهما: "إنَّها بَيع ذَميم اخترعَه أَكَلة الرِّبا".
8 ـ وفي نظري أن القول بحرمة الربا الصريح وجواز العينة بالصورة المذكورة يجعل الفقه الإسلامي أضحوكة في نظر العقلاء وأهل البصر، إذ يصبح فقهًا شكليًّا تتبدّل فيه الأحكام من حرام إلى حلال مجرّد تبديل الأسماء أو الأشكال، مع بقاء المفاهيم والغايات كما هي:
وقد قال سيِّدنا أنسُ بن مالك ـ رضي الله عنه ـ حين سُئِلَ عن العِينة: "إن الله لا يُخدَع، هذا مما حرَّم الله ورسوله "، ونقله فضيلة المُفتي في جوابه.
وأعتقد أن الإمام الشافعي ـ رحمه الله تعالى ـ وأصحابه الذين قرَّروا جواز بيع العِينة؛ لأنه بيع قد استوفَى شرائطه، إنما يريدون ما يقع بين المُتبايعين بصورة طبيعية، وليس نتيجة تواطؤ سبق فيما بين البائِع والمُشتري تغطية للمُراباة واحتيالًا لها.(59/4)
وذلك كما لو أن إنسانًا بعد ما اشترى سلعة بثمن مؤجَّل، بدا له أن يستغنيَ عنها فباعها من بائعه بثمن أقل ليتخلّص من الصفقة التي تغيِّر رأيه فيها لسبب ما. وقد تدلُّ بعض عبارات الشافعيّة على ذلك، كتعليلهم الجواز بأن (الثّمن الأدنى يجوز بيع السلعة به من غير بائعها الأول، فيجوز ذلك من بائعها نفسه).
وإذا وُجِدَ لبعض الشافعيّة تصوير للعينة لا يمكن حمله على هذا المَحمل الحسن، فذلك ممّن يقول به إفراطٌ وإغراق في ربط الأحكام بالشكليّات الصوريّة.
أما بيع السلعة من شخص ثالث غير بائعها الأول بثمن أدنى دون تواطؤ فلا مانع منه؛ لأنه من شؤون التجارة، فقد يحتاج التاجر إلى النقد، فيبيع بعض السلع بخسارة لحاجته إلى ثمنها. أما إذا كان ذلك تواطؤًا ليُعيدها الثالث إلى بائعها الأول بالثمن الأدنى، فهو غير جائز، وهو كالعينة المباشرة.
ولذا اشترط الحنابلة في هذه الصورة ألّا يكون الثالث وَكيلًا نائبًا عن البائع الأول. (كما جاء في فتوى سماحة المفتي ص / 5).
9 ـ هذا، وبما أن الشركة (ن) المصدِّرة للزيت في العملية محلّ البحث هي فرع من ديوان الزيت البائع ومملوكة له كما سبق بيانُه، تعتبر في هذه العمليّة كالديوان المذكور نفسه، ولا يكون، في نظري، توسُّطها محلِّلًا، ولا يغيّر ذلك من اعتبار العمليّة أنها من قبيل بيع العينة شيئًا، بل هي أشدّ التصاقًا بديوان الزيت من وكيله؛ لأنّها فرع من نشاطاته ولو اعتُبرت لها شخصيّة قانونيّة مستقلّة، بدليل أنها إذا انحلت وصُفيّت تعود موجوداتها جميعًا إلى ديوان الزيت، وإن كان الديوان لا يسأل عن ديونها لو أفلست مثلاً بما يَزيد عن موجوداتها، كما أن الديوان والشركة على أي حال مملوكان للدولة.(59/5)
10 ـ وإني أرى أن أقرب مثال فقهي لوضع الشركة هذه من ديوان الزيت هو مسألة العبد المأذون له بالتجارة من قِبل مولاه، فقد اعتَبر له الفقهاء شخصية مستقلة عن شخصية مولاه في أعمال التجارة التي أذن له بها، وقالوا: إنه، أي: العبد المأذون: "يبيع ويشتري ولو بغُبن فاحِش، ويوكِّل غيره ويَرهن ويرتهِن ويُعير الدابّةَ والثّوب لأنه من عادة التجار، ويشتري العبيد والإماء، ويُصالح عن قصاص إذا وجب على عبده؛ لأنه كشخص مستقلّ، ولكن مع ذلك لا يجوز بينه وبين مولاه بيع" (الدر المختار ـ كتاب المأذون).
وقد علّل ابن عابدين عدم جواز البيع بينه وبين مولاه نقلًا عن الزيلعي بقوله: "لعدم الفائدة"؛ لأن الكلَّ مال المولى ولا حقَّ فيه لغيره" أي: أن المولى عندئذٍ في تعاقده هذا مع عبده المأذون يكون بائعًا أو مُشتريًا مال نفسه لنفسه، فلا ينعقد؛ لأنه عبَث لا فائدةَ له، فمن الشّرائط العامة لانعقاد العقد أن يكون مُفيدًا، أي: مُنشئًا لوضع حقوقي جديد بين المتعاقدين (ينظر كتابي "المدخل الفقهي العام" 31/6 الطبعة الجديدة).
ورغم استقلال شخصية العبد المأذون في كل شؤون التجارة، قالوا: يجوز له أن يتزوّج إذا أذن له مولاه، ولكن ليس له أن يتسرَّى بأمة اشتراها، ولو أذن له مولاه (الدر المختار ـ كتاب المأذون ج / 5 / ص / 100-101 / الطبعة البولاقية الأولى ذات القطع الكبير).
والوجه في ذلك واضح، فإن رقَّه لا يمنع صحةّ زواجِه، وإنما يكلِّف المولى مهرًا ونفقة، فللمولى أن يزوِّجه حتى قبل الإذن له بالتجارة، فله أن يأذن له بالزواج حين يكون مأذونًا بالتجارة.
أما التسرِّي: فإنه مبني على ملك الرّقبة، أي: أن يكون المُتسرِّي مالكًا للأمة التي يريد التسريَ بها، والعبد المأذون لا يملك رقبة الأمة التي يشتريها في أعمال تجارته (رد المحتار في المكان المذكور).
ومن المقرّر: أن العبد وما حازتْ يداه لمولاه.(59/6)
فشركة تصدير الزّيت حين تكون فرعًا من ديوان الزيت وملكًا له، هي في وضعها القانوني وشخصيّتها المستقِلة أشبهُ ما تكون بالعبد المأذون الذي رغم استقلال شخصيته في التعامل التجاري لا ينقطع اعتبار أنه مملوك لمولاه، لا يملك لنفسه شيئًا، وإذا ألغى مولاه إذنه له عاد محجورًا، ورجع كل ما في يده إلى مولاه، نظير ذلك ما لو تقرَّر حلُّ الشركة، إذ تعود كل موجوداتها إلى الديوان.
فشراؤها الزيت من موكِّلها (مجمع البنوك) الذي اشترته له بثمن أعلى مؤجّل كشراء الديوان نفسه السلعة بثمن أعلى ممّا باعها به لمجمع البنوك لقاء تأجيل الثمن على الديوان.
11 ـ هذا، ومن الجدير بالذكر أن نخبةً من الفقهاء الحاضرين في مؤتمر فقهي، طُرح عليهم موضوع اتفاقيّة شراء الزيت المذكور وفتوى صاحب السّماحة، وبعد المداوَلة والتمحيص انتهى المجتمِعون وبموافقة فضيلة المفتي إلى النتيجة التالية:
إذا كانت الشركة المُصدِّرة للزيت فرعًا من الديوان القومي للزيت (البائع) ومملوكة له، فإن هذا البيع والشراء يُعتبران من قَبيل بيع العِينة المحرَّم؛ لأنه احتيال واضح للقرض الرِّبوي.
أما إذا كانت الشركة من القطاع الخاصّ مستقِلة بماليّتها عن كل تبعيّة لديوان الزيت، وتشتري الزيت لحسابها الخاص لتبيعه داخليًّا، أو تقوم بتصديره للخارج، وتربَح منه، شأن كل تاجر أو شركة تجاريّة (دون تواطؤ لتغطية تمويل بقرض رِبوي ذي ربح مضمون بحسب المبلغ والزمن) فإن ذلك جائِز.
النتيجة
والبديل المقبول شرعًا(59/7)
12 ـ إن هذه الصيغة الموضّحة في المذكرة لا أرى مَساغًا شرعيًّا لها؛ لأنها تغطية شفّافة لتمويل رِبوي، قد اتخذت لها صيغة لا تخرُج عن بيع العينة المحرّم ستارًا وتغطية، إذا أُريد النظر في الإفتاء إلى حقائق الأشياء دون الوقوف عند الظواهر، والصورة الالتوائيّة التي تبدّل فيها الأسماء والألوان مع بقاء المضمون المحرّم كما هو، وإلا كان الفقه الإسلامي شكليًّا يجري فيه التحليل والتحريم بصورة متناقِضة، لا ينظر فيها إلى التكييف الحقيقي لوجوه التعامل، ولا تدلّ على مبدأ ومنطلَق شرعي فقهي ملتزَم".
وفي نظري أنه لا يُمكن إيجاد بديل لمجمع البنوك الإسلامية، أو لسواه من المؤسّسات الاقتصاديّة الاستثماريّة يسمَّى بديلًا شرعيًّا إسلاميًّا، ويحقِّق في الوقت نفسه نظيرًا إسلاميًّا لهدف التمويل الرِّبوي، في الوصول إلى ربح محقق من تقديم مبلغ من المال إلى أجل لاستعادة أكبر منه بصورة مضمونة.
بل لابد من الدخول بالفعل في ممارسة العمليات التجارية، وتحمُّل التزاماتها الشرعية ـ بحسب طبيعة كل منها ـ في سبيل الوصول إلى ثمراتها المشروعة.
13 ـ أما إذا كان مجمع البنوك الإسلاميّة مستعِدًّا للدخول في المُعاملات التجاريّة حقيقةً للوصول إلى ثمراتها المشروعة، فالبديل الشرعيّ للتعامل مع الديوان القومي للزيت، أو الشركة المصدِّرة له، يمكن أن يتحقّق بأحد المسلكين التاليين:
المسلك الأول: طريق القِراض (المُضارَبة)، وذلك بأن يدفع مجمع البنوك الإسلامية إلى الديوان القومي للزيت، أو للشركة المتفرعة عنه مبلغًا من المال ليشتري به زيتًا من مُنتجيه مضاربة، يكون فيها مجمع البنوك رب المال، والشركة هي المُضارِب العامل الذي يقوم بشراء الزيت وحفظه في مُستودعات وتسويقه محليًّا أو تصديره، والربح بينهما بالنسبة المتَّفق عليها.(59/8)
ويجوز أن يَحتاط المجمع لتحقيق التسويق المشترك بأن يشترط على الشركة أن تبدأ بتسويق الزيت المشترك بينها وبين المجمع حتّى ينفَد؛ لتمكن التصفية بينهما بصورة عاجلة، أو أن يشترط المجمع عليها أن كل صفقة تسويقيّة تعقِدُها لتصدير الزيت، تقوم بتنفيذ نصف كمِّيّتها من الزيت المشترك بينها وبين المجمع حتى ينفَد كله.
المسلك الثاني: طريق السَّلَم:
وذلك بأن يشتريَ مجمع البنوك من الديوان القومي أو الشركة المتفرِّعة عنه كمية من الزيت قبل موسمه بثمن محدد، يقدمه المجمع سلفًا عند التعاقد، وتلتزم الشركة بتسليمه في موعد محدَّد (يكون عادة في الموسم). ويوكِّل المجمع من يتسلّمه منها في الموعد المذكور، أو يوكل الشركة البائعة نفسها بأن تفرزه وتدخله في بعض مستودعاتها.
وينتدب المجمع من يُشرف له على عملية إدخاله في المستودَع، ويصبح الزيت ملكًا معينًا للمجمع وعلى عهدته، ويشترط المجمع على الشركة الشرطَ نفسه الآنف الذكر في حالة القِراض، أي: أن كل صفقة تسويق تعقِدها يجب أن يكون نصفها من الزيت الذي اشتراه منها المجمع إلى أن ينتهي ويُصفّى حسابه بينهما.
ومزيّة المسلك الثاني هذا (طريق السلم) أن الزيت يُشترى عادة قبل موسمه بسعر أرخصَ ممّا يُباع به في الموسِم، ويستطيع المجمع أن يعتمد جهة ما أو خبيرًا بأسواق الزيت يستشيره كلَّ سنة في الأسعار المتوقَّعة للزيت عالميًّا؛ لكي يستنيرَ في السعر الذي يتفِق عليه مع الشركة، أو ديوان الزيت.
14 ـ هذا ما يبدو لي، وتبرأ به الذِّمّة والأمانة العلميّة، والله سبحانه هو الموفِّق إلى الصواب.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
19/8/1404هـ.
20/5/1984م.
هامش(59/9)
(3) أخرجه البخاري (2240) في كتاب السَّلَم، ومسلم (1604) في المُساقاة، والسلف: السَّلم وزنًا ومعنى، سُمِّيَ سَلَمًا لتسليم رأس المال في المَجلس، وسلفًا: لتقديم رأس المال، فالسَّلَم والسَّلف واحد، إلا أن السَّلف يكون أيضًا قَرْضًا. والسَّلَم في الشرع: بيعٌ موصوف في الذِّمّة بلفظ السَّلَم.
(4) أخرجه البزار كما في "كشف الأستار" 2: 92 من حديث موسى بن عبيدة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر. وموسى بن عبيدة متروك، وتابع موسى بن عبيدة عليه: إبراهيم بن يحيى الأسلمي. وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه 8: 90 لكن قال الزيلعي 4: 40 "هو معلول بالأسلميّ" فإنه متروك.
ونقل الحافظ في "التلخيص" 3: 26عن الإمام الشافعي أن "أهل الحديث يُوهنون هذا الحديثَ"، وعن أحمد: "ليس في هذا حديث يصِحُّ، ولكن إجماع الناس على أنّه لا يجوز بيع دَين بدَين".(59/10)
المُشاركة في شركة مساهِمة وشراء أسهمها
ـ اتفاقية أحد البنوك الإسلامية مع شركة مساهمة؛ لصناعة الأسمدة؛ لإنشاء وتشغيل مصنع للأسمدة:
درستُ هذه الاتفاقية دراسة مستوفاةً، فوجدتها تقوم في جوهرها على طريقة شرعيّة سليمة، وهي المشاركة في شركة قانونية مساهمة، نوعها شائع في البلاد العربيّة والإسلاميّة وفي العالم أجمع في العصر الحديث، وهي الشركات المساهمة المُغْفلة (آنونيم Anonim) التي تنظِّم أحكامَها العامة قوانين التجارة، وهي نوع من الشركات تتقبله قواعد الفقه الإسلامي.
وقد تضمنت الاتفاقيّة المذكورة المعقودة مع شركة صناعة الأسمدة شراءَ البنك من الشركة المذكورة كميةً من أسهمها بسعر محدَّد للسهم الواحد، تُدفع على دفعات محدَّدة المواعيد، وتضمنت شروطًا كلُّها مقبولة فقهًا لا مانع منها شرعًا، تهدف إلى تحديد حقوق كلٍّ من الطرفين والتزاماته، وبمقتضاها يُصبح البنك مالِكًا كبيرًا من مالكي أسهم الشركة، وله أرباح أسهمها، وله حقُّ بيعها متى شاء ـ كسائر المُساهمين. وليس في الشروط والالتزامات المشروطة فيها شيء لا تتقبله قواعد المُشارطات العقديّة في فقه المذاهب.
يتبيّن من هذا أن هذا الأسلوب من نشاطات البنك وأعماله لا شائبةَ تشوبُه من الوجهة الإسلاميّة، وهو فيه أسوة بسائر المسلمين الذين يشترُون أسهمًا في الشركات الكبرى المساهمة المُغفلة، ويُصبحون فيها شركاءَ مالكين من كل موجوداتها حِصّة تُعادل نسبة أسهمهم إلى مجموع الأسهم؛ الذي يمثل ملكيّة الشركة بكاملها.
ملاحظة:
وبهذه المناسبة، يَحسن التّنبيه إلى ملاحظة، هي أن في العالم العربي اليوم جماعةً ذاتَ انتماء سياسي وعلمي إسلامي، تُنادي بتحريم الشركات المساهمة المذكورة، وتحريم شراء أسهمها، ويستدِلًّون على ذلك باستدلالات شرعيّة لا يُمكن التسليم لهم بها، ولا تنهَض حجّة على دعواهم في نظر أهل العلم الفقهاء.(60/1)
لذلك رأيتُ التنبيه إلى هذه الآراء الشاذّة من بعض الفئات الإسلامية؛ التي تريد أن تفرض آراء فقهيّة في الحلال والحرام ليستْ هي مؤهَّلة لفرضها، ومن أشهرها رأيهم الشاذّ في الشركات المساهمة، فحسُن التنبيه على ذلك كيلا تُشوَّش الأذهان.
12/11/1400هـ.
22/9/1980م.
مصطفى أحمد الزرقا(60/2)
تَعقيب على فتوى وجواب عليه(2)
وَرَدَنا من الأستاذ وهبي سليمان الألباني رسالةٌ يعقِّب فيها على فتويين للأستاذ مصطفى الزرقا نشرناهما في العدد العاشر ـ السنة الرابعة ـ حول التوظف في المصرف الزِّراعي الحكومي، وحول جواز التّصدُّق بالمالِ الزائد المترتب للمُودِعين نَتيجةَ إيداعهم أموالَهم في المَصارِف.
وفيما يلي نصُّ رسالةِ الأستاذ وهبي سليمان الغاوجي الألباني:
الأستاذ مصطفى الزرقا عالمٌ فقيهٌ، وَرِثَ من عِلْم أبيه الشَّيْخ أَحمد الزرقا ـ الشّهير بفقهِه وورعِه ـ الشيءَ الكَثير، لكنْ قد يكون مع العلم الكثيرِ الزَّللُ القليلُ، وكلُّ مسلم يؤخذُ من قوله ويترك غيرَ الرّسولِ صلّى الله تعالى عليه وسلم. فلقد جانَبه الصّواب في فتوى بالعدد العاشر من السنة الرابعة لـ (حضارة الإسلام). وما أقصد فتح باب المناقشةِ العلميّة مع الأستاذ، فإن القارئ قد لا يَصبرُ على المناقشة، لكنْ أكتفي بذِكر الصّواب الذي أراه في المسألة في أسطرٍ قليلةٍ، والله الموفّق والهادي إلى سواء السّبيل.
1 ـ سأل سائل: هل يُعتبر عملُه في المصرف الزِّراعي حَرامًا؛ نظرًا لإقراض مصرف الفلاحين قروضًا بالرّبا... فكان جواب الأستاذ: (... ولكني إجمالاً لا أجد حرامًا في عمل الشّخص موظفًا في المصرِف الزِّراعي الرسميّ الحكوميِّ، ولو أنّ مهمة المصرف إقراض المُزارعين بفائدة مخفَّضة ولا سيَّما في زمننا هذا، ومن استطاع أن يجدَ لنفسه عملاً آخر كافيًا فهو أطْيب للنَّفْسِ ).
الصَّواب الذي أراه يأتي في نقاط:(61/1)
أ ـ حبّذا لو قال الأستاذ: إن كان عمل الموظّف تَسجيلاً لِعقود الرِّبا وكتابةً لها، أو شيئًا آخر يتعلَّقُ بالرِّبا فهو عمل حرام، قال جابر ـ رضي الله تعالى عنه: (لَعَنَ رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ آكلَ الرِّبا ومُؤكِلَه وكاتِبَه وشاهدِيه وقال هم سواء) رواه مسلم وأحمد وغيرهما.ب ـ لقد حذَّرنا الله تعالى من معاشرة الظالمين والجلوس معهم، وفي القرآن (...فلا تَقعًدْ بعد الذِّكرَى مع القوم الظّالمين) (الأنعام: 68) والربا وما يتعلّق به ظُلم.ج ـ إن الله تعالى قد تكفّل برزقِ العِباد فعليهم أن يطلبوه من حِلِّه، ولا عُذْرَ لهم في القَرار على الحَرام حتَّى يتهيّأ لهم عمل حلال، فإنّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "..إذا نهيتُكم عن شيء فذَرُوه ". والرّبا وما يتعلق به منهِيٌّ عنه بالاتفاق، ولو أُبِيح للإنسان أن يُقيمَ على العمل المَحظور حتى يجدَ العملَ الحلال، لأُبيح لمن يفتح خمّارةً أو دارَ لهوٍ أو يَتعاطَى أوراقَ اليانصيب أو يحترِف الغناء..لأُبيح لأحد أن يقيمَ على عمله حتّى يجدَ العمل الحلال، ولا يقول به مسلم.
فالجواب على المسألة: لا يجوز العمل في المصارف الربويّة رسميّةً حكوميّةً أو أهليّة، والله ـ سبحانه ـ لا ينسَى طالبَ الحلال من فضلِه، وهو القائل: (ومن يَتَّقِ اللهَ يجْعَلْ لَه مَخْرَجًا ويَرزُقْه من حيثُ لا يَحْتسِبُ ) (الطلاق: 2-3).
2 ـ سأل سائل: وَضَع رجل مبلغًا من المال في مصرف، وإن المصرف قَيّد لحسابِه مبلغًا من المال باسم فائدة، وأنه حائِر بين أخذه ذلك المبلغ أو تركه للمصرِف أو التصدُّق به، فكان جواب الأستاذ: (..أرى أن لا يترك المبلغ للمصرِف بل أفضل من تركه له أن يُؤخَذَ ويُتَصَدَّقَ به، فإنّ الفقير أولى به من المصرف ).
الصّواب الذي أراه يأتي في نقاط:(61/2)
أـ حبَّذا لو قال الأستاذ: إنّ وضع المال في المصرف مع الاتفاق على الفائدة حرامٌ لا شكَّ فيه، وقد وضعه السائل كذلك، ووضْعه المالَ في المصرف بصفة أمانة مكروهٌ؛ لأنه معاونة للمصرف الظّالم على ظُلمه، فإنّ المصرف يُقْرِضُ المالَ لغيره بالفائدة في الجملة، ولا يجوز معاونةَ الظّالم في ظلمه ولو بكلمةٍ.
ب ـ ليس لذلك السّائل إلا أن يسحَبَ المال فورًا من المصرف تائبًا إلى الله تعالى من ذلك الإثم، وليس له أن يأخذَ الفائدة ويَصْرِفَها للفقير؛ لأنَّ في أخذه الفائدةَ لأجل الفقير، إقرارًا بحَقِّيَّة أخذ تلك الفائدة، ثم إقرارًا بحقيقة مِلْكه تلك الفائدةَ، ولا حقّ للمسلم من فائدة محرمة أبدًا مهما كانت صغيرة، ولا يجوز للمسلم أن يتصدَّق بما ليس له.
ج ـ لا مَحلَّ لإقرار أولويّة الفقير على المصرف في أخذ الفائدة لأن اختيار الأولَى يكون بين أمرين كلاهما حلالٌ، وحديث عائشة ـ رضي الله تعالى عنها: "ما خُيِّرَ رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين أمرين إلا اختار أيسرَهما ما لم يكن إثمًا، فإذا كان إثمًا كان أبعدَ النّاسِ منه " رواه البخاري. هذا الحديث معروف وهو حُجّة ظاهرة فيما أقول.
فالجواب على المسألة: على السائل أن يسحَب مالَه فقط من المصرف فورًا، ويتوبَ إلى الله تعالى توبةَ عازم على عدم العودة إلى الذَّنْب، قال الله تعالى: (..وإن تُبْتُم فلكم رُؤُوسُ أموالِكم لا تَظْلِمون ولا تُظْلَمونَ ) (البقرة: 279) والله سبحانه أعلم.
وهبي سليمان الألباني
إجازة في القضاء من الأزهر الشريف
المجلة(61/3)
بعد ورود هذا التَّعقيب من الأستاذ وهبي سليمان الألباني، أطلعنا الأستاذ مصطفى الزرقا عليه، وسألناه عما إذا كان له ملاحظة على رأي الأستاذ وهبي، فأجاب بأنه لا يُحِبُّ أن يدخل في جدَل، ولكلِّ إنسانٍ رأيُه، فرَجوناه أن يتكرّم ببيان موجَز كي يكونَ القارئُ على بَصيرة. فتفضّل بإملاء العبارة التالية تعليقًا على هذا التعقيب قال الأستاذ الزرقا حفظه الله تعالى:
1 ـ حول العمل في المصرف الزّراعيّ:
إنّ المصرِف الزراعيَّ ليس مؤسَّسًا للاسْترباحِ بالمُراباة، وإنّما هو مؤسَّس من قِبل الدّولة لمعونةِ المُزارعين دعمًا للإنْتاج?، وإن الفائدة التي يضعُها المصرف المذكور على القروض التي يقدِّمها للمُزارعين ـ هِيَ كَرَسْمٍ مُخفَّض لِتغطية تكاليف أعماله وخِدْماتِه التي يقدِّمُها، وإن الدولة تخسَر دائمًا على المصارف الزراعية ولا تربَح منها، كما أنّ التّوظيفَ فيه لا يَنْصَبُّ على كتابة الفوائد إن اعْتُبِرَتْ هذه من قَبيل الرِّبا.وأنا لا أستطيع أن أُفْتِيَ الشَّباب الصّالحين؛ الذين يحرِصون على دينهم بحَجْرِ العمل عليهم في المصرف الزراعيِّ الرَّسْمِيّ في عَصْرِنا هذا؛ لأنه يُقْرِض المُزارعين بالفائدةِ، بينما كُلُّ وَظيفةٍ أُخْرى يعملون فيها، حتَّى التّعليم الذي أشتغل فيه أنا والأستاذ وهْبي أيضًا ـ ولعله أطهرُ وأنقى عَمَل حكومي اليوم ـ يتقاضَى فيه الأستاذ المعلِّم كما يتقاضَى كل موظَّف راتبَه من أموال تتكون من حَرام وحلال، وتدخل فيه مواردُ من ضرائب الخمور والفجور وسائر الحُرُمات، فإذا أردنا أن نمنعَ هؤلاء الشباب عن التوظُّف في المصرف الزراعي، فعلينا لكي لا نتناقضَ أن نمنعَهم عن كل وظيفة أخرى يتقاضون فيها مرتبًا من الدّولة، وعندئذ تبقَى وظائِفُها في أيدي المُلحدين الذين لا يُهِمُّهُم حرامٌ من حلال، وإلا فلا فارقَ بين عمل في مصرف يُقْرِض بالفائدة وبين أخذ الرّاتب المَحْشُوِّ بهذه الموارد العامة المملوءة(61/4)
بالحرام، هذا ما أشرت إليه بقولي في جوابي السّابق (في زمننا هذا).
فيكفينا من هؤلاء الصّالحين المُسْتَفْتِين اليوم أَلّا يُقْرِضُوا ولا يَسْتَقْرِضوا بالرِّبا، ويبتعِدوا عن فعل المُحَرَّم بأنفسِهم، ولا أستطيع أن أُحَجِّر عليهم العمل في المصارف الحكومية كموظفين، فأسُدَّ عليهم باب الرِّزْقِ بِسَبَب هو موجود بشكلٍ أَشَدَّ في كُلّ راتِبٍ حكوميّ آخَر. فلكلِّ زمان حكمُه.2 ـ حول أخذ أصْحاب الوَدائِع في المَصارف ما يُسَجّل لهم عنها مِن فَوائد ليُعْطُوها الفُقَراء.إنّ الدِّين الإسلامي مَزَيَّتُه الأولَى أنه يقوم على العقل، وأحكامه العمليّة معلَّلة برعاية المصالح والأصلح. وكون النَّقْل ـ أي: النصوص ـ هو المُعوَّل عليه قبل كلِّ شيء لا يعزِل العقل عن مرتبتِه المَعروفة في الشَّرع؛ لأنَّ فَهْمَ النَّصِّ يَحْتاج إلى عقل علمي. وفي أصول الإسلام أنَّ الإيمانَ بدون دليل عقلي لا يُقْبَل، أو هو مختَلَف فيه، كما هو مَعروفٌ في علم الكلام.
فهل من المعقول أن نمنع أخذ شيء من أموال المصارف التي تتعامل بالفائدة لإعطائه الفقراء؟.. وهل بَقاء مَبْلغ الفائدة في المصرف لِيَزيد بها معاملاتِه الرِّبوية خيرٌ وأولى شرعًا من سحبها منه وتحويلِها إلى الفُقراء؟
وماذا يقول المانِع لو أن شخصًا من الواعظين ليس بينه وبين المصرف تعامل، أو عَلاقة، جاء إلى المصرف ووعَظَ المسئولين فيه بأن يتصدّقوا على الفقراء، فأعطَوْه مَبلغًا ليوزِّعَه على الفقراءِ فقام بتوزيعه عليهم، فهل يكون عملُه هذا إثمًا بحُجّة أن إبقاء المالِ الخبيثِ في المصرف أولى من التصدُّق به على الفقراء؟(61/5)
وإذا قيل إنّ هذا لم يؤخَذ باسم فائدة بل أُخِذَ رأسًا باسم صَدقة، قلنا: ما الفَرْقُ بَيْنَهما بعد أن يكون الشَّخص قَد أخذ المبلغ بِنيّة إعطائه الفُقراء ولم يأخذْه لِيُدْخِلَه على أموالِه، سواءٌ سمّاه المصرف فائدةً أو سمّاه صَدقة، ألَم يقُل عمر ـ رضي الله عنه ـ للنَّصارَى بشأن الجِزْية: أَدُّوها وسَمُّوها مَا شِئْتُمْ؟
لقد قال ابن عابدين، رحمه الله، في حاشيته على "المنار" وشرحه في بحث تقسيم القضاء عند الأصوليين، إلى قَضاء بمثل معقول كـ"رد مثل المغصوب الهالك "، وقضاء بمِثل غير معقول كـ " فِدية الصّيام للعاجِز عنه " قال رحمه الله تفسيرًا لغَير المعقول ما نصُّه:
" أي ما لا ندركه بعقولِنا، فالمراد من كونِه غير معقول أنّه غير مُدرَك، وليس المراد أن العقل ينفيه ويردُّه، فإن العقل من حجُج الله تعالى كالسَّمع بل أقوى " أهـ.
هذا من ناحية المعقول، أما من ناحية المنقول، فقد نصَّ فقهاء الشّريعة على أن الكسب الخبيثَ سبيله الصّدقة، فإذا كانت الفائدةُ مالاً خبيثًا فإن سبيله الفقراء، ولكنّ المصرِف لا يُعطيهم من نفسه، فإذا أخذتَ منه وأعطيتَ إلى الفقراء كان القائم بذلك قد أوصل الشيء إلى محلِّه الشَّرْعِي.
هذا ما أراه، ولكلٍّ رأيُه وفهمه، والله يعلم المُفسِد من المُصلِح، ولن أدخل في جدلٍ وأخذٍ وردٍّ بعد ذلك، فهذا مبلغ فَهمي وعلمي، والله سبحانه وتعالى أعلم(3).
هامش
(2) حضارة الإسلام ـ العدد الأول ـ السنة الخامسة ـ 1384هـ .(61/6)
(3) (يقول جامع هذه الفتاوى: بعد تأسيس المجْمع الفقهي في رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة عُرض على المجمع في إحدى دوراته هذا الموضوع فقرَّر الإجماع أن لا يترك المودِع ماله في البنك ما يحسبه له البنك من فائدة على وديعته؛ لأنه إعانة للبنك الرِّبوي، بل يأخذ المودِع من البنك ما يَحسِبه له من فوائد ويوزِّعها على الفقراء والمشاريع الخيرية الإسلامية دون أن ينتفع من تلك الفوائد أيَّ منْفعة، ولا يعتبرها صدقة من حُرِّ ماله، ولا من زكاته، ولا يدفع ضرائب الدولة المطروحة عليه، بل يكون وسيط خيْر في أخْذ مبلغ هذه الفوائد من صندوق البنك، وتوزيعها هكذا على الفقراء وفي سبيل الله. وقرار المجمع هذا موجود في مجموعة قراراته التي نشره المجمع. وكان رئيس المجمع حين اتخذ هذا القرار هو رأس علماء المملكة العربية السعودية الشيخ عبد الله بن حُميْد، ونائب رئيسه الشيخ عبد العزيز بن باز رئيس إدارات البحوث والفتوى والدعوة في المملكة، وهو اليوم مفتيها العام، ومن أعضاء المجْمع الفقهي المذكور الأستاذ مصطفى الزرقا نفسه. (مجد).(61/7)
حكم أخْذ القرْض بفائدة من بنك لتملُّك بيت في أمريكا
سؤال من الأستاذ باسل الرِّفاعي من الولايات المتحدة الأمريكية جاء فيه:
لا تزالُ الفتوى حوْل موضوع أخْذ القرْض من البنوك في موضوع شراء بيت شخصيٍّ أو بِناية تُثير الجدل، ولا نجد عليها الإجابة القطْعية الواضحة.
ففي الولايات المتَّحدة يستطيع المرء أن يطلب من البنك قرْضًا بهذا الصدد يدفعه بالتقسيط المريح الذي يَقِلُّ حتَّى عن مبلغ إيجار البيت نفْسه، ويمْتدُّ لسنوات قد تبلغ العشرين أو أكثر. وفي النهاية يمتلك المُستدين البيت بدَل أن يكون قد دفع لمالكه الأصلي أكثر من هذا المبلغ كإيجارات. وهذا بالطبع مع ملاحظة أن البنك يأخذ فائدة على هذا القرض يقتطِعها من دُفْعات التسديد الأولى.
الجواب: لا بأس بأخذ قرْض من البنك
لِقاء فائدة لأجل شراء بيت، نتيجته تملُّك البيت في نهاية تسديد القرض مع فائدته، بملاحظة أن قسط القرض مع فائدته لا يَزيد عن أجرة البيت لو استأجره استئجارًا، بل قد يكون أقلّ.
وهذا مُقتضى المذهب الحنفي فيمن يقيم بدار الحرب؛ لأن العِبرة حينئذ لمجموع ما يدْفعه المسلم لهم، فإذا كان أوْفر لماله فهو جائز، ما دام برضاهم ودون خيانة، وإن كان بطريقة محرَّمة في الإسلام كالرِّبا، والله أعلم.(62/1)
حكم إسقاط جزء من ثمن البيع
مكافأة للمشتري الذي يدفع الثمن المؤجّل
في الوقت المتفق عليه بلا تأخير
كتب بعضهم إلى الأستاذ مصطفى أحمد الزرقا يسأله عن ذلك فأجابه بما يلي:
من المسلَّمات البدَهيّة شرعاً وقانونًا أن ثمن المبيع المُقدَّر بالنقود بين المُتابعين، يصبح بمجرد انبرام البيع دَينًا في ذمّة المشتري، فإن كان البيع بثمن حال استحق البائع قبضه من فوره قبل تسليم المَبيع، وإن كان مؤجّلاً أو مُنجَّمًا على أقساط يجب على البائع تسليم المبيع أولاً، ثم على المشتري بعد ذلك أن يؤدِّيَ إليه الثَّمن جملة أو أقساطًا في المواعيد المُتّفق عليها.
فقد جاء في المادة / 152 من المجلة: "الثمن ما يكون بدلاً للمَبيع ويتعلَّق بالذمة " وجاء في المادة / 158 منها: الدّين ما يثبُت في الذِّمّة كمقدار من الدّراهم في ذمّة رجل...".
أي: أنّ ثمن في عقد البيع حينئذ هو دين كسائر الدين التي تثبت في الذمة بمختلف الأسباب العقدية وغير العقدية، من قرض أو إجارة أو صلح أو كَفالة أو إتلاف، أو أي فعل ضارٍ، فيعامل ثمن المبيع ـ وهو في الذمة معاملةَ سائر الديون، ويأخذ أحكامَها ثبوتًا، ووفاءً، وسقوطًا، وإبراءً، وتقادُمًا.
والدَّين في الذمة يعتبر ـ فقهًا ـ مِلْكًا للدّائن يتصرّف فيه، ويُحيل عليه،ويُصالح عنه، ويُبرئ المَدين منه كلِّه أو بعضه، ويتعاقد عليه معه. (ر: المجلة / 252).
فلو اشترى الدائنُ مِن المَدين شَيئًا بدينِه الذي له عليه، أصبح هذا الدّين ثمنًا للمبيع، ويعتبر البائع قد قبضِه بامتلاكِه المبيعَ بدلاً منه.
ولا شكَّ في ضوء هذه القواعد: أن إسقاط جزء من ثمن المَبيع هو إبراء من البائع الدائن للمشتري عن هذا الجزء من الثمن يُسقطه عن ذمته.
وقد نص الفقهاء على أن مصالحة الدائن للمدين على أن يأخذ بعض الدينِ فقط هي مصالحة صحيحة، ويعتبر فيها أن الدائن قد استوفَى جزءًا من دينه، وأبرأ المَدين من الباقي (ر: المجلة: 1552 وشروحها).(63/1)
وجاء في "مرآة المجلة" تحت هذه المادة نقلاً عن "لسان الحكام" وعن "المحيط البرهاني" أنه: "لو كان لرجل على آخر ألف درهم، فصالحه منها على خمسمائة جاز، وإن فارقه قبل أن يعطيَه إياها؛ لأن هذا الصلح إبراء عن النصف..وليس بصرف؛ فلذا لا يُشترَط فيه قبض بدل الصلح ـ وهو الجزء المُصالَح عليه، أي: الخمسمائة ـ في المجلة، والأصل فيه أن الصلح إذا وقع على جنس الحق يعتبر استيفاء البعض، وإسقاط البعض".
وإذا كان هذا في الصلح على بعض الدين، وهو عقد قد يُشتبَه في جواز وقوعه على الدين، فيجوز؛ لأنه كالإبراء عن باقي الدين، فإنه يفيد جواز الإبراء المباشِر عن بعض الدين بطريق الأولويّة.
وبدَهي أن إسقاط الدين أو بعضه عن المَدين، أو التنازُل عنه هو إبراء بأي تعبير صَدَرَ.
والإبراء عن الدين كلًّا أو بعضاً صحيح؛ لأنه تصرف من صاحب الحق في خالص حقه، بأي تعبير صدر من التَّعابير الدالة على معناه، وهو قصد الدائن التنازل عن دينه، سواء صدر بلفظ الإبراء أو الإسقاط أو التنازل أو الترك ونحو ذلك.
وفي هذه الحال لا يشترط قَبول المدين؛ لأنه ليس بعقد بل هو إسقاط، ولكنه يرتدُّ برد المدين إذا رفضه، فيلغي الإسقاط، ويبقى الدين.
ولكن لو قَبِلَ المَدين الإبراء صراحة أو ضمنًا بالسكوت حتى اعتُبر الإبراء نافذًا، ثم بدا له أن يردَّه فردّه ورفضه لا يصح رفضُه، ويبقى الإبراء نافذاً ولا يعود الدين الذي سقط به؛ لأن القاعدة الفقهية أن " السَّاقط لا يعود ".
(ر: المجلة 1568 وشروحها).
الخلاصة:
إن إبراء البائعِ المُشتريَ عن جزء من الثّمن المؤجَّل مكافأة له على حسن الوفاء، والتقيُّد بالمواعيد لا مانع منه شرعًا؛ لأنه إبراء عن جزء من الدين، وهو تصرُّف صحيح من البائع؛ لأنه تصرف بالإسقاط في خالص حقِّه القابل للإسقاط.
عمان 5 / من شوال / 1401هـ.
5 / من أغسطس / 1981م.(63/2)
حكم إقراض الوكيل لمَدينٍ مُعْسِر
فضيلة الأستاذ العلامة الشيخ مصطفى أحمد الزرقا، حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. لي صديق سوداني يعمل مُستشارًا قانونيًّا طرح هذه المسألة، ونودُّ معرفة رأي الشرع فيها:
1 ـ وكيل مأذون له في الإقراض، قام بإقراض مَدين كان يعلم بإعساره.
هل يقبل إنكار الأصيل معرفتَه بواقعة إعسار المَدين؟
2 ـ هل تختلف الحالة إذا كان الأصيل شركة ذات مسؤولية محدودة؟ مع العلم بأن الشرع لا يعتدُّ بالشخصية الاعتباريّة للشركة؟
الجواب:
1 ـ يقبل إنكار الأصيل علمَه بإعسار المدين حين توكيله المأذون له بالإقراض؛ لأن الأصل عدم العلم، والعلم هو الأمر الطارئ، والقول لمن يتمسّك بالأصل وبعدم معرفتِه بالأمر الطارئ. ولكن يحِقُّ للمأذون (الوكيل) تحليفُ الموكِّل (الأصلي) على أنه لم يكن عالمًا بإعسار المَدين.
2 ـ لا يختلف الحكم فيما لو كان الأصيل شركة ذاتَ مسؤولية محدودة أو غير محدودة، هذا مع العلم أنه ليس من المسلَّم به القول بأن الشرع لا يعتدُّ بالشخصية الاعتبارية للشركة.
ولي في هذا بحث مُستفيض حول قيام فكرة الشخصيّة الاعتباريّة في الفقه الإسلامي، على أن هذا القول قد ينطبق على الشركات الفقهية القديمة التقليديّة لا على الشركات القانونية الحديثة، فإن نصوص الفقهاء في شركة العنان تُشعِر بعدم الشخصيّة الاعتباريّة فيها، وأن كلًّا من الشريكين مسؤول بما يعقده، تجاه المتعاقِد معه، وإن كان الحساب في النهاية على أموال الشركة. فمن حيث هذه النهاية لا يبقَى فرق في النتيجة بين قيام شخصيّة اعتباريّة في الشركة وعدم قيامها.
1/3/01415هـ.(64/1)
حكم إلزام المُؤجِّر المُماطِل بتسليم المأجور بتغريمه بعقوبة
مالية والتعويض عن الضّرر الحاصِل
من جرّاء عدم تسليم المأجور
إلى الأخ الكريم المحامي الأستاذ سيد أحمد سلطان المحترم
السلام عليكم
وبعد، فقد تلقيت سؤالكم التالي:
ادّعى رجل على آخرَ بأنه آجَره عقارًا معلومًا بعقد صحيح نافذ، وأن المؤجِّر لم يسلِّم المأجورَ للمستأجِر بالوقت المحدَّد، لذلك يطلب الحكم بإلزام المؤجِّر بأن يسلِّمَه المأجور، والحكم أيضًا بإلزام المؤجِّر بأن يؤدِّيَه المبلغ الذي يحدِّده القاضي عن كل يوم منذ التاريخ المحدَّد للتسليم حتى التسليم الفعلي، وذلك كغرامة تهديديّة لإجبار المؤجِّر على تسليم المأجور، وإن تعذَّر التسليم فإن المدَّعِي يطلب الحكم على المؤجِّر بالتعويض الذي يقدِّره القاضي عن أضراره وخسائره، وما فاته من ربح من جراء عدم استلامه المأجور.
إن القاضيَ الذي ينظر هذه الدعوى ملزَم بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، فهل في الشرع الإسلامي نصٌّ يُجيز الحكم بالغرامة التهديديّة أو بالتعويض عن الضرر والخسار وفَوات الرِّبح في مثل هذه الحالة؟ أم أنّ في الشرع الإسلامي نصًّا لا يُجيز الحكم بمثل ذلك، أم أنه ليس في الشرع نصٌّ بالجواز أو عدمه؟
أرجو التفضل ببيان رأيكم السديد في ذلك، ولكم من الله الأجر، ومنى جزيل الشكر، والله يحفظكم.
الكويت في 2/6/1971م(65/1)
وجوابي على ذلك: أني لا أعلم في المذاهب الأربعة نصًّا فقهِيًّا يسوِّغ للقاضي الحكم بالغرامة التهديديّة. وفي القوانين المدنِيّة التي تُجيز القضاءَ بالغرامة التهديديّة تكون الغرامة المذكورة لخزينة الدولة لا للمدّعِي، كما يُشعر به السؤال؛ لأن هذه الغرامة قد يَزيد مبلغها أو ينقُص عن تعويض ضَرر المدعي، فليست حقًّا له، بل هي وسيلة إجبار على احترام قضاء الدولة، فهي من حق الخَزينة العامة. أمّا إذا كان المُراد أن يقضيَ القاضي للمدعِي بتعويض عن التأخُّر يوميًّا يعادل ضررَه منه، فهذا عندئذٍ ليس غرامة تهديديّة بالمعنى القانوني، بل يتبع طريق الشرط الجزائِيَّ، ويحتاج إلى اشتراط، ويخَضع عندئذٍ لتقدير القاضي، هذا في القانون.
أما في فقه الشريعة بحسب المذاهب الأربعة ـ فيما أعلم ـ فإن الطريق القضائي لإجبار الملتزِم على تنفيذ التزامه هو الحبس إذا كان الواجب قيامه بالتنفيذ بنفسه، وإلا فإنّ قُوى الأمن في الدولة تقوم هي بالتنفيذ الجبريِّ استنادًا لأمر القاضي.
ففي الحادثة المسؤول عنها تقوم دائرة التنفيذ اليوم بمعونة الشرطة بإخلاء العقار المحكوم بتسليمه، فتُسَلِّمُه للمحكوم له.
أما الحكم بالتعويض عن ضرر التأخر بما فات على صاحب الحق من ربح، وما لحِقه من خسار بالشكل المعروف في القانون تمامًا، (حتى إذا كان التأخر في تسليم مبلغ نقديّ فإنه يحكم بالفوائد القانونية ... إلخ ) فهذا لا يُقبل في فقه الشريعة بحذافيرِه وتفاصيله القانونية، ولا سيّما أن الربح الفائت هو أمر احتمالي لا يمكن التيقُّن به فهو غيب بِيَدِ الأقدار؛ إذ قد ينقلب الرِّبح المأمول إلى خسارة، ولو لم يقع من الملتزِم امتناعٌ أو تأخُّر.
ولكن ما لحق صاحب الحقِّ من ضرر وقع فعلاً بسبب التأخُّر أو الامتناع من الملتزم، يوجد في قواعد الشريعة ونصوصها العامة ما يُساعد على قبول القضاء به، ولا سيما الحديث النبوي الثابت بالنص التالي: "لا ضَررَ ولا ضِرارَ".(65/2)
وإذا فاتت مدة الإيجار المحدّدة المبدأ والنهاية إلى أن استتبت وسائل القضاء للمستأجِر، فإن القضاء له بمدة مماثلة تبدأ من تاريخ تسليم المأجور بعد القضاء بتسليمه، على أساس التنفيذ العينيّ بالتعويض الزمنيّ، مع التعويض عن الضّرر الفعلي الناشئ عن التأخر، يعتبر مقبولاً شرعًا وغيرَ غريب على منطق فقهاء الشريعة، وإن لم تكن لهم فيه نصوص عامة صريحة، نظرًا لعدم الحاجة في الماضي إلى هذه التدابير لبساطةِ طريق القضاء وعدم شكلياته القانونية الحديثة، حيث كان يتم التقاضي والحكم والتنفيذ في جلسة أو جلستين في يوم واحد أو يومين على الأكثر، ولو كان المُدَّعَى عليه هو السُّلطانَ، كما هو معروف في تاريخ القضاء في الإسلام، والله سبحانه أعلم.
الكويت في 22 ربيع 2/1391هـ.
15 / حزيران / 1971م(65/3)
حكم استيلاء البلدية على المَقابر الدّوارس
سَماحة الأستاذ مصطفى الزرقا
كلية الشريعة / الجامعة الأردنية
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
أرجو أن أعلمكم أن البند (23) من الفقرة (أ) من المادة (41) من قانون البلديات رقم 29 لسنة 1955 قد نص على أن إنشاء المقابر وإلغاءها ومراقبتها، وتعيين مواقعها ومواصفاتها، ونقل الموتى ودفنهم، وتنظيم الجنازات والمُحافظة على حُرمة المقابر، هو من وظائف المجالس البلديّة.
كما نصت الفقرة (جـ) من المادة الثانية من قانون الأوقاف والشؤون الإسلامية رقم (26) لسنة 1966م على أن (المقابر الإسلامية سواء ما وُقِفَ منها للدفن أو التي مُنِعَ الدفن فيها أو المُندرِسة هي من جملة الأوقاف الإسلامية في المملكة).
وقد تقدم معالي أمين العاصمة بمشروع تعديل لقانون البلديات المُشار إليها، بحيث ينص مشروع القانون المعروض على أن تؤولَ المقابر بعد اندارسها إلى أمانة العاصمة والبلديات والمجالس القروية الواقعة ضمن حدود منطقتها.
لذا أرجو التكرُّم ببيان الحكم الشرعي في جواز إزالة صفة الوقفيّة عنها، ونقل مِلكيتها إلى المجالس البلدية والقروية، آمِلاً أن يصلني ردُّكم في أقرب فرصة.
مقدِّمًا لكم شكري وتقديري. والسلام عليكم.
وزير الأوقاف والشؤون والمُقدَّسات الإسلامية في الأردن
معالي وزير الأوقاف والشئون والمقدسات الإسلامية في الأردن المحترم
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته(66/1)
وبعد، فقد تلقيت رسالتكم الكريمة المؤرخّة في 12 من شوال الجاري سنة 1392هـ = 18/11/1972م تحت الرقم / 63 /مقابر/ 7209 والمتضمِّنة سؤالَكم الشرعي الذي خلاصته:" هل يجوز شرعًا استيلاء أمانة العاصمة والبلديات والمجالس القروية على المقابر المُندرِسة الواقعة ضمن حدود منطقتها، وذلك بحسب مشروع قانون أعدته أمانة العاصمة بذلك تعديلاً لقانون البلديات، وخلافًا لقانون الأوقاف والشؤون الإسلامية ذي الرقم / 26 / لسنة / 1966م الذي تنص الفقرة (ج) من المادة / 2 منه على أن جميع المقابر الإسلامية حتى المُندرِسةَ منها هي من جملة الأوقاف الإسلامية في المملكة.
وجوابًا على هذا السؤال أقول:
1 – عرَّف الفقهاء الوقف شرعًا بأنه: حبْس المال على حكم ملك الله تعالى حبسًا دائمًا، والتصدُّق بمنفعتِه في وجوه البر.
وصرَّحوا بأنه يزول مِلك الواقف عن الموقوف بمجرَّد الوقف كالإعتاق، وأن الوقف تصرُّف مُلزِم للواقف لا يستطيع الرجوع عنه، وليس لورثته إبطاله؛ لأنه أصبح على حكم ملك الله تعالى مُخصَّصًا لمصلحة الجهة الإسلامية الموقوف عليها، (ينظر كتاب الدر المختار وحاشيته رد المحتار من فقه الحنفية أوائل كتاب الوقف). ومثله ما في مذاهب أخرى (ينظر أوائل كتاب الوقف في المغني لابن قُدامة من فقه الحنابلة، وفي نهاية المحتاج من فقه الشافعية). فقد قال في "مطالب أولي النهي" من فقه الحنابلة (4 : 295): " يَلزَم الوقفُ بمُجرَّد اللفظ، ويزول مِلْك الواقِف عنه كالعِتق".(66/2)
2 – قرَّر الفقهاء في مختلف المذاهب "أن الموقوف لا يُباع ولا يُوهَب ولا يُورَّث، بل يبقى محبوسًا أصله عن كل تمليك وتملُّك، وتُرصَد منفعته العينية أو ريعه (بحسب كونه موقوفًا للانتفاع بعينه كالمساجد والمقابر، أو للانتفاع بريعه وغلّته كالدّور والحَوانيت والأراضي الزِّراعية) للجِهة الموقوف عليها أبدًا إحياءً لها، وذلك لقول الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ لعمر بن الخطاب ـ رضِيَ الله عنه ـ حين سأله قائلاً: يا رسول الله إني أصبت مالاً بخَيبر لم أُصِب قَطُّ مالاً أنفسَ عندي منه، فما تأمرني فيه؟ قال: "إن شئتَ حبستَ أصلَها وتصدَّقْتَ بها"، قال: "فتصدَّق بها عمر أنه لا يباع أصلها ولا يوهَب ولا يُورّث"(1)والمراد من التصدُّق بها رصدُ ثمرتها في وجوه البِرِّ للمسلمين، بدليل فعل عمر في وقفه هذا. (ينظر كتاب "أحكام الأوقاف" للإمام الخصاف، وكتاب "الإسعاف" للطرابلسي، و"مطالب أولي النهي" في أوائل الوقف).
وقد أجاز الفقهاء بيعَ الوقف بإذن القاضي لمصلحة لا تنافي رُوح ذلك الحديث النبوي، وذلك فيما إذا تَوهَّنَ عَقار الوقف، ولم تكن للوقف غلّة تَفِي بتعميره أو ترميمه، وزهد الناس في استئجاره، فقال الفقهاء في مثل هذه الحال يباع عقار بعقار آخر أنفع منه أو بالدراهم، ويُشترَى بثمنه عقار آخر يحِلُّ محله في الوقفية، ولا يخفى أن هذا في ظاهره بيع، وفي حقيقته صيانة واستصلاح، وقد قال تعالى في محكم كتابه:(واللهُ يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ المُصْلِحِ).
ولم يُجوِّز فقهاء الشريعة في الأنقاض التي تتخلّف عن ترميم عقار الوقف أن تصرف كالغلّة في المصارف الموقوف عليها، بل نصُّوا على وجوب صرفها في تعمير الوقف وترميمه واستصلاح عَين؛ لأنها من عين المال الموقوف لا من غلته. (ينظر كتاب الوقف من الدر المختار ورد المحتار عند قول المتن ـ وصرف نقضه إلى عمارته).(66/3)
3 – وإن المقابر الإسلامية هي من أوقاف المسلمين وُقِفَتْ لمصلحة من مصالحهم هي دفن موتاهم، وهي مصلحة دائمة، وليست وقفيَّتُها مستندةً إلى قانون الأوقاف والشؤون الإسلامية الذي نصَّ على وقفيتها بل هي أوقاف إسلامية قبل هذا القانون وَقفها في الأصل مالكوها المسلمون، وإنما جاء نصُّ القانون المذكور مؤكِّدًا لوقفيتها لا مُنشئًا لها. وقد صرح فقهاء الشريعة بأن الوقف تصرف ملزم لا يملك الواقف نفسه الرجوع عنه بعد ما وقفه، لخروج الموقوف عن مالك الواقف إلى حكم ملك الله تعالى، كما تقدَّم بيانه.
4 – ولا فرق بين مقبرة درست وبين مدرسة، أو تكيّة، أو مستشفى مثلاً من الموقوفات إذا خلا ما حولها من العمران وهُجِرت، فكل ذلك يبقى وقفًا إسلاميًّا هو حقّ للمسلمين كافّة، تقوم عليه الجهة التي تتولَّى إدارة الأوقاف، وهي اليوم وزارات الأوقاف، أو إدارتها العامة إن كانت، فإن لم تكن فالقاضِي الشَّرعي بمُقتضى ولايته الإدارية العامة بحسب نصوص الفقهاء.
وإذا استُبدِل بما دَرَس أو توهَّن من العقارات الموقوفة عقارٌ آخر، أو بِيع بالدراهم، يصبح وقفًا محله، أو يُشتري بثمنه عقار يصبح وقفًا بمجرد شرائه دون حاجة إلى تجديد وقفيّته، ونُصوص الفقهاء في كل ذلك مُستفيضة مَعروفة لدى علماء الشريعة (ينظر الدر المختار ورد المحتار في أواخر الباب الأول من كتاب الوقف، وقانون العدل والإنصاف في القضاء على مشكلات الأوقاف لقدري باشا المصري).(66/4)
5 – مما تقدّم يُستخلَص أن المقابر الإسلامية إذا أصبحت دوارسَ بسبب منع البلديات الدّفنَ فيها رعايةً لبعض الاعتبارات العُمرانية، أو درستْ بسبب آخر تبقَى وقفًا إسلاميًّا له حرمته، ولا يجوز لأحد (غير السلطة ذات الولاية على الأوقاف) أن تستوليَ عليها، وتجعلَها من أملاكها الخاصة أو العامة، فتبنيَ عليها مبانيَ لها، أو تبيعَها وتُدخِلَها في ميزانياتها، سواء أكانت تلك السلطة التي تريد هذا الاستيلاء هي البلديات أو وزارات أخرى، بل هذا يعتبر غَصْبًا لمال إسلاميٍّ مرصود لمصالح المسلمين، وتصرُّفًا فيه لمصالح لا تخصُّ المسلمين وحدَهم وإن كانت عامّة.
ذلك أن البلديات وسائر الوزارات الأخرى لا تخصُّ خدماتها وأموالها المسلمين وحدهم، بل هي لجميع المواطنين، فكما تُخصِّص لها ميزانيات من الموارد العامة التي تُجبَى بطريق الضرائب من جميع المواطنين مسلمين وغير مسلمين، تكون أيضًا خدماتها التي تؤدّيها للناس خدمات عامة لجميع المواطنين مسلمين وغير مسلمين.
وبما أن الأوقاف الإسلامية هي مال إسلاميّ مِلِّيّ محض، سواء أكان للانتفاع بعينه كالمساجد والمقابر والمدارس والزوايا، أو كان للاستغلال والإنفاق على تلك المصالح الإسلامية الأخرى كالدور والحوانيت والأراضي الموقوفة على المساجد والمدارس ونحوها، فكل ذلك مال إسلامي مِلِّي يخصُّ المسلمين وحدَهم، فلا يجوز إدخالُه في الأموال العامة التي تعود ثمراتُها على المواطنين كافة من مسلمين وغير مسلمين.
فكما لا يجوز للبلديات وسائر الوزارات شرعًا أن تستوليَ على شيء من أوقاف الكنائس، فتضمَّها إلى أملاكها الخاصّة أو العامّة؛ لأن أوقاف الكنائس أموال تخصّ طوائفها وحدهم دون سائر المواطنين، كذلك لا يجوز هذا الاستيلاء على شيء من أوقاف المسلمين، وإدخاله في الأموال العامة الأخرى التي تكون منافعها أو ثمراتها للعموم، ولا تخصّ المسلمين وحدهم.(66/5)
6 - ويتضح أيضًا من كل ما سلف بيانه أنه لا يجوز لأية سلطة زمنية في دولة إسلامية أن تُصدِرَ قانونًا ينقل ملكية المقابر الدَّوارِس إلى البلديات، فصدور قانون من هذا القبيل لا يصلح لتبرير مثل هذا الغصب الحرام لمال جماعة المسلمين؛ لأن القانون الزّمنيّ لا يقلِب الحَرام حلالاً في نظر الشريعة الإسلامية.
فممّا يجب أن يُعرَفَ أولاً، وقبل كل شيء؛ أن مُهمة كلّ سلطة عليا في دولة إسلامية إنما هي تطبيق لحكم الشريعة الإسلامية وتنفيذ له، وليست سلطةً تشريعيّةً، لأن سلطة التشريع في الإسلام تعود إلى الله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حَصرًا وقَصْرًا. وقد توقّفت الإضافات والنَّسخ والتعديل والتبديل والإطلاق والتقييد في نصوص الشريعة بعد استكمالها بقوله تعالى عزَّ مِن قائل في أواخر حياة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ (اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) (المائدة : 3).
وليس الخلفاء والحكّام وسائر سلطات الدولة في نظام الإسلام سوى منفذين ومطبقين لأمر الله ورسوله، ذلك الأمر الذي يتجلَّى في نصوص الشريعة الخاصة والعامة من الكتاب العزيز والسُّنّة النبويّة، حتى إن الاجتهاد الجديد في القضايا المستجِدّة، والأمور المُستحدَثة التي ليس عليها نصٌّ في الشريعة لا يعتبر تشريعًا في نظر الإسلام، بل هو تطبيق للنصوص العامة الشرعية، وللقواعد القياسية والاستِحسانيّة والاستصلاحية المُستنبَطة من نصوص الشريعة.
إن ما يسمَّى اليوم تشريعًا من القوانين الزمنية لا يعدو في النظر الإسلامي إحدى حالتين:(66/6)
أ ـ إما أن يكون مُنسجمًا مع قواعد الشريعة ومقاصِدها وغيرَ مُصادِم لشيء من نصوصها الخاصة والعامة، وحينئذ يعتبر في نظر الإسلام تنظيمًا تطبيقيًّا لقواعد الشريعة ومقاصدها بحسب الحاجة الزمنية التي تختلف فيها الوسائل والأساليب بين زمن وآخر، ومكان وآخر، ممّا هو مفوَّض شرعًا لولِيِّ الأمر دون مَساس بالأحكام والقواعد الأساسية في شريعة الإسلام، بل هذا التفويض إنما هو لضمان حُسن تطبيقها بحسب اختلاف الظروف والوسائل وما تستلزمه من اختلاف في أساليبِ التطبيق.
ب ـ وإما أن يكون القانون الزّمني مخالِفًا لنصوص الشريعة أو منافيًا لمقاصدها وقواعدها المُستنبَطة من تلك النصوص، فهو حينئذٍ انحراف، من السلطات والحكّام في التطبيق، عن جادّة الإسلام، أو خروج عليها، وذلك بحسب درجة المُخالفة فيه، وليس له حرمة في نظر الإسلام كحرمة الأوامر التنظيمية الصادرة عن ولي الأمر (بحسب سلطته التفويضيّة) وَفْقًا لقاعدة المصالح المُرْسَلة التي غايتها تحقيق مقاصد الشريعة في كل مكان سكتتْ عنه النصوص.
هذا، وينطبق على الحاكم أو صاحب السلطة الذي يُسيء استعمال سلطته في تنظيمات أو أوامر زمنية أو تقنينات منافية للشريعة ما يقال شرعًا في كل مُرتكِبٍ لمعصيَة في نظر الإسلام، بحسب كونه مُستبيحًا لحرمة الحِمَى الإسلاميِّ الذي انتهكه بمعصيته هذه أو غير مُستبيح.
وهذا من المسلَّمات الأولية في دين الإسلام لدى علمائه، لا يحتمل جِدالاً ولا نقاشًا. وبناء عليه قال الخليفة الأول سيدنا أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ للمسلمين في أول خُطبة خطبها فيهم بعد ما بايعوه بالخلافة: "أطيعوني ما أطعْتُ اللهَ ورسولَه، فإن عصيتُ الله ورسولَه فلا طاعةَ لي عليكم".(66/7)
7 - ويتضح أيضًا من كل ما تقدّم بيانه أنه لا يجوز لأية سلطة زمنية،يمثلها حاكِم أو مجلس، أن تُصدر قانونًا ينقل ملكية المقابر الدوارِس إلى البلديات، ما دامت وظيفة هذه السلطات تطبيق أحكام الشريعة، وتنظيم شؤون المسلمين ورعاية مصالحهم.
ومن القواعد المقرَّرة في نظام الحكم الإسلامي "أن التصرف على الرَّعية مَنوط بالمَصلحة" (المجلة م / 58) وليس من مصلحة المسلمين مصادرة أموالهم المِلِّيّة التي تخص جماعتهم، ولو لأجل استخدامها في شؤون عامة لا تخصهم وحدهم، فهذا لا مَساغَ له أصلاً في شريعة الإسلام وفقهها، وهو من أعظم المعاصي الكبرى التي يؤذَي بارتكابها المسلمون في كِيانهم الديني، في وقت هم أحوج ما يكونون فيه إلى تقوية كيانهم هذا مادِّيًّا ومَعْنويًّا في وجه الحملات التبشيريّة المُنظمة ضد الإسلام، والتي تمدُّها دول كبرى بالأموال والنفقات الهائلة، وتُنشئ في قلب البلاد العربية والإسلامية شبكات الصيد التبشيريِّ من مدارس وملاجئ ومستشفيات وسواها، ولا يوجد ما يقابلها في المسلمين سوى أموال الأوقاف الإسلامية؛ ولذلك تضاعفت في هذا الزمن ضرورة الحفاظ على أموال الأوقاف الإسلامية، كما يتضاعف أيضًا وِزر التعدي عليها من سلطات الحكم أو التقنين. ولكن مع الأسف يُرَى اليوم أن ضعف الشعور الإسلامي في كثير من حُكّام البلاد الإسلامية يجعل سلطاتها المُستبِدّة تسطو على الأوقاف الإسلامية، وتسلُب من أراضيها وعقاراتها لمصلحة بعض الوزارات الأخرى.
وإذا كان مصطفى كمال التركي قد سطا في تركيا على الأوقاف الإسلامية بالقوة في عهد حكمه الاستبداديّ الإرهابيّ، فإنه لم يفعل ذلك إلا بعد أن انخلع من الإسلام، وأعلن علمانيّة الدولة في دستوره الجديد، وسمّى نفسه أتاتورك..إلخ، وعندئذٍ صادَر الأوقاف الإسلاميّة، وألحقَها بأملاك الدولة.(66/8)
الخُلاصة: أَنّ أخذ شيء من مقابر المسلمين الدوارس، أو أيّ مال سواها من أموال الأوقاف الإسلامية وعَقارها لمصلحة البلديات أو أية وزارة أخرى في الدولة غيرُ جائز، وكلُّ تقنين يَصدُر بهذا الشأن أو تدبير إداري هو من الأعمال الباطلة المنافية للإسلام وشرعه، والله سبحانه وتعالى أعلم (2).
الهوامش
متفق عليه؛ أخرجه البخاري (2737) في الشروط، ومسلم (2764) في الوصايا.
يقول جامع هذه الفتاوى: إنه، بناءً على هذه الفتوى من الأستاذ مصطفى الزرقا صُرف النظر عن مشروع القانون الذي أُعِدَّ لتمليك البلدياتِ في الأردن المقابرَ المندرِسةَ، والتي مُنِع الدَّفنُ فيها.(66/9)
حكم اشتراط الاحتفاظ بمنفعة
المَبيع للبائع مدّة معلومة في نظر
فقهاء الشريعة والقانون
جواب استشارة حقوقيّة شرعيّة:
بناءً على مراجعة السيدين محمد هاشم ومحمد عمر سحلول
أطلعني السيدان محمد هاشم ومحمد عمر سحلول على إضبارة القضية القائمة بينهما وبين إخوتهما لأبيهما حول بيع مُورِّثهم والدهم سنة / 1946/ عقاراتٍ له من الفريق الثاني بثمن زهيد مشترطًا لنفسه منفعة هذه العقارات وحيازتها مدى حياته، ثُمَّ تُوفِّيَ الوالد المورِّث في سنة / 1954/ فهل يُعتبر هذا البيع بهذه الصورة كوصية من المورِّث لبعض ورثته، فيتوقف بعد وفاته على إجازة باقي الورثة، كما تصرح به المادة / 878/ من القانون المدني السوري، وكما يتمسّك الولدان المُدَّعيان، أو يعتبر بيعًا حقيقيًّا جَريًا على ظاهره، وحينئذٍ يكون نافذًا بالشرط المشروط فيه منذ صدور البيع وتسجيله في السّجل العقاري، فتبقَى الحيازة والمنفعة حقًّا للمورِّث البائع مدى حياته، ثم بموته تنتقل ملكيّة المنافع إلى الورثة المُشترين انتقالًا نافذًا بتًّا، غير موقوف على إجازة أحد من الورثة الآخرين، كما يتمسّك به المدَّعَى عليهم الأولادُ المُشترون؟(67/1)
وقد استقصيت قراءة اللوائح المتقابِلة من الفريقين، والاستشارات القانونية المتقابلة أيضًا، فرأيتها جميعًا تدور حول نقطة واحدة هي أنه: هل تطبَّق في هذه القضية المادة / 878/ من القانون المدني الصريحة في أن هذا العَقد يسري عليه حكم الوصية المُضافة لما بعد الموت ما لم يثبُت عكسه، وإن كان هذا القانون صادرًا بعد تسجيل هذا العقد، فيكون لحكم هذه المادة منه استناد (مفعول رجعي) فيسري حكمه على العقود السابقة المعقودة في ظل المجلة، أو لا يجوز تطبيق المادة / 878/ المذكورة من القانون المدني؛ لأن هذا القانون صادر بعد العقد بثلاث سنوات، والقاعدة القانونية في تنازع القوانين الزمانيّة أن الأحكام التشريعية تصدر مقتصِرة (أي: لا رجعيّة لها) ما لم يُنَصّ على استنادِها ورجعيتها.
وحجج الفريقين على استناد حكم المادة / 878 / من القانون المدني أو اقتصارها مبسوطة في اللوائح، ثم في الاستشارات القانونية المُتقابلة من الأستاذ عدنان القوتلي (في جانب الاستناد أي الرجعيّة) ومن الأستاذين أسعد المحاسني ومأمون الكزبري (في جانب الاقتصار أي عدم الرجعية).
والواقع أن مجموع اللوائح، وأجوبة الاستشارات المتقابِلة من الطرفين قد استوفت بما لا مزيد عليه بحث؛ كون حكم القانون المدني يسري أو لا يسري على هذا العقد السابق له في الوجود، فيبقى للقضاء أن يرجِّح بين هذه الآراء.
ولكن الناحية التي لم توفِّ ولا بعض حقِّها من البحث، هي أنه على تقدير أن حكم القانون المدنيّ في هذا الموضوع لا يسري على العقود السابقة من هذا القبيل، وأن من الواجب تطبيقَ أحكام المجلة ثم نصوص الفقه الإسلامي وقواعده، فما حكم المجلة والفقه الإسلامي في هذه القضية؟(67/2)
هذا هو بيت القصيد وحجر الأساس في هذه القضية، وهو الناحية المهمَلة في هذه المرافَعات والمدافعات والأجوبة الاستشارية، وتتفق جميع اللوائح والأجوبة الاستشارية المتقابلة في هذه الإضبارة على أن المجلة ساكتة في هذا المقام، فليس فيها نص ينطبق على هذا العقد.
وإذا افترضنا بأن المجلة ليس فيها نصٌّ يُنير السبيل بصراحته أو دلالته على حكم هذا العقد، فهل في النصوص الفقهية مع النصوص القانونية النافذة قبل القانون المدني ما يعوض سكوت المجلة؛ باعتبار أن من المقرَّر كون النصوص الفقهية في كل ما لم تنص عليه المجلة لها حكم القانون ما لم يخالفه قانون؟
هذا هو المجال الذي لم تدخل فيه اللوائح المتبادَلة والأجوبة الاستشاريّة المتقابِلة، وسأحاول فيما يلي تجليته بقدر الإمكان استكمالاً للنقص الأساسي في بحث حكم هذه القضية، فأقول:
الواقع أن مجلة الأحكام الشرعية لم تتضمّن نصًّا خاصًّا على حكم هذا العقد بعينه، كما جاء في المادة / 878 / من القانون المدني الذي حل محلّها؛ ذلك لأن الناس إذ ذاك عند وضع المجلة لم يكن يقع منهم في ظِلّ نفاذ الأحكام الشرعية مثل هذا الشرط، شرط احتفاظ البائع بمنفعة المَبيع مدى حياته.
ولما بدأ هذا النوع من الشروط يُحدِث في مصر احتيالاً على القانون بغية الوصول إلى وصية للوارث، كما سنرى، وذلك في ظل القانون المدني السابق في مصر؛ إذ كان القانون يُسيغ من الشروط التعاقديّة ما لا يُسيغه الفقه الشرعيّ.(67/3)
اختلف الاجتهاد القضائي هناك في تخريج هذا العقد وتكييفه، هل يجري على ظاهره، أو يُعتبر كالوصية بحسب غايته وتجري عليه أحكامها، حتى جاء القانون المدنيّ الجديد في مصر، وهو أصل قانوننا الحاضر، فحسم هذه القضيّةَ، واعتبر العقدَ وصية، غيرَ أن مجلة الأحكام الشرعية لدينا إن لم تأت بمادة خاصّة تنص نصًّا صريحًا على هذه الحادثة العقديّة بخصوصها، فإن في المجلة وفي نصوص فقهاء الشريعة من ورائها من القواعد والشواهد والأمثلة الكثيرة ما يساعد على تخريج هذا العقد، وتكييفه، وإعطائه الصفة الصحيحة له بحسب الشرط الذي اشترط العاقدان فيه.
ولتجلية هذه الناحية يجب أن نتناول بالبحث الأمور التالية:
أ ـ حكم اشتراط المُتبايعين أن يحتفظ البائع بحيازة المَبيع ومنافعه مدّة موقوتة معلومة في نظر الفقهاء.
ب ـ تأثير الأحكام القانونية المعدّلة لأحكام المجلة في هذا الشرط.
ج ـ إذا كانت المدة التي يشترط البائع فيها منافع المبيع لنفسه هي مدى حياته لا مدة موقوتة معينة، فهل يوجِب ذلك تغيُّرًا في تكييف هذا العقد ينقله من موضوع إلى موضوع، وما هو هذا التغيّر؟ وما هي القاعدة فيه، والباعث على هذا الشرط إذا كان المشتري وارثًا؟
د ـ الشواهد الفقهيّة على ذلك.
أ ـ حكم اشتراط الاحتفاظ بمنفعة المبيع للبائع مدة مؤقتة معلومة في نظر فقهاء الشريعة.
نصّ فقهاء المذهب الحنفي على أن البائع إذا اشترط لنفسه الاحتفاظ بمنفعة المبيع مدة مؤقّتة معلومة، كان ذلك مُفْسِدًا لعقد البيع.
والقاعدة في هذا الشرط وأمثاله عندهم، أن اشتراط منفعة لأحد العاقدين لا يقتضيها العقد (أي: زائدة على حكمه الأصلي) ولم يتعارَف الناس اشتراطها فهو مُفسِد لعقد المعاوَضة (انظر الهداية وفتح القدير للكمال بن الهمام 6: 76).(67/4)
وفقهاء المذاهب الأخرى مختلِفون في هذا الشرط؛ فالاجتهاد الشافعي يَبطُل به العقد أيضًا على اختلاف بين فقهائه في ذلك، والاجتهاد الحنبلي واجتهادات أخرى كثيرة تصحِّحه وتجعله ملزمًا وفقًا للشرط، وكذا الاجتهاد المالكيّ على تفصيل فيه من حيث طول المدة وقِصرها. (انظر المجموع للنووي شرح المهذب للشيرازي 9: 368 و376 و378، وبداية المجتهد لابن رشد 2: 132 وما بعدها).
ومجلة الأحكام الشرعية لم تبحث عن الشرط المفسِد في المعاوَضات بحسب قواعد المذهب الحنفي، وإنما بحثت عن الشرط الصحيح والشرط اللغو. وقد علّلت جمعية المجلة في المقدمة إهمالَها البحثَ عن الشرط المفسد بما يُفيد اعتبارَها إيّاه صحيحًا بسبب العرف؛ لأن التعارُف يصحِّح الشروط الفاسدة الأصل وفقًا لقواعد المذهب الحنفي نفسه (انظر تقرير جمعية المجلة في مقدمتها، وعقد البيع من العقود المسمّاة في الفقه الإسلامي لكاتب هذه الأسطر ص / 27 ـ 28 فقرة/ 31ـ32/).
ب ـ تأثير الأحكام القانونية المعدلة
وقد جاءت بعد المجلة المادة / 64 / من قانون أصول المحاكمات الحقوقية السابق منذ العهد العثماني، فقضت بصحة كثير من العقود التي كانت تُعتبر باطلة بمقتضَى المجلة، كما ألغتْ فساد العقود الناشئ عن الشرط المُفسِد، فأصبحت الشروط التعاقُديّة التي يشترطها المتعاقِدان في العقد كلها صحيحة بمقتضى المادة / 64 / المذكورة من قانون أصول المحاكمات الحقوقيّة الذي كان هو النافذ في تاريخ هذا العقد المتنازَع فيه الآن.
ومقتضى ذلك أن اشتراط البائع منفعةَ المَبيع لنفسه مدة معلومة أصبح شرطًا صحيحًا على كلِّ حال، إمّا وَفقًا لأحكام المجلة نفسها بمقتضى الاتجاه الذي يدلُّ عليه تقرير الجمعية التي وضعتها، وإما بمقتضى المادة / 64 / من قانون أصول المُحاكمات الحقوقية، التي ألغت الشّرط المفسد، وقلبته صَحيحًا بصورة صريحة.(67/5)
كل هذا مفروض فيما إذا اشترط البائع الاحتفاظ بمنافع المَبيع مدّة موقوتةً معيّنة كأسبوع أو شهر أو سنة مثلًا، سواء أكان البيع لأجنبي أو لوارث.
ج ـ تغيُّر صفة العقد فيما إذا اشترط البائع الاحتفاظ بمنافع المَبيع مدى حياته، والباعث على هذا الشرط إذا كان المشتري وارثاً.
فلو أن البائع اشترط أن يحتفظ لنفسه بمنافع المبيع مدى حياته لا مدة موقوتة معينة؛ لتبدَّلَ وجه القضية من الوجهة الفقهية، ووجب أن يتغيَّر وصف العقد وتكييفه؛ ذلك لأن البيع يُصبح عديم الأثر مدة حياة البائع، وإنما يبدأ أثره بعد وفاتِه، فينتقل في ذاك الحين فقط إلى المشتري حقُّ حِيازة المَبيع وامتلاك منافعه، فيكون العقد واقعًا في الحياة، وأثره مؤجّلًا إلى ما بعد الوفاة، فيكتسب العقد عندئذٍ معنى الوصية، بخلاف الحالة الأولى التي يتفق فيها الطرفان على أن تبقى منافع المبيع للبائع مدة موقوتة معيّنة، فإن الحيازة والمنافع فيها تنتقل إلى المشتري في الأجل المحدَّد، فيكون العقد وأثره كلاهما واقعيْن في حياة البائع.
وبهذا الفرق بين الحالتين أمكن أن يتخذ بعضُ الناس الحالة الثانية (وهي تأجيل أثر البيع إلى ما بعد وفاة البائع) طريقًا للاحتيال على الحكم الشرعي النافذ؛ الذي لا يُجيز الوصية لوارث إلا بإجازة باقي الورثة، ذلك لأنَّ الشَّخص الذي يُريد أن يتخطّى هذا الحاجز الشرعي يجِد من السَّهل عليه جدًّا أن يتصرَّف في الأسماء، فيفرِّغ الوصية للوارث في قالب بيع مؤجَّل الأثر إلى ما بعد وفاته، فيغلِّف التصرُّف بغِلاف تصرُّف آخر، ويسميه باسمه، وينفُذ بذلك إلى مقصوده الممنوع شرعًا.(67/6)
والباعث لبعض المورِّثين على سلوك هذا المسلك في الاحتيال على القانون؛ لترجيح بعض الورثة على بعض دون اللجوء إلى هبةٌ لهم مُنجَزةٌ حال حياة المورِّث هو أن المورِّث في كثير من الأحوال يُريد أن يحتاط لعدم طمأنينته إلى الوارث الذي سيخصُّه بالتفضيل، فلعل هذا الوارث إذا مَلَكَ المالَ، وأُطلِقت يده فيه في حياة المورِّث يُسيء التصرُّف فيه، أو يُسيء معاملة مورِّثه، ولا يكترِث به بعد حصوله على المقصود، أو لعلّ للوارث الممنوح عاجلًا يموت، فيرثه ورثة له أجانب عن المورِّث المانح، كما لو كان الوارث الممنوح زوجة، وهكذا ينتقل مال هذا المورِّث المانح إلى الأجانب تحت سمعه وبصره.
وأذكر أنا من هذا القَبيل حوادث آخرها: راجعني رجل منذ سنتين يريد أن يهَب لزوجته عقارًا لا يملِك سواه، مع الاحتفاظ لنفسه بحيازة العين والمنفعة مدى حياته، وله ورثة من الأقارِب العَصبات يُريد أن يَحرِمَهم، فأجبته بأنّها لا تستفيد من ذلك شيئًا فوق حقِّها الإرثيّ؛ لأن هبتَه هذه تُعتبر بمقتضَى المادة / 878 / من القانون المدني كالوصية للوارث مضافة لما بعد الموت، فتتوقف على إجازة بقية الورثة، فسألني: ما السبيل؟ قلت: لا سبيل إلا أن تهَبَها هبة ناجِزةً في حياتك، أو تبيعها بثمن بخسٍ، فأنت حُرٌّ أن تتصرف في حياتك، حال صحّتك ورشدك كما تشاء، دون أن يكون لتصرُّفك أثر مؤجّل إلى ما بعد الموت. قال: لا أستطيع لأنني أخشى أن تموت زوجتي قبلي فيرثها أهلها وعيناي تنظران ذَهاب مالي إلى غير مَن أردت! فقلت له: خير لك إذًا ألَّا تحاول تغيير الطريق الذي شرعه الشارع، وراعى فيه مصالح الناس جميعًا واستقامة أمورهم، لا مصلحة فردٍ دون آخر.
الموقف الذي تدلُّ عليه نصوص فقهاء الشريعة في هذه الحال:(67/7)
لا شكَّ بعد ما أوضحناه أن الحكم الذي جاءت به المادة / 878 / من القانون المدني ليس مختلفًا عمّا توجِبه قواعد الشريعة الإسلامية وفقهها، بل هو ما تقضي به تلك القواعد والفقه الشرعي؛ ذلك لأن من أصول الشريعة ومبادئها المقرّرة مبدأ سدِّ الذّرائع المعروف عند العلماء، فكلُّ طريق يمكن أن يُتَّخذ ذريعة إلى الفساد أو إلى الاحتيال على الأحكام الشرعية بصورة تعطِّل مقاصدها، أو تعكسها، وجب الحكم بسدِّه وردّ الشخص إلى الجادّة، ومن ثم حكم الفقهاءُ بتوريث الزوجة في طلاق الفرار (وهو أن يطلِّق الرجل زوجته طلاقا بائنًا وهو في مرض موته لحرمانها من الميراث) كما اعتبرت الشريعةُ قتلَ المورِّث موجبًا حرمان القاتل من إرثه كي لا يُتَّخَذ شيء من ذلك ذريعةً إلى تغيير مقاصد الشارع وأحكامه الإلزامية، وتطبيقات هذا المبدأ كثيرة في فروع الأحكام. هذا بالنسبة إلى مبدأ سدِّ الذرائع بوجه عام، أما بالنسبة إلى العقود وتصرفات الإدارة بوجه خاصّ، فمن قواعد الشريعة وفقهها، أن العبرة في العقود والتصرفات للمقاصد والمعاني وأن الأمور بمقاصدها (المجلة م 2 و3) فهذه القواعد وما بمعناها هي أساس في جعل القصد هو الحكم في تفسير العقود وفي تكييفها أيضًا، والمذاهب الفقهية متفِقة على ذلك، وإن اختلفتْ أحيانًا نتائج التطبيقات الفرعية في المذاهب باختلاف وجهات النظر القياسي.
ويقول ابن القيم في كتابه القيم " إعلام الموقِّعين" تقريرًا لهذا المبدأ، وتأييدًا لاعتبار الباعث على العقد وتأثيره فيه ما ملخصه:
"قد تظاهرت أدلة الشرع وقواعده على أن القُصود في العقود معتبَرة، وأنها تؤثِّر في صحة العقد وفساده، وفي حِلِّه وحرمته، بل أبلغ من ذلك تؤثِّر في الفعل الذي ليس بعقد تحليلًا وتحريمًا، فيصير حلالاً تارة، وحَرامًا تارة أخرى باختلاف النِّيّة والقصد، كما يصير صحيحًا تارة وفاسدًا تارة أخرى باختلافها.(67/8)
فمن قال: بعت واشتريت بقصد الرِّبا وما أشبه ذلك، فهذا لا يحصل له مقصوده الذي قصده، وجعل ظاهر اللفظ والفعل وسيلة إليه، فإن في تحصيل مقصوده تنفيذًا للمُحرّم، وإسقاطًا للواجب ومناقضة شرعِه، ولا فرق بين سلوكه إلى المحرّم طريقَه الظاهر وبين سلوكه إليه من الطرق التي وُضعت مُفضيةً إلى غيره، واتَّخذها الشخص ذريعة، فيعقد الشراء مثلاً ليكون ذريعة إلى الرِّبا، فليس اختلاف الطُّرق إلى الأمر الممنوع موجِبًا لاختلاف حكمه، فيحرم من طريق ويحلّ بعينه من طريق أخرى " إلخ
وقد أفاض ابن القيم رحمه الله في إيضاح هذا المبدأ ودعمه بالحجج القاطعة (ينظر: إعلام الموقعين ج 3 ص 6 وما بعدها، وشرح قانون الوصية المصري للأستاذ العلامة الشيخ محمد أبي زهرة الأستاذ في كلية الحقوق بجامعة القاهرة ص 45-47).
ولئن قيل: إن اشتراط البائع منافع المبيع لنفسه كان في المذاهب الفقهية مختلَفًا في صحته، والمذهب الحنفي الذي صيغت منه المجلة يُعِدّه شرطًا فاسدًا يفسِد البيع في الأصل، ثم جاءت المادة / 64 / من قانون أصول المُحاكمات السابق فاعتبرت مثل هذا الشرط والعقد صحيحين مُلزِمين كما أسلفنا بيانه، ومقتضَى ذلك أن العَقد مع هذا الشرط يَصح مع بقائِه بَيعًا كما عقد، وهذا البيع قد صدر من المورِّث في حياته غير مُتوقف على إجازة أحد.
إذا قيل ذلك فالجواب: أن الفقهاء الذين صحّحوا شرط البائع منافع المبيع لنفسه مع بقاء العقد بيعًا، إنما نصُّوا على ذلك في اشتراط مدة موقوتة معيّنة كما أسلفنا بيانه، وعزوْناه إلى مراجعه في مختلف المذاهب.(67/9)
والذين حكموا بفساده كفقهاء المذهب الحنفي إنما أفسدوه أيضًا في صورة لمدة الاشتراط لمدة موقوتة معينة أيضًا، فإذا جاءت المادة / 64/ من أصول المحاكمات الحقوقيّة السابقة، فصحّحت هذا الشرط، فإن حكم هذه المادة يقضي فقط بصحة العقد الذي كان يعتبر فاسدًا بهذا الشرط قبل ورود هذه المادة القانونية. أما تكييف العقد بعد صحته، أي: إعطاء العقد الصفة النوعية بحيث يبقى بيعًا أو يأخذ اعتبارًا نوعيًّا آخر، فهذا لا تتعرض له المادة / 64/ فمرجعه إلى المجلة التي هي القانون العام وإلى نصوص الفقهاء وقواعد الفقه.
وتلك القواعد الشرعية توجب فرقًا عظيمًا في تكييف العقد بين اشتراط البائع أن يحتفظ بالمنافع مدة مؤقتة، وبين أن يحتفظ بها مدى حياته كما أسلفنا بيانه، من حيث إنه في الحالة الأولى (المدة الموقوتة) يكون المفروض أن المشتري يتسلّم المبيع بعد انقضائها، ويملك منافعه كاملة بمقتضى العقد في حياة البائع. أما في الحالة الثانية (الاشتراط مدى الحياة) فإنَّ أثر البيع مؤجّل إلى ما بعد وفاة البائع (المورِّث) فيكتب معنى الوصية، ويصلح مطيّة للتهرُّب من حكمها الشرعي في عدم نفاذ الوصية للوارث، فيحتال الشخص لإنفاذ هذه الوصية تحت ستار البيع، فإذا كان المشتري أجنبيًّا فلا مجال للاشتباه، فيبقى العقد على ظاهره، أما إذا كان المشتري وارث البائع، فهذا قرينة ظاهرة الدّلالة على أن التصرُّف إنما هو وصية مغلّفة بغِلاف البيع ومسمّاةٌ باسمه، والعبرة شرعًا إنما هي للحقائق لا للأسماء، وتكييف العقد فِقهًا إنما هو تَبَع للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني، وقد مثلت المجلة في متنها نفسه لفروع هذه القاعدة وتطبيقاتها بأن بيع الوفاء يجري عليه حكم الرهن نظرًا إلى المقصود منه (انظر المجلة م / 3).
د ـ الشواهد في نصوص المجلة والفقهاء على تطبيقات هذه القاعدة في تكييف العقد وتحوله،(67/10)
وقد أقرت المجلة نفسُها تبعًا لنصوص الفقهاء تحوُّلَ العقد من نوع إلى نوع، ومن موضوع إلى موضوع بحسب الشروط التعاقُديّة التي يشترطها العاقدان فيه، فالحوالة إذا شرط فيها العاقِدان عدم براءة المَدين المحيل من المسؤولية تعتبر من قبيل الكفالة التي تضمّ فيها ذمة الكفيل إلى ذمة الأصيل في المسؤولية، وتسري عليها أحكامها.
وكذا الكفالة إذا شرط فيها العاقدان براءة الأصيل من المسؤولية تنقلب حوالة؛ وتسري عليها أحكامها (المجلة م / 648 و649).
والهبة إذا اشترط فيها المُتعاقدان التعويض على الواهب امتزج فيها معنى المعاوَضة بمعنى التبرع، فتشترط لانعقادِها شرائط الهبة، ثم تسري عليها بعد الانعقاد أحكام البيع.
ولو أن عقد الهِبة صدر بأسلوب يدلُّ على أن المقصود به نظير معنى البيع، اعتُبر بيعًا من كلِّ وجه، ولو كان بلفظ الهبة، كما لو قال شخص لآخر: وهبتك هذا الشيء بمبلغ كذا من الدراهم، فهذا العقد يُكيِّفه الفقهاء بأنه يصبح معاوَضة من كل وجه، فيتحوّل إلى بيع، وتسري عليه شرائط انعقاد، وتجري فيه أحكامه، ولا تسري عليه شرائط الهبة، ولا تجري فيه أحكامها، وإن عقده العاقدان بلفظ الهبة (ينظر الدر المختار وحاشيته رد المحتار كتاب الهبة).
وقالوا أيضًا: إن عقد الصلح يتكيّف بحسب مضمونِه والشروط التي يشترطها فيه المُتعاقِدان، ويأخذ حكم العقد؛ الذي يُعتَبر أقربَ إلى معناه ومقصوده، فالصلح عن مال بمال يُعتبر بيعًا، ويأخذ أحكام البيع وشرائطَه، والصلح عن مال بمنفعة يُعتَبر إجارة، وتسري عليه أحكامها. وإذا تضمَّن الصلح إسقاط بعض الحق المدعى به، والاكتفاء بأخذ بعضه، يعتبر إبراء أو هبة، ويشترط فيه شرائطهما من حيث الأهليّة وغيرها. (انظر المجلة م / 1548 وما بعدها وشروحها).(67/11)
وقالوا: إن إعارة الأموال المثليّة الاستهلاكيّة (التي لا يُنتفع بها إلا باستهلاك عينِها) كالقمح والزيت تعتبر قرضًا، وتسري عليها أحكامه من امتلاك الشيء المُعار بمجرّد التسليم، وضمان القابض له، وعدم لزوم ردِّ عينه، بل يجب ردُّ مثله، ولو كانت عينه قائمة لم تُستهلك بعد…إلخ
وكذلك إقراض الأموال الاستعمالية يُعتبر إعارة، وتسري عليه أحكامها (انظر الدر المختار وحاشيته رد المحتار في كتابَيْ القرض والعارية ج 4 ص / 171 / و/172 و/504/ الطبعة الأولى البولاقية، والجزء الثاني من سلسلة "الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد" لكاتب هذه الأسطر / النظرة العامة / فقرة 52 و60).
وأمثال هذه الأمثلة والشواهد كثيرة جدًّا في أبواب الفقه الإسلامي وأحكامه، وكلها تُنْبِئ بأن العقد بعد اعتباره صحيحًا لا ينظر في تكييفه إلى اللفظ المعقود به، بل ينظر إلى ما تضمَّنه من شروط بين العاقدين وما حفَّه من قرائن، وعلى أساس ذلك إما أن يبقَى في إطار لفظه إن لم يوجَد من المقاصد والقرائن ما يوجب تحوُّلَه وانقلابه، وإما أن يتحوّل إلى موضوع عقد آخر، ويأخذ أحكامه تبعًا للقاعدة التي أوردناها في تفسير العقد وتكييفه: إن العبرة في العقود للمقاصِد والمعاني لا للألفاظ والمَباني.
وكثير من هذه الشواهد والأمثلة قد تضمنتها نصوص المجلة نفسها في مختلف العقود.
فالقول بأن مجلة الأحكام الشرعية ليس فيها نص يوجِب مثل الحكم الذي تضمَّنته المادة / 878/ من القانون المدنيّ هو قول غير سديد؛ لأن المجلة إن لم تتضمَّن نصًّا صريحًا في هذه الحادثة، كما فعل القانون المدني، فقد تضمنت قواعد وتطبيقات كثيرة في فروع الأحكام التي قرَّرتها كلها، تدلُّ على أن المنطق الفقهي الشرعي يقضي في هذه الحادثة بنظير الحكم الذي قرّره القانون المدني.
ونصوص الفقهاء التي أوردنا بعضها أيضًا في تكييف العقد بحسب مضمونه والمُشارطات الواردة فيه، أكثر مما ورد في المجلة وأوسع.(67/12)
وإذا كان الفقهاء لم ينصُّوا نصًّا خاصًّا على ما إذا باع المورِّث لوارِثه شيئًا، واحتفظ لنفسه بمنافع المبيع مدى حياته، ولم يصرِّحوا بتحوُّل البيع في هذه الحال إلى وصية، فليس ذلك؛ لأن هذا التحول غير مقبول في قواعد الفقه الشرعي، بل لأن الناس في تلك العصور الفقهية لم يعتادوا مثل هذا الشرط الاحتيالي على الوصية ولم يدرج بينهم، فإذا حدث واعْتِيد فيما بعد، فليس له تخريج صحيح ينبثِق على قاعدة سدِّ الذرائع، وقاعدة القُصود في العقود؛ إلا هذا التخريج الذي يعطيه حكم الوصية، وإلا لأصبح الحكم الشرعي بعدم نفاذ الوصية للوارث لعبًا بالألفاظ. على أن فقهاء الشريعة قد نصُّوا على حالات يتحوّل فيه التصرف من موضوع إلى موضوع تبعًا لاستثناء المنافع مدةً دائمة أو موقوتة ممّا يؤيِّد ما قلنا من: أن الفرق كبير جدًّا بالنسبة إلى تكييف العقد بين أن تكون المدة التي يشترط فيها البائع المنافِع لنفسه مدة موقوتة أو مدى حياته، فقد نصّ الفقهاء في كتاب الوقف على أن الشّخص إذا أوصَى بمنافِعَ داره أو غلّة كَرْمِه بعد موته لفلان أو للمَساكينِ مدّة مُعيّنة؛ صحّ هذا التصرُّف على سبيل الوصية بالمنافع؛ فيرث الورثة العينَ وتُصرَف الغلّة أو المنافع للموصَى لهم، فإذا انقضت المدة الموصَى فيها بالمنفعة عادت المنافع تبعًا للعين إلى ورثة الموصِي.
أما إذا أوصى بهذه المنافع للمساكين أبدًا؛ فإن الوصية تنقلب وقفًا، ذلك لأن استحقاق المساكين للغلّة بصورة دائمة، ولو باسم الوصية هو في معنى الوقف المعلّق بالموت، فينفَّذ من ثلث التّركة، ويمتنع الإرثُ فيه (ينظر: فتح القدير للكمال بن الهمام على الهداية، ورد المحتار أيضًا أوائل كتاب الوقف، وكتاب أحكام الأوقاف لكاتب هذه الأسطر الجزء الأول فقرة / 36).(67/13)
وهذا نصٌّ كبير الأهمية بالنسبة إلى حادثة البيع موضوع البحث، ذلك لأن هذا النصَّ يشتمل على انقلاب التصرُّف من وصية بالمنافع، يبقى معها حق الورثة في كامل العين إلى وقف مؤبَّد، انقطع بحقِّ الورثة من الإرث في العين الموقوفة، ومستَند النظر الفقهي في هذا الانقلاب أو التحوُّل هو كون المدة الموصَى فيها بالمنافع للمساكين موقوتةً أو مؤبّدةً، نظير ما في حادثة البيع المبحوث عنها إذ نرى فيها أن بيع المورِّث لوارِثه مع اشتراط منافعَ المبيع للبائع المورِّث مدة معيّنة لا يُخرِجه عن نطاق البيع، أما إذا احتفظ بالمنافع لنفسه مدى حياته، فذلك يُخرجه فقهًا عن نطاق البيع، ويُدخله في نطاق الوصية؛ لأن لحدود المدة الزمنية التي تُستثنى فيها المنافع تأثيرًا كبيرًا في تكييف العقد، وتحول وصفه، كما رأينا في مسألة الوصية بالمنافع مؤقّتًا أو مؤبّدًا، حيث تبقى وصية لا تمنع إرث العين، أو تنقلب وقفًا يخرج العين من التركة، ويمنع إرثها.
الخلاصة:
1 ـ إنَّ بيعَ الشخص شيئًا لأحد ورثته، واشتراط البائع منافع المَبيع لنفسه مدى حياته، وهو التصرُّف الذي اعتبرته المادة / 878 / من القانون المدنيّ في حكم الوصية المضافة إلى ما بعد الموت لم تنصّ عليه المجلة، ولم أقف فيه على نصٍّ للفقهاء في أحد المذاهب، وإنما نصَّ الفقهاء على ما إذا اشترط البائع منافع المبيع لنفسه مدة موقوتة معيّنة، فاختلفت فيه الاجتهادات، فمنهم من حكم بصحة البيع مع هذا الشرط، ومنهم من حكم بفساده أو بُطلانِه، لكن الأحكام القانونية النافذة في سوريا (المادة / 64 / من الأصول الحقوقية) تقتضي صحّتَه.(67/14)
2 ـ إنه إذا كانت المدة التي احتفظ البائع فيها لنفسه بمنافع المبيع هي مدى حياته لا مدةً موقوتة، كما في الحادثة موضوع البحث، فحينئذٍ يختلف وجه القضية جدًّا، فتكتسب طبيعة العقد معنى الوصية؛ لأن أثر البيع عندئذٍ مضاف إلى ما بعد الموت، فيصلح ذريعة للاحتيال على الحكم الشرعي الذي يمنع الوصية للوارث إلا بإجازة باقي الورثة، وحينئذٍ تقتضي القواعد الفقهيّة الشرعيّة، وخاصة مبدأ سدّ الذرائع، وقاعدة القصود في العقود، أن يعتبر مثل هذا التصرُّف إلى الوارث في حكم الوصية المضافة لما بعد الموت فيتوقَّف نفاذة على إجازة باقي الورثة بعد موت المتصرف، وهو هنا البائع المورث، نظير ما قضت به المادة / 878/ من القانون المدني.
3 ـ إن شواهد الفروع الفقهية المفرَّعة على تلك القواعد الآنفة الذِّكر، والتي أوردنا طائفة منها، وخاصة في طلاق الفرار، وتحول عقد الإعارة والقرض والكفالة والحوالة والصلح والتصرف بالوصية والوقف إلى غيرها من الشواهد الفقهية، وقد جاءت المجلة بكثير منها كلها ناطقة بذلك، ولا يصحُّ في ظلِّها أصلًا تخريج آخر يبقى العقد معه بيعًا، وينفذ أثره بعد الموت في تفضيل أحد الورثة وتمليكه قدرًا زائدًا عن ميراثه رغمًا عن إرادة باقي الورثة؛ لأن ذلك يجعل الحكم الشرعي في عدم نفاذ الوصية للوارث عديم القوة، كما أنه ينافي قاعدة اعتبار المقاصد أساسًا في تفسير العقد وتكييفه، وقاعدة سدِّ الذرائع، وهما من القواعد الأساسية في فقه الشريعة، فالتخريج الصحيح هو ما يوافقهما لا ما يناقضهما، ويفتح باب الاحتيال على الشرع. فالقول بأن أحكام المجلة والفقه الشرعي تقتضي خلاف حكم المادة / 878 / من القانون المدني هو قول غير سديد، ولا يتفق مع المنطق الشرعيّ، ولا يشهد بصحته شاهدٌ مّا من قاعدة أو فرع في نصوص الفقهاء.
هذا ما أراه في هذه القضية، والله سبحانه وتعالى أعلم، وهو الموفِّق للصواب.
دمشق في 22/2/1955م.(67/15)
حكم اقتناء جهاز (لوتوري)
تضعه الحكومة في محلٍّ تجاري لبيع أوراق اليانصيب
فضيلة الشيخ مصطفى الزرقا.. حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..وبعد:
سؤالي يا فضيلة الشيخ هو ما يسمَّى في بلادنا باليانصيب، ويسمَّى في بلاد الغرب "لوتوري" فأنا من سكان مدينة شيكاغو الأمريكية، وعندي محطة بنزين ومحلّ تجاري.
وعندي الماكنة التي تسمى "لوتوري" أو ماكنة "اليانصيب" وهي من الحكومة، وأنا لا يترتب عليّ أي خسارة إذا بعت التذاكر إلى الزبائن، بل أحصل على ثمن مقابل لبيعي هذه التذاكر من الحكومة. هذه الماكنة تُعتبر شيئًا مُهِمًّا من أجل جلب الزبائن، حيث إذا لم توجد عندك، كان ذلك باعثًا لخسران الزبائن وذَهابهم إلى محلٍّ آخر حتى يشتروا التذاكر، ويشتروا بضاعتهم.
فهل هناك أي حرج شرعي في احتواء هذه الماكنة، وهي مرخّصة من قبل الحكومة، ولا يوجد أي ضرر على مصلحتي، بل فيه جلب للمصلحة. أرجو أن أكون قد أوضحت سؤالي لفضيلتكم، فالرجاء التكرُّم بالإجابة الوافية الشافية، والله يحفظكم ذُخرًا للإسلام والمسلمين.
ابن الأخ العزيز السيد.... المحترم حفظه الله تعالى
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد
تلقيت سؤالك المرسل بالفاقس عن جواز اقتنائك في محلك التجاري وفي محطة الوقود ماكنة (لوتوري) لبيع أوراق اليانصيب التي تضعها لديك الحكومة.
يا ابن أخي العزيز! إني لا أريد أن أفتيَ بأضيق المذاهب الفقهيّة إذا كان بعض المذاهب فيه سعة في الموضوع أكثر من الأخرى، ولا سيَّما لإخوانِنا الذين يعيشون في المَهجر.
وموضوعك محلُّ اختلاف بين المذاهب الأربعة المُعتَبَرة المطبَّقة اليوم في العالم الإسلامي، وهي: المذهب الحنفي، والمالكي، والشافعي، والحنبلي. ففي المذاهب الثلاثة الأخيرة شراء وبيع أوراق اليانصيب ولو في البلاد الأجنبية غير جائز للمسلم الموجود فيها.(68/1)
أما مذهب الإمام أبي حنفية فيرى أنه يَحِلُّ للمسلم الذي في بلد أجنبي (دار الحرب) ما يبذل له برضاهم، ويُجيزه نظامهم، ولو كان بطريقة غير جائزة في نظام الإسلام.
هذا رأي الإمام الأعظم أبي حنيفة، ومُقتضاه أنه يَحِلُّ لك وضع جهاز اليانصيب (اللوتوري) الذي تضعه عندك الحكومة لبيع أوراق اليانصيب التي تُصدرها، وأن تأخذ عليها أجرًا.
ومن المقرَّر في الشريعة الإسلامية أنه يجوز للمسلم أن يتبع أحد هذه المذاهب الأربعة، ويلقى ربَّه يوم القيامة به، وليس ملزَمًا بالأخذ برأي أكثريّتها، فكلُّ واحد منها سبيل صحيح في سلوك المسلم.
والأنسب والأحوط في نظري، رعاية لرأي جمهور الفقهاء، أن تضع هذا الجهاز في محلّك، ويتحقّق فيه للزبائن ورغبتهم ومطلوبهم لكي تدفع عن نفسك الخسارة من عدم وجوده في محلِّك، وأن تُفرز الأجر الذي تُعطيك إيّاه الحكومة صاحبة الجهاز على بيع الأوراق، فتصرِف أنت هذا الأجر إلى المشاريع الخيريّة الإسلاميّة كتعليم القرآن والعربيّة، وإلى فقراء المسلمين لديكم من أفراد أو أُسَر مُحتاجة، دون أن تحتسب ذلك من زكاتِك، أو تنتفع به أيّة منفعة.
ورأي الإمام أبي حنيفة في هذا الموضوع وأمثاله ممّا يواجهه المسلم إذا دخل دار الحرب بأمان أو بغير أمان، ينقله ابن عابدين في "حاشيته" في الجزء الثالث منها (باب المستأمن من كتاب الجهاد).
والله يعلم المفسد من المصلح، وهو ولي الصالحين.
مصطفى أحمد الزرقا
الرياض في 21 رجب 1416هـ.
الموافق 13/12/1995م.(68/2)
حكم الإيداع في البنوك الرِّبويّة
بقَصد صرف الفوائد في المشروعات الخيريّة
حضرة الأستاذ الشيخ مصطفى الزرقا..حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد
يسرُّ هيئة الأعمال الخيرية بدولة الإمارات العربية المتحِدّة أن تُهديَكم أجمل تحياتها، وترجو من حضرتكم التكرُّم بالرَّدِّ على السؤال التالي:
1) ما هو حكم الإيداع في البنوك الربوية بقصد صرف الفوائد في المشروعات الخيرية لصالح الفقراء.
2) وما حكم قبول هذه الفوائد الرِّبويّة من الناس، وصرفها في المشروعات الخيرية لصالح الفقراء أيضًا.
شاكرين لكم اهتمامكم
وتفضلوا بقبول فائق الاحترام
18/9/1991م.(69/1)
أمين عام هيئة الأعمال الخيريةسالم بن أحمد بن عبد الرحمنالجواب:إن الإيداع في البنوك الربوية كنا نُجيزه لاضطرار الناس إليه؛ إذ لا يُمكن إلزام الناس بأن يُخبِّؤوا وَفْرَ نقودهم في بيوتهم؛ لِما في ذلك من محاذيرَ ومخاوفَ معروفةٍ، ولم يكن يوجَد طريق آخر لحفظ أموالهم سوى الإيداع في البنوك.لكن بعد قيام البنوك الإسلامية، ودور الاستثمار الإسلامية في مختلف البلاد العربية والإسلامية، زالت الضرورة، فلا أرى جواز الإيداع في البنوك الربوية؛ لِما فيه من تقوية لها على المُراباة.هذا بالنسبة للإيداع. أما الفوائد التي يحتسبها البنك الرِّبوي للمودِعين فإن الفتوى مُطّرِدة على أنها لا ينبغي تركها للبنك، بل تؤخذ ولكن لا يجوز للمودع أن ينتفع بها لنفسه أصلاً، لا أن يأكلها، ولا يدفعها زكاة عن أمواله، ولا يؤدِّي منها ضريبة للدولة، بل يصرفها إلى الفقراء الذين يستحقُّون الصدقة، ولا تُعتبر له صدقة كما لو تصدَّق من حُرِّ مالِه، بل يُثاب على كونه وسيطًا لنقلِها من صندوق البنك إلى الفقراء.فالفقراء هم المستحِقُّون أصلاً لكل مال لا مُستحِقَّ له شرعًا، والمشاريع الخيريّة بالمقاييس الإسلاميّة نراها مَصرفًا لذلك أيضًا كالفقراء.وبذلك يُعلم جواب السؤال الثاني عن حكم قبول الفوائد الرِّبوية الآتية من الناس لصرفها على الفقراء، أو للمشروعات الخيريّة.21/3/1412هـ.29/9/1991م.(69/2)
حكم الاقْتراض بفائدة من البنوك الرِّبوية
لأجْل شراء بيت في أمريكا وكندا
قد كثُر السؤال والاستفتاء من المسلمين المُقِيمين في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا عن حكم الاقتراض هناك من البنوك بفائدة رِبوية لأجل شراء بيت للسُّكنى، ثم وفاء مبْلغ القرض وفوائده مُقسَّطًا لمدة طويلة كعشرين أو خمسة وعشرين سنة؟! على أن يُملَّك البيت بعد وفاء القرض. وبذلك يَحُلون مشكلة السُّكنى بكُلْفة أقل مما لو أرادوا أن يستأجروا استئجارًا.
فالإنسان هناك لأجل سُكناه إما أن يشتري بيتًا بثمن من عنده (وهذا نادر لغلاء البيوت)، وإما أن يستأجر ـ وأجور البيوت باهظة ـ وإما أن يقْترض من البنك بفائدة رِبوية ثمن البيت، ويُقسِّط الوفاء على مدة طويلة ـ كما ذكرنا ـ يُملَّك البيت في نهايتها بعد الوفاء. والمعتاد في هذه الحالة أن قسط وفاء القرض وفائدته للبنك يكون أقل من بدل الإيجار لو استأجر ومع ذلك يُملَّك البيت في النهاية.
وبعد التأمل ومراجعة النصوص وجدتُ أن مذهب الإمام أبي حنيفة وصاحبه الإمام محمد بن الحسن في المسلم إذا دخل دار الحرب (أي غير إسلامية) مستأمَنًا بأمان منهم يقتضي جواز هذا الاقتراض بفائدة رِبوية للمسلم المقيم هناك لأجل شراء بيت لسُكناه إذا كان الواقع هناك كما هو مبيَّن في الصورة.
فإن مذهب أبي حنيفة وصاحبه الإمام محمد أن من دخل الحرْب مستأمَنًا أي بإذن منْهم يَحِل لهم من أموالهم ما يبذلونه له برضاهم دون خيانة منه، ولو كان بسبب محرَّم في الإسلام كالربا أن يأخذه منهم ولكن لا يُعطيهم الرِّبا؛ لأن أموال الحربيين عنده في دارهم غير معصومة لكنه دخل مستأمَنًا، فلا يجوز له أخذ شيء منها دون رضاهم.(70/1)
لكنَّ منْعه من إعطائهم الربا إنما هو لتوفير مال المسلمين عنهم. فإذا انعكست الآية في بعض الأحوال وصار أخْذ القرْض منهم وإعطاؤهم الربا أوفر لمال المسلم كما في الصورة المسئول عنها ـ لمَّا دخل في الموضوع شراء البيت ثم امتلاكه في نهاية الوفاء ـ يجب أن ينعكس الحكم؛ لأنَّ الحكْم يدور مع عِلَّتِه ثبوتًا وانتفاءً، حيث أصبح القرْض مع فائدته أوفر لمال المسلم من الاستئْجار الذي يَخرج به المُسْتأجر في النهاية صِفْر اليدين لم يُملَّك شيئًا وبَقِيَ البيت لصاحبه المؤجِّر.
لذلك فالعبرة للنتيجة في الحالتين أيهما أوفر لمال المسلم في دار الحرب، ولا شك أن طريقة الاقتراض من البنك الربوي بفائدة هي الأوفر لماله بمقتضى مذهب أبي حنيفة وعِلَّته، فيكون ذلك جائزًا ولا سيما في حق العاجز عن شراء البيت من ماله.
هذا بقطع النظر عن الضرائب التي توفِّرها حالةُ القرْض من البنك؛ لأن الشراء من ماله أو الاستئجار يترتب فيهما ضرائب عالية على المشتري والمستأجر هناك.
وليس المراد بدار الحرب في اصطلاح الحنفية أن يكونوا في حالة حرْب قائمة بينهم وبين المسلمين، بل المراد بدار الحرب أنها غير إسلامية بل مستقلَّة غير داخلة تحت سلطة الإسلام. والله أعلم…
مصطفى أحمد الزرقاء
الرياض 4/6/1418هـ.
5/10/1997م.(70/2)
حكم الالتزام بقوانين مكتب العمل والعُمّال
فضيلة الشيخ:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
هل نحن ـ كمؤسّسات ـ ملزَمون اتجاه العمال بالالتزام بقوانين مكتب العمل والعُمّال. وهل يجوز لنا أن نشترط على العامل عند التعاقُد معه على شرط يُخالف قوانين مكتب العمل والعمال، كأن نشترط عليه أنه حين تنتهي فترة عمله لا يستحقُّ مكافأة نهاية خدمة علمًا أن بعض القوانين في دول أخرى لا تتوافَق مع الشريعة الإسلامية في بعض موادِّها. أو فيها ظلم لطرف من الطرفين كأن يُلْزَم العامل حين طلبِه فسخَ العقد قبل مدّته بدفع مرتَّب شهرين والسفر على نفقته؟
أفتونا ولكم الشكر والسلام
وليد الزعيم
15/12/97
الجواب:
ما يوجِبه قانون العمل يَجب الالتزام به لأنّه إنما وُضِع لمصلحةٍ عامّة توجِبه، وعلى الطّرفين التقيُّد به.(71/1)
حكم التأخُّر بالتسديد لوكلاء شحن البضائع
فضيلة الشيخ مصطفى ـ حفظه المولى ـ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
يقوم بعض المكاتب التجارية (وكلاء شحن) بشحن بضاعة لنا مقابل عمولة 5% من قيمة البضاعة، وهذه العمولة مقابل قيامهم بمُتابعة الشَّحن ودفع القيمة للمصنع وغير ذلك، ثم نقوم نحن بالتسديد لهم بعد وصول المستندات لنا. أحيانًا لأسباب تجارية نتأخر عليهم بالتسديد فيطلبون زيادة النسبة...
فهل يجوز أن ندفع لهم. علمًا أنهم في حال تأخُّرنا عليهم في التسديد يضطرون لدفع 1.25% للبنك الذي قام بتسديد القيمة عنهم فيقوموا هم بمطالبتِنا بنفس القيمة.. فهل يجوز أن ندفَعَ لهم مبلغًا مقارِبًا مضافًا إلى عمولة شحن تالية لتغطية ما اضطُرُّوا لدفعه عن التأخير... وما هي الصورة الشرعيّة المناسبة التي ترونَها لحلِّ هذا الإشكال...وجزاكم الله خيرًا.
وليد الزعيم
15/12/1997م.
الجواب:
يجب أن يُدْفَع لهم تعويض الضَّرر الفعلي الذي لَحِقَ بهم من التأخُّر.(72/1)
حكم التهرُّب من دفع ضريبة الدّخل
أستاذنا الفاضل الشيخ مصطفى الزرقا الأكرم
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وأسعد الله أوقاتكم
بعض الأشخاص يُودِعون أموالَهم في البنك بمعدَّل فائدة سنوية 9% سنويًا، بالمقابل يستقرضون بضمان المبالغ بفائدة 10% سنويًّا، وبذلك يستفيدون من إبراز وصل لضريبة الدخل بالفائدة المدفوعة تنزل من الأرباح، أما الفائدة المقبوضة فهي مُعفاة من ضريبة الدخل.
تحدثت مع البنك الذي أتعامل معه حول الموضوع، وأنه لا يمكن من ناحية شرعيّة الدخول في مثل هذه الأعمال، وطلبت منه إيجاد طريقة تُبعدني فيها عن الحرام، وهم مُتعاوِنون جدًّا معي.
بعد دراسة مطوّلة عرضوا على ما يلي:
أ ـ يفتح لي حساب أودع فيه ( 110 ) مائة وعشرة آلاف دينار لمدة سنة.
ب ـ يفتح لي حساب دائن ( 100 ) مائة ألف دينار لمدة سنة.
أي: بمعنى أنه يبقى لديهم 10 آلاف دينار لمدة سنة مني آخر العام تُعادُ لي كاملة، ويعطوني إيصالاً بأنني قد دفعت فوائد للبنك بمبلغ 10 آلاف دينار لإبرازه لضريبة الدخل، وهذا الإجراء ضروري لهم؛ لأنه توجد مراقبة من البنك المركزي على كل حسابات البنك، وبذلك أستفيد من هذا الإيصال، علمًا أنهم لا يأخذون ولا يُرسلون أية إشعارات، ولا أية أشياء تُذكر فيها فائدة، ويُعاد المبلغ كما أسلفت سابقًا كاملاً، وهم يَعتبرون أن هذه العملية شكليّة.
نعلمكم أننا نتحمَّل إضافة للزكاة التي هي عبادة وضريبة مالية إسلامية مبالغَ طائلةً، بصفة ضريبة الدخل.
أرجو إفتاءنا في هذا الموضوع، أطال الله عمركم، وجزاكم الله عنا وعن الإسلام خير الجزاء، وتقبلوا تحياتنا.
15 / شعبان / 1414هـ.
22/1/1994م
الجواب:
أخي العزيز
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته(73/1)
إن المسألة التي سألتني عنها مُشكِلة ومُحرِجة؛ لأنها ذات مُضاعفات، وليست مسألة فوائد رِبويّة فقط، ذلك لأن الغاية منها هي التهرُّب من ضريبة الدخل التي هي في نظري من أعدل الضرائب لولا ما يعتريها من سوء التطبيق، وملابسات أخرى معروفة تنفي عنها العدالة التي هي الأصل المفترَض فيها.
فالضرائب بوجه عام؛ إذا كانت عادلة في فرضها وجبايتها وإنفاقها، لا يجوز شرعًا في نظري أن يتهرَّب المكلّف منها، وإلا لتوقَّف عمل الدولة، وقعد الجمل عن الحمل!!
وقديمًا قالوا: إن السفينة لا تمشي على اليبس!! ولكن يبدو في حياة البشر أن النظريات شيء، والواقعيات شيء آخر!!
من هذا المنطلق أقول لك في الجواب:
إن الطريقة التي اخترعوها لك ليس فيها عنصر مُراباة وفوائد، فإنك إنما تودِع عندهم مبلغًا هو إقراض منك لهم، ثم يعيدونه إليك كاملاً لكن على مراحل، فأنت تسحَب تسعة أعشاره تقريبًا خلال العام، أما العشر الباقي فلا تسحبه خلال العام، وإنما يعيدونه إليك بعد نهاية العام، حيث يُعطونَك في النهاية بيانًا كاذبًا بأنهم قبضوا مقداره منك فوائد، لكي تستفيدَ من هذا البيان في طرح مبلغه من مطرح الضريبة، وهو الدخل، أي: الربح الذي تحقَّق لك خلال العام. والواقع أنهم لم يأخذوا منك فوائد، وإنما اقترضوا منك قرضًا سحبت منه تسعة أعشاره، واحتفظوا هم بعشره، فاستعملوه مدة عام، ثم أعادوه إليك.
والضّرائب التي تُجبَى من حلِّها، وتنفق في محلِّها شرعًا لا يجوز التهرُّب منها؛ لأنها ضرورية لِسَيْر الدولة ولتحقيق خدماتِها للشعب.
أختم بالتحيّات الطيبات، وأبارك لك بشهر الصيام الذي قرُبت أيامه ولاحت أعلامه، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
الرياض 20/8/1414هـ.
31/1/1994م.(73/2)
حكم التورُّق
فتوى شرعية بشراء بضاعة بالتقسيط الآجل
لمن يبيعها بأقلَّ من سعرها بنقود حاضرة
العلّامة الشيخ مصطفى الزرقا..المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..وبعد
نعرض على حضرتكم السؤال الفقهي التالي راجين منكم التكرُّم بالإجابة:
لدينا شركة تقوم بشراء البضائع تم بيعها بطريقة التقسيط للآخرين، وذلك حسب الأسهم، وقد تقدَّم إلينا شخص يطلب شراء مجوهراتٍ ذهبيّةً على أن نقومَ ببيعِها له بطريقة التّقسيط مع أخذ ربح معيَّن.
وقد علمنا أن هذا الشخص سوف يقوم ببيع هذه المجوهراتِ بعد شرائها منّا في السوق، وقد تكون لنفس التاجر بأقلّ من السعر المعروض، وذلك بسبب حاجتِه إلى النقود، وهو لا يرغَب في الذَّهاب إلى البنوك الرِّبوية؛ لذا نرجو من حضرتكم التكرم بإبداء الرأي الشرعي والفقهي في ذلك.
شاكرين لكم حسن تعاملكم.
24/6/1996م.
المجموعة العالمية للاستثمار التجاري
المدير العام
الأخ الكريم السيد المدير العام للمجموعة العالمية للاستثمار التجاري ـ الإمارات العربية.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
جوابًا على سؤالكم المرسل، أقول لكم:
إن هذه المسألة التي سألتم عنها تسمَّى عند الفقهاء: مسألة التورُّق (لأن مشتريَ البضاعة لا يُريد البضاعة لذاتها، وإنما يُريد الرِّقة أو الوَرِق وهي الفِضة: أي: مقصوده الدَّراهم).
وحكمها الشرعي في رأي العلماء أنها إذا كانت نتيجة تواطؤ (تفاهم مسبَق) بين المُشتري والتاجر البائع على أن يُعيد بيعَها للبائع بسعر أقلَّ نقدًا (وقد كان اشتراها منه بسعر أعلى مؤجَّلاً)، فذلك غير جائز شرعًا؛ لأنه كالمُراباة الصريحة.(74/1)
أما إذا كان المُحتاج إلى النقود (ولا يجِد من يُقرِضه قرضًا حسنًا) قد ذهب من تِلقاء نفسه إلى السُّوق، فاشترى بضاعة بثمن مؤجَّل، ثم باعَها بدون سابق تواطؤ نقدًا بسعرٍ أقلَّ، لكي يحصُل على الدّراهم التي هي حاجته، دون أن يلجأ إلى الاقتراض بالربا: فلا مانِعَ منه شرعًا، بل يُعتبر حسن تصرُّف منه كَيلا يقع في المراباة. والله سبحانه أعلم.
الرياض
8/ صفر/ 1416هـ.
24/6/1996م.
وكتبه / مصطفى أحمد الزرقا(74/2)
حكم التّعامل مع البنوك الرِّبويّة في الاعتماد المُستَندِي
فضيلة الشيخ مصطفى ـ حفظه الله تعالى ـ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:ما حكم التعامل مع البنوك الرّبوية في الاعتماد المُستَندِي (بدون أي تسهيلات اقتراض رِبوية) علمًا أن هذه البنوك حين تبلِّغ المتعامل بوصول المستندات تشترط عليه أن يستلم المُستندات بتاريخ معيّن ويسدِّد قيمتها بنفس التاريخ، وهذا يسمّى تاريخَ الاستحقاق وتحسب عليه فوائد إذا لم يَتَسلّم المستندات بتاريخ الاستحقاق والصورة بهذا الشكل أنه إذا تسَلّم بالتاريخ المحدَّد لا يدفع فوائد وإذا تأخّر عليه أن يدفع... وهذا شرط لفتح الاعتماد المُستَندِي في جميع البنوك الرِّبوية...فما حكم ذلك؟.أفتونا جزاكم الله خيرًا والسلام.وليد الزعيم24/12/1997م.الجواب:لا يجوز الاتفاق على دفع فوائد رِبويّة عن التأخُّر في الاعتمادات المُستنديّة، ولا في غيرها، ولكن يعوّض عن الضّرر الفعلي الذي حصل من التأخُّر. مصطفى الزرقا
حكم الاقتراض من بنك ربوي لبناء بيتٍ(4)(75/1)
السؤال: هل يجوز لي شرعًا أن أقترضَ من بعض المصارف الماليّة مبلغًا بفائدة لكي أبنيَ به بيتًا لسُكْناي وسُكْنَى مَن أعول؛ لأني في حاجة ماسّة إلى السَّكن، ولا أستطيع بناءَه إلا بهذا الاقتراض، وقد سبقني إلى هذا زملاء لي، ألا يدخل هذا في حالة الضرورة، أم أن الضرورة فقط لِسَدِّ الجوع؟عدنان أحمد أبو عيسى ـ دبيالإجابة:إن من المحرَّمات ما لا يُبيحه الاضطرارُ أصلاً كقتل النفس بلا حق، أما الاضطرار الذي يُبيح بعضَ المُحَرَّمات القطعيّة كالرِّبا وأخذ مال الغير دون إذنه فلا يختصُّ بسَدِّ الجوع، بل يدخل فيه أيضًا الإكراه مثلًا، كما يدخل فيه أيضًا دفع المخاطر عن النفس أو الولد أو الأهل يتوقف على دفعها ذلك المحرَّم، ولكن من الواضح أيضًا أن الاضطرار لا يدخل فيه رغبة الإنسان في الاعتياض بمسكن مملوك عن السُّكنى بالأجرة، فأغلب الناس يسكُنون بالأجرة، ولا يملِكون مساكنَهم، وكذلك لا يتناول الاضطرار رغبته في توسيع أعماله التجارية، بل عليه أن يعملَ برأس المال الذي يملِك، وبما يمكن أن يقترضَه فوقه بطريق الحلال، هذا ما عندي من علم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
هامش
(4) مجلة الوعي الإسلامي الكويتية، السنة السادسة، محرم 1390هـ = آذار 1970 العدد (61).(75/2)
حكم الجوائز التي يُعطيها التجار للمُشترين.
الأخ الكريم الأستاذ محمد السيد، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد تلقيت سؤالك عن موضوع الهدايا التي أصبح التجار يُعلنون لِمَن يَشتري مِن عندِهم بما لا يقِلُّ عن قدر يحدِّدونه حيث يعطُون المُشتري قسيمة يجري السحب عليها (بطريق السحب على أوراق اليانصيب) فيفوز الفائز في هذا السَّحب الذي يجري بين حين وآخر بجائزة عينيَّة ذاتِ قيمة كبيرةٍ مثل سيّارة أو ثلاجة أو غسّالة أو تِلفاز...إلخ
إن رأيي في هذه المسألة هو التميِيز بين الهدايا البَسيطة ـ التي هي من عادة التجار وعُرفهم (أنّ مَنْ يشتري كمية كبيرة من البضائع عندهم يقدِّمون إليه هديّة بسيطة تقديريّة وتَرغيبيّة له كسيارة لُعبة أولاد أو قطعة أو قِطعتين زيادة عمّا اشتراه) ـ وبين هذه الهدايا ذات القيمة الكبيرة التي يجري عليها سحب بطريقة السحب على اليانَصيب بالأرقام، فيَفوز بِها أحدُ حاملي هذه البطاقات (الكوبونات) من الزّبائن.
فتلك الهدايا البسيطة المُعتادة بيْن جميع التجار لمن يشتري كَمِّية كبيرة أو مجموعة من الأصناف هي حلال؛ لأنها تَقدمةٌ تعبيريّة عن تقديرات التاجر لذلك الزبون.(76/1)
أما هذا النوع الذي سألت عنه من الهدايا ذات القيمة الكبيرة كالسيارة والثلاجة، مما يجري عليه سحب بحسب أرقام القسائم التي يُعطونها لمن يشتري ما لا يقل عن مقدار معين من المُشتريات، ثم يسحب دوريًّا على القَسائم لاستحقاق تلك الهدية الثمينة، والتي أصبح المشترون يشترون من عند هذا التاجر لأخذ هذه القسائم، فلا أراها إلا من قَبيل اليانصيب التِّجاري الذي هو اليوم في نظر علماء الشريعة ضَرْبٌ من المُقامَرة مُحرَّم يأثَم فيه الطرفان التاجر والزبون، ولا يكون ما يَستحقُّه بهذه الطريقة حلالاً، ولا سيما أنَّه يضرُّ اقتصاديًّا بصِغار التُّجار الذين لا يملِكون مثل هذه الوسائل القِماريّة المُغرِية، فيصرِفُ عنهم الناسَ ويُخرِجُهم من السوق، وهذا ضرر اقتصاديٌّ كبير، والله سبحانه أعلم(11) مصطفى أحمد الزرقا
15/6/1417هـ.
27/10/1996م.
هامش
(11) أنا أؤيد هذا النظر الفقهي العميق، وأرى ـ إضافة إلى ذلك ـ أن هذا الأسلوب هو ـ في النهاية ـ إغلاء لقيمة السِّلعة على حساب عموم المُستهلكين، وهو يعبر عن النمط الغربي الذي يُغري الناس بكثرة الاستهلاك للسلع، وإن لم يكن بِهم حاجةٌ إليها، على خلاف المنهج الإسلامي الذي يحُث على الاعتدال أبدًا (يوسف القرضاوي).(76/2)
حكم الخُلُو عن العقارات المأجورة
صاحب الفضيلة الشيخ الأستاذ مصطفى الزرقا ـ حفظكم الله ورعاكم وأدام النفع بكم ـ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فلا يخفاكُم أن ما يسمّى "أخذ الخلو أو نقل القَدَم" من المستأجِرين من المسائل التي يقوم العمل عليها في سائر البلاد الإسلامية وغيرها من زمن غير قصير.
ولكنها في الآونة الأخيرة أخذت حجمًا أكبر من ذي قبل حيث تبلغ في بعض الأحيان ملايين، وبينما يكون الإيجار الشهري أو السنوي أقلّ من ذلك بكثير.
وقد تحدّث عن هذه المسألة بعض أهل العلم من المتأخِّرين كابن عابدين الشامي في الدر المختار 7/37، والبجيرمي على الخطيب 3/3 فرَأَوا جواز ذلك قياسًا على النزول عن الوظائف. وفي هذه الأقْيِسة نظر لا يخفَى. ونرى أن هذه المسألة جديرة في أن تُفرد بالبحث المركّز والعميق لتأخذ حظها من نظر الفقهاء. وذلك ما لم نجدْه فيها بحيث يجعل في النفس حيرةً وتساؤلاً كبيرًا عن هذه المسألة من وجهة نظر الشرع.
فنرجو من سيادتكم إنعام النظر فيها، وإفادتنا برأيكم حولها وبمن كتب عنها من المتأخرين. شاكرين لكم ذلك وداعِين لكم بالخير العَميم وطول العمر وحسن العمل. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
محبّكم: أحمد عبد العزيز الحداد
مدير إدارة الإفتاء والبحوث بأوقاف دبي
الجواب:
الأخ الكريم الأستاذ أحمد عبد العزيز الحداد المحترم
مدير إدارة الإفتاء والبحوث بأوقاف دبي ـ حفظه الله ـ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تلقيت رسالتكم الكريمة بشأن مسألة الخُلو عن العقارات المأجورة، وإليكم فيما يلي جوابي:(77/1)
إذا لم يكن في ظل النظام القائم النافذ حقٌّ لمستأجِر العقار في البقاء فيه، بل يحق للمالك المؤجِّر في نهاية مدة الإيجار المتعاقد عليها أن لا يجدِّدَ له العَقد، وأن يطلبَ من القضاء إخلاءَه إذا امتنع عن الإخلاء، فإن مسألة الخُلُو لا توجد في التعامل، ولا داعِي لوجودِها، لأن من يُريد عقارًا بعينه (مَتجرًا أو بيتًا) يستطيع انتظار انتهاء مدة إيجارها، فيغري المؤجِّر بزيادة الأجرة كيلا يجدِّد للمستأجر، ويتعاقَد مع من يرغب الحلول محلَّ المستأجر متى انتهت مدة إيجاره، فلا داعِي يدعوه لأن يدفع خُلُوًّا للمستأجِر، إلا إذا كان الرّاغب مستعجلاً يُريد أن يتخلّى له المستأجِر عن مدة إيجاره.
وبتعبير آخر: لا تنشأ مسألة الخُلو حيث يكون الإيجار حُرًّا.
وفقهاؤنا إنما بحثوا مسألة الخلو في عقارات الأوقاف لأنها معرّضة للإيجار دائمًا، وليس لمتولي الوقف أن يسكنَها بنفسه استئجارًا، وكانت فتواهم أن المستأجِر لعقار الوقف إذا كان يدفع أجر المثل، فليس للمتولي على الوقف أن يخرجه في نهاية مدة إيجارِه إذا كان المستأجر يريد البقاء، بل على المتولِّي أن يجدِّد له العقد مدة أخرى بأجر المثل، وذلك رحمة بالمستأجر من أن يتحكَّم به المتولِّي فيضطرُّه إلى الزيادة عن أجر المثل، أو حِقدًا عليه ونِكاية، فأفتَوْا بحق المستأجر في البقاء بأجر المثل، وامتنع بهذه الفتوى على المتولي إخلاؤُه.
هذا ما نص عليه الفقهاء وهو خاص بعقارات الأوقاف ولا يُطبَّق على العقارات المملوكة غير الموقوفة؛ لأن مؤجِّر العقار المملوك قد يريد أن يسكُنَه بنفسه أو بمن يخصُّه، أمّا عقار الوقف فهو مُعَدُّ للإيجار دائمًا كما بينته آنفًا هذه حدود نصوص الفقهاء في الموضوع، وبناء عليها أفتى ابن عابدين وغيرُه بجواز أخذ الخُلُوِّ (ويُسمُّونه سُكْنَى).(77/2)
ولكن في الحاضر منذ أنْ قام في معظم البلاد، بسبب قلة العقارات وزيادة عدد السكان، نُظُمٌ للإيجارات، وقوانينُ تقيِّدها وتمنع المالك من أن يخرج المستأجر في نهاية مدة الإيجار إلا بموافقته أو في حالات معينة، أصبح للمستأجرين (في ظل الأنظمة القائمة التي تقيِّد حق المالك في زيادة الأجرة وفي الإخلاء) حقّ البقاء في العقار المملوك، كما في عقار الوقف الذي أفتَى فيه فقهاؤنا الأولون.
وبذلك لم يبق طريق لمَن يريد أن يحلَّ في عقار مأجور محل مستأجِره إلا أن يتفاهَم مع المستأجر ليرضيَه بالتخلِّي عنه مُقابِلَ عِوَض يتفقان عليه يسمُّونه خلُوًّا، واختلفت فتاوى المعاصرين حوله: فحرّمه بعضهم بحجة أنه لا مُقابل له، فهو من باب أكل الأموال بالباطل، وأباحَه آخرون.
وإنّي من الذين يُفتون بجوازِه وحلِّه مادام القانون السائِد يمنع المؤجِّر من الزيادة أو الإخلاء في نِهاية مدة الإيجار، وما دام المستأجر في ظل القانون يتمتع بحقِّ البقاء ما لم يرغب في التخلِّي برضاه، ووجهة نظري أن حقّ البقاء هَذا للمستأجِر هو حق مالي مقوَّم بقيمة ذات أهمية كبيرة عُرفًا، فلا يصح قولُ المانعينَ إن مبلغ الخُلو يأخذه المستأجِر بلا مُقابل (فهو من باب أكل أموال الناس بالباطِل) بل هو مُقابل حقٍّ مالي ذي قيمة كبيرةٍ هو حقُّه في البقاء، فقد أصبح حقُّه هذا مثل حق مستأجر عقار الوقف الذي أفتَى به فقهاؤنا بمنع المتولي على الوقف من إخلائه وعدم تجديد إيجاره ومن زيادة الأجر عليه ما دام مُستعدًّا لدفع أجر المثل، فقد تساوَى مستأجر عقار الوقف مع مستأجر المملوك في ظلِّ الأنظمة القائمة اليوم التي تقيِّد حقَّ المالك في إخلاء المستأجِر إلا في حالات استثنائية معينة، فيجوز للمستأجر أن يأخذ خُلُوًّا ممَّن يرغب الحلول محلَّه بالتراضي، كما أفتى فقهاؤنا في العقار الموقوف سواء بسواء.
هذا ما أراه في المسألة والله أعلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(77/3)
الرياض 3 رمضان 1417هـ.
12/1/1997م
مصطفى أحمد الزرقا(77/4)
حكم الشرع الإسلامي في التأمين على الحياة
جواب موجز كتبتُه للشيخ صبحي الصالح من بيروت على السؤال التالي الموجَّه إليه من سائله السيد فهيم السائح سنة / 1392هـ 1972م.
إلى السيد فهيم السائح المحترم.
جوابًا على سؤالكم عن حكم الشرع الإسلامي في التأمين، وخاصة التأمين على الحياة، وهل يندرج تحت عقد الهبة المعوَّضة؟
إن نظام التأمين في ذاته (بقطع النظر عن كل عقد تأميني خاص يُعقد بين شركة تأمين معينة وبعض المستأمِنين بشروط معينة قد تختلف بين شركة وأخرى ومستأمَن وآخر) هو في نظرنا نظام تعاملي، يُحقق غاية تعاونية جائزة شرعًا، سواء في ذلك التأمين على الأشياء أو المسؤولية أو الحياة، ويتم بطريقة التعاقد، وعقده من العقود الجديدة المُستحدثة في نوعها وموضوعها، ولا يوجد في نظرنا مانع شرعي من صحته.
وتخريجه تطبيقًا على الهِبَة المعوَّضة أو غيرها من العقود المعروفة قبْلاً في الشرع ليس في نظرنا ضروريًّا للحكم بصحته لأمرين:
1 – لأن الشرع الإسلامي لم يمنعْنا منَ استحداث عقود جديدة في موضوعات جديدة، إذا لم يكن فيها ما يتنافى مع مقاصد الشريعة ومبادئها العامة في نظام التعاقد، وفي الشروط العقدية التي يشرطها المتعاقدان.
2 – ولأن تخْريج عقد التأمين على بعض العقود التقْليدية القديمة المشروعة قبلاً، يقتضي إلحاق عقد التأمين بالعقد التقليدي الذي يجري تخريجه عليه، وتطبيق أحكام ذلك العقد القديم وشرائطه الشرعية في عقد التأمين الملحق به، وهذا غير مقصود المتعاقدين، وغير واقع فعلاً، وإلا لم يبقَ مسوِّغ لإعطائه اسمًا جديدًا هو (التأمين) بل يجب حينئذ أن يُطلق عليه اسم العقد الملحق به، فتخريجه مثلاً على الهبة المعوضة يصطدم بأن الهبة ـ سواء أكانت معوضة أم غير معوضة هي من التبرع الذي لا يتم انعقاده شرعًا إلا بالقبض، (وهذا من أحكام الهبة الأساسية) كما يصطدم بأحكام أخرى من أحكام الهبة.(78/1)
فالرَّأي الشرعي السديد في نظرنا هو: أن التأمين بطريق التعاقد هو نوع جديد من العقود، يتحقق به تعامل تعاوني يخضع للشرائط العامة الشرعية في التعاقد، ولا يوجد في نظرنا في الشرائط العامة الشرعية لانعقاد العقود وصحتها ما يقتضي منعه.
هذا بالنسبة لنظام التأمين التعاقدي بوجه عام. أما العقود الخاصة التي تجري بين إحدى شركات التأمين وبعض المستأمنين تطبيقًا لهذا النظام، والتي تتضمن مشارطات بينهما تختلف بين عقد وآخر، فهذا لا يمكن الإفتاء بصحته بصورة مُطلقة، مهما كانت مضمونات العقد ومشارطاتهما فيه؛ بل يجب أن ينظر في كل عقد على حدةٍ؛ لأن من المشارطات العقدية ما هو جائز وما هو ممنوع شرعًا.
فالبيْع مثلاً هو نظام تبادلي جائز بنص القرآن (وأحلَّ الله البيعَ وحرَّم الرِّبا) وليس معنى هذا هو جواز كل بيع يتبايع به طرفان مهما كان مضمونه واشترطاتهما فيه، والله سبحانه أعلم.
مصطفى أحمد الزرقا(78/2)
حكم العمل في المَصْرِف الِّزراعيّ(1)
سؤال من السيد م . ع . ش . من اللاذقية وخلاصته:
موظّف في المصرف الزِّراعي التَّعاونيّ يسأل هل يُعتبرُ عملُه في المَصرِف حَرامًا؛ نظرًا لتقاضي المصرف فائدةً على قروضه، أم أنّه حلال باعتبار أنّه إنما يتقاضى راتِبَه نَظيرَ عَمَلِه وجُهده؟
الجواب:
يكثر السُّؤال عن هذا الموضوع، وهو يحتمل مناقشةً طويلةً لا يتَّسع وقتي لها، ولكنِّي أقول إجمالاً إنَّنِي لا أجدُ حرامًا في عمل الشَّخص موظّفًا في المصرف الزّراعي الرسمي الحكومي، ولو أنّ مهمةَ المصرِف إقراضُ المُزارعين بفائدة مخفَّضة ولا سيما في زَمننا هذا، ومن استطاع أن يجدَ لنفسه عملاً آخر كافِيًا فهو أطْيبُ للنَّفْس.
وسؤال آخرُ من السيد وليد الزعيم حول الضوع نفسه وهو:
ما حكم أنْ يعملَ الموظّف فِي بنك رِبوي؟
الجواب:
إذا وجد الإنسان عملاً يُغنيه عن الوظيفةِ في بنك رِبويٍّ لا يجوز له التَّوظُّف فيه.
3 رمضان 1418هـ.
هامش
(1) حضارة الإسلام ـ العدد العاشر ـ السنة الرابعة ـ 1383هـ/ 1964م.(79/1)
حكم القُرْعَة في توزيع الجوائز والهدايا(9)
فضيلة الأستاذ مصطفى الزرقا أكرمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد.
فإنني أتوجّه إليكم بهذا السؤال راجيًا الإسراع في الرد، ولكم من الله الأجر والثواب.
أ ـ تُقام في بعض المدارس مسابقاتٌ ثقافية ذات جوائز للفائزين مختلفة توزَّع بالقرعة، فإذا زاد عددهم عن عدد الجوائز المخصَّصة يفوز بعضُهم بجائزة ويُحرَم بعض. فهل هذا جائز؟ علمًا بأن هؤلاء المتسابِقين لم يدفعوا شيئًا من ثمن هذه الجوائز؟
ب ـ قد يشتري المُسلِم بعضَ الحاجيّات كعلب الحليب مثلاً، فيجد فيها ورقة يانصيب، فهل يجوز له أن يأخذ الجائزة إذا فازت في السّحب ورقتُه التي وجدها مع عُلْبة الحليب؟
أرجو الإجابة والإسراع بالرد لوجود الخلاف بين بعض العلماء، وأسأل الله أن يجزيكم عنا أحسن الجزاء.
19 / صفر / 1392هـ.
الموافق 3 نيسان / 1972م.
معلم التربية الإسلامية
فريد مصطفى سلمان
مدرسة المفرق الثانوية ـ المفرق ـ الأردن
الجواب:
السلام عليكم:
تلقَّيت سؤالكم الشرعي المذكور أعلاه، وإليكم ما أرى في جوابه:
إن القرعة طريق مشروع في فقه الشريعة في كثير من الحالات التي لا يوجَد فيها مرجِّح، سواء ذلك في الشؤون المالية وغير المالية، وفي حالات الغُنْم والغُرْم:
1 ـ فيلجأ إليها شرعًا في تعيين الزّوجة التي يسافر بها الزوج من بين زوجاتِه المتعدِّدات.
2 ـ ويلجأ إليها في توزيع الحِصص (بعد تقسيم الشيء المشترك) بين الشركاء.
3 ـ ويلجأ إليها في تعيين المال الذي سيُطرح في البحر تخفيفًا لحمولة السفينة إذا جنحَت للغرق (وإن كان ما يُطرح سوف توزَّع قيمته على أصحاب الأموال الباقية) إلى غير ذلك من حالات كثيرة.(80/1)
ثم إن ورقة الهديّة التي تخرج للإنسان في علبة حليب اشترها مثلاً، وكذا الورقة التي تُسحب لتعيين الفائز بجائزة مسابقة، هي ليست من قَبيل ورقة يانصيب يشتريها قصدًا ليربح بالحظِّ فيكون كالقِمار، فإن الورقة في علبة الحليب لم يشترِها وحدَها بُغية الرِّبح بالحظ، وكذا ورقة جائزة المسابقة، وإنما هي هدايا ومِنَح تمنحها الجهة المُنتجة للحَليب أو المتاجِرة به، والأخرى مكافأة تمنحها الجِهة المنظِّمة للمُسابقة، فالأولى مِنحة دعائية والثانية منحة تشجيعيّة، ونظرًا لأنهما محدودتان، فعند التزاحُم لا سبيلَ إلا القرعة لعدم المرجِّح، وكون الفائز لم يدفع شيئًا لا يضُرُّ ولا يؤثِّر (10)؛ لأن المنح التشجيعيّة أو الدعائيّة لا مانع منها شرعًا، وكونها منحة معناه أنها لا يدفع في مقابلها عوضٌ وإلا كانت معاوَضةً لا مِنحةً.
هذا ما أراه، والله سبحانه أعلم، والسلام عليكم ورحمة الله.
12 ربيع الأول 1392هـ.
26/4/1972م.
هامش
(9) مجلة التمدُّن الإسلامي، السنة 40، العدد (1) عام 1393هـ، وللأستاذ المحامي محمد بن كمال الخطيب تعليق على هذه الفتوى في المجلة المذكورة.
(10) بل أرى عدم دفع شيء شرطًا للإباحة، إذ لو دفع شيئًا، لاحتمل أنْ يَخسرَه، وبذلك يدخل في معنى القِمار المحرَّم بلا شكٍّ (يوسف القرضاوي).(80/2)
حكم بيع أسهم الشّركات وشرائِها
السؤال الأول: ما حكم بيع أسهم الشركات المساهِمة العامّة بعد الاكتتاب فيها، ورأس المال لا يزال في سيولته، أي: قبل أن تُمارِس الشركة نشاطها، ويتحوَّل رأس المال إلى أعيان ولو في جزء منه؟ فالذي حصل أنه طرحت أسهم مصرف "أبو ظبي الإسلامي" للاكتتاب العام ـ وهو مصرف جديد قيد الإنشاء ـ وكان الإقبال منقطِع النظير، وتجاوز المبلغ المكتتب به المطلوب بثماني عشرة مرة، وقد أغلق باب الاكتتاب، وسيعاد جزء من المبالغ لأصحابها ممّا يعني توقع ارتفاع قيمة السهم السوقيّة عن قيمته الفعليّة حين الاكتتاب، فهل يجوز في هذه الفترة بيعه؟ أم أن بيعه من بيع مال بمال بزيادة، وهو عين الرِّبا؟
السؤال الثاني: ما حكم شراء أسهم الشركات التي تتعامل في نشاطات مشروعة ـ كالهاتف ـ ولكنّها تضع أموالها في مصارفَ رِبويّة، بل وتدخل فوائد هذه الأموال في حساب أرباحها عند توزيعها؟ وما هو الحكم بالنسبة للمشترِكين فعلاً هل يبيعون أسهمَهم ويتخلّصون منها أم ماذا؟
نطمع في تفضُّلِكم بالإجابة، أمتع الله تعالى بعلمكم، ومدَّ في عمركم، وجزاكم الله خير الجزاء.
السائل المتطفِّل على موائد علمكم
أسيد محمد أديب كيلاني 14/7/1997م
الجواب:
1 ـ قبل أن يتحوّل رأس مال الشركة إلى سلع وأعيان حين لا يزال نقودًا مجموعة من المشتركين، يبدو لي أنه لا يجوز في هذه الحال بيع شيء من الأسهم؛ لأنه حينئذٍ بيع نقود بمثلها زيادة، إلا إذا بِيعَ السهم بقيمته الاسمية دون زيادة، لأنه حينئذٍ مجرد انسحاب البائع وحلول المشتري محلَّه.
2 ـ لا أرى مانعًا شرعيًّا من شراء أسهم شركات مساهمة موضوع نشاطها حلال شرعًا، ولكنها تضع أموالها في بنوك رِبويّة، وتدخل فوائدها في الأرباح التي توزعها(14).(81/1)
لكن يجب على حامل الأسهم المالك حين توزَّع الأرباح أن يُفرز مقدار الفوائد التي دخلت مع الأرباح، ولو بطريق التقدير وغلبة الظن (وهذا مُمكن)، ويعطيه للفقراء دون أن يستفيد منه أية فائدة، ولا يحتسبه من زكاة، ولا يعتبره صدقة من حُرِّ ماله، وإنما هو مُجَرّد وسيط خير في إيصاله للفقراء، وهذا حكم من لا يجِد بُدًّا من أن يضع وفرَ ماله في بنك ربوي فيحسب له فيه فوائد، فلا يتركها للبنك تورُّعًا، بل يأخذها من البنك ويُعطيها الفقراء دون أن ينتفعَ منها بأية منفعةٍ.
هذا ما أراه والله سبحانه أعلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرياض 27 من ربيع الأول / 1418هـ.
31 من تموز (يوليو) 1997م.
هامش
(14) ينظر قرارات مجمع الفقه الإسلامي المنبثق من منظمة المؤتمر الإسلامي قرار رقم: 63 (1/7) (مجد).(81/2)
حكم بيع المسلِم للخَمر في البلاد الأجنبيّة
حضرة صاحب المعالي الأستاذ مصطفى الزرقا حفظه الله
إني أقيم في الولايات المتحِدة، وأبحث عن عمل حرٍّ، وقررت أن أفتح (سوبر ماركت) لبيع الأطعمة والموادِّ الغذائيّة، ولكنَّ نجاح هذا المحلِّ يجب أن يتضمَّن بيع البيرة والنبيذ، فهل يحقُّ لنا أن نبيع مع المواد الغذائيّة البيرةَ والنبيذَ في بلد حربيٍّ ولجماعة حربيين، أي: في بلد غير إسلاميٍّ لجماعة غير مسلمين.
وإذا كان غير مُباح، فهل يجوز تخصيصُ أرباح هذه المشروبات وفصلُها عن باقي الأرباح، ومن ثَمَّ توزيعها لدعم بعض المراكِز الإسلامية.
الجواب:
قضية بيع البيرة والخمور في ذلك المحيط الأجنبيِّ لغير المسلمين مع سلع البقالية، قد يبدو لكم فيه عذر مُبرّر إذا لم يكن الاتجار مقصورًا عليه، بل هو ضمن بقالية لا يقصدها الزبائن إلا إذا وجدوا فيها كلَّ مَطلوبهم أو معظمه، وهذه المشروبات الخبيثة في طليعة مطلوبهم بوجه عام كما ذكرت لي.
ولكن نفسي لا تطمئن إلى هذه الظاهرة من التبرير، فإنَّ المسلم يجب أن يكون عنوانًا على مبادئ الإسلام في سلوكه أينما وُجِدَ.
وقد أخبرني بعض الأساتذة الذين درسوا في أمريكا أن كثيرًا من البقاليات هناك خالية من الخمور والبيرة؛ لأن المشروباتِ الكحوليَّةَ هناك لها أماكن تختصُّ بها يقصدها من يريد، ولا يتوقّف رواج البقاليات على وجود الخمور فيها، فلهذا لا أرى جواز بيع الخمور في تلك البلاد.(82/1)
حكم بيع عقار واشتراط المنفعة فيه لبائعه مدّة الحياة(13)
جاء إلى الأستاذ مصطفى الزرقا ـ أستاذ الشريعة الإسلامية والقانون المدني في جامعة دمشق ـ سؤالان استفتائيان، أحدهما من السيد عبد الحميد الحافظ مدير السجل العقاري في مدينة إدلب، والثاني من الأستاذ السيد عبد الرحمن جبيرو عن قضية استرعت اهتمام الكثيرين في المدينة، خلاصتها: أن شخصًا باع عقارات له تُساوي عشرات آلاف الليرات بثمن رمزي ضئيل جدًّا قدره مائتا ليرة سورية لجمعية خيريّة تُعنى بالقيام على شؤون الأيتام والفقراء ممثلة تلك الجمعية بشخص رئيسها، واشترط البائع في العقد أن تبقَى منافع هذه العقارات وغلاتها لنفسه مدى حياتِه، وذلك حال تمام صحّته وعقله. وقد سُجّل هذا العقد تسجيلاً رسميًّا في السجل العقاري، ثم توفِّي البائع بعد مدة من الزمن، فاختلف الورثة مع رئيس الجمعية حول حكم هذا التصرُّف وصحته أو نفاذه، وأراد الطرفان ومدير السجل العقاري معرفة حكم الشريعة الإسلامية فيه.
وقد وجه نظير هذا السؤال في هذه القضية قبل ذلك إلى جهات أخرى، فأجاب بعض السادة المُفتين بصحة هذا التصرف ونفاذه في نظر المذهب الحنبلي تنزيلًا على بعض نصوصه، وخالف آخرون بحجّة أن الحادثة تختلف في وقائعها عن مقتضى تلك النصوص. وأخيرًا سُئل الأستاذ الزرقا عن حكم الشريعة في هذه القضية ورأيه في تلك الفتاوى المختلفة مع رجاء الإيضاح حول النقاط التالية:
هل يُعتبر هذا العقد بهذا الشرط صحيحًا، أم غير صحيح للجهالة القائمة في التحديد الزمني بمدى حياة البائع، أو هل يُعتبر في حكم الوصية؟
وقد أجاب الأستاذ الزرقا على ذلك بالجواب الذي أطلعنا عليه، فآثرنا نشره، لما للموضوع من أهمية كبيرة بالنسبة للكثيرين من القراء، ولما تضمّنه جواب الأستاذ الزرقا من تجلية تسترعي الانتباه لدى أهل العلم.
قال الأستاذ الزرقا ـ حفظه الله تعالى ـ في الجواب ما نصه:(83/1)
والذي أرى في هذه المسألة الآن بنظرة عَجْلى ـ وأنا في غمرة أعمال الامتحانات الجامعية؛ التي لا أملك فيها وقتًا للتعمق في التمحيص، ولا أستطيع أن أجيبك إلا من كتاب الذاكرة دون الرجوع إلى شيء من المراجع ـ هو ما يلي:
أ) من الوجهة القانونية: يُعتبر هذا التصرف صحيحًا نافذًا، سواءٌ أَعتُبر بيعًا مشروطًا فيه الاحتفاظ بالمنافع مدى حياة البائع نظرًا لصورته، أم اعتبر من قبيل الهبة المشروط فيها ذلك نظرًا لقصد العاقدين، ولا يمكن اعتباره من قبيل الوصية المضافة إلى ما بعد الموت لأن المادة / 878 / من القانون المدني خصّت هذا الاعتبار بما إذا كان مثل هذا البيع بهذا الشرط صادِرًا من البائع لأحد ورثته.
ب) أما حكم هذا العقد في فقه الشريعة الإسلامية فهو موضوع كثير التعقيد، يحتاج إلى بحث طويل؛ من حيث إنه هل يعتبر هذا بيعًا صحيحًا أو فاسدًا في المذهب الحنفي؟ وهل يعتبر صحيحًا أو باطلًا في مذهب غير الحنفية الذين لا يقولون بنظرية الفساد؟
وإذا قيل بفساده عند الحنفية فما هو سبب فساده؟ هل هو لاشتراط منفعة أحد العاقدين أو لجَهالة أجل هذه المنفعة؟ وهل كون أجلِ هذه المنفعة مدى حياة البائع يجعلها جَهالة فاحشة؛ مما تؤدِّي إلى نزاع مُشكِل كبيع شاة من قطيع دون تعيينها؟ أو هي جهالة محدودة ملحقة بالمعلوم، لأنها لا تؤدِّي إلى نزاع مُشكِل ما دامت الحجة معها قائمة من أحد الطرفين على الآخر، كبيع ما في صندوق مجهول المضمون حيث نصُّوا على جوازه وصحته؟
ثم عند غير الحنفية كالحنابلة الذين يُجيزون اشتراط منفعة في المبيع للبائع مدة معلومة، هل يُعتبر مدة حياة البائع أيضًا ملحَقًا بالمعلوم، كما رآه بعض السادة المُفتين، أو ملحقًا بالمجهول جهالة فاحشة، كما يراه آخرون ممن أفتَوْا في هذا الموضوع؟ هذا كلُّه بالنظر إلى صورة العقد.(83/2)
ولكن هل يمكن النظر إلى المقصود منه بحسب قاعدة (إن العبرة في العقود للمقاصد لا للألفاظ)، واعتباره حينئذٍ وصيّةً مضافة إلى ما بعد الموت، وهذا التخريج في نظري أقرب جَريًا مع قاعدة سدِّ الذرائع كيلا يُتَّخَذ مثل هذا الشرط ذريعة للاحتيال على أحكام الوصية وحدودها في الإسلام. كل ذلك محلُّ نظر في هذه القضية من الوجهة الفقهية، ويحتاج بحثه إلى وقت لا أملِكه الآن، وهو في النهاية بحث عقيم عمليًّا في هذه الحادثة. أقول: إنه بحث عقيم عمليًّا بعدما بينت لكم أن الحكم القانوني هو صحة هذا البيع ولزومه؛ لأن اشتراط منفعة في العقد للبائع أو لشخص ثالث مدى حياته، هو مقبول في أحكام قانوننا المدني.
وبما أن المشتريَ هو جمعية خيريّة للعناية بالأيتام والعَجَزة ومصالِحهم تعاقَد باسمها ممثلُها القانوني عقدًا فيه لها غبطة وحظّ وربح في حكم القانون النافذ، فإن هذا الممثل لا يستطيع تطبيق حكم آخر على الجمعية يخسرها غير حكم القانون، وليس له إذا كان العقد صحيحًا قانونًا وغير صحيح شرعًا أن يوافِق على إقالة العقد، أو فسخه لأي سبب كان غير ما يوجِبه، أو يسوِّغه القانون النافذ في كل ما يُلحق الجمعية خسارة أو ضررًا، ولو بحُجة أن العقد الذي كسبت به الجمعية ذلك الحقّ والمنفعة هو عقد فاسد شرعًا؛ لأن القضاء لدينا لا يقضي بغير القانون في كل ما تناوله نصُّه بعبارته أو بفحواه.
هذا بخلاف ما لو كان العقد بين شخصين عادِيَّين، فإن لكلٍّ منهما أن يتخلَّى عمّا يُكسبه إيّاه القانون بمحض إرادته؛ لأنه حرٌّ في التصرُّف بحقِّ نفسه، وليس كذلك الشخص الاعتباري كالجمعية الخيريّة؛ فإن ممثلها ليس متصرِّفًا لحسابه، بل لحساب الجهة الخيريّة، وعلى هذا الأساس لا يستطيع ردَّ الإبراء الصادر من دائن الجمعية، بينما المَدين العادي يستطيع ردَّ الإبراء الصادر من دائنه.(83/3)
فلذا يُعتبر البحث عن الحكم الشرعي في هذه القضية بحثًا عقيمًا ما دام العقد صحيحًا قانونًا، ولا يستطيع ممثل الجمعية قَبول الحكم الشرعي إذا كان الحكم القانوني أنفع للجمعية وإلا كان مسؤولًا.
هذا ما ظهر لي، والله سبحانه وتعالى أعلم
هامش
(13) مجلة حضارة الإسلام، العدد الثاني، السنة السابعة 1386هـ / 1966م.(83/4)
حكم بيع لحم الخنزير وبطاقات اليانصيب في البلاد الأجنبية
فضيلة الأستاذ العلامة الشيخ مصطفى الزرقا حفظه الله
رجل مسلم اشترى محلًّا لبيع البقالية في أمريكا يبيع مِن ضِمْن بضاعته لحمَ الخنزير وبطاقات اليانصيب. ونظرًا للتنافُس التجاري بين المحلات الصغيرة والكبيرة في تلك البلاد، فإن افتقاد الزبون الأميركي لموادّ رئيسةٍ من محلٍّ مّا اعتاد أن يشتريَها منه سابقًا يجعله ينصرف إلى محل آخر مباشرة؛ الأمر الذي سيؤثر على استمراريّة العمل ونجاحه. هل هذا مبرِّر كافٍ للبائع المسلم أن يترك لحم الخنزير في متجره، سواء أكان معلبات يحملها الزبون بنفسه أم لحمًا طازَجًا يمكن أن يُخصَّص لبيعه عامِلٌ غير مسلم؟
الجواب:
المسلِم الذي له بقالية أو (سوبر ماركت) في أمريكا أو سواها إذا كان عدم احتواء محلِّه على الخمر وأوراق اليانصيب سيُفقده زبائنَ كثيرةً، ولا يُحسن عملًا آخر يغنيه، فقد أرى أنه في مذهب الحنفيّة للمسلم الموجود في دار الكفر أن يحوي هذه الأشياء في مَتجره ليبيعَها لغير المسلمين من الزبائن.
أما لحم الخنزير فلا يسوغ أن يحويَه إلا إذا كان معلّبًا، لأنه نجِس، وتنتقل نجاسته باللّمس إلى السِّكين، والأيدي واللحوم الأخرى.
وأرى من الأحوط أن تُجمَع غلّة أوراق اليانصيب والخمر والخنزير في صندوق خاص، ثم تُفرَز الأرباح الحاصلة منها، فيُتصدَّق بها على فقراء المسلمين ويعاون بها ضعفاؤهم، أو تنفق في مصالحَ إسلاميّة ولا يأخذها صاحب المحلِّ لنفسه. والله سبحانه أعلم(15)
هامش(84/1)
(15) من قرارات مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان 1407هـ وبعد اطلاعه على الاستفسارات التي عرضها المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن أجاب عن حكم عمل المسلم في مطاعِم تبيع الخمور أو تُقدِّم وجباتٍ فيها لحم الخنزير وغيره من المحرَّمات. وعن حكم بيع المسلم للخمور والخنازير، أو صناعة الخمور وبيعها لغير المسلمين؟ فكان الجواب: للمسلم إذا لم يجد عملًا مُباحًا شرعًا، العملُ في مطاعِم الكفار، بشرط ألّا يباشرَ بنفسه سَقْيَ الخمر أو حملَها أو صناعتَها أو الإتْجار بها، بشرط، وكذلك الحال بالنسبة لتقديم لحوم الخنزير ونحوها من المحرّمات. قرار رقم: 23 (11/3) ص 45 (مجد).(84/2)
حكم بيع يانَصيب لغرض خيريّ
وحكم جمع معوناتٍ لمقاصدَ خيريّةٍ عن طريق
جوائز توزَّع على المُشترين
الأستاذ الفاضل مصطفى الزرقا.. حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..وبعد
تعلمون سيادتكم بأن كثيرًا من المؤسَّسات الخيريّة النصرانيّة تعتمِد على اليانصيب الخيري لاستقطاب الدَّعم المادِّي لمشاريعِها الخيريّة، وهناك تجاوُب كبير بذلك، فهل يجوز لمؤسّسة خيريّة إسلاميّة أن تقومَ بما يلي:
1) بَيع تذاكر يانصيب تحمل أرقامًا متسلسلة مكتوب عليها أن قيمة التذكرة جنيه استرليني، وفي نهاية المدّة المقرّرة يتمُّ السحب على الأرقام، والفائز يحصل على سيارة، علمًا بأن ريع هذا اليانصيب سيوزَّع على مُتضرِّري الفيضانات في بنغلاديش. (أي: أننا سنطلب من الناس الشراء بنيّة التبرُّع والمُساعَدة وما السيارة إلا للتشجيع على الخير).
2) بَيع طعام أو أقلام عليها اسم المؤسّسة الخيريّة الإسلاميّة بسعر مرتفع نوعًا ما مع إعطاء سند قبض للمُشتري يحمل رقمًا، ثم يجري السحب على الأرقام، والفائز يحصُل على جائزة، علمًا بأن ريع هذه المبيعات يعود لصالح المُحتاجين والأيتام.
نرجو التكرم بالردِّ بالسرعة المُمكنة، وجزاكم الله خيرًا.
18/9/1991م.
الإمارات العربية المتحدة
هيئة الأعمال الخيرية
الأمين العام: سالم بن أحمد بن عبد الرحمن
الأخ الكريم السيد سالم بن أحمد بن عبد الرحمن
الأمين العام لهيئة الأعمال الخيريّة في الإمارات العربية المتحدة، حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
تلقيت رسالتكم الكريمة المؤرخة في 18/9/1991 المرفقة بأسئلة تُريدون بيان الرأي في حكمها الشرعيّ، وإليكم جوابي عن كلٍّ منها، بعد أن اجتهدت قدرَ استطاعتي رجاء أن يكون صوابًا.(85/1)
س1: هل يجوز شرعًا فتح يانصيب لغرض خيريٍّ، فتباع فيه تذاكر بقيمة جنيه استرليني واحد يربح فيه مشتري الورقة ذات الرقم الفائز بالسحب سيارةً، إذا كان الربح الحاصل من بَيع التذاكر سيوزَّع على المتضرِّرين من الفيضانات في بنغلاديش؟
الجواب:
قد يَتبادَر إلى الذهن، أنه ما دام الغرض من فتح اليانصيب خيريًّا بالنظر الإسلامي، وفيه فكرة المعاوَنة من مشتري التذاكر على هدف يحبِّذه الإسلام أو يوجِبه، فلتقاصُر الهمم عن القيام بالواجبات الكفائيّة، ومنها مَثَلًا إمداد المَنكوبين بكارِثة في بعض البلاد الإسلامية، ويكون في أسلوب اليانصيب (حيث يأمُل كثير من الناس أن يُحالِفَهم الحظُّ فيربَحوا الجائزةَ) حافز لهم على شراء التذاكر، لا يتوافَر حين يُطلَب منهم التبرع للغرض الخيريّ فقط دون هذا الحافز من الأمل.
هذه الفكرة قد ترد ولا شكَّ إلى الذِّهن فرقًا بين اليانصيب الخيريّ واليانصيب التّجاري الذي هو قِمار محضٌ لا شبهةَ فيه.
ولكنني بعد طول تفكير ترجَّح عندي أن هذه الفكرة غير مقبولة في النظر الإسلامي، فإن فيها سلوك الواسطة الحرام للوصول إلى الهدف المشروع.
وإن الإسلام لا يَقبل فيه مبدأ أن الغاية تُبَرِّر الواسطة، فإن هذا المبدأ الذي يعتمده اليهود والشيوعيُّون يفتح أبوابًا من الوسائط الإجرامية لا حدود لها، فيجب في الإسلام أن تكون الغاية والواسطة كلتاهما مشروعتَين.
وبهذه المناسبة أقول لكم أيها الأخ الكريم: إن علماء القانون الوضعي يقرِّرون أن الإكراه على العقد هو من شوائب الإرادة العقديّة، أو ما يسمُّونه: عيوب الرِّضا، ويوجب إبطال العقد، ولو كان الغرض من الإكراه مشروعًا (كمن أَكْره مَدينه المُماطِل على إعطائه رَهنًا بدينِه) ما دامت الوسيلة المُرهِبة المستعملةُ في الإكراه غيرَ مشروعة (كالضرب أو الحبس أو التهديد بأذًى يلحَقه به).(85/2)
ولا يستثنُون من ذلك إلا حالةً واحدة من الإكراه، وهي ما لو كان الغرض والوسيلة كلاهما مشروعين، كمن هدَّد مدينَه بإقامة دعوى قضائيّة عليه، حتى أعطاه رهنًا بدينِه يَطمئِن به على الاستيفاء.
فانظر أيها الأخ الكريم ما أشبه هذا بموضوعنا! فلابد في الإسلام من أن تكون الغاية والوسيلة كلتاهما مشروعتين، فليس علماء القانون الوضعي بأحكم من شريعتنا الإلهية وفقهها.
وقد كان المَيسر في جاهلية العرب ذا غاية نبيلة وخيِّرة، حيث كان الخاسر فيه يذبح جزورًا يأكل منه اللاعبون وسواهم من فقراء القبيلة، ومع ذلك حرَّمه الإسلام بنصِّ القرآن؛ لأن وسيلته غير سليمة، وهي الاعتماد على الحظِّ، وما يجرُّه اللعب من آفات أشار إليها القرآن بقوله: (إنَّما يُريدُ الشَّيطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَداوةَ والبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ والمَيْسِر ويَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) (المائدة: 91).
هذا إلى أنّ مَن يشتري تذكرة اليانصيب، حينما يكون ربح الفائز مُغريًا ضخمًا كسيارة مثلاً، لا يتجه برغبته إلى بذل المَعونة لأجل الهدف الخيري لليانصيب وإنما كلّ همِّه الأمل في ربح السيارة بأيسر سبيل وأرخص ثمن هو شراء التذكرة، وهذا هو الأمل الفاسد الذي يقود صاحبه إلى الفشل، ويُقعده عن العمل الجَدِّيِّ المُجْدِي الذي هو الوسيلة الصحيحة للاكتساب.
هذا ما استقرّ عليه رأيي في هذا الموضوع فمن كان يتحسَّس بواجبه في المعاونة على الواجبات، فليبذل ما يعادِل ثمن تذكرة اليانصيب مُبتغيًا وجه الله تعالى، والقليل من الكثير كثير، ولتبق سبل الخير طاهرة تدل على أخلاق سالكيها (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحًا ولا يشرك بعبادة ربه أحدًا) (الكهف: 110).(85/3)
س2: هل يجوز بيع طعام أو أقلام تهيِّئها المؤسّسة الخيريّة الإسلاميّة بأغلى من سعرها المُعتاد بغية المعونة على تمويل عمل خيري إسلامي، وإعطاء كل مشترٍ قسيمة ذات رقم، ثم بعد نفاق المَبيعات يجري سحب من مجموعة أرقام القسائم، والرقم الفائز يأخذ صاحبه جائزة، مع العلم أن ربح هذه المبيعات سيوجَّه إلى الأيتام والمُحتاجين؟
الجواب:
لا أرى مانِعًا من هذا الأسلوب في جمع المعونات للمقاصد الخيريّة الإسلاميّة، وهذا الأسلوب ليس من قبيل اليانصيب (الذي تُباع فيه أوراق لا قيمة لها في ذاتها، وإنما تُباع الأرقام التي فيها للعب بالحظِّ)، بل هو سوق حقيقيّة خيريّة تُشترى فيه أشياءُ نافعةٌ، لكن ثمنها مرتفع يعطي الجهة البائعة ربحًا أزيد من المعتاد ليصرف في وجوه البِرِّ والخير، أما الجائزة فهي هدية لهؤلاء المُشترين للسلع المَبيعة مكافأة لهم. وبما أنّه لا يمكن إهداء جميع المشترين، فإن الهدية تُعطى بطريق القرعة لمن تُصيبه، فليس هذا من قبيل اليانصيب.
ورحم الله المعري القائل:
قَدْ يَبْعُدُ الشّيءُ مِنْ شَيْءٍ يُشابِهُهُ
... ... ... ... إنَّ السَّماء نَظِيرُ الماءِ فِي الزَّرَقِ
فالنِّكاح يُشبه المُخالَلة، والرِّبا يشبه البيع والإجارة، ولكن شَتّان ما بينهما في النتائج.
فالمشترون في هذه السّوق الخيريّة مستعِدون أن يشتروا السّلعة، أو يأخذوا وجبة الطّعام بسعرها المرتفع بغية المعونة الخيريّة ولو لم يكن بعدها هدية تُعطى لأحدهم بالقرعة، كما نشهد في المزادات الخيريّة التي تُباع فيها سلعة نافعة دون سعر مرتفع محدّد، بل يتنافس مشتروها بطريق المزايدة لدعم الغرض الخيريّ، ولو لم تكن هناك هدية تُعطى بالقرعة.(85/4)
وكثيرًا ما تضع المصانع أو الشركات التجاريّة في بعض علب بضائعها المعلّبة أوراقًا خاصّة، فمن صادف شراؤه علبة فيها ورقة، فإنه يستحقُّ هدية مبيَّنة بالورقة يأخذها من مركز الشركة. فهذا كله تشجيع على شراء هذه البضاعة، والمُشتري يشتري السلعة المعلَّبة لحاجته إليها، سواء أكانت فيها ورقة أم لا، بل كثيرًا ما تخرج له الورقة في العلبة، فلا يتكلَّف الذهاب لأخذ جائزتِها، بل يطرحُها.
فلا أرى بأسًا بهذا الأسلوب وهو ليس من باب اليانصيب، والله أعلم.
21/3/1412هـ.
29/9/1991م.(85/5)
حكم تخمين العقارات(3)
سؤال جاء من السيد عبد الحميد حنون قامشلي وفيه:
ـ هل يجوز شرعًا تَخمين العقارات والدُّور لإنقاص أجرتِها أو لزيادتِها حَسَب ما يسمح به القانون؟ ما دام اتفاق الطَّرفين تم على أجر معين؟
الجواب:
إذا كان القانون ليس فيه جَور وظلم، وإنما هو موضوع بمعرفة أهل الاختصاص والخبرة في الأمة لتنظيم الحقوق بين الناس على أساس العدل ومنع التحكُّم، فليس هناك من حرج شرعي على أحد في التمسك به وتطبيقِه على غيره كما يطبقه غيره عليه، والذي نرى أنّ قانون الإيجارات الحالي تتوافر فيه هذه المعاني، فلا بأسَ من تمسُّك الشخص بأحكامه. فإذا لم يكن في التخمين القضائي الذي يجري شيء من الانحراف والجَور والرشوة ونحو ذلك مما يحتمل وجوده، بل جَرى بمعرفة أهل الخبرة النُّزهاء العُدولِ فهو سائغ شرعًا، والله أعلم.
هامش
(3) مجلة حضارة الإسلام العدد الثامن ـ السنة الأولى 1380هـ/ 1960م.(86/1)
حكم تسجيل المحاسِب للفوائد الرِّبويّة
فضيلة الشيخ مصطفى الزرقا السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرجو أن يصلكم كتابي هذا وأنتم في أتم صحّة وعافية.
أرجو ألا أُثقِل عليكم وأنتم كثيرو المَشاغل ولديكم الكثير من الأعمال ولكن عسى أن يتَّسِع وقتكم لفتواي في مسألة أراها حسّاسة لِكونِها تتعلَّق بالرِّزق.
مسألتي أنني أعمَل محاسبًا وكثيرًا ما اضطرِرت لتغيير عملي عندما أُوضَع تحت خيار تسجيل الفوائد أو ترك العمل. حاليًا معروض علي عمل في غالبيته محاسبة تكاليف في مصنع. لكن بالسؤال سلفًا قبل تَسَلُّمِ العمل أفادوني أنهم لديهم في البنك حساب مَدين جارٍ، وهم يسحبون منه عند الحاجة؛ لأن لديهم مستحقّات بمئات الملايين متوقِّفة عند الدولة من سنوات، وإن عملت معهم فلابد من احتسابي وتسجيلي لهذه الفوائد. المشكلة أننا ـ معشرَ المحاسِبين ـ إمّا أن نترك هذا العمل برمته، أو أن نخوضَ في تسجيل واحتساب الفوائد. هل من مَخرج أم تروْن أن يسعَى المرء لتغيير العمل بعد هذه السنوات من الدراسة والمُمارسة؟.
جزاكم الله خيرًا وسدّد خطاكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
معتز مأمون ديراينه
جدة 12/6/1998م
الجواب:
ابن الأخ العزيز السيد معتز ديرانية ـ حفِظه المولى ـ السلام عليكم ورحمة الله وبعد:
وصلني سؤالك عن جواز عمل المحاسِب القانوني في تدقيق حسابات شَركات عملها الأصلي مشروع لكنها لا تتورع عن الاقتراض من البنوك بالرّبا وأخذ فوائد على حساباتها.
إن جوابَ سؤالك سهل وصعب في الوقت نفسِه.
فهو سهل إن قلنا إنّ هذا العمل المحاسَبي غير جائزٍ؛ لأنه يقع في نطاق الحديث النبوي الشريف الصحيح الذي يلعن آكِل الربا ومؤكِلَه وكاتبه وشاهديه، فإن المحاسِب كاتب.(87/1)
وهو صعب ومُحرج إذا لاحظنا أن جميع الشركات والمؤسّسات التجارية في العالم العربي والإسلامي ـ تقريبًا ـ هي من هذا النوع غير المشروع، ولو قلنا بعدم جواز عمل المحاسب القانوني في تدقيق حساباتها وإقرارها، فإن ذلك يعني عمليًّا ألَّا يستطيع المحاسبون العمل في ممارسة مِهنتهم إلا على نطاق ضيّق جدًّا.
فهذه حالة عموم البلوى التي بحثها الفقهاء وقرّروا فيها بعضَ أحكام استثنائيّة.
فقد قرر الحنفية أنّه إذا عمَّ الفساد وفُقِدَتِ العدالة يُقْبَل في القضاء شهادةُ الأمثل فالأمثل، لئلا يتعطَّل القَضاء.
وقرروا العفو عن سؤر الهِرة لعموم البلوى فيها؛ إذ تدخل البيوت من مختلف المنافذ، مع أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "الهِرّة سَبُعٌ"، أي هي من السِّباع المُفْتَرِسة، وهذا يستلزم نجاسة سُؤرها تبعًا للحمِها.
وقالوا: إن الإمام محمدًا صاحب أبي حنفية لما دخل الرّي، ورأى ريفها والآبار فيه مكشوفة والأنعام ترتع سائبةً، فيسقط بَعرُها في الآبار، وأن التحرُّز عنها غير مُمكن، أفتى ـ رحمه الله ـ بالعفو عن أبعار الأنعام، فإذا خَرج البعْر في الدَّلو يُطرَح البَعْرُ ويُسْتعمل الماء، دفعًا للحرج.
وورد في الحديث النبوي "ليأتينَّ على الناس زمان لا يَبْقى أحدٌ إلا أَكَلَ الرِّبا، فإن لم يأكلْه أصابه من بُخاره" وفي رواية "أصابه من غباره"(1)، وهو ضعيف السند لكن معناه محقَّق اليوم كما نرى جميعًا.
فالمحاسبة فرع من العلم يدرس في الجامعات، وهي باب رزق للكثيرين أمثالِك. وقد عمّت البلوى في الربا كما ذكرنا، فإذا سدَدْنا على المحاسبين الباب وقع المحاسِبون في حرج عظيم ولا يستطيعون تغييرَ اختصاصهم.
فالأولى أن يُعفى عن الكتابة والمحاسبة القانونيّة في الشركات لعموم البلوى، جمعًا بين مقاصِد الشّريعة والواقِع الذي لا يستطيع الأفراد تغييره.
هذا، وفي ضوء ما تقدّم يجب التمييز بين حالتين:(87/2)
1 ـ الشركات التي يكون أصل عملها مشروعًا ولكنها يدخلها التّعامُل بالفائدة دخولاً جانبيًّا، وهذه هي المقصودة بما سبق.
2 ـ الشركات التي يقوم أصل عملها على المحرّم كالبنوك الرِّبوية فإن أصل عملِها هو المُراباة. فهذه لا يجوز ممارَسة المحاسبة والكتابة فيها، إلا في حالات الاضطرار في حدود الضرورة الشرعيّة.
هذا ما أراه في قضيتك هذه وأمثالها، والله سبحانه وتعالى أعلم(2).
مصطفى أحمد الزرقا
الرياض 14/3/1419هـ.
8/7/1998م.
هامش
(1) أخرجه أبو داود في أوائل كتاب البيوع طـ. دار القبلة 1419، تحقيق محمد عوامة 4/114 والنسائي وابن ماجه.
(2) أخي الكريم: اعذرني عن تأخُّري في جوابك وأنا في المستشفى، وقد خرجت لأتمم نقاهتي في البيت. هذا وأرى لك أن تعرض جوابي هذا على جدِّك الأستاذ الجليل الشيخ علي الطنطاوي فإذا كان له رأي مخالِف فاعمل برأيه إن شِئت.(87/3)
حكم دفع الأجرة من نسبة المَبيعات
وحكم أخذ الشريك مرتَّبًا شهريًّا مقابل إدارته للعمل.
فضيلة الشيخ مصطفى أطال الله عمره ومتَّعه بالصِّحة والعافية.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
1 ـ يقوم بعضُ المؤسَّسات التجارية بدفع أجر مندوبي المَبيعات نسبة من المبالغ المحصَّلة، وبعضها يقوم بدفع مرتَّب ثابت ونسبة من المَبيعات أو من المحصَّلات الشهريّة، فهل هاتان الصورتان جائزتانِ؟
2 ـ وهل يجوز للشريك أن يكون له مرتَّب مقابل إدارته للعمل ويكون المرتَّب شهريًّا وثابتًا، وليس نسبة من الأرباح تُضاف إلى حِصته.
أفتونا جزاكم الله خيرًا والسلام.
وليد الزعيم
24/12/1997م.
الجواب:
1 ـ تجوز الصورتان:
يجوز أن يُجْعَلَ لأحد الشركاء مرتَّب شهري مقابل قيامة بإدارة العمل، ولكن الأحسن أن يُعْطَى نسبةً من الأرباح مقابل الإدارة.(88/1)
حكم شراء بيت أو سيارة عن طريق قرْضٍ مَصْرِفي في أمريكا
الأخ الكريم الأستاذ الدكتور محمد رشاد خليل المحترم.
رئيس جمعية الأميركان المسلمين، حفظه الله تعالى
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تلقَّيْت رسالتك المؤرَّخة في 15/3/1416هـ = 17/8/1995م (المرسَلة إلى عُنواني القديم بالجامعة الأردنية، وهذا سبب تأخُّري عليك بالجواب فمعْذرةً)، وحوْل الحُكم الشرعيِّ الإسلامي في شراء بيت أو سيارة بطريقِ قرضٍ مصرفيٍّ يأخذه المشتري لهذه الغاية في الولايات المتحدة الأمريكية، ويُوفِّيه على أقْساط عديدة لمدى طويل بفوائد قد تبْلُغ في النهاية ضعفَيْ أصل القرض، وتقتطع في حساب الوَفاء قبْل القرْض الذي يكون هو آخر ما يُوفَّى بعد الفوائد.
وقد تفهَّمت ما أوضحته في رسالتك المذكورة من الملابسات المحيطة بالموضوع، ومن آراء رجال العصر المختلفة فيه.
سُئلت أكثر من مرة عن هذا الموضوع، وخلاصة جوابي أُوجِزها لك كما يلي:
بِما أنَّ الواقع هناك أن القسط الذي يَدْفعه البنك بالطريقة التي شرحتها؛ يُعادل تقريبًا بدل الإيجار السنوي الذي يدفعه لو أنه استأجر بيتًا، بدلاً من أن يشتريَه بالطَّريقة المذْكورة، وفي النتيجة بعد سداد الأقْساط يُصبح مالكًا للبَيت، أما في الاستئجار فيخرج في النِّهاية صِفْر اليدين لا يَملِك شيئًا.
فمعنى ذلك أن طريق الاقتراض من المَصرف بالطريقة والشروط المذكورة يكون أربح له، وأكثر توفيرًا لماله عن الأداء للأجانب. وفي حالة القرْض تَسقط الفوائد المَصرفية من الضريبة التي يدفعها في حالة شراء البيت بماله دون اقْتراض من البنك.
إن الرأي الشرْعي في هذه الحال محلُّ خلاف بين أئمة المذاهب الأربعة:(89/1)
فمذهب الحنَفِية وإمامهم أبي حنيفة ـ رحمه الله ـ أنَّ كلَّ ما يوفِّر للمسلم مالَه إذا كان مستأمَنًا في دار الحرب (أي: غير دار الإسلام ولو لم نكن معهم في حالة حرب)، أو يُملِّكه شيئًا من أموالهم برضاهم بغير خيانة (أي: بصورة أصولية جائزة لديهم) هو جائز لذلك المسلم الموجود عندهم في ديارهم، ولو كان بطريقة غير جائزة شرعًا في دار الإسلام بالنظر الإسلامي، كالرِّبا أخْذًا منهم لا إعطاء، وكالعقود غير الصحيحة.
هذا مذهب أبي حنيفة خلافًا لبقية المذاهب الثلاثة (المالكي والشافعي والحنبلي) التي ترى أنه لا فرق بين ما يجوز للمسلم وما لا يجوز، بين كونه في دار الإسلام أو في ديار الأجانب غير المسلمين.
وفي مسألتكم تُعطونهم ربا عن القرض الذي تأخذونه، لكنَّ النتيجة أن المُعطِي يُملَّك البيت في النهاية، فتكون أربح له، وأوفر لماله، كما توفر عليه الضرائب الباهظة.
هذا، وإني لا أريد التضييق على المسلمين في الديار الأجنبية بصورة تَهدر أموالهم، وتُحْرجهم.
ومذهب الحنفية الفقهي هو أحد المذاهب الأربعة المعتبرة عند أهل السنة والجماعة، والمسلم مقبول منه دِينًا أن يتَّبع أحدها لا على التعْيين، إنْ لم يكن هو من أهل الاجتهاد.
فلذلك أنا أُفتي من يسألونني بالجواز على مذهب أبي حنيفة الإمام الأعظم رحمه الله تعالى.
أما منْ يقولون لكم من رجال العصر: إن الفوائد المصرفية ليست ربا، فهذا ليس فقط كلامًا فارغًا وجهلاً، بل هو ضلال وتضليل، فإن الفوائد المَصْرفية هي عين الربا المحرَّم لا شبهة في ذلك(6). والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
مصطفى أحمد الزرقا
الرياض في 27/5/1416هـ.
الموافق 21/10/1995م.
هامش(89/2)
(6) جاء في قرارات وتوْصيَات مجْمع الفقه الإسلامي، في إجابة عن بعض استفسارات المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن إجابة عن السؤال: ما حكْم شراء منزل السُّكنى، وسيارة الاستعمال الشخصي، وأثاث المنزل بواسطة قروض من البنوك والمؤسسات التي تُقرض ربحًا محدَّدًا على تلك القروض لِقَاء رهْن الأصول، علمًا بأنه في حالة البيوت والسيارات والأثاث عمومًا يُعتبر البديل عن البيع هو الإيجار بقسْط شهْري يزيد في الغالب عن قسْط الشراء الذي تستوفيه البنوك؟ فكان جواب مجلس المجْمع: لا يجوز شرعًا قرار رقم: 23 (11/3).(89/3)
حكم عدول المالِك عن بيع أسهُم
وهل يستحقُّ الوسيط العوضَ؟
فضيلة الشيخ مصطفى أحمد الزرقا
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد...
أرجو التفضُّل بإعطائي رأيكم الشرعي بالموضوع التالي:
اتفق شخص يملِك عددًا من الأسهم (ويُدْعَى فيم بعد "المالك") مع آخر على أن يقوم الآخر (ويُدْعَى فيما بعد "الوسيط") بالسعي لبيع أسهم المالك بسعر اتَّفق عليه الاثنان، على أن يحصل الوسيطُ على أي مبلغ يَزيد عن السعر المتَّفق عليه.
وبعد عدة أيام أحضر الوسيط شخصًا اجتمع مع المالك، واستفسر الشخص من المالك عن عدد الأسهم، وتأكَّد من ملكيّتها، ووعده بأن يجِد له المشتريَ أو المشترين، وقبل أن يُحضِرَ الوسيط الآخر أيَّ مشتر اتصل به المالك وأعلمه بأنه عدل عن البيع. والآن يطالب الوسيط الأول بعمولتِه على زعم أنه أوجد المشتري، وأنه بذلك استحقَّ العمولة ولو لم تتم الصَّفقة
فأرجو بيان رأيكم الشرعي، ولكم جزيل الشكر، ووافر الاحترام.
المحامي
حسان المحاسني
الجواب:
بالتأمُّل في هذا الاتفاق موضوع السؤال، تبين أن فيه شيئًا من الغُموض يجعله في حاجة إلى تكييف لتحديد طبيعته، ومعرفة نوعيّته، ليمكنَ إعطاؤه حكمَه وتحديد نتيجته بين الطرفين.
وقد تبيّن لي ـ بعد التأمل التحليلي في الصيغة المعروضة ـ أن هذا الاتفاق لا يخرج في طبيعته عن واحد من ثلاثة احتمالات، فهو:
1 ـ إمّا أن يكون توكيلاً من المالك للوسيط الأول ببيع الأسهم لِقَاءَ أجْر.
2 ـ إما أن يكون جَعالة على جعل مالي محدّد، قرّره المالك الوسيط لقاء بيع الأسهم بوساطته.
3 ـ وإما أن يكون تكليفًا من المالك للوسيط المذكور أن يقوم بمساعي سمسرة مأجورة للتوصُّل إلى بيع الأسهم المذكورة.
فلننظر.. أي من هذه الاحتمالات الثلاثة ينطبِق عليه، في ضوء الواقع المعروض، لكي يفسَّر به، ويأخذ حكمَه.(90/1)
هذا وقبل الاستعراض لكلِّ واحد من هذه الاحتمالات الثلاثة، وتنسيقًا للبحث أنبِّه إلى أن هذه الصيغة في بيان العِوض الذي يستحقُّ من يؤمر بعمل لمصلحة الآمر (صيغة أن الوسيط إذا باع الشيء المطلوب بيعه بأكثر من الحد الأدنى الذي حدده له المالك، فالزائد هو أجره) هذه الصيغة في تحديد العِوض تجعل العوض مجهولاً، وقد اختلفت الفقهاء فيها:" فالمشهور أن هذه الجَهالة في هذه الصيغة مُفسِدة للعقد؛ لأنها جَهالة فاحشة".
وبعضهم يرى أنها جهالة مغتفرة لا تفسِد العقد، فإذا باع المأمور الشيء بأكثر مما حدَّده المالك استحق الزائد، وإذا باعه بمثل ما حدّد له دون زيادة لم يستحقّ شيئًا.
وإني سأستعرض، في تكييف هذا الاتفاق، تلك الاحتمالات الثلاثة على الأساسين: (أولاً) على أساس أن هذه الجهالة مفسدة للاتفاق، و(ثانيًا) على أساس أنها مغتفَرة غير مفسدة، لنرى ما النتيجة في مسألتنا على كلا الأساسين، في ضوء الواقع المعروض في السؤال المذكور.
وأبدأ بتكييف هذا الاتفاق، وبيان حكمه الشرعي على أساس أن جهالة العوض في هذه الصيغة مفسدة للاتفاق:
أولاً: معالجة الموضوع على أساس أن هذه الصيغة مفسدة للاتفاق
1 ـ احتمال أن هذا الاتفاق توكيل:
إن التوكيل إنابة عَقْديّة، وقد عرفه الفقهاء بأنه:(90/2)
إقامة شخص لآخر مقامَه في التصرُّف (ر: مجلة الأحكام العدلية م/ 1449). أي: أن الشخص المقامَ يستطيع أن يتصرف في شؤون مَن أقامه لأجلِها، كما لو تصرَّف فيها الذي أقامه نفسه، فتكون تصرفات هذا الوكيل المقام في خصوص الشؤون التي حدِّدت له نافذة على الموكِّل بمجرَّد صدورها من الوكيل لا تحتاج إلى إجازة منه، كما تحتاج تصرفات الفضولي، ومن ثَمَّ يُعرِّفونها أيضًا بتعريف أوجز، أنها: تفويض التصرُّف إلى الغير، وهذا يعني أن الوكيل يملك سلطة التصرف بتمليك من الأصيل، فيستعمل الوكيل إرادته هو في التعاقُد، وينعقد العقد الموكل به بإيجابِه أو قبوله هو، وينفذ على الموكّل كما لو عقده بنفسه، وتلحقه آثاره من تمليك أو تملُّك وسائر حقوقه والتزاماته، هذه هي حقيقة التوكيل، وهي من بَدَهِيّات الفقه والقانون لا تحتاج إلى استشهاد بالنصوص ( وانظر المجلة م / 1461).
فهل هذا الاتفاق موضوع السؤال، يمكن أن يُفسَّر تكييفًا بأنه توكيل من المالك للوسيط الأول ببيع الأسهم؟
قطعًا لا يمكن اعتباره توكيلًا، والوسيط نفسُه لم يكن يعتبِر نفسَه وكيلًا، بدليل أنه إنما أحضر للمالك وسيطًا آخر "وعده بأنه سوف يجِد له مشتريًا أو مشترين للأسهم" المذكورة. ولو كان الوسيط الأول يرى نفسه وكيلاً لتعاقد هو مع من يجده من المشترين، وجاء إلى المالك ينبِّئه بأنه باع وأبرم بحكم وكالته، وطالبه بتسليم المُستنَدات، ولا حاجة به عندئذٍ إلى أن يُحضِر إليه مشتريًا ليتعاقدَ المالِك بنفسه معه، أو يحضر إليه وسيطًا آخر "يعِده بإيجاد مُشترٍ أو مشترين" كما هو مبين في نص السؤال.
فلا يمكن بحال أن يعتبر هذا الاتفاق توكيلًا، والوسيط وكيلًا، ولم يكن هو أيضًا يعتبر نفسه كذلك.
على أنه لو افترضنا غير الواقع واقعًا، وقلنا: إنه توكيل، فما النتيجة؟(90/3)
من المعلوم أن الوِكالة عقد غير لازم، أي: أن كُلًّا من طرفيها، الموكِّل والوكيل، يستطيع أن يعدِل عنها، ويتحلَّل منها بإرادته المنفرِدة دون توقُّف على رضا الآخر. وهذا بمقتضى طبيعتها لأنها من قبيل الاستعانة، وإن للإنسان ألَّا يستعين بغيره في حاجاته، كما أن له أن يعدل عن الاستمرار في الاستعانة إذا استعان، ثم أراد أن يتابع عمله بنفسه، فلا تكون الوكالة لازمة غير قابلة للعزل إلا استثناءً في حالات محدودة معدودة، منها ما إذا تعلّق بتنفيذها حق للغير، أي: لشخص ثالث، وليس موضوعنا أحدَ تلك الحالات الاستثنائية. (ر: المجلة / 1521/ و1522 ومجلة القارئ على مذهب الإمام أحمد م / 1209).
وإذا كانت الوكالة بأجر تداخلت فيها أحكام الوكالة مع أحكام الإجارة.
فمن حيث قواعد الوكالة تبقى غير لازمة في حق الموكِّل، فله العدول عنها بشرط إبلاغ عدوله إلى الوكيل قبل قيام هذا الأخير بتنفيذ الوكالة (بيع الأسهم في مسألتنا).
ومن حيث قواعد الإجارة يُعتبر الوكيل كالأجير، فإذا كان العقد صحيحًا وقام الوكيل بتنفيذ ما وُكِّل به استحق الأجر المسمَّى.
لكن الواقع في مسألتنا خلاف ذلك من وجهين:
1 ـ لأن المالك قد أنهى الوكالة، وعدل عن بيع الأسهم دون أن يُمارِس الوكيل عملية البيع التي وُكِّل بها، وإن من حق المالك هذا العدول، لما بينا أنها عقد غير لازم بطبيعته.
2 ـ ومن جهة ثانية أن هذه الوكالة وكالة بأجر تداخلتْ فيها قواعد الإجارة، وهذه القواعد توجب اعتبارها فاسدة غير صحيحة بسبب جَهالة الأجر فيها؛ ذلك لأنها لم يحدد فيها أجر معين كما توجبه قواعد الإجارة، وإنما جعل الأجر فيها ما يزيد عن الحد الأدنى الذي حدّده المالك الموكِّل لسعر السهم، وهذا بالنظر الشرعي غرَر وجهالة معًا.
فهو غرر لاحتمال أن لا يباع السهم بأزيد ممّا حدَّده المالك.
وهو جهالة إذا بيع بأزيدَ لعدم معرفة تلك الزيادة المُحتمَلة.(90/4)
وإن كل واحد من الغرر والجَهالة بمفرده مُفْسِد للعَقد، فكيف إذا اجتمعا؟!
ولكن هذه الوكالة ـ رغم فسادِها ـ لو قام الوكيل بتنفيذها وإنجاز ما وُكِّل به يستحق فيه أجر المثل؛ لأنه لم يرض أن يقوم بذلك إلا في مقابل عوض. لكن لما فسدت بعدم تسمية عوض فيها بصورة صحيحة، وجب الانتقال إلى أجر المثل شأن كل عوض في عقد فاسد، ولا سيَّما إذا كان الفساد بسبب جهالة العوض نفسه، أو عدم صحة تسميته، كما لو جعل العوض خمرًا مثلاً.(ر: مجلة القارئ على مذهب الإمام أحمد م / 1201).
وقد نصَّ الفقهاء أنه لو قبض المشتري المبيع في البيع الفاسد فهلك عنده يضمَن قيمتَه لا الثمنَ المُسمَّى، أما ضمانه فلأنه قبضه على أساس المعاوضة وليس على سبيل الأمانة. وأما وجوب القيمة، أي: ثمن المثل فلأن تسمية الثمن (أي: تقديره باتفاق الطرفين في صلب العقد) قد فسدت بفساد العقد، فوجب الرجوع إلى ثمن المثل الذي هو الأصل في تقويم الأشياء المضمونة.
وكذلك قالوا في الإجارة الفاسدة، إذا قام الأجير بالعمل الذي استؤْجِر عليه لا يستحق الأجر المسمَّى، لفساد التسمية بفساد العقد، وإنما يستحق أجر المثل (ر: مجلة الأحكام العدلية كتاب البيع م / 371، وكتاب الإجارة م / 461، وشرح علي حيدر على المجلة في الوكالة بأجر تحت المادة / 1467/، ومجلة القارئ في فقه الإمام أحمد م / 662/ و674).
هذه هي النتيجة بالنظر الفقهي إذا افترضنا غير الواقع واقعًا في هذا الاتفاق، فاعتبرناه، وكالة، (لكن قد أوضحنا قبلًا أنه لا يمكن اعتباره وِكالة، لِما سبق بيانه).(90/5)
فما يستحقّه الوسيط الأول في هذا الاحتمال الأكثر إلزامًا للمالك، إنما هو أجر المثل على ما قام به من سَعي لإيجاد مشترٍ خلال بضعة الأيام المذكورة في السؤال، وإن لم ينفِّذ ما وكل به، وذلك لأن المالك الذي استعمل حقه في العدول قد قطع عليه بعدوله هذا، طريق متابعة السعي لتنفيذ المطلوب، وهو لم يبذل ما بذل من مَسعًى إلا على أساس العوض، فلا يمكن إهدار مسعاه، فيستحق أجر المثل عما بذل من سعي في سبيل تحقيق المطلوب وإن لم يتحقق.
2 ـ احتمال كون هذا الاتفاق من قبيل الجعالة.
الجعالة هي أن يلتزم شخص بجعل مالي محدَّد لمن يقوم له بعمل يُحقِّق به له غاية معينة.
فإذا كان ذلك باتفاق بين الجاعل وشخص آخر، فهي عقد ذو طرفين.وذلك كمن ضاع له حيوان مثلاً، فاتفق مع شخص ليبحث عنه، ويُعيده إليه لقاء جعل محدّد. فإن وجده وأعاده إليه استحق الجعل، وإن لم يجده فلا شيء له. وكمن أراد أن يُنشئ في أرضه مَزرعةً فاتفق مع آخر لكي يحفِرَ له فيها بئرًا، ويستنبط الماء، فإذا حَفَر الماء استحق الجعل، وإن لم يخرج الماء فلا شيءَ له على الحفر.
وأما إذا كان الجاعل لم يتّفق مع شخص بعينه، وإنما أعلن للجمهور أن مَن أحضر إليه ضالتَه فله كذا، فهذا عندئذٍ من تصرُّفات الإرادة المنفرِدة، فمن أحضر الضّالة استحقّ الجعل.
ويقابل ذلك في القانون (في بحث الإرادة المنفرِدة من مصادر الالتزام) إعلان شخص عن جائزة مُحدَّدة لمن يقوم بعمل يحقِّق غاية معينة، أو لمن يخترع آلة تؤدِّي وظيفة معينة، فمن حقّق المطلوب استحق الجائزة (الجعل)، ومن لم يحقِّق المطلوب لم يستحق شيئًا مهما بذل من جهد.
وواضح أن الجعالة في صورتيها العقديّة والإراديّة المنفرِدة، وفي الفقه الإسلامي والقانون الوضعي معًا، إنما تُنشئ التزامًا بتحقيق غاية، وليس التزامًا ببذل عناية فقط، فما لم يحقق المجعول له الغايةَ المطلوبة لا يستحق الجعل (أو الجائزة) مهما بذل من جهد وسعي وعناية.(90/6)
ومن المقرَّر في الفقه والقانون أيضًا أن للجاعل أن يرجع عن الجعالة، ويلغيَ التزامه بالجعل قبل أن يقوم المجعول له بتحقيق المطلوب، أما إذا رجَع الجاعل بعد أن قام المجعول له بتحقيق المطلوب، فلا تأثير لرجوع الجاعل، بل يستحق المجعول له الجعل عليه؛ لأن حقَّه قد ثبت قبل رجوعه فلا يسقطه الرجوع.
فإذا طبَّقنا هذه القواعدَ في الجعالة على مسألتنا، وجدنا أن من الممكن اعتبارَ الاتفاق الحاصل بين المالك والوسيط من قَبيل الجعالة العقديّة بين طرفين معيّنين.
ولكن الجعالة أيضًا تتقارب أحكامها مع الإجارة، ويستمدُّ بعضها منها، فيشترط في الجعالة أيضًا أن يكون الجعل معلومًا محدّدًا.
فإذا كان مجهولاً فسَدت، وحينئذٍ إذا حقّق المجعول له في الجعالة الفاسدة الغاية المطلوبة، استحق أجر المثل كما في الإجارة، وليس الجعل المسمّى.
وفي مسألتنا الجعل مجهول فهي فاسدة، فلو أنه حقّق فيها المطلوب (وهو بيع الأسهم بسعر زائد عن الحد الأدنى المحدّد) استحق المجعول له أجرَ المثل وليس الزائد.
وبما أن الجاعل (وهو المالك) قد رجع عن الجعالة دون أن يبيع المجعول له الأسهم، فإن أقصى ما يمكن أن يستحقَّه على الجاعل المالك (بسبب عدوله عن البيع) هو أجر مثل ما بذله المجعول له من سعي في الأيام المذكورة في سبيل إيجاد مشترٍ، كما سبق القول في الكلام عن احتمال كونها وكالة بأجر.
3 ـ احتمال كون هذا الاتفاق تكليفًا بسمسرة.
السمسرة وساطة يقوم بها شخص بين طرفين راغبين في التعاقد (بائع و مشتر، أو مؤجّر ومُستأجِر...) لقاء أجر.(90/7)
والسمسار وسيط في المُفاوَضة والمساوَمة بين الطرفين، ناقل رغبة كل منهما وإرادته إلى الآخر، وليس وكيلاً عن أحد منهما، فمتى تمَّ التفاهم ينقل إيجاب كل منهما وقَبوله إلى الآخر، وينبرم العقد بذلك بينهما، ويستحق السمسار أجره، فهو مجرّد رسول ناقل، وليس بنائب يتعاقَد بإرادته إيجابًا وقَبولاً كالوكيل. والفرق بين الرسول والوكيل في الفقه الإسلامي والقانون الوضعيّ معروف. (ر: المجلة م / 1454).
أجر السمسار يخضع أصلاً للشرط، فإن لم يحدَّد بالاتفاق يخضع للعُرف بين التجار، فقد يكون عرفًا على مَن يكلِّفه، وقد يكون على الطرفين المُتعاقِدين بنسبة من السِّعر الذي يتمُّ به التعاقد.
ومن المعلوم الواضح أيضًا في السمسرة: أن من يكلِّف السِّمسار ببيع أو شراء، أو إيجار أو استئجار يستطيع الرجوع عن تكليفه، ولا يلتزم بالاستمرار عليه، ولو وجد السمسار له من يرغب في التعاقد المطلوب؛ لأن من المقرّر في قاعدة العقود (نظرية العقد) أن لكل من الطرفين أن يرجع عن رغبته في التعاقد قبل انبرام العقد بالإيجاب والقبول المستوفيين شرائطهما، حتى إن للموجِب أن يرجع عن إيجابه قبل صدور القَبول من المخاطب بالإيجاب، وهذا محلّ اتفاق بين فقه الشريعة والقانون الوضعي، لا يُستثنى منه سوى حالة الإيجاب الملزِم عند علماء القانون، فيما إذا حدد الموجب للمخاطب بالإيجاب أجلاً محدَّدًا للقبول، فإن الموجب عندئذٍ لا يملك حق الرجوع عن إيجابه قبل انتهاء الأجل.
فإذا طبقنا أيضًا هذه القواعد على مسألتنا في الاتفاق موضوع البحث نجد أن الاتفاق الواقع بين الطرفين، المالك والوسيط، هو أقربُ ما يكون إلى السمسرة، وأن هذا الوسيط ينطبِق عليه حكم السمسار تمامًا، بأنه ـ كما أوضحنا في الاحتمال الأول ـ ليس وكيلاً مفوَّضًا ليعقد بإرادته هو، (ولم يكن هو بمقتضى التكليف من المالك يرى نفسه وكيلاً نائبًا عن المالك في التعاقد دون الرجوع إليه في إبرام العقد).(90/8)
أما بالنسبة إلى أجر الوسيط في السمسرة، فإنه يُلحظ فيه ما بيَّناه في الاحتمالين الآخرين من الجهالة ووجوب الرجوع إلى أجر المثل، وأجر المثل في هذه الحالة أيضًا ليس هو أجر مثل السمسار لو أتمَّ تحقيق الصَّفقة بين المالك ومشتر جاء به، وتمَّ بينهما التعاقُد بسمسرته هو؛ لأن التعاقد لم يتم بوساطته مع مشترٍ وإنما أحضر للمالك سمسارًا آخر (وسيطًا آخر) قام بالاستيضاح من المالك، ووعده بأن يبحث له عن مشتر أو مشترين للأسهم.
فأجر المثل الذي يستحقُّه الوسيط الأول هو أجر مثل المسعى الذي بذله في الأيام المبيَّنة في السؤال بالبحث عن مشتر؛ لأنه إنما قام بهذا المسعى على أساس أنه مأجور لقاء عوض، وليس متطوِّعًا متبرِّعًا، لكن المالك قطع عليه متابعة هذا المسعى بعدوله عن البيع (ومن حقه شرعًا وقانونًا أن يرجع عن هذا التكليف، ويعدل عن البيع قبل وقوعه) فيستحق الوسيط عليه أجر المثل عن مقدار مسعاه.
إن جميع ما تقدّم بيانه مبنيٌّ على افتراض أن الصيغة المتفَق عليها لتحديد العوض الذي يستحقه الوسيط على المالك، تجعل العوض مجهولاً جهالة فاحشة مُفسِدة للاتفاق. فلننتقل إلى افتراض أن الجهالة في هذه الصيغة مغتفَرة لا تفسد الاتفاق، وهو الرأي الفقهي الآخر (كما بيّناه في أول هذا الجواب) لنرى النتيجة على هذا الرأي في ضوء وقائع المسألة.
ثانيًا: معالجة الموضوع على أساس أن هذه الصيغة صحيحة غير مُفسِدة للاتفاق.(90/9)
بيَّنا ـ فيما سبق ـ أن من الفقهاء من يرى أن الجَهالة في هذه الصيغة لتحديد العوض مغتفَرة غير مُفسِدة للاتفاق. وعليه فإذا باع المأمور الشيء بأزيد من السِّعر الذي حدَّده له الآمر، استحق الزيادة، وتكون هي أجرَه، وإذا باعه بقدر ما حدّده له دون زيادة فلا شيء له. فإذا جرينا على هذا الرأي الذي يراه بعض الفقهاء في هذه الصيغة، نجد أن النتيجة التي بيناها على الرأي المشهور بأن هذه الجهالة مُفسدة وغير مغتفَرة، تلك النتيجة لا تتغيَّر في وقائع هذه القضية محلِّ البحث؛ ذلك لأن استحقاق المأمور بالبيع للزيادة عن السعر الذي حدّده له الآمر، إنما يكون لو بيعت السلعة فعلاً بمسعاه بأزيد مما حدَّده الآمِر، لكن في حادثتنا المسؤول عنها لم يقع البيع أصلًا بسبب رجوع المالك وعدوله عن أصل بيع الأسهم دون أن يأتيَ الوسيط الأول أو الثاني بمشترٍ أصلاً.
وقد بيَّنا أن من حق المالك هذا العدول قبل البيع على جميع الاحتمالات في تكييف هذا الاتفاق، سواءٌ أَعتُبر وكالة (رغم استبعاد هذا التكييف للأسباب التي بيّنتها قَبلًا)، أم اعتُبِر جَعالة، أم اعتُبر سمسرة، وكان الوسيط مجرّد سمسار.
وعندئذٍ فإن هذا الاتفاق بين الطرفين ـ على افتراض صحّته مع هذه الجهالة في تحديد العوض ـ قد أصبح مُلغًى بعدول المالك عن البيع، وإبلاغه ذلك للوسيط، فلم يحصل بيع.
فاستحقاق الزيادة عن السعر المحدّد هو أمر معلّق على وقوع البيْع بزيادة على السعر المذكور، والأمر المعلق على شرط لا يتحقق إلا بوقوع الشرط المعلَّق عليه، والمشروط عُدِم قبل وقوع الشرط. (ر: المجلة م/ 82/ وشروحها والأمثلة). وبما أن الشرط المعلَّق عليه في مسألتنا قد استحال وقوعه بعدول المالك وصيرورة الاتفاق ملغى، لم يبقَ استحقاق الزيادة المشروطة مُمكنًا أصلًا.(90/10)
وبما أن الوسيط غير متبرِّع بمسعاه، بل هو عامل على أساس العِوَض، وقد استحال العوض المشروط لاستحالة الشرط المعلَّق عليه (وهو البيع بزيادة عن السعر المحدد) لم يبقَ مجال لتعويض الوسيط إلا بأجر المِثْل عن مسعاه الذي بذله قبل عدول المالك عن البيع، وهذه هي النتيجة نفسها التي رأيناها في مناقشة المسألة على الأساس الأول، وهو أن الجهالة المذكورة مفسِدة للاتفاق، فتفسد تسمية ما اشتمل عليه من تقدير العوض بهذه الصيغة؛ إذ من المقرَّر في القواعد الفقهيّة أنه إذا بَطَل المتضمِّن (بصيغة الفاعل) بَطَل المتضمَّن (بصيغة المفعول) (ر: المجلة م/ 52/ وشروحها والأمثلة).
هذا ما أراه في جواب هذه المسألة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
الرياض 23/3/1413هـ.
20/9/1992م.(90/11)
حكم عقد إيجار مُعِدّات بغرض إعادة بيعها
خلاصة عن هذه الاتفاقية:
إن شركة إسمنت احتاجت إلى / 75 / ناقلة لمنتوج مصنعها من الإسمنت السائب على السكة الحديديّة إلى حيث يُعَبَّأ، ثم يوزَّع مُعَبَّأً في أنحاء الدولة، فاشترت هذه الناقلات بطريق المناقَصة من الجهة الصانعة بطريق الاستصناع، ثم ثَقُل عليها الثمن ـ فيما يبدو ـ فلجأت إلى بعض البنوك الإسلاميّة ليحلَّ محلَّها في شراء هذه النّاقلات من مصنعها بثمن قدرُه ثلاثة ملايين دولار، يدفعها للمصنع البائع على خمسة أقساط في عام 1979، ويؤجِّرها من شركة الإسمنت (المشتري في الأصل) بأجرة سنوية قدرها / 320 / ألف دولار لمدة خمس سنوات تبدأ من 31/12/1979، بشرط أن تلتزم الشركة المستأجِرة بشراء هذه الناقلات في نهاية مدة الإيجار بحالتها التي تكون عليها إذ ذاك بعد الاستعمال بمقدار ثمنها ذاته؛ الذي اشتراها به المُؤَجِّر (البنك الإسلامي) من المصنع للصانع، أي: ثلاثة ملايين دولار تُدفع في نهاية مدة الإيجار، أي في: 31/12/1984 مع آخر قسط من الأجرة.
وقد تضمَّنت هذه الاتفاقيّة مواصفاتٍ وتفصيلاتٍ وشروطًا كثيرة بين الطرفين في خمس عشرة صفحة.
هذه الاتفاقيّة غريبة الوضع والتركيب: فعنوانها عقد إيجار مُعِدّات، ولكنها لا تنطبِق على قواعد الإيجار في شيء! فهل هي غِطاء لمُعاملةٍ أخرى؟
سأُبيِّن فيما يلي أهمَّ الملاحظات البارزة، تارِكًا كثيرًا من الجزئيات التي ليست ذات شأن كبير وذلك على أساسين:
(أولاً) على أساس أنها حقيقة عقد إيجار مُعِدّات للنَّقل.
(ثانيًا) على أساس أنّها معاملة من نوع آخر مُغطّاة بصورة إيجار.
(أولا) ملاحظات على أساس الإيجار.(91/1)
1 ـ إن ظاهر هذه الاتفاقيّة أنها في قوة ثلاثة عقود لا عقدٍ واحد، فهي: أولاً: في قوة بيع صادر من المشتري الأول لهذه المُعِدّات (وهو شركة الإسمنت) لمصلحة المُشتري الجديد (البنك الإسلامي)، يحلُّ فيه الثاني محلَّ الأولِ في امتلاك هذه المعدات وتسلمها من صانعها (البائع الأول)، وفقًا للمواصفات المشروطة.
وثانيًا: هي في الوقت نفسِه إيجار هذه المٌعِدات من مُشتريها الثاني لمشتريها الأول (الشركة) بأجرة محدّدة لمدة خمس سنوات.
وهي ثالثًا: بيع مشروط في عقد الإيجار المذكور، يلتزم فيه المستأجِر (المشتري الأول) بأن يشتريَها ثانية من المؤجِّر (البنك) في نهاية مدة الإيجار بعد استعمالها خمس سنوات، بثمنها الذي أدّاه المُشتري الثاني (البنك) إلى الصانع البائِع الأول وهي جديدة.
هذه العقود الثلاثة متداخِلة بعضُها في بعض، وواردة في صورة شروط في عقد الإيجار.(91/2)
وبقطع النَّظر عمّا في تداخل العُقود، باشتراط عقد ضمن عقد من وجهة نظر الفقه الإسلامي، هذا الأسلوب التعاقديّ الذي ينطبِق عليه في نظر فقهاء المذاهب ما ثبت عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من النهي عن صَفقتينِ في صفقة(2). (رغمًا عن اختلافهم في تف?سيره) يُلحظ علاوة على ذلك أن الشِّراء الجَديد الثاني لم يكن مستقِلًّا منفصِلًا عن الأول الذي بين الشركة والصانع، وإنما جعل حُلولًا مشروطًا في عقد الإيجار يحِلُّ فيه البنك محلَّ الشركة تجاه البائع الأول الصانع، وفي هذه الحال يجب أن يكون الاتفاق ثلاثي الأطراف، يدخل فيه البائع الأول؛ لأنه ليس مسؤولًا تجاه المشتري الجديد، وهو البنك، بمقتضَى أنّه غير بائع له ولا علاقة بينه وبينه، فلكي يحلَّ البنك في مواجهته محلَّ الشركة المُشترية منه، ويصبح مسؤولاً تجاه البنك عن المَبيع بدلاً من المشتري الأصلي يجب موافقة الصانع البائع، وعندئذٍ يكون تخريج ذلك فقهًا أنه فسخ، وإقالة للبيع الأول بين طرفيه (الصانع والشركة)، وبيع جديد بين الصانع والبنك، وبذلك ينحلُّ البيع الأول ويقوم البيع الثاني، ويكون الصانع مسؤولًا تِجاه المشتري الجديد (البنك) بكلّما يحمله البائع من التزامات تجاه الُمشتري وبالعكس.
ولكن الصانع بمقتضى هذه الاتفاقية الثُّنائيّة بَقِيَ بمعزِل عنها، فلا يمكن شرعًا جعله مسؤولاً بشيء تجاه البنك. ذلك أن هذه الصفقة بين الشركة والصانع هي في الأصل عقد استصناع، وفيه لا يجوز للمستصنِع أن يَبيع المصنوع قبل صُنعه وقبضه من آخر، ولا يُصبح الصانع بذلك مسؤولاً تجاه المشتري الجديد الذي لم يتعاقَد معه.
2 ـ يتضح مما سبق بيانُه أن البنك عند عقد الإيجار مع الشركة لم يكن مالكًا للمأجور بالوجه الشرعي، فكيف يؤجِّر ما لم يملِكه بعد. والخطأ في الموضوع هو في عدم سلوك الطريق الأصولي للوصول إلى المقصود، إن كان المقصود هو شراءً وإيجارًا حقيقيين.(91/3)
3 ـ جاء في آخر مقدّمة الاتفاقيّة: "أنه في حالة حدوث تعارض بين أحكام عقد البيع وأحكام هذا العقد ترجَّح هذه الأخيرة…".
فبقطع النظر عما في هذه العبارة من ركاكة وخطأ تعبير ظاهرين، يُلحظ أنه لا يجوز فقهًا ولا قانونًا ولا عقلاً المراجَحة عند التَّعارُض بين عَقدين من نوعين مختلِفين في طبيعتهما وأحكامهما الشرعيّة والقانونيّة.
فالترجيح عند التعارُض يُمكن أن يتصوَّر بين عقدي بيع، أو بين عقدي إيجار، أو عقدي صلح مثلًا كلاهما من نوع واحد، فعند تعارُض الالتزامات المشروطة ما بين أحدهما والآخر، يمكن أن يُتَّفق على ترجيح ما في أحدهما على الآخر.
أما بين إيجار وبيع فكيف يمكن ذلك، ولكلٍّ من العقدين قواعده وآثاره الشرعيّة والقانونيّة المستقِلّة والمختلِفة، وما يُمكن أن يُشرَط في أحدهما لا ينطبِق على الآخر.
فالبيع مثلًا ينقل الملكيّة في العين، والإجارة لا تنقلها وإنما تملك المنفعة، والبيع لا يقبل التوقيت لملكيّة البيع، والإجارة لا تصحُّ بلا توقيت.
4 ـ جاء في آخر المادة الأولى من الاتفاقيّة شرط لمصلحة المؤجِّر يقضي بجعل جميع نفقات التسليم وما إليه، وجميع الرسوم الجمركيّة وسواها على عاتق المستأجِر.
إن قبول هذا الشرط في عقد إيجار لا تقبله القواعد الشرعيّة، وليس هو منطقيًّا بذاته في عقد إيجار حقيقي!(91/4)
فهذه النَّفقات من تَوابِع الملكيّة، وهي على عاتق المالك، ولا سيّما الرسوم الجمركيّة، فهي من صميم كُلفة المالك، وتحسب في ثمن الشيء عند بيعه، فلا علاقة فيها للمستأجِر من قريب أو بعيد، فشرط جعله عليه هو كشرط إلزامه بجزء من قيمة المأجور، وهذا عكس مقتضى عقد الإجارة، فإن المالك المؤجِّر فيها ملزَم بتهيئة المأجور كاملاً صالحًا للاستعمال على حسابه هو ونفقته، حتى إن صيانة المأجور ونفقتها التي يحتاج إليها نتيجة الاستعمال المعتاد (وليس من سوء الاستعمال)، ويتوقّف عليها استمرار كمال الانتفاع بالمأجور، هي أيضًا على المالك المؤجِّر، بمقتضَى أنه ملزَم بتسليم المأجور للمستأجِر صالحًا للاستعمال كامل المنفعة المأجور لأجلها طِوال مدّة الإجارة. فلو توهَّن مثلًا سطح المنزل المأجور فإصلاحه على المالك. على أنّه قد يمكن فقهًا قَبول شرط نفقات بعض أنواع الصيانة على المستأجر. أما الرسوم الجمركيّة فهي من تتمة الملكيّة، والنظر فيها يختلِف عن نفقات الصِّيانة الدوريّة الاستهلاكيّة. فاشتراطُها على المستأجِر يقلِب موضوع العقد، ولا سيما إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الرسوم الجمركيّة لا ضابِط لمقدارها، بل تتبع سياسة وإرادة المشرع الجمركيّ، فقد تكون نسبة ضئيلةً من القيمة فتصبح بين عشيّة وضحاها بجَرّة قلم أضعافًا مضاعَفة من القيمة، لسببٍ ما كالحماية، أو الحدِّ من الاستيراد مثلاً.
5 ـ المادة (2) من الاتفاقية جعلت من التزامات المستأجر أنه يتحمَّل جميع المخاطِر والمسؤوليات المتعلِّقة بحالة أو استعمال المُعِدّات على عاتِق المستأجِر "فيما عدا حقِّ الرجوع على الصانع طبقًا لما هو محدَّد في المادة / 11".
ويُلحظ هنا أن حقَّ الرجوع على الصانع البائع هو للمشتري (هو البنك) وليس للمستأجِر، فكيف يُستثنى من التزامات المستأجِر؟! تصوُّر غير سَديد ولا مفهوم.(91/5)
وبالرجوع إلى المادة / 11 / المُحال عليها، نَراها تنصُّ على: أن المؤجِّر مفوِّض للمستأجِر في الرجوع على الصانع إذا ظهر ما يوجِب الرجوع عليه.
وحينئذٍ هو في هذا الرجوع نائب لا أصيل، بدليل أن المادة المذكورة جعلت ما يحكم به في هذه الحال على الصانع حقًا للمؤجِّر لا للمستأجِر، فكيف يُستثنى من التزامات المستأجر؟
على أن في هذه المادة / 11 / المُحال عليها أمرًا أغرب من هذا، وهو ما جاء فيها بالحرف الواحد: "وفي جميع الأحوال يُلْزِمُ ـ أي: المستأجِر ـ بتعويض المُؤجِّر عن كل ذلك".
فلماذا يعوِّضه؟ إن المؤجِّر أخلَى نفسه من كل مسؤوليّة حتى عن نقص المعِدات، وكل ضَرر يحصل، ولو من إهمال الصانع، قد جعل على عاتق المستأجِر، فأضرار المستأجِر نفسِه كيف يلتزم بتعويض المؤجِّر عنها؟ غير مفهوم !
6 ـ جاء في المادة (3) من الاتفاقية تحت نتائج عدم التسليم ما يلي:
"في حالة عدم التسليم الجزئي للمُعِدات تستحقُّ الأجرة وثمن المَبيع للمؤجِّر في الآجال المُتَّفق عليها".
وهذا مقتضاه: أنه إذا سلَّم الصانِع نصفَ المُعِدّات ـ مثلًا ـ ولم يسلِّم الباقيَ يَبقَى المستأجِر ملتزِمًا بأداءِ الثّمن لِما لم يسلَّم وأداء الأجرة عنه أيضًا، فكيف يَقبل هذا شرعًا أو قانونًا أو عقلاً؟! وأي قاعدة قانونيّة يقوم عليها هذا العقد من قواعد البيع أو الإيجار.
وكيف يُقبل من البائع أن يستحقَّ الثمن دون تسليم المَبيع، أو من مُؤَجِّر أن يستحقَّ الأجرة دون تسليم المأجور؟.
إن هذا الشرط أشبهُ بالشروط التي يُمليها الغالبُ على المغلوب في الحروب، لا بالشروط التعاقديّة في ظِلّ تَشريع ينظّم الأحكام الأساسيّة في العقود على أساس الحقِّ والعدل، ويخضع لها المُتعاقِدون.(91/6)
7 ـ جاء في المادة (4) عن التسليم: "أن المستأجر يعترف بأنه تعَهّد للمؤجِّر بأن المُعِدّات المسلَّمة إليه ـ أي: ستسلّم ـ سوف تُعتبر في حالة جيِّدة وليس فيها عَيب أو خَلَل ظاهر ومطابَقة للمواصفات المتّفق عليها من طرف الصانع، مع عدم الإخلال بمسؤولية الصانع قبل المستأجِر… وأنه متنازِل عن أيّة مطالَبة ضد المؤجِّر بخصوص المُعِدّات المُشار إليها".
ويُلحظ في هذا الشأن ما يلي:
أ ـ إن هذا الاعتراف باطِل شَرعًا وقانونًا، فلا قيمةَ له و لا تأثير؛ لأنه اعتراف بما سيكون لا بما هو كائِن.
والاعتراف هو صيغة خبريّة تُسمَّى في لغة الفقه والقانون: إقرارًا، والإقرار هو إخبار بسبب ملزِم للمُقِرّ واقع في الماضي. فاعتراف المستأجِر بأنه سوف يتسلّم المأجور، وسيكون سليمًا ليس له قيمة اعترافه بأنه قد تسلّمه بالفعل سليمًا؛ لأن الاعتراف بما سيكون لا يجعله كائنًا، وهذا من بَدَهيات الأمور.
ب ـ إن المؤجِّر شرعًا عليه التزامات أساسيّة وفرعيّة، فالأساسيّة لا يجوز اشتراط تحلُّله منها (إخلاء نفسه كما عبرت الاتفاقيّة)، ومن ذلك التزامه بتسليم المأجور صالحًا لاستيفاء المنفعة المعقود لأجلِها.
وأما الالتزامات الفرعيّة، كبعض النفقاتِ الإصلاحيّة التي يحتاج إليها المأجور، فيمكن تحميلُها بالاتفاق على المُستأجِر.
ج ـ إن عبارة "مع عدم الإخلال بمسؤوليّة الصانع قبل المستأجِر" التي وردت في المادة (4) المذكورة هي عبارة لا معنى، ولا جدوى لها. فإن مسؤولية الصانع ـ وهو بائع ـ إنما هي تجاه المشتري منه (وهو المؤجِّر) وليس للمستأجِر على الصانع أي حقٍّ أو مسؤولية تخوِّله خصومته.
(ثانيًا) على أساس أن الاتفاقيّة معاملة من نوع آخر مغطًى بصورة إيجار.
ممّا تقدّم ـ وليس هو كلُّ ما يُلحظ على هذه الاتفاقية من ناحية الإيجار ـ يتضح أن هذه الاتفاقيّة لا تنطبق عليها قواعد الإيجار، وليس فيها معناه الحقيقي.(91/7)
فهذه الشروط القاسية التي تُنافي مقتضَى عقد الإيجار، وتُعفي المؤجِّر من جميع مسؤولياته العَقْديّة (بلا استثناء)، وتَستوفي ثمنَ المأجور المشروط التزام المستأجِر بشرائه في نِهاية المُدّة، مع الأجرة كاملين غير منقوصين ولو في حالة نقص التسليم من قبل الصانع البائع، كل هذا يجعل هذا العقد أشبهَ بالقرض الذي يُقصَد به التمويل لقاء فائدة، لا بعقد إيجار. فكأنَّما الإيجار بشرط البيع الإلزامي في نهاية المدة هو تغطية للقرض التمويلي؛ الذي يشتري فيه المُقترِض ما يشاء على مسؤوليته، والأجرة هي تغطية للفائدة، ثم يردُّ المقترِض مبلغَ القرض في الموعد المحدَّد للوفاء تحت اسم ثمن المأجور الذي سينقلب إلى مَبيع.
وهذا ما يُستنتَج بطريق الإشارة الدقيقة من الفقرة التي تنصُّ على أنه (إذا لم يَشتر المستأجر المُعِدّات بعد السنوات الخمس التي هي مدة الإيجار تظلُّ الأجرة سارية).
وهذا، كما لا يَخفى، نظيرُ بقاء فوائدِ القَرض ساريةً إذا لم يُوَفَّ في ميعاده، والمؤجِّر هنا متحلِّل من كل مسؤولية عن المأجور مسبَقًا، كما يتحلَّل المُقْرِض المُموِّل من كلِّ مسؤولية عن المشروع الذي سيموِّله القرض.
ويؤكِّد هذا المعنى: التزام المستأجِر شرطًا في آخر الاتفاقيّة، بأن يدفع في نهاية مدة الإيجار ثمنًا للمُعِدّات بعد استعمالها خمس سنوات معادِلًا لثمنها الذي كان أدّاه المؤجِّر إلى الصانع وهي جديدة. مع أنها لو كانت عمليّة شراء حقيقيّة لمأجور من الآليّات استُعمل هذه المدة لكانت قيمتُه بعد هذا الاستعمال أقلَّ بكثير من قيمته جديدًا.
فواضح من ذلك أن هذا في الحقيقة ردُّ لقرض تحت ستار مُعِدات مأجورة، يشتريها المستأجِر في نهاية مدة الإيجار، والأجرة خلال المدّة هي مقابل الفائدة في القرض.
ولو أن العقد كان في قصد العاقدين شراءً وإيجارًا حقيقيين لكان مَقبولًا شرعًا، ولكن يجِب عندئذٍ تعديل جوانب عديدة مُبهَمة من الشروط المصطنعة للتغطية.(91/8)
النتيجة:
1 ـ أرى أن مثل هذه الاتفاقية يجب أن يتجنَّبها كل بنك إسلامي؛ لأنها إذا شاعت لديه ـ كطريقة مسلوكة ـ تؤذي سمعتَه الإسلاميّة.
2 ـ يمكن أن يتحقق مقصود البنك بطريق شرعي سليم إذا أريد الاستثمار بالإيجار حقيقة، ذلك بأن تطلب الشركة من البنك أن يشتريَ هو المُعِدّات بشرط أن تستأجِرَها منه بعد الشراء بأجر معيّن، وذلك قياسًا على طريقة المُرابحة في الأمر بالشراء (حين يطلب أحد من آخر أن يشتري شيئًا يحتاجه الطالب الآخر، على أن يشتريَه من المأمور بثمن مقسَّط وربح معيّن).
وهو الطريق الذي فتحته البنوك الإسلاميّة المحليّة في معاملاتِها، وطرق استثمارها بناءً على بعض نصوص وتخريجات فقهيّة صحيحة. فيحلُّ شرط الإيجار للآخر محلَّ شرط البيع تقسيطًا له ربح معيّن، مع ملاحظة أن كُلًا من عقدي الشراء والإيجار يتمُّ بطريقه الشرعي. ثم بعد انتهاء مدة الإيجار يمكن بيع هذه المأجورات من مستأجِرها بما تُساويه في حالتها الحاضرة. على أنه لو شُرط هذا البيع والشراء في نهاية المدة منذ البداية مع الأمر بالشراء والإيجار، فإن من المُمكن قَبوله شَرعًا في قواعد المُشارَطات العَقْديّة، على أن يكون ذلك بالقيمة التي يُساويها في النهاية؛ كي تنتفي منه الصورة المُصطنَعة لتغطية قرض رِبوي يُراد استعادته كاملًا مضمونًا.
12/ 1410هـ.
9/1990م.
هامش
(2) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ نهى عن بيعتين في بيعة، أخرجه الترمذي (1231) في البيوع، وقال: حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم، والنسائي (4632) في البيوع. ويُنظر تفسير الحديث في "تهذيب السنن" 5: 105 لابن القيم.(91/9)
حكم عقد التّوريد في الشريعة الإسلامية(3)
وَرَدَ إلَى الأستاذ مصطفى الزرقا
السؤال الشرعي التالي ننشره بنصِّه مع جوابه عليه تعميمًا للفائدة حول الموضوع التالي. قال السائل:
إني أتعاقَد مع دائرة رسميّة، على أن أقدِّم ما يلزم من خَضْروات ولحوم وما إليها، وجميع هذه الأصناف معلومة السِّعر مجهولة الوزن في أصل العقد، حيث لا يعْلمون ما يستهلكون خلال مدة العقد وهي أربعة أشهر غير أنَّهم يطلبون كل يوم خلال مدة العَقد حاجتِهم واستهلاكهم بوزن معلوم وسعر معلوم. وإذا أردنا أن نبيعَهم كلَّ يوم صفقة جديدة، فإن هذا متعسِّر جدًّا؛ لأن البيوع للدوائر الرسميّة تحتاج إلى مناقصة ومعاملة لا تنتهي بعشرة أيام.
عندنا بعض العلماء حرَّموا تلك المعاملةَ وقالوا: العقد فاسد وفيه شرط ونفع يؤدِّي إلى المنازعة.
هل التعاقُد التالي غير جائز مُطلقًا في كل المذاهب ولا يُقِرُّه الشرع؟
السائل: (س. ع) من حمص.
الجواب:
"… وبعد فجوابي في الموضوع أن هذا التّعاقد اليوم (واسمه القانوني عقد التوريد) هو صحيح شرعًا غير فاسد كما هو صحيح قانونًا؛ لأن الشرع غير مقصور على المذهب الحنفي الذي أفتوك بمقتضاه أن هذا العقد فاسد؛ لأن فيه شرطًا وجَهالة تؤدّي إلى المنازَعة. وفي المذهب الحنفي نفسه ليست كل جهالة تُفسد العقد، بل هي الجهالة الفاحشة التي تؤدي إلى نزاع مُشكِل، وهو النزاع الذي تتساوَى فيه حجّة الطرفين كما لو قال: (بعتك شيئًا بثمن) فالبائع يريد تسليم أحقرِ شيء وأخذ أغلى ثمن؛ لأن عبارة العَقد تصلح لمُراده، والمُشتري بالعكس قد يُريد أنفس شيء بأرخص ثمن؛ لأن عبارة العقد أيضًا تصلُح لمُراده، فهذا نزاع مُشكِل تتساوى فيه حجّة الفريقين بسبب الجهالة، فيفسد العقد. أما إذا كانت الجهالة لا تؤدي إلى نزاع مُشكِل فلا تضر ولا تفسد، كما لو باع شخص لآخر ما في صندوقه (وهو مجهول المضمون) بثمن معيَّن، ونصوص الفقهاء في ذلك صريحة(4).(92/1)
وعقد التوريد هذا المسؤول عنه يشبه إلى حد كبير بيع الاستجرار الذي نصَّ عليه الحنفية، كما أنه أولى بالصحة من البيع بما ينقطع عليه السعر الذي صححه الحنابلة، مع أن فيه كَمية محدودة والسِّعر غير محدَّد عند العَقد(5).
لذلك يكون قياسُها على أحدهما قِياسًا صحيحًا، ولا سيَّما أن الحاجة العامّة اليوم تدعو إلى ممارسة عقد التوريد، كما أنه أصبح متعارَفًا. وقد نصّ الحنفيّة على أن العرف يُصحِّح الشروط الفاسدة إذا تُعورِفت، وجرى عليها التعامل؛ لأنها بالتعارف ينتفي من طريقها النزاع؛ إذ تصبح مألوفة، ويبني العاقدان عليها حسابهما، فلا تكون مفاجأة غير مألوفة قد تُخِلُّ بالتوازن بينهما وتؤدّي إلى النزاع.
ولا يخفى أن عقد التوريد قد أصبح فيه عرف شامل، ولا سيما بعد أن قررته القوانين.
هذا ما أراه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
هامش
(3) مجلة حضارة الإسلام ـ العدد الثامن ـ السنة الأولى 1380هـ / 1961م.
(4) وهذا موضح في كتابي (المدخل الفقهي العام) في الفقرتين 46/6، 46/7 الطبعة الجديدة
(5) وهذان النوعان من البيع موضَّحان أيضا في كتابي (المدخل الفقهي العام) في الفقره 232 من الطبعة القديمة 42/16 من الطبعة الجديدة فليرجع إليها من شاء.(92/2)
حكم عمليات الإيجار التي تمارِسها بعض البنوك
الإسلامية في نشاطاتها الاستثمارية ووسائل التمويل
التي تتَّفق مع أحكام الشريعة الإسلامية
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تلقيتُ كتابكم الكريم متضمِّنًا سؤالَكم المتعلِّق بموضوع عمليات الإيجار التي يمارسها البنك في جملة نشاطاته الاستثمارية، ووسائل التمويل التي تتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية.
وإليكم جوابي الذي يظهر لي في الناحية المسؤول عنها من الوجهة الشرعية:
إذا أُريد سلوك طَريق الإيجار في عمليات تجمع بين التمويل التنمويِّ والاستثمار كإيجار السُّفن والطائرات وقِطارات السكك الحديدية ونحو ذلك، فإن لعَقد الإيجار الشرعي شرائطَ وأحكامًا عامةً وقواعدَ لابدَّ من مراعاتها وتوافُرها؛ ليحقِّق معنى الإيجار، وينعقد عقده، وتثبت آثاره بين طرفيه: المؤجِّر (البنك) والمستأجِر، وأبرز هذه القواعد ما يلي:
1 – إيجار الأشياء لا ينعقِد على معدوم، فلا بد أن يكون المأجور موجودًا حين عقد الإيجار بصورة صالحة لاستيفاء منافعه المقصودة من إيجاره، أي: صالحًا للاستعمال المأجور لأجله. حتّى إنه لو امتنع إمكان استيفاء منافعه المأجور لأجلها خلال مدة الإيجار، ينفسِخ عقدُ الإيجار تلقائيًا، كما لو احترقت الدار المأجورة للسُّكْنَى، أو غَرِقَت الأرض المأجورة للزراعة ونحو ذلك.
ومن المُمكن إضافة الإجارة إلى زمن مستقبل كإيجار دار الآن مدةً معينة تبدأ أول السنة القادمة. ولكن يجب أن تكون الدار موجودة عند التعاقد، ولكن حقّ المستأجِر في تسلُّمها والانتفاع لا يبدأ إلا في أول السنة القادمة.(93/1)
والإيجار في هذا أضيق من البيع، فإنّ البيع يمكن عقده على معدوم ملتزَم وفاؤه في الذمّة مستقبلاً بطريقة عقد السَّلَم وشرائطه، أما الإجارة فلا تصح في معدوم أصلاً ولا سَلَمَ فيها؛ لأن المأجور يجب تعيينه بذاته في العقد، فلا يمكن أن يكون المأجور دَينًا في الذمّة معيّنًا بنوعه ووصفه ومقداره، كما في بيع السَّلَم دون تعيينه بالذات.
2 – إن الأجرة عِوض لمنافع المأجور، فلا يستحق المؤجِّرُ الأجرةَ إلا مِن حين تسليمه المأجورَ إلى المستأجِر، وهو صالحٌ للاستعمال، واستيفاء منافعه المأجور لأجلها بصورة مستمرة في مدة الإيجار، فقبل استيفاء منافع المأجور فعلاً، أو تمكين المستأجر من استيفائها لا يصبح عوضها وهو الأجرة حقًّا للمؤجِّر، وإن كان من الجائز اشتراط تعجيل الأجرة، ويكون عندئذ على المستأجر تعجيلها، لكنها لا تصبح حقًّا نهائيًا للمؤجر إلا بعد استيفاء المنافع أو التمكين منه، كتسليم مفتاح الدار، ومُضِيّ مدة تكفي عادة لوصول المستأجر إليها، فعندئذٍ يبدأ حساب سَريان الأجرة عليه مع الزمن.
3 – إن الأجرة المحدَّدة في العقد ملزِمة للطرفين طوال المدة المحدّدة للعقد، ولا يجوز تعديلها نقصًا أو زيادة خلال مدة الإيجار إلا باتفاق الطّرفين.
هذه قواعد أساسية في عقد الإيجار لا يجوز الإخلال بها؛ لأن مفهومَ الإيجار يقوم عليها.(93/2)
هذا ويبدو من تصوير عملية الإيجار التي ذكرتموها في كتابكم الكريم، وانتهيتم منها إلى النقطة المسؤول عنها، أن العملية تتكون من اتفاقية واحدة تتضمَّن توكيل البنك للجهة الراغبة في استئجار تلك المأجورات الاستثمارية الكبرى (كالسفن والقطارات ونحوها) في أن تشتري لحساب البنك تلك الأشياء التي تحتاج هي إلى استثمارها منه، وتستوردها، وتقوم بتركيبها لديها حتى تصبحَ صالحةً للاستعمال، كل ذلك وكالة عن البنك الذي يصبح مالكًا لها، وإيجار البنك هذه الأشياء لوكيل الشراء نفسه، بعد تركيبها وصيرورتها صالحةً للتشغيل، يقلب الوكيل مستأجرًا لها، ويبدأ حساب الأجرة عليه، ولكن بدلاً من أن ينتِظر تحقيقَ تركيبها فعلاً لتصبح الأجرةُ سارية عليه، تحدِّد الاتفاقية المذكورة مدّة تقديريّة كافية للتركيب يبدأ بعدها سريان الأجرة، باعتبار أن الأجرة لا تلزَم المستأجِرَ إلا بعد تسلُّمه المأجور صالحًا للاستعمال، كما أسلفت في بيان القواعد العامة في الإجارة، ومن هذه الثُّغرة ينفَذ الوكيل المستأجر إلى طلب إطالة مدة التركيب بحجة تبيّن عدم كفايتها لكي يؤخر بَدء سريان الأجرة عليه، وقد يكون هو المتهاوِن المقصِّر في عملية التركيب، ويقع البنك في مشكلة معه، فيريد البنك طريقة شرعية تحفظ له مِقدار الأجرة المتفق عليها دون أن يتأثر مقدارُها بإطالة مدة التركيب التي يتأخر فيها سَريان الأجرة، فأقول:
إن هذه الإجارة بالصورة الموضَّحة غير صحيحة من أساسها؛ لأنها إجارة لمعدوم فلا تصحُّ كما أوضحت؛ لأن الإجارة (التي تضمَّنتها الاتفاقية المشتمِلة على التوكيل بالشراء مع عقد الإيجار المضاف سريان آثارِه لما بعد تمام التركيب) هي إجارةٌ معقودة على معدومٍ حين التعاقُد، فلا تصحُّ.(93/3)
والواجب أن يتمَّ التوكيل بالشراء والاستيراد والتركيب لحساب البنك أولاً، ثم بعد تمام التركيب وقيام الشيء المطلوب بصورة صالحة للاستعمالِ، يؤجّر بعَقد جديد يبدأ فيه حساب الأجرة منذ تسليم المأجور صالحًا للاستعمال.
والمشكلة إنما نشأت من الطريقة المُلتوية التي يراد بها تحقيق نتائج قرض تمويلي رِبوي للجهة المُحتاجة لتلك الأشياء، وإلقاء جميع الأعباء عليها، ثم استعادة مبلغ القرض مع فوائده باسم بدل إيجار، دون أن يدخل المؤجِّر في استيراد المأجور وتهيئته ليكون صالِحًا للتشغيل، ودون أن يتأثر مبلغ الأجرة بطول مدة هذه التهيئة التي يتوقف عليها حقُّه في الأجرة.
فإذا أريد تثبيت حقِّ المؤجِّر دون أن يتأثر بذلك، فإن غِطاء الإيجار ينحسِر، وتُصبِحُ العملية قرضًا تمويليًّا رِبويًّا سافِرًا.
ففي الصورة المعروضة يتضح أن الإيجار غير منعقد في أصله شرعًا لوقوعه على شيء معدوم، فلا مكانَ للبحث في إمكان تثبيت حقّ المؤجِّر في الأجرة دون أن تتأثر بتمديد مدة التركيب، أو عدم إمكان ذلك التثبيت؛ لأنّ النظر في ذلك يعتمِد قيامَ إيجار صحيح بين الطرفين، وهذا غير موجود في واقع الحال بالنظر الشرعي.
والطريق الشرعي ليكون الإيجار صحيحًا هو أنه بعد توكيل البنك نائبًا عنه (طالب الاستثمار أو سواه) لشراء المُعِدّات المطلوبة واستيرادها وتركيبها وصيرورتها قابلةً لأداء عملها ومنافعها بالتشغيل (وهي إلى هذه المرحلة على ملكية البنك، ويتحمّل هو تبعةَ ما يمكن أن يُصيبها من خطر وما يظهر فيها من عيوب) بعد هذه المرحلة كلها يجب إجراء عقد الإيجار عليها بين البنك والجهة المستأجِّرة.
وحينئذٍ لا يبقَى مجالٌ للبحث في مشكلة عدم كفاية المدة التقديرية للتركيب، والحاجة إلى تمديدها مع استمرار عدم سريان الأجرة خلالها... إلخ؛ لأن عقد الإيجار، وبدء سَريان الأجرة إنما يكون بعد التركيب الكامل، وصَلاحيّة الآليّات والمُعِدّات للعمل.(93/4)
هذا وقد ذُكر في المذاكرة الشفهية بالأمس أن طالب الاستئجار قد يطلب استئجار قطعة أو عدة قطع باهظة الثمن تتمِّم آليّة كبيرة موجودة عنده، وواضح عندئذٍ أن هذه القطعة كقطع الغيار لا يمكن لمالكها تقديمها بطريقة الإيجار؛ لأن الإيجار يكون محدَّدًا بمدة يعاد بعدها المأجور إلى المؤجِّر، وقطع الغيار لا يمكن نزعها من الآليّة التي تدخل فيها وإعادتها؛ إذ تضرَّر الآلية، وتتعطل بنزعها منها، ففي هذه الحالة يكون الطريق الطبيعي لتلبية حاجة صاحب الآلية هو سلوك طريقة بيع المُرابحة للآمر بالشراء، وهي من الطرق الشرعية التي تتعامل بها البنوك الإسلامية القائمة في البلاد العربية اليوم، فيَطلُب المحتاج إلى القطعة أو القطع من البنك أن يستورِدَها بناءً على طلبه وأمْره، ثم يبيعُه إياها بثمن مُقَسَّط، وربح محدَّد.
هذا ما أراه في هذا الموضوع، والله تعالى هو الموفق للصواب.
20/4/1403هـ
3/2/1983م(93/5)
حكم عمولة السمسرة(12)
سؤال جاء من السيد محمد شهيد يوسف نانه من القامشلي وخلاصته:
إن يوسُف دفع لإبراهيم مبلغًا معيّنًا من المال فاشترى به ماشية، وإن يوسُف يقدِّم لإبراهيم مساعداتٍ كثيرةً، من أمكنة للماشية وإكرام له..وإن أتى للمدينة وباع له الماشية برضائِه، فإنه يأخذ من المشتري ليرة واحدة على كل رأس، أو إن باع إبراهيم الماشية دون حضور يوسف، فإن يوسف أيضًا يأخذ ليرة واحدة على كل رأس من إبراهيم، وذلك لقاء الدّراهم ولقاء الخدمات التي يبذلها يوسف له، وإن يوسف لا ينالُه شيء من طرف إبراهيم من ربح أو خسارة.
والسؤال هو: هل ما يأخذه يوسف من المشتري عندما يبيع الماشية حَلال، وكذلك عندما يبيع إبراهيم الماشية دون حضور يوسف ويأتي له بالسمسرة؟
الجواب:
ما يقوم يوسف ببيعه له ما يأخذه من عمولة لقاءَ السمسرة وما إليها، وما يبيعه إبراهيم في غِياب يوسف إن كان يبيعه في محلّ يوسف، فكذلك يحل ليوسف ما يأخذه لقاءَ استخدام محلِّه لأجل البيع، أما إذا كان إبراهيم يبيع في غَيبة يوسف وفي غير محلِّه، فلا يجوز ليوسف أن يأخذ منه شيئًا؛ لأنه لم يوجد من جانبه ما يسوِّغ له الأخذ، وكونه قد أقرضه ثمن الماشية لا يصلُح سببًا بل يجعل المسألة من قَبيل كلِّ قرض جَرَّ نفعًا للمُقرِض فهو حرام. هذا ما يظهر لي، والله أعلم.
هامش
(12) مجلة حضارة الإسلام ـ السنة الرابعة ـ العدد التاسع 1383هـ.(94/1)
حكم مشاركة النصراني أو المرتد أو الذي في ماله ربا أو حرام
فضيلة الشيخ مصطفى الزرقا ـ حفظه الله تعالى.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
هل تُباح مشاركة أحدٍ من هؤلاء في عمل تجاري:
1 ـ النصرانيّ؟
2 ـ المرتدِّ عن الإسلام بإنكار معلوم من الدّين بالضّرورة؟
3 ـ الذي في ماله رِبا أو في ماله رِشوةٌ أو مالٌ مَغصوب؟
الجواب:
1 ـ تجوز مشاركة النصراني بالتّجارة.
2 ـ المرتدّ عن الإسلام لا تجوز مُعاملته.
3 ـ الذي في ماله رِبا أو حرام آخر تُكره معاملتُه ومشارَكتُه.(95/1)
حكم مشاركة غير المُسلم في عمل تجاري
فضيلة الشيخ مصطفى ـ حفظه الله تعالى ـ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
هل يجوزُ للمسلِم أن يشارِك في عمل تجاري مُرتدًّا(كأن يكون دُرْزي المذهب) ونيّته في الشِّراكة أن يتعلّم منه بعض أسرار العمل، ثم يفضُّ هذه الشِّراكة معه؟ أفتونا جزاكم الله خيرًا والسلام.
23/12/1997م.
الجواب:
دروز اليوم لا يطبَّق عليهم حكم المرتدِّ لأن هؤلاء اليوم لم يدخلوا في الإسلام ثم ارتدُّوا، وإنما هم أجيال سلفِهم الأُول الذين ارتدُّوا، وأصبحوا فيما بعد فرقة من الفِرق الخارجة عن الإسلام. وهم الآن في الواقع مواطنون، فلا بأس بالمعاملة المسؤول عنها معهم.
حكم المضاربة في مشروع استثماري
إلى فضيلة الشيخ الزرقا ـ حفظه الله ـ والسلام عليكم ورحمة الله.
هناك مشروع استثماري في (تركية) للأتراك فقط، ويوجَد شخص لديه مال يريد استثمارَه في هذا المشروع، ولأنه أجنبيٌّ، فسيكون المال باسم صديق (تركي)، وبشرط أن يستردَّ الأجنبيُّ المالَ من الأرباح، وما فضل عن ذلك يكون مناصفةً بين التركي والأجنبي، فهل يحلُّ ذلك أم هو حرام؟ وإن كان حرامًا فما صيغة الحلال في هذا الاستثمار؟
26/6/1418هـ.
الجواب:
الأخ السائل المحترم:
تلقيت سؤالك أعلاه، وإليك جوابي:
1 ـ إذا كان الذي يعمل في استثمار المال هو الشخص التركيّ فإن هذا العقد حينئذٍ هو مضارَبةٌ على نصف الأرباح، فلا مانعَ منه شرعًا.
2ـ وإذا كان الذي يعمل هو الأجنبي صاحب المال نفسه فإن هذا أجرٌ للتركي لقاء إعارة اسمه. وكذلك لا أرى به بأسًا من الناحية الشرعية فيما يبدو لي، لكن فيه مخاطرة؛ لأن رأس المال بحسب الظاهر باسم التركي إذا أراد أن يغدِر. فصاحب المال أدرَى بمدى هذه المخاطَرة إذا لم يكن واثقًا من أمانة التركيّ، والله أعلم.
الرياض 26 جمادى الآخرة/ 1418هـ.
27/10/1997م.(96/1)
حكم هبة الأبِ لابنته جزءًا من ثمن دار اشترتْها
ما الحكم الشرعي في الواقعة التالية:
رجل عَرَض على بناته أن تشتريَ مَن تشاء منهنَّ دارًا فتدفع هي ثلثَ ثمنها وهو يدفع الثلثين، وتكون الدّار ملكًا لها على أن تكون له منفعة الدار كلِّها مدة حياتِه.
وقد قامت إحدى بناته بتحقيق رغبته فعلًا، فاشترت دارًا تم دفع ثمنها منها ومن والدها، وسجَّلت الدار باسمها ملكًا لها مع تسجيل حق الانتفاع لأبيها مدة حياته، واستمر والدها يقبِض أجر الدار بكاملها إلى أن تُوفِّي، فقامت أخواتها بتاريخها طالبات منها التنازل من حِصّتها الإرثيّة عن مقدار ما دفع والدها من ثمن الدار، فهل يحِقُّ لهنَّ ذلك شرعًا.
الجواب:
إن ما قدّمه الأب من ثمن الدار بالصورة المذكورة يُعتبر تبرُّعًا منه لابنته المُشترية التي سجّلت الدار على ملْكيتها، ينطبق عليه حكم الهبة من الأب لابنته المذكورة. وقد تم تنفيذ هذه الهبة تسليمًا وتسلُّمًا، إما بدفع المبلغ إن كان قد أعطاها إيّاه نقدًا واشترت هي الدار، وإما بتسجيل العقار على مِلكيتها مع الشرط المذكور. بأن ينتفع بها مدى حياته، إن كان الأب قد اشترى هو حِصّته الثلثين، وسجّلها لها على اسمها وملكيّتها.
ففي الحالة الأولى (حالة دفع المبلغ للبنت وقيامها هي بشراء الدار كلِّها) إن كانت هي الواقعة، يكون الموهوب هو المبلغَ الذي دفعه إليها أبوها حين شرائها الدار.(97/1)
وفي الحالة الثانية (حالة شرائه هو الثلثين وتسجيلهما باسمها) يكون الموهوب هو هذه الحِصّةَ من الدار المشتراة. والهبة لا تتم إلا بالقبض، أي: بتسليم الموهوب إلى الموهوب له، وقد حصل هذا التسليم في الحالتين: ففي الحالة الأولى قد تمّ تسليم المبلغ الموهوب بدفعه إلى البنت الموهوب لها. وفي الحالة الثانية قد تم تسليم الحِصّة العَقارية الموهوبة (وهي الثلثان) بتسجيلها على ملكيتها، فإن تسجيل العقار في السجل العقاري هو تسليم كامل؛ لأنه هو المعتبَر في نقل الملكيّات وسائر الحقوق العينية العقارية. وهذه هي فتواي ورأيي الشرعي منذ القديم بشأن نظام التسجيل العقاري الحديث ومفعوله بالنظر الشرعي، وهو مشروح بالتفصيل في مؤلفاتي، وهو الاجتهاد المستقرّ في محكمة النقض أن التسجيل تسليم.
وعلى هذا تكون الهبة تامّة في جميع الاحتمالات في هذه القضية، سواء أكان الأب قد سلمها مبلغًا، أو اشترى حِصّته من الدار، وسجّلها باسمها.
هذا، وإن الهبة قد تكون مُطلَقة، وقد تكون بشرط عِوض، وكل ذلك جائز شرعًا، وهي في هذه الحادثة هبة بشرط عوض، والعوض هنا هو منفعة الدار للأب مدى حياته، وقد تمّ وفاء العوض بقبضِه أجرة الدّار كلِّها إلى حين وفاته، فليس لأحد بعد ذلك من الورثة الآخرين تجاه البنت المذكورة أيُّ حقٍّ أو مطلب في عين الدار أو ثمنها، وليس عليها شرعًا ولا قانونًا أن تتنازَل لهم عن شيء من حصّتها الإرثيّة في تركة والدها، بل تستقِلُّ هي بالدار ملكًا ومنفعة بعد وفاة والدِها، وتُشاركهم في التركة إرثًا بحِصّتها الشرعيّة. والله سبحانه وتعالى أعلم.
كلية الشريعة ـ الجامعة الأردنية
2 رجب 1394هـ.
21/7/1974م.(97/2)
حكم هدم مسجد وإعادة بنائه وتوسعته
وجعله في الطابق الثاني
معالي الأستاذ مصطفى الزرقا
وقوفًا عند حدود الشرع الحنيف، ورغبة من وزارة الأوقاف في معرفة الأصول الواجب اتباعها في حالة هدم مسجد وإعادة بنائه وتوسعته، فقد قرّر مجلس الأوقاف والشؤون والمقدَّسات الإسلامية بقرار رقم 4 من الجلسة الرابعة عشرة المؤرخة في 28/5/1972 ما يلي:
تشكيل لجنة برئاسة معاليكم وتزويدكم بكافة الوثائق المُتوفِّرة بخصوص مسجد السلط الكبير لدراسة النواحي الفقهيّة المتعلِّقة بجواز هدم المسجد المذكور على ضوء التقارير الفنية المُرفَقة، وإعادة بنائه وتوسعته، وجعله في الطابق الثاني بعد بناء عدد من المخازن في الطابق الأول.
أرجو العلم، وإجراء المُقتضَى في أقرب وقت ممكِن.
والسلام عليكم
وزير الأوقاف والشؤون والمقدَّسات الإسلاميّة
إلى معالي الدكتور إسحاق الفرحان وزير الأوقاف والشئون والمقدّسات الإسلامية المحترم في المملكة الأردنيّة، حفظه الله تعالى.
بناءً على كتابكم الكريم المؤرخ في 17/4/1392هـ = 30/5/1972م ذي الرقم 15 مساجد / 3523/ الذي عهدتُم فيه إلىَّ بتحقيق الحكم الشرعي في مسجدٍ ضاقَ بأهل مَحِلّتِه: هل يجوز هدمه وإعادة بنائه لتوسعته بحسب الحاجة على أن يُرفَع عن الأرض، فيُجعَل الطّابقُ الأول من البناء، أي: الطابقُ الأرضيُّ، محلاتٍ تجاريةً موقوفة تُستغَلُّ بالإيجار لمصلحة الوقف ويُقام المسجد فوقها؟
اجتمعنا نحن المُوقِّعين بعد أن توزَّعَنا العمل في مراجعة نصوص المذاهب الفقهية الأربعة، واستعرضْنا ما تمَّ إعداده من هذه النصوص المذهبيّة، فتبيَّن لنا أن المذهب الحنبلي هو أوسع المذاهب الأربعة وأرحبُها في هذا الموضوع.
وقد جاء في المراجع المعتبرة التي رجعنا إليها من المذهب الحنبلي ونصوص فقهائه الكِبار ما يلي:
1 - قال ابن قدامة في كتاب الوقف من "المغني" ( ج 6 ص 30 ـ الطبعة الجديدة نشر مكتبة القاهرة) ما نصه:(98/1)
"قال أحمد ـ في رواية أبي داود ـ في مسجد أرادَ أهلُه رفعَه عن الأرض، ويجعل تحته سِقايةٌ وحوانيتُ، فامتنع بعضهم من ذلك، فينظر إلى قول أكثرهم".
ثم بيَّن ابن قدامة بعد هذا اختلافَ فقهاء المذهب في أن كلام الإمام أحمد هذا محمول على مسجد قائم يُراد هدمُه ورفعه بهذه الصورة كما هو الظاهر من الرواية، أو هو محمول على ما إذا أريد بناءُ مسجد من البداية على هذه الصورة، وإن كان هذا الحمل خلاف الظاهر.
2 - وجاء في "مطالب أولي النهي" للرحيباني شرح " غاية المنتهى" للشيخ مرعي الكرمي في أواخر كتاب الوقف أيضًا (ج 4 ص 374) مَتنًا وشرحًا ما نصه ـ باختصار يسير وبعض التصرف ـ :
"ويجوز رفع مسجد إذا أراد أكثرُ محلّتِه ذلك، وجعل سفلِه سِقايةً وحوانيتَ يُنتفَع بها لما فيه من المصلحة، والظاهر أنه يجوز لِجُنُب ونحوه الجلوسُ بتلك الحوانيت لزوال اسم المَسجديّة". انتهى.
ثم ذكر عقب ذلك أن الشيخ تقيَّ الدين (ابن تيمية) رحمه الله سُئِل في مسجد قائم أراد بعضهم أن يبنيَ فوقه بيتًا وقفًا له، إما لينتفع بأجرته في المسجد، أو ليُسكِّنَه إمامَه، ويرون ذلك مصلحة للإمام أو للمسجد، فأجاب رحمه الله بأنه:
إذا كان ذلك مصلحةً للمسجد، بحيث يكون ذلك أعونَ على ما شرعه الله ورسوله فيه من الإمامة والجماعة وغير ذلك، فإنه ينبغي فعله، كما نصّ على ذلك ونحوه غير واحد من الأئمة، حتى سُئِل الإمام أحمد عن مسجد لاصق بالأرض، فأراد أهله رفعه، وأن يبنُوا تحته سقاية، وهناك شيوخ (مُسِنُّون) فقالوا: نحن لا نستطيع الصعود إليه، فقال أحمد: ينظر ما أجمع عليه أكثرهم. أهـ.
ثم قال الشيخ تقي الدين ـ رحمه الله ـ معلِّلاً ذلك:(98/2)
"ولعل ذلك أن تغيير صورة المسجد وغيره من الوقف لمصلحة راجحة جائز؛ إذ ليس في المساجد ما هو مُعيَّن بذاته إلا البيت المعمور، وإلا المساجد التي تشدُّ إليها الرِّحال، إذ هي من بناء الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ، فكانت كالنصوص عليه (أي: على مسجديّته) بخلاف المساجد التي بناها غيرهم، فإن الأمر فيها يتبع المصلحةَ التي تختلف باختلاف الأعْصار والأمصار ". أهـ.
جاء في آخر كتاب الوقف من "منتهى الإرادات" لابن النجار (ج 2 ص 21) ما نصه:
ويجوز رفع مسجد أراد أكثر أهله ذلك، وجعل سفله سقايةً وحوانيتَ.
هذا، وقد جوَّز الحنابلة نقل المسجد من مكان إلى مكان آخر إذا دعت الحاجة والمصلحة إلى ذلك، ويسمُّون هذه العملية "مناقَلةً" في الوقف، ويجوِّزونها في غير المسجد من العقارات الموقوفة بطريق الأولوية.
وهَذه المُناقلةُ في غيرِ المَسْجِدِ مَحَلُّ اتِّفاقٍ في مُعظَمِ المذاهِب الفِقْهِيّةِ عِند الحاجةِ، كَما لو تَوهَّنَ عَقارُ الوقْفِ، وضَعُفت غَلَّتُه حَيثُ يُباعُ ويُشْترَى ما هو أحسَنُ منه، فيَحِلُّ محَلَّه في الوقفيّةِ، أمّا في المسجدِ فإنَّ المُناقلةَ محَلُّ خِلافٍ بَينَ المذَاهِبِ.
وحجة الحنابلة في الجواز صَنيعُ عُمرَ بنِ الخطّاب ـ رضيَ الله عنه ـ في خلافته حين نقَب اللصوص جدارَ بيت المال في الكوفة وسرَقوا منه، فأمرَ عمرُ عبدَ الله بن مسعود، رضي الله عنهما ـ بنقل المسجد، وجعل بيت المال في قبلتِه لأجل الرِّقابة؛ لأن المسجد لا يخلو من المُصلِّين، وجعل موضع المَسجد السابق سوقًا للتَّمَّارينَ.
ونقل صاحب "مطالب أولى النهى" تعليقًا على هذه الحادثة للشيخ شهاب الدين بن قدامة في كتابه عن المناقلة في الأوقاف، قال رحمه الله:(98/3)
"الصحابة إذا ذاك مُتوافِرون، ولم يُنْقَل إنكارُها عن أحد منهم، بل عمر هو الخليفة الآمِر، وابن مسعود هو المأمور الناقل، وإنما ظهرت المصلحة في نقل المسجد لحراسة بيت المال الذي جُعِل في قبلة المسجد الثاني.
ثم نقل في "المطالب" أيضًا موافقة كثير من فقهاء المذهب الكبار والشيخ تقي الدين بن تيمية على ذلك، وتأليف بعضهم رسائل في ذلك، فلينظر في المحل المذكور من "المطالب".
وجاء أيضًا في كتاب "الفروع" وتصحيحه في باب الوقف تأييد ذلك.
الرأي:
يتضح من هذه النصوص ما يلي:
أ ـ أنَّ نقلَ المسجد من مكان إلى آخر، وإباحةَ المكان الأول لكل داخل إليه لزوال المسجديّة عنه جائز عند الحنابلة للحاجة والمصلحة بإطلاق، خلافًا لغيرهم ممن يَعتبرون صفة المسجديّة في المسجد دائمةً لا تزول إلى قيام الساعة، ويعطُون هذه الصفةَ لما تحت المسجد من أعماق الأرض، وما فوقه من هواءٍ.
ب ـ أن جواز نقل المسجد عند الحنابلة من مكان إلى مكان آخر تتغير به بقعتُه الأرضيّة، يدلُّ بالأولويّة على جواز رفعه في أرضه نفسها، وجعل سفلِه حوانيتَ موقوفة للاستغلال. وهذا ما قد صرحوا به فيما نقلنا من نصوص؛ لأن هذه الحالة الثانية تبقَى فيها أرض المسجد موقوفةً، ويبقَى المسجد على هوائها، وإنما ارتفع عنها طبقةً.
وممّا يَستدعِي الانتباهَ ويؤيِّد تعليل الشيخ تقي الدين ابن تيميةَ رحمه الله (من أنه لا يُوجَد في نظر الإسلام ما هو متعيّن للمسجديّة بعينه سوى المساجد الثلاث التي تشدُّ إليها الرِّحال لأنّها بناها الأنبياء) أنَّ مسجد الكوفة الذي نقله عمر ـ رضي الله عنه ـ لتحقيق حراسة دائمة على بيت المال قد كان من المُمكن تحقيقُ المقصود دون نقل المسجد، وذلك بنقل بيت المال نفسه إلى صقب المسجد دون العكس، فلجوء عمر ـ رضي الله عنه ـ إلى نقل المسجد نفسه لهذه الغاية يؤيِّد كل التأييد رأي شيخ الإسلام ابن تيمية وتعليله.(98/4)
ج ـ أن تقييد الإمام أحمد جواز رفع المسجد وبناء حوانيت أو سقاية تحته للحاجة بمُوافقة أكثر أهل المحلّة مفروض في مسجد محلةٍ يقوم عليه أهلها، ويُديرون شؤونه بأنفسهم، كما كان في الماضي زمن الإمام أحمد ـ رحمه الله تعالى.
أما اليوم، وقد أصبح للأوقاف والمساجد إدارات رسميّة، بل وزارات تمثِّل وليَّ الأمر العام، فإن الموافقة عندئذٍ مَرجِعُها هي الإدارة الرسمية، ومع رأي أهل العلم والدِّين في ذلك إذا دعت الحاجة أو المصلحة العامة، كضيق المسجد أو توهُّنه أو تحقيق الصيانة لمفروشاته من البِلَى والتعفُّن إذا كانت أرضه رَطِبةً، أو لتحقيق نظافته وتنزيهه عن دخول الأولاد والمتسكِّعين، أو سوى ذلك من الاعتبارات المصلحيّة.
هذا، ولا يخفَى على أحد من أهل العلم أنّ الأمة غير مكلّفة باتِّباع مذهب بخصوصه من مذاهب الأئمة المجتهدين ـ رضي الله عنهم ـ جميعًا.
على أن في المذاهب الأخرى تعليلاتٍ فيما يقرب من هذا الموضوع تؤيد ذلك، فقد جاء في مجلة الأزهر (عدد جمادى الأولى 1372هـ = 22/5/1953م).
أقوال من مختلف المذاهب، منها ما يلي:
1 - جاء في كتاب "الوقف" من رد المحتار للعلامة ابن عابدين من متأخري الحنفية أنه إذا كان الطريق ضَيِّقًا والمسجد واسعًا، لا يحتاج إلى بعضه، جازت الزيادة في الطريق من المسجد، لأن كلًّا منهما للمصلحة العامة. أهـ.
2 – وجاء في "حاشية العدوي على الخرشي" من كتب المالكية في باب الوقف أن ما كان لله فلا بأس أن يُستعان ببعضه في بعض.
لذلك اتفقت آراء أعضاء اللجنة المكلَّفة(3) تمحيص أهل الرأي الشرعيّ في هذه الناحية على جواز رفع المسجد القائم على الأرض، وجعل سفله حوانيتَ موقوفةً للاستغلال لما فيه من مصلحة للوقف بزيادة غلته وقدرته على تحقيق ما وقف لأجله، كما يجوز بناء المسجد ابتداء على هذه الصورة بطريق الأولوية.(98/5)
ولكن اللجنة لا ترى أن يتجاوَزَ رفع المسجد عن الأرض طبقةً واحدة فقط، فلا يجوز أن يُجْعَلَ تحته عدة طبقات من المخازن والحوانيت ونحوها من المراكز التِّجارية، وجعل المسجد فوقها جميعًا؛ لأن رفع المسجد أكثر من طبقة واحدة يؤدِّي إلى صعوبة الصعود إليه، وتثاقل الناسِ من السعي إليه للصلوات، وهذا يعكس الغاية المصلحيّة التي بُنِيَ لأجلها المسجد، ويؤدِّي إلى محذور تقليل المُصلِّين الآمّين للمسجد، ولا يجوز أن يكونَ غرضُ الاستغلالِ، وتكثيرُ غلّة الوقف مؤدِّيًا إلى عكس الغاية التي وُقِفَ المسجد لأجلها، أو إلى صعوبة فيها. والله سبحانه أعلم
11 من جمادى الآخرة / 1392هـ.
22/ تموز / 1972م.
هامش
(3) وأعضاء اللجنة هم: الشيخ محمد محيلان، والشيخ عز الدين الخطيب، والشيخ إبراهيم زيد، والشيخ أسعد بيوض، برئاسة الأستاذ مصطفى الزرقا.(98/6)
حكم وديعة مَصرِفيّة لأخوين
وهل يَلزَم تنفيذُ شرطِهما؟
إلى فضيلة العلامة الكبير مصطفى أحمد الزرقا:
نرجو التكرُّم بالإجابة عن هذا السؤال:
أخوان اثنان، اتَّفقا على أن يُودِعَا وديعةً في البنك، ويكون التوقيع لكليهما مُجتمِعَين ومُنفَرِدين.
ونصَّ الاتفاق بينهما على أنه عند وفاة أحدهما تؤول أموال هذه الوديعة للآخر، فهل هذا الاتفاق ملزِم للبنك، وتعتبر الأموال الموجودة للأخ الباقي على الحياة، أم أن الاتفاق يعتبر باطلاً، ولا وصية لوارث، إذا حكم بها؟
4/تشرين الأول / 1995
إن جواب هذا السؤال يَحتاج إلى تفصيل يميِّز فيه بين حالتين:
فإمّا أن يكون مال الوديعة المَصرِفيّة التي أودعها الأخوان في البنك مشترَكًا بينهما معًا يملِك كلٌّ منهما في الواقع نصفَه، أو يكون المال كلُّه من أحدهما مِلكًا له، وقد أعطى أخاه الثانيَ حقَّ التوقيع معه مُجتمِعَين ومُنفرِدَين، لثقتِه به.
أ) ففي الحالة الأولى (كون الوديعة مِلكًا مشترَكًا بينهما) إذا تُوفِّي أحدهما فإن نصف الوديعة يبقى ملكًا للآخر بطبيعة الحال، والنصف الثاني يُعتبَر وصية له، فإن كان هذا الآخر غير وارث (كما لو كان للمتوفَّى ابنٌ ذَكَرٌ) فإن هذه الوصية له صحيحة واجبة التنفيذ إذا كانت تخرج عن ثلث تركة المتوفَّى، فإن زادت عن الثلث توقَّف الزائد على إجازة بقية الورثة.
وإن كان الأخ الباقي وارثًا مع ورثة آخرين، كانت هذه الوصية له موقوفة على إجازتهم: فإن أجازوها نفذَت، وإلا بَطَلَتْ وعادَت إلى التَّرِكة.
ب) وفي الحالة الثانية (كون الوديعة في الواقع ملكًا لأحد الأخوين، وإنما أعطى أخاه الآخرَ حقَّ التوقيع فقط) إذا تُوفِّي هذا الآخر غير المالك، فإن الوديعة تبقى كلها للأخ المالك، ويكون هذا الشرط عندئذٍ تعبيرًا عن واقع الحال، وهو ملزِم للبنك.(99/1)
أما إذا كان الذي توفِّي هو مالك الوديعة، وكان الأخ الباقي غير وارث، فإنها يجري عليها حكم الوصية الصحيحة الموضَّح في جواب الحالة الأولى.
وأما إذا كان الأخ الباقي وارثًا يطبَّق حينئذٍ أيضًا حكم الوصية للوارث، فتكون موقوفة على إجازة باقي الورثة، ولو لم تتجاوز ثلث التَّرِكة.
والبنك في الحالين مُلزَم بتطبيق هذا التفصيل ما دام الأخوان الاثنان على قيد الحياة، ولا يلتزم عند الوفاة بالشرط المذكور، وإنما هو مُلزَم بقَبول أمر أحدهما وتوقيعه ما داما حيَّينِ فقط.
ج) وإذا كان الواقع مجهولاً بالنسبة لملكيّة الوديعة، ولا يُعرف: هل هي مملوكة لهما معًا أو لأحدهما فقط، ولم يمكن إثبات أحد الاحتمالين، تعتبر الوديعة عندئذٍ مشتركة بينهما ملكًا ومناصفة، عملاً بالظاهر، ويطبَّق ما بينته في جواب الحالة الأولى.
الرياض في 14/5/1416هـ.
8/10/1995م
مصطفى أحمد الزرقا(99/2)
حكْم التعْويض لشيك مفْقود انخفضت قيمةُ صرْفه
سؤال لفضيلة العلامة الشيخ مصطفى الزرقا حفظه الله:
1) في تاريخ 13/12/1992م تم إصدار شيك بالجِلْدر الهولندي بمبلغ 90000 جلدر بسعر الصرف السائد في حينه وهو (2.114).
2) في 16/1/1993م طلَب العميل إيقاف الشِّيك المذكور بسبب فُقْدانه.
3) في 13/2/1993 صدر خطاب التعميد بالتعويض، وتمَّ إرساله إلى الفرْع لتعويض العميل.
4) تأخر الفرع في التبليغ حتى 2/5/1994م الأمر الذي ترتَّب عليه انخفاض السعر للجلدر الهولندي الأمر الذي يحمل العميل 14851 ريالاً سعوديًا إضافيًا حتى يستطيع الحصول على نفس مبلغ الشيك (90.000) جلدر هولندي.
السؤال: هل يتم إصدار بدل الشِّيك الفاقد المتضمِّن 90000 جلْدر هولندي بسعر الصرف وقت إصدار الشيك الأصلي، أي: في 13/12/1992، أم بسعر الصرف وقت طلب العميل إيقاف الشيك بسبب فُقدانه في 16/1/1993م، أم بسعر الصرف وقت صدور خطاب التَّعْميد من قسْم المُطالبات للفرْع للقِيام بالتعويض في 13/2/1993م، أم بسعر الصرف وقت تبليغ الفرع للعميل في 2/5/1994م، وهو الموْعد المتأخِّر بسبب تقصير موظَّفِي الفرع في التبليغ؟
أفيدونا جزاكم الله خيرًا.
عبد الباري بن محمد علي مَشْعل
ابن الأخ الكريم السيد عبد الباري محمد علي مشعل المحترم حفظه الله تعالى:
السلام عليكم ورحمة الله
الذي يبدو لي أنه يجب تعويض العميل عن الشيك المفقود بشيك آخر بالجلْدر الهولنْدي بسعْر صرْفه، وقت صدور خطاب التعميد من قِسْم المُطالبات إلى الفرْع للقيام بالتعويض وذلك في 13/2/1993م.
ذلك لأن انخفاض سعر الجلدر قبل ذلك لا تُسأل ولا تَتحمل مسئوليته الشركة؛ لأنها ليست هي التي سبَّبت للعميل ضياع الشيك والضرر الناشئ عنه، فالشركة إلى هذا التاريخ إنما تَلتزم تعويض الشيك جلدرًا بجلدر، دون نظر إلى هبوط سعره.(100/1)
لكن تبدأ مسئولية الشركة منذ إهمال فرْعها تبليغ العميل، فإن هذا الإهمال هو الذي قد يُسبب الضرر للعميل، فتكون الشركة مسئولة فيه باعتبار أنه فعل ضار سبَّب للعميل ضررًا، فتَتَحمَّل فرْق الهُبوط من هذا التاريخ لا قبله.
وللشركة أن تضْمن المسئول في فرعها عن هذا الإهمال في التبليغ للعميل، أي: لها الحق في تغْريم هذا المسئول في فرعها المبلغ الذي تضْمنه للعميل؛ لأنه هو المُقصِّر، فلها حق الرجوع عليه بما تضْمنه هي للعميل. والله سبحانه أعلم.(100/2)
حكْم تعامُل المسلم بالرِّبا في دار الحرب
صاحب الفضيلة، الفقيه الأَفِيق المُحقِّق العلامة، مصطفى أحمد الزرقا حفظه الله تعالى.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
أسأل الله العليَّ القدير أن يُمدَّ فضيلتكم بالصحة والعافية، وأسْتسمِحُكم السؤال الآتي:
تعْلمون الاتِّجاه الفقهيَّ الذي يتزعمه أبو حنيفة ومحمد ـ رحمهما الله تعالى ـ والذاهبَ إلى جواز تعامل أهل دار الإسلام بالرِّبا في دار الحرب، وأنه المذهب عند الحنفية.
والسؤال: هل ترَوْن جواز الأخذ بهذا المذهب في الوقت الحاضر ـ من باب أنَّه تقليدٌ لمذهب فقهيٍّ معتبَر ـ بالنسبة للمسلمين الذين هاجروا إلى بلاد أوروبا وأمريكا سواء على سبيل الإقامة فقط، أم على سبيل الاسْتيطان بعد الحصول على جنسيَّة تلك البلاد؟
وإذا فُرض أن الحكم على الجواز، فهل ينْسحِب الحُكم عينه بخصوص من يضعون أموالهم في بنوك رِبوية في تلك البلاد وهم مُقيمون في ديار الإسلام؟ وهل نُعطِي الحكْم ذاته لسائر العقود الفاسدة كما هو المذهب المذكور؟
نرجو سيادتكم التفضل بالإجابة، ولكم من الله جزيل الأجر والمثوبة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
السائل المتطفل على موائد علمكم
أُسَيْد مُحمَّد أَدِيب كِيلَانِي
19/5/1418هـ .
20/9/1997م.الجواب:
الأخ الكريم السيد أسيد محمد أديب الكيلاني المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
تلقَّيت سؤالك عن مذهب أبي حنيفة وصاحبه الإمام محمد بشأن تعامل أهل دار الإسلام بالرِّبا في دار الحرب.
والجواب:(101/1)
أنَّ أبا حنيفة لم يُجوِّز تعامل دار الإسلام مع دار الحرب بالرِّبا بهذه الصورة المُطْلَقة الواردة في سؤالِك، وإنَّما رأْيُه فيمَن دخل إلى دار الحرب مستأمَنًا بإذْن مِنهم أنه يحِلًّ له مِن أموالهم ما يَبْذُلونه برضاهم دون خِيانةٍ منه في أخذه ولو كان بذلهم له بطريق غير مشروع في الإسلام؛ لأن أموال الحرْبيين غيرُ معْصومة. وفَرَّع عليه أنه يجُوز له أن يأخذ منهم الرِّبا ولا يجُوز أن يعطيهم إياه. هذه حدود مذهب أبي حنيفة وصاحبه الإمام محمد، وخالفَتْ في ذلك المذاهبَ الثلاثة الأخرى وأبا يوسف.
وهذا لا ينطبق على المقيمين في دار الإسلام أن يُرسلوا بأموالهم إلى دار الحرب ويأخذوا عليها الرِّبا، ولا سيما أن ذلك لو جاز لترتَّب عليه أن تهْرب رءوس أموال المسلمين في الحربيِّين، وهذا ضرر اقتصادي عظيم للمسلمين.
فرأْيُ أبي حنيفة ليس كما ورد في سؤالك، والظرْف الذي قِيل فيه مختلِف عن ظرْفنا الحالي. فلا أرى الأخذ به، والله سبحانه وتعالى أعلم.
مصطفى أحمد الزرقا
الرياض 21/5/1418هـ.
22/9/1997م.(101/2)
حكْم عقودِ التأمين ـ السَّوْكرة ـ
جواب الأستاذ مصطفى الزرقا إلى فضيلة الشيخ عبد العزيز حماده عن حكم التأمين :
فضيلة الأستاذ الجليل الشيخ عبد العزيز حمادة حفظه الله تعالى.
السلام عليكم ورحمة الله.
وبعد؛ فأحمد الله تعالى إليكم، راجيًا أن تكونوا بخير وعافية. كنتم باحثتموني في موضوع عقود التأمين (السوكرة) هل تَحِل شرْعًا، وذكرت لكم أني أفتيت بجوازها ولي على ذلك أدلة شرعية وعدتكم بكتابتها.
والآن أختلس من وقتي فُرْجة ضيِّقة جدًّا أَنْفُذ منْها إِلى كِتَابَة رُءوس أقْلام إجمالية أُرْسلها إلى فَضِيلتِكم، وأَرْجُو أن يُتاحَ لِي مِن الوقت ما يَكْفِي لكتابة رسالة مفصَّلة.
1 – إن عقْد التأمين هذا لا نجد عنه نصوصًا لفقهائنا الأقدمين؛ لأنه لم يكن متعارَفًا فِي زَمَانِهم، وَهُو فِي بِلاد الغَرب حَدِيث الولادة.
2 – إن الفقيه الوحيد الذي بحث عنه فيما أعلم من فقهائنا المتأخرين هو الشيخ ابن عابدين رحمه الله في حاشيته (رد المحتار) في فصل استِئمان الكَافِر من باب المُسْتأْمِن من كتاب الجهاد 3/249 (الطبعة البولاقية الأولى)، وقَدْ استقرَّ رأْيُه فيه على عدم جواز هذا العَقْد في بلادنا بين وُكَلاء التُّجَّار الحربيِّين المُقِيمين في بلادِنا مُسْتأْمَنين، ومن يتعاملون معهم من رعايانا في دار الإسلام؛ بحُجة أن هذا العقد لا يجوز؛ لأنه يُلْزم هذا الوكيل بما لا يَلْزَمُه، فلا يجوز القضاء عليه به، ولا يَحِل للمسلم أن يتعاقد مع مستأمَن إلا بما يَحِل من العقود مع المسلمين، وقد ناقش ابن عابدين ـ رحمه الله ـ هذا الموضوع طويلاً.
3 – إنني أرى خلاف ما استظهره ابن عابدين ـ رحمه الله ـ للملاحظات التالية:(102/1)
إنني أرى أن المسألة التي نصَّ عليها الفقهاء في كتاب الكفالة، وذكرها ابن عابدين في هذا المقام وردّ دلالتها على الْجواز، وهي ما لو قال رجل لآخر: اسلُك هذا الطريق فإنه آمن، وإن أصابك فيه شيءٌ فأنَا ضامن. . أرَى أنَّ فِيها الدِّلالة الكافية على جواز ضَمان خَطر الطريق، وإن كان الفقهاء عللوها بالتغرير. ونقل ابن عابدين أن التغرير إنما يوجب الضَّمان إذا وقع في ضمن عقود المعاوَضة. وإني أرى أن قول من قال بأن التغرير لا يوجب الضَّمان إلا إذا وقع ضمن عقود المعاوضة، وهو غير سديد؛ لأن نصوص الفقهاء صريحة في التطبيق بخلافه، فقد أوجبوا ضمان المُعِير إذا أعار أرضًا للبناء وحدّد للمستعير مدّةً، ثم رجع في عاريّته قبل نهايتها، والإعارة ليست من عقود المعاوضة بل من عقود الأمانات. ومسألة العارية هذه مشهورة، ونصَّت عليها المجلة أيضًا. وقد علَّلوا ضمان المُعير هنا بأنه قد غرَّر المُستعير.
4 – إننا في مثل هذه العقود التي فشَت، وأصبحت من ضرورات التجارة العصرية، يجب أن نتلمَّس في النصوص القديمة نوافذ الترخيص والتجويز، فمَتى وجدنا لجوازها منْفذًا نفَذْنا منه، لا أن نأخذ بدلائل التضْييق ووجوهه عندما يكون في النَّص وجهان في الدِّلالة، هذا ما أعْتقد أنه يجب أن يكون مِنْهاجنا الفِقْهي في معالجة الأمور الزمنية، بعد أن يكون في هذه الأمور مصلحة ظاهرة لا مَفسدة، وعندئذ ففي هذا النص المذكور منْفذ واضح لأن فيه جوازًا لضمان خطر الطريق، ومثل هذا النص في ذلك الزمان يُعتبر أكثر من اللازم لنا للدلالة على موضوعنا في هذا الزمان.(102/2)
5 – إنَّ فقهاءنا، بالإجماع، متفقون على جواز عقد الموالاة ونتائجه في الميراث، وهو قول الشخص مجهول النسب لآخر: أنت وليي ترِثني إذا متُّ، وتعقِل عني إذا جَنَيْتُ، وهذا في حكم الشريعة عقد صحيح، فإذا جنى العاقد الأول لزِم الآخر العِوَض المالي عن الجناية، وإذا مات الثاني ورِثه الأوَّل، وهذه إحدى درَجات الميراث كما هو معروف في الفرائض. وفي هذا العقد من تقابُل وتبادل حقوق والتزامات احتمالية غير محدودة، ولا محقَّقة، ما فيه دلالة أيضًا على صحة المبدأ في موضوع عقد التأمين، ولا يخفى على فضيلتكم، ولا يسعُني الآن الوقت لإيضاحه وبسطه.
6-إن عقد التأمين عقد مُستحْدَث، فيجب أن نحاول تخريجه على ضوء القواعد والمصلحة، فقد كانت المصلحة وحدها دليل الفقهاء في القرن الخامس لتخريج بيع الوفاء، وتصحيحه تخريجًا على أحكام عدة من العقود أخذت أحكامه منها جميعًا، وبعد أن ظلّوا في بخارى ردْحًا من الزمن يُفتون بعدم جوازه، عنْدما كانوا ينظرون إليه من زاوية أحد العقود فقط، أي: من زاوية الرَّهن وحْده، أو البيع وحده.(102/3)
ولاشك اليوم أن عقد التأمين ضرورة مُبْرَمة للتِّجارة، التي باتِّساعها واتِّصالها مع الأقطار النائية من العالم، وازدياد الأخطار بازدياد وسائل السرعة في المُناقلات، وكذا في قضايا أضرار السيارات التي بحسب القوانين تحمل المالك نتائج أخطاء السائق المفلس غالبًا صيانة للأرواح، ولا يمكن اليوم الاستغناء عن تلك الوسائط. يُضاف إلى ذلك ما يُلحظ من أن بعض هذه الأخطار قد تجتاح ثروة الإنسان بكاملها بين لحظة وأخرى، كل ذلك يجعل من عقد التأمين أمانًا في المعاملات والحوادث، يوزَّع الضرر بالنسبة للضامن ـ على عاتق الشركة ـ أي: مجْموع المُساهمين، ويُقيمه من إصابته بالحادثة ناهضًا على قدميه كأنه لم يُصبْه شيء، فهذا العقد أقرب إلى عقْد تَعاوني لتلافي الأضرار بأسلوب تعويضي معيَّن. ودليل المصلحة فيه أن من لا يعقد التأمين في المواطن التي تستدعيه يعتبر في نظر الناس مغامرًا مخاطرًا.
وإذا كانت مصلحة الناس في حصول المُحتاج على المال اللازم له، وحصول الغني على مَسكن بلا أجرة قد سوَّغت للفقهاء الأقدمين أن يُفتوا بجواز عقد بيع الوفاء الذي لا يخرج في جوهره عن منفعة لِقاءَ قرْض هي في نظر الفقهاء جميعًا من قَبيل الربا، أفلا يكون في هذه الحاجة بل الضرورة المُبْرمة لمصلحة التجارة والصناعة والمواصلات العصرية، ودرء أخطارها الجديدة الناشئة غالبًا أيضًا من وسائل أيضًا جديدة لا غني عنها للناس، أفلا يكون في ذلك مسوِّغ لعقد التأمين الذي لا ينْطوي في جوهره على الربا، بل على فكرة تعاونية، وترميم أضرار وكوارثَ قد تكون كبيرة جدًا ؟ وليس في الشريعة عنه نصٌّ مانع. هذا ما يخطر لي الآن أن أكتبه على عجل إيجازًا للموضوع، الذي يجب أن يكون موضوع رسالة وافية.
أما قضية التأمين على الحياة فإني لم أتناولها الآن في هذا البحث؛ لأن فيها شيئًا من التعقيد، وتحتاج إلى بحث تحليلي أوسع أرجئه لمناسبة أخرى (1).(102/4)
وأختم بالتحيات الطيبات مع جزيل الاحترام لفضيلتكم.
والسلام عليكم ورحمة الله.
دمشق / 26 / ربيع الأول / 1375هـ
11/ تشرين الثاني / 1955م.
هامش
وقد وَفَّى هذا الموضوع حقَّه من الإيضاح والبحث العلامة الأستاذ مصطفى الزرقا في كتابه "عقد التأمين وموقف الشريعة الإسلامية منه" وقد صدرت الطبعة الرابعة عن مؤسسة الرسالة، فليرْجِع إليه مَن يشاء للنظر في الأدلة الشرعية بالتفصيل. (مجد).(102/5)
حول تحديد أجور العقارات
قانونًا وجواز الاستفادة منه شرعًا(1)
وردنا سؤال حول تحديد أجور العقارات قانونًا، هل يجوز ذلك شرعًا، وهل يحِلُّ للمستأجِر أن يَستفيد منه؟
وقد رجونا فضيلة الأستاذ مصطفى الزرقا للإجابة عليه، فتفضّل بكتابة الجواب التالي:
هذا موضوع مُهِمٌّ جدًّا، ويكثر سؤال الناس الذين يهِمُّهم أمرُ دينهم عنه، فمعظَم الناس مستأجِرون إما لعملهم وإما لسُكناهم، والكلُّ يعيشون في بلادنا هذه السورية وفي معظم البلاد العربية والإسلامية في ظل قوانين زمنية تحدد أجور العقارات على مالكيها، وتقيِّد حريتهم في إخلاء عقاراتهم بعد انتهاء مدة الإيجار، فتعطِي المستأجر حق البقاء إن شاء ما دام قائمًا بواجباته تجاه المؤجِّر، وقابلاً بالحدود القانونية للأجور. والذي أذكر أن مبدأ هذا التحديد القانوني للأجور في البلاد المنفصِلة عن الدولة العثمانية بالنسبة للعقارات المملوكة، إنما كان في أعقاب الحرب العالمية الأولى، فقبلها لم تكن لدينا قوانين تحدِّد الأجور، وتعطِي المستأجِر حقَّ البقاء، ولكن اتجاه الدول اليوم إلى ذلك يكاد يكون عالميًّا، فهو اليوم من التدابير التشريعية الأساسية في كثير من دول العالم المُتَمديِن؛ لأن مشكلة الإيجارات برزتْ بصورة وثيقة الارتباط بالنظام الاقتصادي، وسياسة التشريع القانوني، حتى أصبحت تعتبر اليوم من قضايا النظام العام التي لا يعتبر الاتِّفاقُ على خلافها صحيحًا ملزِمًا بالنظر القانوني النافذ.
فما هو موقف الفقه الإسلامي من ذلك؟ وما هو نظره إلى المستفيد من هذا التَّقنين إذا كان ساكنًا عقارًا، فهل يحِلُّ له شرعًا أن يستمر ساكنًا فيه بحكم القانون دون رضا مالكه، وأن يدفع أجره بالنسبة القانونية إذا كان المالك لا يرضَى بها، وهناك من يستأجره بأكثر؟ الجواب الشرعي في هذه القضية هو فرع من أصل، فيجب أن يُعرَفَ الأصل، فيتضح الجواب كتطبيق له.(103/1)
فالأصل هنا الواجب بحثه وتجليته هو أنه: هل يجوز شرعًا لولي الأمر (وهو السلطة القائمة في الدولة) أن يقوم بمثل هذا التحديد في أسعار الحاجيّات ومنها أجور العقارات. وإذا كان يجوز له ذلك شرعًا، ويدخل في ولايته وسلطانه، فهل حقُّه الإداري في ذلك مطلّق أو مُقَيَّد؟
وعلى كل حال إذا مارس وليُّ الأمر هذا الحق ضمنَ حدود سلطته الشرعية كان واجبَ الطاعة وملزِمًا، وعندئذٍ يحلُّ لكل ذي عَلاقة أن يَستفيد منه وإلا فلا.
هذا ما سنجليه ونطبِّقه على القضية المسؤول عنها؛ ذلك لأنه لا يوجد فيما أعلم نصوص للفقهاء بشأن تحديد أجور العقارات المملوكة خاصّة، فإنه لم يقع هذا التحديد في العصور الفقهية السابقة، بل هو من وقائع عصرنا الحاضر، فوجَب الرجوع إلى الأصول العامّة في الشريعة، وإلى نصوص الفقهاء في القضايا المُشابهة، وتطبيقها على الموضوع:
?إن الحنفية يرون من صلاحية الحاكم شرعًا تَسعيرَ الحاجيات الضرورية إذا غَلا أربابها (أي: مالِكوها) في أسعار بيعها غلُوًّا يُلْحِق ضررًا بالناس (أي: المستهلكين بلغة اليوم) أو يُرهِقُهم، استبدادًا وتحكُّمًا من الباعة في السِّعر دون أسباب موجبة لرفع الأسعار (كغلاء أسعار بعض المستوردات الأجنبية من مصادِرها مثلاً)، ففي هذه الحال مِن تَحَكُّمٍ الباعة واستبدادهم، يَجِبُ عند الحنفية على الحاكم أن يقوم بتَسعير السِّلع، ومنع تجاوز الباعة للسعر المحدَّد وعقوبة المخالف، سواء أكان التحكم في السعر ناشئًا عن تواطؤ واغتصاب بين الباعة، أم دون تواطؤ، بشرط أن يكون التسعير عادِلاً، وهي مسألة خلافيّة معروفة.(103/2)
والقائلون بالتّسعير يُجيبون عمّا ورد في السنة النبوية في عدم رغبة النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ في التسعير عندما غلت الأسعار في عهدِه، وطَب منه بعضُ الصحابة التسعيرَ ـ بأنّ ذلك كان في حالة ارتفعت فيها الأسعار بأسباب طبيعية رفعتْ تكاليفَ السلع على أصحابها؛ ولذلك أجابهم النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ بقوله:
"إن اللهَ هو المُسعِّر القابِض الباسِط الرّازق، وإني لأرجو أن ألقَى اللهَ وليس أحدٌ منكم يطلبني بمَظلمة من دم ولا مال" (2). مما يدل أن الغلاء كان لأسباب خارجة عن إرادة الباعة، فيكون التسعير فرضًا للخسارة عليهم وظلمًا لهم في رؤوس أموالهم.
(انظر الهداية وشروحها في كتاب "الكراهية" ونصب الراية في تخريج أحاديث الهداية، ومعين الحكام، ورد المحتار وغيرها من كتب المذهب الحنفي)
ولا يخَفَى أن تحديد أجور العقارات هو نوع من التسعير لنوع من الحاجيّات الضّروريّة، وهي منافعُ العقار المأجور؛ لأن أجرة سُكْناه لمدة هي ثمن منافِعِه في تلك المدة، والإجارة في نظر الحنفية هي نوع من البيع مع بعض فوارقَ؛ لأنها بيعٌ للمنافع، فما يقال في البيع يقال فيها سوى ما كان من نقاط الافتراق في طبيعة العَقدين، وليس هذا من تلك النقاط.
ولا يخفَى أيضًا أن استئجار العقار تزايدت ضرورته بين الناس في عصرنا لأسبابٍ عديدةٍ اقتصاديّةٍ، منها غلاء قِيم العقارات، وترجيح الكثيرين أن يستثمروا رؤوس أموالهم في التجارة والإنتاج، ويستأجروا العَقار اللازم بدلاً من شرائه وتجميد ثمنه الباهظ، وهذا هو الاتجاه الاقتصادي العالمي اليوم، خِلافًا لما كان في العصور القديمة، حيث كان يغلب في عادة الناس أن يَشتروا العَقار لِيسكُنوا، أو يعملوا فيه.(103/3)
وبذلك أصبحت علاقة الإيجار وعقده موضع اهتمام دول العالم اليوم، لأن مشكلتَه ذات أثر منعكس على الاقتصاد العام في الدولة، وأبرزُ ظواهر هذا الاهتمام هو تحديد أجور العقارات. ومنعُ تَخلية المستأجِر ما دام راغبًا في البقاء، وموفِّيًا بالتزاماته، وغير مُسيء للاستعمال إلا في حالات مُعيّنة محدّدة بالقانون تجوز فيها التَّخلية.
وفي البلاد التي لا يوجد فيها اليوم تحديد لأجور العقارات، وتقييد لحق المالك في التَّخلية، كما في بعض البلاد العربية، تقع مُشكلات، وجَوْر، وتحكُّم يضِجُّ منه الناس، ولا يُقِرّه الشّرع.
فقد حدثنا كثيرون أن التاجر مثلاً، أو ربَّ العمل هناك يستأجر مَتجرًا أو مَحَلًّا لينصب فيه معملاً، ويتكلف في النقل والتهيئة تكاليفَ كبيرةً، ثم تنتهي سنة الإيجار فيطلب منه مالك العقار ضعفي الأجرة، أو أضعافًا، أو يؤجِّر لغيره رأسًا بحجة أنه حُرٌّ في التجديد وفي السعر، فيضطر الأول إمّا إلى إرضاء المالك بما لا يُطيقه، فيرفع أسعار مبيعاته هو أيضًا، وإما إلى الخروج والتفتيش عن محل آخر بعد أن يكون قد اشتهر في محله الأول ودار دولاب تجارته أو صناعته، ولا شكَّ أن في هذا، وفي زمننا هذا، مُنتَهَى الإحراج. وإرادة المالك مقيّدة شرعًا بِألَّا يُساءَ استعمال حق الملكية فيما يُؤذي الناس باستغلال اضطرارِهم، وبالطمع، والكيد؛ ولذلك قد تُنْزَع الملكية جَبرًا بحكم الشرع في حالات عديدة، وعلى هذا أدلّة شرعية عديدة.
فتحديد الأجور بصورة عادلة، يدخل في حق ولي الأمر وصلاحيته في تسعير الحاجيّات والسلع الضرورية، وإن تقييد حق مالك العقار في تخلية مستأجره منعًا للتعسُّف، يدخل كذلك في ولاية وليِّ الأمر بمقتضى أصل الاستحسان والاستصلاح؛ وَفقًا لقاعدة المصالح المُرسَلة الموضَّحة في أوائل كتابي "المدخل الفقهي العام".
شاهد قياسي آخر:(103/4)
على أن لفقهائنا حكمًا مماثلاً تمامًا في عقارات الأوقاف: فقد أقرَّ فقهاء الحنفية ـ وتابعَهم غيرُهم ـ أنواعًا من حقوق القرار على عقارات الأوقاف لمستأجِريها، وقيّدوا حقّ المتولّي الناظر في تخليتهم منها، من أمثلة ذلك حَقُّ الكَدِك، ومشدّ المَسَكة، والقيمة، والكردار، وسواها.
فالكَدِك مثلاً أصله أن شخصًا يستأجر دكانًا موقوفًا، ويقيم فيه من الأدوات والتأسيسات ما تحتاج إليه صناعتُه أو تجارتُه كالرفوف وكالتنور للخَبّاز مثلاً فتنقضِي مدة الإيجار، ويريد متولي الوقف إخراجه وإيجار العقار لغيره بحجة أنّه حُرٌّ في الإيجار له أو لغيره، فيتضرّر الأول بنقض ما أسّس، وضَياع ما أنفق، فلما كثُرت هذه الحوادث، وتظلَّم الناس منها أفتَى الفقهاء بأن المستأجِر في مثل هذه الحال لا يجوز إخراجه ما دام يدفع أجرَ المثل للوقف عن هذا العقار المُعَدِّ للإيجار دائمًا؛ لأنه موقوف لذلك والمتولّي أمين عليه، حتى إنه لا تُقبل من غير المستأجر أجرةٌ أزيدُ إذا جاء من يدفع للوقف أجرةً أكثرَ، فإنه لا تُقبل منه المزايدة إذا تبيّن أن زيادته هي زيادة كَيديّة، ولم ترتفع أجرة هذا العقار في ذاتها بسبب من الأسباب غير المكايدة.
هذا هو أصل فتوى الفقهاء في حق القرار المسمى بالكَدِك على عقارات الأوقاف، وهو موقف تتجلَّى فيه فكرة الإنصاف الذي هو من صميم الشريعة الإسلامية التي تأبى التعسُّف، وتمنع الضّرر، ونظيره فتواهم في الأنواع الأخرى المشابهة كالقيمة ومشدّ المَسَكة في البساتين والأراضي الزراعية الموقوفة.
وهذا من فقهائنا في الأصل موقف نبيل في التعبير عن عدل الشريعة (بقطع النظر عما آلتْ إليه الحال من أكل حقوق الوقف بسبب تهاون الحكام في صيانة الأوقاف وضعف الدفاع عنها، فذلك أمر آخر مُنفصِل عن المبدأ الفقهي العادل الذي انبعثت منه فتوى الفقهاء في ذاك الموضوع).(103/5)
هذا، ولا يخفَى أن ما جازَ في الوقف ـ من تَسعير وتقييد ـ أمكنَ أن يجريَ شرعًا على العقارات المملوكة في حالات مماثلة وعواملَ متشابهةٍ، ولا سيما إذا أصبحت حاجةً عامة تزول معها الفوارق التي كانت ملحوظة بين الوقف والمِلك، وتضطرب حياة الناس دونها، كما هو واضح اليوم لو أطلقت لمالك العقار حريّة الإيجار والتَّخلية والأسعار، وأدَّى ذلك إلى انعكاسات وانتكاسات واختلال الطمأنينة في الحياة الاقتصادية العامة.
وبناء على ذلك فما جاز شرعًا لولي الأمر فعله جاز لكل إنسان أن يستفيد منه، فيجوز لمستأجر العقار اليوم في ظل قانون الإيجار الذي يقيِّد حق التّخلية، ويحدِّد الأجور أن يستفيد منه ولو لم يَرض المالك، وليس مكلَّفًا أن يشتريَ رضاه بما يُرهِقه أو يُعجِزه، اللهم إلا إذا كان تحديد الأجرة في القانون غير عادل، وفيه جور على المالك في نظر الخبراء العالمين بالظروف الاقتصادية في البلد وتكاليف الحياة والأسعار العامة فيه؛ لأن الحاكم عندئذٍ يكون في الأصل ظالمًا، وسلطته الشرعيّة في التسعير ونحوه ليست سلطة مطلقة كيفية استبدادية، بل هي مقيدة بعدم الجَور؛ لأن من القواعد المقررة في الشريعة الإسلامية بلسان فقهائها أن: "التصرُّفَ على الرَّعية مَنوط بالمصلحة". ومن الواضح المعلوم شرعًا أنه لا يجوز لأحد أن يستفيد من ظلم غيره ولو بأمر الحاكم.
هذا ما يظهر لي في جواب هذه المسألة، والله سبحانه وتعالى أعلم، وهو مُلهم الصواب.
الهوامش
(1) مجلة حضارة الإسلام ـ السنة الثالثة ـ العدد الرابع ـ 1382هـ.
(2) رواه أبو داود (3451) في الإجارة، باب التسعير، والترمذي (1314) في البيوع، وابن ماجه (2200) في التجارات، وإسناده صحيح.(103/6)
حول عقد التأمين
جواب مُرسل من الأستاذ مصطفى أحمد الزرقا لندْوة التشريع الإسلامي المعْقودة في ليبيا.
رأيي في التأمين معروف مُعلَن في عام / 1961م في رسالتي التي عنوانها:
"عقد التأمين وموقف الشريعة الإسلامية منه"
ويتلخَّص بأن نظام التأمين جائز ليس فيه ما ينافي الشريعة الإسلامية، ونظام التعاقد فيها بمبادئه العامة في كلٍّ من أنواع التأمين الثلاثة:
التأْمين على الأشياء وضد المسئولية، والتأمين لما بعد الموت (الذي يُسمُّونه خَطأ التأْمين على الحياة) سواء أتم ذلك بطريق التأمين التبادلي، وهو الصورة البدائية البسيطة التي هي طريقة تعاونية مَحْضة بين فئة محدودة العدد، يجمعها نوع واحد من العمل والخطر، أو كان ذلك بطريق التأمين لقاء قسْط، وهو الصورة المتطوِّرة التي يجري فيها التأمين بين جهة مسترْبحة ـ شركة أو مؤسسة حكومية مثلاً، تُدير عمليات التأمين على نطاق واسع لجميع الناس الراغبين ـ وبين أولئك الراغبين عن طريق التَّعاقد بعقد خاص أحد طرفيه الجهة المؤمَّن لديها، وطرفه الآخر طالب التأمين أو المستأمن، وذلك عندما يكثر المستأمنون من أصناف شتى، وضد أخطار شتى، بحيث تحتاج عمليات التأمين في تسجيلاتها وحساباتها وتصفيات الحقوق المتتابعة فيها إلى إدارة كبيرة ذات نفَقات، وجهاز عامل يجب أن يعيش من أرباحها.
هذا رأيي في نظام التأمين من حيث إنه نظام تعاوني يقوم على طريقة تكفُل تفتيت آثار المَخاطر؛ التي منْها ما هو ماحق لمن ينزل على رأسه، وتوزيعها على أكبر عدد ممكن، فلا يصيب من نزلت في رأسه المصيبة إلا جزء يسير هو القسْط الذي دَفَعَه.(104/1)
أما العُقود الخاصة التي تُعقد بين شركات التأمين وبين المستأمِنين، وما تتضمَّنه من شروط، فإنها تخضع للمقاييس الشرعية في صحة الشروط التعاقدية وبطلانها بحسب كونها تَتَنافى مع النظام العام الإسلامي في التعاقد أو لا تنافيه، وذلك نظير البيع مثلاً في نظام المعاوضة، فقد نص القرآن الكريم على حِلِّ البيع كنظام تبادل عقْدي؛ أما عقود المبايعات الخاصة التي تجري بين طرفين وما يشترطان فيها من شروط، فإنها ـ رغم حِل البيع في ذاته ـ قد يكون بعضها باطلاً وبعضها صحيحًا بحسب مضمونه والشروط التي شرطها فيه عاقداه، وكون بعض عقود البيع يقع باطلاً لتضمنه ما لا يسوَّغ شرعًا، لا يستلزم أن نقول بحرمة عقد البيع في ذاته بوجه عام كطريق لتبادل الأموال.
وبعد أن نشرت رسالتي المذكورة عن عقد التأمين وموقف الشريعة منه سنة 1961 (وهي أول بحث شرعي كامل في التأمين) كثُر الكاتبون في هذا الموضوع من مؤيدين ومعارضين، ولكني لم أجد أحدًا أتى بجديد لم تتضمنه رسالتي المذكورة، فأهل الرأي الإيجابي في الجواز لم يأت أحد منهم بدليل شرعي جيد للجواز لم أوردْه في رسالتي، وأهل الرأي السلبي في المنع لم يأتِ أحد منهم بشبهة جديدة لم أوردها أنا، وأُجِبْ عنها.
ولذا أجد في رسالتي المذكورة عن التأمين كفاية وافية، إلى جانب مناقشتي المسجلة في ندوة التشريع الإسلامي في مدينة البيضاء، وردودي على من رأوا المنع. وإني مرسِل إليكم مع هذه المذكرة نسخة منها مكتفيًا بها وبمناقشاتي وردودي المسجلة في الندوة السابقة.(104/2)
وإنما أضيف الآن أن طريقة التأمين التبادلي هي محل اتفاق لم يخالف فيها أحد؛ لأنها تعاون محض على توزيع الخسائر الناجمة عن بعض المخاطر وحوادثها لا استرباح فيه. وقد علمت أن في العالم الأجنبي ـ وخاصة في أمريكا الاتحادية ـ يوجد اليوم منظمات للتأمين التبادلي يشترك فيها المستأمنون من بعض الأخطار، ويتوزعون الخسائر الناجمة من الحوادث، ويترادُّون ما يزيد من أقساطهم بعد طرح النفقات دونما استرباح، وإن هذه المنظمات أو المؤسسات كثيرة إلى جانب شركات التأمين.
فأرى أن من الجدير المستحْسن في خطوة ميمونة نحو التشريع الإسلامي أن يقتبس هذا الأسلوب، ويستورد نظامه المستقر، ويشجع عليه ليحل محل شركات التأمين الشائعة التي تقوم على أساس الاسترباح من هذا الطريق التعاوني، وتشوِّهه بعض مسالكها وشروطها؛ فإن التأمين التبادلي قد أجمع على جوازه وتفضيله جميع فقهاء العصر الباحثين في التأمين؛ الذي أصبح اليوم عصب النشاط الاقتصادي في جميع مجالاته.
والله ـ سبحانه ـ أسأل أن يُلهمنا الحق والصواب، ويجعل ما رزقنا من علم موجَّهًا لخدمة شريعته السمحة الغراء بإخلاص وأمانة، إنه سميع مجيب(2).
هامش(104/3)
(2) ومما يجدُر التنبيهُ إليه أن المجمع الفقهي بمكة المكرمة في دورته المعقودة بتاريخ 10/8/1398هـ نظر في حكم التأمين شرعًا، واستعرض الآراء المختلفة لعلماء العصر فيه، وانتهى إلى التمييز بين التأمين التبادلي الخالي من العِوَض، وأسماه (تأمينًا تعاونيًا)، وبيْن التأمين الذي تمارسه شركات التأمين القائمة في البلاد ابتغاء الربح وأسماه: (تأمينًا تجاريًا)، فقرر المجمع بأكثرية أعضائه جواز النوع الأول التعاوني، وتحريم الثاني التجاري، وكان الأستاذ الزرقا هو المُخالف في هذا التحريم، وسجل مخالفته مكتوبة معلَّلة ونشرها مع قرار المجمع في حينها. ثم نشرها في كتابه "نظام التأمين" ص 151 ـ 152 و 169 ـ 173. كما أن المَجْمع الفقهي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة بتاريخ 10/4/1406هـ قد قرَّر أن عقد التأمين التِّجاري ذي القسط الثابت الذي تتعامل به شركات التأمين التجاري عقْد فيه غرَر كبير مُفسد للعقد، ولذا فهو حرام شرعًا. وأن العقد البديل الذي يحترم أصول التعامل الإسلامي وهو عقد التأمين التعاوني القائم على أساس التبرُّع بالتعاون. "قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي" ص 20 (مجد).
12/11/1972
7/شوال/1392
كلية الشريعة ـ الجامعة الأردنية(104/4)
ربا البنوك وحكم أخذ الفوائد الرّبوية
وتوزيعها على الفقراء
إلى الأستاذ الكريم الشيخ مصطفى الزرقا حفظه الله:
نُقِلَ بأنَّكم تُجيزون ربا البنوك وأخذ الفوائد على النُّقود المُودَعة في البنوك وتوزيعِها على الفُقراء، وأظُنُّ أنَّه قَدْ سَبَقَكَ أبو الأعلى المودوديّ فِي كِتابه الرِّبا، والشيخ شلتوت الذي صرَّح بجواز أكله مطلَقًا، وقد نُقِلَ عنه أنه أُرْغِمَ على هذه الفَتوى، وقد رجع عن ذلك حين موتِه، نُقِل لنا ذلك، والله أعلم بالحقيقة.
والحقُّ أن هذا تحليلٌ لما حرَّم الله وأجمعتِ الأمةُ على تحريمه، فلو كانَ ذلك جائزًا لما حرَّمه الإسلام مطلقًا، والله تعالى قادر على أن يستثنيَ من ذلك فوائدَ البنوك وتوزيعَها على الفقراء.
والله سبحانه وتعالى طيِّب لا يَقبل إلا طيِّبًا، وأمَرَ المؤمنين بما أَمَر به المرسَلين، كما في حديث أبي هريرة الذي يَرويه مُسلِم في صَحيحه ولا يَخْفَى عليكم ذلك.
وقد جاء في حديث جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال: "لعَن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ آكِلَ الرِّبا ومُؤكِلَه وكاتِبَه وشاهِدِيه وقال: هم سواء ". البخاري ومسلم.
والعرب أخلاقُها لا تقبل النفقة إلا من طَيِّب.
يقول الشاعر:
أَمُطْعِمةَ الأيْتامِ مِنْ كَدِّ فَرْجِهَا لَكِ الْوَيْلُ لَا تَزْنِي ولَا تَتَصَدَّقِي
فأَعتقد أن الإسلام لم يستثنِ من ذلك شيئًا، والرّسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي أوتي جوامِعَ الكَلِمِ أَشارَ إلَى تَحريم الرّبا مُطلقًا دون استثناء.
فالله أرحمُ بالفقراء من خلقِه، فجعل لهم نصيبًا مفروضًا يَكفيهم إنْ طُبِّقَ في الأرض وعُمِل به، وهي الزّكاة، وحثَّ على التعاون والإنفاق في أبواب البِرِّ.(105/1)
فالعُدول إلى الحَرام، بدونِ دَليل، كَبِيرةٌ من الكبائر ومَهلكةٌ من المهالك يَنطبق عليه قولُه تعالى: (اتَّخذوا أحْبارَهم ورُهْبانَهم أَرْبابًا مِن دُون الله ) ولا يَخفَى عليكم تَفْسيرُها والمُناسَبة التِي سِيقَت مِنْ أَجلها.
وقد سمعت شيخنا ناصر الدين الألباني في مسجد عمر الذي أخطب فيه وأدرس يقول: ويحرُم وضع النقود في البنوك على سبيل الوديعة؛ لأنها مساعدة للبنك في أكل الربا. وهو الحق الذي لا جِدال فيه، ولا عدولَ عنه.
أخوكم: يوسف عبد الرحمن البرقاوي:
الجواب:
لم أُجِز لأحد ربا البنوك، ولا أخذ الفوائد على النقود المودَعة فيها، وإنما قُلْت في التلفاز: بأن من له نقود في البنوك، فإني أرى خيرًا من تركها للبنك يُرابِي بفوائدِها أن يأخذَ صاحبها ما يحسبه البنك عليها من فوائد، فيعطيها للفقراء، دون أن يجوز له حساب ذلك من زكاته أو ينتفعَ بها أو أن يسدَّ بها دينًا، بل يكون واسطة فقط لنقل مقدارها من صندوق البنك إلى جيوب الفقراءِ، ما دام له هذه السلطة على البنك في هذا المقدار، كما لو استشَرْنا البنك أن يعطِيَ الفقراءَ، أو لا يعطي، فلا شك أننا نقول له أعطِهم فإنه خير من بقائها في صندوقه للمُراباة بها من جديد. وأنا لم أطَّلِع على رأي الأستاذ المودودي في هذا الأمر الذي كان ـ كما قلت ـ هذا رأيه أيضًا فهو تقويةٌ ينشَرِح لها الصَّدر، لأن المودودي من خير العلماء المحقِّقين الممحِّصين في القضايا الإسلامية الكبرى، على أساس الكتاب والسنة من قضايا الساعة التي يتساءَل عنها الناس اليوم، جزاه الله خيرًا.
وأما قولك أن هذا يشبه قول الشاعر:
أَمُطْعِمةَ الأيتامِ مِنْ كَسْبِ فَرْجِها لكِ الوَيل لا تَزْنِي ولا تَتَصَدَّقِي(105/2)
فإني أُعيذُك من أن تأخذ أحكام الشريعة من كلام الشعراء وخَيالاتهم، نعم نحن نقول أيضًا لمن هذا شأنها: لكِ الويل لا تزني ولا تتصدقي، ولكن ألست ترى معي أيها الأخ الكريم أن المعاصِي درجات، بل الكفر أصحابه على درجات أيضًا، فليس أبو طالب عند الله تعالى كأبي لهب وأبي جهل؟ وقد قال ـ عليه الصلاة والسلام: "رأيتُ أبا طالب في غَمَرات النار فأخرجته إلى ضَحضاح " (روى البخاري (3885) في مناقب الأنصار، ومسلم (200) في الإيمان عن أبي سعيد الخُدريّ أنه سمع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وذكر عنده عمه أبو طالب فقال: "لعلَّه تنفَعُه شفاعتي يوم القيامة، يجعل في ضَحضاح من نار، يبلغ كَعبيْه، يَغلي منه أمُّ دِماغه" والضّحضاح: الماء القليل، وقد شُبِّه به في القِلَّة ما يكون فيه أبو طالب من النار القليلة). أفلا ترى أن التي تزني وتتصدق من قلب رحيم بالفقراء والمساكين، هي خير أو أقلُّ شناعة ممن تزني وتخزن ولا تتصدّق ولا تَرِقُّ لِمِسكينٍ؟!
وأكرِّر لك أني اشترطتُ ألَّا يحسب المرء ذلك من زكاته الواجبة، ولا يقضِي دينًا، ولا أن ينتفعَ به في أي وجه من وجوه المنفعة، بل يكون هو طَريقًا فقط وواسطة لتحويل هذه الفوائد من صندوق البنك إلى جيوب الفقراء، والله يعلم المفسد من المصلح.
وختامًا لك مَزيد شكري أيها الأخ الكريم على أنك سألتني واستوضحت ولم تحدِّث عني بما سمعت من جاهل لا يفهَم، أو متقول مُفْتَرٍ، فاجتنبت الإثم الوارد في الخير: "كفى المرءَ كَذِبًا أنْ يُحَدِّث بكلِّ ما سَمِع" (أخرجه مسلم 1: 10 في المقدمة، باب النهي عن الحديث بكل ما سمع، وأبو داود (4992) في الأدب)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
23 من شوال 1392هـ.
الموافق 29/11/1991م.(105/3)
شركة عنان بين وقف وشريك وتوزيع الربح والخسارة
إلى شيخ فقهاء الجيل، سليل العلماء الصالحين، أستاذ علماء أهل الشام، الشيخ مصطفى أحمد الزرقا أعزه الله.
عُيِّنْتُ مُحَكِّمًا في القضية التالية، ولست من أهلها، فأفتونا رحمكم الله:
لدينا في أمريكا أوقاف إسلاميّة قام وكيل أحدها، وهو من أهل الخير والفضل باستثمار مبلغ مليون دولار مع رجل لم يُعرف عنه التثبُّت في القول أو الدقة في المعاملة، ورأى وكيل الوقف؛ ضمانًا لحق الوقف في المشروع التجاري، وهو مشروع شراء أرض وعمارتها، ثم بيع الشقق، أن يشترط أمورًا؛ حفظًا لحقوق المسلمين خصوصًا مع ما عُرف عن الشريك، هي التالية:
1 ـ وضع رهنًا بقيمة 1.3 مليون على الأرض حال توقيع العقد بين الشركاء وشراء الأرض، ما أن ما دفعه الوقف كان ( 1 ) مليون فقط، وحجة وكيل الوقف أن هذا ضروري لتغطية مصاريف القضاء إن حدث خلاف.
2 ـ اتفق الطّرفان على أن يضع الشّريك مبلغ 200 ألف مساهمة شخصية منه، أنه لا حقَّ له في إدخال شركاء إلا بموافقة الوقف، وقد خالَف الشّريك مع هذا، ومبلغ الـ (200 ألف) كله مساهمة من أناس آخرين مع مخالَفة هذا للعقد.
3 ـ اشترط الوقف ضمانًا لحسن الأداء أن يقسَّم الربح كالتالي:
أول 250 ألف للوقف، ثم 250 ألف بعدها للشريك، ثم يقسَّم ثالثه 250 بنسبة 50/50 ونحوًا من هذا، وكذلك الخسارة أول 250 ألف كلها من حِصّة الشريك وحده، وثاني 250 بنسبة 40/60 الوقف/ الشريك، ونحو هذا دواليك.
4 ـ اشترط الوقف أن الربح يقسّم كما قدَّمت إذا انتهى المشروع خلال سنة، ثم فرض عقوباتٍ على الشريك بحيث إنْ حصل 3 أشهر تأخير تنقص من ربحه 150 ألف، ثم بنسب تصاعُديّة حتى لا يبقَى للشريك شيء من الربح.(106/1)
كانت النتيجة أنْ حَدَثَ تأخُّر كبير، وحدث عجز في تمويل المشروع دفع أكثره الشريك من أموال الناس، وأخذ الوقف المشروع كاملاً بموجب العقد لصالحه وشكَا إلي (وأنا أمين سابق في الوقف) مَن وَضَع مالاً في المشروع بغير إذن الوقف وخسره، وقد أظهر الشريك التوبة من كل ما هو غير شرعي، وعيَّنني محكَّمًا لطرفه، وقَبِل الوقف بتعيِيني إلا أنه اشترط عليّ أن التزم بالعقد مَرْجِعًا لكل خلاف، وأن يكون دوري شارحًا ومنفِّذًا لا غير، فرفضت التعيِين ولامَني مَن خَسِر ماله مع الشريك.
نظرت في الحالة فوجدت ظلمًا بدون تعمُّد أو منفعة شخصية، بل بالعكس أتت من حرص الوكيل على أموال الوقف.
شيخنا الفاضل:
1 ـ هل يصح العقد مَرجعًا وفي صلبه ما هو أشبه بربا الفَضل؟ وهل تصحُّ ذريعة حماية الوقف وماله في هذا؟ وهل هذا عقد باطل أم فاسد يمكن إصلاحه؟.
2 ـ هل من المُمكن تحكيم العقد وفي صلبه تحديد للربح والخسارة لا بالنسب بل برقم معيّن بالصورة السابقة؟
3 ـ هل يصحُّ تغيير النسب للرِّبح وربطها بالزمن بالشكل السابق؟
4 ـ هل يحلُّ للوقف أن يأكل أموال الشركاء غير المعلنين أكثر من 200 ألف، والذين أدخلوا في الشركة تغريرًا من الشريك لهم ومخالفة للعقد مع الوقف؟
5 ـ ما هو المرجع لحل الخلاف أهو العقد الباطل شرعًا والقانون الأمريكي المدنيّ، أم فقه المعاملات مع تشعُّباته؟ وهل يحل لي أن أكون حكمًا إذا كان التحكيم للعقد لا للفقه؟
6 ـ موقف وكيل الوقف في هذا أن هذا ليس عقد مضارَبة بالمعني الشرعي، مع أن العمل كله من الشريك وأكثر رأس المال من الوقف، وأنه أمين على أموال المسلمين لا يحلُّ له التفريطُ فيها وهذا حق، ولكن أليس للشرع حكم فوق العقد، وهل العبرة للأسماء أم للوقائع؟(106/2)
7 ـ المشروع رابح ومُدير الوقف رجل فاضِل، والشريك رجل مُفرِّط في أمره، ووراءه مظلومون لا ذَنب لهم، والعقد في فهمي أنا باطل فما الحل: أهو أجر المثل للمضارِب أم مصالَحة؟ أم تطبيق العقد وهو شريعة المتعاقِدين في القانون الأمريكي (وقد قال الأخ الكريم مدير الوقف إن الظروف تُحتِّم عليه ما فعل حماية لأموال المسلمين، وأنه لا يوجد في الشرع مثل هذه العقود، وأن له أجرين أو أجرًا).
8 ـ هل يحل لي أن أكون مُحكَّمًا ومرجعي الوحيد هذا العقد؟
9 ـ وإذا استمر مدير الوقف على موقفه، هل يجوز لي أن استمر في السكوت على ما أحسبه ظلمًا للمضارب ومَنْ وراءَه، وهل من التجريح أو الغِيبة أن أضطرَّه إلى اتباع الفقه بالرجوع إلى مجلس الأمناء وهم لا يعلمون شيئًا عن أي تفاصيل.
أفيدونا جزاكم الله عنا كل خير...
الجواب:
إلى الأخ الكريم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
جوابًا عن سؤالك المرسل بالفاقس باختصار:
1 ـ إن العقد بين الوقف والشريك المتعاقِد معه ليس مضارَبة، بل هو شركة عنان بسبب مشاركة الطرفين في رأس المال وإن كان متفاوتًا، ولو كان العمل يقوم به أحد الشركاء، أما المضاربة فلا يقدِّم فيها المضارِب شيئًا سوى عمله.
2 ـ هذا العقد فاسد بالشروط التي اشترطت في العقد؛ لأنه لا يجوز اشتراط مقدار محدَّد لأحد الشركاء يأخذه من الربح قبل الآخر، فبهذا الشرط يفسُد العقد.
3 ـ حكم فساد العقد أن الربح والخسارة عندئذٍ يتبعان نسبة رأس المال.(106/3)
4 ـ إدخال الشريك المتعاقِد شركاء آخرين معه خِلافًا للعقد لا يكون جانب الوقف مسؤولاً فيه تجاههم بشيء، ولا علاقة لهم بهم، بل العلاقة والمسؤولية منحصِرة بينهم وبين الشريك الذي أدخلهم معه. فالوقف لا علاقة له إلا مع الشريك المتعاقِد معه، فإذا كان الشريك المتعاقد معه قد جمع حِصّته في رأس المال من آخرين أدخلهم معه خلافًا للشرط بينه وبين الوقف، فإنّ هؤلاء الذين أخذ منهم الشريك المتعاقد، يشاركونه في حِصّته هو وليس الوقف مسؤولاً عنهم.
5 ـ النتيجة:
إن الربح والخسارة في هذه المسألة يقسّم بين الوقف والشريك المتعاقد بنسبة رأس مال كلٍّ من الطرفين: الوقف والشريك المتعاقد، كلٌّ منهم بحسب حِصّته في رأس المال التي وضعها فعلاً. فإذا لم يضَع أحدهما (الوقف أو الشريك) ما التزم بتقديمه كله، بل وضع بالفعل أقل منه، فالعبرة في النسبة لما وضعه فعلاً.
والأشخاص الآخرون الذين أخذ منهم الشريك المتعاقد مبالغَ على أساس إشراكهم في العمليّة يعتبرون شركاءَ معه في حِصّته فقط، وإذا كان الشريك قد غَرَّر بهم وأفهمهم أنهم سيكونون شركاءَ في العملية مع الوقف أيضًا، فلهم حقُّ تضمينِه ما لحِقهم من ضرر بسبب تغريره لهم.
وإذا كان الشريك إلى جانب مساهَمته في رأس المال هو العامل أيضًا فيستحق أيضًا أجر المِثل فوق حِصّة رأس ماله من الربح.
هذا ما يبدو لي في الحكم الشرعي في هذه القضية. والله تعالى أعلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وفقكم الله وأعانكم وسدد خطاكم.
مصطفى أحمد الزرقا
الرياض 9/9/1417هـ(106/4)
ضمان الأمانة(7)
جاءنا استفتاء من اللاذقية يقول فيه المستفتي ما خُلاصته: أنّ أحد أهل بلده المُقيمَ في المدينة المنوّرة أعطاه مبلغَ ألف ليرة سورية ليوصِّلَها إلى أحد أقربائه في اللاذقية، فسلَّمها المستفتي إلى زوجته التي كانت معه في الحجِّ فوضعتْها في كيس مع دراهم أخرى له سعودية وسورية، وعلَّقته في عنقها تحت الثياب، وسافَرا إلى مكة لأداء الفريضة، وفي إحدى الليالي ذهبت لتتوضأ من زمزم في الحرم مع النساء، وبعد العودة من صلاة العشاء إلى البيت خلعت ملاءتها فوجدت ثوبها وكيس الدراهم مشقوقين بطريقة النشترة وما فيه من نقود الأمانة ونقودهما الخاصة مفقودة، وصاحب المبلغ يُصِّرُ على طلبه رغم شرح الواقع له، فهل يضمن الرجلُ المستفتي مبلغ الألف الليرة لصاحبه مع ملاحظة أن مبلغ الأمانة لم يُبدّل، بل وُضِعَ بذاته في الكيس، ولم يَتصرَّف به ولم يخلِطه بنقوده، بل بقي بحاله متميِّزًا كما سلَّمه إليه صاحبه.
وقد أجاب أستاذنا مصطفى الزرقا على ذلك بما يلي:
إن الأمانة، نقودًا كانت أو أعيانًا، لا يضمنها الأمين شرعًا إذا هلكت أو فقدت بدون تعدٍّ منه عليها، ولا تقصير منه في حفظها. ويُعتبر من التعدِّي تبديل النقود وسائر المثليات، كما يُعَدُّ من التقصير حفظُ الأمانة في غير حرز مثلها. ويجوز له أن يحفظها لدى زوج أو ولد ساكن معه أو خادمه بشرط أن يكونوا أمناء ضابطين، وأن يكون من المعتاد حفظ مثلها مع مثلهم؛ لأنه لا يستغني عادة عن الاستعانة بهم في الحفظ، أما لو حفظ العقد الثمين أو الدراهم الكثيرة مع الخادم أو الخادمة، فهو تَقصير يوجِب عليه الضّمان عند الهلاك.(107/1)
وبناءً عليه، في الحادثة المذكورة إذا كان الأمر الواقع كما ذكره المستفتي لا يجب عليه ضمان المبلغ لصاحبه، ما دام لم يتصرّف بالمبلغ المسلَّم إليه ولم يبدِّله؛ لأن من المعتاد حفظ مثل هذا المبلغ مع الزوجة فلا يكون به مُقَصِّرًا، أما إذا كان صاحب الأمانة لا يصدِّق الأمين المستفتي في صحّة ما رواه، ويتَّهمه في ذلك فإن له تحليفَه اليمينَ على صحة الواقعة، وعدم وجود أي سبب آخر من الأسباب التي توجِب عليه ضمان الأمانة، والله سبحانه أعلم.
هامش
(7) مجلة حضارة الإسلام ـ العدد السادس ـ السنة السادسة ـ 1385هـ.(107/2)
ضمان الوكيل أو الشّريك(8)
السؤال من السيد محمد العطار من دمشق يقول فيه:
إن أخاه أعطى صديقًا له مبلغًا من المال لشراء غَنم والمتاجرة بها، ففعل الصديق، وأعطاها لراعٍ يعرفه، وذلك منذ ثلاث سنوات، توالَدَت خلالها، وفي هذه السنة مات منها قسم كبير لم يبقَ سوى ثماني غَنَماتٍ فقط.
وقد عدَّد السائل أسبابًا كثيرة تُلقي المسؤولية على عاتِق الصديق في موت قسم كبير من الغنم نتيجة التقصير في العناية بها، ولدى مطالبة الصديق ببيع بقية الغنم وسؤاله عن الضَّرر اللاحق بها، أبدى استعداده لدفع نصف المبلغ المعطَى له في الأصل، وذلك تعويضًا منه عن الضَّرر الحاصل.
ويقول السائل: هل هناك مانِع شرعي من أخذ نصف المبلغ المُعطى للصديق كتعويض عن الضرر الحاصل؟
الجواب:
إن السائل لم يبيِّن صفة الصديق في الموضوع، وعلي أي أساس تسلَّم المبلغ، واشترى به، هل على سبيل الوكالة أو الشِّركة؟ أي: هل هو أمين يعمل لحساب الدافع أو هو شريك مُضارِب؟ وإذا كان وكيلاً أو شريكًا، أي: مكلَّفًا بعمل ولا تنتهي مهمته عند الشراء فقط، فإذا كان مقصِّرًا وسبَّبَ تقصيره ضررًا، فلا مانع من أخذ ما يُريد دفعه إلى ربِّ المال عن تقصيره؛ لأنه في الأصل يضمن نتائج تقصيره.
هامش
(8) مجلة حضارة الإسلام ـ السنة الرابعة ـ العدد العاشر ـ 1383هـ.(108/1)
ضمان منافع المغصوب المُعَدّ للاستغلال
فضيلة الأستاذ الشيخ مصطفى الزرقا أعزه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فإنِّي أملِك مُستودَعًا أضَع فيه بضاعتي، وقد طَلَب مني زميل لي أن يضَع بضاعتَه عندي، فسمحت له، ومضى على استخدامه لمستودعي عدة سنوات، وضاق بنا المستودَع، وحصلت لي أضرار جسيمة من جرَّاء وجود بضاعته عندي، فطالبته في منتصف السنة الخامسة أن ينقل بضاعته من عندي، ويُنهي انتفاعَه به مع نهاية هذه السنة الخامسة تمامًا.
لكنه لم يفعل، وجعل يَعِدُني مواعيدَ كثيرةً، واستمرّ على هذه الحال خمس سنوات أخرى، كنت خلالها أكرِّر مطالبتي له بترك هذا المستودع، وبإبلاغه أني غير راضٍ عن بقائه فيه.
ولم أستطع إخراجَه بوسيلتي الخاصة نظرًا لعدم استطاعتي الوصول إلى البلد الذي فيه مستودَعي.. وأخيرًا ترك المستودع خلال السنة الحادية عشرة.
وقد طالبته بدفع الأجرة عن السنوات الخمس الثانية، أي: من حِين طلبت منه أن يخرج بضاعته من المستودَع، لكنه رفض أن يدفَع، وقال لي: ليس بيني وبينك عقد إيجار.
فهل يحقُّ لي مطالبته بدفع الأجرة عن تلك السنوات الخمس؟ علمًا بأنني لم أكن راضيًا أبدًا عن بقائه فيها، وكنت أعتبره مغتصِبًا للمكان الذي يشغله في المستودع. أفيدوني.. جزاكم الله خيرًا.
24/12/1416هـ.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
جوابًا على سؤالكم أقول:
إن السَّنواتِ الخمسَ الأولى لا تستحِقُّون عنها أجرة؛ لأن الظاهر من الأمر أنكم سمحتم للرجل بوضع بضاعته في مستودعكم مَجّانًا. أما السنوات الخمس الأخرى بعد إنهاء الإعارة، وطلبكم منه نقل بضاعتِه، ثم محاولته ومُماطلته في النّقل، رغم تَكرار الطلب، فيعتبر هو فيها في حكم الغاصِب، وحينئذٍ تكون هي مسألةَ منافع المغصوب، والاختلاف في ضمانها:(109/1)
فمذهب الحنفية أنها لا تُضمن إلا بعقد الإجارة، إلا في المُعَدِّ للاستغلال ومال اليتيم ومال الوَقْف، ومذهب الجمهور أنها مضمونةٌ على الغاصب بأجر المِثل.
لكن بما أن الموضوع يتعلّق بمستودَع، وهو من المُعَدّات للاستغلال التي يوجب الحنفية فيها ضَمان منافِع المغصوب دون حاجة إلى عقد إجارة، فإن جواب المسألة يكون هو ضمان الشَّخص المذكور أجرَ المثل عن السَّنوات الخمسِ باتِّفاق المذاهب الأربعة. والله سبحانه أعلم.
مصطفى أحمد الزرقا
الرياض في 25/ من المحرم / 1417هـ.
11/6/1996م.(109/2)
فتوى شرعية بخصوص الاستصناع
الأستاذ الشيخ مصطفى الزرقا..المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..وبعد؛
نعرض على حضرتكم السؤال الفقهي التالي، راجين منكم التكرُّمَ بالإجابة على ذلك السؤال:
يوجد عندنا قطعة أرض ملك السادة المؤسّسة العربية العالميّة، وترغب المؤسسة ببناء بناية سكنيّة من عشرة أدوار بطريقة الاستصناع عن طريق البنك الإسلامي.
ويوجد عندنا شركة اسمها (الحكمة لمقاولات البناء) وهي ملك للمؤسّسة العربيّة العالمية؛ لذا تم عرض الأمر على البنك الإسلامي من أجل أن يقوم بتمويل البناية وبنائها للمؤسسة العربية العالمية بطريقة الاستصناع، وأَبْدى الموافقة المبدئيّة على ذلك، ثم تمَّ الطلب من البنك أن يتم اختيار شركة الحكمة لمقاولات البناء من أجل أن تقوم ببناء البناية، مع العلم أن مالك شركة الحكمة لمقاولات البناء هو المؤسّسة العربية العالمية، ومالك قطعة الأرض المؤسسة العربية العالمية.
نرجو من حضرتكم التكرّم بإبداء الرأي الشرعي والفقهي في ذلك.
شاكرين لكم حسن تعاونكم.
9/1/1996م
المؤسّسة العربية العالمية للاستثمار والتنمية
عجْمان ـ الإمارات العربية المتحدة
إلى السيد الكريم المدير العام للمؤسسة العربية العالمية للاستثمار والتنمية المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
جوابًا على سؤالكم أقول:
(1) إذا كانت شركة الحكمة مُستقلّةً في عملِها، ومُسجَّلة لدى غُرفة التّجارة كشركة مستقلّة، ولها شخصيّة اعتباريّة مستقلة عن شخصية المؤسّسة العربية العالمية (ولو أن هذه المؤسّسة هي المالكة لها)، فلا مانع شرعًا أن يختار البنك الإسلاميّ شركة الحكمة كمقاول لتنفيذ المشروع، على أن تكون شركة الحكمة مسؤولة تجاه البنك الإسلامي (المقاول معها)، وهذا البنك هو المسؤول تجاه المؤسّسة العربية العالمية للاستثمار عمّا يظهر في عمل شركة الحِكمة من خَلَل أو نقص أو عيوب أو اختلاف أوصاف، وليس شركة الحكمة.(110/1)
فليس لشركة الحِكمة (المقاوِل) عَلاقة مباشرة مع المؤسّسة العربيّة، ولا يجوز للبنك أن يشترط ربط شركة الحكمة بالمؤسَّسة المُستصنعة في المسؤولية عن أي خلل في العمل، وأن يسحب البنك نفسه من كل مسؤولية.
(2) وأمّا إذا كانت شركة الحكمة ليست مسجّلة على أنها مستقِلة، ولا تتمتع بشخصيّة اعتباريّة مستقلة عن شخصية المؤسسة العربية العالمية، وإنما هي فرع عملي كفروع البنوك التي تفتح في المدينة الواحدة، أو كالمعارض المتعدِّدة في البلد لشركة تجارية أو صناعيّة واحدة، ففي هذه الحال لا يجوز اختيارها (أي: شركة الحكمة) من البنك كصانعة من الباطن؛ لأن العقد عندئذٍ (الاستصناع من الباطن) يكون كأنّه معقود مع المؤسّسة العالميّة المُستصنعة نفسها لتصنع هي ما استصنعت البنك عليه، فتحمل صفتين متناقضتين: صفة صانع ومُستصنع في مصنوع واحد.
بخلاف ما إذا كانت شركة الحكمة ذات شخصيّة اعتبارية مستقِلّة (ولو كانت مملوكة للمؤسسة العربية العالمية المستصنعة)؛ لأنها عندئذٍ كشخص آخر اعتبارًا.
هذا ما ظهر لي، والله سبحانه وتعالى أعلم
الرياض
20/8/01416هـ.
11/1/1996م.(110/2)
فتوى عن الحُكر وغيره من حقوق القرار المنشأة
بعُرف طارئ على عقارات الوقف(4)
أولاً ـ حقوق القرار من الحُكْر وغيره:
1 ـ من المقرّر فقهًا، استنادًا إلى نص الحديث النبوي، أن العقار الوقف، سواءٌ أكان أرضًا خالية، أو مبنيًّا، أو مَغروسًا ومزروعًا، لا يُباع ولا يوهَب ولا يورَّث ولا يُرْهَن، بل يبقَى على حكم ملك الله تعالى (أيْ يَبْقى مِلكًا عامًا) ليُستغلَّ استغلالاً وتُنْفَقُ ثمرتُه في الجهة الموقوف عليها.
2 ـ استمرت هذه الحال دَهرًا، ثم في العصور الفقهيّة المذهبيّة الأولى لُوحِظ أن بعضاً أو كثيرًا من الأراضي الموقوفة الخالية جامدة لا غلّة لها، وليس في الوقف التابعة له غلة فائضة تكفي لتعميره واستغلالها، وهي مرغوبة للبيع، ولكن الوقف لا يباع، فابتُكِرت طريقة سمِّيت بالتحكير ويُراد به إنشاء حق قرار عليها دائم سُمِّيَ (حُكرًا) مع بقاء عينها وقفًا. وخلاصتها أن تؤجَّر الأرض إجارة لمدة طويلة أو لمدة تتجدد سنة فسنة بصورة دائمة، بأجرة تتألف من مبلغين:
المبلغ الأول كبير يُقارِب قيمة الأرض يأخذه جانب الوقف، ويستغله بشراء عقار ذي غلة، وهذا المبلغ يدفعه المُستحكِر مرة واحدة.
المبلغ الثاني ضئيل أشبهُ بأجر رمزي يُدفَع سنويًّا لبقاء الأرض مملوكة للوقف ومأجورة؛ كيلا تُدعى ملكيتها للمستأجر بتقادم الزمن.(111/1)
3 – وبهذا التحكير يصبح للمُستحكِر حقّ البناء على الأرض مع حق البقاء ما دام يدفع الأجر السنويَّ بما يعادل أجر المثل؛ إذ الأرض لا تزال رقبتها للوقف، فإذا غلا سعرُها وأجرها عمّا دُفِعَ فيها مقدّمًا يجب حينئذٍ أن يَزيد الأجر السنوي الرمزي المقسّط لحفظ حق الوقف. وحق البقاء هذا دون أن يجوز نزع الأرض من المُستحكِر مُبرَر بأن عقار الوقف معدٌّ للإيجار بصورة دائمة، ولا يجوز للمُتولِّي سُكناه. وفي العقارات غير المُستحكَرة استقرّت فتوى الفقهاء على أن المستأجِر إذا كان يدفع أجر المثل كل سنة بحسبها إذا غلت الأجور، لا يجوز للمُتولِّي إخلاؤه والإيجار لغيره، فحق البقاء في الحُكر يخرَّج هذا التخريج ما دام المُستحكِر يدفع أجر المثل.
ويبدو لي أن حقّ الحُكر هو أقدم حقوق القرار العينية التي أُنشِئَت على العَقارات الموقوفة، وقرّر الفقهاء أحكامها، بدليل أن الإمام الخصاف (ت 261هـ) تكلَّم عن الحُكر في كتابه "أحكام الأوقاف" وهو من الطبقة العُليا من فقهاء الحنفية.
4 ـ ثُمّ في العصور اللاحقة، بدافع الحاجة والقياس الفقهيّ على الحكر، أو بتواطؤ بعض المُتولِّين على الأوقاف ـ أُنشئت حقوق قرار أخرى على عقارات الأوقاف المبنية، من أبرزها في العقارات المبنيّة الموقوفة فيما ينشأ بعقد الإجارتين. ويكون في المباني الوقفية المتوهِّنة التي لم تعد مرغوبة للاستئجار، وليس في وقفها غلة كافية لتعميرها، وموقعها مرغوب فيه، فتؤجَّر (كما في التحكير للأراضي) إجارةً متجدِّدةً سنويًّا بصورة دائمة بأجر مُعَجّل يُقارِب قيمة العقار المتوهِّن، يقبِضه المتولِّي فينفقه هو على تجديد البناء أو ترميمه وجعله صالحًا، مع أجر مقسط سنويًّا ضئيل المقدار رمزيًّا لحفظ ملكيّة الوقف، كما سبق بيانه في التحكير.(111/2)
ولصاحب حق الإجارتين أن يتسلّم البناء الذي جُدِّد أو أصلح بما دفَعه أوَّلاً، ويكون له حقُّ البقاء ما دام يدفعُ الأجرَ السنويَّ الرمزيَّ بما يُعادِل أجرَ المثل إذا تغيَّر مُستوى الأجور وغلت كما قلنا في الحكر.
5 ـ والفرق بين الحكر والإجارتين ينحصر في نقطتين:
الأولى: أن الحكر يكون في الأراضي الموقوفة الخالية، أما عقد الإجارتين فيكون في المباني الموقوفة المُتوهِّنة.
الثانية: أن البناء في الأرض المحكرة ملك المُستحكِر بناه بماله بإذن القائم والمتولِّي بعد أن دفع للوقف ما يقارب قيمة الأرض. أما في الإجارتين فالبناء للوقف جدَّده المتولِّي، أو أصلحه إصلاحًا جذرِيًّا واسعًا بما قُبِض من الأجر المعجَّل الكبير. وقد كثر إنشاء حق الإجارتين في إستانبول في العهد العثماني؛ لأن مبانيَها خشبية لعدم الحجر لديهم أو قلّته، فكانت تشتعل فيها الحرائق بكثرة، والتهمت النيران من مباني عاصمة الخلافة فشوَّهَتها، وكان نصيب الأوقاف في التلف كبيرًا ومُتواصلاً لكثرة العقارات الموقوفة فيها، فابتكروا طريقة الإجارتين في المباني قياسًا على التحكير في الأراضي الموقوفة.
وإنما يكون الأجر السنوي في الإجارتين رمزيًّا ضَئيلاً كما في الحكر، مع أن البناء في الإجارتين ملك الوقف كما أسلفنا؛ لأن البناء لم يجدَّد إلا بالمال الذي قبضَه المتولِّي من صاحب حقِّ الإجارتين، ولولاه لبَقِيَ العقار مُتوهِّنًا لا يستأجره أحد.
6 ـ وفي خلال هذا المدى الطَّويل ما بين نشوء الحكر في العصور الفقهية الأولى ونشوء الإجارتين في العهد العثماني، تُعورِفت أنواعٌ أخرى عديدةٌ من حقوق القرار على عقارات الأوقاف تختلف أسماؤها باختلاف نوع العقار، وتختلف بطبيعتها وأسباب نشوئها عن طبيعة الحكر والإجارتين، وأسباب نشوئهما.
فمن تلك الأنواع اللاحقة: المرصد، والكَدِك (أو السُّكْنى) والكردار، والقميص، ومَشَدّ المَسَكَة، والقيمة.(111/3)
وهي موضّحة في الجزء الثالث من السلسلة الفقهية من كتبي، وهي السلسلة المسماة (الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد)، والعنوان الخاص لذلك الجزء الثالث (المدخل إلى نظرية الالتزام العامة في الفقه الإسلامي في الفقرات (22-22/2-23) (الصفحات 39-47).
7 ـ والفارق الأساسي بين الحكر والإجارتين والمرصد (وهو دين على الوقف لترميم بعض عقاراته جُعل به للدائن حق القرار إلى أن يتمكن الوقف من الوفاء) من جهة، وبين تلك الأنواع الأخرى المذكورة: الكَدِك، والكردار... إلخ هو أنّ صاحب حق القرار في الأنواع الثلاثة الأولى (الحكر والإجارتين والمرصد) قد دفع مبلغًا للوقف مناسِبًا للتجديد أو الترميم، أما في الأنواع الأخرى المذكورة، فإن المستأجِر صاحبَ حقِّ القرار لم يدفع للوقف شيئًا ما أكثرَ من الأجر السنويِّ الأصلي. ولكنه في الكَدِك مثلاً (وهو يكون في الدَّكاكين الوقفية المأجورة لصُنَّاع أو تُجَّار) يَضَع المستأجر في الدُّكّان الموقوف المأجور له بعض أوائل صنعتهِ أو تجارته كالمصطبة أو الرُّفوف أو العُلَب، ونحو ذلك كالموقد للحلواني، فأفتى الفقهاء بأنه ليس للمتولِّي إخراجه والامتناع عن تجديد الإجارة له ما دام يدفع أجر المثل؛ لأن الوقف مُعَدٌّ للإيجار دائمًا (وليس كالملك قد يحتاج إليه مالكه لِسُكْناه)، فعدم التجديد لمستأجر دكان الوقف الذي وضع فيه أوائل لصنعته أو تجارتِه، وتكليفه رفعها وإخلاء العقار، فيه ضرر له، فله البقاء دفعًا للضرر عنه ما دام يدفع أجر المثل. هذا ما قرَّره الفقهاء رحمة به.(111/4)
ثُمَّ اعتُبر بالنظم العثمانية اللاحقة صاحبُ حق قرار مثل صاحب الحكر والإجارتين (اللذين دفعا من البداية أجرًا مقدَّمًا كبيرًا يُقارب قيمة العقار)، وتسلح بهذا الحق، فأصبح مُلحَقًا بأصحاب الحُكر والإجارتين في دفع أجر سنوي ضئيل جهلاً من واضعي تلك النظم في أواخر العهد العثماني. وهكذا كانت رحمة الفقهاء بهؤلاء طريقًا لظُلم الوقف، واستباحة عَقاراته بأجر ضئيل لا وزن له.
8 ـ ثم بالنظم المُتتالِية، ولحسم المنازعات في تقدير الأجر المؤجَّل الذي يستحقُّه الوقف سنويًّا (ولو على حساب حق الوقف الذي هو الجانب الضَّعيف لعدم من يتحسَّس بهَضمِه) قُدِّر الأجر السنوي المؤجَّل للوقف في جميع حقوق القرار هذه من الحكر والإجارتين والكَدِك وغيرها بنسبة ثابتة قدرُها ما بين اثنين ونصف إلى ثلاثة في الألف من قيمة الأرض في الحكر، ومن قيمة الأرض والبناء في الإجارتين. وهذا شيء ضئيل جدًّا بعد أن تطوَّرت قيم الأراضي والمباني في جميع العالم بتطور خرائط العُمران في المدن، بينما صاحب حق القرار مُلْزَم أصلاً بأجر المثل الذي يتأثر بتطوُّر القيم والأجور.
وهكذا آلت حقوق القرار هذه بمُختلف أنواعِها إلى أن أصبحت أغْلالاً في أعناق الأوقاف، سلبت معظم منافعها بأجور زهيدة في عهود اختلَّ فيها ميزان الحكم، وسلطان القَضاء.
وقد جاء القانون المدني السوري بمنع إنشاء شيء من حقوق القرار هذه على عقارات الأوقاف إلا الإجارتين، أو الإجارة الطويلة بالمقاطعة وهي الحكر (المادة 1004 و1018 من القانون المدني السوري).
ثم جاء قانون خاص في عهد الوحدة بين مصر وسورية، فمنع إنشاء أي حق من هذه الحقوق على عقارات الأوقاف، وأوجب تصفية حقِّ الوقف جبرًا لقاءَ نسبةٍ مُحدَّدة للوقف من قيمة العقار الذي يصبح ملكًا حرًّا لذي اليد.(111/5)
9 ـ يتضح مما سلف أن منع إنشاء شيء من حقوق القرار هذه على عقارات الوقف من أراضٍ ومبانٍ هو الصواب الواجب، وأن المادة / 16 / من مشروع قانون الأوقاف الأردني التي نصَّت على منع ترتيب الحكر موافقة لمصلحة الأوقاف بالنظر الشرعي.
ولكن يُلحَظ أن حكمَها يجب أن لا يقتصر على منع إنشاء الحكر فقط، بل يجب تعميمُ المنع على جميع حقوق القرار الأخرى التي تُعورِفت في الماضي أيًّا كان نوعها واسمُها كالإجارتين، والمرصد، والكَدِك، وسواها.
أما تصفية هذه الحقوق من الحكر وغيره القائمة من قَبلُ في المملكة الأردنية بين عقارات الوقف وأصحاب تلك الحقوق، فأرى أن له محاذيرَ في الظروف الحاضرة؛ لأن رقبة هذه العقارات هي أوقاف مسجلة حفظت فيها الملكية الإسلامية في فلسطين من التسلُّط اليهودي بقدر الإمكان، فليس من المصلحة الآن قطع علاقة الوقف فيها لقاءَ عوض ضئيل، وصيرورتها مِلكًا قابِلاً للانتقال إلى أي جهة كانت، ولا سيما إذا لاحظنا أن من مَزيّة الاحتفاظ بالرقبة لجهة الوقف أن صاحب حق القرار إذا مات لا عن وارث تعود الأرض وما عليها إلى جهة الوقف، كما حصل في سورية في حالات عديدة، قبل القانون الذي صفَّى حق الوقف مع أصحاب حقوق القرار هذه في عهد الوحدة بين سورية ومصر.
أما إذا أمكن أن يجعل للوقف عن رقبة العقار حِصّة صالحةٌ من قيمته بمقتضى القانون، إذا أراد صاحب حق القرار من حكر أو غيره استصفاءَ العقار وتعويض الوقف عن الرقبة، فلعل في هذا التخالُص عندئذٍ مصلحة. وعلى كلٍّ يجب ملاحظة أنه إذا تَمَّ هذا التخالص بقانون، فإن حِصة الوقف التي تؤخذ من أصحاب حقوق القرار، يجب أن يُشترَى بها عقارات للوقف، ولا يجوز صرفها في مصارف الغلة. هذا ما يتعلق بحقوق القرار العينية على عقارات الأوقاف من الحكر وغيره، ومنع إنشاء شيء منها في المستقبل، والموقف الواجب شرعًا في حق الموجود من قَبل.
ثانيًا : الوقف الذري أو الأهلى :(111/6)
10 ـ أما الوقف الذري إنشاءً أو بقاءً، فالأمر فيه يختلف تمامًا عن الموقف الواجب من حقوق القرآن الآنِفة الذكر.
فالوقف الذُّرِّيُّ مشروع أصلاً، ومشمول بإطلاق الحديث النبوي الثابت الذي أرشد به الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أبا طلحة وعمر بن الخطّاب ـ رضي الله عنهما ـ إلى ما يفعلان من البِرِّ لما سألاه إثر نزول قوله تعالى: (لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) (آل عمران: 92) وتتابعت فيه أوقاف الصحابة على أولادهم وابن السبيل والضيف... إلخ
وقد نقل أخبار ذلك الإمامان الفقيهان هلال الرائي والخصاف، وجمعها من المتأخرين الطرابلسي في كتابه "الإسعاف في الجمع بين أوقاف هلال والخصَّاف".
ثم إن الوقف ـ ولو كان ذُرّيًّا ـ لا يصِحُّ إلا إذا كان فيه من البداية جهة بِرٍّ وخَيْر (كالمَساكينِ والفقراء)، دائمة لا تنقطع، أو كانت مشروطة فيه مآلا بعد انقراض الذُّرِّيّة.
فالوقف الذُّري على نفس الواقف مدة حياته وعلى ذُرِّيتِه من بعده، ثم إلى جهة البر الدائمة، كان هو الطريق إلى وجود كثير من الأوقاف الخيرية في مختلف وجوه البر من المساجد والمدارس الشرعية والفقراء والأيتام... إلخ
لأن جهة البِرِّ في الوقف الذري لابدَّ منها حالاً أو مآلا لصحة الوقف، كما أصبح كثير من الأوقاف الذرية خَيريًّا مَحضًا بانقراض الذُّرِّيّة.
ومعظم الناس الميسورين يتردَّدون ويتباطؤون عن أن يُخرجوا عن أموالهم إلى جهات البِرِّ ابتداء، حرصًا على مستقبل ذريتهم، أما أن يجعلوا أموالهم لجهة الخير بعد ذريتِهم فإنهم يجودون بذلك، ولا يتردَّدون، ولا سيما إذا كانوا غير مطمئنين لسلوك أولادِهم من بعدهم في صيانة الثروة، فيلجؤون للوقف على أنفسهم ثم ذريتهم، ثم إلى جهة خيريّة.(111/7)
والناس اليوم أصبحوا أشدَّ شُحًّا بأموالهم على وجوه الخير لمزيد حاجة الأسر في حياتها إلى المال، ولذا لم نعد نشهد مَزيدًا من الأوقاف الجديدة كما كان في الماضي. فإذا سُدَّ الباب في وجه إنشاء الأوقاف الذُّرِّيّة، فقد سُدَّ الباب أيضًا بذلك على الأوقاف الخيرية، وهذا ليس من المصلحة في شيء، بل هو قطع لشريانٍ رَئيسٍ يُغذِّي الجهاتِ الخيريَّةَ.
المشكلات التي ظهرت في الوقف الذُّري على المدى الطويل وعلاجها:
11 - لا يُنْكَرُ أن الوقف الذُّرِّيَّ ظهرت فيه مشكلات في المدى الطويل، لم تنشأ من طبيعته، بل من جهل كتاب الوقفيّات، ثم من فساد الذِّمم، وقلة الأمانة:
أ) نهب كثير من المتولِّين لأموال الوقف:
أثبتت الوقائع في المدى الطويل أن معظم المتولِّين على الأوقاف نَهّابون لمال الوقف بشتّى الوسائل، ولا سيما إذا كان المتولِّي من الذُّرية، فيستبيح عندئذٍ النَّهب من وقف أجدادِه.
لكن هذه ليست مشكلةَ الوقف الذُّري وحده، بل مثله الخيري.
ب) إن كثيرًا من الأوقاف الذُّرِّيّة قد شُرِط فيها استحقاق الذرية لفاضل الغلّة (بعد التعمير والترميم والضرائب) للذرية هكذا بصورة مطلَقة، فنشأ عن ذلك أن الذريّة في بعض الأوقاف تكاثَرت فأصبحت آلافًا، وأصبح أحدهم يناله مبلغٌ ضئيل جدًّا من الغلّة في العام لا يساوي عناء السؤال عنه والذهاب لقبضه فيأكله المتولِّي. وسبب ذلك جهل كاتب الوقفيّة وقلة تجربته وخبرته، حيث جعل الغلة بعد الواقف لأولاده، وأولاد أولاده، وأولادهم ما تعاقَبوا وتناسَلوا، فبذلك يستحقُّ الحفيد أو السِّبط مع أبيه وأمه جده... إلخ، فتنقسم الغلّة على آلاف.
ج) إن بعض الواقفين يَحْرِم من إناث الذُّرِّية من تتزوّج، فتضطرُّ إحداهن أن تمتنعَ من الزّواج كيلا تحرم من الوقف، وهذا محذور كبير كما لا يخفَى، وهو من قلة الدِّين.(111/8)
هذه المشكلات يُمكن علاجها بسهولة من صيدلية الشّريعة بدلاً من منع إنشاء الوقف الذُّري، وقطع شريان الوقف الخيريِّ بذلك، كما أشرتُ إليه آنفًا.
والعلاج هو ما يلي:
أ) أن تُلغَى التوليّات جميعًا على الأوقاف كما حصل في سورية، وتتولَّى دوائر الأوقاف في المدن إدارة جميع الأوقاف، ذرية كانت أو خيرية، بالأصالة في الأوقاف المضبوطة (التي لا مستحق لتوليتها بمُقتضَى شرط الواقف)، وبالأمانة في الأوقاف التي لها وقفيات ثابتة وشروط ثابتة لمصارف الغلة واستحقاقاتها وللتولية. ويشترك في إدارة ما يُدار بالأمانة لجنة مختارة من بعض الأهالي الثِّقات، وبعض المؤسَّسات الماليّة. وتأخذ دوائر الأوقاف عشرة في المائة من الغلّة فيما تديره بالأمانة، وهو الحَدُّ الأعلى الذي يحدِّده الفقهاء لأجر المتولِّي.
وبذلك تنتهي مشكلة المتولِّين ونهبهم وخصوماتِهم مع الذُّرِّيّة.
ب) تعديل جميع شروط الواقفين في الوقف الذري المطلَق إلى أفضل شروط الوقف الذري، كما أسفرتْ عنه تجارب العصور على المدى الطويل، وذلك بأن تُجعَلَ استحقاقات الذُّرية طبقةً بعد طبقة، على أن يُقَسَّمَ في كل طبقة قائمة على الأحياء والأموات منها، فما يُصيب الحيَّ يأخذه، وما يُصيب الميتَ من الطبقة الأخيرة القائمة يعطَى لأولادهم، حتى يتوفَّى آخر مَن في الطبقة، فتستأنف القسمة على الطبقة التي تليها أصالة الأحياء منهم والأموات أيضًا، وهكذا…
فهذا النوع من الشروط هو أفضل ما عُرِفَ من شروط الواقفين وأعدلُها، وكل شرط سواه له مشكلاته التي ظهرت على المدى الطويل.
هذا ما بدا لي في هذا الموضوع، والله سبحانه وتعالى أعلم.
المقترح:
ولا يُشكِل على هذا النوع قاعدة "أن شرط الواقف كنَصِّ الشّارِع"؛ لأن من المقرَّر فقهًا أن شروط الواقفين منها الباطل الذي لا يُحْترَم، ومنها الصحيح الذي يجوز مخالفتُه إذا ظهر له ضرر، فالقاعدة ليست على إطلاقها.(111/9)
وقد أوضحت ذلك في كتابي "أحكام الأوقاف" ـ الجزء الأول بما لا مزيد عليه من التقسيم والتبسيط والتأصيل والتوثيق، والله الموفق إلى الخير والصواب.
هامش
(4) فتوى قُدمت إلى مجلس الفتوى في دائرة الإفتاء في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بعمان، صيف 1989، بمناسبة التفكير في إلغاء الأوقاف الذرية في المملكة الأردنية، وكان الأستاذ الزرقا عضوًا في مجلس الفتوى.(111/10)
فتوى في قسمة الوقف المرتَّب بالطبقة
سؤال من الأستاذ محمد علي الأشموني من مكة المكرمة، يسأل عن حكم الوقف المنحصِر بين العَمِّ وابن أخيه بعد بيان شرط الوقف وهو:
أنشأ الواقف وقفَه على نفسه ينتفع به بمُفردِه لا يشاركه فيه مشارِك، ولا ينازعه فيه منازِع، ثُمَّ من بعده على أولاده لصُلْبه ذكورًا أو إناثًا، ثم من بعدهم على أولاد الذّكور منهم، ثم على أولادهم، ثم على أولاد أولادهم، ثم على أولاد أولاد أولادهم، ثم على ذريتهم ونسلِهم، وحرثِهم وعَقِبِهم طبقة بعد طبقة، ونسلاً بعد نسل، وبطنًا بعد بطن، وجيلاً بعد جيل، وعلى أولاد الظهور منهم دون أولاد البطون، فإن أولاد البطون ليس لهم مع وجود أحد من أولاد الظهور حظٌّ ولا نَصيب ولا بطريق العِلاوة، على أن مَن مات من أولاد الظهور عن ولد أو ولد ولد أو أسفل من ذلك، انتقل نصيبه إلى ولده أو ولد ولده، ومن مات منهم عن غير ولد ولا ولد ولد ولا أسفل من ذلك كان نصيبه لطبقته ولذوي درجتِه من المُشاركين له في الاستحقاق، لا لمَن كان محجوبًا بأصلِه، ولا لمَن لم يَصِلْ الاستحقاق إليه، وهذا إذا كان الولد أو ولد الولد أو الأسفل منه من أولاد الظهور، أما إن كان من أولاد البطون فلا حظَّ له أصلاً ولا بطريق العلاوة.
فإذا انقرض أولاد الظهور، وخلت بِقاع الأرض منهم وأبادَهم الموتُ عن آخرهم، فيكون على الأقرب فالأقرب من عَصبة الواقِف وذُرِّيّتهم ونسلهم على النصّ والترتيب المشروحَينِ في أولاد الظُّهور، فإذا انقضت العصبة عن آخرِهم ونسلهم وذريتهم، وأبادَهم الموت عن آخرهم، وخلت بقاع الأرض منهم يكون وقفًا على العلماء والمُدرِّسين الكِرام ببلد الله الحرام، ومالُ هذا الوقف للفقراء والمساكينِ من أهل بلد الله الحرام الأمين، يجري الحال في ذلك كذلك دوامًا واستمرارًا واقتدارًا، أو مكانًا أبد الآبدين، ودهر الداهرين إلى أن يرِث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين.
والسؤال:(112/1)
كانت الطبقة التي آل إليها الوقف وانحصر الاستحقاق فيها مكونة من (أخوين وأختين وبنت عَمٍّ لهم) ثم تُوفِّيَ أحد الأخوين، فحلَّ محله ابنه من صلبه، ثم توفيت الأختان وبنت العَمِّ، فكيف يتمُّ توزيع غلّة الوقف وإيراداته بين (العَمِّ وابن أخيه) اللذَيْنِ هُما المستحِقّان الآن؟
فأجاب العلامة الشيخ مصطفى الزرقا:
الجواب:
إجمالاً: يقسم الوقف نصفينِ بين العم وابن أخيه الحاضر.
وتفصيلاً: إن الوقف المرتّب بالطبقة تبقَى قسمته على أفراد الطبقة ثابتة حتى تنقرضَ الطبقة، فتُستأنَف القسمة على الطبقة التي تليها، وإذا كان مشروطًا نصيب من مات عن ولد لولده كما في هذا الوقف، فعندئذٍ يقسّم على أهل الطبقة من الأحياء والأموات فما أصابه الحي يأخذه، وما يصيبه الميت ينتقل إلى أولاده، ولا يستحقُّ فرعٌ شيئًا مع وجود أصله من أهل الطبقة.
ولكن بموت أحد أهل الطبقة يَنتقل إلى أولاده، فإذا مات أهل الطبقة عن غير أولاد إلا واحد انحصَر الوقف به حتى يموتَ، ثم يستأنف القسمة من جديد على أهل الطبقة التي تليها إن كانوا.
وفي الوقف المسؤول عنه الظاهر: أن العَمّ لم يبق من طبقته أحد فينحصر الوقفُ به وبابن أخيه الموجودَين.
فإذا مات العمُّ عن غير أولاد ينحصر الوقف في ابن أخيه الموجود، ويجب أن يُلحظ أن كلمة (أولاد) في شرط الواقف يدخل فيها الإناث والذُّكور من أولاد الظهور بحسَب هذا الشَّرط.
فلو أنَّ ابن الأخ الموجود له أخت لَاشتركتْ معه في نصيب أبيها من الطّبقة السّابِقة.(112/2)
فقه المعاملات وما ينبغي أن يعرفَه رجل المُحاسَبة
سؤال من الأستاذ السيد يوسف المبارك من الرياض بكتابة ما ينبغي معرفتُه لرجل المُحاسبة لتدريب الموظَّفين في مؤسّسة المحاسبة ومركز التدريب الذي أنشؤوه.
فأجاب فضيلته الأستاذ الزرقا ـ حفظه الله تعالى ـ:
1 - نظرًا إلى أن رجل المحاسبة يقوم بمُهِمّته في تدقيق الحسابات والمعاملات والميزانيات لدى المؤسَّسات المالية التجارية، والمصارف، والجمعيات، وأن معظم المعاملات المالية لديها هي من قبيل العقود؛ لذا ينبغي لرجل المحاسبة أن يكون له إلمام إجمالي بنظام التعاقُد، وأحكام العقود التي موضوعها وثيق الصلة بنشاطات هذه المؤسّسات في فقه الشريعة؛ لأن القضاء في المملكة العربية السعودية يعتمد الشريعة الإسلاميّة.
وبما أن التعاقد الصحيح الملزِم لطرفي العقد يخضع لقواعد وشرائط عامّة تشمل جميع أنواع العقود، فهي كالقاسم المُشترَك بينها جميعًا، وأي عقد لا تتوافر فيه يكون باطلاً لا أثر له، ثم إن كل عقد بخُصوصه من العقود المُسمّاة كالبيع، والهبة، والإجارة، والإعارة، والإبداع، والشركة، إلخ… له أحكامه الخاصة به بحسب موضوعه، وتختلف هذه الأحكام والشرائط الخاصة بين عقد وآخر، وذلك إلى جانب تلك الأحكام العامة والقواعد التي تخضع لها جميع أنواع العقود؛ لذلك وجب أن يكون لرجل المحاسبة إلمام إجمالي بكلا هذين النوعين من أحكام العقود وشرائطها، أي:
أ ـ الأحكام والقواعد العامة المُشار إليها، ومنها تتألف نظرية العقد العامّة التي تتضمّن قواعد التعاقُد في مراحله الثلاث: إنشاء العَقد، وآثار العَقد بعد وجوده، وانحلال العَقد.
ب ـ أحكام أهم العقود المسمّاة إجمالاً، أي: ما يخصُّ كلَّ عَقد منها، ولا يجري في سواه.(113/1)
وأهم العقود المسمّاة بالنسبة للمؤسّسات المالية المذكورة هي الأكثر دورانًا في نطاق نشاطاتِها، وفي طليعتها البيع بأنواعه، (وخاصة الصّرف والسَّلَم والاستِصناع)، والقرض والإجارة والإعارة والإيداع والرهن (الرسمي والحيازي)، والكَفالة والحوالة والوكالة والشركات (ومنها شركة المضارَبة أو القِراض)، والعقود الحديثة اليوم، ومن أهمها عَقد المقاوَلة وعقد التوريد…
كل ذلك بصورة إجماليّة لا تفصيليّة، ويعود للأستاذ المدرس تقدير الضروري من عدمه.
2 ـ إن النظريّة العامّة للعقد بجميع قواعدها موجودة بصورة كاملة في القوانين المدنيّة الوضعيّة وشروحها، بترتيب فني، ولكنّها غير مجموعة بصورة متكامِلة ومرتَّبة في فقهنا الإسلامي ومصادره التقليديّة من كتب المذاهب، لكنَّ قواعدَها منثورةٌ في مختلف أبواب العقود تُذكَر في مناسبات تعليل الأحكام العقدية.
لكنها قد جُمِعَتْ ودُوِّنَتْ من قِبَل بعض الفقهاء المعاصرين لغاية تدريس الطلاب في الجامعات (كليات الشريعة والحقوق)؛ لأن هؤلاء الطلاب يأتُون غالبًا من الثانويات العامة ليس لهم خلفيّة شرعية، فلا يستطيعون الرجوع إلى كتب الفقه المذهبيّة.
3 ـ من أهمّ المَراجع الحديثة، بل أهمُّها على الإطلاق كتاب: (المدخل الفقهي العام) من سلسلة (الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد) للأستاذ مصطفى أحمد الزرقا، ففي الجزء الأول منه نظرية العقد العامة في الفقه الإسلامي مُرتّبة بأقسامها الثلاثة: قواعد إنشاء العقد، وآثار العقد العامة، وانحلال العقد.(113/2)
أما العقود المُسمّاة، فقد تَضمَّن الجزء الأول، من المدْخل الفقهيّ المذْكور في آخر نظرية العقد، عرضًا للعقود المسمّاة جميعًا، وتعريفًا بموضوع كل عقد منها وغايته، والاصطلاحات المستعمَلة فيه… ثم تصنيفًا لهذه العقود جميعًا في زمر: كزمرة العقود الناقلة للملكيّة، والعقود الواردة على المنفعة، وعقود التوثيق كالكفالة والرهن، إلخ… وهذا كله ضروري لرجل المحاسَبة.
أما أحكام كل من هذه العقود المسمّاة، فلا يوجد مرجع حديث مُيَسَّر ومبسّط يشملها جميعًا بحسب حاجة غير المختصِّ بدراسة الفقه بل يجب على من يقوم بتدريس هذه المادة لرجُل المحاسَبة أن يكتب لهم كتابة جديدة عن العقود الأهمّ التي سَبَقَتِ الإشارةُ إليها، بحسب ما يحتاجون إلى معرفته من أهمِّ أحكامها الخاصّة بكلٍّ منها.
4 ـ إن تحديد أهم ما يحتاج المحاسِبون إلى معرفته من أحكام العقود الشائعة يتطلّب شخصًا يجمع بين المعرفتين المُحاسبيّة والشّرعيّة، وينبغي تشجيع بعض المُحاسِبين على تحصيل حدٍّ أدنى من المعرفة الشرعيّة بالعقود، حتى يُساعدوا بعد ذلك في اختيار الموضوعات التي تُهِمُّ زملاءهم المُحاسِبين. وإلى أن يتمّ ذلك، يمكن كحل مؤقَّت تشجيع حوار وأسئلة واستفسارات، من محاسبين قديرين، موجَّهة إلى مُختصّين في الشريعة؛ لكشف أهم القضايا الشرعية المُناسب تعريف المحاسِبين بها.(113/3)
فَتوى في عقد المزارعة(6)
أرسل الأستاذ سليم الشيخ محمد الحسيني من عامودة في الجمهورية العربية السورية إلى الأستاذ مصطفى الزرقا كتابًا يقول فيه:
أرجو من سيادتكم التكرُّم ببيان حكم الشرع الشريف في السؤال التالي:
إن محافظة الحَسَكة ـ كما لا يَخفَى على سيادتكم ـ منطقة زراعيّة، يعيش مُعْظم السُّكّان على المنتجات من الزراعة البعْلية. وعقود المزارعة الجائزة والباطلة تجري بين صاحب البِذْر وصاحب الأرض على نِطاق واسِع، ونشأ من ذلك خِلافات بين المتعاقِدين بسبب رداءة المواسم الزراعيّة الماضية، حيث زرع البعض في عام 1960 كميات من الشعير، ولم يُمكن حصادها في عام 1961، فنبتت مرة ثانية في نفْس الأرض وأعطت منتوجًا جيِّدًا لموسم عام 1962 الحالي، فادّعى صاحب البذر الأول لعام 1960 أنه شريك مع صاحب الأرض في المحصول، وادعى صاحب الأرض أن العقد انتهى بعام 1961، وكل ما نبت في أرضه له وحده، هذا الموضوع هو مَثار الخلافات العديدة في الوقت الحاضر، فلمن يكون المنتوج؟
المأمول من سيادتكم بيان حكم الشرع الشريف في هذه المسألة، ولكم جزيل الشكر.
فأجابه الأستاذ الزرقا بالجواب التالي:
تلقَّيت رسالتك الاستفتائيّة المؤرخّة في غرة المحرّم من هذا العام عقْب عودتي من مؤتمر العالم الإسلامي الذي عُقد فيه بغداد، وكنت ـ وما زلت ـ في غمرة الامتحانات الجامعيّة، وهذا ما قضى عليَّ بتأخير الجواب.
1 ـ إن سؤالك فيه غموض؛ لأنه ساكت عن ناحية جوهرية في الوقائع يجب بيانها، فقد قلتم ما خلاصته: (أن بذر عام 1960 في بعض عقود المزارعات لم يكن حصاده في عام 1961 لرداءة الموسم، فنبتَ مرة ثانية في نفس الأرض وأعطى منتوجًا جيِّدًا، واختلف صاحب البذر وصاحب الأرض، فكلٌّ منهما يدَّعِي أنه له وحده، فما هو الحكم الشرعي في ذلك).(114/1)
ونقطة الغموض هي أنكم لم تبيِّنوا: هل بقي البذر نفسه في الأرض بسبب الجَفاف حتى نبت في العام الثاني لما جاء الأرض مطرٌ كافٍ؟ أو أن البذر نبت في عامه الأول الذي أُلْقِي فيه، ولكن الزَّرع النابت لم يكن من الجودة بحيث يساوي تكاليف حصادِه، فبقي السُّنبل دون حصادِه، وتساقَط حبُّه في الأرض حتى جاءه المطرُ الكافي في العام التالي (الحالي) فنبت من جديد وأعطى موسمًا جيِّدًا (كما قد يُشعر به قولكم لرداءة الموسم… فنبت مرة ثانية) فالحكم الشرعي يختلف بين الحالين: على أني سأجيبكم عن كلتا الحالتين فيما يلي:
أ ـ في الحالة الأولى: يكون العقد قد انقضى في نهاية العام المحدَّد به، ولم يتَّفق على تمديده، فبقي البذر في الأرض لصاحبه في الواقع، فبنباته بعد ذلك يكون الزرع النابت ومحصوله له؛ لأنه نماء بذره في أرض غيره دون عقد، ويكون لصاحب الأرض أجر مثل أرضه الذي قد يعادل حِصّته المقرّرة له في العقد السابق أو أكثر أو أقل. هذا مقتضَى قواعد المذهب الحنفي في المزارعة وفي الإجارة، وقد نصوا في إجارة الأرض للزرع على أنه إذا لم يستحصد الزرع في نهاية مدّة الإجارة يبقى رغمًا عن صاحب الأرض إلى حين استحصاده بأجر المِثل؛ لأن تكليف المستأجر بقلع الزرع في نهاية المدة فيه إتلاف للزرع، أما بقاؤه بأجر المثل ففيه رعاية لمصلحة الطَّرَفين.
هذا الحلُّ أقرب إلى المنطق الفقهي من القول في هذه الحالة بأن المحصول يكون موزَّعًا على حكم العقد السابق؛ لأن ذلك معناه القول باستمرار حكم عقد المزارعة بعد انقضاء مدّته إلى العام القابل، وهذا يؤدِّي إلى القول بمنع صاحب الأرض من التصرف بأرضه بعد انقضاء مدة عقد المزارعة، وعدم نبات البذر؛ لاحتمال أن ينبت في أعوام قادمة إذا استمرّ الجفاف، وفي هذا من البعد والمشكلات ما فيه.(114/2)
فالذي أراه هو ما بيَّنته، والفقهاء يُصرِّحون دائمًا بأنَّ نماء البذر في أرض الغير يكون لصاحب البذر، ويكون لصاحب الأرض تعويض نُقصان الأرض، أي: نقصان قوّتِها الإنباتيّة أو أجر المثل.
ب ـ وأما في الحالة الثانية: فإن المحصولَ الأول الذي لم يُحصَد لقلّته هو محصول مشترك بين صاحب البذر وصاحب الأرض على حكم العقد من مناصفة، أو مرابعة، أو مثالثة بحسب الاتفاق السابق، فعندما يتساقط في الأرض وينبت من جديد يكون المحصول الثاني نماء بذر مشترك في أرض بدون عقد، فهو، أي: المحصول، مملوك بنسبة الملكية في البذر.
ولصاحب الأرض أن يأخذ أولًا من المحصول الجديد قبل القسمة ما يعادل أجر مثل أرضه والنفقات التي أنفقها على الحِراثة والحَصاد والدّياس... إلخ؛ لأن كل ذلك عندئذٍ يكون على الطرفين بنسبة حِصتيهما؛ لأنه نفقة واجبة في سبيل ملك مشترك، فيأخذها مستحِقُّها من المحصول الجديد قبل قسمته.
هذا، ويلحَظ في الفرق الجوهري بين الحالتين أن الأرض في الحالة الأولى لم تُستعمل إلا مرّة واحدة في الإنبات، فيكون لصاحبها تعويض فقط عن استعمال أرضه (وهو أجر مثلها)، بينما في الحالة الثانية فقد استُعمِلت الأرض وأنبتت مرتين: مرّةً ضمن مدّة عقد المزارعة، ووفقًا لهذا العقد، ومرة خارجه، فيكون لصاحبها حِصّة في المحصول الثاني أيضًا؛ لأنه نماء بذر مشترك، كما يكون له تعويض فوق ذلك عن الاستعمال الثاني للأرض خارج نطاق العقد، وهذا التعويض هو ما يعادِل أجر مثل الأرض عن الجزء الذي استعمل منها لأجل حِصة شريكه، وهذا هو الذي يتحقّق عندما يؤخذ ما يعادِل أجر مثل كامل الأرض من مجموع المحصول قبل القسمة.
وقد تلقى الأستاذ الزرقا من المستفتي الرسالة التالية:
سيادة العلامة الجليل الأستاذ الشيخ مصطفى الزرقا الأكرم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(114/3)
وصلني كتاب سيادتكم المؤرّخ في 6 صفر 1382، 8 تموز 1962م المتضمِّن بيان الحكم الشرعي في عقد المزارعة، وفي الوصية بطعام غير معيّنة كميته وقيمته، فكان في إجابة سيادتكم الحلول المُرضية من العلماء وقضاة المحاكم، ولا شكَّ في أن التفصيل الوارد في الكتاب جاء حاسِمًا لكلِّ نزاع يقع في المستقبل بين المزارعين.
نرجو الله تعالى أن يحفظكم لخدمة العلم والإسلام، ويؤيدكم بنصره المبين، ويتم على أيديكم جلائل الأعمال.
سليم الحسيني
هامش
(6) مجلة حضارة الإسلام ـ العدد الأول ـ السنة الثالثة ـ 1382هـ.(114/4)
ملاحظات على الإيداع في حسابات التأجير
لدى إحدى الشركات
إن التأمُّل والتدقيق في مذكِّرة (حسابات التأجير) لدى شركة (…) يَظهر بوضوح أن إيداع الأموال لديها في "حسابات تأجير خاصّة" هو في حقيقته لا يخرج عن كونه إيداعًا للأموال على سبيل القرض بفائدة.
وإنما سُمِّي إيداعًا في حسابات تأجير خاصة لتغطية ذلك، مع الاحتفاظ بجميع مقوِّمات القرض الرِّبوي، كما تدل عليه الملاحظات التالية:
(1) إنَّ نصَّ الاتفاقيّة على أنّ للمُودِعين في الحسابات الخاصّة بالتأجير الحقَّ في سحب رصيدهم كاملًا متى شاؤُوا، بعد إشعار مدته سبعة أيام، هو دليل على أن هذا الإيداع هو في الحقيقة إقراض؛ لأن هذه الودائع لو كانت ستُستخدَم بأعيانها لشراء المُعدات المؤجَّرة، لما أمكن سحبها بحسب المشيئة في أي وقت.
(2) تصرِّح المذكرة بأن "الأصول المأجورة إنما تمتلكها وتؤجِّرها الشركة وتبقى ملكًا لها" أي: أن أصحاب الودائع ليسوا شركاءَ في ملكية الأصول لكي يصحَّ اعتبارهم شرعًا مُستثمرين بالإيجار، فلم يَبق معنى للإيداع إلا أنّه إقراض للمالك المؤجِّر، وهو الشركة.
أما النصّ في المذكِّرة "على أن العائِد الذي يُعطي للمودِعين إنما يدفع من محصّلات التأجير الواردة من مستأجِري المُعدات التي تملكها الشركة…".
فإنه لا يُغيِّر من طبيعة هذا الإقراض، وإنما يُفيد بأن الفوائد على هذه الودائع تُعطى من حصيلة الإيجارات.
(3) صرحت المذكِّرة بأن "عائدات هذه الودائع من حَصيلة الإيجار لا يمكن أن تتجاوَز أسعار الفائدة في أسواق النقد، وتتبع تموُّجات هذا السعر" وهذا من أوضح الدلائل على أن الفكرة إنما هي تمويل بقروض رِبوية لعملية شراء المُعدات، وإيجارها من قِبل الشركة بقروض رِبويّة.(115/1)
(4) صرّحت المذكرة أيضًا (وهذه صراحة محلُّ تقدير لصِدق أصحابها) في فقرتها الأخيرة أنَّ الشركة لا تضمَن مقدرتَها على تحاشي مُخالفة التعاليم الإسلامية الخاصّة بالفائدة رغم حرصها في هذه الترتيبات على هذا التحاشي.
ملاحظة:
إن فكرة امتلاك مُعدات للإيجار أو المشاركة في ذلك هي طريق في ذاته سليم شرعًا، ومعقول اقتصادِيًّا في طرق الاستثمار الحلال.
ويجوز لأي بنك إسلاميٍّ أن يُدخلَ مثل هذه العمليّات في برنامجه الاستثماري، وذلك بأسلوب تتوافَر فيه الشّرائط الشرعيّة، لا كهذا الأسلوب الوارد في مذكِّرة الشركة.
22/11/1400هـ.
1/10/1980م.(115/2)
ملاحظات مشروع النظام الأساسي لشركة إعادة التأمين الإسلامية
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تلقَّيت كتابكم الكريم ومعه مشروع المؤسَّسة التعاونية لإعادة التأمين الذي تستطلعون رأيي فيه من الناحية الشرعية.
إنني أرى أن هذا المشروع تحتاج إليه البلاد الإسلامية جمعاء أشد الحاجة؛ لتخرُج من رِبْقة الشركات العالمية لهذه الإعادة، تلك الشركات العالَمية التي تستبدُّ بموضوع إعادة التأمين لعدم وجود المُنافِس في هذا المِيدان؛ نظرًا لضخامة رأس المال الذي تحتاجه إعادة التأمين.
وترون من جوابي المجمل، الذي اقتصرت فيه على لمس بعض النواحي الحساسة في هيكل المشروع، أنني لا أرى في هيكله بأسًا من الناحية الشرعية، ولا أرى فيه ثغْرة أو شروطًا غير قابلة التخريج على أساس مقبول في الفقه الإسلامي.
وترون جوابي المذكور مُرفقًا بكتابي هذا إليكم، شاكرًا ثقتكم الغالية.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
1 – أرى استخدام عبارة (المستأمِنين) بدل (الشركات المشتركة) الواردة في مشروع النظام (انظر مثلاُ المواد 33 و56 و57).
2 – لم أعرف المقصود بعبارة (إسناد إعادة التأمين) الواردة في المادة 2/1.
ولعلَّ المراد هو إعادة التأمين ثانية لدى شركات أخرى لإعادة التأمين (أي تكرار إعادة التأمين) . وهذا قد يكون ضرورة فنية لا مناص منها، حتى ولو كان هذا التأمين الثاني يجري على أساس تجاري غير تعاوني، ولا أرى به بأسًا حتى ولو سلَّمنا بأن الأفضل هو التأمين التعاوني، وذلك للحاجة التي تدعو إليه، ولا بديل عنه في الوقت الحاضر.
وإن جوهرَ النظام المُقترَح كما فهمته من دراسة المشروع يتلخص بما يلي:
3 – يقوم المساهِمون في الشركة المُقترحة (وهي شركة محدودة المسئولية لإعادة التأمين) بتقديم رأس المال اللازم لإنشاء الشركة.
4 – تقوم الشركة باستثمار أموال مساهمة بالطُّرق الإسلامية، وتعود عوائد هذه الأموال إلى المساهمين.(116/1)
5 – تقوم الشركة بإبرام عقود إعادة التأمين، وتتقاضى لقاء ذلك أقساطًا من المستأمِنين الذين هم شركات تأمين. ويكون لهذه الأقساط حساب خاص متميز ومنفصل عن حساب المساهمين (المادة 56) . وشركات التأمين المذكورة هي التي سمّاها المشروع: الشركات المشتركة في إعادة التأمين.
6 – لا يحِقُّ للمساهمين تقاضي أية أرباح من الفائض عن التعويضات، الذي قد يتحقق من أقساط إعادة التأمين (أو: اشتراكات التأمين كما سماها المشروع، مادة 58/3).
7 – تقوم الشركة تجاه المستأمِن بوظيفة مضارب يستثمر للمستأمنين أقساطهم (بالإضافة لاستثمارها للأموال المقدَّمة من المساهمين) وتتقاضى الشركة، بوصفها مُضارِبًا، نسبة من أرباح استثمار هذه الأقساط (المادتان 56/2 و 75/2جـ) . وهذه النسبة تحددها الجمعية العامة للشركة بناء على اقتراح مجلس الإدارة. والظاهر أن هذه النسبة لن تكون ثابتة، بل تقبل التعديل في ضوء الظروف المستجدَّة، والأصل في هذه النسبة في الحكم الفقهي أن تكون خاضعة للاتفاق.
8 – إذا وقع عجز في حساب المستأمِنين (أي: في حساب أقساط إعادة التأمين وما تراكَمَ من أرباح استثمارها ومن الاحتياطات المتصلة بها) "يكون سداد العجز باقتراض المبلغ من حساب المساهمين، على أساس أن يسدّد من فائض الأقساط في السنوات المقبلة" (المادة 61/5).
وبعبارة أخرى: إن الشركة تكون بمثابة كفيل بالأمر عن المستأمِنين، تدفع ما يستحقُّ عليهم من تعويضات إذا عجز صندوقهم عنها، وتستردُّ ذلك من صندوقهم حين يتحقق فيه وفْر، وفي مقابل ذلك يلتزم المستأمِنون بأن يستثمروا أموال صندوقهم بوساطة الشركة بوصْفها مضارِبًا له حصة من الربح.
النتيجة:
إنني لا أرى أساسًا بهذا الترتيب، فهو صيغة جيِّدة مُبتكَرة في إقامة شركة لإعادة التأمين بصورة تعاونية من حيث جوهرها، مع ملاحظ أن التفاصيل الإجرائية هي وسائل تنظيمية يقبل فيها شرعًا ما يقتضيه تنظيم العمل، ويتفق عليه الأطراف.(116/2)
والله تعالى أعلم، وهو ولي التوفيق.(116/3)
نظرات في نظام القروض الجديد
لوكالة الغَوث الدوليّة
بعد أن قامت إدارة وكالة الغوث الدوليّة بإرسال نظام القروض الجديد بتاريخ 27/8/1991م قام الإخوة محمد عبد القادر محيسن ـ عضو اللجنة التنفيذية ـ والسيد عزَّام إبراهيم هارون، والسيد عمر وفيق صابر بزيارة إلى فضيلة الأستاذ مصطفى الزرقا؛ ليُعطيَ الحكم الشرعي في هذا النظام، وقد قام الإخوة بتوجيه أسئلة محدّدة حول النقاط التي تحتاج إلى إجابة شرعيّة، وتفضَّل الأستاذ مصطفى الزرقا بالرّد عليها كاملة، وهي كما يلي:
يوجد في النظام الماليّ لوكالة الغوث الدوليّة صندوق يسمَّى صندوق التوفير تقتطع الوكالة بموجبه 7% من كل موظَّف وتقوم بتقديم 14% مقابلَها ليُصبح المجموع 21% تبقى رصيدًا لكل موظَّف لحين انتهاء خدمته بصورة طبيعيّة، وكانت الوكالة في السابق تقوم بإعطاء قروض بفائدة للموظّفين، والآن قامت الوكالة بإصدار نظام جديد للقروض صدرت به تعليمات مؤرخّة 27/8/1991م تحت رقم 91/11/ جاء فيها:
يُعطى القرض للموظّف على مدة 72 شهرًا (ست سنوات).
قيمة القرض القصوَى راتب 18 شهرًا بحيث لا تَزيد عن قيمة التَّوفير الخاصّة للفرد أي 7% أصل اقتطاع حِصّة الموظف.
يجِب ألّا تزيدَ قيمة القسط الشهري عن 25% من الرّاتب الأساسي ويبدأ السّداد من الشهر الأول.
تُقتطَع قيمة 2.5% من قيمة القرض وذلك عمولة خدمات لإدارة القروض.
فما هو الحكم الشرعي بالإفادة من هذا القرض لموظّفي الوكالة، أفيدونا جزاكم الله خيرًا؟
فأجاب فضيلة الأستاذ مصطفى الزرقا مشكورًا:
إن قيمة القرض ومدّته وطريقة سداده الشهري ليست موضوع البحث، ولكن موضوع البحث من قبلكم هو اقتطاع نسبة 2.5% التي تؤخذ لإدارة القرض، وهنا قام فضيلة الأستاذ بتفصيل القرض حسب ما يلي:(117/1)
إنني أرى في القرض الحَسن فرقًا بين القرض الشخصي والقرض الجماعي، فالقرض الشخصيّ لا أرى فيه أن يُزاد عليه ولو فِلسًا واحدًا، فلو استدان شخص من آخر مائة دينار قرضًا، لا يجوز أن يستردَّها بأيّة زيادة حتى ولو كان فِلسًا واحدًا.
أما القرض الجماعيّ فينظر إلى المقصد الكبير، وهو إدامة وجود رأسمال يَستفيد منه أكبر قدر مُمكن من المُنتفعين، وهنا لابد من الحفاظ على رأس المال، وذلك بإيجاد جهاز إداري يقوم بمتابعة استرداد المبلغ، ولابد من الإنفاق على هذه الجهاز الإداري، ولما كان أحقُّ الناس بدفع قيمة المصروفات هذه للحفاظ على رأس المال هم المُنتفعين من الصندوق، فلا بأس من اقتطاع نسبة معيّنة فوق المال المُقْترَض لتغطية نفقات هذا الجهاز، شريطة أن تغطيَ هذه النسبة كُلفة تشغيل الجهاز فعليًّا بَشِريًّا ومادِّيًا من أجور ونفقات، ولا يجوز أن تصبح فائدة باسم جديد.
لكن يُلاحظ في هذا المَجال أنه لا يُمكن ضبط كُلفة تشغيل هذا الجهاز الإداري بدقة، فقد تزيد قليلًا أو تنقُص، فيمكن التسامُح في الفرق اليسير من الزيادة عن الواقع الفعلي دفعًا للحرج.
والخلاصة:
أن أخذ مبلغ من المال لنفقات الجهاز الإداري فوق القرض من أجل الحفاظ على استمرار رأس المال في مَجال الإقراض، لا أرى فيه مانِعًا شرعًا.
س2: ولدى سؤال الأستاذ مصطفى الزرقا عن التفاوُت في القدر الذي يؤخذ لخدمة القرض بنسبة مئوية 2.5% وهي تتفاوت من شخص لآخر بحسب مبلغ القرض، وليست مبلغًا مقطوعًا مهما كان مبلغ القرض، فهل هذا جائز شرعًا، علمًا أن العملية الحسابيّة لكلِّ القروض واحدة.
أفاد الأستاذ مصطفى الزرقا:
أن التفاوُت هنا عدل؛ إذ ليس من المعقول أن تترتَّب أعباء خدمة على شخص اقترض / 1000/ ألف دينار مثلًا كالتي تترتَّب على شخص اقترض / 10000/ عشرة آلاف دينار، فزيادة الانتفاع تقتضي زيادة التحمُّل، فإن من القواعد الشرعية: أن الغُنم بالغرم.
ملاحظة:(117/2)
أضاف فضيلة الأستاذ مصطفى أحمد الزرقا بعدما تقدَّم الملاحظة الإيضاحية التالية:
"إن تقدير التكاليف الفعليّة لخدمة القرض بنسبة اثنين ونصف في المائة من مبلغ القرض، وهل هو أكثر من قدر التسامح فيما يتعذَّر أو يتعسر ضبطه بالدقة التامّة، هو أمر يُرجع فيه إلى أهل الخبرة مبدئِيًّا، ثم يَكشف عنه الواقع، ولا يُمكن تقريره مسبقًا بفتوى، ولكن إذا خلُصت النِّيّات مع مُراعاة اختلاف الزمان والمكان، وانتفت فكرة الفائدة المضافة على القرض، يُصبح الأمر سهلًا في تقدير نسبة تكاليف خدمة القرض وتطبيقها، فإذا تبيّن بالحساب في آخر العام أن النسبة كانت أزيدَ من الواقع، يُمكن وضع الزيادة في صندوق خاصٍّ لتنفقَ على الفقراء من الفلسطينيين أنفسهم.
عمان 2 من ربيع الأول / 1412هـ.
10/9/1991م.(117/3)
نفقة المحاكمة من المَدين المُماطِل(1)
هل يجوز شرعًا أخذ نفقة المُحاكمة من المَدين المُماطل المليء، الذي لا يدفَع دَينه إلا بقوّة القضاء؟ وما هو السند الشرعي لذلك؟
إبراهيم العالي
ليس فيما أتذكَّر نصٌّ فقهي في المذاهب على نفقات المحاكمة؛ لأن القضاء في ماضينا القضائي الفقهي لم يكن فيه نفقات محاكمة، ولكن المبدأ الفقهيَّ الذي يتجلَّى في جميع نصوص المذهب الحنفي: أن الشخص المسؤول بتسليم شيء إلى صاحبه، هو الذي يحمل نفقات التسليم المكلَّف به عندما يكون للتسليم مؤونة ونفقة؛ ذلك لأنَّ النفقة عندئذٍ تكون تابعة للتكليف لتوقُّفه عليها، ومن المقرر في علم الأصول أن الأمر الشرعي بشيء هو أمر بكل ما يستلزمه ذلك الشيء أو يتوقف عليه، فالأمر بالوضوء مثلاً هو أمر للمكلَّف بشراء الماء بالثمن المُعتاد، إذا كان لا يمكن الحصول على الماء إلا بثمن وهكذا... وتتجلَّى تطبيقات هذا المبدأ في كثير من المواطن، منها ما يلي:
1 – نصُّوا على أن نفقة ردِّ المغصوب إلى مكان الغَصب إذا احتاج ردُّه إلى نفقة تقع على عاتق الغاصِب؛ لأنّه المكلَّف بالإعادة والتسليم (المجلة المادة 890) والمجلة كما هو معلوم قانون فقهي من المذهب الحنفي.
2 – وكذلك نصُّوا في الإعارة على أن نفقة ردِّ العاريّة تقع على عاتق المُستعير للعلّة نفسها. (المجلة المادة 830).
3 – وكذلك في البيع قالوا: إن المصاريف التي تتعلق بتسليم المَبيع تلزم البائع للعلة نفسها (المجلة 289) ونصوص المذهب كثيرة في هذا الموضوع في شتَّى المناسبات.(118/1)
هذا ولا شكَّ أن المَدين المُماطِل القادِر على الدفع هو ظالم كالغاصب، يقول الرسول ـ عليه الصلاة والسلام: " ليُّ الواجِد يُحِلُّ عِرْضَه وعُقوبتَه "، واللَّيُّ هو المُماطَلة مصدَر لَوى يلْوي، والواجد هو المَدين الذي يجِد ما يَفي به دينَه. " يُحِلُّ عرضَه وعقوبتَه" أي: يجعل الناسَ في حلِّ من ذمِّه والطعن فيه، ويجعل الحاكم في حلٍّ من عقوبته (2). والقوانين التي تجعل نفقات المحاكمة على المحكوم عليه هي من هذه الناحية موافقة للحكم الشرعي، ويحل لكل إنسان الاستفادة من حكمها، ولا سيما أن نفقاتِ المحاكمة وتوابعَها من نفقات الدفاع والتنفيذ قد تستغرق الدين كله، فإذا تحملَّها المدين قد لا يبقى له بعدها شيء من دينه، وهذا غير معقول لا شرعًا ولا عقلاً ولا قانونًا.
والذي يكابر في هذه البدَهيّات هو مُبطِل متستِر وراء الزعم الشرعي لأكل الحقوق بالباطل، كبطله في عدم دفع الدين إلا بقوة القضاء والتنفيذ، ولا حاجة إلى حشد الحجج له، وإنما ذكرنا هذا القدر تلبية للطلب، والله أعلم.
الهوامش
حضارة الإسلام، العدد التاسع، السنة الأولى 1380هـ.
(2) رواه أحمد 4: 288 وأبو داود (3628) في الأقضية، باب الحبس في الدين وغيره، النسائي (4689) في البيوع، باب مَطْل الغني، وابن ماجه (2427) في الصدقات، باب الحبس في الدين والملازمة، وإسناده حسن. والواجِد: القادِر المليء. يحل عرضَه: أي: يجوّز لصاحب الدَّين أن يعيبَه ويصفَه بسوء القضاء والمُراد بالعرض: نفس الإنسان، وعقوبته: حبسُه (مجد).(118/2)
هل للإسراف مِقياس محدَّد شَرعًا؟
هل يُباح أن يَشتري الرَّجل المُوسِر بُخورًا بأسعار غالية يكون سعر الكيلو عشرين ألف ريال، أو أن يستأجر بيتًا بجانب الحرم لعشرة أيام من رمضان بمبلغ مائة ألف ريال بغرض العِبادة.
والسؤال: هل هذا من الإسراف أم من المُباح؟
والسؤال يخصُّ رجلاً موِسرًا ذا سَعة في المال.
الجواب:
الإسراف محظور وليس له مقياس محدَّد شرعًا فيتبع فيه عُرف الناس في المجتمع، وهو يختلف باختلاف الأشخاص ومنزلتِهم الاجتماعيّة وحالتهم الماديّة.
ويبدو لي في الأمثلة التي أوردتها في سؤالك أنها إسراف لا سيّما مع وجود كثير من المُعْدَمين في العالم الإسلامي، فهي من بطر النِّعمة.(119/1)
حكم ذبائح أهل الكتاب
ابن الأخ العزيز الشاب المهذب السيد غسان الجندي زاده الله تعالى هداية و نورًا وتوفيقًا.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد سرني جدًّا ما سمعته عنك من أنباء الصَّلاح والتمسك بأهداب تقوى الله، وتعاليم دينه الإسلامي الحكيم، وتَذكرتُ بِشارة الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ في صِحاح أحاديثه لسبعة يُظلُّهم الله تحت ظِلِّ عَرْشه يوم لا ظِلَّ إلا ظِلُّه ومنهم: "إمام عادل، وشابٌّ نَشأ في طاعة الله"(1). فإني أدعوه تعالى أن يَجعلك من أولئك الشباب الناشئين في طاعته.
عَرَفت من طريق أهلك أنك لا تَأكل اللحم المُهيأ في فرنسا حيث تَدرس؛ لمَا تَسمع مِن أنهم هناك لا يَذبحون الحيوان بالطريقة المقبولة في الإسلام، وأنك تُعاني في طعامك حَرَجًا من هذا الأمر.
فأُفيدك يا بُنَيَّ إنَّ في شريعتنا الإسلامية مُتَّسعًا من هذا الحرج، فإن فريقًا من أئمة الشريعة يُجيزون أكْل لحوم أهل الكتاب متى كانوا أماتوها للأكل، بأيِّ طريقة كانت إماتتهم لها، ولو بغير الذبح الشرعي المطلوب من المسلم، باعتبار أنَّ الله تعالى لما قال لنا في كتابه العزيز: (وطَعامُ الذين أُوتوا الكِتَاب حِلٌّ لكم) (المائدة: 5) كان يَعلَم طريقتهم في إماتة الحيوان لأجل أكْله، فهذه رُخصة يَجعلها الله للمسلمين تجاه أهل الكتاب السماويِّ، تمييزًا لهم عن المشركين والملاحدة؛ الذين لا تُؤكل ذبائحهم ولو ذَبحوها وَفقًا للطريقة الإسلامية ولا يَمتنع علينا أكله من اللحوم التي يُهيئها الكتابيون للأكل إلا اللحم المُحرَّم نوْعه في الإسلام ، وفي طليعتها الخنزير، ثم السِّباع (وهي آكلات اللحم من الحيوان البري والطير) وكذا الحشرات والهوامّ من الخبائث في النظر الإسلامي.(120/1)
أما اللحوم في البلاد الشيوعية اليوم فلا تُؤكل؛ لأنهم مَلاحدة لا يُؤمِنون بالله تعالى، فهم كالمشركين بل أشْنع، ولو ذَبحوها وَفقًا للطريقة الإسلامية ما دام الذابح شيوعيًا مُلحدًا، لأنَّ سبب التحريم في هذه هو الذابح وعقيدته نفْسه، لا طريقة الذابح.
وما دُمت في بلدٍ من بلاد النصارى من أهل الكتاب، تُقِيم فيه للدراسة، فكُلْ من لحوم حيوانهم متى كانت من النوع المأكول في الإسلام، وتَرخَّصْ فيما رَخَّص الله تعالى لك ما دام في ذلك مذهب اجتهادي من مذاهب أئمة الشريعة وفقهائها وصحابة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو تابعيهم، فهم أعلم منا بما حَرَّم الله تعالى وما حَلَّل، ولنا فيهم خير أسوة وقدوة.
وتتميمًا للفائدة أُحيلك في تفصيل هذا الموضوع وأدلته الشرعية على كتاب "الحلال والحرام" للأستاذ الشيخ يوسف القرضاوي من أفاضل علماء العصر، وهو كتاب قيم يَنبغِي لكل أسرة مسلمة أن يكون في مكتبتها البيتية، وينبغي لكل مثقف مسلم أن يَقرأه، وقد سدَّ به مؤلِّفه حاجة علمية إلى مثله في الناشئة الإسلامية، وفراغًا كان ملحوظًا قبله، جزاه الله خيرًا. وقد أَوصَيت أهلك أن يُرسِلوه إليك، فابدأ منه بقراءة بحث "ذبائح أهل الكتاب" في الفصل الثاني.
بارَك الله فيك وعليك يا بني، وأكثر في الشباب المسلم من أمثالك، والسلام عليكم.
هامش
(1) أخرجه البخاري (660) في الأذان، ومسلم (1031) في الزكاة.(120/2)
حكم ذبائح المشركين
فضيلة الشيخ مصطفى ـ حفظه المولى تعالى ـ.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وتَقبَّل الله طاعاتكم، وغَفر لنا ولكم، وكل عام وأنت بخير، وبعد:
ما هو الحكم بالنسبة لأهل الصين من حيث أكْلُ لحومهم وهم كما تَعلَمون لا يَدينون بأي دين، وقلة قليلة منهم ـ وهم من كبار السن ـ ، على الديانة البوذية. فهل يجوز لنا أكْلُ لحومهم؟
أفتونا جزاكم الله خيرًا.
وليد الزعيم
جدة 1/2/1998
الجواب:
ظاهر قوله تعالى: (وطَعامُ الذين أُوتُوا الكتابَ حلٌ لكم) أن غير الذين يؤمنون بكتاب سماوي لا يَحِلُّ طعامُهم، والإجماع على أن المراد بالطعام ذبائحهم.
فغير الذين أُوتوا كتابًا سماويًا يشمل المشركين والملاحدة، كالصينيين واليابانيين، فلا تَحِل ذبائحهم، وإذا كان للمسلمين فيهم ترتيب خاص يَذبحون فيه على الطريقة الإسلامية فيَقتصر المسلمون عليها. وإذا كان فيهم يهود لهم ترتيب خاص بهم في الذبح يُمكِن عندئذ للمسلمين أن يَأكلوا من ذبائح اليهود، وإلا فليقتصر المسلم على البيض والسمك، والله أعلم.
الرياض 6 شوال 1418هـ.
3/2/1998م(121/1)
حكم ذَبْحِ أُضْحِيَةٍ ذَنَبُها مَقصوص
الأستاذ الفاضل الشيخ مصطفى الزرقا.. حفظه الله،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد،
يَسُر هيئة الأعمال الخيرية أن تُهدِيكم أجمل تحياتها، ونَود أن نَتقدم من حضرتكم بوافر الشكر، وعظيم الامتنان على جهودكم الخيرة في دعم مسيرة العمل الخيري، والتي كان آخرها التكرم بالرد على أسئلة فقهية.
ويُرجى إجابتنا عن السؤال التالي:
هل يجوز ذبْح أُضْحِيَةٍ ذَنَبُها مَقصوص (وهذا ما يكون غالبًا في الأغنام الاسترالية).
مؤكِّدين اعتزازنا بكم، سائلين المولى عز وجل أن يَحُفظكم، ويُسدد خطاكم لما فيه خير الإسلام والمسلمين.
وتَفضَّلوا بقبول فائق الاحترام
21/4/1412هـ.
19/10/1991م
الأمين العام
سالم بن أحمد بن عبد الرحمن
الجواب:
الأخ الكريم السيد سالم بن أحمد بن عبد الرحمن المحترم، الأمين العام لهيئة الأعمال الخيرية، حفظه الله تعالى.
تلقيتُ رسالتكم المرسلة بالفقس (الفاكس) البارحة الأحد ليلاً 13/4/1412هـ وفيها تَسألون: هل يجوز ذبح أضحية ذنبها مقصوص (وهذا يكون غالبًا في الأغنام الاسترالية)؟
والجواب: أن مقصوصة الذنب، أو مقطوعة الأَلْية لا تُجزِئ التضحية بها باتفاق المذاهب الأربعة.
وإن شئتم المزيد من معرفة العيوب والنقص مما يَمنع في الشاة صحة التضحية بها، فارجعوا إلى كتاب "الفقه الإسلامي وأدلته" للدكتور وهبة الزحيلي (ج 3ص / 617-622)؛ لأن الذنب والأَلْية أجزاء مأكولة من الغَنَمة، فذهابها نقص منها، فلا تكون غَنَمَة كاملة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الرياض ـ 14/4/1412هـ.
21/10/1991م(122/1)
طعام أهل الكتاب ونصائح للمسلمين المقيمين في بلاد الغرب
حضرة الأستاذ مصطفى الزرقا المحترم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد، يا والدي، فإني أعاني من مشكلة حَرِجة لا أدري كيفية الخروج منها، وأعتقد بأن لَدَى سيادتكم معلومات أكيدة وفَتاوَى عنها، فأنا لا أملك الوقت الكافي للقيام بإعداد الطعام لنفسي ومضطر للأكل في مطاعم الجامعة، والدروس متراكمة بشكل واضح، فهل لك يا أستاذي الجليل أن تَجد لي مخرجًا من هذا المأزق، وَصَلَتني فَتواك الأولى مع الشكر الجزيل، ولكني كنت متشددًا في عدم القرب من لحوم الكفرة، والآن وقد طال المقام لي هنا، وسيَطُول لعدة سنوات؛ مما يُهدِّد صحتي بالانهيار لعدم تناول الغذاء الكافي، فأرجوك أن تُرسِل لي فتوى مشكورًا، وأنْ تُوضِّح لي نظرة الشرع الكريم تجاه هذا الوضع الدقيق، وكذلك الأمر بالنسبة للحوم الدجاج والأسماك.
ولك ألف شكر يا سيدي، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ولدكم البارّ
غسان هشام الجندي
غرنيوبل ـ فرنسا
ابن أخي العزيز الشاب الصالح المهذب غسان هشام الجندي، دُمْت بأعين الله وأنْعُمه، ولا نِعمةَ كالإيمان ، ولا فَضْلَ كالتقوى.
السلام عليكم.
بارك الله فيك وعليك.
تلقيت رسالتك المرسلة من غرونوبل حيث أنت من فرنسا، وفيها إشعار بوصول رسالتي السابقة إليك بشأن، اللحوم في تلك البلاد، وما تُعانيه من جَرّاء نقْص تغذيتك بسبب اجتنابك إياها بصورةٍ مطلقة، رغم فتواي السابقة لك في الحدود التي يُوجد فيها مُفترج للمسلم الحريص على دِينه هناك.(123/1)
فأقول لك مجددًا يا بني: إننا لسنا أحرص على إقامة ديننا اليوم من سلف هذه الأمة المحمدية وفقهائها الأولِين، فحيث تَختِلف اجتهاداتهم وآراؤهم العلمية في فهْم نصوص الشريعة، فلنا أن نأخُذ في حياتنا وتطبيقات شريعتنا بما نختار من آرائهم ومذاهبهم بعد أن يكونوا من أهل الاجتهاد، لأنَّ كلاًّ منهم يُمكِن أن يكون رأيه هو الصواب في فهْم النص. ومن هنا كان اختلافهم رحمة، لأنه يَفتَح للأمة أبوابًا في تطبيق الشريعة في حياتهم بحيث يُتاح لكل قومٍ أو بيئة إسلامية أن تأخُذ بما هو أيسر عليها، أو ربما هي أحْوج إليه، أو بما هو أكثر ملائمة لظروفها.
فيا بني ! إنك في ظرْف استثنائي من حياتك، وهو ظرف الدراسة في بلاد أجنبية، وقد بيَّنتُ لك إجمالاً في رسالتي السابقة أنَّ في المذاهب الفقهية من يَرى جواز أكل المسلم من لحوم أهل الكتاب ما اعتادوا إماتته من الحيوان المأكول اللحم في الشرع الإسلامي، دون نظر إلى طريقتهم في إماتته، بعد أن تكون هي الطريقة التي يُميتون بها الحيوان لأجل أكله، ولو أنها طريقة غير مقبولة من المسلم كالوَقْذ (وهو الضرب على الرأس) وكالخَنْق. والأدلة الشرعية مبسوطة في المراجع المُطَوَّلة التي لا وصول لك إليها، ولكنها ملخصة في كتاب "الحلال والحرام" للأستاذ يوسف القرضاوي ، وقد نبَّهتُ أهلك أنْ يشتروه، ويُرسِلوه إليك، فأفادوا أنه عندهم أو عندك.
فيا بني إنَّ الله تعالى قد يسَّر علينا هذا الدين الكريم، وجَعَله سمْحًا، ومَنَعنا من التزمُّت والتشدد فيه. ومن المقرر عند علماء الشريعة أنَّ الله تعالى يُحِبُّ أن تُؤتَى رُخَصه كما يُحِب أنْ تُؤتَى عزائمه. ومن الرُّخَص الآراء الفقهية المبُيحة عند اختلاف الاجتهادات المُعتَبرة.
فالذي أستطيع أنْ أَنصَحَك به ، وآمُل أن تَقتَنع وتَتقبَّله هو ما يلي:(123/2)
1 – كُلْ من لحومهم (غير الخنزير) كُلْ ما يُمِيتونه بطريقتهم المعتادة لأجل أكْلِه، ولو كانت طريقتهم في ذلك مخالفة للطريقة الإسلامية، وذلك كلما وَجَدت نفسك في حاجة إلى اللحوم الحمراء أو الدجاج وسائر الطيور.
واجْتنِبْ فقط ما يأتي من البلاد الشيوعية؛ لأنهم لم يبقوا أهل الكتاب بسبب أنهم ملاحدة.
2 –اسْتَعِضْ على قَدْر الإمكان بلحم السمك، فإنه لا تَسرِي عليه أحكام التذكية (الذَّبْح) وطريقته، بل للمسلم أكْله حتى من المُشرك لا مِن أهل الكتاب فقط، وفي السمك يا بني فُرْجة عظيمة، ولا سيما الطون والسردين.
3 استَعِنْ أيضًا بالبيض، فإنه مباح للمسلم من أي يَدٍ كان حتى من المُشْرك، والبيض غذاء كامل قوي.
4 – وإن لم تَشأ فعليك بلحم اليهود فإنهم يذبحونه بطريقة متفقة مع حكم الإسلام، ولا يأكلون إلا من ذبائح حاخاميهم بطريقتهم، وهناك مراكز لهم في اللحم معروفة.
5 – أكثر أيضًا من الاعتماد في غذائك على اللبن الحليب أو الخاثر الرائب فإنه غذاء كامل، ففيما بينه وبين البيض والسمك تُقِيم أَوَدك على أكْمل وجْه وأيْسره.
هذا ما أستطيع قوله لك، وفيه لك فُسْحة بل فُسَحات، فلا تُشدِّد على نفسك بما لم يُشَدِّد به الله تعالى عليك، وقد قال لنا الرسول ـ صلى الله عليه وسلم: "لن يُشاد الدِّين أحدٌ إلا غَلبه"(2) أي: إنَّ كل مُتشدد سيكُون مغلوبًا في النهاية ومُضطرًا لأن يَترك تَشدُّده وإلا عَجَز، فلْيَقبل رُخَص الشريعة واعتدالها وسماحتها.
وأختم بالدعاء لك يا بني أنْ يُوفِّقك الله تعالى لكل ما فيه الخير لك وحسن المآل، أقَرَّ الله بك وبنتائج دراستك عيون الأهل والأحباب والأوطان، والسلام عليكم ورحمة الله (3).
هامش
(2) رواه البخاري (390) في كتاب الإيمان، باب الدِّين يُسْر، والنسائي (5034) في الإيمان.(123/3)
(3) ينُظر قرار مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره العاشر بجدة من 23-28 صفر 1418 "قرارات وتوصِيَات مجمع الفقه الإسلامي" قرار رقم: 94 (3/10)ص 221ـ225(مجد).(123/4)
لماذا حُرِّمَ لحم الخنزير (4)؟
إنَّ لحم الخنزير حُرِّم في الإسلام بنصِّ القرآن، وهو قول الله تعالى في (سورة البقرة: 173) (إنما حَرَّمَ عليكمُ الميْتَةَ والدَّمَ ولَحْمَ الخِنزيرِ). ولا يُباح بحال من الأحوال لمسلم أن يَتناوَل منه شيئًا بأيِّ شكل كان، مطبوخًا أو غير مطبوخ، إلا في حالة الضرورات التي يَتوقَّف فيها صِيانة حياة الشخص على تَناوُله، كما لو كان في مَفازة، ولا يَجِد طعامًا سواه؛ وَفقًا لقاعدة أنَّ "الضرورات تُبيحُ المحظورات" ، وهي القاعدة التي جاءت فيها الشريعة الإسلامية بفتح باب الحلول الاسثتنائية المؤقتة لظروف استثنائية عارضة، نظرًا لأن الشريعة الإسلامية شريعة واقعية، تُقرِّر لكل حالة في الحياة ما تَستلزِمه وتَستدعِيه من حلول وتدابير.
فإلى جانب المبادئ الثابتة والأحكام الأصليَّة العامة في الحياة العادية فَتَحَت الشريعة باب الحلول والتدابير الاستثنائية الموقوتة للحالات غير العادية، وهي الظروف الاستثنائية المعبَّر عنها بقاعدة (الضرورات) ،وهي المقرَّر في القرآن العظيم بقوله في الآية السابقة التي جاءت بتحريم المَيْتة والخِنزير: (فَمَن اضْطُرَّ غيرَ باغٍ ولا عادٍ فلا إثمَ عليه) (سورة البقرة: 173).
ويقول الله سبحانه في موطن آخر بعد ذلك تلك المحرمات: (إلا ما اضْطُرِرْتم) (الأنعام: 119).
ولم يَرِد في النصوص الشرعية تعليل خاص لتحريم لحم الخنزير ـ كما ورد في تحريم الخمر والميسر مثلاً ـ ولكنَّ التعليل العام الذي وَرد في تحريم المحرَّمات من المآكِل والمشارِب ونحوهما يُرْشد ِإلى حكمة التحريم في الخنزير، وذلك التعليل العام هو قول الله تعالى: (ويُحِلُّ لهمُ الطَّيِّباتِ ويُحَرِّمُ عليهمُ الخبائثَ) (الأعراف: 157) فهذا يَشمل بعمومه تعليل تحريم لحم الخنزير، ويُفيد أنه معدود في نظر الشريعة الإسلامية من جملة الخبائث.(124/1)
والخبائث في هذا المقام يُراد بها ما فيه فساد لحياة الإنسان في صحته أو في ماله أو في أخلاقه، فكل ما تكون مَغََّبته وعواقبه وَخِيمة من أحد النواحي الهامة في حياة الإنسان، دَخل في عموم الخبائث.
وقد أَثْبَتَت الاكتشافات الطبيَّة في هذا العصر الحديث الذي اكْتُشِفتْ فيه عوامل الأمراض وخفايا الجراثيم الضارة أن الخنزير يَتَوَلَّد من لحمه في جسم الإنسان الذي يَأكله دودة خطرة، تُوجد بذرتها في لحم الخنزير، وتَنشُب لا في أمعاء الإنسان بصورة قابلة للطرح بالعلاجات الطاردة لديدان الأمعاء، بل تنشب تلك الدودة الخِنزيريَّة ضمن عضلات الإنسان بصورة عَجَز الطب إلى اليوم عن تخليص الإنسان منها بعد إصابته، وهي خطرة على حياته، وتسمى "تريشين" (trichine)، ومن هنا ظهرت حكمة تحريم لحم الخنزير في الإسلام.
وقد جاء في موسوعة لاروس الفرنسية: إن هذه الدودة الخبيثة (التريشين) تَنتقل إلى الإنسان، وتَتجه إلى القلب، ثم تتَوضَّع في العضلات، وخاصة في الصدر والجنب والحنجرة والعين، والحجاب الحاجز، وتَبقَى أَجنَّتها محتفظة بحيويتها في الجسم سنين عديدة.
ولا يُمكِن الوقوف عند هذا الاكتشاف في التعليل، بل يُمكِن للعلم الذي اكْتَشف في الخنزير هذه الآفة أن يَكتشِف فيه في المستقبل آفات أخرى، لم تُعرف بعد.
ومن ثَمَّ لا يُقبَل في نظر الإسلام من يَزعُم أن تربية الخنزير الأهلية في العصر الحاضر بالطرق الفنية المراقبة في مرعاه، وفي مبيته، ومأواه، كفيلة بالقضاء على جُرثومة هذه الآفة فيه، لما بيَّنّا أن نصَّ الشريعة في التحريم مُطلقَ وغير مُعَلَّل، ومن الممكن أن تكون هناك مضارُّ أخرى للحم الخنزير لم تُعرف بعد، كما كانت آفة التريشين نفسها مجهولة قبل اكتشافها في العصر الحديث.(124/2)
على أنه يَجب أن يلُحَظ أنه إذا أَمكَنت العناية في تربية الخنزير بصورة فنية مُزيلة لهذه الآفة فيه في وقت أو مكان، أو أمكنة كثيرة من مراكز الحضارة وعواصمها في العالم، فإن ذلك غير ممكن في جميع آفاق الأرض، في جميع الأزمنة، ولا تَتيسَّر وسائله لكل البشر، كما أن هذه العناية الصحية بتربيته في المراكز الحضارية ليست كفيلة مائة في المائة للقضاء على هذه الآفَة، ولا يَتقيَّد الناس بها مائة في المائة، فما يمُكِن من العناية في عاصمة غنية بالوسائل الفنية كنيويورك وباريس مثلاً، لا يُمكِن بَذْله في الضواحي والقرى ولا سيما النائية بين الفلاحين ونحوهم.
وحكم الشريعة يَجِب أن يكون صالحًا واقيًا لجميع الناس في جميع الأماكن، ولذلك وَجَب أن يكون التحريم عامًّا شاملاً.
على أن الشخص المسلم المؤمن لا يجوز له رفض حكم الشريعة إذا لم تَظهر له حكمته؛ لأن هذا يؤدي إلى أن يَتخذ كل إنسان من عقله وعلمه القاصَرَين مقياسًا متفاوتًا عن مقياس غيره في قَبول أحكام الشريعة ورفْضها.
بل عليه قَبول الحكم الشرعي في التحليل والتحريم متى ثَبت وجود النص فيه، سواء أفَهِمَ الحِكمة في ذلك أو لم يَفهمها؛ لأن كثيرًا من حكمة الأحكام ظلت من أول عهد الشريعة إلى هذا العصر مجهولة حتى اكتَشَفَتْها الوسائل العلمية الحديثة، وذلك نظير المكلَّف تجاه القوانين الوضعية النافذة عليه، فإن على كل شخص طاعة القانون، سواء أكان مقتنعًا بحكمته أو غير مقتنع بعد أن يَصدُر القانون عن مصدره التشريعيِّ؛ لأن المفروض أنَّ السلطات التشريعية التي تصدر القانون قد درست ما يُحِيط بالموضوع من كل النواحي المتعلقة بالفرد، والجماعة، والحاضر، والمستقبل، والنواحي المالية والخلقية والاجتماعية دراسة ببصيرة، ووسائل أوسع من بصيرة الفرد المكلَّف الذي يَقِيس الأمور عادة بمقياس مصلحته، وأهوائه، ورغائبه فقط.
هامش(124/3)
(4) مجلة (المسلمون) المجلد السابع، العدد الخامس، 1381هـ / 1962م.(124/4)
التلقيح الصناعي(17)
السؤال:
ما حكْم الشرع الإسلامي فيما يُسمَّى اليوم بالتلقيح الصناعي، وهو إدخال نطفة رجل تُؤخذ من مستودَع خاص تُحفظ فيه النطف يسمَّى (بنك النُّطَف) إلى رحم امرأة بوَسَاطة طبيب يقوم بهذه المُهمَّة، عندما لا يستطيع الزوج تلقيح زوجته بطريق الاتصال الجنسي الطبيعي وهو الجماع حيث قد اختلف علماء الشرع والطب في جواز ذلك وقام بشأنه نزاع؟
أورخان أرصوي مفتي خانغازي
إن في حكم هذه المسألة ـ شرعًا ـ تفصيلاً بحسَب الأحوال:
1 - فإذا أُريد أخْذ النطفة من الزوج نفسه وإدخالها إلى رحم زوجته لتسهيل عملية الحمل التي لا تحصُل بالجماع الطبيعي بينهما لسبب من جِهته هو أو من جهتها هي، فهذا قد يُمكن القول بجوازه شرعًا إذا دعت إليه حاجة، كما لو لم يكن للزوجين أولاد وهما حريصان على التناسل وإنجاب ذرية؛ لأن التناسل مصلحة مشروعة لهما، وأصبح متوقِّفًا على هذه العملية.
والمحذور الوحيد الذي يُلحظ شرعًا في هذه الحال هو لزوم انكشاف عورة المرأة لغير زوجها، فإذا احتاج إليه الزوجان ورغِبا فيه معًا، أو أراده الزوج فقد يمكن القول باغتفار هذا الانكشاف الضروري الخاص رعاية لهذه المصلحة، وإن كنت أنا أُفضل الاستغناء عنه؛ فإن رغبة إنجاب الأولاد قد نَشكُّ في أنها ترْتقي إلى نطاق الضرورات التي تبيح المحظورات كالحاجة إلى التداوي للخلاص من مرض مؤْذٍ لا يُمكن التداوي منه ومعالجته إلا بكشف العورة.
وإذا قلنا بالجواز يجب أن يُلحظ عندئذ أن الضرورة تقدَّر بقدْرها، وأنه إذا أَمْكن أن تقوم بهذه العملية امرأة (طبيبة) أو متمرِّنة، لا يجوز أن يقوم بها رجل (طبيب أو متمرِّن) لأن فقهاء الشريعة يقرِّرون أن انكشاف الجنس على جنسه عند الضرورة أخفُّ محذورًا من انكشافه على الجنس الآخر، ولذا لا يجوز أن يقوم بتطبيب المرأة أو توليدها رجل إذا كان هناك طبيبة أنثى أو قابِلة عالمة تستطيع القيام بهذه المهمَّة.(125/1)
ب ـ وأما إذا كان الزوج عقيم الماء، وأُريد ممارسة عملية التلقيح الصناعي بأخْذ نطفة رجل آخر من نُطَف تُحفظ خِصِّيصًا لهذا الغرض بوسائل فنية في مستودَع النُّطَف (البنك) ووضعها في رحم الزوجة لتحمل، فهذا حرام قطعي لا يجوز فعلُه بحال من الأحوال أصلاً مهما كانت ظروف الزوجين؛ لأن فيه تغييرًا للأنساب بما يترتب عليها من حرمات شرعية وحقوق وواجبات.
ومن يَستبح ذلك فخير له أن يَعتبر نفسه غير مسلم(18)
هامش
(17) مجلة الوعي الإسلامي الكويتية، السنة السادسة 1390 هـ = 1970م، العدد (66).
(18) وللشيخ ـ حفظه الله ـ بحث واسع: "التلقيح الصناعي وأطفال الأنابيب والرأي الشرعي فيهما" قدمه إلى المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة (1400هـ = 1980م) وسيُنشر بعون الله في كتاب: "بحوث فقهية في قضايا الساعة المعاصرة" (مجد).(125/2)
العُيُوبُ التي يَجِبُ ذِكْرُهَا للخاطِبِ
فضيلة الشيخ مصطفى حفظه المولى.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته... وبعد،
هل يَلزم على والد المخطوبة أن يَذكر للخاطب جميع العيوب الخَلقية أو الخُلقية. منها العيوب التي لا تُؤثر في دوام الحياة الزوجية مثل بعض الأمراض المستعصية (غير المُعدِيَة) أو التي يَلزمها علاج طويل. وفي حال أنَّ الخاطب لم يَسأل فهل يَلزمه المبادرة بِذِكْر هذه العيوب. علمًا أنَّ بعض العيوب لا تَظهر للخاطب عندما يَرى خطيبته ولا لأهله؟
وما هي العيوب التي يَلزم والِدَ المخطوبة ذِكْرُها إذا لم يُسأل عنها من قِبَل الخاطب؟
أفتونا جزاكم الله خيرًا
وليد الزعيم 25/12/1997
الجواب:
العيوب التي يجب ذِكرها للخاطب هي الأمراض المُعدِيَة أو التي تُزعج الحياة الزوجية كالصَّرَع، أو العيوب الجنسية كالرَّتق، هذا ما يبدو لي، والله أعلم.(126/1)
المرأة في الإسلام
هذه مجموعة أسئلة عن المرأة في الإسلام بَعثَتْ بها إلى فضيلة الأستاذ الزرقا حرم د. محمود عسَّاف (السيدة هدى محمد حلمي) بتاريخ 1/1/1414هـ، وهي تُحضِّر رسالة دكتوراه تتصل بالموضوع.
س1: ما هو معيار التفاضل بين الرجل والمرأة في القرآن الكريم؟
معيار التفاضل هو قيام كل منهما بما فَرَضه الله عليه من عبادته، وبما أَوجَبه عليه من السلوك، وبما خَصَّه به من وظائف في حياته، وإن اختَلفت هذه الوظائف بين الرجل والمرأة كلٌّ بحسب طبيعته وما أَعدَّه الله ـ تعالى ـ له، وما جَهَّزه به من وسائل، وما خَصَّه به من خصائص. ومِلاك ذلك كله هو تقوى الله ـ تعالى ـ التي جَعلها معيارًا لتفاضل المؤمنين لديه بقوله تعالى: (إنَّ أَكْرَمَكُمْ عندَ اللهِ أتْقاكُمْ) (الحُجُرات: 13).
س2: قال تعالى: (يُؤتِى الحِكْمةَ مَن يَشاء ومَن يُؤتَ الحِكْمةَ فقد أُوتِيَ خَيْرًا كَثيرًا) (البقرة: 269) هل هذا القول يَنطبِق على الرجل فقط أم على الرجل والمرأة على حدٍّ سواء؟
ـ على الرجل فقط ( )
ـ على الرجل والمرأة على حد سواء ( - )
تعليق: فَضْل الحِكْمة هِبَة من الله ـ تعالى ـ لن يختار من عباده لا يَختص به الرجل دون المرأة فقد يُؤتَى بعض النساء هذه الحكمة ويُحرَم منها كثيرٌ من الرجال. والحكمة هي وضْع الشيء والعمل في موضعه الصحيح، كتكليف الإنسان المناسب بالعمل المناسب.
س3: هل أَعطَى الإسلام المرأة حقَّ التصرُّف في أموالها وأملاكها متى بَلغتْ سِنَّ البُلوغ، حتى بعد زواجها دون إذن أحد؟
نعم ( - ) ... ... ... لا ( ) ... ... ... ... لا إجابة ( )
إن كانت الإجابة بنعم، هل يَعكس لنا ذلك ثقة الإسلام في رَجاحة عقل المرأة وحكمتها في تدبير أمورها وثقلها في المجتمع، مَثَلُها في ذلك مثل الرجل؟
نعم ( - ... ) ... ... لا ( ) ... ... ... ... لا إجابة ( )(127/1)
تعليق: يجب أنْ يُلحَظ أنَّ العِبرة في حق تصرُّف الشخص في أمواله رجلاً كان أو امرأة هذه العبرة ليست بسن البلوغ الفعليِّ، أي: بُلوغ الجسم بظهور خصائص الذكورة والأنوثة الجنسيَّة، بل العبرة بعد بلوغ الجسم إنما هي لبلوغ العقل وهو الذي يُسمَّى بالرُّشْد، وهو حُسْن التصرف بالمال، كما هو مُشار إليه في قوله تعالى: (وابْتلُوا اليَتامَى حتى إذا بَلُغوا النِّكَاحَ فإنْ آنَسْتُم منهم رُشْدًا فادْفَعُوا إليهمْ أمْوالَهم) (النساء: 6)، فقبْل ظهور دلائل الرُّشد من الصغير إذا بَلَغ البلوغ الجسميَّ لا يُدفَع إليه مالُه، بل يَبقَى قاصرًا ناقص الأهلية للتصرُّف بماله إلى أنْ يُؤنَس منه الرُّشد الماليُّ.
س4: يقول الله تعالى: (اقرأ باسْمِ رَبِّكَ الذي خَلَقَ...) "أول ما نَزَل من القرآن" هذا الحَثَّ على العلم هل هو مُوجَّه للرجل وحْدَه أم للرجل و المرأة.
للرجل وحده ( ) للرجل والمرأة معًا( - )
تعليق: العلم الذي تَفضَّل الله به على الإنسان وأَوجَبه عليه، وفَضَّله به، وجَعَل القَدْر الذي يَتوقَّف عليه أداء واجباته الدينية والدنيوية فريضة عَيْنِيَّة على كل مُكلَّف ليس خاصًّا بالرجل، بل يَشمل الرجل والمرأة، لكن يَختَلف بنوع العِلْم وقَدْره الواجب بين الرجل والمرأة بحسَب اختلاف خصائص كلٍّ منهما، واختلاف وظائفه المُشار إليها في جواب السؤال الأول.
س5: ما رأي الإسلام في عمل المرأة خارج البيت؟
جائز ( ) ... غير جائز ( ) جائز بشرط ( - ) ... منهي عنه ( )
هل تَستنِد إجابتكم إلى أيِّ إشارة في القرآن الكريم؟(127/2)
قوله تعالى: (وقُلْ اعْمَلوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ ورَسُولُه...) (التَّوْبة: 105) يَشْمل عمل الرجل والمرأة في أمور الدين والدنيا داخل البيت وخارجه. ولكن الكتاب يُفسِّر بعضه بعضًا، وكذلك السنَّة النبوية، فيجب أن يُحمَل كلُّ نص على ما لا يَتعارض أو يَتناقض مع النصوص الأخْرى، وبما أن وظائف الرجل في الحياة ووظائف المرأة فيها ما هو متَّحِد بينهما، وما هو مختلِف، لكن يُكمِّل كلٌّ منهما الآخر، وفي السنة نصوص كثيرة جَعَلت عمل المرأة الأصلي داخل البيت، وعمل الرجل الأصلي خارجه ـ سوى الحالات الاستثنائية ـ فعمل المرأة خارج البيت مُقيَّد ـ نوعًا وكمًّا ـ بما لا يُخِلُّ بوظيفتها الأصلية داخله.
س6: هل هناك أعمال خارج البيت يُفضَّل أن تقوم بها المرأة دون الرجل؟
نعم ( - ) ... ... ... لا ( ) ... ... ... ... لا إجابة ( )
إن كانت الإجابة بنعم: فما هي أهم الأعمال؟
من أهمِّ الأعمال التي يُفضَّل أن تقوم بها المرأة دون الرجل عملها في دور الحضانة للأطفال وتعليم البنات في المرحلة الابتدائية والثانوية في حدود معينة من الثانوية، وفي تمريض وتطْبِيب النساء في المستشفيات ودُور الوِلادة، وفي عمل الباحثات الاجتماعيات للنساء فقط، وفي تعليم الخياطة النسائية والتطريز..إلى أمور أخرى كثيرة.
ـ وهل يُبيح الإسلام للمرأة حينئذ أن تُواكِب آخر ما وصل إليه العلْم في هذا المجال حتَّى تكون مصدر ثقة؟
نعم ( - ) بشرط ( ) لا ( ) لا إجابة ( )
تعليق: المباح غير المطلوب، فقد يباح الشيء ولا يكون مطلوبًا من الإنسان شرعًا، فهذه الإباحة للمرأة أن تُواكِب آخر ما وَصَل إليه العلم مقيَّدة بأن لا يُخِلَّ هذا التتبُّع والمُواكَبة بواجباتها الأصلية نحو الزوج والأولاد (تربيتهم ورقابتهم، مع ملاحظة أنَّ المقصود بالتربيَة غير التعليم)، وشئون الحياة المنظَّمة داخل البيت.(127/3)
س7: هل يُحتِّم الإسلام أنْ تُوافِق المرأةُ على مَن تتزوَّج به؟
يُحتِّم ( - ) ... ... ... يُجِيز ذلك ( ) ... ... لا يُحتِّم ( )
س8: هل للمرأة أن تَشترِط في عقد الزواج مثلاً، أن تُطلق نفسها من زوجها إذا تزوَّج بغيرها؟
نعم لها ذلك ( - ) ... ... ... لا ليس لها ذلك ( )
وهل لكم تعليق على ذلك؟
ليس للمرأة أن تَمنع زوجها من الزواج عليها، ولو اشتَرطت عليه ذلك في عقد الزواج؛ لأن الله ـ تعالى ـ أباح له ذلك، وهو أدْرَى بحاجته، وإنَّ مَنْعه له مَحاذِيرُ، ولكن المرأة كذلك لها الحق أن تَرفض الزواج مع ضرة. فالتدبير الذي يَحفظ لكل منهما حقه أن تَشتَرط في عقد الزواج حقَّها في الطلاق إذا تزوَّج زوجها عليها، فتكون عندئذ هي بالخِيار أن ترضَى بالبقاء في عِصمته مع حفظ حقوقها في السُّكْنى المستقلة والعدْل بينها وبين ضُرَّتها، أو تَختار الفِراق، وبذلك يُصانُ حقُّ كلٍّ من الزوجين وإرادتُه.
س9: ماذا تَعنِي قَوامة الرجل؟
تَعني قوامته أنه هو رئيس هذه الخلية الاجتماعية (الأسرة) فلابد لهذه الأسرة من رئيس؛ لأنها مسيرة طويلة في رحلة العمر، فإذا لم يكن لها رئيس مُطاع كانت حياتها فَوْضَويَّة، وضاعت فيها المسئولية. وإن الرجل قد زوَّده الله بالقدرة على هذه الرئاسة وإمكان السيطرة فيها دون المرأة جسمًا وقُدرة وخِبرة وحمَّله الشرع نفقة حياة هذه الأسرة، فكان هو الأوْلى برئاستها، أي: بالقَوامة فيها.
وهل في داخل البيت أم داخله وخارجه؟ (المقصود بخارجه أي: في العمل)؟
داخل البيت ( ) ... ... داخل البيت وخارجه ( - ) ... ... لا إجابة ( )
ـ وماذا تَعنِى القَوامة للبنت التي لم تتزوَّج ؟(127/4)
تعني أنها ما لم تتزوَّج فعليها أن تَعيش مع أبيها تحت كَنَفه وفي رِعايته وطاعة أمْره ونَهيه ما لم يأمُرها بمعصية الله، ولكنه إذا كانت بالغة ليس له تزويجها دون إذْنها ورِضاها بالخاطِب، ولو كانت بِكْرًا في المذهب الحنفيِّ، وهو أوْجَه المذاهب الفقهيَّة في ذلك. وفي بعض المذاهب له إكراهُها فيُزوِّجُها دون رِضاها.
وماذا تَعنِي للمرأة التي مات زوجها؟
تَعنِي أنها تحت وِلاية أبيها، فعليها أن تَنضمَّ إلى أسرته وتَعيش معه. لكن إذا كان لها أولاد، ولا سيما إذا كانوا كبارًا، فلها أن تَعيش معهم في سُكْنى مستقلة، وليس له إجبارها على الزواج. ولكن يَبقَى عليها واجب في طاعة أبيها في سلوكها، ما لم يكُن سيِّئ الاختيار، أو يأمُرها بمعصية، وذلك لكي يَبقَى للأُسَر تَضامُنها واجتِماعُها.
س10: هل يُجيز الإسلام للمرأة الاختلاط غير الماجِن مع محافظتها على الآداب الشرعيّة في الأماكن العامة كالجامعة، سواء داخل القُطْر أو خارجه؟
نعم يجيز ( ) ... ... ... لا لا يجيز ( ) ... ... يجيز بشروط ( - )
من هذه الشروط: أن يكُون داخل القُطْر مع المحافظة التامة على مَظهرها وحِشمتها وآدابها الشرعية.
تعليق: الدراسة خارج القُطْر لا أَرَى من المُمكِن إعطاء حكم عامٍّ فيها، بل ذلك يَتبَع حالة الفتاة ومدى التزامها بواجباتها الإسلامية وإدراكها لقيمة تلك الواجبات، وبوجود مَحْرَم لها كأخِيها مثلاً في المكان نفسه خارج القطر، وبكَون الجامعة خاصة بالإناث أو مختلطة، وبكَونها معروفة بقوة نظامها الانضباطي أو ضعفه، فيَختلِف الرأيُ والحكم بين حالة وأخرى، ولا يجوز إعطاء حكم عامٍّ.
س11: هل تُقبَل شَهادة المرأة وحدَها في بعض الحالات؟
لا تقبل ... ( ) ... تقبل في بعض الحالات ( - ) هي:(127/5)
أن يكون الحدث الذي ستَشهَد عليه المرأة يَقع في مكان لا يوجد فيه رجال كحمّامات النساء، أو لا يَطَّلع عليه الرجال، كالوِلادة التي تُجرِي التَّوْليدَ فيها قابِلةٌ في البيوت. فتُقبَل شَهادة النساء وحدَهن في الجرائم التي تَقع في حمَّاماتهن، كما تُقبَل شَهادتهن على الوِلادة في البيوت وتَعْيين الولد.
س12: هل كل ما ورد في القرآن مخاطبًا "الإنسان" أو "بني آدم" أو "الناس" أو غير ذلك من هذا القَبِيل، يَخُصُّ الرجل وحدَه، أم الرجل والمرأة؟
يخص الرجل وحده ( ) ... يخص الرجل والمرأة ( - ) ... لا إجابة ( )
س13: يقول ـ تعالى ـ
(ولا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهَ به بَعْضَكُمْ علَى بَعْضٍ) (النساء: 32). هل ذلك يَعنِي أن الرجال مُفضَّلون على النساء في بعض النواحي؟ وأن النساء أيضًا مُفضَّلات على الرجال في نَواحٍ أخرى؟
نعم ( - ) ... ... ... لا ( ) ... ... ... ... لا إجابة ( )
ـ إن كانت الإجابة بنعم فهل ذلك يَعنِي أن لكلٍّ منهما مزيَّتَه؟
نعم ( - ) ... ... ... لا ( ) ... ... ... ... لا إجابة ( )
تعليق: بِناء السؤال على هذه الآية الكريمة غير سديد. فالآية بحسَب سياقها وسابِقها ولاحِقها ليست خاصَّة بما فُضِّل به كل من الجنسين على الآخر، بل هي عامة فيما فَضَّل الله به بعض الناس على بعض من مال أو جاهٍ أو أيِّ نعمة. ويَدخل في عُمومها ما فَضَّل الله به الرجال على النساء في بعض النواحِي، وما فَضَّل به النساء على الرجال في نَواحٍ أخرى.
س14: هل يُشجِّع الإسلام الرجل المُقتدِر ذا الذُّرِّيَّة من زوجة صالحة مُعافاة، على التعدُّد، أم يُفضِّل الإسلام وَحْدة الزوجة؟
نعم يشجع ( ) لا يشجع ( )(127/6)
ليس في النصوص ما يُفيد أن الإسلام يُشجِّع على التعدُّد أو يُفضِّل عدمه، وإنما أباح الإسلام التعدُّد المحدود إباحة فقط، رِعاية لواقع أحوال الرجال وحاجتهم التي تَختلف بين شخص وآخر، ولا سيَّما أن المرأة الصالحة المُعافاة مُعرَّضة لموانع طبيعية من الاتصال الجنسي في الطَّمْث والحَمْل والوِلادة والنِّفَاس والإرضاع، ولكن الإسلام أَوْجب على مَن لا يَثِق بأنه سيَعدل العدْل الشرعيَّ التامَّ إذا عَدَّد، أوْجَب عليه الاقتصار على زوجة واحدة.
س15: لو لم تكُنِ المرأة بحاجة إلى العمل خارجَ المنزل، ولا يُوجَد ما يَعوقُها عن ذلك، ككِبَر أولادها مثلاً أو عدم إنجابها، فهل لها أن تَعمَل؟
لتَتصدَّق ( - ) لتُفِيد المجتمع بقدْر ما يَتَيسَّر لها ( ) لا ينبغي لها أن تَعمَل ( )
لكن ينبغي أن يكون ذلك بموافقة زوجها إن كان، وفي حدود ما يُريده من العمل نوعًا ومقدارًا.
س16: ماذا لو امتَنع النساء جميعًا عن العمل خارج المنزل، هل يكون ذلك أقرب إلى تعاليم الإسلام أم أبعد أم لعدم الفهم الصحيح لتعاليم الإسلام؟
ذلك أقرب إلى تعاليم الإسلام ( ) ذلك أبعد عن تعاليم الإسلام ( )
ذلك يكون لعدم الفهم الصحيح لتعاليم الإسلام ( - )
تعليق: يجب أن يُلاحَظ في هذا الجواب هنا ما سبق بيانه في جواب السؤال (6).
س17: هل هناك في القرآن الكريم ما يُشير إلى قوّة عقيدة المرأة وحُسْن إيمانها؟
نعم ( - ) ... ... ... لا ( ) ... ... ... ... لا إجابة ( )
إن كان يوجد فالرجاء الإشارة إلى الآيات.
قوله تعالى: (فالصالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ) (سورة النساء: 34).(127/7)
قوله تعالى: (إنَّ المُسلِمِينَ والمُسْلِماتِ والمُؤمِنِينَ والمُؤمِناتِ والقانِتِينَ والقانِتاتِ والصادِقِينَ والصادِقاتِ والصابِرِينَ والصابِراتِ والخاشِعِينَ والخاشِعاتِ والمُتَصَدِّقِينَ والمُتَصَدِّقاتِ والصائمِينَ والصائماتِ والحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ والحافِظاتِ والذاكِرِينَ اللهَ كثِيرًا والذاكِراتِ أعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغفِرَةً وأجْرًا عَظِيمًا) (سورة الأحزاب: 53). وهناك آيات أخرى.
ـ ما هو تَصوُّركم للمرأة كما يريدها الإسلام أن تكون؟
تَصوُّري للمرأة كما يُريدها الإسلام أن يكون فيه إجمال وتفصيل إجمالي أيضًا:
أ) فإجمالاً أتَصوَّر أنَّ الإسلام يُريد للمرأة أن تكون كاملة الأنوثة في طبيعتها، وسليمة العقل والتفكير في عقيدتها وأخلاقها وسلوكها.
ب) أما تفصيلاً إجماليًّا، فالإسلام يُريد للمرأة:
1 - أن تَعلَم وتَشعُر بأنَّ أنوثتها ليستْ نقْصًا، بل هي ركن في الحياة الإنسانية كرجولة الرجل، فلا تقُوم الحياة الإنسانية الكاملة بأحدهما دون الآخر، ونتيجة ذلك يجب أن تَحرِص على أن تكون أنوثتُها كاملة؛ لأن كمال أنوثتها هو الذي يَجعلها امرأة كاملة مُفضَّلة، فلا تُحِب أن تَستَرجِل وتُنازِع الرجل رجولته.
فاسترْجال النساء كاستئْناث الرجال يُفسِد الحياة الإنسانية، ويُخرجها عن طريقها الصحيح إلى متاهات يَضِيعان فيها، وتَتعطَّل فيها وظائفهما الحقيقية.
2 - أنْ تَعلَم وتَشعُر وتَقنَع بأنَّ الله ـ تعالتْ حكمته ـ قد ميَّز الرجل بخصائص وميَّز المرأة بخصائص، وأنَّ هذا التفاوت بينهما هو الذي به تَكمُل عناصر الحياة الإنسانية الصالحة بينهما.(127/8)
فميَّز الله ـ تعالى ـ الرجل وفضَّله بمزيد بَسْطة في الجسم والقوّة العضلية، وبمزيد قدرة على المحاكمة العقلية، التي تَضبِط نظام الحياة وتطبيقاته في الأسرة والمجتمع. وميَّز المرأة وفضَّلها بمزيد من العاطفة الخَيِّرة والحُنُوّ والرأفة والرحمة، فلو تَساوَيا في النمو العقلي والمحاكمة لانتَفتِ الرحمة والصبر والحنان التي لا صَلاح في حياة الأسرة دونها. ولو تَساوَيا في العاطفة والحنان والرأفة لانْتَفى الحَزْم والانْضباط اللذان لا صَلاح لحياة الأسرة (الخليَّة الاجتماعية) دونهما.
3- أن تَعلَم وتَقْنَع بأن الله ـ تعالى ـ قد جَهَّز الرجل بالقدرة على الكفاح والكَدْح والسَّعي الخارجي لاكتساب وسائل الحياة بما لم يُجهِّز به المرأة، كما جَهَّز المرأة بالقدرة على إقامة الحياة الداخلية في الأسرة، وما تَستلزمه من عمل في وسائل التغذيَة والتربيَة والتنظيم بما لم يُجهِّز به الرجل، ولكي يكون مَسكن الأسرة راحة من عَناء النهار وكَدْحه، وأُنْسًا للأسرة.
فلم يكن عبثًا أن يُخلَق الرجل أقوى جسمًا من المرأة، ولم يكن عبثًا أيضًا أن تكون المرأة مُجهَّزة بالرحم والأثْداء وما لهما من وظائف، وأن تكون لها عوائق عن الكَدْح الخارجي لاكْتساب وسائل الحياة، من طَمْث ووِلادة ونِفَاس وإرْضاع.
وفي ذلك دلائل واضحة لكلِّ ذي عقل على أن الرجل قد هُيِّئ للكَدْح الخارجي لاكْتساب وسائل الحياة، وأن المرأة قد هَيَّأها الحكيم العليم لإقامة الحياة الداخلية.
وتعليم المرأة فيه اختلاف عن برامج تعليم الرجل؛ لأن العلم إنَّما هو لخدمة العمل وإتقانه، ولا خير في علم لا يَخْدُم العمل.
هذا هو الأصل والقاعدة في نظر الإسلام، ولا يُنافِي وجود استثناءات في الأفراد رجالاً ونساء، ووجود حالات استثنائية عارضة تَقتضِي الخروج عن القواعد أحيانًا.
1/1/1414هـ
25/11/1993م.(127/9)
حقوق المرأة
هل استَكْمَلها الإسلام أو هَضَم شيئًا منها؟
سؤال: هل حقوق المرأة في الإسلام كاملة أو ناقصة؟ وهل هناك حقوق يجب أن تَتمتَّع بها المرأة حَرَمها منها الإسلام؟ أرجو الجواب بتفصيل.
الجواب: إن الحديث عن حقوق المرأة هو فرع عن معرفة وضْع المرأة في المجتمع كما يجب أن يكون، وكما أراده لها خالقُها وخالق الرجل، وميَّز بينهما في الخِلقة ذلك التمييز الواقع في خِلقة الذَّكَر والأنثى، الدال على اختلاف في الوظائف التي هُيئ كلٌّ منهما لها في هذا المجتمع، لكي يَقطَعا ويَجتازا مرحلة هذه الحياة الدنيا متعاونَيْن على أعبائها في الطريق إلى الحياة الآخرة إن كانا مؤمنَيْن، أو إلى غير غاية أُخروية إن كانا غير مؤمنيْن، ومن الذين قال الله ـ تعالى ـ عنه: (وقالوا إنْ هي إلا حَياتُنا الدُّنْيا وما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) (الأنعام: 29).
إن هذه الحياة لها هدف يجب أن تَهدِف إليه. وليس هذا الهدف إلا أن يَتَعايَش الناس في حياة كَرِيمة تَليقُ بالإنسان، مُتعارِفين متعاوِنين على ما يَجعلها حياة ميسَّرة، وهذا الهدف للحياة محلُّ اتفاق بين المؤمنين وغير المؤمنين، وإلا كان الأصل في الحياة والهدف منها أن يَقْتتِل الناس فيَقتُل بعضهم بعضًا، وتكون غايتها عندئذ التدمير لا التعمير، وهذا لا يقول به عاقل، وقد صدَق الله ـ تعالى ـ إذ يقول: (يا أيُّها الناسُ إنَّا خَلَقْناكُمْ مِن ذَكَرٍ وأُنْثَى وجَعَلْناكُمْ شُعُوبًا وقَبائلَ لِتَعارَفُوا) (الحُجُرات: 13).(128/1)
إن هذا التعاون على الحياة يَستلزم توزيع الوظائف؛ لأن أعباء الحياة كثيرة وكبيرة، وطوارئها لا تُحصَى، فبالتعاون البشري بين الأفراد والجماعات تُذلَّل صِعابها ويَطِيع عَصِيُّها، وتَتدلَّى ثمارها التي يَكدَح الناس لأجل الحصول عليها، ويجد كل إنسان عند الآخر ما يُكمِّل حاجته، ويُتمِّم طاقته وقدرته. ودون هذا التعاون تكون الحياة فوْضَى لا تؤدي إلى هدفها بإقامة التوازن فيها ووفاء متطلَّباتها، بل تَؤول إلى الظلم والفساد والتَّباب.
هذا، وإنَّ اختلاف التَّكوين الجسدي بين الذكر والأنثى، أو الرجل والمرأة لم يكن إلا لِيَدُلَّ على اختلاف الوظائف بينهما في هذه الحياة الاجتماعية للبشر، الذين خُلِقوا لِيَعيشوا في جماعات منظَّمة تَحتاج الحياة الاجتماعية فيها إلى توزيع العمل بمُجمَله بين الذكور والإناث. فلكلِّ فريق مهمةٌ يجب أن يَنصَرف إليها، إلى جانب المهمّات المشتركة، وأنْ يُعَدَّ أفراد كل فريق لمهمته الخاصة وللمهمات المشتركة إعدادًا كافيًا. وهذا يَستلزِم أن يكون لكلِّ فريق من الرجال والنساء حقوق، وعليه التزامات، فيما بين بعضهم وبعض، لكي تَتحقَّق الحياة الكريمة اللائقة بالإنسان، كما أرادها له خالقه، (أو كما تَقتضيه طبيعته وما تَميَّز به من العقل في نظر غير المؤمنين).
وإن حقوق كلِّ فَرِيقٍ تَنبُع من نَوع مهمَّته في الحياة وتتناسب مع التزاماته فيها؛ لأنه بدون هذه الحُقوق لا يستطيع أن يَقوم بالتزاماته حقَّ القيام.
هذه أسس ورَكائز في مرحلة الحياة الإنسانية الصَّالحة، ومَعالِم في طريقها، ومبادئ في فلسفتها لا يُمارِي فيها إلا مُكابِر أو ذو غَرَض سيِّئ.(128/2)
وبمقتضى هذه الأسس يجب أن يكون تعليم النساء والرجال على قسمين:قسم مشترك يَخدُم المهمَّات المشتركة لكل فريق، وقسم مختلف يَتعلَّم فيه كلُّ فريق ما يَتطلَّبه القيام بمهماته الخاصة به في طريق الحياة ومسيرتها في تكوين الأسر التي هي الخلايا الاجتماعية، وفي إمدادها بوسائل الحياة، وفي تنشئة الأجيال الصاعدة؛ ذلك لأن وظيفة العلم هي خدمة العمل، وخير علم لكل فرد هو ما يُعِينُه في نوع عمله ويُنوِّره فيه.
هذا، وفي ضَوء ما تَقدَّم نَأْتي إلى الإجابة عن السُّؤال في موضوعِنا، هو حقوق المرأة في الإسلام هل هي كاملة أو ناقصة؟
أول ما يَستَوقفنا في الجواب عن هذا السؤال هو لزومُ التمْيِيز بين الحقوق التي يُقِرُّها ويُوجِبها التَشْريع، أي النظام السائد في المجتمع، وبين تصرفات أفراد المجتمع وأعمالهم. فليست ممارساتُ الأفراد المُخْتلفة الطبائع والعقول والميول والتربيَة والأخلاق بِحُجَّة على التشريع وقواعده ونظامه السائد.
ففي كلِّ مُجتمع يوجد من يَعصِي القانون والنظام، فيَسرِق ويَقتُل مثلاً، ويَرتكِب ما يَشاء وما يُتاح له من أنواع الانحراف، وفي كل مجتمع من يُسِيء معاملة زوجته، ويَنظُر إلى المرأة نظرة امتِهان، ويَستغلُّ قوَّته ضد ضعفها، شأن كل ذي قوةِ قليل العقل والإنصاف. ولا يُعتبر وجود هؤلاء المنحرفين في المجتمع حجة على قانونه ونظامه، بل إن قانون المجتمع ونظامه يجب أن يُناقَش ويُحاكَم على أساس ما يُنتِجه حسنُ تطبيقه بعدل وعقل ورعاية لمقْصد الشارع من أحكام قانونه.
فكلُّ انحراف عن خط النظام المشروع هو إجرام، ولا يَخْلُو ـ ولن يَخْلُوَ ـ مجتمع من جرائم ومجرمِين يجب أن يُزجَروا بالزَّواجر المشْروعة التي أُنشئت لأجلها المحاكم والسجون، إلى جانب التوجيه الإصلاحي لإصلاح المنْحرفين.
فما هي الحقوق التي يجب أن تَتمتَّع بها المرأة شقيقة الرجل وحَجَبها عنها الإسلام فحَرَمها منها؟(128/3)
فلكي نَحكُم بأنَّ الإسلام قد أَنصَف المرأة أو حَرَمها بعض حقوقها يجب أنْ نَعرِف ما هي الحقوق التي يجب أن تتمتَّع بها المرأة، ومَنَعها عنها الإسلام؟
أ ـ كانت الأُنثى في جاهلية تُوأد في طفولتها خَشية الإمْلاق أو العَار، فجاء الإسلام وأنقذها من الوأد، وندَّد به دستور الإسلام القرآن العظيم أيَّما تنديد، واعتبره (خِطئًا كبيرًا) من أكبر الجرائم.
ب ـ المرأة عند اليهود وفي جاهلية العرب لا تَرِث بل هي تُورَث، فجاء الإسلام، ونَظَّم الإرْث بقواعد، وقَضَى على تلك الجاهلية في معاملة المرأة، وجَعل لها نصيبًا مفروضًا لا يَجوز الانتقاص منه، زوجةً كانت، أو بنتًا أو أمًّا، أو أختًا، بل ولو كانت من ذوي الأرحام البعيدة، في ترتيب مُحكَم يُقدَّم فيه الأقرب والأوْلى، ولكل منهم دَور يَرِث فيه في دوره، حتى إن المرأة قد تَحُوز جميع التركة في بعض الأحوال.
وأما أن نصيب البنت هو نصف نصيب أخيها فهذا له سببٌ وجيه يَقتضيه العدل بينها وبين أخيها. ذلك أنَّ أخاها عليه التزامات ماليَّة في الحياة ليس شيء منها على أخته: فهي قبل أن تَكبُر وتَتزوَّج تكون نفقات حياتها على عاتق أوليائها الذُّكُور من أبٍ أو أخٍ أو غيرهما، فهي غير مُكلَّفة بنفْسها. وبعد أن تَتزوَّج تكون نفقتها كاملة على عاتِق زوجها في نظام الإسلام. وكذلك نفقة الأولاد جميعًا ولو كانت الزوجة الأم غنية.
وإذا انْحَلَّ زواجها بطلاق أو موت عادتْ إلى أوليائها وأصبحوا هم مُكلَّفين بنفقتها الحيويَّة كلها. فهي بعد هذا إذا وَرِثت من أبيها نصف ميراث أخيها فإنما تأخُذه للتوفير لا للحاجة. بيْنما أخوها يأخُذ الضِّعف منه على نفْسه وعلى غيره من زوجة وأولاد وأقارب مُحتاجِين.(128/4)
ج ـ إن الأجانب في أوروبا وأمريكا متى بَلَغتِ البنت سِنَّ الرُّشْد لم يَبْقَ أحدٌ مُكلَّفًا بإعاشتها قانونًا، بل عليها أن تَنطَح المجتمع، وتَغُوص في حَمْأته، وتَكتَسب رِزْقها بكَدِّ يمينها وعَرَق جبينها وبعِرضها وبكلِّ وسيلة لديها!
فأيُّ النظامين أكثر إنصافًا للمرأة، واحترامًا وتقديرًا لها ولدَورها في الحياة.
د ـ في طَليعة الحقوق التي تُذكَر في هذا المقام الحرية، أي حرية الإرادة.
فهل أَعطَى الإسلام للمرأة من حرية الإرادة ما تَستَحق، أو حَجَب عنها هذه الحرية؟.
إن الإسلام قد أَعطَى المرأة منذ بُلوغها حرية اختيار الزوْج والموافقة عليه. فليس لأحد من أبيها أو سائر أوليائها أنْ يُزوِّجها بإرادته دون إرادتها، أو يُزوِّجها مَن لا تُريده هي. فلها الحرية في قَبول أصْل الزواج أو رفْضه، وفي اختيار الزوْج. ولكنْ إذا عَضَلها الولِيُّ من أبٍ أو غيره فلها أنْ تَرفَع الأمر إلى القاضي فيُنقِذها من تعسُّف وَليِّها.
ونحن إنما نَتكلَّم في أوسع المذاهب الفقهية المُعتبَرة من المذاهب الأربعة، وإن كان بعضها فيه بعض القيود على حرية المرأة في موضوع الزواج.
هـ ـ أوْجَب الإسلام على المرأة أنْ تَتعلَّم، وعلى أوليائها أن يُعلِّموها كلَّ ما تَحتاج إليه في تطبيق أحكام عبادتها ودِينها، وسائر ما تَحتاج إلى معرفته في أداء مهماتها، وجَعَل ذلك فريضة عليها وعليهم؛ لأن العلم في الواقع هو مِفتاح الحياة، فهو حق وواجب في وقت واحد.
و ـ وقد أَعطَى الإسلام المرأة حرية التصرف فيما تَملِك من أموال كالرجل تمامًا، ولم يَجعل لأبيها أو سائر أوليائها بعد الأب، أو لِزوجها إنْ تَزوَّجت، أيَّ حق للتحكُّم في تصرفاتها الماليَّة، بينما في فرنسا وفي دول أخرى أجنبية حتى يومنا هذا إذا تَزوَّجتِ المرأة ولها مال فإن القانون يَمنعها من حق التصرف في أموالها دون موافقة الزوج، فله شِبْه وِصاية عليها.(128/5)
فأيُّ النظامين الإسلامي أو غيره أكثر احترامًا لحرية المرأة في تَصرُّفها بأموالها؟.
ز ـ نعم إن الإسلام لم يُعطِ للمرأة حق إبراز مفاتِنِها الجسَديَّة للرجال الأجانب، واعتَبر في ذلك مَفْسَدة اجتماعية عظيمة ومَدْعاة للفتنة وسُوء نتائجها، بل أوْجَب عليها الإسلام أن لا تَظهر أمام الرجال إلا بلباس الحِشمة الذي حدَّده القرآن نفسه، حيث يقول في سورة الأحزاب: (يا أيُّها النَّبِيُّ قُلْ لأزواجِكَ وبَناتِكَ ونِساءِ المؤمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلكَ أدْنَى أنْ يُعْرَفَنَّ فَلا يُؤْذَيْنَ وكانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا).
وقوله: (وَلْيَضْرِبْنَ بُخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ولا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلا لِبُعُولَتِهِنَّ أوْ آبائهِنَّ أوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ).
نعم إنَّ الإسلام قد مَنَح المرأة حرية الحقوق وحَجَب عنه حرية الفُسوق التي يَتَباهَى بها الغربيُّون الذين اتَّخذوا من حرية المرأة في الفُسوق سِلْعةً لشهواتهم.
هذا، وأُكِرِّر القول والتنبيه على أن مُحاكمة النظام يجب أن تَنظُر إلى مضمونه، وليس إلى واقع حال الناس في تطبيقه وانحرافاتهم عنه. ونحن لا نُنكر أنه يوجد كثير من الرجال في المحيط الإسلامي نفسه يَظلمون نساءهم، ويُسيئون معاملاتهن، بل يُعامِلونَهن كأسِيرات، مستغلِّين ضعفهن بأنانيَّة واستكبار، ولكن هؤلاء جُهلاء ومنْحرفون يجب توعِيتهم وإصلاحهم، فإن لم تَنفع الموعظة فيهم يجب تأديبهم، وإن الإسلام وأحكامه العادلة هي الحجة، وليس تصرفهم المنحرف المسيء.(128/6)
إن المرأة اليوم في بعض البلاد الإسلامية نفسها قد وَصَلت إلى أعلى مركز تشريعيٍّ وإداري في سلطة الدولة يَصل إليه الرجل، وإن كنّا لا نَرى هذا من وظائفها التي هَيّأها الله ـ تعالى ـ لها، ولا نَرى لها في هذا نعمة، بل متاعب وإرهاقًا وتعطيلاً لأنوثتها، على حساب نعيم الحياة الداخلية للأسرة، الذي لأجل تحقيقه يَكدَح الرجال في الحياة الخارجية، ويُعارِكون المصاعب والمتاعب. ودَخلتِ المرأة في الجامعات طالبة وأستاذة.
فماذا بَقِيَ للمرأة من حقوق لِتُطالِب باستكمالها إلا أن تَتساوَى والرجل في التكوين الجسدي والأعضاء؟!
(قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أنَا ومَنِ اتَّبَعَنِي وسُبْحَانَ اللهِ ومَا أنَا مِنَ المُشْرِكِينَ).
مصطفى أحمد الزرقا(128/7)
حكم الإجهاض برضا الزوجين وممارسة الطبيب له
حضرة الأستاذ الفاضل مصطفى الزرقا المحترم
السلام عليكم ورحمة الله ـ تعالى ـ وبركاته، وبعد:
فالرجاء التفضُّل بالإجابة على السؤال التالي:
إني طبيب اختصاصي في التوليد وأمراض النساء وجراحتها.
1 - هل يجوز أن أُجْري عملية الإجهاض وبرضاء الزوجين؟ وإذا كان يجوز ذلك ففي أية مرحلة من عمْر الحمْل؟
2 – يقال: إن الإجهاض يجوز خلال أربعين يومًا من بدء العَلُوق أو من أول الحمْل، فكيف نحسب أو نعد الأربعين يومًا بالنسبة لتاريخ أول يوم من أيام الطمْث للمرأة؟
فمثلاً امرأة أتاها الطمْث في 1/أيلول / 79 فمتى يكون حمْلها أربعين يومًا؟
(المعروف طبيًا أن العَلُوق أو بدء الحمل عند امرأة ذات طمث منتظم يتم بعد 14 يومًا من بدء الطمث، ونَعني بالطَّمث المنتظم أن الفاصلة الزمنية من أول يوم للطمث إلى الطمث المقبل هي 28 يومًا؛ لذا بالنسبة للمثال المذكور فإن المرأة يكون عمر حملها أربعين يومًا في 24/تشرين أول / 1979 فهل هذا صحيح بالنسبة للشرع).
وتفضلوا بقبول فائق الاحترام.
الجواب:
1) إن إجراء عملية الإجهاض جوازها وعدمه شرعًا تبَعٌ لكوْن الإجْهاض المُراد جائزًا أو ممنوعًا . والإجهاض يكون جائزًا أو محظورًا بحسَب الأحْوال، كما أن درجة حظْره، أي: قوة الحظر التي تبدأ من كونه مكروهًا وتنتهي بالتحريم، تختلف بحسب الأحوال والمراحل الحَمْلية.
ويُمكن القول في ضوء النصوص الفقهية: إن الإجهاض بوجه عام، دون مسوِّغ شرعي هو ممنوع محْظور؛ لأنه ينافي الحضَّ النبوي على التناكح والتناسل لاستكثار الأمة الإسلامية، ولأنه تَخلُّص من الحمل بعد تكونه، ففيه تعدٍّ على مخلوقٍ في مرحلة سيُصْبح بعدها بَشَرًا سويًّا.
على أن لكل قاعدة استثناءً، فإذا وُجد مسوِّغ في بعض الحالات تُصبح مُستثناة من المنْع، أي: أن المنْع هو الأصل، والمسوِّغ استثناء يتقيَّد بحدوده.(129/1)
2) هذا الحظر الشرعي قبل تمام أربعين يومًا من الحمْل يكون في درجة الكراهة؛ لأن الحَمل لم تتخلَّق أعضاؤه في هذه المرحلة، ثم بعد الأربعين تشتدُّ درجة الحظْر تبَعًا لعمْر الحَمْل، وتَخلُّق بعض أعضائه أو كلها، حتى يصل إلى تمام أربعة أشهر فيُصبح الحظْر في درجة التحريم، فيكون حرامًا، إذ يُعتبر هذا الوقت بداية لنفْخ الروح، حيث تبدأ عندئذ وتظهر حركة حيوية للحمل على بطن المرأة، تَشْعر بها الحامل كما يشعر بها من يَضع يده على بطنها، فالإجهاض المتعمَّد في هذه المرحلة دون مسوِّغ شرعي مُلجئ يكون جناية على إنسان تام الخَلق، لكنه لم يُستقبل في الوجود.
3) أما مسوِّغات الإجهاض فقبل الأربعين يومًا تسوِّغه الأعذار غير الشديدة كالخوف على صحة الأم، وكضيق ذات اليد عن النفقات التي تستتبعها الولادة وتربية الولد، وكالحاجة إلى سفر ضروري يكون فيه نمو الحمل ثم الولادة عائقًا، كما لو كان لأجل دراسة أو لأعمال تستدعي تنقل الزوجين.
ثم كلما ازدادت مدة الحمل يحتاج جواز الإجهاض إلى مسوِّغ أقوى؛ كتحقُّق ضررٍ صحي للأم إذا استمر الحمْل.
أما بعد الأشهر الأربعة فلا يجوز، إلا إذا كان يخشى على الأم الهلاك من الحمل، حيث يكون الإجهاض عندئذ طريقًا لإنقاذ حياة الأم؛ لأن حياة الأم محققة، أما استمرار حياة الحمل حتى يولد سليمًا فليس محققًا كتحقق حياة الأم، فالحفاظ على حياتها أوجب.
هذا خلاصة ما يستفاد من كلام فقهاء الحنفية في هذا الشأن.(129/2)
وحكم الطبيب أو القابلة في إجراء الإجهاض يتبع هذا التفصيل؛ لأنه مساعدة على أمر فيأخذ حكمه، فحيث يجوز للمرأة الإجهاض يجوز للطبيب، وحيث يكره يكره له، وحيث يحرم يحرم عليه. ويبدو لي أن هذا فيما إذا كانت مهمة الطبيب إعطاء دواء مجهض، أما إذا كان بعملية تنكشف فيها المرأة على الطبيب فلا أراه جائزًا إلا إذا كان الإجهاض لتخْليص المرأة من ضرر صحي محقَّق سيُصيبها من الحمل؛ لأن الإجْهاض إذا كان له مسوِّغ خفيف يجْعله جائزًا، فإن كشْف عوْرة المرأة مُحرَّم لا تُبيحه إلا الضرورة كالعلاج من مرض، ودفع ألم أو ضرر في الصحة.
4) أما متى يكون عمرُ الحمل أربعين يومًا، فإن كان فيه دليل تاريخي معروف عُمل به، كما لو حصل اتصال جنسي مرة واحدة، بعد الطُّهر من الطمث، وحصَل الحمل فإن بدايته هي تاريخ ذلك الاتصال، وإلا فالعِبرة بتاريخ آخر اتصال قبل انْقطاع العادة الشهرية؛ لأن العَلُوق قبله مجرد احتمال غير متيقَّن، علمًا أنه إذا كان هناك طرق طبية يقينية لمعرفة عمْر الحمل فلا مانع شرعًا من الأخذ بها، أما مجرَّد أن الحمل في المُعتاد يكون بعد أسبوعين من بداية الطمث فلا يكفي للتحديد؛ لأنه يفيد تاريخ العَلُوق الفعلي في هذه الفترة بعد الطمث.
فالمُهم أن عمْر الحمْل لا يُمكن تحديده إلا بدليل واقعي متيقَّن، وعند الاحتمال يُؤخذ بالأقل لأنه المتيقَّن، والله سبحانه أعلم.
عمان غرة ذي الحجة / 1399هـ.
21/10/1979م(129/3)
حكم الرَّضاع وآثاره(22)
وجَّهَ المحامي الأستاذ (م.ج) إلى الأستاذ مصطفى الزرقا سؤالاً عن حكم الرَّضاع ومدى تأثيره على الزواج، وقد تفضَّل الأستاذ الزرقا بالإجابة على سؤاله، وبعد أن أطْلَعَنا مشكورًا على هذه الإجابة: أحببْنا شرعًا تعميمًا للفائدة، وفيما يلي نصُّ جواب الأستاذ الزرقا حفظه الله:
إلى الأخ الكريم المحامي الأستاذ (م . ج) المحترم:
السلام عليكم.
وبعد: فقد تلقَّيْت رسالتك المؤرَّخة في 15/1/1965م التي تتضمن سؤال الرَّضاع، وخلاصته أن المرأة (ف) أرضعت أربعة من أولاد أختها (ر) وهم: مرْوان ونَزَار ويَحْيَى وزِيَاد.
كما أن (ر) أرضعت من أولاد أختها (ف) أربعة هم شعبان وفلك وابتسام وساهرة. ولكن مروان لم يرْضع خمس رضعات كافِيَات، فهل يجوز لمروان ابن (ر) أن يتزوج من دلال ابنة خالته (ف) مع مُلاحظة أن "دلال" لم تَرْضع من أمِّه كما رضَع إخْوتها؟
والجواب: إنَّ كلَّ من رضع من امرأة رضاعًا مُستوفيًا شرائطه من حيث السن والكَمِّية، حرُم عليه الزَّواج من أحد أولادها، سواء منهم من رضع معه ومَنْ هو أكبر منْه ومَن ولدتْه بعده، أما إخوة الراضع فيَحِلُّون لأولاد مُرْضعته لأنها ليست أمَّهم رضاعًا بل هي أمُّ أخيهم الراضع منها.
وبناءً على ذلك ينْطبق حكم التحريم من حيث المبدأ على مرْوان وابنة خالته دلال؛ لأنه برَضاعه من أمها يصبح أخًا لها ولأخواتها، وإن لم تَرضع هي من أمه، هذا إذا كان قد رضع خمس رضعات يَكتفِي في كلٍّ منها (أي: يَتْرك الثدْي من تِلقاء نفسه فلا يَعود إليه وإنْ لم يَشْبع).
ولكن إذا كانت شريطة الكمِّية هذه (التي تَبنَّاها قانون الأحوال الشخصية أخذًا من المذهب الشافعي) لم تَتحقَّق، حيث ذكرتم أن مرْوان لم يَرضع خمس رضعات، فعندئذ يَحِل له الزَّواج من ابنة خَالته الآنسة دلال، والله ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم.
هامش
(22) حضارة الإسلام، العدد السابع ـ السنة الخامسة 1384هـ.(130/1)
حكم الزواج لمدة معلومة
وهل يُشترط التَّأْبيد في صِحَّة عقد الزواج
فضيلة الشيخ مصطفى الزرقاـ حفظه الله تعالى ـ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
هل يجوز للمسلم حين يسافر إلى بلاد الغرب أن يتزوج من امرأة أوروبية أو غير أوروبية وهو في نفسه ينْوي أن يُطلِّقها حين تنتهي مدة إقامته في تلك البلاد. والنية في نفسه لا يُبلِّغها بها؟ وهل التأبيد شرط في صحة عقد الزواج؟
أفتونا جزاكم الله خيرًا والسلام.
الجواب:
ـ الزواج لا يكون إلا مؤبَّدًا، فإذا وُقِّتَ بأجَل في العقد انْعقد مؤبَّدًا ويُلْغوا التَّوْقيت.
ـ الرَّجُل إذا تزوج في بلد أجنبي وفي نيَّته التَّطْليق متى انتهت إقامته؛ زواجه صحيح شرعًا، لكنْ يجب عليه أن يُخْبرَها بنيَّته، فإن رضِيَتْ فلا بأس، وإلا كان غاشًّا لها دِيانةً فيكون آثمًا بذلك إن لم يُخبرها قبْل العَقْد.(131/1)
حكم عقود الزواج الصورية(15)
سؤال مُوجَّه من السيد عبد الله سعيد الشَّاكري من عامودة، ويتلخَّص بما يلي:
إن أحد أصْدقائه قد أُصيب بخلَل في عقله، فقام بزيارته وهو يتماثل للشِّفاء، وأن هذا المريض قد روى له قصة مَرَضِه العقْلي وأسبابه، وهي تتلخَّص: بأن للمريض المذكور صديقًا كان يزوره في كلِّ أسبوع مرة وتوثَّقَتْ عُرَى الصداقة بينهما حتى صار كأحد أفراد عائلته، وأنه أصبح يختلط بأهله وعياله، وأنه كثيرًا ما يأتي لبيْته بحُجَة الزيارة في حال غيابه. ومرةً قال الصديق للرجل: إنني كثيرًا ما أحضُر إلى داركم في حال غيابكم على رأس عملكم، ولا شك أن نظر الرجل الأجنبي إلى المرأة الأجنبية حَرَام، وكذلك الخُلْوة بها، وإني أقترح تحرُّزًا من الوقوع في الحرام أن تعْقد نكاحي على ابنتك (فلانة) البالغة من العمر ستة أشهر، وبهذه الطريقة يَحِلُّ لي النظر إلى والدتها ويجوز لي الخُلْوة بها بسبب المصاهرة، وتحت تأثير الخَجَل أجاب الرجل بـ (لا بأس)، وأسرع الصديق بإحضار شاهدين، وطلب منه النُّطق بما يدل على عقد النكاح على ابنته المذكورة، فتفوَّه الرجل بذلك وحَصَل الإيجاب والقَبول بحضور الشَّاهدَين!!
وبعد ذلك أخذ الصديق بالإكثار من التردُّد على بيت صديقه سواء كان حاضرًا أو غائبًا، وأكثر هذه الزيارات كانت أثناء غياب الرجل عن بيته في عمله، وكثيرًا ما يعود إلى بيته فيرى صديقَه مع زوجته بحُجَّة أنها أصبحت بمنْزلة والدته!! وساورته الشُّكوك والظنون، وضاق ذرْعًا بهذه الزيارات اليومية وتساءل في نفسه " هل خدعَني صديقي بهذا العقد الشكلي؟ وهل قصد الخُلْوة بزوجتي تحت ستار الشرّ؟!.."ولكنه لم يَبُحْ بما يَجُول بنفسه وبقصَّته إلى أحد خوفًا من الفضيحة، وصبر على مضضٍ حتى أصيب بخلَل في عقله من شدَّة القلَق المكْبوت حتى قيل له: (إنك مجنون).(132/1)
هذه هي القصة ويقول السائل: إن مثل هذه العقود الوهْمية كثيرة في محافظة الحَسَكة، ويَنتُج عنها مشاكل كثيرة وهو يسأل: هل يُعتبر مثل هذا العقد صحيحًا إذا كانت النيَّة أو الاتفاق السابق لساعة العقد مخالِفة لصريح العقد المُبْرم بين الطَّرَفين، ولمْ يَكُن هناك صَدَاق؟.
الجواب:
إن قانون الأحوال الشخصية يَعْتبر عقد الزواج الذي يقع قبل استكمال الزوجين الحدَّ الأدنى من السِّنِّ الأهْلية للزواج باطلاً غير مُنْعقد، ولا يجوز للمَحْكمة الشرعية تثبيتُه فيما إذا ادعى به وأُريد إثباته.
وإن الحدَّ الأدنى لأهلية الزواج من حيث السن بمُقتضى هذا القانون هو في الفتى: خمس عشرة سنة، وفي الفتاة: ثلاث عشرة سنة بشرط دعوى البلوغ وموافقة الحاكم وموافقة الأب أو الجَد إن كان للخطيبين أب أو جد.
فمن لم يَستكمل هذه السن من ذكر أو أنثى لا ينعقد زواجه بمقتضى القانون المذكور، وهو قانون شرعي مُستمَدٌّ كلُّ ما فيه من فقه المذاهب الاجتهادية، وبعض أحكامه موضوع على أساس قاعدة المصالح المرسلة التي يَمنح الشرع فيها لأولياء الأمور سُلطةً يُصدرون بها أوامر، تُعتبر في نظر الفقهاء واجبة الاحترام والتنفيذ متى كانت جارية على مُقتضى المقاييس الشرعية في المصلحة المرسلة، وبرأْي أهل العلم والاختصاص في الشريعة، أو كانت موافقة لأحد الاجتهادات المُعْتبرة. وهذا القانون كلُّه من هذا القَبيل، وقد وضعتْه لجنة شرعية من قُضاة الشَّرْع وعُلَمائه، فما جاء فيه من أحكام يُعتبر هو الحكم الواجب التنفيذ شرعًا.(132/2)
وبناء عليه يكون العقد المسئول عنه غير صحيح شرعًا ولا قيمة له ولا يُحِلُّ حرامًا، ولا يُحرم حلالاً من حيث الخُلوة والرؤية والاختلاط والحقوق المالية وسواها، بل كل شيء من ذلك يبقى على حُكمه السابق قبل هذا العقد الباطل. وهذا الطريق في معالجة الموضوع هو في نظرنا أولى من الدخول في بحثِ صوريَّة العقد؛ لأن قضية الصورية بالنسبة إلى عقد الزواج فيها اعتبارات معقَّدة، واختلاف في الاجتهادات نظرًا لوجود قاعدة استثنائية في عقد الزواج أن جدَّه جدٌّ، وهزْله جدٌّ كما ورد في الحديث النبوي(16)، والله أعلم.
هامش
(15) حضارة الإسلام، العدد التاسع، السنة الرابعة 1383هـ.
(16) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "ثلاثة جَدُّهن جَدّ، وهزْلُهن جَدّ: النكاح، والطلاق، والرَّجعة" رواه أبو داود (2194) في الطلاق، والترمذي (1195) في الطلاق، وقال: هذا حديث حسن غريب، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وغيرهم.(132/3)
حكم معاشرة امرأة بعلاقة صداقة في بلد أجنبي
لِحلَّ مشكلة العَنَت(12)
سؤال من بعض الشباب المُقيمين في أمريكا:
العثور على الزوجة المسلمة المؤمنة في أمريكا أمْرٌ في غاية الصعوبة، خاصة أمام الشباب الذين لا يَمْتلكون الشهادات العالية أو الأرْصدة المالية الكبيرة، علاوة على أن نسبة سن الفتيات المسلمات هناك ينْحصر غالبًا تحت العشرينات مقابل نسبة كبيرة من الشباب جاوزوا الثلاثينات، وهم يبحثون عن الزوجة المسلمة ولم يوفَّقوا بعد..
هؤلاء الشباب يعيش غالبهم تحت وطأة المُغْريات الجنسية غير الاعتيادية، ويُحسُّون في الوقت نفسه بالإحباط من مواقف عدد من آباء الفتيات الذين إذا أرادوا التقدُّم لهن سألوا أول ما سألوا عن الشهادات والأرصدة البنكية والمنزلة الاجتماعية. وما أسهل أن يجد أولياء الأمور أولئك عشرات الأطباء يتقدَّمون لخِطبة بناتهم، وهم على أحسن ما يُرام ماليًا واجتماعيًّا. وتزداد معاناة الشاب المِسكين وهو لا يمتلك الوسيلة لخِطبة فتاة من بلده؛ لاعتبارات عديدة قد يكون المنْع من عودته لوطنه أحدها، أو عدم امتلاكه ثمن التذكرة من بينها، أو استحالة أن ينال تأشيرة قدوم لزوجته سببًا آخر لا أخيرًا.(133/1)
وفي المقابل يتعرَّف الشاب على فتيات من الأمريكيات، ربما أحبَّ من بينهن واحدة أو أنس لها، لكنه إذا تزوجها فلسوف تكون ورطة محتملة إذا حدث الاختلاف في المُستقبل، فالقانون هناك يعطي الزوجة عند الطَّلاق حقًّا في الاستيلاء على نصْف أموال الرجل ومُمْتلَكاته على أقلِّ تقدير. ومهْما جَهِد العربيُّ في إبداء النوايا الحسنة، ومحاولة التَّأقْلم مع الزوجة الأمريكية، فإنه لا يوفَّق أغلب الأحيان. ولسوف تنْقضي فترة العسل بعد حين، وتبدأ الخلافات كما يحدث أغلب الأحيان هناك. فإذا كان هناك عقْد قانوني بينهما فالمرأة ستقود الرجل إلى سلسلة من المشاكل القانونية هو الطرف الضعيف والخاسر فيها، أما لو عاش مع نفس المرأة بما تعارف عليه المجتمع هناك وتحت مسمَّى علاقة الصَّداقة، والتي تَعني في مؤدَّاها الحياة الزوجية نفسها، ولكن من غير عقْد شرعيٍّ أو قانوني، وجعل نيَّته صادقة في عدم التلاعب بهذه المرأة أو خداعها، والاستمرار معها على هذه الحالة بنيَّة الاستمرار. فإذا وصل إلى نتيجة مؤدَّاها التفاهُم الكامل والشعور بالأمان تزوجها، وإلا تركها بإحسان، فحلَّ بذلك مشكلة العنَت، وارتاحت نفسه من الضغوط الهائلة، وأمِنَ ما لا يحمد عقباه. هل هناك مشروعية لمثل هذا التصرف تحت تلك الظروف؟
جواب السؤال فيمَن يريد أن يُعاشر امرأة من أهل البلد الأجنبي، ويعيش معها إلى أساس الصداقة كزوجين دون زواج.(133/2)
هذا لا أرى له مَساغًا بوجْه من الوجوه، ومحْذورُه كبير، وهو نظير ما يُجيزه الشيعة الإمامية بطريق نكاح المتعة؛ الذي ليس زواجًا، وهو أقرب شبهًا إلى الزِّني المُقنَّع(13)، وأهل السنة مُجمعون على حُرمته الثابتة بالأحاديث النبوية الصحيحة التي نَسَختْ نِكاح المتعة فيما نسخت من عادات جاهلية العرب، بعد أن مورِس فترةً في صدْر الإسلام. فرأي الشيعة في نكاح المُتعة مرفوض بإجماع أهل السنة، وممارسته في صدر الإسلام في بعض الغزوات نظير شرب الخمر في صدر الإسلام إلى أن حرِّمت، فإن الأحكام الإسلامية إنما نزلت بالتدرج.
ثم يا أخي! أعود فأقول لك: أيُّ فرق يَبقى بين المسلم والكافر إذا كان المسلم الذي يعيش في بلاد الكُفار يعيش مثْلهم ويمارس ما يمارسونه؟ بل عليه أن يلتزم بأحكام الإسلام، ويكون سلوكه دعاية إسلامية. فأما إذا كان لا يستطيع ذلك فعليه أن يُهاجر إلى بلد إسلامي، لا يجد فيه حرَجًا في سلوكه وَفقًا للأسس الإسلامية. وإلا فلماذا شُرعَت الهجرة من بلاد الكفْر؟(14)
لقد قال الله ـ تعالى ـ في نظير حالكم: (قَالوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُم جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) (سورة النساء: 97).
هوامش
(12) من مجموعة الأسئلة الموجَّهة من الولايات المتحدة الأمريكية.
(13) لا أوافق شيخنا الكبير على هذا التعبير؛ لأن اعتبار نكاح المتعة زنى: مُقْتضاه أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أباح الزِّنى لأصحابه في بعض الأوقات، ومعْلوم أن الزِّنى لا يُباح لحاجة ولا ضرورة، فالأوْلى أن يقال: أنه (نكاح ناقص) أُجِيزَ للضرورة قبل استقرار التشريع (يوسف القرضاوي).
(14) بَقِيَ أن يُقال: إذا أمكن إنشاء هذه العلاقة عن طريق الزواج العُرْفي، بمهْر وشهود، دون تَسْجيل، إذا لم يكُن في ذلك مؤاخَذة قانونية، فلا حرج في ذلك (يوسف القرضاوي).(133/3)
حكمُ الرَّضَاع من امرأة آيسة وزوجها
مُتوفَّى منْذ أمَد بَعيد(23)
جاءنا من الأخ عبد الكريم نجيب من الحَسَكة السؤال التالي:
"امرأةٌ يَزيد عمرُها على ستين سنة في سنِّ اليأس وزوجها متوفَّى منذ خمسة عشر عامًا، أرضعت بِنتًا تَبْلغ من العمر سنة ونصفًا أكثر من خمس رضعات، فهل يكون هذا الرَّضاع سببًا في التحريم مهما كان الذي رضعه الطفل (لبنًا أو ماء) علمًا بأن المُرضع اعترفت بأن شيئًا ما كان يخرج من ثدْيَيْها".
وقد تفضل الأستاذ مصطفى الزرقا مشْكورًا بالإجابة التالية عن هذا السؤال:
أخي الكريم
السلام عليكم:
وبَعد، فقد جَاءني سؤالك عن حُكْم رضاع ابنة صغيرة عمرها حوالَي سنة ونصف من امرأة كبيرة جاوز عمرها الستين، وزوجها متوفَّى قبل خمسة عشر عامًا.
والجواب على ذلك: أنَّ مُعظم الفقهاء المذهبيين ـ وخاصة الحنفية والحنابلة ـ يُقرِّرون أنَّ الرَّضاع يَستوجب التحريم كالنسب إذا استوفى شرائطه، ومنها أن يكون سن المُرْتَضِع لا تتجاوز الحولين وعدد الرضعات خمسًا ـ وعلى خلاف في ذلك بين المذاهب ـ ولو كان الارْتضاع من امرأة بَكْر، أو كبيرة آيسة إذا نزل لهما لبن، أي: أنَّهم لم يشترطوا أن يكون اللبن نتيجةَ وِلادة، فقد يَدِرُّ لبنُ المرأة في بعض الحالات بعاطِفة الحنان دون وِلادة، فيترتَّب عليه الصِّلة الموجِبة للتحريم، إلا في قول ضعيف عند الحنابلة.
غير أنه من المعلوم أنه لابد من تحقيق نزول اللبن في هذا الارتضاع، ولا يكفي مجرد الْتِقَام الطِّفل للثَّدْي وامتِصاصه، وهذا معناه بِناء الحكم على تحقُّق ذلك، إذ الأصل في هذه الحال عدم وجود لبن.
وقد قُلْتم في السؤال أن المرأة العجوز المُرضِعة تقول (بأنَّ شيئًا ما كان يَخرج من ثَدْيَيْها ويَرضَعه المَوْلود). والذي أرى أنه إذا لم يتحقَّق كون هذا الشيء لبنًا، وليس نزًّا أو إفرازًا آخر؛ فإن الموضوع يَبقي في حيِّز الشك، ولا يكفي للتحريم.(134/1)
فقد جاء في "المهذب" للشيرازي الشافعي: (وإن شكَّت المرضعة هل أرضعته أم لا، أو هل أرضعته خمسًا أو أربعًا لم يَثْبت التحريم) أ . هـ.
ولا يَخفى أن الشك في نزول اللبن مثل الشك في أصل الإرضاع أو كَمِّيَّته.
والله سبحانه أعلم.
الهوامش
(23) حضارة الإسلام العدد العاشر، السنة الثامنة 1387هـ 1968م.(134/2)
حكْم تَزويج المرأة لنفْسها دون الرجوع إلى وليِّ أمرها
في حالة زواج امرأة ثيِّب مطلَّقة من شاب تقدَّم لخِطْبتها هل يجوز لهذه المرأة (المُطلَّقة) أن تزوِّج نفْسها بدُون أخْذ رأي ولي أمْرها، وهو أخوها حيث إنَّ والدها مُتوفَّى، ولا سيما أن الشاب جيِّد والعلاقة مع أخيها ليست جيدة، فهل من الضروري أن يُوافِق هذا الأخ؟
أم لها الحقُّ في تزويج نفسها من رجل كُفء، ولا سيما أنها مطلَّقة، وليست على علاقة جيدة مع أخيها؟
تحياتي الحارة لكم مع الدعاء الدائم لكم جميعًا بالصحة والعافية، وإلى لقاء قريب إن شاء الموْلى.
ولدكم منار الجلاد
دمشق 23/2/1998
الجواب:
المرأة البالغة التي أتمَّت سبعة عشر عامًا تُعتبر كامِلة الأهلية لتزويج نفسها، ولا يَملِك أب أو أخ أو غيرهما من أوليائها منعَها، ولا يَحقُّ لوليِّها أيًّا كان أو غيره أن يعترض إذا زوَّجت نفْسها إلا على كفاءة الزوج.
ولا يجب عليها إعلامهم، لكنَّ الأولى أن يَكون زواجُها بمعْرفة وليِّها من أب أو سواه عند عدمه.
هذا هو حكم المذهب الحنفي، وقانون الأحوال الشخصية السوري المعمول بهما في سورية، والله ـ تعالى ـ أعلم.
عمك: مصطفى أحمد الزرقا
الرياض 6 من شوال / 1418هـ.(135/1)
حكْم زواج المسلمة بغير المسلم وعدم الالتزام بالحجاب
الأستاذ الفاضل الشيخ مصطفى الزرقا حفظه الله تعالى.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...،
أسأل الله ـ تعالى ـ أن تكون على خيرِ ما تُحب وتَرضى، متمتِّعًا بالصحة والعافية..وبعد:
فيما يلي مجموعة من القضايا(6) التي تواجهنا في حياتنا بالولايات المتحدة الأمريكية، تُلِحُّ علينا وتَنتشر على الألسنة بيننا، مع ملاحظة أن الكثيرين الذين يسألون تلك الأسئلة أو يحتاجون الإجابة عليها ليسوا بالضرورة من أصولٍ عربية أو إسلامية ليستطيعوا العودة إلى بلاد الإسلام وتَجَاوز تلك التناقضات، أو أن ظروفًا سياسية ومعيشية قاهرة تجعل عودتهم إلى البلاد الإسلامية أيًّا كانت في حُكم المستحيل، واستمرارهم في الحياة هناك أمر فصْل.
نرجو من فضيلتكم التكرم بالإجابة، سائلين الله ـ تعالى ـ لكم دوام العافية واستمرار العطاء.
1 - عدد من النساء المُقيمات في الولايات المتحدة الأمريكية المنحدِرات من أصل مسلِم، واللاتي انتهت بهنَّ ظروف مختلفة إلى الابتعاد عن الإسلام جهلاً وتغريبًا، من خلال انقطاع جيل سابق من آبائهن عن الإسلام، وترْكهن في مجتمع الغرب بلا انتماء حقيقي أو عقيدة، فاعتدْن هذا النمط من الحياة ونَشأْن عليه. وعندما وجدْن شريكًا للحياة وارتحْن له وأحببْنه اقترنَّ به من غير أن يفكِّرن في اختلاف الدين. وهكذا تعرَّفنا على عدد من هؤلاء الأخوات وقد اقترنَّ برجال من الأمريكيين غير مسلمين، وأنجبْن منهم، ولا يزلْن يعشْن معهم بشكل اعتيادي.(136/1)
الآن وقد وجدنا إلى أخواتنا أُولاء منفذًا ومعْبرًا، ووفقنا الله ـ تعالى ـ لوصْلهن بالمسلمين من جديد، ما هو الموقف الحكيم الذي تنصح باتخاذه من موضوع زواجهن من غير المسلمين، وخصوصًا أنَّهن على الرغم من اعتزازهن بالأصول الإسلامية التي أتيْن منها واستعدادهن للالتزام بمعتقدات الإسلام وشعائره الأساسية، لا يتقبَّلن فكرة الانفصال عن الأزواج، ولا يُحسسْن أن الأمر يَحمل وجهًا من المعصية أو الخطأ، وقد اقترَنَّ بهم بشكل قانوني جاد، وعشْن معهم سنوات من الحياة الزوجية من غير مشكلة؟
2- عدد من النساء اعتنقْن الإسلام عن قناعة ورضا، غير أن موضوع الحجاب ظل صعبًا عليهن الالتزامُ به، سواء بسبب الاقتناع (خاصة وهن يَرَيْن من بين المسلمات العربيَّات وغيرهن من لا يتحجبْن) أو الصعوبة التي تواجِهُهُنَّ إذا أردْن إكمال حياتهم موظفات وعاملات كما تقتضي ضرورة الحياة هناك.
والسؤال: هل الأفضل أن يتأخَّر إعلان هؤلاء إسلامهن واستمرارهن في مرحلة الدراسة والبحث حتى يشرح الله صدورهن للتحجُّب، أو ينبغي أن يُرخَّص لهنَّ ويرحَّب بهنَّ على ما هُنَّ عليه من القناعات؟
3 – بعد سنوات من اعتناق الإسلام والتزام اللباس الشرعي وجدت عددًا من الأخوات الأمريكيات المسلمات أن معاناتِهن بسبب الحجاب أكبر من قُدْرتهن على مزيد من التحمل والمقاومة. وبالمقارنة مع أزواجهن الذين يرفضون إطلاق اللحية مثلاً أو ارتداء الزي العربي في الشارع (الجلابية) تحرُّجًا من نظرة غير المسلمين، هؤلاء الأخوات قرَّرْن نزْع الحجاب والعودة إلى السفور. ما هو الموقف الأمثل تجاه ذلك؟
الأخ الكريم السيد … المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تلقَّيْت رسالتك المطوَّلة المرسَلة بالفاقس من جدة، والتي تستفتيني فيها عن تسعة أمور(7) من أعقد الأمور والمواجهات التي يواجهها المسلمون المغتربون الذين يعيشون في أمريكا أو سواها من البلاد الأجنبية.(136/2)
إن هذه المُشكلات التي ذكرْتَ معظمها في رسالتك هي الفارق الأساسي بين حياة المسلمين في دار الإسلام، وحياة الكَفَرة في بلادهم الأجنبية. فإذا كان الحل المطلوب هو أن يسمح للمسلم أن يعيش في البلاد الأجنبية كما يعيش أهلُها الكفرة؛ لأن في الالتزام بالسلوك الإسلامي تلك المشقَّات المادية والمعنوية التي شرحتها شرحًا وافيًا في رسالتك، لا يَبقى عندئذ فرْق بين الإسلام وغيره إلا في مجرد اسم المسلم الذي لا يَبقى له مدلول عملي، مع أن الفارق الأساسي بين المسلم والكافر إنما هو في السلوك النظيف الطاهر الإسلامي.
أما المشقَّة التي يواجهها المسلم؛ فإنها المشقة التي لا يخلو عنها التكليف، فأي معنى يبقى للمسلم إذا كان يعيش في البلاد الأجنبية مثل أهلها الكفرة؟! بعد هذا أقول لك جوابًا عن أسئلتك:
أ ـ فيما يتعلق بالسؤال الأول (زواج المسلمة بغير مسلم):
هذا لا مجال لتسْويغه بحال أصلاً لقوله تعالى: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا) وقوله ـ عز وجل ـ: (فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهَنَّ) وعلى ذلك أجمع فقهاء الإسلام. ولكني أرى من الممكن ـ بالنظر الاستصلاحي ـ أن نُميِّز بين امرأة مسلمة تتزوج بغير مسلم من أهل الكتاب (نصراني أو يهودي) غير آبِهَةٍ ولا مُكْتَرِثَة باختلاف الدين، وبين امرأة كتابية متزوجة أسلمت ولها أولاد، ولم يتْبعها زوجها بالإسلام.(136/3)
فهذه الثانية لا يَحل لها البقاء مع زوجها دون أن يُسلم، ولكن من الممكن أن لا يُحكم شرعًا ببَيْنُونَتِها فوْرًا إذا أبى زوجها الإسلام، فقد حصل في عهد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن ابنته زينب كانت متزوِّجة قبْل البَعثة برجل من وجوه قريش اسمه أبو العاص ابن الربيع وهو مشرك، واشترك مع المشركين في غزوة بدر فأسره المسلمون، وأطلق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سراحه من الأسْر وأخذ عليه العهد أن يُخلِّي سبيل زينب، ففعل ووفَّى بما وعد. وخرج أبو العاص بتجارة إلى الشام، ولما رجع لقيَتْه سرية رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصابوا كلَّ ما في القافلة، وهرب أبو العاص، وأقبل في الليل حتى دخل على زينب، فاستجارها فأجارته، وفي صلاة الفجر نادت زينب ـ رضي الله عنها ـ في المسجد بأنها أجارت أبا العاص بن الربيع، وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لابنته زينب: "أكْرِمي مثْواه، ولا يَخلُصنَّ إليك فإنك لا تَحلِّين له"(8) ثم رجع أبو العاص زوجها إلى مكة، وصفَّى علاقاته، ورد الودائع إلى أصحابها، ثم رجع إلى المدينة مسلمًا، فعاد إلى زوجه زينب، ولم يُنقل أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جدَّد له النكاح على ابنته(9) فالتريُّث فيمن أسلمت وأبى زوجها الإسلام، بأمل أن ينْشرح له صدره فيما بعد، يمكن أن يكون له وجه بصورة مؤقَّتة تحت هذا الأمل، ولكنَّ المعاشرة الزوجية (الجنسية) على كل حال غير جائزة(10).
ب ـ عن السؤال رقم (2):
إن من اعتنقْن الإسلام من النساء الأجنبيات عن قناعة ورضا ويَصعُب عليهن الالتزام بالحجاب (ستر ما يجب ستره من بدن المرأة) لا نستطيع تغيير حكم الإسلام الشرعي لأجْلهن، وإباحة السفور والحُسور لهنَّ؛ لأن هذا تناقض عندئذٍ في حكم الإسلام بين الإباحة والمنع.(136/4)
ولكنْ إذا سفَرْن وحسَرْن يجب أن يكون هذا مع اعتقاد أن هذا حرام في الإسلام، وأما اعتقاد أنه حلال لا يُحرِّمه الإسلام فهذا يُنافي الإسلام. ففرْق كبير في النظر الإسلامي بين العاصى لأوامر الله مع اعتقاده بالحرمة، وبين المُستبيح، فالمُسْتبيح للمُحرَّم القطْعي كافر، وذلك كمن يشرب الخمر عاصيًا فهو مسلم، وبين من يراها مباحة فهذا كافر.
وعلى هذا أيها الأخ يكون ممارسة السُّفور والحُسور من هؤلاء المسلمات الجُدُد دون اعتقادهن للإباحة، بل بانتظار أنْ تقْوى إرادتهن وعزيمتهن أوْلى من بقائهن على الكفر، والله أعلم، وقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء" (11) (اللهم اجعلنا منهم).
وبهذه المناسبة أقول: يجب إفهام هؤلاء النِّسوة أن احتمالهن لهذا الحِجاب اليسير، وإن كان فيه بعض المشقة عليهن، فيه لهن ثواب إضافيّ عند الله أكثر ثوابًا لمَنْ تعيش في بيئة إسلامية.
ج ـ عن السؤال رقم (3):
المرأة المسلمة المتزوجة من زوج يَرفض إطْلاق لحْيته أو ارتداء الزِّيِّ العربي في الشارع (الجلابية) تحرُّجًا من نظرة غير المسلم…
أقول: من قال لكم إن من شرائط الإسلام إطلاق اللحية، وارتداء الجلابية في الشارع؟ إن عدم إطلاق اللحية منافٍ لسُنَّة الإسلام للرجال، ولكنه ليس شرطًا لصيرورة الإنسان مسلمًا، فمعظم المسلمين اليوم يَحلقون لِحاهم، وإن إطلاق اللحية ليس خاصًّا بالمسلمين، بل يفعله الأجانب شبابًا وشيوخًا بكثرة، بل قد أصبح (موضة الشباب العصري!!) وأهْون الأمور من كانت مخالفته للسلوك هي حلق لحيته.(136/5)
وأما ارتداء الجلابية فهو من العادات وليس من العبادات، فللمسلم أن يرتدي (البدلة) الإفرنجية أو أي لباس أجنبي بحسَب عادة المَحلِّ الذي هو فيه ما دام يَستر ما يجب ستْره من بدنه، فلا موجب لأن تتَّخذ زوجته ذلك سببًا لنزْع حجابها الذي لم يبقَ منه إلا هذا الخمار المُخْتصر المسمَّى (إيشارب) على رأسها والأكمام الطويلة، والثوب أو التنورة الطويلان إلى منتصف الساق.
هوامش
(6) وزَّعت هذه القضايا على حسب المواضيع، وسأقوم بجمْع هذه الفتاوى في صَعيد واحد فيما يتعلق بأسئلة المُغتربين المُقيمين في البلاد الأجنبية، لأهمية تلك الأسئلة وبيانها لواقع المسلمين والتحديات التي يواجهونها، ولما في فتاوى الشيخ حفظه الله من فقه عميق يجمع بين العقل والنقل ومعرفة الواقع (مجد).
(7) وزَّعت الأسئلة حسب المواضيع، وستُدْرج كاملة مع أسئلة أخرى من المقيمين في البلاد الأجنبية في كتاب "فتاوى المغتربين" بعون الله تعالى.
(8) "مجمع الزوائد" في كتاب المناقب، باب ما جاء في فضل زينب بنت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رضي الله عنها ـ: 9/216 من حديث ابن إسحاق.
(9) أخرج أصحاب السنن عن ابن عباس أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رد ابنته زينب على أبي العاص بنكاحها الأول، ولم يُحْدث شيئًا. أخرجه أبو داود(2233) في الطلاق، والترمذي (1143) في النكاح، وابن ماجه (2009) .وقد ردَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع عندما أسلم زَمَنَ الحُدَيْبِيَة، وأسلمَت هي أول البعثة، فبيْن إسلامها وإسلامه أكثر من ثماني عشرة سنة ـ رضي الله عنهما ـ. (مجد)(136/6)
(10) فالزوجة التي أسلمت وتطْمع في إسلام زوجها الذي ظلَّ كافرًا بعدها، لا تُمكِّنه من الوطء، ولا تُساكِنه في خُلوة سدًّا لذرائع الفساد. وتدعوه إلى الإسلام وتكون معه كأمِّ حكيم مع عِكْرمة. روى مالك في الموطأ (2: 545، في النكاح: باب نكاح المشرك إذا أسلمت زوجته قبله) أن أم حكيم بنت الحارث بن هشام أسلمت يوم الفتح بمكة، وهرب زوجها عكرمة بن أبي جهل من الإسلام حتى قَدَم اليمن، فارتحلَت أم حكيم حتى قدَمت عليه باليمن، فدعتْه إلى الإسلام، فأسلم فقدَم على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عام الفتح، فلمَّا قدم على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وثَب إليه فرحًا وما عليه رداء حتى بايَعَه، فَثبَتا على نكاحهما ذلك". وكان كلَّما دعاها إلى الفِراش تأبَى وتقول أنت كافر وأنا مسلمة. فقال: إن أمرًا منَعَكِ منِّي لأمْر كبير، كما روى ذلك الحاكم.
ويُنظر كلام ابن القيم في "زاد المعاد" 5: 133-140فصل: في حُكْمه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الزوجين يُسلم أحدهما قبل الآخر (مجد).
(11) أخرجه مسلم (145) وابن ماجه (3986) من حديث أبي هريرة، والترمذي (2631) في الإيمان من حديث ابن مسعود. وقد جاء تفسير الغُرَباء في الحديث بأنَّهم "النُّزَّاع من القبائل" وهذه اللَّفْظة أصح ما ورد في تفسير الغرباء مرفوعًا إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهي من حديث ابن مسعود. والنزّاع: جمع نَزِيع وهو الغريب الذي قد نَزَع من أهله وعشيرته. وفي رواية أخرى: "الذين يُصلحون حين يُفسد الناس" (مجد).(136/7)
حُكْم المرأة المُعتدَّة من وفاة زوجها
السؤال: هل يجوز للمرأة المعتدَّة من وفاة زوجها أن يراها الرجال الأجانب، أو يسمعوا كلامها، أو يُحادِثوها في بعض الشؤون والحاجات، أو تقابلهم لنحو ذلك في بيْتها حيثُ تَقْضِي عِدَّتها؟
الجواب:
إنَّ العِدَّة التي أوجبها الله في الإسلام على المرأة إذا تُوفِّي زوجها تشتمل على ثلاثة واجبات فقط هي:
1- عدم الخروج من بيت الزوجية، ولو لزيارة قصيرة، أو شراء شيء إلا للضرورة بمعناها الشرعي (كعلاج طبِّي مستعجل لا يمكن تأمينه في البيت مثلاً، أو عدم وجود أحد يمكن أن يُحضر للمرأة المعتدَّة لوازم حياتها الضرورية من طعام وشراب وكِساء، فعندئذ تَخرج بمقدار الضرورة وتعود فورًا) وذلك خلال مدة العدة أربعة أشهر وعشرة أيام، أو حتى وضع الحمل للمرأة الحامل.
2- عدم الزواج، وعدم خِطبتها بصورة صريحة لأجل الزواج خلال مُدَّة العِدَّة.
3 - لزوم الحِدَاد، وهو عدم التزيُّن والتعطُّر بوسائل الزينة التي تُتَّخذ عادة لإظهار المحاسن (وما يُسمَّى اليوم: ماكياج)، وعدم لبس الملابس الزاهية ذات الألوان المُفْرحة؛ لأنها تدل على الزَّهْو والابتهاج وقلة الاكتراث بفقد الزوج الذي هو عماد الأسرة.
ولا يجوز لها لبس السواد خاصة حدادًا للتعبير به عن حُزْنها أكثر من ثلاثة أيام فقط، وبعدها يجب أن تَنْتقل إلى الثِّياب والألوان الأُخرى غير الزَّاهية.
وأما الاستحمام وسائر وسائل النظافة فلا مانع منها، فإن الإسلام دين النظافة الظاهرة والباطنة ولا يَرضى للمسلم القذارة، ولا مانع من الامتشاط بالمُشْط الخَشِن الأسنان.
وأما رؤية الرجال الأجانب والتَّحدُّث معهم، فلا عَلاقة للعِدَّة به أصلاً بل إن ما كان جائزًا من ذلك شرعًا للمرأة بلباس الحِشْمة الساتر الشرعي، دون خُلوة مع أجنبي(21)، ما كان جائزًا لها قبل العِدة يبقى جائزًا خلال العدَّة.(137/1)
فمحارمها من ابن أو أخ أو ابن أخت أو ابن أخ مثلاً ينظرون منها في العدة ما ينظرون منها في الحالات العادية. والأجنبي لا يجوز أن يَنظر منها سوى الوجه والكفين والقدَمين في العدة وخارجها. فمقابلة الرجل الأجنبي واستقباله (دون خُلوة) بالغِطاء الساتر لما سوى الوجه والكفين، وهو ما تصحُّ به صلاة المرأة، وكذلك الحديث معه، فهو جائز في العِدَّة وخارجها بالحدود المذكورة.
وما كان ممنوعًا من مظهرها وتكشُّفها وخُلوتها بالأجنبي قبل العدة يبقى هو الممنوع خلال العدة؛ لأن مفهوم العِدّة في الإسلام محصور بتلك الواجبات الثلاثة.
ـ وما يفعله بعض الناس من تغْطية المَرايا، وعدم نظر المرأة المعتدَّة في مرآة، وتغطية المصابيح الكهربائية والثريات الضوئية، وقلب السَّجاجِيد، وعدم رؤْية رجل ولو كانت المرأة بملابِسها الساترة الشرعية، وعدم إظهار صوتها إذا قُرِعَ البابُ أو دُقَّ جرْسُ الهاتف، فكلُّ ذلك من الخُرافات المُلصَقة، وهي أوهام لا أساس لها في الشرع، وذلك جهل وغلو مشوَّه للمفاهيم الشرعيّة الحكيمة، ما أنزل الله بها من سلطان، والله سبحانه وتعالى أعلم.
هامش
(21) والأجنبي معناه: كلُّ رجل ليس من مَحارِم المرأة، أي: ليس من أقاربها الذين لا يَحِل لهم التزوُّج بها، فأخو الزوج المتوفَّى وسائر أحْمَاء المرأة معدودون من الأجانب، ومعنى الخلوة بالأجنبي: وجودهما في بيت واحد ليس معهما شخص ثالث (الزرقا).(137/2)
حُكْم رُكوب المرأة في سيَّارة مَعَ سائق أجنبي، وسفرها بالطائرة دون مَحْرَم
هل يجوز للمرأة أن تركب السيارة مع سائق أجنبي؟
وهل سفر المرأة بالطائرة بدون مَحْرم جائز؟
أفتونا جزاكم الله خيرًا والسلام،
وليد الزعيم
21/11/1997
الجواب:
1- مقتضى ظاهر النصوص الفقهية والقواعد أنه لا يجوز للمرأة أن تَركب السيارة وحْدها مع سائق أجنبي.
لكن يبدو لي أن الحالة اليوم تَخْتلف بالنسبة لسيارات الأُجرة في داخل البلد، فَهِي ضرورة لا يُستغْنَى عنها في المواصلات. فأرى أنه لا مانع منها.
أما خارج البلد فلا، ما لم يكُن معها رُكَّاب آخرون.
2 - سفر المرأة وحْدها بالطائرة دون مَحْرَم أو زوج لا مانع منه وهو ضرورة إذا كان في مَكان وُصولها مَحْرَم أو زوج؛ لأنَّ الطَّائرة لا تُقاس على السيارة. ومثلها القطار، فهما للرُّكوب الجماعي تحت نظام ورقابة موظفين يَحْصُل معهم الاطمئنان ما دام يوجد من يَستقبلها عند وصولها. والله سبحانه أعلم.(138/1)
شَهادة النِّساء في الحدود والقِصَاص
وأنَّ دِيَة المرأة نصف دِيَة الرَّجُل
سعادة الأخت الكريمة السيدة بيجوم زاري سرفراز.
رئيسة اللجنة الباكستانية لأحوال المرأة.
إسلام آباد ـ الباكستان.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
تَلَقَّيْتُ مِن طريق السفارة الباكستانية في عمان رسالتك الكريمة المؤرَّخة 27/5/1984 التي تَسْتَطْلِعِينَ فيها رأيْي عن حُكْم الشريعة في الأمْرَيْن التالِيَيْن:
الأول: ما إذا كانت شَهادة النساء مَقبولة في حالات الحدود والقِصَاص في الإسلام.
الثاني: ما إذا كانت دِيَة المرأة على النصف من دِيَة الرَّجُل.
وإليكِ جوابي عنهما فيما يلي:
الموضوع الأول:
إنَّ الحُكْم الشرْعِيَّ المتَّفَقَ عليه بين المذاهب الأربعة هو أن شَهادة النساء لا تُقْبَل في الحدود والدِّمَاء، وذلك لأنَّ الشريعة تَقْضِي بأنْ تُدْرأ الحدود بالشبهات، (والحدود هي أشدُّ وأخطرُ العقوبات المُحدَّدة المِقدار في الشريعة) فلا يُوقَع حدٌّ شرعي إذا كان هناك أي شُبهة ولو ضئيلة في ثُبوت التُّهمة على المُتَّهَم، وقد اعتبرتِ الشريعةُ شَهادة المرأة أضْعفَ من شَهادة الرجل في الأمور المالِيَّة (كما صرَّح به القرآن العظيم) فهذا الضَّعْف يَنْتَقِص من قُوَّة الإثبات فيما هو أخطر من الأموال (عُقوبة الحَدِّ والقِصَاص) بطريق الأوْلَوِيَّة.
والقِصَاص أيضًا عقوبة خطيرة مثل الحدود، وقد تَشَدَّدت الشريعة في إثباتها.
والحكم الشرعي في عَدَم قَبُول شَهادة المرأة في الحُدُود والقِصَاص ثابِتٌ بالسنة النبوية؛ ولهذا اتفقتْ فيه المَذاهِب الأربعة.
يقول الإمامُ الزُّهْرِيُّ: "مَضَتِ السُّنَّةُ مِن رسول الله والخليفَتَيْن من بعده ألا تَجوز شَهادة النساء في الحدود" (رواه ابنُ أبي شَيْبَةَ، يُنْظَر نُصْب الرايَة 4/79). كما أخْرَج عبد الرزاق في مُصَنَّفه عن سيِّدنا علي ـ كرَّم الله وجْهَه ـ:(139/1)
"لا تَجُوز شَهادة النساء في الحدود والدِّمَاء" (المَرْجِع نَفْسه).
ولم يَرِد في النصوص الشرعيّة تعليل صريح لهذا الحُكْم؛ لذلك لابدَّ أنْ نُسَلِّم به كجُزْء من دِينِنا، وإنْ كان ذلك لا يَمْنَع من الْتِماس الحِكْمة الكامِنة وراءه. وفي هذا المَجال نُشير إلى الأمور الآتية:
(أ) إنَّ التحديد الذي أتَتْ به الشريعة على قَبُول شَهادة المرأة ليس عامًّا شامِلًا في كلِّ أنواعِ الشَّهادة، بلْ قاصِرًا على بَعْض هذه الأنواع فقط.
ففي القضايا المالِيَّة، نَصَّ القرآن العظيم على أن تكون شَهادة امرأتَيْنِ مُعادِلة لشَهادة رَجُل، وفي قضايا الحدود والقِصَاص تُسْتَبْعَدُ شَهادة النساء.
لكنْ هناك قضايا أخرى خطيرة تُقْبَل فيها شَهادة النساء وَحْدَهُنَّ، مثل:
ـ قضايا الوِلادة، وما يَتَرَتَّب عليها من إرْثٍ ونَسَبٍ.
ـ الرِّوَايَة عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فالحديث النبوي الذي رَوَتْه لنا امرأةٌ عن رسول الله، له حُجِّيَّةُ الحديث نَفْسِه الذي يَرْوِيه رَجُلٌ.
وهذا يَدُلُّ على أنَّ الأحوال التي قَيَّدَتْ فيها الشريعةُ شَهادةَ المرأة، هي لأسباب ومُلابَسات تَقْتَضِي هذا التقييد، سَواءٌ عَرَفْناها أمْ لمْ نَعْرِفْها.
(ب) إنَّ الحوادِث التي تُوجِب الحدود والقِصَاص كثيرًا ما تَنْطَوِي على وقائعَ كريهةٍ ومُنَفِّرَةٍ، والمرأة شديدة الانفعال والحساسية، مِمَّا يَصْرِفها أحيانًا عن الانتباه إلى تفاصيل تلك الوقائع. وفي هذا المَجال أنْقُلُ فيما يلي ما يَقولُه الدكتور رمسيس بهنام R.BEHNAM وهو أستاذ مشهور في القانون الجِنائي، ورئيس قِسْم القانون الجِنائي في جامعة الإسكندرية سابقًا، ودكتور في القانون المَدَنِي من جامعة روما، وهو أيضًا دكتور دَوْلة من جامعة باريس. والدكتور بهنام ليس مسلمًا بلْ هو من أقباط مصر، فهو لا يَكْتُب من مُنطلَقٍ دِينِيٍّ إسلاميٍّ.(139/2)
يَقولُ د. بهنام في كِتابِه: عِلْم النَّفْس القَضائي (الإسكندرية: طَبْع مُنشأة المَعارِف 1979م ص / 84) ما نَصُّه:
"الشاهِد ليس كالورقة الحَسّاسة في آلة التصوير .. وإنَّما يَتوقَّف مَدَى الكمال في الْتقاطه لِصورة الواقعة على عواملَ شخصيةٍ عديدةٍ تَحُول دُون أمانة النَّقْل (أيْ: مُطابقته للواقع) وإنْ كانت لا تَنْفِي الإخلاص (إخلاص الشاهِد، أيْ: قولُه ما يَظُنُّه حقًّا)...
كثيرًا ما يُحِسُّ الشاهِد بِنُفُور مِن جُزئيَّة ما، فيُسارِع بالانتقال منها إلى غيرها مُغْفِلاً الإحاطة الكاملة بها، كما لو شاهَدَتِ امرأةٌ إنسانًا يُطْعَن عِدَّة طَعَنات ويَهْوِي إلى الأرض، فَشَقَّ عليها أنْ تُرَكِّز أنظارها في جُثَّته، فوجَّهت انتباهها إلى هِنْدامِ أو ملابس رجال كانوا في المكان حاضرين" (ص 84).
وفي مَجال التعرُّف على الأشخاص وعلى الأشياء في مجال الشَّهادة القضائية يقول د. بهنام في الكتاب نفْسه (ص 194):
"إنَّ القُدرة على دِقَّة الوصْف تَتوقَّف على عوامِلَ عِدَّةٍ.... منها الجِنْس. فمن الثابِت أنَّ المرأة بطبيعتها أقوى من الرجل مُلاحَظَةً للوجه والملابس، وإنْ كان تَعرُّفها مَحلَّ شَكٍّ حين يَتعلَّق الأمْرُ بمَشهد جريمة ارْتُكِبَتْ؛ ذلك لأنَّها جُبِلَتْ على نَزْعة انفعاليَّة شديدة تَعترِيها في مثل هذا المَشْهد، وتَحُول دُون تَفرُّسِها في أشخاصه وأشيائه".
(ج) هناك عواملُ نفْسيةٌ مُعقَّدةٌ تَدخُل في موضوع الشَّهادة، وتُؤثِّر في مَدَى التعويل عليها. ونَنْقُل فيما يلي من كِتَاب آخَر للدكتور رمسيس بهنام(علم الإجرام وعلم الاجتماع الجِنائي، الإسكندرية: طَبْع مُنشأة المعارِف. الجزء الأول "الطبعة الثالثة / 1970م/ ص 457) حيث يقول ما نَصُّه:(139/3)
"ولأنَّ الكَذِبَ من الخصائص المُمَيِّزة للمرأة بِوَجْه خاصٍّ، يُنادِي علماء النفْس بضَرورة المُحاذَرة في التعويل على شَهادتها، وفي هذا تتشابه شهادة المرأة مع شهادة الطفل التي تَسْتوجِب هي الأخرى حذرًا أكبر في اعتبارها مصدرًا تُستَقَى منه الحقيقة. على أنَّ الحذر في التعويل على شهادة النساء لا يرجع فحسْب إلى أكاذيبهنَّ التلقائيَّة التي تَصدُر منهن عن وَعْي وعن غير وعي، وإنما يَرجِع كذلك إلى أنَّ ذاكرة المرأة أضْعَف من ذاكرة الرجل، وإلى كَونها مَيّالة إلى تركيز الانتباه والفِكْر في تفاصيلَ على جانب ضئيل من الأهمية، بدلًا من حَصْرها في الدلالة العامّة للأمر مَحَلِّ النظر والمُعاينة".
إننا قد نقلْنا كلام الدكتور بهنام حرفيًّا التزامًا بأمانة النَّقْل، وإنْ كنا لا نَقبَل بكل ما أَوْرَدَه من عِبارات. ولا شك أن المعرفة الإنسانيَّة بهذه الأمور هي معرفة محدودة وظَنِّيَّة، يَصْعُب الوصول فيها إلى رأي قاطع يُمكِن البرهنة عليه تجريبيًّا أو منطقيًّا على نحو يَقْنَع به الجميع.
ونُشير هنا إلى أن العبارة القرآنيّة في تعليل اشتراط شهادة امرأتين وردت بلفظ (أنْ تَضِلَّ إحداهما فَتُذَكِّرَ إحداهُما الأُخرى) (البقرة: 282)، ولم تأتْ بلفظ: أنْ تَنسى إحداهما، مما قد يَدُلُّ على أنَّ العوامل التي تُؤثِّر في الشهادة ليست مقتصرة على الذاكرة وحْدَها، بل تَشْمَل عواملَ أخرى لم تُصَرِّح الآية بها.
والمسلمون يَرْضَون ويَطمئنّون إلى ما وَرَدَ بالأدلة الشرعيّة الموثوقة، علمًا منهم بأنَّ الله سبحانَه أَنزَل هذه التشريعات في كتابه وفي سنة رسوله لمَصلحة البَشَر، وبِنَاءً على عِلْمه المُطْلَق بما فَطَرَهم عليه وبما يَصْلُح لهم، نساءً ورجالاً.(139/4)
(د) إنَّ أداء الشهادة ليس مَزِيَّة وحقًّا في الإسلام، بل هو واجب يَتَحمَّل بسببه الشاهد عَناءً و مَشقة؛ لذلك نرى الكثير من الناس يَكرهون أنْ يَدْعُوَهم القاضِي أو الخصوم إلى الشهادة، وبخاصَّة في قضايا الجِنَايات والحدود، لأنهم يَتعرَّضون للاستجواب من الخصوم، وللطعن في عَدالتهم (وهذا قد يؤذي المرأة أكثر من الرجل).
ولا نَنسَى أن الشريعة ـ في بعض أنواع الحدود كالزنى مثلاً، ولَدَى عدد من الفقهاء ـ تَقضِي بِجَلْدِ الشُّهود إذا لم تَكُن شهادتهم كافية لإثبات التهمة على المتهم؛ لهذا نرى أن استبعاد المرأة من الشهادة في الحدود والقِصَاص هو أيضًا تكريم لها، وحماية عن أنْ تَتعرَّض إلى ما يُزْعِجها، ويؤذِيها نَفْسيًّا في كثير من الحالات.
الموضوع الثاني:
أمّا أنَّ دِيَةَ المرأة هي نصف دِيَة الرجل، فهذا أيضًا موضع اتفاق بين الفقهاء استنادًا لآثار كثيرة مَرْوَِّية عن العديد من الصحابة.
وتعليل ذلك فيما يُظَنُّ هو أنَّ الدِّيَة إنما هي تعويض عن الضرر الماليِّ الذي يُصِيب أهل القتيل في القتل الخطأ، وهذا الضرر الماليُّ في موارد حياة أسرة القتيل، ومَن هو مسئول عنهم فِعْلاً أو احتمالاً، هو أكبر وأعظم أثرًا في حالة كَون القتيل رجلاً منه في حال كَون القتيل امرأة، في الأحوال العاديَّة.
فالرجل هو المسئول ماليًّا في نظام النفقات الإسلامي عن النفقة على نفسه، وعلى زوجته وأولادها.
فلا تُلزَم المرأة المتزوجة بالنفقة على نفْسها ولا على زوجها وأولادها ولو كانت غنيّةً، لكن الرجل (الزوج أو القريب بحسب أحكام تفصيلية معروفة) هو الذي تجب عليه النفقة.
والخلاصة: أن الالتزامات الماليَّة بالنفقة تقع دَومًا أو غالبًا على الرجل وَفْق الشريعة، لذلك كان الضرر الماليُّ على أولياء الرجل القتيل أكبر من الضرر الماليِّ في حال كَون القتيل امرأة، ولعل هذا هو السبب في اختلاف الدِّيَة بين الرجل والمرأة.(139/5)
أما في حالة القتل العَمْد العُدوانيِّ الموجِب للقِصَاص، فهذا مَناطُه الصّفة الإنسانيّة في القتيل، ولا فرْق في هذه الصفة شرعًا بين الرجل والمرأة، ولذا يُقتَل الرجل بالمرأة، والمرأة تُقتَل بالرجل؛ لأنَّ القِصَاص ليس مبنيًّا على تعويض الضّرر المالي، بل على وجوب صيانة البِنية الإنسانيَّة من العُدوان عليها، وهنا يَتساوَى الرجال والنساء في الكرامة الإنسانية، ووجوب الصيانة.(139/6)
كَشْف المرأةِ غِطاءَ الرأسِ بِدَعْوَى عُمُومِ البَلْوَى
أستاذي الكريم الأستاذ مصطفى أحمد الزرقا المحترم:
كنا في جلسة نتحادث فيها مع بعض الزملاء عن موضوع (عُموم البلوى)، وتَفرَّع الحديث عن أمثلة عدة إلى أن انتهينا إلى الوضع الذي وَصَلتْ إليه أغلب البلاد الإسلامية من سُفُور المرأة. وإنني أَخُصُّ (بالسفور المُحتشِم إن صَحَّ تعبيرِي)، فهناك من الشباب المسلم المتمسك بدينه تمامًا وزوجته مُحتشِمة باللباس الكامل إلا من غطاء الرأس، فهو بنظرهم حَجَر عَثْرة لحضور المؤتمرات والاجتماعات والسفَر إلى بعض البلدان، فهل يَدخُل رفْع غِطاء الرأس في موضوع عموم البلوى، وهل نَحكم عليه بالقَبول، أي أن نَسمَح به شرط الحِشْمة الكاملة، قياسًا من أننا نَسمح باللباس الشرعي المكشوف الوجه كلباس الراهبة الذي يُتَقبَّل أفْضل من لباس الجلباب الذي ورد في الآية، أي انتقال من مرحلة إلى أخرى يَسمح بها الشرع.
إلى أن أَلقَى جوابكم أشكُركم وأدامَكم الله ذُخرًا للإسلام والمسلمين
الدكتور عبد الفتاح ناشد
مختص بأمراض الأنف والأذن والحنجرة
أخي الكريم الدكتور السيد عبد الفتاح الناشد المحترم حفظه الله تعالى،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...،
تلقَّيْت رسالتَكم العزيزة، فيها سؤالكم عن إمكان المرأة المُسلمة أن تَكشِف رأسها مع محافظتها على حِشمة اللباس الساتر شرْعًا، وذلك باعتبار أن كشْف الرأس قد أَصبَح من قَبِيل عموم البلوى، وأنَّ ستْر الرأس يُصبح مانعًا للمرأة من حضور المؤتمرات والاجتماعات والسفر إلى بعض البلدان ونحو ذلك.(140/1)
إن هذا الموضوع ـ أخي الكريم ـ يَحتمل جوابًا مطوَّلاً مدْعومًا بالحُجَج الشرعية والمنْطقية، ولا أجِد له الآن وقتًا مساعدًا، فأكتفِي الآن بجواب موجز، وهو أنَّ كشْف المرأة المسلمة رأسَها (ولا سيَّما في هذا الزمن الذي أصبح فيه تزْيين النساء شعورَهن على أيدي مُزَيِّنين أو مزينات اختصاصيِّين من أهم فنون التبرُّج وعرْض الجمال والمفاتن) غير جائز شرعًا لمخالفته صريح القرآن والسنة النبوية الثابتة بصورة لا تَقبَل أيَّ تأويل، ولا يَدخُل هذا الكشف في دائرة عموم البلوى التي لها مقاييس في غير هذا الباب، وهو باب الحاجات من جهة، وصعوبة الاجتناب من جهة أخرى، مثل الحكم بطهارة الكُحُول اليوم إذا اعتُبر أنَّ أصل الدليل يَستوجب نَجاستها، وكسُؤر الهِرَّة التي هي من الطوّافين والطوافات داخل البيوت ولا يُمكن التحرُّز منها (والأصل أنَّ سُؤْر الحيوان، وهو ما مَسَّه بفمه في الشرب، يَتبَع لحمَه نجاسةً وطهارةً، والهِرَّة غير مأكولة اللحم لأنها سَبُعٌ مُفْترس، فكان الأصل نجاسة سُؤرها لولا عموم البلوى فيه)، ومثل ذلك في عموم البلوى اليوم مجالسة المرأة المسلمة للمرأة غير المسلمة ونحو ذلك.(140/2)
أما المحرَّمات القطْعية في غير حالات الاضطرار كشرب الخمر والرقْص المشترك ولبس الميني جوب أو الميكروجوب اليوم، فهذا لا يكون بحال من الأحوال حاجة تَعُمُّ بها البلوى فتُباح، فإن الإنسان المسلم يستطيع اجتنابها دون أي حرج. وظنُّ الجاهلين أنَّ اجتناب ذلك يجعلهم في حرج حيث يُظَنُّ بهم الرجْعيَّة أو الجمود أو التعصب أو...أو...ـ فهو من ضعف شخصيتهم الإسلامية (بعد أن يكونوا مؤمنين) كمن يترك الصلاة في وقتها لمتابعة اجتماع هو فيه، كيلا يقال عنه إنه مُتزمِّت لا يُقدِّر الظروف حقَّ قَدْرها!! والمسلم عليه أن يَعتزَّ بتمسُّكه بدينه (وأوامره القطعية على الأقل) مهما قال عنه الملاحدة والفُسّاق، وإلا لانْحَلَّ الدين عُروة عُروة في تيارات الفساد، فلا يَبقَى منه شيء.
وقد أمَر القرآن النساء المسلمات أن يَضربن بالخُمُر على جُيوبهن، والخِمَار كِساء يَستر الرأس كلَّه سوى الوجه، والمقصود أن يكون فَضْفاضًا يُمكِن رَدُّ ذيله على جَيْب القميص، وهو فتحة صدره، كي يَستُر صدر المرأة.
فإذا كان كشف الرأس من عموم البلوى، فما قولنا إذا أصبح أيضًا كشف الأفخاذ والرقص المشترك من عموم البلوى، بمعنى أن جميع الناس المسلمين يمارسونه ويُعَيَّر بعدم فعله مَن لا يفعله، هل نُفتِي بجوازه دِينًا مُجاراة للفُسّاق والملاحدة؟
إن الحدود الأساسية للسلوك الإسلامي بحسب النصوص القطعية لا يُمكِن التنازل عنها باسم الدين؛ لأنه عندئذ تَضيع معالم الإسلام.(وقُلِ الحَقّ مِن ربِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فلْيؤمِنْ ومَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) (الكهف: 29).(140/3)
إن عموم البلوى لا يُبيح فعْل المعاصي التي تحريمها تعبير عن نظام الإسلام وتخطيطه للحياة البشرية الصالحة، وإنما يُعتبر عموم البلوى عذرًا فيما أصبح من المُتعذَّر اجتنابه دون حرج عام، كالنظر دون تَقصُّدٍ وتتبُّعٍ للمرأة المتكشِّفة اليوم، وهي تملأ الشوارع التي لابد للرجل أن يَمشِي فيها، ومراكز الأعمال التي لابد أن يَطْرُقها أو يوجد فيها.
ومثل ذلك يُقال في قبْض الموظَّفين المسلمين رواتبهم اليوم من الخزينة العامة التي اختَلط فيها المال الحلال بالحرام، وليس للموظَّف طريق لاجتنابها إلا أن يَترك العمل في وظائف الدولة، وفي هذا ما فيه من الحرج علاوة على ما يؤدي إليه من أن تصبح وظائف الدولة وأعمالها وقْفًا على الذين لا يُبالون ما يَفعلون، لا يُهمُّهم تمييزٌ بين حلال وحرام!
والخلاصة: أن شيوع الفِسْق لا يُبيحه بحُكم عموم البلوى؛ لأن الفسْق وانتهاك المحرَّمات لا يُمكن أن يكون حاجة عامة أو تَتوقف عليه حاجة عامة للمسلمين بحال من الأحوال، وإنما تَخضع إباحة المحظورات لقاعدة الضرورات بحدودها الشخصية وشرائطها وقيودها، مثل كشف العورة للطبيب لأجل المداواة من مرض. فالضرورات مقياسها شخصي، وهي تُقدَّر بقدرها، أما قاعدة عموم البلوى فمقياسها عامٌّ، وأساسه تعذُّر الاجتناب، وإنَّ فِعْل المحرَّمات لا يُعتبر من هذا القَبِيل. وقد قال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "ما نَهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتُكم به فأتُوا منه ما استطعتم".(5)
ومتى كان حضور المرأة المسلمة في المؤتمرات والندوات مكشوفة الرأس، مُصفَّفة الشعر، عارضة لجمالها ومفاتنها، متى كان ذلك حاجة عامة يُتعذَّر اجتنابها؟
ولا شك أنَّ كشف المرأة رأسَها وشعْرَها الذي هو من أهم معالم زينتها هو من الفسق بعد قول الله ـ تعالى ـ في مُحْكم قرآنه: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ولا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلاّ لِبُعُولَتِهِنَّ) (النور: 31).(140/4)
فالمرأة التي تَفعل شيئًا من هذه المحرَّمات القطعية إذا فَعلَتْ ذلك، وهي معتقِدة لحُرْمتها مؤمنة بها، ولكنها ضعيفة الإرادة والشخصية لا تستطيع الامتناع عنها، هي عاصية حكمها كسائر من يَرتكِبون المعاصي وهم مؤمنون، ويَستحقون العقوبات الزاجرة لو كان هناك حكم إسلامي سائد.
وأمّا إن كانت المرأة مستبِيحة لشيء من المُحرَّمات القطْعية، أي: غيْر مؤمنة بحُرمتها، فإنها تَخرج بذلك عن الإسلام، والعياذ بالله. وهذه قاعدة لا خِلاف فيها بين علماء الشريعة من صحابة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فمَن بعدهم من أئمة الإسلام، ومعظم الناس والنساء المنطلقات اليوم عنها غافلون . هدانا الله ـ تعالى ـ إلى سواء السبيل.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
هامش
(5) أخرجه البخاري (7288) في كتاب الاعتصام، ومسلم (1337) في الحج.(140/5)
مفهوم عُقُوق الوالِدَين، وصُوره (1)
قرأتُ في كتاب "الكبائر" شرح كبيرة عقوق الوالدين والأحاديث الرَّهيبة المتصلة بها، ومنذ تلك اللحظة وأنا أعِيش في حَيْرة بشأن بعض حقوق الآباء التي تُعكِّر صَفو حياة الأبناء أو تبدو تجاوزًا على حقوق وواجبات أخرى كما في الأمثلة التالية:
مثال 1: الجهاد، كيف بمَن يَودُّ القيام بهذه الفريضة بالرغم من مَنْع والدَيْه له؟ وكيف التوفيق بين حديث: (أحَيٌّ والداك؟ ففيهما فجاهِدْ.) وحديث (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.)؟
مثال 2: ما الحكم فيمن يُعطِي أبويه كِفايَتَهما من النقود ومتطلبات الحياة ثم يُطالبانِه بالزيادة دون حِوَج، وهو ذو عِيَال، وعليه مسئوليات، فهل يُعَدُّ رفْضه عُقوقًا..وما المراد من حديث: (أنت ومالُك لأبِيكَ)؟
مثال 3: إذا كانت الزوجة تُعامِل والدَيْ زوجها أحْسَن معاملة ويُريد الأبوان من الزوج أن يُطلِّقها، أو يُتيح لهما السيطرة عليها أو يَحرِمها من المنزل المنفصل عنهما، فهل يُطلِّق الزوج امرأته إرضاء لأبويه وامتثالاً لبعض الأحاديث التي تَدعو إلى ذلك؟
آنسة ش . ص . السودان
الجواب:
قَرَّر الإسلام للوالدين حقوقًا مادية ومَعنوية أوْجَب على الولد رعايتها واحترامها وحُسْن أدائها، وفي رأس حقوقهما المادية عليه أن يُنفِق عليهما إذا احتاجا، وفي رأس حقوقهما المَعنوية بِرُّه بهما في كل وجوه البِرِّ، واجتناب عُقوقهما في كلِّ وجوه العُقوق.(141/1)
وأنَّ بر الوالدين يتجلَّى في فعل ما يُرضيهما ويَسُرُّهما، من طاعة لأوامرهما وتحقيق لرغائبهما في المعروف، وأن عقوقهما يَتجلَّى فيما يُؤذِيهما أو يُنغِّصهما من قول أو عمل، ويقول الفقهاء: إن الفعل السيِّئ يُعتبر عُقوقًا إذا كان من شأنه أن يُؤلم الوالدين (كسُوء الأدب معهما مثلاً) وإن لم يُؤلم الوالد الذي أساء ابنه الأدب معه لِفَرْط مَحبَّته له وتَولُّعه به، والإخلال ببر الوالدين درجات: من المخالفة اليسيرة إلى العقوق والإيذاء الذي هو أيضًا درجات متفاوتة.
هذا، ولكن الشريعة الإسلامية من أبرز مزاياها أنَّ تعاليمها تَحفظ التوازن بين جميع الجهات الواجبة الاعتبار، فهي لا تَقبَل أن تَطغَى رعايةُ نوع من الحقوق والواجبات على رعاية نوع آخر منها، وميزان هذا قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الحادثة المشهورة: "إنَّ لربك عليك حقًّا، ولنفسك عليك حقًّا، ولزوجك عليك حقًّا، فأَعْطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه" إلى نصوص أخرى كثيرة في الكتاب والسنة الثابتة، ففي ظِلِّ ذلك تُقيَّد طاعة الوالدين شرعًا بأن لا تكون في معصية لله تعالى؛ لقوله تعالى: (وإنْ جاهَداكَ عَلَى أنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ فَلا تُطِعْهُما)، وقول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "لَا طَاعَةَ لمخلوق في معصيَّة الخالق" (2)، فهناك نصوص عامة يَنْبسِط سلطانها على جميع آفاق الحقوق والواجبات فتَضع لها حدودًا ملحوظة تَحفَظ التوازن، والشرع حقوق وواجبات متقابلة، فكما أوْجَب على الولد برَّ والديه، أوجب عليهما تسهيلَ هذا البر عليه وعدم إرهاقه فيه.
بعد هذا الإيضاح للأصول أقول:(141/2)
1 - في الخروج إلى الجهاد إذا أراد الولد الخروج، وكان هناك من سواه مَن يُغنِي عنه ويَسُدُّ مَسدَّه، ووالداه أو أحدهما في حاجة إليه لا يَنبغي له أن يَخرُج ويَتركهما، فبقاؤه معهما من الجهاد؛ لأن الجهاد يَستدعى تَخْليف بعض المكلَّفين في البلد والأهل، وعلى هذا يُحمل قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم: "ففيهما فجاهِدْ".(3)
أما إذا أصبح الجهاد في بعض الأحوال واجبًا عينيًّا عليه لعدم وجود من يَسُدُّ مَسدَّه، فليس خروجه عندئذ عُقوقًا ولا مُنافيًا للبِرِّ، وإن لم يأْذَنا له.
2 ـ ومن يُعطِي أبويه كِفايتَهما من النفقة ومتطلَّبات الحياة فقد أدَّى واجبه شرعًا، وإن تَطلَّبا شَطَطًا وإسرافًا فوق الحاجة المعروفة فليس واجبًا عليه، وإن أراد أن يَتطوع بالزيادة فذلك إليه ما لم يكن ذلك على حساب واجبات مالية أخرى عليه.
أما قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "أنت ومالُكَ لأبيكَ" (4) فليس معناه التمليك في نظر الفقهاء، بل هو للتنبيه إلى مبلغ حقوقهما، وأن ما جَناَه من مال إنما هو بفضل تربيتهما له حتى أصْبَح كبيرًا قادرًا مُكتسِبًا، فعليه أن يُمتِّعهما بماله بِسَخاء.
3 - إذا كانت الزوجة تُعامِل والِدَيْ زوجها معاملة حسنة، وهما يَكرَهانها ويَطلُبان إليه تطْليقها دون ذنْب منها أو إساءة، فليس عليه إطاعتهما؛ لأن هذا منهما شَطَط وإساءة وعُدْوان، فلا يجوز له إطاعتهما فيه، وما رُوي من بعض حوادث تاريخية في صدر الإسلام بخلاف ذلك له تأويل آخَر.
هذا، وفي كل موطن مما لا يكلَّف الولد فيه بإطاعة والديه في معصية لا يجوز له إلا الرفْض برِفْق وحكمة دون إساءة لهما بالقول؛ لأن المقصود يَتحقَّق بعَدَم المُجارَاة لهما في معصية وعدوان، ولقول الله ـ سبحانه ـ في تَتِمَّة الآية السالفة الذِّكْر: (وصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفًا) والله يقول الحق هو يَهدي السبيل.
هوامش(141/3)
مجلة الوعي الإسلامي الكويتية، السنة السادسة 1390هـ / 1970م العدد (65).
(2) حديث: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" رواه الإمام أحمد في مسنده (5/66) من حديث عِمران بن حصين والحكم بن عمرو الغِفاري. وقال الهيْثمي: رجال أحمد رجال الصحيح).
(3) روى البخاري (3004)، باب الجهاد بإذن الأبوين، ومسلم (2549) في البِر والصِّلة، والترمذي (1671) في الجهاد، والنسائي (3103) في الجهاد، و (4163) في البيعة عن عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ قال: جاء رجل إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فاستأذنه في الجهاد، فقال: "أحيُّ والداك" ؟قال: نعم. قال: "ففيهما فجاهد".
قال العلماء: يَحرُم الجهاد إذا مَنع الأبوان أو أحدهما بشرط أن يكونا مسلمَيْن؛ لأن برَّهما فرْضُ عينٍ عليه، والجهاد فرض كفاية، فإذا تعيَّن الجهاد، فلا إذْن.
وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "ففيهما فجاهد" أي: خُصَّهما بجهاد النفس في رضاهما، والمراد القدْر المُشترك من كُلْفة الجهاد، وهو تعب البدن والمال (مجد).
(4) (روى أبو داود (3524) في البُيوع، باب في الرجل يأكل من مال ولده، وابن ماجه (2292) في التجارات من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أتاه رجل، فقال: يا رسول الله، إن لي مالاً وولدًا، وإن أبي يجْتاح ـ أي يَستأصل ـ مالي، فقال: أنت ومالك لأبيك، إن أولادكم من أطيب كسْبكم، فكُلوا من كسب أولادكم".
والحديث أخرجه أحمد (6678) و (6902) وإسناده حسن، وأخرجه ابن ماجه (2991) من حديث جابر. وقال المُنْذري: رجاله ثقات.
وفي الباب عن عائشة في صحيح ابن حبان وعن سمرة وعن عمر كلاهما عند البزار، وعن ابن مسعود عند الطبراني، وعن ابن عمر عند أبي يعلى. قال الحافظ في "الفتح": 5/155 فمَجْموع طرُقه لا تحطُّه عن القوة وجواز الاحتجاج به (مجد).(141/4)
موقف الإسلام من تحديد النسل
السؤال: يكْثُر اليوم الكلام والحديث عن ضرورة اتخاذ تدابير عامة في البلاد لتحديد النسل، فما موقف الإسلام من هذه الدعوى في البلاد الإسلامية؟
الجواب:
ثبت عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: "تَزوَّجوا الودُودَ الولُودَ فإنِّي مُكاثِر بكم الأمَم"(19) . وروي أيضًا بإسناد غير قوي، ولكن تُعضِّده مؤيِّدات من الأدلة أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال: "تَنَاكَحُوا تَكْثُروا فَإنِّي أُبَاهِي بِكُمُ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَة"(20) .
وفي هذا دلالة كافية على أن تحديد النسل بأي وسيلة من الوسائل لا يَجوز في ظلِّ الإسلام أن يكون هدفًا عامًا في الدولة تَهدِف إليه، وتخطِّط له، وتحمِل عليه الناس بتدابير عامة. فلا يَزال، ولن يَزال، العدد البشري في كل أمة من أهم مقاييس شأنها في الأنظار الدولية، وقابليَّات قدرتها وقوتها.
ولكن لا يوجد مانع شرعي في الإسلام من اتخاذ تدابير شخصية (أي: في نطاق شخصي غير عام) من كل فرد بحسَب ظروفه الخاصة وقدرته المالية، بتحديد نسله بطرق منْع الحمْل، دون طرُق الإجْهاض التي فيها عدوان على جنين متكوِّن، إلا في حالات الضرورات التي تصل إلى درجة إباحة المحظورات كضرورة إنقاذ حياة الأم إذا توقَّف على إسقاط حملها.
هذا ما تدل عليه نصوص الشريعة وعموماتها وكلام الفقهاء. وهو الموقف الذي استقر عليه رأي علماء الشريعة الإسلامية المعاصرين في عدة مناسبات وحلْقات اجتماعية كمهرجان الغزالي بجامعة دمشق سنة / 1961م، ومؤتمر تنظيم الوالديَّة في الرِّباط عاصمة المملكة المغربية سنة / 1971، وفي كليهما اشترك فقهاء العصر على مستوى البلاد العربية والإسلامية، وقرَّروا هذا الموقف، كما قرره أيضًا العلامة المحقق الداعية الإسلامي الشيخ أبو الأعلى المودودي في كتابه القيم عن الدعوة إلى تحديد النسل وموقف الإسلام منها.
هامش(142/1)
(19) رواه أبو داود (2050) في النكاح، والنسائي (3227) في النكاح، والحاكم2: 162 وقال: صحيح الإسناد، ووافَقه الذَّهبي. والودود: المرأة الموادّة. والولود: التي تَكْثُر وِلادَتها، وهذا البناء من أبنيَة المُبالغة. والمُكَاثرة: هي المُفاخَرة بالكثْرة.
(20) قال الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء 2: 22: أخرجه أبو بكر بن مِرْدَوَيْه في تفسيره من حديث ابن عمر، وإسناده ضعيف، ورواه البيهقي في "المعْرفة" عن الشافعي بلاغًا وزاد في آخر: "حتى السَّقط".(142/2)
حُكْمُ وَلَدِ الزِّنَى، وهل يَثْبُتُ به النَّسَبُ؟
وهل تَجِبُ عليه النَّفَقَةُ؟
أخي الكريم الأستاذ السيد…. المحترم حفظه الله ـ تعالى ـ .
السلام عليكم ورحمة الله.
تلقيتُ رسالتكم الكريمة التي فيها السؤال الخاصُّ بأحد الشباب المسلمين بطَرَفكم الذي ابْتُلِيَ بالزِّنَى بامرأة أوروبية، ثم أتَتْ بِوَلَدٍ ادَّعَتْ أنه منه، فما الحكم الشرعي لو تَحَقَّق أنه من زِنَاه بها، لأنها كانت بِكْرًا؟ وما حُكْمُ النفقة؟ الخ. وإليكم الجَوابَ:
إنَّ الزِّنَى المَحْضَ لا يَثبُت به نَسَبُ الرجل الزانِي، ولو تَحَقَّق أنَّ الوَلَدَ منه.
وإنَّ النَّسَب يَثبُت بالإقرار أو بالدعوى، بأن يَدَّعِي بأنَّ هذا الوَلَدَ وَلَدُه أو أنْ يُقِرَّ بذلك، ولو لم يُبَيِّن سببًا شرْعيًّا من زواج ونحوه، فيُحمل على سبب شرعي حمْلاً، أي: يُفترض افتراضًا أنه ابنه بسبب شرعي كزواج غير مشهور أو وَطء بشُبهة، وذلك بشرط أن يَكون الوَلَد مجهول النسب، (أي: ليس له نسب ثابت قَبْلاً من رجل معروف بأنه أبوه) وأن يكون المُدَّعِى بالنسب أو المُقِرُّ به لم يَعطِف البُنُوة على الزِّنَى. أما إذا قال هو ابني من الزنى، فإنه لا عبرة عندئذ لِدَعْواه أو إقراره؛ لأن الزنى ليس سببًا للنسب ولا يَثبُت به، ولو حَصَل التحقُّق بأن هذا الحَمْل من هذا الزِّنَى، وأنَّ ثُبُوت النَّسَب بالدَّعْوى أو الإقرار دُونَ بيان سبب شرعي هو حُكْم القضاء الذي يُبْنَى على الظاهر، إذا وقعت أمامه الدعوى أو الإقرار، وليس معناه حِلُّ هذا الادعاء أو الإقرار دِيَانَةً، فإذا كان الرجل يعلم أن الولد ليس ابنًا شرْعيًّا منه، لا يَحِلُّ له دِيانةً ادعاءُ نَسَبِه أو الإقرار به؛ لأنه بذلك يُثبِت به حقوقًا غير شرعية في الواقع تُزاحِم ذوي الحقوق الشرعية من ماليَّة وغير ماليَّة.(143/1)
هذا حكم الشريعة في مختلِف المذاهب الفقهية، بل في أوسعها، لا أعلم في ذلك خلافًا، وإنما يَثبُت نسب ولد الزنى من أمِّه فقط في أوسع المذاهب، وتترتب بينه وبينها أحكام الأمومة والبُنُوَّة من حُرْمة ونفقة، فإن لم يكن لأمِّه مال فَنَفَقَتُه في بيت المال.
والنفقة بسبب القرابة فرْع عن تلك القَرابة نفْسها، فحيث لا نسب فلا نفقة واجبة شرعًا في حكم القضاء، ولو مع العلم بأنه ولد زِنًى منه.
هذا قانون الشريعة الذي يقضي به القاضي.
ولكنَّ هذا لا يَمنع من أن يَشعر الأبُ من الزنى (إذا تَحَقَّق أن هذا الولد ثمرة زِنَاه) بواجِب أدبي نحو هذا الولد الذي جَنَى هو عليه، وكان هو السبب في مجيئه إلى الدنيا منقطع النسب، فيُقدِّم إلى أمه في صغره وإليه فى كبره نفقة تُقيم أَوَد حياته.
يَتضِّح مما تَقدم أنه إذا لم يَعترف بأنه ابنه في بلاد تُلزِمه بالنسب أو بحقوق قضائية لو اعترف بذلك، فإنه لا إثم عليه شرعًا (وإنما الإثم محيط بعنقه من ذلك الزنى، وهو الجريمة الأصلية) ولا سيما إذا كان غير متحقق أنه من زناه، وكَون الأم كانت بكرًا لا يَكفي لهذا التحقق، إذ قد تَكون بِكرًا حين زِنَاه بها، ثم تُخالِط غيْره بعد ذلك لا سيما في بلاد تَفَشَّى بها الزِّنَى عمليًّا، واعتادتْه، واستباحتْه كبلاد أوروبا.
هذا، وأختِم بالتحيات الطيبات لك ولسائر إخوانك وإخواننا الشباب المسلمين الطيبين العاملين في سبيل الله والإسلام، والسلام عليكم.
وبعد جواب الشيخ الزرقا بشأن حكم ولد الزنى، أرسل السائل إليه يَسْتَفْسِره بجواز تسجيل الولد باسم الرجل الزاني في السجلات الرسمية، فقال:
معالي الأستاذ الفاضل مصطفى أحمد الزرقا ..حفظه لله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:(143/2)
تلقيتُ خطابكم الذي يَتضمن الحكم الفقهي لمشكلة الزِّنَى، فجزاكم الله خير الجزاء، ولقد تحدثتُ مع الأخ بالأمر، لكن الذي حَصَل هو أنَّ المرأة لا تُريد منه نفقة، ولا تَرغب بِتَرك الولد، فهي متمسكة به جدًّا، إنما ترغب تسجيله في سجلات قَيْد النفوس، على أن تَضع اسم الأخ الاسم الثاني للولد حسب العُرف والتقليد المتَّبع في هذه البلاد، ولِيكون هذا ابنها في عُرْف دِينها حسب قولها أيضًا، وقالت للأخ: لا أُريد منك أن تَتزوجني، ولا أنْ تُنفق عليَّ، ولا يُمكنك أخْذ الولد؛ لأنه ابني، فأنا أُريد تربيته واحتضانه، ولِيكون له المكان في سجلات الحكومة، فيَجب أن يُوضع اسمه واسمك واسمي، وإلا فيَكبر ولا يوجد له اسم عائلي..ولقد وَقَعَ الأخُ بحرج أكبر، خصوصًا وأنه قرأ رسالتكم الموقَّرة، فهل يَحِقُّ له أنْ يُعْطِي المرأة اسمه لَدَى الدولة، على أساس حل المشكلة، وقَطَع كل علاقة أو صلة مع المرأة، فقد ثَبَت بأن المرأة تَبغي التشهير به، ومن ثم إحالة القضية إلى المحكمة؛ بِنَاء على هذا.
نرجو من سيادتكم موافاتنا بالجواب القاطع لهذا الأمر؛ لِيقوم بتنفيذه هذا الأخ، وهو: هل يَحِقُّ له إعطاء اسمه الذي هو بمَثابة اعتراف منه بأنَّ هذا الولد منه، وسيكون هذا للسلطات الإسبانية..؟
ختامًا لكم منّا كلُّ ود، واحترام، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الجواب:
وبعد، فقد تلقيتُ رسالتك الثانية عَطفًا على جوابي بشأن قضية وَلَد الزَّنَى، وهل يجوز أن يُعطيَه الرجل الزاني اسمه، فيكون هذا اعترافًا بأنه ابنه منه تجاه السلطات الحاكمة وفي سجلاتها الرسمية، وذلك للاعتبارات والملابسات التي شرحتَها لي بالنسبة للظروف المحيطة بصاحب العلاقة والمرأة الأجنبية الشريكة التي تُطالبه بذلك.(143/3)
وقد تأخرتُ عليك قليلاً بالجواب؛ لأني تحيرتُ في حال هذا المسكين، ولكني لم أستطع بعد طول التفكير أن أجد مسوِّغًا شرْعيًّا يُسوِّغ اعتراف الرجل بنسب ولد إليه إذا كان السبب هو الزنَى؛ لأن هذا الاعتراف هو إلحاق للنسب وإلصاق له بأُرومة لا يُعتبر منها شرْعيًّا، فيُؤدي في النهاية إلى مُزاحمة ذوي النسب الشرعي في حقوقهم الأسرية والماليَّة. وفي نصوص الشريعة تحذير شديد من ذلك، ووعيد لفاعله.
هذا كله لو كان من المحقَّق أنه عالق من زناه بها، فكيف إذا كان هذا الأمر مجهولاً كما هو المفروض في البلاد الأوروبية التي فيها الحادث؟
وأرى أن خير وسيلة أن يُرضيَها بشيء من المال إن كان لديه، أو يُعينه في ذلك إخوانُه، إن لم يكن لديه، على أن تَصرِف النظر هي عن المطالبة باسمه إنْ كان يُرضِيها ذلك، وإلا فلْتفعلْ ما تشاء.
وختامًا إليك وإلى إخوانك أخلص تحياتي، مع المباركة لكم بالعيد القادم، والسلام عليكم.
15/ رمضان / 1390هـ.
16/11/1970م(143/4)
طفل الأُنبوب وثُبوت النَّسَب والمِيراث
تعقيب على جواب فضيلة مفتي مصر(1)
في العدد (44) من مجلة "المسلمون" الغَرَّاء التي تَصدُر في لندن، وهو العدد الأخير الذي صَدَر في 18 ذي القعدة 1402 هـ الموافق 27 أغسطس آب 1982م، نشر في الصفحات (23-25) منه "حوار شامل" مع فضيلة الأستاذ الجليل الشيخ عبد اللطيف عبد الغني حمزة مفتي الديار المصرية، طرحت فيه المجلة على فضيلته أسئلة حول عدد من قضايا الساعة، وتلقَّتْ أجوبتها الشرعية منه، وكان من جملتها سؤال متشعب عما سمي اليوم "طفل الأنبوب"، إذا كان متكونًا من تلقيح بُييضة المرأة أو بماء رجل غير زوجها، فهل يعتبر ذلك زِنًى؟ وهل يجوز قتْل هذا الطفل والتخلُّص منه؟ وبمن يُلْحَقُ نَسَبُه: أبِأمِّه، أو بزوجها، أو بصاحب الماء؟ وهل يَحِقُّ له أن يَرِث؟ وهل من عقاب حينئذ على الرجل والمرأة اللذين يتواطآن في هذه العملية؟
وقد أجاب فضيلته عن هذه الأسئلة.. سوى السؤال الأخير عن العقوبة، مبيِّنًا ما يرى أنه حكم الشريعة الإسلامية فيها، فقال في جوابه بعد مقدمة:
"وهنا عندما يتكون طفل من ماء غير ماء الزوج ففيه معنى الزِّنى، ولكن لا يجوز التخلُّص منه؛ لأن قتل الطفل هنا، مع أنه نِتاج الزنى، يَعني قتل نفس بشريّة، والحكم أنْ يُلْحق هذا الطفل في النسب بأمه، فابن الزِّنى يُلْحق في نَسَبِه بأمِّه؛ لأنه غير ثابت النسب للأب، أما من جهة الميراث فلا يَحِقٌّ لهذا الطفل أنْ يَرِث".
فسُئل فضيلته: حتى لو كانت أمه تَملِك مالاً أو عَقارًا؟ فأجاب:
"نعم، لا يَرِث من أمه شيئًا لأنه ابن غير شرعي"...
هذا ما أجاب به فضيلته حفظه الله، وقد وجدت فيه حاجة إلى التعقيب عليه، فبعض النواحي التي تَناولَها الجواب يَحتاج إلى إيضاح، وبعضها فيه نظر، ويبدو لي أنَّ الصواب خلافه.(144/1)
نظرًا لأن هذا الموضوع اليوم ذو حساسية شديدة، إذ أصبح التلقيح البشري في أنابيب الاختبار يُمارَس على نطاق واسع من العالم في مستشفيات كثيرة لمعالجة العُقْم، ولأغراض أخرى متعددة. وقد وَصَل ذلك إلى بعض البلاد العربية، وقد سمعتُ أيضًا في الإذاعة الإسرائيلية من أرض فلسطين المحتلة مقابلة مع طبيب من عهد قريب أنه يُمارِس ذلك الآن في أحد المستشفيات بنجاح نِسبي، وكَثُرَتْ فيه الطلبات على المستشفى الذي يُجْرِيه، لذلك رأيتُ من الواجب أن أكتب هذا التعقيب على جواب فضيلة المفتي.
فأقول:
أولاً: إن قول فضيلة المفتي: عندما يَتكوَّن الطفل من غير ماء الزوج ففيه معنى الزِّنَى، هو قول صحيح في الجملة، لكن إطلاقه قد يَتوهَّم منه القارئ غير المختص أنه تَتَرتَّب عليه أحكام الزنى جميعها، حتى في درجة الحرمة واستحقاق عقوبة الحد، وهذا غير مُراد فضيلته قَطعًا، فلا يُمكِن أنْ يَكون في الحرمة كالزنى الحقيقي المباشر، إذ ليس فيه رُكْنه، وبالتالي لا يُمكِن القول باستحقاق عقوبة حدِّ الزنى، التي لم يوجِبها الشرع إلا في حالة الزنى بمعناه الحقيقي وبشرائطه الشرعية المعروفة، وإنما تَستوجِب هذه العملية المحظورة من التلقيح الاصطناعي عقوبة تعْزيرية بما يَكفي للزجر، فهي ليست زِنًى حقيقيًا، ولكن الطفل المنتوج فيها هو كولد الزنى، لأنه مثله متكوِّن من بِذرتين إحداهما (البُييضة الأنثوية) من الزوجة، والأخرى (الحيوان المنوي) من غير زوجها، فلا يَثبُت له نَسَبٌ من زوجها؛ لأن البذرة الذَّكَرِيَّة ليست منه، كما لا يَثبُت للطفل نَسَبٌ من صاحب البذرة الذَّكَرِيَّة (إن كان معروفًا)؛ لأنه ليس بزوج، ولا هو في حالة شبهة، وإنما يُلْحَقُ نَسَبُ الطفل بأمِّه حينئذ كما في الزِّنَى الحقيقيِّ.
ثانيًا: وأما قول: "إنه لا يَرِث من أمِّه شيئًا لأنه ابن غير شرعي" ففيه نظر، وأرى أن جواب فضيلته هذا مخالف لقواعد الميراث الشرعي، لما يلي:(144/2)
(أ) إن ميراث الأقارب مَنوط بثُبوت النَّسَب، فكلما كان النسب ثابتًا تَبِعه الميراث، وكلما انتَفَى النسب انتفَى الميراث من طريق القَرابة.
(ب) وقد نصَّ فقهاء المذاهب أن ولد المُلاعِنة التي قَذَفَتْ بنفْي الولد يَقطع القاضي نَسَبه عن زوجها ويُلحَق نسبه بأمه، وقرَّروا مثل ذلك في ولد الزِّنَى أنه يُلْحق نَسَبُه بأمه. (يُنظر:"الدرّ المختار" من كتب الحنفية في باب اللِّعان، وفي حدِّ الزنى) حتى إن الحنفية يُثبِتون حرمة المصاهرة بين الزاني ومحارم مَزْنِيَّته كما لو كانت زوجة، كما هو معروف، ولا حُجَّة إلى نقل نصوصهم في ذلك.
ولا أعتقد أنَّ أحدًا يمكن أن يقول بأن طفل الأُنبوب في الحالة المسئول عنها (وهي حالة كَوْن البُييضة الأنثوية مأخوذة من زوجة، والحيوان المنوي مأخوذًا من غير زوجها) يكون أدنى حالاً، وأبْعدَ نسبًا من وَلَدِ الزنى، وقد رأينا أن ولد الزنى يُلحق نَسَبُه بأمِّه، وقد صرَّح بذلك فضيلة المفتي نفْسه في جوابه الذي نَقلناه حيث قال: "والحكْم أنْ يُلْحَق هذا الطفل ـ طفل الأنبوب في الحالة المذكورة ـ في نسبه بأمه، فابن الزنى يلحق في نسبه بأمه؛ لأنه غير ثابت النسب للأب".
ولا شكَّ أنه إذا أُلْحِقَ نسبه بأمه ثَبَتَت بينها وبينه جميع أحكام البُنُوَّة والأُمُومة: من حرمة النكاح، وحرمة المُصاهرة، والنفقة والميراث، فتَرِثه أمه ويَرِثها هو بلا خلاف في ذلك، حتى إن الشافعية الذين يَرون أن الزنى لا تَترتَّب عليه قَرابة ولا حرمة مصاهرة بالنسبة إلى الرجل الزاني، ويُجيزون أنْ يتزوج الزاني بابنته من الزنى ـ يُقِرّون عكس ذلك تمامًا فيما بين ولد الزنى وأمه، فيَحْكُمون بثبوته من أمه وتبعًا لذلك حرمة النكاح، كما يُقَرِّرون جَرَيان التوارث بينهما، فتَرِث منه أمُّه ويَرِث منها، بل نَقلوا الإجماع على ذلك.(144/3)
جاء في متن المنهاج وشرحه بحاشية العلامة "الشرواني" في باب (ما يَحْرُمُ من النكاح) ما نصُّه متنًا وشرحًا:
(والمخلوق من ماء زِناه تَحِل له؛ لأنها أجنبية عنه، إذ لا يَثبُت لها تَوارث ولا غيره من أحكام النسب.. .. نعم يكره له نكاحها للخلاف فيها "ويَحْرُم على المرأة وعلى سائر مَحارِمِها وَلَدُها من زِنًى" إجماعًا؛ لأنه بعضها وانفصَل منها إنسانًا، ولا كذلك المَنِيّ. ومن ثم أجمعوا على إرثه).
وعلق العلامة "الشرواني" في حاشيته على جملة (ولا كذلك المني) بقوله: "أي مني الرجل، يعني: لم ينفصل منه إنسانًا).
وعلق أيضًا على جملة: (ومن ثَمَّ أجمعوا هنا على إرْثه) بقوله: "أي: من أمه"(2). وإذا كان طفل الأنبوب في الصورة المسئول عنها لا يُمكن أن يَنحَطَّ عن ولد الزنى، كما بَيَّنّا آنفاً، وكان ولد الزنى تَثبُت البُنُوَّة النَّسَبِيَّة بينه وبين أمه، ويَجْرِي التَّوارث بينهما إجماعًا، وتَثبُت حرمة المُصاهرة بينه وبين مَحارِم أمِّه، كما نقلنا، يَتَّضِح عندئذ أن قول فضيلة المفتي: "لا يَرِث من أمه شيئًا لأنه ابن غير شرعي" فيه تَسَرُّع وانخطاف ذِهْن إلى حالة ولد الزنى وأبيه، فإنه لا يَثبُت نَسَبُه من أبيه، ولا تَوارث بينهما، أمّا أمه فإنَّ النَّسَب والميراث بينهما ثابتان إجماعًا، أقول هذا مع مزيد احترامي وتقديري لفضيلته، حفظه الله، وأدام نفعه، وجلَّ من لا يَسْهو.(144/4)
على أن هناك بعض حالات (غير الحالة المسئول عنها)، ومن حالات التلقيح الاصطناعي وأطفال الأنابيب لا يَثبُت فيها نَسَبٌُ بين الطفل والمرأة التي حَمَلتْه، هي الحالة التي لا تَكُون فيها البُييضة الأنثوية مأخوذة من المرأة التي زُرِعت اللَّقِيحة(3) في رَحِمها، ويَلجؤون إلى ذلك عندما تكون الزوجة غير قادرة على الحْمل لِسَبَبٍ في رَحِمها، لكن مِبْيضها سَلِيم مُنْتِج، أو تَكُون لا تُريد أنْ تَحْمِلَ تَرَفُّهًا!!، فتُؤخذ منها البُييضة، ويُؤخذ الحيوان المنوي من زوْجها فتُلَقَّح به البييضة أُنبوب الاختبار، ثم تُؤخذ اللَّقيحة في الوقت المناسب، فتُزرَع في رَحِم امرأة أخرى تَتطوَّع بحَمْلها، فينمو الجنين في رَحِمها إلى أن تَلِدَه في نهاية الحمل وِلادة طبيعية، ويُسَمُّونها: الأمَّ المستعارةَ.
وقد كنتُ استظهرْتُ في هذه الحال أنَّ نَسَبَ الوَلَد يَكُون للزوجين مَصدَر اللَّقيحة،أمّا المُتطوِّعة بالحَمْل فإنها لا تُعتَبر أمًّا نَسَبِيًّة قَطْعًا، ولا تَوارُث بينها وبين هذا الولد، ولكنها تُعتَبر كالأم الرَّضاعيَّة (ولو لم تُرْضعْه) بطريق الأولويَّة؛ لأن الجنين قد اكتسب من جسمها نموًّا أكثر مما يَكتَسب الرَّضيع من لَبَنِ المُرْضِع، هذا بقطْع النَّظَر عن الحِلِّ والحُرْمة في هذه العمليَّة، فإنها غير جائزة شرعًا بلا شك، ولكن إذا وقعتْ فعلاً، فهذا حُكْم النَّسَب والميراث فيها.
وعلى كلٍّ، هي غير الحالة التي سئل عنها وأجاب فضيلة المفتي، فتلك مُفترَض فيها بصيغة السؤال أن البُييضة أُخذت من زوجة، ثم زُرِعَت (بعد تَلقيحها المِخْبَري بماء من غير زوجها) في رَحِمها نفسها، ولذا أجاب فضيلته بأنَّ نَسَبَ الطفل فيها يَثْبُت من أُمِّه كَوَلَد الزنى (وهذا صحيح)، لكنه نفى عنه حق الإرث منها رغم ثبوت نسَبه إليها، وهنا محلُّ هذا التعقيب.(144/5)
وختامًا، وبهذه المناسبة أقول: إن الحالات التي يَجْرِي فيها التلقيح الاصطناعي ( داخليًا في المرأة نفسها، أو خارجيًّا في أُنبوب الاختبار، ثم تُنقَل وتُزرَع في رَحِم المرأة) متعددة بَلغتْ سبع حالات، تُمارَس اليوم كلُّها في العالم الأجنبيِّ في أوروبا وأمريكا على أوسع نِطاق، وإنِّي قد استعرضتُها جميعًا، وحكم الشريعة فيها، من حيث الحِلُّ والحُرمةُ، ومن حيث النَّسَبُ والميراثُ ثُبوتًا وعَدَمًا، في بحْث ضافٍ شامِل كنتُ قدَّمتُه في المجمع الفقهيِّ بمكة المكرمة قبل نحو عامين بِناء على طَلَبِ المجْمع، وهو الآن تحت النظر فيه، ولعلِّي أنشره قريبًا إن شاء الله تعالى(4)، وهو ولي التوفيق.
الهوامش
(1) مجلة الأمة التي تَصدُر في قطر ـ العدد 28 ـ السنة 3 ـ ربيع الآخر 1403هـ.
(2) ينظر المنهاج وشرحه تحفة المحتاج بحاشية الشرواني وابن قاسم ج 7 ص 299.
(3) استعملنا كلمة (اللقيحة) بمعنى البُييضة الأنثوية بعد تلقيحها المِخْبَري بالبِذرة الذَّكَريَّة (الحيوان المنوي) قبل نقْلها وزَرْعها في رَحِم المرأة. وذلك بدلاً من قولهم: (البُييضة الملقَّحة في الأنبوب).
(4) سَيُنْشر هذا البحث مع مجموعة أخرى من مباحث الشيخ ـ حفظه الله ـ في كتاب "بحوث فقهية في قضايا الساعة المعاصرة" وسَيَصدُر ـ بعَون الله تعالى ـ قريبًا.(144/6)
تفضيل الأولاد الذُّكُور على الإنَاث في التَّرِكَة
وحُكْم ذلك في الشرع والقانون(1)
أرسل المهندس عصمت كاظم عويضة من طرابلس ـ لبنان ـ إلى الأستاذ مصطفى أحمد الزرقا ـ أستاذ الشريعة الإسلامية والقانون المدني في كلية الحقوق بجامعة دمشق ـ السؤال التالي:
وبعد، أَفيدونا ـ رحمكم الله وعفا عنكم ـ مفصَّلاً وبوضوح عن الحكم الشرعي فيما يأتي:
رجل خَصَّص أولاده الذكور الثلاث بقِسم من ماله في حال حياته دون بناته، فسَجَّل عن طريق البيع لدى أمانة السجل العَقاري عَقارًا لكل منهم من ممتلكاته، وبعد إحدى عشرة سنة تُوفِّيَ، فقام بناته يُطالبنَ الإخوة الذكور بإبطال عملية البيع، أو بالأحْرى إبطال عملية التخصيص تلك، وأرادوا ضَمَّ تلك الأملاك المسجَّلة على اسم أولاده الذكور إلى التَّرِكَة، ومن ثَمَّ القِيام بالقِسمة، على الرغم من أن بعضًا من أولاده باع قسمًا مما خُصِّص به في حال حياة والده، أضِفْ إلى ذلك أنَّ الأملاك المذكورة التي سجَّلها بالبيع كما ذَكَر على اسم أولاده تَغيرتْ وتَبدلتْ أثمانُها مع الزمن، فارتفعتْ عن ذي قَبْلُ؛ لأنه تَناولتْها يدُ العمل بالخدمة، كما أنَّ قِسمًا منها لم يكُن على الجادَّة فأَصبح على الطريق العامِّ.
فما الحكم الشرعي في ذلك، وهل لبناته أنْ يُطالِبنَ بما تَقدَّم، وكيف ذلك، وإلى أي حدٍّ؟ هل لابنته أن تأخُذ نصف ما أخذ أخوها مع اعتبار قيمة العقار الشرائية يوم التخصيص أم بعدما طَرأ عليه التحسين؟ أم أنه ليس لهنَّ شيء من ذلك مطلقًا، وما أُعطِيَ وسُجِّل على اسم الذكور يَبْقَى لهم، ويُقسَّم الباقي من التركة بعد الوفاة بين الجميع حسب قانون الميراث.
أفتونا في ذلك إذا أمرتم، والله تعالى نسأل أنْ يُديمكم ذُخرًا للدين الحنيف، والسلام عليكم.(145/1)
وقد أجاب الأستاذ الزرقا عن هذا السؤال بالجواب التالي؛ الذي آثرنا نشره على الملأ لما تَضمَّنه من أحكام واعتبارات هامة قانونيَّة وشرعيَّة من وِجْهَتَيِ القَضاء والدِّيانة.
قال الأستاذ الزرقا حفظه الله تعالى:
الحكم في هذه القضية يَختَلف بين الشرع و القانون:
أ ـ ففي حكم القانون (الذي هو قضائي دنيوي محض لا دخل فيه للدِّيانة) يَستقل الأولاد الذكور بما سُجِّل على اسمهم من عَقارات أبيهم في حياته وحال صِحَّه لنفاذ تصرُّفاته، ولا يُورَث عنه بعد وفاته إلا ما سِوى ذلك من أمواله التي خَلَّفها؛ لأن ما سَجَّله في حياته لأولاده قد خَرج من نِطاق أمواله، وأصبح مِلكًا حرًّا لمن سُجِّل لهم في السجل العقاري، وليس لإخوانهم أنْ يُنازعوهم في شيء منها، سواء أكان تسجيلها للذكور على سبيل البيع ثم الإبراء عن الثمن أو الاعتراف بقَبضه، أو على سبيل الهِبَة رأسًا.
ب ـ وأمّا في حكم الشريعة الإسلامية التي نَدين بها؛ فإن لهذه الحادثة حكمين: حكمًا في القَضاء وحكمًا في الدِّيانة، أي: حكمًا يَقضي به القاضي عند الخُصومة إذا تَقاضَى إليه الطرفان في هذه الدنيا، وحكمًا يحكم به أحكم الحاكمين في الآخرة.
1 – فحكم القضاء الدنيوي شرعًا في هذه القضية هو كحكم القانون الوضعي الذي بَيَّنْتُه لكم آنفًا، فالقاضي يجب أنْ يقضي بمِلكية من نَقل الوالد إليهم من أولاده ملكية بعض عَقاراته أو كلِّها نقلاً صحيحًا في حياته وحال صحته ونَفاذ تَصرُّفاته، وبِمنْع كل مُعارَضة أو مُزاحَمة لهم من الإخْوة أو الأخوات الآخرين في هذه الحياة الدنيا؛ لأنَّ القضاء في الإسلام يَقوم على أساس الأسباب الظاهرة كما في القانون الوضعي تمامًا، ويترك ما وراء ذلك إلى حكم الدِّيانة، أي: حكم الله تعالى في الآخرة.(145/2)
2 – وفي حكم الدِّيانة الذي يُحاسِب الله تعالى عليه في الآخرة يُعتبر تفضيل الوالد في حياته بعض أولاده على بعض من ذكور وإناث في العَطِيَّة عملاً محظورًا منهيًّا عنه، يَكتَسِب به الوالد الإثم، لقوْل الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ: "ساوُوا بين أولادكم في العَطِيَّة، ولو كنت مفضِّلاً أحدًا لفضلتُ النساء على الرجال"(2)
وفي حديث النعمان بن بَشِير: "اتقوا الله واعْدلوا في أولادكم"(3)
قال ابن عابدين ـ رحمه الله ـ في بحث مراعاة شرط الواقِف من كتاب الوَقْف في حاشية "رد المحتار" عند البحث في قول الواقف (على الفريضة الشرعية) بعد إيراده الأحاديث المذكورة ـ ما نَصُّه:
"فالعدل من حقوق الأولاد في العَطَايا، والوَقْف عَطِيَّة، فيُسوَّى بين الذَّكَر والأُنْثَى، لأنهم فَسَّروا العدل في الأولاد بالتسويَة في العَطَايا حال الحياة".
ثم نقل ابن عابدين ـ رحمه الله ـ اختلاف أئمة المذهب الحنفي وفقهائه فيما إذا أَعْطَى الشخص في حياته للذَّكَر من أولاده ضِعف الأنثى، كما في حالة الميراث، هل يُعتبر هذا إخلالاً بالعدل الواجب؟، ورَأْيُ أبي حنيفة ـ رحمه الله تعالى ـ أنَّ هذا يُعتبر إخلالاً، فلا يَجوز أْن يُؤْثر أحدًا من أولاده من ذَكَر أو أنثى بفضل العَطِيَّة، إلا إذا كان التفضيل لِسبب مُسَوَّغ شرعًا كزيادة فَضْل في الدِّين عند أحدهم.(145/3)
ورأَى أنَّ من جملة الأسباب المسوِّغة للتفضيل كون من فضله عاجزًا، أو مريضًا مزمنًا، أو طالِب عِلْم يَحتاج إلى النفقة، أو صغيرًا لم يَنَلْه من رِفْد الوالد في حياته ما نال إخوته الكِبار ونحو ذلك، فيَكُون التفضيل لهذه الأسباب بمقدار ما تَقتضِيه هو الذي يُحقِّق العدل والمساواة، ويُتدارك به ما فات، وتُلبَّى به الحاجة المشروعة، أمّا على أساس إيثار الذُّكُور وحِرمان الإنَاث، أو على أساس إيثار مَن تَمِيل إليه نفْسه أكثر من غيره، أو إيثار أولاد زوجة على أولاد زوجة أخرى، أو نحو ذلك من البَواعث الانحرافيَّة، فهذا غير جائز شرعًا، وفاعِلُه آثِمٌ، وإنْ كان فِعله نافذًا قضاء في هذه الدنيا إذا كان تصرفًا مُنْجَزًا صادرًا من الوالد في حياته، وحال صحته الجسمية والعقلية.
أما إذا كان في اختلال عقليٍّ، أو في مَرَض الموت، أو كان غير مُنْجَز، بل بطريق التصرف المضاف إلى ما بعد الموت، ففي أمْر صِحَّته أو نَفاذه في القضاء تفصيل لا مَحَلَّ لذِكْره الآن، لأنه غير مسئول عنه.
وبِناءً على ذلك أُلَخِّص لكم الجواب عن جميع النقاط المسئول عنها في رسالتكم بما يلي:
إنَّ الإرْث بعد وفاة الوالد لا يَتناوَل قضاءً إلا الأموال التي لا تَزال على مِلْكه عند وَفاته، دون ما سَبَق تسجيله من العَقار لبعض أولاده.(145/4)
ولكنْ إذا رأى الإخوة الذكور الذين سَجَّل والدهم لهم في حياته عَقارات مَجانًا دون الإناث أنْ يُزيلوا الظلم الذي فَعله والدهم، فيشاطروا الإناث فيما حَرَمهن منه الوالد بهذا التسجيل، فذلك عَمَل منهم محمود شرعًا، وإن لم يكونوا مُلْزَمين به قَضاءً. فإنْ فعلوا ذلك فالعِبرة في هذه التسويَة لحالة العَقار التي كان عليها عندما سجَّله الوالد لهم، ويَتْبعها التحسينات الطارئة دون عمل أو نفقة من الولد الذي سُجِّل له العقار، كارتفاع القيمة الناشئ من تَحسُّن الأسعار أو شَقِّ بعض الطرق، أما التحسن الناشئ من عمل ذلك الولد أو نفقته، فقيمة هذا التحسن تكون لمن قام به، ولا يتبع العقار في تلك التسوية الاختيارية.
وإذا لم يَشأ الذكور هذه التسوية طَوعًا واختيارًا، فإنْ كان التسجيل السابق في حياة الوالد للذكور حاصلاً بطريق الهِبَة، أو بطريق البيع ثم الإبراء عن الثمن، فليس لأخواتهم الإنَاث أيُّ حقٍّ قضائيٍّ تجاهَهم، ولكنْ يكُون الوالد مسئولاً بحكم الدِّيانة في الآخرة عما ارتَكب من إثْم بهذا العمل؛ الذي لم يَعدل فيه بين أولاده.
وأمّا إذا كان التسجيل بطريق البيع والاعتراف من الوالد كَذِبًا بِقَبْض الثَّمَن منهم فإنَّ للإناث عندئذ بعد وفاة الوالد حقًّا قضائيًّا في تَحليف إخوتهن المُشتَرِين على أنهم قد دَفعوا الثَّمَن فعلاً إلى والدهم في حياته، أي: تَحليفهم على أنَّ الوالد ليس كاذبًا في إقراره بقبض الثَّمَن منهم، فإنْ لم يُحلَّفوا اعْتُبرَتْ ذِمَّتهم مشغولة بثمن، فيُقضَى عليهم به كمَديونِين للتَّرِكَة، ويكون الثَّمن المذكور كغيره من الأموال الباقيَة ميراثًا للجميع، والله سبحانه وتعالى أعلم.
هامش
حضارة الإسلام، العدد الأول، السنة السابعة 1386هـ/ 1966م.(145/5)
(2) قال الزَّيْلَعِيُّ في "نَصْب الراية": 4/123 (6759): رواه سعيد بن منصور من حديث ابن عباس، وفيه سعيد بن يوسف. قال ابن عبد الهادي في "التنقيح": وسعيد بن يوسف تَكَلَّم فيه أحمد وابن مَعِين والنسائي.
(3) رواه البخاري (2586)، ومسلم (1623) في الهبة، ويُنظر سنن النسائي في كتاب النُّحْل: 6/258 ـ 262 ذكر اختلاف ألفاظ الناقِلِين لخبر النعمان بن بشير في النحل.(145/6)
تَساوِي الذُّكُورِ والإنَاثِ في مِيراث
الأراضِي الأَمِيريَّةِ الزراعيَّةِ
سؤال: في حكم توزيع الأراضي الأميرية الزراعية التي لم يَصل إليها العُمران بالتساوي بين الذكور والإناث ومخالفة ذلك لنظام الإرْث الشرعي؟
مكة المكرمة ـ طارق الحاج إبراهيم
5/12/1418
الجواب:
الأراضي الأميرية الزِّراعية التي لم يَصل إليها العُمران قد أَوْجَب فيها قانون انتقالات الأموال غير المنقولة الصادر في العهد العثماني، أن يُعطَي وليُّ الأمر فيها بمقتضى هذا القانون حقًّا في التصرف بها (بدون مِلكية الرَّقبة)، ويَنتقل حق التصرف هذا إذا تُوفِّيَ المتصرِّف ذو اليَدِ إلى الأولاد وأحد الزوجين بنسبة تختلف عن الإرْث، فالأولاد يَتساوَى الذكور والإناث.
وقد خَرَّجت المشيخة الإسلامية هذا القانون تخريجًا شرعيًّا باعتبار أنَّ هذا الانتقال ليس إرْثًا؛ ليكون مخالفًا للإرث الشرعي، وإنما هو انتقال التصرف في أرض لا تزال رقبتها ملكًا للدولة، ولم تَدخل في ملك الأفراد، وطريقة انتقال هذا التصرف يَعود ترتيبها إلى وليّ الأمر (الخليفة). وقد رأى ولي الأمر بهذا القانون أنْ يَتساوى الأولاد ذكورًا وإناثًا؛ لأنهم يعملون مع آبائهم وأمهاتهم في الأراضي الزراعية بصورة متساوية. فرأي ولي الأمر في ذلك مقبولٌ شرعًا، وهو مَبنيٌّ على المصلحة العامة التي يُعود إليه تقديرها وَفقًا للقاعدة الشرعية: إنَّ التصرُّف على الرَّعيَّة مَنُوطٌ بالمصلحة، وليس تغييرًا لنظام الإرث في الأملاك الخاصة.
الرياض/ 6 من ذي الحجة / 1418هـ(146/1)
حكم الوَصِيَّة بِطَعَام حسب العُرْف (5)
سؤال من الأستاذ سليم الحسيني من عامودة في الجمهورية العربية السورية إلى فضيلة الأستاذ الشيخ مصطفى الزرقا:
يُوصِي البعض في هذا البلد بعمل طعام حسب العرف والعادة بعد الوفاة بمدة أسبوع دون أن يُعيِّن كَمِّيَّة اللحوم والسمن والحبوب وغيرها، بل يُكتفَى بذكر (حسب العرف والعادة في البلد) هل تكون الوَصِيَّةُ جائزةً أم لا؟
المأمول من سيادتكم بيان حكم الشرع الشريف في هذه المسألة، ولكم الشكر الجزيل.
الجواب: سؤالكم عن حكم الوصية بالإطعام في وَلِيمَة تُقام للفقراء بحسب العرف المعتاد دون بيان الكَمِّيَّة والنوْع، فهذه الوصية صحيحة شرعًا واجبة التنفيذ في حدود الثُّلُث؛ لأن العرف في أمثال هذه الأحوال يَقوم شرعًا مَقام النص في التحديد، ولا يَضر التفاوت اليسير، ولا سيما أنَّ الوصية مبنيَّة على التسامح الاستثنائي من القواعد العامَّة في نظر الفقهاء؛ تشجيعًا على أعمال البر.
ويُلحَظ هنا أنَّ سَعة الوليمة وضِيقها (أي: القَدْر الواجِب في هذه الوليمة) يَجب أنْ يَتفاوت بحسب عادة الناس في مثل حال الشخص المُتوفَّى من حيث الغِنَى والمَركَزُ الاجتماعيُّ، فقد يُنفَق على الوليمة المُوصَى بها بالنسبة لبعض الناس مائة ليرة سورية مثلاً، ويُنفَق عليها بالنسبة لمُتوفًّى آخر ألف أو بضعة آلاف.
هذا ما ظَهر لي في جواب السؤال، والله سبحانه وتعالى أعلم.
هامش
(5) حضارة الإسلام ـ العدد الأول ـ والله سبحانه وتعالى أعلم.(147/1)
حكم قِسْمة الحُلِيِّ لامرأةٍ على وَرَثَتِها
فضيلة الشيخ مصطفى ـ حفظه الله ـ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
تُوفِّيَت امرأةٌ وتَرَكَت ـ لابنها الذي تُقيم عنده ويُنفق عليها ـ بعض حُلِيِّها، فأَعطَى الرجلُ هذا الحليَّ لزوجته ولم يَقم بتوزيعه على الورثة (إخوته الذكور وأخواته الإناث) وزوجته تَعلم ذلك، وهي غير متأكدة من أنَّ زوجها ترك عندها هذه الحليَّ أمانة أو أعطاها إياها...ثم بعد سنوات تُوفِّيَ الرجل نفسه وبقِيَت الحليُّ عند الزوجة...هل تُوزِّعها على ورثة أمِّ زوجها (وهي تَعرفهم) أو تَستَبقيها لورثة زوجها المُتوفَّى وهو ابن المرأة صاحبة الحليِّ.
أفتونا جزاكم الله خيرًا
وليد الزعيم
3/1/1998
الجواب:
تُعتبر هذه الحلي أمانة عندها من زوجها، فتُوزِّعها على ورثة حَمَاتها ومنهم زوجُها ابن المُتوفّاة.(148/1)
حُكْم وَرَثَةٍ ذُكُورٍ خُصُّوا بالمِيراث دُونَ الإنَاثِ
فضيلة الشيخ مصطفى ـ حفظه المولى ـ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
تُوفِّيَ رجل عن ذكور وإناث، فَوَرَّث أولاده الذكور دون الإناث، وقد كان قبل أن يُتوفَّى قد وَزَّع ماله بين أولاده الذكور ولم يُعْطِ الإنَاث مُعتبرًا أنَّ ما أَنفقه عليهم بزواجهم يَكفِي، فهل يَطِيب الميراث لأولاده الذُّكور؟ وهل يَلزَمهم أنْ يُعطوا أخواتهم الإناث لِيُبرئوا ذِمَّة والدهم المُتوفَّى؟ وهل يُعطَى النصيب للإناث من الميراث بعد الوفاة فقط أم من مجمل ما خُصَّ به الذكور وحُرِم الإناث قبل وفاته وبعدها؟
أفتونا جزاكم الله خيرًا
أخوكم وليد الزعيم
6/1/1998
الجواب:
قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "سَوُّوا بين أولادكم في العَطِيَّة"(4)، وفُسِّرَت التسوية بأنها للذَّكَر مثل حَظِّ الأنثيين.
فإذا أراد الذكور إبراء ذمَّة والدهم فعليهم أن يُعطُوا أخواتهم ولو متزوجات نصف ما أعطاهم أبوهم. وما تَرَكَهُ تَرِكَةً بعد موته فهو بين الأولاد جميعًا للذَّكَر مثل حَظِّ الأنثيين.
هامش
(4) تقدم تخريجه ص: 324.(149/1)
خُلاصة أحكام ميراث الإناث
في نِظام الإرْث الإسلاميِّ
سؤال: أرجُو تقديم خلاصة مركَّزة في مِيراث الإناث، في الحالات التي تَأخُذ فيها الأنْثَى نِصْف حِصَّة الذَّكَر، والحالات التي يَتَساوَى فيها الذُّكُور والإناث في المِيراث:
الجَواب:
أولا: الحالاتُ التي تَأخُذ فيها الأنْثى نِصْف حِصَّة الذَّكَر:
1 – أبو الميت وأمه إذا اجتمعا معاً في الميراث، ولم يكن لولدهما المتوفَّى أولاد: فللأب عندئذ ثلثا التركة وللأم ثلثها.
مُلاحَظة: يُلْحَظ أنَّه في نِظام النَّفَقات يَتحمَّل الأبُ وحْدَه نَفَقة أولادهما، ولا تَشْرِكُه الأمُّ في شيء، ولو كانتْ غَنِيَّة.
2 _ أولاد الميت: إذا اجْتمَعوا ذُكُوراً وإناثًا في المِيراث، فللذَّكَر مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْن.
مُلاحَظة: يُلحَظ هنا أيضًا أنَّ البِنْت تَكُون في حَيَاتها كلِّها نَفَقَتها على الرِّجال، ففي حياة أبيها نفقتُها عليه ولو كانتْ بالِغة، بينما إخوتُها الذُّكُور لا يُكلَّف أبوهم بِنَفَقتهم بعد بُلوغِهم إذا كانوا قادرين على الكَسْب.
وبعد وَفاة أبيها تكُون نفقتها على إخوتها الذكور إذا كانوا مُوسِرِين، ثم على مَن يَلِيهم في درجة القَرَابة، ثم بعد زواجها تكُون نفقتها على عاتِق زَوْجها ولو كانت غَنِيَّة، بينما أخوها الذَّكَر مُكلَّف بنفقة نفْسه وزوجته وأولاده، أما أخته فغَيْر مُكلَّفة بشيء من نفقة نفْسها أو زوجها ولو كان فقيرًا، أو أولادها كما تَقدَّم. فإذا أخذتْ نِصْف ما يَأخُذ أخوها الذَّكَر من مِيراث أبيهما أو أمهما تكُون هي أوْفَر حَظًّا منه؛ بالنَّظَر إلى ما يُكلَّف به كلٌّ منهما في حاضِر حياته ومستقبلها.
3 – إخْوة الميِّت وأخواته الأشقّاء أو مِن أبيه إذا وُجِد منهم ذُكُور وإنَاثٌ معًا، ولم يكُونوا مَحجوبِين بغَيْرهم: يَأخُذ الذَّكَر منهم ضِعْف حِصَّة أخْته.(150/1)
مُلاحَظة: يُلحَظ هنا أيضًا أنَّ الذَّكَّر مِن الإخْوة مُكلَّف بنفقة نفْسه وزوجته وأولاده، أمّا أخته إنْ كانت فقيرة فنفقتها على زوجها ولو كانت غنية، وكذا نفقة أولادهما على الزوج أيضًا كما تَقدَّم.
4 – الزَّوْجان: يَرثُ الزَّوج مِن زوجته المُتوفّاة نِصْف مالِها إنْ لم يَكُن لها وَلَد، ورُبُع مالِها إنْ كان لها وَلَد.
وتَرِث الزوجة من زوجها رُبُع ماله إن لم يَكُن له وَلَد، و ثُمُنه فقط إنْ كان له وَلَد.
مُلاحَظة: يُلحَظ هنا ما تَقدَّم من أنَّ الزوْج في نِظام الإسلام هو الذي يَتحمَّل نفقة زوجته ولو غنية، ونفقة أولاده منها ومِن غيرها.
ثانيًا: الحالات التي يَتَساوَى فيها الذُّكُور والإنَاث في الميراث:
5 – أبو الميِّت وأمُّه: في الحالات التي لا يكُونان فيها وحدَهما الوارِثَيْن لولَدهما، بل يكُون معهما وَرَثة آخرون، يَأخُذ الأبُ سُدُس التَّرِكَة والأمُّ السُّدُس كذلك. وهذا في جميع الحالات سِوى الحالة رقم (1) السابقة.
6 – إخْوة الميت وأخواته مِن أمِّه: يَتَساوَى ذُكُورهم وإنَاثهم، فللواحد منهم ذَكَرًا كان أو أُنْثَى سُدُس التَّرِكَة، وإذا تَعدَّدوا فلهم جميعًا ثُلُث المال بالسَّوِيَّة.
7 – ذَوُو الأرحام ـ وهم جميع أقارب الميت الذين ليس لهم فُروض، أي: سِهام مُقدَّرة بصورة نسبية من التركة ـ وليسوا من العَصَبات، وذلك مثل أولاد بنت الميت، كبنات إخوته، وعمّاته، وخالاته، وأولادهما، ونحْوهم، فهؤلاء أي: ذوو الأرحام ـ يَستَوي ذُكُورهم وإنَاثهم في المِيراث حين يَصِل إليهم الدَّوْر عند عَدَم وجود مَن هو أقَرب منهم من أصحاب الفُروض المُقدَّرة، أو العَصَبات، في جميع الحالات عند جمهور فقهاء المذاهِب.(150/2)
ثالثًا: إنَّ ما تَقدَّم كلَّه هو فيما إذا اجتَمع ذكور وإناث في الميراث من جهة واحدة، كالأب والأم، وكالبنت وأخيها الابن... أما إذا وُجِد الإنَاث وحْدَهن من إحدى الجهات مع جهة أخرى، فإنَّ النتيجة تَختَلف كما يلي:
أ ـ إذا وُجِدت بنت لميت مع وَرَثة آخرين كأحد الزوجين أو الأب أو الأم أو الجَدَّة أو الجَدِّ، أو مع إخْوة الميت أو أخَواته أو أعمامه أو معهم جميعًا وسِواهم، فإنَّ البنت الواحدة للميت تَأخُذ وحْدَها نصف ماله كلِّه، وإنْ كان له بنتان فأكثر يَأخُذانِ الثُّلُثَيْن وَحْدَهن، وما تَبقَّى (وهو النصف أو الثلث) يُوزَّع بين جميع أولئك الورثة الآخرين من أبٍ وأمٍّ وأحَد الزوجين وغيْرهم.
ب ـ وإنْ لم يَكُن للميت أولاد، وكان له أخوات مع ورثة آخرين، فإنَّ أخواته يُعامَلْنَ مثل بناته، أي: للأخت الواحدة نصف ماله، وللأختين فصاعدًا ثُلُثاه، والثُّلُثُ الباقي لِجميع الورثة الآخرين مِن أحَد الزَّوْجَين أو مِن العَصَبات كالأعمام.
مُلاحَظة: لا يَخفَى أنَّ النظام القانونيَّ سلسلة متكاملة مترابِطة، وحَلَقاتها يُكمل بعضها بعضًا، فلا يَصِحُّ النظر إلى حلْقة جزئية منه دون بقيَّة حلَقاته، وإلاَّ كان نَظَرًا قاصِرًا.
والنظر إلى مِقدار ما يأخُذه كلٌّ من الأنثى والذكَر في الميراث دون نظر إلى التزامات كلٍّ منهما وتَكاليفه الشرعية، وهو حُكْم فاسِد مبنيٌّ على جهْل، أو غَرَض وسُوء قصْد.
رابعًا: أمثلة تطبيقية:
1 – إذا تُوفِّيَت امرأة عن بنت وأبٍ وأم وزَوْج: تَأخُذ البنت نصف مالها، أي: 12/24، والأب 4/24، والأم 4/24، والزوج 6/24، وزيادة الحِصَص عن مخرج التركة تُنْتَقص من الجميع بنِسبة حِصَّة كلٍّ منهم إلى المجموع.
ولو كان للمتوفَّى بنتان، فإنهما تأخُذان الثلثين 16/24، والآخرون على حالهم.(150/3)
2 – ولو كان المتوفَّى زوجًا في المسألة نفْسها، فلِزوجته الثمن 3/24، وما يزيد من مخرج التركة عن الحصص يُرَدُّ عليهم بنسبة حِصَّة كلٍّ منهم.
3 – وإذا تُوفِّيَت امرأة عن بنت وزوج وأم وخمسة إخوة ذُكور مثلاً، فلبنتها نصف مالها 12/24، ولزوجها 6/24، ولأمِّها 4/24، ولإخْوتها الخمسة جميعهم 2/24.
4 – وإنْ تُوفِّيَت امرأة عن زوجها وأمها وأخَوين شَقيقين، وأخَوين من أمها، وأربع أخَوات من أمها أيضًا، يأخُذ الزوج النصف 12/24، والأم 4/24، والإخوة الثمانية جميعًا ذكورًا وإناثًا 8/24 بالتساوي لكلِّ واحِدٍ أو واحِدة منهم 1/24.
5 – إذا تُوفِّيَ شخص عن ثلاثة أبناء بنات، وعن ثلاث بنات بنت، وليس له سواهم من الأقارب، كان لكل واحد من أسْباطه (أولاد بنته) المذكُورِين، ذَكَرًا أو أُنْثى 4/24 في رأي معظم فقهاء المذاهِب.
6 – ومثل ذلك لو تُوفِّيَ مثلاً عن أربع بنات عمة، وعن أربعة أبناء عمات، كان لكل واحد من الثمانية ذكرًا كان أو أنثى الثمن 3/24.(150/4)
سؤال عن كتابة صورة صَكِّ وَصِيَّة
طُلب من فضيلة الأستاذ مصطفى الزرقا كتابة (صَكّ وصية) لمن أراد الوصية، فكَتَب للمُستفتِي الصيغة الآتية:
إنني المُوقِّع (فلان بن فلان الفلاني) من أهالي.... المقيم في المنطقة (الفلانية) منها أُقرِّرُ وأنا بكامل أَهْلِيَّتِي ورُشْدي بِمَحْضَر مِن شُهوده المُبيَّنة أسماؤهم أدناه (فلان بن فلان الفلاني)(6) المقيم في .... بالمنطقة (الفلانية) إنني نظرًا لما وَرَد عن رسول الله نبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الحَضِّ على تعجيل الوصية، وامتثالاً لتوجيهه إلى الخير الذي أَبتغِي به الزُّلْفَى عند الله تعالى، قد أَوصَيت بالآتي بيانه من أموالي لِيُنفَقَ في الوجوه وبالصورة المُبيَّنة فيما يلي:
أولاً: مقدار المال المُوصَى به ونوْعه:
1 – ثلث (أو ربع) أموالي المنقولة التي تكون في مِلكي عند وفاتي من أعيان وكتب وأثاث ونقود وأسهم شركات وديون إن كانت.
2 – العقار (الفلاني)(7) الواقع في (المكان الفلاني من سوق أو شارع أو منطقة سكنية" والمؤلَّف من (كذا كذا)، والمُسجَّل باسمي في السجلات والقيود العَقارية.
(والعقار الفلاني والفلاني) إن كانت العقارات متعددة(8) .
ثانيًا: وجوه الصَّرْف وطريقته:(151/1)
1 – فأما المنقولات فتُحصَى بعد وَفاتي، وتُقَوَّم قِيمتها بمعرفة أهل الخبرة، ويُؤخَذ من تَرِكَتي نقود تُعادِل ثلث (أو ربع) قيمتها فتُنفَق في وجوه الخير والبر على الفقراء المحتاجين لا المتسوِّلين محترفي التسول (ويُنوَى بما يُعطَى إليهم أولاً قضاء ما قد يكون مما في ذمتي من بقايا زكاة مَنْسِيِّة، وما زاد فصدقة عادية)، أو في سبيل مشروعات وإنشاءات خيرية أو دعم حركة الجهاد والعمل الفدائي المتفِق مع الخط الإسلامي الصحيح في سبيل إنقاذ فلسطين، ودفْع الأعداء، أو في مصالح مَيْتَم يُؤوي أيتام المسلمين ويُؤدِّبهم ويُعلِّمهم بعض الصنائع المفيدة، أو أيّ وجه من وجوه الخير الأخرى التي فيها خدمة لمصلحة إسلامية.
فإنْ لم يكن في تركتي بعد وفاتي نقود تَفِي بقيمة ثلث المنقولات المذكورة (أو ربعها) يباع منها ما يَفِي ثَمَنُه بذلك، إلا أنْ يَشاء الورثة تَفادِيَ بيعها بدفع القيمة المذكورة من أموالهم.
2 – وأما العقار (أو العقارات) المذكورة المعينة في هذا الصَّكِّ، فإنها تَبْقَى صدقة جارية كالوقْف تُؤجَّر ويُنفَق من غَلَّتها على صِيانتها أولاً، ثم يُنفَق فاضِل رِيعها في الوجوه المبيَّنة آنفًا.
ثالثًا: الوصاية:
وقد أَقمتُ على تنفيذ وَصِيتي هذه (فلانًا الفلاني) وَصِيًّا مختارًا من قِبَلِي لِيَقُوم بتنفيذها وَفقًا لما رَسمته أعلاه، ِ بتقوى الله تعالى في ذلك في السرِّ والعَلَن، فإنْ لم يَقبَل أو لم يكن موجودًا حينئذ، فالأمر إلى القاضي الشرعيِّ المختصِّ يَختار وَصِيًّا مُزَكًّى من أهل التقوى والأمانة، فيُنَصِّبه لهذه الغاية، ويُقَرِّر له أجرًا بالمعروف.
والله سبحانه أرجو أن يجعلها خالصة لوجهه الكريم، هو شهيد على كلٍّ بعمله، وكَفَى بالله حسيبًا.
الهوامش
(6) تبيين صفة الشاهد، ككونه تاجرًا مثلاً، أو موظفًا في الوظيفة الفلانية.
(7) يُبيِّن نوع العقار: أنه دار أو معمل أو محل تِجاري.(151/2)
(8) إذا لم يكن العقار مسجَّلاً في سجل عقاري رسمي يُحدده ويُعيِّن موقعه ومشتملاته، ويجب عندئذ بيان حدوده الأربعة في هذا الصَّكِّ، إلا إذا كان مشهورًا بين الناس باسم معين يُميِّزه عن كل ما سواه، فيَكْفِي عندئذ ذكر اسمه المشهور به.(151/3)
مِن قضَايا مِيراث ذَوِي الأرْحَام
وَرَدَ من السيد محمد أحمد أبي راس الموظف في المحكمة الشرعية بمدينة الزرقا في المملكة الأردنية الهاشمية إلى الأستاذ مصطفى الزرقا استفتاء حول قضية من قضايا ميراث ذوي الأرحام، خلاصتها: أنَّ شخصًا تُوفِّيَ عن زوجة، وبنت ابن عم الأب (لأبَوَيْن) وبنت عمة لأبوين، وخالة لأبوين، وخال لأبويْن وخالة لأب.
وقد اختَلفتِ الآراء في كيفيَّة الحل الصحيح فيها لتوزيع الميراث كما يلي:
الزوجة، بنت ابن عم الأب، بنت العمة، الخال لأبوين، الخالة لأبوين الخالة لأب
الحل(1) 3 - 6 2 1 -
X الحل(2) 1 - - 2 2 -
ويرجو السائل من الأستاذ الزرقا بيان أيُّ الحلَّين هو الصحيح، بحسب قاعدة ميراث ذوي الأرحام في المذهب الحنفي، وقد رأينا أن ننشر جواب الأستاذ الزرقا تعميمًا للفائدة ليطَّلِع عليها ذَوو الاختصاص.
قال ـ حفظه الله ـ في جوابه بعد المقدمة:
من الواضح أن الموجودين في هذه المسألة من ذوي الأرحام جميعهم من الصنف الرابع، وهو فروع الأجداد والجدات، وأنَّ الحل الصحيح ـ فيما أرى ـ هو الحل الثاني المشار إليه في جانبه بهذه الإشارة (×) على أساس حَجْب بنت العمة لأنَّ ابنة العمة أبعد درجة من الخال والخالة لأبوين. فمِن المقرَّر في قاعدة ميراث ذوي الأرحام بوجه عام، وفي الصنف الرابع منهم بوجه خاص، وهو أن الأقرب درجة يَحجُب الأبعد وإن اختلف الحَيِّز "أي: الجِهَة" وإنما الذي لا تأثير له في الصنف الرابع عند اختلاف الحَيِّز هو قوَّة القَرابة "أي: كوْن الشخص لأبويْن أو لأبٍ" فالعمة لأبويْن لا تَحجُب الخالة لأبٍ وكذا العكس، أمّا اختلاف الدرجة فيُؤثِّر في الحَجْب، وعليه تكون ابنة العمة محجُوبة بالخال والخالة.(152/1)
فقد جاء في شرح السراجية للسيد الجرجاني، في بحث أولاد الصنف الرابع من ذوي الأرحام ما يلي:
"وكذلك أولاد العمة أولى من أولاد أولاد الخالة، وبالعكس، لوجود الأقربيَّة مع اختلاف الجهة" أ.هـ.
ولا يَخفَى أنه إذا كان أولاد العمة يَحجبون أولادَ أولادِ الخالة، وكذا أولاد الخالة يَحجبون أولاد أولادِ العمَّة رغم اختلاف الحَيِّز "الجهة"، فإنَّ بنت العمة تَحجبها الخالة نفْسها بدلالة الأوْلويَّة. وهذا ما يُفيده أيضًا كلام صاحب "الدر المختار" في باب توْرِيث ذوي الأرحام، فقد جاء فيه مما نَصُّه:
"ويَحجب أقربُهم الأبعدَ كترتيب العَصَبات، فهم أربعة أصناف" الخ... وهذا حكم عامٌّ في الأصناف الأربعة جميعًا كما لا يَخفَى.
فالنتيجة: هي أنَّ أصْل المسألة يُعتبر أربعة: للزوجة منها واحد أي الربُع، وللخال والخالة لأبوين ثلاثة بينهم: للذكر مثل حظ الأنثَييْن، ولا شيء للباقِين خلافًا للرأي الأول؛ الذي يُعطِي بنت العمة ستة من اثني عشر، ويُعطِي الخال والخالة لأبويْن ثلاثة (على أساس أنَّ لقرابة الأبِ الثلثين ولقرابة الأم الثُّلُث عند اختلاف الحيز) لمَا بيَّنا من أنَّه لا عِبرة لاختلاف الحيز عند تَفاوتِ الدرجة، فإنَّ الأقرب درجة من أي جهة كان يَحجب الأبعد في ميراث ذوي الأرحام بوجه عام، والله سبحانه وتعالى أعلم.(152/2)
هل يَسقُطُ حقُّ الإرْثِ بِعَدم المُطالبة
مَسألة في الإرْث وحق الحَفِيدة بحِصَّتها الإرثية مِن جَدِّها
فضيلة الشيخ مصطفى الزرقا حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
سؤالي الشرعي كالتالي راجيًا أنْ تُفتِيَنا به، وجزاكم الله خيرًا:
دُكّانٌ مُستأجَرة بعقد بين شريكين: الشريك الأول له النصف وهو أبٌ له ذَكَر وأنْثَى، الشريك الثاني له نصف الدُّكّان المذكورة كذلك.
سؤالنا عن الشريك الأول حيث تُوفِّيَ وَلَده قبْلَه، وللولد المتوفَّى ثلاث بنات وذَكَرٌ، وبعد حين تُوفِّيَ الشريك الأول وهو الجَدُّ.
استُبْدَل الشريك الأول المُتوفَّى بـ ابن ابنه في شراكة الدكّان.
كان إرْث الجد للبنت النصف ولأولاد الابن النصف.
دُفع للوريثة البنت نصف الأموال الموجودة في الدكان باستثناء الخُلُوِّ حيث قالت (البنت الوريثة التي ترث نصفها إرث والدها) قالت في نفسها: ما دُمت على قيد الحياة فلن أُطالِب ابن أخي بحِصَّتي من خُلُوِّ الدكان.
تُوفِّيَ ابن الأخِ قبل عمته الوريثة.
هنا طالبت العمة الوريثة بحِصَّتها من خُلُوِّ الدكان بعد وفاة ابن أخيها.
سؤالنا: هل يَحق لها أنْ تَقبض من إرْثها في الدكان من خُلُوِّها أم لا يَحق. وجزاكم الله عنا كل خير.
عمان 7/4/1992
أخي الكريم العزيز السيد أبا محمد، حفظك الله تعالى:
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
تَلقيتُ الآن رسالتك، وفيها السؤال المستعجل عن مسألة الإرث وحقِّ الحَفيدة، أو عَدَم حقِّها؛ في أن تُطالِب بحصتها الإرثية من جدها أبي أبيها في قيمة خُلُوِّ الدكان الذي كان جدها شريكًا فيه، بعد أن مضت فترة زمنية دون أن تُطالِب بها حين حلَّ ابن أخيها مَحَلَّ جدها الشريك الأصلي في الدكان المذكور بعد وفاته، (أي: وفاة الجد).
وجوابًا على ذلك أقول، أيها الأخ الكريم:(153/1)
إنَّ البنت تَستحق أنْ تُطالِب متى شاءت بحِصَّتها الإرثية من قيمة الخُلو المذكور الموروث عن أبيها؛ لأنَّ حق الإرث لا يَسقُط بالإسقاط الصريح، فمن باب الأولوية أنْ لا يَسقط بعدم المطالبة.
على أنه إذا حَصَل تَقادُمٌ (مرور الزمان) بعد وفاة المورث (مدة: 15سنة) دون مطالبة رسمية (مع تَمكُّن صاحب الحق من المطالبة والادعاء أمام القضاء) فإن الدعوى القضائية به حينئذ يَمتنع على المحكمة سماعُها، ويُصبح الحقُّ المتقادِم قائمًا في الذمِّة فقط غير محميٍّ بالقضاء، أي: لا تُسمع به الدعوى أمام القاضي في هذه الدنيا الفانية، لِيَرجع من شاء الدليل والتوسع إلى شرح والدي ـ رحمه الله ـ على "القواعد الفقهية" التي صُدِّرت بها مجلة الأحكام العدْلية، تحت شرح القاعدة / 50/ (المادة / 51 من المجلة) التي تَبحث فيما يَسقط من الحقوق بالإسقاط وما لا يَسقط، والضابط الذي استَخْرَجه والدي ـ رحمه الله ـ في ذلك، فَيَرى في ص / 267/ من الطبعة الثانية، قوله رحمه الله: "لو أَسقَط الوارث حقَّه من الإرْث، أو أَسقَط المستحِقُّ في الوقْف حقه من بعد حصول الغلة في يَدِ مُتَولِّي الوقْف لا يَسقط".
وبعد كتابة هذا الجواب أرسل السائل إلى الشيخ الزرقا ـ حفظه الله ـ استفسارًا آخر، جاء فيه:
فضيلة الأستاذ مصطفى الزرقا حفظه الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
أَرسلتُ لكم سؤالاً بخصوص موضوع إرث العمَّة من أبيها، وأجبتم على سؤالي مشكورين، بَقِيَ شِقٌّ آخر من السؤال وهو:
الوريث ابن الابن لما اسْتلَم الدكّان قال: مَن له حق عندي فليَتفضَّلِ الآن وبعدها ليس له حق عندي.
سؤال بالنسبة للحفيدة حيث لم تَرُدَّ على كلامه بأي جواب، وانْطَوى الحديث.
هل هذا الكلام يَحجب عنها الإرث من خُلُوِّ الدكان أم يَبْقَى حقُّها ثابتًا؟
وجزاكم الله عنا كل خير
عمان 13/4/1993
جوابًا على سؤالكم الجديد عن الشق الآخر من المسألة التي سألتموني عنها أقول لكم:(153/2)
ليس لهذا الإعلان من ابن الابن عندما تَسلَّم الدُّكّان وقال: "من له حق عندي فلْيَطلُبْه الآن، وبعد ذلك لا يكون لأحد عندي حق" ـ ليس لهذا الإعلان أيُّ تأثير على حقوق ذَوِي الحقوق الثابتة، بل يَبْقَى لهم حقُّ المطالبة بحقوقهم، ما لم يَمنع منها مانع شرعيٌّ أو قانوني كمرور الزمان.
الرياض صباح الأربعاء 22/10/1413هـ
14/4/1993م(153/3)
حكم الطّلاق المعلَّق على شرط(1)
خلافٌ وقع بين زوج وأهل زوجته، فقال الزّوج لزوجته: "إذا أخْتك ولدت ودخلت بيتَها، أو قابلت ضيوفها تكوني طالقة منِّي بالثلاث" ويقول الزوج في رسالته الموجَّهة للأستاذ الزرقا إنه لم يكن ينْوي الطلاق فعلاً؛ لأنه على حُبٍّ كبير لزوجته وله منها طفْل، ثم ولدت أختها، ودخلت زوجته بيت أختها، وقابلت ضيوفَها، وقد قيل له: إن طلاقه قد وقع، وإنه يُعتبر طلْقة واحدة، وقيل له خلاف ذلك، وهو يرجو بيان الحكم الشرعي في هذا الأمر؟.
وقد تفضَّل الأستاذ مصطفى الزرقا بالإجابة عن الحُكم الشرعي في هذه الواقعة، نشرها تعميمًا للفائدة، وتعليمًا للناس؛ نظرًا لكثْرة وقوع نظير ذلك منهم، وإلى القُرَّاء نصُّ جواب الأستاذ الزرقا حفظه الله فيما يلي:
ابن الأخ الكريم السيد رياض المحترم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
وبعد، فإذا كانت نيَّتُك عند تعليق الطلاق هي كما جاء في كتابك هذا (أي: أنك عندما علَّقت طلاق زوجتك على دخولها بيت أختها، أو مقابلتها لضيوفها بعد الولادة، لم تكن تقصِد أن يقع الطلاق فعلاً إذا خالفتْك ودخلَت أو قابلَت، وإنّما كنتَ تريد مجردَ زجْرها عن الدخول، ومنْعها منه، بحيث لو دخلت خلافًا لأمرك، فإنك حريص على بقائها في عصمتك، ولا ترغب تطْليقها والخلاص منها) أقول إذا كانت نيَّتك هكذا عندما تلفَّظت بتعليق الطلاق كما شرحت في كتابك هذا، فإن هذا التعليق للطلاق غير صحيح، أي: أن الطَّلاق لا يتعلَّق حينئذ بالشَّرط المعلَّق عليه، وهو دخولها بيت أختها بمناسبة الولادة. ومعنى عدم صحة التعليق المذكور: أنه لو وقع الشرط المعلَّق علَيْه، أي: دخلت بيت أختها، أو قابلت ضيوفها، لا يقع عليها الطلاق.(154/1)
وأما إذا كانت نيَّتك خلاف ما بيَّنت في رسالتك هذه (أي: كنت تريد عند التعليق إذا خالفتْك أن تطلِّق فعلاً؛ لأنك غير مستعدٍّ للبقاء معها عندئذ) فإن التعليق يصح، وإذا وقع الشرط فدخلتْ بيت أختها تُطلَّق، ولكنَّ الطَّلاق الذي يقع عندئذ هو طلْقة واحدة لا ثلاث، وإن كنت أنت قد علَّقت الثلاث. فإذا كان واقعًا قبْلها طلاقٌ بصورة صحيحة، أُضيفت هذه الطلْقة الجديدة إليه من حيث العدد، كما أنها إذا وقع شيء بعدها بصورة صحيحة يُضاف إليها.
هذا حكْم حادثتك بمُقتضى نصوص قانون الأحوال الشخصية، وهو القانون الشرعي النافذ الأحكام في بلادنا السورية.
وهو خلاف ما عليه الحكم في الاجتهاد الحنفي الذي يرى في حادثتك هذه صحة التعليق ووقوع الثلاث، ومِثْله بقية المذاهب الأربعة، ولكن القانون المَذْكور في هذه الأحكام لم يتقيَّد بالمذْهب الحنفي ولا ببقية المذاهب الأربعة، وإنّما استمد بعض أحكامه الهامة التي ابتُغى بها الأصلح لشئون الأسرة من اجتهادات أخرى معتبَرة، وعليه عمل المحاكم الشرعية لديْنا. وإذا أفتاك أحد بخلاف ما بينته لك، فإنّما يُفتيك بحُكم مَذْهبه لا بحكم القانون الذي هو شرعي واجب الاعتبار.
وختامًا أنصحك بأن لا تَجعل الطلاق مُضْغة في فمك، وإذا كنت تُريد التوكيد، وحثَّ نفسك أو زوجك على أمْر أو المنْع منه، فاحلِف يمينًا بالله تعالى، فإن الطَّلاق لم يُشْرع في شريعة الإسلام لتوكيد الأخبار، أو للحثِّ والمنْع.
والسلام عليكم ورحمة الله.
دمشق في غرة رجب 1383هـ
هامش
(1) حضارة الإسلام ـ السنة الرابعة ـ العدد الخامس ـ 1383هـ.(154/2)
حكْم الإِيلاء وتعليق الطلاق الثلاث والظِّهار(2)
ورَدَ إلى الأستاذ مصطفى الزرقا استفْتاء في حادثة طلاق، وأجاب عنه مشكورًا، ونظرًا إلى أن الحادثة فيها تركيب وتعقيد، وبعض جوانبها مما يقع فيها كثير من المسلمين ـ ولا حول ولا قوة إلا بالله ـ فقد رأيْنا نَشْر الجواب مع خلاصة السؤال لتكون الفائدة أشمل في مثل هذا الأمر من أمور الحلال والحرام.
أخي الكريم...حفظه الله تعالى
السلام عليكم:
وبعد، فقد تلقيت رسالتك المؤرَّخة في 3/4/1968 وفيها استفتاؤك الذي خلاصته أنك في 14/1/1968م قلت لزوجتك في حالة غضب ومشاجرة وطلبِها منك الطَّلاق: "عليَّ الطلاق بالثلاث أن لا أقربك إلا بعد مرور سنة، وأن تكوني في هذه المدة كأختي"، ثم اعتذَرَتْ منك، واعترفَت بخطئها، فتناسيْتُما اليمين، وعاشرتَها في الشهْر الثاني من الحَلِف مرَّتين الخ...
وجوابي لك أيها الأخ هو ما يلي:
1 – أن كلامك يشتمل على ثلاثة أمور: إيلاء، وتعليق الطلاق الثلاث، وظِهار.
2 – لو استمررْت في عدم قُربان زوجتك مدة أربعة أشهر؛ لطُلِّقت طلْقة بمقتضى ما في كلامك من معنى الإيلاء، ولكن مباشرتك إياها بعد شهر انحلَّ بها الإيلاء.
3 – ولكن هذه المعاشرة في الوقت نفسِه فتحت بابًا للطلاق المعلَّق عليها.
وأخفُّ الأحكام التي يمكن إفتاؤك بها: هو أنك عندما خاطبتها، إذا كنت تريدها أن تُطلَّق فعلاً إذا قربتها خلال السنة، فإنها عندئذ بمعاشرتك إياها تُطلَّق طلْقة واحدة رجعية.
وأما إذا كانت غايتك من هذا التعبير، مجرد منْع نفسك عنها، ولا تريد وقوع الطلاق فعلاً إذا باشرتها، فلا يقع بمباشرتها عليك طلاق.
وفي الحالة الأولى (أي: إذا كنت تُريدها أن تُطلَّق فعْلاً) إذا باشرتها، فإنها تكون قد طُلقت واحدة رجعية، وأن معاشرتك الثانية لها في الشهر نفسه تُعتبر مراجعة لها، وتستمر زوجيَّتها معك، ولكن حُسبت عليك طلْقة من عدد الثلاث الذي هو نهاية ما تملكه من طلْقات عليها.(155/1)
4 – وأما قولك: (وأن تكوني في هذه المدة كأختي) فهذا ظهار، وحكمه: أنك لا يحل لك مباشرتها خلال السنة المذكورة إلا إذا قدمت قبل ذلك كفارة الظِّهار، وهي إعتاق رقبة، فإن لم تجد (ولا يوجد اليوم أرقَّاء شرعيُّون يُباعون ويُشْرون ويُعتقون) فعليك صيام شهرين متتابعين ليس فيهما رمضان، لو أَفطرت يومًا خلالها فعليْك استئناف الصوم من جديد، فإن كنت عاجزًا عن الصوم، يُقبل منْك إطعامُ ستِّين مسْكينًا لكلٍّ منهم طعام يوم كامل، وبما أنك قد باشرْتها فعلاً قبل التكفير عن الظهار، فعليك التوبة من ذلك والكفارة، ثم تباشرها بعد ذلك متى شئت، وإذا صبرت حتى تنْقضي السنة ينحلُّ الظِّهار الموْقوت بانْقضاء مدَّته، وتستطيع عندئذ مباشرتها دون كفارة.
والله سبحانه أعلم.
الهوامش
(2) حضارة الإسلام، العدد الأول، السنة التاسعة 1388هـ 1968م.(155/2)