وسئل عمن لا يصبر على الإضافة يحرم عليه التصدق بما يحتاجه لنفسه وكذا يحرم عليه التصدق بما يحتاج إليه وحينئذ فكيف يعرف من يصبر ومن لا يصبر ولو نذر أو تصدق بجميع ماله على شخص ثم ادعى أنه لا يصبر يقبل بيمينه أو بشاهدين أو لا يقبل مطلقاً؟. فأجاب بقوله: نذر التصدق بجميع المال وعليه دين أو له عيال حرام فلا ينعقد نذره وكذا المكروه لذاته لا لعارض كصوم يوم الجمعة فيصح نذره كما صرحوا به في باب النذر خلافاً لمن وهم فيه، أما لو نذر بما فضل عن قضاء دينه وكفاية عياله وعن حاجة نفسه أو كان يصبر على الإضافة فيصح نذره، والمراد بالكفاية ما يكفي لنفقة يوم وليلة وكسوة فصل ولا يقبل دعوى ناذر أو متصدق عدم صبره بل يصدق المنذور له بيمينه أخذاً بقاعدة تصديق مدعي الصحة غالباً والظاهر أنه لا تقبل بينته على أنه لا يصبر لأن ذلك لا يعرف إلا منه فلا اطلاع للبينة عليه بخلاف الإعسار لأنه يتعلق بالظاهر فيمكن علمه بخلاف الصبر وعدمه فإنه متعلق بالقلب وهو لا يمكن الاطلاع عليه وبفرض أن لنا اطلاعاً عليه بقرائن أحواله كالإعسار فهو كما لو باع شيئاً ثم ادعى أنه غير ملكه أو وقف لا تقبل دعواه على تفصيل فيه، وبهذا اندفع قول بعضهم لو أقام شاهدين أو شاهداً وحلف معه أنه لا يصبر على الإضافة عمل بذلك وانتزع المال من المنذور له خصوصاً إذا ادعى الجهل بعدم الصحة، لأن المقصود المال فيقبل منه ويعتمد الشاهد في الإضافة قرائن الأحوال فإنه إذا كان له صديق ملازم لا يخفى عليه صبره وعدم صبره على المشقة فيشهد حينئذ على ما ظهر له من عدم صبره على الإضافة حيث عرف منه ذلك اهـ وكله مردود بما قدمته فتأمله فإنه مهم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 267(6/280)
وسئل إذا نذر شخص نذراً للنبي هل يملكه ويرصد لمصالح حجرته أو لمصالح مسجده أو لأهله فإذا صرف فهل يصرف لبني الحسنين أو لبني هاشم وبني المطلب أو لخدام حجرته أو لخدام مسجده أو لسكان بلده أم لا؟ وإذا أخذ نذره أحد هؤلاء المذكورين جاز له ذلك والتصرف فيه أم لا؟. فأجاب الذي يؤخذ من مجموع كلام الرافعي و ابن عبد السلام و الأذرعي و الزركشي وغيرهم أن من نذر شيئاً للنبي فإن قصد صرفه في قربة تتعلق بمسجده أو بجيرانه أو بغيرهما صح نذره وعمل فيه بقصده وإن لم يقصد شيئاً فإن اطرد العرف بصرف ما ينذر له لجهة مخصوصة وعلم الناذر بذلك العرف وقت النذر صح النذر أيضاً ووجب صرفه لتلك الجهة المذكورة وإن لم يطرد بشيء أو جهله الناذر ولا قصد له كما تقرر فالذي يتجه أنه لا يصح النذر لأنه لم يقصد به قربة ولم يوجد عرف ينزل عليه وإذا خرج النذر عن هذين ولم يكن لفظه موضوعاً للقربة كان باطلاً.(6/281)
وسئل عن النذر لولي من الأولياء والوقف عليه هل يصح أو لا؟. فأجاب بقوله: إن النذر أو الوقف لمشاهد الأولياء والعلماء صحيح إن نوى الناذر أو الواقف أهل ذلك المحل أو صرفه في عمارته أو مصالحه أو غير ذلك من وجوه القرب، وكذا إن لم يقصد شيئاً ويصرف في هذه الحالة لما ذكر من مصالح ذلك المحل بخلاف ما لو قصد بذلك التقرب إلى من دفن هناك أو ينسب إليه ذلك المحل، فإن النذر حينئذ لا ينعقد، وقد ذكر الأذرعي وغيره في نذر نحو الشمع ووقفه على ذلك ما يفيد ما ذكرته، وحاصله أن من نذر أو وقف ما يشتري من غلته الإسراج للمسجد أو غيره صح إن كان قد يدخله ولو على نذور من ينتفع به من مصل أو نائم وإلا لم يصح، وكذا إذا قصد بالنذر أو الموقوف من ذلك على المشاهد التنوير على من يسكن البقعة أو يرد إليها، لأن هذا نوع قربة أما إذا قصد به الإيقاد على القبر ولو مع قصد التنوير فلا يصح، وكذا إذا قصد به وهو الغالب من العامة تعظيم البقعة أو القبر أو التقرب إلى صاحبه فلا ينعقد لأنهم يعتقدون أن لهذه الأماكن خصوصيات ويرون أن النذر لها مما يندفع به البلاء.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 267(6/282)
باب القضاء
وسئل بلد بادية وصاحبها فيه الخير ويحب إقامة الشرع وليس له معاند فهل إذا نصب عليهم أحداً يقيم لهم أحكام الشريعة ينفذ حكمه ويتولى العقود وحلها أو لا فيزوّج من وليها تارك الصلاة ويتولى ما يجوز للقاضي المنصوب من جهة الإمام؟. فأجاب إذا كانت البلد المذكورة ليست تحت ولاية السلطان ولا أحد من نوابه وكان هذا الرجل المذكور نافذ الأمر فيها وليس عليه يد ولا حكم لأحد كانت جميع أمورها متعلقة به فيجب عليه أن يقيم الشريعة المطهرة بها بأن يولي عليهم رجلاً عدلاً ذا معرفة ومروءة وعفة وصيانة وفقه نفس فإذا وجدت هذه الشروط أو معظمها في رجل وولاه عليهم القضاء والحكم بينهم نفذت ولايته وجميع أحكامه التي تنفذ من القاضي من جهة السلطان فيسمع الدعوى ويحكم ويزوّج من لا ولي لها أو لها ولي فاسق بترك الصلاة أو بغيره، ويتولى مال الأيتام والسفهاء ويقيم عليهم من يحفظه ويتصرف فيه بالغبطة والمصلحة ويفعل جميع ما تفعله القضاة، والله سبحانه وتعالى أعلم.(6/283)
وسئل رحمه الله تبارك وتعالى عن قول المنهاج: والأظهر أنه يقضي بعلمه إلا في حدود الله سبحانه وتعالى. قال الزين بن الحسين في تكملته يعني وأظهر القولين أن القاضي يقضي بعلمه كما إذا علم صدق المدعي لأنه يقضي بشاهدين وهو يفيد الظن فالقضاء بالعلم أولى ومنهم من قطع به. وعن الربيع كان الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ لا يبوح به لقضاة السوء وعلى هذا يقضي بعلمه بالتواتر من باب أولى إلى آخر كلام ابن الحسين الذي يحيط علمكم به فهل يا شيخ الإسلام بل إمام أئمة الأنام المحكم كالحاكم وإن قلتم لا فما الفرق؟ وإن قلتم نعم فما هو العلم الذي يحكم به الحاكم أو المحكم بينوا لنا ذلك فإنا رأينا كلاماً للأئمة لم نفهم الراجح منه؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بأن الذي أفهمه كلام الأذرعي في توسطه أن المحكم لا يقضي بعلمه، وعبارته هل للمحكم أن يحكم بعلمه بناء على المرجح أم لا لانحطاط رتبته لم أر فيه شيئاً فيحتمل أن يجري فيه خلاف مرتب أولى بالمنع، ويحتمل أن يقطع بالمنع انتهت وظاهرها بل صريحها ما تقرر من أنه لا يقضي بعلمه ومن ثم جزم بذلك بعض المتأخرين ولم يعزه للأذرعي كشيخنا في شرح الروض وغيره كصاحب العباب وعليه فالفرق بين المحكم والحاكم ما أشار إليه
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289(6/284)
الأذرعي بقوله لانحطاط رتبته ووجهه أن الحكم المستند إلى القضاء أقوى من الحكم المستند إلى التحكيم فالقاضي أعلى رتبة من المحكم فلا يلزم من إلحاقه به في جواز الحكم المستند إلى السبب المتفق عليه من البينة أو الإقرار إلحاقه به في جواز الحكم المستند إلى السبب المختلف فيه وهو علمه وإن كانت العلة المجوّزة للقاضي الحكم بعلمه من أنه إذا جاز استناد حكمه إلى البينة التي لا تفيد إلا الظن فلأن يجوز استناد حكمه إلى العلم الذي يفيد اليقين من باب أولى جارية بعينها في المحكم على أن هذه العلة فيها نظر، إذ اليقين في القاضي ليس بشرط وإنما الشرط غلبة الظن كما صرح به الشيخان حيث قالا المراد بالعلم الظن المؤكد بقرينة تمثيلهم للقضاء به بما إذا ادعى عليه ما لا وقد رآه القاضي أقرضه ذلك أو سمع المدعي عليه أقر بذلك، إذ رؤية الإقراض وسماع الإقرار لا يفيد العلم بثبوت المحكوم به وقت القضاء، فقول الإمام إنما يقضي بالعلم فيما يستيقنه اختيار له مخالف للمذهب وبما تقرر علم أن للقاضي الحكم بعلمه المستفاد من الخبر المتواتر بالأولى لأنه يفيد العلم القطعي وبذلك صرح الإمام واعتمده ابن الرفعة وكذا ابن أبي الدم قال بعد نقله عن النهاية وهو في غاية الحسن ووجه علو مرتبة القاضي على المحكم أن القاضي له الحبس والترسيم واستيفاء ما يحكم به من العقوبات وحد القذف والمحكم ليس له شيء من ذلك لأن ذلك يخرم أبهة الولاة ومن ثم لم يجز له أن يهيىء حبساً لأنه حينئذ يكون مضاهياً للقاضي وهو ممنوع من مضاهاته، وأيضاً فلا يجوز أن يحكم في حدود الله سبحانه وتعالى وتعازيره، وألحق بها الماوردي الولايات على الأيتام ولا يجوز تحكيمه إلا أن تأهل للقضاء بالنسبة لجميع الوقائع لا لتلك الواقعة فقط، فإن لم يتأهل لذلك لم يجز تحكيمه مع وجود القاضي، فإن قلت لنا صورة ينفذ فيها قضاء المحكم دون القاضي فيكون أقوى منه على العكس مما مر وهي أنه يجوز له الحكم لنحو(6/285)
ولده وعلى عدوّه على ما رجحه الزركشي لرضاء المحكوم عليه بذلك، قلت ما رجحه فيه نظر، ومن ثم جزم غيره بامتناع حكمه في الصورتين. قال شيخنا في شرح الروض: وهو القياس لأنه لا يزيد على القاضي وعلى تسليم ما ذكره الزركشي فهو لا يقتضي علو مرتبة المحكم على القاضي لأن ذلك إنما جاز له لأن المحكوم عليه بسبيل من عزل المحكم قبل تمام الحكم فرضاه بحكمه إلى فراغه يقتضي أنه وثق منه بأنه لا تهمة منه تقتضي رد حكمه بخلاف في الحاكم فإنه يلزم الخصم حكمه وإن لم يرض به فاشترط أن لا يكون هناك تهمة إذ لو وجدت لم يكن للمحكوم عليه سبيل إلى دفعها فاشترط انتفاؤها في القاضي دون المحكم فتفارقهما في ذلك لا يرجع لقوّة مرتبتهما وإنما يرجع إلى حال المحكوم عليه كما تقرر، فإن قلت يجوز التحاكم إلى اثنين فلا ينفذ حكم أحدهما حتى يجتمعا ولا يجوز تولية قاضيين بشرط اجتماعهما على الحكم وهذا يقتضي تميز المحكم، قلت لا يقتضيه لأن ذلك إنما امتنع في القاضيين دون المحكمين لنحو ما تقرر من أن اجتماعهما على الحكم لا يلحق المحكوم عليه منه ضرر لأنه بسبيل من عزلهما قبل تمام الحكم بخلاف القاضيين لو جوّزنا اجتماعهما فإنهما ملزمان، وقد يختلف رأي كل أو رأي مقلده ومع ذلك لا يمكن إبراز الحكمين أو أحدهما دون الآخر فيؤدي ذلك إلى تعطيل الأحكام والإضرار بالمدعين وكأن هذا الفرق هو الذي أشار إليه
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289(6/286)
ابن الرفعة بقوله: يجوز أن يتحاكما إلى اثنين فيجتمعان لا تولية قاضيين يجتمعان لظهور الفرق، واعلم أن شرط نفوذ قضاء القاضي بعلمه أن يكون أهلاً للقضاء لانتفاء التهمة حينئذ، ومن ثم قال الأذرعي: إذا نفذنا أحكام القاضي الفاسق للضرورة كما مر فينبغي أن لا ينفذ قضاؤه بعلمه بلا خلاف، إذ لا ضرورة إلى تنفيذ هذه الجزئية النادرة مع فسقه الظاهر وعدم قبول شهادته بذلك قطعاً اهـ، ويؤيده أن الشيخ عز الدين في القواعد شرط كون الحاكم ظاهر التقوى والورع. قال الزركشي : ولا بد منه ويؤخذ منه أنا لو نفذنا أحكام القاضي الفاسق للضرورة لا ينفذ قضاؤه بعلمه، ولا ينبغي أن يجيء فيه خلاف الغزالي السابق في تنفيذ أحكامه لأنه علله بالضرورة ولا ضرورة في تنفيذ هذه الجزئية مع ظهور فسقه اهـ، والله سبحانه وتعالى أعلم.(6/287)
وسئل رحمه الله تعالى قال الأصحاب: لو ثبت دين على غائب فعلى القاضي عند طلب المدعي قضاؤه من ماله الحاضر أي بمحل ولايته دون الغائب وإن كان بمحل ولايته وبعضهم اعتبر كون الغائب أي الشخص بمحل الولاية وإن غاب ماله فما المعتمد من ذلك وما الدليل على ذلك؟. فأجاب بأن الذي صرح به أصحابنا أن من وليها القاضي لو أراد أن يزوّجها وهي في محل ولايته صح أو في غير محل ولايته لم يصح وإن كان الزوج حاضراً كما يأتي مبسوطاً، وبه يعلم أن المعتمد فيما في السؤال أن من يثبت عنده دين على غائب جاز له أن يقضيه من ماله الحاضر بالبلد والغائب عنها لكن يشرط أن يكون في محل ولايته دون ما إذا كان خارجاً عنها فإنه ليس له أن يحكم بقضاء حقه منه وإلا لما كان لكتاب القاضي إلى القاضي كبير فائدة وعبارة الروضة لا تفهم خلاف ذلك لأن مراده بالحاضر فيها وفي أصلها من هو بمحل ولايته، وفي الخادم التقييد بالحاضر يقتضي أن ماله إذا كان غائباً لا يجب الإذن في التوفية منه وذلك لا يتجه إذا كان الغائب غير خارج عن محل عمله، أما الخارج فموضع نظر فيحتمل أن لا يأذن في ذلك وينهي الحال إلى حاكم بلد الناحية ويشهد له قول الرافعي قد يكون للغائب مال حاضر يمكن توفية الحق منه وقد لا يكون فيسأل المدعي القاضي إنهاء الحكم إلى قاضي بلد الغائب اهـ كلام الخادم. قال بعضهم: وفي الاستشهاد بما ذكره نظر اهـ، ويرد بأنه استدلال صحيح لأن الرافعي لما قال حاضر يمكن توفية الحق منه فهم منه أن المراد بالحاضر أن يكون في محل ولايته لأن كل ما فيها يمكن توفية الحق منه ولما قال وقد لا يكون فيسأل الخ فهم منه أنه لا يحكم فيه حينئذ وإنما ينهي إلى قاضي بلد الغائب وما ذكر عن بعضهم غير صحيح، بل لا بد أن يكون ما يوفي القاضي منه في محل ولايته سواء أكان المدين المحكوم عليه في محل ولايته أم لا؟ هذا إن كان المراد من الحكم التوفية من مال الغائب، أما إذا أراد الحكم بإلزام شيء لذمته(6/288)
فيحكم عليه وإن كان بغير محل ولايته كما صرحوا به في قولهم لا يزوّج القاضي إلا من هي بمحل حكمه حال التزويج وإن كان الزوج خارجه. قال
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289
القاضي : لأن حكمه بمحل ولايته نافذ في أقطار الأرض أما إذا كان الزوج بمحل ولايته دونها فلا يزوّجها له وإن أذنت له قبل أن تنتقل من محل ولايته لأن الولاية عليها لا تتعلق بالخاطب فلم يكتف بحضوره بخلاف الحكم لحاضر على غائب لتعلق الحكم به اهـ، ثم رأيتني ذكرت المسألة في شرح الإرشاد وعبارته: وإذا حكم له قضى أي وفى الحاكم وكيله أي وكيل الغائب الحق الذي ثبت له ولو من مال غائب حكم عليه إن كان لذلك الغائب المدعي عليه هناك مال لأنه نائبه وما أفهمه كلام الشيخين وغيرهما من أنه لا يعطيه إن لم يكن له هناك مال بل يكتب إلى قاضي بلد الخصم بسؤال المحكوم له معناه إن لم يكن في محل ولايته، إذ المتجه كما قاله التاج السبكي أنه حيث كان له مال في محل ولايته أعطاه منه ولأجل ذلك حذف المصنف تقييد أصله المال الذي يقضي منه بقوله إن حضر لكن في إطلاقه نظر لشموله ما ليس في محل ولايته وبما تقرر يعلم رد تمسك الإسعاد بظاهر عبارة الشيخين، وظاهر ما نقله عن التوشيح من أن العبرة بكون المحكوم عليه الغائب في محل عمله لا بماله، والوجه ما مر من أن العبرة بماله لا به إذ المتصرف فيه هو المال فكان المدار عليه لا على مالكه وما بينه من أن بيع بعض القضاة بمحل ولايته توهماً من مسألة في فتاوى القاضي وأن الأمر ليس كما توهم فإن مسألة الفتاوى في حاضر محكوم عليه ممتنع من الأداء ظاهر لا غبار عليه، فإن الحاضر بنفسه أو بوكيله لا ينظر في الحكم عليه إلى محل ماله بخلاف الغائب انتهت عبارة الشرح المذكورة وممن صرح بما ذكرته فيها من أن العبرة بماله لا به ابن قاضي شهبة فإنه سئل هل يبيع الحاكم مال الغائب لقضاء دينه إذا كان المال في محل ولاية غيره، فأجاب(6/289)
يمتنع البيع وطريقه أن يثبت على الغائب بطريقة ويكتب به إلى قاضي بلد الغائب ليخلصه منه، وعبارة التوشيح التي أخذ منها الإسعاد ما ذكرته عنه ورددته وذلك أي الوفاء من ماله الغائب لا يتجه إذا كان الغائب غير خارج عن حد عمله، أما الخارج فموضع نظر ولم أجد فيه صريح نقل والأرجح في نظري أنه لا يأذن ولكن ينهي الحال إلى حاكم بلد الناحية، وكلام الرافعي في أوائل الركن الثالث في كيفية إنهاء الحاكم إلى القاضي الآخر يدل عليه وسياق عبارته وتبعه على ذلك الشرف الغزي وجعلاه فيما إذا كان غائباً في محل ولايته كما لو كان حاضراً وامتنع وكما لو كانت المرأة في محل ولايته وأذنت له أن يزوّجها برجل في غير محل ولايته فإنه يجوز وعلله القاضي بأن حكم الحاكم في ولايته نافذ على من بأقطار الأرض وفيما إذا كان في غير محل ولايته قياساً على تزويج المرأة المذكور ووضوح الفرق بينهما فإن تزويج القاضي جرى فيه خلاف هل هو بالولاية أو بالنيابة والأوجه أنه بنيابة اقتضتها الولاية ولا تقتضيها الولاية إلا حيث كانت المرأة في محل عمله بخلاف ما إذا كانت في غير محل عمله فإنه لا علقة بينه وبينها حتى يجوز له تزويجها بخلاف مسألتنا فإن كون العين المبيعة في محل عمله اقتضى ولايته عليها وحيث اقتضى ذلك جاز له بيعها وإن كان مالكها في غير محل عمله فمالكها نظير الزوج وهو لا يشترط كونه في محل عمله ووجه كونها نظيرتها أن العين محكوم عليها بالتصرف فيها بما تصير به ملكاً للغير وكذلك الزوجة محكوم عليها بتزويجها بما تصير به مستحقة للزوج فاتضح الفرق بين الزوج ومالك العين وبان أن الزوجة والعين على حد سواء وبهذا يندفع إطالة بعضهم في الاستدلال على أنه لا يشترط في العين أن تكون بمحل عمله كما لا يشترط في المحكوم عليه أن يكون بمحل عمله واستدلاله بتصريح الإمام و
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289(6/290)
الغزالي بأنه لا فرق في العقار المقضي به بين أن يكون في محل ولاية القاضي الكاتب أو في غيرها. قال الإمام فإن قيل يقضي ببقعة ليست في محل ولايته، قلنا هذه غفلة عن القضاء فكما أنه يقضي على رجل ليس في محل ولايته فيقضي ببقعة ليست في محل ولايته وعن هذا قال العلماء بحقائق القضاء قاض في قرية ينفذ قضاؤه في دائرة الآفاق ويقضي على أهل الدنيا ثم إذا ساغ القضاء على غائب، فالقضاء بالدار الغائبة قضاء على غائب والدار مقضي بها اهـ لا ينهض له، لأن الكلام في قاض يكتب وينهي كما صرحا به في قولهما الكاتب والذي يكتب وينهي لا يشترط أن تكون العين المكتوب بها في محل ولايته لأن ما يفعله ليس حكماً بتاً وإنما هو موقوف على ما ينضم إليه مما يفعله القاضي المكتوب إليه بخلاف ما نحن فيه فإنه في بيع عين ليست في محل ولايته وهذا تصرف منه مستقل ليس سببه إلا الولاية وهذه العين ليست في محل ولايته فلا يتجه مع ذلك نفوذ تصرفه حينئذ لأنه لا مسوّغ له، وبعبارة الإمام المذكورة يعلم الرد على التاج السبكي ومن تبعه في اشتراط أن يكون الغائب المحكوم عليه في محل ولايته ومما يرد عليهما أيضاً أن البيع عليه إذا كان في غير محل ولايته قضاء على غائب وهو جائز بل واجب بطلب الغريم وأيضاً فالقاضي نائب الغائبين كما صرح به الأصحاب والنائب كالمنوب عنه وهو لو كان حاضراً وجب عليه البيع فكذا نائبه وأيضاً فكل ما وجب على الشخص مما يقبل النيابة إذا امتنع أو غاب قام القاضي مقامه فيه وأيضاً فلو لم يجب على القاضي البيع لما وجب عليه إذا حضر وامتنع، وقد اتفقا على أنه إذا حضر يجب عليه البيع فكذا في غيبته، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289(6/291)
وسئل رضي الله تبارك وتعالى عنه إذا اختلف الحاكم والشاهدان في شاهدي الحكم فقال الحاكم شهدتم عندي بكذا وحكمت به، وقال الشاهدان ما شهدنا عندك إلا بكذا، يعني بخلاف ما حكمت به، فما الحكم في ذلك صحة الحكم أو لا وما لو ورد كتاب على حاكم فيه حكمت على فلان بكذا بشهادة فلان وفلان فأحضر شاهدي الحكم فقالا لم نشهد بهذا الحكم وما نشهد إلا بكذا بخلاف الحكم أو أنكرا أصل الشهادة أو أنكرا الحضور عند الحاكم الأوّل أو قالا نشهد بصورة الأمر لا بحكم الحاكم هل يكون ذلك رجوعاً منهم ويغرمون ما أخذ بالحكم أو لا فيكون رجوعاً ويبطل الحكم ولا يغرم الحاكم أم يصح الحكم وإذا صح الحكم فعلى من الغرم وما يكون إذا لم تصح شهادة الشهود وكان الحاكم مصراً بالحكم وقد عمت البلوى من الحكام أنهم ربما يحكمون بغيبة الخصم والشهود عافانا الله تعالى من ذلك وربما ينكر الشهود أصل الشهادة وهم كاذبون لأجل فساد الزمان وما لو أن المحكوم له صادق الشهود الذين شهدوا بخلاف الحكم وأقروا بأن ما شهد به الشاهدان بخلاف ما حكم به الحاكم؟. فأجاب نفعنا الله تعالى به عن المسألة الأولى والثانية بقوله إن الحاكم متى حصر مستند حكمه في شاهدين معينين فأنكرا الشهادة عنده بذلك ولم تقم عليهما بينة بالشهادة عنده به كان الحكم به غير معتد به لبطلان سببه بإنكارهما هذا ما ظهر لي من كلامهم، وأما ما اقتضاه قول السبكي في الحلبيات في مسألة ما لو ادعى على القاضي جور أو نحوه، وقضية كلام الغزالي رحمه الله تعالى أن لا تسمع عليه وهو صحيح لأنه نائب الشرع فقوله أصدق من البينة من مخالفة ما قررته فغير منظور إليه لأنه رأى له ضعيف مخالف لكلام الشيخين وغيرهما كما في التوسط وغيره والكلام في قاض أمين ظاهر العدالة والديانة محمود السيرة كان ذلك في محل ولايته فإن اختل شرط من ذلك فلا تردد عندي في إلغاء حكمه وفساد دعواه ويأتي ما ذكر فيما لو قال في كتابه الحكمي أشهدت على حكمي(6/292)
فلاناً وفلاناً فأنكرا فلا يعتد بحكمه وإذا تقرر ذلك علم أن ما ذكره الشاهدان غير رجوع فلا غرم عليهما لفساد الحكم سواء أوافقهما المحكوم له أم لا؟.
وسئل رضي الله تبارك وتعالى عنه إذا حكم حاكم بشهادة شاهدين ونفذ عند حاكم آخر وتبين بطلان إشهاد الحاكم به الأوّل أو أبطل الحاكم الأوّل حكمه بقوله ما حكمت بهذا هل يبطل التنفيذ أو لا؟. فأجاب رحمه الله تعالى بقوله: إن التنفيذ مبني على صحة الحكم الأوّل فمتى بان فساد الأوّل بان فساد التنفيذ، نعم قول الحاكم ما حكمت بهذا لا يعتد به إذا شهدت عليه بينة بأنه حكم به، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289
وسئل نفع الله تعالى بعلومه إذا حكم حاكم في كتاب وجيء بالكتاب إلى حاكم آخر على خلاف معتقده هل ينفذ أم لا بينوا لنا ذلك؟. فأجاب رحمه الله تعالى بقوله: إنه ينفذه وإن خالف معتقده كما حكى الشيخان تصحيحه عن السرخسي قالا وعليه العمل لكنهما حكيا قبل ذلك عن ابن كج عن النص أنه يعرض عنه فلا ينفذه ولا ينقضه لأن ذلك إعانة على ما يعتقده خطأ والمعتمد الأوّل كما أشارا إليه بقولهما وعليه العمل إذ هي صيغة ترجيح كما حققه بعض المتأخرين هذا كله إن كان ذلك الحكم مما لا ينقض فيه قضاء القاضي وإلا أعرض عنه جزماً ونقضه بطريقه.(6/293)
وسئل رحمه الله تعالى إذا حكم حاكم في واقعة فهل يترتب كل ما يتولد من تلك الواقعة على حكم الحاكم الأوّل أم كل حاكم على ما يقتضيه مذهبه كما إذا وكل وكيل في صلح أو بيع ثم باع أو صالح بمائة وما أظهر منها إلا أربعين ثم إنه استبرأ من الموكلين من وكيلهم فقال قد أبرأتموني من كل قليل وكثير وقد اتهمتموني بالمائة وأبرأتموني منها وقالوا لم نعلم أنها مائة إلا كنا متهمين وأبرأنا من شيء لا نعلمه والآن علمنا ولا نرضى تلك البراءة في هذا الزائد فقال الحاكم قد حكمت بالبراءة مما كان وما لم يكن حتى أنه لو ظهر زيادة كانت للوكيل فهل يكون كذلك لأنه يقول هذا يترتب على حكمي أم لا يكون إلا على معتقد الحاكم الآخر الذي قامت عنده البينة بالمائة وتكون للموكلين؟ أبسطوا الجواب. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: إن الحكم بالصحة أو الموجب يستتبع جميع الآثار المترتبة على ذلك الحكم وقته وحينئذ يتعين الرجوع في صورة السؤال إلى مذهب الحاكم المالكي، ولا يجوز للحاكم أن يحكم فيها بما يخالف مذهب مالك رضي الله تبارك وتعالى عنه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289(6/294)
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ عما لو دفع المستفتي والمتزوّج إلى مجيبه أو ملفظه درهماً أو ديناراً أو أقل أو أكثر ما حكمه وما حكم الوقف على القاضي؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه وبركته بقوله: يجوز للمفتي أن يأخذ ما دفعه إليه المستفتي تبرعاً وله أن يقول لا تلزمني الكتابة لك فإن أردتها فاستأجرني عليها فإذا استأجره لشيء ودفعه جاز له أخذه لكن الأولى التنزه عن ذلك اتباعاً لأكابر السلف والخلف في ذلك ويجوز لمن علم آخر كيف يتلفظ بعقد نكاح أو نحوه أن يأخذ من المتعلم ما يعطيه له تبرعاً أو بأجرة كما مر في المفتي وبما ذكرته في المفتي صرح السبكي فقال: فإن قلت العالم الذي تعين عليه تعليم العلم أو وجب فرض كفاية ولم يتعين هل يجوز له قبول الأجرة أو الهدية عليه، قلت هذا مما اختلف العلماء فيه والأولى التنزه عنه ولا يظهر التحاقه في التحريم بالقاضي، فإن القاضي فيه وصفان: أحدهما الوجوب، والثاني كونه نائباً عن الله تعالى والعالم ليس فيه إلا الأوّل فقط قال: ولا يجوز للقاضي أن يأخذ شيئاً مما يتعاطاه من العقود والفروض والفسوخ وإن لم تكن هذه الأشياء أحكاماً بمعنى أنها ليست تنفيذاً لما قامت به الحجة بل إنشاء تصرفات مبتدأة ولكن الأخذ عليها ممتنع كالحكم لأنه نائب فيها عن الله تعالى كما هو نائب عنه في الحكم اهـ. قال غيره: وللمفتي قبول هدية لا رشوة من السائل ليفتيه بمراده ويجوز الوقف على القاضي كما صرح به السبكي في الحلبيات بل اقتضى كلامه الاتفاق عليه، وذلك أن الأذرعي قال في سؤاله عن الصدقة على القاضي من أهل عمله ممن لا حكومة له ولا غرض إلا التقرب إلى الله تعالى بذلك أن ذلك وقع فيه نزاع والقلب إلى التحريم أميل لئلا يتخذ ذلك وسيلة إلى الرشا ويفوت المعنى الذي حرمت لأجله الهدية وهو ميل النفس هذا كلام الأذرعي في السؤال وتبعه شيخنا زكريا رحمه الله تعالى في شرح الروض على التحريم كالهدية، وأجاب السبكي فقال: ما حاصله(6/295)
الذي يظهر لي جواز ذلك أي الصدقة وليس عندي فيه نقل فالأولى التنزه عنه بقدر الإمكان، ثم فرق بين الصدقة والهدية بأن الصدقة يقصد بها وجه الله تعالى فالمتصدق في الحقيقة دافع لله تعالى صدقته، أي تقع في يد قبوله وثوابه قبل أن تقع في يد الفقير فهو آخذ منه لا من المتصدق والهدية يقصد بها التودد والميل، ووجه المهدي إليه والميل هو المحذور في القاضي فافترقا وكل من هذا والهبة مندوب يثاب عليه إذا قصد به وجه الله تعالى فلا مميز للصدقة عنهما إلا ما مر، وحينئذ فاللام في تصدق لله للملك وفي أهدى أو وهب لله تعالى للتعليل فالمتصدق ملك لله سبحانه وتعالى كما أن الوقف ينتقل إلى الله سبحانه وتعالى والمهدي مملك للمهدي إليه وقد يكون لأجل الله وحينئذ فلا منة على المتصدق عليه للمتصدق إذ لا تمليك منه له ولا يد له عليه وميله له بسبب ذلك لأن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها بخلاف الهدية فإنها تستدعي الثواب عليها عادة إما بمال أو بغيره، وأطال في ذلك ثم قال: ولو حرمنا على القاضي الصدقة حرمنا عليه الوقف لأنه صدقة اهـ، فافهم أن الوقف لا نزاع فيه ولا تردد في حله وإنما النزاع في الصدقة أي والأوجه فيها ما مر عن
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289(6/296)
الأذرعي وشيخنا من الحرمة كالهدية لأن المعنى الذي حرمت الهدية لأجله موجود في الصدقة بتمامه، وفرق السبكي المذكور بينهما لا يجدي شيئاً مما نحن فيه لأنه على فرض تسليمه باعتبار ما في نفس الأمر والنظر إلى الحقائق والتقديرات البعيدة عن أفهام الناس ومثل ذلك لا يلتفت إليه في ربط الأحكام به لأنها إنما تربط بالأمور الظاهرة المتبادرة للأفهام مع قطع النظر عن تلك الحقائق والتقديرات البعيدة، ولا شك أن المتبادر من الهدية والصدقة شيء واحد هو الميل فكما حرمت الهدية لذلك فلتحرم الصدقة له أيضاً، ثم رأيت الزركشي و الحوحري و ابن أبي شريف وغيرهم رجحوا أن الصدقة كالهدية، وبحث أبو زرعة في التحرير وشرح البهجة جواز أخذه الزكاة قطعاً وأنه لو وفى عنه إنسان دينه بغير إذنه جاز قطعاً وبإذنه بشرط عدم الرجوع لا يجوز قطعاً اهـ، ورد قطعه بحل أخذ الزكاة بتصريحهم بمنع أخذه من سهم العامل وعللوه بما يقتضي المنع حيث قالوا لا يدخل في العامل الإمام والوالي والقاضي، إذ لا حق لهم في الزكاة بل رزقهم في خمس الخمس المرصد للمصالح العامة. قال بعضهم: نعم يظهر أخذه من سهم الغارم إذا أذن للإصلاح ومن سهم الغازي المتطوّع وقد عمت البلوى في قضاة العصر بأخذهم الزكاة مطلقاً وهو خطأ مطلقاً اهـ فإن قلت فأي فرق بين الصدقة والوقف مع أنه صدقة، قلت الوقف لا صنع فيه من القاضي إن قلنا بما قاله جمع متقدمون، واختاره النووي رحمه الله تعالى في الروضة في السرقة، ونقله في شرح الوسيط عن نص الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ أنه لا يشترط القبول من الموقوف عليه، وعلله ابن الصلاح بأن الملك فيه يزول إلى الله تعالى كالعتق، يعني ينفك عن اختصاص الآدميين فعلى هذا الفرق بين الوقف والصدقة ظاهر، وأما على مقابله من أن الموقوف عليه لا بد من قبوله وهو ما رجحه في المنهاج كأصله، ونقله الشيخان عن جمع متقدمين فيفرق بينهما بأن الميل في الصدقة أعظم منه في الوقف لأنها تقتضي(6/297)
الملك التام المقتضي للتصرف في العين بما أراد المتصدق عليه بخلاف الوقف فإنه إنما يقتضي استباحة منفعة مقيدة بما شرطه الواقف فهو محجور عليه فيما عدا ذلك، وفرق ظاهر بين عقد يقتضي استقلاله وعدم الحجر عليه بوجه وهو الصدقة والهدية وعقد لا يقتضي ذلك بل عكسه وهو الوقف فلم يظهر إلحاقه بهما وإن كان محتملاً نظراً إلى أنه يفضي إلى ميل مثلهما، وإن اختلف الميل لكن لو كان النظر لمطلق الميل حرمت الهدية إليه ولو ممن اعتادها قبل التولية، فلما جوّزوا ذلك له علمنا أنه لا تعويل إلا على ما يستدعي ميلاً قوياً مع عدم ظهور قرينة بضعف ما أشعر به من الميل ثم رأيت
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289(6/298)
الزركشي قال في خادمه: أهمل الرافعي الوقف كما لو أراد واحد من أهل ولايته الوقف عليه ويظهر أنه كالهدية إن شرطنا القبول في الوقف على المعين وإلا فينبغي الصحة كما لو كان له على القاضي دين فأبرأه منه، وأما إذا كان من غير أهل ولايته فلا يتخيل فيه منع، وأما لو شرط الواقف في المدرسة أن تكون تدريساً للقاضي وكان للتدريس معلوم. قال بعض المتأخرين، أي السبكي : ينبغي أن تتخرج صحة هذا الشرط على أنه لو رزق أهل الولاية أو واحد منهم أو الإمام من خاص نفسه القاضي بذلك يجوز وإلا صح المنع، فيحتمل بطلان هذا الشرط ويحتمل أن يقال إن طلب القاضي التدريس من غير معلوم أجيب إليه ويصح الشرط لأنه قد يجتمع الفقهاء عنده أكثر وهذا غرض صحيح ويحتمل أن يقال أنه يجاب ويأخذ المعلوم لأنه ليس متعيناً فلا يكون في معنى الهدية وهذا في حياة الوقف أما بعد موته فلا يتخيل فيه منع اهـ، وحاصل كلامه في الموقوف عليه المعين أنه موافق على ما قدمته من صحة الوقف على القاضي بعينه إذ لم يشترط قبول الموقوف عليه المعين ومخالف للاحتمال الذي رجحته فيما إذا شرطنا قبوله ولكل من الاحتمالين وجه كما قدمته وما قاله الزركشي أحوط على أنه ليس من عنده، فقد نقله أبو زرعة عن تفسير السبكي ، وحينئذ ففي كلام السبكي شبه تناف لأن ما قدمته عنه في الحلبيات يقتضي صحة الوقف مطلقاً وكلامه في التفسير فيه التفصيل المذكور إلا أن من قواعدهم حمل الإطلاق على التفصيل، ويؤيد ما قاله من المنع إذا شرطنا القبول بحث الأذرعي ومن تبعه من أن استعارة القاضي لغير كتب العلم كالهدية، إذ المنافع كالأعيان فهذا على تسليمه يدفع ما فرقت به بين الهدية والصدقة وبين الوقف من أنه يقتضي ملك منفعة فقط بخلاف ذينك فإذا ثبت أن المنافع كالأعيان لم يكن فرق بين الوقف والهدية فليلحق بها إذا قلنا باشتراط القبول لكنه ضعيف عند كثيرين من المتأخرين، إذ المعتمد عندهم أنه لا يشترط مطلقاً، وقد مر صحة(6/299)
الوقف على القاضي مطلقاً على هذا باتفاق ثم هذا كله يقتضي ترجيح الاحتمال الأخير من الاحتمالات الثلاث التي حكاها الزركشي وغيره عن السبكي في شرط التدريس للقاضي ووجه الصحة وإعطائه المعلوم أنه لا يجب عليه القبول في هذه الصورة فهي أولى بالصحة فيما إذا وقف عليه بخصوصه ولم يشترط القبول، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئلت هل خط القاضي يكفي لمن أراد أن ينيبه من غير إشهاد على تلفظ القاضي بالإذن وهل يجب عليه القبول لفظاً، وإذا قال النائب في التزويج لتضجر لا أزوّج أحداً أو لا أعقد النكاح لأحد هل ينعزل بذلك؟. فأجبت بقولي: لا يكفي مجرد خط القاضي بالاستنابة، وأما اشتراط القبول فنقل الشيخان عن الماوردي أنه إن خاطبه بالتولية اشترط القبول لفظاً وإن كاتبه أو راسله لم يشترط قبوله إلا عند بلوغ الخبر ثم تعقباه فقالا سبق في الوكالة خلاف اشتراط القبول وأنه إذا اشترط فالأصح أنه لا يعتبر فيه الفور فليكن هكذا هنا اهـ، وهذا منهما صريح في أنه لا يشترط القبول هنا لفظاً كما في الوكالة، ويؤيد ذلك قول الأنوار. قال الماوردي : يشترط القبول لفظاً. وقال الرافعي : لا كالوكالة اهـ. ففهم من كلام الرافعي أنه مصرح بخلاف ما قاله الماوردي وهو كذلك كما قررناه ومجرد امتناع النائب في التزويج منه لا يكون عزلاً له إذ لا دلالة فيه على رد الإذن له فيه بخلاف قوله عزلت نفسي أو نحوه.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289(6/300)
وسئلت هل لمن قرأ كتاباً أو أكثر ولم يبلغ درجة الفتوى أن يفتي العامي في واقعته أو يتركه في حيرته وإذا لم يجد المسألة مسطرة ووجد لها نظيراً هل له أن يفتيه بحكم واقعته حملاً على النظير وهل للمتبحر في الفقه حد معلوم وهل للمفتي إذا وجد فتيا أخرى في مسألة فرضية في المناسخات أن يصحح عليه من غير اختياره ولو حضر لفرضي من يريد استفتاء في مسائل عويصة في المناسخات تستغرق عليه زمناً طويلاً فهل له أن يقول للسائل لا أصرف هذه المدة في تصحيح سؤالك إلا بأجرة معلومة، وإذا لم يصح منه الاستئجار لجهله بالعمل المستأجر له فما حيلته مع أن المفتي ليس له ما يكفيه؟. فأجبت بقولي: ليس لمن قرأ كتاباً أو كتباً ولم يتأهل للإفتاء أن يفتي العامي إلا فيما علم من مذهبه علماً جازماً لا تردد فيه كوجوب النية في الوضوء ونقضه بلمس الذكر أو بلمس الأجنبية ونحو ذلك مما لا مرية فيه بخلاف مسائل الخلاف فإنه لا يفتي فيها، نعم إن نقل له الحكم عن مفت آخر غيره أو عن كتاب موثوق به وكان الناقل عدلاً جاز للعامي اعتماد قوله لأنه حينئذ ناقل لا مفت وليس لغير أهل الإفتاء الإفتاء فيما لم يجده مسطوراً وإن وجد له نظيراً أو نظائر والمتبحر في الفقه هو الذي أحاط بأصول إمامه في كل باب من أبواب الفقه بحيث يمكنه أن يقيس ما لم ينص إمامه عليه على ما نص عليه وهذه مرتبة جليلة لا توجد الآن لأنها مرتبة أصحاب الوجوه وقد انقطعت منذ أربعمائة سنة ومن طلب منه إفتاء من مناسخة مكتوبة لم يجز له الإقدام عليه إلا بعد الامتحان والاختبار، وللفرضي أن يمتنع من التأصيل والتصحيح إلا أن يجعل له أجرة في مقابلة ذلك وإلا فطريقه أن يجعل له على ذلك جعل معلوم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289(6/301)
وسئل رحمه الله تعالى عن مسألة سئل عنها أبو الحسن الأصبحي وعن جوابه فيها وجواب غيره وهي إذا عدم في قطر ذو شوكة وحاكم ولم يوجد للمرأة ولي ولا للأطفال وصي ونحوه فهل لجماعة من أهل البلاد نصب فقيه يتعاطى الأحكام في الأبضاع والأموال، فأجاب الأصبحي رحمه الله تعالى بقوله: نعم إذا لم يكن رئيس يرجع أمرهم إليه اجتمع ثلاثة من أهل الحل والعقد ونصبوا قاضياً صفته صفة القضاة، ويشترط في الثلاثة صفة الكمال كما في نصب الإمام اهـ. قال الإمام السيد السمهودي رحمه الله تعالى في فتاويه: ووجهه أن الميسور لا يسقط بالمعسور فحيث تعذر الإمام وأمكن نصب القاضي وجب لأن الضرورة داعية إليه فيأثم أهل تلك البلاد بتركه وقوله صفته صفة القضاة أي التي يمكن وجودها في زمانهم فكما يجوز للإمام تولية المقلد للضرورة يتعين على هؤلاء توليته، فإذا اجتمع جماعة من أهل الحل والعقد الموصوفين بصفة الكمال على نصب مقلد قاضياً تم ذلك ونفذ حكمه فيحكم بينهم بما يعلمه من مذهب إمامه وبالجملة فالتمادي على ترك إقامة قاض في قطر من الأقطار معصية تعم أهله، وقد علمت أن إقامته ليست متوقفة على وجود الإمام الذي يعسر عليهم ولا على المجتهد بل الضرورة مقتضية لما ذكرناه اهـ كلام السمهودي رحمه الله تعالى. وقوله وبالجملة فالتمادي على ترك إقامة قاض في قطر من الأقطار معصية تعم أهله يؤيده قول المقدسي رحمه الله تعالى في القضاء من الإشارات إذا اجتمع أهل بلد على أن لا يلي أحد فيهم القضاء أثموا لما روي أن النبي قال: «إن الله لا يقدس أمة ليس فيهم من يأخذ للضعيف حقه» اهـ. قال الشيخ الإمام ابن ناصر في بعض أجوبته: أن البلد الذي لا حاكم فيه تجب الهجرة منه لقولهم في باب الإمامة لا بد للناس من حاكم يأخذ على يد الظالم للمظلوم وينصف الناس بعضهم من بعض والله سبحانه وتعالى أعلم. وقد سئل القاضي جمال الدين بن ظهيرة رحمه الله تعالى عما إذا كانت قرية من القرى وأهلها(6/302)
يملك كبارهم الحل والعقد فيها دون غيرها فهل يصح نصبهم لرجل يمضي بينهم بعض ما يمضي الحاكم، وقد أظهروا له الطاعة فيما يقربهم من الله سبحانه وتعالى وبايعوه على ذلك وهو معتقد منهم عدم الوفاء، ثم لم يفوا بالأكثر أو بالجميع هل ينفذ منه ما ينفذ من الحاكم من تزويج المجنونة وبيع مال المديون لحق الغرماء وحفظ أموال اليتامى والبيع لهم والشراء بالمصلحة وأشباه ذلك، وما يشترط فيه في نفسه وما لا يشترط فأجاب رحمه الله تعالى بأنه يجوز للكبار المذكورين أن يولوا قاضياً في القرية المذكورة يحكم بين الناس وإذا فعلوا ذلك صح ونفذت أحكامه وصح تزويجه للمجنونة وغيرها وبيع مال المديون عند امتناعه ويحفظ مال اليتيم ويتصرف فيه ويحفظ أموال الغائبين ويتولى جميع ما يتولاه الحكام وكذا لو كان للقرية شيخ يرجعون إليه في أمورهم ويقدمونه عليهم على عادة العرب فله أن ينصب حاكماً يحكم بين أهل القرية كما ينصبه الإمام ونائبه، ولا يشترط في الشيخ المذكور أن يكون عدلاً بل لو لم يكن لأهل القرية شيخ ولا كبير يرجعون إليه فلهم أن ينصبوا قاضياً يقضي بينهم ويصح ذلك منهم وتنفذ أحكامه عليهم، وقد أفتى بذلك كله الشيخ الإمام العالم العلامة الولي الكبير السيد الشهير
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289(6/303)
أبو العباس أحمد ابن موسى بن عجيل اليمني رحمه الله تعالى فيما وقفت عليه له، وهو ظاهر، ويشترط في المنصوب المذكور ما يشترط في القاضي والشروط المعتبرة مفقودة في هذا الزمان بل من قبله بدهر طويل، وقد ذكر الغزالي في وسيطه وحكاه عنه الرافعي في الشرح وجزم به في المحرر أن من ولاه ذو الشوكة نفذ حكمه وإن كان جاهلاً أو فاسقاً للضرورة وهذا هو اللائق بهذا الزمان ولهذا قال في الحاوي الصغير وإن تعذر فمن ولاه ذو الشوكة والله سبحانه وتعالى أعلم اهـ، ما قاله القاضي جمال الدين وأفتى ولده الشيخ شهاب الدين أحمد بأنه إذا قلد أهل الاختيار قاضياً جاز إذا أمكنهم نصرته وتنفيذ أحكامه والذب عنه وإلا فلا وكذا قال نحوه الماوردي ، والله سبحانه وتعالى أعلم اهـ. وعبارة الماوردي رحمه الله تعالى في الحاوي إذا خلا بلد عن قاض وخلا العصر عن إمام فقلد أهل الاختيار أو بعضهم برضا الباقين واحداً وأمكنهم نصرته وتقوية يده جاز تقليده ولو انتفى شيء من ذلك لم يجز تقليده اهـ كذا قاله ابن الرفعة في الكفاية وتبعه ابن النقيب وسئل بعض المتأخرين عن رجل في بلاد ليس فيها سلطان هل يجوز حكمه إذا حكمه الخصمان أم لا؟ فأجاب رحمه الله تعالى بقوله: إذا حكمه الخصمان ورضيا بحكمه وكان أهلاً للحكم جاز ونفذ حكمه، والله سبحانه وتعالى أعلم. وسئل بعضهم أيضاً عما إذا لم يكن في البلد إمام مولى ورضيت العامة بأحكام رجل عدل عندهم يلزم حكمه أم لا بد من التولية لأن الشرع مبني على الحاكم فإذا لم يكن حاكم هناك من جهة السلطان ولا أمينه هل يلزم أحكام من رضوا به؟ فأجاب رحمه الله تعالى فقال: إذا لم يكن في البلد قاض وكان فيها رجل عالم أو عدل ثقة مرضي به عند عدم الحاكم وتراضى به أهل البلد ونصبوه بإجماع عشرة عدول وكان عالماً بالشرع أو غير عالم إلا أنه يستفتي من يثق بفتواه ويحكم بها فأحكامه وتصرفاته في ذلك نافذة، والله سبحانه وتعالى أعلم. ويؤيد هذا الجواب(6/304)
مسائل. منها: قول الإمام الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ لا يجوز لأحد أن يحكم إلا أن يكون فقيهاً كذا قال الماوردي في الحاوي، وأقره الإمام الإسنوى و الإمام الأذرعي في باب محرمات الإحرام من شرحي المنهاج. قال الإمام الأزرق في القضاء من شرح التنبيه: قال بعضهم: ليس من شرط المحكم أن يكون فقيهاً في جميع الأحكام بل فيما حكم فيه كالقاسم قال: وهو القياس كما في عامل الزكاة اهـ. قال الإمام
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289(6/305)
الأذرعي في محرمات الإحرام من شرح المنهاج من حكمناه في باب اعتبر أن يكون فقيهاً فيه لا غير. قال في القضاء منه وهو الأقرب. قال الولي العراقي: وشاهدت ذلك بخط الجلال البلقيني وفي غير هذا ما يدل لكلامه رحمه الله تعالى مصرحاً بذلك فليكتف به اهـ كلامه. ومنها: قول الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله تعالى في الأقضية من شرح مسلم قالوا: من ليس أهلاً للحكم لا يحل له الحكم فإن حكم فلا أجر له بل هو آثم ولا ينفذ حكمه سواء أوافق الحق أم لا؟ لأن إصابته اتفاقية ليست صادرة عن أصل شرعي فهو عاص في جميع أحكامه وافق الصواب أم لا، وهي مردودة كلها ولا يعذر في شيء من ذلك، وقد جاء في الحديث في السنن القضاة ثلاثة قاض في الجنة واثنان في النار قاض عرف الحق فقضى به فهو في الجنة وقاض عرف الحق وقضى بخلافه فهو في النار وقاض قضى على جهل فهو في النار اهـ ما قاله الإمام النووي رحمه الله تعالى. ومنها: قول الإمام ابن الأنصاري و الكمال الدميري و الإمام المراغي المدني في شروحهم على المنهاج إذا تحاكم رجلان إلى رجل لا يصلح للقضاء لم ينفذ حكمه بالاتفاق والله سبحانه وتعالى أعلم. ومنها: ما ذكر في الكافي أن المتغلب على إقليم لو نصب فاسقاً أو جاهلاً وتعذر رفعه ففي نفوذ أحكامه من التزويج والتصرف في أموال الأيتام احتمال وجهين فعلى المنع أن طريق الناس التحاكم إلى من هو أهل فإن تعذر نفذت أحكامه للضرورة، وقال بعض المتأخرين يتعين على السلطان في هذه الأزمنة أن يولي من اتصف بصفة العلم بمذهب إمام، والله سبحانه وتعالى أعلم اهـ ما قاله في الكافي كذا قال في مفتاح ابن كبن فهل ما ذكر صحيح أم لا؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله: ما ذكر في هذه الأجوبة صحيح جار على القواعد لما علمت أنه مذكور في حاوي الماوردي ، وأقره ابن الرفعة وغيره ويوافقه كلام صاحب الكافي وكفى باعتماد هؤلاء المفتين له وهو اللائق بقاعدة أن المشقة تجلب التيسير وأن(6/306)
الضرورات تبيح المحظورات وغيرهما فإذا خلت بلد أو قطر عن نفوذ أوامر السلطان فيها لبعدها وانقطاع أخبارها عنه وعدم انقياد أهلها لأوامره لو بلغتهم فلم يرسل له قاضياً وجب على كبراء أهلها أن يولوا من يقوم بأحكامهم ولا يجوز لهم أن يتركوا الناس فوضى لأن ذلك يؤدي إلى ضرر عظيم فإذا ولوا عدلاً نفذت جميع أحكامه وصار في حقهم كالقاضي ولا يشترط فيه اجتهاد لأن غايته أنه كالمحكم والمحكم لا يشترط فيه الاجتهاد إلا مع وجود القاضي، وأما مع فقده فيجوز تحكيم العدل لكن لا بد من معرفته للأحكام التي يحتاج إليها ولو باستفادتها من غيره وما ذكره السائل عن جمع مما يخالف ذلك محمول على هذا التفصيل، وأما ما ذكره
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289(6/307)
الأصبحي رحمه الله تعالى من قوله صفته صفة القضاة فهو مؤوّل بما قاله السيد السمهودي رحمهما الله تعالى وما ذكر من تأثيم جميع أهل الحل والعقد بترك نصب حاكم يحكم بين الناس في بلادهم متجه، وما ذكر من وجوب الهجرة من بلد لا حاكم فيه يؤيده قول الغزالي لا تجوز الإقامة ببلد لا مفتي فيه ويفهم من كلام الماوردي في الحاوي أنه لا بد أن يتفق على نصبه أهل الحل والعقد حيث قال فقلد أهل الاختيار أو بعضهم واحداً برضا الباقين، وبه ينظر في قول الأصبحي ثلاثة من أهل الحل والعقد، وقول السمهودي جماعة من أهل الحل والعقد لكن ما قاله هو القياس في نصب الإمام فإنه لا يشترط فيه اتفاق جميع أهل الحل والعقد، بل صرحوا بأنه لو انحصر الحل والعقد في واحد مطاع كفى وكذا يقال به هنا وللماوردي أن يفرق بأن تلك ولاية عامة فلو اشترطنا حضور جميع أهل الحل والعقد لتعسر أو تعذر وفات المقصود وعظم الخطب ولم يتيسر نصب إمام لبعد اجتماعهم على واحد فاقتضت الضرورة المسامحة ثم بالاكتفاء بمن تيسر منهم، وأما هنا فهذه ولاية خاصة على قوم مخصوصين فاشترط رضا جميع أهل الحل والعقد بها إذ لا عسر في ذلك ولا مشقة وهذا هو الذي يتجه ترجيحه، والله سبحانه وتعالى أعلم.(6/308)
وسئلت عن شخص اشترى من آخر حصة مشاعة من صهريج وحفرة ثم استأجر البائع الحصة الشائعة المذكورة من المشتري ولم يكتب الموثق في حجة التبايع والتؤاجر ثبوتاً ولا حكماً ثم اتصل مضمون الحجة المذكورة بحاكم شافعي وكتب بخطه في طرتها ثبت ذلك عندي ولم يتعرض للحكم فهل يكون هذا اللفظ متضمناً للحكم بصحة التبايع والتؤاجر أو أحدهما أم لا يكون متضمناً للحكم وهل إذا رفعت هذه القضية إلى حاكم مخالف يكون هذا اللفظ مانعاً له عن العمل في ذلك بقاعدة مذهبه أم لا؟. أجبت بقولي: الثبوت المجرد ليس بحكم بالثابت على الأصح عندنا وعند المالكية و الحنابلة ، وقال آخرون إنه حكم، واختار السبكي التفصيل بين أن يثبت الحق أو سببه فإن ثبت سببه كقوله ثبت عندي أن زيداً وقف هذا فليس بحكم لأنه يتوقف بعد ذلك على نظر آخر وهو أن الوقف صحيح أو لا، وإن ثبت الحق كقوله ثبت عندي أن هذا وقف على زيد فهو في معنى الحكم لأنه يتعلق به حق الموقوف عليه ولا يحتاج إلى نظر آخر وإن لم توجد صورة الحكم فيه فعلى الأول الأصح ليس قول القاضي ثبت ذلك عندي متضمناً للحكم بصحة بيع ولا إجارة فللمخالف الحكم فيه بقضية مذهبه وعلى الثاني هو متضمن لذلك وعلى اختيار السبكي إن قال ثبت عندي أن زيداً باع هذا لم يكن حكماً وللمخالف نقضه وإن قال ثبت عندي أن هذا مبيع من زيد كان حكماً يمتنع نقضه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289
وسئل رحمه الله تعالى عن ولي الأمر إذا ولى شخصاً على بلدة وفوّض أمرها إليه بأن يعزل وينصب ويحكم بل فوض أمورها إليه وحكم بحرية إنسان هل ينقض ذلك الحكم أو لا؟. فأجاب نفعنا الله تعالى به بقوله لا ينقض حكمه المذكور إلا بسبب مقتض له كأن قامت بينة برق ذلك المحكوم بحريته فإن بينة الرق مقدمة على بينة الحرية، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.(6/309)
وسئل رحمه الله تعالى سؤالاً صورته ما معنى قولهم في تكبير العيد وفي الشهادات الأشهر كذا والعمل على خلافه وكيف يعمل بخلاف الراجح؟. فأجاب نفعنا الله تعالى به بقوله: إن الترجيح تعارض لأن العمل من جملة ما يرجح به وإن لم يستقل حجة فلما تعارض في المسألة الترجيح من حيث دليل المذهب والترجيح من حيث العمل لم يستمر الترجيح المذهبي على رجحانيته لوجود المعارض فساغ العمل بما عليه العمل.
وسئل رحمه الله تعالى عن ملك ليتيم احتيج لبيعه فقامت بينة بأن قيمته مائة ثم باعه القيم وحكم بصحة البيع استناداً للبينة المذكورة ثم قامت بينة أخرى بأن قيمته حينئذ مائتان فهل ينقض الحكم ويحكم بفساد البيع أو لا؟. فأجاب نفعنا الله تعالى به بقوله: أفتى ابن الصلاح بعد التمهل أياماً بأنه ينقض ووجهه أنه إنما حكم بناء على البينة السالمة عن المعارضة ببينة مثلها أو أرجح وقد بان خلاف ذلك وتبين استناد ما يمنع الحكم إلى حالة الحكم فهو كما قطع به صاحب المهذب من أنه لو حكم الحاكم للخارج على صاحب اليد ببينة فانتزعت العين منه ثم أتى ببينة فإن الحكم ينقض للعلة المذكورة بخلاف ما إذا رجع الشاهد بعد الحكم فإنه لم يتبين استناد مانع إلى حالة الحكم لأن قوله متعارض ولا مرجح.(6/310)
وسئل عما يفتي به المفتون هل يقال إنه مذهب الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ سواء أعلم كونه منصوصاً له أم لا يقال ذلك إلا فيما علم نصه عليه وغيره يقال فيه أنه مقتضى مذهبه؟. فأجاب نفعنا الله تعالى به بقوله: لا يجوز أن يقال في حكم هذا مذهب الشافعي إلا إن علم كونه نص على ذلك بخصوصه أو كونه مخرجاً من نصوصه على الخلاف في نسبة المخرج إليه فقد قال التقي السبكي رحمه الله تعالى في جواب المسألة التاسعة والثلاثين من المسائل الحلبية، وأما من سئل عن مذهب الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ ويجيب مصرحاً بإضافته إلى مذهب الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ ولم يعلم ذلك منصوصاً للشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ ولا مخرجاً من منصوصاته فلا يجوز ذلك لأحد بل اختلفوا فيما هو مخرج هل يجوز نسبته إليه، واختار الشيخ أبو إسحاق أنه لا يجوز هذا في القول المخرج، وأما الوجه فلا يجوز نسبته إليه بلا خلاف. نعم هو مقتضى مذهبه أو من مذهبه بمعنى أنه من قول أهل مذهبه والمفتي يفتي به إذا ترجح عنده لأنه من قواعد الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ ولا ينبغي أن يقال. قال الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ إلا في منصوص له قال به أصحابه أو أكثرهم بخلاف ما خرجوا عنه بتأويل أو غيره لأن تجنبهم له يدل على ريبة في نسبته إليه، وما اتفقوا عليه وقالوا ليس بمنصوص يسوغ تقليدهم فيه ولكن لا يطلق أنه مذهب الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ بل مذهب الشافعية فإن لم يعلم هل هو منصوص أو لا، سهلت نسبته إليه لأن الظاهر من اتفاقهم أنه قال به اهـ ملخصاً، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289
وسئل رحمه الله تعالى عن القاضي بناحية هل ينفذ حكمه في البحار والبراري التي يترددون فيها من محل ولايته إليها؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله: قال ابن كبن : القياس نفوذه في سواحل محل حكمه وجزائره لا في سفره وبحره.(6/311)
وسئل رحمه الله تعالى سؤالاً صورته ادعى عليه عيناً فقال هي لرجل لا أعرفه أو لابني الطفل أو لمسجد كذا أو وقف على الفقراء فأراد المدعي تحليفه فنكل فهل يحلف ويستحق العين أم لا؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله: نعم يحلف اليمين المردودة ويستحق العين في الأولى دون الثانية حتى يقيم بينة بأن العين له وبحث إلحاق ما بعد الثانية بها.
وسئل رحمه الله تعالى عن قول الإمام لآخر وليتك القضاء ونويا محلاً معيناً فهل يكفي؟. فأجاب نفع الله تعالى به بقوله ظاهر قولهم التعيين شرط لصحة الولاية أنه لا يكفي ولا أثر لكون ولاية القضاء تحصل بالكناية لأنه ثم أتى بلفظ محتمل تؤثر فيه النية بخلافه هنا، ولا فرق في ذلك بين أن يكون ولاية ذلك المولى مقصورة على بلد واحد أو لا.(6/312)
وسئل عمن استأجر داراً سنة ثم مات المؤجر في أثنائها فجاء المستأجر لشافعي وادعى على ورثة المؤجر أن مؤجرهم أجره كما ذكر وهم يمنعونه استيفاء ما بقي من سننه فأنكروا فأقام بينته بذلك وطلب من القاضي الحكم له بلزوم الإجارة فهل يحكم له بذلك أم لا؟. فأجاب نفعنا الله تعالى به بقوله: بحث بعضهم أنه لا يجوز الحكم بذلك، لأن باقي المدة انتقل استحقاق منفعتها لولا الإجارة إلى الوارث وهو منكر استحقاق المستأجر لذلك والبينة وردت عليه غير متعرضة لسوى ذلك بل إنما يحكم بصحة الإجارة وصحتها لا تمنع الحنفي من الحكم بانفساخها بالموت، قال: نعم إن ادعى الوارث على المستأجر أنه استأجر من مورثه كذلك ومات وقد بطلت الإجارة بموته وسأل تسليم الدار فللقاضي الحكم حينئذ بلزوم الإجارة وإن مات المؤجر لكن بعد طلب المدعي عليه اهـ، ويوجه ما ذكره أوّلاً من عدم الحكم باللزوم بأن الاختلاف بين المستأجر والوارث إنما وقع في وجود العقد فوجب صب الحكم عليه بأن يحكم بوجوده وصحته، وأما اللزوم فأمر أخص من الوجود ولم يقع تعرض له في الدعوى فكيف يحكم به بخلافه في المسألة الأخيرة فإن الدعوى منصبة على عدم اللزوم بعد اعتراف المتداعيين بوجود العقد فساغ حينئذ الحكم باللزوم.
وسئل رحمه الله تعالى عن قاضي الضرورة هل تنفذ جميع أحكامه أو يستثنى منها شيء؟. فأجاب نفعنا الله تعالى به بقوله: ظاهر كلامهم نفوذها كلها، لكن قال الأذرعي وغيره لا يجوز له أن يحكم بعلمه. قال الحضرمي : ولا يجوز له حفظ مال الطفل بل يتركه عند عدل ولا يجوز أن يكتب إلى قاض آخر فإنه كالشاهد. قال البلقيني : ولا يستحق جامكية في بيت المال.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289(6/313)
وسئل رحمه الله تعالى عما إذا سافر القاضي سفراً طويلاً بغير إذن الإمام ولم يستنب أحداً مع أنه مأذون له في ذلك فهل ينعزل بترك ذلك؟. فأجاب بقوله: بحث الأذرعي انعزاله بذلك وليس ببعيد حيث ترك ذلك إعراضاً لا لضرورة أو خشية محذور.
وسئل رحمه الله تعالى سؤالاً صورته وهب لطفل شخص شيئاً لزمه قبوله هل يشمل ذلك القاضي؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله: قضية كلامهم شموله له فإذا وهب لطفله شيء لزمه قبوله لكن بحث بعض المتأخرين استثناءه قال وإلا فهو فتح باب للرشوة اهـ وفيه نظر، فإنه إذا قبله لموليه صار ملكاً للمولي وامتنع على الولي التصرف فيه إلا بالحظ له ولا يتصوّر رجوعه إليه إلا بنحو بيعه للمصلحة فكيف يتصوّر فيه الرشوة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ هل يلزم الدائن تسليم كتاب دينه بعد الاستيفاء أو الإشهاد عليه بذلك وكذلك البائع هل يلزمه كتاب شرائه بعد الإشهاد عليه بالشراء أو القبض؟. فأجاب بقوله: لا يلزمه دفع ذلك لأنه ملكه والإشهاد عليه كاف في دفع ما بيده لو ادعى به.(6/314)
وسئل رحمه الله تعالى هل للقاضي قبض أموال الغائبين أعياناً كانت أو ديوناً؟. فأجاب بقوله: هذه المسألة ذكرها الشيخان في مواضع متفرقة بينها في المهمات في التفليس فقالا في السرقة ولا يطالب بماله، وفي التفليس لا يستوفي أموال الغائبين في الذمم وإنما يحفظ أعيان أموالهم وفي استيفاء القصاص قال ابن الصباغ ليس له أخذ مال الغائب المغصوب. وفي كلام الإمام وغيره ما ينازع فيه ويشعر بأنه يأخذه له ويحفظه وفي اللقطة لو أخذ القاضي المغصوب من الغاصب ليحفظه للمالك هل يبرأ الغاصب من الضمان فيه وجهان ظاهر النص منهما البراءة. وعبارة الروضة أقيسهما البراءة لأن يد القاضي نائبة عن يد المالك فإن قلنا لا يبرأ فللقاضي أخذه وإن قلنا يبرأ فإن كان المال متعرضاً للضياع والغاصب بحيث لا يبعد أن يفلس أو يغيب فكذلك وإلا فوجهان وليس لآحاد الناس أخذ المغصوب إذا لم يكن في معرض الضياع وكذا إن كان لأن القاضي نائب عن الغائبين اهـ، قيل: وينبغي حمل ما أطلقاه في بقية المواضع على هذا التفصيل الذي اعتمده النشائي وحاصله راجع إلى رعاية الحظ والمصلحة في ذلك للغائب، ونقل في المهمات عن الفارقي أن محل الخلاف حيث كان المديون ثقة ملياً وإلا وجب على الحاكم قبضه بلا خلاف وحيث ثبت له قبض حقه كان له نصب من يدعي به عند جحوده لأنه وسيلة إليه كما ذكره الغزي، وفي القوت عن القفال في القضاء على الغائب ما يؤيد ذلك وزيادة فانظره فإنه مهم ومحل جوز قبض الحاكم حيث قيل به ما إذا لم يخش استيلاء نحو ظالم عليه أو ضياعه من وجه آخر، إذ لا حظ للغائب حينئذ.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289(6/315)
وسئل رضي الله تبارك وتعالى عنه هل يجب تقليد الأعلم الأورع من المجتهدين أم يتخير؟. فأجاب نفعنا الله تبارك وتعالى بقوله الأصح عند الجمهور كما في أصل الروضة أنه يتخير أخذاً مما كان عليه الصحابة، ومحله كما قاله الغزالي ما لم يعتقد أن أحدهما أعلم وإلا لم يجز تقليد غيره وإن كان لا يلزمه البحث عن الأعلم ورجحه في زوائد الروضة بقوله المختار إذ هو فيها بمعنى الراجح بعد أن نظر فيه، ونقله عن غيره، أي ك ابن الصلاح ، ثم قال: فعلى هذا يلزمه تقليد أورع العالمين وأعلم الورعين وإن تعارضا قدم الأعلم على الأصح اهـ. واعترض بأن الأصح أنه لو اختلف عليه اجتهاد مجتهدين في القبلة تخير وإن اعتقد أحدهما أفضل وبأن كلام المجموع في مقدمته وأصل الروضة فيما إذا اختلف عليه مفتيان يقتضي التخيير مطلقاً وبأن قياس ذلك على وجوب تقديم أرجح الدليلين وأوثق الروايتين غير صحيح، لأن المخاطب به هو المجتهد الذي يجب عليه البحث عن ذلك بخلاف غيره، فإنه لا يجب عليه البحث عن الأعلم وبأن العامي لا عبرة باعتقاده إذ قد يعتقد المفضول فاضلاً إذ لا تمييز له وبأن الكمال المحقق ابن الهمام صرح بأنه لا فرق ويجاب بأن أمارة القبلة ظاهرة يستوي في معرفتها الأفضل وغيره ولو سلمنا عدم استوائهما فالتفاوت بينهما فيها غير كبير بخلاف الأحكام، فإن التفاوت فيها بين العلماء قد كثر وانتشر والأعلم أدرى بها فوجب تقليده وبأن اقتضاء ما ذكر في اختلاف المفتيين، إما أن يقال إنه صحيح ويفرق بأن الابتداء يحتاط له أكثر لأن فيه التزام الأخذ بقوله في سائر الأحكام بخلاف ما إذا اختلف عليه مفتيان فإنه في مسألة واحدة فوسع فيه أكثر أو يقال وهو الأقرب هو مقيد بذلك أيضاً وأهملوه فيها لعلمه من تلك المسألة وبأنا وإن سلمنا فساد القياس المذكور فذلك لا يقتضي ضعف كلام الغزالي المذكور على أن القياس صحيح، إذ صورته أن المجتهد اعتقد الأرجحية والمقلد كذلك فتساويا حينئذ ولا نظر(6/316)
إلى أن ذاك يجب عليه البحث دون هذا إذ لا يصح فارقاً وبأن دعوى عدم الاعتبار باعتقاد العامي في محل المنع بل هو في محل النزاع.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289
وسئل رحمه الله تعالى بما صورته: قال الشيخان : الناس كالمجمعين اليوم على أنه لا مجتهد اليوم هل لهما مستند في ذلك مع ما يلزم عليه من تعطل فرض الكفاية وتأثيم الناس والمفتين غير المجتهدين؟. فأجاب بقوله: سبقهما إلى ذلك الفخر الرازي وغيره، بل قال بعض الأصوليين منا لم يوجد بعد عصر الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ مجتهد مستقل أي من كل الوجوه فلا ينافيه قول كثيرين من أصحابنا، اتبعنا الشافعي رحمه الله تعالى دون غيره لأنا وجدنا قوله أرجح لا أنا قلدناه أي في كل ما ذهب إليه بل وافق اجتهادنا اجتهاده في كثير من المسائل، ومن ثم قال النووي رحمه الله تعالى ك ابن الصلاح رحمهما الله تعالى ودعوى انتفاء التقليد عنهم مطلقاً لا يستقيم ولا يلائم المعلوم من حالهم أو حال أكثرهم لكن نازعهم ابن دقيق العيد ، واختار قول الحنابلة لا يخلو العصر عن مجتهد ومال إليه في الخادم قال والد ابن دقيق العيد عزة المجتهد في هذه الأعصار ليس لتعذر حصول آلة الاجتهاد بل لإعراض الناس عن الطريق المفضية إليه، وظاهر كلامه هذا تأثيم كل الناس من عصر الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ إلى الآن، لأن من فروض الكفايات أن يكون في كل عصر من يصلح للقضاء، وقد قال النووي ك ابن الصلاح رحمهما الله تعالى ومن دهر طويل يزيد على ثلثمائة سنة عدم المجتهد المستقل ولقولهم ظاهر كلام الأصحاب أن فرض الكفاية لا يتأتى بأصحاب الوجوه لكن قال ابن الصلاح ويظهر تأدي الفرض به في الفتوى وإن لم يتأد في إحياء العلوم التي منها استمداد الفتوى لأنه قام مقام المستقل وعلى تسليم ما ذكره فقد تعطل فرض الكفاية بالمعنى الثاني الذي ذكره فالذي يجب الجزم به أن عزة المجتهد إنما هو لتعذر حصول آلة الاجتهاد(6/317)
لا للإعراض عن طريقه، لأن أصحابنا وغيرهم بذلوا جهدهم فوق ما يطاق كما يعلم لمن تأمل أخبارهم ومع ذلك فلم يظفروا برتبة الاجتهاد المطلق كما مر، وأيضاً فقد ذكر الفقهاء أن فرضية ما مر إنما يخاطب بها من جمع الشروط التي ذكروها وإذا تأملت جميع أهل الأعصار المتأخرة لم تجدهم جمعوا تلك الشروط فلا إثم عليهم، إذ من تلك الشروط الذكاء والمراد به كما هو ظاهر ذكاء يوصل إلى رتبة الاجتهاد لمن بذل جهده، وأفنى عمره في اقتناص شوارد العلوم وأصحابنا وغيرهم قد بذلوا جهدهم وأفنوا عمرهم ولم يظفروا بذلك فعلمنا أنهم لم يتصفوا بالذكاء المذكور فلا وجوب عليهم، وكذا يقال في أعصارنا التي خلت عن المجتهد بجميع أقسامه حتى مجتهد الفتوى فلا إثم عليهم في تعطل الفرض بالمعنيين المذكورين في كلام ابن الصلاح السابق، فإن قلت ما وجه التعطل عن مجتهد الفتوى قلنا لأنهم ذكروا أن الشيخين وغيرهما ممن لم يبلغ رتبة أصحاب الوجوه ك
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289(6/318)
الغزالي وإمامه على نزاع في ذلك إنما هم مجتهدون في الفتوى لا في المذهب ولا مجتهدون منشؤون وإذا كانوا هؤلاء الأئمة كذلك فأنى لك في مثل هذه الأعصار المتأخرة أن تجد مثل أقلهم، ويدل لما ذكرته قول الجلال المحلي عقب حكايته القول بجواز إفتاء المقلد وإن لم يكن قادراً على التفريع والترجيح، لأنه ناقل لما يفتي به عن إمامه وإن لم يصرح بنقله عنه وهذا هو الواقع في الأعصار المتأخرة. وقول النووي ك ابن الصلاح رحمهما الله تبارك وتعالى بعد أن ذكر المنتسب ومجتهد المذهب الثالثة أن لا يبلغ مرتبة أصحاب الوجوه لكنه فقيه النفس حافظ مذهب إمامه إلى أن قال وهذه صفة كثير من المتأخرين إلى أواخر المائة الرابعة الصنف الذين رتبوا المذهب وحرروه وصنفوا فيه تصانيف منها معظم اشتغال الناس اليوم ولم يلحقوا الذين قبلهم في التخريج، ثم قال الرابعة أن يقوم بحفظ المذهب وفهمه ولكن عنده ضعف في تقرير أدلته وتحرير أقيسته، ثم قال وما لم تجده منقولاً إن وجد في المنقول معناه بحيث يدرك بغير كبير فكر أنه لا فرق بينهما جاز إلحاقه به في الفتوى وكذا ما يعلم اندراجه تحت ضابط ممهد في المذهب وما ليس كذلك يجب إمساكه ومثل هذا يقع نادراً في حق المذكور إذ يبعد كما قال إمام الحرمين أن تقع مسألة لم ينص عليها في المذهب ولا هي في معنى المنصوص ولا مندرجة تحت ضابط فانظر جعله من بعد المائة الرابعة ليس من مجتهدي المذهب الدال لما قدمته ثم كلام الجلال المحلى المذكور يفهم اعتماده لذلك القول وهو قريب لئلا يلزم عليه تأثيم كثير من المتأخرين بإفتائهم مع قصورهم عن درجة المذكورين في كلام النووي رحمه الله تعالى وأما قوله عقب الأقسام الأربعة وكل صنف منها يشترط فيه حفظ المذهب أي معظمه مع التمكن من الوقوف على الباقي على قرب كما ذكره قبل ذلك وفقه النفس فمن تصدى للفتيا وليس بهذه الصفة فقد باء بأمر عظيم ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم فهو محمول على ما(6/319)
إذا وجد هناك متصف بأحد الأقسام الأربعة التي ذكرها بقرينة قوله بعد ذلك، فإن قيل من حفظ كتاباً أو أكثر في المذهب وهو قاصر لم يتصف بصفة أحد ممن سبق ولم يجد العامي في بلده غيره فهل له الرجوع إلى قوله فالجواب إن كان في غير بلده مفت يجد السبيل إليه وجب التوصل إليه بحسب إمكانه فإن تعذر ذكر مسألته لذلك القاصر فإن وجدها بعينها في كتاب موثوق بصحته وهو ممن يقبل خبره نقل له حكمها بنصها وكان العامي فيها مقلداً صاحب المذهب. قال ابن الصلاح وهذا وجدته في ضمن كلام بعضهم، والدليل يعضده اهـ. قال ابن الصلاح عقب ذلك ثم لا يعد هذا القاصر بأمثال ذلك من المفتين ولا من الأصناف المستعار لهم سمة المفتين وأما ما قطع به الحليمي و الجويني و الروياني وغيرهم من تحريم إفتاء المقلد بما هو مقلد فيه فهو محمول كما قاله ابن الصلاح على ما إذا ذكره بصورة من يقوله من عند نفسه ثم قال فعلى هذا من عهدناه من المفتين المقلدين ليسوا مفتين حقيقة لكن لما قاموا مقامهم وأدوا عنهم عدوا معهم وسبيلهم أن يقولوا مثلاً مذهب الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ كذا ونحو هذا ومن ترك الإضافة فقد اكتفى بالمعلوم من الحال عن التصريح به اهـ.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289(6/320)
وسئل رحمه الله تعالى هل يجوز الاعتماد على النقل من الكتب في الأحاديث والفقه وغيرهما؟. فأجاب نفعنا الله تعالى به بقوله: مقتضى كلام النووي رحمه الله تعالى في مقدمة شرح المهذب بل صريحه جواز الاعتماد على الكتب الموثوق بصحتها، وصرح به أيضاً ابن الصلاح ثم قال ما حاصله ويحصل له الثقة في غير الموثوق بصحتها بأن يجده في عدة من أمثالها، وفي الموثوق بصحتها بأن يراه كلاماً منتظماً وهو فطن لا يخفى عليه غالباً محل الإسقاط والتغيير وإن لم يثق به وكان موافقاً لأصول مذهبه وهو أهل لتخريج مثله فله الإفتاء به ولا يحكيه عن إمامه إلا بصيغة وجدت عنه كذا أو نحوها وغير الأهل لا يجوز له ذلك ولا ذكره بلفظ جازم مطلق وله ذكره في غير مقام الفتوى مفصحاً بحاله كوجدت عن فلان أو في نسخة من كتابه كذا، ونقل الزركشي في جزء جمعه عن الأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني الإجماع على جواز النقل من الكتب المعتمدة، ولا يشترط اتصال السند إلى مصنفها. وقال الكيا الطبري من وجد شيئاً في كتاب صحيح جاز له أن يرويه ويحتج به ومنعه قوم من أصحاب الحديث لأنه يسمعه وهو غلط اهـ.(6/321)
وسئل رحمه الله تعالى هل يجوز العمل والإفتاء والحكم بأحد القولين أو الوجهين وإن لم يكن راجحاً سواء المقلد البحت والمجتهد في الفتوى وغيره؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله في زوائد الروضة أنه لا يجوز للمفتي والعامل أن يفتي أو يعمل بما شاء من القولين أو الوجهين من غير نظر، قال وهذا لا خلاف فيه وسبقه إلى حكاية الإجماع فيهما ابن الصلاح و الباجي من المالكية في المفتي، وقد يؤخذ من قول الروضة بغير نظر أن محل ما ذكره بالنسبة للعامل إن كان من أهل النظر بخلاف غيره، فإنه يجوز له مطلقاً وهو متجه، ويدل عليه ما صححه فيها من أن العامي لا يلزمه أن يتمذهب بمذهب معين بل له تقليد من شاء وكلام القرافي أول أحكامه وعند السؤال الثاني والعشرين دال على أن المجتهد والمقلد لا يحل لهما الحكم والإفتاء بغير الراجح لأنه إتباع للهوى وهو حرام إجماعاً وإن محله في المجتهد ما لم تتعارض الأدلة عنده ويعجز عن الترجيح وإلا فقيل تسقط وقيل يختار واحداً وليس اتباعاً للهوى لأنه بعد بذل الجهد والعجز عن الترجيح وأن لمقلده حينئذ الحكم بأحد القولين إجماعاً وهذا لا يخالف كلام الروضة باعتبار ما دل عليه كلامها بعد ما قدمناه عنها ويلتزم أن يقال بقضية كلامه الأخير فإذا وجد قولين أو وجهين في مسألة ولم يعلم الراجح منهما وعجز عن طريق الترجيح جاز له العمل بأيهما أحب، فقول
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289(6/322)
السبكي فإن قلت إذا استوى عنده القولان فهل يجوز أن يفتي أو يحكم بأحدهما من غير ترجيح كما إذا استوى عند المجتهد أمارتان يتخير على قول، قلت الفرق بينهما أن تعارض الإمارتين قد يحصل حكم التخيير من الله تعالى، وأما قول الإمام الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ مثلاً إذا تعارضا ولم يحصل بينهما ترجيح ولا تاريخ يمتنع أن يقال مذهبه كل واحد منهما أو أحدهما لا بعينه حتى يتخير فليس إلا التوقف إلى ظهور الترجيح مناف لكلام القرافي الذي نقل عليه الإجماع ثم مقتضى قول الروضة أيضاً، وإذا اختلف متبحران في مذهب لاختلافهما في قياس أصل إمامهما ومن هذا يتولد وجوه الأصحاب فبقول أيهما يأخذ العامي فيه ما في اختلاف المجتهدين أي فيكون الأصح التخيير أنه يجوز تقليد الوجه الضعيف في العمل، ويؤيده إفتاء البلقيني بجواز تقليد ابن سريج في الدور وأن ذلك ينفع عند الله تعالى فما في الجواهر عن ابن عبد السلام من امتناعه أخذاً من قول ابن الصباغ أنه خطأ غير متجه، ويؤيده أيضاً قول السبكي في الوقف من فتاويه يجوز تقليد الوجه الضعيف في نفس الأمر أو القوي بالنسبة للعمل في حق نفسه لا الفتوى والحكم، فقد نقل ابن الصلاح الإجماع على أنه لا يجوز اهـ، فكلام الروضة السابق محمول بالنسبة للعمل على وجهين لقائل واحد أو شك في كونهما لقائل أو قائلين كما في قولي الإمام لأن المذهب منهما لم يتحرر للمقلد بطريق يعتمده، أما إذا تحقق كونهما من اثنين خرج كل واحد منهما من هو أهل للتخريج فيجوز تقليد أحدهما كما يصرح به قول أصل الروضة السابق إذ لا يمكن حمله إلا على هذه الحالة، ثم رأيت بعضهم حمل كلام ابن عبد السلام السابق على ما إذا كان أصحاب المذهب اختار كل واحد منهم قولاً ثم قال فإن ما كان كذلك التخيير فيه ظاهر لتضمن اختيار كل قول من بعض المذهب ترجيحه فهو كالوجهين لقائلين ثم ذكر عنه جواز تقليد القول الأوّل وإن رجع عنه قائله ووجهه أن رجوعه عنه إنما هو(6/323)
لأرجحية الثاني عليه فالرجوع لا يقتضي رفع الخلاف السابق كما في أوائل الخادم، وحكى الأصوليون في اجتماع أهل العصر بعد اختلافهم قولين في ارتفاع الخلاف فما لم يقع فيه إجماع أولى، وحاصل ما مر الجواز عند ابن عبد السلام في مسألة القولين مطلقاً وهو وإن كان له وجه إذ القول الذي قلده إما أن يكون في مسألة غير مولدة فذلك الإمام مسبوق به فيجوز تقليده، وإما في مولدة فالرجوع لا يرفع الخلاف كما تقرر لكن المعتمد عند الشيخين وغيرهما ما مر، ومقتضى كلام السبكي أن ما مر عن الروضة في المفتي محله في المتعنت فإنه قال نعم المفتي على مذهب إذا أفتى بكون الشيء واجباً أو مباحاً أو حراماً على مذهبه حيث يجوز للمقلد الإفتاء بحسن أن يقال له أن يقلد غيره ويفتي بخلافه لأنه حينئذ محض تشبه اللهم إلا أن يقصد مصلحة دينية فنعود إلى ما قدمناه ونقول بجوازه اهـ ومقتضى كلامه أيضاً أن ما مر عنها في الخادم محله في غير من له أهلية الترجيح بخلاف من له ذلك فإنه متى رجح قولاً منقولاً بدليل جيد جاز ونفذ حكمه به وإن كان مرجوحاً عند أكثر الأصحاب ما لم يكن بعيداً شاذاً أو يخرج عن مذهبه وإلا جاز أن ظهر له رجحانه وهو من أهله ولم يشرط عليه التزام مذهب بلفظ كوليتك على مذهب فلان أو عرف وأفتى السبكي أيضاً بأنه يجوز تقليد القول بصحة بيع الغائب لأنه قول الأكثر، والدليل يعضده ولاحتياج أكثر الناس إليه في أكثر ما يراد شراؤه.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289
وسئل رحمه الله تعالى هل لولي الأيتام أن يقسم بينهم وحده؟. فأجاب بقوله: لا يجوز استقلاله بذلك بل لا بد من قاسم آخر معه إن كانت القسمة إفرازاً، فإن كانت بيعاً فلا بد من الحاكم أو منصوبه.(6/324)
وسئل رحمه الله تعالى هل يجب بعد تدوين المذاهب التزام أحدها وهل له الانتقال عما التزمه؟. فأجاب بقوله الذي نقله في زيادات الروضة عن الأصحاب وجوب ذلك وأنه لا يفعله بمجرد التشهي ولا بما وحد عليه أباه بل يختار ما يعتقده أرجح أو مساوياً إن اعتقد شيئاً من ذلك وإلا فهو لا يجب عليه البحث عن أقوم المذاهب كما لا يجب عليه البحث عن الأعلم، ثم قال: والذي يقتضيه الدليل أنه لا يلزمه التمذهب بمذهب بل يستفتي من شاء أو من اتفق لكن من غير تلقط الرخص فلعل من منعه لم يثق بعدم تلقطه اهـ وظاهره جواز الانتقال وإن اعتقد الثاني مرجوحاً وجواز تقليد إمام في مسألة وآخر في أخرى وهكذا من غير التزام مذهب معين، أفتى به العز بن عبد السلام و الشرف البارزي ، وفي الخادم عن ابن أبي الدم في باب القدوة ما يؤيده وإن كان مردوداً من جهة أخرى كما يعرف بتأمله، وعبارة الغزالي في فتاويه: لا يجوز لأحد أن ينتحل مذهب إمام رأساً إلا إذا غلب على ظنه أنه أولى الأئمة بالصواب، ويحصل له غلبة الظن إما بالتسامع من الأفواه أو بكون أكثر الخلق تابعين لذلك الإمام فصار قول العامي أنا شافعي أنا حنفي لا معنى له لأنه لا يتبع إماماً عن غلبة الظن بل يجب أن يقلد في كل حادثة من حضر عنده من العلماء في تلك الساعة ثم اشتراط عدم تتبع الرخص هو المعتمد وتبعه المحقق الكمال بن الهمام من الحنفية وعلى الأول فهل يفسق بالتتبع وجهان أوجههما أنه لا يفسق كما يقتضيه كلام النووي في فتاويه، وقول بعضهم إن ابن حزم حكى الإجماع على الفسق محمول على متتبعها من غير تقليد وإلا فقد أفتى ابن عبد السلام بجوازه وقال إن إنكاره جهل وهل المراد بالرخص هنا الأمور السهلة أو التي ينطبق عليها ضابط الرخصة عند الأصوليين محل نظر ولم أر من نبه عليه، ومقتضى تعبير أصل الروضة بالأهون عليه الأوّل وليس ببعيد ثم شرط الانتقال أن لا يعمل بمذهب في واقعة مع بقائه على تقليد إمام آخر في تلك(6/325)
الواقعة وهو يرى فيها خلاف ما يريد العمل به وأن يكون ذلك الحكم مما ينقض فيه قضاء القاضي قاله ابن عبد السلام ، وتابعه عليه
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289
ابن دقيق العيد وألحق بما ينقض ما خالف ظاهر النص بحيث يكون التأويل مستكرهاً وزاد شرطين آخرين كما في الخادم أحدهما أن لا تجتمع صورة يقع الإجماع على بطلانها كما إذا افتصد ومس الذكر وصلى الثاني انشراح صدره للتقليد وعدم اعتقاده لكونه متلاعباً بالدين لحديث: «الإثم ما حاك في نفسك» قال بل أقول إن هذا شرط جميع التكاليف وهو أن لا يقدم إنسان على ما يعتقده مخالفاً لأمر الله عز وجل وبالأول جزم القرافي ومثله بمن قلد مالكاً في عدم النقض باللمس بلا شهوة فلا بد أن يكون قلد مالكاً في تلك الطهارة التي مس فيها ويمسح جميع رأسه وإلا فصلاته باطلة عند الإمامين ونقله عنه الإسنوى ، وأقره وذكر من فروعه ما لو نكح بلا ولي ولا شهود فإنه يحد كما قاله الرافعي لاتفاق أبي حنيفة و مالك على بطلان النكاح، وأما الثالث كالذي وافق عليه ابن عبد السلام فمنظر فيهما بأن العامي لا يستقل بذلك ولا وثوق بما في ظنه وبأنهما مبنيان على وجوب البحث والعمل بما يترجح عنده ويميل قلبه إليه والمعتمد خلافه، نعم إن علم ذلك ممن له أهلية فيمكن القول بما ذكره ابن عبد السلام ويؤيده إيجابهم الحد على من وطىء أمة بإذن مالكها وإن قلد عطاء و طاوساً في إباحة ذلك، وأما ما زاده ابن دقيق العيد فبعيد جداً كما قاله بعض المتأخرين إذ ما من مذهب إلا وهو مشتمل على مثل ذلك ولا يخفى ما فيه من المشقة المنافية للرخص للعوام في تقليد من شاؤوا وما ذكره من التلاعب بالدين ممنوع لأنه لا يتأتى مع فعل ما خير فيه شرعاً وكذا دعواه اعتقاد المخالفة إذ من قلد الشافعي واعتقد أرجحية يرى جواز تقليد الحنفي بناء على جواز التخيير وعدم لزوم التقييد بالراجح وهو الأصح فمتى قلده لا يقال أنه أقدم(6/326)
على ما يعتقده مخالفاً لأمر الله تعالى بل ما يعتقد موافقته له. وفي صحيح مسلم الأثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس فلا دليل فيه ومعنى حاك تردد حتى حصل في القلب شك وخوف كونه ذنباً أو رسخ فيه واستقر كونه ذنباً أو خرج جواباً لفطن حاذق الفهم دون ضعيف الإدراك وعلى كل فلا دليل فيه، وشرط ابن السبكي تبعاً للآمدي و ابن الحاجب أن لا يعمل بقول إمامه في واقعة قالا فمتى عمل به في واقعة فليس له الرجوع عنه اتفاقاً كذا نقل عنهما غير واحد لكن في تمهيد الإسنوى عن ابن الحاجب إثبات الخلاف ولكنه فرضه فيمن التزم مذهباً معيناً، وكلام
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289(6/327)
ابن الحاجب دال عليه لكن يلزم عليه حكاية الاتفاق على المنع فيمن لم يلتزم مذهباً معيناً وإثبات خلاف في الملتزم وما أبعده إذ العكس أولى لأن التزامه ملزم له كما لو التزم مذهبه في حكم حادثة معينة على أن السبكي في فتاويه منع دعوى الاتفاق حيث قال ما حاصله السابعة أن يعمل بتقليده الأوّل كالحنفي يدعى شفقة الجواز فيأخذها بمذهبه ثم تستحق عليه فيريد تقليد الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ فيمنع لأنه مخطىء إما أوّلاً أو ثانياً وهو شخص واحد مكلف أي والقضية واحدة بخلاف ما لو اشترى هذا الحنفي عقاراً آخر فإن له تقليد الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ في امتناع شفعة الجوار. قال، وقول الآمدي و ابن الحاجب: يجوز قبل العمل لا بعده بالاتفاق دعوى الاتفاق فيها نظر، وفي كلام غيرهما ما يشعر بإثبات خلاف بعد العمل أيضاً وكيف يمتنع إذا اعتقد صحته ولكن وجه ما قالاه أنه بالتزامه مذهب إمام يكلف به ما لم يظهر له غيره والعامي لا يظهر له الغير ولا بأس به، لكن أرى تنزيله على الصورة التي ذكرتها ثم استشهد لما اختاره بما فيه طول وبجواز الانتقال مطلقاً. أفتى العز بن عبد السلام وهو مقتضى كلام النووي ، وقد صرح في مجموعه بأن ما شمله إطلاق الأصحاب في حكم المنقول فلا يعتد بمخالفة بعضهم له وتبعه على ذلك الإسنوى والولي العراقي والجلال البلقيني، ويؤيد ما مر من الإطلاق ما في الخادم عن القاضي أبي الطيب من أنه هم بالتحرم فذرق عليه طير فقال أنا حنبلي وأحرم، ومعلوم أنه كان يتجنب ذرق الطيور لنجاسته عنده. وفي المجموع يسن لمن نسي النية في رمضان أن ينوي أوّل النهار لأجزائه عند أبي حنيفة فيحتاط بالنية فنيته حينئذ تقليد له وإلا كان متلبساً بعبادة فاسدة في اعتقاده وذلك حرام.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289(6/328)
وسئل رحمه الله تعالى هل يجوز تقليد الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أم لا فما الدليل عليه؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله: نقل إمام الحرمين عن المحققين امتناعه على العوام لارتفاع الثقة بمذاهبهم إذ لم تدوّن وتحرر، وجزم به ابن الصلاح والحق بالصحابة التابعين وغيرهم ممن لم يدوّن مذهبه وبأن التقليد متعين للأئمة الأربعة فقط. قال: لأن مذاهبهم انتشرت حتى ظهر تقييد مطلقها وتخصيص عامها بخلاف غيرهم، ففيه فتاوى مجردة لعل لها مكملاً أو مقيداً لو انبسط كلامه فيها لظهر خلاف ما يبدو منه فامتنع التقليد إذاً لتعذر الوقوف على حقيقة مذاهبهم اهـ، والقول الثاني جواز تقليدهم كسائر المجتهدين. قال ابن السبكي : وهو الصحيح عندي غير أني أقول لا خلاف في الحقيقة بل إن تحقق مذهب لهم جاز وفاقاً وإلا فلا اهـ، ويؤيده ما نقله الزركشي عن جمع من العلماء المحققين أنهم ذهبوا إلى جواز تقليدهم، واستدل له ثم قال وهذا هو الصحيح إن علم دليله وصح طريقه، ولهذا قال ابن عبد السلام في فتاويه: إذا صح عن صحابي ثبوت مذهب جاز تقليده وفاقاً وإلا فلا لا لكونه لا يقلد بل لأن مذهبه لم يثبت كل الثبوت اهـ كلام الزركشي فتأمله مع قول ابن عبد السلام وفاقاً يتضح لك اعتماد ما ذكره ابن السبكي ومقتضى قول المجموع فعلى هذا أي وجوب التمذهب بمذهب معين يلزم أن يجتهد في إثبات مذهب إلى أن قال وليس له التمذهب بمذهب أحد من الصحابة ـ رضى الله تعالى عنه ـ م، وبسط دليله وبين أن مذهب الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ أقوم المذاهب أن ذلك مفرع على القول الضعيف، ويدل له قول ابن برهان تقليد الصحابة مبني على جواز الانتقال في المذاهب فمن منعه منع تقليدهم لأن فتاويهم لا يقدر على استحضارها في كل واقعة حتى يمكن الاكتفاء بها فيؤدي إلى الانتقال، ومذاهب المتأخرين تمهدت فيكفي المذهب الواحد المكلف طول عمره اهـ وهو حسن بالغ، وبه يعلم جواز تقليدهم في مسائل إذ لا يجب التمذهب(6/329)
بمذهب معين خلافاً للحنفية.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289
وسئل رحمه الله تعالى عن مسألة فيها قولان بالحل والحرمة كشرب النبيذ فشربه من غير تقليد القائل بالحل فهل يأثم أو لا لأن إضافته لأحدهما ليست بأولى من إضافته للآخر؟. فأجاب بقوله: أجاب عن ذلك ابن عبد السلام بما حاصله: إن علم المكلف بما هو ملابس له فرض عين فيجب على المتلبس بشرب النبيذ النظر قبل ذلك فيمن أحله أو حرمه ليقدم أو يترك فهو عاص بترك ذلك وكذا بالشرب أخذاً من قول الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ من باع بيع النجش أثم وإن لم يبلغه النهي لأن الخيانة قد علم تحريمها من الدين بالضرورة فإثمه لتقصيره بخلاف من باع على بيع أخيه، فحاصله أن ما فعله إن اشتهرت حرمته في الشرع أثم وإلا فلا وأنه لا فرق بين أن يكون منفقاً على حكمه أو مختلفاً فيه وقلد القائل بالحرمة أم لم يقلد وهو متجه وهو ظاهر إن علم أن في المسألة خلافاً وإلا فإن عذر بجهله لم يأثم كما يقتضيه ما في مقدمة المجموع عن ابن الصلاح وإن رده الأذرعي بأنه إذا لم يجد من يعلمه مطلقاً كانت الأشياء على الإباحة كما قبل ورود الشرع وإن لم يعذر أثم من حيث ترك التعلم اتفاقاً وكذا من حيث الشرب على ما اقتضاه كلام ابن عبد السلام ويحتمل خلافه. وفي الحجر من الخادم عن الماوردي أن الصبي إذا كان شافعياً وبلغ وهو يشرب النبيذ فسق، وعن ابن أبي هريرة رحمه الله تعالى لا يفسق ثم بحث طرد ذلك في كل ما اختلف فيه من هذا الجنس ورد غيره ما ذكر ابن أبي هريرة بأنه فرعه على ما يراه من جواز تتبع الرخص وفيه نظر، لأن محله ما إذا نوى تقليد القائل بالحل، وفي هذه إذا نوى ذلك لا يفسق لأن هذه مسألة واحدة فالتقليد فيها لا يقال إنه تتبع للرخص فالوجه أنه جعل الاختلاف في الحل مانعاً للفسق وكلامهم يرده، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289(6/330)
وسئل رحمه الله تعالى هل للشافعي الأخذ بشفعة الجوار إذا قضى له بها حنفي والشهادة بها وبنحوها كالتعريض بالقذف عنده وإذا أمر الإمام جلاداً شافعياً بقتل مسلم بكافر هل يحل امتثال أمره أم لا؟. فأجاب نفع الله تعالى به بقوله: أما المسألة الأولى فيحل الأخذ فيها ظاهراً وباطناً كما رجحه الشيخان في باب القسامة حيث نقلاه عن ميل الأئمة ونقلاه في الدعاوى عن الأكثرين والقاضي والإمام عن الجمهور فهو المعتمد وإن خالف فيه جماعة من أصحابنا، واعتمده السبكي ومال إليه كلام الشيخين في موجبات الضمان كما قيل على نظر فيه لاستغنائهما بما صرحا به في مواضع ويشهد له ما حكاه ابن أبي الدم عن الأصحاب من أن الحنفي لو خلل خمراً بما لا يطهر به عند الشافعي فأتلفها فرفعه لحنفي فقضى على الشافعي بضمانها لزمه قولاً واحداً حتى لو لم يكن للمدعي بينة وطالبه بعد بأداء قيمتها لم يجز له أن يحلف أنه لا يلزمه شيء وفرضه كون المدعي حنفياً ليس بقيد بل لو كان شافعياً كان كذلك، وما في فتاوى ابن الصلاح من جواز بيع الوقف على النفس باطناً وإن حكم به حنفي ونفذه شافعي فمبني على مقابل كلام الشيخين، وأما الثانية فصحح في زيادة الروضة فيها قبول الشهادة وظاهره أنه لا فرق بين أن يقول أشهد أن فلاناً جار فلان أو أنه يستحقها عليه بسبب الجوار أو أنه يستحق عليه الشفعة والأولى ظاهرة والثانية كذلك وإن تردد فيها الأذرعي والثالثة لا تقبل كما رجحه الهروي لاختلاف الناس فيما يستحق فيه الشفعة وبم تستحق، وحكى في أصل الروضة وجهين في باب الشهادة في جواز الأداء وحكى وجهين في جواز التحمل، وحكى عن الصيمري ترجيح الجواز ومنه يعلم ترجيح جواز الأداء بالأولى بل وجوبه لأنه حيث جاز التحمل وتحمل لزمه الأداء كما اقتضاه كلامهم وظاهر ما تقرر أنه لا فرق بين أن يقلد الشاهد القائل بذلك أو لا لكن في فتاوى ابن عبد السلام لا يجوز لشافعي أن يحضر عقد حنفي على صغيرة لا أب لها(6/331)
ولا جد ولا الشهادة على الصبية بإذنها في التزويج في ذلك إلا إذا قلد الحنفي اهـ، وفي عمومه نظر والأوجه ما قاله السبكي في فتاويه فيمن حضر عقد نكاح يخالف مذهبه من أن له أن يشهد بجريانه وإن لم يقلد فإن أراد أن يشهد بالزوجية لم يجز إلا أن قلد وكذا لا يجوز أن يتسبب فيه ويتعاطى ما يعين عليه إلا أن قلد، وإنما يجوز عند عدم التقليد الشهادة بجريانه إذا اتفق حضوره وطلب منه الأداء فلا يمتنع، ونقل الدميري عنه أنه لا يحل للشافعي أن يشهد بالكفر أو بالتعريض بالقذف أو بموجب التعزير عند من يعلم أنه لا يقبل التوبة ويحد بالتعزير ويعزر بما ينتهي إلى القتل، وفرق بينه وبين مسألة الشفعة بأن الأموال أخف، ويؤيده قول ابن سراقة ليس له أن يشهد عند حنفي على مسلم بقتل كافر لأنه يقتله به، وأما المسألة الثالثة فحيث لم يقلد الجلاد أبا حنيفة رحمه الله تعالى حرم عليه وقتل به وضمنه كما نقله في أصل الروضة عن قطع البغوي وغيره وفرق بينه وبين مسألة الشفعة بأن الذي يستفيد الحل هو المحكوم به بثبوت القصاص دون الجلاد فيؤاخذ بما عمله مما يخالف عقيدته وإن أذن له الإمام ما لم يوكله المستحق على الأوجه.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289(6/332)
وسئل رحمه الله تعالى عن يمين الاستظهار هل ترد كما أفتى به بعض فقهاء جهتنا أخذاً من كلام في فتاوى السبكي والسمهودي أو لا كما أفتى به بعضهم مدعياً أن كلام السبكي لا يؤخذ منه ذلك؟. فأجاب بقوله: رد يمين الاستظهار الواجبة من غير طلب الخصم لا يتصوّر لأنها إنما تجب على مدع على غائب أو طفل أو مجنون أو ميت بلا وارث خاص فإذا أقام المدعي على واحد من هؤلاء بينة كاملة أو شاهداً وحلف معه وجب عليه حينئذ يمين الاستظهار فإن حلفها استحق وإن نكل عنها لم يستحق شيئاً ولا يتصوّر في واحدة من هذه الصور ردها لأن المدعى عليه لا يتصوّر حلفه، أما الغائب والصبي والمجنون فواضح ووليهما لا يمكنه الحلف عنهما، وأما الميت فالفرض كما قررناه أنه لا وارث له خاص بل وارثه بيت المال ووليه لا يمكن حلفه أيضاً، لأن الولي إنما يحلف فيما يتعلق بمباشرته على ما فيه من التناقض المشهور وليس هنا شيء يتعلق بمباشرته، أما يمين الاستظهار الواجبة بالطلب كما لو كان للميت وارث خاص فإنه يعتبر في وجوب حلف المدعى يمين الاستظهار طلب الوارث لأن الحق له في التركة فإذا طلبها تصوّر فيها الرد عليه من المدعي كما هو ظاهر، إذ لا مانع منه ووجوبها أصالة في جانب المدعي لا يمنع ردها، ألا ترى أن أيمان القسامة واجبة أصالة في جانب المدعي ومع ذلك له ردها على المدعي عليه، فإن قلت نقل الزركشي عن جمع وأقره أنه لو كان للصبي أو المجنون نائب خاص اعتبر في وجوب اليمين طلبه فعليه هل يتصوّر الرد، قلت الوجه خلاف ما نقله وارتضاه بل تجب يمين الاستظهار لهما وإن كان لهما نائب خاص وإن لم يطلبها لأن فيها حقاً لله تعالى وحق هذين آكد من حق غيرهما فلا تسقط بعدم طلب نائبهما المقصر به وعلى التنزل وفرض اعتماده فلا يتصوّر هنا رد لما مر من تعذر حلف الولي هنا فتأمل هذا التفصيل تعلم به الحق في المسألة وأن إطلاق الرد وإطلاق عدمه غير صحيح ولم يتيسر لي الآن إلا الوقوف على شرحي(6/333)
للإرشاد دون فتاوى السبكي وغيرها مما ذكر في السؤال، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289
وسئل عن يمين الاستظهار أنها شرط في الحكم فلا يحكم الحاكم حتى يحلف البالغ أو الصبي بعد بلوغه فكيف يدفع المال لولي الصبي قبل وجود الشرط والحكم على الأصح فلو مات الصبي هل يحلف وارثه ويستحق المال أو يدفع المال لمن كان تحت يده أوّلا بعد حلفه كنكوله أو يكون في مستودع الحكم وإذا جن الصبي يعد بلوغه قبل الحلف وطال جنونه وأيس منه بقول الأطباء مثلاً ما الحكم فيه وهل للولي أن يتصرف في المال للصبي بالمصلحة إلى حين بلوغه وحلفه؟ أوضحوا لنا ذلك. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه وبركته بقوله: يمين الاستظهار فيما لو ادعى قيم طفل أو مجنون على قيم طفل أو مجنون وأقام بينة اختلفوا في وجوبها فالذي جرى عليه الشيخان أنها واجبة وهو المعتمد وعليه فلا يسلم المدعى به لولي المدعى له حتى يكمل ويحلف فهو باق بملك المدعى عليه ظاهراً فلوليه التصرف فيه، نعم لا يبعد أن يأتي فيه قولهم لو أقام شاهدين ولم يعدلا أو شاهدا ولم يعدل طولب خصمه بكفيل حتى يعدلا أو يعدل فإن امتنع حبس للامتناع لا لثبوت الحق بل لو ادعى عليه ولم يحلفه وطلب منه كفيلاً حتى يأتي بالبينة وخيف تغيبه لزمه أن يأتي بكفيل كما صرح به الإمام وعليه حمل ما اعتاده القضاة من إلزامهم المدعى عليه بالكفيل بمجرد الدعوى، أما إذا لم يخف تغيبه فلا يجوز إلزامه بذلك، وقيل ذلك إلى رأي الحاكم فإذا ألزم هناك بالكفيل بمجرد خشية تغيبه ولم تقم عليه بينة فأولى أن يلزم القيم المدعى عليه بذلك في مسألتنا لقيام البينة وقبولها فيها وإنما بقي متمم الحجة وهو اليمين فإن قلت ذكروا أنه لو استمهله الخصم ليجرح الشهود أو ليثبت البراءة أونحو ذلك أمهل ثلاثة أيام فلو طلب المهلة ليخرج إلى بلد أي بعيدة المسافة ليأتي ببينة دافعة لم يمهل بل يؤمر بالوفاء(6/334)
ثم إن ثبت خلافه استرد قاله الرافعي فهلا كانت مسألتنا كذلك، قلت فرق واضح بينهما فإن الحق في هذه وجد شرط ثبوته وجميع ما يعتبر فيه والأصل عدم ما ادعاه فأمر بالوفاء ثم إن صدقت دعواه استرد له وإلا فلا، وأما في مسألتنا فلم يوجد جميع شروط ثبوت الحق لأن من جملتها اليمين وهي الآن متعذرة فلم يمكن الأمر بالتسليم لاستحالته قبل ثبوت الحق، فإن قلت ذكر الشيخان بعيد ما مر عنهما في مسألتنا من انتظار البلوغ لتعذر الحلف أنه لو ادعى ولي صبي مالا على آخر فادعى أنه أتلف عليه عيناً بدلها من جنس دينه وقدره حكم عليه بتسليم الحق ثم يحلف له الصبي إذا كمل فلم لم يقولوا بذلك في مسألتنا، قلت هذا من الشيخين رحمهما الله تعالى دليل واضح لما قررته أنه في مسألتنا لا يؤمر بالتسليم بخلافه في هذه، وقد استشكل الإسنوى وغيره بتلك، ثم أجابوا بما حاصله: إن اليمين الواجبة هنا لا تتعلق بالدعوى الأولى بل بالدعوى الثانية وهي أجنبية عن الدعوى الأولى فعملنا بقضية الإقرار في الأولى الغير المتوقف على يمين وألزمنا المقر بالتسليم لتمام الحجة وهي إقراره الذي لا يحتاج إلى انضمام يمين إليه، وأما دعواه أن الصبي أتلف له ما ذكر فهو خصومة ودعوى أخرى لا تعلق لها بالأولى فوقفنا الأمر فيها إلى كمال الصبي، وأما في مسألتنا فالحجة لم تتم كما قررناه أوّلاً فلم يمكن القضاء فيها بالتسليم وخشية الفوات منتفية بما ذكرته من الكفيل هذا كله بناء على وجوب اليمين فيما ذكر وهو المعتمد كما تقرر فلا يسلم إليه المال، أما على مقابله وممن اعتمده
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289(6/335)
ابن عبد السلام و السبكي ومن تبعهما وهو قول من يقول لو أقام ولي طفل بينة على بالغ أو ولي طفل آخر لم ينتظر بلوغه المدعى له ليحلف بل يقضي له بالبينة فلا إشكال حينئذ، وبهذا يعلم الجواب عن قول السائل نفع الله تعالى به فكيف يدفع المال لولي الصبي قبل وجود الشرط والحكم على الأصح ووجهه أنا حيث قلنا إنها واجبة فلا نسلم المال للولي وحيث قلنا بأنها مندوبة سلم إليه فلم يلزم على واحدة من المقالتين التسليم قبل وجود الشرط الذي توهمه السائل، وإذا مات الصبي المدعى له انتقل الحق لوارثه فإن حلف استحق وإلا فلا لأنه خليفة مورثه وهو لا يستحق إلا باليمين على المعتمد السابق فكذا وارثه وظاهر كلامهم انتظار اليمين وإن طال الجنون وأيس من الإفاقة ولا محذور في ذلك لأنه مندفع بأخذ الكفيل الذي قدمته ومر أن المعتمد أن ولي المدعى له لا يسلم المال فلا يتأتى منه تصرف فيه إلا على الضعيف السابق أنه يسلم إليه.(6/336)
وسئل رحمه الله تعالى عما إذا كانت مسألة ذات قولين أو وجهين أو طريقين ولم يصحح أحد من علماء المذهب أحدهما هل يجوز لغير المجتهد العمل بأيهما شاء أو بهما إذا لم يحد أهلاً للتصحيح أو لا ولو لم يوجد نقل في مسألة فهل يجوز الإقدام عليها عملاً بالإباحة الأصلية أم لا؟. فأجاب نفعنا الله تعالى به بقوله: إن عدم المفتي في بلده وغيره لم يؤاخذ بما فعل في المسألتين وإن وجده بغير بلده لزمه التوصل إلى سؤاله بأي وجه قدر عليه ولا يجوز له العمل في واحدة من المسألتين بشيء قبل ذلك وتحرم عليه الإقامة ببلد لا مفتي بها إلا أن سهلت عليه مراجعة مفت ببلد آخر، وقول بعضهم لا تحرم إقامته المذكورة يتعين حمله على ما إذا كان ببلده من يعرف الأحكام الظاهرة التي يعم وقوعها أما بلد ليس فيها من يعرف الأحكام الظاهرة التي يلزم العامة تعلمها فحرمة إقامته بها واضحة وعلى هذا التفصيل يحمل إطلاق حرمة الإقامة بمحل لا مفتي به وإطلاق عدم حرمته وكلا العبارتين وقع لبعض الأئمة فيتعين حمل كل منهما على ما ذكرته.(6/337)
وسئل هل يحل أخذ الأجرة على إيجاب النكاح أو لا؟ فإن قلتم لا فإذا لم يجر شرطها حالة العقد ولكن جرت العادة بإهداء شيء بعده هل يجوز أخذه وإذا كان العاقد قاضياً وليس له وظيفة ولا رزق من بيت المال فهل يحل له الأخذ بشرط أو طلب؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله: لا يجوز أخذ الأجرة لقاض ولا لغيره على مجرد تلقين إيجاب النكاح لأنه غير متعب فلا يقابل بأجرة فإن طلب منه الزوج تعليم قبوله أو إيجابه وكان في تعليم أحدهما تعب يقابل عرفاً بأجرة جار له الاستئجار حينئذ ويستحق الأجرة قاضياً كان المعلم أو غيره وإذا جرت العادة في ناحية باطراد الهدية للعاقد جاز له أن كان غير قاض أخذها بشرط أن يعلم أن المهدي أهدى إليه لا لحياء ولا لخوف مذمة أو عار لو ترك فإن علم أو ظن أنه أهدى إليه استحياء أو خوف مذمته أو مذمة غيره أو أن يعيره لو لم يهد حرم قبول هديته كما أفاده الغزالي وغيره في نظائر لذلك وعلم مما قررته حكم أخذ القاضي الأجرة على العقد، وأما أخذه على الحكم ففيه تفصيل حاصله أن له أن يقول للخصمين لا أحكم بينكما حتى تجعلا لي جعلا بشرط أن يكون فقيراً أو أن ينقطع بالحكم بينهما عن كسبه وأن يعلما به قبل الترافع وأن يكون عليهما معاً وأن يأذن الإمام أو يعجز عن رزقه أو يفقد متطوّع بالقضاء ولم يضر بالخصوم ولا جاوز قدر حاجته واشتهر قدره وساوى بين الخصوم فيه إن استوى وقت نظره وإلا جاز التفاوت، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289
وسئل رحمه الله تعالى هل للمحكم أن يزوّج المحكمة له وإن بعد مكانها فوق مرحلتين وهل المحكم كالقاضي في تحريم الرشوة وغيرها؟. فأجاب نفعنا الله تعالى به بقوله المحكم كالقاضي إلا في مسائل معروفة فلا بد في المحكمة له أن تكون حاضرة ويحرم عليه ما يحرم على القاضي من الرشوة وغيرها، والله سبحانه وتعالى أعلم.(6/338)
وسئل رحمه الله تعالى ما مراد القضاة بقولهم في النصب وشرطت النظر لفلان وما الذي يفعل وكذلك الواقف يشرط النظر لمعين ما حكمه وما الذي يفعل؟. فأجاب بقوله: إذا أناب القاضي إنساناً في واقعة بشرطه وشرط النظر عليه لشخص معين جاز ووجب عليه مراجعة ذلك الناظر فيها وكذلك الواقف إذا شرط النظر لفلان وشرط عليه أن يراجع فلاناً عند تصرفه فيصح ذلك الشرط ويلزمه مراجعته أخذاً مما قالوه في الوصي إذا جعل عليه مشرفاً، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل رحمه الله تعالى هل للقاضي أن يستنيب في مجلسه من يزوّج من لا ولي لها غيره أو يسمع دعوى؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: للقاضي ذلك وهو ظاهر، والله سبحانه أعلم.(6/339)
وسئل رحمه الله تعالى عن قول العباب ولو لم يرزق، أي القاضي، من المصالح فله أخذ عشر ما يتولاه من أموال اليتامى والوقوف للضرورة والعشر مثال ويتعين النظر إلى كفايته وقدر المال والعمل اهـ، فهل المراد أنه لا يأخذ إلا أجرة عمله في المال المذكور وما المراد بالعمل المذكور هل هو الأمر بحفظه وتنميته وهو مشكل، إذ مجرد ذلك لا يقابل بأجرة لأنه كلمة لا تعب فيها أو المراد غير ذلك فما هو ثم قال لو قال القاضي للخصمين لا أحكم بينكما حتى تجعلا لي كذا رزقاً وهو فقير جاز وشرط للجواز شروطاً منها إذن الإمام فإذا تعذر الإذن منه لترفعه عن المراجعة في مثل ذلك ما الحكم ومنها قوله واشتهر قدره أي الجعل كيف يشتهر قدره عند الابتداء بينوا لنا جميع ذلك بعبارة واضحة جلية أثابكم الله تعالى الجنة بمنه وكرمه آمين؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله أما قوله ولو لم يرزق أي القاضي الخ فهو ما ذكره الرافعي في الشرح الكبير وأسقطه من الروضة وعبارة الشرح المذكور حكى ابن كج عن جماعة من الشافعية والحنفية أنه إذا لم يكن للقاضي شيء من بيت المال فله أن يأخذ عشر ما يتولاه من أموال اليتامى والوقوف للضرورة قال ثم بالغ في إنكاره ومن قال به فكأنه ذكر العشر تمثيلاً وتقريباً ولا بد من النظر إلى كفايته وقدر المال والعمل اهـ، وقد أشار
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289(6/340)
الرافعي رحمه الله تعالى إلى أن هذه المقالة ضعيفة بقوله عن ابن كج أنه بالغ في إنكارها وكان هذا هو السبب في حذف النووي لها في الروضة ثم على فرض اعتمادها لا نظر إلا لما أشار إليه الرافعي من أن ذلك العشر مثال وتقريب وأنه لا بد من النظر إلى كفايته وقدر المال والعمل ويوجه بأن ما أبيح للضرورة يتقدر بقدرها فأنيطت بكفايته إن نقصت كفايته عن أجرة عمله فإن زادت على قدر أجرته لم يأخذ أكثر من أجرته ويظهر أن المراد بكفايته أقل ما يكفيه بالنسبة إلى الأمر اللائق به وبعياله اللازم له نفقتهم، وأن المراد بالعمل في تلك الأموال تعهدها وحفظها وصونها عن المفسدين بالذهاب إليها والقيام عليها صباحاً ومساء وإعطاؤها لمن يعمل فيها وتفقد أمرهم فيها وحسابهم على مصاريفها وغير ذلك من الأمور الشاقة وهذه كلها تقابل بأجرة لها وقع كثير فينظر في الأقل من كفايته وأجرته ويعطاها وبهذا يندفع قول السائل وهو مشكل الخ، وإذن الإمام شرط على مقالة الماوردي المجوّز للقاضي الأخذ على الحكم بشروط تسعة فإن فرض تعذره لم يجز للقاضي الأخذ على هذه المقالة، لأن تلك الشروط إنما أباحت الأخذ عند القائلين بإباحته للضرورة كما صرحوا به، وما جاز للضرورة فيقدر بقدرها كما مر ولا ضرورة إلى اغتفار إذن الإمام وإن ترافع لأن من الواضح أن المراد بالإمام في ذلك كل من له تولية القاضي من الإمام الأعظم أو نائبه ومراجعة أحدهما غير متعذرة فلا بد على تلك المقالة لجواز الأخذ من مراجعة أحدهما وإذنه والمراد باشتهار القدر علم المتداعيين به لأنه على هذه المقالة لا يجوز له الأخذ من أحدهما للتهمة وإنما يأخذ منهما فاشترط علمهما به قبل المحاكمة إليه بأن يبينه لهما على وفق ما شرطه الماوردي وغيره عليه وهو أن يكون غير زائد على قدر حاجته وقال غيره أن يكون غير زائد على أجرة عمله، قال بعضهم: والظاهر أن كلاً منهما شرط اهـ، وحينئذ فالظاهر أنه لا بد أن يكون بقدر الأقل(6/341)
من حاجته وأجرة مثله فلا يجوز له أن يأخذ بقدر حاجته، والحال أن أجرة مثله أقل ولا أن يأخذ بقدر أجرة مثله، والحال أن حاجته أقل وأن يكون ذلك الأقل الذي يأخذه قدراً معلوماً يتساوى فيه جميع الخصوم وإن تفاضلوا في المطالب فإن فاضل بينهم لم يجز إلا أن تفاضلوا في الزمان فإذا تقرر ذلك علم أنه لا فرق بين الابتداء والدوام لأنا إذا جوّزنا له الأخذ وأراد أن يبتدئه قلنا له أول متداعيين يأتيان إليك أعلمها أن ما تريد أخذه عليهما ثم عينه لهما بحيث لا يزيد على قدر الأقل من كفايتك وأجرة مثلك فإذا وجد منك ذلك مع بقية الشروط جاز لك الأخذ هذا في أول مرة وأما فيما بعدها فيلزمك أن كل من جاءك بعد الأولى أن تجعل عليهما كما في الأولى ولا تزيد عليهما إلا أن زاد زمان مخاصمتهما على زمان الأولى فلك حينئذ الزيادة بقدر طول الزمان لأنه إذا طال كانت الأجرة المقابلة له أكثر، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289
وسئل رحمه الله تعالى هل للمحكم تعزير من أساء في مجلسه من المتحاكمين إليه؟. فأجاب نفعنا الله تعالى به بقوله: ليس له ذلك وإنما ذلك للحاكم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل عن دين الطفل على الطفل يستوفى أم يوقف ليمين الاستظهار بعد بلوغ الصبي؟. فأجاب بقوله: الذي جرى عليه الشيخان وغيرهما أنه لو ادعى قيم طفل أو مجنون وأقام بما ادعاه بينة انتظر بلوغ أو إفاقة المدعى له لتعذر تحليف غيره عنه وخالف في ذلك السبكي ك ابن عبد السلام فقال لا ينتظر بلوغ ولا إفاقة حتى يحلف بعدهما بل يقضى له بالبينة فإذا كمل حلف.(6/342)
وسئل هل يجوز ما يعتاده القضاة من إقامة بينة على حاضر بالبلد أنه أقر بمبلغ دراهم لآخر أو ببيع أو لا يجوز لقولهم لا يجوز سماع بينة لغرض التسجيل مع خلاف القفال؟. فأجاب بقوله: لا يجوز ذلك وبعضهم يجعل لذلك حيلة كان ينذر إنسان لآخر بكذا إن ثبت إقرار فلان بكذا فيدعي المنذور له على الناذر بموجب نذره فينكر فيقيم البينة بأن فلاناً أقر بكذا فيثبت القاضي إقراره حتى يثبت ويلزم الناذر وهذه الحيلة إنما تتم إن قلنا بصحة النذر في نحو ذلك، وقد ذكر الغزالي رحمه الله تعالى أن قول البائع للمشتري إن خرج المبيع مستحقاً فعليّ أن أهبك ألفا لغو وأقره الشيخان وخالفه فيه آخرون فيأتي ذلك في النذر الواقع في الحيلة المذكورة لأنه نظير مسألة الغزالي إلا أن يفرق بأن البائع مروّج بذلك سلعته فانتفت القربة عن نذره فلغا بخلافه في صورة الحيلة، إذ لا ترويج فيها فصح النذر فيها ثم هذه الحيلة مأخوذة من حيلة ذكرها ابن الصلاح في إثبات براءة حاضر من دين غائب بأن يدعي إنسان على الحاضر أن الغائب أحاله بدينه عليه ويذكر شروط الحوالة فيدعي المدين عدم استحقاق المحتال بمقتضى أن محيله أبرأه من الدين أو أقر بأنه لا حق له عليه ويقيم البينة على ذلك فيقبلها الحاكم ويثبت الإبراء أو الإقرار وإن كان المحيل حاضراً بالبلد، وظاهره أن المدين الذي هو المحال عليه يبرأ من دين دائنه الذي هو المحيل وإلا لم يكن لهذه الحيلة فائدة. قال الشرف الغزي كلام ابن الصلاح صحيح في دفع المحتال، أما إثبات البراءة من دين المحيل فلا بد من إعادتها في وجه المحيل ثم المتجه أن للمحتال الرجوع بدينه على المحيل إلا إذا استمر على تكذيب المحيل اهـ، وإنما يتجه ما ذكره في حوالة صحيحة بدليل ما ذكره آخراً أما إذا جعلت الحوالة حيلة إلى سماع بينة الحاضر ببراءته من دين الغائب عن مجلس الحكم فلا حاجة إلى إعادتها في وجه المحيل لأن حجته من الدفع في البينة باقية لا تبطل بغيبته(6/343)
فغاية ما في الباب أنه إذا حضر وادعى تذكر له البينة ويقال إن كان لك دافع فيها فأظهره وإلا فالحكم قد تم فتمكينه من الطعن فيها مغن عن إعادتها في وجهه، ويوجه سماعها والحكم بها بالنسبة إلى حقه مع حضوره بأنهما لم يقعا بطريق القصد وإنما وقعا بطريق التبع ويغتفر في الشيء تابعاً ما لا يغتفر فيه مقصوداً ويأتي ذلك في حيلة النذر السابقة.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289
وسئل رحمه الله تعالى بما صورته ذكر الإمام النسفي الحنفي في المصفى أنه يجب علينا إذا سئلنا عن مذهبنا ومذهب مخالفنا في الفروع أن نجيب بأن مذهبنا صواب يحتمل الخطأ ومذهب مخالفنا خطأ يحتمل الصواب، أي بناء على أن المصيب في الفروع واحد وغيره مخطىء مأجور فهل صرح أصحابنا بمثل ذلك وهل منعهم الاقتداء بالمخالف حيث ارتكب مبطلاً مقتض لذلك وهل يسوغ للمفتي أن يفتي بمذهب مخالفه وذلك بأن يفتي الحنفي بعدم وجوب الزكاة في مال موليه أو ليس له ذلك بل ولا بالوجه الضعيف المرجوح عند الشيخين ويقال إن بيان الحكم للمستفتي المخالف بنحو ذلك إنما هو من الرواية وحكاية مذهب الغير لا الإفتاء المتوقف على الاعتقاد تفضلوا ببيان ذلك وبسط الكلام، ونقل ما لهم فيه تصريحاً وتلويحاً فإن المقام قد يخفى على كثير حتى توهم بعض المتفقهة أن القول بخطأ المخالف واعتقاد بطلان صلاته مناف لكونه على هدى من ربه عز وجل. فأجاب نفعنا الله تعالى به بقوله: نعم صرح أصحابنا بما يفهم ذلك لا بقيد الوجوب الذي ذكره ففي العدة لابن الصباغ كان أبو إسحاق المروزي و أبو علي الطبري يقولان: إن مذهب الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ وأصحابه أن الحق في واحد إلا أن المجتهد لا يعلم أنه مصيب وإنما يظن ذلك اهـ، وإذا كان المجتهد لا يعلم الإصابة وإنما يظنها فمقلده أولى، ومعلوم أن الظن يقابله الوهم وهو احتمال الخطأ فنتج أن المجتهد يظن إصابته ويجوز خطؤه وأن مقلده كذلك وحينئذ يلزم(6/344)
ما ذكر عن النسفي، ومما يصرح بذلك أيضاً مراعاة الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ وأصحابه خلاف الخصوم في مسائل كثيرة، فذلك تصريح منهم بأنهم إنما يظنون إصابة ما ذهب إليه إمامهم وأنهم لا يقطعون بخطأ مخالفيه وإلا لم يراعوا خلافهم فلما راعوه علم أنهم يجوّزون إصابته الحق وإن كان الأغلب على ظنهم أن الحق هو ما ذهب إليه إمامهم وما أحسن قول الزركشي قد راعى الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ وأصحابه خلاف الخصم في مسائل كثيرة وهذا إنما يتمشى على القول بأن مدعي الإصابة لا يقطع بخطأ مخالفه وذلك لأن المجتهد لما كان يجوّز خلاف ما غلب على ظنه ونظر في متمسك خصمه فرأى له موقعاً راعاه على وجه لا يخل بما غلب على ظنه وأكثره من باب الاحتياط والورع وهذا من دقيق النظر والأخذ بالحزم. قال القرطبي : ولذلك راعى مالك ـ رضى الله تعالى عنه ـ الخلاف قال: وتوهم بعض أصحابه أنه يراعى صورة الخلاف وهو جهل أو عدم إنصاف وكيف هذا وهو لم يراع كل خلاف وإنما راعى خلافاً لشدة قوّته فإن قلت هذا لا حجة فيه، لأن
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289(6/345)
الأنباري استشكل ندب الخروج من الخلاف بأنه أحداث قول لم يقل به أحد فيما إذا اختلفت الأمة على قولين التحريم والإباحة، قال فالقول بأن الترك متعلق الثواب والفعل جائز قول لم يقل به أحد اهـ، قلت يجاب عن إشكاله هذا وإن نقله الأصوليون ولم يجيبوا عنه بأنه إنما يلزم ما زعمه أن لو كان الندب الذي قلنا به من الجهة التي اختلف بسببها في إباحته وحرمته وليس كذلك وإنما الترك فيه له جهة أخرى خارجة عن ذلك اقتضى تحذيره عن الشبهات وتأكيده في طلب ما لا شبهة فيه أنه أعني الترك أولى من هذه الجهة وإن كان واجباً من جهة أخرى كمفسدة أدركها القائل بالحرمة أو جائزاً من جهة أخرى لكون القائل به لم يدرك تلك المفسدة ولقد قالوا رداً على من زعم أنه ما من مباح إلا ويتحقق به ترك حرام فيكون واجباً أن كلامنا ليس في تلك الجهة التي نظر إليها ذلك القائل، ثم أشاروا إلى أن الخلاف لفظي، أي لأن من نظر لتلك الجهة حكم بأنه واجب ومن لم ينظر إليها حكم بأنه مباح فعلمنا أن الكلام مختلف باختلاف النظر إلى الجهات الناشئة هي عنها فكذا في مسألة الخروج من الخلاف فلا يلزم عليها ما زعمه الأنباري فتأمله فإنه مهم، ومما يصرح بذلك أيضاً قول المزني جاء عن أبي حنيفة ـ رضى الله تعالى عنه ـ أنه حكم بين خصمين في طست ثم غرمه للمقضي عليه. قال المزني فلو كان يقطع بأن الذي قضى به هو الحق لما تأثم من الحق الذي ليس عليه غيره ولا غرم للظالم ثمن طسته في حكم الله تعالى أنه ظالم بمنعه إياه من صاحبه قال: ولكنه عندي خاف أن يكون قضى عليه بما أغفل عنه وظلمه من حيث لا يعلم فتورع باستحلال ذلك منه وغرمه له وكان غرمه له مع استيقانه أنه ليس عليه طلباً للثواب فحسب لما خفي عليه أن إعطاءه لمحتاج أعظم لأجره اهـ فتأمل ذلك من المزني رحمه الله تعالى تجده صريحاً فيما في السؤال عن النسفي وكان هذا المذكور عن أبي حنيفة أو نحوه هو مستند النسفي فيما ذكره وإلا فالذي عليه أكثر(6/346)
الحنفية أن كل مجتهد في الفروع مصيب ومقالة النسفي المذكورة لا تتأتى إلا على ما عليه الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ وأصحابه ونقل عن أبي حنيفة ومالك ـ رضى الله تعالى عنه ـ ما وغيرهما وفي ذلك وتحريره خلاف طويل الذيل وليس هذا محل بسطه أن المصيب واحد، ثم رأيت أن ما قاله النسفي بعينه هو أحد وجهين لأصحابنا وأن القاضي أبا الطيب منهم رجح خلافه فقال أعلم أصابتنا وأقطع بخطأ من خالفنا ومنعه من الحكم باجتهاده غير أني لا آثمه اهـ وبما قدمته عن ابن الصباغ عن الأصحاب وعن الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ والأصحاب رحمهم الله تعالى في ندب الخروج من الخلاف وعن المزني تعلم أن الأصح غير ما قاله القاضي أبو الطيب وإن قال الزركشي أنه الأصح، وقد يحمل كلام القاضي على المسائل التي يقول فيها بنقض حكم الحاكم فهذه نقطع فيها بخطأ المخالف لأنه خالف الدليل القطعي إذ لا نقول ذلك، أعني النقص إلا فيما دليله قطعي لا يقبل التأويل بخلاف غيره، ومن ثم اختلف أئمتنا في النقض في مسائل كثيرة ومنشأ اختلافهم أن المخالف هل خالف دليلاً قطعياً لا يؤوّل أم لا، والأصح في أكثرها أنه لا نقض لأن المخالف لم يخالف إلا بحجة متماسكة ويؤيد هذا الحمل الذي ذكرته قول الشيخ
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289(6/347)
عز الدين بن عبد السلام في قواعده من صوّب المجتهدين شرط في ذلك أن لا يكون مذهب الخصم مستنداً إلى دليل ينقض الحكم المستند إليه، قال ولهذا لم يكن شرب النبيذ للحنفي مباحاً وإن بتصويبهم اهـ، فإذا استثنى الشيخ هذا على القول بتصويب المجتهدين فما بالك به على القول بأن المصيب واحد، ومما يدل على ضعف كلام القاضي قوله لا يجوز للشافعي أن يفوّض القضاة لحنفي في مسألة يعتقد المفوّض أن مذهب أبي حنيفة غير صحيح لأنه يعين على ما يعتقد تحريمه قال ولكن يجوز أن يفوّض إليه الحكم فيها لاحتمال أن يتغير اجتهاده فيوافق الشافعي فلا يكون المفوض معيناً على ما يعتقد منعه اهـ، ووجه دلالة هذا على أنه ضعيف أنه مخالف لما أطبقوا عليه بعد انقضاء عصر المجتهدين من أن الشافعي يولي الحنفي وغيره وإن لم يكونوا مجتهدين ولا احتمل تغيرهم عن مذهبهم في مسائل عامة وخاصة لا يراها المولى بل كثيراً ما يولون المخالف في مسألة خاصة ليحكم بها على مذهبه فوقوع الإجماع الفعلي على ذلك من منذ مئات من السنين يدل على جوازه وأنه لا إعانة في ذلك على معصية البتة، ومما يدل على ضعف كلام القاضي أيضاً قول إمام الحرمين في النهاية من فروع مسألة أن المصيب واحد أو الكل اقتداء الشافعي بالحنفي والأصح فيه الصحة إلا أن يتحقق خلافه بما يشترطه أو يوجبه لأنا لا نقطع بالمخالفة حينئذ فتأمل قوله لانقطع بالمخالفة حينئذ مع جعله ذلك من فروع أن المصيب واحد أو الكل تجده صريحاً في رد كلام القاضي وبكلام الإمام هذا يعرف الجواب عن قول السائل نفع الله تعالى به وهل منعهم الاقتداء بالمخالف الخ، وما قدمته عن قواعد الشيخ عز الدين صرح به في فتاويه أيضاً لكن بزيادة فقال فإن خالفت فتوى إمامه حديثاً صحيحاً فإن خالف مخالفة ينقض بها حكمه أن لو حكم به لم يجز تقليده فيما ذهب إليه لأنه مخطىء وليس في الخطأ قدوة ولا في الباطل أسوة ثم قال وله أن ينتقل من تقليد إمام إلى تقليد إمام(6/348)
آخر في جميع ما يذهب إليه بشرط أن لا ينقض بمثله لأنا إذا قلنا بتصويب المجتهدين فلا ينكر على أحد أن ينتقل من صواب إلى صواب آخر، وإن قلنا المصيب واحد فهو غير معين اهـ، وتبعه تلميذه الإمام المجتهد ابن دقيق العيد فاشترط في جواز التقليد أن يكون ما قلد فيه بحيث لا ينقص لو قضى به قاض، وأقره الزركشي وغيره وبه يتضح ما قدمته أن محل الوجهين السابقين فيما لا ينقض لو حكم به حاكم، أما هو فيعتقد خطأ المخالف فيه يقيناً من غير خلاف في ذلك وأما ما زاده
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289(6/349)
ابن دقيق العيد على شيخه بقوله بعد ما مر عنه موافقة لشيخه لا يشترط كون الحكم مما ينقض فيه قضاء القاضي بل يكفي في عدم جواز تقليد القائل به كونه مخالفاً لظاهر النصوص بحيث يكون التأويل مستكرهاً فالظاهر أنه غير معتمد والذي دل عليه كلام الشيخين وغيرهما جواز التقليد حينئذ ثم رأيت بعض المتأخرين قال عقب كلامه هذا وهو بعيد جداً وما من مذهب إلا وهو مشتمل على مثل ذلك ولا يخفى ما في تكليف العوام الاجتناب عن ذلك من المشقة التي لا تليق برخصة جواز التقليد لهم وكأنه فرعه على الضعيف أنه يجب البحث والعمل بما يترجح عند المقلد ويميل إليه قلبه والأصح أنه مخير في تقليد من شاء ولو مفضولاً عنده مع وجود الأفضل ما لم يتتبع الرخص بل وإن تتبعها على ما قاله بعض أصحابنا، واعتمده الشيخ عز الدين وأطال في الاستدلال له وهنا دقيقة ينبغي التفطن لها وكثيراً ما يغفل عنها وهي أن ما قاله النسفي وقلناه من كلام أصحابنا واختلافهم وأن الأرجح هو الموافق لما قاله النسفي إنما يتأتى ذلك على الضعيف أنه يجب تقليد الأعلم، ولا يجوز تقليد غيره مع وجوده، فحينئذ إذا فقد الأعلم هل يقطع بأن مذهبه صواب ومذهب غيره خطأ أم يظن ذلك ولا يقطع به فيه الخلاف السابق والأصح منه هو الثاني كما تقرر، أما إذا قلنا بالأصح المنقول في الروضة وغيرها عن الجمهور واعتمدوه أنه يتخير في تقليد أي من شاء من المجتهدين ولو مفضولاً مع وجود فاضل وإن اعتقده كذلك أخذاً مما في مقدمة المجموع ومما فيه وفي غيره في التقليد في القبلة واختيار الروضة لخلافه إنما هو من حيث المدرك عنده لا من حيث النقل فلا يلزم اعتقاد ذلك بل لا يتصور منه لأنه مع اعتقاده أن إمامه مفضول لا يمكن أن يقطع بل ولا يظن بأنه على الصواب وغيره على الخطأ، وإنما غاية أمره أنه يجوز موافقته للصواب، وهذا كاف في حق العامي لأنا إن قلنا كل مجتهد مصيب وهو ما عليه كثيرون من الشافعية وغيرهم بل نقله غير واحد عن(6/350)
أكثر العلماء، و للشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ عبارات تقتضيه وعبارات تمنعه ومن ثم كثر اختلاف أصحابه في فهم عباراته في ذلك وغلط بعضهم بعضاً ولتحرير ذلك محل يليق به غير هذا فالأمر واضح وإن قلنا إن المصيب واحد وغيره مأجور على اجتهاده وقصده الحق وهو المعتمد فذلك الواحد مبهم فيكفي اعتقاد العامي أنه يحتمل أن إمامه صادف ذلك الحق فبان بما قررته أن المقلد لا يلزمه أن يعتقد إلا أن ما ذهب إليه إمامه يحتمل أنه الحق عند الله سبحانه وتعالى، وأما ظنه لذلك أو القطع به فلا وكيف يتصوّر من العامي حقيقة ظن ذلك أو القطع به وهي أعني تلك الحقيقة إنما تنشأ عن النظر في الدليل على وجهه وذلك لا يتصوّر إلا للمجتهد والكلام إنما هو في المقلد فبهذا عرف أن من عبر بالظن أو القطع فيما مر لم يرد بذلك إلا الصورة دون الحقيقة لاستحالة وجودها لغير المجتهد فتأمل ذلك وما قبله فإن كلا منهما دقيق غامض ثم رأيت محقق الحنفية
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289(6/351)
الكمال بن الهمام صرح بما يؤيد ما ذكرته في كلام النسفي منهم حيث قال إن أخذ العامي بما يقع في قلبه أنه أصوب أولى وعلى هذا إذا استفتى مجتهدين فاختلفا عليه فالأولى أن يأخذ بما يميل إليه قلبه منهما وعندي أنه لو أخذ بقول الذي لا يميل إليه جاز لأن ميله وعدمه سواء والواجب عليه تقليد مجتهد وقد فعل اهـ، وقد توسع ابن عبد السلام فيما مر من منع التقليد فيما ينقض الحكم به فقال: لا يجوز التقليد في تصحيح الدور في المسألة السريجية وأن ذلك مما ينقض فيه قضاء القاضي لمخالفته للقواعد الشرعية اهـ، وما علل به ممنوع بل كثير من القواعد الشرعية يشهد لتصحيح الدور بل ليس على بطلانه حجة صحيحة إلا ما فيه من سد باب الطلاق المعلوم من الظواهر عدم قبوله للسد وهذا وحده غير كاف في منع التقليد وجواز النقض فالوجه ما قاله البلقيني من جواز التقليد فيه وأنه لا عقاب على من قلد في ذلك لأن الفروع الاجتهادية لا عقاب فيها أي لمن قلد فيها لا مطلقاً خلافاً لبعضهم، وقول ابن الصباغ أن تصحيحه خطأ ليس مذهباً للشافعي لا يقتضي منع تقليده لأنه شخص من الأصحاب تفرد بمقالة باعتبار ما عنده فلا يكون حجة على غيره ممن يقول بصحته لا سيما وهم الأكثرون على ما فيه مما بينته في كتابي الأدلة المرضية على بطلان الدور في المسألة السريجية، وقول السائل نفع الله تعالى به وهل يسوغ للمفتي الخ جوابه نعم يسوغ له الإفتاء بمذهبه وخلاف مذهبه إذا عرف ما يفتي به على وجهه وأضافه إلى الإمام القائل به، لأن الإفتاء في العصر المتأخرة إنما سبيله النقل، والرواية لانقطاع الاجتهاد بسائر مراتبه من منذ أزمنة كما صرح به غير واحد وإذا كان هذا هو سبيل المفتين اليوم فلا فرق بين أن ينقل الحكم عن إمامه أو غيره بل لو فرض أن شخصاً له قوّة اجتهاد الفتوى في مذهبه وغيره جاز له الإفتاء بما تقتضيه قواعد المذهبين لكن مع بيان ذلك ونسبة كل رأي إلى الإمام القائل به وهذا هو ملحظ ما(6/352)
وقع لغير واحد من الأئمة أنه كان يفتي على مذهبين كالعارف الإمام عبد القادر الجيلي رحمه الله تعالى كان يفتي على مذهب الشافعي وأحمد ـ رضى الله تعالى عنه ـ ما وكابن دقيق العيد قيل كان يفتي على مذهب الشافعي ومالك ـ رضى الله تعالى عنه ـ ما فإن قلت لم لا نقل بتفصيل السبكي في ذلك الذي أشار إليه بقوله للمفتي على مذهب إمام إذا أفتى بكون الشيء واجباً أو مباحاً أو حراماً على مذهبه حيث يجوز للمقلد الإفتاء يحسن أن يقال ليس له أن يقلد غيره ويفتي بخلافه لأنه حينئذ محض تشبه، اللهم إلا أن يقصد مصلحة دينية فيعود إلى ما قدمناه ونقول بجوازه كما روى عن
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289(6/353)
ابن القاسم أنه أفتى ولده في نذر اللجاج بمذهب الليث والخلاص بكفارة يمين. وقال إن عدت لم أفتك إلا بقول مالك ، يعني بالوفاء، على أنا حملنا قول ابن القاسم هذا على أنه كان يرى التخيير فله أن يفتي بكل منهما إذا رآه مصلحة والمقلد لا يمتنع عليه ذلك وإن لم ير التخيير إذا قصد مصلحة دينية، وأما بالتشهي فلا اهـ، قلت كلامه رحمه الله تعالى في غير ما قررناه لأنه في منتقل إلى مذهب غير مذهبه ليعتقده ويفتي به بدليل فرضه لكلامه فيمن أفتى بحل شيء مثلاً تقليداً لإمام، ثم أراد أن يقلد من قال بحرمته ويفتي به فليس له ذلك بمجرد التشهي، وأما ما قررناه فإنه ليس في ذلك بل في ملتزم بالنسبة لعمله مذهباً معيناً، ثم أفتى غيره بحكم في مذهب إمام آخر فله ذلك مطلقاً إذ لا تشهي هنا بوجه على أن ما قاله السبكي إنما يتأتى على الضعيف أنه يجب تقليد من اعتقده أفضل ولا يجوز الانتقال عنه إلا لمصلحة دينية، أما على الصحيح وهو التخيير مطلقاً وجواز الانتقال إلى أي مذهب من المذاهب المعتبرة ولو بمجرد التشهي ما لم يتتبع الرخص بل وإن تتبعها على ما مر، فله وإن أفتى بحكم أن ينتقل إلى خلافه بأن يقلد القائل به ويفتي به ما لم يترتب على ذلك تلفيق التقليد المستلزم بطلان تلك الصورة باجتماع المذهبين بل وإن لزم عليه ذلك على ما اختاره محقق الحنفية الكمال بن الهمام وأطال في الاستدلال له، وما نقله السبكي عن ابن القاسم لا ينافي ما قلناه بل ولا يشهد لما قاله لأن كلامه في المقلد بدليل قوله حيث يجوز للمقلد الإفتاء وابن القاسم مجتهد بدليل قول السبكي على أنه كان يرى التخيير فتأمل ذلك لتعلم به الرد على من نقل كلام السبكي هذا واعتمده وجعله مقيداً لكلام له آخر دال على ما قررته وهو قوله إذا حكم القاضي بقول ضعيف لم ينفذ لأنه قاض بشيء لم يعلمه فيكون في النار بنص الحديث، فعلم أنه متى أقدم القاضي على حكم وهو لا يعتقده كان حكماً بغير ما أنزل الله(6/354)
وقاضياً بشيء لا يعلمه فلا يحل للقاضي أن يحكم بشيء حتى يعتقد أنه الحق هذا في المجتهد وكذا المقلد بالنسبة للفتوى والحكم أما بالنسبة لعمله في حق نفسه فله تقليد الوجه الضعيف، وقد نقل ابن الصلاح الإجماع على أنه لا يجوز الإفتاء والحكم بالضعيف فإن استوى عنده قولان لإمام لزمه التوقف حتى يظهر ترجيح أحدهما وإنما يخير المجتهد إذا استوى عنده أمارتان لأنه حيث استويا عنده قد يحصل له حكم التخيير من الله سبحانه وتعالى، وأما قولا الإمام المتعارضان فيمتنع أن كلاً مذهبه ونسبة أحدهما إليه على التعيين دون الآخر ترجيح من غير مرجح فليس إلا التوقف وللحاكم الأهل للترجيح، الحكم بما ترجح عنده وإن خالف أكثر أهل المذهب ما لم يخرج عنه وغيره ليس له إلا اتباع ما عرف ترجيحه في المذهب ولو لم يشترط على الأهل للترجيح التزام جاز له الحكم بما ترجح عنده وإن خرج عن مذهبه بخلاف ما إذا شرط عليه ذلك لفظاً أو عرفاً، والذي أقوله في هذه الأعصار أن من أطلق السلطان توليته للقضاء يحكم بمشهور مذهبه إن كان مقلداً أو بما يراه إن كان مجتهداً فإن ولاه على مذهب فلان لم يتجاوز مشهور مذهبه إن كان مقلداً وإن كان مجتهداً في مذهب فله الحكم بما ترجح عنده بدليل قوي وليس له مجاوزة ذلك المذهب مقلداً كان أو مجتهداً وليس له الحكم بالشاذ البعيد في مذهبه جداً وإن ترجح عنده لأنه كالخارج عن المذهب اهـ، حاصل كلام
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289(6/355)
السبكي رحمه الله تعالى وهو تحقيق. وعن الغزالي للحاكم المقلد أن يحكم بمذهب غير مقلده بناء على أن للعامي تقليد من شاء أي وهو الأصح كما مر، وما نقل عن ابن الصلاح من أن المفتي كالحاكم فيما ذكر إجماعاً إنما هو في مفت معروف بالإفتاء، وعلى مذهب إمام فهذا ليس له الإفتاء بالضعيف عند أهل ذلك المذهب وإن فرض أنه من أهل الترجيح وترجح عنده لأنه إنما يسأل عن الراجح في مذهب ذلك الإمام لا عن الراجح عنده وحده، ولهذا كان القفال إذا سئل عن مسألة بيع الصيرة يقول تسألوني عن مذهبي أو عن مذهب الشافعي فتأمل استفساره المستفتي تعلم أن المنع الذي حكى ابن الصلاح الإجماع عليه إنما هو فيمن ذكرته، ولقد سئل السبكي عن مسألة بيع الغائب فأفتى بالصحة فيها بناء على القول الضعيف فيه فقال بيع النجل في الكوارة وخارجها بعد رؤيته صحيح وقبل رؤيته يخرج على قولي بيع الغائب وبيع الغائب قد صححه أكثر العلماء وأتباعهم ومثل هذا للفقير لا بأس به لأنه قول الأكثر، ولأن له دليلاً يعضده ولاحتياج غالب الناس إليه في أكثر الأموال التي يحتاج إلى شرائها من المأكول والملبوس والأمر في ذلك خفيف إن شاء الله تعالى والأمور إذا ضاقت اتسعت ولا يكلف عموم الناس بما يكلف به الفقيه الحاذق التحرير اهـ. قال السيد السمهودي : وقد كان شيخنا العلامة ولي الله شهاب الدين أحمد الإبشيطي رحمه الله تعالى كثيراً ما يفتي الناس في المحرم إذا احتاج لتكرير لبس المخيط بعدم تكرر الفدية إذا نوى تكرر اللبس ابتداء تقليداً لمذهب مالك رحمه الله تعالى لما في مذهبنا من المشقة في ذلك اهـ. وفي شرح المهذب عن ابن الصلاح أن القول بمنع المقلد العاجز عن الترجيح والتفريع من الإفتاء محله أن ذكر ذلك على صورة من يقوله من عند نفسه أما إذا أضافه إلى القائل به فلا منع من ذلك وهذا ظاهر فيما قدمته أن المفتي حيث أضاف ما أفتى به إلى إمام جاز له الإفتاء لأنه في الحقيقة راو وناقل فلا وجه(6/356)
لمنعه من ذلك بخلاف ما إذا عرف بالإفتاء في مذهب، وأفتى بغيره ولم يسنده إلى أهله لما فيه من التغرير بالمستفتي وإيقاعه فيما لم يرده ولم يحط به. وفي أصل الروضة ما يصرح بذلك وهو قول العامي إذا عرف حكم تلك المسألة بل في الحقيقة ذلك القيد مأخوذ من تقييد الرافعي بالمعرفة إذ لا يتصور إلا حيث لا يشك أن هذا من مسائل ذلك المذهب الذي يفتي به وعلم من قول
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289(6/357)
الرافعي فأخبر به أن هذا ليس من الإفتاء في شيء وإنما هو محض رواية، وإذا كان هذا شأن غير المجتهد في مذهب إمامه فكذا شأنه في مذهب غير إمامه لاستواء المذهبين حينئذ بالنسبة إليه في أنه إن عرف منهما أو من أحدهما حكماً قطعياً جاز له الإفتاء به على جهة الأخبار والرواية المحضة فإذا لم يعرف ذلك كذلك امتنع عليه وبما قررته يعلم أن قول الروضة ليس للمفتي والعامل على مذهب الشافعي رحمه الله تعالى في المسألة ذات الوجهين أو القولين أن يفتي أو يعمل بما شاء منهما من غير نظر، وهذا لا خلاف فيه بل عليه في القولين أن يعمل بالمتأخر منهما إن علمه وإلا فبالذي رجحه الشافعي رحمه الله تعالى فإن لم يكن رجح أحدهما ولا علم السابق لزمه البحث عن أرجحهما فيعمل به إلى آخر ما ذكره هذا كله في مفت لمريد العمل بالراجح في مذهب الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ ، أما من سأل عن قول الشافعي رحمه الله تعالى في مسألة كذا ليعرف أن له وجوداً فيعمل به عند من جوّز العمل بالقول الضعيف وكذا الوجه الضعيف، فللمسؤول أن يفتيه أن للشافعي رحمه الله في مسألة كذا قولاً وأن جمعاً منهم ابن عبد السلام جوّزوا العمل بالضعيف وإن ثبت رجوع قائله عنه بناء على أن الرجوع لا يرفع الخلاف السابق والمسألة طويلة الذيل ليس هذا محل تحريرها وبسطها، وقول جماعة من أكابر أصحابنا يحرم على المقلد أن يفتي بما هو مقلد فيه معناه كما قاله ابن الصلاح ما إذا ذكره على صورة من يقوله من عند نفسه أما من يضيفه لإمامه الذي قلده فلا منع منه، قال فعلى هذا من عهدناه من المفتين المقلدين ليسوا مفتين حقيقة لكن لما قاموا مقامهم وأدوا عنهم عدوا معهم وسبيلهم أن يقولوا مثلاً مذهب الشافعي رحمه الله تعالى كذا، ونحو هذا ومن ترك الإضافة فقد اكتفى بالمعلوم من الحال عن التصريح به اهـ، ثم رأيت الإمام مجد الدين ابن الإمام تقي الدين بن دقيق العيد صرح بما يؤيد ما قدمته من جواز الإفتاء بمذاهب(6/358)
متعددة على جهة الرواية مع بيان أرباب تلك المقالات حيث قال، ونقله عنه الزركشي وأقره توقف الفتيا على حصول المجتهد يفضي إلى حرج عظيم أو استرسال الخلق في أهويتهم، فالمختار أن الراوي عن الأئمة المتقدمين إذا كان عدلاً متمكناً من فهم كلام الإمام ثم حكى للمقلد قوله فإنه يكفي لأن ذلك مما يغلب على ظن العامي أنه حكم الله تعالى عنده وقد انعقد الإجماع في زماننا على هذا النوع من الفتيا اهـ، ورأيت القفال قال بعض ما قدمته وخالفه الشيخ أبو محمد وعبارة
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289(6/359)
الزركشي قال الجويني من حفظ نصوص الشافعي رحمه الله تعالى وأقوال الناس بأسرها غير أنه لا يعرف حقائقها ومعانيها لا يجوز له أن يجتهد ويقيس ولا يكون من أهل الفتوى، ولو أفتى به لا يجوز وكان القفال يقول إنه يجوز ذلك إذا كان يحكي مذهب صاحب المذهب لأن له، أي المستفتي، كما هو ظاهر تقليد صاحب المذهب، وقوله ولهذا كان أحياناً يقول لو اجتهدت فأدى اجتهادي إلى مذهب أبي حنيفة فأقول مذهب الشافعي كذا ولكنني أقول بمذهب أبي حنيفة لأنه جاء ليعلم ويستفتي عن مذهب الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ ما فلا بد أن أعرفه بأني أفتي بغيره. قال الجويني وهذا ليس بصحيح، واختار الأستاذ أبو إسحاق خلافه، ونص الشافعي رحمه الله تعالى يدل عليه، وذلك أنه إذا لم يكن عالماً بمعانيه فيكون حاكياً مذهب الغير والغير ميت لا يلزمه القبول لأنه لو كان حياً وأخبره عنه بفتواه أو مذهبه في زمان لا يجوز له أن يقلده ويقبله كما أن اجتهاد المفتي يتغير في كل زمان ولهذا قلنا إنه لا يجوز لعامي أن يعمل بفتوى مفت لعامي مثله فإن قلت أليس خلافه لا يموت بموته، فدل على بقاء مذهبه قلنا كما زعمتم لكن هذا الرجل لم يقلده إنما يقلد قول هذا الرجل الأمر فيه كيت وكيت، فينبغي أن يكون عالماً بمصادره وموارده، ويدل على فساد ما قاله، أي القفال، أنه لو صح فتواه من غير معرفة حقيقة معناه لجاز للعامي الذي جمع فتاوى المفتين أن يفتي ويلزمه مثله، ولجاز أن يقول هو مقلد صاحب المقالة، ولكن اتفق القائلون به على الامتناع من هذا، أما إذا أفتى بمذهب غيره فإن كان متبحراً فيه جاز وإلا فلا. قال: وكان ابن سريج يفتي أحياناً بمذهب مالك رحمه الله تعالى وكانوا يأتونه بمسائل يسألونه تخريجها على أصل مالك رحمه الله تعالى فيخرجها على أصله فدل على أن من كان بهذه الصفة يجوز له وإلا فيمتنع وهكذا كل من كان في مذهب نفسه لا يعرف إلا يسيراً ليس له أن يفتي اهـ، وإذا تأملت في هذا الذي قاله(6/360)
الجويني وشنع به على القفال وأطال فيه علمت أنهما لم يتواردا على شيء واحد لأن كلام القفال فيمن يروى لمستفتيه عن مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن مذهبه كذا لا من حيث استنباطه هو ولا من حيث فهمه له من كلامه وإنما هو ناقله عن أئمة مذهبه العارفين به والمتبحرين فيه، وإذا حمل كلام القفال على هذا لم يرد عليه شيء مما قاله الجويني، لأن كلامه فيمن يفتي على مذهب غير إمامه استنباطاً فلا بد من تبحره في ذلك المذهب، كما لو أراد أن يفتي في مذهبه كذلك، وكلام الجويني وحكايته عن ابن سريج ما صرح به صريح فيما ذكرته فتدبره فإن هذا المقام قد يشكل ويظن أن القفال والجويني تواردا على محل واحد وليس الأمر كذلك كما بينته وحققته ثم رأيت لبعض الأصوليين ما يصرح بما ذكرته وهو قوله لا يجوز للمفتي أن يفتي بحكاية قول غيره إلا إذا سئل عن حكاية قول غيره لا مطلقاً وإلا لجاز للعامي أن يفتي بما في كتب الفقهاء اهـ، فقوله إلا الخ مصرح بما ذكرته، وقوله وإلا الخ محله كما علم مما مر ما إذا كان يفتي بما في كتب الفقهاء لا مع بيانه بل على صورة أنه من عند نفسه وعلى ما تقرر يحمل أيضاً قول الأستاذ
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289(6/361)
أبي منصور الموافق لما مر عن الجويني لا يجوز للعالم أن يفتي بقول بعض السلف وهو لا يعرف علته خلافاً لأصحاب الرأي ثم قول السائل نفع الله تعالى به حتى توهم بعض المتفقهة الخ، جوابه أن ما توهمه حق إن أريد أنا نعتقد خطأه وبطلان صلاته من سائر الوجوه ولا قائل بهذا لأنا إن قلنا أن كل مجتهد مصيب فواضح أنهم كلهم على هدى من ربهم وإن قلنا أن المصيب للحق الذي عند الله تعالى، وفي نفس الأمر واحد مبهم فكذلك لأنهم لم يكلفوا إصابة ذلك إلا بحسب ظنونهم فحسب وكل منهم مصيب له بحسب ظنه فهو على هدى من هذه الحيثية وإن فرض خطؤه بالنسبة إلى ما في نفس الأمر لأن هذا من الخطأ المرفوع بل مع ذلك هو مثاب مأجور لكن على اجتهاده وقصده الحق فقط إذا تقرر ذلك فإن سئلت عن صلاة مخالف فيها مبطل يراه مقلدك دون مقلده فلا يسعك أن تطلق القول بأنها باطلة إلا مع إرادتك أو تصريحك بأن بطلانها إنما هو بالنسبة لاعتقاد مقلدك فمقلدوه لو فعلوها كانوا آتين بصلاة باطلة فيعاملون بأحكامها من نحو الفسق والتعزير وغيرهما، وأما بالنسبة لاعتقاد غيره فهي صحيحة فمقلدوه آتون بصلاة صحيحة في الثواب والعدالة وغيرهما، فاختلاف الأحكام في ذلك من الأمور النسبية التي لا يطلق القول فيها بشيء واحد بل يجب رعاية ما ذكرناه من النسب والإضافات ولا بدع في كون الشيء الواحد تختلف أحكامه باعتبار محاله وجهاته وإضافاته هذا بالنسبة للاعتقادات، وأما بالنسبة لما عند الله تعالى فذلك غيب عنا لا ينكشف لنا في الآخرة، إذ الذي صرح به البغوي وتبعوه أن من صلى صلاة باطلة في نفس الأمر وصحيحة في اعتقاده لا يثاب إلا على نحو أذكارها مما لا تتوقف صحته على الصلاة كقصده لها وسعيه في حصولها وأما على الصلاة نفسها فلا يثاب، نعم إن قلنا كل مجتهد مصيب فينبغي أنه يثاب عليها مطلقاً كما هو ظاهر، وفي كلام البغوي شيء ذكرته في شرح العباب وغيره فراجعه والمسألة تحتمل بسطاً طويلاً لكن ضاق(6/362)
المحل عن استيفائه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل رحمه الله تعالى عن المعصية الكبيرة القلبية إذا علم الإنسان أنه متصف بها هل يجوز له أن يقدم على الولايات والشهادات أو لا؟. فأجاب رحمه الله تعالى بقوله: إن من ارتكب فسقاً باطناً مجمعاً عليه أو مختلفاً فيه وهو مقلد للقائل بأنه فسق لا يجوز له أن يتولى ولاية شرطها العدالة لأنه يوقع نفسه في ورطات العقود الفاسدة والقضايا الباطلة ويجر إلى نفسه من غوائل تلك القبائح ومهلكاتها ما يعجز عن حمل معشار عشرها، وأما الشهادات فإن علم شيئاً علماً يقينياً ولم يطلع أحد على فسقه فله أن يشهد به بين يدي حاكم موافق له في المذهب أو مخالف لأن القصد حينئذ تخليص الحق ممن هو عليه على وجه الحق وبشهادته الموافقة للواقع يحصل ذلك من غير أن يترتب عليه مفسدة أصلاً، فاتضح جواز ذلك وأنه لا وجه لامتناعه بخلاف الأول، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289(6/363)
وسئل رحمه الله تعالى هل يجوز للقاضي أخذ رزق من الخصمين ومما يتولى من أموال اليتامى والأوقاف أم لا؟ فإن جاز فبكم يقدر المأخوذ وهل يقيد جواز الأخذ في الصورتين بشرط وما قولكم فيما جرى عادة في قطرنا ولم يكن فيه بيت المال من أنه يجتمع وجوه أهل ولاية قاض فقير ويقولون كل من يشتري في محل ولايته متاعاً من أنواع كذا، أو يجلب إليه متاعاً من أنواع كذا أو ينقل منه متاعاً من أنواع كذا أو يمر به متاعاً من أنواع كذا من المسلمين أهل ولايته وغير أهل ولايته فليدفع إلى القاضي مقدار كذا من المتاع مقدار كذا من المال رزقاً له هل يجوز لهم تقدير رزق القاضي على المسلمين على هذه الصورة وهل يحل له بتقديرهم هذا أخذ المال من المسلمين مع أن الدافع لا يدفع له غالباً إلا بالطلب أو الإلحاح معه أو خشية منع نقل المتاع من محل الولاية أو تعطيل القاضي النظر في القضايا أو تأخيره الخطبة إلى آخر الوقت لو لم يدفع وربما يدفع بعد المنع أو التعطيل أو التأخير فإن لم يحل فمن أين يأخذ رزقه وقد شغله النظر في القضايا عن الكسب أو لم يكن له كسب لائق ولم يكفه ما أخذه من الخصمين ومما يتولاه من الأموال إن جاز أفتونا مأجورين؟. فأجاب نفعنا الله تعالى به بقوله الذي صرح به النووي رحمه الله تعالى أنه لا يجوز للقاضي أن يأخذ رزقاً من خالص مال الأيتام وغيره من الآحاد وإن لم يكن لهما خصومة عنده لأن ذلك يورث فيه ريبة وميلاً وفارق المفتي بأن القاضي أجدر بالاحتياط منه، وأما الرافعي رحمه الله تعالى فصرح هنا بما ذكر وفي الكلام على الرشوة بجواز الأخذ، قيل وهو تناقض ورد بأن المنع محمول على الغنى والجواز محمول على المحتاج، نعم لمن لا رزق له في بيت المال ولا في غيره وهو غير متعين للقضاء وكان عمله مما يقابل بالأجرة أن يقول للخصمين لا أحكم بينكما إلا بأجرة أو رزق فيجوز له ذلك على ما جزم به جمع متقدمون كالشيخ أبي حامد و ابن الصباغ و الجرجاني و(6/364)
الروياني لكن الذي اعتمده الزركشي تبعاً للسبكي أن هذه مقالة ضعيفة وأن الذي ينبغي ترجيحه تحريم ذلك أيضاً، وبه جزم شريح الروياني في روضته وجعل الأول وجهاً ضعيفاً. قال شيخنا زكريا رحمه الله تعالى والأول أقرب والثاني أحوط وشرط الماوردي لجواز أخذه رزقاً من الخصمين عشرة شروط: أحدها: أن يكون فقيراً. ثانيها: أن يقطعه النظر في القضاء عن كسبه. ثالثها: أن يكون أجره على الخصمين بالسوية بينهما لأنه لو أخذه أو الأكثر من أحدهما تطرقت إليه التهمة والريبة. رابعها: أن يأذن له السلطان في الأخذ منهما فإن لم يأذن له امتنع عليه الأخذ. خامسها: أن لا يوجد متطوّع بالقضاء فإن وجد امتنع على هذا الأخذ لأنه لا ضرورة إليه. سادسها: أن يعجز الإمام عن القيام برزقه من بيت المال فمتى أمكن الإمام القيام به من بيت المال لم يجز له أن يأخذ من الخصمين شيئاً. سابعها: أن يكون ما يأخذه غير مضر بالخصمين فمتى أضر بهما المأخوذ لم يجز له أن يأخذ منهما شيئاً. ثامنها: أن يكون المأخوذ بقدر حاجته الناجزة حال الحكومة فيما يظهر. وقال غير
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289(6/365)
الماوردي: أن لا يزيد على أجرة عمله، قال بعضهم والظاهر أن كلاً منهما شرط اهـ، ومراده أنه يجب عليه الاقتصار على أخذ الأقل منهما فإن كانت أجرة عمله أقل ويحتاج لأكثر لم يجز له أخذ الزائد على أجرته وإن كانت حاجته أقل وأجرته أكثر لم يجز له أخذ الزائد على حاجته. تاسعها: أن يعلم الخصمان قبل التحاكم إليه أن من عادته الأخذ من الخصوم فإن لم يعلما ذلك إلا بعد الحكم لم يجز له أن يأخذ منهما ولا من أحدهما شيئاً. عاشرها: أن يكون قدر المأخوذ معلوماً يتساوى فيه جميع الخصوم وإن تفاضلوا في المطالب فإن فاضل بينهم لم يجز إلا أن يتفاضلوا في الزمان، قال أعني الماوردي وفي هذا معرة على المسلمين أي حيث أحوجوا القاضي إلى الأخذ من الخصمين ولم يرزقه إمامهم من بيت المال أو يرزقوه من أموالهم أي بناء على ما مر عن الرافعي. قال الماوردي وإن جاز ذلك في الضرورة فواجب على الإمام والمسلمين أن يزال هذا إن أمكن إما بأن يتطوّع بالقضاء من هو من أهله وإما بأن يقام لهذا بالكفاية لأنه من الفروض فلو اجتمع أهل البلد عند إعواز بيت المال على أن يجعلوا للقاضي رزقاً من أموالهم جاز وكان أولى من أخذه من الخصوم اهـ، وإذا تأملت ما تقرر علمت أن جواز أخذ القاضي من الخصمين إنما هو وجه ضعيف بناء على ما مر عن شريح واعتمده السبكي و الزركشي ومع كونه وجهاً مرجوحاً لا بد فيه من تلك الشروط الكثيرة المشقة فمن أراد البراءة لدينه والخلوص من ورطة هذا الخلاف، وهذه التشديدات العظيمة فليترك القضاء أو يتطوّع به، والله سبحانه وتعالى يرزقه من حيث لا يحتسب كما أخبرنا بذلك في كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه بقوله تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب} (الطلاق: 2) وأما من يتولى القضاء ليتأثل به الأموال على اختلاف أنواعها فهو الذي أخبر عنه بأنه في النار وبأنه ذبح بغير سكين وبغير ذلك من المصائب والمعائب(6/366)
التي تلحقه في الدنيا والأخرى فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم، وأما أخذ القاضي من أموال الأيتام والأوقاف التي لم يشترط له فيها شيء فمشهور المذهب أنه حرام مطلقاً، ومن ثم أسقط حكاية حل ذلك من الروضة مع أنه في أصلها فإنه نقل أن ابن كج حكى عن جماعة من الشافعية و الحنفية أنه إذا لم يكن له شيء من بيت المال فله أن يأخذ عشر ما يتولاه من أموال اليتامى والوقف للضرورة، قال: ثم بالغ ابن كج في إنكار هذا المحكي وأنه ليس من مذهب الشافعي وعلى هذا المحكي فذكر العشر تمثيل وتقريب، والقياس أنه لا بد من النظر إلى كفايته وقدر المال والعمل وما جرت به العادة في القطر المذكور في السؤال فهو شبيه بالمكس بل هو عينه فإذا أخذ القاضي منه شيئاً على ذلك الوجه فهو مكاس لا قاض وشتان ما بكين الوصفين وبعيد ما بين المرتبتين مرتبة القضاء التي هي أجل المراتب الدينية بعد الإمامة العظمى ومرتبة أخذ المكس التي هي أسفل القبائح وأشنع الخصال وأبشع الفعال وأقرب أنواع الفسق إلى الكفر لأن أهلها كثيراً ما يقعون في الكفر في الساعة الواحدة كما هو مشاهد منهم، فعلى القاضي الديِّن الموفَّق الخائف من ربه عز وجل وسطوة عذابه وأليم عقابه ونار غضبه وقطيعة هجره أن لا يأخذ من ذلك شيئاً مطلقاً لأنه حرام بإجماع المسلمين وإذا كان حراماً كذلك فكيف يسوغ للقاضي أخذ شيء منه فعليه تركه والتوبة الصحيحة مما أخذه قبل وإلا فليستعد لجواب ذلك غداً بين يدي الله عز وجل حين لا يغني مولى عن مولى شيئاً ولا هم ينصرون جعلنا الله سبحانه وتعالى من الأغنياء به ووفقنا لما ينجينا من كل فتنة ومحنة وشر آمين.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289(6/367)
وسئل رحمه الله تعالى بما لفظه ما الفرق بين الثبوت المجرد وغيره في الصحيح وغيره وما فائدته وبين الحكم المجرد وغيره؟. فأجاب نفعنا الله به بقوله: معنى الثبوت سماع البينة وثبوت عدالتها عنده ثم إن لم ينضم إليه حكم بالمدعي مسمى ثبوتاً مجرداً وفائدته أنه يجوز للشاهد الرجوع عن شهادته وإنما قلنا وثبوت عدالتها عنده لأنه لم يثبت عند القاضي غير عدالته بخلاف نفي العداوة والتهمة ونحوهما فإن ذلك لم يثبت عنده وإن انضم إليه حكم بالمدعي سمى ثبوتاً غير مجرد، ومن فوائد الفرق بينهما أنه يجوز نقل الحكم ولو في البلد بخلاف الثبوت، ومعنى الثبوت في الفاسد أنه إذا أراد الحاكم إبطال عقد اشترط ثبوته عنده حتى يمكنه الحكم بفساده، وإذا أراد الحكم بصحة عقد احتاج لثلاثة أشياء أو بموجبه احتاج لشيئين كما هو مقرر في محله وهذا يسمى حكماً مجرداً أي الحكم بالصحة.(6/368)
وسئل رحمه الله تعالى عن قاض في محل ولايته والمحكوم به كالعقار وعليه وله خارجون عن محل ولايته فهل ينفذ قضاؤه حينئذ كما يقتضيه كلام القوت والأزرق في شرح التنبيه في باب الفلس أو لا كما يقتضيه كلام الجواهر والأصفوني، وأفتى به ابن قاضي شهبة؟. فأجاب رحمه الله تعالى بقوله: في ذلك تفصيل لا بد منه وهو أنه إن كان الغائب بمحل ولايته والعقار كذلك فيبيعه في دين مدع حضر إن عرفه وإلا أناب من يبيعه عنه وإن لم يكونا بمحل ولايته لم ينفذ حكمه فيه كما قاله التاج السبكي وغيره، وإن كان المال به دون الغائب قضى كما صرحوا به وإن كان الغائب به دون المال قضى أيضاً كما ذكره السبكي ، قيل وهو الحق لا ما أفهمه كلام الروضة ومفهوم كلام الإرشاد يوافق الأوّل فإنه قال ولو من مال غائب بالإضافة أي يقضي من مال الغائب سواء أكان المال المقضي منه بمحل ولايته أم لا؟ وأخذ بعضهم بعمومه فقال يجوز قضاؤه ببيع مال غائب في غير محل ولايته وإن خرج المال عنه أيضاً واستشهد لذلك بأنه يقضي بالعقار الغائب المعين للمدعي على غائب اهـ، ورد بأن الحق ما قاله السبكي كما تقرر والفرق أنه ليس في القضاء بالعقار المعين تصرف فيما ليس في محل ولايته بخلاف بيع العقار الذي ليس بمحل ولايته فإنه تصرف في شيء ببلد لا ولاية له عليها ومن المعلوم أنه لا ولاية له على شيء ليس بمحل ولايته.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289(6/369)
وسئل رحمه الله تعالى عن الخصم الغائب بولاية القاضي هل يحضره مطلقاً أو فيه تفصيل؟. فأجاب نفعنا الله تعالى به بقوله فيه تفصيل وهو أنه إن كان فوق مسافة العدوى بمحل ولاية القاضي، وثم من يتوسط بينهما لم يحضره وإلا أحضره على المنقول عند العراقيين، وظاهره أنه لا تسمع الدعوى والبينة عليه وهو المفهوم من كلام الروضة وأصلها. وفي المحرر والمنهاج أنه تسمع الدعوى لما في تكليفه الحضور من المشقة، بل قد تبعد المسافة فيحتاج لمؤن الحضور أضعاف قيمة المدعي به ومن ثم مال إليه السبكي ، وأشار البلقيني إلى الجمع بحمل الأوّل على ما إذا لم يكن للمدعي بينة فيحضره وإن بعدت المسافة وإلا ضاع حق المدعي والثاني على ما إذا كان له بينة فتسمع الدعوى على المدعى عليه لأنه غائب ويحكم ويكتب إلى أهل الستر وهم الرؤساء وأهل المكارم ليلزموا الخصم المدعى به وإن كان دون مسافة العدوى وثم نحو قاض حرم إحضاره من غير محل ولايته وطريقه أن تسمع الدعوى والبينة ويحكم ولو مع قرب المسافة كما صرحوا به وينهيه لقاضي بلد الخصم ليلزمه بذلك فإن كان بمحل ولايته وثم نائب فمفهوم الإرشاد وجوب إحضاره كما إذا كان بالبلد ومفهوم الحاوي والتنبيه أنه لا يحضره لاستغنائه بسماع البينة والحكم ثم الإنهاء إلى نائبه لإلزام الخصم ورجح لعدم الاحتياج إلى إحضاره.(6/370)
وسئل رحمه الله تعالى هل تقبل بينة الجرح والتعديل من غير حضور الخصم؟. فأجاب نفعنا الله تبارك وتعالى به بقوله: الذي أفتى به الكمال الرداد الصديقي شارح الإرشاد القبول في الجرح ومثله التعديل، واعترض عليه بقولهم لا تسمع البينة ولا يحكم بغير حضوره إلا لتواريه أو تعززه وبتعليلهم اشتراط الحضور بأنه ربما طعن أو امتنعوا من الكذب عليه لحياء أو نحوه، وبأن غيره أفتى بأنه لا بد من حضور المدعى عليه الحاضر بالبلد مجلس الحاكم بالتزكية وانتصر للكمال بعض تلامذته بأن في كل من الجرح والتعديل حقاً مؤكداً لله سبحانه وتعالى، ولهذا تسمع شهادة الحسبة في الجرح والتعديل من غير حضور خصم فيهما لما فيهما من الحق المؤكد لله سبحانه وتعالى هكذا صرحوا به وهو شاهد قوي لقبول الشهادة مع الغيبة، ومما يدل على ذلك أنهم جعلوا أمر التزكية والجرح إلى القاضي فيحكم فيهما بعلمه ولا ينافي ذلك ما ذكر في السؤال عنهم لأنه فيما ليس فيه حق مؤكد لله سبحانه وتعالى اهـ، على أنه وإن وقع جرح أو تعديل في غيبته هو متمكن من تداركه بإقامة ما يبطله فلم يتحقق عليه ضرر في ذلك لا يمكن تداركه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289(6/371)
وسئل رحمه الله تعالى هل يمكن حيلة يتوصل بها إلى التسجيل، والحال أن العين المحكوم بها في يد المدعي وما الفائدة في المسجل له بذلك وهل الحيلة بذلك تفيد بين يدي من ليست العين بمحل ولايته وهل الثبوت غير الكتاب بسماع البينة فيما لا يؤمن اشتباهه أم الثبوت هو نفس السماع؟. فأجاب بقوله: الذي ذكره الأصحاب كما في أوائل أدب القضاء أنه لا يشترط للدعوى إلا وجود صورتها ظاهراً فتقبل وإن لم يكن لها حقيقة في نفس الأمر، وفي فتاوى القاضي حسين أن الحيلة في إقامة البينة بالبراءة من الدين قبل الدعوى أن ينصب مسخراً يدعي على من عليه الدين بأن له على فلان كذا ولفلان عند فلان هذا كذا فمره بتسليمه إليّ فيقيم البينة بالإبراء حقيقة اهـ، وهذا إنما يتأتى له على ضعيف وهو سماع الدعوى على غريم الغريم، وقياسه أنه لو أراد إثبات ملك شيء بيده ولا منازع فيه الآن فالحيلة أن يدعي من بيده العين أني مالكها ويحضرها أو يصفها بمميزها وأن هذا غصبها مني وأطالبه بتسليمها وأسألك أن تأمره بتسليمها إليّ أو بجوابه عن دعواي فيجيبه بالإنكار فيقيم البينة عليها. قال في أدب القضاء: واصطلح الحكام على هذا مع ما فيه من كذب المدعي والمدعى عليه وعلم القاضي بذلك لكن قال القاضي حسين هذا كذب محطوط إذا علم أن القصد به التوصل إلى إثبات الحقوق بما لا ضرر فيه وليس القصد منه إلا ترويج إثبات الأحكام والتسجيل على الحكام اهـ. وقال بعضهم: كأنهم جوّزوا ذلك مع ما فيه من التلبيس فإن من بيده العين يصير نفسه خارجاً ويجعل اليد للمدعى عليه كذباً لغرض التسجيل وإثبات الحقوق ولا نظر إلى أنه يمكن التحرز بالدعوى على من يخاف منه المنازعة إن غاب ويقيم البينة لما في هذه من يمين الاستظهار، وقد يكون له غرض في التنزه عن اليمين ففي إلزامه بهذه الحيلة مشقة عليه بخلاف الحيلة الأولى فإنه لا يمين فيها لأن الدعوى فيها على حاضر فكانت أسهل وأرفق. وفي فتاوى ابن الصلاح ما(6/372)
يؤيد سماع الدعوى على الغائب كما ذكر لكن ظاهر كلام الجواهر خلافه فإنه قال لو ادعى على الغائب أنه ابتاع منه العين أو اتهبها وخشي جحوده فطلب سماعها لم تسمع لأن سماعها إنما يكون بعد إنكاره اهـ وهذا هو الظاهر وعليه فالحيلة الأولى متعينة لا يمكن التحرز منها بالدعوى على الغائب، والفرق بين الثبوت والسماع أن بينة السماع يسمعها القاضي ليبعث القاضي المكتوب إليه بالعين إلى القاضي الكاتب ليشهد على عينها في بلد الكاتب وبينة الثبوت أعم من أن ينقل إلى قاض آخر أو لا إذ هي ما لم يتصل بها حكم ومن ثم جاز رجوعها بخلاف ما إذا اتصل بها حكم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289
وسئل رحمه الله تعالى عن شخص حلف مع شاهده بعد ثبوت عدالته عند القاضي وكان المدعى به يقبل فيه شاهد ويمين فجرح الشاهد بعد يمينه جرحاً شرعياً فهل يعتد بهذه اليمين مع إقامة شاهد آخر أو لا بد من يمين أخرى مع الشاهد الآخر؟. فأجاب رحمه الله تعالى بقوله: لا بد من يمين أخرى لأن اليمين الأولى بطلت بتبين فسق الشاهد إذ لا يعتد بها إلا بعد شهادة الشاهد وثبوت عدالته فإذا بان بطلان شهادته بان بطلانها.(6/373)
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل ولي قضاء بلد ليس فيها وظيفة ولا فيها سلطان مسلم ولا بيت مال ولا هناك متبرع يقوم بكفايته سوى أن أهل الحل والعقد في تلك القرية عينوا على كل حمل من الحبوب والأدهان وغيرهما مما يجيء به أهل البوادي شيئاً معلوماً، ثم إنهم يصرفون ما يحصل من ذلك المعين للقاضي وأئمة المساجد والمؤذنين وإصلاح المساجد هل يجوز للقاضي وغيره قبول ذلك منهم وإذا تورع القاضي عن قبول ما ذكر تصير القرية معطلة عن الحدود فهل يجوز أخذه والحالة هذه أو لا، وهل يحل للقاضي قبول النذر والهبة المطلقة والحضور في الطعام الذي يصنع لمولد النبي ؟. فأجاب بقوله: لا يجوز قبول ذلك مطلقاً لأنه مكس حقيقة من غير تأويل ولا شبهة فقاتل الله تعالى مخترع ذلك ومؤسسه والدين القيم والشريعة الواضحة الغراء البيضاء غنية عن أن يحتاج في القيام بها إلى أمثال هذه القبائح المهالك زاد الله تعالى تنزيه القائمين بها عن هذه الأدناس والقاذورات ووفق للقيام بها في هذا القطر تبرعاً لله سبحانه وتعالى بعض أهل الدين والمروءات بمنه وكرمه ولا يجوز للقاضي قبول ما نذر له أو لولده الصغير ولا قبول هبة أو هدية بتفصيلها المعروف في محلها، وقد استوفيته أتم استيفاء وبسطته أحسن بسط وضبطته أكمل ضبط في كتابي الذي ألفته في ذلك لما جاء في أسئلة كثيرة من اليمن وسميته إيضاح الأحكام لما يأخذه العمال والحكام وللقاضي حضور الولائم والأولى له التنزه عنها.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289(6/374)
وسئل عن قاض من قضاة المسلمين يشدد على الناس ولا يحكم إلا بالقول الصحيح ولا يزوّج من انقطع حيضهن إلى بلوغ سن اليأس ولا يسلك بالناس مسلك التخفيف والتيسير، وقد قال : «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولى من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به» رواه مسلم. وقال أيضاً: «يسروا ولا تعسروا» ؟. فأجاب رحمه الله تعالى بقوله: ما ذكر عن هذا القاضي إنما يعد من محاسنه لا من مساويه فجزاه الله تعالى عن دينه وأمانته خيراً فإنه عديم النظير الآن وكيف وأكثر قضاة هذا العصر وما قبله بإعصار صاروا خونة مكسة لا يحرمون حراماً ولا يجتنبون آثاماً بل قبائحهم أكثر من أن تحصر وأظهر من أن تشهر حتى قال الأذرعي عن قضاة زمنه أنهم كقريبي العهد بالإسلام فإذا كان هذا في قضاة تلك الأزمنة فما بالك بقضاة هذا الزمن الذي عطلت فيه الشعائر وغلبت فيه الكبائر وقل فيه الصالحون وكثرت فيه المفسدون فقيام هذا القاضي حينئذ بقوانين مذهبه وعدم التفاته إلى الترخيص للناس بما لا تقتضيه قواعد إمامه يدل على صلاحه ونجاحه وفلاحه وعجيب من السائل كيف يورد في مثله حديث مسلم المذكور، فإن ذلك يدل على عدم فهمه للحديث وإحاطته بشيء من معناه فإنه لم يرد به مثل هذا القاضي بل مثل القضاة الذين شرحنا شيئاً من حالهم وبينا قبيح فعالهم إذ المراد بكونه شق عليهم أنه جار في حكمه بينهم بغير الحق وكلفهم بما لم يأذن له فيه الشارع، وأما من التزم معهم مرّ الشرع وعدل فهو مدعوّ له لا عليه وهذا أمر واضح لا غبار عليه، ومعنى: «يسروا ولا تعسروا» النهي عن التعسير على الناس بما لم يأذن فيه الشارع، وأما من عمل بمذهب إمامه فهو غير داخل في ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289(6/375)
وسئل عما إذا اختلف ترجيح المتأخرين والشيخين ما المعتمد عليه في ذلك؟. فأجاب رحمه الله تعالى بقوله: لما كنا مجاورين سنة خمسين بطيبة المنوّرة على مشرفها أفضل الصلاة والسلام سألنا بعض أكابرها وفضلائها عن نحو ذلك، وأطال في الاحتجاج والانتصار لاعتماد ترجيح المتأخرين فأجبته بجواب مبسوط متكفل لرد جميع أدلته وفي الانتصار لاعتماد ترجيح الشيخين والإعراض عما سواه، ثم قرىء ذلك الإفتاء بحضرة فضلاء المدينة المشرفة فلم يمكن أحداً منهم أن يبدي فيه شيئاً بل وافقوه وعلموا أنه الحق وقصد بسطت الكلام في ذلك أيضاً في خطبة شرح العباب وبينت فيه أن الحق ما درج عليه مشايخنا ومشايخهم وهلم جراً من اعتماد ترجيح كلام الشيخين في الإفتاء وغيره، وأنه لا يعترض عليهما بكلام الأكثرين ولا بالنص ولا بغير ذلك، وبينت فروعاً اعترضوا فيها عليهما بالنص ثم لما أمعنت التفتيش رأيتهما استندا لنص آخر وفروع أخرى وهي الأكثر اعترضوا عليهما فيها بكلام الأكثرين مع أنهما صرحا في مواضع بأنهما لا يتقيدان بكلام الأكثرين بل بما يترجح عندهما من قوّة المدرك أو من أن ذلك في الحقيقة ليس عليه الأكثرون فإن من يعترض بكلام الأكثرين ربما عدد جملاً ترجع إلى واحد من الأصحاب أو اثنين مثلاً. ألا ترى أن أصحاب الشيخ أبي حامد شيخ الطريقين قد بلغوا من الكثرة مبلغاً عظيماً فمن رأى كتبهم وفتاويهم متفقة على شيء واحد يظن أن الأكثرين عليه وفي الحقيقة ذلك إنما هو رأي رجل واحد لأن الغالب من أحوال الأصحاب أن كل أهل طريقة لا يخالفون إمام طريقهم بل يكونون تابعين له في تفريعه وتأصيله فتفطن لهذا فإنه راج على كثيرين اعترضوا على الشيخين بمخالفتهما لكلام الأكثرين، وفي الحقيقة لم يخالفا ذلك وبفرضه وتسليمه فقد بان أنهما لا يتقيدان إلا بقوّة المدرك فوجب اتباع ترجيحهما لأنهما اللذان أجمع من جاء بعدهما على أنهما مبالغان في التحري والاحتياط والحفظ والتحقيق والولاية(6/376)
والمعرفة والتحرير والتنقير مبلغاً لم يبلغه أحد ممن جاء بعدهما فكان اعتماد قولهما هو الأحرى والأحق والإعراض عن مخالفيه هو الأولى بكل شافعي لم يصل لمرتبة من مراتب الاجتهاد، ولقد بينت في شرح العباب ردّ قوله خلافاً للشيخين في كل موضع وقع له ذلك وأنه إنما قلد في ذلك بعض المتأخرين، وأن الصواب ما قاله الشيخان أو أحدهما، والحاصل أن المعتمد عليهما إن اتفقا وإلا فعلى النووي رحمهما الله تعالى ما لم يجمع المتأخرون على أنهما وقعا في سهو أو غلط فحينئذ يعرض عما قالاه وأين نجد موضعاً اتفق المتأخرون على ذلك بل كل محل وجدته تجد من المتأخرين من يعتمد ما قالاه، ومنهم من يخالفه ومن تأمل أطباق أكثر المتأخرين على تغليطهما فيما قالاه أن النفقة لا تصير ديناً إلا بفرض القاضي مبلغاً وانتصار الشمس الجوجري لهما في ذلك ورده على أكابر المتأخرين علم أنه يعز أن يوجد محل أطبق المتأخرون كلهم على إلغاء ترجيحهما فيه فالصواب الاعتماد عليهما دون غيرهما، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289(6/377)
وسئل رحمه الله تعالى عن شافعي يحرض على صبي مميز في التزام مذهب أبي حنيفة ـ رضى الله تعالى عنه ـ والتمسك به ويدرس به كتب الحنفية وإذا سئل شافعي عن التقليد بمذهب فهل عليه الأمر بالتزام مذهب إمامه أو يدله إلى مذهب آخر؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: الشافعي وأبو حنيفة ومالك وأحمد وسائر أئمة المسلمين على هدى من ربهم فجزاهم الله تعالى عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء وأكمله وحشرنا في زمرتهم وإذا كانوا كلهم على هدى من الله سبحانه وتعالى فلا حرج على من أرشد غيره إلى التمسك بأي مذهب من المذاهب الأربعة وإن خالف مذهبه واعتقاده لأنه أرشده إلى حق وهدى وتدريس الشافعي لكتب غير مذهبه لا يسوغ له إلا إن قرأ ذلك الذي يدرسه على عالم موثوق به من أئمة ذلك المذهب هذا إن أريد به تدريس المعتمد في ذلك المذهب، وأما إن أريد منه مجرد فهم العبارة وتفهيمها فهذا لا محذور فيه.(6/378)
وسئل عن تقليد العامي لأحد الأئمة المجتهدين غير الأربعة بعد تقرر مذاهبهم واشتهارها بما هو معلوم هل يجوز ذلك أم لا؟ وإذا قلتم بعدم الجواز ماذا يلزم المقلد لذلك المجتهد وما حكم عبادته على مقتضى ذلك الاجتهاد هل هي صحيحة أم لا؟ وإذا قلتم بعدم صحة عبادته هل يكون عاصياً في ذلك حتى يجب عليه القضاء على الفور أم لا؟ وإذا قلتم بجواز التقليد لغير الأئمة الأربعة هل يشترط أن يوافق اجتهاده أحد الأئمة حتى يكون التقليد له كأنه تقليد لأحدهم أم لا؟ وهل يشترط نقل مذهب ذلك المجتهد متواتراً أم لا؟ وهل يشترط أن يكون مدوّناً أم يكفي نقله على الألسنة وأيضاً ظاهر جمع الجوامع جواز التقليد لكل مجتهد من غير اشتراط شيء سوى اعتقاد المقلد كون مذهب مقلده راجحاً أو مساوياً فهل البناء على هذا الظاهر كاف في الحكم بجواز تقليد كل مجتهد أم الأمر على خلافه بينوا ذلك؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه وبركته بقوله: الذي تحرر أن تقليد غير الأئمة الأربعة ـ رضى الله تعالى عنه ـ م لا يجوز في الإفتاء ولا في القضاء، وأما في عمل الإنسان لنفسه فيجوز تقليده لغير الأربعة ممن يجوز تقليده لا كالشيعة وبعض الظاهرية، ويشترط معرفته بمذهب المقلد بنقل العدل عن مثله وتفاصيل تلك المسألة أو المسائل المقلد فيها، وما يتعلق بها على مذهب ذلك المقلد وعدم التلفيق لو أراد أن يضم إليها أو إلى بعضها تقليد غير ذلك الإمام لما تقرر أن تلفيق التقليد كتقليد مالك رحمه الله تعالى في عدم نجاسة الكلب و الشافعي رضي الله تبارك وتعالى عنه في مسح بعض الرأس فممتنع اتفاقاً بل قيل إجماعاً، وإذا وجدت شروط التقليد التي ذكرناها وغيرها مما هو معلوم في محله فعبادات المقلد ومعاملته المشتملة على ذلك صحيحة وإلا فلا ويأثم بذلك فيلزمه القضاء فوراً ولا يشترط موافقة اجتهاد ذلك المقلد لأحد المذاهب الأربعة ولا نقل مذهبه تواتراً كما أشرت إليه ولا تدوين مذهبه على استقلاله بل يكفي(6/379)
أخذه من كتب المخالفين الموثوق بها المعوّل عليها، وكلام جمع الجوامع محمول على ما تقرر على أنه عند التحقيق لا يخالفه والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289
وسئل رحمه الله تعالى بما صورته من عبد الباسط بن إبراهيم بن عيسى بن أبي غرارة الشافعي إلى سيدنا ومولانا العلامة الحجة الفهامة عالم الحجاز أحمد بن حجر الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ أنا في أرض بجيلة وليس عندنا سلطان ولا قاض منصوب من جهة السلطان وأهل بجيلة وناصرة وزهران وغامد وغيرهم من القبائل يردون أمورهم وأحكامهم وفتواهم إلينا ويرفعون إلينا قضاياهم العرفية والشرعية ويرونا نصلح لذلك فهل يا شيخ الإسلام إذا اجتمع بعض شيوخهم ونصبونا نحكم بينهم بحكم الله سبحانه وتعالى الذي لا عوج فيه ولا محيد عنه يجوز لنا ذلك وينفذ منا ما ينفذ من القاضي من جهة السلطان من تزويج المجنونة وبيع مال المديون لحق الغرماء وحفظ أموال الأيتام والسعي لهم والشراء بالمصلحة وإنكاح من عضل وليها وغير ذلك مما يفعله القاضي أم لا يجوز لنا ذلك المسؤول منكم بيان ذلك فقد نقل جدي رحمه الله تعالى عن فتاوى الأصبحي عما إذا عدم في قطر ذو شوكة وحاكم ولم يوجد للمرأة ولي ولا للأطفال وصي ونحوه فهل لجماعة من أهل البلاد نصب فقيه يتعاطى الأحكام في الأموال والأبضاع فأجاب بقوله نعم إذا لم يكن رئيس يرجع أمرهم إليه اجتمع ثلاثة من أهل الحل والعقد ونصبوا قاضياً صفته صفة القضاة، ويشترط في الثلاثة صفة الكمال كما في نصب الإمام. قال الإمام السيد السمهودي رحمه الله تعالى ووجهه أن الميسور لا يسقط بالمعسور فحيث تعذر الإمام وأمكن نصب القاضي وجب لأن الضرورة داعية إليه فيأثم أهل تلك البلاد بتركه، وقوله صفته صفة القضاة أي التي يمكن وجودها في زمانهم فكما يجوز للإمام تولية المقلد للضرورة يتعين على هؤلاء توليته فإذا اجتمع جماعة من أهل الحل والعقد(6/380)
الموصوفين بصفة الكمال على نصب مقلد قاضياً تم ذلك ونفذ حكمه فيحكم بينهم بما يعلمه من مذهب إمامه وبالجملة فالتمادي على ترك إقامة قاض في قطر من الأقطار معصية تعم أهله وقد علمت أن إقامته ليست متوقفة على وجود الإمام الذي يعسر عليهم ولا على المجتهد بل الضرورة مقتضية لما ذكرناه اهـ كلام السمهودي، قال جدي ويؤيده قول المقدسي في القضاء من الإشارات إذا اجتمع أهل بلد على أن لا يلي أحد فيهم القضاء أثموا لما روي أن النبي قال: «إن الله لا يقدس أمة ليس فيهم من يأخذ للضعيف حقه» اهـ. قال الشيخ ابن ناصر في بعض أجوبته أن البلد الذي لا حاكم فيه تجب الهجرة منه لقولهم في باب الإمامة لا بد للناس من حاكم يأخذ على يد الظالم للمظلوم وينصف الناس بعضهم من بعض، قال جدي: وقد سئل القاضي جمال الدين بن ظهيرة عما إذا كانت قرية من القرى وأهلها يملك كبارهم الحل والعقد فيها دون غيرها فهل يصح نصبهم لرجل يمضي فيهم بعض ما يمضي الحاكم وقد أظهروا له الطاعة فيما يقربهم من الله سبحانه وتعالى وبايعوه على ذلك وهو معتقد منهم عدم الوفاء ثم لم يفوا بالأكثر أو بالجميع هل ينفذ منه ما ينفذ من الحاكم من تزويج المجنونة وبيع مال المديون لحق الغرماء وحفظ أموال اليتامى والبيع والشراء بالمصلحة وأشباه ذلك، وما يشترط فيه في نفسه وما لا يشترط فأجاب بأنه يجوز للكبراء المذكورين أن يولوا قاضياً في القرية المذكورة يحكم بين الناس وإذا فعلوا ذلك صح ونفذت أحكامه وصح تزويج المجنونة وغيرها وبيع مال المديون عند امتناعه ويحفظ مال اليتيم ويتصرف فيه ويحفظ أموال الغائبين ويتولى جميع ما يتولاه الحكام وكذا لو كان للقرية شيخ يرجعون إليه في أمورهم ويقدمونه عليهم على عادة العرب فله أن ينصب حاكماً يحكم بين أهل القرية كما ينصبه الإمام ونائبه، ولا يشترط في الشيخ المذكور أن يكون عدلاً بل لو لم يكن لأهل القرية شيخ ولا كبير يرجعون إليه فلهم أن ينصبوا قاضياً(6/381)
يقضي بينهم ويصح ذلك منهم وتنفذ أحكامه عليهم، وقد أفتى بذلك كله الشيخ
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289
أحمد بن موسى بن عجيل اليمني فيما وقفت عليه له وهو ظاهر، ويشترط في المنصوب المذكور ما يشترط في القاضي والشروط المعتبرة مفقودة في هذا الزمان بل من قبله بدهر طويل، وقد ذكر الغزالي في وسيطه وحكاه عنه الرافعي في الشرح وجزم به في المحرر أن من ولاه ذو شوكة نفذ حكمه وإن كان جاهلاً أو فاسقاً للضرورة وهذا هو اللائق بهذا الزمان ولهذا قال في الحاوي الصغير وإن تعذر من ولاه ذو شوكة، والله سبحانه وتعالى أعلم اهـ. قال جدي رحمه الله تعالى: وعبارة الماوردي في الحاوي إذا خلا بلد عن قاض وخلا العصر عن إمام فقلد أهل الاختيار أو بعضهم برضا الباقين واحداً وأمكنهم نصرته وتقوية يده جاز تقليده ولو انتفى شيء من ذلك لم يجب تقليده كذا قاله ابن الرفعة . قال جدي رحمه الله تعالى: وسئل بعض المتأخرين عن رجل في بلاد ليس فيها سلطان هل يجوز حكمه إذا حكمه الخصمان فأجاب إذا حكمه الخصمان ورضيا بحكمه وكان أهلاً للحكم جاز ونفذ حكمه، وسئل أيضاً بعض علماء مكة المشرفة عما إذا لم يكن في البلد إمام مولى ورضيت العامة بأحكام رجل عندهم أيلزم حكمه أم لا بد من التولية لأن الشرع مبني على الحاكم، فإذا لم يكن في البلد حاكم من جهة السلطان ولا أمينه هل تنفذ أحكام من رضوا به أم لا؟ فأجاب بقوله: إذا لم يكن في البلد قاض وكان فيها رجل عالم أو عدل ثقة مرضي به عند عدم الحاكم وتراضى به أهل البلد ونصبوه وهو عالم بالشرع فأحكامه وتصرفاته في ذلك نافذة وأن يكون عدلاً لا يظلمهم اهـ جوابه؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى به بقوله: إذا تأملت هذه الأجوبة وجدت فيها شروطاً لا توجد فيك ولا في المولين لك فلا حاجة بك إلى الدخول في ورطة ذلك فإن الذين يولونك ليسوا أهل شوكة ولا يقدرون على تنفيذ أحكامك وإنما يأخذون منها ما(6/382)
وافق أغراضهم وما لا يوافقها أعرضوا عنه ويستحيل فيهم بمقتضى العادة اجتماعهم على كلمة الحق كما هو مشاهد من أهل بجيلة ونواحيها فالحذر الحذر أن تدخل في أمورهم إلا دخول السلامة بأن تكون مصلحاً أو يحكمك الخصمان في أمر ظاهر معلوم من المذهب بالضرورة فلا بأس بحكمك بينهم حينئذ، وأما ما عدا ذلك فاحذر الدخول فيه إن أردت السلامة لدينك والله سبحانه وتعالى يوفقنا وإياك لمرضاته آمين.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289(6/383)
وسئل رحمه الله تعالى عما إذا كان أهل ناحية الأزواج بها والأولياء لا يحسنون عقد الأنكحة فيما بينهم ولا يهتدون إلى اللفظ الموصل إلى حل المناكحة ولا يعرفون الشرائط والأركان ونصب القاضي بتلك الناحية عليهم منصوباً بلفظ الزوج والولي عند إرادة التناكح الألفاظ الموصلة إلى حل المناكحة ويسمع بينة من ادعت طلاقاً من زوج معين ويحلف من ادعت أنها خلية من الزوج والعدة إلى غير ذلك من المصالح الدينية ونهى أن يتعاطى أحد من الناس ذلك غير منصوبه لأن فيه نوع ولاية من حيث سماع البينة والتحليف وغيرهما فهل يجوز لبعض الآحاد من المتفقهة وغيرهم مجاهرة القاضي بالمخالفة وتعاطي ذلك استبداداً منهم بعد علمهم بالنهي وهل يجوز للقاضي أن يعزر من فعل هذه الأفعال للإيذاء والمجاهرة ولأنه تعاطى شيئاً لم يجز له تعاطيه كما جاز تعزير من خالف تسعير الإمام وهل يكون هذا أولى بالتعزير من مخالف التسعير، لأن في هذا مصلحة عامة للمسلمين ولا يتعاطى مثله إلا بولاية من حيث سماع البينة والتحليف ولم يكن فيه أيضاً تضييق على أحد بخلاف مخالف التسعير فإنه جاز تعزيره للمجاهرة بالمخالفة مع أن التسعير حرام وفيه نوع تضييق على الناس في أموالهم؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله: إن تعاطى ذلك المتفقه أو غيره عقد من لا ولي لها أو عقد من يتوقف عقدها على بينة أو حلف من غير إذن القاضي أو السلطان عزر على ذلك التعزير البليغ وإن لم ينهه القاضي عن ذلك أو عقد من لها ولي ولا يتوقف عقدها على بينة ولا حلف، فإن نهاه السلطان أو القاضي وقد أذن له السلطان في النهي عن ذلك عزر أيضاً وإن أذن له الولي أو أذنت له المولية وإن لم ينه السلطان ولا أذن للقاضي في النهي عن ذلك لم يعتبر نهي القاضي، لأن القاضي متعد بالنهي حينئذ وليس في مخالفته شق للعصا ولا خشية فتنة فليس هو في معنى الإمام في ذلك حتى يلحق به فيه، وهذا ظاهر بأدنى تأمل ودعوى أن أهل تلك الناحية لا(6/384)
يحسنون العقد لا يفيد لأن الكلام في متفقه يحسن ذلك وقد وكله الولي في العقد بشرطه أو لقن كلاً من الولي والزوج اللفظ الواجب في العقد وإذا كان هذا هو فرض المسألة فنهي القاضي مثل هذا عما ذكر حرام عليه يأثم به ولعل سببه ما اعتيد الآن من جهلة القضاة أنهم يرتبون على العقود دراهم يأخذونها من الزوج ومعلوم إجماعاً أن مثل ذلك يفسق به القاضي وينعزل به ولقد بحث بعض مشايخنا أن القاضي إذا كان كذلك جاز للزوجة التي لا ولي لها وللزوج أن يحكما عدلاً يزوّجها به ولو مع وجود القاضي المذكور وأن وجوده كفقده وأن هذا ليس هو محل الخلاف في المسألة المشهورة.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289(6/385)
وسئل رحمه الله تعالى عن قوله : «من طلب قضاء المسلمين حتى يناله فغلب عدله جوره فله الجنة» قضى له عليه الصلاة والسلام بأغلب حاليه والفقهاء ـ رضى الله تعالى عنه ـ م لم يقضوا للشخص بأغلب حاليه إلا في الصغاير وأما غيرها فقالوا إن القاضي ينعزل بالفسق بالمرة الواحدة، وظاهر الحديث يخالف ذلك فإنه يفهم منه العموم وقريب من الحديث أو في معناه قول ابن الصلاح رحمه الله تعالى وقد تكفر الصلاة وصيام رمضان وصلاة الجمعة والوضوء بعض الكبائر إذا لم تجد صغيرة وكذلك العباب في الشهادات قال خاتمة قد تمحي الصغائر بلا توبة بل بصلاة الخمس وصوم رمضان والاستغفار واجتناب الكبائر وقد يمحو نحو الصلاة بعض الكبائر إذا لم يجد صغيرة بان كفرها غيرها وغيرهما من الفقهاء لا يرى ذلك بل يقول إن الكبيرة لا يكفرها إلا التوبة منها ولا تعود العدالة إلا بعد الاستبراء بسنة وإن غلبت الطاعات؟. فأجاب نفع الله تعالى بعلومه المسلمين بقوله: الحديث المذكور لم أر له أصلاً ولا سنداً في كتب الأحاديث التي عليها المعتمد بل في الأحاديث الكثيرة ما يدل على شدة عذاب الجائر وقبيح فعاله وعظمة عقابه سواء أغلب جوره عدله أم لا وحينئذ فلا يرد ما ذكره السائل لأنه بناء على أن للحديث الذي ذكره أصلاً صحيحاً وليس كذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل رحمه الله تعالى عن شخص ولاه صاحب مصر المولى من قبل السلطان المفوّض إليه إعطاء المناصب منصباً ثم ولي السلطان آخر في ذلك المنصب فمن المقدم مع أن السلطان لم يصرح بعزل الأوّل وهل إذا كان العرف إن تأخر تاريخ من ولاه السلطان يقتضي تقدمه يعمل به أو لا؟. فأجاب بقوله: إذا اطردت العادة بأن ذلك المنصب لا يولي فيه إلا واحد كانت التولية الثانية رافعة للأولى وإن اتحد المولى سواء أصرح بعزل الأوّل أم لا؟ وإن لم تطرد بذلك عادة أو اطردت بأن من ولاه السلطان مقدم على من ولاه غيره قدم من ولاه السلطان، والله سبحانه وتعالى أعلم.(6/386)
وسئل رحمه الله تعالى بالمدينة المشرفة على مشرفها أفضل الصلاة والسلام ثاني شوّال سنة تسع وخمسين وتسعمائة عن امرأة عامية تزعم أنها شافعية تزوّجت بمحلل وذكرت أن أحد شهود عقدها قال حالة العقد زوّجي نفسك منه على كذا كذا دينار على مذهب أبي حنيفة وأنها علمت ذلك واعتقدته ورضيت به فزوّجت نفسها منه وقبل وعند غيبوبة الحشفة حصل بعض انتشار له، وذكرت ذلك للشهود وذهل الشهود عن استحضار ذكر ما ذكرته من أن أحدهما ذكره لها فهل القول قولها ويكتفي بعلمها بما عقد عليه من كون العقد على المذهب المذكور وإن لم يصرح لها بلفظ التقليد ولم تعلم شروطه وهل تقليد العوام إلا هذا وهل يضر ذهول الشهود عما ذكرته مع جزمها باستحضاره وسماعه ويكتفي بيسير الانتشار وتحل للزوج مع انقضاء عدتها بما ذكر أم لا؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله: إذا قصدت هي والزوج العمل بذلك على مذهب أبي حنيفة ـ رضى الله تعالى عنه ـ كان ذلك تقليداً له فحينئذ يعتبر وجود شروط العقد في مذهبه وكذا شروط وطء المحلل وتوابعه فإذا وجدت كلها وإن لم تعلم أنها شروط حلت لزوجها الأول إن قلدا أبا حنيفة ـ رضى الله تعالى عنه ـ أيضاً ويلزمه الاستمرار على تقليده ما دامت هذه المرأة في عصمته ويلزم أيضاً رعاية عدم التلفيق حتى لو طلقها ثانياً لم تحل له وإن كان شافعياً أختها ولا أربع سواها حتى تنقضي عدتها منه وعلى هذا المثال يقاس ما أشبهه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289(6/387)
وسئل رحمه الله تعالى عن جماعة تحت أيديهم مدرسة من مدارس زبيد يباشرون وظائفها ويقبضون غلاتها فجاء من نازعهم في ذلك فتداعوا بين يدي بعض القضاة الشافعية فادعوا بأن هذه المدرسة بناها فلان الفلاني ووقف عليها هذه الأراضي وجعل النظر والوظائف لفلان وذريته وهو جد هؤلاء الجماعة الذين بيدهم المدرسة فأجاب المنازع لهم بالإنكار فأثبتوا بالطريق الشرعي مدعاهم بالبينة العادلة التي شهدت لهم على وفق دعواهم بين يدي ذلك القاضي واستندوا في ذلك إلى الشهرة والاستفاضة لكون الوقف المذكور قديم العهد معدوم الرسم فكتب القاضي المذكور لهم سجلاً حكمياً بذلك وحكم لهم بما فيه وأشهد جماعة مجلسه على ذلك فجاء هذا المنازع ببعض كتب التواريخ وفيه أن بين موت الواقف وموت الموقوف عليه وعلى ذريته فرقاً كبيراً وذلك بأن المؤرخ نقل أن الواقف توفي في أثناء سبعمائة والموقوف عليه توفي في أثناء سنة ثمانمائة فأراد القاضي المذكور أن ينقض حكمه السابق بمجرد ما نقل عن ذلك المؤرخ فهل يسوغ له ذلك أم لا؟ وهل يعارض أخبار التواريخ البينات العادلة وتترجح عليها أم لا؟ بينوا لنا ذلك. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى به بقوله: الكلام على هذه الواقعة يستدعي تحريراً فإن ما ذكر فيها من أن المدعي عليهم هم واضعو اليد وأن الخارج أجاب بالإنكار عجيب إذ كيف يتصور من ذي اليد أن تسمع له دعوى على خارج لا يدله بما ذكر مع أن شرط الدعوى أن تكون ملزمة ولا إلزام هنا وفرض مصحح لدعواهم بأن يقولوا أنه يلازمنا ويمنعنا من اشتغالنا لا يتأتى هنا مع ما ذكر في السؤال أن الخارج أجاب بإنكار استحقاقهم على أن قولهم هذا دعوى أخرى فإذا أنكرها قبل قوله ولم تسمع منهم بينة باستحقاق لأنها غير محتاج إليها الآن بل لا يطابق دعواهم فعلم أن الواقع إن كان كما ذكر أوّلاً من دعوى واضعي اليد فالدعوى باطلة وما ترتب عليها من الحكم كذلك فتبقى الأرض بيد من هي بيده وإن كان الأمر بخلاف(6/388)
ذلك بأن ادعى خارج على ذي اليد بأنه المالك للرقبة أو المستحق للمنفعة الآن بمقتضى كذا وطالبهم برفع أيديهم فأجابوا بأنهم المستحقون للمنفعة فأنكر فأقاموا بينة وشرط الواقف النظر والاستحقاق لجدهم وذريته وبأنهم من تلك الذرية ولم تذكر البينة أن مستندها الاستفاضة أو ذكرت ذلك على وجه الجزم لا الشك على خلاف فيه فحكم القاضي بها صح حكمه ولم يجز له ولا لغيره نقضه لشيء وجده مخالفاً في كتب التواريخ، وفي الروضة كالأحياء أن كتب التواريخ لا تنفع في الدنيا ولا في الآخرة والعجب من توهم هذا القاضي ذلك إذ هذا لا يصدر إلا ممن لم يشم لكلام الشافعية رائحة وكانت أمارات الجهل والتساهل في الدين عليه لائحة وكيف يتوهم ذلك متوهم مع اتفاق أئمته على أن الخط لا يعمل به ولا يقضى بما فيه حتى لو شهد إنسان في واقعة ودوّنها بخطه وحفظه عنده حفظاً تاماً بحيث يقطع بأنه لا يمكن تزوير شيء فيه عليه لم يجز له أن يشهد معتمداً على خطه حتى يتذكر الواقعة، أي لأن دلالة الخط ضعيفة محتملة فلا يجوز اعتمادها في الشهادات ونحوها مع قوله على مثل هذه فاشهد فيا لله العجب ممن عرف ذلك من مختصرات مذهبه التي بأيدي المبتدئين فضلاً عن غيرها كيف يتوهم أن حكماً صح لاستيفاء شروطه ينقض لشيء وجد مخالفاً له لا يقاومه ولا يعارضه تالله لا يتوهم ذلك إلا غبي غلب عليه هواه وضعف عقله وتقواه على أنا لو تنزلنا، وقلنا إن تلك التواريخ يعمل بها في ذلك لم يعمل بها في هذه الواقعة جزماً لأنها لا تنافي ما حكم به القاضي، لأن غاية ما بين تاريخ وفاة الواقف ووفاة الموقوف عليه مائة سنة ونحو سنة وهذا لا يقتضي أن ولادة الموقوف عليه تأخرت عن وفاة الواقف لاحتمال أن الموقوف عليه عاش مائة سنة وسنتين وهذا كثير بل قد رأينا من جاوز المائة والعشرين ومنهم جدي أبو أبي وشيخنا ولي الله ذو الكرامات الباهرة محمد بن أبي الحمائل وشيخنا شيخ الإسلام زكريا سقى الله تعالى عهده جاوز(6/389)
المائة بل في الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين جماعة كثيرون عاشوا مائة وستين سنة بل سلمان الفارسي ـ رضى الله تعالى عنه ـ جاوز المائتين وخمسين سنة اتفاقاً على ما نقله أبو الشيخ، وإنما اختلفوا في الزائد على ذلك حتى قيل إنه عاش ستمائة سنة، وقول الذهبي لم يجاوز الثمانين فيما ظهر له مردود عليه، وقد رأينا بمكة من منذ سنين رجلاً هندياً يزعم أن سنه ثلثمائة وخمسون سنة وأنه من خدمة رتن الهندي المدعي أنه من أصحاب النبي وأنه حمل النبي وحمله حتى جاوز به سبيلاً قريب جدة وأنه وفد عليه مرتين مرة بمكة ومرة بالمدينة وانتصر له بعض المتأخرين زاعماً عن نفسه أنه تابعي لاجتماعه بهذا الصحابي لكن بالغ غيره من الأئمة قبله وبعده في تكذيب رتن في دعواه تلك، وإذا تقرر أنه لا استحالة ولا بعد في أن الشخص يعيش مائة سنة وسنة فأكثر لم يكن ما في تلك التواريخ منافياً لذلك الحكم ولا معارضاً له بوجه فتوهم القاضي أن ما ذكر عن تلك التواريخ ينافي حكمه ويقتضي نقضه ذهول عجيب وتغفل مريب هذا كله إذا تنزلنا وقلنا بما لا يقول به شافعي أن ما في التواريخ يعارض أحكام القضاة الصحيحة بالبينات العادلة سواء في ذلك الحكم بالصحة والحكم بالموجب، فإن قلت كيف يطلق
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289(6/390)
النووي في الروضة أن علم التاريخ لا ينفع في الدنيا ولا في الآخرة مع قول الثوري رحمه الله تعالى وناهيك به جلالة وتقدماً لما استعمل الرواة الكذب استعملنا لهم التاريخ. وقول حسان بن يزيد لم يستعن على الكذابين بمثل التاريخ. وروى ابن جرير من طريق ابن شهاب أن النبي لما قدم المدينة وقدمها في شهر ربيع الأول أمر بالتاريخ، وقول المحدثين أن التاريخ فن عظيم الوقع جليل النفع وضعناه لنختبر به من جهلنا حاله لما كثر الكذابون حتى ظهر به كذبهم وبطل قولهم الذي يروّجون به على من لا علم له بالتاريخ كما وقع لجماعة أنهم زعموا القيّ الأكابر وأخذوا عنهم فبحث عن سن مولدهم ووفاة أولئك فرؤي بينهما بون بائن فافتضحوا بذلك على رؤوس الأشهاد وقول بعض المتأخرين ولع بعض من لا يعبأ به بكلام الروضة والأحياء في ذم مطلق التاريخ فأخطأ بل هو واجب إذا تعين طريقاً للوقوف على اتصال الخبر وشبهه، قلت هذا كله في واد وكلام الفقهاء في واد آخر وذلك لأنهم اتفقوا بل أجمعوا على أن باب الرواية أوسع من باب الشهادة والقضاء فلا يلزم من استدلالهم بما في التواريخ المعتمدة المتواترة عن مؤلفيها الأئمة الحفاظ المتصلة بالأسانيد الصحيحة من تكذيب راو في دعواه أو جرحه أو تعديله أو تدليسه أو انقطاعه أو إرساله أو غير ذلك من فنون الرواية أن يستدل بما فيها على بطلان حكم قاض ببينة شرعية عادلة تعلق بها حق المحكوم له ونفذ الحكم بذلك ظاهراً مطلقاً وباطناً كذلك عند جمع مجتهدين، ويشترط أن يوافق باطن الأمر ظاهره عندنا فلا يرفع إلا بما يعادل ذلك كبينة أخرى مستوفية لشروط البينات والتعارض شهدت بما يقتضي بطلان ذلك الحكم فهذا هو الذي يرفعه، وأما مجرد شيء يوجد في تاريخ أو تواريخ فذلك ليس من قبيل البينات في شيء البتة، شيء يستأنس به في تقوية سند أو ضعفه أو عدالة أو جرح أو نحوها وكل هذه للقرائن فيها مدخل لأن مدارها ومبناها ليس إلا على القرائن كما لا يخفى ذلك(6/391)
على من له أدنى إلمام بعلوم الحديث واصطلاح المحدثين الذين هم أهل التاريخ والمستدلون به، وأما الفقهاء فلا مدخل للاستدلال به في قواعدهم المقررة في أحكام القضاة والشهود ونحوهما، وقول الروضة والأحياء السابق من الواضح أنه مفروض في تواريخ ليس فيها إلا مجرد ذكر حوادث ووقائع لا يرتبط بها نفع في الدين ولا في الدنيا، وأما تواريخ المحدثين التي فيها ذكر نحو الجرح والتعديل ووفيات الرواة ورحلاتهم ونحو ذلك فهي من أجل الكتب النافعة في الدين والدنيا، كما صرح به المحدثون و
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289(6/392)
النووي رحمه الله تعالى منهم بل من أجلهم كما شهد بذلك تقريبه وغيره، فإن قلت قد استدل بالتاريخ في مثل قضيتنا فقد حكى الخطيب في تاريخه أن بعض يهود خيبر أظهر صحيفة فيها إسقاط الجزية عنهم وفيها شهادة بعض الصحابة ـ رضى الله تعالى عنه ـ م على النبي بذلك فنظر الأئمة في حال أولئك الشهود فوجدوا بعضهم قد مات قبل فتح خيبر كسعد بن معاذ ـ رضى الله تعالى عنه ـ وبعضهم ما أسلم إلا بعد فتح خيبر فأبطلت تلك الصحيفة قلت شتان ما بين هذه وقضيتنا لأن هذه من باب الرواية عنه أنه أسقط الجزية عنهم، وقد تقرر أنه يعمل في باب الرواية بمثل هذه القرائن وقضيتنا من باب الشهادة فلا جامع بينهما على أنا لا نسلم أن بطلان الصحيفة لمجرد ذلك وإنما حكى هذا لأنه قرينة فقط، وأما أصل بطلانها فإنما هو لأصول أخرى منها مخالفتها للقطعي وهو الإجماع على عموم أخذ الجزية من اليهود والنصارى من غير استثناء ومن ثم كانت صحيفتهم باطلة وإن فرض أن تلك القرينة لم توجد فبان أنها مقوية فقط ومما يبطلها أيضاً أنه لو فرض أن لا إجماع أن إسقاطها عن هؤلاء بخصوصهم تخصيص للقرآن وهو لا يكون إلا بقاطع عند جماعة وعلى مقابل الأصح أنه يكون بالسنة ولو ظنية يشترط في تلك السنة أن يرويها العدل عنه بسند متصل عرفت رجاله وعدالتهم وعدم علة قادحة فيهم أو في مروءاتهم كما هو مقرر في علوم الحديث، وهذه الصحيفة لم يوجد فيها شيء من هذه الشروط فكيف يتوهم من له أدنى مسكة أن بطلانها يتوقف على تلك القرينة حتى تجعل القرينة هي المبطلة لها ثم يقيس عليها في ذلك بطلان الحكم في قضيتنا لا يتوهم ذلك إلا غبي جاهل على أنه صحت نصوص تبطلها أيضاً فقد صح من طرق أنه نص على إجلائهم من خيبر بل من الحجاز وعمل بها عمر ـ رضى الله تعالى عنه ـ فأجلاهم وأخذ منهم الجزية ووافقه الصحابة ـ رضى الله تعالى عنه ـ م على ذلك فتأمل ذلك وتدبره ليظهر لك أن ما حكي عن ذلك القاضي إن صح عنه دل على فرط جهله وقلة دينه واقتضى(6/393)
أنه يجب على علماء بلده السعي في عزله ما أمكن وإلا لزمهم الإعلام بحاله حتى لا يغتر به الجاهلون وتولية مثل هذا غير عجيب فقد قال الأذرعي في قضاة زمنه أنهم كقريبي عهد بالإسلام فالامتحان بالجهلة قديم، والله سبحانه بكل شيء عليم.
وسئل عما إذا أمر السلطان بأمر موافق لمذهب معتبر من غير أن يعلم بذلك المذهب فضلاً عن تقليده فهل يتعين تنفيذ أمره بذلك؟. فأجاب بقوله: نعم يتعين ذلك كما صرح به البلقيني وعبارته: إذا أمر السلطان بأمر موافق لمذهب معتبر من مذاهب الأئمة المعتبرين فإنا ننفذه ولا يجوز لنا نقضه ولا نقول يحتاج إلى أن يعلم بالخلاف كغيره من الحكام لأن الخوض في مثل ذلك يؤدي إلى فتن عظيمة ينبغي سدها انتهت.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289(6/394)
وسئل رحمه الله تعالى عمن أجاب بجواب معترضاً على جواب غيره هل يجوز له تخطئته والتشنيع عليه بألفاظ قبيحة كما يفعله البعض سواء أظهر الخطأ بظهور النص أم كان اعتراضه بحسب فهمه أم يجوز في حال دون حال وما هو، وفي الروضة كلام لا يخفى على شريف علمكم حققوه أثابكم الله سبحانه وتعالى بثوابه الجزيل؟. فأجاب نفع الله سبحانه وتعالى بقوله: إن كان المجيب الأوّل ليس أهلاً للإفتاء أو صدر منه ما يدل على استعجاله وتقصيره في استبانة الحكم فالمعترض عليه معذور وإن أتى من ألفاظ التنفير عن تلك المقالة بما أتى لأن بيان الحق ودفع غير أهله عن التعرض لما ليسوا له بأهل واجبان على كل متأهل لذلك وإن كان أهلاً للإفتاء مثبتاً فيما أفتى به لم يعذر المعترض عليه إلا إن بين سبب الخطأ بالنص الصريح من كلام الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ أو الأصحاب ـ رضى الله تعالى عنه ـ م ومع ذلك يتعين عليه الأدب معه فلا يبرز انتقاصاً له في ذاته أصلاً، وأما إذا أراد التنفير عن تلك المقالة فواسع له أن يقول عنها هذه خطأ أو باطل أو لا يجوز لشافعي العمل بها أو نحو ذلك من الألفاظ المنفرة عن المقالة لا غير هذا كله إن تأهل المعترض وإلا منع من الكلام من أصله وعلى ما ذكرته من التفصيل يحمل ما وقع للأصحاب بعضهم مع بعض وما وقع للمتأخرين مع الشيخين ومع بعضهم من أنه ليس المراد بالألفاظ الغليظة التي يأتون بها إلا التنفير عن تلك المقالة لا غير ومع ذلك الأولى توقية اللسان ما أمكن وما في الروضة أن فرض شموله لمسألتنا محمول على ما ذكرته فتأمله.(6/395)
وسئل رحمه الله تعالى بما لفظه وأطلق بعض المفتين أن من استعمل الحشيشة كفر فهل ينكر عليه إطلاق هذه المقالة؟. فأجاب نفع الله تعالى به بقوله: استفتى عن ذلك الجلال السيوطي فقال: لا ينكر عليه هذا الإطلاق لأن مثل هذا يجوز أن يقال فيه في معرض الزجر والتغليظ كقوله : «من ترك الصلاة فقد كفر» فيكون مؤوّلاً على المستحل أو يكون المراد كفر النعمة لا كفر الملة والعالم إذا أفتى بمثل هذه العبارة إنما يطلقها متأوّلاً على ما ذكرناه.
وسئل رحمه الله تعالى ما المراد بالمقلد الذي لا يصح إيمانه عند كثير من المتكلمين؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله: المراد به من نشأ بقلة جبل ولم يرزق فطنة حتى يستدل بهذا العالم على أن له موجداً ومدبراً فمر عليه شخص فقال له ذلك فاعتقده وجزم به تقليداً له من غير أن يتفطن لذلك الاستدلال وهذا نادر جداً، وأما من قال يلزم على القول بعدم صحة إيمان المقلد تكفير العوام فإنما يتمشى كلامه على أن المراد بالمقلد من لم يتقن الدليل على قواعد الاستدلال وهذا بعيد جداً فإنه اكتفى من كثيرين من أجلاف الأعراب والنساء بما هو في طبع كل أحد حتى العجائز والصبيان من الاستدلال بالنجوم والسماء والأرض والأنهار والأشجار والزروع على أن لها خالقاً ومدبراً وعلى هذا لا تجد عامياً مقلداً أصلاً.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289(6/396)
وسئل رحمه الله تعالى في شخص يقرأ ويطالع الكتب الفقهية بنفسه ولم يكن له شيخ يقرر له المسائل الدينية والدنيوية ثم إنه يسأل عن مسائل دينية ودنيوية فيفتيهم ويعتمد على مطالعته في الكتب ولم يتوقف فيما يسأل عنه هل يجوز له ذلك وإذا قلتم بعدم الجواز فماذا يستحقه من قبل الله تعالى ورسوله ؟. فأجاب نفع الله تعالى به بقوله: لا يجوز لهذا المذكور الإفتاء بوجه من الوجوه لأنه عامي جاهل لا يدري ما يقول بل الذي أخذ العلم عن المشايخ المعتبرين لا يجوز له أن يفتي من كتاب ولا من كتابين، بل قال النووي رحمه الله تعالى ولا من عشرة فإن العشرة والعشرين قد يعتمدون كلهم على مقالة ضعيفة في المذهب فلا يجوز تقليدهم فيها بخلاف الماهر الذي أخذ العلم عن أهله وصارت له فيه ملكة نفسانية فإنه يميز بين الصحيح من غيره ويعلم المسائل وما يتعلق بها على الوجه المعتمد به فهذا هو الذي يفتي الناس ويصلح أن يكون واسطة بينهم وبين الله تعالى، وأما غيره فيلزمه إذا تسوّر هذا المنصب الشريف التعزير البليغ والزجر الشديد الزاجر له ولأمثاله عن هذا الأمر القبيح الذي يؤدي إلى مفاسد لا تحصى، والله سبحانه وتعالى أعلم.(6/397)
وسئل رحمه الله تعالى عن وظيفة شغرت بموت صاحبها فأقام من له ولاية الإقامة شخصاً في الوظيفة المذكورة فباشرها نحواً من سنة فأنهى في خلال ذلك شخص آخر إلى ولي الأمر أن الوظيفة المذكورة شاغرة بسبب وفاة صاحبها الأوّل من غير تعرض لذكر من أقيم فيها فأقامه فيها ولي الأمر من غير تصريح بعزل من أقيم فيها أوّلاً فهل الولاية الثانية تبطل الأولى أم هما صحيحتان فيشتركان؟. فأجاب بقوله: إذا صرح المولى بترتب التولية على إنهاء الشغور الحقيقي كانت باطلة فيقدم المتولي أولاً مباشرة ومعلوماً من غير مشاركة له في ذلك، وإن لم يصرح بذلك ولا يعزل الأوّل ولا دلت على عزله قرينة اشترك فيها الأوّل والثاني فإن قلت ينافي ذلك ما في أصل الروضة أن الإمام لو أخبر بموت القاضي أو فسقه فولى قاضياً ثم بان خلافه لم يقدح في تولية الثاني. قال في الخادم: ومقتضاه الجزم بانعزال الأوّل أي وإن كان فيه وجهان فيكون ترجيحاً للوجه القائل بانعزال الأوّل ثم استشكله الزركشي بأنه بناه على ظن غير مطابق ثم أجاب بأن للإمام العزل من غير موجب أي لمن لم يتعين قال ونظيره ما لو قال لمن يظنها أجنبية أنت طالق فبانت زوجته وقع الطلاق، قلت إذا تأملت قولي إذا صرح الخ، وقول الزركشي أنه بناه على ظن وبتنظيره المذكور ظهر لك عدم المنافاة وأن كلام الشيخين فيما إذا ولى ظاناً صحة الخبر بالموت أو الفسق وحينئذ فهو لم يقع منه تصريح بترتيب التولية على صحة الخبر، فصحت لأنها وجدت مساغاً هو أن للإمام التولية مع سبق التولية لأنها كالمعلقة بشرط لم يوجد، فإن قلت ما الفرق بين الظن والتصريح مع أن كلاً فيه الترتيب على ما بان خلافه قلت: الفرق بينهما واضح فإن الولاية من الأمور المتوقفة على اللفظ وما توقف عليه كالبيع والطلاق إنما يؤثر فيه التصريح لا الظن، وقولي ولا دلت على عزله قرينة أخذته من قول الماوردي رحمه الله تعالى إذا قلد آخر فإن اقترن بتقليده شواهد عزل الأوّل(6/398)
كان عزلاً وإلا فهو باق على ولايته.
تنبيه ذكر أجلاء المتأخرين أن هذا في الأمور العامة قالوا أما الوظائف الخاصة كالإمامة والخطابة والتدريس فلا يجوز عزل متوليها من غير سبب ولا ينفذ، واستدلوا بكلام الروضة وغيره ويتعين تقييده بما إذا كان المولى غير الإمام أو الإمام ولم يخش منه فتنة، أما إذا كان المولى هو الإمام وخشي من عدم نفوذ توليته فتنة فينبغي صحتها مطلقاً كما هو واضح، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ عما إذا استناب السلطان شخصاً بقرية مخصوصة نيابة خاصة أو عامة فأخرب السلطان المذكور القرية المذكورة هل ينعزل النائب بخراب موضع التولية أم لا كما لا ينعزل بموته؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله: الذي يظهر في ذلك أنه إذا قيد التولية بتلك القرية بأن قال وليتك بقرية كذا لم ينعزل إلا بخرابها خراباً مستأصلاً لها بحيث صارت لا تسمى قرية كذا لزوال ما أناط التولية به بخلاف ما إذا لم تصر كذلك لبقاء ما ولي فيه فتبقى التولية ببقائه وليس هذا كموته إذ لا جامع بينهما كما هو جلي هذا كله إن لم يمنع السلطان الناس من سكناها وإلا كان ذلك عزلاً لقاضيها عن الحكم فيها وإن بقي اسمها كما هو واضح، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 289
باب إلحاق القائف
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ رجل وطىء جارية له ثم تركها بلا وطء نحو شهرين فظن أنها حاضت فزوّجها من عبده فولدت بعد ستة أشهر ونحو عشرة أيام من دخول الزوج عليها فهل الولد لاحق بالسيد أو بالزوج والنكاح صحيح أو لا؟. فأجاب حيث لم يثبت حيضها وهي من ذوات الحيض فالنكاح باطل لكن الوطء وطء شبهة والولد ممكن منهما فيعرض على القائف فإن ألحقه بأحدهما لحقه وإلا وقف أمره حتى يكلف فيلزم ولو بالحبس بالانتساب إلى أحدهما إن وجد ميلاً إليه وإلا وقف إلى أن يجده، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.(6/399)
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 333
باب القسمة
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ لو أردنا قسمة حلي مغشوش من ذهب أو فضة بين أيتام أو أردنا أن نبتاع لهم ذلك فما الطريق في صحة القسمة والبيع هل يجزىء في ذلك التبايع بعرض احتيالاً للصحة حيث اقتضته المصلحة للأيتام كما لو جرى ذلك بين رشد أو لا؟ وهل لهم طريق في الشرع سوى ذلك أم لا؟ فإن في سد الباب عليهم من الحرج ما لا يخفى. فأجاب نفع الله تعالى بعلومه المسلمين بأن الحلي إما أن تستوي أجزاؤه أو لا فإن استوت أجزاؤه جازت قسمته حيث لم تنقص قيمته بالقسمة لأن الصحيح في هذه القسمة أنها إفراز للحق لا بيع ولا ينافي ذلك جعلهم الغش مقصوداً في باب القسمة كالزكاة والربا بخلاف المعاملة بالمغشوشة لأن الغش لا ينظر إليه في باب القسمة إلا حيث جعلت بيعاً، وأما حيث كانت إفرازاً فلا ينظر إليه كما يعلم مما يأتي عن الشيخين وإن اختلفت أجزاؤه امتنعت قسمته لأنها حينئذ بيع وبيع بعض المغشوش ببعضه لا يجوز لأنه من قاعدة مد عجوة، وقد ذكر الشيخان ما يدل على ما ذكرته فإنهما قالا وحيث قلنا القسمة بيع اشترط في قسمة الربوي التقابض في المجلس وامتنعت في الرطب والعنب وما عقدت النار أجزاءه. قال غيرهما ونحو ذلك وما نحن فيه من نحو ذلك وحيث قلنا هي إفراز جازت قسمة ذلك أي ومن ثم جازت قسمة الرطب والعنب على القول بأن القسمة إفراز وامتنعت على القول بأنها بيع وحيث امتنعت قسمة الحلي المذكور إما لكونها بيعاً أو لكونها تنقص قيمته بالكسر باعه ولي الأيتام أو أولياؤهم بذهب إن كان فضة أو عكسه لا بعرض إلا لمصلحة وقسموا ثمنه بينهم على حسب شركتهم في المبيع هذا إن كان البيع أحظ من إيجاره وإبقائه لمن يستعمله بأجرة المثل فأكثر أما إذا استوى البيع والإيجار المذكوران في الحظ فيتخير الولي أو الأولياء، وأما إذا كان الإيجار أحظ من البيع فيجب فعله واعلم أن آنية القنية التي للمحجور(6/400)
إذا كانت من صفر ونحوه كالعقار فيما ذكروه في بيع الولي له من أنه لا يباع إلا لخوف تلفه أو لحاجة نحو نفقة ما لم يجد قرضاً ينتظر معه غلة تفي بالقرض أو لغبطة ظاهرة كبيعه بزيادة على ثمن مثله وهو يجد مثله ببعضه أو خيراً منه بكله وإذا كانت آنية نحو الصفر كالعقار فيما ذكر كما نقله ابن الرفعة عن البندنيجي واعتمده فليكن الحلي المذكور كالعقار فيما ذكرنا بالمساواة أو الأولى فلا يجوز بيعه إلا لأحد الأقسام الثلاثة المذكورة الخوف أو الحاجة أو الغبطة واعلم أيضاً أنه لا يجوز لولي الأيتام أن يتولى القسمة بينهم بنفسه وحده حيث قلنا إنها بيع سواء أكان فيها تقويم أم لا، وكذا إن قلنا إنها إفرازاً وكان فيها تقويم لقولهم حيث كان في القسمة تقويم فلا بد من اثنين يشهدان بالقسمة وكذا إن لم يكن فيها تقويم كما في فتاوى الأصبحي ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 333(6/401)
وسئل رحمه الله تعالى لو كان بينهما أي بين شخصين أرض واحدة فيها بناء أو شجر فأراد أحدهما قسمة البناء أو الشجر دون الأرض أو بالعكس مع المساواة بالتعديل فهل يجبر الممتنع أو لا ولو كان البناء أو الشجر لأجنبي وأراد الشركاء قسمة الأرض أو بالعكس فهل يختلف الحكم أم لا؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بأن كلام الماوردي و الروياني صريح في أنه لا يجبر الممتنع في الصورة الأولى في السؤال بقسميها وذلك لأنهما صرحا بأنه لو كان بينهما أرض واحدة فيها بناء أو شجر فأراد أحدهما قسمة الأرض دون البناء والشجر لا يجبر الآخر فإن تراضيا دخل في الأرض قسمة الإجبار ما داما على هذا الاتفاق وقسمت بينهما إجباراً بالقرعة فإذا رجع أحدهما عن الاتفاق زالت قسمة الاتفاق اهـ وجزم به في الأنوار حيث قال ولو كان بينهما أرض مزروعة وأراد قسمة الأرض وحدها جاز وأجبر الممتنع بخلاف البناء والشجر اهـ، فقوله بخلاف البناء والشجر هو مسألتنا بعينه، ومما يصرح بذلك قوله في الأنوار أيضاً تبعاً للشيخين في الروضة وأصلها ولو كانت الشركة لا ترتفع بالقسمة إلا عن بعض الأعيان كعبدين بين اثنين قيمة أحدهما مائة والآخر مائتان وطلب أحدهما القسمة ليختص من خرجت له قرعة الخسيس به وبربع النفيس فلا إجبار اهـ، وعبارة الشيخين الأصح لا إجبار لأن الشركة لا ترتفع بالكلية وهذا منهما صريح في أن محل الإجبار إذا ارتفعت الشركة بينهما بالكلية وإلا فلا إجبار فيكون نصاً في مسألتنا أنه لا إجبار في مسألتنا، ومما يصرح بذلك أيضاً قول الدارمي إذا كان العلو مشتركاً فتراضوا على قسمته جاز وإن طلبوا الإجبار يجوز. وقال ابن القطان : لا يجوز اهـ. قال الأذرعي : وكأن الصورة فيما إذا كان العلو مشتركاً فقط والسفل لأحدهما أو لعيرهما اهـ، وإذا كانت الصورة كذلك كان كلام ابن خيران ضعيفاً لما علمت أن ما قاله ابن القطان حينئذ يشهد له كلام الماوردي والروياني، وكلام الشيخين(6/402)
السابق ويؤيده أيضاً اشتراط الماوردي في قسمة الجدار المشترك بين المالكين تفريعاً على القول بالإجبار أن تكون الأرض لهما ولا يشكل على ذلك قولهم في الأرض المزروعة إذا طلب أحدهما قسمتها دون الزرع أجبر الممتنع لأن للزرع أمداً ينتظر بخلاف البناء والغراس وكأن السبكي لم يطلع على ذلك حيث توقف في الإجبار فيما لو كان بين اثنين شركة في أنشاب وبساتين وبئر والأرض مستأجرة لهما فإنه قال لا إجبار في البئر المحتكرة ولا في الأنشاب إن اختلف نوعها أو جنسها أو قيمتها بحيث لا يمكن التعديل وإن اتحد النوع وأمكن التعديل فعندي فيه توقف اهـ، وقد علمت أن المنقول يقتضي هنا عدم الإجبار أيضاً لبقاء الشركة بينهما في الأرض فلم توجد فائدة القسمة، وأما الصورة الثانية بقسميها فواضح أنه يجبر الممتنع من القسمة فيها، والفرق بينها وبين الأولى أن القسمة هنا تزيل ضرر الشركة بالكلية ولا تبقى بينهما تعلقاً بعدها بخلافها في الأولى، فإن التعلق المؤدي إلى المنازعة والمضارة باق بينهما بعد القسمة فلم يجبر الممتنع منهما لانتفاء فائدتها من إزالة ما هو سبب للمنازعة والمضارة بين الشريكين، ثم رأيت بعض المتأخرين وجه بذلك أيضاً حيث قال وقد صرح
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 333
الماوردي بأن قسمة البناء والشجر دون أرضه لا تجوز جبراً وتجوز اختياراً ووجهه أن قسمة التعديل في غير هذه الصورة تقطع العلق بينهما واعتراض أحدهما على الآخر وهو المقصود الأعظم من القسمة وههنا لو أجبرنا لم تنقطع العلق والاعتراضات بينهما لبقاء الشركة في المنفعة فلو أراد أحدهما أن يعوّض عن شجره الذي اقتلع لاعترضه الآخر اهـ.(6/403)
وسئل في قسمة النخل هل يجبر عليها الممتنع إذا اتحد النوع والقيمة من غير رد كما أفتى به إسماعيل الحيائي أو الشرط اتحاد الجنس فقط كما أفتى به أبو شكيل اليمانيين فما المعتمد من ذلك؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بأن المعتمد في ذلك كما يعلم مما يأتي عن الشيخين، وكلام السبكي السابق أنه لا يجبر الممتنع من قسمة النخل إذا اختلف نوعها أو جنسها أو قيمتها إذا لم يمكن التعديل ودعوى أبي شكيل أن الشرط اتحاد الجنس فقط ممنوعة، ولعله أراد أن ذلك شرط لصحة القسمة دون الإجبار عليها على أن في إطلاق هذا نظراً أيضاً ففي الروضة وأصلها والمشترك الذي يعدل بالقيمة منه ما يعد شيئاً واحداً كأرض تختلف قيمة أجزائها بحسب قوّة الإنبات وكذا بستان بعضه نخل وبعضه عنب ودار بعضها مبني بآجر وبعضها مبني بخشب وطين هذا إن لم يمكن قسمة الجيد وحده والرديء وحده وإلا فلا إجبار ومنه ما يعد شيئين فصاعداً ولا إجبار فيه ثم قالا والعبيد والدواب والشجر والثياب ونحوها إذا كانت من نوع واحد، وأمكن التسوية عدداً وقيمة أجبر على القسمة وإن لم تمكن التسوية أو كانت الأعيان أجناساً أو أنواعاً فلا إجبار، وكذا لو اختلطت الأنواع وعسر التمييز كتمر جيد ورديء اهـ ملخصاً، وعبارة الأنوار: كما يجري الإجبار إذا اختلفت الصفات يجري إذا اختلف الجنس كالبستان الواحد بعضه نخل وبعضه عنب والدار المبني بعضها بالآجر وبعضها بالطين والخشب وهذا إذا لم تمكن قسمة الجيد وحده والرديء وحده وإلا فلا يجبر على قسمة التعديل، ثم قال وإن لم يكن عقاراً كالعبيد والدواب والأشجار ونحوها، فإن كانت نوعاً واحداً وأمكنت التسوية عدداً وقيمة أجبر الممتنع وإلا فلا، وكأن أبا شكيل توهم ما ذكر عنه من مسألة البستان المذكورة وليس كما توهم فإن اختلاف الجنس فيها ألغي لأن المقسوم بالقصد هو أرض البستان فلا نظر لاختلاف جنس ما فيها بخلاف مسألتنا، فإن المختلف الجنس هو المقسوم من غير تبع(6/404)
لشيء، ومن ثم ذكر الشيخان في الأشجار المنفردة أنه لا بد من اتحاد نوعها وإمكان تسويتها عدداً وقيمة فلا تلتبس عليك إحدى الصورتين بالأخرى كما وقع فيه أبو شكيل إن صح ما نقل عنه.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 333
وسئل رحمه الله تعالى في الربويات كالرطب والعنب هل تصح قسمتها كيلا مع اتحاد نوعه واختلافه أو لا بد من اتحاد النوع ولو اقتسماه بدون كيل بل بامتحان باليد أو دونه هل يقوم مقام الكيل وهل يقدح في الصحة اختلاف حباته كبراً وصغراً أو اختلافه رطباً وبلحاً أو لا، وكذلك قسمة الحب في سنبله بكيل أو دونه وهل يجوز ذلك أو لا؟. فأجاب نفعنا الله تعالى به بأن الذي صرح به الشيخان وغيرهما أنا حيث جعلنا القسمة بيعاً فاقتسما ربوياً وجب التقابض في المجلس ولم تجز قسمة المكيل وزناً وعكسه ولا قسمة رطب وعنب وما عقدت النار أجزاءه ولا قسمة ثمر على شجر خرصاً وحيث جعلناها إفرازاً وهو المعتمد جاز كل ذلك، وإنما يفوت إمكان القسمة فقط، نعم الثمار على الشجر غير الرطب والعنب لا تجوز قسمتها خرصاً وكذلك سائر الزروع وأما التمر والعنب فيجوز قسمتهما خرصاً على المعتمد عند الشيخين، واختار السبكي قول جمع لا يجوز خرصها وإن قلنا إنها إفراز، قال: لأن الخرص ظن لا يعلم به نصيب واحد على الحقيقة، وفي الزكاة جوز للحاجة مع كون شركة المساكين ليست بشركة حقيقة بدليل أنه يجوز أداء حقهم من موضع آخر، ويجاب بأن الظن المستفاد من خرص الرطب والعنب قائم مقام المحقق شرعاً في باب الزكاة والعرايا فكذا هنا لأن قسمة الإفراز فيها أنواع من المسامحة يجعل هذا منها، وصرح الشيخان أيضاً بأنهما لو أرادا قسمة أرض مزروعة مع ما فيها، وقد اشتد الحب أو كان بذراً بعد لم يجز وإن كان فصيلاً جاز أو قسمة ما فيها وحدها تأتي فيه هذا التفصيل، ولا فرق بين أن تجعل القسمة هنا إفرازاً أو بيعاً، أما في الزرع وحده فلأنه مجهول، وأما في(6/405)
الزرع مع الأرض وهو بذر أو قد بدا صلاحه فلأنها على الإفراز قسمة معلوم ومجهول وعلى البيع بيع طعام وأرض بطعام وأرض إذا تقرر ذلك علم أنه لا يصح قسمة الحب في سنبله مطلقاً، وأنه تصح قسمة الرطب والعنب كيلاً ووزناً مع اتحاد النوع واختلافه ولو رطباً وبلحاً، ومع اختلاف الحبات لأن الشرط في قسمة الإفراز تعديل السهام بما يعلم به نصيب كل واحد على الحقيقة كالكيل أو الوزن أو الزرع ومن ثم علم أنه لا يكفي عن الكيل مثلاً الامتحان باليد ثم ما ذكر في الرطب والعنب إنما يأتي إذا قلنا أنهما مثليان وهو ما صححه الشيخان في القصب وصحح في المجموع ما عليه الأكثرون تبعاً للنص أنهما متقوّمان ومن ثم قال الإسنوى أنه المفتي به لكن القائل بالأوّل يحمل النص القائل بوجوب قيمتها على ما إذا فقد المثل وعلى القول بأنهما متقوّمان تكون قسمتها قسمة تعديل فلا بد فيها من شروطها السابقة في الجواب الذي قبل هذا.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 333(6/406)
وسئل في قسمة اللحم نيئاً ومشوياً بدون نزع العظام ودون وزن اللحم كما عليه عمل الناس من غير نكير أو لا يصح ذلك كذلك وما طريق الصحة في جميع ذلك فلو ضحى جماعة ببدنة أو بقرة، وقلتم إن لهم قسمة اللحم فهل يجب أن يتصل كل منهم بنصيبه من الكبد والقلب والكرش والشحم واللحم وهي أجناس أو يجوز أن يختص بعضهم ببعضها وغيره بالبعض الآخر؟. فأجاب بقوله: إن اللحم النيء مثلي فتكون قسمة إفراز وحينئذ فتصح بشرط نزع عظمه الذي يمنع معرفة مقادير الأنصباء لما مر في الجواب الذي قبله أن شرط قسمة الإفراز تعديل السهام بما يعلم به نصيب كل واحد على الحقيقة ولا يتيسر ذلك في نحو اللحم إلا بوزنه فلا تصح قسمته جزافاً لأنها لا تكون إلا قسمة تعديل وهو بيع وبيع الربوي الذي دخل النار بعضه ببعض لا يجوز، وإذا ضحى جمع ببدنة فلا بد من قسمة كل من أجزائها كالكبد والطحال على حدته لأن قسمتها تعديلاً باطلة لأنها بيع وهو ممتنع في الربويات المختلفة الجنس لأنه يصير من قاعدة مد عجوة كما علم مما قدمته في الجواب الذي قبل هذا في تقدير بطلان قسمة الزرع مع الأرض وقد بدا صلاحه أو كان بذراً بعد والكلام حيث لم يرضوا بتخصيص بعضهم بشيء منها على وجه الهبة مثلاً، أما إذا رضوا بذلك فلا منع منه، والله سبحانه وتعالى أعلم.(6/407)
وسئل رحمه الله تعالى عن قول الروضة: وأما الأقرحة الأراضي فإن كانت متفرقة فهي كالدور وإن كانت متجاورة ففي الشامل أن أبا إسحاق جعلها كالقراح الواحد المختلف الأجزاء وأن غيره قال إنما تكون كالقراح الواحد إذا اتحد الشرب والطريق فإن تعدد فهو كما لو تفرقت قال: وهذا أشبه بكلام الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ فما صورة الاتحاد في الشرب والطريق هل هو في الشرب ما إذا كانت الأقرحة المتجاورة تشرب من ثقبة واحدة دون ما إذا تعددت لكل أرض ثقبة تخصها من النهر أو كيف صورة الاتحاد ولو أن أحد الأقرحة أسفل من الآخر وبينهما حاجز وفيه ثقب يمر الماء فيها من الأعلى إلى الأسفل بلا سد، وقد يسد بحيث لا يرسل إلى الأسفل إلا بعد ريّ الأعلى فهل يجري الإجبار في الصورتين أم في الصورة الأولى فقط وهل ما ثبت فيه الإجبار بالقسمة يثبت في خلطة الجوار أم الحكم مختلف أفتونا مأجورين؟. فأجاب: بأن المعتمد ما رجحه الشيخان من أنه لا بد مع اتحاد الأقرحة من اتحاد مشربها وطريقها بأن يكون النهر الذي تشرب منه واحداً وتكون طريقها التي يصل فيها ماء النهر إليها واحدة سواء وصل إليها من ثقبة واحدة أو من ثقب بخلاف ما إذا اختلف النهر أو اتحد لكن اختلفت طرقها إليه فإنه لا إجبار حينئذ لاختلاف الأغراض باختلاف الأنهار وباختلاف القرب إليه وباختلاف الطريق مع تلاصقها كما هو فرض المسألة يختلف قربها وبعدها منه فامتنع الإجبار حينئذ بخلاف ما إذا تلاصقت واتحد النهر واتحدت طرقها إليه فإن الأغراض حينئذ لا تختلف باختلاف أعيانها فمن ثم دخلها الإجبار حينئذ وبما تقرر علم أنه لا إجبار فيما ذكره السائل بقوله ولو أن أحد الأقرحة أسفل من الآخر الخ، لأن الطريق حينئذ إلى النهر لم تتحد بل اختلفت قرباً وبعداً ومن لازم اختلافها كذلك اختلاف الأغراض بأعيانها ومع اختلاف الأغراض كذلك يمتنع الإجبار وواضح أن خلطة الجوار لا شركة فيها فكيف يتصور فيها القسمة فضلاً عن أن(6/408)
يتصور فيها إجبار أو عدمه والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 333
وسئل رحمه الله تعالى فيما ذكره الأئمة أن الشيء الذي لا تتأتى قسمته إجباراً ولم يرض الشركاء فيه بالمهايأة أن الحاكم يؤجره وهل للحاكم أن يؤجره لبعض الشركاء أم لا؟ فإن قلتم لا فهل إجارته صحيحة أو فاسدة ولو أن بعض الشركاء طلبه بأكثر من أجرة المثل هل يجاب أو لا؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه وبركته بقوله: قضية قولهم في امتناع الشريكين من المهايأة أن الحاكم يؤجر عليهما وتوزع الأجرة بينهما أنه لا يجوز له أن يؤجره لأحدهما ووجهه ظاهر لأنه بامتناعهما صار نائباً عنهما شرعاً إذ تصرفه عليهما إنما هو بنيابة اقتضتها الولاية أخذاً مما قالوه في الحاكم إذا زوج بعضل الولي أو غيبته مثلاً وإذا كان نائباً عنهما فكيف يؤجر أحدهما لأنه حينئذ يكون متصرفاً مع مستنيبه فيما هو نائب فيه وهو ممتنع لاستلزامه أن المالك يستأجر ماله من نائبه، بل لو قلنا أن القاضي ليس نائباً عنهما وإنما يتصرف في ذلك بحكم الولاية الشرعية كان الامتناع واضحاً أيضاً لأنه ولي على المستأجر منه في حصته والولي لا يجوز له أن يتصرف مع المولى عليه فيما هو ولي عليه فيه، فإن قلت يمكن توجيه الصحة بأن أحدهما إذا رضي بالاستئجار صار القاضي غير نائب عنه لأنه إنما ينوب عن ممتنع وغير مولى عليه كذلك أيضاً، وحينئذ فلا يتأتى ما ذكرته في توجيه الامتناع، قلت هذا وإن أمكن أن يتخيل إلا أنه عند التأمل واضح الفساد، لأن الحاكم لا يؤجره عليهما إلا إذا لم يتراضيا بالمهايأة وإذا لم يتراضيا بها فولاية الحاكم أو نائبه مستمرة عليهما وإن رضي أحدهما بأن يستأجره لأن رضاه باستئجاره غير رضاه بالمهايأة فلا يكون رضاه بالاستئجار مبطلاً لولاية الحاكم ولا لنيابته لوجود السبب المقتضي لها وهو امتناعهما من المهايأة وبما تقرر علم أن إيجار الحاكم لأحدهما فاسد(6/409)
ولو بأكثر من أجرة المثل، لأن ملحظ الفساد ما تقرر وهو موجود مع استئجاره بأجرة المثل أو بأكثر منها ثم رأيت ابن عبسين أفتى بخلاف ذلك وفيما قررته رد لجميع كلامه فتأمله.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 333
وسئل بعض الناس عن رجل مات وخلف خمسة أولاد ذكور داود وأحمد وعمر وعلياً وعبد الرحمن مات عمر عن ولد اسمه إدريس ثم مات إدريس عن غير ولد وخلف أربعة أعمام ثم مات أحمد عن غير ولد وانحصر إرثه في إخوته الثلاثة الباقين ثم مات داود وخلف ولدين ذكرين هما عبد الله ويوسف وبنتاً هي فاطمة ثم مات عبد الله وخلف ولداً ذكراً اسمه إدريس ثم مات إدريس المذكور عن غير ولد وخلف عمّاً لَهُ وهو يوسف المذكور وعمة له هي فاطمة المذكورة ثم غاب علي المذكور في السفر وجهل مكانه وله مدة ستين سنة لم يعلم أهو حي أم ميت وترك ولداً له اسمه شكر وانحصر الآن إرث عبد الله الجد في ولده عبد الرحمن وفي أولاد ولده داود وفي ولد ولده على الغائب شكر المذكور وللجد عبد الله أراض ومزارع باليمن فوضع يده عليها عمهما عبد الرحمن المذكور وقسم لأولاد داود وأولاد علي المذكورين قطعتين من الأراضي المذكورة في بيتين من ثلث الأراضي المتروكة ومسك الثلثين بيده وغلب على أولاد أخوته فماذا يخص كل واحد من هؤلاء الأولاد وأولادهم من هذه الأراضي بحكم الفريضة الشرعية، فأجاب بقوله حصة عبد الرحمن ثلث، وعلي ثلث، ويوسف أربعة أخماس ثلث، وفاطمة خمس ثلث، وعلى الغائب ستين سنة إذا مضت مدة يغلب على الظن أنه لا يعيش فوقها فيجتهد القاضي ويحكم بموته ويعطي ماله من يرثه وقت الحكم والقسمة المذكورة من عبد الرحمن إن كانت بطلب الشركاء بإذن الحاكم أم لا وهم بالغون رشداء ولم يحصل حيف في القسمة فالقسمة صحيحة إلا في حصة على الغائب لأنه لا يحكم بموته إلى الآن وإن كان عبد الرحمن هو القاسم باختياره فكل أحد من الورثة على حصته المتقدمة من كل أرض ومزرعة(6/410)
اهـ والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب فرفع هذا السؤال إلى شيخنا فسح الله تعالى في مدته ورضي عنه وقمع به جراءة متهجم على العلم قبل دريته والتمس منه تبيين الصواب عما به هذا المفتي أجاب؟. فأجاب نفع الله تبارك وتعالى بعلومه المسلمين بقوله: قول المجيب والقسمة المذكورة من عبد الرحمن إلى آخر جوابه غير صحيح لأمور: منها: أن المصرح به في السؤال والجواب أن القاسم هو عبد الرحمن وحيث تولى بعض الشركاء القسمة بنفسه فالقسمة باطلة وإن أذن له الباقون لأنه وكيل عنهم فلا يحتاط لهم كنفسه. ومنها: أنه حيث كان في الشركاء غائب فلا يقسم عنهم إلا القاضي بشرطه، وإلا فالقسمة باطلة من أصلها وهذان كافيان في بطلان جميع ما ذكره هذا المفتي فالصواب أن هذه القسمة باطلة من أصلها مطلقاً وأن ما ذكره هذا المفتي من هذا التفصيل باطل لا يعول على شيء منه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 333
وسئل رحمه الله تعالى عن شخص هلك وخلف بنتاً وأختاً لأب وأختاً لأم ما الجواب عن ذلك فإن في بلدنا من لا يسأل عن دينه إلا من لا يعلم أفتونا كيف يقسم الميراث مع أن أهل العلم قالوا إن الولد للأب يمنع الأخ للأم من الميراث وكذا قالوا الأخوات مع البنات عصبات؟. فأجاب نفعنا الله تعالى به بقوله: للبنت النصف وللأخت للأب النصف الباقي ولا شيء للأخ للأم لأنه محجوب بالبنت لا بالأخت ولم يقولوا إن ولد الأب يمنع الأخ للأم من الميراث خلافاً لما ذكره السائل والله سبحانه وتعالى أعلم.(6/411)
وسئل رحمه الله تعالى عن شخص مات وخلف بنتاً وابناً لعتيقه أو بنت معتقه وقبيلة ينسب إليهم من غير تحقيق بل يقال إنه منهم فجاء رجل من الأرض التي هو بها فقال الميراث بين البنت وابن العتيق نصفان هل ما فعل هذا عن حقيقة أو جاهل فنعرفه فإن قبل وإلا رفعنا أمره أم يكون النصف للبنت والنصف للعصبة، إذا تبين له عصبة وحيث لا بيت مال فهل يحكم بالرد على البنت أم يرصد إذا رجى أنه يكون من حي من أحياء العرب؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه وبركته بقوله: أما أولاد العتيق فلا يرثون من المعتق شيئاً مطلقاً سواء كانوا ذكوراً أو إناثاً، وأما بنت المعتق فلا ترث من عتيق أبيها شيئاً، وحينئذ فتستحق بنت الميت النصف ثم إن ثبت انحصار الإرث فيها بأن لم يكن له وارث غيرها فإن كان بيت المال منتظماً في تلك الأراضي أخذ المتولي عليه النصف الباقي وإن لم يكن منتظماً أخذت البنت النصف الباقي أيضاً، وأما إذا لم يثبت انحصار الإرث فيها فتعطي النصف فقط والباقي يحفظ بأن يجعل تحت يد قاض أمين فإن لم يكن ثم قاض أمين اتفق أهل تلك البلد على وضعه عند من يرضون بأمانته وديانته إلى أن يظهر مستحقه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل رحمه الله تعالى سؤالاً صورته أيس من صاحب دين فهل يتعلق بتركة المديون مع ذلك؟. فأجاب نفعنا الله تبارك وتعالى بعلومه بقوله: صرح الإسنوى رحمه الله تعالى في طرازه في باب القسمة بعدم تعلقه لئلا يؤدي إلى دوام حجر التركة به لا إلى غاية وتبعه الدميري وزاد عليه أنه لا يحجر بدين اللقطة إذا تملكها الميت ولم يعرف مالكها وجرى عليه الزركشي رحمه الله تعالى في صورة اللقطة وعلله بما ذكر وإطلاق الأصحاب ينازع في ذلك كله، وما عللوا به ممنوع فإنه إذا أيس من مالكه صار من أموال بيت المال فيتولى ناظر بيت المال قبضه وبه ينفك الحجر فلم يلزم دوام الحجر، والله سبحانه وتعالى أعلم.(6/412)
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 333
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ سؤالاً صورته زيد وشقيقته فولدت الشقيقة بنتاً وولدت البنت ولداً فماتت الشقيقة والبنت فزعم ابن البنت أن البنت الشقيقة تقدم موتها قبل البنت فالوارث للشقيقة البنت والأخ الذي هو زيد فزعم الأخ الذي هو زيد أن بنت الشقيقة تقدم موتها على موت أمها التي هي الشقيقة فالوارث للشقيقة هو أي الأخ الذي هو زيد وحده فمن المرجح منهما وسواء في هذه الواقعة إذا كان المال في يدهما أو في يد أحدهما أو في يد غيرهما؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله: إن زيداً الأخ يستحق النصف على كل تقدير ثم النصف الثاني هو يزعم أن له أيضاً وابن البنت يزعم أنه لأمه فإذا لم يكن لأحدهما بينة وقف حتى يتبين أو يصطلحا كما شمل ذلك قولهم متى علم تقدم موت أحد متوارثين على الآخر ونسي وقف ميراث كل إلى البيان أو الصلح وإنما لم نقل بالوقف في جميع مال الشقيقة لأن إرث أخيها النصف منه محقق تقدمت على بنتها أو تأخرت فلا مسوّغ للوقف فيه، إذ لا مسوّغ له إلا الشك في الاستحقاق وهو في هذه الصورة في النصف الثاني فقط.
وسئل رحمه الله تعالى عن شخص قتل أباه وللقاتل ولد وليس للمقتول وارث سوى القاتل، فإن قلتم لا يرث القاتل فهل يرث ولده أم لا؟ فإذا قلتم يرثه كيف يرث وهو بعض القاتل كأنه هو وهو ممنوع؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله: قيام مانع الإرث بشخص يصيره كالعدم فالقاتل حينئذ كأنه لم يوجد فيرث ولده بالقرابة التي بينه وبين الميت لما تقرر أن قتل أبيه صيره كالميت.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 333(6/413)
وسئل رحمه الله تعالى عن شخص مات وخلف بني عمة وخالاً وابن خالة وقلنا بتوريث ذوي الأرحام فمن الوارث من هؤلاء؟. فأجاب نفعنا الله تعالى به بقوله: لبني العمة الثلثان والثلث الآخر بين الخال وابن الخالة أثلاثاً للخال ثلثاه ولابن الخالة ثلثه هذا ما يظهر من مذهب أهل التنزيل لأنا إذا نزلنا كل فرع منزلة أصله كان بنو العمة بمنزلة العمة وهي بمنزلة الأب والخال بمنزلة الأم وابن الخالة بمنزلة أمه التي هي بمنزلة الأم فيقدر الخال والخالة كأنهما ورثا أختهما فيكون للخال الثلثان وللخالة الثلث ومالها يأخذه ولدها ومن ثم جعلنا كأن الأم والأب موجودان فما للأب وهو الثلثان يكون لبني العمة وما للأم وهو الثلث يكون لمن بمنزلتها وهما الخال وابن الخالة، أما الخال فواضح، وأما ابن الخالة فلتنزيله منزلة أمه في المساواة للخال فلم يحجب به، فإن قلت القياس حجب الخال له لأنه أقرب منه إلى الوارث المنزلين منزلته وهو الأم، قلت إنما يتأتى هذا على مذهب أهل القرابة أما على مذهب أهل التنزيل فلا لأنا على مذهبهم ننزل الفرع منزلة أصله ثم نعتبر حينئذ السبق إلى الوارث، وأما اعتبار السبق إليه قبل التنزيل فغير مقيس على مذهب المنزلين، ثم رأيت ابن الصلاح سئل عمن ترك خالاً وابني خالة من يرث منهما، فأجاب رحمه الله تعالى بقوله: يصرف ميراثه إلى من يورثه المورثون لذوي الأرحام وهذا الجواب مجمل إذا لم يتبين منه أن الخال يحجب ابني الخالة أم لا، ثم سئل عمن تركت زوجاً وعمة وابنتي أخ شقيق، فأفتى بعد الاستخارة بأن للزوج النصف والباقي بين الثلاث أثلاثاً إلا أن تكون العمة للأم فحسب فيكون الباقي بين بنتي الأخ ووجه ذلك بقوله وذلك أني وجدت العمة تترجح بأن أكثر أهل التنزيل نزلوها أباً وقالوا بتقديمها على ابنة الأخ التي هي منزلة منزلة الأخ عند أهل التنزيل أجمعين ووجدت ابنة الأخ تترجح أيضاً من جهة أن أهل القرابة ك البغوي و المتولي قالوا بتقديم بنت(6/414)
الأخ ووافقهم بعض أهل التنزيل، ومنهم من نزل العمة عماً فقدموا ابنة الأخ عليها كما يقدم الأخ على العم فرأيت أن لا أسقط إحدى الجهتين بالأخرى ووجدتهما متعادلتين فسوّيت بين الثلاث وهو مذهب بعض أهل التنزيل، ومنهم من نزل العمة لغير الأم بمنزلة الجد، ثم قال بعد حكاية مذهب أن إعطاء ذوي الأرحام على سبيل المصلحة لا الإرث، فرأيت والحال على ما وصفت الإفتاء بالجمع والتسوية بينهن أقرب الوجوه وأعدل المذاهب وأرعاها للجهات فاستخرت الله سبحانه وتعالى في المصير إليه اهـ كلامه ملخصاً. ثم قال في بنتي أخ وابن بنت اجتهدت أياماً وأفتيت على مذهب أهل التنزيل بأن لابن البنت النصف ولبنتي الأخ النصف بينهما ورأيت الميل إلى التنزيل أقرب في هذا الباب لأنه مذهب الأكثرين وأقوى اهـ وما ذكره في هذه الأخيرة ظاهر، وأما ما ذكره في التي قبلها فقياس مذهب أهل التنزيل أن المال كله للعمة لأنها منزلة منزلة الأب وبنتا الأخ منزلتان منزلة الأخ والأب يحجب الأخ فكذا المدلي بالأب يحجب المدلي بالأخ تنزيلاً لكل فرع منزلة أصله، والحاصل أن فيما ذكره من عدم حجب العمة تعارض فيها مذهب أهل التنزيل والقرابة فالأوّلون يورثونها وحدها وأهل القرابة يورثون بنتي الأخ وحدهما فلتعادل المذهبين عنده قال باشتراك الثلاث، وفي مسألة السؤال مذهب أهل القرابة حجب الخال لابن الخالة فكذا مذهب أهل التنزيل على ما يتبادر منه ببادي الرأي لأن الخال أقرب إلى الوارث فلا جامع بين ما ذهب إليه
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 333(6/415)
ابن الصلاح وما قدمته في صورة السؤال بل ما ذكرته في رده من حجب العمة لبنت الأخ يؤيد حجب الخال لابن الخالة إلا أن يفرق بأن العمة تدلي إلى غير من تدلي إليه بنت الأخ لما مر، أن العمة تدلي إلى الأب وبنت الأخ تدلي إلى وارث آخر غيره وهو الأخ ولا كذلك في مسألتنا، لأن الخال يدلي إلى الأم وابن الخالة لا يدلي لوارث غير الأم، بل إنما يدلي لها أيضاً بعد تنزيله منزلة أمه الذي هو طريقة أهل التنزيل فاستويا هنا في الإدلاء إلى وارث فلم يحجب أحدهما الآخر، وأما العمة وبنت الأخ فلم يستويا في ذلك بل أدليا بوارثين مختلفين فنظرنا لحجب أحدهما الآخر وعملنا بذلك فقلنا بحجب العمة لبنت الأخ، فإن قلت يؤيد حج الخال لابن الخالة قول الصدر في كافيه بنت خال وخالة أم المال لخالة الأم لأنك إذا نزلتها درجة صارت جدة وبنت الخال إذا نزلتها درجة صارت خالاً ولم تصل إلى الوارث قلت الفرق بين هذه وصورة السؤال ظاهر لأن بنت الخال بعد تنزيلها منزلة أصلها لا تساوي خالة الأم في درجتها بل هي بعد التنزيل أعلى منها بدرجة فلذلك نزلنا خالة الأم منزلة الجدة فلا تسبقها بنت الخال بدرجة بعد تنزيلها منزلة أبيها وهو الخال، وأما في مسألتنا فابن الخالة بعد تنزيله منزلة أمه يساوي الخال في درجته وحينئذ فيلزم استواء كل منهما في القرب إلى الأم فلم يبق مسوّغ لحجب الخال لابن الخالة فلذلك قاما باستوائهما ويؤيده قول صاحب الكافي بناء على مذهب أهل التنزيل بعد أن ذكر أنك تنزل كلاً منهم منزلة من يدلي به فإن استويا في درجة فإنك تورث كل واحد ميراث من يدلي به وإن سبق بعضهم إلى وارث بدرجة انفرد بجميع المال وإن كان فيه من يحجب حجبته كما تعمل في مسائل الصلب فتأمل كونه اعتبر الاستواء في الدرجة والسبق إلى الوارث بعد تنزيل الفرع منزلة أصله لا قبله تجده شاهداً لما ذكرته من عدم حجب الخال لابن الخالة لاستوائهما بعد تنزيل ابن الخالة منزلة أمه، والحاصل أن(6/416)
المسألة مشكلة وأن في كلامهم ظواهر تقتضي حجب الخال لولد الخالة وظواهر تقتضي عكسه وأن الأول أقرب من مداركهم ببادي الرأي فتأمله، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل رحمه الله تعالى قدر بعضهم مدة للمفقود بسبعين سنة فهل تتقدر بذلك أم كيف الحال أفتونا؟. فأجاب نفعنا الله تعالى به وبعلومه بقوله المنقول المعتمد: أنها لا تتقدر بشيء وإنما المدار على مضي مدة يغلب على ظن الحاكم أن المفقود لا يعيش إليها، وقد يظهر له بقرائن الأحوال موته في أقل من سبعين سنة، نعم التقدير بها وجه ضعيف لبعض أصحابنا أخذاً من قوله : «أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين» والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 333(6/417)
باب الشهادات
مسألة قال السبكي رحمه الله تعالى في فتاويه ما لفظه: نجد كتاب مبايعة أو وقف أو غيرهما بعقار أو دار أو أرض أو قرية أو نحوها مشتمل على حدود يقع اختلاف في تلك الحدود ويطلب منا إثبات تلك الحدود كما تضمنه ذلك الكتاب وما فعلته قط لأن المشهود به في البيع أو الوقف أو نحوهما هو العقد الصادر على المحدود بتلك الحدود وقد لا يكون الشاهد عارفاً بتلك الحدود البتة، وإنما سمع لفظ العاقد فالذي شهد به إقراره بذلك والحدود من كلامه لا من كلام الشاهد وهذا ظاهر في العقود والأقارير وظهوره في الأقارير أكثر لأنها من كلام المقر لا من كلام الشاهد وفي العقود دونه لأن الشهادة بالعقد من كلام الشاهد وحكايته عن حضوره العقد وسماعه فهو شاهد بالبيع والوقف لا بالإقرار بهما فلا بد من علمه بصدور البيع على المبيع والوقف على الموقوف لكنا نقول إن ذلك لا يستدعي معرفته للمبيع والموقوف لجواز أن يقول بعتك البلد أو الدار التي حدها كذا ولا يكون عند الشاهد علم أكثر من ذلك فيجوز له أن يشهد على جريان البيع على المحدود وإن لم يعرفه ولا حدوده يبقى علينا شيء واحد وهو قد يشكل وهو الشهادة بالملك والحيازة فكثيراً ما يقع هذا في كتب المبايعات والأوقاف مستقلاً تقوم بينة أن فلاناً مالك حائز للمكان الفلاني الذي حدوده كذا ويكون ذلك المكان معروفاً مشهوراً لا منازعة فيه وتقع المنازعة في حدوده أو في بعضها والشهود قد ماتوا بعد أن قد ثبت المكتوب بشهادتهم ويقصد الذي بيده المكتوب أن يتمسك به في الحدود وينزع من صاحب يد بعض ما في يده بمقتضى ذلك المكتوب ويدعي أن تلك الحدود ثابتة له بمقتضى مكتوبه وقد طلب مني ذلك فلم أفعله لأني أعلم بحسب العادة أن الشاهد قد يعلم ملك زيد للبلد الفلاني مثلاً علماً يسوّغ له الشهادة بملكه ويده وذلك البلد مشتهر وتحقيق حدوده قد لا يحيط علم الشاهد بها فيستسميها ممن هو يعرفها هكذا رأينا العادة كما يشهد على زيد الذي يعرفه(6/418)
ويتحققه ولا يتحقق نسبه فيعتمد عليه أو على واحد فيه فالتمسك في إثبات الحدود كالتمسك في إثبات الشرف ونحوه والذي يظهر لي من ذلك أن من كانت يده على شيء واحتمل أن تكون يده بحق لا تزال إلا ببينة تشهد أن يده عادية ولا يعتمد في رفع يده على كتاب قديم بتلك الشهادة التي لا يدري مستندها، وقال أيضاً مسألة تعم بها البلوى كثيراً ولم أر أحداً تكلم فيها وتكررت في المحاكمات كثيراً يأتي كتاب مبايعة أو وقف على عقار مشتمل على حدود وصفات ويجري نزاع في تلك الحدود ويوجد بعض ما يشتمل عليه الحد في يد أجنبي غير المشتري أو الموقوف عليه ويراد انتزاع ذلك القدر ممن هو في يده بمقتضى ما تضمنه الكتاب ويكون الكتاب في يده مدة طويلة أو قصيرة وذلك الكتاب ثابت، وقد قامت فيه بينة بالملك والحيازة وعندي توقف في الانتزاع بمثل ذلك حتى تثبت بينة صريحة أن هذا العقار المبيع أو الموقوف ملك البائع أو الواقف إلى هذا الحد ويكون الحد مشهوداً به والواقع ليس كذلك فإن الواقع كما شهدنا أن الشهود بالبيع أو الوقف إنما يشهدون على الإنشاء فإن شهدوا على الإقرار فقول المقر داري على جاره بأن ملكه ينتهي إلى ذلك الحد والجار لم يصدقه على ذلك وإن كان على الإنشاء فهم إنما سمعوا قول المنشىء والغالب أنهم يعتمدون في كتابة الحدود والصفات عليه أو على غيره كائناً من كان، هكذا رأينا الكتاب والوراقين والشهود يفعلون ولا يحيط علمهم بحقيقة الحال والشهود بالملك والحيازة يعرفون من حيث الجملة أن الدار الفلانية والضيعة الفلانية ملك لفلان ولو سئلوا عن تحرير حدودها لم يصرحوا به ولم يحرروه ولا يشهدوه فلا يكتفى بإطلاق شهادتهم بالملك والحيازة في ذلك ولا بذكره على سبيل الصفة والتعريف لأنه حينئذ لا يكون مشهوداً به حتى يقولوا إنا نشهد بالحدود وحينئذ يكون انتزاعه ببينة أما بدون ذلك فمتى انتزعناه بدون بينة والنبي يقول شاهداك أو يمينه، فالذي أراه هنا في حكم الفرع(6/419)
أن اليمين هنا على صاحب اليد ولا ينزع ولا ترفع يده حتى تقوم بينة صريحة بأن الذي في يده ملك لغيره لما قلنا ولأمور أخرى. منها: أن الشهادة بالملك أمس في قبولها خلاف والكتب القديمة كذلك. ومنها: أن الأسماء قد تتغير والأحوال قد تتغير فقد يكون الاسم المذكور في الكتاب القديم في حد نقل إلى غير ذلك المكان وهذا الاحتمال قد يقوى بعض الأوقات وقد يضعف لكن مقصودنا أنه لا بد في دفعه من شهادة صريحة حتى يكون انتزاعاً يبينه. ومنها: أنه قد يكون طرأ ناقل لبعض ما اشتمل عليه الحد وهذا في الملك محتمل احتمالاً قوياً وفي الوقف أيضاً محتمل مبادلة على مذهب من يراها. ومنها: أن الاشتمال على ما يدخل في الحدود عموم وقد يكون قامت بينة بإخراج بعضه وقدمت لأنها خصوص وتكون اليد مستندة إليها والخصوص مقدم على العموم فلا يكتفي في رفع اليد الخاصة بالبينة العامة حتى يصرح بالخصوص بل أقول إن اليد على البعض خصوص والبينة بالكل من غير تصريح بذلك البعض عموم وهو وإن كان من دلالة الكل على أجزائه وليس بعموم في الاصطلاح لكن لضعفه يصير كدلالته على جزئياته بأداة العموم لا سيما في الحدود فقد كثر فيها ذلك وضعفت وإنما قلنا ذلك دفعاً لما يتمسك من البينة التي قد تقوم بالملك والحيازة فإنه قد يقال إنها رافعة لليد اهـ كلام
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 241(6/420)
السبكي في فتاويه فهل ما قاله معمول به مطلقاً أو لا وفيه تفصيل؟ الجواب ما قاله في ذلك مبني كما أشار إليه أواخر الجواب الأوّل على مسألة ذكرها قبل الجواب الأوّل في فتاويه أيضاً وقال إن بينهما تشابهاً وتلك المسألة هي قوله فرع ليس بمنقول، وذكر أنه استفتى فيه بالقاهرة من أكثر من أربعين سنة تتبع كثيراً في مكاتيب أقر زيد بن عمرو بن خالد مثلاً لفلان بكذا وتذيل بشهادة شهود بذلك وهم ذاكرون للشهادة وأدوها وذلك المكتوب بشهادتهم ويقع الاختلاف في نسب زيد وربما يكون في المكتوب أنه شريف حسني أو حسيني أو غير ذلك مما يقصد إثباته ويقال إن هذا المكتوب ثابت على القاضي الفلاني فهل ذلك مستند صحيح أم لا؟ والجواب أنه ليس مستنداً صحيحاً في إثبات نسب المذكور فإن المشهود به إنما هو إقرار بكذا للمقر له وهو على حالين تارة لا يعرفه الشهود فيشهدون بحليته وإلا خلص حينئذ أقر من ذكر أن اسمه كذا وعند الأداء لا يشهدون إلا على شخصه فهذا الإشهاد فيه نسب وتارة لا يكتب الشهود ذلك مع عدم معرفتهم وهو تقصير منهم وقد يقع ذلك كثيراً لأنه قد كثر وعرف أن الاعتماد على تسمية الشخص نفسه ما لم يقولوا هو معروف وقد تطول معاشرة الإنسان لآخر ولا يعرف نسبه فإذا شهدا عليه اعتمدا على إخباره أو إخبار غيره وإن لم يحصل عنده ظن قوي يسوّغ له الشهادة بذلك النسب بل كثير ممن اشتهر بين الناس بالشرف ويطلقونه عليه ليلاً ونهاراً في مخاطباتهم ولو سئلوا بالشهادة له بالشرف لامتنعوا ومن شهد منهم معتمداً على ذلك لم يخلصه إذ لم ينته إلى تواتر ولا استفاضة ولا ركون بحيث يغلب على الظن بل إلى ظن ضعيف وهو مسوغ للمخاطبة لا للشهادة فإذا رأينا مكتوياً ليس مقصوده إثبات النسب لم نحمله على إثبات النسب ولا يجوز التعلق به في إثباته إذا كان المقصود منه غيره وهنا بحث نذكره والجواب عنه وهو أن الفقهاء احتجوا على صحة نكاح الكفار بقوله تبارك وتعالى: {امرأة فرعون إذ(6/421)
قالت} الآية، وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك ففيه دليل على أن وضع هذا الكلام الأخبار بأنها امرأته فليكن قولنا. قال زيد بن عمرو كذا إخباراً بأنه ابن عمرو فتحصل الشهادة به فتقتضي ثبوته والجواب أن دلالة الآية على أنها امرأة فرعون دلالة التزام ودلالة الأخبار عنها بالقول دلالة مطابقة والله سبحانه وتعالى عالم بكل شيء، ومن جملته أنها هل هي امرأته أو لا فلما قال ذلك اقتضى أنها امرأة فرعون، وأما الشهود فليسوا عالمين بحقائق الأمور، فإن قالوا نشهد على زيد بن عمرو الحسني وصرحوا بالشهادة بنسبه ونسيته رجع إليهم وإلا لم يحمل كلامهم على ذلك لجهلهم بحقائق الأحوال والنسب غالباً وأنهم إنما اعتمدوا على أدنى ظن فضعفت الدلالة الالتزامية في كلامهم بل لو قويت لم تعتمد في الشهادة لأن المشهود به الذي يقصد إثباته لا يكتفى فيه بدلالة الالتزام بل لا بد أن يذكره الشاهد، ويدل عليه مطابقة كان أو التزاماً فافهم الفرق بين الموضعين اهـ كلامه ملخصاً وهو معذور فيه فإنه صرح بأن هذا الفرع ليس بمنقول وأنه إنما تكلم فيه وفي مسألتي الحدود المتقدمتين برأيه وبحسب ما ظهر له وذلك كله عجيب منه مع سعة اطلاعه إذ كيف لم يستحضر مسألة النسب المصرح بها في كلامهم، وممن صرح بها ابنه
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 241(6/422)
تاج الدين في جمع الجوامع، وبها يعلم أن جميع ما قاله في مسألة النسب وما يشابهها كما قال في مسألتي الحدود رأي له مخالف للمنقول ولنبين أوّلاً مسألة النسب المنقولة ثم نبين ما هو مقيس عليها من مسألتي الحدود متعرضين لما في كلامه رحمهالله تعالى من نقد ورد فنقول قال الهروي رحمه الله تبارك وتعالى في الإشراق، و الماوردي رحمه الله تعالى في الحاوي، و الروياني رحمه الله تعالى في البحر وغيرهم ما حاصله: لو شهدا أن فلان بن فلان وكل فلاناً كانت شهادة بالنسب للموكل ضمناً وبالتوكيل أصلاً لتضمن ثبوت التوكيل المقصود لثبوت نسب الموكل لغيبته عن مجلس الحكم، وقيل لا كما يأتي وهذا ينبني على القاعدة الأصولية وهي أن مورد الصدق والكذب في الخبر النسبة الإسنادية كالنسبة التي تضمنها نائم من قولك زيد بن عمر ونائم لا ما يقع في أحد الطرفين من النسب التقييدية كبنوة زيد لعمرو في هذا المثال ويفرع على هذا الأصل وهو أن مورد الخبر ما ذكر قول الإمام مالك ـ رضى الله تعالى عنه ـ وبعض أصحابنا في مسألة الوكالة المذكورة أن الشهادة فيها شهادة بالتوكيل دون نسب الموكل ويشهد للراجح عندنا وهو أنها شهادة بهما كما مر استدلال الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ وغيره من الأئمة ـ رضى الله تعالى عنه ـ م على صحة أنكحة الكفار بقوله تعالى: {قالت امرأة فرعون} ، وما في البخاري مرفوعاً أنه يقال للنصارى ما كنتم تعبدون فيقولون كنا نعبد المسيح ابن الله فيقال كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد، وإذا تقرر لك ذلك وعلمت أن المسألة منقولة هكذا وأنها مشهورة خلافية بيننا وبين مالك وأن بعض أصحابنا وافق مالكاً وأن الراجح مخالفته للأدلة التي ذكرت ظهر لك واتضح أن جميع ما قاله السبكي رحمه الله تعالى في مسألة النسب، ومسألتي الحدود إنما هو رأي مخالف للمنقول وأنه إنما قال هذا الرأي ظناً منه أن المسألة ليست منقولة كما صرح به هو بقوله فرع ليس بمنقول وبما ذكره في خلال ذلك(6/423)
وخلال مسألتي الحدود وأنه لو رأى مسألة النسب التي ذكرتها لم يسعه مخالفتها، ولما أجاب عن إيراده دليلها عليه وهو {قالت امرأة فرعون} بقوله إن دلالة الآية على أنها امرأة فرعون دلالة التزام الخ، وإذا اتضح لك ذلك وأن المنقول إن الشهادة الضمنية كالمطابقة اتضح لك أن الشاهد متى قال أشهد أن الدار المحدودة بكذا أقر بها فلان أو باعها فلان أو وقفها أو نحو ذلك كان ذلك شهادة بالإقرار أو العقد أصلاً وبالحدود ضمناً فتقبل كل من الشهادتين ويعمل بهما وبتأمل قولهم إن الشهادة بالبنوّة ضمنية يندفع قول
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 241(6/424)
السبكي في أواخر مسألة النسب لأن المشهود به الذي يقصد إثباته لا يكتفي فيه بدلالة الالتزام بل لا بد أن يذكره الشاهد ويدل عليه مطابقة كان أو التزاماً ووجه رده أن ما هنا ليس من الدلالة الالتزامية في شيء وإنما هو من الدلالة التضمنية وشتان ما بين الدلالتين وبهذا يندفع أيضاً جوابه عن الاستدلال بآية {قالت امرأة فرعون} ويظهر صحة استدلالهم للراجح أن الشهادة بالبنوّة مقصودة أيضاً، ووجه دلالتها لذلك أن القصد صدور ذلك القول من المرأة الموصوفة بالزوجية لفرعون فوصفها بذلك من جملة المقصود من الخبر وفرقه بين الله والشهود بما مر صحيح لكنه لا ينتج ما قاله ويرد ما قالوه لأنهم إنما نظروا إلى أن اللفظ له دلالة على ذلك مع قطع النظر عن علم المتكلم وكونه عاماً أو خاصاً، لأن ذاك أمر خارج عن الدلالات اللفظية التي هي وضع هذه المسألة، ومما يوضح لك ذلك استدلالهم بما مر عن النصارى وتكذيبهم في أن عيسى ابن الله تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً فلولا أن دعواهم بنوّته وقعت في كلامهم مقصودة لما كذبوا، إذ التكذيب كالتصديق إنما يكون في النسب الخبرية سواء أقصدت مطابقة أم تضمناً فنتج من ذلك أن ما نحن فيه من مسألتي النسب والحدود من النسب الخبرية المقصودة ضمناً فوجب العمل بها إذا وقعت في لفظ الشاهد لما تقرر أنها مقصودة نعم الحق أنه لا بد في الشاهد الذي يقبل منه ذلك أن يكون عنده مزيد تحر وضبط ومعرفة بحيث يغلب على الظن أنه لا يتساهل بإطلاق البنوّة والحدود في شهادته من غير مستند له في ذلك يجوز له الاعتماد عليه، وأنه لا يعتمد في ذلك على ما لا يجوز له الاعتماد عليه كقول العاقد أو غيره مما لا يفيده ظناً قويّاً يستند إليه في شهادته، وكلامهم وإن كان مطلقاً هنا، أعني في مسألة البنوّة إلا أنه في مواضع أخرى دال على ذلك، وبهذا اندفعت تلك الاحتمالات والقرائن التي نظر إليها السبكي وجعلها حجة له في رد الشهادة المتضمنة للبنوّة(6/425)
والحدود ووجه اندفاعه أنا إذا اعتبرنا في الشاهد تلك الصفات أخذاً من متفرقات كلامهم قوي الظن بقبول قوله المقصود له كما تقرر وإذا قوي الظن به وجب قبوله والحكم به، وقوله لا يكون مشهوداً به حتى يقولوا إنا نشهد بالحدود ممنوع لما تقرر أنه مشهود به ضمناً وإن لم يقولوا ذلك وأن الضمني في ذلك كالمقصود فتأمل ما قلناه المستند إلى ما قالوه وصرحوا به يظهر لك به رد جميع ما قاله واستند إليه ثم رأيتني استفتيت عن هذه المسألة بما لفظه ما قولكم في مستند لفظه هذا ما اشترى فلان جميع العزلة التي يحدها من المشرق كذا ومن المغرب كذا ومن الشام كذا ومن اليمن الطريق المسلوك اشتراء صحيحاً شرعياً، ثم قال شاهده لما تكامل ذلك ثبت لدى فلان الحاكم الشرعي بشهادة شاهديه جريان عقد التبايع المشروح أعلاه في جميع المبيع المعين بأعاليه على الوجه المشروح فيه شراء صحيحاً شرعياً وحكم بموجب ذلك حكماً صحيحاً شرعياً فهل ذلك شامل للحكم بأن الحد اليمني طريق مسلوك أو لا؟ فأجبت نعم ذلك شامل للحكم بما ذكر فقد صرح أصحابنا رحمهم الله تعالى بنظيره حيث قالوا لو شهد اثنان أن فلان بن فلان وكل فلان بن فلان هذا في كذا ثبت النسب تبعاً للوكالة وإن كان غير مقصود بالشهادة كما أن من شهد بثمن في بيع أو مهر في نكاح كان شاهداً بالعقد وإن لم يقصد بشهادته إلا المال اهـ، فكذا في مسألتنا إذا شهدا عند الحاكم بجريان عقد التبايع المشتمل على تحديدهما للمبيع بما ذكر كان ذلك شهادة منهما بأن الحد اليمني شارع مسلوك فإذا حكم الشافعي بجميع ما شهدا به كان حكما منه بأنه شارع اهـ، فإن قلت يفرق بين مسألة الحدود ومسألة الشهادة بأن التوكيل متضمن لثبوت النسب تضمناً لا انفكاك عنه إذ لا يتصور وجود توكيل فلان إلا إن كان ابن فلان لأن الصورة أنه غائب عن مجلس الحكم بخلاف الحدود فإن القصد انتهاؤها إلى كذا وإن لم يثبت كذا قلت هذا الفرق خيال باطل بل هما على حد سواء إذ(6/426)
الحدود يتوقف عليها صحة البيع أيضاً فشهادتهما ببيع المحل المحدود بكذا وكذا شهادة بأن المبيع ينتهي حده إلى ملك فلان فمتى لم يثبت أنه ملك فلان وإلا كان الحد غير معلوم، ويلزم من عدم علمه بطلان الشهادة بالبيع لأنه يشترط في صحة الشهادة كالدعوى التحديد من الجهات الأربع ما لم يحصل شهرة بدون ذلك فظهر توقف البيع المشهود به على التحديد كما أن الوكالة المشهود بها متوقفة على البنوّة فإذا قالوا في الشهادة بالوكالة المذكورة أنها شهادة بالبنوّة فكذلك الشهادة بالبيع المذكور شهادة بالحدود بلا فرق، والله سبحانه وتعالى أعلم، ثم رأيت في فتاوى السيد
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 241(6/427)
السمهودي شكر الله تعالى سعيه ما لفظه مسألة ادعى داراً في يد رجل وأقام البينة أنه شراها من آخر وصورة مكتوب الشراء الذي شهدت به البينة اشترى فلان من فلان ما هو بيده وملكه يومئذ وكتب كل من الشهود وشهدت بمضمونه وشهد كذلك عند الحاكم فهل يكتفي بذلك في ثبوت الملك للبائع في ذلك التاريخ حتى يقضي للمدعي بها الجواب هذه المسألة نقل الأذرعي فيها عن الزبيلي أن هذه الدار لا تثبت بهذه الشهادة ملكاً للبائع حين باعها قال لأن القبالة مكتتبة على إقرار البائع والمشتري فشهدوا بما سمعوه منهما فلا يثبت بقولهم ملك البائع حتى يشهدوا أنه يوم باعها كانت ملكاً له وهذا حكم آخر ليس في القبالة، وأما إذا شهدوا بنفس الصك لم تسمع من جهة الملك اهـ، قال الأذرعي عقبه وهذا واضح ويغفل عنه أكثر قضاة عصرنا وشهوده بل يشهد الشاهد بما تضمنته القبالة من غير تصريح منه بالشهادة للبائع بالملكية ويرتب الحاكم على ذلك حكمه غفلة عن الحقائق اهـ، قلت وهذا شاهد جيد لما في فتاوى السبكي في ضمن فروع عموم البلوى باشتمال كتب المبايعات ونحوها على حدود، قال ثم يقع الاختلاف ويطلب منا إثبات أن الحدود كما تضمنه ذلك الكتاب قال وما فعلته قط، لأن المشهود به في البيع مثلاً هو العقد الصادر على المحدود بتلك الحدود وقد لا يكون الشاهد عارفاً بتلك الحدود البتة وإنما يسمع لفظ العاقد والحدود محكية عن العاقد اهـ، وهو جيد فليتنبه لذلك اهـ ما في فتاوى السمهودي وإطلاقه أن ما قاله السبكي جيد ليس بجيد وكأنه هو أيضاً لم يطلع على مسألة النسب السابقة وما ذكره الزبيلي واعتمده الأذرعي لا ينافي ما قدمته في مسألة الحدود لأنه فرض ذلك في الشهادة على إقرار البائع والمشتري بما سمعه الشاهد أن منهما والحكم حينئذ ظاهر بخلاف ما لو صرح الشاهدان بذلك من عند أنفسهما فيثبت الملك ضمناً كما قدمته في مسألة الحدود فهما سواء انتهت.(6/428)
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 241
وسئل رحمه الله سبحانه وتعالى عن قول المنهاج ولا يقضي بخلاف علمه بالإجماع، وقال ابن الحسين المدني في شرح تكملة شرحه، يعني ولا يقضي القاضي بخلاف علمه بلا خلاف بل إذا علم أن المدعي أبرأه عما ادعاه وأقام بينة أو أن المدعي قتله حي أو رأى غير المدعي عليه قتله أو سمع مدعي الرق قد أعتق ومدعي النكاح قد طلق ثلاثاً أو تحقق كذب الشهود امتنع من القضاء، وكذا إذا علم فسق الشهود إلى آخر كلام ابن الحسين الذي يحيطه علمكم فهل يا شيخ الإسلام بل إمام أئمة الأنام المحكم كالحاكم في جميع ما ذكر أم لا؟ فإن قلتم نعم فإذا علم المحكم أن الشاهد لا يدري عن سبب استحقاق المدعي به فهل يجب عليه أن يسأله عن سببه وعن سبب شهادتهم كما إذا شهدوا على زنا وغصب وإتلاف وولادة فإنها لا تتم شهادتهم إلا بالإبصار، فإذا شهدوا فهل يجب على المحكم أن يسألهم هل أبصروا ذلك حيث علم أن الشهود لم يبصروا ذلك وإذا سألهم ولم يبينوا له الإبصار بل اقتصروا على الشهادة فهل يقبلهم أم لا يقبلهم لكونه خلاف علمه وهل إذا قال المدعي استحق عليك كذا وكذا وأقام على ذلك بينة فهل يقبل المحكم البينة ويحكم بالمدعي أم لا يقبلها حتى يسأل الشهود لكونه يعلم أي المحكم أن الشهود لا يعرفون الاستحقاق أم لا يجب عليه ذلك؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه وبركته بأن المحكم ليس كالحاكم في جواز الحكم بعلمه كما بينته لكم في بعض الأجوبة التي هي واصلة إليكم فحينئذ لا يقضي بعلمه ولا بخلاف علمه، وقول السائل فإذا علم المحكم الخ، جوابه أن أصحابنا اختلفوا في أن الشاهد هل له أن يشهد باستحقاق زيد على عمرو درهماً مثلاً إذا عرف سببه كأن أقر له به فشهد أن له عليه درهماً، وفي ذلك وجهان. قال ابن الرفعة عن ابن أبي الدم أشهرهما لا تسمع شهادته وإن وافقه في مذهبه لأن الشاهد قد يظن ما ليس بسبب سبباً ولأنه ليس له أن يرتب(6/429)
الأحكام على أسبابها بل وظيفته نقل ما سمعه من إقرار أو عقد أو غيره أو ما شاهده من الأفعال ثم الحاكم ينظر فيه فإن رآه سبباً رتب عليه مقتضاه وهذا ظاهر نص الأم والمختصر، وقال ابن الصباغ كغيره بعد اطلاعه على النص تسمع شهادته وهو مقتضى كلام الروضة وأصلها ويندب للقاضي أن يسأل الشاهد عن جهة الحق إذا لم يثق بشدة عقله وقوّة حفظه والذي يتجه حمل الوجه الأوّل الموافق للنص على شاهد غير فقيه فلا يكتفي الحاكم منه بإطلاق السبب، والثاني على فقيه لا يجهل ترتب المشهود به على سببه فله أن يعتمد شهادته بمطلق الاستحقاق، ويستثنى من ذلك مسائل يجب فيها تفصيل الشهادة كأن أقر لغيره بعين ثم ادعاها وأراد أن يقيم بينة بالملك المطلق أو بتلقي الملك من غير المقر له فلا تسمع بل لا بد أن يصرح المدعي والبينة بناقل من جهة المقر له لأنه يؤاخذ بإقراره وكالشهادة بالردة على خلاف فيها أو بالإكراه أو بالسرقة أو بأن نظر الوقف الفلاني لفلان أو بأن هذا وارث فلان أو ببراءة المدين من الدين المدعي به أو باستحقاق الشفعة أو بالرشد أو بأن العاقد كان يوم الجمعة زائل العقل فيبين زواله أو بالجرح أو بانقضاء العدة أو بالرضاع أو بالنكاح أو بالقتل أو بأن فلاناً طلق زوجته لأن الحال يختلف بالصريح والكناية والتنحيز والتعليق أو بأنه بلغ بالسن فيبينه للاختلاف فيه بخلاف الشهادة بمطلق البلوغ أو بأن فلاناً وقف داره فلا بد من بيان مصرف الوقف بخلافها بأن فلاناً أوصى إلى فلان فإنها تسمع وإن لم يذكر المصرف ولا الموصي به وإنما وجب التفصيل في جميع هذه الصور لاختلاف الناس في أسبابها وأحكامها ويلحق بها في ذلك ما يشابهها، نعم لو شهدا على امرأة باسمها ونسبها جاز فإن سألهما الحاكم هل يعرفان عينها فلهما أن يسكتا أو يقولا لا يلزمنا الجواب وهذا في الشاهد الضابط العارف وإلا فينبغي أن يسألهما وتلزمهما الإجابة، والله سبحانه وتعالى أعلم.(6/430)
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 241
وسئل رحمه الله تعالى عن مسألة وقع فيها جوابان مختلفان صورتهما بلاد ليس فيها سلطان ولا قاض وفيها قبائل ليس فيها من العدول إلا القليل فهل يجب على من يريد الحكم بينهم أن يبحث عن حال الشهود من عدالة وفسق أم يكتفي بظاهر الحال، ويقبل منها الأمثل فالأمثل، أجاب الأوّل فقال يجب البحث عن حال الشهود ولا يقبل إلا عدول لأمور أحدها: أن الله عز وجل قال في محكم كتابه العزيز: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} ، وقال تبارك وتعالى: {اثنان ذوا عدل} ، وقال جل وعلا: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} وقرىء فتثبتوا دال على أنه لا يحل أن يشهد الفاسق وإن كان حقاً كما قاله الإمام ابن الحسين في تكملته. قال بعض المتأخرين: وإذا لم يحل ذلك فلا يحل للحاكم سماع شهادته كما قاله الشيخان وغيرهما قال لأنها إعانة على حرام والإعانة على حرام حرام. ولقوله تبارك وتعالى: {ممن ترضون من الشهداء والفاسق غير عدل} ولا يرضى لأنه غير مأمون على دينه أي لأنه لا ينظر لدينه فكيف ينظر لغيره فلا يقبل قوله بالاتفاق كما قاله الشيخان أيضاً، لأن الله سبحانه وتعالى أمر برد شهادة الفساق من المسلمين. قال الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ : بل القاضي بشهادة الفاسق أبين خطأ من القاضي بشهادة العبد وذلك أن الله سبحانه وتعالى قال: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} ، وقال تعالى: {ممن ترضون من الشهداء} وليس الفاسق واحداً من هذين فمن قضى بشهادته فقد خالف حكم الله عز وجل وعليه رد قضائه، فإن الفاسق مردود الشهادة بالنص والإجماع، ولا نعلم خلافاً في رد شهادته قال في الأشباه والنظائر: ولو حكم الحاكم بشهادة فاسقين اعتقد عدالتهما نقض حكمه على الصحيح كالكافرين اهـ، وعلله الإمام نور الدين الأزرق بأن عدالة الشهود شرط في الحكم اهـ. الأمر الثاني: أن الإمام نجم الدين بن الرفعة وغيره قال: ليس للحاكم الحكم(6/431)
بشهادة المجهولين قبل البحث، لقوله تعالى: {ممن ترضون من الشهداء} والمجهول قبل البحث غير مرضي. ونقل الشيخان عن الإمام الهروي أن البحث عن حال الشهود حق لله تعالى. ونقل الإمام جمال الدين الإسنوى والإمام شهاب الدين الأذرعي عن الإمام ابن الرفعة أن رواية مجهول العدالة لا تسمع بل قال الإمام تاج الدين ابن الإمام السبكي
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 241
في جمع الجوامع أن روايته باطناً وظاهراً مردودة بالإجماع، ونقل الإمام البيضاوي في منهاجه عن الإمام الباقلاني أن من لا تعرف عدالته لا تقبل روايته، لأن الفسق مانع فلا بد من تحقق عدمه كالصبا والكفر والعدالة تعرف بالتزكية اهـ. قال الشافعي و مالك ـ رضى الله تعالى عنه ـ ما: ولا يكتفي القاضي بظاهر العدالة حتى يعرف عدالتهم الباطنة سواء كانت شهادتهم في حد أو غيره اهـ. قال الإمام المقدسي في الإشارات لا ينفذ الحكم بالشهادة حتى يتبين له عدالة الشهود في الظاهر والباطن اهـ. الأمر الثالث: أن غير القاضي يعسر عليه معرفتها كما قاله في الروضة وغيرها، وأما القاضي فقال الإمام ابن الرفعة وغيره: لا يشق عليه البحث عنها، قال الشيخان: وإذا لم يعرف القاضي من الشهود عدالة ولا فسقاً فلا يجوز له قبول شهادتهم إلا بعد الاستزكاء والتعديل. قال الإمام الأذرعي في شرح المنهاج سواء في ذلك الشهادة بالمال وغيره قال: لأن تزكية الشهود إلى الحاكم دون غيره اهـ. قال بعض المتأخرين: ولا أدري ما الذي يعتذر به من يجوّز شهادة غير المتيقن عدالته. الأمر الرابع: أن الإمام الأذرعي قال في شرح المنهاج في الكلام على التزكية اعتبار العلم بالعدالة والفسق وأسبابهما كما قال الرافعي وغيره ظاهر في جانب التعديل لأنه إذا لم يعلم العدالة وشروطها وأسبابها وموانعها لا يدري بماذا يشهد، قال ومن هذا يؤخذ أن ما يعتمده كثير من حكام العصر أو أكثرهم من قبول التزكية من العوام المقبولين(6/432)
عندهم غير سديد لأنا نقطع بأنهم لا يعرفون ذلك ويبنون الشهادة على ما يظهر من خير يظنونه بالمزكي وأكثر الناس يجهل معرفة العدالة وأسبابها ويجهلون اعتبار المعرفة الباطنة قال: فيجب على القاضي البحث والسؤال والاستفسار قال: وإذا لم يعرف المعدل أسباب الفسق ظن بما هو فسق ليس فسقاً فيعدل جهلاً اهـ، كلام الأذرعي . ويؤيده قول الشيخ المقدسي في الإشارات العامي لا يعرف العدل من غيره اهـ، ومعظم شهادات الناس يشوبها جهل وغيره يحوج الحاكم إلى الاستفسار وإن كانوا عدولاً كذا قال الشيخان تبعاً للإمام وبه قال ابن الرفعة وغيره، واختاره الأذرعي في مواضع في شرح المنهاج وقال: إنه الحق، قال بعضهم: ولعمري أن أكثر شهود عصرنا غير مرضيين وإن كان ظاهرهم العدالة فإذا كان هذا في عصره فما ظنك بما بعده. الأمر الخامس: أن الإمام
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 241(6/433)
ابن عجيل اليمني رحمه الله تعالى سئل عن أهل بلاد لا يقسمون للنساء ميراثاً ظلماً منهم ويقاتل بعضهم بعضاً في الباطل وليس في تلك البلاد من العدول إلا ناس قليل فهل تقبل شهادتهم أو لا؟ فأجاب رحمه الله تعالى فقال: لا يقبل قولهم ولا يرجع إليهم في شيء وهم من أفسق الفساق حتى يقسموا للنساء ما جعل الله تعالى لهن ولا يقبل الله تعالى منهم صرفاً ولا عدلاً حتى يردوا الحقوق إلى أهلها وكذلك الذين يقاتل بعضهم في الباطل حكمهم كذلك لا تقبل شهادتهم وهم فسقة من أعظم الفساق وقتل النفس التي حرم الله تعالى أكبر الكبائر بعد الشرك بالله تعالى، قال : «لزوال الدنيا عند الله تعالى أهون من قتل رجل مسلم» اهـ جوابه، قال بعض المتأخرين بعد أن رأى جوابه هذا المذهب المعروف في هذه المسألة عدم قبول الشهادة. الأمر السادس: أن الإمام شهاب الدين الأذرعي قال في كتاب الشهادات من شرح المنهاج لم أر لأصحابنا كلاماً فيما إذا فاتت العدالة في شهود الحاكم وظاهر كلامهم عدم قبول الشهادة كما اختاره الإمام ابن عبد السلام واختاره أيضاً الأذرعي في القضاء من الشرح المذكور، وقال إن الأحكام لا تتغير بتغير الأزمان ويؤيده ما أفتى به بعض المتأخرين أن فوات العدالة لا يغير ما اعتبره الشارع من العدالة والستر في شاهد عقد النكاح مثلاً، لأن النكاح يقع غالباً بين أوساط الناس والعوام، وفي البوادي والقرى فلو كلفوا معرفة العدالة الباطنة لطال الأمر وشق بخلاف الحكم، فإن الحاكم يسهل عليه مراجعة المزكين ومعرفة العدالة الباطنة والله سبحانه وتعالى أعلم اهـ جواب الأول، وأجاب الثاني فقال: لا يجب البحث عن حال الشهود في هذه البلاد المذكورة لأمور أحدها: أن بعض الشافعية المتأخرين رأوا اغتفار ما يغلب مخالطة الناس له وإن كان مفسقاً إذا عرف صاحبه بالتصوّن عن الكذب وسبقه إلى ذلك الإمام حجة الإسلام الغزالي ، فصرح به في بعض كتبه ويدل له تصحيح ولاية القضاء لمن ليس(6/434)
بأهل فسق وغيره مع الضرورة على ما حرر من الفقه حتى صرح بعضهم أنه إذا لم يوجد غيره صحت قطعاً. وقال الإمام ابن الرفعة رحمه الله تعالى: أنه الحق الأمر الثاني أن الإمام الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ اعتبر الأغلب فإن كان الغالب الطاعة وندرت المعصية في بعض الأوقات فهو عدل وإن كان الغالب الصغائر فهو فاسق ترد شهادته لقوله تعالى: {فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم} (
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 241(6/435)
7:8ـ9) فاعتبر الكثرة والغلبة لأن في النفس دواعي الطاعات ودواعي المعاصي فاعتبر الأغلب وهو كما يعتبر في الماء إذا اختلط بمائع، وفي الرافعي الإصرار بالمداومة على الفعل لكنه قال هل المداومة على نوع من الصغائر أو الإكثار من الصغائر سواء كانت من نوع أو أنواع فيه وجهان كلام الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ والجمهور يوافق الثاني فعلى هذا لا تضر المداومة على نوع من الصغائر إذا غلبت الطاعات. الأمر الثالث: أنا لو كلفنا البحث عن حال الشهود في هذه البلاد المذكورة لحصل عليهم الضرر ولاتخذه بعض أهل البلاد ذريعة حتى يتعطل كثير من أموالهم قال تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} ،(22:78) وقال سبحانه وتعالى: {سيجعل الله بعد عسر يسراً} (65:7)، وقال الإمام الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ : الأمر إذا ضاق اتسع سيما أن الشيخ محيي الدين النووي قال في باب نقض الكعبة من شرح مسلم إذا تعارضت مصلحة ومفسدة وتعذر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة بدىء بالأهم، وقال في باب الخديعة من الشرح المذكور احتمال المفسدة اليسيرة لدفع أعظم منها أو لتحصيل مصلحة أعظم منها إذا لم يمكن ذلك إلا بذلك اهـ جواب الثاني فما الراجح؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بأن المعتمد من هذين الجوابين أولهما وهو أنه لا بد من عدالة الشهود عند الحاكم ظاهراً وباطناً سواء أكانت العدول في تلك الناحية قليلين أو كثيرين لما ذكره المجيب الأول وإن كان في بعض كلامه نظر يعرف للمتأمل فمن ذلك قوله لا يحل أن يشهد الفاسق وإن كان محقاً الخ، فإن فيه تفصيلاً وهو أنه تارة يكون فسقه مجمعاً عليه وتارة يكون مختلفاً فيه، ففي الحالة الأولى يحرم عليه أن يشهد بالحق وإن خفي فسقه كذا قاله الشيخان لكن قال الأذرعي في تحريم الأداء مع الفسق الخفي نظر لأنه شهادة بحق وإعانة عليه في نفس الأمر، ولا إثم على القاضي إذا لم يقصر بل يتجه الوجوب عليه إذا كان في الأداء إنقاذ نفس أو عضو أو(6/436)
بضع قال، وبه صرح الماوردي ، وفرق بينه وبين الفسق الظاهر بأن رد الشهادة بالخفي مختلف فيه، وبالظاهر متفق عليه وصرح ابن أبي الدم فيهما من كلام الأصحاب بعدم التحريم وقال إنها مستحبة، ونقل أعني الأذرعي عن ابن عبد السلام ما يوافقه وهو قوله لو شهد أبو الولد لولده أو العدو على عدوه أو الفاسق بما يعلمونه من الحق والحاكم لا يشعر بمانع الشهادة فالمختار جوازه لأنهم لم يحملوا الحاكم على باطل بل على إيصال حق إلى مستحقه ولا إثم عليه ولا على الخصم ولا على الشاهد، والحالة الثانية وهي ما إذا لم يجمع على فسقه كشارب النبيذ يلزمه الأداء سواء أكان القاضي يرى التفسيق ورد الشهادة به أم لا، فقد يتغير اجتهاده ويرى قبولها وقضية العلة عدم اللزوم إذا كان القاضي مقلداً لمن يرى التفسيق بذلك كالشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ في صورة النبيذ وهو ظاهر ولا نظر إلى أنه يجوز أن يقلد غير مقلده لأن اعتبار مثل ذلك بعيد نادر فلا يلتفت إليه وما نقله عن الأشباه والنظائر من نقض الحكم بشهادة الفاسقين صرح به الشيخان كالأصحاب وعللوه بأنه نقض خطأه فكان كما لو حكم باجتهاده ثم بان النص بخلافه وقوله الأمر الثاني لأن الإمام
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 241(6/437)
نجم الدين ابن الرفعة الخ عجيب منه نقل هذا وأمثاله الكثيرة في كلامه عن بعض المتأخرين مع أنه المنقول المعتمد في كتب سائر الأصحاب أو أكثرهم بل وقع له رد رواية المجهول عن الإسنوى والأذرعي عن ابن الرفعة ثم انتقل عن ذلك ببل إلى بيان أن ذلك مجمع عليه وفي هذا من التهافت في الوضع ما لا يخفى، وأما ما ذكره المجيب الثاني فكلام واه ساقط ضعيف فلا يلتفت إليه، وأما ما نقله عن الغزالي وغيره إما باطل أو مؤوّل واستدلاله عليه بصحة تولية القضاء للفاسق غير صحيح، فقد نقل محققو المتأخرين عن ابن عبد السلام رحمه الله تعالى ما يفهم الفرق بين المسألتين واعتمدوه حيث قالوا لو تعذر جميع شروط القضاء فولى الإمام فاسقاً أو مقلداً جاز للضرورة وسكتوا عن نظيره في الشهادة وهو ما لو رتب الإمام شهوداً فيهم جارح الفسق أو غيره وفي قواعد ابن السلام لو فاتت العدالة في شهود الحاكم فهذا فيه وقفة من جهة أن مصلحة المدعي معارضة لمصلحة المدعي عليه والمختار أنها لا تقبل، لأن الأصل عدم الحقوق المتعلقة بالذمم والأبدان والظاهر مما في الأيدي أنه لا ربا بها ولا يلحق بتنفيذ ولاية فاقد الأهلية لعدم المعارضة المذكورة اهـ فتأمل ما اختاره ابن عبد السلام وما أفهمه كلامه من الفرق تجده رداً فيما ذكره المجيب الثاني، وقوله إن الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ اعتبر الأغلب الخ، يدل على تساهله في الاستدلال وعدم إتقانه بما يستدل به وذلك لأنا لا ننظر إلى غلبة الطاعات أو المعاصي أو استوائهما إلا إذا لم توجد كبيرة بأن وجدت صغائر أو صغيرة ودوام عليها فإن غلبت طاعاته أو استوى الأمر أن فيعدل ولا يؤثر فيه ما ارتكبه من تلك الصغائر وإن لم تغلب طاعاته فغير عدل لأن غلبة المعاصي حينئذ منزل منزلة ارتكاب الكبيرة فزالت به العدالة، وأما إذا ارتكب كبيرة فإنه يصير فاسقاً وإن غلبت طاعاته على معاصيه لأن ارتكاب الكبيرة مزيل للعدالة من غير نظر إلى غلبة طاعاته أو عدمه،(6/438)
وأما استدلاله بما ذكره في الأمر الثالث وبكلام شرح مسلم فغير صحيح أيضاً لما مر في كلام ابن عبد السلام من أن ما نحن فيه ليس فيه تعارض مصلحة ومفسدة وإنما فيه تعارض مصلحتين ولا مرجح فلا يعمل بالشهادة وتركنا الأشياء على ما هي عليه من بقاء الحقوق في أيدي أربابها وعملنا بالأصل لثابت في ذلك وبراءة الذمم ونحوها، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
وسئل رحمه الله تعالى عما لو أوصى شخص لآخر بشيء فادعى عصبة الموصي الرجوع وأقاموا شاهداً بعد أن أقام الموصي له شاهدين ولم يكن مع العصبة غيره من غير العصبة هل تقبل شهادة بعضهم لبعض، والحال أنهم إخوة حتى تكمل الحجة وترجح أم لا؟. فأجاب نفعنا الله تبارك وتعالى بعلومه بقوله: إن عصبة الموصي إن كانوا ورثة لم تقبل شهادة أحد منهم بالرجوع عن الوصية وإن لم يكونوا ورثة قبلت شهادتهم وإذا تعارضت بينتان بالرجوع وعدمه قدمت بينة الرجوع لأنها ناقلة والأخرى مستصحبة أو قالت الأخرى شاهدناه بعد الوصية تكلم أو فعل ما يكون رجوعاً تعارضتا وبقيت الوصية بحالها، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 241(6/439)
وسئل رحمه الله تعالى في مستودع مأذون له من المودع في دفع الوديعة إلى شخص معين فطلب الشخص الوديعة من المستودع في غيبة المودع وأقام بينة له بالإذن عند حاكم شرعي وهو ولد المستودع وأجنبي وقبلهما الحاكم وحكم بالدفع ثم حضر المودع بعد الدفع، وأنكر الإذن في الدفع فأقام المستودع البينة المحكوم بها فهل تقبل ويبرأ المستودع من الوديعة عند إنكار الإذن من المودع بمقتضى هذه البينة أم لا أم كيف الحال؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بأن الوديع إن كان هو المقيم للبينة المذكورة لم تقبل لأنها شهادة له بما يدعيه على المودع من أنه أذن له في الدفع وإن كان المقيم لها غير الوديع كان ادعى المأذون له الإذن وأنكره الوديع فأقام عليه البينة المذكورة قبلت وجاز للحاكم أن يحكم بها ولا نظر حينئذ إلى أن أحدهما ولده، لأن الشهادة حينئذ عليه لا له ولا نظر لما يترتب على ذلك من براءة الوديع بهذا الدفع إذا حضر المودع وأنكر الإذن لأن هذا أمر أجنبي عن المدعي به فلا يؤثر في قبول الشهادة، ومما يصرح بما ذكرته قول الشيخين رحمهما الله تعالى وغيرهما والعبارة للرافعي رحمه الله تعالى عبد في يد زيد ادعى مدع أنه اشتراه من عمر وبعدما اشتراه عمرو من زيد صاحبه وقبضه وطالبه بالتسليم، وأنكر زيد جميع ذلك فشهد ابناه للمدعي بما يقوله حكى القاضي أبو سعيد رحمه الله تعالى قولين أحدهما رد شهادتهما لتضمنها إثبات الملك لأبيهما وأصحهما القبول لأن المقصود بالشهادة في الحال المدعي وهو أجنبي عنهما اهـ فتأمل تعليل القبول الذي هو الأصح بما ذكر تجده نصاً في مسألتنا وتأمل تعليل القول الضعيف بتضمنها إثبات الملك لأبيهما تعلم أن الصحيح يقول بقبول شهادتهما ولا ينظر لتضمنها ما ذكر لأنه غير مقصود بالشهادة وهذا كما ترى صريح فيما ذكرته من قبول شهادة ابن الوديع وأنه يترتب عليها براءته إذا أنكر المودع الإذن ولا نظر لهذا الترتيب لأنه غير مقصود(6/440)
بالشهادة فإن قلت هل ما ذكره الرافعي رحمه الله تعالى من التصوير قيد لا بد منه في القبول، قلت لا كما هو ظاهر ومن ثم قال البلقيني رحمه الله تعالى عقبه لا يحتاج عندي لهذا التصوير بل لو ادعى على زيد أنه باعه فشهد ابناه قبلت شهادتهما اهـ. وهذا مما يزيد مسألتنا إيضاحاً كما هو جلي ومما يؤيد ما ذكرته من أنه يترتب على قبول الشهادة براءة الوديع قولهم محل عدم قبول الشهادة للأصل والفرع ما إذا لم يكن ضمناً فإن كان قبلت كما إذا ادعى عليه نسب ولد فأنكر فشهد أجنبي وأبو المدعي عليه على إقراره فتقبل شهادة الأب في الأصح وإن كان في ضمنه الشهادة لحفيده ذكره
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 241(6/441)
القاضي حسين رحمه الله تعالى في فتاويه، وأقره الأذرعي أيضاً و الزركشي رحمهما الله تعالى وغيرهما ومن ذلك أيضاً قول القاضي شريح رحمه الله تعالى في روضته إذا شهدا على مولى أمهما أنها أعتقته على ألف سمعت في العتق وهل تسمع في الألف فيه قولان سواء أقرت أم أنكرت اهـ. قال الأذرعي رحمه الله تعالى: وهذا ذكره العبادي رحمه الله تعالى في أدب القضاء هكذا، وقال صاحبه أبو سعيد الهروي رحمه الله تعالى في الإشراف وأنا قد بينت أنه يفصل بين ما لو سبق منهما الدعوى أو لم يسبق على ما حكيته عن الإمام القاضي حسين رحمه الله تعالى اهـ. قال وهذا هو القياس وهو كما قال فإنها إذا ادعت تكون الشهادة بالألف شهادة لها بمال قصداً لا ضمناً إذ الأمر الضمني لا يمنع قبول الشهادة به للولد أو للوالد. قال الشيخان رحمهما الله تعالى وغيرهما: ولو شهد اثنان أن أباهما قذف ضرة أمهما ففي قبول شهادتهما قولان، أحدهما المنع لأن القبول يحوجه إلى اللعان وهو من أسباب الفرقة فشهادتهما تجر نفعاً إلى أمهما وأظهرهما القبول ولا عبرة بمثل هذا الجر لأنه ضمني لا مقصود ومحل الخلاف إذا كانت أمهما تحته وقد شهدا حسبة من غير طلب الضرة وإلا قبلت شهادتهما قطعاً لضعف جر النفع إلى الأم في الثانية وعدمه في الأولى ولو ادعى الأب طلاقها في زمن سابق ليسقط بما يدعيه عن نفسه نفقة ماضية ونحوها أو أنه خالعها على مال بذلته فشهدا له ابناه لم يقبلا قطعاً بالنسبة للمال وتقع الفرقة باعترافه قطعاً وأفهم تقييدهم عدم القبول بدعوى الأب أنهما لو شهدا بالطلاق المذكور حسبة قبلت شهادتهما ولزم المال المذكور لأنه ضمني لا مقصود وهو متجه نظير ما مر. قال الشيخان رحمهما الله تعالى أيضاً: ولو ادعت الطلاق فشهد ابناها لم تقبل ولو شهدا حسبة قبلا وكذا في الرضاع اهـ، وقضية كلامهما أنه لا فرق بين أن يشهدا بذلك على أبيهما أو على زوج أجنبي وهو متجه، وقول الكرخي رحمه الله تعالى يحتمل(6/442)
أن لا تقبل شهادتهما حسبة لأن ذلك إزالة رق عن الأم وذلك نفع إلا أن يتمشى هذا خاصة إذا كانت الأم منكوحة لغير الأب ضعيف قالا أيضاً ولو شهد الأب مع ثلاثة على امرأة ابنه بالزنا فإن سبق من الابن قذف فطولب بالحد فأقام البينة لدفعه لم يقبل وإن لم يقذف أو لم يطالب بالحد وشهد الأب حسبة قبلت شهادته وهذا كله صريح فيما ذكرته في هذه المسألة فلا ينبغي بعد ذلك التوقف فيها، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 241
وسئل رحمه الله تعالى إذا ادعى ورثة ميت أنه أبان زوجته وأقاموا شاهداً واحداً هل يكفي ذلك مع أيمانهم وتمنع من الميراث قياساً على ما أفتى به الغزالي وقرره الشيخان رحمهما الله تعالى فيما لو ادعت نكاح فلان الميت وطلبت الإرث منه حيث قالوا يثبت برجل وامرأتين أو برجل ويمين وكذا لو ادعى وارثها ذلك بعد موتها هل الحكم كذلك؟ بينوا الراجح عندكم في جميع ذلك وأمعنوا النظر في العلل والمدارك جزاكم الله سبحانه وتعالى عنا وعن الإسلام والمسلمين خيراً وأعظم لكم أجراً وزادكم بالعلم فخراً ولا عسر عليكم أمراً آمين يا رب العالمين. فأجاب رحمه الله تعالى بأن القياس المذكور فيه غير بعيد فإذا حلفوا مع شاهدهم منعت من الميراث، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل رحمه الله تعالى عما إذا شهد اثنان واحد ببيع والآخر بالإقرار به هل تلفق الشهادتان؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله: إذا شهد واحد ببيع مثلاً والآخر بالإقرار به لم تلفق الشهادتان، نعم لو رجع أحدهما وشهد بما شهد به الآخر قبلت شهادته لأنه يجوز أن يحضر الأمرين.(6/443)
وسئل رحمه الله إذا شهد شهود أن مال فلان وقف بالسماع ولم يبينوا المصرف هل تصح تلك الشهادة أم لا حتى يبينوا المصرف وهل تسمع دعوى وقف أبونا هذه الأرض ولم يقولوا علينا مثلاً أو حتى يقولوا علينا، وقول القائل اشتريت هذه الأرض من فلان ولم يذكر الثمن أم حتى يبين الثمن؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله: تقدم بينة الوقف على بينة الملك في الصورة المذكورة وإن حكم حاكم ببينة الملك ولم يحكم حاكم ببينة الوقف، لأن حكم الحاكم غير مرجح ولا تسمع الدعوى والبينة بالوقف إلا مع بيان مصرفه بخلاف الشراء لا يشترط بيان قدر ثمنه وتقدم بينة الإثبات في الصورة المذكورة، والله سبحانه وتعالى أعلم.(6/444)
وسئل رحمه الله تعالى فيمن ادعت فساد النكاح لصغرها وادعى الزوج بلوغها بالحيض ما كيفية صورة الشهادة على الحيض وهل له أن يدعي حسبة بشيء ثم يشهد على ذلك الشيء وأيضاً شهادة الحسبة هل تشترط بحضرة المدعى عليه أم لا؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله: تقبل البينة بالحيض وقولهم في موضع يتعذر إقامة البينة عليه مرادهم به التعسر فإن ما يرى قد يكون دم فساد ومع ذلك إذا جزم الشهود بأنه دم حيض بأن احتف بقرائن وأمارات يعرفها أهل الخبرة بحيث يغلب على ظنهم الحكم عليه بأنه حيض قبلت شهادتهم وإن لم يذكروا تلك الأمارات بل لو سئلوا عنها فلهم أن يقولوا لا يلزمنا الجواب كما ذكروه في نظائر ذلك ويجوز للشاهد أن يدعي حسبة ثم يشهد لأن دعوى الحسبة لا يتوقف الأمر عليها فقد اختلفوا في سماعها فالذي رجحه الإسنوى رحمه الله تعالى، ونسبه الإمام للعراقيين الاكتفاء بشهادتها بل أمر فيه بالإعراض والدفع ما أمكن والذي صححه البلقيني سماعها ومحله في غير محض حقوق الله سبحانه وتعالى، والحاصل أنه لا يحتاج إليها على كل من القولين وإنما الخلاف في سماعها والمعتمد سماعها إلا في محض حدود الله سبحانه وتعالى، ولا بد من حضور المدعى عليه كما يفيده قولهم لا تسمع شهادة الحسبة حتى يقول شهودها ابتداء للقاضي نشهد بكذا على فلان فأحضره لنشهد عليه اهـ، فاستفيد منه أنه لا يعتد بشهادتهم إلا في حضرته كسائر الشهادات بشرطها، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 241(6/445)
وسئل في أمر السلطان للقضاة بأن المشهود عليه لو أتى بجرح الشهود بعد ثلاثة أيام لا تقبلوا ذلك بعد الحكم أم شهود الجرح تقبل لما ذكر ولو بعد الحكم وهل لو احتج من يجوّز ذلك بأن تجويز قبول الجرح يؤدي إلى نقض أحكام متقدمة القبول أم لا؟ أفتونا مأجورين. فأجاب بقوله: تقبل بينة الجرح ولو بعد حكم الحاكم وإن طالت المدة ولا نظر إلى أن ذلك يؤدي إلى نقض أحكام متقدمة لأنا لا نقبل بينة الجرح إلا بشروطها المذكورة في محلها فإذا وجدت وجب العمل بها وبان أن تلك الأحكام غير معتد بها، ومتى ألزم السلطان القضاة بما ذكر أطاعوه خوفاً من شق العصا.
وسئل رحمه الله تعالى ما حقيقة النرد؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه وبركته بقوله: فص أو فصوص من نحو عظم أو خشب فيها نقط تطرح على لوح فيه بيوت لكل نقطة بيت يعرف بها كيفية اللعب وهذا مع أني لم أره أخذته من قول البيضاوي وضعه سابوزن ثاني ملوك الساسان ولأجله يقال له النردشير وشبه رقعته بالأرض وقسمها أربعة أقسام تشبيهاً بالفصول الأربعة اهـ. ومن قول الماوردي رحمه الله تعالى وقيل: إنه موضوع على البروج الإثني عشر والكواكب السبعة لأن بيوته اثنا عشر ونقطه من جانب الفص سبع كالكواكب السبعة يعدل به إلى تدبير الكواكب السبعة والبروج اهـ، ومن فرقهم بينه وبين الشطرنج بأن التعويل في النرد على ما يخرجه الكعبان فهو كالأزلام وفي الشطرنج على الفكر والتأمل وأنه ينفع في تدبير الحرب، وعبر الزركشي بدل الكعبين بالفصوص، والله سبحانه وتعالى أعلم.(6/446)
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ نسخ كتاباً وأعانه آخرون في نسخه قليلاً هل له أن يكتب في آخره كتبه فلان يعني نفسه أو يكون ذلك كذباً لكونه لم يكتبه كله؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه وبركته بقوله: له أن يكتب في الكتاب المذكور كتبه فلان مريداً به غالبه ولا يكون ذلك من الكذب، فقد قال الغزالي رحمه الله تعالى: وليس من الكذب ما جرت به العادة من المبالغة كقولك جئتك مائة مرة لأن المراد تفهيم المبالغة لا المرات بشرط أن يكون جاء أكثر من مرة وإلا لم يجز ذلك للكذب حينئذ وإذا جاز أن يعبر عن ثلاث مرات مثلاً بمائة مرة مبالغة فلأن يجوز أن يكتب في كتاب كتب بيده أكثره كتبه فلان بالأولى، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ شاهد يظهر عليه كرامات مع فسقه هل تقبل شهادته أم لا؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه وبركته بقوله: لا تقبل، فقد قال الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ : لو رأيت صاحب كبيرة يطير في الهواء لم أقبله حتى يتوب من بدعته، ذكره أبو نعيم وقد تظهر الكرامة على يد فاسق بل كافر كالسامري فإنه رأى فرس جبريل حتى أخذ من تراب حافرها وجعله في العجل فخار، ونقل ابن العماد رحمه الله تعالى عن الشيخ أبي محمد النيسابوري رحمه الله تعالى أنه قال يجب على الولي إخفاء الكرامة، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 241
وسئل رحمه الله تعالى جرحت إحدى البينتين بينة المدعي أو المدعي عليه الأخرى فهل تسمع؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: ما صرح به الروياني رحمه الله تعالى في البحر أنها تسمع وأفتى به جمع يمنيون، وقال بعضهم: لا تسمع وعلى الأول فإذا بادرت بينة وشهدت بفسق الأخرى قبلت فإن شهدت المشهود بفسقها بفسق الشاهدة لم تقبل لثبوت جريحها فلم تقبل شهادتها، والله سبحانه وتعالى أعلم.(6/447)
وسئل رحمه الله تعالى شهد على امرأة ولم يذكر أنه رآها مسفرة فهل يقبل؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله للروياني رحمه الله تعالى فيه احتمالان رجح منهما عدم القبول لأن الغالب ستر وجوههن، قال بعضهم وفيه نظر وهو كما قال، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل رحمه الله تعالى عن شهادة الشاهدين في الصرف على عمارة دار في ملك أو وقف هل يجب على الشاهدين تفصيل ما صرف في ثمن أحجار وخشب وأجرة وغير ذلك بأن يقولا صرف في أحجار كذا وفي خشب كذا وفي أجرة كذا وكذا الخ، أو يكفي قولهما إنه صرف في عمارة هذه الدار كذا وكذا مبهماً من غير تفصيل؟. فأجاب بقوله: يكفي في الشاهدين بعمارة أن يقولا صرف في العمارة كذا وإن لم يفصلاه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل رحمه الله تعالى ما حكم كتب الوثائق للذميين؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله: يجوز كتب الوثائق للذميين لكن لا يعظمون فيها بألقاب ولا بكنى ولا بغيرهما بل يقال اشترى مثلاً فلان من فلان الذمي.
وسئل رحمه الله تعالى عن شخص وضع خطه بشهادة في مال لشخص آخر وسمع شخصاً يشهد شهوداً أو يثبت مالاً عند حاكم شرعي وهو حاضر ساكت لا يتكلم ثم تبين أن له فيه ملكاً واستحقاقاً هل يسقط حقه بذلك سواء علم أو لم يعلم؟ أوضحوا لنا ذلك أثابكم الله سبحانه وتعالى الجنة. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: مجرد الخط والسكوت مع حضور ما ذكر لا يبطل حقه مما تبين له فله الدعوى به، والله سبحانه وتعالى أعلم.(6/448)
وسئل رحمه الله تعالى سؤالاً صورته سب المشهود عليه الشهود فهل يعزر؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: نعم يعزر إن سبهم بالكذب ونحوه لائتمان الشارع لهم وعليه حمل قولهم إذا سب الشهود زجره القاضي ثم هدده ثم عزره أما سبهم بذكر مفسق كشرب الخمر أو زنا فلا يعزر عليه وإن لم تقم بينة به، لأن البينة قد تغيب أو تنسى مع أن ذلك لا يقصد به السب بل دفع الحجة، قيل ويعزر على تفسيقهم بعد الحكم لأنه سب لم يأذن فيه الشارع اهـ، وفي إطلاقه نظر بل حيث أراد إقامة بينة به لم يعزر عليه لقبولها به ولو بعد الحكم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 241(6/449)
وسئل رحمه الله تعالى عن مسألة اختلف فيها فقهاء زبيد وهي إذا سبق لسان الشاهد بين يدي القاضي إلى خلاف التاريخ بأن أراد أن يقول سنة ثمان وأربعين وسبعمائة فقال سنة ثمان وعشرين ثم رجع عن الغلط إلى الصواب فهل يكون ذلك قادحاً في شهادته أو لا؟ بينوا لنا ذلك بياناً شافعياً لا عدمكم المسلمون. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله: لا يكون ذلك قادحاً في شهادته حيث تداركها فوراً أو بعد نوع مهلة ولم يحصل للقاضي نوع ريبة في شهادته كما يصرح بذلك كله كلام جماعة من الأصحاب فمن بعدهم منهم القاضي حسين رحمه الله تعالى فإنه قال في فتاويه إذا ادعى عيناً وأقام شاهدين شهد أحدهما أنها ملكه ورثها من أبيه وشهد الآخر أنها ملكه ورثها من أمه فالأظهر أنها شهادة مختلفة لا يحكم بها، وقيل تقبل ويقضي بها لاتفاقهما على أصل الملك وإنما اختلفا في شيء زائد فلو أنهما اتفقا بعد ذلك على جهة واحدة فشهدا بأنه ورثه من أبيه مثلاً أو شهدا بالملك مطلقاً قال: ينظر إن وقع للقاضي ريبة كما إذا أخذ شيئاً من المشهود له وما أشبه ذلك لا يقبل، وإن لم يقع قبل وقضى به. قال شارح الأنوار: وإن قلنا بالأول وهو أنها شهادة مختلفة لا يحكم بها، وبذلك يعلم بالأولى قبول الشهادة في مسألتنا في الحالين اللذين ذكرناهما وهما إذا تدارك ذلك فوراً لأن تداركه فوراً فريضة ظاهرة جداً على سبق لسانه أو بعد مهلة قبل الحكم ولم يقع للقاضي ريبة فيه بخلاف ما إذا وقع له ريبة فيه، ومنهم القفال فإنه قال في فتاويه أيضاً: لو ذكر حدوداً فشهدوا له بها ثم جاء المدعي عليه وأقام بينة بأن الدار التي هي في يده ليست بهذه الحدود وسأل الشهود فإن قالوا غلطنا نظر فإن بينوا وجه غلطهم بأنا رأينا تلك الدار التي بجنبه بيد فلان فظننا أنها ملكه فحددنا هذه الدار بتلك وكان مثله مما يجوز أن يقع فإن هذا لا يقدح في شهادتهم وعليهم أن يعيدوا الشهادة مرة أخرى ولا يحكم بما شهدوا به أوّلاً(6/450)
اهـ فانظر قوله، وكان مثله مما يجوز أن يقع فإنه صريح فيما ذكرناه في مسألتنا من التفصيل وإطلاق الرافعي النقل عنهم أنهم إذا أخطئوا في حد بطلت شهادتهم محمول على هذا التفصيل الذي صرح به كما علمت لأن النقل إن كان عن فتاويه فواضح إذ الذي فيها هو هذا التفصيل أو عن غيرها فالغالب تقديم ما في الفتاوى لأن الاعتناء بتحريره أكثر ولأنه إنما يكون بالذهب بخلاف ما في المصنف فيهما، ومنهم صاحب المعتمد فإنه قال إذا غير الشاهد شهادته فزاد فيها أو نقص قبل الحكم فليس للشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ فيها نص، وقياس المذهب أن ذلك يقبل منه لأنه ما لم يحكم الحاكم بشهادته فليس يتعلق بقوله حكم وقد يسهو ثم يذكر بعد ذلك فلا يؤثر ذلك في شهادته اهـ. قال السيد
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 241(6/451)
السمهودي رحمه الله تعالى: وقبوله إذا نقص أولى إلا أن يظهر للقاضي دلالة ذلك على عدم ضبطه اهـ، وقوله إلا الخ، ليس خاصاً بحالة النقص لأنه ليس استثناء من أولى كما هو ظاهر للمتأمل بل من القبول المقدر الدال عليه السياق أي شرط قبوله أن لا يظهر للقاضي ذلك وإلا لم يقبل وبهذا التقدير علم أن ما قاله صاحب المعتمد من القبول حالة الزيادة والنقص مقيد بما قاله السيد من التفصيل، وحينئذ فهو موافق لما ذكرته من التفصيل في مسألة السؤال لأنها نظيرة المسألة التي فرض صاحب المعتمد الكلام فيها فإذا قيدت هذه بذلك التفصيل فلتقيد به نظيرتها المسؤول عنها ومنهم الأذرعي رحمه الله تعالى فإنه قال في قول الشيخين رحمهما الله تعالى لو قال الشاهدان للقاضي بعد الشهادة توقف في الحكم توقف وجوباً لأنه يوهم ريبة فإن قالا بعد اقض فإنا على شهادتنا قضى بلا إعادة الشهادة اهـ هذا مشكل، ويشبه أن يرجع في ذلك إلى اجتهاد القاضي فإن لم تبق عنده ريبة حكم وإن دامت أو زادت أو دلت قرينة على تساهل فلا ويختلف ذلك باختلاف ضبط الشهود وبروز عدالتهم وعلمهم وغير ذلك، وينبغي أن يسألهم القاضي عن سبب التوقف ثم الجزم بعده ليظهر له الحال وهذا متعين في العامي اهـ. وذكر في الخادم ونحوه وسبقه إلى نحوه البلقيني وهو بحث متجه ومنه يستفاد صحة التفصيل الذي قدمته في صورة السؤال بجامع أنه صدر من الشاهد في كل من المسألتين ما يوجب الريبة فمتى صحب ذلك قرينة تزيلها لم تؤثر وإلا أثرت، وإذا اتضح استواؤهما في ذلك تعين إجراء نظير هذا التفصيل في مسألة السؤال لأن أحد النظيرين يثبت له ما ثبت لنظيره وبهذا الذي قررته من الجامع بين هاتين المسألتين من أنه صدر من الشاهد في كل ما يريب فاحتيج في قبوله إلى مزيل الريبة يتضح الجامع بين صورة السؤال وصورة القاضي وصورة القفال وصورة صاحب المعتمد، ويعلم أن هذه الصور الثلاث مع صورة الأذرعي مساوية لصورة السؤال وأنه لا بد في كل(6/452)
من هذه الخمس من إجراء هذا التفصيل المذكور فمتى بقي عنده ريبة أو زادت أو دلت قرينة على تساهل لم يقبل وأن ذلك يختلف باختلاف ضبط الشهود وبروز عدالتهم وعلمهم وغير ذلك، فإن قلت ينافي ما قررته في صورة السؤال قولهم لو رجع الشاهد عن شهادته قبل الحكم امتنع قبولها أي وإن أبدى لغلطه وجهاً محتملاً، قلت لا ينافيه ولا يلاقيه لأن ما نحن فيه في شخص باق على أصل شهادته والجزم بها وإنما وقع له تغيير في أمر تابع لها فنظرنا في ذلك التغيير الواقع منه هل صحبه ما يزيل ما فيه من الإرابة أو لا، فلذلك جرى فيه التفصيل الذي قررته وكذلك بقية نظائره التي ذكرتها، وأما الذي في كلامهم فهو أنه رجع عن الشهادة من أصلها ثم أراد أن يؤديها كما شهد بها أوّلاً فلا يقبل وإن ادعى غلطا محتملاً لأنا الآن شاكون في حقيقة ما شهد به، ومن ثم زيفوا قول من قال بقبوله بأن احتمال كذبه في الرجوع كاحتمال كذبه في الشهادة فلا مرجح، ودعوى الغلط هنا لا تصلح مرجحة لأنه لما جزم بالشهادة أولاً دل على أنه متحقق ما شهد به فلما رجع عن هذا الجزم دل على أنه لم يتحققه فتوارد منه إثبات التحقق تارة ونفيه أخرى، فإذا أراد العود إلى التحقق لم يمكن لأنه صدر منه ما أزال ظن صدقه من هذا التناقض في أصل الشهادة بخلاف ما نحن فيه لما قدمته من أن الجزم به لم يزل وإنما وقع تغيير في وصف تابع له ووقوعه في هذا لا يوجب رد الأصل المجزوم به فكان الأمر فيه أخف فأثرت فيه القرائن وأدير الحكم عليها والحاصل أن التغيير فيما نحن فيه لا ينافي الجزم وفيما في كلامهم ينافيه وأنه فيما نحن فيه في أمر تابع وفيما في كلامهم في المتبوع المقصود بالذات ويغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 241(6/453)
وسئل رحمه الله تعالى من مستند صورته بعد أن ثبت لدى سيدنا فلان بشهادة فلان وفلان أن فلاناً وكل ولده في إيقاف الأمكنة الكائنة بالحرمين الشريفين مكة والمدينة الجارية في استحقاق ملكه وتصرفه وحيازته إلى حين صدور هذا الوقف الثبوت الشرعي بالبينة الشرعية المذكورة أعلاه وأشهد عليه الوكيل المذكور أنه وقف عن والده الموكل المذكور كذا وكذا وذكر الأمكنة وحدودها ثم بعد ما ذكر قال وحكم سيدنا بموجب ذلك حكماً صحيحاً شرعياً مستوفياً شرائطه الشرعية بعد أن أعذر في ذلك إلى من توجه له الأعذار شرعاً هل قوله الثبوت الشرعي بالبينة الشرعية قاصر على ثبوت التوكيل أو يشمله ويشمل جريان الأمكنة المذكورة في ملك الواقف المذكور إلى حين صدور الوقف وهل قوله أيضاً وحكم سيدنا بموجب ذلك مشار به إلى ثبوت الوكالة وجريان الأمكنة في الملك أم لا؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بما صورته قوله: يثبت الخ بتناول جميع ما في حيزه فيكون الثابت التوكيل والجريان المذكور، ويدل لذلك قول أئمتنا ـ رضى الله تعالى عنه ـ م لو شهدا بتوكيل فلان ابن فلان فلاناً كانت تلك الشهادة شهادة بالنسب للموكل ضمناً وبالتوكيل أصلاً لتضمن ثبوت التوكيل المقصود لثبوت نسب الموكل لغيبته عن مجلس الحكم، و للشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ قول مرجوح وبه قال مالك ـ رضى الله تعالى عنه ـ أنها شهادة بالتوكيل دون نسب الموكل نظراً إلى أن مورد الصدق والكذب في الخبر كقام زيد بن عمرو النسبة التي تضمنها فقط دون غيرها وهي قيام زيد لا بنوّته لعمر وأيضاً إذ لم يقصد به الأخبار بها ويجاب بأنا وإن سلمنا أنه لم يقصد الأخبار بالبنوة إلا أن هذا لا يعارض الراجح السابق لأنه لم يقل أنها ثبتت قصداً حتى يرد عليه ذلك وإنما قال إنها ثبتت ضمناً لوجود المسوّغ السابق، وإذا علم أن الراجح ثبوت البنوة ضمناً في صورة التوكيل التي حكينا فيها الخلاف فكذلك يثبت الملك والحيازة في صورة السؤال على فرض(6/454)
أن شاهدي التوكيل ذكراه أما على فرض أنه ثبت عند الحاكم بغير شاهدي التوكيل فلا إشكال في ثبوت الملك والحيازة حينئذ وعلى كل فهما ثابتان وقوله بموجب ذلك عائد إلى جميع ما سبقه وهما من جملته، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل رحمه الله تعالى هل تقبل شهادة المعتزلة إذا تبين منهم سب الصحابة أم لا؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: تقبل شهادة المعتزلة والرافضة وغيرهما من سائر المبتدعة ما لم نكفرهم ببدعتهم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 241
وسئل رحمه الله تعالى عن شخص ولي ببلدة وفوّض إليه أمورها بأن يعزل وينصب ويحكم فحكم بحرية إنسان وقبل الحكم نادى في القرية كل من عنده شهادة برق العبد فليحضر فحضروا وقالوا ليس عندنا شهادة وبعد ذلك شهدوا عند حاكم آخر برقه هل تقبل شهادتهم بعد الإنكار والجحود وأم لا؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله: إن كانوا قالوا ذلك حين تصدوا للشهادة لم تقبل شهادتهم وإن كانوا قالوه قبل ذلك قبلت شهادتهم لأنهم قد يتحملون بعد ولو قال الشاهد لا شهادة لي على فلان ثم شهد وقال كنت نسيت قبلت شهادته إن اشتهرت ديانته وإلا فلا.
وسئل رحمه الله تعالى عمن ادعى على آخر مالاً لنفسه أو لأيتامه فهل يصير بذلك عدواً له فلا تقبل شهادته عليه أم لا؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: لا يصير بمجرد ذلك عدواً له كما أفتى به الأصبحي .(6/455)
وسئل رحمه الله تعالى عمن أنكر الشهادة ثم ادعى النسيان وأراد الأداء هل تسمع؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله: أطلق القاضي حسين أنه لا تقبل وخصه الرافعي رحمه الله تعالى بما إذا لم يمكن أن يتحمل تلك الشهادة بعد إنكاره و ابن عجيل بما إذا لم يدع إنسان وفارق قول المدعي لا بينة لي حيث تقبل منه بعد ذلك البينة فإن الإنكار هنا صدر من الشاهد فاقتضى طعناً فيه وثم لم يصدر منه بل من خارج عنه فلم يقتض ذلك.
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل تعينت عليه شهادة لكنه خاف من التجريح فهل ذلك عذر له؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: أطلق بعضهم أن ذلك غير عذر ولو قيل محله حيث لم يغلب على ظنه وقوع تجريح فيه بباطل لم يبعد.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 241(6/456)
وسئل رحمه الله تعالى عما صورته ما يتعاطاه جهلة المتصوفة من الطيران والقصب والغناء والصياح والرقص واعتقادهم أن ذلك قربة وتكنيتهم عن الباري عز وجل بهند وليلى فهل يحل لهم ذلك لا سيما في المساجد وهل نقل عن السلف شيء من ذلك وهل ذلك صغيرة أو كبيرة وهل يكفر من اعتقد التقرب به إلى الله سبحانه وتعالى؟ أوضحوا لنا ذلك وبينوه بياناً شافياً. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: قد أشبع الأئمة ك العز بن عبد السلام في قواعده الكلام في ذلك ولا بأس بالكلام عليها باختصار فنقول أما الدف فمباح مطلقاً حتى للرجال كما اقتضاه إطلاق الجمهور، وصرح به السبكي وضعف مخالفة الحليمي فيه وأما اليراع فالمعتمد عند النووي رحمه الله تعالى كالأكثرين حرمته، وأما اجتماعهما فحرمه ابن الصلاح وخالفه السبكي وغيره، فإن الحرمة لم تتأت من الاجتماع ولم تسر إلى الدف بل من حيث اليراع المسمى بالشبابة، وأما الغناء وسماعه بلا آلة فمكروهان وقول الأستاذ أبي منصور المذهب الجواز إذا سمعه من الرجل ولم يكن على قارعة الطريق ولم يقترن به مكروه ضعيف بل المعتمد الكراهة مطلقاً. وقال الغزالي رحمه الله تعالى: إن نوى به الترويح للتقوى على الطاعة فهو مطيع، وأما الصياح فقال ابن عبد السلام : الصياح والتغاشي إن كان عن حال لا يقتضيه أثم من وجهين إبهامه الحال الموجبة لذلك وتصنعه به وإن كان عن حال يقتضيه أثم بريائه لا غير ونتف الشعور وضرب الصدور وتمزيق الثياب محرم لما في ذلك من إضاعة المال، وأما الرقص فلا يحرم لفعل الحبشة له في حضرته مع تقريره عليه، وقال جماعة يكره لخرم المروءة وفصل الغزالي رحمه الله تعالى بين أرباب الأحوال الذين يقومون بوجد فيجوز لهم ويكره لغيرهم، ونقل عن القاضي رحمه الله تعالى رد الشهادة به لغير أرباب الأحوال وهو متجه حيث كان لهم منصب أو فخامة تقتضي أن ذلك خارم لمروءته غير لائق به تعاطيه وإلا فلا وجه لرد الشهادة به(6/457)
لأنه غير خارم للمروءة حينئذ. قال البلقيني رحمه الله تعالى: ولا حاجة لاستثناء أرباب الأحوال لأنه ليس بالاختيار ومحل ذلك كله حيث لم يكن فيه حرمة كفعل المخنثين وإلا حرم. وقال الشيخ أبو علي رحمه الله تعالى: يكره. وقال البلقيني رحمه الله تعالى: إن كان للتشبه بالمخنث فإنما يحرم على الرجال والصحيح التحريم مطلقاً، وأما التصفيق باليد للرجال فنقل
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 241(6/458)
ابن عبد السلام رحمه الله تعالى عن بعضهم أنه حرام، وجزم به المراغي رحمه الله تعالى وفيه نظر ونية التقرب بذلك لا يخفى على أحد أنه حرام ولا يعلم ذلك إلا بصريح لفظ الناوي فلا يجوز أن يظن به ذلك ولو لقرينة لا سيما إن كان ممن اشتهر عنه خير بل ربما يكون ظن ذلك بمثل هذا جالباً للمقت والعياذ بالله تعالى وتسمية الباري جل وعلا بالمخلوقين حرام عند كل أحد، ولا ينبغي أن يظن ذلك أيضاً بمثل من ذكرناه وحاشا من ينسب إلى أدنى درجات المؤمنين أن يشبه القديم بالحادث، وأما فعل ذلك في المساجد فلا ينبغي لأنها لم تبن لمثل ذلك ولا يحرم ذلك إلا إن أضر بأرض المسجد أو حصره أو نحوهما أو شوّش على نحو مصل أو نائم به، وقد رقص الحبشة في المسجد وهو ينظرهم ويقرهم على ذلك. وفي الترمذي وسنن ابن ماجه عن عائشة ـ رضى الله تعالى عنه ـ ا أن النبي قال: «أعلنوا هذا النكاح وافعلوه في المساجد واضربوا عليه بالدف» وفيه إيماء إلى جواز ضرب الدف في المساجد لأجل ذلك فعلى تسليمه يقاس به غيره، وأما نقل ذلك عن السلف فقد قال الولي أبو زرعة في تحريره صح عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام و ابن دقيق العيد وهما سيدا المتأخرين علماً وورعاً، ونقله بعضهم عن الشيخ أبي إسحاق الشيرازي رحمه الله تعالى وكفاك به ورعاً مجتهداً، وأما دليل الحل لما ذكر ففي البخاري أنه سمع بعض جوار يضربن بالدف وهي تقول: وفينا نبي يعلم ما في غد. فقال : «دعي هذا وقولي الذي كنت تقولين» . وفي الترمذي وابن ماجه أنه لما رجع من بعض غزواته أتته جارية سوداء فقالت: يا رسول الله إني نذرت إن ردك الله تعالى سالماً أن أضرب بين يديك بالدف، فقال لها: «إن كنت نذرت فاوف بنذرك» .
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 241(6/459)
وسئل رحمه الله تعالى عمن حصل في يده مال من حرام ثم جهل مالكه ولم يتوقع معرفته فما حكمه؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله في أصل الروضة عن العبادي و الغزالي أنه يدفعه لقاض ترضى سيرته وديانته فإن تعذر تصدق به على الفقراء بنية الغرامة له إن وجده. وفي أصل الروضة أواخر القضاء على الغائب ما لفظه، وأما ما لا يتعين له مالك وحصل اليأس من معرفته فذكر بعضهم أن له أي الحاكم أن يبيعه ويصرف ثمنه إلى المصالح وأن له حفظه، قلت هذا المحكي عن بعضهم متعين ولا يعرف خلافه اهـ. ومن ثم قال العز بن عبد السلام في قواعده ما قالوه في المال الضائع من حفظه إلى ظهور مالكه محله إن توقعت معرفته وإلا كان حينئذ مصروفاً إلى ما يصرف فيه أموال بيت المال اهـ، وبه جزم ابن سراقة في التلقين وقال في الأحياء: كل مال ضائع فقد مالكه يصرفه السلطان إلى المصالح، فعلم أن المال الضائع عند اليأس يكون كمال بيت المال وإن أوهم كلام العز ابن جماعة تغايرهما وكلامه صريح في أن محل ما مر عن الروضة وغيرها من كونه يدفعه إلى الإمام محله إن كان عادلاً أو له نائب كذلك قال وإلا سلمه لرجل عالم معروف موثوق به وأعلمه بالحال ليصرفه في مصارفه وللعالم أن يصرفه إليه إن كان ممن يجوز الصرف إليه وله هو أن يصرفه من نفسه لنفسه إن كان بهذه الصفة وهو عالم بالأحكام الشرعية اهـ. وفي فتاوى البغوي رحمه الله تعالى ما يؤيده فإنه قال: المال الضائع يصرف للمصالح فإذا وقع في يد إنسان ولم يظفر بإمام أي عادل لما مر يدفعه إليه يصرفه من هو في يده إلى نوع من المصالح وإن كان هناك أهم منه، وفي قواعد الزركشي إذا عم الحرام قطراً بحيث لا يوجد فيه الحلال إلا نادراً جاز استعمال ما يحتاج إليه ولا يقتصر على الضرورة ولا يتبسط فيه. قال ابن عبد السلام رحمه الله تعالى: والصورة أن معرفة مستحقه متوقعة وإلا فهو للمصالح لأن من جملة أموال بيت المال ما جهل مالكه اهـ.(6/460)
وسئل رحمه الله تعالى هل تقبل شهادة الحسبة في الوقف على المساجد والجهات العامة؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله: نعم تقبل بلا خلاف بخلافها في الوقف على معين ولو شهدا بأن في ذمته للمسجد شيئاً سمعت ويحمل على أنه اشترى من غلته أو وهبه له ونحو ذلك.
وسئل رحمه الله تعالى هل يحل اللعب بالطلب أو لا وهل المنقلة مثله؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه وبركته بقوله: قال الرافعي : ما كان مداره على الحزر والتخمين يحرم وما كان مداره على الحساب لا يحرم وهو ظاهر في حرمة الطلب والمنقلة التابعة له، لأن الأمر فيها معلق على ما يخرجه فقط وفي حل المنقلة المستقلة ونحوها ويوجه بأن الأول عبث ربما يترتب عليه ما يترتب على النرد فكان إلحاقه به أولى بخلاف الثاني، فإن الأمر فيه دائر على حساب ومزيد فطنة فبتكراره يحصل للنفس ذلك كما في الشطرنج فتعين إلحاقه به.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 241
وسئل رحمه الله تعالى بما صورته لعب معتقد حل الشطرنج مع معتقد تحريمه حرام بخلاف تبايع من لا تلزمه الجمعة مع من تلزمه فما الفرق بينهما؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله: قد يفرق بأن التبايع القصد منه غالباً طلب الربح وهو غرض صحيح يقصد في العادة لأكثر الناس فلم يمنع من لا تلزمه الجمعة منه ولا نظر لكونه يعين على معصية بخلاف لعب الشطرنج فإنه ليس فيه غرض يغلب في العادة تحصيله فكان دون ذلك الغرض فمنع معتقد حله من إعانة معتقد حرمته على حرام في ظنه وأيضاً فالمعصية في البيع ليست من حيث كونه بيعاً بل لأمر خارج وهو التفويت ومن لا تلزمه لم يقصده بل قصده لحصول الربح مثلاً فلم تتحقق فيه إعانة على معصية بخلاف اللعب، فإن المعصية فيه لذات الفعل الصادر منهما إذ لا يمكن وجوده إلا من اثنين فتحققت فيه الإعانة على المعصية ولم يمكن قصد أمر خارج يجوّز له الإقدام.(6/461)
وسئل رحمه الله تعالى عما عليه العمل من جواز الشهادة على المنتقبة اعتماداً على إخبار عدل أو عدلين فهل يشمل عدل الرواية أو لا؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: ينبغي أن يكتفي بعدل الرواية لأن هذا من باب الأخبار إذ ليس لنا شهادة يقبل فيها واحد إلا في هلال رمضان، ولأن الشهادة تختص بما يقع بعد دعوى صحيحة عند قاض أو محكم وليس هنا شيء من ذلك.
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ عن عبد أذنب ثم ندم وعقد توبة نصوحاً ثم أذنب ثم ندم وعقد أيضاً ثم أذنب وعقد أيضاً وهذا حاله وهو في غاية الخشية من الله سبحانه وتعالى مع علمه بأن الذنب مقدر ومحتم عليه وهو مأمور بالتوبة النصوح وقد فعل ما أمر به فكيف خلاصه من ذلك؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: مذهب أهل السنة صحة التوبة بشروطها من الذنب وإن تكرر فعلى العبد عقب فعله أن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى ويجتهد في تحقيق شروطها فإن من آفة التساهل في الشروط ميل النفس إلى العود بل سرعة عودها إلى الذنب، لأنها ذاقت حلاوته ولم تسل عليها سيوف المجاهدة والندم الحقيقي ولو حق ندمها لبعد عودها فعلى العبد الاجتهاد في تحقيق ذلك وتقريع نفسه بأن يعرض عليها المراهم الحادة من مظاهر الجلال والانتقام حتى يكسبها ذلك خشية تامة من سطوات الحق وانتقامه ويكون مع ذلك كله متضرعاً إلى الله سبحانه وتعالى في قبول توبته وغفران ذلته ورحمة حوبته فإن من أدمن قرع باب الغنى الكريم لا بد وأن يفتح له ويتفضل عليه بما لم يكن في حسابه فعليك بصدق الابتهال ودوم الذلة والخشية لتفوز من ربك بأفضل الأعمال أنه الكبير المتعال تاب الله سبحانه وتعالى علينا توبة نصوحاً بفضله وأدام علينا هواطل جوده ووابل عفوه، آمين.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 241(6/462)
وسئل رحمه الله تعالى بما لفظه رأيت منقولاً عن الخلاصة ما لفظه ولا تقبل شهادة معلم الصبيان فإن عقل ثمانين معلماً لا يساوي عقل امرأة واحدة لأنه في الأيام مع الصبيان وفي الليالي مع النسوان اهـ فهل هذا النقل صحيح ثابت فيها أو لا؟ وكيف الحكم في هذه المسألة؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: قد فتشت على هذا المذكور عن خلاصة الغزالي فلم أره فيها ولا أظنه في شيء من كتب أصحابنا لأنه إلى السفساف أقرب وكم من معلم صبيان رأيناه يستسقي به الغيث لبلوغه في النزاهة والعفة والعدالة والصلاح الغاية القصوى فإن صحت تلك المقالة بإطلاقها عن عالم تعين تأويلها على معلم ظهرت عليه أمارات الجهل أو الفسق أو الجنون كما هو كثير الآن فيمن يتعاطى هذه الحرفة التي هي أشرف الحرف بنصه سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل رحمه الله تعالى عما إذا ادعت الزوجة النكاح لثبوت المهر هل يثبت برجل وامرأتين أم لا؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه وبركته بقوله: إذا وقعت الدعوى بالمهر ثبت بما يثبت به المال حتى الشاهد واليمين.
وسئل رحمه الله تعالى عن فقيه كشف رأسه حيث لا يعتاد أو قبل زوجته بحضرة الناس مرة واحدة هل ترد شهادته أو تكون صغيرة؟. فأجاب بقوله: ترد الشهادة بخارم المروءة وإن لم يتكرر وفارق الصغيرة بأنها لا تدل على عدم المبالاة إلا إذا تكررت وحدها أو مع صغائر أخرى حتى غلبت معاصيه طاعاته، وأما خارم المروءة فإنه بالمرة الواحدة يدل على عدم المبالاة بعرضه وخرمه ومن لا يبالي بذلك لا يتوقى الزور ونحوه كالتساهل في الشهادة فردت شهادته بالمرة الواحدة لعدم الثقة بقوله حينئذ.(6/463)
وسئل رحمه الله تعالى عن الحسود إذا صدرت منه صغيرة بجوارحه بسبب الحسد الباطن الذي هو كبيرة وأقر بذلك هل ترد شهادته أم لا؟ وكذلك يسأل في الكبر؟. فأجاب نفعنا الله تعالى به بقوله: بأن كلاً من الحسد والكبر كبيرة كما بينته في كتابي الزواجر عن اقتراف الكبائر وحينئذ فكل منهما بمجرده يقتضي الفسق ورد الشهادة سواء وجدت معه معصية أخرى أم لم توجد معه معصية أبداً لأن كل ما قيل إنه كبيرة يكون بمفرده مبطلاً للعدالة وراداً للشهادة.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 241(6/464)
وسئل رحمه الله تعالى عمن زنى بحليلة أحد فهل يشترط في صحة توبته أن يستحل زوجها ما لم يخش فتنة أو مطلقاً أو لا يجب ذلك من أصله؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: ذكرت في كتابي الزواجر عن اقتراف الكبائر ما يعلم منه الجواب عن ذلك، وهو قال الزركشي رأيت في منهاج العابدين للغزالي أن الذنوب التي بين العباد إما في المال فيجب رده عند المكنة فإن عجز لفقر استحله فإن عجز عن استحلاله لغيبته أو موته وأمكن التصدق عنه فعله وإلا فليكثر من الحسنات ويرجع إلى الله سبحانه وتعالى ويتضرع إليه في أنه يرضيه عنه يوم القيامة، وأما في النفس فيمكنه أو وليه من القود فإن عجز رجع إلى الله تعالى في إرضائه عنه يوم القيامة، وأما في العرض فإن اغتبته أو شتمته أو بهته فحقك أن تكذب نفسك بين يدي من فعلت ذلك معه إن أمكنك بأن لم تخش زيادة غيظ وهيج فتنة في إظهار ذلك فإن خشيت ذلك فالرجوع إلى الله سبحانه وتعالى ليرضيه عنك، وأما في حرمه فإن خنته في أهله أو ولده أو نحوه فلا وجه للاستحلال والإظهار لأنه يولد فتنة وغيظاً بل تتضرع إلى الله سبحانه وتعالى ليرضيه عنك ويجعل له خيراً كثيراً في مقابلته فإن أمنت الفتنة والهيج وهو نادر فتستحل منه، وأما في الدين بأن كفرته أو بدعته أو ضللته فهو أصعب الأمر فتحتاج إلى تكذيب نفسك بين يدي من قلت له ذلك، وأن تستحل من صاحبك إن أمكنك وإلا فالابتهال إلى الله سبحانه وتعالى والندم على ذلك ليرضيه عنك اهـ كلام الغزالي قال لأذرعي وهو في غاية الحسن والتحقيق اهـ، وقضية ما ذكره في الحرم الشامل للزوجة والمحارم كما صرحوا به أن الزنا واللواط فيهما حق للآدمي فتتوقف التوبة منهما على استحلال أقارب المزني أو الملوط به وعلى استحلال زوج المزني بها هذا إن لم يخف فتنة وإلا فليتضرع إلى الله سبحانه وتعالى في إرضائهم عنه ويوجه ذلك بأنه لا شك أن في الزنا واللواط إلحاق عار أي عار بالأقارب وتلطيخ فراش(6/465)
الزوج فوجب استحلالهم حيث لا عذر فإن قلت ينافي ذلك جعل بعضهم من الذنوب التي لا يتعلق بها حق آدمي وطء الأجنبية فيما دون الفرج وتقبيلها من الصغائر والزنا وشرب الخمر من الكبائر وهذا صريح في أن الزنا ليس فيه حق آدمي فلا يحتاج فيه إلى استحلال، قلت هذا لا يقاوم كلام الغزالي لا سيما وقد قال الأذرعي عنه أنه في غاية الحسن والتحقيق فالعبرة بما دل عليه دون غيره على أنه يمكن الجمع بحمل الأوّل على زنا بمن لا زوج لها ولا قريب فهذه يسقط فيها الاستحلال لتعذره والثاني على من لها ذلك وأمكن الاستحلال بلا فتنة فتجب ولا تصح التوبة بدونه، وقد يجمع أيضاً بأن الزنا من حيث هو فيه حقلله إذ لا يباح بالإباحة وحق لآدمي فمن نظر إلى حق الله سبحانه وتعالى لم يوجب الاستحلال ولم ينظر إليه وهو محمل عبارة غير الغزالي، ومن نظر إلى حق الآدمي أوجب الاستحلال ويؤيده قول ابن عبد السلام فيمن أخذ مالاً في قطع الطريق هل عليه الإعلام به إن غلبنا عليه حق الله تعالى لم يجب الإعلام به وإن غلبنا في الحد حق الآدمي وجب إعلامه ليستوفيه الإمام به، ثم رأيت ابن الرفعة مثل نقلاً عن الأصحاب للمعصية التي لا حق فيها للعباد بتقبيل الأجنبية وهو يفهم أن وطأها فيه حق للعباد، وحينئذ فيوافق كلام الغزالي انتهت عبارة الزواجر وفيها الجواب الصريح عما في السؤال وزيادة وبالله تعالى التوفيق.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 241(6/466)
وسئل رحمه الله تعالى عن أمر الواعظ أو المربي لمن يتوب بقص بعض شعره أو حلق كله هل له مستنداً ولا؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: حلق الشعر سنة في النسك، وأما في غيره فإن شق تعهد الشعر فهو أفضل وإلا فالترك أفضل وعند خشية التأذي ببقائه يكون من التداوي المأمور به وحلق بعض الرأس مكروه. قال ابن عبد السلام : والغالب من أحوال الصحابة حلق الشعر وإن كان الحلق من شعار الخوارج، وأما قص الشعر فهو على وفق ما كان عليه النبي وأصحابه فإن فعل بالتائب بقصد الانتساء بهم فلا بأس أو بقصد أنه من مطلوبات التوبة فلا ولا يقاس ذلك بحلق الرأس عند الإسلام لأن شعر الكفر أقبح من شعر غيره.(6/467)
فائدة ذكر العارف سيدي يوسف العجمي أن صفة أخذ العهد على التائب أن يذكر له شروط التوبة ثم يضع باطن يده اليمنى على باطن يد التائب اليمنى، ويذكر أن التوبة لهما جميعاً لقوله سبحانه وتعالى: {وتوبوا إلى الله جميعاً} ، ويسكت الشيخ ويغمض عينيه ويخرج بقلبه من البين ويعتقد أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يتوب عليه ويرفع الشيخ صوته قائلاً: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم أستغفر الله العظيم ثلاث مرات ويقول في الأخيرة وأتوب إليه وأسأله التوبة والتوفيق لما يحب ويرضى وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً ويسكت التائب ويغمض عينيه ويقول كما يقول الشيخ، وحكى هذا رواية من طريق لبس الخرقة من الأخذ على التائب منه إلى النبي قال بعضهم والذي يفعله أهل العصر أنه بذكر له شروط التوبة ويأخذ يده في يده ويعاهده لله سبحانه وتعالى على أتباعه الطاعة واجتناب المعصية ثم يتلو عليه قوله تبارك وتعالى: {ومن نكث فإنما ينكث على نفسه} إلى آخر الآية، وهذا كله مأخوذ من بيعة الصحابة رضي الله تبارك وتعالى عنهم أجمعين اهـ، والذي أثرناه عن مشايخنا أهل الطريق أن الشيخ يذكر للمريد شروط التوبة ويحرضه عليها وعلى ملازمة الصلوات والذكر بلا إله إلا الله ليلاً بعد صلاة العشاء ساعة طويلة حتى ينام على الذكر ثم قيام الليل وصلاة أكمل الوتر ثم الذكر بعده ساعة كذلك أو إلى الفجر ثم الذكر من بعد صلاة الصبح وأذكار الصلوات إلى طلوع الشمس ثم صلاة الضحى ليمضي في أسبابه وقلبه ممتلىء بالذكر فلا تقدر الأسباب على جذبه بالكلية إليها بل تستمر معه وهو مباشر للأسباب بقية من بركة الذكر وقيام الليل إلى المساء ثم بعد أن يحرضه على جميع ذلك وعلى بر الوالدين وصلة الرحم يذكر الشيخ ثلاثاً متوالية والمريد جالس طارق بين يديه ثم يذكر المريد ثلاثاً والشيخ طارق ثم يقرأ شيء من القرآن وقد يقع في بعض الأحيان ذكر سلسلة الذكر(6/468)
وهي سلسلة الخرقة السابقة في باب اللباس المنتهية إلى الحسن البصري عن علي ـ رضى الله تعالى عنه ـ عن النبي وكان بعض مشايخنا يشير إلى اعتراض المحدثين على هذه السلسلة بنحو ما سبق ثم لا يلتفت إلى ذلك الاعتراض معتمداً على نحو ما مر ثم في رده وكان بعض مشايخنا يقرأ: {فمن نكث فإنما ينكث على نفسه} الآية.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 241
وسئل رحمه الله تعالى هل يحرم وصف الخمر الواقع في أشعار كثيرين أو لا؟. فأجاب نفعنا الله تعالى به بقوله: صرح النووي رحمه الله تعالى في المجموع بحرمة ذلك لا يقال ينافيه ما وقع في بانت سعاد التي أنشدت بين يدي النبي وشعر كثير من الصحابة من ذكر الخمر ومدحها لأنا نقول يحتمل أن تلك الأشعار الصادرة منهم كانت قبل تحريمها وبفرض وقوع شيء منها بعد التحريم فهو مذهب صحابي لم ينتشر، فإن قلت هذا ممكن في حق الصحابة فما الجواب عما وقع في كلام كثيرين من العلماء حتى الشافعية كما هو مشهور عنهم مذكور في تراجمهم، قلت الجمع بين ذلك وما قاله النووي رحمه الله تعالى بأن ما قاله في أوصاف يتبادر منها مدح خمرة الدنيا المحرمة وما وقع لهم في مدح مطلق الخمر الممكن حملها على خمر الجنة أو الخمرة المعنوية التي تطلق مجازاً أو استعارة على نحو ريق المحبوب والنشاة الحاصلة من المحبة المحمودة وغير ذلك من تصاريف البلغاء من الأئمة في أشعارهم سيما السادة الصوفية رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.(6/469)
وسئل رحمه الله تعالى بما لفظه ذكروا أن القهوة إذا أديرت على هيئة الخمر بعادة الشربة حرمت نبه عليه جماعة من اليمنيين هلا يقال يكره ذلك كما كره بعض الأئمة تسميتها قهوة لأنه من أسماء الخمر وما هيئة إدارة الخمر التي يعتادها الشربة بناء على القول بالحرمة ليجتنب ذلك حرروا لنا كيفية إدارة الخمر؟. فأجاب ما ذكروه صحيح صرح به الأصحاب في إدارة السكنجيين وغيره وكيفية تلك الإدارة على ما يتعارفها الناس اليوم لم يتحرر عندنا لأنا سألنا من شربوها وتابوا منها، فاختلف وصفهم لتلك الكيفية حتى قال بعضهم إنها تختلف باختلاف الأقاليم، وقال بعضهم إنها لا تكون إلا بقدح واحد، وقال بعضهم لا تكون غالباً إلا مع نحو رياحين ومأكل مخصوص وغناء مخصوص وآلة مطربة، وقال بعضهم لا بد مع ذلك من ساق مخصوص وكيفية لوضع إنائها الذي يفرغ منه في كاسها، وقد أشار أصحابنا رحمهم الله تعالى إلى بعض ذلك حيث قالوا إنها تكون بأقداح مع كلمات يتعارفها الشربة بينهم ويؤيد ذلك قوله تعالى: {يتنازعون فيها كأساً لا لغو فيها ولا تأثيم} . قال المفسرون بخلاف خمر الدنيا، أي فإنهم يديرون فيها الكأس على غاية من اللغو والإثم بالكلمات القبيحة المتعارفة بينهم، فإذا أديرت القهوة الحادثة الآن كهيئة إدارة الخمر حرمت إدارتها وإلا فلا أما شربها فهو جائز بشرطه سواء أديرت كذلك أم لا فتلك الكيفية التي للخمر ليست محرمة لأصل الشرب، وإنما هي محرمة لتلك الأفعال المحاكية لأفعال شربة الخمر وليس مطلق الإدارة حراماً اتفاقاً فقد أدير اللبن في حضرته على أصحابه في مسجده الشريف، وأما تسميتها قهوة فهو لا يقتضي تحريماً مطلقاً لأن الأسامي لا تقتضي تشبيهاً وتلك الإدارة إنما حرمت لاستلزامها التشبيه بالعصاة ومن تشبه بقوم فهو منهم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 241(6/470)
وسئل رحمه الله تعالى عن أخبار الرجل بطلاق فلان أو موته أو توكيله هل يقبل أو لا بد من شاهدين وهل يقبل الكتاب المجرد عن الشهادة إذا عرف أنه خط المرسل أم لا وهل يكتفي في غير القاضي بذلك أو لا؟. فأجاب بقوله: يجوز لمن أخبره عدل بذلك أن يعمل به بالنسبة لما يتعلق بنفسه فقد قالوا لو أخبر عدل امرأة بموت زوجها أو طلاقه جاز لها أن تتزوّج فيما بينها وبين الله سبحانه وتعالى وكذا خطه الموثوق به إذا حفته قرائن بأنه قصد مدلول تلك الكتابة لأن المدار على ما يغلب ظن صدق الإمارة، وأما بالنسبة لحق الغير أو لما يتعلق بالحاكم فلا يجوز اعتماد عدل ولا خط ولا غيرهما من كل ما ليس بحجة شرعية.
وسئل رحمه الله تعالى عن شخص عامي شهد على مثله بأن في ذمته لفلان المدعي كذا من الدنانير فأجاب المدعي عليه بأن الشاهد المذكور لا يعرف أركان الصلاة فهل إذا لم يعرفها يكون ذلك قدحاً في شهادته أو لا؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: إن اعتقد أن جميع ما اشتملت عليه الصلاة فرض أو البعض فرض والبعض نفل، لكنه لم يعتقد بفرض معين النفلية لم يقدح ذلك في شهادته لأنه يكتفي في صحة صلاة العامي بذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.(6/471)
وسئل رحمه الله تعالى عن شخص نقل عن الشيخ جلال الدين السيوطي رحمه الله تبارك وتعالى أنه أورد حديثاً في الجامع الصغير أن لاعب الشطرنج ملعون وأن الناظر إليه كآكل لحم الخنزير فهل الناقل لذلك مصيب أم لا؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه وبركته بقوله: نعم نقل الجلال السيوطي شكر الله تعالى سعيه في جامعه ذلك وهو قوله : « ملعون من لعب الشطرنج والناظر إليه كآكل لحم الخنزير»، وذكرت في كتابي كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع أحاديث أخر في ذلك منها: قوله : «إن لله عز وجل في كل يوم وليلة ثلثمائة وستين نظرة إلى خلقه يرحم بها عباده ليس لصاحب الشاة فيها نصيب وصاحب الشاة هو لاعب الشطرنج» . ومنها قوله : «أشد الناس عذاباً يوم القيامة صاحب الشاه ، وقوله : «لا يلعب بها، أي الشطرنج، الإجبار والجبار في النار لا يوقر فيه الكبير ولا يرحم فيه الصغير» ، وقوله: «من لعب بالشطرنج فقد عصى الله ورسوله من لعب بالشطرنج فقد قارف شركاً ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء» ، وقوله: «الشطرنج ملعونة ملعون من لعب بها» ، وقوله: «الناظر إلى من يلعب بالشطرنج كالغامس يده في لحم خنزير» . ومنها أنه مر بقوم يلعبون بالشطرنج فقال: «ما هذه الكوبة ألم أنه عنها لعن الله من يلعب بها» ، وفي رواية: لعنة الله على من يلعب بها، ومنها قوله : «نفر من أمتي لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم المانعون الزكاة والنائمون عن العتمات والمتلذذون بالقهوات واللاعبون بالسامات والضاربون بالكوبات» الحديث. وقوله : «يغفر ليلة النصف من شعبان لكل متكبر إلا صاحب الشاه، يعني الشطرنج» ، والأحاديث والآثار في ذم لاعبها كثيرة بينتها مع سندها وسند تلك الأحاديث وما قاله الناس فيها في كتابي المذكور ثم هذه الأحاديث مؤيدة لقول كثيرين من العلماء بحرمة الشطرنج مطلقاً وحملها أئمتنا على ما إذا اقترن بلعبها نحو قمار أو إخراج صلاة عن وقتها أو شتم أو(6/472)
إيذاء، وأما إذا خلت عن ذلك كله فهي مكروهة ومع ذلك ينبغي اجتنابها، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 241
وسئل رحمه الله تعالى عن شخص عنده شعرة من شعر النبي على ما قيل واستمرت عنده يزورها الناس في بيته فتوفي وخلف ولدين ذكرين أحدهما يسمى محمداً والثاني يسمى عمر، فاستمرت في محلها فإذا جاء من يزورها وكان محمد حاضراً فتح الصندوق عنها وزوّرهم وإن كان غائباً فتح أخوه عمر وزوّرهم فتولع محمد بالإقامة في الحجاز كل قليل عند سيدنا عبد الله بن العباس ـ رضى الله تعالى عنه ـ ما وتزوّج هناك واستمرت في محلها كل من رام زيارتها فأخوه عمر يزوّره وإن تعذر حضوره أو كان الزائر نساء فإحدى بناته تفتح وتزوّرهم فتوفي محمد وخلف ولداً ذكراً واستمرت تحت يد عمه عمر في محلها وكل من رام زيارتها يزوره وإن تعذر حضوره فإحدى بناته تفتح وتزوره وما يحصل من الفتوح يقسم بين الأخوين في حياة محمد وبعد موته يقسم بين ابنه وأخيه عمر فتوفي عمر أيضاً عن بنات فهل يختص بالشعرة وخدمتها ولد محمد أو يكون هو وبنات عمه في الاختصاص والخدمة سواء وهل إذا طلبوا قسمتها لهم ذلك كما فعل ذلك بعض جدودهم وقسموها أم لا؟. فأجاب نفع الله تعالى بعلومه بقوله: هذه الشعرة الشريفة لا تورث ولا تملك ولا تقبل قسمة فالمذكورون مستوون في الاختصاص بها والخدمة لها لا تمييز لأحدهم على أحد، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 241(6/473)
باب الدعوى والبينات
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل ادعى أني أستحق الشرب من هذه البئر لأرضى وأقام عليه بينة فهل تسمع هذه الدعوى أم لا تسمع حتى يذكر قدر الشرب وإذا ادّعى أني أمر في هذا الموضع أو أني سقيت من البئر فهل تسمع هذه الدعوى أو لا بد من ذكر الاستحقاق؟. فأجاب نفع الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: إن الذي يظهر من كلامهم أن دعوى استحقاق الشرب من بئر كذا لا يشترط في صحتها بيان قدر الشرب لأنه متعذر لأن الأرض إذا استحقت شرباً من أرض لا تضبط إلا بالكفاية وهي تختلف باختلاف الزمن والمزروع في تلك الأرض وبقلة ماء البئر وكثرتها فاقتضت الضرورة سماع الدعوى بذلك مع عدم بيان قدره قياساً على المسائل التي استثنوها من اشتراط العلم بالدعوى بل مسألتنا أولى من كثير من المسائل كما يعرف بتأملها، ويؤيد ذلك قولهم ومما يغتفر فيه الجهل بالدعوى دعوى أن له طريقاً أو حق إجراء الماء في ملك فلان وحده ولم ينحصر حقه في جهة منه فإن انحصر وجب بيان حقه، وعلى هذا حمل إطلاق الثقفي الوجوب وعلى الأول حمل إطلاق الهروي عدم الوجوب ولا تسمع دعواه أنه يمر في هذه أو يسقي من هذه لأنه قد يكون متعدياً بذلك بل لا بد من ذكر الاستحقاق أو نحوه.(6/474)
وسئل رحمه الله تعالى إذا ادعى رجل على آخر أن هذه العين استحقها وقال المدعي عليه ملكي أو ملكي ورثتها من أبي ولم يجد المدعي بينة فهل يكفي قوله بيمينه أنها ملكه أم لا بد من نفي الاستحقاق وإذا ادعى أن مورثك باعني هذا الموضع أو وهبنيه فهل يحلف الوارث على البت أم على النفي حيث كانت الدعوى على الميت أوضحوا لنا الجواب؟. فأجاب نفع الله تعالى بعلومه المسلمين بأنه إذا قال أستحق العين إجارة أو نحوه لم يكف في جوابه أنها ملكه لأنه لا ينافي الدعوى وإن قال أستحقها ملكاً كفاه في الجواب ذلك وإن أطلق استفصل عن سبب استحقاقه ولم يقنع منه بإطلاق الاستحقاق لأن له حينئذ بيانات يختلف حكمها فوجب تعيين المراد منها والوارث مخير فيما ذكر بين أن يحلف على البت أو على نفي العلم، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل عن رجل ادعى على آخر أنك قررت أن ليس لي عندك شيء أو أنك صالحتني على كذا أو أنك بعتني ذا بكذا أو أنك أقررت أن لي عندك كذا فقال المدعى عليه بعتك مكرهاً أو صالحتك مكرهاً ونحو ذلك مما في السؤال وأقام على الإكراه بينة فهل يجب على الحاكم أو المحكم أن يستفصل الشهود على الإكراه وهل على الشهود أن يبينوا الإكراه أو لا يجب على الشهود ولا على الحاكم أو على المحكم أن يفصل وحيث كان أهل البلد منهم من يعرف حد الإكراه وأكثرهم لا يعرف حد الإكراه فهل تقبل شهادتهم به مجملة؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: لا بد في الشهادة بالإكراه من التفصيل سواء أكان الشاهد من بلد يعرفون حد الإكراه أم لا لاختلاف العلماء قديماً وحديثاً في ضابطه فوجب بيان الواقع منه للحاكم حتى ينظر فيه هل هو مطابق للإكراه شرعاً أم لا بل الذي يتجه أنه لا يكتفي هنا بالإطلاق ولو من الفقيه الموافق لما أشرت إليه من كثرة اختلاف المتقدمين في حده واختلافه باختلاف الأبواب، والله سبحانه وتعالى أعلم.(6/475)
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 362
وسئل رحمه الله تعالى عن صغيرة مات أبوها وعمرها نحو ست سنين فرفع رجل أمرها إلى قاض حنفي فزوّجه بها مع كونه غير كفء لها ثم أثبت آخر أن أباها زوجه بها بين يدي قاض حنفي فأبطل العقد الأول ثم ادعى صاحبه أن أباها زوّجه بها قبل العقد الثاني فهل تسمع دعواه وبينته أو لا؟. فأجاب بقوله: الذي نقله الشيخان في الروضة وأصلها عن القفال وأقراه بل صوّبه في الروضة أن الزوج لو قال للولي زوجنيها كان إقراراً بالطلاق وصريحاً فيه وحينئذ فقول الزوج الأول للقاضي بعد موت أبي الصغيرة زوجها لي يكون إقراراً منه بزوال نكاحه الأول وإن كان كفؤاً لها ويؤيد ذلك قبوله التزيج الثاني من القاضي. ففي الأنوار لو تزوّج بمطلقته ثلاثاً بعد إمكان التحليل ثم مات وادعى وارثه أنها لم تتحلل فلم يصح نكاحه فلا ترث منه لم تسمع دعواه لأن إقدام مورثه على التزوج إقرار منه بوقوع التحليل اهـ فكذلك إقدام هذا على النكاح الثاني إقرار منه برفع النكاح الأول إذا تقرر ذلك علم أن المعتد به من العقود الثلاثة هو العقد الثاني، وأما الثالث فباطل لسبق الثاني له، وأما الأول فبالإقدام على الثالث، وسؤال القاضي الذي هو المولى فيه متضمن للإقرار برفعه فوجب العمل بالعقد الثاني وحده.(6/476)
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل ادعى على آخر أني أودعتك عشرة دراهم مثلاً فقال المدعى عليه قد تلفت ولم يذكر شيئاً فهل يجب على الحاكم أن يسأله عن السبب أم لا يجب بل يقتصر في دعواه على التلف، وقد اختلف مفتيان في هذه المسألة فقال أحدهما يكفي إطلاق الدعوى بالتلف كما ذكره النووي رحمه الله تعالى في المنهاج وغير ذلك، وقال الثاني لا يكفي الاقتصار في الدعوى على التلف بل لا بد من ذكر سبب التلف حتى ينظر الحاكم في ذلك وهذا إذا كان المودع لا يعرف ما يضمن به من السبب وما لا يضمن فما هو الصواب عندكم من ذلك؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه: بأن الصواب مع المفتي الأوّل القائل بأن ذكر سبب التلف لا يجب وما قاله الثاني خطأ مردود عليه بل غير الأمين كالغاصب لو ادعى التلف قبل قوله بيمينه ولا يلزمه بيان سبب التلف فالأمين كذلك من باب أولى ولا نظر إلى ما ذكره الثاني سواء أكا الوديع يعرف السبب الذي يكون التلف به مضمناً أم لا؟ لأن المودع بسبيل من أن يعين السبب الذي يقتضي الضمان ويحلفه عليه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 362(6/477)
وسئل رحمه الله تعالى عن عين في يد رجل مدة طويلة يتصرف فيها تصرف الملاك ثم ادعى عليه رجل آخر أنها رهن تحت يده وأنه أقر أنها رهن تحت يده وأن المدعي أحضر المبلغ وادعى رجل آخر أن العين ملكه وأن ذا اليد غصبها وأقر بغصبها وادعى صاحب اليد أنها ملكه مدة مديدة وأقام كل منهما بينة فأيتهما تقدم وحيث أقام الراهن بينة أنها مرهونة عند صاحب اليد وأنه أقر برهنها عنده وأنه عاجز عن الغصب، وأن المدعي قادر على الامتناع وإذا أقام مدعي الغصب بينة أنها ملكه وأن ذا اليد غصبها وأنه قوى على الغصب فأي البينتين تقدم؟. فأجاب نفع الله سبحانه وتعالى بعلومه المسلمين: إذا شهدت بينة بأنها ملك مدعي الغصب وأن ذا اليد غصبها منه أو شهدت واحدة بأنه أقر أنه رهن هذه لفلان وأخرى بأنه أقر أنه نهبها من فلان كان البينتان متعارضتين فيتساقطان وتبقى العين في يد من هي تحت يده، أما إذا شهدت الأولى بمجرد الرهن والثانية بملك مدعي الغصب وأن ذا اليد غصبها منه فتقدم الثانية لأن معها زيادة علم ولا نظر فيما ذكر إلى أن مدعي الغصب قادر على دفع الغاصب أو لا ولو شهدت الأولى بملك مدعي الرهن وبأنه رهنها تحت ذي اليد والثانية بمجرد الغصب قدمت الأولى وحكم بها لأن معها زيادة علم هذا هو الذي يظهر في هذه المسألة والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل رحمه الله تعالى عن عين تحت يد رجل يتصرف فيها مدة مديدة ادعى رجل آخر أنها له خلفها له مورثه وادعى صاحب اليد أنها ملكه خلفها أبوه له فأي البينتين تقدم؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه: بأن بينة اليد الشاهدة بأنها ملكه مقدمة على بينة الخارج مطلقاً.(6/478)
وسئل رحمه الله تعالى عما إذا حضر المدعي والمدعى عليه فادعى الأوّل دعوى غير صحيحة يعلم منها الفقيه وغيره المراد فهل للقاضي الإقدام على الفصل بهذه وإلزام المدعى عليه بالجواب فإنا لو كلفناهم تحرير الدعوى لأدى إلى حرج؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه: بأن عدم صحة الدعوى إن كان لاختلال شرط من شروطها لم يجز للقاضي إلزام المدعى عليه بالجواب عنها بل يسكت أو يقول للمدعي صحح دعواك أو وكل من يصححها وإن كان لاختلال شيء آخر ليس من شروطها كلحن يغير المعنى لكن يعلم المراد منه فلا عبرة به، ويجب عليه إلزام المدعى عليه بالجواب، وقد صرح أصحابنا رحمهم الله تعالى بما ذكرته ثانياً فقالوا لا يجوز للحاكم أن يعلم المدعي كيفية الدعوى ولا أن يعلم الشاهد كيفية الشهادة لكن لو تعدى وعلم أحدهما ذلك فادعى المدعي وأدى الشاهد بتعليمه اعتد بذلك على ما بحثه بعض المتأخرين ومما يدل عليه ما ذكرته ثانياً فقالوا لو قال من لا يعرف العربية لزوجته أنت طالق إن دخلت الدار بفتح أن لم تطلق إلا بالدخول وإن كان وضع لفظه أنها تطلق في الحال، لأن العامة لا يفرقون في مثل ذلك بين إن وأن، ومن ثم ذكر جمع متأخرون وغيرهم أنه لو قال العامي زوّجتك أو أنكحتك أو بعتك بفتح التاء أو ضمها أو أتى بلحن آخر يغير المعنى لم يضر لأنه لا يهتدي لمدلولات الألفاظ فسومح فيها فكذا يقال بنظيره هنا وقول السائل نفع الله تعالى به لو كلفناهم تحرير الدعوى لأدى ذلك إلى حرج يجاب عنه بأنه لا حرج في ذلك لسهولة رجوعه إلى من يعرف ذلك فيعلمه أو توكيله من يعرف ذلك ليدعي به، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 362(6/479)
وسئل رحمه الله تعالى عن ولي محاجير ساكن هو وإياهم في محل واحد وفي المحل المذكور صندوق مقفل وفيه أمتعة ومفتاح القفل بيد المحاجير فكسر الولي الصندوق المذكور وأخرج ما فيه من الأمتعة وادعى أنها ملكه فمنعه المحاجير من الاستيلاء عليها وادعوا أيضاً أنها ملكهم فهل يثبت الملك لهم دونه أو عكسه أو يقال إنه للولي ولهم لوجوده في ملكه وهل وجود المفتاح في أيديهم دونه قرينة دالة على ملكهم له؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه وبركته بأن ذلك يحتاج لمقدمة وهي أن الشيخين رحمهما الله تعالى قالا ما حاصله: لو اختلف الزوجان حال الزوجية أو بعد زوالها أو وارثاهما أو وارث أحدهما والآخر في متاع البيت الصالح لهما أو لأحدهما فإن كان لأحدهما بينة قضى بها وإن لم تكن بينة فما اختص أحدهما باليد عليه حساً أي بطريق المشاهدة والعيان أو حكما بأن كان في ملكه المختص باليد عليه دون صاحبه سواء كان ملكه حقيقة أو لا، فالقول قوله بيمينه وما كان في يدهما حساً أو في البيت الذي يسكنانه فلكل واحد تحليف الآخر فإن حلفا جعل بينهما وإن حلف أحدهما فقط قضى له به اهـ. قال الأذرعي رحمه الله تعالى: ولا خلاف في هذا عندنا، والمراد بالبيت المنزل والمسكن سواء الدار والبيت المفرد منها إذا لم يكن لهما يد على غيره منها قال جمع متقدمون وتبعهم الأذرعي رحمه الله تعالى و الزركشي وسواء في المسكون لهما المملوكة لهما أو لأحدهما والمستعارة والمغصوبة ونحوها. قال ا لأذرعي رحمه الله تعالى: والغرض أن تكون يد كل منهما على ما تحويه الدار من المتاع وحكم التنازع فيما يسكنانه حكم المتاع الذي به قال الأذرعي رحمه الله تعالى ثم الظاهر أن ما أطلقوه في المتاع من أثاث وغيره محله إذا استند ليدهما الحكمية على السواء، أما لو اختص أحدهما بالدار وكان ببعض بيوتها متاع محرز عن الآخر ومفتاح الحرز وإقفاله بيده دون يد صاحبه فاليد على ما فيه لمالكه ونحوه دون الآخر فتأمله(6/480)
اهـ، وتبعه الزركشي رحمه الله تعالى على هذا البحث فقال: ينبغي أن يكون ما هنا فيما إذا كانت يدهما الحكمية عليه سواء، أما ما اختص بموضع محرز يقفل مفتاحه بيد مالك البيت دون غيره فاليد على ما فيه لمالكه. وقال القاضي : لو تنازعا في عمارة دار وتقارا على أن أصل الدار لأحدهما فالقول قول صاحب العرصة لأن العمارة تبع اهـ وكلامهما صريح في أن كون المفتاح بيد أحدهما لا يكون قاضياً بأن اليد له إلا إذا كان المحل الذي فيه الأمتعة ملكاً لمن مفتاحه بيده فلو سكنا داراً مملوكة لأحدهما وفي مخزن منها أمتعة والمفتاح بيد غير المالك لم تكن اليد عليها لمن المفتاح بيده لأنه عارض ما بيده من المفتاح ما هو أقوى منه وهو كون من ليس بيده مفتاح مالكاً لذلك المخزن الذي فيه الأمتعة وعند هذه المعارضة يتجه أن تلك الأمتعة تكون بيدهما، لأن تلك المعارضة صيرت لا يد لأحدهما عليه بخصوصها وإذا انتفت خصوصية أحدهما به كان في يدهما بحكم كونهما ساكنين فيها على حد سواء. قال
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 362(6/481)
الأذرعي رحمه الله تعالى: قال الشيخ إبراهيم المروزي رحمه الله تعالى بعد ذكره ما سبق في الزوجين وهكذا أخ وأخت تنازعا في متاع البيت الذي يسكنانه وكذلك الأجنبي والأجنبية أو الطفل والبالغ يسكنان داراً واحدة فما فيها لهما بحكم اليد اهـ، وهو من كلام شيخه القاضي الحسين رحمه الله تعالى في التعليق. قال القاضي رحمه الله تعالى وإذا وقعت المنازعة قام ولي الطفل مقامه في المنازعة ورأيت في روضة الحكام: ولا تثبت اليد قبل البلوغ بأن كان يسكن داراً مع أبيه يسكن بسكنه وينتقل بانتقاله فلا يد له وإن لم يكن تابعاً بأن كان مع أجنبي فاليد تثبت للصغير أيضاً وعن بعضهم أنه إذا كان الصغير مع من ليس بولي فاليد تثبت له أيضاً وإن كان ولياً عن وصاية أو نصب حاكم، ففي ثبوت اليد له وجهان اهـ، وهل الحكم كذلك لو كانا رقيقين لسيدين أو أحدهما رقيقاً ويكون للسيدين أو لأحدهما مع الحر الساكن اهـ كلام الأذرعي رحمه الله تعالى، وإذا تأملت إطلاق المروزي رحمه الله تعالى في الطفل والبالغ وإطلاق قول شريح كما يثبت للبالغ وجدته قاضياً بأن للطفل يداً حتى مع وليه مطلقاً سواء الأب وغيره، وبأن ما حكاه شريح عن بعض الأصحاب من التفصيل مقالة لكنها ظاهرة المعنى فليخص بها ذلك الإطلاق، وعليه يدل كلام القاضي رحمه الله تعالى الذي هو أصل كلام المروزي رحمه الله تعالى فإنه لم يفرضه إلا في الطفل مع غير الولي بدليل قوله قام وليه مقامه في المنازعة، ثم رأيت ما يأتي عن الأذرعي رحمه الله تعالى عقب كلام ابن عبد السلام رحمه الله تعالى وهو يوافق ما رجحته والذي يتجه من تردد الأذرعي رحمه الله تعالى في الرقيق أنه لا يد له مع الحر لأنه لا يتصوّر له ملك ونيابة يده عن يد سيده مع أن معها يداً أقوى منها بل لا نسبة بينهما غير مفيدة جداً بخلافه مع مثله، فإن الذي يتجه فيه أيضاً أن اليد لسيديهما لأنه لما لم تصلح يد واحد منهما اضطررنا إلى تقدير يد السيدين(6/482)
حينئذ. قال الأذرعي رحمه الله تعالى أيضاً ليس في كلام الرافعي رحمه الله تعالى بيان ما يحلف عليه كل منهما. وقال الماوردي رحمه الله تعالى: يحلف كل منهما على نصفه لأنه حالف على ما في يده دون ما في يد الآخر، ثم قال: وهذه المسألة مما تعم به البلوى ولا سيما بين أحد الزوجين ورثة الآخر، وفي القلب من بعض صورها حزازات ومذاهب الناس مضطربة ولينظر في قول الأئمة فإن كانت اليد لأحدهما حساً فالقول قوله بيمينه هل المراد كون اليد عليه حالة المنازعة فقط أو أعم من ذلك حتى لو اعترف أحدهما باحتواء يده عليه بمفرده فيما سلف وقامت بينة بذلك أو رأيناه لابساً كذا في زمن سابق على المنازعة هل يقضي بانفراده باليد وكذا ركوب الدواب وغير ذلك الظاهر نعم ولم أر فيه تصريحاً أو يفرق بين أن يصرح الخصم أو البينة بطول مدة اليد أو لا حتى تكفي رؤية ذلك مرة واحدة أو يوماً مثلاً هذا محل نظر وتأمل اهـ، والذي يتجه وعليه يدل كلامهم في صور أن الاعتبار بوضع اليد عليه حالة المنازعة ما لم يثبت ببينة أو بإقرار الخصم أن يد أحدهما كانت منفردة به في زمن قبل ذلك ولو مرة لأن الأصل في اليد أنها تدل على الملك فإذا انفردت في الزمن السابق دلت على رفع يد الآخر بخلاف ما لو جاءا واضعين يدهما عليه ولم يثبت لأحدهما عليه في الزمن السابق يد فإنه لا مرجح لأحدهما على الآخر فاشتركا فيه على السواء وإن كان ما تحت يد أحدهما أكثر، ومن ثم قال
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 362(6/483)
الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ في الأم: لو تداعيا عمامة في يد أحدهما قدر ذراع منها وباقيها في يد الآخر فهي بينهما نصفين لأنها في يدهما كما لو تنازعا دارا أحدهما جالس في صدرها والآخر في صحنها ودهليزها. قال الماوردي رحمه الله تعالى: وهكذا لو كان أحدهما على سطحها والآخر في سفلها كانا عندنا في اليد سواء، سواء أكان السطح محجراً أم لا؟ وقال الماوردي أيضاً: ولو تنازعا في ظرف ويد أحدهما عليه ويد الآخر على المتاع اختص كل واحد باليد على ما في يده ولا تكون اليد على الظرف يداً على المتاع ولا العكس لانفصال أحدهما عن الآخر، ويجوز أن يكون المتاع لواحد والظرف لآخر قال ولو تنازعا عبدا ويد أحدهما على ثوبه ويد الآخر على العبد كانت اليد على العبد يداً على الثوب والعبد اهـ ولو تنازعا ثوباً أحدهما لابسه والآخر آخذ بكمه فاليد للابس كما قاله شريح رحمه الله تعالى، وكلام الماوردي يقتضي الجزم به ومن ثم جزم به في الأنوار وحكاية وجه فيه ردها الأذرعي رحمه الله تعالى بكمال يده وتصرفه قال: وإلا لاتخذ ذلك الفجرة ذريعة في الاشتراك في اليد اهـ، ثم رأيت ما رجحته من تردده السابق منقولاً لكن بزيادة قيد لا بد منه وهو قولهم لو ادعى اليد في شيء وشهدت بينة بأنه كان في يده أمس لم تسمع إلا إن تعرضت لزيادة بأن قالت كان في يده فأخذه المدعى عليه منة أو غصبه أو قهره عليه أو بعث العبد في شغل أو أيق منه فاعترضه هذا فأخذه منه فإن البينة تسمع حينئذ اهـ، واعلم أن ابن عبد السلام سئل عمن مات وبمنزله المملوك أو المستأجر له أمتعة وأموال وجماعة كانوا ساكنين مع الميت منهم زوجته وولده الكبير وغلام أجنبي فادعى كل منهم شيئاً ولا بينة هناك وطالب آخرون الوصي على الأطفال بودائع وكل من المذكورين يشهد للآخر فهل يكفي يمين كل على ما يدعيه أو لا بد من بينة وهل يقبل إقرار بعضهم بأن هذه وديعة فلان، فأجاب بقوله إذا كانت أيديهم على ذلك فإن أقروا(6/484)
بشيء لبعضهم أو غيرهم قبل إقرارهم فإن اختلفوا حلفوا وجعل بينهم بالسوية ولا يقبل قول الوصي وتقبل شهادته بشرطها ومن شهد من أرباب الأيدي قبل قوله في قدر نصيبه ولا يقبل قوله في نصيب غيره حتى تثبت عدالته اهـ. قال الأذرعي رحمه الله تعالى وقبول قوله في قدر نصيبه محمول على ما إذا كان ممن يصح إقراره لا السفيه وموضع جعله بينهم بالسوية منزل على ما يدعون اختصاصهم به من ذلك ويدهم ثابتة عليه وهم أهل للتصادق، ومعلوم أن إقرار الكامل لا يقبل في حق الناقص منهم وأفاد الشيخ رحمه الله تعالى أن يد الولد الكبير العاقل المساكن لأبويه في المنزل مشاركة لأيديهما على ما فيه، والظاهر أن يد الولد الصغير ليست كذلك ويكون تبعاً لهما ولا عبرة بيده الحكمية لكن سبق أنه لا فرق بين أن يكون أحد الزوجين كبيراً أو صغيراً وقد يفرق بالتبعية وهل البالغ السفيه مع الأب كالرشيد فيه وقفة وهذا إذا لم يعهد له ولا للصغير مال أو متاع، وأما الغلام الأجنبي ففي النفس من إلحاقه بالولد الكامل شيء في غير ما في يده حساً وإن تقدم ما يقتضي التسوية هناك اهـ كلام
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 362(6/485)
الأذرعي رحمه الله تعالى وقوله وقبول قوله الخ، صريح في أن كلام الشيخ رحمه الله تعالى شامل للبالغ السفيه والرشيد وكذلك قوله وأفاد الشيخ رحمه الله تعالى أن يد الولد الكبير العاقل الخ، فاشترط البلوغ والعقل دون الرشد، وأما توقفه في ذلك بقوله وهل البالغ السفيه مع الأب كالرشيد الخ فليس ذلك التوقف على إطلاقه بل محله كما أفاده قوله وهذا الخ في سفيه لم يعهد له مال ولا أمتعة وهذا التوقف بقيده المذكور وإن كان له وجه لكن ما أفاده كلامه أولاً كالشيخ وغيره من أنه لا فرق هو الأوجه وذلك لأن السفيه يستقل عن وليه بتحصيل الأملاك في صور منها نحو الاحتطاب، ومنها قبول الهبة والوصية، وقد رجح جمع متأخرون ك ابن الرفعة ومن تبعه صحة قبضه ما وهب له وإن لم يأذن له فيه الولي فحينئذ ساوى السفيه الرشيد في ذلك وكما لم يشترطوا في مشاركة الرشيد لأبيه في اليد أن يعهد له مال أو متاع كذلك لا يشترط ذلك في السفيه بل الذي ينبغي أنه لا يشترط ذلك في الصغير أيضاً بناء على إطلاقهم السابق أن له يداً حتى مع أبيه لكن سبق أن المعتمد خلافه وفارق السفيه بأن الصبي ليس له استقلال بقول ولا فعل مطلقاً بخلاف السفيه فإنه يستقل عن وليه بأقوال وأفعال تنفذ منه بغير إذنه فكانت التبعية في الصبي حقيقة متمحضة كما تقرر، وحينئذ لا يلزم من إثبات يد السفيه مع أبيه وغيره إثبات يد للصبي كذلك لما تقرر من الفرق الواضح بينهما وبان بما تقرر الجواب عن توقف الأذرعي فيه واتضح ما أفهمه كلام الشيخ وغيره من أن السفيه مع أبيه كالرشيد سواء أعهد له أمتعة ومال أم لا؟ وأما توقفه فيما ذكره الشيخ رحمه الله تعالى في الغلام الأجنبي فعلم الجواب عنه مما قررته في السفيه بل أولى وقد مر عن المروزي رحمه الله تعالى التصريح فيه بما صرح به الشيخ فهو المنقول المعتمد، وقوله لكن سبق أنه لا فرق بين أن يكون أحد الزوجين ظاهر جلي فعليه لا فرق فيما مر من أن المتاع يكون بينهما(6/486)
بين أن يكونا صغيرين أو كبيرين أو أحدهما صغيراً والآخر كبيراً لأن كلاً مستقل عن الآخر ليس تابعاً له من حيث اليد والولاية بخلاف الصغير مع وليه إذا تأملت جميع ما قررته في هذه المقدمة المهمة علمت منه جواب السؤال وهو أن أولئك المحاجير الساكنين مع أبيهم في محل الصندوق المذكور إن كانوا صغاراً فلا يد لهم معه بل تكون اليد له الصندوق وما فيه إن وجدت فيه شروط الولاية عليهم وإلا فهو بينه وبينهم، لأن الولاية إذا انتفت صار معهم كأجنبي وقد مر لك أن الصغير مع الأجنبي له يد ومشاركة في اليد وإن كانوا سفهاء كانت اليد على الصندوق وما فيه له ولهم لما تقرر من أنه في المحل الساكن هو وإياهم فيه، وقد علمت أن ما وجد بمحل ساكن فيه جمع بحق أو باطل كما أشاروا إليه بقولهم السابق أوّل المقدمة أو غصباً تكون اليد عليه للجميع سواء صلح للكل أم بعضهم وإذا كانت اليد للجميع فإن حلف كل على ما يخصه بالنسبة لتوزيعه على رؤوسهم قسم بينهم كذلك وإن حلف بعضهم ونكل بعضهم قضى به لمن حلف على حسب رؤوسهم أيضاً، وأما وجود المفتاح في أيديهم فلا يقتضي أن اليد لهم دون الولي لما مر من أن شرط ذلك أن يكون الظرف ملكاً لمن المفتاح في يده فإن كان الظرف ملكاً فاليد في المتاع بينهم كما مر، وإن كان الظرف الذي هو الصندوق ملكاً لهم ومفتاحه بيده فاليد لهم وحدهم ولا شيء للولي فيه هذا كله في اليد الحكمية بأن كان الصندوق بسكن الجميع حتى تداعوا فيه أما إذا كان هناك يد حسية بأن جاءوا إلى القاضي وهو في يد أحدهم وادعى أنه له دونهم ولم يثبت بإقراره ولا ببينة أنه كان بيدهم وأن من هو بيده الآن استولى عليه غصباً فاليد فيه لمن هو بيده فيحلف ويستحقه بخلاف ما إذا ثبت ما ذكر فإنه لا عبرة حينئذ بانفراده باليد لترتبها بغير حق، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 362(6/487)
وسئل رحمه الله تعالى عمن ادعى في تركة ميت بلفظ أني أستحق في تركة مورثك كذا أو بغيره دعوى مجردة ولم يقم بينة وأراد تحليف الوارث هل تكون يمينه في الصورة الأولى على البت وفي غيرها على نفي العلم أم لا؟. فأجاب نفع الله تعالى ببركته وعلومه المسلمين بأن في هذه المسألة تفصيلاً وهو أنه تارة يريد تحليفه على عدم حصول التركة في يده فيحلف على البت أو على الموت والدين فيحلف على نفي العلم سواء أكانت دعواه بلفظ استحق في تركة مورثك كذا أو بغيره فقد قالوا إن الحلف يكون على البت في الإثبات والنفي إلا على نفي فعل الغير كأبرأني مورثك فلا بد أن يذكر الدين وصفته وموت المدين وحصول التركة بيد وارثه وأنه عالم بدينه على مورثه فيحلف في الموت والدين على نفي العلم وفي عدم حصول التركة بيده على البت ولو أنكر كلاً من الدين والتركة فللمدعي أن يحلفه مع حلفها على عدم حصولها بيده على نفي العلم بالدين لأن له غرضاً في إثبات الدين وإن لم يكن عند الوارث شيء فلعله يظفر بوديعة أو دين للميت فيأخذ منه حقه اهـ فافهم قولهم فيحلف في الدين على نفي العلم أنه لا فرق بين أن تكون الدعوى به بلفظ أستحق أو يغيره وأي فرق بين أستحق في تركة مورثك كذا أولى على مورثك أو عنده كذا نعم ذكر الأرزق رحمه الله تعالى في نفائسه أن اليمين قد تكون على البت حيث قال إذا وجبت اليمين على شخص حلف على البت في فعله وكذا فعل غيره إن كان إثباتاً وإن كان نفياً فعلى نفي العلم فيقول لا أعلم لك على مورثي ديناً فإن أراد حيلة تكون اليمين على الجزم فيقول يلزمك أن تسلم إليّ من تركة والدك كذا فيجب أن تكون اليمين على الجزم ذكره في البسيط في نظيرها من الخلع اهـ وبه يعلم أنه لو قال أستحق في تركة مورثك كذا فيلزمك تسليمه إلى حلف حينئذ على البت فيقول والله لا يلزمني تسليم ذلك إليك ويوافقه ما في فتاوى الأصبحي من أنه لو ادعى أرضاً في يد آخر فقال من هي في يده هي أرضي(6/488)
ورثتها من أبي فيقول المدعي بل ملكي وطلب يمين المدعى عليه على البت وامتنع أن يحلف إلا على نفي العلم فما الحكم الذي صرح به الأئمة ـ رضى الله تعالى عنه ـ م، فأجاب بما حاصله: أن كيفية اليمين هنا على نفي الاستحقاق اتفاقاً اهـ، ويوافق ذلك ما في الجواهر وغيرها من أنه لو ادعى على إنسان عيناً أو ديناً فأنكر وحلف ثم مات المدعى عليه فهل له تحليف وارثه ثانياً وجهان أصحهما نعم وتحليفه على نفي استحقاق تسليم العين ونفي العلم بالدين وكذا له تحليف وارث الوارث اهـ، وبما تقرر يعلم أنه حيث أسند المدعي به إلى الميت كاستحق على مورثك أو في تركته أو عنده كذا حلف الوارث على نفي العلم به وحيث أسنده إلى الوارث كيلزمك تسليم هذا إليّ وهذا ملكي أو أستحقه حلف على البت فيقول لا يلزمني تسليمه إليك أو لا تملكه أو لا تستحقه ثم رأيت
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 362
البلقيني رحمه الله تعالى صرح بما يؤيد ذلك فقال في حواشي الروضة والاختصار المعتبران يقال يحلف على البت في كل عين إلا فيما يتعلق بالوارث فيما ينفيه وكذلك العاقلة بناء على أن الوجوب لاقى القاتل اهـ، وهذا أحسن من إطلاق الشيخين رحمهما الله تعالى كالبندنيجي وغيره أن الضابط في ذلك أن يقال كل يمين فهي على البت إلا على نفي فعل الغير وفي الروضة آخر الدعاوى أن النفي المحصور كالإثبات في إمكان الإحالة به. قال الزركشي رحمه الله تعالى فعلى هذا يحلف في مثله على البت وإن كان نفي فعل الغير كما تجوز الشهادة به، وقد يحلف على البت في موجود لا ينسب لفعله ولا لفعل غيره كأن يقول لزوجته إن كان هذا الطائر غراباً فأنت طالق فطار ولم يعرف فادعت أنه غراب، وأنكر فيحلف على البت على أنه ليس بغراب كما قاله الإمام، والله سبحانه وتعالى أعلم.(6/489)
وسئل رحمه الله تعالى عما لو ادعى زيد على عمرو أنه أقر أنه باعه ثانياً بألف وأشهد على ذلك وأقام عمرو بينة أن زيداً مقر أنه اشترى هذه العين بألفين وشهود عمرو على لفظ الشراء فمن ترجح بينته؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه: بأن البينتين المذكورتين في السؤال يقبل قولهما وذلك لأنهما إن أطلقتا بأن لم يذكرا تاريخاً لوقت الإقرارين أو أطلقت واحدة وأرخت الأخرى لزم زيداً لعمرو الألفان اللذان شهدت بهما بينة عمرو على إقراره ولا تعارض حينئذ بين البينتين لإمكان الجمع بينهما بأن يكون عمرو باعها لزيد بألف وأقر به ثم استردها منه ثم باعها له بألفين ثم أقر زيد بذلك فعملنا بكل من البينتين وألزمنا زيداً الألفين، لأن البينة الشاهدة على إقراره معها زيادة علم والبينة الشاهدة على إقرار عمرو بالألف لا تعارض تلك البينة لما تقرر وإن أرّختا بتاريخين، فإن اختلف التاريخ ومضى زمن يمكن فيه الانتقال لزم زيداً الألفان أيضاً وإن اتفق التاريخ أو لم يمض زمن يمكن فيه الانتقال تعارضت البينتان في الألف الزائدة بمعنى أن زيداً يقر بها لعمرو وعمرو ينكر استحقاقها فيلزم زيداً الألف الأولى والألف الأخرى لا يستحقها عمرو إلا بإقرار جديد من زيد، فإن أقر له ثانياً بالألف الثانية لزمته أيضاً وإلا لم يلزمه إلا الأولى وهذا كله إن لم يتفقا على أنه لم يجر إلا عقد واحد، أما لو اتفقا على أنه لم يجر إلا عقد واحد فحكمه حكم الحالة الأخيرة وهو أن زيداً مقر بالألف الثانية لعمرو وعمرو ينكر استحقاقها فلا يستحقها إلا بإقرار جديد، وأما قول السائل وشهود عمرو على لفظ الشراء فهو مناقض لقوله قبله، وأقام عمرو بينة أن زيداً مقر أنه اشترى هذه العين بالألفين، فإن قلت فما حكم هذه الحالة أعني ما لو شهدت البينة على عمرو أنه أقر بأنه باع بألف وشهدت البينة على زيد أنه اشترى قلت حكمه أنه يأتي فيه ما مر من التفصيل، والله سبحانه وتعالى أعلم.(6/490)
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 362
وسئل رحمه الله تعالى عما لو ادعى على زيد ديناً فقال إنما هو على عمرو وأنا شاهد بذلك عليه هل تقبل شهادة عمرو على زيد أم لا؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى به بأن قول زيد ما ذكر جواب غير صحيح فلا يقبل منه بل يلزم بالخروج من جواب هذه الدعوى بالوجه الشرعي فلو فرض أنه حلف أنه ليس عليه ثم ادعى به على عمرو وأراد أن يستشهد زيداً به لم تقبل شهادته لأنه مقر بفسقه لجحده دينه الذي ادعاه عليه ولأنه متهم في تبرئة نفسه بإلزام غيره مما ادعى عليه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل رحمه الله تعالى عن شخصين توارثا من أبيهما ومات أحدهما بعد أزمان فادعى الآخر على ورثة الميت بأنه لم يفرد له حصة من الميراث ولم يبين قدر المال وشهد الشهود بدعواه فأجاب ورثة الميت بأنهم لا يعلمون ذلك ولا يستحق عليهم شيئاً فهل تقبل هذه الدعوى من غير تعيين المقدار أم لا؟ فإن قلتم بقبول هذه الدعوى والحالة هذه أو عين المدعي المقدار فهل الواجب أداء القدر الذي عينه المدعي أو القدر الكائن وقت الدعوى؟. فأجاب: بأنه حيث ادعى ولد الميت أوّلاً على ورثة الميت ثانياً بأن مورثهم استولى على حصته من أبيه وبينها ومات وهي تحت يده أو تصرف فيها في حياته فإن شهد له شاهدان عدلان أهلان للشهادة بما يطابق دعواه المذكورة قبلت شهادتهما وألزم القاضي ورثة الميت ثايناً بدفع تلك الحصة، وأما إذا لم يبين تلك الحصة فلا تسمع دعواه فإن بينها لكن لم يشهد له شاهدان كذلك حلف ورثة الميت ثانياً على نفي العلم، والله سبحانه وتعالى أعلم.(6/491)
وسئل رحمه الله تعالى عما لو ادعى على شخص بجهة عامة بشيء في أرض أو غيرها وكان لمدعي متلقى ذلك من آخر ولا حجة له فهل يمين المدعى عليه على البت أو على نفي العلم أو فيه تفصيل كأن كان في أرض أمداد معلومة فباعها الوارث وادعى المشتري وهو المدعى عليه قدراً والذي إلى جهته الصدقة قدراً آخر ولا بينة؟. فأجاب نفعنا الله تعالى به: بأن يمين المدعى عليه تكون على البت وإذا تنازع ذو اليد وغيره في قدر المدعي به صدق ذو اليد بيمينه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 362(6/492)
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل ادعى على آخر أن هذه العين تحت يدك رهن فيها مائة أشرقي وأقام على ذلك بينة وأقام المدعى عليه بينة أن العين ملكه اشتراها من الراهن والراهن قد مات والمرتهن أيضاً قد مات، لكن الدعوى بين وارث الراهن ووارث المرتهن فأقام وارث الراهن بينة أن المرتهن أقر عند الموت أن العين مرهونة فأقام وارث المرتهن بينة أن الراهن أقر بعد موت المرتهن أني بعتها من المرتهن أو من وارثه أعني وارث المرتهن وأقام أيضاً وارث الراهن بينة أن المرتهن ووارثه أقرا أنها رهن تحت أيديهما لم يجز فيها بيع من أحد فأقام أيضاً وارث المرتهن بينة أن وارث الراهن أقر أنه باعها هو أو مورثه وأقام وارث الراهن أيضاً بينة أن آخر مجلس أنك أقررت أنها مرهونة لم يجز فيها بيع فأي البينتين؟ تقدم أوضحوا لنا ذلك فإن الحاجة داعية إلى ذلك، وقد حصل في هذه الدعوى فتنة عظيمة ثم إنهم قد قروا لما يجيبهم في الورقة من تقديم البينات فاكتبوا بخطكم الشريف جواباً عن ذلك كله وإذا لم يلق في بعض ذلك بينة فما الحكم أفتونا مأجورين. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله: إنه إذا شهدت البينة أن المرتهن أقر عند موته أن العين مرهونة عمل بإقراره ولم يفد إقرار الراهن بعد موت المرتهن أنه باعها له قبل الموت لأن شرط صحة الإقرار أن لا يكذب المقر له المقر وهنا المرتهن لما أقر عند موته أنها مرهونة عنده كان مكذباً للراهن في قوله أنه باعها له فتبقى العين على ملك الراهن لأن من أقر لشخص بشيء فكذبه فيه ترك في يد المقر وجاز له التصرف فيه ظاهراً، أما في الباطن فالمدار فيه على حقيقة الحال هذا ما يتعلق بإقرار المرتهن وبإقرار الراهن أنه باعه، وأما إذا قامت بينة بأن الراهن أقر أنه باع وارث المرتهن أو أن وارث الراهن أقر بذلك وأقام بينة أخرى بأن وارث المرتهن أقر بأنها باقية على رهنيتها لم يجر فيها بيع فإن أرختا الإقرارين وكان إقرار الراهن أو وارثه(6/493)
متقدماً كان إقرار وارث المرتهن المذكور مكذباً للراهن أو وارثه فتبقى العين على ملكه وإن كان إقراره متأخراً ولم يكذبه وارث المرتهن المقر له كانت العين ملكه وإن لم يؤرخاه أو أرخت واحدة وأطلقت أخرى فإن كان وارث المرتهن المقر له بالبيع موجوداً وكذب الراهن أو وارثه في إقراره له بالبيع لم يلتفت للبينة الشاهدة بإقراره بل تبقى العين على رهنيتها لما مر، وإن لم يكذبه تعارضت البينتان فيحلف منكر البيع على نفيه وتبقى العين على رهنيتها أيضاً، لأن صورة المسألة كما يفهم من السؤال أن الرهينة متفق عليها، وإنما النزاع في أنه هل وقع من الراهن أو وارثه بيع أو لا وكذا الحكم إذا لم يكن بينة من الجانبين هذا ما يتجه في هذه المسألة وإن لم أر فيها نقلاً بخصوصها ولا ينافيه قول
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 362(6/494)
الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ في الأم الكبير في الرهن لو قال رهنتك داري بألف آخذها منك وقال المقر له بالرهن بل اشتريت منك تحالفا ولم تكن الدار رهناً وكانت عليه الألف بلا رهن ولا بيع، لأن صورة هذا النص غير صورة هذا السؤال كما هو جلي على أنه ضعيف وإن جزم به صاحب المهذب والمحاملي، لأن شرط التحالف أن يتفقا على عقد ويختلفا في صفته وهنا لم يتفقا على عقد فالمعتمد ما نقله الرافعي عن البغوي وجزم به في الروضة وجرى عليه المتولي وغيره من أن المالك يصدق بيمينه لأن الأصل عدم البيع ويرد الألف ويسترد العين بزوائدها ولا يمين على الآخر. قال المتولي رحمه الله تعالى لأن الرهن جائز من جهته فالخيرة له في قبوله. وقال العمراني : لأن الرهن زال بإنكاره لأنه يبطل بإنكار المرتهن وإنما رد إليه الألف مع أنه ينكر استحقاقها لأنه مدع لاستحقاق العين المقابلة عنده بالألف فلما تعذر إبقاؤها رد عليه مقابلها الذي هو بدله كما هو شأن تراد العوضين عند الفسخ أو نحوه ووقع لبعض الجهلة أنه رأى هذا النص في بعض الكتب فتوهم منه أنه في صورة السؤال فكتب فيها الجواب أن البينتين تتعارض في جميع ذلك فإذا تعارضت بطلت وتحالفا، فقد قال الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ في الرهن في الأم الكبير ما نصه: ولو قال رهنتك داري وساق النص المذكور ولو استحيى من الله سبحانه وتعالى لم يكتب ذلك ولم يتسوّر على هذا المنصب الخطير مع أنه ليس فيه أهلية له بوجه كما تدل على ذلك عبارته المذكورة فإنها تسجل عليه بالجهل وتنادي على فهمه بالعجز فعليه أن ينكف عن ذلك ولا يفتي إلا بما هو معلوم مقطوع به في المذهب كالنية واجبة في الوضوء والوتر مندوب ومتى تعدى ذلك دخل في زمرة من قال الله تبارك وتعالى في حقهم عزَ من قائل: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام} (النحل: 116) الآية لكن لما اندرست أطلال العلم وعفت رسومه تسوّر سوره الرفيع الكذابون وتمشدق في حلقه(6/495)
المتفيهقون المتشبعون بما لم يعطوه فكانوا كلابس ثوبي زور كما ورد عنه .
وسئل رحمه الله تعالى عن قول ابن السبكي رحمه الله تعالى في الأشباه والنظائر لو قال هذا العبد لفلان ثم ادعى أنه شراه منه لم يصح للمضادة، وعن ابن سريج أنه يسمع ولو قال هذا العبد لفلان وقد اشتريته منه متصلاً كان مسموعاً لأن العادة جرت أنه يراد به كان لفلان ذكر ذلك شريح في أدب القضاء اهـ ما قاله في الأشباه والنظائر فما الصحيح عندكم؟. فأجاب نفع الله تعالى بعلومه بقوله: إن ما نقله ابن السبكي رحمهما الله تعالى متجه فليعتمد، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 362(6/496)
وسئل رحمه الله سبحانه وتعالى عن رجل تحت يده حديقة ورثها من أبيه وهي تحت يده يتصرف فيها تصرف الملاك مدة مديدة فادعى رجل أنها رهن بكذا وأقام بذلك بينة وأقام ذو اليد بينة أنها ملكه مدة مديدة أو أنه اشتراها من صاحبها أو أنه أقر له بها أو أنه وهبه إياها بجميع حقوقها وأذن له في قبضها وقبضها فهل بينة الخارج الذي ادعى الرهن تقدم أم بينة الذي ادعى الشراء أو الهبة أو الإقرار وهل يكفي قول الراهن هي رهن بكذا أم لا بد من قوله كما قال الإمام الأذرعي الوجه أن يقول هي ملكي رهنتها منه بكذا وأحضرت المبلغ ويلزمه التسليم إليّ وأخذ الحق مني أوضحوا لنا الجواب، وإذا أقام مدعي الرهن بينة على إقرار المرتهن أنها تحت يدي رهينة ولم يمض بعد إقراره زمن يمكن فيه البيع فأي البينتين تقدم؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: إذا أقام الخارج بينة بأنه ملكه وأن الداخل غصبه منه أو غصبه منه زيد وباعه للداخل أو أنه اكتراه منه أو أودعه عنده قدمت بينة الخارج وكالإيجار والإيداع الرهن المذكور في السؤال كما لا يخفى أما إذا أقام الخارج بينة بالرهن وأقام الداخل بينة بأنه اشتراه من الراهن أو أن الراهن أقر له به أو وهبه إياه أو أقبضه له أو أذن له في قبضه فتقدم بينة الداخل وما ذكره الأذرعي ذكره غيره وهو ظاهر، إذ لا بد في الدعوى أن تكون ملزمة بأن يكون المدعي به لازماً فلا تسمع دعوى هبة شيء أو بيعه أو إقرار به حتى يقول المدعي وقبضته بإذن الواهب ويلزم البائع أو المقر تسليمه إليّ وإذا ادعى ديناً قال وهو ممتنع من أدائه وإذا ادعى داراً مثلاً بيد غيره لم يكف أن يقتصر في دعواه على قوله هي ملكي رهنتها منه بكذا لأنه لا يمكنه أن يقول ويلزمه تسليمها إليّ وطريقه لتسمع دعواه أن يقول وقد أحضرت المبلغ فيلزمه تسليمها إليّ إذا قبضه مني وكذا لو ادعاها وقال هي ملكي أجرتها منه مدة كذا إذ لا يمكنه أن يقول قبل مضي المدة ويلزمه(6/497)
تسليمها إليّ فطريقه أن يصبر إلى انقضاء المدة ثم يدعي وتقدم بينة مدعي الرهن في الصورة المذكورة آخر السؤال، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 362
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل اشترى جارية وامتلكها مدة مديدة فأتت بولد في أثناء المدة فلم ينكره سيدها وشاع بين الناس أن الولد من سيدها ثم إن الجارية أدخلت على سيدتها من قتلها بالليل واعترفت الجارية أنها التي كانت السبب في ذلك ثم إن السيد باع الجارية وأمسك الولد فنكر عليه في ذلك فادعى عدم الوطء وأن الولد ليس منه ثم إن السيد مرض مرض الموت فاستلحق الولد بعد نفيه له ليحوز ميراثه فهل يلحقه الولد بعدما صدر منه البيع والإقرار بذلك أو لا وما يكون حكم الله تعالى في هذه المسألة؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله: نعم يلحقه الولد إن وجدت فيه شروط الاستلحاق من كون المستلحق ذكراً مكلفاً مختاراً والمستلحق مجهول النسب حراً لا ولاء عليه لأحد وهو في سن يمكن كونه ولد المقر، ولا بد أن يصدقه البالغ العاقل الحي ولا يلزم من ثبوت النسب ثبوت الإيلاد للام بل لا بد في ثبوته مع النسب من أن يقول مع ذلك ولو في المرض علقت به في ملكي أو هو ولدي منها ولها في ملكي عشر سنين مثلاً وكان الولد ابن سنة مثلاً، وبهذا يعلم أنا لا نحكم عليه بالإثم ولا بفساد بيع الأمة إلا أن قال علقت به في ملكي أو فيما بعده مما ذكر، وأما مجرد قوله هو ولدي فإنه لا يلزم منه إيلادها وإن قال ولدته في ملكي لاحتمال أنه أحبلها بنكاح أو بشبهة ثم ملكها والكلام في غير المزوّجة أما هي فيلغو الإقرار ويلحق الولد بالزوج إن أمكن وفي غير المستفرشة له، أما المستفرشة له فيلحقه الولد بالاستفراش لا بالإقرار ولو قال هذا ولدي من أمتي لحقه وإن قال بعده من زنا، والله سبحانه وتعالى أعلم.(6/498)
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل مات وعليه دين وخلف تركة من جملتها أمة ادعت أنها حامل من سيدها ولم يعلم من سيدها أنه وطئها ولا سمع منه ذلك فإن صح الحمل فهل يقبل قولها في أن سيدها وطئها وأن الحمل منه أم لا؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى به بقوله: لا يقبل قولها في ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل رحمه الله تعالى عن رجلين ادعيا عيناً في يد ثالث وأقام أحدهما بينة أن العين ملكي وأن من في يده العين غصبها مني وأقام الآخر بينة أن الذي العين في يده أقر بها وأنكر المالك الإقرار والغصب فهل بينة مدعي الإقرار تقدم أم بينة مدعي الملك والغصب منه، فقد قال في الروضة أنه يثبت الملك والغصب ويلغو إقرار الغاصب لغير المغصوب منه؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى به بقوله: إذا ادعيا عيناً بيد ثالث فأنكر فأقام أحدهما بينة أنه غصبها منه وأقام الآخر بينة أن أقر بأنه غصبها منه قدمت بينة الأول لأن الغصب منه ثبت بطريق المشاهدة ولا يغرم شيئاً للمقر له لأن الملك ثبت بالبينة وأصل ذلك قول أصل الروضة دار في يد رجل ادعاها اثنان وأقام أحدهما بينة أنها له غصبها منه المدعى عليه وأقام الآخر بينة أن من هي في يده أقر له بها فلا منافاة بينهما فيثبت الملك والغصب بالبينة الأولى ويلغو إقرار الغاصب لغير المغصوب منه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 362(6/499)
وسئل رحمه الله تعالى عن امرأة بيدها مستند شرعي مضمونه أن فلانة الفلانية اشترت من أختها فلانة الفلانية بيتاً بيعاً مطلقاً بثمن كذا وكذا قبضت البائعة الثمن باعترافها وحكم حاكم شافعي بالتبايع المذكور مؤرخ التبايع والحكم بعام سنة عشرين وتسعمائة والشاهد لم يكتب في المستند معرفته للبائعة ولا عرّفه أحد بها، والحالة أن البائعة منكرة للبيع المذكور وأنها لم تقبض الثمن المذكور وأنها لم تكن أختاً لها كما كتب في المستند، ثم إن البائعة جاءت عند حاكم شرعي مخالف للحاكم المثبت وادعت على المشترية المذكورة أنها واضعة يدها على بيتها بمقتضى أنها جعلته تحت يدها في مبلغ اثني عشر أشرفياً هو ومستندات شرعية تشهد لها بذلك فأجابت بأنها صار إليها ذلك بالشراء الشرعي منها كما ذكر أعلاه وأنني تقايلت أنا وإياك أحكام التبايع الصادر منك كما ذكر فهل تسمع دعواها الآن بأنها لم تبع ولم تقبض الثمن وهل حكم الحاكم الشافعي يمنعها من الدعوى بذلك وهل طول المدة مع تصرفها في البيت بالهدم والبناء مستقط للطلب أيضاً أم لا وهل للحاكم المدعي لديه إلزام المشترية بحضور البينة ثانياً لتشهد في وجه البائعة بالمعرفة والبيع وبقبض الثمن أم لا؟. فأجاب نفع الله تعالى بعلومه بقوله: لا تسمع دعواها الآن بأنها لم تبع حيث ثبت عند الحاكم وليس للحاكم المدعي لديه إلزام المشترية بحضور البينة ثانياً لتشهد في وجه البائعة بالمعرفة لأن من لازم حكم الحاكم بصحة البيع استيفاء مسوّغاته الشرعية، ومنها أن الشهادة لا تكون إلا على عينها أو باسمها ونسبها ولا نظر لطول المدة المذكورة ولا لقصرها، وأما دعواها إنها لم تقبض الثمن فإن كانت الشهادة عليها بطريق المعاينة لم تسمع دعواها وإن كانت بطريق الشهادة على إقرارها سمعت دعواها أنها لم تقر إلا على رسم القبالة فتحلف المشترية أنها أقبضتها الثمن فإن نكلت حلفت البائعة أنها لم تقبض واستحقت الثمن، والله سبحانه وتعالى(6/500)
أعلم.
وسئل نفعنا الله تعالى به في أرض تكون تحت يد مستأجر أو مشتر مدة سنين كثيرة ثم ادعى المؤجر أو البائع أو أولادهما بعد انقراضهما أن هذه الأرض وقفها أبونا أو جدنا علينا وأقامت بذلك يعني بالوقف بينة بالتسامع ولم يعلم أنه قد ثبت هذا الوقف عند حاكم هل تسمع الدعوى والبينة ويصير ذلك وقفاً ويبطل البيع أو الإجارة ويغرم واضع اليد أجرة المثل لتلك المدة وما يفوت من المنافع وما يتلف من الأرض وما يكون الحكم لو تنقلت تحت أيا كثيرة تكون كالمغصوبة أو لا؟. فأجاب نفعنا الله تعالى به بقوله: تسمع الدعوى بالوقف في الصورة المذكورة والبينة الشاهدة به لكن إن جزمت بالشهادة بخلاف ما لو صرحت بأن مستندها التسامع فإنها لا تقبل شهادتها حينئذ إلا إن ذكرت ذلك على جهة الجزم دون التردد على ما قاله جماعة، والله تعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 362
وسئل رحمه الله تعالى عن رجلين اختصما في أرض وهي تحت أيديهما أو في يد أحدهما وجاء أحدهما بكتاب فيه اشتراء صحيح بحكم حاكم وجاء آخر بكتاب فيه وقف صحيح بحكم حاكم متقدم على الشراء أو لم يكن فيه حكم حاكم ولكن قامت البينة بالوقف الصحيح التاريخ المتقدم فما المعتمد في ذلك؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله: إذا سمعت شهادتها بالوقف بشروطها حكم به للموقوف عليه وانتزع ممن هو في يده وغرم ذو اليد أجرة مثله مدة وضع يده عليه وما فات من منافعه وأجزائه وكذا لو تعاقبت عليه أيد كثيرة كالمغصوب والله أعلم.(7/1)
وسئل رحمه الله تعالى فيما ذكره الأئمة في باب الدعاوى من أنه لا بد لصحة الدعوى مع شروطها أن تكون ملزمة إلا إذا كانت لدفع المنازعة هل ذلك خاص بالدعوى أو يتعدى إلى اليمين والشهادة وهل يفرق في الدعوى بين أن تكون إقراراً فلا يحتاج يمينها وشهادتها إلى ذلك أو لا فيحتاج؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه وبركته بقوله: الذي ذكروه أن شرط الدعوى العلم سواء أقصد بها دفع المنازعة أم لا والإلزام فإن ادعى ملكاً بنحو بيع أو هبة أو ادعى استحقاق عين لم تسمع دعواه حتى يقول ويلزمه التسليم إليّ فإن كان سفيهاً قال إلى وليي أو أنه يمتنع من الأداء اللازم له لأنه قد يرجع الواهب قبل القبض ويفسخ البائع بسبب ويكون الدين مؤجلاً أو على نحو معسر أو العين موجودة مع المدعى عليه، ويستثنى من هذا الشرط أعني اشتراط ما ذكر وهو يلزمه التسليم إليّ ما لو قصد بالدعوى نحو المنازعة دون تحصيل الحق فلا يشترط حينئذ ذكر ذلك فإذا قال هذه الدار لي وهو يمنعنيها سمعت دعواه وإن لم يقل هي في يده لأنه يمكن أن ينازعه وإن لم تكن الدار بيده ولأنه لو قال ذلك أو قال يلزمه التسليم إليّ سأله القاضي عن سببه من شراء أو رهن أو إجارة مثلاً وبهذا الذي تقرر من كلامهم علم أن ذلك لا يمكن إتيان نظيره في اليمين والشهادة لا في الإقرار ولا في غيره وهذا واضح جداً وكان سبب الالتباس فيه ما أوهمه كلام السائل من أنها إذا كانت لدفع المنازعة لا يشترط فيها شيء من شروط الدعوى وليس كذلك وإنما هو مستثنى من اشتراط ذكر ويلزمه التسليم إليّ كما تقرر، والله سبحانه وتعالى أعلم.(7/2)
وسئل رحمه الله تعالى في رجل ادعى على آخر أن هذه العين تحت يدك غصب وأقام على ذلك بينة وادعى آخر أنها تحت يدك عارية أو إجارة وأقام بذلك بينة ولم يقر لأحد منهما أو أقر لأحدهما فما يكون الحكم في ذلك؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: إن البينتين المذكورتين فيها إن شهدت كل منهما بالملك لمن أقامها تعارضتا فيتساقطان ويعمل بإقرار ذي اليد وإن شهدت إحداهما بالملك والأخرى بمجرد الغصب أو الاستعارة أو الاستئجار من الآخر قدمت الشاهدة بالملك.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 362
وسئل رحمه الله تعالى هل يجوز للمفلس الحلف على أنه لا مال له؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى به بقوله: حكى الصيدلاني رحمه الله تعالى فيه وجهين أحدهما له الحلف أنه لا حق عليه ناوياً لا حق عليه يلزمه أداؤه، والثاني لا يحلف لأن الحاكم العادل لا يحبسه إلا بعد الكشف عن حاله ذكره في البيان وقضيته اتفاق الوجهين على أن له الحلف ناوياً ذلك إذا كان الحاكم جائراً، وحينئذ فيستفاد منه أن التورية تنفع عند الجائر في نحو ذلك أيضاً، ويكون ذلك مستثنى من قولهم لا تنفع التورية عند الحاكم.(7/3)
وسئل رضي الله سبحانه وتعالى عنه في شخص أرسل أمانة إلى آخر ليصرفها على زوجته ومستولدته بأخبار الأمين المرسل مع ذلك فأنفقها المرسل إليه كما ذكره المخبر المذكور وأنفق بعد فراغها من مال نفسه بنية الرجوع من غير تعيين لذلك حال الإنفاق والإشهاد به فمات مرسل الأمانة وعليه دين ثبت بعد وفاته، وأراد الدائن المطالبة بدينه لمن وضع يده على المال المرسل من مدينه بعد الإنفاق المذكور فهل له ذلك وعلى من يتوجه طلبه على الوارث أو المنفق أو المنفق عليه وإذا توجه طلبه على واحد منهم فما الحكم في الإنفاق والإذن فيه هل يقبل قول المنفق وحده أو قوله مع الزوجة المنفق عليها أو قول جميع الورثة أو يحتاج إلى البينة، وإذا عجز المنفق عن البينة على الإذن له فهل له الرجوع على المنفق عليه وهل تعيينه بعد الإنفاق لما أنفقه من مال نفسه والمال المرسل مقبول وإذا اختلف المنفق والمنفق عليه في النفقة من مال نفسه فادعى المنفق عليه التبرع وادعى المنفق أن ذلك على نية الرجوع فمن يقبل قوله منهما وهل للمتبرع بالإنفاق الرجوع به أم لا؟. فأجاب نفعنا الله تعالى به بقوله: صرح السبكي ك ابن الصلاح رحمهما الله تبارك وتعالى بأن للدائن المطالبة بحقوق الميت أي بأعيان أمواله لا بديونه، وحينئذ فللدائن هنا مطالبة الرسل إليه بما وضع يده عليه، فإن أثبت إذن الميت له في الإنفاق المذكور برىء وإلا غرم بدل ما أرسل إليه وللدائن مطالبة الوارث أيضاً دون المنفق عليه، ولا يكفي في دفع طلب الدائن اتفاق هذين والمرسل إليه على إذن الميت في الإنفاق بل لا بد من ثبوته كما مر، وإذا لم يثبت فإن استمر المنفق على دعوى الإذن له في الإنفاق لم يرجع على المنفق عليه وإن قال إنما أنفقت لظني الإذن وقد بان خلافه رجع هذا بالنسبة للمال المرسل إليه، وأما ما أنفقه من مال نفسه فلا رجوع له به على المنفق عليه وإن أنفق بنية الرجوع، والله سبحانه وتعالى أعلم.(7/4)
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 362
فائدة اعلم أن ما قدمته عن السبكي وابن الصلاح رحمهما الله تبارك وتعالى مشكل، فإن كلام الأصحاب دال على خلافه وذلك أنهم قالوا ليس للغريم ابتداء الدعوى إذا تركها الوارث أو المفلس ذكره الشيخان رحمهما الله تعالى في الروضة وأصلها، وجرى ابن الصلاح رحمه الله تبارك وتعالى على ما يوافقه فإنه سئل عمن أثبت ديناً على امرأة ميتة وادعى على زوجها أن لها عليه مهراً ولم يدع بذلك وارثها، فأجاب بقوله لا تسمع دعواه فإنه يدعي حقاً لغيره غير منتقل منه إليه وغايته أنه إذا ثبت ثبت له فيه حق تعلق كما لو ادعت الزوجة ديناً لزوجها، أي فإنها لا تسمع وإن كان لو ثبت لتعلق به حق النفقة وتبعه على ذلك جمع متأخرون بل جزم به الشرف الغزي رحمه الله تعالى وغيره لكنه ناقض نفسه حيث قال لو كان حق على ميت وأقام بينة بذلك وحكم له الحاكم به ثم جاء بمحضر يتضمن ملكاً للميت وأراد أن يثبته ليبيعه في دينه ولم يوكله الوارث في إثباته فالأحسن القول بجواز ذلك. قال الغزي رحمه الله تعالى: وهو واضح وصرح بمثله السبكي رحمه الله تعالى في فتاويه فقال للوارث والموصي والدائن المطالبة بحقوق الميت اهـ، وعند تأمل كلامي ابن الصلاح والسبكي المذكورين يعلم أنهما لم يتواردا على محل واحد فإنه فرض الأوّل في الدين والثاني في العين فهو قائل بالفرق بينهما وأن الدين لا تسمع فيه الدعوى من الغريم بخلاف العين وكان هذا هو الحامل لشيخنا شيخ الإسلام زكريا سقى الله عهده حيث قال في مختصر أدب القضاء للشرف الغزي تبعاً له وهذا أي ما قاله ابن الصلاح رحمه الله تعالى آخراً لا يخالف قولهم ليس للدائن أن يدعي على من عليه دين لغريمه الغائب أو الميت، وإن قلنا غريم الغريم غريم أي بالنسبة لجواز الظفر بما له بشرطه للفرق بين العين والدين اهـ، والفرق الذي أشار إليه بين العين والدين هو أنه بالموت تعلق الحق بأعيان(7/5)
ماله لرهنها به شرعاً بخلاف الدين وبخلاف الغريم الحي حاضراً كان أو غائباً، لأن مال دائنهما لا يتعلق بمالهما على الغريم أو عنده إلا بعد ثبوته، وعلى تسليم أنه يتعلق به قبله نظراً إلى أن العبرة في مثل ذلك بما في نفس الأمر فهو تعلق تقديري وهو أضعف من ذلك التعلق السابق في الميت، فإن قلت غاية ذلك التعلق أنه تصير الأعيان مرهونة كما تقرر فيكون الغريم كالمرتهن والمقرر فيه أنه لا يخاصم وإن امتنع الراهن من الخصام إلا لعذر، قلت طلب المسارعة إلى براءة ذمة الميت اقتضت أن يوسع في طرقها بتمكين كل من الوارث والوصي والدائن من المطالبة بحقوقه، ألا ترى أن وليه إذا تحمل دينه برىء بمجرد ذلك على خلاف القاعدة، وسبب خروجه عنها الحاجة إلى تعجيل براءته فكذلك هنا ساغ طلب الدائن على خلاف القاعدة للحاجة إلى تعجيل ذلك بتوسيع طرقه فإن قلت هذه العلة تقتضي أن الدين كالعين في ذلك، قلت الدين لما كان أمراً تقديرياً ضعف عن أن يلحق بالعين فلم تتحقق الحاجة في الطلب به حتى يسوغ تجويزه على خلاف القاعدة على أن ابن الأستاذ رحمه الله تعالى نظر لذلك فألحقه بالعين فجوز للغريم الطلب به أيضاً إذا أعرض الوارث أو تكاسل ورد على
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 362(7/6)
ابن الصلاح رحمه الله تعالى ما مر عنه أولاً في الدين، فقال عقبه بل تسمع دعواه إذا أعرض الوارث أو تكاسل ولا يمنع ذلك كونه لا ينتقل إليه بعينه فإن جميع ما يخلفه الميت بهذه المثابة ولا يتعين وفاء دين الميت من عين معينة ولا دين حتى لو كان عنده رهن كان للراهن وورثته صرف دينه من غيره ولا يمنع ذلك المطالبة وقياسه على الزوجة الكلام فيه أيضاً كذلك إذا كان لها عليه حق ثابت ولو صدق المدعى عليه، والحالة هذه وجب الدفع لإيفاء دينه وتمسك، أعني ابن الأستاذ رحمه الله تعالى بقول الإمام رحمه الله تعالى إذا أعرض فللمرتهن الخصام عند المحققين. قال وفي التهذيب إذا كان له دين في ذمة شخص فلا دعوى له على غريمه فإن مات أو حجر عليه سمعت الدعوى عليه حينئذ، قال ونقل الإمام رحمه الله تعالى عن والده أن لغرماء الميت والمفلس الابتداء بالدعوى، ونقل الأصحاب ـ رضى الله تعالى عنه ـ م أن المنع محمول على ما إذا لم يقع التكاسل من الوارث والمفلس، قال وقد أجاب ابن الصلاح رحمه الله تعالى في موضع آخر بالسماع اهـ، وليس كما قال وإن أقره جمع فإن ما احتج به أولاً يرده ما تقرر من الفرق الواضح بين العين والدين ولا تمسك له فيما نقله عن الإمام وأبيه و البغوي رحمهم الله تعالى لأنها مقالات مخالفة لصرائح كلام الشيخين رحمهما الله تعالى وغيرهما أن المرتهن لا يخاصم وإن أعرض الراهن وأن الدائن لا يدعي ولو بعد الموت أو الحجر وإن أعرض الوارث ووقع لأبي زرعة رحمه الله تعالى أنه أفتى بنحو ما مر عن ابن الأستاذ فقال: تسمع الدعوى على غريم الغريم، ولا يقال قد قالوا بجواز الظفر من مال غريم الغريم ولا تسمع الدعوى عليه، لأن ذلك مع حضور الغريم أما إذا غاب وثبت حق صاحب الدين فرفع غريمه ليستوفي منه الدين فلا منع منه لا سيما إذا تعين ذلك طريقاً لوفائه والمدعي لا يأخذه بيده وإنما الحاكم يقبضه بنفسه أو نائبه ثم يقبضه للدائن اهـ، وهذا أيضاً فيه نظر وإطلاقهم(7/7)
يرده فالمعتمد ما قدمته من عدم سماع دعوى غريم الحي مطلقاً، وكذا غريم الميت في الدين ولا ينافي ذلك قول شريح رحمه الله تعالى لو ثبت لزيد دين على عمرو فادعى زيد على خالد أن الثوب الذي بيدك لعمرو فأنكر وادعاه لنفسه لم يحلف إذ لو وجبت يمين فربما نكل فترد اليمين على المدعي فيحلف فيؤدي إلى إثبات ملك الشخص بيمين غيره ولو قصد إقامة بينة عليه لم تسمع اهـ، ووجه عدم منافاة هذا لما مر من سماع الدعوى وطلب التحليف في عين الميت أن هذا مفروض فيما إذا كان عمرو حياً حاضراً كان أو غائباً ليوافق ما مر عن
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 362(7/8)
ابن الصلاح و السبكي رحمهما الله تعالى من سماع الدعوى في العين المملوكة للميت، وكلام الغزي وشيخنا رحمهما الله تعالى يشير إلى ذلك فإنهما عقبا كلام شريح رحمه الله تعالى هذا بما مر عن ابن الصلاح والسبكي رحمهما الله تعالى، إما بياناً لمراده أو تخصيصاً له بغير صورة الميت ويلزم من سماعها تحليف من هي تحت يده، فإن قلت ظاهر قول شريح إذ لو وجبت يمين فربما نكل الخ، أن هذا لا يختص بالحي، قلت ما علل به ممنوع من أصله لأن ظاهر كلام شريح رحمه الله تعالى سماع الدعوى وإنما الذي ينفيه طلب التحليف لما يلزم عليه مما ذكره وليس ما ذكره بلازم بل متى سمعت الدعوى سمع طلبه للتحليف وفاء بالقاعدة ولا ملازمة بين التحليف ورد اليمين ألا ترى أن الولي يدعي ويطلب التحليف ولا ترد عليه اليمين، ومن جملة الإيمان التي لا ترد يمين التهمة والقسامة واليمين المتممة مع الشاهد الواحد ويمين الاستظهار واليمين المردودة ويمين القذف التي تجب على القاذف ويمين الشهود وهي يمين التزكية وكان هذا الذي قررته في رد علته وأن قضية كلامه سماع الدعوى هو منشأ قول شيخنا عقبه، قلت في عدم سماعها أي البينة نظر اهـ، ويوجه بما تقرر أن قضية نفيه الحلف وسماع البينة سماع الدعوى ويلزم من سماعها سماع البينة حيث لا مناقضة ونحوها مما لم يوجد هنا وكذا يلزم من سماعها طلب التحليف ولكنه وجه عدم طلبه بما قدمه فبقي عدم سماع البينة بلا توجيه فاتضح التنظير فيه، فإن قلت ما تقرر عن شيخ الإسلام في أدب القضاء ناقضه في شرح البهجة فقال كما أن ليس له دعوى على من للمفلس عليه دين أو له عنده عين بهما إذا تركهما المفلس أو وارثه، قلت لا مناقضة في الحقيقة لأنه إنما جرى في الشرح على مقتضى إطلاق كلام الأصحاب من عدم سماعها من الغريم مطلقاً لأنه لم ير كلام ابن الصلاح والسبكي رحمهما الله تعالى في ذلك لكونه إنما ذكر ذلك في باب الفلس وليس هو محلاً لذلك، وأما عند أن رآه وظهر له(7/9)
وجهه فإنه قيد به إطلاق الأصحاب فكان هذا مقدماً على ما في الشرح للقاعدة المقررة أن ما ذكر في بابه مقدم على ما ذكر في غيره، لأن المذكور في الغير لا يعطي حق النظر والتفتيش لكونه ذكر استطراداً، وأما المذكور في بابه فإنه يعطي ذلك فلا يجزم فيه بشيء أو يعتمد إلا بعد مزيد التحري والتدبر فلذلك كان هذا مقدماً على ذلك غالباً، هذا وقد سبق مني إفتاء متكرر في هذه المسألة مسطر بعبارات مختلفة في الفتاوى وفي بعضها مخالفة لبعض ما قررته هنا الآن فليعتمد هذا دون ما خالفه.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 362
تتمة حكي في الجواهر وجهين فيما إذا لم يكن للميت وارث أحدهما أن الغريم يدعي ويحلف والذي يتجه ترجيحه ما مر في هذه الصورة أيضاً أعني أنه لا يحلف ولا يدعي في الدين بخلاف العين، والله سبحانه وتعالى أعلم.(7/10)
وسئل رحمه الله تعالى عن رجل أقامه حاكم شرعي متكلماً على صغير قاصر بمقتضى موت أبيه من غير وصية فأراد القيم المذكور أن يبيع عقاراً من عقار الصغير المذكور فحضر عند حاكم شرعي وأثبت أن الصغير محتاج إلى مصروف ونفقة ليسوغ له البيع ثم باع العقار وثبت البيع لدى الحاكم المذكور أعلاه وحكم بموجب ذلك ثم بعد مدة بلغ الصغير وادعى على المشتري عدم صحة البيع الصادر من القيم بمقتضى أن غلاله المتحصلة من أمواله تكفيه وتزيد على ذلك منذ مات أبوه وإلى حين دعواه وأقام بينة شرعية عادلة تشهد له بذلك وظاهر الحال يساعده أيضاً فهل تسمع البينة الثانية أم لا؟ وإذا قلتم أنها مسموعة فهل ينقض حكم الحاكم بموجب البيع المترتب على البينة الأولى الشاهدة بخلاف ظاهر الحال والحال ما ذكر أم لا؟. فأجاب نفعنا الله تعالى به بقوله المنقول كما في مقنع المحاملي وقواعد ابن عبد السلام وشرح الجيلي وأفتى به الإمام ابن عجيل رحمهم الله تعالى تقديم بينة اليسار على بينة الإعسار، ووجهه أن بينة اليسار ناقلة عن أصل العدم الموافق لما شهدت به بينة الإعسار، وقاعدة أصحابنا أن الناقلة عن الأصل مقدمة على المستصحبة له، نعم يشترط في بينة اليسار أن تعين المال الذي هو موسر به كما صرح به في الشامل. وفي الأنوار عن القفال ما يوافقه وهو أنهم لو شهدوا على مفلس بالغنى لم تسمع حتى يبينوا من أي وجه استفاد المال، ويمكن الأخذ بإطلاق الأوّلين وحمل هذا على ما إذا عرف له إعسار سابق فلا تقبل بينة اليسار حينئذ إلا أن بينت السبب وهذا هو نظير مسألة القفال رحمه الله تعالى ثم الذي دل عليه كلام الأذرعي رحمه الله تعالى وغيره وصرح به جمع متأخرون أن محل تقديم بينة اليسار إن جهل حاله أما لو علم له مال قبل ذلك فتقدم بينة الإعسار لأنها الناقلة حينئذ إذا تقرر ذلك فالموافق لما قررناه ولكلامهم في محل آخر أن الصغير متى جهل حاله في الاحتياج وعدمه قبيل البيع ثم شهدت بينة(7/11)
عند البيع باحتياجه وأخرى بغناه وبينت ذلك على نظير ما مر قدمت الثانية على الأولى وإن حكم بها، إذ الحكم ليس من المرجحات فينقض الحكم حينئذ ومتى علم أنه كان عند البيع غنياً ثم تعارضت البينتان كما ذكر قدمت الشاهدة بالحاجة لأنها الناقلة حينئذ، نعم الأعيان التي تتحصل منها الغلال الشاهدة بها بينة الغنى إذا كانت الآن باقية مشاهدة بحيث يعلم منها أنها كانت تكفي الصغير بغلالها علماً قطعياً قاضية على شهادة بينة الحاجة بالكذب والبطلان فلا يلتفت إليها وإن حكم شافعي للقطع بما أبطل حكمه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 362(7/12)
وسئل رحمه الله تعالى عن شخص له أولاد صغار تحت حجره ولهم حصة من دار فأجّر والدهم تلك الحصة لهم وأشهد على نفسه بقبض الأجرة لهم، والحال أن بعض الأجرة كان ديناً عليه للمستأجر والبعض الآخر قبضه وقضى به ديوناً عليه فقامت جدة الأولاد لأمهم وادعت أن هذه الإجارة لا مصلحة للأولاد فيها وعندها بينة تشهد للأولاد بذلك فهل تسمع دعواها وبينتها وتنقض الإجارة أم لا وإذا سمعت ونقضت الإجارة فمن يتولى قبض الحصة المذكورة للأولاد؟. فأجاب نفعنا الله تعالى به بقوله: تسمع دعواها وبينتها كما يصرح به كلام القفال رحمه الله تعالى و الأذرعي ، وعبارته نقلاً عنه ولا خفاء أنها تسمع دعوى الحسبة على قيم الصبي أنه أتلف مالاً للصبي وله أن يحلف القيم إن اتهمه فيه. قال الأذرعي : وقد عمت البلوى بهذه المسألة وهو أن يدعي قريب للميت على وصيه إتلاف شيء من ماله أو خيانة أو نحوها محتسباً فترد دعواه كما عاينته من كثير من قضاة العصر معتلين بأنه لا حق له ولا ولاية على الطفل ويرون دعواه فضولاً، والظاهر أنه إذا كان للمحتسب أن يحلف القيم فله أن يقيم بينة على ما ادعاه بل أولى وحسن أن يأذن له الحاكم في الدعوى فيتعين ذلك عند ظهور أمارات خيانته وفساد حاله أو جهالته سيما في هذا الزمان وقد يعود الضمير في قول القفال وله أن يحلف القيم على الحاكم لا على المدعي حسبة اهـ، ورجوعه إلى الحاكم متعين إذا تقرر ذلك وثبت عند القاضي أن الإجارة وقعت على خلاف الحظ حكم ببطلانها، ثم إن ثبت عنده فسق الولي أقام على الأولاد غيره وإلا فولايته باقية، فإن قلت صحح الشيخان رحمهما الله تعالى أن بينة الحسبة تقبل من غير تقدم دعوى فكيف قال القفال رحمه الله تعالى تسمع دعواه، قلت إما أن يكون هذا مستثنى أو ضعيفاً في هذا الحكم فقط وضعفه فيه لا يقتضي ضعفه في سماع البينة والعمل بموجبها.(7/13)
وسئل رحمه الله تعالى عمن باع شيئاً ثم ادعى أنه لم يكن ملكه هل تسمع دعواه وبينته؟. فأجاب نفعنا الله تعالى به بقوله: إن صرح بأنه ملكه حال البيع لم تسمع دعواه ولا بينته مطلقاً، وكذا إن لم يصرح بذلك ولكن ادعاه لغيره ولم يكن ولياً عليه ولا ولياً عنه ولم يدع انتقالاً منه إليه فإن ادعاه الآن لنفسه وكان قصده بالدعوى للغير أن يتوصل بذلك إلى حقه كما إذا قال بعته وهو ملك فلان ثم ملكته منه بنحو إرث وأقام بينة أنه وقت البيع ملك ذلك الأجنبي وأنه انتقل إليه منه بعد البيع سمعت دعواه وبينته وإنما سمعت دعواه للغير لأنه يدعى ملكاً لغيره منتقلاً منه إليه كالوارث فيما يدعيه ملكاً لمورثه.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 362
وسئل رحمه الله تعالى عن الامتناع من يمين الاستظهار هل هو كالامتناع من غيرها حتى يقضي على الممتنع بالنكول؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله: ليس مثله لأنها شرط للحكم لا مثبتة له فإذا لم يحلفها امتنع الحكم له فقط ولا يقضي عليه بشيء.
وسئل رحمه الله تعالى بما صورته تداعيا عيناً وأقام كل بينة أنه اشتراها من زيد وتعرضت إحداهما لنقد الثمن فهل ترجح به؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى به بقوله: نعم ترجح به كما اقتضاه كلام الغزي رحمه الله تعالى.(7/14)
وسئل رحمه الله تعالى هل للمدين حيلة في إقامة البينة بإبرائه عن الدين قبل الدعوى به عليه؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: قال القاضي حسين رحمه الله تعالى الحيلة في ذلك أن ينصب القاضي مسخراً يدعي على المدين فيقول لي على فلان كذا وله على هذا كذا فمره بتسليمه إليّ فيقيم المدعي عليه البينة حينئذ بالإبراء اهـ، واستشكله الغزي رحمه الله تعالى بأن غريم الغريم ليس بغريب وأجيب بأن محل كونه غير غريم إذا كان منكر الدين الغريم فحينئذ لا تقام عليه البينة، وأما إذا كان مقراً كما في صورتنا فهو غريم يستوفي منه الحاكم ما على الغريم إلا أن يقيم البينة على الإبراء.
وسئل رحمه الله تعالى عمن له عين تحت يد آخر فهل له الاستقلال بأخذها مطلقاً أو فيه تفصيل؟. فأجاب نفعنا الله تعالى به بقوله: إن كانت بيد من ائتمنه كالوديع أو اشتراها منه وبذل له الثمن فليس له ذلك إلا بإذنه لما فيه من الإرعاب وإن كانت تحت يد عادية استقل بأخذها مطلقاً إن لم يخف فتنة وإلا رفع الأمر للقاضي، وبحث الزركشي ك الأذرعي رحمهما الله تعالى أن مستحق المنفعة كالمستأجر والموقوف عليه كالمالك في ذلك أخذاً من النص على أن للولي ذلك أن غلب على ظنه السلامة جاز أو الفتنة امتنع وكذا إن استوى الأمران وخالفهما البلقيني رحمه الله تعالى فقال لا يحرم على الإنسان أخذ عينه ممن هي في يده.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 362(7/15)
وسئل رحمه الله تعالى عن بناء تحت أيدي جماعة ينتفعون به ويدعون استحقاق الانتفاع به فنازعهم شخص بأن هذا البناء أحدثه الحاكم الفلاني ظلماً على الشارع وأقام بينة بذلك وأقامت تلك الجماعة الواضعون أيديهم بينة بأن هذا البناء كان موجوداً قبل وجود هذا الحاكم المذكور في هذا المكان فهل تقبل بينة واضع اليد ويحكم باستمرار الانتفاع أو تقدم بينة المنازع فيمنع واضع اليد من الانتفاع والتصرف؟. فأجاب بقوله: الذي دل عليه كلامهم أنه يحكم باستمرار انتفاع واضع اليد وعدم رفع يده لأن هاتين البينتين إما متعارضتان لأن إحداهما تقول إنه أحدث ظلماً وقت كذا والأخرى تقول إنه كان موجوداً قبل ذلك الوقت فتواردا على النفي والإثبات في عين واحدة وهذا تعارض من وجهين فهو أولى من قولهم لو شهدا بأنه سرق كذا أو غصبه غدوة وشهد آخران بأنه سرقه أو غصبه عشية تعارضتا، ومن قول ابن الصلاح رحمه الله تعالى لو شهدت بينة بأنه برىء من مرضه الفلاني ومات من غيره وشهدت بينة أخرى بأنه مات من مرضه الفلاني تعارضتا وإذا ثبت تعارضهما وأنه لا مرجح لأحدهما حكم بتساقطهما لتناقضهما ولأنهما لم يشهدا بشيء فتبقى يد الواضعين على حالها فيتصرفون في ذلك البناء بما أرادوا وإما متعارضتان ولإحداهما مرجح وهو ليس إلا للبينة الثانية في السؤال لأنها اعتضدت بشيئين أحدهما اليد وقد قالوا إذا تعارضتا ولأحد المتداعيين قد قضى له بما ادعاه وإن تأخر تاريخ بينته لترجحها باليد سواء تعرضت لسبب ملك ذي اليد أم لا؟ ثانيهما سبق التاريخ لأن الشاهدة بالأحداث ظلماً تشهد به سنة عشر مثلاً والأخرى تشهد بالوجود سنة تسع مثلاً فالثانية أسبق تاريخاً فتقدم كما صرحوا به بقولهم لو أقام أحدهما بينة بملكه من سنة والآخر بينة بملكه من أكثر قدمت بينة الأكثر لأنها تثبت الملك في وقت بلا معارضة وفي وقت بمعارضة فيتساقطان في الثاني ويثبت موجبها في الأوّل والأصل في الثابت دوامه اهـ فكذا هنا(7/16)
تقدم الثانية لأنها أثبتت وجود ذلك البناء في وقت بلا معارضة وفي وقت بمعارضة فيتساقطان في الثاني ويثبت موجبها في الأوّل والأصل في الثابت دوامه ويؤيد ذلك إفتاء ابن الصلاح رحمه الله تعالى فيمن مات وخلف ملكاً فادعى أجنبي أنه ملك بيت المال وأنه كان بيد الميت غصباً وأقام بينة بذلك وأقام الوارث بينة بأنه ملكه وأن يده ثابتة عليه بحق وأن يد الميت أيضاً يد حق إلى أن مات بأنه تقدم بينة الوارث لأن معها زيادة علم وهو حصول الملك ولا يعارض إفتاءه هذا إفتاؤه أيضاً بأنه لو قال الخارج غصبتني فقال الداخل هو ملكي وأقاما بينتين قدمت بينة الخارج لأن يد الداخل هنا أثبتت هنا أن يده ثابتة بخلافه في مسألة الغصب الثانية، ووجه تأييد الأولى لمسألتنا أن دعوى الأجنبي أنه ملك بيت المال كدعوى المنازع في السؤال بأنه شارع بجامع أن الحق للمسلمين في كل منهما فإذا قدمت بينة الوارث لزيادة علمها بتعرضها لحصول الملك فأولى أن تقدم بينة ذي اليد في مسألتنا لتعرضها لوجود البناء قبل وجود ذلك الظالم فهي أولى بأن معها زيادة علم، فإن قلت هل يمكن أن يقال بتقديم البينة الأولى في السؤال أخذاً من قولهم لو أقام بينة بأن مورثه فلاناً مات يوم كذا فورثه وهو ابنه لا وارث له غيره وأقامت امرأة بينة أنه تزوّجها يوم كذا ليوم بعد ذلك اليوم ثم مات بعده عمل ببينة المرأة لأن معها زيادة علم اهـ، فكذا الأولى معها زيادة علم بالأحداث المستند إلى فعل فلان الظالم فالقياس واضح، قلت الفرق بين المسألتين أظهر وأوضح لأن سبب زيادة العلم فيما قالوا أن الثانية أثبتت حياته في زمن ثان فهي وإن كانت مستصحبة لأصل الحياة لكن لما ضمت إلى ذلك تصرفه في ذلك الزمن بالنكاح فيه كان معها زيادة علم على الشاهدة بموته قبل ذلك فقدمت تلك على هذه لذلك، وأيضاً فهذه قالت لا وارث له سواه فهي نافية وتلك قالت أن الزوجة وارثة له فهي مثبتة والمثبتة مقدمة على النافية لأن معها(7/17)
زيادة علم فزيادة العلم هنا في ثلاثة أشياء علمه ببقاء حياته بعد زمن الموت الذي بينته الأخرى، ومن ثم قالوا لو شهدا بموته وشهد آخران بحياته بعد ذلك فشهادة الحياة أولى وبتعاطيه للنكاح بعد ذلك وبأن معها إثباتاً فقدمت لمجموع هذه الأمور، وأما في مسألة السؤال فلم يوجد نظير ذلك وإنما غاية ما فيه أن الثانية تشهد بوجود ذلك البناء في الزمن السابق، والأولى تشهد بأنه لم يكن حينئذ وإنما حدث بعد فالثانية هي المثبتة فزيادة العلم ليست إلا معها فكلامهم المذكور دليل لنا لا علينا على أنه يشكل عليه إفتاء
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 362
ابن الصلاح رحمه الله تعالى بأنه لو شهدت بينة بأنه مات في رمضان سنة كذا فأقام بعض الورثة بينة بأنه أقر له بدار سنة كذا لسنة بعد السنة المذكورة لموته قدمت بينة موته في رمضان، ووجه الإشكال أن قياس ما مر تقديم بينة الإقرار لأن معها زيادة علم بحياته بعد رمضان وإقراره، وقد يجاب بما قررته في تلك من أن زيادة العلم ثم إنما جاءت من مجموع تلك الأمور الثلاثة وليس هنا إلا بعضها فلا إشكال على أن في تلك ما يتضح به أن بينهما فرقاً ظاهراً لا يحتاج معه إلى ذلك الجواب وهو أن الثانية في تلك شهدت بنكاحه بعد الزمن الذي عينته الأولى ثم بموته بعد ذلك فمعها زيادة علم بتأخر حياته وتعاطيه للنكاح ثم بموته بعد ذلك، وأما في هذه فلم تتعرض البينة الثانية إلا لمجرد الإقرار المستلزم للحياة فكأنها شهدت بمطلق حياته بعد شهادة الأخرى بموته وشهادة الموت مقدمة لأنها ناقلة عن أصل الحياة بخلاف الشاهدة بها لاستصحابها لذلك الأصل فتأمل ذلك فإنه مهم، والله سبحانه وتعالى أعلم.(7/18)
وسئل رحمه الله تعالى عن دين شرعي ثبت بطريقه الشرعي فأوجب الوارث الشرعي على رب الدين يمين الاستظهار الجامعة لنفي المسقطات فاختار الوارث الشرعي رفع اليمين المذكورة بعد ذلك عن رب الدين فهل تسقط اليمين عن رب الدين ويأخذ ما ثبت له من الدين المذكور أم تجب اليمين المذكورة على رب الدين حتماً أم لا؟ وهل يكون الحكم كذلك في جميع الدعاوى سواء أكانت أصلاً على المدعي عليه إذا أنكر أو مردودة على المدعي؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: حيث كان للميت وارث خاص لم تجب اليمين إلا بطلبه وكذا سائر الدعاوى لا تجب اليمين فيها إلا بطلب من وجبت له أن تصوّر منه طلب.
وسئل رحمه الله تعالى عن شخص تملك مالاً ونقله عن ملكه إلى شخص آخر بالغ أو صبي بطريق شرعي ببيع أو صيرورة شرعية ثم ادعى شخص على الواضع يده على المال المنقول المذكور بأنه ملكه ورثه من أبيه فأنكر الواضع يده وقال هذا ملكي وأنا حائز له صار لي من فلان بطريق شرعي فقال له المدعي أنت تعلم أنه كان ملك أبي وصار لي بالإرث الشرعي فاحلف لي على ذلك أنك ما تعلم فهل تلزمه اليمين أو تلزم الناقل الذي صار له من قبله إذا كان حياً وإن كان ميتاً هل تلزم ورثته أو لا؟ فإذا قلتم بلزومها على الناقل أو المنقول ونكل فهل يحلف المدعي المذكور اليمين الشرعية لاستحقاقه لذلك ويأخذ المال أو لا؟. فأجاب نفعنا الله تعالى به بقوله: إنما تسمع الدعوى على واضع اليد ثم هو الذي يجيب بالاعتراف أو الإنكار فيطالب بالبينة وإلا فباليمين بتاً وإذا نزعت منه العين بحجة رجع بثمنها إن كان على من تملكها به منه بشرطه.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 362(7/19)
وسئل نفعنا الله تعالى به عما إذا ادعى زيد على عمرو مدعي فأجاب المدعي عليه بدعوى رافعة للمدعي به كقوله أبرأتني من هذا المبلغ أو أديتك إياه أو أقررت بأنه ليس لك عليّ حق ولم يمض زمان بعد هذا الإقرار يمكن فيه ترتب حق للمقر على المقر له وأراد المدعي عليه الذي صار مدعياً بالدافع تحليف المدعي أولاً على نفي وقوع الدافع وأراد المدعي أولاً تحليف المدعي عليه على عدم المدعي به من يقدم منهما في الإجابة وهل يفرق بين اقتران جواب المدعي عليه بالدافع بنفي المدعي به أم لا يفرق وهل قوله أقررت بأنه ليس لك عليّ حق بشرطه المتقدم واقع أم لا؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله: ليس هنا يمينان مترتبتان حتى يتوهم التعارض في المقدم منهما وإنما هنا يمين واحدة هي على المدعي أنه ما أبرأ أو ما أقر وأن المدعي عليه ما أدى إليه فإن حلفها المدعي أخذ الحق من المدعي عليه لأنه اعترف به وادعى رافعاً له لم يثبت فلزمه أداؤه عملاً بأصل الاستصحاب وإن نكل المدعي عنهما حلف المدعي عليه على الإبراء أو الإقرار أو الأداء أو لا شيء عليه، فعلم أن اليمين هنا متوجهة أوّلاً على المدعي فإن نكل عنها توجهت على المدعي عليه من غير نظر إلى الفرق الذي ذكره السائل، وقوله أقررت الخ دافع كما هو جلي وإن فارق ما مر من وجه آخر، فقد صرحوا بأنه لو ادعى عليه ألف ردهم فقال للحاكم قد أقر أنه أبرأني أو أنه استوفى مني الألف فليس بإقرار بخلاف دعوى الإبراء والاستيفاء فإنه إقرار بالدين المدعى به ثم عقبه بما يسقطه فلم يقبل منه فكانت اليمين في جهة المدعي أوّلاً كما قدمته.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 362(7/20)
وسئل رحمه الله تعالى عن اليمين التي تطلب من المدعي أو المدعي عليه هل يشترط سماع القاضي إياها أو أن يكون بحيث تسمع أو لا، وإذا نكل هل يشترط سماعه نكوله بقوله إنا نأكل أو لو سمعه غيره كفى أو يفرق بين أن يكون بحيث يسمع أو لا؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله: كلامهم مصرح في مسائل بأنه لا بد من سماع القاضي أو من أنابه في ذلك لليمين والنكول ويوجه بأن تحليفه حكم عليه بحلفه أو بنكول خصمه وإذا كان حكماً بذلك فهو كالحكم بشهادة البينة فكما اشترط سماعه لشهادتهما حتى يحكم بها كذلك يشترط سماعه لليمين أو النكول حتى يحكم بأحدهما وهذا ظاهر لا غبار عليه، ومما يدل عليه قولهم لو شهدت بينة على قاض أنك حلفت فلاناً على كذا ولم يتذكره لم يلتفت لتلك البينة قالوا لأن القاضي لا يمضي حكمه إلا إذا تذكره ولا يعتمد فيه على البينة فإذا لم يقبل البينة على ذلك فأولى أن لا يقبلها إذا شهدت عنده أنه حلف بين يديه من غير أن يسمعه إذ لو قلنا أنه لا يشترط سماعه لاكتفى بحلف من وجه عليه اليمين في حضرته وإن لم يسمعه فلما لم يكتفوا بتلك البينة علمنا أن هذه البينة لا يكتفي بها بالأولى كما تقرر، وصرحوا أيضاً بأنه لا بد أن تكون اليمين بتحليف القاضي أو نائبه ومع ذلك كيف يتوهم أن القاضي لا يشترط سماعه إذ كيف يدار الأمر على تحليفه ولا يدار على سماعه، فإن قلت يمكن أن يراد بتحليفه أمره بالحلف ولا يلزم من أمره به سماعه له بعد انقضاء أمره به لأنه قد يأمر به ثم يشتغل عنه فبحلف في حال اشتغاله ويثبت عنده أنه حلف على ما أمره به فما المانع حينئذ من صحة يمينه، قلت المانع منها ما قدمته من أن تحليف الخصم حكم له بموجب يمينه ولا يكون حاكماً له بموجبها إلا إذا سمعها على أنه لا يسمى محلفاً له بمجرد الأمر وإنما يسمى بذلك إن سمع ما حلف به وعليه وأيضاً فالعبرة بنية القاضي واعتقاده حال الحلف ولا يعتبر ذلك إلا إذا سمع يمينه، وأما إذا لم(7/21)
يسمعها فكيف يكون على نيته واعتقاده وأيضاً فإنه يشترط فيها مطابقتها للدعوى والمطابقة أمر دقيق بدليل اختلاف الأئمة ـ رضى الله تعالى عنه ـ م في مسائل منها هل الجواب عنها بكذا مطابق أو لا فذلك كله صريح في أنه لا بد من سماعه لليمين والنكول حقيقة ولا يكفي قيام البينة عنده بهما.
وسئل رحمه الله تعالى عمن ادعى عليه بعين فقال هي لابني الطفل، ففي أدب القضاء في موضع لا يحلف، وفي موضع لا تنصرف الخصومة عنه فهل بينهما تناف؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: لا تنافي فإن معنى لا يحلف أي بالنسبة للرقبة فلا تسلم للمدعي بحلفه كما يأتي، ومعنى لا تنصرف الخصومة عنه أي بالنسبة لإقامة البينة عليه وغرم بدل العين إن نكل وحلف المدعي، إذ العين لا تسلم إليه حينئذ بل قيمتها لأنه حال بينه وبينها بإقراره بها لطفله.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 362
وسئل رحمه الله تعالى عما إذا أبرأه عن اليمين أو عن إتمامها فأراد الحالف إتمامها فمن المجاب منهما؟. فأجاب نفعنا الله تعالى به بقوله: الإبراء عن اليمين يسقط حقه منها في هذه الدعوى فله أن يجددها ويحلفه ثم ظاهر كلامهم سقوط الحق منها وإن شرع القاضي في التحليف، نعم بحث بعضهم أنه لو طلب الخصم إتمامها أجيب قياساً على ما نقله الأذرعي رحمه الله تعالى عن تعليق القاضي رحمه الله تعالى أنه لو شرع المدعي في يمين الرد فقال المدعى عليه لا تحلفه وأنا أغرم له المال فله أن يكمل اليمين حتى يأخذه على وجه الاستحقاق فكذا يقال هنا إذا شرع المدعي عليه في يمين الأصل فقال أبرأته عن اليمين له إتمامها لينقطع الطلب عنه والجامع بينهما حصول الانتفاع وقطع العلق.(7/22)
وسئل رحمه الله تعالى هل يشترط التفصيل في دعوى المهر أو الإرث كما في دعوى عقد النكاح أم لا؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: إن وجهت الدعوى إلى عقد النكاح كأن قالت أستحق المهر أو الإرث بسبب عقده عليّ اشترط فيها ذكر كون العقد بولي مرشد وشاهدي عدل ورضاها إن شرط لأنها لما رتبت دعواها نحو المهر على العقد كانت مدعية نفس العقد فاحتاجت لذكره شروطه ولا يقبل منها حينئذ إلا رجلان، وعليه حمل قول البلقيني رحمه الله تعالى لا بد من رجلين أو إلى نحو المهر أو الإرث بأن قالت استحق على المتوفي المهر والإرث لم يحتج لذكر شروط العقد وكفاها رجل وامرأتان وشاهد ويمين لأن مدعاها محض مال وعليه حمل قول الشيخين رحمهما الله تعالى تسمع دعواها ويقبل رجل وامرأتان أو رجل ويمين لأن المدعي مال.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 362(7/23)
وسئل رحمه الله تعالى عن قيم طفل ادعى على قيم طفل وأقام بينة فهل يجب الانتظار للبلوغ ثم الحلف؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله: ظاهر كلام الشيخين رحمهما الله تعالى بل صريحه وجوب ذلك، وبه صرح القاضي حسين وخالفهما كثير من المتأخرين ك السبكي تبعاً لابن عبد السلام فقالوا يسلم له المال بعد الحكم له به وتبعهم بعض العلماء من القضاة فحكم به مراراً، بل قال إنه الذي عليه العمل وأن أهل عصره لم يعترضوه في حكمه به واعتمده أيضاً شيخنا سقى الله تعالى عهده في شرح المنهج ووجهه السبكي رحمه الله تعالى بأنه قد يترتب على الانتظار ضياع الحق، فإن تركة المدين قد تضيع أو يأكلها ورثته فتعريضها لذلك وتأخير الحكم مع قيام البينة مشكل لا سيما ونحن نعلم أن الصبي المستحق لا علم عنده من ذلك واليمين التي عليه بعد بلوغه إنما هي على عدم العلم بالبراءة وهذا أمر حاصل فكيف يؤخر الحق لمثل ذلك قال والوجه عندي خلاف ما قاله القاضي رحمه الله تعالى من تأخير الحكم وأنه لا يحكم الآن بالبينة ويؤخذ له الدين وإن أمكن أخذ كفيل به حتى إذا بلغ يحلف فهو احتياط وإن لم يمكن فلا يكلف، وينبغي للقاضي إذا حكم لا يهمل مكتوباً بيد المحكوم عليه أن له تحليف المحكوم له إذا بلغ. وقال البلقيني رحمه الله تعالى: لا حاجة إلى الحيلولة لما فيها من عدم الفائدة لجواز أن يتلف المأخوذ فإن بقي الدين أضررنا بالمديون وإن لم يبق أضررنا بصاحب الدين فلم يبق إلا إسقاط الاستظهار للاحتياط في أخذ المال فإن يمين الاستظهار إنما شرعت للاحتياط، والاحتياط أن يؤخذ لأنه قبل الأخذ بصدد الضياع وبعد الأخذ ثبت الحق والأصل عدم ما يقتضي إسقاطه فالفتوى على عدم الأخذ، ويدل له أنه لو ادعى وكيل غائب على ميت أو غائب قضى له ولا يتوقف الأخذ على حضور الموكل وتحليفه ولك أن تقول انتصاراً للأوّل نظركم إلى أن تركة المدين قد تضيع إلى آخر ما مر يعارضه أن تركة الدائن قد تضيع(7/24)
أيضاً، فإذا بلغ ونكل عن اليمين لا يجد المدين مرجعاً فنظركم إلى احتمال الضياع في جانب المدين تحكم بل احتماله موجود فيهما فبطل النظر كذلك كما ظاهر وجلي، وقول السبكي رحمه الله تعالى ونحن نعلم الخ، يرد بأن علمنا بذلك لا يمنع احتمال نكوله ووجوب رد ما أخذه مع احتمال ضياعه منه أو من وليه من غير بدل يخلفه فاندفع قوله أيضاً وهذا أمر حاصل، وقول
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 362
البلقيني رحمه الله تعالى فلم يبق إلا إسقاط الاستظهار الخ، يرد بمنع ما ذكره المتفرع عليه قوله فلم يبق الخ، ووجه منعه أن لنا طريقة يحصل بها الجمع بين المصلحتين من غير ضرر يعود على أحد الجانبين بأن يمنع القاضي قيم المدين من التصرف في قدر الدين ويجعله في محل لائق به ويختم عليه بختمه وحينئذ فلا ضرر بتلفه على أحد، أما المدين فلأنه لو لم يكن عليه دين وفعل بماله ذلك لا يقال إنه سعى في إتلافه فإنه لو كان في ذلك المحل من غير ختم لأصابه ذلك التلف أيضاً، وأما الدائن فهو لم يدخل في ملكه حتى يحسب عليه من دينه، وقوله الاحتياط أن يؤخذ الخ، ممنوع لأنه احتياط بالنسبة للدائن لا للمدين وهو تحكم لما قررناه أولاً أنه يحتمل تلف تركة الدائن ونكوله عن يمين الاستظهار فيفوت الحق على المدين، ولا دليل له في مسألة الوكيل، لأن الأصحاب أجابوا عنها بأنا لو أمهلنا الحق لحضور الموكل وحلفه لتعذر الاستيفاء بالوكلاء وهذا أمر عام الضرر فلم يقولوا به لعموم ضرره بخلافه في مسألتنا فإنه لو فرض فيها ضرر هو خاص على أنه متكافىء من الجانبين كما تقرر، فعلم أن الأوّل الذي هو المنقول له وجه واضح جلي فلا مساغ للعدول عنه، والله سبحانه وتعالى أعلم.(7/25)
وسئل رحمه الله تعالى عمن بيده عين اشتراها من ورثة في زمن كذا فادعى خارج أنها ملكه وبيده سرقت منه في زمن كذا فمن تقدم منهما بينته؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله: إن ذكرت بينة الخارج أنها ملكه وأن الداخل سرقها أو أنها سرقت من يد من ترتبت يد الداخل عليه قدمت الخارجة كما أفتى به جمع متأخرون كالشرف ابن المقري رحمه الله تعالى وتلامذته عمر الفتى و يوسف المقري رحمهما الله تعالى وغيرهما قالوا: ولا فرق بين أن تذكر الداخلة أنه اشتراها من مالك يملك أم لا، أي فتقدم الخارجة الذاكرة لما مر أن معها زيادة علم بأن يد الداخل بغير حق قالوا لأن الداخل صار خارجاً وعكسه لبيان مستند إليه، وخالف في ذلك بعض أهل اليمن فقدموا الداخلة حيث قالت اشتراها من مالك يملك لأنا علمنا أن يد الداخل ليست عادية، قال بعض المتأخرين: والمعتمد الأوّل لما تقرر أن الداخل صار خارجاً بإثبات الخارج أنه مسروق منه، ومن المعلوم أن الخارج لا يقدم على الداخل بإثبات الانتقال من غير المدعي عليه ونحن فرضنا الداخل خارجاً فلا تقدم بينته إلا إن أثبتت الشراء من الخارج لأنه صار بإثبات بينة السرقة هو صاحب اليد.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 362
وسئل رحمه الله تعالى عمن ادعى على آخر أن ما اشتراه يعلم بالاستفاضة أنه وقف مسجد كذا فهل تسمع هذه الدعوى أم لا؟. فأجاب نفعنا الله تعالى به بقوله: أفتى بعضهم بأنها لا تسمع لأن شرط الدعوى الجزم ولا يلزم من سماعه من جمع يبعد تواطؤهم على الكذب بوجود الوقف أنه لا يكون ملكاً اهـ، وليس في محله لأن ما علل به لا يتأتى إلا لو كانت صيغة الدعوى أن ما اشتراه سمع بالاستفاضة أنه وقف مسجد كذا فهذه هي التي لا تسمع إذ لا يلزم من سماعه بذلك علمه به، أما إذا كانت صيغة الدعوى ما ذكر في السؤال من أنه يعلم بالاستفاضة الخ، فتسمع الدعوى حينئذ بلا شك ويطالب بالجواب وتكون دعوى حسبة.(7/26)
وسئل رحمه الله تعالى عن الإكراه على الطلاق أو البيع أو نحوهما هل يشترط في ثبوته رجلان؟. فأجاب بقوله: الإكراه على البيع أو البراءة أو نحوهما يثبت بشاهد ويمين لأن القصد منه المال فهو نظير ثبوت القتل الذي لا يوجب قوداً بذلك نظراً إلى أن القصد المال بخلاف الإكراه على الطلاق لا يثبت إلا برجلين، لأن الطلاق المقصود لا يثبت إلا بهما، ويشترط في شاهده تفصيله لاختلافه باختلاف الأشخاص والأحوال والمذاهب بل أهل المذهب كثر اختلافهم في حده وما يثبت به.
وسئل رحمه الله تعالى هل جداد النخلة يورث يداً عليها كالهدم والبناء أم لا؟. فأجاب بقوله: مجرد الجداد وحده لا يورث يداً على النخلة كما هو ظاهر، لأنه لا يعد استيلاء عليها كالهدم وحده بخلاف البناء، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل رحمه الله تعالى هل تثبت الحدود بالاستفاضة؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله: الذي نقله البلقيني رحمه الله تعالى في فتاويه في باب الجزية عن ابن عبد السلام رحمه الله تعالى واعتمده أنها لا تثبت بها، وعبارته الحدود لا تثبت بمجرد الوجود ألا ترى أن غاصباً لو غصب داراً وجاء مدعيها ليدعي بها وأقام بينة بالدار ولم تتعرض البينة لحدودها لا بالإشارة ولا بالعبارة فإنا لا ننزع الدار من الغاصب بمجرد ما ذكر فإن قيل فقد ذكر العلماء ـ رضى الله تعالى عنه ـ م أن ما اشتهر لا حاجة إلى ذكر حدوده، فالجواب أن ذلك في المشهور المقطوع به فأما غير ذلك مما شك في حدوده فلا بد من ذكر حدوده. وقال الشيخ الإمام ابن عبد السلام رحمه الله تعالى: أن الحدود لا تثبت بالاستفاضة ورأيت ذلك في مكتوب له مسجلاً عليه بقضية بركة الحبش، وقال في آخره: ولم تثبت الحدود، إذ الحدود عندنا لا تثبت بالاستفاضة.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 362(7/27)
وسئل رحمه الله تعالى عن حاكم شرعي صدرت عنده دعوى شرعية بين متداعيين في قضية لم تثبت عنده إلا بشاهدين دون شاهد ويمين أو شاهد وامرأتين كنحو طلاق ونكاح وقصاص وتنفيذ حكم حاكم آخر فلم يحضر عنده غير شاهد واحد وتعذر الثاني بموت أو غيره فهل يجوز للحاكم أن يقول للشاهد فوضت إليك الحكم في هذه القضية فيحكم فيها الشاهد بعلمه أو لا يجوز له ذلك وإذا قلتم بالجواز وحكم فيها الشاهد بعلمه وأخبر مستنيبه بذلك؟ فهل للمستنيب أن يعتمد عليه وينفذ حكم نائبه في القضية المذكورة بإخباره بذلك أوضحوا لنا ذلك فلقد رأينا من يفعل ذلك من غير تفويض ولا نيابة منه في ذلك بل يكتفي بإخباره من غير زيادة ويحكم فيها أو ينفذها فهذا مما أشكل علينا. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: إذا كان في الشاهد أهلية القضاء في تلك المسألة المفوّضة إليه ولم يكن ثم تهمة ويبين مستنده كما هو الشرط في القضاء بالعلم من غير المجتهد، وكان للقاضي الاستنابة جاز له أن يستنيبه فيها ليقضي فيها بعلمه بشروطه التي ذكرناها وغيرها مما هو مقرر في كتب الفقه ومتى اختل شرط من ذلك بطل التفويض والقضاء وكم ارتكب قضاة السوء وشهوده من القبائح ما تصم عنه الآذان فلا يبعد عليهم ما ذكره عنهم السائل، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل رحمه الله تعالى عما إذا ثبت حرية الأصل في الأم بيمينها فهل يحكم بحرية ولدها بمجرد يمينها أم لا؟. فأجاب نفعنا الله تعالى به بقوله: يحكم بحرية الولد بما ذكر، والله سبحانه وتعالى أعلم.(7/28)
وسئل رحمه الله تعالى عما إذا أذن له يصرف على دابته أو على من تلزمه مؤنته من فرع أو أصل واختلفا بعد ذلك في أصل الإنفاق أو قدره المعتاد فلم يحلف المنفق اليمين المتوجهة عليه في ذلك بل ردها على الآذن فهل له أن يطالبه باليمين المردودة أم لا وهل يكون حلف الآذن فيها على نفي العلم أم لا؟ فإن قلتم نعم ترد عليه اليمين ويجب عليه الحلف فما فائدة طلب هذه اليمين منه سواء وجبت عليه على نفي العلم أو على البت وهو لو نكل عنها لم يحكم عليه أصلاً؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: المراد طلب حلف المنكر ويكون على البت، وفائدة طلب حلفه أنه ربما خاف من اليمين فوافقه على دعواه.
وسئل رحمه الله سبحانه وتعالى عما إذا شهد أربع نسوة بأن فلانة ولدت قبل فلانة وشهد الشهود الذكور ببلوغها فهل يجوز تزويج الأخرى بذلك أو لا؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: إذا ثبت عند القاضي بطريقه الشرعي أن هذه المرأة بلغت بالسن وثبت عنده أن فلانة ولدت قبل هذه ثبت أنها بلغت بالسن أيضاً فيثبت لها أحكام البالغة ويجوز تزويجها بالإذن.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 362(7/29)
وسئل رحمه الله سبحانه وتعالى عما إذا شهدت بينة ببلوغ الصبي بالسن وأخرى بأنه لم يبلغ بل عمره ثلاثة عشر سنة أو أربعة عشر سنة هل هي شهادة يكتفى بها أو لا؟ وإذا شهدت بينة أنه ولد يوم ولد فلان أو مات يكفي ذلك أو لا؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: اختلاف هاتين البينتين فيما ذكر اختلاف في وقت ولادته، إذ حاصل شهادة الأولى أنه مضى له من حين ولادته خمسة عشر سنة، وشهادة الثانية أنه لم يمض له من وقت ولادته إلا ثلاث أو أربع عشرة سنة فالأولى تثبت وجوده وولادته في زمن معين، والثانية تنفي وجوده في ذلك الزمن فهما متعارضتان لكن الثانية مستصحبة لأصل العدم والأولى ناقلة عنه فمعها زيادة علم فيعمل بشهادتها وتلغى شهادة الثانية، وإذا أرخت الشاهدة بالولادة بنحو موت فلان وثبت بالحجة الشرعية موته يوم كذا ثبتت ولادة فلان يوم كذا وأدير حكمه عليه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 362(7/30)
باب العتق
وسئل رحمه الله تعالى في رجل معه أمة فسافر بها إلى بلاد في اليمن تسمى جازان من أعمال الترك فنزل على البلاد ولد الإمام الزيدي فشردوا الترك وتركوا البلاد فمسكوا التجار والمتسببين جميعهم ومسك الرجل في حملتهم وحبس هو وجاريته مع من حبس فأرادوا أخذ الجارية فذكر لهم أنها حملت منه فلم يصدقوه فذكر لهم أنه أعتقها وتزوّج بها خوفاً أن تؤخذ منه فقام أكابر البلاد ودخلوا على المتولي وجعلوا مصلحته مائة وثلاثين أشرفياً حتى خلص هو وجاريته فهل يقع عليه عتق في الجارية أم لا؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: لا تعتق الجارية المذكورة باطناً أي فيما بينه وبين الله سبحانه وتعالى إن قصد بقوله أعتقتها الأخبار بالعتق كذباً حتى يكون ذلك سبباً لخلاصها، وأما في ظاهر الشرع فيؤاخذ بإقراره المذكور بمعنى أنه إذا ادعى عليه به وثبت لدى حاكم شرعي حكم عليه بعتقها، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل رحمه الله تعالى عمن قال متى وجدت عبدي ولم أطوشه فهؤلاء الثلاثة أحرار فوجده وباعه ولم يطوشه فهل يحنث أم لا؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى به بقوله: إذا وجده وتمكن من تطويشه فلم يفعل عتق عليه أرقاؤه الثلاثة المذكورون، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 386(7/31)
وسئل رحمه الله تعالى عمن قال، أي عبد من عبيدي ضربك فهو حر فضربه واحد عتق ولو ضربه آخر عتق حتى لو ضربوه كلهم عتقوا ولو قال أي عبد من عبيدي ضربته فهو حر فضرب واحداً عتق فإن ضرب آخر لم يعتق فما الفرق مع أن في كل منهما صيغة أي الدالة على العموم؟. فأجاب بقوله: الفرق بينهم أن أي وإن كان للعموم إلا أن ضرب في الأول مسند إلى ضميره وقد وقع صفة له فيكون على طبقه في العموم ويصير المعنى حينئذ أي عبد من عبيدي اتصف بضربك فهو حر فكل من اتصف بضربه يكون حراً، وأما ضرب في الثاني فهو لم يسند إلى ضمير أي التي للعموم فلم يمكن وقوعه أعني ضرب صفة لأي وإذا لم يقع صفة لها لم يكتسب عموماً بل هو باق على وضعه من أن الفعل المثبت لا عموم له وحينئذ فلا يعتق إلا الأول لا يقال النكرة في سياق الشرط للعموم لأنا نقول العموم فيها ضعيف لأن دلالة السياق في غاية الضعف فلا تساوي العموم بالصيغة الموجودة في اللفظ لأنه أقوى على أن الأصل عدم عتق ما زاد على واحد فلا يعتق إلا زيد عليه إلا أن قويت الصيغة الدالة على الشمول له ومن ثم لو قال من ضربك من عبيدي فهو حر عتق كل من ضربه لأن ضرب حينئذ مسند إلى ضمير من العام فيعم كما سبق في الصيغة الأولى بخلاف ما لو قال من ضربت من عبيدي فهو حر، فإنه لا يعتق إلا من ضربه أوّلاً أخذاً مما مر في الصيغة الثانية، ثم ما ذكر هو ما صرح به القاضي حسين رحمه الله تعالى في الأخيرة، وأما المسألة الأولى فهي في كتب الحنفية وحاصل ما في الجامع لو قال أي عبد ضربته فهو حر وضرب الكل فإن كانوا معاً عتق واحد وبينه السيد لا الضارب أو مرتباً عتق الأول لعدم المزاحم وقت ضربه أو أي عبيدي ضربك فهو حر فضربوه معاً أو مرتباً عتقوا، والفرق من وجوه ذكرها منها لو قال أي نسائي شئت طلاقها فهي طالق فشاء طلاق الكل لم تطلق إلا واحدة ويبينها الزوج أو من شاءت طلاقها فهي طالق فشئن طلقن، ولو قال لرجل طلق أي نسائي شئت لم يطلق(7/32)
غير واحدة أو أي نسائي شاءت طلاقها فطلقها فشئن جميعاً فطلقهن طلقن أو من شئت عتقه من عبيدي فأعتقه فأعتقهم جميعاً فعلى الخلاف ولو شاء عتقهم ولم يعتقهم لا يعتقون أو من شاء من عبيدي عتقه فهو حر فشاءوا أو أعتق من عبيدي من شاء فإذا شاءوا فأعتقهم عتق الكل أو من سرق من الناس فأقطعه كان له قطع كل سارق أو أقطع من السراق من شئت لم يفهم منه التعميم فلا يقطع إلا واحداً منهم اهـ وينبغي اختصاص جريان هذه التفاصيل بالنحوي وأن غيره لا يحمل كلامه إلا على واحد في الكل أخذاً مما ذكره أئمتنا رضي الله تبارك وتعالى عنهم في أنت طالق إن دخلت الدار بكسر إن وفتحها ونظائره وإنما اقتصرت على واحد فيهما لأن الأصل عدم العتق فلا يصار إلى أزيد من واحد إلا إن قصد أو وجدت قرينة لفظية قوية ولا يتصوّر وجود تلك القرينة إلا من النحوي دون غيره لأنه لا يفرق بين الصيغتين فحملناه على المتيقن وألغينا المشكوك فيه.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 386(7/33)
وسئل رحمه الله تعالى عمن أعتق عبد بشرط ملازمته للصلوات فصلى مدة ثم ترك فهل يصح العتق أو لا فيباع ويشترى بثمنه غيره يلازمها؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: لم أر في هذه المسألة نقلاً بعد الفحص وتتبع كلام الأئمة ثم الظاهر أن صورة السؤال أعتقتك بشرط أن تلازم أو إن لازمت على الصلوات، ويحتمل أنها إن لازمت على الصلوات فأنت حر أو فقد أعتقتك وبين الصورتين فرق إن قلنا إن الإخلال بهذا الشرط في الأولى يقتضي مالاً، والظاهر خلافه وذلك الفرق المبني على خلاف ذلك الظاهر هو أنه في الأوّل يشترط القبول فوراً فيعتق عقبه وإلا فلا، وأما الثاني فلا يكفي فيه القبول مطلقاً بل لا بد من فعل المعلق عليه وإنما قلت إن قلنا الخ لقولهم يصح العتق بعوض ولو من أجنبي، وحكمه فيه كهو فيه في الخلع فحيث رجع ثم لمهر المثل رجع هنا للقيمة وحيث رجع ثم للمسمى فهنا كذلك وحيث قلنا ثم بالفورية قلنا بها هنا وحيث لا فلا فعلم أنه لا بد من قبوله فوراً ما لم يأت بنحو متى أو يقل بعد موتي وأنه حيث فسد بنحو جهل أو غيره مما يفسد به عوض الخلع وقع العتق بقيمته يومئذ فمن الفاسد أعتقتك على أن تخدمني أو أن تخدمني أبداً أو إلى مرضي أو نحو ذلك فإن قبله فوراً عتق ولزمه قيمته وإلا لم يعتق أو أن تخدمني شهراً وقبل عتق ولزمته خدمته شهراً فإن تعذرت الخدمة المدة كلها رجع عليه بقيمته أو بعضها فبقسطه وأنه لو قال لأمته أعتقتك على أن أنكحك ومثله كما بحثه غير واحد على أن تنكحي زيداً أو لسيد قن أعتقه على أن أنكحك ابنتي احتيج للقبول فوراً فيقع العتق بالقيمة، لأن العوض لا يصح كونه عوض خلع وأنها لو قالت لقنها أعتقتك على أن تنكحني أو على أن أعطيك ألفاً عتق من غير قبول لانتفاء المعاوضة وخروج الشرط إلى الوعد الحسن ومتى مات السيد قبل الفعل المعلق عليه بطل ما لم يقل بعد موتي فيقع به متى وقع بعده ويمتنع على الوارث التصرف فيه ما لم يعرض عليه(7/34)
فعل المعلق به فيمتنع منه ويأتي في فعله أو فعل من يبالي بتعليقه للمعلق به ناسياً أو جاهلاً أو مكرهاً، وفي التعليق بالمحال ما قرروه في الطلاق نعم لو قال لامرأته وأجنبية إحداكما طالق ولا نية له طلقت امرأته بخلاف ما لو قال لفنه وحر غيره أحدكما حر لا يعتق قنه، والفرق أن الحرية لا تحتاج في الأصل لإيقاع فإيقاعها في الغير الحر مطابق للأصل بخلاف الطلاق فإنه يحتاج للإيقاع وإطلاقه على الزوجة هو الأصل المتبادر فانصرف إليها وهذا واضح وإنما الخفي ما لو قال ذلك لقنه وقن غيره، فإن المسألتين على حد سواء وقد فرقوا بينهما أيضاً، ويوجه بأن انصراف الحرية إلى أحدهما لم يقو مرجحها لاستوائهما في استحالة حقيقتها دون مجازها كالنية قبل التلفظ بذلك اللفظ فانصرافها إلى المملوك مع مساواة الآخر له في ذلك فيه شبه تحكم بخلاف الطلاق فإن الزوجة والأجنبية ليستا بمستويتين في حقيقته ولا في مجازه فانصرف إلى من هو حقيقة فيها وحدها أي الزوجة دون الأجنبية لأنه لا يصح استعماله فيها مراداً به معناه الحقيقي أصلاً، فإن قلت إن أردت ذلك من حيث هو لا يفيد أو بالنسبة للمتكلم فهما فيه سواء، ألا ترى أن غير سيد القن لا يصح وصفه له بالحرية إلا مجازاً والسيد يصح وصفه له به حقيقة فكذا الزوج لا يصح وصفه بالطلاق حقيقة إلا لزوجته وللأجنبية به إلا مجازاً فاستويا قلت ممنوع لأنا عهدنا وقوع الحرية الحقيقية من غير السيد كسراية عتق أحد الشريكين وكعتق الولي عن موليه والوارث عن مورثه ولم يعهد وقوع الطلاق من غير الزوج إلا من الحاكم في مسألة الإيلاء، وبهذا يتضح ما فرقت به من استواء القنين في الاتصاف بحقيقة الحرية ومجازها من السيد وغيره ولا يصح استواء الزوجة والأجنبية في الاتصاف بحقيقة الطلاق ومجازه من الزوج وغيره فتأمله، ويأتي هنا في أن أديت لي أو أعطيتني أو أقبضتي أو ضمنت لي أو قبضت منك كذا ما قالوه في ذلك في الخلع، وفي إن دخلت وكلمت ما(7/35)
قالوه في اعتراض الشرط على الشرط في الطلاق، وفي التعليق بالمشيئة ما قالوه ثم أيضاً ولو أعتقه بشرط فاسد كأعتقتك على أن لي أو لفلان الخيار أو على أن أبيعك أو أعود فيك إذا شئت فهل يصح العتق ويلغو الشرط كالنكاح في أكثر صوره أو لا يصح من أصله ظاهر كلام الأئمة في أصل الروضة الثاني، وعبارته في باب الوقف فلو وقف بشرط الخيار، وقال وقفت بشرط أن أبيعه أو أرجع فيه متى شئت فباطل واحتجوا له بأنه إزالة ملك إلى الله تعالى كالعتق أو إلى الموقوف عليه كالبيع والهبة وعلى التقديرين فهذا الشرط مفسد لكن في فتاوى
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 386(7/36)
القفال أن العتق لا يفسد بهذا الشرط، وفرق بينهما بأن العتق مبني على الغلبة والسراية اهـ، واعتمد السبكي رحمه الله تعالى كلام القفال وقال: إن ما اقتضاه كلام الشيخين رحمهما الله تعالى من بطلان العتق بالشرط الفاسد غير معروف اهـ، وعليه فإن كان ذلك الشرط الفاسد في عتق يحتاج لقبول كوهبتك نفسك أو أعتقتك على كذا اشترط القبول وفسد المسمى ووجبت القيمة كما في الخلع والنكاح المقترنين بشرط فاسد لا يبطلهما إذا علمت ذلك وتأملته اتضح لك قولي السابق، والظاهر خلافه وبيانه أن الصورة الثانية أعني إن لازمت على الصلاة فأنت حر لا معاوضة فيها أصلاً بوجه من الوجوه وإنما هي محض تعليق فحيث أتى بالمعلق عليه عتق وإلا فلا لكن ما حد تلك الملازمة وما ضابطها والذي يظهر الرجوع في ذلك للعرف فحيث لازمها مدة حتى يصار يسمى عند الناس أنه ملازم لها عتق وإلا فلا، فإن قلت هل ينصرف ذلك التعليق إلى الفرائض ورواتبها أو إلى الفرائض فقط، قلت الظاهر الثاني لأن الذهن إنما يتبادر إليه لغلبة ترك الأرقاء لصلوات الفرض، فالظاهر أن السيد قصد بهذا الإحسان إليه حمله على خلاف ما اعتاده أبناء جنسه، وأما حمله على النوافل أيضاً فلا قرينة له قوية حتى نأخذ بها ثم رأيت عن القلعي رحمه الله تعالى ما يوافق ما ذكرته وهو قوله لو قال لعبده إن حافظت على الصلاة فأنت حر يقع لأنه يعتبر لوقوعه أي العتق محافظته عليها مدة استبراء الفاسق إذا تاب وصلح وهي سنة اهـ، وكأن هذا ضبط للعرف الذي ذكرته وهو ظاهر ومما يصرح به قولهم في حد العدالة أنها ملكة تحمل على ملازمة التقوى، وقد علمت أنهم حدوا تلك الملازمة للتقوى بسنة فجعلوا مضي سنة عليه وهو ملازم للتقوى محصلاً لتلك الملكة الحاملة على تلك الملازمة فكان هذا تصريحاً منهم بحصول تلك الملازمة بسنة فكذلك القصد بهذا التعليق محافظته على الصيانة والتقوى فإذا مضت عليه سنة وهو ملازم للصلوات المفروضة في أوقاتها فقد حصلت(7/37)
له ملكة الملازمة فوجد مقصود المعلق عليه، فإن قلت قد يتخذ الرقيق ملازمة تلك المدة وسيلة لعتقه فحسب ثم يعرض عنها إذا عتق قلت لا نظر لذلك، ألا ترى أن الشاهد إذا فسق ربما اتخذ تلك الملازمة وسيلة لعود عدالته فقط ولم ينظروا لذلك اكتفاء بالمظنة الغالب حصول المقصود بها لأن الإنسان له طبائع أربعة كل منها يتحرك في الفصل المناسب له إلى الشهوات والبطالات فحيث مضت عليه تلك الفصول ولم يمل طبعه عما هو عليه من التقوى إلى صدها الحامل عليه الزمن وغوائل المحن علم أن التقوى صارت له كالطبيعة والملكة الراسخة التي لا تزول غالباً فاكتفوا بتلك المظنة الدال عليها قوله تعالى:
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 386(7/38)
{إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر} (العنكبوت: 45) ولم ينظروا إلى العوارض المستقبلة لأنها غيب عنا هذا ما يتعلق بالصورة الثانية، وأما الصورة الأولى، أعني أعتقتك بشرط أن تلازم على الصلوات فبان ما قلته فيها من أنه لا مال عليه فيها هو أن العرض المتقوّم يجب هو أو بدله بشرط القبول وغير المتقوّم يقع العتق فيه بمجرد الإعتاق ولا يحتاج لقبول كما لو خالعها على دم أو نحوه مما لا يقصد بالعوضية كالحشرات فإنه يقع الطلاق رجعياً ولا مال لأن ذلك لما لم يقصد بالعوضية بحال كان المطلق غير طامع في شيء ألبتة بخلاف الميتة فإنها قد تقصد للضرورة وللجوارح، ولا شك أن الغرض الذي هو المحافظة على الصلوات غير متقوّم لأنه لا يقابل بعوض عرفاً ولا شرعاً لوجوبه على كل مكلف والواجب العيني المتعلق بالنفس لا يجوز أخذ عوض عليه أصلاً وإذا ثبت أنه غير متقوّم يأتي فيه ما في الخلع على الدم مما تقرر، فإن قلت هل يصح قياس هذه المسألة على ما مر في قولها لقنها أعتقك على أن تتزوجني قلت الحكم واحد لكن الملحظ في التعليل مختلف لقولهم في هذه أن هذا خرج عن العوضية إلى الوعد الجميل فكأنها أعتقته على أن تعطيه ألفاً فيعتق فيهما بلا قبول لعدم العوضية وانقلابها إلى الوعد الجميل لأنها لم تشترط عليه ما فيه مشقة أصلاً، وأما صورتنا ففيها عوضية بما فيه مشقة أي مشقة على العتيق لكن لما لم تقابل تلك المشقة بمال شرعاً ولا عرفاً سلخناه عن العوضية المقتضية للتقويم وجعلناه كأنه لم يذكر فاتضح أنه لا جامع بين المسألتين في العلة حتى يصح قياس ما في السؤال على هذه ولولا ما قرروه من أن العتق على شرط كالطلاق عليه في أحكام عوضه وغيرها لما اتضح في صورة العتق على محافظة الصلوات ما تقرر من أنه يعتق بمجرد التلفظ بذلك من غير قبول سواء أحافظ عليها أم لا ولا رجوع لسيده عليه بشيء أصلاً، والله سبحانه وتعالى أعلم.(7/39)
وسئل رحمه الله تعالى عن شخص وضع يده على مال أيتام ثم إنه تصرف في المال ببيع وشراء ثم اشترى جارية وأعتقها ثم إن أهل الدين طالبوه فما وجدوا معه ما يوفي مالهم فهل للحاكم الشرعي أن يحكم عليه ببيع الجارية ويوفي لهم مالهم أم لا؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى بعلومه بقوله: إن كان الشراء بعين مال الأيتام وليس وصياً عليهم أو كان وصياً ولا مصلحة لهم فالشراء باطل والعتق باطل، وكذا إن كان مديوناً وحجر عليه، وأما إذا لم يحجر عليه واشترى في ذمته فالشراء صحيح والعتق صحيح وليس للقاضي أن يحكم عليه ببطلان شراء ولا عتق، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 386
باب التدبير
وسئل رحمه الله تعالى عن شخص علق عتق عبده على صفة وصورته قال إذا مرضت فعبدي فلان قبل مرض موتي بثلاثة أيام أو شهر مثلاً حر لوجه الله سبحانه وتعالى فهل له بيع هذا العبد المعلق عتقه بهذه الصفة كالمدبر أو لا؟ وإذا وجدت الصفة هل يعتق من رأس المال أو من الثلث؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله: يباع العبد مطلقاً وإذا مات وقد وجدت الصفة عتق من رأس المال.(7/40)
وسئل رحمه الله تعالى عن شخص قال في الصحة أو في مرضه الذي توفى فيه لعبدين له إذا خدمتما ابنتي عائشة وأولاد ابني محمد بعد موتي خمس عشرة سنة أو إلى بلوغ الصغير منهم أنتما أحرار وكان والحال هذا أولاد ابنته المذكورة اثنين وأولاد ابنه كذلك اثنين فهل يصح ذلك التعليق بهذه الصفة ويعتقان أي العبدان هذان ببلوغ تلك الصفة المعلق العتق عليها أم لا؟ فإن قلتم يصح ذلك فلو مات واحد من أولاد ذلك الابن أو البنت قبل موت ذلك المعلق أو بعده وذلك هو الواقع في صورة السؤال هذا فهل يبطل ذلك التعليق ويصير المعلقان تركة أو لا؟ وأيضاً فلو مات من ذكرنا وهو ذلك المعلق عن بنته وبنت ابنه وأولاد عمه فهل تتوقف صحة ذلك التعليق على إجازة أولاد عمه وبنته في حصصهم لبنت ابنه لأن ذلك وصية لوارث أم لا يتوقف ذلك على الإجازة، فإن قلتم يتوقف ذلك على الإجازة فلو لم يجيزوا أو أجازت البنت ولم يجز أولاد أعمام ذلك الميت فهل يبطل ذلك التعليق أيضاً لأن المنفعة شرطها أن تستغرق الكل من أولاد بنته وابنه وأولاد ابنه لم يقع لهم الذي أراده لتعذره عليهم شرعاً وأيضاً فتزويج العبدين هذين على تقدير صحة ذلك التعليق هل يصح أم لا؟ فإن قلتم يصح، والحال ما تقدم فمن ذا يقدم ومن ذا يزوّجهما؟ هل هم الورثة بإذن ولي الأولاد أو غير ذلك وأيضاً فمؤنتهما من نفقة وكسوة وغير ذلك هل هي على الورثة المذكورين كالعبد الموصي بمنفعته حيث جميع مؤنه ثمة عليهم أم هي على الموصي لهم بالمنفعة وأيضاً فما حدث من أولاد من العبدين هذين في المدة المعلق العتق ببلوغها لمن يكونون لأولئك الورثة المذكورين أو لمستحقي تلك المنفعة وأيضاً فلو مات أحد العبدين المذكورين فهل يبطل ذلك التعليق أيضاً؟. فأجاب نفعنا الله تبارك وتعالى بعلومه بقوله: يصح ذلك التعليق المذكور ويعتقان بوجود الصفة المعلق عليها إن خرجا من الثلث وإلا فبالقسط من كل منهما فإن مات واحد من أولئك الأولاد قبل موت(7/41)
المعلق أو بعده بطل التعليق وصارا تركة لأن الصفة المعلق عليها وهي خدمتهما لجميع أولئك الأولاد لم توجد، ونظير ذلك ما لو قال لزوجتيه إن دخلتما هاتين الدارين فأنتما طالقان فدخلت إحداهما إحدى الدارين والأخرى الأخرى لم تطلق واحدة منهما حتى تدخل كل واحدة منهما الدارين جميعاً على الصحيح وما لو قال لهما إن حضتما فأنتما طالقان فإنه تعليق لطلاقهما على حيضهما جميعاً فإن حاضتا معاً طلقتا وإن حاضت إحداهما لم تطلق واحدة منهما وأصل ذلك القاعدة المشهورة وهي أن مقابلة الجمع بالجمع والمراد بالجمع هنا ما فوق الواحد تارة يقتضي مقابلة الآحاد بالآحاد نحو ركب القوم دوابهم يجعلون أصابعهم في آذانهم أكل الزيدان الرغيفين أي كل واحد أكل رغيفاً وتارة يقتضي مقابلة الكل لكل فرد نحو قوله عز قائلاً:
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 390(7/42)
{حافظوا على الصلوات} (2:237) {وأرجلكم إلى الكعبين} (5:6)، بخلاف وأيديكم إلى المرافق فإنه من الأوّل ولهذا ثنى الأوّل وجمع الثاني لأن لكل رجل كعبين ولكل يد مرفقاً فصحت المقابلة الأولى مع جمع المرافق، ولا يصح مع جمع الكعاب لاقتضائها الاكتفاء من كل رجل بكعب فوجبت التثنية ليفهم وجوب الكعبين على كل فرد من المخاطبين وهذه قاعدة مهمة يتفرع عليها كثير من المسائل الخلافية منها {إنما الصدقات للفقراء} الآية هل المراد توزيع الصدقات على مجموع الأصناف أو كل فرد من أفراد الصدقات على مجموع الأصناف ونبني على ذلك أنه هل يجب استيعاب الأصناف بكل صدقة كما هو مذهبنا أو يكفي وضعها في صنف كما هو مذهب أبي حنيفة ومالك رحمهما الله تعالى ومن الفروع المذهبية ثم إن قامت قرينة على أحدهما صير إليها وإن لم تقم قرينة على أحدهما فهل يحمل عند الإطلاق على الأوّل أو على الثاني فيه خلاف، والراجح غالباً توزيع الآحاد على الآحاد كما في مسألتي الطلاق السابقتين وتتوقف صحة ذلك التعليق على إجازة من ذكر لبنت الابن الذي هو محمد، لأن ذلك وصية لوارث كما صرح به قولهم إن الإعارة ولو في مرض الموت والوصية يعتبر فيها أجرة تلك المدة من الثلث فإن ردوا كلهم بطل التعليق، وكذا لو رد بعضهم لفوات الصفة المعلق عليها وهي خدمة أولاد ابنه محمد المدة المذكورة، وإذا صح ذلك التعليق صح تزويجهما كالموصي بمنفعته بل أولى ثم الذي يزوجهما هو الوارث لكن بإذن المستحقين لخدمتهما لأنهم يستحقونها والتزوّج ينقصها، فإن قلت صرح الغزالي رحمه الله تعالى في وسيطه بخلاف ذلك حيث قال: أما العبد فيظهر استقلال الموصي له به لأن منع العقد للتضرر بتعلق الحقوق بالاكتساب وهو المتضرر، قلت يتعين حمل كلام الغزالي رحمه الله تعالى هذا على عبد موصي بمنافعه أبداً بدليل تعليله المذكور لأنه لا ينحصر التضرر فيه إلا حينئذ، وأما الموصي بمنفعته مدة معينة فلا يزوّجه بلا إذن الوارث(7/43)
لأن له حقاً في منافعه فيحصل له التضرر أيضاً على أن الذي في الروضة وغيرها التصريح بما ذكرته وهو قولهم الموصي له بمنفعة معينة كخدمة عبد لا يستحق غيرها فيشمل قولهم غيرها التزويج وغيره ومؤنة العبدين المذكورين على الورثة لأن ملكهم باق عليهما ومن ثم لو استفادا مالاً من نحو وصية أو لقطة كان لهم وأولادهما تابعون لأمهم رقا وحرية لا لهما ويبطل التعليق بموت أحدهما كما علم مما قررته فيما لو مات أحد الأولاد من مسألتي الطلاق والقاعدة السابقة، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 390
باب الكتابة
وسئل بما صورته هل يصح الاعتياض عن نجوم الكتابة أم لا؟. فأجاب بقوله المعتمد: أنه لا يصح الاعتياض عنها وإن نص في الأم على صحته، والله تعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 386(7/44)
باب أمهات الأولاد
وسئل ـ رضى الله تعالى عنه ـ في المبعض هل يجوز له وطء جاريته إذا أذن فيه مالك بعضه وهل ينفذ استيلاده أم لا؟ فإن قلتم لا فقد رأى المملوك في باب أمهات الأولاد من شرح الروض نفوذ استيلاده نقلاً عن البلقيني رحمه الله تبارك وتعالى وأقره مع كلام مشكل في آخره هل ذلك مقرر أم لا؟. فأجاب نفعنا الله سبحانه وتعالى به بقوله: إن للشافعي رضي الله تبارك وتعالى عنه قولين في وطء المبعض أمته التي ملكها ببعضه الحر القديم له ذلك بإذن السيد والجديد المعتمد ليس له ذلك مطلقاً لنقصه بما فيه من الرق فلم يبح له الإقدام على ما هو من سمات الكاملين وهو الوطء المتسبب عنه الاستيلاد هذا حكم وطئه، وأما نفوذ إيلاده ففيه قولان أيضاً أحدهما عدم نفوذه لأنه ممنوع من التسري مطلقاً وليس أهلاً للعتق ولذا لو أعتق لم ينفذ عتقه، ويدل له تقييد الشافعي ـ رضى الله تعالى عنه ـ نفوذ إيلاده بما إذا كان بعد عتقه، وقول الشيخين رحمهما الله تبارك وتعالى: إذا أولد الأب المبعض أمة فرعه لم يثبت الاستيلاد، والثاني نفوذ إيلاده. وجزم به الماوردي رحمه الله تبارك وتعالى، ورجحه السراج البلقيني وولده الجلال وتلميذه البدر الزركشي رحمهم الله تبارك وتعالى. قال الجلال رحمه الله: وتقييد الشافعي رضي الله تبارك وتعالى عنه ببعد العتق لا دليل فيه، لأنه على سبيل المثال. وقال السراج رحمه الله تعالى: لا دليل في كلام الشيخين رحمهما الله تعالى المذكور، لأن الأصل في المبعض أن لا يثبت له شبهة الإنفاق بالنسبة إلى نصفه الرقيق ولا كذلك المبعض في الأمة التي استقل بملكها، فإن قلت ينفذ إيلاده مع حرمة تسريه ولو بالإذن، قلت لا تلازم بين منع تسريه مطلقاً ونفوذ إيلاده لأن الإيلاد قد ينفذ مع تحريم السبب كوطء الموسر الأمة المشتركة، وقد علل الماوردي رحمه الله تعالى نفوذ إيلاده بقوله لأنها ملكت بحريته فيجري عليها حكم أمهات الأولاد، فإن قلت العلة التي منع التسري لأجلها موجودة(7/45)
إذا قيل بنفوذ إيلاده، قلت ممنوع لأن مما منع من التسري لأجله نقصه بما فيه من الرق فلم يبح له الإقدام على ما هو من سمات الكاملين كما مر، وأما الحكم بنفوذ إيلاده فهو أمر قهري عليه فلم يلزم عليه مساواته للكاملين، فإن قلت فلم نفذ إيلاده ولم ينفذ إعتاقه، قلت لانقطاع رقه بالموت قبل عتق مستولدته مع ما فيه من الحرية حال الإحبال فلم يوجد فيه رق حال عتق مستولدته بخلاف إعتاقه، فإنه لا يمكن تنفيذه لوجود اتصافه بالنقص وهو ما فيه من الرق عنده ولأنه لو نفذ لزم إثبات الولاء له وهو ليس متأهلاً لذلك لقيام المانع به وهو الرق الذي فيه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 391
وسئل رحمه الله تعالى مرة هل ينفذ استيلاد المبعض؟. فأجاب نفعنا الله تعالى بعلومه بقوله المعتمد: نعم كما في الأم، وجرى عليه الماوردي رحمه الله تعالى وصححه البلقيني رحمه الله تعالى وتناقض فيه كلام شيخنا سقى الله عهده في شرح الروض فجزم بالنفوذ في باب أمهات الأولاد وجرى على خلافه في باب نكاح الأب أمة فرعه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وسئل رحمه الله تعالى عن أمة استدخلت ذكر نائم فولدت منه فهل ينزل منزلة وطء الشبهة أم لا؟. فأجاب نفعنا الله بعلومه بقوله: صرحوا بأن العبرة في لحوق النسب بشبهة الرجل لا بالمرأة وحينئذ فيكون الولد منسوباً للنائم لكن لو كان النائم حراً فهل يكون الولد حراً أو لا والذي يتجه الثاني، لأن الأصل في ولد الأمة أنه مملوك لسيدها إلا إذا وجد ظن من الواطىء يقتضي حريته كأن ظنها مملوكته أو زوجته الحرة ولم يوجد من الواطىء هنا ظن ذلك فبقي ولد الأمة على أصله من الرق والكلام في غير سيدها، أما لو استدخلت ذكر سيدها وهو نائم فيلحقه الولد وتصير أم ولد مطلقاً.(7/46)
وسئل عما إذا استمنى الرجل بيد أمة ولده هل يكون الماء محترماً كما لو وطئها فإنه يلحقه الولد أم لا يكون محترماً حتى لو استدخلته هي أو غيرها وحبلت لا يلحقه الولد؟. فأجاب بقوله: الماء النازل بشبهة محترم، ومن جملة الشبهة هنا شبهة الأب كما في الجواهر هنا، وحينئذ فإن استدخلته امرأة بشبهة أيضاً لحق به الولد وإلا فلا لأنه يشترط في اللحوق باستدخال الماء احترامه في حالة الإنزال وحالة الاستدخال ومن احترامه نزوله بشبهة كما صرحوا به، ومن الشبهة شبهة الأب كما علمته عن الجواهر، وكلام الأصحاب يشمله ولا نظر لإثمه بذلك كما لا نظر في وطئه لذلك ومن ثم فسروا عدم الاحترام أن ينزل بزنا.
وسئل عما إذا اختلف الأب والولد في إحبال الأمة التي لولده فادعاه الأب وأنكر الولد فهل العبرة بتصديق الولد فقط وإن كذبت الأمة أم لا بد من تصديق الأمة أيضاً؟. فأجاب: إذا اختلفا في أصل الإحبال صدق المالك في نفيه، لأن الأصل عدمه أو في كونه من الأب أو الابن، فإن وطئها كل منهما وادعى الولد عرض على القائف أو ادعاه أحدهما فقط فالولد له كما لو كان الإمكان من أحدهما فقط فإنه له فقط ولا عبرة في ذلك بكلام الأمة.
وسئل عما إذا اختلف الأب والولد بعد إحبال الأب الأمة في أنها موطوءة للولد حتى تحرم على الأب أو أنها مستولدة للولد حتى لا تصير مستولدة للأب فادعى الولد الوطء أو الاستيلاد وكذبه الوالد فهل القول قول الأب أو الولد؟. فأجاب الذي دل عليه كلامهم تصديق الوالد لأن إحباله لها يقتضي ملكه إياها بوطئها قهراً على الولد، فإذا أراد الولد رفع ذلك بدعواه وطأً أو استيلاداً لم يصدق إلا ببينة، وقد صرحوا بأن من تزوّج مجهولة فأقر والده بأبوّته لها لم تحرم على الابن وإن ثبتت أختيته لها إلا إن صدق أباه في الاستلحاق لأنها كانت حلالاً له فإذا أراد أبوه أن يقر بما يحرمها عليه لم يؤاخذ بإقرار الأب حتى يصدقه فكذا في مسألتنا كما هو واضح.(7/47)
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 391
وسئل عما إذا ادعى الأب الإنزال قبل تمام إيلاج الحشفة حيث أحبلها حتى لا يلزمه إلا القيمة فقط وادعى الابن بعد تمام إيلاج الحشفة حتى يلزم الأب المهر والقيمة مع اتفاقهما أنها حبلت وولدت من الأب فهل القول للأب بيمينه أم قول الابن؟. فأجاب: الظاهر من كلامهم تصديق الأب، لأن الولد يدعي عليه بمهر والأصل براءة ذمته منه ولأن الإنزال خفي لا يطلع عليه إلا من الأب فقبل قوله فيه وقد صرحوا بأنهما لو اختلفا في قيمتها حال الإنزال صدق الأب لأنه غارم فكذا هنا.
وسئل عما إذا ادعت الأمة على ابن سيدها أنها حبلت ووضعت ولداً من وطئه أو استدخال مائه المحترم وصدقها الأب وكذبها الابن فهل تسمع دعواها أم لا؟. فأجاب وطء الابن جارية أبيه لا يقتضي مهراً إلا إن كان لشبهة منها ولا ملكاً مطلقاً ولا لحوق ولد إلا إن كان بشبهة منه وحينئذ فلا فائدة لتصديق الأب مع تكذيب الابن كما هو واضح، ولعل في الكتابة تحريفاً وأن الصواب ادعت على أبي سيدها وحينئذ فالظاهر أن تصديق الأب لها يوجب ملكه إياها ولزوم القيمة له وكذا المهر بشرطه ولا أثر لتكذيب سيدها لأن من قدر على الإنشاء قدر على الإقرار والأب لو وطئها يقيناً كان هذا حكمه فقبل إقراره به وأيضاً فلا ضرر على السيد فيه لأنه تجب القيمة أو والمهر.
وسئل عما إذا زنى بامرأة مكرهة أو لشبهة منها ثم تزوّجها أو اشتراها حيث كانت أمة وكان التزوج أو الشراء حال وطئها زنا ثم نزع هل يجب مهر المثل والمسمى حيث تزوّجها؟. فأجاب إن وقع التزوّج أو الاشتراء بعد غيبوبة الحشفة وجب مهر المثل مع المسمى إن صح العقد ومع الثمن في مسألة الشراء وإن قارن أحدهما غيبوبتها لم يجب إلا المسمى أو الثمن لأن الحل المانع قارن الحرمة المقتضية فقدم المانع.(7/48)
وسئل عما إذا وطئها مكرهة أو بشبهة منها ثم بيعت إلى مالك آخر حال الوطء هل يكون المهر للأوّل أو للمالك الثاني أم لا شيء، لأن الوطء لا يتم في ملك الأوّل ولا في ملك الثاني أم يجب المهر لهما ويقتسماه؟. فأجاب: المهر للأوّل لأن الموجب له غيبوبة الحشفة وهذا إنما وقع في ملك الأوّل، وأما الذي وقع في ملك الثاني فهو دوام ذلك والدوام تابع غير مفرد بمقابل فلم يجب للثاني شيء لأن ما وقع في ملكه لا مقابل له كما تقرر.
وسئل عما لو وطىء أمته ثم أعتقها حال وطئه ثم استدام بعد العتق هل يجب لها المهر أو لا؟. فأجاب: يجب لها المهر لأن ابتداء الوطء كان حلالاً مقابل له فإذا طرأ التحريم واستدام الوطء كان بمنزلة ابتدائه كما صرحوا به في نظائر لذلك.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 391
وسئل عمن زنى بامرأة طائعة ثم تزوّجها حال الوطء واستدام هل تصير محصنة بهذا الوطء وتعتد له حيث طلقها بعد ذلك ويجب لها المهر بكماله أم لا؟ لأن أوله كان حراماً وكانت زانية؟. فأجاب: صرحوا فيمن علق طلاق زوجته بوطئها أنه يقع عليه الطلاق بمغيب الحشفة ويلزمه النزع فوراً فإن استدام لم يلزمه مهر، وهذا صريح منهم في أن الاستدامة لا حكم لها وحينئذ فلا تصير محصنة بها ولا يجب عليها بها عدة ولا مهر لها في مقابلها.
وسئل عما إذا وطىء أمة الغير مكرهة مثلاً ثم أعتقها مالكها حال الوطء هل يجب المهر للمالك أو لها؟. فأجاب: يجب المهر لمالكها ولا شيء لها لما تقرر في التي قبل هذه أنه لا عبرة بالاستدامة والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب والحمد لله أوّلاً وآخراً باطناً وظاهراً وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً والحمد لله وحده وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم.
رقم الجزء: 4 رقم الصفحة: 391(7/49)